Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 108

‫‪1‬‬

‫أنواع العبادات في السلم‬

‫د‪ .‬يوسف القرضاوي‬

‫خلببق اللببه سبببحانه النبباس ليعرفببوه ويعبببدوه‪ ،‬قيامببا بحببق ربببوبيته‪،‬‬


‫وألوهيته‪ ،‬كمببا قبال تعببالى‪) :‬ومببا خلقببت الجببن والنببس إل ليعبببدون(‬
‫)سورة الذاريات‪.(56 :‬‬
‫لهذا جعل السلم التعبد لله تعببالى‪ ،‬هببو أول مببا يطببالب بببه المسببلم‪،‬‬
‫وكانت أركان السلم‪ ،‬ومبانيه العظام‪ ،‬تتمثل في عبادات للببه تعببالى‪،‬‬
‫هي ‪ -‬بعد الشهادتين ‪ -‬إقام الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وحج‬
‫البيت الحرام‪.‬‬

‫وع السلم في عباداته التي شرعها‪:‬‬ ‫وقد ن َ ّ‬


‫فمنها‪ :‬العبادة التي يؤديها المسلم بجهببده البببدني كالصببلة والصببيام‪،‬‬
‫وُتسمى‪ :‬العبادة البدنية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما يؤديه بذل ً من ماله لله‪ ،‬كالزكاة والصدقات‪ ،‬وُتسمى‪ :‬العبادة‬
‫المالية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما يجمع بينهما‪ ،‬كالحج والعمرة‪.‬‬
‫كما أن منها‪ :‬ما يتمثل في الفعل‪ ،‬كالصلة والزكاة والحج‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما يتمثل في الترك والكف‪ ،‬وهو الصيام‪.‬‬
‫على أن هذا الكف والترك ليس أمًرا سلبًيا‪ ،‬فإن الذي جعله عبببادة هببو‬
‫دا التقبرب إلبى اللبه‬ ‫أن المسببلم يقبوم ببذلك ببإرادته واختيباره‪ ،‬قاصب ً‬
‫تعالى‪ ،‬فهو بهذا عمببل بببدني‪ ،‬ونفسببي إيجببابي‪ ،‬لببه ثقلببه فببي ميببزان‬
‫الحق‪.‬‬

‫معنى الصيام الشرعي‬


‫مر ّ‬
‫غب فيه فبي القببرآن والسببنة إنمبا هبو تبرك‬ ‫الصيام المأمور به‪ ،‬وال ُ‬
‫وكف وحرمان‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬إمساك وامتناع عن السببتجابة لمببا كببان‬
‫حا من شهوة البطن‪ ،‬وشهوة الفرج‪ ،‬بنية التقرب إلى الله تعالى‪.‬‬ ‫مبا ً‬

‫فهذا هو الصوم الشرعي‪ :‬إمساك وامتناع إرادي عن الطعام والشراب‪،‬‬


‫ومباشرة النساء وما في حكمها‪ ،‬خلل يوم كامل‪ :‬أي مببن ت َب َي ّببن الفجببر‬
‫إلى غروب الشمس‪ ،‬بنية المتثال والتقرب إلى الله تبارك وتعالى‪.‬‬

‫والدليل علببى أن الصببيام الشببرعي هببو المسبباك عببن الشببهوتين كمببا‬


‫ل لكم‬ ‫ذكرنا‪ ،‬قوله تعالى في بيان أحكام الصيام في سورة البقرة‪ُ) :‬أح ّ‬
‫ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتببم لببباس لهببن علببم‬
‫‪2‬‬

‫اللببه أنكببم كنتببم تختببانون أنفسببكم فتبباب عليكببم وعفببا عنكببم فببالن‬
‫باشروهن وابتغوا ما كتب اللببه لكببم وكلببوا واشببربوا حببتى يتبببين لكببم‬
‫الخيط البيض من الخيط السود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل(‬
‫)البقرة ‪.(187:‬‬

‫فقد بينت هذه اليبة الكريمبة حقيقبة الصبيام المبأمور ببه فبي اليبات‬
‫قبلها‪ ،‬وبينت مدته كذلك‪.‬‬

‫فقد أباحت الية المباشرة بين الرجال والنساء‪ ،‬أي الزواج والزوجبات‪،‬‬
‫معللة ذلك بقوله‪) :‬هن لباس لكم وأنتم لباس لهن(‪ ،‬كما أببباحت الكببل‬
‫والشرب كذلك طوال الليل‪ ،‬حتى يتبين الفجر‪ ،‬ثم أمرت بإتمام الصيام‬
‫من الفجر إلى الليل‪ ،‬ويدخل بغروب الشمس‪ ،‬كما سيأتي‪.‬‬

‫يؤكد ذلك من الحببديث الصببحيح‪ :‬قببوله صببلى اللببه عليببه وسببلم ‪ -‬فيمببا‬
‫يرويه عن ربه عز وجل ‪" :-‬كل عمل اببن آدم لبه‪ ،‬إل الصبوم‪ ،‬فبإنه لبي‬
‫وأنا أجزي به يدع طعامه وشهوته من أجلي" )متفق عليه‪.(،‬‬

‫وفي بعض روايات الحديث‪" :‬يدع طعامه مببن أجلببي‪ ،‬ويببدع شببرابه مببن‬
‫أجلي‪ ،‬ويببدع شببهوته مببن أجلببي‪ ،‬ويببدع زوجتببه مببن أجلببي" )رواه ابببن‬
‫خزيمة في صحيحه(‪.‬‬

‫فبا لبدى العببرب قبببل السببلم‪،‬‬ ‫ويبدو أن هذا المعنى للصوم كبان معرو ً‬
‫فقد صح أنهم كانوا يصومون عاشوراء في الجاهلية‪ ،‬تعظيما له‪ ،‬ولهببذا‬
‫لما أمرهم النبي صلى الله عليببه وسببلم بصببيام عاشببوراء‪ ،‬ثببم أمرهببم‬
‫بصيام رمضببان كمببا فببي قببوله تعببالى‪ُ ) :‬‬
‫كتببب عليكببم الصببيام( فهمببوا‬
‫المعنى المقصود‪ ،‬وبادروا إلى تنفيذه‪.‬‬

‫ولما سأل العرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن السلم‪ ،‬فبذكر لبه‬
‫الصلوات الخمس وصوم رمضان‪ ،‬لم يسأله عن معنى الصوم‪ ،‬لنه كببان‬
‫ي غيره؟‪.‬‬
‫معلوما لديه‪ ،‬ولكن سأله‪ :‬هل عل ّ‬

‫هذا الصوم السلمي هببو أفضببل أنببواع الصببيام‪ ،‬الببذي عرفهببا البشببر‪،‬‬
‫فبعض أصحاب الديان يصومون عن كل ذي روح فقط‪ ،‬ويأكلون مببا ل بذّ‬
‫وطاب من ألوان الطعام والشراب‪ ،‬كما ل يصومون عن شهوة الفرج‪.‬‬

‫ما‪ ،‬فيجهد البدن‪ ،‬ويشق على النفس‪ ،‬ول‬ ‫ما يمتد أيا ً‬ ‫وبعضهم يصوم صيا ً‬
‫صببة‪ ،‬أمببا الصببيام الببواجب فببي السببلم فهببو لكببل‬
‫يقببدر عليببه إل الخا ّ‬
‫المسلمين المكلفين‪ ،‬خاصتهم وعامتهم‬
‫حكمة الصوم‬
‫‪3‬‬

‫مهببا‪ ،‬وجهلهببا مبن‬ ‫عل ِ َ‬


‫مببن َ‬
‫مهببا َ‬ ‫شّرع السببلم شببيًئا إل لحكمببة‪َ ،‬‬
‫عل ِ َ‬ ‫لم ي ُ َ‬
‫جهلها‪ ،‬وكما ل تخلو أفعال الله تعالى مببن حكمببة فيمببا خلببق‪ ،‬ل تخلببو‬
‫أحكامه سبحانه من حكمة فيما شرع‪ .‬فهو حكيم في خلقه‪ ،‬حكيم فببي‬
‫ل‪ ،‬ول يشرع شيًئا عبًثا‪.‬‬ ‫أمره‪ ،‬ل يخلق شيًئا باط ً‬

‫عا‪ ،‬كما ينطبببق علببى‬


‫وهذا ينطبق على العبادات وعلى المعاملت جمي ً‬
‫ضا‪.‬‬
‫الواجبات والمحرمات أي ً‬

‫عا هم الفقراء إليه‪ ،‬فهو‬ ‫إن الله تعالى غني عن العالمين‪ ،‬وعباده جمي ً‬
‫سبحانه ل تنفعه طاعة‪ ،‬كما ل تضببره معصببية‪ ،‬فالحكمببة فببي الطاعببة‬
‫عائدة إلى مصلحة المكلفين أنفسهم‪.‬‬

‫كم ومصالح كثيرة أشارت إليها نصببوص الشببرع ذاتهببا‪،‬‬ ‫ح َ‬


‫وفي الصيام ِ‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -1‬تزكية النفس بطاعة الله فيما أمر‪ ،‬والنتهاء عمببا نهببى‪ ،‬وتببدريبها‬
‫على كمال العبودية للببه تعبالى‪ ،‬ولببو كببان ذلببك بحرمبان النفببس مبن‬
‫شهواتها‪ ،‬والتحرر من مألوفاتها‪ ،‬ولببو شبباء لكببل أو شببرب‪ ،‬أو جببامع‬
‫امرأته‪ ،‬ولم يعلم بذلك أحد ولكنه ترك ذلك لوجه الله وحده‪ ،‬وفي هذا‬
‫خُلوف فم الصائم أطيببب عنببد اللببه‬ ‫جاء الحديث‪" :‬والذي نفسي بيده ل ُ‬
‫من ريح المسك‪ ،‬يترك طعامه وشرابه وشهوته مببن أجلببي‪ ،‬كببل عمببل‬
‫ابن آدم له‪ ،‬إل الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" )متفق عليه مببن حببديث‬
‫أبي هريرة‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(706-‬‬

‫‪ -2‬أن الصبيام‪ ،‬وإن كبان فيببه حفببظ لصبحة الببدن ‪ -‬كمببا شببهد ببذلك‬
‫ضا‪ :‬إعلء للجببانب الروحببي علببى الجببانب‬‫مختصون ‪ -‬ففيه أي ً‬‫الطباء ال ُ‬
‫المادي في النسببان‪ ،‬فالنسببان ‪ -‬كمببا يصببوره خلببق آدم ‪ -‬ذو طبيعببة‬
‫مزدوجبة‪ ،‬فيبه عنصبر الطيبن والحمبأ المسبنون‪ ،‬وفيبه عنصبر البروح‬
‫اللهي الذي نفخه الله فيه‪ ،‬عنصر يشده إلى أسفل‪ ،‬وآخر يجذبه إلببى‬
‫أعلى‪ ،‬فإذا َتغّلب عنصر الطين هبط إلى حضيض النعام‪ ،‬أو كان أضل‬
‫سبيل‪ ،‬وإذا تغلب عنصر الروح ارتقى إلى أفق الملئكة‪ ،‬وفي الصببوم‬
‫انتصار للروح على المادة‪ ،‬وللعقل على الشهوة‪.‬‬

‫ولعل هذا سر الفرحة اليومية التي يجدها كل صببائم كلمببا وفببق إلببى‬
‫إتمام صوم يوم حتى يفطر‪ ،‬والتي عبر عنها الحديث النبوي‪" :‬للصائم‬
‫فرحتان يفرحهما‪ :‬إذا أفطر فرح بفطره‪ ،‬وإذا لقي ربه فرح بصببومه"‬
‫)متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(707-‬‬
‫‪4‬‬

‫‪ -3‬يؤكبد هبذا أن الصبوم تربيبة للرادة وجهباد للنفببس‪ ،‬وتعويبد علبى‬


‫الصبر‪ ،‬والثورة على المألوف‪ ،‬وهل النسان إل إرادة؟ وهل الخيببر إل‬
‫إرادة؟ وهببل الببدين إل صبببر علببى الطاعببة‪ ،‬أو صبببر عببن المعصببية؟‬
‫والصيام يتمثل فيه الصبران‪.‬‬

‫مى النبي صلى الله عليه وسببلم شببهر رمضببان‪) :‬شببهر‬ ‫س ّ‬


‫غْرو أن َ‬‫ول َ‬
‫الصبر(‪ ،‬وجاء في الحديث‪" :‬صوم شببهر الصبببر‪ ،‬وثلثببة أيببام مببن كببل‬
‫حببر الصببدر" )رواه البببزار عببن علببي وابببن عببباس‪،‬‬ ‫شببهر‪ ،‬يببذهبن و َ‬
‫والطبراني والبغببوي عببن النمببر بببن تببولب‪ ،‬كمببا فببي صببحيح الجببامع‬
‫شببه ووساوسببه‪ ،‬وقيببل‪:‬‬ ‫غ ّ‬
‫حببر الصببدر"‪ :‬أي ِ‬
‫و َ‬‫الصغير ‪ .3804-‬ومعنى " َ‬
‫الحقد والغيظ وقيل غيره(‪.‬‬

‫جن ّببة" )وردت هببذه‬


‫كما اعتبر النبي صببلى اللببه عليببه وسببلم "الصببيام ُ‬
‫الجملة في عدة أحاديث عن عدد من الصحابة منهببا‪ :‬عببن أبببي هريببرة‬
‫عا واقية من الثم في الببدنيا‪ ،‬ومببن النببار فببي‬ ‫في الصحيحين(‪ .‬أي در ً‬
‫جّنة أحدكم من القتال"‬ ‫جّنة من النار ك ُ‬
‫الخرة‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬الصيام ُ‬
‫)رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان عببن عثمببان‬
‫جّنببة‪،‬‬
‫بن أبي العاص‪ ،‬كما في صحيح الجامع الصغير ‪" .(3879-‬الصيام ُ‬
‫وهو حصببن مببن حصببون المببؤمن" )رواه الطبببراني عببن أبببي أمامببة‪،‬‬
‫وحسنه في صحيح الجامع الصغير ‪.(3881-‬‬

‫‪ -4‬ومن المتفق عليه أن الغريزة الجنسية من أخطر أسلحة الشببيطان‬


‫فببي إغببواء النسببان‪ ،‬حببتى اعتبرتهببا بعببض المببدارس النفسببية هببي‬
‫المحرك الساسي لكل سلوك بشري والنبباظر إلببى معسببكر الحضببارة‬
‫الغربية اليوم‪ ،‬وما يعبباني مببن انحلل وأمببراض يتبببين لببه أن انحببراف‬
‫هذه الغريزة كان وراء كثير من الوحال التي يرتكس فيها‪.‬‬

‫صببا‬
‫وللصوم تأثيره في كسر هذه الشهوة‪ ،‬وإعلء هذه الغريزة‪ ،‬وخصو ً‬
‫إذا دووم عليه ابتغاء مثوبة الله تعالى‪ ،‬ولهذا وصفه النبي صببلى اللببه‬
‫عليه وسلم للشباب الذي ل يجد نفقات الزواج‪ ،‬حببتى يغنيببه اللببه مببن‬
‫فضله‪ ،‬فقال‪.:‬‬
‫"يا معشببر الشبباب مبن اسببتطاع منكببم الببباءة فليببتزوج‪ ،‬فبإنه أغبض‬
‫للبصر‪ ،‬وأحصن للفرج‪ ،‬ومن لم يستطع فعليه بالصوم‪ ،‬فإنه له وجاء"‬
‫)رواه البخاري عببن ابببن مسببعود فببي كتبباب الصببوم وغيببره‪ ،‬ومسببلم‬
‫‪5‬‬

‫‪ .(1400‬والبباءة‪ :‬كنايبة عبن النكباح‪ ،‬والوجباء‪ :‬الخصباء‪ ،‬والمبراد‪ :‬أنبه‬


‫يضعف الشهوة إلى النساء‪.‬‬

‫‪ -5‬ومن حكم الصوم‪ :‬إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه‪ ،‬فببإن إل ْببف‬
‫النعم يفقد النسان الحساس بقيمتهببا‪ ،‬ول يعببرف مقببدار النعمببة إل‬
‫عند فقدها‪ ،‬وبضدها تتميز الشياء‪.‬‬

‫ي إذا جبباع أو عطببش‪ ،‬فببإذا شبببع‬ ‫فإنما يحس المرء بنعمة ال ّ‬


‫شَبع والبّر ّ‬
‫بعد جوع‪ ،‬أو ارتوى بعد عطش‪ ،‬قال من أعمبباقه‪ :‬الحمببد للببه‪ ،‬ودفعببه‬
‫ذلك إلى شكر نعمة الله عليببه‪ .‬وهببذا مببا أشببير إليببه فببي حببديث رواه‬
‫ي ربببي‬ ‫ض عل ب ّ‬
‫ع بَر َ‬
‫أحمد والترمذي‪ ،‬قال فيه صلى الله عليببه وسببلم‪َ " :‬‬
‫مببا‪،‬‬
‫ل لي بطحبباءَ مكببة ذهب ًببا‪ ،‬فقلببت‪ :‬ل يببا رب‪ ،‬ولكنببي أشبببع يو ً‬‫ليجع َ‬
‫ما‪ ،‬فإذا جعببت تضببرعت إليببك وذكرتببك‪ ،‬وإذا شبببعت حمببدتك‬ ‫وأجوع يو ً‬
‫وشكرتك!" )رواه أحمد والترمذي عن أبي أمامببة‪ ،‬وحسببنه السببيوطي‬
‫عا للترمذي‪ ،‬فاعترضه المناوي بأن في سنده ثلثة ضعفاء(‪.‬‬ ‫تب ً‬

‫صببا صببيام رمضببان(‪ :‬أنببه ‪-‬‬


‫‪ -6‬وهناك حكمة اجتماعيببة للصببيام )وخصو ً‬
‫يفرض الجوع إجبارًيا على كببل النبباس‪ ،‬وإن كببانوا قببادرين واجببدين ‪-‬‬
‫عا من المساواة اللزامية فببي الحرمببان‪ ،‬ويببزرع فببي أنفببس‬ ‫يوجد نو ً‬
‫الموسرين والواجدين الحساس بآلم الفقببراء والمحروميببن‪ .‬أو كمببا‬
‫قال ابن القيم‪ :‬يذكرها بحال الكباد الجائعة من المساكين‪.‬‬

‫وقال العلمة ابن الهمام‪ :‬إنه لما ذاق ألم الجوع فببي بعببض الوقببات‪،‬‬
‫ذكر من هذا حاله في عموم الوقات‪ ،‬فتسارع إليه الرقببة عليببه )فتببح‬
‫القدير ‪.(42/2-‬‬

‫وفي هذا التذكير العملي الببذي يببدوم شببهًرا‪ ،‬مببا يببدعو إلببى الببتراحم‬
‫والمواساة والتعاطف بين الفراد والطبقببات بعضببهم وبعببض‪ ،‬ولهببذا‬
‫ُروي في بعض الحاديث تسمية رمضان "شهر المواسبباة" )روى ذلببك‬
‫من حديث سلمان عند ابن خزيمة في صحيحه‪ ،‬وفي إسناده علببي بببن‬
‫زيد بن جدعان(‪ .‬وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيببه أجببود بببالخير‬
‫من الريح المرسلة )فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما(‪.‬‬

‫ومن أجل هذا كان من أفضل مببا يثبباب عليببه‪ :‬تفطيببر الصببائم‪ ،‬وفببي‬
‫الحديث‪" :‬من فطر صائما كان له مثل أجره‪ ،‬غير أنه ل ينقص من أجر‬
‫‪6‬‬

‫الصببائم شببيًئا" )رواه أحمببد والترمببذي وابببن مبباجه وابببن حبببان فببي‬
‫صحيحه عن زيد بن خالد‪ ،‬كما في صحيح الجامع الصغير ‪.(6415-‬‬

‫‪ -7‬وجماع ذلك كله‪ :‬أن الصيام يعدّ النسان لدرجة التقببوى‪ ،‬والرتقبباء‬
‫في منازل المتقين‪ ،‬يقول المام ابن القيم‪:‬‬
‫)وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظبباهرة‪ ،‬والقببوى الباطنببة‪،‬‬
‫وحميتها عن التخليط الجالب لهببا المببواد الفاسببدة الببتي إذا اسببتولت‬
‫عليها‪ ،‬أفسدتها‪ ،‬واستفراغ المبواد الببرديئة المانعبة لهببا مبن صببحتها‪،‬‬
‫فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها‪ ،‬ويعيد إليها مببا اسببتلبته‬
‫منها أيدي الشهوات‪ ،‬فهببو مببن أكبببر العببون علببى التقببوى كمببا قببال‬
‫تعالى‪) :‬يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كمببا كتببب علببى الببذين‬
‫من قبلكم لعلكم تتقون( ‪) -‬البقرة ‪ -185:‬زاد المعاد ‪.(29/2‬‬

‫والحق أن صيام رمضان مدرسبة متميبزة‪ ،‬يفتحهبا السبلم كبل عبام‪،‬‬


‫للتربية العمليبة علبى أعظبم القيببم‪ ،‬وأرفبع المعباني‪ ،‬فمبن اغتنمهبا‬
‫وتعرض لنفحات ربه فيها‪ ،‬فأحسن الصيام كما أمره اللببه‪ ،‬ثببم أحسببن‬
‫القيام كما شرعه رسول الله صلى الله عليببه وسببلم‪ ،‬فقببد نجببح فببي‬
‫المتحببان‪ ،‬وخببرج مببن هببذا الموسببم العظيببم رابببح التجببارة‪ ،‬مبببارك‬
‫الصفقة‪ ،‬وأي ربح أعظم من نوال المغفرة والعتق من النار؟‪.‬‬

‫روى أبو هريرة عن رسول اللببه صببلى اللببه عليببه وسببلم‪" :‬مببن صببام‬
‫رمضان إيماًنا واحتساًبا غفر له ما تقدم من ذنبه‪ ..‬ومن قببام رمضببان‬
‫إيماًنا واحتساًبا غفر له ما تقدم من ذنبه" )متفق عليه من حديث أبي‬
‫هريرة(‪.‬‬
‫نواع الصيام‬
‫والصيام من حيث حكمه أنواع‪:‬‬
‫فمنببه الفببرض‪ ،‬ومنببه التطببوع‪ ،‬وبعبببارة أخببرى‪ :‬منببه الببواجب‪ ،‬ومنببه‬
‫المستحب‪ ،‬ومنه المحرم‪ ،‬ومنه المكروه‪.‬‬

‫والواجب أو الفرض منه‪:‬‬


‫ما هو فرض عين‪ ،‬وهو واجب بإيجاب الله تعالى باعتبار زمانه‪ ،‬وذلببك‬
‫هو صيام رمضان‪.‬‬
‫ومنه‪ :‬ما هو واجب بسبب معين ح ً‬
‫قا لله تعالى‪ ،‬وهو صببيام الكفببارات‪،‬‬
‫مثل كفارة اليمين‪ ،‬وكفارة الظهار‪ ،‬وكفارة القتل الخطأ‪ ،‬ونحوها‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫ومنه‬
‫‪ :‬ما هو واجب بإيجاب الشخص على نفسه‪ ،‬وهو صيام النذر‪.‬‬

‫صيام رمضان ركن من أركان السلم‬


‫صيام رمضان فريضة مقدسة وعبببادة مبن عببادات السبلم الشبعائرية‬
‫الكبرى‪ ،‬وركن من الركان العملية الخمسة التي بني عليها هذا الدين‪.‬‬

‫وقد ثبت وجوبه وفرضيته بالكتاب والسنة والجماع‪:‬‬


‫فقد قال تعالى‪) :‬يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علببى‬
‫ما معدودات( )البقرة‪.(183،184 :‬‬
‫الذين من قبلكم لعلكم تتقون‪ .‬أيا ً‬

‫ثم قال‪) :‬شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينببات مببن‬
‫الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه( )البقرة ‪.(185:‬‬

‫وفي السنة‪ :‬روى عمر في حديث جبريل المشهور عنه صلى الله عليببه‬
‫دا رسببول اللببه‪،‬‬
‫وسلم "السلم أن تشببهد أن ل إلببه إل اللببه‪ ،‬وأن محمب ً‬
‫وتقيببم الصببلة‪ ،‬وتببؤتي الزكبباة‪ ،‬وتصببوم رمضببان‪ ،‬وتحببج البببيت إن‬
‫استطعت إليه سبيل" )رواه مسلم وأبو داود والترمببذي والنسببائي عببن‬
‫عمر‪ ،‬وروى نحوه أحمد والشيخان وابن مبباجه عببن أبببي هريببرة‪ ،‬ورواه‬
‫عا‪ ،‬كما فببي صببحيح الجببامع الصببغير‬ ‫النسائي عن أبي هريرة وأبي ذر م ً‬
‫وزياداته لللباني برقمي ‪.(2775،2776-‬‬

‫ونحوه‪ :‬حديث ابن عمر المشهور المتفببق عليببه‪ ،‬الببذي يحفظببه خببواص‬
‫المسلمين وعوامهم‪" :‬بني السلم علببى خمببس‪ "..‬وعببد منهببا‪" :‬صببوم‬
‫رمضان" )متفق عليه من حديث ابن عمببر‪ ،‬كمببا فببي اللؤلببؤ والمرجببان‬
‫فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬طب‪ .‬الحلبي‪ ،‬الحديث‬
‫رقم ‪.(9‬‬

‫وحديث أبي هريرة‪ :‬أن أعرابًيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقببال‪:‬‬
‫دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة‪ ،‬قال‪" :‬تعبببد اللببه‪ ،‬ل تشببرك بببه‬
‫شيًئا‪ ..‬وتصوم رمضان‪) "..‬متفق عليه كما في المصدر السابق‪ ،‬رقم ‪(8‬‬
‫الحديث‪.‬‬

‫وحديث طلحة بن عبيد الله عببن الرجببل النجببدي الببذي جبباء يسببأل عببن‬
‫السلم فذكر له الصلوات الخمس‪ ،‬ثم قببال‪" :‬وصببيام رمضببان"‪ .‬قببال‪:‬‬
‫ي غيره؟ قال‪" :‬ل‪ ،‬إل أن تطوع‪) "..‬متفق عليه ‪ -‬المصدر نفسه‪،‬‬ ‫هل عل ّ‬
‫رقم ‪ .(6‬الحديث‪.‬‬
‫‪8‬‬

‫دا‪ ،‬حفلبت بهبا كببل دواويببن السببنة مبن‬


‫والحباديث فبي هبذا كببثيرة جب ّ‬
‫الصحيحين والسنن الربعة‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وهي متواترة تواتًرا معنوًيا‪.‬‬

‫وقببد أجمببع المسببلمون مببن جميببع المببذاهب والطببوائف‪ ،‬وفببي جميببع‬


‫العصببور‪ ،‬منببذ عهببد النبببوة إلببى اليببوم‪ ،‬علببى وجببوب صببيام رمضببان‪،‬‬
‫وفرضيته العينية على جميع المسلمين المكلفين لم يشذ عن ذلك أحببد‬
‫في القديم ول الحديث )انظر‪ :‬بداية المجتهد لبببن رشببد‪ ،‬مببع تخريجببه‪:‬‬
‫الهداية ‪ ،126/5‬طب‪ .‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت(‪.‬‬

‫فهببو مببن الفببرائض الثابتببة بببالتواتر اليقينببي‪ ،‬المعلومببة مببن الببدين‬


‫بالضرورة بحيث يشترك في معرفة فرضيتها الخاص والعام‪ ،‬دون حاجة‬
‫إلى نظر واستدلل‪.‬‬

‫عببا بببالكفر والببردة علببى كببل مببن ينكببر‬


‫ومن هنا يحكم علماء المة جمي ً‬
‫فرضية صوم رمضان‪ ،‬أو يشكك فيها‪ ،‬أو يستخف بها‪ ،‬إذ ل معنى لببذلك‬
‫إل التكذيب لله ورسوله والخروج جهرة عن دين السلم‪.‬‬

‫ول يعذر في هذا إل من كببان حببديث عهببد بالسببلم‪ ،‬ولببم يتهيببأ لببه أن‬
‫طى فرصة ليتفقه في الدين‪ ،‬ويعلببم مببا‬ ‫عدُ أصول فرائضه‪ ،‬فيع َ‬‫يعرف ب َ ْ‬
‫لببم يكببن يعلببم‪ ،‬وهببذا واجببب عليببه‪ ،‬وهببو كببذلك حقببه علببى جماعببة‬
‫صا القريبين منه‪.‬‬‫المسلمين‪ ،‬وخصو ً‬
‫متى فرض الصيام؟‬
‫فرض الصيام ‪ -‬كمعظم شرائع السلم ‪ -‬في المدينة بعد الهجرة‪.‬‬

‫فقد كان العهد المكي عهد تأسببيس العقببائد‪ ،‬وترسببيخ أصببول التوحيببد‬
‫ودعائم القيم اليمانية‪ ،‬والخلقية‪ ،‬في العقببول والقلببوب‪ ،‬وتطهيرهببا‬
‫من رواسب الجاهلية في العقيدة والفكر والخلق والسلوك‪.‬‬

‫أما بعد الهجرة‪ ،‬فقد أصبح للمسلمين كيان وجماعة متميزة‪ ،‬ت ُن َببادى بببب‪:‬‬
‫)يا أيها الذين آمنوا( فشرعت عندئذ الفرائض‪ ،‬وحدت الحدود‪ ،‬وفصببلت‬
‫الحكام‪ ،‬ومنها‪ :‬الصيام‪.‬‬

‫مبا لهببا مببن أهميببة خاصببة‪،‬‬


‫ولم يشرع في مكة إل الصببلوات الخمببس‪ ،‬ل ِ َ‬
‫وكان ذلببك فببي ليلببة السببراء‪ ،‬فببي السببنة العاشببرة مببن البعثببة علببى‬
‫الشهر‪.‬‬

‫وبعد ذلك بخمس سنوات أو أكثر فرض الصبيام‪ ،‬أي فبي السبنة الثانيبة‬
‫من الهجرة وهي السنة التي فرض فيهببا الجهبباد فتببوفى النبببي صببلى‬
‫‪9‬‬

‫الله عليبه وسبلم وقبد صبام تسبعة رمضبانات )زاد المعباد )‪ (30/2‬طبب‪.‬‬
‫مؤسسة الرسالة‪ ،‬بتحقيق شعيب وعبد القادر الرناؤوط(‪.‬‬

‫يقول ابن القيم في )الزاد(‪:‬‬


‫)لما كان فطم النفوس عببن مألوفاتهببا‪ ،‬وشببهواتها‪ ،‬مببن أشببق المببور‬
‫وأصعبها تببأخر فرضببه إلببى وسببط السببلم بعببد الهجببرة‪ ،‬لمببا تببوطنت‬
‫النفوس علببى التوحيببد والصببلة‪ ،‬وألفببت أوامببر القببرآن‪ ،‬فنقلببت إليببه‬
‫بالتدريج( )زاد المعاد ‪ 30/2-‬طب‪ .‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بتحقيق شعيب وعبد‬
‫القادر الرناؤوط(‪.‬‬
‫مراحل تشريع الصيام‬
‫شرع صيام رمضان على مرحلتين‪:‬‬
‫المرحلة الولى‪ :‬مرحلة التخيير‪ :‬أي تخيير المكلف المطيق للصوم بيببن‬
‫أمريببن‪ :‬الصببيام‪ ،‬وهببو الفضببل‪ ،‬والفطببار معالفديببة‪ ،‬وهببي إطعببام‬
‫مسكين‪ ،‬فمن زاد على ذلك فهو خير وأبقى‪.‬‬

‫وفي هذا جاء قوله تعالى‪) :‬يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصببيام كمببا‬
‫كتب على الذين من قبلكبم لعلكبم تتقبون‪ .‬أيامبا معبدودات فمبن كببان‬
‫ضا أو على سفر فعدة من أيببام أخببر وعلببى الببذين يطيقببونه‬ ‫منكم مري ً‬
‫فدية طعام مسكين فمن تطوع خيًرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكببم‬
‫إن كنتم تعلمون( )البقرة‪.(183،184 :‬‬

‫فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وفدى‪.‬‬

‫والمرحلة الخرى‪ :‬مرحلة اللزام والتحتيم‪ :‬أي اللزام بالصببوم‪ ،‬ونسببخ‬


‫التخيير‪ ،‬الذي رخصت فيه الية السابقة‪.‬‬

‫وفي ذلك نزل قوله تعالى‪) :‬شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هببدى‬
‫للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شببهد منكببم الشببهر فليصببمه‬
‫ضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكببم اليسببر‬
‫ومن كان مري ً‬
‫ول يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم‬
‫تشكرون( )البقرة ‪.(185:‬‬

‫ففي الصحيحين عن سلمة بن الكوع قببال‪ :‬لمببا نزلببت‪) :‬وعلببى الببذين‬


‫يطيقونه فدية طعام مسكين( كببان مببن أراد أن يفطببر ويفتببدي‪ ،‬حببتى‬
‫نزلت الية التي بعدها فنسختها )متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجببان ‪.(702-‬‬
‫وفي رواية لمسلم‪ :‬حتى أنزلت هذه اليببة‪) :‬فمببن شببهد منكببم الشببهر‬
‫فليصمه(‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫وقالت عائشة‪ :‬كان عاشوراء يصام‪ ،‬فلما نزل َ‬


‫فْرض رمضببان كببان مببن‬
‫شاء صام ومن شاء أفطر‪.‬‬

‫وكذلك روى البخاري عن عبد الله بن عمر‪ ،‬وعبد الله بن مسعود مثله‪.‬‬

‫فأوجب الله الصيام على الصحيح المقيم‪ ،‬ورخص في الفطار للمريض‬


‫والمسافر‪.‬‬

‫وهذا هو المنهج الحكيم الذي اتخذه السلم في تشببريعاته‪ ،‬سببواء فببي‬


‫فببرض الفببرائض أم فببي تحريببم المحرمببات‪ ،‬وهببو منهببج التببدرج فببي‬
‫التشريع‪ ،‬الذي يقوم على التيسير ل التعسير‪.‬‬

‫ضببا علببى رتبببتين‪ ،‬كببان فببي الولببى‬


‫وهذه المرحلببة اللزاميببة جبباءت أي ً‬
‫تشديد عليهم‪ ،‬وفي الثانية تخفيف ورحمة‪.‬‬

‫فقد كانوا يأكلون ويشربون ويباشرون نساءهم ما لم ينبباموا أو يصببلوا‬


‫العشاء فإذا ناموا وصلوا العشاء لم يجز لهم شيء من ذلك إلببى الليلببة‬
‫القابلة‪.‬‬

‫وقد وقع لرجل من النصار أنه كان يعمل طول يومه‪ ،‬فلما حضر وقببت‬
‫الفطار انطلقت امرأته لتطلب لببه الطعببام‪ ،‬فلمببا حضببرت وجببدته قببد‬
‫مببا‪ ،‬وعنببدما انتصببف‬
‫غلبته عينه مببن الجهببد ونببام‪ ،‬دون أن يتنبباول طعا ً‬
‫النهار في اليوم التالي غشي عليه من شدة المشقة‪.‬‬

‫كما روي أن بعض الصحابة ‪ -‬ومنهم عمر وكعب بن مالببك ‪ -‬قببد أصببابوا‬
‫من نسائهم بعد ما ناموا‪ ،‬أو نامت نساؤهم‪ ،‬وشق عليهم ذلببك‪ ،‬وشببكوا‬
‫للنبي صلى اللببه عليببه وسببلم‪ ،‬فبأنزل اللببه اليببة الكريمببة الببتي تمثببل‬
‫المرحلة الثالثة التي استقر عليها أمر الصيام‪ ،‬وهي قوله تعالى‪) :‬أحل‬
‫لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكببم وأنتببم لببباس لهببن‬
‫علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتباب عليكبم وعفبا عنكبم فبالن‬
‫باشروهن وابتغوا ما كتب اللببه لكببم وكلببوا واشببربوا حببتى يتبببين لكببم‬
‫الخيط البيض من الخيط السود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليببل‬
‫ول تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فل تقربوهببا‬
‫كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون( )البقرة ‪.(187:‬‬

‫دا‪ ،‬فقد أباح لهم الرفث ‪ -‬أي الجمبباع ‪-‬‬ ‫حا شدي ً‬‫ففرح بها المسلمون فر ً‬
‫والطعام والشراب في جميع الليل‪ ،‬إلببى تبببين الفجببر‪ ،‬رحمببة ورخصببة‬
‫قا‪ ،‬وعفا عما وقع منهم من تجاوزات‪.‬‬ ‫ورف ً‬
‫لماذا فرض الله الصوم شهًرا قمرًيا؟‬
‫‪11‬‬

‫فرض الله الصيام شهًرا قمرًيا لجملة حكم وأسباب‪ ،‬منها‬


‫‪ -1‬أن توقيت المسلمين كله بالشهر القمرية‪ ،‬كمببا فببي حببول الزكبباة‪،‬‬
‫دد النساء‪ ،‬وغيرها‪ ،‬قال تعالى‪) :‬يسألونك عن الهلة قل هي‬ ‫ع َ‬
‫والحج‪ ،‬و ِ‬
‫مواقيت للناس والحج( )البقرة ‪.(189:‬‬

‫‪ -2‬أن توقيت المسلمين بالشهر القمرية‪ ،‬تببوقيت طبببيعي‪ ،‬تببدل عليببه‬


‫علمة طبيعية هي ظهور الهلل‪.‬‬

‫‪ -3‬أن الشهر القمري يتنقل بين فصول العام‪ ،‬فتارة يكون في الشتاء‪،‬‬
‫وطوًرا يكون في الصيف‪ ،‬وكذا في الربيع والخريببف‪ ،‬فمببرة يببأتي فببي‬
‫أيام البرد‪ ،‬وأخرى في شدة القيظ‪ ،‬وثالثة في أيببام العتببدال‪ ،‬وتطببول‬
‫أيامه حيًنا‪ ،‬وتقصر حيًنا‪ ،‬وتعتدل حيًنا‪.‬‬

‫وبذلك يتاح للمسببلم ممارسببة الصببوم فببي البببرد والحببر‪ ،‬وفببي طببوال‬
‫اليام وقصارها‪.‬‬

‫وفي هذا توازن واعتدال من ناحية‪ ،‬وإثبات عملي لطاعة المسلم لربببه‬
‫وقيامه بواجب العبادة له في كل حين‪ ،‬وفي كل حال‪.‬‬

‫ما‬
‫الشهر )‪ (29‬أو )‪ (30‬يو ً‬
‫ما‪ ،‬ثبت ذلك‬
‫ما‪ ،‬ول يزيد عن ‪ 30‬يو ً‬
‫والشهر القمري ل ينقص عن ‪ 29‬يو ً‬
‫بنصوص الشرع‪ ،‬كما ثبت باستقراء الواقع‪.‬‬

‫عا وعشببرين‪ ،‬ويكببون‬‫وجاء في الحديث الصببحيح‪ :‬أن الشببهر يكببون تس ب ً‬


‫ثلثين‪ ،‬ب َّين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بالقول والشببارة )انظببر‪:‬‬
‫حديث ابن عمر المتفق عليه في اللؤلؤ والمرجان ‪ 654-‬و ‪ 655‬وحديث‬
‫أم سلمة ‪.(658-‬‬

‫وسواء كان الشهر ثلثين أم تسعة وعشرين‪ ،‬فإن الجر عند الله واحببد‬
‫في الصيام والقيام والعمل الصالح‪ ،‬وهذا معنى الحديث المتفق عليببه‪:‬‬
‫"شهران ل ينقصبان‪ ،‬شبهًرا عيبد‪ :‬رمضبان وذو الحجبة" )انظبر‪ :‬اللؤلبؤ‬
‫والمرجان ‪ .(659-‬وإنما خصهما بالذكر لتعلق فريضبتين عظيمبتين مبن‬
‫فرائض السلم بهما‪ ،‬فالول شهر الصوم‪ ،‬والثاني شهر الحج‪.‬‬

‫عا‬
‫وقد قال ابن مسعود‪ :‬ما صمنا مع النبي صلى اللببه عليببه وسببلم تس ب ً‬
‫وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلثيببن )أبببو داود ‪ 2322-‬والترمببذي ‪689-‬‬
‫وأحمد ‪ 3776-‬و ‪ 3840‬و ‪ 3871‬وغيرها(‪.‬‬

‫بماذا يثبت دخول الشهر؟‬


‫‪12‬‬

‫وإذا كان الله تعالى قد فرض صيام رمضان ‪ -‬وهو شهر قمببري ‪ -‬فمببن‬
‫لزم ذلك أن يكون ثبوت دخوله بظهور الهلل في الفق‪ ،‬فببالهلل هببو‬
‫العلمة الحسية لدخول الشهر‪ ،‬وفي هذا يقول القرآن‪) :‬يسببألونك عببن‬
‫الهلة قل هي مواقيت للناس والحببج( )البقببرة ‪ (189:‬وكببذلك خروجببه‬
‫بظهور هلل شوال‪.‬‬

‫ولكن‪ :‬ما الوسيلة لثبات ظهور الهلل؟‬


‫هنببا شببرع رسببول اللببه صببلى اللببه عليببه وسببلم الوسببيلة الطبيعيببة‬
‫الميسورة للمة المقدورة لجميع المة والتي ل غموض فيها ول تعقيد‪،‬‬
‫والمة في ذلك الوقت أميببة ل تكتببب ول تحسببب‪ ،‬وهبذه الوسببيلة هببي‬
‫رؤية الهلل بالبصار‪.‬‬

‫فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬قببال‪ :‬صببوموا لرؤيتببه‬
‫غِبي عليكببم فببأكملوا عببدة شببعبان‬‫)أي الهلل(‪ ،‬وأفطروا لرؤيته‪ ،‬فإن َ‬
‫ثلثيببن" )متفببق عليببه‪ ،‬اللؤلبؤ والمرجببان‪ ،656 - ،‬ومعنببى " َ‬
‫غِببي"‪ :‬مببن‬
‫الغباء‪ ،‬وهو الغبرة في السماء(‪.‬‬

‫وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال‪:‬‬
‫م عليكببم‬ ‫"ل تصوموا حتى تروا الهلل‪ ،‬ول تفطروا حتى تروه‪ ،‬فببإن ُ‬
‫غب ّ‬
‫م"‪ :‬أي خفبي وغطببى سبحاب أو‬ ‫فاقدروا له" )نفسه ‪ ،653-‬ومعنى " ُ‬
‫غب ّ‬
‫قترة أو غير ذلك(‪.‬‬

‫وكان هذا رحمة بالمببة‪ ،‬إذ لببم يكلفهببا اللببه العمببل بالحسبباب‪ ،‬وهببي ل‬
‫تعرفه ول تحسنه‪ ،‬فلببو كلفببت ذلببك لقلببدت فيببه أمببة أخببرى مببن أهببل‬
‫الكتاب أو غيرهم ممن ل يدينون بدينها‪.‬‬

‫الحساب الفلكي وإثبات الصيام والفطر‬


‫إن الشريعة السلمية السمحة حين فرضت الصوم في شببهر قمببري ب ب‬
‫شرعت في إثباته الوسيلة الطبيعية الميسورة والمقدورة لجميع المة‪،‬‬
‫ب‬‫والتي ل غموض فيها ول تعقيد‪ ،‬والمة في ذلك الببوقت أمي ّببة ل تكت ب ُ‬
‫ول تحسب‪ ،‬وهذه الوسيلة هي رؤية الهلل بالبصار‪.‬‬

‫فعن أبي هريرةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ " :‬صوموا لرؤيتببه‬
‫عبدّةَ شببعبان‬
‫‪ -‬أي الهلل ‪ -‬وأفطروا لرؤيته فإن أغبى عليكببم فببأكملوا ِ‬
‫ثلثين "‪) .‬متفببق عليببه‪ ،‬اللؤلببؤ والمرجببان‪ ،656 ،‬معنببى )أغبببى( ‪ :‬مببن‬
‫الغباء وهو الغبرة في السماء(‪.‬‬

‫وعن ابببن عمببر أن رسببول اللببه صببلى اللببه عليببه وسببلم ذكببر رمضببان‬
‫م‬ ‫ل‪ ،‬ول ُتفطروا حتى تروه‪ ،‬فإن َ‬
‫غبب ّ‬ ‫فقال ‪ " :‬ل تصوموا حتى تروا الهل َ‬
‫‪13‬‬

‫عليكم فاقببدروا لببه " نفسببه‪ ،653 ،‬ومعنببى )غببم( ‪ :‬أي أخفببي وغطببي‬
‫ه‬
‫ة بالمة‪ ،‬إذ لببم يكلفهببا اللب ُ‬
‫بسحاب أو قترة أو غير ذلك وكان هذا رحم ً‬
‫العمبل بالحسبباب‪ ،‬وهي ل تعرفبه ول تحسنه‪ ،،‬فلو كلفت ذلك لقلببدت‬
‫فيه أمة أخرى من أهل الكتاب أو غيرهم ممن ل يدينون بدينها ‪.‬‬

‫ثلث طرق لثبات دخول رمبضان ‪:‬‬


‫وقد أثبتت الحاديث الصحاح أن‬

‫ه بواحدة من ثلث طرق‪:‬‬


‫شهر رمضان يثبت دخول ُ‬
‫‪ -1‬رؤية الهلل‪.‬‬
‫‪ -2‬أو إكمال عدة شعبان ثلثين‪.‬‬
‫‪ -3‬أو التقدير للهلل‪.‬‬

‫ة‪:‬‬
‫فأما الرؤي ُ‬
‫فقد اختلف فيها الفقهاء ‪ :‬أهي رؤية واحد عدل‪ ،‬أم رؤية عدلين اثنين‪،‬‬
‫أم رؤية جم غفير من الناس ؟‬
‫ن قال ‪ :‬يقبل شهادة عدل واحد‪ ،‬اسببتد ّ‬
‫ل بحببديث ابببن عمببر‪ ،‬قببال ‪:‬‬ ‫م ْ‬
‫ف َ‬
‫تراءى الناس الهلل‪ ،‬فأخبرت النبي أني رأيته‪ ،‬فصام رسول الله صلى‬
‫اللبببه عليببه وسببلم‪ ،‬وأمببر النببباس بصبببيامه )رواه أببببو داود )‪،(2342‬‬
‫والببدارقطني والبببيهقي بإسببناد صببحيح علببى شببرط مسببلم‪ ،‬قببال‬
‫الدارقطني ‪ :‬تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهببب وهببو ثقببة‪ ،‬ذكببره‬
‫النووي فببي المجمببوع ‪ . . (276/6‬وبحببديث العرابببي الببذي شببهدَ عنببد‬
‫النبببي أنببه رأى الهلل‪ ،‬فببأمر بلل ً فنببادى فببي النبباس " أن يقومببوا‬
‫ويصوموا " )رواه أبو داود )‪ ،(2341‬والترمذي مرسل ومسببندا‪ ،‬وقببال ‪:‬‬
‫فيه اختلف )‪ ،(691‬والنسائي‪ ،‬وقال ‪ :‬المرسل أولببى بالصببواب‪ ،‬وابببن‬
‫ماجة ‪ ،(1652‬وفي سنده مقال ‪ .‬كمببا قببالوا ‪ :‬إن الثبببات بعببدل واحببد‬
‫أحوط للدخول في العبادة‪ ،‬وصيام يوم من شعبان أخف من إفطار يوم‬
‫من رمضان‪.‬‬

‫ن اشترط في الرؤية عدلين‪ ،‬اسببتدل بمببا روى الحسببين بببن حريببث‬ ‫م ْ‬‫و َ‬
‫ل‬‫الجدلي قال ‪ :‬خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب‪ ،‬فقال ‪ :‬أمَرَنا رسو ُ‬
‫د‬
‫شببه َ‬ ‫اللببه صببلى اللببه عليببه وسببلم أن ننسب َ‬
‫ك لرؤيتببه‪ ،‬فببإن لببم ن َببرهُ ف َ‬
‫كنا بشببهادتيهما )رواه أبببو داود وسببكت عنببه هببو‬ ‫سب ْ‬‫ن نَ َ‬
‫شبباهدان عببدل ِ‬
‫والمنذري‪ ،‬ورجاله رجال الصحيح‪ ،‬إل الحسببين بببن حريببق وهببو صببدوق‬
‫وصححه الببدارقطني فببي نيببل الوطببار ‪ 261/4‬ط دار الجيببل بيببروت(‪.‬‬
‫سا على سائر الشهود‪ ،‬فإنها تثبت بشهادة عدلين ‪..‬‬ ‫وقيا ً‬

‫ما من اشترط الجم الغفير أو الجمع الكثير فهببم الحنفيببة‪ ،‬وذلببك فببي‬
‫أ ّ‬
‫حالة الصحو‪ ،‬فقد أجبازوا في حالة الغيم أن يشهد برؤيته واحد‪ ،‬إذ قببد‬
‫‪14‬‬

‫ق عنه الغيم لحظبة فيراه واحبد‪ ،‬ول يراه غيره من النبباس ‪ .‬ولكببن‬ ‫ينش ّ‬
‫ة‪ ،‬ول حببائل يحببول‬ ‫ب ول علب َ‬ ‫إذا كانت السماءُ مصحة‪ ،‬ول َ‬
‫قت َببر ول سببحا َ‬
‫دا من الناس يراه دون الخرين ؟ لهذا‬ ‫دون الرؤية‪ ،‬فما الذي يجعل واح ً‬
‫قالوا‪ :‬لبد من إخبببار جمبع عظيببم؛ لن التفببرد مبن بيببن الجببم الغفيببر‬
‫بالرؤية ب مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه‪ ،‬مع فرض عببدم المببانع‪،‬‬
‫وسلمة البصار ب وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطببه )ذكببره فببي‬
‫حاشية ابن عابدين نقل عن البحر ‪.(92/2‬‬

‫وأما خبر ابن عمر والعرابي ب وفيهما إثبات الهلل برؤية واحد ب ب فقببد‬
‫قببال العلمببة رشببيد رضببا فببي تعليقببه علببى " المغنببي" ‪) :‬ليببس فببي‬
‫الخببرين أن الناس تراءوا الهل َ‬
‫ل‪ ،‬فلببم يببره إل واحببد‪ ،‬فهمببا فببي غيببر‬
‫محل النزاع‪ ،‬ولسيما مع أبي حنيفة‪ ،‬وبهذا يبطل كل ما بني عليهمببا(‪.‬‬
‫)انظر التعليق على المغني مع الشرح ‪.(93/3‬‬

‫ما عدد الجمع العظيم فهو مفبوض إلبى رأي المبام أو القاضبي مبن‬ ‫وأ ّ‬
‫غير تقدير بعدد معين على الصحيح‬
‫)انظر الختيار في شرح المختار ‪ . (29/1‬ومن الواجب على المسببلمين‬
‫التماس الهلل يوم التاسع والعشرين من شعبان عند الغروب ؛ لن مببا‬
‫ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬إل ّ أنه واجب على الكفاية ‪.‬‬

‫والطريقة الثانية‪:‬‬
‫ما‪ ،‬فببإذا تببراءوا‬
‫وا أم غائ ً‬
‫إكمال عدة شعبان ثلثين‪ ،‬سواء كان الجو صح ً‬
‫الهلل ليلة الثلثين من شعبان ولم يره أحد‪ ،‬استكملوا شعبان ثلثين ‪.‬‬

‫وهنا يلزم أن يكون ثبوت شعبان معروفا منذ بدايته‪ ،‬حببتى تعببرف ليلببة‬
‫الثلثين التي يتحرى فيها الهلل‪ ،‬ويستكمل الشهر عنببد عببدم الرؤيببة ‪.‬‬
‫وهذا أمبٌر يقببع فيببه التقصببير؛ لن الهتمببام بإثبببات دخببول الشببهور ل‬
‫يحدث إل في أشهر ثلثة فقط ‪ :‬رمضان لثبببات الببدخول فببي الصببيام‪،‬‬
‫وشوال لثبات الخروج منه‪ ،‬وذي الحجة لثبات يوم عرفة وما بعده‬
‫‪.‬‬
‫ة‪ ،‬وعلى أولي المر فيها التدقيق في إثبببات الشببهور‬ ‫وينبغي على الم ِ‬
‫كلها ؛ لن بعضها مبني على بعض ‪.‬‬

‫والطريقة الثالثة‪:‬‬
‫م عليكببم "‬‫هي التقدير للهلل عند الغيم‪ ،‬أو كما قال الحديث ‪ " :‬إذا غبب ّ‬
‫أو " غمي عليكم " أو "غبي عليكم" أي حببال دونببه حببائل‪ ،‬ففببي بعببض‬
‫الروايات الصحيحة‪ ،‬ومنها مالك عن نافع عن ابن عمر‪ ،‬وهي السلسببلة‬
‫ح السانيد عند البخاري ‪ " :‬إذا غببم عليكببم فاقببدروا لببه "‪،‬‬‫ص ّ‬
‫الذهبية‪ ،‬وأ َ‬
‫فما معنى " اقدروا له"؟‬
‫‪15‬‬

‫ة قليلببة ‪ :‬معنبباه ‪:‬‬ ‫النووي في المجموع ‪) :‬قا َ‬


‫ل أحمد بببن حنبببل وطائف ب ٌ‬
‫ضّيقوا له‪ ،‬وقدروه تحت السحاب‪ ،‬مببن " قببدر " بمعنببى ضببيق كقببوله ‪:‬‬
‫ه( وأوجب هؤلء صيام ليلة الغيم ‪.‬‬‫رْزق ُ‬
‫دَر عليه ِ‬ ‫) ُ‬
‫ق ِ‬

‫وقال مطّرف بن عبد الله ب من كبار التابعين ب وأبو العباس بن سريج بب‬
‫من كبببار الشببافعية ب ب وابببن قتيبببة وآخببرون ‪ :‬معنبباه ‪ :‬قببدروه بحسببب‬
‫المنازل ‪.‬‬

‫وقال أبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلببف ‪ :‬معنبباه ‪ :‬قببدروا‬


‫ما ‪.‬‬
‫له تمام العدد ثلثين يو ً‬
‫واحتج الجمهببور بالروايببات الببتي ذكرناهببا‪ ،‬وكلهببا صببحيحة صببريحة ‪" :‬‬
‫فأكملوا العدة ثلثين "‪ " ،‬فاقدروا له ثلثين "‪ ،‬وهي مفسرة لرواية ‪" :‬‬
‫فاقدروا له " المطلقة(‪) .‬المجموع ‪.(270/6‬‬

‫ولكن المام أبببا العببباس بببن سببريج لببم يحمببل إحببدى الروايببتين علببى‬
‫الخروي‪ ،‬بل نقل عنه ابن العربي أن قوله ‪ " :‬فاقببدروا لببه " ‪ :‬خطبباب‬
‫لمن خصه الله بهذا العلم‪ ،‬وأن قوله ‪" :‬أكملوا العببدة " خطبباب للعامببة‪.‬‬
‫)انظر ‪ :‬فتح الباري ‪ ،23/6‬ط ‪.‬الحلبي(‪.‬‬

‫واختلف الخطاب باختلف الحوال أمر وارد‪ ،‬وهو أساس لتغير الفتوى‬
‫بتغير الزمان والمكان والحال قال المام النووي في المجموع ‪) :‬ومببن‬
‫قال بحساب المنازل‪ ،‬فقوله مردود‪ ،‬بقوله ص فببي الصببحيحين ‪ " :‬إّنببا‬
‫ة‪ ،‬ل نكتب ول نحسب " ‪ ..‬الحديث ‪.‬‬ ‫مي ّ ٌ‬ ‫أم ٌ ُ‬
‫ةأ ّ‬
‫قالوا ‪ :‬ولن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم ؛ لنه ل يعرف الحسبباب‬
‫إل أفببراد مببن النبباس فببي البلببدان الكبببار(‪) .‬المجمببوع ‪ ،270/6‬ط‬
‫‪.‬المنيرة(‪.‬‬

‫والحديث الذي احتج به المام النووي ب رحمه الله بب ل حجببة فيببه ؛ لنببه‬
‫يتحدث عن حال المة‪ ،‬ووصفها عند بعثتببه لهببا عليببه الصببلة والسببلم‪،‬‬
‫مببا ول مطلوب ًببا‪ ،‬وقببد اجتهببد عليببه الصببلة‬
‫ولكن أميتها ليست أم بًرا لز ً‬
‫والسلم أن يخرجها من أميتها بتعليم الكتابة‪ ،‬وبدأ بذلك منذ غزوة بدر‪،‬‬
‫فل مانع أن يأتي طور على المة تكون فيببه كاتبببة حاسبببة ‪ .‬والحسبباب‬
‫الفلكي العلمي الذي عرفه المسلمون فببي عصببور ازدهببار حضببارتهم‪،‬‬
‫وبلغ في عصرنا درجة من الرقببي تمكببن بهببا البشببر مببن الصببعود إلببى‬
‫القمر‪ ،‬هو شيء غير التنجيم أو علم النجوم المذموم في الشرع ‪.‬‬

‫ما العتبار الخر الذي ذكببره النببووي‪ ،‬وهببو أن الحسبباب ل يعرفببه إل‬ ‫وأ ّ‬
‫حا بالنسبببة إلببى‬
‫أفراد من الناس في البلدان الكبببار‪ ،‬فقببد يكببون صببحي ً‬
‫‪16‬‬

‫حا بالنسبة إلى زمننببا‪ ،‬الببذي أصبببح‬ ‫زمنه ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬ولكنه ليس صحي ً‬
‫الفلك يدرس فيه في جامعببات شببتى‪ ،‬وغببدت تخببدمه أجهببزة ومراصببد‬
‫على مستوى رفيع وهائل من الدقة ‪ .‬وقد أصبح من المقببرر المعببروف‬
‫عالمًيا اليوم ‪ :‬أن احتمببال الخببببطأ فببي التقبببديرات العلمبببية الفلكبببية‬
‫اليوم هو نسبببة ‪ 1 00000 - 1‬في الثانية!!‪.‬‬

‫كما أن البلدان الكبار والصغار الن أصبببحت متقاربببة‪ ،‬وكأنمببا هببي بلببد‬
‫واحد‪ ،‬بل غدا العالم‪ ،‬كما قيل " قرية كبرى" ! ونقببل الخبببر مببن قطببر‬
‫إلببى آخببر‪ ،‬ومببن مشببرق إلببى مغببرب‪ ،‬وبببالعكس ل يسببتغرق ثببواني‬
‫معدودة ‪.‬‬

‫وقد ذهب أبو العباس بن سريج من أئمة الشافعية‪ ،‬إلى أن الرجل الذي‬
‫يعرف الحساب‪ ،‬ومنازل القمر‪ ،‬إذا عرف بالحساب أن غدا مببن رمضببان‬
‫ه مببا إذا عببرف‬ ‫فببإن الصببوم يلزمببه ؛ لنببه عببرف الشببهر بببدليل‪ ،‬فأ ْ‬
‫ش بب َ َ‬
‫بالبينة ‪ .‬واختاره القاضي أبو الطيب ؛ لنه سبب حصل له به غلبة ظن‪،‬‬
‫ه الصبوم ول‬ ‫و أخببره ثقة عن مشاهدة ‪ .‬وقال غيره ‪ :‬يجبزئ ُ‬ ‫فأشبه ما ل َ ْ‬
‫يلزمه ‪ .‬وبعضهم أجاز تقليده لمبن يثبق ببه‪) .‬انظبر ‪ :‬المجمبوع ‪،279/6‬‬
‫‪.(280‬‬

‫وقد ذهب بعض كبار العلمبباء فببي عصببرنا إلببى إثبببات الهلل بالحسبباب‬
‫الفلكي العلمي القطعي‪ ،‬وكتب في ذلك المحدث الكبير العلمببة أحمببد‬
‫محمد شاكر ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬رسالته‪ ،‬في " أوائل الشببهور العربيببة ‪ :‬هببل‬
‫عا بالحساب الفلكي ؟ " وسنعود لنقل رأيه مفصل ‪.‬‬ ‫يجوز إثباتها شر ً‬

‫ومببن المنببادين بهببذا البرأي فبي عصبببرنا الفقبببيه الكبببير الشبببيخ‬


‫مصطبفى الزرقبببا ‪ -‬حفظه الله ‪.-‬‬

‫والذي يظهر من الخبببار أن الببذي رفضببه الفقهبباء مببن علببم الهيئة أو‬
‫عى‬ ‫الفلك‪ ،‬هو ما كان يسمى " التنجيم " أو " علم النجوم " وهو مبا ُيبدّ َ‬
‫فيه معرفة بعض الغيوب المستقبلية عن طريق النجببوم‪ ،‬وهببذا باطببل‪،‬‬
‫وهو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أببو داود وغيبره عبن اببن عبباس‬
‫ما من النجببوم اقتبببس شببعبة مببن السببحر "‪.‬‬ ‫ن اقتبس عل ً‬
‫م ْ‬
‫عا ‪َ " :‬‬
‫مرفو ً‬
‫)رواه أبببو داود فببي الطببب )‪ (3905‬وابببن ماجببة فببي الدب )‪،(3726‬‬
‫وأحمببد فببي المسببند )‪ (2000‬وقببال شبباكر ‪ :‬إسببناده صببحيح‪ ،‬وصببححه‬
‫النووي في الرياض‪ ،‬والذهبي في الكبائر كما في فيض القدير ‪.(80/6‬‬

‫وقال المبام ابببن دقيبق العيببد‪ :‬البذي أقبول ‪ :‬إن الحسبباب ل يجبوز أن‬
‫ُيعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون‪،‬‬
‫فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيببوم أو يببومين‪ ،‬وفببي‬
‫‪17‬‬

‫ل الحساب علببى أن‬ ‫ن به الله ‪ .‬وأما إذا د ّ‬


‫اعتبار ذلك إحداث شرع لم يأذ ْ‬
‫جدَ مانع من رؤيته كببالغيم‪ ،‬فهببذا‬ ‫و ِ‬
‫ه ي َُري‪ ،‬لكن ُ‬
‫الهلل قد طلع على وج ٍ‬
‫يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي ‪ .‬ا هب ‪.‬‬

‫وعقب على ذلك الحافظ ابن حجببر بقببوله ‪) :‬لكببن يتوقببف قبببول ذلببك‬
‫على صدق المخبر به‪ ،‬ول نجزم بصببدقه إل لببو شبباهد‪ ،‬والحببال أنببه لببم‬
‫يشاهد‪ ،‬فل اعتبار بقوله إذن‪ ،‬والله أعلم(‪) .‬تلخيص الحبير مع المجموع‬
‫‪.(267 ،266 /6‬‬

‫ولكن علم الفلك الحديث يقوم على المشاهدة بوساطة الجهزة وعلى‬
‫الحساب الرياضي القطعي ‪ .‬ومن الخطأ الشائع لببدى كببثير مببن علمبباء‬
‫الدين في هذا العصر‪ ،‬اعتقاد أن الحساب الفلكببي هببو حسبباب أصببحاب‬
‫ع وتببوزع علببى النبباس‪ ،‬وفيهببا مببواقيت‬‫التقاويم‪ ،‬أو النتائج‪ ،‬التي تطب ب ُ‬
‫الصلة‪ ،‬وبدايات الشهور القمرية ونهايتها‪ ،‬وينسببب هببذا التقببويم إلببى‬
‫زيد‪ ،‬وذاك إلى عمببرو مببن النبباس‪ ،‬الببذين يعتمببد معظمهببم علببى كتببب‬
‫قديمة ينقلون منها تلك المواقيت‪ ،‬ويصفونها في تقويماتهم ‪.‬‬
‫ومن المعروف أن هذه التقاويم تختلف بين بعضببها وبعببض‪ ،‬فمنهببا مببا‬
‫ما‪ ،‬ومنها ما يجعلببه )‪ ،(30‬وكببذلك رمضببان‪ ،‬وذو‬ ‫يجعبل شبعبان )‪ (29‬يو ً‬
‫القعدة وغيرها ‪.‬‬

‫ومن أجل هذا الختلف رفضوها كلها ؛ لنها ل تقوم على علم يقيني ؛‬
‫ضا ‪ .‬وهذا صحيح بل ريب‪ ،‬ولكن ليس هذا‬ ‫لن اليقين ل يعارض بعضه بع ً‬
‫هو الحساب العلمي الفلكي الذي نعنيه ‪.‬‬

‫إن الببذي نعنيببه هببو مببا يقببرره علببم الفلببك الحببديث‪ ،‬القببائم علببى‬
‫المشبباهدة والتجربة‪ ،‬والذي غدا يملك من المكانات العلميببة والعمليببة‬
‫" التكنولوجيببة " مببا جعلببه يصببل بالنسببان إلببى سببطح القمببر‪ ،‬ويبعببث‬
‫دا‪ ،‬وغببدت نسبببة احتمببال الخطببأ‬ ‫بمراكز فضائية إلى الكواكب الكثر بع ً‬
‫دا إلببى مببائة ألببف " فببي الثانيببة ‪.‬‬‫في تقديراته )‪ "( 100000 - 1‬واحب ً‬
‫وأصبح من أسهل المور عليه أن يخبرنا عببن ميلد الهلل فلكي ًببا‪ ،‬وعببن‬
‫إمكان ظهوره في كل أفق بالدقيقة والثانية‪ ،‬لو أردنا ‪.‬‬

‫رؤية الهلل لثبات الشهر وسيلة متغيرة لهدف ثابت‪:‬‬


‫وفي كتببابي ‪ " :‬كيببف نتعامببل مببع السببنة " عببدت إلببى الموضببوع عنببد‬
‫الحديث عن أحد المعالم الساسية في فهم السنة‪ ،‬وهو ‪ :‬التمييببز بيببن‬
‫الهدف الثابت والوسيلة المتغيرة ‪ .‬وضربت لذلك أمثلة ‪:‬‬

‫ثم قلت ‪ :‬ومما يمكن أن يدخل في هببذا الببباب ‪ :‬مببا جبباء فببي الحببديث‬
‫الصحيح المشهور ‪ " :‬صوموا لرؤيته‪ -‬أي الهلل‪ -‬وأفطروا لرؤيته‪ ،‬فببإن‬
‫‪18‬‬

‫غم عليكم فاقدروا له " وفي لفظ آخر " فإن غم عليكم فببأكملوا عببدة‬
‫شعبان ثلثين " ‪.‬‬
‫فهنا يمكن للفقيه أن يقببول ‪ :‬إن الحببديث الشببريف أشببار إلببى هببدف‪،‬‬
‫وعّين وسيلة ‪.‬‬

‫أما الهدف من الحديث فهو واضح بين‪ ،‬وهببو أن يصببوموا رمضببان كلببه‪،‬‬
‫مببا مببن شببهر غيببره‪ ،‬كشببعبان أو‬
‫مببا منببه‪ ،‬أو يصببوموا يو ً‬
‫ول يضببيعوا يو ً‬
‫شببوال‪ ،‬وذلببك بإثبببات دخببول الشببهر أو الخببروج منببه‪ ،‬بوسببيلة ممكنببة‬
‫جا في دينهم‪.‬‬ ‫مقدورة لجمهور الناس‪ ،‬ل تكلفهم عنًتا ول حر ً‬

‫وكانت الرؤية بالبصار هي الوسيلة السببهلة والمقببدورة لعامببة النبباس‬


‫في ذلك العصر‪ ،‬فلهذا جاء الحديث بتعيينهببا ؛ لنببه لببو كلفهببم بوسببيلة‬
‫أخرى كالحساب الفلكببي ‪ -‬والمببة فببي ذلببك الحيببن أميببة ول تحسببب ‪-‬‬
‫لرهقهببم مببن أمرهببم عسببرا‪ ،‬والل ّببه يريببد بببأمته اليسببر ول يريببد بهببم‬
‫العسر‪ ،‬وقد قال عليه الصببلة والسببلم عببن نفسببه ‪ " :‬إن الل ّببه بعثنببي‬
‫ما ميسًرا‪ ،‬ولم يبعثني معنًتا "‪) .‬رواه مسلم وغيره(‪.‬‬ ‫معل ً‬
‫فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيببق هببدف الحببديث‪ ،‬وأبعببد عببن‬
‫احتمببال الخطببأ والببوهم والكببذب فببي دخببول الشببهر‪ ،‬وأصبببحت هببذه‬
‫الوسيلة ميسورة غير معسورة‪ ،‬ولم تعد وسيلة صعبة المنال‪ ،‬ول فببوق‬
‫طاقة المة‪ ،‬بعد أن أصبببح فيهببا علمبباء وخبببراء فلكيببون وجيولوجيببون‬
‫وفيزيائيون متخصصون علببى المسببتوى العببالمي‪ ،‬وبعببد أن بلببغ العلببم‬
‫غا مكن النسان أن يصعد إلببى القمببر نفسببه‪ ،‬وينببزل علببى‬ ‫البشري مبل ً‬
‫سببطحه‪ ،‬ويجببوس خلل أرضببه‪ ،‬ويجلببب نمبباذج مببن صببخوره وأتربتببه !‬
‫فلماذا نجمببد علببى الوسببيلة ‪ -‬وهببي ليسببت مقصببودة لببذاتها ‪ -‬ونغفببل‬
‫الهدف الذي نشده الحديث ؟ !‬

‫لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدعيان رؤية الهلل‬
‫بالعين المجردة‪ ،‬حيث كانت هي الوسيلة الممكنببة والملئمببة لمسببتوى‬
‫المة‪ ،‬فكيف يتصور أن يرفض وسيلة ل يتطرق إليها الخطببأ أو الببوهم‪،‬‬
‫أو الكذب‪ ،‬وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع‪ ،‬ويمكن أن تجتمببع عليهببا‬
‫أمة السلم في شرق الرض وغربها‪ ،‬وتزيل الخلف الدائم والمتفاوت‬
‫في الصوم والفطار والعياد‪ ،‬إلى مدى ثلثة أيام تكون فرقا بيببن بلببد‬
‫وآخببر )فببي رمضببان هببذا العببام )‪1409‬هببب( ثبببت دخببول رمضببان يببوم‬
‫الخميس الموافق السببادس مببن أبريببل ‪ 1989‬م فببي المملكببة العربيببة‬
‫السعودية‪ ،‬والكويت‪ ،‬وقطر‪ ،‬والبحريببن‪ ،‬وتببونس وغيرهببا‪ ،‬كلهببا برؤيببة‬
‫المملكة‪ ،‬وثبت دخوله فببي مصببر والردن والعببراق والجببزائر والمغببرب‬
‫وغيرهببا يببوم الجمعببة‪ ،‬أمببا باكسببتان والهنببد وعمببان وإيببران وغيرهببا‬
‫فصاموا يوم السبت !!‪ ،(.‬وهو ما ل يعقببل ول يقبببل ل بمنطببق العلببم‪،‬‬
‫‪19‬‬

‫ول بمنطق الدين‪ ،‬ومن المقطببوع ببه أن أحببدها هبو الصبواب والبباقي‬
‫خطأ بل جدال ‪.‬‬
‫إن الخذ بالحسبباب القطعببي اليببوم وسببيلة لثبببات الشببهور‪ ،‬يجببب أن‬
‫يقبل من باب " قياس الولي"‪ ،‬بمعني أن السنة التي شرعت لنا الخذ‬
‫بوسيلة أدني‪ ،‬لما يحيط بها مببن الشببك والحتمببال ‪ -‬وهببي الرؤيببة ‪ -‬ل‬
‫ترفض وسيلة أعلى وأكمل وأوفي بتحقيق المقصود‪ ،‬والخببروج بالمببة‬
‫من الختلف الشديد في تحديد بداية صيامها وفطرهببا وأضببحاها‪ ،‬إلببى‬
‫الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها‪ ،‬المتصلة بأخص أمببور دينهببا‪،‬‬
‫وألصقها بحياتها وكيانها الروحي‪ ،‬وهي وسيلة الحساب القطعي ‪.‬‬

‫على أن العلمة المحدث الكبير الشيخ أحمببد شبباكر ‪ -‬رحمببه الل ّببه ‪ -‬نحببا‬
‫بهذه القضية منحى آخر‪ ،‬فقد ذهب إلى إثبببات دخببول الشببهر القمببري‬
‫بالحساب الفلكي‪ ،‬بناءً على أن الحكم باعتبار الرؤية معلببل بعلببة نصببت‬
‫عليها السنة نفسها‪ ،‬وقد انتفببت الن‪ ،‬فينبغببي أن ينتفببي معلولهببا‪ ،‬إذ‬
‫ما‪.‬‬
‫دا وعد ً‬‫من المقرر أن الحكم يدور مع علته وجو ً‬

‫ويحسن بنا أن ننقل هنا عبارته بنصها لما فيها من قوة ونصبباعة‪ ،‬قببال‬
‫رحمه الّله في رسالته " أوائل الشهور العربية " ‪:‬‬
‫)فمما ل شك فيه أن العرب قبل السلم وفي صدر السلم لم يكونببوا‬
‫يعرفببون العلببوم الفلكيببة معرفببة علميببة جازمببة‪ ،‬كببانوا أمببة أمييببن‪ ،‬ل‬
‫يكتبون ول يحسبون‪ ،‬ومن شدا منهم شيًئا من ذلك فإنما يعرف مبببادئ‬
‫أو قشورا‪ ،‬عرفها بالملحظة والتتبع‪ ،‬أو بالسماع والخبر‪ ،‬لم تبن علببى‬
‫قواعببد رياضببية‪ ،‬ول علببى براهيببن قطعيببة ترجببع إلببى مقببدمات أوليببة‬
‫يقينية‪ ،‬ولذلك جعل رسول الل ّببه صببلى اللببه عليببه وسببلم مرجببع إثبببات‬
‫الشهر في عبادتهم إلى المر القطعي المشاهد الذي هبو فببي مقبدور‬
‫كببل واحببد منهببم‪ ،‬أو فببي مقببدور أكببثرهم ‪ .‬وهببو رؤيببة الهلل بببالعين‬
‫المجردة‪ ،‬فإن هذا أحكم وأضبط لمببواقيت شببعائرهم وعببباداتهم‪ ،‬وهببو‬
‫الذي يصل إليه اليقيببن والثقببة ممببا فببي اسببتطاعتهم‪ ،‬ول يكلببف الل ّببه‬
‫سا إل وسعها ‪.‬‬ ‫نف ً‬

‫لم يكن مما يوافق حكمة الشببارع أن يجعببل منبباط الثبببات فببي الهلببة‬
‫الحساب والفلك‪ ،‬وهم ل يعرفون شيًئا من ذلك في حواضببرهم‪ ،‬وكببثير‬
‫منهم بادون ل تصل إليهم أنباء الحواضر‪ ،‬إل في فترات متقاربة حينببا‪،‬‬
‫ومتباعدة أحيانا‪ ،‬فلو جعله لهم بالحساب والفلك لعنتهم‪ ،‬ولببم يعرفببه‬
‫منهم إل الشاذ والنادر في البببوادي عببن سببماع إن وصببل إليهببم‪ ،‬ولببم‬
‫دا لبعض أهل الحساب‪ ،‬وأكببثرهم أو كلهببم‬ ‫يعرفه أهل الحواضر إل تقلي ً‬
‫من أهل الكتاب ‪.‬‬
‫ثم فتببح المسببلمون الببدنيا‪ ،‬وملكببوا زمببام العلببوم‪ ،‬وتوسببعوا فببي كببل‬
‫أفنانهببا‪ ،‬وترجمببوا علببوم الوائل‪ ،‬ونبغببوا فيهببا‪ ،‬وكشببفوا كببثيًرا مببن‬
‫‪20‬‬

‫خباياها‪ ،‬وحفظوها لمن بعببدهم‪ ،‬ومنهببا علببوم الفلببك والهيئة وحسبباب‬


‫النجوم ‪.‬‬

‫وكان أكثر الفقهاء والمحدثين ل يعرفون علوم الفلك‪ ،‬أو هم يعرفببون‬


‫بعض مبادئهببا‪ ،‬وكببان بعضببهم‪ ،‬أو كببثير منهببم ل يثببق بمببن يعرفهببا ول‬
‫يطمئن إليه‪ ،‬بل كان بعضهم يرمي المشتغل بها بالزيغ والبتببداع‪ ،‬ظنببا‬
‫منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب ‪ -‬التنجيببم‬
‫‪ -‬وكببان بعضببهم يببدعي ذلببك فعل‪ ،‬فأسبباء إلببى نفسببه وإلببى علمببه‪،‬‬
‫والفقهاء معذورون‪ ،‬ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلببوم‬
‫لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه‪،‬‬
‫بل كان يشير إليها على تخوف ‪.‬‬
‫هكذا كان شببأنهم‪ ،‬إذ كببانت العلببوم الكونيببة غيببر ذائعببة ذيعببان العلببوم‬
‫الدينية وما إليها‪ ،‬ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء‪.‬‬

‫وهذه الشريعة الغراء السمحة‪ ،‬باقيببة علببى الببدهر‪ ،‬إلببى أن يببأذن الل ّببه‬
‫بانتهاء هذه الحياة الدنيا‪ ،‬فهي تشببريع لكببل أمببة‪ ،‬ولكببل عصببر‪ ،‬ولببذلك‬
‫نرى فببي نصببوص الكتبباب والسببنة إشببارات دقيقببة لمببا يسببتحدث مببن‬
‫الشئون‪ ،‬فإذا جاء مصداقها فسببرت وعلمببت‪ ،‬وإن فسببرها المتقببدمون‬
‫على غير حقيقتها ‪.‬‬

‫وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده‪ ،‬فروى البخاري مببن‬
‫حديث ابن عمبر عبن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‪ " :‬إنبببا أمبببة‬
‫أمية‪ ،‬ل نكتب ول نحسب‪ ،‬الشهبر هكبذا وهكببذا ‪ " ...‬يعنببي مببرة تسببعة‬
‫وعشرين‪ ،‬ومرة ثلثين )رواه البخاري في كتاب الصببوم( ‪ .‬ورواه مالببك‬
‫في الموطأ )الموطأ ‪ . (269 /1‬والبخاري ومسببلم وغيرهمببا بلفببظ ‪" :‬‬
‫الشبهر تسبعة وعشبرون‪ ،‬فل تصبوموا حبتى تبروا الهلل‪ ،‬ول تفطبروا‬
‫حتى تروه‪ ،‬فإن غم عليكم فاقدروا له " ‪.‬‬

‫وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم الّله في تفسير معنى الحديث ‪.‬‬
‫وأخطأوا في تأويله‪ ،‬ومن أجمع قول لهم في ذلببك قببول الحببافظ ابببن‬
‫حجر )فتح الباري ‪ ،108/4‬ب ‪ :.(109‬المراد بالحساب هنا حسبباب النجببوم‬
‫وتسييرها‪ ،‬ولم يكونوا يعرفون من ذلك إل النزر اليسير ‪ .‬فعلق الحكببم‬
‫بالصوم وغيره بالرؤية‪ ،‬لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير‪ ،‬واستمر‬
‫الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك ‪ .‬ببل ظباهر السببياق‬
‫ينفي تعليببق الحكببم بالحسبباب الصببلي ‪ .‬ويوضببحه قببوله فببي الحببديث‬
‫الماضي ‪ " :‬فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلثين "‪ ،‬ولم يقببل ‪ :‬فسببلوا‬
‫أهببل الحسبباب‪ ،‬والحكمببة فيببه كببون العببدد عنببد الغمبباء اسببتوى فيببه‬
‫المكلفون‪ ،‬فيرتفع الختلف والنزاع عنهم‪ ،‬وقد ذهب قوم إلى الرجوع‬
‫إلى أهل التسيير في ذلك‪ ،‬وهم الروافض )ل ندري من ذا يريد الحافظ‬
‫‪21‬‬

‫بالروافض ؟ إن كان يريد الشيعة المامية فالببذي نعرفببه مببن مببذهبهم‬


‫سا آخرين فل ندري‬ ‫أنه ل يجوز الخذ بالحساب عندهم‪ ،‬وإن كان يريد نا ً‬
‫من هم !! أحمد شاكر ‪ :‬أقول ‪ :‬أظن أن المراد بهم السماعيلية ‪ .‬فقببد‬
‫نقببل أنهببم يقولببون بببذلك "القرضبباوي"(‪ ،‬ونقببل عببن بعببض الفقهبباء‬
‫موافقتهم‪ ،‬قال الباجي ‪ :‬وإجماع السببلف الصبالح حجببة عليهببم‪ ،‬وقبال‬
‫ابن بزيزة ‪ :‬وهو مذهب باطل‪ ،‬فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم‬
‫النجوم؛ لنها حدس وتخمين‪ ،‬ليس فيها قطع ول ظن غالب مع أنببه لببو‬
‫ارتبط المر بها لضاق‪ ،‬إذ ل يعرفها إل القليل‬

‫فهذا التفسير صببواب‪ ،‬فببي أن العبببرة بالرؤيببة ل بالحسبباب‪ ،‬والتأويببل‬


‫خطأ‪ ،‬في أنه لو حدث من يعرف استمر الحكم في الصببوم‪ -‬أي باعتبببار‬
‫الرؤيببة وحببدها ببب لن المببر باعتمبباد الرؤيببة وحببدها جبباء معلل بعلببة‬
‫منصوصة‪ ،‬وهي أن المة " أمية ل تكتب ول تحسب "‪ ،‬والعلة تببدور مببع‬
‫ما‪ ،‬فإذا خرجببت المببة عببن أميتهببا‪ ،‬وصببارت تكتببب‬ ‫دا وعد ً‬
‫المعلول وجو ً‬
‫وتحسب‪ ،‬أعني صارت في مجموعها ممن يعببرف هببذه العلببوم‪ ،‬وأمكببن‬
‫الناس ‪ -‬عامتهم وخاصتهم ‪ -‬أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حسبباب‬
‫أول الشهر‪ ،‬وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقببوي‪ ،‬إذا‬
‫صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة المية ‪ :‬وجب أن يرجعوا إلى‬
‫اليقين الثابت‪ ،‬وأن يأخبذوا فببي إثبببات الهلبببة بالحسببباب وحبببده‪ ،‬وأل‬
‫يرجعوا إلى الرؤية إل حين استعصى عليهم العلم به‪ ،‬كما إذا كان نبباس‬
‫في بادية أو قريببة‪ ،‬ل تصببل إليهبم الخبببار الصبحيحة الثابتبة عبن أهببل‬
‫الحساب ‪.‬‬
‫ضببا‬
‫وإذا وجب الرجوع إلى الحسبباب وحببده بببزوال علببة منعببه‪ ،‬وجببب أي ً‬
‫الرجوع إلى الحساب الحقيقببي للهلببة‪ ،‬وإطببراح إمكببان الرؤيببة وعببدم‬
‫إمكانها‪ ،‬فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلل بعد‬
‫غروب الشمس‪ ،‬ولو بلحظة واحدة‪.‬‬

‫)المرجح أن يبقى بعد الغروب مده يمكببن فيهببا ظهببوره‪ ،‬بحيببث يمكببن‬
‫رؤيته بالعين المجردة‪ ،‬وذلك نحو )‪ (15‬أو )‪ (20‬دقيقة على ما ذكر أهل‬
‫الختصاص‪" ،‬القرضاوي"(‪.‬‬

‫عا من القوال ‪ :‬أن يختلف الحكم باختلف أحوال‬ ‫وما كان قولي هذا بد ً‬
‫المكلفين فإن هذا في الشريعة كثير‪ ،‬يعرفه أهل العلم وغيرهم‪ ،‬ومببن‬
‫أمثلة ذلك في مسألتنا هذه ‪ :‬أن الحديث ‪ " :‬فإن غم عليكم فاقدروا له‬
‫" ورد بألفاظ أخر‪ ،‬في بعضها ‪ " :‬فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلثيببن‬
‫" ففسر العلماء الرواية المجملة ‪ " :‬فاقدروا له " بالرواية المفسرة‪" :‬‬
‫ما من أئمة الشافعية‪ ،‬بل هببو إمببامهم‬ ‫ما عظي ً‬‫فأكملوا العدة " ولكن إما ً‬
‫في وقته‪ ،‬وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج ) "سببريج" بالسببين‬
‫المهملة المضببمومة وآخببره جيببم‪ ،‬ويكتببب خطببأ فببي كببثير مببن الكتببب‬
‫‪22‬‬

‫المطبوعة " شريح " بالشين والحاء‪ ،‬وهو تصحيف ‪ .‬وأبببو العببباس هببذا‬
‫توفي سنة ‪ 306‬هب وهو من تلميذ أبي داود صاحب السنن‪ ،‬وقببال فببي‬
‫شأنه أبو إسحاق الشيرازي فببي طبقببات الفقهبباء ص ‪ " : 89‬كببان مببن‬
‫عظماء الشافعيين وأئمة المسلمين‪ ،‬وكان يفضل علببى جميببع أصببحاب‬
‫الشببافعي‪ ،‬حببتى علببى المزنببي " ولببه تراجببم جيببدة فببي تاريببخ بغببداد‬
‫للخطيب ‪ ،290 - 278/ 4‬وطبقات الشافعية لبببن السبببكي ‪- 67 /2‬‬
‫‪ ،(96‬جمع بين الروايتين‪ ،‬بجعلهما في حببالين مختلفيببن ‪ :‬أن قببوله ‪" :‬‬
‫فاقدروا له " معناه ‪ :‬قدروه بحسب المنببازل‪ ،‬وأنببه خطبباب لمببن خصببه‬
‫الّله بهذا العلم‪ ،‬وأن قوله ‪ " :‬فببأكملوا العببدة "خطبباب للعامببة )انظببر ‪:‬‬
‫شرح القاضي أبي بكر بن العربي على الترمذي ‪ ،208 ،207/ 3‬وطرح‬
‫التثريب ‪ 113 - 111 /4‬وفتح الباري ‪.(104 /4‬‬

‫صببا بمببا إذا‬


‫فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج‪ ،‬إل أنه جعلببه خا ً‬
‫غم الشهر فلم يره الراؤون‪ ،‬وجعل حكم الخذ بالحساب للقلين‪ ،‬علببى‬
‫مببا كببان فببي وقتببه مببن قلببة عببدد العببارفين‪ ،‬وعببدم الثقببة بقببولهم‬
‫وحسابهم‪ ،‬وبطء وصول الخبار إلى البلد الخرى‪ ،‬إذا ثبت الشهر فببي‬
‫بعضها‪ ،‬وأما قولي فإنه يقضي بعموم الخذ بالحساب الدقيق الموثببوق‬
‫به‪ ،‬وعموم ذلك على الناس‪ ،‬بما يسر في هذه اليام من سرعة وصول‬
‫الخبار وذيوعها ‪ .‬ويبقي العتماد علببى الرؤيببة للقببل النببادر‪ ،‬ممببن ل‬
‫يصل إليه الخبار‪ ،‬ول يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشببمس‬
‫والقمر ‪.‬‬

‫ولقد أرى قولي هذا أعدل القوال‪ ،‬وأقربها إلى الفقه السببليم‪ ،‬وإلببى‬
‫الفهببم الصببحيح للحبباديث الببواردة فببي هببذا الببباب(‪) .‬رسببالة " أوائل‬
‫الشهور العربية " ص ‪ 17 - 7‬نشر مكتبة ابن تيمية( هذا ما كتبه العلمة‬
‫شاكر منذ أكثر من نصببف قببرن بب ذي الحجببة ‪ 1357‬هبب الموافببق ينبباير‬
‫‪ 1939‬م ‪.‬‬

‫ولم يكن علم الفلك في ذلك الوقت قد وصل إلى ما وصل إليببه اليببوم‬
‫من وثبات استطاع بها النسان أن يغبزو الفضباء‪ ،‬ويصبعد إلبى القمبر‪،‬‬
‫وانتهى هذا العلم إلى درجة من الدقة‪ ،‬غدا احتمال الخطأ فيهببا بنسبببة‬
‫واحدة إلى مائة ألف في الثانية !!‬

‫كتب هذا الشيخ شاكر وهو رجل حديث وأثر قبل كل شيء‪ ،‬عاش حياته‬
‫‪-‬رحمه الّله‪ -‬لخدمة الحديث‪ ،‬ونصرة السنة النبويببة‪ ،‬فهببو رجببل سببلفي‬
‫خالص‪ ،‬رجل اتباع ل رجل ابتداع‪ ،‬ولكنه ‪-‬رحمه الّله‪ -‬لم يفهم السببلفية‬
‫على أنها جمود على ما قاله من قبلنا من السلف‪ ،‬بببل السببلفية الحببق‬
‫أن ننهج نهجهم‪ ،‬ونشرب روحهم‪ ،‬فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهببم‪،‬‬
‫‪23‬‬

‫ونعالج واقعنا بعقولنا ل بعقولهم‪ ،‬غير مقيببدين إل بقواطببع الشببريعة‪،‬‬


‫ومحكمات نصوصها‪ ،‬وكليات مقاصدها ‪.‬‬

‫هذا وقد قرأت مقال ً مطول ً في شهر رمضببان لهببذا العببام )‪ 1409‬هببب(‬
‫لحد المشايخ الفضلء )هو سماحة الشببيخ صببالح بببن محمببد اللحيببدان‪،‬‬
‫رئيس مجلس القضاء العلببى بالمملكببة العربيببة السببعودية‪ ،‬وقببد نشببر‬
‫مقاله في عكاظ وغيرها من الصحف اليومية بالمملكة في ‪ 21‬رمضببان‬
‫‪ 1409‬هب(‪ ،‬أشار فيه إلى أن الحبببديث النبببوي الصبببحيح ‪ " :‬نحبببن أمبببة‬
‫أمبية ل نكبتب ول نحسب " يتضببمن نفببي الحسبباب‪ ،‬وإسببقاط اعتببباره‬
‫لدى المة ‪.‬‬

‫ولو صح هذا لكان الحديث يدل على نفببي الكتابببة‪ ،‬وإسببقاط اعتبارهببا‪،‬‬
‫فقد تضمن الحديث أمرين دلل بها على أمية المة‪ ،‬وهما ‪:‬‬
‫الكتابة والحساب ‪.‬‬
‫ولم يقل أحد في القديم ول فببي الحببديث ‪ :‬إن الكتابببة أمببر مببذموم أو‬
‫مرغوب عنه بالنسبة للمة‪ ،‬بل الكتابة أمر مطلوب‪ ،‬دل عليه‬

‫القرآن والسنة والجماع‪.‬‬


‫وأول من بدأ بنشر الكتابة هو النبي ‪-‬صلى الله عليببه وسببلم‪ ،-‬كمببا هببو‬
‫معلوم من سيرته‪ ،‬وموقفه من أسرى بدر‪.‬‬
‫ومما قيل في هذا الصدد ‪ :‬أن الرسول لم يشرع لنبا العمبل بالحسباب‪،‬‬
‫ولم يأمرنا باعتباره‪ ،‬وإنما أمرنا باعتبار " الرؤية " والخذ بها في إثبات‬
‫الشهر‪.‬‬

‫وهذا الكلم فيه شيء من الغلط أو المغالطة‪ ،‬لمرين‪:‬‬


‫الول ‪ :‬أنه ل يعقل أن يببأمر الرسببول بالعتببداد بالحسبباب‪ ،‬فببي وقببت‬
‫كانت فيه المة أمية‪ ،‬ل تكتب ول تحسب‪ ،‬فشرع لها الوسيلة المناسبببة‬
‫لها زماًنا ومكاًنا‪ ،‬وهي الرؤية‪ ،‬المقدورة لجمهببور النبباس فببي عصببره‪،‬‬
‫ولكن إذا وجدت وسيلة أدق وأضبط وأبعد عببن الغلببط والببوهم‪ ،‬فليببس‬
‫في السنة ما يمنع اعتبارها‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬أن السنة أشارت بالفعل إلى اعتبار الحساب في حالببة الغيببم‪،‬‬
‫وهو ما رواه البخاري في كتاب الصببوم مببن جببامعه الصببحيح بسلسببلته‬
‫الذهبية المعروفة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الّله صلى‬
‫الله عليه وسلم ذكر رمضان‪ ،‬فقال ‪ " :‬ل تصبوموا حببتى تببروا الهبببلل‪،‬‬
‫ول تفطروا حتى تببروه‪ ،‬فببإن غببم عليكببم فاقببدروا لببه " )قببدر يقببدر ‪-‬‬
‫در‪ ،‬ومنببه قببوله تعببالى‪) :‬فقببدرنا فنعببم‬ ‫بالضببم والكسببر ‪ -‬بمعنببى قبب ّ‬
‫القادرون(‪.‬‬
‫‪24‬‬

‫در " له أو "التقدير " المأمور به‪ ،‬يمكن أن يدخل فيه اعتبببار‬ ‫وهذا " ال َ‬
‫ق ْ‬
‫الحساب لمن يحسنه‪ ،‬ويصل به إلببى أمببر تطمئن النفببس إلبى صببحته‪،‬‬
‫وهو ما أصبح في عصرنا في مرتبة القطعيات‪ ،‬كمببا هببو مقببرر معلببوم‬
‫لدى كل من عنده أدنببى معرفبة بعلببوم العصبر‪ ،‬وإلبى أي مبدى ارتقبى‬
‫فيها النسان الذي علمه ربه ما لم يكن يعلم ‪.‬‬

‫وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي ‪ -‬على‬
‫القل ‪ -‬في النفي ل في الثبات‪ ،‬تقليل ً للختلف الشاسع الذي يحببدث‬
‫كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر‪ ،‬إلى حد يصل إلى ثلثببة أيببام‬
‫بين بعض البلء السلمية وبعض ‪ .‬ومعنى الخببذ بالحسبباب فببي النفببي‬
‫أن نظل على إثبات الهلل بالرؤية وفقا لرأى الكثرين من أهل الفقببه‬
‫في عصرنا‪ ،‬ولكن إذا نفبى الحسباب إمكبان الرؤيبة‪ ،‬وقبال ‪ :‬إنهبا غيبر‬
‫ممكنة‪ ،‬لن الهلل لم يولد أصل ً في أي مكببان مببن العببالم السببلمي ‪-‬‬
‫كان الواجب أل تقبل شهادة الشببهود بحببال؛ لن الواقببع ‪ -‬الببذي أثبتببه‬
‫العلم الرياضي القطعي ‪ -‬يكذبهم ‪ .‬بل في هذه الحالة ل يطلبب تبرائي‬
‫ل‪ ،‬ول تفتح المحاكم الشببرعية ول دور الفتببوى أو‬ ‫الهلل من الناس أص ً‬
‫الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادة عن رؤية الهلل‪.‬‬

‫هذا ما اقتنعت به وتحدثت عنه في فتاوى ودروس ومحاضرات وبرامببج‬


‫عببدة‪ ،‬ثببم شبباء الّلببه أن أجببده مشببرو ً‬
‫حا مفصببل ً لحببد كبببار الفقهبباء‬
‫الشافعية‪ ،‬وهبو المبام تقبي البدين السببكي )ت ‪756‬هبب( البذي قبالوا‬
‫عنه ‪ :‬إنه بلغ مرتبة الجتهاد‪.‬‬

‫فقببد ذكببر السبببكي فببي فتبباواه أن الحسبباب إذا نفببى إمكببان الرؤيببة‬
‫البصرية‪ ،‬فالواجب على القاضي أن يببرد شببهادة الشببهود‪ ،‬قببال ‪) :‬لن‬
‫الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان‪ ،‬والظني ل يعارض القطعببي‪،‬‬
‫فضل ً عن أن يقدم عليه(‪.‬‬

‫وذكر أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنببده‪ ،‬فببي أي‬


‫قضبببية مببن القضببببايا‪ ،‬فببإن رأي الحبببس أو العبببيان يكببذبها ردهبببا ول‬
‫سببا‬
‫كبرامة ‪ .‬قال ‪) :‬والبينبة شبرطها أن يكون مببا شببهدت بببه ممكنببا ح ً‬
‫عببا علببى عببدم المكببان‬‫عا‪ ،‬فببإذا فببرض دللببة الحسبباب قط ً‬ ‫وعقل ً وشر ً‬
‫عا‪ ،‬لسبببتحالة المشببببهود بببه‪ ،‬والشببرع ل يببأتي‬‫اسبببتحال القببول شببر ً‬
‫بالمسببتحيلت‪.‬‬
‫أما شهادة الشهود فتحمببل علببى الببوهم أو الغلببط أو الكببذب‪) .‬انظببر ‪:‬‬
‫فتاوى السبكي(‪.‬‬

‫ثبوت دخول الشهر بالنهار‬


‫‪25‬‬

‫إذا قامت البينة بإثبات دخببول رمضببان فببي أثنبباء النهببار لببزم المكلببف‬
‫المساك بقيته‪ ،‬لتعذر إمساك جميع اليببوم‪ ،‬فببوجب أن يببأتي بمببا يقببدر‬
‫عليه لقوله تعالى‪) :‬فاتقوا الله ما استطعتم( )التغابن ‪.(16:‬‬

‫وهل يلزمه قضاء هذا اليوم؟ قولن للعلماء‪:‬‬


‫الول‪ :‬وهو رأي الجمهور‪ :‬يقضي‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ل يقضي‪ ،‬واختاره شيخ السلم ابن تيميببة )المبببدع فببي شببرح‬
‫المقنع ‪ .(12/3-‬كما لو لم يعلم بالرؤية إل بعد الغروب‪.‬‬
‫واستدل ابن حزم بما رواه مسلم في صحيحه عن الربيع بنت معوذ بببن‬
‫عفراء قالت‪ :‬أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬غببداة عاشببوراء‬
‫إلى قرى النصار التي حول المدينة‪.:‬‬
‫ما فليتم صومه‪ ،‬ومن كان أصبح مفطًرا فليتم بقية‬ ‫"من كان أصبح صائ ً‬
‫يومه‪.‬‬
‫وعن سلمة بن الكوع‪ :‬بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ً مبن‬
‫أسلم يوم عاشوراء‪ ،‬فأمره أن يؤذن فببي النبباس‪" :‬مببن كببان لببم يصببم‬
‫فليصم‪ ،‬ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل"‪.‬‬
‫وروى البخاري عن سملة نحوه أيضا‪.‬‬
‫قال ابن حزم‪) :‬ويوم عاشوراء هببو كببان الفببرض حينئذ صببيامه‪ ..‬فكببان‬
‫هذا حكم صوم الفرض‪ ..‬وإنما نزل هذا الحكم فيمببن لببم يعلببم بوجببوب‬
‫الصوم عليه ‪ -‬من ناس أو جاهببل أو نببائم ‪ -‬فحكمهببم كلهببم هبو الحكببم‬
‫الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬مببن اسببتدراك النيببة فببي‬
‫اليوم المذكور‪ ،‬متى علموا بوجوب صومه عليهم‪ ،‬وسمى عليببه السببلم‬
‫ما‪ ،‬وبالله تعالى التوفيببق( )انظببر‬‫ما‪ ،‬وجعل فعله صو ً‬ ‫من فعل ذلك صائ ً‬
‫المحلي ‪ -463-461/6-‬مطبعة المام‪ ،‬المسألة ‪.(729-‬‬

‫حقائق ينبغي أن يتفق عليها‬


‫وينبغي أن أؤكد هنا حقائق ثلًثا‪ ،‬ينبغي أل يختلف عليها‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن في هذا المر ‪ -‬أعني ما يتعلق بإثبات دخول الشببهر ‪ -‬سببعة‬
‫ومرونة بالنظر إلى نصوص الشرع‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬واختلف العلماء في هببذا‬
‫المقام توسعة ورحمة للمة‪.‬‬
‫فمن أثبت دخول الشهر بعدل أو عدلين‪ ،‬أو اشترط جما غفيًرا لم يبعببد‬
‫عما قال به بعض فقهاء المة المعتبرين‪.‬‬
‫بل من قال بالحساب وجد له في السلف قائل‪ ،‬منذ عهد التابعين فمببن‬
‫بعدهم‪.‬‬
‫ومن اعتبر اختلف المطببالع‪ ،‬ومببن لببم يعتبرهببا لببه سببلفه‪ ،‬ولببه دليلببه‬
‫ووجهته‪.‬‬
‫فل يجوز أن ينكر على من أخذ بأحببد هببذه المببذاهب والجتهببادات‪ ،‬وإن‬
‫رآها هو خطأ‪ ،‬إذ القاعدة‪ :‬ل إنكار في المسائل الجتهادية‪.‬‬
‫‪26‬‬

‫الثانية‪ :‬أن الخطأ في مثل هذه المور مغتفر‪ ،‬فلو أخطأ الشبباهد الببذي‬
‫شهد بأنه رأى هلل رمضببان‪ ،‬أو شببوال‪ ،‬وترتببب عليببه أن صببام النبباس‬
‫يوما من شعبان أو أفطروا يوما من رمضان‪ ،‬فإن الله تعببالى أهببل لن‬
‫يغفر لهم خطأهم‪ ،‬وقد علمهم أن يدعوا فيقولبوا‪) :‬ربنبا ل تؤاخبذنا إن‬
‫نسينا أو أخطأنا( )البقرة ‪.(286:‬‬
‫حتى لو أخطأوا فببي هلل ذي الحجببة‪ ،‬ووقفببوا بعرفببة يببوم الثببامن أو‬
‫العاشر‪ ،‬في الواقع ونفس المر‪ ،‬فإن حجهم صحيح ومقبول‪ ،‬كما قببرر‬
‫ذلك شيخ السلم ابن تيمية وغيره‪.‬‬

‫الثالثة‪ :‬أن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم‪ ،‬وسائر‬


‫ما‪ ،‬ول ينبغي اليأس من الوصببول‬ ‫شعائرهم وشرائعهم‪ ،‬أمر مطلوب دائ ً‬
‫إليه ول من إزالة العوائق دونه‪ ،‬ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريببط‬
‫فيه بحال‪ ،‬هو‪ :‬أننا إذا لم نصل إلى الوحببدة الكليببة العامببة بيببن أقطببار‬
‫المسلمين في أنحاء العالم‪ ،‬فعلى القل يجب أن نحرص علببى الوحببدة‬
‫الجزئية الخاصة بين أبناء السلم في القطر الواحد‪.‬‬

‫فل يجوز أن نقبل بأن ينقسم أبناء البلببد الواحببد‪ ،‬أو المدينببة الواحببدة‪،‬‬
‫فيصوم فريق اليوم على أنه من رمضان‪ ،‬ويفطر آخرون على أنببه مببن‬
‫شعبان‪ ،‬وفي آخر الشهر تصوم جماعة‪ ،‬وتعي ّببد أخببرى فهببذا وضببع غيببر‬
‫مقبول‪.‬‬
‫فمن المتفق عليه أن حكم الحبباكم‪ ،‬أو قببرار ولببي المببر يرفببع الخلف‬
‫في المور المختلف فيها‪.‬‬

‫فإذا أصدرت السبلطة الشبرعية المسبؤولة عبن إثببات الهلل فبي بلبد‬
‫إسلمي ‪ -‬المحكمة العليا‪ ،‬أو دار الفتاء‪ ،‬أو رئاسة الشؤون الدينيببة‪ ،‬أو‬
‫غيرها ‪ -‬قرارها بالصوم أو بالفطار‪ ،‬فعلى مسلمي ذلك البلببد الطاعببة‬
‫فا لما ثبت في‬ ‫واللتزام‪ ،‬لنها طاعة في المعروف‪ ،‬وإن كان ذلك مخال ً‬
‫بلد آخر‪ ،‬فإن حكم الحبباكم هنببا رجببح الببرأي الببذي يقببول‪ :‬إن لكببل بلببد‬
‫رؤيته‪.‬‬

‫وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‪" :‬صببومكم يببوم‬
‫تصومون‪ ،‬وفطركم يبوم تفطببرون" )الترمببذي‪ ،‬وقبال‪ :‬حسببن غريببب ‪-‬‬
‫‪ .(697‬وفي لفظ‪" :‬وفطركم يببوم تفطببرون وأضببحاكم يببوم تضببحون"‬
‫)أبو داود ‪ 2324-‬؛ وابببن مبباجه ‪ 1660-‬بلفببظ "الفطببر يببوم تفطببرون‪،‬‬
‫والضحى يوم تضحون" رواه من طريق حماد عن أيوب عن ابن سيرين‬
‫دا علببى شببرط‬
‫عن أبي هريرة‪ ،‬قال الشيخ شاكر‪ :‬وهذا إسناد صحيح ج ب ً‬
‫الشيخين ا هب(‪.‬‬
‫‪27‬‬

‫وقببد روى أببو داود هببذا الحبديث تحببت عنببوان‪) :‬بباب إذا أخطبأ القبوم‬
‫الهلل(‪ ،‬قال المام الخطابي‪ :‬معنى الحببديث‪ :‬أن الخطببأ موضببوع عببن‬
‫الناس فيمبا كببان سبببيله الجتهبباد‪ ،‬فلببو أن قومبا اجتهببدوا‪ ،‬فلببم يبروا‬
‫الهلل إل بعد الثلثيببن‪ ،‬فلببم يفطببروا حببتى اسببتوفوا العببدد‪ ،‬ثببم ثبببت‬
‫عا وعشرين‪ ،‬فببإن صببومهم وفطرهببم مبباض‪،‬‬ ‫عندهم أن الشهر كان تس ً‬
‫فل شيء عليهم من وزر أو عنت‪ ،‬وكذلك هذا في الحج إذا أخطأوا يببوم‬
‫عرفة‪ ،‬فإنه ليس عليهبم إعبادته ويجزيهبم أضبحاهم كبذلك‪ ،‬وإنمبا هبذا‬
‫تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده‪.‬‬

‫هّلة والمواقيت‬ ‫ملحق بتوصيات ندوة ال ِ‬


‫عقدت ندوة الهل ّببة والمببواقيت والتقنيببات الفلكيببة فبي الكببويت خلل‬ ‫ُ‬
‫الفترة بين ‪ 21‬إلى ‪ 23‬رجببب ‪ 1409‬هبب الموافببق ‪1989/3/1 - 2/27‬م‬
‫بتنظيبم النبادي العلمبي الكويبتي ومؤسسببة الكببويت للتقبدم العلمببي‪،‬‬
‫وشارك فيها عدد من فقهاء الشريعة وعلماء الفلك في الدول العربيببة‬
‫عمببان ‪-‬‬‫التالية‪ :‬الردن ‪ -‬المببارات ‪ -‬الجببزائر ‪ -‬السببعودية ‪ -‬السببودان ‪ُ -‬‬
‫فلسببطين ‪ -‬قطببر ‪ -‬الكببويت ‪ -‬مصببر ‪ -‬المغببرب ‪ -‬اليمببن‪.‬؛ كمببا حضببرها‬
‫مندوبون عن مجمع الفقه السلمي بجدة‪ ،‬والمنظمببة العربيببة للتربيببة‬
‫والثقافة والعلوم‪ ،‬والتحاد العربي لنوادي العلوم‪،‬‬

‫وقد أصدرت الندوة التوصيات العلمية التالية‪:‬‬


‫)‪ (1‬إذا ثبت رؤية الهلل في بلد وجب على المسلمين اللببتزام بهببا ول‬
‫عبرة باختلف المطالع لعموم الخطاب بالمر بالصوم والفطار‪.‬‬
‫)‪ (2‬يؤخذ بالحسابات المعتمدة في حالببة النفببي )أي القطببع باسببتحالة‬
‫رؤية الهلل( وتكون الحسابات الفلكية معتمدة إذا قامت على التحقيق‬
‫الدقيق )ل التقريب( وكانت مبنية على قواعد فلكيببة مسببلمة وصببدرت‬
‫عن جمع مببن الفلكييببن الحاسبببين الثقببات بحيببث يبؤمن وقببوع الخلببل‬
‫فيها‪.‬‬
‫فإذا شهد الشهود برؤية الهلل في الحببالت الببتي يتعببذر فلكي ًببا رؤيتببه‬
‫فيها ترد الشهادة لمناقضتها للواقع ودخول الريبة فيها‪.‬‬

‫ومن هذه الحالت التي تستحيل فيها الرؤية‪:‬‬


‫)‪ (1‬إذا شهد الشهود برؤيببة الهلل قبببل الببوقت المقببدر لببه بالحسبباب‬
‫الفلكي‪ ،‬وهو وجوده في الفق بعد غروب الشمس‪ ،‬فل عبرة بالشهادة‬
‫علبى رؤيبة الهلل قببل حصبول القبتران أو إذا تزامنبت الشبهادة مبع‬
‫القتران‪ ،‬سبواء أكبان القببتران مرئًيبا كالكسببوف‪ ،‬أم غيببر مببرئي ممبا‬
‫تحدده الحسابات الفلكية المعتمدة‪ .‬وهبذه الحالبة نبص عليهبا عبدد مبن‬
‫فقهاء المسلمين كابن تيمية والقرافي وابن القيم وابن رشد‪.‬‬
‫‪28‬‬

‫)‪ (2‬إذا شهد الشهود برؤية الهلل بعببد الغببروب فببي اليببوم الببذي رؤي‬
‫حا قبل شروق الشمس‪ .‬فل عبببرة بالشببهادة علببى هببذه‬ ‫فيه القمر صبا ً‬
‫الرؤية‪.‬‬

‫)‪ (3‬رؤيببة الهلل هببي الصببل فببي إثبببات دخببول الشببهر‪ ،‬وُيسببتعان‬
‫هّلة بالرؤية‪ ،‬وذلك بتحديد ظروف الرؤية‬ ‫بالحساب الفلكي في إثبات ال َ ِ‬
‫في اليببوم والسبباعة والجهببة وهيئة الهلل‪ ،‬ولكببن ل يكتفبى بالحسبباب‬
‫ل الحسبباب‬‫للثبات بل ل ب ُدّ من الشهادة المعتبببرة علببى رؤيتببه‪ .‬فببإن د ّ‬
‫على إمكانية الرؤية وعدم الموانع الفلكية ولم ي ُبَر الهلل وجببب إكمببال‬
‫عدة الشهر ثلثين‪.‬‬

‫)‪ (4‬في البلد الببتي ل تتمبايز فيهببا بعببض الوقببات‪ ،‬كالعشبباء والفجببر‪،‬‬
‫لعدم غيبوبة الشفق‪ ،‬أو عببدم غببروب الشببمس‪ ،‬أو عببدم طلببوع الفجببر‬
‫يؤخذ لتحديد أوقات الصببلوات الببتي اختفببت علماتهببا‪ ،‬بمبببدأ )التقببدير‬
‫المطابق( بأن يجرى على تلك البلد توقيت أقرب بلد تتمببايز فيببه تلببك‬
‫الوقات‪ ،‬مع مراعاة كون البلد القرب على نفس خط الطول‪.‬‬
‫مستمد من مذهب المالكية وهو ُيحقق اليسر ورفع الحرج‪.‬‬ ‫وهذا المبدأ ُ‬
‫وتقترح الندوة اهتمام الفلكيين بتحديد أوقات الصلوات لهذه المنبباطق‬
‫قا لمبدأ )التقدير النسبببي( وهببو مببذهب الشببافعية‪ ،‬وذلببك بحسبباب‬ ‫طب ً‬
‫النسبة بين الوقت وبين الليببل وفببي البلببد القببرب علببى خببط الطببول‬
‫ضا في البلد الخر‪.‬‬
‫نفسه ومراعاة ذلك بالنسبة أي ً‬

‫)‪ (5‬العتماد بصفة أساسببية علببى التقببويم الهجببري وربببط المعبباملت‬


‫والميزانيات والمرتبات به‪ ،‬لنه المعمول عليه فببي العبببادات والحكببام‬
‫وكذلك في الحقوق الشرعية عند الطلق‪..‬‬
‫وفي هذا ربط لحاضر المة السلمية بماضيها المج‬
‫على من يجب صيام رمضان‬
‫ضا عينًيا وركًنا دينًيا‪ ،‬فيلزمنا أن نحدد بالضبببط‬
‫إذا كان صوم رمضان فر ً‬
‫على من يجب الصيام وجوًبا غير مخير‪.‬‬
‫والذي ل خلف فيه‪ :‬أنه يجب وجوًبا فورًيا على المسلم البالغ‪ ،‬العاقببل‬
‫المقيم‪ ،‬الصحيح‪ ،‬إذا لبم تكببن فيببه الصبفة المانعببة مببن الصببوم‪ ،‬وهببي‬
‫الحيض والنفاس للنساء‪.‬‬

‫قال تعالى‪) :‬فمن شهد منكم الشهر فليصمه( )البقرة‪.(185 :‬‬

‫ل صيام على غير المسلم‬


‫فل يطالب غير المسلم في الدنيا بصوم رمضان‪ ،‬لنه ل يطالب بالفرع‬
‫من لم يؤمن بالصببل‪ ،‬إنمببا يببدعى إلببى السببلم أول‪ ،‬فببإن شببرح اللببه‬
‫صدره له‪ ،‬طولب بأركانه وفرائضه بعد ذلك‪.‬‬
‫‪29‬‬

‫الصيام والبلوغ‬
‫ول يطالب غير البالغ بالصيام‪ ،‬لنه غير مكلف‪ ،‬وقببد رفببع القلببم عنببه‪،‬‬
‫كما في الحديث‪ " :‬رفع القلم عن ثلثة‪ :‬عببن المجنببون المغلببوب علببى‬
‫عقله حتى يبرأ‪ ،‬وعن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن الصبببي حببتى يحتلببم"‬
‫)رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمببة وابببن حبببان والحبباكم والببدارقطني‬
‫عن على وعمببر‪ .‬وصببححه غيببر واحببد‪ .‬وانظببر‪ :‬صببحيح الجببامع الصببغير‬
‫‪.(3514 - 3512‬‬

‫ورفع القلببم‪ :‬كنايببة عببن سببقوط التكليببف‪ ،‬ومعنببى )يحتلببم(‪ :‬أي يبلببغ‬
‫الحلم وهببذا بالنسبببة للغلم الببذي يعببرف بلبوغه ببالحتلم ونحببوه مبن‬
‫العلمات الطبيعية التي تدل على أنببه تجبباوز مرحلببة الطفولببة‪ ،‬ودخببل‬
‫في طور آخر‪.‬‬
‫وأمببا الفتبباة‪ ،‬فيعببرف بلوغهببا بببالحيض‪ ،‬الببذي يؤهلهببا لحيبباة الزوجيببة‬
‫والمومة‪.‬‬
‫ما‪.‬‬
‫وأما البلوغ بالسن‪ ،‬فهو خمسة عشر عا ً‬
‫فمن تأخر عنده الحتلم‪ ،‬أو تأخر عندها الحيض‪ ،‬فبلوغه يكون بالسن‪.‬‬

‫تدريب الناشئة على الصيام‬


‫ولكن هل يترك الصبي والصبية ول يطالبان بالصوم إل بعببد بلببوغ سببن‬
‫التكليف؟‪.‬‬
‫ل‪ ..‬فإن تعاليم الشرع تأمر بتدريب هؤلء الناشببئة علببى أداء الفببرائض‬
‫ابتداء من استكمال السابعة من العمر‪.‬‬
‫وفي هذا قال رسول الله صلى اللببه عليببه وسببلم‪ ،‬فببي شببأن الصببلة‪:‬‬
‫"مروا أولدكم بالصلة وهم أبنبباء سبببع‪ ،‬واضببربوهم عليهببا وهببم أبنبباء‬
‫عشر" )رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو‪ ،‬وحسنه في صحيح‬
‫الجامع ‪.(5868-‬‬

‫وفي حديث آخببر‪" :‬علمببوا الصبببي الصببلة ابببن سبببع سببنين‪ ،‬واضببربوه‬
‫عليهببا ابببن عشببر" )رواه أحمببد وأبببو داود والترمببذي وابببن خزيمببة‬
‫والطبراني والحاكم وغيرهم كما في الجامع الصغير ‪.(4025-‬‬
‫وذلك أن الخير عادة‪ ،‬والشر عادة‪ ،‬والمرء يشببيب علببى مببا شببب عليببه‪،‬‬
‫والتربية في الصغر كالنقش على الحجر‪ ،‬والشاعر يقول‪.:‬‬
‫وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه‪.‬‬
‫والحديث هنا جعل للتعلم والتأديب مرحلتين‪.:‬‬
‫مرحلة المر والتعليم والترغيب‪ ،‬وذلك بعد السابعة‪.‬‬
‫ومرحلة الضرب والتأديب والترهيب‪ ،‬وذلك بعد العاشرة‪.‬‬
‫أي أن الضرب لم يشرع إل بعد إعطاء البن فرصة ثلث سببنوات يببدعى‬
‫عببا‪،‬‬
‫ويرغب ويثاب‪ .‬وبعدها يكون الحزم والشدة والعقبباب المناسببب طب ً‬
‫‪30‬‬

‫إشعاًرا بالجدية وأن المر موضع اهتمام الب‪ ،‬وليس مجرد كلمة تقبال‪،‬‬
‫وليس بعدها حساب ول ثواب ول عقاب‪.‬‬

‫والضرب هنببا وسببيلة تمليهببا الضببرورة‪ ،‬والضببرورة تقببدر بقببدرها‪ ،‬فل‬


‫يكون بسوط ول بخشبه‪ ،‬يؤلم ول يجرح‪ ،‬وخيار الببباء ل يحتبباجون إلببى‬
‫ضرب أولدهم‪ ،‬بل يربون بالسوة والكلمة والموعظة الحسببنة‪ ،‬إقتببداء‬
‫برسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬الذي لم يضرب بيببده شببيًئا قببط‪ ،‬ل‬
‫دا‪ ،‬ول حتى دابة‪.‬‬‫ما ول ول ً‬
‫امرأة‪ ،‬ول خاد ً‬

‫ضا‬
‫وإذا كان الحديث الوارد في شأن الصلة‪ ،‬فهو ينطبق على الصيام أي ً‬
‫بفارق واحد‪ ،‬وهو مراعاة القببدرة البدنيببة للصبببي والصبببية‪ ،‬فقببد يبلببغ‬
‫السابعة أو العاشرة‪ ،‬ولكن جسبمه ضببعيف‪ ،‬ل يحتمببل الصبيام‪ ،‬فيمهببل‬
‫حتى يشتد عوده ويقوى‪.‬‬

‫وقد كان الصحابة يصومون صبيانهم وهم صغار‪ ،‬حتى كانوا يأتون لهببم‬
‫باللعب من العهن )أي الصوف( يلهونهم بها حتى يأتي وقت الفطار‪.‬‬

‫وليس من المطلوب أن يصوم الشهر مرة واحدة‪ ،‬فليس هببذا بمقببدور‪،‬‬


‫ول منطقي‪ ،‬وإنمببا يصببوم فببي أول سببنة يببومين أو ثلثببة مثل‪ ،‬والببتي‬
‫عا ثم أسبوعين‪ ،‬حتى يمكنببه بعببد ذلببك صببوم الشببهر‬ ‫بعدها يصوم أسبو ً‬
‫كله بهذا التدرج‪.‬‬
‫ومن الخطأ الذي يتحمل تبعته الببباء‪ ،‬والمهببات‪ ،‬إهمببال الصببغار حببتى‬
‫يبلغوا دون أن يدربوا على أداء الفرائض والطاعات‪ .‬فإذا أمروا بها بعببد‬
‫البلببوغ كببانت أثقببل مببن الجبببال علببى كببواهلهم‪ .‬ومببا أصببدق مببا قببال‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫وينفع الدب الولد في صغر وليس ينفع عند الشيبة الدب!‬
‫إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولن تلين إذا قومتها الخشب‬

‫الصيام والعقل‬
‫فا بالصوم‪ ،‬فغير العاقببل مببن ببباب أولببى‪،‬‬‫مكل ً‬
‫وإذا كان غير البالغ ليس ُ‬
‫لن خطاب الشارع إنما هببو مببوجه إلببى العقلء‪ ،‬وقببد رفببع القلببم عببن‬
‫المجنون حتى يفيق‪ .‬فمن كببان مببن ذوي الجنببون المطبببق‪ ،‬فل يتببوجه‬
‫إليه تكليف‪ ،‬ل بأمر ول بنهى‪ ،‬ول بعببادة‪ ،‬ول بمعاملبة‪ ،‬فقبد رفبع عنبه‬
‫القلم‪.‬‬

‫عا‪ ،‬فهو مكلف في المببدة الببتي يعببود إليببه فيهببا‬


‫ومن كان جنونه متقط ً‬
‫عقله فقط‪.‬‬
‫‪31‬‬

‫وألحق بعض الفقهاء به من يعتريه إغماء أو غيبوبة مرضية‪ ،‬يفقد فيهببا‬


‫وعيه مدة تقصر أو تطببول‪ ،‬فهببو خلل غيبببوبته غيببر مكلببف بصببلة ول‬
‫صيام‪.‬‬

‫فإذا أفاق بعد أيام من إغمائه وغيبببوبته‪ ،‬فليببس عليببه أن يقضببي تلببك‬
‫اليام الماضية‪ ،‬لنه كان فيها غير أهل للتكليف‪.‬‬
‫وبعضهم رأى أن عليه قضاء ما فبباته أثنبباء الغمبباء‪ ،‬أو الغيبوبببة‪ ،‬معلل ً‬
‫ذلك بأن الغماء مرض‪ ،‬وهو مغط للعقل غير رافع للتكليف‪ ،‬ول تطببول‬
‫مدته‪ ،‬ول تثبت الولية على صاحبه‪ ،‬ويدخل على النبياء عليهبم الصبلة‬
‫والسلم )انظر‪ :‬المبدع من شبرح المقنبع مبن كتبب الحنابلبة ‪18 / 3-‬‬
‫والمجموع شرح المهذب من كتب الشافعية ‪.(254/6-‬‬

‫ورأيي أن هذا مسّلم في الغماء القصير الذي يستغرق يوما أو يومين‪،‬‬


‫أو نحو ذلك‪ ،‬أما الغيبوبة الطويلة التي عرفها الناس في عصرنا‪ ،‬والتي‬
‫صببا مببع أجهببزة النعبباش‬
‫قد تمتد إلى شهر أو أشهر أو سببنين ! وخصو ً‬
‫الصناعي‪ ،‬فهذه أشبه بحالة الجنون‪ ،‬الرافع للتكليف في حالببة وجببوده‪،‬‬
‫وتكليف مغّيب الوعي هنا بالقضاء فيه حرج عليبه‪ ،‬ومبا جعبل اللبه فبي‬
‫الدين من حرج‪.‬‬

‫وقد تعرض لذلك العلمة ابن رشد في )بداية المجتهد( فقال‪) :‬وفقهاء‬
‫مى عليه‪ .‬واختلفببوا فببي‬
‫مغ َ‬
‫المصار على وجوبه ‪ -‬أي‪ :‬القضاء ‪ -‬على ال ُ‬
‫المجنون‪ ،‬ومذهب مالك‪ :‬وجوب القضاء عليه‪ ،‬وفيه ضببعف لقبوله عليببه‬
‫الصلة والسلم‪" :‬وعن المجنون حتى يفيق"‪.‬‬

‫والببذين أوجبببوا عليهمببا القضبباء اختلفببوا فببي كببون الغمبباء والجنببون‬


‫دا للصوم‪ ،‬فقوم قالوا‪ :‬إنه مفسببد‪ ،‬وقببوم قببالوا‪ :‬ليببس بمفسببد‪،‬‬ ‫مفس ً‬
‫وقوم فرقوا بين أن يكون أغمى عليه بعد الفجر‪ ،‬أو قبل الفجر‪ .‬وقوم‬
‫قالوا‪ :‬إن ُأغمي عليه بعد مضي أكثر النهار أجزأه‪ ،‬وإن أغمي عليه فبي‬
‫أول النهار قضى‪ ،‬وهو مذهب مالك‪ ،‬وهذا كله فيه ضعف‪ ،‬فإن الغمبباء‬
‫والجنون صفة يرتفع بها التكليف وبخاصة الجنون‪ ،‬وإذا ارتفع التكليببف‬
‫لببم يوصببف بمفطببر ول صببائم‪ ،‬فكيببف يقببال فببي الصببفة الببتي ترفببع‬
‫التكليف‪ :‬إنها مبطلة للصوم؟ إل كما يقال في الميت أو فيمن ل يصببح‬
‫منه العمل‪ ،‬إنه قد بطل صببومه وعملببه( )بدايببة المجتهببد مببع تخريجهببا‬
‫الهداية ‪.(176/5،177‬‬
‫أصحاب العذار‬
‫العذار في الصوم أنواع‪ ،‬ولكل منها حكمه‬
‫فهناك عذر يوجب الفطر‪ ،‬ويحرم معه الصوم‪ ،‬ولو صام صاحبه ل يصببح‬
‫صومه‪ ،‬ويجب عليه القضاء ولبد‪ ،‬وهذا ثابت بالجماع‪.‬‬
‫‪32‬‬

‫وذلك هو العذر المتعلق بالمرأة‪ ،‬وهو الحيض والنفاس‪.‬‬

‫وهناك عذر يجيز لصاحبه الفطر‪ ،‬وقد يجب في بعببض الحببوال‪ ،‬ويجببب‬
‫عليه القضاء وذلك هو عببذر المببرض والسببفر‪ ،‬المنصببوص عليهمببا فببي‬
‫كتاب الله‪.‬‬

‫وهناك عذر يجيز لصاحبه الفطر‪ ،‬وقببد يببوجبه‪ ،‬ول قضبباء عليببه‪ ،‬وعليببه‬
‫الطعام عند الجمهور‪ ،‬وذلك هو عببذر الشببيخ الكبببير‪ ،‬والمببرأة العجببوز‪،‬‬
‫ومن في حكمهما من كل ذي مرض ل يرجى برؤه‪.‬‬

‫وهناك عذر اختلف الفقهاء فببي تكييفببه‪ ،‬أيلحببق بببالمريض‪ ،‬أو بالشببيخ‬
‫الكبير‪ ،‬أم أن له حكمه الخاص؟ وذلك هو عذر الحامل والمرضع‪.‬‬

‫وهنبباك عببذر مببن يشببق عليببه الصببوم لطبيعببة عملببه‪ ،‬كعمببال المنبباجم‬
‫ونحوهم‪ .‬أما الحائض والنفساء فقد تكلمنا عليهما في )باب مببن يجببب‬
‫عليه الصوم(‪.‬‬

‫وأما الخرون فنفرد حديًثا لكل منهم‪:‬‬

‫المسافر والصيام‬ ‫•‬


‫حكم إفطار المريض‬ ‫•‬
‫إفطار الكبير والحامل والمرضع‬ ‫•‬

‫المسافر والصيام‬

‫)كان من المفروض أن أبدأ بالمريض‪ ،‬كما بدأ به القرآن‪ ،‬ولكن أخرتببه‪،‬‬


‫ليتصل بالشيخ الكبير والمريض الميئوس منه‪ ،‬فهما نوع من المرضى(‪.‬‬

‫السفر والتنقل جزء من حياة النسان‪ ،‬قلما يسببتغنى عنببه النبباس فبي‬
‫بدو أو حضر‪ .‬وللنسان من وراء السفر حاجات وأغراض دينية ودنيوية‪،‬‬
‫فردية‪ ،‬واجتماعية‪ .‬فهو يسافر لطلب العلببم‪ ،‬ولطلببب الببرزق‪ ،‬ولطلببب‬
‫المن‪ ،‬ولطلب الشفاء‪ ،‬ولطلب الثواب بالحج أو العمرة‪ ،‬أو الجهاد‪ ،‬كما‬
‫يسافر لغراض علمية واجتماعيببة مثببل زيببارة القببارب والصببدقاء‪ ،‬أو‬
‫التعببرف علببى معببالم البلببدان الخببرى‪ ،‬والمشبباركة فببي نببدوات أو‬
‫مؤتمرات‪ ،‬وقد يكببون السببفر لمجببرد ترويببح النفببس بعببد عنبباء العمببل‬
‫الطويل‪ ،‬وكل هذا مشروع‪ ،‬ول حرج فيه‪.‬‬

‫مببا‪ ،‬تقببوم علببى التيسببير‬


‫لهببذا عنببي السببلم بالسببفر وجعببل لببه أحكا ً‬
‫صا وأحكامببا شببتى‪ ،‬فببي الطهببارة‬ ‫والتخفيف عن المسافر وتضع له رخ ً‬
‫‪33‬‬

‫والصببلة والصببيام والزكبباة )فببإن مصببرف" ابببن السبببيل" للمسببافر‬


‫المنقطع عن وطنه وماله‪ ،‬وإن كان غنًيا في بلده‪.‬‬

‫شرعية الفطر للمسافر‬


‫ومببن الرخببص الببتي شببرعها السببلم للمسببافر‪ :‬رخصببة الفطببر فببي‬
‫الصيام‪ ،‬وهي ثابتة بالقرآن والسنة والجماع‪.‬‬
‫ففي القرآن‪ :‬قال الله تعالى‪) :‬فمن شهد منكم الشهر فليصببمه ومببن‬
‫ضا أو على سفر فعدة من أيام أخبر يريببد اللبه بكبم اليسبر ول‬
‫كان مري ً‬
‫يريد بكم العسر(‪.‬‬

‫وقد أعاد الله تعالى في هذه الية مبا ذكبره فبي اليبة السببابقة‪ ،‬البتي‬
‫كانت تمثل مرحلة في التشريع ثم نسخت‪) :‬فمببن شببهد منكببم الشببهر‬
‫ضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الببذين‬ ‫فليصمه ومن كان مري ً‬
‫يطيقونه فدية طعام مسكين(‪ .‬وذلك ليؤكد بقبباء هببذا الحكببم‪ ،‬وأنببه لببم‬
‫ينسخ كما نسخ حكم التخيير بين الصوم والفطر مع الفدية‪.‬‬

‫أكد القرآن أن المريض والمسافر يفطران ويقضيان عدة من أيام أخر‪،‬‬


‫بعدد اليام التي أفطراها‪.‬‬
‫وجاءت السنة فأكدت هذا الحكم قول ً وعمل ً وتقريًرا‪.‬‬

‫ففي الصحيحين‪ :‬عن عائشة أن حمزة بن عمرو السببلمي قببال للنبببي‬


‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬أأصوم في السفر؟ ‪-‬وكان كثير الصيام‪ -‬فقببال‪:‬‬
‫" إن شئت فصم‪ ،‬وإن شئت فأفطر" )متفق عليببه‪ ،‬اللؤلببؤ والمرجببان ‪-‬‬
‫‪.(684‬‬

‫وفي رواية لمسلم‪ :‬أنه قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أجد مني قوة على الصببوم‬
‫في السفر فهل علي جناح؟ فقال‪ " :‬هي رخصة من الله تعببالى‪ ،‬فمببن‬
‫أخذ بها فحسن‪ ،‬ومن أحب أن يصوم فل جنبباح عليببه" )الحببديث ‪1121-‬‬
‫عن صحيح مسلم‪ -‬كتاب الصوم(‪ .‬وهو قوي الدللة على فضيلة الفطر‬

‫وعن ابن عباس‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬خببرج إلببى مكببة‬
‫في رمضان‪ ،‬فصام حتى بلغ الكديد‪ ،‬أفطر‪ ،‬فأفطر الناس )متفق عليه‪،‬‬
‫اللؤلؤ والمرجان‪.(680-‬‬

‫وعن أبي الدرداء‪ :‬خرجنا مع النبي صببلى اللببه عليببه وسببلم فببي بعببض‬
‫أسفاره‪ ،‬في يوم حار‪ ،‬حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحببر‪،‬‬
‫وما فينا صائم‪ ،‬إل ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وابن رواحة‬
‫)متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(685-‬‬
‫‪34‬‬

‫وعن أنس بن مالك‪ :‬كنا نسافر مع النبي صببلى اللببه عليببه وسببلم فلببم‬
‫يعب الصببائم علببى المفطببر‪ .‬ول المفطببر علببى الصببائم )متفببق عليببه‪،‬‬
‫المصدر السابق‪ .(682-‬إلى غير ذلببك مببن الحبباديث الكببثيرة‪ ،‬وسببيأتي‬
‫بعضها في مناسبته‪.‬‬

‫وأجمعت المة بكل مذاهبها على شرعية الفطر للمسافر‪.‬‬


‫حتى ذكر المام ابن تيمية‪ :‬أن من أنكر الفطر للمسببافر يسببتتاب‪ ،‬وإل‬
‫حكم عليه بالردة‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض الصحابة والتابعين إلى وجوب الفطار في السفر‪ ،‬وأن‬
‫مببن صببام ل يجببزئه الصببيام‪ ،‬وعليببه القضبباء‪ ،‬وهببو مببذهب الظاهريببة‪،‬‬
‫واستدلوا بظاهر قوله تعالى‪) :‬فعدة من أيام أخر( فدل على أن قضبباء‬
‫أيام أخر واجب عليه ل محالة‪ ،‬والجمهببور تببأولوه بببأن المببراد‪ :‬فببأفطر‬
‫فعليه عدة من أيببام أخببر‪ .‬والسببنة القوليببة والعمليببة والتقريريببة تببدل‬
‫ضا بقوله صببلى‬ ‫عليه‪ ،‬وفيما ذكرناه من الحاديث ما يكفي )واستدلوا أي ً‬
‫الله عليه وسلم في شأن بعض الصببحابة الببذين صبباموا فببي السببفر‪" :‬‬
‫أولئك العصاة "‪ .‬وأجاب الجمهور بأنه إنمببا نسبببهم إلببى العصببيان لنببه‬
‫عزم عليهم وشدد فخالفوا‪.‬‬

‫واستدلوا كذلك بحديث‪ " :‬ليس من البر الصوم في السفر"‪.‬‬


‫وأجاب الجمهور بأنه قال ذلك في حق من شق عليه الصوم‪ ،‬حتى كانوا‬
‫يظللون عليه وإذا قيل‪ :‬إن العبببرة بعمببوم اللفببظ ل بخصببوص السبببب‬
‫فقد قال المام ابببن دقيببق العيببد‪ :‬ينبغببي أن يتنبببه للفببرق بيببن دللببة‬
‫السبب والسياق والقرائن على تخصببيص العببام وعلببى مببراد المتكلببم‪،‬‬
‫حا‪،‬‬ ‫وبين مجرد ورود العام على سبب‪ ،‬فببإن بيببن المقببامين فر ً‬
‫قببا واضب ً‬
‫دا لم يصب‪ ،‬فإن مجرد ورود العام على سبببب‬ ‫ومن أجراهما مجرى واح ً‬
‫ل يقتضي التخصيص به‪ ،‬كنببزول آيببة السببرقة فببي قصببة رداء صببفوان‬
‫‪-‬نيل الوطار ‪ .307 - 305 / 4‬وانظر‪ :‬الحكام شرح عمدة الحكام(‪.‬‬

‫السفر بالوسائل ل يسقط الرخص الشرعية‬


‫والسفر بالقطارات والسفن البخارية‪ ،‬والطائرات ونحوها من الوسائل‬
‫المريحة في عصببرنا ل يسببقط الرخصببة الببتي جبباء بهببا الشببرع‪ ،‬فهببي‬
‫صدقة تصدق الله بها علينا فل يليق بنا أن نرفضها‪.‬‬

‫وقد تفلسف بعض الناس‪ ،‬البعيدين عن الفقه‪ ،‬وزعموا أن السفر الن‪،‬‬


‫غيببر السببفر فببي الماضببي‪ ،‬فلببم يعببد سببيًرا علببى القببدام‪ ،‬ول ركوب ًببا‬
‫عا للفيافي‪ ،‬فل مبرر للرخص المرتبة علببى هببذا النببوع‬ ‫للجمال‪ ،‬ول قط ً‬
‫من السفر‪.‬‬
‫صا في أمور العبادات‪ -‬ل تبطل‬ ‫ونسي هؤلء أن الحكام الثابتة ‪ -‬وخصو ً‬
‫بالرأي المجرد‪.‬‬
‫‪35‬‬

‫وقببد ربطببت نصببوص الشببرع رخصببة الفطببار‪ -‬كغيرهببا‪ -‬بببأمر ظبباهر‬


‫منضبببط‪ ،‬وهببو السببفر ولببم تربطببه بالمشببقة‪ ،‬لنهببا غيببر ظبباهرة ول‬
‫منضبطة‪.‬‬

‫على أن السفر‪-‬أيا كانت وسيلته‪ -‬ل يخلو من نوع مشقة‪ ،‬والنسببان إذا‬
‫لم يكن في داره ومحل إقامته واستقراره‪ ،‬ل يخلو من قلق ومعاناة‪.‬‬
‫وللسفر فببي عصببرنا متبباعب أخببرى‪ -‬عصبببية ونفسببية‪ -‬يعرفهببا الببذين‬
‫يعانون السفار‪ ،‬فليست المشقة البدنية هي كل شيء‪.‬‬

‫وفي فتاوى شيخ السلم ابن تيمية‬


‫)يجوز الفطر للمسافر باتفاق المة‪ ،‬سواء كان قادًرا علببى الصببيام‪ ،‬أو‬
‫عاجًزا‪ ،‬وسواء شق عليه الصيام أو لم يشببق‪ ،‬بحيببث لببو كببان مسببافًرا‪،‬‬
‫في الظل والماء ومعه من يخدمه‪ ،‬جبباز لببه الفطببر والقصببر( )مجمببوع‬
‫فتاوى ابن تيميه )‪.(210/ 25‬‬

‫مسافة السفر ومتى يفطر المسافر؟‬


‫اختلببف الفقهبباء فببي مقببدار السببفر الببذي يببوجب الرخببص للمسببلم‬
‫المسافر‪ ،‬ومنها‪ :‬الفطر في الصيام‪ ،‬ومتى يفطر‪ :‬من مجاوزة عمببران‬
‫البلد‪ ،‬أم من منببزل المسببافر نفسببه؟ وهببل يفطببر وإن كببان قببد نببوى‬
‫الصيام وسافر بعد الفجر؟‪.‬‬

‫والمشهور في فقه المذاهب الن أن مسافة السببفر نحببو )‪ ،80‬أو ‪(90‬‬


‫كيلو متًرا‪ .‬وأنه ل يفطر حتى يجاوز مساكن البلدة‪.‬‬
‫ولكن ابن القيم يقول في )زاد المعاد(‪) :‬ولم يكن من هديه صببلى اللببه‬
‫عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد‪ ،‬ول صببح عنببه‬
‫في ذلك شيء‪ ،‬وقببد أفطببر دحيببة بببن خليفببة الكلبببي فبي سبفر ثلثبة‬
‫أميال‪ ،‬وقال لمن صام‪ :‬قد رغبوا عن هدى محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫)أخرجه أبو داود ‪ ،2413-‬وفي سنده منصور بن سعيد الكلبي راويه عن‬
‫دحية وهو مجهول(‪.‬‬

‫وكان الصحابة حين ينشئون السفر‪ ،‬يفطرون من غيببر اعتبببار مجبباوزة‬


‫البيوت‪ ،‬ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم‪ ،‬كما قببال‬
‫عبيد بن جبر‪ :‬ركبت مع أبي بصرة الغفاري صبباحب رسببول اللببه صببلى‬
‫الله عليه وسلم في سفينة مببن الفسببطاط فببي رمضببان‪ ،‬فلببم يجبباوز‬
‫البيوت حتى دعا بالسفرة‪ .‬قال‪ :‬اقببترب‪ .‬قلببت‪ :‬ألسببت تببرى البببيوت ؟‬
‫قال أبو بصرة ‪:‬أترغب عن سنة رسول اللببه صببلى اللببه عليببه وسببلم ؟‬
‫رواه أبو داود وأحمد )أخرجببه أبببو داود ‪ 2412-‬فببي الصببوم‪ :‬ببباب مببتى‬
‫يفطر المسافر إذا خرج‪ ،‬وأحمببد ‪ ،398 / 6-‬والبببيهقي ‪ ،346/4-‬وفببي‬
‫‪36‬‬

‫سنده كليب بببن ذهببل الحضببرمي وهببو مجهببول‪ ،‬وببباقي رجبباله ثقببات‪،‬‬
‫ويشهد له حديث أنس التي فيتقوى به(‪.‬‬

‫ولفظ أحمد‪ :‬ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلببى السببكندرية فببي‬


‫سفينة‪ ،‬فلما دنونا من مرساها‪ ،‬أمر بسفرته‪ ،‬فقربببت ثببم دعبباني إلببى‬
‫الغذاء‪ ،‬وذلك في رمضان‪ ،‬فقلببت‪ :‬يببا أبببا بصببرة‪ ،‬واللببه مببا تغيبببت عنببا‬
‫منازلنا بعد؟ قال‪ :‬أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسببلم ؟‬
‫فقلت‪ :‬ل قال‪ :‬فكل‪ .‬قال‪ :‬فلم نزل مفطرين حتى بلغنا‪.‬‬

‫وقال محمد بن كعب‪ :‬أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سببفًرا‪،‬‬
‫وقد رحلت له راحلته وقد لبس ثياب السفر‪ ،‬فدعا بطعام فأكل‪ ،‬فقلت‬
‫لببه‪ :‬سببنة؟ قببال‪ :‬سببنة‪ ،‬ثببم ركببب )أخرجببه الترمببذي‪ 799 -‬و ‪ 800‬فببي‬
‫الصوم‪ :‬باب من أكل ثم خرج يريد سفًرا‪ ،‬والدارقطني ‪188 ،187 / 2-‬‬
‫والبيهقي ‪ ،246/4-‬وإسناده قوي‪ ،‬وحسنه الترمذي وغير واحببد‪ ،‬ويشببه‬
‫له حديث أبي بصرة المتقببدم وحببديث دحيببة بببن خليفببة عنببد أبببي داود‬
‫ضا‪ ،‬وهو حسن في الشواهد(‪ .‬قال الترمذي‪ :‬حببديث‬ ‫وأحمد وقد تقدم أي ً‬
‫حسن( )زاد المعاد‪ ،‬ط‪ .‬مؤسسة الرسالة ‪.(56 ،55 / 2-‬ا هب‪.‬‬

‫وقال شيخ السلم ابن تيميه في )الفتاوي(‪:‬‬


‫)وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه‪ ،‬ويفطر‪ ،‬فمذهب مالك والشببافعي‬
‫وأحمد‪ :‬أنه مسيرة يببومين قاصببدين بسببير البببل والقببدام‪ ،‬وهببو سببتة‬
‫خا‪ ،‬كما بين مكة وعسفان ومكببة وجببدة‪ ،‬وقببال أبببو حنيفببة‪:‬‬ ‫عشر فرس ً‬
‫مسيرة ثلثة أيام‪ .‬وقال طائفة من السلف والخلف‪ :‬بل يقصر ويفطببر‬
‫في أقل من يومين‪ ،‬وهذا قول قوي‪ ،‬فإنه قد ثبت أن النبي صلى اللببه‬
‫عليه وسلم كان يصلي بعرفة‪ ،‬ومزدلفة‪ ،‬ومنى‪ ،‬يقصر الصببلة‪ ،‬وخلفببه‬
‫دا منهم بإتمام الصلة‪.‬‬ ‫أهل مكة وغيرهم يصلون بصلته‪ ،‬لم يأمر أح ً‬
‫وإذا سافر في أثناء يوم‪ ،‬فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشببهورين‬
‫للعلماء‪ ،‬هما روايتان عن أحمد‪.‬‬

‫أظهرهما‪ :‬أنه يجوز ذلك‪ ،‬كما ثبت في السنن أن من الصحابة مببن كببان‬
‫يفطر إذا خرج من يومه‪ ،‬ويببذكر أن ذلببك سببنة النبببي صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم ‪ .‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نببوى‬
‫الصوم في السفر‪ ،‬ثم إنه دعا بماء فأفطر‪ ،‬والناس ينظرون إليه‪.‬‬

‫وأما اليوم الثاني‪ :‬فيفطر فيه بل ريب‪ ،‬وإن كان مقدار سببفره يببومين‬
‫في مذهب جمهور الئمة والمة‪.‬‬
‫وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم‪ ،‬ففي وجوب المسبباك عليببه نببزاع‬
‫مشهور بين العلماء‪ ،‬لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك‪.‬‬
‫‪37‬‬

‫ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه‪ ،‬كالتاجر الجلب الذي‬
‫يجلب الطعام‪ ،‬وغيره مببن السببلع‪ ،‬وكالمكبباري الببذي يكببري دوابببه مببن‬
‫الجلب‪ ،‬وغيرهببم‪ ،‬وكالبريببد الببذي يسببافر فببي مصببالح المسببلمين‪،‬‬
‫ونحوهم‪ ..‬وكذلك الملح الذي له مكان في البر يسكنه‪.‬‬
‫فأما مببن كببان معببه فببي السببفينة امرأتببه‪ ،‬وجميببع مصببالحه‪ ،‬ول يببزال‬
‫مسافًرا فهذا ل يقصر ول يفطر‪) ...‬فتاوى شيخ السلم ابن تيمية ‪25-‬‬
‫‪.(213 - 211 /‬ا‪.‬هب‪.‬‬

‫أيهما أفضل للمسافر‪ :‬الصوم أم الفطر؟‬


‫وقد اختلف الجمهور‪ :‬أي المرين أفضل للمسافر‪ :‬الصوم أم الفطر؟‪.‬‬
‫فمنهببم مببن قببال‪ :‬الصببوم أفضببل‪ ،‬وهببو مببذهب أبببي حنيفببة ومالببك‬
‫والشافعي‪ ،‬وهذا لمن قوي عليه ولم يشق عليه‪.‬‬
‫وحجتهم‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬كان يصببوم فببي السببفر‪ ،‬ول‬
‫يأخذ لنفسه إل بما هو الفضببل‪ ،‬ولن المببرء قببد يتغافببل عببن قضببائه‪،‬‬
‫فيدركه الجل ولم تبرأ ذمته‪ ،‬وأخطببأ مببن اسببتدل بقببوله تعببالى‪) :‬وأن‬
‫تصوموا خير لكم( لنه وضع للدليل في غير موضعه‪.‬‬
‫وقال الوزاعي وأحمد وإسحاق‪ :‬الفطر أفضببل‪ ،‬عمل ً بالرخصببة‪ ،‬واللببه‬
‫يحب أن تؤتى رخصه‪ ،‬ولقوله في بعض الروايات‪ " :‬عليكم برخصة اللببه‬
‫التي رخص لكم" وفي قصة حمزة السلمي‪" :‬مببن أفطببر فهببو حسببن‪،‬‬
‫ومن أحب أن يصوم فل جناح عليه" وبين التعبيرين فرق‪.‬‬

‫وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة‪ :‬أفضلهما أيسرهما عليه‪.‬‬


‫وهو قول وجيه‪ ،‬واختاره ابن المنذر‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬هببو مخيببر بيببن الصببوم والفطببر‪ ،‬وهمببا فببي حقببه‬
‫سواء‪.‬‬
‫ولعل ما يؤيد ذلك ما رواه أبو داود والحاكم‪ ،‬عن حمببزة السببلمي‪ ،‬أنببه‬
‫قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إني صاحب ظهببر‪ ،‬أعببالجه‪ ،‬أسببافر عليببه‪ ،‬وأكريببه‪،‬‬
‫وربما صادفني هذا ‪ -‬يعني رمضان ‪ -‬وأنا أجد القوة‪ ،‬وأجدني أن أصببوم‬
‫أهون على من أن أؤخره‪ ،‬فيكون دينا فقال‪ :‬أي ذلك شئت‪.‬‬

‫تمحيص وترجيح‬
‫والذي أرجحه هو ما قاله الخليفة الرائد عمر بن عبد العزيز‪ :‬لن النبببي‬
‫صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إل اختار أيسرهما‪.‬‬
‫فمن كان يسهل عليه الصيام‪ .‬والناس صائمون‪ ،‬ويشق عليه أن يقضي‬
‫بعد ذلك‪ ،‬حيث يصوم والناس مفطرون‪ ،‬فالصوم في حقه أفضل‪ ،‬ومن‬
‫شق عليه الصيام الن كالمسببافر فببي البببر‪ ،‬ونحببو ذلببك‪ ،‬وسببهل عليببه‬
‫القضاء‪ ،‬فالفطر له أفضل‪.‬‬
‫ولكببن أرى أن هنبباك اعتبببارات ترجببح أفضببلية الصببوم‪ ،‬وأخببرى ترجببح‬
‫أفضلية الفطر‪ ،‬ول بأس أن نوضحها لما للسفر من أهمية في عصرنا‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫متى يترجح الصوم‬


‫أمببا أفضببلية الصببوم فتترجببح لمببن يخبباف علببى نفسببه التشبباغل عببن‬
‫القضاء‪ ،‬أو الكسل عنه‪ ،‬فالحوط له أن يصوم‪ ،‬عمل ً بالعزيمة‪ ،‬بالنسبببة‬
‫للمسافر المستريح الذي ل يجد عنًتا ول مشقة في سفره‪ ،‬ككببثير مببن‬
‫السفر بالطائرة اليوم‪ ،‬التي ل تصادفها متاعب‪.‬‬
‫وكذلك بالنسبة للمقيم في بلد أثناء السفر‪ ،‬وإن اعتبر مسافًرا‪ ،‬ما لببم‬
‫يكن قائما بأعمال تجهده‪.‬‬

‫ضا السفر المختلف فيه‪ ،‬كأن يكون سفًرا دون المسافة التي قدرها‬ ‫وأي ً‬
‫الجمهور‪ ،‬وقدرت بنحو )‪ 90‬كيلببو مببترا(‪ ،‬فمببن سببافر لقببل مبن ذلببك‪،‬‬
‫يحسن به أل يفطر‪ ،‬ومثله في الغببالب ل يطلببق عليببه اسببم )مسببافر(‪.‬‬
‫ومثل ذلك الذي حرفته السفر‪ ،‬أو تقتضي السفر باسببتمرار‪ ،‬كالطيببار‪،‬‬
‫ومضيف الطائرة‪ ،‬وربان الباخرة )السفينة( وملحيهببا‪ ،‬وسببائق سببيارة‬
‫الجرة‪) ،‬التاكسي( فهؤلء وإن جاز لهم الفطببر‪ ،‬بوصببفهم مسببافرين‪،‬‬
‫يفضل لهم أن يصبوموا إذا لبم يشبق عليهبم‪ ،‬فربمبا ل يتيسبر لهبم أن‬
‫يصوموا‪.‬‬

‫متى يكون الفطر في السفر أفضل؟‬


‫هناك اعتبارات ترجح أفضلية الفطر للمسافر‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون في الصوم مشقة شببديدة‪ ،‬وذلببك مثببل الببذي يسببافر عببن‬
‫طريق البر في الصيف ويتعرض للفح الهجيببر‪ ،‬وكببذلك المسببافر الببذي‬
‫يركب الطائرة مسافًرا مبن الشببرق إلبى الغببرب‪ ،‬فيطببول عليببه اليببوم‬
‫دا لختلف التوقيت وطول اليوم هناك‪.‬‬ ‫كثيًرا ج ً‬
‫فالصوم في هذه الحالة يكره‪ ،‬وربمببا حببرم إذا زادت المشببقة إلببى حببد‬
‫يضر بالصائم‪.‬‬
‫وفي هذا جاء الحديث الصحيح الذي رواه جابر بن عبببد اللببه قببال‪ :‬كببان‬
‫مببا‪ ،‬ورجل ً قببد‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم فببي سببفر‪ ،‬فببرأى زحا ً‬
‫ظلل عليه‪ ،‬فقال‪ " :‬ما هذا ؟ فقالوا‪ :‬صببائم! فقببال‪ " :‬ليببس مببن البببر‬
‫الصوم في السفر" )متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(681-‬‬

‫ولفظ الحديث إذا أخذ على عمومه يفيد نفي البر عببن الصببوم فببي أي‬
‫مببا‪ ،‬ولكببن سبببب الحببديث وسببياقه‪ ،‬وجملببة‬
‫سفر‪ ،‬وهو يعني أن فيببه إث ً‬
‫الحاديث الخرى في الموضوع تدل على أن المراد هو هببذا النببوع مببن‬
‫السفر الذي يشق فيه الصيام مشقة بالغة فليس من البر الصببوم فببي‬
‫مثله‪.‬‬
‫‪39‬‬

‫‪ - 2‬أن يكون المسافر في جماعة تحتاج إلى خدمات ومسبباعدات بدنيببة‬


‫واجتماعية‪ ،‬يعوق الصوم كلًيا أو جزئي ًببا عببن القيببام بهببا‪ ،‬فيسببتأثر بهببا‬
‫المفطرون‪ ،‬ويحرم من مثوبتها الصائمون‪.‬‬
‫فالولى هنا الفطر للمسببافر ليشببارك إخببوانه فببي الخدمببة‪ ،‬ول يكببون‬
‫عبًئا أو عالة عليهم‪.‬‬
‫وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس قال‪ :‬كنا مع النبي صلى اللببه‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فمنا الصائم‪ ،‬ومنا المفطببر‪ ،‬فنزلنببا منببزل ً فببي يببوم حببار‪،‬‬
‫أكثرنا ظل ً صاحب الكساء )يعني الذي يستظل بكسائه( ومنا من يتقببي‬
‫وم‪ ،‬وقام المفطرون‪ ،‬فضببربوا البنيببة‬ ‫ص ّ‬
‫الشمس بيده‪ ،‬قال‪ :‬فسقط ال ُ‬
‫)أي نصبوا الخيام( وسقوا الركاب‪.‬‬

‫وفي رواية‪ :‬وأما الذين صاموا فلم يعملببوا شببيًئا‪ ،‬وأمببا الببذين أفطببروا‬
‫فبعثوا الركاب‪ ،‬وامتهنوا وعالجوا‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليببه وسببلم‪:‬‬
‫" ذهب المفطرون اليوم بالجر" )متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(683-‬‬

‫وإنما ذهبوا بالجر وحببدهم‪ ،‬لنهببم هببم الببذين قبباموا بخدمببة إخببوانهم‬
‫لنشاطهم وقببوتهم‪ ،‬فبعثببوا الركبباب‪ ،‬أي إبببل الركببوب الببتي حملتهببم‪،‬‬
‫فأرسلوها إلى المبباء للسببقي ونحببوه‪ ،‬ومعنببى )امتهنببوا وعببالجوا(‪ :‬أي‬
‫استخدموا أنفسهم في المهنة والخدمة من التنظيف والطهي ومعالجة‬
‫ما يحتاجون إليه من الزاد والشبراب‪ ،‬ويحتباج إليبه دوابهبم مبن العلبف‬
‫والماء‪.‬‬

‫‪ - 3‬أن يكون في الفطار تعليم للسنة‪ ،‬وتعريف بالرخصة‪ ،‬كببأن ينتشببر‬


‫بين بعض الناس‪ :‬أن الفطر في السفر ل يجوز‪ ،‬أو ل يليق بأهل الدين‪،‬‬
‫وينكرون على من أفطببر فببي السببفر‪ ،‬فيكببون الفطببار حينئذ أفضببل‪،‬‬
‫صا ممن يقتدى به ويؤخذ عنه من أهل العلم والصلح‪ .‬بل يتعيببن‬ ‫وخصو ً‬
‫هنا الفطار‪ ،‬قال ابن كثير‪.:‬‬

‫)إن رغب عن السنة‪ ،‬ورأى أن الفطبر مكبروه إليببه‪ ،‬فهبذا يتعيبن عليببه‬
‫الفطار‪ ،‬ويحرم عليه الصيام‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬كما جاء فببي مسببند المببام‬
‫أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما‪ " :‬من لببم يقبببل رخصببة اللببه‬
‫كان عليه من الثم مثل جبال عرفة" )تفسير ابن كثير ‪.(217 / 1-‬ا‪.‬هب‪.‬‬

‫ضا لحديث‪ " :‬من رغب عن سنتي فليس منببي" )رواه البخبباري عببن‬ ‫وأي ً‬
‫أنس(‪.‬‬
‫ذلببك أن مببن الببواجب أن تظببل مراتببب العمببال وأحكامهببا الشببرعية‬
‫محفوظة بأوضبباعها ودرجاتهببا‪ ،‬كمببا جبباء بهببا الشببرع‪ ،‬فيظببل الفببرض‬
‫ضا‪ ،‬والمندوب مندوًبا والعزيمة عزيمة‪ ،‬والرخصة رخصة‪.‬‬ ‫فر ً‬
‫‪40‬‬

‫ضبا أو العكببس‪ ،‬كمببا ل يجببوز أن‬ ‫ول يجوز أن يعتقد الناس المنببدوب فر ً‬
‫يعتبروا الرخصة ممنوعة‪ ،‬أو واجبة‪ ،‬وإذا حدث شيء منهببا‪ ،‬فعلببى أهببل‬
‫العلم أن يعالجوه بالعلم والعمل‪ ،‬والمراد بالعلم‪ :‬البيان والبلغ بالقول‬
‫مشافهة أو كتابة‪ ،‬وبالعمببل‪ :‬أن يببدع العببالم المقتببدي بببه النافلببة فببي‬
‫بعض الحيان‪ ،‬حتى ل تعتقد فريضة وأن يحببرص علببى الخببذ بالرخصببة‬
‫حتى ل يهملها الناس فتموت‪.‬‬

‫عا‪ ،‬وأفطروا‪ ،‬ويسببوءهم أن‬ ‫‪ - 4‬أن يكون في رفقة أخذوا بالرخصة جمي ً‬
‫ينفرد بالصيام دونهم‪ ،‬فل يحسن به أن يصوم وحده‪ ،‬لما في ذلببك مببن‬
‫الشذوذ عن الجماعة من ناحية‪ ،‬ولما في ذلك من خشببية دخببول الريبباء‬
‫على نفس الصائم‪ ،‬أو اتهامه به من ناحية أخرى‪.‬‬
‫ويتأكد ذلك إذا كانوا مشتركين في النفقببة‪ ،‬ومببن عببادتهم أن يتنبباولوا‬
‫وجببباتهم مجتمعيببن‪ ،‬ويشببق عليهببم انفببراد بعضببهم بالكببل فطببوًرا‬
‫وسحوًرا‪.‬‬

‫وفي الحديث‪ " :‬يد الله مع الجماعة"‪.‬‬


‫‪ - 5‬أن يكببون الميببر قببد أمببر بالفطببار‪ ،‬رف ً‬
‫قببا بهببم‪ ،‬ورعايببة لحببالهم‪،‬‬
‫فيستحب أن يطاع في ذلك‪ ،‬لتظهر الجماعة في صببورة أسببرة واحببدة‪،‬‬
‫موحدة المظهر والمخبر‪.‬‬

‫فإذا شدد فبي ضببرورة الفطببار‪ ،‬وألببزم ببه‪ ،‬وجبببت طباعته فبي ذلببك‪،‬‬
‫وحرمت مخالفته‪ ،‬واعتبر ذلك معصية‪.‬‬
‫وفي ذلك جاء حديث جابر بن عبد الله‪ :‬أن رسول الله صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم خرج عام الفتح إلببى مكببة فببي رمضبان‪ ،‬فصببام حببتى بلببغ كببراع‬
‫الغميم‪ ،‬فصام الناس‪ ،‬ثم دعا بقدح من ماء‪ ،‬فرفعببه حببتى نظببر النبباس‬
‫إليه‪ ،‬ثم شرب‪ ...‬فقيل له بعد ذلك‪ :‬إن بعض الناس قد صببام! فقببال‪" :‬‬
‫أولئك العصاة‪ ،‬أولئك العصاة"‪.‬‬

‫وفي رواية‪ :‬فقيل له‪ :‬إن بعض الناس قببد شببق عليهببم الصببيام‪ ،‬وإنمببا‬
‫ينظرون فيما فعلت‪ ،‬فدعا بقدح من ماء )رواه مسلم في الصببيام ‪/ 2-‬‬
‫‪ ...(785‬الخ‪.‬‬
‫ويبدو من الروايات أنه أمرهم أول ً بالفطار‪ ،‬فلببم يسببارعوا إليببه أخببذا‬
‫بالعزيمببة فببدعا بالقببدح وشببرب‪ ،‬ليكببون لهببم أسببوة‪ ،‬فبباجتمع الفعببل‬
‫عا‪ ،‬فلهذا سمي من تخلف عن الفطار بعد ذلك‪) :‬العصاة(‪.‬‬ ‫والقول م ً‬

‫‪ - 6‬أن يكون المسافر في حالة جهاد ومواجهة ساخنة مببع العببدو‪ ،‬وقببد‬
‫حمي الوطيس والتهبت المعركة‪ ،‬والفطببر أقببوى للمجاهببدين‪ ،‬وأعببون‬
‫لهم‪ ،‬على ملقاة العدو‪ ،‬ومصابرته‪ ،‬حتى يقضي الله أمًرا كان مفعببول‪،‬‬
‫‪41‬‬

‫بل قد يتعين الفطر هنا إذا كان الصوم يضعف المجاهدين‪ ،‬أو يقلل من‬
‫قدرتهم‬

‫فإذا أمر القائد بالفطار كان الفطر عزيمة‪ ،‬وكان الصيام مظنة الثم‪.‬‬
‫روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬سافرنا مع رسببول اللببه صببلى‬
‫الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام قال‪ :‬فنزلنا منزل‪ ،‬فقببال رسببول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬إنكم قد دنوتم من عدوكم‪ ،‬والفطر أقببوى‬
‫لكم"‪ .‬وكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر‪ .‬ثم نزلنا منببزل ً آخببر‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬إنكم مصبحو عدوكم والفطببر أقببوى لكببم فببأفطروا " وكببانت‬
‫عزمة‪ ،‬فأفطرنا‪ ،‬ثم رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليببه وسببلم‬
‫بعببد ذلببك فببي السببفر )صببحيح مسببلم فببي الصببوم ‪ ،789/2-‬الحببديث ‪-‬‬
‫‪.(1120‬‬

‫هل يجوز الفطر في الجهاد من غير سفر؟‬


‫ن مسألة‪ ،‬وهي حالة الجهاد من غير سفر‪ ،‬كما إذا حاصر العببدو‬
‫ع ّ‬
‫وهنا ت ُ َ‬
‫دا مسلما فأهله يقاتلون ويقاومون وهم في عقر دارهم‪ ،‬فهببل لهببم‬ ‫بل ً‬
‫أن يفطروا إذا كان في الفطر قوة لهم على عدوهم؟‪.‬‬

‫عرض لذلك المحقق ابن القيم فببي )الهببدي النبببوي(‪ ،‬وذكببر فببي ذلببك‬
‫ل‪ :‬أن لهم ذلك‪ ،‬وهو اختيار ابن تيميبة‪ ،‬وببه‬ ‫قولين للعلماء‪ ،‬أصحهما دلي ً‬
‫أفتى العساكر السلمية لمببا لقببوا العببدو بظبباهر دمشببق‪ ،‬ول ريببب أن‬
‫الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر‪ ،‬بل إباحة الفطر للمسببافر‬
‫تنبيه على إباحته في هذه الحالة‪ ،‬فإنها أحق بجببوازه‪ ،‬لن القببوة هنبباك‬
‫تختببص بالمسببافر‪ ،‬والقبوة هنبا لبه وللمسبلمين‪ ..‬ولن مشبقة الجهبباد‬
‫أعظم مببن مشببقة السببفر‪ ،‬ولن المصببلحة الحاصببلة بببالفطر للمجاهببد‬
‫أعظم من المصلحة بفطر المسافر ولن الله تعالى قال‪) :‬وأعدوا لهببم‬
‫ما استطعتم من قوة(‪) -‬النفال ‪ - (60:‬والفطر عند اللقاء‪ ،‬من أعظببم‬
‫أسباب القوة‪.‬‬

‫والنبي صلى الله عليه وسلم قببد فسببر القببوة بببالرمي )روى مسببلم )‬
‫‪ (1917‬عن عقبة بن عامر الجهني قال‪ :‬سمعت رسول الله صببلى اللببه‬
‫عليه وسلم وهو على المنبر يقببول‪) ":‬وأعببدوا لهببم مببا اسببتطعتم مببن‬
‫قوة(‪ ،‬أل إن القوة الرمي‪ ،‬أل إن القوة الرمي‪ ،‬أل إن القبوة الرمبي"(‪.‬‬
‫وهو ل يتم ول يحصل به مقصوده إل بما يقوي ويعين عليه من الفطببر‬
‫والغذاء‪ ،‬ولن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصببحابة لمببا دنببوا مببن‬
‫عدوهم‪" :‬إنكم قد دنوتم من عدوكم‪ ،‬والفطر أقوى لكم" وكانت رخصة‬
‫ثم نزلوا منزل ً آخر فقال‪" :‬إنكم مصبببحو عببدوكم‪ ،‬والفطببر أقببوى لكببم‬
‫فأفطروا" فكانت عزمة )فأفطرنببا( )رواه مسببلم ‪ 1120-‬فببي الصببيام‪:‬‬
‫باب أجر المفطببر فبي السببفر إذا تبولى العمببل وأبببو داود ‪ 2406-‬فبي‬
‫‪42‬‬

‫الصوم‪ :‬باب الصوم في السفر من حديث أبببي سببعيد الخببدري(‪ .‬فعلببل‬


‫بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو‪ ،‬وهببذا‬
‫سبب آخر غير السفر‪ ،‬والسفر مستقل بنفسه ولم يببذكره فببي تعليلببه‬
‫ول أشار إليه‪ ،‬فالتعليل به اعتبببار لمببا ألغبباه الشببارع فببي هببذا الفطببر‬
‫الخاص‪ ،‬وإلغاء وصببف القبوة الببتي يقباوم بهببا العببدو‪ ،‬واعتبببار السببفر‬
‫المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به‪.‬‬

‫وبالجملة‪ :‬فتنبيه الشارع وحكمته‪ ،‬يقتضي أن الفطر لجل الجهاد أولى‬


‫منه لمجرد السفر‪ ،‬فكيف وقببد أشببار إلببى العلببة‪ ،‬ونبببه عليهببا‪ ،‬وصببرح‬
‫بحكمها‪ ،‬وعزم عليهم بأن يفطروا لجلها‪ ،‬ويدل عليه‪ ،‬مببا رواه عيسببى‬
‫بن يونس‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬قال‪ :‬سمعت ابن عمر يقول‪:‬‬
‫قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابه يوم فتح مكة‪" :‬إنه يببوم‬
‫قتال فأفطروا" )رجاله ثقات‪ ،‬كما قال محقق الزاد(‪ .‬تببابعه سببعيد بببن‬
‫الربيع‪ ،‬عن شعبة‪ .‬علل بالقتال‪ ،‬ورتب عليه المر بالفطر بحرف الفاء‪،‬‬
‫وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لجل القتال ا‪.‬هب ب )زاد المعبباد‬
‫–‪ 53/2،54‬طب‪ .‬الرسالة‪ ،‬بيروت(‪.‬‬
‫حكم إفطار المريض وما الواجب عليه‬
‫أجمع أهببل العلببم علببى إباحببة الفطببر للمريببض‪ ،‬لقببوله تعببالى‪) :‬شببهر‬
‫رمضببان الببذي أنببزل فيببه القببرآن هببدى للنبباس وبينببات مببن الهببدى‬
‫ضبا أو علبى‬ ‫والفرقان‪ ،‬فمن شهد منكم الشهر فليصمه‪ ،‬ومن كبان مري ً‬
‫سفر فعدة من أيام أخر‪ ،‬يريببد اللببه بكببم اليسببر ول يريببد بكببم العسببر(‬
‫)البقببرة‪ (185 :‬فبببالنص والجمبباع يجببوز الفطببر للمريببض‪ ،‬ولكببن مببا‬
‫المرض المبيح للفطر‪ ،‬إنه المرض الذي يزيده الصوم‪ ،‬أو يؤخر الشببفاء‬
‫على صبباحبه‪ ،‬أو يجعلببه يتجشببم مشببقة شببديدة‪ ،‬بحيببث ل يسببتطيع أن‬
‫يقوم بعمله الذي يتعيش منه ويرتزق منه‪ ،‬فمثل هذا المرض هببو الببذي‬
‫يبيح الفطر‪ ،‬قيببل للمببام أحمببد‪ :‬مببتى يفطببر المريببض ؟ قببال‪ :‬إذا لببم‬
‫يستطع ‪ .‬قيل له‪ :‬مثل الحمببى ؟ قببال‪ :‬وأي مببرض أشببد مببن الحمببى ؟‬
‫وذلك‪ ،‬أن المراض تختلف‪ ،‬فمنها مال أثر للصوم فيببه‪ ،‬كوجببع الضببرس‬
‫وجرح الصبع والدمل الصببغير ومبا شبابههما‪ ،‬ومنهببا مببا يكببون الصببوم‬
‫جا له‪ ،‬كمعظم أمراض البطن‪ ،‬من التخمببة‪ ،‬والسببهال‪ ،‬وغيرهببا فل‬ ‫عل ً‬
‫يجوز الفطببر لهببذه المببراض‪ ،‬لن الصببوم ل يضببر صبباحبها ببل ينفعببه‪،‬‬
‫ولكببن المبيببح للفطببر مببا يخبباف منببه الضببرر ‪ .‬والسببليم الببذي يخشببى‬
‫ضببا كببالمريض الببذي يخبباف زيببادة‬‫المرض بالصببيام‪ ،‬يببباح لببه الفطببر أي ً‬
‫المرض بالصيام ‪ .‬وذلك كله يعرف بأحد أمرين ‪ :‬إما بالتجربة الشخصية‪،‬‬
‫وإما بإخبار طبيب مسلم موثوق به‪ ،‬في فنببه وطبببه‪ ،‬وموثببوق بببه فببي‬
‫دينه وأمانته‪ ،‬فإذا أخبره طبيب مسلم بأن الصوم يضره‪ ،‬فله أن يفطر‪،‬‬
‫ها‬‫وإذا أبيح الفطر للمريض‪ ،‬ولكنه تحمل وصام مع هذا فقد فعل مكرو ً‬
‫في الدين لما فيببه مببن الضببرار بنفسببه‪ ،‬وتركببه تخفيببف ربببه وقبببول‬
‫حا في نفسه‪ ،‬فإن تحقق ضرره بالصببيام‬ ‫رخصته‪ ،‬وإن كان الصوم صحي ً‬
‫‪43‬‬

‫ما‪ ،‬فإن الله غني عن تعببذيبه نفسببه ‪ .‬قببال‬


‫وأصر عليه فقد ارتكب محر ً‬
‫تعالى ‪):‬ول تقتلوا أنفسكم ‪ .‬إن الله كان بكم رحيما(‪) .‬النساء‪.(29 :‬‬

‫هل يجوز للمريض أن يتصدق بدل اليام التي أفطرها وهو مريض ؟‬
‫المرض نوعان‪ :‬مرض مؤقت يرجى الشفاء منه وهذا ل يجوز فيه فديببة‬
‫ول صدقة‪ ،‬بل لبد من قضائه كما قال تعالى‪) :‬فعدة من أيام أخر( فإذا‬
‫مببا‬
‫ما فعليببه يبوم‪ ،‬فبإذا أفطببر أيا ً‬
‫أفطر شهًرا فعليه شهر وإذا أفطر يو ً‬
‫فعليه أن يقضي مثلها حين يأتيه الله بالصحة وتتاح له فرصة القضاء ‪..‬‬
‫هذا هو المرض المؤقت‪.‬‬

‫أما المرض المزمن فحكم صاحبه كحكم الشيخ الكبببير والمببرأة العجببوز‬
‫إذا كان المرض ل يرجى أن يزول عنه ‪ .‬ويعرف ذلك بالتجربة أو بإخبببار‬
‫الطباء فعليه الفدية ‪:‬إطعام مسكين ‪ .‬وعند بعض الئمة ‪ -‬كأبي حنيفببة‬
‫دا إلى من يببرى مببن الضببعفاء والفقببراء‬‫‪ -‬يجوز له أن يدفع القيمة نقو ً‬
‫والمحتاجين‪.‬‬
‫إفطار الكبير والحامل والمرضع‬
‫يجوز للشيخ الكبير الذي يجهببده الصببوم ويشببق عليببه مشببقة شببديدة‪،‬‬
‫عا‪ ،‬يجوز لهما أن يفطرا في رمضان‪ ،‬ومثلهمببا‬ ‫ومثله المرأة العجوز طب ً‬
‫كل مريض ل يرجى شفاؤه من مرضه‪.‬‬

‫ضا مزمن ًببا‪ ،‬قببرر الطببباء أنببه مسببتعص علببى العلج‪ ،‬أو أنببه‬
‫المريض مر ً‬
‫مزمن معه‪ ،‬يجوز له أن يفطر‪ ،‬وهؤلء إذا أفطبروا عليهبم فديببة طعبام‬
‫مسكين عن كل يوم‪ ،‬رخصة من الله وتيسيًرا ‪ .‬وقال تعالى‪) :‬يريد اللببه‬
‫بكم اليسر ول يريد بكم العسر( )البقرة‪) ،(185 :‬وما جعبل عليكبم فبي‬
‫الدين من حرج( )سورة الحج‪ (78 :‬وقال ابن عباس رضي الله عنهما‪" :‬‬
‫رخص للشيخ الكبير أن يفطر‪ ،‬ويطعم عن كل يببوم مسببكيًنا‪ ،‬ول قضبباء‬
‫عليه " )رواه الدارقطني والحاكم وصححاه(‪ ،‬وروى البخاري عنه قريًبببا‬
‫من هذا‪ :‬أن في الشيخ الكبير ونحوه نزل قببوله تعببالى‪) :‬وعلببى الببذين‬
‫يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيًرا فهببو خيببر لببه( )البقببرة‪:‬‬
‫‪ (184‬أي من زاد عن طعام المسكين فهو أفضل وأبقى له عنببد اللببه ‪.‬‬
‫فالشيخ الكبير‪ ،‬والمببرأة العجببوز‪ ،‬والمريببض الببذي ل يرجببى بببرؤه مببن‬
‫مرضببه‪ ،‬كببل هببؤلء لهببم أن يفطببروا ويتصببدقوا عببن كببل يببوم طعببام‬
‫مسكين‪.‬‬

‫هل يصح للمرأة الحامل أن تفطر في رمضببان إذا خببافت علببى جنينهببا‬
‫أن يموت ؟‬
‫نعم ‪ ..‬لهببا أن تفطببر ‪ ..‬بببل إذا تأكببد هببذا الخببوف أو قببرره لهببا طبببيب‬
‫مسلم ثقة في طبه ودينه‪ ،‬يجب عليها أن تفطر حتى ل يموت الطفببل‪،‬‬
‫وقببد قبال تعبالى ‪):‬ل تقتلبوا أولدكبم( )النعبام‪ ،151 :‬والسببراء‪(31 :‬‬
‫‪44‬‬

‫وهذه نفس محترمة‪ ،‬ل يجوز لرجل ول لمببرأة أن يفببرط فيهببا ويببؤدي‬
‫دا‪ ،‬وقببد جبباء عببن ابببن‬
‫بها إلى الموت ‪ .‬والله تعالى لم يعنببت عببباده أبب ً‬
‫ضا أن الحامل والمرضع ممن جاء فيهم )وعلى الذين يطيقونه‬ ‫عباس أي ً‬
‫فدية طعام مسكين(‪.‬‬

‫وإذا كانت الحامل والمرضع تخافان على أنفسهما فأكثر العلمبباء علببى‬
‫أن لهما الفطر وعليهما القضاء فحسب ‪ ..‬وهما في هذه الحالة بمنزلة‬
‫المريض‪.‬‬

‫أما إذا خافت الحامببل أو خببافت المرضببع علببى الجنيببن أو علببى الولببد‪،‬‬
‫نفس هذه الحالة اختلف العلماء بعد أن أجازوا لها الفطر بالجماع هببل‬
‫عليها القضاء أم عليها الطعام تطعم عن كببل يببوم مسببكيًنا‪ ،‬أم عليهببا‬
‫عا‪ ،‬اختلفوا في ذلك‪ ،‬فابن عمر وابن عباس يجيزان‬ ‫القضاء والطعام م ً‬
‫لها الطعام وأكثر العلماء على أن عليها القضاء‪ ،‬والبعببض جعببل عليهببا‬
‫القضاء والطعام‪ ،‬وقد يبدو لي أن الطعببام وحببده جببائز دون القضبباء‪،‬‬
‫بالنسبة لمرأة يتببوالى عليهببا الحمببل والرضبباع‪ ،‬بحيببث ل تجببد فرصببة‬
‫للقضاء‪ ،‬فهي في سنة حامببل‪ ،‬وفببي سببنة مرضببع‪ ،‬وفببي السببنة الببتي‬
‫بعدها حامل ‪ ..‬وهكذا ‪ ..‬يتوالى عليهبا الحمبل والرضباع‪ ،‬بحيبث ل تجبد‬
‫فرصة للقضاء‪ ،‬فإذا كلفناها قضاء كل اليام الببتي أفطرتهببا للحمببل أو‬
‫للرضاع معناها أنه يجب عليها أن تصوم عدة سنوات متصلة بعببد ذلببك‪،‬‬
‫وفي هببذا عسببر‪ ،‬واللببه ل يريببد بعببباده العسببر‪ .‬هببذا بالنسبببة للسببؤال‬
‫الثاني‪.‬‬

‫من غلبه الجوع والعطش وخاف الهلك‬


‫ومن أصحاب العببذار مببن يجببب عليببه الفطببر وجوب ًببا‪ ،‬ول يكببون مجببرد‬
‫رخصة‪.‬‬
‫قال العلماء‪ :‬من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلك لزمه الفطر‪ ،‬وإن‬
‫ما‪ ،‬لقوله تعالى‪) :‬ول تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكببم‬ ‫حا مقي ً‬
‫كان صحي ً‬
‫رحيما( )النساء‪ ،(29 :‬وقوله‪) :‬ول تلقوا بأيديكم إلى التهلكة( )البقببرة‪:‬‬
‫‪ .(195‬وقوله‪) :‬وما جعل عليكم في الدين من حرج( )الحج‪.(78 :‬‬

‫ويلزم القضاء كالمريض )انظر‪ :‬المجموع للنووي ‪.(258 / 6-‬‬

‫الحامل والمرضع‬
‫للمرأة في أحكام الصيام نصيب أكبببر مببن الرجببل‪ ،‬فهببي تشبباركه فببي‬
‫عامة الحكام وتختص هي بأمور ل يشاركها فيها‪.‬‬
‫ذلك أن القدر حملها ما لم يحمل الرجل من متاعب الحياة‪ ،‬فهي تعاني‬
‫الدورة الشببهرية الببتي كتبهببا اللببه علببى بنببات آدم‪ ،‬أو مببا يسببمى فببي‬
‫‪45‬‬

‫الشرع )الحيض( ومثله حالة الولدة أو النفاس‪ ،‬وهمببا العببذران اللببذان‬


‫أوجبا عليها الفطر‪ ،‬وحرم عليها الصوم بسببهما‪.‬‬
‫وقبل الولدة‪ ،‬تكون حالة الحمل‪ ،‬وهي كما صورها القرآن‪ ،‬وهو يوصي‬
‫هببا ووضببعته كرهببا(‬‫النسان بالحسان بوالديه‪ ،‬فيقول‪) :‬حملته أمببه كر ً‬
‫)الحقاف ‪.(15:‬‬

‫وفي آية أخرى‪) :‬حملته أمه وهنا على وهن( )لقمان ‪.(14:‬‬
‫إنها حالة الببوحم والغثيببان والثقببل واللببم‪ ،‬الببتي تتحملهببا الم طببوال‬
‫تسعة أشهر صببابرة‪ ،‬بببل سببعيدة راضببية حببتى يخببرج جنينهببا إلببى نببور‬
‫الحياة‪.‬‬

‫وبعببد الببولدة ومببا يصببحبها مببن آلم تبببدأ مرحلببة أخببرى‪ ،‬هببي مرحلببة‬
‫الرضبباع والفصببال الببتي قببد تطببول إلببى عببامين‪ ،‬كمببا قببال تعببالى‪:‬‬
‫)وفصاله في عامين( )لقمان‪ (14 :‬وقال‪) :‬والوالدات يرضعن أولدهببن‬
‫حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( )البقرة‪.(233 :‬‬
‫والمرأة في حالة الحمل قد تخاف على نفسها من مشقة الصوم‪ ،‬وقببد‬
‫تخاف على حملها فببي بطنهببا الببذي أصبببح جببزءا منهببا‪ ،‬فغببذاؤه منهببا‪،‬‬
‫وبقاؤه بها‪ ،‬أو تخاف عليهما معا‪.‬‬
‫ضا قد تخاف على نفسها أو على رضببيعها‪ .‬أو‬ ‫وهي في حالة الرضاع أي ً‬
‫على الثنين جميعا‪.‬‬

‫فما الحكم في مختلف هذه الحالت؟‬


‫لقد أجمع الفقهاء على أن من حق كببل منهمببا )الحامببل والمرضببع( أن‬
‫تفطر في كل هذه الحوال‪ ،‬وفي هذا جاء حديث‪ " :‬إن اللببه وضببع عببن‬
‫المسافر الصوم وشطر الصلة‪ ،‬وعن الحامل والمرضببع الصببوم" )رواه‬
‫النسائي وابن ماجه(‪.‬‬
‫ولكن ماذا عليهما‪ ،‬بعد أن تفطرا ؟‪.‬‬

‫أتعاملن معاملة المريض العادي‪ ،‬فيجب عليهما قضاء عدة من أيام أخر‬
‫بعد أن تنتهي حالة الحمل والرضاع؟‪.‬‬
‫أم تعاملن معاملة الشببيخ الكبببير والمببرأة العجببوز‪ ،‬والمريببض الببذي ل‬
‫يرجى برؤه فتفديان وتطعمان عببن كببل يببوم مسببكيًنا‪ ،‬أو تعفيببان مببن‬
‫الفدية أيضا؟‪.‬‬

‫أم يختلببف حكببم الحامببل عببن حكببم المرضببع‪ ،‬وحكببم مببن تخبباف علببى‬
‫نفسها‪ ،‬ومن تخاف على ولدها؟‪.‬‬
‫بكل احتمال من هذه الحتمالت قال بعض الفقهاء‪.‬‬
‫‪46‬‬

‫ومعظببم الفقهبباء‪ ،‬أخببذوا بالحتمببال الول وعبباملوا كلتيهمببا معاملببة‬


‫المريض وقالوا‪ :‬تفطران وتقضيان‪.‬‬
‫ومذهب ابن عمببر وابببن عببباس مبن الصبحابة‪ ،‬وابببن جبببير وغيببره مببن‬
‫التابعين‪ :‬أن عليهما الفدية‪ ،‬أي الطعام‪ ،‬ول قضاء عليهما‪.‬‬
‫روى عبد الرزاق في مصنفه‪ :‬أن ابن عمر سئل عببن امببرأة أتببي عليهببا‬
‫رمضان وهي حامل؟ قال‪ :‬تفطر وتطعم كل يوم مسكيًنا‪.‬‬
‫وروي عن ابن عباس‪ :‬أنه كان يأمر وليدة له حبلى‪ ،‬أن تفطر في شهر‬
‫رمضان‪ ،‬وقال‪ :‬أنت بمنزلة الكبير ل يطيق الصيام‪ ،‬فأفطري‪ ،‬وأطعمي‬
‫عن كل يوم نصف صاع من حنطة‪.‬‬
‫وعن سعيد بن جبير قال‪ :‬تفطر الحامل الببتي فببي شببهرها‪ ،‬والمرضببع‬
‫التي تخاف على ولدها‪ ،‬تفطران‪ ،‬وتطعم كببل واحببدة منهمببا‪ ،‬كببل يببوم‬
‫مسكيًنا‪ ،‬ول قضاء عليهما‪.‬‬

‫وروي نحو ذلك عن القاسم بن محمد وقتادة وإبراهيم‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬أن على الحامل والمرضببع‬ ‫كما روى عبد الرزاق عن بعض السلف أي ً‬
‫القضاء ول تطعمان )انظر المصنف لعبد الرزاق ‪.(219 - 216 / 4-‬‬
‫وذكر ابن كثير الخلف الكثير بين العلماء في شأنهما قال‪ :‬فمنهم مببن‬
‫قببال‪ :‬تفطببران وتفببديان وتقضببيان وقيببل‪ :‬تفببديان فقببط‪ ،‬ول قضبباء‪.‬‬
‫وقيببل‪ :‬يجببب القضبباء بل فديببة‪ .‬وقيببل‪ :‬تفطببران ول فديببة ول قضبباء‬
‫) تفسير ابن كثير ‪.(215/1-‬‬

‫والذي أرجحه هو الخذ بمذهب ابن عمر وابن عباس فببي شببأن المببرأة‬
‫التي يتبوالى عليهبا الحمبل والرضباع‪ ،‬وتكباد تكبون فبي رمضبان‪ ،‬إمبا‬
‫حامل‪ ،‬وإما مرضعا‪ .‬وهكذا كان كثير من النساء فببي الزمنببة الماضببية‪،‬‬
‫فمن الرحمة بمثل هذه المرأة أل تكلف القضاء وتكتفي بالفدية‪ ،‬وفببي‬
‫هذا خير للمساكين وأهل الحاجة‪.‬‬

‫أما المرأة التي تتباعد فترات حملها‪ ،‬كما هو الشأن فببي معظببم نسبباء‬
‫صا في المدن‪ .‬والتي قد‬ ‫زمننا في معظم المجتمعات السلمية‪ ،‬وخصو ً‬
‫ل تعاني الحمل والرضاع‪ ،‬في حياتهببا إل مرتيببن أو ثلث ًببا‪ ،‬فالرجببح أن‬
‫تقضي كما هو رأي الجمهور‪.‬‬

‫إذ الحكم مبني على مراعاة التخفيف‪ ،‬ورفع المشقة البزائدة‪ ،‬فبإذا لبم‬
‫ما‪.‬‬
‫دا وعد ً‬
‫توجد ارتفع الحكم معها‪ ،‬إذ الحكم يدور مع علته وجو ً‬

‫قضاء رمضان‬
‫ومن كان عليببه صببيام أيببام مببن رمضبان‪ ،‬أفطببر فيببه بعبذر‪ ،‬كببالمريض‬
‫والمسافر والحائض‪ ،‬والنفساء‪ ،‬ومن شق عليه الصوم‪ ،‬مشقة شببديدة‪،‬‬
‫‪47‬‬

‫فأفطر‪ ،‬والحامل والمرضع‪ ،‬عند من يرى عليهما القضاء‪ ،‬فينبغي له أن‬


‫يبببادر بقضبباء مببا فبباته بعببدد اليببام الببتي أفطببر فيهببا‪ ،‬تبببرئة لببذمته‪،‬‬
‫قا للخيرات‪.‬‬‫ومسارعة إلى أداء الواجب‪ ،‬واستبا ً‬
‫أما المريض والمسافر فقضاؤهما ثابت بالقرآن‪) :‬فعدة من أيببام أخببر(‬
‫وأما قضاء الحائض والنفساء‪ ،‬فهو ثابت بالسنة‪ ،‬عن عائشة‪ :‬كنا نحيض‬
‫في عهد النبي صلى الله عليه وسببلم‪ ،‬فكنببا نببؤمر بقضبباء الصببوم‪ ،‬ول‬
‫نؤمر بقضاء الصلة‪.‬‬

‫ول يببأثم بالتببأخير مببادام فببي نيتببه القضبباء لن وجببوب القضبباء علببى‬
‫التراخي‪ ،‬حتى كان له أن يتطوع قبله على الصحيح‪.‬‬
‫ى‬
‫ويدل على ذلببك أن عائشببة رضببي اللببه عنهببا قببالت‪ :‬كببان يكببون علب ّ‬
‫الصيام من رمضببان‪ ،‬فمببا أسببتطيع أن أقضببي إل فببي شببعبان )متفببق‬
‫عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(703-‬‬

‫دا‪ ،‬بما‬
‫وكذلك من أفطر بغير عذر من باب أولى‪ ،‬كمن أفسد صومه عام ً‬
‫يوجب الكفارة‪ ،‬كالجماع‪ ،‬أو بما ل يوجب الكفببارة‪ ،‬كالكببل أو الشببرب‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬كما بينا ذلك في موضعه‪.‬‬
‫عند أكثر الفقهاء فعليه القضاء أي ً‬

‫عا وهو أفضل‪ ،‬مسارعة إلى إسقاط‬ ‫ويجوز أن يكون قضاء رمضان متتاب ً‬
‫جا مببن الخلف )فقببد أوجبببه بعببض العلمبباء لن القضبباء‬ ‫الفرض‪ ،‬وخرو ً‬
‫ً‬
‫يحكى الداء‪ ،‬وهو متتابع( وأن يقضيه مفرقا‪ ،‬وهو قول جمهور السلف‬
‫والخلف‪ ،‬وعليه ثبتت الدلئل‪ ،‬لن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة‬
‫أدائه فيه‪ ،‬فأما بعد انقضاء رمضان‪ ،‬فالمراد صيام عدة ما أفطر‪ ،‬ولهذا‬
‫قال تعالى‪) :‬فعدة من أيام أخببر( ولببم يشببترط فيهببا تتابعببا‪ ..‬بببل قببال‬
‫بعدها‪) :‬يريد الله بكم اليسر ول يريد بكم العسر(‪.‬‬
‫دا ولببو بالجمبباع فل كفببارة عليببه‪،‬‬‫ومن أفطر في قضبباء رمضببان متعمب ً‬
‫وإنما عليه يببوم مكببان يببوم‪ ،‬وذلببك لن الداء متعيببن بزمببان لببه حرمببة‬
‫خاصة‪ ،‬فالفطر انتهاك لببه‪ ،‬بخلف القضبباء‪ ،‬فاليببام متسبباوية بالنسبببة‬
‫إليه‪.‬‬

‫ومن أتى عليه رمضان آخر‪ ،‬ولم يقض ما عليه من رمضان الفائت‪ ،‬فإن‬
‫كان ذلك بعذر فل شيء عليه بالجماع‪ ،‬لنه معذور في تأخيره‪.‬‬

‫وإن كان تأخيره للقضاء بغير عذر‪ ،‬فقد جاء عن عببدد مببن الصببحابة‪ :‬أن‬
‫عليه عن كل يوم إطعام مسكين‪ ،‬كفارة عن تأخيره‪.‬‬

‫وأخبذ ببذلك مالبك والثبوري والشبافعي وأحمبد وغيرهبم )المغنبي مبع‬


‫الشرح الكبير ‪.(81/2-‬‬
‫‪48‬‬

‫وهناك رأي آخر‪ :‬أن ل شيء عليه غير القضبباء وهببو رأي النخعببي وأبببو‬
‫حنيفة وأصحابه‪ ،‬ورجحه صاحب )الروضة الندية( لنه لم يثبت في ذلببك‬
‫شيء‪ ،‬صح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وغايببة مببا فيببه آثببار‬
‫عن جماعة من الصحابة من أقوالهم‪ ،‬وهي ليست حجببة علببى أحببد‪ ،‬ول‬
‫دا مببن عببباده‪ ،‬والبببراءة الصببلية‪ ،‬مستصببحبة فل ينقببل‬
‫تعبد الله بها أح ً‬
‫عنها إل ناقل صحيح )الروضة الندية لصديق حسن خان ‪.(232/1-‬‬

‫وأرى الخذ بما جاء عن الصبحابة علبى سببيل السبتحباب‪ ،‬ل الوجبوب‪،‬‬
‫فهو نوع من جبر التقصير بالصدقة‪ ،‬وهو أمر مندوب إليه‪ .‬أما الوجببوب‬
‫فيحتاج إلى نص من المعصوم ولم يوجد‪.‬‬

‫قضاء رمضان بعد مرور رمضان آخر‬


‫بعض الئمة يقولون‪ ،‬بأنه إذا مّر رمضان وجاء آخر ولببم يقببض مببا عليببه‬
‫من أيام أفطرها في رمضببان السببابق‪ ،‬فعليببه القضبباء والفديببة‪ ،‬وهببي‬
‫دا مبن غبالب قبوت البلببد‪ ،‬والمبدّ يسبباوي‬ ‫إطعام مسكين عن كل يوم م ً‬
‫ل‪.‬‬‫تقريًبا نصف كيلو غرام‪ ،‬يزيد قلي ً‬

‫هببذا فببي مببذهب الشببافعية‪ ،‬والحنابلببة‪ ،‬عمل ً بمببا جبباء عببن عببدد مببن‬
‫الصحابة‪ ،‬والئمة الخرون لم يوجبوا هذا‪.‬‬

‫ما‪ ،‬أما الطعام‬ ‫على كل حال‪ ،‬فإن حدث معه مثل هذا فعليه القضاء جز ً‬
‫أو الفدية فإن فعلها فحسن‪ ،‬وإن تركهببا فل حببرج عليببه إن شبباء اللببه‪،‬‬
‫حيث لم يصح شيء في ذلك عن النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪.-‬‬

‫أمببا عنببد الشببك فببي عببدد اليببام‪ ،‬فيعمببل النسببان بغببالب الظببن‪ ،‬أو‬
‫باليقين ‪ ..‬فلكي يطمئن النسان على سلمة دينه وبراءة ذمته‪ ،‬فليصم‬
‫الكثر‪ ،‬وله على ذلك مزيد الجر والثواب‪.‬‬
‫قضاء ما فات من رمضان في شعبان‬

‫ما فات من رمضان من أيام على المسلم أو علببى المسببلمة فعليببه أن‬
‫يقضيه عند الستطاعة حينما تتاح له الفرصة‪ ،‬طيلة أشهر العببام‪ ،‬قبببل‬
‫رمضان التالي‪ ،‬ومعنى هذا أن أمام المسلم أحد عشببر شببهًرا يسببتطيع‬
‫أن يقضي فيها ما فاته من رمضان‪ ،‬سببواء كببان أفطببر لعببذر مببرض أو‬
‫سفر أو لعذر حيض أو لغير ذلك من أعذار‪.‬‬

‫هناك نوع من السعة في الشرع‪ ،‬لقضاء ما فات من رمضان‪.‬‬

‫يستطيع أن يقضببي فببي شببوال ‪ -‬أي بعببد رمضببان مباشببرة ‪ .‬ومببا بعببد‬
‫شوال‪.‬‬
‫‪49‬‬

‫ول شك أن المبادرة أفضل‪ ،‬مسارعة فببي الخيببرات‪ ،‬كمببا قببال تعببالى‪:‬‬


‫)فاستبقوا الخيرات( ولن إنساًنا ل يضمن أجله‪ ،‬ولهببذا يكببون الحببوط‬
‫لنفسه والضمن لخرته أن يعجل بإبراء ذمته بقضاء ما فاته‪.‬‬

‫فإذا أجله لعذر ما‪ ،‬كشدة الحر‪ ،‬أو لضعف وعجز فببي صببحته‪ ،‬أو طببرأت‬
‫عليه مشاغل لم يتمكن معها من الصببوم قضبباء مببا فبباته‪ ،‬يسببتطيع أن‬
‫يقضي إلى رمضان التي‪.‬‬

‫فإذا جاء شعبان ولم يقض ما فاته‪ ،‬فإن عليببه أن يقضببي فببي شببعبان‪،‬‬
‫لنه الفرصة الخيرة وقد كانت تفعل ذلببك أم المببؤمنين عائشببة رضببي‬
‫الله عنه‪ ،‬فقد كانت كثيًرا ما يفوتها بعض أيام مببن رمضببان‪ ،‬فتقضببيها‬
‫في شعبان ‪ ..‬وذلببك ل حببرج فيببه‪ ،‬وإن كببان هنبباك اشببتباه لببدى بعببض‬
‫الناس في هذا المر‪ ،‬فهذا ل أساس لبه مبن الشبرع ‪ ..‬إذ كبل الشببهور‬
‫يمكن أن تكون محل ً لقضاء ما فات من رمضان‪.‬‬

‫ضببا فببي شببهر رمضببان الماضببي‪ ،‬وحببتى‬ ‫ولكن هب أن إنساًنا كببان مري ً‬
‫الن‪ ،‬وقد وافاه رمضان التالي وهو على حاله من المرض‪ ،‬ل يسببتطيع‬
‫قضاء ما فاته إل بمشقة شديدة وحببرج وإعنببات‪ .‬ومثببل هببذا يبقببى مببا‬
‫فاته من صببيام رمضببان دين ًببا مببؤجل ً عليببه إلببى مببا بعببد رمضببان‪ ،‬حيببن‬
‫يستعيد صحته ومقدرته على الصببيام‪ ،‬ول حببرج عليببه فببي ذلببك‪ ،‬فببالله‬
‫تعبالى ختبم آيبة الصبوم بقبوله‪) :‬يريبد اللبه بكبم اليسبر ول يريبد بكبم‬
‫العسر(‪) .‬البقرة‪.(185 :‬‬

‫من مات وعليه صيام‬


‫إذا مات المريض أو المسافر‪ ،‬وهما على حالهما من المببرض والسببفر‪،‬‬
‫لم يلزمهما القضاء‪ ،‬لعدم إدراكهما عدة من أيام أخر‪.‬‬

‫وإن صببح المريببض‪ ،‬وأقببام المسببافر‪ ،‬ثببم ماتببا‪ ،‬لزمهمببا القضبباء بقببدر‬
‫الصحة والقامة لدراكهما العدة بهذا المقدار‪.‬‬

‫ومعنى اللزوم هنا أنه أصبح في ذمته‪ ،‬وتبرأ ذمته بأحد أمرين‪:‬‬
‫‪ -1‬إما بصيام وليه عنه‪ ،‬لحديث عائشة في الصببحيحين مرفوعببا‪" :‬مببن‬
‫مات وعليه صيام‪ ،‬صببام عنببه وليببه" )متفببق عليببه‪ ،‬اللؤلببؤ والمرجببان ‪-‬‬
‫‪ .(704‬ورواه البزار‪ ،‬بزيادة لفظ "إن شاء" )قال فببي مجمببع الببزوائد ‪-‬‬
‫‪ :179/3‬وإسناده حسن(‪.‬‬

‫فصيام الولي عن الميت من باب البر به ل الوجوب عليه‪ ،‬ويؤيد ذلك ما‬
‫رواه الشيخان‪ ،‬عن ابن عباس‪ :‬جاء رجببل إلببى النبببي صببلى اللببه عليببه‬
‫‪50‬‬

‫وسلم فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن أمي ماتت وعليها صوم شهر‪ ،‬أفأقضيه‬
‫عنها؟ قال‪" :‬نعم فدين الله أحق أن يقضى" )اللؤلؤ والمرجان ‪.(705-‬‬

‫مطالًببا بقضباء ديببن غيببره إل مبن بباب‬‫ومن المعلوم أن النسان ليس ُ‬


‫البر والصلة‪ ،‬لن الصل براءة الذمم‪ ،‬وأن المكلف غيببر ملببزم بببأداء مببا‬
‫يثبت في ذمة غيره‪.‬‬
‫فالصحيح جواز الصيام عن الميت ل وجوبه‪ ،‬وبه تبرأ ذمة الميت‪.‬‬

‫وإما بالطعام عنه‪ ،‬أي بإخراج طعام مسببكين مببن تركتببه وجوب ًببا‪،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫عن كل يوم فاته لنه دَْين لله‪ ،‬تعلق بتركته‪ ،‬ودَْين الله أحق أن يقضى‪.‬‬

‫واشترط بعض الفقهاء أن يكون قببد أوصببى بببذلك‪ ،‬وإل لببم يخببرج مببن‬
‫تركته شيء لنها حق الورثة‪.‬‬

‫والصحيح أن حق الورثة من بعد وصية يوصي بها أو دَْين وهذا دَْين‪ ،‬لنه‬
‫حق المساكين في ماله‪،‬‬

‫والله أعلم‪.‬‬
‫مقومات الصيام‬
‫إن للصببوم ركنيببن أساسببيين همببا‪ :‬المسبباك والنيببة ونعنببي بببالول‪:‬‬
‫المساك عن شببهوات الطعببام والشببراب والمباشببرة ومببا فببي حكمهببا‬
‫طوال يوم الصوم‪.‬‬

‫والمراد بما في حكم الطعام والشراب‪ :‬الشهوات الببتي اعتادهببا بعببض‬


‫مببا‪ ،‬ول شببراًبا‪ ،‬مثببل التببدخين‪ ،‬الببذي يببراه‬
‫النبباس وإن لببم تكببن طعا ً‬
‫المبتلون به أهم من الكل والشرب‪ ،‬فهو ممنوع في الصوم سواء كان‬
‫عن طريبق السبيجارة‪ ،‬أو الشيشبة‪ ،‬أو المضببغ‪ ،‬أو النشبوق‪ ،‬أو غيرهببا‪،‬‬
‫وهببذا بإجمبباع علمبباء المسببلمين فببي أقطببار الرض‪ ،‬لنببه مببن أشببد‬
‫الشهوات التي يجب فطام النفس عنها في الصيام‪.‬‬

‫وأشد منه وأبلغ في المنع تناول المخدرات المحرمة أشد التحريم‪ ،‬مثل‬
‫الحشيش والفيون والهيروين‪ ،‬والكوكايين ونحوه‪ ،‬وإن أخببذت بطريببق‬
‫الشم أو الحقن أو أي طريق كان‪.‬‬

‫دا بالفم‪ ،‬ويصل إلى‬ ‫ويدخل في حكم الكل والشرب‪ :‬كل ما يتناول قص ً‬
‫المعدة‪ ،‬وإن لم يكن مشتهي ول مستل ً‬
‫ذا بببه‪ ،‬مثببل أنببواع الدويببة الببتي‬
‫عا‪ ،‬وهذا أمبر مجمبع عليبه‪ .‬وإذا‬ ‫صا‪ ،‬أو ابتل ً‬
‫تتناول بالفم شرًبا أو امتصا ً‬
‫كان المسلم في حاجة حقيقية إلي شئ من هذه الدوية‪ ،‬فهببو مريببض‬
‫يسعه أن يفطر بإذن الشارع نفسه‪ ،‬ول حرج عليه ول جناح‪.‬‬
‫‪51‬‬

‫كما يدخل في حكم المباشرة‪ :‬إنزال المني بطريق اختياري كالستمناء‬


‫والنظر المتعمد المتكرر والتلذذ باللمس والقبلة والعناق ونحوهببا‪ ،‬ممببا‬
‫يعتبر مقدمات للتصال الجنسي‪ ،‬فإذا أنزل بإحدى هذه الطرق أفطر‪.‬‬

‫ضرورة النية‬
‫النية في الصيام وفي كل عبادة فريضة ل بد منها‪ ،‬ول يهمنا أن تكببون‬
‫ركنا عند بعض الفقهاء‪ ،‬أو شر ً‬
‫طا عنببد بعضببهم‪ ،‬فهببذا خلف علمببي أو‬
‫نظري ل يترتب عليه عمل‪ ،‬ما دام الجميع متفقين علي فرضيتها‪.‬‬

‫والمراد بالنية هنا‪ :‬أن يقوم بالعبادة امتثببال ً لمببر اللببه تعببالى‪ ،‬وتقرب ًببا‬
‫إليه‪.‬‬

‫فقد يمسك بعض الناس عن الطعام والشراب من الفجر إلى المغببرب‪،‬‬


‫ولما هو أكثر‪ ،‬ولكن بقصد الرياضة ونقص الوزن وما شابه ذلك‪.‬‬

‫دا بالقتببل البطيبء‬


‫جا علي أمببر معيببن‪ ،‬وتهديب ً‬
‫وقد يمسك آخرون احتجا ً‬
‫للنفس كمببا يفعببل ذلببك كببثيًرا المضببربون عببن الطعببام فببي السببجون‬
‫والمعتقلت‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫قا في عمل يأخذ عليه فكره‪،‬‬ ‫وقد يمسك بعض الناس تشاغل ً أو استغرا ً‬
‫وينسيه أكله وشربه‪.‬‬
‫وكببل هببؤلء ليسببوا صببائمين الصببيام الشببرعي‪ ،‬لنهببم لببم ينببووا ولببم‬
‫يقصببدوا بإمسبباكهم وجببوعهم وحرمببانهم وجببه اللببه تعببالى‪ ،‬وابتغبباء‬
‫مثوبته‪.‬‬

‫ول يقبل الله عبادة إل بنية‪.‬‬


‫قال عز وجل‪) :‬وما أمروا إل ليعبببدوا اللببه مخلصببين لببه الببدين حنفبباء(‬
‫)البينة‪.(5 :‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم‪" :‬إنما العمال بالنيات‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما‬
‫نوى" )متفق عليه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(‪.‬‬

‫وقال‪" :‬كل عمل ابن آدم له‪ ،‬قال الله تعالى‪ :‬إل الصوم فإنه لببي‪ ،‬وأنببا‬
‫أجزي به‪ ،‬يدع طعامه وشهوته من أجلي" )متفق عليه مببن حببديث أبببي‬
‫هريرة(‪.‬‬
‫فمن ترك الطعام والشهوة من أجل شيء غير الله تعببالى‪ ،‬فلببم يصببم‬
‫الصيام الشرعي‪.‬‬

‫التلفظ بالنية‬
‫‪52‬‬

‫والنية محلها القلب‪ ،‬لنها عقد القلب على الفعل‪.‬‬


‫والتلفظ باللسان ليس مطلوًبا‪ ،‬ولم يأت فببي نصببوص الشببرع مببا يببدل‬
‫علي طلب التلفظ بها‪ ،‬ل في الصوم‪ ،‬ول في الصلة‪ ،‬ول فببي الزكبباة‪،‬‬
‫إل ما جاء في شأن الحج والعمرة‪.‬‬
‫والنسببان فببي شببؤونه الدنيويببة ل يتلفببظ بمببا ينببويه‪ ،‬فيقببول‪ :‬نببويت‬
‫السفر إلى بلد كببذا‪ ،‬أو نببويت أن آكببل كببذا وكببذا‪ ....‬إلببخ فكببذلك أمببور‬
‫الدين‪.‬‬

‫ولهببذا ل ُتعببد النيببة مشببكلة بالنسبببة للمسببلم الملببتزم بالصببيام فهببو‬


‫و له‪ ،‬مصمم عليه‪ ،‬ولو كلفته أل ينويه ما استطاع‪.‬‬ ‫بطبيعته نا ٍ‬
‫ومن دلئل نيته قيامه للسحور‪ ،‬وتهيئته لببه وإن لببم يقببم‪ ،‬وإعببداده مببا‬
‫يلزم لفطور الغد‪ ،‬وترتيبه أعماله ومواعيده على وفق ظروف الصيام‪.‬‬
‫فل داعي للكثار من الكلم عن النيببة فهببي حاضببرة وقائمببة لببدى كببل‬
‫مسلم معتاد على الصوم‪.‬‬
‫إنما الذي يحتاج إليها هو من كان لببه عببذر يبيببح لببه الفطببر‪ ،‬كببالمريض‬
‫والمسافر فيصوم حيًنا‪ ،‬ويفطر حيًنا‪ ،‬فإذا صام يحتاج إلى تجديد النيببة‪،‬‬
‫ليتميز يوم صومه عن يوم فطره‪.‬‬

‫متى يجب إنشاء نية الصيام‬


‫ومن اللزم هنا‪ :‬تحديد الوقت الذي يجب فيه إنشاء نية الصيام‪.‬‬
‫وجمهور الفقهاء على أن الواجب هو تبييت النية من الليل‪ ،‬أي إيقاعها‬
‫في جزء من الليل قبل طلوع الفجر‪ .‬واسببتدلوا بحببديث ابببن عمببر عببن‬
‫عا‪" :‬من لم يجمع الصيام قبببل الفجببر فل صببيام لببه" رواه‬ ‫حفصة مرفو ً‬
‫أحمد وأصحاب السنن‪.‬‬
‫ومعنى يجمع‪ :‬أي يعزم‪ .‬يقال‪) :‬أجمعت( المر‪ ،‬إذا عزمت عليه‪.‬‬

‫والحببديث مختلببف فببي رفعببه ووقفببه وحسبببنا أن البخبباري وأبببا داود‬


‫والنسائي والترمذي وابن أبي حاتم صححوا وقفببه )ذكببر ذلببك الحببافظ‬
‫فببي "التلخيببص" المطبببوع مببع المجمببوع ‪ ،.(304/6-‬فل يصببلح إذن‬
‫للستدلل على ما اختلفوا فيه‪.‬‬
‫ولهذا كان ثمت مجال للختلف في وقت النية متى هو؟‪.‬‬

‫فمن أخذ بالحديث المذكور جعل وقتها قبل الفجر‪.‬‬


‫ومن لم يأخذ به أجازها قبله وبعده كمببا هببو مببذهب أبببي حنيفببة الببذي‬
‫يجيز صوم رمضان بنية من الليل‪ ،‬وإلى نصف النهار‪.‬‬
‫ومنهم من قصر تبييت النية علبى الفببرض‪ ،‬وأمبا النفببل فأجببازوه فبي‬
‫النهار إلى ما قبل الزوال‪.‬‬
‫‪53‬‬

‫وحجتهم ما رواه مسلم عن عائشة‪ :‬أن النبببي صببلى اللببه عليببه وسببلم‬
‫كان يدخل على بعض أزواجه‪ ،‬فيقول‪" :‬هل من غداء؟" فببإن قببالوا‪ :‬ل‪،‬‬
‫قال‪" :‬فإني صببائم" )رواه مسببلم ‪-‬ببباب جببواز صببوم النافلببة بنيببة مببن‬
‫النهار قبل الزوال(‪.‬‬
‫وكذلك ما جاء في الصحيحين أنه صببلى اللببه عليببه وسببلم حيببن فببرض‬
‫صوم عاشوراء أمر رجل ً من أسلم يؤذن في الناس في النهار‪" :‬أل كببل‬
‫من أكل فليمسك‪ ،‬ومن لم يأكببل فليصببم" )رواه البخبباري ‪-‬ببباب صببيام‬
‫يوم عاشوراء‪ ،‬ومسلم ‪-‬باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه(‪.‬‬

‫بل ذهب بعضهم إلى جواز النية بعد الزوال‪.‬‬


‫ومن الفقهاء ‪ -‬مثل الزهري وعطاء وزفر ‪ -‬مببن لببم يوجبببوا النيببة فببي‬
‫صوم رمضان وكأنهم ‪ -‬والله أعلببم ‪ -‬يببرون أن صببوم رمضببان ل يحتبباج‬
‫إلى نية من المسلم‪ ،‬فهو بمجرد إمساكه صائم‪.‬‬

‫وذهب المام مالك إلى أن نية الصيام في أول ليلة من رمضببان كافيببة‬
‫للشهر كله‪ ،‬ومغنية عن تجديد نية لكل ليلة‪ ،‬باعتبار صوم رمضببان عمل ً‬
‫دا‪ ،‬وعبادة واحدة‪ ،‬وإن كانت موزعة على اليام‪ ،‬كالحببج تكفيببه نيببة‬ ‫واح ً‬
‫في أوله‪ ،‬وإن كانت أفعاله موزعة علببى عببدد مببن اليببام‪ ،‬وهببو مببذهب‬
‫إسحاق ورواية عن أحمد‪.‬‬

‫والظاهر‪ :‬أن صوم كل يببوم عبببادة مسببتقلة‪ ،‬مسببقطة لفببرض وقتهببا‪،‬‬


‫بخلف الحج فإنه كله عمل واحد‪ ،‬ول يتم إل بفعل ما اعتبره الشرع من‬
‫المناسك‪ ،‬والخلل بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه‪.‬‬
‫ومهما يكن من الختلف في أمر النية‪ ،‬فالمؤكد أنها في صيام رمضان‬
‫مركوزة في ضمير كل مسلم حريببص علببى صببيام شببهره‪ ،‬وأداء فببرض‬
‫ربه‪ ،‬ول مشكلة في ذلك على الطلق‪.‬‬

‫وأما في صوم التطوع‪ ،‬فالحاديث قاطعة بببأن إنشبباءها بالنهببار جببائز‪،‬‬


‫كما عليه عمل الرسول الكريم وصحابته‪ ،‬ولكن يبدو أن الذي يثاب عليه‬
‫كر أو تأخر‪ ،‬إذ ل ثواب إل بنية‬ ‫هو الوقت الذي ابتدأ فيه النية‪ ،‬ب ّ‬
‫ما ُيفطر الصائم وما ل ُيفطره‬
‫عا كبببيًرا‪ ،‬فببذكر‬‫توسببع كببثير مببن الفقهبباء فيمببا يفطّببر الصببائم توس ب ً‬
‫فطًّرا‪ ،‬وذكببر الشببافعية أي ً‬
‫ضببا أشببياء‬ ‫م َ‬
‫الحناف‪ ،‬حوالي سبعة وخمسين ُ‬
‫عدوا له قواعببد‪،‬‬ ‫مفطرات تفننا غريًبا‪ ،‬ق ّ‬ ‫كثيرة‪ ،‬وتفنن المتأخرون في ال ُ‬
‫عا ل تحصر‪ .‬والقواعد نفسها غيببر مسببلمة؛ لنببه لببم‬ ‫ثم بنوا عليها فرو ً‬
‫يقم عليها دليل محكم من القرآن والسنة‪.‬‬

‫فقد قالوا‪ :‬إن إيصال عين ‪ -‬وإن قلت كسمسمة‪ ،‬أو لم تؤكل كحصبباة ‪-‬‬
‫من منفذ مفتوح إلى جوف الصائم يف ّ‬
‫طره‪.‬‬
‫‪54‬‬

‫ثم فسروا الجوف بأنه‪ :‬ما يسمى جو ً‬


‫فا‪ ،‬وإن لم يكببن فيببه قببوة تحليببل‬
‫الغذاء‪ ،‬أو الدواء‪ ،‬كحلق‪ ،‬ودمبباغ‪ ،‬وببباطن أذن‪ ،‬وبطببن وإحليببل‪ ،‬ومثانببة‬
‫وهي مجمع البول‪ ،‬فلببو كببان برأسببه مأمومببة )إصببابة بالببدماغ( فوضببع‬
‫عليها دواء‪ ،‬فوصل خريطة الدماغ أفطر‪ ،‬ولو وضع علببى جائفببة )جببرح‬
‫بالجوف( دواء فوصل جوفه أفطر‪ ،‬وإن لم يصل باطن المعاء‪.‬‬

‫وذكروا هنا أن اسببتعمال الحقنببة )الشببرجية كمببا تسببمى الن( ُيفطّببر‪،‬‬


‫مف ّ‬
‫طر‪.‬‬ ‫سواء وصل الدواء إلى الداخل أم ل؟ لن مجرد وضع الحقنة ُ‬

‫دا أو نحوه‪) ،‬مثل عملية القسطرة( أفطر‪.‬‬ ‫ولو أدخل في إحليله عو ً‬


‫دا ُيفطر‪.‬‬‫وكذلك لو أدخل إلى باطن أذنه عمو ً‬
‫ومما قاله المتأخرون وسجلوه فببي كتبهببم‪ ،‬وتنبباقله المهتمببون بفقببه‬
‫الجزئيات والفروع المذهبية‪.:‬‬

‫)وينبغي الحتراز حالة الستنجاء‪ ،‬لنه مببتى أدخببل طببرف إصبببعه دبببره‬
‫أفطر ولو أدنى شيء من رأس النملة‪ ،‬بببل لببو خببرج منببه غببائط‪ ،‬ولببم‬
‫ينفصل‪ ،‬ثم ضم دبره‪ ،‬فدخل منه شيء إلى داخله يفطر‪ ...‬إلببخ‪ .‬ومثلببه‬
‫فرج النثى‪.‬‬
‫ولو طعن بسكين فوصل السكين جوفه أفطر!‪.‬‬

‫وممببا سببمعته فببي دروس المشببايخ وأنببا صببغير‪ ،‬وقرأتببه فببي كتببب‬
‫الشافعية وأنا كبير‪ :‬لو أصبح وفي فمه خيط متصل بجببوفه‪ ،‬كببأن أكببل‬
‫بالليل كنافة‪ ،‬وبقي منها خيببط بفمببه‪ ،‬تعببارض عليببه الصببوم والصببلة‪،‬‬
‫دا‪ ،‬ونزعببه اسببتقاءة! وبطلن‬ ‫لبطلن الصببوم بببابتلعه‪ ،‬لنببه أكببل عمبب ً‬
‫الصلة ببقائه لتصاله بنجاسة الباطن!‪.‬‬

‫وذكروا في الخروج من هذا المأزق حيل ً وأموًرا غريبة‪ ،‬منها‪ :‬أن يجبببره‬
‫الحاكم علببى نزعببه‪ ،‬فيكببون كببالمكره‪ ،‬فل يفطببر(!! )انظببر فببي ذلببك‪:‬‬
‫حاشية الشرقاوي علي التحرير ‪.(436-433/3-‬‬

‫وقد ذكرنا أن الصيام المتعبد به أمر معروف‪ ،‬حتى قبببل السببلم‪ ،‬عنببد‬
‫عرب الجاهلية وغيرهم من المم‪ ،‬وقد نبه القرآن على ذلك حين قببال‪:‬‬
‫)كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم( )البقرة‪.(183 :‬‬

‫وجاء في الحديث‪ :‬أن قري ً‬


‫شا كانت تصوم يوم عاشبوراء فبي الجاهليببة‪،‬‬
‫وأن اليهود كانوا يصومونه‪.‬‬
‫‪55‬‬

‫وحقيقببة الصببيام المتفببق عليهببا هببي‪ :‬حرمببان النفببس مببن شببهواتها‪،‬‬


‫دا للتقرب إلببى اللببه‬
‫ومعاناة الجوع والعطش والمتناع عن النساء‪ ،‬قص ً‬
‫تعالى‪.‬‬

‫وهذا ما بينه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‪ .‬فلم يجيببء‬
‫فيهما منع الصائم مببن شببيء إل مببن الكببل والشببرب والمباشببرة )أي‬
‫الجماع( وكذلك من الرفث والصخب والجهببل والسببب والكببذب والببزور‬
‫وسائر المعاصي‪.‬‬

‫أي أن الصائم منع مما يتنافى مع المعنى المادي للصببيام‪ ،‬وهببو الكببل‬
‫والشرب والجماع‪ ،‬وهو الذي نتحدث عنه الن‪ ،‬ومما يتنافى مع المعنى‬
‫الدبي له‪ ،‬وهو الجهل والزور وسائر المعاصي والثام‪.‬‬

‫وهذا واضح في القرآن والسنة‪.‬‬


‫ففي القرآن قال تعالى‪) :‬فالن باشروهن وابتغببوا مببا كتببب اللببه لكببم‬
‫وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط البيببض مبن الخيببط السببود مبن‬
‫الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل()البقرة‪.(187 :‬‬

‫فهذه هي الشياء الثلثة المحددة‪ ،‬التي منع منها الصائمون‪ ،‬مببن تبببين‬
‫الفجر إلى دخول الليل‪ ،‬وذلك بغروب الشمس‪ .‬كما بينه الحديث‪.‬‬
‫وأكدت ذلك السنة بما جاء في الحديث القدسي‪" :‬كل عمل ابن آدم له‪،‬‬
‫إل الصوم فإنه لي وأنا أجزي به‪ ،‬يدع الطعام من أجلي‪ ،‬ويدع الشببراب‬
‫من أجلي‪ ،‬ويدع لذته مببن أجلببي‪ ،‬ويببدع زوجتببه مببن أجلببي" )رواه ابببن‬
‫خزيمة في صحيحه برقم ‪ 1897-‬عن أبي هريرة‪ ،‬وإسناده صحيح(‪.‬‬

‫والحكمة في هذا المنع والحرمان الختياري واضحة كل الوضوح‪ ،‬فهببذا‬


‫صبا شببهوتي البطببن‬ ‫لون من رياضة النفس على ترك الشهوات‪ ،‬وخصو ً‬
‫والفببرج‪ ،‬والتحببرر مببن المألوفببات‪ ،‬الببتي تجعببل النبباس أسببرى لهببا‪،‬‬
‫كالفطور في ساعة معينة من الصباح‪ ،‬والغداء في ساعة معينببة أخببرى‬
‫سببا‬
‫من الظهيرة‪ ،‬إلخ‪ ..‬فيأتي الصببيام‪ ،‬فيغيببر عبباداته هببذه‪ ،‬ويقلبهببا رأ ً‬
‫على عقب‪ ،‬كل ذلك طاعة لله‪ ،‬وابتغاء وجهببه‪ ،‬فلببب الصببيام هببو كسببر‬
‫الشهوة وتضييق مجاري الشببيطان بببالجوع والحرمببان‪ ،‬وجهبباد النفببس‬
‫في ذات الله تعالى وقد قال سبحانه‪) :‬والذين جاهببدوا فينببا لنهببدينهم‬
‫سبلنا وإن الله لمع المحسنين( )العنكبوت‪.(69 :‬‬

‫فهذه الثلثة‪ ،‬وما ألحق بها بالجماع ‪ -‬ممببا ذكرنبباه مببن تببدخين )التبببغ(‬
‫ومضغه ونشوقه‪ ..‬إلبخ‪ ،‬ومبا هبو شبر مبن التببغ مبن السبموم البيضباء‬
‫والسوداء ‪ -‬هي التي منعتها النصوص واتفقت مع حكمة الصيام‪.‬‬
‫‪56‬‬

‫وجاء في الحديث أمببران اختلببف الفقهبباء فببي التفطيببر بهمببا‪ ،‬وهمببا‪:‬‬


‫الحجامة والقيء‪ ،‬نظًرا للختلف في مدى صببحة الحبباديث مببن ناحيببة‪،‬‬
‫ودللتها من ناحية أخرى ومعارضتها لحاديث أخرى من ناحية ثالثة‪.‬‬

‫هل الحجامة تفطر الصائم؟‬


‫فأما الحجامة ‪ -‬وهي أخذ الدم من الجسم بطريق المص‪ ،‬وكببان العببرب‬
‫يتداوون بها ‪ -‬فقد ذهب إلى التفطير بها أحمد وإسحاق وبعض فقهبباء‬
‫الحديث‪ ،‬وهو مروي عن بعض الصببحابة والتببابعين‪ .‬وقببد قببالوا ‪:‬يفطببر‬
‫الحاجم والمحجوم‪.‬‬

‫عببا‪" :‬أفطببر الحبباجم والمحجببوم" )قببال‬‫وحجتهببم‪ :‬حببديث ثوبببان مرفو ً‬


‫النووي‪ :‬رواه أبو داود وابن ماجببة بأسببانيد صببحيحة‪ ،‬وإسببناد أبببي داود‬
‫على شرط مسببلم المجمببوع ‪ ،.(349/6،350-‬وحببديث شببداد بببن أوس‪:‬‬
‫أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل بالبقيع‪ ،‬وهببو يحتجببم‪،‬‬
‫وهو آخذ بيدي‪ ،‬لثماني عشرة خلت من رمضان‪ ،‬فقال‪" :‬أفطر الحبباجم‬
‫والمحجوم" )قال النووي‪ :‬رواه أبو داود والنسائي وابن مبباجه بأسببانيد‬
‫صحيحة ‪-‬نفسه(‪.‬‬

‫وروى مثببل ذلببك رافبع ببن خديبج وأببو هريببرة وأببو موسبى )المصببدر‬
‫السابق‪ .‬وانظر‪ :‬فتح الباري ‪ 79/5-‬ط‪ .‬الحلبي(‪.‬‬
‫وجمهور الفقهاء‪ :‬على أن الحجامة ل تفطر‪ ،‬ل الحاجم ول المحجوم‪.‬‬
‫وحجتهم‪ :‬حديث ابن عباس‪ :‬أن النبي صببلى اللببه عليببه وسببلم‪ ،‬احتجببم‬
‫وهو محرم‪ ،‬واحتجم وهو صائم )رواه البخبباري فببي صببحيحه‪ ،‬كمببا فببي‬
‫المجموع ‪.(35/6-‬‬

‫سئل أنس‪ :‬أكنتم تكرهون الحجامة للصببائم‪ .‬وفببي روايببة‪ :‬علببى عهببد‬ ‫و ُ‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال‪ :‬ل إل مببن أجببل الضببعف )رواه‬
‫البخاري‪ ،‬المصدر السابق(‪.‬‬
‫وعن أبي ليلى قال‪ :‬حدثني رجل مببن أصببحاب النبببي صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم نهببى عببن الحجامببة والمواصببلة‬
‫)مواصلة الصيام( ولم ينه عنهما إل إبقاء على أصببحابه )قببال النببووي‪:‬‬
‫رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم ‪-‬نفسه(‪.‬‬
‫خص رسول الله صلى الله عليببه وسببلم فببي‬ ‫وعن أبي سعيد الخدري‪ :‬ر ّ‬
‫قبلة للصائم والحجامة )رواه الدارقطني وقببال‪ :‬رواتببه كلهببم ثقببات‪،‬‬ ‫ال ُ‬
‫ورواه من طريق آخر‪ ،‬وقال‪ :‬كلهم ثقات ‪-‬نفسه‪.(351 :‬‬

‫كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب‬ ‫وعن أنس قال‪ :‬أول ما ُ‬
‫احتجم وهو صائم‪ ،‬فمر به النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقببال‪" :‬أفطببر‬
‫خص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم‪،‬‬ ‫هذان"‪ ،‬ثم ر ّ‬
‫‪57‬‬

‫وكان أنس يحتجم وهو صائم )رواه الدارقطني‪ ،‬وقال‪ :‬كلهم ثقببات ول‬
‫أعلم له علة ‪-‬نفسه‪.(351 :‬‬

‫قال البيهقي‪ :‬وروينا في الرخصة في ذلك عببن سببعد بببن أبببي وقبباص‬
‫وابن مسعود وابن عباس وابن عمر والحسين بن علي‪ ،‬وزيد بببن أرقببم‬
‫وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم )المصدر نفسه(‪.‬‬

‫والظاهر من هذه النقببول‪ :‬أن حببديث‪" :‬أفطببر الحبباجم والمحجببوم" إن‬


‫أخذ بظاهره‪ ،‬قبد نسببخ‪ ،‬ببدليل حبديث ابببن عببباس فبي احتجبامه عليببه‬
‫الصببلة والسببلم‪ ،‬وهببو متببأخر‪ ،‬لنببه كببان فببي حجببة الببوداع وأحبباديث‬
‫الترخيص في الحجامة تدل علببي أنهببا متببأخرة‪ ،‬كمببا فببي حببديث أنببس‬
‫وغيره‪ ،‬وغالب ما يستعمل الترخيص بعد المنع‪.‬‬

‫كما أن أحاديث الترخيص في الحجامة للصببائم أصببح وأقببوى‪ ،‬وينصببرها‬


‫القياس‪ ،‬كما قال المام الشافعي فوجب تقديمها‪.‬‬
‫ولوا حببديث‪" :‬أفطببر الحبباجم والمحجببوم" بببأن معنبباه‪ :‬تعرضببا‬
‫وقببد تببأ ّ‬
‫للفطر‪ .‬أما الحاجم فلنه ل يأمن من وصول شيء من الدم إلببى جببوفه‬
‫عند المبص‪ .‬وأمبا المحجبوم فلنبه ل يبأمن ضببعف قبوته بخببروج البدم‪،‬‬
‫فيؤول أمره إلى أن يفطر‪.‬‬

‫قال الشافعي‪ :‬والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلببم‪:‬‬


‫أن ل يفطر أحد بالحجامة )انظر‪ :‬الفتح ‪.(80 ،79/5-‬‬
‫وعلى هذا يعرف حكم أخذ الببدم مببن الجسببم فببي الصببيام‪ ،‬فعلببى رأي‬
‫الجمهور‪ :‬ل ُيفطر‪ ،‬ولكن قد يكره من أجل الضعف‪ ،‬أي إذا كان يضببعف‬
‫المأخوذ منه‪.‬‬
‫وعلى رأي أحمد‪ :‬إذا قيس على الحجامة ُيفطر‪ ،‬وإذا وقببف عنببد النببص‬
‫لم ُيفطر‪.‬‬

‫هل يفطر القىء الصائم؟‬


‫وأما القيء فقد جاء فيه حديث أبببي هريببرة‪" :‬مببن ذرعببه القيببء وهببو‬
‫صببائم فل قضبباء عليببه‪ ،‬ومببن اسببتقاء فليقببض" )قببال الحببافظ فببي‬
‫التلخيببص‪ :‬رواه الببدارمي وأصببحاب السببنن وابببن حبببان والببدارقطني‬
‫والحاكم من حديث أبي هريرة‪ ،‬قببال النسببائي‪ :‬وقفببه عطبباء عببن أبببي‬
‫هريرة‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬ل نعرفه إل مبن حبديث هشبام عبن محمبد عبن‬
‫أبي هريرة‪ ،‬تفرد به عيسى بن يونس‪ ،‬وقال البخاري‪ :‬ل أراه محفو ً‬
‫ظا‪،‬‬
‫وقد روي من غير وجببه ول يصببح إسببناده‪ .‬وقببال الببدارمي‪ :‬زعببم أهببل‬
‫حفبباظ ل يببراه‬‫ما أوهببم فيببه‪ ،‬وقببال أبببو داود وبعببض ال ُ‬
‫البصرة أن هشا ً‬
‫محفوظًببا‪ ،‬وأنكببره أحمببد وقببال فببي ورايببة‪ :‬ليببس مببن ذا شببيء‪ ،‬قببال‬
‫‪58‬‬

‫الخطابي‪ :‬يريد أنه غير محفوظ‪ ،‬وقال مهنا عن أحمد‪ :‬حدث به عيسببى‬
‫بن يونس‪ ،‬وليس هو في كتابه‪ ،‬غلط فيه‪ ،‬وليس هو من حديثه!‪.‬‬
‫وقال الحاكم‪ :‬صحيح علببى شببرطهما‪ ،‬وأخرجببه مببن طريببق حفببص بببن‬
‫ضا‪) .‬ا‪.‬هب‪ .-‬من التلخيص مع المجموع ‪-‬‬ ‫ضا‪ ،‬وأخرجه ابن ماجه أي ً‬
‫غياث أي ً‬
‫‪(351/6‬‬

‫عفوه وأنكببروه‪ ،‬فيمببا‬‫وبهذا نرى أن الذين أوردوه لم ُيصببححوه‪ ،‬بببل ض ب ّ‬


‫عدا الحاكم‪ ،‬وهو كما قالوا‪) :‬واسع الخطو متساهل في التصحيح(‪.‬‬
‫وكذلك حديث أبي الدرداء‪ :‬أنه صلى الله عليه وسلم قاء فببأفطر )قببال‬
‫الحافظ‪ :‬رواه أحمد وأصحاب السنن الثلثة‪ ،‬وابن الجببارود وابببن حبببان‬
‫والببدارقطني والبببيهقي والطبببراني وابببن منببده والحبباكم عببن أبببي‬
‫الدرداء‪ ،‬ونقل عن البيهقي‪ ،‬وغيببره أن الحببديث مختلببف فببي إسببناده‪.‬‬
‫وقال البيهقي في موضع آخببر‪ :‬إسببناده مضببطرب‪ ،‬ول تقببوم بببه حجببة‬
‫‪-‬التلخيص مع المجموع ‪.(352/6‬‬

‫فأما حديث أبببي هريببرة فيكفببي أن أحمببد أنكببره‪ ،‬وقببال‪ :‬ليببس مببن ذا‬
‫شيء‪ ،‬أي أنه غير محفوظ وقال البخبباري‪ :‬ل أراه محفوظًببا‪ ،‬وقببد روي‬
‫من غير وجه‪ ،‬ول يصح إسناده‪.‬‬

‫ومما يدل على عدم صحته‪ :‬أن أبا هريرة راويه كان يقول بعدم الفطببر‬
‫بالقيء‪ ،‬فقد روى عنه البخاري أنه قال‪ :‬إذا قاء‪ ،‬فل يفطر‪ .‬إنما يخببرج‬
‫ول يولج‪ ،‬قال‪ :‬ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر‪ .‬والول أصح‪.‬أ‪.‬هب‪ .‬فببإن‬
‫صح موقو ً‬
‫فا‪ :‬كان رأًيا له رجع عنه‪.‬‬
‫ونقل ابن بطال عن ابن عبباس وابببن مسببعود عبدم الفطبار ببالقيء‪،‬‬
‫قا ذرعه أو تعمده‪.‬‬ ‫مطل ً‬
‫وعّلق البخاري عن ابن عباس وعكرمة قال‪ :‬الصببوم ممببا دخببل‪ ،‬وليببس‬
‫مما خرج‪.‬‬
‫وإيراد البخاري لهذه الثار يببدل علببى أن مببذهبه عببدم الفطببر بببالقيء‬
‫قا‪.‬‬ ‫مطل ً‬
‫وأما حديث‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر‪ .‬فل يببدل علببى‬
‫أن القيء مفطر بذاته‪ ،‬بل كمببا يقببال‪ :‬مببرض فببأفطر‪ ،‬أو أصببابه جهببد‬
‫ومشقة فأفطر‪ ،‬أي أفطر ببأن أكبل أو شبرب‪ .‬هكبذا فسبره الطحباوي‬
‫رحمه الله‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإل فإن لفظ )قاء( ل يدل على التعمد الذي هو المفطر عندهم‪ .‬وإنما‬
‫الذي يدل على التعمد هو )استقاء(‪.‬‬
‫والحقيقة أن التفطير بالقيء ل يتفق مع مقاصد الصيام‪.‬‬

‫وقد جاء في حديث مرفوع آخر ما يعارض هذا‪ ،‬وهو مببا روي عنببه عليببه‬
‫الصلة والسلم‪" :‬ثلث ل يفطببرن‪ :‬الحجامببة والقيببء والحتلم" )قببال‬
‫‪59‬‬

‫الحافظ في التلخيص‪ :‬رواه الترمذي والبيهقي من حببديث أبببي سببعيد‪،‬‬


‫وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪ ،‬وهو ضعيف‪ ،‬ورواه الدارقطني من‬
‫حديث هشام بن سعد عن زيد‪ ،‬وهشام صدوق قد تكلموا فببي حفظببه‪..‬‬
‫إلخ‪ .‬انظر تلخيص الحبير ‪.(194/2-‬‬

‫ما‬
‫حديث‪ :‬بالغ في الستنشاق إل أن تكون صائ ً‬
‫وهنا حديث آخر‪ ،‬كان له أثره في توسيع دائرة المفطرات‪ ،‬وهبو حبديث‬
‫لقيط بن صبرة أنه سأل النبببي صببلى اللببه عليببه وسببلم عببن الوضببوء‪،‬‬
‫فقال‪" :‬أسبغ الوضوء وخلل بين الصابع‪ ،‬وبالغ فببي الستنشبباق إل أن‬
‫ما" )رواه أبو داود في الطهببارة برقببم )‪ ،(142‬وفببي الصببوم‬ ‫تكون صائ ً‬
‫ضا‪ ،‬والترمببذي فببي الصببوم )‪ (788‬وابببن مبباجه فببي الطهببارة )‪(407‬‬‫أي ً‬
‫‪،‬والنسائي )‪ (66/1‬في الطهارة ولم يذكر فيه الستنشاق‪ ،‬وصححه ابن‬
‫خزيمببة )‪ ،(150‬وابببن حبببان كمببا فببي المببوارد )‪ ،(159‬والحبباكم فببي‬
‫المستدرك )‪ (147/1،148‬ووافقه الذهبي(‪.‬‬

‫ويلحظ على هذا الحديث‪:‬‬


‫ل‪ :‬أنه لم يرد في الصحيحين ول في أحدهما‪ ،‬مما يدل على أن رتبته‬ ‫أو ً‬
‫دون ما اشترطاه في صحيحيهما‪.‬‬
‫وقد ذكر البخاري في صحيحه‪ ،‬باب قول النبي صلى الله عليببه وسببلم‪:‬‬
‫إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء"‪ .‬قال‪ :‬ولم يميز بين الصائم وغيببره‬
‫)الفتح )‪ (62/5‬ط‪ .‬الحلبي(‪.‬‬

‫ثانًيا‪ :‬سلمنا بصحة الحديث‪ ،‬لكن مما يذكر هنا أنه لم يجيء بلفظ عببام‪،‬‬
‫صا لشخص معين يسأل عن الوضوء‪.‬‬ ‫بل جاء خطاًبا خا ً‬

‫ثالًثا‪ :‬أنه لم ينص على أن الماء إذا وصل إلى الجوف من طريببق النببف‬
‫يفطر‪ ،‬بل كل ما فيه النهي عن المبالغة في حالة الصوم‪ ،‬فقببد يببدخل‬
‫الماء عند المبالغة إلى فمه ومن فمه إلى جوفه وقد ينهى عن الشببيء‬
‫وإن لم يفطر‪ ،‬وقد جاء عن بعببض السببلف فببي أشببياء معينببة قبالوا‪ :‬ل‬
‫تفطر ولكن ينهى عنها‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن دخول الماء بعببد الستنشبباق وإن بببالغ‬
‫قا‪ ،‬ذكر منهم النووي في المجمببوع‪:‬‬ ‫فيه المتوضئ ل يبطل الصوم مطل ً‬
‫الحسن البصري‪ ،‬وأحمد وإسحاق وأبا ثور )المجموع ‪.(327/6-‬‬

‫عا‪ :‬لو سلمنا بأن وصول الماء إلى الجببوف مببن النببف يفطببر‪ ،‬فلببن‬
‫راب ً‬
‫نسلم بالتوسع في إلحاق أشياء أخرى بهببذا‪ ،‬لن الصببل فببي العبببادات‬
‫الوقوف عند النص‪ ،‬ول يتوسع في القياس فيها‪ ،‬ولن هذا الحديث جاء‬
‫على خلف الصل في أمر الصيام‪ ،‬فيحفظ ول قياس عليه‪.‬‬
‫‪60‬‬

‫المضمضة والستنشاق للصائم‬


‫المضمضة والستنشبباق فبي الوضببوء‪ ،‬إمبا سبنتان مبن سبننه كمبا هببو‬
‫مذهب الئمة الثلثة أبي حنيفة ومالببك والشببافعي‪ ،‬وإمببا فرضببان مببن‬
‫ءا مببن غسببل‬‫فروضه كما هو مذهب المببام أحمببد الببذي اعتبرهمببا جببز ً‬
‫الوجه المأمور ببه ‪ .‬وسبواء كانتبا مبن السببنن أم الفببرائض‪ ،‬فل ينبغبي‬
‫تركهما في الوضوء في صيام أو فطر‪.‬‬

‫كل ما على المسلم في حالة الصيام أل يبببالغ فيهمببا ‪ .‬كمببا يبببالغ فببي‬
‫حالة الفطار فقد جاء في الحديث‪ " :‬إذا استنشقت فأبلغ إل أن تكببون‬
‫ما " )أخرجه الشافعي وأحمد والربعة والبببيهقي( ‪ .‬فببإذا تمضببمض‬ ‫صائ ً‬
‫الصائم أو استنشق وهو يتوضأ‪ ،‬فسبق الماء إلى حلقببه مببن غيببر تعمبد‬
‫ول إسراف‪ ،‬فصيامه صحيح‪ ،‬كما لو دخل غبار الطريق‪ ،‬أو غربلة دقيق‪،‬‬
‫أو طارت ذبابة إلى حلقه‪ ،‬لن كل هببذا مببن الخطببأ المرفببوع عببن هببذه‬
‫المة ‪ .‬وإن خالف في ذلك بعض الئمة‪.‬‬

‫ضا ل يؤثر على صحة الصيام ‪ .‬ما لببم‬‫على أن المضمضة لغير الوضوء أي ً‬
‫يصل الماء إلى الجوف ‪ .‬والله أعلم‪.‬‬

‫ترجيح التضييق في المفطرات‬


‫عا مببا‬
‫لقد توسع الفقهاء ‪ -‬رضي الله عنهم ‪ -‬في أمر المفطببرات توسبب ً‬
‫أظنه خطر ببال أحد من أصحاب النبببي صببلى اللببه عليببه وسببلم الببذين‬
‫شاهدوا التنزيل‪ ،‬وفهموا عن الله ورسوله فأحسببنوا الفهببم‪ ،‬والببتزموا‬
‫فأحسنوا اللتزام‪.‬‬

‫وروى البخاري بسنده عن عائشببة قبالت‪ :‬كببان النبببي صبلى اللبه عليبه‬
‫وسببلم يببدركه الفجببر فببي رمضببان ‪ -‬أي وهببو جنببب ‪ -‬مببن غيببر حلببم‪،‬‬
‫فيغتسل ويصوم )انظر‪ :‬فتح الباري ‪.(153/4-‬‬

‫ذكر في )باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسًيا(‪.:‬‬


‫وقال عطاء‪ :‬إن استنثر فدخل الماء في حلقه ل بأس إن لم يملك )ذكر‬
‫في )الفتح( هذا الثر موصول ً عببن عبببد الببرزاق عببن ابببن جريببج‪ :‬قلببت‬
‫لعطاء‪ :‬إنسان يستنثر فدخل الماء في حلقه! قال‪ :‬ل بأس بذلك‪ .‬قببال‪:‬‬
‫وقاله عمر عن قتادة(‪ - .‬أي لم يملك دفع الماء ‪ -‬فإن ملببك دفعببه فلببم‬
‫يفعل حتى دخل حلقه أفطر‪.‬‬

‫وقال الحسببن‪ :‬إن دخببل حلقببه الببذباب فل شببيء عليببه )فتببح الببباري ‪-‬‬
‫‪.(155/4‬‬
‫وكذلك ذكر البخاري‪) :‬باب قول النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬إذا توضأ‬
‫فليستنشق بمنخره الماء" ولم يميز بين الصائم وغيره‪.‬‬
‫‪61‬‬

‫وقببال الحسببن‪ :‬ل بببأس بالسببعوط للصببائم‪ ،‬إن لببم يصببل إلببى حلقببه‪،‬‬
‫ويكتحل‪.‬‬

‫وقال عطاء‪ :‬إن تمضمض ثم أفرغ ما في فيه من الماء ل يضره‪ ،‬إن لم‬
‫يزدرد ريقه )هذا الثر عند سعيد بن منصور عن ابن جريج‪ :‬قلت لعطاء‪:‬‬
‫الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم! قال‪ :‬ل يضره‪ ،‬ومبباذا بقببي‬
‫في فيه؟! ‪-‬الفتببح ‪ .(160/4‬ومبباذا بقببي فببي فيببه؟ ول يمضببغ العلببك ‪-‬‬
‫اللبان ونحوه ‪ -‬فإن ازدرد ريق العلك‪ ،‬ل أقول‪ :‬إنه يفطببر ولكببن ينهببى‬
‫عنه‪ ،‬فإن استنثر فدخل الماء حلقه ل بأس لم يملك ‪ -‬أي لم يملك دفببع‬
‫الماء ‪) (-‬فتح الباري ‪.(159/4-‬‬

‫وفي )باب الحجامة والقيء للصائم( روي عببن أبببي هريببرة قببوله‪) :‬إذا‬
‫قاء فل يفطر‪ ،‬إنما يخرج ول يولج‪ ،‬ويذكر عببن أبببي هريببرة أنببه يفطببر‪،‬‬
‫والول أصح‪ ،‬وقال ابن عباس وعكرمة‪ :‬الصببوم ممببا دخببل وليببس ممببا‬
‫خرج‪ ،‬وكان ابن عمر يحتجم وهببو صببائم‪ ،‬ثببم تركببه‪ ،‬فكببان يحتجببم مببن‬
‫طبا منبه‪ ،‬وكبان كبثير الحتيباط ‪) (-‬المصبدر السبابق ‪-‬‬ ‫الليبل ‪ -‬أي احتيا ً‬
‫‪.(173/4،174‬‬

‫قال الحافظ )إيراده ‪ -‬أي البخباري ‪ -‬للثبار المبذكورة يشبعر ببأنه يبرى‬
‫عدم الفطار بها( )المصدر السابق ‪.(174/4-‬‬
‫وقال المام ابن قدامة‪) :‬أجمع العلماء على الفطر بالكل والشرب بما‬
‫يتغذى به‪ .‬فأما ما ل يتغذى به فعامة أهل العلم على أن الفطببر يحمببل‬
‫به‪ ،‬وقال الحسن بن صالح‪ :‬ل يفطر بما ليس بطعام ول شراب‪ ،‬وحكى‬
‫عن أبي طلحة النصاري‪ :‬أنه كان يأكل البرد في الصوم‪ ،‬ويقول‪ :‬ليببس‬
‫بطعام ول شراب(‪.‬‬

‫تقببرأ فببي كتببب الحنفيببة فتجببد مببا يقببرب مببن سببتين مفطببًرا مببن‬
‫المفطبرات‪ ،‬ومثببل ذلببك أو قريبب منبه فبي المبذاهب الخببرى‪ ،‬وملوا‬
‫مساحات واسعة من كتب الفقه‪ ،‬وشغلوا مثلها مببن تفكيببر المسببلمين‬
‫واهتماماتهم‪ ،‬وأصبحت معرفة هذه المفطرات الكثيرة الغزيرة الشببغل‬
‫الشاغل للصائمين ولهل الفتوى‪ ،‬في كببل رمضببان‪ ،‬ازدحمببت المجلت‬
‫والصبببحف والذاعبببات والمسببباجد بالسبببئلة والجوببببة حبببول هبببذه‬
‫المفطرات‪.‬‬

‫وبها بعد الدين عببن يسببره وفطرتببه‪ ،‬وأصبببح شببيًئا معق ب ً‬


‫دا يحتبباج إلببى‬
‫دراسة مطولة لكل عبادة من العبادات‪ ،‬حتى يعرف مداخلها ومخارجها‪،‬‬
‫وأركانها وشروطها‪.‬‬
‫‪62‬‬

‫ل ما يقال في هذا المجال مما لم يدل عليه محكم قببرآن‬ ‫ج ّ‬‫والواقع أن ُ‬


‫ول صحيح سنة‪ ،‬ول إجماع أمة‪ ،‬إنما هي اجتهببادات يؤخبذ منهببا ويببترك‪،‬‬
‫وآراء بشببر‪ ،‬يجببب أن تحبباكم وتببرد إلببى النصببوص الصببلية‪ ،‬والقواعببد‬
‫المرعية‪ ،‬والمقاصد الكلية‪.‬‬
‫والببذي أميببل إليببه هنببا‪ :‬أل ُيفطّببر الصببائم إل مببا أجمببع الفقهبباء علببى‬
‫التفطير به‪ ،‬وذلك ما دل عليه محكم القرآن وصحيح السنة‪ ،‬واتفق مببع‬
‫حكمة الشارع من الصيام‪ ،‬وهو الحرمان من الشهوات‪ ،‬وفطام النفببس‬
‫عن المألوفات‪.‬‬

‫اتجاه البخاري‬
‫وهو الذي يميل إليه المام البخاري‪ ،‬كما يبدو ممببا ذكببره فببي صببحيحه‪.‬‬
‫فقد قال في )باب اغتسال الصائم(‪) :‬وبل ابن عمر رضببي اللببه عنهمببا‬
‫ثوًبا‪ ،‬فألقاه عليه‪ ،‬وهو صائم‪.‬‬
‫ودخل الشعبي الحمام وهو صائم‪.‬‬
‫در أو الشيء ‪ -‬أي يتذوقه ‪.-‬‬ ‫ق ْ‬
‫وقال ابن عباس‪ :‬ل بأس أن يتطعم ال ِ‬
‫وقال الحسن‪ :‬ل بأس بالمضمضة والتبرد للصائم‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود‪ :‬إذا كان يبوم صببوم أحببدكم فليصبببح دهين ًببا مببترجل ً ‪-‬‬
‫يعني يدهن شعره ويرجله ‪.-‬‬
‫وقال أنببس‪ :‬إن لببي "أبببزن" أتقحببم فيببه وأنببا صببائم ‪ -‬والبببزن‪ :‬كلمببة‬
‫فارسية‪ ،‬وهي حجر منقور شبه الحوض‪.-‬‬
‫وقال ابن عمر‪ :‬ويستاك أول النهار وآخره‪ ،‬ول يبلع ريقه‪.‬‬
‫وقال عطاء‪ :‬إن ازدرد ريقه‪ ،‬ل أقول‪ :‬يفطر‪.‬‬
‫وقال اببن سبيرين‪ :‬ل ببأس بالسبواك الرطبب‪ .‬قيبل‪ :‬لبه طعبم! قبال‪:‬‬
‫والماء له طعم‪ ،‬وأنت تمضمض به‪.‬‬
‫سببا( فتببح الببباري ‪-‬‬ ‫ولم ير أنس والحسببن وإبراهيببم بالكحببل للصببائم بأ ً‬
‫‪ 153/4‬ط‪ .‬دار الفكر(‪.‬‬
‫قال ابن قدامة‪) :‬ولعل من يذهب إلى ذلببك يحتببج بببأن الكتبباب والسببنة‬
‫إنما حرما الكل والشرب فما عداهما يبقى على أصل الباحة(‪.‬‬
‫قبال‪) :‬ولنبا دللبة الكتباب والسبنة علبى تحريبم الكبل والشبرب علبى‬
‫العموم‪ ،‬فيدخل فيه محل النببزاع‪ ،‬ولببم يثبببت عنببدنا مببا نقببل عببن أبببي‬
‫فا( )المغني مع الشرح الكبير ‪ .(36/3-‬أ‪.‬هب‪.‬‬ ‫طلحة‪ ،‬فل يعد خل ً‬
‫أما تحريم الكتاب للكل والشرب‪ ،‬فمسلم‪ ،‬ولكن مببن الببذي يقببول‪ :‬إن‬
‫مببا‪ ،‬أو‬
‫من ابتلع حصاة‪ ،‬أو حبة خردل‪ ،‬أو ما بين أسنانه‪ ،‬أو نخامة أو بلغ ً‬
‫اكتحل فأحس طعم الكحل في حلقببه أو اسببتعمل الحقنببة فببي دبببره‪..‬‬
‫إلخ‪ ..‬أن هذا يدخل في عموم الكل أو الشببرب المحببرم علببى الصببائم‪،‬‬
‫وهذا ما ل دليل عليه‪.‬‬

‫مذهب ابن حزم‬


‫‪63‬‬

‫جحه المام الظاهري أبو محمد بن حزم‪ ،‬البذي لبم يجبد‬ ‫وهذا هو الذي ر ّ‬
‫في ظواهر نصوص الشرع ما يؤيد التوسببع الببذي ذهببب إليببه جمببع مببن‬
‫محلى(‪.:‬‬ ‫الفقهاء‪ ،‬فقال في )ال ُ‬
‫)ول ينقض الصوم حجامة‪ ،‬ول احتلم‪ ..‬ول قيء غالب‪ ،‬ول قلس خببارج‬
‫من الحلق ما لم يتعمد رده بعد حصوله في فمه وقدرته على رميه‪ ،‬ول‬
‫دم خببارج مببن السببنان أو الجببوف‪ ،‬مببا لببم يتعمببد بلعببه‪ ،‬ول حقنببة ول‬
‫سعوط ول تقطير فبي أذن‪ ،‬أو فبي إحليببل أو فبي أنبف ول استنشبباق‬
‫وإن بلغ الحلق‪ ،‬ول مضمضة دخلت الحلق مببن غيببر تعمببد ول كحببل ‪ -‬أو‬
‫إن بلغ إلى الحلق نهاًرا أو ليل ً ‪ -‬بعقاقير أو بغيرها‪ ،‬ول غبببار طحببن‪ ،‬أو‬
‫غربلة دقيق‪ ،‬أو حناء‪ ،‬أو غير ذلك أو عطر‪ ،‬أو حنظل‪ ،‬أو أي شببئ كببان‪،‬‬
‫ول ذباب دخل الحلق بغلبة‪ ،‬ول من رفع رأسه فوقع فببي حلقببه نقطببة‬
‫ماء بغير تعمد لذلك منه‪ ،‬ول مضغ زفت أو مصطكي أو علك‪ ،‬ول سواك‬
‫برطب أو يابس‪ ،‬ومضغ طعام أو ذوقه‪ ،‬ما لببم يتعمببد بلعببه‪ ،‬ول مببداواة‬
‫جائفة أو مأمومة بما يؤكل أو يشرب أو بغير ذلك‪ ،‬ول طعببام وجببد بيببن‬
‫السببنان‪ :‬أي وقببت مببن النهببار وجببد‪ ،‬إذا رمببي‪ ،‬ول دخببول حمببام‪ ،‬ول‬
‫تغطيس في ماء‪ ،‬ول دهن شارب( )المحلى لبن حزم ‪.(300/6،301-‬‬

‫قال أبو محمد‪) :‬إنما نهانا الله تعالى في الصوم عببن الكببل‪ ،‬والشببرب‬
‫والجماع وتعمد القيء والمعاصي‪ ،‬وما علمنا أكل‪ ،‬ول شرًبا‪ ،‬يكون على‬
‫دبببر‪ ،‬أو إحليببل أو أذن أو عيببن‪ ،‬أو أنببف‪ ،‬أو مببن جببرح فببي البطببن‪ ،‬أو‬
‫الببرأس!! ومببا نهينببا قببط عببن أن توصببل إلببى الجببوف ‪ -‬بغيببر الكببل‪،‬‬
‫والشرب ‪ -‬ما لم يحرم علينا إيصاله( )المصدر السابق ‪.!!.(318/6-‬‬

‫ترجيح ابن تيمية‬


‫وهذا التجاه هو الذي أيده ‪ -‬وتوسع في تأييده بعدد من الحجج القوية ‪-‬‬
‫شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬في رسالة له‪ُ ،‬نشرت منفردة‪ ،‬وضمن مجمببوع‬
‫فتاواه‪.‬‬
‫ونظًرا لهمية الموضوع‪ ،‬وحاجة عموم الناس إليه‪ ،‬لصلته بعبادة تتعلببق‬
‫بجميع المسلمين‪ ،‬ويتكرر السؤال عنها كل عام‪ ،‬وتختلف الجوبة فيهببا‬
‫إلى حد يحير المسلم العادي‪.‬‬

‫أرى أن أنقل هنا أهم ما اسبتدل ببه شبيخ السببلم لهببذا التجباه البذي‬
‫يضيق فيما ُيفطر الصائم‪.‬‬
‫فقد تكلم عن الكحل والحقنة‪ ،‬وما ُيقطر في الحليببل‪ ،‬ومببداواة المببة‬
‫)جرح الدماغ( والجائفببة )جببرح الجببوف( وغيرهببا ممببا تنببازع فيببه أهببل‬
‫العلم‪ ،‬هل يفطر به الصائم أو ل؟‪.‬‬

‫قببال‪ :‬والظهببر أنببه ل يفطببر شببيء مببن ذلببك‪ ،‬فببإن الصببيام مببن ديببن‬
‫المسلمين الذي يحتبباج إلببى معرفتببه الخبباص والعببام‪ ،‬فلببو كببانت هببذه‬
‫‪64‬‬

‫المور مما حرمها الله ورسوله في الصيام‪ ،‬ويفسببد الصببوم بهببا لكببان‬
‫هذا مما يجب على الرسول بيانه‪ ،‬ولو ذكر ذلك لعلمه الصببحابة وبلغببوه‬
‫المة‪ ،‬كما بلغوا سائر شرعه‪ ،‬فلما لم ينقببل أحببد مببن أهببل العلببم عببن‬
‫فا ول‬‫حا ول ضببعي ً‬‫النبي صلى الله عليه وسلم فببي ذلببك ل حببديًثا صببحي ً‬
‫ل‪ ،‬علم أنه لم يذكر شيًئا من ذلك‪.‬‬‫دا ول مرس ً‬‫مسن ً‬

‫والببذين قببالوا‪ :‬إن هببذه المببور تفطببر كالحقنببة ومببداواة المأمومببة‬


‫والجائفة‪ ،‬لم يكن معهم حجة عن النبي صلى اللببه عليببه وسببلم‪ ،‬وإنمببا‬
‫ذكروا ذلك بما رأوه من القياس‪ ،‬وأقوى ما احتجوا به قوله‪" :‬وبالغ في‬
‫ما" قالوا‪ :‬فدل ذلك على أن ما وصببل إلببى‬ ‫الستنشاق إل أن تكون صائ ً‬
‫الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله‪ ،‬وعلى القياس كببل مببا وصببل إلببى‬
‫جوفه بفعله من حقنببة وغيرهببا‪ ،‬سببواء كببان ذلببك فببي موضببع الطعببام‬
‫والغذاء أو غيره من حشو جوفه‪.‬‬

‫ثم قال رضي الله عنه‪.:‬‬


‫وإذا كانت الحكام التي تعم بها البلوى ل بببد أن يبينهببا الرسببول صببلى‬
‫مببا‪ ،‬ول بببد أن تنقببل المببة ذلببك‪ :‬فمعلببوم أن‬ ‫الله عليه وسببلم بيان ًببا عا ً‬
‫الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالببدهن والغتسببال والبخببور‬
‫والطيب‪ ،‬فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما‬
‫بين الفطار بغيببره‪ .‬فلمببا لببم يبببين ذلببك علببم أنببه مببن جنببس الطيببب‬
‫والبخور والدهن‪ ،‬والبخور قد يتصبباعد إلببى النببف ويببدخل فببي الببدماغ‬
‫ما‪ ،‬والدهن يشربه البدن ويببدخل إلببى داخلببه ويتقببوى بببه‬ ‫وينعقد أجسا ً‬
‫النسان‪ ،‬وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيببدة‪ ،‬فلمببا لببم ينببه الصببائم عببن‬
‫دهانه‪ ،‬وكذلك اكتحاله‪.‬‬ ‫ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وا ّ‬

‫وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم‪ ،‬إمببا‬
‫في الجهاد وإما في غيره‪ ،‬مأمومة وجائفة‪ ،‬فلو كببان هببذا يفطببر لبببين‬
‫لهم ذلك‪ ،‬فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطًرا‪.‬‬

‫ثم بين شيخ السلم‪ :‬أن إثبات التفطير بالقياس يحتبباج إلببى أن يكببون‬
‫حا‪ ،‬وذلببك إمببا قيبباس علببة بإثبببات الجببامع‪ ،‬وإمببا بإلغبباء‬
‫القيبباس صببحي ً‬
‫الفارق‪ .‬فإمبا أن يبدل دليبل علبى العلبة فبي الصبل فيعبدى بهبا إلبى‬
‫الفرع‪ ،‬وإما أن يعلببم أن ل فبارق بينهمببا مبن الوصبباف المعتبببرة فبي‬
‫الشرع‪ ،‬وهذا القياس هنا منتف‪.‬‬

‫وذلك أنببه ليببس فببي الدلببة مببا يقتضببي أن المفطببر الببذي جعلببه اللببه‬
‫ورسوله مفطًرا هو ما كان واصل ً إلبى دمباغ أو ببدن‪ ،‬أو مبا كبان داخل ً‬
‫من منفذ‪ ،‬أو واصل ً إلى الجوف‪ ،‬ونحو ذلبك مببن المعباني الببتي يجعلهببا‬
‫أصحاب هذه القاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله‪ ،‬ويقولبون‪ :‬إن‬
‫‪65‬‬

‫اللببه ورسببوله إنمببا جعببل الطعببام والشببراب مفطببًرا‪ ،‬لهببذا المعنببى‬


‫المشترك من الطعام والشراب‪ ،‬ومما يصببل إلبى البدماغ والجببوف مبن‬
‫دواء المأمومة والجائفة‪ ،‬وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنببة‬
‫والتقطير في الحليل ونحو ذلك‪.‬‬

‫وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكببم بهببذا الوصببف دليببل‪ ،‬كببان‬
‫قول القائل‪" :‬إن الله ورسببوله إنمببا جعل ً هببذا مفط بًرا لهببذا" قببول ً بل‬
‫علم‪ ،‬وكان قوله‪" :‬إن الله حرم على الصائم أن يفعببل هببذا" قببول ً بببأن‬
‫هذا حلل وهذا حرام بل علببم‪ ،‬وذلببك يتضببمن القببول علببى اللببه بمببا ل‬
‫يعلم‪ ،‬وهذا ل يجوز‪.‬‬

‫ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكببم فهببو منزلببة مببن‬
‫حا‪ ،‬أو دللة لفظ على معنببى لببم يببرده‬ ‫اعتقد صحة مذهب لم يكن صحي ً‬
‫الرسببول‪ ،‬وهببذا اجتهبباد يثببابون عليببه‪ ،‬ول يلببزم أن يكببون قببول ً بحجببة‬
‫شرعية يجب على المسلم اتباعها‪.‬‬
‫ثم ذكر شيخ السببلم أن القيباس إنمبا يصبح إذا لبم يبدل كلم الشببارع‬
‫على علة الحكم‪.‬‬

‫ومعلببوم أن النببص والجمبباع أثبتببا الفطببر بالكببل والشببرب والجمبباع‬


‫والحيضة‪ ،‬وليس كبذلك الكحبل والحقنببة ومببداواة الجائفبة والمأمومبة‪.‬‬
‫فإن الكحل ل يغذى البتة‪ ،‬ول يدخل أحد كحل ً إلى جوفه ل من أنفببه ول‬
‫فمه‪ ،‬وكذلك الحقنة ل تغذي‪ ،‬بل تستفرغ ما فببي البببدن‪ ،‬كمببا لببو شببم‬
‫عا أوجب استطلق جوفه وهببي ل تصببل‬ ‫شيًئا من المسهلت أو فزع فز ً‬
‫إلى المعدة‪.‬‬

‫والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومببة ل يشبببه‬


‫ما يصل إليها من غذائه والله سبحانه قبال‪) :‬كتبب عليكبم الصبيام كمببا‬
‫كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(‪.‬‬

‫وقال صلى الله عليه وسلم‪" :‬الصوم جنة" وقال‪" :‬إن الشيطان يجببري‬
‫من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم"‪.‬‬

‫فالصائم نهي عببن الكببل والشببرب لن ذلببك سبببب التقببوي‪) ...‬انظببر‪:‬‬


‫مجموع فتاوى ابن تيمية ‪ .(245 - 234/25-‬أ‪.‬هب‪.‬‬
‫المعاصي وتأثيرها على الصيام‬
‫الصيام عبادة تعمل على تزكية النفس‪ ،‬وإحياء الضمير‪ ،‬وتقوية اليمان‬
‫وإعداد الصببائم ليكببون مببن المتقيببن‪ ،‬كمببا قببال تعببالى‪) :‬كتببب عليكببم‬
‫الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(‪.‬‬
‫‪66‬‬

‫ولهذا يجب على الصائم أن ي ُن َّزه صيامه عما يجرحه‪ ،‬وربما يهببدمه‪ ،‬وأن‬
‫ف‬
‫يصون سمعه وبصره وجوارحه عمببا حببرم اللببه تعببالى‪ ،‬وأن يكببون عب ّ‬
‫اللسان‪ ،‬فل يلغو ول يرفث‪ ،‬ول يصببخب ول يجهببل‪ ،‬وأل يقابببل السببيئة‬
‫عا واقية لببه‬‫بالسيئة‪ ،‬بل يدفعها بالتي هي أحسن‪ ،‬وأن يتخذ الصيام در ً‬
‫من الثم والمعصية‪ ،‬ثم من عذاب الله في الخرة ولهذا قببال السببلف‪:‬‬
‫إن الصيام المقبول ما صامت فيه الجوارح مببن المعاصببي‪ ،‬مببع البطببن‬
‫والفرج عن الشهوة‪.‬‬

‫وهذا ما نبهت عليه الحاديث الشريفة‪ ،‬وأكده تلميذ المدرسة النبوية‪.‬‬


‫يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬الصيام جنببة‪ ،‬فببإذا كببان يببوم‬
‫صوم أحبدكم فل يرفببث ول يصببخب ‪ -‬وفبي روايببة‪) :‬ول يجهبل( ‪ -‬فبإن‬
‫امرؤ سابه أو قاتله فليقل‪ :‬إني صائم‪ ،‬مرتين " )متفق عليببه عببن أبببي‬
‫هريرة(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ " :‬من لم يدع قول الزور والعمل به‪ ،‬فليس‬
‫للببه حاجببة فببي أن يببدع طعببامه وشببرابه " )رواه البخبباري فببي كتبباب‬
‫الصوم(‪.‬‬

‫وقال‪ " :‬رب صبائم ليببس ‪ -‬لبه مبن صبيامه إل الجبوع " )رواه النسببائي‬
‫وابن ماجه عن أبي هريرة‪ ،‬ورواه عنه أحمد والحاكم والبيهقي بلفظ "‬
‫رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"(‪.‬‬

‫وكذلك كان الصحابة وسببلف المببة يحرصببون علببى أن يكببون صببيامهم‬


‫ها عن المعاصي والثام‪..‬‬ ‫طهرة للنفس والجوارح‪ ،‬وَتنّز ً‬ ‫ُ‬
‫قال عمر بن الخطاب‪ :‬ليس الصيام من الشراب والطعام وحده‪ ،‬ولكنببه‬
‫من الكذب والباطل واللغو‪.‬‬
‫وقال جابر بن عبد اللببه النصبباري‪ :‬إذا صببمت فليصببم سببمعك وبصببرك‬
‫ولسببانك عببن الكببذب‪ ،‬والمببأثم‪ ،‬ودع أذى الخببادم‪ ،‬وليكببن عليببك وقببار‬
‫وسكينة يوم صومك ول تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء‪..‬‬

‫وروى طليق بن قيس عن أبي ذر قال‪ :‬إذا صمت فتحفظ ما استطعت‪.‬‬


‫وكان طليق إذا كان يوم صيامه‪ ،‬دخل فلم يخرج إل إلى صلة‪..‬‬
‫وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد‪ ،‬وقالوا‪ُ :‬نطهر‬
‫صيامنا‪.‬‬
‫وعن حفصة بنت سيرين من التابعين قالت‪ :‬الصيام جنة‪ ،‬ما لم يخرقها‬
‫صاحبها‪ ،‬وخرقها الغيبة!‪.‬‬
‫ّ‬
‫وعن إبراهيم النخعي قال‪ :‬كانوا يقولون‪ :‬الكذب يفطر الصائم!‪.‬‬

‫وعن ميمون بن مهران‪ :‬إن أهون الصوم ترك الطعببام والشببراب ) ُ‬


‫ذكببر‬
‫محلى ‪.(476 ،475 / 6-‬‬‫هذه الثار كلها ابن حزم في ال ُ‬
‫‪67‬‬

‫طر الصائم فمببن‬ ‫ومن أجل ذلك ذهب بعض السلف إلى أن المعاصي تف ّ‬
‫ما كالغيبببة والنميمببة والكببذب‪ ،‬أو اسببتمع بببأذنه إلببى‬
‫ارتكب بلسانه حرا ً‬
‫حرام كالفحش والزور‪ ،‬أو نظر بعينببه إلببى حببرام كببالعورات ومحاسببن‬
‫مببا كإيببذاء إنسببان أو حيببوان‬
‫المرأة الجنبية بشهوة‪ ،‬أو ارتكب بيده حرا ً‬
‫ما‪ ،‬بأن مشى إلى‬ ‫بغير حق‪ ،‬أو أخذ شيًئا ل يحل له‪ ،‬أو ارتكب برجله حرا ً‬
‫معصية‪ ،‬أو غير ذلك من أنواع المحرمات‪ ،‬كان مفطًرا‪.‬‬

‫طر‪ ،‬والذن ُتفطّببر‪ ،‬والعيببن ُتفطّببر‪ ،‬واليببد ُتفطّببر‪ ،‬والرجببل‬


‫فاللسان ُيف ّ‬
‫طر‪ ،‬والفرج ُيف ّ‬
‫طر‪.‬‬ ‫طر‪ ،‬كما أن البطن ُتف ّ‬‫ُتف ّ‬
‫وإلى هذا ذهب بعض السلف‪ :‬أن المعاصببي كلهببا ُتفطّببر‪ ،‬ومببن ارتكببب‬
‫معصية في صومه فعليه القضاء‪ ،‬وهو ظاهر ما روي عن بعض الصحابة‬
‫والتابعين‪.‬‬
‫وهو مذهب المام الوزاعي‪.‬‬
‫وهو ما أيده ابن حزم من الظاهرية‪.‬‬
‫وأما جمهور العلماء‪ :‬فببرأوا أن المعاصببي ل ُتبطببل الصببوم‪ ،‬وإن كببانت‬
‫تخدشه وتصيب منه‪ ،‬بحسب صغرها أو كبرها‪.‬‬
‫صببا‬
‫وذلك أن المعاصي ل يسببلم منهببا أحببد‪ ،‬إل مببن عصببم ربببك‪ ،‬وخصو ً‬
‫معاصي اللسان ؛ ولهذا قال المام أحمد‪ :‬لو كانت الغيبة تف ّ‬
‫طر ما كبان‬
‫لنا صوم!‪.‬‬

‫هذا والمام أحمد من هو وهو في ورعه وزهببده وتقببواه‪ ،‬فمبباذا يقببول‬


‫غيره؟!‪.‬‬
‫ويؤكد هؤلء العلماء‪ :‬أن المعاصي ل تبطببل الصببوم‪ ،‬كالكببل والشببرب‪،‬‬
‫ولكنها قد تذهب بأجره‪ ،‬وتضيع ثوابه‪.‬‬
‫والحق أن هذه خسارة ليست هينببة لمببن يعقلببون‪ ،‬ول يسببتهين بهببا إل‬
‫أحمق‪ .‬فإنه يجوع ويعطش ويحرم نفسه من شببهواتها‪ ،‬ثببم يخببرج فببي‬
‫النهاية ورصيده )صفر( من الحسنات!‪.‬‬

‫يقول المام أبو بكر بن العربي في شببرح حببديث‪" :‬مببن لببم يببدع قببول‬
‫الزور والعمل به فليس لّله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"‪.‬‬
‫ذكر ل يثاب على صيامه‪ ،‬ومعنبباه‬ ‫)مقتضى هذا الحديث‪ :‬أن من فعل ما ُ‬
‫أن ثواب الصيام ل يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه(‪.‬‬

‫وقال العلمة البيضاوي‪.:‬‬


‫)ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع‪ ،‬والعطش‪ ،‬بل ما يتبعه‬
‫من كسر الشهوات‪ ،‬وتطويع النفس المارة للنفس المطمئنة‪ ،‬فإذا لببم‬
‫يحصل ذلك ل ينظر الّله إليه‪ ،‬نظر القبول‪ ،‬فيقول‪ " :‬ليس لل ّببه حاجببة "‬
‫مجاز عن عدم قبوله فنفى السبب وأراد المسبب والله أعلم(‪.‬‬
‫‪68‬‬

‫إن الصيام في رمضان خاصة فرصة للتطهر من آثام أحببد عشببر شببهًرا‬
‫مضت‪ ،‬فمن صام صيام المؤمنين المحتسبين‪ ،‬كان جديًرا أن يخرج مببن‬
‫صا الصغائر التي يقترفها‬ ‫الشهر مغفوًرا له‪ ،‬مطهًرا من الذنوب‪ ،‬وخصو ً‬
‫النسببان فببي مصبببحه وممسبباه‪ ،‬ومراحببه ومغببداه‪ ،‬وقببد يسببتخف بهببا‬
‫مرتكبها‪ ،‬ول يدري أنها إذا تكاثرت عليه أردته وأهلكته‪.‬‬

‫ويقول الرسول صلى الله عليببه وسببلم‪" :‬الصببلوات الخمببس‪ ،‬والجمعببة‬


‫مكفبرات مبا بينهببن‪ ،‬إذا اجتنببت‬
‫إلى الجمعببة‪ ،‬ورمضبان إلبى رمضبان‪ُ ،‬‬
‫الكبائر" )رواه مسلم عن أبي هريرة(‪.‬‬

‫وقد مر بنا الحديث المتفق عليه‪ ":‬مببن صببام رمضببان إيمان ًببا واحتسبباًبا‬
‫غفر له ما تقدم من ذنبه"‪.‬‬
‫فمن لوث صيامه بالمعاصي في سمعه وبصره ولسانه وجببوارحه‪ ،‬فقببد‬
‫أضاع على نفسه فرصة التطهر‪ ،‬ولم يستحق المغفببرة الموعببودة‪ ،‬بببل‬
‫ربما أصابه ما دعا به جبريل عليه السلم‪ ،‬وأمن عليه النبببي صببلى اللببه‬
‫عليه وسلم‪ ":‬من أدرك رمضان فلم يغفر له‪ ،‬فأبعببده اللببه " )رواه ابببن‬
‫حبان في صحيحه عن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عببن جببده‪،‬‬
‫وقد ثبت نحوه من حديث أبي هريرة وكعب بن عجرة(‪.‬‬
‫ها‬‫أكل الصائم أو شربه ناسًيا أو مكر ً‬
‫جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبببي ‪ -‬صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم ‪ .. " :-‬من نسى وهو صائم فأكل وشببرب‪ ،‬فليتببم صببومه‪ ،‬فإنمببا‬
‫أطعمه الله وسقاه " ‪ ..‬وفي لفظ للدارقطني بإسببناد صببحيح‪ " :‬فإنمببا‬
‫هو رزق ساقه الله إليه‪ ،‬ول قضاء عليه ‪ " ..‬وفي لفظ آخر للدارقطني‬
‫وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ‪ " ..‬من أفطر من رمضببان ناسببًيا‪ ،‬فل‬
‫ضا قاله الحافظ ابن حجر‪.‬‬ ‫قضاء عليه ول كفارة " ‪ .‬وإسناده صحيح أي ً‬

‫وهذه الحاديث صريحة في عدم تأثير الكل والشرب ناسًيا علببى صببحة‬
‫الصببوم ‪ .‬وهببو الموافببق لقببوله تعببالى‪) :‬ربنببا ل تؤاخببذانا إن نسببينا أو‬
‫أخطأنا( )البقرة‪ (286 :‬وقد ثبت في الصحيح أن الله أجاب هذا الدعاء‪.‬‬
‫كما ثبت في حديث آخر‪ " :‬إن الله وضع عن هذه المة الخطأ والنسيان‬
‫وما استكرهوا عليه "‪.‬‬
‫فعلى الصائم الذي أكل وشرب ناسًيا أن يستكمل صيام يومه‪ ،‬ول يجوز‬
‫له الفطر‪.‬‬

‫وبالله التوفيق‪.‬‬

‫إفطار المكره‬
‫هببا ل يفطببر‪ ،‬سببواء أدخببل المكببره الطعببام إلببى‬
‫كذلك ومن أفطببر مكر ً‬
‫جوفه بغير فعل من الصائم أم أكره الصائم على أن يببأكله هببو بنفسببه‬
‫‪69‬‬

‫على الصحيح‪ ،‬لحديث‪" :‬إن الله وضع عن أمببتي الخطببأ والنسببيان‪ ،‬ومببا‬
‫استكرهوا عليه" )رواه ابن ماجه والحبباكم والبببيهقي بأسببانيد صببحيحة‬
‫من رواية ابن عباس‪ ،‬كما قال النووي في المجموع ‪.(309/6 -‬‬

‫هذا ما رجحه المام النووي من مذهب الشافعي‪ ،‬وقال الئمببة الثلثببة‪:‬‬


‫ها‪.‬‬
‫يبطل صومه‪ ،‬وإن كان مكر ً‬

‫استعمال السواك ومعجون السنان للصائم‬

‫مببا‪ ،‬وبعببد الببزوال اختلببف‬ ‫السببواك قبببل الببزوال مسببتحب كمببا هببو دائ ً‬
‫الفقهاء فقال بعضهم‪ :‬يكره الستياك للصائم بعد الزوال ‪ .‬وحجته فببي‬
‫ذلك أن النبي ‪ -‬صبلى اللبه عليبه وسبلم ‪ -‬قبال‪ " :‬والبذي نفسبي بيبده‬
‫لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " )رواه البخاري من‬
‫حديث أبي هريرة( فهبو يبرى أن ريبح المسبك هبذا ل يحسبن أن يزيلبه‬
‫المسلم‪ ،‬أو يكره له أن يزيله‪ ،‬ما دامت هذه الرائحببة مقبولببة عنببد اللببه‬
‫ومحبوبة عند الله‪ ،‬فليبقها الصائم ول يزيلها‪ ،‬وهذا مثل الدماء ‪ ...‬دماء‬
‫الجراح ‪ ..‬التي يصاب بها الشهيد‪ ،‬قال النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسببلم ‪-‬‬
‫ملوهم بدمائهم وثيابهم‪ ،‬فإنما يبعثببون بهببا عنببد اللببه‬ ‫في الشهداء‪ " :‬ز ّ‬
‫يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك " ولذلك يبقى الشببهيد‬
‫بببدمه وثيببابه ل يغسببل ول يببزال أثببر الببدم ‪ .‬قاسببوا هببذا علببى ذلببك ‪.‬‬
‫والصحيح أنه ل يقاس هذا على ذلك‪ ،‬فذلك له مقام خاص‪ ،‬وقد جاء عن‬
‫بعض الصحابة أنه قال‪ " :‬رأيت النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬يتسببوك‬
‫مببا ل يحصببى وهببو صببائم " فالسببواك فببي الصببيام مسببتحب فببي كببل‬
‫الوقات في أول النهار وفي آخره‪ ،‬كما هو مستحب قبل الصيام وبعببد‬
‫الصيام ‪ ..‬فهو سنة أوصى بها رسول اللببه ‪ -‬صببلى اللببه عليببه وسببلم ‪-‬‬
‫وقال‪ " :‬السواك مطهببرة للفببم مرضبباة للببرب " )رواه النسببائي وابببن‬
‫مببا( ‪.‬‬
‫قببا مجزو ً‬‫خزيمة وابن حبان فببي صببحيحيهما ‪ .‬ورواه البخبباري معل ً‬
‫ولم يفرق بين الصوم وغيره‪.‬‬

‫أما معجون السنان‪ ،‬فينبغي التحوط فببي اسببتعماله بببأل يببدخل شببيء‬
‫منه إلى الجوف وهذا الذي يدخل إلى الجوف مفطر عند أكثر العلمبباء ؛‬
‫ولذا فالولى أن يجتنببب المسببلم ذلببك ويببؤخره إلببى مببا بعببد الفطببار‪،‬‬
‫ولكن إذا استعمله واحتاط لنفسه وكان حذًرا في ذلك ودخل شيء إلى‬
‫جوفه فهو معفو عنه والله سبحانه وتعالى يقول ‪":‬وليس عليكم جنبباح‬
‫فيما أخطأتم به‪ ،‬ولكن ما تعمدت قلوبكم" )الحزاب‪ (5 :‬والنبي – صلى‬
‫اللببه عليببه وسببلم – يقببول‪ " :‬رفببع عببن أمببتي الخطببأ والنسببيان ومببا‬
‫استكرهوا عليه " والله تعالى أعلم‪.‬‬

‫قيام ليالي رمضان وصلة التراويح‬


‫‪70‬‬

‫فرض الله تعالى صيام أيام رمضان‪ ،‬وسن رسول الله صلى اللببه عليببه‬
‫وسلم قيام لياليه‪ .‬عن أبي هريرة قال‪ :‬كان رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمببة‪ ،‬ثببم يقببول‪:‬‬
‫دم مببن ذنبببه" )متفببق‬ ‫"من قام رمضان إيماًنا واحتساًبا ُ‬
‫غفر لببه مببا تقب ّ‬
‫عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(435-‬‬

‫ومعنى )إيماًنا(‪ :‬أي تصبدي ً‬


‫قا بوعبد اللببه تعبالى‪ ،‬ومعنبى )احتسبباًبا(‪ :‬أي‬
‫طلًبا لوجه الله تعالى وثوابه‪.‬‬
‫ومن صلى التراويح كما ينبغي فقد قام رمضان‪.‬‬

‫والتراويح‬
‫هي تلك الصلة المأثورة التي يؤديها المسلمون جماعببة فبي المسببجد‪،‬‬
‫بعد صلة العشاء‪.‬‬
‫سّنها رسببول اللببه صببلى اللببه عليببه وسببلم‪ ،‬حيببن صببلى بأصببحابه‬
‫وقد َ‬
‫ليلتين‪ ،‬أو ثلًثا ثببم تركهببا خشببية أن تفببرض عليهببم‪ ،‬وكببان بببالمؤمنين‬
‫ما‪ ،‬فصلها الصحابة فرادى‪ ،‬حتى جمعهم عمببر علببى الصببلة خلببف‬ ‫رحي ً‬
‫أبي بن كعب‪.‬‬

‫فعن عائشة‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسببلم خببرج ذات ليلببة )أي‬
‫مببن رمضببان( مببن جببوف الليببل‪ ،‬فصببلى فببي المسببجد‪ ،‬فصببلى رجببال‬
‫بصلته‪ ،‬فأصبح الناس فتحدثوا‪ ،‬فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه‪ ،‬فأصبببح‬
‫الناس فتحدثوا‪ ،‬فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة‪ ،‬فخرج رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم فصّلوا بصببلته‪ ،‬فلمببا كببانت الليلببة الرابعببة عجببز‬
‫المسجد عن أهله‪ ..‬حتى خرج لصلة الصبح‪ ،‬فلمببا قضببى الفجببر‪ ،‬أقبببل‬
‫على الناس فتشهد ثم قال‪" :‬أما بعد‪ ،‬فإنه لم يخف عّلي مكانكم‪ ،‬لكني‬
‫خشيت أن تفرض عليكم‪ ،‬فتعجزوا عنها" )متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان‬
‫‪.(436-‬‬

‫وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمر على ذلببك‪ ،‬أي يصببلون‬
‫فرادى‪ ،‬وكذلك في خلفة أبي بكر‪ ،‬وصدًرا من خلفة عمر‪.‬‬
‫روى البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال‪ :‬خرجت مع عمر بن‬
‫الخطاب رضي الله عنه ليلببة فببي رمضببان إلببى المسببجد‪ ،‬فببإذا النبباس‬
‫أوزاع متفرقون‪ ،‬يصلي الرجل لنفسه‪ ،‬ويصلي الرجل فيصببلي بصببلته‬
‫الرهط‪ ،‬فقال عمر‪ :‬إني أرى لو جمعت هببؤلء علببى قببارئ واحببد لكببان‬
‫أمثل‪ .‬ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب‪ ،‬ثم خرجت معه ليلببة أخببرى‪،‬‬
‫والناس يصلون بصلة قارئهم‪ ،‬قال عمببر‪ :‬نعمببت البدعببة هببذه! والببتي‬
‫ينامون عنها أفضل من التي يقومون‪ .‬يعنى آخببر الليببل‪ ،‬وكببان النبباس‬
‫يقومون أوله )رواه البخاري في كتاب التراويح(‪.‬‬
‫‪71‬‬

‫وقول عمر‪) :‬نعمت البدعة هذه( ل يعني بها )البدعة الدينية( التي يببراد‬
‫بها استحداث أمر في الدين ليندرج تحت أصل شببرعي‪ ،‬إنمببا يببراد بهببا‬
‫المعنى اللغوي للبدعة‪ ،‬باعتبار أنها أمر لم يكن في عهده‪ ،‬ول عهد أبي‬
‫بكر من قبل‪.‬‬

‫ولكنه وافق الهدي النبوي‪ ،‬حيببث قببرر النبببي صببلى اللببه عليببه وسببلم‪،‬‬
‫صلة أصببحابه وراءه ثلث ليببال فببي المسببجد‪ ،‬ولببول خشببية افتراضببها‬
‫عليهم وعجزهم عنها‪ ،‬لستمر في الصلة بهم‪ ،‬وقد زالت هذه الخشية‪،‬‬
‫دا‬
‫بإكمال الدين وانقطاع الوحي‪ ،‬واسببتقرار الشببرع‪ ،‬وكببان عمببر مسببد ً‬
‫فببي عملببه هببذا‪ ،‬لمببا فيببه مببن مظهببر الوحببدة‪ ،‬واجتمبباع الكلمببة ولن‬
‫الجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين‪ ،‬ول سيما إذا كان حسببن‬
‫القراءة‪.‬‬

‫ولهذا ذهب الجمهور إلى سنية صلة التراويح فببي الجماعببة‪ ،‬بببل ذهببب‬
‫الطحاوي من الحنفية إلى وجوبها على الكفاية )فتح الباري ‪ 156/5‬ط‪.‬‬
‫الحلبي(‪.‬‬

‫ما بأن الصلة في البيوت أفضل‪ ،‬فهذا فيمببن‬‫ومن قال من العلماء قدي ً‬
‫كان يصلي لنفسه ويطيل كثيًرا‪ ،‬ول يجد صلة جماعة تشبع نهمه‪.‬‬

‫أما إذا وجببد هببذه الجماعببة‪ ،‬فببالولى أن يصببلي مببع المسببلمين‪ ،‬ليكببثر‬
‫جماعتهم وليقوى بهم‪ ،‬ويقووا به‪.‬‬
‫ولببذا قببال بعببض الشببافعية‪ :‬مببن كببان يحفببظ القببرآن‪ ،‬ول يخبباف مببن‬
‫الكسل‪ ،‬ول تختل الجماعة في المسجد‪ ،‬بتخلفه‪ ،‬فصلته فببي الجماعببة‬
‫والبببيت سببواء‪ ،‬فمببن فقببد بعببض ذلببك فصببلته فببي الجماعببة أفضببل‬
‫)المصدر السابق(‪.‬‬

‫ومثل ذلك ما يقال في شأن صلة التراويح للنسبباء‪ ،‬وأن صببلتهن فببي‬
‫بيوتهن أفضل‪ ،‬فهذا لو كن يحفظن القرآن‪ ،‬ول يكسلن عن الصببلة إذا‬
‫جلسن في البيت‪.‬‬

‫مشاهد أن المرأة إذا لم تذهب إلى المسجد فهيهات أن تصلي‪،‬‬ ‫ولكن ال ُ‬


‫ولو صلت فستكون صلة كنقر الديكة‪ .‬علببى أنهببا فببي المسببجد تسببمع‬
‫القرآن‪ ،‬والموعظة الحسنة‪ ،‬وتلتقي بالمسببلمات الصببالحات‪ ،‬فيتعبباون‬
‫على البر والتقوى‪ ،‬وفي هذا خير كثير‪.‬‬

‫ولم تذكر رواية البخاري عدد الركعببات الببتي كببان يصببلى بهببا أبببي بببن‬
‫كعب‪ ،‬وقد اختلف في ذلك ما بين إحدى عشرة‪ ،‬وثلث عشببرة‪ ،‬وإحببدى‬
‫وعشرين‪ .‬أي مع الوتر قال الحافظ‪ :‬ويحتمببل أن يكببون ذلببك الختلف‬
‫‪72‬‬

‫بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث يطيل القببراءة تقببل الركعببات‬


‫وبالعكس‪.‬‬

‫وقد ورد أنهم كانوا يقرأون بالسور الطببوال‪ ،‬ويقومببون علببى العصببي‬
‫من طول القيام‪.‬‬
‫وفي إمارة عمر بن عبد العزيز بالمدينة‪ ،‬كانوا يقومببون بسببت وثلثيببن‬
‫ركعة ويوترون بثلث‪.‬‬
‫قال مالك‪ :‬وهو المر القديم عندنا‪.‬‬

‫وقال الشافعي‪ :‬رأيت الناس يقومببون بالمدينببة بتسببع وثلثيببن‪ ،‬وفببي‬


‫مكة بثلث وعشرين‪ ،‬وليس في شيء من ذلك ضيق‪.‬‬
‫وعنه قال‪ :‬إن أطالوا القيام وأقلوا السجود )أي عدد الركعات( فحسن‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة‪ ،‬فحسن‪ ،‬والول أحب إل ّ‬

‫وصلى بعض السلف أربعين غير الوتر )انظر في هذا كله‪ :‬فتح الباري ‪-‬‬
‫‪ 157/5‬ط‪ .‬الحلبي(‪.‬‬
‫ول تضييق في ذلك كما قال المام الشافعي‪ ،‬ول ينبغي أن ينكر بعببض‬
‫الناس على بعض في ذلك‪ ،‬مادامت الصلة تأخببذ حقهببا مببن الطمأنينببة‬
‫والخشوع‪.‬‬

‫فمن صلى بإحدى عشرة‪ ،‬فقد اهتدى بهدي رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فقد قالت عائشة‪ :‬ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في‬
‫رمضان‪ ،‬ول في غيره‪ ،‬على إحدى عشرة ركعة )رواه البخاري وغيره(‪.‬‬

‫وعن جابر‪ :‬أنه عليه الصلة والسلم ‪ -‬صلى بهم ثماني ركعات‪ ،‬ثم أوتر‬
‫أي بثلث‪.‬‬
‫ومن صلى بثلث وعشرين‪ ،‬فله أسوة بما كان في عهد عمر‪ ،‬كمببا رواه‬
‫غير واحد‪ ،‬وقد أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين‪.‬‬

‫ومن صلى بتسع وثلثين أو إحدى وأربعين‪ ،‬فلببه أسببوة بمببا كببان عليببه‬
‫العمل في المدينة في خير قرون المة‪ ،‬وقد شاهده إمام دار الهجببرة‪،‬‬
‫وقال‪ :‬وعلى هذا العمل من بضع ومائة سنة‪.‬‬

‫والصلة خير موضوع‪ ،‬ولم يرد تحديد العدد في رمضان ‪ -‬ول فببي غيببره‬
‫بمقدار معين‪.‬فل معني لنكار بعض العلماء المعاصرين على مببن صببلى‬
‫عشرين أنه خالف السنة‪ ،‬والهدي النبوي‪ ،‬أو من صلى ثمانيا أنه خببالف‬
‫المأثور عن سلف المة وخلفها‪.‬‬
‫‪73‬‬

‫ي هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فببإن‬ ‫وإن كان الحب إل ّ‬
‫الله ل يرضى لببه إل الفضببل‪ ،‬وذلببك )إحببدى عشببرة ركعببة( بببالوتر مببع‬
‫تطويل القراءة والصلة‪.‬‬

‫دى في بعض مسبباجد‬ ‫والذي يجب إنكاره من الجميع تلك الصلة التي ُتؤ ّ‬
‫المسلمين وكأنما يلهبب ظهبورهم سبوط يسبوقهم إلبى الفبراغ منهبا‬
‫وهى )‪ 20‬ركعة( في أقل مبن ثلبث سباعة!! واللبه تعبالى يقبول‪) :‬قبد‬
‫أفلح المؤمنون الذين هم في صلتهم خاشعون( )المؤمنون‪.(1،2 :‬‬

‫ولشيخ السلم ابن تيمية كلمات جامعة نافعة في بيان مشروعية صلة‬
‫التراويح بأي من العداد المروية فيها‪ ،‬قال رضي الله عنه‪:‬‬
‫)ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالنبباس عشببرين ركعببة فببي رمضببان‪،‬‬
‫ويوتر بثلث فرأى كثير من العلماء أن ذلببك هببو السببنة‪ ،‬لنببه قببام بيببن‬
‫المهاجرين والنصار‪ ،‬ولم ينكره منكر‪.‬‬

‫عا وثلثين ركعة‪ ،‬بناء على أنببه عمببل أهببل المدينببة‬


‫واستحب آخرون تس ً‬
‫القديم‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬قد ثبت في الصببحيح عببن عائشببة أن النبببي صببلى اللببه‬
‫عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ول غيره على ثلث عشببرة ركعببة‪،‬‬
‫واضطربوا في الصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لمببا ثبببت‬
‫من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين‪.‬‬

‫ص على ذلك المام أحمد‪ ،‬وأنببه ل‬ ‫والصواب أن ذلك جميعه حسن‪ ،‬كما ن ّ‬
‫يوقت في قيام رمضان عببدد‪ ،‬فببإن النبببي صببلى اللببه عليببه وسببلم لببم‬
‫دا‪ ،‬وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلهببا بحسببب طببول‬ ‫يوقت فيه عد ً‬
‫القيام وقصره‪ ،‬فإن النبي صلى الله عليببه وسببلم‪ ،‬كببان يطيببل القيببام‬
‫بالليل‪ ،‬حتى قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة‪ :‬أنببه كببان يقببرأ‬
‫في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران‪ ،‬فكان طول القيام يغنببي عببن‬
‫تكثير الركعات‪.‬‬

‫وأبي بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة‪ ،‬لم يمكن أن يطيل بهم‬
‫ضا عن طول القيام‪ ،‬وجعلببوا ذلببك‬‫القيام فكثر الركعات‪ ،‬ليكون ذلك عو ً‬
‫ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقببوم بالليببل إحببدى عشببرة ركعببة أو ثلث‬
‫عشرة ركعة‪ ،‬ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيببام‪،‬‬
‫عا وثلثين(‪.‬‬‫فكثروا الركعات‪ ،‬حتى بلغت تس ً‬

‫أما أي هذه العداد أفضل؟ فقد قال شيخ السلم‪:‬‬


‫‪74‬‬

‫)ثم كان طائفة مببن السببلف يقومببون بببأربعين ركعببة ويببوترون بثلث‪،‬‬
‫وآخرون قاموا بست وثلثين و أوتروا بثلث‪ ،‬وهببذا كلببه سببائغ فكيفمببا‬
‫قام بهم في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن‪.‬‬

‫والفضل يختلف ببباختلف أحببوال المصببلين‪ ،‬فببإن كببان فيهببم احتمببال‬


‫لطول القيام بعشر ركعات وثلث بعدها‪ ،‬كما كان النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم يصلي لنفسه فبي رمضبان وغيبره‪ ،‬فهبو الفضبل‪ ،‬وإن كبانوا ل‬
‫يحتملونه فالقيام بعشرين أفضل فهو الذي يعمل به أكببثر المسببلمين‪،‬‬
‫فإنه وسط بين العشرين وبين الربعين‪ ،‬وإن قام بأربعين وغيرها جبباز‬
‫ذلك‪ ،‬ول يكره شيء من ذلك‪ ،‬وقد نص على ذلك غير واحببد مببن الئمببة‬
‫كأحمد وغيره‪ ،‬ومن ظن أن قيام رمضبان فيبه عبدد مبؤقت عبن النببي‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ل يزاد ول ينقص منه فقد أخطأ( أ‪.‬ه‬
‫التليفزيون والصيام‬
‫التليفزيون وسيلة من الوسائل‪ ،‬فيه خير وفيه شر‪ ،‬والوسائل لها حكم‬
‫ما‪ ،‬فببالتليفزيون كالذاعببة ‪ ...‬وكالصببحافة ‪ ..‬فيهببا مببا هببو‬
‫المقاصد دائ ً‬
‫طيب وما هبو خببيث ‪ .‬وعلبى المسبلم أن ينتفبع ببالطيب‪ ،‬وأن يتجنبب‬
‫ما أم غيببر صببائم ‪ ...‬ولكببن فببي الصببيام‪ ،‬علببى‬
‫الخبيث‪ ،‬سواء كان صببائ ً‬
‫المسلم أن يحتاط أكثر‪ ،‬حببتى ل يفسببد صببومه‪ ،‬وحببتى ل يببذهب أجببره‬
‫ويحرم من مثوبة الله عز وجل‪.‬‬

‫فمشاهدة التليفزيببون‪ ،‬ل أقببول فيهببا حلل مطلببق ول حببرام مطلببق ‪.‬‬
‫وإنما يتبع ذلك الشيء الذي يشبباهد فببي هببذا الجهبباز‪ :‬فببإن كببان خيبًرا‬
‫جببازت رؤيتببه‪ ،‬وسببماعه‪ ،‬كبعببض الحبباديث الدينيببة‪ ،‬ونشببرات الخبببار‪،‬‬
‫والبرامج الموجهة إلى الخير ‪ ..‬وإن كان شًرا كبعض المشاهد الراقصببة‬
‫الخليعة ونحو ذلك‪ ،‬فهذا يحرم رؤيته فبي كبل وقبت‪ ،‬ويتأكبد ذلبك فبي‬
‫شهر رمضان‪.‬‬

‫وبعض المشاهدة تكره رؤيتها وإن لم تصل إلى درجة الحرمة‪.‬‬


‫وكل وسيلة من الوسائل تصد عن ذكر الله فهي حرام ‪...‬‬
‫فإذا كانت مشاهدة التليفزيون‪ ،‬أو سماع الراديو وغير ذلك‪ ،‬يلهببي عببن‬
‫واجب أوجبه الله على عباده كالصلة ‪ ..‬ففي هذه الحالة يحرم ‪ ..‬يحرم‬
‫الشتغال عن الصلة بأي شيء ‪ ...‬فببالله سبببحانه وتعببالى حينمببا علببل‬
‫تحريم الخمر والميسر‪ ،‬جعل مببن هببذه العلببة )إنمببا يريببد الشببيطان أن‬
‫يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله‬
‫وعن الصلة فهل أنتم منتهون ؟(‪) .‬المائدة‪.(91 :‬‬

‫وعلى المسئولين عن برامج التليفزيون‪ ،‬أن يتقوا الله فيمببا ينبغببي أن‬
‫مببا‪ ،‬وفببي رمضببان خاصببة‪ ،‬رعايببة لحرمببة الشببهر‬
‫يقببدم للجمهببور دائ ً‬
‫المبارك‪ ،‬وإعانة للناس على طاعة الله‪ ،‬والستزادة من الخيرات‪ ،‬حببتى‬
‫‪75‬‬

‫ل يحملوا إثم أنفسهم‪ ،‬وإثم المشاهدين معهم‪ ،‬كالذين قال الله فيهم‪:‬‬
‫)ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة‪ ،‬ومن أوزار الذين يضببلونهم بغيببر‬
‫علم‪ ،‬أل ساء ما يزرون(‪) .‬النحل‪.(25 :‬‬

‫خروج المرأة لصلة التراويح‬

‫صلة التراويح ليست واجبة على النسبباء ول علببى الرجببال‪ ،‬وإنمببا هببي‬
‫سنة لها منزلتها وثوابهببا العظيببم عنببد اللببه ‪ .‬روى الشببيخان عببن أبببي‬
‫هريببرة قببال‪ :‬يببأمرهم بعزيمببة ثببم يقببول‪ " :‬مببن قببام رمضببان إيمان ًببا‬
‫واحتساًبا غفر الله ما تقدم من ذنبه "‪.‬‬

‫من صلى التراويح بخشوع واطمئنان مؤمًنا محتسًبا‪ ،‬وصلى الصبح فببي‬
‫وقتها‪ ،‬فقد قام رمضان واستحق مثوبة القائمين‪.‬‬

‫عببا ‪ .‬إل أن صببلة المببرأة فببي بيتهببا‬


‫وهذا يشببمل الرجببال والنسبباء جمي ً‬
‫أفضل من صلتها بالمسجد‪ ،‬ما لم يكن وراء ذهابها إلى المسجد فببائدة‬
‫أخرى غير مجرد الصلة‪ ،‬مثل سماع موعظة دينية‪ ،‬أو درس مببن دروس‬
‫العلم‪ ،‬أو سماع القرآن من قبارئ خاشبع مجيبد ‪ .‬فيكبون البذهاب إلبى‬
‫المسجد لهذه الغاية أفضببل وأولببى ‪ .‬وبخاصببة أن معظببم الرجببال فببي‬
‫عصرنا ل يفقهببون نسبباءهم فببي الببدين‪ ،‬ولعلهببم لببو أرادوا لببم يجببدوا‬
‫عندهم القدرة على الموعظة والتثقيف‪ ،‬فلم يبببق إل المسببجد مصببدًرا‬
‫لذلك فينبغي أن تتاح لها هذه الفرصة‪ ،‬ول يحال بينها وبين بيوت الله ‪.‬‬
‫ول سيما أن كثيًرا من المسلمات إذا بقين في بيوتهن ل يجدن الرغبببة‬
‫أو العزيمة التي تعينهن على أداء صلة التراويح منفببردات بخلف ذلببك‬
‫في المسجد والجماعة‪.‬‬

‫على أن خروج المرأة من بيتها ‪ -‬ولو إلى المسجد ‪ -‬يجب أن يكون بإذن‬
‫الزوج‪ ،‬فهو راعي البيت‪ ،‬والمسئول عن السرة‪ ،‬وطاعته واجبة مبا لبم‬
‫يأمر بترك فريضة‪ ،‬أو اقتراف معصية فل سمع له إذن ول طاعة‪.‬‬

‫وليس من حببق الرجببل أن يمنببع زوجتببه مببن الببذهاب إلببى المسببجد إذا‬
‫رغبت في ذلك إل لمانع معتبر ‪ .‬فقد روى مسلم عن النبي ‪ -‬صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ -‬قال‪ " :‬ل تمنعوا إماء الله مساجد الله " ‪.‬‬

‫ضببا مث ً‬
‫ل‪ ،‬وفببي حاجببة إلببى‬ ‫عا‪ :‬أن يكببون الببزوج مري ً‬
‫والمانع المعتبر شر ً‬
‫بقائهببا بجببواره تخببدمه وتقببوم بحبباجته ‪ .‬أو يكببون لهببا أطفببال صببغار‬
‫يتضررون من تركهم وحدهم في البيت مدة الصببلة وليببس معهببم مببن‬
‫يرعاهم‪ ،‬ونحو ذلك من الموانع والعذار المعقولة‪.‬‬
‫‪76‬‬

‫جا فببي المسببجد‪ ،‬ويشوشببون علببى‬ ‫وإذا كببان الولد يحببدثون ضببجي ً‬
‫المصلين بكثرة بكائهم وصراخهم‪ ،‬فل ينبغي أن تصطحبهم معها فببترة‬
‫الصلة ‪ .‬فإن ذلك وإن جاز في صلوات الفرائض اليوميببة لقصببر مببدتها‬
‫ينبغي أن يمنع في صلة التراويح لطول مببدتها‪ ،‬وعببدم صبببر الطفببال‬
‫عن أمهاتهم هذه المدة التي قد تزيد على الساعة‪.‬‬

‫وأما حديث النساء في المساجد‪ ،‬فشأنه شان حديث الرجببال‪ ،‬ول يجببوز‬
‫أن يرتفع الصوت به لغير حاجبة ‪ .‬وبخاصبة الحباديث فبي أمبور البدنيا‪،‬‬
‫فلم تجعل المساجد لهذا‪ ،‬إنما جعلت للعبادة أو العلم‪.‬‬
‫فعلى المسلمة الحريصة على دينها أن تلببتزم الصببمت فببي بيببت اللببه‪،‬‬
‫حتى ل تشوش على المصلين أو على درس العلببم‪ ،‬فببإذا احتبباجت إلببى‬
‫الكلم‪ ،‬فليكن ذلك بصوت خافت وبقدر الحاجببة‪ ،‬ول تخببرج عببن الوقببار‬
‫والحتشام في كلمها ولبسها ومشيتها‪.‬‬

‫وأحب أن أقول هنا كلمة منصببفة‪ :‬إن بعببض الرجبال يسببرفون إسببرا ً‬
‫فا‬
‫دا في الغيرة علبى جنبس النسبباء‪ ،‬والتضببييق عليهبن‪ ،‬فل يؤيبدون‬ ‫شدي ً‬
‫فكرة ذهاب المرأة إلى المسجد بحال‪ ،‬برغم الحواجز الخشبببية العاليببة‬
‫التي تفصل بين الرجال والنساء‪ ،‬والتي لببم يكببن لهببا وجببود فببي عهببد‬
‫النبي ‪ -‬صببلى اللببه عليببه وسببلم ‪ -‬وصببحابته‪ ،‬والببتي تمنببع النسبباء مببن‬
‫معرفة تحركات المببام إل بالصببوت والسببماع‪ ،‬ول غببرو أن تببرى بعببض‬
‫هؤلء الرجال يسمحون لنفسهم في المسببجد بببالكلم والحبباديث‪ ،‬ول‬
‫يسمح أحدهم لمرأة أن تهمس في أذن جارتهببا بكلمببة ولببو فببي شببأن‬
‫ديني‪ ،‬وهذا مبعثه التزمت وعدم النصاف‪ ،‬والغيرة المذمومة التي جبباء‬
‫بها الحديث‪ " :‬إن من الغيرة ما يبغضببه اللببه ورسببوله "‪ ،‬وهببي‪ :‬الغيببرة‬
‫في غير ريبة‪.‬‬

‫لقد فتحببت الحيبباة الحديثبة الببواب للمببرأة ‪ .‬فخرجبت مبن بيتهبا إلبى‬
‫المدرسة والجامعة والسوق وغيرها‪ ،‬وبقيت محرومببة مببن خيببر البقبباع‬
‫وأفضببل المبباكن وهببو المسببجد ‪ .‬وإنببي أنببادي بل تحببرج‪ :‬أن أفسببحوا‬
‫للنساء في بيوت الله‪ ،‬ليشببهدن الخيببر‪ ،‬ويسببمعن الموعظببة ويتفقهببن‬
‫في الببدين‪ ،‬ول بببأس أن يكببون مببن وراء ذلببك ترويببح عنهببن فببي غيببر‬
‫معصبية ول ريببة‪ ،‬مبا دمبن يخرجبن محتشبمات متبوقرات بعيبدات عبن‬
‫مظاهر التبرج الممقوت‪.‬‬

‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬


‫السراع في صلة التراويح‬
‫ثبت في الصحيحين عن رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬أنبه قبال‪:‬‬
‫" من قام رمضان إيماًنا واحتساًبا غفر له ما تقببدم مببن ذنبببه " ‪ .‬فببالله‬
‫سبحانه وتعالى شرع في رمضان في نهاره الصيام‪ ،‬وشرع على لسان‬
‫‪77‬‬

‫رسوله في ليلة القيام‪ ،‬وجعل هببذا القيببام سبببًبا للتطهببر مببن الببذنوب‬
‫والخطايا ‪ ..‬ولكن القيام الذي تغفر به الذنوب‪ ،‬وتغسببل فيببه الدنبباس‪،‬‬
‫هو الذي يؤديه المسلم كامل ً بشروطه وأركببانه وآدابببه وحببدوده ‪ .‬وقببد‬
‫علمنا أن الطمأنينة ركن من أركان الصلة كقراءة الفاتحببة‪ ،‬وكببالركوع‬
‫وكالسجود ‪ ..‬فإن النبي ‪ -‬صلى اللببه عليببه وسببلم ‪ -‬حينمببا أسبباء بعببض‬
‫الناس الصلة أمامه ولم يؤد لها حقها من الطمئنان‪ ،‬قال لببه‪ " :‬ارجببع‬
‫فصل‪ ،‬فإنك لم تصل " ‪ ..‬ثم علمه كيف تكون الصببلة المقبولببة فقببال‬
‫ما‪ ،‬واسجد حتى‬ ‫عا‪ ،‬واعتدل حتى تطمئن قائ ً‬ ‫له‪ " :‬اركع حتى تطمئن راك ً‬
‫سببا وهكببذا "‬
‫دا‪ ،‬واجلس بيببن السببجدتين حببتى تطمئن جال ً‬ ‫تطمئن ساج ً‬
‫)رواه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبببي هريببرة( ‪ ..‬فالطمأنينببة‬
‫في جميع هذه الركان شرط لبد منه‪ ،‬وحدّ الطمأنينببة المشببروطة قببد‬
‫اختلف فيه العلماء ‪ .‬فمنهم مببن جعببل أدنبباه أن يكببون مقببدار تسبببيحة‬
‫كأن يقول‪ :‬سبحان ربي العلى مثل ً ‪ .‬وبعضهم ‪ -‬كالمام شيخ السببلم‬
‫ابن تيمية اشترط أن يكون مقدار الطمأنينة في الركوع والسجود نحببو‬
‫ثلث تسبيحات‪ ،‬فقد جاء في السنة أن التسبيح ثلث‪ ،‬وذلك أدناه فلبببد‬
‫أن تطمئن بمقدار ثلث تسبيحات ‪ ...‬ويقول الله عببز وجببل‪) :‬قببد أفلببح‬
‫المؤمنون ‪ .‬الذين هم في صلتهم خاشعون(‪) .‬المؤمنون‪.(2 ،1 :‬‬

‫والخشوع نوعان ‪ :‬خشوع بدن‪ ،‬وخشوع قلب‪.‬‬

‫فخشببوع البببدن‪ :‬أن يطمئن البببدن ول يعبببث ول يلتفببت المببرء تلفببت‬


‫الثعلببب ‪ ..‬ول ينقببر الركعببات والسببجدات نقببر الديكببة‪ ،‬وإنمببا يؤديهببا‬
‫بأركانها وحدودها كما شرعها الله عز وجل ‪..‬‬
‫لبد إذن من خشوع البدن ‪ ..‬ولبد من خشوع القلب ‪..‬‬

‫وخشوع القلب‪ :‬معناه استحضار عظمة اللببه عببز وجببل‪ ،‬وذلببك بالتأمببل‬
‫في معاني اليات التي ُتتلى‪ ،‬وبتذكر الخرة‪ ،‬وبتببذكر أن المصببلي بيببن‬
‫يدي الله عز وجببل ‪ ..‬وأن اللببه تعببالى يقببول فببي الحببديث القدسببي‪" :‬‬
‫قسمت الصلة بيني وبين عبدي نصفين‪ :‬فإذا قببال العبببد‪) :‬الحمببد للببه‬
‫رب العالمين( ‪ .‬قال اللببه تعببالى‪ :‬حمببدني عبببدي‪ ،‬وإذا قببال‪) :‬الرحمببن‬
‫ى عبببدي ‪ .‬وإذا قببال‪) :‬مالببك يببوم‬ ‫الرحيم( ‪ .‬قال الله عز وجل‪ :‬أثنى عل ّ‬
‫جدني عبدي ‪ .‬وإذا قببال‪) :‬إيبباك نعبببد وإيبباك‬ ‫الدين( ‪ .‬قال الله تعالى‪ :‬م ّ‬
‫نستعين(‪ ،‬قال الله تعببالى‪ :‬هببذا بينببي وبيببن عبببدي‪ ،‬وإذا قببال‪) :‬اهببدنا‬
‫الصراط المستقيم( ‪ .‬قال الله تعالى‪ :‬هذا لعبدي ‪ .‬ولعبدي مببا سببأل "‪.‬‬
‫)رواه مسلم(‪.‬‬

‫فالله سبحانه وتعالى ليس بمعزل عن المصلي‪ ،‬ولكنه يجيبه‪ ،‬فلبببد أن‬
‫يتجاوب المسلم المصلي مع الله عز وجل‪ ،‬وأن يستحضر قلبه في كببل‬
‫حركة من حركات الصلة‪ ،‬وفي كل وقت من أوقاتهببا‪ ،‬وفببي كببل ركببن‬
‫‪78‬‬

‫من أركانها‪ ،‬فالذين يصلون وكببل همهببم أن يفرغببوا مببن الصببلة‪ ،‬وأن‬
‫يتخلصوا منها‪ ،‬وأن يلقوها كأنهببا عبببء فببوق ظهببورهم‪ ،‬فإنهببا ليسببت‬
‫هذه هببي الصببلة المطلوبببة ‪ .‬وكببثير مببن النبباس يصببلون فببي رمضببان‬
‫العشرين والثلث والعشرين ركعة في دقببائق معببدودات‪ ،‬كببل همببه أن‬
‫فا‪ ،‬وأن ينتهي منها في أسرع وقت ممكن ‪ ...‬ل يتم‬ ‫يخطف الصلة خط ً‬
‫ركوعها ول سجودها ول خشوعها ‪ ..‬فهذه كما ورد في الحديث‪ " :‬تعرج‬
‫إلببى السببماء وهببي سببوداء مظلمببة تقببول لصبباحبها‪ :‬ضبّيعك اللببه كمببا‬
‫ضّيعتني " ‪.‬‬

‫والصبلة الخاشبعة المطمئنبة تعبرج إلبى السبماء بيضباء ناصبعة تقبول‬


‫لصاحبها‪ :‬حفظك الله كما حفظتني‪.‬‬

‫ونصيحتي لكثير من الئمببة والمصببلين الببذين يصببلون هببذا العببدد بغيببر‬


‫إتقبان ول خشببوع ول حضببور قلبب ول سببكون ببدن‪ ،‬أن يصبلوا ثمباني‬
‫ركعات مطمئنة خاشعة متقنة خير من هذه العشببرين‪ ،‬فليسببت العبببرة‬
‫ن العبببرة بببالكيف والنببوع ‪ ...‬العبببرة فببي الصببلة‬
‫بببالكم والكببثرة‪ ،‬ولك ب ّ‬
‫نفسها ‪ ..‬هل هي صلة الخاشعين ؟ أم هي صلة الخطافين ؟‬

‫نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المؤمنين الخاشعين‪.‬‬


‫اغتنام أيام رمضان في الذكر والطاعة والجود‬
‫رمضان موسم من مواسم الخير‪ ،‬تضاعف فيه الحسببنات‪ ،‬وترجببى فيببه‬
‫المغفرة‪ ،‬وتزداد فيه الرغبة في الخير‪ ،‬والمحروم ح ً‬
‫قببا مببن حببرم فببي‬
‫هذا الشهر رحمة الله عز وجل‪.‬‬

‫وإنما ُتنال رحمة الله تعالى بالقبال عليه‪ ،‬والجتهاد في ذكره وشكره‪،‬‬
‫وحسن عبادته‪.‬‬
‫وقد ابُتلينا ببعض المسلمين الذين يقضون النهار في منام‪ ،‬والليل في‬
‫طعام ويضيعون فرصة التزود من هذا الشهر الكريم‪.‬‬
‫في الحديث الصببحيح‪" :‬إذا جبباء رمضببان فتحببت أبببواب الجنببة‪ ،‬وغلقببت‬
‫أبواب النار‪ ،‬وصفدت الشياطين" )متفق عليه عببن أبببي هريببرة‪ ،‬اللؤلببؤ‬
‫والمرجان ‪.(656-‬‬

‫هل ُ ّ‬
‫م‪،‬‬ ‫وفي طريق لعبد الرزاق وغيره‪" :‬وينادي فيه مناد‪ :‬يا باغي الخير‪َ ،‬‬
‫ويا باغي الشر أقصر" )عبد الرزاق ‪ ،7386-‬وابن خزيمة ‪ ،1883-‬ورواه‬
‫الحاكم بنحوه‪ ،‬وقال‪ :‬صحيح على شرطهما‪ ،‬ووافقه الذهبي ‪.(421/1-‬‬

‫ومن ألوان الطاعة في هذا الشهر‪:‬‬


‫الكثار من ذكر الله تعالى‪ ،‬والستغفار والدعاء وتلوة القببرآن الكريببم‪،‬‬
‫والحرص على الصلة في الجماعة‪.‬‬
‫‪79‬‬

‫مستحب للمسلم في كل وقت‪ ،‬ولكنه في رمضان أكثر اسببتحباًبا‪،‬‬ ‫وهذا ُ‬


‫ما بعد يوم‪ ،‬دون أن ينال حظه فيه‬ ‫حتى ل يتسرب منه الشهر الكريم يو ً‬
‫من المغفرة والعتق من النار‪ ،‬ولله كل ليلة فيه عتقاء من النار‪.‬‬

‫وقد روى كعب بن عجرة وغيره‪ :‬أن جبريل عليه السلم دعببا علببى مببن‬
‫أدرك رمضان فلم يغفر لبه‪ ،‬وأمبن عليبه رسبول اللبه صبلى اللبه عليبه‬
‫وسلم )رواه الحاكم وقال‪ :‬صببحيح السببناد‪ ،‬ووافقببه الببذهبي ‪،154/4-‬‬
‫وقال الهيثمي في المجمع ‪ :166/10-‬رواه الطبراني ورجاله ثقات(‪.‬‬

‫ومن أهم ما ينبغي للصببائم الحببرص عليببه فببي رمضببان‪ :‬الجببود وفعببل‬
‫الخير‪ ،‬وبذل المعروف للناس‪ ،‬وإطعام الطعام‪.‬‬
‫فهكذا كان رسول الله صلى الله عليببه وسببلم‪ ،‬قببال ابببن عببباس‪ :‬كببان‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير‪ ،‬وكببان أجببود مببا يكببون‬
‫في رمضان‪ ،‬حين يلقاه جبريل‪ ،‬وكان يلقاه كل ليلة في رمضببان حببتى‬
‫ينسلخ‪ ،‬يعرض عليه النبي صبلى اللبه عليبه وسبلم القبرآن‪ ،‬فبإذا لقيبه‬
‫جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة )رواه البخبباري فبي الصببوم‬
‫وفي بدء الوحي(‪.‬‬
‫ومن هنا اعتاد المسلمون من قديم مد الموائد لتفطير الصببائمين فببي‬
‫رمضان‪ ،‬لما فيها من الثواب الجزيل‪.‬‬

‫صا عند الفطار‬


‫الدعاء طوال النهار وخصو ً‬
‫يستحب للصائم أن يرطب لسانه بذكر الله ودعائه طببوال يببوم صببومه‪،‬‬
‫فإن الصوم يجعله في حالة روحية تقربه من الله تعببالى‪ ،‬وتجعلببه فببي‬
‫مظنة الستجابة لدعائه‪.‬‬

‫والذكر والدعاء مطلوب من الصائم طوال نهاره‪ ،‬ولكنه مطلوب بصورة‬


‫خاصة عند الفطار‪ .‬وأولى ما يقوله الصببائم عنببد فطببره مببا رواه ابببن‬
‫عمر قال‪ :‬كان النبي صلى اللببه عليببه وسببلم يقببول إذا أفطببر‪" :‬ذهببب‬
‫الظمأ وابتّلت العروق‪ ،‬وثبت الجر إن شاء الله تعالى" )رواه أبو داود )‬
‫‪ ،(2357‬والبببدارقطني )‪ (185/2‬وحسبببن إسبببناده‪ ،‬والحببباكم )‪(422/1‬‬
‫وقال‪ :‬صحيح على شرط البخاري‪ .‬والعمل بهببذا الخبببر أولببي مببن خبببر‬
‫أنببس وابببن عببباس أنببه كببان يقببول‪" :‬اللهببم لببك صببمت وعلببى رزقببك‬
‫أفطرت‪ ،‬سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬اللهببم تقبببل منببا إنببك أنببت السببميع‬
‫العليم" (رواه الدارقطني‪ ،‬لن سنده ضعيف(‪.‬‬

‫ويدعو عنببد الفطببار بمببا أحببب لببدينه ودنيبباه وآخرتببه‪ ،‬لنفسببه ولببذويه‬
‫وللمسلمين فهو وقت ُترجى فيه الجابة‪ .‬فقد روى ابن ماجة عن عبببد‬
‫الله بن عمرو‪" :‬أن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" )رواه ابببن ماجببة ‪-‬‬
‫‪ ،1753‬وذكر البوصيري في الزوائد‪ :‬أن إسناده صحيح‪ ،‬وانظر‪ :‬تعليقنببا‬
‫‪80‬‬

‫في )المنتقى( على الحديث ‪ .(521-‬وكان عبد الله بن عمرو يجمع بنيه‬
‫عند الفطار ويدعو قائل‪ :‬اللهم أسألك برحمتك التي وسعت كل شببيء‬
‫أن تغفر لي ذنوبي‪.‬‬

‫وروى أبو هريرة‪" :‬ثلثة ل ترد دعوتهم‪ :‬المببام العببادل‪ ،‬والصببائم حيببن‬
‫يفطر‪ ،‬ودعوة المظلوم" )رواه الترمذي وحسنه )‪ ،(3595‬وابن ماجببة )‬
‫‪ ،(1752‬وصححه ابن حبان )‪ ،(2408‬وحسنه ابن حجر فببي أمبباليه علببى‬
‫ححه أحمبد شباكر‪ ،‬انظبر )المنتقبى‬ ‫الذكار‪ ،‬ورواه أحمد في حديث وصب ّ‬
‫من الترغيب والببترهيب( وتعليقنببا علببى الحببديث ‪ .(522-‬وفببي روايببة‪:‬‬
‫"والصائم حتى يفطر"‪.‬‬

‫الجتهاد في العشر الواخر‬


‫صحت الحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬أنببه كببان يجتهببد‬
‫في العشر الواخببر مببن رمضببان مببا ل يجتهببد فببي غيرهببا )رواه أحمببد‬
‫ومسلم والترمذي عن عائشة‪ :‬كما في صحيح الجامع الصغير ‪.(4910-‬‬

‫وقالت عائشة‪ :‬كان إذا دخل العشر شد مئزره‪ ،‬وأحيا ليله‪ ،‬وأيقظ أهلببه‬
‫رواه الستة إل الترمذي عببن عائشببة‪ ،‬المصببدر السببابق ‪ 4713 -‬وانظببر‪:‬‬
‫اللؤلؤ والمرجان ‪.(730-‬‬

‫وشد المئزر كناية عن الجتهاد في العبببادة‪ُ ،‬يقببال للمجتهببد فببي أمببر‪:‬‬


‫شمر عن ساقيه‪ ،‬كما يكنى به عن اعتزال النساء‪.‬‬
‫والمراد بقولها‪) :‬أحيا ليله( )عبرت عائشببة عببن القيببام بالحيبباء‪ ،‬دللببة‬
‫على أن الوقات التي ل تغتنم في طاعة الله تعالى أوقات ميتببة(‪ ،.‬أي‬
‫أحياه كله بالقيام والتعبد والطاعببة وقببد كببان قبببل ذلببك يقببوم بعضببه‪،‬‬
‫وينام بعضه‪ ،‬كما أمره الله في سورة )المزمل(‪.‬‬
‫ومعنببى )أيقببظ أهلببه(‪ :‬أي زوجبباته أمهببات المببؤمنين‪ ،‬ليشبباركنه فببي‬
‫اغتنام الخير والذكر والعبادة في هذه الوقات المباركة‪.‬‬
‫وبهذا يعلمنا أن يتعهد المسلم أهلببه وأسببرته بالتببذكير بمواقببع الخيببر‪،‬‬
‫والمر به‪ ،‬كما قال تعالى‪) :‬وأمر أهلك بالصلة واصببطبر عليهببا( )طببه‪:‬‬
‫‪.(132‬‬

‫ومن دلئل حرصه صببلى اللببه عليببه وسببلم علببى الجتهبباد فببي العشببر‬
‫الواخر‪ :‬اعتكافه فيها في المسجد‪ ،‬متفر ً‬
‫غا لعبادة اللببه تعببالى‪ .‬ذكببرت‬
‫عائشة‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الواخر مببن‬
‫رمضان حتى توفاه الله‪ ،‬ثم اعتكف أزواجه من بعده )متفق عليه اللؤلؤ‬
‫والمرجان ‪،728-‬ب ‪ ،729‬ورواه عنببه كببذلك ابببن عمببر‪ ،‬المصببدر نفسببه ‪-‬‬
‫‪.(727‬‬
‫‪81‬‬

‫والعتكاف‪ :‬عزلة مؤقتة عن شواغل الحياة‪ ،‬وإقبال بالكليببة علببى اللببه‬


‫تبارك وتعالى‪ ،‬والنس بعبادته‪.‬‬
‫والسلم لم يشرع الرهبانية‪ ،‬ول التعبببد بالعزلببة الدائمببة‪ ،‬ولكنببه شببرع‬
‫هذه الفترات المؤقتة في أوقات معينة‪ ،‬لترتوي القلبوب الظببامئة إلبى‬
‫المزيد من التعبد والتجرد لله رب العالمين‪.‬‬

‫سر الجتهاد في العشر‬


‫وسر الجتهاد والمبالغة في العشر الواخر يكمن في أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن هذه العشر‪ ،‬هي ختام الشهر المبارك‪ ،‬والعمببال بخواتيمهببا‪،‬‬
‫ولهذا كان من دعائه عليه الصلة والسببلم‪" :‬اللهببم اجعببل خيببر أيببامي‬
‫يوم ألقاك‪ ،‬وخير عمري أواخره‪ ،‬وخير عملي خواتمه"‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن ليلة القدر المباركة المفضلة أرجح ما تكون فيها‪ ،‬بل صببحت‬
‫الحاديث أنها تلتمس فيها‪.‬‬
‫فاللبيب الكيس من اجتهد في هذه العشر‪ ،‬عسى أن يظفر فيهببا بهببذه‬
‫الليلة فيغفر له ما تقدم من ذنبه‪.‬‬
‫ما يستحب للصائم‬

‫تعجيل الفطار‬
‫يستحب للصائم تعجيل الفطار‪ ،‬فقد رغب في ذلك رسببول اللببه صببلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬بقوله وفعله‪.‬‬
‫ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال‪" :‬ل يببزال النبباس بخيببر‬
‫ما عجلوا الفطر" )متفق عليه من حديث سهل بن سعد‪ ،‬كما في اللؤلؤ‬
‫والمرجان ‪.(668-‬‬

‫وإنما أحب التعجيل لما فيه من التيسير على الناس‪ ،‬وكره التببأخير لمببا‬
‫فيه من شبهة التنطع والغلو في الدين‪ ،‬والتشبه بأهل الديان الخببرى‬
‫الذين كانوا يغلون في دينهم‪.‬‬

‫فعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال‪ " :‬ل يزال الدين ظبباهًرا‬
‫ما عجل الناس الفطر‪ ،‬لن اليهود والنصارى يببؤخرون" )رواه أبببو داود‬
‫فببي الصببوم )‪ ،(2353‬وابببن مبباجه )‪ ،(1698‬وابببن خزيمببة )‪،(2060‬‬
‫والحاكم )‪ (431/1‬وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي(‪.‬‬

‫ومعنى التعجيل‪ :‬أنه بمجببرد غيبباب قببرص الشببمس مببن الفببق يفطببر‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح‪" :‬إذا أقبل الليل من ههنا‪ ،‬وأدبر النهار من ههنا‪،‬‬
‫وغربت الشمس‪ ،‬فقد أفطببر الصببائم" )متفببق عليببه مببن حببديث عمببر‪،‬‬
‫اللؤلؤ والمرجان ‪.(668-‬‬
‫‪82‬‬

‫ويكفيه في ذلك أن يغلب على ظنه غروبها‪ ،‬فالظن الغالب يكفببي فبي‬
‫هذه المور‪ ،‬كما في القبلة وغيرها‪ ،‬وقد أفطر المسببلمون فببي عهببده‬
‫عليه الصلة والسلم‪ ،‬وهو معهم‪ ،‬ثم طلعت الشمس‪.‬‬

‫وكان من سنته العملية عليه الصلة والسلم‪:‬‬


‫ما رواه أنس خادمه‪ :‬أنه كان يفطر على رطبات قبببل أن يصببلي‪ ،‬فببإن‬
‫لم تكن رطبات‪ ،‬فعلى تمرات‪ ،‬فإن لم تكن حسا حسوات من ماء )رواه‬
‫أحمد ‪ ،164/3-‬وأبو داود ‪ ،2356-‬والترمذي ‪.(696-‬‬

‫ضا‪ :‬ما رأيت رسول الله صلى الله عليببه وسببلم‪ ،‬صببلى صببلة‬ ‫ويقول أي ً‬
‫المغرب حتى يفطر‪ ،‬ولو علببى شببربة مببن مبباء )رواه أبببو يعلببي وقببال‬
‫الهيثمي في )المجمع(‪ :‬رجاله رجببال الصببحيح ‪ ،155/3-‬وابببن خزيمببة ‪-‬‬
‫‪ ،2063‬وابن حبان ‪.(3495-‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪" :‬من وجد التمر فليفطر عليه‪ ،‬ومن لم يجد‬
‫التمر‪ ،‬فليفطر على الماء‪ ،‬فإن المبباء طهببور" )رواه عبببد الببرزاق فببي‬
‫مصنفه )‪ ،(7586‬وأحمببد )‪،17/4‬ب ‪ ،(18‬وأبببو داود )‪ ،(2355‬والترمببذي )‬
‫‪ ،(694‬وابن ماجه )‪ ،(1699‬وابببن خزيمببة )‪ ،(2067‬وابببن حبببان )‪،(893‬‬
‫والحببباكم )‪،431/1‬ببب ‪ ،(432‬وصبببححه ووافقبببه الببذهبي‪ .‬والمبببر هنبببا‬
‫للستحباب عند الفقهاء كافببة‪ ،‬إل أن ابببن حببزم شببذ‪ ،‬فجعلببه للوجببوب‬
‫على قاعدته‪ ،‬وأوجب الفطر على التمر إن وجده‪ .‬وإل فالماء(‪.‬‬

‫والبلد التي ل يوجد فيها الرطب أو التمببر‪ ،‬يغنببي عنهببا بعببض الفببواكه‬
‫الخرى أو شيء من الحلو‪.‬‬
‫وينبغي أن يلزم العتدال في تناول الطعام‪ ،‬فل يسرف ويكثر إلى حببد‬
‫ضّيع حكمة الصيام الصحية‪ ،‬كما يفعله كثير من الصائمين‪.‬‬ ‫التخمة‪ ،‬في ُ َ‬

‫السحور وتأخيره‬
‫ومما سّنه النبي صلى الله عليه وسببلم للصببائم أن يتسببحر‪ ،‬وأن يببؤخر‬
‫السحور‪.‬‬
‫السحور‪ :‬ما يؤكل في السحر‪ ،‬أي بعد منتصف الليل إلببى الفجببر‪ ،‬وأراد‬
‫بببذلك أن يكببون قببوة للصببائم علببى احتمببال الصببيام‪ ،‬وجببوعه وظمئه‪،‬‬
‫صا عندما يطول النهار‪.‬‬ ‫وخصو ً‬

‫ولببذا قببال‪" :‬تسببحروا فببإن فببي السببحور بركببة" )متفببق عليببه‪ ،‬اللؤلببؤ‬
‫والمرجان ‪.(665-‬‬
‫وفيه تمييز كذلك لصيام المسلمين عن غيرهم‪ ،‬وفي الصببحيح‪" :‬فصببل‬
‫ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب‪ :‬أكلة السببحر" )مسببلم ‪ ،1096-‬وأبببو‬
‫‪83‬‬

‫داود )‪ ،(2343‬والنسببائي )‪ ،(2168‬والترمببذي )‪ (907‬عببن عمببرو بببن‬


‫العاص(‪.‬‬

‫ما يؤكل‪ ،‬ولببو شببيًئا مببن التمببر‪ ،‬وإل‬


‫والصل في السحور أن يكون طعا ً‬
‫فأدنى ما يكفي شربة من ماء‪.‬‬
‫روى أبو سعيد اخدري عن النبي صلى الله عليه وسببلم‪" :‬السببحور كلببه‬
‫بركة‪ ،‬فل تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء‪ ،‬فإن الله عز وجببل‬
‫وملئكتببه يصببلون علببى المتسببحرين" )قببال المنببذري فببي الببترغيب‬
‫والببترهيب‪ :‬رواه أحمببد‪ ،‬وإسببناده قببوي‪ .‬وحسببنه اللببباني فببي صببحيح‬
‫الجامع الصغير )‪ ،(3683‬عنبد اببن حببان )‪،883‬ب ‪ (884‬عبن حبديث اببن‬
‫عمر‪" :‬تسحروا ولو بجرعة ماء"(‪.‬‬

‫ومن بركة السحور‪ :‬أنببه ‪ -‬بجببوار مببا يهيئه للمسببلم مببن وجبببة ماديببة ‪-‬‬
‫يهييء له وجبة روحية‪ ،‬بما يكسبه المسلم مببن ذكببر واسببتغفار ودعباء‪،‬‬
‫في هذا الوقت المبارك‪ ،‬وقت السحر الذي تنزل فيه الرحمببات‪ ،‬عسببى‬
‫أن يكون من المستغفرين بالسحار‪.‬‬
‫ومن السنة تأخير السحور‪ ،‬تقليل ً لمدة الجوع والحرمان‪ ،‬قببال زيببد بببن‬
‫ثابت‪ :‬تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسببلم‪ ،‬ثببم قمنببا إلببى الصببلة‪،‬‬
‫فسأله أنس‪ :‬كم بينهما؟ قال‪ :‬قدر خمسببين آيببة )متفببق عليببه‪ ،‬اللؤلببؤ‬
‫والمرجان ‪.(666-‬‬
‫وقوله تعببالى‪) :‬فكلببوا واشببربوا حببتى يتبببين لكببم الخيببط البيببض مببن‬
‫الخيط السود من الفجر( تفيد جواز الكل إلى أن يتبين الفجر‪.‬‬
‫ومن شك هل طلع الفجر أم ل‪ ،‬جاز له أن يأكل ويشرب حتى يستيقن‪،‬‬
‫وهكذا قال حبر المة ابن عباس‪ :‬كل ما شككت حتى تستيقن‪.‬‬
‫ونقله أبو داود عن المام أحمد‪ :‬أنه يأكل حتى يستيقن طلوعه‪.‬‬
‫بل روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن حذيفة قال‪ :‬تسحرنا مع رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم وكان النهار‪ ،‬إل أن الشمس لم تطلع )ذكببره‬
‫ابن كثير في تفسيره ‪.(222/1-‬‬

‫وحمله النسائي على أن المراد قرب النهار‪.‬‬


‫عا‪" :‬إذا سمع أحدكم النداء‪ ،‬والناء علببى يببده‪ ،‬فل‬
‫عن أبي هريرة مرفو ً‬
‫يضببعه حببتى يقضببي حبباجته منببه" )رواه الحبباكم وصببححه علببى شببرط‬
‫مسلم‪ ،‬ووافقه الذهبي ‪.(426/1‬‬

‫وعن عائشة‪ :‬أن بلل ً كان يؤذن بليل‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪" :‬كلوا واشربوا حتى يؤذن ابببن أم مكتببوم‪ :‬فببإنه ل يببؤذن‪ ،‬حببتى‬
‫يطلع الفجر" )البخاري في الصوم(‪.‬‬
‫‪84‬‬

‫قال ابن كثير‪) :‬وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف‪ :‬أنهم تسببامحوا‬
‫في السحور عند مقاربة الفجر‪ ،‬روي مثببل هببذا عببن أبببي بكببر‪ ،‬وعمببر‪،‬‬
‫وعلى‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وحذيفة‪ ،‬وأبي هريرة‪ ،‬وابببن عمببر‪ ،‬وابببن عببباس‪،‬‬
‫وزيد بن ثابت‪ ،‬وعن طائفة كثيرة من التابعين‪ ،‬منهم محمد بن علي بن‬
‫الحسين‪ ،‬وأبو مجلز‪ ،‬وإبراهيم النخعي‪ ،‬وأبو الضحى‪ ،‬وأبو وائل وغيببره‬
‫من أصحاب ابن مسعود‪ ،‬وعطاء والحسن‪ ،‬والحكم بن عيينببة‪ ،‬ومجاهببد‪،‬‬
‫وعروة بن الزبير‪ ،‬وأبو الشببعثاء جببابر بببن زيببد‪ ،‬وإليببه ذهببب العمببش‪،‬‬
‫وجابر بن راشد( )تفسير ابن كثير ‪ 222/1-‬ط‪ .‬عيسى الحلبي(‪.‬‬

‫ومن هنا نعلم أن المر في وقت الفجر‪ ،‬ليس بالدقيقببة والثانيببة‪ ،‬كمببا‬
‫عليه الناس اليوم‪ ،‬ففي المر سعة ومرونببة وسببماحة‪ ،‬كمببا كببان عليببه‬
‫الكثير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين‪.‬‬

‫ده كثير من المسلمين من المساك مدة قبل الفجببر مبن قبيبل‬ ‫و َ‬


‫ع ّ‬
‫وما ت َ َ‬
‫الحتياط مخالف لهدي النبي صلى الله عليببه وسببلم وأصببحابه‪ ،‬وكتابببة‬
‫ذلك في الصحف والتقاويم والمساكيات مما ينبغي أن ُينكر‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر‪) :‬من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من‬
‫إيقاع الذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث سبباعة فببي رمضببان‪ ،‬وإطفبباء‬
‫المصابيح التي جعلببت علمببة لتحريببم الكببل والشببرب علببى مببن يريببد‬
‫ما ممن أحدثه أنه للحتياط فببي العبببادة‪ ،‬ول يعلببم بببذلك إل‬ ‫الصيام‪ ،‬زع ً‬
‫آحاد الناس‪ .‬وقد جّرهم ذلك إلى أن صبباروا ل يؤذنببون إل بعببد الغببروب‬
‫جلببوا السببحور‪،‬‬‫خروا الفطببور وع ّ‬‫بدرجببة لتمكيببن الببوقت ‪ -‬زعمببوا ‪ -‬فببأ ّ‬
‫وخالفوا السنة‪ ،‬فلذلك قل عنهم الخير‪ ،‬وكثر الشر‪ ،‬والله المسببتعان(!‬
‫)فتح الباري ‪ 102/5-‬ط‪ .‬الحلبي(‪.‬‬

‫السحور للصائم‬
‫ً‬
‫السحور ليس شرطا في الصيام‪ ،‬وإنما هو سنة‪ ،‬عن النبي – صلى اللببه‬
‫عليه وسلم – فعلها وأمر بها‪ ،‬وقال‪ " :‬تسحروا‪ ،‬فإن في السحور بركة‬
‫" )متفق عليه من حديث أنس( فُيسن السحور ويسن تأخيره‪ ،‬لنه ممببا‬
‫يقوي المسلم الصيام‪ ،‬ويخفبف عنببه مشبقة الصبوم ؛ لنببه يقلببل مببدة‬
‫الجوع والعطش‪ ،‬وقببد جبباء هببذا الببدين بالميسببرات‪ ،‬الببتي تيسببر علببى‬
‫الناس عببباداتهم‪ ،‬وترغبهببم فيهببا‪ ،‬ومببن ذلببك تعجيببل الفطببور وتببأخير‬
‫السحور‪ ،‬فيسن للمسلم الصائم أن يقببوم إلببى السببحور ويتسببحر ولببو‬
‫بالقليل ولو بتمرة أو شربة مبباء‪ ،‬عمل ً بسببنة رسببول اللببه ‪ -‬صببلى اللببه‬
‫عليببه وسببلم ‪ ،-‬وفببي السببحور فببائدة أخببرى روحيببة‪ ،‬وهببي التنبببه‬
‫والستيقاظ قبل الفجر‪ ،‬ساعة السحور التي يتجلى اللببه فيهببا لعببباده‪،‬‬
‫حا ‪ .‬ومببا‬
‫فيجيب من دعا‪ ،‬ويغفر لمن استغفر‪ ،‬ويتقبل ممن عمببل صببال ً‬
‫‪85‬‬

‫أعظم الفرق بين من يقضي هذا الببوقت ذاك بًرا تالي ًببا‪ ،‬ومببن يمببر عليببه‬
‫ما‪.‬‬
‫دا نائ ً‬
‫راق ً‬

‫السحور عند أذان الفجر‬


‫إذا تأكد أن أذان الفجر في موعده المضبوط‪ ،‬حسببب التقببويم المحلببي‬
‫للبلد الذي يصوم فيه‪ ،‬وجب عليه أن يترك الكل والشرب فبور سبماعه‬
‫الذان‪ ،‬بل لو كان فبي فمبه طعبام وجببب عليبه أن يلفظبه حببتى يصبح‬
‫صومه ‪ .‬أما إذا كان يعرف أن الذان قبل موعده بدقائق‪ ،‬أو على القل‬
‫يشك في ذلك فمن حقه أن يأكل أو يشرب حببتى يسببتيقن مببن طلببوع‬
‫الفجر‪.‬‬
‫وهذا ميسور الن بواسطة التقويم )المسبباكيات( والسبباعات الدقيقببة‬
‫التي ل يخلو منها بيت‪.‬‬
‫قببال رجببل لبببن عببباس رضببي اللببه عنببه‪ :‬إنببي أتسببحر‪ ،‬فببإذا شببككت‬
‫أمسكت‪.‬‬
‫قال ابن عباس‪ :‬كل‪ ،‬ما شككت‪ ،‬حتى ل تشك‪.‬‬
‫وقال المام أحمد‪ :‬إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه‪.‬‬
‫وقال النووي‪ :‬وقد اتفق أصحاب الشافعي على جواز الكل للشاك في‬
‫طلوع الفجر‪ :‬والدليل على ذلك أن الله تعالى أباح الكل والشرب فببي‬
‫ليلة الصيام إلى غاية هي تبين الفجر‪ ،‬والشاك لم يتبين له الفجر‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪) :‬فالن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشببربوا حببتى‬
‫يتبين لكببم الخيببط البيببض مببن الخيببط السببود مببن الفجببر(‪) .‬البقببرة‪:‬‬
‫‪.(187‬‬
‫ومن هنا نتبين أن المساك مدة من الزمن قبل الفجر بصفة دائمة لببم‬
‫يرد به كتاب ول سنة وهو لون من الغلو في الدين‪ ،‬وينافي ما جاء فببي‬
‫السنة من استحباب تأخير السحور ‪ .‬والله أعلم‪.‬‬

‫ب‬
‫التنزه عن اللغو والرفث والجهل والس ّ‬
‫صا على التنزه عن اللغو والرفث والصببخب‬ ‫وينبغي للصائم أن يزداد حر ً‬
‫والجهل‪ ،‬والسب والشتم‪.‬‬
‫وهذا شأن المؤمنين في كل وقت وحال‪ ،‬كما قببال تعببالى فببي وصببف‬
‫المؤمنين المفلحين‪) :‬والذين هم عن اللغببو معرضببون( )المؤمنببون‪(3 :‬‬
‫وفببي وصببف عببباد الرحمببن‪) :‬وإذا خبباطبهم الجبباهلون قببالوا سببلما(‬
‫)الفرقان‪ (63 :‬ولكن هذا آكد في حال الصيام‪.‬‬

‫وقد قببال عليببه الصببلة والسببلم‪" :‬الصببيام جنببة‪ ،‬وإذا كببان يببوم صببوم‬
‫أحدكم فل يرفث ول يصخب )وفي رواية‪ :‬ول يجهل( فإن سابه أحببد أو‬
‫قبباتله‪ ،‬فليقببل‪ :‬إنببي امببرؤ صببائم" )متفببق عليببه‪ ،‬اللؤلببؤ والمرجببان ‪-‬‬
‫‪ .(706،707‬وفي رواية‪ :‬مرتين‪.‬‬
‫‪86‬‬

‫والرفث‪ :‬الكلم المتعلق بالنساء وأمببور الجنببس‪ ،‬وقيببل‪ :‬الفحببش فببي‬


‫الكلم عامة‪ .‬والصخب‪ :‬الصببياح ورفببع الصببوات‪ ،‬شببأن الجهببال‪ ،‬وهببذا‬
‫معنى )ول يجهل(‪.‬‬

‫ومن أدب الصائم أن يببدفع السببيئة بالحسببنة‪ ،‬وأن يقببول لمببن سبّبه أو‬
‫شبتمه‪ :‬إنبي صبائم‪ ،‬يقبول ذلببك بقلبببه ولسبانه‪ ،‬يخبباطب ببذلك نفسببه‬
‫ف شببره‪ ،‬وُيطفببئ‬
‫ليلجمها بلجام التقببوى‪ ،‬ويخبباطب بببذلك شبباتمه ليكب ّ‬
‫غضبه بماء الحلم والدفع بالتي هي أحسن‪.‬‬

‫وأولى ببالّتنّزه مبن اللغبو والرفبث والصبخب‪ :‬الكبذب والبزور‪ ،‬والغيببة‬


‫والنميمة ونحوها من آفات اللسان‪ ،‬التي تأكل الحسنات كما تأكل النار‬
‫الحطب‪.‬‬

‫والصيام المقبول ح ً‬
‫قببا هببو الببذي يصببوم فيببه اللسببان والجببوارح‪ ،‬عببن‬
‫معصية اللببه كمببا يصببوم البطببن عببن الطعببام والشببراب‪ ،‬والفببرج عببن‬
‫مباشرة النساء‪.‬‬

‫يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم‪" :‬ليس الصيام مببن الكببل‬
‫والشرب‪ ،‬إنما الصيام من اللغو والرفببث" )رواه الحبباكم وصببححه علببى‬
‫ضببا‪" :‬رب صببائم ليببس‬‫شرط مسلم‪ ،‬ووافقه الذهبي ‪ .(430/1-‬وقال أي ً‬
‫له من صيامه إل الجوع " )رواه النسببائي وابببن مبباجه والحبباكم وقببال‪:‬‬
‫صحيح على شرط البخاري كما في المجموع للنببووي ‪ .356/6-‬وانظببر‪:‬‬
‫المستدرك ‪.(431/1-‬‬

‫وإن وقت الصائم لغلى وأنفس من أن ينفق في هذه المهلكات‪ ،‬التي‬


‫إن لم تبطل الصيام ‪ -‬كما قاله جماعة من السلف ‪ -‬ذهبت بأجره كله أو‬
‫بعضه‪.‬‬
‫ليلة القدر‬
‫سّنة بفضل هذه الليلة العظيمة‪ ،‬وأنزل اللببه‬ ‫هت ال ّ‬
‫و َ‬
‫وه القرآن‪ ،‬ون َ ّ‬
‫لقد ن َ ّ‬
‫فيها سورة كاملة‪) :‬إنا أنزلناه في ليلة القدر‪ .‬وما أدراك ما ليلة القدر‪.‬‬
‫ليلة القدر خير من ألف شهر‪ .‬ت َن َّزل الملئكة والببروح فيهببا بببإذن ربهببم‬
‫من كل أمر‪ .‬سلم هي حتى مطلع الفجر(‪.‬‬

‫ن هببذه الليلببة‪ ،‬فأضببافها إلببى )القببدر( أي المقببام‬


‫ن شببأ َ‬ ‫عظّ ب َ‬
‫م القببرآ ُ‬ ‫َ‬
‫والشرف‪ ،‬وأي مقام وشرف أكثر من أن تكون خيًرا وأفضببل مببن ألببف‬
‫شهر‪ .‬أي الطاعة والعبادة فيها خير من العبببادة فببي ألببف شببهر ليببس‬
‫فيها ليلة القدر‪.‬‬
‫‪87‬‬

‫وألف شهر تساوي ثلًثا و ثمانين سنة وأربعة أشهر‪ ،‬أي أن هذه الليلببة‬
‫الواحدة أفضل من عمر طويببل يعيشببه إنسببان عمببره مببا يقببارب مببائة‬
‫سنة‪ ،‬إذا أضفنا إليه سنوات ما قبل البلوغ والتكليف‪.‬‬

‫وهي ليلة تتنّزل فيها الملئكة برحمة الله وسببلمه وبركبباته‪ ،‬ويرفببرف‬
‫فيها السلم حتى مطلع الفجر‪.‬‬
‫وفي السنة جاءت أحاديث جمة في فضل ليلببة القببدر‪ ،‬والتماسببها فببي‬
‫العشر الواخر ففي صحيح البخاري من حديث أبببي هريببرة‪" :‬مببن قببام‬
‫غفر له مببا تقببدم مببن ذنبببه" )رواه البخبباري‬‫ليلة القدر إيماًنا واحتساًبا ُ‬
‫في كتاب الصوم(‪.‬‬

‫ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغفلة عن هببذه الليلببة وإهمببال‬
‫إحيائها‪ ،‬فيحببرم المسببلم مببن خيرهببا وثوابهببا‪ ،‬فيقببول لصببحابه‪ ،‬وقببد‬
‫أظلهم شهر رمضان‪" :‬إن هذا الشهر قد حضركم‪ ،‬وفيبه ليلبة خيبر مبن‬
‫رم الخيَر كله‪ ،‬ول ُيحرم خيرها إل محروم"‬ ‫ح ِ‬
‫مها فقد ُ‬
‫ر َ‬
‫ح ِ‬
‫ألف شهر‪ ،‬من ُ‬
‫)رواه ابن ماجه من حديث أنس‪ ،‬وإسناده حسن كما في صحيح الجببامع‬
‫الصغير وزيادته ‪.(2247-‬‬

‫مببا مببن ضببيع فرصببة هببي خيببر مببن ثلثيببن ألببف‬


‫وكيببف ل يكببون محرو ً‬
‫فرصة؟‪.‬‬
‫إن من ضيع صفقة كان سيربح فيها ‪ %100‬يتحسببر علببى فواتهببا أّيمببا‬
‫تحسر‪ ،‬فكيف بمن ضببيع صببفقة كببان سببيربح فيهببا ‪ %3000000‬ثلثببة‬
‫مليين في المائة؟!!‪.‬‬

‫أي ليلة هي ؟‬
‫ليلة القدر في شهر رمضان يقيًنا‪ ،‬لنها الليلة التي أنزل فيها القببرآن‪،‬‬
‫وهو أنزل في رمضان‪ ،‬لقوله تعببالى‪) :‬شببهر رمضببان الببذي أنببزل فيببه‬
‫القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان( )البقرة‪.(185 :‬‬

‫والواضح من جملة الحاديث الواردة أنها في العشر الواخببر‪ ،‬لمببا صببح‬


‫عن عائشببة قببالت‪ :‬كببان رسببول اللببه يجبباور فببي العشببر الواخببر مببن‬
‫رمضان‪ ،‬ويقول‪" :‬تحروا ليلة القدر في العشببر الواخببر مببن رمضببان "‬
‫)متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(726-‬‬

‫وعن أبي سعيد أن النبي صلى اللببه عليببه وسببلم‪ ،‬خببرج إليهببم صبببيحة‬
‫عشرين فخطبهم‪ ،‬وقال‪" :‬إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها ‪ -‬أو نسيتها‬
‫‪ -‬فالتمسوها في العشببر الواخببر‪ ،‬فببي الببوتر" )متفببق عليببه‪ ،‬المصببدر‬
‫نفسه ‪ .(724-‬وفي رواية‪" :‬ابتغوها في كل وتر " )نفسه ‪.(725‬‬
‫‪88‬‬

‫ومعنى )يجاور(‪ :‬أي يعتكف في المسجد‪ ،‬والمراد بببالوتر فببي الحببديث‪:‬‬


‫الليالي الوترية‪ ،‬أي الفردية‪ ،‬مثل ليالي‪.29 ،27 ،25 ،23 ،21 :‬‬

‫وإذا كان دخول رمضببان يختلببف ‪ -‬كمببا نشبباهد اليببوم ‪ -‬مببن بلببد لخببر‪،‬‬
‫فالليالي الوترية في بعض القطار‪ ،‬تكببون زوجيببة فببي أقطببار ُأخببرى‪،‬‬
‫فالحتياط التماس ليلة القدر في جميع ليالي العشر‪.‬‬

‫ويتأكد التماسها وطلبها في الليالي السبع الخيرة مببن رمضببان‪ ،‬فعببن‬


‫ابن عمر‪ :‬أن رجال ً من أصحاب النبي صلى اللببه عليببه وسببلم أروا ليلببة‬
‫القدر في المنام‪ ،‬في السبع الواخر‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪" :‬أرى رؤياكم قببد تواطببأت )أي تببوافقت( فببي السبببع الواخببر‪،‬‬
‫فمن كان متحريها‪ ،‬فليتحرها في السبع الواخر" )متفق عليه‪ ،‬عن ابن‬
‫ضببا‪" :‬التمسببوها فببي‬ ‫عمر‪ ،‬المصدر السببابق ‪ .(723-‬وعببن ابببن عمببر أي ً‬
‫العشببر الواخببر‪ ،‬فببإن ضببعف أحببدكم أو عجببز‪ ،‬فل ُيغلبببن علببى السبببع‬
‫البواقي" )رواه أحمد ومسلم والطيالسي عن ابن عمر كما في صببحيح‬
‫الجامع الصغير ‪.(1242‬‬

‫والسبع الواخر تبدأ من ليلة ‪ 23‬إن كببان الشببهر ‪ 29‬ومببن ليلببة ‪ 24‬إن‬
‫ما‪.‬‬
‫كان الشهر ‪ 30‬يو ً‬
‫ورأي أبي بن كعب وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم أنهببا ليلببة‬
‫ى يحلببف علببى ذلببك لعلمببات‬ ‫ُ‬
‫السابع والعشرين من رمضببان‪ ،‬وكببان أب َب ّ‬
‫رآها‪ ،‬واشتهر ذلك لدى جمهور المسلمين‪ ،‬حتى غدا يحتفل بهذه الليلة‬
‫احتفال ً رسمًيا‪.‬‬
‫والصحيح‪ :‬أن ل يقين في ذلك‪ ،‬وقد تعددت القوال في تحديببدها حببتى‬
‫بلغ بها الحافظ ابن حجر ‪ 46‬قو ً‬
‫ل‪.‬‬

‫ده إلى بعض‪ .‬وأرجحها كلها‪ :‬أنها فببي وتببر مببن العشببر‬‫وبعضها يمكن َر ّ‬
‫الخير‪ ،‬وأنها تنتقل‪ ،‬كما يفهم من أحاديث هببذا الببباب‪ ،‬وأرجاهببا أوتببار‬
‫العشر‪ ،‬وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحببدى وعشببرين‪ ،‬وعنببد‬
‫الجمهور ليلة سبع وعشرين )فتح الباري ‪ 171/5-‬ط‪ .‬الحلبي(‪.‬‬

‫ولله حكمة بالغببة فببي إخفائهببا عنببا‪ ،‬فلببو تيقنببا أي ليلببة هببي لببتراخت‬
‫العزائم طوال رمضان‪ ،‬واكتفت بإحياء تلك الليلة‪ ،‬فكان إخفاؤها حافًزا‬
‫للعمل في الشهر كله‪ ،‬ومضاعفته في العشر الواخببر منببه‪ ،‬وفببي هببذا‬
‫خير كثير للفرد وللجماعة‪.‬‬

‫وهذا كما أخفى الله تعالى عنا ساعة الجابة في يوم الجمعببة‪ ،‬لنببدعوه‬
‫في اليوم كله‪ ،‬وأخفى اسمه العظم الذي إذا دعي بببه أجبباب؛ لنببدعوه‬
‫عا‪.‬‬
‫بأسمائه الحسنى جمي ً‬
‫‪89‬‬

‫روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال‪ :‬خرج النبببي صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم ليخبرنا بليلة القببدر‪ ،‬فتلحببى رجلن مببن المسببلمين )أي تنازعبا‬
‫وتخاصما( فقال‪" :‬خرجت لخبركم بليلببة القببدر‪ ،‬فتلحببى فلن وفلن‪،‬‬
‫فرفعت )أي من قلبي فنسيت تعيينها( وعسى أن يكون خيًرا لكم"‪.‬‬

‫وقد ورد لليلة القدر علمات‪ ،‬أكثرها ل يظهر إل بعببد أن تمضببى‪ ،‬مثببل‪:‬‬
‫أن تظهر الشمس صبيحتها ل شعاع لها‪ ،‬أو حمراء ضعيفة‪......‬إلخ‪.‬‬

‫ومثل‪ :‬أنها ليلة مطر وريح‪ ،‬أو أنها ليلة طلقة بلجة‪ ،‬ل حارة ول ببباردة‪،‬‬
‫إلخ ما ذكره الحافظ في الفتح‪.‬‬
‫ّ‬
‫وكل هذه العلمات ل تعطببي يقين ًببا بهببا‪ ،‬ول يمكببن أن ت َطببرد‪ ،‬لن ليلببة‬
‫ضببا‪ ،‬وقببد‬
‫القدر في بلد مختلفة في مناخهببا‪ ،‬وفببي فصببول مختلفببة أي ً‬
‫يوجد في بلد المسلمين بلد ل ينقطع عنبه المطبر‪ ،‬وآخبر يصبلي أهلبه‬
‫حببل‪ ،‬وتختلببف البلد فببي الحببرارة‬ ‫م ْ‬
‫صلة الستسقاء مما يعبباني مببن ال َ‬
‫والبرودة‪ ،‬وظهور الشمس وغيابها‪ ،‬وقوة شببعاعها‪ ،‬وضببعفه‪ ،‬فهيهببات‬
‫أن تتفق العلمات في كل أقطار الدنيا‪.‬‬

‫هل هي ليلة عامة أو خاصة؟‬


‫ومما بحثه العلماء هنا‪ :‬هل تعتبر ليلة القدر ليلة خاصببة لبعببض النبباس‪،‬‬
‫تظهر له وحده بعلمة يراها‪ ،‬أو رؤيا في منام‪ ،‬أو كرامة خارقة للعببادة‪،‬‬
‫تقع له دون غيره؟ أم هي ليلة عامببة لجميببع المسببلمين بحيببث يحصببل‬
‫الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه أقامها‪ ،‬وإن لم يظهر له شيء؟‪.‬‬

‫لقد ذهب جمع من العلماء إلببى العتبببار الول‪ ،‬مسببتدلين بحببديث أبببي‬
‫هريرة‪" :‬مببن يقببم ليلببة القببدر فيوافقهببا‪) "..‬روايببة لمسببلم عببن أبببي‬
‫هريرة(‪.‬‬

‫وبحديث عائشة‪ :‬أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟‪.‬‬


‫ف عنببي" )رواه ابببن‬‫و تحببب العفببو فبباع ُ‬
‫فقال‪" :‬قولي‪ :‬اللهم إنببك عفب ّ‬
‫سروا الموافقببة بببالعلم بهببا‪ ،‬وأن هببذا‬
‫ماجه والترمذي عن عائشة(‪ .‬وف ّ‬
‫شرط في حصول الثواب المخصوص بها‪.‬‬

‫ورجح آخرون معنى يوافقها‪ :‬أي في نفس المر‪ ،‬إن لم يعلم هو ذلببك‪،‬‬
‫لنببه ل يشببترط لحصببولها رؤيببة شببيء‪ ،‬ول سببماعه‪ ،‬كمببا قببال المببام‬
‫الطبري بحق‪.‬‬

‫وكلم بعض العلماء في اشتراط العلم بليلة القدر كان هو السبب فيما‬
‫يعتقده كثير من عامة المسلمين أن ليلة القدر طاقببة مببن النببور ُتفتببح‬
‫‪90‬‬

‫لبعض الناس من السعداء دون غيرهببم‪ .‬ولهببذا يقبول النباس‪ :‬إن فلنبا‬
‫انفتحت له ليلة القدر‪ ،‬وكببل هببذا ممببا ل يقبوم عليببه دليببل صببريح مببن‬
‫الشرع‪.‬‬

‫فليلة القدر ليلة عامة لجميع من يطلبها‪ ،‬ويبتغي خيرهببا وأجرهببا‪ ،‬ومببا‬
‫عند الله فيها‪ ،‬وهي ليلبة عببادة وطاعبة‪ ،‬وصبلة‪ ،‬وتلوة‪ ،‬وذكبر ودعباء‬
‫وصدقة وصلة وعمل للصالحات‪ ،‬وفعل للخيرات‪.‬‬

‫وأدنى ما ينبغي للمسببلم أن يحببرص عليببه فببي تلببك الليلببة‪ :‬أن يصببلي‬
‫العشاء في جماعة‪ ،‬والصبح في جماعة‪ ،‬فهما بمثابة قيام الليل‪.‬‬
‫ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم "من صلى العشاء في جماعة‪،‬‬
‫فكأنما قام نصف الليل‪ ،‬ومن صلى الصبببح فببي جماعببة‪ ،‬فكأنمببا صببلى‬
‫الليل كله" )رواه أحمد ومسلم واللفظ لبه‪ ،‬مبن حبديث عثمبان‪ ،‬صبحيح‬
‫الجامع الصغير ‪.(6341-‬‬

‫والمراد‪ :‬من صلى الصبح بالضافة إلى صلة العشاء‪ ،‬كما صرحت بببذلك‬
‫رواية أبي داود والترمذي‪" :‬من صلى العشبباء فببي جماعببة كببان كقيببام‬
‫نصف ليلة‪ ،‬ومن صلى العشبباء والفجبر فبي جماعببة كبان كقيببام ليلبة"‬
‫)المصدر السابق ‪(6342-‬‬
‫صيام التطوع‬
‫للعبادات المطلوبة في السلم مستويان‪:‬‬
‫مستوى )الفرض(‪:‬‬
‫الذي يلزم به كل مكلف‪ ،‬ول يقبل منه التكاسل عنه‪ ،‬أو التفريببط فيببه‪،‬‬
‫فمن فعل كان مستوجًبا للذم والتأثيم في الدنيا‪ ،‬وللعقاب في الخرة‪،‬‬
‫وهو يمثل الحد الدنى المطلوب من المسلم‪.‬‬

‫وذلك يتمثببل فببي الصببلوات الخمببس المفروضببة فببي كببل يببوم وليلببة‪،‬‬
‫والزكاة المفروضة على الموال النامية بشروطها‪ ،‬وصوم رمضان مببن‬
‫كل عام‪ ،‬وحج البيت في العمر مرة‪.‬‬

‫وهذه الفرائض يكفببر مببن أنكببر وجوبهببا أو اسببتهزأ بهببا‪ ،‬ويفسببق مببن‬
‫تركها‪ ،‬ولم يكن له عذر يقبله الشرع‪.‬‬
‫والفرد مطالب أمام الله‪ ،‬وأمام المجتمع بببأداء هببذه الفببرائض علنيببة‪،‬‬
‫حتى يدفع التهمة عن نفسه‪ ،‬ويكون أسوة لغيره‪.‬‬
‫والمجتمع مسئول بالتضامن عن إقامة هذه الفببرائض‪ ،‬فعليببه أن يعلببم‬
‫الجاهل وينبه الغافل‪ ،‬ويؤدب المقصر‪ ،‬والله تعالى يقول‪) :‬والمؤمنببون‬
‫والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عببن المنكببر‬
‫ويقيمببون الصببلة ويؤتببون الزكبباة ويطيعببون اللببه ورسببوله أولئك‬
‫سيرحمهم الله( )التوبة‪.(71 :‬‬
‫‪91‬‬

‫والفرد إذا أدى الفرض ‪ -‬مستوفي الركان بالشروط ‪ -‬فقد أبببرأ ذمتببه‪،‬‬
‫وأسقط الثم عنه‪ ،‬ولم يكن لحد عليه سبيل‪ ،‬وهذا ما صح بببه الحببديث‬
‫عن النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫فعن طلحة بن عبد الله قال‪ :‬جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليببه‬
‫وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صبوته ول نفقبه مبا يقبول‪،‬‬
‫حتى دنا من رسول اللبه صبلى اللبه عليبه وسبلم فبإذا هبو يسبأل عبن‬
‫السلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬خمببس صببلوات فببي‬
‫ي غيرهببن؟ قببال‪" :‬ل إل أن تطببوع" فقببال‬ ‫اليوم والليلة"‪ ،‬قال‪ :‬هل عل ّ‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬وصيام شهر رمضببان"‪ ،‬قببال ‪ :‬هببل‬
‫علي غيره‪ ،‬قال‪" :‬ل إل أن تطوع"‪ ،‬قال‪ :‬وذكر له رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬الزكاة‪ ،‬فقال‪ :‬هل علببي غيرهببا؟ قببال‪" :‬ل إل أن تطّببوع"‪،‬‬
‫فأدبر الرجل وهو يقول‪ :‬والله ل أزيد علبى هبذا ول أنقبص منبه فقبال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬أفلح إن صدق" متفق عليه‪.‬‬

‫وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابًيا أتى النبببي صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم‪ :‬فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬دلني على عمببل إذا عملتببه دخلببت الجنببة‬
‫قال‪" :‬تعبببد اللببه ول تشببرك بببه شببيًئا‪ ،‬وتقيببم الصببلة‪ ،‬وتببؤتي الزكبباة‬
‫المفروضة وتصوم رمضان" قال‪ :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ل أزيد على هببذا‪،‬‬
‫فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسبلم‪" :‬مبن سبره أن ينظبر إلبى‬
‫رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" متفق عليه‪.‬‬
‫هذا هو مستوى الفرض‪.‬‬

‫والمستوى الخر‪ ،‬هو‪:‬‬


‫مسببتوى )التطببوع(‪ ،‬وهببو مببا طلبببه الشببرع مببن المكلببف طلببب نببدب‬
‫واستحباب‪ ،‬ل طلب إيجاب وإلزام‪.‬‬
‫ضا على المسلم ‪ -‬له‬ ‫ما ول فر ً‬
‫وهذا التطوع المستحب ‪ -‬وإن لم يكن حت ً‬
‫ثماره الطيبة التي يجمل به أن يحرص على اقتطافها‪.‬‬
‫فمن ثماره‪ :‬أن يجبببر مببا عسببى أن يكببون فببي أداء الفببرض مببن خلببل‬
‫وتقصير‪ ،‬ولهذا جاء في الحديث‪ :‬إن النسان يحاسب على الصببلة يببوم‬
‫القيامة ‪ -‬وهي أول ما يحاسب عليه من حقوق الله ‪ -‬فإن وجدت صلته‬
‫ت‪ ،‬وإل سئل عن تطوعه ليستكمل منببه مببا نقببص مببن‬ ‫كاملة فبها ونعم ْ‬
‫الفرض‪.‬‬

‫ومن ثمبباره‪ :‬أنببه )رصببيد احتيبباطي( ‪ -‬إذا اسببتخدمنا لغببة المحاسبببين ‪-‬‬
‫يواجه به المكلف )الخسائر( الناجمة من ارتكاب السيئات‪ ،‬والببتي تكببثر‬
‫وتتفاقم أحياًنا حتى تكاد تأكل رأس المال‪.‬‬
‫‪92‬‬

‫فمن الحزم والكيس أن يواجه المسلم هذا )العجز( المتوقع بأل يكتفي‬
‫بالقتصار على الحد الدنببى المفببروض‪ ،‬وأن يسببتكثر مبن العببادة عبن‬
‫طريق التطوع‪ ،‬أو النافلة‪.‬‬

‫ومن ثماره كذلك‪ :‬أنه يهيئ المسلم للترقي في درجببات )القببرب( مببن‬
‫اللببه تعبالى‪ ،‬حبتى يصببل إلبى درجببة الحبب مبن اللبه عبز وجبل‪ ،‬فبأداء‬
‫الفرائض يوصل إلى )القرب(‪ ،‬وأداء النوافل يوصل إلى )الحب(‪.‬‬

‫ي‬
‫وفي هذا جاء الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى‪" :‬ما تقببرب إلبب ّ‬
‫عبدي بأفضل مما افترضته عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إلببي بالنوافببل‬
‫حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع بببه وبصببره الببذي يبصببر‬
‫به‪ ،‬ويببده الببتي يبطببش بهببا‪ ،‬وقببدمه الببتي يسببعى بهببا ‪ ..‬ولئن سبألني‬
‫لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذ بي لعيذنه" )رواه البخاري عن أبي هريرة(‪.‬‬

‫من أجل هذا فتح السلم باب التطوع لرببباب الهمببم والعببزائم‪ ،‬ليأخببذ‬
‫عا لمدى طموحه وأشواقه إلببى مببا عنببد اللببه تعببالى‪،‬‬ ‫ك ّ‬
‫ل بحظه منها‪ ،‬تب ً‬
‫وذلك في العبادات كلها‪ ،‬ومنها‪ :‬الصيام‪.‬‬
‫وهنا نلقي بعض الضوء على ألوان صيام التطوع‪ ،‬الذي شرعه السلم‪:‬‬

‫صيام ستة من شوال‬


‫حث النبي صلى الله عليه وسلم على إتبباع صبيام رمضبان‪ ،‬بسبت مبن‬
‫شوال‪ ،‬فقد روى عنه أبو أيوب النصاري‪" :‬من صام رمضببان ثببم أتبعببه‬
‫سًتا من شببوال فكأنمببا صببام الببدهر كلببه" )رواه مسببلم فببي الصببيام ‪-‬‬
‫‪ ،1164‬وأبو داود ‪ ،2433-‬والترمذي ‪ 759-‬وابن ماجة ‪.(1716-‬‬

‫سَنة‪ ،‬أي كأنما صام السنة كلها‪ ،‬فإذا حافظ علببى‬ ‫والمراد بالدهر هنا‪ :‬ال ّ‬
‫صيام ذلك طوال السنين‪ ،‬فكأنما صام الدهر‪.‬‬
‫وقد جاء تفسير ذلك في حديث آخر يقول‪" :‬صيام شببهر بعشببرة أشببهر‬
‫وصيام ستة أيام بشهرين‪ ،‬فذلك صيام العام"‪.‬‬
‫وهل المطلوب في هذه اليام إلحاقهببا برمضببان مباشببرة‪ ،‬بحيببث يبببدأ‬
‫صومها من اليوم التالي للعيد‪ ،‬كما يدل عليه لفظ )أتبعه(‪ ،‬أم يكفي أن‬
‫تكون في شوال‪ ،‬وشوال كله تابع لرمضان؟‪.‬‬

‫هذا ما اختلف فيه الفقهاء‪ ،‬ولكني أميل إلى الرأي الثاني‪.‬‬


‫كما أنه ليس من اللزم أن يصومها متتابعة‪ ،‬فلو فرقها فل حببرج عليببه‬
‫إن شاء الله‪.‬‬
‫وانفرد المام مالك رضي الله عنه‪ ،‬بببالقول بكراهببة صببيام هببذه اليببام‬
‫السببتة خشببية أن يعتقببد النبباس أنهببا جببزء مببن رمضببان‪ ،‬ويلزمببوا بهببا‬
‫أنفسهم‪ ،‬وينكروا على من تركها‪ ،‬فكرهها من ببباب سببد الببذرائع )ذكببر‬
‫‪93‬‬

‫المام الشاطبي أن بعض العجم وقعوا في مثل ذلببك حيببث تركببوا كببل‬
‫مراسم رمضان ومظاهره من إضبباءة المبآذن ومببرور المسببحرين علببى‬
‫الناس وغير ذلك إلى اليوم السابع من شوال‪ ،‬ولكن مثل هذا الخرف ل‬
‫ترد به السنة‪ ،‬ويجب أن ُيعّلم الجاهل‪.‬‬

‫دا من أهل العلببم يصببومها‪ ،‬قببال‬‫وذكر مالك في الموطأ‪ :‬أنه ما رأى أح ً‬


‫الشوكاني‪ :‬ول يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لببم يكببن تركهببم‬
‫دليل ً ترد به السنة‪ .‬أهب يؤكد ذلببك أن ابببن عببباس ذكببر أن فببي القببرآن‬
‫آيات ترك الناس العمل بها‪ ،‬مثل آية‪" :‬وإذا حضر القسمة أولو القربى"‬
‫صببا‬
‫وغيرها(‪ ،‬ولكن إذا صح الحديث بصومها فل مجال للرأي هنا‪ ،‬وخصو ً‬
‫إذا رجحنا عدم إلصاقها برمضببان مباشببرة ولعببل السببر فببي اسببتحباب‬
‫صيام هذه اليام من شوال أن يظل المسلم وصول الحبال بطاعة ربه‪،‬‬
‫فل ً تفتر عزيمته بعد رمضان‪.‬‬

‫صيام تسع ذي الحجة ويوم عرفة‬


‫حببرم الربعببة‪ ،‬ومببن أشببهر الحببج‬ ‫شببهر ذي الحجببة مببن الشببهر ال ُ‬
‫المعلومات‪ ،‬وأيامه العشرة الولى‪ ،‬هي أفضل أيببام العببام‪ ،‬كمببا صببحت‬
‫بذلك الحاديث‪.‬‬
‫فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪" :‬ما من أيام العمل الصالح فيها‬
‫أحب إلى الله من هذه اليام" يعني أيام العشر‪ ،‬قالوا‪ :‬ول الجهبباد فببي‬
‫سبببيل اللببه؟ قببال‪" :‬ول الجهبباد فببي سبببيل اللببه‪ ،‬إل أن يخببرج الرجببل‬
‫بنفسه‪ ،‬ومبباله‪ ،‬فل يرجببع بشببيء مببن ذلببك" )رواه البخبباري وأبببو داود‬
‫والترمذي وابن ماجة(‪.‬‬

‫وفي لفظ‪" :‬ما من أيام أعظم عند الله‪ ،‬ول أحب إلى الله العمل فيهن‬
‫مببن أيببام العشببر‪ ،‬فببأكثروا فيهببن مببن التسبببيح والتحميببد‪ ،‬والتهليببل‬
‫والتكبير" )رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد(‪.‬‬
‫دا حتى ما‬‫دا شدي ً‬‫وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر‪ ،‬اجتهد اجتها ً‬
‫يكاد يقدر عليه‪.‬‬

‫والصيام في هذه اليام العشر من أعظم مببا يتقببرب بببه المسببلم إلببى‬
‫ربه‪) ،‬ما عدا اليوم العاشر ‪ -‬يوم العيد ‪ -‬فهو محرم بيقين(‪.‬‬
‫وأوكدها وأفضلها هو اليوم التاسع‪ ،‬يوم عرفة‪ ،‬اليببوم البذي يقبف فيببه‬
‫شببعًثا ُ‬
‫غبببًرا‪ ،‬بملبببس الحببرام الببتي تشبببه أكفببان المببوتى‪،‬‬ ‫الحجيببج ُ‬
‫مل َّبين له‪ ،‬ضارعين إليه‪.‬‬
‫متجردين لله ُ‬

‫فالحجاج يتقربون إلى الله هناك بببالحرام والتلبيببة والببدعاء‪ ،‬وغيرهببم‬


‫في ديار السلم يتقربون إلى ربهم بالصببيام‪ ،‬سببئل النبببي صببلى اللببه‬
‫فر السببنة الماضبية والباقيبة"‬ ‫عليه وسلم عن صوم يوم عرفة‪ ،‬قال‪ :‬يك ّ‬
‫‪94‬‬

‫)رواه مسلم وغيره عن أبي قتادة(‪ .‬وفببي روايببة أنببه صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم قال‪" :‬صيام يوم عرفة إني أحتسببب علببى اللببه تعببالى أن ُيك ّ‬
‫فببر‬
‫السنة التي بعده والسنة التي قبله" )هذه رواية الترمذي(‪.‬‬
‫ضا؟‪.‬‬
‫ولكن هل هذا يشمل الواقفين بعرفة أي ً‬

‫جمهور العلماء على أن استحباب الصيام إنما هو لغير الحجاج‪.‬‬


‫فعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نهببى عببن صببوم يببوم عرفببة‬
‫بعرفات )رواه أحمد وابن ماجة(‪.‬‬
‫وعن أم الفضل )زوجة العباس(‪ :‬أنهم شكوا في صوم النبي صلى اللببه‬
‫عليه وسلم يوم عرفة‪ ،‬فأرسلت إليه بلبن‪ ،‬فشرب‪ ،‬وهو يخطب النبباس‬
‫بعرفة )متفق عليه(‪.‬‬

‫فدل ذلك على كراهية صومه للواقفين بهذا الموقف العظيم‪ ،‬والحكمة‬
‫فيه أن الصوم قد يضعفهم عن الذكر والدعاء‪ ،‬والقيام بأعمال الحج‪.‬‬

‫هذا إلى أنه يوم عيد لهل الموقف لجتماعهم فيه‪ ،‬كما يدل على ذلببك‬
‫حديث عمر في نزول قوله تعالى‪) :‬اليوم أكملببت لكببم دينكببم( وحببديث‬
‫عقبة بن عامر‪ :‬يوم الفطر‪ ،‬ويببوم النحببر‪ ،‬وأيببام التشببريق عيببدنا أهببل‬
‫السببلم‪ ،‬وهببي أيببام أكببل وشببرب )رواه أحمببد وأبببو داود والترمببذي‬
‫والنسائي والحاكم‪ ،‬كما في صببحيح الجببامع الصببغير ‪ ،(8192-‬فالراجببح‬
‫عببا‬
‫هنا أن يوم عرفة ملحق بأيام العيببد والتشببريق بالنسبببة للحجبباج جم ً‬
‫بين الدلة‪.‬‬

‫صيام يوم عرفة‬


‫يوم عرفة أفضل أيام العام‪ ،‬وهببو مببن اليببام العشببرة مببن ذي الحجببة‪،‬‬
‫وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‪ " :‬صيام يببوم عرفببة‪،‬‬
‫أحتسب على الله تعالى أن يكفر ذنوب سنتين "‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫فهذا يوم فضله عظيم‪ ،‬وفضل الصيام فيه عظيم أي ً‬
‫ومعلوم أن يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة‪.‬‬
‫فعلى المسلم أن ينوي صيام هببذا اليببوم علببى القببل‪ ،‬إذا لببم يسببتطع‬
‫صيام الثمانية اليام قبله‪ ،‬فلكل منا ذنوبه‪ ،‬ولكل منببا سببيئاته وغفلتببه‬
‫وهفواته‪ ،‬وهذه فرص متاحة للتطهر‪ ،‬ليبيض النسان صفحته أمام اللببه‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫فليسارع المسلم إلى صيام يوم عرفة‪.‬‬
‫وهذا لغير الحاج ‪ ..‬فالحاج ل يسن له صيام يوم عرفة ليكون قوًيا علببى‬
‫الدعاء والذكر والتضرع‪.‬‬

‫صيام عاشوراء وتاسوعاء‬


‫‪95‬‬

‫عاشوراء‪ :‬هو اليوم العاشر من المحرم‪ ،‬وتاسببوعاء‪ :‬هببو اليببوم التاسببع‬


‫منه‪ ،‬ويبدو من مجموع الخبار أن صيام يوم عاشوراء كان معرو ً‬
‫فا عنببد‬
‫فا عند اليهود كذلك‪.‬‬‫قريش في الجاهلية‪ ،‬ومعرو ً‬
‫مببا تصببومه قريببش فببي الجاهليببة‪،‬‬‫قالت عائشة‪ :‬كان يببوم عاشببوراء يو ً‬
‫وكان رسول الله صلى اللببه عليببه وسببلم يصببومه‪ ،‬فلمببا قببدم المدينببة‬
‫صامه‪ ،‬وأمر الناس بصيامه‪ ،‬فلما فرض رمضان قال‪" :‬من شبباء صببامه‪،‬‬
‫ومن شاء تركه" )متفق عليه(‪.‬‬

‫وقال ابن عباس‪ :‬لما قدم النبي صبلى اللبه عليبه وسبلم )أي المدينبة(‬
‫فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال‪" :‬ما هذا؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬هببذا يببوم صببالح‪،‬‬
‫جى الله فيببه موسببى وبنببي إسببرائيل مببن عببدوهم‪ ،‬فصببامه موسببى‪،‬‬
‫ن ّ‬
‫فقال‪" :‬أنا أحق بموسى منكم" فصامه وأمر بصيامه )متفق عليه(‪.‬‬

‫وقد فرض النبي صلى الله عليه وسلم صيامه في أول المر وألزم ببه‪،‬‬
‫حتى بعث مناديه ينادي في الناس أن يلببتزموا صببومه مببن النهببار‪ ،‬وإن‬
‫كانوا قد أكلوا‪.‬‬

‫مستحب الصيام فقط‪.‬‬ ‫فرض رمضان ُنسخت فرضيته‪ ،‬وبقي ُ‬ ‫فلما ُ‬


‫فعن أبي قتادة قال‪ :‬قال رسول الله صببلى اللببه عليببه وسببلم‪" :‬صببوم‬
‫فر سنتين‪ :‬ماضية ومستقبلة‪ ،‬وصوم يوم عاشببوراء يكفببر‬ ‫يوم عرفة ُيك ّ‬
‫سنة ماضية" )رواه الجماعببة إل البخبباري والترمببذي المنتقببى مببع نيببل‬
‫الوطار ‪.(323/4-‬‬

‫مي ّببز الشخصببية‬


‫صبا علببى ت َ َ‬
‫ولما كان النبي صببلى اللببه عليببه وسببلم حري ً‬
‫السلمية في كل شيء‪ ،‬وأن يكون للمسلمين استقللهم عن غيرهببم‪،‬‬
‫حث على صيام اليوم التاسع‪ ،‬أي مع العاشر‪ ،‬ليتميز صيامهم عن صيام‬
‫أهل الكتاب‪.‬‬
‫فعن ابن عباس قال‪ :‬لما صام رسول الله صلى الله عليه وسببلم‪ ،‬يببوم‬
‫عاشوراء‪ ،‬وأمر بصيامه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إنببه يببوم تعظمببه اليهببود‬
‫والنصارى! فقال‪" :‬فإذا كان العببام المقبببل إن شبباء اللببه صببمنا اليببوم‬
‫التاسع" قال‪ :‬فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى اللببه‬
‫عليه وسلم )رواه مسلم وأبو داود(‪.‬‬

‫ولم يرد في شأن عاشوراء شيء غير الصيام‪ ،‬فما أحدثه بعببض النبباس‬
‫دا‬
‫ما أو عي ب ً‬
‫من التزين والغتسال‪ ،‬والكتحال والتوسببعة واتخبباذه موس ب ً‬
‫تذبح فيه الذبائح ويتوسع فيه الناس ‪ -‬كل هذا مما ل أصل له فببي ديببن‬
‫الله‪ ،‬ول يدل عليه دليل صحيح‪.‬‬
‫‪96‬‬

‫ويبدو أن هذا كببان رد فعبل لسبلوك الشببيعة الببذين اتخبذوه يبوم حبزن‬
‫وحداد عببام‪ ،‬وضببرب للصببدور‪ ،‬ولطببم للخببدود‪ ،‬وشببق للجيببوب‪ ،‬تببذكيًرا‬
‫بمأساة الشهيد المظلوم الحسين بن علي رضي الله عنهما‪.‬‬

‫وكل الفريقين على خطأ‪ ،‬ول تقاوم البدعة ببدعة‪ ،‬ول يعالج النحببراف‬
‫بانحراف آخر‪ ،‬وإنما برجوع الجميع إلى ما شرعه الله ورسوله‪.‬‬
‫يقول المام ابببن القيببم‪) :‬أحبباديث الكتحببال يبوم عاشببوراء‪ ،‬والببتزين‪،‬‬
‫والتوسعة والصلة فيه‪ ،‬وغير ذلك من فضائل‪ ،‬ل يصح منهببا شببيء‪ ،‬ول‬
‫حديث واحد‪ ،‬ول يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شببيء‪ ،‬غيببر‬
‫أحاديث صيامه‪ ،‬وما عداها فباطل‪.‬‬
‫سع على عياله يببوم عاشببوراء‪ ،‬وسببع اللببه عليببه‬‫وأمثل ما فيها‪" :‬من و ّ‬
‫سائر سنته"‪ ،‬قال المام أحمد‪ :‬ل يصح هذا الحديث‪.‬‬

‫وأما حديث الكتحال‪ ،‬والدهان والتطيب‪ :‬فمن وضع الكذابين‪ ،‬وقابلهم‬


‫آخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن‪ ،‬والطائفتان مبتببدعتان خارجتببان عببن‬
‫السنة‪.‬‬
‫وأهل السنة يفعلون فيه ما أمر به النببي صببلى اللببه عليببه وسببلم مببن‬
‫الصوم‪ ،‬ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البببدع( ا‪.‬هبب )المنببار المنيببف‬
‫في الصحيح والضبعيف‪ ،‬ط‪ .‬دار القلبم‪ ،‬بيبروت‪ ،‬تحقيببق أبببي غبدة )ص‬
‫‪.(113-111‬‬

‫سئل شيخ السلم ابن تيميه‪ :‬عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من‬ ‫و ُ‬
‫الكحببل والغتسببال والحنبباء والمصببافحة‪ ،‬وطبببخ الحبببوب‪ ،‬وإظهببار‬
‫السرور‪ ،‬وغير ذلك إلى الشارع‪ :‬فهل ورد في ذلك عن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم حديث صحيح؟ أم ل؟ وإذا لم يرد حببديث صببحيح فببي شببيء‬
‫من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم ل؟ وما تفعلببه الطائفببة الخببرى‬
‫من المأتم والحزن والعطببش‪ ،‬وغيببر ذلببك مببن النببدب والنياحببة‪ ،‬وشببق‬
‫الجيوب‪ ،‬هل لذلك أصل؟ أم ل؟‪.‬‬

‫فأجاب‪) :‬الحمد لله رب العالمين‪ ،‬لببم يببرد فببي شببيء مببن ذلببك حببديث‬
‫صحيح عن النبي صلى الله عليه وسببلم‪ ،‬ول عببن أصببحابه‪ ،‬ول اسببتحب‬
‫ذلك أحد من أئمة المسلمين‪ ،‬ل الئمة الربعة‪ ،‬ول غيرهم ول روى أهل‬
‫الكتب المعتمدة في ذلك شيًئا‪ ،‬ل عن النبي صلى الله عليه وسببلم‪ ،‬ول‬
‫حا ول ضببعي ً‬
‫فا‪ ،‬ل فببي كتببب الصببحيح‪ ،‬ول‬ ‫الصحابة ول التابعين‪ ،‬ل صببحي ً‬
‫في السنن‪ ،‬ول المسانيد‪ ،‬ول يعرف شيء من هذه الحاديث على عهببد‬
‫القرون الفاضلة‪.‬‬
‫‪97‬‬

‫ولكببن روى بعببض المتببأخرين فببي ذلببك أحبباديث مثببل مببا رووا أن مببن‬
‫اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام‪ ،‬ومن اغتسل يوم عاشوراء‬
‫لم يمرض ذلك العام‪ ،‬وأمثال ذلك‪..‬‬
‫ورووا فضائل في صببلة يببوم عاشببوراء‪ ،‬ورووا أن فببي يببوم عاشببوراء‬
‫توبة آدم‪ ،‬واستواء السفينة علببى الجببودي‪ ،‬ورد يوسببف علببى يعقببوب‪،‬‬
‫وإنجاء إبراهيم من النار‪ ،‬وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك‪.‬‬

‫ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم أنه‪:‬‬
‫"من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة"‪ .‬ورواية‬
‫هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب‪ ،‬ولكنه معروف من رواية‬
‫سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمببد بببن المنتشببر عببن أبيببه‪ ،‬قببال‪:‬‬
‫بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سببنته(‬
‫)مجموع فتاوى شيخ السلم ‪.(229/25،300-‬‬

‫مبا‬
‫وذكر شيخ السبلم‪) :‬أن الحسبين رضبي اللبه عنبه‪ ،‬لمبا قتبل مظلو ً‬
‫دا شهادة أكرمه الله بها وألحقببه بأهببل بيتببه الطيبببين الطبباهرين‪،‬‬ ‫شهي ً‬
‫وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه‪ ،‬أوجب ذلك شًرا بين الناس‪.‬‬
‫فصارت طائفة جاهلة ظالمببة‪ :‬إمببا ملحببدة منافقببة‪ ،‬وإمببا ضببالة غاويببة‬
‫تظهر موالته‪ ،‬وموالة أهل بيته تتخذ يبوم عاشبوراء يبوم مبأتم وحبزن‬
‫ونياحة‪ ،‬وتظهر فيه شعار الجاهليببة مببن لطببم الخببدود‪ ،‬وشببق الجيببوب‬
‫والتعزي بعزاء الجاهلية‪.‬‬

‫م‪ ،‬إما من النواصب المتعصبين علببى الحسببين وأهببل‬ ‫فعارض هؤلء قو ٌ‬


‫بيته‪ .‬وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسببد‪ ،‬والكببذب بالكببذب‪،‬‬
‫والشببر بالشببر‪ ،‬والبدعببة بالبدعببة‪ ،‬فوضببعوا الثببار فببي شببعائر الفببرح‬
‫والسرور يوم عاشوراء كالكتحال وكالختضاب‪ ،‬وتوسيع النفقات علببى‬
‫العيال‪ ،‬وطبخ الطعمة الخارجة عن العادة‪ ،‬ونحو ذلببك ممببا يفعببل فببي‬
‫ما كمواسببم‬ ‫العياد والمواسم‪ ،‬فصار هؤلء يتخذون يوم عاشوراء موس ً‬
‫ما يقيمون فيه الحزان والتببراح‪.‬‬ ‫العياد والفراح‪ ،‬وأولئك يتخذونه مأت ً‬
‫وكل الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة( )المصدر السببابق ‪-307/25-‬‬
‫‪.(310‬‬

‫الكثار من الصوم في شعبان‬


‫دا لرمضببان‪ ،‬واقتببداء بببالنبي‬
‫يستحب الصيام في شهر شعبان‪ ،‬اسببتعدا ً‬
‫عليه الصلة والسلم‪.‬‬
‫فقد قالت عائشة‪ :‬لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر‬
‫أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله‪.‬‬
‫وفي لفظ‪ :‬ما كان يصوم في شهر مببا كببان يصببوم فببي شببعبان‪ ،‬كببان‬
‫يصومه إل قلي ً‬
‫ل‪ ،‬بل كان يصومه كله‪.‬‬
‫‪98‬‬

‫ما إل شببعبان‪،‬‬ ‫وكذلك قالت أم سلمة‪ :‬لم يكن يصوم من السنة شهًرا تا ً‬
‫يصله برمضان‪.‬‬
‫ولكببن روايببات أخببرى دلببت علببى أنببه لببم يكببن يصببوم شببهًرا كببامل ً إل‬
‫رمضان‪.‬‬
‫فلعل المراد بها‪ :‬أنه لم يكن يواظب على صيام شهر كامل إل رمضان‪،‬‬
‫أما غيره فربما أتمه‪ ،‬وربما أفطر بعضه‪.‬‬
‫والسر في اهتمامه بصيام شعبان جبباء فببي حببديث رواه النسببائي عببن‬
‫أسامة بن زيد‪ :‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول الله لم أرك تصبوم مبن شببهر مببن‬
‫الشهور ما تصوم من شعبان‪ ،‬قال‪" :‬ذاك شهر يغفببل النبباس عنببه بيببن‬
‫رجب ورمضان‪ ،‬وهو شهر ترفع فيه العمال إلى رب العببالمين‪ ،‬وأحببب‬
‫أن يرفع عملي‪ ،‬وأنا صائم" )رواه النسائي(‪.‬‬

‫استحباب الصوم في شعبان‬


‫شهر شعبان كان مببن الشببهور الببتي يحببرص النبببي ‪ -‬صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم ‪ -‬على أن يصوم فيها أكثر من غيببره مبن الشبهور‪ .‬روت عائشببة‬
‫رضي الله عنها أن النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬لببم يسببتكمل صببيام‬
‫شهر قط غير رمضان‪ ،‬علببى خلف مببا يفعببل بعببض النبباس فببي بعببض‬
‫البلد العربية‪ ،‬حيث يصببومون ثلثببة أشببهر‪ :‬رجببب‪ ،‬شببعبان‪ ،‬ورمضببان ‪.‬‬
‫واليام الستة من شوال‪ ،‬التي يسمونها " البيض "‪ ،‬يبدأ الصيام عندهم‬
‫من أول رجب إلى السببابع مببن شببوال‪ ،‬مببا عببدا يببوم العيببد‪ ،‬الول مببن‬
‫شوال ‪ .‬وهببذا لببم يببرد عببن النبببي ‪ -‬صببلى اللببه عليببه وسببلم ‪ -‬ول عببن‬
‫الصحابة ول عن التابعين‪.‬‬

‫كان النببي ‪ -‬صبلى اللبه عليبه وسبلم ‪ -‬يصببوم مبن كبل شببهر‪ ،‬وتقببول‬
‫عائشة‪ :‬كان يصوم حتى نقول‪ :‬ل يفطر ‪ .‬ويفطر حتى نقول‪ :‬ل يصوم‪،‬‬
‫وأحياًنبا يصبوم الثنيبن والخميبس‪ ،‬وأحياًنبا ثلثبة أيبام مبن كبل شبهر‪،‬‬
‫مببا‪ ،‬كمببا‬
‫مببا ويفطببر يو ً‬
‫وخاصة اليام البيض القمرية ‪ .‬وأحياًنا يصببوم يو ً‬
‫كان يفعل داود عليه السلم " أحب الصيام إلببى اللببه صببيام داود‪ ،‬كببان‬
‫ما "‪.‬‬
‫ما ويفطر يو ً‬
‫يصوم يو ً‬

‫وكان عليه الصلة والسلم أكثر ما يصوم في شهر شعبان‪ ،‬وكببأن ذلببك‬
‫مببا‬
‫نببوع مببن التهيببؤ والسببتعداد لسببتقبال رمضببان‪ .‬أمببا أن يصببوم أيا ً‬
‫محددة‪ ،‬فلم يرد قط‪.‬‬

‫وفي الشرع ل يجوز تخصيص يوم معين بالصيام‪ ،‬أو ليلة معينة بالقيببام‬
‫دون سند شرعي ‪ ..‬إن هذا المر ليس من حق أحببد أي ًببا كببان وإنمببا هببو‬
‫من حق الشارع فحسب‪.‬‬
‫‪99‬‬

‫تخصببيص الوقببات‪ ،‬أو تخصببيص المبباكن بالعبببادات‪ ،‬وتحديببد الصببور‬


‫والكيفيات‪ ،‬هذا من شأن الشارع ومن حقببه‪ ،‬وليببس مبن شببأن البشببر‪.‬‬
‫والله تعالى أعلم‪.‬‬

‫الصيام في الشهر الحرم‬


‫الشهر الحرم‪ :‬هي الربعة التي عظمها الله فببي القببرآن‪ ،‬حيببن قببال‪:‬‬
‫)إن عدة الشهور عند الله اثنبا عشبر شببهًرا فبي كتبباب اللببه يبوم خلبق‬
‫السماوات والرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فل تظلموا فيهببن‬
‫أنفسكم( )التوبة‪.(36 :‬‬
‫محبرم فيهبا‪ ،‬فكمبا منبع القتبال فبي البلبد‬ ‫ما‪ :‬لن القتبال ُ‬‫حر ً‬‫وسميت ُ‬
‫الحرام منع في الشهر الحرام‪.‬‬
‫وهذه الشهر هي‪ :‬ذو القعدة‪ ،‬وذو الحجة‪ ،‬والمحرم‪ ،‬ورجب )ثلثة سرد‬
‫وواحد فرد(‪.‬‬
‫محّرم‪.‬‬
‫وقد ورد استحباب الصيام فيها‪ ،‬وبخاصة ال ُ‬

‫مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها‪ :‬أنه أتى رسول الله صلى‬ ‫ففي حديث ُ‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬ثم انطلق‪ ،‬فأتاه بعد سنة‪ ،‬وقد تغيرت حببالته وهيئتببه‪،‬‬
‫فقببال‪ :‬يببا رسببول اللببه‪ ،‬أمببا تعرفنببي؟ قبال‪" :‬ومببن أنببت؟"‪ ،‬قبال‪ :‬أنبا‬
‫الباهلي الببذي جئتببك عببام الول‪ ،‬قببال‪" :‬فمببا غيببرك وقببد كنببت حسببن‬
‫ما إل بليل منذ فارقتك‪ ،‬فقببال رسببول اللببه‬ ‫الهيئة"‪ ،‬قال‪ :‬ما أكلت طعا ً‬
‫صلى الله عليه وسلم‪" :‬لم عذبت نفسك؟" ثم قال‪" :‬صم شهر الصبببر‪،‬‬
‫ما من كل شهر"‪ ،‬قال‪ :‬زدني‪ ،‬فإن ببي قبوة‪ ،‬قبال‪" :‬صببم يبومين"‪،‬‬ ‫ويو ً‬
‫حببرم‬ ‫قال‪ :‬زدني‪ ،‬قال‪" :‬صم ثلثة أيام"‪ ،‬قال‪ :‬زدني‪ ،‬قال‪" :‬صم مببن ال ُ‬
‫حببرم واتببرك"‪ .‬وقببال بأصببابعه‬
‫حُرم واترك صم مببن ال ُ‬ ‫واترك‪ ،‬صم من ال ُ‬
‫الثلثة‪ ،‬فضمها ثم أرسببلها )رواه أبببو داود فببي الصببوم )‪ ،(2428‬وابببن‬
‫ضا(‪.‬‬
‫ماجة )‪ ،(1741‬والنسائي أي ً‬

‫معقًبا على قوله‪" :‬صم واترك" ‪) :-‬إنما أمره بالترك‪ ،‬لنه‬ ‫قال النووي ‪ُ -‬‬
‫كان يشق عليه إكثار الصوم‪ ،‬كما ذكببره فببي أول الحببديث‪ ،‬فأمبا مببن ل‬
‫يشق عليه فصوم جميعها فضيلة( )المجموع ‪ .(287/6-‬أ هب‪.‬‬

‫وسيأتي أن من الئمة من كره إفراد صيام رجب كله بالصوم‪.‬‬


‫وأولى الشهر الحرم بالصيام هو شهر المحرم‪ ،‬فقد صح في الحببديث‪:‬‬
‫"أفضل الصيام بعد رمضببان‪ ،‬شببهر اللببه المحببرم‪ ،‬وأفضببل الصببلة بعببد‬
‫الفريضة صلة الليل" )رواه مسلم عن أبي هريرة في الصوم )‪،(1163‬‬
‫وأببببو داود )‪ ،(2429‬والترمببذي )‪ ،(740‬واببببن ماجببة )‪ (1742‬ونسببببه‬
‫المنذري للنسائي(‪.‬‬
‫وأفضل أيامه تاسوعاء‪ ،‬وعاشوراء‪ ،‬وقد تقدم الحديث عنهما‪.‬‬
‫‪100‬‬

‫صيام رجب‬
‫الصيام في الشهر الحرم مقبول ومستحب‪ ،‬على كل حال‪.‬‬
‫ولكن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهًرا كله‪ ،‬سوى‬
‫رمضان ‪ .‬وكان أكثر ما يصوم في شهر شعبان‪ ،‬ولكن لببم يكببن يصببومه‬
‫كله‪ ،‬وهذه هي السنة النبوية في ذلك ‪ ...‬فإنه كان يصبوم ويفطبر فبي‬
‫سائر الشهور‪ ،‬وكما ورد " كببان يصببوم حببتى نقببول ل يفطببر‪ ،‬ويفطببر‬
‫حتى نقول ل يصوم " )رواه البخباري ومسبلم وأببو داوود( فمبا يفعلبه‬
‫بعض الناس من صيام رجب كله‪ ،‬كما كنببا نببرى ذلببك فببي الريبباف مببن‬
‫قبل‪ ،‬فقد رأيت بعض النبباس يصببوم رجببب وشببعبان ورمضببان واليببام‬
‫الستة من شوال‪ ،‬ويسمونها " اليام البيض " وبعد ذلك يفطببر‪ ،‬ويكببون‬
‫عيده في اليوم الثامن من شوال‪ ..‬وتكون حصيلة صيامه هببذه الشببهور‬
‫الثلثة واليام الستة متواصلة‪ ،‬ل يفطر إل يوم العيد ‪ .‬وهذا لم يرد عن‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ول عن الصحابة ول عببن السببلف الصببالح ‪.‬‬
‫فالولى صيام أيام وإفطار أيام‪ ،‬ل التتابع في الصيام‪.‬‬
‫وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف‪.‬‬

‫فمن أراد التباع‪ ،‬وأراد الثواب الكامل‪ ،‬فليتبببع النبببي صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم ول يصم رجب كله ول شببعبان كلببه ‪ .‬فهببذا هببو الولببى ‪ .‬وبببالله‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫صيام ثلثة أيام من كل شهر‬


‫ومن الصيام المستحب‪ :‬صيام ثلثة أيام من كل شهر‪.‬‬
‫وذلك أن الله جعل الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬فثلثة أيام من الشهر‪ ،‬كأنهببا‬
‫صيام الشهر كله‪ ،‬وكان النبي صلى الله عليه وسببلم يصببومها‪ ،‬ويحببض‬
‫على صيامها‪.‬‬

‫ففي الصحيحين‪ :‬عن أبي هريرة‪ :‬أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم‬
‫بثلث‪ ،‬ل أدعهن حتى أمببوت‪ :‬صببوم ثلثببة أيببام مببن كببل شببهر‪ ،‬وصببلة‬
‫الضحى‪ ،‬ونوم على وتر )متفق عليه‪ ،‬اللؤلؤ والمرجان ‪.(418-‬‬

‫وروى عنه أبو ذر‪" :‬من صام من كل شهر ثلثة أيام فذاك صيام الدهر"‬
‫فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه‪) :‬من جاء بالحسنة فله عشر أمثالهببا(‬
‫)النعام‪ .(160 :‬اليوم بعشرة أيام )رواه الترمذي بإسناد قوي عن أبببي‬
‫ذر ‪.(762-‬‬

‫ولكن أي ثلثة من الشهر يصوم؟‪.‬‬


‫قال ابن مسعود‪ :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة‬
‫كل شهر ثلثة أيببام )رواه أبببو داود )‪ (2450‬فببي الصببيام‪ ،‬والنسببائي )‬
‫‪ ،(204/4‬والترمذي )‪ (742‬وقال‪ :‬حسن(‪.‬‬
‫‪101‬‬

‫ما من الشهر ثلثة أيام فليصم الثلثة‬


‫وروى أبو ذر‪" :‬من كان منكم صائ ً‬
‫البيض" )رواه أحمد ‪ ،252/5-‬والنسائي ‪ ،222/4-‬وابن حبان ‪.(943-‬‬

‫وعنه‪ :‬أنه أمر رجل ً بصببيام ثلث عشببرة‪ ،‬وأرببع عشببرة وخمببس عشببرة‬
‫)رواه ابببن خزيمببة ‪ 2128-‬ويشببهد لببه حببديث جريببر بببن عبببد اللببه عنببد‬
‫النسائي بإسناد حسن كما في المجموع ‪.(385/6-‬‬

‫واختلف هذه الحاديث في تحديد هذه اليبام يبدل علببى أن فبي المببر‬
‫سعة‪ ،‬فلكل مسلم أن يصوم من أول الشهر أو وسطه أو آخره مببا هببو‬
‫أيسر عليه‪ ،‬وأليق بظروفه‪.‬‬

‫ولهذا صح عن عائشة‪ :‬أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يبببالي مببن أي‬
‫الشهر صببامها )رواه مسببلم فببي الصببوم )‪ ،(1160‬وأبببو داود )‪،(2453‬‬
‫ضا(‪.‬‬
‫والترمذي )‪ (763‬وابن ماجة )‪ (1709‬والنسائي أي ً‬
‫ومن ثم قال ابن القيم فببي الببزاد‪) :‬ول تنبباقض بيببن هببذه الثببار( )زاد‬
‫المعاد ‪.(65/2-‬‬

‫صيام الثنين والخميس‬


‫ومببن اليببام الببتي يسببتحب صببيامها مببن كببل أسبببوع‪ :‬صببيام الثنيببن‬
‫والخميس‪ ،‬فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحّرى صيامهما‪ ،‬كمببا‬
‫روت ذلك عائشة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم رواه أحمد والترمببذي‬
‫وقال‪ :‬حسن غريب ‪ ،745-‬والنسائي ‪ ،202/4-‬وابببن ماجببة ‪ 1709-‬مببن‬
‫حديث عائشة‪ .‬ورواه النسائي من حديث أسامة بببن زيببد ‪ 201/4-‬وابببن‬
‫خزيمة ‪.(2119-‬‬
‫وقد سأله أسامة عن سر الحرص على صيامهما‪ ،‬فقببال‪" :‬ذانببك يومببان‬
‫تعرض فيهما العمال على رب العالمين‪ ،‬وأحب أن يعرض عملببي‪ ،‬وأنببا‬
‫صائم( )رواه أبو داود ‪.(2436-‬‬

‫وعروض العمال على الله في هذين اليومين ثابت في الصببحيح‪ ،‬فقببد‬


‫عا‪" :‬تفتببح أبببواب الجنببة يببوم الثنيببن‬
‫روى مسلم عن أبي هريرة مرفو ً‬
‫والخميس فيغفر لكل عبد ل يشرك بالله شيًئا إل رجل ً كانت بينه وبيببن‬
‫أخيه شحناء‪ ،‬فيقال‪ :‬أنظروا هذين حتى يصطلحا"‪.‬‬

‫أما يوم الثنين خاصة فقد ورد فيه حببديث أبببي قتببادة أن رسببول اللببه‬
‫صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الثنين‪ ،‬فقال‪" :‬ذلببك يببوم ولببدت‬
‫ي ‪ -‬فيه" )رواه مسلم(‪.‬‬ ‫فيه‪ ،‬ويوم بعثت ‪ -‬أو أنزل عل ّ‬

‫صيام يوم وإفطار يوم‬


‫‪102‬‬

‫على أن أفضل الصيام‪ ،‬وأحبه إلببى اللببه تعببالى‪ ،‬لمببن يطيببق ول يشببق‬
‫عليه‪ ،‬وهببو صببيام يببوم‪ ،‬وفطببر يببوم‪ ،‬وهببو صببيام نبببي اللببه داود عليببه‬
‫السلم‪ ،‬وهو ما أوصى به النبي صببلى اللببه عليببه وسببلم عبببد اللببه بببن‬
‫عمرو‪ ،‬عندما وجد عنده قوة الرغبة في الخيرات‪ ،‬والحرص على الزيادة‬
‫من الصالحات‪.‬‬

‫روى البخاري عنه أنه قال‪ُ :‬أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنببي‬
‫أقول‪ :‬والله لصومن النهار‪ ،‬ولقومن الليل‪ ،‬ما عشت! فقلببت لببه‪ :‬قببد‬
‫قلته بأبي أنت وأمي )في الكلم ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم‬
‫سأله‪ ،‬فأجابه بذلك(‪ ،‬قال ‪":‬فإنك ل تستطيع ذلك‪ ،‬فصم وأفطببر‪ ،‬وقببم‬
‫ونم‪ ،‬وصم من الشهر ثلثة أيام‪ ،‬فإن الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬وذلك مثببل‬
‫مببا‪،‬‬
‫صيام الدهر"‪ ،‬قلت‪ :‬إنببي أطيببق أفضببل مببن ذلببك‪ ،‬قببال‪" :‬فصببم يو ً‬
‫مببا‪،‬‬‫وأفطر يومين"‪ ،‬قلت‪ :‬إني أطيق أفضل مببن ذلببك‪ ،‬قببال‪" :‬فصببم يو ً‬
‫مببا‪ ،‬فببذلك صببيام داود عليببه السببلم‪ ،‬وهببو أفضببل الصببيام"‪،‬‬
‫وأفطر يو ً‬
‫فقلت‪ :‬إني أطيق أفضل من ذلك‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليببه وسببلم‪:‬‬
‫"ل أفضببل مببن ذلببك"‪ ،‬وفببي روايببة‪" :‬ل صببوم فببوق صببوم داود عليببه‬
‫السلم‪ ،‬شطر الدهر" )رواه البخاري في كتاب الصوم من طرق كثيرة‪،‬‬
‫ورواه مسلم وغيره(‪.‬‬

‫إتمام التطوع مستحب‬


‫ويستحب ممن شببرع فببي صببيام التطببوع‪ ،‬أل يخببرج منببه بل عببذر‪ ،‬وأن‬
‫يكمله‪ ،‬ول يبطله‪ ،‬فإن خرج منه بل عذر‪ ،‬فقد كرهه جماعة من العلماء‪،‬‬
‫وقال بعضهم‪ ،‬هو خلف الولى‪.‬‬
‫فأما إن خرج منه بعذر فليس فيه أدنى كراهة‪.‬‬

‫فا‪ ،‬ويشق على مضيفه أو ضيفه أل‬ ‫مضي ً‬ ‫والعذر مثل أن يكون ضي ً‬
‫فا‪ ،‬أو ُ‬
‫يأكل معه‪ ،‬فيستحب أن يفطر لكرامه‪.‬‬
‫قا"‪" ،‬ومن كببان يببؤمن‬‫وفي الصحيح‪" :‬وإن لزورك )أي زوارك( عليك ح ً‬
‫بالله واليوم الخر‪ ،‬فليكرم ضيفه" متفق عليهما‪.‬‬
‫مضيف أو الضيف ل يشق عليببه أن يصببوم فببالولى‬ ‫بخلف ما إذا كان ال ُ‬
‫أن يستمر على صومه‪.‬‬
‫ومهما يكن من العذر أو عدمه‪ ،‬فإن المتطوع أمير نفسه‪ ،‬فليببس عليببه‬
‫حرج إن هو خرج مما نواه من نفل‪ ،‬لم يلزمه به‪ ،‬ول ألزم به هو نفسببه‬
‫بالنذر‪.‬‬

‫روت عائشة قالت‪ :‬دخل النبي صلى الله عليه وسببلم ذات يببوم فقببال‪:‬‬
‫مببا‬
‫"هل عندكم شيء؟" قلنا‪ :‬ل‪ ،‬قببال‪" :‬فببإني إذن صببائم"‪ ،‬ثببم أتانببا يو ً‬
‫ي لنا حيس! فقال "أرنيه‪ ،‬فلقد أصبحت‬ ‫ُ‬
‫د َ‬‫آخر‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أه ِ‬
‫ما" فأكل )رواه مسلم(‪.‬‬
‫صائ ً‬
‫‪103‬‬

‫ما" )رواه مسلم(‪.‬‬


‫وفي رواية‪ :‬فأكل‪ ،‬ثم قال‪" :‬قد كنت أصبحت صائ ً‬

‫مببا‪ ،‬فلمببا‬
‫وعن أبي سعيد قال‪ :‬صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعا ً‬
‫ضع‪ ،‬قال رجل‪ :‬أنا صائم‪ ،‬فقال صلى الله عليه وسلم‪" :‬دعبباك أخببوك‬ ‫و ِ‬
‫ُ‬
‫وتكلف لك‪ ،‬أفطر‪ ،‬فصم مكانه إن شببئت" )رواه البببيهقي بإسببناد قببال‬
‫الحافظ عنه‪ :‬حسن(‪.‬‬

‫وفي حديث أبببي جحيفببة فببي قصببة سببلمان وأبببي الببدرداء‪ ،‬فجبباء أبببو‬
‫ما‪ ،‬فقال‪ :‬كل فإني صببائم‪ ،‬فقببال‪ :‬مببا أنببا بآكببل‬ ‫الدرداء‪ ،‬فصنع له طعا ً‬
‫حتى تأكل‪ ،‬فأكل ‪ ..‬الحديث )رواه البخاري والترمذي وصححه(‪.‬‬

‫ولما بلغ ذلك النبي صلى الله عليبه وسبلم‪ ،‬أقبر سبلمان علبى مبوقفه‬
‫ونصحه‪ ،‬وقال‪ :‬صدق سلمان"‪ ،‬ولو كبان قضباء هبذا اليبوم عليبه واجًببا‬
‫لبينه له‪ ،‬لن تأخير البيان عن وقت الحاجة ل يجوز‪.‬‬

‫ولكن يستحب قضاء التطوع الذي لم يتمببه‪ ،‬أخب ً‬


‫ذا بعمببوم قببوله تعببالى‪:‬‬
‫)ول تبطلببوا أعمببالكم( )محمببد‪ (23 :‬وعمل ً ببعببض الحبباديث الببواردة‬
‫جا‬
‫المرة بالقضاء‪ ،‬وإن لم تبلغ درجة الصحة‪ ،‬فتحمل على الندب‪ ،‬وخرو ً‬
‫من خلف العلماء‪ ،‬فقد ذهب أبو حنيفة ومالك إلى وجوب القضاء‪.‬‬

‫وهببذا الحكببم مطببرد فببي كببل تطببوع‪ ،‬مببن صببلة أو صببدقة‪ ،‬إل الحببج‬
‫والعمرة‪ ،‬فإنهما يلزمان بالشروع فيهما بالجماع‬
‫الصيام المكروه‬
‫صوم الدهر‬
‫يكره للنسان العادي أن يصوم الدهر‪ ،‬فل يفطر‪.‬‬
‫عا فببي جميببع اليببام‪ ،‬إل اليببام‬
‫والمراد بصيام الدهر‪ :‬سرد الصوم متتاب ً‬
‫التي ل يصح صومها‪ ،‬وهي العيدان وأيام التشريق‪.‬‬
‫روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسببلم قببال‪" :‬ل‬
‫صام من صام البد ول صام من صام البد" )متفق عليه(‪.‬‬
‫وعن أبي قتادة أن عمر قال‪ :‬يا رسببول اللببه كيببف بمببن يصببوم الببدهر‬
‫كله؟ قال‪" :‬ل صام ول أفطر" )رواه الجماعة إل البخبباري وابببن ماجببة‪،‬‬
‫المنتقى مع نيل الوطار ‪.(343/4-‬‬

‫وعن عبد الله بن عمببرو قبال‪ :‬قببال لبي رسببول اللببه صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم‪" :‬يا عبد الله‪ ،‬ألم أخبر أنك تصوم النهار‪ ،‬وتقوم الليل؟" فقلببت‪:‬‬
‫بلى يا رسببول اللببه‪ ،‬قببال‪" :‬فل تفعببل‪ ،‬صببم وأفطببر‪ ،‬وقببم ونببم‪ ،‬فببإن‬
‫قا‪ ،‬وإن لزوجك عليببك ح ً‬
‫قببا‪ ،‬وإن‬ ‫قا‪ ،‬وإن لعينك عليك ح ً‬ ‫لجسدك عليك ح ً‬
‫قا‪ ،‬وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلثة أيببام‪ ،‬فببإن لببك‬ ‫لزورك عليك ح ً‬
‫بكل حسنة عشر أمثالها‪ ،‬فإذن ذلك صيام الدهر كلببه"‪ ،‬فشببددت فشببدد‬
‫‪104‬‬

‫ي‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إني أجد قوة‪ ،‬قال‪" :‬فصببم صببيام نبببي اللببه‬
‫عل ّ‬
‫داود عليه السلم ول تزد عليه" قلت‪ :‬وما كان صيام نبي الله داود عليه‬
‫السلم؟ قال‪" :‬نصف الدهر"‪ ،‬وكان عبد الله يقول بعد ما ك َِبر‪ :‬يا ليتني‬
‫قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم )رواه البخاري ومسلم(‪.‬‬
‫وفي بعض روايات الحديث وقد سبقت صوم يوم وفطر يوم‪ :‬أنببه قببال‬
‫له عن صوم داود‪" :‬و هو أفضببل الصبيام"‪ ،‬وحيببن قبال عببد اللببه‪ :‬إنبي‬
‫أطيق أفضل من ذلك‪ ،‬قال‪" :‬ل أفضل من ذلك"‪.‬‬

‫وعن أنس في حديث الثلثة الذين سألوا عببن عبببادة النبببي صببلى اللببه‬
‫عليه وسلم فكأنهم تقاّلوها )أي اعتبروها قليلة( وقالوا‪ :‬أين نحببن مببن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ‪ ..‬الحديث‪ ،‬وفيببه ‪:‬أن أحببدهم قببال‪:‬‬
‫وأنا أصوم البدهر فل أفطببر ‪ ..‬كببان مبن إنكببار النببي صببلى اللبه عليببه‬
‫وسلم‪ ،‬عليهم أن قال‪" :‬أنببا أخشبباكم للببه‪ ،‬وأتقبباكم لببه‪ ،‬ولكنببي أقببوم‬
‫وأنام‪ ،‬وأصوم وأفطببر ‪ ...‬فمببن رغببب عببن سببنتي فليببس منببي" )رواه‬
‫البخاري(‪.‬‬

‫وعن سلمان وأبي الدرداء‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهمببا‬
‫فجبباء سببلمان يببزور أبببا الببدرداء فوجببد أم الببدرداء )وهببي زوجببة أبببي‬
‫ذلة! فقال‪ :‬ما شأنك؟! فقالت‪ :‬إن أخاك أبا الدرداء ليس له‬ ‫مت َب َ ّ‬
‫الدرداء( ُ‬
‫حاجة فببي شببيء مببن الببدنيا ‪ ..‬الحببديث‪ .‬وفيببه‪ :‬أن سببلمان قببال لبببي‬
‫قببا‪ ،‬ولجسببدك عليببك ح ً‬
‫قببا‪،‬‬ ‫قا ولهلك عليك ح ً‬ ‫الدرداء‪ :‬إن لربك عليك ح ً‬
‫فصم وأفطر‪ ،‬وقم ونم‪ ،‬وآت أهلك وأعط كل ذي حق حقببه‪ .‬فببذكر أبببو‬
‫الدرداء لرسول الله صببلى اللببه عليببه وسببلم‪ ،‬فقببال‪" :‬صببدق سببلمان"‬
‫)رواه البخاري(‪.‬‬

‫وكل هذه الحاديث داّلة بوضوح على كراهية صوم الدهر‪ ،‬بل ذهب ابببن‬
‫حزم إلى أنه يحرم‪.‬‬
‫ووجه الدللة من الحاديث‪ :‬أنه دعا على من صام البد بقوله‪) :‬ل صام(‬
‫وفي هذا تغليظ‪.‬‬
‫صببل أجببر الصببوم‬
‫وأخبر أنه لم يصببم‪ ،‬ولببم يفطببر‪ ،‬ومعنبباه‪ :‬أنببه لببم ُيح ّ‬
‫لمخالفته ولم يفطر‪ ،‬لنه أمسك‪.‬‬

‫وأنه أمر عبد الله بن عمرو أن يصوم ويفطببر‪ ،‬وأخبببره بببأن صببوم يببوم‬
‫وفطببر يببوم أفضببل الصببيام‪ ،‬وأحبببه إلببى اللببه‪ ،‬ومعنبباه‪ :‬أن غيببر ذلببك‬
‫مفضول‪ .‬وقال له‪" :‬ل أفضل من ذلك"‪ ،‬وقال‪" :‬ل تزد عليه"‪.‬‬

‫ب عن سنته فليببس‬
‫غ َ‬
‫وأخبر عن هديه وسنته بأنه يصوم ويفطر‪ ،‬ومن َر ِ‬
‫منه‪.‬‬
‫‪105‬‬

‫وأقر سلمان على ما نصح به لبي الدرداء‪ :‬أن يصببوم ويفطببر‪ ،‬حببتى ل‬
‫يفرط في الحقوق الخرى‪.‬‬

‫والحق أن هذا يتفق مع منهج السلم فببي ضببرورة العتببدال بيببن حببق‬
‫الرب تعالى وحظ النفس‪ ،‬وإقامة التوازن بين الحقوق بعضها وبعض‪.‬‬

‫مكّلفين‪ ،‬والتيسببير عليهببم‪،‬‬‫كما يتفق مع منهجه العببام فببي الرفببق بببال ُ‬


‫وتشريع الرخص لهم‪ ،‬والتزام صوم الدهر ينافي ذلك‪ ،‬فقد تببأتي علببى‬
‫الصائم أيام شديدة الحر‪ ،‬أو تطرأ عليببه أعببباء فتقضببي أن يكببون قوي ًببا‬
‫على القيام بها ‪ ..‬إلى غير ذلك‪ .‬وفي الحديث‪" :‬إن الله يحببب أن تببؤتى‬
‫رخصه"‪.‬‬

‫ح عن عببدد مببن الصببحابة والتببابعين ورجببال‬ ‫ومع وضوح هذه الدلئل ص ّ‬


‫السلف أنهم كانوا يصومون الدهر‪.‬‬
‫منهم‪ :‬أم المببؤمنين عائشببة‪ ،‬فقببد روى عببروة ابببن أختهببا‪ :‬أنهببا كببانت‬
‫تصوم الدهر في السفر والحضر‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬أبو طلحة النصاري‪ ،‬وعبد الله بن عمببر‪ ،‬وأبببو أمامببة وامرأتببه‪،‬‬
‫وعدد من التابعين‪ ،‬حتى إن منهم من سرد الصوم أربعين سببنة )انظببر‪:‬‬
‫المجموع للنووي ‪.(390/6-‬‬

‫ومن أجل هذا ذهب الجمهور إلى جواز صوم الدهر‪ ،‬بل إلببى اسببتحبابه‪،‬‬
‫وحملوا النهي الوارد على من صببام الببدهر حقيقببة بببأن صببام العيببدين‬
‫وأيام التشريق‪ .‬وقد روي عن عائشة وتابعهببا عليببه خلئق مببن العلمبباء‬
‫)المجموع للنووي ‪.(390/6-‬‬
‫نقببل ابببن قدامببة عببن أحمببد قببال‪) :‬إذا أفطببر يببومي العيببدين‪ ،‬وأيببام‬
‫التشريق رجوت أل يكون بذلك بأس(‪ .‬قال‪) :‬وروي نحو هذا عببن مالببك‪،‬‬
‫وهو قول الشافعي(‪.‬‬

‫قال ابن قدامة‪) :‬والذي يقوى عنببدي أن صببوم الببدهر مكببروه‪ ،‬وإن لببم‬
‫ما‪ ،‬وإنما كره صببوم الببدهر‪،‬‬‫يصم هذه اليام‪ ،‬فإن صامها فقد فعل محر ً‬
‫لما فيه من المشقة والضعف‪ ،‬وشبه التبتل المنهي عنه(‪ ،‬وذكر حببديث‬
‫عبد الله بن عمرو )المغني مع الشرح الكبير ‪.(99/3-‬‬
‫وت به‬ ‫وبعضهم حمل النهي على ما إذا خاف بمتابعة الصوم ضرًرا‪ ،‬أو ف ّ‬
‫رهَ )المجموع )‪.(388/6،389‬‬ ‫قا ك ُ ِ‬
‫وت ح ً‬ ‫ح ً‬
‫قا‪ ،‬فإن خاف ضرًرا أو ف ّ‬

‫والمفروض في هذه الحالببة أن يحببرم‪ ،‬لن الضببرار بببالنفس ل يجببوز‪،‬‬


‫وكذلك تضييع حقوق الخرين ل يجوز‪ .‬وهذا ما قالوه في صببوم المببرأة‬
‫ضببا‬
‫عا بغير إذن زوجها‪ ،‬لما فيه من تفويت حقه )انظر‪ :‬المجموع أي ً‬‫تطو ً‬
‫‪.(392/6-‬‬
‫‪106‬‬

‫والحق هنا‪ :‬أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وقببد صببح‬
‫عنه بل ريب أنه كان يصوم ويفطر‪ ،‬ولم يداوم على صببيام شببهر كامببل‬
‫غير رمضان وحسبنا قوله في هذا المقام‪" :‬من رغب عن سنتي فليس‬
‫مني"‪.‬‬
‫وأما من اجتهد من خيار السلف فصام الدهر‪ ،‬فهو اجتهاد منهم‪ ،‬نرجببو‬
‫أل يحرموا من أجره إن شاء الله‪.‬‬

‫إفراد شهر رجب بالصوم‬


‫قد تقدم أن صوم الشهر الحرم مستحب في الجملة ورجب منها‪.‬‬
‫ولكن رأي المام أحمد كراهية إفراد رجب بالصيام‪ ،‬مببا لببم يفطببر فيببه‬
‫بعض اليام‪.‬‬
‫وروي عن عمر‪ :‬أنه كان يضببرب أكببف المترجبببين‪ ،‬حببتى يضببعوها فببي‬
‫الطعام ويقول‪ :‬كلوا‪ ،‬فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية‪.‬‬
‫وعن ابن عمر‪ :‬أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهببه‪ ،‬وقببال‪:‬‬
‫صوموا منه وأفطروا‪.‬‬
‫وعن ابن عباس نحوه‪.‬‬

‫وعن أبي بكرة‪ :‬أنه دخل على أهله‪ ،‬وعندهم سلل جدد وكيزان‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ما هذا؟ فقالوا‪ :‬رجببب نصببومه‪ ،‬قببال‪ :‬أجعلتببم رجببب رمضببان؟! فأكفببأ‬
‫السلل وكسر الكيزان‪.‬‬
‫قال أحمد‪ :‬من كان يصوم السنة صامه‪ ،‬وإل فل يصومه متوالًيا‪ ،‬يفطببر‬
‫فيه ول يشبهه رمضان )المغني مع الشرح الكبير ‪.(99/3-‬‬

‫إفراد يوم الجمعة‬


‫ما كبان يصبومه‬ ‫ويكره إفراد يوم الجمعة بالصيام‪ ،‬إل أن يوافق ذلك صو ً‬
‫ما‪ ،‬فيوافببق صببومه يببوم الجمعببة‪ ،‬ومببن‬ ‫ما‪ ،‬ويفطر يو ً‬
‫مثل من يصوم يو ً‬
‫عادته صوم أول يوم من الشهر‪ ،‬أو آخببره‪ ،‬أو يببوم نصببفه‪ ،‬ونحببو ذلببك‪،‬‬
‫فيوافق الجمعة‪.‬‬
‫مببا قبلببه‪،‬‬
‫وفي الحديث‪" :‬ل يصومن أحدكم يوم الجمعة إل أن يصببوم يو ً‬
‫ما بعده" )متفق عليه(‪.‬‬
‫أو يو ً‬

‫وقال محمد بن عباد‪ :‬سألت جابًرا‪ :‬أنهى رسببول اللببه صببلى اللببه عليببه‬
‫وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال‪ :‬نعم )متفق عليه(‪.‬‬
‫وعن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫دخل عليها يوم الجمعة‪ ،‬وهي صائمة‪ ،‬فقال‪" :‬أصببمت أمببس؟"‪ ،‬قببالت‪:‬‬
‫دا؟"‪ ،‬قالت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪" :‬فببأفطري" )رواه‬ ‫ل‪ ،‬قال‪" :‬أتريدين أن تصومي غ ً‬
‫البخاري(‪.‬‬
‫‪107‬‬

‫وهذا يدل على أن المكروه إفبراده بالصبوم‪ ،‬لن نهيبه معلبل بأنهبا لبم‬
‫دا‪ .‬يؤكد هذا حديث أبي هريرة‪" :‬ل تخصبوا يبوم‬ ‫تصم أمس‪ ،‬ول تصوم غ ً‬
‫الجمعة بصيام من بين سائر اليام إل أن يكون في صببوم يببوم يصببومه‬
‫أحدكم" )رواه الترمذي وحسنه(‪.‬‬
‫ه‬ ‫فك ُب ِ‬
‫ر َ‬ ‫وحكمة ذلك‪ :‬أن يببوم الجمعببة هببو العيببد السبببوعي للمسببلمين‪َ ،‬‬
‫ها بالعيد الحقيقي‪.‬‬ ‫الصوم فيه‪ ،‬تشبي ً‬
‫م عليه‪.‬‬
‫و َ‬
‫دو ِ‬
‫ص به ُ‬
‫خ ّ‬
‫ضا‪ :‬فيه سد لذريعة اعتقاد وجوب صيامه إذا ُ‬ ‫وأي ً‬

‫إفراد يوم السبت‬


‫رهَ كذلك إفراد يوم السبت بالصوم‪ ،‬كما روى عبد الله بببن بسببر عببن‬‫وك ُ ِ‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‪" :‬ل تصوموا يببوم السبببت إل فيمببا‬
‫ض عليكم" )رواه مسلم(‪.‬‬‫ر َ‬ ‫ا ْ‬
‫فت ُ ِ‬

‫ضا عن أخته الصماء أن رسول اللببه صببلى اللببه عليببه‬ ‫وروى ابن بسر أي ً‬
‫ض عليكببم‪ ،‬فببإن لببم‬
‫ر َ‬ ‫وسلم قال‪" :‬ل تصوموا يوم السبت إل فيمببا ا ْ‬
‫فت ُب ِ‬
‫يجد أحدكم إل ِلحاء عنبة‪ ،‬أو عود شجرة‪ ،‬فليمضغه" )رواه أبو داود(‪.‬‬

‫والمكروه إنما هو إفراده‪ ،‬فإن صام قبله أو بعده لببم يكببره‪ ،‬لمببا تقببدم‬
‫من حديث جويرية‪.‬‬
‫وإنما كره صوم يببوم السبببت‪ ،‬لنببه عيببد اليهببود السبببوعي‪ ،‬وهببو يببوم‬
‫م عندهم‪ ،‬فقد يوهم الصيام فيه نوع موافقة لهم في تعظيمه‪.‬‬ ‫عظّ ُ‬
‫يُ َ‬
‫الصوم بغير صلة‬
‫من الغرائب‪ ،‬التي تحدث في حياة طائفة من المسلمين‪ ،‬أن تجد منهببم‬
‫من يحرص على صببوم رمضبان‪ ،‬ولكنببه ‪ -‬للسببف ‪ -‬ل يحبرص علبى أداء‬
‫الصلة‪.‬‬

‫فلرمضان هيبة وحرمة عظيمة في أنفس النبباس‪ ،‬توارثوهببا خل ً‬


‫فببا عببن‬
‫سلف فل يجرؤ على انتهاكها إل فاجر‪ ،‬يوشك أل يكون له أي حببظ مببن‬
‫السلم‪.‬‬

‫ول ريب أن الصلة أعظم في ميزان الدين مببن الصببيام‪ ،‬وهببي العبببادة‬
‫الولى وعمود السلم‪ ،‬والفيصل بين المسببلم والكببافر‪ ،‬ولكببن الجهببل‬
‫والغفلة‪ ،‬وحب البدنيا‪ ،‬جعببل بعبض النباس يغفلببون عبن أهميبة الصبلة‬
‫ومكانتها في السلم‪ ،‬حببتى إن بعضببهم ليعيببش عمببره ول ينحنببي للببه‬
‫عا!!‪.‬‬
‫ما راك ً‬
‫يو ً‬

‫وأصبحنا في كل رمضان نواجه هذا السؤال المتكرر‪ :‬ما حكم من يصوم‬


‫ول يصلي؟‪.‬‬
‫‪108‬‬

‫أما من يقول‪ :‬إن تارك الصلة كببافر‪ ،‬كمببا هببو ظبباهر بعببض الحبباديث‪،‬‬
‫وهببو مببروي عببن عببدد مببن الصببحابة والفقهبباء مثببل أحمببد بببن حنبببل‪،‬‬
‫وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وغيرهما ‪ -‬ففتواه واضحة في شأنه‪ ،‬فهو يرى أن‬
‫صومه باطل‪ ،‬لنه كافر بترك الصلة‪ ،‬والصوم ل ُيقبل من كافر‪.‬‬

‫وأما من يببرى رأي جمهببور الفقهبباء مببن السببلف والخلببف‪ :‬بببأن تببارك‬
‫الصلة فاسق‪ ،‬غير كافر‪ ،‬وأن الله ل يضيع عنده عمل عامل‪ ،‬ول يظلببم‬
‫مثقال ذرة‪) :‬فمن يعمل مثقال ذرة خيًرا يره‪ .‬ومببن يعمببل مثقببال ذرة‬
‫شًرا يره( )الزلزلة‪ (7،8 :‬فهو يرى أنه مؤاخذ بترك الصلة‪ ،‬مثبباب علببى‬
‫أداء الصيام‪ ،‬وأن عقابه على تببرك فريضببة‪ ،‬ل يلغببي ثببوابه علببى تأديببة‬
‫غيرها‪ .‬والله تعالى يقول‪) :‬ونضع الموازين القسببط ليببوم القيامببة فل‬
‫تظلم نفس شيًئا وإن كان مثقال حبة من خببردل أتينببا بهببا وكفببى بنببا‬
‫حاسبين( )النبياء‪.(47 :‬‬
‫وإذا نظرنا من الناحية العملية والتربوية‪ ،‬فماذا يفيدنا أن نقول للصائم‬
‫بغير صلة صومك وعدمه سواء‪ ،‬ول أجر لك عليه؟ فربما دفعه هذا إلببى‬
‫ترك الصوم كما ترك الصلة وبهذا ينقطع آخر خيط كببان يصببله بالببدين‬
‫دا عببن‬‫من الفرائض والعبادات‪ ،‬وربمببا ذهببب بسبببب هببذا الموقببف بعي ب ً‬
‫الدين إلى غير رجعة!‪.‬‬

‫وأولى من ذلك وأنفع‪ ،‬أن نقول له‪ :‬جزاك الله خيًرا عن صومك‪ ،‬وعليك‬
‫أن تكمل إسلمك‪ ،‬بما هو أعظم من الصببوم‪ ،‬وهببو الصببلة‪ ،‬لقببد جعببت‬
‫وعطشت وحرمت لمرضاة الله‪ ،‬فما لك تتكاسبل أن تصبف قبدميك مبع‬
‫المصلين‪ ،‬وتركع مع الراكعين‪ ،‬من أجل مرضاة الله؟!‪.‬‬

‫إن إبقاء هذا الخيبط يربطبه بالسبلم‪ ،‬ولبو كبل عبام شبهًرا‪ ،‬خيبر مبن‬
‫قطعه إلى غير بدل‪ ،‬والعور خير من العمى على كل حال‪.‬‬

You might also like