Professional Documents
Culture Documents
-1- رجال حول الرسول-خالد محمد خالد
-1- رجال حول الرسول-خالد محمد خالد
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ول ه مّ لها ،ول حديث يشغلها ال الرسول عليه الصلة والسلم ودينه ،كان فتى قريش المدلل أكثر
الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه ،زينة المجالس والندوات ،تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها ،ذلك أن أناقة مظهره
ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والبواب..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه ،يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها ..هناك على الصفا في درا "الرقم بن أبي
الرقم" فلم يطل به التردد ،ول التلبث والنتظار ،بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
هناك كان الرسول صلى ال عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن ،ويصلي معهم ل العليّ القدير.
ولم ي كد م صعب يأ خذ مكا نه ،وتن ساب اليات من قلب الر سول متأل فة على شفت يه ،ثم آخذة طريق ها الى ال سماع والفئدة ،ح تى كان
فؤاد ابن عمير في تلك المسية هو الفؤاد الموعود!..
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه ،وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لمست الصدر المتوهج ،والفؤاد المتوثب ،فكانت السكينة العميقة عمق
المحيط ..وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره ،ومعه من التصميم ما يغيّر
سير الزمان!!!..
**
كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها ،وكانت تهاب الى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الرض قوة سوى امه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها ،استحالت هول يقارعه ويصارعه ،لستخف به مصعب الى حين..
أما خصومة أمه ،فهذا هو الهول الذي ل يطاق!..
ولقد فكر سريعا ،وقرر أن يكتم اسلمه حتى يقضي ال أمرا.
وظل يتردد على دار الرقم ،ويجلس الى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،و هو قرير العين بايما نه ،وبتفاديه غضب أمه التي ل تعلم
خبر اسلمه خبرا..
ولكن مكة في تلك اليام بالذات ،ل يخفى فيها سر ،فعيون قريش وآذانها على كل طريق ،ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة
اللهبة ،الواشية..
ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الرقم ..ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلة محمد صلى ال عليه وسلم،
فسابق ريح الصحراء وزوابعها ،شاخصا الى أم مصعب ،حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
ووقف مصعب أمام أمه ،وعشيرته ،وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته ،القرآن الذي يغسل به الرسول
قلوبهم ،ويملؤها به حكمة وشرفا ،وعدل وتقى.
وهمّت أ مه أن ت سكته بلط مة قا سية ،ول كن ال يد ال تي امتدت كال سهم ،ما لب ثت أم ا سترخت وتنحّت أمام النور الذي زاد و سامة وج هه
وبهاءه جلل يفرض الحترام ،وهدوءا يفرض القناع..
ولكن ،اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والذى ،فان في مقدرتها أ ،تثأر لللهة التي هجرها بأسلوب آخر..
وهكذا م ضت به الى ر كن ق صي من أركان دار ها ،وحب سته ف يه ،وأحك مت عل يه اغل قه ،و ظل ره ين محب سه ذاك ،ح تى خرج ب عض
المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة ،فاحتال لنفسه حين سمع النبأ ،وغافل أمه وحراسه ،ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..
ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين ،ثم يعود معهم الى مكة ،ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الصحاب الذين يأمرهم
الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة ،فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان ،ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته
على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار ،واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها العلى،
وخالقها العظيم..
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول ال ،فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض
عيونهم دمعا شجيّا..
ذلك أن هم رأوه ..يرتدي جلبا با مرق عا بال يا ،وعاودت هم صورته الولى ق بل ا سلمه ،ح ين كا نت ثيا به كزهور الحدي قة النضرة ،وأل قا
وعطرا..
وتملى رسول ال مشهده بنظرات حكيمة ،شاكرة محبة ،وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة ،وقال:
" لقد رأيت مصعبا هذا ،وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ،ثم ترك ذلك كله حبا ل ورسوله"!!.
لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة ..وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر اللهة وحاقت به لعنتها،
حتى ولو يكون هذا النسان ابنها!!..
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة .فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين
به على حبسه..
وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم ،فودعته باكية ،وودعها باكيا..
وكش فت لح ظة الوداع عن ا صرار عج يب على الك فر من جا نب الم وا صرار أ كبر على اليمان من جا نب ال بن ..فح ين قالت له و هي
تخرجهمن بيتها :اذهب لشأنك ،لم أعد لك أمّا .اقترب منها وقال":يا أمّه اني لك ناصح ،وعليك شفوق ،فاشهدي بأنه ل اله ال ال ،وأن
محمدا عبده ورسوله"...
أجابته غاضبة مهتاجة ":قسما بالثواقب ،ل أدخل في دينك ،فيزرى برأيي ،ويضعف غقلي"!!..
وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة ..وأصبح الفتى المتأنق المعطّر ،ل يرى ال مرتديا أخشن
الثياب ،يأكل يوما ،ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة ،والمتألقة بنور ال ،كانت قد جعلت منه انسانا آخر يمل العين
جلل والنفس روعة...
**
وآنئذ ،اختاره الرسول لعظم مهمة في حينها :أن يكون سفيره الى المدينة ،يفقّه النصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة،
ويدخل غيرهم في دين ال ،ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
كان في أصحاب رسول ال يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها ،وأقرب من الرسول قرابة ..ولكن الرسول اختار مصعب الخير،
وهو يعلم أ نه يكل ال يه بأخ طر قضا يا ال ساعة ،ويل قي ب ين يد يه مصير ال سلم في المدي نة ال تي ستكون دار الهجرة ،ومنطلق الدعوة
والدعاة ،والمبشرين والغزاة ،بعد حين من الزمان قريب..
وحمسل مصسعب المانسة مسستعينا بمسا أنعسم ال عليسه مسن رجاحسة العقسل وكريسم الخلق ،ولقسد غزا أفئدة المدينسة وأهلهسا بزهده وترفعسه
واخلصه ،فدخلوا في دين ال أفواجا..
لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة ،ولكنه ام يكد يتم
بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا ل وللرسول!!..
وفسي موسسم الحسج التالي لبيعسة العقبسة ،كان مسسلمو المدينسة يرسسلون الى مكسة للقاء الرسسول وفدا يمثلهسم وينوب عنهسم ..وكان عدد
أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة ..جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".
لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلئه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى ال تعالى ،ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى ،والى
صراط مستقيم .وأنه كرسوله الذي آمن به ،ليس عليه ال البلغ..
هناك ن هض في ضيا فة "أسعد بم زرارة" يفشيان م عا القبائل والبو يت والمجالس ،تال يا على الناس ما كان معه من كتاب ر به ،هات فا
بينهم في رفق عظيم بكلمة ال (انما ال اله واحد)..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه ،لول فطنة عقله ،وعظمة روحه..
ذات يوم فاجأه وهو يعظ النس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الشهل بالمدينة ،فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا
الذي جاء يفتن قومه عن دينهم ..ويدعوهم لهجر آلهتهم ،ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل ،ولم يألفوه من قبل!..
ان آلهت هم مع هم راب ضة في مجاثمهاو اذا حتاج ها أ حد عرف مكان ها وولى وج هه ساعيا الي ها ،فتك شف ضرّه وتل بي دعاءه ...هكذا
يتصورون ويتوهمون..
أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم ،فما أحد يعرف مكانه ،ول أحد يستطيع أن يراه!!..
وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي ،وثورته المتحفزة ،حتى وجلوا..
ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا ،متهلل..
وقف اسيد أمامه مهتاجا ،وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
"ما جاء بكما الى حيّنا ،تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلنا ،اذا كنتما ل تريدان الخروج من الحياة"!!..
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته ..انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
"أول تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته ..وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
ال أكبر .ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام!!..
كان أسيد رجل أريبا عاقل ..وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره ،فيدعوه أن يسمع ل غير ..فان اقتنع ،تركه لقتناعهو
وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم ،وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضا ّر ول مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائل :أنصفت ..وألقى حربته الى الرض وجلس يصغي..
ولم ي كد م صعب يقرأ القرآن ،ويف سر الدعوة ال تي جاء ب ها مح مد بن عبدال عل يه ال صلة وال سلم ،ح تى أخذت أ سارير أ سيد تبرق
وتشرق ..وتتغير مع مواقع الكلم ،وتكتسي بجماله!!..
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائل:
"ما أحسن هذا القول وأصدقه ..كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الرض رجّا ،ثم قال له مصعب:
"يطهر ثوبه وبدنه ،ويشهد أن ل اله ال ال".
فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه ،ووقف يعلن أن ل اله ال ال ،وأن محمدا رسول ال..
وسرى الخبر كالضوء ..وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع ،وأسلم ثم تله سعد بن عبادة ،وتمت باسلمهم النعمة ،وأقبل أهل
المدي نة بعضهم على بعض يتساءلون :اذا كان أسيد بن حض ير ،وسعد ابن معاذ ،وسعد بن عبادة قد أسلموا ،ففيم تخلفنا..؟ هيا الى
مصعب ،فلنؤمن معه ،فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه!!..
**
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى ال عليه وسلم نجاحا منقطع النظير ..نجاه\حا هو له أهل ،وبه جدير..
وتمضي اليام والعوام ،ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة ،وتتلمظ قريش بأحقادها ..وتعدّ عدّة باطلها ،لتواصل مطاردتها الظالمة
لعباد ال الصسالحين ..وتقوم غزوة بدر ،قيتلقون فيهسا درسسا يفقدهسم بقيسة صسوابهم ويسسعون الى الثأر،و تجيسء غزوة أحسد ..ويعبسئ
الم سلمون أنف سهم ،وي قف الر سول صلى ال عل يه و سلم و سط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤم نة ليختار من بين ها من يح مل الرا ية..
ويدعو مصعب الخير ،فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة ،ويحتدم القتال ،ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلة والسلم ،ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن
رأوا المشركين ينسحبون منهزمين ،لكن عملهم هذا ،سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة ..ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش
تغشاهم من أعلى الجبل ،وتعمل فيهم على حين غرّة ،السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين ،ركزا على رسول ال صلى ال عليه وسلم لينالوه..
وأدرك م صعب بن عم ير الخ طر الغادر ،فر فع اللواء عال يا ،وأطلق ت كبيرة كالزئ ير ،وم ضى يجول ويتوا ثب ..و كل ه مه أن يل فت ن ظر
العداء ال يه ويشغل هم عن الر سول صلى ال عل يه و سلم بنف سه ،وجرّد من ذا ته جي شا بأ سره ..أ جل ،ذ هب م صعب يقا تل وحده كأ نه
جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفزان..
ولكن العداء يتكاثرون عليه ،يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم!!..
يقول ابن سعد :أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري ،عن أبيه قال:
[ح مل م صعب بن عم ير اللواء يوم أ حد ،فل ما جال الم سلمون ث بت به م صعب ،فأق بل ا بن قميئة و هو فارس ،فضر به على يده اليم نى
فقطعها ،ومصعب يقول :وما محمد ال رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه ،فضرب يده اليسرى فقطعها ،فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول :وما محمد
ال رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح ،ووقع مصعب ،وسقط اللواء].
وقع مصعب ..وسقط اللواء!!..
وقع حلية الشهادة ،وكوكب الشهداء!!..
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء واليمان..
كان يظن أنه اذا سقط ،فسيصبح طريق القتلة الى رسول ال صلى ال عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول ال عليه الصلة والسلم من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع
منه ذراعا:
(وما محمد ال رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها ،ويكملها ،ويجعلها ،قرآنا يتلى..
**
وبعد انتهاء المعركة المريرة ،وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا ،وقد أخفى وجهه في تراب الرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول ال يصيبه السوء ،فأخفى وجهه حتى ل يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه!!..
أو لكأنه خجلن اذ سقط شهيدا قبلن يطمئن على نجاة رسول ال ،وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه!!..
لك ال يا مصعب ..يا من ذكرك عطر الحياة!!..
**
**
سلمان الفارسي
الباحث عن الحقيقة
وان ها لحدى روائع ال سلم وعظمائه ،أل يد خل بلدا من بلد ال اا ويث ير في اعجاز با هر ،كل نبوغ ها ويحرّ :كل طاقات ها ،ويحرج
خبسء العبقريسة المسستكنّة فسي أهلهسا وذويهسا ..فاذا الفلسسفة المسسلمون ..والطباء المسسلمون ..والفقهاء المسسلمون ..والفلكيون
المسلمون ..والمخترعون المسلمون ..وعلماء الرياضة المسامون..
واذا بهم يبزغون من كل أفق ،ويطلعون من كل بلد ،حتى تزدحم عصور السلم الولى بعبقريات هائلة في كل مجالت العقل ،والرادة،
والضمير ..أوطانهم شتى ،ودينهم واحد!!..
ولقد تنبأ الرسول عليه السلم بهذا المد المبارك لدينه ..ل ،بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير العليم ..ولقد زوي له الزمان والمكان
ذات يوم ورأى رأي العين راية السلم تخفق فوق مدائن الرض ،وقصور أربابها..
وكان سلمان الفارسي شاهدا ..وكان له بما حدث علقة وثقى.
كان ذلك يوم الخندق .في السنة الخامسة للهجرة .اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة ،مؤلبين المشركين ومحزّبين الحزاب
على رسول ال والمسلمين ،متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووض عت خ طة الحرب الغادرة ،على أن يه جم ج يش قر يش وغطفان "المدي نة" من خارج ها ،بين ما يها جم ب نو قري ظة من الدا خل ،و من
وراء صفوف المسلمين ،الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم ،وتجعلهم ذكرى!..
وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وسقط في أيدي المسلمين ،وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف ،فقال ال تعالى:
(اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت البصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بال الظنونا).
أرب عة وعشرون ألف مقا تل ت حت قيادة أ بي سفيان وعيي نة بن ح صن يقتربون من المدي نة ليطوقو ها وليبطشوا بطشت هم الحا سمة كي
ينتهوا من محمد ودينه ،وأصحابه..
وهذا الجيش ل يمثل قريشا وحدها ..بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في السلم خطرا عليها.
انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول :أفرادا ،وجماعات ،وقبائل ،ومصالح..
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في المر..
وطبعا ،أجمعوا على الدفاع والقتال ..ولكن كيف الدفاع؟؟
هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين ،الغزير الشعر ،الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما ،واحتراما كبيرا.
تقدّم سلمان الفارسي وألقى من فوق هضبة عالية ،نظرة فاحصة على المدينة ،فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها ..بيد
أن هناك فجوة واسعة ،ومهيأة ،يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
وكان سلمان قد خبر في بلد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال ،فتقدم للرسول صلى ال عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده
العرب من قبل في حروبها ..وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
وال يعلم ،ماذا كان المصسير الذي كان ينتظسر المسسلمين فسي تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكسد قريسش تراه حتسى دوختهسا
المفاجأة ،وظلت قوات ها جاث مة في خيام ها شهرا و هي عاجزة عن اقتحام المدي نة ،ح تى أر سل ال تعالى علي ها ذات ليلة ر يح صرصر
عاتية اقتلعت خيامها ،وبدّدت شملها..
ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل الى حيث جاءوا ..فلول يائسة منهوكة!!..
**
خلل ح فر الخندق كان سلمان يأ خذ مكا نه مع الم سلمين و هم يحفرون ويدأبون ..وكان الر سول عل يه ال صلة وال سلم يح مل معوله
ويضرب معهم .وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه ،اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوي البنية شديد السر ،وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا ،ولكنه وقف أمام هذه الصخرة
عاجزا ..وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا!!..
وذهب سلمان الى رسول ال صلى ال عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلة والسلم مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول ،وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلعن مرمى الشظايا..
وسمّى بال ،ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة ،وهوى به على الصخرة ،فاذا بها تنثلم ،ويخرج من ثنايا
صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.
ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين ل بتيها ،أي يضيء جوانب المدينة ..وهتف رسول ال صلى ال عليه وسلم مكبرا:
"ال أكبر..أعطيت مفاتيح فارس ،ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة ،ومدائن كسرى ،وان أمتي ظاهرة عليها"..
ثم رفع المعول ،وهوت ضربته الثانية ،فتكررت لظاهرة ،وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع ،وهلل الرسول عليه السلم
مكبرا:
"ال أكبر ..أعطيت مفاتيح الروم ،ولقد أضار لي منها قصورها الحمراء ،وان أمتيظاهرة عليها".
ثم ضري ضرب ته الثال ثة فأل قت ال صخرة سلمها وا ستسلمها ،وأضاء برق ها الشد يد البا هر ،وهلل الر سول وهلل الم سلمون م عه..
وأنبأ هم أ نه يب صر الن ق صور سورية و صنعاء و سواها من مدائن الرض ال تي ستخفق فوق ها را ية ال يو ما ،و صاح الم سلمون في
ايمان عظيم:
هذا ما وعدنا ال ورسوله.ز
وصدق ال ورسوله!!..
كان سلمان صاحب المشورة بح فر الخندق ..وكان صاحب ال صخرة ال تي تفجرت من ها ب عض أ سرار الغ يب والم صير ،ح ين ا ستعان
علي ها بر سول ال صلى ال ع يه و سلم ،وكان قائ ما الى جوار الر سول يرى الضوء ،وي سمع البشرى ..ول قد عاش ح تى رأى البشرى
حقيقة يعيشها ،وواقعا يحياه ،فرأى مداءن الفرس والروم..
رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
رأى جنبات الرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير!!..
**
وها هو ذا ،جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة،
ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس الى المسيحية ،ثم الى السلم..
كيف غادر ثراء أبيه الباذخ ،ورمى نفسه في أحضان الفاقة ،بحثا عن خلص عقله وروحه!!!..
كيف بيع في سوق الرقيق ،وهو في طريق بحثه عن الحقيقة..؟؟
كيف التقى بالرسول عليه الصلة والسلم ..وكيف آمن به..؟؟
تعالوا نقترب من مجلسه الجليل ،ونصغ الى النبأ الباهر الذي يرويه..
**
ومر بي ركب ذات يوم ،فسألتهم عن بلدهم ،فعلمت أنهم من جزيرة العرب .فقلت لهم :أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني
معكم الى أرضكم؟ ..قالوا :نعم.
واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى ،وهناك ظلموني ،وباعوني الى رجل من يهود ..وبصرت بنخل كثير ،فطمعت أن تكون
هذه البلدة التي وصفت لي ،والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر ..ولكنها لم تكنها.
وأق مت ع ند الر جل الذي اشترا ني ،ح تى قدم عل يه يو ما ر جل من يهود ب ني قري ظة ،فابتاع ني م نه ،ثم خرج بي ح تى قد مت المدي نة!!
فوال ما هو ال ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..
وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث ال رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
وانسي لفسي رأس نخلة يومسا ،وصساحبي جالس تحتهسا اذ أقبسل رجسل مسن يهود ،مسن بنسي عمسه ،فقال يخاطبسه :قاتسل ال بنسي قيلة اهنسم
ليتقاصفون على رجل بقباء ،قادم من مكة يزعم أنه نبي..
فوال ما أن قالها حتى أخذتني العرواء ،فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا ،أقول :ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟
فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة ،ثم قال :مالك ولهذا..؟
أقبل على عملك..
فأقبلت على عملي ..ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء ..فدخلت عليه ومعه
ن فر من أ صحابه ،فقلت له :ان كم أ هل حا جة وغر بة ،و قد كان عندي طعام نذر ته لل صدقة ،فل ما ذ كر لي مكان كم رأي تم أ حق الناس به
فجئتكم به..
ثم وضعته ،فقال الرسول لصحابه :كلوا باسم ال ..وأمسك هو فلم يبسط اليه يدا..
فقلت في نفسي :هذه وال واحدة ..انه ل يأكل الصدقة!!..
ثم رجعت وعدت الى الرسول عليه السلم في الغداة ،أحمل طعاما ،وقلت له عليه السلم :اني رأيتك ل تأكل الصدقة ..وقد كان عندي
شيء أحب أن أكرمك به هدية ،ووضعته بين يديه ،فقال لصحابه كلوا باسم ال..
وأكل معهم..
قلت لنفسي :هذه وال الثانية ..انه يأكل الهدية!!..
ثم رج عت فمك ثت ما شاء ال ،ثم أتي ته ،فوجد ته في البق يع قد ت بع جنازة ،وحوله أ صحابه وعل يه شملتلن مؤتزرا بواحدة ،مرتد يا
الخرى ،فسلمت عليه ،ثم عدلت لنظر أعلى ظهره ،فعرف أني أريد ذلك ،فألقى بردته عن كاهله ،فاذا العلمة بين كتفيه ..خاتم النبوة،
كما وصفه لي صاحبي..
فأكببت عليه أقبله وأبكي ..ثم دعاني عليه الصلة والسلم فجلست بين يديه ،وحدثته حديثي كما أحدثكم الن..
ثم أسلمت ..وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..
و في ذات يوم قال الر سول عل يه ال صلة وال سلم ":كا تب سيدك ح تى يعت قك" ،فكاتب ته ،وأ مر الر سولصحابه كي يعونو ني .وحرر ال
رقبتي ،وعشت حرا مسلما ،وشهدت مع رسول ال غزوة الخندق ،والمشاهد كلها .هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لبن سعد
ج .4
**
بهذه الكلمات الوضاء العذاب ..تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي
تصله بال ،وترسم له دوره في الحياة..
فأي انسان شامخ كان هذا النسان..؟
أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة ،وفرضته ارادته الغلبة على المصاعب فقهرتها ،وعلى المستحيل فجعلته ذلول..؟
أي تبتسل للحقيقسة ..وأي ولء لهسا هذا الذي أخرج صساحبه طائعسا مختارا مسن ضياع أبيسه وثرائه ونعمائه الى المجهول بكسل أعبائه،
ومشاقسه ،ينتقسل مسن أرض الى أرض ..ومسن بلد الى بلد ..ناصسبا ،كادحسا عابدا ..تفحسص بصسيرته الناقدة الناس ،والمذاهسب والحياة..
ويظل في اصراره العظيم وراء الحق ،وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا ..ثم يثيبه ال ثوابه الوفى ،فيجمعه بالحق،
ويلق يه بر سوله ،ثم يعط يه من طول الع مر ما يش هد م عه بكل تا عين يه رايات ال تخ فق في كل مكان من الرض ،وعباده الم سلمون
يملؤن أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدل..؟!!
**
**
**
هذا هو اذن الذي مل نفسه غنى ،بقدر ما ملها عزوفا عن الدنيا بأموالها ،ومناصبها وجاهها ..عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم
اليه والى أصحابه جميعا :أل يدعو الدنيا تتملكهم ،وأل يأخذ أحدهم منها ال مثل زاد الركب..
ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل ،مخافة أن يكون قد جاوز المدى.
ليس حوله ال جفنة يأكل فيها ،ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا..
ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر..؟
وفي اليام التي كان فيها أميرا على المدائن ،لم يتغير من حاله شيء .فقد رفض أن يناله من مكافأة المارة درهم ..وظل يأكل من
عمل الخوص ..ولباسه ليس ال عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها..
وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..
كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه ،فلم يكد يبصر أمامه رجل يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم ،حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله،
حتى اذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..
وأشار للرجل فأقبل عليه ،وقال له الشامي :احمل عني هذا ..فحمله ومضيا معا.
واذ هما على الطريق بلغا جماعة من النس ،فسلم عليهم ،فأجابوا واقفين :وعلى المير السلم..
وعلى المير السلم..؟
أي أمير يعنون..؟!!
هكذا سأل الشامي نفسه..
ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين:
عنك أيها المير!!..
فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي ،فسقط في يده ،وهربت كلمات العتذار والسف من بين شفتيه ،واقترب ينتزع الحمل.
ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:
" ل ،حتى أبلغك منزلك"!!..
**
وح ين نقول بي ته فلنذ كر تمامسا ،ماذا كان ذاك البيست..؟ فحيسن ه مّ سلمان ببناء هذا الذي يسسمّى مع التجوّز بيتسا ،سسأل البنّاء :ك يف
ستبنيه..؟
وكان البنّاء حصيفا ذكيا ،يعرف زهد سلمان وورعه ..فأجابه قائل ":ل تخف ..انها بناية تستظل بها من الحر ،وتسكن فيها من البرد،
اذا وقفت فيها أصابت رأسك ،واذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"!..
فقال له سلمان" :نعم هكذا فاصنع".
لم ي كن هناك من طيبات الحياة الدن يا ش يء ما ير كن ال يه سلمان لح ظة ،أو تتعلق به نف سه اثارة ،ال شيئا كان يحرص عل يه أبلغ
الحرص ،ولقد ائتمن عليه زوجته ،وطلب اليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.
وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه ،ناداها:
"هلمي خبيّك التي استخبأتك"!!..
فجاءت بها ،واذا هي صرة مسك ،كان قد أصابها يوم فتح "جلولء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه ،ثم ماثه بيده ،وقال لزوجته:
"انضجيه حولي ..فانه يحصرني الن خلق من خلق ال ،ل يأكلون الطعام ،وانما يحبون الطيب".
فلما فعلت قال لها ":اجفئي علي الباب وانزلي" ..ففعلت ما أمرها به..
وبعد حين صعدت اليه ،فاذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.
قد لحقت بالمل العلى ،وصعدت على أجنحة الشوق اليه ،اذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد ،وصاحبيه أبي بكر وعمر ..ومع
ثلة مجيدة من الشهداء والبرار.
**
أبو ذر الغفاري
زعيم المعارضة وعدو الثروات
**
كانت هذه الصيحة أول صيحة بالسلم تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها ..صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ول نسب
ول حمى..
ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملقيه ..فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه..
وترامى النبأ الى العباس عم النبي ،فجاء يسعى ،وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم ال بالحيلة لذكية ،قال له:
" يا مع شر قر يش ،أن تم تجار ،وطريق كم على غفار ،،وهذا ر جل من رجال ها ،ان يحرّض قو مه علي كم ،يقطعوا على قوافل كم الطر يق"..
فثابوا الى رشدهم وتركوه.
ولكن أبا ذر ،وقد ذاق حلوة الذى في سبيل ال ،ل يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد!!...
وهكذا ل يكاد في اليوم الثا ني ورب ما في ن فس اليوم ،يل قى امرأت ين تطوفان بال صنمين (أ ساف ،واثلة) ودعوانه ما ،ح تى ي قف عليه ما
ويسفه الصنمين تسفيها مهينا ..فتصرخ المرأتان ،ويهرول الرجال كالجراد ،ثم ل يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه..
وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن ل اله ال ال وأن محمدا رسول ال" .ويدرك الرسول عليه الصلة والسلم طبيعة تلميذه
الجديد الوافد ،وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل .بيد أن وقته لم يأت بعد ،فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه ،حتى اذا سمع بظهور
الدين عاد وأدلى في مجرى الحداث دلوه..
**
ويعود أ بو ذر الى عشير ته وقو مه ،فيحدثه هم عن ال نبي الذي ظ هر يد عو الى عبادة ال وحده ويهدي لمكارم الخلق ،ويد خل قو مه
في السلم ،واحدا اثر واحد ..ول يمتفي بقبيلته غفار ،بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه!!..
وتتابع اليام رحلتها في موكب الزمن ،ويهاجر الرسول صلى ال عليه وسلم الى المدينة ،ويستقر بها والمسلمون معه.
وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان ،أثارت أقدامهم النقع ..ولول تكبيراتهم الصادعة ،لحبسهم الرائي جيشا
مغيرا من جيوش الشرك..
اقترب الموكب اللجب ..ودخل المدينة ..ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى ال عليه وسلم ومقامه..
لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم ،جاء بهما ابو ذر مسلمين جميعا رجال ونساءا .شيوخا وشبابا ،وأطفال!!..
وكان من حق الرسول عليه الصلة والسلم أن يزداد عجبا ودهشة..
فبالمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجل واحدا من غفار يعلن اسلمه وايمانه ،وقال معبّرا عن دهشته:
"ان ال يهدي من يشاء"!!..
أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة..وقد قطعت في السلم بضع سنين منذ هداها ال على يد أبي ذر ،وتجيء معها قبيلة
أسلم..
ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان ،قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.
أليس ال يهدي من يشاء حقا..؟؟
لقد ألقى الرسول عليه الصلة والسلم على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..
ونظر الى قبيلة غفار وقال:
"غفار غفر ال لها".
ثم الى قبيلة أسلم فقال:
"وأسلم سالمها ال"..
وأبو ذر هذا الداعية الرائع ..القوي الشكيمة ،العزيز المنال ..أل يختصه الرسول عليه الصلة والسلم بتحية..؟؟
أجل ..ولسوف يكون جزاؤه موفورا ،وتحيته مباركة..
ولسوف يحمل صدره ،ويحمل تاريخه ،أرفع الوسمة وأكثرها جلل وعزة..
ولسوف تفنى القرون والجيال ،والناس يرددون رأي الرسول صلى ال عليه وسلم في أبي ذر:
" ما أقلّت الغبراء ،ول أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"!!..
ويدرك الرسول عليه الصلة والسلم طبيعة تلميذه الجديد الوافد ،وقدرته اباهرة على مواجهة الباطل ..بيد أن وقته لم يأت بعد ،فيعيد
عليه أمره بالعودة الى قومه ،حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الحداث دلّوه..
**
ولقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر
صدقه وصلبته ،فكان يأمره دائما أن يجعل الناة والصبر نهجه وسبيله.
وألقى الرسول يوما هذا السؤال:
" يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"..؟
فأجاب قائل:
"اذن والذي بعثك بالحق ،لضربن بسيفي"!!.
فقال له الرسول عليه الصلة والسلم:
"أفل أدلك على خير من ذلك..؟
اصبر حتى تلقاني".
ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟
المراء ..والمال..؟؟
تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته ،وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..
ولقد عرفها رسول ال فألقى عليه السؤال ،ليزوده هذه النصيحة الثمينة":اصبر حتى تلقاني"..
ولسوف يحفظ أبو 1ر وصية معلمه ،فلن يحمل السيف الذي توّد به المراء الذين يثرون من مال المة ..ولكنه أيضا لن يسكت عنهم
لحظة من نهار..
أجل اذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم ،فانه ل ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار..
ولسوف يفعل..
**
ومضى عهد الرسول ،ومن بعده عصر أبي بكر ،وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..
حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة ،لم تكن تجد لرغباتها سبيل ول منفذا.
وأيامئذ ،لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللهبة...
ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر ،فارضا على ولة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الرض ،زهدا وتقشفا ،ودعل
يكاد يكون فوق طاقة البشر..
ان واليا من ولته في العراق ،أو في الشام ،أ ،في صنعاء ..أو في أي من البلد النائية البعيدة ،ل يكاد يصل اليها نوعا من الحلوى،
ل يجد عا مة الناس قدرة على شرائه ،حتى يكون الخبر قد وصل الى عمر بعد أيام .وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي
ذلك الوالي الى المدينة ليلقى حسابه العسير!!..
ليهنأ أبو ذر اذن ..وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين..
وما دام ل يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايقع استغلل السلطة ،واحتكارالثروة ،فان ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة،
وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..
وهكذا تفرغ لعبادة ربه ،وللجهاد في سبيله ..غير لئذ بالصمت اذا رأى مخالفة هنا ،أو هناك ..وقلما كان يرى..
ب يد أن أع ظم ،وأعدل ،وأروع حكام البشر ية قاط بة ير حل عن الدن يا ذات يوم ،تار كا وراءه فرا غا هائل ،ومحد ثا رحيله من ردود
الفعل ما ل مفرّ منه ول طاقة للناس به .وتستمر القتوح في مدّها ،ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها..
ويرى أبو ذر الخطر..
ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية ال..
ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري ،توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للعمال الصالحات..
ان المال الذي جعله ال خادما مطيعا للنسان ،يوشك أن يتحوّل الى سيّد مستبد..
ومع من؟
مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة ،في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه!!..
ان خيرات الرض التي ذرأها ال للناس جميعا ..وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن اصير حكرا ومزية..
ان ال سلطة ال تي هي م سؤولية ترت عد من هول ح ساب ال علي ها أفئدة البرار ،تتحول الى سبيل لل سيطرة ،وللثراء ،وللترف المد مر
الوبيل..
رأى أ بو ذر كل هذا فلم يب حث عن واج به ول عن م سؤوليته ..بل راح ي مد يمي نه الى سيفه ..و هز به الهواء فمز قه ،ون هض قائ ما
يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة ..لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول ،فأعاد السيف الى
غمده ،فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ال خطأ)
ليس دوره اليوم أن يقتل ..بل أن يعترض..
وليس السيف أداة التغيير والتقويم ،بل الكلمة الصادقة ،المينة المستبسلة..
الكلمة العادلة التي ل تضل طريقها ،ول ترهب عواقبها.
لقد أخبر الرسول يوما وعلى مل من أصحابه ،أن الرض لم تقلّ ،وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر..
ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة ،وصدق القتناع ،فما حاجته الى السيف..؟
ان كلمة واحدة يقولها ،لمضى من ملء الرض سيوفا..
فليخرج بصسدقه هذا ،الى المراء ..الى الغنياء .الى جميسع الذيسن أصسبحوا يشكلون بركونهسم الى الدنيسا خطرا على الديسن الذي جاء
هاديا ،ل جابيا ..ونبوة ل ملكا ..،ورحمة ل عذابا ..وتواضعا ل استعلء ..وتكافؤ ل تمايز ..وقناعة ل جشعا ..وكفاية ل ترفا ..واتئادا
في أخذ الحياة ،ل فتونا بها ول تهالكا عليها..
فليخرج الى هؤلء جميعا ،حتى يحكم ال بينهم وبينه بالحق ،وهو خير الحاكمين.
**
وخرج أبسو ذر الى معاقسل السسلطة والثروة ،يغزوهسا بمعارضتسه معقل معقل ..وأصسبح فسي أيام معدودات الرايسة التسي التفست حولهسا
الجماهير والكادحون ..حتى في القطار النائية التي لم يره أهلها بعد ..طاره اليها ذكره .وأصبح ل يمر بأرض ،بل ول يبلغ اسمه قوما
ال أثار تسؤلت هامّة تهدد مصالح ذوي الشلطة والثراء.
ولو أراد هذا الثائر الجل يل أن يت خذ لنف سه ولحرك ته عل ما خا صا ل ما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتو هج حمرة وله با،
فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان ..ويردده النس عنه كأنه نشيد ..هذه الكلمات:
"بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة"!!..
ل يصغد جبل ،ول ينزل سهل ،ول يدخل مدينة ،ول يواجه أميرا ال وهذه الكلمات على لسانه.
ولم يعد النس يبصرونه قادما ال استقبلوه بهذه الكلمات:
" بشّر الكانزين بمكاو من نار"..
لقسد صسارت هذه العبارة علمسا على رسسالته التسي نذر حياتسه لهسا ،حيسن رأى الثروات تتركسز وتحتكسر ..وحيسن رأى السسلطة اسستعلء
واستغلل ..وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته سنوات الرسالة العظمى من جمال وورع ،وتفان واخلص..
لقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة ..هناك في الشام حيث "معاوية بن أبي سفيان" يحكم أرضا من أكثر بلد السلم خصوبة
وخيرا وفيضا ،وانه ليعطي الموال ويوزعها بغير حساب ،يتألف بها الناس الذين لهم حظ ومكانة ،ويؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو
اليه طموحه البعيد.
هناك الضياع والقصور والثروات تفتن الباقية من حملة الجعوة ،فليدرك أبو ذر الخطر قبل أن يحيق ويدمّر..
وحسر زعيم المعارضة رداءه المتواضع عن ساقيه ،وسابق الريح الى الشام..
ولم يكد الناس العاديون يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق ،والتفوا حوله أينما ذهب وسار..
حدثنا يا أبا ذر..
حدثنا يا صاحب رسول ال..
ويل قي أ بو ذر على الجموع حوله نظرات فاح صة ،فيرى أكثر ها ذوي ح صاصة وف قر ..ثم ير نو بب صره ن حو المشارف القري بة فيرى
القصور والضياع..
ثم يصرخ في الحافين حوله قائل:
" عجبت لمن ل يجد القوت في بيته ،كيف ل يخرج على النس شاهرا سيفه"..؟؟!!
ثم يذكر من فوره وصية رسول ال أن يضع الناة مكان النقلب ،والكلمة الشجاعة مكان السيف ..فيترك لغة الحرب هذه ويعود الى
لغة المنطق والقناع ،فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط ..وأنهم جميعا شركاء في الرزق ..وأنه ل فضل لحد على
أحد ال بالتقوى ..وأن أمير القوم ووليهم ،هو أول من يجوع اذا جاعوا ،وآخر من شبع اذا شبعوا..
ل قد قرر أن يخلق بكلما ته وشجاع ته رأ يا عامّا من كل بلد ال سلم يكون له من الفط نة والمنا عة ،والقوة ما يجعله شكي مة لمرائه
وأغنيائه ،وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم ،أو محتكرة للثروة.
وفي أيام قلئل ،كانت الشام كلها كخليا نحل وجدت ملكتها المطاعة ..ولو أعطى أبو ذر اشارة عابرة بالثورة لشتعلت نارا ..ولكنه
كما قلنا ،حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه ،وصارت كلماته حديث المجالس والمساجد والطريق.
ول قد بلغ خطره على المتيازات الناشئة مداه ،يوم نا ظر معاو ية على مل من الناس .ثم أبلغ الشا هد للمناظرة ،الغائب عن ها .و سارت
الرياح بأخبارها..
ولقد وقف أبو ذر أصدق العالمين لهجة ،كما وصفه نبيه وأستاذه..
وقف يسائل معاوية في غير خوف ول مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما ،وعن ثروته اليوم!!..
وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة ،وعن قصوره بالشام اليوم!!..
ثم يوجه السؤال للجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية الى الشام وصار لبعضهم قصور وضياع.
ثم يصيح فيهم جميعا :أفأنت الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم..؟؟
ويتولى الجابة عنهم :نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن ،وشهدتم مع الرسول المشاهد..
ثم يعود ويسأل :أل تجدون في كتاب ال هذه الية:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ول ينفقونها في سبيل ال فبشرهم بعذاب أليم ..يوم يحمى عليها في نار جهنّم ،فتكوى بها جباههم،
وجنوبهم ،وظهورهم ،هذا ما كنزتم لنفسكم ،فذوقوا ما كنتم تكنزون)..؟؟
ويختلم معاوية طريق الحديث قائل :لقد أنزلت هذه الية في أهل الكتاب..
ويصيح أبو ذر :ل بل أنزلت لنا ولهم..
ويتابع أبو ذر القول ناصحا معاوية ومن معه أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال ..وأل يدّخر أحدهم لنفسه أكثر من
حاجات يومه..
وتتناقل المحافل والجموع نبأ هذه المناظرة وأنباء أبي ذر..
ويتعالى نشيد أبي ذر في البيوت والطرقات:
(بشّر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة)..
وي ستشعر معاو ية الخ طر ،وتفز عه كلمات الثائر الجل يل ،ولك نه يعرف له قدره ،فل يق ّر به ب سوء ،ويك تب عن فوره للخلي فة عثمان
رضي ال عنه يقول له ":ان أبا ذر قد أفسد النس بالشام"..
ويكتب عثمان لبي ذر يستدعيه للمدينة.
ويحسر أبي ذر طرف ردائه عن ساقيه مرّة أخرى ويسافر الى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة
والوداع!!..
**
أجل ل حاجة له في دنيا الناس ..انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح ،ويحيون الحياة ليعطوا ل ليأخذوا!!..
ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي ال عنه أن يأذن له الخروج الى الرّبذة فأذن له..
ول قد ظل و هو في احتدام معارض ته أمي نا ل ور سوله ،حاف ظا في اعماق رو حه الن صيحة ال تي وجه ها ال يه الر سول عل يه ال صلة
والسلم أل يحمل السيف ..لكأن الرسول رأى الغيب كله ..غيب أبي ذر ومستقبله ،فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية.
ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بايقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لشباع ولعهم وكيدهم.
جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة ،فزجرهم بكلمات حاسمة:
" وال لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة ،أ جبل ،لسمعت ،وأطعت ،وصبرت واحتسبت ،ورأيت ذلك خيرا لي"..
" ولوسيّرني ما بين الفق الى الفق ،لسمعت وأطعت ،وصبرت واحتسبت ،ورأيت ذلك خيرا لي..
" ولو ردّني الى منزلي ،لسمعت وأطعت ،وصبرت واحتسبت ،ورأيت ذلك خيرا لي"..
ذلك رجل ل يريد غرضا من أغراض الدنيا ،ومن ثم أفاء ال عليه نور البصيرة ..و من ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عل يه الفتنة
المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها ..كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر ،فتحاشاه أيضا ،ورفع صوته ل سيفه بكلمة
الحق ولهجة الصدق ،ل أطماع تغريه ..ول عواقب تثنيه!..
لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة المينة وتبتّل.
و سيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال ،فالح كم والمال يملكان من الغراء والفت نة ما يخا فه أ بو ذر على اخوا نه
الذين حملوا راية السلم مع رسولهم صلى ال عليه وسلم ،والذين يجب أن يظلوا لها حاملين.
والحكم والمال أيضا ،هما عصب الحياة للمة والجماعات ،فاذا اعتورهما الضلل تعرضت مصاير الناس للخطر الكيد.
ولقد كان أبو ذر يتمنى لصحاب الرسول أل يلي أحد منهم امارة أو يجمع ثروة ،وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى ،وعبّادا ل..
وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال ،وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا ..ولطالما سمع النبي صلى ال عليه وسلم يحذر
أصحابه من اغراء المارة ويقول عنها:
" ..انها أمانة ،وانها يوم القيامة خزي وندامة ..ال من أخذها بحقها ،وأدّى الذي عليه فيها"...
ولقد بلغ المر بأبي ذر لى تجنّب اخوانه ان لم يكن مقاطعتهم،لنهم ولوا المارات ،وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة..
لقيه أبو موسى الشعري يوما ،فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه ":مرحبا أبا ذر ..مرحبا بأخي".
ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول:
" لست بأخيك ،انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا"!..
كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا ،ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له:
(اليك عني ..ألست الذي وليت المارة ،فتطاولت في البنيان ،واتخذت لك ماشية وزرعا)..؟؟
ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..
وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الجكم والثروة..
ولكن لبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه ،ومع ايمانه ،فأبو ذر يقف بأحلمه وأعماله ..بسلوكه ورؤاه ،عند المستوى الذي
خلفه لهم رسول ال وصاحباه ..أبو بكر وعمر..
واذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية ل يدرك شأوها ،فان ا با ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل ،ول سيما لولئك
الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلم ،وصلوا وراءه ،وجاهدوا معه ،وبايعوه على السمع والطاعة.
كما أنه يدرك بوعيه المضيء ،ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصاير الناس ،ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم ،أو عدالة
الثروة ،يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته.
**
ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حامل لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلم وصاحبيه ،أمينا عليها ،حارسا لها ..وكان أستاذ في
فن التفوق على مغريات المارة والثروة...،
عرضت عليه المارة بالعراق فقال:
" ل وال ..لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا"..
ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله:
أليس لك ثوب غير هذا..؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟
فأجابه أبو ذر " :يا بن أخي ..لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني"..
قال له :وال انك لمحتاج اليهما!!
فأجاب أب ذر" :الل هم غ فر ..ا نك لمعظّم للدن يا ،أل ست ترى عل يّ هذه البردة..؟؟ ولي أخرى ل صلة الجم عة ،ولي عنزة أحلب ها ،وأتان
أركبها ،فأي نعمة أفضل ما نحن فيه"..؟؟
**
وجلس يوما يحدّث ويقول:
[أوصاني خليلي بسبع..
أمرني بحب المساكين والدنو منهم..
وأمرني أن أنظر الى من هو دوني ،ولأنظر الى من هو فوقي..
وأمرني أل أسأل أحد شيئا..
وأمرني أن أصل الرحم..
وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا..
وأمرني أن ل أخاف في ال لومة لئم..
وأمرني أن أكثر من :ل حول ول قوة ال بال].
ولقد عاش هذه الوصية ،وصاغ حياته وفقها ،حتى صار "ضميرا" بين قومه وأمته..
**
كان ذلك في غزوة تبوك ..سنة تسع من الهجرة ،وقد أمر الرسول عليه السلم بالتهيؤ لملقاة الروم ،الذين شرعوا يكيدون للسلم
ويأتمرون به.
وكانت اليام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..
وكانت الشقة بعيدة ..والعدو مخيفا..
ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين ،تعللوا بشتى المعاذير..
وخرج الرسسول وصسحبه ..وكلمسا أمعنوا فسي السسير ازدادوا جهدا ومشقسة ،فجعسل الرجسل يتخلف ،ويقولون يسا رسسول اللهتخلف فلن،
فيقول:
" دعوه.
فان يك فيه خير فسيلحقه ال بكم..
وان يك غير ذلك فقد أراحكم ال منه"!!..
وتلفت القوم ذات مرة ،فلم يجدوا أبا ذر ..وقالوا للرسول عليه الصلة والسلم:
لقد تخلف أبو ذر ،وأبطأ به بعيره..
وأعاد الرسول مقالته الولى..
كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من العياء خطاه..
وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد ،ولكن العياء كان يلقي ثقله على البعير..
ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الثر ،فنزل من فوق ظهر البعير ،وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى
ماشيا على قدميه ،مهرول ،وسط صحراء ملتهبة ،كما يدرك رسوله عليه السلم وصحبه..
و في الغداة ،و قد و ضع الم سلمون رحال هم لي ستريحوا ،ب صر أحد هم فرأى سحابة من الن قع والغبار تخ في وراء ها ش بح ر جل ي غذ
السير..
وقال الذي رأى :يا رسول ال ،هذا رجل يمشي على الطريق وحده..
وقال الرسول عليه الصلة والسلم:
(كن أبا ذر)..
وعادوا لما كانوا فيه من حديث ،ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم ،وعندها يعرفون من هو..
وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا ..يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلعا ،وحمله فوق ظهره بتؤدة ..ولكنه مغتبط فرحان لنه
أردك القافلة المباركة ،ولم يتخلف عن رسول ال واخوانه المجاهدين..
وحين بلغ أول القافلة ،صاح صائهحم :يار سول ال :انه وال أبا ذر..
وسار أبو ذر صوب الرسول.
ولم يكد صلى ال عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية ،وقال:
[يرحم ال أبا ذر..
يمشي وحده..
ويموت وحده..
ويبعث وحده.]..
وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد ،مات أبو ذر وحيدا ،في فلة الربذة ..بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم
يتألق فوقه سواه ..ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده ،وبطولة صموده..
ولسوف يبعث عند ال وحيدا كذلك؛ لن زحام فضائله المتعددة ،لن يترك بجانبه مكانا لحد سواه!!!..
بلل بن رباح
الساخر من الهوال
وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه السلم بلل ..فاعلم أن بلل هذا ،لم يكن قبل السلم أكثر من عبد رقيق ،يرعى ابل سيّده على
حفنات من التمر ،حتى يطو به الموت ،ويطوّح به الى أعماق النسيان..
لكن صدق ايمانه ،وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته ،وفي تاريخه مكانا عليّا في السلم بين العظماء والشرفاء والكرماء...
ان كثيرا من عليّة البشر ،وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم ،لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلل العبد الحبشي!!..
بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلل..
ان سواد بشرته ،وتواضع حسبه ونسبه ،وهوانه على النس كعبد رقيق ،لم يحرمه حين آثر السلم دينا ،من أن يتبوأ المكان الرفيع
الذي يؤهله له صدقه ويقينه ،وطهره ،وتفانيه..
ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب ،ال حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..
فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلل ،ينتمي الى أصول غريبة ..ليس له أهل ،ول حول ،ول يملك من حياته شيئا ،فهو ملك لسيّده
الذي اشتراه بماله ..يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..
كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن ،ل يمكن أن يقدر على شيء ول أن يكون شيئا..
ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا ،فيقدر على ايمان ،هيهات أن يقدر على مثله سواه ..ثم يكون أول مؤذن للرسول والسلم العمل الذي
كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول!!..
أجل ..بلل بن رباح!
أيّة بطولة ..وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلث بلل ابن رباح..؟!
**
انه حبشي من أمة السود ...جعلته مقاديره عبدا لناس من بني جمح بمكة ،حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
كان يعيش عيشة الرقيق ،تمضي أيامه متشابهة قاحلة ،ل حق له في يومه ،ول أمل له في غده!!..
ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه ،حين أخذ النس في مكة يتناقلونها ،وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم ،سيما "أمية
بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلل أحد عبيدها..
لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا ،وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا ،وغمّا وشرا..
وكانت أذن بلل تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون ،الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد ..وكان يحس أنها صفات جديدة على
هذه البيئة التي يعيش فيها ..كما كانت أذنه تلتقط من خلل أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته!!..
أجل انه ليسمعهم يعجبون ،ويحارون ،في هذا الذي جاء به محمد!!..
ويقول بعضهم لبعض :ما كان محمد يوما كاذبا .ول ساحرا..ول مجنونا ..وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله ،حتى نصدّ عنه
الذين سيسارعون الى دينه!!..
سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
عن وفائه..
عن رجولته وخلقه..
عن نزاهته ورجاحة عقله..
وسمعهم يتهامسون بالسباب ال تي تحملهم على تحد يّ وعداوته ،تلك هي :ولؤهم لد ين آبائهم أول .والخوف على مجد قريش ثانيا،
ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني ،كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها ،ثم الحقد على بني هاشم ،أن يخرج منهم
دون غيرهم نبي ورسول!...
**
وذات يوم يبصر بلل ب رباح نور ال ،ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه ،فيذهب الى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ويسلم..
ول يل بث خبر ا سلمه أن يذ يع ..وتدور الرض برؤوس أ سياده من ب ني ج مح ..تلك الرؤوس ال تي نفخ ها ال كبر وأثقل ها الغرور!!..
وتجثم شياطين الرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلم عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
ويقول أميّة لنفسه :ومع هذا فل بأس ..ان شمس هذا اليوم لن تغرب ال ويغرب معها اسلم هذا العبد البق!!..
ولكن الشمس لم تغرب قط باسلم بلل بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها ،وحماة الوثنية فيها!...
**
أما بلل فقد كان له موقف ليس شرفا للسلم وحده ،وان كان السلم أحق به ،ولكنه شرف للنسانية جميعا..
لقد صمد لقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.
ولكأنما جعله ال مثل على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة ل ينالن من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها ،واعتصمت بباريها ،وتشبثت
بحقها..
لقد أعطى بلل درسا بليغا للذين في زمانه ،وفي كل مان ،للذين على دينه وعلى كل دين ..درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته ل
يباعان بملء الرض ذهبا ،ول بملئها عذابا..
لقد وضع عريانا فوق الجمر ،على أن يزيغ عن دينه ،أو يزيف اقتناعه فأبى..
ل قد جعل الرسول عل يه ال صلة والسلم ،والسلم ،من هذا الع بد الحبشي الم ستضعف أستاذا للبشر ية كلها في فن احترام الضم ير،
والدفاع عن حريته وسيادته..
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة ..فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان ،ثم يأتون
بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال ،ويلقون به فوق جسده وصدره..
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم ،حتى رقّت لبلل من هول عذابه بعض قلوب جلديه ،فرضوا آخر المر أن يخلوا سبيله ،على أن
يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم ،ول تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..
ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه ،ويشتري بها حياته نفسه ،دون أن يفقد ايمانه ،ويتخلى
عن اقتناعه..
حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلل أن يقولها!..
نعم لقد رفض أن يقولها ،وصار يردد مكانها نشيده الخالد":أحد أحد"
يقولون له :قل كما نقول..
فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
"ان لساني ل يحسنه"!!..
ويظل بلل في ذوب الحميم وصخره ،حتى اذا حان الصيل أقاموه ،وجعلوا في عنقه حبل ،ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة
وشوارعها .وبلل ل يلهج لسانه بغير نشيده المقدس ":أحد أحد".
لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لل قد بلغ في في نفوسهم أشده ،ولنهم
كانوا من التجار ،فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..
باعوه لبي بكر الذي حرّره من فوره ،وأخذ بلل مكانه بين الرجال الحرار...
وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلل منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
خذه ،فواللت والعزى ،لو أبيت ال أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة المل وكان حريّا بأل يجيبه..
ولكن لن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له ،وندّا،أجاب أمية قائل:
وال لو أبيتم أنتم ال مائة أوقية لدفعتها!!..
ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..
وتدور الحرب عنيفسة قاسسية ضاريسة..وبلل هناك يصسول ويجول فسي أول غزوة يخوضهسا السسلم ،غزوة بدر ..تلك الغزوة التسي أمسر
الرسول عليه السلم أن يكون شعارها" :أحد..أحد".
**
في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلذ أكبادها ،وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم!!..
ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" ..هذا الذي كان سيدا لبلل ،والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..
ه مّ بالنكوص لول أن ذ هب ال يه صديقه "عق بة بن أ بي مع يط" ح ين علم عن ن بأ تخاذله وتقاع سه ،حامل في يمي نه مجمرة ح تى اذا
واجهه وهو جالس وسط قومه ،ألقى الجمرة بين يديه وقال له :يا أبا علي ،استجمر بهبذ ،فانما أنت من النساء!!!..
وصاح به أمية قائل :قبحك ال ،وقبّح ما جئت به..
ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
أيّة أسرار للقدر ،يطويها وينشرها..؟
لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لمية على تعذيب بلل ،وغير بلل من المسلمين المستضعفين..
واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه!!..
كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!
لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب ..ولول تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج!!..
ول كن ال بالغ أمره ،فليخرج أم ية فان بي نه وب ين ع بد من عباد ال ح سابا قدي ما ،جاء أوان ت صفيته ،فالديّان ل يموت ،وك ما تدينون
تدانون!!..
وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين ..فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه ،ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين البرياء ،هو
نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..
وبيد من..؟
بيد بلل نفسه ..وبلل وحده!!
نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلسل ،وأوجع صاحبها ضربا ،وعذابا..
مع هذه اليد ذاتها ،هي اليوم ،وفي غزوة بدر ،على موعد أجاد القدر توقيته ،مع جلد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..
ولقد حدث هذا تماما..
وحين بدأ القتال بين الفريقين ،وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم ":أحد ..أحد" انخلع قلب أمية ،وجاءه النذير..
ان الكلمة التي كان يرددها بالمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار المة الجديدة كلها!!..
"أحد..أحد"؟؟!!
أهكذا..؟ وبهذه السرعة ..وهذا النمو العظيم..؟؟
**
ل أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلل في مثل هذا المقام..
فلو أن اللقاء بين بلل وأمية ت ّم في ظروف أخرى ،لجازنا أن نسال بلل حق التسامح ،وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل
به.
لكن اللقاء الذي تم بينهما ،كان في حرب ،جاءها كل فريق ليفني غريمه..
ال سيوف تتو هج ..والقتلى ي سقطون ..والمنا يا تتوا ثب ،ثم يب صر بلل أم ية الذي لم يترك في ج سده مو ضع أنملة ال ويح مل آثار
تعذيب.
وأين يبصره وكيف..؟
يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين ،ولو أدرك رأس بلل ساعتئذ لطوّح به..
في ظروف كهذه يلتقي الرجلن فيها ،ل يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلل :لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟
**
**
وعاش بلل مع ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ،يش هد م عه المشا هد كل ها ،يؤذن لل صلة ،ويح يي ويح مي شعائر هذا الد ين العظ يم
الذي أخرجه من الظلمات الى النور ،ومن الرق الى الحريّة..
وعل شأن السلم ،وعل معه شأن المسلمين ،وكان بلل يزداد كل يوم قربا من قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي كان يصفه
بأنه ":رجل من أهل الجنة"..
لكن بلل بقي كما هو كريما متواضعا ،ل يرى نفسه ال أنه ":الحبشي الذي كان بالمس عبدا"!!..
**
وذهب الرسول الى الرفيق العلى راضيا مرضيا ،ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..
وذهب بلل الى خليفة رسول ال يقول له:
" يا خليفة رسول ال..
اني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل ال"..
فقال له أبو بكر :فما تشاء يا بلل..؟
قال :أردت أن أرابط في سبيل ال حتىأموت..
قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟
قال بلل وعيناه تفيضان من الدمع ،اني ل أؤذن لحد بعد رسول ال.
قال أبو بكر :بل ابق وأذن لنا يا بلل..
قال بلل :ان كنت أعتقتني لكون لك فليكن لك ما تريد .وان كنت أعتقتني ل فدعني وما أعتقتني له..
قالبو بكر :بل أعتقتك ل يا بلل..
ويختلف الرواة ،فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.
ويروي بعضهم الخر ،أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة ،فلما قبض وولي عمر الخلفة استأذنه وخرج الى الشام.
على أية حال ،فقد نذر بلل بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور السلم ،مصمما أن يلقى ال ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.
ولم ي عد يصسدح بالذان ب صوته الشجسي الحفيّس المه يب ،ذلك أنسه لم ينطسق فسي أذا نه "أش هد أن محمدا رسسول ال" ح تى تج يش به
الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه ،وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلل على أن يؤذن لهم صلة واحدة.
ودعا أمير المؤمنين بلل ،وقد حان وقت الصلة ورجاه أن يؤذن لها.
و صعد بلل وأذن ..فب كى ال صحابة الذ ين كانوا أدركوا ر سول ال وبلل يؤذن له ..بكوا ك ما لم يبكوا من ق بل أبدا ..وكان ع مر أشد هم
بكاء!!..
**
وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلبة في الوقوف الى جانب العقيدة والقتناع...
عبد ال بن عمر
المثابر ،الوّاب
و من ذلك اليوم الى اليوم الذي يل قى ف يه ر به ،بال غا من الع مر خم سة وثمان ين عا ما ،سنجد ف يه حيث ما نلقاه ،المثابر الوّاب الذي ل
ينحرف عن نهجه قيد أشعرة ،ول يند عن بيعة بايعها ،ول يخيس بعهد أعطاه..
وان المزايا التي تأخذ البصار الى عبدالل بن عمر لكثيرة.
فعلمه وتواضعه ،واستقامة ضميره ونهجه ،وجوده ،وورعه ،ومثابرته ،على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..
كل هذه الفضائل والخصال ،صاغ ابن عمر عمره منها ،وشخصيته الفذة ،وحياته الطاهرة الصادقة..
لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا ..وتعلم مع أبيه من رسول ال الخير كله والعظمة كلها..
لقد أحسن كأبيه اليمان بال ورسوله ..ومن ثم ،كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر اللباب..
فهو ينظر ،ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر ،فيحاكيه في دقة واخبات..
هنا مثل ،كان الرسول عليه الصلة والسلم يصلي ..فيصلي ابن عمر في ذات المكان..
وهنا كان الرسول عليه الصلة والسلم يدعو قائما ،فيدعو ابن عمر قائما...
وهنا كان الرسول يدعو جالسا ،فيدعو عبدال جالسا..
وه نا وعلى هذا الطر يق نزل الر سول يو ما من فوق ظ هر ناق ته ،و صلى ركعت ين ،ف صنع ا بن ع مر ذلك اذا جم عه ال سفر بن فس البق عة
والمكان..
بل ا نه ليذكر أن ناقة الر سول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة ،ق بل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها ،وي صلي ركعتين ،و قد
تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.
لكن عبدالل بن عمر ل يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته ،ثم ينيخها ،ثم يصلي ركعتين للله ..تماما كما رأى المشهد من قبل
مع رسول ال..
ولقد أثار فرط اتباعه هذا ،أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها فقالت:
"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى ال عليه وسلم في منازله ،كما كان يتبعه ابن عمر".
ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولء الوثيق ،حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:
"اللهم أبق عبدال بن عمر ما أبقيتني ،كي أقتدي به ،فاني ل أعلم أحد على المر الول غيره".
وبقوة هذا التحري لشديد الويق لخطى لبرسول وسنته ،كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول ال ول يروي عنه عليه السلم حديثا
ال اذا كان ذاكرا كل حروفه ،حرفا ..حرفا.
وقد قال معاصروه..
"لم يكن من أصحاب رسول ال أحد أشد حذرا من أل يزيد في حديث رسول ال أو ينقص منه ،من عبدال بن عمر"!!..
دعاه يوما الخليفة عثمان رضي ال عنهما ،وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة ،فاعتذر ..وألح عليه عثمان ،فثابر على اعتذاره..
وسأله عثمان :أتعصيني؟؟
فأجاب ابن عمر:
" كل ..ولكن بلغني أن القضاة ثلثة..
قاض يقضي بجهل ،فهو في النار..
وقاض يقضي بهوى ،فهو في النار..
وقاض يجتهد ويصيب ،فهو كفاف ،ل وزر ،ول أجر..
واني لسائلك بال أن تعفيني"..
وأعفاه عثمان ،بعد أن أخذ عليه العهد أل يخبر أحدا بهذا.
ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس ،وانه ليخشى اذا عرف التقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا
نهجه ،وعندئذ ل يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..
كما أنه في ذلك الحين من حياة السلم ،كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الموال ،وكثرت المناصب والمارات.
وشرع اغراء المال والمنا صب يقترب من ب عض القلوب المؤم نة ،م ما ج عل ب عض أ صحاب الر سول ،ومن هم ا بن ع مر ،يرفعون را ية
المقاومة لهذا الغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثل في الزهد والورع والعزوف عن المانصب الكبيرة ،وقهر فتنتها واغرائها...
**
لقد كان ابن عمر،أخا الليل ،يقومه مصليا ..وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..
ولقد رأى في شبابه رؤيا ،فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدال ،ومناط غبطته وحبوره..
يقول عبيد بن عمير :قرأت يوما على عبدال بن عمر هذه الية:
(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشه يد وجئ نا بك على هؤلء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وع صوا الرسول لو تسوّى بهم الرض ول
يكتمون ال حديثا)..
فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.
وجلس يوما بين اخوانه فقرا:
(ويل للمطففين ،الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون ،واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ،أل ي ظن أولئك أنهم ميعوثون ،ليوم عظيم،
يوم يقوم الناس لرب العالمين)..
ثم مضى يردد الية:
(..يوم يقوم الناس لرب العالمين).
ودموعه تسيل كالمطر .حتى وقع من كثرة وجده وبكائه!!..
**
ولقد كان جوده ،وزهده ،وورعه ،تعمل معا في فن عظيم ،لتشكل أروع فضائل هذا النسان العظيم ..فهو يعطي الكثير لنه جواد..
ويعطي الحلل الطيب لنه ورع..
ول يبالي أن يتركه الجود فقيرا ،لنه زاهد!!..
وكان ابن عمر رضي ال عنه ،من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة ،اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته ،وكان راتبه من بيت المال
وفيرا ..ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط ،انما كان يرسله غدقا على الفقراء ،والمساكين والسائلبن..
يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته ،فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلفدرهم وقطيفة..
وفي اليوم التالي ،رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا.. -
فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالمس أربعة آلف،وقطيفة..؟
قالوا :بلى..
قال :فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ول يجد معه ثمنه..
قالوا :انه لم يبت بالمس حتى فرقها جميعها ،ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره ،خرج ..ثم عاد وليست معه ،فسألناه عنهتا .فقال:
انه وهبها لفقير!!..
فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف .حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا ،وصاح في الناس:
" يا معشر التجار..
ما تصنعون بالدنيا ،وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها ،ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!
أل ان من كان محمد أستاذه ،وعمر أباه ،لعظيم ،كفء لكل عظيم!!..
ان وجود عبد ال بن عمر ،وزهزد وورعه ،هذه الخصال الثلثة ،كانت تحكي لدى عبد ال صدق القدوة ..وصدق البنوّة..
فما كان لمن يمعن في التأسي برسول ال ،حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى ال عليه وسلم يوقف ناقته .ويقول" لعل خفا
يقع على خف"!.
والذي يذ هب برأ يه في برأب يه وتوقيره والعجاب به الى المدى الذي كا نت شخ صية ع مر تفر ضه على العداء ،فضل عن القرباء.
فضل عن البناء..
أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول ،ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..
ولقد كانت الموال تاتيه وافرة كثيرة ..ولكنها تمر به مرورا ..وتعبر داره عبورا..
ولم يكن جوده سبيل الى الزهو ،وال الى حسن الحدوثة.
و من ثم .ف قد كان ي خص به المحتاج ين والفقراء ..وقل ما كان يأ كل الطعام وحده ..فل بد أن يكون م عه أيتام ،أو فقراء ..وطال ما كان
يعاتب بعض أبنائه ،حين يولمون للغنياء ،ول يأتون معهم بالفقراء ،ويقول لهم:
"تدعون الشباع .وتدعون الجياع"!!..
وعرف الفقراء عطفه ،وذاقوا حلوة بره وحنانه ،فكانوا يجلسون في طريقه ،كي يصحبهم الى داره حين يراهم ..وكانوا يحفون به
كما تحف أفواج النحل بالزاهير ترتشف منها الرحيق!..
**
أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة ،وقال له:
لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان ،وانه لتقر عيناي ،اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه ،وترتدي هذا الثوب الجميل..
قال له ابن عمر :أرنيه اذن..
ثم لمسه وقال :أحرير هذا.؟
قال صاحبه :ل ..انه قطن.
وتمله ع بد ال قليل ،ثم دف عه بيمي نه وهويقول":ل.ا ني أخاف على نف سي ..أخاف ان يجعل ني مختال فخورا ..وال ل ي حب كل مختال
فخور"!!..
ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما ،لم يكنيترك الشبع خصاصة ،بلزهدا وورعا ،ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه..
كان يخاف أن يقال له يوم القيامة:
(أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)..
**
وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلفة ،فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها ،ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين،
مختارين ،أما أن يحمل واحد ل غير على بيعته بالسيف ،فهذا ما يرفضه ،ويرفض الخلفة معه..
وآنئذ ،لم يكن ذلك ممكنا ..فعلى الرغم من فضله ،واجماع المسلمين على حبه وتوقيره ،فان اتساع المصار ،وتنائبها ،والخلفات التي
احتد مت ب ين الم سلمين ،وجعلت هم شي عا تتنا بذ بالحرب ،وتتنادى لل سيف ،لم يج عل ال جو مه يأ لهذا الجماع الذي يشتر طه عبدال بن
عمر..
لقيه رجل يوما فقال له :ما أحد شر لمة محمد منك!..
قال ابن عمر :ولم..؟ فوال ما سفكت دماءهم ،ول فرقت جماعتهم ،ول شققت عصاهم..
قال الرجل :انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..
قال ابن عمر :ما أحب أنها أتتني ،ورجل يقول :ل ،وآخر يقول :نعم.
وحتى بعد أن سارت الحداث شوطا طويل ،واستقر المر لمعاوية ..ثم لبنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلفة
زاهدا فيها بعد أيام من توليها..
حتى في ذلك اليوم ،وابن عمر شيخ مسن كبير ،كان ل يزال أمل الناس ،وأمل الخلفة ..فقد ذهب اليه مروان قال له:
هلم يدك نبايع لك ،فانك سيد العرب وابن سيدها..
قال له ابن عمر :كيف نصنع بأهل المشرق..؟
قال مروان :نضربهم حتى يبايعوا..
قال ابن عمر":وال ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما ،ويقتل بسببي رجل واحد"!!..
فانصرف عنه مروان وهو ينشد:
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا اني أرى فتنة تغلي مراجلها
يعني بأبي ليلى ،معاوية بن يزيد...
**
هذا الرفض لستعمال القوة والسيف ،هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية ،موقف العزلة
والحياد جاعل شعاره ونهجه هذه الكلمات:
"من قال حي على الصلة أجبته..
ومن قال حي على الفلح أجبته..
ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت :ل"!!.
ولكنه في عزلته تلك وفي حياده ،ل يماليء باطل..
فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته..
حتى توعده بالقتل ،وهو القائل ":لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"!!..
وذات يوم ،وقف الحجاج خطيبا ،فقال ":ان ابن الزبير حرّف كتاب ال"!
فصاح ابن عمر في وجهه ":كذبت ،كذبت ،كذبت".
وسقط في يد الحجاج ،وصعقته المفاجأة ،وهو الذي يرهبه كل شيء ،فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..
ولوذح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج ،وأجابه الناس منبهرون ":ان تفعل ما تتوعد به فل عجب ،فانك سفيه متسلط"!!..
ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه ،حريصا على أل يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب ،رافضا أن ينحاز لي فريق...
يقول أبو العالية البراء:
" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر ،وهو ل يشعر بي ،فسمعته يقول لنفسه:
" واضعين سيوفهم على عواتقهم ،يقتل بعضهم بعضا يقولون :يا عبد ال بن عمر ،أعط يدك"..؟!
وكان ينفجر أسى وألما ،حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم!!..
ولو استطاع أن يمنع القتال ،ويصون الدم لفعل ،ولكن الحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.
ولقد كان قلبه مع علي رضي ال عنه ،بل وكان معه يقينه فيما يبدو ،حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:
" ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا ال أني لم أقاتل مع عليّ ،الفئة الباغية"!!..
على أ نه ح ين ر فض أن يقا تل مع المام علي الذي كان ال حق له ،وكان ال حق م عه ،فا نه لم يف عل ذلك هر با ،وال التما سا للنجاة ..بل
رفضا للخلف كله ،والفتنة كلها ،وتجنبا لقتال ل يدو بين مسلم ومشرك ،بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..
ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال ":يا أبا عبد الرحمن ،أنت ابن عم ..وأنت صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأنت
وأنت ،فما يمنعك من هذا المر_ يعني نصرة علي_؟؟
فأجابه قائل:
" يمنعني أن ال تعالى حرّم عليّ دم المسلم ،لقد قال عز وجل( :قاتلوهم حتى ل تكون فتنة ،ويكون الدين )..
ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين ل،اما اليوم .فيم نقاتل..؟؟
لقد قاتلت الوثان تمل الحرم ..من الركن الى الباب ،حتى نضاها ال من أرض العرب..
أفأقاتل اليوم من يقول ل اله ال ال".؟!
هكذا كان منطقه ،وكانت حجته ،وكان اقتناعه..
ف هو اذن لم يتج نب القتال ولم يشترك ف يه ،لهرو با ،أ ،سلبية ،بل رف ضا لقرار حرب أهل ية ب ين ال مة المؤم نة ،وا ستنكافا على أن
يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..
ولقسد عاش عبسد ال بسن عمسر طويل ..وعاصسر اليام التسي فتحست أبواب الدنيسا على المسسلمين ،وفاضست الموال ،وكثرت المناصسب،
واستشرت المطامح والرغبات..
لكن قدرته النفسية الهائلة ،غيّرت كيمياء الومن !!..فجعلت عصر الطموح والمال والفتن ..جعلت هذا العصر بالنسبة اليه ،أيام زهد،
وورع ويلم ،عاشها المثابر الواب ب كل يقينه ،ون سكه وترفعه ..ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة ال تي صاغها و صقلها السلم في
أيامه الولى العظيمة الشاهقة..
ل قد تغيّرت طبي عة الحياة ،مع بدء الع صر الموي ،ولم ي كن ثمّة م فر من ذلك التغي ير ..وأ صبح الع صر يومئذ ،ع صر تو سع في كل
شيء ..توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب ،بل ومطامح الجماعة والفراد أيضا.
ووسط لجج الغراء ،وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع ،وبمغانمه ،ومباهجه ،كان ابن عمر يعيش مع فضائله ،في شغل عن ذلك
كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.
ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروعه فقالوا:
( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)
بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله ،أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر ..فيقولون:
( كان عمر في زمان له فيه نظراء ،وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)!!..
وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها ،أما عمر فل يقارن بمثله أحد ..وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..
**
و في العام الثاث وال سبعين للهجرة ..مالت الش مس للمغ يب ،ورف عت احدى سفن البد ية مرا سيها ،مبحرة الى العالم ال خر والرف يق
العلى ،حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد ال بن عمر بن الخطاب .كان آخر الصحابة رحيل عن الدنيا
كلها أنس بن مالك رضي ال عنه ،توفي بالبصرة ،عام واحد وتسعين ،وقيل عام ثلث وتسعين.
أقلقست النباء أميسر المؤمنيسن عمسر بسن الخطاب ،عندمسا جاءتسه تترى بالهجمات الغادرة التسي تشنهسا قوات الفرس على المسسلمين..
وبمعر كة الج سر ال تي ذ هب ضحيت ها في يوم وا حد أرب عة آلف شه يد ..وبن قض أ هل العراق عهود هم ،والمواث يق ال تي كا نت علي هم..
فقرر أن يذهب بنفسه لبقود جيوش المسلمين ،في معركة فاصلة ضد الفرس.
وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم ال وجهه..
ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود ،وينتدب لهذه الهمة واحدا غيره من أصحابه..
وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف ،معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والسلم يعيش أيامه الفاصلة ،عمل
غير سديد..
وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي_:الصلة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب ،فانتقل مع بعض أهل المدينة الى
حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه ..وانتهى الرأي الى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف ،وقرر المجتمعون أن يعود عمر الى المدينة،
وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين..
ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي ،وعاد يسأل أصحابه:
فمن ترون أن نبعث الى العراق..؟؟
وصمتوا قليل يفكرون..
ثم صاح عبد الرحمن بن عوف :وجدته!!..
قال عمر :فمن هو..؟
قال عبد الرحمن" :السد في براثنه ..سعد بن مالك الزهري"..
وأيّد الم سلمون هذا الختيار ،وأر سل أم ير المؤمن ين الى سعد بن مالك الزهري " سعد بن أ بي وقاص" ووله امارة العراق ،وقيادة
الجيش..
فمن هو السد في براثنه..؟
من هذا الذي كان اذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائل:
"هذا خالي ..فليرني امرؤ خاله"!!..
انه سعد بن أبي وقاص ..جده أهيب بن مناف ،عم السيدة آمنة أم رسول ال صلى ال عليه وسلم..
لقد عانق السلم وهو ابن سبع عشرة سنة ،وكان اسلمه مبكرا ،وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:
" ..ولقد أتى عليّ يوم ،واني لثلث السلم"!!..
يعني أنه كان ثالث أول ثلثة سارعوا الى السلم..
ف في اليام الولى ال تي بدأ الر سول يتحدث في ها عن ال ال حد ،و عن الد ين الجد يد الذي يزف الر سول بشراه ،وق بل أن يت خذ ال نبي
صلى ال عليه وسلم من دار الرقم ملذا له ولصحابه الذين بدءوا يؤمنون به ..كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول
ال مبايعا..
وانّ كتب التارييخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلم أبي بكر وعلى يديه..
ولعله يومئذ أعلن ا سلمه مع الذ ين أعلنوه باقناع أ بي ب كر ايّا هم ،و هم عثمان ا بن عفان ،والزب ير ا بن العوّام ،وع بد الرح من بن
عوف ،وطلحة بن عبيد ال.
ومع هذا ل يمنع سبقه بالسلم سرا..
وان لسعد بن أبي وقاص لمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..
بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك ،ال بشيئين عظيمين..
أولهما :أنه أول من رمى بسهم في سبيل ال ،وأول من رمي أيضا..
وثانيهما :أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:
" ارم سعد فداك أبي وأمي"..
أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين ،ويلهج يشكر ال عليهما فيقول:
" وال اني لوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل ال".
ويقول علي ابن أبي طالب:
" ما سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه ال سعدا ،فاني سمعته يوم أحد يقول :ارم سعد ..فداك أبي وأمي"..
كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين ،وكان له سلحان رمحه ودعاؤه..
وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع ،وعرف هو ذلك نفسه وأمره ،فلم يكن يدعو على أحد ال مفوّضا الى
ال أمره.
وكذلكم كان سعد ،روحه حر ..ويقينه صلب ..واخلصه عميق ..وكان دائب الستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلل ،فهو يرفض في
اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة..
ول قد عاش سعد ح تى صار من أغنياء الم سلمين وأثريائ هم ،ويوم مات خلف وراءه ثروة غ ير قليلة ..و مع هذا فاذا كا نت وفرة المال
وحلله قلما يجتمعان ،فقد اجتمعا بين يدي سعد ..اذ آتاه ال الكثير ،الحلل ،الطيب..
وقدرته على جمع المال من الحلل الخالص ،يضاهيها ،قدرته في انفاقه في سبيل ال..
في حجة الوداع ،كان هناك مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأصابه المرض ،وذهب الرسول يعوده ،فساله سعد قائل:
"يا رسول ال ،اني ذو مال ول يرثني ال ابنة ،أفأتصدّق بثلثي مالي..؟
قال النبي :ل.
قلت :فبنصفه؟
قال النبي :ل.
قلت :فبثلثه..؟
قال النبي :نعم ،والثلث كثير ..انك ان تذر ورثتك أغنياء ،خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ،وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه
ال ال أجرت بها ،حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك"..
ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة ..فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..
**
ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه ،رنا بصره الى الفق في اصغاء من يتلقى همسا وسرا ..ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:
" يطلع علينا الن رجل من أهل الجنة"..
وأخذ الصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..
وبعد حين قريب ،طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.
ولقد لذ به فيما بعد عبد ال بن عمرو بن العاص سائل اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى ال من عمل وعبادة ،جعله أهل لهذه
المثوبة ،وهذه البشرى ..فقال له سعد:
" ل شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..
غير أني ل أحمل لحد من المسلمين ضغنا ول سوءا".
ان عمر ل ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..
يومئذ أخفقت جميع محاولت رده وصده عن سبيل ال ..فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه
الى وثنية أهله وذويه..
لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب ،حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه ،ومضت في تصميم مستميت تواصل اضرابها عن
الطعام والسراب حتى أوشكت على الهلك..
كل ذلك وسعد ل يبالي ،ول يبيع ايمانه ودينه بشيء ،حتى ولو يكون هذا الشيء حياةأمه..
وحين كانت تشرف على الموت ،أخذه بعض أهله اليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت..
اذن فليغرس أم ير المؤمن ين لواء القاد سية في يمي نه .وليرم به الفرس المجتمع ين في أك ثر من مائةألف من المقاتل ين المدرب ين.
المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الرض يومئذ من عتاد وسلح ..تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ ،وأدهى دهاتها..
أجل الى هؤلء في فيالقهم الرهيبة..خرج سعد في ثلثين ألف مقاتل ل غير ..في أيديهم رماح ..ولكن في قلوبهم ارادة الدين الجديد
بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان ،وشوق نادر وباهر الى الموت و الى الشهادة!!..
والتقى الجمعان.
ولكن ل ..لم يلتق الجمعان بعد..
وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيهاته ..وها هو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه بالمبادرة الى القادسية ،فانها باب
فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى:
" يا سعد بن وهيب..
ل يغرّنّك من ال ،أن قيل :خال رسول ال وصاحبه ،فان ال ليس بينه وبين أحد نسب ال بطاعته ..والناس شريفهم ووضيعهم في ذات
ال سوء ..ال ربهم ،وهم عباده ..يتفاضلون بالعافية ،ويدركون ما عند ال بالطاعة .فانظر المر الذي رأيت رسول ال صلى ال عليه
وسلم منذ بعث الى أن فارقنا عليه ،فالزمه ،فانه المر".
ثم يقول له:
" اكتب اليّ بجميع أحوالكم ..وكيف تنزلون..؟
وأين يكون عدوّكم منكم..
واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"!!..
ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.
وينزل سعد القادسية ،ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا ،كما لم يتجمعوا من قبل ،ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم "رستم"..
ذلك أن سعدا يعلم أن ع مر في المدي نة ل يف تي وحده ،ول يقرر وح جه ..بل ي ستشير الذ ين حوله من الم سلمين و من خيار أ صحاب
رسول ال ..وسعد ل يريد برغم كل ظروف الحرب ،أن يحرم نفسه ،ول أن يحرم جيشه ،من بركة الشورى وجدواها ،ل سيّما حين
يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم..
**
وينفذ سعد وصية عمر ،فيرسل الى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه الى ال والى السلم..
ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس ،وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم:
" ان ال اختار نا ليخرج ب نا من يشاء من خل قه من الوثن ية الى التوح يد ...و من ض يق الدن يا الى سعتها ،و من جور الحكام الى عدل
السلم..
فمن قبل ذلك منا ،قبلنا منه ،ورجعنا عنه ،ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد ال"..
ويسأل رستم :وما وعد ال الذي وعدكم اياه..؟؟
فيجيبه الصحابي:
" الجنة لشهدائنا ،والظفر لحيائنا".
ويعود لبوفد الى قائد المسلمين سعد ،ليخبروه أنها الحرب..
وتمتلىء عينا سعد بالدموع..
لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليل ،أو تقدمت قليل ..فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته ..وملت الدمامل جسده حتى
ما كان يستطيع أن يجلس ،فضل أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة!!..
فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم ،أولوأنها استأخرت حتى يبل ويشفى ،اذن لبلى فيها بلءه العظيم ..أما الن ..ولكن ،ل،
فرسول ال صلى ال عليه وسلم علمهم أل يقول أحدهم :لو .لن لو هذه تعني العجز ،والمؤمن القوي ل يعدم الحيلة ،ول يعجز أبدا..
عنئذ هب السد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا ،مستهل خطابه بالية الكريمة:
(بسم ال الرحمن الرحيم..
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادي الصالحون)..
وبعد فراغه من خطبته ،صلى بالجيش صلة الظهر ،ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا :ال أكبر ..ال أكبر ..ال أكبر ..ال أكبر..
ودوّى الكن وأوّب مع المكبرين ،ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو ،وصاح في جنوده :هيا على بركة ال..
و صعد و هو متحامل على نف سه وآل مه الى شر فة الدار ال تي كان ينزل ب ها ويتخذ ها مركزا لقياد ته..و في الشر فة جلس متكئا على
صدره فوق وسادة .باب داره مفتوح ..وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا ..ولكنه ل يرهب ول يخاف..
دمامله تنبح وتنزف ،ولكنه عنها في شغل ،فهو من الشرفة يكبر ويصيح ..ويصدر أوامره لهؤلء :أن تقدّموا صوب الميمنة ..وللئك:
أن سدوا ثغرات الميسرة ..أمامك يا مغيرة ..وراءهم يا جرير ..اضرب يا نعمان ..اهجم يا أشعث ..وأنت يا قعقاع ..تقدموا يا أصحاب
محمد!!..
وكان صوته المفعم بقوة العزم والمل ،يجعل من كل جندي فردا ،جيشا بأسره..
وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح.ز وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار!!..
وطارت فلول هم المهزو مة ب عد أن رأوا م صرع قائد هم وخيرة جنود هم ،وطارد هم كالج يش الم سلم ع تى نهاو ند ..ثم المدائن فدخلو ها
ليحملوا ايوان كسرى وتاجه ،غنيمة وفيئا!!..
**
ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر ،ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم!!..
وهكذا أ صدر سعد أمره الى جي شه بعبور ن هر دجلة ..وأ مر بالب حث عن مخا ضة في الن هر تمكّن من عبور هذا الن هر ..وأخيرا عثروا
على مكان ل يخلو عبوره من المخاطر البالغة..
وقبل أن يبدأ الجيش الجيش عمل ية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الو صول على الضفة الخرى التي يرابط الع طو
حولها ..وعندئذ جهز كتيبتين..
الولى :واسمها كتيبة الهوال وأمّر سعد عليها عاصم ابنعمرو والثانية :اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع ابن عمرو..
وكان على جنود هات ين الكتيبت ين أن يخوضوا الهوال ل كي يف سحوا على الض فة الخرى مكا نا آم نا للج يش العابر على أثر هم ..ول قد
أدوا العمل بمهارة مذهلة..
ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون..
نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه..
وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة ،ويقول:
" ان السلم جديد..
ذلّلت وال لهم البحار ،كما ذلّل لهم البرّ..
ن منه أفواجا ،كما دخلوه أفواحا"!!..
والذي نفس سلمان بيده ليخرج ّ
ولقد كان ..وكما اقتحموا نهر دجلة أفواجا ،خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا ،بل لم تضع منهم شكيمة فرس..
ول قد سقط من أحد المقاتل ين قد حه ،فعز عل يه أن يكون الوح يد ب ين رفاقه الذي يضيع منه شيء ،فنادى في أصحابه ليعاونوه على
انتشاله ،ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه!!..
وتصف لنا احدى الروايات التاريخية ،روعة المشهد وهم يعبرون دجلة ،فتقول:
[أمر سعد المسلمين أن يقولوا :حسبنا ال ونعم الوكيل ..ثم اقتحم بفرسه دجلة ،واقتحم الناس وراءه ،لم يتخلف عنه أحد ،فساروا فيها
كأنمسا يسسيرون على وجسه الرض حتسى ملؤا مسا بيسن الجانسبين ،ولم يعسد وجسه الماء يرى مسن أفواج الفرسسان والمشاة ،وجعسل الناس
يتحدثون و هم ي سيرون على و جه الماء كأن هم يتحدون على و جه الرض؛ وذلك ب سبب ما شعروا به من الطمأني نة وال من ،والوثوق
بأمر ال ونصره ووعيده وتأييده]!!..
ويوم ولى عمر سعدا امارة العراق ،راح يبني للناس ويعمّر ..كوّف الكوفة ،وأرسى قواعد السلم في البلد العريضة الواسعة..
وذات يوم شكاه أهل الكوفة لمير المؤمنين ..لقد غلبهم طبعهم المتمرّد ،فزعموا زعمهم الضاحك ،قالوا ":ان سعدا ل يحسن يصلي"!!..
ويضحك سعد من ملء فاه ،ويقول:
"وال اني لصلي بهم صلة رسول ال ..أطيل في الركعتين الوليين ،وأقصر في الخريين"..
ويستدعيه عمر الى المدينة ،فل يغضب ،بل يلبي نداءه من فوره..
وبعد حين يعتزم عمر ارجاعه الى الكوفة ،فيجيب سعد ضاحكا:
" اأتمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني ل أحسن الصلة"..؟؟
ويؤثر البقاء في المدينة..
وحين اعتدي على أم ير المؤمنين ع مر رضي ال ع نه وأرضاه ،اختار من بين أصحاب الرسول عليه ال صلة والسلم ،ستة رجال،
ليكون اليهم أمر الخليفة الجديد قائل انه اختار ستة مات رسول ال وهو عنهم راض ..وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص.
بل يبدو من كلمات عمر الخيرة ،أنه لو كان مختارا لخلفة واحدا من الصحابة لختار سعدا..
فقد قال لصحابه وهو يودعهم ويوصيهم:
" ان وليها سعد فذاك..
وان وليه غيره فليستعن بسعد".
**
ويمتد العمر بسعج ..وتجيء الفتنة الكبرى ،فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولده أل ينقلوا اليه شيئا من أخبارها..
وذات يوم تشرئب العناق نحوه ،ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ،ويقول له:
يا عم ،ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا المر.
فيجيبه سعد:
" أريد من مائة ألف سيف ،سيفا واحدا ..اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ،واذا ضربت به الكافر قطع"!!..
ويدرك ابن أخيه غرضه ،ويتركه في عزلته وسلمه..
وحين انتهى المر لمعاوية ،واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:
مالك لم تقاتل معنا..؟؟
فأجابه:
" اني مررت بريح مظلمة ،فقلت :أخ ..أخ..
واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني"..
فقل زعاوية :ليس في كتاب ال أخ ..أخ ..ولكن قال ال تعالى:
(وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ،فأصلحوا بينهما ،فان بغت احداهما على الخرى ،فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر ال).
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة ،ول مع العادلة على الباغية.
أجابه سعد قائل:
" ما كنت لقاتل رجل قال له رسول ال :أنت مني بمنزلة هرون من موسى ال أنه ل نبي بعدي".
**
وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة ،وقد جاوز سعد الثمانين ،كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء ال.
ويروي لنا ولده لحظاته الخيرة فيقول:
[ كان رأس أبي في حجري ،وهو يقضي ،فبكيت وقال :ما يبكيك يا بنيّ..؟؟
ان ال ل يعذبني أبدا وأني من أهل الجنة]!!..
ان صلبة ايمانه ل يوهنها حتى رهبة المةت وزلزاله.
ولقد بشره الرسول عليه الصلة والسلم ،وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلة والسلم أوثق ايمان..ز واذن ففيم الخوف..؟
[ ان ال ل يعذبتي أبدا ،واني من أهل الجنة].
بيد أنه يريد أن يلقى ال وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله ..ومن ث ّم فقد أشار الى خزانته ففتوحها ،ثم
أخرجوا منها رداء قديما قي بلي وأخلق ،ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائل:
[ لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر ،ولقد ادخرته لهذا اليوم]!!..
اجل ،ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب ..انه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا ،صادقا شجاعا!!
وفوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة ،ليأخذ مكانه في سلم الى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين
سبقوه الى ال ،ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه.
**
وداعا يا سعد!!..
وداعا يا بطل القادسية ،وفاتح المدائن ،ومطفىء النار المعبودة في فارس الى البد!!..
صهيب بن سنان
ربح البيع يا أبا يحيى!!
وان صساحبنا صسهيبا لرجسل غريسب ..وصسديقه الذي لقيسه على باب الدار ،عمّار بسن ياسسر رجسل فقيسر ..فمسا بالهمسا يسستقبلن الهول
ويشمّران سواعدهما لملقاته..؟؟
انه نداء اليمان الذي ل يقاوم..
وانها شمائل محمد عليه الصلة والسلم ،الذي يملؤ عبيرها أفئدة البرار هدى وحبا..
وانها روعة الجديد المشرق .تبهر عقول سئمت عفونة القديم ،وضلله وافلسه..
وانها قبل هذا كله رحمة ال يصيب بها من يشاء ..وهداه يهدي اليه من ينيب...
أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..
وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين!!..
ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..
وانه ليتحدث صادقا عن ولئه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول ،وسار تحت راية السلم فيقول:
" لم يشهد رسول ال صلى ال عليه وسلم مشهدا قط ال كنت حاضره..
ولم يبايع بيعة قط ال كنت حاضرها..
ول يسر سرية قط .ال كنت حاضرها..
ول غزا غزاة قط ،أوّل الزمان وآخره ،ال منت فيها عن يمينه أ ،شماله..
وما خاف المسلمون أمامهم قط ،ال كنت أمامهم..
ول خافوا وراءهم ال كنت وراءهم..
وما جعلت رسول ال صلى ال عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"!!..
هذه صورة باهرة ،ليمان فذ وولء عظيم..
ولقد كان صهيب رضي ال عنه وعن اخوا نه أجمعين ،أهل لهذا اليمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور ال ،ووضع يمينه في
يكين الرسول..
يومئذ أخذت علقاته بالناس ،وبالدنيا ،بل وبنفسه ،طابعا جديدا .يومئذ .امتشق نفسا صلبة ،زاهدة متفانية .وراح يستقبل بها الحداث
فيطوّعها .والهوال فيروّعها.
ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور.ز فل يتخلف عن مشهد ول عن خطر ..منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم ..وعن
شهوة الحياة ،الى عشق الخطر وحب الموت..
ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولئه الجليل بيوم هجرته ،ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته
الرابحة خلل سنوات كثيرة قضاها في مكة ..تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جللها تردد ول نكوص.
فعندما همّ الرسول بالهجرة ،علم صهيب بها ،وكان المفروض أن يكون ثالث ثلثة ،هم الرسول ..وأبو بكر ..وصهيب..
بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..
ووقع صهيب في بعض فخاخهم ،فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة ال..
وحاور صهيب وداور ،حتى استطاع أن يفلت من شانئيه ،وامتطى ظهر ناقته ،وانطلق بها الصحراء وثبا..
بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوهخ ..ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائل:
" يا معشر قريش..
لقد علمتم أني من أرماكم رجل ..وأيم وال ل تصلون ال يّ حتى ارمي كبل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى ل يبقى في
يدي منه شيء ،فأقدموا ان شئتم..
وان شئتم دللتكم على مالي ،وتتركوني وشاني"..
والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك ،وفي غير حذر ،فلم يسألوه بيّنة ..بل ولم يستحلفوه على صدقه !!..وهذا موقف يضفي على
صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين!!..
واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا ،حتى أردك الرسول صلى ال عليه وسلم في قباء..
كان الرسول حالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهلا:
" ربح البيع أبا يحيى!!..
ربح البيع أبا يحيى!!..
وآنئذ نزلت الية الكريمة:
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات ال ،وال رؤوف بالعباد)..
أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات ال بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها ،ولم يحس قط أنه المغبون..
فمال المال ،وما الذهب وما الدنيا كلها ،اذا بقي له ايمانه ،واذا بقيت لضميره سيادته ..ولمصيره ارادته..؟؟
كان الرسول يحبه كثيرا ..وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه ،خفيف الروح ،حاضر النكتة..
رآه الرسول يأكل رطبا ،وكان باحدى عينيه رمد..
فقال له الرسول ضاحكا ":أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟
فأجاب قائل ":وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الخرى"!!..
وكان جوّادا معطاء ..ين فق كل عطائه من ب يت المال في سبيل ال ،يع ين محتا جا ..يغ يث مكرو با "..ويط عم الطعام على ح به م سكينا
ويتيما وأسيرا".
حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له :أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟
فأجابه صهيب لقد سمعت رسول ال يقول:
" خياركم من أطعم الطعام".
**
ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم ،فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلة مزية تمل حياته ألفة
وعظمة..
فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلة الفجر..
وعندما احس نهاية الجل ،فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الخيرة قال:
" وليصلّ بالناس صهيب"..
لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة ،ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..
وخليفسة المسسلمين هسو الذي يؤمهسم فسي الصسلة ،ففسي اليام الشاغرة بيسن وفاة أميسر المؤمنيسن ،واختيار الخليفسة الجديسد ،مسن يؤم
المسلمين في الصلة..؟
ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى ال ليستأني ألف مرة قبل أن يختار ..فاذا اختار ،فل أحد
هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الختيار..
ولقد اختار عمر صهيبا..
اختاره ليكون امام المسلمين في الصلة حتى ينهض الخليفة الجديد ..بأعباء مهمته..
اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة ،فكان هذا الختيار من تمام نعمة ال على عبده الصالح صهيب بن سنان..
معاذ بن جبل
أعلمهم بالحلل والحرام
عندما كان الرسول عليه الصلة والسلم يبابع النصار بيعة العقبة الثانية .كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم ،شاب
مشرق الوجه ،رائع النظرة ،برّاق الثنايا ..يبهر البصار بهوئه وسمته .فاذا تحدّث ازدادت البصار انبهارا!!..
ذلك كان معاذ بن جبل رضي ال عنه..
هو اذن رجل من النصار ،بايع يوم العقبة الثانية ،فصار من السابقين الولين.
ورجل له مثل اسبقيته ،ومثل ايمانه ويقينه ،ل يتخلف عن رسول ال في مشهد ول في غزاة .وهكذا صنع معاذ..
على أن آلق مزاياه ،وأعظم خصائصه ،كان فقهه..
بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهل لقول الرسول عنه:
" أعلم أمتي بالحلل والحرام معاذ بن جبل"..
وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله ،وشجاعة ذكائه .سأله الرسول حين وجهه الى اليمن:
" بما تقضي يا معاذ؟"
فأجابه قائل " :بكتاب ال"..
قال الرسول " :فان لم تجد في كتاب ال"..؟
"أقضي بسنة رسوله"..
قال الرسول " :فان لم تجد في سنة رسوله"..؟
قال معاذ ":أجتهد رأيي ،ول آلوا"..
فتهلل وجه الرسول وقال:
" الحمد ل الذي وفق رسول رسول ال لما يرضي رسول ال".
فولء معاذ لكتاب ال ،ولسنة رسوله ل يحجب عقله عن متابعة رؤاه ،ول يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة ،التي تنتظر
من يكتشفها ويواجهها.
ول عل هذه القدرة على الجتهاد ،والشجا عة في ا ستعمال الذكاء والع قل ،ه ما اللتان مكن تا معاذا من ثرائه الفق هي الذي فاق به أقرا نه
واخوانه ،صار كما وصفه الرسول عليه الصلة والسلم " أعلم الناس بالحلل والحرام".
وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في المور..
فهذا عائذ ال بن عبدال يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم في أول خلفة عمر..قال:
" فجل ست مجل سا ف يه ب ضع وثلثون ،كل هم يذكرون حدي ثا عن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ،و في الحل قة شاب شد يد الد مة ،حلو
ب القوم سنا ،فاذا اشت به عليهم من الحد يث شيء ردّوه ال يه فأفتاهم ،ول يحدثهم ال ح ين ي سألونه ،ول ما
المنطق ،وضيء ،وهو أش ّ
قضي مجلسهم دنوت منه وسالته :من أنت يا عبد ال؟ قال :أنا معاذ بن جبل".
ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقل أحسن تدريبه ،ومنطقا آسرا مقنعا ،ينساب في هدوء واحاطة..
فحيثما نلتقي به من خلل الروايات التاريخية عنه ،نجده كما أسلفنا واسط العقد..
فهو دائما جالس والناس حوله ..وهو صموت ،ل يتحدث ال على شوق الجالسين الى حديثه..
واذا اختلف الجالسون في أمر ،أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..
فاذا تكلم ،كان كما وصفه أحد معاصريه:
" كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..
ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه ،وفي اجلل المسلمين له ،أيام الرسول وبعد مماته ،وهو شاب ..فلقد مات معاذ في خلفة عمر
ولم يجاوز من العمر ثلثا وثلثين سنة!!..
وكان معاذ سمح اليد ،والنفس ،والخلق..
فل يسأل عن شيء ال أعطاه جزلن مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.
ومات الرسول صلى ال عليه وسلم ،ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..
وفسي خلفسة أبسي بكسر رجسع معاذ مسن اليمسن ،وكان عمسر قسد علم أن معاذا أثرى ..فاقترح على الخليفسة أبسي بكسر أن يشاطره ثروتسه
وماله!..
ولم ينتظر عمر ،بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..
كان معاذ ظا هر ال كف ،طا هر الذ مة ،ولئن كان قد أثري ،فا نه لم يكت سب اث ما ،ولم يقترف شب هة ،و من ثم ف قد ر فض عرض ع مر،
وناقشه رأيه..
وتركه عمر وانصرف..
وفي الغداة ،كان معاذ يطوي الرض حثيثا شطر دار عمر..
ول يكاد يلقاه ..حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:
" لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء ،أخشى على نفسي الغرق ..حتى جئت وخلصتني يا عمر"..
وذهبا معا الى أبي بكر ..وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله ،فقال أبو بكر ":ل آخذ منك شيئا"..
فنظر عمر الى معاذ وقال ":الن حلّ وطاب"..
ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا ،لو علم أنه أخذه بغير حق..
وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..
وان ما هو ع صر الم ثل كان يز خر بقوم يت سابقون الى ذرى الكمال المي سور ،فمنهم الطائر المحلق ،ومنهم المهرول ،ومنهم المقت صد..
ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.
**
ويهاجر معاذ الى الشام ،حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها ،فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم
لمعاذ ،استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام ،ول يمضي عليه في المارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..
وكان عمر رضي ال عنه يقول:
" لو استخلفت معاذ بن جبل ،فسألني ربي :لماذا استخلفته؟ لقلت :سمعن نبيك يقول :ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ،كان معاذ
بين أيديهم"..
والستخلف الذي يعنيه عمر هنا ،هو الستخلف على المسلمين جميعا ،ل على بلد أو ولية..
فلقد سئل عمر قبل موته :لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..
لاجاب قائل:
" لو كان معاذ بن جبل حيا ،ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل ،فسألني :من ولّيت على أمة محمد ،لقلت :ولّيت عليهم معاذ بن جبل،
بعد أن سمعت النبي يقول :معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".
**
قال الرسول صلى ال عليه وسلم يوما:
" يا معاذ ..وال اني لحبك فل تنس أن تقول في عقب كل صلة :اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..
أجل اللهم أعنّي ..فقد كان الرسول دائب اللحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه ل حول لهم ول قوة ،ول سند ول عون
ال بال ،ومن ال العلي العظيم..
ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..
لقيه الرسول ذات صباح فسأله:
"كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟
قال:
" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول ال".
قال النبي:
:ان لكل حق حقيقة ،فما حقيقة ايمانك"..؟؟
قال معاذ:
" ما أصبحت قط ،ال ظننت أني ل أمسي ..ول أمسيت مساء ال ظننت أني ل أصبح..
ول خطوت خطوة ال ظننت أني ل أتبعها غيرها..
وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..
وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..
وأهل النار في النار يعذبون"..
فقال له الرسول:
" عرفت فالزم"..
أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره ل ،فلم يعد يبصر شيئا سواه..
**
وكان يرى اليمان بال وذكره ،استحضارا دائما لعظمته ،ومراجعة دائمة لسلوك النفس.
يقول السود بن هلل:
" كنا نمشي مع معاذ ،فقال لنا :اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..
ول عل سبب صمته الكث ير كان راج عا الى عمل ية التأ مل والتف كر ال تي ل تهدأ ول ت كف دا خل نف سه ..هذا الذي كان ك ما قال للر سول :ل
يخطو خطوة ،ويظن أنه سيتبعها بأخرى ..وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه ،واستغراقه في محاسبته نفسه..
**
المقداد بن عمرو
أول فرسان السلم
في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا.ز حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد ،وخيلئها وكبريائها..
في ذلك اليوم ..والمسلمون قلة ،لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل السلم ،فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..
ووقف الرسول يعجم ايمان الذين معه ،ويبلوا استعدادهم لملقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..
وراح يشاور هم في ال مر ،وأ صحاب الر سول يعلمون أ نه ح ين يطلب المشورة والرأي ،فا نه يف عل ذلك ح قا ،وأ نه يطلب من كل وا حد
حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه ،فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها ،ويخالفها فل حرج عليه ول تثريب..
وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات ...وقبل أن يسبقه أحد بالحديث ه مّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته
القاطعة شعار المعركة ،ويسهم في تشكيل ضميرها.
ولكنه قبل أن يحرك شفتيه ،كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا ..وقال أبو بكر فأحسن ،وتله عمر بن الخطاب
فقل وأحسن..
ثم تقدم المقداد وقال:
" يا رسول ال..
امض لما أراك ال ،فنحن معك..
وال ل نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى
اذهب أنت وربك فقاتل انا هاهنا قاعدون..
بل نقول لك :اذهب أنت وربك فقاتل انا معكما مقاتلون!!..
والذي بعثك بالحق ،لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن
خلفك حتى يفتح ال لك" ..انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف ..وتلل وجه رسول ال وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد..
وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن
أراد قول ..وطراز الحديث لمن يريد حديثا!!..
أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين ،فقام سعد بن معاذ زعيم النصار ،وقال:
" يا رسول ال..
ن ما جئت به هو الحق ..وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ،فامض يا رسول ال لما أردت ،فنحن
لقد آمنا بك وصدّقناك ،وشهدنا أ ّ
معك ..والذي عثك بالحق ..لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ،ما تخلف منا رجل واحد ،وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا
غدا..
انا لصبر في الحرب ،صدق في اللقاء ..ولعل ال يريك منا ما تقر عينك ..فسر على بركة ال"..
وامتل قلب الرسول بشرا..
وقال لصحابه ":سيروا وأبشروا"..
والتقى الجمعان..
وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلثة ل غير :المقداد بن عمرو ،ومرثد بن أبي مرثد ،والزبير بن العوّام ،بينما كان بقية المجاهدين
مشاة ،أو راكبين ابل..
**
ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل ،ل تصور شجاعته فحسب ،بل تصور لنا حكمته الراجحة ،وتفكيره العميق..
وكذلك كان المقداد..
كان حكيما أريبا ،ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات ،بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة ،وسلوك قويم مطرّد .وكانت
تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته..
وله الرسول على احدى الوليات يوما ،فلما رجع سأله النبي:
" كيف وجدت المارة"..؟؟
فأجاب في صدق عظيم:
" لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس ،وهم جميعا دوني..
والذي بعثك بالحق ،ل اتآمرّن على اثنين بعد اليوم ،أبدا"..
واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟
واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟
رجل ل يخدع عن نفسه ،ول عن ضعفه..
يلي المارة ،فيغشى نفسه الزهو وال صلف ،ويكتشف في نفسه هذا الضعف ،فيقسم ليجنّبها مظانه ،وليرفض المارة بعد تلك التجربة
ويتتحاماها ..ثم يبر بقسمه فل يكون أميرا بعد ذلك أبدا!!..
لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول ال ..هوذا:
" ان السعيد لمن جنّب الفتن"..
واذا كان قد رأى في المارة زهوا يفتنه ،أو يكاد يفتنه ،فان سعادته اذن في تجنبها..
ومن مظاهر حكمته ،طول أناته في الحكم على الرجال..
وهذه أيضا تعلمها من رسول ال ..فقد علمهم عليه السلم أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..
وكان المقداد ير جئ حك مه الخ ير على الناس الى لح ظة الموت ،ليتأ كد أن هذا الذي ير يد أن ي صدر عل يه حك مه لن يتغ ير ولن يطرأ
على حياته جديد ..وأي تغيّر ،أو أي جديد بعد الموت..؟؟
وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلل هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه ،يقول:
**
خرج يوما في سريّة ،تمكن العدو فيها من حصارهم ،فأصدر أمير السرية أمره بأل يرعى أحد دابته ..ولكن أحد المسلمين لم يحط
بالمر خبرا ،فخالفه ،فتلقى من المير عقوبة أكثر مما يستحق ،أ ،لعله ل يستحقها على الطلق..
فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح ،فسأله ،فأنبأه ما حدث
فأخذ المقداد بيمينه ،ومضيا صوب المير ،وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:
" والن أقده من نفسك..
ومكّنه من القصاص"!!..
وأذ عن الم ير ..ب يد أن الجندي ع فا و صفح ،وانت شى المقداد بعظ مة المو قف ،وبعظ مة الد ين الذي أفاء علي هم هذه العزة ،فراح يقول
وكأنه يغني:
" لموتنّ ،والسلم عزيز"!!..
أجل تلك كانت أمنيته ،أن يموت والسلم عزيز ..ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه المنية مثابرة باهرة جعلته أهل لن يقول
له الرسول عليه الصلة والسلم:
"ان ال أمرني بحبك..
وأنبأني أنه يحبك"...
سعيد بن عامر
العظمة تحت السمال
**
انه واحد من كبار الصحابة رضي ال عنهم ،وان لم يكن لسمه ذلك الرنين المألوف لسماء كبار الصحابة.
انه واحد من كبار التقياء الخفياء!!..
ول عل من نافلة القول وتكراره ،أن ننوه بملزم ته ر سول ال في جم يع مشاهده وغزوا ته ..فذلك كان ن هج الم سلمين جمي عا .و ما كان
لمؤمن أن يتخلف عن رسول ال في سلم أو جهاد.
أسلم سعيد قبيل فتح خيبر ،ومنذ عانق السلم وبايع الرسول ،أعطاهما كل حياته ،ووجوده ومصيره.
فالطاعة ،والزهد ،والسمو ..والخبات ،والورع ،والترفع.
كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا النسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..
وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها ،علينا أن نكون من الفطنة بحيث ل نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر..
فحين تقع العين على سعيد في الزحام ،لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..
ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة النمية ..أشعث أغبر . .ليس في ملبسه ،ول في شكله الخرجي ،ما يميزه عن فقراء المسلمين
بشيء!!.
فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليل على حقيقته ،فلن نبصر شيئا ،فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أ يّ
من مظاهر البذخ والزخرف.
انها هناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله.
أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف..؟ انه شيء يشبه هذا..
**
عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولية الشام ،تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.
وأسلوب عمر في اختيار ولته ومعاونيه ،أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر ،والدقة ،والناة ..ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه
وال في أقصى الرض سيسأل عنه ال اثنين :عمر أول ..وصاحب الخطأ ثانيا..
ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولة مرهفة ،ومحيطة،وبصيرة ،أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا..
والشام يومئذ حاضرة كبيرة ،والحياة في ها ق بل دخول ال سلم بقرون ،تتقلب ب ين حضارات مت ساوقة ..و هي مر كز هام لتجارة .ومر تع
رحيب للنعمة ..وهي بهذا ،ولهذا درء اغراء .ول يصلح لها في رأي عمر ال قديس تفر كل شياطين الغراء أمام عزوفه ..وال زاهد،
عابد ،قانت ،أواب..
وصاح عمر :قد وجدته ،اليّ بسعيد بن عامر!!..
وفيما بعد يجيء سعيد الى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولية حمص..
ولكن سعيجا يعتذر ويقول " :ل تفتنّي يا أمير المؤمنين"..
فيصيح به عمر:
" وال ل أدعك ..أتضعون أمانتكم وخلفتكم في عنقي ..ثم تتركوني"..؟؟!!
واقتنع سعيد في لحظة ،فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا القناع.
أجل .ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلفتهم ،ثم ينركوه وحيدا..واذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر ،فأنّى لعمر
من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟
خرج سعيد الى حمص ومعه زوجته ،وكانا عروسين جديدين ،وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة ..وزوّده عمر بقدر
طيّب من المال.
ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر ..وأشارت هليه بأن يشتري ما
يلزمهما من لباس لئق ،ومتاع وأثاث ..ثم يدخر الباقي..
وقال لها سعيد :أل أدلك على خير من هذا..؟؟ نحن في بلد تجارتها رابحة ،وسوقها رائجة ،فلنعط المال م يتجر لنا فيه وينمّيه..
قالت :وان خسرت تجارته..؟
قال سعيد :سأجعل ضمانا عليه!!..
قالت :فنعم اذن..
وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات غعيشه المتقشف ،ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..
ومرّت اليام ..وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من الرباح..
ويجيبها سعيد :انها تجارة موفقة ..وان الرباح تنمو وتزيد.
وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة المر فابتسم .ثم ضحك ضحكة أوحت الى روع الزوجة بالشك والريب،
فألحت عليه أن يصارحها الحديث ،فقا لها :لقد تصدق بماله جكيعه من ذلك اليوم البعيد.
فبكت زوجة سعيد ،وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فل هي ابتاعت لنفسها ما تريد ،وال المال بقي..
ونظر اليها سعيد وقد زادتها دموعها الوديعة السية جمال وروعة.
وقبل أن ينال المشهد الفاتن من نفسه ضعفا ،ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين الراحلين فقال:
" لقد كان لي أصحاب سبقوني الى ال ...وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"!!..
واذ خشي أن تدل عليه بجمالها ،وكأنه يوجه الحديث الى نفسه معها:
" تعلمين أن في الجنة من الحور الع ين والخيرات الحسان ،ما لو أطلت واحدة منهن على الرض لضاءتها جميعا ،ولقهر نورها نور
الشمس والقمر معا ..فلن أضحي بك من أجلهن ،أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"!!..
وأنهى حديثه كما بدأه ،هادئا مبتسما راضيا..
وسكنت زوجته ،وأدركت أنه ل شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد ،وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه!!..
**
كانت حمص أيامئذ ،توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف ،كثرة تمرّد أهلها واختلفهم على ولتهم.
ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها...
وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا ،فقد هدى ال قلوبهم لعبده الصالح سعيد ،فأحبوه وأطاعوه.
ولقد سأله عمر يوما فقال " :ان أهل الشام يحبونك".؟
فأجابه سعيد قائل ":لني أعاونهم وأواسيهم"!..
ب يد أن مه ما ي كن أ هل ح مص حب ل سعيد ،فل م فر من أن يكون هناك ب عض التذ مر والشكوى ..على ال قل لتث بت ح مص أن ها ل تزال
المانفس القوي لكوفة العراق...
وتقدم البعض يشكون منه ،وكانت شكوى مباركة ،فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل ،عجيب عجيب جدا..
طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها ،واحدة واحدة..
فنهض المتحدث بلسان هذه المجموعة وقال :نشكو منه أربعا:
" ل يخرج الينا حت يتعالى النهار..
وا يجيب أحدا بليل..
وله في الشهر يومان ل يخرج فيهما الينا ول نراه،
وأخرى ل حيلة له فيها ولكنها تضايقنا ،وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..
وجلس الرجل:
وأطرق عمر مليا ،وابتهل الى ال همسا قال:
" اللهم اني أعرفه من خير عبادك..
اللهم ل تخيّب فيه فراستي"..
ودعاه للدفاع عن نفسه ،فقال سعيد:
أما قولهم اني ل أخرج اليهم حتى يتعالى النهار..
" فوال لقد كنت أكره ذكر السبب ..انه ليس لهلي خادم ،فأنا أعجن عجيني ،ثم أدعه يختمر ،ثم اخبز خبزي ،ثم أتوضأ للضحى ،ثم
أخرج اليهم"..
وتهلل وجه عمر وقال :الحمد للله ..والثانية..؟!
وتابع سعيد حديثه:
وأما قولهم :ل أجيب أحدا بليل..
فوال ،لقد كنت أكره ذكر السبب ..اني جعلت النهار لهم،والليل لربي"..
أما قولهم :ان لي يومين في الشهر ل أخرج فيهما...
" فليس لي خادم يغسل ثوبي ،وليس بي ثياب أبدّلها ،فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين ..وفي آخر النهار أخرج اليهم ".
وأما قولهم :ان الغشية تأخذني بين الحين والحين..
" ف قد شهدت م صرع خبيب الن صاري بم كة ،و قد بض عت قر يش لح مه ،وحملوه على جذ عه ،و هم يقولون له :أ حب أن محمدا مكا نك،
وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائل :وال ما أحب أني في أهلي وولدي ،معي عافية الدنيا ونعيمها ،ويصاب رسول ال بشوكة..
فكل ما ذكرت ذلك المش هد الذي رأيت هو أ نا يومئذ من المشرك ين ،ثم تذكرت تر كي ن صرة خبيب يوم ها ،أرت جف خو فا من عذاب ال،
ويغشاني الذي يغشاني"..
وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..
ولم يمالك عمر نفسه ونشوه ،فصاح من فرط حبوره.
" الحمد للله الذي لم يخيّب فراستي"!.
وعانق سعيدا ،وقبّل جبهته المضيئة العالية...
**
**
وفي العام العشرين من الهجرة ،لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة ،وأتقى ما يكون قلبا ،وأنضر ما يكون سيرة..
لقد طال شوقه الى الرعيل الول الذي نذر حياته لحفظه وعهده ،وتتبع خطاه..
أجل لقد طال شوقه الى رسوله ومعلمه ..والى رفاقه الوّابين المتطهرين..
واليوم يلقيهم قرير العين ،مطمئن النفس ،خفيف الظهر..
ليس معه ول وراءه من أحمال الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله،،
ليس معه ال ورعه ،وزهده ،وتقاه ،وعظمة نفسه وسلوكه..
وفضائل تثقل الميزان ،ولكنها ل تثقل الظهور!!..
ومزايا هز بها صاحبها الدنيا ،ولم يهزها غرور!!..
**
كانت مكة تغطّ في نومها ،بعد يوم مليء بالسعي ،وبالكدّ ،وبالعبادة وباللهو..
والقرشيون يتقلبون في مضاجع هم هاجع ين ..غ ير وا حد هناك يتجا فى عن المض جع جنباه ،يأوي الى فرا شه مبركا ،وي ستريح ساعات
قليلة ،ثم ينهض في شوق عظيم ،لنه مع ال على موعد ،فيعمد الى مصله في حجرته ،ويظل يناجي ربه ويدعوه ..وكلما استيقظت
زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالته الحارّو الملحة ،وأخذتها الشفقة عليه ،ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم ،يجيبها
ودموع عينيه تسابق كلماته:
" لقد انقضى عهد النوم يا خديجة"!!..
لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد ،وان كان قد بدأ يشغل انتباهها ،فلقد كان حديث عهد بدعوته ،وكان يقول كلمته سرا وهمسا.
كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا..
وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والجلل ،ويطوي جوانحه على شوق عظيم الى اليمان به والسير في قافلته
المباركة ،ل يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة ،وضغوط التقاليد والوراثة ،والتردد بين نداء الغروب ،ونداء الشروق.
من هؤلء كان حمزة بن عبد المطلب ..عم النبي صلى ال عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.
**
كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله ..وكان على بيّنة من حقيقة أمره ،وجوهر خصاله..
فهو ل يعرف معرفة العم بابن أخيه فحسب ،بل معرفة الخ بالخ ،والصديق بالصديق ..ذلك أن رسول ال وحمزة من جيل واحد ،وسن
متقاربة .نشأ معا وتآخيا معا ،وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة..
ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق ،فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة ،وافساح مكان لنفسه بين زعماء مكة
و سادات قر يش ..في ح ين ع كف مح مد على اضواء رو حه ال تي انطل قت تن ير له الطر يق الى ال وعلى حد يث قل به الذي نأى به من
ضوضاء الحياة الى التأمل العميق ،والى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه..
نقول لئن كان شباب كل منه ما قد ات خذ وج هة مغايرة ،فان حمزة لم ت غب عن وع يه لح ظة من نهار فضائل تر به وا بن أخ يه ..تلك
الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة ،وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم.
في صبيحة ذلك اليوم ،خرج حمزة كعادته.
وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم ،يستمع لما يقولون..
وكانوا يتحدثون عن محمد..
ولول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه ..وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد ،والغيظ والمرارة.
لقد كانوا من قبل ل يبالون ،أو هم يتظاهرون بعدم الكتراث واللمبالة.
أما اليوم ،فوجوههم تموج موجا بالقلق ،والهمّ ،والرغبة في الفتراس.
وضحك حمزة من أحاديثهم طويل ..ورماهم بالمبالغة ،وسوء التقدير..
وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر النس علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن المر حتى تنام قريش ،ثم
تصبح يوما وقد ساء صاحبها ،وظهر أمر ابن أخيه عليها...
ومضوا في حديثهم يزمجرون ،ويتوعدون ..وحمزة يبتسم تارّة ،ويمتعض أخرى ،وحين انفض الجميع وذهب كل الى سبيله ،كان حمزة
مثقل الرأس بأفكار جديدة ،وخواطر جديدة .راح يستقبل بها أمر ابن أخيه ،ويناقشه مع نفسه من جديد!!!...
**
ومضت اليام ،ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول..
ثم تتحوّل همهمة قريش الى تحرّش .وحمزة يرقب الموقف من بعيد..
ان ثبات ابن أخيه ليبهره ..وان تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها ،برغم ما عرفت من تفان وصمود!!..
ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه ،فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد الى وعي
حمزة منفا أو سبيل..
فحمزة خير من عرف محمدا ،من طفولته الباكرة ،الى شباب الطاهر ،الى رجولته المينة السامقة..
انه يعرفه تماما كما يعرف نغسه ،بل أكثر مما يعرف نفسه ،ومنذ جاءا الى الحياة معا ،وترعرعا معا ،وبلغا أشدّهما معا ،وحياة محمد
كلها نقية كأشعة الشمس !!..ل يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة ،ل يذكر أنه رآه يوما غاضبا ،أو قانطا ،أو طامعا،أو لهيا،
أو مهزوزا...
وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب ،بل وبرجاحة العقل ،وقوة اارادة أيضا..
ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابهة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل المانة ..وهكذا طوى صدره الى حين على أمر
سيتكشّف في يوم قريب..
**
وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه ،وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت
بهم طالصاعقة ..الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه ،ويقول ما يقوله..
أحمزة يسلم..؟
أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة..؟؟
انها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا ..فاسلم حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالسلم ،وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما
يعزز دعوته ويشدّ ازره ،وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها!!..
أ جل أ سلم حمزة ،وأعلن على المل ال مر الذي كان يطوي عل يه صدره ،وترك الج مع الذا هل يجت ّر خي بة أمله ،وأ با ج هل يل عق دماءه
النازفة من رأسه المشجوج ..ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى الى قوسه فثبتها فوق كتفه ،واستقبل الطريق الى داره في خطواته الثابتة،
وبأسه الشديد!..
**
وشرع يفكّر ..وقضى أياما ،ل يهدأ له خاطر ..وليالي ل يرقأ له فيها جفن..
وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل ،يفرض الشك نفسه كوسيلة الى المعرفة.
وهكذا ،لم يكد حمزة يستعمل في ب حث قضية السلم ،ويوازن بين الدين القديم ،والد ين الجد يد ،ح تى ثارت في نفسه شكوك أرجاها
الحنين الفطري الموروث الى دين آبائه ..والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد..
وا ستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة ،وآلهاها وأصنامها ...وعن المجاد الدينية ال تى أفاءتها هذه اللهة المنحو تة على قر يش كلها،
وعلى مكة بأسرها.
لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها..
ولكن اذا كان مقدورا له أن يكون أح أتباع هذه الدعوة ،المؤمنين بها ،والذائدين عنها ..فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين..؟
لحظة غضب وحميّة..؟ أم أوقات تفكير ورويّة..؟
وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره ،ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق..
وبدأ النسلخ من هذا التاريخ م\كله ..وهذا الدين القديم العريق ،هوّة تتعاظم مجتازها..
وع جب حمزة ك يف يت سنى لن سان أن يغادر د ين آبائه بهذه ال سهولة وهذه ال سرعة ..وندم على ما ف عل ..ولك نه وا صل رحلة الع قل..
ولما رأى أن العقل وحده ل يكفي لجأ الى الغيب بكل اخلصه وصدقه..
وع ند الكع بة ،كان ي ستقبل ال سماء ضار عا ،مبتهل ،م ستنجدا ب كل ما في الكون من قدرة ونور ،كي يهتدي الى ال حق والى الطر يق
المستقيم..
ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ فيقول:
" ..ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي ..وبت من الشك في أمر عظيم ،ل أكتحل بنوم..
ثم أتيت الكعبة ،وتضرّعت تاة ال أن يشرح صدري للحق ،ويذهب عني الريب ..فاستجاب ال لي ومل قلبي يقينا..
وغدوت الى رسول ال صلى الل عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري ،فدع ال أن يثبت قلبي على دينه"..
وهكذا أسلم حمزة اسلم اليقيم..
**
أعز ال السلم بحمزة..ز ووقف شامخا قويا يذود عن رسول ال ،وعن المستضعفين من أصحابه..
ورآه أبسو جهسل يقسف فسي صسفوف المسسلمين ،فأدرك أنهسا الحرب ل محالة ،وراح يحرّض قريشسا على انزال الذى بالرسسول وصسحبه،
ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طرقها مغايظة وأحقاده..
ولم يستطع حمزة أن يمنع كل الذى ولكن اسلمه مع ذلك كان وقاية ودرعا ..كما كان اغراء ناجحا لكثير من القبائل التي قادها اسلم
حمزة أول .ثم اسلم عمر بن الخطاب بعد ذلك الى السلم فدخلت فيه أفواجا!!..
ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته ،وبأسه ،وحياته ،ل ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم:
"أسد ال ،وأسد رسوله"..
وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو ،كان أميرها حمزة..
وأول راية عقدها رسول ال صلى ال عليه وسلم لحد من المسلمين كانت لحمزة..
ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر ،كان أسد ال ورسوله هناك يصنع العاجيب!!..
**
وعادت فلول قريش من بدر الى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها ...ورجع أبو سفيان مخلوع القلب ،مطأطئ ال{اس .وقد خلّف على
أرض المعركة جثث سادة قريش ،من أمثال أبي جهل ..وعتبة بن ربيعة ،وشيبة بن ربيعة ،وأميّة بن خلف .وعقبة بن أبي معيط..
والسود بن عبدال المخزومي ،والوليد بن عتبة ..والنفر بن الحارث ..والعاص بن سعيد ..وطعمة ابن عد يّ ..وعشرات مثلهم من
رجال قريش وصناديدها.
وما كانت قريش لتتجرّع هذه الهزيمة المنكرة في سلم ...فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها ،لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلها ..وصمّمت
قريش على الحرب..
**
وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها ،ومعها حلفاؤها من قبائل العرب ،وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى.
وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين :الرسول صلى اله عليه وسلم ،وحمزة رضي ال عنه وأرضاه..
أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب ،يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة..
ول قد اختاروا ق بل الخروج ،الر جل الذي وكلوا ال يه أ مر حمزة ،و هو ع بد حب شي ،كان ذا مهارة خار قة في قذف الحر بة ،جعلوا كل
دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه ضربة قاتلة من رمحه ،وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر ،مهما يكن
مصير المعركة واتجاه القتال.
ووعدوه بثمن غال وعظيم هو حريّته ..فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم ..وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر
فقال له جبير"
" اخرج مع الناس وان أنت قتلت حمزة فأنت عتيق"!!..
ثم أحالوه الى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون..
وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها ،وعمها ،وأخاها ،وابنها ..وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض هؤلء ،وأجهز على البعض
الخر..
من أ جل هذا كا نت أك ثر القرشي ين والقرشيّات تحري ضا على الخروج للحرب ،ل لش يء ال لتظ فر برأس حمزة مه ما ي كن الث من الذي
تتطلبه المغامرة!!..
ولقد لبثت أياما قبل الخروج للحرب ،ول عمل لها ال افراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم به..
ول قد وعد ته ان هو ن جح في قال حمزة بأث من ما تملك المرأة من متاع وزي نة ،فل قد أم سكت بأنامل ها الحاقدة قرط ها اللؤلؤي الثم ين
وقلئدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها ،ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي:
" كل هذا لك ،ان قتلت حمزة"!!..
وسال لعاب وحشي ،وطارت خواطره توّاقة مشتاقة الى المعركة التي سيربح فيها حريّته ،فل يصير بعد عبدا أو رقيقا ،والتي سيخرج
منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش ،وزوجة زعيمها ،وابنة سيّدها!!..
كانت المؤمرة اذن ..وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي ال عنه بشكل واضح وحاسم..
**
وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم ..وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة ..ولول أن ترك الرماة مكانهم
فوق الجبل ،ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم ..لول تركهم مكانهم وفتحوا الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت
غزوة أحد مقبرة لقريش كلها ،رجالها ،ونسائها بل وخيلها وابلها!!..
لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة ،واعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة ..وراح المسلمون يجمعون أنفسهم
من جديدو ويحملون سلحهم الذي كان بعض هم قد وض عه ح ين رأى ج يش مح مد ين سحب ويولي الدبار ..ول كن المفاجأة كا نت قا سية
عنيفة.
ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلءه..
وأخذ يضرب عن يمينه وشماله ..وبين يديه ومن خلفه ..ووحشيّ هناك يراقبه ،ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحنوه ضربته..
ولندع وحشا يصف لنا المشهد بكلماته:
[ ..وكنت جل حبشيا ،أقذف بالحربة قذف لحبشة ،فقلما أخطئ بها شيئا ..فلما التقى النس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في
عرض الناس مثل الجمل الورق ..يهدّ الناس بسيفه هدّا ،ما يقف امامه شيء ،فوال اني لتهيأ له أريده ،وأستتر منه بشجرة لقتحمه
ي يا بن مقطّعة البظرو .ثم ضربه ضربة فما أخطأ
أو ليدنو مني ،اذ تقدّمني اليه سباع بن عبد العزى .فلما رآه حمزة صاح به :هل مّ ال ّ
رأسه..
عندئذ هززت حرب تي ح تى اذا رض يت من ها دفعت ها فوق عت في ثنّ ته ح تى خر جت من ب ين رجل يه ..ون هض نحوي فغلب على امره ثم
مات..
وأتيته فأخذت حربتي ،ثم رجعت الى المعسكر فقعدت فيه ،اذ لم يكن لي فيه حاجة ،فقد قتلته لعتق]..
**
ومض غت ه ند ب نت عت بة الذي صرعه الم سلمون ببدر ،وزو جة أ بي سفيان قائد جيوش الشرك الوثن ية،مض غت ك بد حمزة ،راج ية أن
تش في تلك الحما قة حقد ها وغل ها .ول كن الك بد ا ستعصت على أنياب ها ،وأعجزت ها أن ت سيغها ،فأخرجت ها من فم ها ،ثم علت صخرة
مرتفعة ،وراحت تصرخ قائلة:
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ول أخي وعمّه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري
أزاح وحشي غليل صدري
وانتهت المعركة ،وامتطى المشركون ابلهم ،وساقوا خيلهم قافلين الى مكة..
ونزل الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه معه الى أرض المعركة لينظر شهداءها..
وهناك في ب طن الوادي .وا هو يتف حص وجوه أ صحابه الذ ين باعوا ل أنف سهم ،وقدّمو ها قراب ين مبرورة لرب هم ال كبير .و قف فجأة..
ونظر .فوجم ..وضغط على أسنانه ..وأسبل جفنيه..
فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على هذه الوحش ية البش عة فيمثل بجثمان ميت على ال صورة التي رأى فيها جثمان ع مه
الشهيد حمزة بن عبد المطلب أسد ال وسيّد الشهداء..
وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر وقال وعيناه على جثمان عمّه:
" لن اصاب بمصلك أبدا..
وما وقفت موقفا قط أغيظ اليّ من موقفي هذا."..
ول كن ال الذي أكرم حمزة بالشهادة ،يكرّ مه مرة أخرى بأن يج عل من م صرعه فر صة لدرس عظ يم يح مي العدالة الى ال بد ،ويج عل
الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا..
وهكذا لم ي كد الر سول صلى ال عل يه و سلم يفرغ من القاء وعيده ال سالف ح تى جاءه الو حي و هو في مكا نه لم يبرحه بهذه ال ية
الكريمة:
(ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ،وجادلهم بالتي هي أحسن ،ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ،وهو أعلم بالمهتدين.
وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ،ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.
واصبر وما صبرك ال بال ،ول تحزن عليهم ،ول تك في ضيق مما يمكرون.
ان ال مع الذين اتقوا ،والذين هم محسنون)..
وكان نزول هذه اليات ،في هذا الموظن ،خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على ال..
**
كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحبه أعظم الحب ،فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب..
بل كان اخاه من الرضاعة..
وتربه في الطفولة..
وصديق العمر كله..
وفي لحظات الوداع هذه ،لم يجد الرسول صلى ال عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد الشهداء المعركة جميعا..
وهكذا ح مل جثمان حمزة الى مكان ال صلة على أرض المعر كة ال تي شهدت بلءه ،واحتض نت دماءه ،ف صلى عل يه الر سول صلى ال
عل يه و سلم وأ صحابه ،ثم جيء يشه يد آ خر ،ف صلى عل يه الر سول ..ثم ر فع وترك حمزة مكا نه ،وجيء بشه يد ثاث فو ضع الى جوار
حمزة وصلى عليهما الرسول..
وهكذا جيء بالشهداء ..شهيد بعد شهيد ..والرسول عليه الصلة والسلم يصلي على كل واحد منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على
عمّه يومئذ سبعين صلة..
**
وينصرف الرسول من المعركة الي بيته ،فيسمع في طريقه نساء بني عبد الشهل يبكين شهداءهن ،فيقول عليه الصلة والسلم من
فرط حنانه وحبه:
" لكنّ حمزة ل بواكي له"!!..
ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه الصلة والسلم يطيب نفسا اذا بكت النساء عمه ،فيسرع الى نساء بني عبد الشهل
ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن… ول يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج اليهن ،ويقول
" ما الى هذا قصدت ،ارجعن يرحمكن ال ،فل بكاء بعد اليوم"
ولقد ذهب أصحاب رسول ال يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة.
وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى ال عليه وسلم وأخت حمزة:
دعاه اله الحق ذو العرش دعوة
الى جنة يحيا بها وسرور
فذاك ما كنا نرجي ونرتجي
لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوال ما أنساك ما هبّت الصبا
بكاءا وحزنا محضري وميسري
على أسد ال الذي كان مدرها
يذود عن السلم كل كفور
أقول وقد أعلى النعي عشيرتي
جزى ال خيرا من أخ ونصير
على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول ال له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال:
" رحمة ال عليك ،فانك كنت وصول للرحم فعول للخيرات"..
**
لقد كان مصاب النبي صلى ال عليه وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا .وكان العزاء فيه مهمة صعبة ..بيد أن القدر طكانت تدّخر
لرسول ال أجمل عزاء.
ففي طريقه من أحد الى داره مرّ عليه الصلة والسلم بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها ،وأخوها..
وحين أبصرت المسلمين عائدين من الغزو ،سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة..
فنعوا اليها الزوج..والب ..والخ..
واذا بها تسألهم في لهفة:
" وماذا فعل رسول ال"..؟؟
قالوا:
" خيرا ..هو بحمد ال كما تحبين"!!..
قالت:
" أرونيه ،حتىأنظر اليه"!!..
ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى ال عليه وسلم ،فلما رأته أقبلت نحوه تقول:
" كل مصيبة بعدك ،أمرها يهون"!!..
**
أجل..
لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه..
ولعل الرسول صلى ال عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ الفريد ،فليس في دنيا البذل ،والولء ،والفداء لهذا نظير..
سيدة ضعيفة ،مسكينة ،تفقد في ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها ..ثم يكون ردّها على الناعي لحظة سمعها الخبر الذي يهدّ الجبال:
" وماذا فعل رسول ال"..؟؟!!
ل قد كان مش هد أجاد القدر ر سمه وتوقي ته ليج عل م نه للر سول الكر يم صلى ال عل يه و سلم عزاء أي عزاء ..في أ سد ال ،و سيّد
الشهداء!!..
عبدال بن مسعود
أول صادح بالقرآن
ق بل أن يد خا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم دار الر قم ،كان عبدال بن م سعود قد آ من به ،وأ بح سادس ستة أ سلموا واتبعوا
الرسول ،عليه وعليهم الصلة والسلم..
هو اذن من الوائل المبكرين..
ولقد تحدث عن أول لقائه برسول ال صلى ال عليه وسلم فقال:
" ك نت غل ما ياف عا ،أر عى غن ما لعق بة بن أ بي مع يط فجاء ال نبي صلى ال عل يه و سلم ،وأبوب كر فقال :يا غلم ،هل عندك من ل بن
تسقينا..؟؟
فقلت :اني مؤتمن ،ولست ساقيكما..
فقال النبي عليه الصلة والسلم :هل عندك من شاة حائل ،لم ينز عليها الفحل..؟
قلت :نعم..
فأتيتهما بها ،فاعتلفها النبي ومسح الضرع ..ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة ،فاحتلب فيها ،فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع:
اقلص ،فقلص..
فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم بعد لك ،فقلت :علمني من هذا القول.
فقال :انك غلم معلم"...
**
ل قد انب هر عبدال بن م سعود ح ين رأى عبدال ال صالح ور سوله الم ين يد عو ر به ،ويم سح ضر عا ل ع هد له بالل بن ب عد ،فهذا هو
يعطي من خير ال ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين!!..
وما كان يدري يومها ،أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا ،وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا،
وتلمؤها هدى ونور..
بل ما كان يدري يومها ،أنه وهو ذلك الغلم الفقير الضعيف الجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط ،سيكون احدى هذه المعجزات يوم
يخلق السلم منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش ،ويقهر جبروت ساداتها..
فيذ هب و هو الذي لم ي كن يجرؤ أن ي مر بمجلس ف يه أ حد أشراف م كة ال مطرق الرأس حث يث الخ طى ..نقول :يذ هب ب عد ا سلمه الى
مجمع الشراف عند الكعبة ،وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم .ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن ال:
(بسم ال الرحمن الرحيم ،الرحمن ،علّم القرآن ،خلق النسان ،علّمه البيان ،الشمس والقمر بحسبان ،والنجم والشجر يسجدان).
ثم يوا صل قراء ته .وزعماء قر يش مشدوهون ،ل ي صدقون أعين هم ال تي ترى ..ول آذان هم ال تي ت سمع ..ول يت صورون أن هذا الذي
يتحدى بأسهم ..وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم ،وراعي غنم لشريف من شرفائهم ..عبدال بن مسعود الفقير المغمور!!..
ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..
انه الزبير رضي ال عنه يقول:
" كان أول من ج هر بالقرآن ب عد ر سول ال صلى ال عل يه و سلم بم كة ،عبدال بن م سعود ر ضي ال ع نه ،اذ اجت مع يو ما أ صحاب
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا:
وال ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط ،فمن رجل يسمعهموه..؟؟
فقال عبدال بن مسعود:أنا..
قالوا :ان نخشاهم عليك ،انما نريد رجل له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..
قال :دعوني ،فان ال سيمنعني..
فغدا ا بن م سعود ح تى ا تى المقام في الض حى ،وقر يش في أنديت ها ،فقام ع ند المقام ثم قرأ :ب سم ال الرح من الرح يم _راف عا صوته_
الرحمن ..علم القرآن ،ثم استقبلهم يقرؤها..
فتأملوه قائلين :ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..
فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه ،وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا ال أن يبلغ..
ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده ،فقالوا له:
هذا الذي خشينا عليك..
فقال :ما كان أعداء ال أهون عليّ منهم الن ،ولئن شئتم لغادينّهم بمثلها غدا..
قالوا :حسبك ،فقد أسمعتهم ما يكرهون"!!..
أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه ..ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء،
سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية ال ،ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار!!..
ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..
ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة ،وصار الغلم الجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات!!..
**
وكان أصحاب رسول ال عليه الصلة والسلم يتحدثون عن عبدال بن مسعود فيقولون:
" ان كان ليؤذن له اذا حججنا ،ويشهد اذا غبنا"..
وهم يريدون بهذا ،أن عبد ال رضي ال عنه كان يظفر من الرسول صلى ال عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه ،فيدخل عليه بيته
أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه .وكان دون غيره من ال صّحب موضع سرّه ونجواه ،حتى كان يلقب بس صاحب
السواد أي صاحب السر..
وهذا الحب ،وهذه الثقة أهله لن يكون شديد لبقرب من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له
الرسول عليه الصلة والسلم ":اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..
فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلم في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...
وهكذا قال عنه أصحابه:
" كان يؤذن له اذا حججنا ،ويشهد اذا غبنا"..
ول قد كان ا بن م سعود أهل لهذه المزيّة ..فعلى الر غم من أن الخل طة الدان ية على هذا الن حو ،من شأن ها أن تر فع الكل فة ،فان ا بن
مسعود لم يزدد بها ال خشوعا ،واجلل ،وأدبا..
ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده ،مظهره حين كان يحدّث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد وفاته...
فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلم ،نجده اذا حرّك شفتيه ليقول :سمعت رسول ال يحدث ويقول :سمعت رسول ال
يحدث ويقول ...تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الضطراب والقلق ،خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف!!..
**
لم ي كن يفارق ر سول ال صلى ال عل يه وسلم في سفر ،ول في ح ضر ..ول قد ش هد المشا هد كلها جميع ها ..وكان له يوم بدر شأن
مذكور مسع أب جهسل الذي حصسدته سسيوف المسسلمين فسي ذلك اليوم الجليسل ..وعرف خلفاء الرسسول وأصسحابه له قدره ..فوله أميسر
المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة .وقال لهلها حين أرسله اليهم:
" اني وال الذي ل اله ال هو ،قد آثرتكم به على نفسي ،فخذوا منه وتعلموا".
ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله ،ول أحد مثله..
واجماع أهل الكوفة على حب انسان ،أمر يشبه المعجزات..
ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة ،ل يصبرون على طعام واحد !!..ول يطيقون الهدوء والسلم..
ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي ال عنه عزله عن الكوفة وقالوا له ":أقم معنا ول تخرج ،ونحن
نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..
ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه ،اذ قال لهم:
" ان له عليّ الطاعة ،وانها ستكون أمور وفتن ،ول أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"!!..
ان هذا المو قف الجل يل الورع ي صلنا بمو قف ا بن م سعود من الخلبيفةعثمان ..فل قد حدث بينه ما حوار وخلف تفاق ما ح تى ح جب عن
عبدال راتبه ومعاشه من بيت المل ،،ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي ال عنه كلمة سوء واحدة..
بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..
وحين ترامى الى مسمعه محاولت اغتيال عثمان ،قال كلمته المأثورة:
" لئن قتلوه ،ل يستخلفون بعده مثله".
ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:
" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..
**
**
هذا هو عبدال بن مسعود صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة ،عاشها صاحبها في سبيل ال ،ورسوله ودينه..
هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور!!..
نحيف ،قصير ،يكاد الجالس يوازيه طول وهو قائم..
له ساقان ناحلتان دقيقتان ..صعد به ما يو ما أعلى شجرة يجت ني من ها أرا كا لر سول اله صلى ال عل يه و سلم ..فرأى أ صحاب ال نبي
دقتهما فضحكوا ،فقال عليه الصلة والسلم:
" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود ،لهما أثقل في الميزان عند ال من جبل أحد"!!..
أجل هذا هو الفقير الجير ،الناحل الوهنان ..الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..
ولقد حظي من توفيق ال ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الوائل بين أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم ..أولئك الذين بشروا وهم
على ظهر الرض برضوان ال وجنّته..
وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلة والسلم ،مع خلفائه من بعده..
وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات السلم ومشيئته..
ورأى المنا صب تب حث عن شاغلي ها من الم سلمين ،والموال الوفيرة تتدحرج ب ين أيدي هم ،ف ما شغله من ذلك ش يء عن الع هد الذي
عاهد ال عليه ورسوله ..ول صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..
ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها ،ويتغنى بها ،ويتمنى لو أنه أدركها..
**
حذيفة بن اليمان
عدوّ النفاق وصديق الوضوح
خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي ال عنه..
خرجوا ت سبقهم أشواق هم الى هذا ال صحابي الجل يل الذي سمعوا الكث ير عو ور عه وتقاه ..و سمعوا أك ثر عن بلئه العظ يم في فتوحات
العراق..
واذ هم ينتظرون المو كب الوا فد ،أب صروا أمام هم رجل مضيئا ،ير كب حمارا على ظهره اكاف قد يم ،و قد أ سدل الر جل ساقيه ،وأم سك
بكلتا يديه رغيفا وملحا ،وهو يأكل ويمضغ طعامه!..
وحين توسط جمعهم ،وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون ،كاد صوابهم يطير!!..
ولكن فيم العجب..؟!
وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟!
الحق أنهم معذورون ،فما عهدت بلدهم أيام فارس ،ول قبل فارس ولة من هذا الطراز الجليل!!.
**
**
فس حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق ،وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.
ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول ال صلى ال عليه وسلم واعنق ثلثتهم السلم ،والسلم يزيد موهبته هذه
مضاء وصقل..
فلقد عانق دينا قويا ،نظيفا ،شجاعا قويما ..يحتقر الجبن والنفاق ،والكذب...
وتأدّب على يدي رسول ال واضح كفق الصبح ،ل تخفى عليهم من حياته ،ول من أعماق نفسه خافية ..صادق وأمين..يحب القوياء
في الحق ،ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين!!..
فلم ي كن ث مة مجال ترعرع ف يه موه بة حذي فة وتزد هر م ثل هذا المجال ،في رحاب هذا الد ين ،وب ين يدي هذا الر سول ،وو سط هذا
ارّعيل العظيم من الصحاب!!..
ول قد ن مت موهب ته فعل أع ظم نماء ..وتخ صص في قراءة الوجوه وال سرائر ..يقرأ الوجوه في نظرة ..ويبلوك نه العماق الم ستترة،
والدخائل المخبوءة .في غير عناء..
ولقد بلغ من ذلك ما يريد ،حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي ال عنه ،وهو الملهم الفطن الريب ،يستدل برأي حذيفة ،وببصيرته في
اختيار الرجال ومعرفتهم.
ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده ..وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى ،ومن ثم
يجب على الريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه ،ومظانه..
وهكذا عكف حذيفة رضي ال عنه على دراسة الشر والشرار ،والنفاق والمؤمنين..
يقول:
" كان الناس يسألون رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الخير ،وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..
قلت :يا رسول ال فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال :نعم..
قلت :فهل بعد هذا الشر من خير؟
قال :نعم ،وفيه دخن..
قلت :وما طخنه..؟
قال :قوم يستنون بغير سنتي ..ويهتدون يغير هديي ،وتعرف منهم وتنكر..
قلت :وهل بعد ذلك الخير من شر..؟
قال :نعم! دعاة على أبواب جهنم ،من أجابهم اليها قذفوه فيها..
قلت :يا رسول ال ،فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟
قال :تلزم جماعة المسلمين وامامهم..
قلت :فان لم يكن لهم جماعة ول امام..؟؟
قال :تعتزل تلك الفرق كلها ،ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"!!..
أرأيتم قوله ":كان الناس يسألون رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الخير ،وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟
لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن ،مسالك الشرور ليتقها ،وليحذر الناس منها .ولقد أفاء عليه هذا
بصرا بالدنيا ،وخبرة بالنس ،ومعرفة بالزمن ..وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف ،وحصانة حكيم...
وخبرة حذيفة بالشر ،واصراره على مقاومته وتحدّيه ،أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة ،وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:
فيقول:
" جئت النبي صلى ال عليه وسلم فقلت :يا رسول ال ،ان لي لسانا ذربا على أهلي ،وأخشى أن يدخلني النار..
فقال لي النبي عليه الصلة والسلم :فأين أنت من الستغفار..؟؟ اني لستغفر ال في اليوم مائة مرة"...
**
**
كان اليل مظلما ورهيبا ..وكانت العواصف تزأر وتصطخب ،كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها ..وكان الموقف
كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع ،وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى
ال عليه وسلم..
فمسن يملك آنئذ القوة،وأي قوة ليذهسب وسسط مخاطسر حالكسة الى معسسكر العداء ويقتحمسه ،أو يتسسلل داخله ثسم يبلوا أمرهسم ويعرف
أخبارهم..؟؟
ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..
ترى من يكون البطل..؟
انه هو..حذيفة بن اليمان!..
دعاه الرسول صلى ال عليه وسلم فلبى ،ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك ال أن يلبي ..مشيرا بهذا الى أنه
كان يرهب المهمة الموكولة اليه ،ويخشى عواقبها ،والقيام بها تحت وطأة الجوع ،والصقيع ،والعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار
المشركين شهرا أو يزيد!..
وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا...
فاقد قطع المسافة بين المعسكرين ،واخترق الحصار ..وتسلل الى معسكر قريش ،وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر ،فخيّم
عليه الظلم،واتخذ حذيفة رضي ال عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...
وخشي أبوسفيان قائد قؤيش ،أن يفجأهم الظلم بمتسللين من المسلمين ،فقام يحذر جيشه ،وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:
" يا معشر قريش ،لينظر كل منكم جليسه ،وليأخذ بيده ،وليعرف اسمه".
يقول حذيفة"
" فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري ،وقلت لهمن أنت..؟ قال :فلن بن فلن؟"...
وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلم!..
وا ستأنف أ بو سفيان نداءه الى الج يش قائل ":يا مع شر قر يش ..ان كم وال ما أ صبحتم بدار مقام ..ل قد هل كت الكراع _ أي الخ يل_
والخسف_ أي البسل_ ،وأخلفتنابنسو قري ظة ،وبلغنسا عنهسم الذي نكره ،ولقي نا من شدّة الر يح ،ما تطمئن ل نا قدر ،ول تقوم لنسا نار ،ول
يستمسك لنا بناء ،فارتحلوا فاني مرتحل"..
ثم نهض فوق جمله ،وبدأ المسير فتبعه المحاربون..
يقول حذيفة:
ي أل تحدث شيئا حتى تأتيني ،لقتلته بسهم"..
" لول عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ال ّ
وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلة والسلم فأخبره الخبر ،وزف البشرى اليه...
**
**
وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلثين..دعي للقاء ال ..واذ هو يتهيأ للرحلة الخيرة دخل عليه بعض أصحابه ،فسألهم:
أجئتم معكم بأكفان..؟؟
قالوا :نعم..
قال :أرونيها..
فلما رآها ،وجدها جديدة فارهة..
فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة ،وقال لهم:
" ما هذا لي بكفن ..انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..
فاني لن أترك في القبر ال قليل ،حتى أبدّل خيرا منهما ...أو ش ّر منهما"!!..
وتمتم بكلمات ،ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:
" مرحبا بالموت..
حبيب جاء على شوق..
ل أفلح من ندم"..
وصعدت الى ال روح من أعظم أرواح البشر ،ومن أكثرها تقى ،وتآلقا ،واخباتا...
عمّار بن ياسر
رجل من الجنة!!..
لو كان هناك أناس يولدون في الجنة ،ثم يشيبون في رحابها ويكبرون..
ثم يجاء بهم الى الرض ليوكون زينة لها ،ونورا ،لكان عمّار ،وأمه سميّة ،وأبوه ياسر من هؤلء!!..
ولكن لماذا نقول :لو ..لماذا مفترض هذا التراض ،وقد كان آل ياسر فعل من أهل الجنة..؟؟
وما كان الرسول عليه الصلة والسلم مواسيا لهم فحسب حين قال:
" صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة"..
بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..
**
خرج ياسر والد عمّار ،من بلده في اليمن يطلب أخا له ،ويبحث عنه..
وفي مكة طاب له المقام ،فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..
وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط..
ومن هذا الزواج المبارك رزق ال البوين عمارا..
وكان اسلمهم مبكرا ..شأن البرار الذين هداهم ال..
وشأن البرار المبكّرين أيضا ،أخذوا نصيبهم الوفى من عذاب قريش وأهوالها!!..
ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..
فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة ،تولوهم بالوعيد والتهديد ،ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له ":تركت دين آبائك وهم
خير منك ..لنسفّهنّ حلمك ،ولنضعنّ شرفك ،ولنكسدنّ تجارتك ،ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.
وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها ،أو عبيدها ،أصلتهم سعيرا.
ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..
وو كل أ مر تعذيب هم الى ب ني مخزوم ،يخرجون ب هم جمي عا ..يا سر ،سمية وعمار كل يوم الى رمضاء م كة الملته بة ،وي صبّون علي هم
جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!
ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا .ولن نفيض في الحديث عنها الن ..فلنا ان شاء ال مع جلل تضحيتها ،وعظمة
ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك اليام الخالدات..
وليكن حسبنا الن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول الى آخرها شرفا ل ينفد،
وكرامة ل ينصل بهاؤها!..
موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور ..وللشرفاء في كل الزمان!!..
**
كان الرسول عليه الصلة والسلم يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..
ولم يكن ىنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الذى شيئا..
وكانت تلك مشيئة ال..
فالد ين الجد يد ،ملة ابراه يم حني فا ،الد ين الذي ير فع مح مد لواءه ل يس حر كة ا صلح عار ضة عابرة ..وان ما هو ن هج حياة للبشر ية
المؤمنة ..ول بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكا بطولته ،وتضحياته ومخاطراته...
ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة ،هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا ل يزول ،وخلودا ل يبلى!!!..
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ،ولمّا يعلم ال الذين جاهدوا منكم ،ويعلم الصابرين)؟
(ما كان ال ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)..
**
قلنا ان رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر ،محيّيا صمودها ،وبطولتها ..وكان قلبه الكبير يذوبرحمة
وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما ل طاقة لهم به.
وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:
" يا رسول ال ..لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..
فنا داه الرسول :صبرا أبا اليقظان..
صبرا آل ياسر..
فان موعدكم الجنة"..
ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.
فيقول عمرو بن الحكم:
" كان عمّار يعذب حتى ل يدري ما يقول".
ويقول عمرو بن ميمون:
" أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار ،فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يمر به ،ويمر يده على رأسه ويقول :يا نار كوني بردا
وسلما على عمّار ،كما كنت بردا وسلما على ابراهيم"..
على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار ،وان فدح ظهره ودغدغ قواه..
ولم يش عر عمار بالهلك ح قا ،ال في ذلك اليوم الذي ا ستنجد ف يه جلدوه ب كل عبقريت هم في الجري مة والب غي ..ف من ال كي بالنار ،الى
صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة ..الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه ،وتتسلخ قروحه وجروحه..
في ذلك اليوم اذ ف قد وع يه ت حت وطأة هذا العول فقالوا له :أذ كر آلهت نا بخ ير ،وأخذوا يقولون له ،و هو يردد وراء هم القول في غ ير
شعور.
في لك اليوم ،وب عد أن أفاق قليل من غيبو بة تعذيبه ،تذكّر ما قاله فطار صوابه ،وتج سمت هذه الهفوة أ ما نف سه ح تى رآها خطيئة ل
مغفرة لها ول كفارة ..وفي لحظات معدودات ،أوقع به الشعور بالثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما!!..
ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه ل محالة..
ل قد كان يحت مل الهول المن صّب على ج سده ،لن رو حه هناك شام خة ..أ ما الن و هو ي ظن أن الهزي مة أدر كت رو حه ف قد أشر فت به
همومه وجزعه على الموت والهلك..
لكن ال العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلل ختامه..
وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا ،وهاتفا به :انهض أيها البطا ..ل تثريب عليك ول حرج..
ولقي رسول ال صلى ال عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي ،فجعل يمسح دموعه بيده ،ويقول له:
" أخذك الكفار ،فغطوك في الماء ،فقلت كذا ..وكذا..؟؟"
أجاب عمّار وهو ينتحب :نعم يا رسول ال...
فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يبتسم ":ان عادوا ،فقل لهم مثل قولك هذا"!!..
ثم تل عليه الية الكريمة:
( ال من أكره وقلبه مطمئن باليمان)..
واستردّ عمّار سكينة نفسه ،ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما ،ولم يعد يلقي له وبال..
لقد ربح روحه ،وربح ايمانه ..ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة ،فليكن بعدئذ ما يكون!!..
وصمد عمّار حتى حل العياء بجلديه ،وارتدّوا أمام اصراره صاغرين!!..
**
استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها ،وأخذ المجتمع السلمي هناك يتشكّل سريعا ،ويستكمل نفسه..
ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا!!..
كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحبه حبا حمّا ،ويباهي أصحابه بايمانه وهديه..
يقول عنه صلى ال عليه وسلم/
:ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه".
وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد ،قال رسول ال ":من عادى عمارا ،عاداه ال ،ومن أبغض عمارا أبغضه ال"
ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل السلم ال أن يسارع الى عمار معتذرا اليه ،وطامعا في صفحه الجميل!!..
وحين كان رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها ،ارتجز المام علي كرّم ال وجهه أنشودة
راح يرددها ويرددها المسلمون معه ،فيقولون:
ل يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد النشودة ويرفع بها صوته ..وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به ،فغاضبه ببعض
القول فغضب الرسول صلى ال عليه وسلم قال:
" ما لهم ولعمّار..؟
يدعوهم الى الجنة ،ويدعونه الى النار..
ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...
واذا أ حب ر سول ال صلى ال عل يه و سلم م سلما الى هذا ال حد ،فل بد أن يكون ايما نه ،وبلؤه ،وولؤه ،وعظ مة نف سه ،وا ستقامة
ضميره ونهجه ..قد بلغت المدى ،وانتهت الى ذروة الكمال الميسور!!..
وكذلكم كان عمار..
ل قد كال ال له نعم ته وهداه بالمكيال الو فى ،وبلف في درجات الهدى واليق ين ما ج عل الر سول صلى ال عل يه و سلم يزكّي ايما نه،
ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثل فيقول:
" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ...واهتدوا بهدي عمّار"..
ولقد وصفه الرواة فقالوا:
" كان طوّال ،أشهل ،رحب ما بين المنكبين ..من أطول الناس سكوتا ،وأقلهم كلما"..
فكيف سارت حياة هذا العملق ،الصامت الشهل ،العريض الصدر ،الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع ،كما يحمل في نفس الوقت
وثيقة صموده الهائل ،والمذهل وعظمته الخارقة..؟!
كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص ،والمؤمن الصادق ،والفدائي الباهر..؟؟
لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد ..بدرا ،وأحدا ،والخندق وتبوك ..ويقيّتها جميعل.
ولما ذهب الرسول صلى ال عليه وسلم الى الرفيق العلى ،واصل العملق زحفه..
ف في لقاء الم سلمين مع الفرس ،و مع الروم ،و من ق بل ذلك في لقائ هم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناك في ال صفوف الولى
دوما ..جنديا باسل أمينا ،ل تنبو لسيفه ضربة ..ومؤمنا ورعا جليل ،ل تأخذه عن ال رغبة..
وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه يختار ولة المسلمين في دقة وتحفّظ من يخ\تار مصيره ،كانت عيناه تقعان
دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..
وهكذا سارع اليه ووله الكوفة ،وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..
وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد ،فقال:
" اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا ..وابن مسعود معلما ووزيرا..
وانهما من النجباء ،من أصحاب محمد ،ومن أهل بدر"..
ولقد سار عمّار في وليته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..
لقد زادته الولية تواضعا وورعا وزهدا..
يقول ابن أبي الهذيل ،وهو من معاصريه في الكوفة:
" رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها ،ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره ،ويمضي بها الى داره"!!..
ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة ":يا أجدع الذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة ..فل يزيد
المير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:
" خير أذنيّ سببت ..لقد أصيبت في سبيل ال"!!..
أ جل لقد أ صيب في سبيل ال في يوم اليمامة ،وكان يو ما من أيام عمّار المجيدة ..اذا انطلق العملق في استبسال عا صف يح صد في
جيش مسيلمة الكذاب ،ويهدي اليه المنايا والدمار..
واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل ،فيندفعون كالسهام المقذوفة.
يقول عبدال بن عمر رضي ال عنهما:
" را يت عمّار بن يا سر يوم اليما مة على صخرة ،و قد أشرف ي صيح :يا مع شر الم سلمين ..أ من الج نة تفرّون..؟ أ نا عمّار بن يا سر،
هلموا اليّ ..فنظرت اليه ،فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح ،وهو يقاتل أشد القتال"!!!..
أل من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق ،والمعلم الكامل ،فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه ،وليسأل نفسه:
هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم ،ومعلم عظيم؟؟
اذا خاضوا في سبيل ال قتال اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة ،ل عن النصر!!..
واذا كانوا خلفاء وحكّاما ،ذهب الخليفة يحلب شياه اليامى ،ويعجن خبز اليتامى ..كما فعل أبو بكر وعمر!!..
واذا كانوا ولة حملوا طعامسم على ظهورهسم مربوطسا بحبسل ..كمسا فعسل عمّار ..أو تنازلوا عسن راتبهسم وجلسسوا ي صنعون مسن الخوص
المجدول أوعية ومكاتل ،كما صنع سلمان!!..
أل فلن حن الجباه تحيّة واجلل للد ين الذي أنجب هم ،وللر سول الذي ربّا هم ..وق بل الد ين والر سول ،ال العل يّ ال كبير الذي اجتبا هم لهذا
كله..
وهداهم لهذا كله ..وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس!!..
**
كان الحذيفة بن اليمان ،الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء ال ،ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين
له" بمن تأمرنا ،اذا اختلف الناس"..؟
فأجابهم حذيفة ،وهو يلقي بآخر كلماته:
" عليكم بابن سميّة ..فانه لن يفارق الحق حتى يمةت"..
أ جل ان عمارا ليدور مع ال حق ح يث يدور ..والن ن حن نق فو آثاره المبار كة ،ونتت بع معالم حيا ته العظي مة ،تعلوْا نقترب من مش هد
عظيم..
ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلله ،في صولته وكماله ،في تفانيه واصراره ،في تفوقه واقتداره ،تعالْوا نبصر مشهد
مشهدا يسبق هذا المشهد ،ويتنبأ به ،ويهيئ له...
كان ذلك ا ثر ا ستقرار الم سلمين في المدي نة ،و قد ن هض الر سول الم ين وحوله ال صحابة البرار ،شع ثا لرب هم و غبرا ،بنون بي ته،
ويقيمون مسجده ..قد امتلت أفئدتهم المؤمنة غبطة ،وتألقت بشرا ،وابتهلت حمدا لربها وشكرا..
الجميع يعملون في خبور وأمل ..يحملون الحجارة ،أو يعجنون الملط ..أو يقيمون البناء..
فوج هنا وفوج هناك..
والفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
هكذا يغنون وينشدون..
ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:
اللهم ان العيش عيش الخرة فارحم النصار والمهاجرة
وتغريدة ثالثة:
ل يستوب من يعمّر مسجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى الغبار عنه حائدا
انها خليا ل تعمل ..انهم جنوده ،يحملون لواءه ،ويرفعون بناءه..
ورسوله الطيّب المين معهم ،يحمل من الحجارة أعتاها ،ويمارس من العمل أشقه ..وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية
المخبتة..
والسماء من فوقهم تغبط الرض التي تحملهم فوق ظهرها ..والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها!!..
وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها...
ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول ال ،فيأخذه اليه حنان عظيم ،ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه ،ويتأمّل
وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور ال ،ثم يقول على مل من أصحابه جميعا:
" ويح ابن سميّة !!..تقتله الفئة الباغية"...
وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته ،فيظن بعض اخوانه أنه قد مات ،فيذهب ينعاه الى رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،ويفزّع الصحاب من وقع النبأ ..لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:
" ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية"..
فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟؟
ومتى..؟ وأي..؟
لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم..
ولكنه لم يروّع ..فهو منذ أسلم ،وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار...
ومضت اليام ..والعوام..
ذهب الرسول صلى ال عليه وسلم الى الرفيق العلى ..ثم لحق به الى رضوان ال أبو بكر ..ثم لحق بهما الى رضوان ال عمر..
وولي الخلفة ذي النورين عثمان بن عفان رضي ال عنه..
وكانت المؤمرات ض ّد السلم تعمل عملها االمستميت ،وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب..
وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت ته بّ على المدينة كريح السموم من تلك البلد التي دمّر السلم ملكها
وعروشها..
وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها ،فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلد السلم..
ولعل عثمان رضي ال عنه ،لم يعط المور ما تستحقه من الهتمام والحذر ،فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي ال عنه ،وانفتحت
على المسلمين أبواب الفتنة ..وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم ال وجهه حقه في المر ،وفي الخلفة...
وتعددت اتجاهات الصحابة ..فمنهم من نفض يديه من الخلف وأوى الى بيتهخ ،جاعل شعاره كلمة ابن عمر:
" من قال حيّ على الصلة أجبته...
ي على الفلح أجبته..
ومن قال ح ّ
ي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله ،قلت :ل؟..
ومن قال ح ّ
ومنهم من انحاز الى معاوية..
ومنهم من وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة ،وخليفة المسلمين..
ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" واهتدوا بهدي عمّار"..؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" من عادى عمّارا عاداه ال"..؟
والذي كان اذا سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:
" مرحبا بالطيّب المقدام ،ائذنوا له"!!..
لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب ،ل متحيّزا ول متعصبا ،بل مذعنا للحق ،وحافظا للعهد..
فعليّ خليفة المسلمين ،وصاحب البيعة بالمامة ..ولقد أخذ الخلفة وهو لها أهل وبها جدير..
وعليّ قبل هذا وبعد هذا ،صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول ال صلى ال عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى..
ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار ،ليهتدي بنور بصيرته واخلصه الى صاحب الحق الوحد في النزاع ..ولم يكن صاحب الحق
يومئذ في يقينه سوى عليّ ،فأخذ مكانه الى جواره..
وفرح علي رضي ال عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يمئذ مثله وازداد ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل
عليه وسار معه..
وجاء يوم صفين الرهيب.
وخرج المام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه.
وخرج معه عمار..
كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلثة وتسعين..
ثلث وتسعون عاما ويخرج للقتال..؟
أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤليته وواجبه ..ولقد قاتل أش ّد وأروع مما يقاتل أبناء الثلثين!!...
كان الرجل الدائم الصمت ،القليل الكلم ،ل يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما ال بهذه الضراعة:
" عائذ بال من فتنة...
عائذ بال من فتنة."..
وبعيد وفاة الرسول صلى ال عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم..
وكلما كانت اليام تمر ،كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه ..كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه..
وح ين و قع الخ طر ونش بت الفت نة ،كان ا بن سميّة .يعرف مكا نه فو قف يوم صفين حامل سيفه و هو ا بن الثال ثة والت سعين ك ما قل نا
ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته..
ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائل:
ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله المويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما:
لقد ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقليه
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق الى سبيله
و هو يع ني بهذا أن أ صحاب الر سول ال سابقين ،وعمارا من هم قاتلوا الموي ين بال مس وعلى رأ سهم أ بو سفيان الذي كان يح مل لواء
الشرك ،ويقود جيوش المشركين..
قاتلوهم بالمس ،وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لنهم مشركون..
أما اليوم ،وان يكونوا قد أسلموا ،وان يكن القرآن الكريم ل يأمرهم صراحة بقتالهم ،ال أن اجتهاد عمار رضي ال عنه في بحثه عن
الحق ،وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه ،وحتى تنصفئ الى البد نار التمرّد والفتنة..
ويعني كذلك ،أنهم بالمس قاتلوا المويين لكفرهم بالدين والقرآن..
واليوم يقاتلون المويين لنحرافهم بالدين ،وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره ،ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه
لغراضهم وأطماعهم!!..
كان ا بن الثال ثة والت سعين ،يخوض آ خر معارك حيا ته الم ستبسلة الشام خة ..كان يل قن الحياة ق بل أن ير حل عن ها آ خر درو سه في
الثبات على الحق ،ويترك لها آخر مواقفه العظيمة ،الشريفة المعلمة..
ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا ،حتى ل تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية..
بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد ،أفقدتهم صوابهم ،فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لصابته ،حتى اذا
تمكّنوا منه أصابوه...
**
كان ج يش معاوي بة ينت ظم من كثير ين من الم سلمين الجدد ..الذ ين أ سلموا على قرع طبول الف تح ال سلمي في البلد الكثيرة ال تي
حررها السلم من سيطرة الروم والفرس ..وكان أكثر هؤلء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي ..الخليفة،
والمام ،كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعال..
وهذا الخلف على خطورته ،كان يمكن أن ينتهي بسلم لو ظلت المور بأيدي المسلمين الوائل ..ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى
تناولته أيد كثيرة ل يهمها مصير السلم ،وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما..
شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول ال صلى ال عليه وسلم التي سمعها أصحابه
جميعا ذات يوم بعيد ،وهم يبنون المسجد بالمدينة..
" ويح ابن سمية ،تقتله الفئة الباعغية".
وعرف الناس الن من تكون الفئة الباغية ..انها الفئة التي قتلت عمّارا ..وما قتله ال فئة معاوية..
**
أمّا عمّار ،فقد حمله المام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه ..ثم دفنه في ثيابه..
أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور ..فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل ،وقدّيس عظيم من
طراز عمّار...
وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه ،كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك ..في جنات الخلق ،التي طال شوقها
لعمّار!...
عبادة بن الصامت
نقيب في حزب ال
انه واحد من النصار الذين قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" لو أن الن صار سلكوا واديا أو شعبا ،لسلكت وادي النصار وشعبهم ،ولول الهجرة لك نت من أمراء النصار"..طوعبادة بن ال صامت
بعد كونه من النصار ،فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم...
وحين ما جاء و فد الن صار الول الى م كة ليبا يع الر سول عل يه ال سلم ،تلك البي عة المشهورة بسس بي عة العق بة الولى ،كان عبادة بن
ال صامت ر ضي ال ع نه أ حد الث ني ع شر مؤم نا ،الذ ين سارعوا الى ال سلم ،وب سطوا أيمان هم الى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم
مبايعين ،وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين...
وحينما كان موعد الحج في العام التالي ،يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد النصار الثاني ،مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة ،كان
عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء النصار..
وفيما بعد والمشاهد تتوالى ..ومواقف التضحية والبذل ،والفداء تتابع ،كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية...
ومنذ اختار ال ورسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الختيار..
كل ولئه ل ،وكل طاعته ل ،وكل علقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا اليمان..
كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة..
زمنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة ،ويهودها يتظاهرون بمسالمته ..حتى كانت اليام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد،
فشرع يهود المدينة يتنمّرون..
وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين..
ول يكذد عبادة يرى موقفهم هذا ،حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائل:
" انما أتولى ال ،ورسوله ،والمؤمنين...
فيتنزل القرآن محييا موقفه وولءه ،قائل في آياته:
( ومن يتولى ال ورسوله ،والذين آمنوا ،فان حزب ال هم الغالبون)...
**
وهكذا فان الر جل الذي نزلت هذه ال ية الكري مة تح يي موق فه وتش يد بولئه وايما نه ،لن ي ظل مجرّد نق يب الن صار في المدي نة ،بل
سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الرض جميعا.
أجل لقد أصبحعبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج ،رائدا من روّاد السلم ،وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في
معظم أقطار الرض ل في جبل ،ول في جبلين ،أو ثلثة بل الى ما شاء ال من أجيال ..ومن أزمان ..ومن آماد!!..
**
سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية المراء والولة..
سمعه يتحدث عليه الصلة والسلم ،عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق ،أو تعبث ذمته بمال ،فزلزل زلزال ،وأقسم بال
أل يكون أميرا على أثنين أبدا..
ولقد برّ بقسمه..
وفي خلفة أمير المؤمنين عمر ؤضي ال عنه ،لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما ،ال تعليم النس وتفقيههم في الدين.
أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة ،مبتعدا بنفسه عن العمال الخرى ،المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء ،والمحفوفة أيضا
بالخطار التي يخشاها على مصيره ودينه
وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلثة :هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء ..حيث ملؤا البلد علما وفقها ونورا...
وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك ،معاوية..
**
كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود ..الى المدينة المنورة عاصمة السلم ودار الخلفة ،فيرى
فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه!!..
ثم يرتد بصره الى حيث يقيم ،في فلسطين ..فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا ،ويعشق السلطان...
وعبادة من الرعيل الول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم ..الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية،
وعانق السلم رغبا ل رهبا ..وباع نفسه وماله...
عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه ،وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته..
واذا كان هناك من الحياء م ثل أعلى للحاكم يمل ن فس عبادة رو عة ،وقلبه ث قة ،فهو ذلك الر جل الشاهق الرا بض هناك في المدي نة..
عمر بن الخطاب..
فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس ،فستكون الشقة بين الثنين واسعة ،وسيكون الصراع محتوما ..وقد كان!!..
**
**
كان أمير المؤمنين عمر ،عظيم الفطنة ،بعيد النظر ..وكان حريصا على أل يدع أمثال معاوية من الولة الذين يعتمدون على ذكائهم
ويسستعملونه بغيسر حسساب دون أن يحيطهسم بنفسر مسن الصسحابة الورعيسن الزاهديسن والنصسحاء المخلصسين ،كسي يكبحوا جماح الطموح
والرغبة لدى أولئك الولة ،وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده..
من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله ":ما الذي جاء بك يا عبادة"...؟؟ ولما
قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر:
" ارجع الى مكانك ،فقبّح ال أرضا ليس فيها مثلك!!..
ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه:
" ل امرة لك على عبادة"!!..
أجل ان عبادة أمير نفسه..
وحين يكرّم عمر الفاروق رجل مثل هذا التكريم ،فانه يكون عظيما..
وقد كان عبادة عظيما في ايمانه ،وفي استقامة ضميره وحياته...
**
وفي العام الهجري الرابع والثلثين ،توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء النصار والسلم ،تاركا في الحياة
عبيره وشذاه....