Professional Documents
Culture Documents
سورة المعارج
سورة المعارج
سورة المعارج
َ سأ َ َ
ح إِلَيْهِ فِي مَلئ ِك َ ُ
ة وَالُّرو ُ ج ال ْ َ معَارِ ِ
ج ( )3تَعُْر ُ ن الل ّهِ ذِي ال ْ َ
م َه دَافِعٌ (ِّ )2س لَ ُن لَي ْ َ
ب وَاقٍِع ( )1ل ِّلْكَافِري َ سائ ِ ٌ
ل بِعَذ َا ٍ ل َ َ
م تَكُو ُ
ن ه بَعِيدا ً ( )6وَنََراه ُ قَرِيبا ً ( )7يَوْ َ م يََروْن َ ُميل ً ( )5إِنَّهُ ْ صبْرا ً َ
ج ِ صبِْر َسنَةٍ ( )4فَا ْ ف َ ن أَل ْ َ
سي َ
م ِ
خ ْ
مقْدَاُره ُ َن ِ يَوْم ٍ كَا َ
الشرح :
من الية 1الى الية 3
ج ()3
ن اللّهِ ذِي الْ َمعَارِ ِ
سَ َأ َل سَا ِئلٌ ِبعَذَابٍ وَا ِق ٍع ( )1لّلْكَافِرينَ لَ ْيسَ لَ ُه دَا ِف ٌع ( )2مّ َ
سورة المعارج
هذه السورة حلقة من حلقات العلج البطيء ,المديد ,العميق ,الدقيق ,لعقابيل الجاهلية في النفس
البشرية كما واجهها القرآن في مكة ; وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلفات في
السطوح ل في العماق ! وفي الظواهر ل في الحقائق !
أو هي جولة من جولت المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس ,وفي خلل دروبها
ومنحنياتها ,ورواسبها وركامها .وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون -فيما
بعد -كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة
السلمية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة !
والحقيقة الساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الخرة وما فيها من جزاء ; وعلى وجه
الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين ,كما أوعدهم القرآن الكريم .وهي تلم -في طريقها إلى إقرار هذه
الحقيقة -بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء .وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون
خاوية من اليمان .كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك ,واستحقاقها للتكريم .
وبهوان الذين كفروا على ال وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين . .وتقرر السورة كذلك
اختلف القيم والمقاييس في تقدير ال وتقدير البشر ,واختلف الموازين . . .
وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها ,أو جولة من جولت
المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها .تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في
النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية .فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية -
ابتداء -قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضل على أن يرغم به أعداءه على الستسلم
له !
والذي يقرأ هذا القرآن -وهو مستحضر في ذهنه لحداث السيرة -يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ
الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة .ويرى أنه
كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا . .تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلئل
الموحية والمؤثرات الجارفة ! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي ل يثبت لها شيء مما هو
راسخ في كيانها من التصورات والرواسب ! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللذعة تلهب الحس فل يطيق
وقعها ول يصبر على لذعها ! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ,والمسارة الودود ,التي تهفو لها
المشاعر وتأنس لها القلوب ! وتارة يواجهها بالهول المرعب ,والصرخة المفزعة ,التي تفتح العين على
الخطر الداهم القريب ! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة ل تدع مجال للتلفت عنها ول الجدال
فيها .وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها .وتارة يتخلل مساربها
ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين ,
وتخجل من بعضه ,وتكره بعضه ,وتتيقظ لحركاتها وانفعالتها التي كانت غافلة عنها ! . .ومئات من
اللمسات ,ومئات من اللفتات ,ومئات من الهتافات ,ومئات من المؤثرات . .يطلع عليها قارئ القرآن ,
وهو يتبع تلك المعركة الطويلة ,وذلك العلج البطيء .ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك
النفوس العصية العنيدة .
وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الخرة ,والحقائق الخرى التي ألمت بها
في الطريق إليها .
وحقيقة الخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة ,ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى ,
وتعرض لها من زاوية جديدة ,وصور وظلل جديدة . .
في سورة الحاقة كان التجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم ,ممثلين في حركات عنيفة في
مشاهد الكون الهائلة(:فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ,وحملت الرض والجبال فدكتا دكة واحدة .فيومئذ
وقعت الواقعة ,وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) . .وفي الجلل المهيب في ذلك المشهد
المرهوب(:والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) . .وفي التكشف الذي ترتج له
وتستهوله المشاعر(:يومئذ تعرضون ل تخفى منكم خافية). .
كذلك كان الهول والرعب يتمثلن في مشاهد العذاب ,حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب(:خذوه .فغلوه .
ثم الجحيم صلوه .ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) . .كما يتجلى في صراخ المعذبين
وتأوهاتهم وحسراتهم( :يا ليتني لم أوت كتابيه .ولم أدر ما حسابيه .يا ليتها كانت القاضية ). .
فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملمح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها ,أكثر مما يتجلى
في مشاهد الكون وحركاته .حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا ! وهو على كل حال ليس
أبرز ما في الموقف من أهوال .إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من
خلخلة وذهول وروعة(:يوم تكون السماء كالمهل ,وتكون الجبال كالعهن .ول يسأل حميم حميما .
يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ,وصاحبته وأخيه ,وفصيلته التي تؤويه ,ومن
في الرض جميعا ثم ينجيه). .
وجهنم هنا "نفس" ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الحياء في سمة الهول الحي :إنها لظى .نزاعة
للشوى .تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيا(:يوم يخرجون من الجداث سراعا كأنهم إلى نصب
يوفضون ,خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ,ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون). .
فالمشاهد والصور والظلل لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة ,باختلف طابعي
السورتين في عمومه .مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد .
ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج -فيما تناولت -تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء ,في
حالتي اليمان والخواء من اليمان .وكان هذا متناسقا مع طابعها "النفسي" الخاص:فجاء في صفة النسان
(إن النسان خلق هلوعا .إذا مسه الشر جزوعا ,وإذا مسه الخير منوعا .إل المصلين ,الذين هم على
صلتهم دائمون . .الخ. .
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة
وأسلوبها( :إل المصلين .الذين هم على صلتهم دائمون .والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
.والذين يصدقونبيوم الدين .والذين هم من عذاب ربهم مشفقون .إن عذاب ربهم غير مأمون .والذين
هم لفروجهم حافظون .إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين .فمن ابتغى وراء ذلك
فأولئك هم العادون .والذين هم لماناتهم وعهدهم راعون .والذين هم بشهاداتهم قائمون .والذين هم
على صلتهم يحافظون . .). . .
ولقد كان التجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة .ومن ثم كانت
حقيقة الخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة ,كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الرض ; وأخذ
كل من يبدل في العقيدة بل تسامح . .فأما التجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الخرة
وما فيها من جزاء ,وموازين هذا الجزاء .فحقيقة الخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها .
ومن ثم كانت الحقائق الخرى في السورة كلها متصلة اتصال مباشرا بحقيقة الخرة فيها .من ذلك حديث
السورة عن الفارق بين حساب ال في أيامه وحساب البشر ,وتقدير ال لليوم الخر وتقدير البشر :تعرج
الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ,فاصبر صبرا جميل .إنهم يرونه بعيدا ونراه
قريبا . . .الخ وهو متعلق باليوم الخر .
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي اليمان والخلو من اليمان .وهما
مؤهلن للجزاء في يوم الجزاء .
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم ,مع هوانهم على ال وعجزهم عن سبقه
والتفلت من عقابه .وهو متصل اتصال وثيقا بمحور السورة الصيل .
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لقرارها في النفوس .مع
تنوع اللمسات والحقائق الخرى المصاحبة ! للموضوع الصيل .
ظاهرة أخرى في هذا اليقاع الموسيقي للسورة ,الناشئ من بنائها التعبيري . .فقد كان التنوع اليقاعي
في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة .وفق المعنى والجو فيه . .فأما هنا في
سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا ,لنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها ل إيقاع القافية وحدها .
والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا .ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الول بشكل
ملحوظ .
ففي هذا المطلع ثلث جمل موسيقية منوعة -مع اتحاد اليقاع في نهاياتها -من حيث الطول ومن حيث
اليقاعات الجزئية فيها على النحو التالي:
(سأل سائل بعذاب واقع .للكافرين ليس له دافع .من ال ذي المعارج .تعرج الملئكة والروح إليه .في
يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .فاصبر صبرا جميل) . .حيث تنتهي بمد اللف في اليقاع الخامس .
(إنهم يرونه بعيدا .ونراه قريبا) . .حيث يتكرر اليقاع بمد اللف مرتين .
(يوم تكون السماء كالمهل .وتكون الجبال كالعهن .ول يسأل حميم حميما) . .حيث تنتهي بمد اللف في
اليقاع الثالث .مع تنوع اليقاع في الداخل .
(يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه .وصاحبته وأخيه .وفصيلته التي تؤويه .ومن
في الرض جميعا ثم ينجيه .كل إنها لظى) . .حيث تنتهي بمد اللف في اليقاع الخامس كالول .
(نزاعة للشوى . .تدعو من أدبر وتولى .وجمع فأوعى .إن النسان خلق هلوعا .إذا مسه الشر جزوعا
.وإذا مسه الخير منوعا) . .حيث يتكرر إيقاع المد باللف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان
عن الثلثة الولى .
ثم يستقيم اليقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء . .
والتنويع اليقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الذن
الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي -موسيقيا -من جمال غريب على البيئة العربية وعلى
اليقاع الموسيقي العربي .ولكن السلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الذن العربية
فتقبل عليه ,وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي .
سأل سائل بعذاب واقع ,للكافرين ليس له دافع ,من ال ذي المعارج ,تعرج الملئكة والروح إليه في يوم
كان مقداره خمسين ألف سنة ,فاصبر صبرا جميل ,إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ,يوم تكون السماء
كالمهل ,وتكون الجبال كالعهن ,ول يسأل حميم حميما ,يبصرونهم ,يود المجرم لو يفتدي من عذاب
يومئذ ببنيه ,وصاحبته وأخيه ,وفصيلته التي تؤويه ,ومن في الرض جميعا ثم ينجيه .كل ! إنها لظى ,
نزاعة للشوى ,تدعو من أدبر وتولى ,وجمع فأوعى . .
كانت حقيقة الخرة من الحقائق العسيرة الدراك عند مشركي العرب ; ولقد لقيت منهم معارضة نفسية
عميقة ,وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والستغراب ; وينكرونها أشد النكار ,ويتحدون الرسول
[ ص ] في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود ,أو أن يقول لهم:متى يكون .
وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث .وفي رواية أخرى
عنه:قال:ذلك سؤال الكفار عن عذاب ال وهو واقع بهم .
وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائل سأل وقوع العذاب واستعجله .وتقرر أن هذا العذاب واقع
فعل ,لنه كائن في تقدير ال من جهة ,ولنه قريب الوقوع من جهة أخرى .وأن أحدا ل يمكنه دفعه ول
منعه .فالسؤال عنه واستعجاله -وهو واقع ليس له من دافع -يبدو تعاسة من السائل المستعجل ; فردا
كان أو مجموعة !
وهذا العذاب للكافرين . .إطلقا . .فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر .وهو
واقع من ال (ذي المعارج) . .وهو تعبير عن الرفعة والتعالي ,كما قال في السورة الخرى( :رفيع
الدرجات ذو العرش). .
وبعد هذا الفتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب ,ووقوعه ,ومستحقيه ,ومصدره ,وعلو
هذا المصدر ورفعته ,مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا ل مرد له ول دافع . .بعد هذا أخذ في وصف ذلك
اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب ,والذي يستعجلون به وهو منهم قريب .ولكن تقدير ال غير تقدير البشر
,ومقاييسه غير مقاييسهم:
(تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ,فاصبر صبرا جميل ,إنهم يرونه بعيدا
ونراه قريبا). .
والرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة ,لن السياق يكاد يعين هذا المعنى .وفي هذا اليوم
تصعد الملئكة والروح إلى ال .والروح:الرجح أنه جبريل عليه السلم ,كما سمي بهذا السم في مواضع
أخرى .وإنما أفرد بالذكر بعد الملئكة لما له من شأن خاص .وعروج الملئكة والروح في هذا اليوم يفرد
كذلك بالذكر ,إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته ,وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه .ول
ندري نحن -ولم نكلف أن ندري -طبيعة هذه المهام ,ول كيف يصعد الملئكة ,ول إلى أين يصعدون .
فهذه كلها تفصيلت في شأن الغيب ل تزيد شيئا من حكمة النص ,وليس لنا إليها من سبيل ,وليس لنا
عليها من دليل .فحسبنا أن نشعر من خلل هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم ,الذي ينشغل فيه الملئكة
والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم .
وأما (كان مقداره خمسين ألف سنة) . .فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير
العربي .وقد تعني حقيقة معينة ,ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الرض فعل وهو
يوم واحد ! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الن .فإن يومنا الرضي هو مقياس مستمد من دورة الرض
حول نفسها في أربع وعشرين ساعة .وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلف
المرات . .ول يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا .ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن
تصور اختلف المقاييس بين يوم ويوم !
وإذا كان يوم واحد من أيام ال يساوي خمسين ألف سنة ,فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيدا ,وهو
عند ال قريب .ومن ثم يدعو ال نبيه [ ص ] إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب
القريب .
والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة ,وتكررت لكل رسول ,ولكل مؤمن يتبع الرسول .
وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق ,ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية ,موصولة بالهدف البعيد
,متطلعة كذلك إلى الفق البعيد . .
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن ,الذي ل يصاحبه السخط ول القلق ول الشك في صدق الوعد .صبر
الواثق من العاقبة ,الراضي بقدر ال ,الشاعر بحكمته من وراء البتلء ,الموصول بال المحتسب كل
شيء عنده مما يقع به .
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة .فهي دعوة ال ,وهي دعوة إلى ال .ليس له هو منها
شيء .وليس له وراءها من غاية .فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل ال ,وكل ما يقع في شأنها هو من
أمر ال .فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة ,ومع الشعور بها في أعماق الضمير .
وال صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون ,وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون ,يقدر الحداث
ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله .ولكن البشر ل يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير
; فيستعجلون .وإذا طال عليهم المد يستريبون .وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم ,وتجول في
خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود . .عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه
من ال الخبير:
حمِيما ()10
حمِي ٌم َ
ن ( )9وَلَا يَسْ َألُ َ
إِ ّنهُمْ َي َروْ َنهُ بَعِيدا (َ )6و َنرَاهُ َقرِيبا (َ )7يوْمَ َتكُونُ السّمَاء كَالْ ُم ْهلِ (َ )8وتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْ ِعهْ ِ
حبَ ِت ِه وَأَخِي ِه ( )12وَفَصِيَلتِ ِه الّتِي ُتؤْوي ِه ( )13وَمَن فِي
جرِمُ َلوْ َيفْتَدِي ِمنْ عَذَابِ َيوْمِئِذٍ ِببَنِي ِه ( )11وَصَا ِ
صرُو َنهُمْ َيوَدّ ا ْلمُ ْ
ُيبَ ّ
جمِيعا ثُمّ يُنجِي ِه ()14
ا ْلَأرْضِ َ
والخطاب هنا للرسول [ ص ] تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب .وتقريرا للحقيقة
الخرى:وهي أن تقدير ال للمور غير تقدير البشر ; ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة:
ثم يرسم مشاهد اليوم الذي يقع فيه ذلك العذاب الواقع ,الذي يرونه بعيدا ويراه ال قريبا .يرسم مشاهده
في مجالي الكون وأغوار النفس .وهي مشاهد تشي بالهول المذهل المزلزل في الكون وفي النفس سواء:
والمهل ذوب المعادن الكدر كدردي الزيت .والعهن هو الصوف المنتفش .والقرآن يقرر في مواضع
مختلفة أن أحداثا كونية كبرى ستقع في هذا اليوم ,تغير أوضاع الجرام الكونية وصفاتها ونسبها
وروابطها .ومن هذه الحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة .وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها
المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية .فمن المرجح عندهم أن الجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة
إلى الدرجة الغازية -وهي بعد درجة النصهار والسيولة بمراحل -فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما
قال(:وإذا النجوم انكدرت)وستبرد حتى تصير معادن سائلة ! وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة
الغازية !
على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه .أما نحن فنقف أمام هذا النص
نتملى ذلك المشهد المرهوب ,الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر ,وتكون فيه الجبال كالصوف
الواهن المنتفش .ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس ,فيعبر عنه
القرآن أعمق تعبير:
(ول يسأل حميم حميما .يبصرونهم .يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه .وصاحبته وأخيه .
وفصيلته التي تؤويه .ومن في الرض جميعا ثم ينجيه).
إن الناس في هم شاغل ,ل يدع لحد منهم أن يتلفت خارج نفسه ,ول يجد فسحة في شعوره لغيره(:ول
يسأل حميم حميما) .فلقد قطع الهول المروع جميع الوشائج ,وحبس النفوس على همها ل تتعداه . .
وإنهم ليعرضون بعضهم على بعض(يبصرونهم)كأنما عمدا وقصدا ! ولكن لكل منهم همه ,ولكل ضمير
منهم شغله .فل يهجس في خاطر صديق أن يسأل صديقه عن حاله ,ول أن يسأله عونه .فالكرب يلف
الجميع ,والهول يغشى الجميع . .
فما بال(المجرم)? إن الهول ليأخذ بحسه ,وإن الرعب ليذهب بنفسه ,وإنه ليود لو يفتدي من عذاب يومئذ
بأعز الناس عليه ,ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة ,ويناضل عنهم ,ويعيش لهم . .ببنيه .وزوجه .
وأخيه ,وعشيرته القريبة التي تؤويه وتحميه .بل إن لهفته على النجاة لتفقده الشعور بغيره على الطلق
,فيود لو يفتدي بمن في الرض جميعا ثم ينجيه . .وهي صورة للهفة الطاغية والفزع المذهل والرغبة
الجامحة في الفلت ! صورة مبطنة بالهول ,مغمورة بالكرب ,موشاة بالفزع ,ترتسم من خلل التعبير
القرآني الموحي .
وبينما المجرم في هذه الحال ,يتمنى ذلك المحال ,يسمع ما ييئس ويقنط من كل بارقة من أمل ,أو كل
حديث خادع من النفس .كما يسمع المل جميعا حقيقة الموقف وما يجري فيه:
كل ! إنها لظى .نزاعة للشوى .تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
إنه مشهد تطير له النفس شعاعا ,بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله (. .كل !)في ردع عن تلك الماني
شوَى ( )16تَ ْدعُو مَنْ أَ ْد َبرَ وَ َتوَلّى ( )17وَجَ َمعَ َفَأوْعَى ()18
عةً لّل ّ
كَلّا إِ ّنهَا لَظَى (َ )15نزّا َ
المستحيلة في الفتداء بالبنين والزوج والخ والعشيرة ومن في الرض جميعا (. .كل ! إنها لظى)نار
تتلظى وتتحرق(نزاعة للشوى)تنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا . .وهي غول مفزعة .ذات نفس
حية تشارك في الهول والعذاب عن إرادة وقصد :تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .تدعوه كما كان
يدعى من قبل إلى الهدى فيدبر ويتولى .ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم ل يملك أن يدبر ويتولى ! ولقد كان
من قبل مشغول عن الدعوة بجمع المال وحفظه في الوعية ! فأما اليوم فالدعوة من جهنم ل يملك أن يلهو
عنها .ول يملك أن يفتدي بما في الرض كله منها !
والتوكيد في هذه السورة والسورة السابقة قبلها وفي سورة القلم كذلك على منع الخير ,وعدم الحض على
طعام المسكين ,وجمع المال في الوعية إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية . .هذا التوكيد يدل على أن
الدعوة كانت تواجه في مكة حالت خاصة يجتمع فيها البخل والحرص والجشع إلى الكفر والتكذيب
والضللة .مما اقتضى تكرار الشارة إلى هذا المر ,والتخويف من عاقبته ,بوصفه من موجبات العذاب
بعد الكفر والشرك بال .
وفي هذه السورة إشارات أخرى تفيد هذا المعنى ,وتؤكد ملمح البيئة المكية التي كانت تواجهها الدعوة .
فقد كانت بيئة مشغولة بجمع المال من التجارة ومن الربا .وكان كبراء قريش هم أصحاب هذه المتاجر ,
وأصحاب القوافل في رحلتي الشتاء والصيف .وكان هنالك تكالب على الثراء ,وشح النفوس يجعل الفقراء
محرومون ,واليتامى مضيعين .ومن ثم تكرر المر في هذا الشأن وتكرر التحذير .وظل القرآن يعالج هذا
الجشع وهذا الحرص ; ويخوض هذه المعركة مع الجشع والحرص في أغوار النفس ودروبها قبل الفتح
وبعده على السواء .مما هو ظاهر لمن يتتبع التحذير من الربا ,ومن أكل أموال الناس بالباطل ,ومن أكل
أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ! ومن الجور على اليتيمات واحتجازهن للزواج الجائر رغبة في
أموالهن ! ومن نهر السائل ,وقهر اليتيم ,ومن حرمان المساكين . . .إلى آخر هذه الحملت المتتابعة
العنيفة الدالة على الكثير من ملمح البيئة .فضل على أنها توجيهات دائمة لعلج النفس النسانية في كل
بيئة .وحب المال ,والحرص عليه ,وشح النفس به ,والرغبة في احتجانه ,آفة تساور النفوس مساورة
عنيفة ,وتحتاج للنطلق من إسارها والتخلص من أوهاقها ,والتحرر من ربقتها ,إلى معارك متلحقة ,
وإلى علج طويل !
الدرس الثاني 35 - 19:من طبيعة النفس النسانية التي يهذبها السلم وصفات الصالحين
والن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم ,وفي صورة ذلك العذاب ; فإنه يتجه إلى تصوير
حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير ,في حالتي إيمانها وخلوها من اليمان .ويقرر مصير
المؤمنين كما قرر مصير المجرمين:
(إن النسان خلق هلوعا:إذا مسه الشر جزوعا ,وإذا مسه الخير منوعا .إل المصلين الذين هم على
صلتهم دائمون .والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم .والذين يصدقون بيوم الدين .والذين
هم من عذاب ربهم مشفقون .إن عذاب ربهم غير مأمون .والذين هم لفروجهم حافظون .إل على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين .فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .والذين هم
لماناتهم وعهدهم راعون .والذين هم بشهاداتهم قائمون .والذين هم على صلتهم يحافظون .أولئك في
جنات مكرمون).
وصورة النسان -عند خواء قلبه من اليمان -كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها
وتعبيرها الكامل عن الملمح الصيلة في هذا المخلوق ; والتي ل يعصمه منها ول يرفعه عنها إل العنصر
اليماني ,الذي
ن هُمْ عَلَى
خ ْيرُ مَنُوعا (ِ )21إلّا ا ْلمُصَلّينَ ( )22الّذِي َ
جزُوعا ( )20وَإِذَا مَسّهُ الْ َ
شرّ َ
ن خُ ِلقَ َهلُوعا ( )19إِذَا مَسّ ُه ال ّ
إِنّ ا ْلإِنسَا َ
حرُومِ ()25
حقّ مّعْلُو ٌم ( )24لّلسّا ِئ ِل وَالْمَ ْ
ن فِي أَ ْموَاِلهِمْ َ
صَلَا ِتهِ ْم دَا ِئمُونَ ( )23وَالّذِي َ
يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملقاة الشر ,ومن الشح عند امتلك الخير
.
(إن النسان خلق هلوعا:إذا مسه الشر جزوعا .وإذا مسه الخير منوعا). .
لكأنما كل كلمة لمسة من ريشة مبدعة تضع خطا في ملمح هذا النسان .حتى إذا اكتملت اليات الثلث
القصار المعدودة الكلمات نطقت الصورة ونبضت بالحياة .وانتفض من خللها النسان بسماته وملمحه
الثابتة .هلوعا . .جزوعا عند مس الشر ,يتألم للذعته ,ويجزع لوقعه ,ويحسب أنه دائم ل كاشف له .
ويظن اللحظة الحاضرة سرمدا مضروبا عليه ; ويحبس نفسه بأوهامه في قمقم من هذه اللحظة وما فيها
من الشر الواقع به .فل يتصور أن هناك فرجا ; ول يتوقع من ال تغييرا .ومن ثم يأكله الجزع ,ويمزقه
الهلع .ذلك أنه ل يأوي إلى ركن ركين يشد من عزمه ,ويعلق به رجاءه وأمله . .منوعا للخير إذا قدر
عليه .يحسب أنه من كده وكسبه فيضن به على غيره ,ويحتجنه لشخصه ,ويصبح أسير ما ملك منه ,
مستعبدا للحرص عليه ! ذلك أنه ل يدرك حقيقة الرزق ودوره هو فيه .ول يتطلع إلى خير منه عند ربه
وهو منقطع عنه خاوي القلب من الشعور به . .فهو هلوع في الحالتين . .هلوع من الشر .هلوع على
الخير . .وهي صورة بائسة للنسان ,حين يخلو قلبه من اليمان .
ومن ثم يبدو اليمان بال مسألة ضخمة في حياة النسان .ل كلمة تقال باللسان ,ول شعائر تعبدية تقام .
إنه حالة نفس ومنهج حياة ,وتصور كامل للقيم والحداث والحوال .وحين يصبح القلب خاويا من هذا
المقوم فإنه يتأرجح ويهتز وتتناوبه الرياح كالريشة ! ويبيت في قلق وخوف دائم ,سواء أصابه الشر
فجزع ,أم أصابه الخير فمنع .فأما حين يعمره اليمان فهو منه في طمأنينة وعافية ,لنه متصل بمصدر
الحداث ومدبر الحوال ; مطمئن إلى قدره شاعر برحمته ,مقدر لبتلئه ,متطلع دائما إلى فرجه من
الضيق ,ويسره من العسر .متجه إليه بالخير ,عالم أنه ينفق مما رزقه ,وأنه مجزي على ما أنفق في
سبيله ,معوض عنه في الدنيا والخرة . .فاليمان كسب في الدنيا يتحقق قبل جزاء الخرة ,يتحقق
بالراحة والطمأنينة والثبات والستقرار طوال رحلة الحياة الدنيا .
وصفة المؤمنين المستثنين من الهلع ,تلك السمة العامة للنسان ,يفصلها السياق هنا ويحددها:
والصلة فوق أنها ركن السلم وعلمة اليمان ,هي وسيلة التصال بال والستمداد من ذلك الرصيد .
ومظهر العبودية الخالصة التي يتجرد فيها مقام الربوبية ومقام العبودية في صورة معينة .وصفة الدوام
التي يخصصها بها هنا(:الذين هم على صلتهم دائمون) . .تعطي صورة الستقرار والستطراد ,فهي صلة
ل يقطعها الترك والهمال والكسل وهي صلة بال مستمرة غير منقطعة . .وقد كان رسول ال [ ص ] إذا
عمل شيئا من العبادة أثبته -أي داوم عليه -وكان يقول ":وإن أحب العمال إلى ال تعالى ما دام وإن قل
" . .لملحظة صفة الطمئنان والستقرار والثبات على التصال بال ,كما ينبغي من الحترام لهذا التصال
.فليس هو لعبة توصل أو تقطع ,حسب المزاج !
ن هُمْ
ب رَ ّبهِمْ غَ ْيرُ مَ ْأمُونٍ ( )28وَالّذِي َ
ن عَذَا َ
ش ِفقُونَ ( )27إِ ّ
ب رَ ّبهِم مّ ْ
ن عَذَا ِ
ن هُم مّ ْ
ن ( )26وَالّذِي َ
وَالّذِينَ يُصَدّقُونَ بِ َيوْمِ الدّي ِ
ك هُمُ
ن (َ )30فمَنِ ا ْبتَغَى َورَاء ذَِلكَ َفُأوْلَئِ َ
جهِمْ َأوْ مَا َملَ َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفإِ ّنهُ ْم غَ ْيرُ مَلُومِي َ
علَى َأ ْزوَا ِ
ن ( )29إِلّا َ
ِل ُفرُوجِهِ ْم حَافِظُو َ
صلَا ِتهِمْ
ن هُ ْم عَلَى َ
ن ( )33وَالّذِي َ
شهَادَا ِتهِمْ قَائِمُو َ
ن هُم بِ َ
عهْدِهِ ْم رَاعُونَ ( )32وَالّذِي َ
ن هُمْ لِأَمَانَا ِتهِ ْم وَ َ
ا ْلعَادُونَ ( )31وَالّذِي َ
ن ()37
عزِي َ
ن ( )36عَنِ ا ْليَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ ِ
ن َك َفرُوا ِقبَلَكَ ُمهْطِعِي َ
ك فِي جَنّاتٍ مّ ْكرَمُونَ ( )35فَمَالِ الّذِي َ
يُحَافِظُونَ (ُ )34أوَْلئِ َ
جنّةَ َنعِي ٍم ()38
خلَ َ
ط َمعُ ُكلّ ا ْمرِئٍ مّ ْنهُمْ أَن يُدْ َ
أَيَ ْ
تخلص من الشح واستعلء على الحرص ! كما أن فيه شعورا بواجب الواجد تجاه المحروم ,في هذه المة
المتضامنة المتكافلة . .والسائل الذي يسأل ; والمحروم الذي ل يسأل ول يعبر عن حاجته فيحرم .أو لعله
الذي نزلت به النوازل فحرم وعف عن السؤال .والشعور بأن للمحتاجين والمحرومين حقا في الموال هو
شعور بفضل ال من جهة ,وبآصرة النسانية من جهة ,فوق ما فيه من تحرر شعوري من ربقة الحرص
والشح .وهو في الوقت ذاته ضمانة اجتماعية لتكافل المة كلها وتعاونها .فهي فريضة ذات دللت شتى
,في عالم الضمير وعالم الواقع سواء . .وذكرها هنا فوق أنه يرسم خطا في ملمح النفس المؤمنة فهو
حلقة من حلقات العلج للشح والحرص في السورة .
وهذه الصفة ذات علقة مباشرة بموضوع السورة الرئيسي .وهي في الوقت ذاته ترسم خطا أساسيا في
ملمح النفس المؤمنة .فالتصديق بيوم الدين شطر اليمان .وهو ذو أثر حاسم في منهج الحياة شعورا
وسلوكا .والميزان في يد المصدق بيوم الدين غير الميزان في يد المكذب بهذا اليوم أو المستريب فيه .
ميزان الحياة والقيم والعمال والحداث . .المصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء ل لميزان
الرض ,ولحساب الخرة ل لحساب الدنيا ويتقبل الحداث خيرها وشرها وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها
هناك ,فيضيف إليها النتائج المرتقبة حين يزنها ويقومها . .والمكذب بيوم الدين يحسب كل شيء بحسب
ما يقع له منه في هذه الحياة القصيرة المحدودة ,ويتحرك وحدوده هي حدود هذه الرض وحدود هذا
العمر .ومن ثم يتغير حسابه وتختلف نتائج موازينه ,وينتهي إلى نتائج خاطئة فوق ما ينحصر في مساحة
من المكان ومساحة من الزمان محدودة . .وهو بائس مسكين معذب قلق لن ما يقع في هذا الشطر من
الحياة الذي يحصر فيه تأملته وحساباته وتقديراته ,قد ل يكون مطمئنا ول مريحا ول عادل ول معقول ,
ما لم يضف إليه حساب الشطر الخر وهو أكبر وأطول .ومن ثم يشقى به من ل يحسب حساب الخرة أو
يشقى غيره من حوله .ول تستقيم له حياة رفيعة ل يجد جزاءها في هذه الرض واضحا . .ومن ثم كان
التصديق باليوم الخر شطر اليمان الذي يقوم عليه منهج الحياة في السلم .
(والذين هم من عذاب ربهم مشفقون .إن عذاب ربهم غير مأمون). .
وهذه درجة أخرى وراء مجرد التصديق بيوم الدين .درجة الحساسية المرهفة ,والرقابة اليقظة ,
والشعور بالتقصير في جناب ال على كثرة العبادة ,والخوف من تلفت القلب واستحقاقه للعذاب في أية
لحظة ,والتطلع إلى ال للحماية والوقاية .
ولقد كان رسول ال [ ص ] وهو من هو عند ال .وهو يعرف أن ال قد اصطفاه ورعاه . .كان دائم
الحذر دائم الخوف لعذاب ال .وكان على يقين أن عمله ل يعصمه ول يدخله الجنة إل بفضل من ال
ورحمة .وقال لصحابه ":لن يدخل الجنة أحدا عمله " قالوا:ول أنت يا رسول ال ? قال ":ول أنا إل أن
يتغمدني ال برحمته "
وفي قوله هنا(:إن عذاب ربهم غير مأمون) . .إيحاء بالحساسية الدائمة التي ل تغفل لحظة ,فقد تقع
موجبات العذاب في لحظة الغفلة فيحق العذاب .وال ل يطلب من الناس إل هذه اليقظة وهذه الحساسية ,
فإذا غلبهم ضعفهم معها ,فرحمته واسعة ,ومغفرته حاضرة .وباب التوبة مفتوح ليست عليه مغاليق !
وهذاقوام المر في السلم بين الغفلة والقلق .والسلم غير هذا وتلك .والقلب الموصول بال يحذر
ويرجو ,ويخاف ويطمع ,وهو مطمئن لرحمة ال على كل حال .
(والذين هم لفروجهم حافظون .إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين .فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون). .
وهذه تعني طهارة النفس والجماعة ,فالسلم يريد مجتمعا طاهرا نظيفا ,وفي الوقت ذاته ناصعا صريحا .
مجتمعا تؤدى فيه كل الوظائف الحيوية ,وتلبي فيه كل دوافع الفطرة .ولكن بغير فوضى ترفع الحياء
الجميل ,وبغير التواء يقتل الصراحة النظيفة .مجتمعا يقوم على أساس السرة الشرعية المتينة القوائم .
وعلى البيت العلني الواضح المعالم .مجتمعا يعرف فيه كل طفل أباه ,ول يخجل من مولده .ل لن الحياء
منزوع من الوجوه والنفوس .ولكن لن العلقات الجنسية قائمة على أساس نظيف صريح ,طويل المد
واضح الهداف ,يرمي إلى النهوض بواجب إنساني واجتماعي ,ل لمجرد إرضاء النزوة الحيوانية
والشهوة الجنسية !
ومن ثم يذكر القرآن هنا من صفات المؤمنين(والذين هم لفروجهم حافظون إل على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين ,فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون). .
فيقرر نظافة التصال بالزواج وبما ملكت اليمان -من الماء حين يوجدن بسبب مشروع -والسبب
المشروع الوحيد الذي يعترف به السلم هو السبي في قتال في سبيل ال .وهي الحرب الوحيدة التي
يقرها السلم -والصل في حكم هذا السبي هو ما ذكرته آية سورة محمد( :فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب
الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ,فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها)ولكن قد
يتخلف بعض السبي بل من ول فداء لملبسات واقعية ; فهذا يظل رقيقا إذا كان المعسكر الخر يسترق
أسرى المسلمين في أية صورة من صور الرق -ولو سماه بغير اسمه ! -ويجوز السلم وطء الماء
عندئذ من صاحبهن وحده ,ويجعل عتقهن موكول إلى الوسائل الكثيرة التي شرعها السلم لتجفيف هذا
المورد .ويقف السلم بمبادئه صريحا نظيفا ل يدع هؤلء السيرات لفوضى الختلط الجنسي القذر كما
يقع لسيرات الحروب قديما وحديثا ! ول يتدسس ويلتوي فيسميهن حرات وهن إماء في الحقيقة !
(فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) . .وبذلك يغلق الباب في وجه كل قذارة جنسية ,في أية صورة
غير هاتين الصورتين الواضحتين الصريحتين . .فل يرى في الوظيفة الطبيعية قذارة في ذاتها ; ولكن
القذارة في اللتواء بها .والسلم نظيف صريح قويم . .
وهذه من القوائم الخلقية التي يقيم السلم عليها نظام المجتمع .ورعاية المانات والعهود في السلم
تبدأ من رعاية المانة الكبرى التي عرضها ال على السماوات والرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها وحملها النسان .وهي أمانة العقيدة والستقامة عليها اختيارا ل اضطرارا . .ومن رعاية العهد
الول المقطوع على فطرة الناس وهم بعد في الصلب أن ال ربهم الواحد ,وهم بخلقتهم على هذا العهد
شهود . .ومن رعاية تلك المانة وهذا العهد تنبثق رعاية سائر المانات والعهود في معاملت الرض وقد
شدد السلم في المانة والعهد وكرر وأكد ,ليقيم المجتمع على أسس متينة من الخلق والثقة والطمأنينة .
وجعل رعاية المانة والعهد سمة النفسالمؤمنة ,كما جعل خيانة المانة وإخلف العهد سمة النفس المنافقة
والكافرة .ورد هذا في مواضع شتى من القرآن والسنة ل تدع مجال للشك في أهمية هذا المر البالغة في
عرف السلم .
وقد ناط ال بأداء الشهادة حقوقا كثيرة ,بل ناط بها حدود ال ,التي تقام بقيام الشهادة .فلم يكن بد أن
يشدد ال في القيام بالشهادة ,وعدم التخلف عنها ابتداء ,وعدم كتمانها عند التقاضي ,ومن القيام بها
أداؤها بالحق دون ميل ول تحريف .وقد جعلها ال شهادة له هو ليربطها بطاعته ,فقال( :وأقيموا الشهادة
ل) . .وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من المانات ,أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها
وإبراز أهميتها . .
وهي صفة غير صفة الدوام التي ذكرت في صدر هذه الصفات .تتحقق بالمحافظة على الصلة في
مواعيدها ,وفي فرائضها ,وفي سننها ,وفي هيئتها ,وفي الروح التي تؤدى بها .فل يضيعونها إهمال
وكسل .ول يضيعونها بعدم إقامتها على وجهها . .وذكر الصلة في المطلع والختام يوحي بالحتفال
والهتمام .وبهذا تختم سمات المؤمنين . .
وعندئذ يقرر مصير هذا الفريق من الناس بعد ما قرر من قبل مصير الفريق الخر:
الدرس الثالث 41 - 36:من أفعال الكفار ضد الرسول وتيئيسهم من الجنة والقدرة على البعث
ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ,والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون
فيه الرسول [ ص ] يتلو القرآن .ثم يتفرقون حواليه جماعات .ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير
ما رغبة في الهتداء بما يسمعون:
فما للذين كفروا قبلك مهطعين ? عن اليمين وعن الشمال عزين ? . .
المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود .وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى . .وفي التعبير
تهكم خفي بحركتهم المريبة .وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها .وتعجب منهم .وتساؤل عن هذا
الحال منهم ! وهم ل يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا ,ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم
يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون !
ما لهم ?(أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم ?). .
وهم على هذه الحال التي ل تؤدي إلى جنة نعيم ,إنما تؤدي إلى لظى مأوى المجرمين !
ألعلهم يحسبون أنفسهم شيئا عظيما عند ال ; فهم يكفرون ويؤذون الرسول ,ويسمعون القرآن ويتناجون
بالكيد .ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله لنهم في ميزان ال شيء عظيم ?! .
ن (َ )39فلَا أُقْسِ ُم ِبرَبّ ا ْلمَشَا ِرقِ وَا ْلمَغَا ِربِ إِنّا َلقَا ِدرُونَ ( )40عَلَى أَن نّبَ ّدلَ خَيْرا مّ ْنهُمْ وَمَا نَحْنُ
خَلقْنَاهُم مّمّا َيعْلَمُو َ
كَلّا إِنّا َ
سرَاعا َكأَ ّنهُمْ
خرُجُونَ ِمنَ الْأَجْدَاثِ ِ
ن (َ )42يوْمَ يَ ْ
ِبمَسْبُوقِينَ ( )41فَ َذ ْرهُمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلَاقُوا َيوْ َمهُمُ الّذِي يُوعَدُو َ
ن ()44
شعَةً أَبْصَا ُرهُمْ َت ْر َه ُقهُمْ ِذلّ ٌة ذَلِكَ الْ َيوْمُ الّذِي كَانُوا يُوعَدُو َ
صبٍ يُوفِضُونَ ( )43خَا ِ
إِلَى نُ ُ
وهم يعلمون مم خلقوا ! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون ! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة
الخفية العميقة في الوقت ذاته ; فيمسح بها كبرياءهم مسحا ,وينكس بها خيلءهم تنكيسا ,دون لفظة
واحدة نابية ,أو تعبير واحد جارح .بينما هذه الِشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل
تصوير ! فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع ? وهم مخلوقون مما يعلمون ! وهم
أهون على ال من أن تكون لهم دالة عليه ,وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم .
واستطرادا في تهوين أمرهم ,وتصغير شأنهم ,وتنكيس كبريائهم ,يقرر أن ال قادر على أن يخلق خيرا
منهم ,وأنهم ل يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم:
(فل أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ,على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين).
والمر ليس في حاجة إلى قسم .ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب ,يوحي بعظمة الخالق .
والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح .كما أنها قد تعني
المشارق والمغارب المتوالية على بقاع الرض .وهي تتوالى في كل لحظة .ففي كل لحظة أثناء دوران
الرض حول نفسها أمام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب . . .
وأيا كان مدلول المشارق والمغارب ,فهو يوحي إلى القلب بضخامة هذا الوجود ,وبعظمة الخالق لهذا
الوجود .فهل يحتاج أمر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلى قسم برب المشارق والمغارب ,على أنه -
سبحانه -قادر على أن يخلق خيرا منهم ,وأنهم ل يسبقونه ول يفوتونه ول يهربون من مصيرهم
المحتوم ?! .
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع ,بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود ; وكرامة النعيم للمؤمنين
,وهوان شأن الكافرين .يتجه بالخطاب إلى رسول ال [ ص ] ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب ,ويرسم
مشهدهم فيه ,وهو مشهد مكروب ذليل:
(فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون .يوم يخرجون من الجداث سراعا كأنهم إلى
نصب يوفضون ,خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ,ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون). .
وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم ,ومن التهديد لهم ,ما يثير الخوف والترقب .وفي مشهدهم وهيئتهم
وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف .كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب
اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم . .
فهؤلء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه . .وفي هذا التهكم
تناسق مع حالهم في الدنيا .لقد كانوا يسارعون إلى النصاب في العياد ويتجمعون حولها .فها هم أولء
يسارعون اليوم ,ولكن شتان بين يوم ويوم !
ثم تتم سماتهم بقوله( :خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة)فنلمح من خلل الكلمات سيماهم كاملة ,وترتسم لنا
من قسماتهم صورة واضحة .صورة ذليلة عانية . .لقد كانوا يخوضون ويلعبون فهم اليوم أذلء مرهقون
..
بهذا يلتئم المطلع والختام ,وتتم هذه الحلقة من حلقات العلج الطويل لقضية البعث والجزاء ,وتنتهي هذه
الجولة من جولت المعركة الطويلة بين التصور الجاهلي والتصور السلمي للحياة .