Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 268

‫)‪(127‬‬

‫وفيه قانون الفاء في فينقلبوا )ص ‪(356-323‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬

‫المقدمة‬
‫الحمد ل رب العالمين الذي تفضل وجعل مقاليد المور كلها بيده‪ ,‬ليمنع من العتو‬
‫والظلم والغرور‪ ،‬ولتبقى الحياة الدنيا مزرعة للخرة‪ ،‬تتصف بالبهجة والغبطة‪،‬‬
‫وتزهو بالمل والسعي في دروب الصالحات ‪ ,‬ويتخذها النسان بلغة لنيل المنزلة‬
‫الرفيعة يوم القيامة‪.‬‬
‫ومن اليات أن العمل للكسب في الدنيا ليس بالمر السهل بل يحتاج إلى التعب‬
‫والعناء‪ ،‬فمن أجل أن يكسب النسان لقمة العيش ويأتي بالرزق له ولعياله عليه‬
‫خْيَر‬‫بالجد والمثابرة‪ ،‬وزاد الخرة هو الولى والهم ويتجلى بطاعة ال ورسوله] َ‬
‫الّزاِد الّتْقَوى[ )‪.(1‬‬
‫ويواجه من يريد الخرة ويسعى لها بدأب وشوق وشغف البتلء والفتتان‬
‫والعداء من الكفار الذين قد يرفعون السيف في وجهه لمنعه من مواصلة الطريق‪،‬‬
‫ليضروا أنفسهم والخرين بحجبهم عن الستبصار والرؤية الحسية والقلبية لمنافع‬
‫الهداية‪.‬‬
‫فبعث ال عز وجل النبياء بالمعجزات الباهرات لجذب الناس لمنازل اليمان‪،‬‬
‫والمنع من إفتتانهم بالكفار وأموالهم‪ ،‬وأسباب الشك والريب التي يلبسون بها على‬
‫الناس‪ ،‬ويجعلونها وسيلة للصد عن سبيل ال والتصديق بالنبوة‪.‬‬
‫وقد تجلت معجزات النبوة العقلية والحسية ببعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم إذ جعله ال عز وجل خاتم النبيين وسيد المرسلين وأنزل عليه القرآن]ِتْبَياًنا‬
‫ن[)‪.(2‬‬
‫سِلِمي َ‬
‫شَرى ِلْلُم ْ‬
‫حَمًة َوُب ْ‬
‫يءٍ َوُهًدى َوَر ْ‬
‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ِلُك ّ‬
‫‪() 1‬سورة البقرة ‪.197‬‬
‫‪() 2‬سورة النحل ‪.89‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وجاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم على فترة من الرسل ‪ ,‬وبينه وبين‬
‫عيسى عليه السلم أكثر من خمسمائة عام إنتشرت فيها مفاهيم الكفر‪ ،‬وأقام الغالب‬
‫من الناس على عبادة الوثان‪ ،‬وتعظيم الصنام‪ ,‬وتوارثوا الجحود ومعاني الكفر‪،‬‬
‫وسادت الخلق المذمومة ‪ ,‬وصار فعل القبيح أمرًا شائعًا ومتعارفًا‪ ،‬فإنتشر الغزو‬
‫والسبي بين القبائل‪ ،‬وترشح عنه وأد البنات‪.‬‬
‫وإبتلى ال عز وجل الناس بالفقر والجوع والفاقة لعلهم يتدبرون‪ ،‬ومن اللطف‬
‫اللهي أنه سبحانه لم يجعل الناس في حيرة وغفلة بل جاءت المعجزات والبينات مع‬
‫نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وعلى نحو التتابع والكثرة‪ ،‬فكانت كل آية من‬
‫القرآن إعجازًا قائمًا بذاته‪ ،‬وسرًا من أسرار السماء وليكون القرآن سر ال العظم ‪,‬‬
‫ومائدة مباركة نازلة من عنده تعالى على صاحب الكمالت النسانية ‪ ,‬يدعو الناس‬
‫لسبل السلمة والمن في النشأتين‪.‬‬
‫وجاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم أيضًا بالمعجزات الحسية لتكون مع‬
‫المعجزات والبراهين العقلية مجتمعتات ومتفرقات وسيلة قاطعة لهداية الناس على‬
‫مختلف مشاربهم‪ ،‬ومداركهم العقلية مما جعل رؤساء الكفر والضللة يستشيطون‬
‫غضبًا‪ ،‬ويجهزون الجيوش العظيمة لستئصال النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وأصحابه لذا ورد عنه صلى ال عليه وآله وسلم قوله في معركة بدر)الّلهّم إنْ‬
‫ل ُتْعَبْد( )‪.(3‬‬ ‫صاَبُة اْلَيْوَم َ‬
‫ك َهِذِه اْلِع َ‬
‫َتْهِل ْ‬
‫فكان أن أنعم ال عز وجل عليه وعلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة بنزول‬
‫ل‪ ،‬وتشريف للمسلمين لم‬ ‫الملئكة مددًا وعونًا لهم‪ ،‬في آية لم تشهد الرض لها مثي ً‬
‫س[ ) (‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬
‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫تنله أمة قبلهم‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫وتفيض منافعه على الجيال المتعاقبة من الناس سواء ذراري الصحابة أو التابعين‬
‫وعموم المسلمين والناس جميعًا‪.‬‬
‫وجاء هذا الجزء من التفسير وهو السبعون والحمد ال بتفسير الية السابعة‬
‫والعشرين بعد المائة من سورة آل عمران ‪ ,‬والتي تتضمن الفاضات التي ترشحت‬
‫عن المدد الملكوتي للمؤمنين يوم أحد ‪ ,‬والوعد بهلك بعض رؤساء الكفار وأئمة‬
‫الضللة ‪ ،‬وإصابة جماعة الكفار الذين يلون المسلمين بالضعف والذل والوهن‬
‫وإبانة طائفة منهم ‪ ،‬ليعجزوا عن مواصلة التعدي والهجوم على المسلمين تخفيفًا‬
‫ن َكَفُروا[قبل واقعة بدر‪ ،‬أو متعقبًا لها‬ ‫ن اّلِذي َ‬ ‫طَرًفا ِم ْ‬ ‫طَع َ‬ ‫عنهم‪ ،‬فلم يأت قوله تعالى]ِلَيْق َ‬
‫للنتصار العظيم للمسلمين فيها بمعجزة جلية تتضح معالمها بلحاظ الفارق الكبير‬
‫بين عدد جيش الكفار وكثرتهم‪ ,‬ووبين جيش المسلمين وقلتهم ‪ ,‬وكذا في المؤون‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ )‪.(5‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬ ‫والسلح ‪ ,‬قال تعالى]َوَلَقْد َن َ‬

‫‪() 3‬الروض النف ‪.3/68‬‬


‫‪() 4‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪() 5‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫فجاءت آية القطع والبانة هذه بعد معركة أحد ‪ ,‬وما أصاب المسلمين فيها من‬
‫الخسارة‪ ،‬لتكون هبة سماوية ومنحة تفضل ال عز وجل بها على النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪ ،‬وإشراقة جديدة تفتح آفاق الرض أمام المسلمين‪،‬‬
‫وكأنها إذن بمواصلة الجهاد والزحف ‪ ,‬وتحقيق الفتوحات‪ ،‬وبناء صرح الدولة‬
‫السلمية ‪ ,‬التي كتب ال لها البقاء إلى يوم القيامة ‪ ,‬وهو من عمومات قوله تعالى‬
‫خِليَفًة[)‪ (6‬بتقريب أن الخلفة مستمرة ومتجددة بالنبوة‬ ‫ض َ‬‫لْر ِ‬‫ل ِفي ا َ‬
‫عٌ‬‫جا ِ‬
‫]ِإّني َ‬
‫والتنزيل ‪.‬‬
‫ولم تمض خمس سنوات على نزول هذه الية حتى دخل النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وأصحابه مكة فاتحين ‪ ,‬وتوجهت سرايا المجاهدين والغزاة إلى‬
‫الجهات الربعة لتثبيت مبادئ السلم ‪ ,‬وأحكام الشريعة المتكاملة والباقية إلى يوم‬
‫القيامة ‪ ,‬وهذا التوجه وعموم جهته من مصاديق وتجدد قطع طرف الكفار‪,‬‬
‫وصيغة المضارع في قوله تعالى ) ليقطع ( ‪.‬‬
‫وقد قمت بتأليف هذا الجزء في خمسين ليلة لم أذق النوم فيها مع إتصال العمل في‬
‫أغلب ساعات النهار‪ ،‬كانت المنضدة سريري‪ ،‬والقلم الصاحب المبارك ‪ ,‬والنيس‬
‫في مناجاته وشرف موضوعه‪ ,‬ليكون هذا الجزء رشحة من رشحات القرآن وأفضل‬
‫كتاب مؤلف في تأريخ السلم بفيض من ال إن شاء سبحانه ‪ ,‬وللتفت عند الفراغ‬
‫منه إلى ورم طارئ في ظاهر القدمين ‪ ,‬سرعان ما تبدد ببركة القرآن ‪.‬‬
‫وكنت أرجو أن أفسر هذه الية بنحو مائة صفحة فخرج أكبر جزء من أجزاء‬
‫التفسير بمفاهيم قدسية لم يشهدها التأريخ بلطف من عند ال في آية قصيرة من بضع‬
‫كلمات ‪ ,‬وكله علوم مستحدثة ومستنبطة من مضامين ذات الية ‪ ,‬ليكون ثورة في‬
‫ميدان العلوم يتجلى المدد في تأليفه وكتابته على نحو قضية عين ‪,‬إذ أقوم بالتأليف‬
‫والمراجعة والتصحيح لكتبي من غير مساعدة من أحد إل من ال ‪ ,‬وكأنه فرع من‬
‫مدد المؤمنين يوم أحد بالملئكة وإستحضار ذهني له للسياحة في خزائن الية رجاء‬
‫عْبَدُه[ )‪.(7‬‬
‫ف َ‬
‫ل ِبَكا ٍ‬
‫س ا ُّ‬
‫مشاهدة سبحات أنوار القدس‪ ،‬قال تعالى]َأَلْي َ‬

‫ن[الية ‪.127‬‬
‫خاِئِبي َ‬
‫ن َكَفُروا َأْو َيْكِبَتُهْم َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫طَرًفا ِم ْ‬
‫طَع َ‬
‫قوله تعالى]ِلَيْق َ‬
‫‪ () 6‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫‪() 7‬سورة الزمر ‪.36‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫العراب واللغة‪:‬‬
‫ليقطع‪:‬اللم للتعليل‪ ،‬يقطع‪:‬فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد اللم‪.‬‬
‫طرفًا‪ :‬مفعول به منصوب‪.‬‬
‫من الذين‪ :‬جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة‪.‬‬
‫كفروا‪ :‬فعل وفاعل‪ ،‬والجملة ل محل لها من العراب لنها صلة الموصول‪.‬‬
‫أو يكبتهم‪ :‬أو‪ :‬حرف عطف‪ ،‬يكبتهم‪ :‬فعل مضارع معطوف على يقطع‪.‬‬
‫الهاء‪:‬ضمير متصل في محل نصب مفعول به‪.‬‬
‫فينقلبوا خائبين‪ :‬الفاء‪ :‬حرف عطف‪ ،‬ينقلبوا‪ :‬عطف على يكبتهم‪.‬‬
‫خائبين‪ :‬حال منصوب بالياء وعلمة نصبه الياء لنه جمع مذكر سالم‪.‬‬
‫القطع‪ :‬إبانة بعض أجزاء الشيء وفصل بعضها عن بعض‪ ،‬يقال‪ :‬قطعه قطعًا‬
‫وقطيعة ومقطوعًا‪ ،‬ويأتي كناية عن الهلك‪ ،‬وهدم بعض أركان الشرك‪ ،‬وفضح‬
‫مفاهيم الضللة‪ ،‬والطرف يأتي بمعان متعددة منها‪:‬‬
‫ف من المشركين على رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫الول‪ :‬القطعة والطائفة)وفي الحديث‪ :‬فمال طََر ٌ‬
‫ل عليه وسلم ()‪.(8‬‬ ‫صلى ا ّ‬
‫الثاني‪ :‬الطرف الناحية‪ ،‬وأطراف الرض‪ :‬نواحيها قال تعالى]َأَوَلْم َيَرْوا َأّنا َنْأِتي‬
‫طَراِفَها[)‪ ،(9‬وفسرت بفتوح المصار‪ ،‬ولها معنى آخر‪ ،‬وهو‬ ‫ن َأ ْ‬
‫صَها ِم ْ‬‫ض َنْنُق ُ‬
‫لْر َ‬ ‫اَ‬
‫موت العلماء‪ ،‬ولعل من مصاديقها ما يتعلق بهذا الزمان في إرتفاع مناسيب المياه‬
‫وغرق بعض الراضي‪ ،‬وإن مثله حدث في العصور القديمة‪ ,‬وسيأتي مزيد بيان ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الطرف من الرجال ‪ :‬الشريف وكثير الباء إلى الجد الكبر‪ ،‬يقال أطراف‬
‫الرجال أي أشرافهم ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يقال في التعريض بالشخص ل يدري أي طرفيه أطول‪ ،‬كناية عن الجهل‪،‬‬
‫وتعددت فيه القوال‪ ،‬منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬أنه ل يدري أي والديه أشرف عن الفراء‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ل يدري أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أي نصفيه أطول الطرف العلى أم الطرف السفل‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬طرفاه لسانه وفرجه‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أسته وفمه ل يدري أيهما أعف() (‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫المعنى الخامس‪ :‬كل مختار طرف‪ ،‬والجمع أطراف‪ ،‬ومنه أطراف الحديث‪:‬‬
‫ث َبيَننا‬
‫لحادي ِ‬ ‫فاَ‬ ‫طرا ِ‬ ‫خْذنا بَأ ْ‬
‫َأ َ‬
‫ح) (‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫طُ‬ ‫ي البا ِ‬
‫عناقِ الَمطِ ّ‬‫ت بَأ ْ‬
‫وسال ْ‬
‫ومنه التلويح والتعريض‪.‬‬

‫‪ () 8‬لسان العرب ‪.9/218‬‬


‫‪ () 9‬سورة الرعد ‪.41‬‬
‫‪ () 10‬لسان العرب ‪. 9/219‬‬
‫‪() 11‬لسان العرب ‪.9/213‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الكبت‪ :‬الصرع يقال كبته يكبته فأنكبت‪ ،‬ويأتي بمعنى الذل والحزن والخذ‬
‫بالعذاب)وفي الحديث‪ :‬إن ال كبت الكافر أي صرعه وخيبه()‪.(12‬‬
‫القلب‪ :‬تحويل الشيء عن وجهه‪ ،‬يقال‪ :‬قلبه يقلبه قلبًا أي حوله ظهرًا لبطن‪ ،‬والقلب‬
‫ب الرجو ُ‬
‫ع‬ ‫صرف النسان وإنصرافه‪ ،‬والنقلب إلى ال‪ :‬المصير إليه )والْنِقل ُ‬
‫سيٍد حين ُوِلَد فاْقِلُبوه فقالوا َأْقَلْبناه يا رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫مطلقًا ومنه حديث المنذر ابن َأبي َأ ِ‬
‫لثير هكذا جاءَ في صحيح مسلم وصوابه َقَلْبناه َأي َرَدْدناه()‪. (13‬‬ ‫قال ابن ا َ‬
‫صاُر[ ) (‪ ،‬أي ترجف وتخاف‪ ،‬وتمتل‬ ‫‪14‬‬
‫لْب َ‬
‫ب َوا َ‬‫ب ِفيِه اْلُقُلو ُ‬‫وفي قوله تعالى]َتَتَقّل ُ‬
‫جزعًا وفزعًا‪.‬‬
‫حرم‬ ‫والخيبة‪ :‬الحرمان‪ ،‬وعدم نيل البغية والطلب‪ ،‬يقال‪ :‬خاب يخيب خيبه أي ُ‬
‫وخسر وفي المثل الهيبة خيبة‪ ،‬لنها سبب في التخلف عن السعي والطلب‪.‬‬
‫في سياق اليات‬
‫الصلة بين هذه الية واليات المجاورة على شعبتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الصلة بين هذه الية واليات السابقة‪ ،‬وفيها وجوه‪:‬‬
‫ي[)‪ ،(15‬وهذه الية ‪ ,‬وفيها مسائل‪:‬‬ ‫ن ُتْغِن َ‬‫الول‪ :‬الصلة بين آية]َل ْ‬
‫الولى‪ :‬جاءت الية أعله بالخبار عن عدم إنتفاع الكفار من أموالهم وأولدهم‪،‬‬
‫وجاءت هذه الية لبيان خسارتهم وعجزهم عن نفع أنفسهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ذكرت الية )الذين كفروا( بصيغة الذم والخبار عما يلحقهم من الضرر‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ل ينحصر البلء الذي يصيب الذين كفروا بعدم إنتفاعهم من أموالهم‬
‫وأولدهم‪ ،‬بل يصابون بالسر والقتل‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬يفيد الجمع بين اليتين تحذير الكفار من مواصلة التعدي على المسلمين‪.‬‬
‫ن[‬
‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫الخامسة‪ :‬لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم]َر ْ‬
‫)‪،(16‬ومن مصاديق الرحمة لغة النذار في اليتين‪ ،‬ما فيها من التخويف والزجر‬
‫عن الهجوم على المسلمين‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬أسر أو قتل الذين كفروا ل ينجيهم من عذاب النار‪ ،‬وخلودهم فيها‪.‬‬
‫السابعة ‪ :‬ما يلحق الكفار من الخيبة في الدنيا مقدمة للبثهم الدائم في النار‪ ،‬وتحذير‬
‫لهم من العذاب الليم في الخرة‪.‬‬
‫ح[) (‪،‬و بين هذه الية‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬ ‫‪17‬‬
‫ل ِري ٍ‬‫الثاني‪ :‬الصلة بين آية]َكَمَث ِ‬
‫الولى‪ :‬خسارة الكفار لموالهم من مصاديق القطع والبلء الذي تذكره هذه الية‪.‬‬

‫‪ () 12‬لسان العرب ‪.2/76‬‬


‫‪() 13‬لسان العرب ‪.1/686‬‬
‫‪() 14‬سورة النور ‪.37‬‬
‫‪() 15‬الية ‪.116‬‬
‫‪() 16‬سورة النبياء ‪.107‬‬
‫‪() 17‬الية ‪.117‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثانية‪ :‬هلك أموال الكفار مقدمة لمنعهم من التعدي على المسلمين‪ ،‬وشاهد بأن‬
‫العقوبة تأتي للكفار لنفعهم ورجاء صلحهم وتوبتهم‪ ،‬وكان النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وأصحابه حريصين على دعوتهم للسلم‪ ،‬وجذبهم لسبل الهداية‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬الكفر والضللة من ظلم النفس‪ ،‬وحجب المعارف والمنافع عنها‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬خسارة الكفار أموالهم وما ينفقونه في التعدي على السلم من أسباب‬
‫الخيبة التي تلحق بهم‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬إنتصار المسلمين في بدر‪ ،‬وهزيمة الكفار من ظلمهم لنفسهم كما في قوله‬
‫ن[‪.‬‬
‫ظِلُمو َ‬
‫سُهْم َي ْ‬‫ن َأْنُف َ‬
‫ل َوَلِك ْ‬
‫ظَلَمُهْم ا ُّ‬
‫تعالى في خاتمة آية )لن تغني(] َوَما َ‬
‫طاَنًة[ )‪ ،(18‬وبين هذه الية وفيها مسائل‪:‬‬ ‫الثالث‪ :‬الصلة بين آية]ِب َ‬
‫الولى‪ :‬من يحارب المسلمين ل يجوز لهم إتخاذه بطانة ووليجة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬لزوم أخذ المسلمين الحيطة والحذر من نوايا الكفار السيئة‪.‬‬
‫ن آَمُنوا[ وجاءت‬ ‫الثالثة‪ :‬جاءت آية البطانة خطابًا للمسلمين بقوله تعالى]َياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫هذه الية بصيغة الجملة الخبرية في ذم الذين كفروا‪ ،‬وفيه توكيد لمضامين الخطاب‬
‫أعله‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أخبرت الية محل البحث عن النقص الذي يلحق الكفار‪ ،‬وهلك طائفة‬
‫منهم‪ ،‬مما يدل على تخلفهم عن منازل البطانة والوليجة والشورى‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬يأتي حرمان الكفار بسبب قبح سرائرهم‪ ،‬وقصدهم إيذاء المسلمين‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬يفيد الجمع بين اليتين تحذير الكفار من بغضهم وكرههم للمسلمين‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬جاءت خاتمة الية أعله بالخبار عن بيان اليات والدللت للمسلمين‪،‬‬
‫والية محل البحث من هذه اليات خصوصًا وأنها تنسب قطع وحرمان الذين كفروا‬
‫ل عز وجل‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬ل يجوز إتخاذ البطانة من الذين كفروا الذين يحل بهم العذاب لمحاربتهم‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ل[) (‪ ،‬وبين هذه الية‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬ ‫‪19‬‬
‫لَناِم َ‬
‫الرابع‪ :‬الصلة بين آية]ا َ‬
‫الولى‪ :‬يفيد الجمع بين اليتين تحذير المسلمين من حبهم للكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬يبتلي ال عز وجل الذين كفروا على بغضهم للمسلمين وعدم حبهم لهم بما‬
‫هم مسلمين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬لم ينفع الكفار قولهم )آمنا( بحضـــرة المسلمين فيؤاخذهم ال عــز وجل على‬
‫تعديهم ويعاقبهم بهلك رؤسائهم‪ ،‬وما يلحقهم من الضرر‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬جاءت الية أعله بالخبار عن نوع حب من المسلمين للكفار للرحم أو‬
‫الجوار أو الصلت التجارية والمعاشية مع التحذير من هذا الحب‪ ،‬وجاءت الية‬
‫محل البحث لبعث النفرة في نفوس المسلمين من الكفار‪ ،‬لتكون عونًا لهم لترك هذا‬
‫الحب‪.‬‬
‫‪() 18‬الية ‪.118‬‬
‫‪ () 19‬الية ‪.119‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الخامسة‪ :‬لم ينفع الكفار غيضهم وحسدهم للسلم ‪ ,‬لن ال عز وجل يبتليهم‬
‫ظُكْم[ ) (‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫ل ُموُتوا ِبَغْي ِ‬
‫بالخسارة والخيبة‪ ،‬وهذا البتلء من مصاديق قوله تعالى]ُق ْ‬
‫السادسة‪ :‬بيان التضاد بين المسلمين والكفار‪ ،‬فالمسلمون يؤمنون بالكتب السماوية‬
‫كلها‪ ،‬والكفار يجحدون بها‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬إذا كان الكفر سببًا لنزول العذاب بالكفار‪ ،‬فإن اليمان والتصديق بالتنزيل‬
‫سبب لنزول الخير والبركة على المسلمين‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬ل يترتب أي أثر أو ضرر على المسلمين بسبب غيظ وبغض الكفار لهم‪،‬‬
‫لن ال عز وجل يبتلي الكفار بالخسارة والحرمان وفقد الرجال‪.‬‬
‫ل ُموُتوا ِبَغْيظُِكْم[ ومن‬‫التاسعة‪ :‬جاءت الية أعله بتوبيخ الكفار بقوله تعالى]ُق ْ‬
‫مصاديقه رجوعهم خاسرين محرومين‪.‬‬
‫العاشرة‪ :‬يفيد الجمع بين اليتين أن ما ينزل من البلء بالكفار هو بسبب ما قدمت‬
‫أيديهم وإصرارهم على التعدي على المسلمين‪ ،‬وإلى جانب الحرمان والخيبة التي‬
‫تلحقهم يستولي الندم واليأس على نفوسهم وال عز وجل عليم بذات الصدور‪.‬‬
‫الحادية عشرة‪ :‬يفيد الجمع بين اليتين إنذار الكفار من بغضهم للمسلمين وتعديهم‬
‫عليهم‪ ،‬وسوء عاقبة هذا التعدي‪ ،‬وصيرورته سببًا للحسرة الدائمة في نفوسهم ‪ ,‬قال‬
‫لْمُر[)‪.(21‬‬ ‫ياَ‬ ‫ضَ‬‫سَرِة ِإْذ ُق ِ‬ ‫حْ‬‫تعالى]َوَأنِذْرُهْم َيْوَم اْل َ‬
‫سُكْم[ )‪ ،(22‬وبين هذه الية‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬ ‫سْ‬ ‫ن َتْم َ‬‫الخامس‪ :‬الصلة بين آية]ِإ ْ‬
‫الولى‪ :‬يحزن الكفار لما يصيب المسلمين من الخير‪ ،‬فيأتي الكفار العذاب ليزداد‬
‫حزنهم‪ ،‬ولينشغلوا بأنفسهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬مع الضرر الذي يلحق الكفار لكفرهم وتعديهم على المسلمين فأنهم يفرحون‬
‫بما يلحق المسلمين من الذى‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تعدد وجوه الذى التي تصيب عامة الكفار‪ ،‬إذ يحزنون من النصر الذي‬
‫يأتي للمسلمين وكثرة دخول الناس في السلم‪ ،‬ويدفعهم الحسد للتعدي على‬
‫المسلمين فتلحقهم الخيبة والخسران‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬لم ينفع الكفار فرحهم بالذى والخسارة التي تلحق المسلمين‪ ،‬لن الكفار في‬
‫حال خسارة وفقد لمنازلهم وشأنهم‪ ،‬وحرمان من أسباب العز والظفر‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬تتضمن الية محل البحث ما يلحق الكفار من الذى والخسارة والحرمان‪،‬‬
‫ليكون سببًا لصرف كيد الكفار فمن ينقلب خائبًا ل يقدر على الضرار بالخرين‬
‫ل َأًذى[)‪ ،(23‬وإنشغالهم بأنفسهم‪.‬‬ ‫ضّروُكْم ِإ ّ‬
‫ن َي ُ‬
‫وهو من عمومات قوله تعالى]َل ْ‬
‫السادسة‪ :‬يفيد الجمع بين اليتين دعوة المسلمين للصبر والتقوى حتى عند ظهور‬
‫الخسارة والحرمان على الكفار‪.‬‬

‫‪() 20‬سورة آل عمران ‪.119‬‬


‫‪ () 21‬سورة مريم ‪.39‬‬
‫‪() 22‬الية ‪.120‬‬
‫‪ () 23‬سورة آل عمران ‪.111‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السابعة‪ :‬جاءت آية)إن تمسسكم( خطابًا للمسلمين‪ ،‬وجاءت الية محل البحث بصيغة‬
‫الجملة الخبرية‪ ،‬وفيه إكرام إضافي للمسلمين بإخبارهم عما يصيب الكفار من‬
‫الخسارة والبلء‪.‬‬
‫ت[) (‪ ،‬وبين هذه الية وفيها مسائل‪:‬‬
‫‪24‬‬
‫غَدْو َ‬
‫السادس‪ :‬الصلة بين آية]َوِإْذ َ‬
‫الولى‪ :‬خروج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين للقتال قطع لطرف‬
‫من الكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬قطع طرف من الكفار عون للمسلمين في خروجهم للقتال‪ ،‬فقد زحف الكفار‬
‫على المدينة في معركة بدر وأحد بجيوش عظيمة تفوق جيش المسلمين عددًا وعدة‪،‬‬
‫فجاءت الية محل البحث ومضامينها القدسية لتكون عونًا للمسلمين‪ ،‬وسببًا لطرد‬
‫الفزع من نفوسهم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تعبئة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم المسلمين للقتال من مقدمات‬
‫وأسباب هزيمة الكفار‪ ،‬وما لحقهم من الحرمان والخيبة‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬من يحارب النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم يقطعه ال‪ ،‬ويرميه‬
‫بالحرمان‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬من مصاديق قوله تعالى)وال سميع عليم( أنه سبحانه يبتلي الكفار بالنقص‬
‫في الرجال والحرمان والخيبة‪ ،‬ليبقى المؤمنون في عز وأمن‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬في الجمع بين اليتين دعوة للمؤمنين للثبات على اليمان‪ ،‬والنفرة من‬
‫الكفار‪ ،‬وهي ترغيب للكفار بالسلم واللتحاق بالمسلمين‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬تبعث اليتان في نفوس المسلمين العزم على مواصلة الجهاد‪ ،‬وقتال‬
‫الكفار ‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬في اليتين بيان لحقيقة من وجهين متباينين إذ أنها مدد للمسلمين في النصر‬
‫وسبب لهزيمة الكفار‪.‬‬
‫ت[) (‪ ،‬وبين هذه الية‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫‪25‬‬
‫السابع‪ :‬الصلة بين آية ]ِإْذ َهّم ْ‬
‫الولى‪ :‬قطع طرف من الكفار برزخ دون فشل طائفة من المؤمنين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬الية محل البحث شاهد على أن هّم المؤمنين بالفشل لم يتحقق واقعًا‪،‬‬
‫لنقلب الكفار خاسرين‪ ،‬وتقهقرهم منهزمين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬من ولية ال عز وجل للمؤمنين إلحاق الخسارة بالكفار‪ ،‬وإصابتهم‬
‫بالحرمان‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬تدعو الية أعله المسلمين للتوكل على ال‪ ،‬وجاءت هذه الية لبيان منافع‬
‫هذا التوكل بإصابة عدوهم بالضعف والوهن والحرمان‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬يدل الجمع بين اليتين على أن توكل المسلمين على ال عون لهم بالذات‬
‫والعرض‪ ،‬إذ أن ال عز وجل يزيدهم قوة‪ ،‬ويجعل عدوهم عاجزًا وفي ضعف‪.‬‬

‫‪ () 24‬الية ‪.121‬‬
‫‪() 25‬الية ‪.122‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السادسة‪ :‬جاءت هذه الية محل البحث بشارة للمسلمين بعدم حصول الفشل عندهم‬
‫لن عدوهم عاجز عن إلحاق الضرر بهم‪ ،‬بسبب النقص الحاصل عنده في الرجال‬
‫والمال‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬جاءت الية أعله لحث المسلمين على التوكل على ال للمن والسلمة من‬
‫الجبن وشكرًا ل عز وجل على الوقاية من الخور ونية الفرار‪.‬‬
‫وتدعو مضامين الية محل البحث المسلمين إلى الشكر له سبحانه على جعل الكفار‬
‫في حال وهن وإرباك‪ ،‬وتحث المسلمين على التوكل على ال‪ ،‬ويتجلى هذا التشابه‬
‫بالجمع بين خاتمتي اليتين بتقدير)فينقلبوا خائبين وعلى ال فليتوكل المؤمنون(‬
‫بتقريب أن المر اللهي للمسلمين بتوكلهم على ال على نحو الطلق موضوعًا‬
‫وحكمًا وزمانًا ومكانًا‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬لقد إجتمع للمسلمين المدد والعوض من عند ال بجعلهم يمتنعون على الجبن‬
‫والفشل‪ ،‬ويرون عدوهم يصاب بالكبت والخسارة‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬الصلة بين آية َ]َبْدٍر[)‪ ،(26‬وبين هذه الية‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬نصر ال للمسلمين في بدر قطع لطرف الكفار‪ ،‬إذ ُقتل فيها سبعون من‬
‫كبرائهم وساداتهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬قد يسأل بعضهم كيف يقطع ال عز وجل طرفًا من الذين كفروا فتأتي آية‬
‫بدر مصداقًا عمليًا‪ ،‬وشاهدًا تأريخيًا على هذا القطع‪.‬‬
‫الثالثة‪:‬يبين الجمع بين اليتين حقيقة وهي ظهور السلم‪ ،‬وإتساع رقعته‪ ،‬وإنتشار‬
‫مبادئه وهزيمة أعدائه‪ ،‬إذ ينصر ال عز وجل المسلمين‪ ,‬ويجعل الكفار عاجزين‬
‫عن مواجهتهم‪.‬‬
‫الرابعة‪:‬يفيد الجمع بين أول اليتين التداخل في الموضوع ‪ ,‬ويكون تقدير الجمع هو‪:‬‬
‫ولقد نصركم ال ببدر ليقطع طرفًا من الذين كفروا‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬أخبرت الية أعله بأن المسلمين أذلة وضعفاء يوم بدر وقبل حصول‬
‫النصر‪ ،‬وجاءت هذه الية لتخبر بإنتقال الكفار لمنازل الذل والهوان مع تخلص‬
‫المسلمين منها‪ ،‬مع الفارق في حال الذل إذ أن المراد من ذلة المسلمين الضعف‬
‫وإستهزاء الكفار بهم‪ ،‬أما ذلة الكفار فهي حرمان وخسارة‪.‬‬
‫ولم يبق المسلمون مع الكفار في حال الذل‪ ،‬وفيه مثال لحال المؤمنين في الخرة‬
‫بأنهم يصيرون إلى الجنة‪ ،‬أما الكفار فيبقون في ذات الحال من الذل والخيبة‬
‫والخسران‪ ،‬مع الفارق في حال الذل‪ ،‬فذلة المسلمين ضعف في سبيل ال ودليل على‬
‫ما يتحلون به من الصبر والتقوى‪ ،‬وفيه الجر والثواب‪ ،‬أما ذلة الكفار فإنها خزي‬
‫لهم وإنذار من ذلة الخرة التي هي عقوبة وفرع العقوبة ‪ ,‬قال تعالى في أصحاب‬
‫ل[)‪.(27‬‬‫ن الّذ ّ‬
‫ن ِم ْ‬
‫شِعي َ‬
‫خا ِ‬
‫عَلْيَها َ‬
‫ن َ‬
‫ضو َ‬ ‫النار]َوَتَراُهْم ُيْعَر ُ‬

‫‪() 26‬الية ‪.123‬‬


‫‪ () 27‬سورة الشورى ‪.45‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السادسة‪ :‬تنسب اليتان نصر المؤمنين وكبت وخزي الكفار إلى ال عز وجل‪ ،‬وهو‬
‫شاهد بأن مرجع المور بيده ‪ ،‬وأنه سبحانه ينصر المؤمنين‪.‬‬
‫ن َيْكِفَيُكْم[)‪ ،(28‬وبين هذه الية‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬ ‫التاسع‪ :‬الصلة بين آية ]َأَل ْ‬
‫الولى‪ :‬يفيد الجمع بين اليتين بشارة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بخسارة‬
‫الكفار عند مواجهتهم للمسلمين في ميادين القتال‪ ،‬لذا وردت البشارة بالنصر‬
‫للمسلمين على لسان النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم يوم بدر‪ ،‬فعندما أراد‬
‫شيُروا‬ ‫النبي الخروج لقتال قريش‪ ،‬والدفاع عن المدينة وحرائر المسلمين‪ ،‬قال )َأ ِ‬
‫ن َباَيُعوهُ‬ ‫حي َ‬‫عَدُد الّناس َوَأّنهْم ِ‬ ‫ك َأّنهْم َ‬ ‫صاُر‪ ،‬وََذِل َ‬ ‫لْن َ‬ ‫ي َأّيها الّناس‪َ ،‬وِإّنما ُيِريُد ا َ‬ ‫عَل ّ‬‫َ‬
‫صْلت‬ ‫ل إَلى ِدَياِرَنا‪َ ،‬فِإَذا َو َ‬ ‫صَ‬ ‫حّتى َت ِ‬ ‫ن ِذَماِمك َ‬ ‫ل إّنا ُبَرآءُ ِم ْ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ِباْلُعْقَبِة َقاُلوا‪َ :‬يا َر ُ‬
‫صّلى‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫ساَءَنا ‪َ .‬فَكا َ‬‫ت ِفي ِذّمتَنا َنْمَنُعك ِمّما َنْمَنُع َمَعُه َأْبَناَءَنا َوِن َ‬ ‫إَلْيَنا‪َ ،‬فَأْن َ‬
‫ن َدَهَمُه ِباْلَمِديَنِة‬ ‫صَرُه إل ِمّم ْ‬ ‫عَلْيَها َن ْ‬‫صاُر َتَرى َ‬ ‫لْن َ‬ ‫ناَ‬ ‫خّوف َأل َتُكو َ‬ ‫سّلم َيَت َ‬‫عَلْيِه َو َ‬
‫ل َ‬ ‫ا ّ‬
‫سو ُ‬
‫ل‬ ‫ك َر ُ‬ ‫ل َذِل َ‬‫ن ِبلِدِهْم ‪َ .‬فَلّما َقا َ‬ ‫عُدّو ِم ْ‬‫سيَر ِبِهْم إَلى َ‬ ‫ن َي ِ‬ ‫عَلْيِهْم َأ ْ‬‫س َ‬ ‫ن َلْي َ‬ ‫عُدّوه َوَأ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ِم ْ‬
‫ل ؟ َقا َ‬
‫ل‬ ‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ل َلَكَأّنك ُتِريُدَنا َيا َر ُ‬ ‫ن ُمَعاٍذ‪َ :‬وَا ّ‬ ‫سْعُد ْب ُ‬‫ل َلُه َ‬ ‫سّلم َقا َ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫ا ّ‬
‫عَلى‬ ‫طْيَناك َ‬ ‫عَ‬ ‫ق‪َ ،‬وَأ ْ‬ ‫حّ‬ ‫جْئت ِبِه ُهَو اْل َ‬ ‫ن َما ِ‬ ‫شِهْدَنا َأ ّ‬‫صّدْقَناك‪َ ،‬و َ‬ ‫ل َلَقْد آَمّنا ِبك َو َ‬ ‫ل َقا َ‬ ‫جْ‬ ‫َأ َ‬
‫حُ‬
‫ن‬ ‫ل ِلَما َأَرْدت َفَن ْ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ض َيا َر ُ‬‫طاعِة َفاْم ِ‬ ‫سْمِع َوال ّ‬ ‫عَلى ال ّ‬ ‫عُهوِدَنا َوَمَواِثيِقَنا‪َ ،‬‬ ‫ك ُ‬ ‫َذِل َ‬
‫ضَناهُ َمَعك‪َ ،‬ما‬ ‫خ ْ‬ ‫ضته َل ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫حَر َف ُ‬
‫ضت ِبَنا َهَذا اْلَب ْ‬ ‫سَتْعَر ْ‬ ‫ق َلْو ا ْ‬ ‫حّ‬ ‫َمَعك‪َ ،‬فَوَاّلذي َبَعَثك ِباْل َ‬
‫صُدقٌ‬
‫ب ُ‬ ‫حْر ِ‬ ‫صُبٌر ِفي اْل َ‬ ‫غًدا ‪ ،‬إّنا َل ُ‬ ‫عُدّونا َ‬ ‫ن َتْلَقى ِبَنا َ‬ ‫حٌد َوَما َنْكَرُه َأ ْ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫جٌ‬ ‫خّلف ِمّنا َر ُ‬ ‫َت َ‬
‫سو ُ‬
‫ل‬ ‫سّر َر ُ‬ ‫ل‪َ ،‬ف ُ‬ ‫عَلى َبَرَكِة ا ّ‬ ‫سْر ِبَنا َ‬ ‫عْيُنك ‪َ ،‬ف ِ‬ ‫ل ُيِريك ِمّنا َما َتُقّر ِبِه َ‬ ‫لا ّ‬ ‫ِفي الّلقاِء‪َ ،‬لَع ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل‬ ‫شُروا ‪َ ،‬فِإ ّ‬ ‫سيُروا َوَأْب ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫ك ُثّم َقا َ‬‫شطُه َذِل َ‬ ‫سْعٍد َوَن ّ‬‫ل َ‬ ‫سّلم ِبَقْو ِ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫ا ّ‬
‫ع اْلَقْوِم( ) (‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫صاِر ِ‬ ‫ظُر إَلى َم َ‬ ‫ن َأْن ُ‬‫ل َلَكَأّني ال َ‬ ‫ن َوَا ّ‬ ‫طائَفَتْي ِ‬‫حَدى ال ّ‬ ‫عَدِني إ ْ‬ ‫َتَعاَلى َقْد َو َ‬
‫الثانية‪ :‬المدد الملكوتي الذي يأتي للمسلمين عونًا في قطع طرف من الذين كفروا‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ل يجد الذين يقاتلهم الملئكة إل الخزي والحرمان‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬قد إنقلب الكفار يوم بدر وأحد وحنين خائبين خاسرين بسبب نزول الملئكة‬
‫عَنا ِ‬
‫ق‬ ‫لْ‬ ‫قاَ‬ ‫ضِرُبوا َفْو َ‬ ‫لنصرة المؤمنين قال تعالى في خطاب للملئكة يوم بدر]َفا ْ‬
‫ن[ )‪.(30‬‬ ‫ل َبَنا ٍ‬
‫ضِرُبوا ِمْنُهْم ُك ّ‬ ‫َوا ْ‬
‫صِبُروا[) (‪،‬وبين هذه الية‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬ ‫‪31‬‬
‫ن َت ْ‬ ‫العاشر‪ :‬الصلة بين آية]َبَلى ِإ ْ‬
‫الولى‪ :‬مع تحلي المسلمين بالصبر يأتي البطش اللهي بالكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬خشية المسلمين من ال مقدمة وسبب لنزول البلء بالكفار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬الصبر والخشية من ال واقية من كيد ومكر الكفار‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬من أسباب خيبة وحرمان الكفار رؤيتهم المسلمين في حال التقوى والخشية‬
‫من ال عز وجل‪.‬‬

‫‪ () 28‬الية ‪.124‬‬
‫‪() 29‬الروض النف ‪.3/57‬‬
‫‪ () 30‬سورة النفال ‪.12‬‬
‫‪() 31‬الية ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الخامسة‪ :‬حالما يأتي الكفار للقتال يقطع ال عز وجل طرفًا منهم‪ ،‬فليس ثمة مسافة‬
‫بين السماء والرض بخصوص نزول الملئكة‪ ،‬لن نزولهم بأمر ال عز وجل]ُك ْ‬
‫ن‬
‫ن[ )‪.(32‬‬
‫َفَيُكو ُ‬
‫السادسة‪ :‬تتجلى معاني التضاد بين المسلمين والكفار بلحاظ الجمع بين اليتين‪،‬‬
‫فالمسلمون يمدهم ال بالملئكة‪ ،‬أما الكفار فإنه تعالى يقطع طرفًا منهم ويخزيهم‬
‫ويحرمهم من النصر‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬يرجع الكفار خاسرين خائبين‪ ،‬كما في رجوع الكفار إلى مكة في معركة‬
‫بدر وأحد والخندق‪ ،‬أما المسلمون فإنهم يرجعون بالنصر والغنائم وزيادة اليمان‬
‫لرؤية الملئكة تقاتل إلى جانبهم‪.‬‬
‫ل[) (‪ ،‬وبين هذه الية‪ ،‬وفيها‬‫‪33‬‬
‫جَعَلُه ا ُّ‬
‫الحادي عشر‪ :‬الصلة بين الية السابقة آية]َوَما َ‬
‫مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬يتلقى المسلمون البشارة من ال بالنصر والغلبة‪ ،‬أما الكفار فيرون الخسارة‬
‫بالرجال والمال تحيط بهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬يبعث ال السكينة في قلوب المسلمين ‪ ,‬أما الكفار فإن الحسرة تمل نفوسهم‬
‫لما يصيبهم من الحرمان‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬يفيد الجمع بين خاتمة الية السابقة وهذه الية أن ال عز وجل ينصر‬
‫المؤمنين‪ ،‬ويخزي الكافرين‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬قطع طرف من الكفار بشارة للمسلمين‪ ،‬وشفاء لصدورهم‪ ،‬ومناسبة لزيادة‬
‫إيمانهم‪.‬‬
‫الشعبة الثانية‪ :‬الصلة بين هذه الية واليات التالية‪ ،‬وفيها وجوه‪:‬‬
‫ك[)‪ ،(34‬وفيها مسائل‪:‬‬ ‫س َل َ‬
‫الول‪ :‬الصلة بين هذه الية والية التالية]َلْي َ‬
‫الولى‪ :‬إن ال عز وجل يكفي النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم كيد وأذى‬
‫عْبَدُه[ )‪.(35‬‬
‫ف َ‬
‫ل ِبَكا ٍ‬
‫س ا ُّ‬
‫الكفار ‪ ,‬قال تعالى]َأَلْي َ‬
‫الثانية‪ :‬بعث السكينة في نفس النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين لن‬
‫ال عز وجل هو الذي ينتقم من الكفار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ما يصيب الكفار من القطع والحرمان والخسران من عند ال عـز وجل‬
‫إنتقامًا وعقوبة لهم‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬بقاء باب التوبة مفتوحًا للكفار وغيرهم‪ ،‬وقد قتل وحشي الحمزة عم النبي‪،‬‬
‫ثم جاء إلى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم تائبًا مسلمًا إذ قيل له‪ :‬إن النبي‬
‫محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ل يقتل من جاء مسلمًا‪.‬‬

‫‪() 32‬النعام ‪.73‬‬


‫‪() 33‬الية ‪.126‬‬
‫‪() 34‬الية ‪.128‬‬
‫‪ () 35‬سورة الزمر ‪.36‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الخامسة‪ :‬تحذير الكفار من التمادي في الظلم والذي يكون سببًا للحوق الخزي بهم‬
‫في الدنيا‪ ،‬والعذاب في الخرة‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬من مصاديق قطع طرف من الكفار هلك بعض رؤسائهم‪ ،‬وجاءت الية‬
‫التالية لتؤكد أن العذاب ينتظرهم في الخرة‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬خسارة وعذاب الكفار من الرادة التكوينية‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬لما أختتمت الية السابقة بإسمين من أسماء ال عز وجل وأنه سبحانه‬
‫)العزيز الحكيم( جاءت بداية هذه الية بالخبار عن قطعه تعالى لطرف من الكفار‬
‫لتوكيد عظيم قدرة وسلطان ال‪.‬‬
‫شاُء[ ) (‪،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫‪36‬‬
‫ن َي َ‬
‫الثاني‪ :‬الصلة بين هذه الية وآية ]َيْغِفُر ِلَم ْ‬
‫الولى‪ :‬ليس للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين أمر في المغفرة‬
‫والعذاب في الخرة لنهما بيد ال عز وجل وحده‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬دعوة المؤمنين إلى الستغفار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬توكيد المائز بين المسلمين وغيرهم بأن فتح ال عز وجل باب الستغفار‬
‫للمسلمين‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬يأتي قطع طرف من الكفار بأمر ال عز وجل لن كل ما في السماوات‬
‫والرض ملك له سبحانه‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬ما يلقاه الكفار الذين يعتدون على المسلمين‪ ،‬ويغزونهم في ديارهم من‬
‫شاُء[ )‪.(37‬‬ ‫ن َي َ‬
‫ب َم ْ‬
‫عمومات قوله تعالى]َوُيَعّذ ُ‬
‫ل َتْأُكُلوا الّرَبا[ ) (‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫‪38‬‬
‫الثالث‪ :‬الصلة بين هذه الية وآية] َ‬
‫الولى‪ :‬إنتقال اليات لخطاب المسلمين بحكم عام ‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬دعوة المسلمين للشكر ل عز وجل لصابة الكفار بالخسران‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬بعد ضعف ووهن الكفار جاءت هذه الية لدعوة المسلمين للتفقه في الدين‪،‬‬
‫والعمل بأحكام الحلل والحرام‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬ضعف الكفار مقدمة لتثبيت سنن الشريعة في الرض‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬تقيد المسلمين بالتقوى والخشية من ال عز وجل واقية من كيد وأذى‬
‫الكفار‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الصلة بين هذه الية وآية]َواّتُقوا الّناَر[ ) (‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫‪39‬‬

‫الولى‪ :‬توكيد التباين والتضاد بين المسلمين وغيرهم في الدنيا والخرة‪ ،‬أما في‬
‫الدنيا فإن المسلمين يحرصون على إجتناب المعاصي التي هي مقدمة وسبب لدخول‬
‫النار‪ ،‬وأما في الخرة فإن الية تتضمن الخبار عن علة خلق النار وأنها أعدت‬
‫للكافرين‪.‬‬

‫‪() 36‬الية ‪.129‬‬


‫‪ () 37‬المائدة ‪.18‬‬
‫‪ () 38‬الية ‪.130‬‬
‫‪ () 39‬الية ‪.131‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثانية‪ :‬الية في مفهومها بشارة سيادة السلم وظهور دولته‪ ،‬وفيها حث للمسلمين‬
‫على التقيد بأحكام الشريعة في حال الرخاء والسلم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬بيان البلء والضرر الذي يلحق الكفار في الدنيا والخرة‪ ،‬أما في الدنيا فإن‬
‫الهلك والحرمان والخسارة تغزوهم مجتمعة ومتفرقة‪ ،‬وأما في الخرة فإن النار‬
‫سُكْم َوَأْهِليُكْم َناًرا[ ) (‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫ن آَمُنوا ُقوا َأنُف َ‬‫والعذاب الليم ينتظرهم‪ ،‬قال تعالى]َياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫إعجاز الية‬
‫جاءت الية السابقة في بيان النعم اللهية العظيمة على المسلمين المجاهدين في‬
‫سبيل ال‪ ،‬لتذكر هذه الية أثر المدد الملكوتي للمسلمين على الكفار‪ ،‬وبطش ال عز‬
‫وجل بهم‪ ،‬وتبين الية عظيم القدرة اللهية وأنه سبحانه ينتقم من الذين يحاربون‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫ومن إعجاز الية أنها جاءت بصيغة القطع والجزم وليس لغة النذار والتخويف‬
‫وحدها‪ ،‬لتكون المصاديق العملية والشواهد التأريخية على ما يصيب الكفار من‬
‫ل على نزول القرآن من عند ال‬ ‫النقص والضعف والوهن وهلك طائفة منهم دلي ً‬
‫عز وجل‪ ،‬ومنها مقتل صناديد ورؤساء قريش على نحو لم يكن متوقعًا‪ ،‬لن جيش‬
‫الكفار ثلثة أضعاف المسلمين‪ ،‬وهم أكثر عدة وسلحًا ومؤونة وجاءوا للقتال‬
‫وكأنهم في نزهة لم يدخل الخوف قلوب من خلفهم وأهليهم عليهم‪ ،‬لعلمهم بكثرتهم‬
‫وقوتهم ووجود العبيد والحابيش الذين يقاتلون دونهم إلى جانب ضعف المسلمين‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ )‪.(41‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫لذا ورد قوله تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫ومن إعجاز الية بعث المل في نفوس المسلمين‪ ،‬وجعلهم يزحفون إلى سوح القتال‬
‫وهم يعلمون بأن عدوهم يصاب بالضعف والوهن قبل وأثناء وبعد المعركة‪ ،‬فحتى‬
‫لو كان الكفار أقوياء وعلى أهبة الستعداد للقتال‪ ،‬وإجتهدوا في التدبير والمكر‬
‫والخداع فإن ال عز وجل يصيبهم بالوهن‪ ،‬وينزل القتل بقادتهم وكبار رجالهم بما‬
‫يبعث الفزع والخوف في قلوب الباقين منهم‪.‬‬
‫وقد يقال يدل تزايد وكثرة عدد المشركين في المعارك اللحقة لبدر على خلف‬
‫هذا المر‪ ،‬وأنه لو كان هناك عندهم خوف لما جاء في معركة أحد ثلثة آلف‬
‫مقاتل‪ ،‬وبعدها في معركة الخندق عشرة آلف‪ ،‬لن الخوف يقعد الفرد والجماعة‬
‫عن القتال‪.‬‬
‫والجواب أن هذه الية لم تشر إلى الخوف بالذات ‪ ,‬ولكنها تشير إلى ما هو أهم منه‬
‫من حصول القتل لرؤساء الضللة وخسارة الكفار وحرمانهم وخيبتهم مما يترشح‬
‫عنه الخوف لعامة الكفار‪ ،‬نعم قد ل يعم الخوف الكفار على نحو دفعي بل يأتي لهم‬
‫تدريجيًا وهو يقهر حمية الجاهلية والعصبية لدين الباء‪.‬‬
‫ويمكن أن نسمي هذه الية آية)ليقطع طرفًا( ولم يرد لفظ)طرفًا( في القرآن إل في‬
‫هذه الية الكريمة‪.‬‬
‫‪ () 40‬سورة التحريم ‪.6‬‬
‫‪ () 41‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الية سلح‬
‫تبين الية قانونًا من الرادة التكوينية وهو تعدد وجوه وسبل نصر ال عز وجل‬
‫للمسلمين‪ ،‬فيأتي النصر تارة بغلبة المسلمين في ميادين القتال‪ ،‬وأخرى بإقامة الحجة‬
‫ع ِإَلى‬
‫والبرهان على الكفار‪ ،‬وجذب الناس للسلم بالحكمة لذا ورد قوله تعالى]اْد ُ‬
‫سَنِة[)‪.(42‬‬
‫حَ‬‫ظِة اْل َ‬‫عَ‬‫حْكَمِة َواْلَمْو ِ‬ ‫ك ِباْل ِ‬‫ل َرّب َ‬
‫سِبي ِ‬
‫َ‬
‫وجاءت هذه الية لتؤكد نصر المسلمين بإلحاق الضرر بالكفار مع بيان وجوه من‬
‫هذا الضرر والتي تجعلهم عاجزين عن مواجهة السلم والمسلمين‪ ،‬ومما هو‬
‫متعارف في ميادين القتال أن قتل كبراء القوم يبعث في نفوسهم الفزع‪ ،‬ويكون مانعًا‬
‫من مواصلة القتال‪ ،‬وباعثًا إلى الهزيمة والفرار‪.‬‬
‫ومن إعجاز الية الكريمة في المقام أنها ثّبتت هزيمة الكفار في كل الحوال أي‬
‫سواء قتل القادة منهم أم لم يقتلوا فإنهم يصابون بالذعر والفزع والخيبة والخسران‪،‬‬
‫ويدركون عجزهم عن تحقيق النصر والغلبة على المسلمين‪.‬‬
‫وهذه الية حرب على الستكبار والصدود عن النبوة وتحذير للناس جميعًا من‬
‫النقياد لوامر رؤساء الكفر لن عاقبتهم إلى خسران‪ ،‬ولنهم غير قادرين على‬
‫حفظ أنفسهم والسلمة من الهلك والقطع‪ ،‬ويأتي الكفار للمعركة وهم فرحون بكثرة‬
‫جنودهم ومناجاتهم بالباطل‪ ،‬وما عندهم من السلحة والخيل والمؤون‪ ،‬ولم يعلموا‬
‫أن هذه الية الكريمة تصاحب المسلمين في سوح المعارك وتكون لهم مددًا وعونًا‬
‫وسلحًا‪ ،‬وسببًا لرجحان كفة المسلمين وتدارك نقص عددهم‪ ،‬وقلة مؤونتهم‪ ،‬قال‬
‫لْدَباَر[)‪ ،(43‬ومن أسباب هزيمة الكفار قطع‬ ‫ن َكَفُروا َلَوّلْوا ا َ‬‫تعالى]َوَلْو َقاَتَلُكْم اّلِذي َ‬
‫طرف منهم ‪ ,‬وبعث اليأس والحرمان في نفوسهم‪.‬‬
‫ل ُهَو[) (‪ ،‬الجواب‬
‫‪44‬‬
‫ك ِإ ّ‬
‫جُنوَد َرّب َ‬
‫وهل هذه الية من عمومات قوله تعالى]َوَما َيْعَلُم ُ‬
‫نعم فإن لفظ الجند في المقام أعم من أن ينحصر بالشخاص‪ ،‬بل يشمل الوسائل‬
‫والوسائط والسباب التي تساهم في تثبيت دعائم السلم‪ ،‬وتقهقر الكفر‪ ،‬ووهن‬
‫الكافرين‪ ،‬ومنه هذه الية وما فيها من الخبار عن بطش ال عز وجل بهم‪.‬‬
‫مفهوم الية‬
‫ل للناس كافة‪،‬‬ ‫لقد بعث ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم رسو ً‬
‫وخفف سبحانه عن الناس في مسألة التصديق بنبوته وما جاء من التنزيل‬
‫بالمعجزات العقلية والحسية التي صاحبت نبوته ثم بقت وضياؤها في الرض‪ ،‬لم‬
‫تغادرها إلى يوم القيامة وإن إنتقل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إلى الرفيق‬
‫العلى‪.‬‬
‫وهذه الية الكريمة من تلك المعجزات‪ ،‬وتطل على الناس جميعًا كل يوم‪ ،‬ويتلوها‬
‫المسلمون في صلتهم في الليل والنهار لتتضمن معاني النذار والوعيد للكفار‪،‬‬
‫‪ () 42‬سورة النحل ‪.125‬‬
‫‪ () 43‬سورة الفتح ‪.22‬‬
‫‪ () 44‬المدثر ‪.31‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وتدل في مفهومها على نصر ال عز وجل للمسلمين بما يصيب الكفار من القتل‬
‫والتخويف والهزيمة سواء بالسباب الظاهرة أو الخفية‪ ،‬والرضية والسماوية وعلى‬
‫أيدي المؤمنين أو بنزول الملئكة‪.‬‬
‫ومما تتصف به هذه الية أنها معجزة من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬البلغة‪ ،‬ومضامين الرقي اللغوي الذي تتصف به‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬جمع الية للنذار والبشارة في آن واحد مع التباين الجهتي‪ ،‬إذ يتوجه النذار‬
‫للكفار‪ ،‬والبشارة للمؤمنين‪ ،‬وتحتمل ماهية البشارة في المقام وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬يدل مفهوم الية على البشارة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يتضمن منطوق الية الكريمة البشارة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المعنى العم وأنها تتضمن بشارة المؤمنين بالنصر منطوقًا ومفهومًا‪.‬‬
‫والصحيح هو الثالث إذ أن تقسيم المعنى إلى منطوق ومفهوم تقسيم إستقرائي ‪,‬‬
‫وتقدير الية بلحاظ المنطوق‪ :‬لينصركم ال بأن يقطع طرفًا من الذين كفروا( لذا‬
‫ورد في وجوه تفسير)أو يكبتهم( أي )يظفركم عليهم‪ ،‬عن المبرد()‪ ،(45‬بالضافة إلى‬
‫مجيء الية ضمن لغة البشارة للمسلمين وحثهم على مواصلة القتال‪ ،‬والعصمة من‬
‫اليأس والقنوط والخوف من الكفار‪ ،‬وطرف الكفار هو القرب للمؤمنين في‬
‫المواجهة واللقاء‪ ،‬وحينما يتفضل ال عز وجل بقطع هذا الطرف فإنه يقرب‬
‫المؤمنين من النصر‪ ،‬ويجعلهم في أمن من الخسارة الفادحة والضرر البالغ‪.‬‬
‫وقد يمد ال لقادة الكفار‪ ،‬ويستدرجهم من حيث ل يعلمون فجاءت هذه الية دعوة‬
‫للمسلمين للصبر والتقوى ومواصلة القتال في سبيل ال‪ ،‬والخبار عن بعث الخيبة‬
‫في نفوس الكفار‪ ،‬كما حصل في معركة الخندق فلم يقتل من الكفار عدد يذكر لعدم‬
‫حصول مواجهة وقتال بين الفريقين بإستثناء مبارزة تأريخية معروفة قتل فيه المام‬
‫علي عليه السلم عمرو بن ود العامري‪ ،‬والرمي بالنبل ‪.‬‬
‫ن[)‪ ،(46‬لتكون معجزة أخرى وإخبارًا عن نتيجة‬ ‫خاِئِبي َ‬
‫لذا جاءت خاتمة الية]َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫أخرى للمعركة لم تطرأ على أذهان المسلمين بأن يأتي الكفار فيجدون خندقًا يحيط‬
‫بالمدينة ويعجزون عن إقتحامه‪ ،‬فيبقون حول المدينة سبعًا وعشرين ليلة ليرجعوا‬
‫إلى مكة بذل وخيبة‪ ،‬ويشيع أمر إنكسارهم بين القبائل خصوصًا وأن لتعدد الهجوم‬
‫على المسلمين موضوعية فيما يترتب من الثر عند الناس‪.‬‬
‫فقد زحفت قريش بخيلها وخيلئها يوم بدر فلم يرجع أغلب صناديدها لذا قيل في‬
‫ن َكَفُروا[أنه )يوم بدر‪ ،‬عن الحسن والربيع‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫طَرًفا ِم ْ‬
‫طَع َ‬ ‫تأويل قوله تعالى]ِلَيْق َ‬
‫وقتادة( )‪ ،(47‬وكانت نتيجة المعركة والهزيمة التي لحقت قريش مفاجئة لهم وللناس‬
‫جميعًا‪ ،‬وتلك المفاجئة برهان في صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫‪ () 45‬مجمع البيان ‪.1/500‬‬


‫‪() 46‬سورة آل عمران ‪.127‬‬
‫‪ () 47‬مجمع البيان ‪.1/500‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ومن العجاز الغيري للقرآن دللة الوقائع والحوادث على مضامين هذه الية‬
‫وآيات القرآن الخرى‪ ،‬ثم زحفت قريش وغطفان وقبائل أخرى في معركة بدر بعدد‬
‫وعدة أعظم وأكثر وبما يبعث الخوف والهيبة في القلوب‪.‬‬
‫إن دراسة مقارنة بين عدة قريش لمعركة بدر وعدة المسلمين دليل على شأن وقوة‬
‫قريش‪ ،‬وسطوتها وهيبتها بين القبائل‪ ،‬ومع أن عدد المسلمين في السنة التي هي بين‬
‫معركة بدر وأحد لم يطرأ عليه تغيير كبير من الناحية العسكرية والقتالية فإن نتيجة‬
‫معركة أحد لم تختلف كثيرًا عن معركة بدر‪ ،‬فقد عجز الكفار عن إلحاق الضرر‬
‫بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وإن كسرت رباعيته‪ ،‬وشج في وجهه‪ ،‬ليكون‬
‫ن[‪.‬‬‫خاِئِبي َ‬
‫إنسحاب الكفار من المعركة من مصاديق قوله تعالى]َأْو َيْكِبَتُهْم َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫وكأن نتيجة بدر موافقة لصدر الية وقطع طرف من المشركين‪ ،‬ونتيجة معركة‬
‫ن[ وصدق قطع وخيبة الكفار على‬ ‫خاِئِبي َ‬
‫أحد موافقة لخاتمة الية]َأْو َيْكِبَتُهْم َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫كل من المعركتين ‪.‬‬
‫ثم زحفت قريش بجيوش ل قبل للمسلمين وتأريخ العرب بها‪ ،‬فلم يشهد تاريخ‬
‫المعارك والقتال في الجزيرة العربية وما حولها مثل عدد الجيوش التي زحفت يوم‬
‫الخندق‪ ،‬إذ كانت القبائل العربية بعضها يغير على بعض مما يعني التشتت والفرقة‬
‫والتناصر الذاتي‪ ،‬أما في الخندق فقد إجتمع المكي والحضري والبدوي والعرابي‬
‫لقتال المسلمين‪ ،‬ولم يعلموا أن الملئكة وأدعية النبياء تقف حاجزًا بينهم وبين النيل‬
‫من رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم الذي بعثه ال عز وجل رحمة بهم ‪ ,‬وفي‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ل مِْنُهْم َيْتُلو َ‬‫سو ً‬ ‫ث ِفيِهْم َر ُ‬ ‫دعاء إبراهيم عليه السلم ورد في التنزيل]َرّبَنا َواْبَع ْ‬
‫حْكَمَة[ )‪.(48‬‬ ‫ب َواْل ِ‬
‫ك َوُيَعّلُمُهْم اْلِكَتا َ‬
‫آَياِت َ‬
‫وجاءت هذه الية جامعة لتلك الوقائع وشاهدًا عليها‪ ،‬ومرآة سماوية لما لقاه‬
‫المسلمون من العناء والذى في جنب ال عز وجل‪ ،‬وفضل ال عليه في كبت‬
‫عدوهم وإرجاع كيده إلى نحره‪ ،‬وفي الية مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إقتران البشارة للمسلمين بالنصر بهزيمة ودحر عدوهم‪ ،‬وفيه بعث للسكينة‬
‫والطمأنينة في نفوسهم‪ ،‬فقد يظن فريق من المسلمين بعودة الكفار للقتال من جديد‬
‫مع أفواج جديدة وأنصار وحلفاء لهم‪ ،‬فجاءت هذه الية لتبين الخيبة التي عليها‬
‫ل[‬‫طَفَأَها ا ُّ‬
‫ب َأ ْ‬‫حْر ِ‬ ‫أعداء السلم وتخلفهم عن الضرار بالمسلمين]ُكّلَما َأْوَقُدوا َناًرا ِلْل َ‬
‫)‪.(49‬‬
‫الثانية‪ :‬كما أن الفضل اللهي على المسلمين ل ينحصر بموضوع أو أفراد‬
‫مخصوصة‪ ،‬فكذا العقاب النازل بالكفار فإنه ل ينحصر بباب من أبواب البلء‬
‫والذى ‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لبيان التعدد فيه‪ ،‬فقد يهلك كبار وقادة الكفار‪ ،‬وقد يبقون أحياء ‪,‬‬
‫ولكن يعيشون الحرمان ويحسون الخسارة ويشهدون تفرق العوان عنهم‪ ،‬وإنتقال‬
‫‪ () 48‬سورة البقرة ‪.129‬‬
‫‪ () 49‬سورة المائدة ‪.64‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫فريق منهم إلى السلم ليفوزوا بنيل إسم ومرتبة النصار‪ ،‬وما فيه من الشراقة‬
‫المباركة في الدنيا‪ ،‬والثواب والمنزلة الرفيعة في الخرة‪ ،‬لذا يمكن إستقراء مسألة‬
‫عقائدية من الية وهي دعوة عامة الكفار إلى التخلي عن رؤسائهم‪ ،‬وحثهم على‬
‫دخول السلم خصوصًا وأن الكبراء ل يستطيعون القتال إل بهؤلء العوان‬
‫والعامة‪.‬‬
‫ومن اليات في خلق النسان ما رزقه ال عز وجل من العقل الذي هو كلي طبيعي‬
‫يكون عند كل فرد منهم ليتدبر عامة الكفار من منازل الستضعاف‪ ،‬والنفرة من‬
‫إجتماع الكفر والباطل والستضعاف‪ ،‬وتكون نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫دعوة لهم لمراتب الرفعة والعز‪ ,‬والسعادة الدنيوية والخروية‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬نصر ال عز وجل للمؤمنين خزي وخيبة للكافرين‪ ،‬وكذا دخول الناس في‬
‫السلم‪ ،‬فكلما دخل أفراد وجماعة في السلم يصاب الكفار بالحزن والخيبة‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬بشارة المؤمنين بهلك أقطاب الكفر والضللة ‪ ،‬ومن يعتدي على المسلمين‬
‫ممن جاورهم وجاء من مكان بعيد بغية قتال المسلمين‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬منع تسرب الخوف إلى نفوس المسلمين من رؤساء الكفر والشرك‪ ،‬فمن‬
‫المسلمين من هو حديث عهد بالسلم‪ ،‬ويخشى صولة قريش ورؤساء الكفر وما‬
‫عندهم من العدة والسلح فأخبرت الية عما يلقاه زعماء المشركين من القطع‬
‫والهلك لتكون حرزًا لجيال المسلمين من الكفار وإن تباين العدد والعدة‪ ،‬لن الية‬
‫تتضمن الخبار عن البطش برؤساء الكفر وإن كانوا ذوي قوة وأموال وأولد‪،‬‬
‫عْنُهْم َأْمَواُلُهْم‬
‫ي َ‬
‫ن ُتْغِن َ‬
‫فليس من مانع يحول دون إنتقام ال عز وجل منهم قال تعالى]َل ْ‬
‫شْيًئا[ )‪.(50‬‬
‫ل َ‬‫ن ا ِّ‬
‫لُدُهْم ِم ْ‬‫ل َأْو َ‬
‫َو َ‬
‫السادسة‪ :‬جاءت الية بلغة الترديد وتعدد ما يلقيه الكفار‪ ،‬وليس فيه مندوحة وسعة‬
‫لهم‪ ،‬إذ أن البلء يحيط بهم‪ ،‬ول يستطيعون النجاة منه إل بدخول السلم‪ ،‬والية‬
‫وعيد لهم بما هم كفار ‪ ,‬وعندما يتغير الموضوع يتغير الحكم وال واسع كريم ‪ ,‬أي‬
‫أن البلء زجرًا وعقوبة يبقطع بدخوله‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬لقد سعى الكفار للنصر والغلبة على المسلمين‪ ،‬فجاءت الية إنذارًا ووعيدًا‬
‫لهم بأن ال عز وجل يصرعهم‪ ،‬ويهلكهم ويخزيهم‪ ،‬وهل في الية دعوة لهم للتوبة‬
‫والنابة ‪ ,‬الجواب نعم خصوصًا وأن الية تفضح حال الضعف والوهن التي عليها‬
‫الكفار‪ ،‬وتبين أن ال عز وجل هو القوي الحكيم‪ ،‬وهذه الية من مصاديق قوله‬
‫جِميًعا[ )‪.(51‬‬
‫ل َ‬ ‫ن اْلُقّوَة ِّ‬
‫تعالى]َأ ّ‬
‫وهل تدل الية على الجبر ونفي قانون العلة والمعلول في الخلئق‪ ،‬وأنه ليس من‬
‫تأثير إستقللي أو تبعي للكفار فيما بينهم‪ ،‬الجواب ل‪ ،‬إنما جاءت الية لبيان البلء‬

‫‪ () 50‬سورة آل عمران ‪.10‬‬


‫‪ () 51‬سورة البقرة ‪.165‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫والضرر الذي يلحق الكفار لصرارهم على الكفر وتعديهم على المسلمين‪ ،‬قال‬
‫ن ُيِتّم ُنوَرُه[ )‪.(52‬‬ ‫ل َأ ْ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ل ِبَأْفَواهِِهْم َوَيْأَبى ا ُّ‬
‫طِفُئوا ُنوَر ا ِّ‬
‫ن ُي ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫تعالى]ُيِريُدو َ‬
‫لذا يتفق المسلمون على أن هذه الية بشارة لهم ووعيد للكافرين‪ ،‬والوعيد للكفار‬
‫على وجوه منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما يخص الحياة الدنيا‪ ،‬وهو على أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما يتعلق بالمعاشات والتجارات والمكاسب‪ ،‬وفي ذم الكفار وسوء عاقبة وأثر‬
‫حَياِة الّدْنَيا َكَمَث ِ‬
‫ل‬ ‫ن ِفي َهِذِه اْل َ‬‫ل َما ُيْنِفُقو َ‬‫ما ينفقون في محاربة السلم ‪ ,‬قال تعالى]َمَث ُ‬
‫سُهْم[‪.‬‬‫ظَلُموا َأْنُف َ‬
‫ث َقْوٍم َ‬‫حْر َ‬‫ت َ‬‫صاَب ْ‬ ‫صّر َأ َ‬‫ح ِفيَها ِ‬‫ِري ٍ‬
‫الثاني‪ :‬ما يتعلق بالبدان‪ ،‬وما يصيب الكفار في أنفسهم وأولدهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما يخص العقائد برمي الكفار بالجهالة والسفه وخفة العقل‪ ،‬قال تعالى]ا ُّ‬
‫ل‬
‫ئ ِبِهْم[ )‪.(53‬‬
‫سَتْهِز ُ‬
‫َي ْ‬
‫الثاني‪ :‬ما يخص الخرة‪ ،‬وليس من حصر لنواع العذاب التي تصيب الكفار في‬
‫الخرة‪ ،‬فل يكون الذى والعقاب الذي يلقاه الكفار بمرتبة البلء‪ ،‬بل هو عذاب‬
‫شديد ل إنقطاع أو تخفيف فيه‪ ،‬وصحيح أن هناك تباينًا بين عالم الخرة والحياة‬
‫الدنيا إل أن بلء وعذاب الكفار في النشأتين متداخل في الماهية‪ ،‬ليس من فصل‬
‫بينهما‪ ،‬وتلك آية في الرادة التكوينية‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬قد يقطع طرف من الذين كفروا ولكنهم يبقون مصرين على قتال المسلمين‪،‬‬
‫ومحاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم فجاءت خاتمة الية ببلء ل يحمل‬
‫صبغة الستئصال‪ ،‬ولكنه يتغشى الكفار عامة وبما يفيد خزيهم وخسارتهم‪.‬‬
‫التاسعة‪ :‬الذين يعادون النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ويحاربون المسلمين لم‬
‫يظفروا بما كانوا يأملون‪ ،‬بل يولون مدبرين ويلقون الخيبة‪.‬‬
‫الية لطف‬
‫لقد جعل ال عز وجل النسان كائنًا محتاجًا‪ ،‬والحاجة ملزمة لعالم المكان‪،‬‬
‫وتلزم الحاجة النسان في ليله ونهاره وجميع أيام حياته‪ ،‬وهذه الحاجة متعددة في‬
‫ماهيتها وجنسها وموضوعها‪ ،‬وكما تصاحب الفرد فإنها تصاحب الجماعة والطائفة‬
‫والمة‪ ،‬ومنهم المسلمون فإنهم محتاجون إلى ال عز وجل‪ ،‬كما يحتاج إليه باقي‬
‫الناس‪ ،‬ولكن المسلمين يتصفون بأمور تكون عونًا لهم في قضاء الحوائج منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬إتخاذ الدعاء بلغة لنيل المقاصد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تصديقهم بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته قال‬
‫صُرُه[ )‪.(54‬‬ ‫ن َين ُ‬
‫ل َم ْ‬‫ن ا ُّ‬‫صَر ّ‬
‫تعالى]َوَلَين ُ‬
‫الثالث‪ :‬إخلص المسلمين في عبادة ال‪ ،‬وتعاهدهم للتنزيل‪.‬‬

‫‪ () 52‬سورة التوبة ‪.32‬‬


‫‪ () 53‬سورة البقرة ‪.15‬‬
‫‪ () 54‬سورة الحج ‪.40‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬إنفراد المسلمين بالتصديق بجميع النبياء والمرسلين على نحو العموم‬
‫الستغراقي‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬مجيء القرآن بالبشارات للمسلمين‪ ،‬والنذارات للكافرين‪.‬‬
‫السادس‪ :‬تحقق النصر والغلبة في المعارك للمسلمين‪ ،‬وجاءت هذه الية بشارة‬
‫بالنصر‪ ،‬وإخبارًا سماويًا عن إنتقام ال عز وجل من الكفار والمشركين‪.‬‬
‫والية لطف من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها لطف بالمسلمين‪ ،‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬البشرى بضعف ووهن عدوهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إزاحة الموانع التي تمنع من إنتشار السلم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬النتقام ممن يريد قتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬بقاء هذه الية مصاحبة للمسلمين في كل الزمنة والمكنة‪ ،‬لتكون واقية‬
‫وحرزًا وأمنًا من الظالمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الية لطف بالناس غير المسلمين‪ ،‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تدعو الية الناس إلى عدم إتباع الظالمين في تعديهم على السلم‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬تبين الية للناس العناية واللطف اللهي بالمسلمين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬مجيء الوقائع والحوادث مصداقًا لمضامين هذه الية‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬حث للناس على دخول السلم‪ ،‬ونبذ الكفر ومفاهيم الضللة‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬هزيمة الكفار خاسرين سبب لزوال هيبتهم من النفوس‪.‬‬
‫س اّتُقوا َرّبُكْم[ ) (‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫السادسة‪ :‬تدعو الية الناس للخشية من ال‪ ،‬قال تعالى]َياَأّيَها الّنا ُ‬
‫الثالث‪ :‬الية الكريمة لطف بالكفار الذين يعتدون على المسلمين وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الية إنذار للكفار‪ ،‬ومن منافع النذار الدعوة للتوبة والنابة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬تبعث الية الوهن والضعف في نفوس الكفار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تمنع الية الكفار من بث روح الشك والريب ببعثة النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم لنها تجعلهم مشغولين في أنفسهم‪ ،‬عاجزين عن الذب عنها‪.‬‬
‫إفاضات الية‬
‫تتضمن الية معاني الرتباط بين عالم الشهود وعالم الغيب بما يمل قلوب المسلمين‬
‫بالسكينة‪ ،‬ويجعلهم يواظبون على العبادة خوفًا من ال وطمعًا في جنته‪ ،‬وشكرًا له‬
‫على نعمة النتقام من أعدائهم‪.‬‬
‫لقد بدأت الدعوة للسلم بشخص النبي الكرم محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ونفر من أهل بيته وأصحابه ليواجهوا أعتى قوى الضللة والبغي‪ ،‬ومفاهيم الكفر‬
‫والفساد ‪ ,‬وليس معهم من سلح إل كلمة ل إله إل ال‪ ،‬ليأتي المدد والعون من‬

‫‪ () 55‬سورة لقمان ‪.33‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫السماء بآيات البشارة والنذار‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬قال تعالى]َواْذُكُروا ِإْذ َأْنُتْم َقِلي ٌ‬
‫ل‬
‫صِرِه[ )‪.(56‬‬ ‫س َفآَواُكْم َوَأّيَدُكْم ِبَن ْ‬
‫خطَّفُكْم الّنا ُ‬
‫ن َيَت َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫خاُفو َ‬
‫ض َت َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َ‬ ‫ضَعُفو َ‬‫سَت ْ‬
‫ُم ْ‬
‫لقد أراد ال عز وجل للناس النجاة من طاعة الهوى‪ ،‬وجاءت هذه الية للوقاية من‬
‫إستحواذ مفاهيم العناد والجحود على النفوس لما فيها من النذار والتوبيخ والزجر‬
‫عن محاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين ببيان البلء الشديد‬
‫الذي يتعرض له الذين يحاربونه‪.‬‬
‫وتبين الية في مفهومها أن ال عز وجل بعث النبي محمدًا صلى ال عليه وآله‬
‫س ِإّني‬‫ل َياَأّيَها الّنا ُ‬ ‫وسلم للناس من غير حصر بأمة أو جنس مخصوص قال تعالى]ُق ْ‬
‫جِميًعا[)‪ ،(57‬وأن ال سبحانه هيئ السباب‪ ،‬وأزال الموانع التي‬ ‫ل ِإَلْيُكْم َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سو ُ‬‫َر ُ‬
‫تحول دون اليمان ومنهم رؤساء الضللة كصناديد قريش وكبراء المشركين بأن‬
‫رماهم بالقطع والهلك والقتل والحرمان من بلوغ ما يأملون في الغلبة في ميادين‬
‫القتال‪.‬‬
‫ولم تذكر الية الكريمة الفتنة والخلف بين رؤوساء الكفر ‪ ,‬ولكنه يستقرأ ويترشح‬
‫من صبغة الخيبة التي نعتتهم الية بها ‪ ,‬وهو من فضل ال عز وجل على المسلمين‬
‫ومناسبة لجتهادهم في طاعة ال‪ ،‬وليس من حصر لفضل ال عز وجل في هذا‬
‫الباب)فروى أبو هريرة عن النبي صلى ال عليه وآله وسّلم أنه قال ألم تروا كيف‬
‫صرف ال عني لعن قريش و شتمهم يشتمون مذمما وأنا محمد( )‪.(58‬‬
‫الصلة بين أول وآخر الية‬
‫بدأت الية بالخبار عن بطش وإنتقام ال عز وجل من رؤساء الكفر والضللة‪،‬‬
‫ومن إعجاز الية أنها بدأت بالقطع لغة وموضوعًا وحكمًا‪ ،‬فلم تأت الية بلغة‬
‫الوعيد والتحذير للكفار‪ ،‬ولغة النشاء‪ ،‬نعم جاءت الية بصيغة الفعل المضارع‬
‫الذي يفيد الستقبال‪ ،‬ولكن وجود لم التعليل في)ليقطع( يدل على الجزم والقطع في‬
‫حصول البتر والهلك لقطاب الكفر‬
‫الذين تصدروا جماعات الكفار‪ ،‬وقادوا جيوشهم في الزحف على المسلمين‪ ،‬وجاء‬
‫ن َكَفُروا[ لفادة التبعيض وبيان حقيقة وهي أن القطع والقتل‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫حرف الجر في]ِم ْ‬
‫ل يأتي على الكفار كلهم‪ ،‬بل يأتي على عدد من أقطابهم ‪ ,‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلء وموعظة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬هلك عدد من أقطاب الكفر عبرة وموعظة للناس جميعًا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من الكفار من تدركه التوبة ويدخل السلم‪ ،‬ويحسن إسلمه‪ ،‬ويكون أيضًا‬
‫موعظة للناس‪ ،‬وداعية لجذبهم للسلم‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬هلك بعض رؤساء الكفار كاف لبعث الضعف والوهن في صفوفهم‪.‬‬

‫‪ () 56‬سورة النفال ‪.26‬‬


‫‪ () 57‬سورة العراف ‪.158‬‬
‫‪ () 58‬مجمع البيان ‪.1/514‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الخامسة‪ :‬بيان قوة ومنعة المسلمين‪ ،‬وأهليتهم للدفاع عن السلم‪ ،‬ومواجهة الكفار‪،‬‬
‫جِميًعا[‬
‫س َ‬‫ل َلَهَدى الّنا َ‬
‫شاُء ا ُّ‬
‫وكان فيهم عدد من الرؤساء والقطاب‪ ،‬قال تعالى]َلْو َي َ‬
‫)‪.(59‬‬
‫وجاءت الية بالخبار عن كبت وخزي وخيبة الكفار]َكَفُروا[ لفادة الترديد والتعدد‬
‫والجمع في وجوه الضرر الذي يلحق الكفار بتعديهم على المسلمين‪ ،‬ويحتمل‬
‫الضمير الهاء في)يكبتهم( وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة الطرف والرؤساء من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪:‬المقصود عموم الكفار إذ يصابون بالخيبة‪ ،‬ويحرمون من تحقيق الغلبة على‬
‫المسلمين والضرار بهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الكفار الذين يحاربون المسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬رؤساء قريش ونحوهم ممن هجموا على المسلمين وقاتلوهم بقرينة خاتمة‬
‫ن[‪.‬‬
‫خاِئِبي َ‬
‫الية]َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫وليس من تعارض بين هذه الوجوه لن كل فرد منها في طول الخر‪ ،‬فهلك بعض‬
‫رؤساء الكفار خيبة لهم جميعًا سواء الذين هم قريبون من المسلمين أو بعيدون‬
‫عنهم‪ ،‬وهو من عمومات المصطلح الصولي"مفهوم الموافقة" وهو الذي يتحد في‬
‫السنخية والمضمون مع المنطوق لوحدة الموضوع في تنقيح المناط‪.‬‬
‫ومن اليات حصول التأثير المتبادل بين الكفار في الحرمان والخيبة‪ ،‬بأن يبث‬
‫بعضهم لبعض أسباب الضعف والوهن‪ ،‬إلى جانب النقل العام الختياري والقهري‬
‫لمعجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وما يترتب عليه من الثر في‬
‫س[)‪ (60‬يدل في مفهومه على‬ ‫ل َكاّفًة ِللّنا ِ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫سْلَنا َ‬
‫النفوس عامة ‪ ,‬فقوله تعالى]َوَما َأْر َ‬
‫اللطف والمدد اللهي بنشر أحكام الشريعة السلمية وإصغاء الناس ليات القرآن‪،‬‬
‫وإنجذابهم لنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬ورمي الذين يحاربونه بالضعف‬
‫والوهن والخيبة‪.‬‬
‫وتلك آية عظمى في الرادة التكوينية‪ ،‬وتهيئة أسباب نصر ال عز وجل للمؤمنين‬
‫بالمدد المركب الذي يتنافى طرفاه جهتيًا‪ ،‬ويلتقيان في العلة والموضوع والثر‪،‬‬
‫فيأتي المدد والعون للمؤمنين‪ ،‬ومنه نزول الملئكة لنصرتهم‪ ،‬ويبتلى الكفار‬
‫ورؤساؤهم خاصة بالفزع والخوف والهلك‪ ،‬وهذا الهلك على وجهين‪:‬‬
‫الول‪ :‬المدد اللهي للمسلمين بهلك للكفار‪ ،‬كما في نزول الملئكة لنصرة‬
‫المسلمين‪ ،‬سواء قاتل الملئكة أو لم يقاتلوا‪ ،‬وعن)ابن عباس لم تقاتل الملئكة إل‬
‫يوم بدر و كانوا في غيره من اليام عدة و مددا( )‪.(61‬‬
‫الثاني‪ :‬مجيء الهلك لرؤساء الكفار إبتداء أو فتنة أو بآفة أرضية أو سماوية‬
‫) وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ ‪ :‬ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة !‬
‫‪ () 59‬سورة الرعد ‪.31‬‬
‫‪() 60‬سورة سبأ ‪.28‬‬
‫‪ () 61‬مجمع البيان ‪. 2/341‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫قال ‪ :‬أجهل من قومي قومك قالوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم حين دعاهم إلى‬
‫جاَرًة[ ولم يقولوا ‪ :‬إن كان هذا‬
‫حَ‬ ‫عَلْيَنا ِ‬
‫ك َفَأْمطِْر َ‬
‫عْنِد َ‬
‫ن ِ‬‫ق ِم ْ‬
‫حّ‬
‫ن َهَذا ُهَو اْل َ‬‫ن َكا َ‬
‫الحق ]ِإ ْ‬
‫هو الحق فاهدنا له() (‪ ،‬فكان من جهلهم أن نزل العذاب بهم‪.‬‬
‫‪62‬‬

‫ترى ما هي النسبة بين القطع والكبت والجواب هو العموم والخصوص المطلق‪،‬‬


‫فكل قطع هو كبت وليس العكس‪ ،‬ويصيب القطع والهلك في المقام المل من‬
‫الكفار‪ ،‬أما الكبت فهو عام يشمل الكفار جميعًا‪ ،‬وهلك بعض رؤسائهم وصناديدهم‬
‫من الكبت والخزي لهم عامة‪ ،‬ول ينحصر هذا الخزي بالحياء من الكفار بل يشمل‬
‫الذين يقتلون منهم لن الخزي يلحقهم بإزدراء الناس والتأريخ لهم‪ ،‬ولما ينتظرهم‬
‫من العذاب الليم‪.‬‬
‫ويترشح عن الكبت والخزي رجوع الكفار خاسرين يشعرون بالذل لتخلفهم عن‬
‫بلوغ الغاية التي خرجوا من أجلها وأنفقوا الموال الطائلة‪ ،‬وجمعوا الجيوش لها‬
‫وهي قتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪ ،‬ومنع توالي نزول آيات‬
‫القرآن‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لتكون خزيًا إضافيًا للحياء والموات منهم‪ ،‬وإنذارًا سماويًا‬
‫متجددًا لكل من يريد التعدي على السلم أو التواطؤ مع الظالمين وإعانتهم بالمال‬
‫والسلح‪ ،‬وذكرت الية أمرين ل ثالث لهما‪:‬‬
‫الول‪ :‬هلك رؤساء الكفر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬خزي وحرمان الكافرين‪.‬‬
‫وليس من قسيم ثالث لهما‪ ،‬مما يدل على أن هذه الية وعيد للكفار الذين يتعدون‬
‫على المسلمين ويزحفون لقتالهم‪ ،‬فأي كان عدد أفراد الجيوش التي يأتون بها‪،‬‬
‫والسلحة التي يحملونها‪ ،‬والموال التي ينفقونها في جمع الجنود والسلح والدواب‬
‫والمؤون فإن مصيرهم إلى أحد المرين أعله ‪ ,‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إنه من إعجاز الية الكريمة وإخبار عن علم الغيب‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬الوعيد للكفار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬الخبار عن عدم حصول نصر وغلبة للكفار‪ ،‬ومن اليات أن الشواهد‬
‫التأريخية برهان عليه‪ ،‬فإن قلت قد إنتصر الكفار يوم أحد‪ ،‬والجواب لم يتحقق‬
‫ل ورجعوا خائبين نادمين لم‬ ‫للكفار النصر يوم أحد وقتل منهم إثنان وعشرون رج ً‬
‫ينالوا بغيتهم في قتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪.‬‬
‫وجاءت الية بالحرف )أو( الذي يفيد الترديد بين المرين‪ ،‬إل أنها لم تمنع من‬
‫ل بالكفار‪ ،‬وعقوبة عاجلة لهم على تعديهم على السلم‪.‬‬ ‫إجتماعهما معًا نكا ً‬
‫الرابعة‪ :‬في الية تحذير للكفار بالكف عن التعدي على المسلمين‪ ،‬وترغيب لهم‬
‫بدخول السلم‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬تبين الية قانونًا ثابتًا وهو أن الذين يعتدون على السلم والمسلمين لم‬
‫يحصدوا إل الصرع والخيبة والخسران‪.‬‬
‫‪ () 62‬الكشاف ‪.2/155‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السادسة‪ :‬مجيء البلء والضرر للكفار المعتدين على نحو العموم الستغراقي الذي‬
‫ل ينجو منه بعضهم إل بدخول السلم ‪ ,‬وحسن التوبة والنابة‪.‬‬
‫الية نعمة‬
‫جاءت بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والناس مقيمون على الكفر‬
‫والضللة‪ ،‬ووصلت الصنام إلى البيت الحرام وعلقت فيه‪ ،‬وسادت أعراف‬
‫وعادات جاهلية‪ ،‬وغلبت الوثنية على القيم والمعاملت‪ ،‬وإنتشرت الخلق‬
‫المذمومة‪ ،‬وصار الغزو والتعدي وقتل الموؤودة أمرًا متعارفًا غير مستهجن عند‬
‫القبائل‪ ،‬فدعاهم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إلى عبادة ال‪ ،‬والقرار‬
‫بنبوته‪ ،‬وإتيان الفرائض العبادية‪ ،‬ومنها الصلة خمس مرات في اليوم ‪ ,‬وُفرض‬
‫ب[ ) (‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫لْلَبا ِ‬
‫حَياٌة َياُأْوِلي ا َ‬
‫ص َ‬
‫صا ِ‬
‫القصاص بأمر من عند ال قال تعالى]َوَلُكْم ِفي اْلِق َ‬
‫وفيه آية بأن فرض الحكام جاء بصيغة القناع والبرهان لستدراج إعانة الناس‬
‫للمتثال لحكام الشريعة والقرار بما فيها من المنافع‪ ،‬ومنع مقابلتها بالصدود‬
‫والعناد الذي قد يترشح منه التعدي على شخص النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وقتله وأصحابه‪ ،‬ومع هذا فإن رؤوس الشرك والكفر زحفوا على المدينة‬
‫المنورة لقتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪.‬‬
‫لقد أخافهم وأفزعهم توالي نزول آيات القرآن‪ ،‬فجهزوا الجيوش للجهاز على‬
‫النبوة والصحبة والتنزيل‪ ،‬وليس من قوة ومنعة عند المسلمين في عددهم وعدتهم‬
‫وأسلحتهم‪.‬‬
‫وجاء كفار قريش للمعركة وكأنهم في نزهة ورحلة صيد‪ ،‬أرادوها مناسبة للمباهاة‬
‫بين القبائل العربية‪ ،‬وتجديد هيبة قريش في النفوس‪ ،‬ومنزلتها بين العرب وعند‬
‫الروم والفرس ‪ ,‬والتودد لليهود والنصارى بعدما سألوا عن صفات نبي آخر زمان‬
‫فأخبروا بما يخالف صفات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬مع أن المعجزات‬
‫التي جاء بها كافية للدللة على صدق نبوته‪ ،‬وهي برزخ دون قيام قريش بالتعدي‬
‫على السلم والمسلمين‪ ،‬ولكن طغيان النفس الغضبية ملزم للكفر‪ ،‬فأرادت قريش‬
‫النتقام والبطش بغير الحق‪.‬‬
‫وأراد ال عز وجل للسلم أن يكون الشريعة الباقية في الرض إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫وما تتعارض إرادة متحدة أو متعددة مع مشيئة ال عز وجل إل ويكون لتلك الرادة‬
‫وأهلها الخزي والقطع والمحو‪ ،‬فجاء نصر المسلمين بالمعجزة والمشيئة اللهية‬
‫ل ِبَبْدٍر‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫خلفًا للسباب‪ ،‬وقانون العلة والمعلول الدنيوي‪ ،‬قال تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ )‪ ,(64‬وتدل هذه الية في مفهومها على أن الكفار كانوا في كثرة وقوة ‪,‬‬
‫وهو الذي تؤكده اليات والخبار المتواترة ‪ ,‬ووقائع المعركة‪.‬‬
‫لذا جاءت الية الكريمة بالخبار عن قطع طرف من الكفار‪ ،‬ولم تقيد الطرف بفئة‬
‫معينة أو فعل مخصوص كالهجوم على السلم ولكن نظم اليات أمارة على إرادة‬
‫‪() 63‬سورة البقرة ‪.179‬‬
‫‪() 64‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الكفار في معركة بدر وأحد ويكون القطع هنا بقتل فريق من الكفار وأسر فريق‬
‫منهم‪ ،‬وفيه نعمة عظيمة على المؤمنين إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫فالية وأن جاءت بخصوص معارك السلم الولى إل أن ما يترشح عنها من‬
‫النعم أعم ويشمل أجيال المسلمين والمسلمات المتعاقبة لذا ترى أسماء ووقائع تلك‬
‫المعارك تعيش مع المسلمين في بيوتهم ومساجدهم وأسواقهم ومنتدياتهم‬
‫ويستحضرون ذكرها في الصلة لن آيات القرآن تذكرها كوقائع تبين عظيم قدرة‬
‫ال ونصرته للمؤمنين بمعجزة خارقة لحسابات الجيوش في كل زمان‪ ،‬وقيل)َفَكا َ‬
‫ن‬
‫ن( )‪.(65‬‬ ‫عْمَرا َ‬
‫ل ِ‬ ‫نآِ‬ ‫سّتون آَيًة ِم ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن اْلُقْرآ ِ‬
‫حٍد ِم ْ‬
‫ك َوَتَعاَلى ِفي َيْوِم ُأ ُ‬ ‫ل َتَباَر َ‬‫لا ّ‬ ‫ِمّما َأَنَز َ‬
‫لقد أراد ال عز وجل أن تكون هذه الية نعمة مصاحبة للمسلمين‪ ،‬ودعوة لهم في‬
‫الشدائد‪ ،‬وقد تكون هناك معركة‪ ،‬أو معارك ‪ ,‬ولكن من غير أن يقع قتلى كثيرون‪.‬‬
‫فجاءت الية بالترديد ]َأْو َيْكِبَتُهْم[ أي يصاب الكفار بالخيبة والخزي‪ ،‬وفيه بشارة‬
‫ن ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ملزمة الذى للكفار وإشارة إلى إتساع رقعة السلم‪ ،‬ودخول الناس]ِفي ِدي ِ‬
‫جا[ )‪ ،(66‬المر الذي يغيض الكفار ويجعل الحزن واليأس يستولي على قلوبهم‪،‬‬ ‫َأْفَوا ً‬
‫وهذا الغيظ نعمة عليهم لو كانوا يتدبرون المر‪ ،‬إذ أنه إسقاط لما في أيديهم‪ ،‬ودعوة‬
‫لهم للكف عن إيذاء المسلمين‪ ،‬والتخلص من الوزار التي تتراكم على ظهورهم‬
‫بسبب هذا اليذاء والكيد‪ ،‬وعموم النعمة في الية القرآنية من عمومات قوله‬
‫ن[ )‪.(67‬‬ ‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ْ‬ ‫ك ِإ ّ‬‫سْلَنا َ‬
‫تعالى]َوَما َأْر َ‬
‫وجاءت الية بصيغة الجملة الخبرية إل أنها تتضمن النذار والتوبيخ للكفار‪ ،‬وهذا‬
‫النذار نعمة من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه نعمة على المسلمين لن ال عز وجل يتولى بنفسه توبيخ وإنذار الكفار‪،‬‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا‬ ‫ن َت ْ‬
‫وفيه تثبيت لقدام المؤمنين ‪ ,‬ولّما جاء قبل آيتين قوله تعالى]َبَلى ِإ ْ‬
‫لِئَكِة[)‪ ،(68‬جاءت هذه‬ ‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬‫ل ٍ‬‫سِة آ َ‬ ‫خْم َ‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬ ‫َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫الية لتكون عونًا للمسلمين ومادة لتنمية ملكة الصبر والتقوى عندهم‪ ،‬وفيه آية‬
‫إعجازية ونعمة من عند ال على المسلمين بأن يأمرهم ال‪ ،‬ويشترط عليهم أمرًا‬
‫لنزول المدد تم يتفضل عليهم بمقدمات وأسباب حصول الشرط عندهم‪ ،‬إذ يقابل‬
‫المسلمون بشارة ما يلحق الكفار من القطع والهتك والخزي بالصبر والتقوى‬
‫والشكر ل عز وجل‪ ،‬وليأتي المدد فيزيد قطع وخزي الكفار‪.‬‬
‫التفسير الذاتي‬
‫بدأت الية بذكر العذاب العاجل للكفار والذي يتجلى فيه نصر ال عز وجل‬
‫للمسلمين بخذلن عدوهم‪ ،‬ليزيل هذا الخذلن الرجحان الذي يتصف به الكفار في‬
‫عَلُم َما‬‫العدد والعدة والسلح‪ ،‬وتلك آية في الخلق‪ ،‬وسر من أسرار قوله تعالى]ِإّني َأ ْ‬

‫‪() 65‬السيرة النبوية ‪.2/106‬‬


‫‪() 66‬سورة النصر ‪.2‬‬
‫‪() 67‬سورة النبياء ‪.7‬‬
‫‪() 68‬الية ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ل ِفيَها َم ْ‬
‫ن‬ ‫جَع ُ‬
‫ن[ )‪ ،(69‬عندما رد ال عز وجل على الملئكة حينما إحتجت]َأَت ْ‬ ‫ل َتْعَلُمو َ‬‫َ‬
‫ك الّدَماَء[‪ ،‬فمن علم ال عز وجل أنه يهلك كبار كفار الذين يحاربون‬ ‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬‫ُيْف ِ‬
‫المسلمين كي يبقى المؤمنون في أمن وسلم‪ ،‬يؤدون معه الفرائض ويزحفون‬
‫مجاهدين لنشر مبادئ التوحيد‪ ،‬وقهر مفاهيم الشرك والضللة‪.‬‬
‫وهل الية من عمومات إستجابة ال عز وجل لدعاء إبراهيم وإسماعيل في بعثة‬
‫سو ً‬
‫ل‬ ‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم كما ورد في التنزيل]َرّبَنا َواْبَعثْ ِفيِهْم َر ُ‬
‫حْكَمَة َوُيَزّكيِهْم[ )‪ ،(70‬ودعاء إبراهيم في‬ ‫ب َواْل ِ‬ ‫ك َوُيَعّلُمُهْم اْلِكَتا َ‬
‫عَلْيِهْم آَياِت َ‬
‫ِمْنُهْم َيْتُلو َ‬
‫ل َهَذا اْلَبَلَد آِمًنا[ ) (‪ ،‬الجواب نعم فقد أراد ال عز وجل أن‬
‫‪71‬‬
‫جَع ْ‬
‫باْ‬ ‫قوله تعالى]َر ّ‬
‫تتسع رقعة السلم وتشمل مكة وما حولها‪ ،‬ويكون الحرم آمنًا بالسلم وأحكامه‪.‬‬
‫ومن مقدمات تلوة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم آيات القرآن وتعليمه‬
‫الناس سنن الشريعة هلك رؤساء الكفر ممن يلي المسلمين ويواصل التعدي عليهم‪،‬‬
‫فجاءت الية محل البحث للخبار بأن ال عز وجل كفل للمسلمين هلك الظالمين‬
‫الذين يصرون على محاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ويجهزون‬
‫الجيوش لقتاله وأصحابه الذين آمنوا بنبوته ‪ ,‬مع أنه جاء بالخير المحض لهم‬
‫ولبنائهم والناس جميعًا‪ ،‬ترى لماذا لم يقطع ويهلك ال الكفار مطلقًا وليس طرفًا‬
‫منهم‪ ،‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬جعل ال عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلء‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تصاحب البشارات والنذارات النسان في حياته كلها‪ ،‬وجاءت هذه الية‬
‫إنذارًا للكفار مطلقًا‪ ،‬وإن تعلق موضوعها بطرف منهم‪ ،‬خصوصًا وأن الطرف أعم‬
‫من الرؤساء ويشمل القطعة والطائفة‪ ،‬أي أن كل كافر مهدد بالهلك بأمر من عند‬
‫ال سواء بسبب ظاهر أو غير ظاهر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬لقد أراد ال عز وجل إعلء كلمة التوحيد‪ ،‬ونشر مبادئ السلم‪ ،‬وإتباع‬
‫ك[ )‪،(72‬‬ ‫ك ِذْكَر َ‬
‫الناس للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم قال تعالى]َوَرَفْعَنا َل َ‬
‫فليس من خطيب ول إمام أو مصلي إل ويقول أشهد أن ل إله إل ال وأن محمدًا‬
‫رسول ال‪ ،‬وفي الية أعله ورد عن)عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى ال‬
‫عليه وآله وسّلم في هذه الية قال ‪ :‬قال لي جبرائيل قال ال عز و جل إذا ذكرت‬
‫ذكرت معي و في هذا يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صلى ال عليه وآله وسّلم ‪:‬‬
‫من ال مشهـــور يلوح و يشهد‬ ‫أغر عليــــه للنبــــــــوة خــــــــــاتم‬
‫إذا قال في الخمس المؤذن أشهد‬ ‫و ضم الله إسم النبي إلى إسمه‬
‫فذو العرش محمود و هذا محمد) (‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫و شق له من إسمــــــه ليجلــــــــه‬

‫‪ () 69‬سورة البقرة ‪.30‬‬


‫‪ () 70‬سورة البقرة ‪.129‬‬
‫‪ () 71‬سورة إبراهيم ‪.35‬‬
‫‪ () 72‬سورة الشرح ‪.4‬‬
‫‪() 73‬مجمع البيان ‪.10/346‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وتأتي النذارات والبشارات والدعوة إلى ال عز وجل بالحكمة والموعظة لجذب‬
‫شطر من الناس للسلم‪ ،‬وتجعلهم يتركون منازل الكفر والضللة‪ ،‬كما تمنع فريقًا‬
‫منهم من محاربة السلم‪ ،‬لن الكفر أعم من التعدي على السلم وقتال المسلمين‪،‬‬
‫فقد يكون الكافر حربيًا‪ ،‬وقد يكون غير حربي‪ ،‬ومن الكفار من عقد هدنة وأبرم‬
‫عهدًا مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬قطع طرف من الكفار حجة عليهم‪ ،‬ودعوة لعموم الكفار للتدبر والتوبة‬
‫والنابة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬هلك بعض كبراء الكفار واقية للمسلمين وسبب لسلمتهم‪ ،‬ويأتي قطع‬
‫طرف من الكفار بمقدمات وأسباب وإنذارات ظاهرة‪ ،‬أو يأتي فجأة وعلى نحو دفعي‬
‫ن َفِريًقا[ )‪ ،(74‬فيكون‬ ‫سُرو َ‬ ‫ن َوَتْأ ِ‬‫ب َفِريًقا َتْقُتُلو َ‬‫ع َ‬ ‫ف ِفي ُقُلوِبِهْم الّر ْ‬ ‫قال تعالى]َوَقَذ َ‬
‫الرعب مقدمة لمنع الكفار من التعدي على المسلمين‪ ،‬وهلك رؤسائهم‪.‬‬
‫ولم يرد لفظ )يكبتهم( في القرآن إل في هذه الية‪ ،‬لبيان أن الكبت والقهر ينزل من‬
‫عند ال على الكفار الذين يعتدون على السلم والمسلمين‪ ،‬بينما جاءت الية بذكر‬
‫ن[‬
‫سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫ل اْلِعّزُة َوِلَر ُ‬
‫حال العز والمنعة التي عليها المسلمون‪ ،‬قال تعالى] ِّ‬
‫)‪ ،(75‬وفيه شاهد على التباين بين الفريقين‪ ،‬وظهور أسباب الترجيح للمسلمين في‬
‫ميادين القتال‪ ،‬فالمقهور وإن كان يملك السلح والعدة فإنه عاجز عن مواجهة‬
‫المؤمنين الذين يدخلون المعركة‪ ،‬وهم عاشقون للشهادة‪ ،‬ويسعون لحدى الحسنيين‪،‬‬
‫أما النصر وأما الشهادة‪.‬‬
‫من غايات الية‬
‫في الية مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تدل الية على العناية واللطف اللهي بالمسلمين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬بعث السكينة في نفوس المسلمين لما يلقاه عدوهم من الخيبة والخسران‪.‬‬
‫ظَلُموا‬‫ن َ‬ ‫الثالثة‪ :‬وعد ال للمسلمين بهلك الكافرين قال تعالى]َفُقطَِع َداِبُر اْلَقْوِم اّلِذي َ‬
‫ن[ )‪.(76‬‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ّ‬ ‫حْمُد ِّ‬
‫َواْل َ‬
‫الرابعة‪ :‬بيان عظيم قدرة ال عز وجل بدفع الكفار وصدهم عن المسلمين‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬الكبت والحرمان والخزي جزاء أعداء السلم‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬تدل الية في مفهومها على الوعد الكريم للمسلمين بالنصر والغلبة على‬
‫الكفار وإن كانوا هم الكثر والقوى‪ ،‬والمسلمون هم الضعف والقل‪ ،‬كما في‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪.(77‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬‫معركة بدر قال تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫وجاء النصر يوم بدر في أول معارك السلم وكانت ضياء مباركًا أنار للصحابة‬
‫وأجيال المسلمين طريق الجهاد بالمل والوثوق بتحقيق النصر والظفر بالعداء‬

‫‪ () 74‬سورة الحزاب ‪.26‬‬


‫‪ () 75‬سورة المنافقون ‪.8‬‬
‫‪ () 76‬سورة النعام ‪.45‬‬
‫‪ () 77‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫لتأتي هذه الية وتكون وثيقة مصاحبة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة تكشف لهم سر‬
‫إنتصار المسلمين في معركة بدر وغيرها من المعارك‪ ،‬وتبعث في نفوسهم‬
‫الطمأنينة بتحقيق النصر عند تعدي الكفار والمشركين على السلم والمسلمين‪،‬‬
‫لوحدة الموضوع في تنقيح المناط‪ ،‬وإتحاد العلة وهي مجيء النصر والغلبة‬
‫للمسلمين من ال عز وجل ‪.‬‬
‫وتضمنت الية بيان حال الكفار وخسارتهم وخيبتهم‪ ،‬فقد يتحقق النصر للمسلمين في‬
‫معركة وواقعة‪ ،‬ولكن الكفار يبقون أقوياء يستطيعون جمع صفوفهم‪ ،‬وندب أعوانهم‬
‫من خلفهم ممن لم يدخلوا المعركة ولم يروا اليات والمعجزات للنبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم في ميدان المعركة كنزول الملئكة لنصرته والمؤمنين )وعن‬
‫إبن مسعود أنه سأله أبو جهل من أين كان يأتينا الضرب و ل نرى الشخص ‪ ,‬قال ‪:‬‬
‫من قبل الملئكة فقال هم غلبونا ل أنتم()‪.(78‬‬
‫وفيه حجة إضافية على الكفار فجاءت هذه الية لتحذير الكفار مطلقًا‪ ،‬ومنع‬
‫رؤسائهم من جمع الحشود ضد المسلمين‪ ،‬لن هذه الية تنذرهم بالقتل والهلك‪،‬‬
‫وفيه نكتة عقائدية وعسكرية وهي أن قتل الفرد الواحد من الرؤساء يترك أثرًا بالغًا‬
‫في ميدان المعركة وعند الناس عامة ويكون هذا الثر أكثر من قتل جماعات عديدة‬
‫من عامة المقاتلين‪ ،‬وهو أمر ظاهر للوجدان في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لتخبر المسلمين والمسلمات بأن الكفار عندما يغادرون المعركة‬
‫فإنهم في حال من الخيبة والخزي والخسارة‪ ،‬وهذا الخبار من علم الغيب الذي ل‬
‫سَمَوا ِ‬
‫ت‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫ل َيْعَلُم مَ ْ‬‫ل َ‬ ‫يعلمه ول يقدر على كشفه إل ال عز وجل‪ ،‬قال سبحانه]ُق ْ‬
‫ل[ )‪.(79‬‬ ‫ل ا ُّ‬ ‫ب ِإ ّ‬‫ض اْلَغْي َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫َوا َ‬
‫فرجوع الكفار من المعركة مطلقًا في حال خيبة وخسارة سر من أسرار معارك‬
‫المسلمين الدفاعية وما بعدها من الوقائع والحوادث‪ ،‬ومن إعجاز الية أنها لم تأت‬
‫بصيغة الرجوع فلم تقل الية)فيرجعوا خائبين( لبيان حقيقة وهي أن الخيبة‬
‫والخسران يصاحبان الكفار من حين النسحاب من المعركة‪ ،‬مما يدل على حصول‬
‫التسالم عندهم بأنهم منهزمون أو أنهم رجعوا من غير أن يحققوا بغيتهم وما كانوا‬
‫يطلبون‪.‬‬
‫وفي الية وعد كريم بأن ال عز وجل يحول دونهم ودون ما يريدون من المقاصد‬
‫الخبيثة والغايات السيئة في محاربة السلم والمسلمين‪ ،‬لذا ففي معركة أحد عندما‬
‫شاٍم‬ ‫ن ِه َ‬‫ل اْب ُ‬
‫إنسحب الكفار ظهرت الخيبة عليهم وأعرضوا عن فكرة العودة للقتال)َقا َ‬
‫ع إَلى‬ ‫حٍد ‪َ ،‬أَراَد الّرجو َ‬ ‫ف َيْوَم ُأ ُ‬
‫صَر َ‬‫حْربٍ َلّما اْن َ‬
‫ن َ‬ ‫ن ْب َ‬
‫سْفَيا َ‬
‫ن َأَبا ُ‬
‫عَبْيَدَة َأ ّ‬
‫حّدثَنا َأُبو ُ‬ ‫‪َ :‬‬
‫صْفَوا ُ‬
‫ن‬ ‫ل َلُهْم َ‬ ‫سّلم َفَقا َ‬‫عَلْيِه َو َ‬‫ل َ‬‫صّلى ا ّ‬
‫ل َ‬ ‫سولِ ا ّ‬
‫ب َر ُ‬‫حا ِ‬‫صَ‬ ‫ل َبِقّية َأ ْ‬‫صَ‬ ‫سَتْأ ِ‬ ‫اْلَمِديَنِة ‪ِ ،‬لَي ْ‬

‫‪ () 78‬مجمع البيان ‪.1/525‬‬


‫‪ () 79‬سورة النمل ‪.65‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ن َلُهْم ِقَتا ٌ‬
‫ل‬ ‫ن َيُكو َ‬‫شيَنا َأ ْ‬
‫خِ‬ ‫حِرُبوا ‪َ ،‬وَقْد َ‬ ‫ن اْلَقْوَم َقْد َ‬
‫ف ‪ :‬ل َتْفَعُلوا ‪َ ،‬فِإ ّ‬ ‫خَل ٍ‬
‫ن َ‬ ‫ن ُأَمّية ْب ِ‬
‫ْب ُ‬
‫جُعوا() (‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫جُعوا ‪َ ،‬فَر َ‬ ‫ن َفاْر ِ‬‫غْيُر اّلذي َكا َ‬ ‫َ‬
‫لقد خشيت قريش من غضب المسلمين‪ ،‬وفزعت منهم مع إدراكها قلة عددهم‪ ،‬وفيه‬
‫شاهد بأن الفزع الذي ألقاه ال سبحانه في قلوب الكفار يوم بدر لم ينقطع أو يزول‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫سُأْلِقي ِفي ُقُلو ِ‬ ‫بعد المعركة ‪ ,‬بل هو حال مستقرة في نفوسهم قال تعالى] َ‬
‫ن[)‪.(81‬‬ ‫ل َبَنا ٍ‬
‫ضِرُبوا ِمْنُهْم ُك ّ‬
‫ق َوا ْ‬ ‫عَنا ِ‬
‫لْ‬ ‫قاَ‬ ‫ضِرُبوا َفْو َ‬‫ب َفا ْ‬ ‫ع َ‬ ‫َكَفُروا الّر ْ‬
‫التفسير‬
‫ن َكَفُروا[‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫طَرًفا ِم ْ‬
‫طَع َ‬ ‫قوله تعالى]ِلَيْق َ‬
‫إبتدأت الية بحرف اللم الذي جاء للتعليل‪ ،‬مما يدل على تعلق الية بما قبلها‬
‫موضوعًا وحكمًا‪ ،‬والفاعل في الية هو ال عز وجل‪ ،‬وهو الذي يهلك الكفار‬
‫ويبعث الفزع في نفوسهم‪ ،‬ول يستطيع قطع طرف منهم إل هو سبحانه قال‬
‫جِميًعا[ )‪ ،(82‬وهذا القطع من الرادة التكوينية التي إختص بها ال‬ ‫ل َ‬‫ن اْلُقّوَة ِّ‬ ‫تعالى]َأ ّ‬
‫نفسه‪ ،‬وال عز وجل هو الرحمن الرحيم‪ ،‬وهو الذي يتغشى برحمته الناس جميعًا‬
‫في الدنيا‪ ،‬فلماذا يهلك عددًا من رؤساء الكفر والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬هذا الهلك من رحمة ال عز وجل بالمؤمنين والجيال اللحقة من الناس‬
‫بهدايتهم‪ ،‬ومنع صد الكفار لهم عن دروب اليمان‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬في هلك الكفار منع من تماديهم في الغي والتعدي على السلم والمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يريد الكفار إشاعة الفساد في الرض‪ ،‬ومن رحمة ال منع الفساد وأسبابه‬
‫ومقدماته ‪ ،‬ومن هذا المنع هلك رواده‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬بعث ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم لنجاة الناس من‬
‫ك ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫سْلَنا َ‬
‫براثن الكفر والضللة‪ ،‬وبعثته رحمة وخير محض‪ ،‬قال سبحانه]َوَما َأْر َ‬
‫ن[ )‪ ،(83‬فيكون تعدي الكفار على المسلمين بقصد منع شآبيب الرحمة‬ ‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬‫َر ْ‬
‫عنهم‪ ،‬فيأتي قطعهم رحمة من ال للناس جميعًا‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬يستحق رؤساء الكفار العقاب لصرارهم على الكفر ومحاربتهم النبي‬
‫محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪ ،‬مع وصول آيات النذار والوعيد إليهم‪.‬‬
‫ل ليدعو الناس‬ ‫لقد بعث ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم رسو ً‬
‫لعبادة ال‪ ،‬وأنزل معه الدللت والبراهين التي تؤكد صدق نبوته وتخاطب العقول‪،‬‬
‫وتجذب الناس على تباين مداركهم‪ ،‬وإختلف مشاربهم لتباعه‪ ،‬وكان تلقي الناس‬
‫لدعوته على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬التصديق بنبوته‪ ،‬وهذا التصديق فاز به أهل البيت والصحابة من المهاجرين‬
‫والنصار‪.‬‬

‫‪ () 80‬السيرة النبوية ‪.2/104‬‬


‫‪ () 81‬سورة النفال ‪.12‬‬
‫‪ () 82‬سورة البقرة ‪.165‬‬
‫‪ () 83‬سورة النبياء ‪.107‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الثاني‪ :‬التردد وإظهار اليمان‪ ،‬وإخفاء الكفر‪ ،‬وهو الذي كان عليه المنافقون‪،‬‬
‫وجاءت آيات القرآن بذمهم وإنذارهم والخبار عما ينتظرهم من العذاب الليم ‪,‬‬
‫وجاءت سورة كاملة في بيان صفاتهم المذمومة وتحذير المؤمنين منهم ‪ ,‬قال‬
‫سوُلُه َوا ُّ‬
‫ل‬ ‫ك َلَر ُ‬
‫ل َيْعَلُم ِإّن َ‬
‫ل َوا ُّ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سو ُ‬
‫ك َلَر ُ‬
‫شَهُد ِإّن َ‬
‫ن َقاُلوا َن ْ‬
‫ك اْلُمَناِفُقو َ‬‫جاَء َ‬ ‫تعالى]ِإَذا َ‬
‫ن[ ) (‪ ،‬ومع أن ذكر النفاق والمنافقين ورد في أربعين‬ ‫‪84‬‬
‫ن َلَكاِذُبو َ‬‫ن اْلُمَناِفِقي َ‬
‫شَهُد ِإ ّ‬
‫َي ْ‬
‫موضعًا من القرآن‪ ،‬فلم يذكر النفاق في سورة البقرة وسورة آل عمران إل في آية‬
‫واحدة في آخر سورة آل عمران)‪ (85‬وتلك آية إعجازية في نظم القرآن وأسرار‬
‫تقسيمه إلى سور وآيات‪ ،‬لمجيء السورتين أعله في تثبيت أحكام الشريعة وبيان‬
‫سنن الحلل والحرام‪ ،‬ولتوكيد فضل ال عز وجل في توجيه النذارات إلى‬
‫المنافقين من أجل توبتهم وصلحهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الذين جحدوا بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأعرضوا عن اليات‬
‫والبراهين التي جاء بها‪ ،‬ولكنهم لم يعلنوا الحرب عليهم وعلى المسلمين ‪ ,‬ترى‬
‫لماذا لم يحاربوه‪ ،‬فيه وجوه منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬الذين أدركوا صدق آيات نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ولكنهم تخلفوا‬
‫عن إعلن التصديق‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الذين غلبت عليهم العادة والخلود إلى البقاء في منازل الكفر والجحود‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من كان تحت سلطان وقهر الظالمين والطواغيت ‪ ,‬والذي يخشى بطشهم‬
‫عند دخوله السلم وإعلنه التصديق بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬فريق إمتلت نفوسهم فزعًا وخوفًا من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وأصحابه وعن صلى ال عليه وآله وسلم‪ :‬نصرت بالرعب مسيرة شهر( )‪.(86‬‬
‫الخامس‪ :‬أولئك الذين تريثوا وإنتظروا عواقب المور‪.‬‬
‫السادس‪ :‬الذين غرتهم زينة الدنيا‪ ،‬ومالوا إلى زخرفها‪ ،‬وأغواهم الشيطان ‪ ,‬قال‬
‫حَياُة الّدْنَيا[ )‪. (87‬‬
‫ل َتُغّرّنُكْم اْل َ‬ ‫تعالى]َف َ‬
‫السابع‪ :‬منهم من أنصت لهل الشك والريب‪ ،‬وأرباب التحريف والذين ذكروا‬
‫صفات لنبي آخر الزمان مخالفة لصفات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫لصرف الناس عن التصديق به‪.‬‬
‫ن َهَذا‬‫ن َكَفُروا ِإ ْ‬‫ل اّلِذي َ‬
‫الثامن‪ :‬الذين جحدوا بنزول القرآن من عند ال‪ ،‬قال تعالى]َيُقو ُ‬
‫ن[ )‪.(88‬‬ ‫لّوِلي َ‬‫طيُر ا َ‬ ‫سا ِ‬‫ل َأ َ‬
‫ِإ ّ‬
‫التاسع‪ :‬المشركون الذين ل يؤمنون ول يقرون باليوم الخر‪.‬‬

‫‪ () 84‬سورة المنافقون ‪.1‬‬


‫‪ () 85‬سورة آل عمران ‪.167‬‬
‫‪() 86‬مجمع البيان ‪.2/370‬‬
‫‪ () 87‬سورة لقمان ‪.23‬‬
‫‪ () 88‬سورة النعام ‪.25‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬الكفار الذين أصروا على حرب رسول ال والمسلمين‪ ،‬وجهزوا الجيوش‬
‫العظيمة لقتاله‪ ،‬وقد يستغرب كثير من الناس من زحف قريش بجيوش عظيمة في‬
‫ذلك الزمان ليقطعوا مئات الميال لقتال النبي وأصحابه مع أنه منهم ومن أوسطهم‬
‫نسبًا ‪ ,‬وفّر عنهم هو وأصحابه بدينهم‪.‬‬
‫ضوا وأمدوا وساعدوا الكفار الحربيين ضد السلم والمسلمين‪.‬‬ ‫الخامس‪ :‬الذين حر ّ‬
‫وتحتمل الية في موضوعها وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة الذين يحاربون السلم ويقاتلون المسلمين وجهزوا الجيوش لقتال‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ومنع إنتشار السلم‪.‬‬
‫لثاني‪ :‬المقصود هم المذكورون في الوجه الرابع والخامس أعله بإضافة الذين‬
‫حرضوا على السلم والمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المراد الكفار والمشركون مطلقًا ممن جحدوا بالتوحيد‪ ،‬وأصروا على إنكار‬
‫النبوات‪.‬‬
‫ول تعارض بين هذه الوجوه وإن كان والقدر المتيقن هو الوجه الول أعله‬
‫خصوصًا وأن نظم اليات جاء بخصوص القتال بين المؤمنين والكفار‪ ،‬وما يترتب‬
‫عليه من النتائج والثار‪ ،‬وعدم التعارض لمور‪:‬‬
‫ن َكَفُروا[‪.‬‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫الول‪ :‬مجيء الية بلغة التبعيض ]ِم ْ‬
‫الثاني‪ :‬ورود الية بلفظ )طرف( والمراد منه جهة مخصوصة ممن يقومون‬
‫بمحاربة المسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يبعث هلك بعض رؤساء المشركين الوهن الضعف في صفوف الكفار‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬جاءت الية في موضوع نصر ال للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وأصحابه في معركة أحد‪.‬‬
‫وإبتدأت الية بحرف اللم في)ليقطع( والمراد وفق الصناعة النحوية وجهان ‪:‬‬
‫عَلى الّنا ِ‬
‫س‬ ‫الول‪ :‬التعليل‪،‬وما يسمى لم كي‪ ,‬نحو قوله تعالى ]َوُقْرآًنا َفَرْقَناُه ِلَتْقَرَأهُ َ‬
‫ث[)‪ ،(89‬وال عز وجل منزه عن الغرض والحاجة ولكن التعليل هنا لبيان‬ ‫عَلى ُمْك ٍ‬ ‫َ‬
‫رحمة ال بالمسلمين وقضاء حاجاتهم‪.‬‬
‫ي َهَذا اْلُقْرآ ُ‬
‫ن‬ ‫ي ِإَل ّ‬
‫حَ‬ ‫الثاني ‪ :‬لم العرض المحض في الفعل ‪ ,‬كما في قوله تعالى]َوُأو ِ‬
‫ن َبَلَغ[)‪.(90‬‬‫لنِذَرُكْم ِبِه َوَم ْ‬
‫ُِ‬
‫وفي هذا القطع منافع عظيمة منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه واقية للمسلمين لما يصيب الذين يلونهم من الكفار من الضعف والرباك‪.‬‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫سُنْلِقي ِفي ُقُلو ِ‬ ‫الثاني‪ :‬شيوع الحزن والفزع في قلوب الكفار‪ ،‬قال تعالى] َ‬
‫ل[ )‪.(91‬‬
‫شَرُكوا ِبا ِّ‬‫ب ِبَما َأ ْ‬
‫ع َ‬ ‫َكَفُروا الّر ْ‬

‫‪() 89‬سورة السراء ‪.106‬‬


‫‪() 90‬سورة النعام ‪.19‬‬
‫‪ () 91‬سورة آل عمران ‪.151‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ويفيد الجمع بين الية أعله والية محل البحث أن أسباب وكيفية الرعب متعددة‬
‫ومنها نصر المؤمنين‪ ،‬وقطع طرف من الكفار ‪ ,‬وتارة يأتي الرعب بنزول الملئكة‬
‫لنصرة المؤمنين‪ ،‬وأخرى يأتي الرعب إبتداء من عند ال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ظهور الجبن والخور في صفوف الكفار لقتل شطر من كبرائهم وقادتهم‪،‬‬
‫ل بذاته‪ ،‬بل جاء مقترنًا ومترشحًا عن نصر‬ ‫ومن اليات أن هذا القتل لم يأت مستق ً‬
‫ال عز وجل للمؤمنين يوم بدر وأحد‪ ،‬وأن قلت هناك تباين في النتيجة بين معركة‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫ل‬ ‫بدر وأحد‪ ،‬ففي بدر حقق المسلمون نصرًا عظيمًا بشهادة القرآن]َوَلَقدْ َن َ‬
‫ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪ ،(92‬أما في أحد فإن المسلمين تعرضوا للضرر وقتل منهم خمسة‬
‫ل‪.‬‬ ‫وستون رج ً‬
‫وجاءت هذه اليات تحكي هّم طائفتين من المؤمنين بالهم بالفشل‪ ،‬والجواب إن‬
‫نزول الملئكة يوم أحد نصر عظيم وبداية لنتصارات للمسلمين‪ ,‬والتي ليس لها حد‬
‫زمانًا ومكانًا‪ ،‬وتضمنت اليات الخبار عن نزول الملئكة ‪ ,‬وقد ورد قبل آيتين]َبَلى‬
‫لِئَكِة[‬‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬ ‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬‫صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫ِإ ْ‬
‫) (‪ ،‬ليكون النصر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة‪ ،‬فقد رجع‬ ‫‪93‬‬

‫الكفار يوم أحد خائبين بعد أن عجزوا عن بلوغ ما قصدوه من قتل النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫وجاء التعليل في )ليقطع( في الية لبيان الفرد المثل والظاهر بلحاظ أوان المعركة‬
‫وحاجة المسلمين إلى خزي وهزيمة الكفار وإل فإن الغايات والنتائج من نصر‬
‫المسلمين أكثر من أن تحصى كما أنها متجددة ومتكثرة‪ ،‬وكما كتب ال الثواب‬
‫شُر َأْمَثاِلَها[)‪ ،(94‬فكذا‬ ‫عْ‬‫سَنِة َفَلُه َ‬‫حَ‬‫جاَء ِباْل َ‬‫ن َ‬ ‫العظيم في فعل الصالحات قال تعالى]َم ْ‬
‫بالنسبة لخروج المؤمنين للجهاد فإن ال عز وجل رزقهم الثواب عليه في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬أما الثواب في الخرة فهو الخلود في النعيم‪ ،‬وأما في الدنيا فهو متعدد‬
‫وعلى وجوه ليحصيها إل ال عز وجل ‪ ,‬منها ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬هذه الية وما فيها من البشارة لهم بما يلحق الكفار من القتل والفزع والخيبة‬
‫والحرمان ليكون تخفيفًا عن المسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬نصر المسلمين شاهد دنيوي حاضر لما ينتظرهم في الخرة من الخلود في‬
‫الجنة والنعيم الدائم ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما فيه تذكير وتحذير الكفار من النار عسى أن يفروا من أسبابه ومقدماته‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ما يجعل المسلمين يستحضرون في الوجود الذهني نعيم الخرة ويشتاقون‬
‫إليه‪ ،‬ويسعون في مسالكه‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية في منطوقها من القسم الثالث ‪ ،‬وفي مفهومها من القسم الرابع ‪،‬‬
‫ن َكَفُروا[بما قبله وجوه‪:‬‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫طَرًفا ِم ْ‬
‫طَع َ‬ ‫وفي تعلق قوله تعالى] ِلَيْق َ‬
‫‪ () 92‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫‪ () 93‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫‪ () 94‬سورة النعام ‪.160‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ل[ فحينما أخبر‬ ‫عْنِد ا ِّ‬
‫ن ِ‬
‫ل ِم ْ‬‫صُر ِإ ّ‬
‫الول‪ :‬تتعلق هذه الية بخاتمة الية السابقة]َوَما الّن ْ‬
‫ال عن قانون إنحصار مجيء النصر من عنده جاء الخبار عن منحه للمسلمين‬
‫بإفادة اللزم وإرادة الملزوم لن قطع طرف من الكفار عنوان لهزيمتهم وخزيهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تتعلق الية بالشطر الول من آية بدر)‪ ،(95‬وتقدير الجمع بينهما‪ :‬ولقد‬
‫نصركم ال ببدر ليقطع طرفًا من الذين كفروا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬نزول الملئكة مدد للمسلمين يوم بدر وأحد والتقدير‪ :‬ألن يكفيكم أن يمدكم‬
‫ربكم بثلثة آلف من الملئكة ليقطع طرفًا من الذين كفروا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الوعد اللهي للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه بنزول‬
‫الملئكة مددًا لهم في حال رجوع الكفار لساحة المعركة يوم أحد كما ورد في الية‬
‫قبل السابقة‪ ،‬والتقدير‪ :‬ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم بخمسة آلف من الملئكة‬
‫ليقطع طرفًا من الذين كفروا‪ ،‬ول يعني هذا التعليق في قطع طرف من الذين كفروا‬
‫بل هو أمر حال‪ ،‬من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تعدد أسباب وعلل قطع طرف من الكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬مجيء هذه الية للتخويف والوعيد‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬جاءت اليات بالخبار عن إستئصال الكفار‪ ،‬ولم يبق لهم نسل أو ذرية ‪ ,‬قال‬
‫ن َكّذُبوا ِبآَياِتَنا[ )‪ ،(96‬وقد بعث ال عز وجل لهم هودًا‬ ‫طْعَنا َداِبَر اّلِذي َ‬
‫تعالى في عاد]َوَق َ‬
‫وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا فدعاهم إلى عبادة ال ونبذ الشرك‪ ،‬وخلع‬
‫النداد فّكذبوه وآذوه ‪.‬‬
‫وكان لهم زرع ونخل وكانوا من المعمرين ولهم أجسام عظيمة‪ ،‬وأصروا على‬
‫عبادة الصنام فحبس ال عز وجل عنهم المطر سبع سنين وقيل ثلثين حتى‬
‫قحطوا‪ ،‬فالتجؤا إلى البيت الحرام بمكة‪ ،‬وكان الناس مطلقًا مسلمهم وكافرهم يلجأون‬
‫إليه عند البلء والجهد‪ ،‬وقال رأس الوفد‪ :‬يا إلهنا إن كان هود صادقًا فاسقنا فإنا قد‬
‫هلكنا فجاءت سحابة سوداء أخذتهم بالعذاب‪ ،‬وإعتزل هود ومن معه من المؤمنين‬
‫في حظيرة في أمن وسلمة‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬إثبات شيء لشيء لشيء‪ ،‬ل يدل على نفيه عن غيره‪ ،‬وهلك بعض‬
‫رؤساء الكفر ل ينحصر بالبشارة بنزول الملئكة‪ ،‬بل هو أمر من عند ال عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬ترتب موضوع هذه الية على البشارة للمسلمين التي ذكرتها الية السابقة‬
‫وتقدير الجمع بينهما )وما جعله ال إل بشرى لكم ليقطع طرفًا من الذين كفروا(‬
‫بتقريب أن البشارة للمؤمنين تقترن بالحزن والذى للكفار‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬نزول العذاب بالكفار لجحودهم بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪,‬‬
‫فمجرد الكفر بنبوته مع بلوغ المعجزات لهم علة تامة لقطع وهلك طائفة منهم‪.‬‬

‫‪ () 95‬الية ‪.123‬‬
‫‪ () 96‬سورة العراف ‪.72‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ول تعارض بين هذه الوجوه وهي مجتمعة ومتفرقة تدل على عظيم فضل ال عز‬
‫وجل على المسلمين‪ ،‬والية من الشواهد على أن المسلمين أفضل المم ‪ ,‬قال‬
‫س[ )‪ ،(97‬بأن يأتيهم النصر بأسباب أرضية‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬ ‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫وسماوية‪ ،‬ويهلك ال طائفة من أعدائهم‪ ،‬ويبعث في قلوب الذين بقوا منهم الفزع‬
‫والرعب‪ ،‬ليتفقه المسلمون في الدين‪ ،‬ويجاهدوا في سبيل بمندوحة وسعة وسلمة‪،‬‬
‫وقلة مؤونة‪.‬‬
‫إن نزول العذاب والموت بأقطاب الكفر عقوبة عاجلة من عند ال عز وجل على‬
‫كفرهم وجحودهم‪ ،‬من غير تقييد وحصر بمضامين اليات السابقة‪ ،‬ومحاربة الكفار‬
‫للمؤمنين‪ ،‬والقرآن يفسر بعضه بعضًا ‪ ,‬وقد جاءت اليات بنزول العذاب بالكفار‬
‫لكفرهم وإصرارهم على الجحود‪ ،‬ليأتيهم العذاب لختيارهم الكفر ‪ ,‬ولما يترشح‬
‫ن َكَفُروا‬
‫عنه من الظلم والجور والتعدي على حرمات المسلمين ‪ ,‬قال تعالى]َفَأّما اّلِذي َ‬
‫خَرِة[ )‪.(98‬‬
‫شِديًدا ِفي الّدْنَيا َوال ِ‬ ‫عَذاًبا َ‬
‫عّذُبُهْم َ‬
‫َفُأ َ‬
‫ومن خصائص نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم نزول الهلك بطائفة من‬
‫رؤساء الكفار ممن يلي المسلمين‪ ،‬لن معجزاته باهرات‪ ،‬وهي كافية لجذب الناس‬
‫لليمان ونشر مفاهيم التوحيد والصلح في الرض‪ ،‬ولكن هؤلء الرؤساء‬
‫يحاربون السلم من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬صّد الناس عن دخول السلم‪ ،‬ومنعهم من إتباع التنزيل‪ ،‬وقد سألت قريش‬
‫يهود المدينة عن صفات نبي آخر الزمان بإعتبار أنهم أهل كتاب ليتخذوا من‬
‫التحريف إعلنًا في تكذيب النبي‪ ،‬وأعرضوا عن إسلم نفر من كبار علماء يهود‬
‫المدينة الذي هو حجة عملية على تصديقهم للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تحريض الناس على مقاطعة الذين أسلموا‪ ،‬وحث القبائل على السعي لعادة‬
‫أبنائها الذين أسلموا‪ ،‬وعدم بقائهم مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬منع الهجرة إلى المدينة‪ ،‬واللحوق بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمؤمنين‪ ،‬ووضع الرجال والمسالح حول المدينة للقاء القبض على من يأتي‬
‫لدخول السلم‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬نشر ثقافة مضادة للسلم‪ ،‬وإدعاء وجود أذى في التكاليف الشرعية من‬
‫أداء الفرائض‪ ،‬ومن منع الخمور والزنا‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬تعذيب الذين يعلنون إسلمهم‪ ،‬وحصول هذا التعذيب علنًا وتحت أبصار‬
‫الناس وفي الماكن العامة ليكونوا عبرة لغيرهم ممن ينوي دخول السلم‪.‬‬
‫السادس‪ :‬كانت القبائل العربية قبل بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم يغزو‬
‫بعضهم بعضًا‪ ،‬ومع بعثته صلى ال عليه وآله وسلم توقف الغزو‪ ،‬وهذا التوقف له‬
‫أسباب متعددة ومتباينة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬شيوع الخلق الحميدة مع نزول القرآن وما فيه من البشارات والنذارات‪.‬‬
‫‪ () 97‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪ () 98‬سورة آل عمران ‪.56‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬التدبر في معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مبادرة المسلمين لداء الصلة‪ ،‬والمسارعة في الخيرات‪ ،‬وفعل الصالحات‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إنشغال الكفار بالموضوع الهم من الغزو وهو التحريف والحشد لقتال النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وغزو المهاجرين والنصار في المدينة‪.‬‬
‫وبخصوص الذي كان بين قريش وبين بني بكر قال إبن هشام)فبينما هم في ذلك من‬
‫حربهم‪ ،‬حجز السلم بين الناس‪ ،‬فتشاغلوا به‪ ،‬حتى أجمعت قريش المسير إلى‬
‫بدر‪ ،‬فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم()‪.(99‬‬
‫الخامس‪ :‬ظهور النقص في الرجال عند القبائل بهجرة عدد من أبنائها إلى المدينة‪،‬‬
‫وعزوف شطر ممن بقي مقيمًا في مكة عن الغزو ظلمًا وتعديًا وعصبية جاهلية‪.‬‬
‫فكما إجتمع الصحابة من قبائل شتى كانت بينها ثارات وضغائن قبل السلم‪ ،‬فإن‬
‫الكفار سعوا للتآلف فيما بينهم لمواجهة السلم فجاء البطش اللهي بهم من حيث لم‬
‫يحتسبوا بهلك صناديدهم ورؤسائهم‪.‬‬
‫ولم يكن سعي الكفار لوأد السلم عن تقدير وظن‪ ،‬بل جاء عن حس ووجدان‪ ،‬فقد‬
‫أدركوا التغيير الحاصل في المجتمعات والنفوس ببعثة النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم من وجوه عديدة منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬شيوع إعلن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم نبوته‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وصول الخبار بمعجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ,‬فمن فضل‬
‫ال على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إقتران أخبار معجزاته مع ظهور أمر‬
‫نبوته‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬توالي معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الحسية والعقلية‪ ،‬فما‬
‫أن يجتهد رؤساء الكفر والضللة بإنكار بعض معجزاته حتى ترد إلى المنتديات‬
‫والسواق معجزات أخرى جديدة تتصف بأنها خارقة‪ ،‬مقرونة بالتحدي‪ ،‬سالمة عن‬
‫المعارضة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬دخول أفراد وجماعات السلم سواء من قريش وأهل مكة أو من القبائل‬
‫والقرى المحيطة بها‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إستعداد المسلمين لتلقي الذى في سبيل ال‪ ،‬وإمتناعهم عن الرتداد‪.‬‬
‫السادس‪ :‬دخول نفر من المستضعفين والعبيد السلم‪ ،‬وفيه قهر وإهانة لكبراء‬
‫المشركين‪ ،‬وإزدراء شديد لما هم عليه من الضللة‪.‬‬
‫السابع‪ :‬تسفيه المسلمين ومن أنصت لهم لعبادة الوثان‪ ،‬وحال الجهل التي عليها‬
‫المشركون وأعداء السلم‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬صنوف البلء التي إبتلى ال عز وجل بها الكفار الذين حاربوا السلم‪،‬‬
‫وفي دعاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم عندما آذته وأصحابه قريش )اللهم‬
‫اشدد وطأتك على مضر‪ ،‬اللهم إجعلها سنين كسني يوسف()‪.(100‬‬
‫‪() 99‬السيرة النبوية ‪.221 /2‬‬
‫‪ ()100‬السيرة النبوية ‪.10/219‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫التاسع‪ :‬إعلن بعض علماء اليهود والنصارى صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وموافقتها لما بين أيديهم من البشارات التي جاءت في التوراة والنجيل‪،‬‬
‫ص[) (‪،‬‬
‫‪101‬‬
‫ص ِ‬ ‫ن اْلَق َ‬‫سَ‬ ‫حَ‬‫ك َأ ْ‬‫عَلْي َ‬
‫ص َ‬ ‫ن َنُق ّ‬‫حُ‬ ‫وأخبار وقصص النبياء‪ ،‬إذ أن قوله تعالى]َن ْ‬
‫أعم من أن يختص بالحوال الشخصية للنبياء‪ ،‬بل يشمل أدعيتهم وبشارتهم ببعثة‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وبقائها متوارثة ومتداولة بين الناس إلى حين‬
‫بعثته ولو على نحو الموجبة الجزئية‪ ،‬والتوارث من قبل عدد قليل من العلماء‪،‬‬
‫ل ِمْنُهْم[ )‪ ،(102‬وقوله‬ ‫سو ً‬ ‫ث ِفيِهْم َر ُ‬ ‫ويمكن إعتبار ما جاء في دعاء إبراهيم]َرّبَنا َواْبَع ْ‬
‫حَمُد[) (‪ ،‬من قصص‬ ‫‪103‬‬
‫سُمُه َأ ْ‬‫ن َبْعِدي ا ْ‬ ‫ل َيْأِتي ِم ْ‬
‫سو ٍ‬‫شًرا ِبَر ُ‬
‫تعالى في عيسى]َوُمَب ّ‬
‫النبياء‪ ،‬ومن أبهى تلك القصص لما فيها من التداخل في مواضيع النبوة بأفرادها‬
‫الطولية‪ ،‬والصلة بين الزمنة السابقة واللحقة‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬مجيء آيات النذار والذم والتوبيخ للكفار التي تبعث الفزع والخوف في‬
‫نفوسهم‪ ،‬وتقلل من شأن وهيبة رؤسائهم في نفوس عامة الناس‪ ،‬وتجعل المسلمين‬
‫ينفرون للجهاد في سبيل ال‪ ،‬ومواجهة الكفر والكفار‪.‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬إيمان النصار‪ ،‬ووجود ملجأ ومأوى لمن يهاجر من المسلمين لذا‬
‫كانوا يفتقدون بعض الشباب من مكة أو قراهم ومحل سكناهم‪ ،‬ويتبين بعد حين أنهم‬
‫إلتحقوا بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في يثرب‪.‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬مجيء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بمحاربة الفساد والفساد‪،‬‬
‫ن[ )‪ ،(104‬ونزول أحكام القصاص‬ ‫ظَهَر ِمْنَها َوَما َبطَ َ‬ ‫وإجهاره بحرمة الفواحش]َما َ‬
‫بغض النظر عن منزلة الجاني وإن كان ذا شأن‪.‬‬
‫لقد أراد ال عز وجل للناس الهداية‪ ،‬وتفضل بما يقربهم إلى منازل اليمان وحببه‬
‫إلى قلوبهم‪ ،‬ولكن الكفار أبوا إل الصرار على الكفر والضللة‪ ،‬وأضرار هذا‬
‫الصرار كثيرة منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما يلقاه المسلمون من الذى المترشح عن الصرار على الكفر من العناد‬
‫والفتراء وإثارة أسباب الشك‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إشاعة الكفار لمفاهيم الستهزاء بالبراهين والدللت الباهرات على صدق‬
‫النبوة‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إبطاء الناس في دخولهم السلم ‪.‬‬
‫ن[) (‪ ,‬بأن‬
‫‪105‬‬
‫سَتْهِزِئي َ‬
‫ك اْلُم ْ‬‫ويمكن الجمع بين الية محل البحث وقوله تعالى]ِإّنا َكَفْيَنا َ‬
‫يكون قطع طائفة من رؤساء الكفار من كفاية ال عز وجل المستهزئين من جهات‪:‬‬

‫‪ ()101‬سورة يوسف ‪.3‬‬


‫‪()102‬سورة البقرة ‪.129‬‬
‫‪ ()103‬سورة الصف ‪.6‬‬
‫‪ ()104‬سورة النعام ‪.151‬‬
‫‪ ()105‬سورة الحجر ‪.95‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الولى‪ :‬هلك بعض الرؤساء الذين كانوا يظهرون السخرية والستخفاف بالنبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وما جاء به‪ ،‬وفي موضوع وسبب نزول الية أعله‬
‫ذكر أن المستهزئين كانوا خمسة نفر من قريش العاص بن وائل و الوليد بن المغيرة‬
‫و أبو زمعة و هو السود بن المطلب و السود بن عبد يغوث و الحرث بن قيس‪,‬‬
‫عن إبن عباس و سعيد بن جبير ‪.‬‬
‫و قيل كانوا ستة رهط عن محمد بن ثور و سادسهم الحارث بن الطلطلة و أمه‬
‫عيطلة قالوا و أتى جبرائيل النبي صلى ال عليه وآله وسّلم و المستهزءون يطوفون‬
‫بالبيت فقام جبرائيل و رسول ال إلى جنبه‪.‬‬
‫فمر به الوليد بن المغيرة المخزومي فأومى ‪-‬أي جبرئيل ‪ -‬بيده إلى ساقه فمر الوليد‬
‫على قين)‪ ،(106‬لخزاعة و هو يجر ثيابه فتعلقت بثوبه شوكة فمنعه الكبر أن يخفض‬
‫رأسه فينزعها و جعلت تضرب ساقه فخدشته فلم يزل مريضا حتى مات‪.‬‬
‫ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرائيل إلى رجله فوطىء العاص على‬
‫شوكة فدخلت في أخمص رجله فقال لدغت فلم يزل يحكها حتى مات‪.‬‬
‫ومر به السود بن المطلب بن عبد مناف فأشار إلى عينه فعمي و قيل رماه بورقة‬
‫خضراء فعمي و جعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك‪.‬‬
‫ومر به السود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات و قيل أصابه السموم‬
‫فصار أسود فأتى أهله فلم يعرفوه فمات و هو يقول قتلني رب محمد و مر به‬
‫الحارث بن الطلطلة فأومى إلى رأسه فامتخط قيحا فمات و قيل إن الحرث بن‬
‫قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فما زال يشرب حتى أنقد بطنه( )‪.(107‬‬
‫الثانية‪ :‬إتعاظ الناس من هلك هؤلء الرؤساء‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬المن والسلمة من إستهزاء وإستخفاف أتباع هؤلء الرؤساء‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬عدم إنصات الناس للمستهزئين‪ ،‬وإعراضهم عن الجدال والخصومة التي‬
‫يقومون بها لصرف الناس عن المعجزات‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬الخزي الذي يلحق الكفار‪ ،‬وما يصيبهم من تلف الموال‪ ,‬وأسباب‬
‫الضعف والوهن‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التجرأ على شخص النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ومحاولة النيل منه‬
‫عْنُه َوَقاُلوا ُمَعّلٌم‬
‫لمنع الناس من النجذاب إليه وإتباعه ‪ ,‬وفي التنزيل]ُثّم َتَوّلْوا َ‬
‫ن[ )‪ ،(108‬إذ جاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم باليات البينات‪ ،‬لكن‬ ‫جُنو ٌ‬
‫َم ْ‬
‫الكفار أعرضوا عنه‪ ،‬وأنكروا نبوته ونعتوه بتلقي التعليم من بشر وأنه مجنون‬
‫بادعاء النبوة‪.‬‬
‫ومن إعجاز الية أعله أنهم لم يدعوا أنه معَلم إل بعد إن إستمعوا له ليوهموا‬
‫الناس بأنهم مقتنعون بما يقولون في الوقت الذي تؤمن فيه جماعات من الناس بذات‬
‫‪()106‬قْين‪ :‬الحداد والصانع‪.‬‬
‫‪ ()107‬مجمع البيان ‪.6/346‬‬
‫‪ ()108‬سورة الدخان ‪.14‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫اليات التي ينكرها هؤلء‪ ،‬ويؤمن غيرهم ممن بلغته تلك اليات‪ ،‬وسار أقطاب‬
‫الكفر في مكة على نهج فرعون وملئه في إيذاء موسى عليه السلم وقومه‪ ،‬وخاطب‬
‫ن[ )‪ ،(109‬أي إن لم تصدقوني في‬ ‫عَتِزُلو ِ‬ ‫ن َلْم ُتْؤِمُنوا ِلي َفا ْ‬ ‫موسى آل فرعون]َوِإ ْ‬
‫ي‪) ،‬وعن إبن عباس‪:‬فاعتزلوا أذاي( ) (‪ ،‬وهو نوع‬
‫‪110‬‬
‫رسالتي فل تكونوا لي ول عل ّ‬
‫إنذار لهم‪.‬‬
‫وعندما زحف فرعون وجنوده متعقبًا بني إسرائيل ‪ ,‬وحاول إجتياز البحر هلك هو‬
‫ن[‬‫ظُرو َ‬ ‫ن َوَأْنُتْم َتن ُ‬‫عْو َ‬
‫ل ِفْر َ‬‫غَرْقَنا آ َ‬‫جْيَناُكْم َوَأ ْ‬
‫حَر َفَأْن َ‬
‫جنوده‪ ،‬قال تعالى]َوِإْذ َفَرْقَنا ِبُكْم اْلَب ْ‬
‫)‪ ،(111‬وهذا الغرق إنذار وتخويف لكل الذين يكّذبون النبياء والرسل‪ ،‬ويقابلون‬
‫آيات النبوة بالجحود والتعدي والظلم للمؤمنين‪.‬‬
‫والنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين وسيد المرسلين‪ ،‬فجاءت‬
‫الية محل البحث بالخبار عن قطع دابر الذين يحاربون السلم ويكونون برزخًا‬
‫دون بلوغ الدعوة السلمية لمن خلفهم من أهل الملل والمصار والبوادي‪.‬‬
‫لقد كانت قريش ذات سطوة وشأن بين القبائل‪ ،‬وتزاول التجارة وتقوم برحلة في‬
‫الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى الشام‪ ،‬وتأتي العرب لحج البيت الحرام كل‬
‫عام والجتماع في أسواق مكة وعرفة التجارية والدبية مما يهيء لهم أسباب‬
‫التأثير والسلطان الفكري والمالي على الناس‪ ،‬ولم ينالوا هذه المنزلة والمقام إل‬
‫ل َهَذا َبَلًدا آِمًنا َواْرُزقْ َأْهَلُه ِم ْ‬
‫ن‬ ‫جَع ْ‬‫باْ‬ ‫ببركة البيت الحرام ‪ ,‬ودعاء إبراهيم]َر ّ‬
‫ت[ )‪.(112‬‬
‫الّثَمَرا ِ‬
‫ولكنهم جحدوا هذه النعم ووظفوها لمحاربة النبوة فجاء العذاب للكافرين بالقطع‬
‫والهلك‪ ،‬مع أن إبراهيم عليه السلم دعا ال لبعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم من أجل إصلحهم وسلمتهم من العذاب بالوقاية من الفساد‪ ،‬وتفضل ال عز‬
‫وجل عليهم بأن جاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بالمعجزات العقلية‬
‫لجذبهم إلى السلم‪ ،‬ونجاتهم من القطع والهلك‪.‬‬
‫فمن إعجاز الية أنها لم تقصد أشخاصًا بأسمائهم وأعيانهم‪ ،‬بل جاءت بقيدين‪:‬‬
‫صَها‬‫ض َنْنُق ُ‬‫لْر َ‬ ‫الول‪ :‬الطرف من الكفار‪ ،‬وو رد في قوله تعالى]َأَوَلْم َيَرْوا َأّنا َنْأِتي ا َ‬
‫طَراِفَها[)‪ (113‬ننقصها من أطرافها بفتوحات المسلمين)‪.(114‬‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ِم ْ‬
‫الثاني‪ :‬حصول النقص في أهل الكفر‪ ،‬والزيادة في المسلمين‪ ،‬وإرادة من دخل في‬
‫السلم من أهل الشك والريب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الية إنذار لهل مكة لنهم يرون فتح النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫للقرى ممن حولهم‪ ،‬ودخول الناس في السلم أفرادًا وجماعات‪.‬‬
‫‪ ()109‬سورة الدخان ‪.21‬‬
‫‪()110‬مجمع البيان ‪.9/95‬‬
‫‪ ()111‬سورة البقرة ‪.50‬‬
‫‪ ()112‬سورة البقرة ‪.126‬‬
‫‪ ()113‬سورة الرعد ‪.41‬‬
‫‪.()114‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬الية بشارة قرب فتح مكة ‪ ,‬وإزاحة مفاهيم الشرك والضللة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الية إنذار للكفار‪ ،‬وإخبار عن حدوث النقص والضعف عندهم مع غزو‬
‫ل وجنوبًا‪،‬‬ ‫مبادئ السلم القلوب‪ ،‬وميل الناس إليه‪ ،‬وتقدم رايات المجاهدين شما ً‬
‫وتوالي أخبار الفتوحات‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قيد الكفر والضللة في نزول عذاب القطع‪ ،‬وإستئصال طائفة من رؤساء‬
‫الكفر‪.‬‬
‫لقد جعل ال عز وجل إستدامة الحياة الدنيا بالسباب الظاهرية‪ ،‬مع حدوث وقائع‬
‫شخصية أو إبتلءات عامة وحروب وآفات أرضية أو سماوية تأتي معها أضرار‬
‫طارئة‪ ،‬وجاءت هذه الية بالبرهان الني وهو الستدلل من المعلول على العلة‪،‬‬
‫فيحتمل هلك عدد من رؤساء المشركين وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬وقوع هلكهم على يد جيوش المسلمين والغزاة منهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه يحصل بأسباب كونية ظاهرة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يصيبهم ال عز وجل بألوان البلء والعذاب كمنع غيث السماء‪ ,‬وتعطل‬
‫التجارات‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الفتنة بين الكفار أنفسهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬ثورة المستضعفين عليهم بعد مجيء بشارات السلم‪ ،‬وتجلي معجزات‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫عَلْيِهْم الّذّلُة‬
‫ت َ‬‫ضِرَب ْ‬‫السادس‪ :‬ضرب الذلة والمسكنة على الكفار‪ ،‬قال تعالى]َو ُ‬
‫سَكَنُة[ )‪.(115‬‬
‫َواْلَم ْ‬
‫السابع‪ :‬قطع طرف من الكفار بذاته علة مستقلة ‪ ,‬وتترشح عنها نتائج وآثار كثيرة‬
‫ضارة بالكفار‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬دخول أبناء الكفار السلم‪ ،‬وحصول الضعف والنقص في رجالهم‪ ،‬وظهور‬
‫علمات النكسار عليهم‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬صيرورة أقطاب الكفار فقراء و عاجزين من محاربة السلم بسبب هلك‬
‫أموالهم وضياع ما ينقصونه في محاربة السلم والمسلمين‪ ،‬قال تعالى في ذم‬
‫الكفار وبذلهم الموال في إعداد وتجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى ال عليه‬
‫صّر‬‫ح ِفيَها ِ‬ ‫ل ِري ٍ‬
‫حَياِة الّدْنَيا َكَمَث ِ‬
‫ن ِفي َهِذِه اْل َ‬
‫ل َما ُيْنِفُقو َ‬ ‫وآله وسلم والمسلمين]َمَث ُ‬
‫سُهْم َفَأْهَلَكْتُه[) (‪ ،‬ول يدل منطوق الية على حصر‬ ‫‪116‬‬
‫ظَلُموا َأْنُف َ‬
‫ث َقْوٍم َ‬
‫حْر َ‬
‫ت َ‬ ‫صاَب ْ‬
‫َأ َ‬
‫موضوعها بهلك عدد من رؤساء الكفر فهي أعم‪ ،‬وتتضمن أمورًا منها ‪:‬‬
‫الول‪ :‬دخول المسلمين للقرى القريبة من بلدة الكفار وإطللة رايات السلم على‬
‫البلدة وضواحيها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬فتح المسلمين للمصار وإنحسار أثر رؤساء الكفر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬بعث الفزع في نفوس المل من الكفار لزدياد قوة ومنعة المسلمين‪.‬‬
‫‪ ()115‬سورة البقرة ‪.61‬‬
‫‪ ()116‬سورة آل عمران ‪.117‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬تجلي معاني الصدق في نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫وبين الطرف والطائفة عموم وخصوص من وجه‪ ،‬فهناك مادة لللتقاء‪ ،‬والخرى‬
‫للفتراق‪ ،‬لموضوعية المحل والمكان والجهة بالنسبة للطرف‪ ،‬وفي قطع الطرف‬
‫دللة على حدوث ثغرة عظيمة عند الكفار ل يستطيعون تداركها‪ ،‬لنها لم تنحصر‬
‫بفرد مخصوص وطرف محدود‪ ،‬فكلما تقدمت طائفة من الكفار لتكون طرفًا‪ ،‬يكون‬
‫القطع والنابة والهلك في إستقبالها بما يخزي الكفار‪ ،‬ويمل نفوسهم فزعًا‪.‬‬
‫ومن اليات في إختيار لفظ الطرف في الية أنه عام يشمل الرؤساء والصناديد‬
‫والشجعان وعامة المقاتلين وأفراد الطرف‪ ،‬وفيه تحذير لعامة الكفار من البروز‬
‫للمقدمة‪ ،‬والمواجهة للمسلمين في ميدان الحرب وغيره كالشعر‪ ،‬وإعانة جيش الكفار‬
‫بالموال‪ ،‬والتحريض على المسلمين‪ ،‬وإثارة الشك والريب بمعجزات النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم عنادًا وإستكبارًا وجحودًا‪.‬‬
‫ويحتمل إتصال الية بما قبلها‪ ،‬وتعلق قطع طرف من الكفار في نظم اليات‬
‫وجوهًا‪:‬‬
‫الوجه الول‪ :‬يتصل موضوع قطع طرف من الكفار بخاتمة الية السابقة]َوَما‬
‫ل[ )‪ ،(117‬وإن ال عز وجل لم يجعل النصر بيد غيره‪ ،‬أو‬ ‫عْنِد ا ِّ‬
‫ن ِ‬
‫ل ِم ْ‬
‫صُر ِإ ّ‬‫الّن ْ‬
‫بالسباب المادية الظاهرة‪ ،‬بل جعله بيده سبحانه ليكون مقدمة ووسيلة لهلك بعض‬
‫كبار الكفار‪ ،‬وبرزخًا دون سيادة الكفر في الرض‪ ،‬ويفيد الجمع بين خاتمة الية‬
‫السابقة وأول هذه الية وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة معركة مخصوصة من معارك المسلمين يجتمع فيها نصر المسلمين‪،‬‬
‫وهلك طائفة من الكفار كمعركة بدر أو أحد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المراد مجموع معارك السلم الولى‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المقصود جميع معارك السلم‪ ،‬وإن قانونًا ثابتًا يحكمها وهو أن النصر بيد‬
‫ال‪ ،‬ومن عنده‪ ،‬وأن هلك طائفة من الكفار مترشح عنه قهرًا وإنطباقًا في كل‬
‫معركة‪ ،‬كما تجلى المر في معركة بدر‪ ،‬وهو وإن لم يظهر واضحًا في معركة أحد‬
‫إل أنه أمر ثابت في كل معركة سواء في ميدان المعركة أو بعدها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إرادة عموم المعارك‪ ،‬وما تنتهي إليه‪ ،‬وما يترتب عليها من الثار‪.‬‬
‫والصحيح هو الرابع‪ ،‬كما يشمل النصر وإنحصار أمره بيد ال ما هو أعم من‬
‫المعارك‪ ،‬إذ جعل ال عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار ويتصارع فيها الخير‬
‫والشر‪ ،‬واليمان والكفر‪ ،‬ويأتي النصر اللهي بالحتجاج والجدال لدحر الكفر ومنع‬
‫عتو وتمادي الكفار في الظلم والتعدي‪.‬‬
‫جَهّنَم[‬
‫ب َ‬‫ص ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ل َ‬‫ن ا ِّ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫ن ِم ْ‬
‫وعن إبن إسحاق )ولما نزل قوله تعالى]ِإّنُكْم َوَما َتْعُبُدو َ‬
‫)‪ ،(118‬جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم فيما بلغنا‪ ،‬يوما مع الوليد بن المغيرة‬
‫في المسجد‪،‬فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم‪ ،‬وفى المجلس غير واحد من‬
‫‪()117‬الية ‪.126‬‬
‫‪()118‬سورة النبياء ‪.98‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫رجال قريش‪،‬فتكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم فعرض له النضر‪ ،‬فكلمه رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم حتى أفحمه‪ ،‬ثم تل عليه وعليهم‪ :‬إنكم وما تعبدون من دون‬
‫ال حصب جهنم أنتم لها واردون‪ ،‬ثم قام رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأقبل عبد‬
‫ال بن الزبعرى السهمى حتى جلس‪ ،‬فقال الوليد بن المغيرة له‪ :‬وال ما قام النضر‬
‫بن الحارث لبن عبد المطلب آنفا وما قعد‪ ،‬وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا‬
‫هذه حصب جهنم‪.‬‬
‫فقال عبد ال بن الزبعرى‪ :‬أما وال لو وجدته لخصمته‪ ،‬فسلوا محمدا‪ :‬أكل من يعبد‬
‫من دون ال حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملئكة‪ ،‬واليهود تعبد عزيرا‪،‬‬
‫والنصارى تعبد عيسى‪.‬‬
‫فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول إبن الزبعرى‪ ،‬ورأوا أنه قد إحتج‬
‫وخاصم‪.‬‬
‫فذكر ذلك لرسول ال صلى عليه وسلم فقال‪ :‬كل من أحب أن يعبد من دون ال فهو‬
‫مع من عبده في النار‪ ،‬إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته‪.‬‬
‫ن[) (‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫عْنَها ُمْبَعُدو َ‬
‫ك َ‬
‫سَنى ُأْوَلِئ َ‬
‫حْ‬
‫ت َلُهْم ِمّنا اْل ُ‬
‫سَبَق ْ‬
‫ن َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫فأنزل ال تعالى]ِإ ّ‬
‫عبد‬‫ل يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون‪ ،‬أي عيسى وعزيز ومن ُ‬
‫من الحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة ال تعالى‪ ،‬ونزل فيما يذكرون أنهم‬
‫يعبدون الملئكة وأنها بنات ال‪ :‬وقالوا اتخذ الرحمن ولدا‪ ،‬سبحانه‪ ،‬بل عباد‬
‫مكرمون "واليات بعدها)‪.(120‬‬
‫والصل في الية إرادة النصر في ميادين المعارك‪ ،‬وفي توكيد هذه اليات على أن‬
‫النصر بيد ال دعوة للقرار بالعبودية ل عز وجل‪ ،‬وإجتناب الغلو بالنبياء أو‬
‫الملئكة‪ ،‬فصحيح أن الملئكة نزلوا إلى ميدان المعركة‪ ،‬وكانوا السبب في هزيمة‬
‫الكفار شر هزيمة إل أنهم لم ينزلوا إل بأمر ال عز وجل وهو سبحانه يوحي لهم‪،‬‬
‫لِئَكِة َأّني َمَعُكْم[)‪.(121‬‬ ‫ك ِإَلى اْلَم َ‬‫حي َرّب َ‬ ‫قال تعالى]ِإْذ ُيو ِ‬
‫ومن العجاز القرآني أن تأتي الية بالبشارة مع بيان موضوعها ودللتها‪،‬‬
‫وجعلها وسيلة لزيادة اليمان‪ ،‬وبابًا للشكر ل عز وجل‪ ،‬وبرزخًا دون الفراط أو‬
‫التفريط‪ ،‬وسببًا لرجاء النصر‪ ،‬وطردًا للخوف والفزع من قلوب المؤمنين بتقريب‬
‫أن النصر بيد ال وأنه ينصر المسلمين على الكفار‪ ،‬ومن إعجاز القرآن إقتران‬
‫حصر النصر بيد ال عز وجل بأنه سبحانه )العزيز الحكيم( وأن تعيين النصر‬
‫ورجحان كفة المؤمنين وخسارة الكفار‪ ،‬وهلك طرف منهم يأتي وفق موازين‬
‫ن َكاُنوا‬‫الحكمة والتقان والعدل‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]َوَما ظََلْمَناُهمْ َوَلِك ْ‬
‫ن[ )‪.(122‬‬ ‫ظِلُمو َ‬‫سُهْم َي ْ‬
‫َأنُف َ‬
‫‪()119‬سورة النبياء ‪.101‬‬
‫‪()120‬السيرة النبوية‪ /‬إبن كثير ‪.2/53‬‬
‫‪ ()121‬سورة النفال ‪.12‬‬
‫‪ ()122‬سورة النحل ‪.118‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وفي الجمع بين الية أعله وبين هذه اليات بخصوص ظلم الكفار لنفسهم وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬غفلة الكفار عن قانون النصر بيد ال من ظلمهم لنفسهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تحذير الكفار من التعدي على المسلمين‪ ،‬وتجهيز الجيوش ضدهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مصاحبة اليأس والقنوط للكفار عند زحفهم على المسلمين‪ ،‬وعند الشروع‬
‫في القتال‪ ،‬لذا فإن من آداب القتال عند المسلمين البتداء بإنذار الكفار ووعظهم‬
‫وإرشادهم وتحذيرهم من القتال‪ ،‬ودعوتهم لليمان بال عز وجل إلهًا واحدًا‪ ،‬مع‬
‫إجتناب بداية القوم بالقتال حتى يبدأ الكفار به ليكون أتم للحجة عليهم‪ ،‬وأسرع لنصر‬
‫وغلبة المسلمين‪.‬‬
‫وقد يكون لبتداء القتال أثر من جهة المباغتة والخدعة وإظهار قوة العزيمة‬
‫والصرار على القتال‪ ،‬وحينما يتخلى عنه المسلمون فإنهم يؤكدون إيمانهم بقانون‬
‫)النصر من عند ال( )‪ (123‬وفيه للكفار للتدبر والهداية ‪.‬‬
‫وتأتي نتائج المعركة لتزيد إيمانهم‪ ،‬وتكون كبتًا وخزيًا للكفار‪ ،‬وهو من مصاديق‬
‫ظلمهم لنفسهم‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬عدم إنحصار الضرار التي تلحق بالكفار بساحة المعركة ونتائجها‬
‫الميدانية‪ ،‬بل تشمل ما يلحق الكفار من الخزي والخسران وضياع الموال‪ ،‬وتخلي‬
‫التباع عنهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬هلك عدد من أقطاب الكفر والضللة‪ ،‬وهذا الهلك من الشواهد على أن‬
‫نصر ال خاص بالمؤمنين عند ملقاتهم العداء‪.‬‬
‫ومعنى الية على هذا الوجه أن ال عز وجل نصركم أيها المؤمنون بواسطة المدد‬
‫الملكوتي لغايات حميدة هي البشرى لكم‪ ،‬والسكينة والطمأنينة لقلوبكم‪ ،‬وهلك‬
‫طائفة من الكفار‪.‬‬
‫ل ِبَبْدٍر[) (‬
‫‪124‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫الوجه الثاني‪ :‬موضوع هذه الية متصل بقوله تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫وتقدير الجمع بين اليتين أن ال عز وجل نصر المسلمين في معركة بدر مع أنهم‬
‫قلة وعلى حال ضعف للقطع من قوة وبطش قريش‪ ،‬وهدم ركن من أركان الكفر‬
‫والضللة‪ ،‬وتدل عليه نتيجة المعركة‪ ،‬وقتل سبعين من قريش بينهم عدد من كبار‬
‫رجالتهم مثل أبي جهل وعتبة بن ربيعة وأخيه وإبنه‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وظهور دين السلم‪ ،‬وفيه‬
‫أضعاف لجبهة الكفر‪ ،‬وإزاحة لسلطانه عن أمصار كثيرة‪ ،‬ومنع إفتتان الناس‬
‫بالطواغيت‪.‬‬
‫إن معنى ومفهوم قطع طرف من الكفار أعم من أن ينحصر بميدان المعركة‪،‬‬
‫ولتجتمع عدة وجوه وأسباب لضعف ووهن أهل الكفر والضللة‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إبتلء الكفار بأنواع البلء‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إسلم فريق منهم ومن عامة الناس‪.‬‬
‫‪ ()123‬تقدم بيان هذا القانون في الجزء السابع ص ‪.283‬‬
‫‪ ()124‬الية ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬إجتماع هزيمة الكفار في المعركة إلى جانب المعجزات والبراهين‬
‫القاطعات التي تدل على صدق نبوة محمد‪ ،‬وهي من أقوى السلحة في جذب الناس‪،‬‬
‫وحجة دامغة تجعل رؤساء الكفر عاجزين عن منع البناء والتباع والعوان من‬
‫دخول السلم ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬حصول قتلى وأسرى منهم في المعارك السلم‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪ :‬بشارة المسلمين بالنصر‪ ،‬وما فيه من إمتلء نفوسهم بالسكينة إذ أنه‬
‫أمر يغيض الكفار‪ ،‬ويبعث الرباك في صفوفهم‪ ،‬ويحدث الفرقة بينهم‪ ،‬لن نصر‬
‫المسلمين لم يكن بالسباب الظاهرية‪ ،‬ففي معركة بدر ظن بعض رؤساء قريش أنهم‬
‫يأتون على المؤمنين في ساعة واحدة‪ ،‬وهذا الظن ليس من الغرور والطيش‬
‫خصوصًا وأن هؤلء الرؤساء أصحاب خبرة في القتال‪ ،‬وتجربة طويلة‪ ،‬وإطلع‬
‫على التأريخ والمعارك التي جرت بين القبائل‪ ،‬والحلف التي تجري منها وبعدها‪،‬‬
‫فجاءت هزيمتهم في معركة بدر مفاجئة لهم‪ ،‬وألحقت بهم الخزي وأدركوا ما عليه‬
‫المسلمون من الطمأنينة والغبطة والسعادة‪ ،‬فإزداد الكفار ضعفًا وشعروا بالذل‪.‬‬
‫الوجه الخامس‪ :‬المعنى الجامع من نصر المسلمين في معارك السلم الولى‬
‫وإبتلء الكفار‪ ،‬ونفاذ وشيوع مبادئ ومفاهيم السلم لبناء القبائل والجماعات‪،‬‬
‫ل[ )‪ ،(125‬وتقييدها بالملزمة‬ ‫عْنِد ا ِّ‬‫ن ِ‬ ‫ل ِم ْ‬‫صُر ِإ ّ‬‫ولعمومات خاتمة الية السابقة]َوَما الّن ْ‬
‫ن[ )‪ ،(126‬وهذا‬ ‫صُر اْلُمْؤِمِني َ‬ ‫عَلْيَنا َن ْ‬‫حّقا َ‬ ‫ن َ‬ ‫بين النصر واليمان‪ ،‬قال تعالى]َوَكا َ‬
‫الجتماع من أسرار إبتداء الية باللم )ليقطع(من غير واو العطف‪ ،‬فلم تعطف‬
‫ن ُقُلوُبُكْم ِبِه[‬
‫طَمِئ ّ‬
‫شَرى َلُكْم َوِلَت ْ‬ ‫ل ُب ْ‬‫ل ِإ ّ‬
‫جَعَلُه ا ُّ‬
‫الية على ما قبلها وقوله تعالى]َوَما َ‬
‫)‪ (127‬بل إبتدأت بحرف التعليل اللم ) وقال المام الرازي‪:‬ولكنه ذكر بغير حرف‬
‫العطف لنه إذا كان البعض قريبًا من البعض جاز حذف العاطف‪ ،‬وهو كما يقول‬
‫السيد لعبده‪:‬أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي()‪. (128‬‬
‫ولكن الية السابقة جاءت بحرف العطف)ولتطمئن( مع إتحاد الموضوع وجهة‬
‫الخطاب‪ ،‬ووحدة الية‪ ،‬والية أعم في معناها ودللتها‪ ،‬وليكون هدم ركن من‬
‫أركان الكفر والضللة مطلوبًا بذاته أيضًا خصوصًا وأن الية السابقة جاءت‬
‫للخبار عن البشرى والطمأنينة بالوعد بالمداد لقوله تعالى في الية السابقة]َبَلى ِإنْ‬
‫لِئَكِة[‬
‫ن اْلَم َ‬ ‫ف ِم ْ‬‫ل ٍ‬‫سِة آ َ‬ ‫خْم َ‬ ‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫َت ْ‬
‫) (‪ ،‬نعم جاء في سورة النفال ما يدل على ترتب البشارة والطمأنينة على ذات‬ ‫‪129‬‬

‫‪ ()125‬الية ‪.126‬‬
‫‪ ()126‬سورة الروم ‪.47‬‬
‫‪ ()127‬الية ‪.126‬‬
‫‪ ()128‬مفاتيح الغيب ‪.8/216‬‬
‫‪ ()129‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫المدد الملكوتي‪ ،‬وليس الوعد به)‪ ،(130‬ول يمنع من التعدد بأن تكون البشارة‬
‫ق[)‪.(131‬‬ ‫حّ‬ ‫ل َ‬ ‫عَد ا ِّ‬‫ن َو ْ‬ ‫والطمأنينة مرة بذات المدد وأخرى بالوعد‪ ،‬قال تعالى]ِإ ّ‬
‫ومن وجوه قطع طرف من الكفار وقوع أسرى منهم يوم بدر ‪ ,‬وفيه مسائل ‪:‬‬
‫ن ِفَداُء‬‫شاٍم‪َ :‬كا َ‬ ‫ن ِه َ‬ ‫ل اْب ُ‬
‫الول‪ :‬دفع قريش لموال كثيرة لفداء أبنائهم ورجالتهم‪َ)،‬قا َ‬
‫ف ِدْرَهٍم() (‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫ل إَلى َأْل ِ‬ ‫ف ِدْرَهٍم ِللّرج ِ‬
‫ن َيْوَمِئٍذ َأْرَبَعَة آل ِ‬‫شِرِكي َ‬
‫اْلُم ْ‬
‫الثاني‪ :‬إنتفاع المسلمين بمبالغ الفداء لشراء السلح والمؤون‪ ،‬والتجهز للقتال‬
‫والغزو‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬منع حصول فتنة في المدينة بسبب كثرة المهاجرين فيها‪ ،‬وقلة الموال‪.‬‬
‫ن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم على عدد من السرى الذين ليس‬ ‫الرابع‪ :‬م ّ‬
‫عندهم مال‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬غياب رؤساء من الكفر‪ ،‬وإصابة قريش بالوهن وحصول الفتنة عندهم كما‬
‫يظهر في قصيدة السود بن المطلب الذي قتل ثلثة أولد له يوم بدر بعد أن سمع‬
‫ل لها في الليل‪ ،‬فعاب قريشًا لنها تمنع البكاء على قتلى بدر وتأذن‬ ‫إمرأة تبكي جم ً‬
‫بالبكاء على جمل‪:‬‬
‫سوُدوا‪.( ) .‬‬
‫‪133‬‬
‫َوَلْول َيْوَم َبْدٍر َلْم َي ُ‬ ‫جا ٌ‬
‫ل‬ ‫ساَد َبْعَدُهْم ِر َ‬
‫َأل َقْد َ‬
‫وفيه دللة على أن كفار قريش يسّمون معركة بدر بذات السم الذي نزل فيه القرآن‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪ (134‬وإمتلء نفوسهم بالحزن والسى ‪,‬‬ ‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫بقوله تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫وحصول الفتنة والرتباك بينهم ‪.‬‬
‫السادس‪ :‬ظهور الذل على كبار رجال قريش‪ ،‬فعندما طلب من أبي سفيان وكان‬
‫جَمُع‬‫ل َأُي ْ‬
‫ل شحيحًا أن يفدي أبنه عمرو الذي أسره المام علي عليه السلم )َقا َ‬ ‫رج ً‬
‫سُكوُه َما َبَدا َلُهْم(‬ ‫عوُه ِفي َأْيِديِهْم ُيْم ِ‬ ‫عْمًرا َد ُ‬
‫ظَلَة َوَأْفِدي َ‬
‫حْن َ‬
‫ي َدِمي َوَماِلي َقَتُلوا َ‬ ‫عَل ّ‬
‫َ‬
‫) (‪.‬‬
‫‪135‬‬

‫السابع‪ :‬تجلي أسباب القوة الشخصية والمنعة عند المسلمين مع ما فيهم من قلة‬
‫المؤونة‪ ،‬ومن أسباب تسمية عبيد بن أوس بمقرن أنه قرن أربعة أسرى في يوم‬
‫بدر‪ ،‬ومنهم عقيل بن أبي طالب‪.‬‬
‫ومجيء الخبار عن قطع طرف من الكفار بعد معركة أحد شاهد على التغيير‬
‫الكبير في الصراع بين اليمان والكفر‪ ،‬وإتضاح معالم نصر النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم والمؤمنين‪ ،‬وميل كفة الغلبة والنصر لهم قبل المعركة وعند‬
‫مقدماتها وهّم الطرفان بدخولها‪.‬‬

‫‪ ()130‬أنظر سورة النفال ‪.10-9‬‬


‫‪ ()131‬سورة يونس ‪.55‬‬
‫‪()132‬السيرة النبوية ‪.263 /2‬‬
‫‪()133‬السيرة النبوية ‪.2/253‬‬
‫‪()134‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫‪()135‬السيرة النبوية ‪.2/254‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫فجاءت هذه الية بشارة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪ ،‬وبيانًا‬
‫لحسن العاقبة والثمرات العظيمة المترشحة عن توجه المسلمين للقتال بشوق‬
‫ورضا‪.‬‬
‫وجاءت بأجزل عبارة وأوضح بيان‪ ،‬وأبهى سبك من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الخبار بصيغة الجزم بهلك بعض أركان الكفر‪ ،‬وإنحسار بعض أطرافه‬
‫ومقدمته المقابلة لثغور السلم والتي تعتدي على المسلمين‪ ،‬وورد في قوله‬
‫طَراِفَها[ )‪ (136‬وجوه‪:‬‬ ‫ن َأ ْ‬
‫صَها ِم ْ‬‫ض َنْنُق ُ‬
‫لْر َ‬ ‫تعالى]َأَوَلْم َيَرْوا َأّنا َنْأِتي ا َ‬
‫الول‪ :‬أو لم ير هؤلء الكفار أنا ننقص أطراف الرض بإماتة أهلها‪ ،‬والمراد من‬
‫الطراف في الية الهل والسكان‪ ،‬وهو المروي عن إبن عباس وقتادة‬
‫وعكرمة)‪.(137‬‬
‫الثاني‪ :‬النقص من أطراف الرض بالفتوح على المسلمين‪ ،‬فينقص أهل الكفر‪،‬‬
‫ويزيد عدد المسلمين‪ ،‬وتتغشى أحكام السلم بلدًا كانت مفاهيم الشرك هي السائدة‬
‫فيها‪ ،‬عن الحسن والضحاك ومقاتل)‪.(138‬‬
‫الثالث‪ :‬أو لم ير أهل مكة أنا نفتح لمحمد صلى ال عليه وآله وسلم ما حولها من‬
‫القرى‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها وخيارها‪ ،‬روي عن إبن عباس والمام‬
‫الصادق عليه السلم وسعيد بن جبير)‪.(139‬‬
‫ول تعارض بين هذه الوجوه‪ ،‬وكلها من مصاديق القطع مع التباين في الموضوع‪،‬‬
‫فهلك الكفار‪ ،‬وإتساع رقعة السلم تثبيت لمبادئ التوحيد‪ ،‬وموت العلماء لحكمة‬
‫في الدين‪ ،‬وفيه نكتة وهي التعاقب والكثرة في عدد العلماء‪ ،‬فإرادة موت العلماء في‬
‫نقص أطراف من الرض للدللة على سعة رقعة السلم‪ ،‬وإنتفاء تهديد الكفار‬
‫للمسلمين‪ ،‬وإل لجتمع عليهم تعدي وتهديد الكفار وموت العلماء فلم يمت العالم إل‬
‫وقد ظهر غيره من علماء المسلمين‪ ،‬خصوصًا وأن التخلص من قتال الكفار وإتساع‬
‫رقعة السلم سبيلن لتفقه المسلمين في الدين‪ ،‬وتوجه فريق منهم لدراسة علوم‬
‫طاِئَفٌة ِلَيَتَفّقُهوا ِفي الّدي ِ‬
‫ن‬ ‫ل ِفْرَقٍة ِمْنُهْم َ‬
‫ن ُك ّ‬‫ل َنَفَر ِم ْ‬
‫القرآن والفقه قال تعالى]َفَلْو َ‬
‫َوِلُينِذُروا َقْوَمُهْم ْ[ )‪.(140‬‬
‫الثاني‪ :‬هلك فريق من الكفار معلول لعلة‪ ،‬وتحتمل تلك العلة وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها خارجة عن إرادة الكفار أنفسهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يشترك الكفار فيها مع غيرهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يأتي القطع لقبح ما فعل الكفار ‪ ,‬وظلمهم لنفسهم ‪.‬‬

‫‪()136‬سورة الرعد ‪. 41‬‬


‫‪()137‬مجمع البيان ‪.6/300‬‬
‫‪()138‬مجمع البيان ‪.5/300‬‬
‫‪()139‬مجمع البيان ‪.5/300‬‬
‫‪ ()140‬سورة التوبة ‪.122‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫والصحيح هو الثالث‪ ،‬فإن القطع بسبب إصرار الكفار على الجحود وقتال النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش عليه‪ ،‬وهو من عمومات قوله‬
‫ن[ )‪.(141‬‬ ‫ظِلُمو َ‬‫سُهْم َي ْ‬
‫ن َكاُنوا َأنُف َ‬ ‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬
‫تعالى]َوَما َ‬
‫الثالث‪ :‬إقتباس الحكام والمواعظ من التعليل الوارد في الية بما ينفع المسلمين‬
‫والناس جميعًا‪ ،‬فحتى لو ظهر الكفار في بعض الماكن فإن هذه الية مواساة‬
‫ومؤنس للمسلمين‪ ،‬ودعوة لهم للصبر والتقوى وإنتظار تحقق مضامين الية‬
‫الكريمة‪.‬‬
‫ومن إعجاز القرآن أنه يلبس المدركات العقلية لباس المحسوسات‪ ،‬فجاءت الية‬
‫بصيغة قطع الطرف من الكفار‪ ،‬لبيان قانون متجدد وهو ظهور النقص والوهن‬
‫والضعف في صفوف الكفار على نحو الستدامة‪ ،‬فيسعون لجمع الجنود وبناء‬
‫الجيش‪ ،‬وتجهيزه بالسلح والمؤون ‪ ,‬فيرميهم ال بقطع الطرف بالمدد للمسلمين‬
‫والبشارة به‪.‬‬
‫وروي أنه )اجتمع خمسة وعشرون نفسًا من صناديد قريش ومشوا إلى أبي طالب‬
‫وقالوا ‪ :‬أنت شيخنا وكبيرنا ‪ ،‬وقد علمت ما فعل هؤلء السفهاء‪ ،‬يريدون ‪ :‬الذين‬
‫دخلوا في السلم ‪ ،‬وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك‪ ،‬فاستحضر أبو طالب‬
‫سواء فل‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬هؤلء قومك يسألونك ال ّ‬
‫تمل كل الميل على قومك‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬ماذا يسألونني؟ "‬
‫قالوا ‪ :‬ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك ‪ ،‬فقال عليه السلم ‪ " :‬أرأيتم إن‬
‫ي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟‬ ‫أعطيتكم ما سألتم أمعط ّ‬
‫" فقالوا ‪ :‬نعم وعشرًا ‪ ،‬أي نعطيكها وعشر كلمات معها ‪ ،‬فقال ‪ " :‬قولوا ‪ :‬ل إله إ ّ‬
‫ل‬
‫ب( )‪ .(142‬ليكون‬ ‫جا ٌ‬‫عَ‬ ‫ىٌء ُ‬ ‫ش ْ‬‫ن هذا َل َ‬ ‫ل اللهة إلها واحدا ِإ ّ‬ ‫جَع َ‬‫ال " فقاموا وقالوا ‪َ } :‬أ َ‬
‫هذا الحديث إنذارًا للكفار ‪ ,‬وزاجرًا لهم عن الخروج إلى بدر الذي كان فيه هلكهم‬
‫وقطعهم‪.‬‬
‫ومن إعجاز القرآن ذكر الرحمة قبل العذاب‪ ،‬والعفو العقاب في آيات كثيرة في‬
‫شْأ ُيَعّذْبُكْم[)‪.(143‬‬
‫ن َي َ‬‫حْمُكْم َأْو ِإ ْ‬‫شْأ َيْر َ‬
‫ن َي َ‬
‫عَلُم ِبُكْم ِإ ْ‬
‫القرآن‪ ،‬قال تعالى ]َرّبُكْم َأ ْ‬
‫وجاءت اليات بسعة واطلق رحمة ال وأنها تشمل الخلئق كلها على نحو العموم‬
‫يٍء[)‪ ،(144‬وهو من التباين في الحكم‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ت ُك ّ‬‫سَع ْ‬ ‫حَمِتي َو ِ‬ ‫الستغراقي قال تعالى ]َوَر ْ‬
‫والكيف والرتبة بين الرحمة والعذاب‪ ،‬نعم جاءت آيات قليلة بتقديم العذاب على‬
‫حُم َم ْ‬
‫ن‬ ‫شاُء َوَيْر َ‬
‫ن َي َ‬
‫ب َم ْ‬ ‫الرحمة في مقام النذار والوعيد كما في قوله تعالى ]ُيَعّذ ُ‬
‫شاُء[)‪ ،(145‬لن سياق اليات جاء في تحذير الكفار الذين يكذبون بالرسل‪.‬‬ ‫َي َ‬

‫‪()141‬سورة النحل ‪.118‬‬


‫‪()142‬الكشاف ‪.3/60‬‬
‫‪()143‬سورة السراء ‪.54‬‬
‫‪()144‬سورةالعراف ‪.56‬‬
‫‪()145‬سورة العنكبوت ‪.21‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ولم تخرج هذه اليات عن تقديم البشارة للمؤمنين إكرامًا لهم‪ ،‬وبيانًا لشرف‬
‫منزلتهم‪ ،‬وشكرًا من ال لهم للتصديق برسوله الكريم‪ ،‬وخروجهم للقتال دونه ‪,‬‬
‫وتحت راية السلم وهو أبهى مصاديق اليمان والتقوى خصوصًا مع رجحان كفة‬
‫الكفار عددًا وعدة‪.‬‬
‫وإختصت هذه الية بالخبار الغيري عما يصيب الكفار الحر بيين الذين يقاتلون‬
‫المسلمين ‪ ,‬فإبتدأت بذكر فرد العذاب الشد وهو القطع ليكون أبلغ في النذار وأتم‬
‫في الحجة‪ ،‬وأكمل في البرهان على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫ولزيادة إيمان المسلمين شكرًا لهم‪ ،‬وتخفيفًا عنهم‪.‬‬
‫وهل يمكن ان يقطع الكفار طرفًا من المسلمين والحرب سجال‪،‬وكيد الكفار‬
‫للضرار بالمسلمين مستمر‪.‬‬
‫الجواب ل‪ ،‬فل تجد عند المسلمين طرفًا بل هم أمة متحدة كالبنيان المرصوص‪،‬‬
‫س[ )‪) ،(146‬وعن أبي‬ ‫عَلى الّنا ِ‬ ‫شَهَداَء َ‬
‫طا ِلَتُكوُنوا ُ‬
‫سً‬
‫جَعْلَناُكْم ُأّمًة َو َ‬
‫ك َ‬
‫وقال تعالى]َوَكَذِل َ‬
‫ل ) (‪ ،‬ومن‬
‫‪147‬‬
‫سعيد الخدري عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أمة وسطا ‪ ،‬قال ‪ :‬عد ً‬
‫معاني العدل الستقامة وعدم الميل إلى أحد الطرفين‪.‬‬
‫ومن مفاهيم الوسط البتعاد عن الطرفين‪ ،‬والتنزه من الفراط والتفريط‪ ،‬ومن شهادة‬
‫المسلمين على الناس في الية أعله شهادتهم على الكفار في تعديهم وظلمهم‪ ،‬وما‬
‫أصابهم من قطع الطرف والكبت كبلء وعقوبة عاجلة‪.‬‬
‫بحث كلمي‬
‫حَنا[) (‪،‬‬
‫‪148‬‬
‫ن ُرو ِ‬‫خَنا ِفيِه ِم ْ‬
‫لقد نفخ ال عز وجل من روحه في النسان‪ ،‬قال تعالى]َفَنَف ْ‬
‫لرادة خلق آدم عليه السلم ليمتاز النسان بصفات تؤهله للرتقاء في سلم‬
‫الكمالت‪ ,‬والنفس مخلوقة في جوهرها على الفطرة واليمان‪ ,‬والنفرة من الجحود‪.‬‬
‫وتفضل ال عز وجل وجعلها قابلة لكتساب المعارف وأنوار الهداية والصلح‪،‬‬
‫ولكن الدنيا دار إمتحان وإبتلء ‪ ,‬والنفس فيها مهددة بالشرور والكدورات‬
‫الظلمانية‪ ،‬واللهث وراء زينة الدنيا‪ ،‬وما فيها من أسباب الغرور والقوة الوهمية‬
‫المستجيبة لغواء الشيطان‪ ،‬لذا جاءت اليات بالستعاذة من الشيطان وشروره‪،‬‬
‫لتكون وسيلة لسلمة النسان من التعب والنكد والظلم والبغضاء‪.‬‬
‫وتحتمل الستعاذة في صدورها وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها خاصة بالمسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يحتاج الكفار الستعاذة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إتيان الناس مطلقًا الستعاذة‪ ،‬وقد تقدم بيان منافع الستعاذة)‪.(149‬‬

‫‪()146‬سورة البقرة ‪.143‬‬


‫‪()147‬الدر المنثور ‪.1/284‬‬
‫‪ ()148‬سورة التحريم ‪.12‬‬
‫‪ ()149‬الجزء الخامس ‪.76-55‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وهل هي واجب‪ ،‬أو مستحب‪ ،‬والثاني قال به المشهور‪ ،‬وإستدل على الوجوب بقوله‬
‫ل[)‪ ،(150‬بأن ذكر الحكم عقب الوصف وترتيبه‬ ‫سَتِعْذ ِبا ِّ‬
‫ن َفا ْ‬
‫ت اْلُقْرآ َ‬
‫تعالى]َفِإَذا َقَرْأ َ‬
‫عليه مشعر بكون الوصف علة للحكم‪ ،‬وإذا كانت العبادات ل تقبل من الكافر‪،‬‬
‫لشتراط قصة القربة فيها‪ ،‬فهل تقبل الستعاذة منه‪ ،‬الجواب إن ال عز وجل واسع‬
‫لطيف وأن الستعاذة لجوء إلى ال عز وجل من أسباب الكفر‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية الكريمة للحث على الفرار من منازل الكفر وبيان ما فيها من‬
‫الذى على النفس والمال‪ ،‬وأن الشأن والجاه في تلك المنازل ليس مستقرًا ول دائمًا‬
‫بل هو أمر زائل جاءت بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لتهدمها من‬
‫القواعد‪ ،‬وتبني صرحًا من العز والشأن للذين يؤمنون بنزول القرآن من عند ال‪.‬‬
‫وتبين الية أن ال عز وجل لم يترك الناس وشأنهم في إختيار اليمان أو الكفر‪ ،‬بل‬
‫أنه سبحانه يقرب الناس من مقامات اليمان ويرغبهم فيه‪ ،‬ويدفعهم عن منازل‬
‫الكفر‪ ،‬ويجعل نفوسهم تنفر منه‪ ،‬ول ينحصر موضوعها بالطرف من الكفار بل هي‬
‫رسول من عند ال للبر والفاجر‪ ،‬والمؤمن والكافر‪ ،‬والقريب والبعيد في مسكنه‬
‫وبلده‪.‬‬
‫وتدل الية على مشيئة ال في نصر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وإظهار‬
‫السلم‪ ،‬ومنع الناس من محاربته‪ ،‬وجاءت لتخبر بأن متعلق هذا المنع على مراتب‬
‫متعددة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬أقطاب الكفر الذين يبطش بهم ال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من يفقد رئيسه وقائده في الكفر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الذي تنقطع مؤونته بسبب ما يلحق أموال الكفار من التلف‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الذي يقربه ال بلطفه إلى منازل اليمان‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬المنع العام الذي يصيب الكفار على نحو العموم المجموعي إلى جانب‬
‫الفرادي إذ يبتلى الكفار بما يشغلهم عن التعدي على المسلمين‪ ،‬قال تعالى]َوَما َيْعَلُم‬
‫ل ُهَو[ )‪.(151‬‬ ‫ك ِإ ّ‬
‫جُنوَد َرّب َ‬ ‫ُ‬
‫وجاءت الية الكريمة بالوجوه أعله كلها‪ ،‬وهي مدرسة في الموعظة والنذار‬
‫ودعوة للمسلمين لمواصلة الدعوة إلى السلم‪ ،‬وعدم الخشية من أرباب الكفر‬
‫والضللة الذين لو إكتفوا بالتهديد والوعيد من دخول الناس السلم لخافهم الناس‪،‬‬
‫فكيف وقد قاموا بتعذيب الصحابة الوائل وإرادة قتل النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم في فراشه أيام الدعوة الولى في مكة‪ ،‬ثم هجموا بالجيوش العظيمة نحو‬
‫المدينة المنورة ‪ ,‬لتأتي هذه الية سلحًا هجوميًا يطاردهم في عقر دارهم‪ ،‬ويكون‬
‫إخبارًا متقدمًا زمانًا عن البلء الذي يصيبهم بسبب‪:‬‬
‫الول‪ :‬إختيارهم الكفر والجحود‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إصرارهم على الكفر‪ ،‬أيام بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫‪ ()150‬سورة النحل ‪.98‬‬
‫‪ ()151‬سورة المدثر ‪.31‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬محاربة المسلمين‪ ،‬وإرادة قتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والصحابة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬صد الناس عن دخول السلم‪.‬‬
‫وإن قيل توارث الكفار مفاهيم الشرك والضللة‪ ،‬فلماذا حينما بعث النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم جاءهم القطع والهلك ‪ ,‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬لقد أراد ال عز وجل ببعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم تنزيه‬
‫الرض من الكفر والضللة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من لطف ال بالناس منع السباب التي تحول دون دخولهم السلم‪ ،‬وأقطاب‬
‫الكفر يمنعون ويكرهون الناس على عدم دخوله‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إقامة الحجة على الناس بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم من عند ال سبحانه‪ ،‬وكأن بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫نهاية المهال اللهي للكفار‪ ،‬وأن الجحود بلغ مرتبة ل يمكن تجاوزها لمنافاتها‬
‫لصل وغايات خلق النسان وعم وإصرار الكفار على قتال المؤمنين ‪.‬‬
‫وإذ يقطع ال عددًا من أقطاب الكفر ليكونوا عبرة لعموم الكفار‪ ،‬فإن المؤمنين‬
‫منقطعون إلى ال‪ ،‬ول يرون في الوجود غيره ببديع خلقه وعظيم قدرته ‪ ،‬يعلمون‬
‫أنه سبحانه يكفيهم عدوهم‪ ،‬ويرجع كيده إلى نحره‪ ،‬فجاءت هذه الية بشارة الكفاية‪،‬‬
‫وحاجبًا من الفتنة والفرقة والخلف الذي قد يترشح من تخويف وبطش الكفار‪.‬‬
‫يٍء[)‪ ،(152‬وجاءت كلماته البالغة ‪77430‬‬ ‫ش ْ‬
‫لقد جعل ال عز وجل القرآن]ِتْبَياًنا ِلُكلّ َ‬
‫شاملة لجميع الوقائع‪ ،‬وفيها غنى للمسلمين‪ ،‬وبلغة لمنازل النعيم في الخرة‪ ،‬وتحيط‬
‫كلمات وآيات القرآن المحدودة باللمحدود من الحوادث والتفاصيل‪ ،‬وهو المائدة‬
‫السماوية والذخيرة الرسالية التي ينهل منها الناس‪ ،‬ول يزيد القرآن أخذ الناس منه‬
‫إل مشارق وتجليات جديدة ومستحدثة‪ ،‬وهو من مصاديق قول النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم الوارد في الصحيحين )بعثت بجوامع الكلم( )‪.(153‬‬
‫لقد أقّر المسلمون بالفقر إلى رحمة ال‪ ،‬وهبوا لميادين القتال في سبيله تعالى طمعًا‬
‫س َأْنُتْم اْلُفَقَراُء ِإَلى‬
‫بالفوز بأحدى الحسنيين‪ ،‬النصر أو الشهادة‪ ،‬قال تعالى]َياَأّيَها الّنا ُ‬
‫ي[ )‪ ،(154‬وأدرك المسلمون حاجتهم‪ ،‬والحاجة ملزمة لعالم المكان‬ ‫ل ُهَو اْلَغِن ّ‬
‫ل َوا ُّ‬
‫ا ِّ‬
‫فأنعم عليهم رشحة من غناه‪ ،‬وضياء من فيوضاته‪ ،‬فكان القرآن هبة السماء إلى‬
‫الرض‪ ،‬والكتاب الذي تصاحبه وتلزمه البركات والفضل وأسباب الرحمة والعفو‬
‫والمغفرة‪ ،‬فتنزل الية من القرآن‪ ،‬وهي تتكون من بضع كلمات لتكون وثيقة كلمية‬
‫وعقائدية وإمامًا للمسلمين في جميع الميادين‪ ،‬ونبراسًا لهم في مشتبهات المور‪،‬‬
‫ل ورجاء في ساعات الشدة والفزع‪.‬‬ ‫وأم ً‬

‫‪()152‬سورة النحل ‪.89‬‬


‫‪()153‬التقان في علوم القرآن ‪.3/164‬‬
‫‪()154‬سورة فاطر ‪.15‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫لقد جاءت الكتب السابقة بالقصص والخبار على نحو التفصيل‪ ،‬وجاء القرآن‬
‫بأجزل عبارة وأبهى سبك‪ ،‬والجمل القصيرة والمتوسطة التي تكون كل واحدة منها‬
‫ل تقتبس منه العلوم‪ ،‬وقانونًا تتفرع عنه القواعد والمسائل‪.‬‬ ‫أص ً‬
‫لقد جعل ال عز وجل معاني القرآن ل تنفذ ‪ ,‬سواء بلحاظ المنطوق أو المفهوم‪،‬‬
‫ومجالسته ل تمل ‪ ,‬وتلوته مناسبة للتدبر والتحقيق ‪ ,‬وعن المام علي عليه السلم‬
‫)وما جالس هذا القرآن احد ال قام عنه بزيادة او نقصان زيادة في هدى ونقصان‬
‫عن عمى"‪ ،‬وروي مثله عن الحسن()‪.(155‬‬
‫إن نزول القرآن بجوامع الكلم من وجوه تفضيل النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم على النبياء الخرين‪ ،‬وشاهد على تشريف وإكرام المسلمين لنهم يرجعون‬
‫إلى آيات القرآن ول يصدرون إل عنه‪ ،‬وهذا الصدور شاهد على إرتقائهم في‬
‫ج ْ‬
‫ت‬ ‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫منازل الفقاهة والتقوى ‪ ,‬وهو من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫س[ )‪.(156‬‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫ويأتي جزء آية من القرآن ليكون تأسيسًا لمدرسة كلمية أو أخلقية كما في قوله‬
‫سّيَئَة[ )‪ ،(157‬الذي يتضمن أسمى معاني العفو والتسامح‪،‬‬ ‫سَنِة ال ّ‬
‫حَ‬ ‫ن ِباْل َ‬
‫تعالى]َوَيْدَرُءو َ‬
‫وتنمية ملكة الخلق الحميدة والرفق‪ ،‬والدعوة إلى السلم‪ ،‬وقهر النفس الغضبية‬
‫والشهوية‪.‬‬
‫ن َكَفُروا[ لبيان أن مقاليد‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫وإبتدأت الية محل البحث بقوله تعالى]ِلَيْقطََع طََرًفا ِم ْ‬
‫المور كلها بيد ال عز وجل ‪ ،‬وأنه سبحانه لم يخلق الخلئق ويتركها وشأنها‪ ،‬بل‬
‫أنه سبحانه يتعاهدها بالحفظ والسلمة وإختص بني آدم في العبادة والصلح‪،‬‬
‫ظَلُموَنا‬
‫وإزاحة الفساد عن منازل القهر والغلبة‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى] وما َ‬
‫ن[ )‪ ،(158‬فالسعي لقتل النبي‪ ،‬والتعدي على حرمات‬ ‫ظِلُمو َ‬
‫سُهْم َي ْ‬‫ن َكاُنوا َأنُف َ‬‫َوَلِك ْ‬
‫السلم من ظلم النفس في النشأتين ‪.‬‬
‫لقد حارب الكفار رسولهم الذي بعثه ال عز وجل إليهم‪ ،‬لن النبي محمدًا صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم لم يأت للمسلمين وحدهم ول لشعب أو أمة أو طائفة دون غيرها ‪,‬‬
‫جِميًعا[ )‪ ،(159‬فجحدوا بالنعمة‪،‬‬ ‫ل ِإَلْيُكْم َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سو ُ‬‫س ِإّني َر ُ‬
‫ل َياَأّيَها الّنا ُ‬
‫قال تعالى]ُق ْ‬
‫وحاربوا النبوة فجاء قطع طرف منهم لتصديهم لنعمة النبوة العامة التي جاءت لهم‬
‫ولعموم الناس‪ ،‬وفي التبعيض في القطع نعمة أخرى‪ ،‬لن الطرف جزء من الشيء‪.‬‬
‫وتدل الية على بقاء الوسط والطراف الخرى من الكفار ليتعظوا ويعتبروا ومن‬
‫يزحف منهم لمنازل الطرف والمواجهة مع المسلمين يستقبله القطع من عند ال عز‬

‫‪()155‬تفسير الطبري ‪.16/340‬‬


‫‪()156‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()157‬سورة الرعد ‪.22‬‬
‫‪()158‬سورة العراف ‪.160‬‬
‫‪ ()159‬سورة العراف ‪.158‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وجل بواسطة الملئكة والمؤمنين وما يسخره ال من السباب ‪ ،‬قال تعالى]َوَما َيْعَلُم‬
‫ل ُهَو[ )‪. (160‬‬
‫ك ِإ ّ‬
‫جُنوَد َرّب َ‬
‫ُ‬
‫وهو من أسرار مجيء الية بصيغة الفعل المضارع)ليقطع( فلم تقل الية )فقطع‬
‫طرفًا( وتفيد لغة المضارع الستمرار والتجديد‪.‬‬
‫وثبت في العموم العقلية أن تكرار الفعل يؤدي إلى حصول الملكات‪ ،‬وقد جاء‬
‫القطع والكبت تكرارًا سلبيًا لما يحصل عند الكفار من الخيبة‪ ،‬وما يلحقهم من‬
‫الضرر بسبب عدائهم للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ,‬وقتالهم للمسلمين‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لتوكيده والتنبيه إليه ‪ ,‬وطرد الغفلة عن النفوس‪ ،‬وإنقاذ الناس من‬
‫براثن الكفر ‪.‬‬
‫قانون " التبعيض في قطع الكفار’’‬
‫من إعجاز الية إجتماع لغة الوعيد والتبعيض فيها‪ ،‬فمع أنها إنذار ووعيد للكفار ‪,‬‬
‫وإخبار عن بلء عظيم يحل بساحتهم ‪ ,‬وتحذير لهم من الستمرار في التعدي على‬
‫المسلمين‪ ،‬وإرادة وقف إعدادهم الجيوش لقتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وما فيه من المخاطر على شخصه الكريم وعلى أهل البيت والصحابة‪ ،‬فإن الية‬
‫جاءت بصيغة التبعيض في نزول البلء والقطع‪ ،‬فلم تقل الية )ليقطع ال الذين‬
‫كفروا( بل ذكرت أن القطع يأتي على طرف منهم‪ ،‬وأفراد من رؤوسهم‪ ،‬وفيه‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه شاهد صدق على نزول القرآن من عند ال عز وجل من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إخبار الية عن الواقع من غير تهويل وزيادة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬رأفة ال عز وجل بالناس عمومًا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬بقاء باب التوبة مفتوحًا للكفار‪ ،‬إذ تدل الية بالدللة اللتزامية على إحتمال‬
‫توبة بعض أقطاب الكفر وسلمتهم من القطع بالسلم‪ ،‬وهو من عمومات )السلم‬
‫جب ما قبله( )‪.(161‬‬ ‫يّ‬
‫لقد جعل ال عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلء يتصارع فيها الخير والشر‪،‬‬
‫ولكل منهما مفاهيمه المتضادة مع الخر ورجاله ورواده‪ ،‬وإقتران هذا البتلء‬
‫بهبوط آدم إلى الرض‪.‬‬
‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬
‫ض‬ ‫طوا َبْع ُ‬
‫ولم يهبط مع آدم من الجنة إل حواء وإبليس‪ ,‬قال تعالى]اْهِب ُ‬
‫عُدّو[ )‪.(162‬‬ ‫َ‬
‫ومن بديع خلق النسان وسلمة فطرته ذكرًا وأنثى أن حواء كان مع آدم على‬
‫اليمان والهدى‪ ،‬وأن آدم كان نبيًا‪ ،‬ولم يكن إبتداء العداوة بينهم في الرض‪ ،‬بل كان‬
‫في الجنة عندما أبى إبليس السجود لدم‪ ،‬ثم أنزله وحواء بعد الكل من الشجرة‬
‫المنهي عنها‪ ،‬ولن آدم وحواء يبغضان الذين يستكبر عن طاعة ال‪ ،‬وإنحصر الشر‬
‫‪()160‬سورة المدثر ‪.31‬‬
‫‪()161‬الكشاف ‪.2/362‬‬
‫‪ ()162‬سورة العراف ‪.24‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫في الرض بإبليس يؤمئذ‪ ،‬وفيه فخر للنسان‪ ،‬وشاهد على أهليته للخلفة في‬
‫لْر ِ‬
‫ض‬ ‫ل ِفي ا َ‬ ‫عٌ‬
‫جا ِ‬
‫الرض ‪ ,‬وتنزه آدم وحواء عن المعصية ‪ ,‬ولقوله تعالى]ِإّني َ‬
‫خِليَفًة[ )‪.(163‬‬
‫َ‬
‫وحاول إبليس تسخير السباع الموجودة في الرض قبل آدم لتأكله وحواء‪ ،‬ولكن ال‬
‫عز وجل وقاهما وحفظهما منها‪ ،‬وورد عن المام علي عليه السلم )سئل مما خلق‬
‫ال عزوجل الكلب ؟ قال‪ :‬خلقه من بزاق إبليس قيل‪ :‬وكيف ذلك يارسول ال ؟ قال‪:‬‬
‫لما أهبط ال عزوجل آدم وحوا إلى الرض أهبطهما كالفرخينالمرتعشين فعدا إبليس‬
‫الملعون إلى السباع وكانوا قبل آدم في الرض فقال لهم‪ :‬إنطيرين قد وقعا من‬
‫السماء لم ير الراؤن أعظم منهما تعالوا فكلوهما‪ .‬فتعاوت السباع معه وجعل إبليس‬
‫يحثهم ويصيح ويعدهم بقرب المسافة فوقع من فيه من عجلة كلمه بزاق‪ ،‬فخلق ال‬
‫عزوجل من ذلك البزاق كلبين أحدهما ذكر والخر انثى‪ ،‬فقاما حول آدم وحواء‪،‬‬
‫الكلبة بجدة‪ ،‬والكلب بالهند فلم يتركوا السباع أن يقربوهما‪ ،‬ومن ذلك‬
‫اليوم الكلب عدو السبع والسبع عدو الكلبان)‪.(164‬‬
‫وعجز إبليس عن إغواء آدم وحواء‪ ،‬ولم يستطع إثارة الفتنة بينهما‪ ،‬فلم يقدر على‬
‫الوسوسة لدم بأن حواء هي السبب في خروجه من الجنة‪ ،‬وجاءت آيات القرآن‬
‫جُهَما ِمّما َكاَنا ِفيِه[‬
‫خَر َ‬
‫واقية من هذه الوسوسة بنسبة الخروج إلى إبليس قال تعالى]َفَأ ْ‬
‫)‪ (165‬بتقريب أن مضامين هذه الية كان يعلمها آدم ويدرك سبب الخروج بالضافة‬
‫إلى مواساة الملئكة له‪ ،‬وعن المام الصادق عليه السلم إن آدم كانان له‬
‫في السماء خليل من الملئكة‪ ،‬فلما هبط آدم عليه‬
‫السلم ‪‬من السماء الى إلى الالأرض إاستوحش الملك‪،‬‬
‫وشكى الى إلى الله تعالى الى وسأله انأن يأذن له‪ ،‬فأذن له‬
‫فهبط عليه فوجده قاعدا ً في قفرة من الالأرض‪ ،‬فلما‬
‫رآه آدم عليه السلم ‪‬وضع يده على رأسه وصاح صيحة‪،‬‬
‫قال الالإمام الصادق ابو عبدالله يروون انأنه أسمع عامة‬
‫الخلق ‪.‬‬
‫فقال له الملك يا آدم ما أراك إلإل وقد عصيت ربك‬
‫وحملت على نفسك ما ل تطيق أتدري ما قال لنا الله‬
‫فيك فرددنا عليه؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬انأنه جعلك في‬
‫ك الّدَماَء[ ) (‪،‬‬
‫‪166‬‬
‫سِف ُ‬‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬
‫ن ُيْف ِ‬
‫ل ِفيَها َم ْ‬ ‫الالرض خليفة‪ ،‬قلنا]َأَت ْ‬
‫جَع ُ‬
‫فهو خلقك انأن تكون في الالرض أيستقيم انأن تكون‬

‫‪ ()163‬سورة البقرة ‪.30‬‬


‫‪()164‬بحار النوار ‪.62/64‬‬
‫‪ ()165‬سورة البقرة ‪.36‬‬
‫‪ ()166‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫في السماء‪ ،‬قال الالإمام الصادقأبو عبدالله‪ :‬والله عزى بها‬
‫آدم( )‪.(167‬‬
‫وإتجه إبليس إلى إغواء ذرية آدم‪ ،‬إبتداء من قابيل بن آدم‪ ،‬وتفضل ال عز وجل‬
‫وبعث النبياء لمنعه من إغواء بني آدم‪ ،‬وجذبهم إلى اليمان لتكون نفرتهم من الشر‬
‫والفواحش من مصاديق تقوى ال‪ ،‬إلى أن بعث النبي محمدًا صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم على حين فترة من الرسل‪ ،‬وقد ساد الكفر في الجزيرة وعبدت الصنام في‬
‫مكة‪ ،‬وعلقت في البيت الحرام‪ ،‬ولم يأت النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بالقوة‬
‫والسلح‪ ،‬بل نزلت معه المعجزات من السماء‪ ،‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬كانت نبوته صلى ال عليه وآله وسلم مناسبة للتمايز والتفاضل بين المعجزة‬
‫والسيف‪ ،‬وتجلت في زحف الجيوش العظيمة من قريش وغطفان وغيرهما على‬
‫المسلمين في المدينة‪ ،‬وهم ضعفاء وقلة في عددهم وعدتهم‪.‬‬
‫ل ِبَبْدٍر‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬‫فان قلت إن الضعف والقلة خاصان بمعركة بدر قال تعالى ]َوَلَقْد َن َ‬
‫َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪ ،(168‬والجواب أنه أعم ‪ ,‬وإثبات شئ لشئ ل يدل على نفيه عن غيره ‪,‬‬
‫لقد زحفت قريش بجيوش عظيمة في معركة أحد والخندق تفوق أضعاف عدد‬
‫وعدة المسلمين‪ ،‬نعم لقد كان النصر في بدر وكثرة قتل وأسرى الكفار وأخذ الفدية‬
‫منهم والمدد الذي نزل للمسلمين يومئذ رفعًا للضعف‪ ،‬ودفعًا لحال الخوف والفزع‬
‫عند المسلمين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬لقد إنتصر السلم بالمعجزة والمدد اللهي ‪ ,‬وقيل إنه إنتصر بالسيف‪ ،‬ولكن‬
‫الوقائع تدل على خلفه‪ ،‬إذ يزحف الكفار في كل مرة بأكثر من ثلثة أضعاف‬
‫المسلمين عددًا وقوة‪ ،‬ويرجعون خائبين منكسرين‪ ،‬وجاءت اليات السابقة لتوثيق‬
‫ن َفْوِرِهْم‬ ‫صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫نصر المسلمين بالمدد الملكوتي ‪ ,‬قال تعالى]ِإ ْ‬
‫ن اْلَملَِئَكِة[ ) (‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫ف ِم ْ‬‫ل ٍ‬ ‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬ ‫َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫الثالثة‪ :‬يزول أثر السيف بزوال سلطانه‪ ،‬وقهره‪ ،‬أما المعجزة فهي باقية في‬
‫الرض‪ ،‬وبقاؤها على وجهين‪:‬‬
‫الول‪ :‬بقاء المعجزة الحسية بالذكر والثر والعتبار وهداية الناس بها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تجدد وبقاء المعجزة العقلية بذاتها‪.‬‬
‫والقرآن معجزة عقلية فهو شاهد للناس وعليهم في كل زمان‪ ،‬ووسيلة سماوية لهداية‬
‫حَمًة[ )‪ ،(170‬لتكون‬ ‫يٍء َوُهًدى َوَر ْ‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬‫ب ِتْبَياًنا ِلُك ّ‬
‫ك اْلِكَتا َ‬
‫عَلْي َ‬
‫الناس‪ ،‬قال تعالى]َوَنّزْلَنا َ‬
‫الهداية عن معرفة وعلم وقيام للحجة‪ ،‬وفيه رحمة للناس جميعًا‪.‬‬

‫‪()167‬تفسير العياشي ‪.1/34‬‬


‫‪()168‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫‪ ()169‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫‪ ()170‬سورة النحل ‪.89‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وتجمع الية محل البحث الصفات الثلثة أعله للقرآن‪ ،‬ليكون فيه برهان بأن الية‬
‫الواحدة تجمع صفات متعددة للقرآن وهو من مصاديق التحدي في قوله تعالى]ُق ْ‬
‫ل‬
‫ن ِبِمْثِلِه[ )‪.(171‬‬
‫ل َيْأُتو َ‬
‫ن َ‬ ‫ل َهَذا اْلُقْرآ ِ‬ ‫ن َيْأُتوا ِبِمْث ِ‬
‫عَلى َأ ْ‬
‫ن َ‬‫جّ‬
‫س َواْل ِ‬
‫لن ُ‬
‫تاِ‬‫جَتَمَع ْ‬
‫نا ْ‬
‫َلِئ ْ‬
‫فمن التبيان في الية أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬الخبار عن أمور مستقبلية ووقائع تكون مقدمة لنصر المسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنذار الكفار بمصائب تنزل بساحتهم تؤكد سوء عاقبة الكفر والضللة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬البشارة بضعف ووهن الكفار بهلك عدد من رؤسائهم‪.‬‬
‫ومن الهدى في الية أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬تدل الية على أن القوة مطلقًا ل عز وجل ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وقاية المسلمين من الفزع والخوف من الكفار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬دعوة المسلمين للجوء إلى ال عز وجل ‪ ,‬والجتهاد في عبادته‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬في الية ندب إلى الجهاد‪ ،‬وبشارة بدحر الكفار‪ ،‬إذ بدأت هزيمتهم بجند من‬
‫السماء‪ ،‬وآية تتضمن الخبار عن قطع دابرهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬بقاء الية ومضامينها القدسية سلحًا بيد المسلمين إلى يوم القيامة‪ ،‬وإنذاراً‬
‫متجددًا للكفار‪.‬‬
‫السادس‪ :‬وتدعو الية الكفار للعتبار والتعاظ من هلك بعض رؤسائهم‪.‬‬
‫السابع‪ :‬زيادة إيمان المسلمين بنزول الية‪ ،‬ووقوع مصاديقها في الخارج‪ ،‬وتوجههم‬
‫بالشكر ل عز وجل على نعمة البطش بعدوهم‪.‬‬
‫عْبَدُه[ ) (‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫ف َ‬ ‫ل ِبَكا ٍ‬ ‫س ا ُّ‬ ‫الثامن‪ :‬الية من مصاديق قوله تعالى]َأَلْي َ‬
‫أما الرحمة فإن الية رحمة بالناس جميعًا من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها رحمة بالمسلمين من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬ما تتضمنه الية من الخبار عن الغيب‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬تطرد الية عن المسلمين الفزع والخوف من العدو وجعجعة سلحه‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تنبئ الية عن هلك أعداء السلم‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬الية دعوة للدعاء على بعض رؤساء الكفر على نحو التعيين ممن يتمادون‬
‫في التعدي على المسلمين‪ ،‬ويسعون جاهدين لقتل النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم‪ ،‬وصد الناس عن السلم‪.‬‬
‫ضًدا[ ) (‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫ع ُ‬‫ن َ‬ ‫ضّلي َ‬‫خَذ اْلُم ِ‬ ‫ت ُمّت ِ‬‫الخامسة‪ :‬تحذير المسلمين من الركون للكفار]َوَما ُكن ُ‬
‫الثاني‪ :‬الية رحمة بالكفار أنفسهم من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬في الية إخبار وكشف عما ينتظرهم من الذى والنتقام اللهي‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬هلك ووهن رؤساء الكفار رحمة بعامتهم‪ ،‬وتخفيف عنهم‪ ،‬ومناسبة لتدبرهم‬
‫في آيات ومعجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫‪ ()171‬سورة السراء ‪.88‬‬
‫‪ ()172‬سورة الزمر ‪.36‬‬
‫‪ ()173‬سورة الكهف ‪.51‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالثة‪ :‬الية إنذار وتحذير للكفار جميعًا‪ ،‬والنذار رحمة لما فيه من الدعوة للكف‬
‫عن المنذر منه‪ ،‬والذي جاء في الية مركبًا من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬البقاء على الكفر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تولي الرياسة في شؤون الكفر والضللة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مواجهة المسلمين ولقاؤهم في القتال‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬دعوة الكفار للتوبة والنابة‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬حث الكفار على التدبر في آيات القرآن والنصات لها‪ ،‬وإستحضارها عند‬
‫حصول المصاديق الخارجية التي تثبت صدقها‪ ،‬وعند تلوة الية‪.‬‬
‫فعندما يهلك بعض رؤساء الكفر يتذكر الناس هذه الية الكريمة وما فيها من‬
‫الوعيد‪ ،‬وعندما يسمعون هذه الية يتذكرون هلك بعض رؤساء الكفر بآية ومعجزة‬
‫من عند ال عز وجل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الية محل البحث رحمة بالناس من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬في الية بيان لعظيم قدرة ال عز وجل ‪ ,‬وسعة سلطانه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬تدل الية على نصر ال للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪،‬‬
‫س[ )‪ (174‬بأن يجعلهم ال‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫وهو من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫قدوة وأسوة للناس في مسالك الهداية‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬زجر وتحذير الناس من إتباع أقطاب الكفر الذين يعتدون على المسلمين‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬تخويف الناس من البتلء بالقطع والهلك‪ ،‬إذ أن الية تبين السبب‬
‫والمسبب‪ ،‬وتخبر عن الملزمة بين محاربة السلم والمسلمين وبين القطع‬
‫وإستئصال الرؤوس‪ ،‬وقد يكون الفرد والجماعة من الكفار ولكنهم يتجنبون قتال‬
‫المسلمين خشية البطش اللهي‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬منع الناس من إعانة الكفار وإعارتهم السلح‪ ،‬وإقراضهم الموال لقتال‬
‫المسلمين بل مطلقًا حتى لغير القتال‪ ،‬لن هذه الية تخبر عن قطعهم وإستئصالهم‪،‬‬
‫مما يبعث الحذر والحيطة عند الناس حرصًا على سلمتهم وصيانة أموالهم‪.‬‬
‫السادسة ‪ :‬دعوة الناس للعتبار مما يصيب أعداء السلم من القطع والهلك ‪.‬‬
‫بحث بلغي‬
‫يأتي الكلم أحيانًا بلغة التصريح والوضوح‪ ،‬وأحيانًا بالكناية والشارة وأخرى‬
‫بالتعريض‪ ،‬وقيل إن الكناية والتعريض أبلغ من التصريح وليس من دليل عليه‪،‬‬
‫ولكن بينهما عموم وخصوص من وجه من جهة الثار المترتبة عليهما إذ يلتقيان‬
‫في وجوه ويفترقان في وجوه‪ ،‬وهناك حالت يكون التصريح أكثر نفعًا وأثرًا‪،‬‬
‫وحالت تكون فيها الكناية والتعريض هي الرجح من وجوه ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها وسيلة للسلمة والمن ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هي حرز من الذى ‪.‬‬

‫‪ ()174‬سورة آل عمران ‪.110‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬طرد الضرر العرضي الذي يترشح من التصريح كما لو كان يتضمن‬
‫الهانة والفضح وأسباب الفتنة والغيبة والنميمة ونحوها من الخلق المذمومة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬التقية والوقاية ‪.‬‬
‫ل َفَعَلُه‬
‫الخامس‪ :‬إقامة الحجة بالدليل كما جاء في التنزيل حكاية عن إبراهيم]َب ْ‬
‫َكِبيُرُهْم َهَذا[ )‪ ،(175‬لنسبة كسر الصنام إلى كبيرهم‪ ،‬وكأنه غضب كيف تعبد‬
‫الصنام الصغار معه‪ ،‬وعجز تلك اللهة عن الذب عن نفسها‪ ،‬ومنع زوالها‪.‬‬
‫وجاء القرآن بكل هذه الصيغ بحسب الحال ومن العجاز مناسبة لغة القرآن لكل‬
‫الزمنة وقد يجتمع التصريح والكناية‪ ،‬أو اليضاح والبهام في موضوع واحد في‬
‫القرآن ليكون من عمومات القرآن يفسر بعضه بعضًا‪ ،‬ولبعث الشوق في النفوس‬
‫للسعي للعلم بتمام الموضوع والحكمة‪.‬‬
‫ويتصف القرآن بأن هذا التفسير ل يمنع من إستقلل كل من التصريح والكناية‬
‫بمعنى وتأويل مستقل بذاته‪ ،‬فتفسير القرآن بعضه لبعض وجه من وجوه التفسير‬
‫والتأويل‪ ،‬وليس هو كل التفسير‪ ،‬وجاءت هذه الية بالبيان والوضوح في حكم‬
‫وعقوبة الكفار الذين يلون المسلمين ويدبرون المكائد لليقاع بهم‪.‬‬
‫ترى لماذا لم تأت الية بلغة التلطف والحتجاج وإجتناب الهانة والتوبيخ كما في‬
‫طَرِني[)‪ ،(176‬وفيه حث للكفار على عبادة ال‪،‬‬ ‫عُبُد اّلِذي َف َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫قوله تعالى]َوَما ِلي َ‬
‫وجعلهم يتساءلون فيما بينهم إن ال عز وجل هو الذي خلقنا فلماذا ل نعبده‪.‬‬
‫والجواب أن الية محل البحث جاءت في وقت يقوم رؤساء الكفر بتجهيز الجيوش‬
‫ضد المسلمين‪ ،‬ويطوفون في القبائل ‪ ,‬ويجمعون الرجال ويمدونهم بالمال والجاه من‬
‫أجل الخروج لقتال المسلمين‪ ،‬ويفترون على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫لجعل الناس يعرضون عن سماع آيات القرآن ويمتنعون عن تبادل الحديث‬
‫بمعجزاته‪ ،‬وصار المسلمون بسبب سعي هؤلء الرؤساء المذموم في خطر شديد ‪,‬‬
‫فجاء المدد من عند ال عز وجل بهذه الية الكريمة بالتصريح بنزول العذاب‬
‫العاجل بأقطاب الكفر الذين يجهزون الجيوش على المسلمين‪ ،‬لتكون الية وآثارها‬
‫المباركة ومنافعها على وجوه منها ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬الية إنذار للكفار ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬في الية حجة على الكفار ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬الية واقية للمسلمين مطلقًا ‪ ,‬والمجاهدين منهم أيام التنزيل وما بعدها إلى‬
‫يوم الدين‪.‬‬
‫من وجوه البديع حسن النسق‪ ،‬وهو أن يأتي المتكلم بكلمات يظهر بينها التآلف‬
‫والنسجام والتلحم‪ ،‬وتصلح كل جملة أن يكون لها معنى مستقل‪ ،‬من غير أن‬
‫يتعارض مع المعنى العام المستفاد من إجتماعها موضوعًا وحكمًا‪ ،‬ويأتي هذا‬
‫الضرب من البديع في الية الواحدة ‪ ,‬ويأتي في اليات المتجاورات مما يدل على‬
‫‪ ()175‬سورة النبياء ‪.63‬‬
‫‪ ()176‬سورة يس ‪.22‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫حسن نظم القرآن‪ ،‬وأن ترتيبه توقيفي من عند ال عز وجل‪ ،‬وفيه دعوة لستقراء‬
‫وإستنباط العلوم المتعددة منه‪ ،‬ويتجلى حسن النسق في الجمع بين هذه الية والية‬
‫السابقة‪ ،‬وكلهما نتيجة وثمرة لفضل ال‪ ،‬وكل فرد مما فيهما هو أيضًا من فضل‬
‫ال مما يدل على أنه توليدي يترشح عن كل فضل منه أبواب كثيرة من الفيض‬
‫صوَها[ )‪.(177‬‬ ‫ح ُ‬ ‫ل ُت ْ‬‫ل َ‬‫الفضل‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]وان َتُعّدوا ِنْعَمَة ا ِّ‬
‫فجاءت الية السابقة ببيان منافع المدد الملكوتي‪ ،‬والغايات منه وأن ال عز وجل‬
‫غني غير محتاج للنصر ونزول الملئكة كي ينتصر المسلمون ولكنه جاء رحمة‬
‫ل منه تعالى عليهم‪ ،‬ليخرجوا سالمين من المعركة‪ ,‬وتضمنت الية‬ ‫بالمسلمين وفض ً‬
‫أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬البشارة للمسلمين بأن المدد الملكوتي ليس بعيدًا عنهم‪ ،‬بل هو أقرب من‬
‫الكفار إليهم ‪ ,‬متى ما رجع الكفار إلى المعركة‪ ،‬ولو لم يكن ثمة وقت معتد به بين‬
‫نزول الية وعودتهم ‪ ،‬وال عز وجل إذا أعطى يعطي بالوفى والتم‪ ،‬فأراد‬
‫سبحانه أن تأتي البشارة دفعة للمسلمين في أشد الحوال وفي ميدان المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إمتلء قلوب المسلمين بالسكينة‪ ،‬كي ل ينقطعوا عن الصلة حتى في ميدان‬
‫المعركة‪ ،‬ولكيل يخافوا من كثرة العدو وعدته وخيله وحداثة أسلحته‪ ,‬ول يخشوا‬
‫من قلة عددهم وعدتهم ‪ ،‬فالقلة مع المدد الملكوتي كثرة عظيمة لم تشهدها الرض‪،‬‬
‫ج ْ‬
‫ت‬ ‫خِر َ‬‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫وتأريخ الحروب والمعارك‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫س[ )‪،(178‬لنفرادهم بالكثرة المباركة ‪ ,‬التي يلزمها النصر على نحو القطع‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫واليقين ‪.‬‬
‫عْنِد‬‫ن ِ‬‫ل ِم ْ‬ ‫صُر ِإ ّ‬‫ثم أختتمت الية السابقة بقانون من الرادة التكوينية وهو]َوَما الّن ْ‬
‫ل[ لتشع أنواره على الية السابقة إذ أنه جزء منه وخاتمتها‪ ،‬وعلى مضامين الية‬ ‫ا ِّ‬
‫محل البحث التي جاءت معطوفة في موضوعها على ما قبلها بلحاظ صيغة التعليل‬
‫التي بدأت بها بالحرف اللم في)ليقطع(‪ ،‬وكما جاءت الية السابقة بأمرين ونعمتين‬
‫للمسلمين مترشحتين عن المدد الملكوتي‪ ،‬جاءت الية محل البحث بأمرين عقوبة‬
‫وزجرًا للكفار وهما‪:‬‬
‫الول‪ :‬قطع طرف من الكفار‪ ،‬وهلك بعض رؤسائهم وأركانهم‪ ،‬وما فيه الوهن‬
‫والضعف للكفار‪ ،‬والقصور عن مواصلة التعدي على المسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إلحاق الخزي والخيبة بالكفار ليخرجوا من ميادين المعركة دون أن ينالوا‬
‫من المسلمين‪ ،‬ولم يحققوا ما كانوا يأملون‪ ،‬وفيه فضح لهم أمام القبائل وأهل مكة‪،‬‬
‫ومن اليات أن النعمتين اللتين ذكرتهما الية السابقة جاءتا على نحو الجمع والتعدد‬
‫ن ِبِه ُقُلوُبُكْم[ أما هذه الية وهي خاصة‬ ‫طَمِئ ّ‬
‫شَرى َوِلَت ْ‬
‫ل ُب ْ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫جَعَلُه ا ُّ‬
‫بقوله تعالى]َوَما َ‬
‫بتبكيت وزجر الكفار فجاءت ببيان رحمة ال بالناس جميعًا في الدنيا‪ ،‬وأن قطع‬

‫‪()177‬سورة إبراهيم ‪.34‬‬


‫‪()178‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الطرف من الكفارأو خزيهم إنما بالتوبة والنابة تحت لواء السلم والنطق‬
‫بالشهادتين‪.‬‬
‫قانون" الية مدد’’‬
‫تبين هذه اليات فضل ال عز وجل على المسلمين‪ ،‬وأنه من اللمحدود في‬
‫موضوعه وأفراده ومضامينه القدسية‪ ،‬ومنه المدد الذي ينعم به عليهم‪ ،‬وهو على‬
‫أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬المدد الحسي‪ ،‬الذي يدرك بالحواس والوجدان‪ ،‬كما في تهيئة مقدمات القتال‪،‬‬
‫وجعل المسلمين قادرين على الخروج لميدان المعركة بالسباب الظاهرة‪ ،‬أو من‬
‫غير أسباب ظاهرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المدد العقلي الذي يدركه ويحكم بها لذاته بتصور طرفيه من غير وسط‬
‫وسبب خارجي وهو من البديهيات‪ ،‬أو تلك التي ل يتوقف تعقلها على مبدأ غيرها ‪,‬‬
‫ن آَمُنوا[ )‪.(179‬‬
‫سَلَنا َواّلِذي َ‬
‫صُر ُر ُ‬
‫للتسالم على نصرة ال للمؤمنين قال تعالى ]ِإّنا َلَنن ُ‬
‫الثالث‪ :‬المدد العقلي الحسي‪ ،‬وهو الجامع للمرين‪.‬‬
‫ومن العجاز في المدد اللهي أنه جامع لهذه القسام ومن الصعب الفصل بينها‬
‫لتداخلها‪ ،‬وهذا التداخل زيادة في النفع والنتفاع منها وهو من التعدد في الفضل‬
‫اللهي وكثرة أفراده ومصاديقه‪ ،‬ومن أبهى وأسمى هذه المصاديق المدد الملكوتي‬
‫الذي تفضل ال عز وجل به في معركة بدر وأحد والخندق وغيرها ‪ ,‬وما تترشح‬
‫عنه من الفوائد التوليدية المستمرة إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫ومن اليات في المدد اللهي‪ ،‬تفرع المدد عن المدد بآيات باهرات‪ ،‬إذ تأتي الفوائد‬
‫والثار على نحو القضية الشخصية والمحصورة والجزئية‪ ،‬أما المدد اللهي فإن‬
‫آثاره من الكلي الطبيعي والكلية الموجبة‪ ،‬وقد تكون الثار والمنافع اللحقة أكثر‬
‫ل أو‬
‫منها في أوان وساعة المدد‪ ،‬من غير أن يكون الثر والمدد في حينه قلي ً‬
‫ل‪ ،‬ولكنه من الفضل اللهي الذي يتصف بالتجدد والتكاثر والزيادة المطردة‪.‬‬ ‫ضئي ً‬
‫شُر َأْمَثاِلَها[ ) ( لبيان عظيم الثواب من‬
‫‪180‬‬
‫عْ‬‫سَنِة َفَلُه َ‬
‫حَ‬
‫جاءَ ِباْل َ‬
‫ن َ‬
‫وجاء في التنزيل]َم ْ‬
‫ل ورحمة من عند ال ثم تتضاعف منافعه‬ ‫عند ال‪ ،‬وكذا بالنسبة للمدد فإنه يأتي فض ً‬
‫وتتسع بركاته ليكون حجة بذاته وآثاره‪ ،‬ومنه هذه الية التي هي مدد سماوي‬
‫للمسلمين يتصف بأنه حسي وسماوي إذ يدرك المسلمون وغيرهم مصاديق هذه‬
‫الية ‪ ,‬التي هي برهان عقلي ووجداني وحسي لنصرة ال لهم بالمدد من وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬ما تدل عليه الية فيما يصيب الكفار من النكد والعناء ‪ ,‬وهلك بعض‬
‫الرؤساء‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬ذات الية ونزولها من عند ال مدد‪ ،‬لنها قانون ثابت في الرادة‬
‫التكوينية‪ ،‬وكنز من كنوز السماء أنزلها ال على النبي محمد صلى ال عليه وآله‬

‫‪()179‬سورة غافر ‪.51‬‬


‫‪ ()180‬سورة النعام ‪.160‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وسلم‪ ،‬فل غرابة أن يأتي بها ملك من كبار الملئكة ويوحيها إلى النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وأن يصيب النبي الجهد ويتصبب عرقًا عند تلقيها‪.‬‬
‫فهذه الية شمس عقائدية تبقى مشرقة من حين نزولها إلى يوم القيامة‪ ،‬فهي ل‬
‫ن[)‪ ،(181‬أطلت آيات‬ ‫ب الِفِلي َ‬
‫ح ّ‬ ‫ل ُأ ِ‬
‫تعرف المغيب‪ ,‬وبعدما قال إبراهيم عليه السلم] َ‬
‫القرآن على الرض لتدعو إلى عبادة الواحد القهار‪ ،‬وتبعث على العمل بأحكامها‬
‫وسننها وهي حرب على الكفر والضللة‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬في الية توكيد بأن ال عز وجل ولي وناصر المؤمنين ‪ ,‬قال تعالى]َوا ُّ‬
‫ل‬
‫صيًرا[ )‪ ،(182‬ومن عظيم قدرة ال وبديع‬ ‫ل َن ِ‬ ‫ل َوِلّيا َوَكَفى ِبا ِّ‬ ‫عَداِئُكْم َوَكَفى ِبا ِّ‬‫عَلُم ِبَأ ْ‬
‫َأ ْ‬
‫صنعه أن تأتي الولية والنصرة بآية من السماء‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬حضور القرآن في ميدان المعركة بما يبعثه من معاني الصبر والتقوى في‬
‫نفوس المسلمين‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬الية من علوم الغيب والخبار عما سيصيب الكفار من القطع وأسباب‬
‫الضعف‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬لقد بدأ السلم بعدد قليل من الصحابة وسط قوم مشركين يتصفون بالقوة‬
‫والبطش‪ ،‬وليس من فئة تنصرهم وتؤوي وتمد المؤمنين بينما تستطيع قريش حشد‬
‫القبائل‪ ،‬وتوظيف الموال ‪ ,‬وإحراز إعانة شطر من يهود المدينة ‪ ,‬ويتعرض‬
‫المؤمنون لنخزال رأس النفاق أبي بن عبد ال بن سلول بنحو ثلثمائة من جيش‬
‫المسلمين في الطريق إلى معركة أحد‪ ،‬فأمر ال عز وجل المؤمنين بالثبات في‬
‫ل َكِثيًرا[ )‪ (183‬وتستقرأ من‬ ‫ن آَمُنوا ِإَذا َلِقيُتْم ِفَئًة َفاْثُبُتوا َواْذُكُروا ا َّ‬‫القتال]َياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ذات المر للمسلمين بالثبات وحال الضعف التي كان فيها المسلمون بشارة المن‬
‫والسلمة من كيد وبطش الكفار‪.‬‬
‫والية محل البحث من وجوه المن من الكفار بأن يستأصل ال عددًا من كبرائهم‬
‫وصناديدهم ‪ ,‬وهو الذي يلحق الذل والخزي بهم‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬تبعث الية الكريمة المسلمين إلى التطلع لفضل ال في هلك الكفار‪ ،‬ول‬
‫ينحصر هذا التطلع بأوان وميدان المعركة‪ ،‬فهو ملزم للمسلمين على نحو القضية‬
‫الشخصية والعموم المجموعي‪ ،‬فيقرأ المسلمون هذه الية في صلتهم وخارج‬
‫الصلة بقصد القرآنية مع الرجاء لنجاز ال عز وجل وعده فيها‪ ،‬كما أنهم يجددون‬
‫التلوة بلغة الشكر والحمد ل عز وجل حين حصول مصاديقها الخارجية‪ ،‬وهلك‬
‫بعض أقطاب الكفار‪ ،‬ورمي جيوش الكفر والضللة بأسباب الضعف والوهن‬
‫ي[ )‪.(184‬‬ ‫خْز ٌ‬‫والخزي والرباك ‪ ,‬قال تعالى ]َلُهْم ِفي الّدْنَيا ِ‬
‫ويتصف المدد في هذه الية بأمور‪:‬‬

‫‪.76‬‬ ‫‪ ()181‬سورة النعام‬


‫‪.45‬‬ ‫‪ ()182‬سورة النساء‬
‫‪.45‬‬ ‫‪ ()183‬سورة النفال‬
‫‪.41‬‬ ‫‪()184‬سورة المائدة‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪:‬صيغة النذار والوعيد للكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ملزمة هذا النذار للبشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬فيه توكيد للطمأنينة التي تتغشى المسلمين والتي ذكرتها الية السابقة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الذل والكبت للكفار في الدنيا والخرة‪ ،‬إذ يأتي القطع لطرف منهم ‪ ،‬ولكن‬
‫الضرر والذى يصيبهم جميعًا‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬هذه الية دعوة للناس لدخول السلم‪ ،‬وإزاحة لسباب المنع والعراض‬
‫التي يجعلها الكفار في طرق الهداية‪ ،‬إذ يجتمع عند الكفار أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬الجهالة وفساد العقيدة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الصرار على العناد والقتال بالباطل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬العراض عن النذارات‪ ،‬ومنها ما ورد في هذه الية الكريمة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬نزول البلء بالكفار‪ ،‬وصيرورتهم عاجزين عن منع الناس من دخول‬
‫الناس‪.‬‬
‫وهذه الية مدد للمسلمين ‪,‬ودعوة للناس لدخول السلم‪ ،‬وتبعث النفرة في النفوس‬
‫من الكفر والضللة ‪ ,‬لنها ومصاديقها الخارجية الظاهرة للحواس والمدركة‬
‫بالوجدان حجة وبرهان على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ونصر ال‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫جاَءُكْم ُبْرَها ٌ‬
‫س َقْد َ‬‫عز وجل له ولمن تبعه من المؤمنين ‪ ,‬قال تعالى]َياَأّيَها الّنا ُ‬
‫َرّبُكْم[ )‪.(185‬‬
‫ذ‬
‫المدد هو الزيادة والكثرة التي تأثير لشيء من ذات الجنس)وحكى اللحياني‪ :‬أمد‬
‫المير جنده بالخيل وأعانهم‪ ،‬وأمدهم بمال كثير وأغاثهم()‪) (186‬وفي حديث ُأويس‬
‫س بن عامر()‪(187‬‬ ‫كان عمر رضي ال عنه ِإذا َأَتى َأْمداُد َأهل اليمن سَألهم َأفيكم ُأَوْي ُ‬
‫لثم سواٌء‬ ‫ي كرم ال وجهه قائل كلمِة الزور والذي َيُمّد بحبلها في ا ِ‬ ‫)وفي حديث عل ّ‬
‫ح الذي يجذب الحبل‬ ‫ل الدلو في َأسفل البئر وحاِكَيها بالماِت ِ‬ ‫َمّثل قائلها بالماِئح الذي يم ُ‬
‫ن() ( ‪.‬‬
‫‪188‬‬
‫على رْأس البئر وَيُمّده ولهذا يقال الروايُة َأحد الكاِذَبْي ِ‬
‫وفيه زجر عن الخلق المذمومة ‪ ,‬ومنع من إشاعة الفاحشة بنقل كلمة السوء‬
‫والغيبة والقذف إذ يبوء ناقل السوء بإثمه وذنبه‪ ,‬وتقتضي الوظيفة الشرعية للمستمع‬
‫الرد والتنبيه ‪ ,‬إل مع خشية الضرر‪.‬‬
‫والمدد للعساكر التي تلحق بالغازي في سبيل ال‪.‬‬
‫لقد جاءت اليات السابقة بالنص الصريح عن نزول الملئكة مددًا وعونًا للمسلمين‬
‫لِئَكِة[‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف مِ ْ‬‫ل ٍ‬‫لَثِة آ َ‬
‫ن ُيِمّدُكْم َرّبُكْم ِبَث َ‬
‫ن َيْكِفَيُكْم َأ ْ‬
‫في ميادين القتال‪ ،‬قال تعالى]َأَل ْ‬

‫‪ ()185‬سورة النساء ‪.174‬‬


‫‪ ()186‬لسان العرب ‪.3/398‬‬
‫‪ ()187‬لسان العرب ‪.3/398‬‬
‫‪()188‬لسان العرب ‪.3/398‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫)‪ ،(189‬وفيه آية بأن المسلمين إتصفوا بخصوصية من بين الموحدين والمم السالفة‬
‫من المسلمين بنزول الملئكة لنصرتهم وتترشح عنه نتائج ومنافع أكثر من أن‬
‫تحصى‪ ،‬وتتصف هذه المنافع بأنها توليدية ومتجددة‪ ،‬وهي مدرسة في الفضل‬
‫اللهي على المسلمين ودعوة لهم للثبات على اليمان‪ ،‬وحث لجيالهم المتعاقبة‬
‫للقتباس والتعاظ من سنة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم القتالية وجهاد‬
‫س[‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬
‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫الصحابة في سبيل ال‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫)‪ ،(190‬بأن يستلهم كل جيل من المسلمين الدروس من معارك السلم الولى‪،‬‬
‫وتفضيل المسلمين بالمدد الملكوتي وإستئصال رؤساء الكفر المواجهين لهم في‬
‫القتال‪.‬‬
‫ومن اليات أن تلك الدروس مستقلة بذاتها ‪ ,‬وتضاف وتتداخل مع الدروس والعبر‬
‫التي إقتبستها أجيال المسلمين السابقة بما فيهم الصحابة‪ ،‬فيكون عند المسلمين علم‬
‫متجدد في باب المدد ‪ ,‬وتأتيهم مصاديقه في كل جيل وزمان ومكان ‪ ,‬ويدعو علماء‬
‫المسلمين والباحثين إلى إحصائه وجمعه‪ ،‬وتحقيقه ‪ ,‬ليشارك المسلمون الناس بالنعم‬
‫الكونية والخيرات وثروات السماء والرض ‪ ,‬كنعمة المطر والزراعات والمعادن ‪,‬‬
‫وينفردوا بنعمة المدد الملكوتي من بين الولين والخرين‪.‬‬
‫وليكون المدد اللهي للمسلمين توليديًا من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬تكرار نزول الملئكة مددًا للمسلمين في ميادين القتال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تعدد مصاديق المدد اللهي‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬كل آية من القرآن هي مدد للمسلمين‪ ،‬ومنها هذه الية‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إنتفاع أجيال المسلمين من المدد اللهي للنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وأصحابه من المسلمين‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إتعاظ المسلمين من إنتفاع أجيالهم السابقة من المدد اللهي مدد إضافي‪،‬‬
‫وضياء ينير لهم دروب الجهاد في سبيل ال‪.‬‬
‫ويحمل لفظ)المدد( على معان ووجوه عديدة تتعلق بحال الحرب والسلم‪ ،‬ومن‬
‫اليات أن يأتي المدد في الحرب وميادين القتال لتكون منافعه على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬في المعركة ومقدماتها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬نتيجة المعركة وتجلي بشارات النصر للمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬في حال السلم وعند العودة إلى الحضر‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬سلمة وأمن المسلمين في ديارهم وأمصارهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إعتبار الناس من المدد اللهي للمسلمين‪ ،‬وما فيه من الدلئل والمواعظ‪.‬‬

‫‪ ()189‬سورة آل عمران ‪ /‬الية ‪.124‬‬


‫‪ ()190‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫السادس‪ :‬إرتقاء المسلمين في المعارف اللهية‪ ،‬وإدراك حبل الصلة بين السماء‬
‫صِبُروا‬
‫ن َت ْ‬‫والرض ‪ ,‬وهو اليمان والتقوى ونزول الملئكة بواسطته قال تعالى]ِإ ْ‬
‫لِئَكِة[ ) (‪.‬‬
‫‪191‬‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬ ‫ل ٍ‬‫سِة آ َ‬‫خْم َ‬ ‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫جِميًعا[ ) (‪ ،‬الجواب نعم‬
‫‪192‬‬
‫ل َ‬‫ل ا ِّ‬‫حْب ِ‬
‫صُموا ِب َ‬ ‫عَت ِ‬ ‫وهل هو من عمومات قوله تعالى]َوا ْ‬
‫فصحيح أن الخبار وردت بخصوص التمسك بالقرآن والسنة إل أن اليمان شاهد‬
‫على التمسك بهما‪ ،‬ليأتي المدد ثمرة له‪ ،‬ودعوة لتلوة آيات القرآن‪ ،‬والعمل‬
‫بمضامينها‪ ،‬والصدور عن القرآن وما فيه من البشارات والنذارات‪،‬والوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬والوعد والوعيد‪.‬‬
‫ويحتمل النشطار والتعدد في المدد اللهي وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنشطار ذات المدد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تفرع مدد جديد على المدد الصل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تفرع مدد مستحدث عن إجتماع مصاديق من المدد‪ ،‬وتقدم في قانون) مدد‬
‫الملئكة توليدي‪ :‬عرج الملئكة إلى السماء بعد إنتهاء المعركة‪ ،‬ولكن نعمة نزولهم‬
‫باقية في الرض إلى يوم القيامة وبوظيفة محصورة هي نصرة المسلمين‪ ،‬فكل‬
‫مسلم يشكر ال عز وجل على نعمة نزول الملئكة‪ ،‬وينتفع من نزولها وان كان‬
‫زمانها قد إنقضى( )‪.(193‬‬
‫والمدد اللهي للمسلمين أعم من أن ينحصر بالملئكة‪ ،‬ومنه هذه الية الكريمة‬
‫بمضامينها وآثارها ‪ ,‬وهي على أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬منافع الية للمسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إخبار الية عن الضرار التي تلحق الكفار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إنتفاع الناس جميعًا من الية الكريمة وما فيها من النذار والخبار عن‬
‫العذاب العاجل للكفار‪ ،‬وتجري هذه القسام متفرقة ومجتمعة ومتداخلة إلى يوم‬
‫القيامة لتكون وسيلة إصلح للناس‪ ،‬وتهذيب للنفوس وهو من عمومات رد ال عز‬
‫وجل على الملئكة ‪ ,‬والخبار عن علمه المطلق ‪ ,‬حينما خلق آدم لجعله خليفة ‪,‬‬
‫ك الّدَماء[ )‪.(194‬‬ ‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬‫ن ُيْف ِ‬
‫ل ِفيَها َم ْ‬ ‫جَع ُ‬ ‫وإحتجوا كما ورد في التنزيل]َأَت ْ‬
‫وتنزل الية الكريمة فتكون مددًا وعونًا للناس جميعًا المسلم وغير المسلم‪ ،‬كل‬
‫واحد من الناس ينهل ويتزود منها من غير أن يكون التباين بينهم سببًا للتزاحم أو‬
‫التعارض في هذا النهل‪ ,‬فالمسلمون يفرحون بفضل ال ويزدادون إيمانًا‪ ،‬وأما‬
‫الكفار فيتلقون الية على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬من يتعظ ويعتبر منها‪ ،‬وتكون سببًا لدخوله السلم والتوبة النصوح‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الذي يعتزل قتال المسلمين‪ ،‬ويتجنب التعدي على حرمات السلم‪.‬‬

‫‪ ()191‬الية ‪. 125‬‬
‫‪ ()192‬سورة آل عمران ‪.103‬‬
‫‪ ()193‬أنظر الجزء ‪.65/151‬‬
‫‪ ()194‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬من يأتيه العذاب والقطع الذي تذكره هذه الية الكريمة‪.‬‬
‫ومن اليات إتصاف فروع المدد اللهي بالبركة‪ ،‬وهو من شآبيب الرحمة التي تطل‬
‫على الناس مع تجدد الليل والنهار‪ ،‬لتكون تذكيرًا بالوقائع التي صاحبت نبوة محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫وفي هذا التذكير آية في تفضيله صلى ال عليه وآله وسلم على النبياء الخرين‪،‬‬
‫ودعوة للناس جميعًا لخذ الدروس والعبر من تلك الوقائع‪ ،‬ومن اليات في خلق‬
‫النسان وجود وجوه من الشبه بين الحوادث المتعاقبة المر الذي يخفف عن الناس‪،‬‬
‫وييسر لهم الهتداء إلى سبل الحق والرشاد‪ ،‬ويكون كشفًا للباطل‪ ،‬وفضحًا لقطاب‬
‫الضللة الذين ينفقون المال ‪ ,‬ويعدون العدة للتعدي على المسلمين‪.‬‬
‫وتكون تلوة الية الكريمة وإستحضار أسباب وموضوع النزول‪ ،‬والمصداق‬
‫ل للصلح‪ ،‬وحربًا‬ ‫العملي عن النزول وفي ميدان معركة بدر وأحد والخندق سبي ً‬
‫على الفساد في الرض‪ ،‬وواقية للمسلمين إلى يوم الدين‪ ,‬فتأتي الية القرآنية لتكون‬
‫ل ومستديمًا‪.‬‬‫مددًا حا ً‬
‫وتكون دعوة للمسلمين لستنباط المواعظ والعبر المتجددة والمستحدثة منها‪،‬‬
‫بالضافة إلى توارث المواعظ القدسية المقتبسة منها حين نزولها‪ ،‬وهو مدد إضافي‬
‫للمسلمين والمسلمات ‪ ,‬وحرز لهم في ميادين الحياة المختلفة‪.‬‬
‫وليس من حصر للمدد اللهي للنبياء ‪ ,‬ويأتي غالبًا على نحو القضية الشخصية ‪،‬‬
‫عَلى ِإْبَراِهيَم[)‪،(195‬وقيل لما‬
‫لًما َ‬
‫سَ‬‫كما في إبراهيم قال تعالى]ُقْلَنا َياَناُر ُكوِني َبْرًدا َو َ‬
‫أرادوا إحراق إبراهيم حبسوه وجمعوا لمدة شهر حطبًا )حتى أن كانت المرأة‬
‫لتمرض فتقول‪ :‬إن عافاني ال لجمعن حطبًا لبراهيم()‪ ،(196‬ولما أشعلوا النار‬
‫ل ورموه فيها)وعن إبن عباس‪ :‬إنما نجا‬ ‫وضعوه في المنجنيق مقيدًا مغلو ً‬
‫ل نمروذ من الصرح على إبراهيم في‬ ‫بقوله‪:‬حسبي ال ونعم الوكيل( ) (‪ ،‬وأط ّ‬
‫‪197‬‬

‫النار فإذا هو في روضة ومعه جليس من الملئكة‪ ،‬فقال‪):‬إني مقّرب إلى إلهك فذبح‬
‫ف عن إبراهيم‪ ،‬وكان عمر إبراهيم يومئذ ست عشرة سنة‪،‬‬ ‫أربعة آلف بقرة‪ ،‬وك ّ‬
‫ويحتمل وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إن ال سلب من النار قوة الحراق والشتعال وشدة الحر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وقاية إبراهيم على نحو الخصوص من النار‪ ،‬بحيث لو دخل فيها غيره‬
‫لحترق ‪ ,‬وذكروا أن الطير في الجو تكاد تحترق من وهجها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬توجه أمر ال عز وجل إلى النار بأن ل تحرق إبراهيم‪ ،‬ومقاليد المور كلها‬
‫بيد ال‪ ،‬والخلئق مستجيبة له‪.‬‬
‫والصحيح هو الثاني والثالث لقيد المن والسلم لبراهيم على نحو التعيين ‪ ,‬ومن‬
‫إعجاز القرآن منع الترديد والخلف في المعجزة والبرهان القاطع إذ جاءت الية‬
‫‪ ()195‬سورة النبياء ‪.89‬‬
‫‪ ()196‬الكشاف ‪.3/578‬‬
‫‪()197‬الكشاف ‪.4/243‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫أعله صريحة بأن أمر ال توجه للنار لتكون باردة بما ل يسبب تجميد إبراهيم‬
‫وهلكه‪ ،‬وفي الخبر لو لم يقل ال)وسلمًا( لهلكته ببردها‪.‬‬
‫وفي واقعة نمروذ وإبراهيم مرآة واقعية‪ ،‬ومصداق خارجي من عالم الدنيا لحتجاج‬
‫ل ِفيَها‬ ‫جَع ُ‬
‫الملئكة على جعل خليفة في الرض ‪ ,‬ورد ال عز وجل عليهم]َقاُلوا َأَت ْ‬
‫عَلُم َما َ‬
‫ل‬ ‫ل ِإّني َأ ْ‬‫ك َقا َ‬ ‫س َل َ‬
‫ك َوُنَقّد ُ‬ ‫حْمِد َ‬
‫ح ِب َ‬‫سّب ُ‬
‫ن ُن َ‬‫حُ‬‫ك الّدَماَء َوَن ْ‬‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬
‫ن ُيْف ِ‬‫َم ْ‬
‫ن[ )‪ ،(198‬إذ لحق نمروذ والمل من قومه الخزي‪ ،‬عندما غلبهم إبراهيم في‬ ‫َتْعَلُمو َ‬
‫الحتجاج‪ ،‬ولّما نجا من النار بمعجزة حسية ظاهرة للجميع‪ ،‬جاء القرآن ليكون‬
‫وثيقة سماوية لعلم الجيال المتعاقبة بجهاد وإخلص إبراهيم في سبيل ال وهو من‬
‫عمومات دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم للنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫جا‬
‫ك[)‪ ،(199‬وكما ن ّ‬ ‫عَلْيِهْم آَياِت َ‬
‫ل ِمْنُهْم َيْتُلو َ‬
‫سو ً‬ ‫ث ِفيِهْم َر ُ‬ ‫وسلم كما في التنزيل]َرّبَنا َواْبَع ْ‬
‫ال عز وجل إبراهيم من النار وأهلك نمروذ وأصحابه قال تعالى]َوَأَراُدوا ِبِه َكْيًدا‬
‫ن[ )‪،(200‬‬ ‫ض اّلِتي َباَرْكَنا ِفيَها ِلْلَعاَلِمي َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫طا ِإَلى ا َ‬ ‫جْيَناُه َوُلو ً‬
‫ن* َوَن ّ‬
‫سِري َ‬ ‫خَ‬ ‫لْ‬‫جَعْلَناُهْم ا َ‬‫َف َ‬
‫جا ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وأهلك عدوه مع‬ ‫فكذا ن ّ‬
‫مشارق من تفضيل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم منها‪:‬‬
‫الولى‪ :‬سلمة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من المحاولت المتكررة لقتله‬
‫وإغتياله‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬هجوم كفار قريش على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‬
‫بجيوش عظيمة ورجوعهم خائبين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تكرار هجوم الكفار وفي كل مرة يأتون بأعداد من الجنود أضعاف العداد‬
‫والعدة السابقة‪ ،‬فل يحصدون إل الخزي والخيبة والعار‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬لقد نجا رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم هو وأصحابه وأهل بيته‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬تعدد مصاديق الخزي والخيبة التي لحقت الكفار‪ ،‬سواء في سوح المعارك‬
‫أو في حال السلم‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬جعل ال عز وجل هذه الية حرزًا يمنع وصول الكفار إلى رسول ال‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬نال إبراهيم مرتبة المامة‪ ،‬ومع هذا كان أمة بمفرده في مواجهة بطش‬
‫نمروذ وجنوده‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم بين ظهراني أصحابه‬
‫وأهل بيته‪ ،‬كل واحد منهم يذب عنه بنفسه وماله‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬لقد هاجر إبراهيم عليه السلم من العراق إلى الشام إعراضًا عن الطاغوت‬
‫والقوم الظالمين‪ ،‬أما النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم فقد هاجر إلى المدينة‬
‫ليقاتل منها الكفار وينتصر عليهم‪ ،‬ويتجلى المدد للنبياء بأبهى صيغه وكيفياته ‪,‬‬

‫‪ ()198‬سورة البقرة ‪.30‬‬


‫‪ ()199‬سورة البقرة ‪.129‬‬
‫‪ ()200‬سورة النبياء ‪.71-70‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫حِكيِم[‬
‫ل اْلَعِزيِز اْل َ‬
‫عْنِد ا ِّ‬
‫ن ِ‬
‫ل ِم ْ‬
‫صُر ِإ ّ‬
‫وجاءت خاتمة الية السابقة بقوله تعالى]َوَما الّن ْ‬
‫)‪.(201‬‬
‫التاسعة‪ :‬جاءت الية محل البحث نصرة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫بهلك بعض أقطاب الكفار‪.‬‬
‫العاشرة‪ :‬لم تمر اليام والسنون حتى دخل الكفار الذين كانوا يقاتلون النبي محمدًا‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم السلم‪.‬‬
‫قانون"موضوع النزول’’)علم جديد(‬
‫من علوم القرآن ما يتعلق بالحوادث والوقائع‪ ،‬والمواضيع التي كانت سببًا‬
‫مباشرًا ومناسبة لنزول الية الكريمة ‪ ,‬ويسمى )أسباب النزول( وهو نوع طريق‬
‫وأمارة لمعرفة الحكم المستنبط من الية ‪ ،‬وليس لنزول كل آية قرآنية سبب وواقعة‬
‫مخصوصة وقضية شخصية )‪.(202‬‬
‫فقد تنزل الية لبيان موضوع وحكم أعم من زمان نزولها خصوصًا وأن القرآن‬
‫نزل ليحيط بالوقائع والحوادث إلى يوم القيامة فليس من كتاب سماوي بعده‪ ،‬وهو‬
‫المام الباقي بين الناس لستنباط الحكام منه وإتخاذها واقية وآمنًا في النشأتين ‪.‬‬
‫وسبب نزول الية من إعجاز القرآن‪ ،‬وهو شاهد على صدق نزول القرآن من عند‬
‫ال لما فيه من السرار والعلوم التي تتفرع عنها المسائل‪ ،‬والحكمة والعلة في‬
‫تشريع الحكم‪ ،‬مع القرار بعدم تخصيص الحكم بسبب النزول‪ ،‬والوقوف على‬
‫معنى معين ‪ ،‬وقد إجتهد علماء السلم في بيان أسباب النزول ومواضيعه والوقائع‬
‫المتقدمة أو المقارنة لنزول الية ‪ ,‬مع التسليم بأن معنى الية أعم ‪ ,‬وهو من أسرار‬
‫شمول أحكام الية القرآنية للمتناهي من الوقائع والحوادث ‪.‬‬
‫ويتجلى في المقام علم آخر هو )موضو ع النزول( وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬بيان الحوال التي تحيط بالمسلمين أوان نزول الية‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إستقراء المنافع التي تترشح عن الية القرآنية بلحاظ موضوع نزولها‪ ،‬وهذه‬
‫المنافع توليدية ومتجددة في أفراد الزمان الطولية‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬معرفة حاجة المسلمين لنزول الية‪ ،‬ول تنحصر تلك الحاجة بزمان ومكان‬
‫النزول بل تستغرق أيام وأمصار المسلمين‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬بيان فضل ال على المسلمين في نزول الية القرآنية‪ ،‬فهي خير محض‪،‬‬
‫ونعمة عظيمة بالذات‪ ،‬وبلحاظ موضوع نزولها ‪ ,‬وتفسير الية بلحاظ اليات التي‬
‫نزلت قبلها وبعدها وقد تكون مجاورة لها‪ ،‬أو غير مجاورة لها‪ ،‬بل جاءت في ذات‬
‫السورة أو سورة أخرى ‪ ,‬وتعرف الصلة والتحاد الزماني بينهما بالقرائن‪،‬‬
‫والخبار ووحدة الموضوع والوقائع وأسباب النزول‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬بين موضوع الية وسبب نزولها عموم وخصوص مطلق‪ ،‬فالموضوع‬
‫أعم من السبب‪ ،‬وليس من تباين بينهما ‪ ,‬إذ تدخل الوقائع والحوادث بموضوع‬
‫‪()201‬سورة آل عمران ‪ /‬الية ‪.126‬‬
‫‪()202‬أنظر الجزء السادس ‪.77/87‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫النزول وكذا السئلة التي كانت توجه للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم كما في‬
‫سِر[)‪.(204‬‬‫خْمِر َواْلمَْي ِ‬‫ن اْل َ‬ ‫عْ‬ ‫ك َ‬‫سَأُلوَن َ‬
‫ض[)‪َ ]،(203‬ي ْ‬ ‫حي ِ‬ ‫ن اْلَم ِ‬
‫عْ‬ ‫ك َ‬ ‫سَأُلوَن َ‬
‫قوله تعالى ]َوَي ْ‬
‫ووجود موضوع للية القرآنية‪ ،‬ومعرفة الحوال التي نزلت بها أمر ينفرد به‬
‫ج ْ‬
‫ت‬ ‫خِر َ‬‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫القرآن وتوثيق المسلمين لها‪ ،‬وهو شاهد على أن المسلمين ] َ‬
‫س[)‪.(205‬‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫وهل يدخل موضوع الية في علم التفسير والتأويل أو ل ‪ ,‬الجواب هو الول‪ ،‬فهو‬
‫حجة وعدة وسلح‪ ،‬ومقدمة للبرهان‪ ،‬ومناسبة لستقراء المعاني والمقاصد من الية‬
‫القرآنية‪ ،‬وما فيها من معاني التحدي ودرر الحكمة‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬الدراسة المقارنة بين حال المسلمين قبل نزول الية وبعدها‪ ،‬وهذه الحال‬
‫ل تنحصر بموضوع أو حكم مخصوص بل هي مطلقة وتشمل مواضيع ووجوهًا‬
‫متعددة‪ ،‬وكل واحد منها مدرسة عقائدية ومرآة لعجاز القرآن‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬دللة الية على سلمة القرآن من التحريف لنها تتضمن بيان الواقع الذي‬
‫نزلت فيه‪ ،‬وتبين معاني اللطف اللهي بالمسلمين والناس جميعًا‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬الشواهد الخارجية التي تصاحب الية القرآنية‪ ،‬ودللتها على جهاد النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪ ,‬وما لقوه في جنب ال من الذى ‪ ,‬قال‬
‫خَباَرُكْم[)‪.(206‬‬ ‫ن َوَنْبُلَو َأ ْ‬‫صاِبِري َ‬‫ن ِمْنُكْم َوال ّ‬
‫جاِهِدي َ‬
‫حّتى َنْعَلَم اْلُم َ‬ ‫تعالى]َوَلَنْبُلَوّنُكْم َ‬
‫وبالنسبة للمسألة الولى أعله بخصوص الية محل البحث فانها نزلت في معركة‬
‫أحد‪ ،‬وبعد أن إجتهد المؤمنون وأجهدوا في القتال‪ ،‬وإستشهد عدد منهم‪ ،‬ولم ينالوا‬
‫من الكفار كما نالوا منهم يوم بدر‪ ،‬وشاع بينهم أن المشركين سيرجعون للقتال مرة‬
‫أخرى بذات اليوم‪.‬‬
‫فجاءت هذه الية بشارة وسكينة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪،‬‬
‫وبعثًا للرجوع إلى المدينة‪ ،‬وبرزخًا دون وقوع الخلف بخصوص الرجوع فبعد‬
‫نزول الية لم يطلب بعض الصحابة البقاء في ميدان المعركة للتصدي للكفار عند‬
‫رجوعهم من فورهم‪ ،‬ولم ينقسموا إلى طائفتين أو أكثر إحترازًا من تدبير ومكر‬
‫المشركين بتعدد مقاصدهم وغاياتهم وإحتماله كما لو تردد المسلمون بين إحتمالين‪:‬‬
‫الول‪ :‬عودة المشركين إلى ساحة المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هجوم المشركين على المدينة‪.‬‬
‫ومن الحوال أوان نزول الية أن المسلمين كانوا قلة وفي ضعف ونقص في العدة‬
‫والسلح‪ ،‬وأكثرهم فقراء ليس عندهم مؤونة أيام معدودة‪ ،‬أما المشركون فانهم في‬
‫حال كثرة من الرجال والسلح‪ ،‬وتمتلك قريش أموال التجارة‪ ،‬ومنها ما وظفتها في‬
‫معركة أحد‪.‬‬

‫‪()203‬سورة البقرة ‪.222‬‬


‫‪()204‬سورة البقرة ‪.219‬‬
‫‪()205‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()206‬سورة محمد ‪.31‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫قال إبن هشام‪ :‬لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى‬
‫مكة‪ ،‬ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره‪ ،‬مشى عبدال بن أبى ربيعة وعكرمة بن‬
‫أبى جهل وصفوان ابن أمية‪ ،‬في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم‬
‫وإخوانهم يوم بدر‪ ،‬فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من‬
‫قريش تجارة‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم‪ ،‬فأعينونا‬
‫بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثارا بمن أصاب منها‪ ،‬ففعلوا)‪.(207‬‬
‫وأيهما أكثر نفعًا هذه الية للمسلمين‪ ،‬أم الموال الكثيرة التي جمعها وأنفقها‬
‫المشركون وغنمها المسلمون ‪ ،‬الجواب هو الول‪ ،‬وهو المستقرأ من الوقائع‬
‫والحداث‪ ،‬ونتائج المعركة‪.‬‬
‫وأما بالنسبة للمسألة الثانية أعله وإستقراء منافع الية ‪ ,‬فليس من حصر للمنافع‬
‫العقائدية والخلقية والعسكرية والقتصادية لهذه الية الكريمة‪ ،‬فهي تأسيس لقانون‬
‫سماوي في الرض‪ ،‬يتضمن رمي الكفار بالضعف وتجدد حال الوهن والخور‬
‫عندهم ‪ ،‬وفيه دعوة للمسلمين للتفقه في الدين‪ ،‬وإتقان أداء الفرائض والمواظبة‬
‫عليها‪ ،‬وهو مناسبة كريمة لمتثال المسلمين لما يقوله النبي محمد صلى ال عليه‬
‫صّلى)‪.(208‬‬ ‫صّلوا َكَما َرَأْيُتُموِنى ُأ َ‬‫وآله وسلم في باب العبادات منه قوله ‪َ :‬‬
‫المر الذي تجلت ثماره بتعاهد أجيال المسلمين المتعاقبة للصلة التي صلها النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم في كيفيتها ووقت وعدد ركعات كل فريضة منها‪،‬‬
‫وإمتناع الخلف والخصومة بين المسلمين في أدائها‪ ،‬لتستنبط منها قاعدة كلية وهي‬
‫أن منافع هذه الية ل تنحصر بميدان المعركة وسوح القتال مطلقًا والجانب القتالي‬
‫بل تشمل الميادين المختلفة ومن أهمها العبادة وهي علة خلق النسان‪.‬‬
‫أما بالنسبة للمسألة الثالثة فان حاجة المسلمين للية مركبة ومتعددة‪ ،‬فجاءت رحمة‬
‫بهم‪ ،‬وقطعًا لما أصاب بعضهم من الفزع والخوف والخشية على رسول ال‬
‫والسلم من فتك وبطش الكفار‪ ،‬وبرزخًا دون نزول الفشل عند المؤمنين والهم به ‪,‬‬
‫ل َوِلّيُهَما[‬
‫شلَ َوا ُّ‬‫ن َتْف َ‬
‫ن ِمْنُكْم َأ ْ‬
‫طاِئَفَتا ِ‬
‫ت َ‬
‫قال تعالى بخصوص معركة أحد ذاتها]ِإْذ َهّم ْ‬
‫)‪ ،(209‬لتكون وثيقة سماوية تؤكد ولية ال عز وجل للمجاهدين في سوح القتال ‪,‬‬
‫وبشارة وسكينة للمؤمنين جميعًا ‪ ,‬وفي حال الحرب والسلم ‪ ,‬لن الوارد ل‬
‫يخصص المورد ‪ ,‬إثبات شئ ل يدل على نفيه عن غيره ‪.‬‬
‫وأما المسألة الرابعة فلم يكن المسلمون بحاجة إلى قطع طرف من الكفار مثل يوم‬
‫أحد لظهورهم في المعركة‪ ،‬وتماديهم في التعدي‪ ،‬وإقترابهم من النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم لقتله‪ ،‬وقد أشاعوا في صفوفهم بأنه قتل‪ ،‬وسمع المسلمون هذه‬
‫الشاعة ‪.‬‬

‫‪()207‬السيرة النبوية ‪.3/63‬‬


‫‪()208‬سنن البيهقي ‪.2/299‬‬
‫‪()209‬سورة آل عمران ‪.122‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ول يعلم أحد من الخلئق ما يفعل المشركون يوم أحد لو لم يقطع ال طرفًا منهم‬
‫ويكبتهم ويخزهم ويجعلهم يدركون حرمانهم وعجزهم عن تخفيف غاياتهم ‪ ,‬وما‬
‫تصير إليه المور ‪.‬‬
‫وعند بدايات معركة بدر إنقطع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم للدعاء‪ ,‬وكذا‬
‫في واقعة أحد لصل الستصحاب‪ ,‬ووحدة الموضوع في تنقيح المناط‪ ,‬وموضوعية‬
‫الدعاء مطلقًا‪ ,‬ودعاء النبي خاصة ساعة الشدة والحرج ‪.‬‬
‫وأما المسألة الخامسة وما في الية من فضل ال على المسلمين ‪ ,‬فمن مصاديقه‬
‫أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬نصر ال سبحانه لرسوله الكريم والمؤمنين في معارك السلم الولى ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنجاز وعد ال في تحقيق الهزيمة والذل للكفار بخصوص مشركي قريش‬
‫عَدًدا[)‪،(210‬‬
‫ل َ‬
‫صًرا َوَأَق ّ‬
‫ف َنا ِ‬
‫ضَع ُ‬‫ن َأ ْ‬‫ن َم ْ‬‫سَيْعَلُمو َ‬
‫ن َف َ‬
‫عُدو َ‬ ‫حّتى ِإَذا َرَأْوا َما ُيو َ‬ ‫يوم بدر ] َ‬
‫وجاءت هذه الية بعد آية البشارة بنزول الملئكة مددًا للمؤمنين ‪ ,‬وباعثًا للطمأنينة‬
‫في قلوبهم‪.‬‬
‫وأما السادسة فان هلك طائفة من الكفار وذلهم وخزيهم إنعطاف في تأريخ‬
‫النسانية في الرض‪ ،‬وبداية لتثبيت سنن العبادة‪ ،‬فقد برز اليمان كله لطائفة من‬
‫المشركين‪ ،‬فجاء قطع طرف منهم‪ ،‬بعثًا للخوف في نفوس الكفار مطلقًا‪ ،‬وزجرًا لهم‬
‫عن المناجاة والتعاون في محاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫وأما بالنسبة للمسألة السابعة وحال المسلمين قبل وبعد نزول الية فان المسلمين‬
‫خرجوا للمعركة وإنخزل في الطريق ثلث الجيش بافتتان من رأس النفاق‪ ،‬وفي‬
‫القتال هّمت طائفتان من المؤمنين بالخور‪ ،‬وهجم جناح من المشركين على الرصد‬
‫في الجبل ‪ ,‬وجاءوا لجيش المسلمين من الخلف وقتلوا عددًا منهم وإنهزم أكثر‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫فجاء المدد الملكوتي وهلك عدد من صناديد قريش وإمتلء نفوس جيش المشركين‬
‫خوفًا‪ ،‬وإنهزامهم مدبرين خائبين لتبقى شمس السلم مشرقة على الرض‪ ،‬وتكون‬
‫هذه الية حرزًا وسلحًا للمسلمين‪ ،‬وحجة على الناس‪ ،‬ودعوة سماوية وملكوتية‬
‫متجددة لتعظيم شعائر ال‪ ،‬وإعمار الرض بالعبادة‪.‬‬
‫فمن إعجاز القرآن مجئ آية واحدة منه تغير مجرى الحداث والوقائع‪ ،‬وتقلب‬
‫موازين المور ‪ ,‬وتؤسس لمدرسة جديدة من العز والرفعة والفخر للذين سبقوا في‬
‫اليمان‪ ،‬وبادروا لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ولتكون مضامين‬
‫هذه الية من مصاديق القطع والكبت والحرمان للكفار‪ ،‬ومن صيغ عذابهم ‪ ,‬كما في‬
‫عَلْيِهْم[)‪.(211‬‬
‫صْرُكْم َ‬
‫خِزِهْم َوَيْن ُ‬
‫ل ِبَأْيِديُكْم َوُي ْ‬
‫قوله تعالى ]َقاِتُلوُهْم ُيَعّذْبُهْم ا ُّ‬
‫بحث منطقي‬
‫ينقسم اللفظ من جهة التعدد والتحاد إلى قسمين‪:‬‬
‫‪()210‬سورة الجن ‪.24‬‬
‫‪()211‬سورة التوبة ‪.14‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬المفرد وهو على شعبتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الذي ليس له جزء‪ ،‬مثل الباء في بسم ال الرحمن الرحيم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬اللفظ الذي له جزء ‪ ,‬ولكن هذا الجزء ل يدل على معنى مستقل مثل الجيش‬
‫والسوق‪ ،‬فالجيش مفرد وإن كان أفراده كثيرين‪ ،‬إل أنه بلحاظ اللفظ ليس لجزائه‬
‫وهي حروفه معنى مستقل يكون جزء معنى اللفظ كالجيش ذاته‪ ،‬وكذا بالنسبة‬
‫للسوق‪ ،‬فليس للسين جزء من معنى السوق‪ ،‬وإن كان السوق يتكون من محلت‬
‫ودكاكين عديدة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المركب‪ :‬ويسمى أيضًا القول‪ ،‬وبينه وبين الوجه الول أعله عموم‬
‫وخصوص مطلق‪ ،‬وفق الصطلح المنطقي‪ ،‬فكل قول هو لفظ‪ ،‬وليس العكس ‪.‬‬
‫والمركب هو اللفظ الذي له جزء يدل على جزء معناه مثل)الصلة واجب( فكل‬
‫جزء من اللفظين له معنى هو جزء من معنى المركب‪ ،‬وينقسم المركب إلى قسمين‪:‬‬
‫الول‪ :‬المركب الناقص وهو الذي ل يصح السكوت عليه وهو بحاجة إلى بيان مثل‬
‫)إذا جاءك ضيف(‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المركب التام وهو الذي يتكون من ألفاظ يفيد إجتماعها معنى مفهوم لدى‬
‫السامع‪ ،‬وهو على وجهين‪:‬‬
‫الول‪ :‬الخبر وهو الذي يكون مرآة لحقيقة وكاشفًَا لمصداق خارجي وإخبارًا عن‬
‫ل الهلل(‪ ،‬ويسمى)القضية( وقد يكون هذا المركب التام موافقًا‬ ‫أمر كما يقال)ه ّ‬
‫للواقع ويتصف بالصدق‪ ،‬أو يتصف بالكذب ومخالفة الواقع‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬النشاء‪ :‬وهو الذي ل يكون مرآة لحقيقة أو إخبارًا عن أمر واقع في الواقع‬
‫الخارجي‪ ،‬بل يتجلى المعنى بلفظ المركب‪ ،‬وهو على أقسام عديدة منها المر‪،‬‬
‫النهي‪ ،‬الستفهام‪ ،‬التمني‪.‬‬
‫وهذا التقسيم المنطقي فرع التقسيم البلغي والنحوي في الجمل وتقسيمها إلى الجملة‬
‫الخبرية والجملة النشائية‪ ،‬وتحتمل مضامين هذه الية وجوهًا منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها قضية وخبر يفيد مطابقة الواقع ويتصف بالصدق‪ ،‬ووجود مصاديق‬
‫خارجية له ومنها يوم بدر‪ ،‬إذ كان عدد القتلى من المشركين سبعين‪ ،‬ورجع النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمون إلى المدينة المنورة بسبعين أسيرًا من‬
‫المشركين‪ ,‬وعدد القتلى والسرى هذا هو المروي عن إبن عباس وسعيد بن‬
‫جبير)‪.(212‬‬
‫الثاني‪ :‬النذار والوعيد للكفار بأن هلك فريق منهم والخزي ينتظرانهم عند التعدي‬
‫على المسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تحذير الكفار من محاربة المسلمين‪ ،‬وتجهيز الجيوش لقتالهم‪ ،‬وجمع الموال‬
‫لشراء السلح والنفاق على الجنود ‪ ,‬قال تعالى بخصوص الذين ينفقون أموالهم‬
‫ن[)‪.(213‬‬
‫سَرًة ُثّم ُيْغَلُبو َ‬
‫حْ‬
‫عَلْيِهْم َ‬
‫ن َ‬
‫سُينِفُقوَنَها ُثّم َتُكو ُ‬
‫للصد عن سبيل ال ]َف َ‬
‫‪()212‬السيرة النبوية ‪.3/12‬‬
‫‪()213‬سورة النفال ‪.36‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وفي هذا التحذير لطف بهم وبالمسلمين‪ ،‬وهو من رحمة ال عز وجل بالناس في‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬المنع من نشر الفساد في الرض‪ ,‬والخبار بان ال عز وجل يتعاهد اليمان‬
‫ويدفع عن المسلمين ‪ ,‬ويحول دون ظهور الكفار ومفاهيم الضللة في الرض ‪ ,‬قال‬
‫حَها[ )‪.(214‬‬ ‫لِ‬ ‫صَ‬ ‫ض َبْعَد ِإ ْ‬ ‫لْر ِ‬ ‫سُدوا ِفي ا َ‬ ‫ل ُتْف ِ‬
‫تعالى ]َو َ‬
‫الخامس‪ :‬المر للمسلمين بالدفاع عن بيضة السلم‪ ،‬والبشارة بالنصر بالخبار عما‬
‫يلقاه عدوهم عند اللقاء ‪.‬‬
‫السادس‪ :‬زجر الكفار الذين في الوسط أو الطراف البعيدة عن المسلمين من التقدم‬
‫إلى الطرف الذي يلي المسلمين‪ ،‬وتخويف الذين لم يشتركوا بالهجوم على المسلمين‬
‫من الشتراك فيه والعانة عليه بلحاظ المعنى العم للطرف وأن المراد منه‬
‫مواجهة المسلمين ومحاولة الجهاز عليهم‪.‬‬
‫السابع‪ :‬من خصائص المعجزة التحدي ‪ ,‬وعجز الناس عن التيان بمثلها‪ ،‬ومن‬
‫مصاديق هذه الية عجز الكفار عن دفع القطع والهلك الذي يصيبهم‪ ،‬وقد دعا‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم على جماعة من رؤساء قريش لشدة ما آذوه‬
‫وأصحابه‪ ،‬فكانوا صرعى في القليب يوم بدر‪ ،‬لتتجلى حقيقة وهي أن التحدي في‬
‫الية القرآنية إنذار وبشارة‪ ،‬ودعوة للتدارك‪.‬‬
‫ومن اليات إجتماع وتداخل هذه الوجوه‪ ،‬فالتقسيم إلى خبر وإنشاء تقسيم إستقرائي‪،‬‬
‫والية القرآنية أعم في دللتها ومعانيها من أن تنحصر بهذين المرين ‪ ,‬كما تتصف‬
‫القضية القرآنية بالصدق وموافقة الواقع بجعل المسلمين يتلقون ما فيه من المر‬
‫والنهي والوعد والوعيد بالتصديق والقبول لها بالذات ولغيرها من مضامين القرآن‬
‫لوجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬صدق الجزء يدل على صدق الكل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وحدة الموضوع في تنقيح المناط‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تعلق الصدق بنزولها من عند ال‪ ،‬وهو طبيعي كلي يتغشى آيات وكلمات‬
‫القرآن على نحو العموم الستغراقي‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إتصاف القرآن بالسلمة من الزيادة أو النقصان‪.‬‬
‫وإذا كان النشاء يعرف بأنه ل يوصف بالصدق أو الكذب فان النشاء في القرآن‬
‫يمتاز بخصوصية وهي أنه حق وصدق ‪.‬‬
‫ول تنحصر معانيه بالترشح عن اللفظ وحده‪ ،‬بل هي قواعد وقوانين قائمة بذاتها‪،‬‬
‫وتلك آية في كلم ال‪ ،‬ومصداق من العجاز الذاتي والغيري للقرآن‪ ،‬جعل أساطين‬
‫البلغة أيام التنزيل يطأطؤن رؤوسهم مذعنين مقرين بنزوله من عند ال ‪,‬‬
‫وإتصاف المركبات بحقائق ثابتة في نفسها ل يتعارض مع أحكام التوبة والمحو ‪,‬‬
‫ب[)‪.(215‬‬
‫عْنَدُه ُأّم اْلِكَتا ِ‬
‫ت َو ِ‬
‫شاُء َوُيْثِب ُ‬
‫ل َما َي َ‬
‫حوا ا ُّ‬
‫قال تعالى َ]ْم ُ‬
‫‪()214‬سورة العراف ‪.55‬‬
‫‪()215‬سورة الرعد ‪.39‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ليكون فيه معجزة حسية وعقلية أخرى على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله‬
‫ل ونساًء‪ ،‬وبعث المسلمين على الجهاد والصبر‬ ‫وسلم ولزيادة إيمان الصحابة رجا ً‬
‫والندفاع بشوق إلى سوح القتال دفاعًا عن السلم ويرجع الكفار إلى مكة‬
‫المكرمة ‪ ,‬وليس معهم أسير من أصحاب النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬في‬
‫وقت قد وعدوا أهلها بالنتقام من النبي وأصحابه‪ ،‬ليكون هذا الرجوع كبتًا وخيبة‬
‫للمشركين سواء الذين حضروا المعركة منهم أو الذين لم يحضروا‪.‬‬
‫قانون"الدنيا دار المدد’’‬
‫الحياة الدنيا آية من بديع صنع ال‪ ،‬وشاهد على عظيم قدرته‪ ،‬وسعة رحمته‪ ،‬وفيها‬
‫الثابت والمتجدد‪ ،‬ومن اليات أن الثابت مسخر للمتجدد فالشمس والقمر مث ً‬
‫ل‬
‫مسخران للجيال من ذرية آدم عليه السلم‪ ،‬وتتصف الدنيا بالقدرة على إستيعاب‬
‫الزيادات في البشر من جهة المكان والسكن والطعام والشراب‪.‬‬
‫ولو حصل الستنساخ البشري والطفرات في كثرة الناس فهل يخل هذا بقوانين‬
‫إستيعابها للناس ‪ ,‬الجواب ل‪ ،‬إذا حسن التدبير مع الصلح ‪ ،‬الذي هو من مصاديق‬
‫الشكر ل عز وجل على نعمة الدنيا وما فيها من الل محدود من الفضل اللهي‪.‬‬
‫وبعث ال عز وجل النبياء وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس لوظيفتهم في‬
‫س ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫لن َ‬‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬
‫خَلْق ُ‬
‫الرض وهي عبادة ال وعدم الشرك به ‪ ,‬قال تعالى]َوَما َ‬
‫ن[ )‪ ،(216‬ويترشح عن العبادة التقيد بأحكام الحلل والحرام لذا تجد أحكام‬ ‫ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫الشريعة تشمل باب العبادات‪ ،‬وباب المعاملت ليكون فيه صلح للناس ‪ ,‬ووسيلة‬
‫مباركة لنتفاعهم من الخيرات والنعم في الرض‪ ،‬وهو من عمومات رحمة ال‬
‫بالمؤمنين خاصة والناس عامة ‪ ,‬وتنزيه الرض من الفساد والفساد‪ ،‬ورد ال عز‬
‫ن[ )‪.(217‬‬‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫عَلُم َما َ‬‫وجل على الملئكة]ِإّني َأ ْ‬
‫وتستحوذ النفس الشهوية والغضبية على شطر من الكفار ويعرضون عن النبوة‪،‬‬
‫وعندما تتخذ الدعوة إلى ال صيغًا مؤثرة عند الناس‪ ،‬يصيب طائفة منهم الفزع‬
‫والخوف على منازلهم‪ ،‬ويخشون على جاههم وشأنهم وما لهم من المصالح‬
‫والرسوم عند العامة من أتباعهم‪ ،‬فيسخرونهم لمحاربة النبوة التي جاءت لنقاذهم‬
‫في الدنيا والخرة‪ ،‬ومنعهم من إتباع النبياء فيما جاءوا به من عند ال‪.‬‬
‫وقد تجلت هذه الحقيقة فيما واجهه النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من المل‬
‫من قريش وأقطاب الكفر والضللة‪ ،‬الذين زحفوا بالجيوش العظيمة لقتاله وأصحابه‬
‫فرّد ال عز وجل كيدهم ومكرهم‪ ,‬وعادوا خائبين من المعارك التي خاضوها ‪,‬‬
‫ل َرَمى[ )‪.(218‬‬‫ن ا َّ‬‫ت َوَلِك ّ‬
‫ت ِإْذ َرَمْي َ‬
‫قال تعالى]َوَما َرَمْي َ‬
‫فجاء المدد اللهي للمسلمين بهلك عدد من صناديد قريش ورؤوس الكفر‪ ،‬لتدخل‬
‫تلك الجيوش العظيمة السلم طواعية‪.‬‬
‫‪ ()216‬سورة الذاريات ‪.56‬‬
‫‪ ()217‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫‪ ()218‬سورة النفال ‪.17‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ساعة من النهار تغير مجرى التأريخ‪ ،‬وتقلب موازين القوى لحقاب وأجيال‪ ،‬فلو‬
‫إنتصر الكفار في معركة بدر لما دخلت تلك الجيوش والمم العظيمة السلم‪ ،‬إل‬
‫أن يفتح ال عز وجل بابًا على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‬
‫وال واسع كريم لذا ورد في دعاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم يوم‬
‫ل ُتْعَبْد( )‪.(219‬‬ ‫صاَبُة اْلَيْوَم َ‬
‫ك َهِذِه اْلِع َ‬
‫ن َتْهِل ْ‬‫بدر)الّلهّم إ ْ‬
‫فجاء المدد اللهي ليكون مصداقًا لتعاهد ال عز وجل لعبادة الناس له‪ ،‬ومنع غلبة‬
‫الكفر والضللة وشيوع مفاهيم الفساد‪ ،‬وتعطيل الحكام في الرض‪ ،‬فكان نزول‬
‫الملئكة يوم بدر وأحد آية من بديع خلق ال‪ ،‬وواسطة سماوية لصلح الرض‪.‬‬
‫ومن اليات عدم وجود حد زماني أو مكاني لهذا الصلح‪ ،‬فمنذ يوم بدر إتسع‬
‫جا[ )‪ ،(220‬وهو‬ ‫ل َأْفَوا ً‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ِفي ِدي ِ‬ ‫خُلو َ‬
‫السلم‪ ،‬وأصبح قوي الشوكة وأخذ الناس]َيْد ُ‬
‫شاهد عملي على صدق نزول الملئكة يوم بدر بالبرهان الني وهو الستدلل من‬
‫المعلول إلى العلة خصوصًا مع قلة عدد المسلمين‪ ،‬والنقص الظاهر في عدتهم‬
‫وسلحهم وإقرار الكفار بوجود الملئكة في ساحة المعركة‪ ،‬مددًا للمسلمين‪ ،‬وهذا‬
‫القرار رحمة بهم وحجة عليهم لما فيه من البراهين على صدق نبوة محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم والحث على التوبة والنابة والكف عن قتال المسلمين‪.‬‬
‫وصحيح أن المدد الملكوتي جاء في معارك السلم الولى إل أن الدنيا يصدق‬
‫عليها أنها )دار المدد( من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إختصاص المدد السماوي بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأتباعه‬
‫الذين صدقوا به وخرجوا للقتال نصرة له‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يمنع المدد الكفار من فرض سطوتهم على الناس‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تثبيت معالم اليمان في الرض إلى يوم القيامة بنزول الملئكة‪.‬‬
‫ولو قيل لقد أهلك ال عز وجل الظالمين والطواغيت في القرون الخالية من غير‬
‫ت اْلِعَماِد‬
‫ك ِبَعاٍد * ِإَرَم َذا ِ‬ ‫ل َرّب َ‬
‫ف َفَع َ‬
‫نزول الملئكة كما في قوله تعالى] َأَلْم َتَرى َكْي َ‬
‫ن ِذي‬ ‫عْو َ‬
‫خَر ِباْلَواِدي* وَِفْر َ‬ ‫صْ‬
‫جاُبوا ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫لِد* َوَثُموَد اّلِذي َ‬
‫ق ِمْثُلَها ِفي اْلِب َ‬‫خَل ْ‬
‫اّلِتي َلْم ُي ْ‬
‫لْوَتاد[ ) ( ‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫اَ‬
‫والجواب في اليات أعله إعجاز قرآني في بيان عظيم قدرة ال والبطش اللهي‬
‫بأجيال من الكفار والطغاة وبيانه بكلمات قليلة من القرآن لتكون موعظة وعبرة‬
‫للمسلمين والناس جميعًا‪ ،‬ومن أسرار هذه اليات أنها جاءت خطابًا للنبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم لتكون لها موضوعية في السنة النبوية ولغة النذار‬
‫والتخويف للكفار‪ ،‬وعاد قوم هود في اليمن قريبًا من عدن‪.‬‬
‫وأختلف في أ رم على وجوه‪:‬‬

‫‪ ()219‬السيرة النبوية ‪.1/626‬‬


‫‪ ()220‬سورة النصر ‪.2‬‬
‫‪ ()221‬سورة الفجر ‪.12-6‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬أنها قبيلة من قوم عاد‪ ،‬وكان فيها الملك وكانوا بمهرة وعاد أبوهم‪ ،‬عن‬
‫مقاتل وقتادة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إسم بلد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬هي دمشق عن إبن سعيد المقري و سعيد بن المسيب) (‪.‬‬
‫‪222‬‬

‫الرابع‪ :‬أنها مدينة السكندرية عن محمد بن كعب القرظي‪.‬‬


‫الخامس‪ :‬مدينة بناها شداد بن عاد الذي دانت له ملوك الرض‪ ،‬فجمع منهم‬
‫الجواهر والذهب لبناء مدينة لنفسه كالجنة التي وصفها ال عز وجل في الكتب‬
‫السماوية المنزلة ‪ ,‬طغيانًا وعتوًا منه على ال‪.‬‬
‫فلما تم بناؤها وسار لها هو وجنوده ولم يبق على مسيرة يوم وليلة منها‪ ،‬أهلكه‬
‫ومن معه ال عز وجل بصيحة من السماء وكانت ثمود تنحت الجبال والصخور‬
‫والرخام لبناء بيوت لهم وقال الزمخشري‪ :‬وبنوا ألفًا وسبعمائة مدينة كلها من‬
‫الحجارة( )‪.(223‬‬
‫ونسبته إلى القيل نوع تضعيف له‪ ،‬ولو كان مثل هذا العدد من المدن في منطقة‬
‫محصورة في اليمن لتم الكشف عن عدد كبير منها من قبل فرق الكشف والثار في‬
‫هذا الزمان‪.‬‬
‫وفي الوتاد وجوه‪:‬‬
‫الول‪:‬قواده الذين يشيدون حكمه‪ ،‬عن إبن عباس‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬كان فرعون يعذب الرجل بأن يشده بأوتاد أربعة على الرض‪ ،‬ويتركه حتى‬
‫يموت‪ ،‬عن إبن مسعود ومجاهد‪ ،‬ومنه تعذيبه لزوجته آسية‪ ،‬وماشطة بنته‪.‬‬
‫صاِد[ )‪ ،(224‬إنذارًا لكفار قريش ومن خلفهم من‬
‫ك َلِباْلِمْر َ‬
‫ن َرّب َ‬
‫وجاء قوله تعالى]ِإ ّ‬
‫الكفار وأهل الريب والشرك‪ ،‬وتخويفًا لهم من النتقام اللهي ونزول العذاب بهم كما‬
‫نزل بالظالمين من قبل‪ ،‬وتمتاز نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم بولدة اليمان‬
‫في وسط مجتمعات الضللة‪ ،‬ونموه وإتساعه يمنة ويسرة لينفذ إلى داخل المنتديات‬
‫والبيوت‪ ،‬فتجد العظيم من كفار قريش يحرض الناس على قتال النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم‪ ،‬ويظهر الستهزاء بنبوته ويوبخ السر والقبائل التي إختار‬
‫بعض أبنائها السلم‪ ,‬ويحثهم على تأديبهم وإرجاعهم‪.‬‬
‫ولكن هذا الكافر عندما يعود إلى أهله وسكنه يجد إبنه وإبنته قد دخل السلم‪،‬‬
‫ويجد زوجته عضدًا لهما‪ ،‬وتقوم بذكر أسماء عديدة ممن حوله إعتنقوا السلم‬
‫ويواظبون على تلوة اليات‪ ،‬ويتبادلون أنباء معجزات نبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم وأخبار الوحي فيما بينهم من غير إعلن للمل‪ ،‬فيصاب بالخيبة ويسقط‬
‫ما في يده‪ ،‬وقد يكف عن التحريف على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وقد‬
‫يزداد عتوًا‪.‬‬
‫‪()222‬مجمع البيان ‪.10/486‬‬
‫‪()223‬الكشاف ‪.4/250‬‬
‫‪()224‬سورة الفجر ‪.12‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫فجاءت هذه الية مددًا لولئك المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات‪ ،‬وزيادة في‬
‫إيمانهم لما فيها من العقوبة العاجلة لمن يزداد عتوًا من الكفار‪ ،‬ول يكف عن‬
‫تعذيبهم وإظهار غيظه على السلم بتجهيز الجيوش‪.‬‬
‫ويحتمل المدد في زمانه وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬جاء المدد للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه على نحو الحصر‬
‫والتعيين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إبتدأ المدد من واقعة بدر‪ ،‬بنزول الملئكة لنصرة المؤمنين‪ ،‬وإذا أنعم ال‬
‫عز وجل على أهل الرض بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها فتبقى آية ونعمة المدد‬
‫متجددة في موضوعها وحكمها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مصاحبة المدد للمؤمنين في الحياة الدنيا منذ أيام أبينا آدم عليه السلم وإلى‬
‫يوم القيامة‪.‬‬
‫والصحيح هو الخير فإن المدد اللهي ملزم للمؤمنين في الحياة الدنيا ليكون‬
‫عضدًا لهم‪ ،‬وإمامًا يقودهم في سبل الصلح وطريقًا إلى الجنة‪ ،‬ودعوة للناس جميعًا‬
‫للنتفاع منه كآية من بديع صنع ال‪ ،‬وشاهدًا على لزوم اليمان‪ ,‬قال تعالى]َفَم ْ‬
‫ن‬
‫ل َرَهًقا[ )‪.(225‬‬ ‫سا َو َ‬
‫خً‬
‫ف َب ْ‬
‫خا ُ‬
‫ل َي َ‬
‫ن ِبَرّبِه َف َ‬
‫ُيْؤِم ْ‬
‫فأراد ال عز وجل للناس المن والسلمة في الدنيا والخرة بالمدد والتعاظ مما‬
‫فيه من الدروس والعبر‪ ،‬نعم جاء المدد عند بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم متعددًا وجليًا وبجنود من السماء وهو من الشواهد على عظيم منزلته عند ال‪،‬‬
‫وبقاء الحكام التي جاء بها إلى يوم القيامة إذ ليس من نبوة من بعده‪ ،‬وقد نسخت‬
‫شريعته الشرائع السابقة‪ ،‬وليس من ناسخ لشريعته إلى يوم الدين‪.‬‬
‫ومن اليات في المدد الذي جاء للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم أن منافعه‬
‫باقية ومتجددة إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وهل قطع طرف من الكفار مدد للمسلمين الجواب نعم‪ ،‬فهو في مفهومه عون‬
‫للمؤمنين سواء بمفهوم الموافقة وهو المعنى غير المذكور في المنطوق ولكنه موافق‬
‫له سلبًا وإيجابًا‪ ،‬أو مفهوم المخالفة وهو المعنى المخالف مما لم يذكر في المنطوق ‪,‬‬
‫وكأنه من الدللة اللتزامية‪ ،‬فهلك نفر من قادة الكفار ضعف لهم‪ ،‬ومقدمة لغلبة‬
‫ونصرة المؤمنين عليهم‪ ،‬فإن قلت قد قتل سبعون من صناديد قريش في معركة بدر‪،‬‬
‫ولكن قريش عادت بعد أقل من سنة بثلثة آلف رجل‪ ,‬وهم ثلثة أضعاف عددهم‬
‫في معركة بدر‪ ،‬مما يدل على أنه لم يصبهم ضعف ووهن‪ ،‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الضعف والوهن أعم في ظهوره من عدد أفراد الجيش في المعركة اللحقة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬لم يزد عدد المسلمين كثيرًا بين معركة بدر وأحد‪ ،‬ومع هذا إجتهد الكفار في‬
‫الطواف على القبائل‪ ,‬وتحريض الناس ضد النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ودعوتهم لقتاله وأصحابه‪.‬‬

‫‪()225‬سورة الجن ‪.13‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬تجلت معاني الضعف والفزع على الكفار حالما بدأت معركة أحد إذ ولوا‬
‫الدبار مع أول هجوم قام به المؤمنون‪ ،‬وأوشكوا على الفرار لول ثغرة الجبل‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬في الية إخبار عن إتصال وإستمرار قطع طرف من الكفار سواء في ساحة‬
‫المعركة أو في حال السلم‪ ،‬فحتى إذا لم يتعظ الكفار مما يصيبهم من الخسارة في‬
‫إحدى المعارك فإن الخسائر تتوالى عليهم بقتل صناديدهم‪ ،‬وهلك أموالهم‪ ،‬ليدب‬
‫ع َ‬
‫ب‬ ‫ف ِفي ُقُلوِبِهْم الّر ْ‬‫معه قهرًا وإنطباقًا الخوف والفزع في نفوسهم‪ ,‬قال تعالى ]َوَقَذ َ‬
‫ن َفِريًقا[ )‪.(226‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫ن وََتْأ ِ‬
‫ب َفِريًقا َتْقُتُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫ف ِفي ُقُلوِبِهْم الّر ْ‬
‫َوَقَذ َ‬
‫قانون"البشارة والنذار مدد’’‬
‫عندما يسمع النسان بالمدد يتبادر ذهنه إلى المدد الظاهر المدرك بالحواس‪ ،‬والذي‬
‫يكون له أثر ظاهر في الواقع الخارجي‪ ،‬سواء جلب النصر معه أو خفف من وطأة‬
‫الهزيمة نتيجة المعركة‪ ،‬فقد يقع المدد القادم في السر‪ ،‬وقد يفنى قبل وصول‬
‫المعركة‪ ،‬ولكن المدد اللهي عامة متعدد المصاديق والصيغ‪ ,‬وليس من عدو يقدر‬
‫على صده أو منع تأثيره وسلطانه‪ ،‬فيعجز الظالمون وأعوانهم عن منع المدد الذي‬
‫يأتي للمؤمنين‪ ،‬ويقفون عاجزين أمامه‪ ،‬وفيه دعوة للناس للهداية واليمان‪ ،‬ومن‬
‫المدد اللهي للمسلمين آيات البشارة والنذار من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬البشارة منطوقًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬البشارة مفهومهًا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬النذار منطوقًا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬النذار مفهومًا‪.‬‬
‫ومن اليات في المقام تداخل مفاهيم البشارة مع منطوق النذار‪ ،‬ومفاهيم النذار‬
‫مع منطوق البشارة لتنمية ملكة اليمان والصبر عند المسلمين‪ ،‬وجعلهم قادرين على‬
‫خوض المعارك ضد الكفر والكفار‪.‬‬
‫ويحتمل المدد في آية البشارة وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إختصاص مضامين البشارة الخاصة بذات الموضوع والخطاب الموجه‬
‫لِئَكِة[ ) (‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫ن اْلَم َ‬‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬ ‫لَثِة آ َ‬
‫ن ُيِمّدُكْم َرّبُكْم ِبَث َ‬ ‫ن َيْكِفَيُكْم َأ ْ‬
‫للمسلمين‪ ،‬كما في قوله]َأَل ْ‬
‫الثاني‪ :‬عموم البشارات القرآنية التي جاءت خاصة بالمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬بشارات القرآن مطلقًا بما فيها التي تحكي البشارة للمؤمنين من المم السابقة‬
‫للسلم‪.‬‬
‫والصحيح هو الثالث‪ ،‬فإن المسلمين ينتفعون من البشارات الواردة في القرآن مطلقًا‪،‬‬
‫ومنها البشارات التي جاءت للمم السابقة‪ ،‬وهذا النتفاع من عمومات قوله‬
‫ن[ )‪.(228‬‬ ‫ك َهَذا اْلُقْرآ َ‬‫حْيَنا ِإَلْي َ‬
‫صصِ ِبَما َأْو َ‬ ‫ن اْلَق َ‬ ‫سَ‬ ‫حَ‬‫ك َأ ْ‬ ‫عَلْي َ‬
‫ص َ‬
‫ن َنُق ّ‬ ‫حُ‬
‫تعالى]َن ْ‬

‫‪()226‬سورة الحزاب ‪.26‬‬


‫‪()227‬سورة آل عمران ‪.124‬‬
‫‪()228‬سورة يوسف ‪.3‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وفيه شاهد على إعجاز القرآن بتعدد وجوه النتفاع من القصة القرآنية‪ ،‬وهي‬
‫كالكنز الذي تستخرج وتقتبس منه الدروس والمواعظ التي تجلب النفع الخاص‬
‫والعام والشامل لدار الدنيا والخرة‪ ،‬إذ أن مدرسة البشارة في القرآن مدد وعون‬
‫للمسلمين في جهادهم في إصلح النفوس والمجتمعات‪ ،‬ومحاربة أقطاب الكفر‬
‫والضللة‪ ،‬وكذا آيات النذار فإنها مدد آخر في عرض وطول المدد الذي تأتي به‬
‫البشارات ليعمل معًا في بعث معاني القوة والمنعة عند المسلمين‪.‬‬
‫ومن إعجاز القرآن مجيء آية إنذار بعد آية بشارة وفي ذات الموضوع كما في هذه‬
‫الية والية السابقة التي جاءت في بشارة النصر والظفر للمؤمنين ‪ ,‬قال تعالى]َوَما‬
‫ن ُقُلوُبُكْم ِبِه[ )‪. (229‬‬
‫طَمِئ ّ‬
‫شَرى َلُكْم َوِلَت ْ‬
‫ل ُب ْ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫جَعَلُه ا ُّ‬
‫َ‬
‫فآية البشارة هذه مدد للمسلمين‪ ،‬وحرب على الكافرين‪ ،‬وكذا الية محل البحث وما‬
‫فيها من النذار لتكون الدنيا دار بشارة متصلة للمسلمين‪ ،‬ودار إنذار دائم للكافرين‪،‬‬
‫ومن اليات أن النذار في هذه الية ل يقف عند التخويف والتحذير‪ ،‬ولم يأت على‬
‫نحو التعليق بل جاء بصيغة المعلول الذي ل يتخلف عن علته )ليقطع(‪ ،‬وهذا القطع‬
‫يفيد القطع أي يفيد الجزم في وقوع الهلك لشطر من رؤساء الشرك والضللة‪.‬‬
‫ترى كيف تكون البشارة للمؤمنين في مفهوم النذار للكافرين مددًا للمسلمين‪ ،‬فيه‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬حث المؤمنين على الجتهاد في طاعة ال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التخفيف عن المؤمنين في ميادين القتال‪ ،‬بهلك صناديد وأبطال الكفار‪ ،‬قال‬
‫عنُكْم[)‪.(230‬‬
‫ل َ‬‫ف ا ُّ‬‫خّف َ‬ ‫ن َ‬‫تعالى في خطاب للمؤمنين]ال َ‬
‫الثالث‪ :‬إمتلء قلوب المسلمين بالسكينة والطمأنينة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إتعاظ الناس مما يصيب الكفار‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬تحقيق المصداق الخارجي لمضامين النذار في هذه الية دعوة للناس‬
‫لليمان‪ ،‬وزجر لهم عن توجيه اللوم للذين صّدقوا بنبوة محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم‪ ،‬وإتبعوه وخرجوا معه للجهاد والنصرة فقد يأتي المدد للمؤمنين بما يحصل‬
‫عند الكفار والناس جميعًا من إنكشاف للباطل‪ ،‬وفضح للكفر وبيان قبح الضللة‪،‬‬
‫وإبطال لسباب الشك والريب التي يبثها المرجفون والذين في قلوبهم مرض ‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لتدعو الناس للربط بين التنزيل وما يلحق رؤساء الكفر من‬
‫الضرر الذي يأتي بالسباب الظاهرية المتعارفة في البتلء في الدنيا كالمرض‬
‫والحوادث الطارئة وهلكهم في ميادين القتال مع رجحان كفتهم فيه عددًا وعدة‪،‬‬
‫وترى الفارس والشجاع الذي كان يعول عليه الكفار المال في القتال يخر صريعًا‬
‫حال المبارزة ‪ ,‬كما في عمرو بن ود العامري مع المام علي يوم الخندق مع صغر‬
‫سن المام علي عليه السلم‪ ،‬لذا ورد عن عبد ال بن مسعود في قوله تعالى في‬

‫‪()229‬الية ‪.126‬‬
‫‪()230‬سورة النفال ‪.66‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫معركة الحزاب )وكفى ال المؤمنين القتال بعلي() (‪ ،‬وقال الزمخشري]َوَكَفى الُّ‬
‫‪231‬‬

‫ل[ )‪ (232‬بالريح والملئكة‪.‬‬ ‫ن اْلِقَتا َ‬


‫اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ول تعارض بين المرين‪ ،‬وفيه شاهد على كثرة أسباب النصر والغلبة للمؤمنين‬
‫وتعدد مصاديق وطرق المدد الذي يأتيهم من عند ال عز وجل‪ ،‬ولتكون كل آية‬
‫قرآنية فيها بشارة أو نصر أو إنذار مددًا مصاحبًا للمسلمين في حياتهم‪ ،‬ونورًا‬
‫يقتبسون منه الضياء لمسالك الخرة ‪ ,‬ونيل الرفعة والمنزلة والمقام العالي فيها‪.‬‬
‫س[)‪ ،(233‬من وجوه ‪:‬‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬ ‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫وهو من الشواهد على أن المسلمين] َ‬
‫الول‪ :‬تعدد صيغ النصر اللهي بالكيف والكم من مصاديق قوله تعالى]َوَما َيْعَلُم‬
‫ل ُهَو[ )‪.(234‬‬‫ك ِإ ّ‬ ‫جُنوَد َرّب َ‬‫ُ‬
‫الثاني‪ :‬تأتي البشارة للمسلمين فينتفعون منها‪ ،‬وتكون دعوة للناس للهداية واليمان‪،‬‬
‫وزجرًا للكفار عن التعدي على السلم والمسلمين ‪ ,‬ووعدًا بالنصر والغلبة على‬
‫الظالمين الذين يعتدون على المسلمين ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬توكيد إشراقات جهاد أهل البيت والصحابة في سبيل ال‪.‬‬
‫وفي فن المعقول يكون فردان تجمعهما ماهية أو موضوع واحد على ستة أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬المثلن‪ :‬وهما الموجودان اللذان يلتقيان في جهة الوصاف النفسية‪ ،‬ويسد‬
‫أحدهما مسد صاحبه‪ ،‬ويقوم مقامه بلحاظ التساوي في الذات‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المضافان‪ ،‬وهما أمران وجوديان بينهما ملزمة موضوعية ول ينفك أحدهما‬
‫عن الخر‪ ،‬ويسميان أيضًا المتضايفان‪ ،‬والمتقابلن‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المتناقضان اللذان ل يجتمعان ول يرتفعان‪ ،‬وقد يكون أحدهما وجوديًا‪،‬‬
‫والخر عدميًا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الضدان‪ ،‬وهما اللذان ينافي أحدهما الخر‪ ،‬ويستحيل إجتماعهما في زمان‬
‫واحد‪ ،‬وفي محل واحد للتباين والتنافي بينهما في الذات‪ ،‬كالجواهر والفناء‪ ،‬والسواد‬
‫والبياض ‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الخلفان ويكون بينهما خلف وتعارض‪.‬‬
‫السادس‪ :‬الملكة وعدمها‪ ،‬الملكة وهي وجود الشيء في نفسه‪ ،‬أما العدم فهو إنتفاء‬
‫الملكة عن الشيء الذي من شأنه أن تكون فيه‪ ،‬كالبصر والعمى‪.‬‬
‫والبشارة والنذار من المثلين من جهة إلتقائهما بنزولهما من عند ال عز وجل‬
‫وقرآنيتهما وإن تباينا في الموضوع والجهة‪ ،‬وهما من المتضايفين إذ جعل ال عز‬
‫وجل الدنيا دار بشارة وإنذار‪ ،‬وجعل الخرة دار الثواب والجزاء‪ ،‬فمن تأتيه البشارة‬
‫على إيمانه وعمله الصالح يدخل الجنة‪ ،‬ومن يأتيه النذار ويقيم على السيئات ‪ ,‬ول‬
‫يتعظ من النذارات يبوء بإثمه وينال جزائه في جهنم‪ ،‬وهما من الضدين بلحاظ‬

‫‪()231‬الدر المنثور ‪.8/147‬‬


‫‪()232‬سورة الحزاب ‪.25‬‬
‫‪()233‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()234‬سورة المدثر ‪.31‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫حّ‬
‫ق‬ ‫ك ِباْل َ‬
‫سْلَنا َ‬
‫الموضوع والحكم ‪ ,‬ولكنهما من المتضايفان في الثرقال تعالى]ِإّنا َأْر َ‬
‫شيًرا َوَنِذيًرا[)‪.(235‬‬
‫َب ِ‬
‫وكل من البشارة والنذار مدد وأمر وجودي وكذا العمل بهما‪ ،‬فإن التقيد والعمل‬
‫بأحكام إنذارات القرآن شاهد على الصلح‪ ،‬وباب للجر والثواب‪ ،‬والبشارة‬
‫والنذار كمدد مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا‪ ،‬إذ أن كل واحد منهما وهما‬
‫معًا مدد وعون للمسلمين‪.‬‬
‫فإن قلت جاءت النذارات للكفار فكيف تكون مددًا للمسلمين‪ ،‬الجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنذارات القرآن جذب للسلم‪ ،‬ودعوة للناس للخشية من ال والخوف من‬
‫عقابه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تجعل النذارات القرآنية الناس يتدبرون في معجزات النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تلحق إنذارات القرآن الناس في منتدياتهم وبيوتهم‪ ،‬وتقول لهم إنكم لم‬
‫تخلقوا للهو‪ ،‬فل بد من عبادة ال‪.‬‬
‫خُذوا آَياِتي‬ ‫الرابع‪ :‬تطرد النذارات القرآنية الغفلة عن الناس‪ ,‬كما في قوله تعالى]َواّت َ‬
‫َوَما ُأْنِذُروا ُهُزًوا[)‪ ,(236‬فالية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إل أنها إنذار‬
‫إضافي وتبكيت للكفار ‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬تحث النذارات القرآنية الكفار لهجران الكفر والضللة لن أضرار الكفر‬
‫جسيمة ومتصلة في الدنيا والخرة‪ ،‬وليس من نفع وفائدة في الكفر‪.‬‬
‫السادس‪ :‬النذار ترغيب بالبشارة والسعي في مسالك اليمان‪.‬‬
‫قانون" المدد حاجة’’‬
‫لقد جعل ال عز وجل النسان محتاجًا‪ ،‬وهذه الحاجة ل تنحصر بالنسان‪ ،‬بل هي‬
‫ملزمة لفراد وعالم المكان‪ ،‬فكل ممكن محتاج‪ ،‬ويتصف النسان بأنه يدرك‬
‫ضعفه ونقصه وحاجته إلى غيره‪ ،‬ومن الناس ممن تغلب عليه النفس السبعية ول‬
‫يلتفت إلى حقيقة أنه محتاج‪ ،‬فيبتليه ال عز وجل بما يجعله يقر بهذه الحاجة ويلجأ‬
‫إلى غيره‪.‬‬
‫وتحتمل هذه الحاجة وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬الحاجة على نحو القضية الشخصية‪ ،‬فالفرد يحتاج غيره‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الحاجة النوعية‪ ،‬ولجوء الجماعة إلى غيرها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الطلق في الحاجة‪ ،‬بأن يحتاج الفرد والجماعة غيرهم‪.‬‬
‫والصحيح هو الثالث‪ ،‬فليس من حصر لحاجة النسان‪ ،‬ومن بديع خلق ال عز وجل‬
‫للنسان أن جعله محتاجًا إلى رحمته سبحانه‪ ،‬فل يستطيع الفرد والجماعة والفرقة‬

‫‪()235‬سورة البقرة ‪.119‬‬


‫‪()236‬سورة الكهف ‪.56‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫والمة أن يستغنوا عن رحمة ال عز وجل‪ ،‬وليس من كاف للناس إل ال عز‬
‫عْبَدُه[)‪.(237‬‬
‫ف َ‬ ‫ل ِبَكا ٍ‬ ‫س ا ُّ‬
‫وجل]َأَلْي َ‬
‫ومن مصاديق الحاجة المدد في ميادين القتال وغيرها‪ ،‬فكل فريق من المتحاربين‬
‫يتطلع إلى المدد من غيره في الغالب‪ ،‬وإتصفت معارك المسلمين الولى بإنتفاء‬
‫المدد من الناس للفريقين‪.‬‬
‫أما المسلمون فليس وراءهم من يمدهم بالرجال ويرفدهم بالسلح‪ ،‬وليس من فئة لهم‬
‫تبعث لهم بالرجال‪ ،‬والمؤون‪ ،‬وتتهئ لستقبالهم إذا إلتجأوا إليها‪.‬‬
‫وأما الكفار فقد قطعوا مئات الميال‪ ،‬وحال طول المسافة‪ ،‬وبعد المحل عن الهل‬
‫والمشركين في مكة ومن حولها عن طلب النجدة‪ ،‬لقد أستدرج الكفار إلى المعركة‬
‫وغلبت عليهم النفس الغضبية ‪,‬ودفعتهم شرور الرواح الظلمانية الخبيثة إلى التعدي‬
‫على المسلمين‪.‬‬
‫وخرج المؤمنون للقتال بعد أن كسروا قيود التعلقات الجسمانية‪ ،‬وسلسل‬
‫الغريزية‪ ،‬وجعلوا من دخول ميدان المعركة يوم بدر وأحد طريقًا إلى عالم النور‪،‬‬
‫وواسطة تقربهم من دخول الجنة سواء تم النصر والغلبة أو حصلت الهزيمة أو‬
‫الشهادة في سبيل ال‪ ،‬وكان هذا التباين واضحًا‪ ،‬كما يظهر تباين مضاد له في الجهة‬
‫والموضوع‪ ،‬ففي الوقت الذي يتصف المسلمون باليمان والتقوى والصبر في جنب‬
‫ال‪ ،‬ويعشقون الشهادة‪ ،‬ويحرصون على التفاني في سبيل ال‪ ،‬إستهزء الكفار‬
‫بالمسلمين من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إستصحاب رؤساء قريش إستضعافهم للمسلمين كأفراد عندما كانوا بين‬
‫ل من النصار قال يوم بدر إن قتلنا العاجيز صلعا ‪,‬‬ ‫ظهرانيهم )وروي أن رج ً‬
‫فقال النبي أولئك المل من قريش لو رأيتهم في أنديتهم لهبتهم ولو أمروك لطعتهم ‪,‬‬
‫ولحتقرت فعالك عند فعالهم()‪.(238‬‬
‫الثاني‪ :‬حرصت قريش على الظهور بخيلئها وزهوها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إصرار قريش على الستهزاء بالمسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إظهار قريش العراض عن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إعتزاز قريش بكثرة جيوشها وسلحها ومؤونتها‪ ،‬وكأنها ل تحتاج إلى‬
‫المدد والعون من الغير خصوصًا مع قلة عدد وعدة المؤمنين‪ ،‬وعندما بدأت معركة‬
‫بدر وكذا أحد أدرك كل فريق حاجته إلى المدد‪ ،‬أما الكفار فليس من مدد يأتيهم ‪.‬‬
‫وأما المسلمون فقد نزل الملئكة لنصرتهم‪ ،‬وهو أعظم وأقدس وأشرف مدد في‬
‫تأريخ النسانية‪ ،‬فلم تفز بهذا المدد أمة أو ملة ما‪ ,‬وهو من مصاديق قوله‬
‫س[ )‪ ،(239‬وقد سأل بنو إسرائيل نبيًا لهم أن يبعث‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬
‫خِر َ‬‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫‪ ()237‬سورة الزمر ‪.36‬‬
‫‪()238‬مجمع البيان ‪.2/349‬‬
‫‪()239‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ي َلُهْم اْبَع ْ‬
‫ث‬ ‫ال لهم ملكًا يقاتلون تحت رايته القوم الظالمين ‪ ,‬قال تعالى]ِإْذ َقاُلوا ِلَنِب ّ‬
‫ل[ )‪ ،(240‬وكان الملك يقود الجيوش في القتال‪ ،‬أما النبي‬ ‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬‫ل ِفي َ‬‫َلَنا َمِلًكا ُنَقاِت ْ‬
‫فيبلغهم الوحي ويخبرهم عن ال بأسباب وبشارات النصر‪.‬‬
‫ضل ال عز وجل المسلمين بأن جعل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم‬ ‫وقد ف ّ‬
‫هو المام والمير في الحرب‪ ،‬وبعث ال سبحانه ملئكة لنصرته والمؤمنين‪ ،‬وجاء‬
‫تعيين طالوت ملكًا علة وسببًا للنصر والغلبة لنه بأمر وإختيار من ال عز وجل‪،‬‬
‫وإل فإن تعيين الملك ليس دائمًا سببًا للنصر كما أنه ل يخفف كثيرًا القتال عن‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫أما نزول الملئكة لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين فإنه‬
‫يؤدي إلى تحقيق النصر على الكفار على نحو القطع والتمام‪ ،‬لبيان قانون في‬
‫الرادة التكوينية وهو أن ال عز وجل يقضي حاجة المسلمين في ميادين القتال ول‬
‫يتركهم يحتاجون غيره‪ ،‬أو يفتقرون إلى مدد من الناس‪ ،‬فقد ظن يهود المدينة أن‬
‫ل اْب ُ‬
‫ن‬ ‫النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين سيحتاجون نصرتهم ‪َ ,‬قا َ‬
‫حٍد ‪،‬‬‫صاَر َيْوَم ُأ ُ‬‫لْن َ‬ ‫ناَ‬ ‫ي‪َ :‬أ ّ‬‫ن الّزْهِر ّ‬ ‫عْ‬ ‫حاقَ َ‬ ‫سَ‬‫نإ ْ‬ ‫حّمد ْب َ‬‫شاٍم ‪َ :‬وَذَكَر غير ِزَياٌد عن ُم َ‬ ‫ِه َ‬
‫ن َيُهوَد ؟‬ ‫حَلَفاِئَنا ِم ْ‬
‫ن ِب ُ‬ ‫سَتِعي ُ‬‫ل َأل َن ْ‬
‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫سّلم َيا َر ُ‬‫عَلْيِه َو َ‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬‫سو ِ‬ ‫َقاُلوا ِلَر ُ‬
‫جَة َلَنا ِفيِهْم) (‪.‬‬
‫‪241‬‬
‫حا َ‬‫لل َ‬ ‫َفَقا َ‬
‫نعم خرج مخيريق وهو واحد منهم للقتال مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫بعد أن أقام الحجة على اليهود ‪ ,‬إذ قال لهم )يا معشر يهود‪ ،‬وال لقد علمتم أن نصر‬
‫محمد عليكم لحق‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬إن اليوم يوم السبت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل سبت لكم‪.‬‬
‫فأخذ سيفه وعدته وقال‪ :‬إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء‪.‬‬
‫ثم غدا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل‪.‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم فيما بلغنا‪:‬مخيريق خير يهود() (وفيه مسائل‪:‬‬
‫‪242‬‬

‫الولى‪ :‬جاءت النصرة على نحو القضية الشخصية‪.‬‬


‫الثانية‪ :‬في خروج مخيريق حجة في لزوم نصرة النبي محمد ‪ ,‬وإشارة التوراة لها ‪,‬‬
‫صُرّنُه[ )‪.(243‬‬ ‫ن ِبِه َوَلَتْن ُ‬
‫ق ِلَما َمَعُكْم َلُتْؤِمُن ّ‬‫صّد ٌ‬
‫ل ُم َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫جاءَُكْم َر ُ‬‫قال تعالى]ُثّم َ‬
‫الثالثة‪ :‬لم يحتج اليهود بعدم وجود السبب لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم بل إعتذروا بأن اليوم هو سبت ول يعمل فيه اليهود‪ ،‬ويدل بالدللة التضمنية‬
‫على إقرارهم بلزوم نصرته ولكن بشرط أل يكون يوم سبت‪.‬‬

‫‪()240‬سورة البقرة ‪.246‬‬


‫‪()241‬السيرة النبوية ‪.3/67‬‬
‫‪()242‬السيرة النبوية ‪.3/87‬‬
‫‪()243‬سورة آل عمران ‪.81‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابعة‪ :‬يعلم مخيريق أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ل ُيقتل في معركة‬
‫ل فأوصى مخيريق‬ ‫أحد‪ ،‬وأن ال عز وجل بعثه ليتم رسالته‪ ،‬وينزل عليه القرآن كام ً‬
‫بتركته له‪.‬‬
‫لقد تجلى الرجحان في المعركة بالمدد‪ ،‬إذ كان الطرفان متضادين‪ ،‬فلم يصل‬
‫للمشركين مدد‪ ،‬وجاء للمسلمين مدد من السماء لبيان حقيقة وهي أن ال عز وجل‬
‫ينعم على المسلمين بقضاء حاجتهم‪ ،‬وبّين لهم اللغة والوسيلة إلى النصر بوسائط‬
‫سماوية لم تنلها قبلهم أمة من المم‪ ،‬ول تنالها غيرهم أبدًا‪ ،‬وفيه دعوة للناس لدخول‬
‫السلم فهو الدين الذي تقضى به حوائج الدنيا والخرة والذي يأتي فيه المدد من‬
‫عند ال‪ ،‬وفيه الواقية من الكفار برميهم بالهلك والقطع‪.‬‬
‫وحاجة الناس إلى المدد أعم من أن تنحصر بميدان المعركة كما أنها شاملة للحالت‬
‫الشخصية والنوعية‪ ،‬لذا جاءت الية محل البحث بالبشارة للمسلمين بوهن وضعف‬
‫عدوهم ‪ ,‬وجعله عاجزًا عن الضرار بالمسلمين في حال الحرب والسلم‪ ،‬وقاصرًا‬
‫عن مقدمات التعدي على المسلمين‪.‬‬
‫وزحف الكفار على المدينة في السنة الثانية للهجرة لقتال المؤمنين فكانت معركة‬
‫بدر‪ ،‬ثم زحفوا مرة أخرى بعد أحد عشر شهرًا فكانت معركة أحد‪ ،‬وبعدها بسنتين‬
‫أي في شوال سنة خمس للهجرة أقبلت قريش بعشرة آلف من بني كنانة وأهل‬
‫تهامة والحابيش‪ ،‬وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد( )‪ ،(244‬وكان عدد‬
‫المسلمين ثلثة آلف‪ ،‬وحال الخندق بين الفريقين‪ ،‬ومع رجحان كفة قريش عددًا‬
‫وعدة‪ ،‬فلم تمض سنة حتى خرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إلى مكة‬
‫محرمًا للعمرة‪ ،‬ومع أنه إستنفر الناس والعراب من أهل البوادي ممن حول المدينة‬
‫)فلم يخرج معه إل ألف وأربعمائة رجل‪ ،‬وقيل سبعمائة رجل( )‪.(245‬‬
‫قانون"معجزة هلك الكفار’’‬
‫تتصف المعجزة بأمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها أمر خارق للعادة‪ ،‬ولم يألف الناس مثلها‪ ،‬وهي حقيقة طارئة ومباغتة‬
‫لهم ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تقترن المعجزة بالتحدي للناس‪ ،‬في التيان بمثلها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إقرار الناس بعجزهم عن فعل ما يشبه المعجزة‪.‬‬
‫وجاءت معجزة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم آية في التحدي في باب‬
‫ل جاء الوليد بن المغيرة وهو من‬ ‫البلغة والموضوع والحكم وجذب القلوب‪ ،‬فمث ً‬
‫سادات قريش إلى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الذي تل عليه آيات من‬
‫القرآن‪ ،‬فأدرك الوليد ما فيها من معاني العجاز وكنوز البلغة وعلوم الغيب فرق‬
‫قلبه‪ ،‬فبلغ المر أبا جهل )فأتاه فقال‪ :‬يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا‬
‫ل ليعطوه لك‪ ،‬فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قبله‪ ،‬قال ‪ :‬قد علمت قريش أني‬ ‫لك ما ً‬
‫‪()244‬السيرة النبوية ‪.2/220‬‬
‫‪()245‬السيرة النبوية لبن هشام ‪.2/309‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ل يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له‪ ،‬قال‪ :‬وماذا‬ ‫ل‪ ،‬قال‪ :‬فقل فيه قو ً‬ ‫من أكثرها ما ً‬
‫أقول‪ ،‬فوال ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ول برجزه ول بقصيده) ( مني‪ ،‬ول‬
‫‪246‬‬

‫بأشعار الجن‪ ،‬وال ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا‪ ،‬ووال إن لقوله‪ :‬الذي يقول‬
‫لحلوة وإن عليه لطلوة‪ ،‬وإنه لمثمر أعله ويغدق أسفله‪ ،‬وإنه ليعلوا وما يعلى‪،‬‬
‫وإنه ليحطم ما تحته‪ ،‬قال‪ :‬ل يرضى عنك قومك حتى تقول فيه‪ ،‬قال‪ :‬فدعني حتى‬
‫أفكر‪ ،‬ففكر‪ ،‬فلما فكر قال‪ :‬هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت )‪.(247‬‬
‫ومن اليات أن معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى‬
‫وبدأت قبل ولدته‪ ،‬وعند ولدته وكانت مصاحبة لنبوته وأيام حياته‪ ،‬وعندما غادر‬
‫إلى الرفيق العلى بقيت معجزاته تتجدد وتزداد‪ ،‬ومنها مضامين ومصاديق هذه‬
‫الية‪ ،‬وما يرمي ال عز وجل به الكفار من أسباب الهلك والخزي والندحار‪ ،‬وهو‬
‫ل َرَمى[ )‪.(248‬‬ ‫ن ا َّ‬
‫ت َوَلِك ّ‬‫ت ِإْذ َرَمْي َ‬ ‫من عمومات قوله تعالى]َوَما َرَمْي َ‬
‫وجاءت هذه الية للخبار عن معجزة إضافية أخرى للنبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم ‪ ,‬وتتصف هذه المعجزة بأمور عديدة منها ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها تجلت في أحوال أعداء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪,‬‬
‫فالمعروف عن معجزات النبياء أنها تجري على أيديهم‪ ،‬ولكن هذه المعجزة للنبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم جاءت بكبت أعدائه إلى جانب المعجزات التي‬
‫جرت على يديه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قطع طرف الكفار معجزة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بأن ال عز‬
‫وجل يتفضل بالمقدمات التي تساهم في إعلء كلمة التوحيد‪ ،‬وجذب الناس للسلم‪،‬‬
‫ن[ )‪.(249‬‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫ن ُكّلِه َوَلْو َكِرَه اْلُم ْ‬
‫عَلى الّدي ِ‬
‫ظِهَرُه َ‬
‫قال تعالى]ِلُي ْ‬
‫الثالث‪ :‬جاءت أكثر معجزات النبياء على نحو القضية الشخصية والخاصة بأوانها‬
‫مثل ناقة صالح‪ ،‬أو أنها خاصة بحياة النبي مثل عصا موسى عليه السلم‪ ،‬وإبراء‬
‫ي اْلَمْوَتى‬
‫حِ‬‫ص َوُأ ْ‬
‫لْبَر َ‬‫لْكَمَه َوا َ‬‫ئاَ‬ ‫عيسى عليه السلم للزمنى ‪ ,‬وفي التنزيل]َوُأْبِر ُ‬
‫ل[ )‪.(250‬‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ِبِإْذ ِ‬
‫أما آية هلك كبار الكفار الذين يعادون النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمسلمين فهي باقية إلى يوم القيامة ‪ ,‬وهو من أسرار أحكام آيات القرآن وأن‬
‫مضامينها ل تنحصر بزمانها بل هي متجددة وتوليدية إلى يوم القيامة‪ ،‬وفيه زجر‬
‫للكفار عن التعدي على المسلمين‪ ،‬ودعوة للناس للتدبر في معجزات النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬لتبقى المصاديق الخارجية‬

‫‪ () 246‬القصيد جمع قصيدة من الشعر‪.‬‬


‫‪()247‬الدر المنثور ‪/10/134‬تفسير الطبري ‪.24/24‬‬
‫‪()248‬سورة النفال ‪.17‬‬
‫‪()249‬سورة التوبة ‪.33‬‬
‫‪()250‬سورة آل عمران ‪.49‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫للية شاهدًا على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأنه جاء بالمعجزات‬
‫الباهرات التي لم يأت بها أحد من النبياء من قبله‪ ،‬لتضع بعثته حدًا لطغيان الكفر ‪,‬‬
‫وتمنع من شيوع الفساد والستكبار في الرض‪.‬‬
‫وهذه الية فضل من عند ال عز وجل على المسلمين إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو فضل‬
‫مركب ومتعدد‪ ،‬فيأتي هلك الكفار بنزول الملئكة لنصرة النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم والمسلمين ‪ ,‬وتتوالى أسباب وكيفية هلك الكفار ليزداد السلم قوة‬
‫ومنعة‪ ،‬وتكون مصاديق هذه الية معجزة متجددة للنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم ‪ ,‬ودعوة للناس للتعاظ والعتبار‪ ,‬وإجتناب التعدي على حرمات السلم‪.‬‬
‫وقد إنتهت معارك السلم الولى‪ ،‬وساد السلم أمصارًا كثيرة‪ ,‬وبقت هذه الية‬
‫سيفًا سماويًا مشهورًا أمام رؤساء الكفار يقطع رؤوس عدد منهم إن أصروا على‬
‫التعدي على السلم‪ ،‬وقاموا بإيذاء المسلمين‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى ]َل ْ‬
‫ن‬
‫ل َأًذى[ )‪ ،(251‬فهذه الية من المعجزات والسباب القاهرة التي تمنع‬ ‫ضّروُكْم ِإ ّ‬ ‫َي ُ‬
‫الكفار من الضرار بالمسلمين بأن يأتي الهلك والبلء الشديد لشطر من أقطاب‬
‫الكفر لينصرفوا عن الهجوم على المسلمين‪ ,‬وينشغلوا عن الكيد والمكر ومحاولت‬
‫إلحاق الضرر بالمسلمين‪.‬‬
‫وما يتعرض له رؤساء الكفر شاهد على العجاز الغيري لهذه الية ‪ ،‬ودليل على‬
‫أن الية القرآنية حية في موضوعها وحكمها‪ ،‬وبينها وبين مصاديقها في الواقع‬
‫الخارجي نوع مفاعلة وتداخل‪ ،‬والشياء كلها حاضرة عند ال مستجيبة لمشيئته ‪,‬‬
‫فهي تدل وتنبأ عن وقوع هلك كبار للكفار‪ ،‬وهلكهم يدل على صدق نزول الية‪،‬‬
‫وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬طرد اليأس والقنوط من قلوب المسلمين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬البعث والندب لتلوة آيات القرآن‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬الحرص العام على إيجاد المصاديق الخارجية ليات البشارة والنذار‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬إستقراء وجود الملزمة بين آيات القرآن والواقع الخارجي‪.‬‬
‫عَلْي َ‬
‫ك‬ ‫الخامسة‪ :‬الواقع مرآة ليات القرآن‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى ]َوَنّزْلَنا َ‬
‫يٍء[ )‪.(252‬‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ب ِتْبَياًنا ِلُك ّ‬
‫اْلِكَتا َ‬
‫لقد أراد ال عز وجل لمبادئ السلم البقاء إلى يوم القيامة‪ ،‬وليات القرآن الحفظ‬
‫في الصدور والمصاحف وعالم الفعال‪ ،‬فجعل الصلة واجبة خمس مرات في‬
‫اليوم‪ ،‬ول بد فيها من تلوة آيات من القرآن ليتدبر الناس في معانيها ودللتها‬
‫القدسية‪ ،‬ويقتبسوا منها الدروس‪ ،‬ومنها إستدامة وتجدد معجزة النبي محمد بهلك‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫أعدائه وأعداء السلم الذين يسعون جاهدين لنقض بنائه ‪ ,‬قال تعالى]َوَيْأَبى ا ُّ‬
‫ن ُيِتّم ُنوَرُه[ )‪.(253‬‬ ‫َأ ْ‬
‫‪()251‬سورة آل عمران ‪.111‬‬
‫‪()252‬سورة النحل ‪.89‬‬
‫‪()253‬سورة التوبة ‪.32‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وليكون هلكهم صلحًا للباقين من الناس أجمعين‪ ،‬ودعوة للتصديق بنزول القرآن‪،‬‬
‫وفيه شاهد بأن معجزة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم عقلية بتجدد مصاديقها‬
‫الخارجية بما يشفي صدور المؤمنين‪ ،‬ويقيم الحجة على الكافرين‪ ،‬ويبين القبح‬
‫الذاتي للكفر وما يترشح عنه من الظلم للنفس‪.‬‬
‫وتدل الية على أن القرآن حي ويبعث بالحياة‪ ،‬وتصل إشعاعات ضيائه إلى النفوس‬
‫والمنتديات‪ ،‬وإذ يستشفى بالقرآن‪ ،‬ويدفع به البلء‪ ،‬ويجلب الخير‪ ،‬فإن هذه الية‬
‫جاءت لتؤكد نزول العذاب العاجل بشطر من الكفار‪ ،‬ليكونوا عبرة لمن خلفهم‪،‬‬
‫ن َيّذّكَر[) (‬
‫‪254‬‬
‫ن َأَرادَ َأ ْ‬
‫خْلَفًة ِلَم ْ‬
‫ل َوالّنَهاَر ِ‬
‫ل الّلْي َ‬
‫جَع َ‬
‫وللناس جميعًا ‪ ,‬قال تعالى]ُهَو اّلِذي َ‬
‫فمع تعاقب الليل والنهار‪ ،‬تتغير أحوال الناس‪ ،‬وفيه شاهد على عظيم قدرة ال‪،‬‬
‫وسعة لطفه ورحمته بالناس وحصول التبدل والتغيير في الرض نحو الصح‬
‫والحسن‪ ،‬ومنه إبتلء الكفار بالقطع والهلك والكبت والذل والهوان‪.‬‬
‫بحث أصولي‬
‫جاءت الية بلغة الجزم والحصر والتنكير‪ ،‬الجزم بخصوص القطع والبتلء‪ ،‬أما‬
‫الحصر فيتعلق بالطرف والرؤساء‪ ،‬وليس عموم الكفار ‪ ,‬وإن كان القطع يؤثر على‬
‫الكفار مطلقًا‪.‬‬
‫وأما التنكير فيتعلق بالشخاص والفراد لن القطع من الكلي في المعين ‪ ,‬أي‬
‫المردد بين أفراد متشابهة يجمع بينها الكفر والهجوم على المسلمين وديارهم مما‬
‫يبعث الفزع والخوف عند عموم الكفار ‪ ,‬وفيه بيان لحقيقة وهي إستحقاق الكفار‬
‫الذين يعتدون على المسلمين القطع والعقوبة العاجلة‪ ،‬فليس من تعيين أو حصر أو‬
‫تقييد في متعلق القطع‪ ،‬لفادة عدم خروج جماعة أو أشخاص من الكفار من‬
‫موضوع الية ‪ ,‬وما فيها من النذار والوعيد خروجًا حقيقيًا تكوينيًا‪ ،‬بلحاظ تعدد‬
‫معاني ومفاهيم الية‪.‬‬
‫فإذا كان المقصود كبار الكفار‪ ،‬فكل واحد منهم يشمله النذار في الية‪ ،‬وعلى‬
‫معنى القرب والمجاورة للمسلمين فإن الكفار الذين يعتدون على المسلمين تشملهم‬
‫أحكام الية وإن جاءت بلغة التبعيض)طرفًا من الذين كفروا(‪ ،‬وليس من تخصيص‬
‫في المقام‪ ،‬وهو خروج بعض أفراد العام من تحت حكمه بسبب عرضي كصلة‬
‫القربى مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وعندما وقع العباس عم النبي في‬
‫السر يوم بدر لم يفك إل بعد أن فدى نفسه‪.‬‬
‫فجاء الوعيد في الية على نحو الشمول والنطباق على كل فرد من الكفار من‬
‫غير تقييد بخصائص وشرائط في التمادي في الكفر والتعدي‪.‬‬
‫ومن فوائد العموم في الية بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار على نحو العموم‬
‫المجموعي والستغراقي والفرادي‪ ،‬ومتى ما كان الخوف مستوليًا عليهم على نحو‬
‫العموم المجموعي فإنهم يعجزون عن التباني والتفاق على قتال المسلمين‪.‬‬

‫‪()254‬سورة الفرقان ‪.62‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وليس من إستثناء في العذاب النازل في الكفار‪ ،‬والستثناء في الصطلح الصولي‬
‫هو إخراج بعض أفراد الموضوع عن الحكم‪ ،‬لتكون تلك الفراد خارجة من الحكم‬
‫مع أنها من الموضوع‪ ،‬وهو الذي يسمى في علم النحو بالستثناء المتصل‬
‫والمنفصل‪.‬‬
‫وجاءت الية بصيغة الفعل المضارع )ليقطع( لفادة العام الزماني‪ ،‬وإنبساط الية‬
‫على أفراد الزمان الطولية‪ ،‬وحضورها كوعيد منجز وليس معلقًا‪ ،‬فصحيح أن الدنيا‬
‫دار عمل وإمتحان ‪ ,‬والخرة دار حساب‪ ،‬إل أن ال عز وجل جعل الدنيا مناسبة‬
‫للتدبر والتدارك‪ ,‬وهذا الجعل من أبهى وأجلى مصاديق اللطف ‪.‬‬
‫قانون"الوعيد مدد’’‬
‫هناك تباين بين الوعيد والمدد في الموضوع والجهة‪ ،‬إذ أن الوعيد تخويف وإنذار‬
‫بالعذاب‪ ،‬ويتوجه إلى الكفار والمشركين‪ ،‬بينما يأتي المدد للمؤمنين الذين جاهدوا‬
‫ويجاهدون في سبيل ال‪ ،‬لتكون النسبة بين منطوق ومفهوم كل منهما العموم‬
‫والخصوص المطلق‪.‬‬
‫فكل وعيد للكفار هو في مفهومه مدد للمؤمنين‪ ،‬وكل مدد للمسلمين هو في مفهومه‬
‫وعيد للكفار والمشركين‪ ،‬وتلك آية في بديع خلق النسان‪ ،‬وخلفته في الرض‬
‫وهي من عمومات رد ال عز وجل على الملئكة حينما إحتجوا على جعل النسان‬
‫ك الّدَماَء[ )‪.(255‬‬
‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬
‫ن ُيْف ِ‬
‫ل ِفيَها َم ْ‬
‫جَع ُ‬
‫خليفة في الرض]َقاُلوا َأَت ْ‬
‫فمن علم ال عز وجل توالي الوعيد للكفار منطوقًا ومفهومًا‪ ،‬وتعاقب البشارات‬
‫والمدد للمسلمين منطوقًا ومفهومًا‪ ،‬ومن اليات وقوع آثار المدد على الكفار بعرض‬
‫واحد مع الوعيد‪ ،‬فتزداد وطأته عليهم‪ ،‬وقد يأتي قطع طرف من الكفار في ميدان‬
‫المعركة أو عند الستعداد لها‪ ،‬وتهيئة مقدماتها‪ ،‬أو بعد المعركة‪ ،‬أو من غير قتال إذ‬
‫أن العراض عن دعوة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم للسلم‪ ،‬والصرار‬
‫عن القامة على الكفر بعد تجلي المعجزات والبينات التي تدل على صدق نبوته‬
‫ولزوم إتباعه علة لنزول البلء لما في هذا الصرار من معاني الحث لتباعهم على‬
‫العناد والبقاء على الكفر‪.‬‬
‫ولما إنصرف رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم من حنين‪ ،‬نزل الطائف وحاصر‬
‫ثقيف نصف شهر‪ ،‬يقاتلهم من وراء الحصن‪ ،‬وأسلم الناس من حولهم‪ ،‬ولكنهم‬
‫ل من‬ ‫أصروا على قتال رسول ال‪ ،‬ورمي المسلمين بالنبل )وإستشهد أثنا عشر رج ً‬
‫أصحاب رسول ال سبعة من قريش‪ ،‬ورجل من بني ليث‪ ،‬وأربعة من النصار(‬
‫)‪) (256‬وقال الواقدي حدثنى كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة قال‬
‫لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف إستشار رسول ال نوفل بن معاوية‬

‫‪ ()255‬سورة البقرة ‪.30‬‬


‫‪ ()256‬السيرة النبوية ‪.2/303‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الّديلى وقال يا نوفل ما ترى في المقام عليهم قال يا رسول ال ثعلب في حجر إن‬
‫أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك( )‪.(257‬‬
‫ولو بقي رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم محاصرًا لهم لفتح الحصن وكانت‬
‫جرت محاولت من المسلمين لقتحامه وأحدثوا ثغرة فيه‪ ،‬ولكن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم وأصحابه تركوا الطائف وإنصرفوا عنها‪ ،‬وهو من اليات في‬
‫ن اْلَهَوى*‬‫عْ‬
‫نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وعمومات قوله تعالى]َوَما َيْنطِقُ َ‬
‫حى[ )‪.(258‬‬ ‫ي ُيو َ‬
‫حٌ‬
‫ل َو ْ‬
‫ن ُهَو ِإ ّ‬
‫ِإ ْ‬
‫فترك النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الطائف ليرجع إلى المدينة المنورة‪،‬‬
‫وبناء الدولة السلمية‪ ،‬وبيان أحكام الحلل والحرام‪ ،‬وتثبيت سنن الشريعة‪ ،‬وتنمية‬
‫ملكة تعاهد الصلة عند المسلمين والمسلمات‪ ،‬خصوصًا وقد تم فتح مكة ‪ ,‬وفيه‬
‫واقية للمدينة من التعدي ‪ ,‬وطمع أعداء السلم في غزوها عند غياب النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه ‪.‬‬
‫جا[) (‪ ،‬مددًا وعونًا‬
‫‪259‬‬
‫ل َأْفَوا ً‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ِفي ِدي ِ‬
‫خُلو َ‬
‫س َيْد ُ‬
‫ت الّنا َ‬
‫وكان قوله تعالى]َوَرَأْي َ‬
‫للمسلمين وضياء مباركًا في إلتحاق ثقيف وغيرها بالناس في دخول السلم فبادر‬
‫عروة بن مسعود وهو من الطائف فخرج خلف رسول ال وأدركه قبل أن يصل إلى‬
‫المدينة وأعلن إسلمه‪ ،‬وسأل النبي أن يرجع إلى قومه يدعوهم للسلم‪ ،‬فقال النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ :‬إنهم قاتلوك‪ ،‬فقال له عروة يا رسول ال أنا أحب‬
‫إليه من أبكارهم)‪. (260‬‬
‫فلما وصل إلى الطائف وأظهر إسلمه ‪ ,‬ودعاهم للسلم رموه من كل جهة بالنبل‬
‫فقتل رضي ال عنه و) قال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إن مثله في قومه‬
‫كمثل صاحب يس في قومه()‪.(261‬‬
‫ولكن جاء قطع طرف من الكفار في الطائف من حيث ل يعلمون‪ ،‬ومن غير‬
‫معركة وقتال إذ أسلمت القبائل العربية من حولهم‪ ،‬وصارت ثقيف تخشى على‬
‫نفسها ورجالها عند الخروج والسفر فإجتمعوا )وقال بعضهم لبعض أل ترون أنه ل‬
‫يأمن لكم سرب ول يخرج منكم أحد إل أقتطع به( )‪.(262‬‬
‫فقد ظهر القطع والهلك في أطراف ثقيف بأن يقتل الذي يخرج منهم ‪ ,‬ول يعود‬
‫إلى الطائف وأقروا بحصول القطع فيهم‪ ،‬فأرسلوا وفدًا إلى النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم من ستة أشخاص‪ ،‬وأسلموا ‪ ,‬وسألوا ثلثة شروط وهي‪:‬‬

‫‪ () 257‬تاريخ الطبري ‪. 3/84‬‬


‫‪()258‬سورة النجم ‪.4-3‬‬
‫‪()259‬سورة النصر ‪.2‬‬
‫‪260‬‬
‫‪()261‬السيرة النبوية لبن كثير ‪.4/54‬‬
‫‪()262‬تأريخ الطبري ‪.3/98‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬أن يدع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الطاغية وهي اللت‪ ،‬ل‬
‫يهدمها ثلث سنين‪ ،‬فأبى رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم فما زالوا ينقصون‬
‫من المدة سنة‪ ،‬سنة‪ ،‬وأشهرًا إلى أن سألوا أن تبقى اللت شهرًا واحدًا فأبى رسول‬
‫ال صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وكان قصدهم من السؤال المهال لسفهائهم ونسائهم‬
‫وصبيانهم حتى يتفقهوا في الدين ويعلموا أحكام السلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يعفيهم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من الصلة فلم يعفهم النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم منها وقال ل خير في دين ل صلة فيه‪ ،‬فقالوا‪ :‬أما‬
‫هذه فسنؤتيكها‪ ،‬وإن كانت دناءة‪ ،‬لما فيها من السجود ورفع العجيزة والنحناء‬
‫والخضوع‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أل يكسروا أوثانهم بأيديهم قال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ :‬أما‬
‫كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك)‪ ،(263‬وبعث أبا سفيان والمغيرة بن شعبة‬
‫لهدم اللت ‪ ,‬فقام المغيرة يضربها بالفأس‪ ،‬وقومه بنو معتب خلفه خشية أن يرمى‬
‫بالنبل وخرجت نساء ثقيف حاسرات مكشوفات الرؤوس يبكين عليها ويندبها‪.‬‬
‫ولم تمر الساعات واليام حتى إتجهت تلك النسوة إلى الصلة وعبادة ال‪ ،‬ثم يشيد‬
‫مسجد عظيم في الموضع الذي أقام النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم عسكره‬
‫عند حصار الطائف ليكون منارًا للهدى‪ ،‬وشاهدًا نبويًا يحكي جهاد رسول ال‬
‫وأصحابه في سبيل ال‪.‬‬
‫والمدد الذي يأتيه من عند ال على نحو ظاهر وخفي‪ ،‬ودفعي وتدريجي‪ ،‬وما يأتي‬
‫بالسباب والسعي والقصد ‪ ,‬وما يأتي من غير قصد وسعي بل هو من فضل ال عز‬
‫وجل‪ ،‬فالمدد الملكوتي في بدر وأحد دفعي وسماوي بعد خروج المسلمين للقتال‪.‬‬
‫أما المدد في ثقيف وأهل الطائف فهو تدريجي ومن غير سعي بل بفضل من ال‪،‬‬
‫فبعد أن إمتنعت ثقيف على النبي وقاتلت ممن خلف الحصن‪ ،‬جاء وفدها إلى المدينة‬
‫ليعلنوا إسلمهم‪ ،‬وكتب لهم رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم كتابًا‪ ،‬وجعل عليهم‬
‫عثمان بن أبي العاص أميرًا وكان من أحدثهم سنًا‪ ،‬إذ أظهر الحرص على التفقه في‬
‫السلم‪ ،‬وتعلم القرآن‪.‬‬
‫لقد جاءت هذه الية وعيدًا للكفار وبدأت بقطع طرف من الكفار والقطع أشد من‬
‫الكبت والخزي‪ ،‬كما أنه سبب لحصول الكبت عند الباقين وجاء ذكر ثقيف في المقام‬
‫من باب المثال وليس الحصر‪ ،‬للدللة على أن القطع والحصار والتضييق يترشح‬
‫عن عز السلم‪ ،‬ومنعة المسلمين‪ ،‬فيلحق الكفار الخزي ويصيبهم الضعف والوهن‪،‬‬
‫ليكون سببًا لجذبهم للسلم‪ ،‬والقلع عن ميادين الكفر والضللة‪ ،‬ومن اليات في‬
‫الدين السلمي ‪.‬‬

‫‪()263‬السيرة النبوية ‪.4/56‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ب ما قبله( ) (‪ ،‬والجب‪:‬‬
‫‪264‬‬
‫وعن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‪):‬السلم يج ّ‬
‫القطع‪ ،‬أي أن دخول السلم والنطق بالشهادتين يقطع ويمحو ما قبلهما من الكفر‬
‫والذنوب والسيئات‪ ،‬ليتجلى التباين بين السلم والكفر في باب القطع‪.‬‬
‫إذ تدل هذه الية على أن الصرار على الكفر يسبب القطع والهلك للكفار‪ ،‬أما‬
‫دخول السلم فيسبب قطع الذنوب ‪ ,‬وفيه غبطة وسعادة وصلح‪.‬‬
‫وليس من حصر ليات الوعيد والتخويف للكفار التي جاءت في القرآن‪ ،‬لتكون كل‬
‫آية مددًا للمسلمين‪ ،‬وسلحًا في الحتجاج على الكفار‪ ،‬وتحديًا لهم في الحياة الدنيا‪،‬‬
‫ن َناٍر[ )‪.(265‬‬ ‫ب ِم ْ‬
‫ت َلُهْم ِثَيا ٌ‬‫طَع ْ‬
‫ن َكَفُروا ُق ّ‬
‫وخزيًا لهم يوم القيامة ‪ ,‬قال تعالى]َفاّلِذي َ‬
‫قانون"الدعاء مدد’’‬
‫الدعاء هو السؤال وطلب الحاجة‪ ،‬ويأتي بمعنى الستغاثة ‪ ،‬وقد فاز المسلمون بأمر‬
‫ال لهم بأن يسألوه حاجاتهم‪ ،‬وإقترن هذا المر بالوعد الكريم بالستجابة ‪ ,‬قال‬
‫ب َلُكْم[ )‪ ،(266‬وجاء المر بالدعاء مطلقًا من غير تقييد أو‬ ‫ج ْ‬
‫سَت ِ‬
‫عوِني َأ ْ‬‫تعالى]اْد ُ‬
‫حصر لذا فإنه يشمل أمور الدين والدنيا‪ ،‬وورد عن النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم‪ :‬الدعاء هو العبادة)‪ ، (267‬ومن مصاديق العبادة في الدعاء أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬الدعاء مناجاة مع ال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الدعاء توسل وتضرع إلى ال عز وجل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬في الدعاء إقرار بأن مقاليد المور بيد ال عز وجل‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يظهر العبد بالدعاء حاجته ومسكنته وخضوعه ل‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الدعاء شاهد على التوحيد والثناء على ال عز وجل ورجاء رحمته‪.‬‬
‫السادس‪ :‬في الدعاء عز المؤمنين لنه عنوان الغنى عما في أيدي الناس‪.‬‬
‫لقد جعل ال عز وجل الدنيا دار مدد للمؤمنين فيأتيهم من السماء والرض‪ ،‬وبسعي‬
‫منهم‪ ،‬وإبتداء من فضل ال من غير سعي‪ ،‬وفتح ال عــز وجل باب للدعاء ‪ ,‬ليكون‬
‫على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬مقدمة للمدد فبالسؤال يأتي المدد اللهي‪ ،‬وقد تجلى الدعاء لطلب المدد بسنة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم القولية والفعلية يوم بدر‪ ،‬وأعطى درسًا‬
‫للصحابة في موضوعية الدعاء‪ ،‬وكيف أنه سبيل مبارك لتحقيق النصر‪ ،‬وما زال‬
‫يدعو ال حتى سقط رداؤه عن منكبه ‪ ,‬وإستغاث المؤمنون بال‪ ،‬فألقى ال الرعب‬
‫في قلوب الكفار‪ ،‬والسكينة في نفوس المسلمين والمسلمات‪ ،‬وهو مدد عظيم‬
‫جا َ‬
‫ب‬ ‫سَت َ‬
‫ن َرّبُكْم َفا ْ‬‫سَتِغيُثو َ‬
‫للمسلمين‪ ،‬ثم تفضل ال بالمدد من الملئكة ‪ ,‬قال تعالى]ِإْذ َت ْ‬

‫‪()264‬تأريخ الطبري ‪.3/31‬‬


‫‪()265‬سورة الحج ‪.19‬‬
‫‪()266‬سورة غافر ‪.60‬‬
‫‪()267‬لسان العرب ‪.14/257‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫لِئَكِة[)‪ ، (268‬وفيه شاهد بأن الدعاء مقدمة وجزء علة‬ ‫ن اْلَم َ‬‫ف ِم ْ‬ ‫َلُكْم َأّني ُمِمّدُكْم ِبَأْل ٍ‬
‫لنزول الملئكة لنصرة المسلمين‪.‬‬
‫ولو لم يدع ويستغيث المسلمون ليلة ويوم بدر فهل تنزل الملئكة‪ ،‬الجواب من‬
‫جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬خروج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه بأمر من ال عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫طُ‬
‫ق‬ ‫الثانية‪ :‬جاء دعاء النبي وسؤاله المدد والنصرة من عمومات قوله تعالى]َوَما َيْن ِ‬
‫حى[ )‪ ،(269‬والدعاء سلح النبياء ‪ ,‬وبلغة مباركة‬ ‫ي ُيو َ‬‫حٌ‬ ‫ل َو ْ‬ ‫ن ُهَو ِإ ّ‬ ‫ن اْلَهَوى* ِإ ْ‬ ‫عْ‬‫َ‬
‫لتحقيق الغايات الحميدة ‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ورد في الحديث ما يدل على أن ال عز وجل وعد النبي محمدًا صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم النصر يوم بدر فقد ذكر أن النبي لما نظر إلى كثرة عدد المشركين‬
‫وقلة عدد المسلمين إستقبل القبلة وقال‪ :‬اللهم أنجز لي ما وعدتني‪ ،‬اللهم إن تهلك‬
‫هذه العصابة ل تعبد في الرض( )‪.(270‬‬
‫الرابعة ‪ :‬ملزمة الدعاء لليمان ‪ ,‬فلبد أن يفزع ويلجأ المسلمون إلى ال‪ ,‬وتتضمن‬
‫واجباتهم التي يواظبون عليها الدعاء ‪ ,‬ومن المعاني اللغوية للصلة الدعاء ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الدعاء ذاته مدد‪ ،‬بأن ينعم ال عز وجل على المؤمنين بتوجههم للدعاء‬
‫والسؤال‪ ،‬وإلتجائهم إلى ال عز وجل بتضرع وخشية وأمل ‪ ،‬ويدرك النسان في‬
‫حال الشدة والضرر الحاجة إلى رحمة ال‪ ،‬ونزول فضله‪ ،‬لذا جاءت البشارة العامة‬
‫للمسلمين في إستجابة دعائهم‪ ،‬وبيان موضوعية الدعاء في أمور الدين والدنيا‪ ،‬قال‬
‫ن ِلَزاًما[ )‪.(271‬‬ ‫ف َيُكو ُ‬
‫سْو َ‬
‫عاُؤُكْم َفَقْد َكّذْبُتْم َف َ‬
‫ل ُد َ‬
‫ل َما َيْعَبُأ ِبُكْم َرّبي َلْو َ‬ ‫تعالى]ُق ْ‬
‫والدعاء سفر روحي‪ ،‬وسياحة في عالم الملكوت‪ ،‬وهل من تعارض بين ما يستحدث‬
‫بسبب الدعاء وبين القاعدة الكونية أن ال عز وجل جعل الشياء بأسبابها‪ ،‬الجواب‬
‫حوا ا ُّ‬
‫ل‬ ‫ل‪ ،‬إذ أن الدعاء من أهم السباب لن مقاليد المور بيد ال‪ ،‬قال سبحانه]َيْم ُ‬
‫ت[ )‪ ،(272‬ويأتي الدعاء وإفاضاته بالمر الخارق للقواعد والنواميس‬ ‫شاءُ َوُيْثِب ُ‬‫َما َي َ‬
‫المحسوسة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الدعاء ثمرة من ثمرات المدد اللهي‪ ،‬وهو نوع عبادة ‪ ,‬وإقرار بالعبودية ل‬
‫عز وجل‪ ،‬وللدعاء آداب وهي المدحة والثناء على ال عز وجل ثم الستغفار‬
‫والقرار بالذنب ثم المسألة‪ ،‬والدعاء إتصال إختياري بال عز وجل من غير‬
‫جي ُ‬
‫ب‬ ‫ب ُأ ِ‬‫عّني َفِإّني َقِري ٌ‬
‫عَباِدي َ‬‫ك ِ‬ ‫سَأَل َ‬‫واسطة أو برزخ وحاجب ‪ ,‬قال تعالى]َوِإَذا َ‬

‫‪()268‬سورة النفال ‪.9‬‬


‫‪()269‬سورة النجم ‪.4-3‬‬
‫‪()270‬مجمع البيان ‪. 4/525‬‬
‫‪()271‬سورة الفرقان ‪.77‬‬
‫‪()272‬سورة الرعد ‪.39‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫عي[ )‪ ،(273‬وجاءت هذه الية بصيغة الطلق في إجابة الدعاء إل أن‬ ‫عَوَة الّدا ِ‬
‫َد ْ‬
‫التقييد ظاهر من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الية خطاب للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يتعلق موضوع الية بسؤال العباد للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم عن‬
‫ال عز وجل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مجيء آيات أخرى من القرآن تخرج دعاء الكفار بالتخصص من موضوع‬
‫ل[ )‪.(274‬‬
‫لٍ‬‫ضَ‬‫ل ِفي َ‬ ‫ن ِإ ّ‬
‫عاُء اْلَكاِفِري َ‬
‫الدعاء‪ ،‬وتتضمن إستثناءهم‪ ،‬قال تعالى]َوَما ُد َ‬
‫ومن اليات في الدعاء ملئمة آنات الزمان الطولية كوعاء للدعاء سواء ساعات‬
‫الليل أو النهار‪ ،‬ليكون مددًا في إصلح النفوس‪ ،‬والتخفيف عنها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الدعاء سلح بيد المؤمنين‪ ،‬وواقية من الكيد‪ ،‬وآلة لحفظ أنفسهم وتيسير‬
‫أمورهم‪ ،‬وتقريب البعيد‪ ،‬ومحو الضرار‪ ،‬وتهوين العواقب‪ ،‬قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم‪" :‬أل أدلكم على سلح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا‪:‬‬
‫بلى‪ ،‬قال‪ :‬تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلح المؤمن الدعاء")‪.(275‬‬
‫وجاءت هذه الية لتكون تلوتها سلحًا بيد المسلمين يساهم في قطع طرف من‬
‫الكفار وإلحاق الخزي بهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إستجابة ال لدعاء المؤمنين مدد عظيم‪ ،‬وسر سماوي من أسرار نصرهم‬
‫في ميادين القتال‪ ،‬ومؤونة وسلح خفي ضد الكفار‪ ،‬الذين لم يجعلوا له حسابًا عند‬
‫العزم والمناجاة بالتعدي على المسلمين‪ ،‬فمن بين أسباب إلتحاق القبائل بقريش في‬
‫قتال النبي والمسلمين معرفة قلة عددهم وعدتهم‪ ،‬فطمعوا بقتلهم وأسرهم‪ ،‬ولم‬
‫يعلموا أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين يمتلكون سلح الدعاء‬
‫الذي يزيدهم قوة ومنعة‪ ،‬ويكون واقية لهم من جيوش الكفار‪.‬‬
‫وقد تفضل ال عز وجل على المسلمين بالتفقه في الدين‪ ،‬وتيسير طرق الدعاء‪،‬‬
‫وهدايتهم إلى آدابه )وعن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم قال‪ :‬ل عز وجل‬
‫تسعة وتسعون إسمًا من دعا ال بها إستجيب له‪ ،‬ومن أحصاها دخل الجنة( )‪،(276‬‬
‫عوُه ِبَها[ )‪.(277‬‬ ‫سَنى َفاْد ُ‬
‫حْ‬
‫سَماُء اْل ُ‬
‫لْ‬‫لاَ‬‫وقال ال عز وجل]َو ِّ‬
‫ومن أعظم مصاديق المدد للمسلمين والناس جميعًا بعثة النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم التي فيها خير الدنيا والخرة‪ ،‬وفي الحديث المستفيض عند عموم‬
‫المسلمين‪ :‬أنا دعوة أبي إبراهيم( )‪.(278‬‬
‫وإتخذ النبياء الدعاء وسيلة لجلب المدد وأسباب النصر‪ ،‬فقد إجتهد موسى عليه‬
‫السلم في الدعاء على فرعون وقومه الذين أنعم ال عز وجل عليهم بالموال‬
‫‪()273‬سورة البقرة ‪.186‬‬
‫‪()274‬سورة الرعد ‪.14‬‬
‫‪()275‬الجزء الخامس‪.179/‬‬
‫‪()276‬مجمع البيان ‪4/354‬‬
‫‪()277‬سورة العراف ‪.180‬‬
‫‪()278‬مجمع البيان ‪.1/358‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫والسلطان‪ ،‬ليتخذوها وسائط للصلح‪ ،‬ولكنهم أفسدوا في الرض فبعث ال عز‬
‫وجل موسى وهارون عليهما السلم لفرعون وقومه لهدايتهم وسلمتهم ونجاتهم من‬
‫العذاب الدنيوي والخروي بالتصديق بنبوته‪ ،‬والكف عن المعاصي والسيئات ‪,‬‬
‫وسوم بني إسرائيل العذاب الليم ‪.‬‬
‫وإّدعى فرعون الربوبية‪ ،‬وتمادي في الكفر والغي وقتل المؤمنين‪ ،‬وأمر بتخريب‬
‫مساجد بني إسرائيل‪ ،‬ومنعهم من الصلة‪ ،‬فسأل موسى ال عز وجل كما في‬
‫عَلى َأْمَواِلِهْم[ )‪ ،(279‬لن سلب الغنى عن الكافر وسيلة لمنعه‬ ‫س َ‬‫طِم ْ‬‫التنزيل ]َرّبَنا ا ْ‬
‫من القامة على المعاصي‪ ،‬ودعوة قهرية له للتدبر في البراهين والدللت الباهرات‬
‫على وجوب عبادة ال عز وجل)ودعا موسى عليه السلم وأمن هارون‪ ،‬فسماهما‬
‫ال داعيين‪ ،‬وهو المروي عن عكرمة والربيع وأبي العالية()‪ ،(280‬وهذا ل يمنع من‬
‫إستقلل هارون بالدعاء أيضًا إلى جانب تأمينه على دعاء موسى عليه السلم‪.‬‬
‫وفيه تأديب لبني إسرائيل بالتوجه للدعاء على نحو العموم المجموعي والفرادي ‪,‬‬
‫ويقال أمنت على الدعاء تأمينًا‪ :‬قلت عند الدعاء آمين‪ ،‬وآمين‪ :‬إسم فعل مبني على‬
‫ل بالمد بعد الهمزة من غير إمالة‪ ،‬ومعناه‪:‬‬
‫الفتح‪ ،‬وفيه أربع لغات أكثرها إستعما ً‬
‫اللهم إستجب‪ ،‬وفي المرسل عن)المام جعفر الصادق عليه السلم قال‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وآله وسلم دعا موسى وأّمن هارون‪ ،‬وأّمنت الملئكة‪ ،‬فقال ال‬
‫سَتِقيَما[ )‪ (281‬ومن غزا في سبيل ال أستجيب له كما‬ ‫عَوُتُكَما َفا ْ‬
‫ت َد ْ‬
‫جيَب ْ‬
‫تعالى‪َ ]:‬قْد ُأ ِ‬
‫أستجيب لكما يوم القيامة( ) (‪.‬‬
‫‪282‬‬

‫وفي خاتمة الحديث أعله شاهد على المقام الرفيع للغزاة في سبيل ال‪ ،‬وأنهم في‬
‫ميادين القتال قد يلحقون بالنبياء بخصوص إستجابة الدعاء لوحدة الموضوع في‬
‫تنقيح المناط‪ ،‬وهو الجهاد في سبيل ال بالنفس وبذل الوسع لعلء كلمة التوحيد‪،‬‬
‫وال وحده الذي أحاط بكل شيء علمًا‪ ،‬المر الذي يستلزم إتصال التوسل‪ ،‬والتوقي‬
‫من الذنوب والسيئات‪ ،‬والحتراز من أكل الحرام‪.‬‬
‫)وعن زبور داود يقول ال عز وجل‪" :‬يا إبن آدم تسألني وأمنعك لعلمي بما ينفعك‪،‬‬
‫ثم تلح علي بالمسألة فأعطيك ما سألت)‪.(283‬‬
‫إن اللحاح في الدعاء والمواظبة عليه فزع إلى ال‪ ،‬وتفويض للمور إليه سبحانه‪،‬‬
‫وإظهار لحسن التوكل عليه‪ ،‬وهو من مفاهيم الصبر والتقوى التي يجب أن يتحلى‬
‫بها المؤمنون‪.‬‬
‫وقد يأتي المدد والستجابة للدعاء بأمر غير الذي سأله العبد‪ ،‬وال عز وجل أعلم‬
‫بالمصالح والمفاسد‪) ،‬قال ابن جريج مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة ‪,‬‬

‫‪()279‬سورة يونس ‪.88‬‬


‫‪()280‬مجمع البيان ‪.130 /5‬‬
‫‪()281‬سورة يونس ‪.89‬‬
‫‪()282‬البرهان في تفسير القرآن ‪.2/195‬‬
‫‪()283‬معالم اليمان في تفسير القرآن ‪.5/191‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وهو المروي عن المام الصادق عليه السلم( ) (‪ ،‬وفيه دعوة لللحاح بالدعاء‪،‬‬
‫‪284‬‬

‫والمواظبة عليه‪ ،‬والعصمة من اليأس والقنوط‪ ،‬والسلمة من تعطيل السباب‬


‫والجهاد في سبيل ال‪ ،‬والمواظبة على أداء الفرائض‪.‬‬
‫ومن اللطف اللهي بالمؤمنين في ميادين المعارك عدم تأخر الستجابة عن الدعاء‪،‬‬
‫ل للمؤمنين‪ ،‬وعلة للنصر كما حصل في‬ ‫ليكون ذات الدعاء والستجابة له مددًا عاج ً‬
‫معركة بدر وأحد‪ ،‬ول يتعارض الدعاء مع السعي وبذل الوسع في سبيل ال‪ ،‬والتقيد‬
‫خْيَر‬
‫بأداء الفرائض والسنن‪ ،‬وهو من وجوه تفضيل المسلمين‪ ،‬والشواهد على أنهم] َ‬
‫س[ )‪ ،(285‬والخروج للقتال من أصدق معاني الطاعة والمتثال‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫لوامر ال ورسوله‪ ،‬ليأتي الدعاء من منازل التقوى والخشية من ال‪ ،‬والمتناع عن‬
‫الذنوب والمعاصي‪.‬‬
‫قانون"لماذا القطع’’‬
‫القرآن هو الكتاب النازل من عند ال‪ ،‬ويتصف بأنه قطعي الصدور‪ ،‬ليس فيه حرف‬
‫واحد من الملك الواسطة بين ال ونبيه محمد صلى ال عليه وآله وسلم وهو‬
‫جبرائيل‪ ،‬ول من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫ولم يطرأ تحريف أو تغيير على كلمات وآيات القرآن‪ ،‬وتلك خصوصية ينفرد بها‬
‫القرآن‪ ،‬ووسيلة مباركة لحفظه وتعاهد آياته لن حاجة الناس له متصلة ودائمة إلى‬
‫يوم القيامة‪.‬‬
‫ومن وسائل حفظ القرآن وجوب تلوة المسلمين لياته في الصلة ‪ ,‬ومنها قطع‬
‫طرف من الكفار‪ ،‬والذي أخبرت عنه الية‪ ،‬فالقطع مقصود بذاته‪ ،‬وهو أيضًا مقدمة‬
‫لحفظ آيات القرآن والمسلمين معًا‪ ،‬فالمسلمون يحفظون بتلوتهم آيات القرآن‪،‬‬
‫ويقطع ال عز وجل لهم طرفًا من الكفار ليحفظ المسلمين في أنفسهم ودينهم فض ً‬
‫ل‬
‫ن َنّزْلَنا الّذْكَر َوِإّنا َلهُ لحافظون[‬
‫حُ‬‫منه تعالى ‪ ,‬وهو من عمومات قوله تعالى]ِإّنا َن ْ‬
‫)‪.(286‬‬
‫أي أن القرآن يحفظ بوجوه منها ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬يحفظ القرآن بذاته‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬تعاهد القرآن بالواسطة اليجابية مثل تلوة المسلمين لياته وحفظها عن‬
‫ظهر قلب‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬عصمة القرآن ‪ ,‬وسلمته بقطع دابر الكافرينز‬
‫وقد يقال يحفظ القرآن من غير أن يهلك شطر من الكفار ‪ ,‬والجواب نعم‪ ,‬وهلك‬
‫طرف من الكفار ليس بسبب حفظ القرآن وحده‪ ،‬بل له أسباب أخرى عديدة منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬إصرار الكفار على قتال المسلمين الذين ل طاقة لهم بالجيوش العظيمة التي‬
‫تزحف على المدينة المنورة بين الحين والخر‪.‬‬
‫‪()284‬مجمع البيان ‪.5/130‬‬
‫‪()285‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()286‬سورة الحجر ‪.9‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬إستمرار الكفار في تكذيب النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمعجزات‬
‫التي جاء بها من عند ال بعد إقامة الحجة عليهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬لقد أبى ال عز وجل أن يكون اليمان والكفر بعرض واحد سواء في الدنيا‬
‫أو الخرة‪ ،‬فأما في الخرة فإن المؤمنين في الجنة والنعيم الدائم‪ ،‬والكفار في النار‬
‫والعذاب الليم‪.‬‬
‫أما في الدنيا فإن ال عز وجل يمد النبي وأصحابه والمؤمنين بأسباب النصر‪،‬‬
‫ويبتلي الكفار بأنواع البلء والضرر‪ ،‬ومنه هلك عدد من رؤسائهم‪ ،‬وفي فرعون‬
‫ل لما تمادى في الطغيان‪ ،‬وسام بني إسرائيل أشد أنواع العذاب‪ ,‬أمر ال عز‬ ‫مث ً‬
‫وجل موسى أن يخرج ببني إسرائيل‪ ،‬ويّبس لهم أرضًا من قعر البحر ليعبروا فيه ‪,‬‬
‫ل‪ ،‬ودعوة لفرعون وجنوده للكف عن بني‬ ‫ليكون آية لم يشهد لها التأريخ مثي ً‬
‫إسرائيل خصوصًا بعد أن رأوا اليات بعصا موسى عليه السلم‪ ،‬وما إبتلى ال به‬
‫فرعون وملته‪.‬‬
‫ولم تأت آية جفاف البحر إبتداء من غير علة وإنذارًا متعددًا كي يعذر آل فرعون‬
‫بالجهالة والغفلة وغلبة النفس الغضبية‪ ،‬بل جاءت بعد آيات حسية عديدة كل واحدة‬
‫منها دعوة للتدبر‪ ،‬وحث على التصديق بنبوة موسى عليه السلم‪ ،‬ولكن فرعون‬
‫جُنوُدُه َبْغًيا‬
‫ن َو ُ‬‫عْو ُ‬‫وأعوانه أصروا على التحدي والبطش ‪ ,‬قال تعالى]َفَأْتَبَعُهْم ِفْر َ‬
‫عْدًوا[ )‪.(287‬‬
‫َو َ‬
‫ومن إعجاز القرآن وصدق نزوله من عند ال عز وجل أن إسم فرعون ورد في‬
‫القرآن أربعًا وسبعين مرة‪ ،‬ولم يرد لفظ)فرعون وجنوده( إل في الية أعله ‪,‬‬
‫جُنوِدِه[ )‪ ،(288‬في دللة على أن الهلك لم‬ ‫ن ِب ُ‬
‫عْو ُ‬
‫وورد أيضًا قوله تعالى]َفَأْتَبَعُهْم ِفْر َ‬
‫يصب إل المقاتلين الذين خرجوا مع فرعون في اللحاق بموسى وبني إسرائيل‬
‫للنتقام منهم‪ ،‬مع أن اليات الخرى جاءت ببيان عتو وظلم)آل فرعون( )‪(289‬‬
‫ن َوَمَلِئِه[)‪.(291‬‬ ‫عْو َ‬‫ن[)‪(290‬و]ِفْر َ‬ ‫عْو َ‬‫ن َقْوِم ِفْر َ‬‫ل ِم ْ‬
‫وجاءت بلفظ]اْلَم ُ‬
‫وجاء الهلك والقطع ومن بعده الخلود في النار لل فرعون لصرارهم على الكفر‬
‫ب[ )‪.(292‬‬ ‫شّد اْلَعَذا ِ‬
‫ن َأ َ‬
‫عْو َ‬‫ل ِفْر َ‬‫خُلوا آ َ‬ ‫عُة َأْد ِ‬
‫سا َ‬
‫والظلم والتعدي‪ ،‬قال تعالى]َوَيْوَم َتُقوُم ال ّ‬
‫وتلك آية من آيات القرآن‪ ،‬فالهلك في البحر جاء لفرعون وجنوده‪ ،‬أما العذاب‬
‫الخروي فهو شامل لل فرعون لكفرهم وإنقيادهم لفرعون في إدعائه الربوبية مع‬
‫مجيء موسى عليه السلم بالبراهين والدللت الباهرات التي تدعو لعبادة ال عز‬
‫وجل‪ ،‬وكان هلكهم في البحر قطعًا من ال عز وجل لطرف من الكفار‪ ،‬لذا ورد‬

‫‪()287‬سورة يونس ‪.90‬‬


‫‪()288‬سورة طه ‪.78‬‬
‫‪()289‬أنظر البقرة ‪ ،49‬آل عمران ‪ ،11‬العراف ‪ ،130‬وغيرها‪.‬‬
‫‪()290‬أنظر العراف ‪.127 ،102‬‬
‫‪()291‬أنظر يونس ‪ ،88‬هود ‪. 97‬‬
‫‪()292‬سورة غافر ‪.46‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ن[ )‪ ،(293‬أي أن ال عز وجل هو الذي أغرقهم إنتقامًا‬ ‫عْو َ‬
‫ل ِفْر َ‬
‫غَرْقَنا آ َ‬
‫قوله تعالى]َوَأ ْ‬
‫منهم‪ ،‬وذكر أنه لما وصل فرعون وجنوده ورأوا البحر قد إنفلق‪ ،‬وبين كل طريقين‬
‫كالجبل أخذ الجنود ينظر بعضهم لبعض هيبة وإندهاشًا وخشية‪ ،‬فإقتحم قبلهم‬
‫فرعون وكان على حصان أدهم ودخل خلفه القواد والجنود‪.‬‬
‫وذكر)أن جبرائيل عليه السلم على فرس وديق و خاض البحر و ميكائيل يسوقهم‬
‫فلما شم أدهم فرعون ريح فرس جبريل )عليه السلم( إنسل خلفه في الماء و‬
‫إقتحمت الخيول خلفه فلما دخل آخرهم البحر و هّم أولهم أن يخرج انطبق الماء‬
‫عليهم( )‪.(294‬‬
‫وكذا أقطاب الكفر من قريش فأنهم ساروا بجنودهم لقتال النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وجاءوا من مكة على مسافة أكثر من أربعمائة كيلو مترًا على‬
‫الرواحل والخيل ‪ ,‬ومنهم من يسير على قدميه للقضاء على السلم وقتل النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وليس من بحر يفرقون فيه وليس من سبيل لنجاة‬
‫المسلمين منهم إل رحمة ال‪ ،‬فنزل الملئكة يوم بدر ليقتلوا فريقًا من الكفار‪ ،‬ويقتل‬
‫المؤمنون سبعين منهم ويأسرون آخرين‪.‬‬
‫وفي الجمع بين قصص النبياء والمم السالفة وبين مضامين الية محل البحث‬
‫تتجلى حقيقة وسنة من سنن ال عز وجل في الرض وهي هلك عدد من كبار‬
‫الكفار عند تجاوزهم ظلم المؤمنين‪ ،‬وقهرهم وإستضعافهم لهم‪.‬‬
‫وجاءت قصص القرآن ليتعظ الناس من اليات‪ ،‬ويحذروا من إعانة الظالمين‬
‫ل كانت هناك أصوات من قريش تدعو‬ ‫والكافرين في التعدي على المسلمين‪ ،‬وفع ً‬
‫إلى ترك أمر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وعدم التعرض له‪ ،‬ولكن تلك‬
‫الصوات أسكتت‪ ،‬ورمى أبو جهل وأمثاله من رؤساء قريش أصحابها بالخوف‬
‫والجبن والخذلن‪ ،‬وإستمرت تلك الصوات حتى في ميدان المعركة‪ ،‬كما في‬
‫معركة بدر‪ ،‬ولم يكن أمر الناس بيد أقطاب الكفر من قريش‪ ،‬فمقاليد المور كلها بيد‬
‫ال‪ ،‬والنبي وسط المعركة ويتلقى فيها الوحي‪ ،‬وقال أبو جهل مستخفاً بالمسلمين)ما‬
‫هم إل أكلة رأس( )‪ (295‬إذ كان في معسكر قريش أربعمائة فرس‪ ،‬وقيل مائتين‪،‬‬
‫وليس في معسكر المسلمين إل فرسين‪.‬‬
‫ح َلَها[) (‪ ،‬فبعث إليهم رسول ال صلى‬
‫‪296‬‬
‫جَن ْ‬
‫سْلِم َفا ْ‬
‫حوا ِلل ّ‬‫جَن ُ‬
‫ن َ‬‫ونزل قوله تعالى]َوِإ ْ‬
‫ال عليه وآله وسلم فقال‪ :‬يا معشر قريش إني أكره أن أبدأ بكم‪ ،‬فخلوني والعرب‬
‫وإرجعوا‪ ،‬فقال عتبة بن ربيعة وهو من كبار رجالت قريش ‪ :‬ما رد هذا قوم قط‬
‫ل أحمر وأخذ يدعو قريشًا لجتناب القتال ) فقال‪ :‬يا معشر‬ ‫فأفلحوا‪ ،‬وركب جم ً‬
‫قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدهر إن محمدًا له إل و ذمة و هو ابن عمكم‬

‫‪()293‬سورة البقرة ‪.50‬‬


‫‪()294‬مجمع البيان ‪. 5/131‬‬
‫‪()295‬مجمع البيان ‪.4/527‬‬
‫‪()296‬سورة النفال ‪.61‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫فخلوه و العرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينًا به و إن يك كاذبًا كفتكم ذؤبان‬
‫العرب أمره فغاظ أبا جهل قوله و قال له جنبت و إنتفخ سحرك( )‪. (297‬‬
‫وفي كل زمان كان هناك من يدعو الظالمين للكف عن النبياء والصالحين وتركهم‬
‫وشأنهم‪ ،‬ولكن هذه الدعوة من الكلي المشكك قوة وضعفًا ‪ ,‬وعلنية وخفية ‪ ,‬فقد‬
‫جٌ‬
‫ل‬ ‫ل َر ُ‬‫ورد في فرعون وقومه تحذير ودعوة مؤمن آل فرعون لهم قال تعالى]َوَقا َ‬
‫ل[)‪ ،(298‬فكان هذا المؤمن من آل‬ ‫جً‬‫ن َر ُ‬‫ن َيْكُتُم ِإيَماَنُه َأَتْقُتُلو َ‬
‫عْو َ‬
‫ل ِفْر َ‬ ‫نآِ‬‫ن ِم ْ‬
‫ُمْؤِم ٌ‬
‫فرعون ‪ ,‬ويخاف من إعلن إيمانه وتسليمه بالتوحيد ونبوة موسى‪ ،‬وإتجه إلى لغة‬
‫السبر والتقسيم لنقاذ موسى من القتل‪ ،‬وسلمة آل فرعون من العذاب‪.‬‬
‫وفي ذكر نسبته لل فرعون نكتة ‪ ,‬وهي خشيته زوال الملك وهلك قومه كما ورد‬
‫ض اّلِذي َيِعُدُكْم[ )‪(299‬‬
‫صْبُكْم َبْع ُ‬‫صاِدًقا ُي ِ‬‫ك َ‬ ‫ن َي ُ‬
‫ك َكاِذًبا َفَعَلْيِه َكِذُبُه َوِإ ْ‬‫ن َي ُ‬
‫في التنزيل]َوِإ ْ‬
‫ليخفف من غضبهم ويكسر من سورتهم‪ ،‬ويجذبهم إلى منازل التدبر والتفكر‪ ،‬بدل‬
‫الصرار على الكفر والظلم والبطش‪.‬‬
‫ويفيد قيد )يكتم إيمانه( الخوف من بطش فرعون وملئه ‪ ,‬فإتجه إلى المناصحة‬
‫والموعظة وإسمه حبيب وقيل سمعان‪ ،‬إذ أكد أن إظهار العبودية ل عز وجل ل‬
‫يستلزم القتل مما يدل في مفهومه على إبطال القول بأن فرعون إله‪ ،‬وتحريضهم‬
‫عليه‪ ،‬ودعاهم لليمان بأن شهد على معجزات موسى إذ ذكر)البينات( التي جاء‬
‫بها بصيغة الجمع مما يدل على أن موضوع الحتجاج أكثر وأعم من آية العصا‪،‬‬
‫ن[ )‪.(300‬‬
‫ف َما َيْأِفُكو َ‬
‫ي َتْلَق ُ‬
‫وإبتلعها لعصي السحرة ‪ ,‬قال تعالى]َفِإَذا ِه َ‬
‫ولم يقل مؤمن آل فرعون)من ربه( بل قال)من ربكم( وفيه إنكار لربوبية فرعون‬
‫بين رجالت حكمه‪ ،‬وإنذار ‪ ،‬ودعوة لهم لنصح فرعون بالكف عن موسى وقومه‪،‬‬
‫وعدم اللحاق بهم‪ ،‬وبذا قام بنصيحة قومه وإنذارهم وزجرهم عن مواصلة العذاب‬
‫لبني إسرائيل وحّذرهم من بطش ال بهم‪.‬‬
‫جاَءَنا[) (لبيان أن‬
‫‪301‬‬
‫ن َ‬‫ل ِإ ْ‬
‫س ا ِّ‬‫ن َبْأ ِ‬
‫صُرَنا ِم ْ‬‫ن َين ُ‬ ‫وكما ورد في التنزيل حكاية عنه]َفَم ْ‬
‫ل لل فرعون‬ ‫العذاب إذا جاء يكون عامًا وشام ً‬
‫ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم أن المؤمنين من قريش‬
‫وغيرها كانوا يعلنون إيمانهم ويلتحقون بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ويهجرون الهل والدعة‪ ،‬ويتركون خلفهم أموالهم‪ ،‬ويعرضون أنفسهم لخطار‬
‫الطريق‪ ،‬وملحقة قريش‪ ،‬ووعيدها بالهجوم على المسلمين في المدينة إذ أن معركة‬
‫ل وإبتداء‪.‬‬ ‫بدر وأحد والخندق لم تحصل إرتجا ً‬

‫‪()297‬مجمع البيان ‪.5/527‬‬


‫‪()298‬سورة غافر ‪.28‬‬
‫‪()299‬سورة غافر ‪.28‬‬
‫‪ ()300‬سورة آل عمران ‪.117‬‬
‫‪ ()301‬سورة غافر ‪.29‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫فمع أن شباب قريش يسمعون الوعيد والتخويف والنذارات من اللحوق بالنبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم والستخفاف بمعجزاته فإنهم أخذوا يتسللون‬
‫ويخرجون من مكة خلسة أفرادًا وجماعات‪ ،‬وتلك آية في نبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم‪ ،‬ومقدمة لنزول الملئكة ونصرتهم‪ ،‬ومجيء المدد من ال عز وجل لهم‬
‫فإنه سبحانه ل يخزي المؤمنين‪ ،‬ول يجعل الكفار يشمتون بهم خصوصًا وأن‬
‫السلم في أيامه الولى وأهل الشك والريب من حول المدينة‪ ،‬وفي داخلها كما في‬
‫كثرة عدد المنافقين ‪ ،‬ووجود اليهود في المدينة وتحريف صفات النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم الواردة في التوراة والنجيل ‪.‬‬
‫فجاء قطع طرف الكفار عزة وتخفيفًا ‪ ,‬وقوة إضافية للمؤمنين‪.‬‬
‫قانون"دخول السلم من قطع الكفار’’‬
‫تتصف نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم بخصوصية وهي دعوة الناس جميعًا‬
‫للسلم بعرض واحد‪ ،‬وأن ما ينالونه بذات المرتبة والدرجة‪ ،‬ليس من إمتياز‬
‫وتفضيل لجنس أو قبيلة أو قومية على غيرها ‪ ,‬وهو من عمومات قوله تعالى ]َوَما‬
‫ن[ )‪.(302‬‬‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ْ‬ ‫ك ِإ ّ‬
‫سْلَنا َ‬
‫َأْر َ‬
‫وهناك من أشراف وكبراء الكفار من يظن أن إمارة تنتظره حينما يدخل السلم‬
‫ومع هذا فإنه يمتنع عن دخوله‪ ،‬والصل أن مثل هذا المر يكون برزخًا وحاجبًا‬
‫لدخول كثير من الناس عن السلم من باب الولوية‪ ،‬فإنهم يقولون إذا كان الذي‬
‫ينتظره الشأن والجاه والسلطان في السلم يمتنع عن دخوله‪ ،‬فمن باب الولوية‪ ،‬أن‬
‫نمتنع نحن ‪ ,‬ولكن العكس هو الذي صار ‪ ,‬إذ دخلت أفواج المستضعفين في السلم‬
‫‪.‬‬
‫فجاء السلم بالشهادتين والتساوي في الحقوق والواجبات والتي تبدأ بالوقوف بين‬
‫يدي ال للصلة خمس مرات في اليوم في صفوف طوعية يتساوى فيها السيد‬
‫والعبد‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬ويكون المكان في المسجد لمن سبق كالسوق‪ ،‬وهذا‬
‫التساوي شاهد على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وهو من عمومات‬
‫س[ )‪ ،(303‬إذ أن المسلمين رضوا به‪ ،‬ولم‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬‫قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫يعترض أو يمكر بعض الرؤساء والشراف على هذا الحكم‪.‬‬
‫وتجلى التساوي بين المسلمين في العطاء‪ ،‬وتوزيع الغنائم‪ ،‬وأحكام القصاص‪،‬‬
‫وغيرها‪ ،‬وكان سببًا في جذب عامة الناس للسلم‪ ،‬وشرائهم مرضاة الخالق وإن‬
‫سخط الظالم والكافر‪ ،‬ولو تصفحت التأريخ وما جرت فيه من الوقائع والمعارك‬
‫العظيمة رأيت الذين يحاربون ويقتلون هم العامة من الناس‪ ،‬أما الطاغوت والملك‬
‫فليس عنده إل حشرهم للنفير وإصدار الوامر‪ ،‬ولو كف العامة عن نصرته لما فكر‬
‫في التعدي والظلم والستيلء على أموال الخرين‪ ،‬وزحف على أراضيهم وأسقط‬

‫‪()302‬سورة النبياء ‪.106‬‬


‫‪()303‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الممالك وإستعبد أهلها‪ ،‬وجاء السلم لستئصال الطغيان والعتو من الرض‪ ،‬ومن‬
‫وجوه هذا الستئصال التكافؤ بين المسلمين‪ ،‬وتغشي هذا التكافؤ المعاملت والعقود‪.‬‬
‫وتتجلى موضوعية أحكام السلم في المعاملت في أبواب عديدة منها النكاح ‪,‬‬
‫فالمسلم كفؤ المسلمة )وعن النبي محمد صلى ال عليه وسلم إذا جاءكم من ترضون‬
‫دينه فزوجوه()‪ ،(304‬وفيه ترغيب للناس لدخول السلم‪ ،‬وهذا الترغيب ليس طلوبًا‬
‫بذاته بل هو رشحة من أحكام سماوية متكاملة تضمنتها شريعة السلم لتكون‬
‫مؤهلة للبقاء إلى يوم القيامة‪ ،‬وإيجاد أجيال مؤمنة تجاهد إعصار الغضب وغلبة‬
‫النفس الشهوية وإغواء الشيطان ‪ ,‬وقادرة على الصبر في مواطن القتال ‪.‬‬
‫فكما يجاهد المسلمون في سبيل ال‪ ،‬وحفظ بيضة السلم ‪ ,‬فإن القرآن بذاته يجاهد‬
‫أعظم جهاد لتثبيت أحكامه بما فيه من العجاز والحكمة والمواعظ والبراهين‬
‫القاطعة وأحكام الشريعة في الحلل والحرام والمعاملت وثبوت مناسبتها للزمان‬
‫والمكان‪ ،‬والحكم والموضوع‪ ،‬وتلك آية من بديع صنع ال ‪ ،‬ورحمة لهل الرض‬
‫جميعًا بشوارق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وهو من مصاديق قوله‬
‫ن[ )‪.(305‬‬ ‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ْ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫سْلَنا َ‬
‫تعالى]َوَما َأْر َ‬
‫ويدرك الناس أن دخول السلم نعمة وحاجة لوجود المقتضي وفقد المانع‪،‬‬
‫فالمتقضي هو وجوب عبادة ال‪ ،‬وتصديق أنبيائه‪ ،‬وإتباع ونصرة النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وليس الكفر واللبث فيه زمانًا وقضاء أكثر أيام العمر في‬
‫الضللة والظلم مانعًا من دخول السلم‪ ،‬وكان الذين يقاتلون المسلمين يعلمون أن‬
‫أبواب السلم مفتوحة لهم‪.‬‬
‫ومن اليات أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم والغزاة المؤمنين ل يقاتلون‬
‫إل بعد الوعظ والنذار ودعوة العداء إلى السلم‪ ،‬وقد أّدب النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم المسلمين وأمراء الجند والغزاة والسرايا في سبيل ال أل يبدأوا‬
‫بالقتال‪ ،‬ليكون الكفار هم المعتدون‪ ،‬فتقوم عليهم الحجة‪ ،‬ويكون أسرع في هلكهم‬
‫وقطعهم وكبتهم ‪ ،‬وهو باعث للندم والحسرة في نفوسهم ‪ ,‬مع تقدم الترغيب بدخول‬
‫السلم من قبل المسلمين وقادتهم وزعمائهم‪ ،‬وليس من قانون في المساواة في‬
‫تأريخ النسانية مثل نيل تمام الحقوق ساعة النتماء للسلم ولو في ساحة القتال ‪،‬‬
‫خَوٌة[ )‪ ،(306‬بتقريب تجلي التساوي في‬ ‫ن ِإ ْ‬
‫وهو من عمومات قوله تعالى]ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫صلت وماهية ومراتب الخوة اليمانية‪.‬‬
‫ويعاني النسان عند النتقال وتغيير محل عمله وإقامته وسكناه من نعته بالغريب‪،‬‬
‫والعراض والصدود عنه‪ ،‬ومن ينتمي إلى جماعة وفرقة يبتدأ من المراتب الدنى‪،‬‬
‫وينظر له بريبة وشك وربما بغضب وغيض إذا كان من العداء‪ ،‬إل في السلم‪،‬‬
‫فإن دخول عظماء الكفار فيه يدخل البهجة والسرور في نفوس المسلمين‪ ،‬وكان‬
‫‪()304‬مفاتيح الغيب ‪.5/128‬‬
‫‪()305‬سورة النبياء ‪.107‬‬
‫‪()306‬سورة الحجرات ‪.10‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم يرجع رؤساء القبائل الذين يدخلون السلم‬
‫أئمة على قومهم في الغالب بعد التفقه في الدين وتعلم الصلة‪.‬‬
‫ودخل عدد من كبار الكفار السلم وأحسنوا إسلمهم‪ ،‬ويحتمل بلحاظ الية محل‬
‫البحث وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه قطع لطرف من الكفار‪ ،‬لما فيه من الختيار وقد تقدم في باب العراب‬
‫واللغة‪ :‬كل مختار طرف )‪ ،(307‬فالقطع هنا لذات الكفر وليس للذين يهجرونه‪ ،‬كما‬
‫سُقوا ِفيَها[ )‪ ،(308‬أي‬ ‫ك َقْرَيًة َأَمْرَنا ُمْتَرِفيَها َفَف َ‬
‫ن ُنْهِل َ‬
‫في قوله تعالى]َوِإَذا َأَرْدَنا َأ ْ‬
‫أمرناهم بالحسان والصلح‪ ،‬ولكنهم عصوا وأظهروا الفساد‪ ،‬ويكون قطع طرف‬
‫من الكفار بدخول جماعات منهم السلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ليس من قطع طرف الكفار‪ ،‬لن القدر المتيقن من القطع في المقام هو هلك‬
‫فريق من كبرائهم‪ ،‬كما في قتل سبعين من صناديدهم يوم معركة بدر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إرادة المعنى العم للقطع وتعدد طرقه وكيفياته وال واسع كريم‪ ،‬وهو الذي‬
‫يبتلي الكفار بأنواع البلء‪ ،‬ويأتيهم الضرر والذى من حيث ل يحتسبون‪ ،‬ومن‬
‫جهات كثيرة منها ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬دخول فريق من الكفار السلم ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬إعتزال شطر من القبائل قتال المسلمين‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬عقد بعض القبائل العهود والمواثيق مع رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وقادة المسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يأتي القطع بمعنى البانة‪ ،‬وومحو وتعطيل طرف منهم من عند ال‪ ،‬وحينما‬
‫يأتي القطع من عند ال فهو أعم من البطش والنتقام العام‪ ،‬فقد يكون بهداية وصلح‬
‫فريق منهم‪ ،‬وهذه الهداية سبب لغيظ وحزن الذين يصرون على الكفر منهم‪.‬‬
‫عَلْيِهْم َأْو‬
‫ب َ‬
‫يٌء َأْو َيُتو َ‬
‫ش ْ‬ ‫لْمِر َ‬ ‫ناَ‬ ‫ك ِم ْ‬‫س َل َ‬
‫لذا جاء في الية التالية قوله تعالى]َلْي َ‬
‫ُيَعّذَبُهْم[ )‪ ،(309‬ول تعارض بين هذه الوجوه‪ ،‬وكلها من مصاديق الية‪ ،‬إذ أن القطع‬
‫ل ينحصر بالوجه الثاني أعله‪ ،‬ولكنه من أهم مصاديق الية‪ ،‬وأكثرها جلء‬
‫ووضوحًا ساعة المعركة‪.‬‬
‫أما في حال السلم فإن أحكام هذه الية ل تتعطل بل هي متجددة في الليل والنهار‪،‬‬
‫وفي الشرق والغرب‪ ،‬ومن مصاديق تجددها أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬دخول الناس السلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إقرار فريق من الكفار بصدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تجدد الشواهد التي تدل على العجاز في نبوته وفي آيات القرآن‪ ،‬ومنها هذه‬
‫الية التي هي إنذار دائم للكفار تظهر شواهده في كل زمان ومكان‪ ،‬خصوصًا في‬

‫‪()307‬أنظر صفحة ‪ 8‬من هذا الجزء‪.‬‬


‫‪()308‬سورة السراء ‪.16‬‬
‫‪()309‬سورة آل عمران ‪.128‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫عْبَدُه[‬
‫ف َ‬
‫ل ِبَكا ٍ‬
‫س ا ُّ‬
‫ميادين القتال وبما يكفي المسلمين أذى الكفار ‪ ,‬قال تعالى]َأَلْي َ‬
‫)‪.(310‬‬
‫فمن وجوه كفاية ال المسلمين دخول الذي كان عدوًا للسلم فيه‪ ،‬ونطقه‬
‫بالشهادتين ‪ ,‬ليكون هذا النطق على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬فيه قطع لجانب من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إضعاف قوتهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إنه سبب لبعث الوهن في صفوفهم‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬حصول الفتنة وأسباب الشك والريب فيما بينهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬توظيف الكثير من طاقاتهم وأموالهم لمنع إندفاع أتباعهم نحو دخول‬
‫السلم‪.‬‬
‫ول ينتهي القطع بدخول شطر من الكفار السلم‪ ،‬ول بهلك عدد من كبرائهم في‬
‫ميادين القتال‪ ،‬بل أن طرق القطع متداخلة ومتصلة وتكون أحيانًا كالسبب والمسبب‪،‬‬
‫ومصداقًا لقانون العلة والمعلول ‪ ,‬فدخول عدد من كبراء الكفار يجعل من بقي من‬
‫الكفار هدفًا سهل المنال للمسلمين‪ ،‬ويصبحون قادرين على أسرهم أو قتلهم‪ ،‬وكذا‬
‫فإن هلك عدد من كبراء الكفار سبب وجزء علة لدخول أفواج من الكفار السلم‬
‫ليجهز المسلمون على من بقي في منازل الكفر والضللة ‪ ،‬كما حصل في معارك‬
‫السلم الولى‪ ،‬فلم يقع قتل ذريع بالكفار في معركة بدر والخندق‪ ،‬ولم تمر ثلث‬
‫سنوات على معركة الخندق حتى تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ‪.‬‬
‫ويلحظ أن الكفار يهجمون في شهر رمضان كما في بدر ‪ ,‬وفي شوال كما في‬
‫معركة أحد إجتنابًا لحلول شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم وهي أشهر حرم‬
‫سرد‪ ،‬وكأنهم يتعجلون في الظلم والتعدي وجلب الثم والخزي لنفسهم‪ ،‬ومن وجوه‬
‫جُلوُه[)‪ ،(311‬أن كفار قريش كانوا يستعجلون‬ ‫سَتْع ِ‬
‫ل َت ْ‬
‫ل َف َ‬
‫تفسير قوله تعالى ]َأَتى َأْمُر ا ِّ‬
‫العذاب إستهزاء وسخرية ‪ ,‬ومقابلة للوعيد بالتكذيب ‪ ,‬فكانت واقعة بدر قطعًا وكبتًا‬
‫ل وخيبة لهم ‪ ,‬وهو من أشد أفراد العذاب ‪.‬‬ ‫وذ ً‬
‫والشهر الرابع من الشهر الحرم وهو شهر رجب منفردًا‪ ،‬وسمي الصم لمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬عدم سماع قعقعة السلح فيه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يأمن الناس بعضهم بعضًا ‪ ,‬فل ترد أخبار عن حصول قتل فيه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تكون السبل في شهر رجب سالكة‪ ،‬وتدل التسمية والمسمى‪ ،‬وتقيد العرب‬
‫بآداب الشهر الحرام على الرتقاء الجتماعي عندهم‪ ،‬وإلتزامهم بضوابط حميدة‬
‫العادات والصلت والحروب‪ ،‬فهم يخشون لحوق العار بهم بالتعدي في الشهر‬
‫الحرام ‪.‬‬
‫مما يدل على أن القرآن نزل في مجتمعات لها أصول وتحكمها عادات متوارثة‬
‫بعضها موروثة من ملة إبراهيم‪ ،‬وفي تصديقهم بنبوة محمد صلى ال عليه وآله‬
‫‪()310‬سورة الزمر ‪.36‬‬
‫‪()311‬سورة النحل ‪.1‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وسلم شاهد على صدقها‪ ،‬ودليل على تلقي الناس ليات القرآن بالقبول والتسليم بأنها‬
‫عْبِدَنا‬
‫عَلى َ‬ ‫من عند ال‪ ،‬ويعجز الناس عن التيان بمثل جزء منه قال تعالى]َنّزْلَنا َ‬
‫ن ِمْثِلِه[)‪ ،(312‬وفيه دعوة لرؤساء الكفر والضللة وأتباعهم للمتناع‬ ‫سوَرٍة ِم ْ‬ ‫َفْأُتوا ِب ُ‬
‫عن محاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪ ،‬وبه نزل قوله‬
‫ل ا ِّ‬
‫ل‬ ‫سِبي ِ‬‫ن َ‬‫عْ‬‫صّد َ‬ ‫ل ِفيِه َكِبيٌر َو َ‬‫ل ِقَتا ٌ‬
‫ل ِفيِه ُق ْ‬
‫حَراِم ِقَتا ٍ‬
‫شْهِر اْل َ‬ ‫ن ال ّ‬‫عْ‬‫ك َ‬ ‫سَأُلوَن َ‬‫تعالى]َي ْ‬
‫حَراِم[)‪.(313‬‬ ‫جِد اْل َ‬
‫سِ‬ ‫َوُكْفٌر ِبِه َواْلَم ْ‬
‫وقيل أن السائلين هم الكفار لتعيير المسلمين لستحللهم القتال فيه‪ ،‬والمشهور‬
‫والمختار أن السائلين هم المسلمون‪ ،‬ووجه إباحة القتال فيه أن المسلمين مطرودون‬
‫من البيت الحرام ومكة‪ ،‬وخرجوا خائفين فالتعدي والظلم من الكفار مستمر حتى في‬
‫الشهر الحرام‪ ،‬وليس من هدنة أو إعادة لحقوق وأموال المسلمين‪ ،‬لذا جاء في الية‬
‫ل[‪ ،‬وقيل أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم عقل‬ ‫ن اْلَقْت ِ‬
‫أعله ]َواْلِفْتَنُة َأْكَبُر ِم ْ‬
‫إبن الحضرمي وهو أول رجل من الكفار يقتله المسلمون وإسمه عبد ال بن عباد‬
‫وكان قتله من أسباب هياج الكفار إذ إّدعوا أنه قتل في الشهر الحرام )وتفاءلت‬
‫اليهود بلحاظ السماء‪ ،‬وقالوا عمروا بن الحضرمي قتله واقد بن عبد ال‪ ،‬عمروا‪:‬‬
‫عمرت الحرب‪ ،‬الحضرمي‪:‬حضرت الحرب‪ ،‬واقد ‪ :‬وقدت الحرب( )‪.(314‬‬
‫وجاءت الية محل البحث لتبين أن الدائرة على الكفار‪ ،‬وأن نصر ال عز وجل‬
‫مصاحب للمسلمين‪ ،‬وليس في الحرب إل قطع لطرف من الكفار‪ ،‬وقتل صناديدهم‬
‫وأبطالهم‪ ،‬وتثبيت دعائم السلم في الرض ‪ ,‬ووجود أمة قوية منيعة تتعاهد أحكام‬
‫الشريعة إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وقال موسى بن عقبة في مغازيه إن معركة الخندق كانت في سنة أربع‪ ،‬وشهد مالك‬
‫والشافعي بأنها أصح المغازي‪ ،‬إل أن هذه الشهادة أعم من أن تكون بخصوص‬
‫واقعة الخندق ‪ ,‬ول تنبسط على كل واقعة وتأريخ فيها إذ جاءت الشهادة في الجملة‪.‬‬
‫بحث بلغي‬
‫من وجوه البديع المبالغة‪ ،‬وهي أن يأتي المتكلم بما يفيد خصوصية وموضوعية‬
‫للمعنى والقصد الذي يريد‪ ،‬ومن منافعه جذب السماع‪ ،‬والعناية بالموضوع والتدبر‬
‫في الصفات‪ ،‬والمبالغة على أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬مبالغة بالوصف‪ ،‬بأن يكون أكبر وأعظم من الوجود الذهني للشيء‪ ،‬وكأنه‬
‫ط[‬
‫خَيا ِ‬ ‫سّم اْل ِ‬
‫ل ِفي َ‬ ‫جَم ُ‬
‫ج اْل َ‬
‫حّتى َيِل َ‬
‫جّنَة َ‬
‫ن اْل َ‬‫ل َيْدخُُلو َ‬‫من عالم التصور‪ ،‬كقوله تعالى]َو َ‬
‫)‪ (315‬أي ل يدخل الكفار الذين كّذبوا باليات ومعجزات النبوة الجنة حتى يدخل‬
‫البعير في ثقب البرة للخبار عن النفي التام وحرمانهم من دخول الجنة‪.‬‬

‫‪()312‬سورة البقرة ‪.23‬‬


‫‪()313‬الية ‪.217‬‬
‫‪()314‬السيرة النبوية ‪.2/214‬‬
‫‪()315‬سورة العراف ‪.40‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وقيل المراد من الجمل‪ ،‬بضم الميم‪ ،‬الحبل الغليظة )وسئل عبد ال بن مسعود عن‬
‫ل له‪ ،‬لشتباهه ووضوح‬ ‫الجمل فقال )زوج الناقة()‪ (316‬تعريضًا بالسائل وإستجها ً‬
‫المسألة‪.‬‬
‫ويقال لستبعاد أمر ‪ :‬ل يكون حتى يشيب الغراب( لتعليق الحكم على الوصف‬
‫المستحيل وما ل يوجد إل في الوجود الذهني والتصوري لتأكيد نفيه‪ ,‬وبعث اليأس‬
‫منه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬مبالغة بالصيغة مثل صيغة المبالغة )الرحمن( ) ( على وزن فعلن‪،‬‬
‫‪317‬‬

‫وصفة الرحمن خاصة بال عز وجل‪ ،‬وتدل على الكثرة‪ ،‬وقيل إنه من الصفات‬
‫الطارئة كعطشان وغرقان‪ ،‬ولكنه مشتق من الرحمة وهو صفة دائمة ل عز وجل‪،‬‬
‫نعم بناء فعلن يدل على السعة والشمول‪ ،‬كما يقال غضبان للذي إمتل غضبًا‪ ،‬إل‬
‫أن يراد من الصفة الطارئة في المقام أن لفظ الرحمن خاص بالدنيا ‪ ،‬وهو بعيد لنه‬
‫ليس طارئ‪ ،‬وعن أبي سعيد الخدري )عن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ن الخرة والدنيا‪ ،‬والرحيم رحيُم الخرة (‬ ‫قال أن عيسى بن مريم قال‪ :‬الرحمن َرحم ُ‬
‫)‪.(318‬‬
‫وقد ورد عن المام الصادق عليه السلم أنه قال‪ :‬الرحمن أسم خاص بصفة عامة‪،‬‬
‫والرحيم إسم عام بصفة خاصة ( )‪ ،(319‬أي أن الرحمن خاص بالدنيا وحاجات‬
‫الناس فيها برهم وفاجرهم‪ ،‬والرحيم على وزن فعيل من صيغ المبالغة أيضًا إل أن‬
‫فعلن أبلغ من فعيل‪ ,‬وهو عام في الدنيا والخرة للمؤمنين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المبالغة الموضوعية‪ ،‬وهو قسيم ثالث نؤسسه في المقام‪ ،‬فإن قيل أن البديع‬
‫ل‪،‬‬
‫هو علم تعرف به الصيغ التي تضفي على الكلم حسنًا‪ ،‬وتزيده إشراقًا وجما ً‬
‫ومنه تحسين الكلم باللفاظ ذات الحسن الذاتي والعرضي ‪ ,‬أي في اللفظ والمعنى‬
‫والدللة‪ ،‬والمدار على اللفظ فيه وليس على الموضوع‪ ،‬والجواب أن المبالغة في‬
‫هذا القسم تأتي باللفظ أيضًا‪.‬‬
‫ولم يرد لفظ)ليقطع طرفًا( في القرآن إل في هذه الية الكريمة‪ ،‬وفيه سر إعجازي‬
‫ونكتة كلمية ‪ ,‬إذ إجتمع في الكلمتين أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬لفظ)القطع( وما فيه من الستئصال‪ ،‬فلم تجعل الية مندوحة من الزمان قد‬
‫يرجع فيها الكفار‪ ،‬مما يدل على أنهم لو بقوا لتمادوا في التعدي والظلم والتحريض‬
‫على المسلمين‪ ،‬فجاءت الية بصيغة المبالغة )القطع والهلك(‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تعلق القطع بطرف وطائفة ذات شأن وموضوعية عند الكفار‪ ،‬وهجومهم‬
‫على المسلمين‪.‬‬

‫‪()316‬لسان العرب ‪.2/291‬‬


‫‪()317‬سورة الفاتحة ‪.3‬‬
‫‪()318‬تفسير الطبري ‪.1/127‬‬
‫‪()319‬مجمع البيان ‪.1/57‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬لم يأت القطع في الوسط بل تعلق بطرف منهم‪ ،‬وهذا الطرف يحتمل‬
‫وجهين‪:‬‬
‫الول‪ :‬الطرف القريب والمجاور للمسلمين‪ ،‬والذي يعتدي عليهم‪ ،‬ويجمع الجيوش‬
‫والسلح ضدهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الطرف البعيد عن المسلمين‪ ،‬والذي ل تصل أخباره إل بعد حين‪ ،‬والذي ل‬
‫تأخذه حمية الجاهلية والوثنية ضد المسلمين لبعد مثواه‪.‬‬
‫والصحيح هو الول من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬من باب الولوية فإنه يأتي للطرف ليكون إنذارًا للوسط فكذا للطرف الثاني‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬جاءت الية بخصوص نتائج المعارك الولى للمسلمين‪ ،‬ونزول الملئكة‬
‫لنصرتهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أراد ال عز وجل بهلك هذا الطرف من الكفار تثبيت أقدام المؤمنين‪،‬‬
‫وبعثهم لداء الفرائض والعبادات بشوق ورغبة‪ ،‬والتوجه إلى ال عز وجل بالشكر‬
‫والثناء‪.‬‬
‫إن صيغة المبالغة في المقام وصف لما يصيب الكفار من غير تهويل أو مبالغة‪،‬‬
‫ولن المصائب التي تلحق بهم عظيمة‪ ،‬وتفوق التصور‪ ،‬وهم ليدركون معانيها‬
‫ودللتها ‪ ,‬فجاءت هذه الية إنذارًا وتبصرة‪ ،‬وحثًا لهم على التوبة والندامة‪ ،‬والكف‬
‫عن إيذاء المسلمين‪ ،‬وهي أيضًا دعوة للمسلمين للتفقه في الدين‪.‬‬
‫وقد يقال إذا كانت صيغة الرحمن خاصة بالدنيا وللناس جميعًا وأسباب الرزق‬
‫والمن والعافية فيها‪ ،‬فلماذا قطع طرف من الكفار‪ ،‬وهل يتعارض مع صيغة‬
‫المبالغة في الرحمن التي تفيد العموم والشمول والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول ‪ :‬يفيد الجمع بين صفة الرحمن ل سبحانه ‪ ,‬وقطع طرف من الكفار أن هذا‬
‫القطع من مصاديق الرحمة بالناس‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬قطع دابر الكافرين إصلح للناس‪ ،‬وإنذار من التعدي على السلم‪ ،‬ول‬
‫يتعارض مع صيغة الرحمن‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬لقد بعث ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم رحمة‬
‫للعالمين‪ ،‬وزحفت قريش بخيلها وخيلئها للجهاز على السلم‪ ،‬ومنع أسباب هذه‬
‫ي اْلَعِزيُز[)‪.(320‬‬
‫الرحمة ‪ ,‬وال عز وجل هو ]اْلَقِو ّ‬
‫الرابع ‪ :‬لم تمر اليام والليالي حتى دخلت قريش في السلم‪ ،‬وتولى رجالها مقامات‬
‫المامة والمرة وقيادة الجيوش‪ ،‬وجلبت الغنائم والذهب والفضة إلى المدينة ومكة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬مضامين الرحمة أعم من أن تنحصر بجيل واحد‪ ،‬وفريق من الناس‬
‫كقريش‪ ،‬خصوصًا وأن رسالة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم جاءت للجيال‬
‫المتعاقبة من الناس وإلى يوم القيامة‪.‬‬

‫‪()320‬سورة هود ‪.66‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السادس‪ :‬من مضامين ومصاديق الرحمة اللهية المعجزات الباهرات التي جاء بها‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وهي في مفهومها إنذار للكفار والمشركين ‪,‬‬
‫والنذار رحمة وفضل من ال‪ ،‬وحجة على الناس‪.‬‬
‫علم المناسبة‬
‫وردت مادة)قطع( في آيات عديدة من القرآن‪ ،‬وفي معان متقاربة‪ ،‬وتفيد معنى‬
‫البانة والفصل والتجاوز‪ ،‬وجاء لفظ )يقطع( بصيغة الفعل المبني للمعلوم ثلث‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن‬ ‫مرات في القرآن‪ ،‬الفاعل في إثنتين هو ال عز وجل ‪ ,‬قال سبحانه]َوُيِريُد ا ُّ‬
‫ن[ )‪.(321‬‬ ‫طَع َداِبَر اْلَكاِفِري َ‬‫ق ِبَكِلَماِتِه َوَيْق َ‬
‫حّ‬
‫ق اْل َ‬
‫حّ‬
‫ُي ِ‬
‫لقد كان خروج المسلمين لمعركة بدر آية إعجازية ‪ ,‬ويتجلى المدد اللهي في ذات‬
‫الخروج ‪ ،‬إذ نظر شطر منهم إلى السباب ومقدمات المعركة‪ ،‬ومستلزمات القتال ‪,‬‬
‫ن[‬‫ن َلَكاِرُهو َ‬ ‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن َفِريًقا ِم ْ‬
‫حقّ َوِإ ّ‬ ‫ك ِباْل َ‬
‫ن َبْيِت َ‬
‫ك ِم ْ‬
‫ك َرّب َ‬‫جَ‬ ‫خَر َ‬‫قال تعالى]َكَما َأ ْ‬
‫)‪ ، (322‬وهذه الكراهية على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إلتفت بعض صحابة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إلى قلتهم والنقص‬
‫في أسلحتهم‪ ,‬إذ كان كفار قريش ثلثة أضعاف عدد المسلمين‪ ،‬وهذه النسبة لم تكن‬
‫معروفة على نحو الدقة العقلية عند المسلمين قبل الخروج إل أنها معلومة عندهم‬
‫على نحو الجمال بلحاظ عدد قريش ومن معهم من الحابيش‪ ،‬ومن يبادر للخروج‬
‫معهم من القبائل‪.‬‬
‫وقال حسان بن ثابت‪:‬‬
‫أئمة الكفر غّرتكم طواغيها) (‪.‬‬
‫‪323‬‬
‫جمعتموها أحابيشًا بل حسب‬
‫قال إبن إسحاق‪:‬وكان الحليس بن زيان أخو بنى الحارث بن عبد مناة ‪ -‬يومئذ سيد‬
‫الحابيش)‪.(324‬‬
‫الثاني‪ :‬إجتناب القتال‪ ،‬خصوصًا وأن السلم في بداياته‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الخشية من تعرض النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والصحابة للقتل‪.‬‬
‫الرابع‪ ):‬قال بعضهم كيف نخرج و نحن قليل و العدو كثير ‪ ,‬وقال بعضهم كيف‬
‫نخرج على عمياء ل ندري إلى العير نخرج أم إلى القتال( )‪.(325‬‬
‫الخامس‪ :‬سرعة التهيئ للخروج‪ ،‬وعدم الستعداد له قبل مدة مناسبة بالتمرين وجمع‬
‫المؤون‪.‬‬
‫السادس‪ :‬وطأة وأخطار القتال مع قريش ‪ ,‬وما تتصف به من البطش والقسوة‪،‬‬
‫ن َلُكْم[)‪.(326‬‬ ‫شْوَكِة َتُكو ُ‬ ‫ت ال ّ‬‫غْيَر َذا ِ‬
‫ن َ‬ ‫ن َأ ّ‬
‫وخشية شماتة العداء‪ ،‬قال تعالى]َوَتَوّدو َ‬

‫‪()321‬سورة النفال ‪.7‬‬


‫‪ ()322‬سورة النفال ‪.5‬‬
‫‪()323‬السيرة النبوية ‪.3/124‬‬
‫‪()324‬السيرة النبوية ‪.3/91‬‬
‫‪()325‬مجمع البيان ‪.4/520‬‬
‫‪()326‬سورة النفال ‪.7‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ولم يخرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إل بأمر من عند ال‪ ،‬إذ أن‬
‫جبرئيل نزل عليه وأمره بالخروج للقتال‪ ،‬ويكون فيه إحقاق للحق‪ ،‬وال عز وجل‬
‫أعلم بالمصالح والمفاسد‪ ،‬وما ينفع المسلمين والناس إلى يوم القيامة‪ ،‬فأراد ال‬
‫سبحانه أن يظهر السلم ‪ ,‬وينتصر المؤمنون ويعود الكفار بالخيبة والخسران من‬
‫معركة بدر‪ ،‬ويستأصل كفار قريش‪.‬‬
‫ن[ في الية أعله‪ ،‬وبين قوله‬ ‫طَع َداِبَر اْلَكاِفِري َ‬
‫والنسبة بين قوله تعالى]َوَيْق َ‬
‫تعالى)ليقطع طرفًا من الذين كفروا( في الية محل البحث‪ ،‬هي العموم والخصوص‬
‫المطلق‪ ،‬فقطع الدابر أعم وأوسع وأكبر من قطع الطرف‪ ،‬ومن اليات ورود قطع‬
‫دابر الكفار في معركة بدر‪ ،‬وجاء قطع الطرف في معركة أحد مع أنها متأخرة‬
‫زمانًا بنحو سنة عن معركة بدر‪ ،‬ويحتمل وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬كانت خسارة الكفار عظيمة يوم بدر إذ قتل منهم سبعون‪ ،‬وأسر سبعون‪ ،‬ولم‬
‫ل‪ ،‬لتكون هذه الخسارة مع‬ ‫يرجعوا من أحد إل وقد خلفوا وراءهم إثنين وعشرين قتي ً‬
‫إنسحابهم شاهدًا على تحقق أمور وفق منطوق هذه الية وهي‪:‬‬
‫الول‪:‬قطع طرف من الكفار بهلك عدد ليس بالقليل من صناديدهم وأبطالهم‪.‬‬
‫الثاني‪:‬كبت وخزي الكفار‪ ،‬وإصابتهم بالذل والحزن بالنسحاب من دون أن ينالوا‬
‫من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه ولم يستطيعوا وطأ أرض‬
‫المدينة إلى أن دخلوا في السلم‪ ,‬وتلك معجزة في نبوة محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم تستلزم من الباحثين في شؤون العقيدة والقتال الدراسة والتحقيق ‪ ,‬وإستنباط‬
‫المسائل والعبر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إنصراف الكفار إلى مكة ‪ ,‬والخيبة تمل نفوسهم‪.‬‬
‫فمن مصاديق النصر اللهي للمسلمين أن تأتي أفراد وأطراف هذه الية الثلث كلها‬
‫ل ِبَأْيِديُكْم‬
‫عند وقوع المعركة بين المسلمين والكفار‪ ،‬قال تعالى]َقاِتُلوُهْم ُيَعّذْبُهْم ا ُّ‬
‫عَلْيِهْم[)‪.(327‬‬
‫صْرُكْم َ‬ ‫خِزِهْم َوَيْن ُ‬‫َوُي ْ‬
‫الثاني‪ :‬إنهزم الكفار من معركة بدر خائبين‪ ،‬بينما إستطاعوا في معركة أحد أن‬
‫يعيدوا الكرة على المسلمين‪ ،‬وإقتربوا من رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وكسروا رباعيته‪ ،‬وشجوا وجهه الشريف فسال منه الدم‪.‬‬
‫ن[) (‪ ،‬وأن المقصود‬ ‫‪328‬‬
‫طَع َداِبَر اْلَكاِفِري َ‬‫الثالث‪ :‬إرادة المعنى العم في قوله تعالى]َوَيْق َ‬
‫ليس معركة بدر وحدها بل معارك السلم اللحقة‪ ،‬ليأتي فتح مكة بآية ومعجزة من‬
‫ق ِبَكِلَماِتِه‬‫حّ‬ ‫حقّ اْل َ‬ ‫ن ُي ِ‬‫ل َأ ْ‬
‫عند ال عز وجل ‪ ,‬ويكون مصداقًا لقوله تعالى]َوُيِريُد ا ُّ‬
‫ن[)‪ ،(329‬ولم يأت قطع دابر الكافرين بواقعة واحدة‪.‬‬ ‫طَع َداِبَر اْلَكاِفِري َ‬
‫َوَيْق َ‬
‫ول ينحصر موضوع الية بزمان التنزيل‪ ،‬فهو متصل ودائم على نحو التدريج‬
‫لكي يتعظ الناس‪ ،‬ويعتبروا من آية إبتلء الكفار بالقطع والهلك‪ ،‬وقد يأتي القطع‬
‫‪()327‬سورة النفال ‪.7‬‬
‫‪()328‬سورة التوبة ‪.14‬‬
‫‪()329‬سورة النفال ‪.7‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫في القرآن بصيغة الماضي ووقوع إستئصال الذين كفروا كما في قوم هود الذين‬
‫ن َكّذُبوا‬
‫طْعَنا َداِبَر اّلِذي َ‬
‫جحدوا بنبوته وأصروا على الكفر والشرك ‪ ,‬قال تعالى]َوَق َ‬
‫ِبآَياِتَنا[ )‪.(330‬‬
‫إذ جاء عذاب الستئصال على الكافرين من قوم هود بريح فيها عذاب أليم]َقاُلوا‬
‫سْبَع‬
‫ض[)‪ ،(331‬ومن العذاب في هذه الريح أنها لم تنته بسرعة بل إستمرت] َ‬ ‫عاِر ٌ‬ ‫َهَذا َ‬
‫سوًما[ )‪ ،(332‬وهود وأصحابه في أمن من الريح وأذاها‪.‬‬ ‫حُ‬
‫ل َوَثَماِنَيَة َأّياٍم ُ‬‫َلَيا ٍ‬
‫وجاء لفظ)طرف( في آيات من القرآن وبمعان متعددة‪ ،‬ولم يأت بخصوص طرف‬
‫وطائفة من الكفار إل في هذه الية‪ ،‬وقد ورد بخصوص أوقات الصلة قال‬
‫ل[)‪ ،(333‬لبيان أن المسلمين يستثمرون‬ ‫ن الّلْي ِ‬
‫طَرِفي الّنَهاِر َوُزَلًفا ِم ْ‬
‫لَة َ‬
‫صَ‬‫تعالى]َوَأِقْم ال ّ‬
‫آنات الزمان وأطراف النهار والليل لذكر ال سبحانه)و ذكر الواحدي بإسناده عن‬
‫حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال كنت مع سلمان تحت شجرة‬
‫فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال يا أبا عثمان أل تسألني لم‬
‫أفعل هذا قلت و لم تفعله‪.‬‬
‫قال هكذا فعله رسول ال صلى ال عليه وآله وسّلم ‪ ,‬وأنا معه تحت شجرة فأخذ‬
‫منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال أل تسألني يا سلمان لم أفعل هذا‬
‫قلت ‪ ,‬ولم فعلته قال إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس‬
‫تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق ثم قرأ هذه الية‪ ،‬و أقم الصلة إلى آخرها(‬
‫)‪.(334‬‬
‫وتتجدد أطراف الليل والنهار كل يوم وليلة بأفراد طولية متساوية‪ ،‬وحياة النسان‬
‫فيها منقطعة‪ ،‬ولكن هذا النقطاع متباين بين الكفار والمسلمين‪ ،‬فالكفار يقطع طرف‬
‫منهم‪ ،‬والطرف جزء من الشيء‪ ،‬ويهلكون قبل أوانهم بإختيارهم الكفر والضللة‪.‬‬
‫أما المسلمون فإنهم يستثمرون آنات الزمان لعبادة ال وإتيان الفرائض‪ ،‬لذا يقطع‬
‫ال عز وجل طرفًا من الكفار الذين يهجمون على المسلمين لمنعهم من أداء‬
‫الفرائض )وبالسناد عن أبي أمامة قال بينما رسول ال صلى ال عليه وآله وسّلم‬
‫في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال يا رسول ال إني أصبت حدا فأقمه‬
‫علي فقال هل شهدت الصلة معنا ‪ ,‬قال نعم يا رسول ال قال فإن ال قد غفر لك‬
‫حدك أو قال ذنبك( )‪.(335‬‬
‫وفيه ترغيب بالفرائض ‪ ,‬ودعوة للصلح‪ ،‬والمتناع عن التعدي على المسلمين ‪,‬‬
‫وفيه بيان لعظيم فضل ال على المؤمنين ‪ ,‬وسعة باب التوبة ‪ ,‬والحسن الذاتي لستر‬

‫‪()330‬سورة العراف ‪.72‬‬


‫‪()331‬سورة الحقاف ‪.24‬‬
‫‪()332‬سورة الحاقة ‪.7‬‬
‫‪()333‬سورة هود ‪.114‬‬
‫‪()334‬مجمع البيان ‪. 5/200‬‬
‫‪()335‬مجمع البيان ‪. 5/201‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫العبد نفسه‪ ,‬ول دليل على إرادة خصوص من صلى مع النبي على نحو التعيين‬
‫والحصر‪.‬‬
‫بحث بلغي‬
‫من ضروب الطناب التعليل‪ ،‬وبيان علة الفعل‪ ،‬وما يترتب عليه من أثر‪ ،‬وكأنه‬
‫جواب لسؤال مقتبس من الجملة الولى‪ ،‬وفوائد التعليل كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬التقرير والمضاء‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬بيان الغايات من الفعل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬منع الجهالة والغرر‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬قطع الترديد ووجوه اللبس‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬البعث على قبول الفعل والحكم والثر‪.‬‬
‫وحروف التعليل عديدة منها اللم‪ ،‬إذ‪ ،‬أن‪ ،‬الباء‪ ،‬كي‪ ،‬لعل‪ ،‬وقد يأتي بصيغة السم‬
‫سَماَء ِبَناء[ )‪.(336‬‬ ‫شا َوال ّ‬ ‫ض ِفَرا ً‬
‫لْر َ‬ ‫ل َلُكْم ا َ‬
‫جَع َ‬
‫كغاية ونتيجة كما في قوله تعالى] َ‬
‫والجعل أخص من الخلق‪ ،‬وبينهما عموم وخصوص مطلق‪ ،‬والثاني متأخر رتبة‬
‫وزمانًا عن الول ‪ ,‬أي أن جعل الرض فراشًا والسماء بناء للناس ليس علة تامة‬
‫في خلق السماوات والرض‪.‬‬
‫وجاءت الية محل البحث بحرف التعليل )اللم( وهو من أهم حروف التعليل‬
‫وأكثرها بيانًا في ذات الموضوع ‪ ,‬ومن منافع اللم في المقام وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬قطع طرف الكفار مقصود بذاته‪ ،‬فال عز وجل قادر أن يظهر السلم‬
‫ويحفظ المؤمنين مع وجود الكفار وخروجهم للمعارك‪ ،‬ولكنه سبحانه أراد هدم ركن‬
‫من أركان الكفر‪ ،‬وهلك عدد من رجالهم عقوبة عاجلة لهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬منافع وآثار قطع طرف من الكفار أعم من أن تنحصر بمعركة‪ ،‬فتتعلق‬
‫بمستقبل اليام‪ ،‬ولم يتعظ الكفار من هلك سبعين وأسر سبعين منهم يوم بدر‪ ،‬بل‬
‫زحفوا مرة أخرى بعد سنة في معركة أحد بجيوش ل عهد لهل يثرب بها‪ ،‬وكأنهم‬
‫أرادوا أن يوصلوا رسالة لهل المدينة من الوس والخزرج بأنه مع حلول النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة جاءكم البلء والقتال إلى‬
‫جانب الضيق في المعاش ‪ ,‬وإغراء اليهود والمنافقين بإثارة أسباب الفتن‪ ،‬ووجوه‬
‫الشك والريب في نبوة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ونزول القرآن‪.‬‬
‫وكون قطع طرف من الكفار مقصودًا بذاته ل يتعارض مع دعوة المسلمين للقتال‬
‫خِزِهْم‬‫ل ِبَأْيِديُكْم َوُي ْ‬
‫وبعث الغبطة والسكينة في نفوسهم‪ ،‬قال تعالى ]َقاِتُلوُهْم ُيَعّذْبُهْم ا ُّ‬
‫عَلْيِهْم[)‪،(337‬وقيل في الية أعله أن المراد من القوم المؤمنين هم خزاعة‬ ‫صْرُكْم َ‬
‫َوَيْن ُ‬
‫الذين بّيت عليهم بنو بكر‪ ،‬عن مجاهد والسدي‪ ،‬ولكن الية أعم زماناً وموضوعًا‬
‫وأثرًا لن خزاعة تحالفت يوم صلح الحديبية مع النبي محمد صلى ال عليه وآله‬

‫‪()336‬سورة البقرة ‪..22‬‬


‫‪()337‬سورة التوبة ‪.14‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وسلم ‪ ,‬وتحالف بنو بكر بن عبد مناة مع قريش‪ ،‬ثم عدت بنو بكر على خزاعة وهم‬
‫على ماء لهم يقال له الوتير لدم وثأر بينهم متقدم زمانًا على صلح الحديبية‪.‬‬
‫وكانت البعثة النبوية وإنشغال الناس بأخبار ومعجزات النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم ودخول الناس في السلم‪ ،‬قد شغلهم عنه‪ ،‬وأعانت قريش بني بكر‪،‬‬
‫وقاتل عدد من رجالهم مستخفين مع بني بكر‪ ،‬وأمدوهم بالسلح ضد خزاعة‪،‬‬
‫فخرج وفد من خزاعة إلى المدينة‪ ،‬ووقف عمرو بن سالم الخزاعي في المسجد‬
‫النبوي‪ ،‬والنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم جالس بين ظهراني أصحابه‪ ،‬والقى‬
‫عمرو قصيدة شكى فيها ما أصابهم‪ ،‬ودعا النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫لنصرتهم بعد نقض قريش العهد الذي أبرموه مع النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم ‪ ,‬ومما قاله في قصيدته‪:‬‬
‫وجعلوا لى في كداء رصدا‬ ‫ونقضـــــــــــوا ميثاقك المؤكدا‬
‫فهـــــــــــم أذل وأقل عددا‬ ‫وزعموا أن لست أدعو أحدا‬
‫وقتلونا ركعـــــــــــا وسجدا ) (‪.‬‬
‫‪338‬‬
‫هـــــــــــم بيتونا بالوتير هجدا‬
‫فقال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم)ل نصرت إن لم أنصر بني كعب() (‪.‬‬
‫‪339‬‬

‫وجاء وفد آخر من خزاعة مع بديل بن ورقاء المدينة وأخبروا النبي محمدًا صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم والصحابة بمظاهرة ومؤازرة قريش لبني بكر عليهم وكيف أنهم‬
‫أممدوهم بالسلح ‪ ,‬وقاتلوا خفية معهم‪ ،‬ونقضوا الميثاق‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الشارة إلى ما تقدم من اليات وإيجاد الصلة بينها وبين هذه الية وفق‬
‫قانون العلة والمعلول‪ ،‬ومن اليات حصول الختلف في العلة لهذا القطع‪.‬‬
‫ويمكن ان نطلق على اليات التي تتضمن التعليل )مدرسة التعليل( مع تقسيمها إلى‬
‫أقسام بلحاظ الموضوع والحكم ‪ ,‬لما فيها من البيان وتوكيد قانون العلة والمعلول‬
‫وغاياته والغراض السامية منه‪ ،‬إذ أنه وسيلة لتثبيت سنن التوحيد وأحكام الحلل‬
‫والحرام في الرض‪ ،‬وسبب سماوي لزاحة الفساد من الرض‪ ،‬ونبذ المفسدين‬
‫والنفرة منهم‪.‬‬
‫عَلُم َما َ‬
‫ل‬ ‫ومصاديق مدرسة التعليل في القرآن من عمومات قوله تعالى ]ِإّني َأ ْ‬
‫ن[ )‪.(340‬‬ ‫َتْعَلُمو َ‬
‫ومن خصاص التعليل في القرآن أنه تأديب وتعليم للمسلمين‪ ،‬وموضوع مبارك‬
‫متعدد المصاديق لتفقهم في الدين وإرتقائهم في سلم المعارك اللهية‪.‬‬
‫قانون"القطع رشحة البشارة والطمأنينة’’‬
‫جاءت الية السابقة بالخبار عما يترشح من نعمة المداد بالملئكة الذي جعله ال‬
‫عز وجل ذخيرة وكنزًا وهبة سماوية خاصة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬

‫‪()338‬السيرة النبوية ‪.2/395‬‬


‫‪()339‬تفسير القرطبي ‪.8/62‬‬
‫‪()340‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫س[‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأخِْر َ‬
‫وأصحابه في معارك السلم الولى‪ ،‬وهو من خصائص] َ‬
‫)‪.(341‬‬
‫وهذا المدد نعمة توليدية متجددة في ذاتها ومضامينها وغاياتها وما يتفرع عنها‪،‬‬
‫فنصر المسلمين من غايات المدد‪ ،‬وتترشح عنه منافع كثيرة ليس لها حد أو حصر‪،‬‬
‫وهي تفوق عالم التصور الذهني لما لها من مصاديق مستحدثة في أفراد الزمان‬
‫الطولية‪.‬‬
‫وجاءت الية السابقة بالخبار عن نعمتين مترشحتين عن نعمة المدد الملكوتي‬
‫والوعد به وهما‪:‬‬
‫الولى‪:‬البشارة للمؤمنين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الطمأنينة والسكينة في قلوب المؤمنين‪.‬‬
‫وهل يحصل قطع للكفار من الوعد بالمدد الملكوتي والذي جاء في الية السابقة‬
‫الجواب نعم‪ ،‬إذ يدرك المسلمون النعمة العظيمة بالوعد بالملئكة إستصحابًا لما‬
‫رأوه من آية نزول الملئكة وملحقتهم للكفار يوم بدر)روى أبو أمامة بن سهل بن‬
‫حنيف عن أبيه قال لقد رأينا يوم بدر أن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه‬
‫من جسده قبل أن يصل إليه السيف( )‪.(342‬‬
‫والبشارة والطمأنينة سلحان فاز بهما الصحابة ساعة العسرة والشدة‪ ،‬وأوان الفزع‬
‫والخوف‪ ،‬وهما هبة من عند ال عز وجل للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة‪ ،‬فل‬
‫يخشى المسلمون على بيضة السلم من هجوم الكفار‪ ،‬وهما من الوجوه والسباب‬
‫ل َأًذى[ )‪.(343‬‬ ‫ضّروُكْم ِإ ّ‬‫ن َي ُ‬
‫التي تحجب ضرر الكفار عن المسلمين‪ ،‬قال تعالى]َل ْ‬
‫وهل هما من أسباب قطع طرف من الكفار بالذات أو بالعرض الجواب نعم‪ ،‬وتلك‬
‫خصوصية في النعمة اللهية على المسلمين في ميادين القتال بأن تكون منافعها‬
‫كثيرة وفي وجوه متعددة‪ ،‬ويكون أثرها على الكفار على قسمين‪:‬‬
‫الول‪ :‬نصر المسلمين هزيمة للكفار‪ ،‬لنهما من الضدين اللذين ينافي أحدهما‬
‫الخر‪ ،‬ول يصح إجتماعهما معًا في معركة واحدة أو وقت واحد‪ ،‬فنصر المؤمنين‬
‫هزيمة لعدائهم الكفار‪.‬‬
‫وهل الهزيمة خاصة بكفار قريش الذين حضروا بدرًا أم هو أعم‪ ،‬الجواب هو‬
‫الثاني ‪ ,‬وفيه خسارة وخيبة وخزي لهم ولمن خلفهم من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تعني البشارة فتح أبواب من الفتح والظفر للمسلمين‪ ،‬ونشر لواء ومبادئ‬
‫السلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬لقد كان الناس أزاء معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم على‬
‫أقسام‪:‬‬

‫‪ ()341‬سورة آل عمران ‪.110‬‬


‫‪ ()342‬مجمع البيان ‪.4/528‬‬
‫‪ ()343‬سورة آل عمران ‪.111‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬من آمن وصدق بها ‪ ,‬وبادر إلى دخول السلم‪ ،‬واللتحاق بالنبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم وإختيار الهجرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من آمن بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأخفى إيمانه فزعًا وخوفًا‬
‫من الكفار )قال أبو رافع مولى رسول ال صلى ال عليه وآله وسّلم كنت غلمًا‬
‫للعباس بن عبد المطلب و كان السلم قد دخلنا أهل البيت و أسلمت أم الفضل و‬
‫أسلمت ‪ ,‬و كان العباس يهاب قومه و يكره أن يخالفهم و كان يكتم إسلمه و كان ذا‬
‫مال كثير متفرق في قومه( )‪(344‬الحديث‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الذي أسلم وينتظر الفرصة والوقت المناسب للفرار بدينه واللتحاق بالنبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمهاجرين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الذي أسلم وبقى مع الكفار خشية على نفسه وماله‪ ،‬وإختار بعث الخوف‬
‫والشك في نفوس الكفار ودعوتهم بالحجة والبرهان إلى الكف عن قتال النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم ‪.‬‬
‫وقد كان كثير من صحابة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم قبل أن يهاجروا‬
‫يدعون قومهم للكف عن إيذاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والسخرية منه‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الذي أقام على الكفر والضللة‪ ،‬ولم يتدبر في آيات النبوة‪ ،‬وكره أن يترك‬
‫ما كان عليه آباؤه‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أقطاب الكفر والجحود الذين أصروا على محاربة النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وأصحابه‪ ،‬وأنفقوا الموال في صد الناس عن السلم‪ ،‬وتحريضهم‬
‫للخروج لقتال المسلمين‪.‬‬
‫وجاء المدد الملكوتي والنصر اللهي‪ ،‬والبشارة بالمدد لتثبيت أقدام المؤمنين‪ ،‬وحثهم‬
‫على الخروج على الكفار‪ ،‬والمتناع عن طاعتهم‪ ،‬فمن كان يخفي إسلمه جاء المدد‬
‫الملكوتي دعوة له لعلن إسلمه‪ ،‬واللحاق بالمهاجرين والنصار‪ ،‬ومن كان كافرًا‬
‫عَلْيُكْم‬
‫ضوا َ‬
‫ع ّ‬‫جاءت البشارة للمؤمنين لكسر شوكته‪ ،‬وخزيه وإغاظته‪ ،‬قال تعالى] َ‬
‫ظُكْم[ )‪.(345‬‬
‫ل ُموُتوا ِبَغْي ِ‬
‫ظ ُق ْ‬
‫ن الَغْي ِ‬
‫ل ِم ْ‬
‫لَناِم َ‬
‫اَ‬
‫ومن منافع البشارة للمؤمنين دخول اليمان قلوب عدد منهم‪ ،‬لن السلم هو دين‬
‫الفطرة‪ ،‬وتخاطب معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم العقول‪ ،‬وتطرق‬
‫آيات القرآن الحواس والجوانح بالليل والنهار‪ ،‬وتأتي على النفس الشهوية والغضبية‬
‫فتزيحهما عن مقامات القرار‪ ،‬وتمنعهما من الستحواذ على اللسان والفعال‪،‬‬
‫وتجعل نفرًا من الكفار يتداركون أمرهم‪ ،‬ويتدبرون في آيات النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم والقرآن‪.‬‬
‫ومن تلك اليات أن البشارة بالمدد الملكوتي الواردة في الية قبل السابقة لم تأت إل‬
‫بعد أن نزل الملئكة لنصرة المسلمين في معركة بدر‪ ،‬فلو جاءت البشارة بالمدد‬
‫وحدها لما إعتبر وخاف وفزع الكفار‪ ،‬لن البشارة خطاب خاص للمسلمين‪.‬‬
‫‪ ()344‬مجمع البيان ‪.4/528‬‬
‫‪ ()345‬سورة آل عمران ‪.119‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ن[‬‫سَتْهِزِئي َ‬
‫ك اْلُم ْ‬‫وإنتهج الكفار صيغ الستهزاء والستخفاف ‪ ,‬قال تعالى]ِإّنا َكَفْيَنا َ‬
‫)‪ ،(346‬وكفاية ال إستهزاءهم بأن أهلكهم ‪ ,‬وعن إبن عباس وسعيد بن جبير أنهم‬
‫خمسة نفر من قريش)‪ ،(347‬والية أعله أعم‪ ،‬وهلك هؤلء من عمومات قطع‬
‫طرف من الكفار الوارد في هذه الية‪ ،‬وأن جاء متقدمًا زمانًا عن معركة بدر وأحد‪،‬‬
‫فكان هلكهم قبل الهجرة النبوية الشريفة واقيًة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وهو في مكة‪ ،‬وهي سبب لسلم عدد من شباب قريش‪ ،‬ومقدمة لهجرة النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪.‬‬
‫لقد كانت بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ذاتها بشارة للموحدين ومن‬
‫بقوا وتوارثوا ملة إبراهيم‪ ،‬وهي طمأنينة وسكينة للقلوب المنكسرة‪ ،‬ومن معجزات‬
‫نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وأسباب المدد اللهي لنصرته في المقام‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬البشارة للمسلمين قطع لطرف من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬البشارة بهلك عدد من أقطاب الكفر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬قطع طرف من الكفار وهلك أقطاب منهم بشارة للمؤمنين‪ ،‬وطمأنينة‬
‫لقلوبهم‪.‬‬
‫قانون"البشارة والطمأنينة رشحة من القطع’’‬
‫جاء القانون السابق بعكس هذا القانون في عنوانه وموضوعه من غير تزاحم أو‬
‫تعارض بينهما وكأنهما من المتضايفين‪ ،‬وهما الوجوديان اللذان يتوقف تصور كل‬
‫واحد منهما على تصور الخر كالمساك والفطار في يوم الصيام‪ ،‬فالتداخل‬
‫والتضايف والثر المتبادل بينهما في طول إجتماعهما لتثبيت دعائم الدين‪ ،‬وسلمة‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين من كيد الكفار والمشركين ‪.‬‬
‫فتكون البشارة مقدمة لهلك طائفة من الكفار‪ ،‬وبعث الخوف في صفوفهم‪ ،‬ويأتي‬
‫قطع وهلك طرف من الكفار نتيجة للبشارة أو على نحو مستقل من غير أن يكون‬
‫رشحة من رشحات البشارة والطمأنينة ومحل البشارة غير محل القطع‪ ،‬وبينهما‬
‫تناف في الموضوع والحكم والمحل‪ ،‬ولكن الثر متحد ومتداخل‪ ،‬وهو من فضل ال‬
‫خْو ٌ‬
‫ف‬ ‫ل َ‬‫عز وجل‪ ،‬ليكونا كمثال للحشر يوم القيامة‪ ،‬فالمؤمنون والمؤمنات يومئذ] َ‬
‫ل َينَفُع‬‫ن[ )‪ ،(348‬والكفار في أشد الحوال ‪ ,‬قال تعالى]َفَيْوَمِئٍذ َ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫ل ُهْم َي ْ‬
‫عَلْيِهْم َو َ‬
‫َ‬
‫ن[ ) (‪.‬‬
‫‪349‬‬
‫سَتْعَتُبو َ‬
‫ل ُهْم ُي ْ‬
‫ظَلُموا َمْعِذَرُتُهْم َو َ‬
‫ن َ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫ومن منافع اليمان أن البشارة والطمأنينة اللتين أنعم ال عز وجل بهما على‬
‫المسلمين سبب لبعث الحزن والسى في نفوس الكفار‪ ،‬وأن قطع طرف من الكفار‬

‫‪ ()346‬سورة الحجر ‪.95‬‬


‫‪()347‬أنظر صفحة ‪ 54‬من هذا الجزء‪.‬‬
‫‪ ()348‬سورة يونس ‪.62‬‬
‫‪ ()349‬سورة الروم ‪.57‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫مناسبة للبشرى وفوز المسلمين بالسكينة‪ ،‬فإن قلت إن البشرى والطمأنينة جاءتا‬
‫بأمور هي‪:‬‬
‫الول‪ :‬نصر المؤمنين في معركة بدر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المدد الذي بعثه ال من الملئكة في بدر وأحد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الوعد اللهي الكريم بالمدد ‪ ,‬إن عاد المشركون للقتال ‪.‬‬
‫فهل البشارة والطمأنينة التي تأتي للمسلمين من قطع طرف من الكفار هو تحصيل‬
‫لما هو حاصل ‪ ,‬الجواب ل‪ ،‬بل هو فضل في البشارة‪ ،‬وتوكيد لها وزيادة في‬
‫أفرادها وموضوعها‪ ،‬وإستقرار للسكينة في نفوس المسلمين‪ ،‬وتجديد لها‪ ،‬وهو من‬
‫اللطف والفيض اللهي على المسلمين الذي جاء بلحاظ ساعة الشدة والفزع والقلة‬
‫التي كانوا عليها في معارك السلم الولى‪.‬‬
‫وفي هلك بعض أقطاب الكفر وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه باعث للمؤمنين للقتال في سبيل ال‪ ،‬لما فيه من الوهن والضعف في‬
‫صفوف الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه وسيلة سماوية مباركة‪ ،‬لزيادة إيمان المسلمين‪ ،‬وهذه الزيادة من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬نزول هذه الية الكريمة وما فيها من الخبار الذي يتضمن الصدق قال‬
‫ن[ )‪.(350‬‬
‫ب ِفيِه ُهًدى ِلْلُمّتِقي َ‬
‫ل َرْي َ‬
‫ب َ‬ ‫ك اْلِكَتا ُ‬
‫تعالى]َذِل َ‬
‫الثانية‪ :‬حصول المصاديق الخارجية لهلك وقتل رؤساء من الكفار‪ ،‬وإصابة‬
‫أموالهم بالتلف‪ ،‬وهجران أبنائهم وأزواجهم لهم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬لقد إجتهد أهل الشك والجدال في بث الريب في نبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها‪ ،‬فجاء قطع طائفة من الكفار سلحًا عمليًا‬
‫مباركًا في الرد عليهم‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬لقد أراد ال عز وجل للنفاق النحسار والخزي وقلة الثر‪ ،‬وظن المنافقون‬
‫أن الكفار ولكثرتهم وبطشهم وإستمرار تخويفهم ووعيدهم سيأتون على المسلمين‪،‬‬
‫ن َ‬
‫ل‬ ‫ظّ‬ ‫ن ال ّ‬
‫فكان قطع طرف من الكفار شاهدًا على بطلن هذا الظن ‪ ,‬قال تعالى]ِإ ّ‬
‫شْيًئا[ )‪.(351‬‬
‫ق َ‬‫حّ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ُيْغِني ِم ْ‬
‫الخامسة‪ :‬يأتي هلك وقطع طرف من الكفار على نحو دفعي وتدريجي‪ ،‬وكل واقعة‬
‫منه فتح للمسلمين‪ ،‬ونصر لهم‪ ،‬والنصر أعم من أن يكون في ميدان المعركة‪ ،‬فقد‬
‫يتجلى بعجز الكفار عن العودة لميدان المعركة‪.‬‬
‫وعندما خرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد‪،‬‬
‫وكان معه نحو ألف‪ ،‬إنخذل في الطريق عبد ال بن أبي بن سلول بثلث الجيش‬
‫)وقال أطاعهم وعصاني ما ندري علم نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس فرجع بمن‬
‫اتبعه من أهل النفاق والريب ‪ ,‬واتبعهم عبد ال بن عمرو بن حرام ‪ ,‬يقول يا قوم‬
‫أذكركم ال أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم‬
‫‪ ()350‬سورة البقرة ‪.1‬‬
‫‪ ()351‬سورة يونس ‪.36‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا ل نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا‬
‫عليه وأبوا إل النصراف عنهم ‪ ,‬قال أبعدكم ال أعداء ال فسيغني ال عنكم نبيه(‬
‫)‪ (352‬وتلحظ أن المنافقين يقولون فيما بينهم)علم نقتل أنفسنا( وفي هذا الخبر‬
‫مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬يظن المنافقون هزيمة المسلمين بلحاظ قوة وكثرة الكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬لم يلتفت المنافقون إلى المدد اللهي‪ ،‬وأن ال عز وجل مع المؤمنين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬يتناجى المنافقون بينهم برجاء السلمة وإتخاذ النسحاب وسيلة للنجاة من‬
‫موت مؤكد وليس له سبب‪ ،‬وعندما تبعهم بعض المؤمنين يعظهم ويدعوهم للعودة‬
‫إّدعوا بأنه ل يكون قتال ‪ ,‬وهو من مصاديق النفاق وإعلن غير الذي يخفون‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬إنسحاب ثلث الجيش مع العلم بأن العدو ثلثة أضعافهم ويفوقهم في السلح‬
‫والعدة أضعافًا كثيرة‪ ،‬ولكن المؤمنين أظهروا الصبر برداء التقوى‪ ،‬فقد يكون‬
‫الصبر عن عجز ويأس‪ ،‬أو تسليم لما تأتي به اليام‪ ،‬ولكن صبر المؤمنين يوم أحد‬
‫كان أمرًا آخر‪ ،‬فهو عزم على نيل النصر‪ ،‬وثبات على اليمان‪ ،‬ومناجاة بالجهاد‬
‫والقتال في سبيل ال‪ ،‬لذا فإن الصبر أمر وجودي تترشح عنه خصال حميدة‪،‬‬
‫وأفعال عظيمة ويكون مقدمة للنصر‪ ،‬ورجاء عمليًا لنزول المدد من عند ال عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫لقد كان إنخذال ثلث جيش المسلمين أمرًا محزنًا ومفزعًا‪ ،‬ووفق الحسابات المتعارفة‬
‫يؤدي إلى تثبيط العزائم‪ ،‬وضعف الهمم‪ ،‬وتفشي أسباب الشك في الخروج وعلته‬
‫وغاياته خصوصًا وأن بعضهم طلب من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫البقاء في المدينة مثل رأس النفاق من عبد ال بن أبي بن مسلول نفسه إذ قال)َأِقْم‬
‫عُهْم َيا‬ ‫صْبَنا ِمْنُه َفَد ْ‬
‫ل َأ َ‬
‫عَلْيَنا إ ّ‬
‫خَلَها َ‬
‫ل َد َ‬ ‫ب ِمّنا ‪َ ،‬و َ‬ ‫صا َ‬ ‫ط إل َأ َ‬ ‫ج إَلْيِهْم َق ّ‬
‫خُر ْ‬‫ِباْلَمِديَنِة ل َت ْ‬
‫جِهِهْم‬
‫ل ِفي َو ْ‬ ‫خُلوا َقاَتَلُهْم الّرجا ُ‬‫ن َد َ‬ ‫س َوِإ ْ‬
‫حِب ٍ‬‫شّر َم ْ‬
‫ن َأَقاُموا َأَقاُموا ِب َ‬ ‫ل َفِإ ْ‬
‫لا ّ‬‫سو َ‬ ‫َر ُ‬
‫ن َكَما‬‫خاِئِبي َ‬
‫جُعوا َ‬ ‫جُعوا َر َ‬ ‫ن َر َ‬ ‫ن َفْوِقِهْم َوِإ ْ‬
‫جاَرِة ِم ْ‬‫حَ‬‫ن ِباْل ِ‬
‫صْبَيا ُ‬
‫َوَرَماُهْم الّنساُء َوال ّ‬
‫جاُءوا( )‪.(353‬‬ ‫َ‬
‫وصحيح أن المؤمنين تعرضوا للخسارة يوم أحد ‪ ,‬وقتل عدد من الصحابة وكسرت‬
‫رباعية رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم إل أن الخروج كان هو الفضل‬
‫والنسب‪ ،‬من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬فضح ال عز وجل في الخروج المنافقين‪ ،‬إذ إنخذلوا بثلث الجيش‪ ،‬وهل كان‬
‫هذا الثلث كله منافقين الجواب ل‪ ،‬ولكن رؤوس النفاق فتنوا ضعاف اليمان‬
‫والقلوب‪ ،‬وبثوا الفزع والخوف بينهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الكلم في منافع البقاء وإنهم ما خرجوا إلى عدو قط إل أصاب منهم ليس‬
‫بتام من جهات‪:‬‬

‫‪()352‬السيرة النبوية ‪.2/64‬‬


‫‪ ()353‬السيرة النبوية ‪.2/53‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الولى‪ :‬لقد خرج النبي محمد والمؤمنون في معركة بدر فنصرهم ال نصرًا بينًا ‪,‬‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ )‪.(354‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬ ‫قال تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫الثانية‪ :‬الستشهاد بالوقائع السابقة‪ ،‬قياس مع الفارق‪ ،‬فقد كانوا يقاتلون على الكفر‪،‬‬
‫أما خروج المسلمين فكان جهادًا في سبيل ال‪ ،‬وال عز وجل ناصرهم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬لم يخرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إل بأمر ال عز وجل ‪ ,‬قال‬
‫عِليٌم[ )‪.(355‬‬‫سِميٌع َ‬ ‫ل َ‬
‫ل َوا ُّ‬
‫عَد ِلْلِقَتا ِ‬
‫ن َمَقا ِ‬
‫ئ اْلُمْؤِمِني َ‬ ‫ك ُتَبّو ُ‬‫ن َأْهِل َ‬
‫ت ِم ْ‬ ‫غَدْو َ‬ ‫تعالى]َوِإْذ َ‬
‫وفي خاتمة الية أعله وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه باعث للسكينة في نفوس المسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬فيه وعد كريم للمؤمنين بالنصر والغلبة‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬إمضاء خروج النبي صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫عوِني‬ ‫الرابع‪ :‬دعوة المؤمنين للدعاء والتضرع إلى ال وسؤال النصر ‪ ,‬قال تعالى]اْد ُ‬
‫ب َلُكْم[ )‪.(356‬‬ ‫ج ْ‬
‫سَت ِ‬
‫َأ ْ‬
‫والتذكير بالدعاء في المقام وأن ال عز وجل يسمعه‪ ،‬دعوة لستصحاب ما جرى‬
‫في بدر وأن ال عز وجل سمع دعاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ن َرّبُكْم‬‫وأصحابه‪ ،‬وإستغاثتهم فأنزل ملئكة من السماء مددًا‪ ،‬قال تعالى]ِإْذ َتسَْتِغيُثو َ‬
‫ن اْلَملَِئَكِة[ )‪.(357‬‬ ‫ف ِم ْ‬‫ب َلُكْم َأّني ُمِمّدُكْم ِبَأْل ٍ‬‫جا َ‬‫سَت َ‬
‫َفا ْ‬
‫الرابعة‪ :‬لقد تغير حال المدينة وجاءها المهاجرون‪ ،‬وهم الذين خرجوا في مقدمة‬
‫الجيش مع النصار‪ ،‬وكان حامل لواء المهاجرين مصعب بن عمير ‪ ,‬وقد قاتل دون‬
‫رسول ال حتى قتل‪.‬‬
‫وظن الذي قتله أنه قتل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم)فرجع إلى قريش‬
‫فقال‪:‬قتلت محمدًا( )‪ ،(358‬مما يدل على أن قريشًا جاءت للمعركة وهي تريد قتل‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم على نحو التعيين‪ ،‬ولما قتل مصعب أعطى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم اللواء علي بن أبي طالب‪ ،‬وجلس النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم تحت راية النصار )وصاحب راية النصار سعد بن‬
‫عبادة( )‪ (359‬وقيل هي مع سعد بن معاذ‪ ,‬وفي لواء النصار )قال إبن هشام ‪ :‬كان‬
‫أبيض( )‪.(360‬‬

‫‪ ()354‬سورة آل عمران ‪.123‬‬


‫‪ ()355‬سورة آل عمران ‪.121‬‬
‫‪ ()356‬سورة غافر ‪.60‬‬
‫‪ ()357‬سورة النفال ‪.9‬‬
‫‪ ()358‬السيرة النبوية ‪.2/73‬‬
‫‪()359‬مجمع البيان ‪.2/222‬‬
‫‪()360‬السيرة النبوية ‪.2/423‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وبالضافة إلى لواء المهاجرين ولواء النصار‪ ،‬كانت هناك رايتان سوداوان أمام‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬أحداهما مع المام علي بن أبي طالب عليه‬
‫السلم‪ ،‬وإسمها العقاب‪ ،‬والخرى مع بعض النصار‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬كان خروج النبي بأصحابه إلى أحد مناسبة لكشف وفضح المنافقين‪،‬‬
‫وزحف المهاجرون والنصار لميدان المعركة بإيمان وتفان وإخلص‪ ،‬ولو بقوا في‬
‫المدينة لنزوى المنافقون في بيوتهم وأعطى بعضهم إشارات للكفار‪ ،‬وحصل‬
‫الرباك في صفوف المسلمين‪ ،‬وقد ظهر خذلنهم في واقعة الحزاب عندما قام‬
‫المسلمون بحفر الخندق حول المدينة‪ ،‬إذ أخذ المنافقون بالتسلل إلى أهليهم بغير علم‬
‫سّلُلو َ‬
‫ن‬ ‫ن َيَت َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم ونزل قوله تعالى]َقْد َيْعَلُم ا ُّ‬
‫صيَبُهْم ِفْتَنٌة[ )‪.(361‬‬ ‫ن ُت ِ‬
‫ن َأْمِرِه َأ ْ‬
‫عْ‬
‫ن َ‬ ‫خاِلُفو َ‬
‫ن ُي َ‬
‫حَذْر اّلِذي َ‬
‫ِمْنُكْم ِلَواًذا َفْلَي ْ‬
‫ن َكَفُروا[ الذي ورد في‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫طَرًفا ِم ْ‬‫طَع َ‬‫وهل ما يصيب المنافقين من عمومات ]ِلَيْق َ‬
‫الية محل البحث‪ ،‬الجواب ل‪ ،‬إنما جاءت الية بخصوص الكفار الذين يحاربون‬
‫السلم‪ ،‬ويقاتلون المؤمنين ‪ ,‬نعم يكون من أسباب وآثار قطع طرف من الكفار ‪.‬‬
‫قانون"القطع إجتثاث للكفر’’‬
‫لقد جعل ال عز وجل القرآن مرآة للوقائع‪ ،‬وشاهدًا سماويًا على ما جرى ويجري‬
‫في الرض في أفراد الزمان الطولية من الحوادث ‪ ،‬وجاءت هذه الية بإخبار كريم‬
‫يتضمن الوعد والوعيد‪ ،‬وهذا من إعجاز القرآن بأن تأتي الية جملة خبرية أو بيانًا‬
‫لواقعة‪ ،‬ولكنه ينطبق على مصاديق كثيرة‪ ،‬كما في هذه اليات التي تحكي غزو‬
‫وقتال الكفار للمسلمين‪ ،‬وبطش ال بالكفار ‪ ,‬ويتجلى غزو الكفار ‪ ،‬والتعدد في‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا[)‪.(362‬‬‫تعديهم بقوله تعالى ]وَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫وفي الية وعد كريم للمسلمين والمسلمات بالنصر‪ ،‬فإن قلت يخرج المسلمون‬
‫للجهاد ويخوضون المعارك‪ ،‬ويأتي الوعد رحمة بهم‪ ،‬وسكينة لقلوبهم‪ ،‬أما النساء‬
‫فقد وضع القتال عنهن ‪ ،‬فكيف تكون الية وعدًا لهن‪ ،‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬لمعاشر المسلمات موضوعية في خروج المجاهدين والغزاة إلى سوح‬
‫المعارك في تحريضهم ودعوتهم لبذل الوسع في سبيل ال‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬تخاف النساء على الزواج والبناء والباء‪ ،‬فتأتي هذه الية لبعث السكينة‬
‫في نفوسهن‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬من غايات الكفار التعدي على المسلمين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم‪،‬‬
‫خصوصًا وأن القبائل كانت يغير بعضها على بعض‪ ،‬ويسبون النساء والصبيان‪،‬‬
‫وجاء السلم بحرمة هذه الغارة ‪ ,‬مما زاد من غيظ الكفار‪ ،‬وسعيهم للنتقام‬
‫والبطش بالمؤمنين ومحاولة الشماتة بهم‪ ،‬فجاءت هذه الية واقية من إستحواذ‬
‫الخوف على نفوس المؤمنات‪ ،‬ورأفة من عند ال بهن‪.‬‬

‫‪ ()361‬سورة النور ‪.63‬‬


‫‪()362‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الرابعة‪:‬من المؤمنات من شاركت في القتال في معارك السلم الولى‪ ،‬وذبت عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم سواء كحكم ضرورة أو حاجة أو لمناسبة‬
‫الحال‪ ،‬أو للتطوع والنفاق‪ ،‬وورد بخصوص يوم أحد عن أم عمارة أنها خرجت‬
‫أول النهار تنظر ما يصنع الناس‪ ،‬فرأت الغلبة والنصر للمسلمين‪ ،‬ثم ما لبث‬
‫المسلمون أن إنهزموا بسبب ترك أكثر الرماة الذين على الجبل موضعهم طلبًا‬
‫للغنائم مع أن النبي صلى ال عليه وآله وسلم أمرهم بعدم تركه بكل الحوال‪ ،‬فقام‬
‫المشركون بالهجوم من جهتهم ليأتوا للمسلمين من الخلف‪ ،‬فإنحازت أم عمارة إلى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم تقول )فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف‬
‫وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي( )‪.(363‬‬
‫ل‪َ :‬لَها‬
‫وفي معركة حنين كانت أم سليم زوجة أبي طلحة حاضرة ومعها خنجر)َفَقا َ‬
‫حٌد ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ن َدَنا ِمّني َأ َ‬‫خْذته َمِعي‪ ،‬إ ْ‬ ‫جٌر َأ َ‬ ‫خْن َ‬
‫ت َ‬ ‫سَلْيٍم ؟ َقاَل ْ‬
‫حَة َما َهَذا َمَعك َيا ُأّم ُ‬‫طْل َ‬
‫َأُبو َ‬
‫سَلْيٍم‬
‫ل ُأمّ ُ‬
‫ل َما َتُقو ُ‬
‫لا ّ‬‫سو َ‬‫سَمُع َيا َر ُ‬ ‫حَة َما َت ْ‬‫طْل َ‬
‫ل‪َ :‬أُبو َ‬ ‫جته ِبِه‪َ .‬قا َ‬
‫ن َبَع ْ‬
‫شِرِكي َ‬
‫اْلُم ْ‬
‫صاء( ) (‪.‬‬
‫‪364‬‬
‫الّرمَي َ‬
‫الخامسة‪ :‬شاركت بعض نساء المشركين في القتال)قال إبن إسحاق‪ :‬وقال أبو دجانة‪:‬‬
‫رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا‪ ،‬فصمدت له‪ ،‬فلما حملت عليه السيف ولول‬
‫فإذا امرأة‪ ،‬فأكرمت سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أضرب به امرأة(‬
‫)‪.(365‬‬
‫وحينما تقدمت الصفوف ودنا بعضهم من بعض ‪،‬قامت نساء المشركين بضرب‬
‫الدفوف خلف الرجال‪ ،‬وتحريضهم وقالت هند بنت عتبة‪:‬‬
‫ويهــــا حماة الدبــــــــــــــــــــــــار‬ ‫ويها بنى عبد الـــــــــــــدار‬
‫ضربا بكـــــــــــــــــــــل بتار‬
‫وقالت أيضًا‪:‬‬
‫ونفــــــــــــــــرش النمارق‬ ‫إن تقبلـــــــــــوا نعانـــــــــــق‬
‫فـــــــــراق غير‬ ‫أو تـــــــدبروا نفـــــــــــــــــــارق‬
‫وامــــــــــــق)‪.(366‬‬
‫فجاءت الية لمنع شماتة نساء المشركين بالمسلمين ونسائهم والبشارة بأن كيد‬
‫الكفار يرجع إلى نحورهم‪ ،‬وظن الكفار أن خروج النساء معهم ينفعهم‪ ،‬فكان وبا ً‬
‫ل‬
‫وخزيًا لهم وهو من مصاديق قوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[ ‪.‬‬
‫وأخرج المشركون معهم يوم أحد النساء والطفال والموال كي يدافعوا عنها أمام‬
‫هجوم المسلمين وكانت النتيجة أن إنهزموا ووقعت نساؤهم في السبي كما في‬

‫‪ ()363‬السيرة النبوية ‪. 2/82‬‬


‫‪ ()364‬السيرة النبوية ‪.2/446‬‬
‫‪ ()365‬السيرة النبوية ‪. 2/69‬‬
‫‪ ()366‬السيرة النبوية ‪.2/68‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫هوازن‪ ،‬وفيه قطع ومقدمة لجتثاثهم ‪ ,‬وتعطيل الرحام التي تلد الكفار‪ ،‬وتلك آية‬
‫في بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وتنزيه الرض من الكفر‪.‬‬
‫فقطع طرف من الكفار مطلوب بذاته وهو مقدمة لزوال الكفر‪ ،‬وأحكام هذه الية‬
‫متجددة ومتصلة‪ ،‬فعندما يقطع الطرف من الكفار يصبح الوسط طرفًا فيشمله حكم‬
‫القطع والهلك ليكون الجتثاث تدريجيًا‪ ،‬وهو من مصاديق رحمة ال عز وجل‬
‫بالناس‪ ،‬من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه مناسبة ليتدبر المسلمون في آيات ال وبطشه بالكفار‪ ،‬وقد نزل القرآن‬
‫نجومًا ليسهل حفظه وتلوته ‪ ,‬وكذا إجتثاث الكفر فإنه تدريجي‪.‬‬
‫ك ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫سْلَنا َ‬
‫الثاني‪ :‬التعاقب والتدريج في هلك الكفار من عمومات قوله تعالى]وََما َأْر َ‬
‫ن[ )‪ ،(367‬وما فيه من النذار وتجدد مصاديق الوعيد لبعث الكفار إلى‬ ‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫َر ْ‬
‫التوبة والنابة‪ ،‬وجذب الناس لليمان بالتعاظ والعتبار من كثرة الشواهد في‬
‫هلك الكفار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إنه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم على النبياء‬
‫الخرين من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬لم ينل أحد من النبياء قبل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم النصر‬
‫بهلك الطائفة المقابلة له من الكفار‪ ،‬وإبانة وهلك الذين يعتدون عليه وعلى‬
‫أصحابه‪ ،‬ومن النبياء من قتل لدعوته إلى ال تعالى كما ورد في التنزيل في ذم أمم‬
‫ق[)‪.(368‬‬
‫حّ‬‫ن ِبَغْيِر اْل َ‬
‫ن الّنِبّيي َ‬
‫ل َوَيْقُتُلو َ‬
‫ت ا ِّ‬‫ن ِبآَيا ِ‬‫سابقة]َكاُنوا َيْكُفُرو َ‬
‫الثانية‪ :‬جاء هلك الكفار أيام نوح على نحو دفعي إذ تغشاهم الطوفان‪ ,‬وكذا في‬
‫نزول العذاب بقوم لوط‪ ،‬وقوم صالح‪ ،‬وقوم هود‪ ،‬وفي قوم شعيب قال ال‬
‫ن[ )‪.(369‬‬ ‫جاِثِمي َ‬‫حوا ِفي َداِرِهْم َ‬ ‫صَب ُ‬
‫جَفُة َفَأ ْ‬
‫خَذْتُهْم الّر ْ‬
‫تعالى]َفَأ َ‬
‫الثالثة‪ :‬إنه تحذير متجدد للكفار‪ ،‬وزجر لهم عن التعدي على المسلمين‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬توكيد الملزمة بين التعدي على المسلمين والهلك‪ ،‬لتكون عبرة للجيال‬
‫المتعاقبة من الناس‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬كل قطع من الكفار هو دعوة للناس لدخول السلم‪ ،‬لنه يحدث بمعجزة‬
‫خارقة‪ ،‬وخلفًا لقواعد وسنن القتال‪.‬‬
‫ويتجلى هذا المر في بدايات السلم ومعاركه الولى‪ ،‬إذ كان الكفار هم الذين‬
‫يهجمون على المسلمين ويأتون بالجيوش العظيمة‪ ،‬ثم ما لبثوا أن صاروا حريصين‬
‫على المتناع في ديارهم لما أصابهم من الوهن والضعف‪ ،‬ثم دخل النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم مكة فاتحًا‪ ،‬فمكة لم تكن طرفًا يلي المسلمين‪ ،‬ولكن‬
‫المسلمين زحفوا إليها عندما إزدادت قوتهم وكثر عددهم‪ ،‬لما تختص به من‬
‫الموضوعية العقائدية والتأريخية وغيرها ‪.‬‬
‫‪()367‬سورة النبياء ‪.107‬‬
‫‪()368‬سورة البقرة ‪.61‬‬
‫‪()369‬سورة العراف ‪.79‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وأظهر ال عز وجل دولة السلم ‪ ،‬ولم ينته المر عند مكة وفتحها بل جاء من‬
‫ليس بوسط ليقفز إلى مرتبة الطرف المواجه للمسلمين‪ ،‬كما في هوازن التي ما أن‬
‫سمعت بفتح مكة حتى جمعت الجيوش والقبائل‪ ،‬وجرت واقعة حنين للتنهزم هوازن‬
‫وثقيف‪ ،‬ويتعرضون لخسائر فادحة ويلحقهم الذل الني والجل وإلى يوم القيامة‬
‫بآية من عند ال‪.‬‬
‫وقد يبقى الكفار بعيدين عن جيوش المسلمين‪ ،‬ويتجنبون القتال والمواجهة معهم‪،‬‬
‫فهل تشملهم عمومات القطع ‪ ,‬الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وإن‬
‫إختلفت الوسائل والصيغ‪ ،‬إذ يصل لهم التبليغ والبشارة والنذار والوعد والوعيد‪،‬‬
‫ويبتليهم ال عز وجل بما يجعلهم يلتفتون إلى وظائفهم‪ ،‬ويقربهم إلى منازل التوبة‬
‫والنابة ودعوة الناس للتوبة والنابة‪.‬‬
‫والمدد يوم بدر وأحد آية إعجازية وأمر خارق وخلف نواميس الحياة الدنيا‪،‬‬
‫ودعوة إضافية للناس لدخول السلم‪ ،‬وحجة ظاهرة في ميدان القتال‪ ,‬فيدخل‬
‫المسلمون المعركة بعدد قليل‪ ،‬وعدة غير كافية‪ ،‬ولكن النصر حليف لهم‪ ،‬ومصاحب‬
‫لهم في معاركهم‪.‬‬
‫وتارة يأتي النذار بالمدد الملكوتي مطلوبًا بالذات وليس بالعرض‪ ،‬وتلك آية‬
‫ومعجزة أخرى من معجزات نبوة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والشريعة‬
‫السلمية‪ ،‬فينزل الملئكة لنذار وتخويف الكفار‪ ،‬ليكون نزولهم على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬النزول لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين بالقتال‬
‫أمامهم‪ ،‬وإلى جانبهم كما في معركة بدر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬النزول لبعث الخوف والفزع في قلوب الكفار‪ ،‬وجعلهم ينهزمون أمام‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مجيء الملئكة واقية وحفظًا للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وأصحابه‪ ،‬ويظهر التدبر والتحقيق في نجاة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫من الكيد والمكر ‪ ,‬وسلمته من إرادة إغتياله وقتله في حال السلم والحرب معجزة‬
‫أخرى للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم على صدق نبوته‪ ،‬وهو موضوع وحكم‬
‫يصلح لتأليف مجلدات عديدة تبعث في النفوس الشوق لقتباس الدروس منها‪ ،‬وتزيد‬
‫في اليمان‪.‬‬
‫شْيَناُهمْ َفُهْم َ‬
‫ل‬ ‫غَ‬
‫سّدا َفَأ ْ‬
‫خْلِفِهْم َ‬
‫ن َ‬
‫سّدا َوِم ْ‬
‫ن َأْيِديِهْم َ‬
‫ن َبْي ِ‬
‫جَعْلَنا ِم ْ‬
‫وفي قوله تعالى]َو َ‬
‫ن[ )‪ (370‬قيل أنها نزلت في بني مخزوم إذ حلف أبو جهل)إن رأى محمدا‬ ‫صُرو َ‬
‫ُيْب ِ‬
‫يصلي ليرضخن رأسه‪ ،‬فأتاه وهو يصلي ومعه حجر‪ ،‬ليدمغه به فلما رفع يده أثبتت‬
‫إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد‪ ،‬فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال‬
‫مخزومي اخر ‪ :‬أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى ال عينيه( )‪.(371‬‬

‫‪ ()370‬سورة يس ‪.9‬‬
‫‪ ()371‬الكشاف ‪.3/316‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وعند فتح مكة وما فيه من معاني النصر والظفر لم يكف الكفار عن قصد قتل النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬مع دخول النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ل‪ ،‬وإستقبال أهل مكة له بإعلن‬ ‫لها بعشرة آلف رجل ومن غير أن يلقى قتا ً‬
‫إسلمهم طوعًا وقهرًا ‪.‬‬
‫ومع أن النصارتوقعوا بعد فتح مكة أن يقيم فيها لنها بلده وفيها البيت الحرام‪،‬‬
‫وعندما علم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بمقالتهم قال‪:‬معاذ ال المحيا‬
‫محياكم‪ ،‬والممات مماتكم‪ ،‬ولم يقم النبي في مكة سوى )خمس عشرة ليلة يقصر‬
‫الصلة()‪ ،(372‬وأثناء هذه المدة تعرض للغتيال مما يدل أن فتح مكة محفوف‬
‫بالمخاطر‪ ،‬وأن تهديد الكفار متصل ومستمر‪ ,‬وذكر )ان فضالة بن عمير بن الملوح‬
‫أراد قتل النبي صلى ال عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أفضالة ‪ ,‬قال نعم فضالة يا رسول ال ‪ ,‬قال ‪ :‬ماذا‬
‫كنت تحدث به نفسك ‪ ,‬قال ‪ :‬ل شئ كنت أذكر ال ‪ ,‬فضحك النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ,‬ثم قال استغفر ال ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ‪ ,‬فكان فضالة يقول‬
‫وال ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق ال شيئا أحب إلي منه)‪.(373‬‬
‫أراد أحدهم ممن إلتحق بالمسلمين بعد الفتح قتل النبي صلى ال عليه وآله وسلم قال‬
‫إبن إسحاق )وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قلت‪ :‬اليوم‬
‫أدرك ثأري‪ ،‬وكان أبوه قد قتل يوم أحد‪ ،‬اليوم أقتل محمدًا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأدرت برسول ال صلى ال عليه وسلم لقتله ‪ ,‬فأقبل شئ حتى تغشى فؤادى‬
‫فلم أطق ذاك وعلمت أنه ممنوع مني( )‪.(374‬‬
‫ومنع ال يد الكفار من الوصول إلى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من‬
‫قطعهم و كبتهم‪ ،‬وفيه خيبة لمالهم الزائفة‪ ،‬وحجب لمقاصدهم الخبيثة‪ ،‬وهو سبيل‬
‫لدخول الناس للسلم ‪ ,‬لن هذا المنع من الشواهد على صدق النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم في رسالته ‪ ,‬وتفضيله على النبياء الخرين‪ ،‬لن ال عز وجل كتب‬
‫له الســلمة حتى نزلــت آيات وسور القرآن وأتم ال عز وجل أحكام الشريعة‪،‬‬
‫وسنن الحلل والحرام‪.‬‬
‫وهل سلمة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من مصاديق إمتناع القرآن عن‬
‫التحريف ‪ ,‬الجواب نعم‪ ،‬لن كل يوم يمر من حياة النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم تثبيت ليات القرآن‪ ،‬ومناسبة لستماع الصحابة لها من رسول ال صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وتلوتها وحفظها وتدوينها وكتابتها‪ ،‬وإعطائها شأنًا ومنزلة في‬
‫الواقع اليومي إلى جانب التسليم بوجوب قراءتها في الصلة ‪ ,‬وتنمية ملكة الشوق‬
‫إليها وحبها‪ ،‬والسعي لنيل الثواب بتعاهدها‪.‬‬

‫‪ ()372‬السيرة النبوية ‪. 2/437‬‬


‫‪ ()373‬السيرة النبوية ‪.2/417‬‬
‫‪ ()374‬السيرة النبوية ‪.2/444‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬نزول الملئكة لتحذير الكفار‪ ،‬ومنعهم من دخول المعركة‪ ،‬أي أن الملئكة‬
‫تحضر قبل بدأ القتال‪ ،‬وتجعل الكفار يحسون بوجودها وقصدها وغايتها من نصر‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫لقد فتح النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في السنة الثامنة‬
‫للهجرة‪ ،‬وكان معجزة‪ ،‬ونصرًا عظيمًا‪.‬‬
‫ن َكَفُروا[ ‪ ،‬من وجوه‪:‬‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫طَرًفا ِم ْ‬ ‫طَع َ‬ ‫وفتح مكة من عمومات قوله تعالى]ِلَيْق َ‬
‫الول‪ :‬قدرة المسلمين على نصرة حلفائهم من خزاعة الذين جاءوا للنبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم يشتكون نقض قريش العهد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تجهز رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه لفتح مكة‪ ،‬من غير‬
‫إعتراض من أصحابه ‪ ,‬وإنقياد هم لمره بالتجهز للخروج والغزو من رشحات هذه‬
‫الية الكريمة‪ ،‬وما فيها من البشارة بهلك كبار الكفار‪ ،‬وحصول شواهد عديدة له‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من اليات أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم لم يخف غايته والجهة‬
‫التي يقصدها من التجهز‪ ،‬قال إبن هشام)ثم إن رسول ال صلى ال عليه وسلم أعلم‬
‫الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتجهز وقال " اللهم خذ العيون والخبار‬
‫عن قريش حتى نبغتها في بلدها فتجهز الناس( )‪.(375‬‬
‫ومن المعجزات القريبة التي ترشحت عن دعائه أن أحد أصحاب النبي وهو‬
‫حاطب بن أبي بلتعة بعث كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بأن النبي صلى ال عليه وآله‬
‫ل إن أوصلت الكتاب إلى‬ ‫وسلم يستعد للسير إليهم‪ ،‬وأرسله مع إمرأة وجعل لها جع ً‬
‫قريش‪ ،‬فنزل جبرئيل وأخبر رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم بالمر‪ ،‬فبعث‬
‫المام عليًا بن أبي طالب والزبير بن العوام للحوق بالمرأة‪ ،‬فأدركاها بذي‬
‫الحليفة)‪ ،(376‬فإستنزلها‪ ،‬وفتشا رحلها‪ ،‬فلم يجدا شيئًا‪ ،‬وأنكرت أن تكون عندها‬
‫رسالة‪.‬‬
‫عَلْيِه‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬‫ب َر ُ‬ ‫ل َما ُكِذ َ‬ ‫ف ِبَا ّ‬‫حِل ُ‬ ‫ب ‪ :‬إّني َأ ْ‬ ‫طاِل ٍ‬‫ن َأِبي َ‬ ‫ي ْب ُ‬
‫عِل ّ‬‫ل َلَها َ‬ ‫)َفَقا َ‬
‫جدّ ِمْنُه َقاَل ْ‬
‫ت‬ ‫ت اْل ِ‬
‫شَفّنك َفَلّما َرَأ ْ‬‫ب َأْو َلَنْك ِ‬
‫جن َلَنا َهَذا اْلِكَتا َ‬ ‫خِر َ‬‫ل ُكِذْبَنا ‪َ ،‬وَلُت ْ‬‫سّلم َو َ‬‫َو َ‬
‫عْتُه إَلْيِه َفَأَتى‬
‫ب ِمْنَها ‪َ ،‬فَد َ‬
‫ت اْلِكَتا َ‬ ‫ج ْ‬‫خَر َ‬ ‫سَت ْ‬
‫سَها ‪َ ،‬فا ْ‬ ‫ن َرْأ ِ‬ ‫ت ُقُرو َ‬ ‫حّل ْ‬
‫ض َف َ‬ ‫عَر َ‬ ‫ض َفَأ ْ‬
‫عِر ْ‬ ‫َأ ْ‬
‫طًبا ‪،‬‬ ‫حا ِ‬ ‫عَلْيِه َوسَّلم َ‬‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫عا َر ُ‬ ‫سّلم َفَد َ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ِبِه َر ُ‬
‫‪ ()375‬السيرة النبوية ‪.2/397‬‬
‫‪ ()376‬سمي ذا الحليفة لن أناسا ً اجتمعوا فيه قبل السلم‬
‫وتحالفوا‪ .‬وعن القاموس انه ماء لبني جشم‪ ،‬وقد أحرم منه‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنه لما أسري به إلى‬
‫السماء وصار بحـــذاء الشجرة نودي يا محمد فقال صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم‪ :‬لبيك‪ ،‬قال‪ :‬ألم أجدك يتيما ً فآويتك‪،‬‬
‫وألم أجدك ضال ً فهديتك‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم‪ :‬إن الحمد والنعمة والملك لك ل شريك لك‪ ،‬فلذلك‬
‫أحرم من الشجرة دون المواضع كلها"‪،‬ويسمى أيضا ً‬
‫الحليفة‪ ،‬وهو ميقات أهل المدينة‪ ،‬ومن يمر على طريقهم‪،‬‬
‫وهو نفسه مسجد الشجرة ‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ن ِبَا ّ‬
‫ل‬ ‫ل إّني َلُمْؤِم ٌ‬ ‫ل َأَما َوَا ّ‬
‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ل َيا َر ُ‬ ‫عَلى َهَذا " ؟ َفَقا َ‬ ‫حَمَلك َ‬ ‫ب َما َ‬ ‫ط ُ‬ ‫حا ِ‬‫ل " َيا َ‬ ‫َفَقا َ‬
‫ل َو َ‬
‫ل‬ ‫صٍ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫س ِلي ِفي اْلَقْوِم مِ ْ‬ ‫ئ َلْي َ‬‫ل َبّدْلت ‪َ ،‬وَلِكّني ُكْنت اْمِر ِ‬ ‫غّيْرت َو َ‬ ‫سوِلِه َما َ‬ ‫َوَر ُ‬
‫طاب ‪َ ،‬يا‬ ‫خّ‬ ‫ن اْل َ‬
‫عَمُر ْب ُ‬‫ل ُ‬‫صاَنْعتهْم َفَقا َ‬ ‫ل َف َ‬ ‫ظُهِرِهْم َوَلٌد َوَأهْ ٌ‬ ‫ن َأ ْ‬‫ن ِلي َبْي َ‬ ‫شيَرٍة ‪َ ،‬وَكا َ‬ ‫عِ‬‫َ‬
‫عَلْيِه‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ل َقْد َناَفقَ َفَقا َ‬‫ن الّرج َ‬ ‫عُنَقُه َفِإ ّ‬‫ب ُ‬ ‫ضِر ْ‬ ‫ل ْ‬ ‫عِني َف َْ‬‫ل َد ْ‬‫لا ّ‬‫سو َ‬ ‫َر ُ‬
‫عَمُلوا‬ ‫لاْ‬ ‫ب َبْدٍر َيْوَم َبْدٍر " َفَقا َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صَ‬‫طلَع إَلى َأ ْ‬ ‫ل َقْد ا ّ‬
‫لا ّ‬ ‫عَمُر َلَع ّ‬ ‫سّلم " َوَما ُيْدِريك َيا ُ‬ ‫َو َ‬
‫غَفْرت َلُكم( )‪.(377‬‬ ‫شْئُتْم ‪َ ،‬فَقْد َ‬
‫َما ِ‬
‫الرابع‪ :‬كشف السرار والخبار أمارة على سلمة إختيار السير بإتجاه مكة‪ ،‬وهو‬
‫من قطع طرف من الكفار‪ ،‬لنه مانع من إستعدادهم‪ ،‬والمناجاة فيما بينهم للقتال‪،‬‬
‫وفيه بعث للفزع والخوف في نفوسهم‪ ،‬ونوع تحد جديد لم يخطر على بالهم ل أقل‬
‫في السنين الولى لبعثة وهجرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬عندما وصل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إلى مكة دخل الناس‬
‫بيوتهم وأغلقوا أبوابهم لن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم قال‪ ) :‬من دخل‬
‫دار أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق بابه فهو آمن‪ ،‬ومن دخل المسجد فهو آمن(‬
‫)‪ ،(378‬وفي غلق أبوابهم عليهم قطع لطرف من الكفار‪ ،‬وهو كبت وخزي لهم ‪,‬‬
‫ولمن خلفهم من الكفار‪.‬‬
‫فهم لم يغلقوا أبوابهم فحسب‪ ،‬بل أغلقوا باب التعدي والهجوم على المدينة المنورة‬
‫ونواة وعاصمة الدولة السلمية الولى إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو من فضل ال عز‬
‫وجل على المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتتالية‪ ،‬نعم أراد بعض رجالت قريش‬
‫القتال يومئذ فصاحبهم ولحقهم الخزي والذل‪ ،‬أما مصاحبته لهم فلقلتهم وهم نفر‬
‫قليل‪ ،‬ولن أغلب أهل مكة دخلوا بيوتهم‪ ،‬وأما ملحقته لهم فلمبادرتهم للهرب ‪,‬‬
‫وإصابتهم بالفزع وإعترافهم بالخور والجبن‪.‬‬
‫فقد ذكر أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمروا وهو الذي مّثل قريشًا في صلح‬
‫الحديبية وخطيب قريش ‪ ,‬وعكرمة بن أبي جهل جمعوا أناسًا للقتال‪ ،‬وكان معهم‬
‫حماس بن قيس نهته زوجته عن الخروج عندما رأته يصلح له سلحًا وقالت له‪:‬‬
‫وال ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء‪ ،‬قال‪ :‬وال أني لرجو أن أخدمك بعضهم ‪,‬‬
‫فإنهزم هذا الجمع القليل من المشركين عندما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن‬
‫ل وعاد حماس إلى بيته وقال لمرأته‪:‬‬ ‫الوليد‪ ،‬بعد أن قتل منهم نحو إثني عشر رج ً‬
‫أغلقي علي بابي‪ ،‬قالت‪ :‬فأين ما كنت تقول ‪ ,‬فقال شعرًا يوثق خزيهم‪ ،‬وينهي فترة‬
‫التعدي على المسلمين‪ ,‬ويؤكد قطع طرف الكفار ووسطهم أيضًا ‪ ،‬إذ قال أبياتًا منها‪:‬‬
‫عْكِرَمــــــــْه‬ ‫ن َوَفّر ِ‬ ‫إْذ َفّر صْفـــَوا ُ‬ ‫خْنَدَمْه‬
‫شِهْدت َيْوَم اْل َ‬ ‫إّنك َلْو َ‬
‫سِلَمْه‬
‫ف اْلمُ ْ‬
‫سيو ِ‬ ‫واستقبلتهـــم ِبال ّ‬ ‫َوَأُبو َيِزيَد) ( َقاِئٌم َكاْلُموِتَمـــْه‬
‫‪379‬‬

‫‪ ()377‬السيرة النبوية ‪.2/99‬‬


‫‪()378‬الروض النف ‪.4/155‬‬
‫‪ ()379‬أبو يزيد هو سهيل بن عمرو ‪ ,‬والمؤتمة‪ :‬المرأة التي‬
‫مات زوجها وترك لها أيتامًا‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫غْمَغَمْه‬‫ل َ‬ ‫سَمُع إ ّ‬ ‫ل ُي ْ‬
‫ضـــــــــــْرًبا َف َ‬ ‫َ‬ ‫جَمْه‬‫جْم ُ‬
‫عٍد َو ُ‬ ‫سا ِ‬‫ل َ‬ ‫ن ُك ّ‬ ‫طْع َ‬
‫َيْق َ‬
‫طِقي ِفي الّلْوِم َأْدَنى َكِلَمْه) (‪.‬‬
‫‪380‬‬
‫َلْم َتْن ِ‬ ‫خْلَفَنا َوَهْمَهَمـــــْه‬‫ت َ‬ ‫َلُهْم َنِهي ٌ‬
‫وكان النبي قد عهد إلى أمرائه من المسلمين أن يدخلوا مكة ول يقاتلون إل من‬
‫قاتلهم ‪ ,‬مع شدة الضرر والمكر والذى الذي جاء من الكفار ‪ ،‬وفيه أيضًا قطع‬
‫لطرف منهم ‪ ،‬وهلك لكبرائهم ‪ ،‬ورسالة إلى عموم الكفار والمشركين بالكف عن‬
‫محاربة السلم‪.‬‬
‫وفي فتح مكة في المقام مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تجلي آية واضحة في قطع طرف من الكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬فتح البلد الذي يصدر الناس منه لقتال المسلمين‪.‬‬
‫ل َهَذا اْلَبَلَد آِمًنا[) ( فالمن والسلمة‬
‫‪381‬‬
‫جَع ْ‬‫باْ‬‫الثالثة‪ :‬فيه مصداق لدعاء إبراهيم]َر ّ‬
‫بسيادة مبادئ السلم ‪.‬‬
‫السادس‪ :‬لقد أمر ال عز وجل إبراهيم أن يدعو الناس لحج البيت الحرام‪ ,‬بعد رفع‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ل‬ ‫ل وَ َ‬‫جا ً‬‫ك ِر َ‬ ‫ج َيْأُتو َ‬
‫حّ‬ ‫س ِباْل َ‬‫ن ِفي الّنا ِ‬ ‫قواعده وشيد بناءه ‪ ,‬قال تعالى ]َوَأّذ ْ‬
‫ق[)‪.(382‬‬ ‫عِمي ٍ‬ ‫ج َ‬ ‫ل َف ّ‬
‫ن ُك ّ‬ ‫ن ِم ْ‬‫ضاِمٍر َيْأِتي َ‬
‫َ‬
‫وجاء فتح مكة ليكون بداية متجددة لدعوة الناس إلى يوم القيامة للحج‪ ،‬وفيه إشارة‬
‫إلى لزوم مواصلة المسلمين الجهاد للغزو والفتح لتيسير مجيء الحجاج من‬
‫الطراف والماكن البعيدة ‪ ,‬فمن فضل ال قطع طرف من الكفار ‪ ,‬وظهور أطراف‬
‫منيعة للمسلمين تؤدي المناسك ‪ ,‬وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر )وعن الحسن‬
‫في الية أعله أنه خطاب لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أمر أن يفعل ذلك في‬
‫حجة الوداع()‪.(383‬‬
‫فإن قلت أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم أمر يوم فتح مكة بقتل نفر‬
‫سماهم‪ ،‬وإن وجدوا تحت أستار الكعبة‪ ،‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إن ال عز وجل أحل مكة لرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم ساعة من‬
‫نهار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من الذين أمر النبي بقتلهم من كان عليه دم‪ ،‬مثل عبد ال بن خطل الذي بعثه‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لجمع الصدقات‪ ،‬ولكنه عدا على مولى له كان‬
‫صر في خدمته‪ ،‬ولم يصنع له طعامًا‪ ،‬فقتله وإرتد مشركًا‪.‬‬ ‫معه ق ّ‬
‫وكذا الحويرث بن نقيذ الذي كان ممن يؤذي رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫لا ّ‬
‫ل‬ ‫سو ِ‬ ‫ي َر ُ‬‫طَمَة َوُأّم ُكْلُثوٍم‪ ،‬اْبَنَت ْ‬ ‫ل َفا ِ‬ ‫حَم َ‬
‫ب َ‬‫طل ِ‬ ‫عْبِد اْلُم ّ‬
‫ن َ‬ ‫ن اْلَعّباس ْب ُ‬ ‫في مكة)َوَكا َ‬
‫ن ُنَقْيٍذ‬‫ث ْب َ‬‫حَوْيِر َ‬ ‫س ِبِهَما اْل ُ‬ ‫خ َ‬ ‫ن َمّكة ُيِريُد ِبِهَما اْلَمِديَنَة ‪َ ،‬فَن َ‬ ‫سّلم ِم ْ‬‫عَلْيِه َو َ‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫َ‬

‫‪()380‬الروض النف ‪.4/163‬‬


‫‪ ()381‬سورة البقرة ‪.26‬‬
‫‪()382‬سورة الحج ‪.27‬‬
‫‪()383‬الكشاف ‪.11 /3‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ض( )‪ ،(384‬قال إبن إسحاق‪ :‬وإنما أمر رسول ال صلى ال عليه‬ ‫َفَرَمى ِبِهَما إَلى الْر ِ‬
‫وآله وسلم بقتله‪ ،‬لقتله النصاري الذي كان قتل أخاه خطأ‪ ،‬ورجوعه إلى قريش‬
‫مشركًا‪ ،‬وقتله علي بن أبي طالب)‪.(385‬‬
‫الثالث‪ :‬أكثر هؤلء النفر الذين أمر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بقتلهم عفا‬
‫عنهم‪ ،‬مع شدة إيذائهم له وللصحابة والسلم‪ ،‬منهم‪:‬‬
‫الول‪ :‬عكرمة بن أبي جهل الذي هرب إلى اليمن‪ ،‬وأسلمت إمرأته أم حكيم بنت‬
‫الحارث بن هشام‪ ،‬فأستأمنت به من رسول ال‪ ،‬فآمّنه‪ ،‬ورجع وأسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬سارة مولة لبعض بني عبد المطلب إستؤمن لها من رسول ال صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم فأمّنها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬عبد ال بن سعد وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاعة وكان يكتب‬
‫الوحي لرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم فإرتد مشركًا‪ ،‬وعند الفتح أخفاه عثمان‬
‫وإستأمن له‪.‬‬
‫ل الّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ت َلّما َنَز َ‬ ‫الرابع‪ :‬رجلن إستأمنت لهما أم هاني بنت أبي طالب التي )َقاَل ْ‬
‫خُزوٍم ‪،‬‬ ‫ن َبِني َم ْ‬ ‫حَماِئي ‪ِ ،‬م ْ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫ن ِم ْ‬‫لِ‬ ‫جَ‬‫ي َر ُ‬ ‫عَلى َمّكة ‪َ ،‬فّر إَل ّ‬ ‫سّلم َ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬‫ل َ‬‫صّلى ا ّ‬ ‫َ‬
‫طاِل ٍ‬
‫ب‬ ‫ن َأِبي َ‬ ‫ي ْب ُ‬‫عِل ّ‬
‫ي َ‬ ‫عَل ّ‬
‫ل َ‬ ‫خَ‬‫ت َفَد َ‬‫ي ‪َ ،‬قاَل ْ‬‫خُزوِم ّ‬ ‫ب اْلَم ْ‬‫ن َأِبي َوْه ٍ‬ ‫عْنَد ُهَبْيَرَة ْب ِ‬
‫ت ِ‬ ‫َوَكاَن ْ‬
‫صّلى الّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫جْئت َر ُ‬ ‫ب َبْيِتي ‪ُ ،‬ثّم ِ‬ ‫عَلْيِهَما َبا َ‬‫غَلْقت َ‬ ‫لْقُتَلنُهَما ‪َ ،‬فَأ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ل َوَا ّ‬ ‫خي ‪َ ،‬فَقا َ‬ ‫َأ ِ‬
‫طَمُة‬‫ن َوَفا ِ‬ ‫جي ِ‬ ‫لَثَر اْلَع ِ‬‫ن ِفيَها َ‬ ‫جْفَنٍة إ ّ‬‫ن َ‬ ‫ل ِم ْ‬
‫سُ‬ ‫جْدته َيْغَت ِ‬ ‫عَلى َمّكة ‪َ ،‬فَو َ‬ ‫سّلم َوُهَو ِبَأ ْ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬ ‫َ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ن‬ ‫صّلى َثَماِني َرَكَعا ٍ‬ ‫شح ِبِه ُثّم َ‬ ‫خَذ َثْوَبُه َفَتَو ّ‬‫ل َأ َ‬‫سَ‬‫غَت َ‬‫سُتُرُه ِبَثْوِبِه َفَلّما ا ْ‬ ‫اْبَنُتُه َت ْ‬
‫خَبَر‬‫خَبْرته َ‬ ‫جاَء ِبك ؟ " َفَأ ْ‬ ‫ئ َما َ‬ ‫ل َيا ُأّم َهاِن ٍ‬‫حًبا َوَأْه ً‬ ‫ل َمْر َ‬ ‫ي َفَقا َ‬‫ف إَل ّ‬‫صَر َ‬ ‫ضحى ُثّم اْن َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن َأّمْنت ‪َ ،‬فلَ َيْقُتْلُهَما(‬ ‫جْرت ‪َ ،‬وَأّمّنا َم ْ‬ ‫ن َأ َ‬‫جْرَنا َم ْ‬ ‫ل " َقْد َأ َ‬ ‫ي َفَقا َ‬
‫عِل ّ‬‫خَبَر َ‬ ‫ن َو َ‬ ‫الّرجَلْي ِ‬
‫)‪.(386‬‬
‫الرابعة‪ :‬كان فتح مكة بداية لغزوات وفتوحات كثيرة‪.‬‬
‫وهل كان فتح مكة إجتثاثًا للكفر في الجزيرة بإعتبار أن مكة أم القرى قال‬
‫حْوَلَها[ )‪ ،(387‬الجواب ل‪ ،‬بل كان قطعًا لطرف من‬ ‫ن َ‬ ‫تعالى]َوِلُتنِذَر ُأّم اْلُقَرى َوَم ْ‬
‫الكفار ‪ ,‬وآية في المدد والنصر اللهي للنبي مجمد صلى ال عليه وآله وسلم إذ‬
‫زحفت هوازن لقتال النبي عندما سمعت بفتح مكة‪ ،‬وتلك مسألة غير متوقعة‪ ،‬فقد‬
‫تناقلت الخبار كثرة جيش المسلمين وأنهم عشرة آلف رجل‪ ،‬وأن قريشًا مع هيبتها‬
‫وشأنها ومن معها من القبائل عجزت عن اللقاء‪ ،‬وسارعوا إلى غلق أبوابهم عليهم‬
‫طلبًا للمان‪ ,‬ومع هذا جاءت هوازن للقتال ‪ ,‬والجهاز على المسلمين ‪.‬‬
‫قانون"ل يصيب المشركون منا مثلها’’‬

‫‪ ()384‬السيرة النبوية ‪.2/410‬‬


‫‪ ()385‬انظر الروض النف ‪.4/167‬‬
‫‪ ()386‬السيرة النبوية‪ /‬إبن كثير ‪.3/568‬‬
‫‪ ()387‬سورة النعام ‪.92‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫هذا القانون مقتبس من حديث لرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم قاله لعلي بن أبي‬
‫طالب بعد إنقضاء معركة أحد ‪ ,‬وتمام الحديث هو‪ ) :‬ل يصيب المشركون منا مثلها‬
‫حتى يفتح ال علينا( )‪ ،(388‬وإعطاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم سيفه إلى‬
‫إبنته فاطمة عليها السلم‪ ،‬وقال لها إغسلي عن هذا دمه يا بنية‪ ،‬فو ال لقد صدقني‬
‫اليوم‪ ،‬مما يدل على أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم قاتل يوم أحد بسيفه‬
‫ل شديدًا‪.‬‬
‫قتا ً‬
‫ويصح هذا الحديث أن يكون قانونًا لما فيه من الموجبة الكلية المنبسطة على أفراد‬
‫الزمان الطولية إلى يوم القيامة في منع الكفار من النيل من المسلمين ‪ ,‬وهو من‬
‫ل[)‪ ،(389‬إل على‬‫سِبي ً‬
‫ن َ‬‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن َ‬
‫ل ِلْلَكاِفِري َ‬
‫ل ا ُّ‬
‫جَع َ‬
‫ن َي ْ‬
‫عمومات قوله تعالى]َوَل ْ‬
‫القول بأن الكفر ينحسر ويزول من الرض قبل يوم القيامة‪ ،‬وهو ل يتعارض مع‬
‫ماهية هذا القانون ‪.‬‬
‫ويدل الحديث بالدللة التضمنية على أن المسلمين لقوا الضرر والذى الشديد يوم‬
‫ل ‪ ،‬منهم حمزة عم‬ ‫أحد‪ ،‬فقد قتل من المهاجرين والنصار خمسة وستون رج ً‬
‫النبي ‪ ,‬ولما وقف عليه رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم قال‪ :‬لن أصاب بمثلك‬
‫أبدًا‪ ،‬وما وقفت موقفًا أغيظ إلي من هذا‪ :‬ثم قال‪ :‬جاءني جبرئيل فأخبرني أن حمزة‬
‫بن عبد المطلب مكتوب في أهل السماوات السبع‪ :‬حمزة بن عبد المطلب‪ ،‬أسد ال‪،‬‬
‫وأسد رسوله( )‪ (390‬وكان حمزة أخا رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم من‬
‫الرضاعة أرضعتهما مولة لبي لهب‪.‬‬
‫لقد خففت مصيبة رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم عن النصار والمهاجرين‬
‫مصائبهم بقتلهم‪ ،‬ولم ينحصر هذا التخفيف بالرجال منهم‪ ،‬بل شمل النساء أيضًا‪،‬‬
‫فحينما مّر رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم على بيوت النصار سمع نياحًا‬
‫وبكاء فسأل‪ :‬قالوا‪ :‬يارسول ال إن نساء النصار يندبن قتلهن‪ ،‬فقال‪ :‬أليس لحمزة‬
‫من يبكيه‪ ،‬وعندما سمعن نساء النصار ما قال النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم ذهبن إلى بيته معزيات نادبات فشكر لهن فعلهن‪.‬‬
‫وقال المقريزي من رجال القرن الثامن الهجري‪ ،‬ول زالت نساء أهل المدينة تبدأ‬
‫عند مصيبة الموت بنعي وندب الحمزة(‪ ،‬لتكون فيه آية‪ ،‬فهذا الندب يأتي من منازل‬
‫الشكر ل عز وجل على نعمة سيادة السلم ونفاذ أحكامه في المصار‪ ،‬وعدم‬
‫تكرر مصيبة مثل مصيبة حمزة وباقي قتلى أحد‪.‬‬
‫وقول النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في قتل الحمزة)لن أصاب بمثلك أبدًا(‬
‫من مصاديق هذا القانون بلحاظ أنه لم يحدث أن قتل مثل الحمزة في القرب والرحم‬
‫من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في معارك السلم اللحقة‪ ،‬وقد كان‬

‫‪ ()388‬السيرة النبوية‪ /‬إبن كثير ‪.3/94‬‬


‫‪ ()389‬سورة النساء ‪. 141‬‬
‫‪ ()390‬السيرة النبوية ‪. 2/96‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫المام علي عليه السلم يقاتل وسط كل معركة‪ ,‬ويذب عن النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم‪ ،‬وإشترك العباس في القتال كما في معركة حنين‪.‬‬
‫عِل ّ‬
‫ي‬ ‫ل َبْيِتِه َ‬‫ن َأْه ِ‬‫عَمُر َوِم ْ‬ ‫ن َأُبو َبْكٍر َو ُ‬ ‫جِري َ‬ ‫ن اْلُمَها ِ‬ ‫ت َمَعُه ِم ْ‬ ‫ن َثَب َ‬ ‫قال إبن هشام )َوِفيَم ْ‬
‫ل ْب ُ‬
‫ن‬ ‫ضُ‬ ‫ث َواْبُنُه َواْلَف ْ‬ ‫حاِر ِ‬ ‫ن اْل َ‬ ‫ن ْب ُ‬‫سْفَيا َ‬‫ب ‪َ ،‬وَأُبو ُ‬ ‫طل ِ‬ ‫عْبِد اْلُم ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ب َواْلَعّباس ْب ُ‬ ‫طاِل ٍ‬ ‫ن َأِبي َ‬ ‫ْب ُ‬
‫ل َيوَْمِئٍذ() (‪،‬‬
‫‪391‬‬
‫عَبْيٍد ‪ُ ،‬قِت َ‬‫ن ُ‬ ‫ن ْب ُ‬ ‫ن َزْيٍد َوَأْيَم ُ‬ ‫ساَمُة ْب ُ‬ ‫ث ‪َ ،‬وُأ َ‬ ‫حاِر ِ‬ ‫ن اْل َ‬‫اْلَعّباس َوَرِبيَعُة ْب ُ‬
‫ن ِمْنُكْم َأ ْ‬
‫ن‬ ‫طاِئَفَتا ِ‬
‫ت َ‬ ‫وأصاب الخوف والخور فريقًا من المؤمنين ‪ ,‬قال تعالى]ِإْذ َهّم ْ‬
‫ل َوِلّيُهَما[)‪.(392‬‬ ‫ل َوا ُّ‬ ‫شَ‬‫َتْف َ‬
‫ونزلت الية في حيين من النصار هما‪:‬‬
‫الول‪ :‬بنو سلمة بن جشم بن الخزرج‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬بنو الحارثة بن النبيت من الوس‬
‫والهم أول القصد والعزم‪ ،‬وما قبل الفعل‪ ،‬ولم يحدث مثل هذا الهم في المعارك‬
‫اللحقة للمسلمين من أي جناح من المهاجرين والنصار وهو من عمومات التوكل‬
‫على ال الذي ورد في خاتمة الية أعله ‪ ,‬ومن مفاهيم هذا القانون أن هذا الهم مما‬
‫أصاب المسلمين يوم أحد‪ ،‬ولم يطرأ على فرقة منهم في المعارك اللحقة‪.‬‬
‫وحصول الهم عند الطائفتين من النصار هو المروي عن إبن عباس وجابر بن عبد‬
‫ال والحسن وقتادة ومجاهد‪ ،‬والمام الباقر والصادق عليهما السلم()‪ ، (393‬ومن‬
‫اليات في تأريخ الصحابة والسلم وبركات ومنافع الية القرآنية أنه لم يحدث هّم‬
‫من تلكما الطائفتين أو من غيرهما ‪ ،‬نعم قد يحدث على نحو القضية الشخصية‪ ،‬كما‬
‫حدث حين إستنفر رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم الناس إلى تبوك ‪ ,‬وقال‬
‫عَلْيِه‬ ‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫إنفروا لعلكم تغنمون بنات الصفر‪ ،‬وقال إبن هشام )َفَقا َ‬
‫ل َلك‬ ‫جّد ‪َ ،‬ه ْ‬ ‫سِلَمَة ‪َ :‬يا َ‬ ‫حِد َبِني َ‬ ‫س َأ َ‬‫ن َقْي ٍ‬ ‫ك ِلْلجَّد ْب ِ‬ ‫جَهاِزِه َذِل َ‬ ‫ت َيْوٍم َوُهَو ِفي ِ‬ ‫سّلم َذا َ‬‫َو َ‬
‫ل َلَقْد‬‫ل َتْفِتّني ؟ َفَوَا ّ‬ ‫ن ِلي َو َ‬ ‫ل َأَوَتْأَذ ُ‬‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ل َيا َر ُ‬ ‫صَفِر ؟ " َفَقا َ‬ ‫ل ْ‬ ‫لِد َبِني ا َْ‬ ‫جَ‬ ‫اْلَعاَم ِفي ِ‬
‫ساَء‬ ‫ن َرَأْيت ِن َ‬ ‫شى إ ْ‬ ‫خَ‬ ‫جًبا ِبالّنساِء ِمّني ‪َ ،‬وِإّني َأ ْ‬ ‫عْ‬ ‫شّد ُ‬ ‫ل ِبَأ َ‬‫جٍ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫ف َقْوِمي َأّنه َما ِم ْ‬ ‫عَر َ‬ ‫َ‬
‫ل " َقْد‬ ‫عَلْيِه َوسَّلم َوَقا َ‬ ‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫عْنُه َر ُ‬ ‫ض َ‬ ‫عَر َ‬ ‫صِبَر َفَأ ْ‬‫ل َأ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫صَفِر َأ ْ‬‫ل ْ‬ ‫َبِني ا َْ‬
‫ل َتْفِتّني َأ َ‬
‫ل‬ ‫ن ِلي َو َ‬ ‫ل اْئَذ ْ‬ ‫ن َيُقو ُ‬ ‫لَيُة ) ( َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫‪394‬‬
‫تا ْ‬ ‫س َنَزَل ْ‬ ‫ن َقْي ٍ‬ ‫جّد ْب ِ‬
‫َأِذْنت َلك َفِفي اْل َ‬
‫طوا[) ( عن إبن عباس ومجاهد‪.‬‬ ‫‪395‬‬
‫سَق ُ‬
‫ِفي اْلِفْتَنِة َ‬
‫ولما نزلت الية أعله قال رسول صلى ال عليه وآله وسلم لبني سلمة من سيدكم ‪,‬‬
‫قالوا‪ :‬جّد بن قيس غير أنه بخيل جبان‪ ،‬فقال عليه السلم‪ :‬وأي داء أدوي من البخل‪،‬‬
‫بل سيدكم الفتى البيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور فقال حسان بن ثابت‪:‬‬
‫و قال رسول ال و القــــــــــــــــول لحق‬

‫‪ ()391‬السيرة النبوية ‪.2/443‬‬


‫‪ ()392‬الية ‪. 122‬‬
‫‪()393‬مجمع البيان ‪.495 /2‬‬
‫‪()394‬السيرة النبوية ‪.2/516‬‬
‫‪()395‬سورة التوبة ‪.49‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫بمن قال منا من تعـــــــــــــــــدون سيدا‬
‫فقلنــــــــــــــــــا له جد بن قيس على الذي‬
‫نبخله فينــــــــــــــــــــــا و إن كان أنكدا‬
‫فقال و أي الـــــــــــــــــداء أدوى من الذي‬
‫رميتم به جـــــــــــــــدا و إن كان أمجدا‬
‫و سود بشر بن البــــــــــــــــــــــــــراء لجوده‬
‫و حق لبشر ذي النــــــــــــدا أن يسودا‬
‫إذا ما أتاه الوفـــــــــــــــــــــــــــــد أنهب ماله‬
‫و قال خــــــــــــــــــــــذوه إنه عائد غدا‪.‬‬
‫ول يدل الخبر على أن هّم بني سلمة بالفشل يوم أحد بسبب رئيسهم وسيدهم الذي‬
‫ي على النسحاب والهزيمة‪،‬‬ ‫يتصف بالخوف والجبن وأنه أراد تحريض الح ّ‬
‫خصوصًا وأن صورة إنخزال عبد ال بن أبي سلول بثلث الجيش حاضرة في‬
‫الوجود الذهني لقربها زمانًا‪ ،‬وتعلقها بموضوع القتال في أحد‪ ،‬إذ أنهم إنخزلوا في‬
‫الطريق إلى أحد ‪ ,‬ولن كل مؤمن منهم توجه له المر بالجهاد والدفاع‪.‬‬
‫وفي بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية لم يتخلف ال الجد وقال جابر بن‬
‫عبدال‪ :‬فبايع رسول ال صلى ال عليه وسلم الناس ‪ ,‬ولم يتخلف عنه أحد من‬
‫المسلمين حضرها إل الجد بن قيس أخو بني سلمة‪ ،‬فكان جابر بن عبدال يقول‪:‬‬
‫وال لكأني أنظر إليه لصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها )‪ ،(396‬يستتر بها من الناس)‪،(397‬‬
‫وجاء تنصيب بشر لتدارك الخلل في رئاسة هذا الحي من النصار فإن قلت لماذا لم‬
‫يحدث هذا التغيير بعد معركة أحد مباشرة‪ ،‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ل يتكلم ويأمر وينهى إل بأمر من‬
‫حى[ )‪ , (398‬ومنه‬ ‫ي ُيو َ‬‫حٌ‬‫ل َو ْ‬
‫ن ُهَو ِإ ّ‬ ‫ن اْلَهَوى * ِإ ْ‬ ‫عْ‬ ‫ق َ‬‫طُ‬
‫عند ال ‪ ,‬قال تعالى]َوَما َيْن ِ‬
‫زمان الكلم ‪.‬‬
‫ل[دعوة لهم ولغيرهم من‬ ‫شَ‬ ‫ن َتْف َ‬‫ن ِمْنُكْم َأ ْ‬
‫طاِئَفَتا ِ‬
‫ت َ‬‫الثاني‪ :‬جاء قوله تعالى]ِإْذ َهّم ْ‬
‫المؤمنين لجتناب الخور والجبن والعزم على النسحاب والفرار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الصل هو ترتب الثر على الية القرآنية‪ ،‬وإمتناع المسلمين عن الجبن‬
‫والخوف وهو الذي حصلت مصاديقه في المعارك اللحقة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬جاءت الية أعله بالخبار عن ولية ال للطائفين ‪ ,‬والولية أعم من مسألة‬
‫تغيير رئيس الحي ‪ ،‬إذ تتضمن الصلح لمور الدين والدنيا‪ ،‬وجاء تبديل الرئيس‬
‫فيما بعد من قبل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ليكون من مصاديق هذه‬
‫الولية‪.‬‬

‫‪()396‬ضبأ إليها ‪ :‬احتمى بها‪.‬‬


‫‪()397‬السيرة النبوية ‪.3/276‬‬
‫‪ ()398‬سورة النجم ‪.4-3‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الخامس‪ :‬نزول الملئكة مددًا للمسلمين في معركة أحد‪ ،‬وفيه تعضيد للمؤمنين‪،‬‬
‫وطرد للخوف والفزع من نفوسهم‪ ،‬وجاء الوعد بالمدد من جديد في قوله تعالى]َبَلى‬
‫لِئَكِة[‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬‫ل ٍ‬
‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫ن َت ْ‬
‫ِإ ْ‬
‫) ( ليكون سببًا لصبر المؤمنين في ميادين القتال‪ ،‬وشد عزائمهم‪ ،‬وإقبالهم على‬ ‫‪399‬‬

‫ملقاة العداء‪.‬‬
‫السادس‪ :‬حينما جاء أوان معركة تبوك أظهر جد بن قيس خوفه وتردده‪ ،‬مع عصمة‬
‫أفراد حيه من الخوف ‪ ,‬وهو شاهد على المنافع العظيمة لقوله تعالى ) اذ همت‬
‫طائفتان ‪ (..‬والتي نزلت في معركة أحد ‪ ,‬ولم يظهر الخوف والجبن على أفراد هذا‬
‫الحي من النصار بعد أحد مع كثرة المعارك التي خاضها المسلمون وطول المدة‪،‬‬
‫إذ جرت معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة‪ ،‬ووقعت معركة تبوك في السنة‬
‫التاسعة للهجرة‪.‬‬
‫السابع‪ :‬إتصف الخروج إلى معركة تبوك بخصوصية من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬كان الزمان زمن عسرة وشدة من الحرب‪ ،‬وجدب في البلد‪ ،‬ثم طابت‬
‫الثمار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم إذا أراد الخروج للغزو كنى عن‬
‫جهته وغايته في الغالب‪ ،‬أما في غزوة تبوك فإنه صلى ال عليه وآله وسلم أعلن‬
‫الجهة والقصد لبعد المسافة‪ ،‬وشدة العدو ليستعد الناس‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬فيه أمارة على أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم يعلم أنه ل يكون‬
‫قتال‪ ،‬وفيه مسائل ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬تنمية ملكة الجهاد عند المؤمنين بالخروج للعدو شديد البأس‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬فضح المنافقين ‪ ,‬والذين يسعون في تثبيط المؤمنين ‪.‬‬
‫الثالثة ‪:‬تهيئ المؤمنين للخروج وغزو المصار البعيدة ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬ذم القعود ‪ ,‬والنهي العملي عنه ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬ترغيب المسلمين بالثروات والخيرات ‪.‬‬
‫السادسة ‪ :‬نشر مبادئ السلم في أرجاء الرض ‪.‬‬
‫السابعة ‪ :‬مجئ السنة النبوية العملية بما يمنع من القول بحصر الدعوة والجهاد‬
‫بخصوص الجزيرة وما حولها‪.‬‬
‫السابع‪ :‬مع مرور ست سنوات بين أحد وتبوك وقوة وكثرة جيش الروم فلم يظهر‬
‫الخور والتردد إل على سيد بني مسلمة‪ ،‬وهذا الستثناء والفرد النادر دليل على‬
‫موضوعية وأثر الية القرآنية في إصلح النفوس‪ ،‬وثبات عزائم المسلمين في‬
‫الجهاد في سبيل ال‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬قبول بني سلمة لعزل الجد بن قيس‪ ،‬وتنصيب فتى عليهم لنه بأمر رسول‬
‫ال صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫‪ ()399‬سورة آل عمران ‪.125‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫التاسع‪ :‬مجيء هذا العزل والتغيير عند الشروع في الخروج للمعركة‪ ،‬وفيه آية‬
‫وموعظة في شؤون القتال والستعداد لخوض المعارك بإصلح أمور الجند‪ ،‬ومنع‬
‫دبيب الفزع والخوف في صفوفهم‪ ،‬وعزل الذي يخشى على الجنود من سلطانه في‬
‫تثبيط العزائم‪ ،‬وبعث أسباب الشك والريب في نفوسهم‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬لقد عزل الجد بن قيس نفسه عن رئاسة أصحابه‪ ،‬فهم عازمون على‬
‫الخروج تحت راية رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وقد يكون الرئيس واسطة‬
‫بينهم وبين النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم فجاء تعيين البراء‪.‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬لم يقل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لبني سلمة إختاروا‬
‫أحدكم بدل الجد فقد يحصل الخلف بينهم‪ ،‬ويقول بعضهم ببقاء الجد ل سيما مع‬
‫طول المدة التي تولى فيها رئاستهم‪ ،‬بل قام النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫بالختيار‪ ،‬وفيه الخير والبركة‪.‬‬
‫فإن قلت إن النبي وعد المؤمنين بغنيمة بنات الصفر‪ ،‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬جاءت بعض الخبار بلغة الترجي كما ورد )أن النبي محمدًا صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم قال‪ :‬إنفروا لعلكم تغنمون بنات الصفر( )‪.(400‬‬
‫الثاني‪ :‬وردت بعض الخبار على نحو الطلق الزماني من غير تقييد بتلك الغزوة‪,‬‬
‫وفي حديث إبن عباس‪ :‬إغزوا تغنموا بنات الصفر()‪ ،(401‬أي بنات الروم لن أباهم‬
‫الول كان أصفر اللون قيل هو روم بن عيصو بن إسحق بن إبراهيم‪ ،‬ويدل على‬
‫نسبة الروم إلى إبراهيم الخليل عليه السلم‪ ،‬وإنحصار نسب الروم بشخص واحد‬
‫هو من أولد عيصو يحتاج إلى دليل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬حصول النصر في السنوات اللحقة ومجيء بنات الصفر غنائم‪ ،‬ليكون‬
‫ترغيب رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم للغزو‪ ،‬والخروج لمعركة تبوك مثل‬
‫ن[ )‪ ،(402‬فقد‬‫ل آِمِني َ‬
‫شاَء ا ُّ‬
‫ن َ‬
‫حَراَم ِإ ْ‬
‫جَد اْل َ‬
‫سِ‬‫ن اْلَم ْ‬
‫خُل ّ‬
‫الوعد بفتح مكة ‪ ,‬وقوله تعالى]َلَتْد ُ‬
‫رأى رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم في المنام في السنة السادسة للهجرة قبل‬
‫خروجه إلى الحديبية )كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ‪،‬‬
‫ص الرؤيا على أصحابه ‪ ،‬ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ‪،‬‬ ‫فق ّ‬
‫وقالوا ‪ :‬إن رؤيا رسول ال صلى ال عليه وسلم حق ‪ ،‬فلما تأخر ذلك قال عبد ال‬
‫ي وعبد ال بن نفيل ورفاعة بن الحرث ‪ :‬وال ما حلقنا ول قصرنا ول رأينا‬ ‫بن أب ّ‬
‫المسجد الحرام ‪ ،‬فنزلت( ) (‪ ،‬وكذا بالنسبة للغنيمة من بلد الروم فقد جاءت فيما‬‫‪403‬‬

‫ل من عند ال‪.‬‬‫بعد فض ً‬
‫لقد جاءت قريش بعدد من نساء رؤسائهم وأشرافهم إلى معركة أحد ولهذا المجيء‬
‫غايات ‪ ,‬ودللت كثيرة تتعلق بشؤون القتال‪ ،‬وشد العزائم‪ ،‬والستبسال في القتال‪،‬‬
‫‪ ()400‬مجمع البيان ‪.5/36‬‬
‫‪()401‬لسان العرب ‪.4/460‬‬
‫‪ ()402‬سورة الفتح ‪.27‬‬
‫‪ ()403‬الكشاف ‪.3/549‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫والدفاع عن المحارم‪ ،‬وطلب النصر‪ ،‬وإظهار الستخفاف بالمسلمين‪ ،‬وتمتع‬
‫الزواج بزوجاتهم وصحبتهن في الطريق‪ ،‬وقيام النسوة بوظيفة التحريض على‬
‫المسلمين ‪ ,‬ولهن أشعار مذكورة عند بدأ القتال‪ ،‬ولكن تلك النسوة فوجئن بأمر لم‬
‫يكن بالحسبان‪ ،‬إذ أخذ رجالت قريش يفرون من الميدان حالما بدأت المعركة‪،‬‬
‫فقامت هند بنت عتبة وسط العسكر وهي زوجة أبي سفيان رئيس جيش المشركين‪،‬‬
‫ل ومكحلة وقالت‪ :‬إنما أنت إمرأة فأكتحل‬ ‫فكلما إنهزم رجل منهم ) دفعت إليه مي ً‬
‫بهذا( )‪ ,(404‬وفيه دللة على أن الخزي الذي جاء للكفار مركب ومتعدد من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬كثرة القتلى يوم بدر‪.‬‬
‫ل كثيرة لفداء السرى يوم بدر‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬دفع قريش أموا ً‬
‫الثالث‪ :‬هزيمة الكفار في بداية المعركة يوم أحد‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬شهادة النساء على فرارهم‪ ،‬فقد ل يلوم المقاتل الذي يشاركه الفرار‪ ،‬ول‬
‫يتعرض له بالتعيير بل يبحث له من عذر‪ ،‬أما النسوة فكانت كالشهود على الواقعة ‪,‬‬
‫وأظهرن الحسرة التي تمل نفوسهن عند فرار الرجال لوجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬هؤلء النسوة من الكوافر‪.‬‬
‫الثاني‪:‬تعرض النساء للسر والسبي عند فرار الرجال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الغيظ والرغبة بالنتقام التي كانت تمل صدور هؤلء النسوة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬قيام نساء قريش بإعانة المقاتلين‪ ،‬وإلقاء الشعر لثارة حماس الكفار‪ ،‬والنيل‬
‫من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪ ،‬إذ قال عمر بن الخطاب‬
‫لحسان بن ثابت‪ :‬لوسمعت ما تقول هند‪ ،‬ورأيت أشرها قائمة على صخرة ترتجز‬
‫شَدُه‬
‫بنا‪ ،‬وتذكر ما صنعت بحمزة قال حسان‪ :‬إسمعني بعض قولها أكفكموها‪َ ):‬فَأْن َ‬
‫ت‪:‬‬‫ن َثاِب ٍ‬‫سان ْب ُ‬ ‫حّ‬‫ل َ‬
‫ت َفَقا َ‬
‫ض َما َقاَل ْ‬ ‫طاب َبْع َ‬ ‫خّ‬‫ن اْل َ‬
‫عَمُر ْب ُ‬
‫ُ‬
‫ت َمَع اْلُكْفِر( ) (‪.‬‬
‫‪405‬‬
‫شَر ْ‬‫ُلْؤًما إَذا َأ َ‬ ‫عاَدُتَها‬
‫ن َ‬‫ع َوَكا َ‬
‫ت َلَكا ُ‬‫شَر ْ‬‫َأ ِ‬
‫وهند هذه قتل أبوها عتبة بن ربيعة‪ ،‬وأخوها الوليد بن عتبة‪ ،‬وعمها شيبة إبن ربيعة‬
‫في أول مبارزة جرت يوم بدر‪ ،‬إذ تقدم لهم رهط من النصار فقالوا‪ :‬ما لنا بكم من‬
‫حاجة‪ ،‬ونادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا‪ ،‬وفي قولهم هذا مسائل‪:‬‬
‫المسألة الولى‪ :‬إنهم لم يطلبوا مبارزة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وفيه‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه من الحجب وأسباب المنعة التي جعلها ال واقية للنبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬فيه دليل على ما لرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم من الهيبة والشأن‬
‫العظيم عند قريش‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬خشية كفار قريش أن يصرعوا عندما يتقدم لهم النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم‪.‬‬
‫‪()404‬مجمع البيان ‪.2/338‬‬
‫‪ ()405‬السيرة النبوية ‪. 3/90‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬دللة ظواهر المعركة على أن كل واحد من الصحابة من المهاجرين‬
‫والنصار مشروع فداء للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬خصوصًا وأنهم‬
‫خرجوا للقتال دونه وبين يديه‪.‬‬
‫الخاٍمس‪ :‬إدراك الكفار عجزهم وتخلفهم عن ملقاة رسول ال في القتال وغيره‪،‬‬
‫وإنعدام الكفئ له بين الناس‪.‬‬
‫السادس‪ :‬فيه شهادة من الكفار أن المهاجرين والنصار مأتمرون بأمر رسول ال‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫السابع‪ :‬إقرار الكفار بوجود رجال أقوياء وشجعان بين المهاجرين‪ ،‬وفيه حجة‬
‫عليهم‪ ،‬ومع هذا القرار فقد جاء القرآن بوصف المسلمين بأنهم في حال ذل يوم‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ )‪ ،(406‬وفيه وجوه‪:‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬‫بدر ‪ ,‬قال تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫الول‪ :‬المراد الذلة العامة من قلة العدد والسلح والعدة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬غلبة أهل البيت في المبارزة وقتلهم لعتبة وشيبة والوليد من النصر اللهي‬
‫الذي ذكرته الية السابقة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬فيه دعوة للمسلمين والمسلمات للشكر ل عز وجل على نعمة النصر التي‬
‫هي هبة وفضل من عند ال‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬لم يقف المسلمون عند تلك المبارزة‪ ،‬كانت مقدمة وسببًا للزحف‪ ،‬والهجوم‬
‫على الكفار الذين ظهر الرباك والفزع في صفوفهم بقتل ثلثة من فرسانهم‬
‫ورؤسائهم في لحظة واحدة‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬أراد عتبة وأخوه وإبنه إيصال رسالة إلى أهل مكة بقتلهم لرجال من‬
‫المهاجرين يعرفونهم‪ ،‬في محاولة لصدهم عن السلم‪ ،‬ومنع الشباب من التسلل‬
‫والخروج من مكة لللتحاق بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬فلو قتلوا رج ً‬
‫ل‬
‫من النصار لم يكن المر جليًا وظاهرًا عند أهل مكة‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬حال الزهو والخيلء التي عليها قريش إذ أنهم حصروا الكفئ‬
‫برجالت من قريش‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬بعث الخوف والفزع في نفوس المهاجرين‪ ،‬عسى أن يندموا على اللتحاق‬
‫بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إذ يهدف الكفار إلى تفريق أصحاب النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم عنه‪ ،‬وظنوا إذا أظهر المهاجرون الندم إنعكس هذا‬
‫على النصار وعوائلهم‪ ،‬وإمتنع شباب القبائل عن اللتحاق بدار الهجرة‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬ظن الكفار أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم يقدم جماعة من‬
‫المهاجرين من عموم قريش‪ ،‬بعد النصار‪ ،‬وظنوا بأن النبي محمدًا صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم يظن ببني هاشم عن المبارزة والقتل‪ ،‬لذا جاء خطابهم إلى النبي نفسه‬
‫) يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا( )‪.(407‬‬

‫‪ ()406‬سورة آل عمران ‪.123‬‬


‫‪ ()407‬السيرة النبوية لإبن كثير ‪.2/413‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫فجاء أمر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إلى عبيدة بن الحارث بن أبي عبد‬
‫المطلب ‪ ،‬والحمزة بن عبد المطلب‪ ،‬وعلي بن ابي طالب آية في الجهاد والتفاني في‬
‫سبيل ال‪ ،‬وإخلص أهل البيت للنبوة لن خروجهم شاهد على إيمانهم بصدق نبوة‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وفيه إثارة للفتنة والندم في صفوف المشركين لن‬
‫العباس بن عبد المطلب‪ ،‬و عقيل بن أبي طالب كانا ضمن جيشهم‪ ،‬ومن اليات‬
‫أنهما وقعا في السر يوم بدر‪.‬‬
‫لقد كان في قتل عتبة وإبنه وأخيه يوم بدر وهم من أشراف وسادة قريش قطع‬
‫لطرف من الكفار‪ ،‬وخيبة لهم‪ ،‬وسبب لمتلء نفوسهم فزعًا وخوفًا‪ ،‬ورسالة من‬
‫ميادين القتال إلى أهل مكة والقبائل العربية أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم منصور ومؤيد من عند ال‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬طلب عتبة وإبنه وأخيه الكفاء من قريش من عمومات ظلمهم لنفسهم ‪,‬‬
‫ن[ )‪ ،(408‬إذ كان هلكهم بسؤالهم‬ ‫سُهْم َيظِْلُمو َ‬ ‫ن َكاُنوا َأنُف َ‬ ‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬
‫قال تعالى]َوَما َ‬
‫وسعيهم للمبارزة والقتال‪.‬‬
‫ومن اليات أنه لم يحصل مثل هذا الطلب في معارك السلم الولى إل على نحو‬
‫الفرد النادر والقضية الشخصية‪ ،‬ولم تأت النتائج إل بكبت وخزي الكفار كما في‬
‫طلب عمرو بن ود العامري المبارزة يوم الحزاب والتي سبقها حوار بينه وبين‬
‫المام علي يعتبر مدرسة في الحتجاج وأسرار النصر اللهي للمؤمنين‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬لقد تجلت معاني إنصاف رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم الكبراء‬
‫قريش الذين سألوا المبارزة‪ ،‬وتحقق قطع طرف منهم بجلء‪ ،‬إذ أن عتبة من حكماء‬
‫ورؤساء قريش‪.‬‬
‫ويدل عليه ما خص به حكيم بن حزام عتبة من بين كبراء قريش يوم بدر‪ ،‬إذ‬
‫ل َيا َأَبا اْلَوِليِد إّنك َكِبيُر ُقَرْي ٍ‬
‫ش‬ ‫ن َرِبيَعَة ‪َ ،‬فَقا َ‬ ‫عْتَبُة ْب ُ‬
‫شى ِفي الّناس َفَأَتى ُ‬ ‫أنه)َم َ‬
‫خِر الّدْهِر ؟‬ ‫خْيِر إَلى آ ِ‬ ‫ل َتْذُكُر ِفيَها ِب َ‬‫ل َتَزا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل َلك إَلى َأ ْ‬ ‫ع ِفيَها ‪َ ،‬ه ْ‬ ‫طا ُ‬‫سّيدَها ‪َ ،‬واْلُم َ‬ ‫َو َ‬
‫ي‪،‬‬ ‫ضَرِم ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن اْل َ‬ ‫عْمِرو ْب ِ‬ ‫حِليِفك َ‬ ‫ل َأْمَر َ‬ ‫حِم ُ‬‫جُع ِبالّناس َوَت ْ‬ ‫ل َتْر ِ‬ ‫حِكيُم ؟ َقا َ‬ ‫ك َيا َ‬ ‫ل َوَما َذا َ‬ ‫َقا َ‬
‫ن َماِلِه َفْأ ِ‬
‫ت‬ ‫ب ِم ْ‬ ‫صي َ‬ ‫عْقُلُه َوَما ُأ ِ‬‫ي َ‬‫ك إّنما ُهَو حَِليِفي ‪َ ،‬فَعَل ّ‬ ‫ي ِبَذِل َ‬‫عَل ّ‬
‫ت َ‬ ‫ل َقْد َفَعْلت ‪َ ،‬أْن َ‬ ‫َقا َ‬
‫ظِلّية() (‪.‬‬
‫‪409‬‬
‫حْن َ‬
‫ن اْل َ‬
‫اْب َ‬
‫والمراد من إبن الحنظلية أبو جهل الذي ثارت ثأرته‪ ،‬وتوعد ووجه كلمًا قاسيًا‬
‫خّوفُكْم‬‫جُزوٍر َوِفيِهْم اْبُنُه َفَقْد َت َ‬ ‫حاَبُه َأْكَلُة َ‬‫صَ‬ ‫حّمدا َوَأ ْ‬ ‫ن ُم َ‬ ‫لعتبة‪ ،‬وقال )َوَلِكّنه َقْد َرَأى َأ ّ‬
‫عَلْيِه( )‪.(410‬‬ ‫َ‬
‫وإبن عتبة الذي لحق برسول ال صلى ال عليه وآله وسلم هو أبو حذيفة‪ ,‬وورد‬
‫صّلى‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ظَر َر ُ‬ ‫عن إبن إسحاق أنه حينما سحب عتبة بن ربيعة إلى القليب‪َ) ،‬ن َ‬
‫ب َقْد َتَغّير َلْوُنُه‬ ‫عْتَبَة ‪َ ،‬فِإَذا ُهَو َكِئي ٌ‬
‫ن ُ‬ ‫حَذْيَفَة ْب ِ‬
‫جِه َأِبي ُ‬ ‫سّلم ِفيَما َبَلَغِني ِفي َو ْ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬
‫ل َ‬ ‫ا ّ‬
‫‪ ()408‬سورة النحل ‪.118‬‬
‫‪ ()409‬السيرة النبوية ‪.2/232‬‬
‫‪ ()410‬السيرة النبوية ‪.2/232‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫عَلْيِه‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫يٌء ؟ َأْو َكَما َقا َ‬ ‫ش ْ‬‫ن َأِبيك َ‬ ‫شْأ ِ‬
‫ن َ‬ ‫خَلك ِم ْ‬ ‫حَذْيَفَة َلَعّلك َقْد َد َ‬ ‫ل َيا َأَبا ُ‬ ‫َفَقا َ‬
‫عهِ َوَلِكّنني ُكْنت‬ ‫صَر ِ‬‫ل ِفي َم ْ‬ ‫شَكْكت ِفي َأِبي َو َ‬ ‫ل َما َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ل َيا َر ُ‬‫ل ‪َ ،‬وَا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫سّلم َفَقا َ‬‫َو َ‬
‫لِم َفَلّما‬‫سَ‬ ‫ك إَلى الِْ ْ‬ ‫ن َيْهِدَيُه َذِل َ‬‫جو َأ ْ‬ ‫ل ‪َ ،‬فُكْنت َأْر ُ‬ ‫ضً‬ ‫حْلًما َوَف ْ‬‫ن َأِبي َرْأًيا َو ُ‬ ‫ف ِم ْ‬ ‫عِر ُ‬ ‫َأ ْ‬
‫حَزَنِني‬ ‫جو َلُه َأ ْ‬‫ن اْلُكْفِر َبْعَد اّلذي ُكْنت َأْر ُ‬ ‫عَلْيِه ِم ْ‬‫ت َ‬ ‫صاَبُه َوَذَكْرت َما َما َ‬ ‫َرَأْيت َما َأ َ‬
‫خْيًرا( ) (‪.‬‬
‫‪411‬‬
‫ل َلُه َ‬ ‫خْيِر َوَقا َ‬ ‫سّلم ِب َ‬
‫عَلْيِه َو َ‬‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫عا َلُه َر ُ‬ ‫ك َفَد َ‬‫َذِل َ‬
‫لقد جاء قطع طرف من الكفار مع خروج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وأصحابه إلى القتال‪ ،‬وهو أمر قلما حصل في النبوات السابقة‪ ،‬كما في قتال بني‬
‫ت[)‪.(412‬‬ ‫جاُلو َ‬ ‫ل َداُووُد َ‬ ‫إسرائيل للجبابرة ‪ ،‬قال تعالى]َوَقَت َ‬
‫إذ يأتي النصر مع الخروج لما فيه من معاني الصبر والتقوى والخلص في‬
‫طاعة ال‪ ،‬وقد يأتي هلك الكفار من غير قتل كما في غرق فرعون وجنوده في أليم‬
‫عندما أصروا على اللحوق بموسى وبني إسرائيل للبطش بهم‪.‬‬
‫ولكن قطع طرف من الكفار الوارد في هذه الية خاص بالنبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫والقطع هنا غير منحصر بواقعة أحد أو قضية في واقعة‪ ،‬بل هو مستمر ومتصل‪،‬‬
‫ففي كل مرة يحدث قتال بين المسلمين والكفار يكون هناك قطع طرف من الكفار‪،‬‬
‫ن اْلُكّفاِر[)‪.(413‬‬ ‫ن َيُلوَنُكْم ِم ْ‬‫ن آَمُنوا َقاِتُلوا اّلِذي َ‬ ‫قال تعالى]َياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫ويفيد الجمع بين الية أعله والية محل البحث ترشح قطع طرف من الكفار عن‬
‫القتال‪ ،‬فكلما قاتل المسلمون الكفار إنهدم ركن من أركان الكفر‪ ،‬وهو صرح من‬
‫بنائهم الخاوي‪ ،‬والذي ل يستطيعون تداركه لنه ل أساس له يرتكز عليه من عقيدة‬
‫ومبدأ وإيمان‪ ،‬بالضافة إلى تزلزل وفضح مبادئ الكفر بنبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم‪.‬‬
‫وكما تضمنت الية السابقة البشارة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‬
‫بنزول الملئكة لنصرتهم‪ ،‬جاءت هذه الية بالبشارة لهم ولجيال المسلمين اللحقة‬
‫بمصاحبة قطع الطرف للكفار‪ ،‬وهلك صناديدهم‪ ،‬وبعث الحزن والخوف في‬
‫صفوفهم‪.‬‬
‫لقد كانت معركة أحد إنعطافة كبيرة في حياة المسلمين‪ ،‬ودرسًا عظيمًا إستلهموا منه‬
‫المواعظ‪ ،‬وإستنبطوا منه الدروس‪ ،‬ولكن الهم هو إتصال فضل ال عز وجل‬
‫عليهم‪ ،‬ومنه المدد الملكوتي الذي نزل لنصرة المؤمنين‪ ،‬فإن قلت إن المدد السماوي‬
‫سابق لواقعة أحد‪ ،‬فجاء بخصوص يوم بدر‪.‬‬
‫لِئَكِة[) (‪،‬‬
‫‪414‬‬
‫ن اْلَم َ‬‫ف ِم ْ‬ ‫ب َلُكْم َأّني ُمِمّدُكْم ِبَأْل ٍ‬ ‫جا َ‬ ‫سَت َ‬‫ن َرّبُكْم َفا ْ‬‫سَتِغيُثو َ‬‫لقوله تعالى]ِإْذ َت ْ‬
‫والجواب لقد ترشح عن المدد الملكوتي الذي جاء المسلمين يوم بدر فيوضات منها‪:‬‬
‫‪()411‬السيرة النبوية ‪.2/246‬‬
‫‪ ()412‬سورة البقرة ‪.251‬‬
‫‪ ()413‬سورة التوبة ‪.123‬‬
‫‪ ()414‬سورة النفال ‪.9‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬يوم بدر من عمومات الية محل البحث لن فيه هلكًا لصناديد قريش وقطعاً‬
‫لطرف منهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬جاء النصر للمسلمين يوم بدر وهم قليل والنقص في موؤنتهم وأسلحتهم أمر‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ )‪.(415‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬‫ظاهر قال تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫الثالث‪ :‬نال المسلمون الغنائم يوم بدر مما مكنهم من تدارك النقص في مؤونتهم‪،‬‬
‫وزجر أهل الشك والريب‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬المدد الملكوتي والنصر يوم بدر وسيلة مباركة لجذب الناس للسلم‪ ،‬وفي‬
‫ل َمّرٍة[)‪ ،(416‬ورد أن الكفار هم الذين بدأوا المسلمين‬ ‫قوله تعالى]َوُهْم َبَدُءوُكْم َأّو َ‬
‫القتال يوم بدر وقالوا حين سلمت العير والتجارة التي كانت في الطريق من الشام‬
‫إلى مكة)ل ننصرف حتى نستأصل محمدًا ومن معه()‪.(417‬‬
‫وإذ خرج ثلثمائة ونيف من المسلمين يوم بدر ‪ ،‬خرج ألف منهم إلى معركة أحد‪،‬‬
‫ولم يكن بينهما سوى أحد عشر شهرًا‪ ،‬نعم إنخزل رأس النفاق عبد ال بن أبي بن‬
‫سلول بثلثمائة لما أصابهم من الخوف والفزع المترشح عن ضعف اليمان‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬قام النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه بعد معركة بدر‬
‫بغزوات‪ ،‬فلم تمر سبعة أيام على غزوة بدر حتى غزا رسول ال صلى ال عليه‬
‫سليم ‪ ,‬وأسرى بدر ل زالوا في المدينة‪ ،‬ثم غزا غزوة السويق وقصد‬ ‫وآله وسلم بني ُ‬
‫فيها اللحاق بأبي سفيان وأصحابه الذين تسللوا إلى المدينة‪ ،‬ومروا على الطريق‬
‫ل من النصار وحليفًا له‪ ،‬ورجع النبي للمدينة من غير‬ ‫ناحية من المدينة فقتلوا رج ً‬
‫ل‪ ،‬وأقام بقية ذي الحجة ثم غزا نجدًا يريد غطفان‪ ،‬فأقام بنجد صفرًا كله‬ ‫أن يلقى قتا ً‬
‫ثم رجع إلى المدينة لم يلق كيدًا ثم غزا رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم يريد‬
‫قريشًا‪ ،‬قال إبن إسحق‪ :‬حتى بلغ بحران معدنًا بالحجاز من ناحية الفُرع‪ ،‬فأقام بها‬
‫شهري ربيع الخر وجمادي الولى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق وعيدًا‪.‬‬
‫ثم حدث نقض العهد من بني قينقاع‪ ،‬ثم أرسل النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم سرية زيد بن حارثة إلى ماء إسمه القرده فأصاب عير قريش‪ ،‬وتحمل فضة ‪,‬‬
‫وكان فيها أبو سفيان بن حرب‪ ،‬ولكنه إنهزم وأصحابه فجاء بها زيد إلى رسول ال‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫وكان خروج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم المتكرر هو وأصحابه بأمر من‬
‫حٌ‬
‫ي‬ ‫ل َو ْ‬
‫ن ُهَو ِإ ّ‬
‫ن اْلَهَوى * ِإ ْ‬
‫عْ‬‫ق َ‬
‫طُ‬ ‫عند ال‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]َوَما َيْن ِ‬
‫حى[ )‪.(418‬‬‫ُيو َ‬
‫وعندما وقعت معركة أحد حصلت خسائر كبيرة عند المسلمين‪ ،‬ولكنها لم تثبط‬
‫عزائمهم‪ ،‬أو تضعف عضدهم ‪ ،‬لقد جاء النصر في بدر واقية ‪ ,‬ومانعًا من ترتيب‬
‫‪ ()415‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫‪ ()416‬سورة التوبة ‪.13‬‬
‫‪ ()417‬مجمع البيان ‪.5/11‬‬
‫‪ ()418‬سورة النجم ‪.4-3‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الثر على الخسارة الكبيرة يوم أحد‪ ،‬وكانت معركة أحد برزخًا دون تكرار الخطاء‬
‫والخسائر التي حدثت يومئذ‪.‬‬
‫ومضامين هذا القانون بشارة وإعجاز في تأريخ السلم ‪ ,‬وتتجلى فيه معاني المدد‬
‫ج ْ‬
‫ت‬ ‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫واللطف اللهي بالمسلمين‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]كنتم َ‬
‫س[)‪ ،(419‬ومن أبهى مصاديق قطع طرف من الكفار لنه يدل على الضعف‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫المستديم للكفار‪.‬‬
‫ويحتمل قطع طرف من الكفار في إستدامته وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬يأتي القطع في وقائع خاصة كميادين المعارك‬
‫الثاني‪ :‬ل يحدث قطع طرف من الكفار إل بحالت ومعارك مخصوصة تذكر في‬
‫القرآن على نحو التعيين ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬القدر المتيقن من الية حصول القطع بخصوص معركة أحد على نحو‬
‫الحصر‪ ،‬ول يتعدى إلى غيرها إل بدليل وإن جاء بلفظ مرادف أو مختلف وقد يأتي‬
‫الخبار عن قطع طرف من الكفار بالسنة النبوية كما في فتح مكة )ودعاء النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ :‬ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬صدق وعده‪،‬‬
‫ونصر عبده‪ ،‬وهزم الحزاب وحده( )‪.(420‬‬
‫الرابع‪ :‬إتصال وإستمرار وتجدد مصاديق قطع طرف من الكفار‪.‬‬
‫والصحيح هو الخير‪ ،‬ويأتي ضعف وهلك الكفار وإبتلؤهم بالوهن من وجوه‬
‫عديدة منها ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬دخول المعركة ‪ ,‬وحدوث القتال والمبارزة مع المؤمنين ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬حصول الفتنة والخصومة بين الكفار‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬تجلي المعجزات الباهرات لنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ,‬وتلقي‬
‫الناس لها بالقبول والتصديق ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬إيمان بعض كبار الكفار ‪ ,‬ودخول السلم بيوتهم ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬تحقق النصر والغلبة للمسلمين مع قلتهم والنقص الظاهر في عدتهم ‪.‬‬
‫فالقطع يأتي على يد المجاهدين والغزاة والمؤمنين الصابرين الذين يتصفون‬
‫بالتقوى‪ ،‬والقطع نفسه من جنود ال عز وجل في إتساع رقعة السلم ونصر‬
‫ل ُهَو[ )‪.(421‬‬
‫ك ِإ ّ‬
‫جُنوَد َرّب َ‬
‫المؤمنين‪ . .‬قال تعالى]َوَما َيْعَلُم ُ‬
‫ويحتمل المراد من الفتح في الحديث النبوي الوارد في أول هذا القانون وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة فتح مكة والذي تم في السنة الثامنة للهجرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المراد النصر والظفر للمسلمين من غير تعيين بمعركة أو واقعة‬
‫مخصوصة‪.‬‬

‫‪ ()419‬سورة آل عمران ‪.110‬‬


‫‪ ()420‬الكشاف ‪.7/333‬‬
‫‪ ()421‬سورة المدثر ‪.31‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬المقصود فتح البلدان والمصار وإرسال النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم المراء إليها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬صيرورة السلم قويًا منيعًا‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬كثرة الموال والمؤون التي تأتي للمسلمين‪ ،‬وما فيها من قوة لهم‪ ،‬وحال‬
‫ن[ )‪.(422‬‬‫سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ‬‫ل اْلِعّزُة َوِلَر ُ‬
‫العزة للمؤمنين‪ ،‬قال تعالى] ِّ‬
‫السادس‪ :‬كثرة عدد المسلمين‪ ،‬ومجيء الغنائم والثمرات لهم‪ ،‬وهو من مصاديق‬
‫ق َأْهَلُه ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ل َهَذا َبَلًدا آِمًنا َواْرُز ْ‬‫جَع ْ‬ ‫باْ‬ ‫دعاء إبراهيم الوارد في قول ال تعالى]َر ّ‬
‫خِر[) (‪.‬‬
‫‪423‬‬
‫ل َواْلَيْوِم ال ِ‬‫ن ِمْنُهْم ِبا ِّ‬
‫ن آَم َ‬‫ت َم ْ‬‫الّثَمَرا ِ‬
‫السابع‪ :‬توالي نصر المسلمين في معارك القتال‪ ،‬وإرادة المعنى العم للفتح‪ ،‬وهو‬
‫تعاقب النتصارات والفتوحات للمسلمين في كل معركة وإتساع رقعة السلم ‪,‬‬
‫ليكون مقدمة لصلح الناس وتنزيه الرض من براثن الضللة‪ ,‬وبعث الفزع‬
‫ت َأْقَداَمُكْم[ ) (‬
‫‪424‬‬
‫صْرُكْم َوُيَثّب ْ‬
‫ل َين ُ‬ ‫صُروا ا َّ‬ ‫ن َتن ُ‬‫واليأس في قلوب الكفار ‪ ,‬قال تعالى]ِإ ْ‬
‫الثامن‪ :‬ظهور دولة السلم‪ ،‬وإستقرار المجتمعات السلمية‪ ،‬وأداء المسلمين‬
‫للفرائض في قراهم وأمصارهم تحت لواء السلم من غير منع من أحد‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬قطع طرف من الكفار‪ ،‬وعجزهم عن تدارك النقص الحاصل عندهم‪.‬‬
‫ول تعارض بين هذه الوجوه‪ ،‬وكلها من مصاديق الحديث الشريف‪ )،‬ل يصيب‬
‫الكفار ( والذي هو أصل هذا القانون ‪ ,‬وجاء حديث النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وما فيه من البشارة ‪ ,‬وبعث الطمأنينة في النفوس لمواساة المسلمين‪ ،‬وجعلهم‬
‫ينظرون إلى قادم اليام‪.‬‬
‫قانون"آيات المدد’’‬
‫خَلْق ُ‬
‫ت‬ ‫جعل ال عز وجل عبادة النسان علة خلقه وغايته وبلغته ‪ ,‬قال تعالى]َوَما َ‬
‫ن[ )‪ ، (425‬وتبين هذه السباب مجتمعة ومتفرقة المنزلة‬ ‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬ ‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬‫اْل ِ‬
‫العظيمة للنسان بين الخلئق‪ ،‬وإصلحه لمقامات الخلفة في الرض‪ ،‬إذ نفخ ال‬
‫ل لداء العبادات التي جاءت بأبهى كيفياتها‬ ‫عز وجل فيه من روحه‪ ،‬وجعله مؤه ً‬
‫ببعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وجاءت بعثته وأكثر الناس عاكفون على‬
‫الوثان ‪ ،‬ومعرضون عن سبل النقياد ل عز وجل‪ ،‬ولكن ال عز وجل أنعم عليه‬
‫بالمدد فكان سلحًا ذا حدين‪ ،‬فهو وسيلة لجذب الناس إلى منازل اليمان‪ ،‬وحرب‬
‫على عبادة الصنام وتحريف الكتاب‪.‬‬
‫وتجلى هذا المدد بأمور منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬الوحي من عند ال‪ ،‬فل يقول ول يفعل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫حٌ‬
‫ي‬ ‫ل َو ْ‬ ‫ن ُهَو ِإ ّ‬‫ن اْلَهَوى * ِإ ْ‬ ‫عْ‬ ‫طقُ َ‬ ‫إل ما يأمره ال عز وجل به قال تعالى]َوَما َيْن ِ‬
‫‪ ()422‬سورة المنافقون ‪.8‬‬
‫‪ ()423‬سورة البقرة ‪.126‬‬
‫‪ ()424‬سورة محمد ‪.7‬‬
‫‪ ()425‬سورة الذاريات ‪.56‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫حى[ )‪ ،(426‬فالوحي أعظم صاحب‪ ،‬وخير سلح‪ ،‬والية العظمى ‪ ,‬وهو حاضر‬ ‫ُيو َ‬
‫وملزم للنبي في الليل والنهار‪ ،‬ول يتخلف عن نصرته طرفة عين‪.‬‬
‫وإذا نزل الملئكة يوم بدر لنصرة المؤمنين فإن الملك مع النبي دائمًا بأن يكون‬
‫الواسطة بينه وبين ال عز وجل‪ ،‬وهذا من أسرار مجيء آيات المدد السابقة بلغة‬
‫ن َيْكِفَيُكْم َأ ْ‬
‫ن‬ ‫ن َأَل ْ‬
‫ل ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫الخطاب من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم]ِإْذ َتُقو ُ‬
‫ن[ )‪.(427‬‬
‫لِئَكِة ُمْنَزِلي َ‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬‫لَثِة آ َ‬
‫ُيِمّدُكْم َرّبُكْم ِبَث َ‬
‫فالنبي يصاحبه الملك ول يغادره‪ ،‬وهو من المدد اللهي له وللمسلمين‪ ،‬لينير لهم‬
‫دروب الجهاد في سبيل ال‪ ،‬ويكون واقية من تعدي الكفار‪ ،‬وهو من عمومات قوله‬
‫ل َأًذى[ )‪ ،(428‬فالوحي وصحبة الملك حرز من الضرر التي‬ ‫ضّروُكْم ِإ ّ‬‫ن َي ُ‬ ‫تعالى]َل ْ‬
‫من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬مجيء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بالمعجزات الباهرات‪ ،‬وهي‬
‫على شعبتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬المعجزة العقلية‪ :‬لقد أنزل ال عز وجل القرآن نجومًا لمناسبة الوقائع‬
‫والحداث‪ ،‬وليتدبر الناس فيه‪ ،‬ويتطلعون إلى الجديد النازل منه‪ ،‬وليقوم المسلمون‬
‫بحفظه في معانيه ودللة آياته‪.‬‬
‫ومن خصائص القرآن أن كل آية منه مدد للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمسلمين ‪ ,‬ومعجزة قائمة بذاتها ونعمة متجددة تنير دروب السائلين إلى الفوز‬
‫سوَرةٍ‬ ‫بجنات الخلد ‪ ,‬لذا جاء التحدي في القرآن بسورة واحدة منه قال تعالى]َفْأُتوا ِب ُ‬
‫ن ِمْثِلِه[)‪ ،(429‬وليس من حصر لوجوه المدد في الية القرآنية‪ ،‬إذ أنه توليدي وكل‬ ‫ِم ْ‬
‫آية هي نصرة وعون للمسلمين في الحرب والسلم‪ ،‬وأمور الدين والدنيا‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬المعجزة الحسية‪ ،‬لقد جاء النبياء السابقون بالمعجزات الحسية‪ ،‬وإمتاز النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية الخالدة وهي القرآن‪ ،‬إل أن هذا ل‬
‫يتعارض مع اليات الحسية التي جاء بها ‪ ,‬ليكون هذا الجتماع في ضروب‬
‫المعجزة من مختصات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬ووجوه تفضيله على‬
‫النبياء السابقين ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬كان المهاجرون والنصار مددًا للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وعونًا‬
‫له في نشر مبادئ السلم‪ ،‬وتثبيت أحكامه في الرض‪ ،‬وسيوفًا في سبيل ال تدرأ‬
‫الذى والكيد عن شخص النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والقرآن‪ ،‬وكانوا نواة‬
‫للمة السلمية‪ ،‬وشاهدًا على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ومعجزاته‪ ،‬وليس من نبي عنده من الصحاب مثل النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم كثرة وإخلصًا وحبًا للشهادة‪ ،‬وصبرًا وتقوى وخشية من ال عز وجل‪.‬‬
‫‪ ()426‬سورة النجم ‪.4-3‬‬
‫‪ ()427‬سورة آل عمران ‪.124‬‬
‫‪ ()428‬سورة آل عمران ‪.111‬‬
‫‪ ()429‬سورة البقرة ‪.23‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬نزول الملئكة لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين في‬
‫ميادين المعارك‪ ،‬إن النبوة والصحبة ل تنفي الحاجة ل عز وجل‪ ،‬لن الحاجة‬
‫ملزمة لعالم المكان‪ ،‬وذات النبوة من أهم مصاديق الحاجة واللطف اللهي بالناس‬
‫أجمعين‪ ،‬والتذكير بوجوب عبادته‪ ،‬ولكن النعم والفضل اللهي على الناس عامة‬
‫والمسلمين خاصة من اللمتناهي في ماهيته وموضوعه وصيغه فجاء نزول‬
‫الملئكة مددًا رحمة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه والمسلمين‬
‫والمسلمات إلى يوم القيامة‪ ،‬فهو آلة الحسم في المعركة‪ ،‬والسلح السماوي الذي‬
‫يقطع الطرف من الكفار بعد الطرف‪.‬‬
‫وهل ينحصر قطع طرف من الكفار بالمدد الملكوتي بساحة المعركة أم يتعداه في‬
‫موضوعه وما يترتب عليه من الثر‪ ،‬الجواب هو الثاني‪ ،‬وهو من عمومات إذا‬
‫أنزل ال عز وجل نعمة فهو أكرم من أن يرفعها‪ ،‬فقد نزل الملئكة في معارك‬
‫مخصوصة ولكن منافع هذا النزول متجددة‪ ،‬وتتشعب عنها فروع كثيرة‪ ،‬وهذه‬
‫الفروع على جهتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تقوية عزائم المسلمين‪ ،‬وتثبيت أقدامهم‪ ،‬وبعث السكينة في نفوسهم‪ ،‬فكلما‬
‫داهمهم خطر ووعيد من الكفار كان الستحضار الذهني للمدد الملكوتي يوم بدر‬
‫وأحد وحنين وغيرها عونًا للمسلمين وهو من الشواهد على مصاحبة السكينة‬
‫ن ِلَيْزَداُدوا ِإيَماًنا[‬
‫ب اْلُمْؤِمِني َ‬‫سِكيَنَة ِفي ُقُلو ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫للمؤمنين ‪ ,‬قال تعالى]ُهَو اّلِذي َأْنَز َ‬
‫)‪ ،(430‬وإصلحًا لهم لدفع هذا الوعيد‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ضعف ووهن الكفار‪ ،‬وإنذارهم بتجدد نعمة المدد اللهي‪ ،‬وهو من مصاديق‬
‫التشعب والتجدد في مضامين الية محل البحث‪ ،‬وهلك الكفار‪ ،‬ونفر ة الناس من‬
‫مفاهيم الشرك والضللة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬البشارات التي جاء بها النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والتي‬
‫يختص بها الذين آمنوا برسالته وإتبعوه مدد وعون لهم في الحياة الدنيا وطريق إلى‬
‫الخلود في النعيم في النشأة الخرة‪ ،‬وجاءت آيات عديدة يأمر فيها ال عز وجل‬
‫النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ببشارة المؤمنين‪.‬‬
‫وهذه اليات مدرسة في المدد اللهي لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وإعانة المسلمين في صبرهم وتقواهم وقتالهم في سبيل ال ‪ ،‬وهي باب لنزول‬
‫ضً‬
‫ل‬ ‫ل َف ْ‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن َلُهْم ِم ْ‬‫ن ِبَأ ّ‬
‫شْر اْلُمْؤِمِني َ‬
‫مصاديق كثيرة من المدد اللهي‪ ،‬قال تعالى]َوَب ّ‬
‫َكِبيًرا[ )‪.(431‬‬
‫السادس‪ :‬اليات القرآنية التي تتضمن الخبار عن المدد اللهي للمسلمين‪ ،‬ومنها‬
‫هذه الية الكريمة التي هي بشارة وإخبار عن ضعف ووهن أعداء السلم‪ ،‬وهذا‬
‫الضعف من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬هلك بعض رؤساء وصناديد الكفار‪.‬‬
‫‪()430‬سورة الفتح ‪.4‬‬
‫‪ ()431‬سورة الحزاب ‪.47‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثانية‪ :‬دبيب الضعف والخور والجبن في صفوف الكفار الذين يلون المسلمين‪،‬‬
‫ويكونون بجوارهم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تقدم وسط الكفار ليكونوا طرفًا مواجهًا للمسلمين مما يعني حصول ثغرات‬
‫في صفوفهم‪ ،‬وعجزهم عن تدارك النقص في العدد والقوة والعزائم‪ ،‬وفيه دعوة‬
‫للمسلمين للجهاز عليهم‪ ،‬قال أبو تمام‪:‬‬
‫كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت‬
‫بها الحوادث حتى أصبحت طرفا) (‪.‬‬
‫‪432‬‬

‫بإعتبار ان الخلل يصيب الطراف‪ ،‬وقد مدح ال المسلمين بوصفهم أمة وسطًا ‪ ,‬قال‬
‫ل‪ ،‬ولعل فيه إشارة إلى‬ ‫طا[)‪ ،(433‬أي صلحاء عدو ً‬ ‫سً‬ ‫جَعْلَناُكْم ُأّمًة َو َ‬
‫ك َ‬ ‫تعالى ]َوَكَذِل َ‬
‫سلمتهم من الضرر والكيد‪.‬‬
‫عَلْيِهْم[) (‪ ،‬والضمير‬
‫‪434‬‬
‫صْرُكْم َ‬ ‫خِزِهْم َوَيْن ُ‬
‫ل ِبَأْيِديُكْم َوُي ْ‬
‫وقال تعالى]َقاِتُلوُهْم ُيَعّذْبُهْم ا ُّ‬
‫في قاتلوهم يعود لئمة الكفر بلحاظ اليات السابقة ]َفَقاِتُلوا َأِئّمَة اْلُكْفِر[) (‪ ،‬وهم‬
‫‪435‬‬

‫رؤساء وفضحتهم الية بالذكر لنهم يضلون أتباعهم وشطرًا من الناس‪)،‬وقال‬


‫الحسن‪:‬وأراد به جماعة الكفار وكل كافر أمام لنفسه في الكفر ولغيره في الدعاء‬
‫إليه( )‪ ،(436‬وعن إبن عباس وقتادة‪ ،‬أراد به رؤساء قريش مثل الحرث بن هشام‬
‫وأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسائر كفار قريش الذين نقضوا العهد‪.‬‬
‫لقد أمر ال عز وجل المسلمين بالقتال‪ ،‬كما في الية أعله)قاتلوهم( وفيه دللة على‬
‫أن ال عز وجل يقطع طرفًا من الكفار بالمدد الملكوتي وبآية من عنده‪ ،‬وأحيانًا على‬
‫ل ِبَأْيِديُكْم[أي بقتلهم وأسرهم ‪ ،‬وما يلحقهم من‬ ‫أيدي المؤمنين‪ ،‬لقوله تعالى]ُيَعّذْبُهْم ا ُّ‬
‫الخزي والذل‪.‬‬
‫وهل في ثبات المسلمين على اليمان خزي للكفار‪ ،‬الجواب نعم ‪ ,‬وهو من‬
‫مقدمات قطع طرف من الكفار والنصر عليهم‪ ،‬ودخول الناس في دين السلم ‪.‬‬
‫ول تنحصر آيات المدد للمسلمين بأوان المعركة وزمان التنزيل بل هي متجددة‬
‫ومصاحبة للمسلمين وتطل عليهم بين الحين والخر‪ ،‬ويتلو المسلمون آيات المدد‬
‫القرآنية فيقتبسون منها المسائل‪ ،‬ويسيحون في بشاراتها‪ ،‬وتكون أسباب النزول‬
‫والثار الكريمة المترتبة على المدد عيدًا وفخرًا وعزًا للمسلمين‪ ،‬وهو من عمومات‬
‫ن[)‪) ،(437‬عن عكرمة في المرسل قال‬ ‫سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ‬ ‫ل اْلِعّزُة َوِلَر ُ‬‫قوله تعالى]َو ِّ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم جاء جبرئيل فقال لي يا محمد إن ربك يقرئك‬
‫السلم وهذا ملك الجبال قد أرسله ال إليك وأمره أن ل يفعل شيئًا إل بأمرك‪.‬‬

‫‪()432‬الكشاف ‪.1/142‬‬
‫‪()433‬سورة البقرة ‪.143‬‬
‫‪ ()434‬سورة التوبة ‪.14‬‬
‫‪()435‬سورة التوبة ‪.12‬‬
‫‪ ()436‬مجمع البيان ‪. 11 /5‬‬
‫‪ ()437‬سورة المنافقون ‪.8‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫فقال ملك الجبال‪ :‬إن ال أمرني أن ل أفعل شيئًا إل بأمرك إن شئت دمدمت عليهم‬
‫الجبال ‪ ,‬وان شئت رميتهم بالحصباء ‪ ,‬وإن شئت خسفت بهم الرض‪.‬‬
‫قال يا ملك الجبال فاني أأنى بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولوا ل إله‬
‫إل ال عز وجل‪.‬‬
‫فقال ملك الجبال‪ :‬أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم( ) (‪.‬‬
‫‪438‬‬

‫ويدل الحديث على أن المدد الملكوتي للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم مستمر‬
‫ومتصل ومتعدد الكيفية والفعل‪ ،‬وأن وسائل وصيغ قطع دابر الكفار ليس لها حد‪.‬‬
‫بحث بلغي‬
‫إتفق المليون على وجود الملئكة وأنهم خلق عظيم شّرفهم ال عز وجل بالسكن في‬
‫السماء‪ ،‬وأختلف في ماهية الملئكة‪ ،‬وقال كثير من الفلسفة بأنها ذوات مجردة‬
‫ليست من الماديات‪ ،‬وقال المسلمون أنها جواهر مجردة‪ ،‬وقال المتكلمون منهم أنها‬
‫أجسام لطيفة ‪.‬‬
‫ول يحصي عدد الملئكة إل ال عز وجل وقد جعل ال الملئكة وسائط الوحي بين‬
‫ال عز وجل والنبياء‪ ،‬وكأنهم المرآة للروح التي نفخها ال عز وجل في آدم عليه‬
‫السلم ‪ ,‬وكل ملك أمة في الجتهاد في طاعة ال والنقطاع إلى التسبيح‪ ،‬لذا فإن‬
‫نزولهم بالوحي يصاحبه القطع بصدقهم وأمانتهم‪.‬‬
‫وخلق الملئكة أمر متجدد ومتصل‪.‬‬
‫ومن ا لملئكة حملة العرش وهم الثابتة في الرضين السفلى أقدامهم لن العرش‬
‫أحاط بكل شيء من الخلئق‪) ،‬وأخرج عبد بن حميد عن ميسرة رضي ال عنه‬
‫قال ‪ :‬حملة العرش أرجلهم في الرض السفلى ‪ ،‬ورؤوسهم قد خرقت العرش ‪ ،‬وهم‬
‫خشوع ل يرفعون طرفهم ‪ ،‬وهم أشد خوفًا من أهل السماء السابعة ‪ ،‬وأهل السماء‬
‫السابعة أشد خوفًا من أهل السماء التي تليها ‪ ،‬وأهل السماء التي تليها أشد خوفًا من‬
‫التي تليها( )‪.(439‬‬
‫ول يعني هذا انهم مراتب في الطاعة والمتثــال بل ان القــرب من العرش يترشح‬
‫منه فزع أشد‪.‬‬
‫وعن المام الصادق عليه السلم‪" :‬ان ل ملئكة أنصافهم من ثلج وأنصافهم من نار‬
‫وأن ل ملئكة بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينيه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير"‪.‬‬
‫ومما عليه النص والجماع أن جبرئيل نزل على النبياء بالوحي ‪ ,‬وهذا النزول من‬
‫الكلي المشكك بلحاظ عدد المرات التي نزل فيها على كل نبي وهي على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬نزل على إبراهيم ‪ ‬خمسين مرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬نزل على موسى ‪ ‬أربعمائة مرة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬نزل على عيسى عشر مرات‪.‬‬

‫‪() 438‬الدر المنثور ‪. 5/201‬‬


‫‪()439‬الدر المنثور ‪.8/492‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الرابع‪ :‬نزل على محمد صلى ال عليه وآله وسلم أربعة وعشرين ألف مرة(‬
‫)‪.(440‬‬
‫وهذه الكثرة في نزول جبرئيل على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم شاهد‬
‫على إتصال المدد الملكوتي له‪ ،‬وعدم غياب أو تخلف نصرة الملئكة له‪ ،‬وليس‬
‫للملئكة قوة شهوية أو بهيمية تطلب الطعام والزاد‪ ،‬وتشتاق معها إلى اللذات‬
‫الحسية‪ ،‬فهم منقطعون إلى التسبيح ل يأكلون‪ ،‬ول يشربون ول ينكحون‪ ،‬وليس لهم‬
‫نفوس سبعية تميل إلى الغضب والستعلء‪ ،‬ونزلوا لنصرة المؤمنين‪ ،‬وقاموا بقتل‬
‫ل لمر ال ‪ ,‬وليكون فعلهم هذا من‬ ‫الكفار ومطاردتهم لرادة قطع طرف منهم إمتثا ً‬
‫المصاديق العملية لرد ال عز وجل عليهم ‪ ،‬وما قاله سبحانه في إقامة الحجة عليهم‬
‫ك الّدَماَء[‬
‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬
‫ن ُيْف ِ‬
‫ل ِفيَها َم ْ‬‫جَع ُ‬
‫ن[)‪ , (441‬حينما قالوا]َأَت ْ‬ ‫ل َتْعَلُمو َ‬‫عَلُم َما َ‬
‫]ِإّني َأ ْ‬
‫)‪.(442‬‬
‫فمن اليات أن الملئكة نزلوا بأنفسهم لمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬الفساد في الرض‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الحيلولة دون سفك الدماء‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬منع الكفار من الوصول إلى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‬
‫س[)‪.(443‬‬
‫ن الّنا ِ‬
‫ك ِم ْ‬
‫صُم َ‬
‫ل َيْع ِ‬ ‫‪ ,‬قال تعالى]َوا ُّ‬
‫الرابع‪ :‬قطع طرف من الكفار‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إزاحة الشرك عن مواقعه المتقدمة في الرض‪.‬‬
‫)وعن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ :‬كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين(‬
‫)‪ ،(444‬وفيه إشارة إلى إظهار نبوته‪ ،‬وعز الذين آمنوا به‪ ،‬وإنذار الذين يحاربونه‬
‫ويصرون على قتاله‪ ،‬ويسعون في منع إنتشار لواء السلم‪.‬‬
‫وجاءت الية محل البحث لتؤكد بصيغة الجزم التي ل تقبل الترديد أو البرزخية بأن‬
‫هلك الكفار أمر حتم ما داموا على الكفر والجحود‪ ،‬ويأتي الهلك على الفراد‬
‫والجماعات ولكنه ل يقف عندهم‪ ،‬ول ينحصر بهم فأحكام الية متجددة بتجدد‬
‫الطرف من الكفار‪ ،‬فكلما هلك طرف تقدم طرف آخر من الوسط أو من الطراف‬
‫الخرى البعيدة عن المسلمين لتكون مقابلة ومواجهة له‪ ،‬كما في الفتوحات‬
‫السلمية‪ ،‬فكانت مكة أيام الدعوة الولى مقرًا ومقامًا لهل الشرك والضللة‪،‬‬
‫ويصدر المشركون عن أقطاب قريش بخصوص الهجوم على المدينة ومحاربة‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫‪ ()440‬معالم اليمان ‪.19/189‬‬


‫‪ ()441‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫‪ ()442‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫‪()443‬سورة المائدة ‪. 67‬‬
‫‪()444‬مفاتيح الغيب ‪.3/432‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وبعد فتح مكة تقدم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمون نحو الطائف‬
‫وتبعد نحو ثمانين كيلو مترًا عن مكة ولكن بالجهة الخرى المقابلة لجهة المدينة‬
‫جَبْتُكْم َكْثَرُتُكْم‬
‫عَ‬‫ن ِإْذ َأ ْ‬
‫حَنْي ٍ‬
‫المنورة وتم النصر بآية ومدد من عند ال قال تعالى]َوَيْوَم ُ‬
‫شْيًئا[)‪ ،(445‬ففتح مكة مّهد الطريق وأّمن السبل للمجاهدين والغزاة‪ ،‬ثم‬ ‫عْنُكْم َ‬
‫ن َ‬
‫َفَلْم ُتْغ ِ‬
‫لم يلبث المسلمون حتى زحفوا نحو جهة المشرق إلى بلد فارس‪ ،‬والمغرب نحو‬
‫الروم‪.‬‬
‫بحث عرفاني‬
‫لنزول الملئكة لنصرة المسلمين وقطع طرف من الكافرين منافع وآثار روحية‬
‫ووجدانية وسلوكية‪ ،‬وهو مناسبة لتطهير النفوس من درن الشك والريب بنبوة محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬ويشمل هذا التطهير شطرًا من الذين يقومون ببث الشك‬
‫ويتجلى بتوبتهم وإنابتهم‪ ،‬خصوصًا وأنهم يرون بعد نزول الملئكة وظهور الشواهد‬
‫على هدم أركان من الكفر والكافرين إعراض الناس عنهم وعن مصاديق الشك‬
‫والسموم التي يسعون في إفشائها‪.‬‬
‫ومن منافع نزول الملئكة وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إزالة الكدورات والضغائن‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬تصفية القلوب‪،‬وتهذيب النفوس ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬طرد مادية الطبيعة عن الوهام ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬منع سيطرة النفس الشهوانية والحيوانية‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬قطع دابر الكفار‪ ،‬وتوكيد القبح الذاتي والعرضي لمفاهيم الضللة ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬بيان بهاء قوس النزول والصلة المباركة بين أهل السماء وأهل الرض ‪.‬‬
‫ونزول الملئكة شاهد على محبة ال عز وجل للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمسلمين‪ ،‬ومناسبة لظهور هذه المحبة بمعجزات لم تشهد الرض مثلها‪ ،‬وتفيد‬
‫الجزم واليقين بصدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وضرورة إتباعه‬
‫ونصرته‪ ،‬وهذا اليقين قطع لطرف من الكفار‪ ،‬ووسيلة لهجران شطر منهم منازل‬
‫الشرك والضللة‪.‬‬
‫لقد أشرقت على الرض بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم شمس الملكوت‬
‫والتي ترشح عنها نهار التصال والتداخل بين النسان والسماء بملك التقوى‬
‫واليمان‪ ،‬ليستنير الناس بالشعاع المنبعث من آيات القرآن والذي يخترق شغاف‬
‫القلوب ويطرد الغفلة‪ ،‬ويمنع من دنوها من نفوس المسلمين وإستيلئها على مساحة‬
‫ولو قليلة من وقت وعمل المسلم‪.‬‬
‫وفي المدد اللهي لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم حضور سماوي في‬
‫المجتمعات يجذب الناس لليمان‪ ،‬ويحول دون التردي في هاوية الضللة وأسباب‬
‫الشك والوهم‪ ،‬وفيه دعوة للناس لليمان بال واليوم الخر والتذكير بأهوال‬
‫الحساب‪.‬‬
‫‪()445‬سورة التوبة ‪.25‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫لقد دعا ال عز وجل الناس للتصديق باليوم الخر‪ ،‬وهو أصل من أصول الدين ‪,‬‬
‫ل َواْلَيْوِم‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫ن آَم َ‬
‫ن َم ْ‬
‫صاِبِئي َ‬
‫صاَرى َوال ّ‬ ‫ن َهاُدوا َوالّن َ‬ ‫ن آَمُنوا َواّلِذي َ‬‫ن اّلِذي َ‬ ‫قال تعالى]ِإ ّ‬
‫حا[) (‪ ،‬فجاءت الية أعله بجعل اليمان به شرطًا للمن‬ ‫‪446‬‬
‫صاِل ً‬‫ل َ‬ ‫عِم َ‬ ‫خِر َو َ‬ ‫ال ِ‬
‫والسلمة يوم القيامة‪.‬‬
‫وجاء نزول الملئكة وقطع طرف من الكفار إعانة ولطفًا بالناس‪ ،‬وتذكيرًا بالخرة‪،‬‬
‫ومنعًا للغفلة عنها‪ ،‬وإشارة سماوية إلى قرب أوانها وخسارة الكفار يومئذ سواء‬
‫الذين هلكوا وقتلوا على أيدي الملئكة أو أيدي المؤمنين‪ ،‬أو الذين كبتوا منهم وبقوا‬
‫ل * ِإّنُهْم َيَرْوَنُه َبِعيًدا*َوَنَراُه َقِريًبا[ )‪.(447‬‬ ‫جِمي ً‬ ‫صْبًرا َ‬ ‫صِبْر َ‬ ‫أحياء‪ ،‬قال تعالى]َفا ْ‬
‫وهو سياحة للروح في السماء‪ ،‬وبعث للمحبة اليمانية بين المسلمين‪ ,‬وجعل الحياة‬
‫الدنيا مملوءة بالغبطة والسعادة والرضا بفضل ال‪ ،‬والشعور بوجود حصة للمسلمين‬
‫في السماء بتعضيد ونصرة الملئكة لهم‪ ،‬وليس من شرف وحجة أعظم من تلقي‬
‫المسلمين النصر من السماء‪ ،‬وقطع عدوهم‪ ،‬وهدم أركانه‪ ،‬وفيه تكميل للنفوس‪،‬‬
‫وإقتناء ثروة عقائدية وإجتماعية عظيمة‪ ،‬ورئاسة بين الناس‪ ،‬ليصبح المسلمون أئمة‬
‫ل بعد أن ُملت جحودًا وظلمًا‪ ،‬وهو‬ ‫في الخير‪ ،‬والمة التي تمل الرض إيمانًا وعد ً‬
‫س[) (‪.‬‬
‫‪448‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬‫خِر َ‬ ‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬‫من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫وفي حديث السراء ورد عن المام محمد الباقر عليه السلم )قال‪ :‬لما أسري‬
‫بالنبي صلى ال عليه وآله وسلم قال‪ :‬يا رب ما حال المؤمن عندك‪ :‬قال يا محمد من‬
‫أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ‪ ,‬وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي(‪.‬‬
‫وجاء الحديث أعله ببيان تعرض المؤمن بصيغة المفرد للهانة والذل‪ ,‬ونصرة‬
‫ال عز وجل له ‪ ,‬وعدم تخلف هذه النصرة زمانًا ومكانًا وكيفية‪ ،‬وقد قام الكفار‬
‫بالهجوم على المسلمين ليس للهانة فقط بل لستئصال النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم وأصحابه‪ ،‬الذين وصفهم ال عز وجل بالمؤمنين قال تعالى]ِإْذ َتُقو ُ‬
‫ل‬
‫لِئَكِة[ )‪.(449‬‬‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬ ‫ل ٍ‬ ‫لَثِة آ َ‬‫ن ُيِمّدُكْم َرّبُكْم ِبَث َ‬
‫ن َيْكِفَيُكْم َأ ْ‬
‫ن َأَل ْ‬‫ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫فمن باب الولوية القطعية نصرة ال عز وجل للنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وأصحابه‪ ،‬والتي جاءت سريعة وعظيمة وشاهدًا على قرب المؤمنين من‬
‫حضرة القدس بإخلصهم ودعائهم وجهادهم في سبيل ال بأنفسهم فلم يروا يوم أحد‬
‫إل ال‪ ،‬ولم يلتفتوا إلى كثرة الكفار وإنخذال المنافقين في الطريق وما فيه من أسباب‬
‫التوهين‪ ،‬فجاءت النصرة السريعة من السماء بهلك الكفار‪ ،‬وإنذارهم من الهجوم‬
‫على المسلمين‪ ،‬لتفيد الية قانونًا ثابتًا بوقاية المسلمين من الفزع والخوف ‪ ,‬وتكون‬
‫مقدمة لرتقائهم في سلم المعارف اللهية‪.‬‬
‫قانون" القطع بعد أحد’’‬
‫‪()446‬سورة البقرة ‪.62‬‬
‫‪ ()447‬سورة المعارج ‪.7-5‬‬
‫‪ ()448‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪ ()449‬سورة آل عمران ‪.124‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫لقد جعل ال عز وجل الشياء جميعًا حاضرة عنده‪ ،‬مستجيبة لمره لتخفى منها‬
‫خر ما‬ ‫عليه خافية‪ ،‬وهو سبحانه الذي جعل الدنيا دار إمتحان وإبتلء وإختبار‪ ،‬وس ّ‬
‫في السماوات والرض للنسان لتكون عونًا له في عبادة ال‪ ،‬وآية تدعو العقول‬
‫للتدبر والتفكر في بديع صنع ال‪ ،‬وتجعل الناس يأتون بالفرائض والواجبات بشوق‬
‫ورغبة لليمان بال وما جاء به النبياء والكتب السماوية المنزلة‪ ،‬ومنه القرار‬
‫بعالم الحساب وما فيه من الثواب والعقاب‪.‬‬
‫ومع أن الحجة قائمة على الناس بلزوم إتيان علة خلقهم وهي العبادة ‪ ,‬قال تعالى‬
‫ن[ )‪ ،(450‬فان ال عز وجل لطيف بعباده يجذب‬ ‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬
‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬‫خَلْق ُ‬
‫]َوَما َ‬
‫الناس لسبل اليمان‪ ،‬ويمنع من طغيان مفاهيم الكفر والضللة‪.‬‬
‫ومن مصاديق اللطف اللهي قطع طرف من الكفار وما فيه من التأديب والعقوبة‬
‫العاجلة ‪ ,‬والزجر عن صد الناس عن التصديق بالمعجزات والعمل بما يصاحبها‬
‫من الحكام‪ ،‬في باب العبادات والمعاملت‪ ،‬ويحتمل قطع طرف من الكفار‬
‫وجوهًا ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه ملزم لوجود النسان في الرض مثل ملزمة النبوة له مع التباين‬
‫بينهما‪ ،‬فقد جعل ال عز وجل آدم أبا البشر نبيًا " وبالالسناد عن أابي‬
‫إامامة عن أابي ذر قال‪ :‬قلت‪ :‬يا نبي الله‪،‬أنأنبيا ً كانان‬
‫آدم؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬كانان نبي ًّا‪ ،‬كلمه الله ُ‬
‫قب ُل ً")‪.(451‬‬
‫الثاني‪ :‬يأتي هلك الكفار وقطع طرف منهم عند بعثة النبياء على نحو التعيين‪،‬‬
‫فالتكذيب بالنبي سبب للهلك‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إقتران هلك طرف من الكفار بالبشارة التي تأتي للمسلمين بالنصر والغلبة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬القطع وهلك الكفار فرع محاربتهم للنبي وأصحابه‪ ،‬فكلما حارب الكفار‬
‫النبي يأتيهم القطع‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إنه دفاع خاص من عند ال عن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫فمن مختصات نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم قطع طرف من الكفار‪ ،‬وكبتهم‬
‫وخزيهم‪.‬‬
‫لقد تباينت نتيجة القتال بين معركة بدر وأحد على نحو الموجبة الجزئية‪ ،‬ففي بدر‬
‫حقق المسلمون نصرًا عظيمًا‪ ،‬جاء بمعجزة ومدد من عند ال ‪ ,‬قال تعالى ]َوَلَقْد‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪ ،(452‬وهو خلف ما قيل من عدم إجتماع المتضادين‪،‬‬ ‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫َن َ‬
‫إذ إجتمع هنا النصر والغلبة مع الذلة والضعف‪ ،‬لن المعجزة خارقة للعادة وقانون‬
‫السبب والمسبب‪ ،‬بمجئ سبب قاهر من عند ال يفوق الواقع‪ ،‬ولم يجر أصل‬

‫‪()450‬سورة الذاريات ‪.56‬‬


‫‪()451‬تفسيرنا معالم اليمان ‪.5/138‬‬
‫‪()452‬سورة آل عمران ‪.122‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الستصحاب في معركة أحد بتحقيق النصر للمسلمين ظاهرًا‪ ،‬ولكنه يتجلى لك عند‬
‫التدبر والتحقيق‪.‬‬
‫فقد كان نصر المسلمين عظيمًا يوم أحد وتدل عليه هذه الية الكريمة إذ جاء قطع‬
‫ل مع معركة أحد‪ ،‬فليس ثمة مدة وزمان معتد به بين‬ ‫طرف الكفار متعقبًا ومتداخ ً‬
‫المرين‪ ،‬فلم تقل الية )وسوف يقطع طرفًا( أو )سيقطع طرفًا( بلحاظ أن السين تفيد‬
‫المستقبل القريب‪.‬‬
‫ولم تقل )فيقطع طرفًا( لفادة التعقيب ومجئ القطع بعد البشارة بالمدد الملكوتي‪،‬‬
‫ونزوله من عند ال‪ ،‬بل جاءت باللم لبيان العاقبة والنتيجة والثمرة العظيمة لنزول‬
‫الملئكة يوم بدر‪ ،‬ولفادة حقيقة وهي أن النصر يوم أحد لم ينحصر بوقائع المعركة‬
‫بل هو متصل ودائم ‪ ,‬ومنهم من يسمي اللم لم كي‪ ,‬كما في قوله تعالى ]َوَأنَزْلَنا‬
‫س[)‪.(453‬‬
‫ن ِللّنا ِ‬ ‫ك الّذْكَر ِلُتَبّي َ‬ ‫ِإَلْي َ‬
‫وإذا كان نصر المؤمنين يوم بدر على نحو دفعي وفي ساعة واحدة‪ ،‬فان نصرهم‬
‫يوم أحد على نحو تدريجي وعلى مراحل متعددة‪ ،‬ويتقوم بهلك رؤوس الكفر‪،‬‬
‫وإصابة الكفار بالخزي والكبت‪.‬‬
‫لقد دخل الصراع بين المسلمين والكفار بمعركة أحد مرحلة جديدة‪ ،‬وبان وظهر‬
‫رجحان كفة المسلمين وصار النصر قريبًا منهم‪ ،‬وأدرك المسلمون بهذه الية أن‬
‫دفع الكفار وضررهم أمر سهل المنال‪ ،‬وانه يستلزم منهم الصبر وإظهار معاني‬
‫الخشية من ال بأداء الفرائض والواجبات العبادية لما جاء قبل آيتين ]َبَلى ِإ ْ‬
‫ن‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا[)‪.(454‬‬ ‫َت ْ‬
‫لقد خرج المسلمون إلى بدر وهم قلة وضعفاء‪ ،‬ثم خرجوا يوم أحد وهم أعزة‬
‫ن ال عز وجل عليهم يوم بدر‪ ،‬مع بقائهم على صبغة القلة ‪ ,‬وفيه‬ ‫بالنصر الذي م ّ‬
‫شاهد على تنمية ملكة الصبر عند المسلمين‪ ،‬وعشقهم للجهاد في سبيل ال‪.‬‬
‫لقد أسس النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه مدرسة الجهاد المتكاملة‬
‫في سبيل ال‪ ،‬إذ يتدافعون بتنافس وتزاحم إلى سوح القتال دفاعًا عن بيضة السلم‬
‫ك َفْلَيَتَناَف ْ‬
‫س‬ ‫في حال الشدة والرخاء ‪,‬والنقص في العدد والمؤون ‪ ,‬قال تعالى]َوِفي َذِل َ‬
‫ن[ )‪.(455‬‬ ‫سو َ‬ ‫اْلُمَتَناِف ُ‬
‫ن ِفيُكْم‬ ‫عِلَم َأ ّ‬
‫عنُكْم َو َ‬
‫ل َ‬‫ف ا ُّ‬
‫خّف َ‬
‫ن َ‬
‫فجاءت البشارات بالنصر من عند ال‪ ،‬قال تعالى]ال َ‬
‫ن[)‪ ،(456‬فل يعلم الكفار أن النصر بيد‬ ‫صاِبَرٌة َيْغِلُبوا ِماَئَتْي ِ‬
‫ن ِمْنُكْم ِماَئٌة َ‬‫ن َيُك ْ‬ ‫ضْعًفا َفِإ ْ‬‫َ‬
‫ال وأنه يمنحه للمؤمنين والمجاهدين لعلء كلمة التوحيد‪ ،‬ول يدركون ما أعّد ال‬
‫عز وجل للمسلمين من الثواب العظيم‪ ،‬وما ينتظر الكفار من العذاب‪ ،‬ول يفقهون أن‬
‫ال عز وجل يقطع طرفًا منهم ويكبتهم ويخزيهم‪ ،‬وهذا القطع والخزي من أسباب‬

‫‪()453‬سورة النحل ‪.44‬‬


‫‪()454‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫‪()455‬سورة المطففين ‪.26‬‬
‫‪()456‬سورة النفال ‪.66‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫التخفيف عن المسلمين وجعل المائة منهم تغلب ضعفها ‪ ،‬فان قلت أن المراد رمي‬
‫الكفار بالهلك والخزي يجعل العدد القليل من المؤمنين بذم أضعافًا مضاعفة من‬
‫الكفار‪.‬‬
‫فاذا كانت المائة من المؤمنين تهزم الفًا‪ ،‬فمع القطع والخزي للكفار تغلب المائة من‬
‫المؤمنين ألفين من الكفار ‪ ,‬والجواب من وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن آية التخفيف أعله لم تمح حكم ما قبلها ‪ ,‬وان قيل بالنسخ بينهما‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬نصر المسلمين على ضعفهم من الكفار ل يعني إنحصار النصر به فإثبات‬
‫ل َمَع‬
‫شئ لشئ ل يدل على نفيه عن غيره‪ ،‬ولقرينة خاتمة الية أعله وهي ]َوا ُّ‬
‫ن[ )‪.(457‬‬
‫صاِبِري َ‬
‫ال ّ‬
‫الثالث ‪ :‬لم يأت التخفيف بسبب ضعف المسلمين‪ ،‬وما قيل بأن المسلمين)إختلط بهم‬
‫من كان أضعف يقينا وبصيرة‪ ،‬ونزل )الن خفف ال عنكم( )‪.(458‬‬
‫بل جاء التخفيف بما رمى ال عز وجل به الكفار من قطع الطرف وإبانة طائفة‬
‫وجزء منهم‪ ،‬وإصابتهم بالخزي بسبب القتل والسرى في معركة بدر‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬عجز الكفار عن درك ثأرهم وغاياتهم الخبيثة التي جاءوا من أجلها يوم‬
‫أحد‪ ،‬بدليل أن الية أعله ذكرت موضوع ضعف المؤمنين على نحو العطف على‬
‫ضْعًفا[ )‪.(459‬‬
‫ن ِفيُكْم َ‬
‫عِلَم َأ ّ‬
‫التخفيف في قوله تعالى]َو َ‬
‫ويفيد العطف المغايرة والتعدد‪ ،‬وأن التخفيف فضل ومدد إضافي للمسلمين‪ ،‬وهو‬
‫من بركات ومنافع الية محل البحث وإصابة الكفار بالهلك والقطع‪ ،‬والخزي الذي‬
‫يترشح عنه قهرًا عجز الكفار عن المثابرة والجد في القتال وتهيئة مقدماته‪ ،‬وهو من‬
‫أبهى معاني التخفيف عن المسلمين‪ ،‬ول ينحصر بميدان المعركة بل يشمل قلة‬
‫المعارك‪ ،‬والتباعد الزماني بين غزوات وهجوم الكفار على حرمات السلم ‪،‬‬
‫وإبطاء القبائل والناس عن نصرتهم وإغاثتهم‪.‬‬
‫وتجّلى التخفيف عن المسلمين بعد معركة أحد بأنه لم يحصل قتال يذكر بعدها‪ ،‬إذ‬
‫جاء الكفار في معركة الحزاب وإنسحبوا خائبين‪ ،‬وهذا النسحاب من مصاديق‬
‫الكبت المذكور في الية‪ ،‬إلى أن جاء فتح مكة ودخول الكفار السلم‪.‬‬
‫ويحتمل دخول قريش السلم يوم الفتح بلحاظ مضامين الية محل البحث وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪:‬إنه من قطع الكفار‪ ،‬فمن معاني القطع إبانة جزء وطائفة من الكل‪ ،‬ودخول‬
‫قريش في السلم من أعظم مصاديق النصر ‪ ,‬وإزاحة الكفر عن البقاع المباركة‬
‫الطاهرة بالهداية والنتقال إلى منازل اليمان‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬فتح مكة من كبت وصرع الكفار‪ ،‬وجعلهم أذلة وفي حزن‪ ،‬إذ تجلت معاني‬
‫القوة والمنعة والكثرة في زحف المؤمنين‪ ،‬وعندما أدخل العباس أبا سفيان على‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وهو والمؤمنون في طريقهم إلى مكة )قال‬
‫‪()457‬سورة البقرة ‪.66‬‬
‫‪()458‬مجمع البيان ‪.4/557‬‬
‫‪()459‬سورة النفال ‪.66‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫صلى ال عليه وآله وسّلم إنصرف يا عباس فاحبسه عند مضيق الوادي حتى تمر‬
‫عليه جنود ال قال ‪ :‬فحبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي و مر عليه القبائل‬
‫قبيلة قبيلة و هو يقول من هؤلء و أقول أسلم و جهينة و فلن حتى مر رسول ال‬
‫صلى ال عليه وآله وسّلم في الكتيبة الخضراء من المهاجرين و النصار في الحديد‬
‫ل يرى منهم إل الحدق فقال من هؤلء يا أبا الفضل قلت هذا رسول ال صلى ال‬
‫عليه وآله وسّلم في المهاجرين و النصار فقال يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن‬
‫أخيك عظيما فقلت ويحك إنها النبوة فقال نعم إذا)‪.(460‬‬
‫الثالث‪ :‬يجتمع قطع وكبت الكفار في فتح مكة‪ ،‬لما فيه من تعدد مصاديق النصر‬
‫ومعاني الغلبة للمسلمين‪ ،‬وصيرورة الكفار عاجزين عن الجهاز على المسلمين‬
‫وعاصمتهم وثغورهم‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ل صلة بين قطع وكبت الكفار وبين فتح مكة‪ ،‬لن كفار قريش دخلوا‬
‫السلم يومئذ‪.‬‬
‫والصحيح هو الثالث‪ ،‬وهو من مصاديق الية الكريمة‪ ،‬والمنافع العظيمة لنزولها‬
‫يوم أحد‪ ،‬وما فيها من البشارات عن تزلزل أركان الكفر‪.‬‬
‫قانون"السر من القطع’’‬
‫السير‪ :‬الخيذ والمحبوس في قيد أو سجن‪ ،‬يقال‪ :‬أسرنا الرجل أسرًا وإسارًا فهو‬
‫أسير ومأسور‪ ،‬والجمع أسرى وأسارى ‪ ,‬مأخوذ من القيد‪ ،‬إذ كانوا يشدونه بالقيد‪،‬‬
‫سيًرا[ )‪.(461‬‬
‫سِكيًنا َوَيِتيًما َوَأ ِ‬
‫حّبِه ِم ْ‬
‫عَلى ُ‬
‫طَعاَم َ‬
‫ن ال ّ‬
‫طِعُمو َ‬
‫قال تعالى]َوُي ْ‬
‫وعن إبن عباس ومجاهد أن الية أعله نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين‬
‫عليهم السلم‪ ،‬وذكر أنه مرض الحسن والحسين وعادهما جدهما النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم ووجوه العرب‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرًا‬
‫فنذر صوم ثلثة أيام إن شفاهما ال عز وجل‪ ،‬وكذا نذرت فاطمة‪ ،‬وكذا جارية‬
‫عندهما تسمى فضة‪ ،‬فإستقرض المام علي ثلثة أصوع)‪ (462‬من شعير من يهودي‪،‬‬
‫وجاء بها إلى فاطمة عليها السلم فطحنت صاعًا منا فإختبزته‪ ،‬وصلى عل ّ‬
‫ي‬
‫المغرب‪ ،‬وقربته إليهم ليفطروا فأتاهم مسكين يسأل ويدعو ال لهم فاعطوه ما‬
‫خبزوه‪.‬‬
‫وفي اليوم الثاني طرق الباب أوان الفطار يتيم يستطعمهم ويسأل ال لهم فدفعوا له‬
‫الخبز‪ ،‬وفي اليوم الثالث وعند أوان الفطار وقف على الباب أسير فأعطوه ما‬
‫إختبزته الزهراء‪ ،‬وأتموا صيامهم ‪.‬‬

‫‪()460‬مجمع البيان ‪.10/556‬‬


‫‪ ()461‬سورة النسان ‪.8‬‬
‫‪ ()462‬أصوع جمع صاع‪ ،‬وهو نحو ثلثة كيلو غرام‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وفي اليوم الرابع عندما أتموا صيامهم أتى المام علي ومعه الحسن والحسين إلى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وبهما ضعف‪ ،‬وبكى رسول ال ونزل جبرئيل‬
‫بسورة الدهر)‪.(463‬‬
‫وفي قوله تعالى)وأسيرًا( ورد عن الحسن البصري )وكان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم يؤتى بالسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه‪ ،‬فيكون عنده‬
‫اليومين والثلثة فيؤثره على نفسه( )‪ ،(464‬ومن اليات العجازية في نبوة محمد‬
‫صَرُكْم‬‫صلى ال عليه وآله وسلم تعدد مصاديق النصر يوم بدر في قوله تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[ )‪.(465‬‬
‫ا ُّ‬
‫فليس من حصر لوجوه ومصاديق النصر يومئذ ومنها وقوع سبعين من رجالت‬
‫قريش في السر‪ ،‬وهو شاهد على صيرورة دولة للمسلمين ذات نظام‪ ،‬وتتصف‬
‫بالضبط والدقة وصيغ أخلقية رفيعة‪ ،‬فلم يعتد أحد على السرى‪ ،‬بل كانوا في ذمة‬
‫وعهدة المسلمين‪ ،‬ونزلت الية أعله لمور وغايات عقائدية وأخلقية كثيرة منها ما‬
‫يتعلق بمضامين الية‪ ,‬وهو على وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬تأديب المسلمين وإرشادهم إلى حسن معاملة السرى ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الية جذب للسرى للسلم‪،‬وطرد للنفرة منه من نفوسهم ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬في الية حجة على السرى ‪,‬لن إكرامهم وإطعامهم من قبل أهل بيت‬
‫النبوة وتوثيقه سماويًا شاهد على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬فصل المسلمين بين كبت الكفار بالسر وبين إيثارهم على النفس‪ ,‬وجاءت‬
‫الخبار بأن المستضعفين من المسلمين يفرون من مكة رغم بطش قريش والرصد‬
‫الذي وضعته حول مكة‪ ,‬ولم يحدثنا التأريخ عن فرار جماعة من السرى الذين‬
‫وقعوا في أيدي المسلمين ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬إرتقاء أصحاب النبي محمد والمسلمين عامة في مراتب الخلق الحميد‪،‬‬
‫والدعوة إلى ال‪ ،‬وإجتناب الكراه والجبار مع أن السرى معتدون على المسلمين‪،‬‬
‫ويستحقون العقاب ولم يقتلهم المسلمون بإعتبار أن قتلهم من مصاديق قوله‬
‫ن َكَفُروا[ وهو هلك وإجتثاث لبعض صناديدهم بلحاظ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫طَرًفا ِم ْ‬
‫طَع َ‬ ‫تعالى]ِلَيْق َ‬
‫أن السرى أخذوا من وسط المعركة وأثناء القتال أو الفرار وهم كفار‪.‬‬
‫فالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لم يقتل السرى ‪ ،‬ولم يعذبهم بل أمر‬
‫بالعناية بهم‪ ،‬وأفدى رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم أسرى بدر‪ ,‬وجاءت الية‬
‫أعله تأديبًا للمسلمين بخصوص معاملة السرى ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬جاء كبت الكفار من ال ) أو يكبتهم ( وهو سبحانه الذي أثنى على أهل‬
‫البيت لعنايتهم بالسير‬

‫‪()463‬أنظر مجمع البيان ‪.10/404‬‬


‫‪ ()464‬الكشاف ‪.198 /7‬‬
‫‪ ()465‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫السابع ‪ :‬تنزيه المسلمين كأمة وأفراد من العصبية وغلبة النفس الغضبية ‪ ,‬وهذا‬
‫س[ )‪.(466‬‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫التنزيه من مصاديق قوله تعالى ]ُكْنُتْم َ‬
‫ومن معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والشواهد على أنه ل يقول أو‬
‫يفعل إل ما يأمره ال عز وجل به أن مكوث السرى لم يتأخر فقد وقعت معركة‬
‫بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة‪) ،‬قال إبن اسحاق‪ :‬وكان فراغ رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم من بدر عقب شهر رمضان أو في شوال()‪.(467‬‬
‫وتم في شهر شوال وفي ذي القعدة تخلية أغلب السرى ‪ ،‬مع أن النبي خرج في‬
‫غزوة بني سليم في شوال نفسه وكان السر والفداء إنذارًا مركبًا لقريش‪ ،‬أي أن كل‬
‫فرد منهما إنذار مستقل قائم بذاته‪ ،‬وزجر عن مواصلة القتال‪ ،‬وكانت سلمتهم من‬
‫ث َ‬
‫ل‬ ‫حْي ُ‬
‫ن َ‬ ‫جُهمْ ِم ْ‬‫سَتْدِر ُ‬
‫سَن ْ‬
‫السر يوم أحد والحزاب نوع إستدراج لهم ‪ ,‬قال تعالى] َ‬
‫ن[)‪.(468‬‬
‫َيْعَلُمو َ‬
‫ولبيان قانون ثابت مع تباين الحوال‪ ،‬وهو منعة وعز للسلم في حال السلم‬
‫والحرب‪ ،‬بخلف الكفار فإنهم في حال ضيق وخوف وفزع في جميع الوقات‬
‫وتباين الحوال‪ ،‬وهم معّرضون لقطع طرف منهم‪ ،‬وللخسارة وهلك رؤسائهم‬
‫وكبرائهم‪.‬‬
‫ويحتمل أسر المسلمين للكفار بلحاظ قطع طرف من الكفار وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬السر من القطع موضوعًا وحكمًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬السر أجنبي عن القطع‪ ،‬لن السرى أطلق سراحهم‪ ،‬ورجعوا إلى قريش‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬السر مقدمة وإنذار للقطع‪.‬‬
‫والصحيح هو الول والثالث‪ ،‬ولم يرجع السرى إلى أهليهم إل بعد الفداء ودفع‬
‫الموال الكثيرة ‪.‬‬
‫إن دفع قريش للفداء كبت وخزي للكفار خصوصًا وأن قريشًا أهل تجارة ويصعب‬
‫عليهم دفعها ‪ ,‬وهم في حال حرب مع المسلمين ‪ ,‬ويعلمون أن النبي محمدًا‬
‫والمسلمين يوظفونها في شراء السلح وتحسين أحوالهم المعاشية‪.‬‬
‫و قال أبو داود‪ :‬حدثنا عبدالرحمن بن المبارك العبسى‪ ،‬حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا‬
‫شعبة‪ ،‬عن أبى العنبس‪ ،‬عن أبى الشعثاء‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة‪ ،‬وهذا كان أقل ما فودى به أحد‬
‫منهم من المال‪ ،‬وأكثر ما فودى به الرجل منهم أربعة آلف درهم)‪.(469‬‬
‫وفي حجز بعض رجالت قريش أسرى حرب خزي لهم ولعموم الكفار الذين من‬
‫عَلْيِهْم[)‪.(470‬‬
‫ت َ‬‫سَرا ٍ‬ ‫حَ‬ ‫عَماَلُهْم َ‬
‫ل َأ ْ‬‫ك ُيِريِهْم ا ُّ‬
‫خلفهم ‪ ,‬قال تعالى]َكَذِل َ‬

‫‪()466‬سورة آل عمران ‪.110‬‬


‫‪ ()467‬إبن هشام السيرة النبوية ‪. 3/46‬‬
‫‪()468‬سورة العراف ‪.182‬‬
‫‪()469‬السيرة النبوية لبن كثير ‪.2/461‬‬
‫‪()470‬سورة البقرة ‪.167‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وتظهر الية أعله من سورة الدهر أن السرى لم يكونوا محبوسين‪ ،‬بل كانوا‬
‫يطوفون على بعض بيوت المدينة‪ ،‬ليروا بأم أعينهم الثر العظيم الذي أحدثه‬
‫السلم‪ ،‬وإصلحه للنفوس والمجتمعات والسنن‪ ،‬وإقامة المسلمين على أداء‬
‫الفرائض‪ ،‬وتقيدهم بأحكام الحلل والحرام‪ ،‬وتجلي ملكة اليمان على اللسن‬
‫والجوارح‪ ،‬ليعود هذا السير نذيرًا إلى قومه‪ ،‬وداعيًا إلى السلم‪ ،‬او ل أقل الكف‬
‫عن محاربة المسلمين‪ ،‬ومن اليات أن الصحابة كانوا يؤثرون السير على أنفسهم‬
‫وإن بقى على كفره وجحوده‪.‬‬
‫وتلك سجايا وأخلق حميدة لم تصل إليها القوانين التي تنظم شؤون أسرى الحروب‬
‫إلى يومنا هذا ‪ ,‬وأن قلت من أسرى بدر الذين إفتدوا أنفسهم أو عفى عنهم النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم من رجع إلى القتال في أحد ولم يتعظ مما رأى من‬
‫حال المهاجرين والنصار في المدينة‪ ،‬وما هم عليه من الهداية والصلح‪.‬‬
‫والجواب الذين عادوا للحرب من السرى أفراد قلئل‪ ،‬ولم يخرجوا إل تحت‬
‫اللحاح وما يشبه الكراه‪ ،‬إذ أخذ كبار رجالت قريش مثل صفوان بن أمية‬
‫وعكرمة بن أبي جهل يطوفون على الناس والقبائل يحرضونهم ويرغبونهم‬
‫ل كان‬‫بالخروج لقتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه ويعدونهم فمث ً‬
‫ن عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫)أبو عزة عمرو بن عبد ال الجمحى قد م ّ‬
‫يوم بدر‪ ،‬وكان فقيرًا ذا عيال وحاجة‪ ،‬وكان في السارى‪ ،‬فقال له صفوان بن أمية‪:‬‬
‫ن علي‬ ‫يا أبا عزة‪ ،‬إنك إمرؤ شاعر فأعنا بلسانك وأخرج معنا‪ ،‬فقال‪ :‬إن محمدًا قد م ّ‬
‫فل أريد أن أظاهر عليه‪ ،‬قال‪ :‬بلى‪ ،‬فأعنا بنفسك‪ ،‬فلك ال إن رجعت أن أغنيك‪ ،‬وإن‬
‫قتلت أن أجعل بناتك مع بناتى يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر‪ ،‬فخرج أبو عزة‬
‫يسير في تهامة ويدعو بنى كنانة ويقول‪:‬‬
‫أيــــــــا‪ ،‬بنى عبد منــــــاة الرزام‬
‫أنتم حمـــاة وأبوكــــــــــم حام‬
‫ل يعدونى نصركم بعد العــــــــام‬
‫ل تسلمـــــــــوني ل يحل إسلم( ) (‪.‬‬
‫‪471‬‬

‫وفي اليوم التالي بمعركة أحد خرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‬
‫في أثر العدو‪ ،‬ووصل إلى حمراء السد‪ ،‬وتبعد عن المدينة ثمانية أميال وأقام فيها‬
‫ثلثة أيام‪ ،‬ثم رجع إلى المدينة‪ ،‬وقبل رجوعه أخذ أبا عزة الجمحي هذا ومعه‬
‫معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبدالملك بن مروان لمه‪ ،‬فقال أبو‬
‫عزة‪ :‬يارسول ال‪ ،‬أقلني فقال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‪ :‬وال ل تمسح‬
‫عارضيك بمكة بعدها‪ ،‬وتقول‪:‬خدعت محمدًا مرتين‪.‬‬

‫‪ ()471‬السيرة النبوية ‪.2/61‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫عَلْيِه‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬‫ل َر ُ‬‫ل َقا َ‬‫سّيب َأّنه َقا َ‬‫ن اْلُم َ‬
‫سِعيِد ْب ِ‬ ‫ن َ‬ ‫عْ‬ ‫شاٍم ‪َ :‬وَبَلَغِني َ‬ ‫ن ِه َ‬ ‫ل إْب ُ‬‫َقا َ‬
‫ن َثاِب ٍ‬
‫ت‬ ‫صُم ْب َ‬
‫عا ِ‬ ‫عُنَقُه َيا َ‬
‫ب ُ‬ ‫ضِر ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫حر) ٍ( َمّرتْي ِ‬
‫‪472‬‬
‫جْ‬ ‫ن ُ‬ ‫غ ِم ْ‬ ‫ن ل ُيْلَد ُ‬ ‫ن اْلُمْؤِم َ‬‫سّلم " إ ّ‬ ‫َو َ‬
‫عُنَقُه ) (‪.‬‬
‫‪473‬‬
‫ب ُ‬ ‫ضَر َ‬ ‫َف َ‬
‫وتلك آية إعجازية للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بأن يتخلف أبو عزة هذا‬
‫عن قريش‪ ،‬ويخرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في اليوم التالي لحد‬
‫سُهْم‬ ‫ن َكاُنوا َأنُف َ‬ ‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬
‫فيأخذه وتضرب عنقه وهو من عمومات قوله تعالى]َوَما َ‬
‫ن[)‪.(474‬‬ ‫ظِلُمو َ‬ ‫َي ْ‬
‫ولم يلبث صفوان بن أمية الذي وعده بكفالة وإعالة بناته أن هرب من مكة يوم‬
‫الفتح إلى جدة يريد الركوب منها لليمن‪ ،‬وأعطاه رسول ال صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم المان‪ ،‬ودخل في السلم‪ ،‬وقد يتخذ من بعض الكفار الذين يقعون في السر‬
‫عبيدًا‪ ،‬للمن من شرهم وأذاهم‪ ،‬وما يلبثوا حتى يعتقوا‪ ،‬فيكونوا أحرارًا في دولة‬
‫السلم‪.‬‬
‫وقد جاءت اليات بالترغيب بالعتق وجعله كفارة عن ذنوب مخصوصة فتكون حتى‬
‫ط َما‬ ‫سِ‬ ‫ن َأوْ َ‬‫ن ِم ْ‬‫ساِكي َ‬‫شَرِة َم َ‬‫عَ‬ ‫طَعاُم َ‬‫على حنث اليمين قال تعالى فيه ]َفَكّفاَرُتُه ِإ ْ‬
‫حِريُر َرَقَبٍة[) (‪.‬‬
‫‪475‬‬
‫سَوُتُهْم َأْو َت ْ‬ ‫ن َأْهِليُكْم َأْو ِك ْ‬‫طِعُمو َ‬ ‫ُت ْ‬
‫وفيه ندب لعتق العبيد وإكرام المؤمنين منهم بالحرية‪ ،‬ولم تمر الحقاب على بعثة‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم حتى إنقرض نظام العبيد في الواقع الخارجي‬
‫فلم تجد بين المسلمين عبيدًا‪ ،‬بل كلهم متساوون في العبودية ل عز وجل‪ ،‬و تلقي‬
‫الخطاب التكليفي والتشريعي ‪ ,‬والنقطاع إلى طاعة ال عز وجل‪.‬‬
‫قانون"موضوعية آية "وليقطع"’’‬
‫من أسرار الية القرآنية أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬شهادتها على ما حدث ومضى من الحداث‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬توثيق الوقائع التي تقترن بزمان نزول الية‪ ،‬لذا أسس علم شريف في آيات‬
‫القرآن هو )علم أسباب النزول( )‪.(476‬‬
‫الثالث‪:‬موضوعية الية في الوقائع التي تقع في المستقبل‪ ،‬لتكون الية إشارة إليها‪،‬‬
‫ومقدمة لوقوعها‪.‬‬
‫الرابع‪:‬الية القرآنية بشارة للمؤمنين وسكينة لقلوبهم‪ ،‬وجاء في الية السابقة‪ ،‬قوله‬
‫ن ُقُلوُبُكْم ِبِه[)‪ ،(477‬وبخصوص الية الكريمة محل الحث فانها شاهد‬ ‫طَمِئ ّ‬‫تعالى]َوِلَت ْ‬
‫سماوي على واقعة أحد ‪ ,‬ودليل على أن المسلمين لم يخسروا فيها‪ ،‬وإن أصاب‬

‫‪()472‬الجحر‪ :‬ما تحتفره الهوام والسباع لنفسها في الرض‪.‬‬


‫‪()473‬الروض النف ‪.102 /23‬‬
‫‪()474‬سورة النحل ‪.118‬‬
‫‪()475‬سورة المائدة ‪.89‬‬
‫‪()476‬أنظر الجزء الخامس ‪.87-77‬‬
‫‪()477‬سورة آل عمران ‪.126‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الكفار من المسلمين‪ ،‬وإستطاعوا أن ينالوا منهم‪ ,‬ويعتدوا على شخص النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم فاصيب بجروح بليغة منها‪:‬‬
‫الول‪ :‬كسر رباعيته اليمنى السفلى)‪.(478‬‬
‫الثاني‪ :‬جرح شفته السفلى‪ ،‬إذ رماه عتبة بن أبي وقاص بنبل )فدعا عليه النبي بأن‬
‫ل يحول عليه الحول حتى يموت كافرا فمات كافرا قبل أن يحول الحول()‪.(479‬‬
‫الثالث‪ :‬شج جبهته‪ ،‬رماه عبد ال بن شهاب الزهري‪.‬‬
‫الرابع‪:‬جرح وجنته‪ ،‬رماه بن قمئة‪ ،‬فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته‪،‬‬
‫سّلم‬
‫عَلْيِه َو َ‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬‫سو ِ‬ ‫جِه َر ُ‬
‫ن َو ْ‬‫ن ِم ْ‬ ‫حْلقََتْي ِ‬
‫حَدى اْل َ‬‫ونزع أبو عبيدة بن الجراح إ ْ‬
‫ن ) (‪.‬‬
‫‪480‬‬
‫ط الّثنّيتْي ِ‬
‫ساِق ُ‬
‫ن َ‬‫خَرى‪َ ،‬فَكا َ‬ ‫لْ‬‫ت َثِنّيتُه ا ُْ‬
‫ط ْ‬ ‫سَق َ‬
‫خَرى ‪َ ،‬ف َ‬ ‫ع ال ْ‬‫ت َثِنّيتُه ُثّم َنَز َ‬
‫ط ْ‬‫سَق َ‬
‫َف َ‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إشتد غضب ال على من دمى وجه‬
‫رسوله)‪.(481‬‬
‫وصبر جماعة من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم يقاتلون دونه‪،‬‬
‫ومنهم من تلقى النبال التي يراد منها شخص النبي حتى وقع شهيدًا بين يديه إلى أن‬
‫علم المسلمون الذين إنهزموا من وسط المعركة أن النبي صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫حي ول زال يقاتل وسط المعركة ‪ ,‬فبادروا إلى الرجوع للقتال‪.‬‬
‫ونزلت هذه الية لتكون سلحًا وعونًا للمؤمنين‪ ،‬ومددًا لهم في ساحة المعركة وما‬
‫بعدها من اليات والوقائع‪ ،‬إذ أن معركة أحد إنتهت بإنسحاب الكفار‪ ،‬وعجزهم عن‬
‫الرجوع إلى المعركة بعد أن همّوا به‪.‬‬
‫وكان جند ال من الملئكة وأهل اليمان لهم بالمرصاد في حال العودة‪ ,‬وإنتهت‬
‫المعركة بخسارة كبيرة من الشهداء المؤمنين الذين قّدمهم النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم من المهاجرين والنصار‪ ،‬ودخل الحزن بيوت المدينة ‪ ,‬وقامت‬
‫نسوة النصار بمواساة رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم بقتل حمزة‪ ،‬لتكون هذه‬
‫ل ونساءً ووعدًا بالنصر ودعوة للصبر في جنب ال‪.‬‬ ‫الية مواساة لهم جميعًا رجا ً‬
‫والية وثيقة على الوقائع التي سبقت وإقترنت بيوم أحد بما يبعث الغبطة في‬
‫نفوس المسلمين‪ ،‬وتصلح أن تكون حال المؤمنين يوم أحد من أسباب نزول الية‬
‫وأن ال عز وجل لن يجعل المسلمين يخسرون المعركة‪ ،‬وهو من عمومات قوله‬
‫ن آَمُنوا[)‪.(482‬‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫عْ‬
‫ل ُيَداِفُع َ‬‫ن ا َّ‬ ‫تعالى ]ِإ ّ‬
‫ومن اليات أن دفاع ال عز وجل عن المؤمنين ليس له حصر في كيفيته وطرقه‪،‬‬
‫وتجلت في واقعة بدر وأحد آيات منه بسرعة نزول الملئكة من السماء لنصرة‬

‫‪()478‬السيرة النبوية لبن كثير ‪.3/45‬‬


‫‪()479‬مجمع البيان ‪.2/344‬‬
‫‪()480‬السيرة النبوية ‪.3/80‬‬
‫‪()481‬السيرة النبوية ‪.3/59‬‬
‫‪()482‬سورة الحج ‪.38‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫المؤمنين وكأنه ليس من ثمة مسافة بين السماء التي هي مسكن الملئكة وبين‬
‫الرض‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لبيان أثرها وموضوعيتها في الوقائع التي تلت وأعقبت واقعة‬
‫أحد‪ ،‬فإنسحب الكفار من المعركة خائبين محرومين من تحقيق ما جاءوا من أجله‬
‫مع كثرة قتلهم وإن كانت أقل بالقياس مع قتلهم وأسراهم في معركة بدر‪ ،‬إل أن‬
‫هذه الية جاءت لتخبر بأن خسائرهم في معركة أحد أكبر مما حصل لهم في بدر‬
‫لما فيها من الخبار عن إستئصال الكفار طرفًا بعد طرف ‪ ,‬وجماعة بعد جماعة‪ ،‬إذ‬
‫أن أحكام الية مستديمة ومتجددة‪ ،‬فكلما هلك بعض قواد الكفار برز غيرهم ليلقوا‬
‫ذات العاقبة وسوء المنقلب‪ ،‬فيتجدد المصداق العملي لقوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[‪ ,‬وهذه‬
‫الكثرة بسبب إصرارهم على التعدي والهجوم على المسلمين‪ ,‬وعدم إتعاظهم من‬
‫هزيمتهم في يوم بدر ‪.‬‬
‫لقد لقي أصحاب رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم بداية الدعوة في مكة أشد‬
‫أصناف العذاب من قريش وعموم مشركي مكة )وكانوا يأتون رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه ‪ ،‬فيقول لهم ‪ :‬إصبروا فإني لم‬
‫أؤمر بالقتال( )‪.(483‬‬
‫وهاجر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه ليدافعوا عن السلم من‬
‫بلد المهجر والنصار‪ ،‬ويقاتلوا الذين جاءوا من مكة ظلمًا وعدوانًا‪ ،‬ويروا مصارع‬
‫الذين إشتركوا في تعذيبهم في مكة‪ ،‬وجاءت هذه الية ليلتفت المسلمون إلى هذه‬
‫النعمة‪ ،‬ويشكروا ال عز وجل عليها‪.‬‬
‫وهي باعث للسكينة في نفوسهم بأن الكفار لن يستطيعوا الثأر والنتقام من المسلمين‬
‫بعد معركة أحد لن هذه الية تلحقهم بإبانة طائفة منهم‪ ،‬وذل وحزن الباقين منهم‪،‬‬
‫وهي بشارة دخول فريق من الكفار السلم‪ ،‬بلحاظ أركان الية من وجوه‪:‬‬
‫الول‪:‬قطع طرف من الكفار بإسلم فريق منهم‪ ،‬وهو ل يتعارض مع القطع بهلك‬
‫رؤسائهم وكبرائهم في ميدان المعركة وغيره‪ ،‬وقد يدخل بعض رؤسائهم السلم‬
‫ويتبعهم النصار والعوان والتباع وأبناء القبيلة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬دخول فريق من الكفار السلم كبت وذل وحزن لمن بقي منهم في منازل‬
‫الكفر والضللة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬رجوع الكفار إلى ديارهم وأمصارهم خائبين بعد دخول فريق منهم السلم‪،‬‬
‫وإخبار أهلهم حين الرجوع بإسلم عدد من الشباب وإلتحاقهم بالنبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وأصحابه‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬صيرورة الكفار عاجزين عن منع أبنائهم ذكورًا وأناثًا من دخول السلم ‪.‬‬
‫وستبقى هذه الية حاضرة في المجتمعات وتكون لها موضوعية في دراسة أحوال‬
‫العدو‪ ،‬وما ينتظره من القطع والكبت‪ ،‬من غير أن تكون هذه الموضوعية سببًا‬

‫‪()483‬الكشاف ‪.1/15‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫لتفريط المسلمين في الستعداد للقتال والدفاع عن بيضة السلم‪ ،‬لذا جاءت الية‬
‫وسط الميدان وفي معركة أحد‪.‬‬
‫قانون"مصاديق القطع’’‬
‫لقد تفضل ال عز وجل بمعجزة خالدة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بنزول‬
‫الملئكة لنصرته‪ ،‬لتبقى آية في الخلئق تشهد على صدق نبوته وعظيم منزلته عند‬
‫ال‪ ،‬وإختصاصه من بين النبياء بمدد من السماء لن رسالته أعم زمانًا ومكانًا‪.‬‬
‫وعندما جمع قوم نمروذ الحطب لبراهيم لمدة شهر وأوقدوا النار أمر ال عز‬
‫عَلى ِإْبَراِهيَم[)‪ ،(484‬ليغادر إبراهيم القوم ويهاجر‬ ‫لًما َ‬ ‫سَ‬ ‫وجل النار بأن تكون]َبْرًدا َو َ‬
‫إلى الشام‪ ،‬وعندما زحفت قريش بجيوشها لقتل النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وأصحابه أنزل ال عز وجل ملئكة لنصرته‪ ،‬وكانت آية في العالمين‪ ،‬وهي‬
‫من أبهى وأعظم مصاديق قطع دابر الكفار بما يفوق قانون السبب والمسبب وفق‬
‫نواميس الدنيا‪ ،‬وقدرات البشر المحدودة‪.‬‬
‫وليس من حصر لوظائف الملئكة الذين نزلوا مددًا في معارك السلم الولى‬
‫وأهمها القتال ‪ ,‬ومنها تخويف الملئكة للكفار ‪ ,‬وهو نوع قطع لطرف منهم من‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تمكين المؤمنين من الكفار ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬بث الضعف والوهن في صفوف الكفار‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬دعوة الكفار للتدبر في معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وإدراك حقيقة ضللتهم‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬إزاحة الغشاوة التي على أبصار الكفار‪ ،‬من حضر منهم ميدان المعركة‪،‬‬
‫ومن تخلف عنها‪.‬‬
‫السادس‪ :‬إبتلء كبراء كفار قريش بالعجز عن جمع النصار والعوان كما في يوم‬
‫فتح مكة ‪ ,‬فقد زحفوا في معركة الحزاب بعشرة آلف رجل من الحابيش)‪(485‬‬
‫وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان ‪ ,‬وخرجت غطفان بألف ونزل قوله‬
‫ت اْلُقُلو ُ‬
‫ب‬ ‫صاُر َوَبَلغَ ْ‬
‫لْب َ‬
‫تاَ‬
‫غ ْ‬
‫ل ِمْنُكْم َوِإْذ َزا َ‬
‫سَف َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ن َفْوِقُكْم َوِم ْ‬
‫جاُءوُكْم ِم ْ‬‫تعالى]ِإْذ َ‬
‫جَر[ ) (‪ ،‬وخرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بثلثة آلف من‬ ‫‪486‬‬
‫حَنا ِ‬
‫اْل َ‬
‫المسلمين‪ ،‬وبينه وبين جيش المشركين خندق حفره المسلمون ‪ ,‬وظهر النفاق يومئذ‬
‫)قال معتب بن قشير ‪ :‬كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ول نقدر أن نذهب إلى‬
‫‪ ()484‬سورة النبياء ‪.69‬‬
‫‪ ()485‬الحابيش( حبشي‪ :‬جبل بأسفل مكة يقال منه سمي‬
‫أحابيش قريش(لسان العرب ‪ 6/278‬لن قوما ً إجتمعوا عنده‬
‫فحالفوا قريشًا‪ ،‬والحابيش‪ :‬أحياء من القارة‪ ،‬والقارة‪ :‬قبيلة‪،‬‬
‫و سموا قارة لجتماعهم وإتحادهم لما أرادوا تفريقهم في‬
‫بني كنانة‪ ،‬ويتصفون بالحدق في الرمي‪ ،‬وقال إبن منظور‬
‫)والقارة‪ :‬قوم رماة من العرب( لسان العرب ‪.5/123‬‬
‫‪ ()486‬سورة الحزاب ‪.10‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الغائط()‪) ،(487‬وقال إبن هشام‪ :‬وأخبرني من أثق به من أهل ال‪ :‬أن معتب بن قشير‬
‫لم يكن من المنافقين‪ ،‬وإحتج بأنه كان من أهل بدر( )‪ ،(488‬مما يدل على الفزع‬
‫ن[‬
‫ظُنو َ‬‫ل ال ّ‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫والخوف الذي أصاب المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى]َوَتظُّنو َ‬
‫)‪.(489‬‬
‫وقد أنعم ال عز وجل على المسلمين وأهل المدينة بصرف المشركين بعد أن‬
‫أقاموا في حصار المدينة قريبًا من شهر‪ ،‬مع الرمي بالنبل‪ ،‬ليدخل النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم وأصحابه بعدها بثلث سنوات مكة فاتحين من غير قتال‬
‫ومقاومة تذكر ‪ ,‬مع عجز ظاهر من الكفار في جمع العوان ‪.‬‬
‫ترى أين ذهب أحد عشر ألف مقاتل يوم الحزاب‪ ،‬وكيف دخلوا السلم إنها آية‬
‫في العالمين ومعجزة ظاهرة للجيال‪ ،‬وشاهد يتضمن النذار من قتال النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وبشارة دخول الناس السلم أفواجًا‪ ،‬وإنضواء أعداء‬
‫السلم تحت لوائه ‪ ,‬وإتيانهم الفرائض العبادية‪ ,‬لتكون البشارة الواردة في الية‬
‫السابقة وقطع طرف الكفار المذكور في هذه الية أعم من أن ينحصرا بواقعة‬
‫مخصوصة‪ ،‬أو خصوص أيام التنزيل ومعارك السلم الولى بل هما متجددان‬
‫ومتصلن‪.‬‬
‫ومن مصاديق قطع طرف الكفار أمور ‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما يرميهم ال عز وجل به من الخلف والفرقة ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬نقص المؤون وحبس الغيث وإمتناع السماء‪ ،‬وقلة الريح‪،‬وقلة الريع‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تعطل المكاسب وكساد التجارات ‪ ,‬وقلة الربح ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬عدم إتباع أبناء الكفار لبائهم في جحودهم وإصرارهم على الكفر ‪ ,‬ليكونوا‬
‫أقل حمية لمفاهيم الجاهلية‪ ،‬وأبعد عن عبادة الوثان‪ ،‬وأكثر إلتفاتًا إلى المعجزات‬
‫وإصغاء ليات القرآن التي دخلت كل بيت من بيوت العرب طوعًا وإنطباقًا وقهرًا‪،‬‬
‫وبينما كان أبناء المسلمين على نهجهم في اليمان والدفاع عن السلم‪ ،‬كان أبناء‬
‫الكفارعلى وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الذين إعتزلوا القتال‪ ،‬وإجتنبوا نصرة أقطاب الكفر والضللة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الذين إختاروا دخول السلم‪ ،‬ومنهم من تحمل الذى في سبيل اللتحاق‬
‫بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين في المدينة وفاز بلقب المهاجر‪،‬‬
‫فل تشرق الشمس على قريش إل ويفتقدون بعض أبنائهم‪ ،‬وهو من السباب التي‬
‫جعلتهم يغزون النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم في المدينة‪ ،‬بدل أن يتعظوا‬
‫من هذه الية‪ ،‬ومن هؤلء الشباب من كان من أبناء سادات قريش‪.‬‬

‫‪()487‬الكشاف ‪.3/253‬‬
‫‪ ()488‬السيرة النبوية ‪.3/197‬‬
‫‪ ()489‬سورة الحزاب ‪.10‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ل بن عمرو للصلح مع النبي محمد صلى ال‬ ‫ففي صلح الحديبية بعثت قريش سهي ً‬
‫عليه وآله وسلم ‪ ,‬وأثناء كتابة كتاب الصلح جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو هذا‬
‫يرسف في الحديد وهو مسلم يريد النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫وهذا الصلح بذاته من مصاديق قطع طرف من الكفار لما فيه من الدللة على‬
‫تخلف قريش عن الهجوم من جديد على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وأصحابه في المدينة‪ ،‬وقد جاء الصلح خارج المدينة‪ ،‬بعد أن غادرها النبي في ألف‬
‫وأربعمائة من أصحابه في رواية جابر بن عبد ال وهو يريد العمرة ول يريد حربًا‪،‬‬
‫وإستعمل على المدينة نميلة بن عبد ال الليثي)‪.(490‬‬
‫وتدل هذه النابة على قيام نواة دولة السلم‪ ،‬وأن الحكم في يثرب بيد المسلمين‪،‬‬
‫وأن اليهود الذين بقوا فيها هم تحت حكم المسلمين‪ ،‬وساق النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم معه الهدي لعطاء رسالة لقريش وغيرها أنه خرج زائرًا للبيت‬
‫الحرام ‪ ,‬والذي تحجه وتطوف به العرب‪.‬‬
‫ترى لماذا لم تجهز قريش على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في الطريق‬
‫إلى مكة وتنتقم لقتلها في بدر وأحد‪ ،‬والخندق‪ ،‬وتحقق غاياتها التي جمعت لهم‬
‫الجيوش العظيمة على مدى السنوات السابقة‪ ،‬تلك آية تستلزم التحقيق والدراسة‪،‬‬
‫وفيها وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬عجز قريش عن الجهاز والهجوم على النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫ل ليس معهم أسلحة‪.‬‬ ‫وسلم وأصحابه وإن كانوا عز ً‬
‫الثاني‪ :‬خشية قريش من القبائل العربية من حولهم أن ينتقموا منهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬خروج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه في شهر ذي القعدة‪،‬‬
‫وهو من الشهر الحرم‪ ،‬ويليه شهر ذي الحجة والمحرم ‪ ,‬وهما من الشهر الحرم‬
‫أيضًا‪ ،‬وكانت العرب تحرم القتال في الشهر الحرم‪.‬‬
‫الرابع‪:‬ظهور وهن وضعف قريش في السنة السادسة للهجرة‪.‬‬
‫ل من السلح ل‬ ‫الخامس‪ :‬وجود أعراف في أيام الجاهلية أن من خرج معتمرًا أعز ً‬
‫غت‪ ،‬ول يغدر به‪.‬‬ ‫يبا َ‬
‫السادس‪ :‬خشية قريش من الغدر على نحو القضية الشخصية‪ ،‬بينما كانوا يهجمون‬
‫على المدينة ويغزونها جهارًا‪.‬‬
‫السابع‪ :‬إتساع رقعة السلم‪ ،‬وظهور معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وتخفيف قريش من غيظها وحقدها على السلم والمسلمين قهرًا وإنطباقًا ‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬إدراك قريش لحقيقة وهي تخلي العرب عنها في تعديها وظلمها للنبي محمد‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬قطع طرف من الكفار كما جاءت به هذه الية‪.‬‬

‫‪()490‬أنظر السيرة النبوية لبن هشام ‪.3/269‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫العاشر‪ :‬غياب الرؤوس الذين كانوا يحرضون القبائل‪ ،‬والذين يقولون الشعر‪،‬‬
‫وينالون من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وهو من آثار ومنافع قطع‬
‫طرف من الكفار‪.‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬إنقطاع وهلك بعض اليهود الذين كانوا يطوفون على قريش‬
‫للتحريض على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪ ،‬مثل كعب بن‬
‫الشرف وأصله من طيء ‪ ،‬من بني نبهان‪ ،‬ولكن أمه من بني الّنضير‪ ،‬وكان النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم قد بعث بعد إنتهاء معركة بدر زيد بن حارثة إلى‬
‫أهل السافلة‪ ،‬وعبد ال بن رواحة إلى أهل العالية للبشارة بنصر ال وهلك رؤساء‬
‫الكفر والضللة من قريش‪ ،‬فخرج كعب إلى مكة وأخذ )يبكي أصحاب القليب من‬
‫قريش‪ ،‬الذين أصيبوا ببدر()‪ ،(491‬وصار يحرض على النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم ويقول الشعر‪:‬‬
‫ع َوِإّنما‬
‫جُمو ِ‬
‫ب ِباْل ُ‬
‫ِلَيُزوَر َيْثِر َ‬
‫ع) (‪.‬‬
‫‪492‬‬
‫لْرَو ُ‬ ‫ب اْلَكِريُم ا َْ‬
‫س ِ‬‫حَ‬ ‫عَلى اْل َ‬‫حَمى َ‬ ‫َي ْ‬
‫وعندما رجع كعب إلى المدينة تمادى في الغي‪ ،‬وأخذ يشبب بنساء المسلمين‪ ,‬وتلك‬
‫حرب جديدة فتحها عليهم لشغالهم وإرباكهم وإضعاف همتهم‪)،‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم من لي بإبن الشرف()‪ ،(493‬فتصدى له إثنان من المسلمين‬
‫فقتله‪.‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬ظهور حالت من اللوم والندامة بين رجالت قريش‪ ،‬وفي منتدياتهم‬
‫على سوء فعلهم مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪ ،‬وهذا اللوم‬
‫مستمر في مجالس وحوارات قريش إل أنه يزداد مع تقادم اليام‪ ،‬وتجلي معجزات‬
‫ل عندما هّم أبو سفيان بن حرب‬ ‫النبوة‪ ،‬ولحوق الخسائر الفادحة بقريش فمث ً‬
‫بالرجوع إلى المدينة المنورة بعد معركة أحد )ليستأصل بقية أصحاب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم فقال لهم صفوان بن أمية بن خلف‪ :‬ل تفعلوا‪ ،‬فإن القوم قد‬
‫حربوا‪ ،‬وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان‪ ،‬فارجعوا فرجعوا( )‪(494‬ز‬
‫صِبُروا‬
‫ن َت ْ‬
‫ولم يعلموا أنهم حينما هموا بالرجوع نزلت البشارة على المسلمين]َبَلى ِإ ْ‬
‫لِئَكِة[)‪, (495‬‬‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬ ‫ل ٍ‬ ‫سِة آ َ‬‫خْم َ‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬‫َوَتّتُقوا َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫والصل في رجوعهم وعلته رؤية آثار المدد الملكوتي وأسباب النصر اللهي‬
‫للمؤمنين‪ ,‬وخشية الهلك والستئصال إن رجعوا ‪.‬‬

‫)( السيرة النبوية ‪.2/52‬‬ ‫‪491‬‬


‫‪()492‬السيرة لبن هشام ‪.2/51‬‬
‫‪ ()493‬السيرة النبوية ‪. 54 /2‬‬
‫‪ ()494‬السيرة النبوية ‪. 3/100‬‬
‫‪ ()495‬أنظر الجزء الخامس والستين الذي جاء خاصا ً بتفسير‬
‫هذه الية‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬إصابة قريش بالفزع والهلع عندما سمعوا بقدوم رسول ال صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة‪ ،‬وخرج بعض رؤسائها يملهم الغضب والغيظ‬
‫)يعاهدون ال ل يدخلها عليهم أبدًا( )‪.(496‬‬
‫فلم يطرأ على أذهانهم صلح الحديبية والرخصة للنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وأصحابه بالعودة ‪ ,‬ودخول مكة معتمرين في العام التالي‪ ,‬مما يدل على أن‬
‫صلح الحديبية من عمومات كبت الكفار‪ ،‬وفيه خزي لهم أمام القبائل والتأريخ ‪،‬‬
‫وهو شاهد على عجزهم عن التعدي على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وأصحابه وإن كانوا بغير سلح وفي أرض قريبة من موطن قريش‪.‬‬
‫ووفق الحسابات العسكرية ل يمكن أن يتصور أحد خروج النبي محمد صلى ال‬
‫ل من غير سلح قاصدين مكة ‪ ,‬لتتجلى في المقام‬ ‫عليه وآله وسلم وأصحابه عز ً‬
‫معاني الصدق في نبوة محمد والعناية والمدد اللهي الملزم له وهو من عمومات‬
‫ق[)‪ ،(497‬والشواهد على تسليم وإقرار‬ ‫حّ‬ ‫ك ِباْل َ‬
‫ن َبْيِت َ‬
‫ك ِم ْ‬‫ك َرّب َ‬‫جَ‬‫خَر َ‬
‫قوله تعالى] َكَما َأ ْ‬
‫قريش بقوة السلم وظهور أحكامه ‪ ,‬ونفاذ إشراقات مبادئه إلى شغاف قلوب عامة‬
‫الناس‪ ،‬نعم هذا القرار على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة‬
‫وضعفًا‪ ،‬يغزو نفوس وبيوت ومنتديات الكفار‪ ،‬فيجعلهم في إرباك وحيرة عند ورود‬
‫أخبار وصول النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في طريقه إلى البيت الحرام‪.‬‬
‫ل منهم أو خمسين‪ ،‬وأمروهم‬ ‫) وعن إبن عباس أن قريشًا كانوا بعثوا أربعين رج ً‬
‫سّلم‪ ،‬ليصيبوا من أصحابه أحدا‪،‬‬ ‫عَلْيِه َو َ‬
‫صّلى ال َ‬ ‫أن يطيفوا بعسكر رسول ال َ‬
‫سّلم‪ ،‬فعفا عنهم‪ ،‬وخلى سبيلهم‪،‬‬ ‫عَلْيِه َو َ‬‫صّلى ال َ‬ ‫فأخذوا أخذا‪ ،‬فُأتي بهم رسول ال َ‬
‫سّلم بالحجارة والنبل) (‪.‬‬
‫‪498‬‬
‫عَلْيِه َو َ‬
‫صّلى ال َ‬ ‫وقد كانوا رموا في عسكر رسول ال َ‬
‫الرابع عشر‪ :‬خروج النبي محمد في السنة السابعة للهجرة إلى عمرة القضاء‪ ،‬ليكون‬
‫هذا الخروج بداية لكيفية وصيغة جديدة للحرب والخصومة بين النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم وقريش‪ ،‬وكأنها هدنة ‪ ,‬وفيها عز وفخر للمسلمين‪ ،‬وكبت‬
‫وخزي للكفار لقصورهم وعجزهم عن الهجوم على المدينة‪ ،‬وإكتفت قريش‬
‫بالخروج من مكة عندما سمعوا بإقتراب النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫وأصحابه منها‪ ،‬وفيه ذل ووهن إضافي لقريش‪ ,‬وبشارة الفتح والنصر للمسلمين ‪.‬‬
‫ووقف رجالت قريش عند دار الندوة لينظروا إلى النبي وأصحابه عند دخولهم‬
‫البيت الحرام ‪ ،‬وكان عبد ال بن رواحة آخذ بخطام ناقة النبي‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫خلوا فكل الخير في رسوله‬ ‫خلوا بني الكفار عن سبيله‬
‫أعـرف حق ال في قبوله() (‪.‬‬
‫‪499‬‬
‫يا رب إني مؤمن بقيـــــــله‬

‫‪()496‬السيرة النبوية ‪.2/309‬‬


‫‪()497‬سورة النفال ‪.5‬‬
‫‪()498‬السيرة النبوية ‪.3/275‬‬
‫‪()499‬السيرة النبوية ‪.2/371‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ل اْمَرًأ َأَراُهْم اْلَيْوَم ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حَم ا ّ‬ ‫وحينما دخل النبي المسجد الحرام‪ ،‬قال لصحابه) َر ِ‬
‫حاُبُه َمَعُه حَّتى إَذا َواَراهُ‬ ‫صَ‬ ‫ل َأ ْ‬‫ل َوُيَهْرِو ُ‬ ‫ج ُيَهْرِو ُ‬ ‫خَر َ‬ ‫ن ‪َ ،‬و َ‬ ‫سَتَلَم الّرْك َ‬ ‫سِه ُقّوة ‪ُ ،‬ثّم ا ْ‬ ‫َنْف ِ‬
‫ل َكَذِلك‬ ‫سَوَد ُثّم َهْرَو َ‬ ‫لْ‬ ‫ن ا َْ‬
‫سَتِلَم الّرْك َ‬
‫حّتى َي ْ‬ ‫شى َ‬ ‫ي ‪َ ،‬م َ‬ ‫ن اْلَيَماِن ّ‬ ‫سَتَلَم الّرْك َ‬‫ت ِمْنُهْم َوا ْ‬ ‫اْلَبْي ُ‬
‫س ْ‬
‫ت‬ ‫ن الّناس َيظُّنون َأّنها َلْي َ‬ ‫عّباس َيُقول ‪َ :‬كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن اْب ُ‬ ‫ساِئَرَها َفَكا َ‬ ‫شى َ‬ ‫ف َوَم َ‬ ‫طَوا ٍ‬ ‫لَثَة َأ ْ‬‫َث َ‬
‫ن ُقَرْي ٍ‬
‫ش‬ ‫ي ِم ْ‬ ‫صَنَعَها ِلَهَذا اْلحَ ّ‬
‫سّلم إّنما َ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬
‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو َ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫عَلْيِهْم ‪َ .‬وَذِلك َأ ّ‬ ‫َ‬
‫سّنة ِبَها( )‪.(500‬‬ ‫ت ال ّ‬‫ض ْ‬ ‫ع َفَلِزَمَها ‪َ ،‬فَم َ‬ ‫جة اْلَوَدا ِ‬ ‫حّ‬ ‫ج َ‬ ‫حّ‬ ‫حّتى إَذا َ‬ ‫عْنُهْم َ‬ ‫ِلّلذي َبَلَغُه َ‬
‫الخامس عشر‪ :‬لقد أنهكت الحروب مع المسلمين قريشًا‪ ،‬ودب الضعف والوهن‬
‫فيهم‪ ،‬وعندما سمع رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وهو في طريقه قبل أن‬
‫ش َلَقْد َأَكَلْتُهْم‬
‫ح ُقَرْي ٍ‬‫يصل إلى الحديبية بخروج قريش لمنعه من العمرة قال‪َ):‬يا َوْي َ‬
‫ن اّلذي‬ ‫صاُبوِني َكا َ‬ ‫ن ُهْم َأ َ‬ ‫ب ‪َ ،‬فِإ ْ‬‫ساِئِر اْلَعَر ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خّلْوا َبْيِني َوَبْي َ‬ ‫عَلْيِهْم َلْو َ‬ ‫ب ‪َ ،‬ماَذا َ‬ ‫حْر ُ‬ ‫اْل َ‬
‫ن َلْم َيْفعَُلوا َقاَتُلوا َوِبِهْم‬ ‫ن َوِإ ْ‬‫لِم َواِفِري َ‬‫سَ‬ ‫لْ‬ ‫خُلوا ِفي ا ِْ‬ ‫عَلْيِهْم َد َ‬
‫ل َ‬ ‫ظَهَرِني ا ّ‬ ‫ن َأ ْ‬‫َأَراُدوا ‪َ ،‬وِإ ْ‬
‫ظِهَرهُ ا ّ‬
‫ل‬ ‫حّتى ُي ْ‬ ‫ل ِبِه َ‬ ‫عَلى اّلذي َبَعَثِني ا ّ‬ ‫جاِهُد َ‬ ‫ل ُأ َ‬ ‫ل َأَزا ُ‬‫ل َ‬ ‫ش ‪َ ،‬فَوَا ّ‬ ‫ن ُقَرْي ٌ‬ ‫ظّ‬ ‫ُقّوة َفَما َت ُ‬
‫سالَفُة() () (‪.‬‬
‫‪502 501‬‬
‫َأْو َتْنَفِرَد َهِذِه ال ّ‬
‫قوله تعالى]َأْو َيْكِبَتُهْم[‬
‫تأتي)أو( بمعنى التخيير والترديد بين أمرين كما في قوله تعالى في كفارة اليمين‬
‫حِريُر‬ ‫سَوُتُهْم َأْو َت ْ‬‫ن َأْهِليُكْم َأْو ِك ْ‬‫طِعُمو َ‬ ‫سطِ َما ُت ْ‬ ‫ن َأْو َ‬ ‫ن ِم ْ‬ ‫ساِكي َ‬ ‫شَرِة َم َ‬ ‫عَ‬ ‫طَعاُم َ‬ ‫فكفارته ]ِإ ْ‬
‫لَثِة َأّياٍم[ )‪ ،(503‬كما تأتي بمعنى حرف الضراب)بل(‬ ‫صَياُم َث َ‬‫جْد َف ِ‬ ‫ن َلْم َي ِ‬‫َرَقَبٍة َفَم ْ‬
‫ض َيْوٍم[ ) (‪ ،‬ولكنه ل يخرج عن معنى‬ ‫‪504‬‬
‫وأستدل عليه بقوله تعالى]َلِبْثَنا َيْوًما َأْو َبْع َ‬
‫الترديد بين المرين‪ ،‬وردت الية أعله في سورة الكهف‪ ،‬وروي أنهم دخلوا‬
‫الكهف غدوة وكان إنتباههم بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم ‪.‬‬
‫وتكون )أو( بمعنى)حتى( قال الزجاج نحو قول )ل تبرح أو أخرج إليك() (‪ ،‬وهو‬
‫‪505‬‬

‫بعيد عن المعنى الظاهر وصيغ التفاهم في اللغة‪.‬‬


‫وتتكون جملة)يكبتهم( من ثلث كلمات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬فعل مضارع‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ضمير مستتر تقديره)هو( يدل على الفاعلية والمراد ال عز وجل‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬المفعول به والضمير )هم( والمراد به الذين كفروا بلحاظ نظم الية‪ ،‬ويحتمل‬
‫من جهة الكثرة والقلة وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة الكفار الذين خرجوا لقتال المسلمين يوم بدر وأحد‪ ،‬وعادوا خاسرين‬
‫عاجزين عن تحقيق غاياتهم الخبيثة بقرينة خاتمة الية)فينقلبوا خائبين(‪.‬‬
‫‪()500‬السيرة النبوية ‪. 2/371‬‬
‫‪ ()501‬السالفة‪ :‬اعلى العنق‪،‬وكنى بإنفرادها عن الموت لنها‬
‫ل تنفرد عما يليها إل بالموت( لسان العرب ‪.9/159‬‬
‫‪ ()502‬السيرة النبوية ‪.2/309‬‬
‫‪ ()503‬سورة المائدة ‪.89‬‬
‫‪ ()504‬سورة الكهف ‪.19‬‬
‫‪()505‬حروف المعاني ‪.52‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الثاني‪ :‬المراد رؤساء الكفار من قريش الذين طافوا على القبائل وحّرضوا الناس‬
‫وأخرجوهم قهرًا وترغيبًا لقتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وإل فإن عامة‬
‫الناس إذا تركوا وشأنهم ل يخرجون لقتال‪ ،‬ويحبون العافية والدعة إل المجاهدين‬
‫الذين يقاتلون في سبيل ال طاعة ل ورسوله وعشقًا للشهادة‪ ،‬وحبًا لصلح الناس‬
‫ن[ )‪،(506‬‬‫حسَْنَيْي ِ‬
‫حَدى اْل ُ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن ِبَنا ِإ ّ‬
‫صو َ‬‫ل َهلْ َتَترّب ُ‬
‫وفوزهم بخير الدارين قال تعالى]ُق ْ‬
‫بالضافة إلى تجلي حقيقة لها موضوعية في العزم على القتال أو العزوف عنه‬
‫بالنسبة للقبائل العربية‪ ،‬وهي مجيء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫بالمعجزات والدللت الباهرات التي تدل في مفهومها على لزوم عدم محاربته‪.‬‬
‫وبين الوجه الول والوجه الثاني أعله عموم وخصوص مطلق‪ ،‬فرؤساء الكفار من‬
‫قريش جزء من عموم الكفار الذين خرجوا للقتال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أمة الكفار الذين يلون المسلمين والتي تكون رحمًا ودعاء لتجهيز الجيوش‬
‫لقتال المسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إرادة عموم الكفار‪ ،‬لن أي قطع وصرع لعدد من رؤساء الكفار يترشح عنه‬
‫ذل وحزن للكفار الذين يبلغهم خبر إنتصارات المسلمين في معارك السلم الولى‪.‬‬
‫وليس من تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الية ولكنها من الكلي‬
‫المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتةـ‪ ،‬إذ يظهر التباين في الدرجة ومراتب‬
‫الثر‪ ،‬ويتعلق أشده بالكفار الذين خرجوا لقتال المسلمين ‪.‬‬
‫لقد إنتهت معركة بدر بخزي قريش‪ ،‬ومقتل صناديدها‪ ،‬ولم تتعظ ‪ ,‬وتكف عن قتال‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وتدرك أن نصره وأصحابه وسلمتهم‪ ،‬مع‬
‫قلتهم وضعفهم‪ ،‬ووقوع القتلى والسرى في جيش قريش العظيم آية ومعجزة‬
‫وزاجر عن مواصلة التعدي على المسلمين ‪ ،‬ودعوة سماوية للكف عنهم ‪.‬‬
‫وأمر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بقتل ثلثة من المشركين صبرًا‪ ،‬منهم‬
‫عقبة بن أبي معيط‪ ،‬والنضر بن الحارث بن كلدة إذ قال النبي صلى ال عليه وآله‬
‫ي بالنضر أبغيه فأخذ علي بشعره و كان رجل جميل له شعر‬ ‫وسلم )يا علي عل ّ‬
‫فجاء به إلى النبي صلى ال عليه وآله وسّلم فقال يا محمد أسألك بالرحم بيني و‬
‫بينك إل أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني ‪ ,‬و إن فاديتهم فاديتني فقال‬
‫صلى ال عليه وآله وسّلم ل رحم بيني و بينك قطع ال الرحم بالسلم قدمه يا علي‬
‫فاضرب عنقه فضرب عنقه( )‪.(507‬‬
‫والنضر هذا هو حامل لواء المشركين يوم بدر‪ ،‬وهو الذي قال في وصف‬
‫ن[ )‪(508‬وقال لو شئت قلت مثل هذا‪)،‬وهو الذي جاء‬ ‫لّوِلي َ‬
‫طيُر ا َ‬
‫سا ِ‬
‫ل َأ َ‬
‫ن َهَذا ِإ ّ‬
‫القرآن]ِإ ْ‬
‫من بلد فارس بنسخة حديث رستم وأسفنديار( ) (‪ ،‬للفتراء على القرآن وحاول‬
‫‪509‬‬

‫‪ ()506‬سورة التوبة ‪.52‬‬


‫‪ ()507‬مجمع البيان ‪.6/539‬‬
‫‪ ()508‬سورة النعام ‪.25‬‬
‫‪ ()509‬الكشاف ‪.2/358‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫إيهام الناس بوجوه من الشبه والتمثيل بينها وبين بعض قصص المم السالفة في‬
‫القرآن‪ ،‬وهو من الخبر والقضية التي تتضمن الصدق وكشف الواقع وذكر الوقائع‬
‫التأريخية وإقتباس المواعظ والعبر منها‪.‬‬
‫وأخذ لواء المشركين بعده أبو عزيز الذي أسره المسلمون وهو أخو مصعب بن‬
‫عمير ‪ ،‬وقال مصعب لمن أسره‪ :‬شد يديك به‪ ،‬فان أمه ذات متاع لعلها تفديه منك ‪,‬‬
‫فقال أبو عزيز‪ :‬يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب‪ :‬إنه أخي دونك‪ ،‬ففدته أمه‬
‫بأربعة آلف درهم‪.‬‬
‫ورثت النضر أخته قتيلة بنت الحارث بقصيدة لم تنس أن تمدح بها النبي محمدا‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم وتثني عليه مع ما بها من مصيبة وأسباب العداوة وتذكره‬
‫بالرحم ‪ ,‬وتقر بأن الذين قتلوه هم أخوة له‪ ،‬لبيان أثر السلم في تقسيم الناس على‬
‫أسس عقائدية ‪ ,‬وتلمح إلى أنها ل تطالب بدمه ول تحرض على قاتليه ‪ ,‬ومن‬
‫قصيدتها ‪:‬‬
‫نِء) ( َكِريَمٍة‬
‫‪510‬‬
‫ضْ‬ ‫خْيَر َ‬ ‫حّمد َيا َ‬ ‫َأُم َ‬
‫ل ُمَعّرق) (‪.‬‬
‫‪511‬‬
‫حٌ‬ ‫ل َف ْ‬‫حُ‬‫ِفي َقْوِمَها َواْلَف ْ‬
‫ضـــــّرك َلْو َمَنْنت َوُرّبما‬ ‫ن َ‬ ‫َما َكا َ‬
‫حَنــــقُ‬
‫ن اْلَفَتى َوُهَو اْلَمِغيظُ اْلُم ُ‬ ‫مّ‬
‫ل َفِدَيٍة َفْلُينــــــــــْـِفَق ْ‬
‫ن‬ ‫َأْو ُكْنت َقاِب َ‬
‫عّز َما َيْغُلو ِبِه َما ُيْنــــــــــــــــــِف ُ‬
‫ق‬ ‫ِبَأ َ‬
‫سْرت َقَراَبًة‬ ‫ن َأ َ‬
‫ب َم ْ‬ ‫ضُر َأْقَر ُ‬ ‫َفالّن ْ‬
‫عْتقٌ ُيْعــــــــــــَتقُ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن َكا َ‬ ‫حّقهْم إ ْ‬‫َوَأ َ‬
‫شُه‬ ‫ف َبِني َأِبيِه َتُنو ُ‬ ‫سُيـــــو ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫ظّل ْ‬‫َ‬
‫شقــــــــــــــــــــّـق‬ ‫ك ُت َ‬‫حاٌم ُهَنا َ‬‫ل َأْر َ‬‫ِّ‬
‫صْبًرا ُيَقاُد إَلى اْلَمِنّية ُمْتَعــــــــــــًبا‬ ‫َ‬
‫ق) (‪.‬‬
‫‪512‬‬
‫ن ُموَثـــــ ُ‬ ‫عا ٍ‬‫ف اْلُمَقّيد َوُهَو َ‬ ‫س َ‬ ‫َر ْ‬
‫ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم شعرها قال‪ :‬لو بلغني هذا قبل قتله‬
‫لمننت عليه‪ ،‬وتتجلى في كلم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم هذا معاني‬
‫الرحمة والرأفة وأنه لم يبعث إل لهداية وإصلح الناس‪ ،‬ويصبر على أذاهم‬
‫ويتجاوز عن تعديهم رجاء دخولهم السلم‪.‬‬
‫فسار بعض رجالت قريش من أرباب الجاه ‪ ,‬وأهل العناد والجحود والحسد‬
‫بالسعي والطواف في قريش وبين أهل مكة للتحريض على معاودة الكرة في القتال‪،‬‬
‫وطلب الثأر من النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪.‬‬

‫‪()510‬الضنء‪:‬الصل‪.‬‬
‫‪ ()511‬المعرق‪ :‬الكريم‪.‬‬
‫‪ ()512‬السيرة النبوية ‪.3/46‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وإذ جاءت الية السابقة بالبشرى والطمأنينة للمسلمين‪ ،‬فان هذه الية جاءت بالقطع‬
‫والكبت للكفار الذين يعتدون عليهم‪ ،‬ليتجلى الفضل اللهي العظيم على المسلمين‪ ،‬إذ‬
‫أن ذكر وحضور الشئ بلغة القبح والذم سبب لبيان حسن ضده ‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫والفرع مثل الليل مســود‬ ‫فالوجه مثل الصبح مبيض‬
‫والضد يظهر حسنه الضد‪.‬‬ ‫سنا‬
‫حُ‬ ‫ضدان لما إستجمعا َ‬
‫وجاءت الية بنسبة الكبت ل عز وجل‪ ،‬فهو سبحانه الذي يذل ويخزي الكفار‪ ،‬ولم‬
‫تقل الية أو )يكبتوا( على البناء للمجهول‪ ،‬فمع أن ال عز وجل أنزل الملئكة‬
‫لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين والصحابة يرفعون سيوفهم‬
‫على هامات الكفار‪ ،‬ويطاردونهم في المبارزة والقتال‪ ,‬والكفار يولون الدبار وهو‬
‫من أصدق معاني الذل والهزيمة‪،‬فان الية الكريمة نسبت كبت الكفار إلى ال عز‬
‫وجل بقوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[ ‪ ,‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إن كبت وخزي فريق وشطر من الناس أمر بيد ال عز وجل وحده‪ ،‬وقد‬
‫يتلقى النسان الذى من غيره متحدًا أو متعددًا ويصاب منه بالذل والهانة ولكن‬
‫سرعان ما ينكشف الذل‪ ،‬ويبتلى الذي آذاه بما يكون مواساة للذي تلقى الذى منه ‪,‬‬
‫س[ )‪ ،(513‬أما الكبت والخزي الذي يأتي من ال‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫لّياُم ُنَداِوُلَها َبْي َ‬
‫كاَ‬
‫قال تعالى]ِتْل َ‬
‫عز وجل فهو ملزم لصاحبه‪ ،‬ومنه هذه الية التي هي وثيقة سماوية ‪ ,‬وشاهد على‬
‫هذه الملزمة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬قد يأتي الكبت والذل للنسان ظلمًا وتعديًا‪ ،‬أو نتيجة خطأ في المبنى‬
‫والمرتكز‪ ،‬وربما تظهر فيما بعد براءة الشخص‪ ،‬أما الكبت من عند ال فل يأتي إل‬
‫بعد قيام الحجة والبرهان على إستحقاق الفرد والطائفة من الكفار له‪ ،‬وبعد توالي‬
‫النذارات وأسباب الدفع عن منازل الكبت والخزي والذل‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تدل نسبة كبت الكفار ل عز وجل على أن قتل وتشريد الملئكة والمؤمنين‬
‫للكفار إنما هو بأمر وفضل من ال عز وجل لذا جاءت إضافة نصر المسلمين يوم‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪.(514‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫بدر ل عز وجل ‪ ,‬قال سبحانه ]َوَلَقْد َن َ‬
‫الرابعة‪ :‬جاءت الية بالترديد بين قطع الطرف من الكفار وبين كبتهم وخزيهم وذلهم‬
‫وفيه نوع رحمة وإمهال للكفار‪ ،‬فقد تكون عاقبة الكبت التوبة والنابة ‪ ,‬وكثير من‬
‫رؤساء الكفار قاتلوا بضراوة ضد المسلمين‪ ،‬وإجتهدوا في السعي لقتل النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وقاموا بتعذيب المسلمين الوائل في مكة‪ ،‬وطافوا على‬
‫القبائل للتحريض على قتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه ثم ما‬
‫لبثوا أن دخلوا السلم‪ ،‬سواء قبل فتح مكة أو بعده‪.‬‬
‫وفي الترديد والتعدد والعطف بالحرف )أو( وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه آية في الرحمة اللهية التي تتغشى الناس جميعًا ‪ ,‬المؤمن منهم والكافر‪.‬‬

‫‪()513‬سورة آل عمران ‪.140‬‬


‫‪()514‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه وسيلة مباركة لجذب الناس لمنازل الهداية والصلح‪ ،‬فل يشمل القطع‬
‫الكفار كلهم‪ ،‬أو جميع الذين يشتركون في قتال المسلمين منهم‪.‬‬
‫الثالث‪:‬قيام الملئكة بكبت الكفار في المعركة بآية إعجازية‪ ،‬وروى الواقدي عن‬
‫مجاهد قال‪ :‬حضرت الملئكة يوم ُأحد ولكنهم لم يقاتلوا )‪ ،(515‬ولكنه خلف‬
‫المشهور‪ ،‬والظاهر من الوقائع‪ ،‬وليتعارض قتالهم مع هزيمة المسلمين أثناء جولة‬
‫في المعركة التي هي كر وفر ‪ ,‬والمدار على خواتيم المور‪.‬‬
‫)روى الواقدي عن مجاهد أنه قال ‪ :‬حضرت الملئكة يوم ُأحد ولكنهم لم يقاتلوا ‪،‬‬
‫وروي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أعطى اللواء مصعب بن عمير فقتل‬
‫مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم تقدم‬
‫يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى ال عليه وسلم أنه ملك‬
‫أمد به )‪.(516‬‬
‫وهذا الخبر ل يتعارض مع أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬قتال الملئكة في المعركة لتعدد وظائف المدد الملكوتي ‪ ,‬وكثرة الملئكة‬
‫وأنهم ثلثة آلف ملك‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ما ورد بأن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم أعطى اللواء عند مقتل‬
‫مصعب للمام علي اللواء‪ ،‬كان فيها ملك يحمل اللواء‪ ،‬وفيه نكتة عقائدية من جهات‬
‫‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬رفع ملك من السماء لواء قوم وأمة شاهد على إيمانهم ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬الملزمة بين رفع الملك اللواء وتحقيق النصر والفتح للمؤمنين‪ ,‬فلبد أن‬
‫يفتح ال عز وجل لهم ‪ ,‬وينصرهم على أعدائهم‪.‬‬
‫س[) (‪ ،‬فليس من‬
‫‪517‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫الثالثة ‪ :‬إنه من مصاديق قوله تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫أمة من الموحدين رفع لواءها الملك إل المسلمين‬
‫الرابعة ‪ :‬فيه نوع تخفيف عن المسلمين في ميادين القتال ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬إنه من أفراد المدد اللهي للمسلمين ‪ ,‬وتعدد مصاديق نصرة الملئكة‬
‫لهم‪.‬‬
‫السادسة ‪ :‬لمقتل حامل اللواء وقع في النفوس ‪ ,‬وتأثير على المقاتلين ‪ ,‬فجاء رفع‬
‫الملك للواء وتصوره بهيئة مصعب بن عمير عناية ولطفًا بالمؤمنين في القتال‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يأتي الكبت من عند ال على نحو الستحقاق‪ ،‬وما فيه جلب المصلحة ودفع‬
‫المفسدة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬ترشح النصراف والنقلب من الكفار على نحو الجزم‪ ،‬وكأن إنصراف‬
‫ورجوع الكفار بالنسبة للكبت من المعلول الذي ل يتخلف عن علته‪ ،‬فلبد أن يتعقب‬

‫‪()515‬مفاتيح الغيب ‪.8/310‬‬


‫‪()516‬مفاتيح الغيب ‪.4/372‬‬
‫‪()517‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫النصراف والخيبة الكبت الذي يأتي من عند ال‪ ،‬وهذه الملزمة والترابط والتعاقب‬
‫بين الكبت والنصراف بخيبة ل يقدر عليها إل ال عز وجل ‪.‬‬
‫فقد يصاب الكفار بالكبت والحزن والهانة في ساحة المعركة ‪ ,‬ولكن عندما وصلوا‬
‫إلى مكة وإلى أمصارهم وقراهم أنكروا ما أصابهم من الكبت والذل‪ ،‬وإبتدعوا‬
‫أخبارًا عن بطولت وصولت لهم‪.‬‬
‫وحينما يأتي الكبت من ال فان الكفار يعجرون عن إخفائه‪ ،‬فيظهر على ألسنتهم‪،‬‬
‫وفي أفعالهم‪ ،‬وتتناقله الركبان ‪ ,‬وتوثقه الشعار والحوادث والخبار والقصص ‪.‬‬
‫ويحتمل الكبت الذي يلحق الكفار وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه من معجزات رسالة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الحسية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هو رشحة من معجزة نزول الملئكة لنصرة المؤمنين‪ ،‬لمقابلة هزيمة العدو‬
‫النصر ‪ ،‬فقد يقع النصر من غير هزيمة تامة للعدو‪ ،‬فجاءت هذه الية لتؤكد حقيقة‬
‫هزيمة الكفار لصابتهم بالذل والحزن‪ ،‬ومبادرتهم للفرار والهزيمة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬كبت الكفار فرع إنتصار المؤمنين‪ ،‬وهو من نتائج المعركة ول صلة له‬
‫بالعجاز‪ ،‬وفي الحديث المستفيض‪) :‬الحرب خدعة( )‪ ،(518‬فقد أحكم النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنون خطط القتال‪ ،‬والهجوم مما أثار الفزع‬
‫والرعب في قلوب الكفار‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬كبت وذل الكفار من معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم العقلية‬
‫من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬ما أصاب الكفار من الذل أمر خارق للعادة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إعجاز هذه الية بالخبار عن حال الكفار التي هي خلف قواعد ونتائج‬
‫القتال‪ ،‬إذ أن عدد وعدة الكفار أضعاف عدد وعدة المسلمين ‪ ,‬ومع هذا إنهزم الكفار‬
‫بخيبة وحرمان‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬إتحاد ذات النتيجة في كل المعارك التي خاضها النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم ‪ ,‬بأن تنتهي بذل وخزي الكفار ‪ ,‬وفيه مسائل ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬إنه شاهد على صدق نبوته ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬فيه إنذار وتخويف للكفار ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬دعوة للناس للسلم تنطلق من ميدان المعارك‪.‬‬
‫وبإستثناء الوجه الثالث أعله فان الوجوه الخرى كلها من مصاديق الية الكريمة‪،‬‬
‫فخروج الكفار من المعركة أذلء يتغشى الحزن وجوههم‪ ،‬وتمل الكآبة جوانحهم من‬
‫معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في إصابة أعدائه بالخزي والخيبة ‪,‬‬
‫خَرِة َأْكَبُر[)‪.(519‬‬
‫ب ال ِ‬‫حَياِة الّدْنَيا َوَلَعَذا ُ‬
‫ي ِفي اْل َ‬
‫خْز َ‬
‫ل اْل ِ‬
‫قال تعالى ]َفَأَذاَقُهْم ا ُّ‬
‫وتجعل الية الكفار على قسمين‪:‬‬
‫الول‪ :‬فريق يتعرض للقطع والهلك‪ ،‬وهو الطرف منهم‪.‬‬
‫‪()518‬تفسير القرطبي ‪.14/116‬‬
‫‪()519‬سورة الزمر ‪.26‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬فريق يصاب بالخسران والخيبة والذل والهوان‪.‬‬
‫وأيهما أكثر عددًا‪ ،‬الجواب هو الثاني‪ ،‬لتقييد وقوع القطع بطرف منهم ‪ ,‬وتبادر‬
‫معنى التعدد من لفظ الطرف ‪ ,‬وجمعه أطراف ‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى]َأْو َيْكِبَتُهْم[ ذكرت أقوال‪:‬‬
‫الول‪:‬معناه يخزيهم بالخيبة مما أملوا من الظفر بكم‪ ،‬عن قتادة والربيع‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يردهم عنكم منهزمين‪ ،‬عن الجبائي والكلبي‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يصرعهم ال على وجوههم‪ ،‬نسبه الطبرسي إلى القيل ) (‪.‬‬
‫‪520‬‬

‫الرابع‪ :‬يظفركم عليهم‪ ،‬عن المبرد‪.‬‬


‫الخامس‪ :‬يلعنهم عن السدي‪.‬‬
‫السادس‪ :‬يهلكهم‪ ،‬عن أبي عبيدة ) (‪.‬‬
‫‪521‬‬

‫ول تعارض بين هذه الوجوه ‪ ،‬وكلها من مصاديق الية الكريمة ‪ ،‬وتعدد صيغ‬
‫بطش ال عز وجل بالذين يصرون على قتال رسوله الكريم ‪ ،‬وهي من الوعد‬
‫ك َمْهُزوٌم ِم ْ‬
‫ن‬ ‫جنٌد َما ُهَناِل َ‬
‫اللهي الكريم للمؤمنين بالنصر ومقدماته قال تعالى ] ُ‬
‫ب[ )‪.(522‬‬ ‫حَزا ِ‬ ‫لْ‬ ‫اَ‬
‫ومن أسرار الية أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬قد يأتي للكفار الكبت وحده من غير قطع ‪ ,‬فيشمل الكبت جميع الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ورود لفظ )أو( في قوله تعالى)أو يكبتهم( وإتحاد المعنى والمقصود من‬
‫الضمير)هم( في )طرف منهم( ليشمل الكبت جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الطرف الذي يقطع‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬وسط الكفار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أطراف الكفار الخرى‪.‬‬
‫خْلَفُهمْ‬
‫ن َ‬ ‫شّرْد ِبِهْم َم ْ‬ ‫ب َف َ‬‫حْر ِ‬ ‫الرابعة ‪ :‬الكفار الذين خلفهم‪ ،‬قال تعالى]َفِإّما َتْثَقَفّنُهْم ِفي اْل َ‬
‫ن[)‪.(523‬‬ ‫َلَعّلُهْم َيّذّكُرو َ‬
‫الثالث‪ :‬يصيب القطع والهلك طرفًا من الكفار فيأخذ الكفار الخرين العناد‪،‬‬
‫ويسعون للنتقام وطلب الثأر‪ ،‬كما حصل في قريش بعد معركة بدر‪ ،‬فقد كانت‬
‫اليات ظاهرة في نصرة ال عز وجل للمسلمين‪ ،‬ومدد الملئكة لهم‪ ،‬ولكن نفرًا‬
‫منهم أخذوا يحرضون على قتال النبي وأصحابه‪ ،‬وأخذت نساؤهم تندب القتلى بشعر‬
‫يثير الشجان‪ ،‬ويؤكد الصرار القبيح على الضللة ويحرك الحمية بعصبية‪ ،‬ومنه‬
‫قصائد عديدة لهند زوجة أبي سفيان تندب أباها عتبة بن ربيعة‪ ،‬إذ قتل هو وأخوها‬
‫وعمها في أول مبارزة يوم بدر ‪ ,‬وفي مطلع لقصيدة لها ‪:‬‬
‫ف َلْم َيْنَقِل ْ‬
‫ب‬ ‫خْنِد َ‬
‫خْيِر ِ‬
‫عَلى َ‬ ‫َ‬ ‫سِر ْ‬
‫ب‬ ‫جوَدا ِبَدْمــــــــــــــــــِع َ‬
‫ي ُ‬ ‫عْيَن ّ‬
‫َأ َ‬

‫‪()520‬مجمع البيان ‪.2/500‬‬


‫‪()521‬ن‪.‬م ‪.2/500‬‬
‫‪()522‬سورة ص ‪.11‬‬
‫‪()523‬سورة النفال ‪.57‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ب) (‪.‬‬
‫‪524‬‬
‫طل ْ‬‫شــــــــٍم َوَبُنو اْلُم ّ‬‫َبُنو َها ِ‬ ‫غــــــــــــــــــــــْذَوًة‬ ‫طُه ُ‬ ‫عى َلُه َرْه ُ‬ ‫َتَدا َ‬
‫ومن قصيدة لها ترثي قتلها‪:‬‬
‫جاِلَيْه‬
‫ُمْلـــــــــــــــــــًكا َكُهْلكِ ِر َ‬ ‫ن َرَأى‬ ‫عْينــــــــــــــــــــــــــــــــًـا َم ْ‬‫ل َ‬ ‫ِّ‬
‫ومنها‬
‫حـــــــــــــــــــقّ حََذاِرَيْه) (‪.‬‬
‫‪525‬‬
‫َفاْلَيْوُم َ‬ ‫حـــــــــــــــــــــَذُر َما َأَرى‬ ‫َقْد ُكْنت َأ ْ‬
‫وقالت صفية بنت مسافر قصائد تبكي أهل القليب من قريش منها قصيدة مطلعها‪:‬‬
‫عاِئُر الّرمِد‬ ‫ن َقَذاَهـــــــــــا َ‬ ‫ن ِلَعْي ِ‬
‫َيا َم ْ‬
‫س َلـْم َيِقْد‬
‫شْم ِ‬‫ن ال ّ‬
‫حّد الّنهاِر َوَقْر ُ‬ ‫َ‬
‫ن َمًعــــــــا‬‫لْكَرِمي َ‬
‫سَراَة ا َْ‬
‫ن َ‬ ‫خِبْرت َأ ّ‬ ‫ُأ ْ‬
‫حَرَزتهْم َمَناَياُهْم إَلى َأَمــــــِد) (‪.‬‬
‫‪526‬‬
‫َقْد َأ َ‬
‫وتقدم شعر قتيلة بنت الحارث في رثاء أخيها النضر) (‪ ،‬ويدل شعر نساء قريش‬
‫‪527‬‬

‫وتناقل الناس له وحفظه وتوثيقه على الرتقاء الدبي والبلغي عند العرب آنذاك‪،‬‬
‫وأن هذا الرتقاء ل ينحصر بمنتديات الرجال بل يشمل النساء أيضًا ‪.‬‬
‫وقد شهدت بداية الدعوة دخول النساء في السلم ‪ ,‬لتكون كل واحدة منهن سببًا‬
‫لجذب أهلها‪ ،‬فمنهن من سبقت زوجها أوأخاها في السلم أو هما معًا‪ ،‬وقد سبقت أم‬
‫حبيبة أباها أبا سفيان‪ ،‬وحينما دخل عليها )ذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى‬
‫الفراش فطوته فقال ‪ :‬يا بنية أرغب بهذا الفراش عني فقالت نعم هذا فراش رسول‬
‫ال صلى ال عليه وآله وسّلم ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك( )‪.(528‬‬
‫وفيه آية في إنجذاب القلوب لدعوته‪ ،‬وصدق العموم في الخطاب التكليفي الذي جاء‬
‫به والشامل للرجال والنساء ‪.‬‬
‫وجهاد المؤمنات في أيام السلم الولى مدرسة عقائدية ‪ ,‬ودليل على أن القرآن‬
‫تحدى في نزوله أمة تتصف بالقدرة على التمييز ‪ ,‬والفصل بين التنزيل وكلم أهل‬
‫الفصاحة والبلغة‪ ،‬ولعل كثيرًَا من الشعر الذي قيل فيما بعد يرجع في نظمه وبحره‬
‫وقافيته إلى الشعر الذي حفظ من الشعار التي تداولها الناس أيام البعثة النبوية وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫وفيه شاهد بأن خروج النساء مع الجيش له موضوعية وإعتبار‪ ،‬وهو مدرسة في‬
‫البلغة لما يلقى من القصائد والشعار والزجر والخطب وإعانة الرجال في القتال‪،‬‬
‫ولعل النساء كانت تحضر المنتديات الدبية خصوصًا ‪ ،‬وكان بعضها يقام في موسم‬
‫الحج الذي تحضره النساء والرجال‪.‬‬
‫وفي شمول الكبت للنساء من الكفار وجوه‪:‬‬

‫‪()524‬السيرة النبوية لبن كثير ‪.2/415‬‬


‫‪ ()525‬السيرة النبوية ‪.3/43‬‬
‫‪()526‬الروض النف ‪.3/216‬‬
‫‪()527‬انظر صفحة ‪.217‬‬
‫‪()528‬مجمع البيان ‪.10/421‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬شمول نساء الكفار بالكبت والذل بعرض واحد مع ذات الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يلحق نساء الكافرين الكبت والحزن باللحاق والتبعية للكفار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يختص الكبت بالنساء اللئي يشاركن في القتال وتهيئة مقدماته‪ ،‬ويضربن‬
‫الدفوف‪ ،‬ويقدمن النبل للمقاتلين‪ ،‬كما في واقعة أحد‪ ،‬ومجئ رؤساء قريش بنسائهم‬
‫إلى ميدان المعركة‪.‬‬
‫الرابع‪:‬إنحصار الكبت بالرجال لنهم المقاتلون ولمجيء الضمير في)يكبتهم( بصيغة‬
‫جمع المذكر‪ ،‬وقد وضع القتال عن النساء وليس عن عادة العرب مشاركة النساء‬
‫في القتال‪ ،‬والكبت في الية فرع القطع‪.‬‬
‫والصحيح هو الول لوجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬أصالة العموم وشمول الكفار جميعًا بالكبت‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إتحاد الموضوع وسور السالبة الكلية‪ ،‬وهو الكفر الشامل للرجال والنساء‬
‫منهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وحدة الموضوع في تنقيح المناط وتبعية الحكم للموضوع‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬مجئ صيغة المذكر ) يكبتهم ( لغلبة التذكير في كلم العرب‪ ,‬وليس‬
‫للحصر على الرجال ‪.‬‬
‫ويحتمل الكبت الوارد في الية من جهة تعلقه وغاياته أمورًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه مطلوب بذاته‪ ،‬فالمراد إحاطة الذل والكبت بالكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الكبت مقدمة لبتلء الكفار بالضعف والوهن‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من معاني الكبت الخذ بالعذاب‪ ،‬ليكون الكبت بهذا المعنى في طول القطع‪.‬‬
‫وبين الكبت وقطع طرف من الكفار عموم وخصوص من وجه‪ ،‬فمادة اللتقاء من‬
‫وجوه ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إن ال عز وجل هو الذي يبتلي الكفار بصنوف العذاب‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ترشح القطع والكبت عن نصر ال للمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ينزل الملئكة لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪،‬‬
‫وينزل القطع والكبت على الكفار‪ ،‬وهو مرآة للتضاد بين اليمان والكفر‪،‬وعدم‬
‫إجتماعهما‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يصيب القطع والكبت الكفار على نحو التعيين‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬كل من القطع والكبت يبعثان الضعف والخور في صفوف الكفار‪ ،‬على‬
‫نحو الجتماع والتعدد من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬يضعف الكفار قطع طرفهم‪.‬‬
‫الثاني‪:‬كبت الكفار وهن لهم‪ ،‬وسبب ومقدمة للوهن‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يجتمع قطع الطرف والكبت في ظهور الضعف واضحًا جليًا على الكفار‬
‫مجتمعين ومتفرقين‪ ،‬فيبدو الضعف والجبن والتردد عن القتال على الفراد منهم‬
‫والجماعة‪.‬‬
‫وأما مادة الفتراق فمن وجوه‪:‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬يفيد القطع في معناه إبانة وإزاحة طائفة من الكفار‪ ،‬وقتل قادة وكبراء من‬
‫الكفار‪ ،‬أما الكبت فيتضمن الذل والخزي‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬القطع أمر ظاهر‪ ،‬ويتضمن البطش بالكفار‪ ،‬أما الكبت فقد يظهر أحيانًا‬
‫بإجتناب المبادرة والعزم على القتال‪ ،‬وبإمتلء نفوس الكفار بالخوف والوجل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يأتي القطع على الكفار الذين يلون المسلمين‪ ،‬وبعض قادتهم‪ ،‬أما الكبت‬
‫والذل فهو عام يشمل الكفار‪ ،‬ويصاحبهم في منتدياتهم‪ ،‬ويدخل معهم إلى بيوتهم‪،‬‬
‫وهذا العموم ل يتعارض مع تعلق خاتمة الية بالكفار الذين ينقلبون خائبين للتباين‬
‫الرتبي في الذل والكبت الذي يلحقهم ‪ ,‬فالذين يعتدون على المسلمين يلحقهم الذل‬
‫والخزي بالذات‪ ،‬ويحسون به في قرارة أنفسهم‪ ،‬ويظهر فيما بينهم بالشواهد‬
‫والمصاديق‪.‬‬
‫ومن العجاز في آيات القرآن أن هلك الكبراء من الكفار‪ ،‬وإصابتهم بالخزي‬
‫والذل رشحة من رشحات بشارة المسلمين بالنصر والغلبة‪ ،‬ونزول الملئكة‬
‫لنصرتهم‪.‬‬
‫وقطع وكبت الكفار نفسه بشارة للمسلمين بالنصر والغلبة‪ ،‬وليس من دور في‬
‫المقام‪ ،‬فل يتوقف حدوث الواحد منهما على الخر الذي يحتاج في حدوثه إلى‬
‫صاحبه‪ ،‬لن البشارة التي يحدثها القطع والكبت في نفوس المسلمين متعددة ‪ ,‬وهي‬
‫رحمة إضافية بهم وتخفيف عنهم‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬في الية عون في تلقي المدد الملكوتي والبشارة به بالغبطة والرضا‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬دفع وإزاحة الخوف والخور عن نفوس المسلمين‪ ،‬وهو من عمومات ولية‬
‫ل َوِلّيُهَما[‬
‫ل َوا ُّ‬
‫شَ‬‫ن َتْف َ‬
‫ن ِمْنُكْم َأ ْ‬
‫طاِئَفَتا ِ‬
‫ت َ‬
‫ال للمؤمنين عمومًا في قوله تعالى]ِإْذ هَّم ْ‬
‫ن[)‪ ،(530‬ومن نصرة ال عز وجل للمؤمنين‬ ‫ي اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ل َوِل ّ‬
‫)‪ ،(529‬وقال تعالى]َوا ُّ‬
‫بشارتهم بهلك بعض رؤوساء الكفر‪ ،‬وإصابة الكفار بالذل والخزي‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬في الية إخبار للمسلمين عن حال الضعف والوهن التي عليها الكفار‪ ،‬وفيه‬
‫دعوة لمواصلة الجهاد‪ ،‬وتعاهد الفرائض‪ ،‬وحفظ السنن‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬في الية ترغيب للمسلمين بالنصات ليات القرآن‪ ،‬والتطلع إلى البشارات‬
‫السماوية التي تنزل بالنص والمنطوق‪ ،‬أو بالمفهوم والعرض‪ ،‬وإن كانت كل آية‬
‫قرآنية بشارة ‪ ,‬وعلى وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬البشارة الدنيوية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬البشارة الخروية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬البشارة الدنيوية والخروية‪.‬‬
‫ومن إعجاز القرآن كون البشارة القرآنية للمؤمنين إنذارًا وكبتًا للكفار‪ ،‬ويكون إنذار‬
‫الكفار بشارة للمسلمين‪ ،‬فكبت وذل الكفار بشارة وعز للمؤمنين ‪.‬‬

‫‪ ()529‬سورة آل عمران ‪.122‬‬


‫‪ ()530‬سورة آل عمران ‪.68‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وكلما أصابت مصاديق الذل والضعف الكفار فإن المؤمنين يزدادون منعة وعزًا‪،‬‬
‫وهذه المنعة بشارة عرضية للمسلمين‪ ،‬وتثبيت لحكام السلم في الرض‪.‬‬
‫ويأتي كبت الكفار على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬يكون بالذات بأن يبتليهم ال بالذل والخزي‪.‬‬
‫ل لعلة‪ ،‬ومسببًا لسبب‪ ،‬وليس من حصر‬ ‫الثاني‪ :‬يأتي الكبت بالواسطة ويكون معلو ً‬
‫لهذه الوسائط والسباب‪ ،‬وفيه تحذير مستديم وإنذار متجدد للكفار‪ ،‬ويملي عليهم‬
‫قهرًا إستقراء القبح الذاتي للكفر في الوجود الذهني‪ ،‬وجريان ذم القامة عليه على‬
‫اللسن وفي المنتديات‪.‬‬
‫ظَلْمَناُهْم َوَلِك ْ‬
‫ن‬ ‫الثالث ‪ :‬يسعى الكفار بأنفسهم لمنازل الكبت والذل ‪ ,‬قال تعالى]َوَما َ‬
‫ن[ )‪.(531‬‬ ‫ظِلُمو َ‬‫سُهْم َي ْ‬ ‫َكاُنوا َأنُف َ‬
‫ومن اليات أن هذا الذم الذاتي ل ينجيهم من إستمرار الكبت والقطع‪ ،‬وتوالي أفراده‬
‫وصنوفه‪ ،‬وتنحصر النجاة بدخول السلم‪ ،‬والكف عن التعدي على ثغورهم‬
‫وتجهيز الجيوش عليهم‪ ،‬فجاءت اليات بحث المسلمين على الصبر والمرابطة ‪,‬‬
‫طوا[ )‪.(532‬‬
‫صاِبُروا َوَراِب ُ‬
‫صِبُروا َو َ‬ ‫ن آَمُنوا ا ْ‬ ‫قال تعالى]َياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫فصحيح أن قوله تعالى)يكبتهم( جاء بصيغة الغائب‪ ،‬وإرادة الكفار الذين ذكروا في‬
‫أول الية بقطع طرف منهم ‪ ,‬إل أنه يتضمن معنى النشاء في مفهومه‪ ،‬فهو خطاب‬
‫سماوي حاضر لجميع الكفار لنذارهم‪ ،‬ورحمة بهم في الحياة الدنيا‪ ،‬وحجة عليهم‬
‫في النشأتين‪ ,‬ومدد للمؤمنين ‪.‬‬
‫إن مجيء الية بذكر الطرف ‪ ,‬وبصيغة التنكير والتبعيض شاهد على قوة وكثرة‬
‫الكفار‪ ،‬وما عندهم من الجنود والمؤون‪ ،‬فلم تقل الية)ليقطع طرف الذين كفروا( بل‬
‫)طرفًا من الذين كفروا(‪ ،‬وفيه مسائل ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬الشارة إلى تعدد أطراف الكفار ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬لزوم أخذ المسلمين الحائطة ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬حاجة المؤمنين لمواصلة الجهاد في سبيل ال‪ ،‬وطرد الغفلة‪ ,‬وإجتناب‬
‫التراخي والقعود‪ ،‬والنشغال بالدنيا وحاجات المعاش اليومية ‪ ,‬قال تعالى ]َياَأّيَها‬
‫جِميًعا[ )‪.(533‬‬‫ت َأْو انِفُروا َ‬
‫حْذَرُكْم َفانِفُروا ُثَبا ٍ‬
‫خُذوا ِ‬ ‫ن آَمُنوا ُ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫الرابعة ‪ :‬وقاية المسلمين من القنوط ‪ ,‬والهم بالفشل عند ظهور طرف جديد من‬
‫الكفار ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬يصاحب المسلمين الشكر لفضل ال وحسن التوكل عليه ‪ ,‬قال تعالى ]َلِئنْ‬
‫لِزيَدّنُكْم[ )‪.(534‬‬ ‫شَكْرُتْم َ‬ ‫َ‬
‫السادسة ‪ :‬المنع من إستيلء اليأس وأسباب الشك والريب على النفوس‪.‬‬

‫‪()531‬سورة النحل ‪.118‬‬


‫‪ ()532‬سورة آل عمران ‪.200‬‬
‫‪()533‬سورة النساء ‪.71‬‬
‫‪()534‬سورة إبراهيم ‪.7‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السابعة ‪ :‬يدل هلك وقطع طرف من الطراف على بقاء أطراف أخرى ووسط‬
‫للكفار‪ ,‬وهو مناسبة لتوجه المسلمين بالدعاء والتضرع إلى ال ‪.‬‬
‫وفي دعاء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ :‬اللهم أشدد وطأتك على‬
‫مضر)‪ ،(535‬ليأتي قطع طرف من الكفار من مصاديق الستجابة لرسول ال صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وفيه نكتة عقائدية وهي أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم سأل نزول البلء بالكفار على نحو الجمال‪ ،‬فجاءت هذه الية بالستجابة‬
‫والبيان والتفصيل‪.‬‬
‫وكل طرف في الية من القطع والكبت والهزيمة والخيبة للكفار ثقيل الوطأة على‬
‫قريش وعموم الكفار‪ ،‬والية مناسبة لشكر ال عز وجل لستجابته الدعاء‪ ،‬ومجئ‬
‫المر بما يوافق الدعاء وحاجة المسلمين في أمور الدين والدنيا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تواصل أطراف الكفار التعدي على المسلمين ولكن بمرتبة أدنى لما يصيبها‬
‫من الضعف والوهن بقطع وهلك بعضها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬في هلك طائفة من الكفار دفع للوهن عن المسلمين‪ ،‬ودعوة للمل والرجاء‬
‫بفضل ال عز وجل‪ ،‬لن القطع والبانة متكرر ومستمر وواقع بأطراف الكفار‪.‬‬
‫ومن العجاز في الية نسبة فاعلية كبت الكفار إلى ال عز وجل‪ ،‬فهو الذي يرميهم‬
‫بالذل والهوان‪ ،‬وفيه وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الكبت حال وأمر مطلوب بذاته‪.‬‬
‫ن[ )‪.(536‬‬
‫ن َفَيُكو ُ‬‫الثاني‪ :‬يأتي الكبت للكفار بأمر ال عز وجل ]ُك ْ‬
‫الثالث‪ :‬ذل وكبت الكفار مسبب ومعلول لسبب وعلة تستقرأ من مضامين الية‬
‫الكريمة ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬كبت الكفار رشحة من رشحات نزول الملئكة لنصرة النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬قطع طرف من الكفار سبب كبتهم وذلهم‪.‬‬
‫السادس‪ :‬كبت وخزي الكفار نتيجة إخلص المؤمنين في الجهاد في سبيل ال‪،‬‬
‫والدفاع عن بيضة السلم‪.‬‬
‫ول تعارض بين هذه الوجوه ‪ ,‬وكلها من مصاديق الية الكريمة‪ ،‬والشواهد على‬
‫عظيم فضله تعالى على المسلمين‪ ،‬وأنه سبحانه لم يخلق الناس ويتركهم وشأنهم‪ ،‬بل‬
‫يمد المؤمنين بأسباب النصر والظفر ‪ ,‬ويكبت عدوهم ‪ ،‬وهذا الكبت من مصاديق‬
‫رد ال عز وجل على الملئكة حينما إحتجوا بجعل النسان خليفة في الرض وهو‬
‫ن[ )‪ ،(537‬فال عز وجل‬ ‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫عَلُم َما َ‬
‫يفسد فيها ويسفك الدماء فقال تعالى]ِإّني َأ ْ‬
‫يمنع الكفر من الطغيان ‪ ,‬ويرمي الذين يفسدون في الرض ويعتدون على الحرمات‬
‫ويصدون عن سبيل ال بالكبت والحسرة والخيبة ‪ ,‬لتبين هذه الية الصلة بين خلق‬
‫‪()535‬الكشاف ‪.4/176‬‬
‫‪()536‬سورة آل عمران ‪.47‬‬
‫‪()537‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫آدم وبعثة النبي محمد وجهاد المسلمين في سبيل ال وهو من مصاديق قوله‬
‫س[)‪.(538‬‬‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬‫خِر َ‬‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫تعالى]ُكْنُتْم َ‬
‫وتتضمن الية محل البحث مصاحبة الكبت والخزي للكفار إلى يوم القيامة‪ ،‬ودعوة‬
‫المسلمين والمسلمات لشكر ال عز وجل على هذه النعمة برمي عدوهم بالوهن‬
‫والضعف‪ ،‬ورؤية الملئكة لية في بديع صنع ال وجعله خليفة في الرض بأن‬
‫نزلوا مددًا للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لتتوارث الجيال والحقاب مفاهيم‬
‫الصلح في الرض‪ ،‬وتبقى أمة عظيمة تواظب على عبادة ال عز وجل إلى يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وتتعاهد آيات القرآن ‪ ,‬وتدفع عنها التحريف والتبديل‪ ،‬ليكون هذا التعاهد‬
‫إنذارًا متجددًا للكفار لما فيه من توكيد مضامين آياته‪ ،‬وكل آية وثيقة وحجة سماوية‪،‬‬
‫وبرهان ملكوتي‪.‬‬
‫قانون"الصلة بين آخر الية السابقة وآية)ليقطع(’’‬
‫تمل الية السابقة قلوب المسلمين والمسلمات بالغبطة والسعادة والسرور لمضامينها‬
‫القدسية وهي‪:‬‬
‫الول‪ :‬الشارة إلى نزول الملئكة مددًا من عند ال للنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬نزول الملئكة بشرى للمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الوعد اللهي بنزول الملئكة بشرى أخرى للمسلمين لبيان أن البشرى في‬
‫المقام متعددة وتوليدية‪ ،‬وتتفرع الواحدة منها إلى بشارات عديدة كما يظهر في‬
‫سلمة المؤمنين وكثرة الغنائم ‪ ,‬ووقوع الكفار في السر ‪ ,‬وهلك بعض صناديدهم‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬زوال أسباب الكتئاب عند المسلمين‪ ،‬فقد ترك المهاجرون أهليهم وأموالهم‬
‫وملعب الصبا‪ ،‬وجاءوا ليعيشوا شغف العيش في المدينة ‪ ,‬مع النقطاع إلى طاعة‬
‫ال ورجاء فضله ‪.‬‬
‫فجاءت الية السابقة وهذه الية بشارة العودة إلى مكة والهل بالنصر العاجل‬
‫السريع‪ ،‬ويتجلى قرب النصر بماهية وموضوع المدد وأن ملئكة نازلون من‬
‫السماء ‪ ,‬وليس من حد لقوتهم وما يترتب على فعلهم من الثر في ميدان المعركة‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬تدل النصرة على المحبة وأن ال والملئكة يحبون النبي محمدًا صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وأصحابه الذين خرجوا معه في معركة أحد‪ ،‬وهو من عمومات‬
‫ي[)‪.(539‬‬
‫عَلى الّنِب ّ‬
‫ن َ‬
‫صّلو َ‬
‫لِئَكَتُه ُي َ‬
‫ل َوَم َ‬
‫ن ا َّ‬‫وتأويل قوله تعالى]ِإ ّ‬
‫وفي قطع ال عز وجل لطرف من الكفار ‪ ,‬وقتل الملئكة لهم دللة على بغضهم‬
‫وإبتعادهم عن رحمة ال عز وجل‪ ،‬وفيه درس للناس للهرب من منازل‬
‫الكفر‪،‬والمبادرة إلى الدخول في السلم‪ ،‬وترك القامة على المعصية‪.‬‬

‫‪()538‬سورة آل عمران ‪.110‬‬


‫‪ ()539‬سورة الحزاب ‪.56‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫السادس‪ :‬تشمل البشارة للمؤمنين الحياة الدنيا والخرة‪ ،‬وهو من عمومات‬
‫ومصاديق أن ال عز وجل يعطي بالوفى والتم ‪ ,‬وحينما شمت أبو سفيان‬
‫بالمسلمين عندما أراد النصراف من أحد ) قال رسول ال صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم‪ :‬قم يا عمر فأجبه‪ ،‬فقل‪ :‬ال أعلى وأجل‪ ،‬ل سواء قتلنا في الجنة‪ ،‬وقتلكم في‬
‫النار( )‪.(540‬‬
‫وفيه دعوة لسياحة المسلمين في مضامين البشارة ‪ ,‬وجعل معالم النعيم في الجنة‬
‫حاضرة في الوجود الذهني عندهم ‪ ,‬سواء بالنسبة للنعيم الذي ينتظرهم والجزاء‬
‫ل فيه الشهداء منهم في معركة‬ ‫الذي أعّد ال لهم لجهادهم في سبيله‪ ،‬أو النعيم الذي ح ّ‬
‫أحد وغيرها‪.‬‬
‫شَرى َلُكْم[) (‪.‬‬
‫‪541‬‬
‫السابع‪ :‬عموم البشارة للمسلمين إذ جاءت بسور الوجبة الكلية ]ُب ْ‬
‫وتحتمل الية وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إختصاصها بالمجاهدين في ميدان المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إلمقصود جميع الصحابة بما فيهم من تخلف عن القتال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫والصحيح هو الثالث‪ ،‬إذ يتلقى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم البشارة من‬
‫السماء بالوحي‪ ،‬ويخبر بها أصحابه فتعم الفرحة والرضا أطراف المدينة بفضل ال‬
‫وتنزل على المؤمنين والمؤمنات السكينة معها‪ ،‬وهي بشارة متجددة لكل جيل من‬
‫المسلمين‪ ،‬وفيها مسائل ‪:‬‬
‫الولى‪ :‬هذه البشارة من أسرار قراءة القرآن في الصلة لما في قراءته اليومية‬
‫المتكررة من بعث للغبطة في نفوس المسلمين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إنها برزخ دون اليأس والقنوط‪.‬‬
‫س[ ) (‪،‬‬
‫‪542‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫الثالثة‪ :‬ملزمة البشارة للمسلمين من خصائص] َ‬
‫فليس من أمة تصاحبها البشارة إلى يوم القيامة‪ ،‬وتكون عندها سلحًا ضد العداء‬
‫والدران والكدورات الظلمانية إل المسلمين ‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬إستدامة وتجدد البشارة من الشواهد على وراثتهم الرض‪ ,‬وبقاء القرآن‬
‫سالمًا من التحريف ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬تساهم هذه الية في تحقيق المصاديق العملية لقوله تعالى]ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن‬
‫خَوٌة[)‪ ، (543‬إذ أن تغشي البشارة للمسلمين والمسلمات في حياتهم اليومية المتتابعة‬ ‫ِإ ْ‬
‫عون ومادة لحسن الخوة‪ ،‬وتجلي مفاهيم اليمان‪ ،‬في هذه الخوة‪.‬‬

‫‪ ()540‬السيرة النبوية ‪.3/91‬‬


‫‪()541‬سورة آل عمران ‪.126‬‬
‫‪ ()542‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪ ()543‬سورة الحجرات ‪.10‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثامن‪ :‬تتضمن الية السابقة الخبار عن حقيقة وصفة ورشحة من رشحات نزول‬
‫الملئكة ‪ ,‬وهي أن هذا النزول سكينة لقلوب المسلمين‪ ،‬ومع أن البشارة ذاتها‬
‫طمأنينة للقلوب جاء عطف الطمأنينة على البشارة‪ ،‬كما في الية السابقة‪.‬‬
‫ومن خصائص العطف المغايرة والتعدد‪ ،‬مما يدل على أن الطمأنينة أمر مستحدث‬
‫ل ومددًا وعونًا من ال عز وجل‬ ‫في ميدان المعركة‪ ،‬جاء نزوله والوعد به فض ً‬
‫سبحانه ‪.‬‬
‫وصحيح أن نزول الملئكة في بدر وأحد أكبر وأعظم من الوعد به المقيد بمجيء‬
‫ن َفْوِرِهْم هََذا[)‪ ،(544‬إل أن الوعد السماوي مدد‬ ‫الكفار بقوله تعالى]َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫حاضر‪ ،‬وأمن وسلمة‪ ،‬مما يطرأ من الوقائع والحداث‪ ،‬وقد يظن نفر من المؤمنين‬
‫أن الكفار سيعودون إلى المعركة ومعهم مدد وتأتيهم نصرة غيرهم‪ ،‬وأنهم يرومون‬
‫غزو المدينة‪ ،‬وقد أنهك القتال المؤمنين ‪ ,‬فجاءت هذه الية لتنزل السكينة على‬
‫نفوس المسلمين‪ ،‬وهذه السكينة والطمأنينة مقدمة لقطع طرف من الكفار‪.‬‬
‫وتضمنت خاتمة الية السابقة قانونًا وهو أن النصر بيد ال ومن عنده موضوعًا‬
‫وحكمًا‪ ،‬وقد تقدم بيانه في الجزء السابق‪ ،‬وتتجلى الصلة بينها وبين أول هذه الية‬
‫بأمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬عداوة ال عز وجل للكافرين‪ ،‬وتفضله بمنعهم من النصر والغلبة قال‬
‫ن[ )‪ ،(545‬ولقد جعل ال عز وجل العبادة علة لخلق‬ ‫عُدّو ِلْلَكاِفِري َ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫تعالى]َفِإ ّ‬
‫غبهم‬
‫ن[) (‪ ،‬وهو سبحانه ير ّ‬ ‫‪546‬‬
‫ل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫س ِإ ّ‬
‫لن َ‬
‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬‫ت اْل ِ‬ ‫خَلْق ُ‬
‫الناس ‪ ,‬قال سبحانه]َوَما َ‬
‫بالعبادة‪ ،‬ويجذبهم لها بلطف‪ ،‬ويزيح العوائق التي تقف في طريقهم‪ ،‬ومنها سلطان‬
‫الطواغيت ورؤوس الكفر‪ ،‬وتفضل ال عز وجل وبعث الرسل في زمن الطواغيت‪،‬‬
‫كما في بعثة إبراهيم أيام نمروذ‪ ،‬وموسى عليه السلم أيام فرعون‪.‬‬
‫وبعث ال عز وجل النبي محمدًا ليقضي على سلطان الكفر إلى يوم القيامة‪ ،‬وإن‬
‫قامت للكفار دولة فإنها تبقى متزلزلة غير ثابتة ل تستطيع التمتع بالسلطان المطلق‬
‫عَلى[)‪.(547‬‬
‫لْ‬ ‫كما في فرعون الذي قال]َأَنا َرّبُكْم ا َ‬
‫ومن خصائص شريعة محمد صلى ال عليه وآله وسلم أنها تحفظ الملل السماوية‬
‫السابقة كاليهودية والنصرانية ‪ ,‬مع الدعوة للسلم بإعتباره الشريعة المتكاملة‪،‬‬
‫وتتعاهد الصلة اليومية كأشرف عبادة على الرض لتكون إقامة المسلمين للصلة‬
‫اليومية برزخًا من إدعاء الجبارة للربوبية‪ ،‬وسببًا في بقائهم على وجل من سطوة‬
‫المسلمين ونصرة الملئكة لهم‪ ،‬لن النصر بيد ال وهو ل يمنحه لعدائه‪.‬‬

‫‪ ()544‬سورة آل عمران ‪.125‬‬


‫‪ ()545‬سورة البقرة ‪.98‬‬
‫‪ ()546‬سورة الذاريات ‪.56‬‬
‫‪ ()547‬سورة النازعات ‪.24‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫لقد أمر ال عز وجل بني إسرائيل بذكر نعمه عليهم‪ ،‬وشكرهم له سبحانه إذ أنقذهم‬
‫عُدّوكُْم[ )‪.(548‬‬ ‫ن َ‬‫جْيَناُكْم ِم ْ‬
‫ل َقْد َأن َ‬
‫سَراِئي َ‬
‫من فرعون وجنوده ‪ ,‬قال تعالى]َياَبِني ِإ ْ‬
‫وقد رزق ال عز وجل المسلمين ما هو أعظم وأكبر من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬النجاة من بطش الكفار‪ ،‬الذين جاءوا لقتالهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬النصر والظفر بالكفار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وقوع أبطال العدو أسرى بيد المسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬نزول الملئكة لنصرة المؤمنين‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إقتران نزول الملئكة بالوعد بنزولهم لحقًا‪.‬‬
‫السادس‪ :‬دخول طائفة من الكفار السلم بعد أن حاربوا النبي محمدًا صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم وأرادوا قتله وأصحابه‪ ،‬وتلك آية لم تشهدها الرض بأن يقاتل الكفار‬
‫المسلمين وتسيل بينهما دماء غزيرة‪ ،‬وتتناقل العرب والناس أشعار الذم والمدح‬
‫والتعيير‪ ،‬ثم ينتهي المر بدخول الكفار السلم‪ ،‬ليبدأوا صفحة جديدة مشرقة تحت‬
‫راية النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وهو من عمومات الطمأنينة التي‬
‫ذكرتها الية السابقة‪ ،‬وقطع طرف من الكفار الذي ذكرته هذه الية لن إنتقال‬
‫أقطاب الكفر إلى السلم من أبهى وأعظم مصاديق قطع طرف من الكفار بتقريب‬
‫ن َكَفُروا[‪،‬‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫طَع طََرًفا ِم ْ‬‫أن الطرف في الية بعض وجزء من الذين كفروا]ِلَيْق َ‬
‫ولما يفيده حرف الجر )من( من لغة التبعيض‪.‬‬
‫فدخول شطر من الكفار ممن يلون المسلمين السلم قطع لطرف الذين بقوا على‬
‫الكفر‪ ،‬وإنذار لهم‪ ،‬وحجة عليهم‪ ،‬وليس من حصر لوجوه الصلة والتداخل بين‬
‫خاتمة الية السابقة وأول هذه الية‪ ،‬والمنافع المترشحة عن هذا التداخل‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫الول‪ :‬فيه شاهد بأن ال عز وجل إذ ذكر أمرًا من عظيم قدرته ومشيئته فإنه‬
‫سبحانه يأتي بالدليل والشاهد الجلي الذي يدرك بالحواس‪ ،‬وهو من عمومات وتأويل‬
‫يٍء[)‪ ،(549‬بمعنى أن القرآن فيه بيان‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫ب ِتْبَياًنا ِلُك ّ‬
‫ك اْلِكَتا َ‬
‫عَلْي َ‬
‫قوله تعالى]َوَنّزْلَنا َ‬
‫لذات آياته‪ ،‬والحقائق والقوانين التي وردت فيه ليكون هذا البيان شاهدًا على وجوب‬
‫عبادة ال‪ ،‬ودعوة للناس لليمان‪ ،‬ونبذ الكفر والضللة‪ ،‬فما دام النصر بيد ال عز‬
‫وجل وأنه سبحانه يذل به رؤساء الكفر والضللة فإن القرآن يحث على ترك منازل‬
‫الكفر‪ ،‬ويبين بالبرهان لزوم هجرانها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬لما أخبرت الية السابقة بأن النصر بيد ال عز وجل تطلع المسلمون إلى‬
‫هذا النصر وإشرأبت العناق إلى السماء‪ ،‬وصغت حواس السمع إلى النبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم بإنتظار الوحي والتنزيل‪ ،‬وأخذ المسلمون يرون النصر‬
‫قريبًا لنه سبحانه يهبه لوليائه وأحبائه وهم المؤمنون‪ ،‬ويجتهد الكفار في الجهاز‬
‫على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه ليجعل نصر ال كفة الفوز‬
‫والغلبة للمسلمين‪.‬‬
‫‪ ()548‬سورة طه ‪.79‬‬
‫‪()549‬سورة النحل ‪.89‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬لما أخبر ال عز وجل في الية السابقة بأن النصر مطلقًا بيده ‪ ،‬جاءت هذه‬
‫الية بالمصداق العملي الذي يؤكد هذا القانون من غير فاصلة بين القانون‬
‫ومصداقه‪ ،‬وإنعدام الفاصلة هنا من عمومات وصف تسمية القرآن بأنه )تبيان(‪.‬‬
‫وصحيح أن هذا السم لم يذكر مع أسماء القرآن كالفرقان والذكر والروح‪ ،‬إل أن‬
‫الية أعله والشواهد تؤكده‪ ،‬وجاء أول هذه الية مصداقًا وتفسيرًا عمليًا لخاتمة‬
‫الية السابقة بلحاظ أن الية القرآنية وقانون قطع طرف من الكفار إنما هو من )كل‬
‫شيء( الذي ذكرته الية أعله‪ ،‬ليكون القرآن تبيانًا وهدى من وجوه منها‪:‬‬
‫ص ْ‬
‫ص‬ ‫الول‪ :‬إنه تبيان للوقائع والحداث‪ ,‬لتكون عبرة وموعظة ‪ ,‬قال تعالى ]َفاْق ُ‬
‫ن[)‪.(550‬‬ ‫ص َلَعّلُهْم َيَتَفّكُرو َ‬
‫ص َ‬ ‫اْلَق َ‬
‫الثاني‪ :‬فيه إخبار عن عالم الغيب‪ ،‬وأحوال الخرة وما فيها من الحساب والجزاء‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬بيان أسرار عالم الخلق والتكوين ‪ ,‬كما في اليات التي تتعلق بخلق‬
‫السماوات والرض ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ذكر صفات ال الحسنى‪.‬‬
‫عُبُدوا َرّبُكْم‬
‫ساْ‬ ‫الخامس‪ :‬وجوب عبادة ال على الناس جميعًا ‪ ,‬قال تعالى] َياَأّيَها الّنا ُ‬
‫ن َقْبِلُكْم[)‪.(551‬‬
‫ن ِم ْ‬‫خَلَقُكْم َواّلِذي َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫السادس‪ :‬وجوه وكيفية وتفاصيل العبادات‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أحكام الحلل والحرام إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬قصص النبياء والمم السالفة‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬ما يحتاجه الناس في المعاملت والمكاسب وأمور الدين والدنيا‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬سنن المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ,‬وإجتهاد المسلمين في إصلح‬
‫خْيَر ِفي َكِثيٍر‬
‫ل َ‬‫النفوس والمجتمعات ‪ ,‬ونشر مفاهيم العفو والحسان ‪ ,‬قال تعالى] َ‬
‫س[) (‪.‬‬
‫‪552‬‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ح َبْي َ‬
‫لٍ‬‫صَ‬
‫ف َأْو ِإ ْ‬
‫صَدَقٍة َأْو َمْعُرو ٍ‬
‫ن َأَمَر ِب َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫جَواُهْم ِإ ّ‬‫ن َن ْ‬
‫ِم ْ‬
‫الحادي عشر ‪ :‬بيان القرآن لمضامين آياته ‪ ,‬فتجد البيان في القرآن للية منه مركبًا‬
‫من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬البيان الذاتي في الية نفسها‪ ،‬فهي بيان لمعانيها ومقاصدها بذاتها ومضامينها‬
‫القدسية منطوقًا ومفهومًا ‪ ,‬فإن قلت‪ :‬في القرآن مجمل ومبين‪ ،‬فهل يشمل هذا الوجه‬
‫المبين دون المجمل‪ ،‬الجواب إنه مطلق وشامل لهما معًا‪ ،‬من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬قد ل يستوعب الجمال مضامين الية كلها‪ ،‬فقد يكون بخصوص ما في‬
‫صدرها أو آخرها‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ليس الجمال في الية القرآنية مطلقًا‪ ،‬بل هو جهتي‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬يأتي الجمال بالنسبة للبيان الذي يتجلى في آية أخرى بخصوص ذات‬
‫الموضوع والحكم اللذين تتضمنهما‪.‬‬
‫‪()550‬سورة العراف ‪.176‬‬
‫‪()551‬سورة البقرة ‪.21‬‬
‫‪()552‬سورة النساء ‪.114‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ل قد ل يراه غيرك بذات المعنى‪ ،‬أو‬ ‫الرابعة‪ :‬التباين في تفسير الية‪ ،‬فما تراه مجم ً‬
‫ل‪ ،‬بل هو مبين بذاته‪ ،‬وفي تعدد البيان فضل من‬ ‫يأتي زمان يتضح فيه أنه ليس مجم ً‬
‫عند ال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬البيان القرآني الذاتي وهو مجيء آية قرآنية تكون بيانًا وتفسيرًا لية أخرى‪،‬‬
‫وقيدناه بالقرآني لخراج البيان والتفسير من السنة النبوية ونحوها‪ ،‬وبالذاتي لرادة‬
‫البيان في آية لية قرآنية أخرى)‪.(553‬‬
‫الثالث‪ :‬إجتماع البيان الذاتي والغيري في آية واحدة‪ ،‬وموضوع واحد‪ ،‬وإستقراء‬
‫المسائل والحكام من هذا الجتماع والتداخل‪.‬‬
‫وتلتقي وجوه البيان الثلثة أعله في خاتمة الية السابقة وأول هذه الية‪ ،‬فكل فرد‬
‫منهما يفسر نفسه ‪ ,‬ويكشف عن دللته‪ ،‬ومن اليات أن كل واحد منهما تفسير‬
‫للخر‪ ،‬ويشاركه في تفسير ذاته‪ ،‬فتجلي النصر من عند ال ‪ ,‬وهو سبحانه العزيز‬
‫الحكيم الذي يقطع طرفًا من الكفار‪ ،‬ويبين ويفسر قانون النصر من عند ال قطع‬
‫طرف من الكفار‪.‬‬
‫فإن سأل سائل كيف يكون قطع طرف من الكفار إذا كانوا أقوياء وأشداء وبيدهم‬
‫السلح والمال والسلطنة‪ ،‬وأهل اليمان مستضعفين‪ ،‬الجواب من وجوه ‪:‬‬
‫لْمُر َتَباَر َ‬
‫ك‬ ‫ق َوا َ‬
‫خْل ُ‬
‫ل َلُه اْل َ‬
‫الول‪ :‬إن النصر يأتي من عند ال‪ ,‬وبيده مقاليد المور ]َأ َ‬
‫ن[)‪.(554‬‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ّ‬
‫ا ُّ‬
‫الثاني‪ :‬أمر ال سبحانه يفوق ويتجاوز قانون السبب والمسبب‪ ،‬والعلة والمعلول‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬كبت الكفار من نصر ال عز وجل للمسلمين‪ ،‬وهو أعم من وقوع المعركة‬
‫والقتال فيها‪ ،‬وتلك آية في معاني النصر اللهي‪ ،‬فليس من حصر لها‪ ،‬ليكون النصر‬
‫اللهي ذاته على وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنه مدد وعون للمسلمين ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬مصاحبة النصر للمسلمين ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬النصر وسيلة لتثبيت أقدام المسلمين ‪ ,‬وزيادتهم إيمانًا‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬إنه برهان لدفع وزجر أعدائهم‪ ،‬وجعلهم يكفون عن حرمات المسلمين‪،‬‬
‫ويتجنبون الستمرار في التعدي عليهم وعلى ثغورهم‪.‬‬
‫ومن إعجاز القرآن تعلق ذكر ثلثة أسماء من أسماء ال الحسنى في خاتمة الية‬
‫حِكيِم[ )‪ ،(555‬بمضامين هذه الية‪ ،‬وفيه مسائل‪:‬‬ ‫ل اْلَعِزيِز اْل َ‬‫السابقة ]ا ِّ‬
‫الولى‪ :‬إن ال تعالى هو العزيز الذي ينتقم من الكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ال عز وجل هو العزيز الذي نّزل الملئكة عدة ومددًا للمؤمنين لقطع طرف‬
‫من الكفار‪.‬‬

‫‪()553‬انظر التفسير الذاتي ‪.35‬‬


‫‪()554‬سورة العراف ‪.54‬‬
‫‪()555‬الية ‪.126‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالثة‪ :‬من حكمة ال عز وجل إستئصال الكفر من الرض‪ ،‬ومن مصاديقه قطع‬
‫طرف من الكفار‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬لم يجر قطع طرف من الكفار إل بحكمة وتدبير من عند ال عز وجل‪ ،‬فمع‬
‫ظهور معالم اليمان في الرض يأخذ الكفر بالندحار والهبوط‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬من صفات ال عز وجل إنفراده بالمنعة وتدبير شؤون الخلئق‪،‬‬
‫وإجتماعها وحضورها عنده‪ ،‬وإنتفاع المسلمين من رشحات الصفات الحسنى‪،‬‬
‫وتلقي الكفار العذاب والنتقام‪ ،‬لن من مصاديق الحكمة اللهية في أمور الخلئق‬
‫نصر المؤمنين‪.‬‬
‫ل ِفيَها‬ ‫جَع ُ‬‫السادسة‪ :‬لما إحتج الملئكة على جعل النسان خليفة في الرض بقولهم ]َأَت ْ‬
‫ن[‬
‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫عَلُم َما َ‬
‫ك الّدَماَء[)‪ ،(556‬وقال ال عز وجل‪ِ] ،‬إّني َأ ْ‬ ‫سِف ُ‬ ‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬
‫ن ُيْف ِ‬‫َم ْ‬
‫) (‪ ،‬وتفضل وعّلم آدم السماء كلها لتكون منافعها متعددة‪ ,‬وشاملة لحوال‬ ‫‪557‬‬

‫النسان في الدنيا والخرة ‪ ,‬ومنها ‪:‬‬


‫الول‪ :‬تعلم النسان للسماء حرز من الفساد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه وسيلة للرتقاء في المعارف‪ ،‬وإكتساب العلوم‪ ،‬ومقدمة لعمارة الرض‬
‫بالعبادة‪ ،‬وقد تفضل ال عز وجل بأن جعل أول آية نزلت على النبي محمد صلى‬
‫ق[)‪.(558‬‬ ‫خَل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫سِم َرّب َ‬
‫ال عليه وآله وسلم مفتاحًا للعلوم]اْقَرْأ ِبا ْ‬
‫الثالث‪ :‬توارث ملكة التقوى والصلح ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إقرار الملئكة بقصورهم عن إدراك كنه الغايات العظيمة في بديع خلق ال‬
‫ك َ‬
‫ل‬ ‫حاَن َ‬‫سْب َ‬
‫لدم ‪ ،‬وما فيه من إنتفاع الخلئق منه ‪ ,‬وقالوا بلغة التنزيه لمقام الربوبية] ُ‬
‫ت اْلَعِليُم اْلحَِكيُم[)‪.(559‬‬
‫ك َأْن َ‬
‫عّلْمَتَنا ِإّن َ‬
‫ل َما َ‬ ‫عْلَم َلَنا ِإ ّ‬
‫ِ‬
‫الخامس‪ :‬خلق ال للجنة والنار جزاء للنسان‪ ,‬وعن النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم قال‪ :‬خلق ال ثلثة أشياء بيده خلق آدم بيده‪ ،‬وكتب التوراة بيده‪ ،‬وغرس‬
‫الفردوس بيده( )‪. (560‬‬
‫بحث منطقي‬
‫يأتي لفظ يدل على أفراد الموضوع في القضية الحملية المحصورة قلة وكثرة‬
‫ويسمى هذا اللفظ)سورة القضية( مقتبسًا من سور البلدة الذي يحصرها ويحيط بها‪،‬‬
‫لذا تسمى القضايا المحصورة بالمسورة‪ ،‬واللفظ الدال عليها على أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬سور الموجبة الكلية‪ ،‬ويراد منه العموم والشمول‪ ،‬مثل جميع‪ ،‬كل‪ ,‬عامة‪ ،‬لم‬
‫خَلَقُكْم‬
‫س اّتُقوا َرّبُكْم اّلِذي َ‬‫الجنس التي تفيد الستغراق‪ ،‬كما في قوله تعالى]َياَأّيَها الّنا ُ‬
‫حَدٍة[)‪.(561‬‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ن َنْف ٍ‬ ‫ِم ْ‬
‫‪ ()556‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫‪()557‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫‪()558‬سورة العلق ‪.1‬‬
‫‪ ()559‬سورة البقرة ‪.32‬‬
‫‪()560‬كنز العمال ‪.6/131‬‬
‫‪ ()561‬سورة النساء ‪.1‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬سور السالبة الكلية‪ ،‬وهو الذي يدل على النفي المطلق أو رفع حكم في جميع‬
‫الحوال والوقات‪ ،‬وتدل عليه ألفاظ النفي المطلق‪ ،‬مثل ل شيء‪ ،‬ل واحد‪ ،‬نفي‬
‫الشريك‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬سور الموجبة الجزئية‪ ،‬وهو اللفظ الذي يدل على ثبوت المحمول لبعض‬
‫أفراد الموضوع‪ ،‬أو بقاء بعض أطراف الموضوع‪ ،‬مثل بعض‪ ،‬من‪ ،‬جزء كما في‬
‫جْزًءا[ )‪.(562‬‬ ‫ن ُ‬‫ل ِمْنُه ّ‬‫جَب ٍ‬
‫ل َ‬ ‫عَلى ُك ّ‬ ‫ل َ‬‫جَع ْ‬ ‫قوله تعالى خطابًا لبراهيم]ُثّم ا ْ‬
‫الرابع‪ :‬سور السالبة الجزئية‪ ،‬وهو اللفظ الذي يدل على إنتفاء أو إبانة بعض أجزاء‬
‫الموضوع أو سلب المحمول عنها مثل‪ :‬ليس كل‪ ،‬ليس بعض‪ ،‬الستثناء‪.‬‬
‫وجاءت الية محل البحث بالخبار عن القطع والبانة لطرف من الكفار‪ ،‬وفيه‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه من سور السالبة الجزئية لما فيه من البانة‪ ،‬وهلك عدد من رؤساء‬
‫الكفار‪ ،‬ولحوق الخسارة بمن يلي المسلمين من الكفار‪ ،‬كما في كفار قريش‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه من الموجبة الجزئية بالنسبة للمسلمين‪ ،‬لما فيه من قوة لهم‪ ،‬وزيادة في‬
‫إيمانهم‪ ،‬وتلك آية في الفضل اللهي على المسلمين‪ ،‬إذ يأتي البلء والعذاب على‬
‫الكفار فيكون تثبيتًا لقدام المسلمين في مسالك اليمان‪ ،‬وتخفيفًا عنهم في ميادين‬
‫ن[ )‪.(563‬‬
‫صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ‬
‫ف ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫عَلْيِهْم َوَي ْ‬
‫صْرُكْم َ‬ ‫خِزِهْم َوَيْن ُ‬
‫القتال‪ ،‬قال تعالى]َوُي ْ‬
‫الثالث‪ :‬إنه من السالبة الكلية‪ ،‬لن قطع وهلك طائفة من الكفار مقدمة لهلكهم‬
‫وبداية لدحرهم‪ ،‬وسبب لكف أيديهم عن المؤمنين‪ ،‬وفي هذا القطع خزي للكفار على‬
‫نحو العموم‪ ،‬فصحيح أن القطع والهلك يأتي لفريق منهم‪ ،‬ولكن الخزي واليأس‬
‫والقنوط يتغشى الكفار كافة‪ ،‬ولفظ)كافة( من سور الكلية سالبة أو موجبة بحسب‬
‫الحال والقرينة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إنها من الموجبة الكلية لن قطع طرف من الكفار مدد للمسلمين جميعًا‪،‬‬
‫وباعث للسرور والغبطة في نفوسهم‪.‬‬
‫وهذا التعدد في ثمرات وغايات البطش اللهي بفريق من الكفار آية في بديع صنع‬
‫ن َتْقِويٍم[ )‪ ،(564‬الجواب ل‪،‬‬ ‫سِ‬ ‫حَ‬ ‫ن ِفي َأ ْ‬ ‫سا َ‬‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِ‬
‫ال ‪ ,‬وهل هو من عمومات]َلَقْد َ‬
‫لن القدر المتيقن من الية أعله حسن صورة النسان‪ ،‬وبديع خلقه وهيئته‪ ،‬وتسوية‬
‫أعضائه ‪ ,‬وإتصافه بخصائص يمتاز بها عن الحيوانات‪ ،‬نعم الكفار لم يشكروا ال‬
‫عز وجل على نعمة بديع الخلقة‪ ،‬وإستدامة العافية‪.‬‬
‫وتبين الية عدم إنتفاع الكفار من نعمة العقل كرسول باطني‪ ،‬يدعو لليمان بال‪،‬‬
‫والتصديق بمعجزات النبوة والكتب المنزلة من ال‪ ،‬لتكون عاقبة الكافرين هلك‬
‫طائفة منهم‪.‬‬
‫قانون"يكبتهم’’‬
‫‪()562‬سورة البقرة ‪.260‬‬
‫‪ ()563‬سورة التوبة ‪.14‬‬
‫‪ ()564‬سورة التين ‪.4‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫لقد نفخ ال عز وجل في آدم من روحه في آية لم يشهدها الخلق‪ ،‬لينال منزلة تتخلف‬
‫عنها المخلوقات الخرى حتى إستدل بعضهم بأفضلية النبياء على الملئكة بالنفخ‬
‫حَنا[)‪ ،(565‬ويترشح عن هذا النفخ حب ال‬ ‫ن ُرو ِ‬ ‫خَنا ِفيِه ِم ْ‬
‫المبارك هذا ‪ ,‬قال تعالى]َفَنَف ْ‬
‫عز وجل للناس‪ ،‬ومن مصاديقه أن جعل ال عز وجل النسان خليفة في الرض‬
‫يتبوأ منها حيث يشاء‪ ،‬وينتفع مما فيها من الحيوان والنبات والكنوز الظاهرة‬
‫والباطنة والتي ليس لها حصر نوعًا وكيفًا وكمًا‪.‬‬
‫فبعث ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم بالبراهين الساطعات‪،‬‬
‫والحجج البينات لجذب الناس لسبل السلم وجعل جبهة اليمان قادرة على مواجهة‬
‫عتاة الكفار وصناديد الشرك‪ ،‬ولكن الكفار لم يمهلوا المسلمين حتى يكثر عددهم‪،‬‬
‫وتزداد قوتهم‪ ،‬فأجهزوا عليهم‪ ،‬وجاءوا بجيوش ل قبل ليثرب بها ‪ ,‬فكان القطع‬
‫بإنتظار الكفار وطرف منهم على نحو التنجيز والفعلية وليس التعليق والوعيد ‪.‬‬
‫فقد فّر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه وهم قليل إلى المدينة‬
‫المنورة على بعد أكثر من أربعمائة كيلو مترًا ‪ ,‬وبعضهم قطع المسافة سيرًا على‬
‫القدام وفي حال من الفزع والخوف من طلب قريش‪ ،‬فأبت قريش إل إستئصال‬
‫السلم لتتكرر وقائع الصراع بين فرعون وملئه من جهة‪ ،‬وموسى وبني إسرائيل‬
‫من جهة أخرى مع زيادة في الفضل اللهي على النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وأصحابه بأن خفف ال عنهم‪ ،‬فلم تستطع قريش مواصلة العذاب والتعذيب‬
‫لصحاب النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لوجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬بعث ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم من أوسط قريش‬
‫نسبًا‪ ،‬ومنزلة وشأنًا‪ ،‬فهو ليس كبني إسرائيل وإستضعاف آل فرعون لهم‪ ،‬وجعلهم‬
‫ب[‬
‫سوَء اْلَعَذا ِ‬
‫سوُموَنُكْم ُ‬
‫في المهن الوضيعة والشاقة كما في تفسير قوله تعالى]َي ُ‬
‫)‪.(566‬‬
‫فقد إستضعف آل فرعون بني إسرائيل ‪ ،‬فمنهم من يقوم بخدمة آل فرعون‪ ،‬ومنهم‬
‫من يحرث لهم‪ ،‬ومن ل يقدر على العمل ضربوا عليه الجزية إلى جانب ذبح أبنائهم‬
‫وإستحياء نسائهم‪ ،‬نعم تعرض النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إلى الذى وقد‬
‫تقدم ذكره‪ ،‬كما تعرض نفر من أصحابه إلى أذى شديد‪ ،‬سرعان ما زال بالهجرة‪،‬‬
‫ثم لقى الذين آذوا النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه الهلك ‪ ,‬وهو من‬
‫ن َكَفُروا[‪ ،‬في آية من عذاب ال عز وجل‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫طَرًفا ِم ْ‬‫طَع َ‬ ‫عمومات قوله تعالى]ِلَيْق َ‬
‫للكافرين الذين أرادوا إستئصال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‬
‫فاستئصلهم ال عز وجل ‪.‬‬
‫ل بمكة في بداية‬ ‫فمثل كان أمية بن خلف وهو من كبار رجالت قريش‪ ،‬يعذب بل ً‬
‫حَمْيت ‪،‬‬
‫ضاَء َمّكة إَذا َ‬‫جُه إَلى َرْم َ‬
‫خِر ُ‬‫الدعوة السلمية لحمله على ترك السلم)َفُي ْ‬

‫‪ ()565‬سورة التحريم ‪.12‬‬


‫‪ ()566‬سورة العراف ‪.141‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ل َ‬
‫ل‬ ‫صْدِرِه ُثّم َيُقو ُ‬
‫عَلى َ‬
‫ضُع َ‬‫ظيَمِة َفُتو َ‬
‫خَرِة اْلَع ِ‬
‫صْ‬‫ظْهِرِه ُثّم َيْأُمُر ِبال ّ‬
‫عَلى َ‬ ‫جُعُه َ‬ ‫ضِ‬
‫َفُي ْ‬
‫حٌد( ) (‪.‬‬
‫‪567‬‬
‫حٌد َأ َ‬‫ل َأ َ‬
‫لٌ‬‫ل ِب َ‬‫حّمد َفَيُقو ُ‬
‫ن ُم َ‬
‫ق ِدي َ‬ ‫ل َهَكَذا َأْو ُتَفاِر َ‬‫َتَزا ُ‬
‫ويوم بدر وقع أمية بن خلف بالسر في آية من عند ال تتضمن كبت وخزي الذين‬
‫كفروا‪ ،‬إذ كان واقفًا وهو وإبنه علي بن أمية‪ ،‬فمر بهما عبد الرحمن بن عوف‪،‬‬
‫ي فأنا خير لك‬ ‫ومعه أدراع إستلبها فقال له أمية‪ ،‬وكان صديقًا له في مكة‪ :‬هل لك ف ّ‬
‫من هذه الدراع التي معك‪.‬‬
‫وقال‪ :‬وما رأيت كاليوم قط‪ ،‬أما لكم حاجة في اللبن؟ يريد لماذا يعزف المسلمون‬
‫عن أسري مع أني أفتدي نفسي بالجمال الكثيرة اللبن‪ ،‬فأخذه وإبنه عبد الرحمن بن‬
‫عوف‪.‬‬
‫ولكن لما رآه بلل قال‪ :‬ل نجوت إن نجا‪ ،‬وإحتج عليه عبد الرحمن‪ :‬أي بلل‪،‬‬
‫أسيري‪ ،‬ثم صرخ بلل بأعلى صوته‪ :‬يا أنصار ال‪ ،‬رأس الكفر‪ ،‬أمية بن خلف‪ ،‬ل‬
‫نجوت إن نجا‪ ،‬فأحاطوا بهم‪ ،‬ولم يستطع عبد الرحمن كفاية أمية بن خلف وإبنه‬
‫فقتل )‪ ،(568‬وفي أسرهما وقتلهما قطع وكبت للكفار عمومًا‪ ،‬وهو من أخبار بدر‬
‫التي أدخلت الحزن والفزع إلى كل بيت من بيوت مكة‪ ،‬وكان نوفل بن خويلد بن‬
‫أسد قد عقل أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد ال حين أسلما في حبل‪ ،‬فكانا يسميان‬
‫القرينيين لذلك‪ ،‬وكان نوفل من شياطين قريش‪ ،‬فقتله علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫ولقد جاءت الية بالخبار عن كبت وخزي الكفار‪ ،‬وأن هذا الكبت من عند ال‪،‬‬
‫وفيه دللة على أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬تعدد طرق وكيفيات كبت وخزي الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬جاءت الية بصيغة الفعل المضارع التي تفيد التجدد والحدوث المستمر‪،‬‬
‫ففي كل يوم تطل على الرض ضروب من كبت الكفار والمشركين‪ ،‬لتكون درسًا‬
‫وموعظة للناس جميعًا‪ ،‬وزجرًا عن التعدي على حرمات السلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تخلف قوة ومنعة الكفار عن دفع الكبت والخزي عنهم‪ ،‬لقد إعتاد الكفار على‬
‫حساب النتائج بلحاظ السباب والمستلزمات والمقدمات ونحوها‪ ،‬وكانت قريش‬
‫فخورة بمنزلتها الرفيعة بين القبائل‪ ،‬وأموالها الكثيرة‪ ،‬وجوارها البيت الحرام‪،‬‬
‫ومجيء العرب للحج والعمرة‪ ،‬وصلتها مع الملوك والسلطين والتجار في بلد‬
‫شَتاِء‬
‫حَلَة ال ّ‬
‫الروم واليمن وغيرها من خلل رحلت التجارة والكسب ‪ ,‬قال تعالى]ِر ْ‬
‫ف[ )‪ ،(569‬وإجماع المفسرين على أن المراد رحلة قريش في الصيف إلى‬ ‫صْي ِ‬‫َوال ّ‬
‫الشام‪ ،‬لنها بلد باردة‪ ،‬ورحلتهم في الشتاء إلى اليمن لنها بلد حامية‪ ،‬تجلب بهما‬
‫قريش التجارات والمؤون لن الحرم واد جديب‪.‬‬
‫وكانت قريش تسير بتجارتها في آمن‪ ،‬ل يتعرض لها الناس لنهم أهل حرم ال‪،‬‬
‫والقائمون بشؤونه‪ ،‬بينما يتخطف من حولهم‪ ،‬فجاءت بعثة النبي محمد صلى ال‬
‫‪ ()567‬السيرة النبوية ‪.239 /3‬‬
‫‪()568‬أنظر السيرة النبوية لبن كثير ‪.2/439‬‬
‫‪ ()569‬سورة قريش ‪.2‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫عليه وآله وسلم ‪ ,‬لتبين أن مدار الكرام هو السلم‪ ،‬وأنه ل أمن مع الكفر والجحود‬
‫‪ ,‬والية أعم من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬صحيح أن الرحلة جاءت بصيغة المفرد إل أن المراد منها الجنس‪ ،‬وتعدد‬
‫الرحلت‪ ،‬ويدل عليه توالي عير قريش التي تأتي من الشام من خلل وقائع معركة‬
‫بدر وما بعدها‪ ،‬وكيف أن المسلمين أرادوا أخذ عير أبي سفيان القادمة من الشام ‪,‬‬
‫ن َلُكْم[ )‪.(570‬‬ ‫شْوَكةِ َتُكو ُ‬ ‫ت ال ّ‬
‫غْيَر َذا ِ‬
‫ن َ‬ ‫ن َأ ّ‬‫قال تعالى]َوَتَوّدو َ‬
‫الثاني‪ :‬التجارة وسيلة للتعارف والتصال والقرب من الملوك وأصحاب القرار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يحل التجار ضيوفًا على البلد الذي يصلون إليه‪ ،‬ويكونون واجهة لهل‬
‫الجزيرة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ينقل التجار أخبار بلدهم‪ ،‬ويفسرونها بوجوه تتصف بالبيان مع ميل وإنحياز‬
‫منهم إلى أهوائهم ومصالحهم ومصالح تلك الدول‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إيجاد شأن ومنزلة لبلدهم وقومهم بين المم‪ ،‬فقد ل يعرف كبار الروم من‬
‫العرب إل قريشًا لتعاملها معهم بالتجارة‪ ،‬وترددها على بلد الشام‪ ،‬وإتصالها مع‬
‫الملوك والوجهاء‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أثر هذه الصلت على قريش في الشأن والجاه وحسن المعاشرة‪ ،‬ولم‬
‫يجهزوا على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في بداية البعثة إلى أن إشتهر‬
‫أمره‪ ،‬وخشوا على منازلهم وأصنامهم وعاداتهم‪ ،‬ومن أسباب إستيائهم رؤيتهم للنبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وهو يساوي بين أصحابه في المرتبة والود ‪ ,‬لم‬
‫يفرق بين الغني والفقير‪ ،‬والحر والعبد منهم‪.‬‬
‫قانون"خزائن مصر’’‬
‫ق َأْهَلُه ِم ْ‬
‫ن‬ ‫لقد سأل إبراهيم عليه السلم الثمرات لهل البلد الحرام بقوله تعالى]َواْرُز ْ‬
‫ت[ )‪ ،(571‬لتكون نعمة مصاحبة لنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأداء‬ ‫الّثَمَرا ِ‬
‫المسلمين للفرائض‪،‬وليأتي من بعده يوسف عليه السلم فيطلب من ملك مصر‬
‫ض[‬‫لْر ِ‬ ‫ناَ‬ ‫خَزاِئ ِ‬
‫عَلى َ‬ ‫جَعْلِني َ‬ ‫وزارة الرض كما ورد حكاية عنه في التنزيل]ا ْ‬
‫)‪(572‬بعد محنة السجن‪.‬‬
‫وذكر الخزائن بصيغة الجمع والتنكير والطلق إشارة إلى عدم إنحصار وظائف‬
‫وزارته بالزراعات‪ ،‬خصوصًا وأنها كانت سني قحط مع قلة المطار والمياه ‪ ,‬قال‬
‫ن[‬
‫صُنو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ل ِمّما ُت ْ‬‫ل َقِلي ً‬
‫ن ِإ ّ‬
‫ن َما َقّدْمُتْم َلُه ّ‬
‫شَداٌد َيْأُكْل َ‬
‫سْبٌع ِ‬
‫ك َ‬‫ن َبْعِد َذِل َ‬‫تعالى]ُثّم َيْأِتي ِم ْ‬
‫)‪.(573‬‬
‫وكان إدخار يوسف عليه السلم للبر والطعام في سني الخصب والرخاء وسيلة‬
‫لبيعه على الناس الذين جاءوا بأموالهم وذخائرهم للحصول على رغيف العيش‪،‬‬

‫‪ ()570‬سورة النفال ‪.7‬‬


‫‪ ()571‬سورة البقرة ‪.126‬‬
‫‪ ()572‬سورة يوسف ‪.55‬‬
‫‪ ()573‬سورة يوسف ‪.48‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وربما إجتهدوا في إستخراج بعض الكنوز والمعادن من أرض مصر ‪ ،‬وأن يوسف‬
‫جه عماله لهذا الغرض‪.‬‬ ‫وّ‬
‫ومن إعجاز القرآن وجود المصاديق الخارجية لمضامين الية القرآنية على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬ماهو خاص بزمان الواقعة ‪ ,‬وإن تقدم على أيام التنزيل بأحقاب لتكون‬
‫مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وإرتقائهم في المعارف اللهية‪ ،‬وآية للناس في‬
‫كشف القرآن لعلوم الغيب وقصص المم السالفة بلغة خالية من التحريف والتشويه ‪,‬‬
‫حيَها‬‫ب ُنو ِ‬ ‫ن َأْنَباِء اْلَغْي ِ‬
‫ك ِم ْ‬‫قال تعالى في قصة نوح‪ ،‬ونجاته ومن معه من الطوفان ]ِتْل َ‬
‫ك[ )‪.(574‬‬
‫ِإَلْي َ‬
‫الثاني‪ :‬المصاديق التي تتجلى أيام التنزيل‪ ،‬وتكون شواهد على صدق مضامين‬
‫الية‪ ،‬وحجة وبرهانًا على صدق نزول القرآن خصوصًا وأن الناس جميعًا‬
‫المسلمين وغيرهم يشتركون باستحضار هذه المصاديق في الوجود الذهني عند‬
‫تلوة الية أو الستماع لها‪ ،‬أو سماعها عرضًا من غير قصد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما يتجدد من المصاديق في الحقاب اللحقة لنزول القرآن والتي تؤكد‬
‫إعجازه ‪ ,‬وتبعث الشوق في النفوس لستقراء ما فيه من الدرر‪ ,‬والتعاظ مما فيه‬
‫من الدروس والعبر‪ ،‬والنتفاع المثل مما ينبأ عنه‪ ،‬فليس من حصر لزمان‬
‫مواضيع الية القرآنية بل تتغشى أفراد الزمان الطولية بأقسامها الماضي والحاضر‬
‫والمستقبل‪.‬‬
‫وجاءت الية أعله بخصوص كنوز مصر من الشواهد على هذا الطلق الزماني‪،‬‬
‫حَياِة‬
‫ل ِفي اْل َ‬‫لُه ِزيَنًة َوَأْمَوا ً‬ ‫ن َوَم َ‬
‫عْو َ‬
‫ت ِفْر َ‬
‫ك آَتْي َ‬
‫سى َرّبَنا ِإّن َ‬ ‫ل ُمو َ‬
‫وفي قوله تعالى ]َوَقا َ‬
‫الّدْنَيا[)‪ ،(575‬ورد )عن إبن عباس رضي ال عنه ‪ :‬كانت لهم من فسطاط مصر إلى‬
‫أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت)‪.(576‬‬
‫ض[)‪ ،(577‬إخبار وبشارة عن وجود‬ ‫لْر ِ‬ ‫ناَ‬ ‫خَزاِئ ِ‬‫عَلى َ‬ ‫جَعْلِني َ‬
‫وفي قوله تعالى ]ا ْ‬
‫خزائن وكنوز في أرض مصر‪ ،‬وهو من اللطف اللهي‪ ،‬وبيان فضل ال على أهل‬
‫مصر في السلم ‪ ,‬ودعوة للجتهاد والتنقيب على الكنوز والمعادن فيها ‪ ,‬وفي‬
‫صبغة القرآنية ومناسبة المقام لهذه البشارة إشارة إلى إنتفاع أهل مصر والمسلمين‬
‫عمومًا من هذه الكنوز والمعادن والخيرات ‪ ,‬وفيه دعوة لبذل الوسع وفق السباب‬
‫وأدوات العلم لكتشاف وإستخراج تلك الكنوز‪ ,‬ول دليل على نفاد تلك الكنوز أيام‬
‫يوسف عليه السلم وما بعدها ‪.‬‬
‫وإذا كان النفط هو الكنز الغالب في هذا الزمان فإن الية تشمل هذا الزمان وأفراد‬
‫الزمان الطولية اللحقة فيما يخص المصاديق المتعددة والمستحدثة لكنوز الرض‬
‫وحاجة الناس لها وفق الرتقاء العلمي والتقني ومنها خزائن مصر‪ ،‬بتقؤيب أن‬

‫‪()574‬سورة هود ‪.48‬‬


‫‪()575‬سورة يونس ‪.88‬‬
‫‪()576‬سورة يونس ‪.88‬‬
‫‪()577‬الكشاف ‪.2/249‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫مضامين الية القرآنية حية وباقية إلى يوم القيامة ) والخزانة‪ :‬إسم الموضع الذي‬
‫يخزن فيه الشئ()‪.(578‬‬
‫وفيه دعوة للناس للتقيد بأحكام السلم‪ ،‬وسنن اليمان مقرونة بالمل والرجاء‬
‫والحث على الدعاء لتقريب البعيد‪ ،‬ولكن شطرًا من الناس إختاروا الضللة‬
‫والجحود‪ ،‬وغرتهم الحياة الدنيا وزينتها‪ ،‬وصاروا أعداء للنبياء ‪ ,‬قال تعالى]َفِريًقا‬
‫ن[ )‪.(579‬‬ ‫َكّذْبُتْم َوَفِريًقا َتْقُتُلو َ‬
‫فتأتي ذخائر الرض السلمية ترغيبًا لهم بالسلم‬
‫وبلد مصر أكثر المدن والبلدان التي ذكرت في القرآن ‪ ,‬وهذا شرف عظيم إختص‬
‫ال به مصر وأهلها ‪ ,‬ويلقي وظائف عقائدية عليهم ويشير إليها‪ ,‬ويدل في مفهومه‬
‫على الثناء عليهم ‪ ,‬وأنهم أهل لهذا الكرام ‪ ,‬فل غرابة أن يخصهم ال بخزائن‬
‫مدخرة في الرض والبشارة بها ‪ ,‬وصحيح أن ذكر مدين جاء عشر مرات في‬
‫القرآن‪ ،‬إل أن ذكر مصر جاء فيه أكثر عددًا‪ ،‬وأعظم دللة‪ ،‬من وجوه‪:‬‬
‫حا ِ‬
‫ب‬ ‫صَ‬‫ن[)‪َ ]،(580‬أ ْ‬ ‫ل َمْدَي َ‬
‫الول‪ :‬جاء ذكر مدين بلحاظ المتعلق وليس ذات البلدة ]َأْه ِ‬
‫ن[)‪.،(582‬‬
‫ن[ )‪َ]،(581‬ماءَ َمْدَي َ‬ ‫َمْدَي َ‬
‫الثاني‪ :‬لم يبق لمدين من عمارة وأثر حضاري ‪ ,‬ومصر عامرة بأهلها في كل زمان‬
‫‪ ,‬وملكة عشقهم المتوارث لليمان أمر معروف ومحمود ‪ ,‬وهو نوع تكريم إضافي‬
‫لهم ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إرادة أهل مدين في اليات بلغة النذار كما في قوله تعالى ]َوِإَلى َمْدَي َ‬
‫ن‬
‫شَعْيًبا[)‪.(583‬‬ ‫خاُهْم ُ‬ ‫َأ َ‬
‫بينما جاء ذكر مصر في القرآن على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة بلدة مصر على نحو التعيين وذكر إسمها خمس مرات في القرآن ‪ ،‬قال‬
‫ن[)‪.(584‬‬ ‫ل آِمِني َ‬
‫شاَء ا ُّ‬
‫ن َ‬‫صَر ِإ ْ‬
‫خُلوا ِم ْ‬
‫تعالى في يوسف وأبويه وإخوته ]اْد ُ‬
‫وقد ذكرت في كتابي الموسوم تفسير سورة يوسف والمطبوع قبل عشرين سنة أن‬
‫هذه الية بشارة فتح المسلمين لمصر من غير قتال وهو آية إعجازية تدل على‬
‫وجود بشارات في القرآن تدرك بالتفسير والتأويل‪ ،‬خصوصًا وان ال عز وجل‬
‫خْيَر‬
‫ضل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم على النبياء‪ ،‬وجعل المسلمين ] َ‬ ‫ف ّ‬
‫س[) (‪.‬‬
‫‪585‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬‫ج ْ‬ ‫خِر َ‬‫ُأّمٍة ُأ ْ‬

‫‪()578‬لسان العرب ‪.13/139‬‬


‫‪()579‬سورة البقرة ‪.87‬‬
‫‪ ()580‬سورة القصص ‪.45‬‬
‫‪()581‬سورة التوبة ‪.70‬‬
‫‪()582‬سورة القصص ‪.23‬‬
‫‪()583‬سورة هود ‪.84‬‬
‫‪()584‬سورة يوسف ‪.99‬‬
‫‪()585‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الثاني‪ :‬ورود مصر في القرآن بلفظ )المدينة( خمس مرات ) (‪ ,‬قال تعالى في‬
‫‪586‬‬

‫سِه[) (‪.‬‬
‫‪587‬‬
‫ن َنْف ِ‬
‫عْ‬ ‫سَوٌة ِفي اْلَمِديَنِة اْمَرَأُة اْلَعِزيِز ُتَراِوُد َفَتاَها َ‬
‫ل ِن ْ‬ ‫صويحبات يوسف ]َوَقا َ‬
‫الثالث‪ :‬ذكرت مصر في القرآن بلفظ )المدائن( ثلث مرات) (‪ ،‬وكلها خاصة ببلدة‬
‫‪588‬‬

‫ن ِفي اْلَمَداِئ ِ‬
‫ن‬ ‫عْو ُ‬‫ل ِفْر َ‬
‫سَ‬‫مصر والمدن المحيطة به والتابعة لها ‪ ,‬قال تعالى ]َفَأْر َ‬
‫ن[)‪.(589‬‬ ‫شِري َ‬
‫حا ِ‬‫َ‬
‫الرابع‪ :‬كثرة القصص والمواضيع التي تخص بلد وأهل مصر في القرآن فقد ذكر‬
‫ل أربعًا وسبعين مرة في القرآن ‪ ,‬وجاء شطر من قصص بني إسرائيل‬ ‫فرعون مث ً‬
‫في مصر لتكون وراثة المسلمين لرض مصر نصرًا عظيمًا ‪ ،‬وآية في تثبيت‬
‫أحكام التوحيد في ربوع الرض إلى يوم القيامة‪ ،‬لما تشع من أرض مصر من‬
‫أسباب الهداية والصلح‪ ،‬وتعاهد أهلها للفرائض وسنن الشريعة السلمية‪ ،‬فل‬
‫غرابة أن تكون بإنتظارهم كنوز عظيمة في الرض‪ ،‬تجعل لمصر وأهلها بين‬
‫الناس ذات المنزلة المستقرأة من آيات القرآن ‪ ,‬موضوعًا ومددًا‪.‬‬
‫ول دليل على ما ذكر في علم الصول أن التحديد بالعدد ل مفهوم له ‪ ,‬إل أن يراد‬
‫المفهوم الجهتي وعدم دللة العدد الخاص على إنتفاء الحكم عن غيره‪ ,‬خصوصًا في‬
‫معاني اللفظ القرآني ‪ ,‬وأن كل لفظ مبارك فيه له دللت وإشارات إعجازية عديدة ‪,‬‬
‫وجاءت البشارة عما في مصر من الذخائر والكنوز إشارة إلى الرزق الكريم‬
‫للمسلمين‪.‬‬
‫نعم وقع الخلف في معنى فرد واحد من لفظ )مصر( الوارد في القرآن وهو قوله‬
‫صرًا[)‪ ،(590‬تقدم ذكره)‪.(591‬‬ ‫طوا ِم ْ‬ ‫تعالى ]اْهِب ُ‬
‫ولفظ المدينة من الموضوعات العرفية والمور الخارجية‪ ،‬ويراد منه الموضع الذي‬
‫تقيم فيه جماعة كثيرة من الناس‪ ،‬ويصلح لتبليغ الحكام ونشر الدعوة وقيام الحجة‪،‬‬
‫وكذا القرية ولكنها أقل عمارة بالضافة إلى التباين في مهن السكان‪ ،‬ومزاولة أكثر‬
‫سكان القرية الزراعة‪ ،‬إذ أنها ضيعة‪ ،‬سميت بالقرية لن الماء يقرئ فيها أي يجمع‪،‬‬
‫بينما جاء لفظ المدينة من القامة‪ ،‬يقال َمَدن بالمكان أي أقام به‪ ،‬وهي فعيلة‪ ،‬وتجمع‬
‫ت أي ملكت‪.‬‬ ‫على مدائن وَمدن‪ ،‬وُمُدن‪ ،‬وقيل أنها مفعلة من دن ُ‬
‫ل َهَذا‬
‫ل ُنّز َ‬ ‫وقد جاء ذكر مكة المكرمة في القرآن بلفظ القرية ‪ ,‬قال تعالى]َوَقاُلوا َلْو َ‬
‫ظيٍم[ )‪ ،(592‬والمراد من القريتين مكة والطائف‪،‬‬ ‫عِ‬‫ن َ‬ ‫ن اْلَقْرَيَتْي ِ‬
‫ل ِم ْ‬‫جٍ‬‫عَلى َر ُ‬ ‫ن َ‬‫اْلُقْرآ ُ‬
‫كما ذكرت مكة بأنها أم القرى‪ ،‬وذكرت يثرب بلفظ المدينة‪ ،‬فمع تكرار ذكرها في‬
‫‪ ()586‬سورة العراف ‪ /123‬يوسف ‪ /30‬القصص ‪./15،18،20‬‬
‫‪()587‬سورة يوسف ‪.30‬‬
‫‪()588‬سورة العراف ‪/111‬الشعراء ‪. 36،53‬‬
‫‪()589‬سورة الشعراء ‪.53‬‬
‫‪()590‬سورة البقرة ‪.61‬‬
‫‪()591‬أنظر الجزء الحادي عشر ‪ /‬تفسير الية ‪ 60‬من سورة‬
‫البقرة‪.‬‬
‫‪()592‬سورة الزخرف ‪.31‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫القرآن لم ترد بلفظ القرية‪ ،‬كما أن تسمية مكة بالقرية إنما جاء في القرآن حكاية عن‬
‫الكفار الذين أنكروا نزول القرآن على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وهو‬
‫من أوسطهم‪ ،‬ليكون شاهدًا على أن الكفار كانوا يستخفون بمكة وما لها من المنزلة‬
‫العظيمة‪ ،‬وأن السلم أظهر الوجه المشرق لمكة وعظيم شأنها ومنزلتها بين مدن‬
‫وأمصار الرض‪ ،‬وهو نعمة أخرى على المسلمين والناس جميعًا‪.‬‬
‫ومن العجاز في القرآن بلحاظ المكنة والبلدان مجيء لغة النذار والعقاب‬
‫والهلك بلفظ القرية‪ ،‬وفيه إشارة إلى نزول الرحمة والعفو مع كثرة الناس في‬
‫المدينة والحضر‪ ،‬ووجود جماعة وأمة في المدينة تذكر ال عز وجل‪ ،‬ول تنقاد‬
‫لمفاهيم الضللة‪ ،‬وبلحاظ السعة والكثرة وتعدد النساب والمذاهب قد يوجد في‬
‫المدينة المؤمن الذي يستحق الرحمة ‪ ,‬وينكر على الكفار سوء فعلهم ويستهجن‬
‫إقامتهم على المعاصي ‪ ,‬ويدرك أن ال بديع السماوات والرض فيكون سببًا لدفع‬
‫البلء والنتقام العاجل عن الناس‪.‬‬
‫ومدين مدينة تقع في طريق القدس)وقال الزمخشري‪ :‬مدين بلدة معروفة() (‪،‬‬
‫‪593‬‬

‫وتحتمل المعرفة هنا وجوهًا‪:‬‬


‫الول‪ :‬تكرار إسمها في القرآن ‪ ,‬وحضور المعنى المخصوص في الوجود الذهني‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬كانت موجودة آنذاك‪ ،‬وتوفي الزمخشري سنة ‪.538‬‬
‫الثالث‪ :‬إرادة المعنى العم‪ ،‬والشامل للوجهين أعله‪.‬‬
‫والصحيح هو الثالث ليبقى ذكر مصر في القرآن مددًا لهلها في العتزاز بها‪،‬‬
‫ولزوم تعاهد اليمان في ربوعها‪ ,‬وتطلعهم إلى تلك الكنوز المتجددة ‪ ,‬ولزوم‬
‫إجتهادهم وبذل الوسع لتحصيلها ‪.‬‬
‫ومن اليات أن لفظ )خزائن( ورد في القرآن ثمان مرات) (‪ ،‬كلها تتعلق بخزائن‬
‫‪594‬‬

‫ال ورحمته‪ ،‬إل الية أعله من سورة يوسف فانها جاءت بخصوص خزائن مصر‬
‫مما يدل على أنها من خزائن ال‪ ،‬وال له ملك السماوات والرض ‪ ,‬وقد إختص ال‬
‫عز وجل مصر وأهلها بأفراد مباركة منها‪ ،‬وإدخرها للمؤمنين لتكون مأوى للمترين‬
‫والتجار وأهل الحاجة‪ ،‬كما كانت في أيام وزارة يوسف عليه السلم‪ ،‬وموضوعًا‬
‫سوُلُه‬
‫عَمَلُكْم َوَر ُ‬
‫ل َ‬
‫سَيَرى ا ُّ‬
‫عَمُلوا َف َ‬
‫لا ْ‬
‫للسعة والمندوحة عند المسلمين ‪ ,‬قال تعالى ]َوُق ْ‬
‫ن[)‪.(595‬‬
‫َواْلُمْؤِمُنو َ‬
‫وهل خزائن مصر من كبت الكفار ‪ ,‬الجواب نعم وإن تحقق بعد حين‪ ،‬وهو من‬
‫أسرار مجئ قوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[ بصيغة الفعل المضارع‪ ،‬ولرادة المعنى العم‬
‫من الية والعموم الزماني ‪ ،‬وما يقع في تعاقب الجديدان من الحوادث والوقائع‬

‫‪ ()593‬المكنة والمياه والجبال ‪.207‬‬


‫‪()594‬انظرسورةالنعام ‪/50‬هود ‪/31‬يوسف ‪/55‬السراء ‪/100‬ص ‪/9‬الطو‬
‫ر ‪/37‬المنافقون ‪/7‬االحجر ‪.21‬‬
‫‪()595‬سورة التوبة ‪.105‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫تكون فيها تلك الخزائن سلحًا وعونًا للمسلمين وواقية من إضرار الكفار بأمصار‬
‫ن[)‪.(596‬‬ ‫سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ‬‫ل اْلِعّزُة َوِلَر ُ‬ ‫المسلمين‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى] ِّ‬
‫وهذا القانون رشحة من موضوع الية ‪ ,‬وإن تأخرت مضامينه عن زمان النزول ‪,‬‬
‫ودعوة للتأمل والتدبر في بشارات القرآن ‪ ,‬وكيف أنها تجعل كبت وذل الكفار‬
‫الوارد في هذه الية متجددًا ‪ ,‬والية القرآنية حية بمصاديقها التوليدية ‪ ,‬تحث على‬
‫إستقراء مصاديقها المستحدثة لتكون ضياء وسرًا مكنونًا من كنوز القرآن وذخائر‬
‫بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ,‬وتفضيل المسلمين بما في أرضهم‬
‫وأمصارهم من الخزائن ‪.‬‬
‫قانون"ملزمة الكبت للكفر’’‬
‫الحياة الدنيا آية من آيات ال في الخلق‪ ،‬وبديع الصنع‪ ،‬وجعلها ال عز وجل دار‬
‫سعادة وغبطة‪ ،‬ومرآة لجنة الخلد وما فيها من النعيم ‪ ,‬ومن الناس من لم يتقيد‬
‫بالوامر والنواهي اللهية‪ ،‬فظلم نفسه وغيره‪ ،‬وزاحم الباطل الحق‪ ،‬والكفر اليمان‬
‫إل أنه لم يحصل إختلط وتداخل بينهما‪ ،‬وتلك آية أخرى في ماهية الحياة الدنيا‪،‬‬
‫وفضل ال عز وجل على الناس فيها‪ ،‬وصحيح أنها دار إمتحان وإختبار وبلء إل‬
‫أن ال عز وجل لم يترك الناس وشأنهم‪.‬‬
‫ول يستطيع الناس إحصاء مصاديق وأفراد العناية اللهية بهم وعدم تركهم وشأنهم‬
‫موضوعًا وحكمًا وأثرًا ‪ ،‬وال عز وجل إذا أعطى يعطي بالوفى والتم‪ ،‬إذ بعث‬
‫النبياء وأنزل الكتب السماوية لمنع اللبس والجهالة‪ ،‬ولجذب الناس لسبل اليمان ‪,‬‬
‫وجعلهم ينفرون من الكفر والضللة‪ ،‬وجاء النسخ في الشرائع لتفقه الناس في‬
‫الدين ‪ ,‬ولمنع خلط المفاهيم‪.‬‬
‫وعندما دعا اليهود والنصارى المسلمين إلى دينهم نزل القرآن من عند ال بأن‬
‫الصل هو ملة إبراهيم‪ ،‬وهو سور الموجبة الكلية الجامع لسس اليمان‪ ،‬قال‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حِنيًفا َوَما َكا َ‬‫ل ِمّلَة ِإْبَراِهيَم َ‬ ‫ل َب ْ‬
‫صاَرى َتْهَتُدوا ُق ْ‬ ‫تعالى]َوَقاُلوا ُكوُنوا ُهوًدا َأْو َن َ‬
‫ن[ )‪ ،(597‬لبيان الحجة على المم السالفة واللحقة‪ ،‬وأن النبي محمدًا صلى‬ ‫شِرِكي َ‬ ‫اْلُم ْ‬
‫ال عليه وآله وسلم أحيى سنن التوحيد وأن النسخ ل يعني التبديل والتغيير فقط بل‬
‫يتضمن التجديد والتفصيل والبيان من غير تعارض بينهما ‪.‬‬
‫وهل قطع طرف من الكفار من النسخ‪ ،‬الجواب ل‪ ،‬فهو أجنبي عن النسخ في‬
‫الشرائع‪ ،‬لن الكفر والشرك ل أصل لهما‪.‬‬
‫وقال إبن إسحاق‪ :‬عاصم بن عمر بن قتادة قال حدثني من ل أتهم عن عمر بن عبد‬
‫صّلى ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ِ‬ ‫ل ِلَر ُ‬ ‫ي ‪َ ،‬أّنه َقا َ‬ ‫سّ‬ ‫ن اْلَفاِر ِ‬‫سْلَما َ‬
‫ن َ‬ ‫عْ‬‫حّدْثت َ‬ ‫العزيز من مروان قال‪ُ :‬‬
‫ن َأْر ِ‬
‫ض‬ ‫ت َكَذا َوَكَذا ِم ْ‬ ‫ل َلُه اْئ ِ‬ ‫عُموِرّية َقا َ‬ ‫ب َ‬ ‫ح َ‬‫صا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خَبَرُه إ ّ‬
‫خَبَرُه َ‬‫حين َأ ْ‬
‫سّلم ِ‬ ‫عَلْيِه َو َ‬
‫َ‬
‫ضِة إَلى َهِذِه‬ ‫ن َهِذِه اْلَغْي َ‬ ‫سَنٍة ِم ْ‬‫ل َ‬ ‫ج ِفي ُك ّ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ن ‪َ .‬ي ْ‬ ‫ضَتْي ِ‬
‫غْي َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل َبْي َ‬
‫جً‬‫ن ِبَها َر ُ‬
‫شام ‪َ ،‬فِإ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫عْ‬
‫ن‬ ‫سَأْلُه َ‬
‫ي َفا ْ‬
‫شِف َ‬
‫ل ُ‬ ‫حٍد ِمْنُهْم إ ّ‬ ‫لَ‬ ‫عو َِ‬ ‫ل َيْد ُ‬
‫سَقاِم َف َ‬‫لْ‬ ‫ضُه َذُوو ا َْ‬ ‫جيًزا ‪َ ،‬يْعَتِر ُ‬‫سَت ِ‬
‫ضِة ُم ْ‬ ‫اْلَغْي َ‬
‫‪()596‬سورة المنافقون ‪.8‬‬
‫‪ ()597‬سورة البقرة ‪.135‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ص َ‬
‫ف‬ ‫ث ُو ِ‬ ‫حْي ُ‬ ‫حّتى َأَتْيت َ‬ ‫ت َ‬ ‫ج ُ‬‫خَر ْ‬ ‫ن ‪َ :‬ف َ‬ ‫سْلَما ُ‬‫عْنُه ‪َ .‬قالَ َ‬ ‫خِبُرك َ‬ ‫َهَذا الذي َتْبَتِغي ‪َ ،‬فُهَو ُي ْ‬
‫جيًزا‬‫سَت ِ‬‫ك الّلْيَلَة ُم ْ‬‫ج َلُهْم ِتْل َ‬‫خَر َ‬‫حّتى َ‬ ‫ك َ‬ ‫ضاُهْم ُهَناِل َ‬ ‫جَتَمُعوا ِبَمْر َ‬ ‫ت الّناس َقْد ا ْ‬ ‫جْد ُ‬‫ِلي ‪َ ،‬فَو َ‬
‫شِف َ‬
‫ي‬ ‫ل ُ‬ ‫ضإّ‬ ‫عو ِلَمِري ٍ‬ ‫ل َيْد ُ‬ ‫ضاُهْم َ‬ ‫شَيُه الّناس ِبَمْر َ‬ ‫خَرى ‪َ ،‬فَغ ِ‬ ‫ن إَلى ُأ ْ‬ ‫ضَتْي ِ‬
‫حَدى اْلَغْي َ‬ ‫نإ ْ‬ ‫ِم ْ‬
‫ل َمْنِكِبِه ‪َ .‬قا َ‬
‫ل‬ ‫لإّ‬ ‫خَ‬ ‫ن َيْد ُ‬ ‫ضَة اّلتي ُيِريُد َأ ْ‬ ‫خلَ اْلَغْي َ‬ ‫حّتى َد َ‬ ‫ص إَلْيِه َ‬ ‫خُل ْ‬ ‫عَلْيِه َفَلْم َأ ْ‬
‫غَلُبوِني َ‬ ‫َو َ‬
‫حِنيِفّية ِدي ِ‬
‫ن‬ ‫ن اْل َ‬ ‫عْ‬‫خِبْرِني َ‬ ‫ل ‪َ ،‬أ ْ‬ ‫حُمك ا ّ‬ ‫ي َفقُْلت ‪َ :‬يْر َ‬ ‫ت إَل ّ‬‫ن َهَذا ؟ َواْلَتَف َ‬ ‫ل َم ْ‬ ‫َفَتَناَوْلته ‪َ :‬فَقا َ‬
‫ن َنِب ّ‬
‫ي‬ ‫عْنُه الّناس اْلَيْوَم َقْد َأظَّلك َزَما ُ‬ ‫ل َ‬ ‫سَأ ُ‬‫يٍء َما َي ْ‬ ‫ش ْ‬‫ن َ‬ ‫عْ‬ ‫ل َ‬ ‫سَأ ُ‬‫ل إّنك َلَت ْ‬ ‫إْبَراِهيَم ‪َ .‬قا َ‬
‫ل َفَقا َ‬
‫ل‬ ‫ل ‪َ .‬قا َ‬ ‫خَ‬ ‫ل ُثّم َد َ‬ ‫عَلْيِه ‪َ .‬قا َ‬
‫حِمُلك َ‬ ‫حَرِم ‪َ ،‬فْأِتِه َفُهَو َي ْ‬ ‫ل اْل َ‬ ‫ن َأْه ِ‬ ‫ث ِبَهَذا الّدين ِم ْ‬ ‫ُيْبَع ُ‬
‫ن ‪َ ،‬لَقْد َلِقيت‬ ‫سْلَما ُ‬‫صّدْقَتِني َيا َ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ُكْن َ‬ ‫ن َلِئ ْ‬‫سْلَما َ‬‫سّلم ِل َ‬
‫عَلْيِه َو َ‬ ‫ل َ‬‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫َر ُ‬
‫ن َمْرَيَم( ) (‪.‬‬
‫‪598‬‬
‫سى اْب َ‬ ‫عي َ‬ ‫ِ‬
‫والحديث ضعيف سندًا ودللة‪ ،‬فمن جهة السند لم يذكر الذي أخبره بالسم وإكتفى‬
‫بما يدل على توثيقه عنده‪ ،‬وهو مقطوع من جهة الرسال إذ أن عمر بن العزيز لم‬
‫يذكر رجال سنده‪ ،‬وطريقه إلى سلمان المحمدي لم يوثق في علم الرجال‪.‬‬
‫وأما دللة فلم ترد نصوص تدل على أن عيسى قام بوظيفة شفاء المرضى‪ ,‬وعلى‬
‫نحو متكرر كل سنة بعد رفعه إلى السماء‪ ،‬ورواية سلمان هذه ليس بعيدة عن زمن‬
‫بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لن سلمان كان عند صاحب عمورية‬
‫ظّ‬
‫ل‬ ‫الذي أخبره بقرب بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إذ قال له)َقْد َأ َ‬
‫جُرهُ إَلى‬ ‫ب ُمَها َ‬ ‫ض اْلَعَر ِ‬ ‫ج ِبَأْر ِ‬ ‫خُر ُ‬‫سلُم َي ْ‬ ‫عَلْيِه ال ّ‬ ‫ن إْبَراِهيَم َ‬ ‫ث ِبِدي ِ‬ ‫ي َوُهَو َمْبُعو ٌ‬ ‫ن َنِب ّ‬‫َزَما ُ‬
‫صدَقَة‬
‫ل ال ّ‬ ‫ل َيْأُك ُ‬‫ل اْلَهِدّية َو َ‬ ‫خَفى ‪َ ،‬يْأُك ُ‬ ‫ل َت ْ‬ ‫ت َ‬ ‫علََما ٌ‬ ‫ل ‪ِ ،‬بِه َ‬ ‫خٌ‬ ‫ن َبْيَنُهَما َن ْ‬ ‫حّرتْي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ض َبْي َ‬‫َأْر ٍ‬
‫ل( ) (‪.‬‬
‫‪599‬‬
‫ك اْلِبلِد َفاْفَع ْ‬ ‫حقَ ِبِتْل َ‬ ‫ن َتْل َ‬‫طْعت َأ ْ‬ ‫سَت َ‬
‫نا ْ‬ ‫خاَتُم الّنبّوة َفِإ ْ‬ ‫ن َكِتَفْيِه َ‬ ‫َوَبْي َ‬
‫وحينما يخرج عيسى عليه السلم فإنه ل يكتفي بالدعاء لناس ل يسألون عن أمور‬
‫دينهم‪ ،‬بل يدعوهم للسلم‪ ،‬وتجديد العهد بكلمة التوحيد ‪ ,‬ومع هذا فالحديث ل‬
‫يترك لما فيه من المعاني والدللت ‪ ,‬ولذكره في كتب السيرة وإسنادها‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لتبين أن عدم إختلط مفاهيم اليمان والكفر أمر مستديم وهو‬
‫رحمة إضافية للناس‪ ،‬ومادة لستدامة الحياة بوجود أمة مؤمنة‪ ,‬ونعمة متجددة ليس‬
‫من حصر لوسائطها ورسائلها‪ ،‬ومن أهمها آيات القرآن‪ ،‬فكل آية منه نعمة في‬
‫الفصل بين اليمان والكفر منطوقًا ومفهومًا ‪.‬‬
‫وهذه الية حرز وواقية لليمان والمؤمنين إذ أنها تتضمن ما يلحق الكفار من‬
‫الضرر والذى‪ ،‬ويأتي الضرر ذاته تحذيرًا وإنذارًا ودعوة الكفار لستحضار‬
‫مصاديق الكبت والذل التي لحقت بهم بسبب القامة على الكفر ‪ ,‬والصرار على‬
‫قتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫فمن اللطف اللهي بالناس في الدنيا‪ ،‬وفلسفة الحياة فيها أن العقوبة العاجلة ل تأتي‬
‫إل بعد شدة التفريط‪ ،‬وكثرة التعدي‪ ،‬وعظم المعصية لتكون هذه العقوبة درسًا‬

‫‪()598‬السيرة النبوية ‪. 1/189‬‬


‫‪ ()599‬السيرة النبوية ‪.1/185‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وموعظة لصاحبها ولغيره‪ ،‬وزجرًا عن فعل السيئات‪ ,‬وإرتكاب ذات الذنوب التي‬
‫هي سبب لها‪ ،‬ومنعًا من غلبة النفس الشهوية‪.‬‬
‫ك[ ) (‪ ،‬وهذه العقوبة‬
‫‪600‬‬
‫عَباَد َ‬
‫ضّلوا ِ‬
‫ن َتَذْرُهْم ُي ِ‬‫ك ِإ ْ‬
‫وفي دعاء نوح ورد في التنزيل]ِإّن َ‬
‫جذب إلى مقامات ملكة التنزه عن الذنوب التي تأتي من أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬الهوال الدنيوية والخروية التي تتفرع عن إرتكاب الذنوب‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الترغيب باليمان وفعل الصالحات‪ ،‬والخبار عن النعيم الدائم الذي ينتظر‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التصديق بالنبياء والكتب السماوية المنزلة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أداء الفرائض والواجبات العبادية‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الخشية من ال بالغيب‪.‬‬
‫فجاءت هذه الية بذكر الوجه الول لنقاذ الناس من براثن الضللة وعبادة‬
‫الصنام‪ ،‬وإخبارهم بأن مقاليد المور كلها بيد ال‪ ،‬وأنه سبحانه لن يترك الصراع‬
‫بين المؤمنين والكفار يجري بالسباب وقانون العلة والمعلول المادي وحدها ‪ ,‬بل‬
‫تكون الرادة التكوينية ل عز وجل حاضرة في كل ميادين الحياة‪ ،‬وتتجلى بوضوح‬
‫في الصراع بين اليمان والكفر‪ ،‬وقانون ملزمة الكبت والذل للكفار في تعديهم‬
‫على المسلمين ومطلقًا‪ ،‬وإفادة الجزم والقطع بهذه الملزمة‪.‬‬
‫وفيه تعاهد للغايات العظيمة في خلق النسان وهي إخلص العبادة ل عز وجل‪.‬‬
‫وتلك الغاية مقدمة ووسيلة لفوز المؤمنين بالنعيم الدائم ‪ ,‬والخلود في الجنان‪ ،‬قال‬
‫ن َتِقّيا[ )‪.(601‬‬
‫ن َكا َ‬
‫عَباِدَنا َم ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ث ِم ْ‬
‫جّنُة اّلِتي ُنوِر ُ‬
‫ك اْل َ‬
‫تعالى]ِتْل َ‬
‫بحث عرفاني‬
‫اليمان بال عز وجل تطهير للذات وإزالة للكدورات الظلمانية‪ ،‬ونفع للنفس‪،‬‬
‫وتصفية للقلب‪ ،‬وطرد لمادية الطبيعة‪ ،‬ومنع من إستحواذ النفس الشهوانية‬
‫والحيوانية‪ ،‬وإزاحة للدرن المترشح عن المعاملت اليومية والحاجات والمكاسب‬
‫النية‪.‬‬
‫لقد أطلت نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم على الرض بشمس اليمان التي ل‬
‫سحب الشك والريب حجب ضياءها الذي يسطع على‬ ‫تعرف المغيب‪ ،‬ول تستطيع ُ‬
‫ى لها ذلك‪ ،‬وقد صار كل مؤمن مرآة‬ ‫القلوب المنكسرة فيجذبها طوعًا وإنطباقًا‪ ،‬وأن ّ‬
‫يعكس شوارق اليمان مثلما يعكس نور القمر ضياء الشمس‪.‬‬
‫وكما يعجز الناس عن إحصاء عدد ملئكة السماء فإنهم يعجزون عن إحصاء عدد‬
‫المؤمنين بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم خصوصًا وأن عددهم من اللمتناهي‬
‫وهو بإطراد ونماء متصل مع تقادم الساعات واليام‪ ،‬ول ينحصر هذا النماء بالعدد‬
‫وحده‪ ،‬بل يشمل حال الرتقاء العقائدي والفقهي عند المسلمين ‪ ,‬وعشق تلوة‬
‫اليات وأداء الفرائض والعبادات والشوق للقاء ال وحب الشهادة في سبيله تعالى‬
‫‪ ()600‬سورة نوح ‪.27‬‬
‫‪ ()601‬سورة مريم ‪.63‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫بأرض المعركة وإخلص النية‪ ،‬وقصد القربة‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]ُكْنُتْم‬
‫س[)‪.(602‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬‫خِر َ‬ ‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫َ‬
‫ويواجه اليمان بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم في كل زمان حروبًا متعددة‬
‫الوجود والكيفيات والصيغ‪ ،‬فيخرج منها قويًا بذاته‪ ،‬وتكون تزكية للمسلمين‪،‬‬
‫وموضوعًا للثناء عليهم‪ ،‬وحرزًا من هجمات الضللة ومحاولت خلط المفاهيم‪،‬‬
‫وواقية وتبصرة في زمان تداخل الحضارات‪ ،‬وتقارب القارات والمصار‪ ،‬والثورة‬
‫المعلوماتية وصيرورة العالم كالقرية ليصاحب المسلمين القرآن‪ ،‬وما فيه من‬
‫البشارة والنذار‪ ،‬ويكون ظهور المصاديق العملية لياته زادًا في الميادين‬
‫المختلفة ‪.‬‬
‫وما في القرآن من الوعيد والوعد ليس مفاهيم جامدة‪ ،‬أو حديثًا مجردًا منحصرًا‬
‫بالخبار عن الزمن الماضي ‪ .‬بل هي أمور متجددة في موضوعها وأحكامها‪ ،‬وجاء‬
‫ب[ )‪ ،(603‬لرادة عموم المنفعة‬ ‫لْلَبا ِ‬‫لْوِلي ا َ‬‫عْبَرٌة ُِ‬
‫صِهْم ِ‬
‫ص ِ‬‫ن ِفي َق َ‬ ‫قوله تعالى]َلَقْد َكا َ‬
‫من قصص القرآن‪ ،‬ولزوم إتخاذ الناس برهم وفاجرهم لها مدرسة يقتبسون منها‬
‫المواعظ‪ ،‬ويستنبطون منها الحكام‪.‬‬
‫وهذا العموم من أسباب وجوب القراءة في الصلة‪ ،‬وتلوة اليات بصورة جهرية‬
‫في أكثر الصلوات لكسر حاجز الخوف عند المسلمين وليصال كلم ال إلى الناس‬
‫جميعًا طوعًا وقهرًا‪ ،‬وإزاحة مؤقتة لظلمة الدنيا وغشاوة اللذة وشوائب المشاغل‪،‬‬
‫ومع أنها مؤقتة إل أن أثر القراءة يبقى في الوجود الذهني عند القارئ والمستمع‬
‫والسامع‪ ،‬وتكون إصلحًا للفكر‪ ،‬وتقويمًا للسان‪ ،‬وواقية من إغواء الشيطان‪.‬‬
‫لقد جاءت هذه الية الكريمة حضورًا سماويًا في ميدان المعركة مع حضور‬
‫الملئكة مددًا وعونًا ليبقى المسلمون في جوار حضرة القدس والجلل‪ ،‬ويرتقي‬
‫المجاهدون في مراتب الكمالت النسانية‪ ،‬لذا شّرفهم ال عز وجل بوسام خالد وهو‬
‫ل[‬‫عَد ِلْلِقَتا ِ‬
‫ن مََقا ِ‬
‫ئ اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ك ُتَبّو ُ‬
‫ن َأْهِل َ‬
‫ت ِم ْ‬
‫غَدوْ َ‬‫تسميتهم بالمؤمنين‪ ،‬قال تعالى]َوِإْذ َ‬
‫)‪.(604‬‬
‫ومع تعلق موضوع الية بالكافرين الذين يعتدون على المسلمين والذي جاء بلغة‬
‫النذار وهو الخبار مع التخويف‪ ،‬ليكون مناسبة للتجاء المسلمين إلى ال عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫لقد جعل ال عز وجل الحياة الدنيا بستانًا وحديقة بهيجة مملوءة بالشجار‬
‫العقائديةالمثمرة التي يترشح عنها اليمان‪ ،‬والهداية فأنزل الكتب السماوية‪ ،‬وختمها‬
‫غب‬ ‫بالقرآن‪ ،‬وجعل كل آية منه حديقة زاهية تعطي الثمار في الليل والنهار‪ ،‬وتر ّ‬
‫الناس للقتطاف منها ولكن لتصل إليها إل يد المؤمن والمؤمنة ‪ ,‬وتمنع الكفار عن‬
‫شم طيبها وما تبعثه من المسك والعنبر‪.‬‬
‫‪ ()602‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()603‬سورة يوسف ‪.111‬‬
‫‪()604‬سورة آل عمران ‪.121‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫قانون"مصاحبة مصاديق الوعيد لنزوله’’‬
‫يتضمن القرآن الوعد والوعيد‪ ،‬وكل واحد منهما شاهد على صدق نزول القرآن‬
‫لمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما فيهما متفرقين ومجتمعين من الخبار عن الغيب‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تثبيت أسس السلم ونشر مبادئه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إمتلء نفوس المسلمين بالغبطة والسعادة والرضا بمنطوق الوعد ومفهوم‬
‫الوعيد ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬إمتلء نفوس الكفار بالخوف والفزع والحزن من منطوق الوعيد ‪ ,‬ومفهوم‬
‫الوعد ‪ ,‬كما يتجلى في هذه الية والية السابقة‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬حصول المصاديق العملية ليات الوعد والوعيد‪ ،‬والحدوث المستمر‬
‫والمتصل لشواهد الوعد‪ ،‬والمصاديق الخارجية للوعيد وبطش ال بالكفار‪ ،‬ليكون‬
‫من أبهى معاني كبتهم وخزيهم‪.‬‬
‫وهو من اللطف اللهي بالمسلمين خاصة‪ ،‬والناس عامة‪ ،‬لتبقى الدنيا مرآة لعالم‬
‫الخرة‪ ،‬وشاهدًا على الحساب والجزاء يوم القيامة‪ ،‬ودعوة للستعداد والتهيئ لهما‬
‫بالعمل الصالح‪ ,‬والتوبة والنابة‪.‬‬
‫وتبين المصاحبة المتجددة بين الية القرآنية ومصاديقها العملية أن المور كلها بيد‬
‫ال عز وجل‪.‬‬
‫ن[) (‪ ،‬إذ‬
‫‪605‬‬
‫صادِِقي َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ت ِم ْ‬‫ن ُكن َ‬ ‫وفي نوح وقومه ورد قوله تعالى ] َفْأِتَنا ِبَما َتِعُدَنا ِإ ْ‬
‫كان يعدهم بالعذاب العاجل على الكفر والجحود‪ ،‬وأنهم لن يفوتوا ال بالهرب‪ ،‬فأخذ‬
‫نوح يصنع السفينة بيده من شجرة عظيمة إنتشرت أغصانها‪.‬‬
‫وكلما مّر عليه جماعة من رؤساء قومه إستخفوا به وبما يعمل لنه يصنعها في‬
‫البر‪ ،‬وليس من بحر أو نهر قريب منه يحمل تلك السفينة الكبيرة‪ ،‬ولم يسكت عن‬
‫إستهزائهم وتضاحكهم ‪ ,‬بل كان يرد عليهم ويحذرهم ويتوعدهم بالعذاب‪ ،‬وهذا‬
‫الوعيد رحمة ولطف بهم لجذبهم لليمان كما ورد في التنزيل حكاية عنه ]ِإ ْ‬
‫ن‬
‫خِزيِه[‬
‫ب ُي ْ‬‫عَذا ٌ‬
‫ن َيْأِتيهِ َ‬
‫ن َم ْ‬‫ف َتْعَلُمو َ‬‫سْو َ‬ ‫ن * َف َ‬ ‫خُرو َ‬ ‫سَ‬ ‫خُر ِمْنُكْم َكَما َت ْ‬
‫سَ‬‫خُروا ِمّنا َفِإّنا َن ْ‬
‫سَ‬‫َت ْ‬
‫) (‪.‬‬
‫‪606‬‬

‫وعن عائشة عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم أنه قال‪ :‬مكث نوح في قومه ألف‬
‫سنة إل خمسين عاما يدعوهم إلى ال تعالى حتى إذا كان آخر زمانهم غرس‬
‫شجرة ‪ ,‬فعظمت و ذهبت كل مذهب ‪ ,‬فقطعها و جعل يعمل على سفينته و قومه‬
‫يمرون عليه فيسألونه فيقول أعمل سفينة فيسخرون منه و يقولون تعمل سفينة على‬
‫البر فكيف تجري ‪ ,‬فيقول سوف تعلمون ‪ ,‬فلما فرغ منها و فار التنور و كثر الماء‬
‫في السكك خشيت أم صبي عليه ‪ ,‬و كانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى‬
‫بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به‬
‫‪()605‬سورة هود ‪.32‬‬
‫‪()606‬سورة هود ‪.39-38‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء فلو‬
‫رحم ال منهم أحدا لرحم أم الصبي)‪.(607‬‬
‫ونوح من الرسل الخمسة أولى العزم‪ ،‬ونجا بفضل ال عز وجل بنفسه وبمن معه‬
‫من أهل بيته‪ ،‬اما النبي محمد فقد آمن به أفراد وجماعات فصاروا أمة تستطيع أن‬
‫تذب عنه‪ ،‬وعن السلم‪ ,‬لتتناقص قوى الشر والبغي والضللة‪.‬‬
‫ومن الشواهد على تفضيله على النبياء بمجئ البشارات بالنصر والغلبة‪ ،‬ورمي‬
‫عْدَناُهْم[ )‪.(608‬‬
‫ك اّلِذي َو َ‬ ‫الكفار بالعذاب العاجل ‪ ,‬قال تعالى ]َأْو ُنِرَيّن َ‬
‫في خطاب للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بان يريه في حياته ما وعد ال‬
‫اللكفار والمشركين من العذاب‪ ) ،‬وقال الحسن وقتادة‪ :‬إن ال أكرم نبيه صلى ال‬
‫عليه وآله وسّلم بأن لم يره تلك النقمة و لم ير في أمته إل ما قرت به عينه و قد كان‬
‫بعده نقمة شديدة)‪.(609‬‬
‫ولكن الية أعله جاءت بالوعيد للكفار الذين يحاربون المسلمين‪ ،‬وقد أرى ال عز‬
‫وجل نبيه ما أصابهم من القتل والسر في معركة بدر‪ ،‬وما لحق عموم المشركين‬
‫من الخزي والذل‪ ،‬ثم جاءت معركة أحد بإختيار وسعي من المشركين أنفسهم‪.‬‬
‫فجاءت الية محل البحث ليرى النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنون‬
‫مصداق ما وعد ال الكفار من العذاب العاجل‪ ،‬والذي جاء بآيات القرآن وأحاديث‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬خصوصًا وأن السور المكية التي نزلت في‬
‫بداية الدعوة السلمية ‪ ,‬ونزول جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم جاءت بالوعيد والتخويف والنذار للكفار‪ ،‬ولعله من بين السباب التي‬
‫زادت من سخط قريش على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وبطشهم‬
‫بأصحابه لما كانت عليه قريش من الكبرياء والخيلء والزهو‪ ،‬وكل سورة منها‬
‫مدرسة في الوعيد‪ ،‬ومنه ما جاء بلغة القسم‪ ،‬ويمين ال بمخلوقاته لتوكيد نزول‬
‫العذاب بالكفار‪.‬‬
‫لقد نصر ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم بالبطش بالكفار قطع‬
‫طرف منهم وهلك رؤسائهم‪ ،‬وإصابة تجاراتهم بالكساد‪ ،‬وإنشغالهم عنها بالمعارك‬
‫والتعدي على المسلمين‪ ،‬ومنعهم من توظيف أموالهم لشراء السلح والنفاق على‬
‫آلف الجنود الذين يزحفون معهم لقتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمؤمنين‪ ،‬وإضطرارهم لفداء لكبرائهم الذين وقعوا بالسر يوم بدر‪ ،‬إلى جانب‬
‫صيرورة السلحة والدروع والرواحل التي جاءت بها قريش للحرب غنيمة بيد‬
‫المسلمين‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]َأْو َيْكِبَتُهْم[‪.‬‬

‫‪()607‬مجمع البيان ‪.5/160‬‬


‫‪()608‬سورة الزخرف ‪.42‬‬
‫‪()609‬مجمع البيان ‪.9/49‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وكما جاء القطع والكبت للكفار يوم بدر‪ ،‬فانه لحقهم يوم أحد‪ ،‬إذ ) بلغ عدد قتلهم‬
‫ل)‪ ،(610‬وأصابهم الخزي لعدم نيلهم النصر الذي وعدوا به‬ ‫يومئذ إثنين وعشرين رج ً‬
‫أهل مكة‪ ،‬والقبائل التي خرجت معهم‪ ،‬وفيه مصيبة وحزن لهم ‪ ,‬ويكون النسان إذا‬
‫أصابته مصيبة ومحنة على أقسام‪:‬‬
‫الول‪:‬الذي يواجهها بصبر وتحد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الذي يتخاذل ويضعف أمامها‪.‬‬
‫ل أو جزء‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬من يتوسل بالسباب والوسائط لتداركها ك ً‬
‫الرابع‪ :‬الذي يقف عندها يائسًا قانطًا‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الذي يبادر إلى العمل لتجاوزها‪ ،‬والسعي للخلف والبديل عنها‪.‬‬
‫وجاءت اليات بحث المؤمنين على الصبر في المصيبة الخاصة والعامة والستعانة‬
‫بالصلة والعبادة ورؤية آفاق المستقبل بالتوكل على ال عز وجل‪ ,‬قال تعالى‬
‫ن[)‪ ،(611‬أما الكفار فان‬ ‫شِعي َ‬ ‫خا ِ‬ ‫عَلى اْل َ‬‫ل َ‬‫لِة َوِإّنَها َلَكِبيَرٌة ِإ ّ‬
‫صَ‬ ‫صْبِر َوال ّ‬‫سَتِعيُنوا ِبال ّ‬
‫]َوا ْ‬
‫الخزي والذل يحلن بهم‪ ،‬وتتعاقب عليهم صنوف الذى والضرر ليعجزوا معها‬
‫عن التدارك‪ ،‬وهذا التدارك زيادة في قوتهم وسبب للضرار بالمسلمين‪ ،‬وقد قال‬
‫ل َأًذى[)‪ ،(612‬فالكبت والذل للكفار من أسباب حجب ضررهم‬ ‫ضّروُكْم ِإ ّ‬‫ن َي ُ‬
‫تعالى ]َل ْ‬
‫عن المسلمين‪ ،‬وجعلهم عاجزين عن إلحاق الضرر بالمسلمين‪.‬‬
‫ومن اليات أن مصاديق الوعيد العاجلة لم تمنع من مصاديقه الجلة والعذاب المقيم‬
‫في الخرة‪ ،‬ويأتي القطع والكبت دعوة للكفار للسعي للسلمة من اللبث الدائم في‬
‫عذاب النار‪ ،‬لذا فمن إعجاز الية أنها أخبرت عن تعلق القطع بطرف من الكفار‪،‬‬
‫وليس جميعهم ليكون فيه للذين يبقون من الكفار إنذار مركب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬فقدانهم لطرف منهم‪.‬‬
‫الثاني‪:‬خسارتهم لصناديدهم في القتال‪.‬‬
‫الثالث‪:‬الخزي والذل الذي يلحق بهم‪.‬‬
‫ى ‪ ,‬ول تخلف إل‬ ‫الرابع‪:‬الخسارة في الموال ونفقات الحرب التي تذهب سد ّ‬
‫حَياةِ‬
‫ن ِفي َهِذِه اْل َ‬
‫ل َما ُيْنِفُقو َ‬ ‫الحسرة في نفوسهم وإزدياد اللوم بينهم‪ ،‬قال تعالى]َمَث ُ‬
‫سُهْم[) (‪.‬‬
‫‪613‬‬
‫ث َقْوٍم ظََلُموا َأْنُف َ‬
‫حْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫صاَب ْ‬ ‫صّر َأ َ‬
‫ح ِفيَها ِ‬ ‫ل ِري ٍ‬
‫الّدْنَيا َكَمَث ِ‬
‫بحث أصولي‬
‫من مباحث علم الصول أصل )الستصحاب( وهو الحكم ببقاء الشئ‪ ،‬وترتيب آثار‬
‫بقائه عند الشك فيه‪ ،‬وفي الحديث‪ :‬لتنقض اليقين بالشك(‪ ،‬وعليه مبنى العقلء‪.‬‬
‫ومن إعجاز القرآن أنه برزخ دون طرو الشك في قوانينه وأحكامه‪ ،‬وتأتي آيات‬
‫البشارة والنذار لتدفع مثل هذا الشك‪ ،‬وتجتمع في زيادة قوة المسلمين‪ ،‬والجهاز‬

‫‪()610‬أنظر السيرة النبوية ‪.3/122‬‬


‫‪()611‬سورة البقرة ‪.45‬‬
‫‪()612‬سورة آل عمران ‪.111‬‬
‫‪()613‬سورة آل عمران ‪.117‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫على الكفار بهلك بعض رؤوسهم وخيبتهم جميعًا‪ ،‬ورجوعهم من المعركة يحيط‬
‫بهم الخزي والخيبة ‪ ,‬وتتجلى المارات والدلة على تحقيق النصر في هذه اليات‬
‫على أقسام منها ‪:‬‬
‫الول‪ :‬آيات البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬اليات التي تتضمن الخبار عن حصول النصر للمسلمين قال تعالى ]َوَلَقْد‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪ ،(614‬ليكون الخبار عن النصر توكيدًا لتحقيق آيات‬ ‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫َن َ‬
‫البشارة‪ ،‬بالضافة إلى موضوعية الستصحاب الذي هو دليل عقلي بالصل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬آيات النذار والوعيد للكفار‪ ،‬ومن اليات الطلق الزماني في النذار وأنه‬
‫ل ينحصر بالحياة الدنيا بل يشمل عالم البرزخ واليوم الخر‪.‬‬
‫ومن العجاز في هذه الية انها جاءت بالقسام الثلثة أعله وهو دليل على أن كل‬
‫آية من القرآن خزينة علمية ‪ ,‬وبشارة للمسلمين في لغة الخطاب والمفهوم‪ ،‬فصحيح‬
‫أن موضوع الية محل البحث يتعلق بالكفار إل أنها جاءت خطابًا للمسلمين بلحاظ‬
‫نظم اليات‪ ،‬وفيه كبت إضافي للكفار إذ يرون المسلمين في غبطة وسعادة للبشارة‬
‫اللهية‪ ،‬وكيف أنها مدد وعون لهم‪ ،‬ويستصحبون النصر موضوعًا وحكمًا ‪.‬‬
‫أما إستصحاب الموضوع فهو على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬التشابه في طرفي القتال‪ ،‬فمشركوا قريش إنهزموا في معركة بدر وهم‬
‫أنفسهم جاءوا لمعركة أحد ‪,‬وخرج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‬
‫للقائهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬كان المسلمون في معركة بدر في ضعف ونقص من العدة والمؤونة‪.‬‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪.(615‬‬
‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫قال تعالى]َوَلَقْد َن َ‬
‫الثالث‪ :‬عدد جيش المشركين في معركة بدر ثلثة أضعاف جيش المسلمين‪ ،‬وكذا‬
‫في معركة أحد‪ ،‬وإن زاد عدد الجنود في الطرفين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬حضور وإشتراك النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في المعركتين‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬نزول الملئكة لنصرة المؤمنين‪.‬‬
‫وأما الستصحاب الحكمي فهو على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬مجئ النصر في معركة بدر من ال عز وجل‪ ،‬فيستصحب في معركة أحد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هزيمة الكفار في معركة بدر مع كثرتهم‪ ،‬وكذا في معركة أحد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬هلك صناديد الكفار في معركة بدر ‪ ،‬وجاءت هذه الية بالخبار عن تجدده‬
‫في معركة أحد والمعارك اللحقة ‪ ,‬وهو المستقرأ من صيغة الفعل المضارع ) أو‬
‫يكبتهم (‪.‬‬
‫ومع أن الصوليين ليقولون بالستصحاب القهقري‪ ،‬وهو إستصحاب اليقين اللحق‬
‫لنقض شك سابق ‪ ,‬كما لوعلمت اليوم أن زيدًا متزوج‪ ،‬فل نستصحب زواجه قبل‬

‫‪()614‬سورة آل عمران ‪.123‬‬


‫‪()615‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫سنة‪ ،‬فقد يكون زواجه حديثًا‪ ،‬إل أن الية القرآنية أعم في مضامينها من القواعد‬
‫الصولية‪.‬‬
‫فهذه الية الكريمة وإن جاءت في معركة أحد‪ ،‬إل أن الستصحاب القهقري يجري‬
‫فيما قبلها كمعركة بدر وأن ال عز وجل قطع فيها طرفًا من الكفار بإمتلء القليب‬
‫ل ونساًء‪ ،‬وجعلهم ال‬ ‫بجثث صناديدهم وأبطالهم‪ ،‬وأدخل الحزن في نفوسهم رجا ً‬
‫عز وجل ينهزمون خائبين عاجزين عن الوصول إلى النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم بسوء‪ ،‬ومحرومين من إستئصال المؤمنين من المهاجرين والنصار‪،‬‬
‫تاركين وراءهم عدتهم ومؤونتهم غنيمة للمسلمين‪.‬‬
‫ويستصحب المسلمون هذه الية ومضامينها القدسية إلى يوم القيامة فهي سلح‬
‫ومدد إلهي لهم وزاجر للكفار عن التعدي عليهم‪ ،‬ومن يتجرأ ويتعدى يجد مصاديق‬
‫هذه الية برجوعه خائبًا منكسرًا محرومًا‪.‬‬
‫بحث أخلقي‬
‫لقد جعل ال عز وجل القرآن جامعة الخلق الحميدة‪ ،‬والمدرسة الواقية من‬
‫الخلق المذمومة‪ ،‬وهو من أسرار تلوة آيات القرآن في الصلة اليومية على نحو‬
‫الوجوب والتعدد في كل صلة من الصلوات الخمسة‪ ،‬لما فيها من التدبر في الفعال‬
‫والسنن والقصص والمواعظ والحوادث‪ ،‬ومجئ القرآن بالثناء على المؤمنين الذين‬
‫ت ُقُلوُبُهْم‬
‫جَل ْ‬
‫ل وَ ِ‬
‫ن ِإَذا ُذِكَر ا ُّ‬
‫ن * اّلِذي َ‬
‫خِبِتي َ‬
‫شْر اْلُم ْ‬
‫يعملون الصالحات‪ ،‬قال تعالى ]َوَب ّ‬
‫صاَبُهْم[ )‪ ،(616‬لبيان محاسن الخلق وموضوعية الصبر‬ ‫عَلى َما َأ َ‬ ‫ن َ‬ ‫صاِبِري َ‬
‫َوال ّ‬
‫والصلة وإخراج الزكاة في إصلح النفوس وتهذيب المجتمعات‪.‬‬
‫ويملي ال للكافرين ويستدرجهم ويرزقهم من الطيبات‪ ،‬فينتفعون من خيرات‬
‫الرض‪ ،‬ويتمتعون بالطيبات وبدعاء النبياء كما في دعاء إبراهيم في الحرم‬
‫ت[)‪ ،(617‬ويجعلون هذه النعم في التعدي للسلم‪ ،‬ومحاربة‬ ‫ن الّثَمَرا ِ‬
‫ق َأْهَلُه ِم ْ‬
‫]َواْرُز ْ‬
‫النبي الذي جاء بالمعجزات الباهرات‪ ،‬ويدعوهم لما يكون سببًا لتمام النعمة عليهم‪،‬‬
‫والفوز بالخلود في النعيم‪ ،‬ولكنهم جحدوا بالمعجزات ليكون هذا الجحود أقبح‬
‫الفعال‪ ،‬ويأتي على تلك النعم وأنواع التمتع التي يعيشون‪ ،‬ويهلك طرفًا منهم‪.‬‬
‫ولم يجعل ال عز وجل فترة بين معركة أحد وبين القطع‪ ،‬أو مهلة يتدارك فيها‬
‫الكفار أمرهم‪ ،‬ويثوبون إلى الرشد‪ ،‬ويتبعون الحق‪ ،‬إذ أن هجومهم بالسيف على‬
‫المسلمين دليل على إستحواذ النفس الغضبية والسبعية الجاهلية‪ ،‬والنفعال للكفر‬
‫والجحود على نفوس الكفار‪.‬‬
‫وجاءت هذه الية لزجر الناس عن أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬الصرار على الكفر والجحود‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬العراض عن الدللت والعلمات التي تؤكد صدق نبوة محمد‪.‬‬

‫‪()616‬سورة الحج ‪.35-34‬‬


‫‪()617‬سورة البقرة ‪.126‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪:‬المتناع عن سماع آيات القرآن‪ ،‬وما فيها من العجاز والحكام‪ ،‬والشواهد‬
‫على صدق نزوله من عند ال‪.‬‬
‫ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى‬ ‫ل ِمّم ْ‬‫ضّ‬‫ن َأ َ‬ ‫الرابع‪ :‬إتباع الهوى‪ ،‬وملزمة عبادة الصنام ]َوَم ْ‬
‫ل[)‪.(618‬‬
‫ن ا ِّ‬
‫ِم ْ‬
‫ولم ينحصر هذا الزجر بالنذار والوعيد‪ ،‬بل تعلق بالبطش بالكفار وهلك قادة‬
‫وكبراء منهم‪.‬‬
‫ومن اليات أن هذا الهلك جاء على أيدي المسلمين الذين كانوا مستضعفين في‬
‫مكة‪ ،‬يتلقون صنوف العذاب من مشايخ قريش ذوي السطوة والهيبة في النفوس‪،‬‬
‫ن َكَفُروا[‪.‬‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫طَرًفا ِم ْ‬‫طَع َ‬‫والذي يدل عليه قوله تعالى في هذه الية]ِلَيْق َ‬
‫لتدل الية بالدللة اللتزامية على كسر شوكة الكفار‪ ،‬وسقوط هيبتهم من النفوس‪،‬‬
‫وبداية زوال سلطانهم وأيام الجاهلية ‪ ,‬وما يصاحبها من السجايا الرديئة‪ ،‬والعادات‬
‫القبيحة التي تترشح قهرًا وإنطباقًا عن الكفر وعبادة الوثان وما فيها من تفريط‬
‫بنعمة العقل‪ ،‬وتضييع لما جبلت عليه فطرة النسان‪.‬‬
‫وتطل بهذه الية إشراقة سماوية تكون تأسيسًا لعلم الخلق والسنن الفاضلة‪ ،‬وفيها‬
‫تهذيب للذات‪ ،‬وتنقيح للسان ‪.‬‬
‫وتدعو الية إلى الصلح والصلح بلغة التأديب والقطع للكفار‪ ،‬وإكرام المؤمنين‬
‫حَزُنوا[‬ ‫ل َت ْ‬
‫خاُفوا َو َ‬ ‫ل َت َ‬
‫والذب عنهم وهو من عمومات الخطاب القرآني للمسلمين ] ّ‬
‫)‪ ،(619‬لن قطع طرف من العدو الكافر مرة بعد أخرى سبب لبعث المن والسكينة‬
‫في النفوس‪ ،‬ومناسبة لتقويم السلوك‪ ،‬وتهذيب عالم الفعال‪ ،‬وتنمية ملكة التقوى التي‬
‫هي حرز من الخلق المذمومة‪ ،‬وواقية من الرذائل‪.‬‬
‫علم المناسبة‬
‫الكبت هو الذل والحزن‪ ،‬ومع أن القرآن جاء بالنذار والوعيد للكفار وعلى نحو‬
‫البيان والتفصيل فان مادة )كبت( لم تأت في القرآن إل ثلث مرات‪ ،‬وتتعلق‬
‫بموضوع واحد وهم الكفار‪ ،‬وجاءت في هذه الية من القرآن‪ ،‬ثم ذكرت مرتين في‬
‫آية واحدة‪ ،‬وهو نوع إعجاز إضافي للقرآن في باب اللفاظ وتكرارها‪ ،‬ودللت هذا‬
‫ن َقْبِلِهْم[‬
‫ن ِم ْ‬ ‫ت اّلِذي َ‬
‫سوَلُه ُكِبُتوا َكَما ُكِب َ‬
‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا َّ‬
‫حاّدو َ‬
‫ن ُي َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫التكرار‪ ،‬قال تعالى]ِإ ّ‬
‫)‪،(620‬وجاءت الية أعله بأمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬إصابة الذين يحاربون النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بالذل والخزي‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬توكيد مضامين الية محل البحث والتي نزلت في السنة الثالثة للهجرة وفي‬
‫ميدان القتال‪ ،‬ويوم اللقاء مع الكفار‪ ،‬بينما جاءت الية أعله لبيان الحكام بعد‬
‫إستقرار دولة السلم ودفع شر وكيد كفار قريش‪.‬‬

‫‪()618‬سورة القصص ‪.50‬‬


‫‪()619‬سورة فصلت ‪.30‬‬
‫‪()620‬سورة المجادلة ‪.5‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪:‬جاءت الية أعله بصيغة الفعل الماضي)كبتوا( بينما جاءت الية محل‬
‫البحث بصيغة الفعل المضارع‪ ،‬مما يدل على تحقق الكبت والذل للكفار بفتح مكة‪،‬‬
‫وظهور المسلمين عليهم في المعارك المتعاقبة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬في الجمع بين اليتين دعوة للمسلمين للتوجه إلى ال عز وجل بالشكر‬
‫والثناء لدللة الية أعله على الوعد الكريم الذي ورد في الية محل البحث بكبت‬
‫وذل ووهن الكفار‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الية دعوة للعلماء والباحثين لتلمس وبيان الشواهد والحجج الواضحات‬
‫التي تدل على كبت وخزي الكفار‪ ،‬وقطع طرف أو أطراف منهم في الفترة بين‬
‫واقعة أحد وفتح مكة‪ ،‬ومنها خزيهم في كل من معركة بدر وأحد والخندق‪ ،‬والقضاء‬
‫على الكفر بتنزيه الحرم ومكة منه‪ ،‬ليكون من مصاديق كبتهم نشر المن بالسلم‬
‫ن آِمًنا[)‪ ،(621‬ويكون فتح مكة عنوانًا للمن‬ ‫خَلُه َكا َ‬
‫ن َد َ‬
‫في ربوع مكة ‪ ,‬قال تعالى]َوَم ْ‬
‫للمسلمين والسلم‪.‬‬
‫وصحيح أن المتبادر في الية أعله هو القضية الشخصية ودخول الفراد‬
‫والجماعة البيت الحرام‪ ،‬إل أنه ل يمنع من إرادة الطائفة والمة من المؤمنين وذات‬
‫الملة السماوية‪ ،‬وصار فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة أمنًا للسلم ولكلمة‬
‫التوحيد التي دخلت مكة‪ ،‬لتبقى إلى يوم القيامة ‪ ,‬وتلك آية إعجازية في مفاهيم‬
‫القرآن وسعتها‪ ،‬وتعدد مصاديقها‪ ،‬ومعاني الفضل اللهي في ثناياها والمترشح‬
‫عنها‪.‬‬
‫وجاءت الية من سورة المجادلة بالتشبيه والمماثلة بين ما لقاه كفار قريش‪ ،‬وما‬
‫أصاب الكفار في المم والحقاب السابقة‪ ،‬وفيه آية إعجازية وشاهد بإتحاد‬
‫الموضوع والحكم‪ ،‬وأن ال عز وجل ينصر أنبياءه والذين آمنوا في الحياة الدنيا‪،‬‬
‫ول يترك الكفار يعيثون في الرض فسادًا‪ ،‬ويتمادون في الغي والتعدي والظلم‪.‬‬
‫ومن إعجاز القرآن كثرة اليات التي تحكي ما لقاه الطواغيت والكفار عمومًا من‬
‫العذاب المهين مثل فرعون الذي هلك هو وجنوده في أليم‪ ،‬وقوم نوح وقوم صالح‬
‫ن َقْبِلُكْم َلّما‬
‫ن ِم ْ‬ ‫وقوم لوط وقوم هود ممن كذبوا الرسل‪ ،‬قال تعالى]َوَلَقْد َأْهَلْكَنا اْلُقُرو َ‬
‫ظَلُموا[)‪.(622‬‬‫َ‬
‫وجاءت خاتمة الية أعله من سورة المجادلة بالوعيد للكفار مطلقًا ]َوِلْلَكاِفِري َ‬
‫ن‬
‫ن[)‪ ،(623‬في إشارة إلى أن الكبت والذل الذي يلحق الكفارعلى وجوه‪:‬‬ ‫ب ُمِهي ٌ‬
‫عَذا ٌ‬
‫َ‬
‫الول‪:‬الطرف من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪:‬ميادين القتال‪.‬‬
‫الثالث‪:‬الذين يحاربون النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الكبت في الحياة الدينا‪.‬‬
‫‪()621‬سورة آل عمران ‪.97‬‬
‫‪()622‬سورة يونس ‪.12‬‬
‫‪()623‬سورة المجادلة ‪.5‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الخامس‪ :‬الذل والعذاب في الحياة الخرة‪.‬‬
‫فجاءت خاتمة الية أعله بالنذار والوعيد للكفار مطلقًا‪ ،‬وأن العذاب الذي ينتظرهم‬
‫أشد من الكبت والذل وقطع الطرف‪ ،‬فهو الخلود في النار يوم القيامة‪ ،‬ويكون الذل‬
‫والخزي مما يتفرع عن العذاب الخروي‪.‬‬
‫ولم يرد الكبت في القرآن إل بخصوص الكفار‪.‬‬
‫قانون"بين القطع والكبت’’‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫طَرًفا ِم ْ‬
‫طَع َ‬
‫جاء هذا الشطر من الية بالعطف والترديد على قوله تعالى ]ِلَيْق َ‬
‫َكَفُروا[ لبيان أن النسبة بين القطع والكبت الواردين في الية عموم وخصوص من‬
‫وجه‪ ،‬وبينهما مادة لللتقاء وأخرى للفتراق‪ ،‬ومادة اللتقاء من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬تعلق كل من القطع والكبت بالكفار على نحو التعيين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬القطع والكبت إنذار وتخويف للكفار‪ ،‬سواء على نحو الجتماع أو التفرق‬
‫طْغَياًنا َكِبيًرا[)‪.(624‬‬ ‫ل ُ‬‫خّوُفُهْم َفَما َيِزيُدُهْم ِإ ّ‬
‫قال تعالى ] َوُن َ‬
‫الثالث‪ :‬لم يفلت الكفار الذين يحاربون النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من‬
‫أمرين إما القطع وإما الكبت‪ ،‬وكل واحد منهما أذى وضرر كبير‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬توكيد سوء عاقبة الكفار‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬ترشح القطع والكبت عن التعدي على السلم وقتال المسلمين‪.‬‬
‫أما مادة الفتراق ‪ ,‬فهي من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬القطع أشد وأعظم من الكبت‪.‬‬
‫للثاني‪ :‬الكبت أعم من القطع‪ ،‬لن القطع والهلك يصيب طرفًا من الكفار‪ ،‬أما‬
‫الكبت والخزي فيأتي على الكفار جميعًا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬القطع والهلك آية ظاهرة للعيان‪ ،‬كما في قتل صناديد قريش في معركة‬
‫بدر‪ ،‬والكبت حزن يمل نفوس الكفار‪.‬‬
‫ومع أن الية جاءت بالترديد بين القطع والكبت إل أن كل واحد منهما سبب وعلة‬
‫للخر من غير أن يلزم الدور وتوقف أحدهما على الخر‪ ،‬بل يكون المعلول للخر‬
‫موضوعًا إضافيًا ‪ ,‬فالقطع الذي يترشح عن الكبت غير القطع الذي يأتي للكفار‬
‫إبتداء بما يدل على إجتماع قطعين‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما يأتي بالذات والصل‪.‬‬
‫الثاني‪:‬الذي يأتي عرضًا ويترشح عن الكبت‪.‬‬
‫وكذا بالنسبة للكبت والحزن الذي يلحق الكفار فانه على قسمين‪:‬‬
‫الول‪ :‬الذي جاءت به هذه الية بقوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الذي يأتي عرضًا بالترشح عن القطع والهلك الذي يصيب الكفار‪ ،‬ول‬
‫ينحصر القطع والكبت الذي يأتي للكفار بهذه القسام ‪ ،‬لن إثبات شئ لشئ ليدل‬
‫على نفيه عن غيره‪ ،‬فانهما مترشحان عن القبح الذاتي للكفر‪ ،‬والصرار عليه‪،‬‬
‫وطول القامة والتلبس بمفاهيمه الخاطئة‪.‬‬
‫‪()624‬سورة السراء ‪.60‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وجاءت الية بتقدم القطع على الكبت‪ ،‬وهو إعجاز إضافي لها فلم تقل الية )ليكبت‬
‫الكفار أو يقطع طرفًا منهم( وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬تقدم القطع زيادة في إنذار الكفار‪ ،‬وتوبيخ إضافي لهم‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬يحتاج المسلمون النصرة يوم أحد بقطع وهلك رؤوس من الكفار وصرف‬
‫أذاهم‪ ،‬فجاءت الية بتقديم أسباب سلمة المسلمين ‪ ،‬ومقدمات نصرهم‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬الية من عمومات تقديم الهم على المهم‪ ،‬إذ أن قطع وهلك الكفار هو‬
‫الهم في المقام‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬بعث السكينة في نفوس المسلمين‪ ،‬بإخبارهم عما يكون سبباً لخسارة الكفار‬
‫المعركة‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬منع تسرب الخوف والحزن إلى نفوس المسلمين ‪ ،‬قال تعالى]َفَأْنَز َ‬
‫ل‬
‫حا َقِريًبا[)‪.(625‬‬
‫عَلْيِهْم َوَأَثاَبُهْم َفْت ً‬
‫سِكيَنَة َ‬
‫ال ّ‬
‫السادسة ‪:‬القطع أمر حاضر في ميدان المعركة‪ ،‬والكبت والحزن عام يشمل الكفار‬
‫ل ونساء‪ ،‬ويأتي شطر منه بعد تحقق نصر المسلمين‪ ،‬وقطع وهلك طائفة من‬ ‫رجا ً‬
‫الكفار‪.‬‬
‫السابعة ‪ :‬بيان الثر العملي الحال لنزول الملئكة مددًا‪ ،‬بأن يهلك صناديد الكفار‪،‬‬
‫ويكون هذا الهلك سببًا لترسيخ حال الحزن والكبت عند الكفار‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬القطع بالطرف والكفار الذين يلون المسلمين ويعتدون عليهم‪ ،‬ويكّذبون ببعثة‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬ويصدون الناس عن التصديق بنبوته‪ ،‬أما‬
‫الكبت فهو عام يشمل الكفار جميعًا‪ ،‬وكأنه من تقديم الخاص على العام‪.‬‬
‫التاسعة‪:‬بيان بطش ال عز وجل بالكفار‪ ،‬وأول ما ينزل بهم هو القطع والهلك‪.‬‬
‫العاشرة‪ :‬إبتداء نزول القطع كعذاب بالكفار مناسبة وعبرة للباقين منهم للتوبة‬
‫والنابة وإصلح الذات بلحاظ أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬هلك رؤوس من الكفار شاهد على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬في قطع وهلك صناديد الكفار دليل على صدق نزول الملئكة لنصرة النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه الذين كانوا في حال ضعف وقلة ونقص‬
‫في العدة والمؤونة ‪.‬‬
‫الثالث‪:‬رؤية الكفار هلك أبطالهم في ميدان المعركة شاهد على صدق نزول هذه‬
‫الية من عند ال‪ ،‬وأن القرآن حق‪.‬‬
‫وتبين الية أن العذاب ينزل على الكفار عمومًا لعتدائهم على المسلمين‪ ،‬ولكن هذا‬
‫العذاب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وأشده هو القطع والهلك‬
‫الذي ينزل على الطرف الذي يلي المسلمين ويهجهم عليهم ‪ ,‬ويتعدى على حرماتهم‪.‬‬

‫قانون" إجتماع القطع والكبت’’‬


‫‪()625‬سورة الفتح ‪.18‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫لقد جعل ال عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلء ‪ ,‬ومرآة لعالم الخرة وعالم‬
‫الثواب والعقاب‪ ،‬ومن اليات أن البتلء فيها ليس على كيفية واحدة فهو متعدد‬
‫الكيفيات والصيغ والمواضيع ‪ ,‬ولكنه يتضمن ضابطة كلية وهي التباين والتضاد‬
‫بين نوع إبتلء المؤمنين‪ ،‬وإبتلء الكفار موضوعًا وحكمًا وأثرًا ‪.‬‬
‫إذ يمد ال عز وجل المؤمنين بأسباب التوفيق والنجاح‪ ،‬ويقرب لهم سبل الفلح‬
‫ويهديهم إلى الستعانة بالصبر‪ ،‬وتكون لهم الفرائض العبادية ضياء وواقية‪ ،‬أما‬
‫الكفار فانهم يبتلون بالذى والعناء ‪ ,‬وتأتيهم النعم ولكنه يكون نوع إستدراج لهم‪،‬‬
‫ومقدمة للعذاب لنهم ليعملون بما أمرهم ال‪ ،‬قال سبحانه]ِإّنَما ُنْمِلي َلُهْم ِلَيْزَداُدوا‬
‫ِإْثًما[ )‪.(626‬‬
‫وقال مقاتل‪ :‬نزلت الية أعله بمشركي مكة‪ ،‬بخروجهم سالمين من معركة أحد‪،‬‬
‫وإطالة أعمارهم‪ ،‬وترك الملئكة والمؤمنين قتلهم يومئذ‪ ،‬في وقت أستشهد فيه عدد‬
‫من المسلمين‪ ،‬فان بقاء الكفار وعدم تعجيل العقوبة لهم إستدراج لهم ‪ ,‬وزيادة في‬
‫الحجة عليهم بتعديهم على السلم‪ ،‬وتحريضهم على قتال النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وإصرارهم على الكفر‪ ،‬وجحودهم بالمعجزات‪.‬‬
‫ول تعارض بين زيادة الثم في الية أعله‪ ،‬وبين الكبت الوارد في الية محل‬
‫البحث ‪ ,‬وإن جاء كل واحد منهما بلم العاقبة إذ يفيد الجمع بين اليتين إجتماع‬
‫المرين معًا‪ ،‬فيزداد الكفار إثمًا إلى جانب حال الذل التي هم عليها‪ ،‬وتلك آية في‬
‫نوع البتلء الذي يمتحن به الكفار‪ ،‬وليكون الكبت هنا نوع رحمة بهم في الحياة‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫وفي ماهية هذه الرحمة مسائل‪:‬‬
‫ن َأْم‬‫ن اْلُقْرآ َ‬ ‫ل َيَتَدّبُرو َ‬
‫الولى‪ :‬إنها دعوة للكفار للتدبر بالنبوة والتنزيل‪ ،‬قال تعالى ]َأَف َ‬
‫ب َأْقَفاُلَها[)‪.(627‬‬
‫عَلى ُقُلو ٍ‬‫َ‬
‫الثانية‪ :‬زجر الكفار عن مواصلة الهجوم على المسلمين‪ ،‬وتجهيز الجيوش ضدهم‪.‬‬
‫ب َلَعّلُهْم‬
‫خْذَناُهْم ِباْلَعَذا ِ‬
‫الثالثة‪ :‬منع الكفار من الغي والتعدي والظلم‪ ،‬قال تعالى]َوَأ َ‬
‫ن[)‪.(628‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫َيْر ِ‬
‫الرابعة‪ :‬التخفيف عن المسلمين‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬جعل الكفار منشغلين بأنفسهم‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬إزدياد الثم نوع ذل إضافي للكفار خصوصًا مع آيات الوعد والوعيد‪،‬‬
‫والبشارة والنذار‪ ،‬وإدراكهم الحرمان من آيات البشارة وما فيها من الوعد الكريم‬
‫للمؤمنين‪ ،‬وعدم إنتفاعهم من آيات النذار‪ ،‬وما تتضمنه من الخبار عن القامة‬
‫بالعذاب الليم في الخرة‪.‬‬

‫‪()626‬سورة آل عمران ‪.178‬‬


‫‪()627‬سورة محمد ‪.48‬‬
‫‪()628‬سورة الزخرف ‪.48‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وكما تتعدد نعم ال عز وجل على المسلمين في ميادين القتال‪ ،‬ويرزقون النصر‬
‫والغلبة‪ ،‬ويرجعون برسول ال صلى ال عليه وآله وسلم ويجلبون معهم الغنائم‪،‬‬
‫ويفوز بالسعادة البدية الذي يقتل منهم‪ ،‬فان الضرر والذى يتعدد على الكفار‪،‬‬
‫فيصاب شطر من قادتهم في المعركة‪ ،‬وقليب بدر من الشواهد التأريخية عليه‪ ،‬إذ‬
‫أمر رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم أن يطرح قتلى قريش يومئذ في القليب‪،‬‬
‫وهي البئر لم تطو‪.‬‬
‫قال إبن اسحاق‪ :‬وحدثني حميد الطويل‪ ،‬عن أنس بن مالك‪ ،‬قال‪ :‬سمع أصحاب‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم رسول ال من جوف الليل وهو يقول " يا أهل القليب‪ ،‬يا‬
‫عتبة بن ربيعة‪ ،‬ويا شيبة بن ربيعة‪ ،‬ويا أمية بن خلف‪ ،‬ويا أبا جهل بن هشام‪ ،‬فعدد‬
‫من كان منهم في القليب‪ ،‬هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدني‬
‫ربى حقًا‪ ،‬فقال المسلمون‪ :‬يا رسول ال أتنادي قوما قد جيفوا ‪.‬فقال‪ :‬ما أنتم بأسمع‬
‫لما أقول منهم‪ ،‬ولكنهم ل يستطيعون أن يجيبوني)‪.(629‬‬
‫ليجتمع القطع والكبت والخزي على الكفار‪ ،‬وليلحق الخزي بين الناس الذين قتلوا‬
‫منهم‪ ،‬فيخاطبهم رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم بلغة التبكيت والتوبيخ‪،‬‬
‫وبمسمع من الصحابة ليكون هذا الخطاب وثيقة تأريخية تبين سخط النبوة على‬
‫رؤس الكفر الذين أصروا على محاربتها‪ ،‬فمجئ القطع والهلك لهم لم ينجهم من‬
‫الكبت والذل والحزن‪.‬‬
‫فان قلت إن مجئ الية بحرف التخيير )أو( يدل على الترديد بينهما‪ ،‬فاما القطع‬
‫وأما الكبت‪.‬‬
‫والجواب جاءت الية لبيان ما يلحق الكفار ساعة المعركة‪ ،‬بحيث ل يسلم واحد‬
‫منهم من أحد المرين أعله‪ ،‬ولكنه ل يمنع من لحوق وتبعية الذل للقطع‪ ،‬وكذا‬
‫العكس أي تبعية القطع للذل‪.‬‬
‫ومع أن الموت خاتمة الحياة فكل إبن آدم ينتظره الموت ‪ ,‬وان طالت أيامه في‬
‫الدنيا‪ ،‬فقد أخبت الية عن قطع طائفة من الكفار للدللة على هلك فريق منهم قبل‬
‫أوانهم‪ ،‬وسعيهم بإختيارهم لحتفهم‪ ،‬وجلبهم الخزي والذل لنفسهم‪ ،‬ليجتمع القطع‬
‫والخزي الذي يلحقهم في دعوة الناس للسلم‪ ،‬والزجر عن البقاء في منازل الكفر‬
‫التي ل تأتي للمقيم فيها إل بالذى والضرر العاجل والجل‪ ،‬والدنيوي والخروي‪،‬‬
‫بمعنى عدم تعلق الجل منه بعالم الخرة بل يشمل أيام الحياة الدنيا لنفرة النفوس‬
‫من الكفر والصرار على محاربة النبوة وإنكار المعجزات والخروج لقتال المؤمنين‬
‫ومبارزتهم في ميادين القتال‪.‬‬
‫وإجتماع القطع والكبت مدد إضافي وعون ظاهر للمسلمين في ميادين القتال‪ ،‬وفي‬
‫حال السلم‪ ،‬وسبب للمن من مباغتة العدو ‪.‬‬
‫وأي من المور التالية أشد على الكفار ‪:‬‬
‫الول‪ :‬قطع طرف منهم‪.‬‬
‫‪()629‬السيرة النبوية لبن كثير ‪.245-2/244‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬كبت الكفار الذين يعتدون على المسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬كبت عموم الكفار‪.‬‬
‫الجواب كل أمر منها هو الشد في أوانه وأثره ‪ ,‬وليس من حصر لفرد ثابت منها‬
‫يكون أشد على الكفار بل يتعلق المر بالحال ومناسبة الموضوع والحكم‪ ،‬فقد يكون‬
‫القطع هو الشد عند المواجهة والقتال لما فيه من هلك لرجالهم ‪ ,‬ومقدمة لهزيمتهم‬
‫وخسارتهم‪.‬‬
‫وقد يكون الكبت هو الشد وذلك عند الرجوع من المعركة بخيبة‪ ،‬وفي حال السلم‪،‬‬
‫ومن اليات أن القطع يلحق الكفار في حال السلم والحضر أيضًا وقد منعت قريش‬
‫النياحة على قتلى بدر لكيل يقنطوا أو ينشغلوا عن الثأر والنتقام‪ ،‬نعم القطع أظهر‬
‫جُدوا‬
‫ن اْلُكّفاِر َوْلَي ِ‬
‫ن َيُلوَنُكْم ِم ْ‬
‫حجة‪ ،‬وأسرع أثرًا ونفعًا ‪ ,‬لذا قال ال تعالى ]َقاِتُلوا اّلِذي َ‬
‫ظًة[ )‪.(630‬‬
‫غْل َ‬
‫ِفيُكْم ِ‬
‫بحث بلغي‬
‫من إعجاز القرآن تعدد معاني ومضامين الكلمة الواحدة‪ ،‬فجاءت كلمة )يكبتهم( من‬
‫فعل وفاعل ومفعول به‪ ،‬مع خلوها من اللبس والترديد‪ ،‬وهي حكم وجزاء يحتاج‬
‫إليه الناس للعتبار والتعاظ‪.‬‬
‫وقد جاء الفعل)يكبت( بصيغة الفعل المضارع التي تدل على الحدوث والتجدد من‬
‫جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬كلما برز الكفار لقتال المسلمين لحقهم الكبت‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬يأتي الكبت على نحو مستحدث وطارئ‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬يترشح كبت الكفار في كل نصر جديد يحرزه المؤمنون‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬تعدد وكثرة السباب التي يأتي منها الكبت والذل للكفار‪ ،‬منها أمور‪:‬‬
‫الول‪:‬دخول الفراد والجماعات للسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬خروج النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم سالمًا من المعركة ويحيط به‬
‫أصحابه باللوية البيضاء والسوداء‪ ،‬والرايات ذات اللوان البهيجة التي تعطي‬
‫دللت على قبائل ونسب الصحابة‪ ،‬وفخرهم وإعتزازهم بنصرتهم للنبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلن ودعوة لخوانهم وقبائلهم للحوق بهم‪.‬‬
‫الثالث‪:‬توالي نزول آيات القرآن‪ ،‬إذ أن الية القرآنية لها موضوع وتكون حكمًا‬
‫بذاتها‪ ،‬وتترشح عنها منافع وفوائد أكثر من أن تحصى ‪ ,‬وتساهم في قطع طرف‬
‫من الكفار‪ ،‬وذلهم وكبتهم وإستبانة أسبابه‪ ،‬سواء حال النزول أو مع تقادم اليام‬
‫وتعاقب الجيال ‪ ,‬وهو من أسرار القرآن كوثيقة سماوية سالمة من التحريف‪.‬‬
‫فكما أن نزو ل الية القرآنية حرب على الكفار‪ ،‬فان أثرها المتصل في النفوس‬
‫والمجتمعات‪ ،‬وتجلي مصاديق مضامينها في الواقع الخارجي حجة عليهم‪ ،‬وسبب‬
‫لدخول الحزن إلى نفوسهم‪ ،‬وجذب للناس جميعًا لمنازل الهداية واليمان‪.‬‬

‫‪()630‬سورة التوبة ‪.123‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ومع الفعل المضارع تتضمن الية الفاعل‪ ،‬ولم يذكر في المنطوق‪ ،‬ولكنه ظاهر في‬
‫المعنى والمفهوم‪.‬‬
‫وصحيح أن نظم اليات وما سبق منها يدل على أن الفاعل هو ال عز وجل وفق‬
‫الصناعة النحوية‪ ،‬إل أن هناك أمارة كلمية تحصر المر بال عز وجل وهي أنه‬
‫ل يستطيع أحد قطع طرف من الكفار وكبتهم وإلحاق الذل والخزي بهم إل ال عز‬
‫ض ِإَلٌه َوُهَو‬
‫سَماِء ِإَلٌه َوِفي الَْر ِ‬ ‫وجل‪ ،‬وهو من مصاديق قوله تعالى]َوُهَو اّلِذي ِفي ال ّ‬
‫حِكيُم اْلَعِليُم[)‪.(631‬‬‫اْل َ‬
‫وجاءت آيات القرآن بالدللة على أن المر والمشيئة بيد ال وحده سبحانه‪ ،‬فمن‬
‫رحمة ال عز وجل بعباده مطلقًا البر والفاجر‪ ،‬عدم قدرة غيره سبحانه على إنزال‬
‫القطع العام بطائفة من الناس‪ ،‬لنه حكم من الرادة التكوينية وفرع الربوبية المطلقة‬
‫ل سبحانه على الخلئق كلها‪.‬‬
‫ولم يأت هذا القطع إل بعد النذار المتكرر‪ ،‬والشواهد والمعجزات التي تدل على‬
‫قبح البقاء على الكفر في زمان بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الذي أراد‬
‫ال عز وجل له أن يكون بداية النعطاف في تأريخ النسانية نحو ثبات مبادئ‬
‫حّ‬
‫ق‬ ‫ن اْل َ‬
‫سوَلُه ِباْلُهَدى َوِدي ِ‬
‫ل َر ُ‬‫سَ‬‫التوحيد إلى يوم القيامة ‪ ,‬قال تعالى ]ُهوَ اّلِذي َأْر َ‬
‫ن ُكّلِه[)‪ ،(632‬ولبيان أن العلة الفاعلية بيد ال سبحانه‪ ،‬ومن‬ ‫عَلى الّدي ِ‬ ‫ظِهَرُه َ‬
‫ِلُي ْ‬
‫خصائصها عدم إستطاعة الكفار الهرب من القطع‪ ،‬والفرار من الكبت‪ ،‬فهو يدخل‬
‫إلى بيوتهم ومنتدياتهم وينفذ إلى نفوسهم لتمتل بالحسرة والحزن‪.‬‬
‫وجاء الضمير )الهاء( لفادة المفعول به‪ ،‬ويتضمن معنى العموم لصالة الطلق ‪,‬‬
‫ونزول العذاب بالكفار عامة وهو على أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬الكبت الشخصي الذي يصيب الفرد من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الكبت والذل العام الذي يأتي للكفار على نحو العموم المجموعي‬
‫والستغراقي‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إجتماع الكبت الشخصي والعام في الثر والتأثير ‪ ,‬وأخذ الكفار بأشد‬
‫الحوال‪.‬‬
‫قوله تعالى]َفَيْنَقِلُبوا[‬
‫تتألف هذه الية من أركان أربعة ‪ ,‬وكل مصداق لي فرد منها معجزة حسية للنبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ,‬وتتصف هذه المصاديق بأنها متجددة ‪ ,‬وهذه‬
‫الركان هي ‪:‬‬
‫الول‪ :‬قطع طرف من الكفار‪ ،‬وهلك بعض رؤسائهم‪ ،‬وإبانة طائفة منهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إصابة عموم الكفار بالذل والحزن والكبت‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إنصراف الكفار من المعركة منهزمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬حرمان الكفار من الظفر ونيل ما جاءوا من أجله‪.‬‬
‫‪()631‬سورة الزخرف ‪.84‬‬
‫‪ ()632‬سورة الفتح ‪.28‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ومن إعجاز الية في المقام وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إجتماع هذه الركان في الية مع قلة كلماتها‪ ،‬فكل كلمة أو كلمتين مدرسة‬
‫عقائدية تبين البطش اللهي العاجل بالكفار‪ ،‬وجاءت آيات القرآن بالنذار والوعيد‬
‫في الخرة‪ ،‬وترى بعض الكفار يتلقى آيات الوعيد بالخلود بالنار بالجحود بالمعاد‪،‬‬
‫ل الّدْهُر[)‪.(633‬‬ ‫حَيا َوَما ُيْهِلُكَنا ِإ ّ‬
‫ت َوَن ْ‬
‫حَياُتَنا الّدْنَيا َنُمو ُ‬
‫ل َ‬‫ي ِإ ّ‬ ‫قال تعالى]َوَقاُلوا َما ِه َ‬
‫وكان الكفار ينسبون موتهم إلى تعاقب الليل والنهار‪ ،‬وعجز البدن عن مقاومة‬
‫مؤثرات الزمان ول يقرون بملك الموت وقبضه للرواح‪ ،‬لذا جاءت اليات بلزوم‬
‫لِئَكِتِه َوُكُتِبِه‬
‫ل َوَم َ‬‫ن َيْكُفْر ِبا ِّ‬ ‫اليمان بالملئكة‪،‬في آيات عديدة منها قوله تعالى ]َوَم ْ‬
‫خِر[)‪. (634‬‬ ‫سِلِه َواْلَيْوِم ال ِ‬
‫َوُر ُ‬
‫ل وإستكبارًا منهم ‪ ,‬وورد عن النبي محمد‬ ‫وكانوا يضيفون الحوادث للدهر‪،‬جه ً‬
‫ل ُهَو الّدْهُر( ) (‪ ،‬أي أن ال عز وجل‬ ‫‪635‬‬
‫ن ا َّ‬
‫سّبوا الّدْهَر َفِإ ّ‬‫ل َت ُ‬ ‫صلى ال عليه وسلم ) َ‬
‫هو الذي يقدر المور‪ ،‬ويجري الحوادث‪.‬‬
‫وجاءت الية محل البحث لبيان نزول العذاب العاجل بالكفار‪ ،‬وإنعدام الفترة بين‬
‫تعديهم وقتالهم للمسلمين وبين نزول البلء بهم‪.‬‬
‫ل لما‬ ‫الثاني‪ :‬تعدد وجوه وضروب العذاب العاجل النازل بالكفار‪ ،‬ليكون مرآة ومثا ً‬
‫يلقونه يوم القيامة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬بيان حقيقة وهي تغشي العذاب للكفار على نحو العموم الستغراقي‬
‫والمجموعي‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يواجه الكافر الذي ينجو من القطع الكبت والذل والهوان‪ ،‬ويرجع بالخيبة‬
‫والحرمان‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬تفيد الية في أطرافها الربعة القطع بعدم حصول الكفار على بغيتهم‪،‬‬
‫وعجزهم عن الظفر بغايتهم من إستئصال المؤمنين‪.‬‬
‫وتدل الية على الملزمة بين الكبت والنقلب بحسرة وحرمان‪ ،‬وترشح هذا‬
‫النقلب عن الكبت والحزن والذل‪ ،‬وكأنه من العلة والمعلول‪ ،‬وعدم تخلف المعلول‬
‫عن علته‪ ،‬فمع الكبت والذل يكون أمران‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنصراف الكفار ورجوعهم إلى أهليهم‪ ،‬وعدم بقائهم مشرفين على المدينة‬
‫يواصلون التهديد والتخويف‪ ،‬وما يسببه هذا التهديد من تعطيل للعمال‪ ،‬وبعث‬
‫للخوف‪ ،‬وبذل المسلمين الوسع للحيطة والحذر والمرابطة ‪ ،‬فما أن تنقضي المعركة‬
‫حتى يولي الكفار وجوههم ليلوون على شئ إلى أن يدخلوا بيوتهم ‪ ,‬وهو من‬
‫ن[‪.‬‬‫خاِئِبي َ‬
‫مصاديق خاتمة الية ]َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫الثاني‪ :‬إقتران الرجوع بالخيبة والحرمان‪ ،‬لتكون العاقبة العاجلة للكفار‪ ,‬على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الكبت والذل والهزيمة‪.‬‬
‫‪()633‬سورة الجاثية ‪.24‬‬
‫‪()634‬سورة النساء ‪.136‬‬
‫‪()635‬سنن البيهقي ‪.2/69‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬النقص الظاهر في رجالهم ‪ ,‬وتعلق هذا النقص بالبطال منهم ‪ ,‬ليكون أبلغ‬
‫في الحجة والبرهان‬
‫ن ُيَقاِتُلوكُْم ُيَوّلوُكْم‬
‫الثالث ‪ :‬النقلب والنصراف القهري من ساحة المعركة]َوِإ ْ‬
‫لْدَباَر[)‪.(636‬‬ ‫اَ‬
‫فل يستطيع الكفار البقاء في ميدان المعركة ول المرابطة والمطاولة والصبر‪،‬‬
‫وتجلى هذا المر في معارك السلم الولى‪ ،‬من جهات ‪:‬‬
‫الولى‪ :‬لجوء الكفار إلى الفرار والهزيمة عند إبتداء معركة بدر‪ ،‬وهجوم المسلمين‬
‫عليهم‪ ،‬مع كثرة عدد الكفار وخيلهم وسلحهم وعدتهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬جاء الكفار في معركة أحد طلبًا للثأر مع التعاظ من تجربة معركة بدر وما‬
‫ل بهم من الكبت والخزي‪ ،‬وإستعدوا للمعركة بثلثة أضعاف عددهم في معركة‬ ‫حّ‬
‫بدر كما تقدم ذكره‪ ،‬وجاءوا بنساء قريش لضرب الدفوف‪ ,‬ونظم الشعر‪ ،‬وشد‬
‫العزائم‪.‬‬
‫وما إن بدأت المعركة حتى التجأوا للهزيمة والفرار‪ ،‬وإنقسمت النسوة بين مولولة‬
‫خائفة‪ ،‬وبين التي تهجو المشركين على فرارهم‪ ،‬وخفتت أصوات الطبول ‪ ،‬وعلت‬
‫صيحات ال أكبر ‪ ,‬ومع حصول ثغرة الجبل وهزيمة الشطر الكبر من المؤمنين‬
‫فان النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم بقى في مكانه وسط المعركة إلى أن‬
‫رجع له أصحابه وقاتلوا والملئكة دونه‪ ،‬أما الكفار فلم يصبروا في المعركة بل‬
‫إنسحبوا منهزمين ‪ ,‬وليس عندهم إمام يذبون عنه ‪ ,‬أو يلوذون به‪ ،‬قال المام علي‬
‫)كنا إذا إشتد البأس ‪ ،‬وحمى الوطيس اتقينا برسول ال صلى ال عليه وآله ولذنا‬
‫به)‪.(637‬‬
‫ومن اليات أن الكفار لموا أنفسهم حين الهزيمة وأرادوا الرجوع إلى المعركة‬
‫ولكن الكبت والذل يمل نفوسهم‪ ،‬والملئكة لهم بالمرصاد ‪ ,‬قال تعالى]َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫ن‬
‫لِئَكِة[ )‪.(638‬‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬
‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬
‫َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫الثالثة‪ :‬جاء الكفار في السنة الخامسة للهجرة بجيوش عظيمة ‪ ,‬فأحاطوا بالمدينة ول‬
‫يفصل بينهم وبين المؤمنين إل خندق‪ ،‬فكان مصداقًا وسلحًا لنزول الكبت بالكفار‬
‫للحيلولة دون تحقيق رغائبهم في الجهاز على المسلمين‪ ،‬والثأر لقتلهم وهيبتهم في‬
‫معركة بدر وأحد‪ ،‬وتلحظ الزيادة البيانية المتصاعدة في عدد جيوش الكفار‪ ،‬على‬
‫وجوه ‪:‬‬
‫الول‪ :‬ألف رجل في معركة بدر السنة الثانية للهجرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ثلثة آلف في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬عشرة آلف في معركة الحزاب وهي ذاتها الخندق ‪.‬‬

‫‪()636‬سورة آل عمران ‪.111‬‬


‫‪() 637‬ابن أبي الحديد‪ /‬شرح نهج البلغة ‪.13/279‬‬
‫‪()638‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ثم عجزوا بعدها عن صد النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في السنة السادسة‬
‫عندما توجه وأصحابه إلى العمرة‪ ،‬وكان هذا التوجه بداية النهاية للشرك في‬
‫الجزيرة وإلى يوم القيامة ‪ ،‬وإنفراط عقد ولء القبائل لها‪ ،‬والدراك العام بفقدانها‬
‫الشأن والهيبة مطلقًا‪ ،‬ليأتي فتح مكة مصداقًا عمليًا يؤكد صدق هذه الية‪ ،‬وبقاء‬
‫مضامينها القدسية متجددة‪ ،‬وهو من أسرار تلوة آيات القرآن في الصلة اليومية‬
‫على نحو الوجوب‪ ،‬وأكثرها جهرية ‪ ,‬ليسمع الناس ما في اليات من البشارة‬
‫والنذار منطوقًا ومفهومًا‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬لم تشهد السنة السادسة والسابعة للهجرة هجومًا من الكفار على المدينة‪،‬‬
‫وواصل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بعث السرايا والغزاة‪ ,‬ودخل الناس‬
‫في السلم بمرأى ومسمع من قريش‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬توجه النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في السنة السادسة لداء‬
‫العمرة وخروجه وأصحابه من غير سلح يعتد به‪ ،‬وبذلت قريش وسعها في منع‬
‫دخول النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم مكة في تلك السنة‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬دخول النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في السنة السابعة مكة في‬
‫عمرة القضاء‪ ،‬أي أنها بدل عن العمرة التي منعته قريش عنها‪ ،‬وتسمى أيضًا عمرة‬
‫القصاص‪ ،‬لن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم إقتص من الكفار‪ ،‬ودخل مكة‬
‫في ذات الشهر الحرام الذي صدوه فيه قبل عام ومنعوه وأصحابه من أداء مناسك‬
‫ص[)‪.(639‬‬
‫صا ٌ‬ ‫ت ِق َ‬
‫حُرَما ُ‬
‫العمرة‪ ) ،‬عن إبن عباس أنه قال‪ :‬فأنزل ال في ذلك]َواْل ُ‬
‫وفي كل من العمرتين قطع وكبت وخيبة للكفار‪ ،‬فان قلت لم يحصل قتال فيهما‪،‬‬
‫وجاءتا في شهر حرام فكيف يكون فيهما قطع للكفار‪ ،‬والجواب بين القتال والقطع‬
‫عموم وخصوص مطلق‪ ،‬فكل قتال بين المؤمنين والكفار هو قطع للكفار وسبب‬
‫لقطعهم وليس العكس‪ ،‬وكذا النسبة بين القطع والهلك‪ ،‬فكل هلك لمقاتلين وشجعان‬
‫من الكفار هو قطع لهم‪ ،‬ولكن ليس كل قطع يصيبهم هو هلك لهم‪ ،‬فقد يأتي القطع‬
‫باسلم رجالت وصناديد وكبراء من الكفار‪ ،‬أو إعتزالهم القتال ‪ ,‬لذا فمن المعاني‬
‫اللغوية للقطع البانة وفصل الجزء عن الكل‪.‬‬
‫ويمكن تقسيم القطع تقسيمًا إستقرائيًا إلى قسمين‪:‬‬
‫الول‪ :‬القطع الذاتي‪ ،‬وهو الذي يصيب ذات الفراد بالقتل والهلك‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬القطع العرضي‪ ،‬وهو الذي يصيب الكفار عامة‪ ،‬بدخول فريق منهم السلم‪،‬‬
‫وتخلي العوان والنصار عنهم‪.‬‬
‫ويتصف دخول أفراد من الكفار السلم بأن القطع قد يحدث في الطرف الذي يلي‬
‫المسلمين‪ ،‬أو يصيب الوسط أو الطراف الخرى لهم‪ ،‬وفيه حينئذ وجهان‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه من عمومات القطع الوارد في هذه الية الكريمة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬القدر المتيقن من الية هو القطع في جماعة الكفار القريبين والمواجهين‬
‫للمسلمين‪.‬‬
‫‪()639‬سورة البقرة ‪.194‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫والصحيح هو الول‪ ،‬لن الطرف يأتي بمعنى القطعة والطائفة‪ ،‬والجماعة التي‬
‫يكون لها شأن مستقل‪ ،‬وأثر مشترك في الفعل وما يترشح عنه‪ ،‬لذا لم تقل الية‬
‫)ليقطع طرف الذين كفروا( بل جاءت بصيغة التنكير في جهة وذات الطرف‪.‬‬
‫وهناك ملزمة بين نصر المسلمين في ميدان المعركة وتجلي آيات المدد الملكوتي‬
‫لهم‪ ،‬وشيوعه بين الناس‪ ،‬ودخول أهل القرى والقبائل البعيدة عن المدينة المنورة‬
‫جا[)‪ ،(640‬ليكون‬ ‫ل َأْفَوا ً‬
‫ن ا ِّ‬
‫ن ِفي ِدي ِ‬
‫خُلو َ‬
‫س َيْد ُ‬
‫ت الّنا َ‬
‫السلم جماعات ‪ ,‬قال تعالى]َوَرَأْي َ‬
‫معنى )ليقطع طرفًا( على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬هلك بعض صناديد قريش‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إسلم جماعات وطوائف وقبائل من الكفار عند سماع نصر ال للنبي محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إمتناع قبائل وجماعات من الكفار عن نصرتهم وإعانتهم على قتال النبي‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪ ،‬وليكون إسلم القبائل وتخلي بعضها عن‬
‫نصرة قريش من أسباب خيبة كبار الكفار‪ ،‬فتصبح خيبتهم وحرمانهم من النصر‬
‫أمرًا متجدد المصاديق‪ ،‬ومتعدد الشواهد والفراد‪ ،‬ويصير على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬خيبة الكفار في ميدان المعركة برؤية فرسانهم يخرون صرعى في‬
‫المبارزة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬حرمانهم من قتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه من‬
‫المهاجرين والنصار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الرجوع من المعركة مع خسارة في الرجال والمؤون‪ ،‬وصيرورتها غنائم‬
‫للمسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إنفاق قريش الموال الطائلة على المعركة‪ ،‬والستعداد لها‪ ،‬وتهيئة مقدماتها‪،‬‬
‫وهم أهل تجارة‪ ،‬مما يخلف الحسرة في نفوسهم لفقدان الموال‪ ،‬والعجز عن‬
‫ف[)‪.(641‬‬‫صْي ِ‬ ‫شَتاِء َوال ّ‬
‫حَلَة ال ّ‬
‫توظيفها في ]ِر ْ‬
‫الخامس‪:‬مواجهة رؤساء الكفر العائدين من المعركة بأخبار دخول عدد من التباع‬
‫والعبيد السلم‪ ،‬ثم يفاجئون بدخول السلم إلى بيوتهم وخدور حرائرهم‪.‬‬
‫ولو أسلم الكافر هل تبقى الحسرة في نفسه على خسارته الموال في محاربة‬
‫السلم‪ ،‬كما في دخول رؤساء قريش السلم يوم فتح مكة‪ ،‬الجواب قد أنعم ال عز‬
‫وجل على عموم المسامين بالغنائم بما يجعلهم يدركون ملزمة الخير والنعم الكثيرة‬
‫لدخول السلم‪.‬‬
‫فجاءت معركة حنين بعد فتح مكة مباشرة‪ ،‬ليعطي رسول ال صلى ال عليه وآله‬
‫ل كثيرة‪ ،‬فقد أعطى مائة بعير لكل من أبي‬ ‫وسلم للمؤلفة قلوبهم من أشراف قريش إب ً‬
‫سفيان وإبنه معاوية وحكيم بن حزام‪ ،‬والحارث بن هشام ‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪ ،‬الذي‬
‫أبرم صلح الحديبية مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وعيينة بن حصن‪،‬‬
‫‪()640‬سورة النصر ‪.2‬‬
‫‪()641‬سورة قريش ‪.2‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ل آخرين من‬ ‫والقرع بن حابس التميمي‪ ،‬وصفوان بن أمية وغيرهم‪ ،‬وأعطى رجا ً‬
‫قريش أقل من مائة بعير)‪.(642‬‬
‫ولم يعط رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم النصار من غنائم حنين شيئًا‪ ،‬وكان‬
‫فيه إحتجاج وبيان من رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وبرضا النصار عن‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وتجلي الغايات العظيمة لقسمة الفيء فيما بعد‬
‫بما يثبت معالم الدين في الجزيرة ويفتح أبواب الغنائم على النصار والمهاجرين ‪,‬‬
‫والتابعين ‪.‬‬
‫فجاء إقتران الخيبة والحرمان لنقلب الكفار سببًا لستدامة الكبت والحزن ‪,‬‬
‫وإستقرار اليأس في نفوسهم‪ ،‬وإظهارهم العجز عن نيل الغايات التي أرادوا تحقيقها‬
‫بخروجهم للقتال‪.‬‬
‫وإنقلب الكفار بذاته من المعجزات الحسية‪ ،‬والشواهد العملية على صدق نبوة‬
‫محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬ومن معاني النقلب تحويل الشئ عن وجهه ‪,‬‬
‫لتكون هزيمة الكفار مناسبة لعتبارهم ومن خلفهم وإدراك حقائق وهي‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تجلي المصاديق العملية لنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إنغلق أبواب النصر أمام قريش‪ ،‬فجاءت الية بانقلبهم خائبين‪ ،‬لتدل في‬
‫مضامينها على تحول الشأن والجاه عنهم‪ ،‬وإنصراف الخير والسلطان إلى‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬قطع طرف من الكفار أمر من عند ال عز وجل‪ ،‬وليس له حد‪ ،‬إذ يتجدد‬
‫بوجود أطراف للكفار غير التي تقطع‪ ،‬وبروز فرسان من الكفار في مواجهة‬
‫المسلمين‪ ،‬ليكون القطع هو الذي ينتظرهم في ميدان المعركة وخارجها بلحاظ أن‬
‫هذه الية قانون ثابت‪ ،‬وآية متجددة لذا جاءت بصيغة الفعل المضارع )فينقلبوا(‬
‫وفيه رحمة بالكفار بلحاظ أن هذه الصيغة ومفاهيم التجدد فيها زجر متصل من‬
‫التعدي على المسلمين‪.‬‬
‫وقد يكبت ويذل العدو‪ ،‬ولكنه يبقى في ميدان المعركة وينتشر حواليها ويتربص‬
‫الفرص للوثوب من جديد‪ ،‬ويجعلك على حذر وفي حال رباط دائم‪ ،‬ويكون المصر‬
‫الذي أنت فيه كالثغر الذي يخشى عليه من مباغتة العدو‪ ،‬مع إحتمال وصول مدد‬
‫له‪.‬‬
‫فجاء هذا الشطر من الية سكينة للمؤمنين بأن الكبت والذل ليغادر الكفار حتى‬
‫ينقلبوا عن وجههم‪ ،‬ويرجعوا على أدبارهم وهو يصاحبهم ليفارقهم‪ ،‬وكما في قوله‬
‫عَلى ِإْبَراِهيَم[)‪ ،(643‬أنها لو كانت بردًا فقط لجمد‬
‫لًما َ‬‫سَ‬‫تعالى ]َياَناُر ُكوِني َبْرًدا َو َ‬
‫إبراهيم‪ ،‬ففي المقام لو إنحصر المر بالكبت لبقى المسلمون في مواضعهم وواصلوا‬
‫القتال‪ ،‬ولكن بطش ال بالكفار شديد‪ ،‬وهو سبحانه يأخذهم بأشد الحوال‪ ،‬فينهزمون‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫جزعًا وفزعًا‪ ،‬وهو من المدد اللهي للمسلمين‪ ،‬وعمومات قوله تعالى ]ِإ ّ‬
‫‪()642‬أنظر السيرة النبوية لبن هشام ‪.4/128‬‬
‫‪()643‬سورة النبياء ‪.69‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫عْنَد َرّبِهْم َو َ‬
‫ل‬ ‫جُرُهْم ِ‬ ‫صلََة َوآَتْوا الّزَكاَة َلُهْم َأ ْ‬ ‫ت َوَأَقاُموا ال ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫آَمُنوا َو َ‬
‫ن[) (‪ ،‬فل يخاف المسلمون من العدو بعد إنقضاء‬ ‫‪644‬‬
‫حَزُنو َ‬ ‫ل ُهْم َي ْ‬ ‫عَلْيِهْم َو َ‬‫ف َ‬ ‫خْو ٌ‬ ‫َ‬
‫المعركة لقاعدة كلية وهي إنقلبه محرومًا خائبًا‪.‬‬
‫وهل يستطيع الكفار الصبر في ميادين المعركة ‪ ,‬الجواب ل‪ ،‬وهذه الية تؤكد هذا‬
‫النفي‪ ،‬لن ال عز وجل هو الذي يمنعهم من البقاء في ميدان المعركة‪ ،‬ويدل‬
‫النقلب والنصراف المذكور في هذه الية على عجز الكفار عن الجهاز على‬
‫المدينة من باب الولوية القطعية‪ ،‬وهو من إعجاز الية لرادة معنى الرجوع من‬
‫النقلب‪ ،‬ويؤكده الواقع الخارجي ونتائج معارك السلم الولى‪.‬‬
‫فلم يبق الكفار في ميدان المعركة سواء في بدر أو أحد أو الخندق‪ ،‬وأقصى ما‬
‫حققوه في القتال يوم أحد‪ ،‬في كرة لهم لم تدم ساعة من نهار ‪ ,‬إذ بادروا إلى‬
‫صَرا َ‬
‫ف‬ ‫لْن ِ‬ ‫ن َأَراَد ا ِ‬
‫حي َ‬ ‫ب ِ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ْب َ‬‫سْفَيا َ‬
‫ن َأَبا ُ‬ ‫النصراف بخزي‪ ،‬قال إبن هشام‪ُ :‬ثّم إ ّ‬
‫ل َيْوٌم‬ ‫جا ٌ‬ ‫سَ‬ ‫ب ِ‬ ‫حْر َ‬‫ن اْل َ‬‫ل َوِإ ّ‬ ‫ت َفَعا ِ‬ ‫ل َأِنْعَم ْ‬ ‫صوِْتِه َفَقا َ‬‫عَلى َ‬ ‫خ ِبَأ ْ‬‫صَر َ‬‫ل ُثّم َ‬ ‫جَب ِ‬
‫عَلى اْل َ‬ ‫ف َ‬ ‫شَر َ‬ ‫َأ ْ‬
‫عَمُر‬ ‫سّلم ُقْم َيا ُ‬
‫عَلْيِه َو َ‬ ‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ظَهْر ِدينك ‪َ ،‬فَقا َ‬ ‫يا ْ‬ ‫ل َأ ْ‬‫ل ُهَب ُ‬ ‫عِ‬‫ِبَيْوِم َأ ْ‬
‫جابَ‬ ‫لُكْم ِفي الّنار ‪َ .‬فَلّما َأ َ‬ ‫جّنة َوَقْت َ‬ ‫لَنا ِفي اْل َ‬ ‫سَواءَ َقْت َ‬ ‫ل َ‬ ‫ل‪َ ،‬‬ ‫جّ‬‫عَلى َوَأ َ‬ ‫ل َأ َ‬‫لا ّ‬ ‫جْبُه ‪َ ،‬فُق ْ‬‫َفَأ ِ‬
‫عَلْيِه‬‫ل َ‬ ‫صّلى ا ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫عَمُر َفَقا َ‬‫ي َيا ُ‬ ‫ن َهُلّم إَل ّ‬ ‫سْفَيا َ‬
‫ل َلُه َأُبو ُ‬ ‫ن َقا َ‬‫سْفَيا َ‬
‫عَمُر َأَبا ُ‬ ‫ُ‬
‫عَمُر َأَقَتْلَنا‬‫ل َيا ُ‬‫شُدك ا ّ‬ ‫ن َأْن ُ‬ ‫سْفَيا َ‬‫ل َلُه َأُبو ُ‬ ‫جاءَُه َفَقا َ‬‫شْأُنُه ؛ َف َ‬ ‫ظْر َما َ‬ ‫سّلم ِلُعَمِر اْئِتِه َفاْن ُ‬‫َو َ‬
‫ن)‪.(645‬‬ ‫سَمعَ َكلَمك ال َ‬ ‫عَمُر الّلهّم ل‪َ ،‬وِإّنه َلَي ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫حّمدا ؟ َقا َ‬ ‫ُم َ‬
‫ويبين هذا الخبر أن المشركين هم الذين إبتدأوا بالنصراف‪ ،‬ويتجلى كبتهم وخزيهم‬
‫وخيبتهم واضحة بالخبار عن سلمة رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وأنه‬
‫حي خلفًا لما كان يدور بين صفوف المشركين بأنهم قتلوه وهو من الشواهد على‬
‫أن الكبت سابق للنقلب‪.‬‬
‫صّلى‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سو ُ‬‫ل َر ُ‬‫ل َفَقا َ‬ ‫عَدُكْم َبْدٌر ِلْلَعاِم اْلَقاِب ِ‬ ‫ن َمْو ِ‬ ‫ونادى أبو سفيان عند النصراف‪ :‬إ ّ‬
‫عٌد) (‪.‬‬
‫‪646‬‬
‫ل َنَعْم ُهَو َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم َمْو ِ‬ ‫حاِبِه ‪ُ :‬ق ْ‬ ‫صَ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫ل ِم ْ‬ ‫جِ‬ ‫سّلم ِلَر ُ‬‫عَلْيِه َو َ‬‫ل َ‬ ‫ا ّ‬
‫ولكن الكفار لم يخرجوا للموعد‪ ،‬وتخلفوا عنه‪ ،‬وهو من مصاديق الخيبة التي‬
‫ن[ مصاحبة الخيبة لهم في حال‬ ‫خاِئِبي َ‬‫رجعوا بها‪ ،‬وشاهد بأن قوله تعالى ]َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫السلم والحضر بحيث يعجزون عن الوفاء بوعدهم وتهديدهم باعادة الكرة في القتال‪.‬‬
‫وخرج رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم في اليوم الثاني خلف العدو لبعث الفزع‬
‫والخوف في نفوس المشركين‪ ،‬ولم ينقطع المسلمون في تلك الفترة عن الغزو‪ ،‬وكان‬
‫رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم يخرج للغزو بنفسه‪ ،‬ويبعث السرايا‪.‬‬
‫ونزلت الية محل البحث في واقعة أحد‪ ،‬وتتضمن بشارة إنسحاب الكفار بذلة‬
‫وهوان إل أن هذا لم يمنع النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم من أخذ الحائطة‬
‫ورصد أخبار العدو خشية توجهه إلى المدينة‪.‬‬
‫‪()644‬سورة البقرة ‪.277‬‬
‫‪ ()645‬السيرة النبوية ‪.3/91‬‬
‫‪()646‬السيرة النبوية لبن هشام ‪.3/91‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وفي الية دعوة للعلماء والباحثين لدراسة وبيان حال الكفار في المعركة وهزيمتهم‬
‫فيها‪ ،‬وعدم صبرهم لحر السيوف‪ ،‬وأسرار وأسباب جزعهم وسرعة إنسحابهم‪،‬‬
‫وهي على أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬ماهو خاص بالكفار ذاتهم وغرورهم وإمتلء نفوسهم بالفزع‪ ،‬وعجزهم عن‬
‫مواصلة القتال‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬ما يتعلق بالمؤمنين‪ ،‬وإخلصهم في الجهاد في سبيل ال‪ ،‬والفناء في‬
‫ن آَمُنوا‬
‫مرضاته ‪ ,‬وتحليهم بأبهى معاني الصبر والمرابطة‪ ،‬قال تعالى ]َياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫طوا[)‪.(647‬‬ ‫صاِبُروا َوَراِب ُ‬
‫صِبُروا َو َ‬
‫ا ْ‬
‫الثالث ‪ :‬جهاد ودعاء النبي صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وإمامته وحسن قيادته للجيش‬
‫‪ ,‬وعصمته بفضل ال من العدو وكيده وبطشه‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬المدد الملكوتي للمسلمين‪.‬‬
‫وهذه الية من الوعد والوعيد منطوقًا ومفهومًا‪ ،‬فهي وعد للمسلمين بهزيمة عدوهم‬
‫أمامهم‪ ،‬ووعيد للكافرين مركب من أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬عجز الكفار عن الثبات في ساحة المعركة‪ ،‬وصد هجمات المسلمين‪ ،‬لتبين‬
‫الية حقيقة وهي أن الوعد والوعيد ل ينحصران بعالم الخرة‪ ،‬بل يشملن الحياة‬
‫جُعُهْم[)‪ ،(648‬في‬ ‫ك َفِإَلْيَنا َمْر ِ‬
‫ض اّلِذي َنِعُدُهْم َأْو َنَتَوّفَيّن َ‬ ‫ك َبْع َ‬ ‫الدنيا ‪ ,‬قال تعالى]َوِإّما ُنِرَيّن َ‬
‫خطاب للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ووعد كريم بالنتقام من الكفار‬
‫بالعقوبة في حياته)وقالوا ومنها وقعة بدر()‪ ،(649‬وسواء جاء عذابهم في حياة النبي‬
‫أو بعد إنتقاله إلى الرفيق العلى فأنهم ل يفوتون ال‪ ،‬ول يستطيعون النجاة من‬
‫جُعُهْم[)‪.(650‬‬ ‫العذاب وهو من مصاديق قوله تعالى]َفِإَلْيَنا َمْر ِ‬
‫الثاني‪ :‬ساحة المعركة مرآة للجزاء يوم القيامة والعذاب الليم الذين ينتظر الكفار‪.‬‬
‫ن[ رجوع الكفار إلى ال عز وجل‬ ‫خاِئِبي َ‬
‫الثالث‪ :‬من معاني قوله تعالى ]َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫خاسرين محرومين من رحمة ال يوم القيامة‪ ،‬والتي يكون الناس في أشد الحاجة‬
‫لها‪.‬‬
‫وبين النقلب والرجوع إلى مكة في المقام عموم وخصوص مطلق‪ ،‬فكل رجوع‬
‫هو إنقلب‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬فقد ينقلب الكفار منهزمين فيحصل القتل الذريع فيهم‪،‬‬
‫سواء كان النقلب بسبب شدة وطأة هجوم المسلمين‪ ،‬وعجز الكفار عن الثبات في‬
‫مواضعهم وهو الغالب ‪ ,‬أو بسبب قتل صناديد الكفار في المبارزة‪ ،‬وجزع الكفار‪،‬‬
‫وإدراكهم لنعدام الموضوع الذي يقاتلون من أجله‪ ،‬وهذا الدراك تكون له‬
‫موضوعية‪ ،‬وتظهر آثاره عندما يحمى ويشتد القتال‪ ،‬وتقع القتلى في صفوف‬
‫المشركين‪.‬‬

‫‪()647‬سورة آل عمران ‪.200‬‬


‫‪()648‬سورة يونس ‪.46‬‬
‫‪()649‬مجمع البيان ‪.5/113‬‬
‫‪()650‬سورة يونس ‪.46‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ترى لماذا لم تقل الية )فينهزموا(‪ ،‬خصوصًا وانه جاءت مادة )هزم( في القرآن‬
‫ب[)‪ ،(651‬فيه وجوه‪:‬‬ ‫حَزا ِ‬‫لْ‬ ‫ناَ‬ ‫ك َمْهُزوٌم ِم ْ‬
‫جنٌد َما ُهَناِل َ‬
‫ثلث مرات‪ ،‬قال تعالى ] ُ‬
‫الول‪ :‬بين الهزيمة والنقلب عموم وخصوص مطلق‪ ،‬فكل هزيمة هي إنقلب‬
‫وليس العكس‪.‬‬
‫الثاني‪:‬إرادة المعنى العم‪ ،‬وشمول النسحاب من ميدان المعركة مطلقًا‪ ،‬والشارة‬
‫إلى واقعة أحد‪ ،‬فقد إنهزم الكفار في أول المعركة‪ ،‬ثم حصلت ثغرة الجبل‪ ،‬وصار‬
‫المؤمنون في حال دفاع عن النفس‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬لفظ )فينقلبوا( من فرائد القرآن‪ ،‬فمع وجود نظائر لهذه الكلمة إل أنها قاصرة‬
‫عن إستيفاء المعاني والدللت التي تتضمنها هذه الكلمة بلحاظ مناسبة الحال‬
‫والمقال‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬موضوعية صيغة الفعل المضارع )فينقلبوا( في تعدد مواضيع الية الكريمة‬
‫‪ ,‬وتجدد إنقلب الكفار خائبين خاسرين‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬قد ينهزم الجيش‪ ،‬ولكنه يجمع صفوفه ويعاود الكرة أو يباغت العدو‪ ،‬أو‬
‫يرجع إلى فئة أو يأتيه مدد‪ ،‬أما النقلب فهو إخبار عن النصراف والرجوع‪.‬‬
‫وجاء قيد )خائبين( ليؤكد ماهية النقلب‪ ،‬وإنه رجوع إلى الهل والمصر‬
‫والموضوع الذي خرجوا منه‪ ،‬وإنتفاء القدرة على العودة النية للقتال‪ ،‬ويتصف‬
‫المؤمنون بخصوصية وهي أن رجع عدوهم للقتال فان الملئكة له بالمرصاد ‪ ,‬قال‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم‬
‫تعالى في إحتمال عودة قريش للقتال يوم أحد ]َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫لِئَكِة[)‪.(652‬‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬
‫سِة آ َ‬
‫خْم َ‬
‫ِب َ‬
‫وبلحاظ أن النقلب هو تحويل الشئ عن وجهه يكون معنى )فينقلبوا( على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة المعنى العم للنقلب فيتضمن إنصراف الكفار عن العزم على قتل‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنصراف الكفار عن تعذيب الذين يختارون السلم من أبنائهم وعبيدهم‬
‫وأهل مكة مطلقًا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ترك الكفار العناد والصرار على السخرية بمعجزات النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم والستكبار عنها لتجلي أفراد منها في ميدان القتال‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬النسحاب من أرض المعركة والرجوع إلى مكة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬ترك القتال والحرب وتحريض وحشد القبائل لقتال المسلمين‪.‬‬
‫السادس‪ :‬إنقلب الكفار على رؤساء الضللة الذين ساقوهم في الباطل والغواية‪ ،‬لذا‬
‫كسرت معركة بدر وأحد شوكة الرؤساء من قريش‪.‬‬

‫‪()651‬سورة ص ‪.11‬‬
‫‪()652‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫السابع‪ :‬مغادرة الحياة الدنيا‪ ،‬والنقلب إلى الخرة‪ ،‬والرجوع إلى ال عز وجل ‪,‬‬
‫وفي التنزيل حكاية عن السحرة بعد إسلمهم وتخويف فرعون لهم بقطع الطراف‬
‫ن[)‪.(653‬‬ ‫ضْيَر ِإّنا ِإَلى َرّبَنا ُمْنقَِلُبو َ‬
‫ل َ‬ ‫والصلب ]َقاُلوا َ‬
‫قانون "الفاء" في "فينقلبوا" ’’‬
‫يتكون قوله تعالى]َفَيْنَقِلُبوا[ من ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬حرف عطف‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬فعل مضارع ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬فاعل‪ ,‬وهو واو الجماعة‪.‬‬
‫وجاءت الفاء لبيان التعقيب‪ ،‬وأن الثاني يأتي بعد الول من غير مهلة‪ ،‬ولم تقل‬
‫الية )وينقلبوا( لتكون الفاء في المقام على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬تبعث الفاء السكينة في نفوس المؤمنين‪ ،‬وتطرد الخوف من إحتمال عودة‬
‫العدو‪ ،‬أو وصول مدد له‪ ،‬ويحتاج المقاتلون متحدين ومتفرقين السكينة عند نهاية‬
‫المعركة‪ ،‬والمؤمنون أولى بها من غيرهم‪ ،‬لذا جاءتهم هبة سماوية بحرف عطف‬
‫نازل من عند ال‪ ،‬وبما يفيد القطع وجعل السكينة ملكة عند المؤمنين‪ ،‬قال تعالى]ُهوَ‬
‫ن ِلَيْزَداُدوا ِإيَماًنا َمَع ِإيَماِنِهْم[)‪.(654‬‬ ‫ب اْلُمْؤِمِني َ‬‫سِكيَنَة ِفي ُقُلو ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫اّلِذي َأْنَز َ‬
‫الثاني‪ :‬جاءت الفاء بشارة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه بهزيمة‬
‫العدو‪ ،‬وإنتهاء المعركة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬في الفاء دعوة للمؤمنين بدفن قتلهم ‪ ،‬ومعالجة الجرحى‪ ،‬وتنظيم صفوفهم‬
‫واللتفات إلى أداء الصلة‪ ،‬لن المشركين لن يعودوا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إنها تعليم وإرشاد سماوي للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‬
‫ببيان البطش اللهي بالكفار ولجوئهم للفرار من غير إبطاء )وفي الحديث‪ :‬أدبني‬
‫ربي فأحسن تأديبي)‪.(655‬‬
‫س[)‪،(656‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬‫ج ْ‬‫خِر َ‬ ‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫الخامس‪ :‬هذه الفاء دليل على أن المسلمين ] َ‬
‫لتصافهم بخصوصية وهي إنهزام عدوهم عند اللقاء‪ ،‬وإنقلبه ورجوعه إلى بلده‬
‫خاسرًا محرومًا من الغايات الخبيثة التي خرج من أجلها‪.‬‬
‫وفي الصحيحين‪ ،‬عن جابر بن عبد ال‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "‬
‫أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من النبياء قبلى‪ ،‬نصرت بالرعب مسيرة شهر‪،‬‬
‫وجعلت لي الرض مسجدا وطهورا‪ ،‬وحلت لى الغنائم ولم تحل لحد قبلى‪،‬‬
‫وأعطيت الشفاعة‪ ،‬وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة)‪.(657‬‬

‫‪()653‬سورة الشعراء ‪.50‬‬


‫‪()654‬سورة الفتح ‪.4‬‬
‫‪()655‬مفاتيح الغيب ‪.14/396‬‬
‫‪()656‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()657‬السيرة النبوية‪ /‬ابن كثير ‪.2/461‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السادس‪ :‬تزيد الفاء لمسلمين يقينًا إلى يقينهم كما تدل عليه الية أعله‪ ،‬فمع كثرة‬
‫جيوش الكفار‪ ،‬وتفوقهم بالعدد والعدة على المسلمين فانهم يولون الدبار ‪ ,‬ولم ولن‬
‫يقفوا إل عند أهليهم‪.‬‬
‫ومع طول المسافة بين المدينة ومكة المكرمة فلم يحدثنا التأريخ بأن الكفار أقاموا‬
‫في طريق العودة والرجوع‪ ،‬وهو من مصاديق هذه الية ومجئ كلمة )فينقلبوا( وما‬
‫فيها من معنى المصير إلى الهل‪.‬‬
‫السابع‪ :‬لقد أراد ال عز وجل لشريعة السلم البقاء إلى يوم القيامة‪ ،‬وإظهار‬
‫سلطانه‪ ،‬وتثبيت دولته‪ ،‬فرزق ال عز وجل النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫عِزيًزا[)‪ ،(658‬وهزيمة العدو أمامه من‬ ‫صًرا َ‬ ‫ل َن ْ‬
‫ك ا ُّ‬
‫صَر َ‬
‫النصر قال تعالى ]َوَيْن ُ‬
‫مصاديق النصر العزيز الذي ليستطيع أي جبار عنيد أن يصمد أمام هجوم‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬الية مناسبة كريمة لتلقي المسلمين الفرائض والوامر اللهية بالقبول‬
‫والرضا والمتثال‪ ،‬والنواهي بالتقييد واللتزام‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬تمنع الفاء من الجدل والخلف بين المسلمين لنصراف العدو وإنقلبه على‬
‫عقبه بخزي ‪,‬وترشح الذلة على هذا النقلب على نحو النطباق‪ ,‬بلحاظ أن الكفار‬
‫هم الذين زحفوا وإختاروا القتال ‪ ,‬وعدم نفع كثرتهم وعدتهم لهم‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬جاءت الفاء في الية الكريمة دعوة للمسلمين للتوجه إلى ال عز وجل‬
‫بالشكر على نعمة النصر‪ ،‬وهزيمة العدو‪.‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬هزيمة العدو مصداق للخزي والذلة الذي لحقه‪ ،‬جيشًا وأفرادًا‪.‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬لقد همت طائفتان من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ل َوِلّيُهَما[‬
‫ل َوا ُّ‬
‫شَ‬‫ن َتْف َ‬
‫ن ِمْنُكْم َأ ْ‬
‫طاِئَفَتا ِ‬
‫ت َ‬‫بالجبن والخور والفزع‪ ،‬قال تعالى ] ِإْذ َهّم ْ‬
‫)‪.(659‬‬
‫وجاء قوله تعالى ]َفَيْنَقِلُبوا[ من المصاديق العاجلة لولية ال عز وجل للنبي‬
‫والمؤمنين بأن جعل عدوهم ينقلب وينسحب منهزمًا فزعًا لينتفي معه سبب الهم‬
‫بالفشل‪ ،‬وتلك آية في النعم اللهية على المسلمين‪ ،‬فجاءت هزيمة الكفار لمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬منع صيرورة الهم بالفشل عند فريق من المؤمنين إلى تحقق الخور والجبن‬
‫واقعًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه واقية دون هّم غير الطائفتين بالفشل‪ ،‬فلم تظهر أمارات الجبن والخور‬
‫على باقي طوائف المؤمنين من النصار والمهاجرين‪:‬‬
‫الثالث‪ :‬سلمة الطائفتين من الهم بالفشل ‪ ,‬وإنتفاء العزم على الفرار في معارك‬
‫السلم اللحقة‪ ،‬لذا كان أفرادهما يتفاخرون بنزول الية فيهم لخبارها عن ولية‬
‫ونصرة ال لهما‪ ،‬وما في هذه النصرة من الكرام والشأن والعز‪.‬‬

‫‪()658‬سورة الفتح ‪.3‬‬


‫‪()659‬سورة آل عمران ‪.122‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬توكيد صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم بالشواهد الخارجية‬
‫التي تتعلق بأعدائه إذ يصابون بالخيبة ويبادرون إلى الفرار‪.‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬صحيح أن الكبت أدنى مرتبة من القطع الذي يعني البانة والهلك في‬
‫ن َكَفُروا َأْو َيْكِبَتُهْم[)‪ ،(660‬ولكن كبت الكفار يترشح‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫طَرًفا ِم ْ‬
‫طَع َ‬ ‫قوله تعالى ]ِلَيْق َ‬
‫عنه إنصرافهم وإنسحابهم من المعركة‪.‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬يدل ذكر الفاء في إنصراف الكفار‪ ،‬على أنه فرار وإنسحاب غير‬
‫منظم‪ ،‬وتفيد أخبار المغازي أن الكفار كانوا يفرون من ساحة المعركة‪ ،‬ويولون‬
‫الدبار ثم ليعودون إلى المعركة‪ ،‬وهو من مصاديق مجئ الفاء في الية‪ ،‬وأن‬
‫إنقلبهم بخزي وذل‪.‬‬
‫السادس عشر‪ :‬الكبت من الكلي المشكك‪ ،‬ويكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفًا‪،‬‬
‫وجاءت الفاء لبيان أن الكبت الذي يصّير ال به الكفار أشد أنواع الكبت بحيث‬
‫ليستطيعون معه البقاء في ميدان المعركة بل يولون الدبار‪ ،‬وليلتفتون إلى ما‬
‫يفقدونه بالهزيمة من الشأن والجاه والموال‪.‬‬
‫السابع عشر‪ :‬من منافع الفاء في الية دعوة الناس للسلم‪ ،‬وجعلهم ينصتون ليات‬
‫القرآن ويتدبرون في دللتها وأسرارها القدسية‪ ،‬ولصابة الكفار بالكبت والذل‬
‫وسرعة مغادرتهم ميدان المعركة بغير إنتظام مع ما عرف عن قريش والعرب‬
‫عمومًا من الصبر والتحمل والمطاولة‪.‬‬
‫وإجتماع الكبت وسرعة مغادرة الكفار المعركة شاهد على صدق نبوة محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم‪ ،‬والمدد اللهي له‪.‬‬
‫الثامن عشر‪ :‬قد يسأل الناس عن الثر الخارجي‪ ،‬والدليل الحسي لنزول الملئكة‪،‬‬
‫فجاءت هذه الية لبيان طرف من المصاديق العملية لنزولهم بتجلي قانون ثابت‬
‫يستغرق كل المعارك بين المسلمين والكفار بأن يلجأ الكفار إلى الفرار بعد بدأ‬
‫المعركة بقليل‪ ،‬فمع أن الكفار حققوا مكاسب في معركة أحد إل أنهم إنسحبوا في‬
‫نفس اليوم‪ ،‬اما الطرف الخر الذي يؤكد نزول الملئكة الثر الذي يظهر على‬
‫المسلمين وشكرهم ل عز وجل‪ ،‬وإطمئنانهم للنصر لذا جاءت الية السابقة بقوله‬
‫ن ُقُلوُبُكْم ِبِه[)‪.(661‬‬
‫طَمِئ ّ‬‫تعالى ]َوِلَت ْ‬
‫التاسع عشر‪ :‬التخفيف عن المسلمين في العودة المبكرة إلى بيوتهم وأعمالهم‬
‫ومزارعهم‪ ،‬وتلك آية لم تفز بها أمة من الموحدين من قبل لسيما وأن معارك‬
‫خْيَر ُأّمٍة‬
‫السلم الولى جرت بالقرب من المدينة المنورة وهو من خصائص ] َ‬
‫س[)‪.(662‬‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫ُأ ْ‬

‫‪()660‬سورة آل عمران ‪.127‬‬


‫‪()661‬سورة آل عمران ‪.126‬‬
‫‪()662‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وتولي قيادات الدول والجيوش في هذه الزمنة مسألة التعجيل بعودة الجنود إلى‬
‫ثكناتهم)‪ ،(663‬وأهليهم عناية خاصة‪ ،‬حتى عند التخطيط والستعداد لدخول المعركة‪،‬‬
‫ويقدمون التنازلت ويستغنون عن مكاسب عديدة من أجل تحقيق هذا الهدف‪،‬‬
‫ويدركون المخاطر الجسيمة التي تنجم عن ترك الجنود في ميادين القتال‪.‬‬
‫وقد أنعم ال عز وجل على رسول ال صل ال عليه وآله وسلم وأصحابه بالعودة‬
‫في نفس اليوم إلى المدينة‪ ،‬أو أنهم في ذات اليوم في طريقهم إليها‪ ،‬وقد أرسلوا‬
‫البشير مقدمة لدخولهم لها سالمين ظافرين‪ ،‬لن الفاء جاءت في هذه الية حرزًا‬
‫للمؤمنين‪ ،‬وواقية من مباغتة العدو لهم‪.‬‬
‫العشرون‪ :‬في الفاء درس وتحذير للكفار في بلدانهم وقراهم ممن لم يحضر المعركة‬
‫بأنها لهم بالمرصاد‪ ،‬سواء خرجوا للقتال أو بعثوا بالمدد والسلح‪ ،‬أو ساهموا‬
‫بالموال في قتال المسلمين‪ ،‬وورد في التنزيل دعاء موسى عليه السلم على‬
‫عَلى َأْمَواِلِهْم[)‪ ،(664‬لكيل ينتفعوا بها‪ ،‬ول تكون وسيلة‬
‫س َ‬ ‫طِم ْ‬
‫فرعون وملئه ]َرّبَنا ا ْ‬
‫لتعذيب بني إسرائيل‪) ،‬وقال مجاهد و قتادة و عامة أهل التفسير صارت جميع‬
‫أموالهم حجارة حتى السكر و الفانيذ)‪.(666) (665‬‬
‫وأنعم ال عز وجل على المسلمين بمبادرة الكفار إلى النقلب والنصراف من‬
‫المعركة ‪,‬ومن فضل ال على المسلمين أن أموال الكفار في المعركة صارت غنيمة‬
‫بأيديهم لمقام الفاء في هذه الية وعجز الكفار معها عن حمل أمتعتهم وأسلحتهم‪،‬‬
‫والكبت العام الذي شملهم على نحو العموم الستغراقي‪ ،‬وتعقب النقلب للكبت‬
‫والخزي وقتل صناديدهم‪ ،‬وما يبعثه هذا القتل من أفراد إضافية للكبت الذي ح ّ‬
‫ل‬
‫بساحتهم من غير أن يتعارض أو يفنى فيه أي في الكبت الذي جاءهم بالصل‬
‫والذات بقوله تعالى]َأْو َيْكِبَتُهْم[‪ ،‬بل يكون في طوله‪ ،‬وزيادة فيه ‪.‬‬
‫ومن السباب التي تجعل الكفار ل يلتفتون إلى شيء شعورهم العام بالحاجة إلى‬
‫الفرار‪ ،‬ليقوم رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم بتوزيعها على المؤمنين‪ ،‬ويدخل‬
‫الكفار السلم بالشهادتين ‪ ،‬وتوظف تلك الموال في سبيل ال‪.‬‬
‫لتكون الفاء في المقام على وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنها رحمة بالمسلمين‬
‫الثاني ‪ :‬موعظة للناس مطلقًا‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إنها مقدمة وبشارة زيادة عدد المسلمين ‪ ،‬وتنامي قوتهم‪ ،‬ومادة للوفرة في‬
‫أسلحتهم ومؤنتهم ‪ ,‬وسبيل لزيادة أموالهم ‪.‬‬

‫ة‬ ‫كنة فارسية والث ّ ْ‬


‫كن ُ‬ ‫مراك ُِزهم واحدتها ث ُ ْ‬
‫د َ‬
‫جن ْ ِ‬ ‫‪()663‬وث ُك َ ُ‬
‫ن ال ُ‬
‫ة‪/‬لسان العرب ‪.13/80‬‬ ‫ة والعلم ُ‬
‫الراي ُ‬
‫‪()664‬سورة يونس ‪.88‬‬
‫‪()665‬الفانيذ‪ :‬نوع من الحلوى‪.‬‬
‫‪ ()666‬مجمع البيان ‪.5/195‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الرابع ‪ :‬إنها دعوة للمسلمين للغزو والفتح ‪ ,‬وإزاحة لسباب الخوف من الكفار‬
‫خْوِفِهْم َأْمًنا[)‪.(667‬‬‫ن َبْعِد َ‬‫وزهوهم وخيلئهم ‪ ,‬قال تعالى ]َوَلُيَبّدَلّنُهْم ِم ْ‬
‫الحادي والعشرون‪ :‬الفاء الواردة في هذه الية ذخيرة وكنز عند المسلمين إلى يوم‬
‫القيامة‪ ،‬فما أن يقوم عدو بالتعدي عليهم وعلى ثغورهم وحرماتهم حتى تكون هذه‬
‫الفاء حاضرة لتكون من الرتباط الشرطي في المقام‪.‬‬
‫الثاني والعشرون‪ :‬لقد جعل ال عز وجل النسان كائنًا محتاجًا‪ ،‬وهذه الحاجة‬
‫ملزمة لعالم المكان‪ ،‬ول تنتفي مع الكثرة والتعدد‪ ،‬فتصاحب الحاجة الطائفة‬
‫والمة‪ ،‬ومن فضل ال عز وجل على المسلمين تهيئة أسباب ومستلزمات ما‬
‫يحتاجون إليه عند ملقاة العداء ‪ ,‬ومن هذه السباب الفاء الواردة في هذه الية لما‬
‫فيها من البشارة بإنصراف العدو بكبت وذل‪.‬‬
‫الثالث والعشرون‪ :‬يفسر القرآن بعضه بعضًا‪ ،‬والفاء في هذه الية تفسير وبيان‬
‫لمضامين قرآنية كثيرة ‪ ,‬وهي خير محض لجيال المسلمين والمسلمات يبعث‬
‫سُكْم‬
‫سْ‬‫ن َتْم َ‬
‫الحزن في نفوس الكفار ‪ ,‬وهو من عمومات الحسنة في قوله تعالى]ِإ ْ‬
‫سْؤُهْم[)‪.(668‬‬‫سَنٌة َت ُ‬‫حَ‬ ‫َ‬
‫الرابع والعشرون ‪ :‬لقد أمر ال عز وجل المسلمين بالصبر في مواطن القتال‬
‫ومطلقًا‪ ،‬وجاءت الفاء في هذه الية لتبين عاقبة الصبر ورشحة من رشحات حسن‬
‫توكل المؤمنين على ال بإنصراف أعداء ال ورسوله خائبين محرومين من تحقيق‬
‫شْيًئا[ )‪.(669‬‬‫ضّرُكْم َكْيُدُهْم َ‬‫ل َي ُ‬‫صِبُروا َوَتّتُقوا َ‬ ‫ن َت ْ‬ ‫غاياتهم الخبيثة‪ ،‬قال تعالى]َوِإ ْ‬
‫وجعل ال عز وجل)الفاء( في هذه الية لتوكيد سلمة المسلمين من كيد الكفار‪ ،‬إذ‬
‫جهزون الجيوش العظيمة‪ ،‬ويقطعون مئات الميال على الرواحل‪ ,‬وسيرًا على‬ ‫يّ‬
‫القدام في أرض وعرة جرداء ‪ ,‬وينفقون الموال الكثيرة في إعداد السلحة‬
‫والمؤون‪.‬‬
‫وحالما تبدأ المعركة تطالعهم )الفاء( في هذه الية والتي تنبأ عن إنعدام المهلة بين‬
‫بداية المعركة وإنصراف الكفار أذلء يتغشاهم الحزن والحسرة‪ ،‬وهو من أسرار ما‬
‫غْيِر ِذي َزْر ٍ‬
‫ع‬ ‫ن ُذّرّيِتي ِبَواٍد َ‬ ‫ت ِم ْ‬ ‫سَكن ُ‬‫ورد في التنزيل على لسان إبراهيم ]َرّبَنا ِإّني َأ ْ‬
‫حّرِم[)‪ ،(670‬من وجوه‪:‬‬ ‫ك اْلُم َ‬
‫عْنَد َبْيِت َ‬
‫ِ‬
‫الول‪ :‬يسير أعداء النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الذين يريدون قتاله في‬
‫أرض قاحلة ‪ ,‬ليس فيه زرع ونخيل مما يزيد من المشقة عليهم‪ ،‬ويؤدي إلى ضعف‬
‫الهمة عندهم‪ ،‬وهزال دوابهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه مناسبة للتدبر باليات لخلو الطريق من أسباب الزينة والنعم والطيبات‬
‫التي تشغل النسان‪.‬‬

‫‪()667‬سورة النور ‪.55‬‬


‫‪()668‬سورة آل عمران ‪.120‬‬
‫‪()669‬سورة آل عمران ‪.120‬‬
‫‪()670‬سورة إبراهيم ‪.37‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬عزوف الدول العظمى آنذاك عن تجهيز الجيوش للقضاء على النبوة وقتال‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه لخلو الجزيرة من المنافع‬
‫القتصادية الكبيرة والغنائم التي تستحق تسيير اللف من الجيوش الذي تنهكهم‬
‫شدة حر الجزيرة وقلة المؤون فيها ‪ ,‬وإحتمال إنسحاب وخروج النبي محمد‬
‫والمؤمنين من المدينة ‪ ,‬ليكون خروجهم هذا مناسبة للغزو والغنم ‪ ،‬ولم يعلموا أن‬
‫ال عز وجل جعل كنوز الرض في تلك الرض كما في نعمة النفط في هذا الزمان‬
‫‪.‬‬
‫لتكون أرض الجزيرة الولى في العالم من حيث غزارة النتاج والتصدير بلحاظ‬
‫تعدد دولها‪ ،‬وتقارب آبارها‪ ،‬يكون عصب القتصاد العالمي بيد المسلمين ويتعلق‬
‫بأرضهم‪ ،‬وكأنه مرآة لصدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وأنها الضياء‬
‫الذي يشع على أرض المعمورة‪ ،‬وأن الرض دحيت من تحت الكعبة ‪ ,‬وهومن‬
‫س َلّلِذي ِبَبّكَة ُمَباَرًكا[ )‪.(671‬‬ ‫ضَع ِللّنا ِ‬ ‫ت ُو ِ‬ ‫ل َبْي ٍ‬‫ن َأّو َ‬‫بركات وأسرار قوله تعالى]ِإ ّ‬
‫وعزوف الدول العظمى آنذاك لم يكن عن غفلة وجهل‪ ،‬إذ قصد بعض رجالت‬
‫المشركين ملك الروم وملك الحبشة وغيرهما وشكوا لهم النبي محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم وأصحابه وإتساع سلطان ملكه‪ ،‬ودعوته الناس جميعًا لدخول السلم‪،‬‬
‫والتقيد بالفرائض والداب التي جاء بها من عند ال‪ ،‬وجاء وفد نصارى نجران إلى‬
‫ل من أشرافهم والمر بيد ثلثة‬ ‫المدينة المنورة ستين راكبًا منهم أربعة عشر رج ً‬
‫نفر منهم‪.‬‬
‫ومنهم )أبو حارثة بن علقمة السقف‪ ،‬وهو حبرهم و إمامهم وصاحب مدارسهم‪،‬‬
‫فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شّرفوه ومو لوه وأخدموه‪ ،‬قد بنوا له الكنايس‪،‬‬
‫وبسطوا عليه الكرامات)‪.(672‬‬
‫وحينما رأوا معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم إجتنبوا مناجزته‬
‫ورضوا بدفع الجزية له‪ ،‬وكأنهم أدركوا مقام )الفاء( في قوله تعالى ]َفَيْنَقِلُبوا[ في‬
‫عاقبة المور‪ ،‬وما ينتظر من يحارب النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم ‪,‬‬
‫ويجهز الجيوش عليه‪ ،‬إذ يدل إكرام ملوك الروم لبي حارثة على منزلته ومنزلة‬
‫نصارى نجران عندهم‪ ،‬ولعله لم يقم نصارى نجران بتهييج وتحريض ملوك الروم‬
‫على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم على أصحابه لما علموه من صدق نبوته‬
‫وخسارة من يحاربه‪.‬‬
‫الخامس والعشرون‪ :‬ليس من حصر لوظائف )الفاء( في هذه الية ومنافعها‪ ,‬وهي‬
‫ملزمة لوجود النسان إلى يوم القيامة‪ ،‬ومن وظائفها‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها نوع وعيد للكفار وتحذير لهم من التعدي على المسلمين ومقدمة‬
‫ن[)‪.(673‬‬ ‫جَزاُء اْلَكاِفِري َ‬
‫ك َ‬‫ن َقاَتُلوُكْم َفاْقُتُلوُهْم َكَذِل َ‬
‫لستئصالهم ‪ ,‬قال تعالى ]َفِإ ْ‬
‫‪()671‬سورة آل عمران ‪.96‬‬
‫‪()672‬السيرة النبوية ‪.2/187‬‬
‫‪ ()673‬سورة البقرة ‪.191‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬في الية إخبار من علم الغيب‪ ،‬لما تدل عليه الفاء من سوء عاقبة الكفار‬
‫الذين يحاربون السلم والمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من إعجاز هذه الية ذكر ما يلقاه أعداء السلم على نحو التعيين والبيان‪،‬‬
‫بالنصراف المقرون بالخيبة والحرمان ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬في الية تحذير لجميع الكفار وغير المسلمين بذكر ما ينتظرهم إذا عزموا‬
‫على محاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬ذكر الفاء هنا من اللطف والرحمة اللهية بالناس جميعًا‪ ،‬لنها تمنع من‬
‫اللبس والجهالة والغفلة وتطرد المال الزائفة ‪ ,‬وتحذر من الصرار على الضللة‬
‫والغواية ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬تفضح الفاء ودللتها على إنعدام الفترة بين الكبت الحتمي للكفار وإنقلبهم‬
‫خاسرين الغايات المذمومة للذين يجهزون الجيوش لقتال النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬الية بشارة ملزمة النتصار للمؤمنين المجاهدين ‪ ,‬والخيبة للكفار‪.‬‬
‫الثامن ‪ :‬إستدامة العز والنصر والغلبة والغبطة للمؤمنين‪.‬‬
‫التاسع ‪ :‬مصاحبة الخسارة في النشأتين للكفار الذين يعتدون على حرمات السلم ‪,‬‬
‫ن[)‪.(674‬‬
‫سُرو َ‬
‫خا ِ‬
‫ك ُهْم اْل َ‬
‫خَرِة َوُأْوَلِئ َ‬
‫عَماُلُهْم ِفي الّدْنَيا َوال ِ‬
‫ت َأ ْ‬
‫ط ْ‬
‫حِب َ‬
‫ك َ‬
‫قال تعالى]ُأْوَلِئ َ‬
‫السادس والعشرون‪ :‬تدل الفاء على أن المشركين ينسحبون من المعركة من غير‬
‫ترتيب وإحتراز وتأمين لمؤخرتهم‪ ،‬ويحتاج تنظيم النسحاب إلى تخطيط وتقديم‬
‫وتأخير وإشراف من القيادة‪ ،‬وتأن وحذر‪ ،‬بينما أخبرت هذه الية عن مبادرتهم‬
‫للنسحاب والهروب من ميدان المعركة‪.‬‬
‫السابع والعشرون‪ :‬ترى لماذا لم تقل الية )فيولوا( بدل )فينقلبوا( لتكون أكثر دللة‬
‫على الفضل اللهي على المسلمين‪ ،‬وأظهر للحجة ‪ ,‬وتوكيدًا لزجر الكفار عن‬
‫الهجوم على المسلمين‪ ،‬وملقاتهم في سوح المعارك‪ ،‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬كلمات القرآن فرائد‪ ،‬وكل كلمة منها كالجوهرة التي ل مثيل أو شبيه لها‪،‬‬
‫وترى قواعد الشباه والنظائر في اللغة متخلفة عن مواضع الكلمات القرآنية‪،‬‬
‫فالكلمة التي تكون نظيرًا لكلمة أخرى في اللغة‪ ،‬تكون قاصرة في المعنى لو‬
‫وضعتها بدل اللفظ القرآني الذي هو نظير له في اللغة‪ ،‬وهو إعجاز وسر بياني‬
‫ولغوي ينفرد به القرآن‪ ،‬وسبب من أسباب تصديق العرب بنزوله من عند ال‪،‬‬
‫ووقوفهم عاجزين عن إدراك كنه بلغته‪ ،‬مع إقرارهم بأن تلك البلغة مرآة لكنوز‬
‫علمية‪ ،‬وذخائر عقائدية تتضمنها آيات القرآن‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬في الية نوع إستدراج للكفار‪ ،‬وهو من مصاديق قانون "الحياة الدنيا دار‬
‫النذار "‪.‬‬

‫‪()674‬سورة التوبة ‪.69‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثالث‪ :‬بين النقلب والتولي عموم وخصوص مطلق‪ ،‬فكل تول إنقلب وليس‬
‫العكس‪ ،‬لذا جاءت الية بالمعنى العم‪ ،‬وهو من إعجاز القرآن والسعة في الفاظه‬
‫ومضامينه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬في الية دعوة للمسلمين لليقظة وأخذ الحذر من العدو ومباغتته‪ ،‬قبل وأثناء‬
‫وبعد إنتهاء المعركة‪.‬‬
‫وهذا الحذر تجلى بتوجيه النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لصحابه برصد‬
‫ب عند إنتهاء معركة أحد‬ ‫طاِل ٍ‬‫ن َأِبي َ‬ ‫ي ْب َ‬
‫عِل ّ‬
‫ومتابعة العدو أثناء إنسحابه‪ ،‬فبعث النبي َ‬
‫جّنبوا‬
‫ن َكاُنوا َقْد َ‬ ‫ن َفِإ ْ‬
‫ن َوَما ُيِريُدو َ‬ ‫صَنُعو َ‬
‫ظْر َماَذا َي ْ‬ ‫ج ِفي آَثاِر اْلَقْوِم ‪َ ،‬فاْن ُ‬ ‫خُر ْ‬ ‫ل ‪ُ :‬ا ْ‬ ‫‪َ ،‬فَقا َ‬
‫ل َفِإّنهْم‬
‫لِب َ‬
‫ساُقوا ا ِْ‬ ‫ل َو َ‬ ‫خْي َ‬
‫ن َرِكُبوا اْل َ‬‫ن َمّكة ‪َ ،‬وِإ ْ‬ ‫ل َفِإّنهْم ُيِريُدو َ‬‫لِب َ‬
‫طْوا ا ِ‬ ‫ل َواْمَت َ‬ ‫خْي َ‬
‫اْل َ‬
‫جَزّنهْم ‪.‬‬‫لَنا ِ‬‫ن إَلْيِهْم ِفيَها ‪ُ ،‬ثّم ُ‬ ‫سيَر ّ‬ ‫لِ‬
‫ن َأَراُدوَها َ‬ ‫سي ِبَيِدِه َلِئ ْ‬‫ن اْلَمِديَنَة ‪َ ،‬وَاّلذي َنْف ِ‬ ‫ُيِريُدو َ‬
‫لِب َ‬
‫ل‬ ‫طْوا ا ِ‬ ‫ل َوامَْت َ‬ ‫خْي َ‬
‫جّنبوا اْل َ‬ ‫ن َف َ‬
‫صَنُعو َ‬‫ظُر َماَذا َي ْ‬ ‫جت ِفي آَثاِرِهْم َأْن ُ‬ ‫خَر ْ‬ ‫ي ‪َ :‬ف َ‬‫عِل ّ‬‫ل َ‬ ‫َقا َ‬
‫جهوا إَلى َمّكة) (‪.‬‬
‫‪675‬‬
‫َوَو ّ‬
‫ويلحظ في الحديث دقة الوصف وبيان التباين في جهة الخروج بأمارات وعلمات‬
‫مخصوصة ل تقبل اللبس والترديد‪ ،‬لن المدينة قريبة منهم ويحتاجون في دخولها‬
‫إلى القتال والهجوم فيركبون الخيل‪ ،‬أما مكة فهي بعيدة ولينوون في النصراف‬
‫إليها القتال فيركبون البل‪ ،‬وفيه شاهد على كثرة الرواحل التي عند الكفار وتعدد‬
‫أنواعها بحيث يركبون ما يحتاجون إليه‪ ،‬ويساعدهم في تحقيق أغراضهم‪ ،‬وفي‬
‫الحديث والتردد في الجهة التي يقصدها المشركون وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬يعلم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم أنهم ل يريدون إل مكة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ل يعلم النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم الجهة التي يقصدون‪ ،‬لن‬
‫جبرئيل لم ينزل عليه بخصوص هذا الموضوع ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬هذه الية إخبار عن توجه الكفار إلى مكة المكرمة‪ ،‬لن ال تعالى يقول‬
‫ن[‪.‬‬‫خاِئِبي َ‬
‫]َفَيْنَقِلُبوا َ‬
‫والصحيح هو الثاني والثالث‪ ،‬فمن منافع هذه الية حصول الكشف عند المسلمين‬
‫عن الجهة التي يروم قصدها الكفار‪ ،‬وهو نعمة إضافية على المسلمين‪ ،‬وخصوصية‬
‫يتصفون بها من بين أهل التوحيد والمم السابقة‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى‬
‫س[ )‪.(676‬‬ ‫ت ِللّنا ِ‬‫ج ْ‬‫خِر َ‬‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬‫]ُكْنُتْم َ‬
‫فان قلت لماذا لم يخبر رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم عن إرادتهم سمت وجهة‬
‫مكة ‪ ,‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬بيان النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم لمصداق عملي حال لهذه الية‬
‫الثاني‪ :‬دعوة المسلمين لخذ الحائطة من مكر العدو‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تعليم المسلمين فنون القتال‪ ،‬وإرشادهم إلى رصد العدو‪ ،‬وحركته ونواياه‬
‫قبل وأثناء وبعد المعركة‪.‬‬
‫‪()675‬السيرة النبوية لبن هشام ‪.3/92‬‬
‫‪()676‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الرابع‪ :‬لقد فقد المسلمون عددًا من الشهداء يوم بدر بسبب ثغرة الجبل في يوم أحد‬
‫نفسه‪ ،‬وضراوة القتال ‪ ,‬فأراد النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم عند نهاية‬
‫المعركة إعطاءهم درسًا بلزوم الحذر وعدم ترك المواقع والمواضع القتالية إل‬
‫بمعرفة جهة العدو ونواياه السيئة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أراد النبي محمد صلى ال عليه وآل وسلم أن يدرك المسلمون العجاز في‬
‫هذه الية وأن مصاديقها ل تتأخر عنها‪ ،‬كما أن إنقلب الكفار ل يتخلف عن كبتهم‬
‫وذلتهم بدللة الفاء الواردة في هذه الية‪.‬‬
‫السادس‪ :‬إرشاد المجاهدين بلزوم الرجوع إلى المام القائد‪ ،‬وعدم التعجل بالرحيل‬
‫من ساحة المعركة إل بعد إحراز المن من العدو‪ ،‬بينما يفتقر الذين يقاتلون‬
‫المسلمين إلى التريث والتدبر في كيفية النسحاب ‪ ,‬لن الفاء تدل على مغادرة‬
‫الكفار ساحة المعركة على عجل وإرباك‪.‬‬
‫السابع‪ :‬دعوة المؤمنين المقاتلين في كل زمان إلى اللتفات إلى مسألة وهي الجهة‬
‫التي يقصدها الكفار عند النسحاب‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬التوجه بالشكر ل عز وجل على إنسحاب الكفار‪ ،‬وتحقيق مصداق قوله‬
‫تعالى ]َفَيْنَقِلُبوا[ وإنصراف كيدهم‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬نظر المسلمين في إمكان مطاردة العدو‪ ،‬والجهاز عليه في الطريق‪،‬‬
‫ل مقرًا بالحرمان من‬ ‫ونصب الكمائن له‪ ،‬أو تركه وشأنه خصوصًا وأنه ينسحب ذلي ً‬
‫تحقيق أغراضه التي جاء من أجلها‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬إعطاء المسلمين درسًا من جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تعيين الذي يتولى رصد العدو‪ ،‬وعدم ترك المسألة إجمالية مبهمة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إختيار المام علي بن أبي طالب عليه السلم لتعقب العدو ورصده‪ ،‬ويدل‬
‫هذا الختيار على أهمية وموضوعية هذه الوظيفة والنتائج التي تترتب عليها‪.‬‬
‫وفيه حث لقواد وأمراء المسلمين بالعناية في إختيار الذي يقوم برصد حركات‬
‫العدو ‪ ,‬ويجب أن يكون من القادة ‪ ,‬وذا دراية وحنكة وقدرة على القتال‪ ،‬فمع‬
‫مواصلة المام عليه السلم القتال يوم أحد‪ ،‬وحمله اللواء وقتله لعدد من المشركين‬
‫يومئذ‪ ،‬وكثرة جراحه ‪ ,‬وصبره وثباته وسط المعركة يذب عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم عندما فّر أغلب المسلمين ‪ ,‬فان النبي صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫أرسله ليتولى بنفسه مراقبة العدو‪ ،‬وضبط الجهة التي يريد على نحو القطع واليقين‪.‬‬
‫ولم يعتذر المام عن تتبع أثر العداء لكثرة ما فيه من الجراحات ‪ ,‬ولم يرجع إل‬
‫جهوا إَلى َمّكة( )‪ , (677‬ليكون‬
‫بعد التأكد من إنسحابهم التام لقوله عليه السلم )َوَو ّ‬
‫ل للفاء وإنصراف الكفار من غير إبطاء‪ ,‬وهزيمتهم من غير‬ ‫قوله هذا مصداقًا حا ً‬
‫حرص على تنظيم النسحاب ‪.‬‬
‫وفي بعث المام علي مسائل ‪:‬‬

‫‪()677‬السيرة النبوية ‪ /‬إبن كثير ‪.3/92‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الولى ‪ :‬إنه إشارة من أسرار وكنه النبوة بأن الكفار لن يعودوا للقتال‪ ,‬لدللة بعثه‬
‫على أن النبي محمدّا صلى ال عليه وآله وسلم لن يحتاجه إلى جانبه ساعة رصده‬
‫للعدو ‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إستعداد المام علي لقتال الكفار‪ ،‬وصدهم عن التوجه إلى المدينة‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تفويت مسألة المباغتة على الكفار‪ ،‬وبعث اليأس في نفوسهم وأنهم لن‬
‫يستطيعوا الهجوم على المدينة على حين غفلة من المؤمنين‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬جعل الخوف والفزع في نفوس الكفار مستديمًا‪ ،‬ول ينتهي بانتهاء المعركة‪،‬‬
‫بل هو يصاحبهم لملحقة المؤمنين لهم بعد إنقضائها‪.‬‬
‫الثامن والعشرون‪ :‬قد ينصرف العدو من المعركة وينقلب على وجهه‪ ،‬ولكنه يريد‬
‫من هذا النقلب الخدعة‪ ،‬وينوي منه الرجوع إلى المعركة مع المباغتة والغدر‪،‬‬
‫فجاءت هذه الية لبعث السكينة في نفوس المسلمين بأن إنقلب الكفار حقيقة‬
‫وهزيمة‪ ،‬وليس مجازًا وخدعة‪.‬‬
‫التاسع والعشرون‪ :‬جاءت الية السابقة بثلثة أمور هي‪:‬‬
‫الول‪ :‬نزول الملئكة والوعد به‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬طمأنينة قلوب المسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬بيان قانون ثابت وهو أن النصر بيد ال عز وجل) (‪.‬‬
‫‪678‬‬

‫وجاءت )الفاء( وقوله تعالى]َفَيْنَقِلُبوا[ بصيغة الطلق ‪ ,‬لتكون مصداقًا لهذه المور‬
‫الثلثة وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إنها بشارة وسبب لغبطة المجاهدين وعموم المسلمين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬فيها بعث للطمأنينة في نفوس المؤمنين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬طرد الفزع والخوف الذي قد يأتي من كثرة عدد وعدة العدو‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬إنها شاهد على أن تحقق نصر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمؤمنين بفضل ومدد من عند ال عز وجل‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬إذ أن إلتجاء الكفار إلى الهزيمة المقرونة بالذل والكبت دليل على تحقق‬
‫النصر للمسلمين الذين ثبتوا في ميدان المعركة إلى حين التأكد من توجه الكفار‬
‫ن آَمُنوا ِإَذا َلِقيُتْم ِفَئًة َفاْثُبُتوا[ )‪.(679‬‬
‫منقلبين إلى مكة قال تعالى ]َياَأّيَها اّلِذي َ‬
‫الثلثون‪:‬مع تعدد المعارك بين المسلمين والكفار فان ) الفاء( تخبر عن حقيقة ثابتة‬
‫وهي إتحاد النتيجة التي تتمثل بهزيمة الكفار وهم في حال كبت وذل وعجز عن‬
‫الوصول إلى غاياتهم التي جاءوا من أجلها‪ ،‬وفيه ردع وزجر لعموم الكفار من‬
‫التعدي على المسلمين ‪ ,‬لتبقى الفاء حرزًا وواقية وسلح دفاع ‪ ,‬ومادة لنصر وغلبة‬
‫المؤمنين على أعدائهم‪.‬‬
‫الحادي والثلثون‪ :‬تبين الفاء إتصال إنقلب الكفار بكبتهم وذلهم من غير فترة أو‬
‫فصل معتد به بينهما‪ ،‬كرمي النبال والمبارزة‪ ،‬وتدبير المكائد ‪ ,‬وإتقان النسحاب ‪,‬‬
‫‪()678‬أنظر الية ‪ 126‬آل عمران‪.‬‬
‫‪()679‬سورة النفال ‪.45‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وتدل على إنتصار المسلمين في معركة أحد‪ ،‬وإن لحقتهم خسارة جسيمة في‬
‫الرواح‪.‬‬
‫الثاني والثلثون‪ :‬هذه )الفاء ( من ثمرات دعاء النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وأصحابه في ميدان المعركة‪ ،‬وتلوتهم للقرآن وحسن توكلهم على ال عز‬
‫ت َأْقَداَمُكْم[)‪(680‬‬
‫صْرُكْم َوُيَثّب ْ‬
‫ل َين ُ‬
‫صُروا ا َّ‬
‫ن َتن ُ‬
‫وجل قال تعالى ]ِإ ْ‬
‫وستبقى الفاء في الية شاهدًا على نصر النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمؤمنين ‪ ,‬ومناسبة كريمة لثباتهم في القتال ورسوخ اليمان في قلوبهم‪ ،‬وتقيدهم‬
‫بأداء الفرائض والعبادات‪ ,‬وهو من مصاديق السلمة المستديمة والمتصلة للقرآن‬
‫من التحريف‪ ,‬إذ يحتاج المسلمون هذه الفاء في كل زمان ‪.‬‬
‫الثالث والثلثون‪ :‬جاءت الفاء رحمة من عند ال بالمسلمين والناس جميعًا لنها‬
‫تجعل هزيمة الكفار أمام جحافل المسلمين من اليقينيات التي لتحتاج إلى توسط‬
‫إستنباط أو تقديم تصور‪.‬‬
‫الرابع والثلثون‪ :‬تتعدد صيغ وكيفية المواجهة والمنازلة بين المسلمين والكفار‪ ،‬وقد‬
‫يكون المسلمون في حال دفاع عن بيضة السلم كما هو في معارك السلم‬
‫الولى‪.‬‬
‫فهل تنحصر وظائف الفاء بتلك الحال‪ ،‬الجواب ل‪ ،‬بل هي مطلقة سواء كان‬
‫المسلمون في حال دفاع أو غزو أو هجوم‪.‬‬
‫الخامس والثلثون‪ :‬الفاء الواردة في هذه الية مدد للمسلمين في معاركهم اللحقة‪،‬‬
‫فكل إنهزام مفاجئ للكفار بعث للمسلمين للخروج للجهاد في المعارك اللحقة‪،‬‬
‫وترغيب بالقتال في سبيل ال‪ ،‬وندب لطاعة ال ورسوله‪ ،‬ويتجلى هذا المر في‬
‫كثرة عدد المسلمين في كل معركة لحقة بالنسبة للمعركة السابقة‪ ،‬وحتى المنافقين‬
‫الذين إنسحبوا في الطريق إلى معركة أحد فان أكثرهم لجأ إلى الستغفار وأظهر‬
‫الندم والحسرة على رجوعه قبل المعركة‪ ,‬وكأن اللوم إنحصر برأس النفاق أبي بن‬
‫أبي سلول‪.‬‬
‫السادس والثلثون‪ :‬من المسلمات حصول الخصومة والخلف بين الكفار قبل وأثناء‬
‫المعركة‪ ،‬كما يظهر في واقعة بدر ودعوة عتبة بن ربيعة لجتناب القتال‪ ،‬وتوبيخ‬
‫وذم أبي جهل له‪.‬‬
‫وجاءت الفاء في هذه الية للخبار عن حقيقة وهي إنعدام الخلف بين الكفار‬
‫بخصوص النسحاب والهزيمة‪ ،‬لدللتها على إنتفاء الفترة بين الكبت والنسحاب‪،‬‬
‫كما أنها تؤكد عدم وجود التشاور بين الكفار بخصوص النسحاب أو عدمه‪ ،‬لذا لم‬
‫تبين الخبار وجود أصوات بين الكفار تطالب بمواصلة القتال‪.‬‬
‫فمن إعجاز الفاء في المقام العزم الفرادي والمجموعي عند الكفار على الهزيمة‬
‫وإجتناب القتال‪.‬‬

‫‪()680‬سورة محمد ‪.7‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السابع والثلثون‪ :‬الحرب سجال‪ ،‬وهي كر وفر‪ ،‬ول تعرف النتيجة فيها لعدم‬
‫ملزمتها للترجيح بالعدد والعدة‪ ،‬لما فيها من الخدعة والكيد والمباغتة‪ ،‬وسرعة‬
‫الحركة أو البطاء‪.‬‬
‫وجاءت الفاء لتؤسس قانونًا مخالفًا لنواميس وسنن القتال وما فيها من المفاجئات‬
‫والفن والمهارة بأن جعلت هزيمة الكفار في المعركة من الفطريات وهي القضايا‬
‫التي يحكم بها العقل من غير حاجة للحساس بها‪ ،‬إذ أن قياساتها معها‪ ،‬فحالما‬
‫يستحضر العقل أو يتصور الطرفين يكون الحكم ذاته حاضرًا معها‪ ،‬وهذا الحكم هو‬
‫إنقلب الكفار على أعقابهم في قتالهم مع المسلمين‪.‬‬
‫الثامن والثلثون‪ :‬جاءت الية قبل السابقة بالندب إلى الصبر والخشية من ال بلغة‬
‫صِبُروا َوَتّتُقوا[ )‪ ،(681‬وجاءت الفاء لعانة المسلمين‬‫ن َت ْ‬
‫الشرط بقوله تعالى ]َبَلى ِإ ْ‬
‫للتقيد بآداب الصبر‪ ،‬وبعث الشوق في نفوسهم للتقوى وأحكامها التي هي طريق‬
‫لنتهاء المعركة بسرعة وبنتيجة واحدة وهي هزيمة الكفار‪.‬‬
‫التاسع والثلثون‪ :‬لقد أراد ال عز وجل لشريعة النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم أن تكون باقية إلى يوم القيامة‪ ،‬ل تقبل النسخ والتغيير‪ ،‬وتكون معصومة من‬
‫التحريف والتبديل‪.‬‬
‫ويأتي تحريف الشرائع بطرق وكيفيات متعددة‪ ،‬منها القوة والقهر وغلبة الجنود‬
‫وهو أخطر وأشد السباب على المبادئ والعقائد‪.‬‬
‫فتفضل ال عز وجل بالفاء في هذه الية لتكون جزء علة في تثبيت دعائم السلم‪،‬‬
‫وبشارة تمل نفوس المسلمين بالطمأنينة‪ ،‬وهذه الطمأنينة أعم من أن تختص بساحة‬
‫المعركة أو حياة الفرد والجماعة‪ ،‬بل تشمل الطمئنان في مستقبل اليام من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬وراثة البناء والحفاد لملكة اليمان ‪ ,‬وتعاهد الفرائض والسنن التي جاء بها‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬سلمة أحكام الشريعة من التعدي‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الرضا بفضل ال عز وجل بتجدد نعمة النصر وهزيمة العداء المستقرأة‬
‫من صيغة الفعل المضارع )فينقلبوا( وما يدل عليه من الستمرار والحدوث‪.‬‬
‫الرابع‪) :‬الفاء( الواردة في الية من الشواهد على عدم طرو التحريف على القرآن‬
‫وآياته‪ ،‬لعدم تمكين الكفار من الستحواذ على المصار والبلد السلمية‪.‬‬
‫الربعون‪ :‬الفاء في هذه الية حجة‪ ،‬لما تفيده من العلم والعتقاد الجازم المطابق‬
‫ل عن بداية المعركة وما يقع فيها‪.‬‬ ‫للواقع بأن هزيمة الكفار لن تتأخر زمانًا وفع ً‬
‫الحادي والربعون‪ :‬يحتمل تأثير الفاء في الية وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه على نحو العلية والتأثير‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الكشف والدللة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إرادة المعنى الجامع للوجهين أعله‪.‬‬

‫‪()681‬سورة آل عمران ‪.125‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫والصحيح هو الثالث‪ ،‬إذ أن مجئ الفاء في هذه الية مدد للمسلمين‪ ،‬وسبب لزيادة‬
‫قوتهم‪ ،‬وبرزخ دون تسرب الخوف والخور إلى نفوسهم وبين صفوفهم‪.‬‬
‫والفاء علة لبث الفزع في صفوف الكفار وهي كاشفة عن حال الكبت والذل الذي‬
‫ينزله ال بالكفار‪ ،‬وعن عز المسلمين وصدق جهادهم في سبيل ال والعلة الفاعلية‬
‫في المقام ليس للفاء إنما هي مشيئة وقدرة ال عز وجل‪ ،‬وجاءت الفاء للدللة على‬
‫إرادته سبحانه‪.‬‬
‫الثاني والربعون‪ :‬جاءت )الفاء( بشرط ل شئ‪ ،‬وهي الماهية المجردة التي ل‬
‫تتوقف على شي من العوارض والقيود‪ ،‬وتكون خالية من العتبارات الضافية‪،‬‬
‫فهي شاهد سماوي على حصول هزيمة الكفار وإن تباينت حالهم قوة وضعفًا‪ ،‬وكثرة‬
‫وقلة بالمقارنة مع جيش المسلمين‪.‬‬
‫الثالث والربعون‪ :‬مجئ الفاء في الية من مصاديق التخفيف عن المسلمين في قوله‬
‫صاِبَرةٌ َيْغِلُبوا‬
‫ن ِمْنُكْم ِماَئٌة َ‬
‫ن َيُك ْ‬‫ضْعًفا َفِإ ْ‬
‫ن ِفيُكْم َ‬ ‫عِلَم َأ ّ‬
‫عنُكْم َو َ‬ ‫ل َ‬ ‫ف ا ُّ‬‫خّف َ‬‫ن َ‬ ‫تعالى]ال َ‬
‫ل[) (‪ ،‬لما تدل عليه الفاء من قصر‬ ‫‪682‬‬
‫ن ا ِّ‬‫ن ِبِإْذ ِ‬
‫ف َيْغِلُبوا َأْلَفْي ِ‬
‫ن ِمْنُكْم َأْل ٌ‬
‫ن َيُك ْ‬
‫ن َوِإ ْ‬
‫ِماَئَتْي ِ‬
‫مدة المعركة بين المسلمين وجيوش المشركين‪ ،‬وأن الكبت يأتي مددًا للمسلمين‪،‬‬
‫وتكون الفاء شاهدًا على الذل والهوان‪.‬‬
‫الرابع والربعون‪ :‬جاءت)الفاء( لتكون جذبة من ال للمسلمين لمقامات التقريب‬
‫والطاعة‪ ،‬فمن رحمته سبحانه أن يزيد من فضله ليترشح عنه فضل آخر‪ ،‬فجاءت‬
‫الفاء دعوة الناس لدخول السلم وفضحًا للمفسدين ‪ ,‬وواقية من مكرهم‪.‬‬
‫الخامس والربعون‪ :‬الفاء في هذه الية إرتباط بين عالم الغيب وعالم الشهادة‪،‬‬
‫وبيان لموضوع هذا الرتباط الذي يتقوم بأمور متباينة وهي‪:‬‬
‫الول‪ :‬بروز المؤمنين للقتال في سبيل ال ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إصرار الكفار على محاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وقوع المعركة‪ ،‬بين الطرفين‪ ،‬وإبتداء القتال‪ ،‬لتكون الفاء شاهدًا على صدق‬
‫نزولها من عند ال وتفاني المسلمين في طاعة ال‪.‬‬
‫السادس والربعون‪ :‬الفاء إشارة ومقدمة لما ينتظر الكفار من العذاب الليم في‬
‫الخرة‪ ،‬لن كبت ال عز وجل لهم‪ ،‬وسرعة هزيمتهم من مصاديق الغضب اللهي‪،‬‬
‫ضِبي َفَقْد َهَوى[)‪.(683‬‬ ‫غ َ‬ ‫عَلْيِه َ‬
‫ل َ‬ ‫حِل ْ‬
‫ن َي ْ‬
‫قال تعالى]َوَم ْ‬
‫وقد يقال أن الفاء ل تدل على سرعة هزيمة الكفار‪ ،‬لنها تفيد التعاقب والتوالي بين‬
‫الكبت والنقلب لقوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم َفَيْنَقِلُبوا[ وهذا القول صحيح وهو بذاته نعمة‬
‫عظيمة على المسلمين‪ ،‬إل أن التبادر من علمات الحقيقة والصل في الية سرعة‬
‫ورود الكبت والذل على الكفار كما يصدق عليه مجئ الكبت في معركة أحد‪،‬‬
‫وإستمراره للمعارك الخرى فيتعدد المعلول مع إتحاد العلة‪.‬‬
‫‪()682‬سورة النفال ‪.66‬‬
‫‪()683‬سورة طه ‪.81‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وأصل وسنخية الكبت واحدة ‪ ،‬ولكن الهزيمة متعددة‪ ،‬وكل فرد منها يكون علة لفرد‬
‫آخر من الكبت‪.‬‬
‫السابع والربعون‪ :‬جاءت الفاء بالماهية ل بشرط وتسمى )المطلقة( فهزيمة الكفار‪،‬‬
‫وإقترانها بكبتهم وذلهم مع تعدد ما يعرض لها من العتبارات‪ ،‬ففي كل الحوال‬
‫وما يطرأ من التغيير كالمدد الذي يأتي للكفار‪ ،‬وحال النقص والجهاد عند‬
‫المسلمين تكون ذات النتيجة وهي فرار الكفار من ساحة المعركة‪.‬‬
‫الثامن والربعون‪ :‬لقد جعل الكفار قتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم من‬
‫أهم غايات زحفهم على المدينة‪ ،‬وأبى ال عز وجل إل أن يحفظه وينجيه‪ ،‬وليس‬
‫ممن حصر لسباب ووسائل حفظه لن ال عز وجل الواسع الكريم الذي‬
‫لتستعصي عليه مسألة‪ ،‬وجاءت الفاء من مصاديق هذا الحفظ قال تعالى]َوَما َيْعَلُم‬
‫ل ُهَو[)‪ ،(684‬فل يستطيع الكفار إطالة المكوث في ساحة المعركة‪ ،‬ول‬ ‫ك ِإ ّ‬‫جُنوَد َرّب َ‬
‫ُ‬
‫التدبير بمكر‪.‬‬
‫صًدا[) (‪ ،‬يجعل ال عز وجل الملئكة حفظة للنبي‪،‬‬ ‫‪685‬‬
‫خْلِفِه َر َ‬
‫ن َ‬ ‫وفي قوله تعالى]َوِم ْ‬
‫يعصمونه من وساوس الشياطين حتى يبلغ ما أوحى ال إليه‪ ،‬وعن الضحاك‪ :‬ما‬
‫ي إل ومعه ملئكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك)‪،(686‬‬ ‫بعث نب ّ‬
‫والية ومضمون الرصد أعم ‪ ,‬فكان الملئكة الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم وأصحابه بهيئة سماوية مباركة لتقبل الترديد أو الشك‪ ،‬ولعل‬
‫منهم ملئكة يحرسون النبي من القتل ‪ ،‬ويمنعون وصول يد الكفارله ‪ ,‬وهو من‬
‫وجوه كثرة لمدد الملئكة الذين نزلوا يوم بدر وأحد‪ ،‬بالضافة إلى قدرة الملك على‬
‫القيام بالوظائف المتعدد بأذن ال‪ ،‬فهو ينصر المؤمنين ويطرد الشياطين‪.‬‬
‫ولم يأت العطف بالواو‪ ،‬فلم تقل الية )يكبتهم وينقلبوا( فجاء بالفاء‪ ،‬لن الواو لفادة‬
‫مطلق الجمع‪ ،‬وقيل بأنها ل تفيد الترتيب‪ ،‬وتأتي للستئناف كما في قوله تعالى‬
‫ل[)‪.(687‬‬ ‫ل َوُيَعّلُمُكْم ا ُّ‬
‫]َواّتُقوا ا َّ‬
‫أما الفاء فتأتي لمور‪:‬‬
‫الول‪:‬الترتيب المعنوي والذكرى بعطف المفصل على المجمل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التعقيب الذي ينفي التراخي والتباطئ في المعطوف بالنسبة لزمان وقوع‬
‫وفعل المعطوف عليه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تأتي الفاء للسببية ليكون ما قبلها سببًا لما بعدها ‪ ,‬كما في قوله تعالى ]َفَوَكَزُه‬
‫عَلْيِه[)‪.(688‬‬ ‫ضى َ‬ ‫سى َفَق َ‬ ‫ُمو َ‬

‫‪()684‬سورة المدثر ‪.31‬‬


‫‪()685‬سورة الجن ‪.27‬‬
‫‪()686‬الكشاف ‪.4/173‬‬
‫‪()687‬سورة البقرة ‪.282‬‬
‫‪()688‬سورة القصص ‪.15‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ول ينحصر معنى الفاء في هذه الية بالتعقيب وهذا من إعجاز حروف وكلمات‬
‫القرآن وهو أنها أعم وأوسع من التقسيم الستقرائي في الصناعة النحوية‪ ،‬فتتضمن‬
‫الفاء في )فينقلبوا( معنى السببية أيضًا بلحاظ أن كبت ال عز وجل لهم سبب‬
‫لهزيمتهم وتعجيلهم النسحاب‪.‬‬
‫وتحتمل )الفاء( في فينقلبوا وجوهًا في متعلقها ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إرادة عموم الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الكفار الذين ينسحبون من المعركة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الذين يهمون بالتعدي على المسلمين وحرماتهم وثغورهم‪.‬‬
‫ول تعارض بين هذه الوجوه‪ ،‬فالية وان تعلق موضوعها بالكفار الذين يهجمون‬
‫على المسلمين‪ ،‬وقتل فرسانهم‪ ،‬وعودة عامتهم بالخيبة والخسران إل أنها أعم‬
‫للخوف الذي يمل صدورهم‪ ،‬والجزع والفزع الذي يحيط بهم‪ ،‬وبأصحابهم الذين‬
‫يتلقون نبأ هزيمتهم‪ ،‬وهلك رجالتهم‪.‬‬
‫لقد جاء النقلب والنصراف في الية متعقبًا للكبت‪ ،‬وليس من فترة أو فصل معتد‬
‫به بينهما‪ ،‬لتكون دللت الية الكريمة على وجهين‪:‬‬
‫الول‪ :‬قطع طرف‪ ،‬وإبانة طائفة من الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬كبت وذل الكفار‪ ،‬ويترشح عن هذا الكبت أمور‪:‬‬
‫سوَلُه ُأْوَلِئ َ‬
‫ك‬ ‫ل َوَر ُ‬
‫ن ا َّ‬
‫حاّدو َ‬
‫ن ُي َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫الول‪ :‬مصاحبة الكبت والذل للكفار‪ ،‬قال تعالى]ِإ ّ‬
‫ن[ )‪.(689‬‬
‫لَذّلي َ‬
‫ِفي ا َ‬
‫الثاني‪ :‬حصول إنقلب وإنصراف الكفار على نحو القطع والجزم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إقتران النصراف بالخيبة والحرمان‪.‬‬
‫فقد يكون النسحاب من المعركة تداركًا ومقدمة لعادة الكرة‪ ،‬وإستدراجًا للعدو‪،‬‬
‫وإستنزافًا لقواه‪ ،‬والتحيز والرجوع إلى فئة تساعدهم وتمدهم للعودة مرة أخرى‬
‫للقتال‪ ،‬أو يصاب الكفار بالكبت والذل والحزن في ميدان المعركة‪ ،‬ولكن عندما‬
‫يرجعون إلى أمصارهم تبرز عندهم حمية الجاهلية‪ ،‬ويتجهون نحو النتقام والبطش‬
‫‪ ,‬ويزين لهم الهوى والنفس الغضبية المناجاة بالباطل والعودة للقتال بالنفخ والمبالغة‬
‫في قوتهم وذكر الضعف والقلة والنقص الذي عليه المسلمون والتخفيف من وطاة‬
‫المصيبة في المعارك السابقة‪ ،‬وبذل الوسع في بعث أسباب الشك والريب في‬
‫طي َ‬
‫ن‬ ‫شَيا ِ‬
‫المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم قال تعالى] َ‬
‫غُروًرا[)‪.(690‬‬ ‫ل ُ‬ ‫ف اْلَقْو ِ‬
‫خُر َ‬
‫ضُهْم ِإَلى َبْعضٍ ُز ْ‬
‫حي َبْع ُ‬
‫ن ُيو ِ‬
‫جّ‬
‫س َواْل ِ‬
‫لن ِ‬‫اِ‬
‫وتحتمل الفاء في متعلقها أمورًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬الختصاص بالكبت‪ ،‬والملزمة له‪ ،‬وينقلب الكفار خائبين في حال الكبت‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التأخر الرتبي عن الكبت فل يحصل النقلب إل بعد أن يكون الكفار في‬
‫حال الكبت والخزي والذل وهذا الكبت يأتي من جهات‪:‬‬
‫‪()689‬سورة المجادلة ‪.20‬‬
‫‪()690‬سورة النعام ‪.112‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الولى‪ :‬يترشح الكبت والخزي عن علة وسبب كقطع وهلك طائفة منهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬يأتي الكبت عقوبة عاجلة الكفار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ينزل الكبت بالكفار إبتداء وعلى نحو الدفعة الواحدة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يأتي النقلب مترشحًا ومتعقبًا لقطع طرف من الكفار‪ ،‬فحالما يشتد القتل في‬
‫الكفار ويقع على الرض من يتقدم للمبارزة‪ ،‬ويهلك من يحمل اللواء منهم‪ ،‬وتأتي‬
‫نبال المسلمين على عدد منهم‪ ،‬ويرون شدة بأس المسلمين‪ ،‬وتفانيهم في الجهاد في‬
‫ميادين الحرب‪ ،‬فيفر الكفار أمامهم‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى في وصف‬
‫ن[)‪ ،(691‬بتقريب وإستحضار موضوعية بذل المؤمنين‬ ‫صو َ‬
‫خِل ُ‬
‫ن َلُه ُم ْ‬
‫حُ‬‫المسلمين ]َوَن ْ‬
‫الوسع في القتال ومطاردة الكفار‪.‬‬
‫وتقدير الية )ليقطع طرفًا من الذين كفروا فيكبتهم وينقلبوا خائبين( بتقدم الفاء‬
‫لتشمل الكبت ويكون مترشحًا عن قطع وهلك صناديد الكفار‪ ،‬وهذا الوجه والتقدير‬
‫ليتعارض مع الوجوه أعله والصل موضوعًا وحكمًا هو النص القرآني‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬من مصاديق الية الكريمة عدم وصول النوبة إلى الكبت في حصول هزيمة‬
‫الكفار‪ ،‬لنها قانون ثابت ‪ ,‬وعقوبة عاجلة لهم ‪ ,‬ووسيلة لستئصالهم ‪ ,‬وبشارة‬
‫للمؤمنين ‪ ,‬وجزاء لهم على إخلصهم وتنافسهم في طاعة ال عز وجل‪.‬‬
‫وورد الترديد )أو( في الية ‪ ,‬فلم تقل الية )ويكبتهم( وفيه بيان لعظيم قدرة ال‪،‬‬
‫وكثرة الوجوه والصيغ التي يبتلي ويخزي بها الكفار‪ ،‬وفي هذه الكثرة وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها شاهد عملي محسوس على المدد اللهي للمسلمين‪ ،‬إذ أن الكفار هم الذين‬
‫أرادوا القتال‪ ،‬وزحفوا بالجيوش العظيمة‪ ،‬وإختاروا الزمان والمكان‪ ،‬وإبتداء القتال‬
‫بلحاظ قاعدة كلية وهي ان المسلمين ليبدأون عددَا بقتال بل يقومون بالوعظ‬
‫سْلَنا َ‬
‫ك‬ ‫والنصح والدعوة إلى ال قبل المعركة وهو من عمومات قوله تعالى ]َوَما َأْر َ‬
‫ن [ )‪ ،(692‬لما في الوعظ من النذار والبرهان ‪ ,‬وهو دعوة متجددة‬ ‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ْ‬
‫ِإ ّ‬
‫للكفار للتدارك وإجتناب القتال وخسارة الدنيا والخرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬دعوة الناس للعتبار والتعاظ من الكفار‪ ،‬فمن ل يلتفت إلى صيغة أو إثنتين‬
‫من كبت وخزي الكفار‪ ،‬فانه يلتفت إلى غيرها من الصيغ والكيفيات الخرى‪ ،‬وقد‬
‫يقوم الكفار بالتورية والخفاء والتستر على بعض أسباب ذلهم وخزيهم‪.‬‬
‫وتكون الكثرة من عمومات قوله تعالى ]َأْو َيْكِبَتُهْم[ بأن يظهر ال ذات الكبت‬
‫والخزي للناس وإن إجتهد الكفار في إخفاء الكبت الذي يصيبهم والجزع وقلة‬
‫الصبر الذي يكون عندهم عرضًا ملزمًا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تعدد كيفيات خزي وكبت وذل الكفار مقدمة لنصر المسلمين‪ ،‬وسبب لزحفهم‬
‫إلى سوح القتال‪ ،‬وبرزخ دون حصول الفشل والخور أو الخلف بينهم‪ ،‬وعون على‬
‫التمسك بسنن الخوة اليمانية وأحكام الشريعة‪.‬‬

‫‪()691‬سورة البقرة ‪.139‬‬


‫‪()692‬سورة النبياء ‪.107‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ل َأ ْ‬
‫ن‬ ‫الرابع‪ :‬إنه من التخفيف عن المسلمين في ميادين القتال قال تعالى ]ُيِريُد ا ُّ‬
‫عْنُكْم[)‪ ،(693‬وليكون أصل الكبت تخفيفًا‪ ،‬وتعدده وكثرة صيغه تخفيفًا إضافيًا‬ ‫ف َ‬ ‫خّف َ‬‫ُي َ‬
‫آخر‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬فيه دعوة للمسلمين للشكر ل عز وجل على تهيئة مقدمات النصر‪ ،‬وزيادة‬
‫في إيمانهم‪ ،‬وسبب للحرص على أداء الفرائض والعبادات بشوق ورغبة بعد تجلي‬
‫اليات والبراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم بما‬
‫يظهر على أعدائه من تعدد وجوه الذل والخزي‪.‬‬
‫ضّروُكْم ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫ن َي ُ‬ ‫ويفيد الجمع بين الفاء والنقلب في هذه الية وبين قوله تعالى ]َل ْ‬
‫لْدَباَر[)‪ ،(694‬أن إنقلب الكفار لم يكن مجردًا بل تصاحبه‬ ‫ن ُيَقاِتُلوُكْم ُيَوّلوُكْم ا َ‬
‫َأًذى َوِإ ْ‬
‫أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬عجز الكفار عن الحاق الضرر الفادح بالمسلمين‪ ،‬فهم لم يزحفوا إل‬
‫لستئصال المؤمنين‪ ،‬ورجعوا بعد أن خرج السلم والمؤمنون من المعركة في‬
‫حال أقوى مما كانوا عليه سواء في حال السلم أو القتال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هزيمة الكفار من ميدان المعركة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إقتران إنصراف وإنسحاب الكفار بالخيبة والحرمان‪ ،‬وعدم بلوغ القدمات‬
‫التي جاءوا من أجلها‪.‬‬
‫ترى ماذا لو لم تأت الفاء‪ ،‬ولم ينقلب الكفار من المعركة بذل وخيبة ‪ ,‬فيه وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬هلك الكفار جميعًا ‪ ،‬فيقع فيهم القتل على نحو العموم الستغراقي‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إستمرار المعركة‪ ،‬وبقاء الكفار يقاتلون ويذبون عن أنفسهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تغير نتيجة المعركة‪ ،‬وتكرار الكر والفر بين المؤمنين والكفار‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬وقوع الكفار بين قتيل وأسير‪ ،‬وعدم إفلت نفر منهم‪ ،‬وإن طال زمان‬
‫المعركة‪.‬‬
‫والصحيح هو الرابع‪ ،‬وهو من أسرار تقديم القطع والبانة في أول الية بقوله تعالى‬
‫ن َكَفُروا[‪ ،‬ليكون هذا القطع من مصاديق الرحمة اللهية‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫طَرًفا ِم ْ‬ ‫طَع َ‬ ‫]ِلَيْق َ‬
‫بالناس كافة في الحياة الدنيا لما فيه من ميل الكفار إلى الهزيمة‪ ،‬وإدراك أنها أهون‬
‫المرين عليهم‪ ،‬ولتكون الهزيمة مناسبة للتدبر في صدق نبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم من خلل وقائع المعركة وتجلي آيات النبوة فيها‪ ،‬وكان النبي يرجو‬
‫هدايتهم مع شدة أذاهم له‪ ,‬وبخصوص ثقيف وحصارها ‪) :‬وروى الترمذي من‬
‫حديث عبد ال بن عثمان بن خثيم‪ ،‬عن أبى الزبير‪ ،‬عن جابر قالوا‪ :‬يا رسول ال‬
‫أحرقتنا نبال ثقيف فادع ال عليهم‪ ،‬فقال‪ " :‬اللهم أهد ثقيفا")‪.(695‬‬

‫‪()693‬سورة النساء ‪.28‬‬


‫‪()694‬سورة آل عمران ‪.111‬‬
‫‪()695‬السيرة لبن كثير ‪.3/663‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ل ونساًء في السلم طوعًا‪ ,‬ليكون آية في‬ ‫ولم تمر اليام حتى دخلت ثقيف رجا ً‬
‫إستجابة دعاء النبي ‪ ,‬وشاهدًا على صدق نبوته ‪ ,‬وقطعًا لطرف من الكفار وكبتًا‬
‫وخزيًا لهم ‪.‬‬
‫ترى لماذا لم تقل الية )فيقلبوا( أو)فيقلبهم( لتكون على وزن ونظم القطع‬
‫والكبت)أو يكبتهم( ونسبة فعل القلب إلى ال عز وجل ‪ ,‬والجواب من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬بيان حال الكفار بعد نزول القطع والكبت فيهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬دعوة المؤمنين والباحثين العسكريين إلى إستنباط المسائل‪ ،‬ودراسة ما‬
‫يحصل عند الكفار بعد إبتلئهم بهلك طائفة منهم‪ ،‬وخزيهم وذلهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وقوع إنقلب الكفار بإختيارهم‪ ،‬وفيه زيادة في توبيخ وتبكيت الكفار ‪ ,‬وهو‬
‫شاهد على عجزهم عن مواصلة القتال ‪.‬‬
‫ن[) (‪ ،‬لبيان أن‬
‫‪696‬‬
‫شاُء َوِإَلْيِه ُتْقَلُبو َ‬‫ن َي َ‬
‫حُم َم ْ‬ ‫شاُء وََيْر َ‬ ‫ن َي َ‬‫ب َم ْ‬
‫وقد ورد قوله تعالى ]ُيَعّذ ُ‬
‫الرجوع والنقلب إلى الخرة والمثول بين يدي ال أمر قهري وحتمي‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬توكيد قانون السببية‪ ،‬وأنه ل يتعارض مع مشيئة ال‪ ،‬وفي المقام نكتة‬
‫عقائدية وهي أن إيجاد السبب للنقلب من عند ال‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬تدل الية على أن تدبير نظام الوجود بيد ال‪ ،‬وهو وحده المهيمن المؤثر‬
‫ل[)‪ ،(697‬الذي يبتلي الكفار بالنقلب‬ ‫عْنِد ا ِّ‬
‫ن ِ‬ ‫ل ِم ْ‬‫ل ُك ّ‬ ‫المستقل المختار‪ ،‬قال تعالى ]ُق ْ‬
‫خائبين‪ ،‬ليكون مقدمة وإنذارًا لسوء منقلبهم يوم القيامة‪.‬‬
‫ومن اليات أن تأتي البشارة للمؤمنين في النقلب في ذات الموضوع الذي جاءت‬
‫به هذه الية للخبار عن سوء منقلب الكفار‪ ،‬ودعوة الناس للفوز بما في السلم من‬
‫سوٌء[)‪.(698‬‬‫سسُْهْم ُ‬
‫ل َلْم َيْم َ‬‫ضٍ‬ ‫ل َوَف ْ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫النعم في النشأتين ‪ ,‬قال تعالى ]َفاْنَقَلُبوا ِبِنْعَمٍة ِم ْ‬
‫أي فرجع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر بعافية‬
‫وسلمة وأمن من السوء والضرر‪ ،‬ليتجدد عندهم الثبات على اليمان ومع فضل‬
‫من ال بالغنائم من العدو‪.‬‬
‫وهو من عمومات دللة البشارة للمسلمين في مفهومها على النذار للكفار‪ ,‬النذار‬
‫للكفار في مفهومه البشارة للمسلمين‪ ،‬بالضافة إلى ما في الجمع بينهما من الترغيب‬
‫في السلم‪ ،‬والدعوة إلى التصديق بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ونزول‬
‫القرآن من عند ال سبحانه ‪ ,‬والنفرة من الكفر والجحود‪.‬‬
‫ويحتمل مجئ الفاء وإنقلب الكفار خائبين أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬وجود المقتضي وفقد المانع‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه أمر عرضي طارئ تم إتفاقًا‪.‬‬
‫والصحيح هو الول‪ ،‬لتجلي العلة التامة لهزيمة الكفار‪ ،‬ومنه إجتماع هلك طائفة‬
‫وطرف منهم‪ ،‬وإصابة عموم الكفار بالخيبة‪ ،‬وهل تكون هذه الخيبة نهاية وأمنًا من‬
‫‪()696‬سورة العنكبوت ‪.21‬‬
‫‪()697‬سورة النساء ‪.78‬‬
‫‪()698‬سورة آل عمران ‪.174‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫قطع الطرف‪ ،‬الجواب ل‪ ،‬بل يكون إنقلب الكفار بذل وحرمان وخيبة سببًا لتسهيل‬
‫قطع طرف منهم ‪ ,‬مثلما يكون قطع الطرف منهم مقدمة وسببًا لهزيمة الكفار ‪.‬‬
‫فمن العجاز في منطوق ومفهوم الفاء في الية الكريمة وقوع المتضادين من غير‬
‫تعارض بينهما للتباين في المحل ‪ ,‬فالهزيمة أثر لقطع طرف من الكفار وخزي‬
‫لهم ‪ ,‬وتخفيف عن المؤمنين ‪.‬‬
‫وتتصل الفاء في موضوعها وعلتها بالية السابقة من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬دللة قطع طرف من الكفار‪ ،‬وكبتهم وإنقلبهم خائبين على صبر وجهاد‬
‫المسلمين‪ ،‬وثبات اليمان في نفوسهم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هزيمة الكفار حال بدء المعركة وإشتداد القتال بشارة للمؤمنين‪ ،‬فصحيح أن‬
‫البشارة في الية السابقة تتعلق بنزول الملئكة لنصرتهم والوعد به بقوله تعالى‬
‫شَرى َلُكْم[)‪ ،(699‬إل أن الجمع بين اليتين‪ ،‬ولحاظ موضوعية‬ ‫ل ُب ْ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫جَعَلُه ا ُّ‬
‫]َوَما َ‬
‫الفاء يفيدان أن البشارة التي تأتي من نزول الملئكة توليدية من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬نزول الملئكة ذاته‪.‬‬
‫الثاني‪:‬مشاركة الملئكة إلى جانب المسلمين مدد لهم في القتال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬هزيمة الكفار وعجزهم عن الصبر أمام الملئكة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬هلك طائفة من المشركين‪.‬‬
‫الخامس‪:‬لجوء الكفار للهزيمة حالما أصابهم الكبت والخزي ‪ ,‬وهم في حال متزلزلة‬
‫من أول المعركة ‪.‬‬
‫فتؤكد الفاء أنه ليس من فترة بين كبت الكفار وبين هزيمتهم‪ ،‬وأن الكبت يصيبهم‬
‫بهلك طرف منهم أو عدمه ‪ ,‬ولكن هلك الطرف منهم ملزم لقتالهم المسلمين ‪ ,‬إذ‬
‫أن الطرف من الكلي المشكك الذي يقع على أفراد متباينة قوة وضعفاً ‪ ,‬وكثرة‬
‫وقلة ‪ ,‬مع إتحاده في الجنس وصبغة الكفر‪.‬‬
‫وللفاء موضوعية في حال السلم الحرب‪ ،‬فحتى لو لم تقع معركة بين المسلمين‬
‫والكفار‪ ،‬فان الكبت والذل يلحق الكفار‪ ،‬ويجعلهم ينهزمون في المعارك والحتجاج‬
‫والجدال والمنتديات‪.‬‬
‫لقد جاءت الفاء لتؤكد شروق شمس اليمان‪ ،‬وإنحسار الضللة والكدورات‬
‫الموحشة ‪ ,‬ويتضح للناس طريق مبارك إلى عالم النور والهداية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إنقلب الكفار خائبين سكينة وطمأنينة لقلوب المسلمين في ميدان المعركة‬
‫وقادم اليام‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬جاءت الفاء لحث المسلمين على التفقه في الدين ‪ ,‬والتدبر في آيات القرآن‪،‬‬
‫والرتقاء في سلم الكمالت‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إقتران المصداق العملي لعظيم قدرة ال عز وجل إذ أخبرت الية السابقة‬
‫في خاتمتها على أن النصر بيد ال عز وجل‪.‬‬

‫‪()699‬سورة آل عمران ‪.126‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وجاءت هذه الية بهزيمة الكفار خائبين محرومين‪ ،‬لتدل في مفهومها على نصر ال‬
‫لنبيه الكريم والمؤمنين‪.‬‬
‫جِميًعا[‬
‫ل َ‬‫ن اْلُقّوةَ ِّ‬
‫السادس‪ :‬سرعة إنقلب الكفار من المعركة من الشواهد على ]َأ ّ‬
‫)‪.(700‬‬
‫ومن مصاديق حكمة ال تعالى وإتقانه للمور‪ ،‬وتفضله بتثبيت سنن اليمان في‬
‫الرض وتخليص الناس من سلسل الضللة‪ ،‬وغشاوة العناد ‪ ,‬إمتناع النصر‬
‫والثبات والصبر على الكفار‪.‬‬
‫وهل من موضوعية للمدد الملكوتي في)الفاء( وسرعة إنصراف الكفار من المعركة‬
‫يجرون أذيال الهزيمة والخسران‪ ،‬الجواب نعم ‪ ,‬ويدل عليه نظم اليات فنزول‬
‫الملئكة والوعد به كما في الية السابقة من أسباب إمتلء قلوب الكفار بالفزع‬
‫والخوف‪.‬‬
‫ولم يرد لفظ )فينقلبوا( في القرآن إل في هذه الية‪ ،‬وفيه بشارة إضافية للمسلمين‪،‬‬
‫وأن النقلب والهزيمة خاصة بالكفار‪ ،‬وتصاحبهم هي والخيبة في ميادين القتال‪.‬‬
‫ن[ الجواب‪:‬‬ ‫خاِئِبي َ‬
‫ترى ما هو أثر الفاء في خيبة الكفار بقوله تعالى ] َ‬
‫خيبة الكفار حال نفسانية تترشح عن أسباب وأمور متعددة‪ ،‬منها مجئ الفاء في هذه‬
‫الية والحسرة التي تصيب الكفار بسبب سرعة هزيمتهم‪ ،‬وعدم صبرهم في‬
‫المعركة‪ ،‬وكأن ثغرة الجبل يوم أحد ومجئ الكفار للمؤمنين من الخلف وسرعة‬
‫زوال أثرها وتدارك المؤمنين ورجوعهم للقتال موضوع لزيادة حسرة الكفار‪،‬‬
‫ولومهم لنفسهم‪ ،‬وجعل الخيبة ملكة ثابتة عندهم‪ ،‬بينما كانت درسًا وعبرة‬
‫للمؤمنين‪ ،‬ودعوة لطاعة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم في ميادين القتال ‪,‬‬
‫خُذوُه[)‪.(701‬‬ ‫ل َف ُ‬
‫سو ُ‬ ‫قال تعالى ]َما آَتاُكْم الّر ُ‬
‫وتكررت الفاء في موضوع هبوط آدم وحواء من الجنة‪ ،‬ونسب الفعل إلى السبب‬
‫جُهَما ِمّما َكاَنا ِفيِه[)‪ ،(702‬لبيان‬ ‫خَر َ‬
‫عْنَها َفَأ ْ‬
‫ن َ‬‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫وهو إبليس بقوله تعالى]َفَأَزّلُهَما ال ّ‬
‫أثر وأضرار وسوسته وإغوائه في فقدهما عظيم الشأن والرتبة الرفيعة في السكن‬
‫ل الشيطان آدم وحواء وهما كل البشر‬ ‫في الجنة‪ ،‬والهبوط إلى الرض‪ ،‬وقد أز ّ‬
‫يومئذ ‪ ,‬وتدل الفاء في الية أعله على قصر مدة بقاء آدم وحواء في الجنة بسبب‬
‫غواية الشيطان‪.‬‬
‫بينما جاءت الفاء في)فينقلبوا( لبيان وجود أمة مؤمنة في الرض يصاحبها العز‬
‫والنصر والظفر‪ ،‬والكفار في هزيمة وخيبة‪ ،‬وفيه وهن وضعف للشيطان وجنوده‪،‬‬
‫وهو من مصاديق إجتناب الفساد من الرض وموضوع إحتجاج الملئكة حينما‬
‫عَلُم‬
‫ك الّدَماَء[)‪ ،(703‬ورد ال عز وجل عليهم ]َأ ْ‬ ‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬ ‫ن ُيْف ِ‬
‫ل ِفيَها َم ْ‬
‫جَع ُ‬
‫قالوا]َأَت ْ‬

‫‪()700‬سورة البقرة ‪.165‬‬


‫‪()701‬سورة الحشر ‪.7‬‬
‫‪()702‬سورة البقرة ‪.36‬‬
‫‪()703‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ن[)‪ ،(704‬فإنه سبحانه ينزل ذات الملئكة لدحر أعوان الشيطان وجعل‬ ‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫َما َ‬
‫قطع طرف منهم وخزيهم مقدمة لجذبهم للهداية واليمان‪.‬‬
‫عَلْيِه[) (‪ ،‬فكما‬
‫‪705‬‬
‫ب َ‬
‫ت َفَتا َ‬
‫ن َرّبِه َكِلَما ٍ‬
‫وتكررت الفاء أيضًا في قوله تعالى]َفَتَلّقى آَدُم ِم ْ‬
‫أن الفاء في الية تفيد عدم وجود مهلة بين كبت الكفار وهزيمتهم خائبين وإمتلء‬
‫نفوسهم بالغيظ‪ ،‬في بيان لبطش ال عز وجل بهم‪ ،‬فإن ال عز وجل يتفضل على‬
‫المؤمنين من ذرية آدم بالتوبة وأسباب الهداية والرشاد‪ ،‬كما تفضل وعلم أبيهم آدم‬
‫كلمات ليتوب عليه‪ ،‬وتفضل على النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وأنزل‬
‫ملئكة لنصرته وأصحابه ليكون هذا النزول خسارة مستديمة ومتصلة للكفار إلى‬
‫يوم القيامة ‪ ,‬وواقية من تأثير إبليس وجنوده‪.‬‬

‫بحث عرفاني في"الفاء"‬


‫جاءت الفاء لتكون مناسبة لتوجه المسلمين بأجيالهم المتعاقبة بالشكر ل عز وجل‪.‬‬
‫ويتقوم الشكر في المقام بأمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬معرفة المسلمين بأنفسهم من جهات ‪:‬‬
‫الثانية ‪ :‬المسلمون أتباع وأنصار سيد المرسلين الذي بشر به النبياء السابقون ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬إن ال عز وجل يتفضل عليهم بالمدد الملكوتي في ميادين المعارك‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬يجعل ال أعداء السلم ينهزمون بذل ووهن أمام جحافل المسلمين وإن‬
‫كانوا قلة ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬تعاهدهم لداء الفرائض والواجبات ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬معرفة أن إنقلب الكفار حال بدئ المعركة لم يكن بالسباب المادية‬
‫ورجحان كفة المسلمين عددًا وعدة‪ ،‬والعلة والمعلول في ميادين المعارك وفنون‬
‫القتال فيها‪ ،‬بل جاء بمدد وعون ولطف من ال بالنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التسليم بأن معجزات النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم متعددة‬
‫المواضيع ‪ ،‬وهي على شعب منها‪:‬‬
‫الولى‪ :‬ما ينزل عليه من آيات القرآن‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬عموم الوحي‪ ،‬وما يأتي به الملك من عند ال مما يتعلق بالحوادث والوقائع‬
‫وبيان اليات وغيرها‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ما يجري على يديه من المعجزات الحسية‪ ،‬التي تدل على صدق نبوته‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬سلمته من الكفار والكيد والمكر‪ ،‬ومحاولت الغتيال المتكررة ‪ ,‬قال‬
‫س[ )‪.(706‬‬
‫ن الّنا ِ‬
‫ك ِم ْ‬
‫صُم َ‬‫ل َيْع ِ‬
‫تعالى]َوا ُّ‬
‫الخامسة‪ :‬إمتلء نفوس أعدائه منه بالرعب والهلع ‪.‬‬
‫‪()704‬سورة البقرة ‪.30‬‬
‫‪ ()705‬الية ‪.37‬‬
‫‪()706‬سورة المائدة ‪.67‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السادسة‪ :‬تجلي البطش اللهي بالكفار بقتل صناديدهم وأبطالهم كما في معركة بدر‬
‫إبتداء وإستدامة وخاتمة‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬إنقلب الكفار في المعركة خائبين عند المواجهة‪.‬‬
‫ل هناك موضوعية للرعب المذكور في‬ ‫الثامنة‪ :‬التداخل بين هذه المعجزات فمث ً‬
‫الشعبة الخامسة أعله في مبادرة الكفار للهزيمة‪ ،‬وكذا بالنسبة للمعجزات التي جاء‬
‫بها النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم سواء كانت عقلية أو حسية في بعث‬
‫الخوف والرعب في قلوب أعدائه منه ‪ ,‬وصيرورته مقدمة ووسيلة لنصرافهم‬
‫خائبين‪ ،‬وهو من أسرار فلسفة مجئ الفاء في الية‪ ،‬وإمتزاج هذا الخوف بالقرار‬
‫على نحو الموجبة الجزئية بصدق نبوته‪ ،‬وإدراك أولوية عدم مقاتلته والمؤمنين‬
‫برسالته‪ ،‬ورجحان إجتناب القتال‪ ،‬وتفضيل النسحاب وإعتزال الحرب قهرًا‬
‫وطوعًا وإنطباقًا وال واسع كريم يأخذ الكفار بأشد الحوال‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬معرفة أن ال عز وجل هو الذي تفضل بقطع طرف من الكفار وإنصرافهم‬
‫خاسرين محرومين‪ ،‬وال عز وجل وحده هو المنعم‪ ،‬وأن المؤمنين جنود ل عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫وقد ثبت في المعرفة اللهية أنه ل مؤثر في الوجود إل ال عز وجل‪ ،‬وهذه الحقيقة‬
‫علم فطري وسبيل إلى النقطاع إليه بالعبادة وإظهار الخشوع والخضوع له‬
‫سبحانه‪ ،‬والتسليم بعظيم قدرته وسلطانه وأنه لتستعصي عليه مسألة ‪ ,‬وحيث أن‬
‫الثر ملزم للمؤثر فإن خلق النسان وجعله خليفة في الرض ونصر المؤمنين من‬
‫الشواهد على أن مقاليد المور بيده تعالى ‪.‬‬
‫ومن ذكر ال عز وجل وشكره في ميادين القتال اللجوء إلى الدعاء وسؤال الصبر‬
‫والظفر بالعداء‪ ،‬وهو من مصاديق القرار بأن ال عز وجل هو المنعم وأن مفاتيح‬
‫صْرَنا‬
‫ت َأْقَدامََنا َواْن ُ‬
‫صْبًرا َوَثّب ْ‬
‫عَلْيَنا َ‬
‫غ َ‬
‫النصر بيده سبحانه ‪ ,‬وفي التنزيل ]َرّبَنا َأْفِر ْ‬
‫ن[ )‪.(707‬‬
‫عَلى اْلَقْوِم اْلَكاِفِري َ‬
‫َ‬
‫لقد جاءت مبادرة الكفار للهزيمة يوم معركة أحد مع كثرة عددهم وعدتهم مناسبة‬
‫ليشكر المسلمون والمسلمات ال عز وجل على نعمة كفاية وهزيمة الكفار‪ ,‬وبشارة‬
‫إنتصار السلم المتجدد‪ ،‬وهزيمة أعدائه وسلب النعم والجاه عمن يحارب السلم‬
‫والمسلمين‪ ،‬وفيه دعوة للناس لتعاهد النعم بمحاكاة أهل اليمان الذين أبى ال عز‬
‫وجل إل أن يمدهم بالنصر والغلبة‪ ،‬وقد نصرهم وهم ضعفاء وقلة ‪ ,‬قال تعالى ]َوَلَقْد‬
‫ل ِبَبْدٍر َوَأْنُتْم َأِذّلٌة[)‪ ،(708‬فمن باب الولوية القطعية أن ينصرهم ال عز‬ ‫صَرُكْم ا ُّ‬
‫َن َ‬
‫وجل وهم كثير وأعزة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬معرفة مصاديق النعمة في ميادين القتال‪ ،‬وآثارها بالذات والعرض‪ ،‬وفي‬
‫أفراد الزمان الطولية ومنها الحال والمستقبل‪ ،‬وبعث السكينة في نفوس المؤمنين‪،‬‬
‫وشكر ال عز وجل على ملكة الصبر وتحمل الذى من الكفار في بدايات الدعوة‬
‫‪()707‬سورة البقرة ‪.250‬‬
‫‪()708‬سورة آل عمران ‪.123‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫خِزِهْم‬‫السلمية ‪ ,‬ورؤية مصارع أبطالهم وهزيمتهم يوم بدر وأحد ‪ ,‬قال تعالى]َوُي ْ‬
‫ن[ )‪.(709‬‬
‫صُدوَر َقْوٍم ُمْؤِمِني َ‬
‫ف ُ‬
‫ش ِ‬
‫عَلْيِهْم َوَي ْ‬
‫صْرُكْم َ‬
‫َوَيْن ُ‬
‫والشكر من مقامات السالكين‪ ،‬ويتألف كل مقام من‪:‬‬
‫الول‪ :‬العلم وهو الصل‪ ،‬فلبد من معرفة المنعم‪ ،‬وموضوع مقدار النعام كمَا‬
‫وكيفًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يتفرع عن هذا الصل الحال ‪ ,‬وهو الغبطة والسعادة التي تغمر المنعم عليه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الشكر والجزاء لما يكون مناسبًا لحال الحب والمتنان ‪ ,‬والثناء على المنعم‪،‬‬
‫وبما يدل على القرار بالنعمة‪ ،‬وظهورها على الجوارح والركان بالفعل والشكر‬
‫على النعمة باللسان ‪ ,‬أو الوقوف على ما هو أقل في مراتب الشكر بالذكر بالقلب‬
‫المقرون بحال الرضا والفرح بالنعم‪.‬‬
‫وجاءت الفاء في هذه الية ليظهر المسلمون أبهى آيات الشكر عز وجل‪ ،‬ويتجلى‬
‫بالخلص في عبادة ال‪ ،‬والفناء في مرضاته‪ ،‬والنقياد إلى الحكام التي جاء بها‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬والمتثال التام للوامر والنواهي القرآنية‪.‬‬

‫بحث بلغي في فاء)فينقلبوا(‬


‫قسمت المعاني التي تأتي فيها الوجوه تفسيرًا إستقرائيًا إلى عدة وجوه‪ ،‬ولكن هذا ل‬
‫يعني عدم الشتراك والتداخل وتعدد الوجوه في لفظ واحد منها‪ ،‬فمن إعجاز القرآن‬
‫إنطباق تلك الوجوه على الفاء في هذه الية من غير تزاحم أو تعارض بينهما‪ ،‬فتأتي‬
‫الفاء حرف عطف وتكون على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الترتيب وهو على شعبتين‪:‬‬
‫عَلْيِه[) (‪،‬‬
‫‪710‬‬
‫ضى َ‬‫سى َفَق َ‬
‫الولى‪ :‬الترتيب المعنوي كما في قوله تعالى]َفَوَكَزُه ُمو َ‬
‫فعندما يرمي ال عز وجل بالكبت والذل تترتب عليه حال الهزيمة والفرار‪.‬‬
‫ومن العجاز في الية أنها تذكر الكبت بأنه من ضروب البديع)حسن النسق( وهو‬
‫مجيء المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات متصلة في مضامينها‪ ،‬وجاءت هذه الية‬
‫بسبع كلمات ‪ ,‬وكل كلمة وجملة منها مدرسة كلمية وعقائدية وبلغية تؤكد نصر‬
‫ال عز وجل رسوله الكريم‪ ،‬وما أصاب الكفار من الذل والهزيمة‪.‬‬
‫ومن اليات أن هذه الجمل متداخلة‪ ،‬وهو مما إذا إجتمع إفترق‪ ،‬وإذا إفترق إجتمع‪،‬‬
‫وكأن إختيار الكفر موضوع‪ ،‬والقطع والكبت والهزيمة والخيبة محمول وعرض‬
‫ملزم له ل ينفك عنه‪ ،‬وفيه إنذار وتحذير للكفار‪.‬‬
‫ترى لماذا لم تقل الية )ليقطع طرفًا من الكفار أو الكافرين( والجواب ‪ :‬قد ورد‬
‫لفظ)الذين كفروا( ستًا وثمانين ومائة مرة في القرآن‪ ،‬وتدل على ظلمهم لنفسهم‪،‬‬

‫‪()709‬سورة التوبة ‪.14‬‬


‫‪()710‬سورة القصص ‪.15‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ن َكَفُروا َوَكّذُبوا ِبآَياِتَنا ُأْوَلِئكَ‬ ‫وقيام الحجة عليهم وما ينتظرهم من العذاب الليم]َواّلِذي َ‬
‫ب الّناِر[‪.‬‬
‫حا ُ‬
‫صَ‬ ‫َأ ْ‬
‫ويدل لفظ)الذين كفروا( على إختيارهم الكفر وتلبسهم به ‪ ،‬وأنه ليس عرضًا غريبًا‬
‫أو أمرًا متوارثًا قهريًا‪ ،‬بل هو فعل إختياري قامت عليهم الحجة‪ ،‬وأن هذا التلبس‬
‫كاف لنزول قطع الطرف منهم قبل أن تصل النوبة إلى ظلمهم وسوء فعلهم بالزحف‬
‫ع َ‬
‫ب‬ ‫ن َكفَُروا الّر ْ‬ ‫ب اّلِذي َ‬‫سُنْلِقي ِفي ُقُلو ِ‬ ‫على المدينة لستئصال السلم ‪ ,‬قال تعالى] َ‬
‫ل[ )‪.(711‬‬ ‫شَرُكوا ِبا ِّ‬
‫ِبَما َأ ْ‬
‫الثانية‪ :‬الترتيب الذكري‪ ،‬وهو عطف مبين ومفصل على مجمل بما يدفع الوهم‬
‫عْنُهْم[) (‪،‬‬
‫‪712‬‬
‫ض َ‬‫عِر ْ‬ ‫ن ِفي آَياِتَنا َفَأ ْ‬ ‫ضو َ‬‫خو ُ‬ ‫ن َي ُ‬
‫ت اّلِذي َ‬
‫والترديد كما قوله تعالى]َوِإَذا َرَأْي َ‬
‫ويفيد الجمع بين الية أعله والية محل البحث أن الكفار هم الذين أرادوا القتال‬
‫وقصدوا الجهاز على السلم‪ ،‬فل ينفع العراض عنهم ول بد من الدفاع والذب‬
‫عن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والقرآن‪ ،‬وجاءت الفاء في)فينقلبوا( لبيان‬
‫ما يترشح عن الكبت والذل الذي يصيب الكفار من عدم البقاء في ميدان المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التعقيب‪ ،‬وبه تنفصل الفاء عن حرف العطف الواو‪ ،‬وعن )ثم( التي تفيد‬
‫التراخي‪ ،‬لذا فإن مجيئها بقوله تعالى)فينقلبوا( مدرسة كلمية وبلغية في تأكيد‬
‫نصر ال عز وجل العاجل للمؤمنين ‪ ,‬وبرزخ دون الشك بهزيمة أعدائهم أمامهم‬
‫حالما بدأت المعركة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬السببية‪ ،‬بأن يكون ما قبلها سببًا لما بعدها‪ ،‬وهو أمر ل يتحقق بحرف‬
‫العطف الواو‪ ،‬ول تتعارض السببية في المقام‪ ،‬مع إعتبار إنقلب الكفار منهزمين‬
‫آية إعجازية مستقلة ونعمة على المسلمين قائمة في عدوهم تحكي الخوف والفزع‬
‫الذي يمل نفوس الكفار ‪ ,‬ويلحظ في الية توالي وتعاقب أسباب الخسارة والذل‬
‫للكفار ‪ ,‬وبما يطرد الغرور عن أنفسهم ويبين لهم ضللتهم وقبح الصرار على‬
‫إرادة قتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمسلمين‪.‬‬
‫وإذا كانت علة زحف الكفار على المدينة المنورة هي منع إنتشار مبادئ السلم‬
‫ودخول أفراد وجماعات من الناس فيه‪ ،‬فإن معركة بدر وأحد وإنقلبهم فيهما‬
‫خائبين جعل السلم ينتشر في الفاق بسرعة فائقة‪ ،‬وتدخل القبائل‪ ،‬والناس أفواجًا‬
‫ن[)‪ ،(713‬ومع قلة‬ ‫ظاِهِري َ‬ ‫حوا َ‬ ‫صَب ُ‬
‫عُدّوِهْم َفَأ ْ‬
‫عَلى َ‬ ‫ن َآَمُنوا َ‬ ‫فيه‪ ،‬قال تعالى]َفَأّيْدَنا اّلِذي َ‬
‫كلمات الية فأنها تتضمن دللت عظيمة في دحر الكفار وإلحاق الخسارة الفادحة‬
‫بهم‪ ،‬لتكون هذه الية مقدمة لفتح مكة‪.‬‬
‫بحث منطقي في الفاء‬
‫تتعدد مفاهيم الدللة اللفظية وهي في إصطلح المنطق العلم بالمعنى المقصود من‬
‫اللفظ الصادر يقينًا من المتكلم وإنه جاد غير هازل‪.‬‬
‫‪()711‬سورة آل عمران ‪.151‬‬
‫‪()712‬سورة النعام ‪.68‬‬
‫‪()713‬سورة الصف ‪.14‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وتقسم الدللة عدة تقسيمات بحسب اللحاظ‪ ،‬فهي تقسم إلى ‪:‬‬
‫الثاني ‪ :‬الدللة التصديقية ‪.‬‬ ‫الول ‪ :‬الدللة التصورية ‪.‬‬
‫والتصورية إنتقال ذهن النسان إلى معنى اللفظ بمجرد صدوره من لفظ وأنه لم‬
‫يكن يقصده كما لو قصد معنى مجازيًا ولكن السامع ينتقل ذهنه قهرًا إلى المعنى‬
‫الحقيقي كطريق للوصول إلى المجازي أومقدمة ‪ ,‬ومناسبة لستحضاره‪.‬‬
‫والدللة التصديقية هي ما يقصد المتكلم إستعماله ورادته له ولها شرائط وقرائن‪.‬‬
‫وتقسم تقسيمًا آخر بلحاظ ما وضع له اللفظ وهي الدللة المطابقية والتضمنية‬
‫واللتزامية‪ ،‬فالولى أن اللفظ مطابق للمعنى الموضوع له تلفظ الكتاب على‬
‫الوراق والغلف والمضمون‪.‬‬
‫والثانية ما يدل فيه اللفظ على جزء معناه كلفظ القرآن على بعض اليات‪.‬‬
‫والثالثة دللة اللفظ على لزم معناه كدللة الصلة على الصلح ودللة الشمس على‬
‫الضوء ‪.‬‬
‫ومنها تقسيمها إلى دللة القتضاء واليحاء والشارة‪ ،‬والولى أن تتوقف صحة‬
‫الكلم على إرادة القائل لذلك المعنى عقلية كانت الدللة أوشرعية‪.‬‬
‫ومن اليات أن الية القرآنية وذكرت هزيمة الكفار بأمور ثلثة متداخلة‪:‬‬
‫الول‪ :‬إتصال الهزيمة بالكبت والخزي‪ ،‬وكأن الفاء تمحو ما بينهما من آنات‬
‫الزمان‪ ،‬وهو موضوع إضافي للخزي بإنتقال ذهن التالي والسامع للية القرآنية إلى‬
‫تصور ذل وهزيمة الكفار مما يؤدي إلى النفرة منهم‪ ،‬وإنكار قبح فعلهم وإصرارهم‬
‫على الزحف على المدينة لستئصال المسلمين‪ ،‬وجاءت الفاء في)فينقلبوا( لينتقل‬
‫الذهن عند حدوث مقدمات القتال بين المؤمنين والكفار إلى حتمية فرار الكفار‬
‫لرسوخ العلقة في الذهن بين واقعة بدر وأحد وغيرها من معارك المسلمين في‬
‫الدفاع عن السلم‪.‬‬
‫وأما التصديق فهو مطابقة الخبر والدراك للواقع بما يستلزم إذعان وإقرار الفرد‬
‫والجماعة ‪ ،‬وسميت الدللة التصديقية لفادة اللفظ معنى مخصوص وأنه مراد‬
‫قائله ‪ ,‬وهذه الدللة عليها مبنى العقلء‪ ،‬ويعبر عنها في علم الصول بحجية‬
‫الظواهر‪.‬‬
‫وينقسم التصديق إلى قسمين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬اليقين ‪ ,‬وهو ترجيح ما يتم الخبار عنه من طرفي الوقوع والل وقوع ‪ ,‬مع‬
‫نفي إحتمال الطرف الخر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الظن‪ ،‬وهو ترجيح الطرف الذي يتم الخبار عنه مع إحتمال ضعيف‬
‫للطرف الخر‪ ،‬وجاءت هذه الية لنفي الجهالة والغرر‪ ،‬ومنع الشك والوهم‪.‬‬
‫والمراد من الشك في الصطلح هو تساوي إحتمال الوقوع والعدم‪ ،‬أما الوهم فهو‬
‫ترجيح ما هو خلف الواقع‪ ،‬لذا يعتبران من أقسام الجهل وليس من أقسام العلم‬
‫والتصديق ‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ولم تأت آيات القرآن للمسلمين فقط بل هي خطابات تكليفية وأسباب هداية للناس‬
‫جميعًا‪ ،‬لذا قال المشهور بأن الكفار مكلفون بالفروع كتكليفهم بالصول‪ ،‬وهو‬
‫المختار‪ ،‬فجاءت الفاء في )فينقلبوا( لتؤكد قانونًا ثابتًا بسرعة هزيمة الكفار من‬
‫المعركة‪ ،‬وعدم تخلفهم عن الهزيمة‪ ،‬والتضاد بينهم وبين البقاء فيها‪ ،‬لجتماع‬
‫التصور في أذهانهم‪ ،‬وظهور الدللة التصديقية لهم بأرض الواقع بأن تأخرهم في‬
‫ميدان المعركة وإصرارهم على القتال ل يؤدي إل إلى قتلهم ‪.‬‬
‫وإذا تجعل هزيمتهم الهلك والبانة متعلقة بطرف منهم‪ ،‬فإن إصرارهم على القتال‬
‫يعني هلكهم جميعًا‪ ،‬وهو الذي يتجلى من نصرة الملئكة للنبي محمد صلى ال عله‬
‫لَثِة‬
‫ن ُيِمّدُكْم َرّبُكْم ِبَث َ‬
‫ن َيْكِفَيُكْم َأ ْ‬
‫وآله وسلم ونزولهم مددًا للمؤمنين ‪ ,‬قال تعالى]َأَل ْ‬
‫ن[)‪.(714‬‬
‫لِئَكِة ُمْنَزِلي َ‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬‫ل ٍ‬
‫آَ‬
‫وجاءت هذه الية الكريمة ليستحضر المسلمون في كل زمان واقعة بدر وأحد ومن‬
‫اليات أنها حاضرة في الوجود الذهني ل على نحو التصورات المجردة‪ ،‬بل يترشح‬
‫عن تلوتها وحضورها في الذهن حكم وتصديق بدللة)الفاء( على سرعة كسب‬
‫المسلمين للمعركة‪ ،‬هذه السرعة التي يحلم بها في كل زمان كبار المخططين للقتال‬
‫والقادة الحريصون على تجنب جنودهم الخسائر وعدم القامة في الجبهات‬
‫وتسمى)خطة الحمامة( ‪.‬‬
‫وقد تفضل ال عز وجل بالفاء في الية للخبار عن نصر المسلمين الحاسم‬
‫والسريع‪ ،‬ومن اليات أن النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم يعود بالمؤمنين في‬
‫ذات يوم القتال إلى المدينة ‪ ,‬وهو من مصاديق بعث السكينة في نفوسهم وعوائلهم‪،‬‬
‫ظِهْم[‬‫ن َكَفُروا ِبَغْي ِ‬ ‫ل اّلِذي َ‬
‫وإمتلء قلوب الكفار والمنافقين بالغيظ ‪ ,‬قال تعالى]َوَرّد ا ُّ‬
‫)‪.(715‬‬
‫بحث أصولي في "الفاء"‬
‫الزمان هو وعاء حال ومستديم لذات الفعل بلحاظ آناته ووقته‪ ،‬لذا قسم الفعل إلى‬
‫ثلثة أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬الفعل الماضي‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الفعل الحال‪.‬‬
‫الثالث‪:‬الفعل المستقبل‪.‬‬
‫وللزمان موضوعية في ذات الفعل إلى جانب هيئته ودللته‪ ،‬لذا جاء التفريق بينه‬
‫وبين السم بالضافة إلى حركته‪ ،‬ويتجلى في حديث المام علي عليه السلم‪ :‬السم‬
‫ما أنبأ عن المسمى‪ ،‬والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى‪ ،‬والحرف ما أوجد معنى في‬
‫غيره(‪.‬‬
‫وهناك نوع ملزمة بين موضوعية الحركة في ذات الفعل‪ ،‬وإقترانه بالزمان‬
‫بإعتباره وعاءً للحركة‪ ،‬وقيل أن الفعال النشائية ل تدل على الحال والزمان كما‬
‫‪()714‬الية ‪.124‬‬
‫‪()715‬سورة الحزاب ‪.25‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫في المر والنهي والستفهام لن القدر المتيقن منها هو البعث على الفعل كما في‬
‫المر‪ ،‬والزجر عنه كما في النهي والترك‪ ،‬ولكن الزمان معتبر فيها على نحو‬
‫التعليق والمشارفة والرجاء بإتيان الفعل‪ ،‬لن النشاء إرادة وعزم وليس لغوًا‪ ،‬وتدل‬
‫الفعال في مادتها)‪ ،(716‬وهيئتها)‪ (717‬على الزمان‪ ،‬ول تنحصر الفعال بالنشائية‬
‫فتشمل الخبرية‪ ،‬والتي يكون فيها التقسيم الزماني واضحًا عند الوضع‪ ،‬ومفهومها‬
‫عند المخاطب ترى لماذا لم تأت الية بصيغة الفعل الماضي)فإنقلبوا( والجواب من‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬الية بيان لحال الكفار عند وقوع المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬جاء النقلب مترشحًا عن الكبت والذل الذي يصيب الكفار في المعركة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إرادة إستمرار وإستدامة حال الخيبة عند الكفار في حال النقلب وبعده‪.‬‬
‫إذ تحتمل الخيبة في المقام وجهين ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنها عرض زائل ومفارق وغير ساري فتكون الخيبة أمرًا عارضًا متعلقًا‬
‫بحال إنقلب الكفار في المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنها عرض ساري ملزم للكفار‪ ،‬والساري هو ما كان كل جزء من الحال‬
‫يلقي كل جزء من المحل‪.‬‬
‫والصحيح هو الثاني‪ ،‬فتتغشى الخيبة الكفار كأفراد وكأمة‪ ،‬ويظهر عليهم الذل حال‬
‫النقلب من المعركة وبعده‪ ،‬وجاءت هذه الية لتكون وثيقة سماوية وشاهدًا إلى يوم‬
‫القيامة يحكي خيبتهم وذلهم‪.‬‬
‫ومن اليات أن الفعل جاء جامعًا للحال والستقبال‪ ،‬أما الحال فبقرينة الفاء‬
‫في)فينقلبوا( لما تدل عليه من التعقيب والسببية‪ .‬وأما الستقبال فهو ظاهر بصيغة‬
‫الفعل ‪.‬‬
‫وفي علم الصول قاعدة هي)تداخل السباب والمسببات(‪ ،‬بأن تشترك عدة أسباب‬
‫ليترشح عنها ُمسبب واحد‪ ،‬سواء تتداخل على نحو الدفعة أو التدريج‪ ،‬وطوعًا‬
‫سبب والجزاء بماهية‬ ‫وقهرًا بأن تكون السباب متعددة ويحكم بتداخلها في الم ُ‬
‫وحكم المتحد‪ ،‬كما في نقض الوضوء بالنوم وغيره فإنه يجزي وضوء واحد ‪.‬‬
‫ويحتمل تعجيل الكفار بالهزيمة والذي تدل عليه )الفاء( وجوهًا‪:‬‬
‫الول‪ :‬إتحاد السبب‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تعدد وتداخل أسباب تعجيل هزيمة الكفار‪.‬‬
‫سبب‪ ،‬وتكرارها بتجدد السبب‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬إتحاد ماهية الم ُ‬
‫والصحيح هو الثاني والرابع‪ ،‬فإن أسباب إنصراف الكفار منهزمين متعددة‪ ,‬وهي‬
‫شاهد على نصر ال عز وجل للمؤمنين ‪ ,‬وخزي الكفار ‪ ,‬قال تعالى]ُكّلَما َأْوَقُدوا‬
‫ل[)‪.(718‬‬
‫طَفَأَها ا ُّ‬
‫ب َأ ْ‬
‫حْر ِ‬
‫َناًرا ِلْل َ‬
‫‪()716‬المــادة‪ :‬هــي ذات الماهيــة وتركيــب الحــروف‪ ،‬فمــادة‬
‫الفعل)ضرب( هي الضاد‪ ،‬الراء‪ ،‬الباء‪.‬‬
‫‪()717‬الهيئة‪ :‬هي ذات الطلب والنهي كمصداق الفعل‪.‬‬
‫‪()718‬سورة المائدة ‪.64‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ومناسبة هذه القاعدة دعوة لبيان موضوعية تعدد السبب في فرار الكفار خائبين ‪،‬‬
‫وتفضل ال تعالى وأنزل آلف الملئكة لنصرة النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم والمؤمنين‪ ،‬مع أن ملكًا واحدًا يكفي لتشريد وهلك الكفار‪ ،‬فأراد ال سبحانه‬
‫بتعدد أسباب تعجيل الكفار بالهزيمة أمورًا ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬تثبيت السكينة في نفوس المؤمنين ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنذار وتحذير للكفار ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬دعوة الناس لدخول السلم‪.‬‬
‫لقد جاءت الفاء في )فينقلبوا( واقية للمؤمنين‪ ،‬وحرزًا من تعدي الكافرين‪ ،‬وزجرًا‬
‫للظالمين‪ ،‬ومناسبة لدعاء المسلمين بتقريب النصر‪ ،‬وتعجيل الكفار بالهزيمة‪.‬‬
‫وتؤكد الفاء هزيمة المشركين المتجددة على نحو العموم الزماني الذي هو عبارة‬
‫عن إستمرار ذات الحكم وهزيمة الكفار في أفراد الزمان الطولية ول ينحصر هذا‬
‫الحكم بكفار قريش‪ ،‬فالمدار على عموم الحكم‪ ،‬وليس سبب النزول‪ ،‬ليأتي قانون‬
‫التعجيل بهزيمة الكفار على نحو العام البدلي ‪ ,‬والعام الستغراقي ‪,‬والعام‬
‫المجموعي)‪ ،(719‬وتكون الدنيا دار الهزيمة والخيبة للكفار ‪ ,‬من غير تعارض مع‬
‫ل اْلِعّزُة‬
‫كونها دار النصر والظفر والرفعة والعز للمسلمين والمسلمات ‪ ,‬قال تعالى ] ِّ‬
‫ن[ )‪.(720‬‬
‫سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫َوِلَر ُ‬
‫وهل قوله تعالى)فينقلبوا( من الحقيقة وهي اللفظ الذي وضع له في أصل اللغة‪ ،‬أم‬
‫أنه من المجاز الذي يراد منه معنى غير الذي وضع له في الصل على جهة التبع‬
‫للصل كما في إطلق لفظ الشجاع على السد‪ ،‬وحاتم على الرجل الكريم‪ ،‬الجواب‬
‫إنه من الحقيقة من وجوه ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إعتبار أصالة الحقيقة عند الشك في المراد من اللفظ‪.‬‬

‫‪()719‬إذا دل اللفظ على شمول المفهوم للفراد بنحو البدل‬


‫والترديد يسمى العام البدلي‪ ،‬كما لو قلت أكرم أي عالم‬
‫شئت إذ أن)أي( من أدوات العموم البدلي‪.‬‬
‫وإذ تغشى المفهوم الفراد على نحو الستيعاب والحاطة بها‬
‫مع إستقلل كل فرد منها‪ ،‬فيسمى)العام الستغراقي(‬
‫كما لو قلت صل كل فريضة يومية‪ ،‬إذ أن كل‪،‬ومتى وكيف‬
‫من أدوات العموم لما تدل عليه من الشمول والسريان‪.‬‬
‫أما إذا كان الحكم متحدا ً ويشمل كل الفراد فيسمى العام‬
‫المجموعي‪ ،‬كما في التصديق بالنبياء‪ ،‬والفرق بين العموم‬
‫الستغراقي والمجموعي أن الثواب في الول يأتي على‬
‫المتثال في كل فرد‪ ،‬فإكرام كل عالم فيه ثواب مستقل‪،‬‬
‫لن أفراده غير إرتباطية‪ ،‬أما في الثاني فإن الحكم متحد‬
‫وأن تعددت الفراد والطراف‪ ،‬ويحصل إمتثال واحد‪ ،‬ففي‬
‫المثال أعله لو آمن المكلف بشطر من النبياء وجحد‬
‫ببعضهم يحصل عصيان المر ولم يتحقق المتثال للمر‬
‫بالتصديق بالنبياء‪.‬‬
‫‪()720‬سورة المنافقون ‪.8‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬إنعقاد الظهور بإرادة المعنى الحقيقي من اللفظ‪ ،‬لذا قيل أن كل الصول‬
‫اللفظية راجعة لصالة الظهور‪ ،‬كأصالة الطلق وأصالة العموم‪ ،‬وأصالة عدم‬
‫التقدير‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تجلي الحقيقة في الواقع الخارجي‪ ،‬وتواتر الخبار بإنهزام الكفار من‬
‫المعركة عقب بدأ القتال ‪ ,‬وتوثيق الشعر لهذه الحقيقة‪ ،‬وحفظ العرب للشعار التي‬
‫قيلت في معركة بدر وأحد وغيرهما من الفريقين بما فيها أشعار النساء‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إنطباق علمات الحقيقة على لفظ )فينقلبوا( وهي ثلثة ‪:‬‬
‫الولى‪ :‬التبادر‪ ،‬وهو إنسباق معنى إنهزام الكفار إلى الذهن من لفظ )فينقلبوا( حال‬
‫سماعه وبعث السرور والغبطة في نفوس المسلمين من دون حاجة إلى تأويل أو‬
‫رجوع إلى آيات أخرى لتفسير المعنى أو قرائن وأمارات تؤكده وتمنع إحتمال غير‬
‫الهزيمة السريعة للكفار‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬عدم صحة السلب‪ ،‬وهي موافقة اللفظ للمعنى الكلي المرتكز في الذهن‪،‬‬
‫فجاءت الفاء لفادة عدم تخلف الهزيمة والنصراف عن الكبت‪ ،‬ويدل إجتماع‬
‫إصابة الكفار بالقتل والكبت‪ ،‬وترشح سرعة النقلب عنهما على حقيقة وهي أن‬
‫هذا النقلب ليس إنصرافًا مجردًا أو إنسحابًا منظمًا أو عودة إلى فئة أو خدعة‬
‫ومكرًا في الحرب‪ ،‬بل يصح حمل معنى الهزيمة القاسية على إنقلب جيوش الكفار‬
‫ن ُبُيوَتُهْم ِبَأْيِديِهْم‬
‫خِرُبو َ‬‫على يد الملئكة والمؤمنين‪ ،‬وذل مصاحب لهم قال تعالى]ُي ْ‬
‫ن[)‪.(721‬‬ ‫َوَأْيِدي اْلُمْؤِمِني َ‬
‫الثالثة‪ :‬الطراد‪ :‬والمراد منه عدم إختصاص صحة إستعمال اللفظ بمقام دون مقام‪،‬‬
‫أو صورة دون أخرى في المعنى المشكوك‪ ،‬بل هو مكرر بذات الماهية في كل‬
‫أحوال الموضوع‪ ،‬كما في إطلق لفظ السد حقيقة على الحيوان المعروف المفترس‬
‫في كل أحواله‪ ،‬والشجاعة تطرد وتصاحبه دائمًا‪ ،‬بينما يطلق لفظ السد على‬
‫النسان مجازًا لن الخوف ينتابه في بعض الحالت‪.‬‬
‫وجاء إطلق معنى)فينقلبوا( للدللة على هزيمة الكفار حقيقة من جهتين ‪:‬‬
‫الولى‪ :‬مبادرة جميع الكفار إلى الهزيمة دفعة واحدة وإعطاء ظهورهم للريح‬
‫وسيوف المسلمين‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إنتظار الهزيمة للكفار في كل معركة يخوضونها مع المؤمنين‪ ،‬وهو من‬
‫العجاز في نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬والشواهد العقلية والحسية على‬
‫صدق نبوته‪.‬‬
‫وقد جاء النبياء السابقون بالمعجزات الحسية‪ ،‬أما النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم فينفرد بالمعجزة المتعددة من وجوه ‪:‬‬
‫الول‪ :‬المعجزة العقلية‪ ،‬والتي تتجلى بالقرآن‪ ،‬وقصور الناس وإن إجتمعوا عن‬
‫ن ُدو ِ‬
‫ن‬ ‫شَهَداَءُكْم ِم ْ‬ ‫عوا ُ‬ ‫ن ِمْثِلِه َواْد ُ‬
‫سوَرٍة ِم ْ‬
‫التيان بسورة من مثله ‪ ,‬قال تعالى]َفْأُتوا ِب ُ‬
‫ن[‪.‬‬
‫صاِدِقي َ‬
‫ن ُكنُتْم َ‬ ‫ل ِإ ْ‬
‫ا ِّ‬
‫‪()721‬سورة الحشر ‪.2‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الثاني‪ :‬المعجزة الحسية‪ ،‬وجريان اليات على يديه‪ ،‬وليس من حصر لهذه اليات‬
‫والبراهين التي صاحبت أيام نبوته‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المعجزة العقلية الحسية‪ ،‬وتظهر في القرآن أيضًا لنه المعجزة الخالدة‬
‫والسر السماوي الملزم للنسان في الحياة الدنيا والخرة‪ ،‬ومنه هذه الية الكريمة‬
‫التي تحكي معجزة عقلية حسية تتمثل بهزيمة الكفار أمام المسلمين‪ ،‬وأما كونها‬
‫عقلية‪ ،‬فمن وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬نزولها من عند ال عز وجل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬نزول الية بواسطة جبرئيل عليه السلم وهو من كبار الملئكة وممن‬
‫شارك في القتال إلى جانب المؤمنين في بدر وأحد والخندق وحنين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تلقي النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم صاحب الكمالت النسانية الية‬
‫الكريمة من غير واسطة من البشر‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬حصول الهزيمة للكفار على نحو مفاجيء وسريع ومخالف لنواميس القتال‬
‫في كل زمان‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬ظهور المصداق الخارجي للية حال نزولها‪ ،‬وهو شاهد يفوق سبب‬
‫النزول في موضوعه وأثره‪ ،‬لما فيه من البشارة والدللة على صدق نبوة محمد‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫لقد إنتصر بنو إسرائيل على الجبارين بعد قتال إستمر أيامًا ‪ ,‬إلى أن قتل داود‬
‫ت[ )‪ ،(722‬لنهزم‬ ‫جاُلو َ‬ ‫ل َداُووُد َ‬‫جالوت بمعجزة وآية من عند ال‪ ،‬قال تعالى]َوَقَت َ‬
‫الكفار ‪.‬‬
‫أما معجزة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم فتتجلى بهزيمة الكفار وإنقلبهم‬
‫خائبين حال بدء المعركة مع كثرتهم وقوتهم وشدة بأسهم‪ ،‬وما عليه المسلمون من‬
‫الضعف والقلة‪ ،‬وهو من الدلئل على أفضلية النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ج ْ‬
‫ت‬ ‫خِر َ‬‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫على النبياء السابقين‪ ،‬والشواهد العسكرية على أن المسلمين] َ‬
‫س[)‪ ،(723‬بأن يبادر أعداؤها القوياء إلى النهزام بذل وخيبة أمام المجاهدين‪،‬‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫ن[) (‪.‬‬
‫‪724‬‬
‫جَمُعو َ‬ ‫خْيٌر ِمّما َي ْ‬
‫حوا ُهَو َ‬ ‫ك َفْلَيْفَر ُ‬
‫حَمِتِه َفِبَذِل َ‬
‫ل َوِبَر ْ‬
‫ل ا ِّ‬
‫ضِ‬‫ل ِبَف ْ‬
‫قال تعالى]ُق ْ‬
‫فصحيح أن الدنيا دار المتحان والبتلء إل أن الغبطة والسعادة تتغشى المسلمين‬
‫والمسلمات لتكون مددًا لهم في تعاهد مبادئ السلم‪ ،‬والنقطاع إلى طاعة ال‪،‬‬
‫واللجوء إليه في المهامات‪ ،‬والحرص على شكره سبحانه‪ ،‬أما الكفار فإن الخيبة‬
‫والحرمان يصاحبهم ليلتفتوا إلى القبح الذاتي والعرضي للكفر‪ ،‬ويتوبوا إلى ال عز‬
‫وجل ‪.‬‬
‫والمدار على عموم اللفظ القرآني وليس خصوص سبب النزول ‪ ،‬وهو المشهور‬
‫شهرة عظيمة‪ ،‬وإن ذهب جماعة من الصوليين إلى الثاني‪ ،‬فتنزل الية في واقعة‬
‫‪()722‬سورة البقرة ‪.151‬‬
‫‪()723‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()724‬سورة يونس ‪.58‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫وسبب مخصوص إل أنها تتعدى إلى غيره‪ ،‬وقد إحتج أهل البيت والصحابة في‬
‫وقائع متعددة بآيات نزلت في أسباب خاصة وليس من حصر لبواب ومسائل هذا‬
‫الحتجاج ‪ ،‬لتتضمن الية الوعد والوعيد إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو من أسرار مجيء‬
‫)فينقلبوا( بصيغة المضارع‪.‬‬
‫وفي باب البيع والعقود نسب إلى المشهور شرط الماضوية لن لغة المضارع‬
‫تتضمن التعليق‪ ،‬وقصد النشاء وهي أشبه بالوعد‪ ،‬وفي رسالتنا العملية قلنا )بأنه‬
‫القوى والولى‪ ،‬ولكن البيع يصح بالفعل المضارع إذا كان قاصدًا النشاء الفعلي‬
‫المنجز ولو بالقرينة والظهور العرفي بما يرفع اللتباس والغرر‪ ،‬والقوى جواز‬
‫إيقاعه بالجملة السمية نحو‪ :‬أنا بائع مع قصد إنشاء البيع( )‪.(725‬‬
‫وجاءت الية الكريمة والخبار عن لجوء الكفار للهزيمة المترشحة على الكبت‬
‫والذل بصيغة المضارع التي تدل على إستيعاب أفراد الزمان الطولية الثلثة‬
‫ن ا ُّ‬
‫ل‬ ‫الماضي والحاضر والمستقبل‪ ،‬وهو من إعجاز القرآن كما في قوله تعالى]َكا َ‬
‫حيًما[ )‪ ،(726‬إذ جاء الفعل بصيغة الماضي مع أن رحمة ال عز وجل‬ ‫غُفوًرا َر ِ‬
‫َ‬
‫متصلة ومتجددة ومنبسطة على كل الزمنة‪ ،‬ومن أسماء ال تعالى)الرحيم( وهو‬
‫رحيم الدنيا والخرة ‪.‬‬
‫وجاءت القرائن الحالية لفادة حدوث إنقلب الكفار خاسرين من معركة بدر وهي‬
‫سابقة في زمانها لمعركة أحد بأحد عشر شهرًا‪ ،‬وإنقلبهم في أحد والمعارك‬
‫اللحقة‪ ،‬ليتضمن قوله تعالى)فينقلبوا( معنى الجملة الخبرية والنشائية معًا‪،‬‬
‫وإجتماعهما في محل واحد من ذخائر القرآن البلغية والكلمية‪.‬‬
‫بحث فلسفي‬
‫من صفات ال عز وجل الثبوتية القدرة المطلقة‪ ،‬وهذه الصفة تدركها العقول‪،‬‬
‫والحواس لتكون حجة على العباد‪ ،‬ودعوة لهم لتحقيق الغاية التي خلقهم ال لها‪،‬‬
‫وهي عبادته‪ ،‬والفوز بالنعيم الذي أعده لهم‪.‬‬
‫وهذه الصفة من الشواهد التي تدل على حاجة الخلئق كلها وجودًا وإستدامة لقدرة‬
‫ال تعالى‪ ،‬سواء كانت جواهر أو أعراضًا بلحاظ أنها ممكنات وتفتقر إلى الحيز‬
‫وهو الفراغ الذي يشغله الجسم‪ ،‬وكل ممكن حادث‪ ،‬محتاج إلى المؤثر المختار‬
‫الممتنع عن التغيير والتبديل‪ ،‬وليس من حد او حصر لقدرة ال عز وجل‪ ،‬موضوعًا‬
‫يٍء َقِديٌر[ )‪.(727‬‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ومكانًا وزمانًا ‪ ,‬قال تعالى ]ِإ ّ‬
‫والطلق في قدرة ال رحمة بالناس‪ ،‬ودعوة لهم لعبادته‪ ،‬والقدرة هي ملكة الفاعل‬
‫الحي المختار ومبدأ أفعاله‪ ،‬وهي بالنسبة للممكن متناهية ومحدودة كما وكيفًا‪،‬‬
‫وفضل من عند ال عز وجل الذي ل يعجزه شئ‪.‬‬

‫‪()725‬رسالتنا العملية الحجة‪ /‬الجزء الثالث كتاب البيع مسألة‬


‫‪.2‬‬
‫‪()726‬سورة النساء ‪.96‬‬
‫‪()727‬سورة آل عمران ‪.106‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ومن مصاديق قدرة ال تعالى أنه سبحانه ينصر المؤمنين ‪ ,‬ويصّير الكفار‬
‫منهزمين‪ ،‬وفيه دليل على أن أفراد وآثار قدرة ال تصاحب الناس في الحياة الدنيا‪،‬‬
‫وتتجلى بمقدمات وأفراد تثبيت مفاهيم التوحيد في الرض‪ ،‬واللطف اللهي بإزاحة‬
‫الكفار عن منازل القوة والشأن والجاه‪.‬‬
‫ومن خصائص عالم المكان النقص والقصور ليكون هذا النقص مقدمة وسببًا‬
‫للجوء إلى واجب الوجود‪ ،‬ويتغشى موضوع النقص المسلمين والكفار‪ ،‬ليفيض ال‬
‫على المسلمين بما يجعلهم يتداركون النقص في ميدان المعركة‪ ،‬فيأتيهم المدد‬
‫الخارجي بأبهى صوره بنزول الملئكة من عند ال‪ ،‬والمدد الذاتي بتثبيت أقدامهم‪،‬‬
‫وطمأنينة قلوبهم‪.‬‬
‫ويجعل ال عز وجل النقص عند الكفار جليًا‪ ،‬وممتنعًا عن الخفاء والستر ليبقى‬
‫شاهدًا تأريخيًا يؤكد للجيال المتعاقبة القدرة المطلقة ل عز وجل ومشيئته بنصرة‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪ ،‬وقطع طرف من الكفار‪ ،‬ولجوئهم‬
‫المبكر إلى الهزيمة‪ ،‬وهو من الدلئل على الحكمة والتقان في صنع ال عز وجل‬
‫بجعل الدنيا دار اليمان والتقوى والثواب العاجل للصابرين‪ ،‬والعقاب الحاضر‬
‫للمعاندين والجاحدين بالمعجزات والبراهين التي تدل على وجوب عبادته‪ ،‬وصدق‬
‫بعثة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ,‬ونزول القرآن ‪.‬‬
‫ومن بديع صنع ومشيئة ال عز وجل أن قدرته المطلقة مقترنة بعائدية السماوات‬
‫والرض والشياء جميعًا في ملكيتها ل عز وجل‪ ،‬وهو من النعم العظيمة على‬
‫يٍء َقِديٌر[)‪ ,(728‬ليكون‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬‫عَلى ُك ّ‬
‫ك َوُهَو َ‬
‫ك اّلِذي ِبَيِدِه اْلُمْل ُ‬
‫الخلئق ‪ ,‬قال تعالى ]َتَباَر َ‬
‫نصر المسلمين في بدر وأحد بشارة ومقدمة لوارثتهم الرض ‪ ,‬ومجئ الفاء في‬
‫الية وعد كريم للمؤمنين ‪ ,‬وإنذار للكافرين ل يقدر عليه وعلى تحقيق مصاديقه‬
‫خارجًا إل ال ‪ ,‬وقد تفضل وجعله هبة مدخرة وسلحًا بيد النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم والمسلمين ‪.‬‬
‫قانون" فينقلبوا’’‬
‫جاء الخبار عن إنقلب الكفار على نحو العموم المجموعي والستغراقي وفيه‬
‫مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬لم يتأخر شطر من الكفار في المعركة‪ ،‬فليس فيهم من أصر على البقاء في‬
‫الميدان لمواصلة القتال ‪ ,‬ونسوا جميعًا الثأر والغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها‬
‫‪ ,‬وصار همهم النجاة بأنفسهم ‪ ,‬وغاب عنهم أنها ل تكون إل بدخول السلم على‬
‫نحو الحصر والتعيين ‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬خلو ساحة المعركة وما حولها من كمائن العدو‪ ،‬وأسباب الكيد‪ ،‬وهذا‬
‫ليتعارض مع لزوم الحذر والوقاية من قبل المسلمين‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬إنكشاف العدو دفعة واحدة وهو على وجوه‪:‬‬

‫‪()728‬سورة الملك ‪.1‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬النسحاب فجأة ومن غير أسباب ظاهرة‪ ،‬إذ ينظر المسلمون للكفار‪ ،‬وهم‬
‫يجرون أذيال الهزيمة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الهزيمة أمام المقاتلين المسلمين الذين يندفعون وسط صفوف العدو‪،‬‬
‫ويلحقونها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬عجز الكفار عن مواصلة القتال‪ ،‬وإحجام أبطالهم عن الخروج للمبارزة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إصابة الكفار بالضعف‪ ،‬وظهور نقص الرجال عليهم‪ ،‬وفقرهم للبطال‬
‫الذين كانوا يعولون عليهم في القتال‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬حال الكبت والذل التي تتغشى الكفار طوعًا وقهرًا لنها أمر من عند ال‬
‫عز وجل يأتي على نحو الحتم واللزوم‪.‬‬
‫السادس‪ :‬قيام الملئكة بزجر وطرد الكفار من ساحة المعركة‪.‬‬
‫وليس من حصر لسباب هزيمة الكفار لن هذه الية تؤكدها وان تعددت وتباينت‬
‫ل ُهَو[)‪.(729‬‬
‫ك ِإ ّ‬
‫طرقها وكيفياتها‪ ،‬قال تعالى ]َوَما َيْعَلُم جُُنوَد َرّب َ‬
‫الرابعة‪ :‬في الية تحذير وإنذار لعموم الكفار وفي كل زمان‪ ،‬قال تعالى ]َفَه ْ‬
‫ل‬
‫ن َقْبِلِهْم[)‪ ،(730‬ول ينحصر العتبار فيها‬ ‫خَلْوا ِم ْ‬‫ن َ‬
‫ل َأّياِم اّلِذي َ‬
‫ل ِمْث َ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫ظُرو َ‬
‫َيْنَت ِ‬
‫بخصوص الذين آمنوا وهو من رحمة ال عز وجل بالناس جميعًا في دار البتلء‬
‫والمتحان‪ ،‬ليكون هذا العتبار على وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه باب للهداية والتوبة والنابة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التعاظ من آيات نصر المؤمنين‪ ،‬وما يأتيهم من المدد من عالم الغيب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬النفرة من الكفر‪ ،‬والبتعاد عن منازل الضللة لرؤية ما يحل بالكفار‪ ،‬إذ‬
‫يأتون بالجيوش العظيمة ذات المؤون والسلح والعدة ‪ ,‬فيفرون منهزمين‪ ،‬ويمل‬
‫الحزن والذل نفوسهم‪ ،‬في آية تدل على التركيب والتعدد الجهتي في نصر ال عز‬
‫وجل للمؤمنين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬تجدد آية إنقلب الكفار مع أنهم يعودون إلى المعركة بأضعاف العدد والعدة‬
‫التي جاءوا بها في المعركة السابقة‪ ،‬فيخرج لهم المسلمون على قلتهم والنقص في‬
‫عدتهم‪ ،‬فتكون ذات النتيجة المركبة من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬تعدد وتجدد المصداق في قطع وهلك طائفة من رؤساء وعموم جيش‬
‫الكفار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ظهور الوهن والعجز على الكفار‪ ،‬فكلما أرادوا تدارك النقص‪ ،‬إستحدث‬
‫غيره في ذات الجهة والموضوع‪ ،‬وهو الطرف‪ ،‬ليكون مناسبة للبرهان الني وهو‬
‫الستدلل من المعلول إلى العلة‪ ،‬فقتل كل من يبرز من أبطال الكفار‪ ،‬وهلك‬
‫الطرف منهم شاهد على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫‪()729‬سورة المدثر ‪.31‬‬


‫‪()730‬سورة يونس ‪.102‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫ولقد تفضل ال عز وجل وشّد عضد موسى عليه السلم بأخيه هارون وجعله نبيًا‬
‫ك[)‪ ،(731‬فانه سبحانه تفضل ونصر النبي‬ ‫خي َ‬ ‫ك ِبَأ ِ‬
‫ضَد َ‬
‫ع ُ‬‫شّد َ‬
‫سَن ُ‬
‫معه ‪ ,‬قال تعالى ] َ‬
‫محمدًا بآلف من الملئكة وهو أبهى مصاديق شد العضد في تأريخ النبوة‬
‫والنسانية مطلقًا ليكون عضدًا للمؤمنين ومادة سماوية لبعث السكينة في نفوس‬
‫خْيَر ُأّمٍة‬
‫المسلمين إلى يوم القيامة ‪ ,‬وهو من الشواهد على قوله تعالى ]ُكْنُتْم َ‬
‫س[)‪.(732‬‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬‫خِر َ‬ ‫ُأ ْ‬
‫وحصول النقص عند الكفار دليل على إنتقام ال منهم‪ ،‬وقبح فعلهم وسوء‬
‫إختيارهم‪ ،‬وليس في الكفار من يقوم مقام عمرو بن ود العامري عندما قتله المام‬
‫علي عليه السلم في معركة الخندق بدللة ما ظهر عليهم من الكبت والمتناع عن‬
‫عبور الخندق‪ ،‬وعندما أسلم خالد بن الوليد ورجالت من قريش خسر الكفار الجرأة‬
‫والمباغتة‪ ،‬وهو من مصاديق القطع المعنوي والعتباري‪ ،‬وشاهد على أن القطع‬
‫أعم من أن يختص بالطرف والفراد والموال‪.‬‬
‫ولم تقل الية )أو يكبتهم أو فينقلبوا خائبين( بالترديد بين الكبت والنقلب‬
‫والنصراف ‪ ,‬وإتحاد النظم بينه وبين الكبت والذل‪ ،‬بل جاء بالعطف وإقتران‬
‫وتعلق النقلب بالكبت‪ ،‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬بيان إقتران النقلب بالكبت والذل ‪ ,‬والشارة إلى وهن الكفار وظهور‬
‫الضعف عليهم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬تحذير وإنذار الكفار من سوء عاقبة النقلب‪ ،‬وأنه غاية بالذات وشاهد على‬
‫حال الجبن والخور الذي يصيب الكفار ‪ ,‬ومقدمة لغايات عديدة تتضمن دعوة الكفار‬
‫للتدارك‪ ،‬وحثهم على التسليم بالمعجزة والكف عن العناد والجحود‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬البشرى للمسلمين بعدم عودة الكفار للمعركة ‪ ,‬وكيف يرجع من تغشاه الذل‬
‫ن َفْوِرِهْم َهَذا‬ ‫ومل الرعب نفسه‪ ,‬والملئكة له بالمرصاد ‪ ,‬قال تعالى]َوَيْأُتوُكْم ِم ْ‬
‫لِئَكِة[ )‪.(733‬‬
‫ن اْلَم َ‬
‫ف ِم ْ‬
‫ل ٍ‬
‫سِة آ َ‬‫خْم َ‬
‫ُيْمِدْدُكْم َرّبُكْم ِب َ‬
‫ومن معاني النقلب تحويل الشئ عن وجهه‪ ،‬وفيه دللة على أن معركة أحد‬
‫إنتصار للمسلمين لنها منعت الكفار من تحقيق الغايات الخبيثة التي جاءوا من‬
‫أجلها‪ ،‬إذ أنها مركبة من أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬ذات الغراض التي زحفوا من أجلها قبل عام حيث كانت معركة بدر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬النتقام لما لحق قريش من الهزيمة والذل يوم بدر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الثأر للعدد الكثير من رجالهم الذين قتلوا يوم بدر‪ ،‬ودفنوا بالقليب‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬فقدان المن في طرق قوافل قريش إلى الشام والنذار بتجرأ العراب‬
‫والقبائل عليها بعد إنكسار هيبة وشأن قريش‪ ،‬وإصرارها على عبادة الصنام‬

‫‪()731‬سورة القصص ‪.34‬‬


‫‪()732‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()733‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫والجحود بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ,‬وصارت‬
‫حديث الركبان‪ ،‬والعذارى في خدورهن‪.‬‬
‫الخامسة‪:‬لحوق الشباب من قريش بالنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وإسلم‬
‫أبناء وبنات عدد من كبراء أهل مكة‪ ،‬وميل الناس الظاهر للسلم‪.‬‬
‫السادسة ‪ :‬الطمع بقلة وضعف المسلمين‪.‬‬
‫السابعة ‪ :‬فضح وإنعدام أثر تحريض بعض اليهود لقريش ضد النبي محمد صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم وإغرائهم بالمسلمين‪ ،‬وبيان ما عندهم من النقص في العدة ‪ ,‬والقلة‬
‫في المؤونة‪ ،‬ووجود المنافقين‪.‬‬
‫علم المناسبة‬
‫جاءت مادة )قلب( في القرآن في لغة النذار والبشارة‪ ،‬وأكثرها في النذار ومنها ما‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ك َتَقّل ُ‬
‫ل َيُغّرّن َ‬
‫جاءت في الحياة الدنيا‪ ،‬ومنها ما يتعلق بالخرة‪ ،‬قال تعالى] َ‬
‫لد[)‪ ،(734‬والخطاب للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وبواسطته‬ ‫َكَفُروا ِفي اْلِب َ‬
‫عموم المسلمين‪ ،‬في التحذير من الفتتان بما عليه المشركون من سعة الرزق وكثرة‬
‫الموال‪ ،‬والسعي لطلب المكسب والتجارة‪) ،‬وعن إبن عباس ‪ :‬هم أهل مكة)‪.(735‬‬
‫والتقلب هنا غير النقلب‪ ،‬لن المراد من التقلب السعة والتصرف في البلد‪،‬‬
‫والرخاء‪ ،‬أما النقلب فهو النصراف والرجوع‪ ،‬وجاء إنقلب كفار قريش أذلء‬
‫في معركة بدر وأحد مقدمة وبرزخًا دون تقلبهم في البلد ‪ ,‬لذهاب شوكتهم به ‪,‬‬
‫وخزيهم عند القبائل ‪ ,‬وإكتشاف الناس أنهم على باطل ‪.‬‬
‫ن[) (‪ ،‬إنذارًا وتبكيتًا للكفار‬ ‫‪736‬‬
‫ب َينَقِلُبو َ‬
‫ي ُمنَقَل ٍ‬
‫ظَلُموا َأ ّ‬
‫ن َ‬ ‫سَيْعَلُم اّلِذي َ‬
‫وجاء قوله تعالى ]َو َ‬
‫إذ أن الرجوع إلى ال أمر حتم‪ ،‬والنشور حق‪.‬‬
‫ويفيد الجمع بين الية أعله والية محل البحث أن الذين يعتدون على المسلمين‬
‫يلقون الخزي والذل في الحياة الدنيا والخرة‪ ،‬ففي الدنيا تهلك طائفة منهم ويفر‬
‫الباقون من ساحة المعركة‪ ،‬وفي الخرة ينتظرهم العذاب إل الذي تدركه التوبة‪ ،‬لذا‬
‫جاء فتح مكة رحمة بهم‪ ،‬ومناسبة لنابتهم‪.‬‬
‫وجاء في ذم السحرة حينما جاءت عصا موسى على حبالهم وعصيهم وابتلعتها ثم‬
‫ن[)‪.(737‬‬
‫غِري َ‬ ‫صا ِ‬
‫ك َوانَقَلُبوا َ‬ ‫عادت عصا باذن ال ]َفُغِلُبوا ُهَناِل َ‬
‫وقد إنقلب الكفار يوم بدر وأحد وهم في حال من الكبت والحرمان‪ ،‬ويترشح عنه‬
‫إنطباقًا الذل والصغار‪ ،‬ومع أن السحرة أعلنوا إسلمهم وسّلموا بالمعجزة‪ ،‬وقالوا لو‬
‫كانت عصا موسى سحرًا لما أكلت الحبال والعصي وعادت كما كانت إذ جعل ال‬
‫عز وجل تلك الجرام أجزاء لطيفة أو أعدمها‪ ،‬وتعرض السحرة للعذاب من قبل‬
‫فرعون وملئه ولم يتخلوا عن السلم‪ ،‬أما كفار قريش فقد رأوا المعجزات الباهرات‬

‫‪()734‬سورة آل عمران ‪.196‬‬


‫‪()735‬الكشاف ‪.1/490‬‬
‫‪()736‬سورة الشعراف ‪.227‬‬
‫‪()737‬سورة العراف ‪.119‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫في المعركة والتي تدل على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وإنهزموا‬
‫فزعين خائفين‪ ،‬ومع هذا لزموا الستكبار والعناد‪ ،‬ولم يغادروا منازله‪.‬‬
‫وقد أثنى ال عز وجل على السحرة عند توبتهم وإحتجاجهم على فرعون بذات‬
‫ن[)‪ ،(738‬فأعلنوا‬ ‫اللفظ الذي ذم فيه الكفار‪ ،‬وورد في التنزيل ]َقاُلوا ِإّنا ِإَلى َرّبَنا ُمنَقِلُبو َ‬
‫إسلمهم وعدم المبالة بوعيد فرعون لهم بالقتل لنهم منقلبون إلى ال جميعًا هم‬
‫وفرعون فيحكم بينهم‪ ،‬وإرادة نفي الربوبية عن فرعون وتذكيره بأنه ميت ومنقلب‬
‫إلى ال عز وجل‬
‫ن[‬
‫خاِئِبي َ‬
‫قوله تعالى ] َ‬
‫تأتي خواتيم اليات أحيانًا في الثناء على ال عز وجل‪ ،‬وبيان صفاته وأسمائه‬
‫الحسنى‪ ،‬لتكون إشراقة تنير القلوب المنكسرة‪ ،‬وتبعث فيها معاني الهداية واليمان ‪,‬‬
‫صُر ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫وفيها توكيد لمضامين الية بلغة البرهان كما في خاتمة الية السابقة ]َوَما الّن ْ‬
‫حِكيِم[‪.‬‬
‫ل اْلَعِزيِز اْل َ‬‫عْنِد ا ِّ‬
‫ن ِ‬
‫ِم ْ‬
‫وتأتي لبيان فضل ال عز وجل على المسلمين في آيات النعم اللهية‪ ،‬كما في‬
‫اليتين اللتين قبل الية السابقة وما فيهما من الخبار عن نزول الملئكة لنصرة‬
‫ن[‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪ ،‬ووصف الملئكة بأنهم ]ُمْنَزِلي َ‬
‫ن[)‪ ،(740‬وتأتي أحيانًا في مدح المسلمين‪ ،‬كما في خاتمة الية الثالثة‬ ‫سّوِمي َ‬ ‫)‪ ،(739‬و]ُم َ‬
‫ن[ وخاتمة الية‬ ‫ل اْلُمْؤِمُنو َ‬‫ل َفْلَيَتَوّك ْ‬
‫عَلى ا ِّ‬
‫والعشرين بعد المائة من هذه السورة ]َو َ‬
‫التي بعدها )لعلكم تشكرون( والخاصة بنصر ال للمؤمنين يوم بدر ‪ ,‬وهذا المدح في‬
‫طول الثناء على ال عز وجل‪.‬‬
‫وتتضمن الية محل البحث بيان بطش ال بالكفار الذين يعتدون على الحرمات‪،‬‬
‫ويزحفون بالجيوش لقتال النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫وجاءت خاتمتها إعجازًا وشاهدًا على صدق نزول القرآن من عند ال‪ ،‬فكما أنها‬
‫خاتمة للية فانها خاتمة لظلم وتعدي الكفار وبيان للعذاب العاجل الذي ينتهي إليه‬
‫هجومهم إلى جانب اليات التي تؤكد ما ينتظرهم من العذاب الليم يوم القيامة‪.‬‬
‫ن[ وهذه الخيبة على وجوه‪:‬‬ ‫خاِئِبي َ‬
‫لقد أختتمت هذه الية بقوله تعالى ] َ‬
‫الول‪ :‬الخيبة على نحو العموم الستغراقي الشامل لجميع الكفار الراجعين من‬
‫المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الخيبة على نحو العموم المجموعي‪ ،‬فتظهر الخيبة والنكسار عليهم كجيش‬
‫يقر بعجزه عن تحقيق الغايات التي خرج من أجلها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الخيبة على نحو العموم الفرادي‪ ،‬وإحساس كل فرد من جيش الكفار على‬
‫نحو مستقل بالخيبة والحرمان‪.‬‬

‫‪()738‬سورة العراف ‪.125‬‬


‫‪ ()739‬سورة آل عمران ‪.124‬‬
‫‪()740‬سورة آل عمران ‪.125‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وهذا التعدد في مصاديق الخيبة برزخ دون المواساة فيما بينهم‪ ،‬فل يسمع منهم إل‬
‫اللوم والسى والحسرة‪ ،‬ول بد من موضوع لهذه الخيبة‪ ،‬إذ تأتي كأثر من وجوه ‪:‬‬
‫الول‪ :‬خيبة الكفار قبل بدأ المعركة‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬خيبة الكفار لخروج الصحابة مع النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫عَد‬
‫ن َمَقا ِ‬
‫ئ اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ك ُتَبّو ُ‬
‫ن َأْهِل َ‬
‫ت ِم ْ‬
‫غَدْو َ‬
‫وعدم ترددهم أو قصورهم ‪ ,‬قال تعالى]َوِإْذ َ‬
‫ل[ )‪.(741‬‬
‫ِلْلِقَتا ِ‬
‫الثانية‪ :‬حسن إنقياد الصحابة لرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم في الستعداد‬
‫للقتال‪ ،‬إذ أن ميدان المعركة يتصف بمزايا خاصة‪ ،‬ويخرج أحيانًا عن القواعد‬
‫والضوابط السائدة في حال السلم‪ ،‬ويقل فيه الضبط والمتثال للوامر طلبًا للنجاة ‪,‬‬
‫ودفعًا للذى وطمعًا بالنفع‪.‬‬
‫ويرى الكفار أن الصحابة يتدافعون دون رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ويتطلعون بشوق إلى أوامره‪ ،‬وينصتون إلى ما ينزل عليه من الوحي حتى في‬
‫ساحة المعركة‪.‬‬
‫وعندما أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي للنبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وهو في طريقه إلى مكة سنة ست للهجرة يريد العمرة‪ ،‬قبل أن يتم صلح‬
‫الحديبية وجلس عروة بين يديه وأخبره النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ :‬أنه لم‬
‫يأت يريد حربًا‪ ،‬فقام من عند رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به‬
‫أصحابه‪ ،‬ل يتوضأ إل إبتدروا وضوءه ول يبصق بصاقا إل ابتدروه ول يسقط من‬
‫شعره شئ إل أخذوه‪ ،‬فرجع إلى قريش فقال‪ :‬يا معشر قريش إني قد جئت كسرى‬
‫في ملكه ‪ ,‬وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه‪ ،‬وإني وال ما رأيت ملكا في قومه‬
‫قط مثل محمد في أصحابه ! ولقد رأيت قوما ل يسلمونه لشئ أبدا‪ ،‬فقروا‬
‫رأيكم)‪.(742‬‬
‫الثالثة‪ :‬الصلت الخوية بين المهاجرين والنصار‪ ،‬والتي تتجلى في ميدان القتال‬
‫بالنصرة ودفع بعضهم عن بعض العدو‪ ،‬ومن اليات في نبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم أنه آخى بين المهاجرين والنصار‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬خيبة الكفار أثناء المعركة‪ ،‬وفيها مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬التزاحم بين المؤمنين للخروج للمبارزة‪ ،‬كما تجلى يوم بدر إذ بادر ثلثة‬
‫من النصار للخروج لمبارزة عتبة بن ربيعة وأخيه وإبنه‪ ،‬ولكنهم أبوا إل الكفاء‬
‫من قريش‪ ،‬وكانت قريش تظن أن الخوف يدخل قلوب المسلمين عندما يرون كثرة‬
‫عدد وعدة قريش وأنها ثلثة أضعاف عددهم سواء في بدر أو أحد‪ ،‬ولكنها أصيبت‬
‫بالخيبة من تفاني المسلمين في القتال في سبيل ال‪.‬‬

‫‪()741‬سورة آل عمران ‪.121‬‬


‫‪()742‬السيرة النبوية ‪.3/274‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫الثانية‪ :‬عشق المؤمنين للشهادة‪ ،‬وهو أمر إنفرد به المسلمون‪ ،‬وفيه قوة إضافية‬
‫س[)‪ ،(743‬وفيه‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫ومنعة لهم‪ ،‬وهو من مصاديق قوله تعالى ]ُكْنُتْم َ‬
‫إنذار لعدوهم بالكف عن قتالهم‪ ،‬وهو سبب لصابته بالخيبة عند المعركة لنه‬
‫يفاجئ بسلح ذاتي عند المسلمين يعجز الناس عن إيقافه أو التقليل من شأنه وأثره‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬إحساس الكفار بنزول الملئكة لنصرة المسلمين‪ ،‬وورد عن إبن عباس قال‪:‬‬
‫قال حدثني رجل من بني غفار ‪ ،‬قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل‬
‫يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة ‪ .‬فننتهب‬
‫مع من ينتهب ‪ .‬قال فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة‬
‫الخيل فسمعت قائل يقول اقدم حيزوم فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه‬
‫وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت)‪.(744‬‬
‫الرابعة‪ :‬إندفاع المسلمين في القتال‪ ،‬لتتجلى مصاديق قوله تعالى ]ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن‬
‫خَوٌة[)‪ ،(745‬في ميدان القتال إذ يهجمون وكأنهم رجل واحد يعضد أحدهم الخر‪،‬‬ ‫ِإ ْ‬
‫ومن الشواهد أن المشركين مع كثرتهم ورجحان كفتهم عددًا وعدة يبادرون إلى‬
‫الفرار من المعركة حالما يبدأ القتال كما في معركة بدر وأحد‪.‬‬
‫فلم يعهد تأريخ المعارك وما عند الناس من أخبارها مثل الستبسال والفداء الذي‬
‫يظهر عليه المسلمون في القتال ليكون سببًا لتغشي الخيبة للكفار على نحو دفعي‬
‫وحال‪ ،‬وليس من فترة بين المعركة وخيبة الكفار‪ ،‬لن هجوم المؤمنين العام‬
‫وتفانيهم في مرضاة ال يجعل الكفار يميلون للفرار وإجتناب القتال‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬إدراك الكفار للتباين العقائدي بينهم وبين المسلمين فيتناجى الكفار للقتال‪،‬‬
‫ويلقون القصائد والراجيز والشعار‪ ،‬ويزحفون بعزم ‪ ,‬وحالما يبدأ القتال تنزل‬
‫الخيبة بين صفوفهم‪ ،‬لتهدم تلك العزائم وتكشف لهم حقيقة أن الموضوع الذي جاءوا‬
‫للقتال من أجله سراب ول أصل له‪ ،‬والدفاع عن الوثان والصنام يتنافى مع‬
‫ل ذاتيًا عند النسان‪.‬‬ ‫وظائف العقل الذي جعله ال عز وجل رسو ً‬
‫السادسة‪ :‬نزول آيات القرآن أثناء المعركة على النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم وتلوة المسلمين ليات القرآن التي تزيد من قدرتهم على القتال وتماسكهم‬
‫ل َتَفّرُقوا[) (‪،‬‬
‫‪746‬‬
‫جِميًعا َو َ‬ ‫ل َ‬‫ل ا ِّ‬‫حْب ِ‬
‫صُموا ِب َ‬
‫عَت ِ‬ ‫وتعاونهم ‪ ,‬ومن مصاديق قوله تعالى ]َوا ْ‬
‫إندفاع المسلمين في القتال‪ ،‬وعدم خشيتهم من الكفار وأسلحتهم‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬وقوع صناديد الكفار الذين كانوا يعول عليهم قتلى في أول ساعات‬
‫المعركة‪ ،‬وظهر في هذا الزمان إصطلح )الضربة الولى( في القتال والحرب‪،‬‬
‫وما فيها من المباغتة للعدو وإجهاز على أهم دفاعاته‪ ،‬وسلب لقدراته الهجومية‪،‬‬
‫وبعث للرباك في صفوفه‪ ،‬وتعطيل لخططه‪.‬‬

‫‪ ()743‬سورة آل عمران ‪.110‬‬


‫‪()744‬الروض النف ‪.3/76‬‬
‫‪()745‬سورة الحجرات ‪.10‬‬
‫‪()746‬سورة آل عمران ‪.103‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ومن اليات أن المسلمين لم يبدأوا عدوًا القتال‪ ،‬ومع هذا تكون الضربة الولى لهم‬
‫وبأيديهم‪ ،‬ويفشل العدو في تحقيق غاياته عند إبتدائه المعركة‪ ،‬وهو إعجاز حي‬
‫ظاهر في ميدان المعركة‪ ،‬ودليل على صدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫ونزول الملئكة لنصرته وأصحابه‪ ،‬وسبب لبعث الحسرة والندم في نفوس الكفار‪.‬‬
‫الثامنة‪:‬تجاف الكفار عن الموت‪ ،‬وتعذر السلمة منه مع الحرص لن ال عز وجل‬
‫أبى إل أن يقطع طرفًا منهم‪ ،‬والقطع هنا على نحو الحتم ‪.‬‬
‫التاسعة‪ :‬إختيار المسلمين للشهادة بتفانيهم وبذلهم الوسع في القتال‪ ،‬فهم يقصدون‬
‫أمورًا مجتمعة ومتفرقة وهي‪:‬‬
‫الول‪ :‬القتال والدفاع عن السلم‪ ،‬وان صار مقدمة للشهادة‪.‬‬
‫ن ُقِتُلوا‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫حسََب ّ‬‫ل َت ْ‬
‫الثاني‪ :‬الشهادة ذاتها سبيل للحياة البدية في الجنة قال تعالى]َو َ‬
‫ن[)‪.(747‬‬
‫عْنَد َرّبِهْم ُيْرَزُقو َ‬
‫حَياءٌ ِ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ل َأْمَواًتا َب ْ‬‫ل ا ِّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ِفي َ‬
‫الثالث‪ :‬تحقيق النصر للسلم والمسلمين وإن جاء بالتضحيات‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الذب عن النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪ ،‬وحفظ شخصه الكريم‪،‬‬
‫وإستدامة نزول آيات القرآن لتبقى منارًا وضياء ينير دروب الجهاد والصلح للناس‬
‫جميعًا في أبواب العبادات والمعاملت والحكام‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى ]َوَما‬
‫ل ُهَو[)‪ ،(748‬بإعتبار أنهم من جند ال الذين يساهمون في حفظ حياة‬ ‫ك ِإ ّ‬ ‫جُنوَد َرّب َ‬‫َيْعَلُم ُ‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم التي هي ضرورة لنزول القرآن على صدره‪.‬‬
‫العاشرة‪ :‬التباين بين المؤمنين والكفار في موضوع الجبن والخور في المعركة وإذ‬
‫جاءت اليات بتوكيد ثبات المسلمين في ميدان المعركة وعدم حصول الفشل‬
‫والخور عندهم إل على نحو الهم به من فريق منهم مع سرعة زوال هذا الهم‬
‫بفضل ال)‪ ،(749‬بينما جاءت الية محل البحث بالخبار عن قانون ثابت وهو هزيمة‬
‫الكفار المقرونة بالخيبة والحرمان‪.‬‬
‫الحادية عشرة‪ :‬إتحاد لواء المشركين في الغالب وسقوطه في المعركة ومقتل‬
‫حامله‪ ،‬وتعدد ألوية ورايات المؤمنين وبقاؤها مرفوعة خفاقة‪ ،‬وكان لواء المسلمين‬
‫يتقدم وسط المعركة ساعة ضراوتها وشدتها‪ ،‬ومع شدة القتال يوم أحد أرسل النبي‬
‫إلى المام علي أن قدم الراية‪ ،‬فتقدم علي فتبارز هو وأبو سعد بن أبي طلحة‬
‫صاحب لواء المشركين بين الصفين‪ ،‬أي أن الجيشين ينظران لهذه المبارزة‬
‫ل منهما حامل اللواء‪،‬‬ ‫لموضوعيتها في سير المعركة ونتيجتها‪ ،‬خصوصًا وأن ك ً‬
‫ل )ثم انصرف ولم يجهز عليه‪ ،‬فقال له بعض‬ ‫فصرعه المام علي عليه السلم قتي ً‬
‫أصحابه‪ :‬أفل أجهزت عليه ؟ فقال‪ :‬إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم‬
‫وعرفت أن ال قد قتله( )‪(750‬وفي رواية أن المام علي ضربه فقتله‪.‬‬
‫‪()747‬سورة آل عمران ‪.169‬‬
‫‪()748‬سورة المدثر ‪.31‬‬
‫‪()749‬أنظر الجزء الثالث والستين من التفسير‪ /‬تفسير سورة‬
‫آل عمران الية ‪. 122‬‬
‫‪ ()750‬السيرة النبوية لبن كثير ‪.2/74‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وهذه المبارزة من مصاديق قطع طرف من الكفار‪ ،‬لن حامل اللواء علم من‬
‫الكفار‪ ،‬وأحد رؤسائهم‪.‬‬
‫وقتل حامل لواء الكفار بشارة وغبطة للمؤمنين‪ ،‬وسبب لمتلء نفوسهم بالطمأنينة‬
‫والسكينة وإرتفاع أصواتهم بالتكبير والتهليل‪ ،‬ويبعث التكبير الفزع والكبت والحزن‬
‫في قلوب الكفار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬خيبة الكفار بعد إنقضاء المعركة‪ ،‬وفيه مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬فرار الكفار من ساحة المعركة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إدراك الكفار لفشلهم وجبنهم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬عجز الكفار عن تحقيق ما يأملون‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬إلتفات ومناجاة الكفار لفقد صناديدهم‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬بكاء الكفار على قتلهم‪ ،‬وشمول هذا البكاء للرجال والنساء‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬الخيبة والحسرة للوهن والضعف الذي أصابهم‪.‬‬
‫السابعة‪:‬تجلي معجزة حسية للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم وهي خروجه‬
‫سالمًا من المعركة والقتال‪ ،‬مع أن الكفار يرون مكانه وسط الميدان‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬القرار العام عند الكفار بقوة شوكة المسلمين‪.‬‬
‫التاسعة‪ :‬مايلحق الكفار من الخزي والذل عند القبائل الخرى والناس عامة بسبب‬
‫ل َأًذى[)‪.(751‬‬
‫ضّروُكْم ِإ ّ‬
‫ن َي ُ‬
‫عجزهم عن الضرار بالمسلمين قال تعالى ]َل ْ‬
‫العاشرة‪ :‬إمتلء نفوس الكفار بالحسرة لذهاب الموال التي إنفقوها في مقدمات‬
‫القتال والسلح والمؤون‪.‬‬
‫الحادية عشرة‪ :‬إنكشاف كذب الدعوى بقتل النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ‪,‬‬
‫وإصابة الكفار بالحباط والقنوط‪.‬‬
‫الثانية عشرة ‪ :‬عدم حيلولة المعركة والقتال دون مواصلة المسلمين الخروج بسرايا‬
‫الغزو حول المدينة‪ ،‬ومع حلوة نعمة النصر في معركة بدر‪ ،‬وكثرة السرى‬
‫والغنائم‪ ،‬وما تستلزمه من أمور فان النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم )لم يقم‬
‫بها إل سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم‪ ،‬فبلغ ماء من مياههم يقال له‬
‫الكدر ‪ ،‬فأقام عليه ثلث ليال ثم رجع إلى المدينة ‪ ،‬ولم يلق كيدا)‪.(752‬‬
‫ومع ما أصاب المسلمين من القتلى والجراحات يوم أحد فأن النبي محمدًا صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم خرج في اليوم الثاني للمعركة خلف جيش المشركين في يوم الحد‬
‫لست عشرة ليلة مضت من شوال في السنة الثالثة للهجرة‪ ،‬وسميت غزوة حمراء‬
‫السد نسبة إلى الموضع الذي وصل إليه‪ ،‬ويبعد عن المدينة ثمانية أميال‪ ،‬وأقام فيها‬
‫ثلثة أيام‪.‬‬
‫الثالثة عشرة‪ :‬هزيمة الكفار في المعركة‪ ،‬وعجزهم عن نيل ما يطلبون معجزة‬
‫ظاهرة للنبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم بلحاظ أمور منها‪:‬‬
‫‪()751‬سورة آل عمران ‪.111‬‬
‫‪()752‬السيرة النبوية ‪.3/47‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الول‪ :‬قلة عدد أصحاب النبي في المعركة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬النقص الظاهر في عدتهم وأسلحتهم ورواحلهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما يتحلى به المؤمنون من الصبر في ميدان المعركة طلبًا لمرضاة ال‪.‬‬
‫الرابعة عشرة‪ :‬سلمة المدينة المنورة من الضرر‪ ،‬وعجز الكفار عن الوصول‬
‫إليها‪ ،‬وكأن حجبًا سماوية تحيط بها‪ ،‬وسلمتها تلك رشحة من رشحات نزول‬
‫الملئكة لنصرة المؤمنين‪ ،‬وعلة لرمي الكفار بالضعف والوهن والعجز‪ ،‬وهو من‬
‫عمومات الخيبة التي تلحق بالكفار‪.‬‬
‫الخامسة عشرة‪ :‬خيبة الكفار برؤية دخول الناس السلم بسبب هزيمة الكفار‪ ،‬على‬
‫ن ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ن ِفي ِدي ِ‬
‫خُلو َ‬
‫س َيْد ُ‬
‫ت الّنا َ‬
‫نحو الخصوص‪ ،‬وهو من عمومات قوله تعالى]َوَرَأْي َ‬
‫جا[ )‪ ،(753‬فمن مصاديق دخول السلم جماعات وفرق أنهم يرون هزيمة الكفار‬ ‫َأْفَوا ً‬
‫خائبين محرومين أمام المسلمين الذين هم قلة إلى جانب تجلي معجزات النبوة‪،‬‬
‫والضياء الذي تبعثه آيات القرآن فيمل القلوب بنور الهداية ‪ ,‬ويجذبها إلى منازل‬
‫اليمان‪.‬‬
‫الخامسة عشرة‪ :‬لقد حرص الكفار على بقاء المسلمين في حال فقر وضعف‪،‬‬
‫ومنعوا المهاجرين من أخذ أموالهم معهم إلى المدينة‪ ،‬أو بيع دورهم وبيوتهم‪،‬‬
‫فجاءت معارك الكفار مع المسلمين لتجعل المسلمين المهاجرين والنصار يغنمون‬
‫الموال‪.‬‬
‫ومن أسرار إقتران هزيمة الكفار بالخيبة والحرمان الخبار عن إستمرار حال‬
‫ظلمهم لنفسهم‪ ،‬فهم لم ينقلبوا تائبين‪ ،‬ول شاكرين ل على المهلة والمندوحة في‬
‫عدم وقوعهم قتلى على يد الملئكة والمؤمنين‪ ،‬بل تمل نفوسهم الحسرة على فوات‬
‫ما كانوا يأملون‪ ،‬وأيهما أكثر ظلمًا للنفس الهجوم على المسلمين ودخول المعركة أم‬
‫الهزيمة بخيبة وذل‪.‬‬
‫الجواب هو الول لموضوعية إختيار الظلم والتعدي على حرمات السلم‪ ،‬وتهيئة‬
‫مقدماته‪ ،‬وجاءت الخيبة مترشحة عنه ‪ ,‬وعقوبة عاجلة‪ ،‬وإنذارًا لعموم الكفار ‪ ,‬قال‬
‫لْدَباَر[ )‪.(754‬‬
‫ن َكَفُروا َلَوّلْوا ا َ‬
‫تعالى]َوَلْو َقاَتَلُكْم اّلِذي َ‬
‫قانون"خائبين’’‬
‫لم يرد لفظ)خائبين( في القرآن إل في هذه الية الكريمة‪ ،‬وكأنها علم مستقل خاص‬
‫بهزيمة الكفار‪ ،‬وفيه بيان بأن الخيبة والحرمان الذي يصيبهم يومئذ هو أشد وجوه‬
‫الخيبة والحرمان‪ ،‬وليس من أمة تعاني من الحرمان والحزن والحسرة مثل الكفار‬
‫ساعة الهزيمة‪ ،‬فلذا خصهم ال عز وجل بهذا الوصف ليعتبر الناس منهم‪ ،‬ويتدبروا‬
‫في أسرار القرآن وكلماته التي تكون كل واحدة منها فريدة عقائدية وبلغية‬
‫ويدركوا أن أشد وجوه الخسارة والحرمان في الدنيا النعت الدائم للذين يقاتلون النبي‬
‫محمدًا والمؤمنين‪ ،‬ويجهزون عليهم‪ ،‬ويسعون في إستئصالهم بأنهم خائبون‪.‬‬
‫‪()753‬سورة النصر ‪.2‬‬
‫‪()754‬سورة الفتح ‪.22‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫ومع أن هذه الية جاءت بصيغة الجملة الخبرية التي تتضمن الوقوع والحدوث‪،‬‬
‫فإنها تتضمن النشاء والوعيد ودعوة الكفار لجتناب قتال المسلمين‪ ،‬وبلحاظ‬
‫ب َأِليٌم[فإن الخيبة مقدمة وإنذار‬
‫عَذا ٌ‬
‫ك َفَلُه َ‬
‫عَتَدى َبْعَد َذِل َ‬
‫نا ْ‬‫عمومات قوله تعالى]َفَم ْ‬
‫لنزول عذاب الستئصال بالكفار إن إستمروا على نهج محاربة النبي محمد صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم والمؤمنين‪.‬‬
‫وصحيح أن اليات جاءت بالوعيد والعذاب الليم للكفار‪ ،‬وأخبرت عما لقوه من‬
‫البطش اللهي وما أعد ال عز وجل لهم من العذاب الليم يوم القيامة‪ ،‬إل أن الخيبة‬
‫جاءت صفة للكفار الذين ينسحبون من ساحة القتال مع المسلمين‪ ،‬وهو من مصاديق‬
‫س[ )‪.(755‬‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬‫ما رزق ال المسلمين‪ ،‬وجعلهم] َ‬
‫لقد جعل ال عز وجل الحياة الدنيا دار سعادة وغبطة للمسلمين‪ ،‬وتشملهم معاني‬
‫البتلء والمتحان فيها كما تشمل غيرهم من الناس ‪ ,‬ولكن مع التباين الجهتي في‬
‫الموضوع ‪ ,‬والمطلق في الثر إذ يتصفون بخصوصية وهي الفوز باللطف اللهي‬
‫بنيل العون والعناية والمدد للتوفيق في البتلء‪ ،‬والثواب العظيم عليه ‪.‬‬
‫ويأتي العون والمدد بالذات أحيانًا ‪ ,‬وبالعرض أحيانًا أخرى‪ ،‬ومن الثاني ما يترشح‬
‫عن نزول الخسارة والخيبة بالكفار‪ ،‬فإنه عون للمسلمين من وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬تجلي معجزة حسية بصدق نبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إنه مناسبة لدخول الناس السلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬كان كفار قريش يسيمون المؤمنين المستضعفين في ناحيتهم شتى صنوف‬
‫العذاب‪ ،‬فجاءت خيبة الكفار لتصيبهم بالشلل والوهن‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ظهور التضاد والتباين بين المسلمين والكفار بشمول الكفار بالخيبة‬
‫والحرمان‪ ،‬وفوز المسلمين بالنصر والعز والرفعة وهو من عمومات قوله تعالى] ِّ‬
‫ل‬
‫ن[)‪.(756‬‬
‫سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫اْلِعّزُة َوِلَر ُ‬
‫الخامس‪ :‬الخيبة إبتلء وداء يصيب مجتمعات الكفار‪ ،‬ويجعل الحزن والسى‬
‫مستقرًا في نفوسهم‪ ،‬ويكون سمة مصاحبة لهم يعرفون بها‪ ،‬وهل تبقى عندهم حتى‬
‫بعد دخولهم السلم‪ ،‬الجواب ل‪ ،‬لنها من لوازم الكفر المقرون بالتعدي على‬
‫حرمات السلم‪ ،‬فاذا تغير الموضوع تبدل الحكم‪ ،‬فتأتي العزة مع دخول السلم‬
‫مما يدل على إعجاز قرآني وهو أن لغة التوبيخ والتبكيت الواردة في القرآن زجر‬
‫عن الفعل المذموم الذي يأتي التوبيخ بسببه‪.‬‬
‫وفي نعت الكفار الحربيين بالخائبين والمحرومين تحذير ودعوة للناس عامة من‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إجتناب نصرة الكفار في تعديهم على السلم والمسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من المعروف والمتواتر تأريخيًا أن قريشًا أهل تجارة إذ أن مكة بلد جدب‬
‫وتأتي العرب من كل صوب في موسم الحج والعمرة‪ ،‬فيكون مناسبة لتولي قريش‬
‫‪()755‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()756‬سورة المنافقون ‪.8‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫البيع وتصريف البضاعة التي يأتون بها من الشام ‪ ،‬ومن اليمن ‪ ،‬وهو من مصاديق‬
‫ت[)‪.(757‬‬ ‫ن الّثَمَرا ِ‬
‫دعوة إبراهيم كما ورد في التنزيل]َواْرُزقْ َأْهَلُه ِم ْ‬
‫وجاء نعتهم بالخائبين لتحذير الناس من المعاملة معهم‪ ،‬وكانت العرب تتفائل‬
‫وتتشاءم بالسماء والظواهر والعلمات‪ ،‬وورد في التنزيل ذم الكفار في تعديهم‬
‫على المسلمين بنسبة ما يلحق بهم من القحط والجدب لوجود النبياء وأصحابهم بين‬
‫سّيَئٌة َيُقوُلوا‬
‫صْبهُْم َ‬
‫ن ُت ِ‬
‫ظهرانيهم‪ ،‬وكما في مشركي مكة حينما حبس عنهم المطر]َوِإ ْ‬
‫ك[)‪.(758‬‬ ‫عْنِد َ‬
‫ن ِ‬‫َهِذِه ِم ْ‬
‫وصحيح أن معنى الخيبة هو الحرمان لغة ولكن يمكن القول أن بينهما عمومًا‬
‫وخصوصًا مطلقًا‪ ،‬فكل حرمان هو خيبة وليس العكس فالخيبة أعم في موضوعها‪،‬‬
‫وتكون أثرًا مترشحًا عن الحرمان‪ ،‬والحرمان يكون كالمصيبة التي تصيب الفرد‬
‫والجماعة‪ ،‬وتخف وطأته مع تقادم اليام‪.‬‬
‫أما الخيبة فهي صفة وعرض ‪ ,‬وقد تستقر في النفوس‪ ،‬وتمنع من معاودة الكرة في‬
‫ذات السبب التي جاءت الخيبة بسببه‪ ،‬وهل الخيبة من الكلي المتواطئ الذي يكون‬
‫على مرتبة واحدة ومتساوي الفراد أم أنها من الكلي المشكك الذي يكون على‬
‫مراتب متفاوتة قوة وضعفًا‪.‬‬
‫الجواب هو الثاني‪ ،‬لذا جاءت الية ببيان التعدد في علة وموضوع خيبة الكفار من‬
‫قطع طرف منهم‪ ،‬وهزيمتهم في القتال‪ ،‬وعجزهم عن نيل ما قطعوا مئات الميال‬
‫ذهابًا وأيابًا وانفقوا من أجله الموال الطائلة بالضافة إلى الستعداد له وتحريض‬
‫القبائل وإستمالتها والتذلل لها‪ ،‬في وقت كانت السطوة والشأن بين القبائل لقريش‪.‬‬
‫فأخذت تسأل وتستجدي النصرة والعون بالباطل‪ ،‬فكان هذا السؤال من مصاديق‬
‫خيبتهم وفضحهم وخزيهم عند القبائل‪ ،‬لبيان شدة الخيبة التي أصيب بها الكفار‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ومن الخيبة إنعدام الظن بحصول ما جرى‬ ‫وأنها ليست أمرًا طارئًا وعرضًا زائ ً‬
‫لهم‪ ،‬فكانوا يظنون أن قتل المؤمنين في ميدان المعركة أمر هين وسهل‪ ،‬ولم يرجع‬
‫الكفار إل وقد فقدوا أبطالهم‪ ،‬وعددًا من رؤسائهم وكبرائهم‪.‬‬
‫وجاء المر والعذاب اللهي بالكفار مرددًا بين أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬قطع وهلك طائفة منهم‪.‬‬
‫طَرًفا‬
‫طَع َ‬ ‫الثاني‪:‬الكبت والذل لمن بقي منهم ‪ ,‬لقوله تعالى في الية محل البحث ]ِلَيْق َ‬
‫ن َكَفُروا َأْو َيْكِبَتُهْم[‪.‬‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِم ْ‬
‫وكل فرد منهما موضوع للخيبة‪ ،‬ولم تنحصر أسباب الخيبة بحال المعركة‪ ،‬بل هي‬
‫متجددة الفراد‪ ،‬فل يستطيع الكفار التخلص منها‪ ،‬بل تأتيهم من بيوتهم ومنتدياتهم‬
‫والسواق ومن العبيد وعمار بيت ال الحرام‪ ،‬وحديث الناس العلني عن معجزات‬
‫النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم ومنها خيبة الكفار‪ ،‬إذ أنها معجزة قائمة بذاتها‬
‫خصوصًا وأنها جاءت دفعة واحدة لقريش بعد توارث رفعتها وعظيم شأنها بين‬
‫‪()757‬سورة البقرة ‪.126‬‬
‫‪()758‬سورة النساء ‪.78‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫القبائل‪ ،‬فتلك الرفعة غادرتهم بمحاربتهم لرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم ‪,‬‬
‫ل ُكْفًرا‬‫ن َبّدُلوا ِنْعَمَة ا ِّ‬
‫وإستبدلها ال بملزمة الخيبة لهم‪ ،‬قال تعالى]َأَلْم َتَرى ِإَلى اّلِذي َ‬
‫حّلوا َقْوَمُهْم َداَر اْلَبَواِر[)‪ ،(759‬وفيه تخفيف من وجوه‪:‬‬
‫َوَأ َ‬
‫الول‪ :‬صيرورة الكفار في حال خيبة‪ ،‬وزوال الكبرياء وأسباب الرفعة والشأن‬
‫عنهم برزخ دون إصرارهم على الباطل وإكراه الناس عليه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬خيبة الكفار مناسبة للتخفيف عن أولدهم وعبيدهم وحلفائهم والناس جميعًا ‪,‬‬
‫وفيه مندوحة وسعة في إختيار طريق الهداية والحق‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تبعث الخيبة على القنوط واليأس‪ ،‬فتضعف همة الكفار في التعدي ومحاربة‬
‫السلم‪.‬‬
‫الرابع‪:‬التخفيف عن المسلمين الذين يخفون إسلمهم ممن كانوا في مكة وحواليها‪،‬‬
‫وكثرة وتنامي عددهم مع كل خيبة تلحق الكفار‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬فيه فرصة ومناسبة للشباب المسلم بالهجرة إلى المدينة‪ ،‬وعدم الخشية من‬
‫الرصد والعذاب‪.‬‬
‫السادس‪ :‬التخفيف عن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم من المهاجرين‬
‫والنصار لتخلف الكفار عن تجهيز الجيوش ضدهم‪.‬‬
‫لقد إمتلت نفوس كفار قريش في معارك القتال مع المسلمين بالغيظ‪ ،‬وهي حال‬
‫مترشحة عن أسباب وهي‪:‬‬
‫الول‪ :‬ظهور المسلمين بحال من القوة والتماسك واليثار والخلص في طاعة ال‪،‬‬
‫ن[)‪،(760‬‬ ‫صو َ‬‫خِل ُ‬ ‫ن َلُه ُم ْ‬
‫حُ‬‫وجهادهم في معركة بدر وأحد من عمومات قوله تعالى ]َوَن ْ‬
‫والذي جاء في سورة البقرة إحتجاجًا على أهل الكتاب وكأنه دعوة لهل الكتاب‬
‫للتدبر في تفاني المؤمنين في الدفاع عن بيضة السلم والجهاد في سبيل ال في‬
‫معارك السلم الولى‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬سقوط أبطال من قريش في المبارزة التي تفتتح بها المعركة‪ ,‬سواء في‬
‫معركة بدر أو أحد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إصابة الكفار بالفزع والهلع أثناء المعركة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬عجز الكفار عن تنظيم صفوفهم‪.‬‬
‫الخامس‪:‬نصرة الملئكة للمؤمنين وتجلي آيات وأسباب نصرتهم‪.‬‬
‫السادس‪ :‬قصور وعجز الكفار عن الوصول إلى النبي محمد صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم‪.‬‬
‫السابع‪ :‬إنقلب الكفار من المعركة‪ ،‬وعجزهم عن الصبر لمواجهة سيوف المؤمنين‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬فقدان قريش لموالها التي تركتها غنائم للمسلمين‪ ،‬وإدراكهم لحقيقة إنتفاع‬
‫المسلمين منها في المعارك اللحقة‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬الذل الذي لحق قريشًا من الهزيمة‪ ،‬وتناقل العرب لها‪.‬‬
‫‪()759‬سورة إبراهيم ‪.28‬‬
‫‪()760‬سورة البقرة ‪.139‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫العاشر‪ :‬ما يدل عليه نصر المسلمين من صدق نبوة محمد ‪ ،‬وما وعده ال عز وجل‬
‫من النصر والغلبة‪.‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬إدراك الكفار لحقيقة وهي أن هزيمتهم باب لدخول الناس السلم‬
‫جا[)‪.(761‬‬ ‫ل َأْفَوا ً‬ ‫ن ا ِّ‬‫ن ِفي ِدي ِ‬
‫خُلو َ‬‫س َيْد ُ‬
‫ت الّنا َ‬
‫جماعات وأفواجًا ‪ ،‬قال تعالى]َوَرَأْي َ‬
‫عِلم المناسبة‬
‫لم يرد لفظ )خائبين ( بصيغة الرفع أو النصب أو الجر في القرآن إل في هذه الية‬
‫الكريمة‪ ،‬ولم يرد فيه بصيغة المفرد أو المثنى‪ ،‬أو الفعل المضارع‪ ،‬إنما جاء أربع‬
‫مرات بصيغة الفعل الماضي‪ ،‬وتلك آية إعجازية إذ ينفرد وصف الفاعلية للخيبة‬
‫بخصوص الكفار الذين حاربوا النبي محمدًا صلى ال عليه وآله وسلم وقاتلوا‬
‫المسلمين في ميدان المعركة‪ ،‬ليكون من مفاهيم إكرام ال عز وجل للمسلمين في‬
‫س[)‪ ،(762‬بأن يرمي ال عز وجل عدوهم‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬ ‫خِر َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ‬
‫قوله تعالى ]ُكْنُتْم َ‬
‫على نحو التعيين بالخيبة والخسران‪.‬‬
‫عِنيٍد[) (‪ ،‬أي أن النبياء السابقين‬ ‫‪763‬‬
‫جّباٍر َ‬ ‫ل َ‬‫ب ُك ّ‬
‫خا َ‬ ‫حوا َو َ‬‫سَتْفَت ُ‬
‫وورد قوله تعالى ]َوا ْ‬
‫إستنصروا ال عز وجل على الكفار الذين أرادوا إخراجهم من أمصارهم لدعوتهم‬
‫إلى ال‪ ،‬فنزل الحرمان والحسرة في ساحة الكفار‪ ،‬وفي الية بيان لقانون ثابت‪،‬‬
‫وبشارة للمسلمين بخيبة المستكبرين المعاندين‪ ،‬وقد أظهرت قريش العناد والجحود‬
‫بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫حَتُكْم ِبَعَذا ٍ‬
‫ب‬ ‫سِ‬
‫ل َكِذًبا َفُي ْ‬ ‫عَلى ا ِّ‬‫ل َتْفَتُروا َ‬
‫وفي التنزيل حكاية عن موسى عليه السلم ] َ‬
‫ن اْفَتَرى[)‪ ،(764‬في توبيخ وإنذار للسحرة ‪ ,‬وتحذيرهم من نعت المعجزة‬ ‫ب َم ْ‬
‫خا َ‬
‫َوَقْد َ‬
‫بأنها سحر‪ ،‬وتوكيد بإن الذي يكذب على ال عز وجل يخزيه وينزل به العذاب‪.‬‬
‫وقد جاءت قريش بأشد من الفتراء إذ زحفت بالجيوش العظيمة لوأد السلم الذي‬
‫هو خير محض في الدارين‪ ،‬وأراد ال عز وجل له أن يكون الديانة الباقية إلى يوم‬
‫القيامة فإبتلهم ال بهلك طائفة منهم في ميدان المعركة‪ ،‬وإحاطتهم بالخزي والذل‪،‬‬
‫وحرمانهم من الغلبة والظفر وإنكسار شوكتهم لتكون الخيبة أمرًا منتزعًا من‬
‫إتصاف الذات بمفهوم خارج ‪ ,‬ترشح عرضًا من القيام بأشد أنواع المعصية‬
‫الجماعية ويكون متحدًا مع الذات‪.‬‬
‫ومع قلة كلمات الية فقد جاءت فيها كلمات لم تأت في آيات القرآن الخرى‪:‬‬
‫الثانية‪ :‬يكبتهم‪.‬‬ ‫الولى‪ :‬طرفًا‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬خائبين‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬ينقلبوا‪.‬‬
‫بحث أصولي‬

‫‪()761‬سورة النصر ‪.2‬‬


‫‪()762‬سورة آل عمران ‪.110‬‬
‫‪()763‬سورة إبراهيم ‪.15‬‬
‫‪()764‬سورة طه ‪.61‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫من مصطلحات علم الصول)المشتق( وهواللفظ الذي يطلق على الذات بلحاظ‬
‫إتصافها بمبدأ معين سواء كان ترشح إتصاف الذات به‪:‬‬
‫بحلولها فيه‪.‬‬
‫‪ -2‬بصدورها عنه‪.‬‬
‫‪ -3‬إنتزاعها منه‪.‬‬
‫وبين المشتق في الدب والمشتق في علم الصول عموم وخصوص من وجه‪ ،‬فهو‬
‫في الدب مأخوذ من لفظ آخر مع إحتوائه لحروفه والتقائه معه في الترتيب أو‬
‫مطلقًا‪ ،‬فالماضي والمضارع والمصدر مشتقات أدبية‪ ،‬وليست مشتقات في علم‬
‫الصول‪ ،‬فمادة الجتماع إسم الفاعل والمفعول ونحوها‪ ،‬لن الفعال تبين النسبة‬
‫بين الذات والصفة‪ ،‬وليس الذات حال إتصافها بالصفة‪ ،‬أما إسم الفاعل والمفعول‬
‫فهما مشتقان في كل الصطلحين‪ ،‬وصحيح أن إسم الفاعل مثل )ضارب( مشترك‬
‫بحسب المفهوم بين الزمنة الثلثة‪ ،‬أمسًا واليوم وغدًا‪ ،‬ولكن أوان التلبس يعرف‬
‫بلحاظ القرائن والعرف والقدر المتيقن عند أهل المحاورة وقالوا أن المشتق في‬
‫الصطلح الصولي بسيط ليس مركبًا من الذات ومبدأ الشتقاق فالذات خارجة عن‬
‫مفهوم المشتق‪.‬‬
‫والمشتق من جهة الستعمال على ثلثة أقسام‪:‬‬
‫الول ‪ :‬مجئ المشتق في ذات لم تتلبس بعد بالمبدء‪ ،‬ولكنها ستتلبس فيما بعد كما‬
‫تقول للذي يدرس القانون ‪ ,‬ويستعد علميًا لتولي القضاء بانه قاض‪.‬‬
‫فزمان النسبة الن وأيام الدراسة ‪.‬‬
‫وزمان التلبس بالمبدء وهو صفة القاضي ل يكون إل غدًا وفي المستقبل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إستعمال المشتق في ذات متلبسة بالمبدأ في الحال كما في القاضي أثناء‬
‫مزاولته القضاء‪ ،‬فالذات هو شخص القاضي‪ ،‬والمبدأ هو القضاء‪ ،‬والحال هو أوان‬
‫نسبة القضاء‪ ،‬فاذا كان الن مطابقًا لتصافه بالقضاء‪ ،‬فالستعمال على نحو‬
‫المطابقية‬
‫الثالث‪ :‬تعلق المشتق بذات كانت متلبسة بالمبدء قبل حال النسبة‪ ،‬فاذا أحيل القاضي‬
‫ض‪ ،‬فزمان النسبة الن اما‬ ‫على التقاعد ووصفته بعد الحالة على المعاش بانه قا ِ‬
‫اوان التلبس بالمبدء أي القضاء فهو المس‪.‬‬
‫والجماع على ان استعماله في الول مجازًا‪ ، ،‬ومحتاج الى القرينة او العناية‪ ،‬كما‬
‫في المثال انه في معرض كونه طبيبًا لنه يدرس الطب‪ ,‬وفي الثاني حقيقة ‪.‬‬
‫والختلف وقع في الثالث وان زمان التلبس بالمبدأ هو المس‪ ،‬وهذا الخلف ناجم‬
‫عن إعتبار تلبس الذات بالمبدأ في الجملة أي من دون تقييد التلبس بزمان دون‬
‫زمان‪ ،‬ولكن هذا التلبس يخرج ما لم يتلبس بالمبدأ ال ان تطلق عليه الصفة على‬
‫نحو التعليق والمشارفة كما في قولهم‪ :‬إذا مات الميت‪ ،‬فالمجازية لن العرض لم يتم‬
‫في محله بعد فلم يتولد عنوان المشتق‪ ،‬والذي قال بحقيقته فيما انقضى عنه ان‬
‫حصول التلبس بالمعنى العم يشمل ما انقضى عنه المبدأ‪ ،‬وكأنه بعرض واحد مع‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[3‬‬
‫جَعْلَنا‬
‫ل ل يقال للحيوان انه ماء لعمومات قوله تعالى ]َو َ‬ ‫بقاء المتولد في الحال‪ ،‬فمث ً‬
‫ي[)‪. (765‬‬
‫حّ‬
‫يءٍ َ‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬‫ن اْلَماءِ ُك ّ‬
‫ِم ْ‬
‫لن الماء عنصر التكوين بل ان الحيوان يعرف بصورته النوعية‪ ،‬اما بالنسبة‬
‫للمشتق كضارب فيتعلق به العنوان لنه جهة الصدور‪ ،‬فلذا ورد التعريف بالمشتق‬
‫بانه ذات تتلبس بالمبدأ كانسانية النسان‪ ،‬وزيدية زيد عندما قام بالفعل او حتى قبل‬
‫القيام بالفعل على نحو التعليق والمشارفة‪ ،‬وان كانت النسانية امر منتزع عن نفس‬
‫الذات من غير أمر خارج عنها‪ ،‬أما القيام بفعل كالضرب فهو منتزع عن إتصاف‬
‫الذات بمفهوم خارج متحد مع الذات)‪.(766‬‬
‫والخيبة ملزمة للكفار‪ ،‬وهي عرض قار له مصداق خارجي في عالم الفعال‪ ،‬فل‬
‫تصل النوبة إلى إنقضاء زمان التلبس بالخيبة‪ ،‬وأنه بالمس‪ ،‬بل هو مستديم‬
‫خصوصًا وأن الخيبة لم تترشح عن سبب واحد كالكبت أو النقلب بل لها أسباب‬
‫عديدة تقدم ذكرها منها نزول الملئكة مددًا للمؤمنين والبشارة والسكينة التي تنزل‬
‫على المؤمنين وهلك عدد من أبطال وصناديد الكفار وضياع أموال الكفار التي‬
‫أنفقوها للمسلمين غنائم المسلمين‪ ،‬في محاربة النبي محمد صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫سَرًة ُثّم‬ ‫حْ‬‫عَلْيِهْم َ‬
‫ن َ‬‫سُينِفُقوَنَها ُثّم َتُكو ُ‬
‫وأصحابه وأصبحت غنائم للمسلمين قال تعالى]َف َ‬
‫ن[ )‪ ،(767‬وتعطيل العمال والتجارات للنشغال بمقدمات المعركة‪ ،‬وقطع‬ ‫ُيْغَلُبو َ‬
‫المسافات الطويلة ذهابًا وإيابًا لغرض الغزو والهجوم بين مكة والمدينة ‪ ,‬وما فيه‬
‫من الجهد والعناء ‪ ,‬لتأتي الخيبة فتزيد من أثره على البدان والنفوس‪ ,‬وتكون سببًا‬
‫في ضعف الهمة وقصر المل‪.‬‬
‫أما مبحث المشتق في المقام وتلبس الكفار بالخيبة فهو على نحو الحقيقة في القسام‬
‫الثلثة أعله‪:‬‬
‫أما بالنسبة للول فان الخيبة مصاحبة للكفار بإختيارهم الصرار على الكفر‪،‬‬
‫ومجئ هذه الية بذكر الخيبة كأثر ونتيجة لكبتهم وخزيهم في المعركة ل يمنع من‬
‫تلبسهم بها قبل المعركة‪ ،‬وإثبات شئ لشئ ليدل على نفيه عن غيره‪.‬‬
‫وأما بالنسبة للثاني وهو حال النقلب من المعركة فالية تدل على تلبس ذات‬
‫الكفار بالمبدأ وهو الخيبة حال النقلب من المعركة وهو أوان النسبة‪.‬‬
‫واما بالنسبة للثالث فان الخيبة تصاحب الكفار بعد العودة الى مكة وإنقضاء أوان‬
‫التلبس بالمبدأ خصوصًا مع إرادة الطلق في معنى النقلب وشموله الرجوع إلى‬
‫الحضر ومزاولة العمال اليومية‪ ،‬وحضور المنتديات‪ ،‬وفي تناقل العرب لخبار‬
‫هزيمة قريش إستعمال للمشتق وهو الخيبة على نحو الحقيقة في الطلق الزماني‪,‬‬
‫لما يترشح عنه من الذلة والحرمان من الشأن والجاه والسطوة التي كانت لقريش ‪,‬‬
‫وكانوا ل يتعرض أحد لهم ولتجارتهم لنهم يقولون نحن أهل حرم ال ‪ ,‬فخابوا‬
‫‪ () 765‬سورة النبياء ‪.30‬‬
‫‪ ()766‬أنظر كتابنا الموسوم معراج الصول من تقريرات بحثنا‬
‫الخارج في علم الصول ‪.124-1/122‬‬
‫‪ ()767‬سورة النفال ‪.36‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫بتخليهم عن نصرة رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم‪ ,‬لبيان قانون في الرادة‬
‫التكوينية وهو الملزمة بين تحقق مصاديق الستجابة لدعاء إبراهيم في أهل مكة‬
‫ورزقهم الكريم وبين القرار بنبوة محمد صلى ال عليه وآله وسلم وإتباعه قال‬
‫ت[ )‪،(768‬وتتجلى هذه الملزمة‬ ‫ن الّثَمَرا ِ‬‫ق َأْهَلُه ِم ْ‬
‫ل َهَذا َبَلًدا آِمًنا َواْرُز ْ‬
‫جَع ْ‬‫باْ‬‫تعالى]َر ّ‬
‫ل ِمْنُهْم[) (‪.‬‬
‫‪769‬‬
‫سو ً‬ ‫ث ِفيِهْم َر ُ‬‫بين الية محل البحث والية أعله وقوله تعالى]َرّبَنا َواْبَع ْ‬
‫ويتجاوز معنى المشتق في المقام حال الدنيا لخيبة الكفار في الخرة على نحو‬
‫الحقيقة بالخلود في الجحيم بلحاظ أن الخيبة حال وكيفية نفسانية وعرض يصيب‬
‫الكفار‪ ،‬ويكون مصاحبًا لهم في الدنيا وفي الخرة‪ ،‬وإن كانوا يسترونه أحيانًا أيام‬
‫الدنيا‪ ،‬وتشغلهم عنه زينتها والميل إليها‪ ،‬فإنه يتجلى بوضوح في دنيا الحساب وعالم‬
‫الجزاء ‪.‬‬
‫وجاءت آيات القرآن بذكر اللوم الشديد الذي يحصل بين الرؤساء وأتباعهم من‬
‫الكفار وهم في أشد أنواع العذاب في الخرة ‪ ،‬ليكون إخبار هذه الية عن خيبة‬
‫وخسارة الكفار دعوة لهم وللناس جميعًا للتوبة والنابة‪ ،‬والمتناع عن العداء‬
‫عْ‬
‫ن‬ ‫عَباِدهِ َوَيْعُفو َ‬
‫ن ِ‬ ‫عْ‬ ‫ل الّتْوَبَة َ‬
‫للسلم ومحاربة المسلمين‪ ،‬قال تعالى]َوُهَو اّلِذي َيْقَب ُ‬
‫ت[)‪.(770‬‬
‫سّيَئا ِ‬
‫ال ّ‬
‫‪‬‬
‫الصف‬ ‫الصفح الموضوع‬ ‫الموضوع‬
‫حة‬ ‫ة‬
‫‪3‬‬ ‫‪ 131‬المقدمة‬ ‫قانون"الوعيد مدد’’‬
‫‪7‬‬ ‫‪ 136‬العراب واللغة‬ ‫قانون"الدعاء مدد’’‬
‫‪9‬‬ ‫‪ 142‬في سياق اليات‬ ‫قانون"لماذا القطع’’‬
‫‪21‬‬ ‫‪ 148‬إعجاز الية‬ ‫قانون دخول السلم من القطع‬
‫‪22‬‬ ‫‪ 155‬الية سلح‬ ‫بحث بلغي‬
‫‪23‬‬ ‫‪ 158‬مفهوم الية‬ ‫علم المناسبة‬
‫‪29‬‬ ‫‪ 163‬الية لطف‬ ‫بحث بلغي‬
‫‪31‬‬ ‫القطع رشحة البشارة والطمأنينة ‪ 165‬إفاضات الية‬
‫‪32‬‬ ‫‪ 169‬الصلة بين أول وآخر الية‬ ‫البشارة والطمأنينة رشحة من‬
‫القطع‬
‫‪36‬‬ ‫‪ 175‬الية نعمة‬ ‫قانون"القطع إجتثاث للكفر‬
‫‪39‬‬ ‫‪ 188‬التفسير الذاتي‬ ‫قانون"ل يصيب المشركون منا‬
‫‪42‬‬ ‫‪ 206‬من غايات الية‬ ‫قانون"آيات المدد’’‬
‫‪45‬‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫طَع طََرًفا ِم ْ‬ ‫‪ 212‬التفسير ِلَيْق َ‬ ‫بحث بلغي‬
‫‪()768‬سورة البقرة ‪.126‬‬
‫‪()769‬سورة البقرة ‪.129‬‬
‫‪()770‬سورة الشورى ‪.25‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫‪73‬‬ ‫‪ 215‬بحث كلمي‬ ‫بحث عرفاني‬
‫‪79‬‬ ‫‪ 217‬قانون التبعيض في قطع الكفار‬ ‫قانون" القطع بعد أحد‬
‫‪86‬‬ ‫‪ 223‬بحث بلغي‬ ‫قانون"السر من القطع’’‬
‫‪89‬‬ ‫‪ 229‬قانون" الية مدد’’‬ ‫قانون"موضوعية آية "وليقطع"‬
‫‪93‬‬ ‫‪ 233‬قانون"للمدد فروع’’‬ ‫قانون"مصاديق القطع’’‬
‫‪100‬‬ ‫‪ 241‬قانون"موضوع النزول’’‬ ‫قوله تعالى]َأْو َيْكِبَتُهْم[‬
‫‪106‬‬ ‫‪ 259‬بحث منطقي‬ ‫قانون الصلة بين آخر الية‬
‫السابقة‬
‫‪109‬‬ ‫‪ 269‬قانون"الدنيا دار المدد’’‬ ‫بحث منطقي‬
‫‪116‬‬ ‫‪ 271‬قانون"البشارة والنذار مدد‬ ‫قانون"يكبتهم’’‬
‫‪121‬‬ ‫‪ 275‬قانون" المدد حاجة’’‬ ‫قانون"خزائن مصر’’‬
‫‪125‬‬ ‫‪ 282‬قانون"معجزة هلك الكفار’’‬ ‫قانون"ملزمة الكبت للكفر’’‬
‫‪129‬‬ ‫‪ 285‬بحث أصولي‬ ‫بحث عرفاني‬

‫الصفحة‬ ‫الصفحة الموضوع‬ ‫الموضوع‬


‫مصاحبة مصاديق الوعيد لنزوله ‪288‬‬ ‫‪358‬‬ ‫بحث بلغي في‬
‫فاء)فينقلبوا(‬
‫‪292‬‬ ‫بحث أصولي‬ ‫‪361‬‬ ‫بحث منطقي في الفاء‬
‫‪294‬‬ ‫بحث أخلقي‬ ‫‪363‬‬ ‫بحث أصولي في "الفاء"‬
‫‪297‬‬ ‫علم المناسبة‬ ‫‪370‬‬ ‫بحث فلسفي‬
‫‪299‬‬ ‫قانون"بين القطع والكبت‬ ‫‪372‬‬ ‫قانون" فينقلبوا‬
‫‪302‬‬ ‫قانون" إجتماع القطع والكبت‬ ‫‪376‬‬ ‫علم المناسبة‬
‫‪306‬‬ ‫بحث بلغي‬ ‫‪378‬‬ ‫ن[‬
‫خاِئِبي َ‬
‫قوله تعالى ] َ‬
‫‪308‬‬ ‫قوله تعالى]َفَيْنَقِلُبوا[‬ ‫‪387‬‬ ‫قانون"خائبين’’‬
‫‪322‬‬ ‫قانون "الفاء" في "فينقلبوا"‬ ‫‪393‬‬ ‫عِلم المناسبة‬
‫‪355‬‬ ‫بحث عرفاني في"الفاء"‬ ‫‪394‬‬ ‫بحث أصولي‬

‫ردود كريمة على أجزاء من التفسير‪:‬‬


‫سماحة المام شيخ الزهر‪.‬‬
‫السيد المين العام لمنظمة المؤتمر السلمي‪.‬‬
‫صاحب السمو الملكي‪ /‬أمير الرياض‬
‫صاحب السمو الملكي‪ /‬أمير المنطقة الشرقية‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫الستاذ الدكتور وزير التعليم العالي‪/‬العراق‪.‬‬
‫الدكتور المهندس وزير المن الوطني‪ /‬العراق‬
‫السيد رئيس مجلس الشورى‪/‬مملكة البحرين‪.‬‬
‫السيد رئيس مجلس الشورى ‪ /‬سلطنة عمان‪.‬‬
‫سعادة وزير خارجية المملكة العربية السعودية‬
‫البروفسور الشيخ مفتي جمهورية مصر العربية‪.‬‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫السيد صاحب الفضيلة المرجع الديني الشيخ‪/‬صالح الطائي‬


‫أستاذ الفقه والصول والتفسير والخلق‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬
‫وبعد‪.....،‬‬
‫فلقد تلقيت بحمد ال رسالتكم الرقيقة وبها الجزء الحادي والخمسون في‬
‫تفسير آية واحدة من سورة آل عمران من القرآن الكريم‪.‬‬
‫نتضرع الى ال العلي القدير أن يلهمكم العلم النافع وان يجعله في ميزان‬
‫حسناتكم‪.‬‬
‫وشكر ال لكم حسن عملكم‬
‫والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫في‪ 13 :‬من صفر ‪1429‬هـ‬
‫الموافق‪ 20:‬من فبراير ‪2008‬م‬
‫مصطفى عباس‬

‫‪ 21‬أكتوبر ‪2007‬‬ ‫جدةفي‬

‫حفظه ال ورعاه‬ ‫سماحة المرجع الديني آية ال العظمى الشيخ صالح الطائي‬
‫صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم‬
‫وأستاذ الفقه وألصول والتفسير والخلق‬

‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته وبعد‪:‬‬


‫فقد تسلمنا بيد الشكر والمتنان خطابكم الكريم المؤرخ في ‪ 26‬رمضان ‪1428‬هـ‬
‫وبرفقته نسخة من الجزء )‪ (51‬من كتاب "معالم اليمان في تفسير القرآن" الذي‬
‫يحتوي على ‪ 500‬جزء والذي تفضلتم بإهدائه الى معالي البروفسور أكمل الدين‬
‫إحسان أوغلي‪ ،‬المين العام لمنظمة المؤتمر السلمي‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫وإننا إذ نتقدم إليكم دائمًا وأبدًا بخالص الشكر والتقدير على إهدائنا هذه السلسلة‬
‫القيمة التي ستأخذ مكانها في نواة المكتبة التي بدأنا ننشئها في المنظمة‪ ،‬نرجو لكم‬
‫مزيد العطاء والتوفيق والنجاح‪.‬‬
‫وتفضلوا بقبول فائق الحترام وعظيم التقدير‪.‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[4‬‬

‫العدد‪ :‬م و ‪4/712‬‬


‫التأريخ‪31/5/2009:‬‬ ‫‪NO‬‬
‫‪Date‬‬
‫السيد المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم‬

‫تحيه طيبه‬
‫اطلعنا باعتزاز بالغ على نتاجكم اليماني والعلمي وهو الجزء السابع والستون الذي‬
‫يختص بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران )) وما جعله ال إل بشرى لكم‬
‫ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إل من عند ال العزيز الحكيم(( والُمهدى إلينا من‬
‫خلل مكتبكم ‪ ,‬والذي يضيف إلينا قبسًا من نور اليمان‪ ،‬وإذ نثمن ونبارك جهودكم‬
‫القيمة في تقديم كل ما هو جديد في تبسيط وتوضيح العلم والدين نتمنى لكم مواصلة‬
‫العطاء الثر لخدمة الجميع‪.‬‬
‫ومن ال التوفيق‬

‫نسخه من إلى‬
‫المكتب‬
‫الصادرة‬
‫هناء ‪27/5‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬

‫‪:NO‬‬ ‫الرقم‪:‬د‪3/7/2581/‬‬
‫‪/ /2009‬‬ ‫التأريخ‪27/4/2009:‬‬
‫‪Date‬‬

‫إلى‪ /‬سماحة الشيخ صالح الطائي المحترم‬

‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬


‫ببالغ الشكر والمتنان أستلمت إهدائكم لي نسخة من جهدكم اليماني والعلمي‬
‫الموسوم )معالم اليمان في تفسير القرآن( بجزءه السابع والستون رفقة كتابكم العدد‬
‫‪ 210‬في ‪ 29/3/2009‬وبهذه المناسبة يطيب لي أن أهدي لفضيلتكم أسمى آيات‬
‫السلمية برصيد علمي نافع سائلين ال عز في عله أن يمدكم بالتوفيق والتسديد‬
‫والعمر المديد والتواصل والعطاء الثر خدمة للسلم والمسلمين وأن يثقل به‬
‫موازين أعمالكم الخيرة‪...‬‬
‫‪..‬وتفضلوا بقبول وافر مودتي وتقديري‬

‫‪4/2009/‬‬

‫نسخه إلى‪/‬‬
‫الدارة والذاتية‪ /‬مع الوليات‬
‫ط ‪26/4 2‬‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬

‫فضيلة الشيخ‪/‬صالح الطائي‬


‫مكتب المرجع الديني بمملكة البحرين‬

‫تلقيت بالتقدير هدية فضيلتكم الجزء)‪ (51‬من تفسير معالم اليمان‪ ،‬وإنني إذ اشكر‬
‫فضيلتكم على هذا الهداء لتمنى لكم دوام التوفيق والسعادة‪.‬‬

‫أطيب تحياتي‪،،،،‬‬

‫سعود الفيصل‬

‫وزير الخارجية‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[4‬‬

‫سماحة الشيخ صالح الطائي المحترم‬

‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬


‫ببالغ الشكر والتقدير أستلمت إهدائكم نسخة من كتاب معالم اليمان في تفسير‬
‫القرآن" الجزء الثاني والخمسين من تفسيركم للقرآن الكريم في آيتين من سورة آل‬
‫عمران‪.‬‬

‫يسرني أن أعرب لكم عن خالص شكري على هذا الهداء الذي حوى علمًا قّيما‬
‫يهم المطلع‪ ،‬أسأل المولى عز وجل أن يبارك لكم في مساعيكم الخيرة وأن يستمر‬
‫عطاؤكم لثراء المكتبة السلمية بهذا العلم النافع‪.‬‬

‫والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬

‫الشيخ‪ /‬صالح الطائي المحترم‬


‫مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي‬
‫مملكة البحرين‪ -‬المنامة‬
‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‪...‬‬
‫تلقيت ببالغ الشكر والتقدير إهدائكم القيم لي‪ ،‬وأسال ال العلي القدير أن يجعل من‬
‫هذا الصدار القيم رافدًا يستفاد منه في علوم القرآن وكنوزه‪.‬‬

‫وفقكم ال لما يحبه ويرضاه وسدد على طريق الخير خطاكم وجعل أعمالكم الخيرة‬
‫في ميزان حسناتكم‪.‬‬

‫وفي الختام‪ ،‬تقبلوا فائق الحترام والتقدير‪،،،‬‬


‫معالم اليمان ج‪70/‬‬
‫]‪[2‬‬

You might also like