Professional Documents
Culture Documents
أبجد العلوم المجلد الأول2
أبجد العلوم المجلد الأول2
www.fiseb.com
أبجد العلوم
" الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم "
( المجلد الول ( 2
المؤلف
صديق بن حسن تاقنوجي
إعداد
محمد عطية
m_d10@hotmail.com
أبجد العلوم
( المجلد الول ( 2
الموضوعات
4 الفصل التاسع في حالة العلماء *
وفيه :فصول
اعلم أن نوع النسان لما كان مدنيا بالطبع ،وكان محتاجا إلى إعلم ما
في ضميره إلى غيره ،وفهم ما في ضمير الغير ،اقتضت الحكمة اللهية
إحداث دوال يخف عليه إيرادها ،ول يحتاج إلى غير اللت الطبعية ،فقاده
اللهام اللهي إلى استعمال الصوت ،وتقطيع النفس الضروري باللة
الذاتية إلى حروف يمتاز بعضها عن بعض ،باعتبار مخارجها وصفاتها،
حتى يحصل منها بالتركيب كلمات دالة على المعاني الحاصلة في الضمير
فيتيسر لهم فائدة التخاطب ،والمحاورات والمقاصد التي ل بد منها في
معاشهم.
ثم إن تركيبات تلك الحروف لما أمكنت على وجوه مختلفة ،وأنحاء
متنوعة ،حصل لهم ألسنة مختلفة ،ولغات متبائنة وعلوم متنوعة.
ثم إن أرباب الهمم من بني المم لما لم يكتفوا بالمحاورة في إشاعة (
)156 /1هذه النعم ،لختصاصها بالحاضرين ،سمت همتهم السامية إلى
إطلع الغائبين ومن بعدهم على ما استنبطوا من المعارف والعلوم،
وأتعبوا أنفسهم في تحصيلها لينتفع بها أهل القطار ،ولتزداد العلوم
من عداد الصنائع النسانية وهو رسوم وأشكال حرفية ،تدل على الكلمات
المسموعة الدالة على ما في النفس ،فهو ثاني رتبة من الدللة اللغوية،
وهو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص النسان التي تميز بها عن
الحيوان.
وأيضا فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الغراض إلى البلد
البعيد ،فتقضى الحاجات ،وقد دفعت مؤنة المباشرة لها ،ويطلع بها على
العلوم والمعارف ،وصحف الولين ،وما كتبوه من علومهم وأخبارهم،
فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع ،وخروجها في النسان من القوة
إلى الفعل ،إنما يكون بالتعليم ،وعلى قدر الجتماع والعمران والتناغي
في الكمالت ،والطلب لذلك ،تكون جودة الخط في المدينة ،إذ هو من
جملة الصنائع ،وإنها تابعة للعمران ،ولهذا نجد أكثر البدو أميين ل يكتبون
ول يقرؤون ،ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصرا ،وقراءته غير
نافذه ،ونجد تعليم الخط في المصار الخارج عمرانها عن الحد ،أبلغ
وأحسن وأسهل طريقا لستحكام الصنعة فيها.
كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد )157 /1( ،وأن بها معلمين منتصبين
لتعليم الخط ،يلقون على المتعلم قوانين ،وأحكاما في وضع كل حرف،
ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه ،فتعتضد لديه رتبة العلم
والحس في التعليم ،وتأتي ملكته على أتم الوجوه ،وإنما أتى هذا من
كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح العمال.
وقد كان الخط العربي بالغا مبالغة من الحكام والتقان والجودة في
دولة التبايعة ،لما بلغت من الحضارة والترف ،وهو المسمى بالخط
الحميري ،وانتقل منها إلى الحيرة ،لما كان بها من دولة آل المنذر،
نسباء التبابعة في العصبية ،والمجددين لملك العرب بأرض العراق ،ولم
يكن الخط عندهم من الجادة كما كان عند التبابعة ،لقصور ما بين
الدولتين ،وكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك،
ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر ،يقال :إن الذي تعلم
الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية ،ويقال :حرب بن أمية ،وأخذها من
أسلم بن سدرة ،وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها
من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراق إذا ** ساروا جميعا والخط والقلم.
وهو قول بعيد ،لن إيادا وإن نزلوا ساحة العراق ،فلم يزالوا على شأنهم
من البداوة والخط من الصنائع الحضرية ،وإنما معنى قول الشاعر أنهم
أقرب إلى الخط والقلم من غيرهم من العرب ،لقربهم من ساحة
وفيه :إفصاحات
اعلم أن النسان لما كان محتاجا إلى اجتماع مع آخر من نوعه ،في إقامة
معاشه ،والستعداد لمعاده ،وذلك الجتماع يجب أن يكون على شكل
يحصل به التمانع والتعاون ،حتى يحفظ بالتمانع ما هو له ،ويحصل
بالتعاون ما ليس له من المور الدنيوية والخروية.
وكان في كثير منها مال طريق للعقل إليه ،وإن كان فيه فبأنظار دقيقة،
ل تتيسر إل لواحد بعد واحد ،اقتضت الحكمة اللهية إرسال الرسل،
وإنزال الكتب للتبشير والنذار ،وإرشاد الناس إلى ما يحتاجون إليه ،من
أمور الدين والدنيا.
فصورة الجتماع على هذه الهيئة هي الملة ،والطريق الخاص الذي يصل
به إلى هذه الهيئة هو المنهاج والشريعة ،فالشريعة ابتدأت من نوح عليه
اعلم أنهم باعتبار العلم والصناعة قسمان :قسم اعتنى بالعلم ،فظهرت
منهم ضروب المعارف ،فهم صفوة الله من خلقه ،وفرقة لم تعتن بالعلم
عناية يستحق بها اسمه.
فالولى :أمم منهم أهل مصر ،والروم ،والهند ،والفرس ،والكلدانيون،
واليونانيون ،والعرب ،والعبرانيون.
والثانية :بقية المم ،لكن النبه منهم الصين ،والترك .وفي (الملل
والنحل)(( :إن كبار المم أربعة :العرب ،والعجم ،والروم ،والهند ،ثم إن
العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد ،وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص
الشياء ،والحكم بأحكام الماهيات والحقائق ،واستعمال المور الروحانية.
والعجم والروم يتقاربان على مذهب واحد ،وأكثر ميلهم إلى تقرير
طبائع الشياء ،والحكم بأحكام الكيفيات والكميات ،واستعمال المور
الجسمانية )).انتهى.
وفي بيان هذه المم :تلويحات
التلويح الول :في أهل الهند
اعلم أن لون الهندي وإن كان في أول مراتب السودان فصار بذلك من
جبلتهم ،إل أنه سبحانه وتعالى جنبهم سوء أخلق السودان ،ودناءة
شيمهم ،وسفاهة أحلمهم ،وفضلهم على كثير من السمر والبيض ،وعلل
ذلك بعض أهل التنجيم بأن زحل وعطارد يتوليان بالقسمة لطبيعة الهند،
فلولية زحل اسودت ألوانهم ،ولولية عطارد خلصت عقولهم ،ولطفت
أذهانهم ،فهم أهل الراء الفاضلة ،والحلم الراجحة ،لهم التحقق بعلم
العدد ،والهندسة ،والطب ،والنجوم ،والعلم الطبيعي واللهي.
فمنهم براهمة :وهي فرقة قليلة العدد ،ومذهبهم إبطال النبوات،
وتحريم ذبح الحيوان .ومنهم صابئة وهم جمهور الهند ،ولهم في تعظيم
الكواكب وأدوارها آراء ومذاهب ،والمشهور في كتبهم مذهب السندهند؛
أي دهر الدهر ،ومذهب الرجهيز ،ومذهب الركند ولهم في الحساب
والخلق والموسيقى تأليفات ()169 /1
التلويح الثاني :في الفرس
وهم أعدل المم ،وأوسطهم دارا ،وكانوا في أول أمرهم موحدين على
دين نوح -عليه السلم -إلى أن تمذهب طهمورث ،بمذهب الصابئين،
وقسر الفرس على المتشرع به ،فاعتقدوه نحو ألف سنة ،إلى أن
تمسجوا جميعا بسبب زرادشت ،ولم يزالوا على دينه قريبا من ألف سنة،
إلى أن انقرضوا؛ ولخواصهم عناية بالطب ،وأحكام النجوم ،ولهم أرصاد
ومذاهب في حركاتها ،واتفقوا على أن أصح المذاهب في الدوار ،مذهب
الفرس ،ويسمى سني أهل فارس ،وذلك أن مدة العالم عندهم جزء من
اثني عشر ألفا من مدة السند هند؛وهي أن السيارات وأوجاتها ،وجوز
هراتها ،تجتمع كلها في رأس الحمل ،في كل ستة وثلثين ألف سنة
اعلم أن العرب في آخر عصر الجاهلية ،حين بعث النبي -صلى الله عليه
وسلم -قد تفرق ملكها ،وتشتت أمرها ،فضم الله سبحانه وتعالى به
شاردها ،وجمع عليه جماعة من قحطان ،وعدنان ،فآمنوا به ،ورفضوا
جميع ما كانوا عليه ،والتزموا شريعة السلم ،من العتقاد ،والعمل.
ثم لم يلبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إل قليل حتى توفي،
وخلفه أصحابه -رضي الله عنهم -فغلبوا الملوك ،وبلغت مملكة السلم،
في أيام عثمان بن عفان من الجللة ،والسعة ،إلى حيث نبه -عليه
الصلة والسلم -في قوله(( :زويت لي الرض ،فأريت مشارقها،
ومغاربها ،وسيبلغ ملك أمتي،ما زوي لي منها)) .فأباد الله تعالى بدولة
السلم ،دولة الفرس ،بالعراق ،وخراسان ،ودولة الروم ،بالشام ،ودولة
القبط ،بمصر.
فكانت العرب في صدر السلم ،ل تعتني بشيء من العلوم ،إل بلغتها،
ومعرفة أحكام شريعتها ،وبصناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد
منهم ،لحاجة الناس طرا ً إليها ،وذلك منهم صونا لقواعد السلم،
وعقائده )177 /1( ،عن تطرق الخلل ،من علوم الوائل ،قبل الرسوخ،
والحكام ،حتى يروى انهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب ،في فتوحات
البلد.
وقد ورد النهي ،عن النظر في التوراة ،والنجيل ،لتحاد الكلمة،
واجتماعها على الخذ ،والعمل بكتاب الله تعالى ،وسنة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -واستمر ذلك إلى آخر عصر التابعين ،ثم حدث
اختلف الراء ،وانتشار المذاهب ،فآل المر إلى التدوين ،والتحصين.
وفيه :ترشيحات
الترشيح الول في أقسام التدوين
اعلم أن كل من وضع كتابا ،إنما وضعه ليفهم بذاته ،من غير شرح ،وإنما
احتيج إلى الشرح ،لمور ثلثة:
المر الول :كمال مهارة المصنف ،فإنه لجودة ذهنه ،وحسن عبارته،
يتكلم على معان دقيقة ،بكلم وجيز ،كاف في الدللة على المطلوب،
وغيره ليس في مرتبته ،فربما عسر عليه فهم بعضها ،أو تعذر فيحتاج
إلى زيادة بسط في العبارة ،لتظهر تلك المعاني الخفية ،ومن ههنا شرح
بعض العلماء تصنيفه.
المر الثاني :حذف بعض مقدمات القيسة ،اعتمادا ً على وضوحها ،أو
لنها من علم آخر ،أو أهمل ترتيب بعض القيسة ،فأغفل علل بعض
القضايا ،فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة ،ويبين ما يمكن
اعلم أن المقدمة -بكسر الدال المشددة وفتحها -تطلق على معان :منها
ما يتوقف عليه الشيء ،وسواء كان التوقف عقليا أو عاديا أو جعليا،
وهي في عرف اللغة صارت اسما لطائفة متقدمة من الجيش ،وهي في
الصل صفة من التقديم بمعنى التقدم .ول يبعد أن يكون من التقديم
المتعدي لنها تقدم أنفسها بشجاعتها على أعدائها في الظفر.
ثم نقلت إلى ما يتوقف عليه الشيء ،وهذا المعنى يعم جميع المعاني
التية .ومنها ما يتوقف عليه الفعل ،يؤيد ذلك ما قال السيد السند في (
حاشية العضدي) في مسائل الوجوب في بحث الحكم ((المقدمة عند
الصوليين على ثلثة أقسام :ما يتوقف عليه الفعل عقل كترك الضداد
في فعل الواجب وفعل الضد في الحرام ،وتسمى مقدمة عقلية وشرطا
عقليا .وما يتوقف عليه الفعل عادة كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه
كله ،وتسمى مقدمة عادية وشرطا عاديا.
وما ل يتوقف عليه الفعل بأحد الوجهين ،لكن الشارع يجعل الفعل
موقوفا عليه وصيره شرطا له كالطهارة للصلة وتسمى مقدمة شرعية
وشرطا شرعيا)) انتهى)197 /1( .
ومنها ما يتوقف عليه صحة الدليل بل واسطة كما هو المتبادر ،فل ترد
الموضوعات والمحمولت .وأما المقدمات البعيدة للدليل فإنما هي
مقدمات لدليل مقدمة الدليل.
ومنها قضية جعلت جزء قياس أو حجة ،وهذان المعنيان مختصان بأرباب
المنطق ومستعملن في مباحث القياس ،صرح بذلك المولوي عبد الحكيم
في (حاشية شرح الشمسية) وهي على قسمين :قطعية تستعمل في
الدلة القطعية ،وهي سبع :الوليات ،والفطريات ،والمشاهدات،
والمجربات ،والمتواترات ،والحدسيات ،والوهميات في المحسوسات،
وظنية تستعمل في المارة وهي أربع :المسلمات ،والمشهورات،
والمقبولت ،والمقرونة ،بالقرائن كنزول المطر بوجود السحاب الرطب،
كذا يستفاد من (شرح المواقف)
والمراد بالقياس ما يتناول الستقراء والتمثيل أيضا ،وإردافه بلفظ أو
حجة لدفع توهم اختصاص القياس بما يقابلهما .وقيل :أو للتنبيه على
اعلم أن العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد ،التي يخوض فيها البشر،
ويتداولونها فيما بينهم تحصيل وتعليما ،هي على صنفين:
صنف طبيعي :للنسان يهتدي إليه بفكره؛ وصنف نقلي :يأخذه عمن
وضعه.
والول :هي العلوم الحكمية الفلسفية ،وهي التي يمكن أن يقف عليها
النسان بطبيعة فكره ،ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها،
ومسائلها ،وأنحاء براهينها ،ووجوه تعليمها ،حتى يقفه نظره وبحثه على
الصواب من الخطأ فيها ،من حيث هو إنسان ذو فكر.
والثاني :هي العلوم النقلية الوضعية ،وهي كلها مستندة إلى الخبر عن
الواضع الشرعي ،ول مجال فيها للعقل ،إل في إلحاق الفروع من
اعلم :أن من كان عنايته بالحفظ ،أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة ،ل
يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم؛ ولذلك ترى من حصل
الحفظ ،ل يحسن شيئا من الفن ،وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض
أو ناظر ،كأكثر فقهاء المغرب ،وطلبة علمه من :أهل بخارى ،وبغداد،
وكابل ،وقندهار ،ومن إليها من المدن والمصار.
ومن ظن أنه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطأ ،وإنما المقصود هو:
ملكة الستخراج ،والستنباط ،وسرعة النتقال من الدوا ِّ
ل إلى
المدلولت ،ومن اللزم إلى الملزوم ،وبالعكس ،فإن انضم إليها ملكة
الستحضار فنعم المطلوب ،وهذا ل يتم بمجرد الحفظ ،بل الحفظ من
أسباب الستحضار ،وهو راجع إلى جودة قوة الحافظة وضعفها ،وذلك
من أحوال المزجة الخلقية ،وإن كان مما يقبل العلج)240 /1( .
وفيه فوائد:
فائدة:
اعلم :أن الفادة من أفضل العبادة ،فل بد له من النية )246 /1( ،ليكون
ذلك ابتغاء لمرضاة الله تعالى ،وإرشاد عباده؛ ول يريد بذلك زيادة وحرمة،
ول يطلب على إفادته أجرا ،اقتداء بصاحب الشرع -عليه الصلة والسلم
-؛ ثم ينبغي له مراعاة أمور ،منها :أن يكون مشفقا ناصحا بصاحبه ،وأن
ينبهه على غاية العلوم ،ويزجره عن الخلق الردية ،ويمنعه
أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه ،وأن يتصدى للشتغال فوق طاقته،
وأن ل يزجر إذا تعلم للرئاسة والمباهاة ،إذ ربما يتبنه بالخرة لحقائق
المور ،بل ينبغي أن يرغب في نوع من العلم ،يستفاد به الرئاسة
بالطماع فيها ،حتى يستدرجه إلى الحق.
اعلم :أن الله سبحانه وتعالى جعل الرئاسة وحسن الذكر حفظا للشرع
والعلم ،مثل الحب الملقى حول الشبكة ،وكالشهوة الداعية إلى التناسل،
ولهذا قيل :لول الرئاسة لبطل العلم؛ وأن يزجر عما يجب الزجر عنه،
بالتعريض ل بالتصريح.
فائدة:
ومنها :أن يبدأ بالهم للمتعلم في الحال ،إما في معاشه ،أو في معاده؛
ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم؛ ويراعي الترتيب الحسن ،حسبما
يقتضيه رتبته على قدر الستعداد ،فمن بلغ رشده في العلم ،ينبغي أن
يبث إليه حقائق العلوم ،وإل فحفظ العلم وإمساكه عمن ل يكون أهل له
أولى به ،فإن بث المعارف إلى غير أهلها مذموم.
دَّر في أفواه الكلب).وفي الحديث( :ل تطرحوا ال ُّ
قال الفقيه أبو الليث :يراد من العلماء عشرة أشياء :الخشية ،والنصيحة،
والشفقة ،والحتمال ،والصبر ،والحلم ،والتواضع ،والعفة عن أموال
الناس ،والدوام على النظر في الكتب ،وقلة الحجاب ،وأن ل ينازع أحدا،
ول يخاصمه.
وعليه أن يشتغل بمصالح نفسه ،ل بقهر عدوه.
قيل :من أراد أن يرغم أنف عدوه ،فليحصل العلم.
وأن ل يترفه في المطعم والملبس ،وأن ل يتجمل في الثاث والمسكن،
بل يؤثر القتصاد في جميع المور ،ويتشبه بالسلف الصالح؛ وكلما ازداد
إلى جانب القلة ميله ،ازداد قربه من الله -سبحانه وتعالى ،-لن التزين
بالمباح ،وإن لم يكن حراما ،لكن الخوض فيه يوجب النس به ،حتى يشق
تركه ،فالحزم اجتناب ذلك ،لن من خاض في الدنيا ل يسلم منها البتة،
مع أنها مزرعة الخرة ،ففيها الخير النافع ،والسم الناقع.
ففي تمييز الول من الثاني أحوال ،منها :معرفة رتبة المال ،فنعم المال
الصالح منه للصالح إذا جعله خادما ل مخدوما ،وهو مطلوب لتقوية البدن
بالمطاعم والملبس ،والتقوية لكسب العلوم والمعارف ،التي هي
المقصد القصى؛ ومنها :مراعاة جهة الدخل ،فمن قدر على كسب
الحلل الطيب فليترك المشتبه ،وإن لم يقدر يأخذ منه قدر الحاجة ،وإن
قدر عليه – لكن بالتعب ،واستغراق الوقت – فعلى العامل العامي أن
يختار التعب ،وإن كان من الهل ،فإن كان ما فاته من العلم والحال أكثر
من الثواب الحاصل في طلب الحلل ،فله أن يختار الحلل الغير الطيب،
كمن غص بلقمة يسيغها بالخمر ،لكن يخفيه من الجاهل – مهما أمكن –
كيل يحرك سلسلة الضلل؛ ومنها :المقدار المأخوذ منه ،وهو قدر (/1
)250الحاجة في :المسكن ،والمطعم ،والملبس ،والمنكح ،إن جاوز من
الدنى ل يجوز التجاوز عن الوسط؛ ومنها :الخرج والنفاق ،فالمحمود
منه الصدقة ،والنفاق على العيال ،وقد اختلف في أن الخذ والنفاق
على الوجه المشروع أولى ،أم تركه رأسا مع التفاق؟ على أن القبال
على الدنيا بالكلية مذموم ،فالمقبلون على الخرة ،والصارفون للدنيا في
محله ،فهم الفضلون من التارك بالكلية ،ومنهم عامة النبياء -عليهم
السلم -؛ ومنها :أن تكون نيته صالحة في الخذ والنفاق ،فينوي بالخذ
أن يستعين به على العبادة ،ويأكل ليتقوى به على العبادة.
اعلم :أن مباحث العلوم إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية ،من بين
العلوم الشرعية التي أكثرها مباحث اللفاظ وموادها ،وبين العلوم
العقلية وهي في الذهن.
واللغات :إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني ،ول بد في
افتتاحها من ألفاظها ،بمعرفة دللتها اللفظية والخطية عليها؛ وإذا كانت
الملكة في الدللة راسخة ،بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من اللفاظ،
زال الحجاب بين المعاني والفهم ،ولم يبق إل معاناة ما في المعاني من
المباحث.
هذا شأن المعاني مع اللفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة؛ ثم إن الملة
السلمية لما اتسع ملكها ،ودرست علوم الولين بنبوتها وكتابها ،صيروا
علومهم الشرعية صناعة ،بعد أن كانت نقل ،فحدثت فيها الملكات،
وتشوقوا إلى علوم المم ،فنقولها بالترجمة إلى علومهم ،وبقيت تلك
الدفاتر التي بلغتهم العجمية نسيا منسيا ،وأصبحت العلوم كلها بلغة
العرب ،واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدللت اللفظية والخطية
في لسانهم ،دون ما سواه من اللسن ( )258 /1لدروسها ،وذهاب
العناية بها.
وقد ثبت أن اللغة :ملكة في اللسان ،والخط :صناعة ملكتها في اليد،
فإذا تقدمت اللسان ملكة العجمة ،صار مقصرا في اللغة العربية ،لن
أما العلوم العقلية التي هي :طبيعية للنسان من حيث إنه ذو فكر ،فهي
غير مختصة بملة ،بل يوجد النظر فيها لهل الملل كلهم ،ويستوون في
مداركها ومباحثها ،وهي موجودة في النوع النساني منذ كان عمران
الخليقة؛ وتسمى هذه العلوم :علوم الفلسفة والحكمة ،وهي مشتملة
على أربعة علوم:
الول :علم المنطق
وهو :علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة ،من
المور الحاصلة المعلومة.
وفائدته :تمييز الخطأ من الصواب ،فيما يلتمسه الناظر في الموجودات
وعوارضها ،ليقف على تحقيق الحق في الكائنات بمنتهى فكره/1( .
)259
الثاني :العلم الطبيعي
ثم النظر بعد ذلك عندهم:
إما :في المحسوسات من الجسام العنصرية والمكونة عنها ،من:
المعدن ،والنبات ،والحيوان ،والجسام الفلكية ،والحركات الطبيعية،
والنفس التي تنبعث عنها الحركات ،وغير ذلك؛ ويسمى هذا الفن :بالعلم
الطبيعي ،وهو :الثاني منها.
الثالث :العلم اللهي
وإما :أن يكون النظر في المور التي وراء الطبيعة من الروحانيات،
ويسمونه :العلم اللهي ،وهو :الثالث منها.
والعلم الرابع:
وهو :الناظر في المقادير؛ ويشتمل على :أربعة علوم ،وتسمى :التعاليم
أولها :علم الهندسة
وهو :النظر في المقادير على الطلق ،إما المنفصلة :من حيث كونها
معدودة؛ أو المتصلة :وهي إما ذو بعد واحد ،وهو :الخط؛ أو ذو بعدين،
وهو :السطح؛ أو ذو أبعاد ثلثة ،وهو :الجسم التعليمي؛ ينظر في هذه
المقادير وما يعرض عليها إما من :حيث ذاتها ،أو من :حيث نسبة بعضها
إلى بعض.
وثانيها :علم الرتماطيقي
وهو :معرفة ما يعرض للكم المنفصل ،الذي هو :العدد؛ ويؤخذ له من
الخواص والعوارض اللحقة.
وثالثها :علم الموسيقى
وهو :معرفة نسب الصوات والنغم بعضها من بعض ،وتقديرها بالعدد؛
وثمرته :معرفة تلحين الغناء.
اعلم :أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة ،إذ هي ملكات في اللسان
للعبارة عن المعاني ،وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها،
وليس ذلك بالنظر إلى المفردات ،وإنما هو بالنظر إلى التراكيب.
فإذا حصلت الملكة التامة ،في تركيب اللفاظ المفردة ،للتعبير بها عن
المعاني المقصودة ،ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلم على مقتضى
الحال ،بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع ،وهذا هو
معنى :البلغة.
والملكات ل تحصل إل بتكرار الفعال ،لن الفعل يقع أول ،وتعود منه
للذات صفة ،ثم تتكرر فتكون حال ،ومعنى الحال :أنها صفة غير راسخة،
ثم يزيد التكرار فتكون ملكة ،أي :صفة راسخة.
فالمتكلم من العرب -حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم -
يسمع كلم أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم ،وكيفية تعبيرهم عن
مقاصدهم ،كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها
أول ،ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك ،ثم ل يزال سماعهم لذلك
يتجدد في كل لحظة ،ومن كل متكلم ،واستعماله يتكرر ،إلى أن يصير
ذلك ملكة ،وصفة راسخة ،ويكون كأحدهم.
هكذا تصيرت اللسن واللغات ،من جيل إلى جيل ،وتعلمها العجم
والطفال؛ وهذا هو معنى ما تقوله العامة :من أن اللغة للعرب بالطبع،
أي :بالملكة الولى التي أخذت عنهم ،ولم يأخذوها عن غيرهم؛ ثم إنه (
مطلب في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر
وحمير
وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء ،بالدللة على سنن اللسان
المضري ،ولم يفقد منها إل دللة الحركات على تعيُّن الفاعل من
المفعول ،فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير ،وبقرائن تدل على
خصوصيات المقاصد؛ إل أن البيان والبلغة في اللسان المضري أكثر
وأعرف ،لن اللفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها ،ويبقى ما
تقتضيه الحوال ،ويسمى :بساط الحال ،محتاجا إلى ما يدل عليه.
وكل معنى ل بد وأن تكتنفه أحوال تخصه ،فيجب أن تعتبر تلك الحوال
في تأدية المقصود ،لنها صفاته ،وتلك الحوال في جميع اللسن ،أكثر
ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع ،وأما في اللسان العربي ،فإنما يدل
عليها بأحوال وكيفيات ،في تراكيب اللفاظ وتأليفها ،من تقديم ،أو
تأخير ،أو حذف ،أو حركة إعراب ،وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة؛
ولذلك تفاوتت طبقات الكلم في اللسان العربي ،بحسب تفاوت الدللة
على تلك الكيفيات ،فكان الكلم العربي لذلك أوجز ،وأقل ألفاظا وعبارة
من جميع اللسن.
وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم ( :-أوتيت جوامع الكلم ،واختصر
لي الكلم اختصارا).
واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر ،وقد ( )268 /1قال له بعض
النحاة :إني أجد في كلم العرب تكرارا في قولهم :زيد قائم ،وإن زيدا
قائم ،وإن زيدا لقائم ،والمعنى واحد؛ فقال له :إن معانيها مختلفة،
فالول :لفادة الخالي الذهن من قيام زيد ،والثاني :لمن سمعه فتردد
فيه ،والثالث :لمن عرف بالصرار على إنكاره؛ فاختلفت الدللة باختلف
الحوال.
وما زالت هذه البلغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد ،ول
تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة ،أهل صناعة العراب ،القاصرة
مداركهم عن التحقيق ،حيث يزعمون أن البلغة لهذا العهد ذهبت ،وأن
مطلب في أن لغة أهل الحضر والمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة
مضر
اعلم :أن عرف التخاطب في المصار وبين الحضر ليس بلغة مضر
القديمة ،ول بلغة أهل الجيل ،بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها ،بعيدة عن
لغة مضر ،وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا ،وهي عن لغة مضر
أبعد ،فأما :أنها لغة قائمة بنفسها ،فهو ظاهر يشهد له ما فيها ،من
التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا ،وهي مع ذلك تختلف
باختلف المصار في اصطلحاتهم.
فلغة أهل المشرق :مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب ،وكذا أهل
الندلس معهما ،وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده ،والبانة عما
في نفسه ،وهذا معنى اللسان واللغة.
وفقدان العراب ليس بضائر لهم -كما قلناه -في لغة العرب لهذا
العهد ،وأما :أنها أبعد عن اللسان الول من لغة هذا الجيل ،فلئن البعد
عن اللسان ،إنما هو بمخالطة العجمة ،فمن خالط العجم أكثر ،كانت لغته
عن ذلك اللسان الصلي أبعد ،لن الملكة إنما تحصل بالتعليم -كما قلناه
-؛ وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الولى التي كانت للعرب ،ومن الملكة
الثانية التي للعجم ،فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه،
يبعدون عن الملكة الولى.
واعتبر ذلك في أمصار إفريقية ،والمغرب ،والندلس ،والمشرق؛ أما
إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم ،بوفور
اعلم :أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد ،قد ذهبت وفسدت؛ ولغة أهل
الجيل كلهم مغايرة للغة مضر ،التي نزل بها القرآن ،وإنما هي لغة أخرى
من امتزاج العجمة بها - ،كما قدمناه ،-إل أن اللغات لما كانت ملكات –
كما مر ،-كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات ،ووجه التعليم لمن
يبتغي هذه الملكة ،ويروم تحصيلها ،أن يأخذ نفسه بحفظ كلمهم القديم،
الجاري على أساليبهم من القرآن ،والحديث ،وكلم السلف ،ومخاطبات
فحول العرب ،في أسجاعهم ،وأشعارهم ،وكلمات المولدين أيضا في
سائر فنونهم ،حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلمهم من المنظوم والمنثور،
منزلة من نشأ بينهم ،ولقن العبارة عن المقاصد منهم ،ثم يتصرف بعد
ذلك في التعبير عما في ضميره ،على حسب عبارتهم ،وتأليف كلماتهم،
وما وعاه وحفظه من أساليبهم ،وترتيب ألفاظهم ،فتحصل له هذه
الملكة بهذا الحفظ والستعمال ،ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة ،ويحتاج
مع ذلك إلى سلمة الطبع ،والتفهم الحسن لمنازع العرب ،وأساليبهم
في التراكيب ،ومراعاة التطبيق بينها ،وبين مقتضيات الحوال ،والذوق
يشهد بذلك ،وهو ينشأ ما بين هذه الملكة ،والطبع السليم فيهما - ،كما
نذكر -؛ وعلى قدر المحفوظ ،وكثرة الستعمال ،تكون جودة المقول
المصنوع نظما ونثرا؛ ومن حصل على هذه الملكات ،فقد حصل على لغة
مضر ،وهو الناقد البصير بالبلغة فيها؛ وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها- ،
والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه العميم )274 /1( .-
مطلب في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في
التعليم
والسبب في ذلك :أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة،
ومقاييسها خاصة؛ فهو :علم بكيفية ،ل نفس كيفية ،فليست نفس
الملكة ،وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما ،ول يحكمها
عمل ،مثل أن يقول بصير بالخياطة ،غير محكم لملكتها في التعبير عن
ت البرة ،ثم يغرزها
خْر ِ
بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في ِ