Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 43

‫موسى عليه السالم‬

‫‪4/11/2010 5:04:00 PM‬‬

‫أرسله هللا تعالى إلى فرعون وقومه‪ ،‬وأيده بمعجزتين‪ ،‬إحداهما هي العصا التي تلقف الثع ابين‪،‬‬
‫أما األخرى فكانت يده ال تي ي دخلها في جيب ه فتخ رج بيض اء من غ ير س وء‪ ،‬دع ا موس ى إلى‬
‫وحدانية هللا فحاربه فرعون وجمع له الس حرة ليكي دوا ل ه ولكن ه‬
‫هزمهم بإذن هللا تعالى‪ ،‬ثم أم ره هللا أن يخ رج من مص ر م ع من‬
‫اتبع ه‪ ،‬فط ارده فرع ون بجيش عظيم‪ ،‬ووقت أن ظن أتباع ه أنهم‬
‫م دركون أم ره هللا أن يض رب البح ر بعص اه لتك ون نجات ه وليك ون‬
‫هالك فرعون الذي جعله هللا عبرة لآلخرين‪.‬‬

‫أرس ل موس ى وه ارون عليهم ا الس الم ألش د الش عوب كره ا‬
‫للح ق وابتع ادا عن ه‪ ..‬ل ذلك ك انت حياتهم ا مليئ ة باألح داث‬
‫والمواقف‪.‬‬

‫يرته‪:‬‬ ‫س‬
‫أثناء حياة يوسف علي السالم بمصر‪ ،‬تحولت مصر إلى التوحي د‪.‬‬
‫توحيد هللا سبحانه‪ ،‬وهي الرسالة التي كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم‪.‬‬

‫لكن بعد وفاته‪ ،‬عاد أهل مصر إلى ضاللهم وش ركهم‪ .‬أم ا أبن اء يعق وب‪ ،‬أو أبن اء إس رائيل‪ ،‬فق د‬
‫ل منهم من ض ل‪ ،‬وبقي على التوحي د من بقي‪ .‬وتك اثر أبن اء‬ ‫اختلط وا ب المجتمع المص ري‪ ،‬فض ّ‬
‫إسرائيل وتزايد عددهم‪ ،‬واشتغلوا في العديد من الحرف‪.‬‬

‫ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه‪ .‬ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون ويزي دون‬
‫ويملكون‪ .‬وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إن واحدا من أبناء إسرائيل سيس قط فرع ون مص ر‬
‫عن عرشه‪.‬‬

‫فأصدر الفرعون أمره أال يلد أحد من بني إسرائيل‪ ،‬أي أن يقتل أي وليد ذكر‪ .‬وبدأ تطبيق النظام‪،‬‬
‫ثم قال مستشارون فرعون له‪ ،‬إن الكبار من بني إس رائيل يموت ون بآج الهم‪ ،‬والص غار ي ذبحون‪،‬‬
‫وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل‪ ،‬فستضعف مص ر لقل ة األي دي العامل ة به ا‪ .‬واألفض ل أن‬
‫تنظم العملية بأن يذبحون الذكور في عام ويتركونهم في العام الذي يليه‪.‬‬

‫ووجد الفرع ون أن ه ذا الح ل أس لم‪ .‬وحملت أم موس ى به ارون في الع ام ال ذي ال يقت ل في ه‬


‫الغلمان‪ ،‬فولدته عالنية آمنة‪ .‬فلما جاء العام الذي يقتل فيه الغلم ان ول د موس ى‪ .‬حم ل ميالده‬
‫خوفا عظيما ألمه‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫خافت عليه من القتل‪ .‬راحت ترضعه في السر‪ .‬ثم جاءت عليها ليلة مباركة أوحى هللا إليها فيها‬
‫لألم بصنع صندوق صغير لموسى‪ .‬ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق‪ .‬وإلقاءه في النهر‪.‬‬

‫كان قلب األم‪ ،‬وهو أرحم القلوب في ال دنيا‪ ،‬يمتلئ ب األلم وهي ت رمي ابنه ا في الني ل‪ ،‬لكنه ا‬
‫كانت تعلم أن هللا أرحم بموسى منها‪ ،‬وهللا هو ربه ورب النيل‪.‬‬

‫لم يكد الصندوق يلمس مياه النيل حتى أصدر الخالق أم ره إلى األم واج أن تك ون هادئ ة حاني ة‬
‫وهي تحمل هذا الرضيع الذي سيكون نبيا فيما بعد‪ ،‬ومثلما أصدر هللا تعالى أمره للن ار أن تك ون‬
‫بردا وسالما على إبراهيم‪ ،‬كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورف ق ح تى يس لمه‬
‫إلى قصر فرعون‪.‬‬

‫وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون‪ .‬وهناك أسلمه الموج للشاطئ‪.‬‬

‫رفض موسى للمراضع‪:‬‬

‫وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر‪ .‬وك انت زوج ة فرع ون تختل ف‬
‫كثيرا عنه‪ .‬فقد كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة‪ .‬كان هو قاسيا وك انت هي رحيم ة‪ .‬ك ان جب ارا‬
‫وكانت رقيقة وطيبة‪ .‬وأيضا كانت حزينة‪ ،‬فلم تكن تلد‪ .‬وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد‪.‬‬

‫وعندما ذهبت الجواري ليمألن الجرار من النه ر‪ ،‬وج دن الص ندوق‪ ،‬فحملن ه كم ا ه و إلى زوج ة‬
‫فرعون‪ .‬فأمرتهن أن يفتحنه ففتحنه‪ .‬فرأت موسى بداخله فأحست بحبه في قلبها‪ .‬فلق د ألقى‬
‫هللا في قلبها محبته فحملته من الصندوق‪ .‬فاستيقظ موسى وبدأ يبكي‪ .‬كان جائع ا يحت اج إلى‬
‫رضعة الصباح فبكى‪.‬‬

‫فجاءت زوجة فرعون إليه‪ ،‬وهي تحمل بين بيدها طفال رضيعا‪ .‬فسأل من أين ج اء ه ذا الرض يع؟‬
‫فحدثوه بأمر الصندوق‪ .‬فقال بقلب ال يعرف الرحمة‪ :‬الب د أن ه أح د أطف ال ب ني إس رائيل‪ .‬أليس‬
‫المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟‬

‫فذكّرت آس يا ‪ -‬ام رأة فرع ون ‪ -‬زوجه ا بع دم ق درتهم على وطلبت من ه أن يس مح له ا بتربيت ه‪.‬‬
‫سمح لها بذلك‪.‬‬

‫ع اد موس ى للبك اء من الج وع‪ .‬ف أمرت بإحض ار المراض ع‪ .‬فحض رت مرض عة من القص ر وأخ ذت‬
‫موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها‪ .‬فحضرت مرضعة ثانية وثالث ة وعاش رة وموس ى يبكي وال‬
‫يريد أن يرضع‪ .‬فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزين ة الباكي ة بس بب رف ع موس ى لجمي ع المراض ع‪ .‬فلق د‬
‫كانت أم موسى هي األخرى حزينة باكية‪ .‬لم تكد ترمي موسى في الني ل ح تى أحس ت أنه ا‬
‫ترمي قلبها في النيل‪ .‬غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره‪.‬‬

‫وجاء الصباح على أم موسى فإذا قلبه ا ف ارغ ي ذوب حزن ا على ابنه ا‪ ،‬وك ادت ت ذهب إلى قص ر‬
‫فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون‪ .‬لوال أن هللا تعالى ربط على قلبها ومأل بالسالم نفس ها‬
‫فهدأت واستكانت وتركت أمر ابنها هلل‪ .‬ك ل م ا في األم ر أنه ا ق الت ألخت ه‪ :‬اذه بي به دوء إلى‬
‫المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى‪.‬‬

‫وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرع ون‪ ،‬ف إذا به ا تس مع القص ة الكامل ة‪ .‬رأت‬
‫موسى من بعيد وسمعت بكاءه‪ ،‬ورأتهم حائرين ال يعرفون كيف يرضعونه‪ ،‬سمعت أنه يرفض كل‬
‫المراض ع‪ .‬وق الت أخت موس ى لح رس فرع ون‪ :‬ه ل أدلكم على أه ل بيت يرض عونه ويكفلون ه‬
‫ويهتمون بأمره ويخدمونه؟‬

‫ففرحت زوجة فرعون كث يرا له ذا األم ر‪ ،‬وطلبت منه ا أن تحض ر المرض عة‪ .‬وع ادت أخت موس ى‬
‫وأحض رت أم ه‪ .‬وأرض عته أم ه فرض ع‪ .‬وتهللت زوج ة فرع ون وق الت‪( :‬خذي ه ح تى تنتهي ف ترة‬
‫رضاعته وأعيديه إلينا بعدها‪ ،‬وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له)‪.‬‬

‫وهكذا رد هللا تعالى موسى ألمه كي تقر عينها ويه دأ قلبه ا وال تح زن ولتعلم أن وع د هللا ح ق‬
‫وأن كلماته سبحانه تنفذ رغم أي شيء‪ .‬ورغم كل شيء‪.‬‬

‫نشأة موسى في بيت فرعون‪:‬‬

‫أتمت أم موسى رضاعته وأسلمته لبيت فرع ون‪ .‬ك ان موض ع حب الجمي ع‪ .‬ك ان ال ي راه أح د إال‬
‫أحبه‪ .‬وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ هللا وعنايت ه‪ .‬ب دأت تربي ة موس ى في بيت‬
‫فرعون‪ .‬وكان هذا ال بيت يض م أعظم الم ربين والمدرس ين في ذل ك ال وقت‪ .‬ك انت مص ر أيامه ا‬
‫أعظم دولة في األرض‪.‬‬

‫وكان فرع ون أق وى مل ك في األرض‪ ،‬ومن الط بيعي أن يض م قص ره أعظم الم دربين والمثقفين‬
‫والمربين في األرض‪ .‬وهكذا شاءت حكمة هللا تعالى أن يتربى موس ى أعظم تربي ة وأن يتعه ده‬
‫أعظم المدرسين‪ ،‬وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تنفي ذا لمش يئة‬
‫الخالق‪.‬‬

‫وكبر موسى في بيت فرعون‪ .‬كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرع ون‪ ،‬إنم ا ه و واح د من ب ني‬
‫إسرائيل‪ .‬وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل‪ ..‬وكبر موسى وبلغ أشده‪..‬‬
‫ن أَ ْ‬
‫هلِ َه ا} وراح يتمش ى فيه ا‪ .‬فوج د رجال من إتب اع فرع ون‬ ‫ين َغ ْفلَ ٍ‬
‫ة ِ ّم ْ‬ ‫ح ِ‬‫م ِدي َن َة َعلَى ِ‬
‫ل ا ْل َ‬
‫خ َ‬
‫{ َو َد َ‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل‪ ،‬واستغاث به الرج ل الض عيف فت دخل موس ى وأزاح بي ده‬
‫الرجل الظالم فقتله‪.‬‬

‫كان موسى قويا جدا‪ ،‬ولم يكن يقصد قتل الظالم‪ ،‬إنما أراد إزاحته فقط‪ ،‬لكن ضربته ه ذه قتلت ه‪.‬‬
‫ين}‪ .‬ودع ا‬ ‫ل ُّمبِ ٌ‬ ‫ض ٌّ‬ ‫الش ْيطَ ِ‬
‫ان إِنَّ ُه َع ُد ٌّو ُّم ِ‬ ‫َّ‬ ‫ل‬
‫م ِ‬
‫ن َع َ‬
‫هذَا ِم ْ‬ ‫ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسه‪َ { :‬‬
‫ور‬ ‫ْ‬
‫ه َو ال َغ ُف ُ‬‫س ي ف اغْ ِف ْر لِي}‪ .‬وغف ر هللا تع الى ل ه‪{ ،‬إِنَّ ُه ُ‬ ‫َ‬ ‫ت نَ ْف ِ‬ ‫ب إِنِ ّي ظَلَ ْ‬
‫م ُ‬ ‫موس ى رب ه‪َ { :‬ق ا َ‬
‫ل َر ّ ِ‬
‫يم}‪.‬‬
‫ح ُ‬‫ال َّر ِ‬

‫َّب}‪ .‬ك ان ه ذا ح ال موس ى‪ ،‬ح ال إنس ان مط ارد‪ ،‬فه و‬


‫خائِ ًف ا َي َت َرق ُ‬
‫ة َ‬ ‫أصبح موسى {فِي ا ْل َ‬
‫م ِدي َن ِ‬
‫خائف‪ ،‬يتوقع الشر في كل خطوة‪ ،‬وهو مترقب‪ ،‬يلتفت ألوهى الحركات وأخفاها‪.‬‬

‫ووع د موس ى ب أن ال يك ون ظه يرا للمج رمين‪ .‬لن يت دخل في المش اجرات بين المج رمين‬
‫والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه‪ .‬وفوجئ موس ى أثن اء س يره بنفس الرج ل ال ذي أنق ذه‬
‫باألمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم‪ .‬كان الرجل مشتبكا في ع راك م ع أح د المص ريين‪ .‬وأدرك‬
‫موس ى ب أن ه ذا اإلس رائيلي مش اغب‪ .‬أدرك أن ه من ه واة المش اجرات‪ .‬وص رخ موس ى في‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ك لَغ َِو ٌّ‬
‫ي ُّمبِ ٌ‬ ‫اإلسرائيلي يعنفه قائال‪{ :‬إِنَّ َ‬

‫ق ال موس ى كلمت ه وان دفع نحوهم ا يري د البطش بالمص ري‪ .‬واعتق د اإلس رائيلي أن موس ى‬
‫سيبطش به هو‪ .‬دفعه الخوف من موسى إلى استرحامه ص ارخا‪ ،‬وذكّ ره بالمص ري ال ذي قتل ه‬
‫باألمس‪ .‬فتوقف موسى‪ ،‬سكت عنه الغضب وتذكر ما فعله باألمس‪ ،‬وكيف اس تغفر وت اب ووع د‬
‫أال يكون نصيرا للمجرمين‪ .‬استدار موسى عائدا ومضى وهو يستغفر ربه‪.‬‬

‫وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع اإلسرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا على‬
‫جثته أمس‪ .‬ولم يكن أحد من المصررين يعلم من القاتل‪ .‬فنش ر ه ذا المص ري الخ بر في أرج اء‬
‫المدينة‪ .‬وانكشف سر موسى وظهر أمره‪.‬‬

‫وج اء رج ل مص ري م ؤمن من أقص ى المدين ة مس رعا‪ .‬ونص ح موس ى ب الخروج من مص ر‪ ،‬ألن‬


‫المصريين ينوون قلته‪.‬‬

‫لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى‪ .‬ونرجح أنه ك ان رجال مص ريا من ذوي‬
‫األهمية‪ ،‬فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا‪ ،‬ولو كان شخصية عادية لم ا‬
‫عرف‪ .‬يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه باألمس‪ ..‬لقد قتل الرجل خط أ‪.‬‬
‫فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير‪.‬‬

‫لكن رؤساء القوم وعليتهم‪ ،‬الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى ألنه من بني إسرائيل‪ ،‬وألن ه‬
‫نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر‪ ،‬وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى‪،‬‬
‫فهو قاتل المصري‪ ،‬لذا فهو يستحق القتل‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫ج ِني‬
‫ب نَ ّ ِ‬
‫خرج موسى من مصر على الفور‪ .‬خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب‪ .‬في قلب ه دع اء هلل { َر ّ ِ‬
‫ين }‪ .‬وكان القوم ظالمين حقا‪ .‬أال يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد علي ه‪ ،‬وه و‬ ‫م َ‬‫ن ا ْل َق ْو ِم الظَّالِ ِ‬
‫ِم َ‬
‫لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجال فقتله خطأ؟‬

‫خرج موسى من مصر على عجل‪ .‬لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير مالبسه ولم يأخذ طعام ا‬
‫للطريق ولم يع د للس فر عدت ه‪ .‬لم يكن مع ه داب ة تحمل ه على ظهره ا وتوص له‪ .‬ولم يكن في‬
‫قافلة‪ .‬إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج‪.‬‬

‫اختار طريقا غير مطروق وسلكه‪ .‬دخل في الصحراء مباش رة واتج ه إلى حيث ق درت ل ه العناي ة‬
‫اإللهي ة أن يتج ه‪ .‬لم يكن موس ى يس ير قاص دا مكان ا معين ا‪ .‬ه ذه أول م رة يخ رج فيه ا ويع بر‬
‫الصحراء وحده‪.‬‬

‫موسى في مدين‪:‬‬

‫ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان‪ .‬كان هذا المكان هو م دين‪ .‬جلس يرت اح عن د‬
‫بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم‪ .‬وكان خائفا طوال الوقت أن يرس ل فرع ون من وراءه من‬
‫يقبض عليه‪.‬‬

‫لم يك د موس ى يص ل إلى م دين ح تى ألقى بنفس ه تحت ش جرة واس تراح‪ .‬ن ال من ه الج وع‬
‫والتعب‪ ،‬وسقطت نعله بعد أن ذابت من مش قة الس ير على الرم ال والص خور وال تراب‪ .‬لم تكن‬
‫معه نقود لشراء نعل جديدة‪ .‬ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب‪.‬‬

‫الحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم‪ ،‬ووجد امرأتين تكف ان غنمهم ا أن يختلط ا بغنم‬
‫القوم‪ ،‬أحس موس ى بم ا يش به اإلله ام أن الفت اتين في حاج ة إلى المس اعدة‪ .‬تق دم منهم ا‬
‫وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في شيء‪.‬‬

‫قي‪.‬‬ ‫قي غنمهم لنس‬ ‫اة من س‬ ‫ر أن ينتهي الرع‬ ‫داهما‪ :‬نحن ننتظ‬ ‫الت إح‬ ‫ق‬
‫قيان؟‬ ‫اذا ال تس‬ ‫ى‪ :‬ولم‬ ‫أل موس‬ ‫س‬
‫ال‪.‬‬ ‫زاحم الرج‬ ‫تطيع أن ن‬ ‫رى‪ :‬ال نس‬ ‫الت األخ‬ ‫ق‬
‫اندهش موسى ألنهما ترعي ان الغنم‪ .‬المف روض أن ي رعى الرج ال األغن ام‪ .‬ه ذه مهم ة ش اقة‬
‫ة‪.‬‬ ‫اج إلى اليقظ‬ ‫ة وتحت‬ ‫ومتعب‬
‫ان الغنم؟‬ ‫اذا ترعي‬ ‫ى‪ :‬لم‬ ‫أل موس‬ ‫س‬
‫فق الت واح دة منهم ا‪ :‬أبون ا ش يخ كب ير ال تس اعده ص حته على الخ روج ك ل ي وم لل رعي‪.‬‬
‫فقال موسى‪ :‬سأسقي لكما‪.‬‬

‫سار موسى نحو الماء‪ .‬وسقى لهم الغنم مع بقي ة الرع اة‪ .‬وفي رواي ة أن أن الرع اة ق د وض عوا‬
‫على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة ال يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال‪ .‬فرفع‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫موسى الصخرة وحده‪ .‬وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها‪ ،‬وتركهما وعاد يجلس تحت‬
‫خ ْي ٍر َف ِق ٌ‬
‫ير}‪.‬‬ ‫ن َ‬
‫ي ِم ْ‬ ‫ما أَن َز ْل َ‬
‫ت إِلَ َّ‬ ‫ب إِنِ ّي لِ َ‬
‫ظل الشجرة‪ .‬وتذكر لحظتها هللا وناداه في قلبه‪َ { :‬ر ّ ِ‬

‫عادت الفتاتان إلى أبيهما الشيخ‪.‬‬

‫ادة؟!‬ ‫ير الع‬ ‫ريعا على غ‬ ‫وم س‬ ‫دتما الي‬ ‫أل األب‪ :‬ع‬ ‫س‬
‫ا الغنم‪.‬‬ ‫قى لن‬ ‫ريم س‬ ‫لك‬ ‫ع رج‬ ‫ام‬ ‫داهما‪ :‬تقابلن‬ ‫الت إح‬ ‫ق‬
‫لَ َنا}‪.‬‬ ‫ت‬
‫س َق ْي َ‬ ‫ك} ليعطيك {أَ ْ‬
‫ج َر َما َ‬ ‫فقال األب البنته‪ :‬اذهبي إليه وقولي له‪{ :‬إِنَّ أَبِي َي ْد ُعو َ‬

‫ذهبت واح دة من الفت اتين إلى موس ى‪ ،‬ووقفت أمام ه وأبلغت ه رس الة أبيه ا‪ .‬فنهض موس ى‬
‫وبصره في األرض‪ .‬إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا‪ ،‬وإنما ساعدهما لوجه هللا‪ ،‬غير أنه‬
‫أحس في داخله أن هللا هو الذي يوجه قدميه فنهض‪ .‬سارت البنت أمام ه‪ .‬هبت الري اح فض ربت‬
‫ثوبها فخفض موسى بصره حياء وقال لها‪ :‬سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق‪.‬‬

‫وصال إلى الشيخ‪ .‬قال بعض المفسرين إن هذا الشيخ هو النبي شعيب‪ .‬عمر ط ويال بع د م وت‬
‫قومه‪ .‬وقيل إنه ابن أخي شعيب‪ .‬وقيل ابن عمه‪ ،‬وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب ال ذين آمن وا‬
‫به‪ .‬ال نعرف أكثر من كونه شيخا صالحا‪.‬‬

‫قدم له الشيخ الطعام وسأله‪ :‬من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدث ه موس ى عن قص ته‪ .‬ق ال‬
‫ين}‪ .‬ه ذه البالد ال تتب ع مص ر‪ ،‬ولن يص لوا إلي ك هن ا‪.‬‬
‫م َ‬‫ن ا ْل َق ْو ِم الظَّالِ ِ‬
‫ت ِم َ‬
‫ج ْو َ‬
‫ف نَ َ‬ ‫الشيخ‪{ :‬اَل تَ َ‬
‫خ ْ‬
‫اطمأن موسى ونهض لينصرف‪.‬‬

‫ي اأْل َ ِم ُ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ت ا ْل َق ِو ُّ‬ ‫اس َت ْأ َ‬
‫ج ْر َ‬ ‫ن ْ‬ ‫خ ْي َر َم ِ‬ ‫اس َت ْأ ِ‬
‫ج ْر ُه إِنَّ َ‬ ‫ت ْ‬‫ق الت ابن ة الش يخ ألبيه ا همس ا‪{ :‬يَ ا أَبَ ِ‬
‫وي؟‬ ‫هق‬ ‫رفت أن‬ ‫فع‬ ‫ألها األب‪ :‬كي‬ ‫س‬
‫ال‪.‬‬ ‫دد رج‬ ‫ير ع‬ ‫اغ‬ ‫خرة ال يرفعه‬ ‫ده ص‬ ‫ع وح‬ ‫الت‪ :‬رف‬ ‫ق‬
‫ه أمين؟‬ ‫رفت أن‬ ‫فع‬ ‫ألها‪ :‬وكي‬ ‫س‬
‫قالت‪ :‬رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى ال ينظ ر إلي وأن ا أمش ي‪ .‬وط وال ال وقت ال ذي‬
‫كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في األرض حياء وأدبا‪.‬‬

‫وعاد الشيخ لموسى وقال له‪ :‬أريد يا موسى أن أزوجك إح دى ابن تي على أن تعم ل في رعي‬
‫الغنم عن دي ثم اني س نوات‪ ،‬ف إن أتممت عش ر س نوات‪ ،‬فمن كرم ك‪ ،‬ال أري د أن أتعب ك‪،‬‬
‫ين}‪ .‬قال موسى‪ :‬هذا اتفاق بيني وبينك‪ .‬وهللا ش اهد على‬‫ح َ‬‫صالِ ِ‬ ‫شاء اللَّ ُه ِم َ‬
‫ن ال َّ‬ ‫{س َتجِ ُدنِي إِن َ‬
‫َ‬
‫اتفاقنا‪ .‬سواء قضيت السنوات الثمانية‪ ،‬أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب‪.‬‬

‫يخوض الكثيرون في تيه من األقاص يص والرواي ات‪ ،‬ح ول أي ابن تي الش يخ ت زوج‪ ،‬وأي الم دتين‬
‫قضى‪ .‬والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ‪ .‬ال نع رف من ك انت‪ ،‬وال م اذا ك ان اس مها‪.‬‬
‫وهذه األمور سكت عنها الس ياق الق رآني‪ .‬إال أن ه اس تنادا إلى طبيع ة موس ى وكرم ه ونبوت ه‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وكونه من أولي العزم‪ .‬نرى أنه قضى األجل األكبر‪ .‬وهذا ما يؤك ده ح ديث ابن عب اس رض ي هللا‬
‫عنهما‪ .‬وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة‪.‬‬

‫موسى ورعي الغنم‪:‬‬

‫وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي األغنام والسقاية لها‪.‬‬

‫ولنقف هنا وقفة تدبر‪ .‬إن قدرة اإللهية نقلت خطى موسى ‪-‬عليه الس الم‪ -‬خط وة بخط وة‪ .‬من ذ‬
‫أن كان رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة‪ .‬ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرع ون‪ .‬وألقت علي ه‬
‫محبة زوجة فرعون لينشأ في كنف عدوّه‪ .‬ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهله ا ليقت ل‬
‫نفسا‪.‬‬

‫وأرسلت إليه بالرجل الم ؤمن من آل فرع ون ليح ذره وينص حه ب الخروج من مص ر‪ .‬وص احبته في‬
‫الطري ق الص حراوي من مص ر إلى م دين وه و وحي د مط ارد من غ ير زاد وال اس تعداد‪ .‬وجمعت ه‬
‫بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر‪ .‬ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف‪.‬‬

‫هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه‪ ،‬قبل النداء والتكليف‪ .‬تجربة الرعاية والحب والت دليل‪ .‬تجرب ة‬
‫االندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس‪ ،‬وتجربة الندم واالستغفار‪ .‬وتجربة الخوف والمطاردة‪.‬‬

‫وتجربة الغربة والوحدة والجوع‪ .‬وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حي اة القص ور‪ .‬وم ا يتخل ل ه ذه‬
‫التجارب الضخمة من تجارب ص غيرة‪ ،‬ومش اعر وخ واطر‪ ،‬وإدراك ومعرف ة‪ .‬إلى ج انب م ا آت اه هللا‬
‫حين بلغ أشده من العلم والحكمة‪.‬‬

‫إن الرسالة تكليف ضخم شاق‪ ،‬يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب واإلدراك والمعرفة‪ ،‬إلى‬
‫ج انب وحي هللا وتوجيه ه‪ .‬ورس الة موس ى تكلي ف عظيم‪ ،‬فه و مرس ل إلى فرع ون الطاغي ة‬
‫المتجبر‪ ،‬أعتى ملوك األرض في زمانه‪ ،‬وأشدهم استعالء في األرض‪.‬‬

‫وهو مرسل الستنقاذ قوم ق د ش ربوا من ك ؤوس ال ذل ح تى اس تمرأوا مذاق ه‪ .‬فاس تنقاذ ق وم‬
‫كهؤالء عمل شاق عسير‪.‬‬

‫فتجربة السنوات العشر جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موس ى ‪-‬علي ه الس الم‪-‬‬
‫وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة‪ .‬فلحياة القصور جوا وتقاليد خاصة‪.‬‬

‫أما الرسالة فهي معاناة لجم اهير من الن اس فيهم الغ ني والفق ير‪ ،‬المه ذب والخش ن‪ ،‬الق وي‬
‫والضعيف‪ ،‬وفيهم وفيهم‪ .‬وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا‪ ،‬وقلوب أهل القص ور‬
‫في الغالب ال تصبر طويال على الخشونة والحرمان والمشقة‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫فلما استكملت نفس موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬تجاربها‪ ،‬وأكملت مرانها‪ ،‬بهذه التجربة األخيرة في‬
‫دار الغرة‪ .‬قادت القدرة اإللهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهب ط رأس ه‪ ،‬ومق ر أهل ه وقوم ه‪،‬‬
‫ع موسى على عين هللا‪ ،‬وكيف تم إعداده لتلقي التكليف‪.‬‬ ‫صنِ َ‬
‫ومجال عمله‪ .‬وهكذا نرى كيف ُ‬

‫عودة موسى لمصر‪:‬‬

‫ترى أي خاطر راود موسى‪ ،‬فعاد به إلى مصر‪ ،‬بعد انقضاء األجل‪ ،‬وقد خ رج منه ا خائف ا ي ترقب؟‬
‫وأنساه الخطر الذي ينتظره بها‪ ،‬وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع المأل من‬
‫قومه ليقتلوه؟‬

‫إنه ا ق درة هللا ال تي تنق ل خط اه كله ا‪ .‬لعله ا قادت ه ه ذه الم رة بالمي ل الفط ري إلى األه ل‬
‫والعشيرة والوطن‪ .‬وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا‪ .‬ليؤدي المهم ة ال تي خل ق‬
‫لها‪.‬‬

‫خرج موسى مع أهله وسار‪ .‬اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظالم‪ .‬اشتد‬
‫البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظالم‪ .‬وتاه موسى أثناء سيره‪ .‬ووقف موس ى‬
‫حائرا يرتعش من البرد وسط أهله‪ ..‬ثم رفع رأس ه فش اهد ن ارا عظيم ة تش تعل عن بع د‪ .‬امتأل‬
‫قلبه بالفرح فجأة‪ .‬قال ألهله‪ :‬أني رأيت نارا هناك‪.‬‬

‫أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر‪ ،‬أو يجد أحدا يسأله عن‬
‫الطريق فيهتدي إليه‪ ،‬أو يحضر إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم‪.‬‬

‫وتحرك موسى نحو النار‪ .‬سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه‪ .‬يده اليمنى تمسك عصاه‪ .‬جسده‬
‫مبلل من المط ر‪ .‬ظ ل يس ير ح تى وص ل إلى واد يس مونه ط وى‪ .‬الح ظ ش يئا غريب ا في ه ذا‬
‫الوادي‪ .‬لم يكن هناك برد وال رياح‪ .‬ثمة صمت عظيم ساكن‪ .‬واق ترب موس ى من الن ار‪ .‬لم يك د‬
‫ين}‪.‬‬
‫م َ‬ ‫ب ا ْل َعالَ ِ‬ ‫حانَ اللَّ ِ‬
‫ه َر ّ ِ‬ ‫ح ْولَ َها َو ُ‬
‫س ْب َ‬ ‫ن َ‬
‫ار َو َم ْ‬
‫ك َمن فِي ال َّن ِ‬ ‫يقترب منها حتى نودي‪{ :‬أَن ُب ِ‬
‫ور َ‬

‫نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء‪ .‬كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الش جرة‪ .‬والمف روض‬
‫أن تتحول الشجرة إلى اللون األس ود وهي تح ترق‪ .‬لكن الن ار تزي د والل ون األخض ر يزي د‪ .‬ك انت‬
‫الشجرة في جبل غربي عن يمينه‪ ،‬وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي طوى‪.‬‬

‫وسى‬
‫ثم ارتجت األرض بالخشوع والرهبة وهللا عز وجل ينادي‪َ :‬يا ُم َ‬

‫فأجاب موسى‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال هللا عز وجل‪ :‬إِنِ ّي أَنَا َربُّ َ‬


‫ك‬

‫ازداد ارتعاش موسى وقال‪ :‬نعم يا رب‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫ط ًوى‬ ‫ك بِا ْل َوا ِد ا ْل ُ‬
‫م َق َّدسِ ُ‬ ‫اخلَ ْع نَ ْعلَ ْي َ‬
‫ك إِنَّ َ‬ ‫قال هللا عز وجل‪َ :‬ف ْ‬

‫انحنى موسى راكعا وجسده كله ينتفض وخلع نعليه‪.‬‬

‫حى (‪ )13‬إِنَّنِي أَنَا اللَّ ُه اَل إِلَ َه إِاَّل أَنَا‬ ‫ما ُيو َ‬ ‫م ْع لِ َ‬ ‫ك َف ْ‬
‫اس َت ِ‬ ‫اخ َت ْر ُت َ‬ ‫عاد الحق سبحانه وتعالى يقول‪َ { :‬وأَنَا ْ‬
‫س َعى (‬ ‫م ا تَ ْ‬ ‫س بِ َ‬‫ل نَ ْف ٍ‬‫ج َزى ُك ُّ‬ ‫خ ِفي َها لِ ُت ْ‬‫ة أَ َكا ُد ُأ ْ‬‫السا َع َة آتِيَ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫صاَل َة لِ ِذك ِْري (‪ )14‬إِنَّ‬ ‫م ال َّ‬ ‫اع ُب ْدنِي َوأَقِ ِ‬
‫َف ْ‬
‫ه َوا ُه َف َت ْر َدى (‪( ...})16‬طه)‪.‬‬ ‫ع َ‬ ‫ن بِ َها َواتَّبَ َ‬‫ن اَل ُي ْؤ ِم ُ‬
‫ك َع ْن َها َم ْ‬ ‫‪ )15‬فَاَل يَ ُ‬
‫ص َّدنَّ َ‬

‫زاد انتفاض جسد موسى وهو يتلقى الوحي اإللهي ويستمع إلى ربه وهو يخاطبه‪.‬‬

‫وسى}‪.‬‬
‫ك َيا ُم َ‬
‫مي ِن َ‬ ‫قال الرحمن الرحيم‪َ { :‬و َما تِ ْل َ‬
‫ك بِيَ ِ‬

‫ازدادت دهشة موس ى‪ .‬إن هللا س بحانه وتع الى ه و ال ذي يخاطب ه‪ ،‬وهللا يع رف أك ثر من ه أن ه‬
‫يمسك عصاه‪ .‬لماذا يسأله هللا إذن إذا كان يعرف أكثر منه؟! ال شك أن هناك حكمة عليا لذلك‪.‬‬

‫ب ُأ ْ‬
‫خ َرى}‪.‬‬ ‫آر ُ‬
‫ي فِي َها َم ِ‬
‫مي َولِ َ‬ ‫ي أَتَ َو َّك ُأ َعلَ ْي َها َوأَ ُ‬
‫هشُّ بِ َها َعلَى غَ َن ِ‬ ‫صا َ‬
‫ي َع َ‬
‫ه َ‬ ‫أجاب موسى‪َ { :‬قا َ‬
‫ل ِ‬

‫قال هللا عز وجل‪{ :‬أَ ْل ِق َها يَا ُم َ‬


‫وسى}‪.‬‬

‫رمى موسى العصا من يده وقد زادت دهشته‪ .‬وفوجئ بأن العصا تتحول فجأة إلى ثعب ان عظيم‬
‫الحجم هائل الجسم‪ .‬وراح الثعبان يتحرك بسرعة‪ .‬ولم يستطع موس ى أن يق اوم خوف ه‪ .‬أحس‬
‫أن بدنه يتزلزل من الخوف‪ .‬فاستدار موسى فزعا وبدأ يجري‪ .‬لم يكد يجري خطوتين حتى ن اداه‬
‫سلُونَ }‪.‬‬
‫م ْر َ‬ ‫خافُ لَ َد َّ‬
‫ي ا ْل ُ‬ ‫ف إِنِ ّي اَل يَ َ‬ ‫وسى اَل تَ َ‬
‫خ ْ‬ ‫هللا‪{ :‬يَا ُم َ‬

‫عاد موسى يستدير ويقف‪ .‬لم تزل العصا تتحرك‪ .‬لم تزل الحية تتحرك‪.‬‬

‫سي َرتَ َها اأْل ُولَى}‪.‬‬


‫ها ِ‬
‫س ُن ِعي ُد َ‬
‫ف َ‬ ‫ها َواَل تَ َ‬
‫خ ْ‬ ‫خذْ َ‬
‫قال هللا سبحانه وتعالى لموسى‪ُ { :‬‬

‫مد موسى يده للحية وهو يرتعش‪ .‬لم يكد يلمسها حتى تحولت في ي ده إلى عص ا‪ .‬ع اد األم ر‬
‫ن‬
‫ك ِم َ‬
‫ح َ‬‫ج َنا َ‬ ‫م إِلَ ْي َ‬
‫ك َ‬ ‫م ْ‬
‫اض ُ‬
‫س و ٍء َو ْ‬
‫ن َغ ْي ِر ُ‬
‫ض اء ِم ْ‬
‫خ ُر ْج بَ ْي َ‬
‫ك تَ ْ‬
‫ج ْيبِ َ‬
‫ك فِي َ‬
‫ك يَ َد َ‬
‫{اس ُل ْ‬
‫ْ‬ ‫اإللهي يصدر له‪:‬‬
‫ب}‪.‬‬
‫ه ِ‬
‫الر ْ‬
‫َّ‬

‫وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتألأل كالقمر‪ .‬زاد انفعال موسى بما يحدث‪ ،‬وض ع‬
‫يده على قلبه كما أمره هللا فذهب خوفه تماما‪..‬‬

‫اطمأن موسى وسكت‪ .‬وأصدر هللا إليه أمرا بعد هاتين المعجزتين ‪-‬معج زة العص ا ومعج زة الي د‪-‬‬
‫أن ي ذهب إلى فرع ون لي دعوه إلى هللا برف ق ولين‪ ،‬وي أمره أن يخ رج ب ني إس رائيل من مص ر‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وأبدى موسى خوفه من فرعون‪ .‬قال إنه قتل منهم نفسا ويخ اف أن يقتل وه‪ .‬توس ل إلى هللا أن‬
‫يرسل معه أخاه هارون‪.‬‬

‫طمأن هللا موسى أنه سيكون معهما يسمع ويرى‪ ،‬وأن فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما‬
‫بسوء‪ .‬أفهم هللا موسى أنه هو الغالب‪ .‬ودعا موسى وابتهل إلى هللا أن يشرح له صدره وييس ر‬
‫أمره ويمنحه القدرة على الدعوة إليه‪ .‬ثم قفل موس ى راجع ا ألهل ه بع د اص طفاء هللا واختي اره‬
‫رسوال إلى فرعون‪ .‬انحدر موسى بأهله قاصدا مصر‪.‬‬

‫يعلم هللا وحده أي أفكار عبرت ذهن موسى وهو يحث خطاه قاص دا مص ر‪ .‬انتهى زم ان التأم ل‪،‬‬
‫وانطوت أيام الراحة‪ ،‬وجاءت األوقات الصعبة أخيرا‪ ،‬وها هو ذا موسى يحمل أمانة الحق ويمض ي‬
‫ليواجه بها بطش أعظم جبابرة عصره وأعتاهم‪ .‬يعلم موسى أن فرعون مصر طاغية‪.‬‬

‫يعلم أنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع‪ .‬يعلم أنه سيقف من دعوته موقف اإلنكار والكبري اء‬
‫والتجاهل‪ .‬لقد أمره هللا تعالى أن يذهب إلى فرعون‪ .‬أن يدعوه بلين ورفق إلى هللا‪.‬‬

‫أوحى هللا لموسى أن فرعون لن يؤمن‪ .‬ليدعه موسى وشأنه‪ .‬ول يركز على إطالق س راح ب ني‬
‫ل‬ ‫ك َفأَ ْر ِ‬
‫س ْ‬ ‫إسرائيل والكف عن تعذيبهم‪ .‬قال تعالى لموسى وهارون‪َ { :‬ف ْأتِيَا ُه َف ُقواَل إِنَّا َر ُ‬
‫س واَل َربِ ّ َ‬
‫م}‪ .‬هذه هي المهمة المحددة‪ .‬وهي مهم ة س وف تص طدم ب آالف‬ ‫ل َواَل ُت َع ِّ‬
‫ذ ْب ُه ْ‬ ‫س َرائِي َ‬
‫َم َع َنا بَنِي إِ ْ‬
‫العقبات‪.‬‬

‫إن فرعون يعذب بني إسرائيل ويستعبدهم ويكلفهم من األعمال ما ال طاقة لهم به‪ ،‬ويستحيي‬
‫نسائهم‪ ،‬ويذبح أبنائهم‪ ،‬ويتصرف فيهم كما لو كانوا ملكا خاصا ورثه مع ملك مصر‪.‬‬

‫يعلم موس ى أن النظ ام المص ري يق وم في بنيان ه األساس ي على اس تعباد ب ني إس رائيل‬


‫واستغالل عملهم وجهدهم وطاقاتهم في الدولة‪ ،‬فهل يفرط الفرعون في بناء الدولة األساسي‬
‫ببس اطة ويس ر؟ ذهبت األفك ار وج اءت‪ ،‬فاختص رت مش قة الطري ق‪ .‬ورف ع الس تار عن مش هد‬
‫المواجهة‪.‬‬

‫مواجهة فرعون‪:‬‬

‫واجه موسى فرعون بلين ورفق كم ا أم ره هللا‪ .‬وحدث ه عن هللا‪ .‬عن رحمت ه وجنت ه‪ .‬عن وج وب‬
‫توحيده وعبادته‪ .‬حاول إيقاظ جوانبه اإلنسانية في الحديث‪.‬‬

‫ألمح إليه أنه يمل ك مص ر‪ ،‬ويس تطيع ل و أراد أن يمل ك الجن ة‪ .‬وك ل م ا علي ه ه و أن يتقي هللا‪.‬‬
‫استمع فرع ون إلى ح ديث موس ى ض جرا ش به ه ازئ وق د تص وره مجنون ا تج رأ على مقام ه‬
‫الس امي‪ .‬ثم س أل فرع ون موس ى م اذا يري د‪ .‬فأج اب موس ى أن ه يري د أن يرس ل مع ه ب ني‬
‫إسرائيل‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى العظيمة‪ ،‬ويطلب إليه ذلك الطلب الكب ير‪.‬‬
‫فآخر عهد فرع ون بموس ى أنهم رب وه في قص ره بع د أن التقط وا تابوت ه‪ .‬وأن ه ه رب بع د قتل ه‬
‫للقبطي الذي وجده يتعارك مع اإلسرائيلي‪.‬‬

‫فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى العظيم ة ال تي يواجه ه به ا‬
‫بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون يذكره بماض يه‪ .‬ي ذكره بتربيت ه ل ه فه ل ه ذا ج زاء التربي ة‬
‫والكرامة التي لقيته ا عن دنا وأنت ولي د؟ لت أتي اآلن لتخ الف ديانتن ا‪ ،‬وتخ رج على المل ك ال ذي‬
‫تربيت في قصره‪ ،‬وتدعوا إلى إله غيره؟!‬

‫ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم‪ .‬فال يتح دث عنه ا بص ريح العب ارة وإنم ا يق ول‬
‫ين} ب رب الع المين ال ذي‬ ‫ن ا ْل َ‬
‫ك افِ ِر َ‬ ‫ت} فعلتك البشعة الشنيعة { َوأَ َ‬
‫نت ِم َ‬ ‫ت َف ْعلَ َت َ‬
‫ك الَّتِي َف َع ْل َ‬ ‫{ َو َف َع ْل َ‬
‫تق ول ب ه الي وم‪ ،‬ف أنت لم تكن وقته ا تتح دث عن رب الع المين! لم تتح دث بش يء عن ه ذه‬
‫الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا األمر العظيم؟!‬

‫وظن فرعون أنه رد على موسى ردا لن يملك معه جوابا‪ .‬إال أن هللا استجاب ل دعاء موس ى من‬
‫ين} فعلت تلك الفعلة وأنا بع د جاه ل‪ ،‬أن دفع‬ ‫ل َف َع ْل ُت َها إِ ًذا َوأَنَا ِم َ‬
‫ن الضَّالِ ّ َ‬ ‫قبل‪ ،‬فانطلق لسانه‪َ { :‬قا َ‬
‫ان دفاع العص بية لق ومي‪ ،‬ال ان دفاع العقي دة ال تي عرفته ا الي وم بم ا أعط اني ربي من الحك ة‪.‬‬
‫ج َعلَنِي‬
‫ُم} على نفس ي‪ .‬فقس م هللا لي الخ ير ف وهب لي الحكم ة { َو َ‬ ‫خ ْف ُتك ْ‬ ‫ُم لَ َّ‬
‫ما ِ‬ ‫ت ِمنك ْ‬ ‫{ َف َف َر ْر ُ‬
‫ين}‪.‬‬‫س ِل َ‬ ‫ن ا ْل ُ‬
‫م ْر َ‬ ‫ِم َ‬

‫ل}‬
‫س َرائِي َ‬ ‫ي أَنْ َعبَّ َّ‬
‫دت بَنِي إِ ْ‬ ‫م ُّن َه ا َعلَ َّ‬
‫ة تَ ُ‬
‫م ٌ‬ ‫ويكمل موسى خطابه لفرعون بنفس القوة‪َ { :‬وتِ ْل َ‬
‫ك نِ ْع َ‬
‫فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إال من جراء استعبادك لبني إسرائيل‪ ،‬وقتل أبن ائهم‪ ،‬مم ا دف ع‬
‫ي‪ .‬فه ل‬ ‫أمي لوضعي في التابوت وإلقاءه في اليم‪ ،‬فتلتقط ه ف أتربى في بيت ك‪ ،‬ال في بيت أب و ّ‬
‫هذا هو ما تمنه علي‪ ،‬وهل هذا هو فضلك العظيم؟!‬

‫ين}‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫ن َو َم ا َربُّ ا ْل َع الَ ِ‬ ‫ل فِ ْر َع ْو ُ‬ ‫عن د ه ذا الح د ت دخل الفرع ون في الح ديث‪َ { ..‬ق ا َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ُنتم مُّوقِ ِن َ‬ ‫ا إن ك ُ‬ ‫م‬
‫ا َب ْي َن ُه َ‬ ‫ض َو َم‬‫ت َواأْل َ ْر ِ‬
‫ما َوا ِ‬
‫َ‬ ‫الس‬
‫َّ‬ ‫ى‪َ { :‬ربُّ‬ ‫ال موس‬ ‫ق‬
‫م ُعونَ }‪.‬‬ ‫َت ِ‬ ‫س‬‫ا‪{ :‬أَاَل تَ ْ‬ ‫ال هازئ‬ ‫ه وق‬ ‫ون لمن حول‬ ‫التفت فرع‬
‫ين}‪.‬‬ ‫َ‬
‫م اأْل َّولِ َ‬‫ائِ ُك ُ‬ ‫ُم َو َربُّ آبَ‬ ‫ون‪َ { :‬ربُّك ْ‬ ‫خرية الفرع‬ ‫اوزا س‬ ‫ى متج‬ ‫ال موس‬ ‫ق‬
‫ل إِلَ ْيك ْ‬
‫ُم‬ ‫س َ‬ ‫ُ‬
‫م الَّ ِذي أ ْر ِ‬ ‫س ولَ ُك ُ‬ ‫قال فرعون مخاطبا من ج اءوا م ع موس ى من ب ني إس رائيل‪{ :‬إِنَّ َر ُ‬
‫ون}‪.‬‬‫ٌ‬ ‫ج ُن‬
‫م ْ‬‫لَ َ‬
‫م‬
‫ُنت ْ‬
‫م ا إِن ك ُ‬ ‫مغ ِْربِ َو َما بَ ْي َن ُه َ‬ ‫ق َوا ْل َ‬‫ش ِر ِ‬ ‫عاد موسى يتجاوز اتهام الفرعون وسخريته ويكمل‪َ { :‬ربُّ ا ْل َ‬
‫م ْ‬
‫تَ ْع ِقلُونَ }‪.‬‬

‫نالحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وه ارون بقص د الس ؤال‬
‫البريء والمعرفة‪ .‬إنما كان يهزأ‪ .‬ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكم ة { َق ا َ‬
‫ل َربُّ َن ا الَّ ِذي‬
‫ه َدى}‪ .‬هو الخالق‪ .‬خالق األجناس جميعا والذوات جميعا‪.‬‬ ‫خ ْل َق ُه ُث َّ‬
‫م َ‬ ‫ي ٍء َ‬
‫ش ْ‬ ‫أَ ْعطَى ُك َّ‬
‫ل َ‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وهو هاديها بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها ألسباب عيش ها‪ .‬وه و الموج ه له ا‬
‫على أي حال‪ .‬وهو الق ابض على ناص يتها في ك ل ح ال‪ .‬وه و العليم به ا والش اهد عليه ا في‬
‫جميع األحوال‪.‬‬

‫ون اأْل ُولَى} لم‬


‫ال ا ْل ُق ُر ِ‬ ‫لم تؤثر هذه العبارة الرائعة والموجزة في فرعون‪ .‬وها هو ذا يسأل‪َ { :‬ف َ‬
‫ما ب َ ُ‬
‫تعبد ربك هذا؟‬

‫لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه‪ .‬ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن الق رون األولى‬
‫التي لم تعبد هللا‪ ،‬والتي عبدته معا‪ ،‬لن تترك بغ ير مس اءلة وج زاء‪ .‬ك ل ش يء معل وم عن د هللا‬
‫عن َد َربِ ّي فِي كِ َت ابٍ}‪ .‬أحص ى هللا م ا عمل وه في كت اب‪{ .‬اَّل‬ ‫ع ْل ُ‬
‫م َها ِ‬ ‫تعالى‪ .‬هذه القرون األولى { ِ‬
‫نسى}‪ .‬أي ال يغيب عن شيء‪ .‬ليطمئن الفرعون ب اال‬ ‫ل َربِ ّي}‪ .‬أي ال يغيب عنه شيء‪َ { .‬واَل يَ َ‬ ‫ض ُّ‬
‫يَ ِ‬
‫من ناحية القرون األولى واألخيرة وما بينهما‪ .‬إن هللا يعرف كل شيء ويس جل عليه ا م ا عملت ه‬
‫وال يضيع شيئا من أجورهم‪.‬‬

‫ثم استلفت موسى نظر فرعون إلى آيات هللا في الكون‪ .‬ودار به مع حركة الرياح والمطر والنبات‬
‫وأوصله مرة ثاني ة إلى األرض‪ ،‬وهن اك افهم ه أن هللا خل ق اإلنس ان من األرض‪ ،‬وس يعيده إليه ا‬
‫بالموت‪ ،‬ويخرجه منه ا ب البعث‪ ،‬إن هن اك بعث ا إذن‪ .‬وس يقف ك ل إنس ان ي وم القيام ة أم ام هللا‬
‫تعالى‪ .‬ال استثناء ألحد‪ .‬سيقف كل عباد هللا وخلقه أمامه يوم القيام ة‪ .‬بم ا في ذل ك الفرع ون‪.‬‬
‫بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا‪.‬‬

‫لم يعجب فرع ون ه ذا الن ذير‪ ،‬وتص اعد الح وار بين ه وبين موس ى‪ .‬فالطغي ان ال يخش ى ش يئا‬
‫كخشيته يقظة الشعوب‪ ،‬وصحوة القلوب؛ وال يكره أحدا كما يكره الداعين إلى ال وعي واليقظ ة؛‬
‫وال ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية‪.‬‬

‫لذلك هاج فرعون على موسى وثار‪ ،‬وأنهى الحوار معه بالتهديد الصريح‪ .‬وهذا هو سالح الطغ اة‬
‫ن‬
‫ك ِم َ‬ ‫ت إِلَ ًه ا َغ ْي ِري أَل َ ْ‬
‫ج َعلَ َّن َ‬ ‫خ ذْ َ‬ ‫ل لَئِ ِ‬
‫ن اتَّ َ‬ ‫عن دما يفتق رون للحج وال براهين والمنط ق‪َ { :‬ق ا َ‬
‫ين}‪.‬‬
‫جونِ َ‬
‫س ُ‬ ‫ا ْل َ‬
‫م ْ‬

‫إال أن موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬لم يفقد رباطة جأش ه‪ .‬كي ف يفق دها وه و رس ول هللا‪ ،‬وهللا مع ه‬
‫ين} فه و‬
‫ي ٍء ُّم ِب ٍ‬
‫ش ْ‬
‫ك بِ َ‬ ‫ل أَ َولَ ْو ِ‬
‫ج ْئ ُت َ‬ ‫ومع أخيه؟ وبدأ اإلقناع بأسلوب جديد‪ ،‬وهو إظهار المعجزة { َقا َ‬
‫يتحدى فرعون‪ ،‬ويحرجه أمام مأله‪ ،‬فلو رفض فرعون اإلصغاء‪ ،‬سيظهر واضحا أنه خائف من حج ة‬
‫ين}‪.‬‬
‫صا ِدقِ َ‬
‫ن ال َّ‬
‫ُنت ِم َ‬ ‫ل َف ْأتِ بِ ِ‬
‫ه إِن ك َ‬ ‫موسى { َقا َ‬

‫ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيم ة‪ .‬لم تك د العص ا تلمس األرض ح تى تح ولت إلى‬
‫ثعبان هائل يتحرك بسرعة‪ .‬ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر‪.‬‬

‫تحدي السحرة‪:‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وتب دأ الجول ة الثاني ة بين الح ق والباط ل‪ .‬حيث ش اور فرع ون المأل من حول ه فيم ا يجب فعل ه‪.‬‬
‫والمأل لهم مصلحة في أن تبقى األمور على ما هي عليه‪ ،‬فهم مقربون من فرعون‪ ،‬ولهم نف وذ‬
‫وسلطان‪ .‬فأشاروا أن يرد على س حر موس ى بس حر مثل ه‪ ،‬فيجم ع الس حرة لتح دي موس ى‬
‫وأخاه‪.‬‬

‫حدد الميقات‪ ،‬وهو يوم الزينة‪ .‬وبدأت حركة إعداد الجماهير وتحميسهم فدعوهم للتجمع وع دم‬
‫التخلف عن الموعد‪ ،‬ليراقبوا فوز السحرة وغلبتهم على موس ى اإلس رائيلي! والجم اهير دائم ا‬
‫تتجمع لمثل هذه األمور‪.‬‬

‫أما السحرة‪ ،‬فقد ذهبوا لفرعون ليطمئنون على األجر والمكافأة إن غلب وا موس ى‪ .‬فهم جماع ة‬
‫مأجورة‪ ،‬تبذل مهارتها مقابل األجر الذي تنتظره؛ وال عالقة له ا بعقي دة وال ص لة له ا بقض ية‪ ،‬وال‬
‫شيء سوى األجر والمصلحة‪ .‬وهم هم أالء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وب راعتهم‬
‫في الخداع‪ .‬وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من األجر‪ .‬يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه‪.‬‬
‫وهو بزعمه الملك واإلله!‬

‫وفي ساحة المواجهة‪ .‬والناس مجتمع ون‪ ،‬وفرع ون ينظ ر‪ .‬حض ر موس ى وأخ اه ه ارون عليهم ا‬
‫السالم‪ ،‬وحضر السحرة وفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل‪ ،‬وكلهم ثقة بفوزهم في هذا‬
‫التحدي‪.‬‬

‫ن أَ ْلقَى} وتتجلى ثقة موسى ‪-‬علي ه‬ ‫ل َم ْ‬ ‫ي َوإِ َّما أَن نَّكُونَ أَ َّو َ‬ ‫لذا بدءوا بتخيير موسى‪{ :‬إِ َّما أَن ُت ْل ِق َ‬
‫ل أَ ْل ُقوا} فرمى السحرة عصيهم وحبالهم بعزة‬ ‫السالم‪ -‬في الجانب اآلخر واستهانته بالتحدي {بَ ْ‬
‫ن ا ْلغَالِ ُبونَ }‪.‬‬‫ح ُ‬‫م َو َقالُوا بِ ِع َّز ِة فِ ْر َع ْونَ إِنَّا لَ َن ْ‬
‫صيَّ ُه ْ‬
‫ع ِ‬‫م َو ِ‬ ‫فرعون { َفأَ ْل َق ْوا ِ‬
‫حبَالَ ُه ْ‬

‫اس‬
‫ِ‬ ‫ن ال َّن‬‫ح ُرو ْا أَ ْع ُي َ‬ ‫{س َ‬
‫َ‬ ‫رمى الس حرة بعص يهم وحب الهم ف إذا المك ان يمتلئ بالثع ابين فج أة‬
‫ج اءوا‬ ‫يم}‪ .‬وحس بنا أن يق رر الق رآن الك ريم أن ه س حر عظيم { َو َ‬ ‫ظ ٍ‬
‫ح ٍر َع ِ‬‫س ْ‬
‫جاءوا بِ ِ‬ ‫م َو َ‬
‫وه ْ‬
‫ه ُب ُ‬
‫اس َت ْر َ‬
‫َو ْ‬
‫اس} وأثاروا الرهبة‬ ‫ِ‬ ‫ن ال َّن‬ ‫َ‬
‫ح ُرو ْا أ ْع ُي َ‬
‫{س َ‬
‫َ‬ ‫يم}‪ ،‬لندرك أي سحر كان‪ .‬وحسبنا أن نعلم أنهم‬ ‫ظ ٍ‬‫ح ٍر َع ِ‬ ‫س ْ‬‫بِ ِ‬
‫م} لنتص ور أي س حر ك ان‪ .‬فنظ ر موس ى علي ه الس الم إلى حب ال‬ ‫وه ْ‬
‫ه ُب ُ‬
‫اس َت ْر َ‬
‫في قل وبهم { َو ْ‬
‫السحرة وعصيهم وشعر بالخوف‪.‬‬

‫في هذه اللحظة‪ ،‬يذكّره ربّه بأن معه القوة الك برى‪ .‬فه و األعلى‪ .‬ومع ه الح ق‪ ،‬أم ا هم فمعهم‬
‫الباطل‪ .‬معه العقيدة ومعهم الحرفة‪ .‬معه اإليمان بصدق ال ذي دفع ه لم ا ه و في ه ومعهم األج ر‬
‫على المباراة ومغانم الحياة‪ .‬موسى متصل بالقوة الكبرى والسحرة يخدمون مخلوقا بشريا فانيا‬
‫مهما يكن طاغية جبارا‪.‬‬

‫ك} وستهزمهم‪ ،‬فهو سحر من تدبير ساحر وعمل ه‪ .‬والس احر ال يفلح‬ ‫مي ِن َ‬ ‫ال تخف { َوأَ ْل ِ‬
‫ق َما فِي َي ِ‬
‫أنى ذهب وفي أي طري ق س ار‪ ،‬ألن ه يعتم د على الخي ال واإليه ام والخ داع‪ ،‬وال يعتم د على‬
‫حقيقة ثابتة باقية‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاه ا‪ .‬لم تك د عص ا موس ى تالمس األرض ح تى وقعت المعج زة‬
‫الكبرى‪ .‬وضخامة المعجزة حولت مش اعر ووج دان الس حرة‪ ،‬ال ذين ج اءوا للمب اراة وهم أح رص‬
‫الناس على الفوز لنيل األجر‪ .‬الذي بلغت ب راعتهم لح د أن يش عر موس ى ب الخوف من عملهم‪.‬‬
‫جداً َق الُوا آ َم َّنا بِ َر ّ ِ‬
‫ب‬ ‫س َّ‬
‫ح َر ُة ُ‬
‫الس َ‬
‫َّ‬ ‫تحولت مشاعرهم بحيث لم يس عفهم الكالم للتعب ير‪َ { :‬ف ُأ ْل ِق َ‬
‫ي‬
‫وسى}‪.‬‬
‫ارونَ َو ُم َ‬
‫ه ُ‬‫َ‬

‫إنه فعل الحق في الضمائر‪ .‬ونور الحق في المشاعر‪ ،‬ولمسة الحق في القل وب المهي أة لتلقي‬
‫الحق والنور واليقين‪ .‬إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم‪ ،‬وم دى م ا يمكن أن يبل غ إلي ه‪.‬‬
‫وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى‪ .‬فهم أعلم إن كان هذا من عمل بشر أو س احر‪ ،‬أو أن ه‬
‫من القدرة التي تفوق قدرة البشر والسحر‪.‬‬

‫والعالم في فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له‪ ،‬ألن ه أق رب إدراك ا‬
‫لهذه الحقيقة‪ ،‬ممن ال يعرفون في هذا الفن إال القش ور‪ .‬ومن هن ا تح ول الس حرة من التح دي‬
‫السافر إلى التسليم المطلق‪ ،‬الذي يجددون برهانه في أنفسهم عن يقين‪.‬‬

‫هزت هذه المفاجأة العرش من تحته‪ .‬مفاجأة استسالم السحرة ‪-‬وهم من كهنة المعابد ‪ -‬ل رب‬
‫العالمين‪ .‬رب موسى وهارون‪ .‬بعد أن تم جمعهم إلبطال دعوة موس ى وه ارون ل رب الع المين!‬
‫وألن العرش والسلطان أهم ش يء في حي ات الط واغيت‪ ،‬فهم مس تعدون الرتك اب أي جريم ة‬
‫في سبيل المحافظة عليهما‪.‬‬

‫ُم} كأنم ا ك ان عليهم أن يس تأذنوه في أن‬ ‫ل أَن آذَنَ لَك ْ‬ ‫ه َق ْب َ‬ ‫تس ائل فرع ون مس تغربا {آ َمن ُتم بِ ِ‬
‫يعودوا للحق‪ .‬لكنه طاغي ة متك بر متج بر أعمى الس لطان عيني ه عن الح ق‪ .‬ويزي د في طغيان ه‬
‫جو ْا ِم ْن َها أَ ْ‬
‫هلَ َها} إن غلبت ه لكم في ي ومكم ه ذا‬ ‫خ ِر ُ‬
‫ة لِ ُت ْ‬ ‫مو ُه فِي ا ْل َ‬
‫م ِدي َن ِ‬ ‫ك ْر ُت ُ‬ ‫هـذَا لَ َ‬
‫مك ٌْر َّم َ‬ ‫فيقول {إِنَّ َ‬
‫إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك‪ ،‬وهو يعلم وكل من له عق ل أن ه ذا ال ذي قال ه من‬
‫أبطل الباطل‪.‬‬

‫م‬
‫َف ُث َّ‬
‫خال ٍ‬
‫ن ِ‬ ‫ُم َوأَ ْر ُ‬
‫جلَكُم ِ ّم ْ‬ ‫ن أَ ْي ِديَك ْ‬ ‫م ونَ } ويتوع د {ألُ َق ِ‬
‫ط ّ َع َّ‬ ‫ف تَ ْعلَ ُ‬
‫س ْو َ‬
‫ويظ ل الطاغي ة يته دد { َف َ‬
‫ين} لكن النفس البش رية حين تس تيقن حقيق ة اإليم ان‪ ،‬تس تعلي على ق وة‬ ‫م ِع َ‬ ‫ُم أَ ْ‬
‫ج َ‬ ‫ألُ َ‬
‫ص ِل ّبَ َّنك ْ‬
‫األرض‪ ،‬وتستهين ببأس الطغاة‪ ،‬وتنتصر فيه ا العقي دة على الحي اة‪ ،‬وتخت ار الخل ود ال دائم على‬
‫الحياة الفانية‪َ { .‬قالُو ْا إِنَّا إِلَى َربِ ّ َنا ُمن َقلِ ُبونَ } إنه اإليمان الذي ال يتزعزع وال يخضع‪.‬‬

‫جاء ْت َنا} فال يطلبون الصفح‬ ‫ما َ‬ ‫م ِم َّنا إِال َّ أَنْ آ َم َّنا بِآيَاتِ َربِ ّ َنا لَ َّ‬
‫ويعلن السحرة حقيقة المعركة { َو َما تَن ِق ُ‬
‫مين}‪.‬‬ ‫ص ْب ًرا َوتَ َو َّف َنا ُم ْ‬
‫س لِ ِ‬ ‫َ‬
‫والعفو من عدوّهم‪ ،‬إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم { َربَّ َنا أف ِْرغْ َعلَ ْي َنا َ‬
‫فيقف الطغيان ع اجزا أم ا ه ذا ال وعي وه ذا االطمئن ان‪ .‬ع اجزا عن رد ه ؤالء المؤم نين لطري ق‬
‫الباطل من جديد‪ .‬فينفذ تهديده‪ ،‬ويصلبهم على جذوع النخل‪.‬‬

‫التآمر على موسى ومن آمن معه‪:‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وتبدأ جولة جدي دة بين الح ق والباط ل‪ .‬فه اهم علي ة الق وم من المص ريين‪ ،‬يت آمرون ويحرض ون‬
‫فرعون ويهيجونه على موس ى ومن آمن مع ه‪ ،‬ويخوّفون ه من عاقب ة الته اون معهم‪ .‬وهم ي رون‬
‫الدعوة إلى ربوبية هللا وحدة إفسادا في األرض‪ .‬حيث يترتب عليها بطالن ش رعية حكم فرع ون‬
‫ونظامه كله‪.‬‬

‫وقد كان فرعون يستمد قوته من ديانتهم الباطلة‪ ،‬حيث كان فرعون ابن اآللهة‪ .‬فإن عبد موسى‬
‫ومن معه هللا رب العالمين‪ ،‬لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم‪ .‬فاستثارت هذه الكلمات فرعون‪،‬‬
‫م‬ ‫ل أَ ْب َن اء ُ‬
‫ه ْ‬ ‫س ُن َق ِتّ ُ‬ ‫وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر { َقا َ‬
‫ل َ‬
‫م َقا ِ‬
‫ه ُرونَ }‪.‬‬ ‫م َوإِنَّا َف ْو َق ُه ْ‬
‫ه ْ‬
‫ساء ُ‬
‫ح ِيـي نِ َ‬
‫س َت ْ‬
‫َونَ ْ‬

‫لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على بني إسرائيل‪ .‬فقد ُن ِ ّف ذ عليهم ه ذا الحكم في إب ان‬
‫مولد موسى عليه السالم‪ .‬فبدأ موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬يوص ي قوم ه باحتم ال الفتن ة‪ ،‬والص بر‬
‫على البلية‪ ،‬واالستعانة باهلل عليها‪.‬‬

‫ل‬‫وأن األرض هلل يورثها من يشاء من عباده‪ .‬والعاقبة لمن يتقي هللا وال يخش ى أح دا س واه { َق ا َ‬
‫عبَ ا ِد ِه َوا ْل َعاقِبَ ُة‬
‫ن ِ‬
‫ش ا ُء ِم ْ‬
‫ور ُث َه ا َمن يَ َ‬
‫ه ُي ِ‬ ‫اص بِ ُرو ْا إِنَّ األ َ ْر َ‬
‫ض لِل ّ ِ‬ ‫اس َت ِعي ُنوا بِالل ّ ِ‬
‫ه َو ْ‬ ‫ه ْ‬‫وس ى لِ َق ْو ِم ِ‬ ‫ُم َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫لِ ْل ُ‬
‫م َّت ِق َ‬

‫ل أَن تَ ْأتِي َن ا َو ِمن بَ ْع ِد َم ا‬


‫إال أن قومه بدءوا يشتكون من العذاب الذي حل بهم { َقالُو ْا ُأو ِذي َنا ِمن َق ْب ِ‬
‫ج ْئ َت َن ا} إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير ش يء‬ ‫ِ‬
‫بمجيئك‪ .‬وطال هذا األذى حتى ما تبدو له نهاية!‬

‫فيمضي الن بي الك ريم على نهج ه‪ .‬ي ذكرهم باهلل‪ ،‬ويعل ق رج اءهم ب ه‪ ،‬ويل وح لهم باألم ل في‬
‫هالك عدوهم‪ .‬واستخالفهم في األرض‪ .‬مع التحذير من فتن ة االس تخالف‪ ،‬فاس تخالف هللا لهم‬
‫ُم‬
‫خلِ َفك ْ‬
‫س َت ْ‬
‫ُم َويَ ْ‬ ‫ُم أَن ُي ْهلِ َ‬
‫ك َع ُد َّوك ْ‬ ‫س ى َربُّك ْ‬ ‫إنما هو ابتالء لهم‪ ،‬فهو استخالف لالمتحان‪َ { :‬ق ا َ‬
‫ل َع َ‬
‫ملُونَ }‪.‬‬ ‫ظ َر َك ْي َ‬
‫ف تَ ْع َ‬ ‫فِي األ َ ْر ِ‬
‫ض َفيَن ُ‬

‫وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من قصة موسى علي ه الس الم‪ .‬ومش هد آخ ر من مش اهد‬
‫المواجهة بين الحق والباطل‪ .‬حيث يحكي لما قصة تشاور فرعون مع المأل في قتل موسى‪.‬‬

‫ظ ِه َر فِي اأْل َ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫ُم أَ ْو أَن ُي ْ‬ ‫ل ِدي َنك ْ‬ ‫خ افُ أَن ُيبَ ِّ‬
‫د َ‬ ‫ع َربَّ ُه إِنِ ّي أَ َ‬
‫وس ى َو ْليَ ْد ُ‬ ‫ن ذ َُرونِي أَ ْق ُت ْ‬
‫ل ُم َ‬ ‫{ َو َقا َ‬
‫ل فِ ْر َع ْو ُ‬
‫سا َد} أما موسى علي ه الس الم فالتج أ إلى ال ركن ال ركين‪ ،‬والحص ن الحص ين‪ ،‬والذ بح امي‬ ‫ا ْل َف َ‬
‫ن بِيَ ْو ِم‬ ‫ل ُم َت َ‬
‫ك ِب ّ ٍر اَّل ُي ْؤ ِم ُ‬ ‫ت بِ َربِ ّي َو َربِ ّكُم ِ ّمن ُك ِ ّ‬
‫وسى إِنِ ّي ُعذْ ُ‬ ‫ل ُم َ‬ ‫الالئذين‪ ،‬ومجير المستجيرين { َو َقا َ‬
‫سابِ}‪.‬‬ ‫ح َ‬ ‫ا ْل ِ‬

‫موقف الرجل المؤمن من آل فرعون‪:‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫كادت فك رة فرع ون أن تحص ل على التص ديق ل وال رج ل من آل فرع ون‪ .‬رج ل من رج ال الدول ة‬
‫الكبار‪ ،‬ال يذكر القرآن اسمه‪ ،‬ألن اسمه ال يهم‪ ،‬لم يذكر ص فته أيض ا ألن ص فته ال تع ني ش يئا‪،‬‬
‫إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن‪ .‬ذكره بالصفة التي ال قيمة ألي صفة بعدها‪.‬‬

‫مانَ ُه}‪ ،‬تحدث في االجتماع الذي طرحت فيه فكرة قت ل‬ ‫تحدث هذا الرجل المؤمن‪ ،‬وكان {يَ ْك ُت ُ‬
‫م إِي َ‬
‫موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها‪.‬‬

‫قال إن موسى لم يقل أكثر من أن هللا ربه‪ ،‬وجاء بعد ذل ك باألدل ة الواض حة على كون ه رس وال‪،‬‬
‫وهناك احتماالن ال ثالث لهما‪ :‬أن يكون موس ى كاذب ا‪ ،‬أو يك ون ص ادقا‪ ،‬ف إذا ك ان كاذب ا { َف َعلَ ْي ِ‬
‫ه‬
‫َك ِذ ُب ُه}‪ ،‬وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله‪ .‬وإذا كان ص ادقا وقتلن اه‪ ،‬فم ا ه و الض مان من‬
‫نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟‬

‫تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه‪ :‬إننا اليوم في مراكز الحكم والق وة‪ .‬من ينص رنا من‬
‫بأس هللا إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا‪.‬‬

‫وبدت كلمات ه مقنع ة‪ .‬إن ه رج ل ليس متهم ا في والئ ه لفرع ون‪ .‬وه و ليس من أتب اع موس ى‪.‬‬
‫والمفروض أنه يتكلم ب دافع الح رص على ع رش الفرع ون‪ .‬وال ش يء يس قط الع روش كالك ذب‬
‫واإلسراف وقتل األبرياء‪.‬‬

‫ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل الم ؤمن قوته ا‪ .‬بالنس بة إلى فرع ون ووزرائ ه ورجال ه‪.‬‬
‫ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى‪ ،‬صريعة على المائدة‪ .‬رغم تخوي ف الرج ل الم ؤمن‬
‫لفرعون‪.‬‬

‫ن َما ُأ ِريك ْ‬
‫ُم‬ ‫رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثال بعده لكل الطغاة‪َ { :‬قا َ‬
‫ل فِ ْر َع ْو ُ‬
‫شا ِد}‪.‬‬
‫الر َ‬
‫ل َّ‬ ‫ُم إِاَّل َ‬
‫س ِبي َ‬ ‫إِاَّل َما أَ َرى َو َما أَ ْ‬
‫ه ِديك ْ‬

‫ُم إِاَّل َم ا أَ َرى}‪ .‬ه ذا رأين ا الخ اص‪ ،‬وه و‬


‫هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم { َم ا ُأ ِريك ْ‬
‫رأي يهديكم سبيل الرشاد‪ .‬وكل رأي غيره خاطئ‪ .‬وينبغي الوقوف ضده واستئصاله‪.‬‬

‫لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد‪ .‬قال فرعون كلمته ولكنه لم يقن ع به ا الرج ل الم ؤمن‪ .‬وع اد‬
‫ذرهم من‬ ‫الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ‪ ،‬أدلة كافية على صدق موسى‪ .‬وح ّ‬
‫المساس به‪ .‬لقد سبقتهم أمم كفرت برسلها‪ ،‬فأهلكها هللا‪ :‬قوم نوح‪ ،‬قوم عاد‪ ،‬قوم ثمود‪.‬‬

‫ثم ذكّرهم بتاريخ مص ر نفس ه‪ .‬ذكّ رهم بيوس ف علي ه الس الم حين ج اء بالبين ات‪ ،‬فش ك في ه‬
‫الناس ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم‪ ،‬ما الغرابة في إرسال هللا للرسل؟ إن التاريخ‬
‫القديم ينبغي أن يكون موضع نظر‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫لقد انتصرت القلة المؤمنة حين أصبحت مؤمنة على الكثرة الكافرة‪ .‬وسحق هللا تعالى الكافرين‪.‬‬
‫أغرقهم بالطوفان‪ ،‬وصعقهم بالص رخة‪ .‬أو خس ف بهم األرض‪ .‬م اذا ننتظ ر إذن؟ ومن أين نعلم أن‬
‫وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟‬

‫كان حديث الرجل المؤمن ينطوي على عديد من التحذيرات المخيفة‪ .‬ويبدو أن ه أقن ع الحاض رين‬
‫بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب‪ .‬وبالتالي فال داعي لها‪.‬‬

‫إال أن الطاغية فرعون حاول مرة أخرى المحاورة والتمويه‪ ،‬كي ال يواجه الح ق جه رة‪ ،‬وال يع ترف‬
‫بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه‪ .‬وبعيد عن احتمال أن يك ون ه ذا فهم فرع ون وإدراك ه‪ .‬فطلب‬
‫أن يبنى له بناء عظيم‪ ،‬يصعد عليه ل يرى إل ه موس ى ال ذي يدعي ه‪ .‬وبعي دا أن يك ون ج ادا في‬
‫البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج‪ .‬وقد بل غ فراعن ة مص ر من الثقاف ة ح دا‬
‫يبعد معه هذا التصور‪ .‬وإنما هو االستهتار والس خرية من جه ة‪ .‬والتظ اهر باإلنص اف والتثبت من‬
‫جهة أخرى‪.‬‬

‫ل‬ ‫بعد هذا االستهتار‪ ،‬وهذا اإلص رار‪ ،‬ألقى الرج ل الم ؤمن كلمت ه األخ يرة مدوي ة ص ريحة‪َ { :‬و َق ا َ‬
‫ع َوإِنَّ‬‫حيَ ا ُة ال ُّد ْنيَا َم َت ا ٌ‬‫ه ِذ ِه ا ْل َ‬ ‫ما َ‬ ‫ش ا ِد (‪ )38‬يَ ا َق ْو ِم إِنَّ َ‬ ‫ل ال َّر َ‬ ‫س بِي َ‬ ‫ُم َ‬ ‫ه ِدك ْ‬ ‫ون أَ ْ‬ ‫ن يَا َق ْو ِم اتَّبِ ُع ِ‬ ‫الَّ ِذي آ َم َ‬
‫َ‬
‫حا ِ ّمن َذ َك ٍر أ ْو ُأنثَى‬ ‫صالِ ً‬‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ن َع ِ‬ ‫ج َزى إِاَّل ِم ْثلَ َها َو َم ْ‬ ‫س ِي ّ َئ ًة فَاَل ُي ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ن َع ِ‬ ‫ار (‪َ )39‬م ْ‬ ‫ار ا ْل َق َر ِ‬ ‫اآْل ِ‬
‫ي َد ُ‬ ‫ه َ‬‫خ َر َة ِ‬
‫ُم إِلَى‬ ‫َ‬
‫س ابٍ (‪َ )40‬ويَ ا َق ْو ِم َم ا لِي أ ْد ُع وك ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ج َّن َة ُي ْر َز ُق ونَ فِي َه ا بِ َغ ْي ِر ِ‬ ‫خلُونَ ا ْل َ‬ ‫ك َي ْد ُ‬ ‫ن َف ُأ ْولَئِ َ‬‫ه َو ُم ْؤ ِم ٌ‬‫َو ُ‬
‫م َوأَنَ ا‬ ‫ع ْل ٌ‬‫ه ِ‬ ‫س لِي بِ ِ‬ ‫ه َم ا لَ ْي َ‬ ‫ك بِ ِ‬ ‫ش ِر َ‬ ‫ه َو ُأ ْ‬‫ار (‪ )41‬تَ ْد ُعونَ ِني أِل َ ْك ُف َر بِاللَّ ِ‬ ‫ج ا ِة َوتَ ْد ُعونَ ِني إِلَى ال َّن ِ‬ ‫ال َّن َ‬
‫خ َر ِة‬ ‫س لَ ُه َد ْع َو ٌة فِي ال ُّد ْنيَا َواَل فِي اآْل ِ‬ ‫ه لَ ْي َ‬ ‫ما تَ ْد ُعونَنِي إِلَ ْي ِ‬ ‫م أَنَّ َ‬‫ج َر َ‬‫ار (‪ )42‬اَل َ‬ ‫ُم إِلَى ا ْل َع ِز ِ‬
‫يز ا ْل َغ َّف ِ‬ ‫أَ ْد ُعوك ْ‬
‫ض أَ ْم ِري‬ ‫ُم َو ُأ َف ِوّ ُ‬
‫ل لَك ْ‬ ‫س َتذْ ك ُُرونَ َما أَقُو ُ‬ ‫ار (‪َ )43‬ف َ‬ ‫اب ال َّن ِ‬
‫ح ُ‬ ‫ص َ‬ ‫م أَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ين ُ‬ ‫س ِرفِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َوأَنَّ ا ْل ُ‬ ‫َوأَنَّ َم َر َّدنَا إِلَى اللَّ ِ‬
‫ير بِا ْل ِعبَا ِد (‪( ...})44‬غافر)‪.‬‬ ‫ص ٌ‬ ‫ه إِنَّ اللَّ َه بَ ِ‬ ‫إِلَى اللَّ ِ‬

‫أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة‪ .‬بع دها انص رف‪ .‬انص رف فتح ول الجالس ون‬
‫من موسى إليه‪ .‬بدءوا يمكرون للرجل المؤمن‪ .‬بدءوا يتحدثون عما صدر منه‪ .‬فتدخلت عناي ة هللا‬
‫وء ا ْل َعذَابِ} وأنجته من فرعون وجنوده‪.‬‬
‫س ُ‬‫ل فِ ْر َع ْونَ ُ‬ ‫ح َ‬
‫اق بِآ ِ‬ ‫س ِي ّئَاتِ َما َم َ‬
‫ك ُروا َو َ‬ ‫تعالى { َف َو َقا ُه اللَّ ُه َ‬

‫ابتالء هللا أهل مصر‪:‬‬

‫أما حال مصر في تلك الفترة‪ .‬فلقد مضى فرع ون في تهدي ده‪ ،‬فقت ل الرج ال واس تحيا النس اء‪.‬‬
‫وظل موسى وقومه يحتملون العذاب‪ ،‬ويرجون فرج هللا‪ ،‬ويصبرون على االبتالء‪.‬‬

‫ديه‪ .‬فتدخلت قوة هللا س بحانه وتع الى‪ ،‬وش اء هللا تع الى أن يش دد‬
‫وظل فرعون في ظالله وتح ّ‬
‫على آل فرعون‪ .‬ابتالء لهم وتخويف ا‪ ،‬ولكي يص رفهم عن الكي د لموس ى ومن آمن مع ه‪ ،‬وإثبات ا‬
‫لنبوة موسى وصدقه في الوقت نفسه‪ .‬وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫أجدبت األرض وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس‪ ،‬واشتد القح ط‪ .‬لكن آل فرع ون لم ي دركوا‬
‫العالقة بين كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعب اد هللا‪ .‬فأخ ذوا يعلل ون األس باب‪ .‬فعن دما‬
‫تصيبهم حسنة‪ ،‬يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها‪ .‬وإن أصابتهم سيئة قالوا هي‬
‫من شؤم موسى ومن معه عليهم‪ ،‬وأنها من تحت رأسهم!‬

‫وأخذتهم العزة باإلثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قح ط‪ .‬وص ور لهم‬
‫حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم‪ ،‬آية ج اء به ا موس ى ليس حرهم به ا‪ ،‬وهي آي ة لن‬
‫يؤمنوا بها مهما حدث‪.‬‬

‫فش دد هللا عليهم لعلهم يرجع ون إلى هللا‪ ،‬ويطلق ون ب ني إس رائيل ويرس لونهم مع ه‪ .‬فأرس ل‬
‫عليهم الطوفان‪ ،‬والج راد‪ ،‬والقم ل ‪-‬وه و الس وس‪ -‬والض فادع‪ ،‬وال دم‪ .‬وال ي ذكر الق رآن إن ك انت‬
‫جملة واحدة‪ ،‬أم واحدة تلو األخرى‪.‬‬

‫وتذكر بعض الروايات أنها جاءت متتالية وحدة تل و األخ رى‪ .‬إال أن المهم ه و طلب آل فرع ون من‬
‫موسى أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البالء‪ .‬وبعدونه في كل مرة أن يرسلوا بني إس رائيل‬
‫ت َع َّنا‬ ‫ك لَئِن َك َ‬
‫ش ْف َ‬ ‫عن َد َ‬
‫م ا َع ِه َد ِ‬ ‫ع لَ َنا َربَّ َ‬
‫ك بِ َ‬ ‫إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البالء { َقالُو ْا يَا ُم َ‬
‫وسى ا ْد ُ‬
‫ل}‪.‬‬
‫س َرآئِي َ‬
‫ك بَنِي إِ ْ‬ ‫سلَ َّ‬
‫ن َم َع َ‬ ‫ك َولَ ُن ْر ِ‬
‫ن لَ َ‬
‫ج َز لَ ُن ْؤ ِم َن َّ‬
‫الرّ ْ‬
‫ِ‬

‫فكان موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬يدعو هللا ب أن يكش ف عنهم الع ذاب‪ .‬وم ا أن ينكش ف البالء ح تى‬
‫هم بَ الِ ُغو ُه إِذَا‬
‫ل ُ‬ ‫ج َز إِلَى أَ َ‬
‫ج ٍ‬ ‫الرّ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ش ْف َنا َع ْن ُه ُ‬ ‫ينقضون عهدهم‪ ،‬ويعودون إلى ما كانوا فيه { َفلَ َّ‬
‫ما َك َ‬
‫م يَن ُك ُثونَ }‪.‬‬
‫ه ْ‬
‫ُ‬

‫لم يهتد المصريون‪ ،‬ولم يوفوا بعهودهم‪ ،‬بل على العكس من ذل ك‪ .‬خ رج فرع ون لقوم ه‪ ،‬وأعلن‬
‫أنه إله‪ .‬أليس له ملك مصر‪ ،‬وهذه األنهار تجري من تحته‪ ،‬أعلن أن موسى ساحر ك ذاب‪ .‬ورج ل‬
‫فقير ال يرتدي أسورة واحدة من الذهب‪.‬‬

‫ف َق ْو َم ُه َفأَطَ ُ‬
‫اعو ُه}‪ .‬اس تخف بعق ولهم‪.‬‬ ‫خ َّ‬ ‫ويعب ّ ر الق رآن الك ريم عن أم ر فرع ون وقوم ه‪َ { :‬ف ْ‬
‫اس َت َ‬
‫واستخف بحريتهم‪ .‬واستخف بمستقبلهم‪ .‬واس تخف ب آدميتهم‪ .‬فأط اعوه‪ .‬أليس ت ه ذه طاع ة‬
‫غريب ة‪ .‬تنمحي الغراب ة حين نعلم أنهم ك انوا قوم ا فاس قين‪ .‬إن الفس ق يص رف اإلنس ان عن‬
‫االلتفات لمستقبله ومصالحه وأموره‪ ،‬ويورده الهالك‪ .‬وذلك ما وقع لقوم فرعون‪.‬‬

‫خروج بني إسرائيل من مصر‪:‬‬

‫بدا واض حا أن فرع ون لن ي ؤمن لموس ى‪ .‬ولن يك ف عن تعذيب ه لب ني إس رائيل‪ ،‬ولن يك ف عن‬
‫استخفافه بقومه‪ .‬هنالك دعا موسى وهارون على فرعون‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫ك‬ ‫ض لُّو ْا َعن َ‬
‫س بِيلِ َ‬ ‫ت فِ ْر َع ْونَ َو َمأل ُه ِزي َن ًة َوأَ ْم َواال ً فِي ا ْل َ‬
‫حيَا ِة ال ُّد ْنيَا َربَّ َن ا لِ ُي ِ‬ ‫ك آتَ ْي َ‬ ‫وسى { َربَّ َنا إِنَّ َ‬ ‫ل ُم َ‬ ‫َو َقا َ‬
‫ل َق ْد‬‫م (‪َ )88‬ق ا َ‬ ‫َاب األَلِي َ‬
‫ح َّتى يَ َر ُو ْا ا ْل َع ذ َ‬ ‫اش ُد ْد َعلَى ُقلُوبِ ِه ْ‬
‫م َفال َ ُي ْؤ ِم ُنو ْا َ‬ ‫م َو ْ‬ ‫س َعلَى أَ ْم َوالِ ِه ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َربَّ َنا ا ْ‬
‫ط ِ‬
‫مونَ (‪( ...})89‬يونس)‪.‬‬ ‫ين ال َ يَ ْعلَ ُ‬ ‫ل الَّ ِذ َ‬
‫سبِي َ‬ ‫ن َ‬ ‫ما َوال َ تَ َّتبِ َعآ ِّ‬ ‫اس َت ِقي َ‬ ‫ما َف ْ‬ ‫جيبَت َّد ْع َو ُت ُك َ‬ ‫ُأ ِ‬

‫لم يكن قد آمن مع موس ى فري ق من قوم ه‪ .‬ف انتهى األم ر‪ ،‬وأوحي إلى موس ى أن يخ رج من‬
‫مصر مع بني إسرائيل‪ .‬وأن يكور رحيلهم ليال‪ ،‬بع د ت دبير وتنظيم ألم ر الرحي ل‪ .‬ونب أه أن فرع ون‬
‫سيتبعهم بجنده؛ وأم ره أن يق وم قوم ه إلى س احل البح ر (وه و في الغ الب عن د التق اء خليج‬
‫السويس بمنطقة البحيرات)‪.‬‬

‫وبلغت األخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج‪ .‬فأرسل أوامره في مدن المملكة لحش د‬
‫جيش عظيم‪ .‬ليدرك موسى وقومه‪ ،‬ويفسد عليهم تدبيرهم‪ .‬أعلن فرعون التعبئة العامة‪ .‬وه ذا‬
‫من شأنه أن يشكل صورة في األذهان‪ ،‬أن موسى وقومه يشكلون خطرا فعلى فرع ون وملك ه‪،‬‬
‫فيكف يكون إلها من يخشى فئة صغيرا يعبدون إله آخر؟!‬

‫ة‬ ‫ه ُؤاَل ء لَ ِ‬
‫ش ْر ِذ َم ٌ‬ ‫لذلك كان البد من تهوين األمر وذل ك بتقلي ل ش أن ق وم موس ى وحجمهم {إِنَّ َ‬
‫َقلِيلُونَ } لكننا نطاردهم ألنهم أغاظونا‪ ،‬وعلى أي حال‪ ،‬فنحن حذرون مستعدون ممسكون بزمام‬
‫األمور‪.‬‬

‫وق ف موس ى أم ام البح ر‪ .‬وب دا جيش الفرع ون يق ترب‪ ،‬وظه رت أعالم ه‪ .‬وامتأل ق وم موس ى‬
‫بالرعب‪ .‬كان الموقف حرجا وخطيرا‪ .‬إن البحر أمامهم والعدو ورائهم وليس معهم س فن أو أدوات‬
‫لعب ور البح ر‪ ،‬كم ا ليس ت أم امهم فرص ة واح دة للقت ال‪ .‬إنهم مجموع ة من النس اء واألطف ال‬
‫والرجال غير المسلحين‪ .‬سيذبحهم فرعون عن آخرهم‪.‬‬

‫صرخت بعض األصوات من قوم موسى‪ :‬سيدركنا فرعون‪.‬‬

‫ين}‪.‬‬
‫سيَ ْه ِد ِ‬ ‫قال موسى‪{ :‬كَاَّل إِنَّ َم ِع َ‬
‫ي َربِ ّي َ‬

‫لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة‪ ،‬لكن قلب ه ك ان ممتلئ ا بالثق ة برب ه‪ ،‬واليقين بعون ه‪،‬‬
‫والتأكد من النجاة‪ ،‬فاهلل ه و اللي يوجه ه ويرع اه‪ .‬وفي اللحظ ة األخ يرة‪ ،‬يجيء ال وحي من هللا‬
‫ل فِ ْرقٍ‬
‫ك انَ ُك ُّ‬ ‫ح َر} فضربه‪ ،‬فوقعت المعجزة { َف ان َفلَ َ‬
‫ق َف َ‬ ‫ك ا ْلبَ ْ‬
‫صا َ‬
‫ض ِرب بِ ّ َع َ‬ ‫وسى أَ ِ‬
‫نا ْ‬ ‫ح ْي َنا إِلَى ُم َ‬‫{ َفأَ ْو َ‬
‫يم } وتحققه المستحيل في منطق الناس‪ ،‬لكن هللا إن أراد شيئا قال له كن فيكون‪.‬‬ ‫َكالطَّ ْو ِد ا ْل َع ِ‬
‫ظ ِ‬

‫ووصل فرعون إلى البحر‪ .‬شاهد هذه المعجزة‪ .‬ش اهد في البح ر طريق ا يابس ا يش قه نص فين‪.‬‬
‫فأمر جيش ه بالتق دم‪ .‬وحين انتهى موس ى من عب ور البح ر‪ .‬وأوحى هللا إلى موس ى أن ي ترك‬
‫جن ٌد ُّم ْغ َرقُونَ }‪.‬‬
‫م ُ‬
‫ه ًوا إِنَّ ُه ْ‬ ‫ك ا ْلبَ ْ‬
‫ح َر َر ْ‬ ‫البحر على حاله { َوا ْت ُر ْ‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وكان هللا تعالى قد شاء إغراق الفرعون‪ .‬فما أن ص ار فرع ون وجن وده في منتص ف البح ر‪ ،‬ح تى‬
‫أصدر هللا أمره‪ ،‬فانطبقت األمواج على فرعون وجيشه‪ .‬وغرق فرعون وجيشه‪ .‬غرق العن اد ونج ا‬
‫اإليمان باهلل‪.‬‬

‫ه بَ ُن و‬ ‫نت أَنَّ ُه ال إِلِـ َه إِال َّ الَّ ِذي آ َم َن ْ‬


‫ت بِ ِ‬ ‫ولم ا ع اين فرع ون الغ رق‪ ،‬ولم يع د يمل ك النج اة { َق ا َ‬
‫ل آ َم ُ‬
‫ين} سقطت عنه ك ل األقنع ة الزائف ة‪ ،‬وتض ائل‪ ،‬فلم يكتفي ب أن يعلن‬ ‫م َ‬
‫سلِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ل َوأَنَ ْا ِم َ‬
‫ن ا ْل ُ‬ ‫س َرائِي َ‬
‫إِ ْ‬
‫ين} لكن بال فائ دة‪ ،‬فليس اآلن وقت اختي ار‪ ،‬بع د‬ ‫م َ‬ ‫سلِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ا ْل ُ‬ ‫َ‬
‫إيمانه‪ ،‬بل واالستسالم أيضا { َوأنَ ْا ِم َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫س ِد َ‬‫م ْف ِ‬ ‫ن ا ْل ُ‬
‫ُنت ِم َ‬
‫ل َوك َ‬ ‫ت َق ْب ُ‬‫ص ْي َ‬‫أن سبق العصيان واالستكبار {آآلنَ َو َق ْد َع َ‬

‫انتهى وقت التوبة المح دد ل ك وهلكت‪ .‬انتهى األم ر وال نج اة ل ك‪ .‬س ينجو جس دك وح ده‪ .‬لن‬
‫تأكله األسماك‪ ،‬ولين يحمله التيار بعيدا عن الناس‪ ،‬بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك‪.‬‬

‫ن آيَاتِ َن ا لَ َغ افِلُونَ ( ‪...})92‬‬


‫اس َع ْ‬
‫ِ‬ ‫ك آيَ ًة َوإِنَّ َك ِث ي ًرا ِ ّم َ‬
‫ن ال َّن‬ ‫خ ْل َف َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ك لِ َت ُك ونَ لِ َ‬
‫ك بِبَ َدنِ َ‬
‫جي َ‬
‫م ُن َن ّ ِ‬‫{ َف ا ْليَ ْو َ‬
‫(يونس)‪.‬‬

‫أسدل الستار على طغيان الفرعون‪ .‬ولفظت األمواج جثته إلى الشاطئ‪ .‬بعد ذل ك‪ .‬ن زل الس تار‬
‫تماما عن المصريين‪ .‬لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم‪ .‬فك ان خ روجهم ه ذا‬
‫هو األخير‪ .‬وكان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز؛ فلم يع ودوا بع دها له ذا‬
‫النعيم!‬

‫ال يحدثنا القرآن الكريم عما فعل ه من بقى من المص ررين في مص ر بع د س قوط نظ ام الفرع ون‬
‫وغرقه مع جيشه‪ .‬ال يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر هللا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا‬
‫يشيدون‪ .‬يسكت السياق القرآني عنهم‪ .‬ويستبعدهم تماما من التاريخ واألحداث‪.‬‬

‫نفسية بني إسرائيل الذليلة‪:‬‬

‫قد مات فرعون مصر‪ .‬غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل‪ .‬ورغم موته‪ ،‬فقد ظ ل أث ره باقي ا‬
‫في نفوس المصريين وبني إسرائيل‪ .‬من الصعب على سنوات القهر الطويل ة وال ذل المكث ف أن‬
‫تمر على نفوس الناس مر الكرام‪ .‬لقد عوّد فرع ون ب ني إس رائيل ال ذل لغ ير هللا‪ .‬ه زم أرواحهم‬
‫وأفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذابا شديدا بالعناد والجهل‪.‬‬

‫كانت معجزة شق البحر لم تزل طرية في أذهانهم‪ ،‬حين مروا على قوم يعب دون األص نام‪ .‬وب دال‬
‫من أن يظه روا اس تيائهم له ذا الظلم للعق ل‪ ،‬ويحم دوا هللا أن ه داهم لإليم ان‪ .‬ب دال من ذل ك‬
‫التفتوا إلى موسى وطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل هؤالء الناس‪.‬‬

‫أدركتهم الغيرة لمرأى األصنام‪ ،‬ورغبوا في مثلها‪ ،‬وعاودهم الحنين ألي ام الش رك القديم ة ال تي‬
‫عاشوها في ظل فرعون‪ .‬واستلفتهم موسى إلى جهلهم هذا‪ ،‬وبيّن لهم أن عمل هؤالء باط ل‪،‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وأن هللا فضل بني إسرائيل على العالمين فكيف يجحد هذا التفضيل ويجعل لهم ص نما يعبدون ه‬
‫من دون هللا‪ .‬ثم ذكّرهم بفرعون وعذابه لهم‪ ،‬وكيف أن هللا نجاهم منه‪ ،‬فكيف بعد ذلك يشركون‬
‫باهلل ماال يضر وال ينفع‪.‬‬

‫موعد موسى لمالقاة ربه‪:‬‬

‫انتهت المرحلة األولى من مهمة موسى عليه الس الم‪ ،‬وهي تخليص ب ني إس رائيل من حي اة‬
‫الذل والتعذيب على يد فرعون وجنده‪ .‬والسير بهم إلى الديار المقدسة‪.‬‬

‫لكن القوم لم يكونوا على استعداد للمهمة الكبرى‪ ،‬مهم ة الخالف ة في األرض ب دين هللا‪ .‬وك ان‬
‫االختبار األول أكبر دليل على ذلك‪ .‬فما أن رأوا قوما يعبدون صنما‪ ،‬حتى اه تزت عقي دة التوحي د‬
‫في نفوسهم‪ ،‬وطلبوا من موسى أن يجعل لهم وثنا يعبدوه‪.‬‬

‫فكان ال بد من رسالة مفصلة لتربية هذه األمة وإعدادها لم ا هم مقبل ون علي ه‪ .‬من أج ل ه ذه‬
‫الرسالة كانت مواعدة هللا لعب ده موس ى ليلق اه‪ .‬وك انت ه ذه المواع دة إع داد لنفس موس ى‬
‫ليتهيأ للموقف الهائل العظيم‪ .‬فاستخلف في قومه أخاه هارون عليه السالم‪.‬‬

‫كانت فترة اإلعداد ثالثين ليلة‪ ،‬أضيف إليها عشر‪ ،‬فبلغت عدتها أربعين ليلة‪ .‬يروض موسى فيه ا‬
‫نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل األرض؛ فتصفو روحه وتتقوى عزيمته‪.‬‬

‫ويذكر ابن كثير في تفسيره عن أمر هذه الليالي‪( :‬فذكر تع الى أن ه واع د موس ى ثالثين ليل ة؛‬
‫قال المفسرون‪ :‬فصامها موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬وطواها‪ ،‬فلما تم الميقات استاك بلحاء ش جرة‪،‬‬
‫فأمره هللا تعالى أن يكمل العشرة أربعين)‪.‬‬

‫كان موسى بصومه ‪-‬أربعين ليلة‪ -‬يقترب من ربه أكثر‪ .‬وكان موسى بتكليم هللا له يزداد حب ا في‬
‫ربه أكثر‪ .‬فطلب موسى أن يرى هللا‪ .‬ونحن ال نعرف أي مش اعر ك انت تجيش في قلب موس ى‬
‫عليه الصالة والسالم حين سأل ربه الرؤية‪ .‬أحيانا كثيرة ي دفع الحب البش ري الن اس إلى طلب‬
‫المستحيل‪.‬‬

‫فم ا بال ك ب الحب اإللهي‪ ،‬وه و أص ل الحب؟ إن عم ق إحس اس موس ى برب ه‪ ،‬وحب ه لخالق ه‪،‬‬
‫واندفاعه الذي لم يزل يميز شخصيته‪ .‬دفعه هذا كله إلى أن يسأل هللا الرؤية‪.‬‬

‫ل لَن تَ َرانِي}‪.‬‬
‫وجاءه رد الحق عز وجل‪َ { :‬قا َ‬

‫ولو أن هللا تبارك وتعالى قالها ولم يزد عليها شيئا‪ ،‬لكان هذا عدال منه سبحانه‪ ،‬غير أن الموق ف‬
‫هنا موقف حب إلهي من جانب موسى‪ .‬موقف اندفاع يبرره الحب ولهذا أدركت رحمة هللا تعالى‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫موسى‪ .‬أفهمه أنه لن يراه‪ ،‬ألن أحدا من الخلق ال يصمد لنور هللا‪ .‬أمره أن ينظر إلى الجبل‪ ،‬ف إن‬
‫استقر مكانه فسوف يراه‪.‬‬

‫ج َعلَ ُه‬
‫ل َ‬ ‫جلَّى َربُّ ُه لِ ْل َ‬
‫جبَ ِ‬ ‫ف تَ َرانِي َفلَ َّ‬
‫ما تَ َ‬ ‫س ْو َ‬
‫كانَ ُه َف َ‬
‫اس َت َق َّر َم َ‬
‫ن ْ‬‫ل َف ِإ ِ‬ ‫ظ ْر إِلَى ا ْل َ‬
‫جبَ ِ‬ ‫ن ان ُ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬ولَـكِ ِ‬
‫ص ِع ًقا}‬
‫موسى َ‬ ‫َ‬ ‫َد ًكّا َو َ‬
‫خ َّر‬

‫ك الجبل‪ ،‬وصار مسوّى في األرض‪ .‬وسقط موسى مغشيا علي ه غائب ا‬ ‫ال يصمد لنور هللا أحد‪ .‬فد ّ‬
‫عن وعيه‪ .‬فلما أفاق قال سبحانك تنزهت وتعاليت عن أن ت رى باألبص ار وت درك‪ .‬وتبت إلي ك عن‬
‫تجاوزني للمدى في سؤالك! وأنا أول المؤمنين بك وبعظمتك‪.‬‬

‫ثم تتداركه رحمة ربه من جديد‪ .‬فيتلقى موسى ‪ -‬عليه الس الم ‪ -‬البش رى‪ .‬بش رى االص طفاء‪.‬‬
‫اص طَ َف ْي ُت َ‬
‫ك‬ ‫وس ى إِنِ ّي ْ‬ ‫مع التوجيه له بالرسالة إلى قوم ه بع د الخالص‪ .‬ق ال تع الى‪َ { :‬ق ا َ‬
‫ل َي ا ُم َ‬
‫ين}‪.‬‬‫الشا ِك ِر َ‬
‫َّ‬ ‫ن‬
‫ك َوكُن ِ ّم َ‬ ‫كال َ ِمي َف ُ‬
‫خذْ َما آتَ ْي ُت َ‬ ‫ساالَتِي َوبِ َ‬
‫اس بِ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫َعلَى ال َّن‬

‫س االَتِي‬ ‫ك َعلَى ال َّن ِ‬


‫اس بِ ِر َ‬ ‫اص طَ َف ْي ُت َ‬
‫وقف كثير من المفس رين أم ام قول ه تع الى لموس ى‪{ :‬إِنِ ّي ْ‬
‫كال َ ِم ي}‪ .‬وأجريت مقارنات بينه وبين غيره من األنبياء‪ .‬فقيل إن هذا االصطفاء كان خاصا بعصره‬ ‫َوبِ َ‬
‫وحده‪ ،‬وال ينسحب على العصر الذي سبقه لوجود إبراهيم فيه‪ ،‬وإبراهيم خير من موسى‪ ،‬أيضا‬
‫ال ينطبق هذا االصطفاء على العصر الذي يأتي بعده‪ ،‬لوجود محمد بن عبد هللا فيه‪ ،‬وه و أفض ل‬
‫منهما‪.‬‬

‫ونحب أن نبتعد عن ه ذا الج دال كل ه‪ .‬ال ألنن ا نعتق د أن ك ل األنبي اء س واء‪ .‬إذا إن هللا س بحانه‬
‫وتعالى يحدثنا أنه فضل بعض النبيين على بعض‪ ،‬ورفع درجات بعضهم على البعض‪.‬‬

‫غير أن هذا التفضيل ينبغي أن يكون منطقة محرمة علينا‪ ،‬ولنقف نحن في موقع اإليمان بجمي ع‬
‫األنبياء ال نتعداه‪ .‬ولنؤد نحوهم ف روض االح ترام على ح د س واء‪ .‬ال ينبغي أن يخ وض الخ اطئون‬
‫في درجات المعصومين المخت ارين من هللا‪ .‬ليس من األدب أن نفاض ل نحن بين األنبي اء‪ .‬األولى‬
‫أن نؤمن بهم جميعا‪.‬‬

‫ص يال ً لِ ّ ُك ِ ّ‬
‫ل‬ ‫عظَ ًة َوتَ ْف ِ‬
‫ي ٍء َّم ْو ِ‬
‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ثم يبين هللا تعالى مضمون الرسالة { َو َك َت ْب َنا لَ ُه فِي األ َ ْل َواحِ ِمن ُك ِ ّ‬
‫ين} ففيها كل ش يء يختص‬ ‫س ِق َ‬ ‫س ُأ ِريك ْ‬
‫ُم َدا َر ا ْل َفا ِ‬ ‫سنِ َها َ‬
‫ح َ‬ ‫خ ُذو ْا بِأَ ْ‬
‫ك يَ ْأ ُ‬
‫ها بِ ُق َّو ٍة َو ْأ ُم ْر َق ْو َم َ‬ ‫ي ٍء َف ُ‬
‫خذْ َ‬ ‫ش ْ‬
‫َ‬
‫بموضوع الرسالة وغايتها من بيان هللا وشريعته والتوجيه ات المطلوب ة إلص الح ح ال ه ذه األم ة‬
‫وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول األمد!‬

‫عبادة العجل‪:‬‬

‫انتهى ميقات موسى مع ربه تعالى‪ .‬وعاد غضبان أسفا إلى قومه‪ .‬فلقد أخبره هللا أن قم وه ق د‬
‫السامري هو من أض ل ّهم‪ .‬انح در موس ى من‬ ‫ّ‬ ‫ضل ّوا من بعده‪ .‬وأن رجال من بني إسرائيل يدعى‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫قمة الجبل وهو يحمل ألواح الت وراة‪ ،‬قلب ه يغلي بالغض ب واألس ف‪ .‬نس تطيع أن نتخي ل انفع ال‬
‫موسى وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه‪.‬‬

‫لم يكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه‪ .‬حتى وقعت فتنة السامري‪ .‬وتفصيل هذه الفتن ة أن‬
‫ب ني إس رائيل حين خرج وا من مص ر‪ ،‬ص حبوا معهم كث يرا من حلي المص ريين وذهبهم‪ ،‬حيث‬
‫كانت نساء بني إسرائيل قد استعرنه للتزين به‪ ،‬وعندما أمروا بالخروج حملوه معهم‪ .‬ثم قذفوها‬
‫ألنها حرام‪ .‬فأخذها السامري‪ ،‬وصنع منها تمثاال لعجل‪.‬‬

‫وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو صائغا سابقا‪ ،‬فصنع العجل مجوفا من ال داخل‪ ،‬ووض عه‬
‫في اتجاه الريح‪ ،‬بحيث يدخل الهواء من فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه خ وار‬
‫العجول الحقيقية‪.‬‬

‫ويقال إن سر هذا الخوار‪ ،‬أن السامري ك ان ق د أخ ذ قبض ة من ت راب س ار علي ه جبري ل ‪-‬علي ه‬
‫السالم‪ -‬حين نزل إلى األرض في معجزة شق البحر‪ .‬أي أن السامري أبص ر بم ا لم يبص روا ب ه‪،‬‬
‫فقبض قبضة من أثر الرسول ‪-‬جبريل عليه السالم‪ -‬فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل‪.‬‬

‫وكان جبريل ال يسير على شيء إال دبت فيه الحياة‪ .‬فلما أضاف السامري ال تراب إلى ال ذهب‪،‬‬
‫ثم صنع منه العجل‪ ،‬خ ار العج ل ك العجول الحقيقي ة‪ .‬وه ذه هي القص ة ال تي قاله ا الس امري‬
‫لموسى عليه السالم‪.‬‬

‫بعد ذلك‪ ،‬خرج السامري على بني إسرائيل بما صنعه‪..‬‬

‫امري؟‬ ‫اس‬ ‫ذا ي‬ ‫اه‬ ‫ألوه‪ :‬م‬ ‫س‬


‫ى!‬ ‫ه موس‬ ‫ذا إلهكم وإل‬ ‫ال‪ :‬ه‬ ‫ق‬
‫ه‪.‬‬ ‫ات إله‬ ‫ى ذهب لميق‬ ‫الوا‪ :‬لكن موس‬ ‫ق‬
‫قال السامري‪ :‬لقد نسي موسى‪ .‬ذهب للقاء ربه هناك‪ ،‬بينما ربه هنا‪.‬‬

‫وهبت موجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخ ار العج ل‪ .‬وعب د بن و‬
‫إسرائيل هذا العجل‪ .‬لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة‪ .‬كيف يمكن االستخفاف بعق ول الق وم‬
‫لهذه الدرجة؟! لقد وقعت لهم معجزات هائلة‪ .‬فكيف ينقلبون إلى عبادة األصنام في لحظة؟‬

‫تزول هذه الدهشة لو نظرنا في نفسية القوم الذين عبدوا العجل‪ .‬لقد تربوا في مصر‪ ،‬أيام كانت‬
‫مص ر تعب د األص نام وتق دس فيم ا تق دس العج ل أبيس‪ ،‬وترب وا على ال ذل والعبودي ة‪ ،‬فتغ يرت‬
‫نفوسهم‪ ،‬والتوت فطرتهم‪ ،‬ومرت عليهم معجزات هللا فصادفت نفوسا تالفة األمل‪ .‬لم يعد هن اك‬
‫ما يمكن أن يصنعه لهم أحد‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫إن كلم ات هللا لم تع دهم إلى الح ق‪ ،‬كم ا أن المعج زات الحس ية لم تقنعهم بص دق الكلم ات‪،‬‬
‫ظلوا داخ ل أعم اقهم من عب دة األوث ان‪ .‬ك انوا وثن يين مث ل س ادتهم المص ريين الق دماء‪ .‬وله ذا‬
‫السبب انقلبوا إلى عبادة العجل‪.‬‬

‫وفوجئ هارون عليه الصالة والسالم يوما بأن بني إسرائيل يعبدون عجال من ال ذهب‪ .‬انقس موا‬
‫إلى قسمين‪ :‬األقلي ة المؤمن ة أدركت أن ه ذا ه راء‪ .‬واألغلبي ة الك افرة ط اوعت حنينه ا لعب ادة‬
‫األوثان‪ .‬ووق ف ه ارون وس ط قوم ه وراح يعظهم‪ .‬ق ال لهم‪ :‬إنكم فتنتم ب ه‪ ،‬ه ذه فتن ة‪ ،‬اس تغل‬
‫ن َف اتَّ ِب ُعونِي‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫م ال َّر ْ‬
‫السامري جهلكم وفتنكم بعجله‪ .‬ليس ه ذا ربكم وال رب موس ى { َوإِنَّ َربَّ ُك ُ‬
‫طي ُعوا أَ ْم ِري}‪.‬‬
‫َوأَ ِ‬

‫ورفض عبدة العجل موعظة هارون‪ .‬لكن هارون ‪-‬عليه الس الم‪ -‬ع اد يعظهم وي ذكرهم بمعج زات‬
‫هللا التي أنقذهم بها‪ ،‬وتكريمه ورعايته لهم‪ ،‬فأصموا آذانهم ورفضوا كلمات ه‪ ،‬واستض عفوه وك ادوا‬
‫يقتلونه‪ ،‬وأنهوا مناقشة الموضوع بتأجيله حتى عودة موسى‪.‬‬

‫كان واضحا أن هارون أكثر لينا من موسى‪ ،‬لم يكن يهابه القوم للينه وش فقته‪ .‬وخش ي ه ارون‬
‫أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم صنمهم الذي يعبدونه فتثور فتن ة بين الق وم‪ .‬ف آثر ه ارون تأجي ل‬
‫الموضوع إلى أن يحضر موسى‪.‬‬

‫كان يعرف أن موس ى بشخص يته القوي ة‪ ،‬يس تطيع أن يض ع ح دا له ذه الفتن ة‪ .‬واس تمر الق وم‬
‫يرقصون حول العجل‪.‬‬

‫انحدر موسى عائدا لقومه فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العج ل‪ .‬توق ف الق وم‬
‫ي}‪.‬‬ ‫خلَ ْف ُت ُ‬
‫مونِي ِمن بَ ْع ِد َ‬ ‫ما َ‬
‫ْس َ‬
‫حين ظهر موسى وساد صمت‪ .‬صرخ موسى يقول‪{ :‬بِئ َ‬

‫اتجه موسى نح و ه ارون وألقى أل واح الت وراة من ي ده على األرض‪ .‬ك ان إعص ار الغض ب داخ ل‬
‫موسى يتحكم فيه تماما‪ .‬مد موسى يديه وأمسك هارون من شعر رأسه وش عر لحيت ه وش ده‬
‫ت‬ ‫ن أَ َف َع َ‬
‫ص ْي َ‬ ‫ض لُّوا ( ‪ )92‬أَاَّل تَ َّتبِ َع ِ‬ ‫ك إِ ْذ َرأَ ْي َت ُه ْ‬
‫م َ‬ ‫ون َم ا َم َن َع َ‬
‫ار ُ‬
‫ه ُ‬
‫نحوه وهو ي رتعش‪ .‬ق ال موس ى‪{ :‬يَ ا َ‬
‫أَ ْم ِري (‪( ...})93‬طه)‪.‬‬

‫إن موسى يتساءل هل عصى هارون أمره‪ .‬كيف سكت على هذه الفتن ة؟ كي ف ط اوعهم على‬
‫البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم ويتبرأ منهم؟ كيف سكت عن مقاومتهم أص ال؟ إن الس اكت عن‬
‫الخطأ مشترك فيه بشكل ما‪ .‬زاد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة‪.‬‬

‫وتحدث هارون إلى موسى‪ .‬رجا من ه أن ي ترك رأس ه ولحيت ه‪ .‬بح ق انتمائهم ا ألم واح دة‪ .‬وه و‬
‫يذكره باألم وال يذكره باألب ليكون ذلك أدعى الستثارة مشاعر الحنو في نفسه‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫أفهمه أن األمر ليس فيه عصيان له‪ .‬وليس فيه رضا بموقف عبدة العجل‪ .‬إنما خشي أن يتركهم‬
‫ويمضي‪ ،‬فيس أله موس ى كي ف لم يب ق فيهم وق د ترك ه موس ى مس ئوال عنهم‪ ،‬وخش ي ل و‬
‫قاومهم بعنف أن يثير بينهم قتاال فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولم ينتظر عودته‪.‬‬

‫أفهم هارون أخاه موسى برفق ولين أن القوم استضعفوه‪ ،‬وكادوا يقتلونه حين قاومهم‪ .‬رجا منه‬
‫أن يترك رأسه ولحيته حتى ال يشمت به األعداء‪ ،‬ويس تخف ب ه الق وم زي ادة على اس تخفافهم‬
‫به‪ .‬أفهمه أنه ليس ظالما مثلهم عندما سكت عن ظلمهم‪.‬‬

‫أدرك موسى أن ه ظلم ه ارون في غض به ال ذي أش علته غيرت ه على هللا تع الى وحرص ه على‬
‫الحق‪ .‬أدرك أن هارون تصرف أفضل تصرف ممكن في هذه الظروف‪ .‬ترك رأسه ولحيت ه واس تغفر‬
‫هللا له وألخيه‪.‬‬

‫س ًنا‬
‫ح َ‬
‫ُم َو ْع ًدا َ‬
‫ُم َربُّك ْ‬
‫م يَ ِع ْدك ْ‬ ‫التفت موسى لقومه وتساءل بصوت لم يزل يضطرب غضبا‪{ :‬يَا َق ْو ِم أَلَ ْ‬
‫ع ِدي}‪.‬‬ ‫خلَ ْف ُتم َّم ْو ِ‬ ‫ُم َفأَ ْ‬
‫َب ِ ّمن َّربِ ّك ْ‬ ‫ل َعلَ ْيك ْ‬
‫ُم َغض ٌ‬ ‫ُّم أَن يَ ِ‬
‫ح َّ‬ ‫م ا ْل َع ْه ُد أَ ْم أَ َردت ْ‬ ‫أَ َفطَا َ‬
‫ل َعلَ ْي ُك ُ‬

‫إنه يعنفهم ويوبخهم ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ما عملوه‪ .‬عاد موسى يقول غاضبا أش د‬
‫ج ِزي‬ ‫حيا ِة ال ُّد ْنيَا َو َك َذلِ َ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫ة فِي ا ْل َ‬
‫م َو ِذلَّ ٌ‬
‫َب ِ ّمن َّربِ ّ ِه ْ‬
‫م َغض ٌ‬
‫سيَ َنا ُل ُه ْ‬
‫ل َ‬ ‫خ ُذو ْا ا ْل ِع ْ‬
‫ج َ‬ ‫الغضب‪{ :‬إِنَّ الَّ ِذ َ‬
‫ين اتَّ َ‬
‫ين}‪.‬‬ ‫ا ْل ُ‬
‫م ْف َت ِر َ‬

‫لم تكد الجبال تبتلع أصداء الص وت الغاض ب ح تى نكس الق وم رءوس هم وأدرك وا خط أهم‪ .‬ك ان‬
‫افتراؤهم واضحا على الحق الذي جاء به موس ى‪ .‬أبع د ك ل م ا فعل ه هللا تع الى لهم‪ ،‬ينكفئ ون‬
‫على عبادة األصنام؟! أيغيب موس ى أربعين يوم ا ثم يع ود ليج دهم يعب دون عجال من ال ذهب‪.‬‬
‫أهذا تصرف قوم‪ ،‬عهد هللا إليهم بأمانة التوحيد في األرض؟‬

‫التفت موسى إلى السامري بعد حديثه القصير مع هارون‪ .‬لقد أثبت له هارون براءت ه كمس ئول‬
‫عن قوم ه في غيبت ه‪ ،‬كم ا س كت الق وم ونكس وا رءوس هم أم ام ث ورة موس ى‪ ،‬لم يب ق إال‬
‫المسئول األول عن الفتنة‪ .‬لم يبق إال السامري‪.‬‬

‫س ا ِم ِريُّ}‪.‬‬ ‫ك يَ ا َ‬ ‫ط ُب َ‬ ‫خ ْ‬ ‫م ا َ‬ ‫ل َف َ‬‫تح دث موس ى إلى الس امري وغض به لم يه دأ بع د‪َ { :‬ق ا َ‬


‫ت‬ ‫ص ْر ُ‬ ‫إنه يسأله عن قصته‪ ،‬ويريد أن يعرف منه ما الذي حمله على ما ص نع‪ .‬ق ال الس امري‪{ :‬بَ ُ‬
‫ه}‪.‬‬‫ِ‬ ‫ُروا بِ‬ ‫ص‬ ‫ا لَ ْ‬
‫م يَ ْب ُ‬ ‫م‬
‫بِ َ‬
‫ض ًة‬ ‫ت َق ْب َ‬ ‫ض ُ‬ ‫رأيت جبريل وهو يركب فرسه فال تضع قدمها على شيء إال دبت في ه الحي اة‪َ { .‬ف َقبَ ْ‬
‫ول}‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫س‬‫ِر ال َّر ُ‬ ‫ن أَثَ‬
‫ِ ّم ْ‬
‫ت‬ ‫س َّولَ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫أخذت حفنة من التراب الذي سار عليه جبريل وألقيته ا على ال ذهب‪َ { .‬ف َنبَ ذْ ُت َها َو َك َذلِ َ‬
‫ي}‪.‬‬ ‫س‬‫لِي نَ ْف ِ‬
‫هذا ما ساقتني نفسي إليه‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫لم يناقش موسى‪ ،‬عليه السالم السامري في ادعائه‪ .‬إنما قذف في وجه ه حكم الح ق‪ .‬ليس‬
‫المهم أن يكون السامري قد رأى جبريل‪ ،‬علي ه الس الم‪ ،‬فقبض قبض ة من أث ره‪ .‬ليس المهم أن‬
‫يكون خوار العجل بسبب هذا التراب الذي سار عليه فرس جبري ل‪ ،‬أو يك ون الخ وار بس بب ثقب‬
‫اصطنعه السامري ليخور العجل‪.‬‬

‫المهم في األمر كله جريمة السامري‪ ،‬وفتنته لقوم موس ى‪ ،‬واس تغالله إعج اب الق وم ال دفين‬
‫بس ادتهم المص ريين‪ ،‬وتقلي دهم لهم في عب ادة األوث ان‪ .‬ه ذه هي الجريم ة ال تي حكم فيه ا‬
‫ن‬‫ع ًدا لَّ ْ‬ ‫اس َوإِنَّ لَ َ‬
‫ك َم ْو ِ‬ ‫َ‬ ‫س‬‫ل اَل ِم َ‬ ‫حيَ ا ِة أَن تَ ُق و َ‬ ‫ك فِي ا ْل َ‬ ‫ب َف ِإنَّ لَ َ‬ ‫ه ْ‬‫ل َفا ْذ َ‬
‫موسى عليه السالم‪َ { :‬قا َ‬
‫سفًا}‪.‬‬ ‫س َف َّن ُه فِي ا ْليَ ِ ّ‬
‫م نَ ْ‬ ‫م لَ َنن ِ‬
‫ح ِرّ َق َّن ُه ُث َّ‬
‫ه َعاكِفًا لَّ ُن َ‬‫ت َعلَ ْي ِ‬‫ك الَّ ِذي ظَ ْل َ‬‫خلَ َف ُه َوانظ ُْر إِلَى إِلَ ِه َ‬
‫ُت ْ‬

‫حكم موسى على السامري بالوحدة في الدنيا‪ .‬يق ول بعض المفس رين‪ :‬إن موس ى دع ا على‬
‫السامري بأن ال يمس أحدا‪ ،‬معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه‪.‬‬

‫ونعتق د أن األم ر أخط ر كث يرا من ه ذه النظ رة الس ريعة‪ .‬إن الس امري أراد بفتنت ه ض الل ب ني‬
‫إسرائيل وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم‪ ،‬وقد جاءت عقوبته مساوية لجرم ه‪ ،‬لق د‬
‫حكم عليه بالنبذ والوحدة‪ .‬هل مرض السامري مرضا جلديا بشعا صار الناس ي أنفون من لمس ه‬
‫أو مجرد االقتراب منه؟ هل جاءه النبذ من خارج جسده؟‬

‫ال نعرف ماذا كان من أمر األسلوب الذي تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له‪ .‬كل ما نعرفه‬
‫أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة‪ ،‬كان أهون منها القتل‪ ،‬فقد عاش الس امري منب وذا محتق را‬
‫ال يلمس شيئا وال يمس أحدا وال يقترب منه مخلوق‪ .‬هذه هي عقوبته في الدنيا‪ ،‬ويوم القيام ة‬
‫له عقوبة ثانية‪ ،‬يبهمها السياق لتجيء ظاللها في النفس أخطر وأرعب‪.‬‬

‫نهض موسى بعد فراغه من السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار‪ .‬لم يكتف بصهره أم ام‬
‫عيون القوم المبهوتين‪ ،‬وإنما نسفه في البحر نسفا‪ .‬تحول اإلله المعب ود أم ام عي ون المفت ونين‬
‫ل‬
‫ع ُك َّ‬
‫س َ‬ ‫ُم اللَّ ُه الَّ ِذي اَل إِلَ َه إِاَّل ُ‬
‫ه َو َو ِ‬ ‫ما إِلَ ُهك ُ‬
‫به إلى رماد يتطاير في البحر‪ .‬ارتفع صوت موسى‪{ :‬إِنَّ َ‬
‫م ا} هذا هو إلهكم‪ ،‬وليس ذلك الصنم الذي ال يملك لنفسه نفعا وال ضرا‪.‬‬ ‫ع ْل ً‬
‫ي ٍء ِ‬
‫ش ْ‬
‫َ‬

‫بعد أن نسف موسى الصنم‪ ،‬وف رغ من الج اني األص لي‪ ،‬التفت إلى قوم ه‪ ،‬وحكم في القض ية‬
‫كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهم وترك لعبدة العجل مجاال واحدا للتوبة‪ .‬وكان ه ذا المج ال أن‬
‫يقتل المطيع من بني إسرائي من عصى‪.‬‬

‫ل َف ُتو ُب و ْا إِلَى‬‫ج َ‬ ‫م ا ْل ِع ْ‬
‫خ ا ِذ ُك ُ‬ ‫ُم بِاتِ ّ َ‬
‫سك ْ‬ ‫م أَن ُف َ‬ ‫ُم ظَلَ ْ‬
‫م ُت ْ‬ ‫ه يَ ا َق ْو ِم إِنَّك ْ‬
‫وسى لِ َق ْو ِم ِ‬‫ل ُم َ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ َقا َ‬
‫حيم (‪...})54‬‬ ‫اب ال َّر ِ‬ ‫ه َو ال َّت َّو ُ‬ ‫اب َعلَ ْيك ْ‬
‫ُم إِنَّ ُه ُ‬ ‫ُم َف َت َ‬ ‫ارئِك ْ‬
‫عن َد َب ِ‬ ‫خ ْي ٌر لَّك ْ‬
‫ُم ِ‬ ‫ُم َ‬‫ُم َذلِك ْ‬
‫سك ْ‬ ‫ُم َفاق ُْتلُو ْا أَن ُف َ‬
‫ارئِك ْ‬
‫َب ِ‬
‫(البقرة)‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫كانت العقوبة التي قررها موسى على عبدة العجل مهولة‪ ،‬وتتفق مع الجرم األصلي‪ .‬إن عب ادة‬
‫األوثان إهدار لحي اة العق ل وص حوته‪ ،‬وهي الص حوة ال تي تم يز اإلنس ان عن غ يره من البه ائم‬
‫والجمادات‪ ،‬وإزاء هذا اإلزهاق لصحوة العقل‪ ،‬تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجس د نفس ه‪ ،‬فليس‬
‫بعد العقل لإلنسان حياة يتميز به ا‪ .‬ومن ن وع الج رم ج اءت العقوب ة‪ .‬ج اءت قاس ية ثم رحم هللا‬
‫حيم ‪.‬‬‫الر ِ‬
‫اب َّ‬
‫ه َو ال َّت َّو ُ‬
‫تعالى وتاب‪ .‬إِنَّ ُه ُ‬

‫ُّوسى ا ْل َغض ُ‬
‫َب‪ .‬تأمل تعبير القرآن الكريم الذي يص ور الغض ب في ص ورة ك ائن‬ ‫ت َعن م َ‬ ‫س َ‬
‫ك َ‬ ‫أخيرا‪َ .‬‬
‫يقود تصرفات موسى‪ ،‬ابتداء من إلقائه أللواح التوراة‪ ،‬وشده للحية أخيه ورأسه‪ .‬وانته اء بنس ف‬
‫العجل في البحر‪ ،‬وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا‪.‬‬

‫أخ يرا س كت عن موس ى الغض ب‪ .‬زايل ه غض به في هللا‪ ،‬وذل ك أرف ع أن واع الغض ب وأج درها‬
‫باالحترام والتوقير‪ .‬التفت موسى إلى مهمته األص لية حين زايل ه غض به فت ذكر أن ه ألقى أل واح‬
‫التوراة‪ .‬وعاد موسى يأخذ األلواح ويعاود دعوته إلى هللا‪.‬‬

‫رفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل‪:‬‬

‫عاد موسى إلى هدوئه‪ ،‬واس تأنف جه اده في هللا‪ ،‬وق رأ أل واح الت وراة على قوم ه‪ .‬أم رهم في‬
‫البداية أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم‪ .‬ومن المدهش أن قومه ساوموه على الحق‪ .‬قالوا‪ :‬انش ر‬
‫علينا األلواح فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها‪.‬‬

‫فقال موسى‪ :‬بل اقبلوها بما فيها‪ .‬فراجعوا مرارا‪ ،‬فأمر هللا تع الى مالئكت ه ف رفعت الجب ل على‬
‫رءوسهم حتى صار كأنه غمامة فوقهم‪ ،‬وقيل لهم‪ :‬إن لم تقبلوه ا بم ا فيه ا س قط ذل ك الجب ل‬
‫عليكم‪ ،‬فقبلوا بذلك‪ ،‬وأمروا بالسجود فسجدوا‪ .‬وضعوا خدودهم على األرض وراحوا ينظرون إلى‬
‫الجبل فوقهم هلعا ورعبا‪.‬‬

‫وهكذا أثبت ق وم موس ى أنهم ال يس لمون وج وههم هلل إال إذا ل ويت أعن اقهم بمعج زة حس ية‬
‫باهرة تلقي الرعب في القلوب وتنثني األقدام نحو سجود قاهر يدفع الخ وف إلي ه دفع ا‪ .‬وهك ذا‬
‫يساق الناس بالعصا اإللهية إلى اإليمان‪ .‬يقع هذا في ظل غياب الوعي والنضج الك افيين لقي ام‬
‫االقتناع العقلي‪.‬‬

‫ولعلنا هنا نشير مرة أخرى إلى نفسية قوم موسى‪ ،‬وهي المس ئول األول عن ع دم اقتن اعهم‬
‫إال بالقوة الحسية والمعجزات الباهرة‪ .‬لقد تربى قوم موسى ونشئوا وس ط ه وان وذل‪ ،‬أه درت‬
‫فيهما إنسانيتهم والتوت فطرته‪.‬‬

‫ولم يعد ممكنا بعد ازده ار ال ذل في نفوس هم واعتي ادهم إي اه‪ ،‬لم يع د ممكن ا أن يس اقوا إلى‬
‫الخير إال بالقوة‪ .‬لق د اعت ادوا أن تس يرهم الق وة الق اهرة لس ادتهم الق دامى‪ ،‬وال ب د لس يدهم‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫الجديد (وهو اإليمان) من أن يقاسي األه وال لتس ييرهم‪ ،‬وأن يلج أ مض طرا إلى أس لوب الق وة‬
‫لينقذهم من الهالك‪ .‬لم تمر جريمة عبادة العجل دون آثار‪.‬‬

‫اختيار سبعين رجال لميقات هللا‪:‬‬

‫أمر موسى بني إسرائيل أن يستغفروا هللا ويتوبوا إليه‪ .‬اختار منهم سبعين رجال‪ ،‬الخيّر ف الخيّر‪،‬‬
‫وقال انطلقوا إلى هللا فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم‪.‬‬

‫صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم‪ .‬خرج موسى به ؤالء الس بعين المخت ارين لميق ات ح دده ل ه هللا‬
‫تعالى‪ .‬دنا موسى من الجبل‪ .‬وكلم هللا تعالى موسى‪ ،‬وسمع السبعون موسى وهو يكلم ربه‪.‬‬

‫ولعل معجزة كهذه المعجزة تكون األخير‪ ،‬وتكون كافية لحمل اإليم ان إلى القل وب م دى الحي اة‪.‬‬
‫غير أن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من المعجزة‪ .‬إنما طلبوا رؤية هللا تع الى‪.‬‬
‫ح َّتى نَ َرى اللَّ َه‬ ‫ن لَ َ‬
‫ك َ‬ ‫وس ى لَن ن ُّ ْؤ ِم َ‬
‫قالوا سمعنا ونريد أن ن رى‪ .‬ق الوا لموس ى ببس اطة‪{ :‬يَ ا ُم َ‬
‫ج ْه َر ًة}‪.‬‬
‫َ‬

‫هي مأساة تثير أشد الدهشة‪ .‬وهي مأساة تشير إلى صالبة القلوب واستمساكها بالحس يات‬
‫والمادي ات‪ .‬ك وفئ الطلب المتعنت بعقوب ة ص اعقة‪ .‬أخ ذتهم رجف ة م دمرة ص عقت أرواحهم‬
‫وأجسادهم على الفور‪ .‬ماتوا‪.‬‬

‫أدرك موسى ما أحدثه السبعون المختارون فمأله األسى وقام يدعو ربه ويناشده أن يعفو عنهم‬
‫ويرحمهم‪ ،‬وأال يؤاخ ذهم بم ا فع ل الس فهاء منهم‪ ،‬وليس طلبهم رؤي ة هللا تب ارك وتع الى وهم‬
‫على ما هم فيه من البشرية الناقصة وقسوة القلب غير سفاهة ك برى‪ .‬س فاهة ال يكف ر عنه ا‬
‫إال الموت‪.‬‬

‫قد يطلب النبي رؤية ربه‪ ،‬كما فعل موسى‪ ،‬ورغم انطالق الطلب من واقع الحب العظيم والهوى‬
‫المسيطر‪ ،‬الذي يبرر بما له من منطق خاص هذا الطلب‪ ،‬رغم هذا كله يعتبر طلب الرؤية تجاوزا‬
‫للح دود‪ ،‬يج ازى علي ه الن بي بالص عق‪ ،‬فم ا بالن ا بص دور ه ذا الطلب من بش ر خ اطئين‪ ،‬بش ر‬
‫يحددون للرؤية مكانا وزمانا‪ ،‬بعد كل ما لقوه من معجزات وآي ات‪..‬؟ أليس ه ذا س فاهة ك برى‪..‬؟‬
‫وهكذا صعق من طلب الرؤية‪ ..‬ووقف موسى يدعو ربه ويستعطفه ويترضاه‪..‬‬

‫يحكي المولى ع ز وج ل دع اء موس ى علي ه الس الم بالتوب ة على قوم ه في س ورة األع راف‪:‬‬
‫هلَ ْك َت ُهم ِ ّمن‬ ‫ْت أَ ْ‬
‫ش ئ َ‬ ‫ب لَ ْو ِ‬ ‫ل َر ّ ِ‬‫ج َف ُة َقا َ‬ ‫م ال َّر ْ‬ ‫خ َذ ْت ُه ُ‬‫ما أَ َ‬ ‫ميقَاتِ َنا َفلَ َّ‬‫جال ً لِ ّ ِ‬‫ين َر ُ‬‫س ْب ِع َ‬ ‫وسى َق ْو َم ُه َ‬ ‫اخ َتا َر ُم َ‬ ‫{ َو ْ‬
‫ش اء‬ ‫ش اء َوتَ ْه ِدي َمن تَ َ‬ ‫ل بِ َه ا َمن تَ َ‬ ‫ض ُّ‬ ‫ك ُت ِ‬ ‫ي إِال َّ فِ ْت َن ُت َ‬ ‫ه َ‬ ‫الس َف َهاء ِم َّنا إِنْ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ما َف َع َ‬
‫ل‬ ‫ي أَ ُت ْهلِ ُك َنا بِ َ‬
‫ل َوإِيَّا َ‬ ‫َق ْب ُ‬
‫س َن ًة َوفِي‬ ‫ح َ‬ ‫هـ ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َ‬ ‫ب لَ َن ا فِي َ‬ ‫خ ْي ُر ا ْل َغ افِ ِرين (‪َ )155‬واك ُْت ْ‬ ‫نت َ‬‫م َنا َوأَ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ار َ‬‫نت َولِيُّ َنا َفاغْ ِف ْر لَ َنا َو ْ‬ ‫أَ َ‬
‫س أَ ْك ُت ُب َها‬ ‫ي ٍء َف َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت ُك َّ‬ ‫س َع ْ‬ ‫متِي َو ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ش اء َو َر ْ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫ه َم ْ‬ ‫يب بِ ِ‬‫ص ُ‬ ‫ل َع ذَابِي ُأ ِ‬ ‫ك َق ا َ‬ ‫ه ْدنَـا إِلَ ْي َ‬ ‫خ َر ِة إِنَّا ُ‬‫اآل ِ‬
‫ي األُ ِ ّم َّ‬
‫ي‬ ‫ل ال َّن ِب َّ‬‫سو َ‬ ‫هم بِآيَاتِ َنا ُي ْؤ ِم ُن ونَ (‪ )156‬الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ َّت ِب ُع ونَ ال َّر ُ‬ ‫ين ُ‬ ‫ين يَ َّت ُقونَ َو ُي ْؤ ُتونَ ال َّز َكـا َة َوالَّ ِذ َ‬ ‫لِلَّ ِذ َ‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫ل‬ ‫ح ُّ‬ ‫من َ‬
‫ك ِر َو ُي ِ‬ ‫ن ا ْل ُ‬ ‫م َع ِ‬ ‫ه ْ‬‫ف َويَ ْن َه ا ُ‬ ‫هم بِ ا ْل َ‬
‫م ْع ُرو ِ‬ ‫يل يَ ْأ ُم ُر ُ‬
‫اإل ْنجِ ِ‬ ‫م فِي ال َّت ْو َرا ِة َو ِ‬ ‫ه ْ‬‫عن َد ُ‬ ‫الَّ ِذي يَجِ ُدونَ ُه َم ْك ُتوبًا ِ‬
‫ين آ َم ُنو ْا‬‫م َفالَّ ِذ َ‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ْ‬ ‫ل الَّتِي َكانَ ْ‬ ‫م َواألَغْ ال َ َ‬ ‫ه ْ‬‫ص َر ُ‬‫م إِ ْ‬ ‫ض ُع َع ْن ُه ْ‬‫خبَآئِثَ َويَ َ‬ ‫م ا ْل َ‬ ‫ح ِرّ ُم َعلَ ْي ِه ُ‬‫م الطَّ ِي ّبَاتِ َو ُي َ‬ ‫لَ ُه ُ‬
‫حونَ (‪( ...})157‬األعراف)‪.‬‬ ‫م ْفلِ ُ‬ ‫م ا ْل ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫ل َم َع ُه ُأ ْولَـئِ َ‬ ‫ي ُأ ِ‬
‫نز َ‬ ‫ص ُرو ُه َواتَّبَ ُعو ْا النُّو َر الَّ ِذ َ‬‫ه َو َع َّز ُرو ُه َونَ َ‬‫بِ ِ‬

‫هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه‪ .‬ورضي هللا تعالى عنه وغفر لقومه فأحياهم‬
‫بعد موتهم‪ ،‬واستمع المختارون في هذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحي اة إلى النب وءة بمجيء‬
‫محمد بن عبد هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫س نالحظ طريق ة الرب ط بين الحاض ر والماض ي في اآلي ة‪ ،‬إن هللا تع الى يتج اوز زمن مخاطب ة‬
‫بشر‬
‫الرسول في اآليات إلى زمنين سابقين‪ ،‬هما نزول التوراة ونزول اإلنجيل‪ ،‬ليقرر أنه (تعالى) ّ‬
‫بمحمد في هذين الكتابين الكريمين‪.‬‬

‫نعتقد أن إيراد هذه البشرى ج اء ي وم ص حب موس ى من قوم ه س بعين رجال هم ش يوخ ب ني‬
‫إس رائيل وأفض ل من فيهم‪ ،‬لميق ات رب ه‪ .‬في ه ذا الي وم الخط ير بمعجزات ه الك برى‪ ،‬تم إي راد‬
‫البشرى بآخر أنبياء هللا عز وجل‪.‬‬

‫يقول ابن كثير في كتابه قصص األنبياء‪ ،‬نقال عن قتادة‪ :‬إن موسى قال لربه‪ :‬يا رب إني أجد في‬
‫األلواح أم ة هي خ ير أم ة أخ رجت للن اس‪ ،‬ي أمرون ب المعروف وينه ون عن المنك ر‪ .‬رب اجعلهم‬
‫تي‪.‬‬ ‫أم‬
‫د‪.‬‬ ‫ة أحم‬ ‫ك أم‬ ‫ال‪ :‬تل‬ ‫ق‬
‫قال‪ :‬ربي إني أجد في األل واح أم ة أن اجيلهم في ص دورهم يقرءونه ا‪ .‬وك ان من قبلهم يق رءون‬
‫كتابهم نظرا‪ ،‬حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه‪ .‬وإن هللا أعطاهم من الحفظ شيئا لم‬
‫تي‪.‬‬ ‫دا من األمم‪ .‬رب اجعلهم أم‬ ‫ه أح‬ ‫يعط‬
‫د‪.‬‬ ‫ة أحم‬ ‫ك أم‬ ‫ال‪ :‬تل‬ ‫ق‬
‫قال‪ :‬رب إني أجد في األلواح أمة يؤمنون بالكتاب األول وبالكتاب اآلخر‪ ،‬ويقاتلون فض ول الض اللة‪.‬‬
‫تي‪.‬‬ ‫اجعلهم أم‬ ‫ف‬
‫د‪.‬‬ ‫ة أحم‬ ‫ك أم‬ ‫ال‪ :‬تل‬ ‫ق‬
‫قال‪ :‬رب إني أجد في األل واح أم ة ص دقاتهم يأكلونه ا في بط ونهم‪ ،‬وي ؤجرون عليه ا‪ ،‬وك ان من‬
‫قبلهم من األمم إذا تصدق أحدهم بصدقة فقبلت منه بعث هللا عليها نارا فأكلتها‪ ،‬وإن ردت عليه‬
‫تركت فتأكلها السباع والطير‪ .‬وإن هللا أخذ صدقاتهم من غنيهم لفق يرهم‪ .‬رب ف اجعلهم أم تي‪.‬‬
‫د‪.‬‬ ‫ة أحم‬ ‫ك أم‬ ‫ال‪ :‬تل‬ ‫ق‬
‫قال‪ :‬رب فإني أجد في األلواح أمة إذا هم أح دهم بحس نة ثم عمله ا كتبت ل ه عش رة أمثاله ا‬
‫تي‪.‬‬ ‫عف‪ .‬رب اجعلهم أم‬ ‫بعمائة ض‬ ‫إلى س‬
‫قال‪ :‬تلك أمة أحمد‪.‬‬

‫نزول المن والسلوى‪:‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫سار موسى بقومه في سيناء‪ .‬وهي ص حراء ليس فيه ا ش جر يقي من الش مس‪ ،‬وليس فيه ا‬
‫طعام وال ماء‪ .‬وأدركتهم رحمة هللا فساق إليهم المن والسلوى وظللهم الغمام‪.‬‬

‫والمن مادة يميل طعمها إلى الحالوة وتفرزها بعض أشجار الفاكهة‪ .‬وساق هللا إليهم الس لوى‪،‬‬
‫وهو نوع من أنواع الطيور يقال إنه (السمان)‪ .‬وحين اشتد بهم الظم أ إلى الم اء‪ ،‬وس يناء مك ان‬
‫يخلو من الماء‪ ،‬ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من المياه‪.‬‬

‫وكان بنو إسرائيل ينقسمون إلى ‪ 12‬سبطا‪ .‬فأرسل هللا المياه لكل مجموعة‪ .‬ورغم هذا اإلك رام‬
‫والحفاوة‪ ،‬تحركت في النفوس التواءاتها المريضة‪.‬‬

‫واحتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذا الطعام‪ ،‬واشتاقت نفوسهم إلى البصل والث وم والف ول‬
‫والعدس‪ ،‬وكانت هذه األطعمة أطعمة مصرية تقليدية‪ .‬وهكذا سأل بنو إس رائيل ن بيهم موس ى‬
‫أن يدعو هللا ليخرج لهم من األرض هذه األطعمة‪.‬‬

‫وعاد موسى يستلفتهم إلى ظلمهم ألنفسهم‪ ،‬وحنينهم ألي ام ه وانهم في مص ر‪ ،‬وكي ف أنهم‬
‫يتبطرون على خير الطعام وأكرمه‪ ،‬ويريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه‪.‬‬

‫السير باتجاه بيت المقدس‪:‬‬

‫س ار موس ى بقوم ه في اتج اه ال بيت المق دس‪ .‬أم ر موس ى قوم ه ب دخولها وقت ال من فيه ا‬
‫واالستيالء عليها‪ .‬وه ا ق د ج اء امتح انهم األخ ير‪ .‬بع د ك ل م ا وق ع لهم من المعج زات واآلي ات‬
‫والخوارق‪ .‬جاء دورهم ليحاربوا ‪-‬بوصفهم مؤمنين‪ -‬قوما من عبده األصنام‪.‬‬

‫رفض قوم موسى دخول األراضي المقدسة‪ .‬وحدثهم موسى عن نعم ة هللا عليهم‪ .‬كي ف جع ل‬
‫ين‪.‬‬
‫م َ‬ ‫م ُي ْؤتِ أَ َ‬
‫ح ًدا ِ ّمن ا ْل َعالَ ِ‬ ‫فيهم أنبياء‪ ،‬وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون‪ ،‬وآتاهم َّما لَ ْ‬

‫وكان رد قوم ه علي ه أنهم يخ افون من القت ال‪ .‬ق الوا‪ :‬إن فيه ا قوم ا جب ارين‪ ،‬ولن ي دخلوا األرض‬
‫المقدسة حتى يخرج منها هؤالء‪.‬‬

‫وانضم لموسى وهارون اثنان من القوم‪ .‬تق ول كتب الق دماء إنهم خرج وا في س تمائة أل ف‪ .‬لم‬
‫يجد موس ى من بينهم غ ير رجلين على اس تعداد للقت ال‪ .‬وراح ه ذان ال رجالن يح اوالن إقن اع‬
‫القوم بدخول األرض والقتال‪ .‬قاال‪ :‬إن مج رد دخ ولهم من الب اب س يجعل لهم النص ر‪ .‬ولكن ب ني‬
‫إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشون في أعماقهم‪.‬‬

‫مرة أخرى تعاودهم طبيعتهم ال تي ع اودتهم قب ل ذل ك حين رأوا قوم ا يعكف ون على أص نامهم‪.‬‬
‫فسدت فطرتهم‪ ،‬وانهزموا من الداخل‪ ،‬واعتادوا الذل‪ ،‬فلم يع د في اس تطاعتهم أن يح اربوا‪ .‬وإن‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫بقي في استطاعتهم أن يتوقحوا على ن بي هللا موس ى ورب ه‪ .‬وق ال ق وم موس ى ل ه كلمتهم‬
‫اه َنا َقا ِ‬
‫ع ُدونَ } هكذا بصراحة وبال التواء‪.‬‬ ‫ه ُ‬‫ك َفقَاتِال إِنَّا َ‬ ‫ب أَ َ‬
‫نت َو َربُّ َ‬ ‫الشهيرة‪َ { :‬فا ْذ َ‬
‫ه ْ‬

‫أدرك موسى أن قومه ما عادوا يص لحون لش يء‪ .‬م ات الفرع ون ولكن آث اره في النف وس باقي ة‬
‫يحتاج شفاؤها لف ترة طويل ة‪ .‬ع اد موس ى إلى رب ه يحدث ه أن ه ال يمل ك إال نفس ه وأخ اه‪ .‬دع ا‬
‫موسى على قومه أن يفرق هللا بينه وبينهم‪.‬‬

‫وأصدر هللا تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل‪ .‬كان الحكم ه و‬
‫التيه أربعين عاما‪ .‬حتى يموت هذا الجي ل أو يص ل إلى الش يخوخة‪ .‬ويول د ب دال من ه جي ل آخ ر‪،‬‬
‫جيل لم يهزمه أحد من الداخل‪ ،‬ويستطيع ساعتها أن يقاتل وأن ينتصر‪.‬‬

‫قصة البقرة‪:‬‬

‫بدأت أيام التيه‪ .‬بدأ السير في دائ رة مغلق ة‪ .‬تنتهي من حيث تب دأ‪ ،‬وتب دأ من حيث تنتهي‪ ،‬ب دأ‬
‫السير إلى غير مقصد‪ .‬ليال ونهارا وصباحا ومساء‪ .‬دخلوا البرية عند سيناء‪.‬‬

‫مكث موسى في قومه يدعوهم إلى هللا‪ .‬ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل ال تخطئه عين‬
‫المالحظة‪ ،‬وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة‪.‬‬

‫ف إن الموض وع لم يكن يقتض ي ك ل ه ذه المفاوض ات بينهم وبين موس ى‪ ،‬كم ا أن ه لم يكن‬


‫يستوجب كل هذا التعنت‪ .‬وأصل قصة البقرة أن قتيال ثريا وجد يوما في بني إس رائيل‪ ،‬واختص م‬
‫أهله ولم يعرفوا قاتله‪ ،‬وحين أعياهم األمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه‪.‬‬

‫ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن ي ذبحوا بق رة‪ .‬وك ان المف روض هن ا أن ي ذبح الق وم أول‬
‫بقرة تصادفهم‪ .‬غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة‪ .‬اتهموا موسى بأن ه يس خر منهم ويتخ ذهم‬
‫هزوا‪ ،‬واستعاذ موسى باهلل أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم‪ .‬أفهمهم أن حل القضية يكمن‬
‫في ذبح بقرة‪.‬‬

‫إن األمر هنا أمر معجزة‪ ،‬ال عالقة لها بالمألوف في الحياة‪ ،‬أو المعتاد بين الن اس‪ .‬ليس ت هن اك‬
‫عالق ة بين ذبح البق رة ومعرف ة القات ل في الجريم ة الغامض ة ال تي وقعت‪ ،‬لكن م تى ك انت‬
‫األس باب المنطقي ة هي ال تي تحكم حي اة ب ني إس رائيل؟ إن المعج زات الخارق ة هي الق انون‬
‫السائد في حياتهم‪ ،‬وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة‪.‬‬

‫لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل‪ .‬مجرد التعامل معهم عنت‪ .‬تستوي في ذلك األمور الدنيوي ة‬
‫المعتادة‪ ،‬وشؤون العقيدة المهمة‪ .‬ال بد أن يعاني من يتصدى ألمر من أمور بني إسرائيل‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم‪ ،‬ثم ينبئهم أنه جاد فيم ا يح دثهم‬
‫ب ه‪ ،‬ويع اود أم ره أن ي ذبحوا بق رة‪ ،‬وتع ود الطبيع ة المراوغ ة لب ني إس رائيل إلى الظه ور‪ ،‬تع ود‬
‫اللجاجة وااللتواء‪ ،‬فيتساءلون‪ :‬أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنه ا‬
‫خلق تفرد بمزية‪ ،‬فليدع موسى ربه ليبين ما هي‪.‬‬

‫ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم‪ ،‬وتح دد البق رة أك ثر من ذي قب ل‪ ،‬بأنه ا بق رة وس ط‪.‬‬
‫ليست بقرة مسنة‪ ،‬وليست بقرة فتية‪ .‬بقرة متوسطة‪.‬‬

‫إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي األمر‪ ،‬غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة‪ ،‬ومراوغة بني إسرائيل‬
‫لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات‪ .‬ما هو لون البقرة؟ لم اذا ي دعو موس ى رب ه ليس أله‬
‫عن لون هذا البقرة؟‬

‫ال يراعون مقتضيات األدب والوق ار الالزمين في ح ق هللا تع الى وح ق نبي ه الك ريم‪ ،‬وكي ف أنهم‬
‫ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا االتصال المتكرر ح ول موض وع بس يط ال يس تحق ك ل‬
‫هذه اللجاجة والمراوغة‪.‬‬

‫ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البق رة المطلوب ة‪ .‬فيق ول أنه ا بق رة ص فراء‪ ،‬ف اقع لونه ا‬
‫تسر الناظرين‪.‬‬

‫وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء‪ ،‬ورغم وضوح األمر‪ ،‬فقد عادوا إلى اللجاج ة والمراوغ ة‪ .‬فش دد‬
‫هللا عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه‪ .‬عادوا يسألون موسى أن يدعو هللا لي بين م ا هي‪ ،‬ف إن‬
‫البقر تشابه عليهم‪ ،‬وح دثهم موس ى عن بق رة ليس ت مع دة لح رث وال لس قي‪ ،‬س لمت من‬
‫العيوب‪ ،‬صفراء ال شية فيها‪ ،‬بمعنى خالصة الصفرة‪.‬‬

‫انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد‪ .‬وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاص ة‪ .‬أخ يرا وج دوها‬
‫عند يتيم فاشتروها وذبحوها‪.‬‬

‫وأمسك موسى جزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته‪ .‬سأله موس ى‬
‫عن قاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عاد إلى الموت‪.‬‬

‫وشاهد بنو إس رائيل معج زة إحي اء الم وتى أم ام أعينهم‪ ،‬اس تمعوا ب آذانهم إلى اس م القات ل‪.‬‬
‫انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم‪.‬‬

‫نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم‪ ،‬ولعل السياق القرآني ي ورد‬
‫ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" ال تي يخ اطبون به ا موس ى‪ .‬وك ان األولى بهم أن يقول وا‬
‫ع لَ َن ا َربَّ َ‬
‫ك} ادع لن ا ربن ا‪ .‬أم ا أن يقول وا ل ه‪ :‬فك أنهم‬ ‫لموسى‪ ،‬تأدبا‪ ،‬لو ك ان ال ب د أن يقول وا‪{ :‬ا ْد ُ‬
‫يقصرون ربوبية هللا تعالى على موسى‪ .‬ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية هلل‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫انظر إلى اآليات كيف توحي بهذا كل ه‪ .‬ثم تأم ل س خرية الس ياق منهم لمج رد إي راده لق ولهم‪:‬‬
‫ق} بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئ ة بينهم وبين هللا ع ز وج ل‪ ،‬بع د أن أرهق وا‬ ‫ْت بِا ْل َ‬
‫ح ِّ‬ ‫جئ َ‬
‫{اآلنَ ِ‬
‫ن بيهم بس ؤاله عن ص فة البق رة ولونه ا وس نها وعالماته ا المم يزة‪ ،‬بع د تعنتهم وتش ديد هللا‬
‫عليهم‪ ،‬يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة‪.‬‬

‫ق}‪ .‬كأنه ك ان يلعب قبله ا معهم‪ ،‬ولم يكن م ا ج اء ه و الح ق‬ ‫ْت بِا ْل َ‬
‫ح ِّ‬ ‫جئ َ‬
‫ساعتها قالوا له‪{ :‬اآلنَ ِ‬
‫ها َو َم ا‬ ‫من أول كلمة آلخر كلمة‪ .‬ثم انظر إلى ظالل السياق وما تشي ب ه من ظلمهم‪َ { :‬ف َذبَ ُ‬
‫حو َ‬
‫َكا ُدو ْا يَ ْف َعلُونَ } أال توحي لك ظالل اآليات بتعنتهم وتس ويفهم ومم اراتهم ولج اجتهم في الح ق؟‬
‫هذه اللوحة الرائع ة تش ي بموق ف ب ني إس رائيل على موائ د المفاوض ات‪ .‬هي ص ورتهم على‬
‫مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى‪.‬‬

‫إيذاء بني إسرائيل لموسى‪:‬‬

‫قاسى موسى من قومه أشد المقاساة‪ ،‬وعانى عناء عظيما‪ ،‬واحتمل في تبليغهم رس الته م ا‬
‫احتمل في سبيل هللا‪.‬‬

‫ولعل مشكلة موس ى األساس ية أن ه بعث إلى ق وم ط ال عليهم العه د ب الهوان وال ذل‪ ،‬وط ال‬
‫بق اؤهم في ج و يخل و من الحري ة‪ ،‬وط ال مكثهم وس ط عب ادة األص نام‪ ،‬ولق د نجحت الم ؤثرات‬
‫العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة التي ال تص لح لش يء‪.‬‬
‫إال أن تعذب أنبيائها ومصلحيها‪.‬‬

‫وقد عذب بنو إسرائيل موسى عذابا نستطيع ‪-‬نحن أبناء هذا الزمان‪ -‬أن ن درك وقع ه على نفس‬
‫موسى النقية الحساسة الكريمة‪ .‬ولم يقتصر الع ذاب على العص يان والغب اء واللجاج ة والجه ل‬
‫وعبادة األوثان‪ ،‬وإنما تعدى األمر إلى إيذاء موسى في شخصه‪.‬‬

‫عن َد اللَّ ِ‬
‫ه‬ ‫وسى َفبَ َّرأَ ُه اللَّ ُه ِم َّ‬
‫ما َق الُوا َو َك انَ ِ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬يَا أَيُّ َها الَّ ِذ َ‬
‫ين آ َم ُنوا اَل تَكُو ُنوا َكالَّ ِذ َ‬
‫ين آ َذ ْوا ُم َ‬
‫جي ًها (‪( ...})69‬األحزاب)‪.‬‬ ‫َو ِ‬

‫ونحن ال تعرف كنه هذا اإليذاء‪ ،‬ونستبعد رواية بعض العلماء ال تي يقول ون فيه ا أن موس ى ك ان‬
‫رجال حييا يستتر دائما وال يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بم رض‬
‫جلدي أو برص‪ ،‬فأراد هللا أن يبرئه مما ق الوا‪ ،‬ف ذهب يس تحم يوم ا ووض ع ثياب ه على حج ر‪ ،‬ثم‬
‫خرج فإذا الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى ش اهده بن و إس رائيل عاري ا‬
‫وليس بجلده عيب‪.‬‬

‫نستبعد هذه القصة لتفاهتها‪ ،‬فإنها إلى جوار خراف ة ج ري الحج ر بمالبس ه‪ ،‬ال تعطي موس ى‬
‫حقه من التوقير‪ ،‬وهي تتنافى مع عصمته كنبي‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫ونعتقد أن اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا‪ ،‬هذا هو اإليذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها‬
‫حقا‪ ،‬وال نعرف كيف كان هذا اإليذاء‪ ،‬ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري اآلثم ال ذي يس تطيع‬
‫بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى‪.‬‬

‫فترة التيه‪:‬‬

‫ولعل أعظم إيذاء لموسى‪ ،‬كان رفض ب ني إس رائيل القت ال من أج ل نش ر عقي دة التوحي د في‬
‫األرض‪ ،‬أو على أقل تقدير‪ ،‬السماح لهذه العقيدة أن تستقر على األرض في مكان‪ ،‬وت أمن على‬
‫نفس ها‪ ،‬وتم ارس تعب دها في ه دوء‪ .‬لق د رفض بن و إس رائيل القت ال‪ .‬وق الوا لموس ى كلمتهم‬
‫اه َنا َقا ِ‬
‫ع ُدونَ }‪.‬‬ ‫ه ُ‬‫ك َفقَاتِال إِنَّا َ‬ ‫ب أَ َ‬
‫نت َو َربُّ َ‬ ‫الشهيرة‪َ { :‬فا ْذ َ‬
‫ه ْ‬

‫وبهذه النفس ية حكم هللا عليهم بالتي ه‪ .‬وك ان الحكم يح دد أربعين عام ا كامل ة‪ ،‬وق د مكث بن و‬
‫إسرائيل في التيه أربعين سنة‪ ،‬حتى فني جيل بأكمله‪ .‬فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل‪،‬‬
‫وولد في ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد‪ .‬جيل لم ي تربى وس ط من اخ وث ني‪ ،‬ولم يش ل‬
‫روحه انعدام الحرية‪.‬‬

‫جيل لم ينهزم من الداخل‪ ،‬جيل لم يعد يستطيع األبناء فيه أن يفهموا لم اذا يط وف اآلب اء هك ذا‬
‫بغير هدف في تيه ال يبدو ل ه أول وال تس تبين ل ه نهاي ة‪ .‬إال خش ية من لق اء الع دو‪ .‬جي ل ص ار‬
‫ك َف َق اتِال‬ ‫ب أَ َ‬
‫نت َو َربُّ َ‬ ‫مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه‪ .‬جيل ال يق ول لموس ى { َف ا ْذ َ‬
‫ه ْ‬
‫ه َنا َقا ِ‬
‫ع ُدونَ }‪.‬‬ ‫ها ُ‬
‫إِنَّا َ‬

‫جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية‪ ،‬كجزء مهم من نس يج أي ديان ة من ديان ات التوحي د‪.‬‬
‫أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه األربعين عاما‪.‬‬

‫ولقد قدر لموسى‪ .‬زي ادة في معانات ه ورفع ا لدرجت ه عن د هللا تع الى‪ .‬ق در ل ه أال تكتح ل عين اه‬
‫بمرأى هذا الجيل‪ .‬فقد مات موسى علي ه الص الة والس الم قب ل أن ي دخل بن و إس رائيل األرض‬
‫التي كتب هللا عليهم دخولها‪.‬‬

‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حين كان قوم ه يؤذون ه في هللا‪ :‬ق د أوذي موس ى ب أكثر‬
‫من ذلك فصبر‪.‬‬

‫مات هارون قبل موسى بزمن قصير‪ .‬واقترب أجل موسى‪ ،‬عليه الصالة والس الم‪ .‬وك ان لم ي زل‬
‫في التيه‪ .‬قال يدعو ربه‪ :‬رب أدنني إلى األرض المقدسة رمية حجر‪.‬‬

‫أحب أن يموت قريبا من األرض التي هاجر إليها‪ .‬وحث قومه عليها‪ .‬ولكنه لم يستطع‪ ،‬ومات في‬
‫التيه‪ .‬ودفن عند كثيب أحمر ح دث عن ه آخ ر أنبي اء هللا في األرض حين أس رى ب ه‪ .‬ق ال محم د‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ :‬لما أسري بي مررت بموس ى وه و ق ائم يص لي في ق بره عن د الك ثيب‬
‫األحمر‪.‬‬

‫تروي األساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى‪ ،‬وتحكي أنه ضرب مل ك الم وت حين ج اء‬
‫يستل روحه‪ ،‬وأمثال ه ذه الرواي ات كث يرة‪ .‬لكنن ا ال نحب أن نخ وض في ه ذه الرواي ات ح تى ال‬
‫ننجرف وراء اإلسرائيليات التي دخلت بعض كتب التفسير‪.‬‬

‫مات موسى ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬في التيه‪ ،‬وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل‪.‬‬

‫موسى والعبد الصالح‪:‬‬

‫ح ُقبً ا (‪...})60‬‬
‫ي ُ‬ ‫ن أَ ْو أَ ْم ِ‬
‫ض َ‬ ‫ع ا ْلبَ ْ‬
‫ح َر ْي ِ‬ ‫م َ‬
‫ج َ‬ ‫ح َّتى أَ ْب ُل َ‬
‫غ َم ْ‬ ‫وسى لِ َف َت ا ُه اَل أَ ْب َر ُ‬
‫ح َ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ َقا َ‬
‫ل ُم َ‬
‫(الكهف)‪.‬‬

‫كان لموسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬هدف من رحلته هذه ال تي اعتزمه ا‪ ،،‬وأن ه ك ان يقص د من ورائه ا‬
‫امرا‪ ،‬فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البح رين مهم ا تكن المش قة‪ ،‬ومهم ا يكن ال زمن‬
‫ح ُقبًا}‪.‬‬
‫ي ُ‬ ‫الذي ينفه في الوصول‪ .‬فيعبر عن هذا التصميم قائال {َ ْو أَ ْم ِ‬
‫ض َ‬

‫نرى أن القرآن الكريم ال يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث‪ ،‬وال يحدد لن ا الت اريخ‪ ،‬كم ا أن ه‬
‫لم يصرح باألسماء‪ .‬ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى‪ ،‬ه ل ه و ن بي أو رس ول؟‬
‫أم عالم؟ أم ولي؟‬

‫اختلف المفسرون في تحديد المكان‪ ،‬فقيل إنه بحر فارس والروم‪ ،‬وقيل بل بحر األردن أو القلزم‪،‬‬
‫وقيل عند طنجة‪ ،‬وقيل في أفريقيا‪ ،‬وقيل هو بحر األن دلس‪ ..‬وال يق وم ال دليل على ص حة مك ان‬
‫من هذه األمكنة‪ ،‬ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده هللا تعالى‪ ..‬وإنم ا أبهم الس ياق الق رآني‬
‫المكان‪ ،‬كما أبهم تحديد الزمان‪ ،‬كما ضبب أسماء األشخاص لحكمة عليا‪.‬‬

‫إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على األسباب‪ ..‬وليس هو علم األنبياء الق ائم على‬
‫الوحي‪ ..‬إنما نحن أمام علم من طبيعة غامض ة أش د الغم وض‪ ..‬علم الق در األعلى‪ ،‬وذل ك علم‬
‫أسدلت عليه األستار الكثيفة‪ ..‬مك ان اللق اء مجه ول كم ا رأين ا‪ ..‬وزم ان اللق اء غ ير مع روف ه و‬
‫اآلخر‪ ..‬ال نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد‪.‬‬

‫وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع األحداث‪ ،‬وال زمان ه‪ ،‬يخفي الس ياق‬
‫عبَا ِدنَ ا آتَ ْي َن ا ُه‬
‫ن ِ‬
‫القرآني أيضا اسم أهم أبطالها‪ ..‬يشير إليه الحق تبارك وتع الى بقول ه‪َ { :‬ع ْب ًدا ِ ّم ْ‬
‫ما} هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه‪ ..‬ه ذا العب د ه و‬ ‫ع ْل ً‬
‫م َنا ُه ِمن لَّ ُدنَّا ِ‬
‫عن ِدنَا َو َعلَّ ْ‬ ‫م ًة ِم ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ح َ‬
‫َر ْ‬
‫الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫لقد خص هللا تعالى نبيه الكريم موسى ‪-‬علي ه الس الم‪ -‬ب أمور كث يرة‪ .‬فه و كليم هللا ع ز وج ل‪،‬‬
‫وأحد أولي العزم من الرسل‪ ،‬وصاحب معجزة العصا واليد‪ ،‬والنبي الذي أنزلت علي ه الت وراة دون‬
‫واسطة‪ ،‬وإنما كلمه هللا تكليما‪ ..‬هذا النبي العظيم يتح ول في القص ة إلى ط الب علم متواض ع‬
‫يحتمل أستاذه ليتعلم‪ ..‬ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه‪.‬‬

‫وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر ‪-‬عليه الس الم‪ -‬كم ا ح دثتنا أن الف تى ه و يوش ع بن‬
‫نون‪ ،‬ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من هللا بغير أسباب التلقي الني نعرفها‪.‬‬

‫ومع منزلة موسى العظيمة إال أن الخضر يرفض ص حبة موس ى‪ ..‬يفهم ه أن ه لن يس تطيع مع ه‬
‫صبرا‪ ..‬ثم يوافق على صحبته بشرط‪ ..‬أال يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه‪.‬‬

‫والخضر هو الص مت المبهم ذات ه‪ ،‬إن ه ال يتح دث‪ ،‬وتص رفاته تث ير دهش ة موس ى العميق ة‪ ..‬إن‬
‫هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث‪..‬‬
‫وهناك تصرفات تبدو لموسى بال معنى‪ ..‬وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارض ته‪ ..‬ورغم‬
‫علم موسى ومرتبته‪ ،‬فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه هللا من‬
‫لدنه علما‪.‬‬

‫وقد اختلف العلماء في الخضر‪ :‬فيهم من يعتبره وليا من أولياء هللا‪ ،‬وفيهم من يعت بره نبي ا‪ ..‬وق د‬
‫نسجت األساطير نفسها ح ول حيات ه ووج وده‪ ،‬فقي ل إن ه ال ي زال حي ا إلى ي وم القيام ة‪ ،‬وهي‬
‫قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها‪ ،‬فال نقول فيها إال أنه مات كما يموت عباد هللا‪ ..‬وتبقى‬
‫قضية واليته‪ ،‬أو نبوته‪ ..‬وسنرجئ الحديث في هذه القض ية ح تى ننظ ر في قص ته كم ا أورده ا‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬

‫قام موسى خطيبا في بني إس رائيل‪ ،‬ي دعوهم إلى هللا ويح دثهم عن الح ق‪ ،‬ويب دو أن حديث ه‬
‫جاء جامعا مانعا رائعا‪ ..‬بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إس رائيل‪ :‬ه ل‬
‫على وجه األرض أحد اعلم منك يا نبي هللا؟‬

‫قال موسى مندفعا‪ :‬ال‪..‬‬

‫وساق هللا تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه‪ ،‬فبعث إليه جبريل يسأله‪ :‬يا موسى ما‬
‫يدريك أين يضع هللا علمه؟‬

‫أدرك موسى أنه تسرع‪ ..‬وعاد جبريل‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬يقول له‪ :‬إن هلل عبدا بمجم ع البح رين ه و‬
‫أعلم منك‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم‪ ،‬وانعق دت نيت ه على الرحي ل لمص احبة ه ذا العب د‬
‫العالم‪ ..‬سأل كيف السبيل إليه‪ ..‬فأمر أن يرحل‪ ،‬وأن يحمل معه حوتا في مكتل‪ ،‬أي سمكة في‬
‫سلة‪..‬‬

‫وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة له ذا الح وت ويتس رب في البح ر‪ ،‬س يجد العب د الع الم‪..‬‬
‫انطلق موسى ‪-‬طالب العلم‪ -‬ومعه فت اه‪ ..‬وق د حم ل الف تى حوت ا في س لة‪ ..‬انطلق ا بحث ا عن‬
‫العبد الصالح العالم‪ ..‬وليست لديهم أي عالمة على المك ان ال ذي يوج د في ه إال معج زة ارت داد‬
‫الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر‪.‬‬

‫ويظهر عزم موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬على العثور على هذا العبد العالم ول و اض طره األم ر إلى أن‬
‫يسير أحقاب ا وأحقاب ا‪ .‬قي ل أن الحقب ع ام‪ ،‬وقي ل ثم انون عام ا‪ .‬على أي ة ح ال فه و تعب ير عن‬
‫التصميم‪ ،‬ال عن المدة على وجه التحديد‪.‬‬

‫وصل االثنان إلى صخرة جوار البح ر‪ ..‬رق د موس ى واستس لم للنع اس‪ ،‬وبقي الف تى س اهرا‪..‬‬
‫وألقت الرياح إحدى األمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر‪..‬‬
‫س َربًا}‪ ..‬وكان تس رب الح وت إلى البح ر عالم ة أعلم هللا به ا موس ى‬ ‫سبِيلَ ُه فِي ا ْلبَ ْ‬
‫ح ِر َ‬ ‫{ َفاتَّ َ‬
‫خ َذ َ‬
‫لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه‪.‬‬

‫نهض موسى من نومه فلم يالحظ أن الحوت تسرب إلى البح ر‪ ..‬ونس ي فت اه ال ذي يص حبه أن‬
‫يحدثه عما وقع للحوت‪ ..‬وسار موسى مع فت اه بقي ة يومهم ا وليلتهم ا وق د نس يا حوتهم ا‪ ..‬ثم‬
‫ص بًا}‪..‬‬
‫ه ذَا نَ َ‬ ‫ل لِ َف َتا ُه آتِ َنا َغ َداءنَا لَق َْد لَ ِقي َن ا ِمن َ‬
‫س َف ِرنَا َ‬ ‫تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب‪َ { ..‬قا َ‬
‫ولمع في ذهن الفتى ما وقع‪.‬‬

‫ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك‪ ..‬وأخبر موسى بم ا وق ع‪ ،‬واعت ذر إلي ه‬
‫ح ِر‬‫{س ِبيلَ ُه فِي ا ْلبَ ْ‬
‫َ‬ ‫بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع‪ ،‬رغم غرابة ما وقع‪ ،‬فقد اتخذ الحوت‬
‫ج ًبا}‪ ..‬كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون‪ ،‬لقد رأى الح وت يش ق الم اء في ترك عالم ة وكأن ه‬ ‫َع َ‬
‫طير يتلوى على الرمال‪.‬‬

‫ك َما ُك َّنا نَ ْبغِ}‪ ..‬هذا ما كنا نريده‪ ..‬إن تس رب‬ ‫سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و{ َقا َ‬
‫ل َذلِ َ‬
‫الحوت يحدد المكان ال ذي س نلتقي في ه بالرج ل الع الم‪ ..‬ويرت د موس ى وفت اه يقص ان أثرهم ا‬
‫عائدين‪ ..‬انظر إلى بداية القصة‪ ،‬وكيف تجيء غامضة أشد الغموض‪ ،‬مبهمة أعظم اإلبهام‪.‬‬

‫أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت‪ ..‬وصال إلى الص خرة ال تي نام ا عن دها‪،‬‬
‫وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر‪ ..‬وهناك وجدا رجال‪.‬‬

‫يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه‪ ..‬وقد جعل طرفه تحت رجلي ه وط رف‬
‫تحت رأسه‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫فس لم علي ه موس ى‪ ،‬فكش ف عن وجه ه وق ال‪ :‬ه ل بأرض ك س الم‪..‬؟ من أنت؟‬
‫ى‪.‬‬ ‫ا موس‬ ‫ى‪ :‬أن‬ ‫ال موس‬ ‫ق‬
‫ق ال الخض ر‪ :‬موس ى ب ني إس رائيل‪ ..‬علي ك الس الم ي ا ن بي إس رائيل‪.‬‬
‫ا أدراك بي‪..‬؟‬ ‫ى‪ :‬وم‬ ‫ال موس‬ ‫ق‬
‫ى‪..‬؟‬ ‫ا موس‬ ‫دي‬ ‫اذا تري‬ ‫ك علي‪ ..‬م‬ ‫ذي أدراك بي ودل‬ ‫ر‪ :‬ال‬ ‫ال الخض‬ ‫ق‬
‫ش ًدا}‪.‬‬ ‫ت ُر ْ‬‫م َ‬‫ما ُع ِل ّ ْ‬
‫ن ِم َّ‬ ‫م ِ‬ ‫ك َعلَى أَن ُت َع ِل ّ َ‬
‫ل أَتَّ ِب ُع َ‬
‫ه ْ‬ ‫ق ال موس ى مالطف ا مبالغ ا في التوق ير‪َ { :‬‬
‫ي‬
‫ع َم ِع َ‬
‫طي َ‬
‫س َت ِ‬‫ك لَن تَ ْ‬ ‫قال الخضر‪ :‬أما يكفيك أن التوراة بيديك‪ ..‬وأن الوحي يأتيك‪..‬؟ يا موسى {إِنَّ َ‬
‫ص ْب ًرا}‪.‬‬
‫َ‬

‫نريد أن نتوقف لحظة لنالحظ الفرق بين سؤال موسى المالطف المغالي في األدب‪ ..‬ورد الخضر‬
‫الحاسم‪ ،‬الذي يفهم موسى أن علم ه ال ينبغي لموس ى أن يعرف ه‪ ،‬كم ا أن علم موس ى ه و‬
‫علم ال يعرفه الخضر‪..‬‬

‫يقول المفسرون إن الخض ر ق ال لموس ى‪ :‬إن علمي أنت تجهل ه‪ ..‬ولن تطي ق علي ه ص برا‪ ،‬ألن‬
‫الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تش في قلب ك ولن تعطي ك تفس يرا‪ ،‬وربم ا رأيت في‬
‫تصرفاتي ما ال تفهم له سببا أو تدري له علة‪ ..‬وإذن لن تصبر على علمي يا موسى‪.‬‬

‫احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه‪ ..‬وقال ل ه‬
‫موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء هللا صابرا وال يعصي له أمرا‪.‬‬

‫تأمل كيف يتواضع كليم هللا ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا‪.‬‬

‫ق ال الخض ر لموس ى ‪-‬عليهم ا الس الم‪ -‬إن هن اك ش رطا يش ترطه لقب ول أن يص احبه موس ى‬
‫ويتعلم من ه ه و أال يس أله عن ش يء ح تى يحدث ه ه و عن ه‪ ..‬فواف ق موس ى على الش رط‬
‫وانطلقا‪..‬‬

‫انطلق موسى مع الخضر يمشيان على س احل البح ر‪ ..‬م رت س فينة‪ ،‬فطلب الخض ر وموس ى‬
‫من أصحابها أن يحملوهما‪ ،‬وعرف أصحاب السفينة الخضر فحمل وه وحمل وا موس ى ب دون أج ر‪،‬‬
‫إكراما للخضر‪.‬‬

‫وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها‪ ..‬فوجئ بأن الخضر يتخلف فيه ا‪،‬‬
‫لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخض ر يخ رق الس فينة‪ ..‬اقتل ع لوح ا من ألواحه ا وألق اه في‬
‫البحر فحملته األمواج بعيدا‪.‬‬

‫فاستنكر موسى فعلة الخضر‪ .‬لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر‪ ..‬أكرمونا‪ ..‬وها ه و ذا يخ رق‬
‫س فينتهم ويفس دها‪ ..‬ك ان التص رف من وجه ة نظ ر موس ى معيب ا‪ ..‬وغلبت طبيع ة موس ى‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫المندفعة عليه‪ ،‬كما حركته غيرته على الحق‪ ،‬فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي ش رطه‬
‫ش ْي ًئا إِ ْم ًرا}‪.‬‬
‫ْت َ‬
‫جئ َ‬ ‫ق أَ ْ‬
‫هلَ َها لَق َْد ِ‬ ‫ل أَ َ‬
‫خ َر ْق َت َها لِ ُتغ ِْر َ‬ ‫الذي اشترطه عليه‪َ { :‬قا َ‬

‫وهنا يلفت العبد الرباني نظ ر موس ى إلى عبث محاول ة التعليم من ه‪ ،‬ألن ه لن يس تطيع الص بر‬
‫ص ْب ًرا}‪ ،‬ويعت ذر موس ى بالنس يان ويرج وه أال يؤاخ ذه‬ ‫ي َ‬ ‫ع َم ِع َ‬‫طي َ‬
‫س َت ِ‬ ‫ك لَن تَ ْ‬ ‫م أَق ْ‬
‫ُل إِنَّ َ‬ ‫ل أَلَ ْ‬
‫عليه { َقا َ‬
‫ن أَ ْم ِري ُع ْ‬
‫س ًرا}‪.‬‬ ‫يت َواَل ُت ْر ِ‬
‫ه ْقنِي ِم ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ما ن َ ِ‬ ‫وأال يرهقه { َقا َ‬
‫ل اَل ُتؤَاخِذْ نِي بِ َ‬

‫سارا معا‪ ..‬فمرا على حديق ة يلعب فيه ا الص بيان‪ ..‬ح تى إذا تعب وا من اللعب انتحى ك ل واح د‬
‫منهم ناحية واستسلم للنعاس‪ ..‬فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقت ل غالم ا‪ ..‬ويث ور موس ى‬
‫سائال عن الجريمة التي ارتكبه ا ه ذا الص بي ليقتل ه هك ذا‪ ..‬يع اود العب د الرب اني ت ذكيره بأن ه‬
‫ص ْب ًرا}‪..‬‬
‫ع َم ِعي َ‬
‫طي َ‬ ‫ك لَن تَ ْ‬
‫س َت ِ‬ ‫م أَقُل لَّ َ‬
‫ك إِنَّ َ‬ ‫ل أَلَ ْ‬
‫أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه { َقا َ‬

‫ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود األسئلة وإذا سأله مرة أخرى س يكون من حق ه أن يفارق ه‬
‫ح ْبنِي َق ْد بَلَغ َ‬
‫ْت ِمن لَّ ُدنِ ّي ُعذْ ًرا}‪.‬‬ ‫ها فَاَل ُت َ‬
‫صا ِ‬ ‫ي ٍء بَ ْع َد َ‬
‫ش ْ‬ ‫سأَ ْل ُت َ‬
‫ك َعن َ‬ ‫{ َقا َ‬
‫ل إِن َ‬

‫ومضى موسى مع الخضر‪ ..‬ف دخال قري ة بخيل ة‪ ..‬ال يع رف موس ى لم اذا ذهب ا إلى القري ة‪ ،‬وال‬
‫يعرف لماذا يبيتان فيها‪ ،‬نفذ ما معهما من الطعام‪ ،‬فاستطعما أه ل القري ة ف أبوا أن يض يفوهما‪..‬‬
‫وجاء عليهما المساء‪ ،‬وأوى االثنان إلى خالء فيه جدار يريد أن ينقض‪ ..‬ج دار يته اوى ويك اد يهم‬
‫بالسقوط‪..‬‬

‫وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصالح الج دار وبنائ ه من جدي د‪..‬‬
‫ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه‪ ،‬إن القرية بخيل ة‪ ،‬ال يس تحق من فيه ا ه ذا العم ل‬
‫ه أَ ْ‬
‫ج ًرا}‪ ..‬انتهى األمر بهذه العبارة‪ ..‬ق ال عب د هللا لموس ى‪:‬‬ ‫ت َعلَ ْي ِ‬ ‫ْت اَل تَّ َ‬
‫خذْ َ‬ ‫شئ َ‬ ‫ل لَ ْو ِ‬
‫المجاني { َقا َ‬
‫ك}‪.‬‬ ‫هذَا فِ َراقُ بَ ْينِي َوبَ ْينِ َ‬
‫{ َ‬

‫لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال‪ .‬وجاء دور التفسير اآلن‪..‬‬

‫إن كل تصرفات العبد الرباني التي أث ارت موس ى وحيرت ه لم يكن حين فعله ا تص در عن أم ره‪..‬‬
‫ك ان ينف ذ إرادة علي ا‪ ..‬وك انت له ذه اإلرادة العلي ا حكمته ا الخافي ة‪ ،‬وك انت التص رفات تش ي‬
‫بالقسوة الظاهرة‪ ،‬بينما تخفي حقيقتها رحمة حاني ة‪ ..‬وهك ذا تخفي الك وارث أحيان ا في ال دنيا‬
‫جوهر الرحمة‪.‬‬

‫وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر‪ ،‬وهكذا يتناقض ظاهر األمر وباطن ه‪ ،‬وال يعلم موس ى‪،‬‬
‫رغم علم ه الهائ ل غ ير قط رة من علم العب د الرب اني‪ ،‬وال يعلم العب د الرب اني من علم هللا إال‬
‫بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر‪ ،‬من ماء البحر‪..‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه‪ ..‬كشف له أن علم ه ‪-‬أي علم موس ى‪-‬‬
‫محدود‪ ..‬كما كشف له أن كثيرا من المصائب ال تي تق ع على األرض تخفي في ردائه ا األس ود‬
‫الكئيب رحمة عظمى‪.‬‬

‫إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم‪ ،‬بينما هي نعمة تتخفى في زي‬
‫المصيبة‪ ..‬نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إال بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن‬
‫الموج ودة غص با‪ ،‬ثم يفلت ه ذه الس فينة التالف ة المعيب ة‪ ..‬وب ذلك يبقى مص در رزق األس رة‬
‫عندهم كما هو‪ ،‬فال يموتون جوعا‪.‬‬

‫أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء‪ ..‬غير‬
‫أن موته يمثل بالنسبة لهما رحم ة عظمى‪ ،‬ف إن هللا س يعطيهما ب دال من ه غالم ا يرعاهم ا في‬
‫شيخوختهما وال يرهقهما طغيانا وكفرا كالغالم المقتول‪.‬‬

‫وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة‪ ،‬وترتدي الرحمة قناع الكارثة‪ ،‬ويختلف ظاهر األشياء عن‬
‫باطنها حتى ليحتج نبي هللا موسى إلى تص رف يج ري أمام ه‪ ،‬ثم يس تلفته عب د من عب اد هللا‬
‫إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة هللا الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة‪.‬‬

‫أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته‪ ،‬من غير أن يطلب أجرا من أه ل القري ة‪ ،‬ك ان يخ بئ تحت ه‬
‫ك نزا لغالمين ي تيمين ض عيفين في المدين ة‪ .‬ول و ت رك الج دار ينقض لظه ر من تحت ه الك نز فلم‬
‫يستطع الصغيران أن يدفعا عنه‪ ..‬ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما هللا بصالحه في طفولتهم ا‬
‫وضعفهما‪ ،‬فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته‪.‬‬

‫ثم ينفض الرجل يده من األمر‪ .‬فهي رحمة هللا التي اقتضت هذا التص رف‪ .‬وه و أم ر هللا ال أم ره‪.‬‬
‫فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها‪ ،‬ووجهه إلى التصرف فيها وفق م ا أطلع ه‬
‫عليه من غيبه‪.‬‬

‫واختفى هذا العبد الص الح‪ ..‬لق د مض ى في المجه ول كم ا خ رج من المجه ول‪ ..‬إال أن موس ى‬
‫تعلم من صحبته درسين مهمين‪ :‬تعلم أال يغتر بعلمه في الشريعة‪ ،‬فهناك علم الحقيقة‪.‬‬

‫وتعلم أال يتجهم قلبه لمصائب البشر‪ ،‬فربما تكون يد الرحم ة الخالق ة تخفي س رها من اللط ف‬
‫واإلنقاذ‪ ،‬واإليناس وراء أقنعة الحزن واآلالم والموت‪.‬‬

‫هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم هللا عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء‪.‬‬

‫واآلن من يكون صاحب هذا العلم إذن‪..‬؟ أهو ولي أم نبي‪..‬؟‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫يرى كثير من الصوفية أن هذا العبد الرباني ولي من أولياء هللا تع الى‪ ،‬أطلع ه هللا على ج زء من‬
‫علمه اللدني بغير أسباب انتقال العلم المعروفة‪ ..‬ويرى بعض العلماء أن هذا العب د الص الح ك ان‬
‫نبيا‪ ..‬ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه‪:‬‬

‫ع ْل ً‬
‫ما(‬ ‫م َن ا ُه ِمن لَّ ُدنَّا ِ‬
‫عن ِدنَا َو َعلَّ ْ‬ ‫م ًة ِم ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ح َ‬
‫عبَا ِدنَا آتَ ْي َن ا ُه َر ْ‬
‫ن ِ‬ ‫‪ -1‬أحدها قوله تعالى‪َ { :‬ف َو َ‬
‫ج َدا َع ْب ًدا ِ ّم ْ‬
‫‪( ...})65‬الكهف)‪.‬‬

‫ش ًدا (‪)66‬‬ ‫ت ُر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ما ُع ِل ّ ْ‬


‫ن ِم َّ‬ ‫ك َعلَى أَن ُت َع ِل ّ َ‬
‫م ِ‬ ‫ل أَتَّ ِب ُع َ‬‫ه ْ‬ ‫وسى َ‬ ‫ل لَ ُه ُم َ‬‫‪ -2‬والثاني قول موسى له‪َ { :‬قا َ‬
‫ج ُدنِي‬‫س َت ِ‬
‫ل َ‬ ‫خ ْب ًرا (‪َ )68‬ق ا َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ط بِ ِ‬ ‫ح ْ‬
‫م ُت ِ‬‫ص ِب ُر َعلَى َما لَ ْ‬ ‫ف تَ ْ‬ ‫ص ْب ًرا (‪َ )67‬و َك ْي َ‬
‫ي َ‬
‫ع َم ِع َ‬ ‫طي َ‬ ‫س َت ِ‬ ‫ك لَن تَ ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل إِنَّ َ‬
‫حدِثَ‬‫ح َّتى ُأ ْ‬
‫ي ٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫سأَ ْلنِي َعن َ‬ ‫ن اتَّبَ ْع َتنِي فَاَل تَ ْ‬ ‫ل َفإِ ِ‬‫ك أَ ْم ًرا ( ‪َ )69‬قا َ‬‫صي ل َ َ‬ ‫صابِ ًرا َواَل أَ ْع ِ‬‫شاء اللَّ ُه َ‬ ‫إِن َ‬
‫ك ِم ْن ُه ِذ ْك ًرا (‪( ...})70‬الكهف)‪.‬‬ ‫لَ َ‬

‫فلو كان وليا ولم يكن نبي‪ ،‬لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة‪ ،‬ولم يرد على موسى هذا ال رد‪.‬‬
‫ولو أنه كان غير نبي‪ ،‬لكان هذا معن اه أن ه ليس معص وما‪ ،‬ولم يكن هن اك داف ع لموس ى‪ ،‬وه و‬
‫النبي العظيم‪ ،‬وصاحب العصمة‪ ،‬أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة‪.‬‬

‫‪ -3‬والثالث أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغالم بوحي من هللا وأمر من ه‪ ..‬وه ذا دلي ل مس تقل‬
‫على نبوته‪ ،‬وبرهان ظاهر على عصمته‪ ،‬ألن الولي ال يجوز له اإلقدام على قتل النفوس بمج رد‬
‫ما يلقى في خلده‪ ،‬ألن خاطره ليس بواجب العصمة‪ ..‬إذ يجوز عليه الخطأ باالتف اق‪ ..‬وإذن ففي‬
‫إقدام الخضر على قتل الغالم دليل نبوته‪.‬‬

‫ن أَ ْم ِري}‪ .‬يع ني أن م ا فعلت ه لم‬


‫ك َو َم ا َف َع ْل ُت ُه َع ْ‬
‫م ًة ِ ّمن َّربِ ّ َ‬
‫ح َ‬
‫‪ -4‬والرابع قول الخضر لموسى‪َ { :‬ر ْ‬
‫أفعله من تلقاء نفسي‪ ،‬بل أمر أمرت به من هللا وأوحي إلي فيه‪.‬‬

‫فرأى العلماء أن الخضر نبيا‪ ،‬أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء هللا‪.‬‬

‫ومن كلمات الخضر التي أوردها الصوفية عنه‪ ..‬ق ول وهب بن منب ه‪ :‬ق ال الخض ر‪ :‬ي ا موس ى إن‬
‫الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها‪ .‬وقول بشر بن الح ارث الح افي‪ ..‬ق ال موس ى‬
‫للخضر‪ :‬أوصني‪ ..‬قال الخضر‪ :‬يسر هللا عليك طاعته‪.‬‬

‫ونحن نميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني‪ ،‬غير أننا ال نج د نص ا في س ياق الق رآن على نبوت ه‪،‬‬
‫وال نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه هللا بعض علمه اللدني‪ ..‬ولعل هذا الغموض حول شخص ه‬
‫الكريم جاء متعمدا‪ ،‬ليخدم الهدف األصلي للقصة‪ ..‬ولسوف نلزم مكاننا فال نتعداه ونختصم ح ول‬
‫نبوته أو واليته‪ ..‬وإن أوردناه في سياق أنبياء هللا‪ ،‬لكونه معلم ا لموس ى‪ ..‬وأس تاذا ل ه ف ترة من‬
‫الزمن‪.‬‬

‫قارون وقوم موسى‪:‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫يروي لنا القرآن قصة قارون‪ ،‬وهو من قوم موس ى‪ .‬لكن الق رآن ال يح دد زمن القص ة وال مكانه ا‪.‬‬
‫فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخ روج؟ أو وقعت بع د الخ روج في‬
‫حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ وبعيدا عن الروايات المختلف ة‪ ،‬ن ورد‬
‫القصة كما ذكرها القرآن الكريم‪.‬‬

‫يحدثنا هللا عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مف اتيح الحج رات ال تي تض م الكن وز‪ ،‬ك ان‬
‫يصعب حملها على مجموعة من الرجال األشداء‪ .‬ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال‪ ،‬فكيف‬
‫كانت الكنوز ذاتها؟!‬

‫لكن قارون بغى على قومه بعد أن آتاه هللا الثراء‪ .‬وال يذكر القرآن فيم ك ان البغي‪ ،‬ليدع ه مجهال‬
‫يشمل شتى الصور‪ .‬فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم‪ .‬وربم ا بغى عليهم‬
‫بحرمانهم حقهم في ذلك المال‪ .‬حق الفق راء في أم وال األغني اء‪ .‬وربم ا بغى عليهم بغ ير ه ذه‬
‫األسباب‪.‬‬

‫ويب دو أن العقالء من قوم ه نص حوه بالقص د واالعت دال‪ ،‬وه و المنهج الس ليم‪ .‬فهم يح ذروه من‬
‫الفرح الذي يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال‪ ،‬وينصحونه ب التمتع بالم ال في‬
‫الدنيا‪ ،‬من غير أن ينسى اآلخرة‪ ،‬فعليه أن يعمل آلخرته به ذا الم ال‪ .‬ويذكرون ه ب أن ه ذا الم ال‬
‫هبة من هللا وإحسان‪ ،‬فعليه أن يحسن ويتصدق من هذا المال‪ ،‬حتى يرد اإلحسان باإلحسان‪.‬‬

‫ويحذرونه من الفساد في األرض‪ ،‬بالبغي‪ ،‬والظلم‪ ،‬والحس د‪ ،‬والبغض اء‪ ،‬وإنف اق الم ال في غ ير‬
‫وجهه‪ ،‬أو إمساكه عما يجب أن يكون فيه‪ .‬فاهلل ال يحب المفسدين‪.‬‬

‫عن ِدي}‪ .‬لق د‬‫م ِ‬ ‫ما ُأوتِي ُت ُه َعلَى ِ‬


‫ع ْل ٍ‬ ‫فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد { َقا َ‬
‫ل إِنَّ َ‬
‫أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها‪ ،‬وفتنه المال وأعم اه ال ثراء‪ .‬فلم يس تمع ق ارون لن داء‬
‫قومه‪ ،‬ولم يشعر بنعمة ربه‪.‬‬

‫وخرج قارون ذات يوم على قومه‪ ،‬بكامل زينته‪ ،‬فطارت قلوب بعض القوم‪ ،‬وتمن وا أن ل ديهم مث ل‬
‫ما أوتي قارون‪ ،‬وأحسوا أنه في نعمة كبيرة‪ .‬ف رد عليهم من س معهم من أه ل العلم واإليم ان‪:‬‬
‫ويلكم أيها المخدوعون‪ ،‬احذروا الفتنة‪ ،‬واتقوا هللا‪ ،‬واعلموا أن ثواب هللا خير من ه ذه الزين ة‪ ،‬وم ا‬
‫عند هللا خير مما عند قارون‪.‬‬

‫وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها‪ ،‬وتتهافت أمامها النفوس وتته اوى‪ ،‬تت دخل الق درة اإللهي ة لتض ع‬
‫حدا للفتنة‪ ،‬وترحم الناس الضعاف من إغراءها‪ ،‬وتحطم الغرور والكبرياء‪ ،‬فيجيء العق اب حاس ما‬
‫ض} هكذا في لمحة خاطفة ابتلعت ه األرض وابتلعت داره‪ .‬وذهب ض عيفا‬ ‫ار ِه اأْل َ ْر َ‬
‫ه َوبِ َد ِ‬
‫س ْف َنا بِ ِ‬ ‫{ َف َ‬
‫خ َ‬
‫عاجزا‪ ،‬ال ينصره أحد‪ ،‬وال ينتصر بجاه أو مال‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬
‫وبدأ الناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجب واعتبار‪ .‬فقال الذين كانوا يتمن ون أن‬
‫عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظه في الدنيا‪ :‬حقا إن هللا تعالى يبسط الرزق لمن يش اء‬
‫ن علينا فحفظنا من الخس ف والع ذاب‬ ‫من عباده ويوسع عليهم‪ ،‬أو يقبض ذلك‪ ،‬فالحمد هلل أن م ّ‬
‫األليم‪ .‬إنا تبنا إليك سبحانك‪ ،‬فلك الحمد في األولى واآلخرة‪.‬‬

‫أميرة نحراوى‬
‫موسى عليه السالم‬

You might also like