سورة المعارج

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 16

‫سورة المعارج‬

‫َ‬ ‫سأ َ َ‬
‫ح إِلَيْهِ فِي‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬
‫ة وَالُّرو ُ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫معَارِ ِ‬
‫ج (‪ )3‬تَعُْر ُ‬ ‫ن الل ّهِ ذِي ال ْ َ‬
‫م َ‬‫ه دَافِعٌ (‪ِّ )2‬‬‫س لَ ُ‬‫ن لَي ْ َ‬
‫ب وَاقٍِع (‪ )1‬ل ِّلْكَافِري َ‬ ‫سائ ِ ٌ‬
‫ل بِعَذ َا ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫َ‬

‫م تَكُو ُ‬
‫ن‬ ‫ه بَعِيدا ً (‪ )6‬وَنََراه ُ قَرِيبا ً (‪ )7‬يَوْ َ‬ ‫م يََروْن َ ُ‬‫ميل ً (‪ )5‬إِنَّهُ ْ‬ ‫صبْرا ً َ‬
‫ج ِ‬ ‫صبِْر َ‬‫سنَةٍ (‪ )4‬فَا ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أَل ْ َ‬
‫سي َ‬
‫م ِ‬
‫خ ْ‬
‫مقْدَاُره ُ َ‬‫ن ِ‬ ‫يَوْم ٍ كَا َ‬

‫ن‬ ‫م لَوْ يَفْتَدِي ِ‬


‫م ْ‬ ‫جرِ ُ‬ ‫م يَوَد ُّ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ميما ً (‪ )10‬يُب َ َّ‬
‫صُرونَهُ ْ‬ ‫ح ِ‬
‫م َ‬‫مي ٌ‬‫ح ِ‬
‫ل َ‬ ‫سأ َ ُ‬
‫ن (‪ )9‬وََل ي َ ْ‬
‫ل كَالْعِهْ ِ‬ ‫جبَا ُ‬ ‫ن ال ْ ِ‬‫ل (‪ )8‬وَتَكُو ُ‬‫مهْ ِ‬ ‫ماء كَال ْ ُ‬ ‫ال َّ‬
‫س َ‬
‫َ‬
‫جيهِ (‪)14‬‬ ‫ميعا ً ث ُ َّ‬
‫م يُن ِ‬ ‫ج ِ‬‫ض َ‬ ‫َْ‬
‫من فِي الْر ِ‬ ‫صيلَتِهِ ال ّت ِي تُؤ ْويهِ (‪ )13‬وَ َ‬‫خيهِ (‪ )12‬وَفَ ِ‬ ‫حبَتِهِ وَأ َ ِ‬‫صا ِ‬ ‫مئِذ ٍ بِبَن ِيهِ (‪ )11‬وَ َ‬ ‫ب يَوْ ِ‬
‫عَذ َا ِ‬
‫معَ فَأَوْع َى (‪ )18‬إ ِ َّ‬ ‫َ‬ ‫شوى (‪ )16‬تدع ُو م َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خلِقَ هَلُوعا ً (‬ ‫ن ُ‬ ‫سا َ‬‫ن اْلِن َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن أدْبََر وَتَوَل ّى (‪ )17‬وَ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ك َ ّل إِنَّهَا لَظَى (‪ )15‬نََّزاع َ ً‬
‫ة ل ِّل ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه ال َّ‬
‫ن(‬ ‫مو َ‬ ‫صَلت ِهِ ْ‬
‫م دَائ ِ ُ‬ ‫م ع َلَى َ‬ ‫ن (‪ )22‬ال ّذِي َ‬
‫ن هُ ْ‬ ‫صل ِّي َ‬
‫م َ‬‫منُوعا ً (‪ )21‬إ ِ ّل ال ْ ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫خيُْر َ‬ ‫س ُ‬ ‫جُزوعا ً (‪ )20‬وَإِذ َا َ‬
‫م َّ‬ ‫شُّر َ‬ ‫م َّ‬
‫س ُ‬ ‫‪ )19‬إِذ َا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن هُم‬ ‫ن ( ‪ )26‬وَال ّذِي َ‬ ‫ن بِيَوْم ِ الدِّي ِ‬ ‫صدِّقُو َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫حُروم ِ (‪ )25‬وَال ّذِي َ‬ ‫م ْ‬‫ل وَال ْ َ‬ ‫م (‪ )24‬ل ِّل َّ‬
‫سائ ِ ِ‬ ‫معْلُو ٌ‬ ‫حقٌّ َّ‬ ‫م َ‬ ‫موَال ِهِ ْ‬ ‫ن فِي أ ْ‬ ‫‪ )23‬وَال ّذِي َ‬
‫ن (‪ )29‬إَِّل ع َلَى‬ ‫َ‬ ‫ن عَذ َاب ربهم غَير ْ‬
‫حافِظُو َ‬ ‫م َ‬ ‫جهِ ْ‬‫م لِفُُرو ِ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ن (‪ )28‬وَال ّذِي َ‬ ‫مو ٍ‬ ‫مأ ُ‬ ‫َ َ ِّ ِ ْ ْ ُ َ‬ ‫ن (‪ )27‬إ ِ َّ‬ ‫شفِقُو َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َربِّهِم ُّ‬ ‫ن عَذ َا ِ‬ ‫م ْ‬‫ِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ َزواجه َ‬
‫م‬‫ن هُ ْ‬‫ن (‪ )31‬وَال ّذِي َ‬ ‫م الْعَادُو َ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ك فَأوْلَئ ِ َ‬ ‫ن ابْتَغَى وََراء ذَل ِ َ‬ ‫م ِ‬‫ن (‪ )30‬فَ َ‬ ‫ملُو ِ‬
‫مي َ‬ ‫م غَيُْر َ‬ ‫م فَإِنَّهُ ْ‬ ‫مانُهُ ْ‬‫ت أي ْ َ‬ ‫ملَك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م أوْ َ‬ ‫ْ َ ِ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن (‪)34‬‬ ‫حافِظُو َ‬‫م يُ َ‬ ‫صَلت ِهِ ْ‬‫م ع َلَى َ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ن (‪ )33‬وَال ّذِي َ‬ ‫مو َ‬‫م قَائ ِ ُ‬ ‫شهَادَات ِهِ ْ‬ ‫ن هُم ب ِ َ‬ ‫ن (‪ )32‬وَال ّذِي َ‬ ‫م َراع ُو َ‬ ‫م وَعَهْدِه ِ ْ‬ ‫مانَات ِهِ ْ‬ ‫ِل َ‬
‫َ‬ ‫أُوْلَئ ِ َ‬
‫ن (‪)37‬‬ ‫عزِي َ‬
‫ل ِ‬‫ما ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ن وَع َ ِ‬ ‫مي ِ‬‫ن الْي َ ِ‬ ‫ن (‪ )36‬ع َ ِ‬ ‫مهْطِعِي َ‬ ‫ك ُ‬ ‫ن كَفَُروا قِبَل َ َ‬ ‫ل ال ّذِي َ‬‫ما ِ‬ ‫ن (‪ )35‬فَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫مكَْر ُ‬ ‫ت ُّ‬ ‫جنَّا ٍ‬
‫ك فِي َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫شارِ ِ‬
‫ق‬ ‫م بَِر ِّ‬ ‫ن (‪ )39‬فََل أقْ ِ‬
‫س ُ‬ ‫ما يَعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫خلَقْنَاهُم ِّ‬
‫م َّ‬ ‫ة نَعِيم ٍ (‪ )38‬ك َ ّل إِنَّا َ‬
‫جن َّ َ‬
‫ل َ‬ ‫م أَن يُد ْ َ‬
‫خ َ‬ ‫منْهُ ْ‬ ‫مرِ ٍ‬
‫ئ ِّ‬ ‫ع ك ُ ُّ‬
‫لا ْ‬ ‫م ُ‬
‫َ‬
‫أيَط ْ َ‬

‫حتَّى يَُلقُوا‬ ‫َ‬


‫ضوا وَيَلْعَبُوا َ‬
‫خو ُ‬ ‫ن ( ‪ )41‬فَذَْرهُ ْ‬
‫م يَ ُ‬ ‫سبُو ِقي َ‬‫م ْ‬ ‫ن بِ َ‬
‫ح ُ‬‫ما ن َ ْ‬
‫م وَ َ‬‫منْهُ ْ‬‫خيْرا ً ِّ‬
‫ل َ‬ ‫ن (‪ )40‬ع َلَى أن نُّب َ ِ‬
‫دّ َ‬ ‫ب إِنَّا لَقَادُِرو َ‬‫مغَارِ ِ‬‫وَال ْ َ‬
‫خاشع ً َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫صاُرهُ ْ‬
‫ة أب ْ َ‬ ‫ن (‪َ ِ َ )43‬‬ ‫ضو َ‬ ‫ب يُوفِ ُ‬ ‫م إِلَى ن ُ ُ‬
‫ص ٍ‬ ‫سَراعا ً كَأنَّهُ ْ‬ ‫ث ِ‬ ‫جدَا ِ‬‫ن اْل َ ْ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬‫جو َ‬ ‫خُر ُ‬ ‫م ال ّذِي يُوعَدُو َ‬
‫ن (‪ )42‬يَوْ َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫مهُ ُ‬
‫يَوْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ال ّذِي كَانُوا يُوعَدُو َ‬
‫ن (‪)44‬‬ ‫ك الْيَوْ ُ‬ ‫م ذِل ّ ٌ‬
‫ة ذَل ِ َ‬ ‫تَْرهَقُهُ ْ‬

‫الشرح ‪:‬‬
‫من الية ‪ 1‬الى الية ‪3‬‬

‫ج (‪)3‬‬
‫ن اللّهِ ذِي الْ َمعَارِ ِ‬
‫سَ َأ َل سَا ِئلٌ ِبعَذَابٍ وَا ِق ٍع (‪ )1‬لّلْكَافِرينَ لَ ْيسَ لَ ُه دَا ِف ٌع (‪ )2‬مّ َ‬

‫سورة المعارج‬

‫تقديم لسورة المعارج‬

‫هذه السورة حلقة من حلقات العلج البطيء ‪ ,‬المديد ‪ ,‬العميق ‪ ,‬الدقيق ‪ ,‬لعقابيل الجاهلية في النفس‬
‫البشرية كما واجهها القرآن في مكة ; وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلفات في‬
‫السطوح ل في العماق ! وفي الظواهر ل في الحقائق !‬

‫أو هي جولة من جولت المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس ‪ ,‬وفي خلل دروبها‬
‫ومنحنياتها ‪ ,‬ورواسبها وركامها ‪ .‬وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون ‪ -‬فيما‬
‫بعد ‪ -‬كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة‬
‫السلمية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة !‬
‫والحقيقة الساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الخرة وما فيها من جزاء ; وعلى وجه‬
‫الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين ‪ ,‬كما أوعدهم القرآن الكريم ‪ .‬وهي تلم ‪ -‬في طريقها إلى إقرار هذه‬
‫الحقيقة ‪ -‬بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء ‪ .‬وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون‬
‫خاوية من اليمان ‪ .‬كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك ‪ ,‬واستحقاقها للتكريم ‪.‬‬
‫وبهوان الذين كفروا على ال وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين ‪ . .‬وتقرر السورة كذلك‬
‫اختلف القيم والمقاييس في تقدير ال وتقدير البشر ‪ ,‬واختلف الموازين ‪. . .‬‬

‫وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها ‪ ,‬أو جولة من جولت‬
‫المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها ‪ .‬تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في‬
‫النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية ‪ .‬فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية ‪-‬‬
‫ابتداء ‪ -‬قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضل على أن يرغم به أعداءه على الستسلم‬
‫له !‬

‫والذي يقرأ هذا القرآن ‪ -‬وهو مستحضر في ذهنه لحداث السيرة ‪ -‬يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ‬
‫الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة ‪ .‬ويرى أنه‬
‫كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا ‪ . .‬تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلئل‬
‫الموحية والمؤثرات الجارفة ! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي ل يثبت لها شيء مما هو‬
‫راسخ في كيانها من التصورات والرواسب ! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللذعة تلهب الحس فل يطيق‬
‫وقعها ول يصبر على لذعها ! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ‪ ,‬والمسارة الودود ‪ ,‬التي تهفو لها‬
‫المشاعر وتأنس لها القلوب ! وتارة يواجهها بالهول المرعب ‪ ,‬والصرخة المفزعة ‪ ,‬التي تفتح العين على‬
‫الخطر الداهم القريب ! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة ل تدع مجال للتلفت عنها ول الجدال‬
‫فيها ‪ .‬وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها ‪.‬وتارة يتخلل مساربها‬
‫ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين ‪,‬‬
‫وتخجل من بعضه ‪ ,‬وتكره بعضه ‪ ,‬وتتيقظ لحركاتها وانفعالتها التي كانت غافلة عنها ! ‪ . .‬ومئات من‬
‫اللمسات ‪ ,‬ومئات من اللفتات ‪ ,‬ومئات من الهتافات ‪ ,‬ومئات من المؤثرات ‪ . .‬يطلع عليها قارئ القرآن ‪,‬‬
‫وهو يتبع تلك المعركة الطويلة ‪ ,‬وذلك العلج البطيء ‪ .‬ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك‬
‫النفوس العصية العنيدة ‪.‬‬

‫وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الخرة ‪ ,‬والحقائق الخرى التي ألمت بها‬
‫في الطريق إليها ‪.‬‬

‫وحقيقة الخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة ‪ ,‬ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى ‪,‬‬
‫وتعرض لها من زاوية جديدة ‪ ,‬وصور وظلل جديدة ‪. .‬‬

‫في سورة الحاقة كان التجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم ‪ ,‬ممثلين في حركات عنيفة في‬
‫مشاهد الكون الهائلة‪(:‬فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ‪ ,‬وحملت الرض والجبال فدكتا دكة واحدة ‪ .‬فيومئذ‬
‫وقعت الواقعة ‪ ,‬وانشقت السماء فهي يومئذ واهية)‪ . .‬وفي الجلل المهيب في ذلك المشهد‬
‫المرهوب‪(:‬والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)‪ . .‬وفي التكشف الذي ترتج له‬
‫وتستهوله المشاعر‪(:‬يومئذ تعرضون ل تخفى منكم خافية)‪. .‬‬

‫كذلك كان الهول والرعب يتمثلن في مشاهد العذاب ‪ ,‬حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب‪(:‬خذوه ‪ .‬فغلوه ‪.‬‬
‫ثم الجحيم صلوه ‪ .‬ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه)‪ . .‬كما يتجلى في صراخ المعذبين‬
‫وتأوهاتهم وحسراتهم‪( :‬يا ليتني لم أوت كتابيه ‪ .‬ولم أدر ما حسابيه ‪ .‬يا ليتها كانت القاضية ‪). .‬‬

‫فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملمح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها ‪ ,‬أكثر مما يتجلى‬
‫في مشاهد الكون وحركاته ‪ .‬حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا ! وهو على كل حال ليس‬
‫أبرز ما في الموقف من أهوال ‪ .‬إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من‬
‫خلخلة وذهول وروعة‪(:‬يوم تكون السماء كالمهل ‪ ,‬وتكون الجبال كالعهن ‪ .‬ول يسأل حميم حميما ‪.‬‬
‫يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ‪ ,‬وصاحبته وأخيه ‪ ,‬وفصيلته التي تؤويه ‪ ,‬ومن‬
‫في الرض جميعا ثم ينجيه)‪. .‬‬

‫وجهنم هنا "نفس" ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الحياء في سمة الهول الحي‪ :‬إنها لظى ‪ .‬نزاعة‬
‫للشوى ‪ .‬تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى ‪. .‬‬

‫والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيا‪(:‬يوم يخرجون من الجداث سراعا كأنهم إلى نصب‬
‫يوفضون ‪ ,‬خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ‪ ,‬ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون)‪. .‬‬

‫فالمشاهد والصور والظلل لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة ‪ ,‬باختلف طابعي‬
‫السورتين في عمومه ‪ .‬مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد ‪.‬‬

‫ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج ‪ -‬فيما تناولت ‪ -‬تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء ‪ ,‬في‬
‫حالتي اليمان والخواء من اليمان ‪ .‬وكان هذا متناسقا مع طابعها "النفسي" الخاص‪:‬فجاء في صفة النسان‬
‫(إن النسان خلق هلوعا ‪ .‬إذا مسه الشر جزوعا ‪ ,‬وإذا مسه الخير منوعا ‪ .‬إل المصلين ‪ ,‬الذين هم على‬
‫صلتهم دائمون ‪ . .‬الخ‪. .‬‬

‫واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة‬
‫وأسلوبها‪( :‬إل المصلين ‪ .‬الذين هم على صلتهم دائمون ‪ .‬والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم‬
‫‪ .‬والذين يصدقونبيوم الدين ‪ .‬والذين هم من عذاب ربهم مشفقون ‪ .‬إن عذاب ربهم غير مأمون ‪ .‬والذين‬
‫هم لفروجهم حافظون ‪ .‬إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ‪ .‬فمن ابتغى وراء ذلك‬
‫فأولئك هم العادون ‪ .‬والذين هم لماناتهم وعهدهم راعون ‪ .‬والذين هم بشهاداتهم قائمون ‪ .‬والذين هم‬
‫على صلتهم يحافظون ‪. .). . .‬‬

‫ولقد كان التجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة ‪ .‬ومن ثم كانت‬
‫حقيقة الخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة ‪ ,‬كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الرض ; وأخذ‬
‫كل من يبدل في العقيدة بل تسامح ‪ . .‬فأما التجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الخرة‬
‫وما فيها من جزاء ‪ ,‬وموازين هذا الجزاء ‪ .‬فحقيقة الخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها ‪.‬‬

‫ومن ثم كانت الحقائق الخرى في السورة كلها متصلة اتصال مباشرا بحقيقة الخرة فيها ‪ .‬من ذلك حديث‬
‫السورة عن الفارق بين حساب ال في أيامه وحساب البشر ‪ ,‬وتقدير ال لليوم الخر وتقدير البشر‪ :‬تعرج‬
‫الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ‪ ,‬فاصبر صبرا جميل ‪ .‬إنهم يرونه بعيدا ونراه‬
‫قريبا ‪ . . .‬الخ وهو متعلق باليوم الخر ‪.‬‬

‫ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي اليمان والخلو من اليمان ‪ .‬وهما‬
‫مؤهلن للجزاء في يوم الجزاء ‪.‬‬

‫ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم ‪ ,‬مع هوانهم على ال وعجزهم عن سبقه‬
‫والتفلت من عقابه ‪ .‬وهو متصل اتصال وثيقا بمحور السورة الصيل ‪.‬‬

‫وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لقرارها في النفوس ‪ .‬مع‬
‫تنوع اللمسات والحقائق الخرى المصاحبة ! للموضوع الصيل ‪.‬‬

‫ظاهرة أخرى في هذا اليقاع الموسيقي للسورة ‪ ,‬الناشئ من بنائها التعبيري ‪ . .‬فقد كان التنوع اليقاعي‬
‫في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة ‪ .‬وفق المعنى والجو فيه ‪ . .‬فأما هنا في‬
‫سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا ‪ ,‬لنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها ل إيقاع القافية وحدها ‪.‬‬
‫والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا ‪ .‬ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الول بشكل‬
‫ملحوظ ‪.‬‬

‫ففي هذا المطلع ثلث جمل موسيقية منوعة ‪ -‬مع اتحاد اليقاع في نهاياتها ‪ -‬من حيث الطول ومن حيث‬
‫اليقاعات الجزئية فيها على النحو التالي‪:‬‬

‫(سأل سائل بعذاب واقع ‪ .‬للكافرين ليس له دافع ‪ .‬من ال ذي المعارج ‪ .‬تعرج الملئكة والروح إليه ‪ .‬في‬
‫يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ‪ .‬فاصبر صبرا جميل)‪ . .‬حيث تنتهي بمد اللف في اليقاع الخامس ‪.‬‬

‫(إنهم يرونه بعيدا ‪ .‬ونراه قريبا)‪ . .‬حيث يتكرر اليقاع بمد اللف مرتين ‪.‬‬

‫(يوم تكون السماء كالمهل ‪ .‬وتكون الجبال كالعهن ‪ .‬ول يسأل حميم حميما)‪ . .‬حيث تنتهي بمد اللف في‬
‫اليقاع الثالث ‪ .‬مع تنوع اليقاع في الداخل ‪.‬‬

‫(يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ‪ .‬وصاحبته وأخيه ‪ .‬وفصيلته التي تؤويه ‪ .‬ومن‬
‫في الرض جميعا ثم ينجيه ‪ .‬كل إنها لظى)‪ . .‬حيث تنتهي بمد اللف في اليقاع الخامس كالول ‪.‬‬
‫(نزاعة للشوى ‪ . .‬تدعو من أدبر وتولى ‪ .‬وجمع فأوعى ‪ .‬إن النسان خلق هلوعا ‪ .‬إذا مسه الشر جزوعا‬
‫‪ .‬وإذا مسه الخير منوعا)‪ . .‬حيث يتكرر إيقاع المد باللف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان‬
‫عن الثلثة الولى ‪.‬‬

‫ثم يستقيم اليقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء ‪. .‬‬

‫والتنويع اليقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الذن‬
‫الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي ‪ -‬موسيقيا ‪ -‬من جمال غريب على البيئة العربية وعلى‬
‫اليقاع الموسيقي العربي ‪ .‬ولكن السلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الذن العربية‬
‫فتقبل عليه ‪ ,‬وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي ‪.‬‬

‫والن نستعرض السورة تفصيل ‪. . .‬‬

‫الدرس الول‪ 18 - 1:‬قرب وقوع يوم القيامة والهول في مشاهده‬

‫سأل سائل بعذاب واقع ‪ ,‬للكافرين ليس له دافع ‪ ,‬من ال ذي المعارج ‪ ,‬تعرج الملئكة والروح إليه في يوم‬
‫كان مقداره خمسين ألف سنة ‪ ,‬فاصبر صبرا جميل ‪ ,‬إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ‪ ,‬يوم تكون السماء‬
‫كالمهل ‪ ,‬وتكون الجبال كالعهن ‪ ,‬ول يسأل حميم حميما ‪ ,‬يبصرونهم ‪ ,‬يود المجرم لو يفتدي من عذاب‬
‫يومئذ ببنيه ‪ ,‬وصاحبته وأخيه ‪ ,‬وفصيلته التي تؤويه ‪ ,‬ومن في الرض جميعا ثم ينجيه ‪ .‬كل ! إنها لظى ‪,‬‬
‫نزاعة للشوى ‪ ,‬تدعو من أدبر وتولى ‪ ,‬وجمع فأوعى ‪. .‬‬

‫كانت حقيقة الخرة من الحقائق العسيرة الدراك عند مشركي العرب ; ولقد لقيت منهم معارضة نفسية‬
‫عميقة ‪ ,‬وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والستغراب ; وينكرونها أشد النكار ‪ ,‬ويتحدون الرسول‬
‫[ ص ] في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود ‪ ,‬أو أن يقول لهم‪:‬متى يكون ‪.‬‬

‫وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث ‪ .‬وفي رواية أخرى‬
‫عنه‪:‬قال‪:‬ذلك سؤال الكفار عن عذاب ال وهو واقع بهم ‪.‬‬

‫وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائل سأل وقوع العذاب واستعجله ‪ .‬وتقرر أن هذا العذاب واقع‬
‫فعل ‪ ,‬لنه كائن في تقدير ال من جهة ‪ ,‬ولنه قريب الوقوع من جهة أخرى ‪ .‬وأن أحدا ل يمكنه دفعه ول‬
‫منعه ‪ .‬فالسؤال عنه واستعجاله ‪ -‬وهو واقع ليس له من دافع ‪ -‬يبدو تعاسة من السائل المستعجل ; فردا‬
‫كان أو مجموعة !‬

‫وهذا العذاب للكافرين ‪ . .‬إطلقا ‪ . .‬فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر ‪ .‬وهو‬
‫واقع من ال (ذي المعارج)‪ . .‬وهو تعبير عن الرفعة والتعالي ‪ ,‬كما قال في السورة الخرى‪( :‬رفيع‬
‫الدرجات ذو العرش)‪. .‬‬

‫وبعد هذا الفتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب ‪ ,‬ووقوعه ‪ ,‬ومستحقيه ‪ ,‬ومصدره ‪ ,‬وعلو‬
‫هذا المصدر ورفعته ‪ ,‬مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا ل مرد له ول دافع ‪ . .‬بعد هذا أخذ في وصف ذلك‬
‫اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب ‪ ,‬والذي يستعجلون به وهو منهم قريب ‪ .‬ولكن تقدير ال غير تقدير البشر‬
‫‪ ,‬ومقاييسه غير مقاييسهم‪:‬‬

‫من الية ‪ 4‬الى الية ‪5‬‬

‫ف سَ َنةٍ (‪ )4‬فَاصْ ِب ْر صَبْرا جَمِيلً (‪)5‬‬


‫ن ِمقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَ ْل َ‬
‫ج الْ َملَا ِئكَ ُة وَالرّوحُ إَِليْ ِه فِي َيوْ ٍم كَا َ‬
‫تَ ْعرُ ُ‬

‫(تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ‪ ,‬فاصبر صبرا جميل ‪ ,‬إنهم يرونه بعيدا‬
‫ونراه قريبا)‪. .‬‬

‫والرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة ‪ ,‬لن السياق يكاد يعين هذا المعنى ‪ .‬وفي هذا اليوم‬
‫تصعد الملئكة والروح إلى ال ‪ .‬والروح‪:‬الرجح أنه جبريل عليه السلم ‪ ,‬كما سمي بهذا السم في مواضع‬
‫أخرى ‪ .‬وإنما أفرد بالذكر بعد الملئكة لما له من شأن خاص ‪ .‬وعروج الملئكة والروح في هذا اليوم يفرد‬
‫كذلك بالذكر ‪ ,‬إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته ‪ ,‬وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه ‪ .‬ول‬
‫ندري نحن ‪ -‬ولم نكلف أن ندري ‪ -‬طبيعة هذه المهام ‪ ,‬ول كيف يصعد الملئكة ‪ ,‬ول إلى أين يصعدون ‪.‬‬
‫فهذه كلها تفصيلت في شأن الغيب ل تزيد شيئا من حكمة النص ‪ ,‬وليس لنا إليها من سبيل ‪ ,‬وليس لنا‬
‫عليها من دليل ‪ .‬فحسبنا أن نشعر من خلل هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم ‪ ,‬الذي ينشغل فيه الملئكة‬
‫والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم ‪.‬‬

‫وأما (كان مقداره خمسين ألف سنة)‪ . .‬فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير‬
‫العربي ‪ .‬وقد تعني حقيقة معينة ‪ ,‬ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الرض فعل وهو‬
‫يوم واحد ! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الن ‪ .‬فإن يومنا الرضي هو مقياس مستمد من دورة الرض‬
‫حول نفسها في أربع وعشرين ساعة ‪ .‬وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلف‬
‫المرات ‪ . .‬ول يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا ‪ .‬ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن‬
‫تصور اختلف المقاييس بين يوم ويوم !‬

‫وإذا كان يوم واحد من أيام ال يساوي خمسين ألف سنة ‪ ,‬فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيدا ‪ ,‬وهو‬
‫عند ال قريب ‪ .‬ومن ثم يدعو ال نبيه [ ص ] إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب‬
‫القريب ‪.‬‬

‫(فاصبر صبرا جميل ‪ .‬إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا)‪. .‬‬

‫والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة ‪ ,‬وتكررت لكل رسول ‪ ,‬ولكل مؤمن يتبع الرسول ‪.‬‬
‫وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق ‪ ,‬ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية ‪ ,‬موصولة بالهدف البعيد‬
‫‪ ,‬متطلعة كذلك إلى الفق البعيد ‪. .‬‬

‫والصبر الجميل هو الصبر المطمئن ‪ ,‬الذي ل يصاحبه السخط ول القلق ول الشك في صدق الوعد ‪ .‬صبر‬
‫الواثق من العاقبة ‪ ,‬الراضي بقدر ال ‪ ,‬الشاعر بحكمته من وراء البتلء ‪ ,‬الموصول بال المحتسب كل‬
‫شيء عنده مما يقع به ‪.‬‬
‫وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة ‪ .‬فهي دعوة ال ‪ ,‬وهي دعوة إلى ال ‪ .‬ليس له هو منها‬
‫شيء ‪ .‬وليس له وراءها من غاية ‪ .‬فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل ال ‪ ,‬وكل ما يقع في شأنها هو من‬
‫أمر ال ‪ .‬فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة ‪ ,‬ومع الشعور بها في أعماق الضمير ‪.‬‬

‫وال صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون ‪ ,‬وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون ‪ ,‬يقدر الحداث‬
‫ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله ‪ .‬ولكن البشر ل يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير‬
‫; فيستعجلون ‪ .‬وإذا طال عليهم المد يستريبون ‪ .‬وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم ‪ ,‬وتجول في‬
‫خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود ‪ . .‬عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه‬
‫من ال الخبير‪:‬‬

‫من الية ‪ 6‬الى الية ‪14‬‬

‫حمِيما (‪)10‬‬
‫حمِي ٌم َ‬
‫ن (‪ )9‬وَلَا يَسْ َألُ َ‬
‫إِ ّنهُمْ َي َروْ َنهُ بَعِيدا (‪َ )6‬و َنرَاهُ َقرِيبا (‪َ )7‬يوْمَ َتكُونُ السّمَاء كَالْ ُم ْهلِ (‪َ )8‬وتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْ ِعهْ ِ‬
‫حبَ ِت ِه وَأَخِي ِه (‪ )12‬وَفَصِيَلتِ ِه الّتِي ُتؤْوي ِه (‪ )13‬وَمَن فِي‬
‫جرِمُ َلوْ َيفْتَدِي ِمنْ عَذَابِ َيوْمِئِذٍ ِببَنِي ِه (‪ )11‬وَصَا ِ‬
‫صرُو َنهُمْ َيوَدّ ا ْلمُ ْ‬
‫ُيبَ ّ‬
‫جمِيعا ثُمّ يُنجِي ِه (‪)14‬‬
‫ا ْلَأرْضِ َ‬

‫(فاصبر صبرا جميل)‪. .‬‬

‫والخطاب هنا للرسول [ ص ] تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب ‪ .‬وتقريرا للحقيقة‬
‫الخرى‪:‬وهي أن تقدير ال للمور غير تقدير البشر ; ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة‪:‬‬

‫(إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا)‪. .‬‬

‫ثم يرسم مشاهد اليوم الذي يقع فيه ذلك العذاب الواقع ‪ ,‬الذي يرونه بعيدا ويراه ال قريبا ‪ .‬يرسم مشاهده‬
‫في مجالي الكون وأغوار النفس ‪ .‬وهي مشاهد تشي بالهول المذهل المزلزل في الكون وفي النفس سواء‪:‬‬

‫(يوم تكون السماء كالمهل ‪ ,‬وتكون الجبال كالعهن)‪. .‬‬

‫والمهل ذوب المعادن الكدر كدردي الزيت ‪ .‬والعهن هو الصوف المنتفش ‪ .‬والقرآن يقرر في مواضع‬
‫مختلفة أن أحداثا كونية كبرى ستقع في هذا اليوم ‪ ,‬تغير أوضاع الجرام الكونية وصفاتها ونسبها‬
‫وروابطها ‪ .‬ومن هذه الحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة ‪ .‬وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها‬
‫المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية ‪ .‬فمن المرجح عندهم أن الجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة‬
‫إلى الدرجة الغازية ‪ -‬وهي بعد درجة النصهار والسيولة بمراحل ‪ -‬فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما‬
‫قال‪(:‬وإذا النجوم انكدرت)وستبرد حتى تصير معادن سائلة ! وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة‬
‫الغازية !‬

‫على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه ‪ .‬أما نحن فنقف أمام هذا النص‬
‫نتملى ذلك المشهد المرهوب ‪ ,‬الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر ‪ ,‬وتكون فيه الجبال كالصوف‬
‫الواهن المنتفش ‪ .‬ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس ‪ ,‬فيعبر عنه‬
‫القرآن أعمق تعبير‪:‬‬

‫(ول يسأل حميم حميما ‪ .‬يبصرونهم ‪ .‬يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ‪ .‬وصاحبته وأخيه ‪.‬‬
‫وفصيلته التي تؤويه ‪ .‬ومن في الرض جميعا ثم ينجيه)‪.‬‬

‫إن الناس في هم شاغل ‪ ,‬ل يدع لحد منهم أن يتلفت خارج نفسه ‪ ,‬ول يجد فسحة في شعوره لغيره‪(:‬ول‬
‫يسأل حميم حميما)‪ .‬فلقد قطع الهول المروع جميع الوشائج ‪ ,‬وحبس النفوس على همها ل تتعداه ‪. .‬‬
‫وإنهم ليعرضون بعضهم على بعض(يبصرونهم)كأنما عمدا وقصدا ! ولكن لكل منهم همه ‪ ,‬ولكل ضمير‬
‫منهم شغله ‪ .‬فل يهجس في خاطر صديق أن يسأل صديقه عن حاله ‪ ,‬ول أن يسأله عونه ‪ .‬فالكرب يلف‬
‫الجميع ‪ ,‬والهول يغشى الجميع ‪. .‬‬

‫فما بال(المجرم)? إن الهول ليأخذ بحسه ‪ ,‬وإن الرعب ليذهب بنفسه ‪ ,‬وإنه ليود لو يفتدي من عذاب يومئذ‬
‫بأعز الناس عليه ‪ ,‬ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة ‪ ,‬ويناضل عنهم ‪ ,‬ويعيش لهم ‪ . .‬ببنيه ‪ .‬وزوجه ‪.‬‬
‫وأخيه ‪ ,‬وعشيرته القريبة التي تؤويه وتحميه ‪ .‬بل إن لهفته على النجاة لتفقده الشعور بغيره على الطلق‬
‫‪ ,‬فيود لو يفتدي بمن في الرض جميعا ثم ينجيه ‪ . .‬وهي صورة للهفة الطاغية والفزع المذهل والرغبة‬
‫الجامحة في الفلت ! صورة مبطنة بالهول ‪ ,‬مغمورة بالكرب ‪ ,‬موشاة بالفزع ‪ ,‬ترتسم من خلل التعبير‬
‫القرآني الموحي ‪.‬‬

‫وبينما المجرم في هذه الحال ‪ ,‬يتمنى ذلك المحال ‪ ,‬يسمع ما ييئس ويقنط من كل بارقة من أمل ‪ ,‬أو كل‬
‫حديث خادع من النفس ‪ .‬كما يسمع المل جميعا حقيقة الموقف وما يجري فيه‪:‬‬

‫كل ! إنها لظى ‪ .‬نزاعة للشوى ‪ .‬تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى ‪. .‬‬

‫إنه مشهد تطير له النفس شعاعا ‪ ,‬بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله ‪(. .‬كل !)في ردع عن تلك الماني‬

‫من الية ‪ 15‬الى الية ‪18‬‬

‫شوَى (‪ )16‬تَ ْدعُو مَنْ أَ ْد َبرَ وَ َتوَلّى (‪ )17‬وَجَ َمعَ َفَأوْعَى (‪)18‬‬
‫عةً لّل ّ‬
‫كَلّا إِ ّنهَا لَظَى (‪َ )15‬نزّا َ‬

‫المستحيلة في الفتداء بالبنين والزوج والخ والعشيرة ومن في الرض جميعا ‪(. .‬كل ! إنها لظى)نار‬
‫تتلظى وتتحرق(نزاعة للشوى)تنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا ‪ . .‬وهي غول مفزعة ‪ .‬ذات نفس‬
‫حية تشارك في الهول والعذاب عن إرادة وقصد‪ :‬تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى ‪ . .‬تدعوه كما كان‬
‫يدعى من قبل إلى الهدى فيدبر ويتولى ‪ .‬ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم ل يملك أن يدبر ويتولى ! ولقد كان‬
‫من قبل مشغول عن الدعوة بجمع المال وحفظه في الوعية ! فأما اليوم فالدعوة من جهنم ل يملك أن يلهو‬
‫عنها ‪ .‬ول يملك أن يفتدي بما في الرض كله منها !‬

‫والتوكيد في هذه السورة والسورة السابقة قبلها وفي سورة القلم كذلك على منع الخير ‪ ,‬وعدم الحض على‬
‫طعام المسكين ‪ ,‬وجمع المال في الوعية إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية ‪ . .‬هذا التوكيد يدل على أن‬
‫الدعوة كانت تواجه في مكة حالت خاصة يجتمع فيها البخل والحرص والجشع إلى الكفر والتكذيب‬
‫والضللة ‪ .‬مما اقتضى تكرار الشارة إلى هذا المر ‪ ,‬والتخويف من عاقبته ‪ ,‬بوصفه من موجبات العذاب‬
‫بعد الكفر والشرك بال ‪.‬‬

‫وفي هذه السورة إشارات أخرى تفيد هذا المعنى ‪ ,‬وتؤكد ملمح البيئة المكية التي كانت تواجهها الدعوة ‪.‬‬
‫فقد كانت بيئة مشغولة بجمع المال من التجارة ومن الربا ‪ .‬وكان كبراء قريش هم أصحاب هذه المتاجر ‪,‬‬
‫وأصحاب القوافل في رحلتي الشتاء والصيف ‪ .‬وكان هنالك تكالب على الثراء ‪ ,‬وشح النفوس يجعل الفقراء‬
‫محرومون ‪ ,‬واليتامى مضيعين ‪ .‬ومن ثم تكرر المر في هذا الشأن وتكرر التحذير ‪ .‬وظل القرآن يعالج هذا‬
‫الجشع وهذا الحرص ; ويخوض هذه المعركة مع الجشع والحرص في أغوار النفس ودروبها قبل الفتح‬
‫وبعده على السواء ‪ .‬مما هو ظاهر لمن يتتبع التحذير من الربا ‪ ,‬ومن أكل أموال الناس بالباطل ‪ ,‬ومن أكل‬
‫أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ! ومن الجور على اليتيمات واحتجازهن للزواج الجائر رغبة في‬
‫أموالهن ! ومن نهر السائل ‪ ,‬وقهر اليتيم ‪ ,‬ومن حرمان المساكين ‪ . . .‬إلى آخر هذه الحملت المتتابعة‬
‫العنيفة الدالة على الكثير من ملمح البيئة ‪ .‬فضل على أنها توجيهات دائمة لعلج النفس النسانية في كل‬
‫بيئة ‪ .‬وحب المال ‪ ,‬والحرص عليه ‪ ,‬وشح النفس به ‪ ,‬والرغبة في احتجانه ‪ ,‬آفة تساور النفوس مساورة‬
‫عنيفة ‪ ,‬وتحتاج للنطلق من إسارها والتخلص من أوهاقها ‪ ,‬والتحرر من ربقتها ‪ ,‬إلى معارك متلحقة ‪,‬‬
‫وإلى علج طويل !‬

‫الدرس الثاني‪ 35 - 19:‬من طبيعة النفس النسانية التي يهذبها السلم وصفات الصالحين‬

‫والن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم ‪ ,‬وفي صورة ذلك العذاب ; فإنه يتجه إلى تصوير‬
‫حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير ‪ ,‬في حالتي إيمانها وخلوها من اليمان ‪ .‬ويقرر مصير‬
‫المؤمنين كما قرر مصير المجرمين‪:‬‬

‫(إن النسان خلق هلوعا‪:‬إذا مسه الشر جزوعا ‪ ,‬وإذا مسه الخير منوعا ‪ .‬إل المصلين الذين هم على‬
‫صلتهم دائمون ‪ .‬والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ‪ .‬والذين يصدقون بيوم الدين ‪ .‬والذين‬
‫هم من عذاب ربهم مشفقون ‪ .‬إن عذاب ربهم غير مأمون ‪ .‬والذين هم لفروجهم حافظون ‪ .‬إل على‬
‫أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ‪ .‬فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ‪ .‬والذين هم‬
‫لماناتهم وعهدهم راعون ‪ .‬والذين هم بشهاداتهم قائمون ‪ .‬والذين هم على صلتهم يحافظون ‪ .‬أولئك في‬
‫جنات مكرمون)‪.‬‬

‫وصورة النسان ‪ -‬عند خواء قلبه من اليمان ‪ -‬كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها‬
‫وتعبيرها الكامل عن الملمح الصيلة في هذا المخلوق ; والتي ل يعصمه منها ول يرفعه عنها إل العنصر‬
‫اليماني ‪ ,‬الذي‬

‫من الية ‪ 19‬الى الية ‪25‬‬

‫ن هُمْ عَلَى‬
‫خ ْيرُ مَنُوعا (‪ِ )21‬إلّا ا ْلمُصَلّينَ (‪ )22‬الّذِي َ‬
‫جزُوعا (‪ )20‬وَإِذَا مَسّهُ الْ َ‬
‫شرّ َ‬
‫ن خُ ِلقَ َهلُوعا (‪ )19‬إِذَا مَسّ ُه ال ّ‬
‫إِنّ ا ْلإِنسَا َ‬
‫حرُومِ (‪)25‬‬
‫حقّ مّعْلُو ٌم (‪ )24‬لّلسّا ِئ ِل وَالْمَ ْ‬
‫ن فِي أَ ْموَاِلهِمْ َ‬
‫صَلَا ِتهِ ْم دَا ِئمُونَ (‪ )23‬وَالّذِي َ‬
‫يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملقاة الشر ‪ ,‬ومن الشح عند امتلك الخير‬
‫‪.‬‬

‫(إن النسان خلق هلوعا‪:‬إذا مسه الشر جزوعا ‪ .‬وإذا مسه الخير منوعا)‪. .‬‬

‫لكأنما كل كلمة لمسة من ريشة مبدعة تضع خطا في ملمح هذا النسان ‪ .‬حتى إذا اكتملت اليات الثلث‬
‫القصار المعدودة الكلمات نطقت الصورة ونبضت بالحياة ‪ .‬وانتفض من خللها النسان بسماته وملمحه‬
‫الثابتة ‪ .‬هلوعا ‪ . .‬جزوعا عند مس الشر ‪ ,‬يتألم للذعته ‪ ,‬ويجزع لوقعه ‪ ,‬ويحسب أنه دائم ل كاشف له ‪.‬‬
‫ويظن اللحظة الحاضرة سرمدا مضروبا عليه ; ويحبس نفسه بأوهامه في قمقم من هذه اللحظة وما فيها‬
‫من الشر الواقع به ‪ .‬فل يتصور أن هناك فرجا ; ول يتوقع من ال تغييرا ‪ .‬ومن ثم يأكله الجزع ‪ ,‬ويمزقه‬
‫الهلع ‪ .‬ذلك أنه ل يأوي إلى ركن ركين يشد من عزمه ‪ ,‬ويعلق به رجاءه وأمله ‪ . .‬منوعا للخير إذا قدر‬
‫عليه ‪ .‬يحسب أنه من كده وكسبه فيضن به على غيره ‪ ,‬ويحتجنه لشخصه ‪ ,‬ويصبح أسير ما ملك منه ‪,‬‬
‫مستعبدا للحرص عليه ! ذلك أنه ل يدرك حقيقة الرزق ودوره هو فيه ‪ .‬ول يتطلع إلى خير منه عند ربه‬
‫وهو منقطع عنه خاوي القلب من الشعور به ‪ . .‬فهو هلوع في الحالتين ‪ . .‬هلوع من الشر ‪ .‬هلوع على‬
‫الخير ‪ . .‬وهي صورة بائسة للنسان ‪ ,‬حين يخلو قلبه من اليمان ‪.‬‬

‫ومن ثم يبدو اليمان بال مسألة ضخمة في حياة النسان ‪ .‬ل كلمة تقال باللسان ‪ ,‬ول شعائر تعبدية تقام ‪.‬‬
‫إنه حالة نفس ومنهج حياة ‪ ,‬وتصور كامل للقيم والحداث والحوال ‪ .‬وحين يصبح القلب خاويا من هذا‬
‫المقوم فإنه يتأرجح ويهتز وتتناوبه الرياح كالريشة ! ويبيت في قلق وخوف دائم ‪ ,‬سواء أصابه الشر‬
‫فجزع ‪ ,‬أم أصابه الخير فمنع ‪ .‬فأما حين يعمره اليمان فهو منه في طمأنينة وعافية ‪ ,‬لنه متصل بمصدر‬
‫الحداث ومدبر الحوال ; مطمئن إلى قدره شاعر برحمته ‪ ,‬مقدر لبتلئه ‪ ,‬متطلع دائما إلى فرجه من‬
‫الضيق ‪ ,‬ويسره من العسر ‪ .‬متجه إليه بالخير ‪ ,‬عالم أنه ينفق مما رزقه ‪ ,‬وأنه مجزي على ما أنفق في‬
‫سبيله ‪ ,‬معوض عنه في الدنيا والخرة ‪ . .‬فاليمان كسب في الدنيا يتحقق قبل جزاء الخرة ‪ ,‬يتحقق‬
‫بالراحة والطمأنينة والثبات والستقرار طوال رحلة الحياة الدنيا ‪.‬‬

‫وصفة المؤمنين المستثنين من الهلع ‪ ,‬تلك السمة العامة للنسان ‪ ,‬يفصلها السياق هنا ويحددها‪:‬‬

‫(إل المصلين ‪ .‬الذين هم على صلتهم دائمون)‪. .‬‬

‫والصلة فوق أنها ركن السلم وعلمة اليمان ‪ ,‬هي وسيلة التصال بال والستمداد من ذلك الرصيد ‪.‬‬
‫ومظهر العبودية الخالصة التي يتجرد فيها مقام الربوبية ومقام العبودية في صورة معينة ‪ .‬وصفة الدوام‬
‫التي يخصصها بها هنا‪(:‬الذين هم على صلتهم دائمون)‪ . .‬تعطي صورة الستقرار والستطراد ‪ ,‬فهي صلة‬
‫ل يقطعها الترك والهمال والكسل وهي صلة بال مستمرة غير منقطعة ‪ . .‬وقد كان رسول ال [ ص ] إذا‬
‫عمل شيئا من العبادة أثبته ‪ -‬أي داوم عليه ‪ -‬وكان يقول‪ ":‬وإن أحب العمال إلى ال تعالى ما دام وإن قل‬
‫" ‪ . .‬لملحظة صفة الطمئنان والستقرار والثبات على التصال بال ‪ ,‬كما ينبغي من الحترام لهذا التصال‬
‫‪ .‬فليس هو لعبة توصل أو تقطع ‪ ,‬حسب المزاج !‬

‫(والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)‪. .‬‬


‫وهي الزكاة على وجه التخصيص والصدقات المعلومة القدر ‪ . .‬وهي حق في أموال المؤمنين ‪ . .‬أو لعل‬
‫المعنى أشمل من هذا وأكبر ‪ .‬وهو أنهم يجعلون في أموالهم نصيبا معلوما يشعرون أنه حق للسائل‬
‫والمحروم ‪ .‬وفي هذا‬

‫من الية ‪ 26‬الى الية ‪38‬‬

‫ن هُمْ‬
‫ب رَ ّبهِمْ غَ ْيرُ مَ ْأمُونٍ (‪ )28‬وَالّذِي َ‬
‫ن عَذَا َ‬
‫ش ِفقُونَ (‪ )27‬إِ ّ‬
‫ب رَ ّبهِم مّ ْ‬
‫ن عَذَا ِ‬
‫ن هُم مّ ْ‬
‫ن (‪ )26‬وَالّذِي َ‬
‫وَالّذِينَ يُصَدّقُونَ بِ َيوْمِ الدّي ِ‬
‫ك هُمُ‬
‫ن (‪َ )30‬فمَنِ ا ْبتَغَى َورَاء ذَِلكَ َفُأوْلَئِ َ‬
‫جهِمْ َأوْ مَا َملَ َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفإِ ّنهُ ْم غَ ْيرُ مَلُومِي َ‬
‫علَى َأ ْزوَا ِ‬
‫ن (‪ )29‬إِلّا َ‬
‫ِل ُفرُوجِهِ ْم حَافِظُو َ‬
‫صلَا ِتهِمْ‬
‫ن هُ ْم عَلَى َ‬
‫ن (‪ )33‬وَالّذِي َ‬
‫شهَادَا ِتهِمْ قَائِمُو َ‬
‫ن هُم بِ َ‬
‫عهْدِهِ ْم رَاعُونَ (‪ )32‬وَالّذِي َ‬
‫ن هُمْ لِأَمَانَا ِتهِ ْم وَ َ‬
‫ا ْلعَادُونَ (‪ )31‬وَالّذِي َ‬
‫ن (‪)37‬‬
‫عزِي َ‬
‫ن (‪ )36‬عَنِ ا ْليَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ ِ‬
‫ن َك َفرُوا ِقبَلَكَ ُمهْطِعِي َ‬
‫ك فِي جَنّاتٍ مّ ْكرَمُونَ (‪ )35‬فَمَالِ الّذِي َ‬
‫يُحَافِظُونَ (‪ُ )34‬أوَْلئِ َ‬
‫جنّةَ َنعِي ٍم (‪)38‬‬
‫خلَ َ‬
‫ط َمعُ ُكلّ ا ْمرِئٍ مّ ْنهُمْ أَن يُدْ َ‬
‫أَيَ ْ‬

‫تخلص من الشح واستعلء على الحرص ! كما أن فيه شعورا بواجب الواجد تجاه المحروم ‪ ,‬في هذه المة‬
‫المتضامنة المتكافلة ‪ . .‬والسائل الذي يسأل ; والمحروم الذي ل يسأل ول يعبر عن حاجته فيحرم ‪ .‬أو لعله‬
‫الذي نزلت به النوازل فحرم وعف عن السؤال ‪ .‬والشعور بأن للمحتاجين والمحرومين حقا في الموال هو‬
‫شعور بفضل ال من جهة ‪ ,‬وبآصرة النسانية من جهة ‪ ,‬فوق ما فيه من تحرر شعوري من ربقة الحرص‬
‫والشح ‪ .‬وهو في الوقت ذاته ضمانة اجتماعية لتكافل المة كلها وتعاونها ‪ .‬فهي فريضة ذات دللت شتى‬
‫‪ ,‬في عالم الضمير وعالم الواقع سواء ‪ . .‬وذكرها هنا فوق أنه يرسم خطا في ملمح النفس المؤمنة فهو‬
‫حلقة من حلقات العلج للشح والحرص في السورة ‪.‬‬

‫(والذين يصدقون بيوم الدين)‪. .‬‬

‫وهذه الصفة ذات علقة مباشرة بموضوع السورة الرئيسي ‪ .‬وهي في الوقت ذاته ترسم خطا أساسيا في‬
‫ملمح النفس المؤمنة ‪ .‬فالتصديق بيوم الدين شطر اليمان ‪ .‬وهو ذو أثر حاسم في منهج الحياة شعورا‬
‫وسلوكا ‪ .‬والميزان في يد المصدق بيوم الدين غير الميزان في يد المكذب بهذا اليوم أو المستريب فيه ‪.‬‬
‫ميزان الحياة والقيم والعمال والحداث ‪ . .‬المصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء ل لميزان‬
‫الرض ‪ ,‬ولحساب الخرة ل لحساب الدنيا ويتقبل الحداث خيرها وشرها وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها‬
‫هناك ‪ ,‬فيضيف إليها النتائج المرتقبة حين يزنها ويقومها ‪ . .‬والمكذب بيوم الدين يحسب كل شيء بحسب‬
‫ما يقع له منه في هذه الحياة القصيرة المحدودة ‪ ,‬ويتحرك وحدوده هي حدود هذه الرض وحدود هذا‬
‫العمر ‪ .‬ومن ثم يتغير حسابه وتختلف نتائج موازينه ‪ ,‬وينتهي إلى نتائج خاطئة فوق ما ينحصر في مساحة‬
‫من المكان ومساحة من الزمان محدودة ‪ . .‬وهو بائس مسكين معذب قلق لن ما يقع في هذا الشطر من‬
‫الحياة الذي يحصر فيه تأملته وحساباته وتقديراته ‪ ,‬قد ل يكون مطمئنا ول مريحا ول عادل ول معقول ‪,‬‬
‫ما لم يضف إليه حساب الشطر الخر وهو أكبر وأطول ‪ .‬ومن ثم يشقى به من ل يحسب حساب الخرة أو‬
‫يشقى غيره من حوله ‪ .‬ول تستقيم له حياة رفيعة ل يجد جزاءها في هذه الرض واضحا ‪ . .‬ومن ثم كان‬
‫التصديق باليوم الخر شطر اليمان الذي يقوم عليه منهج الحياة في السلم ‪.‬‬

‫(والذين هم من عذاب ربهم مشفقون ‪ .‬إن عذاب ربهم غير مأمون)‪. .‬‬
‫وهذه درجة أخرى وراء مجرد التصديق بيوم الدين ‪ .‬درجة الحساسية المرهفة ‪ ,‬والرقابة اليقظة ‪,‬‬
‫والشعور بالتقصير في جناب ال على كثرة العبادة ‪ ,‬والخوف من تلفت القلب واستحقاقه للعذاب في أية‬
‫لحظة ‪ ,‬والتطلع إلى ال للحماية والوقاية ‪.‬‬

‫ولقد كان رسول ال [ ص ] وهو من هو عند ال ‪ .‬وهو يعرف أن ال قد اصطفاه ورعاه ‪ . .‬كان دائم‬
‫الحذر دائم الخوف لعذاب ال ‪ .‬وكان على يقين أن عمله ل يعصمه ول يدخله الجنة إل بفضل من ال‬
‫ورحمة ‪ .‬وقال لصحابه‪ ":‬لن يدخل الجنة أحدا عمله " قالوا‪:‬ول أنت يا رسول ال ? قال‪ ":‬ول أنا إل أن‬
‫يتغمدني ال برحمته "‬

‫وفي قوله هنا‪(:‬إن عذاب ربهم غير مأمون)‪ . .‬إيحاء بالحساسية الدائمة التي ل تغفل لحظة ‪ ,‬فقد تقع‬
‫موجبات العذاب في لحظة الغفلة فيحق العذاب ‪ .‬وال ل يطلب من الناس إل هذه اليقظة وهذه الحساسية ‪,‬‬
‫فإذا غلبهم ضعفهم معها ‪ ,‬فرحمته واسعة ‪ ,‬ومغفرته حاضرة ‪ .‬وباب التوبة مفتوح ليست عليه مغاليق !‬
‫وهذاقوام المر في السلم بين الغفلة والقلق ‪ .‬والسلم غير هذا وتلك ‪ .‬والقلب الموصول بال يحذر‬
‫ويرجو ‪ ,‬ويخاف ويطمع ‪ ,‬وهو مطمئن لرحمة ال على كل حال ‪.‬‬

‫(والذين هم لفروجهم حافظون ‪ .‬إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ‪ .‬فمن ابتغى وراء‬
‫ذلك فأولئك هم العادون)‪. .‬‬

‫وهذه تعني طهارة النفس والجماعة ‪ ,‬فالسلم يريد مجتمعا طاهرا نظيفا ‪ ,‬وفي الوقت ذاته ناصعا صريحا ‪.‬‬
‫مجتمعا تؤدى فيه كل الوظائف الحيوية ‪ ,‬وتلبي فيه كل دوافع الفطرة ‪ .‬ولكن بغير فوضى ترفع الحياء‬
‫الجميل ‪ ,‬وبغير التواء يقتل الصراحة النظيفة ‪ .‬مجتمعا يقوم على أساس السرة الشرعية المتينة القوائم ‪.‬‬
‫وعلى البيت العلني الواضح المعالم ‪ .‬مجتمعا يعرف فيه كل طفل أباه ‪ ,‬ول يخجل من مولده ‪ .‬ل لن الحياء‬
‫منزوع من الوجوه والنفوس ‪ .‬ولكن لن العلقات الجنسية قائمة على أساس نظيف صريح ‪ ,‬طويل المد‬
‫واضح الهداف ‪ ,‬يرمي إلى النهوض بواجب إنساني واجتماعي ‪ ,‬ل لمجرد إرضاء النزوة الحيوانية‬
‫والشهوة الجنسية !‬

‫ومن ثم يذكر القرآن هنا من صفات المؤمنين(والذين هم لفروجهم حافظون إل على أزواجهم أو ما ملكت‬
‫أيمانهم فإنهم غير ملومين ‪ ,‬فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)‪. .‬‬

‫فيقرر نظافة التصال بالزواج وبما ملكت اليمان ‪ -‬من الماء حين يوجدن بسبب مشروع ‪ -‬والسبب‬
‫المشروع الوحيد الذي يعترف به السلم هو السبي في قتال في سبيل ال ‪ .‬وهي الحرب الوحيدة التي‬
‫يقرها السلم ‪ -‬والصل في حكم هذا السبي هو ما ذكرته آية سورة محمد‪( :‬فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب‬
‫الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ‪ ,‬فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها)ولكن قد‬
‫يتخلف بعض السبي بل من ول فداء لملبسات واقعية ; فهذا يظل رقيقا إذا كان المعسكر الخر يسترق‬
‫أسرى المسلمين في أية صورة من صور الرق ‪ -‬ولو سماه بغير اسمه ! ‪ -‬ويجوز السلم وطء الماء‬
‫عندئذ من صاحبهن وحده ‪ ,‬ويجعل عتقهن موكول إلى الوسائل الكثيرة التي شرعها السلم لتجفيف هذا‬
‫المورد ‪ .‬ويقف السلم بمبادئه صريحا نظيفا ل يدع هؤلء السيرات لفوضى الختلط الجنسي القذر كما‬
‫يقع لسيرات الحروب قديما وحديثا ! ول يتدسس ويلتوي فيسميهن حرات وهن إماء في الحقيقة !‬
‫(فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)‪ . .‬وبذلك يغلق الباب في وجه كل قذارة جنسية ‪ ,‬في أية صورة‬
‫غير هاتين الصورتين الواضحتين الصريحتين ‪ . .‬فل يرى في الوظيفة الطبيعية قذارة في ذاتها ; ولكن‬
‫القذارة في اللتواء بها ‪ .‬والسلم نظيف صريح قويم ‪. .‬‬

‫(والذين هم لماناتهم وعهدهم راعون)‪.‬‬

‫وهذه من القوائم الخلقية التي يقيم السلم عليها نظام المجتمع ‪ .‬ورعاية المانات والعهود في السلم‬
‫تبدأ من رعاية المانة الكبرى التي عرضها ال على السماوات والرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن‬
‫منها وحملها النسان ‪ .‬وهي أمانة العقيدة والستقامة عليها اختيارا ل اضطرارا ‪ . .‬ومن رعاية العهد‬
‫الول المقطوع على فطرة الناس وهم بعد في الصلب أن ال ربهم الواحد ‪ ,‬وهم بخلقتهم على هذا العهد‬
‫شهود ‪ . .‬ومن رعاية تلك المانة وهذا العهد تنبثق رعاية سائر المانات والعهود في معاملت الرض وقد‬
‫شدد السلم في المانة والعهد وكرر وأكد ‪ ,‬ليقيم المجتمع على أسس متينة من الخلق والثقة والطمأنينة ‪.‬‬
‫وجعل رعاية المانة والعهد سمة النفسالمؤمنة ‪ ,‬كما جعل خيانة المانة وإخلف العهد سمة النفس المنافقة‬
‫والكافرة ‪ .‬ورد هذا في مواضع شتى من القرآن والسنة ل تدع مجال للشك في أهمية هذا المر البالغة في‬
‫عرف السلم ‪.‬‬

‫(والذين هم بشهاداتهم قائمون)‪. .‬‬

‫وقد ناط ال بأداء الشهادة حقوقا كثيرة ‪ ,‬بل ناط بها حدود ال ‪ ,‬التي تقام بقيام الشهادة ‪ .‬فلم يكن بد أن‬
‫يشدد ال في القيام بالشهادة ‪ ,‬وعدم التخلف عنها ابتداء ‪ ,‬وعدم كتمانها عند التقاضي ‪ ,‬ومن القيام بها‬
‫أداؤها بالحق دون ميل ول تحريف ‪ .‬وقد جعلها ال شهادة له هو ليربطها بطاعته ‪ ,‬فقال‪( :‬وأقيموا الشهادة‬
‫ل)‪ . .‬وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من المانات ‪ ,‬أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها‬
‫وإبراز أهميتها ‪. .‬‬

‫وكما بدأ سمات النفوس المؤمنة بالصلة ‪ ,‬ختمها كذلك بالصلة‪:‬‬

‫(والذين هم على صلتهم يحافظون)‪. .‬‬

‫وهي صفة غير صفة الدوام التي ذكرت في صدر هذه الصفات ‪ .‬تتحقق بالمحافظة على الصلة في‬
‫مواعيدها ‪ ,‬وفي فرائضها ‪ ,‬وفي سننها ‪ ,‬وفي هيئتها ‪ ,‬وفي الروح التي تؤدى بها ‪ .‬فل يضيعونها إهمال‬
‫وكسل ‪ .‬ول يضيعونها بعدم إقامتها على وجهها ‪ . .‬وذكر الصلة في المطلع والختام يوحي بالحتفال‬
‫والهتمام ‪ .‬وبهذا تختم سمات المؤمنين ‪. .‬‬

‫وعندئذ يقرر مصير هذا الفريق من الناس بعد ما قرر من قبل مصير الفريق الخر‪:‬‬

‫(أولئك في جنات مكرمون)‪. .‬‬


‫ويجمع هذا النص القصير بين لون من النعيم الحسي ولون من النعيم الروحي ‪ .‬فهم في جنات ‪ .‬وهم يلقون‬
‫الكرامة في هذه الجنات ‪ .‬فتجتمع لهم اللذة بالنعيم مع التكريم ‪ ,‬جزاء على هذا الخلق الكريم ‪ ,‬الذي يتميز‬
‫به المؤمنون ‪. .‬‬

‫الدرس الثالث‪ 41 - 36:‬من أفعال الكفار ضد الرسول وتيئيسهم من الجنة والقدرة على البعث‬

‫ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ‪ ,‬والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون‬
‫فيه الرسول [ ص ] يتلو القرآن ‪ .‬ثم يتفرقون حواليه جماعات ‪ .‬ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير‬
‫ما رغبة في الهتداء بما يسمعون‪:‬‬

‫فما للذين كفروا قبلك مهطعين ? عن اليمين وعن الشمال عزين ? ‪. .‬‬

‫المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود ‪ .‬وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى ‪ . .‬وفي التعبير‬
‫تهكم خفي بحركتهم المريبة ‪ .‬وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها ‪ .‬وتعجب منهم ‪ .‬وتساؤل عن هذا‬
‫الحال منهم ! وهم ل يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا ‪ ,‬ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم‬
‫يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون !‬

‫ما لهم ?(أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم ?)‪. .‬‬

‫وهم على هذه الحال التي ل تؤدي إلى جنة نعيم ‪ ,‬إنما تؤدي إلى لظى مأوى المجرمين !‬

‫ألعلهم يحسبون أنفسهم شيئا عظيما عند ال ; فهم يكفرون ويؤذون الرسول ‪ ,‬ويسمعون القرآن ويتناجون‬
‫بالكيد ‪ .‬ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله لنهم في ميزان ال شيء عظيم ?! ‪.‬‬

‫من الية ‪ 39‬الى آخر السورة‬

‫ن (‪َ )39‬فلَا أُقْسِ ُم ِبرَبّ ا ْلمَشَا ِرقِ وَا ْلمَغَا ِربِ إِنّا َلقَا ِدرُونَ (‪ )40‬عَلَى أَن نّبَ ّدلَ خَيْرا مّ ْنهُمْ وَمَا نَحْنُ‬
‫خَلقْنَاهُم مّمّا َيعْلَمُو َ‬
‫كَلّا إِنّا َ‬
‫سرَاعا َكأَ ّنهُمْ‬
‫خرُجُونَ ِمنَ الْأَجْدَاثِ ِ‬
‫ن (‪َ )42‬يوْمَ يَ ْ‬
‫ِبمَسْبُوقِينَ (‪ )41‬فَ َذ ْرهُمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلَاقُوا َيوْ َمهُمُ الّذِي يُوعَدُو َ‬
‫ن (‪)44‬‬
‫شعَةً أَبْصَا ُرهُمْ َت ْر َه ُقهُمْ ِذلّ ٌة ذَلِكَ الْ َيوْمُ الّذِي كَانُوا يُوعَدُو َ‬
‫صبٍ يُوفِضُونَ (‪ )43‬خَا ِ‬
‫إِلَى نُ ُ‬

‫(كل !)في ردع وفي تحقير ‪( . .‬إنا خلقناهم مما يعلمون)!‬

‫وهم يعلمون مم خلقوا ! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون ! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة‬
‫الخفية العميقة في الوقت ذاته ; فيمسح بها كبرياءهم مسحا ‪ ,‬وينكس بها خيلءهم تنكيسا ‪ ,‬دون لفظة‬
‫واحدة نابية ‪ ,‬أو تعبير واحد جارح ‪ .‬بينما هذه الِشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل‬
‫تصوير ! فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع ? وهم مخلوقون مما يعلمون ! وهم‬
‫أهون على ال من أن تكون لهم دالة عليه ‪ ,‬وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم ‪.‬‬

‫واستطرادا في تهوين أمرهم ‪ ,‬وتصغير شأنهم ‪ ,‬وتنكيس كبريائهم ‪ ,‬يقرر أن ال قادر على أن يخلق خيرا‬
‫منهم ‪ ,‬وأنهم ل يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم‪:‬‬
‫(فل أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ‪ ,‬على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين)‪.‬‬

‫والمر ليس في حاجة إلى قسم ‪ .‬ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب ‪ ,‬يوحي بعظمة الخالق ‪.‬‬
‫والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح ‪ .‬كما أنها قد تعني‬
‫المشارق والمغارب المتوالية على بقاع الرض ‪ .‬وهي تتوالى في كل لحظة ‪ .‬ففي كل لحظة أثناء دوران‬
‫الرض حول نفسها أمام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب ‪. . .‬‬

‫وأيا كان مدلول المشارق والمغارب ‪ ,‬فهو يوحي إلى القلب بضخامة هذا الوجود ‪ ,‬وبعظمة الخالق لهذا‬
‫الوجود ‪ .‬فهل يحتاج أمر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلى قسم برب المشارق والمغارب ‪ ,‬على أنه ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬قادر على أن يخلق خيرا منهم ‪ ,‬وأنهم ل يسبقونه ول يفوتونه ول يهربون من مصيرهم‬
‫المحتوم ?! ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 44 - 42:‬تهديد الكفار وصورة لهول البعث‬

‫وعندما يبلغ السياق هذا المقطع ‪ ,‬بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود ; وكرامة النعيم للمؤمنين‬
‫‪ ,‬وهوان شأن الكافرين ‪ .‬يتجه بالخطاب إلى رسول ال [ ص ] ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب ‪ ,‬ويرسم‬
‫مشهدهم فيه ‪ ,‬وهو مشهد مكروب ذليل‪:‬‬

‫(فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون ‪ .‬يوم يخرجون من الجداث سراعا كأنهم إلى‬
‫نصب يوفضون ‪ ,‬خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ‪ ,‬ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون)‪. .‬‬

‫وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم ‪ ,‬ومن التهديد لهم ‪ ,‬ما يثير الخوف والترقب ‪ .‬وفي مشهدهم وهيئتهم‬
‫وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف ‪ .‬كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب‬
‫اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم ‪. .‬‬

‫فهؤلء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه ‪ . .‬وفي هذا التهكم‬
‫تناسق مع حالهم في الدنيا ‪ .‬لقد كانوا يسارعون إلى النصاب في العياد ويتجمعون حولها ‪ .‬فها هم أولء‬
‫يسارعون اليوم ‪ ,‬ولكن شتان بين يوم ويوم !‬

‫ثم تتم سماتهم بقوله‪( :‬خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة)فنلمح من خلل الكلمات سيماهم كاملة ‪ ,‬وترتسم لنا‬
‫من قسماتهم صورة واضحة ‪ .‬صورة ذليلة عانية ‪ . .‬لقد كانوا يخوضون ويلعبون فهم اليوم أذلء مرهقون‬
‫‪..‬‬

‫(ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون)‪.‬‬

‫فكانوا يستريبون فيه ويكذبون ويستعجلون !‬

‫بهذا يلتئم المطلع والختام ‪ ,‬وتتم هذه الحلقة من حلقات العلج الطويل لقضية البعث والجزاء ‪ ,‬وتنتهي هذه‬
‫الجولة من جولت المعركة الطويلة بين التصور الجاهلي والتصور السلمي للحياة ‪.‬‬

You might also like