Professional Documents
Culture Documents
تفسير سورة الفاتحة للشيخ الرئيس جاعد بن خميس الخروصي العماني الإباضي
تفسير سورة الفاتحة للشيخ الرئيس جاعد بن خميس الخروصي العماني الإباضي
هو الشيخ االعالم الرباني أبو نبهان جاعد بن خميس بن مبارك بن يحيى بن عبد ال بن ناصر
بن محمد بن حيا بن زيد بن منصور بن الخليل بن شاذان بن الخليل بن شاذان بن الصلت بن
مالك بن عبد ال بن مالك الخروصي اليحمدي الزدي .
إل أن ابن رزيق في ( الصحيفة القحطانية ) أورد رواية مشابهة للرواية السابقة وأن الحادثة
لم تكن مع الشيخ الكندي بل مع الشيخ حبيب بن سالم أمبو سعيدي ،حيث جاء في الصحيفة :
( وحكى لي الشيخ الفقيه القاضي مبارك بن عبد ال فقال :لقد وفد على الشيخ العالم حبيب بن
سالم الشيخ الرئيس جاعد بن خميس الخروصي أيام طلبه للعلم الشريف وفي يد الشيخ أبي
نبهان بندق وهو الذي تسميه العامة التفق فلما سلم ورد عليه وجلس لديه ،وقعت يد الشيخ
حبيب في بندق الشيخ أبي نبهان فجعل يقلبه بيده ثم قال له :أهذا التفق لك ؟ قال :نعم .فقال
الشيخ حبيب :هل يصيب به الرامي الغرض إذا رمى ؟ قال :فعلى ما عهدت أن إصابته أكثر
من خطئه .فقال له :أفيخطئ تارة كما يصيب تارة ؟ فقال الشيخ الرئيس أبو نبهان :نعم .
1
فقال الشيخ حبيب :ان عندي بندقا ل يخطئ أبدا -إن شاء ال -فقال له الشيخ أبو نبهان في
الحال :لعلك تعني كتاب ( بيان الشرع ) فقال :نعم ،فقال الشيخ أبو نبهان :أحضروه لي ،
فأحضرنا له أجزاءه الموجودة فقال :اقرأوه علي سفرا سفرا حتى يكمل ،فلما اتممناهن قال :
أعيدوا علي قراءتهن علي ثانية ،فلما صنعنا ذلك ،قال :لقد حفظت ول الحمد ما فيه من
المختلف والمؤتلف وكان بعد هذا لم يحتج لقراءته إذا أحضر لديه . ) ...
وهذا يدل على أن الشيخ الرئيس بدأ ينهل من معين العلم منذ صغره وليس في فترة متأخرة من
عمره ،ومما يشير على ذلك أن الشيخ قام بنسخ كتاب التعليق على كتاب ( الشراف ) لبن
المنذر النيسابوري الذي كتب تعليقاته الشيخ أبو سعيد الكدمي وكان عمره حسب ما أثبت في
حدود الثانية والعشرين سنة .
شيوخه :
تلمذته :
أخذ عنه أولده جميعا وعددهم 13ابنا منهم عشرة ذكور ،وهم :نبهان ،عبد ال ،
سليمان ،سالم ،خلفان ،سعيد ،ناصر ،محمد ،ماجد ،خميس .
أما الناث فهن :شيخة ،آسية ،نصره .
2
كان على درجة عالية من العلم حتى أن الشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي عرض عليه
المامة لكنه أبى قبولها ،و توفي الشيخ خميس سنة 1307هـ .
-ابن أخيه :الشيخ منصور بن محمد بن ناصر بن خميس بن مبارك الخروصي .
وهو الشارح للمية ابن النضر العماني في مناسك الحج .
-الشيخ أبي محمد عبد ال بن ناصر بن محمد بن بشير السوني الخروصي .
-الشيخ سعيد بن حسن بن درويش الخروصي .فقيه له مصنفات في علم الفلك وسر الحروف
.
-ثنيان بن ناصر بن خلفان الزاملي المعولي .تولي القضاء في عهد السيد سعيد بن سلطان .
مؤلفاته :
-1الدقاق لهل النفاق .
-2أحكام المساجد والمدارس .
-3إيضاح البيان في ما يحل ويحرم من الحيوان .
-4أحكام البيوع والرهن والشفعة .
-5كتاب في العدد .
3
-6مقاليد التنزيل لدراك حقائقه بالتأويل .
-7شرح حياة المهج .
-8كتاب في الحج .
-9المغانم في الخلص من المظالم ،أو كتاب الشراف .
-10جامع أبي نبهان .
-11جوابات أبي نبهان .
-12كتاب في الزكاة .
-13كتاب في الرشاد .
-14درياق الذنوب .
-15الرد على الوهابية .
-16حرز الشجرة .
-17نزهة العقول في الرمل وأشكاله .
-18كتاب في صناعة الكيمياء .
-19كتاب في البيوت المحصنة .
-20نفائس العقيان في مجموعة أشعار أبي نبهان .
-21كتاب في النحو .
-22كتاب في الصرف وعلم الكلم .
-23كتاب في سيرة ملوك الزمان .
-24له مراسلت أدبية وعلمية وسياسية .
وفاته :
توفي الشيخ الرئيس -رحمه ال -في نصف نهار يوم الخميس الثالث من ذي الحجة عام
1237هـ وذلك عن عمر ناهز التسعين عاما ودفن في بلدة العليا .
الحمد ل الذي أنزل الفرقان على عبده بواسطة المين جبريل ،مصدقا لما بين يديه من التوراة
والنجيل ،ليكون للعالمين نذيرا ،وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ،فهدى إلى التي هي
4
أقوم من المور ،ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا .
وإن الذين ل يؤمنون بالخرة واستهلكوا في الكفر من العمر آخره ،أبوا من النقياد ،سيدعون
ثبورا غدا في المعاد ،وسيصلون سعيرا ،أنزله بعمله للفادة كما أراده .فأخرجه من عالم
الغيب إلى عالم الشهادة ،فقرع به أسماع مسامع السرائر ،من أولي اللباب أولي النهى
والبصائر ،تشويقا أو تخويفا أو تحذيرا ،وأودع في طي خزائن غوامض دقائق عويصات
أنوار أزهاره ،ودائع مكنون للئ يحار حقائق مصونات أسرار أثماره ،فهدى بالكشف إلى ذلك
مَن بنوره ينظر فكان بصيرا ،وحلى كمال صياغة بلغه مطالع كلمه بحلى جمال براعة مقاطع
ختامه ،فكفى به خبيرا ،وجل بطلوع لوامع جوازم قواطع صوارم جوامع أحكامه سدف ليالي
جو الجهالت تنويرا .وأبان عن معالم صراط الهدى وأماكن مغانم التقى ،ومكامن مظالم
الهوى بظهور سطوع أدلة أنوار مناره ،ومجامع أسراره معاني أذكار أخباره ،لمن أراد أن
يذكر أو أراد شكورا .
وحرس أبواب مغاني سماء مباني آياته ،عن استراق شيء بالنقص أو المزيد في ذاته ،وكان
المعيار الصحيح ،والمعيار النجيح محكم اليات ،مجردا في النظام عن الخلل في الكلم ،ل
لفًا
جدُواْ فِيهِ اخْ ِت َ
غ ْيرِ الّلهِ لَ َو َ
يقبل الزلل في الحكام أو في شيء من الحوال ،وَلَوْ كَانَ ِمنْ عِندِ َ
كَثِيرًا ،على أنه في تأليف كلمه وعجيب نظامه لقرآنه تراكيب ألفاظه العجيبة ،وعدم تناهي
معانيه الغريبة – مع شدة إجازه – قد اقتضى كون اعجازه من رام عزما أن يعارضه نطما ،
فتحدى لذلك جميع العالمين أن يأتو بمثله ،أو سورة في صورة شكله ،وأنى لهم بذلك ولو كن
بعضهم لبعض ظهيرا .والصلة السلم على نبي الرحمة ،هادي المة ،محمد النبي المي ،
الذي أراد ال بجود هالة هلله وجوده ،في قبة سماء بهجة الدين ،من حيث أنه جعله للناس
قمراً وسراجا منيرا ،وعلى آله المطهرين من القبائح من جميع العالمين تطهيرا .
( )2
أما بعد ،فقد انكشف بنور الحق البرهان ،وصار المر ظاهر العيان أنه ل سبيل إلى الوصول
إلى ال ،والفوز في لقائه بالسعادة البدية ،والتنعم باللذاذات السرمدية ،إل بوجود الرعاية ،
والسير إليه في منار الهداية ،على أنوار العلم ،في عنان الحلم ،لنه من لم يكن له نور من
ربه ،فما له من نور يستدل به ،وذلك هو العلم النافع ،فالعلم هو الدليل على قصد السبيل ،
إلى الملك الجليل .العلم كله القرآن وهو التنزيل ،وما بعده من العلم تفسير له وتأويل .فهو
الهدى والنور ،والشفاء لما في الصدور ،من أمراض الغرور وأدواء الفجور .
5
طوبى لمن كان على عرفات ادكاره واقفا ،وبكعبة أسراره طائفا ،فإنه العروة الوثقى ،
والسبب الوفى ،الذي من تعلق به نجا ،ومن تركه ضل وغوى ،وهلك فتردى .نعم ،ولكن
على غير معرفة بتأويله ،ل يصح أن يكون تابعا له لدليله ،حتى يكون في حقه كذلك ،كل ،
بل يخاف عليه على غير ذلك ،أن تعميه أسراره ،وتحرقه أنواره ،وتجرفه وتغرقه بحاره ،
مهما يكن في عومه ذا مره ،واقتحم فخاض لجته على غره ،وإذا كان المر في ذا ل شك أنه
هكذا ولم تكن هذه التفاسير التي على المخالفين لهل الستقامة في الدين لغير الحق في ذلك
حاليه ،لكونها في ضلل التأويل ليست خاليه .حتى صار كأن صرف العناية إلى ذلك من أكثر
العناية ،ل سيما إذا لم تجد لهل العدل من أصحابنا تفسيرا يرجع بالحق إليه ،ويقتفي أثره
فتعول عليه .
)
وها نحن في هذا المنهاج ،لكثرة الطلب واللجاج ،من بعض أخواني في ال علي ،ومراجعته
في ذلك إلي ،مع كوني ممن قعد به القصور ،في حضيض الضعف عن الرتقاء ،في ذروة
هذا المرقى ،الشريف الباذخ ،العالي الشامخ ،المنيف .وها نحن في همة الشروع فيه ،لفتح
مباديه ،على سبيل التوسط قصدا بين القلل المخل ،والسهاب الممل ،فإن الستيفاء لجميع
معانيه ،حتى يؤتى على أقاصيه ،ل مطمع لنا فيه ،لكونه كان لوخم الذكار وعوم الفكار ،
وغوص البصار في البحر ،الذي ل ساحل له ول قعر .وكيف ل وهو الميدان الفسيح لمجال
العتبار ،المستوفي على الصحيح لجميع العمار ،قبل البلوغ إلى آخره ،ثم ل يؤتى على
عابره ،هذا وإني فيه وارد من علم اللسان ،ما ل بد منه للبيان ،ومن القرآن كل معمول به
وشاذ ،ليكون للقارئ عن نسبة اللحن وكالخطأ كالملذ ،وأسميه إن من ال علي بتمامه من
فضله وإكرامه (( ،مقاليد التنزيل لدراك حقائقه بالتأويل )) ،وأنا به سبحانه أتوسل ،وله
ربي أسأل ،أن يفتح لي بابه ،وأن يهجم بي في القول والعمل على الصابة ،وألجأ إليه ملجأ
من توكل عليه ،أتضرع فأناديه ليغمرني بالقالة من عثار الرأي وباديه ،وهو الموفق لغيره
وبه التوفيق ،وهذا حين البتداء ربِ يسر لتمامه إنك سميع الدعاء ،فعال لما تشاء .
( )4
سورة فاتحة الكتاب وتسمى أم القرآن ،والساس ،وفاتحة كل شيء أوله ،وأمه وأصله ،
وأساسه ومبدؤه ،وما أحقها بهذا لفتتاح الكتاب بها ،وانطوائها على سياق الثناء ،على
الصفات والسماء ،الدالة على كيفية التوحيد ،وكمية التفريد ،واحتوائها على نسيج مدارج
6
الوصول إلى ال على معارج العلم والعمل الصالح ،وكون التلمح أمر بالقامة ،على طريق
الستقامة ،التي ليس بشيء في الوجود إل لجلها موجود ،مع ما اشتملت عليه من القصص
وإخبارا عن حال الفريقين من المالك ،والخر الهالك ،وما في خلل ذلك التصريح ،من
خصال التلويح ،بالوعد والوعيد ،لمن لحنها ولمن ضل عن طريق الستقامة زل ،وعلى
الجملة فهي كالجملة في مبانيها ،وما عداها فكالتفصيل لمعانيها ،فهي المبدأ وذلك منها
ينشأ ،وتسمى :الكافية والواقية والشافية .لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم ( :وهي
شفاء من كل داء ) وسورة الحمد والشكر والدعاء والصلة ،لشتمالها على ذلك .
( )5
وتسمى السبع المثاني لنها تثنى في كل صلة ،بل في كل ركعة منها ،وتكفي الركعات السرية
وحدها ،ول يكفي غيرها عنها ،إذ كل صلة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج .ولها
أسرار عظيمة حتى أنه يروى عن محمد الغزالي أنه ذكر أن فيها من الخواص ألفاظا ظاهرة
وألفاظا باطنة ،وهي سبع آيات بالتفاق ،مكية على الصح ،وقيل :مكية ومدنية ،لنها
نزلت مرتين ،مرة بمكة يوم فرضت الصلة ،ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ،لم يشذ عنها
شيء من الحروف البجدية ،التي عليها مدار العربية إل سبعة ل غيرها .واختلف الناس على
أقوال في ( بسم ال الرحمن الرحيم ) هل هي آية منها أم ل ؟ والحق أنها آية منها ،وأن
الصلة ل تصح على العمل لتركها ،ومختلف في النسيان فيها ول تنازع في أنها من كلم ال
إجماعا .والباء فيها للستعانة لكن القول في العبارة عنها في التسمية لها ،فسموها بإضافة
وباء استعانة وباء إلصاق ،أي تلصق الفعال بالسماء ،وقيل فيها أنها للمصاحبة ،وهي
حرف جر يخفض ما بعده ،ول تصح عند أهل اللسان إل بها ،ولذلك قالوا إنها مناطة بضمير
:ابدأ وقيل اقرأ .
( )6
وقد أجمع الكل فيما نعلم على حذف الهمزة لشتهارها في القراءة دوما للخفة ،وإنما طولت
الباء فيما قيل ،عوضا منها لتكون كالدليل عليها ،وكأنه في ذلك وفي مد السين تعظيم لشأن
المبدأ ،والسم هو المسمى ،وقيل غيره ،إنه صفة له وتعريف ل غيره والمسمى هو المعنى
الذي أريد به السم .
والقول الثالث ل هو ول غيره ،والول أصح ،لكن على شريطة إرادة الذات من الشيء
7
المسمى ل اللفظ نفسه مجردا عن نفس المراد به ،فإن ذلك ل شك فيه فإنه غيره لترادفه
وتجزئه وتغايره في الكيفيات ،وتعداده وتقطعه حروفا في الصوات ،واختلفه في اللغات ،
وتباينه في الهيئات ،وكأنه في نفس البداية بالبسملة تشويق للمريدين ،وترويح لقلوب
الخائفين ،وتطميع لنفس المشتاقين ،واستحثاث للسالكين ،وتنشيط للمقبلين ،واستدعاء
للمرتدين ،واستعطاف للمذنبين ،وإشارة لطيفة من ال لهل اللباب ،على أن الرحمة قريبة
ممن تعرض لنفحاتها ،والستنشاق لمبادئها رجاء أن يغمر أقاصها ،قائلً في مقاعد شكره
( )7
( الحمد ل رب العالمين )
فالحمد عبارة عن الثناء كالمدح ،لكن الفرق بينهما أن الحمد يكون على المور الختيارية ،
المجردة من شائبة الجلل ،لنقص أو فساد على حال .والمدح إطلق الثناء على الجهل بل
تخصيص ،فكأنه أعم ،والحمد أخص .وقيل هما مترادفان على مسمى ،وكلهما لمعنى ،
والتعريف للعهد .ويحتمل أن يكون لستغراق الجنس لن حمده مستغرق كل حمد لغيره ،إذ ما
بكم من نعمة فمن ال ،ليس للمزيد فيه موضع ول للنقص فيه مفرع .والجملة وإن كانت
كأنها في معرض الخبر صورة ،فإنها لمن الواجبات في حقه على العبد ،المكلف بها عند نزول
البلية بها أو شيء منها ،وكأنه نوع من الشكر إل أنه من وظائف اللسان ،والشكر عام
لركان مقامات اليمان ،ودرجات الحسان .وفي الحديث الحمد رأس الشكر ول خلق من
الحمد لمن لم يكن له من الداب الشرعية والخلق الرحمانية خلق .كل ،وليس المجرد عن
النقائص إل الله جل جلله ،وكلما كان لغيره ممن حمده بل ليس ذلك يكون كذرة من صفات
مجده ،ونعوت حمده ،وكأنه بالضافة إلى حمده كاد أل يستحق إن يسمى حمدا ،لنقصه
وقصوره عن كمالت الحمد ،محتاجا للتكميل إلى أدمة التصقيل ،فلمضاها من حيث المناسبة
بين الحمدين جزما .
وال من حقت له العبادة وثبت له محض السيادة ،وهو الذي لفرط الحتياج إليه ،تأله كل
المألوهات إليه بحالها إيجادا من العدم ،وإمدادا بالنعم ،وحده ل شريك له ،وما كان هو الله
وما عداه مألوها لم يجز أذن يطلق على غيره نعم ،ولذلك كاد أل يستأهل غيره أن يحمد ،
فضلً أن يعبد ،وأنى لميل إلى أن هذا هو السم العظم لذاته ،لنه كالجامع لكل الصفات
8
العليا ،وإليه تنضاف جميع السماء الحسنى ،حتى إنه يمكن بالفهم إخراج جميع التوحيد من
مفهومات معانيه .وقد قيل في اشتقاقه أقوال ،أكثرها أولى أن يترك لنحطاطه عن رتبة
الصحيح ،لعلل تشعر فيها بخلل ،وهو قول الخليل بن أحمد وجماعة :إنه اسم علم ل اشتقاق
له .وعن ابن عباس – رحمه ال – أن ال ذو اللوهية وهو الذي تأله الخلق إليه .وتفخيم
لمِه الثاني سنة ،وحذف ألفه ومدها ،وفي فريد الواو في هائه أو إشباع الضمير بحيث إنها
تصير واوا ،كل واحد منها لحن في الحرام تفسد به الصلة .
( )8
والرب في كلم العرب المالك والسيد والمصلح ،وقرئ بالنصب على المدح ،والكسر أصح ،
وال رب الكل قاهر ما عداه ،ومالك لما سواه ،تفرد باللوهية ،وتوحد بالربوبية ،وذلك من
صفاته وأسماء ذاته ،فل يجوز أن يطلق التعريف فيه ول التجريد له لغيره عن التقييد ،ولكن
ربك وربه ورب كذا في أمثال ذلك .
والعالمين جمع عالم ،بفتح اللم كخاتم ،فيه عن ابن عباس – رحمه ال – أنهم الجن والنس
لقول ال تعالى (( :لِ َيكُونَ ِللْعَا َلمِينَ َنذِيرًا )) (الفرقان . )1 :
والقول الثاني عن أبي عبيدة أنهم أربع أمم :الملئكة ،والنس ،والجن ،والشياطين .
سمَاوَاتِ
والقول الثالث جميع المخلوقات ،لقوله تعالى َ (( :ومَا رَبّ ا ْلعَا َلمِينَ ( )23قَا َل رَبّ ال ّ
وَالْ َأ ْرضِ َومَا َبيْنَ ُهمَا )) ( الشعراء ) 24 ،23 :وهذا شائع أن كل جنس على الصح عالم في
نفسه على حدة ،وكون الجميع فيه بالواو والنون تغليبا لمن يعقل ،وعلى هذا فقد اختلف في
حصرها فقيل ألف عالم :ستمائة قي البحر ،وأربعمائة في البر ،وقيل ثمانية عشر ألف عالم ،
الدنيا عالم منها ،وما العمار في الخراب إل كقسطاط في صحراء .وقيل ثمانون ألف عالم ،
أربعون ألفا في البحر ،وأربعون ألفا في البر .
9
الحدث في القدم نعم ،وكان هذا الدليل القاطع ،على وجود الصانع المتولي أمرها إبداعا
وتدبيرا ،واختراعا وتصويرا ،على مقتضى المشيئة تقديرا ،صار المقتضى لظهور الحياة
والقدرة ،والعلم والرادة ،والحكمة والقوة والعزة ،والقدم والبقاء ،والحاطة بالشياء ،وأنه
ليس كمثله شيء ،لستحالة مماثلة الصناعة للصانع لها عقلً إلى غيرها ،مما ل يحصى من
المعاني في الصفات ل الخالق لكل شيء .
( )9
( الرحمن الرحيم )
من سمى ذاته فيهما أنهما بمعنى ،والفرق أسوغ ،وإنه لقرب السماء إلى اسم ال ،لقوله
حمَـنَ )) (السراء )110 :وكذلك في البسملة يروى
تعالى (( :قُ ِل ا ْدعُواْ الّلهَ أَ ِو ا ْدعُواْ الرّ ْ
أول بالرحمن غيره في الشهر ،وقيل جائز والول أكثر ،فكان فيه لزيادة الثناء ،مبالغة عن
الرحيم في العبادة من متسع الرحمة وفسيح الكرامة ،كما روي عن ابن عباس – رحمه ال –
أنه قال رحمن الدنيا والخرة ،ورحيم الخرة .وقيل الرحمن بالبر والفاجر في الدنيا ،والرحيم
بالمؤمنين في الخرة ،وقال قوم الرحمن بجميع الخلق ،والرحيم بالمؤمنين ،وهذا في
المتعبدين ممكن من حيث القتصار في النظر على المعاني الظاهرة من النعم أن يكون فيضان
الرحمة شاملً للكل نعماؤه ،وهو كذلك لكن في المجاوزة لها إلى ما وراءها من اللباب باعتبار
الحقيقة في المرجع ،فالرحمة اللهية في الدنيا والخرة خصوصية ،لكونها مناطة باليمان
كائنة حيث ما كان ،لن البليا في حق المؤمن عطايا لمن شكرها ،والنعم في حق من لم
يشكرها نقم ،بلى ،وكان فيهما أكبر إشارة إلى إيجاب فرع باب الرحمة ،باستدامة شكر
النعمة ،في مقامات الخدمة ،والتعلق به في المهمات كلها ،فإنه رحمن ،والرجوع إليه
بالتوبات ،والقبال إليه بكلمة الهمة في سبيل الطاعات ،فإنه رحيم يقبل التوبة ،ويعفو عن
السيئات ل محالة ،وإياكم والياس ،يعرف هذا بدليل المعنى ،البارز من مفهوم الفحوى ،وقد
قيل إن أبا عمر كان يدغم الميمين ،ميم الرحيم في مالك يوم الدين ،أي يوم القضاء والحساب
للجزاء ،وما قيل أنه يوم الطاعة ويوم القهر .فداخل فيه جار ومجرور ،بإضافة اسم الفاعل
إليه تنزيلً منزلة المفعول به .
قرأ عاصم ويعقوب ومالك والكسائي :مالِك باللف بعد الميم .وقد قيل إنه قرأ كذلك بالرفع
مضافا ومنونا .على أنه خبر لمبتدأ محذوف ،وبالنصب على الحال أو المدح منونا .
وقرئ مالِك من غير ألف بالجر والرفع والنصب ،وبتسكين لمه مخففا وبلفظ الفعل الماضي .
10
()10
واختلف الناس في معناهما فقيل واحد ،وقيل مالك أجمع ،لن كل مالك لشيء ملكه وليس كل
ملك لشيء مالكه ،وقيل مَلِك أوسع لن كل َملِك مالك ملكا ،وكأنه أرجح لما فيه من المزيد
على المالك واحتوائه عليه ،لن المَلِك من له المر والنهي في الرعية النافذ فيهم حكمه كيف
أراد ،لنه لهم مالك لكونهم تحت مُلكه فكان عاما والمالك خاص بجزء من معناه .أل ترى أن
اسم المالك يطلق على من كان له أدنى ملك لشيء من العيان المملوكة ،على إرادة ذلك في
المعنى ،وإن كان ل يملك بعد ،ولذلك سمي القلب سلطان الجوارح ،لنه كالمَلِك القاهر لها ،
وهي له كالرعية يتصرف فيها بقدرة اللهية ،تصرف المالك كيف شاء وعلى ما شاء ،فهي
منقادة ل تطيق عناده ،لنها مجبولة على طاعته .
ول الملك من قبل ومن بعد ،وهو المالك لما كان في الوجود من شيء أو يكون .ل يصادف
حكمه ول َقدَره وقضاء غير ملكه ،كل بل تجري المور في الخلق من ال الملك الحق ،على
عنان المقادير ،بأزمة التدابير على مقتضى الحكمة ،ووفق المشيئة ،في الدارين :الخرة
والولى ،وإنما جرى التخصيص ليوم الدين يوم يكشف عن الغطاء حين النداء ّ(( :ل َمنِ ا ْلمُ ْلكُ
حدِ الْقَهّارِ )) ( غافر )16 :مقال بالصدق ،واعترافا بالحق لظهور العيان ،
الْيَ ْومَ لِّلهِ الْوَا ِ
المستغنى عن البرهان ،على سلب العيان ورجوع العواري من الملك المجازي إلى الحق ،
الملك الحقيقي .
ذلك الملك السرمدي والتنصيص لنفس اليوم اكتفاء به عن ذكر ما فيه ،لنه كالمستلزم له في
اشتماله في صرفه عليه ،ما جرت به العادة في عرف الذمة ،وذلك نوع تنبيه على العمال
الصالحة واجتناب الطالحة ،لن اختصاص التسمية له بالدين من سائر ما يسمى به ،دللة
على أنك كما تدين تدان .فانظر في ذلك يا ذا الغفلة لنفسك أيام المهلة .
وكان في هذه الجملة أبلغ تنبيه على حقارة الدنيا وأشد تحذيرا منها وتزهيدا فيها لكونها
مطلوبة وفي الخرى مساوية ،فآثروا ما يبقى على ما يفنى ،فالباقيات العمال والنيات
والقوال الصالحات ل غير ،فارعوها حق رعايتها إن كنتم موقنين .وانظروا فيها وإلى هذه
الخمسة السماء العظيمة ،الصفات الجسيمة ،فإن تحت كل اسم وصفته بحرا من المعاني ل
ساحل له .ومن كان كذلك حاله في أوصافه فكيف ل يكون لمحض الحمد أهل ،كل إنه لواجب
الحمد وبذلك على هدايته .فاحمدوه حمد من يستوجب لخلصه في حمده الحمد والزلفة بحمده
،واعلم أن الحمد في اللسان ل جدوى له حتى يكون نتيجة قلب شاكر الركان .رجل سرى من
الملك إلى الملكوت العلى على جواد الجتهاد حتى وصل فناخ على الرضا بفناء حضرة
الربوبية ،فينزل منزل العبودية ،فغاب عن الغيار بشهود الملك الجبار ،وطفق على قدر
11
اللتفات لما حضر لموله العظيم وربه الكريم .قد أقبل بشرا شده إليه ،لما نظر بعين اليقين
إليه ،يقول عن خالص باله بلسان حاله وصدق مقاله .
()11
12
وقراءة النون منها بالكسر على لغة تميم ،والفتح أظهر وبتقديم العبادة على الستعانة في
النص عليها استدل أن طلب الحاجة المرادة مقدمة عن العبادة أدعى إلى الجابة .
( ) 12
والعبادة أنواع ،وأي شيء أطيع ال به فهو منها ،وكأنها في الجملة تدور على أربعة أركان
لقاعدتين ،هما :العلم ،والعمل ،ل يشذ شيء منها عنهما ،لكن العلم على ضربين :بال
وبأمر ال ،العمل على وجهين ،ظاهر وباطن .
وكل واحد منهما على قسمين :فعل وترك .
ثم كل واحد منهما أيضا على حالين :فرص ونفل .
والفرض على معنيين :أداء اللوازم واجتناب المحارم .وتلخيص معاني ذلك يستدعي مجلدات
ثم ل يستقصى إذ ل ينحصر فيحصى .والستعانة روم المعونة على تحصيل المراد من جلب أو
دفع ،أو ما كان من المطالب أقران الختيارية والضطرارية .وتفصيل كل شيء منهما يذكر
على حدة في التنوع لها ما ل يدخل تحت الحصر جزما ،ولكن الجامع لها أمران ،ل بد أن
يكون المطلوب دنياويا أو أخراويا ،ميزان ذلك ما كان ل فأخراوي ،وما كان للنفس أو
الشيطان فدنياوي .وقد نص الشرع على الكثير من ذلك في بيانه عن أهل العلم من المسلمين ،
وهي في الحقيقة استمداد والمعونة إمداد ،وحصولها من وجهين في الجملة إما لواسطة أو
غيرها ،ويكون من حسب ما جرى من سنة ال ،هذا في أشياء والخر في أخرى .وفي
جدَ ِلسُ ّنةِ الّلهِ َت ْبدِيلًا ))
الجنس الواحد منها كذلك ،مرة بتوسط ومرة بغير توسط (( ،وَلَن تَ ِ
( الحزاب ) 62 :والوسائط ما ل تحصى ،ولكنها ل بد من أن تكون روحانية أو جسمانية ،
وليس الفاعل لشيء على الحقيقة إل ال خالق كل شيء ،وهو على كل شيء قدير .
( ) 13
وكان فحوى الخطاب دليل على المر بها ،ولكن في سبيل ثوابه على تسهيل أبوابه ،وتيسير
أسبابه ،رجاء العطاء مع اللجاء في الدعاء والوسيلة إلى الشيء بشيء من الشيء .فمن
عكس هوى فانتكس ،ولذلك يسأله هذا العارف المريد مع القامة على الستقامة بحقه المزيد
صرَاطَ المُستَقِيم )) ،طريق
مخافة النقطاع عن الوصول إلى مطلوبه ،فقال (( :اهدِنَــــا ال ّ
الوصلة إلى محبوبه لن الصراط في اللغة هو الطريق ،قرء بالزاء ،والسين ،والصاد والصاد
أشهر والقراءة به أكثر ،وقد كان حمزة يقرأ بإشمام الزاء ،فيما عنه يروى .وسمي سراطا
لنه كان يسرط السايلة ،والمراد به العبادة عن طريق الدين في السلم إلى الملك العلم ،على
13
أبلغ وجه في التشبيه له بالطريق ،تصويرا يدركه العقل ،من حيث أنه للمسافرين إلى ال في
المعنى كل الطريق للسيارة من جميع المارة ،والمستقيم المستوى ،صفة له بأنها المنهاج
المجرد عن الميل ،ل يقبل العوجاج .والدين منتظم من ثلثة ،علم وحال وعمل ،فالحال
فرع العلم .والعلم والعمل ثمرة الحال ،والهداية إرشاد في غاية اللطف .ومخارج أسبابها
على الجملة أربعة :الصلين عقلي ومكتسب شرعي ،فالول على قسمين أحدهما ضروري ،
وذلك ما يتأدى إليه من المعلومات التي ل تقبل الشك جزما ،والثاني رأي نوع والتعب في
الروع ،والكشف عن محض سر الحق من قول العقل المطلع بالنوار القدسية ،على السرار
الملكوتية ،والواردة على الحدس من حياة القدس على سبيل اللهام في اليقظة كالملئكة أو في
المنام ،وفيضان ذلك من ينابيع العقل إلى الجوارح الظاهرة ،بواسطة النفس القاهرة .وعلى
العكس فيما يستمده من الجنس ،في معنى التأدي من الظاهر إلى الباطن ،وإليه يرجع المر
كله في حكم المواقع النظرية ،في المواضع العقلية .
( ) 14
والثاني المكتسب الشرعي على قسمين ،وكلهما يتأديان إلى الغريزة ،ومنها إلى نور البصيرة
في الناس ،من مداخل الحواس .لكن أحدهما الروحي ،والمتلقيله من الموحي إليه ،والكتاب
والسنة والجماع والثار عن أهل العلم من المسلمين البرار .والقياس المجرد عن الحتباس
فإنه نوع هدى ،وإن المامية من الشيع أنكرته أصلً ،وأبطلته جهلً ،فهو حق لنه من نتائج
ذلك ،فالول رتبة الرسل من النبياء ،والوسطى درجة الصحابة الفهماء .والثالثة الخرى
مبلغ التابيعين من العلماء .والقياس يختص به أهل العلم الفطنة من الفقهاء .والثاني ما وراء
هذا من المواد الحسية الختيارية والضطرارية ،التي بها يكتسب العقل بالية ،ويستمدها
لحياته مما سطرته يد القدرة الربانية ،بالقلم النورانية ،من الحكم اللهية ،على صفحات
ألواح عالم الملك والمؤدى من به اهتدى ،فإنه به أدلة تغمس المستدل بها في دأماء اليمان
اليقين ،ويخرجه من دجى هيكل هيولى ذاته ويسقيه شربة من رحيق المعرفة التوحيدية تبرئة
من العيب ،فتعافي من كل داء دفين في الباطن المقتضى لوجود الصحة في الظاهر ،وتبرد
غليل القلب من حر العمى ،ونار الهوى ،فل يظمأ بعدها أخرى أبدا .وتجلى صدى الشك
وغشاوة النفاق وظلمة الشرك ،فيضيء القلب لمزيد نور العقل ،وبنور ستر المعرفة منه لربه
ونفسه ودنياه وآخرته .زيادة تزيده إشراقا ينسخ ظلمات مدلهم النفس المارة بالسوء ،
ويصقل مرآته فتنجلي صورة الملكوت فيه ويفرح ويعرج مهما تعلق بأسبابه المتدلية إلى عالم
الشهادة فيرى من درجات الكسبية ،إلى المنازل العقلية ،لكن ثم ينادى من شاطئ الوادي
14
اليمن من وراء حجاب ،فاخلع نعلي صفاتك ،وكن موسى الصفات فتجرد من مسيح الهوى ،
خلَع الداب الملكية والملبس الروحانية ،وتدرع برياش الحلم والتقى ،إنك بوادِ أسرار
والبس ِ
الحقيقة المقدس طوى ،واقصد في مشيك واغضض من صوتك ،واثبت لما ترى واستمع من
لحن الخطاب وأحسن رد الجواب ،فليس بينك وبين ملكوت العلى غير قاب قوسين أو أدنى ،
فبفضل ال وبرحمته تفرح ،ودع قلبك في برزخ أنوار المعارف اللهية يستريح ،وباستدامة
الذكار تتجلى فيه النوار ،حتى يعلوا في المل العلى ذكره ،لما انشرح بنور ال صدره ،
ويفتح له بمفاتيح الكشف الحقيقي باب المحبة والنس والرضا بأنواع الفضاء فيتيه في
عرصات الشوق إلى ال تعالى ،حتى يتخطى الملك إلى الملكوت ،فيسبح في فسيح بيداء
أسراره ويموص( )1في آذى( )2بحارها ،ويغوص فيصير بعين البصيرة للئ غوامض أنوار
الحقائق الغيبيات ،ويفتح لسماعه باب الستماع فيفهم في عياض رياض الوجد ،بسماع
نغمات تسبيح الجمادات ،حتى يغيب عن الممالك إلى المالك ،فل يجد ما سواه ول ينظر ما
عداه .فهذه هي السماء الربعة .لكن في بعض المعلومات ما هو على الصحيح في البداية
كسبي وفي النهاية ضروري .
( ) 15
وكذلك يتولد من بعض الضروريات أنواع من المعاني ،يستفيدها العقل بالكسب لها منها فتكون
من الكسبي ،وكلها أرسل ال لمن أراد ال أن يرفع قدره ،وينشرح بنور السلم صدره .أو
يقطع بالحجة البينة عذره ،بعد قيام الحجة بها ،أو بشيء منها في شيء من دينه ،نعم .
وبأي وجه من ذلك في العدل اقتدى إلى ال اهتدى .ومن نازع الحجة التي بالهداية منها أتته ،
فقد خالف ال شططا ،وعصى رسله واتبع هواه ،وكان أمره فرطا .والمعنى في
صرَاطَ )) ،ارشدنا إليه ،وقيل وثبتنا عليه ،وكلهما في النظر حق ،لكون
(( اهدِنَــــا ال ّ
طريق الستقامة في غاية الخفاء ،أحدّ من الشعرة على عقبة كؤود المسلك إل على كيّس
ذمر ،ليس بذي غمر .كثير الموانع شديد المقاطع ،فكم سائر ضل ،وكم قد زل ،ونيس لهل
التكليف من جوازه بُد ،فمن نعس فهوى في القرار ،هلك في النار ،ومن جاز فقد فاز ،لن
من وراء هذه الكلفة أعظم زلفة ،وأنت ترى أكثر الناس في هذه الدنيا كالفَراش فيها
يتهافتون ،من ذروة هذا الصراط يهوون ،وبعضهم ينزلق فيرجع فيعلق ،فالتثبت عليه ل
غناية عنه ،ولكونه يتمادى إلى آخر العمر .ولذلك اختلفت أحوال الناس في قطعة من لحظه
إلى خمسين عاما فما فوقها ،وأما ما بينهما حسب مدة العمار في هذه الدار .
15
( ) 16
فالرشاد في كل خطوة ل بد منه ،وهذا هو الصراط الدقيق الخفي ،ل الذي ظنه عَمى القلوب
أتباع المذهب الردى ولن ينجو منه إل من نجّاه ال بفضله وهداه .نعم ،وكان في نفس
الخطاب دليل من الهدى لولي النهى ،على أن الهدى ل يتناهى وإنه ل سبيل إليه مع المطلوب
منه قيامه ،والمسئول عنه يوم القيامة إل بال تعالى ،فينبغي أل يكون له هم إل فيه ول إقبال
إل عليه ،فإنه الكمال الروحاني من الجنس النساني في التعلق الضطراري ،والنقطاع الكلي
في كل نفس وحال ،مع المبادرة إلى السؤال والتذلل والتخشع والخبات في العمال ،والتبتل
في التضرع والبتهال ،يل فيه إشعار صريح بأن العارف ل يقر قراره ،ول يزال مع ال
اضطراره ،ولذلك تراه مع كونه من السائلة فيه يطالبه أن يرشده فيدله عليه رغبة في الوصال
،ورهبة من النقطاع في المال بأسباب الضلل ،لكن زاده على طريق البدل ،تأكيدا له وبيانا ،
صرَاطَ اّلذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ))
لما رآه بالقلب عيانا ،إن عليه وله إليه برهانا .فقال ِ (( :
بالهداية منك ،في السير فيه إليك ،على ظباء العلم ،في مطى العمل والحلم ،والبلوغ
بالتوفيق ،إلى مقاعد التحقيق ،في قواعد التصديق ،لمّا له تجلى من خزائن الغيب نور برهان
جلية الهدى ،فجل من القلب دجى رين العمى ،وفاض على النفس تقوى قاهرة الهوى ،
وسرى إلى الجوارح فجرها بأزمة اليمان ،في ميادين الحسان ،حتى وصلوا بالنعمة
السلمية ،إلى النعمة البدية ،من النبياء والمرسلين والشهداء والصالحين ،الذين ذاقوا لذة
المعرفة وباشروا روح اليقين ،فاستغرقوا في المناجاة ل غيرهم ،لو كانوا في هذه الدنيا
محاويج فقراء ،قد فقدوا الغنى وفرقهم البلء في الحال باعتبار المال ،وكيف ل ،وهم
ثمرته ! الكشف لقناع الوهم بسر العلم عن الدارين في بهجة رياض الرضى والسكون ،تحت
مقراض القضاء والرتقاء ،من أرض الحظوظ إلى سماء الحقوق ،في مناص مقام الخلص ،
قد فتح لهم لفناء النفس ،في مجالس النس ،باب الستراحة بالسماع لغرائب ألحان مقال
لسان الحال ،بأن ذلك من أجل هداياه والنظر إلى عجائب ما أودع فيه من ودائع أسباب ذرائع
الوصول إليه بعطاياه ،فهانت بذلك عليهم عند ذلك مصائب الدنيا واستلذوا مراد الحق فيهم من
حيث إنه لم يبق لهم اختيار إل ما لهم بخيار ،وهم على منازل وأتباعهم منهم ،ولكل درجات
مما عملوا .
( ) 17
والتخصيص لقوم موسى وعيسى عليهما السلم ،قبل أن يغيروا دينهم ضعيف ،وقيل هم
16
الرسول – صلى ال عليه وسلم – وأبو بكر وعمر رضي ال عنهما ،أو قيل هم النبي ومن
معه ،وقيل هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكون النصب له على البدل من الول
المشتمل على البيان ،والتكرير للثناء والتعظيم ،والدللة على أن المستقيم طريق المهتدين من
أولي الستقامة في الدين على أبلغ وجه وأوجز عبارة .وقرأ حمزة بضم الهاء فيما يروى ،
والكثرون بالكسر لها والضم للتاء والكسر لها لحن تفسد به الصلة ،وكأنه في نفس الخطاب
والتلويح يدل على التنبيه للمنعم على إيجاب شكر المنعم عليه بالنعم نعم كذلك .و ِنعَم المولى
في الخرة والولى متعددة ل تحصى ول تعد فتستقصى ،ولكن المراد في هذا الموضوع بالذكر
لها في معرض المتنان هي النعمة الدينية على الخصوصية ،وما وراءها تبع لها لمن قيدها
بعقال الشكر لها لن في مقابلتهما بالكفر لها تعرضا لزوالها ،نعم حتى إنها تنقلب في حقه تلك
النعم بالضافة إليه من أشد النقم ،والدليل على هذا القول (( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَي ِهمْ وَلَ الضّالّينَ
)) ،فإنه من التأكيد بالمدح لوصف أولي الهدى ،في معرض القدح بالذم لذوي الردى ،
بأسباب العراض وذي المراض بالزيغ الشديد ،عن الطريق السديد ،المقتضى لوجود
الخراج لهما عن مطلق النعمة ،والدراج تحت النقمة ،فكأنه نوع استثناء لمزيد الكشف عن
احتمال لبس عوارض الشكال .
( ) 18
ولعله لذلك قرأت الراء بالنصب فيها – يروى عن ابن كثير – وللحال من الضمير في أنعمت
بتقدير أعنى ،وكأنه من أوضح الدلة في الخطاب على أن من كان كذلك حاله فليس على
نعمة ،ولو أعطي الدنيا كلها ،وعوفي بدنه حتى انبسط في لذتها ،يتبوأ فيها على فراغ قلب
كيف يشاء ،لنه في هيكل ذاته أعمى مكبل بشهواته ،أصم محصور في سجن هواه معكوس ،
مكب على وجهه منكوس ،يسحب مجرورا لمراس هفواته ،مردودا إلى أسفل سافلين ،فكأنه
في العذاب المهين ،ولعذاب الخرة أشد وأبقى .ولما كان الغضب غالبه ،يكون على أهل
العناد احتمل أن يكونوا هم المهاجرين بالشر وأنواع الفساد ،والضالين ساكن اللف من غيرهم
،وقرئ بالهمزة – فيما يروى – هربا من التقاء الساكنين ،هم الملحدون جهالة عن الشروع
في هذا المقصد المشروع غباؤه ،لن الضلل ميل في غوى ،لكونها مصدر ضل عن الشيء
إذا أخطأه لعمى .
وتخصيص اليهود والنصارى بالغضب ،دون غيرهم من الراكبين كبائر ما تنهون عنه من
المشركين والمنافقين ينتقض بآية اللعان ،والتعمد على القتل ظلما وكأنهما في الظاهر لوجود
الواو العاطفة المقتضية المشركة مع اختلف الصفة فريقان ،ولكن الغضب كأنه لهما شامل
17
بالنسبة والمعنى ،والضللة كذلك لكون الغضب على من عصى ال ،ول يعصي إل من ضل ل
محالة ،لنه عاص جزما ،بدليل أن غضب ال عبارة عن عقابه بأليم عذابه ،جزاء لمن
عصاه واتبع هواه ،فكأنهما بمعنى ،لنهما مترادفان على مسمى ،إذ ليس أهل التكليف أجمع
إل فريقين وإن اختلفت الحوال منهم في المعاصي والطاعات ،فريقا هدى ،وفريقا حقت عليه
الضللة .
( ) 19
والتقسيم في التسمية لهؤلء نوع من التعريف في الظاهر على قسمين ،يحتمل أن يكون
للشعار بأن بعض الضللت أفحش ،وأشد وأوحش من بعض ،وكلها في المآل تؤدي إلى أشر
حال ،لكن كما أن للجنة درجات ،فكذلك للنار دركات ،وما منهم إل له على مقدار الكفر
واليمان مقام معلوم منها ،ول يظلم ربك أحدا .والعياذ بال من غضب الجبار ،ومن المصير
إلى دار البوار ،جهنم يصلونها وبئس القرار ،فانظر بعين البصيرة كيف على الصحيح استدلل
أساس جميع العبادات كلها من العمل والعلم والدين ،لم تكن الموجودات إل لجلها فدار جملة
واحدة تحت الجمل في هذه السورة ،فكانت هي المدار لجميع الكتب السماوية والمصنفات
الثرية ،حتى أنها لم تكن إل كتفسير لها والتفصيل لجملتها ،والظن أن لهذا العتبار .قال
علي بن أبي طالب فيما عنه يحكى :لو شئت لوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب ،
ول غرو فإن الحديث يروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ( :أنا مدينة العلم وعليّ
بابها ) .وال أعلم .وبه التوفيق .
جندي الجبل
عضو نشيط
http://www.omania.net/avb/showthread.php?p=2705041#post2705041
المصادر :
-قراءات في فكر أبي نبهان .
-لباب الثار .
18