Professional Documents
Culture Documents
معالم الايمان في تفسير القران - للمرجع الديني للمسلمين الشيخ صالح الطائي
معالم الايمان في تفسير القران - للمرجع الديني للمسلمين الشيخ صالح الطائي
المقدمة
الحمد ل رب العالمين الذي تفضل وجعل مقاليد المور كلها بيده ,ليمنع من العتو
والظلم والغرور ،ولتبقى الحياة الدنيا مزرعة للخرة ،تتصف بالبهجة والغبطة،
وتزهو بالمل والسعي في دروب الصالحات ,ويتخذها النسان بلغة لنيل المنزلة
الرفيعة يوم القيامة.
ومن اليات أن العمل للكسب في الدنيا ليس بالمر السهل بل يحتاج إلى التعب
والعناء ،فمن أجل أن يكسب النسان لقمة العيش ويأتي بالرزق له ولعياله عليه
خْيَربالجد والمثابرة ،وزاد الخرة هو الولى والهم ويتجلى بطاعة ال ورسوله] َ
الّزاِد الّتْقَوى[ ).(1
ويواجه من يريد الخرة ويسعى لها بدأب وشوق وشغف البتلء والفتتان
والعداء من الكفار الذين قد يرفعون السيف في وجهه لمنعه من مواصلة الطريق،
ليضروا أنفسهم والخرين بحجبهم عن الستبصار والرؤية الحسية والقلبية لمنافع
الهداية.
فبعث ال عز وجل النبياء بالمعجزات الباهرات لجذب الناس لمنازل اليمان،
والمنع من إفتتانهم بالكفار وأموالهم ،وأسباب الشك والريب التي يلبسون بها على
الناس ،ويجعلونها وسيلة للصد عن سبيل ال والتصديق بالنبوة.
وقد تجلت معجزات النبوة العقلية والحسية ببعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله
وسلم إذ جعله ال عز وجل خاتم النبيين وسيد المرسلين وأنزل عليه القرآن]ِتْبَياًنا
ن[).(2
سِلِمي َ
شَرى ِلْلُم ْ
حَمًة َوُب ْ
يءٍ َوُهًدى َوَر ْ
ش ْل َ ِلُك ّ
() 1سورة البقرة .197
() 2سورة النحل .89
معالم اليمان ج70/
][2
وجاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم على فترة من الرسل ,وبينه وبين
عيسى عليه السلم أكثر من خمسمائة عام إنتشرت فيها مفاهيم الكفر ،وأقام الغالب
من الناس على عبادة الوثان ،وتعظيم الصنام ,وتوارثوا الجحود ومعاني الكفر،
وسادت الخلق المذمومة ,وصار فعل القبيح أمرًا شائعًا ومتعارفًا ،فإنتشر الغزو
والسبي بين القبائل ،وترشح عنه وأد البنات.
وإبتلى ال عز وجل الناس بالفقر والجوع والفاقة لعلهم يتدبرون ،ومن اللطف
اللهي أنه سبحانه لم يجعل الناس في حيرة وغفلة بل جاءت المعجزات والبينات مع
نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وعلى نحو التتابع والكثرة ،فكانت كل آية من
القرآن إعجازًا قائمًا بذاته ،وسرًا من أسرار السماء وليكون القرآن سر ال العظم ,
ومائدة مباركة نازلة من عنده تعالى على صاحب الكمالت النسانية ,يدعو الناس
لسبل السلمة والمن في النشأتين.
وجاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم أيضًا بالمعجزات الحسية لتكون مع
المعجزات والبراهين العقلية مجتمعتات ومتفرقات وسيلة قاطعة لهداية الناس على
مختلف مشاربهم ،ومداركهم العقلية مما جعل رؤساء الكفر والضللة يستشيطون
غضبًا ،ويجهزون الجيوش العظيمة لستئصال النبي محمد صلى ال عليه وآله
وسلم وأصحابه لذا ورد عنه صلى ال عليه وآله وسلم قوله في معركة بدر)الّلهّم إنْ
ل ُتْعَبْد( ).(3 صاَبُة اْلَيْوَم َ
ك َهِذِه اْلِع َ
َتْهِل ْ
فكان أن أنعم ال عز وجل عليه وعلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة بنزول
ل ،وتشريف للمسلمين لم الملئكة مددًا وعونًا لهم ،في آية لم تشهد الرض لها مثي ً
س[ ) (،
4
ت ِللّنا ِ
ج ْ
خِر َ
خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ
تنله أمة قبلهم ،وهو من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم َ
وتفيض منافعه على الجيال المتعاقبة من الناس سواء ذراري الصحابة أو التابعين
وعموم المسلمين والناس جميعًا.
وجاء هذا الجزء من التفسير وهو السبعون والحمد ال بتفسير الية السابعة
والعشرين بعد المائة من سورة آل عمران ,والتي تتضمن الفاضات التي ترشحت
عن المدد الملكوتي للمؤمنين يوم أحد ,والوعد بهلك بعض رؤساء الكفار وأئمة
الضللة ،وإصابة جماعة الكفار الذين يلون المسلمين بالضعف والذل والوهن
وإبانة طائفة منهم ،ليعجزوا عن مواصلة التعدي والهجوم على المسلمين تخفيفًا
ن َكَفُروا[قبل واقعة بدر ،أو متعقبًا لها ن اّلِذي َ طَرًفا ِم ْ طَع َ عنهم ،فلم يأت قوله تعالى]ِلَيْق َ
للنتصار العظيم للمسلمين فيها بمعجزة جلية تتضح معالمها بلحاظ الفارق الكبير
بين عدد جيش الكفار وكثرتهم ,ووبين جيش المسلمين وقلتهم ,وكذا في المؤون
ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ ).(5
صَرُكْم ا ُّ والسلح ,قال تعالى]َوَلَقْد َن َ
ن[الية .127
خاِئِبي َ
ن َكَفُروا َأْو َيْكِبَتُهْم َفَيْنَقِلُبوا َ
ن اّلِذي َ
طَرًفا ِم ْ
طَع َ
قوله تعالى]ِلَيْق َ
() 6سورة البقرة .30
() 7سورة الزمر .36
معالم اليمان ج70/
][2
العراب واللغة:
ليقطع:اللم للتعليل ،يقطع:فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد اللم.
طرفًا :مفعول به منصوب.
من الذين :جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة.
كفروا :فعل وفاعل ،والجملة ل محل لها من العراب لنها صلة الموصول.
أو يكبتهم :أو :حرف عطف ،يكبتهم :فعل مضارع معطوف على يقطع.
الهاء:ضمير متصل في محل نصب مفعول به.
فينقلبوا خائبين :الفاء :حرف عطف ،ينقلبوا :عطف على يكبتهم.
خائبين :حال منصوب بالياء وعلمة نصبه الياء لنه جمع مذكر سالم.
القطع :إبانة بعض أجزاء الشيء وفصل بعضها عن بعض ،يقال :قطعه قطعًا
وقطيعة ومقطوعًا ،ويأتي كناية عن الهلك ،وهدم بعض أركان الشرك ،وفضح
مفاهيم الضللة ،والطرف يأتي بمعان متعددة منها:
ف من المشركين على رسول ا ّ
ل الول :القطعة والطائفة)وفي الحديث :فمال طََر ٌ
ل عليه وسلم ().(8 صلى ا ّ
الثاني :الطرف الناحية ،وأطراف الرض :نواحيها قال تعالى]َأَوَلْم َيَرْوا َأّنا َنْأِتي
طَراِفَها[) ،(9وفسرت بفتوح المصار ،ولها معنى آخر ،وهو ن َأ ْ
صَها ِم ْض َنْنُق ُ
لْر َ اَ
موت العلماء ،ولعل من مصاديقها ما يتعلق بهذا الزمان في إرتفاع مناسيب المياه
وغرق بعض الراضي ،وإن مثله حدث في العصور القديمة ,وسيأتي مزيد بيان .
الثالث :الطرف من الرجال :الشريف وكثير الباء إلى الجد الكبر ،يقال أطراف
الرجال أي أشرافهم .
الرابع :يقال في التعريض بالشخص ل يدري أي طرفيه أطول ،كناية عن الجهل،
وتعددت فيه القوال ،منها:
الول :أنه ل يدري أي والديه أشرف عن الفراء.
الثاني :ل يدري أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه.
الثالث :أي نصفيه أطول الطرف العلى أم الطرف السفل.
الرابع :طرفاه لسانه وفرجه.
الخامس :أسته وفمه ل يدري أيهما أعف() (.
10
المعنى الخامس :كل مختار طرف ،والجمع أطراف ،ومنه أطراف الحديث:
ث َبيَننا
لحادي ِ فاَ طرا ِ خْذنا بَأ ْ
َأ َ
ح) (.
11
طُ ي البا ِ
عناقِ الَمطِ ّت بَأ ْ
وسال ْ
ومنه التلويح والتعريض.
() 24الية .121
() 25الية .122
معالم اليمان ج70/
][2
السادسة :جاءت هذه الية محل البحث بشارة للمسلمين بعدم حصول الفشل عندهم
لن عدوهم عاجز عن إلحاق الضرر بهم ،بسبب النقص الحاصل عنده في الرجال
والمال.
السابعة :جاءت الية أعله لحث المسلمين على التوكل على ال للمن والسلمة من
الجبن وشكرًا ل عز وجل على الوقاية من الخور ونية الفرار.
وتدعو مضامين الية محل البحث المسلمين إلى الشكر له سبحانه على جعل الكفار
في حال وهن وإرباك ،وتحث المسلمين على التوكل على ال ،ويتجلى هذا التشابه
بالجمع بين خاتمتي اليتين بتقدير)فينقلبوا خائبين وعلى ال فليتوكل المؤمنون(
بتقريب أن المر اللهي للمسلمين بتوكلهم على ال على نحو الطلق موضوعًا
وحكمًا وزمانًا ومكانًا.
الثامنة :لقد إجتمع للمسلمين المدد والعوض من عند ال بجعلهم يمتنعون على الجبن
والفشل ،ويرون عدوهم يصاب بالكبت والخسارة.
الثامن :الصلة بين آية َ]َبْدٍر[) ،(26وبين هذه الية ،وفيها مسائل:
الولى :نصر ال للمسلمين في بدر قطع لطرف الكفار ،إذ ُقتل فيها سبعون من
كبرائهم وساداتهم.
الثانية :قد يسأل بعضهم كيف يقطع ال عز وجل طرفًا من الذين كفروا فتأتي آية
بدر مصداقًا عمليًا ،وشاهدًا تأريخيًا على هذا القطع.
الثالثة:يبين الجمع بين اليتين حقيقة وهي ظهور السلم ،وإتساع رقعته ،وإنتشار
مبادئه وهزيمة أعدائه ،إذ ينصر ال عز وجل المسلمين ,ويجعل الكفار عاجزين
عن مواجهتهم.
الرابعة:يفيد الجمع بين أول اليتين التداخل في الموضوع ,ويكون تقدير الجمع هو:
ولقد نصركم ال ببدر ليقطع طرفًا من الذين كفروا.
الخامسة :أخبرت الية أعله بأن المسلمين أذلة وضعفاء يوم بدر وقبل حصول
النصر ،وجاءت هذه الية لتخبر بإنتقال الكفار لمنازل الذل والهوان مع تخلص
المسلمين منها ،مع الفارق في حال الذل إذ أن المراد من ذلة المسلمين الضعف
وإستهزاء الكفار بهم ،أما ذلة الكفار فهي حرمان وخسارة.
ولم يبق المسلمون مع الكفار في حال الذل ،وفيه مثال لحال المؤمنين في الخرة
بأنهم يصيرون إلى الجنة ،أما الكفار فيبقون في ذات الحال من الذل والخيبة
والخسران ،مع الفارق في حال الذل ،فذلة المسلمين ضعف في سبيل ال ودليل على
ما يتحلون به من الصبر والتقوى ،وفيه الجر والثواب ،أما ذلة الكفار فإنها خزي
لهم وإنذار من ذلة الخرة التي هي عقوبة وفرع العقوبة ,قال تعالى في أصحاب
ل[).(27ن الّذ ّ
ن ِم ْ
شِعي َ
خا ِ
عَلْيَها َ
ن َ
ضو َ النار]َوَتَراُهْم ُيْعَر ُ
() 28الية .124
() 29الروض النف .3/57
() 30سورة النفال .12
() 31الية .125
معالم اليمان ج70/
][3
الخامسة :حالما يأتي الكفار للقتال يقطع ال عز وجل طرفًا منهم ،فليس ثمة مسافة
بين السماء والرض بخصوص نزول الملئكة ،لن نزولهم بأمر ال عز وجل]ُك ْ
ن
ن[ ).(32
َفَيُكو ُ
السادسة :تتجلى معاني التضاد بين المسلمين والكفار بلحاظ الجمع بين اليتين،
فالمسلمون يمدهم ال بالملئكة ،أما الكفار فإنه تعالى يقطع طرفًا منهم ويخزيهم
ويحرمهم من النصر.
السابعة :يرجع الكفار خاسرين خائبين ،كما في رجوع الكفار إلى مكة في معركة
بدر وأحد والخندق ،أما المسلمون فإنهم يرجعون بالنصر والغنائم وزيادة اليمان
لرؤية الملئكة تقاتل إلى جانبهم.
ل[) ( ،وبين هذه الية ،وفيها33
جَعَلُه ا ُّ
الحادي عشر :الصلة بين الية السابقة آية]َوَما َ
مسائل:
الولى :يتلقى المسلمون البشارة من ال بالنصر والغلبة ،أما الكفار فيرون الخسارة
بالرجال والمال تحيط بهم.
الثانية :يبعث ال السكينة في قلوب المسلمين ,أما الكفار فإن الحسرة تمل نفوسهم
لما يصيبهم من الحرمان.
الثالثة :يفيد الجمع بين خاتمة الية السابقة وهذه الية أن ال عز وجل ينصر
المؤمنين ،ويخزي الكافرين.
الرابعة :قطع طرف من الكفار بشارة للمسلمين ،وشفاء لصدورهم ،ومناسبة لزيادة
إيمانهم.
الشعبة الثانية :الصلة بين هذه الية واليات التالية ،وفيها وجوه:
ك[) ،(34وفيها مسائل: س َل َ
الول :الصلة بين هذه الية والية التالية]َلْي َ
الولى :إن ال عز وجل يكفي النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم كيد وأذى
عْبَدُه[ ).(35
ف َ
ل ِبَكا ٍ
س ا ُّ
الكفار ,قال تعالى]َأَلْي َ
الثانية :بعث السكينة في نفس النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين لن
ال عز وجل هو الذي ينتقم من الكفار.
الثالثة :ما يصيب الكفار من القطع والحرمان والخسران من عند ال عـز وجل
إنتقامًا وعقوبة لهم.
الرابعة :بقاء باب التوبة مفتوحًا للكفار وغيرهم ،وقد قتل وحشي الحمزة عم النبي،
ثم جاء إلى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم تائبًا مسلمًا إذ قيل له :إن النبي
محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ل يقتل من جاء مسلمًا.
الولى :توكيد التباين والتضاد بين المسلمين وغيرهم في الدنيا والخرة ،أما في
الدنيا فإن المسلمين يحرصون على إجتناب المعاصي التي هي مقدمة وسبب لدخول
النار ،وأما في الخرة فإن الية تتضمن الخبار عن علة خلق النار وأنها أعدت
للكافرين.
الكفار يوم أحد خائبين بعد أن عجزوا عن بلوغ ما قصدوه من قتل النبي محمد
صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين.
وجاء التعليل في )ليقطع( في الية لبيان الفرد المثل والظاهر بلحاظ أوان المعركة
وحاجة المسلمين إلى خزي وهزيمة الكفار وإل فإن الغايات والنتائج من نصر
المسلمين أكثر من أن تحصى كما أنها متجددة ومتكثرة ،وكما كتب ال الثواب
شُر َأْمَثاِلَها[) ،(94فكذا عْسَنِة َفَلُه َحَجاَء ِباْل َن َ العظيم في فعل الصالحات قال تعالى]َم ْ
بالنسبة لخروج المؤمنين للجهاد فإن ال عز وجل رزقهم الثواب عليه في الدنيا
والخرة ،أما الثواب في الخرة فهو الخلود في النعيم ،وأما في الدنيا فهو متعدد
وعلى وجوه ليحصيها إل ال عز وجل ,منها :
الول :هذه الية وما فيها من البشارة لهم بما يلحق الكفار من القتل والفزع والخيبة
والحرمان ليكون تخفيفًا عن المسلمين.
الثاني :نصر المسلمين شاهد دنيوي حاضر لما ينتظرهم في الخرة من الخلود في
الجنة والنعيم الدائم .
الثالث :ما فيه تذكير وتحذير الكفار من النار عسى أن يفروا من أسبابه ومقدماته.
الرابع :ما يجعل المسلمين يستحضرون في الوجود الذهني نعيم الخرة ويشتاقون
إليه ،ويسعون في مسالكه.
وجاءت هذه الية في منطوقها من القسم الثالث ،وفي مفهومها من القسم الرابع ،
ن َكَفُروا[بما قبله وجوه: ن اّلِذي َطَرًفا ِم ْ
طَع َ وفي تعلق قوله تعالى] ِلَيْق َ
() 92سورة آل عمران .123
() 93سورة آل عمران .125
() 94سورة النعام .160
معالم اليمان ج70/
][2
ل[ فحينما أخبر عْنِد ا ِّ
ن ِ
ل ِم ْصُر ِإ ّ
الول :تتعلق هذه الية بخاتمة الية السابقة]َوَما الّن ْ
ال عن قانون إنحصار مجيء النصر من عنده جاء الخبار عن منحه للمسلمين
بإفادة اللزم وإرادة الملزوم لن قطع طرف من الكفار عنوان لهزيمتهم وخزيهم.
الثاني :تتعلق الية بالشطر الول من آية بدر) ،(95وتقدير الجمع بينهما :ولقد
نصركم ال ببدر ليقطع طرفًا من الذين كفروا.
الثالث :نزول الملئكة مدد للمسلمين يوم بدر وأحد والتقدير :ألن يكفيكم أن يمدكم
ربكم بثلثة آلف من الملئكة ليقطع طرفًا من الذين كفروا.
الرابع :الوعد اللهي للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه بنزول
الملئكة مددًا لهم في حال رجوع الكفار لساحة المعركة يوم أحد كما ورد في الية
قبل السابقة ،والتقدير :ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم بخمسة آلف من الملئكة
ليقطع طرفًا من الذين كفروا ،ول يعني هذا التعليق في قطع طرف من الذين كفروا
بل هو أمر حال ،من جهات:
الولى :تعدد أسباب وعلل قطع طرف من الكفار.
الثانية :مجيء هذه الية للتخويف والوعيد.
الثالثة :جاءت اليات بالخبار عن إستئصال الكفار ،ولم يبق لهم نسل أو ذرية ,قال
ن َكّذُبوا ِبآَياِتَنا[ ) ،(96وقد بعث ال عز وجل لهم هودًا طْعَنا َداِبَر اّلِذي َ
تعالى في عاد]َوَق َ
وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا فدعاهم إلى عبادة ال ونبذ الشرك ،وخلع
النداد فّكذبوه وآذوه .
وكان لهم زرع ونخل وكانوا من المعمرين ولهم أجسام عظيمة ،وأصروا على
عبادة الصنام فحبس ال عز وجل عنهم المطر سبع سنين وقيل ثلثين حتى
قحطوا ،فالتجؤا إلى البيت الحرام بمكة ،وكان الناس مطلقًا مسلمهم وكافرهم يلجأون
إليه عند البلء والجهد ،وقال رأس الوفد :يا إلهنا إن كان هود صادقًا فاسقنا فإنا قد
هلكنا فجاءت سحابة سوداء أخذتهم بالعذاب ،وإعتزل هود ومن معه من المؤمنين
في حظيرة في أمن وسلمة.
الرابعة :إثبات شيء لشيء لشيء ،ل يدل على نفيه عن غيره ،وهلك بعض
رؤساء الكفر ل ينحصر بالبشارة بنزول الملئكة ،بل هو أمر من عند ال عز
وجل.
الخامسة :ترتب موضوع هذه الية على البشارة للمسلمين التي ذكرتها الية السابقة
وتقدير الجمع بينهما )وما جعله ال إل بشرى لكم ليقطع طرفًا من الذين كفروا(
بتقريب أن البشارة للمؤمنين تقترن بالحزن والذى للكفار.
الخامس :نزول العذاب بالكفار لجحودهم بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ,
فمجرد الكفر بنبوته مع بلوغ المعجزات لهم علة تامة لقطع وهلك طائفة منهم.
() 95الية .123
() 96سورة العراف .72
معالم اليمان ج70/
][3
ول تعارض بين هذه الوجوه وهي مجتمعة ومتفرقة تدل على عظيم فضل ال عز
وجل على المسلمين ،والية من الشواهد على أن المسلمين أفضل المم ,قال
س[ ) ،(97بأن يأتيهم النصر بأسباب أرضية ت ِللّنا ِ
ج ْ خِر َ
خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ
تعالى]ُكْنُتْم َ
وسماوية ،ويهلك ال طائفة من أعدائهم ،ويبعث في قلوب الذين بقوا منهم الفزع
والرعب ،ليتفقه المسلمون في الدين ،ويجاهدوا في سبيل بمندوحة وسعة وسلمة،
وقلة مؤونة.
إن نزول العذاب والموت بأقطاب الكفر عقوبة عاجلة من عند ال عز وجل على
كفرهم وجحودهم ،من غير تقييد وحصر بمضامين اليات السابقة ،ومحاربة الكفار
للمؤمنين ،والقرآن يفسر بعضه بعضًا ,وقد جاءت اليات بنزول العذاب بالكفار
لكفرهم وإصرارهم على الجحود ،ليأتيهم العذاب لختيارهم الكفر ,ولما يترشح
ن َكَفُروا
عنه من الظلم والجور والتعدي على حرمات المسلمين ,قال تعالى]َفَأّما اّلِذي َ
خَرِة[ ).(98
شِديًدا ِفي الّدْنَيا َوال ِ عَذاًبا َ
عّذُبُهْم َ
َفُأ َ
ومن خصائص نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم نزول الهلك بطائفة من
رؤساء الكفار ممن يلي المسلمين ،لن معجزاته باهرات ،وهي كافية لجذب الناس
لليمان ونشر مفاهيم التوحيد والصلح في الرض ،ولكن هؤلء الرؤساء
يحاربون السلم من وجوه:
الول :صّد الناس عن دخول السلم ،ومنعهم من إتباع التنزيل ،وقد سألت قريش
يهود المدينة عن صفات نبي آخر الزمان بإعتبار أنهم أهل كتاب ليتخذوا من
التحريف إعلنًا في تكذيب النبي ،وأعرضوا عن إسلم نفر من كبار علماء يهود
المدينة الذي هو حجة عملية على تصديقهم للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم.
الثاني :تحريض الناس على مقاطعة الذين أسلموا ،وحث القبائل على السعي لعادة
أبنائها الذين أسلموا ،وعدم بقائهم مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم.
الثالث :منع الهجرة إلى المدينة ،واللحوق بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
والمؤمنين ،ووضع الرجال والمسالح حول المدينة للقاء القبض على من يأتي
لدخول السلم.
الرابع :نشر ثقافة مضادة للسلم ،وإدعاء وجود أذى في التكاليف الشرعية من
أداء الفرائض ،ومن منع الخمور والزنا.
الخامس :تعذيب الذين يعلنون إسلمهم ،وحصول هذا التعذيب علنًا وتحت أبصار
الناس وفي الماكن العامة ليكونوا عبرة لغيرهم ممن ينوي دخول السلم.
السادس :كانت القبائل العربية قبل بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم يغزو
بعضهم بعضًا ،ومع بعثته صلى ال عليه وآله وسلم توقف الغزو ،وهذا التوقف له
أسباب متعددة ومتباينة ،منها:
الول :شيوع الخلق الحميدة مع نزول القرآن وما فيه من البشارات والنذارات.
() 97سورة آل عمران .110
() 98سورة آل عمران .56
معالم اليمان ج70/
][2
الثاني :التدبر في معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم.
الثالث :مبادرة المسلمين لداء الصلة ،والمسارعة في الخيرات ،وفعل الصالحات.
الرابع :إنشغال الكفار بالموضوع الهم من الغزو وهو التحريف والحشد لقتال النبي
محمد صلى ال عليه وآله وسلم وغزو المهاجرين والنصار في المدينة.
وبخصوص الذي كان بين قريش وبين بني بكر قال إبن هشام)فبينما هم في ذلك من
حربهم ،حجز السلم بين الناس ،فتشاغلوا به ،حتى أجمعت قريش المسير إلى
بدر ،فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم().(99
الخامس :ظهور النقص في الرجال عند القبائل بهجرة عدد من أبنائها إلى المدينة،
وعزوف شطر ممن بقي مقيمًا في مكة عن الغزو ظلمًا وتعديًا وعصبية جاهلية.
فكما إجتمع الصحابة من قبائل شتى كانت بينها ثارات وضغائن قبل السلم ،فإن
الكفار سعوا للتآلف فيما بينهم لمواجهة السلم فجاء البطش اللهي بهم من حيث لم
يحتسبوا بهلك صناديدهم ورؤسائهم.
ولم يكن سعي الكفار لوأد السلم عن تقدير وظن ،بل جاء عن حس ووجدان ،فقد
أدركوا التغيير الحاصل في المجتمعات والنفوس ببعثة النبي محمد صلى ال عليه
وآله وسلم من وجوه عديدة منها:
الول :شيوع إعلن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم نبوته.
الثاني :وصول الخبار بمعجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ,فمن فضل
ال على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إقتران أخبار معجزاته مع ظهور أمر
نبوته.
الثالث :توالي معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الحسية والعقلية ،فما
أن يجتهد رؤساء الكفر والضللة بإنكار بعض معجزاته حتى ترد إلى المنتديات
والسواق معجزات أخرى جديدة تتصف بأنها خارقة ،مقرونة بالتحدي ،سالمة عن
المعارضة.
الرابع :دخول أفراد وجماعات السلم سواء من قريش وأهل مكة أو من القبائل
والقرى المحيطة بها.
الخامس :إستعداد المسلمين لتلقي الذى في سبيل ال ،وإمتناعهم عن الرتداد.
السادس :دخول نفر من المستضعفين والعبيد السلم ،وفيه قهر وإهانة لكبراء
المشركين ،وإزدراء شديد لما هم عليه من الضللة.
السابع :تسفيه المسلمين ومن أنصت لهم لعبادة الوثان ،وحال الجهل التي عليها
المشركون وأعداء السلم.
الثامن :صنوف البلء التي إبتلى ال عز وجل بها الكفار الذين حاربوا السلم،
وفي دعاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم عندما آذته وأصحابه قريش )اللهم
اشدد وطأتك على مضر ،اللهم إجعلها سنين كسني يوسف().(100
() 99السيرة النبوية .221 /2
()100السيرة النبوية .10/219
معالم اليمان ج70/
][3
التاسع :إعلن بعض علماء اليهود والنصارى صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله
وسلم وموافقتها لما بين أيديهم من البشارات التي جاءت في التوراة والنجيل،
ص[) (،
101
ص ِ ن اْلَق َسَ حَك َأ ْعَلْي َ
ص َ ن َنُق ّحُ وأخبار وقصص النبياء ،إذ أن قوله تعالى]َن ْ
أعم من أن يختص بالحوال الشخصية للنبياء ،بل يشمل أدعيتهم وبشارتهم ببعثة
النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وبقائها متوارثة ومتداولة بين الناس إلى حين
بعثته ولو على نحو الموجبة الجزئية ،والتوارث من قبل عدد قليل من العلماء،
ل ِمْنُهْم[ ) ،(102وقوله سو ً ث ِفيِهْم َر ُ ويمكن إعتبار ما جاء في دعاء إبراهيم]َرّبَنا َواْبَع ْ
حَمُد[) ( ،من قصص 103
سُمُه َأ ْن َبْعِدي ا ْ ل َيْأِتي ِم ْ
سو ٍشًرا ِبَر ُ
تعالى في عيسى]َوُمَب ّ
النبياء ،ومن أبهى تلك القصص لما فيها من التداخل في مواضيع النبوة بأفرادها
الطولية ،والصلة بين الزمنة السابقة واللحقة.
العاشر :مجيء آيات النذار والذم والتوبيخ للكفار التي تبعث الفزع والخوف في
نفوسهم ،وتقلل من شأن وهيبة رؤسائهم في نفوس عامة الناس ،وتجعل المسلمين
ينفرون للجهاد في سبيل ال ،ومواجهة الكفر والكفار.
الحادي عشر :إيمان النصار ،ووجود ملجأ ومأوى لمن يهاجر من المسلمين لذا
كانوا يفتقدون بعض الشباب من مكة أو قراهم ومحل سكناهم ،ويتبين بعد حين أنهم
إلتحقوا بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في يثرب.
الثاني عشر :مجيء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بمحاربة الفساد والفساد،
ن[ ) ،(104ونزول أحكام القصاص ظَهَر ِمْنَها َوَما َبطَ َ وإجهاره بحرمة الفواحش]َما َ
بغض النظر عن منزلة الجاني وإن كان ذا شأن.
لقد أراد ال عز وجل للناس الهداية ،وتفضل بما يقربهم إلى منازل اليمان وحببه
إلى قلوبهم ،ولكن الكفار أبوا إل الصرار على الكفر والضللة ،وأضرار هذا
الصرار كثيرة منها:
الول :ما يلقاه المسلمون من الذى المترشح عن الصرار على الكفر من العناد
والفتراء وإثارة أسباب الشك.
الثاني :إشاعة الكفار لمفاهيم الستهزاء بالبراهين والدللت الباهرات على صدق
النبوة.
الثالث :إبطاء الناس في دخولهم السلم .
ن[) ( ,بأن
105
سَتْهِزِئي َ
ك اْلُم ْويمكن الجمع بين الية محل البحث وقوله تعالى]ِإّنا َكَفْيَنا َ
يكون قطع طائفة من رؤساء الكفار من كفاية ال عز وجل المستهزئين من جهات:
()125الية .126
()126سورة الروم .47
()127الية .126
()128مفاتيح الغيب .8/216
()129سورة آل عمران .125
معالم اليمان ج70/
][3
المدد الملكوتي ،وليس الوعد به) ،(130ول يمنع من التعدد بأن تكون البشارة
ق[).(131 حّ ل َ عَد ا ِّن َو ْ والطمأنينة مرة بذات المدد وأخرى بالوعد ،قال تعالى]ِإ ّ
ومن وجوه قطع طرف من الكفار وقوع أسرى منهم يوم بدر ,وفيه مسائل :
ن ِفَداُءشاٍمَ :كا َ ن ِه َ ل اْب ُ
الول :دفع قريش لموال كثيرة لفداء أبنائهم ورجالتهمَ)،قا َ
ف ِدْرَهٍم() (.
132
ل إَلى َأْل ِ ف ِدْرَهٍم ِللّرج ِ
ن َيْوَمِئٍذ َأْرَبَعَة آل ِشِرِكي َ
اْلُم ْ
الثاني :إنتفاع المسلمين بمبالغ الفداء لشراء السلح والمؤون ،والتجهز للقتال
والغزو.
الثالث :منع حصول فتنة في المدينة بسبب كثرة المهاجرين فيها ،وقلة الموال.
ن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم على عدد من السرى الذين ليس الرابع :م ّ
عندهم مال.
الخامس :غياب رؤساء من الكفر ،وإصابة قريش بالوهن وحصول الفتنة عندهم كما
يظهر في قصيدة السود بن المطلب الذي قتل ثلثة أولد له يوم بدر بعد أن سمع
ل لها في الليل ،فعاب قريشًا لنها تمنع البكاء على قتلى بدر وتأذن إمرأة تبكي جم ً
بالبكاء على جمل:
سوُدوا.( ) .
133
َوَلْول َيْوَم َبْدٍر َلْم َي ُ جا ٌ
ل ساَد َبْعَدُهْم ِر َ
َأل َقْد َ
وفيه دللة على أن كفار قريش يسّمون معركة بدر بذات السم الذي نزل فيه القرآن
ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[) (134وإمتلء نفوسهم بالحزن والسى , صَرُكْم ا ُّ
بقوله تعالى]َوَلَقْد َن َ
وحصول الفتنة والرتباك بينهم .
السادس :ظهور الذل على كبار رجال قريش ،فعندما طلب من أبي سفيان وكان
جَمُعل َأُي ْ
ل شحيحًا أن يفدي أبنه عمرو الذي أسره المام علي عليه السلم )َقا َ رج ً
سُكوُه َما َبَدا َلُهْم( عوُه ِفي َأْيِديِهْم ُيْم ِ عْمًرا َد ُ
ظَلَة َوَأْفِدي َ
حْن َ
ي َدِمي َوَماِلي َقَتُلوا َ عَل ّ
َ
) (.
135
السابع :تجلي أسباب القوة الشخصية والمنعة عند المسلمين مع ما فيهم من قلة
المؤونة ،ومن أسباب تسمية عبيد بن أوس بمقرن أنه قرن أربعة أسرى في يوم
بدر ،ومنهم عقيل بن أبي طالب.
ومجيء الخبار عن قطع طرف من الكفار بعد معركة أحد شاهد على التغيير
الكبير في الصراع بين اليمان والكفر ،وإتضاح معالم نصر النبي محمد صلى ال
عليه وآله وسلم والمؤمنين ،وميل كفة الغلبة والنصر لهم قبل المعركة وعند
مقدماتها وهّم الطرفان بدخولها.
()191الية . 125
()192سورة آل عمران .103
()193أنظر الجزء .65/151
()194سورة البقرة .30
معالم اليمان ج70/
][2
الثالث :من يأتيه العذاب والقطع الذي تذكره هذه الية الكريمة.
ومن اليات إتصاف فروع المدد اللهي بالبركة ،وهو من شآبيب الرحمة التي تطل
على الناس مع تجدد الليل والنهار ،لتكون تذكيرًا بالوقائع التي صاحبت نبوة محمد
صلى ال عليه وآله وسلم.
وفي هذا التذكير آية في تفضيله صلى ال عليه وآله وسلم على النبياء الخرين،
ودعوة للناس جميعًا لخذ الدروس والعبر من تلك الوقائع ،ومن اليات في خلق
النسان وجود وجوه من الشبه بين الحوادث المتعاقبة المر الذي يخفف عن الناس،
وييسر لهم الهتداء إلى سبل الحق والرشاد ،ويكون كشفًا للباطل ،وفضحًا لقطاب
الضللة الذين ينفقون المال ,ويعدون العدة للتعدي على المسلمين.
وتكون تلوة الية الكريمة وإستحضار أسباب وموضوع النزول ،والمصداق
ل للصلح ،وحربًا العملي عن النزول وفي ميدان معركة بدر وأحد والخندق سبي ً
على الفساد في الرض ،وواقية للمسلمين إلى يوم الدين ,فتأتي الية القرآنية لتكون
ل ومستديمًا.مددًا حا ً
وتكون دعوة للمسلمين لستنباط المواعظ والعبر المتجددة والمستحدثة منها،
بالضافة إلى توارث المواعظ القدسية المقتبسة منها حين نزولها ،وهو مدد إضافي
للمسلمين والمسلمات ,وحرز لهم في ميادين الحياة المختلفة.
وليس من حصر للمدد اللهي للنبياء ,ويأتي غالبًا على نحو القضية الشخصية ،
عَلى ِإْبَراِهيَم[)،(195وقيل لما
لًما َ
سَكما في إبراهيم قال تعالى]ُقْلَنا َياَناُر ُكوِني َبْرًدا َو َ
أرادوا إحراق إبراهيم حبسوه وجمعوا لمدة شهر حطبًا )حتى أن كانت المرأة
لتمرض فتقول :إن عافاني ال لجمعن حطبًا لبراهيم() ،(196ولما أشعلوا النار
ل ورموه فيها)وعن إبن عباس :إنما نجا وضعوه في المنجنيق مقيدًا مغلو ً
ل نمروذ من الصرح على إبراهيم في بقوله:حسبي ال ونعم الوكيل( ) ( ،وأط ّ
197
النار فإذا هو في روضة ومعه جليس من الملئكة ،فقال):إني مقّرب إلى إلهك فذبح
ف عن إبراهيم ،وكان عمر إبراهيم يومئذ ست عشرة سنة، أربعة آلف بقرة ،وك ّ
ويحتمل وجوهًا:
الول :إن ال سلب من النار قوة الحراق والشتعال وشدة الحر.
الثاني :وقاية إبراهيم على نحو الخصوص من النار ،بحيث لو دخل فيها غيره
لحترق ,وذكروا أن الطير في الجو تكاد تحترق من وهجها.
الثالث :توجه أمر ال عز وجل إلى النار بأن ل تحرق إبراهيم ،ومقاليد المور كلها
بيد ال ،والخلئق مستجيبة له.
والصحيح هو الثاني والثالث لقيد المن والسلم لبراهيم على نحو التعيين ,ومن
إعجاز القرآن منع الترديد والخلف في المعجزة والبرهان القاطع إذ جاءت الية
()195سورة النبياء .89
()196الكشاف .3/578
()197الكشاف .4/243
معالم اليمان ج70/
][3
أعله صريحة بأن أمر ال توجه للنار لتكون باردة بما ل يسبب تجميد إبراهيم
وهلكه ،وفي الخبر لو لم يقل ال)وسلمًا( لهلكته ببردها.
وفي واقعة نمروذ وإبراهيم مرآة واقعية ،ومصداق خارجي من عالم الدنيا لحتجاج
ل ِفيَها جَع ُ
الملئكة على جعل خليفة في الرض ,ورد ال عز وجل عليهم]َقاُلوا َأَت ْ
عَلُم َما َ
ل ل ِإّني َأ ْك َقا َ س َل َ
ك َوُنَقّد ُ حْمِد َ
ح ِب َسّب ُ
ن ُن َحُك الّدَماَء َوَن ْسِف ُ
سُد ِفيَها َوَي ْ
ن ُيْف َِم ْ
ن[ ) ،(198إذ لحق نمروذ والمل من قومه الخزي ،عندما غلبهم إبراهيم في َتْعَلُمو َ
الحتجاج ،ولّما نجا من النار بمعجزة حسية ظاهرة للجميع ،جاء القرآن ليكون
وثيقة سماوية لعلم الجيال المتعاقبة بجهاد وإخلص إبراهيم في سبيل ال وهو من
عمومات دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم للنبي محمد صلى ال عليه وآله
جا
ك[) ،(199وكما ن ّ عَلْيِهْم آَياِت َ
ل ِمْنُهْم َيْتُلو َ
سو ً ث ِفيِهْم َر ُ وسلم كما في التنزيل]َرّبَنا َواْبَع ْ
ال عز وجل إبراهيم من النار وأهلك نمروذ وأصحابه قال تعالى]َوَأَراُدوا ِبِه َكْيًدا
ن[ )،(200 ض اّلِتي َباَرْكَنا ِفيَها ِلْلَعاَلِمي َ لْر ِ طا ِإَلى ا َ جْيَناُه َوُلو ً
ن* َوَن ّ
سِري َ خَ لْجَعْلَناُهْم ا ََف َ
جا ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ،وأهلك عدوه مع فكذا ن ّ
مشارق من تفضيل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم منها:
الولى :سلمة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من المحاولت المتكررة لقتله
وإغتياله.
الثانية :هجوم كفار قريش على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه
بجيوش عظيمة ورجوعهم خائبين.
الثالثة :تكرار هجوم الكفار وفي كل مرة يأتون بأعداد من الجنود أضعاف العداد
والعدة السابقة ،فل يحصدون إل الخزي والخيبة والعار.
الرابعة :لقد نجا رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم هو وأصحابه وأهل بيته.
الخامسة :تعدد مصاديق الخزي والخيبة التي لحقت الكفار ،سواء في سوح المعارك
أو في حال السلم.
السادسة :جعل ال عز وجل هذه الية حرزًا يمنع وصول الكفار إلى رسول ال.
السابعة :نال إبراهيم مرتبة المامة ،ومع هذا كان أمة بمفرده في مواجهة بطش
نمروذ وجنوده ،وكان رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم بين ظهراني أصحابه
وأهل بيته ،كل واحد منهم يذب عنه بنفسه وماله.
الثامنة :لقد هاجر إبراهيم عليه السلم من العراق إلى الشام إعراضًا عن الطاغوت
والقوم الظالمين ،أما النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم فقد هاجر إلى المدينة
ليقاتل منها الكفار وينتصر عليهم ،ويتجلى المدد للنبياء بأبهى صيغه وكيفياته ,
()229الية .126
()230سورة النفال .66
معالم اليمان ج70/
][3
معركة الحزاب )وكفى ال المؤمنين القتال بعلي() ( ،وقال الزمخشري]َوَكَفى الُّ
231
بأشعار الجن ،وال ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا ،ووال إن لقوله :الذي يقول
لحلوة وإن عليه لطلوة ،وإنه لمثمر أعله ويغدق أسفله ،وإنه ليعلوا وما يعلى،
وإنه ليحطم ما تحته ،قال :ل يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ،قال :فدعني حتى
أفكر ،ففكر ،فلما فكر قال :هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت ).(247
ومن اليات أن معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى
وبدأت قبل ولدته ،وعند ولدته وكانت مصاحبة لنبوته وأيام حياته ،وعندما غادر
إلى الرفيق العلى بقيت معجزاته تتجدد وتزداد ،ومنها مضامين ومصاديق هذه
الية ،وما يرمي ال عز وجل به الكفار من أسباب الهلك والخزي والندحار ،وهو
ل َرَمى[ ).(248 ن ا َّ
ت َوَلِك ّت ِإْذ َرَمْي َ من عمومات قوله تعالى]َوَما َرَمْي َ
وجاءت هذه الية للخبار عن معجزة إضافية أخرى للنبي محمد صلى ال عليه
وآله وسلم ,وتتصف هذه المعجزة بأمور عديدة منها :
الول :إنها تجلت في أحوال أعداء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ,
فالمعروف عن معجزات النبياء أنها تجري على أيديهم ،ولكن هذه المعجزة للنبي
محمد صلى ال عليه وآله وسلم جاءت بكبت أعدائه إلى جانب المعجزات التي
جرت على يديه.
الثاني :قطع طرف الكفار معجزة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بأن ال عز
وجل يتفضل بالمقدمات التي تساهم في إعلء كلمة التوحيد ،وجذب الناس للسلم،
ن[ ).(249 شِرُكو َ ن ُكّلِه َوَلْو َكِرَه اْلُم ْ
عَلى الّدي ِ
ظِهَرُه َ
قال تعالى]ِلُي ْ
الثالث :جاءت أكثر معجزات النبياء على نحو القضية الشخصية والخاصة بأوانها
مثل ناقة صالح ،أو أنها خاصة بحياة النبي مثل عصا موسى عليه السلم ،وإبراء
ي اْلَمْوَتى
حِص َوُأ ْ
لْبَر َلْكَمَه َوا َئاَ عيسى عليه السلم للزمنى ,وفي التنزيل]َوُأْبِر ُ
ل[ ).(250 ن ا ِّ
ِبِإْذ ِ
أما آية هلك كبار الكفار الذين يعادون النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم
والمسلمين فهي باقية إلى يوم القيامة ,وهو من أسرار أحكام آيات القرآن وأن
مضامينها ل تنحصر بزمانها بل هي متجددة وتوليدية إلى يوم القيامة ،وفيه زجر
للكفار عن التعدي على المسلمين ،ودعوة للناس للتدبر في معجزات النبي محمد
صلى ال عليه وآله وسلم ،لتبقى المصاديق الخارجية
وفي خاتمة الحديث أعله شاهد على المقام الرفيع للغزاة في سبيل ال ،وأنهم في
ميادين القتال قد يلحقون بالنبياء بخصوص إستجابة الدعاء لوحدة الموضوع في
تنقيح المناط ،وهو الجهاد في سبيل ال بالنفس وبذل الوسع لعلء كلمة التوحيد،
وال وحده الذي أحاط بكل شيء علمًا ،المر الذي يستلزم إتصال التوسل ،والتوقي
من الذنوب والسيئات ،والحتراز من أكل الحرام.
)وعن زبور داود يقول ال عز وجل" :يا إبن آدم تسألني وأمنعك لعلمي بما ينفعك،
ثم تلح علي بالمسألة فأعطيك ما سألت).(283
إن اللحاح في الدعاء والمواظبة عليه فزع إلى ال ،وتفويض للمور إليه سبحانه،
وإظهار لحسن التوكل عليه ،وهو من مفاهيم الصبر والتقوى التي يجب أن يتحلى
بها المؤمنون.
وقد يأتي المدد والستجابة للدعاء بأمر غير الذي سأله العبد ،وال عز وجل أعلم
بالمصالح والمفاسد) ،قال ابن جريج مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة ,
وصفة الرحمن خاصة بال عز وجل ،وتدل على الكثرة ،وقيل إنه من الصفات
الطارئة كعطشان وغرقان ،ولكنه مشتق من الرحمة وهو صفة دائمة ل عز وجل،
نعم بناء فعلن يدل على السعة والشمول ،كما يقال غضبان للذي إمتل غضبًا ،إل
أن يراد من الصفة الطارئة في المقام أن لفظ الرحمن خاص بالدنيا ،وهو بعيد لنه
ليس طارئ ،وعن أبي سعيد الخدري )عن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
ن الخرة والدنيا ،والرحيم رحيُم الخرة ( قال أن عيسى بن مريم قال :الرحمن َرحم ُ
).(318
وقد ورد عن المام الصادق عليه السلم أنه قال :الرحمن أسم خاص بصفة عامة،
والرحيم إسم عام بصفة خاصة ( ) ،(319أي أن الرحمن خاص بالدنيا وحاجات
الناس فيها برهم وفاجرهم ،والرحيم على وزن فعيل من صيغ المبالغة أيضًا إل أن
فعلن أبلغ من فعيل ,وهو عام في الدنيا والخرة للمؤمنين.
الثالث :المبالغة الموضوعية ،وهو قسيم ثالث نؤسسه في المقام ،فإن قيل أن البديع
ل،
هو علم تعرف به الصيغ التي تضفي على الكلم حسنًا ،وتزيده إشراقًا وجما ً
ومنه تحسين الكلم باللفاظ ذات الحسن الذاتي والعرضي ,أي في اللفظ والمعنى
والدللة ،والمدار على اللفظ فيه وليس على الموضوع ،والجواب أن المبالغة في
هذا القسم تأتي باللفظ أيضًا.
ولم يرد لفظ)ليقطع طرفًا( في القرآن إل في هذه الية الكريمة ،وفيه سر إعجازي
ونكتة كلمية ,إذ إجتمع في الكلمتين أمور:
الول :لفظ)القطع( وما فيه من الستئصال ،فلم تجعل الية مندوحة من الزمان قد
يرجع فيها الكفار ،مما يدل على أنهم لو بقوا لتمادوا في التعدي والظلم والتحريض
على المسلمين ،فجاءت الية بصيغة المبالغة )القطع والهلك(.
الثاني :تعلق القطع بطرف وطائفة ذات شأن وموضوعية عند الكفار ،وهجومهم
على المسلمين.
وجاء وفد آخر من خزاعة مع بديل بن ورقاء المدينة وأخبروا النبي محمدًا صلى
ال عليه وآله وسلم والصحابة بمظاهرة ومؤازرة قريش لبني بكر عليهم وكيف أنهم
أممدوهم بالسلح ,وقاتلوا خفية معهم ،ونقضوا الميثاق.
الثالث :الشارة إلى ما تقدم من اليات وإيجاد الصلة بينها وبين هذه الية وفق
قانون العلة والمعلول ،ومن اليات حصول الختلف في العلة لهذا القطع.
ويمكن ان نطلق على اليات التي تتضمن التعليل )مدرسة التعليل( مع تقسيمها إلى
أقسام بلحاظ الموضوع والحكم ,لما فيها من البيان وتوكيد قانون العلة والمعلول
وغاياته والغراض السامية منه ،إذ أنه وسيلة لتثبيت سنن التوحيد وأحكام الحلل
والحرام في الرض ،وسبب سماوي لزاحة الفساد من الرض ،ونبذ المفسدين
والنفرة منهم.
عَلُم َما َ
ل ومصاديق مدرسة التعليل في القرآن من عمومات قوله تعالى ]ِإّني َأ ْ
ن[ ).(340 َتْعَلُمو َ
ومن خصاص التعليل في القرآن أنه تأديب وتعليم للمسلمين ،وموضوع مبارك
متعدد المصاديق لتفقهم في الدين وإرتقائهم في سلم المعارك اللهية.
قانون"القطع رشحة البشارة والطمأنينة’’
جاءت الية السابقة بالخبار عما يترشح من نعمة المداد بالملئكة الذي جعله ال
عز وجل ذخيرة وكنزًا وهبة سماوية خاصة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
()370سورة يس .9
()371الكشاف .3/316
معالم اليمان ج70/
][2
وعند فتح مكة وما فيه من معاني النصر والظفر لم يكف الكفار عن قصد قتل النبي
محمد صلى ال عليه وآله وسلم ،مع دخول النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
ل ،وإستقبال أهل مكة له بإعلن لها بعشرة آلف رجل ومن غير أن يلقى قتا ً
إسلمهم طوعًا وقهرًا .
ومع أن النصارتوقعوا بعد فتح مكة أن يقيم فيها لنها بلده وفيها البيت الحرام،
وعندما علم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بمقالتهم قال:معاذ ال المحيا
محياكم ،والممات مماتكم ،ولم يقم النبي في مكة سوى )خمس عشرة ليلة يقصر
الصلة() ،(372وأثناء هذه المدة تعرض للغتيال مما يدل أن فتح مكة محفوف
بالمخاطر ،وأن تهديد الكفار متصل ومستمر ,وذكر )ان فضالة بن عمير بن الملوح
أراد قتل النبي صلى ال عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم أفضالة ,قال نعم فضالة يا رسول ال ,قال :ماذا
كنت تحدث به نفسك ,قال :ل شئ كنت أذكر ال ,فضحك النبي صلى ال عليه
وسلم ,ثم قال استغفر ال ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ,فكان فضالة يقول
وال ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق ال شيئا أحب إلي منه).(373
أراد أحدهم ممن إلتحق بالمسلمين بعد الفتح قتل النبي صلى ال عليه وآله وسلم قال
إبن إسحاق )وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قلت :اليوم
أدرك ثأري ،وكان أبوه قد قتل يوم أحد ،اليوم أقتل محمدًا.
قال :فأدرت برسول ال صلى ال عليه وسلم لقتله ,فأقبل شئ حتى تغشى فؤادى
فلم أطق ذاك وعلمت أنه ممنوع مني( ).(374
ومنع ال يد الكفار من الوصول إلى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من
قطعهم و كبتهم ،وفيه خيبة لمالهم الزائفة ،وحجب لمقاصدهم الخبيثة ،وهو سبيل
لدخول الناس للسلم ,لن هذا المنع من الشواهد على صدق النبي محمد صلى ال
عليه وآله وسلم في رسالته ,وتفضيله على النبياء الخرين ،لن ال عز وجل كتب
له الســلمة حتى نزلــت آيات وسور القرآن وأتم ال عز وجل أحكام الشريعة،
وسنن الحلل والحرام.
وهل سلمة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من مصاديق إمتناع القرآن عن
التحريف ,الجواب نعم ،لن كل يوم يمر من حياة النبي محمد صلى ال عليه وآله
وسلم تثبيت ليات القرآن ،ومناسبة لستماع الصحابة لها من رسول ال صلى ال
عليه وآله وسلم وتلوتها وحفظها وتدوينها وكتابتها ،وإعطائها شأنًا ومنزلة في
الواقع اليومي إلى جانب التسليم بوجوب قراءتها في الصلة ,وتنمية ملكة الشوق
إليها وحبها ،والسعي لنيل الثواب بتعاهدها.
ملقاة العداء.
السادس :حينما جاء أوان معركة تبوك أظهر جد بن قيس خوفه وتردده ،مع عصمة
أفراد حيه من الخوف ,وهو شاهد على المنافع العظيمة لقوله تعالى ) اذ همت
طائفتان (..والتي نزلت في معركة أحد ,ولم يظهر الخوف والجبن على أفراد هذا
الحي من النصار بعد أحد مع كثرة المعارك التي خاضها المسلمون وطول المدة،
إذ جرت معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ،ووقعت معركة تبوك في السنة
التاسعة للهجرة.
السابع :إتصف الخروج إلى معركة تبوك بخصوصية من وجوه:
الول :كان الزمان زمن عسرة وشدة من الحرب ،وجدب في البلد ،ثم طابت
الثمار.
الثاني :كان رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم إذا أراد الخروج للغزو كنى عن
جهته وغايته في الغالب ،أما في غزوة تبوك فإنه صلى ال عليه وآله وسلم أعلن
الجهة والقصد لبعد المسافة ،وشدة العدو ليستعد الناس.
الثالث :فيه أمارة على أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم يعلم أنه ل يكون
قتال ،وفيه مسائل :
الولى :تنمية ملكة الجهاد عند المؤمنين بالخروج للعدو شديد البأس.
الثانية :فضح المنافقين ,والذين يسعون في تثبيط المؤمنين .
الثالثة :تهيئ المؤمنين للخروج وغزو المصار البعيدة .
الرابعة :ذم القعود ,والنهي العملي عنه .
الخامسة :ترغيب المسلمين بالثروات والخيرات .
السادسة :نشر مبادئ السلم في أرجاء الرض .
السابعة :مجئ السنة النبوية العملية بما يمنع من القول بحصر الدعوة والجهاد
بخصوص الجزيرة وما حولها.
السابع :مع مرور ست سنوات بين أحد وتبوك وقوة وكثرة جيش الروم فلم يظهر
الخور والتردد إل على سيد بني مسلمة ،وهذا الستثناء والفرد النادر دليل على
موضوعية وأثر الية القرآنية في إصلح النفوس ،وثبات عزائم المسلمين في
الجهاد في سبيل ال.
الثامن :قبول بني سلمة لعزل الجد بن قيس ،وتنصيب فتى عليهم لنه بأمر رسول
ال صلى ال عليه وآله وسلم.
ل من عند ال.بعد فض ً
لقد جاءت قريش بعدد من نساء رؤسائهم وأشرافهم إلى معركة أحد ولهذا المجيء
غايات ,ودللت كثيرة تتعلق بشؤون القتال ،وشد العزائم ،والستبسال في القتال،
()400مجمع البيان .5/36
()401لسان العرب .4/460
()402سورة الفتح .27
()403الكشاف .3/549
معالم اليمان ج70/
][3
والدفاع عن المحارم ،وطلب النصر ،وإظهار الستخفاف بالمسلمين ،وتمتع
الزواج بزوجاتهم وصحبتهن في الطريق ،وقيام النسوة بوظيفة التحريض على
المسلمين ,ولهن أشعار مذكورة عند بدأ القتال ،ولكن تلك النسوة فوجئن بأمر لم
يكن بالحسبان ،إذ أخذ رجالت قريش يفرون من الميدان حالما بدأت المعركة،
فقامت هند بنت عتبة وسط العسكر وهي زوجة أبي سفيان رئيس جيش المشركين،
ل ومكحلة وقالت :إنما أنت إمرأة فأكتحل فكلما إنهزم رجل منهم ) دفعت إليه مي ً
بهذا( ) ,(404وفيه دللة على أن الخزي الذي جاء للكفار مركب ومتعدد من وجوه:
الول :كثرة القتلى يوم بدر.
ل كثيرة لفداء السرى يوم بدر. الثاني :دفع قريش أموا ً
الثالث :هزيمة الكفار في بداية المعركة يوم أحد.
الرابع :شهادة النساء على فرارهم ،فقد ل يلوم المقاتل الذي يشاركه الفرار ،ول
يتعرض له بالتعيير بل يبحث له من عذر ،أما النسوة فكانت كالشهود على الواقعة ,
وأظهرن الحسرة التي تمل نفوسهن عند فرار الرجال لوجوه:
الول :هؤلء النسوة من الكوافر.
الثاني:تعرض النساء للسر والسبي عند فرار الرجال.
الثالث :الغيظ والرغبة بالنتقام التي كانت تمل صدور هؤلء النسوة.
الرابع :قيام نساء قريش بإعانة المقاتلين ،وإلقاء الشعر لثارة حماس الكفار ،والنيل
من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين ،إذ قال عمر بن الخطاب
لحسان بن ثابت :لوسمعت ما تقول هند ،ورأيت أشرها قائمة على صخرة ترتجز
شَدُه
بنا ،وتذكر ما صنعت بحمزة قال حسان :إسمعني بعض قولها أكفكموهاَ ):فَأْن َ
ت:ن َثاِب ٍسان ْب ُ حّل َ
ت َفَقا َ
ض َما َقاَل ْ طاب َبْع َ خّن اْل َ
عَمُر ْب ُ
ُ
ت َمَع اْلُكْفِر( ) (.
405
شَر ُْلْؤًما إَذا َأ َ عاَدُتَها
ن َع َوَكا َ
ت َلَكا ُشَر َْأ ِ
وهند هذه قتل أبوها عتبة بن ربيعة ،وأخوها الوليد بن عتبة ،وعمها شيبة إبن ربيعة
في أول مبارزة جرت يوم بدر ،إذ تقدم لهم رهط من النصار فقالوا :ما لنا بكم من
حاجة ،ونادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ،وفي قولهم هذا مسائل:
المسألة الولى :إنهم لم يطلبوا مبارزة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ,وفيه
وجوه:
الول :إنه من الحجب وأسباب المنعة التي جعلها ال واقية للنبي محمد صلى ال
عليه وآله وسلم.
الثاني :فيه دليل على ما لرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم من الهيبة والشأن
العظيم عند قريش.
الثالث :خشية كفار قريش أن يصرعوا عندما يتقدم لهم النبي محمد صلى ال عليه
وآله وسلم.
()404مجمع البيان .2/338
()405السيرة النبوية . 3/90
معالم اليمان ج70/
][2
الرابع :دللة ظواهر المعركة على أن كل واحد من الصحابة من المهاجرين
والنصار مشروع فداء للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ،خصوصًا وأنهم
خرجوا للقتال دونه وبين يديه.
الخاٍمس :إدراك الكفار عجزهم وتخلفهم عن ملقاة رسول ال في القتال وغيره،
وإنعدام الكفئ له بين الناس.
السادس :فيه شهادة من الكفار أن المهاجرين والنصار مأتمرون بأمر رسول ال
صلى ال عليه وآله وسلم.
السابع :إقرار الكفار بوجود رجال أقوياء وشجعان بين المهاجرين ،وفيه حجة
عليهم ،ومع هذا القرار فقد جاء القرآن بوصف المسلمين بأنهم في حال ذل يوم
ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ ) ،(406وفيه وجوه:
صَرُكْم ا ُّبدر ,قال تعالى]َوَلَقْد َن َ
الول :المراد الذلة العامة من قلة العدد والسلح والعدة.
الثاني :غلبة أهل البيت في المبارزة وقتلهم لعتبة وشيبة والوليد من النصر اللهي
الذي ذكرته الية السابقة.
الثالث :فيه دعوة للمسلمين والمسلمات للشكر ل عز وجل على نعمة النصر التي
هي هبة وفضل من عند ال.
الرابع :لم يقف المسلمون عند تلك المبارزة ،كانت مقدمة وسببًا للزحف ،والهجوم
على الكفار الذين ظهر الرباك والفزع في صفوفهم بقتل ثلثة من فرسانهم
ورؤسائهم في لحظة واحدة.
المسألة الثانية :أراد عتبة وأخوه وإبنه إيصال رسالة إلى أهل مكة بقتلهم لرجال من
المهاجرين يعرفونهم ،في محاولة لصدهم عن السلم ،ومنع الشباب من التسلل
والخروج من مكة لللتحاق بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ،فلو قتلوا رج ً
ل
من النصار لم يكن المر جليًا وظاهرًا عند أهل مكة.
المسألة الثالثة :حال الزهو والخيلء التي عليها قريش إذ أنهم حصروا الكفئ
برجالت من قريش.
الرابعة :بعث الخوف والفزع في نفوس المهاجرين ،عسى أن يندموا على اللتحاق
بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إذ يهدف الكفار إلى تفريق أصحاب النبي
محمد صلى ال عليه وآله وسلم عنه ،وظنوا إذا أظهر المهاجرون الندم إنعكس هذا
على النصار وعوائلهم ،وإمتنع شباب القبائل عن اللتحاق بدار الهجرة.
الخامسة :ظن الكفار أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم يقدم جماعة من
المهاجرين من عموم قريش ،بعد النصار ،وظنوا بأن النبي محمدًا صلى ال عليه
وآله وسلم يظن ببني هاشم عن المبارزة والقتل ،لذا جاء خطابهم إلى النبي نفسه
) يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا( ).(407
بإعتبار ان الخلل يصيب الطراف ،وقد مدح ال المسلمين بوصفهم أمة وسطًا ,قال
ل ،ولعل فيه إشارة إلى طا[) ،(433أي صلحاء عدو ً سً جَعْلَناُكْم ُأّمًة َو َ
ك َ تعالى ]َوَكَذِل َ
سلمتهم من الضرر والكيد.
عَلْيِهْم[) ( ،والضمير
434
صْرُكْم َ خِزِهْم َوَيْن ُ
ل ِبَأْيِديُكْم َوُي ْ
وقال تعالى]َقاِتُلوُهْم ُيَعّذْبُهْم ا ُّ
في قاتلوهم يعود لئمة الكفر بلحاظ اليات السابقة ]َفَقاِتُلوا َأِئّمَة اْلُكْفِر[) ( ،وهم
435
()432الكشاف .1/142
()433سورة البقرة .143
()434سورة التوبة .14
()435سورة التوبة .12
()436مجمع البيان . 11 /5
()437سورة المنافقون .8
معالم اليمان ج70/
][2
فقال ملك الجبال :إن ال أمرني أن ل أفعل شيئًا إل بأمرك إن شئت دمدمت عليهم
الجبال ,وان شئت رميتهم بالحصباء ,وإن شئت خسفت بهم الرض.
قال يا ملك الجبال فاني أأنى بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولوا ل إله
إل ال عز وجل.
فقال ملك الجبال :أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم( ) (.
438
ويدل الحديث على أن المدد الملكوتي للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم مستمر
ومتصل ومتعدد الكيفية والفعل ،وأن وسائل وصيغ قطع دابر الكفار ليس لها حد.
بحث بلغي
إتفق المليون على وجود الملئكة وأنهم خلق عظيم شّرفهم ال عز وجل بالسكن في
السماء ،وأختلف في ماهية الملئكة ،وقال كثير من الفلسفة بأنها ذوات مجردة
ليست من الماديات ،وقال المسلمون أنها جواهر مجردة ،وقال المتكلمون منهم أنها
أجسام لطيفة .
ول يحصي عدد الملئكة إل ال عز وجل وقد جعل ال الملئكة وسائط الوحي بين
ال عز وجل والنبياء ،وكأنهم المرآة للروح التي نفخها ال عز وجل في آدم عليه
السلم ,وكل ملك أمة في الجتهاد في طاعة ال والنقطاع إلى التسبيح ،لذا فإن
نزولهم بالوحي يصاحبه القطع بصدقهم وأمانتهم.
وخلق الملئكة أمر متجدد ومتصل.
ومن ا لملئكة حملة العرش وهم الثابتة في الرضين السفلى أقدامهم لن العرش
أحاط بكل شيء من الخلئق) ،وأخرج عبد بن حميد عن ميسرة رضي ال عنه
قال :حملة العرش أرجلهم في الرض السفلى ،ورؤوسهم قد خرقت العرش ،وهم
خشوع ل يرفعون طرفهم ،وهم أشد خوفًا من أهل السماء السابعة ،وأهل السماء
السابعة أشد خوفًا من أهل السماء التي تليها ،وأهل السماء التي تليها أشد خوفًا من
التي تليها( ).(439
ول يعني هذا انهم مراتب في الطاعة والمتثــال بل ان القــرب من العرش يترشح
منه فزع أشد.
وعن المام الصادق عليه السلم" :ان ل ملئكة أنصافهم من ثلج وأنصافهم من نار
وأن ل ملئكة بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينيه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير".
ومما عليه النص والجماع أن جبرئيل نزل على النبياء بالوحي ,وهذا النزول من
الكلي المشكك بلحاظ عدد المرات التي نزل فيها على كل نبي وهي على وجوه:
الول :نزل على إبراهيم خمسين مرة.
الثاني :نزل على موسى أربعمائة مرة.
الثالث :نزل على عيسى عشر مرات.
وفي اليوم التالي بمعركة أحد خرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه
في أثر العدو ،ووصل إلى حمراء السد ،وتبعد عن المدينة ثمانية أميال وأقام فيها
ثلثة أيام ،ثم رجع إلى المدينة ،وقبل رجوعه أخذ أبا عزة الجمحي هذا ومعه
معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبدالملك بن مروان لمه ،فقال أبو
عزة :يارسول ال ،أقلني فقال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم :وال ل تمسح
عارضيك بمكة بعدها ،وتقول:خدعت محمدًا مرتين.
()483الكشاف .1/15
معالم اليمان ج70/
][3
لتفريط المسلمين في الستعداد للقتال والدفاع عن بيضة السلم ،لذا جاءت الية
وسط الميدان وفي معركة أحد.
قانون"مصاديق القطع’’
لقد تفضل ال عز وجل بمعجزة خالدة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بنزول
الملئكة لنصرته ،لتبقى آية في الخلئق تشهد على صدق نبوته وعظيم منزلته عند
ال ،وإختصاصه من بين النبياء بمدد من السماء لن رسالته أعم زمانًا ومكانًا.
وعندما جمع قوم نمروذ الحطب لبراهيم لمدة شهر وأوقدوا النار أمر ال عز
عَلى ِإْبَراِهيَم[) ،(484ليغادر إبراهيم القوم ويهاجر لًما َ سَ وجل النار بأن تكون]َبْرًدا َو َ
إلى الشام ،وعندما زحفت قريش بجيوشها لقتل النبي محمد صلى ال عليه وآله
وسلم وأصحابه أنزل ال عز وجل ملئكة لنصرته ،وكانت آية في العالمين ،وهي
من أبهى وأعظم مصاديق قطع دابر الكفار بما يفوق قانون السبب والمسبب وفق
نواميس الدنيا ،وقدرات البشر المحدودة.
وليس من حصر لوظائف الملئكة الذين نزلوا مددًا في معارك السلم الولى
وأهمها القتال ,ومنها تخويف الملئكة للكفار ,وهو نوع قطع لطرف منهم من
وجوه:
الول :بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثاني :تمكين المؤمنين من الكفار .
الثالث :بث الضعف والوهن في صفوف الكفار.
الرابع :دعوة الكفار للتدبر في معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
وإدراك حقيقة ضللتهم.
الخامس :إزاحة الغشاوة التي على أبصار الكفار ،من حضر منهم ميدان المعركة،
ومن تخلف عنها.
السادس :إبتلء كبراء كفار قريش بالعجز عن جمع النصار والعوان كما في يوم
فتح مكة ,فقد زحفوا في معركة الحزاب بعشرة آلف رجل من الحابيش)(485
وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان ,وخرجت غطفان بألف ونزل قوله
ت اْلُقُلو ُ
ب صاُر َوَبَلغَ ْ
لْب َ
تاَ
غ ْ
ل ِمْنُكْم َوِإْذ َزا َ
سَف َ
ن َأ ْ
ن َفْوِقُكْم َوِم ْ
جاُءوُكْم ِم ْتعالى]ِإْذ َ
جَر[ ) ( ،وخرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بثلثة آلف من 486
حَنا ِ
اْل َ
المسلمين ،وبينه وبين جيش المشركين خندق حفره المسلمون ,وظهر النفاق يومئذ
)قال معتب بن قشير :كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ول نقدر أن نذهب إلى
()484سورة النبياء .69
()485الحابيش( حبشي :جبل بأسفل مكة يقال منه سمي
أحابيش قريش(لسان العرب 6/278لن قوما ً إجتمعوا عنده
فحالفوا قريشًا ،والحابيش :أحياء من القارة ،والقارة :قبيلة،
و سموا قارة لجتماعهم وإتحادهم لما أرادوا تفريقهم في
بني كنانة ،ويتصفون بالحدق في الرمي ،وقال إبن منظور
)والقارة :قوم رماة من العرب( لسان العرب .5/123
()486سورة الحزاب .10
معالم اليمان ج70/
][3
الغائط()) ،(487وقال إبن هشام :وأخبرني من أثق به من أهل ال :أن معتب بن قشير
لم يكن من المنافقين ،وإحتج بأنه كان من أهل بدر( ) ،(488مما يدل على الفزع
ن[
ظُنو َل ال ّ
ن ِبا ِّ
والخوف الذي أصاب المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى]َوَتظُّنو َ
).(489
وقد أنعم ال عز وجل على المسلمين وأهل المدينة بصرف المشركين بعد أن
أقاموا في حصار المدينة قريبًا من شهر ،مع الرمي بالنبل ،ليدخل النبي محمد صلى
ال عليه وآله وسلم وأصحابه بعدها بثلث سنوات مكة فاتحين من غير قتال
ومقاومة تذكر ,مع عجز ظاهر من الكفار في جمع العوان .
ترى أين ذهب أحد عشر ألف مقاتل يوم الحزاب ،وكيف دخلوا السلم إنها آية
في العالمين ومعجزة ظاهرة للجيال ،وشاهد يتضمن النذار من قتال النبي محمد
صلى ال عليه وآله وسلم ,وبشارة دخول الناس السلم أفواجًا ،وإنضواء أعداء
السلم تحت لوائه ,وإتيانهم الفرائض العبادية ,لتكون البشارة الواردة في الية
السابقة وقطع طرف الكفار المذكور في هذه الية أعم من أن ينحصرا بواقعة
مخصوصة ،أو خصوص أيام التنزيل ومعارك السلم الولى بل هما متجددان
ومتصلن.
ومن مصاديق قطع طرف الكفار أمور :
الول :ما يرميهم ال عز وجل به من الخلف والفرقة .
الثاني :نقص المؤون وحبس الغيث وإمتناع السماء ،وقلة الريح،وقلة الريع.
الثالث :تعطل المكاسب وكساد التجارات ,وقلة الربح .
الرابع :عدم إتباع أبناء الكفار لبائهم في جحودهم وإصرارهم على الكفر ,ليكونوا
أقل حمية لمفاهيم الجاهلية ،وأبعد عن عبادة الوثان ،وأكثر إلتفاتًا إلى المعجزات
وإصغاء ليات القرآن التي دخلت كل بيت من بيوت العرب طوعًا وإنطباقًا وقهرًا،
وبينما كان أبناء المسلمين على نهجهم في اليمان والدفاع عن السلم ،كان أبناء
الكفارعلى وجوه:
الول :الذين إعتزلوا القتال ،وإجتنبوا نصرة أقطاب الكفر والضللة.
الثاني :الذين إختاروا دخول السلم ،ومنهم من تحمل الذى في سبيل اللتحاق
بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين في المدينة وفاز بلقب المهاجر،
فل تشرق الشمس على قريش إل ويفتقدون بعض أبنائهم ،وهو من السباب التي
جعلتهم يغزون النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم في المدينة ،بدل أن يتعظوا
من هذه الية ،ومن هؤلء الشباب من كان من أبناء سادات قريش.
()487الكشاف .3/253
()488السيرة النبوية .3/197
()489سورة الحزاب .10
معالم اليمان ج70/
][2
ل بن عمرو للصلح مع النبي محمد صلى ال ففي صلح الحديبية بعثت قريش سهي ً
عليه وآله وسلم ,وأثناء كتابة كتاب الصلح جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو هذا
يرسف في الحديد وهو مسلم يريد النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم.
وهذا الصلح بذاته من مصاديق قطع طرف من الكفار لما فيه من الدللة على
تخلف قريش عن الهجوم من جديد على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
وأصحابه في المدينة ،وقد جاء الصلح خارج المدينة ،بعد أن غادرها النبي في ألف
وأربعمائة من أصحابه في رواية جابر بن عبد ال وهو يريد العمرة ول يريد حربًا،
وإستعمل على المدينة نميلة بن عبد ال الليثي).(490
وتدل هذه النابة على قيام نواة دولة السلم ،وأن الحكم في يثرب بيد المسلمين،
وأن اليهود الذين بقوا فيها هم تحت حكم المسلمين ،وساق النبي محمد صلى ال
عليه وآله وسلم معه الهدي لعطاء رسالة لقريش وغيرها أنه خرج زائرًا للبيت
الحرام ,والذي تحجه وتطوف به العرب.
ترى لماذا لم تجهز قريش على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في الطريق
إلى مكة وتنتقم لقتلها في بدر وأحد ،والخندق ،وتحقق غاياتها التي جمعت لهم
الجيوش العظيمة على مدى السنوات السابقة ،تلك آية تستلزم التحقيق والدراسة،
وفيها وجوه:
الول :عجز قريش عن الجهاز والهجوم على النبي محمد صلى ال عليه وآله
ل ليس معهم أسلحة. وسلم وأصحابه وإن كانوا عز ً
الثاني :خشية قريش من القبائل العربية من حولهم أن ينتقموا منهم.
الثالث :خروج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه في شهر ذي القعدة،
وهو من الشهر الحرم ،ويليه شهر ذي الحجة والمحرم ,وهما من الشهر الحرم
أيضًا ،وكانت العرب تحرم القتال في الشهر الحرم.
الرابع:ظهور وهن وضعف قريش في السنة السادسة للهجرة.
ل من السلح ل الخامس :وجود أعراف في أيام الجاهلية أن من خرج معتمرًا أعز ً
غت ،ول يغدر به. يبا َ
السادس :خشية قريش من الغدر على نحو القضية الشخصية ،بينما كانوا يهجمون
على المدينة ويغزونها جهارًا.
السابع :إتساع رقعة السلم ،وظهور معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله
وسلم وتخفيف قريش من غيظها وحقدها على السلم والمسلمين قهرًا وإنطباقًا .
الثامن :إدراك قريش لحقيقة وهي تخلي العرب عنها في تعديها وظلمها للنبي محمد
والمسلمين.
التاسع :قطع طرف من الكفار كما جاءت به هذه الية.
()510الضنء:الصل.
()511المعرق :الكريم.
()512السيرة النبوية .3/46
معالم اليمان ج70/
][2
وإذ جاءت الية السابقة بالبشرى والطمأنينة للمسلمين ،فان هذه الية جاءت بالقطع
والكبت للكفار الذين يعتدون عليهم ،ليتجلى الفضل اللهي العظيم على المسلمين ،إذ
أن ذكر وحضور الشئ بلغة القبح والذم سبب لبيان حسن ضده ،كما قال الشاعر:
والفرع مثل الليل مســود فالوجه مثل الصبح مبيض
والضد يظهر حسنه الضد. سنا
حُ ضدان لما إستجمعا َ
وجاءت الية بنسبة الكبت ل عز وجل ،فهو سبحانه الذي يذل ويخزي الكفار ،ولم
تقل الية أو )يكبتوا( على البناء للمجهول ،فمع أن ال عز وجل أنزل الملئكة
لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين والصحابة يرفعون سيوفهم
على هامات الكفار ،ويطاردونهم في المبارزة والقتال ,والكفار يولون الدبار وهو
من أصدق معاني الذل والهزيمة،فان الية الكريمة نسبت كبت الكفار إلى ال عز
وجل بقوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[ ,وفيه مسائل:
الولى :إن كبت وخزي فريق وشطر من الناس أمر بيد ال عز وجل وحده ،وقد
يتلقى النسان الذى من غيره متحدًا أو متعددًا ويصاب منه بالذل والهانة ولكن
سرعان ما ينكشف الذل ،ويبتلى الذي آذاه بما يكون مواساة للذي تلقى الذى منه ,
س[ ) ،(513أما الكبت والخزي الذي يأتي من ال ن الّنا ِ لّياُم ُنَداِوُلَها َبْي َ
كاَ
قال تعالى]ِتْل َ
عز وجل فهو ملزم لصاحبه ،ومنه هذه الية التي هي وثيقة سماوية ,وشاهد على
هذه الملزمة.
الثانية :قد يأتي الكبت والذل للنسان ظلمًا وتعديًا ،أو نتيجة خطأ في المبنى
والمرتكز ،وربما تظهر فيما بعد براءة الشخص ،أما الكبت من عند ال فل يأتي إل
بعد قيام الحجة والبرهان على إستحقاق الفرد والطائفة من الكفار له ،وبعد توالي
النذارات وأسباب الدفع عن منازل الكبت والخزي والذل.
الثالثة :تدل نسبة كبت الكفار ل عز وجل على أن قتل وتشريد الملئكة والمؤمنين
للكفار إنما هو بأمر وفضل من ال عز وجل لذا جاءت إضافة نصر المسلمين يوم
ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[).(514
صَرُكْم ا ُّ
بدر ل عز وجل ,قال سبحانه ]َوَلَقْد َن َ
الرابعة :جاءت الية بالترديد بين قطع الطرف من الكفار وبين كبتهم وخزيهم وذلهم
وفيه نوع رحمة وإمهال للكفار ،فقد تكون عاقبة الكبت التوبة والنابة ,وكثير من
رؤساء الكفار قاتلوا بضراوة ضد المسلمين ،وإجتهدوا في السعي لقتل النبي محمد
صلى ال عليه وآله وسلم ,وقاموا بتعذيب المسلمين الوائل في مكة ،وطافوا على
القبائل للتحريض على قتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه ثم ما
لبثوا أن دخلوا السلم ،سواء قبل فتح مكة أو بعده.
وفي الترديد والتعدد والعطف بالحرف )أو( وجوه:
الول :إنه آية في الرحمة اللهية التي تتغشى الناس جميعًا ,المؤمن منهم والكافر.
ول تعارض بين هذه الوجوه ،وكلها من مصاديق الية الكريمة ،وتعدد صيغ
بطش ال عز وجل بالذين يصرون على قتال رسوله الكريم ،وهي من الوعد
ك َمْهُزوٌم ِم ْ
ن جنٌد َما ُهَناِل َ
اللهي الكريم للمؤمنين بالنصر ومقدماته قال تعالى ] ُ
ب[ ).(522 حَزا ِ لْ اَ
ومن أسرار الية أمور:
الول :قد يأتي للكفار الكبت وحده من غير قطع ,فيشمل الكبت جميع الكفار.
الثاني :ورود لفظ )أو( في قوله تعالى)أو يكبتهم( وإتحاد المعنى والمقصود من
الضمير)هم( في )طرف منهم( ليشمل الكبت جهات:
الولى :الطرف الذي يقطع.
الثانية :وسط الكفار.
الثالثة :أطراف الكفار الخرى.
خْلَفُهمْ
ن َ شّرْد ِبِهْم َم ْ ب َف َحْر ِ الرابعة :الكفار الذين خلفهم ،قال تعالى]َفِإّما َتْثَقَفّنُهْم ِفي اْل َ
ن[).(523 َلَعّلُهْم َيّذّكُرو َ
الثالث :يصيب القطع والهلك طرفًا من الكفار فيأخذ الكفار الخرين العناد،
ويسعون للنتقام وطلب الثأر ،كما حصل في قريش بعد معركة بدر ،فقد كانت
اليات ظاهرة في نصرة ال عز وجل للمسلمين ،ومدد الملئكة لهم ،ولكن نفرًا
منهم أخذوا يحرضون على قتال النبي وأصحابه ،وأخذت نساؤهم تندب القتلى بشعر
يثير الشجان ،ويؤكد الصرار القبيح على الضللة ويحرك الحمية بعصبية ،ومنه
قصائد عديدة لهند زوجة أبي سفيان تندب أباها عتبة بن ربيعة ،إذ قتل هو وأخوها
وعمها في أول مبارزة يوم بدر ,وفي مطلع لقصيدة لها :
ف َلْم َيْنَقِل ْ
ب خْنِد َ
خْيِر ِ
عَلى َ َ سِر ْ
ب جوَدا ِبَدْمــــــــــــــــــِع َ
ي ُ عْيَن ّ
َأ َ
وتناقل الناس له وحفظه وتوثيقه على الرتقاء الدبي والبلغي عند العرب آنذاك،
وأن هذا الرتقاء ل ينحصر بمنتديات الرجال بل يشمل النساء أيضًا .
وقد شهدت بداية الدعوة دخول النساء في السلم ,لتكون كل واحدة منهن سببًا
لجذب أهلها ،فمنهن من سبقت زوجها أوأخاها في السلم أو هما معًا ،وقد سبقت أم
حبيبة أباها أبا سفيان ،وحينما دخل عليها )ذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى
الفراش فطوته فقال :يا بنية أرغب بهذا الفراش عني فقالت نعم هذا فراش رسول
ال صلى ال عليه وآله وسّلم ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك( ).(528
وفيه آية في إنجذاب القلوب لدعوته ،وصدق العموم في الخطاب التكليفي الذي جاء
به والشامل للرجال والنساء .
وجهاد المؤمنات في أيام السلم الولى مدرسة عقائدية ,ودليل على أن القرآن
تحدى في نزوله أمة تتصف بالقدرة على التمييز ,والفصل بين التنزيل وكلم أهل
الفصاحة والبلغة ،ولعل كثيرًَا من الشعر الذي قيل فيما بعد يرجع في نظمه وبحره
وقافيته إلى الشعر الذي حفظ من الشعار التي تداولها الناس أيام البعثة النبوية وما
بعدها.
وفيه شاهد بأن خروج النساء مع الجيش له موضوعية وإعتبار ،وهو مدرسة في
البلغة لما يلقى من القصائد والشعار والزجر والخطب وإعانة الرجال في القتال،
ولعل النساء كانت تحضر المنتديات الدبية خصوصًا ،وكان بعضها يقام في موسم
الحج الذي تحضره النساء والرجال.
وفي شمول الكبت للنساء من الكفار وجوه:
سِه[) (.
587
ن َنْف ِ
عْ سَوٌة ِفي اْلَمِديَنِة اْمَرَأُة اْلَعِزيِز ُتَراِوُد َفَتاَها َ
ل ِن ْ صويحبات يوسف ]َوَقا َ
الثالث :ذكرت مصر في القرآن بلفظ )المدائن( ثلث مرات) ( ،وكلها خاصة ببلدة
588
ن ِفي اْلَمَداِئ ِ
ن عْو ُل ِفْر َ
سَمصر والمدن المحيطة به والتابعة لها ,قال تعالى ]َفَأْر َ
ن[).(589 شِري َ
حا َِ
الرابع :كثرة القصص والمواضيع التي تخص بلد وأهل مصر في القرآن فقد ذكر
ل أربعًا وسبعين مرة في القرآن ,وجاء شطر من قصص بني إسرائيل فرعون مث ً
في مصر لتكون وراثة المسلمين لرض مصر نصرًا عظيمًا ،وآية في تثبيت
أحكام التوحيد في ربوع الرض إلى يوم القيامة ،لما تشع من أرض مصر من
أسباب الهداية والصلح ،وتعاهد أهلها للفرائض وسنن الشريعة السلمية ،فل
غرابة أن تكون بإنتظارهم كنوز عظيمة في الرض ،تجعل لمصر وأهلها بين
الناس ذات المنزلة المستقرأة من آيات القرآن ,موضوعًا ومددًا.
ول دليل على ما ذكر في علم الصول أن التحديد بالعدد ل مفهوم له ,إل أن يراد
المفهوم الجهتي وعدم دللة العدد الخاص على إنتفاء الحكم عن غيره ,خصوصًا في
معاني اللفظ القرآني ,وأن كل لفظ مبارك فيه له دللت وإشارات إعجازية عديدة ,
وجاءت البشارة عما في مصر من الذخائر والكنوز إشارة إلى الرزق الكريم
للمسلمين.
نعم وقع الخلف في معنى فرد واحد من لفظ )مصر( الوارد في القرآن وهو قوله
صرًا[) ،(590تقدم ذكره).(591 طوا ِم ْ تعالى ]اْهِب ُ
ولفظ المدينة من الموضوعات العرفية والمور الخارجية ،ويراد منه الموضع الذي
تقيم فيه جماعة كثيرة من الناس ،ويصلح لتبليغ الحكام ونشر الدعوة وقيام الحجة،
وكذا القرية ولكنها أقل عمارة بالضافة إلى التباين في مهن السكان ،ومزاولة أكثر
سكان القرية الزراعة ،إذ أنها ضيعة ،سميت بالقرية لن الماء يقرئ فيها أي يجمع،
بينما جاء لفظ المدينة من القامة ،يقال َمَدن بالمكان أي أقام به ،وهي فعيلة ،وتجمع
ت أي ملكت. على مدائن وَمدن ،وُمُدن ،وقيل أنها مفعلة من دن ُ
ل َهَذا
ل ُنّز َ وقد جاء ذكر مكة المكرمة في القرآن بلفظ القرية ,قال تعالى]َوَقاُلوا َلْو َ
ظيٍم[ ) ،(592والمراد من القريتين مكة والطائف، عِن َ ن اْلَقْرَيَتْي ِ
ل ِم ْجٍعَلى َر ُ ن َاْلُقْرآ ُ
كما ذكرت مكة بأنها أم القرى ،وذكرت يثرب بلفظ المدينة ،فمع تكرار ذكرها في
()586سورة العراف /123يوسف /30القصص ./15،18،20
()587سورة يوسف .30
()588سورة العراف /111الشعراء . 36،53
()589سورة الشعراء .53
()590سورة البقرة .61
()591أنظر الجزء الحادي عشر /تفسير الية 60من سورة
البقرة.
()592سورة الزخرف .31
معالم اليمان ج70/
][3
القرآن لم ترد بلفظ القرية ،كما أن تسمية مكة بالقرية إنما جاء في القرآن حكاية عن
الكفار الذين أنكروا نزول القرآن على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وهو
من أوسطهم ،ليكون شاهدًا على أن الكفار كانوا يستخفون بمكة وما لها من المنزلة
العظيمة ،وأن السلم أظهر الوجه المشرق لمكة وعظيم شأنها ومنزلتها بين مدن
وأمصار الرض ،وهو نعمة أخرى على المسلمين والناس جميعًا.
ومن العجاز في القرآن بلحاظ المكنة والبلدان مجيء لغة النذار والعقاب
والهلك بلفظ القرية ،وفيه إشارة إلى نزول الرحمة والعفو مع كثرة الناس في
المدينة والحضر ،ووجود جماعة وأمة في المدينة تذكر ال عز وجل ،ول تنقاد
لمفاهيم الضللة ،وبلحاظ السعة والكثرة وتعدد النساب والمذاهب قد يوجد في
المدينة المؤمن الذي يستحق الرحمة ,وينكر على الكفار سوء فعلهم ويستهجن
إقامتهم على المعاصي ,ويدرك أن ال بديع السماوات والرض فيكون سببًا لدفع
البلء والنتقام العاجل عن الناس.
ومدين مدينة تقع في طريق القدس)وقال الزمخشري :مدين بلدة معروفة() (،
593
ال ورحمته ،إل الية أعله من سورة يوسف فانها جاءت بخصوص خزائن مصر
مما يدل على أنها من خزائن ال ،وال له ملك السماوات والرض ,وقد إختص ال
عز وجل مصر وأهلها بأفراد مباركة منها ،وإدخرها للمؤمنين لتكون مأوى للمترين
والتجار وأهل الحاجة ،كما كانت في أيام وزارة يوسف عليه السلم ،وموضوعًا
سوُلُه
عَمَلُكْم َوَر ُ
ل َ
سَيَرى ا ُّ
عَمُلوا َف َ
لا ْ
للسعة والمندوحة عند المسلمين ,قال تعالى ]َوُق ْ
ن[).(595
َواْلُمْؤِمُنو َ
وهل خزائن مصر من كبت الكفار ,الجواب نعم وإن تحقق بعد حين ،وهو من
أسرار مجئ قوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[ بصيغة الفعل المضارع ،ولرادة المعنى العم
من الية والعموم الزماني ،وما يقع في تعاقب الجديدان من الحوادث والوقائع
وعن عائشة عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم أنه قال :مكث نوح في قومه ألف
سنة إل خمسين عاما يدعوهم إلى ال تعالى حتى إذا كان آخر زمانهم غرس
شجرة ,فعظمت و ذهبت كل مذهب ,فقطعها و جعل يعمل على سفينته و قومه
يمرون عليه فيسألونه فيقول أعمل سفينة فيسخرون منه و يقولون تعمل سفينة على
البر فكيف تجري ,فيقول سوف تعلمون ,فلما فرغ منها و فار التنور و كثر الماء
في السكك خشيت أم صبي عليه ,و كانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى
بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به
()605سورة هود .32
()606سورة هود .39-38
معالم اليمان ج70/
][3
حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء فلو
رحم ال منهم أحدا لرحم أم الصبي).(607
ونوح من الرسل الخمسة أولى العزم ،ونجا بفضل ال عز وجل بنفسه وبمن معه
من أهل بيته ،اما النبي محمد فقد آمن به أفراد وجماعات فصاروا أمة تستطيع أن
تذب عنه ،وعن السلم ,لتتناقص قوى الشر والبغي والضللة.
ومن الشواهد على تفضيله على النبياء بمجئ البشارات بالنصر والغلبة ،ورمي
عْدَناُهْم[ ).(608
ك اّلِذي َو َ الكفار بالعذاب العاجل ,قال تعالى ]َأْو ُنِرَيّن َ
في خطاب للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بان يريه في حياته ما وعد ال
اللكفار والمشركين من العذاب ) ،وقال الحسن وقتادة :إن ال أكرم نبيه صلى ال
عليه وآله وسّلم بأن لم يره تلك النقمة و لم ير في أمته إل ما قرت به عينه و قد كان
بعده نقمة شديدة).(609
ولكن الية أعله جاءت بالوعيد للكفار الذين يحاربون المسلمين ،وقد أرى ال عز
وجل نبيه ما أصابهم من القتل والسر في معركة بدر ،وما لحق عموم المشركين
من الخزي والذل ،ثم جاءت معركة أحد بإختيار وسعي من المشركين أنفسهم.
فجاءت الية محل البحث ليرى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنون
مصداق ما وعد ال الكفار من العذاب العاجل ،والذي جاء بآيات القرآن وأحاديث
النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ،خصوصًا وأن السور المكية التي نزلت في
بداية الدعوة السلمية ,ونزول جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى ال عليه
وآله وسلم جاءت بالوعيد والتخويف والنذار للكفار ،ولعله من بين السباب التي
زادت من سخط قريش على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وبطشهم
بأصحابه لما كانت عليه قريش من الكبرياء والخيلء والزهو ،وكل سورة منها
مدرسة في الوعيد ،ومنه ما جاء بلغة القسم ،ويمين ال بمخلوقاته لتوكيد نزول
العذاب بالكفار.
لقد نصر ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم بالبطش بالكفار قطع
طرف منهم وهلك رؤسائهم ،وإصابة تجاراتهم بالكساد ،وإنشغالهم عنها بالمعارك
والتعدي على المسلمين ،ومنعهم من توظيف أموالهم لشراء السلح والنفاق على
آلف الجنود الذين يزحفون معهم لقتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
والمؤمنين ،وإضطرارهم لفداء لكبرائهم الذين وقعوا بالسر يوم بدر ،إلى جانب
صيرورة السلحة والدروع والرواحل التي جاءت بها قريش للحرب غنيمة بيد
المسلمين ،وهو من عمومات قوله تعالى]َأْو َيْكِبَتُهْم[.
()651سورة ص .11
()652سورة آل عمران .125
معالم اليمان ج70/
][3
السابع :مغادرة الحياة الدنيا ،والنقلب إلى الخرة ،والرجوع إلى ال عز وجل ,
وفي التنزيل حكاية عن السحرة بعد إسلمهم وتخويف فرعون لهم بقطع الطراف
ن[).(653 ضْيَر ِإّنا ِإَلى َرّبَنا ُمْنقَِلُبو َ
ل َ والصلب ]َقاُلوا َ
قانون "الفاء" في "فينقلبوا" ’’
يتكون قوله تعالى]َفَيْنَقِلُبوا[ من :
الول :حرف عطف.
الثاني :فعل مضارع .
الثالث :فاعل ,وهو واو الجماعة.
وجاءت الفاء لبيان التعقيب ،وأن الثاني يأتي بعد الول من غير مهلة ،ولم تقل
الية )وينقلبوا( لتكون الفاء في المقام على وجوه:
الول :تبعث الفاء السكينة في نفوس المؤمنين ،وتطرد الخوف من إحتمال عودة
العدو ،أو وصول مدد له ،ويحتاج المقاتلون متحدين ومتفرقين السكينة عند نهاية
المعركة ،والمؤمنون أولى بها من غيرهم ،لذا جاءتهم هبة سماوية بحرف عطف
نازل من عند ال ،وبما يفيد القطع وجعل السكينة ملكة عند المؤمنين ،قال تعالى]ُهوَ
ن ِلَيْزَداُدوا ِإيَماًنا َمَع ِإيَماِنِهْم[).(654 ب اْلُمْؤِمِني َسِكيَنَة ِفي ُقُلو ِ
ل ال ّ
اّلِذي َأْنَز َ
الثاني :جاءت الفاء بشارة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه بهزيمة
العدو ،وإنتهاء المعركة.
الثالث :في الفاء دعوة للمؤمنين بدفن قتلهم ،ومعالجة الجرحى ،وتنظيم صفوفهم
واللتفات إلى أداء الصلة ،لن المشركين لن يعودوا.
الرابع :إنها تعليم وإرشاد سماوي للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين
ببيان البطش اللهي بالكفار ولجوئهم للفرار من غير إبطاء )وفي الحديث :أدبني
ربي فأحسن تأديبي).(655
س[)،(656
ت ِللّنا ِج ْخِر َ خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ
الخامس :هذه الفاء دليل على أن المسلمين ] َ
لتصافهم بخصوصية وهي إنهزام عدوهم عند اللقاء ،وإنقلبه ورجوعه إلى بلده
خاسرًا محرومًا من الغايات الخبيثة التي خرج من أجلها.
وفي الصحيحين ،عن جابر بن عبد ال ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "
أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من النبياء قبلى ،نصرت بالرعب مسيرة شهر،
وجعلت لي الرض مسجدا وطهورا ،وحلت لى الغنائم ولم تحل لحد قبلى،
وأعطيت الشفاعة ،وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة).(657
وجاءت )الفاء( وقوله تعالى]َفَيْنَقِلُبوا[ بصيغة الطلق ,لتكون مصداقًا لهذه المور
الثلثة وفيه مسائل:
الولى :إنها بشارة وسبب لغبطة المجاهدين وعموم المسلمين.
الثانية :فيها بعث للطمأنينة في نفوس المؤمنين.
الثالثة :طرد الفزع والخوف الذي قد يأتي من كثرة عدد وعدة العدو.
الرابعة :إنها شاهد على أن تحقق نصر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
والمؤمنين بفضل ومدد من عند ال عز وجل.
الخامسة :إذ أن إلتجاء الكفار إلى الهزيمة المقرونة بالذل والكبت دليل على تحقق
النصر للمسلمين الذين ثبتوا في ميدان المعركة إلى حين التأكد من توجه الكفار
ن آَمُنوا ِإَذا َلِقيُتْم ِفَئًة َفاْثُبُتوا[ ).(679
منقلبين إلى مكة قال تعالى ]َياَأّيَها اّلِذي َ
الثلثون:مع تعدد المعارك بين المسلمين والكفار فان ) الفاء( تخبر عن حقيقة ثابتة
وهي إتحاد النتيجة التي تتمثل بهزيمة الكفار وهم في حال كبت وذل وعجز عن
الوصول إلى غاياتهم التي جاءوا من أجلها ،وفيه ردع وزجر لعموم الكفار من
التعدي على المسلمين ,لتبقى الفاء حرزًا وواقية وسلح دفاع ,ومادة لنصر وغلبة
المؤمنين على أعدائهم.
الحادي والثلثون :تبين الفاء إتصال إنقلب الكفار بكبتهم وذلهم من غير فترة أو
فصل معتد به بينهما ،كرمي النبال والمبارزة ،وتدبير المكائد ,وإتقان النسحاب ,
()678أنظر الية 126آل عمران.
()679سورة النفال .45
معالم اليمان ج70/
][3
وتدل على إنتصار المسلمين في معركة أحد ،وإن لحقتهم خسارة جسيمة في
الرواح.
الثاني والثلثون :هذه )الفاء ( من ثمرات دعاء النبي محمد صلى ال عليه وآله
وسلم وأصحابه في ميدان المعركة ،وتلوتهم للقرآن وحسن توكلهم على ال عز
ت َأْقَداَمُكْم[)(680
صْرُكْم َوُيَثّب ْ
ل َين ُ
صُروا ا َّ
ن َتن ُ
وجل قال تعالى ]ِإ ْ
وستبقى الفاء في الية شاهدًا على نصر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم
والمؤمنين ,ومناسبة كريمة لثباتهم في القتال ورسوخ اليمان في قلوبهم ،وتقيدهم
بأداء الفرائض والعبادات ,وهو من مصاديق السلمة المستديمة والمتصلة للقرآن
من التحريف ,إذ يحتاج المسلمون هذه الفاء في كل زمان .
الثالث والثلثون :جاءت الفاء رحمة من عند ال بالمسلمين والناس جميعًا لنها
تجعل هزيمة الكفار أمام جحافل المسلمين من اليقينيات التي لتحتاج إلى توسط
إستنباط أو تقديم تصور.
الرابع والثلثون :تتعدد صيغ وكيفية المواجهة والمنازلة بين المسلمين والكفار ،وقد
يكون المسلمون في حال دفاع عن بيضة السلم كما هو في معارك السلم
الولى.
فهل تنحصر وظائف الفاء بتلك الحال ،الجواب ل ،بل هي مطلقة سواء كان
المسلمون في حال دفاع أو غزو أو هجوم.
الخامس والثلثون :الفاء الواردة في هذه الية مدد للمسلمين في معاركهم اللحقة،
فكل إنهزام مفاجئ للكفار بعث للمسلمين للخروج للجهاد في المعارك اللحقة،
وترغيب بالقتال في سبيل ال ،وندب لطاعة ال ورسوله ،ويتجلى هذا المر في
كثرة عدد المسلمين في كل معركة لحقة بالنسبة للمعركة السابقة ،وحتى المنافقين
الذين إنسحبوا في الطريق إلى معركة أحد فان أكثرهم لجأ إلى الستغفار وأظهر
الندم والحسرة على رجوعه قبل المعركة ,وكأن اللوم إنحصر برأس النفاق أبي بن
أبي سلول.
السادس والثلثون :من المسلمات حصول الخصومة والخلف بين الكفار قبل وأثناء
المعركة ،كما يظهر في واقعة بدر ودعوة عتبة بن ربيعة لجتناب القتال ،وتوبيخ
وذم أبي جهل له.
وجاءت الفاء في هذه الية للخبار عن حقيقة وهي إنعدام الخلف بين الكفار
بخصوص النسحاب والهزيمة ،لدللتها على إنتفاء الفترة بين الكبت والنسحاب،
كما أنها تؤكد عدم وجود التشاور بين الكفار بخصوص النسحاب أو عدمه ،لذا لم
تبين الخبار وجود أصوات بين الكفار تطالب بمواصلة القتال.
فمن إعجاز الفاء في المقام العزم الفرادي والمجموعي عند الكفار على الهزيمة
وإجتناب القتال.
حفظه ال ورعاه سماحة المرجع الديني آية ال العظمى الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
وأستاذ الفقه وألصول والتفسير والخلق
تحيه طيبه
اطلعنا باعتزاز بالغ على نتاجكم اليماني والعلمي وهو الجزء السابع والستون الذي
يختص بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران )) وما جعله ال إل بشرى لكم
ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إل من عند ال العزيز الحكيم(( والُمهدى إلينا من
خلل مكتبكم ,والذي يضيف إلينا قبسًا من نور اليمان ،وإذ نثمن ونبارك جهودكم
القيمة في تقديم كل ما هو جديد في تبسيط وتوضيح العلم والدين نتمنى لكم مواصلة
العطاء الثر لخدمة الجميع.
ومن ال التوفيق
نسخه من إلى
المكتب
الصادرة
هناء 27/5
معالم اليمان ج70/
][2
:NO الرقم:د3/7/2581/
/ /2009 التأريخ27/4/2009:
Date
4/2009/
نسخه إلى/
الدارة والذاتية /مع الوليات
ط 26/4 2
معالم اليمان ج70/
][2
تلقيت بالتقدير هدية فضيلتكم الجزء) (51من تفسير معالم اليمان ،وإنني إذ اشكر
فضيلتكم على هذا الهداء لتمنى لكم دوام التوفيق والسعادة.
أطيب تحياتي،،،،
سعود الفيصل
وزير الخارجية
معالم اليمان ج70/
][4
يسرني أن أعرب لكم عن خالص شكري على هذا الهداء الذي حوى علمًا قّيما
يهم المطلع ،أسأل المولى عز وجل أن يبارك لكم في مساعيكم الخيرة وأن يستمر
عطاؤكم لثراء المكتبة السلمية بهذا العلم النافع.
وفقكم ال لما يحبه ويرضاه وسدد على طريق الخير خطاكم وجعل أعمالكم الخيرة
في ميزان حسناتكم.