Professional Documents
Culture Documents
موسى عليه السلام
موسى عليه السلام
أرسله هللا تعالى إلى فرعون وقومه ،وأيده بمعجزتين ،إحداهما هي العصا التي تلقف الثع ابين،
أما األخرى فكانت يده ال تي ي دخلها في جيب ه فتخ رج بيض اء من غ ير س وء ،دع ا موس ى إلى
وحدانية هللا فحاربه فرعون وجمع له الس حرة ليكي دوا ل ه ولكن ه
هزمهم بإذن هللا تعالى ،ثم أم ره هللا أن يخ رج من مص ر م ع من
اتبع ه ،فط ارده فرع ون بجيش عظيم ،ووقت أن ظن أتباع ه أنهم
م دركون أم ره هللا أن يض رب البح ر بعص اه لتك ون نجات ه وليك ون
هالك فرعون الذي جعله هللا عبرة لآلخرين.
أرس ل موس ى وه ارون عليهم ا الس الم ألش د الش عوب كره ا
للح ق وابتع ادا عن ه ..ل ذلك ك انت حياتهم ا مليئ ة باألح داث
والمواقف.
يرته: س
أثناء حياة يوسف علي السالم بمصر ،تحولت مصر إلى التوحي د.
توحيد هللا سبحانه ،وهي الرسالة التي كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم.
لكن بعد وفاته ،عاد أهل مصر إلى ضاللهم وش ركهم .أم ا أبن اء يعق وب ،أو أبن اء إس رائيل ،فق د
ل منهم من ض ل ،وبقي على التوحي د من بقي .وتك اثر أبن اء اختلط وا ب المجتمع المص ري ،فض ّ
إسرائيل وتزايد عددهم ،واشتغلوا في العديد من الحرف.
ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه .ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون ويزي دون
ويملكون .وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إن واحدا من أبناء إسرائيل سيس قط فرع ون مص ر
عن عرشه.
فأصدر الفرعون أمره أال يلد أحد من بني إسرائيل ،أي أن يقتل أي وليد ذكر .وبدأ تطبيق النظام،
ثم قال مستشارون فرعون له ،إن الكبار من بني إس رائيل يموت ون بآج الهم ،والص غار ي ذبحون،
وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل ،فستضعف مص ر لقل ة األي دي العامل ة به ا .واألفض ل أن
تنظم العملية بأن يذبحون الذكور في عام ويتركونهم في العام الذي يليه.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
خافت عليه من القتل .راحت ترضعه في السر .ثم جاءت عليها ليلة مباركة أوحى هللا إليها فيها
لألم بصنع صندوق صغير لموسى .ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق .وإلقاءه في النهر.
كان قلب األم ،وهو أرحم القلوب في ال دنيا ،يمتلئ ب األلم وهي ت رمي ابنه ا في الني ل ،لكنه ا
كانت تعلم أن هللا أرحم بموسى منها ،وهللا هو ربه ورب النيل.
لم يكد الصندوق يلمس مياه النيل حتى أصدر الخالق أم ره إلى األم واج أن تك ون هادئ ة حاني ة
وهي تحمل هذا الرضيع الذي سيكون نبيا فيما بعد ،ومثلما أصدر هللا تعالى أمره للن ار أن تك ون
بردا وسالما على إبراهيم ،كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورف ق ح تى يس لمه
إلى قصر فرعون.
وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون .وهناك أسلمه الموج للشاطئ.
وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر .وك انت زوج ة فرع ون تختل ف
كثيرا عنه .فقد كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة .كان هو قاسيا وك انت هي رحيم ة .ك ان جب ارا
وكانت رقيقة وطيبة .وأيضا كانت حزينة ،فلم تكن تلد .وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد.
وعندما ذهبت الجواري ليمألن الجرار من النه ر ،وج دن الص ندوق ،فحملن ه كم ا ه و إلى زوج ة
فرعون .فأمرتهن أن يفتحنه ففتحنه .فرأت موسى بداخله فأحست بحبه في قلبها .فلق د ألقى
هللا في قلبها محبته فحملته من الصندوق .فاستيقظ موسى وبدأ يبكي .كان جائع ا يحت اج إلى
رضعة الصباح فبكى.
فجاءت زوجة فرعون إليه ،وهي تحمل بين بيدها طفال رضيعا .فسأل من أين ج اء ه ذا الرض يع؟
فحدثوه بأمر الصندوق .فقال بقلب ال يعرف الرحمة :الب د أن ه أح د أطف ال ب ني إس رائيل .أليس
المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟
فذكّرت آس يا -ام رأة فرع ون -زوجه ا بع دم ق درتهم على وطلبت من ه أن يس مح له ا بتربيت ه.
سمح لها بذلك.
ع اد موس ى للبك اء من الج وع .ف أمرت بإحض ار المراض ع .فحض رت مرض عة من القص ر وأخ ذت
موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها .فحضرت مرضعة ثانية وثالث ة وعاش رة وموس ى يبكي وال
يريد أن يرضع .فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزين ة الباكي ة بس بب رف ع موس ى لجمي ع المراض ع .فلق د
كانت أم موسى هي األخرى حزينة باكية .لم تكد ترمي موسى في الني ل ح تى أحس ت أنه ا
ترمي قلبها في النيل .غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره.
وجاء الصباح على أم موسى فإذا قلبه ا ف ارغ ي ذوب حزن ا على ابنه ا ،وك ادت ت ذهب إلى قص ر
فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون .لوال أن هللا تعالى ربط على قلبها ومأل بالسالم نفس ها
فهدأت واستكانت وتركت أمر ابنها هلل .ك ل م ا في األم ر أنه ا ق الت ألخت ه :اذه بي به دوء إلى
المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.
وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرع ون ،ف إذا به ا تس مع القص ة الكامل ة .رأت
موسى من بعيد وسمعت بكاءه ،ورأتهم حائرين ال يعرفون كيف يرضعونه ،سمعت أنه يرفض كل
المراض ع .وق الت أخت موس ى لح رس فرع ون :ه ل أدلكم على أه ل بيت يرض عونه ويكفلون ه
ويهتمون بأمره ويخدمونه؟
ففرحت زوجة فرعون كث يرا له ذا األم ر ،وطلبت منه ا أن تحض ر المرض عة .وع ادت أخت موس ى
وأحض رت أم ه .وأرض عته أم ه فرض ع .وتهللت زوج ة فرع ون وق الت( :خذي ه ح تى تنتهي ف ترة
رضاعته وأعيديه إلينا بعدها ،وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له).
وهكذا رد هللا تعالى موسى ألمه كي تقر عينها ويه دأ قلبه ا وال تح زن ولتعلم أن وع د هللا ح ق
وأن كلماته سبحانه تنفذ رغم أي شيء .ورغم كل شيء.
أتمت أم موسى رضاعته وأسلمته لبيت فرع ون .ك ان موض ع حب الجمي ع .ك ان ال ي راه أح د إال
أحبه .وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ هللا وعنايت ه .ب دأت تربي ة موس ى في بيت
فرعون .وكان هذا ال بيت يض م أعظم الم ربين والمدرس ين في ذل ك ال وقت .ك انت مص ر أيامه ا
أعظم دولة في األرض.
وكان فرع ون أق وى مل ك في األرض ،ومن الط بيعي أن يض م قص ره أعظم الم دربين والمثقفين
والمربين في األرض .وهكذا شاءت حكمة هللا تعالى أن يتربى موس ى أعظم تربي ة وأن يتعه ده
أعظم المدرسين ،وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تنفي ذا لمش يئة
الخالق.
وكبر موسى في بيت فرعون .كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرع ون ،إنم ا ه و واح د من ب ني
إسرائيل .وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل ..وكبر موسى وبلغ أشده..
ن أَ ْ
هلِ َه ا} وراح يتمش ى فيه ا .فوج د رجال من إتب اع فرع ون ين َغ ْفلَ ٍ
ة ِ ّم ْ ح ِم ِدي َن َة َعلَى ِ
ل ا ْل َ
خ َ
{ َو َد َ
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل ،واستغاث به الرج ل الض عيف فت دخل موس ى وأزاح بي ده
الرجل الظالم فقتله.
كان موسى قويا جدا ،ولم يكن يقصد قتل الظالم ،إنما أراد إزاحته فقط ،لكن ضربته ه ذه قتلت ه.
ين} .ودع ا ل ُّمبِ ٌ ض ٌّ الش ْيطَ ِ
ان إِنَّ ُه َع ُد ٌّو ُّم ِ َّ ل
م ِ
ن َع َ
هذَا ِم ْ ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسهَ { :
ور ْ
ه َو ال َغ ُف ُس ي ف اغْ ِف ْر لِي} .وغف ر هللا تع الى ل ه{ ،إِنَّ ُه ُ َ ت نَ ْف ِ ب إِنِ ّي ظَلَ ْ
م ُ موس ى رب هَ { :ق ا َ
ل َر ّ ِ
يم}.
ح ُال َّر ِ
ووع د موس ى ب أن ال يك ون ظه يرا للمج رمين .لن يت دخل في المش اجرات بين المج رمين
والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه .وفوجئ موس ى أثن اء س يره بنفس الرج ل ال ذي أنق ذه
باألمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم .كان الرجل مشتبكا في ع راك م ع أح د المص ريين .وأدرك
موس ى ب أن ه ذا اإلس رائيلي مش اغب .أدرك أن ه من ه واة المش اجرات .وص رخ موس ى في
ين}. ك لَغ َِو ٌّ
ي ُّمبِ ٌ اإلسرائيلي يعنفه قائال{ :إِنَّ َ
ق ال موس ى كلمت ه وان دفع نحوهم ا يري د البطش بالمص ري .واعتق د اإلس رائيلي أن موس ى
سيبطش به هو .دفعه الخوف من موسى إلى استرحامه ص ارخا ،وذكّ ره بالمص ري ال ذي قتل ه
باألمس .فتوقف موسى ،سكت عنه الغضب وتذكر ما فعله باألمس ،وكيف اس تغفر وت اب ووع د
أال يكون نصيرا للمجرمين .استدار موسى عائدا ومضى وهو يستغفر ربه.
وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع اإلسرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا على
جثته أمس .ولم يكن أحد من المصررين يعلم من القاتل .فنش ر ه ذا المص ري الخ بر في أرج اء
المدينة .وانكشف سر موسى وظهر أمره.
لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى .ونرجح أنه ك ان رجال مص ريا من ذوي
األهمية ،فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا ،ولو كان شخصية عادية لم ا
عرف .يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه باألمس ..لقد قتل الرجل خط أ.
فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.
لكن رؤساء القوم وعليتهم ،الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى ألنه من بني إسرائيل ،وألن ه
نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر ،وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى،
فهو قاتل المصري ،لذا فهو يستحق القتل.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
ج ِني
ب نَ ّ ِ
خرج موسى من مصر على الفور .خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب .في قلب ه دع اء هلل { َر ّ ِ
ين } .وكان القوم ظالمين حقا .أال يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد علي ه ،وه و م َن ا ْل َق ْو ِم الظَّالِ ِ
ِم َ
لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجال فقتله خطأ؟
خرج موسى من مصر على عجل .لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير مالبسه ولم يأخذ طعام ا
للطريق ولم يع د للس فر عدت ه .لم يكن مع ه داب ة تحمل ه على ظهره ا وتوص له .ولم يكن في
قافلة .إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج.
اختار طريقا غير مطروق وسلكه .دخل في الصحراء مباش رة واتج ه إلى حيث ق درت ل ه العناي ة
اإللهي ة أن يتج ه .لم يكن موس ى يس ير قاص دا مكان ا معين ا .ه ذه أول م رة يخ رج فيه ا ويع بر
الصحراء وحده.
موسى في مدين:
ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان .كان هذا المكان هو م دين .جلس يرت اح عن د
بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم .وكان خائفا طوال الوقت أن يرس ل فرع ون من وراءه من
يقبض عليه.
لم يك د موس ى يص ل إلى م دين ح تى ألقى بنفس ه تحت ش جرة واس تراح .ن ال من ه الج وع
والتعب ،وسقطت نعله بعد أن ذابت من مش قة الس ير على الرم ال والص خور وال تراب .لم تكن
معه نقود لشراء نعل جديدة .ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب.
الحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم ،ووجد امرأتين تكف ان غنمهم ا أن يختلط ا بغنم
القوم ،أحس موس ى بم ا يش به اإلله ام أن الفت اتين في حاج ة إلى المس اعدة .تق دم منهم ا
وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في شيء.
قي. قي غنمهم لنس اة من س ر أن ينتهي الرع داهما :نحن ننتظ الت إح ق
قيان؟ اذا ال تس ى :ولم أل موس س
ال. زاحم الرج تطيع أن ن رى :ال نس الت األخ ق
اندهش موسى ألنهما ترعي ان الغنم .المف روض أن ي رعى الرج ال األغن ام .ه ذه مهم ة ش اقة
ة. اج إلى اليقظ ة وتحت ومتعب
ان الغنم؟ اذا ترعي ى :لم أل موس س
فق الت واح دة منهم ا :أبون ا ش يخ كب ير ال تس اعده ص حته على الخ روج ك ل ي وم لل رعي.
فقال موسى :سأسقي لكما.
سار موسى نحو الماء .وسقى لهم الغنم مع بقي ة الرع اة .وفي رواي ة أن أن الرع اة ق د وض عوا
على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة ال يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال .فرفع
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
موسى الصخرة وحده .وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها ،وتركهما وعاد يجلس تحت
خ ْي ٍر َف ِق ٌ
ير}. ن َ
ي ِم ْ ما أَن َز ْل َ
ت إِلَ َّ ب إِنِ ّي لِ َ
ظل الشجرة .وتذكر لحظتها هللا وناداه في قلبهَ { :ر ّ ِ
ادة؟! ير الع ريعا على غ وم س دتما الي أل األب :ع س
ا الغنم. قى لن ريم س لك ع رج ام داهما :تقابلن الت إح ق
لَ َنا}. ت
س َق ْي َ ك} ليعطيك {أَ ْ
ج َر َما َ فقال األب البنته :اذهبي إليه وقولي له{ :إِنَّ أَبِي َي ْد ُعو َ
ذهبت واح دة من الفت اتين إلى موس ى ،ووقفت أمام ه وأبلغت ه رس الة أبيه ا .فنهض موس ى
وبصره في األرض .إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا ،وإنما ساعدهما لوجه هللا ،غير أنه
أحس في داخله أن هللا هو الذي يوجه قدميه فنهض .سارت البنت أمام ه .هبت الري اح فض ربت
ثوبها فخفض موسى بصره حياء وقال لها :سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.
وصال إلى الشيخ .قال بعض المفسرين إن هذا الشيخ هو النبي شعيب .عمر ط ويال بع د م وت
قومه .وقيل إنه ابن أخي شعيب .وقيل ابن عمه ،وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب ال ذين آمن وا
به .ال نعرف أكثر من كونه شيخا صالحا.
قدم له الشيخ الطعام وسأله :من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدث ه موس ى عن قص ته .ق ال
ين} .ه ذه البالد ال تتب ع مص ر ،ولن يص لوا إلي ك هن ا.
م َن ا ْل َق ْو ِم الظَّالِ ِ
ت ِم َ
ج ْو َ
ف نَ َ الشيخ{ :اَل تَ َ
خ ْ
اطمأن موسى ونهض لينصرف.
ي اأْل َ ِم ُ
ين}. ت ا ْل َق ِو ُّ اس َت ْأ َ
ج ْر َ ن ْ خ ْي َر َم ِ اس َت ْأ ِ
ج ْر ُه إِنَّ َ ت ْق الت ابن ة الش يخ ألبيه ا همس ا{ :يَ ا أَبَ ِ
وي؟ هق رفت أن فع ألها األب :كي س
ال. دد رج ير ع اغ خرة ال يرفعه ده ص ع وح الت :رف ق
ه أمين؟ رفت أن فع ألها :وكي س
قالت :رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى ال ينظ ر إلي وأن ا أمش ي .وط وال ال وقت ال ذي
كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في األرض حياء وأدبا.
وعاد الشيخ لموسى وقال له :أريد يا موسى أن أزوجك إح دى ابن تي على أن تعم ل في رعي
الغنم عن دي ثم اني س نوات ،ف إن أتممت عش ر س نوات ،فمن كرم ك ،ال أري د أن أتعب ك،
ين} .قال موسى :هذا اتفاق بيني وبينك .وهللا ش اهد علىح َصالِ ِ شاء اللَّ ُه ِم َ
ن ال َّ {س َتجِ ُدنِي إِن َ
َ
اتفاقنا .سواء قضيت السنوات الثمانية ،أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.
يخوض الكثيرون في تيه من األقاص يص والرواي ات ،ح ول أي ابن تي الش يخ ت زوج ،وأي الم دتين
قضى .والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ .ال نع رف من ك انت ،وال م اذا ك ان اس مها.
وهذه األمور سكت عنها الس ياق الق رآني .إال أن ه اس تنادا إلى طبيع ة موس ى وكرم ه ونبوت ه
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وكونه من أولي العزم .نرى أنه قضى األجل األكبر .وهذا ما يؤك ده ح ديث ابن عب اس رض ي هللا
عنهما .وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة.
وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي األغنام والسقاية لها.
ولنقف هنا وقفة تدبر .إن قدرة اإللهية نقلت خطى موسى -عليه الس الم -خط وة بخط وة .من ذ
أن كان رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة .ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرع ون .وألقت علي ه
محبة زوجة فرعون لينشأ في كنف عدوّه .ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهله ا ليقت ل
نفسا.
وأرسلت إليه بالرجل الم ؤمن من آل فرع ون ليح ذره وينص حه ب الخروج من مص ر .وص احبته في
الطري ق الص حراوي من مص ر إلى م دين وه و وحي د مط ارد من غ ير زاد وال اس تعداد .وجمعت ه
بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر .ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف.
هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه ،قبل النداء والتكليف .تجربة الرعاية والحب والت دليل .تجرب ة
االندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس ،وتجربة الندم واالستغفار .وتجربة الخوف والمطاردة.
وتجربة الغربة والوحدة والجوع .وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حي اة القص ور .وم ا يتخل ل ه ذه
التجارب الضخمة من تجارب ص غيرة ،ومش اعر وخ واطر ،وإدراك ومعرف ة .إلى ج انب م ا آت اه هللا
حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
إن الرسالة تكليف ضخم شاق ،يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب واإلدراك والمعرفة ،إلى
ج انب وحي هللا وتوجيه ه .ورس الة موس ى تكلي ف عظيم ،فه و مرس ل إلى فرع ون الطاغي ة
المتجبر ،أعتى ملوك األرض في زمانه ،وأشدهم استعالء في األرض.
وهو مرسل الستنقاذ قوم ق د ش ربوا من ك ؤوس ال ذل ح تى اس تمرأوا مذاق ه .فاس تنقاذ ق وم
كهؤالء عمل شاق عسير.
فتجربة السنوات العشر جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موس ى -علي ه الس الم-
وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة .فلحياة القصور جوا وتقاليد خاصة.
أما الرسالة فهي معاناة لجم اهير من الن اس فيهم الغ ني والفق ير ،المه ذب والخش ن ،الق وي
والضعيف ،وفيهم وفيهم .وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا ،وقلوب أهل القص ور
في الغالب ال تصبر طويال على الخشونة والحرمان والمشقة.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
فلما استكملت نفس موسى -عليه السالم -تجاربها ،وأكملت مرانها ،بهذه التجربة األخيرة في
دار الغرة .قادت القدرة اإللهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهب ط رأس ه ،ومق ر أهل ه وقوم ه،
ع موسى على عين هللا ،وكيف تم إعداده لتلقي التكليف. صنِ َ
ومجال عمله .وهكذا نرى كيف ُ
ترى أي خاطر راود موسى ،فعاد به إلى مصر ،بعد انقضاء األجل ،وقد خ رج منه ا خائف ا ي ترقب؟
وأنساه الخطر الذي ينتظره بها ،وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع المأل من
قومه ليقتلوه؟
إنه ا ق درة هللا ال تي تنق ل خط اه كله ا .لعله ا قادت ه ه ذه الم رة بالمي ل الفط ري إلى األه ل
والعشيرة والوطن .وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا .ليؤدي المهم ة ال تي خل ق
لها.
خرج موسى مع أهله وسار .اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظالم .اشتد
البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظالم .وتاه موسى أثناء سيره .ووقف موس ى
حائرا يرتعش من البرد وسط أهله ..ثم رفع رأس ه فش اهد ن ارا عظيم ة تش تعل عن بع د .امتأل
قلبه بالفرح فجأة .قال ألهله :أني رأيت نارا هناك.
أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر ،أو يجد أحدا يسأله عن
الطريق فيهتدي إليه ،أو يحضر إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم.
وتحرك موسى نحو النار .سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه .يده اليمنى تمسك عصاه .جسده
مبلل من المط ر .ظ ل يس ير ح تى وص ل إلى واد يس مونه ط وى .الح ظ ش يئا غريب ا في ه ذا
الوادي .لم يكن هناك برد وال رياح .ثمة صمت عظيم ساكن .واق ترب موس ى من الن ار .لم يك د
ين}.
م َ ب ا ْل َعالَ ِ حانَ اللَّ ِ
ه َر ّ ِ ح ْولَ َها َو ُ
س ْب َ ن َ
ار َو َم ْ
ك َمن فِي ال َّن ِ يقترب منها حتى نودي{ :أَن ُب ِ
ور َ
نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء .كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الش جرة .والمف روض
أن تتحول الشجرة إلى اللون األس ود وهي تح ترق .لكن الن ار تزي د والل ون األخض ر يزي د .ك انت
الشجرة في جبل غربي عن يمينه ،وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي طوى.
وسى
ثم ارتجت األرض بالخشوع والرهبة وهللا عز وجل يناديَ :يا ُم َ
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
ط ًوى ك بِا ْل َوا ِد ا ْل ُ
م َق َّدسِ ُ اخلَ ْع نَ ْعلَ ْي َ
ك إِنَّ َ قال هللا عز وجلَ :ف ْ
حى ( )13إِنَّنِي أَنَا اللَّ ُه اَل إِلَ َه إِاَّل أَنَا ما ُيو َ م ْع لِ َ ك َف ْ
اس َت ِ اخ َت ْر ُت َ عاد الحق سبحانه وتعالى يقولَ { :وأَنَا ْ
س َعى ( م ا تَ ْ س بِ َل نَ ْف ٍج َزى ُك ُّ خ ِفي َها لِ ُت ْة أَ َكا ُد ُأ ْالسا َع َة آتِيَ ٌ َّ صاَل َة لِ ِذك ِْري ( )14إِنَّ م ال َّ اع ُب ْدنِي َوأَقِ ِ
َف ْ
ه َوا ُه َف َت ْر َدى (( ...})16طه). ع َ ن بِ َها َواتَّبَ َن اَل ُي ْؤ ِم ُ
ك َع ْن َها َم ْ )15فَاَل يَ ُ
ص َّدنَّ َ
زاد انتفاض جسد موسى وهو يتلقى الوحي اإللهي ويستمع إلى ربه وهو يخاطبه.
وسى}.
ك َيا ُم َ
مي ِن َ قال الرحمن الرحيمَ { :و َما تِ ْل َ
ك بِيَ ِ
ازدادت دهشة موس ى .إن هللا س بحانه وتع الى ه و ال ذي يخاطب ه ،وهللا يع رف أك ثر من ه أن ه
يمسك عصاه .لماذا يسأله هللا إذن إذا كان يعرف أكثر منه؟! ال شك أن هناك حكمة عليا لذلك.
ب ُأ ْ
خ َرى}. آر ُ
ي فِي َها َم ِ
مي َولِ َ ي أَتَ َو َّك ُأ َعلَ ْي َها َوأَ ُ
هشُّ بِ َها َعلَى غَ َن ِ صا َ
ي َع َ
ه َ أجاب موسىَ { :قا َ
ل ِ
رمى موسى العصا من يده وقد زادت دهشته .وفوجئ بأن العصا تتحول فجأة إلى ثعب ان عظيم
الحجم هائل الجسم .وراح الثعبان يتحرك بسرعة .ولم يستطع موس ى أن يق اوم خوف ه .أحس
أن بدنه يتزلزل من الخوف .فاستدار موسى فزعا وبدأ يجري .لم يكد يجري خطوتين حتى ن اداه
سلُونَ }.
م ْر َ خافُ لَ َد َّ
ي ا ْل ُ ف إِنِ ّي اَل يَ َ وسى اَل تَ َ
خ ْ هللا{ :يَا ُم َ
عاد موسى يستدير ويقف .لم تزل العصا تتحرك .لم تزل الحية تتحرك.
مد موسى يده للحية وهو يرتعش .لم يكد يلمسها حتى تحولت في ي ده إلى عص ا .ع اد األم ر
ن
ك ِم َ
ح َج َنا َ م إِلَ ْي َ
ك َ م ْ
اض ُ
س و ٍء َو ْ
ن َغ ْي ِر ُ
ض اء ِم ْ
خ ُر ْج بَ ْي َ
ك تَ ْ
ج ْيبِ َ
ك فِي َ
ك يَ َد َ
{اس ُل ْ
ْ اإللهي يصدر له:
ب}.
ه ِ
الر ْ
َّ
وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتألأل كالقمر .زاد انفعال موسى بما يحدث ،وض ع
يده على قلبه كما أمره هللا فذهب خوفه تماما..
اطمأن موسى وسكت .وأصدر هللا إليه أمرا بعد هاتين المعجزتين -معج زة العص ا ومعج زة الي د-
أن ي ذهب إلى فرع ون لي دعوه إلى هللا برف ق ولين ،وي أمره أن يخ رج ب ني إس رائيل من مص ر.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وأبدى موسى خوفه من فرعون .قال إنه قتل منهم نفسا ويخ اف أن يقتل وه .توس ل إلى هللا أن
يرسل معه أخاه هارون.
طمأن هللا موسى أنه سيكون معهما يسمع ويرى ،وأن فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما
بسوء .أفهم هللا موسى أنه هو الغالب .ودعا موسى وابتهل إلى هللا أن يشرح له صدره وييس ر
أمره ويمنحه القدرة على الدعوة إليه .ثم قفل موس ى راجع ا ألهل ه بع د اص طفاء هللا واختي اره
رسوال إلى فرعون .انحدر موسى بأهله قاصدا مصر.
يعلم هللا وحده أي أفكار عبرت ذهن موسى وهو يحث خطاه قاص دا مص ر .انتهى زم ان التأم ل،
وانطوت أيام الراحة ،وجاءت األوقات الصعبة أخيرا ،وها هو ذا موسى يحمل أمانة الحق ويمض ي
ليواجه بها بطش أعظم جبابرة عصره وأعتاهم .يعلم موسى أن فرعون مصر طاغية.
يعلم أنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع .يعلم أنه سيقف من دعوته موقف اإلنكار والكبري اء
والتجاهل .لقد أمره هللا تعالى أن يذهب إلى فرعون .أن يدعوه بلين ورفق إلى هللا.
أوحى هللا لموسى أن فرعون لن يؤمن .ليدعه موسى وشأنه .ول يركز على إطالق س راح ب ني
ل ك َفأَ ْر ِ
س ْ إسرائيل والكف عن تعذيبهم .قال تعالى لموسى وهارونَ { :ف ْأتِيَا ُه َف ُقواَل إِنَّا َر ُ
س واَل َربِ ّ َ
م} .هذه هي المهمة المحددة .وهي مهم ة س وف تص طدم ب آالف ل َواَل ُت َع ِّ
ذ ْب ُه ْ س َرائِي َ
َم َع َنا بَنِي إِ ْ
العقبات.
إن فرعون يعذب بني إسرائيل ويستعبدهم ويكلفهم من األعمال ما ال طاقة لهم به ،ويستحيي
نسائهم ،ويذبح أبنائهم ،ويتصرف فيهم كما لو كانوا ملكا خاصا ورثه مع ملك مصر.
مواجهة فرعون:
واجه موسى فرعون بلين ورفق كم ا أم ره هللا .وحدث ه عن هللا .عن رحمت ه وجنت ه .عن وج وب
توحيده وعبادته .حاول إيقاظ جوانبه اإلنسانية في الحديث.
ألمح إليه أنه يمل ك مص ر ،ويس تطيع ل و أراد أن يمل ك الجن ة .وك ل م ا علي ه ه و أن يتقي هللا.
استمع فرع ون إلى ح ديث موس ى ض جرا ش به ه ازئ وق د تص وره مجنون ا تج رأ على مقام ه
الس امي .ثم س أل فرع ون موس ى م اذا يري د .فأج اب موس ى أن ه يري د أن يرس ل مع ه ب ني
إسرائيل.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى العظيمة ،ويطلب إليه ذلك الطلب الكب ير.
فآخر عهد فرع ون بموس ى أنهم رب وه في قص ره بع د أن التقط وا تابوت ه .وأن ه ه رب بع د قتل ه
للقبطي الذي وجده يتعارك مع اإلسرائيلي.
فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى العظيم ة ال تي يواجه ه به ا
بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون يذكره بماض يه .ي ذكره بتربيت ه ل ه فه ل ه ذا ج زاء التربي ة
والكرامة التي لقيته ا عن دنا وأنت ولي د؟ لت أتي اآلن لتخ الف ديانتن ا ،وتخ رج على المل ك ال ذي
تربيت في قصره ،وتدعوا إلى إله غيره؟!
ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم .فال يتح دث عنه ا بص ريح العب ارة وإنم ا يق ول
ين} ب رب الع المين ال ذي ن ا ْل َ
ك افِ ِر َ ت} فعلتك البشعة الشنيعة { َوأَ َ
نت ِم َ ت َف ْعلَ َت َ
ك الَّتِي َف َع ْل َ { َو َف َع ْل َ
تق ول ب ه الي وم ،ف أنت لم تكن وقته ا تتح دث عن رب الع المين! لم تتح دث بش يء عن ه ذه
الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا األمر العظيم؟!
وظن فرعون أنه رد على موسى ردا لن يملك معه جوابا .إال أن هللا استجاب ل دعاء موس ى من
ين} فعلت تلك الفعلة وأنا بع د جاه ل ،أن دفع ل َف َع ْل ُت َها إِ ًذا َوأَنَا ِم َ
ن الضَّالِ ّ َ قبل ،فانطلق لسانهَ { :قا َ
ان دفاع العص بية لق ومي ،ال ان دفاع العقي دة ال تي عرفته ا الي وم بم ا أعط اني ربي من الحك ة.
ج َعلَنِي
ُم} على نفس ي .فقس م هللا لي الخ ير ف وهب لي الحكم ة { َو َ خ ْف ُتك ْ ُم لَ َّ
ما ِ ت ِمنك ْ { َف َف َر ْر ُ
ين}.س ِل َ ن ا ْل ُ
م ْر َ ِم َ
ل}
س َرائِي َ ي أَنْ َعبَّ َّ
دت بَنِي إِ ْ م ُّن َه ا َعلَ َّ
ة تَ ُ
م ٌ ويكمل موسى خطابه لفرعون بنفس القوةَ { :وتِ ْل َ
ك نِ ْع َ
فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إال من جراء استعبادك لبني إسرائيل ،وقتل أبن ائهم ،مم ا دف ع
ي .فه ل أمي لوضعي في التابوت وإلقاءه في اليم ،فتلتقط ه ف أتربى في بيت ك ،ال في بيت أب و ّ
هذا هو ما تمنه علي ،وهل هذا هو فضلك العظيم؟!
ين}. م َ ن َو َم ا َربُّ ا ْل َع الَ ِ ل فِ ْر َع ْو ُ عن د ه ذا الح د ت دخل الفرع ون في الح ديثَ { ..ق ا َ
ين}. ُنتم مُّوقِ ِن َ ا إن ك ُ م
ا َب ْي َن ُه َ ض َو َمت َواأْل َ ْر ِ
ما َوا ِ
َ الس
َّ ىَ { :ربُّ ال موس ق
م ُعونَ }. َت ِ سا{ :أَاَل تَ ْ ال هازئ ه وق ون لمن حول التفت فرع
ين}. َ
م اأْل َّولِ َائِ ُك ُ ُم َو َربُّ آبَ ونَ { :ربُّك ْ خرية الفرع اوزا س ى متج ال موس ق
ل إِلَ ْيك ْ
ُم س َ ُ
م الَّ ِذي أ ْر ِ س ولَ ُك ُ قال فرعون مخاطبا من ج اءوا م ع موس ى من ب ني إس رائيل{ :إِنَّ َر ُ
ون}.ٌ ج ُن
م ْلَ َ
م
ُنت ْ
م ا إِن ك ُ مغ ِْربِ َو َما بَ ْي َن ُه َ ق َوا ْل َش ِر ِ عاد موسى يتجاوز اتهام الفرعون وسخريته ويكملَ { :ربُّ ا ْل َ
م ْ
تَ ْع ِقلُونَ }.
نالحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وه ارون بقص د الس ؤال
البريء والمعرفة .إنما كان يهزأ .ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكم ة { َق ا َ
ل َربُّ َن ا الَّ ِذي
ه َدى} .هو الخالق .خالق األجناس جميعا والذوات جميعا. خ ْل َق ُه ُث َّ
م َ ي ٍء َ
ش ْ أَ ْعطَى ُك َّ
ل َ
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وهو هاديها بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها ألسباب عيش ها .وه و الموج ه له ا
على أي حال .وهو الق ابض على ناص يتها في ك ل ح ال .وه و العليم به ا والش اهد عليه ا في
جميع األحوال.
لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه .ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن الق رون األولى
التي لم تعبد هللا ،والتي عبدته معا ،لن تترك بغ ير مس اءلة وج زاء .ك ل ش يء معل وم عن د هللا
عن َد َربِ ّي فِي كِ َت ابٍ} .أحص ى هللا م ا عمل وه في كت اب{ .اَّل ع ْل ُ
م َها ِ تعالى .هذه القرون األولى { ِ
نسى} .أي ال يغيب عن شيء .ليطمئن الفرعون ب اال ل َربِ ّي} .أي ال يغيب عنه شيءَ { .واَل يَ َ ض ُّ
يَ ِ
من ناحية القرون األولى واألخيرة وما بينهما .إن هللا يعرف كل شيء ويس جل عليه ا م ا عملت ه
وال يضيع شيئا من أجورهم.
ثم استلفت موسى نظر فرعون إلى آيات هللا في الكون .ودار به مع حركة الرياح والمطر والنبات
وأوصله مرة ثاني ة إلى األرض ،وهن اك افهم ه أن هللا خل ق اإلنس ان من األرض ،وس يعيده إليه ا
بالموت ،ويخرجه منه ا ب البعث ،إن هن اك بعث ا إذن .وس يقف ك ل إنس ان ي وم القيام ة أم ام هللا
تعالى .ال استثناء ألحد .سيقف كل عباد هللا وخلقه أمامه يوم القيام ة .بم ا في ذل ك الفرع ون.
بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا.
لم يعجب فرع ون ه ذا الن ذير ،وتص اعد الح وار بين ه وبين موس ى .فالطغي ان ال يخش ى ش يئا
كخشيته يقظة الشعوب ،وصحوة القلوب؛ وال يكره أحدا كما يكره الداعين إلى ال وعي واليقظ ة؛
وال ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية.
لذلك هاج فرعون على موسى وثار ،وأنهى الحوار معه بالتهديد الصريح .وهذا هو سالح الطغ اة
ن
ك ِم َ ت إِلَ ًه ا َغ ْي ِري أَل َ ْ
ج َعلَ َّن َ خ ذْ َ ل لَئِ ِ
ن اتَّ َ عن دما يفتق رون للحج وال براهين والمنط قَ { :ق ا َ
ين}.
جونِ َ
س ُ ا ْل َ
م ْ
إال أن موسى -عليه السالم -لم يفقد رباطة جأش ه .كي ف يفق دها وه و رس ول هللا ،وهللا مع ه
ين} فه و
ي ٍء ُّم ِب ٍ
ش ْ
ك بِ َ ل أَ َولَ ْو ِ
ج ْئ ُت َ ومع أخيه؟ وبدأ اإلقناع بأسلوب جديد ،وهو إظهار المعجزة { َقا َ
يتحدى فرعون ،ويحرجه أمام مأله ،فلو رفض فرعون اإلصغاء ،سيظهر واضحا أنه خائف من حج ة
ين}.
صا ِدقِ َ
ن ال َّ
ُنت ِم َ ل َف ْأتِ بِ ِ
ه إِن ك َ موسى { َقا َ
ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيم ة .لم تك د العص ا تلمس األرض ح تى تح ولت إلى
ثعبان هائل يتحرك بسرعة .ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر.
تحدي السحرة:
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وتب دأ الجول ة الثاني ة بين الح ق والباط ل .حيث ش اور فرع ون المأل من حول ه فيم ا يجب فعل ه.
والمأل لهم مصلحة في أن تبقى األمور على ما هي عليه ،فهم مقربون من فرعون ،ولهم نف وذ
وسلطان .فأشاروا أن يرد على س حر موس ى بس حر مثل ه ،فيجم ع الس حرة لتح دي موس ى
وأخاه.
حدد الميقات ،وهو يوم الزينة .وبدأت حركة إعداد الجماهير وتحميسهم فدعوهم للتجمع وع دم
التخلف عن الموعد ،ليراقبوا فوز السحرة وغلبتهم على موس ى اإلس رائيلي! والجم اهير دائم ا
تتجمع لمثل هذه األمور.
أما السحرة ،فقد ذهبوا لفرعون ليطمئنون على األجر والمكافأة إن غلب وا موس ى .فهم جماع ة
مأجورة ،تبذل مهارتها مقابل األجر الذي تنتظره؛ وال عالقة له ا بعقي دة وال ص لة له ا بقض ية ،وال
شيء سوى األجر والمصلحة .وهم هم أالء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وب راعتهم
في الخداع .وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من األجر .يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه.
وهو بزعمه الملك واإلله!
وفي ساحة المواجهة .والناس مجتمع ون ،وفرع ون ينظ ر .حض ر موس ى وأخ اه ه ارون عليهم ا
السالم ،وحضر السحرة وفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل ،وكلهم ثقة بفوزهم في هذا
التحدي.
ن أَ ْلقَى} وتتجلى ثقة موسى -علي ه ل َم ْ ي َوإِ َّما أَن نَّكُونَ أَ َّو َ لذا بدءوا بتخيير موسى{ :إِ َّما أَن ُت ْل ِق َ
ل أَ ْل ُقوا} فرمى السحرة عصيهم وحبالهم بعزة السالم -في الجانب اآلخر واستهانته بالتحدي {بَ ْ
ن ا ْلغَالِ ُبونَ }.ح ُم َو َقالُوا بِ ِع َّز ِة فِ ْر َع ْونَ إِنَّا لَ َن ْ
صيَّ ُه ْ
ع ِم َو ِ فرعون { َفأَ ْل َق ْوا ِ
حبَالَ ُه ْ
اس
ِ ن ال َّنح ُرو ْا أَ ْع ُي َ {س َ
َ رمى الس حرة بعص يهم وحب الهم ف إذا المك ان يمتلئ بالثع ابين فج أة
ج اءوا يم} .وحس بنا أن يق رر الق رآن الك ريم أن ه س حر عظيم { َو َ ظ ٍ
ح ٍر َع ِس ْ
جاءوا بِ ِ م َو َ
وه ْ
ه ُب ُ
اس َت ْر َ
َو ْ
اس} وأثاروا الرهبة ِ ن ال َّن َ
ح ُرو ْا أ ْع ُي َ
{س َ
َ يم} ،لندرك أي سحر كان .وحسبنا أن نعلم أنهم ظ ٍح ٍر َع ِ س ْبِ ِ
م} لنتص ور أي س حر ك ان .فنظ ر موس ى علي ه الس الم إلى حب ال وه ْ
ه ُب ُ
اس َت ْر َ
في قل وبهم { َو ْ
السحرة وعصيهم وشعر بالخوف.
في هذه اللحظة ،يذكّره ربّه بأن معه القوة الك برى .فه و األعلى .ومع ه الح ق ،أم ا هم فمعهم
الباطل .معه العقيدة ومعهم الحرفة .معه اإليمان بصدق ال ذي دفع ه لم ا ه و في ه ومعهم األج ر
على المباراة ومغانم الحياة .موسى متصل بالقوة الكبرى والسحرة يخدمون مخلوقا بشريا فانيا
مهما يكن طاغية جبارا.
ك} وستهزمهم ،فهو سحر من تدبير ساحر وعمل ه .والس احر ال يفلح مي ِن َ ال تخف { َوأَ ْل ِ
ق َما فِي َي ِ
أنى ذهب وفي أي طري ق س ار ،ألن ه يعتم د على الخي ال واإليه ام والخ داع ،وال يعتم د على
حقيقة ثابتة باقية.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاه ا .لم تك د عص ا موس ى تالمس األرض ح تى وقعت المعج زة
الكبرى .وضخامة المعجزة حولت مش اعر ووج دان الس حرة ،ال ذين ج اءوا للمب اراة وهم أح رص
الناس على الفوز لنيل األجر .الذي بلغت ب راعتهم لح د أن يش عر موس ى ب الخوف من عملهم.
جداً َق الُوا آ َم َّنا بِ َر ّ ِ
ب س َّ
ح َر ُة ُ
الس َ
َّ تحولت مشاعرهم بحيث لم يس عفهم الكالم للتعب يرَ { :ف ُأ ْل ِق َ
ي
وسى}.
ارونَ َو ُم َ
ه َُ
إنه فعل الحق في الضمائر .ونور الحق في المشاعر ،ولمسة الحق في القل وب المهي أة لتلقي
الحق والنور واليقين .إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم ،وم دى م ا يمكن أن يبل غ إلي ه.
وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى .فهم أعلم إن كان هذا من عمل بشر أو س احر ،أو أن ه
من القدرة التي تفوق قدرة البشر والسحر.
والعالم في فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له ،ألن ه أق رب إدراك ا
لهذه الحقيقة ،ممن ال يعرفون في هذا الفن إال القش ور .ومن هن ا تح ول الس حرة من التح دي
السافر إلى التسليم المطلق ،الذي يجددون برهانه في أنفسهم عن يقين.
هزت هذه المفاجأة العرش من تحته .مفاجأة استسالم السحرة -وهم من كهنة المعابد -ل رب
العالمين .رب موسى وهارون .بعد أن تم جمعهم إلبطال دعوة موس ى وه ارون ل رب الع المين!
وألن العرش والسلطان أهم ش يء في حي ات الط واغيت ،فهم مس تعدون الرتك اب أي جريم ة
في سبيل المحافظة عليهما.
ُم} كأنم ا ك ان عليهم أن يس تأذنوه في أن ل أَن آذَنَ لَك ْ ه َق ْب َ تس ائل فرع ون مس تغربا {آ َمن ُتم بِ ِ
يعودوا للحق .لكنه طاغي ة متك بر متج بر أعمى الس لطان عيني ه عن الح ق .ويزي د في طغيان ه
جو ْا ِم ْن َها أَ ْ
هلَ َها} إن غلبت ه لكم في ي ومكم ه ذا خ ِر ُ
ة لِ ُت ْ مو ُه فِي ا ْل َ
م ِدي َن ِ ك ْر ُت ُ هـذَا لَ َ
مك ٌْر َّم َ فيقول {إِنَّ َ
إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك ،وهو يعلم وكل من له عق ل أن ه ذا ال ذي قال ه من
أبطل الباطل.
م
َف ُث َّ
خال ٍ
ن ِ ُم َوأَ ْر ُ
جلَكُم ِ ّم ْ ن أَ ْي ِديَك ْ م ونَ } ويتوع د {ألُ َق ِ
ط ّ َع َّ ف تَ ْعلَ ُ
س ْو َ
ويظ ل الطاغي ة يته دد { َف َ
ين} لكن النفس البش رية حين تس تيقن حقيق ة اإليم ان ،تس تعلي على ق وة م ِع َ ُم أَ ْ
ج َ ألُ َ
ص ِل ّبَ َّنك ْ
األرض ،وتستهين ببأس الطغاة ،وتنتصر فيه ا العقي دة على الحي اة ،وتخت ار الخل ود ال دائم على
الحياة الفانيةَ { .قالُو ْا إِنَّا إِلَى َربِ ّ َنا ُمن َقلِ ُبونَ } إنه اإليمان الذي ال يتزعزع وال يخضع.
جاء ْت َنا} فال يطلبون الصفح ما َ م ِم َّنا إِال َّ أَنْ آ َم َّنا بِآيَاتِ َربِ ّ َنا لَ َّ
ويعلن السحرة حقيقة المعركة { َو َما تَن ِق ُ
مين}. ص ْب ًرا َوتَ َو َّف َنا ُم ْ
س لِ ِ َ
والعفو من عدوّهم ،إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم { َربَّ َنا أف ِْرغْ َعلَ ْي َنا َ
فيقف الطغيان ع اجزا أم ا ه ذا ال وعي وه ذا االطمئن ان .ع اجزا عن رد ه ؤالء المؤم نين لطري ق
الباطل من جديد .فينفذ تهديده ،ويصلبهم على جذوع النخل.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وتبدأ جولة جدي دة بين الح ق والباط ل .فه اهم علي ة الق وم من المص ريين ،يت آمرون ويحرض ون
فرعون ويهيجونه على موس ى ومن آمن مع ه ،ويخوّفون ه من عاقب ة الته اون معهم .وهم ي رون
الدعوة إلى ربوبية هللا وحدة إفسادا في األرض .حيث يترتب عليها بطالن ش رعية حكم فرع ون
ونظامه كله.
وقد كان فرعون يستمد قوته من ديانتهم الباطلة ،حيث كان فرعون ابن اآللهة .فإن عبد موسى
ومن معه هللا رب العالمين ،لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم .فاستثارت هذه الكلمات فرعون،
م ل أَ ْب َن اء ُ
ه ْ س ُن َق ِتّ ُ وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر { َقا َ
ل َ
م َقا ِ
ه ُرونَ }. م َوإِنَّا َف ْو َق ُه ْ
ه ْ
ساء ُ
ح ِيـي نِ َ
س َت ْ
َونَ ْ
لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على بني إسرائيل .فقد ُن ِ ّف ذ عليهم ه ذا الحكم في إب ان
مولد موسى عليه السالم .فبدأ موسى -عليه السالم -يوص ي قوم ه باحتم ال الفتن ة ،والص بر
على البلية ،واالستعانة باهلل عليها.
لوأن األرض هلل يورثها من يشاء من عباده .والعاقبة لمن يتقي هللا وال يخش ى أح دا س واه { َق ا َ
عبَ ا ِد ِه َوا ْل َعاقِبَ ُة
ن ِ
ش ا ُء ِم ْ
ور ُث َه ا َمن يَ َ
ه ُي ِ اص بِ ُرو ْا إِنَّ األ َ ْر َ
ض لِل ّ ِ اس َت ِعي ُنوا بِالل ّ ِ
ه َو ْ ه ْوس ى لِ َق ْو ِم ِ ُم َ
ين}. لِ ْل ُ
م َّت ِق َ
فيمضي الن بي الك ريم على نهج ه .ي ذكرهم باهلل ،ويعل ق رج اءهم ب ه ،ويل وح لهم باألم ل في
هالك عدوهم .واستخالفهم في األرض .مع التحذير من فتن ة االس تخالف ،فاس تخالف هللا لهم
ُم
خلِ َفك ْ
س َت ْ
ُم َويَ ْ ُم أَن ُي ْهلِ َ
ك َع ُد َّوك ْ س ى َربُّك ْ إنما هو ابتالء لهم ،فهو استخالف لالمتحانَ { :ق ا َ
ل َع َ
ملُونَ }. ظ َر َك ْي َ
ف تَ ْع َ فِي األ َ ْر ِ
ض َفيَن ُ
وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من قصة موسى علي ه الس الم .ومش هد آخ ر من مش اهد
المواجهة بين الحق والباطل .حيث يحكي لما قصة تشاور فرعون مع المأل في قتل موسى.
ظ ِه َر فِي اأْل َ ْر ِ
ض ُم أَ ْو أَن ُي ْ ل ِدي َنك ْ خ افُ أَن ُيبَ ِّ
د َ ع َربَّ ُه إِنِ ّي أَ َ
وس ى َو ْليَ ْد ُ ن ذ َُرونِي أَ ْق ُت ْ
ل ُم َ { َو َقا َ
ل فِ ْر َع ْو ُ
سا َد} أما موسى علي ه الس الم فالتج أ إلى ال ركن ال ركين ،والحص ن الحص ين ،والذ بح امي ا ْل َف َ
ن بِيَ ْو ِم ل ُم َت َ
ك ِب ّ ٍر اَّل ُي ْؤ ِم ُ ت بِ َربِ ّي َو َربِ ّكُم ِ ّمن ُك ِ ّ
وسى إِنِ ّي ُعذْ ُ ل ُم َ الالئذين ،ومجير المستجيرين { َو َقا َ
سابِ}. ح َ ا ْل ِ
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
كادت فك رة فرع ون أن تحص ل على التص ديق ل وال رج ل من آل فرع ون .رج ل من رج ال الدول ة
الكبار ،ال يذكر القرآن اسمه ،ألن اسمه ال يهم ،لم يذكر ص فته أيض ا ألن ص فته ال تع ني ش يئا،
إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن .ذكره بالصفة التي ال قيمة ألي صفة بعدها.
مانَ ُه} ،تحدث في االجتماع الذي طرحت فيه فكرة قت ل تحدث هذا الرجل المؤمن ،وكان {يَ ْك ُت ُ
م إِي َ
موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها.
قال إن موسى لم يقل أكثر من أن هللا ربه ،وجاء بعد ذل ك باألدل ة الواض حة على كون ه رس وال،
وهناك احتماالن ال ثالث لهما :أن يكون موس ى كاذب ا ،أو يك ون ص ادقا ،ف إذا ك ان كاذب ا { َف َعلَ ْي ِ
ه
َك ِذ ُب ُه} ،وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله .وإذا كان ص ادقا وقتلن اه ،فم ا ه و الض مان من
نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟
تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه :إننا اليوم في مراكز الحكم والق وة .من ينص رنا من
بأس هللا إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا.
وبدت كلمات ه مقنع ة .إن ه رج ل ليس متهم ا في والئ ه لفرع ون .وه و ليس من أتب اع موس ى.
والمفروض أنه يتكلم ب دافع الح رص على ع رش الفرع ون .وال ش يء يس قط الع روش كالك ذب
واإلسراف وقتل األبرياء.
ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل الم ؤمن قوته ا .بالنس بة إلى فرع ون ووزرائ ه ورجال ه.
ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى ،صريعة على المائدة .رغم تخوي ف الرج ل الم ؤمن
لفرعون.
ن َما ُأ ِريك ْ
ُم رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثال بعده لكل الطغاةَ { :قا َ
ل فِ ْر َع ْو ُ
شا ِد}.
الر َ
ل َّ ُم إِاَّل َ
س ِبي َ إِاَّل َما أَ َرى َو َما أَ ْ
ه ِديك ْ
لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد .قال فرعون كلمته ولكنه لم يقن ع به ا الرج ل الم ؤمن .وع اد
ذرهم من الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ ،أدلة كافية على صدق موسى .وح ّ
المساس به .لقد سبقتهم أمم كفرت برسلها ،فأهلكها هللا :قوم نوح ،قوم عاد ،قوم ثمود.
ثم ذكّرهم بتاريخ مص ر نفس ه .ذكّ رهم بيوس ف علي ه الس الم حين ج اء بالبين ات ،فش ك في ه
الناس ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم ،ما الغرابة في إرسال هللا للرسل؟ إن التاريخ
القديم ينبغي أن يكون موضع نظر.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
لقد انتصرت القلة المؤمنة حين أصبحت مؤمنة على الكثرة الكافرة .وسحق هللا تعالى الكافرين.
أغرقهم بالطوفان ،وصعقهم بالص رخة .أو خس ف بهم األرض .م اذا ننتظ ر إذن؟ ومن أين نعلم أن
وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟
كان حديث الرجل المؤمن ينطوي على عديد من التحذيرات المخيفة .ويبدو أن ه أقن ع الحاض رين
بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب .وبالتالي فال داعي لها.
إال أن الطاغية فرعون حاول مرة أخرى المحاورة والتمويه ،كي ال يواجه الح ق جه رة ،وال يع ترف
بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه .وبعيد عن احتمال أن يك ون ه ذا فهم فرع ون وإدراك ه .فطلب
أن يبنى له بناء عظيم ،يصعد عليه ل يرى إل ه موس ى ال ذي يدعي ه .وبعي دا أن يك ون ج ادا في
البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج .وقد بل غ فراعن ة مص ر من الثقاف ة ح دا
يبعد معه هذا التصور .وإنما هو االستهتار والس خرية من جه ة .والتظ اهر باإلنص اف والتثبت من
جهة أخرى.
ل بعد هذا االستهتار ،وهذا اإلص رار ،ألقى الرج ل الم ؤمن كلمت ه األخ يرة مدوي ة ص ريحةَ { :و َق ا َ
ع َوإِنَّحيَ ا ُة ال ُّد ْنيَا َم َت ا ٌه ِذ ِه ا ْل َ ما َ ش ا ِد ( )38يَ ا َق ْو ِم إِنَّ َ ل ال َّر َ س بِي َ ُم َ ه ِدك ْ ون أَ ْ ن يَا َق ْو ِم اتَّبِ ُع ِ الَّ ِذي آ َم َ
َ
حا ِ ّمن َذ َك ٍر أ ْو ُأنثَى صالِ ًل َ م َ ن َع ِ ج َزى إِاَّل ِم ْثلَ َها َو َم ْ س ِي ّ َئ ًة فَاَل ُي ْ ل َ م َ ن َع ِ ار (َ )39م ْ ار ا ْل َق َر ِ اآْل ِ
ي َد ُ ه َخ َر َة ِ
ُم إِلَى َ
س ابٍ (َ )40ويَ ا َق ْو ِم َم ا لِي أ ْد ُع وك ْ ح َ ج َّن َة ُي ْر َز ُق ونَ فِي َه ا بِ َغ ْي ِر ِ خلُونَ ا ْل َ ك َي ْد ُ ن َف ُأ ْولَئِ َه َو ُم ْؤ ِم ٌَو ُ
م َوأَنَ ا ع ْل ٌه ِ س لِي بِ ِ ه َم ا لَ ْي َ ك بِ ِ ش ِر َ ه َو ُأ ْار ( )41تَ ْد ُعونَ ِني أِل َ ْك ُف َر بِاللَّ ِ ج ا ِة َوتَ ْد ُعونَ ِني إِلَى ال َّن ِ ال َّن َ
خ َر ِة س لَ ُه َد ْع َو ٌة فِي ال ُّد ْنيَا َواَل فِي اآْل ِ ه لَ ْي َ ما تَ ْد ُعونَنِي إِلَ ْي ِ م أَنَّ َج َر َار ( )42اَل َ ُم إِلَى ا ْل َع ِز ِ
يز ا ْل َغ َّف ِ أَ ْد ُعوك ْ
ض أَ ْم ِري ُم َو ُأ َف ِوّ ُ
ل لَك ْ س َتذْ ك ُُرونَ َما أَقُو ُ ار (َ )43ف َ اب ال َّن ِ
ح ُ ص َ م أَ ْ ه ْ ين ُ س ِرفِ َ م ْ ه َوأَنَّ ا ْل ُ َوأَنَّ َم َر َّدنَا إِلَى اللَّ ِ
ير بِا ْل ِعبَا ِد (( ...})44غافر). ص ٌ ه إِنَّ اللَّ َه بَ ِ إِلَى اللَّ ِ
أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة .بع دها انص رف .انص رف فتح ول الجالس ون
من موسى إليه .بدءوا يمكرون للرجل المؤمن .بدءوا يتحدثون عما صدر منه .فتدخلت عناي ة هللا
وء ا ْل َعذَابِ} وأنجته من فرعون وجنوده.
س ُل فِ ْر َع ْونَ ُ ح َ
اق بِآ ِ س ِي ّئَاتِ َما َم َ
ك ُروا َو َ تعالى { َف َو َقا ُه اللَّ ُه َ
أما حال مصر في تلك الفترة .فلقد مضى فرع ون في تهدي ده ،فقت ل الرج ال واس تحيا النس اء.
وظل موسى وقومه يحتملون العذاب ،ويرجون فرج هللا ،ويصبرون على االبتالء.
ديه .فتدخلت قوة هللا س بحانه وتع الى ،وش اء هللا تع الى أن يش دد
وظل فرعون في ظالله وتح ّ
على آل فرعون .ابتالء لهم وتخويف ا ،ولكي يص رفهم عن الكي د لموس ى ومن آمن مع ه ،وإثبات ا
لنبوة موسى وصدقه في الوقت نفسه .وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
أجدبت األرض وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس ،واشتد القح ط .لكن آل فرع ون لم ي دركوا
العالقة بين كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعب اد هللا .فأخ ذوا يعلل ون األس باب .فعن دما
تصيبهم حسنة ،يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها .وإن أصابتهم سيئة قالوا هي
من شؤم موسى ومن معه عليهم ،وأنها من تحت رأسهم!
وأخذتهم العزة باإلثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قح ط .وص ور لهم
حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم ،آية ج اء به ا موس ى ليس حرهم به ا ،وهي آي ة لن
يؤمنوا بها مهما حدث.
فش دد هللا عليهم لعلهم يرجع ون إلى هللا ،ويطلق ون ب ني إس رائيل ويرس لونهم مع ه .فأرس ل
عليهم الطوفان ،والج راد ،والقم ل -وه و الس وس -والض فادع ،وال دم .وال ي ذكر الق رآن إن ك انت
جملة واحدة ،أم واحدة تلو األخرى.
وتذكر بعض الروايات أنها جاءت متتالية وحدة تل و األخ رى .إال أن المهم ه و طلب آل فرع ون من
موسى أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البالء .وبعدونه في كل مرة أن يرسلوا بني إس رائيل
ت َع َّنا ك لَئِن َك َ
ش ْف َ عن َد َ
م ا َع ِه َد ِ ع لَ َنا َربَّ َ
ك بِ َ إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البالء { َقالُو ْا يَا ُم َ
وسى ا ْد ُ
ل}.
س َرآئِي َ
ك بَنِي إِ ْ سلَ َّ
ن َم َع َ ك َولَ ُن ْر ِ
ن لَ َ
ج َز لَ ُن ْؤ ِم َن َّ
الرّ ْ
ِ
فكان موسى -عليه السالم -يدعو هللا ب أن يكش ف عنهم الع ذاب .وم ا أن ينكش ف البالء ح تى
هم بَ الِ ُغو ُه إِذَا
ل ُ ج َز إِلَى أَ َ
ج ٍ الرّ ْ
م ِ ش ْف َنا َع ْن ُه ُ ينقضون عهدهم ،ويعودون إلى ما كانوا فيه { َفلَ َّ
ما َك َ
م يَن ُك ُثونَ }.
ه ْ
ُ
لم يهتد المصريون ،ولم يوفوا بعهودهم ،بل على العكس من ذل ك .خ رج فرع ون لقوم ه ،وأعلن
أنه إله .أليس له ملك مصر ،وهذه األنهار تجري من تحته ،أعلن أن موسى ساحر ك ذاب .ورج ل
فقير ال يرتدي أسورة واحدة من الذهب.
ف َق ْو َم ُه َفأَطَ ُ
اعو ُه} .اس تخف بعق ولهم. خ َّ ويعب ّ ر الق رآن الك ريم عن أم ر فرع ون وقوم هَ { :ف ْ
اس َت َ
واستخف بحريتهم .واستخف بمستقبلهم .واس تخف ب آدميتهم .فأط اعوه .أليس ت ه ذه طاع ة
غريب ة .تنمحي الغراب ة حين نعلم أنهم ك انوا قوم ا فاس قين .إن الفس ق يص رف اإلنس ان عن
االلتفات لمستقبله ومصالحه وأموره ،ويورده الهالك .وذلك ما وقع لقوم فرعون.
بدا واض حا أن فرع ون لن ي ؤمن لموس ى .ولن يك ف عن تعذيب ه لب ني إس رائيل ،ولن يك ف عن
استخفافه بقومه .هنالك دعا موسى وهارون على فرعون.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
ك ض لُّو ْا َعن َ
س بِيلِ َ ت فِ ْر َع ْونَ َو َمأل ُه ِزي َن ًة َوأَ ْم َواال ً فِي ا ْل َ
حيَا ِة ال ُّد ْنيَا َربَّ َن ا لِ ُي ِ ك آتَ ْي َ وسى { َربَّ َنا إِنَّ َ ل ُم َ َو َقا َ
ل َق ْدم (َ )88ق ا َ َاب األَلِي َ
ح َّتى يَ َر ُو ْا ا ْل َع ذ َ اش ُد ْد َعلَى ُقلُوبِ ِه ْ
م َفال َ ُي ْؤ ِم ُنو ْا َ م َو ْ س َعلَى أَ ْم َوالِ ِه ْ م ْ َربَّ َنا ا ْ
ط ِ
مونَ (( ...})89يونس). ين ال َ يَ ْعلَ ُ ل الَّ ِذ َ
سبِي َ ن َ ما َوال َ تَ َّتبِ َعآ ِّ اس َت ِقي َ ما َف ْ جيبَت َّد ْع َو ُت ُك َ ُأ ِ
لم يكن قد آمن مع موس ى فري ق من قوم ه .ف انتهى األم ر ،وأوحي إلى موس ى أن يخ رج من
مصر مع بني إسرائيل .وأن يكور رحيلهم ليال ،بع د ت دبير وتنظيم ألم ر الرحي ل .ونب أه أن فرع ون
سيتبعهم بجنده؛ وأم ره أن يق وم قوم ه إلى س احل البح ر (وه و في الغ الب عن د التق اء خليج
السويس بمنطقة البحيرات).
وبلغت األخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج .فأرسل أوامره في مدن المملكة لحش د
جيش عظيم .ليدرك موسى وقومه ،ويفسد عليهم تدبيرهم .أعلن فرعون التعبئة العامة .وه ذا
من شأنه أن يشكل صورة في األذهان ،أن موسى وقومه يشكلون خطرا فعلى فرع ون وملك ه،
فيكف يكون إلها من يخشى فئة صغيرا يعبدون إله آخر؟!
ة ه ُؤاَل ء لَ ِ
ش ْر ِذ َم ٌ لذلك كان البد من تهوين األمر وذل ك بتقلي ل ش أن ق وم موس ى وحجمهم {إِنَّ َ
َقلِيلُونَ } لكننا نطاردهم ألنهم أغاظونا ،وعلى أي حال ،فنحن حذرون مستعدون ممسكون بزمام
األمور.
وق ف موس ى أم ام البح ر .وب دا جيش الفرع ون يق ترب ،وظه رت أعالم ه .وامتأل ق وم موس ى
بالرعب .كان الموقف حرجا وخطيرا .إن البحر أمامهم والعدو ورائهم وليس معهم س فن أو أدوات
لعب ور البح ر ،كم ا ليس ت أم امهم فرص ة واح دة للقت ال .إنهم مجموع ة من النس اء واألطف ال
والرجال غير المسلحين .سيذبحهم فرعون عن آخرهم.
ين}.
سيَ ْه ِد ِ قال موسى{ :كَاَّل إِنَّ َم ِع َ
ي َربِ ّي َ
لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة ،لكن قلب ه ك ان ممتلئ ا بالثق ة برب ه ،واليقين بعون ه،
والتأكد من النجاة ،فاهلل ه و اللي يوجه ه ويرع اه .وفي اللحظ ة األخ يرة ،يجيء ال وحي من هللا
ل فِ ْرقٍ
ك انَ ُك ُّ ح َر} فضربه ،فوقعت المعجزة { َف ان َفلَ َ
ق َف َ ك ا ْلبَ ْ
صا َ
ض ِرب بِ ّ َع َ وسى أَ ِ
نا ْ ح ْي َنا إِلَى ُم َ{ َفأَ ْو َ
يم } وتحققه المستحيل في منطق الناس ،لكن هللا إن أراد شيئا قال له كن فيكون. َكالطَّ ْو ِد ا ْل َع ِ
ظ ِ
ووصل فرعون إلى البحر .شاهد هذه المعجزة .ش اهد في البح ر طريق ا يابس ا يش قه نص فين.
فأمر جيش ه بالتق دم .وحين انتهى موس ى من عب ور البح ر .وأوحى هللا إلى موس ى أن ي ترك
جن ٌد ُّم ْغ َرقُونَ }.
م ُ
ه ًوا إِنَّ ُه ْ ك ا ْلبَ ْ
ح َر َر ْ البحر على حاله { َوا ْت ُر ْ
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وكان هللا تعالى قد شاء إغراق الفرعون .فما أن ص ار فرع ون وجن وده في منتص ف البح ر ،ح تى
أصدر هللا أمره ،فانطبقت األمواج على فرعون وجيشه .وغرق فرعون وجيشه .غرق العن اد ونج ا
اإليمان باهلل.
انتهى وقت التوبة المح دد ل ك وهلكت .انتهى األم ر وال نج اة ل ك .س ينجو جس دك وح ده .لن
تأكله األسماك ،ولين يحمله التيار بعيدا عن الناس ،بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك.
أسدل الستار على طغيان الفرعون .ولفظت األمواج جثته إلى الشاطئ .بعد ذل ك .ن زل الس تار
تماما عن المصريين .لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم .فك ان خ روجهم ه ذا
هو األخير .وكان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز؛ فلم يع ودوا بع دها له ذا
النعيم!
ال يحدثنا القرآن الكريم عما فعل ه من بقى من المص ررين في مص ر بع د س قوط نظ ام الفرع ون
وغرقه مع جيشه .ال يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر هللا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا
يشيدون .يسكت السياق القرآني عنهم .ويستبعدهم تماما من التاريخ واألحداث.
قد مات فرعون مصر .غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل .ورغم موته ،فقد ظ ل أث ره باقي ا
في نفوس المصريين وبني إسرائيل .من الصعب على سنوات القهر الطويل ة وال ذل المكث ف أن
تمر على نفوس الناس مر الكرام .لقد عوّد فرع ون ب ني إس رائيل ال ذل لغ ير هللا .ه زم أرواحهم
وأفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذابا شديدا بالعناد والجهل.
كانت معجزة شق البحر لم تزل طرية في أذهانهم ،حين مروا على قوم يعب دون األص نام .وب دال
من أن يظه روا اس تيائهم له ذا الظلم للعق ل ،ويحم دوا هللا أن ه داهم لإليم ان .ب دال من ذل ك
التفتوا إلى موسى وطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل هؤالء الناس.
أدركتهم الغيرة لمرأى األصنام ،ورغبوا في مثلها ،وعاودهم الحنين ألي ام الش رك القديم ة ال تي
عاشوها في ظل فرعون .واستلفتهم موسى إلى جهلهم هذا ،وبيّن لهم أن عمل هؤالء باط ل،
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وأن هللا فضل بني إسرائيل على العالمين فكيف يجحد هذا التفضيل ويجعل لهم ص نما يعبدون ه
من دون هللا .ثم ذكّرهم بفرعون وعذابه لهم ،وكيف أن هللا نجاهم منه ،فكيف بعد ذلك يشركون
باهلل ماال يضر وال ينفع.
انتهت المرحلة األولى من مهمة موسى عليه الس الم ،وهي تخليص ب ني إس رائيل من حي اة
الذل والتعذيب على يد فرعون وجنده .والسير بهم إلى الديار المقدسة.
لكن القوم لم يكونوا على استعداد للمهمة الكبرى ،مهم ة الخالف ة في األرض ب دين هللا .وك ان
االختبار األول أكبر دليل على ذلك .فما أن رأوا قوما يعبدون صنما ،حتى اه تزت عقي دة التوحي د
في نفوسهم ،وطلبوا من موسى أن يجعل لهم وثنا يعبدوه.
فكان ال بد من رسالة مفصلة لتربية هذه األمة وإعدادها لم ا هم مقبل ون علي ه .من أج ل ه ذه
الرسالة كانت مواعدة هللا لعب ده موس ى ليلق اه .وك انت ه ذه المواع دة إع داد لنفس موس ى
ليتهيأ للموقف الهائل العظيم .فاستخلف في قومه أخاه هارون عليه السالم.
كانت فترة اإلعداد ثالثين ليلة ،أضيف إليها عشر ،فبلغت عدتها أربعين ليلة .يروض موسى فيه ا
نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل األرض؛ فتصفو روحه وتتقوى عزيمته.
ويذكر ابن كثير في تفسيره عن أمر هذه الليالي( :فذكر تع الى أن ه واع د موس ى ثالثين ليل ة؛
قال المفسرون :فصامها موسى -عليه السالم -وطواها ،فلما تم الميقات استاك بلحاء ش جرة،
فأمره هللا تعالى أن يكمل العشرة أربعين).
كان موسى بصومه -أربعين ليلة -يقترب من ربه أكثر .وكان موسى بتكليم هللا له يزداد حب ا في
ربه أكثر .فطلب موسى أن يرى هللا .ونحن ال نعرف أي مش اعر ك انت تجيش في قلب موس ى
عليه الصالة والسالم حين سأل ربه الرؤية .أحيانا كثيرة ي دفع الحب البش ري الن اس إلى طلب
المستحيل.
فم ا بال ك ب الحب اإللهي ،وه و أص ل الحب؟ إن عم ق إحس اس موس ى برب ه ،وحب ه لخالق ه،
واندفاعه الذي لم يزل يميز شخصيته .دفعه هذا كله إلى أن يسأل هللا الرؤية.
ل لَن تَ َرانِي}.
وجاءه رد الحق عز وجلَ { :قا َ
ولو أن هللا تبارك وتعالى قالها ولم يزد عليها شيئا ،لكان هذا عدال منه سبحانه ،غير أن الموق ف
هنا موقف حب إلهي من جانب موسى .موقف اندفاع يبرره الحب ولهذا أدركت رحمة هللا تعالى
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
موسى .أفهمه أنه لن يراه ،ألن أحدا من الخلق ال يصمد لنور هللا .أمره أن ينظر إلى الجبل ،ف إن
استقر مكانه فسوف يراه.
ج َعلَ ُه
ل َ جلَّى َربُّ ُه لِ ْل َ
جبَ ِ ف تَ َرانِي َفلَ َّ
ما تَ َ س ْو َ
كانَ ُه َف َ
اس َت َق َّر َم َ
ن ْل َف ِإ ِ ظ ْر إِلَى ا ْل َ
جبَ ِ ن ان ُ قال تعالىَ { :ولَـكِ ِ
ص ِع ًقا}
موسى َ َ َد ًكّا َو َ
خ َّر
ك الجبل ،وصار مسوّى في األرض .وسقط موسى مغشيا علي ه غائب ا ال يصمد لنور هللا أحد .فد ّ
عن وعيه .فلما أفاق قال سبحانك تنزهت وتعاليت عن أن ت رى باألبص ار وت درك .وتبت إلي ك عن
تجاوزني للمدى في سؤالك! وأنا أول المؤمنين بك وبعظمتك.
ثم تتداركه رحمة ربه من جديد .فيتلقى موسى -عليه الس الم -البش رى .بش رى االص طفاء.
اص طَ َف ْي ُت َ
ك وس ى إِنِ ّي ْ مع التوجيه له بالرسالة إلى قوم ه بع د الخالص .ق ال تع الىَ { :ق ا َ
ل َي ا ُم َ
ين}.الشا ِك ِر َ
َّ ن
ك َوكُن ِ ّم َ كال َ ِمي َف ُ
خذْ َما آتَ ْي ُت َ ساالَتِي َوبِ َ
اس بِ ِر َ
ِ َعلَى ال َّن
ونحب أن نبتعد عن ه ذا الج دال كل ه .ال ألنن ا نعتق د أن ك ل األنبي اء س واء .إذا إن هللا س بحانه
وتعالى يحدثنا أنه فضل بعض النبيين على بعض ،ورفع درجات بعضهم على البعض.
غير أن هذا التفضيل ينبغي أن يكون منطقة محرمة علينا ،ولنقف نحن في موقع اإليمان بجمي ع
األنبياء ال نتعداه .ولنؤد نحوهم ف روض االح ترام على ح د س واء .ال ينبغي أن يخ وض الخ اطئون
في درجات المعصومين المخت ارين من هللا .ليس من األدب أن نفاض ل نحن بين األنبي اء .األولى
أن نؤمن بهم جميعا.
ص يال ً لِ ّ ُك ِ ّ
ل عظَ ًة َوتَ ْف ِ
ي ٍء َّم ْو ِ
ش ْل َ ثم يبين هللا تعالى مضمون الرسالة { َو َك َت ْب َنا لَ ُه فِي األ َ ْل َواحِ ِمن ُك ِ ّ
ين} ففيها كل ش يء يختص س ِق َ س ُأ ِريك ْ
ُم َدا َر ا ْل َفا ِ سنِ َها َ
ح َ خ ُذو ْا بِأَ ْ
ك يَ ْأ ُ
ها بِ ُق َّو ٍة َو ْأ ُم ْر َق ْو َم َ ي ٍء َف ُ
خذْ َ ش ْ
َ
بموضوع الرسالة وغايتها من بيان هللا وشريعته والتوجيه ات المطلوب ة إلص الح ح ال ه ذه األم ة
وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول األمد!
عبادة العجل:
انتهى ميقات موسى مع ربه تعالى .وعاد غضبان أسفا إلى قومه .فلقد أخبره هللا أن قم وه ق د
السامري هو من أض ل ّهم .انح در موس ى من ّ ضل ّوا من بعده .وأن رجال من بني إسرائيل يدعى
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
قمة الجبل وهو يحمل ألواح الت وراة ،قلب ه يغلي بالغض ب واألس ف .نس تطيع أن نتخي ل انفع ال
موسى وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه.
لم يكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه .حتى وقعت فتنة السامري .وتفصيل هذه الفتن ة أن
ب ني إس رائيل حين خرج وا من مص ر ،ص حبوا معهم كث يرا من حلي المص ريين وذهبهم ،حيث
كانت نساء بني إسرائيل قد استعرنه للتزين به ،وعندما أمروا بالخروج حملوه معهم .ثم قذفوها
ألنها حرام .فأخذها السامري ،وصنع منها تمثاال لعجل.
وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو صائغا سابقا ،فصنع العجل مجوفا من ال داخل ،ووض عه
في اتجاه الريح ،بحيث يدخل الهواء من فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه خ وار
العجول الحقيقية.
ويقال إن سر هذا الخوار ،أن السامري ك ان ق د أخ ذ قبض ة من ت راب س ار علي ه جبري ل -علي ه
السالم -حين نزل إلى األرض في معجزة شق البحر .أي أن السامري أبص ر بم ا لم يبص روا ب ه،
فقبض قبضة من أثر الرسول -جبريل عليه السالم -فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل.
وكان جبريل ال يسير على شيء إال دبت فيه الحياة .فلما أضاف السامري ال تراب إلى ال ذهب،
ثم صنع منه العجل ،خ ار العج ل ك العجول الحقيقي ة .وه ذه هي القص ة ال تي قاله ا الس امري
لموسى عليه السالم.
وهبت موجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخ ار العج ل .وعب د بن و
إسرائيل هذا العجل .لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة .كيف يمكن االستخفاف بعق ول الق وم
لهذه الدرجة؟! لقد وقعت لهم معجزات هائلة .فكيف ينقلبون إلى عبادة األصنام في لحظة؟
تزول هذه الدهشة لو نظرنا في نفسية القوم الذين عبدوا العجل .لقد تربوا في مصر ،أيام كانت
مص ر تعب د األص نام وتق دس فيم ا تق دس العج ل أبيس ،وترب وا على ال ذل والعبودي ة ،فتغ يرت
نفوسهم ،والتوت فطرتهم ،ومرت عليهم معجزات هللا فصادفت نفوسا تالفة األمل .لم يعد هن اك
ما يمكن أن يصنعه لهم أحد.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
إن كلم ات هللا لم تع دهم إلى الح ق ،كم ا أن المعج زات الحس ية لم تقنعهم بص دق الكلم ات،
ظلوا داخ ل أعم اقهم من عب دة األوث ان .ك انوا وثن يين مث ل س ادتهم المص ريين الق دماء .وله ذا
السبب انقلبوا إلى عبادة العجل.
وفوجئ هارون عليه الصالة والسالم يوما بأن بني إسرائيل يعبدون عجال من ال ذهب .انقس موا
إلى قسمين :األقلي ة المؤمن ة أدركت أن ه ذا ه راء .واألغلبي ة الك افرة ط اوعت حنينه ا لعب ادة
األوثان .ووق ف ه ارون وس ط قوم ه وراح يعظهم .ق ال لهم :إنكم فتنتم ب ه ،ه ذه فتن ة ،اس تغل
ن َف اتَّ ِب ُعونِي
م ُ
ح َ
م ال َّر ْ
السامري جهلكم وفتنكم بعجله .ليس ه ذا ربكم وال رب موس ى { َوإِنَّ َربَّ ُك ُ
طي ُعوا أَ ْم ِري}.
َوأَ ِ
ورفض عبدة العجل موعظة هارون .لكن هارون -عليه الس الم -ع اد يعظهم وي ذكرهم بمعج زات
هللا التي أنقذهم بها ،وتكريمه ورعايته لهم ،فأصموا آذانهم ورفضوا كلمات ه ،واستض عفوه وك ادوا
يقتلونه ،وأنهوا مناقشة الموضوع بتأجيله حتى عودة موسى.
كان واضحا أن هارون أكثر لينا من موسى ،لم يكن يهابه القوم للينه وش فقته .وخش ي ه ارون
أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم صنمهم الذي يعبدونه فتثور فتن ة بين الق وم .ف آثر ه ارون تأجي ل
الموضوع إلى أن يحضر موسى.
كان يعرف أن موس ى بشخص يته القوي ة ،يس تطيع أن يض ع ح دا له ذه الفتن ة .واس تمر الق وم
يرقصون حول العجل.
انحدر موسى عائدا لقومه فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العج ل .توق ف الق وم
ي}. خلَ ْف ُت ُ
مونِي ِمن بَ ْع ِد َ ما َ
ْس َ
حين ظهر موسى وساد صمت .صرخ موسى يقول{ :بِئ َ
اتجه موسى نح و ه ارون وألقى أل واح الت وراة من ي ده على األرض .ك ان إعص ار الغض ب داخ ل
موسى يتحكم فيه تماما .مد موسى يديه وأمسك هارون من شعر رأسه وش عر لحيت ه وش ده
ت ن أَ َف َع َ
ص ْي َ ض لُّوا ( )92أَاَّل تَ َّتبِ َع ِ ك إِ ْذ َرأَ ْي َت ُه ْ
م َ ون َم ا َم َن َع َ
ار ُ
ه ُ
نحوه وهو ي رتعش .ق ال موس ى{ :يَ ا َ
أَ ْم ِري (( ...})93طه).
إن موسى يتساءل هل عصى هارون أمره .كيف سكت على هذه الفتن ة؟ كي ف ط اوعهم على
البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم ويتبرأ منهم؟ كيف سكت عن مقاومتهم أص ال؟ إن الس اكت عن
الخطأ مشترك فيه بشكل ما .زاد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة.
وتحدث هارون إلى موسى .رجا من ه أن ي ترك رأس ه ولحيت ه .بح ق انتمائهم ا ألم واح دة .وه و
يذكره باألم وال يذكره باألب ليكون ذلك أدعى الستثارة مشاعر الحنو في نفسه.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
أفهمه أن األمر ليس فيه عصيان له .وليس فيه رضا بموقف عبدة العجل .إنما خشي أن يتركهم
ويمضي ،فيس أله موس ى كي ف لم يب ق فيهم وق د ترك ه موس ى مس ئوال عنهم ،وخش ي ل و
قاومهم بعنف أن يثير بينهم قتاال فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولم ينتظر عودته.
أفهم هارون أخاه موسى برفق ولين أن القوم استضعفوه ،وكادوا يقتلونه حين قاومهم .رجا منه
أن يترك رأسه ولحيته حتى ال يشمت به األعداء ،ويس تخف ب ه الق وم زي ادة على اس تخفافهم
به .أفهمه أنه ليس ظالما مثلهم عندما سكت عن ظلمهم.
أدرك موسى أن ه ظلم ه ارون في غض به ال ذي أش علته غيرت ه على هللا تع الى وحرص ه على
الحق .أدرك أن هارون تصرف أفضل تصرف ممكن في هذه الظروف .ترك رأسه ولحيت ه واس تغفر
هللا له وألخيه.
س ًنا
ح َ
ُم َو ْع ًدا َ
ُم َربُّك ْ
م يَ ِع ْدك ْ التفت موسى لقومه وتساءل بصوت لم يزل يضطرب غضبا{ :يَا َق ْو ِم أَلَ ْ
ع ِدي}. خلَ ْف ُتم َّم ْو ِ ُم َفأَ ْ
َب ِ ّمن َّربِ ّك ْ ل َعلَ ْيك ْ
ُم َغض ٌ ُّم أَن يَ ِ
ح َّ م ا ْل َع ْه ُد أَ ْم أَ َردت ْ أَ َفطَا َ
ل َعلَ ْي ُك ُ
إنه يعنفهم ويوبخهم ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ما عملوه .عاد موسى يقول غاضبا أش د
ج ِزي حيا ِة ال ُّد ْنيَا َو َك َذلِ َ
ك نَ ْ ة فِي ا ْل َ
م َو ِذلَّ ٌ
َب ِ ّمن َّربِ ّ ِه ْ
م َغض ٌ
سيَ َنا ُل ُه ْ
ل َ خ ُذو ْا ا ْل ِع ْ
ج َ الغضب{ :إِنَّ الَّ ِذ َ
ين اتَّ َ
ين}. ا ْل ُ
م ْف َت ِر َ
لم تكد الجبال تبتلع أصداء الص وت الغاض ب ح تى نكس الق وم رءوس هم وأدرك وا خط أهم .ك ان
افتراؤهم واضحا على الحق الذي جاء به موس ى .أبع د ك ل م ا فعل ه هللا تع الى لهم ،ينكفئ ون
على عبادة األصنام؟! أيغيب موس ى أربعين يوم ا ثم يع ود ليج دهم يعب دون عجال من ال ذهب.
أهذا تصرف قوم ،عهد هللا إليهم بأمانة التوحيد في األرض؟
التفت موسى إلى السامري بعد حديثه القصير مع هارون .لقد أثبت له هارون براءت ه كمس ئول
عن قوم ه في غيبت ه ،كم ا س كت الق وم ونكس وا رءوس هم أم ام ث ورة موس ى ،لم يب ق إال
المسئول األول عن الفتنة .لم يبق إال السامري.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
لم يناقش موسى ،عليه السالم السامري في ادعائه .إنما قذف في وجه ه حكم الح ق .ليس
المهم أن يكون السامري قد رأى جبريل ،علي ه الس الم ،فقبض قبض ة من أث ره .ليس المهم أن
يكون خوار العجل بسبب هذا التراب الذي سار عليه فرس جبري ل ،أو يك ون الخ وار بس بب ثقب
اصطنعه السامري ليخور العجل.
المهم في األمر كله جريمة السامري ،وفتنته لقوم موس ى ،واس تغالله إعج اب الق وم ال دفين
بس ادتهم المص ريين ،وتقلي دهم لهم في عب ادة األوث ان .ه ذه هي الجريم ة ال تي حكم فيه ا
نع ًدا لَّ ْ اس َوإِنَّ لَ َ
ك َم ْو ِ َ سل اَل ِم َ حيَ ا ِة أَن تَ ُق و َ ك فِي ا ْل َ ب َف ِإنَّ لَ َ ه ْل َفا ْذ َ
موسى عليه السالمَ { :قا َ
سفًا}. س َف َّن ُه فِي ا ْليَ ِ ّ
م نَ ْ م لَ َنن ِ
ح ِرّ َق َّن ُه ُث َّ
ه َعاكِفًا لَّ ُن َت َعلَ ْي ِك الَّ ِذي ظَ ْل َخلَ َف ُه َوانظ ُْر إِلَى إِلَ ِه َ
ُت ْ
حكم موسى على السامري بالوحدة في الدنيا .يق ول بعض المفس رين :إن موس ى دع ا على
السامري بأن ال يمس أحدا ،معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه.
ونعتق د أن األم ر أخط ر كث يرا من ه ذه النظ رة الس ريعة .إن الس امري أراد بفتنت ه ض الل ب ني
إسرائيل وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم ،وقد جاءت عقوبته مساوية لجرم ه ،لق د
حكم عليه بالنبذ والوحدة .هل مرض السامري مرضا جلديا بشعا صار الناس ي أنفون من لمس ه
أو مجرد االقتراب منه؟ هل جاءه النبذ من خارج جسده؟
ال نعرف ماذا كان من أمر األسلوب الذي تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له .كل ما نعرفه
أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة ،كان أهون منها القتل ،فقد عاش الس امري منب وذا محتق را
ال يلمس شيئا وال يمس أحدا وال يقترب منه مخلوق .هذه هي عقوبته في الدنيا ،ويوم القيام ة
له عقوبة ثانية ،يبهمها السياق لتجيء ظاللها في النفس أخطر وأرعب.
نهض موسى بعد فراغه من السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار .لم يكتف بصهره أم ام
عيون القوم المبهوتين ،وإنما نسفه في البحر نسفا .تحول اإلله المعب ود أم ام عي ون المفت ونين
ل
ع ُك َّ
س َ ُم اللَّ ُه الَّ ِذي اَل إِلَ َه إِاَّل ُ
ه َو َو ِ ما إِلَ ُهك ُ
به إلى رماد يتطاير في البحر .ارتفع صوت موسى{ :إِنَّ َ
م ا} هذا هو إلهكم ،وليس ذلك الصنم الذي ال يملك لنفسه نفعا وال ضرا. ع ْل ً
ي ٍء ِ
ش ْ
َ
بعد أن نسف موسى الصنم ،وف رغ من الج اني األص لي ،التفت إلى قوم ه ،وحكم في القض ية
كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهم وترك لعبدة العجل مجاال واحدا للتوبة .وكان ه ذا المج ال أن
يقتل المطيع من بني إسرائي من عصى.
ل َف ُتو ُب و ْا إِلَىج َ م ا ْل ِع ْ
خ ا ِذ ُك ُ ُم بِاتِ ّ َ
سك ْ م أَن ُف َ ُم ظَلَ ْ
م ُت ْ ه يَ ا َق ْو ِم إِنَّك ْ
وسى لِ َق ْو ِم ِل ُم َ قال تعالىَ { :وإِ ْذ َقا َ
حيم (...})54 اب ال َّر ِ ه َو ال َّت َّو ُ اب َعلَ ْيك ْ
ُم إِنَّ ُه ُ ُم َف َت َ ارئِك ْ
عن َد َب ِ خ ْي ٌر لَّك ْ
ُم ِ ُم َُم َذلِك ْ
سك ْ ُم َفاق ُْتلُو ْا أَن ُف َ
ارئِك ْ
َب ِ
(البقرة).
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
كانت العقوبة التي قررها موسى على عبدة العجل مهولة ،وتتفق مع الجرم األصلي .إن عب ادة
األوثان إهدار لحي اة العق ل وص حوته ،وهي الص حوة ال تي تم يز اإلنس ان عن غ يره من البه ائم
والجمادات ،وإزاء هذا اإلزهاق لصحوة العقل ،تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجس د نفس ه ،فليس
بعد العقل لإلنسان حياة يتميز به ا .ومن ن وع الج رم ج اءت العقوب ة .ج اءت قاس ية ثم رحم هللا
حيم .الر ِ
اب َّ
ه َو ال َّت َّو ُ
تعالى وتاب .إِنَّ ُه ُ
ُّوسى ا ْل َغض ُ
َب .تأمل تعبير القرآن الكريم الذي يص ور الغض ب في ص ورة ك ائن ت َعن م َ س َ
ك َ أخيراَ .
يقود تصرفات موسى ،ابتداء من إلقائه أللواح التوراة ،وشده للحية أخيه ورأسه .وانته اء بنس ف
العجل في البحر ،وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا.
أخ يرا س كت عن موس ى الغض ب .زايل ه غض به في هللا ،وذل ك أرف ع أن واع الغض ب وأج درها
باالحترام والتوقير .التفت موسى إلى مهمته األص لية حين زايل ه غض به فت ذكر أن ه ألقى أل واح
التوراة .وعاد موسى يأخذ األلواح ويعاود دعوته إلى هللا.
عاد موسى إلى هدوئه ،واس تأنف جه اده في هللا ،وق رأ أل واح الت وراة على قوم ه .أم رهم في
البداية أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم .ومن المدهش أن قومه ساوموه على الحق .قالوا :انش ر
علينا األلواح فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها.
فقال موسى :بل اقبلوها بما فيها .فراجعوا مرارا ،فأمر هللا تع الى مالئكت ه ف رفعت الجب ل على
رءوسهم حتى صار كأنه غمامة فوقهم ،وقيل لهم :إن لم تقبلوه ا بم ا فيه ا س قط ذل ك الجب ل
عليكم ،فقبلوا بذلك ،وأمروا بالسجود فسجدوا .وضعوا خدودهم على األرض وراحوا ينظرون إلى
الجبل فوقهم هلعا ورعبا.
وهكذا أثبت ق وم موس ى أنهم ال يس لمون وج وههم هلل إال إذا ل ويت أعن اقهم بمعج زة حس ية
باهرة تلقي الرعب في القلوب وتنثني األقدام نحو سجود قاهر يدفع الخ وف إلي ه دفع ا .وهك ذا
يساق الناس بالعصا اإللهية إلى اإليمان .يقع هذا في ظل غياب الوعي والنضج الك افيين لقي ام
االقتناع العقلي.
ولعلنا هنا نشير مرة أخرى إلى نفسية قوم موسى ،وهي المس ئول األول عن ع دم اقتن اعهم
إال بالقوة الحسية والمعجزات الباهرة .لقد تربى قوم موسى ونشئوا وس ط ه وان وذل ،أه درت
فيهما إنسانيتهم والتوت فطرته.
ولم يعد ممكنا بعد ازده ار ال ذل في نفوس هم واعتي ادهم إي اه ،لم يع د ممكن ا أن يس اقوا إلى
الخير إال بالقوة .لق د اعت ادوا أن تس يرهم الق وة الق اهرة لس ادتهم الق دامى ،وال ب د لس يدهم
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
الجديد (وهو اإليمان) من أن يقاسي األه وال لتس ييرهم ،وأن يلج أ مض طرا إلى أس لوب الق وة
لينقذهم من الهالك .لم تمر جريمة عبادة العجل دون آثار.
أمر موسى بني إسرائيل أن يستغفروا هللا ويتوبوا إليه .اختار منهم سبعين رجال ،الخيّر ف الخيّر،
وقال انطلقوا إلى هللا فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم.
صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم .خرج موسى به ؤالء الس بعين المخت ارين لميق ات ح دده ل ه هللا
تعالى .دنا موسى من الجبل .وكلم هللا تعالى موسى ،وسمع السبعون موسى وهو يكلم ربه.
ولعل معجزة كهذه المعجزة تكون األخير ،وتكون كافية لحمل اإليم ان إلى القل وب م دى الحي اة.
غير أن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من المعجزة .إنما طلبوا رؤية هللا تع الى.
ح َّتى نَ َرى اللَّ َه ن لَ َ
ك َ وس ى لَن ن ُّ ْؤ ِم َ
قالوا سمعنا ونريد أن ن رى .ق الوا لموس ى ببس اطة{ :يَ ا ُم َ
ج ْه َر ًة}.
َ
هي مأساة تثير أشد الدهشة .وهي مأساة تشير إلى صالبة القلوب واستمساكها بالحس يات
والمادي ات .ك وفئ الطلب المتعنت بعقوب ة ص اعقة .أخ ذتهم رجف ة م دمرة ص عقت أرواحهم
وأجسادهم على الفور .ماتوا.
أدرك موسى ما أحدثه السبعون المختارون فمأله األسى وقام يدعو ربه ويناشده أن يعفو عنهم
ويرحمهم ،وأال يؤاخ ذهم بم ا فع ل الس فهاء منهم ،وليس طلبهم رؤي ة هللا تب ارك وتع الى وهم
على ما هم فيه من البشرية الناقصة وقسوة القلب غير سفاهة ك برى .س فاهة ال يكف ر عنه ا
إال الموت.
قد يطلب النبي رؤية ربه ،كما فعل موسى ،ورغم انطالق الطلب من واقع الحب العظيم والهوى
المسيطر ،الذي يبرر بما له من منطق خاص هذا الطلب ،رغم هذا كله يعتبر طلب الرؤية تجاوزا
للح دود ،يج ازى علي ه الن بي بالص عق ،فم ا بالن ا بص دور ه ذا الطلب من بش ر خ اطئين ،بش ر
يحددون للرؤية مكانا وزمانا ،بعد كل ما لقوه من معجزات وآي ات..؟ أليس ه ذا س فاهة ك برى..؟
وهكذا صعق من طلب الرؤية ..ووقف موسى يدعو ربه ويستعطفه ويترضاه..
يحكي المولى ع ز وج ل دع اء موس ى علي ه الس الم بالتوب ة على قوم ه في س ورة األع راف:
هلَ ْك َت ُهم ِ ّمن ْت أَ ْ
ش ئ َ ب لَ ْو ِ ل َر ّ ِج َف ُة َقا َ م ال َّر ْ خ َذ ْت ُه ُما أَ َ ميقَاتِ َنا َفلَ َّجال ً لِ ّ ِين َر ُس ْب ِع َ وسى َق ْو َم ُه َ اخ َتا َر ُم َ { َو ْ
ش اء ش اء َوتَ ْه ِدي َمن تَ َ ل بِ َه ا َمن تَ َ ض ُّ ك ُت ِ ي إِال َّ فِ ْت َن ُت َ ه َ الس َف َهاء ِم َّنا إِنْ ِ ُّ ما َف َع َ
ل ي أَ ُت ْهلِ ُك َنا بِ َ
ل َوإِيَّا َ َق ْب ُ
س َن ًة َوفِي ح َ هـ ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َ ب لَ َن ا فِي َ خ ْي ُر ا ْل َغ افِ ِرين (َ )155واك ُْت ْ نت َم َنا َوأَ َ ح ْ ار َنت َولِيُّ َنا َفاغْ ِف ْر لَ َنا َو ْ أَ َ
س أَ ْك ُت ُب َها ي ٍء َف َ ش ْ ل َ ت ُك َّ س َع ْ متِي َو ِ ح َ ش اء َو َر ْ ن أَ َ ه َم ْ يب بِ ِص ُ ل َع ذَابِي ُأ ِ ك َق ا َ ه ْدنَـا إِلَ ْي َ خ َر ِة إِنَّا ُاآل ِ
ي األُ ِ ّم َّ
ي ل ال َّن ِب َّسو َ هم بِآيَاتِ َنا ُي ْؤ ِم ُن ونَ ( )156الَّ ِذ َ
ين يَ َّت ِب ُع ونَ ال َّر ُ ين ُ ين يَ َّت ُقونَ َو ُي ْؤ ُتونَ ال َّز َكـا َة َوالَّ ِذ َ لِلَّ ِذ َ
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
ل ح ُّ من َ
ك ِر َو ُي ِ ن ا ْل ُ م َع ِ ه ْف َويَ ْن َه ا ُ هم بِ ا ْل َ
م ْع ُرو ِ يل يَ ْأ ُم ُر ُ
اإل ْنجِ ِ م فِي ال َّت ْو َرا ِة َو ِ ه ْعن َد ُ الَّ ِذي يَجِ ُدونَ ُه َم ْك ُتوبًا ِ
ين آ َم ُنو ْام َفالَّ ِذ َ ت َعلَ ْي ِه ْ ل الَّتِي َكانَ ْ م َواألَغْ ال َ َ ه ْص َر ُم إِ ْ ض ُع َع ْن ُه ْخبَآئِثَ َويَ َ م ا ْل َ ح ِرّ ُم َعلَ ْي ِه ُم الطَّ ِي ّبَاتِ َو ُي َ لَ ُه ُ
حونَ (( ...})157األعراف). م ْفلِ ُ م ا ْل ُ
ه ُ ك ُ ل َم َع ُه ُأ ْولَـئِ َ ي ُأ ِ
نز َ ص ُرو ُه َواتَّبَ ُعو ْا النُّو َر الَّ ِذ َه َو َع َّز ُرو ُه َونَ َبِ ِ
هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه .ورضي هللا تعالى عنه وغفر لقومه فأحياهم
بعد موتهم ،واستمع المختارون في هذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحي اة إلى النب وءة بمجيء
محمد بن عبد هللا صلى هللا عليه وسلم.
س نالحظ طريق ة الرب ط بين الحاض ر والماض ي في اآلي ة ،إن هللا تع الى يتج اوز زمن مخاطب ة
بشر
الرسول في اآليات إلى زمنين سابقين ،هما نزول التوراة ونزول اإلنجيل ،ليقرر أنه (تعالى) ّ
بمحمد في هذين الكتابين الكريمين.
نعتقد أن إيراد هذه البشرى ج اء ي وم ص حب موس ى من قوم ه س بعين رجال هم ش يوخ ب ني
إس رائيل وأفض ل من فيهم ،لميق ات رب ه .في ه ذا الي وم الخط ير بمعجزات ه الك برى ،تم إي راد
البشرى بآخر أنبياء هللا عز وجل.
يقول ابن كثير في كتابه قصص األنبياء ،نقال عن قتادة :إن موسى قال لربه :يا رب إني أجد في
األلواح أم ة هي خ ير أم ة أخ رجت للن اس ،ي أمرون ب المعروف وينه ون عن المنك ر .رب اجعلهم
تي. أم
د. ة أحم ك أم ال :تل ق
قال :ربي إني أجد في األل واح أم ة أن اجيلهم في ص دورهم يقرءونه ا .وك ان من قبلهم يق رءون
كتابهم نظرا ،حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه .وإن هللا أعطاهم من الحفظ شيئا لم
تي. دا من األمم .رب اجعلهم أم ه أح يعط
د. ة أحم ك أم ال :تل ق
قال :رب إني أجد في األلواح أمة يؤمنون بالكتاب األول وبالكتاب اآلخر ،ويقاتلون فض ول الض اللة.
تي. اجعلهم أم ف
د. ة أحم ك أم ال :تل ق
قال :رب إني أجد في األل واح أم ة ص دقاتهم يأكلونه ا في بط ونهم ،وي ؤجرون عليه ا ،وك ان من
قبلهم من األمم إذا تصدق أحدهم بصدقة فقبلت منه بعث هللا عليها نارا فأكلتها ،وإن ردت عليه
تركت فتأكلها السباع والطير .وإن هللا أخذ صدقاتهم من غنيهم لفق يرهم .رب ف اجعلهم أم تي.
د. ة أحم ك أم ال :تل ق
قال :رب فإني أجد في األلواح أمة إذا هم أح دهم بحس نة ثم عمله ا كتبت ل ه عش رة أمثاله ا
تي. عف .رب اجعلهم أم بعمائة ض إلى س
قال :تلك أمة أحمد.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
سار موسى بقومه في سيناء .وهي ص حراء ليس فيه ا ش جر يقي من الش مس ،وليس فيه ا
طعام وال ماء .وأدركتهم رحمة هللا فساق إليهم المن والسلوى وظللهم الغمام.
والمن مادة يميل طعمها إلى الحالوة وتفرزها بعض أشجار الفاكهة .وساق هللا إليهم الس لوى،
وهو نوع من أنواع الطيور يقال إنه (السمان) .وحين اشتد بهم الظم أ إلى الم اء ،وس يناء مك ان
يخلو من الماء ،ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من المياه.
وكان بنو إسرائيل ينقسمون إلى 12سبطا .فأرسل هللا المياه لكل مجموعة .ورغم هذا اإلك رام
والحفاوة ،تحركت في النفوس التواءاتها المريضة.
واحتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذا الطعام ،واشتاقت نفوسهم إلى البصل والث وم والف ول
والعدس ،وكانت هذه األطعمة أطعمة مصرية تقليدية .وهكذا سأل بنو إس رائيل ن بيهم موس ى
أن يدعو هللا ليخرج لهم من األرض هذه األطعمة.
وعاد موسى يستلفتهم إلى ظلمهم ألنفسهم ،وحنينهم ألي ام ه وانهم في مص ر ،وكي ف أنهم
يتبطرون على خير الطعام وأكرمه ،ويريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه.
س ار موس ى بقوم ه في اتج اه ال بيت المق دس .أم ر موس ى قوم ه ب دخولها وقت ال من فيه ا
واالستيالء عليها .وه ا ق د ج اء امتح انهم األخ ير .بع د ك ل م ا وق ع لهم من المعج زات واآلي ات
والخوارق .جاء دورهم ليحاربوا -بوصفهم مؤمنين -قوما من عبده األصنام.
رفض قوم موسى دخول األراضي المقدسة .وحدثهم موسى عن نعم ة هللا عليهم .كي ف جع ل
ين.
م َ م ُي ْؤتِ أَ َ
ح ًدا ِ ّمن ا ْل َعالَ ِ فيهم أنبياء ،وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون ،وآتاهم َّما لَ ْ
وكان رد قوم ه علي ه أنهم يخ افون من القت ال .ق الوا :إن فيه ا قوم ا جب ارين ،ولن ي دخلوا األرض
المقدسة حتى يخرج منها هؤالء.
وانضم لموسى وهارون اثنان من القوم .تق ول كتب الق دماء إنهم خرج وا في س تمائة أل ف .لم
يجد موس ى من بينهم غ ير رجلين على اس تعداد للقت ال .وراح ه ذان ال رجالن يح اوالن إقن اع
القوم بدخول األرض والقتال .قاال :إن مج رد دخ ولهم من الب اب س يجعل لهم النص ر .ولكن ب ني
إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشون في أعماقهم.
مرة أخرى تعاودهم طبيعتهم ال تي ع اودتهم قب ل ذل ك حين رأوا قوم ا يعكف ون على أص نامهم.
فسدت فطرتهم ،وانهزموا من الداخل ،واعتادوا الذل ،فلم يع د في اس تطاعتهم أن يح اربوا .وإن
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
بقي في استطاعتهم أن يتوقحوا على ن بي هللا موس ى ورب ه .وق ال ق وم موس ى ل ه كلمتهم
اه َنا َقا ِ
ع ُدونَ } هكذا بصراحة وبال التواء. ه ُك َفقَاتِال إِنَّا َ ب أَ َ
نت َو َربُّ َ الشهيرةَ { :فا ْذ َ
ه ْ
أدرك موسى أن قومه ما عادوا يص لحون لش يء .م ات الفرع ون ولكن آث اره في النف وس باقي ة
يحتاج شفاؤها لف ترة طويل ة .ع اد موس ى إلى رب ه يحدث ه أن ه ال يمل ك إال نفس ه وأخ اه .دع ا
موسى على قومه أن يفرق هللا بينه وبينهم.
وأصدر هللا تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل .كان الحكم ه و
التيه أربعين عاما .حتى يموت هذا الجي ل أو يص ل إلى الش يخوخة .ويول د ب دال من ه جي ل آخ ر،
جيل لم يهزمه أحد من الداخل ،ويستطيع ساعتها أن يقاتل وأن ينتصر.
قصة البقرة:
بدأت أيام التيه .بدأ السير في دائ رة مغلق ة .تنتهي من حيث تب دأ ،وتب دأ من حيث تنتهي ،ب دأ
السير إلى غير مقصد .ليال ونهارا وصباحا ومساء .دخلوا البرية عند سيناء.
مكث موسى في قومه يدعوهم إلى هللا .ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل ال تخطئه عين
المالحظة ،وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة.
ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن ي ذبحوا بق رة .وك ان المف روض هن ا أن ي ذبح الق وم أول
بقرة تصادفهم .غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة .اتهموا موسى بأن ه يس خر منهم ويتخ ذهم
هزوا ،واستعاذ موسى باهلل أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم .أفهمهم أن حل القضية يكمن
في ذبح بقرة.
إن األمر هنا أمر معجزة ،ال عالقة لها بالمألوف في الحياة ،أو المعتاد بين الن اس .ليس ت هن اك
عالق ة بين ذبح البق رة ومعرف ة القات ل في الجريم ة الغامض ة ال تي وقعت ،لكن م تى ك انت
األس باب المنطقي ة هي ال تي تحكم حي اة ب ني إس رائيل؟ إن المعج زات الخارق ة هي الق انون
السائد في حياتهم ،وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.
لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل .مجرد التعامل معهم عنت .تستوي في ذلك األمور الدنيوي ة
المعتادة ،وشؤون العقيدة المهمة .ال بد أن يعاني من يتصدى ألمر من أمور بني إسرائيل.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم ،ثم ينبئهم أنه جاد فيم ا يح دثهم
ب ه ،ويع اود أم ره أن ي ذبحوا بق رة ،وتع ود الطبيع ة المراوغ ة لب ني إس رائيل إلى الظه ور ،تع ود
اللجاجة وااللتواء ،فيتساءلون :أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنه ا
خلق تفرد بمزية ،فليدع موسى ربه ليبين ما هي.
ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم ،وتح دد البق رة أك ثر من ذي قب ل ،بأنه ا بق رة وس ط.
ليست بقرة مسنة ،وليست بقرة فتية .بقرة متوسطة.
إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي األمر ،غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة ،ومراوغة بني إسرائيل
لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات .ما هو لون البقرة؟ لم اذا ي دعو موس ى رب ه ليس أله
عن لون هذا البقرة؟
ال يراعون مقتضيات األدب والوق ار الالزمين في ح ق هللا تع الى وح ق نبي ه الك ريم ،وكي ف أنهم
ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا االتصال المتكرر ح ول موض وع بس يط ال يس تحق ك ل
هذه اللجاجة والمراوغة.
ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البق رة المطلوب ة .فيق ول أنه ا بق رة ص فراء ،ف اقع لونه ا
تسر الناظرين.
وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء ،ورغم وضوح األمر ،فقد عادوا إلى اللجاج ة والمراوغ ة .فش دد
هللا عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه .عادوا يسألون موسى أن يدعو هللا لي بين م ا هي ،ف إن
البقر تشابه عليهم ،وح دثهم موس ى عن بق رة ليس ت مع دة لح رث وال لس قي ،س لمت من
العيوب ،صفراء ال شية فيها ،بمعنى خالصة الصفرة.
انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد .وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاص ة .أخ يرا وج دوها
عند يتيم فاشتروها وذبحوها.
وأمسك موسى جزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته .سأله موس ى
عن قاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عاد إلى الموت.
وشاهد بنو إس رائيل معج زة إحي اء الم وتى أم ام أعينهم ،اس تمعوا ب آذانهم إلى اس م القات ل.
انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.
نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم ،ولعل السياق القرآني ي ورد
ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" ال تي يخ اطبون به ا موس ى .وك ان األولى بهم أن يقول وا
ع لَ َن ا َربَّ َ
ك} ادع لن ا ربن ا .أم ا أن يقول وا ل ه :فك أنهم لموسى ،تأدبا ،لو ك ان ال ب د أن يقول وا{ :ا ْد ُ
يقصرون ربوبية هللا تعالى على موسى .ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية هلل.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
انظر إلى اآليات كيف توحي بهذا كل ه .ثم تأم ل س خرية الس ياق منهم لمج رد إي راده لق ولهم:
ق} بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئ ة بينهم وبين هللا ع ز وج ل ،بع د أن أرهق وا ْت بِا ْل َ
ح ِّ جئ َ
{اآلنَ ِ
ن بيهم بس ؤاله عن ص فة البق رة ولونه ا وس نها وعالماته ا المم يزة ،بع د تعنتهم وتش ديد هللا
عليهم ،يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.
ق} .كأنه ك ان يلعب قبله ا معهم ،ولم يكن م ا ج اء ه و الح ق ْت بِا ْل َ
ح ِّ جئ َ
ساعتها قالوا له{ :اآلنَ ِ
ها َو َم ا من أول كلمة آلخر كلمة .ثم انظر إلى ظالل السياق وما تشي ب ه من ظلمهمَ { :ف َذبَ ُ
حو َ
َكا ُدو ْا يَ ْف َعلُونَ } أال توحي لك ظالل اآليات بتعنتهم وتس ويفهم ومم اراتهم ولج اجتهم في الح ق؟
هذه اللوحة الرائع ة تش ي بموق ف ب ني إس رائيل على موائ د المفاوض ات .هي ص ورتهم على
مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.
قاسى موسى من قومه أشد المقاساة ،وعانى عناء عظيما ،واحتمل في تبليغهم رس الته م ا
احتمل في سبيل هللا.
ولعل مشكلة موس ى األساس ية أن ه بعث إلى ق وم ط ال عليهم العه د ب الهوان وال ذل ،وط ال
بق اؤهم في ج و يخل و من الحري ة ،وط ال مكثهم وس ط عب ادة األص نام ،ولق د نجحت الم ؤثرات
العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة التي ال تص لح لش يء.
إال أن تعذب أنبيائها ومصلحيها.
وقد عذب بنو إسرائيل موسى عذابا نستطيع -نحن أبناء هذا الزمان -أن ن درك وقع ه على نفس
موسى النقية الحساسة الكريمة .ولم يقتصر الع ذاب على العص يان والغب اء واللجاج ة والجه ل
وعبادة األوثان ،وإنما تعدى األمر إلى إيذاء موسى في شخصه.
عن َد اللَّ ِ
ه وسى َفبَ َّرأَ ُه اللَّ ُه ِم َّ
ما َق الُوا َو َك انَ ِ قال تعالى{ :يَا أَيُّ َها الَّ ِذ َ
ين آ َم ُنوا اَل تَكُو ُنوا َكالَّ ِذ َ
ين آ َذ ْوا ُم َ
جي ًها (( ...})69األحزاب). َو ِ
ونحن ال تعرف كنه هذا اإليذاء ،ونستبعد رواية بعض العلماء ال تي يقول ون فيه ا أن موس ى ك ان
رجال حييا يستتر دائما وال يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بم رض
جلدي أو برص ،فأراد هللا أن يبرئه مما ق الوا ،ف ذهب يس تحم يوم ا ووض ع ثياب ه على حج ر ،ثم
خرج فإذا الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى ش اهده بن و إس رائيل عاري ا
وليس بجلده عيب.
نستبعد هذه القصة لتفاهتها ،فإنها إلى جوار خراف ة ج ري الحج ر بمالبس ه ،ال تعطي موس ى
حقه من التوقير ،وهي تتنافى مع عصمته كنبي.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
ونعتقد أن اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا ،هذا هو اإليذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها
حقا ،وال نعرف كيف كان هذا اإليذاء ،ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري اآلثم ال ذي يس تطيع
بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى.
فترة التيه:
ولعل أعظم إيذاء لموسى ،كان رفض ب ني إس رائيل القت ال من أج ل نش ر عقي دة التوحي د في
األرض ،أو على أقل تقدير ،السماح لهذه العقيدة أن تستقر على األرض في مكان ،وت أمن على
نفس ها ،وتم ارس تعب دها في ه دوء .لق د رفض بن و إس رائيل القت ال .وق الوا لموس ى كلمتهم
اه َنا َقا ِ
ع ُدونَ }. ه ُك َفقَاتِال إِنَّا َ ب أَ َ
نت َو َربُّ َ الشهيرةَ { :فا ْذ َ
ه ْ
وبهذه النفس ية حكم هللا عليهم بالتي ه .وك ان الحكم يح دد أربعين عام ا كامل ة ،وق د مكث بن و
إسرائيل في التيه أربعين سنة ،حتى فني جيل بأكمله .فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل،
وولد في ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد .جيل لم ي تربى وس ط من اخ وث ني ،ولم يش ل
روحه انعدام الحرية.
جيل لم ينهزم من الداخل ،جيل لم يعد يستطيع األبناء فيه أن يفهموا لم اذا يط وف اآلب اء هك ذا
بغير هدف في تيه ال يبدو ل ه أول وال تس تبين ل ه نهاي ة .إال خش ية من لق اء الع دو .جي ل ص ار
ك َف َق اتِال ب أَ َ
نت َو َربُّ َ مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه .جيل ال يق ول لموس ى { َف ا ْذ َ
ه ْ
ه َنا َقا ِ
ع ُدونَ }. ها ُ
إِنَّا َ
جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية ،كجزء مهم من نس يج أي ديان ة من ديان ات التوحي د.
أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه األربعين عاما.
ولقد قدر لموسى .زي ادة في معانات ه ورفع ا لدرجت ه عن د هللا تع الى .ق در ل ه أال تكتح ل عين اه
بمرأى هذا الجيل .فقد مات موسى علي ه الص الة والس الم قب ل أن ي دخل بن و إس رائيل األرض
التي كتب هللا عليهم دخولها.
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حين كان قوم ه يؤذون ه في هللا :ق د أوذي موس ى ب أكثر
من ذلك فصبر.
مات هارون قبل موسى بزمن قصير .واقترب أجل موسى ،عليه الصالة والس الم .وك ان لم ي زل
في التيه .قال يدعو ربه :رب أدنني إلى األرض المقدسة رمية حجر.
أحب أن يموت قريبا من األرض التي هاجر إليها .وحث قومه عليها .ولكنه لم يستطع ،ومات في
التيه .ودفن عند كثيب أحمر ح دث عن ه آخ ر أنبي اء هللا في األرض حين أس رى ب ه .ق ال محم د
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
صلى هللا عليه وسلم :لما أسري بي مررت بموس ى وه و ق ائم يص لي في ق بره عن د الك ثيب
األحمر.
تروي األساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى ،وتحكي أنه ضرب مل ك الم وت حين ج اء
يستل روحه ،وأمثال ه ذه الرواي ات كث يرة .لكنن ا ال نحب أن نخ وض في ه ذه الرواي ات ح تى ال
ننجرف وراء اإلسرائيليات التي دخلت بعض كتب التفسير.
مات موسى -عليه الصالة والسالم -في التيه ،وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل.
ح ُقبً ا (...})60
ي ُ ن أَ ْو أَ ْم ِ
ض َ ع ا ْلبَ ْ
ح َر ْي ِ م َ
ج َ ح َّتى أَ ْب ُل َ
غ َم ْ وسى لِ َف َت ا ُه اَل أَ ْب َر ُ
ح َ قال تعالىَ { :وإِ ْذ َقا َ
ل ُم َ
(الكهف).
كان لموسى -عليه السالم -هدف من رحلته هذه ال تي اعتزمه ا ،،وأن ه ك ان يقص د من ورائه ا
امرا ،فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البح رين مهم ا تكن المش قة ،ومهم ا يكن ال زمن
ح ُقبًا}.
ي ُ الذي ينفه في الوصول .فيعبر عن هذا التصميم قائال {َ ْو أَ ْم ِ
ض َ
نرى أن القرآن الكريم ال يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث ،وال يحدد لن ا الت اريخ ،كم ا أن ه
لم يصرح باألسماء .ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى ،ه ل ه و ن بي أو رس ول؟
أم عالم؟ أم ولي؟
اختلف المفسرون في تحديد المكان ،فقيل إنه بحر فارس والروم ،وقيل بل بحر األردن أو القلزم،
وقيل عند طنجة ،وقيل في أفريقيا ،وقيل هو بحر األن دلس ..وال يق وم ال دليل على ص حة مك ان
من هذه األمكنة ،ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده هللا تعالى ..وإنم ا أبهم الس ياق الق رآني
المكان ،كما أبهم تحديد الزمان ،كما ضبب أسماء األشخاص لحكمة عليا.
إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على األسباب ..وليس هو علم األنبياء الق ائم على
الوحي ..إنما نحن أمام علم من طبيعة غامض ة أش د الغم وض ..علم الق در األعلى ،وذل ك علم
أسدلت عليه األستار الكثيفة ..مك ان اللق اء مجه ول كم ا رأين ا ..وزم ان اللق اء غ ير مع روف ه و
اآلخر ..ال نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد.
وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع األحداث ،وال زمان ه ،يخفي الس ياق
عبَا ِدنَ ا آتَ ْي َن ا ُه
ن ِ
القرآني أيضا اسم أهم أبطالها ..يشير إليه الحق تبارك وتع الى بقول هَ { :ع ْب ًدا ِ ّم ْ
ما} هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه ..ه ذا العب د ه و ع ْل ً
م َنا ُه ِمن لَّ ُدنَّا ِ
عن ِدنَا َو َعلَّ ْ م ًة ِم ْ
ن ِ ح َ
َر ْ
الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
لقد خص هللا تعالى نبيه الكريم موسى -علي ه الس الم -ب أمور كث يرة .فه و كليم هللا ع ز وج ل،
وأحد أولي العزم من الرسل ،وصاحب معجزة العصا واليد ،والنبي الذي أنزلت علي ه الت وراة دون
واسطة ،وإنما كلمه هللا تكليما ..هذا النبي العظيم يتح ول في القص ة إلى ط الب علم متواض ع
يحتمل أستاذه ليتعلم ..ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه.
وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر -عليه الس الم -كم ا ح دثتنا أن الف تى ه و يوش ع بن
نون ،ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من هللا بغير أسباب التلقي الني نعرفها.
ومع منزلة موسى العظيمة إال أن الخضر يرفض ص حبة موس ى ..يفهم ه أن ه لن يس تطيع مع ه
صبرا ..ثم يوافق على صحبته بشرط ..أال يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه.
والخضر هو الص مت المبهم ذات ه ،إن ه ال يتح دث ،وتص رفاته تث ير دهش ة موس ى العميق ة ..إن
هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث..
وهناك تصرفات تبدو لموسى بال معنى ..وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارض ته ..ورغم
علم موسى ومرتبته ،فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه هللا من
لدنه علما.
وقد اختلف العلماء في الخضر :فيهم من يعتبره وليا من أولياء هللا ،وفيهم من يعت بره نبي ا ..وق د
نسجت األساطير نفسها ح ول حيات ه ووج وده ،فقي ل إن ه ال ي زال حي ا إلى ي وم القيام ة ،وهي
قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها ،فال نقول فيها إال أنه مات كما يموت عباد هللا ..وتبقى
قضية واليته ،أو نبوته ..وسنرجئ الحديث في هذه القض ية ح تى ننظ ر في قص ته كم ا أورده ا
القرآن الكريم.
قام موسى خطيبا في بني إس رائيل ،ي دعوهم إلى هللا ويح دثهم عن الح ق ،ويب دو أن حديث ه
جاء جامعا مانعا رائعا ..بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إس رائيل :ه ل
على وجه األرض أحد اعلم منك يا نبي هللا؟
وساق هللا تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه ،فبعث إليه جبريل يسأله :يا موسى ما
يدريك أين يضع هللا علمه؟
أدرك موسى أنه تسرع ..وعاد جبريل ،عليه السالم ،يقول له :إن هلل عبدا بمجم ع البح رين ه و
أعلم منك.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم ،وانعق دت نيت ه على الرحي ل لمص احبة ه ذا العب د
العالم ..سأل كيف السبيل إليه ..فأمر أن يرحل ،وأن يحمل معه حوتا في مكتل ،أي سمكة في
سلة..
وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة له ذا الح وت ويتس رب في البح ر ،س يجد العب د الع الم..
انطلق موسى -طالب العلم -ومعه فت اه ..وق د حم ل الف تى حوت ا في س لة ..انطلق ا بحث ا عن
العبد الصالح العالم ..وليست لديهم أي عالمة على المك ان ال ذي يوج د في ه إال معج زة ارت داد
الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.
ويظهر عزم موسى -عليه السالم -على العثور على هذا العبد العالم ول و اض طره األم ر إلى أن
يسير أحقاب ا وأحقاب ا .قي ل أن الحقب ع ام ،وقي ل ثم انون عام ا .على أي ة ح ال فه و تعب ير عن
التصميم ،ال عن المدة على وجه التحديد.
وصل االثنان إلى صخرة جوار البح ر ..رق د موس ى واستس لم للنع اس ،وبقي الف تى س اهرا..
وألقت الرياح إحدى األمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر..
س َربًا} ..وكان تس رب الح وت إلى البح ر عالم ة أعلم هللا به ا موس ى سبِيلَ ُه فِي ا ْلبَ ْ
ح ِر َ { َفاتَّ َ
خ َذ َ
لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه.
نهض موسى من نومه فلم يالحظ أن الحوت تسرب إلى البح ر ..ونس ي فت اه ال ذي يص حبه أن
يحدثه عما وقع للحوت ..وسار موسى مع فت اه بقي ة يومهم ا وليلتهم ا وق د نس يا حوتهم ا ..ثم
ص بًا}..
ه ذَا نَ َ ل لِ َف َتا ُه آتِ َنا َغ َداءنَا لَق َْد لَ ِقي َن ا ِمن َ
س َف ِرنَا َ تذكر موسى غداءه وحل عليه التعبَ { ..قا َ
ولمع في ذهن الفتى ما وقع.
ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك ..وأخبر موسى بم ا وق ع ،واعت ذر إلي ه
ح ِر{س ِبيلَ ُه فِي ا ْلبَ ْ
َ بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع ،رغم غرابة ما وقع ،فقد اتخذ الحوت
ج ًبا} ..كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون ،لقد رأى الح وت يش ق الم اء في ترك عالم ة وكأن ه َع َ
طير يتلوى على الرمال.
ك َما ُك َّنا نَ ْبغِ} ..هذا ما كنا نريده ..إن تس رب سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و{ َقا َ
ل َذلِ َ
الحوت يحدد المكان ال ذي س نلتقي في ه بالرج ل الع الم ..ويرت د موس ى وفت اه يقص ان أثرهم ا
عائدين ..انظر إلى بداية القصة ،وكيف تجيء غامضة أشد الغموض ،مبهمة أعظم اإلبهام.
أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت ..وصال إلى الص خرة ال تي نام ا عن دها،
وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر ..وهناك وجدا رجال.
يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه ..وقد جعل طرفه تحت رجلي ه وط رف
تحت رأسه.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
فس لم علي ه موس ى ،فكش ف عن وجه ه وق ال :ه ل بأرض ك س الم..؟ من أنت؟
ى. ا موس ى :أن ال موس ق
ق ال الخض ر :موس ى ب ني إس رائيل ..علي ك الس الم ي ا ن بي إس رائيل.
ا أدراك بي..؟ ى :وم ال موس ق
ى..؟ ا موس دي اذا تري ك علي ..م ذي أدراك بي ودل ر :ال ال الخض ق
ش ًدا}. ت ُر ْم َما ُع ِل ّ ْ
ن ِم َّ م ِ ك َعلَى أَن ُت َع ِل ّ َ
ل أَتَّ ِب ُع َ
ه ْ ق ال موس ى مالطف ا مبالغ ا في التوق يرَ { :
ي
ع َم ِع َ
طي َ
س َت ِك لَن تَ ْ قال الخضر :أما يكفيك أن التوراة بيديك ..وأن الوحي يأتيك..؟ يا موسى {إِنَّ َ
ص ْب ًرا}.
َ
نريد أن نتوقف لحظة لنالحظ الفرق بين سؤال موسى المالطف المغالي في األدب ..ورد الخضر
الحاسم ،الذي يفهم موسى أن علم ه ال ينبغي لموس ى أن يعرف ه ،كم ا أن علم موس ى ه و
علم ال يعرفه الخضر..
يقول المفسرون إن الخض ر ق ال لموس ى :إن علمي أنت تجهل ه ..ولن تطي ق علي ه ص برا ،ألن
الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تش في قلب ك ولن تعطي ك تفس يرا ،وربم ا رأيت في
تصرفاتي ما ال تفهم له سببا أو تدري له علة ..وإذن لن تصبر على علمي يا موسى.
احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه ..وقال ل ه
موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء هللا صابرا وال يعصي له أمرا.
تأمل كيف يتواضع كليم هللا ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا.
ق ال الخض ر لموس ى -عليهم ا الس الم -إن هن اك ش رطا يش ترطه لقب ول أن يص احبه موس ى
ويتعلم من ه ه و أال يس أله عن ش يء ح تى يحدث ه ه و عن ه ..فواف ق موس ى على الش رط
وانطلقا..
انطلق موسى مع الخضر يمشيان على س احل البح ر ..م رت س فينة ،فطلب الخض ر وموس ى
من أصحابها أن يحملوهما ،وعرف أصحاب السفينة الخضر فحمل وه وحمل وا موس ى ب دون أج ر،
إكراما للخضر.
وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها ..فوجئ بأن الخضر يتخلف فيه ا،
لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخض ر يخ رق الس فينة ..اقتل ع لوح ا من ألواحه ا وألق اه في
البحر فحملته األمواج بعيدا.
فاستنكر موسى فعلة الخضر .لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر ..أكرمونا ..وها ه و ذا يخ رق
س فينتهم ويفس دها ..ك ان التص رف من وجه ة نظ ر موس ى معيب ا ..وغلبت طبيع ة موس ى
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
المندفعة عليه ،كما حركته غيرته على الحق ،فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي ش رطه
ش ْي ًئا إِ ْم ًرا}.
ْت َ
جئ َ ق أَ ْ
هلَ َها لَق َْد ِ ل أَ َ
خ َر ْق َت َها لِ ُتغ ِْر َ الذي اشترطه عليهَ { :قا َ
وهنا يلفت العبد الرباني نظ ر موس ى إلى عبث محاول ة التعليم من ه ،ألن ه لن يس تطيع الص بر
ص ْب ًرا} ،ويعت ذر موس ى بالنس يان ويرج وه أال يؤاخ ذه ي َ ع َم ِع َطي َ
س َت ِ ك لَن تَ ْ م أَق ْ
ُل إِنَّ َ ل أَلَ ْ
عليه { َقا َ
ن أَ ْم ِري ُع ْ
س ًرا}. يت َواَل ُت ْر ِ
ه ْقنِي ِم ْ س ُ ما ن َ ِ وأال يرهقه { َقا َ
ل اَل ُتؤَاخِذْ نِي بِ َ
سارا معا ..فمرا على حديق ة يلعب فيه ا الص بيان ..ح تى إذا تعب وا من اللعب انتحى ك ل واح د
منهم ناحية واستسلم للنعاس ..فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقت ل غالم ا ..ويث ور موس ى
سائال عن الجريمة التي ارتكبه ا ه ذا الص بي ليقتل ه هك ذا ..يع اود العب د الرب اني ت ذكيره بأن ه
ص ْب ًرا}..
ع َم ِعي َ
طي َ ك لَن تَ ْ
س َت ِ م أَقُل لَّ َ
ك إِنَّ َ ل أَلَ ْ
أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه { َقا َ
ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود األسئلة وإذا سأله مرة أخرى س يكون من حق ه أن يفارق ه
ح ْبنِي َق ْد بَلَغ َ
ْت ِمن لَّ ُدنِ ّي ُعذْ ًرا}. ها فَاَل ُت َ
صا ِ ي ٍء بَ ْع َد َ
ش ْ سأَ ْل ُت َ
ك َعن َ { َقا َ
ل إِن َ
ومضى موسى مع الخضر ..ف دخال قري ة بخيل ة ..ال يع رف موس ى لم اذا ذهب ا إلى القري ة ،وال
يعرف لماذا يبيتان فيها ،نفذ ما معهما من الطعام ،فاستطعما أه ل القري ة ف أبوا أن يض يفوهما..
وجاء عليهما المساء ،وأوى االثنان إلى خالء فيه جدار يريد أن ينقض ..ج دار يته اوى ويك اد يهم
بالسقوط..
وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصالح الج دار وبنائ ه من جدي د..
ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه ،إن القرية بخيل ة ،ال يس تحق من فيه ا ه ذا العم ل
ه أَ ْ
ج ًرا} ..انتهى األمر بهذه العبارة ..ق ال عب د هللا لموس ى: ت َعلَ ْي ِ ْت اَل تَّ َ
خذْ َ شئ َ ل لَ ْو ِ
المجاني { َقا َ
ك}. هذَا فِ َراقُ بَ ْينِي َوبَ ْينِ َ
{ َ
لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال .وجاء دور التفسير اآلن..
إن كل تصرفات العبد الرباني التي أث ارت موس ى وحيرت ه لم يكن حين فعله ا تص در عن أم ره..
ك ان ينف ذ إرادة علي ا ..وك انت له ذه اإلرادة العلي ا حكمته ا الخافي ة ،وك انت التص رفات تش ي
بالقسوة الظاهرة ،بينما تخفي حقيقتها رحمة حاني ة ..وهك ذا تخفي الك وارث أحيان ا في ال دنيا
جوهر الرحمة.
وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر ،وهكذا يتناقض ظاهر األمر وباطن ه ،وال يعلم موس ى،
رغم علم ه الهائ ل غ ير قط رة من علم العب د الرب اني ،وال يعلم العب د الرب اني من علم هللا إال
بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر ،من ماء البحر..
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه ..كشف له أن علم ه -أي علم موس ى-
محدود ..كما كشف له أن كثيرا من المصائب ال تي تق ع على األرض تخفي في ردائه ا األس ود
الكئيب رحمة عظمى.
إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم ،بينما هي نعمة تتخفى في زي
المصيبة ..نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إال بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن
الموج ودة غص با ،ثم يفلت ه ذه الس فينة التالف ة المعيب ة ..وب ذلك يبقى مص در رزق األس رة
عندهم كما هو ،فال يموتون جوعا.
أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء ..غير
أن موته يمثل بالنسبة لهما رحم ة عظمى ،ف إن هللا س يعطيهما ب دال من ه غالم ا يرعاهم ا في
شيخوختهما وال يرهقهما طغيانا وكفرا كالغالم المقتول.
وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة ،وترتدي الرحمة قناع الكارثة ،ويختلف ظاهر األشياء عن
باطنها حتى ليحتج نبي هللا موسى إلى تص رف يج ري أمام ه ،ثم يس تلفته عب د من عب اد هللا
إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة هللا الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.
أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته ،من غير أن يطلب أجرا من أه ل القري ة ،ك ان يخ بئ تحت ه
ك نزا لغالمين ي تيمين ض عيفين في المدين ة .ول و ت رك الج دار ينقض لظه ر من تحت ه الك نز فلم
يستطع الصغيران أن يدفعا عنه ..ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما هللا بصالحه في طفولتهم ا
وضعفهما ،فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.
ثم ينفض الرجل يده من األمر .فهي رحمة هللا التي اقتضت هذا التص رف .وه و أم ر هللا ال أم ره.
فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ،ووجهه إلى التصرف فيها وفق م ا أطلع ه
عليه من غيبه.
واختفى هذا العبد الص الح ..لق د مض ى في المجه ول كم ا خ رج من المجه ول ..إال أن موس ى
تعلم من صحبته درسين مهمين :تعلم أال يغتر بعلمه في الشريعة ،فهناك علم الحقيقة.
وتعلم أال يتجهم قلبه لمصائب البشر ،فربما تكون يد الرحم ة الخالق ة تخفي س رها من اللط ف
واإلنقاذ ،واإليناس وراء أقنعة الحزن واآلالم والموت.
هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم هللا عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
يرى كثير من الصوفية أن هذا العبد الرباني ولي من أولياء هللا تع الى ،أطلع ه هللا على ج زء من
علمه اللدني بغير أسباب انتقال العلم المعروفة ..ويرى بعض العلماء أن هذا العب د الص الح ك ان
نبيا ..ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه:
ع ْل ً
ما( م َن ا ُه ِمن لَّ ُدنَّا ِ
عن ِدنَا َو َعلَّ ْ م ًة ِم ْ
ن ِ ح َ
عبَا ِدنَا آتَ ْي َن ا ُه َر ْ
ن ِ -1أحدها قوله تعالىَ { :ف َو َ
ج َدا َع ْب ًدا ِ ّم ْ
( ...})65الكهف).
فلو كان وليا ولم يكن نبي ،لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة ،ولم يرد على موسى هذا ال رد.
ولو أنه كان غير نبي ،لكان هذا معن اه أن ه ليس معص وما ،ولم يكن هن اك داف ع لموس ى ،وه و
النبي العظيم ،وصاحب العصمة ،أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة.
-3والثالث أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغالم بوحي من هللا وأمر من ه ..وه ذا دلي ل مس تقل
على نبوته ،وبرهان ظاهر على عصمته ،ألن الولي ال يجوز له اإلقدام على قتل النفوس بمج رد
ما يلقى في خلده ،ألن خاطره ليس بواجب العصمة ..إذ يجوز عليه الخطأ باالتف اق ..وإذن ففي
إقدام الخضر على قتل الغالم دليل نبوته.
فرأى العلماء أن الخضر نبيا ،أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء هللا.
ومن كلمات الخضر التي أوردها الصوفية عنه ..ق ول وهب بن منب ه :ق ال الخض ر :ي ا موس ى إن
الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها .وقول بشر بن الح ارث الح افي ..ق ال موس ى
للخضر :أوصني ..قال الخضر :يسر هللا عليك طاعته.
ونحن نميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني ،غير أننا ال نج د نص ا في س ياق الق رآن على نبوت ه،
وال نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه هللا بعض علمه اللدني ..ولعل هذا الغموض حول شخص ه
الكريم جاء متعمدا ،ليخدم الهدف األصلي للقصة ..ولسوف نلزم مكاننا فال نتعداه ونختصم ح ول
نبوته أو واليته ..وإن أوردناه في سياق أنبياء هللا ،لكونه معلم ا لموس ى ..وأس تاذا ل ه ف ترة من
الزمن.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
يروي لنا القرآن قصة قارون ،وهو من قوم موس ى .لكن الق رآن ال يح دد زمن القص ة وال مكانه ا.
فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخ روج؟ أو وقعت بع د الخ روج في
حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ وبعيدا عن الروايات المختلف ة ،ن ورد
القصة كما ذكرها القرآن الكريم.
يحدثنا هللا عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مف اتيح الحج رات ال تي تض م الكن وز ،ك ان
يصعب حملها على مجموعة من الرجال األشداء .ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال ،فكيف
كانت الكنوز ذاتها؟!
لكن قارون بغى على قومه بعد أن آتاه هللا الثراء .وال يذكر القرآن فيم ك ان البغي ،ليدع ه مجهال
يشمل شتى الصور .فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم .وربم ا بغى عليهم
بحرمانهم حقهم في ذلك المال .حق الفق راء في أم وال األغني اء .وربم ا بغى عليهم بغ ير ه ذه
األسباب.
ويب دو أن العقالء من قوم ه نص حوه بالقص د واالعت دال ،وه و المنهج الس ليم .فهم يح ذروه من
الفرح الذي يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال ،وينصحونه ب التمتع بالم ال في
الدنيا ،من غير أن ينسى اآلخرة ،فعليه أن يعمل آلخرته به ذا الم ال .ويذكرون ه ب أن ه ذا الم ال
هبة من هللا وإحسان ،فعليه أن يحسن ويتصدق من هذا المال ،حتى يرد اإلحسان باإلحسان.
ويحذرونه من الفساد في األرض ،بالبغي ،والظلم ،والحس د ،والبغض اء ،وإنف اق الم ال في غ ير
وجهه ،أو إمساكه عما يجب أن يكون فيه .فاهلل ال يحب المفسدين.
وخرج قارون ذات يوم على قومه ،بكامل زينته ،فطارت قلوب بعض القوم ،وتمن وا أن ل ديهم مث ل
ما أوتي قارون ،وأحسوا أنه في نعمة كبيرة .ف رد عليهم من س معهم من أه ل العلم واإليم ان:
ويلكم أيها المخدوعون ،احذروا الفتنة ،واتقوا هللا ،واعلموا أن ثواب هللا خير من ه ذه الزين ة ،وم ا
عند هللا خير مما عند قارون.
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ،وتتهافت أمامها النفوس وتته اوى ،تت دخل الق درة اإللهي ة لتض ع
حدا للفتنة ،وترحم الناس الضعاف من إغراءها ،وتحطم الغرور والكبرياء ،فيجيء العق اب حاس ما
ض} هكذا في لمحة خاطفة ابتلعت ه األرض وابتلعت داره .وذهب ض عيفا ار ِه اأْل َ ْر َ
ه َوبِ َد ِ
س ْف َنا بِ ِ { َف َ
خ َ
عاجزا ،ال ينصره أحد ،وال ينتصر بجاه أو مال.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم
وبدأ الناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجب واعتبار .فقال الذين كانوا يتمن ون أن
عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظه في الدنيا :حقا إن هللا تعالى يبسط الرزق لمن يش اء
ن علينا فحفظنا من الخس ف والع ذاب من عباده ويوسع عليهم ،أو يقبض ذلك ،فالحمد هلل أن م ّ
األليم .إنا تبنا إليك سبحانك ،فلك الحمد في األولى واآلخرة.
أميرة نحراوى
موسى عليه السالم