ألف وجه للف عام « -المأوى» لوكتاف ميربو :مرآة النفاق الجتماعي
(اوكتاف ميربو (1917 – 1848
إذا كانت الحركة السياسية الفوضوية الفرنسية ،التي وصلت الى ذروة ازدهارها عند النقطة الفاصلة بين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ،تفخر بواحد من الكتّاب الكبار معلنة ،من دون التباس انتماءه اليها ،فإن هذا الكاتب لن يكون ،بكل تأكيد ،سوى أوكتاف ميربو ،الذي بعد خفوت ذكره خارج فرنسا خصوصاً، طوال النصف الول من القرن المنصرم ،أعاده المخرج السباني الفوضوي لويس بونويل ،الى الواجهة خلل الخمسينات وما بعدها ،حين اقتبس فيلمه «يوميات وصيفة» من رواية لميربو .هذا خارج فرنسا على رغم ان الفيلم فرنسي ،أما داخل فرنسا فإن أعمال ميربو ،ول سيما المسرحية منها ،تقدم في كل المواسم مبقية ذكره متواصلً ،كواحد من الكتّاب الكبار الذين آثروا دائما ً أن يسيروا عكس التيار. غير ان هذا لن يمنعنا من الشارة الى أن سمعة ميربو ،في العالم خلل السنوات الخيرة من حياته جعلت أعماله الرئيسة تترجم الى نحو ثلثين لغة ول سيما بعد أن كتب نصوصا ً عدة دافع فيها عن الضابط درايفوس الذي وقع ضحية للتيارات المعادية للسامية في الحكاية المعروفة .وقد كان ميربو من أعنف المدافعين عن درايفوس .الى جانب اميل زول في شكل عام كان أوكتاف ميربو ثوريا ً حقيقياً ،عبر عن ذلك في مواقفه ونضالته > ووقوفه الدائم ازاء كل القضايا الطليعية ،كما عبر في أعماله المسرحية والروائية ومقالته الصحافية ،هو الذي كان دائما ً ما يستشهد بالفقرة التالية التي وردت في أحد نصوصه« :طوال القرون التي عاشها النوع البشري ،كانت المجتمعات في صعود وفي هبوط .لكنها على رغم اختلفاتها كانت كلها تتشابه في حقيقة واحدة هي ً فدائما التي حكمت التاريخ :حقيقة تقول ان الكبار دائما ً ما كانوا محميين ،أما الصغار «.ما كانوا مسحوقين لقد كان معظم ما كتبه ميربو انعكاساً ،في جوهره ،لهذه النظرة ،من دون أن > نكون – طبعا ً – في حاجة الى أن نشير ،الى أي جانب وقف ميربو واتجهت كتاباته. غير ان ما يمكننا قوله هو ان هذه الكتابات نفسها كانت تتفاوت جودة ونضالً ،بين مرحلة وأخرى .أما ذروة تعبير ميربو عن نضاله ،فأتت في نصوص له مثل مسرحية «المأوى» التي كتبها ومثلت عام ،1908وحملت في شكل أو في آخر أفكار أو غضب كاتب كان في ذلك الحين بلغ الستين من عمره ويرصد بعين المرارة أحوال .مجتمع بات من الصعب أكثر وأكثر ،إحداث أي تبديلت إيجابية فيه عالج ميربو مسرحيته «الكوميدية» هذه في ثلثة فصول ،وساعدته في كتابتها > تادي ناتانسون .ولئن كانت المسرحية قد قدمت ،مع شيء من الختصار في عروضها المسرحية الولى ،فإنها حين نشرت نشرت كاملة .وقد قال ميربو في مقدمة النص المطبوع ان ما حذف على الخشبة انما حذف لنه يعقّد التقديم بعض الشيء و «إن كانت غايتي من هذا التقديم ،ول تزال ،الكشف عن عيوب اجتماعية، وليس استعراض عضلتي الكتابية» .الشخصية المحورية في «المأوى» هي شخصية البارون كورتان ،الثري النبيل والعالم العضو في الكاديمية ،الذي سبق له أن وضع عددا ً من كتب تحكي عن التاريخ النابوليوني وعن سللة بونابرت التي يكافح الن بغية إعادتها الى السلطة .في زمن المسرحية الراهن يرأس البارون جمعية خيرية تتولى ،بين أمور أخرى ،إدارة «المأوى» ،الذي يهتم برعاية الطفال الذين يعثر عليهم في الشوارع وايوائهم وتربيتهم .طوال الوقت ل يتوقف البارون عن الحديث عن مشاريعه الخيرية هذه وعن نزعته النسانية وتعاطفه مع الفقراء البائسين والمشردين .غير أن كثرة الحديث عن مثل هذه المور ،تدفع المرء الى التساؤل في النهاية عما اذا لم يكن البارون الخيّر يخفي ممارسات أقلها استخدام أموال التبرعات والمساعدات التي تجمع للقيام بمضاربات مالية وعقارية تحقق للبارون أرباحا ً طائلة .وإذ تُطرح هذه السئلة في محيط البارون ترافقها إيحاءات عدة يستشف منها ان تصرفات البارون حيال أطفال المأوى أنفسهم ليست في منأى عن .التساؤل بل عن الشبهات ومن ناحية أخرى سنعرف بسرعة أن تيريز زوجة البارون تقيم علقة مع صديق ل بهذا كله .وفي المقابل يفتح للزوجين ،في ما يبدو واضحا ً أن البارون غير مبا ٍ ً البارون عينيه على الثري بيرون الذي يطارد الزوجة ،إعجابا بها ،منذ زمن .وهكذا إذ تبدأ أعمال البارون بالتدهور ويشعر أنه بات في حاجة الى مال اضافي يغطي به خسائره ،ل يتورع عن مطالبة زوجته بأن تهتم بالثري ،طالبة منه مساعدة الزوج. والثري بيرون قد يقبل بهذا – كما تفيد الزوجة – لكنه يشترط ان تصحبه الزوجة في رحلة بحرية على متن يخته .غير ان المور ،في نهاية المر ،تصطلح ،حيث إن البارون ،الشاطر دائما ً في رسم المؤامرات والمناورات ،يتمكن من جعل المساهمين معه في شركاته يساندونه ،وينتخبونه ،للمناسبة ،رئيسا ً لهم… ما يمكّنه من البقاء على المأوى بصفته ،في الظاهر ،عمل ً خيرياً ،وفي الباطن ،سندا ً ماليا ً له .وللمساهمين صاغ أوكتاف ميربو موضوعه هذا ،على خطورته ،بأسلوب كوميدي ،لكن النتيجة > أتت نوعا ً من الكوميديا القاسية والمريرة .وأتت المسرحية أشبه بمرآة اجتماعية يمكن كثرا ً من أعمدة المجتمع أن يروا فيها صورتهم .ذلك أن ميربو ،حتى وإن كان أعطى خصوصية ما للمأوى ،ولسلوب علقة البارون بالمأوى ،فإن الخلفية تشي بأن كل هذا لم يكن سوى ترميز للواقع الجتماعي .ترميز اتاح للكاتب أن يرسم صورة قاسية للنفاق الجتماعي ،ولكل تلك الحقائق الجتماعية – والمالية والخلقية – التي تختفي مقنَّعة وراء واجهات ذهبية براقة .ومن الواضح ان ما يحكيه ميربو هنا عن المجتمع الذي يتحدث عنه في زمنه ،يمكن أن يحكى كذلك عن الكثير من المجتمعات الخرى .والواقع ان هذا كان دأب أوكتاف ميربو في أعماله ،مسرحية كانت أم روائية ،حيث اعتاد ،من خلل وصف مجتمع بعينه ،أن يقدم صورة شاملة لطبقات ومجتمعات ل يصعب العثور على نسخ طبق الصل منها في أنحاء عدة من العالم وفي بلدان كثيرة .ولعل هذا ما كان رصده نقاد السينما حين عرض فيلم «يوميات وصيفة» الذي ،إذ تحدث عن مجتمع ريفي فرنسي محدد ،وامتل بشخصيات نموذجية تنتمي الى ذلك المجتمع ،لم تتوان بلدان عدة عن منعه لـ «أسباب أخلقية» ،إذ وجدت فيه صورة آتية من بعيد ،لما تعيشه مجتمعاتها نفسها ول سيما بالنسبة الى واحدة من المسائل التي كثيرا ً ما شدد ميربو عليها :النفاق الجتماعي… الذي لحظنا كيف أنه يشكل الموضوع الساس في مسرحية «.المأوى» التي نتناولها هنا عاش أوكتاف ميربو بين ( 1848و ،)1917وعُرف واحدا ً من أكثر الصحافيين > والنقاد الفرنسيين قسوة في مجال التعبير عن عيوب المجتمع وانقساماته الطبقية – التي تصبح بالنسبة اليه انقسامات أخلقية ،-كما عرف كاتبا ً روائيا ً ومسرحياً، احتضنته الطليعة في المدن الوروبية وراحت تتلقف أعماله .وهو بدأ حياته صحافياً وضع قلمه في خدمة النزعة البونابارتية ،كما كتب ،بسبب شظف العيش ،أعمالً لخرين كانوا يوقعونها بأسمائهم… لكنه بعد ذلك راح يكتب نصوصا ً فكرية واجتماعية يدعو فيها الى المبادئ والقيم… ومن هنا كان من الطبيعي لميربو ،إذ اندلعت تلك الفضيحة التي سميت قضية درايفوس ،ان يكون من بين المدافعين عن هذا الخير، وهو موقف جعل كبار فناني ذلك العصر وكتابه يتحلقون من حوله هو الذي كان أيضاً .من كبار المدافعين عن فان غوغ وكاميل كلوديل وموريس أوتريلو