Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 18

‫تفسير سورة الفاتحة للشيخ الرئيس جاعد بن خميس الخروصي‬

‫هو الشيخ االعالم الرباني أبو نبهان جاعد بن خميس بن مبارك بن يحيى بن عبد ال بن ناصر‬
‫بن محمد بن حيا بن زيد بن منصور بن الخليل بن شاذان بن الخليل بن شاذان بن الصلت بن‬
‫مالك بن عبد ال بن مالك الخروصي اليحمدي الزدي ‪.‬‬

‫نشأة الشيخ وولدته ‪:‬‬


‫ولد الشيخ أبو نبهان عام ‪1147‬هـ في بلدة العليا من بلدان وادي بني خروص ‪ .‬وترعرع‬
‫الشيخ في هذه البلدة ونشأ ‪ ،‬وكان محبا للصيد والرمي ‪.‬‬
‫وكان والده ‪ -‬الشيخ خميس بن مبارك ‪ -‬زعيما لقبيلة بني خروص آنذاك ‪.‬‬

‫الشيخ أبو نبهان وطلبه للعلم ‪:‬‬


‫لما شب الشيخ أبو نبهان ولع بالرمي على البندقية واصطياد الوحوش على الصحاي وقمم‬
‫الجبال حتى ناهز الربعين ‪ ،‬فكان على موعد مع القدر السعيد حيث جاء الشيخ ابو نبهان إلى‬
‫الشيخ العالم الفقيه العلمة سعيد بن أحمد الكندي المقيم ببلدة الهجار المجاورة لوطن الشيخ‬
‫أبي نبهان بعد أن انتقل إليها الشيخ الكندي من نزوى ‪ ,‬جاء إليه ليكتب إليه شيئا من آيات ال‬
‫البينات ما يعينه على جلب الصيد ليضع المكتوب على بندقيته فيقوى على مهنته التي ما زال‬
‫يمارسها ‪ ،‬ولكن العلمة الكندي وقد تلمح الذكاء والنبل وقابليته للعلم قال له في جواب حكيم ‪:‬‬
‫يا هذا إن لي بندقية ل تخطئ الهدف ولو تعدو الثغرة قرب المرمى أو بعدُ ‪ ،‬فكان لهذا المقال‬
‫أثره البالغ في نفس أبي نبهان ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أرني بندقيتك ‪ ،‬فذهب الشيخ الكندي جاءه بكتاب‬
‫ضخم فوضعه بين يديه وقال له ‪ :‬هذه بندقيتي فإن كنت ترغب في الصابة والتي ل تخطئ هدفا‬
‫ما حييت فهلم أعلمك الرماية بها ‪ .‬فقال هيا ‪.‬‬

‫إل أن ابن رزيق في ( الصحيفة القحطانية ) أورد رواية مشابهة للرواية السابقة وأن الحادثة‬
‫لم تكن مع الشيخ الكندي بل مع الشيخ حبيب بن سالم أمبو سعيدي ‪ ،‬حيث جاء في الصحيفة ‪:‬‬
‫( وحكى لي الشيخ الفقيه القاضي مبارك بن عبد ال فقال ‪ :‬لقد وفد على الشيخ العالم حبيب بن‬
‫سالم الشيخ الرئيس جاعد بن خميس الخروصي أيام طلبه للعلم الشريف وفي يد الشيخ أبي‬
‫نبهان بندق وهو الذي تسميه العامة التفق فلما سلم ورد عليه وجلس لديه ‪ ،‬وقعت يد الشيخ‬
‫حبيب في بندق الشيخ أبي نبهان فجعل يقلبه بيده ثم قال له ‪ :‬أهذا التفق لك ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬فقال‬
‫الشيخ حبيب ‪ :‬هل يصيب به الرامي الغرض إذا رمى ؟ قال ‪ :‬فعلى ما عهدت أن إصابته أكثر‬
‫من خطئه ‪ .‬فقال له ‪ :‬أفيخطئ تارة كما يصيب تارة ؟ فقال الشيخ الرئيس أبو نبهان ‪ :‬نعم ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫فقال الشيخ حبيب ‪ :‬ان عندي بندقا ل يخطئ أبدا ‪-‬إن شاء ال ‪ -‬فقال له الشيخ أبو نبهان في‬
‫الحال ‪ :‬لعلك تعني كتاب ( بيان الشرع ) فقال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال الشيخ أبو نبهان ‪ :‬أحضروه لي ‪،‬‬
‫فأحضرنا له أجزاءه الموجودة فقال ‪ :‬اقرأوه علي سفرا سفرا حتى يكمل ‪ ،‬فلما اتممناهن قال ‪:‬‬
‫أعيدوا علي قراءتهن علي ثانية ‪ ،‬فلما صنعنا ذلك ‪ ،‬قال ‪ :‬لقد حفظت ول الحمد ما فيه من‬
‫المختلف والمؤتلف وكان بعد هذا لم يحتج لقراءته إذا أحضر لديه ‪. ) ...‬‬
‫وهذا يدل على أن الشيخ الرئيس بدأ ينهل من معين العلم منذ صغره وليس في فترة متأخرة من‬
‫عمره ‪ ،‬ومما يشير على ذلك أن الشيخ قام بنسخ كتاب التعليق على كتاب ( الشراف ) لبن‬
‫المنذر النيسابوري الذي كتب تعليقاته الشيخ أبو سعيد الكدمي وكان عمره حسب ما أثبت في‬
‫حدود الثانية والعشرين سنة ‪.‬‬

‫شيوخه ‪:‬‬

‫‪ -‬الشيخ سعيد بن أحمد الكندي ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ حبيب بن سالم أمبو سعيدي ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ هلل بن عبد ال بن مسعود العدوي ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ ناصر بن سليمان بن عبد ال الخليلي الخروصي‬

‫تلمذته ‪:‬‬
‫أخذ عنه أولده جميعا وعددهم ‪ 13‬ابنا منهم عشرة ذكور ‪ ،‬وهم ‪ :‬نبهان ‪ ،‬عبد ال ‪،‬‬
‫سليمان ‪ ،‬سالم ‪ ،‬خلفان ‪ ،‬سعيد ‪ ،‬ناصر ‪ ،‬محمد ‪ ،‬ماجد ‪ ،‬خميس ‪.‬‬
‫أما الناث فهن ‪ :‬شيخة ‪ ،‬آسية ‪ ،‬نصره ‪.‬‬

‫ومن أشهر أبنائه الذين أخذوا عنه العلم ‪:‬‬

‫‪ -‬الشيخ ناصر بن أبي نبهان ‪.‬‬


‫انتقل إلى زنجبار بصحبة السيد سعيد بن سلطان ‪ ،‬وكانت وفاته سنة ‪ 1262‬هـ ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ خميس بن أبي نبهان ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫كان على درجة عالية من العلم حتى أن الشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي عرض عليه‬
‫المامة لكنه أبى قبولها ‪ ،‬و توفي الشيخ خميس سنة ‪ 1307‬هـ ‪.‬‬

‫‪ -‬ابن أخيه ‪ :‬الشيخ منصور بن محمد بن ناصر بن خميس بن مبارك الخروصي ‪.‬‬
‫وهو الشارح للمية ابن النضر العماني في مناسك الحج ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ أبي محمد عبد ال بن ناصر بن محمد بن بشير السوني الخروصي ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ جميل بن خميس السعدي ‪ .‬صاحب كتاب ‪ :‬قاموس الشريعة ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ الشاعر سعيد بن محمد بن راشد الخروصي المعروف بالغشري ‪.‬‬

‫‪-‬الشيخ سرور بن نبهان بن جاعد بن خميس الخروصي ‪.‬‬

‫‪ -‬المؤرخ والشاعر حميد بن محمد بن رزيق ‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ سعيد بن حسن بن درويش الخروصي ‪ .‬فقيه له مصنفات في علم الفلك وسر الحروف‬
‫‪.‬‬

‫‪ -‬الشيخ حسن بن درويش بن سعيد الخروصي ‪.‬‬

‫‪ -‬محمد بن خميس بن سالم بن عبد ال البوسعيدي ‪.‬‬

‫‪ -‬ثنيان بن ناصر بن خلفان الزاملي المعولي ‪.‬تولي القضاء في عهد السيد سعيد بن سلطان ‪.‬‬

‫مؤلفاته ‪:‬‬
‫‪ -1‬الدقاق لهل النفاق ‪.‬‬
‫‪ -2‬أحكام المساجد والمدارس ‪.‬‬
‫‪ -3‬إيضاح البيان في ما يحل ويحرم من الحيوان ‪.‬‬
‫‪ -4‬أحكام البيوع والرهن والشفعة ‪.‬‬
‫‪ -5‬كتاب في العدد ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪ -6‬مقاليد التنزيل لدراك حقائقه بالتأويل ‪.‬‬
‫‪ -7‬شرح حياة المهج ‪.‬‬
‫‪ -8‬كتاب في الحج ‪.‬‬
‫‪ -9‬المغانم في الخلص من المظالم ‪ ،‬أو كتاب الشراف ‪.‬‬
‫‪ -10‬جامع أبي نبهان ‪.‬‬
‫‪ -11‬جوابات أبي نبهان ‪.‬‬
‫‪ -12‬كتاب في الزكاة ‪.‬‬
‫‪ -13‬كتاب في الرشاد ‪.‬‬
‫‪ -14‬درياق الذنوب ‪.‬‬
‫‪ -15‬الرد على الوهابية ‪.‬‬
‫‪ -16‬حرز الشجرة ‪.‬‬
‫‪ -17‬نزهة العقول في الرمل وأشكاله ‪.‬‬
‫‪ -18‬كتاب في صناعة الكيمياء ‪.‬‬
‫‪ -19‬كتاب في البيوت المحصنة ‪.‬‬
‫‪ -20‬نفائس العقيان في مجموعة أشعار أبي نبهان ‪.‬‬
‫‪ -21‬كتاب في النحو ‪.‬‬
‫‪ -22‬كتاب في الصرف وعلم الكلم ‪.‬‬
‫‪ -23‬كتاب في سيرة ملوك الزمان ‪.‬‬
‫‪ -24‬له مراسلت أدبية وعلمية وسياسية ‪.‬‬

‫وفاته ‪:‬‬
‫توفي الشيخ الرئيس ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬في نصف نهار يوم الخميس الثالث من ذي الحجة عام‬
‫‪ 1237‬هـ وذلك عن عمر ناهز التسعين عاما ودفن في بلدة العليا ‪.‬‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الحمد ل الذي أنزل الفرقان على عبده بواسطة المين جبريل ‪ ،‬مصدقا لما بين يديه من التوراة‬
‫والنجيل ‪ ،‬ليكون للعالمين نذيرا ‪ ،‬وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ‪ ،‬فهدى إلى التي هي‬

‫‪4‬‬
‫أقوم من المور ‪ ،‬ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ‪.‬‬
‫وإن الذين ل يؤمنون بالخرة واستهلكوا في الكفر من العمر آخره ‪ ،‬أبوا من النقياد ‪ ،‬سيدعون‬
‫ثبورا غدا في المعاد ‪ ،‬وسيصلون سعيرا ‪ ،‬أنزله بعمله للفادة كما أراده ‪ .‬فأخرجه من عالم‬
‫الغيب إلى عالم الشهادة ‪ ،‬فقرع به أسماع مسامع السرائر ‪ ،‬من أولي اللباب أولي النهى‬
‫والبصائر ‪ ،‬تشويقا أو تخويفا أو تحذيرا ‪ ،‬وأودع في طي خزائن غوامض دقائق عويصات‬
‫أنوار أزهاره ‪ ،‬ودائع مكنون للئ يحار حقائق مصونات أسرار أثماره ‪ ،‬فهدى بالكشف إلى ذلك‬
‫مَن بنوره ينظر فكان بصيرا ‪ ،‬وحلى كمال صياغة بلغه مطالع كلمه بحلى جمال براعة مقاطع‬
‫ختامه ‪ ،‬فكفى به خبيرا ‪ ،‬وجل بطلوع لوامع جوازم قواطع صوارم جوامع أحكامه سدف ليالي‬
‫جو الجهالت تنويرا ‪ .‬وأبان عن معالم صراط الهدى وأماكن مغانم التقى ‪ ،‬ومكامن مظالم‬
‫الهوى بظهور سطوع أدلة أنوار مناره ‪ ،‬ومجامع أسراره معاني أذكار أخباره ‪ ،‬لمن أراد أن‬
‫يذكر أو أراد شكورا ‪.‬‬
‫وحرس أبواب مغاني سماء مباني آياته ‪ ،‬عن استراق شيء بالنقص أو المزيد في ذاته ‪ ،‬وكان‬
‫المعيار الصحيح ‪ ،‬والمعيار النجيح محكم اليات ‪ ،‬مجردا في النظام عن الخلل في الكلم ‪ ،‬ل‬
‫لفًا‬
‫جدُواْ فِيهِ اخْ ِت َ‬
‫غ ْيرِ الّلهِ لَ َو َ‬
‫يقبل الزلل في الحكام أو في شيء من الحوال ‪ ،‬وَلَوْ كَانَ ِمنْ عِندِ َ‬
‫كَثِيرًا ‪ ،‬على أنه في تأليف كلمه وعجيب نظامه لقرآنه تراكيب ألفاظه العجيبة ‪ ،‬وعدم تناهي‬
‫معانيه الغريبة – مع شدة إجازه – قد اقتضى كون اعجازه من رام عزما أن يعارضه نطما ‪،‬‬
‫فتحدى لذلك جميع العالمين أن يأتو بمثله ‪ ،‬أو سورة في صورة شكله ‪ ،‬وأنى لهم بذلك ولو كن‬
‫بعضهم لبعض ظهيرا ‪ .‬والصلة السلم على نبي الرحمة ‪ ،‬هادي المة ‪ ،‬محمد النبي المي ‪،‬‬
‫الذي أراد ال بجود هالة هلله وجوده ‪ ،‬في قبة سماء بهجة الدين ‪ ،‬من حيث أنه جعله للناس‬
‫قمراً وسراجا منيرا ‪ ،‬وعلى آله المطهرين من القبائح من جميع العالمين تطهيرا ‪.‬‬

‫( ‪)2‬‬

‫أما بعد ‪ ،‬فقد انكشف بنور الحق البرهان ‪ ،‬وصار المر ظاهر العيان أنه ل سبيل إلى الوصول‬
‫إلى ال ‪ ،‬والفوز في لقائه بالسعادة البدية ‪ ،‬والتنعم باللذاذات السرمدية ‪ ،‬إل بوجود الرعاية ‪،‬‬
‫والسير إليه في منار الهداية ‪ ،‬على أنوار العلم ‪ ،‬في عنان الحلم ‪ ،‬لنه من لم يكن له نور من‬
‫ربه ‪ ،‬فما له من نور يستدل به ‪ ،‬وذلك هو العلم النافع ‪ ،‬فالعلم هو الدليل على قصد السبيل ‪،‬‬
‫إلى الملك الجليل ‪ .‬العلم كله القرآن وهو التنزيل ‪ ،‬وما بعده من العلم تفسير له وتأويل ‪ .‬فهو‬
‫الهدى والنور ‪ ،‬والشفاء لما في الصدور ‪ ،‬من أمراض الغرور وأدواء الفجور ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫طوبى لمن كان على عرفات ادكاره واقفا ‪ ،‬وبكعبة أسراره طائفا ‪ ،‬فإنه العروة الوثقى ‪،‬‬
‫والسبب الوفى ‪ ،‬الذي من تعلق به نجا ‪ ،‬ومن تركه ضل وغوى ‪ ،‬وهلك فتردى ‪ .‬نعم ‪ ،‬ولكن‬
‫على غير معرفة بتأويله ‪ ،‬ل يصح أن يكون تابعا له لدليله ‪ ،‬حتى يكون في حقه كذلك ‪ ،‬كل ‪،‬‬
‫بل يخاف عليه على غير ذلك ‪ ،‬أن تعميه أسراره ‪ ،‬وتحرقه أنواره ‪ ،‬وتجرفه وتغرقه بحاره ‪،‬‬
‫مهما يكن في عومه ذا مره ‪ ،‬واقتحم فخاض لجته على غره ‪ ،‬وإذا كان المر في ذا ل شك أنه‬
‫هكذا ولم تكن هذه التفاسير التي على المخالفين لهل الستقامة في الدين لغير الحق في ذلك‬
‫حاليه ‪ ،‬لكونها في ضلل التأويل ليست خاليه ‪ .‬حتى صار كأن صرف العناية إلى ذلك من أكثر‬
‫العناية ‪ ،‬ل سيما إذا لم تجد لهل العدل من أصحابنا تفسيرا يرجع بالحق إليه ‪ ،‬ويقتفي أثره‬
‫فتعول عليه ‪.‬‬

‫)‬

‫وها نحن في هذا المنهاج ‪ ،‬لكثرة الطلب واللجاج ‪ ،‬من بعض أخواني في ال علي ‪ ،‬ومراجعته‬
‫في ذلك إلي ‪ ،‬مع كوني ممن قعد به القصور ‪ ،‬في حضيض الضعف عن الرتقاء ‪ ،‬في ذروة‬
‫هذا المرقى ‪ ،‬الشريف الباذخ ‪ ،‬العالي الشامخ ‪ ،‬المنيف ‪ .‬وها نحن في همة الشروع فيه ‪ ،‬لفتح‬
‫مباديه ‪ ،‬على سبيل التوسط قصدا بين القلل المخل ‪ ،‬والسهاب الممل ‪ ،‬فإن الستيفاء لجميع‬
‫معانيه ‪ ،‬حتى يؤتى على أقاصيه ‪ ،‬ل مطمع لنا فيه ‪ ،‬لكونه كان لوخم الذكار وعوم الفكار ‪،‬‬
‫وغوص البصار في البحر ‪ ،‬الذي ل ساحل له ول قعر ‪ .‬وكيف ل وهو الميدان الفسيح لمجال‬
‫العتبار ‪ ،‬المستوفي على الصحيح لجميع العمار ‪ ،‬قبل البلوغ إلى آخره ‪ ،‬ثم ل يؤتى على‬
‫عابره ‪ ،‬هذا وإني فيه وارد من علم اللسان ‪ ،‬ما ل بد منه للبيان ‪ ،‬ومن القرآن كل معمول به‬
‫وشاذ ‪ ،‬ليكون للقارئ عن نسبة اللحن وكالخطأ كالملذ ‪ ،‬وأسميه إن من ال علي بتمامه من‬
‫فضله وإكرامه ‪ (( ،‬مقاليد التنزيل لدراك حقائقه بالتأويل )) ‪ ،‬وأنا به سبحانه أتوسل ‪ ،‬وله‬
‫ربي أسأل ‪ ،‬أن يفتح لي بابه ‪ ،‬وأن يهجم بي في القول والعمل على الصابة ‪ ،‬وألجأ إليه ملجأ‬
‫من توكل عليه ‪ ،‬أتضرع فأناديه ليغمرني بالقالة من عثار الرأي وباديه ‪ ،‬وهو الموفق لغيره‬
‫وبه التوفيق ‪ ،‬وهذا حين البتداء ربِ يسر لتمامه إنك سميع الدعاء ‪ ،‬فعال لما تشاء ‪.‬‬

‫( ‪)4‬‬

‫سورة فاتحة الكتاب وتسمى أم القرآن ‪ ،‬والساس ‪ ،‬وفاتحة كل شيء أوله ‪ ،‬وأمه وأصله ‪،‬‬
‫وأساسه ومبدؤه ‪ ،‬وما أحقها بهذا لفتتاح الكتاب بها ‪ ،‬وانطوائها على سياق الثناء ‪ ،‬على‬
‫الصفات والسماء ‪ ،‬الدالة على كيفية التوحيد ‪ ،‬وكمية التفريد ‪ ،‬واحتوائها على نسيج مدارج‬

‫‪6‬‬
‫الوصول إلى ال على معارج العلم والعمل الصالح ‪ ،‬وكون التلمح أمر بالقامة ‪ ،‬على طريق‬
‫الستقامة ‪ ،‬التي ليس بشيء في الوجود إل لجلها موجود ‪ ،‬مع ما اشتملت عليه من القصص‬
‫وإخبارا عن حال الفريقين من المالك ‪ ،‬والخر الهالك ‪ ،‬وما في خلل ذلك التصريح ‪ ،‬من‬
‫خصال التلويح ‪ ،‬بالوعد والوعيد ‪ ،‬لمن لحنها ولمن ضل عن طريق الستقامة زل ‪ ،‬وعلى‬
‫الجملة فهي كالجملة في مبانيها ‪ ،‬وما عداها فكالتفصيل لمعانيها ‪ ،‬فهي المبدأ وذلك منها‬
‫ينشأ ‪ ،‬وتسمى ‪ :‬الكافية والواقية والشافية ‪ .‬لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ( :‬وهي‬

‫شفاء من كل داء ) وسورة الحمد والشكر والدعاء والصلة ‪ ،‬لشتمالها على ذلك ‪.‬‬

‫( ‪)5‬‬

‫وتسمى السبع المثاني لنها تثنى في كل صلة ‪ ،‬بل في كل ركعة منها ‪ ،‬وتكفي الركعات السرية‬
‫وحدها ‪ ،‬ول يكفي غيرها عنها ‪ ،‬إذ كل صلة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ‪ .‬ولها‬
‫أسرار عظيمة حتى أنه يروى عن محمد الغزالي أنه ذكر أن فيها من الخواص ألفاظا ظاهرة‬
‫وألفاظا باطنة ‪ ،‬وهي سبع آيات بالتفاق ‪ ،‬مكية على الصح ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مكية ومدنية ‪ ،‬لنها‬
‫نزلت مرتين ‪ ،‬مرة بمكة يوم فرضت الصلة ‪ ،‬ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ‪ ،‬لم يشذ عنها‬
‫شيء من الحروف البجدية ‪ ،‬التي عليها مدار العربية إل سبعة ل غيرها ‪ .‬واختلف الناس على‬
‫أقوال في ( بسم ال الرحمن الرحيم ) هل هي آية منها أم ل ؟ والحق أنها آية منها ‪ ،‬وأن‬
‫الصلة ل تصح على العمل لتركها ‪ ،‬ومختلف في النسيان فيها ول تنازع في أنها من كلم ال‬
‫إجماعا ‪ .‬والباء فيها للستعانة لكن القول في العبارة عنها في التسمية لها ‪ ،‬فسموها بإضافة‬
‫وباء استعانة وباء إلصاق ‪ ،‬أي تلصق الفعال بالسماء ‪ ،‬وقيل فيها أنها للمصاحبة ‪ ،‬وهي‬
‫حرف جر يخفض ما بعده ‪ ،‬ول تصح عند أهل اللسان إل بها ‪ ،‬ولذلك قالوا إنها مناطة بضمير‬
‫‪ :‬ابدأ وقيل اقرأ ‪.‬‬

‫( ‪)6‬‬

‫وقد أجمع الكل فيما نعلم على حذف الهمزة لشتهارها في القراءة دوما للخفة ‪ ،‬وإنما طولت‬
‫الباء فيما قيل ‪ ،‬عوضا منها لتكون كالدليل عليها ‪ ،‬وكأنه في ذلك وفي مد السين تعظيم لشأن‬
‫المبدأ ‪ ،‬والسم هو المسمى ‪ ،‬وقيل غيره ‪ ،‬إنه صفة له وتعريف ل غيره والمسمى هو المعنى‬
‫الذي أريد به السم ‪.‬‬
‫والقول الثالث ل هو ول غيره ‪ ،‬والول أصح ‪ ،‬لكن على شريطة إرادة الذات من الشيء‬

‫‪7‬‬
‫المسمى ل اللفظ نفسه مجردا عن نفس المراد به ‪ ،‬فإن ذلك ل شك فيه فإنه غيره لترادفه‬
‫وتجزئه وتغايره في الكيفيات ‪ ،‬وتعداده وتقطعه حروفا في الصوات ‪ ،‬واختلفه في اللغات ‪،‬‬
‫وتباينه في الهيئات ‪ ،‬وكأنه في نفس البداية بالبسملة تشويق للمريدين ‪ ،‬وترويح لقلوب‬
‫الخائفين ‪ ،‬وتطميع لنفس المشتاقين ‪ ،‬واستحثاث للسالكين ‪ ،‬وتنشيط للمقبلين ‪ ،‬واستدعاء‬
‫للمرتدين ‪ ،‬واستعطاف للمذنبين ‪ ،‬وإشارة لطيفة من ال لهل اللباب ‪ ،‬على أن الرحمة قريبة‬
‫ممن تعرض لنفحاتها ‪ ،‬والستنشاق لمبادئها رجاء أن يغمر أقاصها ‪ ،‬قائلً في مقاعد شكره‬

‫ومعاهد ذكره ‪.‬‬

‫( ‪)7‬‬

‫( الحمد ل رب العالمين )‬
‫فالحمد عبارة عن الثناء كالمدح ‪ ،‬لكن الفرق بينهما أن الحمد يكون على المور الختيارية ‪،‬‬
‫المجردة من شائبة الجلل ‪ ،‬لنقص أو فساد على حال ‪ .‬والمدح إطلق الثناء على الجهل بل‬
‫تخصيص ‪ ،‬فكأنه أعم ‪ ،‬والحمد أخص ‪ .‬وقيل هما مترادفان على مسمى ‪ ،‬وكلهما لمعنى ‪،‬‬
‫والتعريف للعهد ‪ .‬ويحتمل أن يكون لستغراق الجنس لن حمده مستغرق كل حمد لغيره ‪ ،‬إذ ما‬
‫بكم من نعمة فمن ال ‪ ،‬ليس للمزيد فيه موضع ول للنقص فيه مفرع ‪ .‬والجملة وإن كانت‬
‫كأنها في معرض الخبر صورة ‪ ،‬فإنها لمن الواجبات في حقه على العبد ‪ ،‬المكلف بها عند نزول‬
‫البلية بها أو شيء منها ‪ ،‬وكأنه نوع من الشكر إل أنه من وظائف اللسان ‪ ،‬والشكر عام‬
‫لركان مقامات اليمان ‪ ،‬ودرجات الحسان ‪ .‬وفي الحديث الحمد رأس الشكر ول خلق من‬
‫الحمد لمن لم يكن له من الداب الشرعية والخلق الرحمانية خلق ‪ .‬كل ‪ ،‬وليس المجرد عن‬
‫النقائص إل الله جل جلله ‪ ،‬وكلما كان لغيره ممن حمده بل ليس ذلك يكون كذرة من صفات‬
‫مجده ‪ ،‬ونعوت حمده ‪ ،‬وكأنه بالضافة إلى حمده كاد أل يستحق إن يسمى حمدا ‪ ،‬لنقصه‬
‫وقصوره عن كمالت الحمد ‪ ،‬محتاجا للتكميل إلى أدمة التصقيل ‪ ،‬فلمضاها من حيث المناسبة‬
‫بين الحمدين جزما ‪.‬‬
‫وال من حقت له العبادة وثبت له محض السيادة ‪ ،‬وهو الذي لفرط الحتياج إليه ‪ ،‬تأله كل‬
‫المألوهات إليه بحالها إيجادا من العدم ‪ ،‬وإمدادا بالنعم ‪ ،‬وحده ل شريك له ‪ ،‬وما كان هو الله‬
‫وما عداه مألوها لم يجز أذن يطلق على غيره نعم ‪ ،‬ولذلك كاد أل يستأهل غيره أن يحمد ‪،‬‬
‫فضلً أن يعبد ‪ ،‬وأنى لميل إلى أن هذا هو السم العظم لذاته ‪ ،‬لنه كالجامع لكل الصفات‬

‫‪8‬‬
‫العليا ‪ ،‬وإليه تنضاف جميع السماء الحسنى ‪ ،‬حتى إنه يمكن بالفهم إخراج جميع التوحيد من‬
‫مفهومات معانيه ‪ .‬وقد قيل في اشتقاقه أقوال ‪ ،‬أكثرها أولى أن يترك لنحطاطه عن رتبة‬
‫الصحيح ‪ ،‬لعلل تشعر فيها بخلل ‪ ،‬وهو قول الخليل بن أحمد وجماعة ‪ :‬إنه اسم علم ل اشتقاق‬
‫له ‪ .‬وعن ابن عباس – رحمه ال – أن ال ذو اللوهية وهو الذي تأله الخلق إليه ‪ .‬وتفخيم‬
‫لمِه الثاني سنة ‪ ،‬وحذف ألفه ومدها ‪ ،‬وفي فريد الواو في هائه أو إشباع الضمير بحيث إنها‬
‫تصير واوا ‪ ،‬كل واحد منها لحن في الحرام تفسد به الصلة ‪.‬‬

‫( ‪)8‬‬

‫والرب في كلم العرب المالك والسيد والمصلح ‪ ،‬وقرئ بالنصب على المدح ‪ ،‬والكسر أصح ‪،‬‬
‫وال رب الكل قاهر ما عداه ‪ ،‬ومالك لما سواه ‪ ،‬تفرد باللوهية ‪ ،‬وتوحد بالربوبية ‪ ،‬وذلك من‬
‫صفاته وأسماء ذاته ‪ ،‬فل يجوز أن يطلق التعريف فيه ول التجريد له لغيره عن التقييد ‪ ،‬ولكن‬
‫ربك وربه ورب كذا في أمثال ذلك ‪.‬‬

‫والعالمين جمع عالم ‪ ،‬بفتح اللم كخاتم ‪ ،‬فيه عن ابن عباس – رحمه ال – أنهم الجن والنس‬
‫لقول ال تعالى ‪ (( :‬لِ َيكُونَ ِللْعَا َلمِينَ َنذِيرًا )) (الفرقان ‪. )1 :‬‬

‫والقول الثاني عن أبي عبيدة أنهم أربع أمم ‪ :‬الملئكة ‪ ،‬والنس ‪ ،‬والجن ‪ ،‬والشياطين ‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫والقول الثالث جميع المخلوقات ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ (( :‬ومَا رَبّ ا ْلعَا َلمِينَ (‪ )23‬قَا َل رَبّ ال ّ‬
‫وَالْ َأ ْرضِ َومَا َبيْنَ ُهمَا )) ( الشعراء ‪ ) 24 ،23 :‬وهذا شائع أن كل جنس على الصح عالم في‬
‫نفسه على حدة ‪ ،‬وكون الجميع فيه بالواو والنون تغليبا لمن يعقل ‪ ،‬وعلى هذا فقد اختلف في‬
‫حصرها فقيل ألف عالم ‪ :‬ستمائة قي البحر ‪ ،‬وأربعمائة في البر ‪ ،‬وقيل ثمانية عشر ألف عالم ‪،‬‬
‫الدنيا عالم منها ‪ ،‬وما العمار في الخراب إل كقسطاط في صحراء ‪ .‬وقيل ثمانون ألف عالم ‪،‬‬
‫أربعون ألفا في البحر ‪ ،‬وأربعون ألفا في البر ‪.‬‬

‫جنُودَ رَ ّبكَ إِلّا هُوَ )) (‬


‫والقول الرابع ل يحصى عدد العالمين إل ال ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ (( :‬ومَا يَعَْلمُ ُ‬
‫المدثر‪ )31 :‬وكأنه على هذا من التأويل هو الوجه فيه والكائنات كلها شاهدة له ‪ ،‬لنه ربها‬
‫إذ كل شيء منها ينادي بمقاله ‪ ،‬على لسان حاله في حدثه أن له محدثا أحدثه لوجود شدة‬
‫الحاجة منها في إيجادها ‪ ،‬وتوالي إمدادها ‪ ،‬إلى واحد واجب لذاته ‪ ،‬الوجود الذي ل يقبل‬

‫‪9‬‬
‫الحدث في القدم نعم ‪ ،‬وكان هذا الدليل القاطع ‪ ،‬على وجود الصانع المتولي أمرها إبداعا‬
‫وتدبيرا ‪ ،‬واختراعا وتصويرا ‪ ،‬على مقتضى المشيئة تقديرا ‪ ،‬صار المقتضى لظهور الحياة‬
‫والقدرة ‪ ،‬والعلم والرادة ‪ ،‬والحكمة والقوة والعزة ‪ ،‬والقدم والبقاء ‪ ،‬والحاطة بالشياء ‪ ،‬وأنه‬
‫ليس كمثله شيء ‪ ،‬لستحالة مماثلة الصناعة للصانع لها عقلً إلى غيرها ‪ ،‬مما ل يحصى من‬
‫المعاني في الصفات ل الخالق لكل شيء ‪.‬‬

‫( ‪)9‬‬

‫( الرحمن الرحيم )‬
‫من سمى ذاته فيهما أنهما بمعنى ‪ ،‬والفرق أسوغ ‪ ،‬وإنه لقرب السماء إلى اسم ال ‪ ،‬لقوله‬
‫حمَـنَ )) (السراء ‪ )110 :‬وكذلك في البسملة يروى‬
‫تعالى ‪(( :‬قُ ِل ا ْدعُواْ الّلهَ أَ ِو ا ْدعُواْ الرّ ْ‬
‫أول بالرحمن غيره في الشهر ‪ ،‬وقيل جائز والول أكثر ‪ ،‬فكان فيه لزيادة الثناء ‪ ،‬مبالغة عن‬
‫الرحيم في العبادة من متسع الرحمة وفسيح الكرامة ‪ ،‬كما روي عن ابن عباس – رحمه ال –‬
‫أنه قال رحمن الدنيا والخرة ‪ ،‬ورحيم الخرة ‪ .‬وقيل الرحمن بالبر والفاجر في الدنيا ‪ ،‬والرحيم‬
‫بالمؤمنين في الخرة ‪ ،‬وقال قوم الرحمن بجميع الخلق ‪ ،‬والرحيم بالمؤمنين ‪ ،‬وهذا في‬
‫المتعبدين ممكن من حيث القتصار في النظر على المعاني الظاهرة من النعم أن يكون فيضان‬
‫الرحمة شاملً للكل نعماؤه ‪ ،‬وهو كذلك لكن في المجاوزة لها إلى ما وراءها من اللباب باعتبار‬
‫الحقيقة في المرجع ‪ ،‬فالرحمة اللهية في الدنيا والخرة خصوصية ‪ ،‬لكونها مناطة باليمان‬
‫كائنة حيث ما كان ‪ ،‬لن البليا في حق المؤمن عطايا لمن شكرها ‪ ،‬والنعم في حق من لم‬
‫يشكرها نقم ‪ ،‬بلى ‪ ،‬وكان فيهما أكبر إشارة إلى إيجاب فرع باب الرحمة ‪ ،‬باستدامة شكر‬
‫النعمة ‪ ،‬في مقامات الخدمة ‪ ،‬والتعلق به في المهمات كلها ‪ ،‬فإنه رحمن ‪ ،‬والرجوع إليه‬
‫بالتوبات ‪ ،‬والقبال إليه بكلمة الهمة في سبيل الطاعات ‪ ،‬فإنه رحيم يقبل التوبة ‪ ،‬ويعفو عن‬
‫السيئات ل محالة ‪ ،‬وإياكم والياس ‪ ،‬يعرف هذا بدليل المعنى ‪ ،‬البارز من مفهوم الفحوى ‪ ،‬وقد‬
‫قيل إن أبا عمر كان يدغم الميمين ‪ ،‬ميم الرحيم في مالك يوم الدين ‪ ،‬أي يوم القضاء والحساب‬
‫للجزاء ‪ ،‬وما قيل أنه يوم الطاعة ويوم القهر ‪ .‬فداخل فيه جار ومجرور ‪ ،‬بإضافة اسم الفاعل‬
‫إليه تنزيلً منزلة المفعول به ‪.‬‬

‫قرأ عاصم ويعقوب ومالك والكسائي ‪ :‬مالِك باللف بعد الميم ‪ .‬وقد قيل إنه قرأ كذلك بالرفع‬
‫مضافا ومنونا ‪ .‬على أنه خبر لمبتدأ محذوف ‪ ،‬وبالنصب على الحال أو المدح منونا ‪.‬‬
‫وقرئ مالِك من غير ألف بالجر والرفع والنصب ‪ ،‬وبتسكين لمه مخففا وبلفظ الفعل الماضي ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫(‪)10‬‬

‫واختلف الناس في معناهما فقيل واحد ‪ ،‬وقيل مالك أجمع ‪ ،‬لن كل مالك لشيء ملكه وليس كل‬
‫ملك لشيء مالكه ‪ ،‬وقيل مَلِك أوسع لن كل َملِك مالك ملكا ‪ ،‬وكأنه أرجح لما فيه من المزيد‬
‫على المالك واحتوائه عليه ‪ ،‬لن المَلِك من له المر والنهي في الرعية النافذ فيهم حكمه كيف‬
‫أراد ‪ ،‬لنه لهم مالك لكونهم تحت مُلكه فكان عاما والمالك خاص بجزء من معناه ‪ .‬أل ترى أن‬
‫اسم المالك يطلق على من كان له أدنى ملك لشيء من العيان المملوكة ‪ ،‬على إرادة ذلك في‬
‫المعنى ‪ ،‬وإن كان ل يملك بعد ‪ ،‬ولذلك سمي القلب سلطان الجوارح ‪ ،‬لنه كالمَلِك القاهر لها ‪،‬‬
‫وهي له كالرعية يتصرف فيها بقدرة اللهية ‪ ،‬تصرف المالك كيف شاء وعلى ما شاء ‪ ،‬فهي‬
‫منقادة ل تطيق عناده ‪ ،‬لنها مجبولة على طاعته ‪.‬‬
‫ول الملك من قبل ومن بعد ‪ ،‬وهو المالك لما كان في الوجود من شيء أو يكون ‪ .‬ل يصادف‬
‫حكمه ول َقدَره وقضاء غير ملكه ‪ ،‬كل بل تجري المور في الخلق من ال الملك الحق ‪ ،‬على‬
‫عنان المقادير ‪ ،‬بأزمة التدابير على مقتضى الحكمة ‪ ،‬ووفق المشيئة ‪ ،‬في الدارين ‪ :‬الخرة‬
‫والولى ‪ ،‬وإنما جرى التخصيص ليوم الدين يوم يكشف عن الغطاء حين النداء ‪ّ(( :‬ل َمنِ ا ْلمُ ْلكُ‬
‫حدِ الْقَهّارِ )) ( غافر‪ )16 :‬مقال بالصدق ‪ ،‬واعترافا بالحق لظهور العيان ‪،‬‬
‫الْيَ ْومَ لِّلهِ الْوَا ِ‬
‫المستغنى عن البرهان ‪ ،‬على سلب العيان ورجوع العواري من الملك المجازي إلى الحق ‪،‬‬
‫الملك الحقيقي ‪.‬‬
‫ذلك الملك السرمدي والتنصيص لنفس اليوم اكتفاء به عن ذكر ما فيه ‪ ،‬لنه كالمستلزم له في‬
‫اشتماله في صرفه عليه ‪ ،‬ما جرت به العادة في عرف الذمة ‪ ،‬وذلك نوع تنبيه على العمال‬
‫الصالحة واجتناب الطالحة ‪ ،‬لن اختصاص التسمية له بالدين من سائر ما يسمى به ‪ ،‬دللة‬
‫على أنك كما تدين تدان ‪ .‬فانظر في ذلك يا ذا الغفلة لنفسك أيام المهلة ‪.‬‬
‫وكان في هذه الجملة أبلغ تنبيه على حقارة الدنيا وأشد تحذيرا منها وتزهيدا فيها لكونها‬
‫مطلوبة وفي الخرى مساوية ‪ ،‬فآثروا ما يبقى على ما يفنى ‪ ،‬فالباقيات العمال والنيات‬
‫والقوال الصالحات ل غير ‪ ،‬فارعوها حق رعايتها إن كنتم موقنين ‪ .‬وانظروا فيها وإلى هذه‬
‫الخمسة السماء العظيمة ‪ ،‬الصفات الجسيمة ‪ ،‬فإن تحت كل اسم وصفته بحرا من المعاني ل‬
‫ساحل له ‪ .‬ومن كان كذلك حاله في أوصافه فكيف ل يكون لمحض الحمد أهل ‪ ،‬كل إنه لواجب‬
‫الحمد وبذلك على هدايته ‪ .‬فاحمدوه حمد من يستوجب لخلصه في حمده الحمد والزلفة بحمده‬
‫‪ ،‬واعلم أن الحمد في اللسان ل جدوى له حتى يكون نتيجة قلب شاكر الركان ‪ .‬رجل سرى من‬
‫الملك إلى الملكوت العلى على جواد الجتهاد حتى وصل فناخ على الرضا بفناء حضرة‬
‫الربوبية ‪ ،‬فينزل منزل العبودية ‪ ،‬فغاب عن الغيار بشهود الملك الجبار ‪ ،‬وطفق على قدر‬

‫‪11‬‬
‫اللتفات لما حضر لموله العظيم وربه الكريم ‪ .‬قد أقبل بشرا شده إليه ‪ ،‬لما نظر بعين اليقين‬
‫إليه ‪ ،‬يقول عن خالص باله بلسان حاله وصدق مقاله ‪.‬‬

‫(‪)11‬‬

‫((إِيّاكَ َنعْ ُبدُ وإِيّاكَ َنسْ َتعِينُ))‬


‫قرئ بفتح الهمزة والفتح أكثر ‪ ،‬وقلبها بعض القراء هاء والول أشهر ‪ .‬وكان هذا لما تصفح‬
‫ألواح صفحات عالم الشهادة على الوحدانية ‪ ،‬وتلمح معاني الصفات اللهية ‪ ،‬تجلى من له من‬
‫لوائح الغيب ‪ ،‬أنوار أسرار الحق على الحقيقة ‪ ،‬فعلم يقينا أنه المستحق لن يحمد ويسبح‬
‫ويوحد ويطاع فيعبد ‪ ،‬هو ل غيره ‪ ،‬فقال تحت الستعانة والمتثال ‪ ،‬والتضرع في الخدمة‬
‫والبتهال على التخصيص ‪ ،‬إياك نعبد ل غيرك ‪ ،‬ثم استدل بأنوار البرهان على معارج‬
‫العرفان ‪ ،‬فرقى بها إلى مدارج أسرار العيان ‪ ،‬فأدهشه عن ملحظة الكوان ‪ ،‬حتى غاب عن‬
‫الجنس في جناب القدس ‪ ،‬وفنى في أحواله عن مشاهدة أعماله ‪ ،‬وعمى عن الخلق بشهود‬
‫الملك الحق ‪ ،‬وانطوى في شهوده عن دائرة وجوده ‪ ،‬فقال ‪ (( :‬وإِيّاكَ َنسْ َتعِينُ )) على أداء‬
‫شكرك والقيام بحقوقك وأمرك ‪ ،‬بل في المهمات كلها هربا من اللجأ إلى غيره وتبرؤا من الحول‬
‫والقوة والطول ‪ ،‬والقرار بالعجز عن نفسه وعلى غيره من أبناء جنسه ‪ .‬وللمولى بالقدرة لما‬
‫أيقن أنه ل طاقة له على النهوض بأعبائها إل به ل غيره ‪ ،‬ترك اللتفات إلى غيره وأقبل عليه‬
‫بالكلية حين لم يبق فيه لغيره بقية ‪ ،‬لن (( إِيّاكَ نَ ْع ُبدُ )) ‪ :‬مقام الخلص في العبادة ‪(( ،‬وإِيّاكَ‬
‫َنسْ َتعِينُ)) ‪ :‬مقام الصدق في الرادة ‪ .‬فالول ل والثاني بال ‪ ،‬والضمير في الكاف المتصل‬
‫ثابت فيها من المتكلم للمخاطب المكلَم ‪ ،‬وال معكم أين ما كنتم ‪ ،‬والكسر له لحن تفسد به‬
‫الصلة ‪ ،‬وكأنه في نفس الخطاب دليل على تقديم العلم على العمل ‪ ،‬لقوله إياك صادر عن‬
‫معرفة به مزايلة الضطراب قربة فيه ‪ ،‬ثم قفى بقوله ‪ :‬نعبد لما نظر إليه بعين اليقين فعرفه‬
‫باللهية ‪ ،‬ونفسه وأمثاله بالعبودية ‪ ،‬فكان وجود العلم يستدعى وجود العمل ‪ ،‬فالعلم إمام ‪،‬‬
‫والعمل حيث إنه من هداياه وجزيل عطاياه ‪ ،‬بل ولكون هذه الخصلة سبب الوصلة ‪ ،‬ذلك لئل‬
‫يكون فيه شوب لغيره ‪ ،‬فإنه ل يقبل الشركة ‪ .‬وكون التكرير له فيما قيل للتنبيه على أن‬
‫العبادات ل يمكن القيام بها ‪ ،‬والثاني لمريدها ‪ .‬إل بالمعونة من ال ‪ .‬فهي في الحقيقة منه إليه‬
‫‪ ،‬ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء ‪ .‬وقيل في الواو إنها للحال ‪ ،‬أي نعبدك مستعينين بك ‪ ،‬وكأنه‬
‫يحتمل في الفعلين أن يكون إيرادهما بلفظ الجمع تفخيما لشأن المخلصين ‪ ،‬وسعي العابدين ‪،‬‬
‫ومناجاة المضطرين ‪ ،‬وسؤال المبتلين ‪ .‬أو أنه أراد به نفسه وجماعة المؤمنين ‪ ،‬تبركا بهم‬
‫ورجاء أن تعم الجابة بذكرهم والتوسل بهم ‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وقراءة النون منها بالكسر على لغة تميم ‪ ،‬والفتح أظهر وبتقديم العبادة على الستعانة في‬
‫النص عليها استدل أن طلب الحاجة المرادة مقدمة عن العبادة أدعى إلى الجابة ‪.‬‬

‫( ‪) 12‬‬

‫والعبادة أنواع ‪ ،‬وأي شيء أطيع ال به فهو منها ‪ ،‬وكأنها في الجملة تدور على أربعة أركان‬
‫لقاعدتين ‪ ،‬هما ‪ :‬العلم ‪ ،‬والعمل ‪ ،‬ل يشذ شيء منها عنهما ‪ ،‬لكن العلم على ضربين ‪ :‬بال‬
‫وبأمر ال ‪ ،‬العمل على وجهين ‪ ،‬ظاهر وباطن ‪.‬‬
‫وكل واحد منهما على قسمين ‪ :‬فعل وترك ‪.‬‬
‫ثم كل واحد منهما أيضا على حالين ‪ :‬فرص ونفل ‪.‬‬
‫والفرض على معنيين ‪ :‬أداء اللوازم واجتناب المحارم ‪ .‬وتلخيص معاني ذلك يستدعي مجلدات‬
‫ثم ل يستقصى إذ ل ينحصر فيحصى ‪ .‬والستعانة روم المعونة على تحصيل المراد من جلب أو‬
‫دفع ‪ ،‬أو ما كان من المطالب أقران الختيارية والضطرارية ‪ .‬وتفصيل كل شيء منهما يذكر‬
‫على حدة في التنوع لها ما ل يدخل تحت الحصر جزما ‪ ،‬ولكن الجامع لها أمران ‪ ،‬ل بد أن‬
‫يكون المطلوب دنياويا أو أخراويا ‪ ،‬ميزان ذلك ما كان ل فأخراوي ‪ ،‬وما كان للنفس أو‬
‫الشيطان فدنياوي ‪ .‬وقد نص الشرع على الكثير من ذلك في بيانه عن أهل العلم من المسلمين ‪،‬‬
‫وهي في الحقيقة استمداد والمعونة إمداد ‪ ،‬وحصولها من وجهين في الجملة إما لواسطة أو‬
‫غيرها ‪ ،‬ويكون من حسب ما جرى من سنة ال ‪ ،‬هذا في أشياء والخر في أخرى ‪ .‬وفي‬
‫جدَ ِلسُ ّنةِ الّلهِ َت ْبدِيلًا ))‬
‫الجنس الواحد منها كذلك ‪ ،‬مرة بتوسط ومرة بغير توسط ‪ (( ،‬وَلَن تَ ِ‬
‫( الحزاب ‪ ) 62 :‬والوسائط ما ل تحصى ‪ ،‬ولكنها ل بد من أن تكون روحانية أو جسمانية ‪،‬‬
‫وليس الفاعل لشيء على الحقيقة إل ال خالق كل شيء ‪ ،‬وهو على كل شيء قدير ‪.‬‬

‫( ‪) 13‬‬

‫وكان فحوى الخطاب دليل على المر بها ‪ ،‬ولكن في سبيل ثوابه على تسهيل أبوابه ‪ ،‬وتيسير‬
‫أسبابه ‪ ،‬رجاء العطاء مع اللجاء في الدعاء والوسيلة إلى الشيء بشيء من الشيء ‪ .‬فمن‬
‫عكس هوى فانتكس ‪ ،‬ولذلك يسأله هذا العارف المريد مع القامة على الستقامة بحقه المزيد‬
‫صرَاطَ المُستَقِيم )) ‪ ،‬طريق‬
‫مخافة النقطاع عن الوصول إلى مطلوبه ‪ ،‬فقال ‪ (( :‬اهدِنَــــا ال ّ‬
‫الوصلة إلى محبوبه لن الصراط في اللغة هو الطريق ‪ ،‬قرء بالزاء ‪ ،‬والسين ‪ ،‬والصاد والصاد‬
‫أشهر والقراءة به أكثر ‪ ،‬وقد كان حمزة يقرأ بإشمام الزاء ‪ ،‬فيما عنه يروى ‪ .‬وسمي سراطا‬
‫لنه كان يسرط السايلة ‪ ،‬والمراد به العبادة عن طريق الدين في السلم إلى الملك العلم ‪ ،‬على‬

‫‪13‬‬
‫أبلغ وجه في التشبيه له بالطريق ‪ ،‬تصويرا يدركه العقل ‪ ،‬من حيث أنه للمسافرين إلى ال في‬
‫المعنى كل الطريق للسيارة من جميع المارة ‪ ،‬والمستقيم المستوى ‪ ،‬صفة له بأنها المنهاج‬
‫المجرد عن الميل ‪ ،‬ل يقبل العوجاج ‪ .‬والدين منتظم من ثلثة ‪ ،‬علم وحال وعمل ‪ ،‬فالحال‬
‫فرع العلم ‪ .‬والعلم والعمل ثمرة الحال ‪ ،‬والهداية إرشاد في غاية اللطف ‪ .‬ومخارج أسبابها‬
‫على الجملة أربعة ‪ :‬الصلين عقلي ومكتسب شرعي ‪ ،‬فالول على قسمين أحدهما ضروري ‪،‬‬
‫وذلك ما يتأدى إليه من المعلومات التي ل تقبل الشك جزما ‪ ،‬والثاني رأي نوع والتعب في‬
‫الروع ‪ ،‬والكشف عن محض سر الحق من قول العقل المطلع بالنوار القدسية ‪ ،‬على السرار‬
‫الملكوتية ‪ ،‬والواردة على الحدس من حياة القدس على سبيل اللهام في اليقظة كالملئكة أو في‬
‫المنام ‪ ،‬وفيضان ذلك من ينابيع العقل إلى الجوارح الظاهرة ‪ ،‬بواسطة النفس القاهرة ‪ .‬وعلى‬
‫العكس فيما يستمده من الجنس ‪ ،‬في معنى التأدي من الظاهر إلى الباطن ‪ ،‬وإليه يرجع المر‬
‫كله في حكم المواقع النظرية ‪ ،‬في المواضع العقلية ‪.‬‬

‫( ‪) 14‬‬

‫والثاني المكتسب الشرعي على قسمين ‪ ،‬وكلهما يتأديان إلى الغريزة ‪ ،‬ومنها إلى نور البصيرة‬
‫في الناس ‪ ،‬من مداخل الحواس ‪ .‬لكن أحدهما الروحي ‪ ،‬والمتلقيله من الموحي إليه ‪ ،‬والكتاب‬
‫والسنة والجماع والثار عن أهل العلم من المسلمين البرار ‪.‬والقياس المجرد عن الحتباس‬
‫فإنه نوع هدى ‪ ،‬وإن المامية من الشيع أنكرته أصلً ‪ ،‬وأبطلته جهلً ‪ ،‬فهو حق لنه من نتائج‬
‫ذلك ‪ ،‬فالول رتبة الرسل من النبياء ‪ ،‬والوسطى درجة الصحابة الفهماء ‪ .‬والثالثة الخرى‬
‫مبلغ التابيعين من العلماء ‪ .‬والقياس يختص به أهل العلم الفطنة من الفقهاء ‪ .‬والثاني ما وراء‬
‫هذا من المواد الحسية الختيارية والضطرارية ‪ ،‬التي بها يكتسب العقل بالية ‪ ،‬ويستمدها‬
‫لحياته مما سطرته يد القدرة الربانية ‪ ،‬بالقلم النورانية ‪ ،‬من الحكم اللهية ‪ ،‬على صفحات‬
‫ألواح عالم الملك والمؤدى من به اهتدى ‪ ،‬فإنه به أدلة تغمس المستدل بها في دأماء اليمان‬
‫اليقين ‪ ،‬ويخرجه من دجى هيكل هيولى ذاته ويسقيه شربة من رحيق المعرفة التوحيدية تبرئة‬
‫من العيب ‪ ،‬فتعافي من كل داء دفين في الباطن المقتضى لوجود الصحة في الظاهر ‪ ،‬وتبرد‬
‫غليل القلب من حر العمى ‪ ،‬ونار الهوى ‪ ،‬فل يظمأ بعدها أخرى أبدا ‪ .‬وتجلى صدى الشك‬
‫وغشاوة النفاق وظلمة الشرك ‪ ،‬فيضيء القلب لمزيد نور العقل ‪ ،‬وبنور ستر المعرفة منه لربه‬
‫ونفسه ودنياه وآخرته ‪ .‬زيادة تزيده إشراقا ينسخ ظلمات مدلهم النفس المارة بالسوء ‪،‬‬
‫ويصقل مرآته فتنجلي صورة الملكوت فيه ويفرح ويعرج مهما تعلق بأسبابه المتدلية إلى عالم‬
‫الشهادة فيرى من درجات الكسبية ‪ ،‬إلى المنازل العقلية ‪ ،‬لكن ثم ينادى من شاطئ الوادي‬

‫‪14‬‬
‫اليمن من وراء حجاب ‪ ،‬فاخلع نعلي صفاتك ‪ ،‬وكن موسى الصفات فتجرد من مسيح الهوى ‪،‬‬
‫خلَع الداب الملكية والملبس الروحانية ‪ ،‬وتدرع برياش الحلم والتقى ‪ ،‬إنك بوادِ أسرار‬
‫والبس ِ‬
‫الحقيقة المقدس طوى ‪ ،‬واقصد في مشيك واغضض من صوتك ‪ ،‬واثبت لما ترى واستمع من‬
‫لحن الخطاب وأحسن رد الجواب ‪ ،‬فليس بينك وبين ملكوت العلى غير قاب قوسين أو أدنى ‪،‬‬
‫فبفضل ال وبرحمته تفرح ‪ ،‬ودع قلبك في برزخ أنوار المعارف اللهية يستريح ‪ ،‬وباستدامة‬
‫الذكار تتجلى فيه النوار ‪ ،‬حتى يعلوا في المل العلى ذكره ‪ ،‬لما انشرح بنور ال صدره ‪،‬‬
‫ويفتح له بمفاتيح الكشف الحقيقي باب المحبة والنس والرضا بأنواع الفضاء فيتيه في‬
‫عرصات الشوق إلى ال تعالى ‪ ،‬حتى يتخطى الملك إلى الملكوت ‪ ،‬فيسبح في فسيح بيداء‬
‫أسراره ويموص(‪ )1‬في آذى(‪ )2‬بحارها ‪ ،‬ويغوص فيصير بعين البصيرة للئ غوامض أنوار‬
‫الحقائق الغيبيات ‪ ،‬ويفتح لسماعه باب الستماع فيفهم في عياض رياض الوجد ‪ ،‬بسماع‬
‫نغمات تسبيح الجمادات ‪ ،‬حتى يغيب عن الممالك إلى المالك ‪ ،‬فل يجد ما سواه ول ينظر ما‬
‫عداه ‪ .‬فهذه هي السماء الربعة ‪ .‬لكن في بعض المعلومات ما هو على الصحيح في البداية‬
‫كسبي وفي النهاية ضروري ‪.‬‬

‫( ‪) 15‬‬

‫وكذلك يتولد من بعض الضروريات أنواع من المعاني ‪ ،‬يستفيدها العقل بالكسب لها منها فتكون‬
‫من الكسبي ‪ ،‬وكلها أرسل ال لمن أراد ال أن يرفع قدره ‪ ،‬وينشرح بنور السلم صدره ‪ .‬أو‬
‫يقطع بالحجة البينة عذره ‪ ،‬بعد قيام الحجة بها ‪ ،‬أو بشيء منها في شيء من دينه ‪ ،‬نعم ‪.‬‬
‫وبأي وجه من ذلك في العدل اقتدى إلى ال اهتدى ‪ .‬ومن نازع الحجة التي بالهداية منها أتته ‪،‬‬
‫فقد خالف ال شططا ‪ ،‬وعصى رسله واتبع هواه ‪ ،‬وكان أمره فرطا ‪ .‬والمعنى في‬
‫صرَاطَ )) ‪ ،‬ارشدنا إليه ‪ ،‬وقيل وثبتنا عليه ‪ ،‬وكلهما في النظر حق ‪ ،‬لكون‬
‫(( اهدِنَــــا ال ّ‬
‫طريق الستقامة في غاية الخفاء ‪ ،‬أحدّ من الشعرة على عقبة كؤود المسلك إل على كيّس‬
‫ذمر ‪ ،‬ليس بذي غمر ‪ .‬كثير الموانع شديد المقاطع ‪ ،‬فكم سائر ضل ‪ ،‬وكم قد زل ‪ ،‬ونيس لهل‬
‫التكليف من جوازه بُد ‪ ،‬فمن نعس فهوى في القرار ‪ ،‬هلك في النار ‪ ،‬ومن جاز فقد فاز ‪ ،‬لن‬
‫من وراء هذه الكلفة أعظم زلفة ‪ ،‬وأنت ترى أكثر الناس في هذه الدنيا كالفَراش فيها‬
‫يتهافتون ‪ ،‬من ذروة هذا الصراط يهوون ‪ ،‬وبعضهم ينزلق فيرجع فيعلق ‪ ،‬فالتثبت عليه ل‬
‫غناية عنه ‪ ،‬ولكونه يتمادى إلى آخر العمر ‪ .‬ولذلك اختلفت أحوال الناس في قطعة من لحظه‬
‫إلى خمسين عاما فما فوقها ‪ ،‬وأما ما بينهما حسب مدة العمار في هذه الدار ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫( ‪) 16‬‬

‫فالرشاد في كل خطوة ل بد منه ‪ ،‬وهذا هو الصراط الدقيق الخفي ‪ ،‬ل الذي ظنه عَمى القلوب‬
‫أتباع المذهب الردى ولن ينجو منه إل من نجّاه ال بفضله وهداه ‪ .‬نعم ‪ ،‬وكان في نفس‬
‫الخطاب دليل من الهدى لولي النهى ‪ ،‬على أن الهدى ل يتناهى وإنه ل سبيل إليه مع المطلوب‬
‫منه قيامه ‪ ،‬والمسئول عنه يوم القيامة إل بال تعالى ‪ ،‬فينبغي أل يكون له هم إل فيه ول إقبال‬
‫إل عليه ‪ ،‬فإنه الكمال الروحاني من الجنس النساني في التعلق الضطراري ‪ ،‬والنقطاع الكلي‬
‫في كل نفس وحال ‪ ،‬مع المبادرة إلى السؤال والتذلل والتخشع والخبات في العمال ‪ ،‬والتبتل‬
‫في التضرع والبتهال ‪ ،‬يل فيه إشعار صريح بأن العارف ل يقر قراره ‪ ،‬ول يزال مع ال‬
‫اضطراره ‪ ،‬ولذلك تراه مع كونه من السائلة فيه يطالبه أن يرشده فيدله عليه رغبة في الوصال‬
‫‪ ،‬ورهبة من النقطاع في المال بأسباب الضلل ‪ ،‬لكن زاده على طريق البدل ‪ ،‬تأكيدا له وبيانا ‪،‬‬
‫صرَاطَ اّلذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ))‬
‫لما رآه بالقلب عيانا ‪ ،‬إن عليه وله إليه برهانا ‪ .‬فقال ‪ِ (( :‬‬
‫بالهداية منك ‪ ،‬في السير فيه إليك ‪ ،‬على ظباء العلم ‪ ،‬في مطى العمل والحلم ‪ ،‬والبلوغ‬
‫بالتوفيق ‪ ،‬إلى مقاعد التحقيق ‪ ،‬في قواعد التصديق ‪ ،‬لمّا له تجلى من خزائن الغيب نور برهان‬
‫جلية الهدى ‪ ،‬فجل من القلب دجى رين العمى ‪ ،‬وفاض على النفس تقوى قاهرة الهوى ‪،‬‬
‫وسرى إلى الجوارح فجرها بأزمة اليمان ‪ ،‬في ميادين الحسان ‪ ،‬حتى وصلوا بالنعمة‬
‫السلمية ‪ ،‬إلى النعمة البدية ‪ ،‬من النبياء والمرسلين والشهداء والصالحين ‪ ،‬الذين ذاقوا لذة‬
‫المعرفة وباشروا روح اليقين ‪ ،‬فاستغرقوا في المناجاة ل غيرهم ‪ ،‬لو كانوا في هذه الدنيا‬
‫محاويج فقراء ‪ ،‬قد فقدوا الغنى وفرقهم البلء في الحال باعتبار المال ‪ ،‬وكيف ل ‪ ،‬وهم‬
‫ثمرته ! الكشف لقناع الوهم بسر العلم عن الدارين في بهجة رياض الرضى والسكون ‪ ،‬تحت‬
‫مقراض القضاء والرتقاء ‪ ،‬من أرض الحظوظ إلى سماء الحقوق ‪ ،‬في مناص مقام الخلص ‪،‬‬
‫قد فتح لهم لفناء النفس ‪ ،‬في مجالس النس ‪ ،‬باب الستراحة بالسماع لغرائب ألحان مقال‬
‫لسان الحال ‪ ،‬بأن ذلك من أجل هداياه والنظر إلى عجائب ما أودع فيه من ودائع أسباب ذرائع‬
‫الوصول إليه بعطاياه ‪ ،‬فهانت بذلك عليهم عند ذلك مصائب الدنيا واستلذوا مراد الحق فيهم من‬
‫حيث إنه لم يبق لهم اختيار إل ما لهم بخيار ‪ ،‬وهم على منازل وأتباعهم منهم ‪ ،‬ولكل درجات‬
‫مما عملوا ‪.‬‬

‫( ‪) 17‬‬

‫والتخصيص لقوم موسى وعيسى عليهما السلم ‪ ،‬قبل أن يغيروا دينهم ضعيف ‪ ،‬وقيل هم‬

‫‪16‬‬
‫الرسول – صلى ال عليه وسلم – وأبو بكر وعمر رضي ال عنهما ‪ ،‬أو قيل هم النبي ومن‬
‫معه ‪ ،‬وقيل هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكون النصب له على البدل من الول‬
‫المشتمل على البيان ‪ ،‬والتكرير للثناء والتعظيم ‪ ،‬والدللة على أن المستقيم طريق المهتدين من‬
‫أولي الستقامة في الدين على أبلغ وجه وأوجز عبارة ‪ .‬وقرأ حمزة بضم الهاء فيما يروى ‪،‬‬
‫والكثرون بالكسر لها والضم للتاء والكسر لها لحن تفسد به الصلة ‪ ،‬وكأنه في نفس الخطاب‬
‫والتلويح يدل على التنبيه للمنعم على إيجاب شكر المنعم عليه بالنعم نعم كذلك ‪ .‬و ِنعَم المولى‬
‫في الخرة والولى متعددة ل تحصى ول تعد فتستقصى ‪ ،‬ولكن المراد في هذا الموضوع بالذكر‬
‫لها في معرض المتنان هي النعمة الدينية على الخصوصية ‪ ،‬وما وراءها تبع لها لمن قيدها‬
‫بعقال الشكر لها لن في مقابلتهما بالكفر لها تعرضا لزوالها ‪ ،‬نعم حتى إنها تنقلب في حقه تلك‬
‫النعم بالضافة إليه من أشد النقم ‪ ،‬والدليل على هذا القول (( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَي ِهمْ وَلَ الضّالّينَ‬
‫)) ‪ ،‬فإنه من التأكيد بالمدح لوصف أولي الهدى ‪ ،‬في معرض القدح بالذم لذوي الردى ‪،‬‬
‫بأسباب العراض وذي المراض بالزيغ الشديد ‪ ،‬عن الطريق السديد ‪ ،‬المقتضى لوجود‬
‫الخراج لهما عن مطلق النعمة ‪ ،‬والدراج تحت النقمة ‪ ،‬فكأنه نوع استثناء لمزيد الكشف عن‬
‫احتمال لبس عوارض الشكال ‪.‬‬

‫( ‪) 18‬‬

‫ولعله لذلك قرأت الراء بالنصب فيها – يروى عن ابن كثير – وللحال من الضمير في أنعمت‬
‫بتقدير أعنى ‪ ،‬وكأنه من أوضح الدلة في الخطاب على أن من كان كذلك حاله فليس على‬
‫نعمة ‪ ،‬ولو أعطي الدنيا كلها ‪ ،‬وعوفي بدنه حتى انبسط في لذتها ‪ ،‬يتبوأ فيها على فراغ قلب‬
‫كيف يشاء ‪ ،‬لنه في هيكل ذاته أعمى مكبل بشهواته ‪ ،‬أصم محصور في سجن هواه معكوس ‪،‬‬
‫مكب على وجهه منكوس ‪ ،‬يسحب مجرورا لمراس هفواته ‪ ،‬مردودا إلى أسفل سافلين ‪ ،‬فكأنه‬
‫في العذاب المهين ‪ ،‬ولعذاب الخرة أشد وأبقى ‪ .‬ولما كان الغضب غالبه ‪ ،‬يكون على أهل‬
‫العناد احتمل أن يكونوا هم المهاجرين بالشر وأنواع الفساد ‪ ،‬والضالين ساكن اللف من غيرهم‬
‫‪ ،‬وقرئ بالهمزة – فيما يروى – هربا من التقاء الساكنين ‪ ،‬هم الملحدون جهالة عن الشروع‬
‫في هذا المقصد المشروع غباؤه ‪ ،‬لن الضلل ميل في غوى ‪ ،‬لكونها مصدر ضل عن الشيء‬
‫إذا أخطأه لعمى ‪.‬‬

‫وتخصيص اليهود والنصارى بالغضب ‪ ،‬دون غيرهم من الراكبين كبائر ما تنهون عنه من‬
‫المشركين والمنافقين ينتقض بآية اللعان ‪ ،‬والتعمد على القتل ظلما وكأنهما في الظاهر لوجود‬
‫الواو العاطفة المقتضية المشركة مع اختلف الصفة فريقان ‪ ،‬ولكن الغضب كأنه لهما شامل‬

‫‪17‬‬
‫بالنسبة والمعنى ‪ ،‬والضللة كذلك لكون الغضب على من عصى ال ‪ ،‬ول يعصي إل من ضل ل‬
‫محالة ‪ ،‬لنه عاص جزما ‪ ،‬بدليل أن غضب ال عبارة عن عقابه بأليم عذابه ‪ ،‬جزاء لمن‬
‫عصاه واتبع هواه ‪ ،‬فكأنهما بمعنى ‪ ،‬لنهما مترادفان على مسمى ‪ ،‬إذ ليس أهل التكليف أجمع‬
‫إل فريقين وإن اختلفت الحوال منهم في المعاصي والطاعات ‪ ،‬فريقا هدى ‪ ،‬وفريقا حقت عليه‬
‫الضللة ‪.‬‬

‫( ‪) 19‬‬

‫والتقسيم في التسمية لهؤلء نوع من التعريف في الظاهر على قسمين ‪ ،‬يحتمل أن يكون‬
‫للشعار بأن بعض الضللت أفحش ‪ ،‬وأشد وأوحش من بعض ‪ ،‬وكلها في المآل تؤدي إلى أشر‬
‫حال ‪ ،‬لكن كما أن للجنة درجات ‪ ،‬فكذلك للنار دركات ‪ ،‬وما منهم إل له على مقدار الكفر‬
‫واليمان مقام معلوم منها ‪ ،‬ول يظلم ربك أحدا ‪ .‬والعياذ بال من غضب الجبار ‪ ،‬ومن المصير‬
‫إلى دار البوار ‪ ،‬جهنم يصلونها وبئس القرار ‪ ،‬فانظر بعين البصيرة كيف على الصحيح استدلل‬
‫أساس جميع العبادات كلها من العمل والعلم والدين ‪ ،‬لم تكن الموجودات إل لجلها فدار جملة‬
‫واحدة تحت الجمل في هذه السورة ‪ ،‬فكانت هي المدار لجميع الكتب السماوية والمصنفات‬
‫الثرية ‪ ،‬حتى أنها لم تكن إل كتفسير لها والتفصيل لجملتها ‪ ،‬والظن أن لهذا العتبار ‪ .‬قال‬
‫علي بن أبي طالب فيما عنه يحكى ‪ :‬لو شئت لوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب ‪،‬‬
‫ول غرو فإن الحديث يروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪ ( :‬أنا مدينة العلم وعليّ‬
‫بابها ) ‪ .‬وال أعلم ‪ .‬وبه التوفيق ‪.‬‬

‫‪PM 11:12 ,14-07-2005‬‬

‫جندي الجبل‬
‫عضو نشيط‬

‫‪http://www.omania.net/avb/showthread.php?p=2705041#post2705041‬‬
‫المصادر ‪:‬‬
‫‪ -‬قراءات في فكر أبي نبهان ‪.‬‬
‫‪ -‬لباب الثار ‪.‬‬

‫‪18‬‬

You might also like