Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 97

‫مصعب بن عمير‬

‫أول سفراء السلم‬

‫هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث‪.‬‬


‫غرّة فتيان قريش‪ ،‬وأوفاهم جمال‪ ،‬وشبابا‪..‬‬
‫يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون‪ ":‬كان أعطر أهل مكة"‪..‬‬
‫ب تحت خمائلها‪.‬‬
‫ولد في النعمة‪ ،‬وغذيّ بها‪ ،‬وش ّ‬
‫ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"‪..‬‬
‫ذلك الفتسر الريّان‪ ،‬المدلل المنعّم‪ ،‬حد يث حسسان م كة‪ ،‬ولؤلؤة ندواتهسا ومجالسسها‪ ،‬أيم كن أن يتحوّل الى أسسطورة من أسساطير اليمان‬
‫والفداء‪..‬؟‬
‫بال ما أروعه من نبأ‪ ..‬نبأ "مصعب بن عمير"‪ ،‬أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين‪.‬‬
‫انه واحد من أولئك الذين صاغهم السلم وربّاهم "محمد" عليه الصلة والسلم‪..‬‬
‫ولكن أي واحد كان‪..‬؟‬
‫ان قصة حياته لشرف لبني النسان جميعا‪..‬‬
‫لقد سمع الفتى ذات يوم‪ ،‬ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد المين صلى ال عليه وسلم‪..‬‬
‫"محمد" الذي يقول أن ال أرسله بشيرا ونذيرا‪ .‬وداعيا الى عبادة ال الواحد الحد‪.‬‬

‫وحين كانت مكة تمسي وتصبح ول ه مّ لها‪ ،‬ول حديث يشغلها ال الرسول عليه الصلة والسلم ودينه‪ ،‬كان فتى قريش المدلل أكثر‬
‫الناس استماعا لهذا الحديث‪.‬‬
‫ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه‪ ،‬زينة المجالس والندوات‪ ،‬تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها‪ ،‬ذلك أن أناقة مظهره‬
‫ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والبواب‪..‬‬

‫ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه‪ ،‬يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها‪ ..‬هناك على الصفا في درا "الرقم بن أبي‬
‫الرقم" فلم يطل به التردد‪ ،‬ول التلبث والنتظار‪ ،‬بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الرقم تسبقه أشواقه ورؤاه‪...‬‬
‫هناك كان الرسول صلى ال عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن‪ ،‬ويصلي معهم ل العليّ القدير‪.‬‬

‫ولم ي كد م صعب يأ خذ مكا نه‪ ،‬وتن ساب اليات من قلب الر سول متأل فة على شفت يه‪ ،‬ثم آخذة طريق ها الى ال سماع والفئدة‪ ،‬ح تى كان‬
‫فؤاد ابن عمير في تلك المسية هو الفؤاد الموعود‪!..‬‬
‫ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه‪ ،‬وكأنه من الفرحة الغامرة يطير‪.‬‬
‫ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لمست الصدر المتوهج‪ ،‬والفؤاد المتوثب‪ ،‬فكانت السكينة العميقة عمق‬
‫المحيط‪ ..‬وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره‪ ،‬ومعه من التصميم ما يغيّر‬
‫سير الزمان‪!!!..‬‬

‫**‬

‫كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها‪ ،‬وكانت تهاب الى حد الرهبة‪..‬‬
‫ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الرض قوة سوى امه‪.‬‬
‫فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها‪ ،‬استحالت هول يقارعه ويصارعه‪ ،‬لستخف به مصعب الى حين‪..‬‬
‫أما خصومة أمه‪ ،‬فهذا هو الهول الذي ل يطاق‪!..‬‬
‫ولقد فكر سريعا‪ ،‬وقرر أن يكتم اسلمه حتى يقضي ال أمرا‪.‬‬
‫وظل يتردد على دار الرقم‪ ،‬ويجلس الى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬و هو قرير العين بايما نه‪ ،‬وبتفاديه غضب أمه التي ل تعلم‬
‫خبر اسلمه خبرا‪..‬‬

‫ولكن مكة في تلك اليام بالذات‪ ،‬ل يخفى فيها سر‪ ،‬فعيون قريش وآذانها على كل طريق‪ ،‬ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة‬
‫اللهبة‪ ،‬الواشية‪..‬‬
‫ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الرقم‪ ..‬ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلة محمد صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فسابق ريح الصحراء وزوابعها‪ ،‬شاخصا الى أم مصعب‪ ،‬حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها‪...‬‬

‫ووقف مصعب أمام أمه‪ ،‬وعشيرته‪ ،‬وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته‪ ،‬القرآن الذي يغسل به الرسول‬
‫قلوبهم‪ ،‬ويملؤها به حكمة وشرفا‪ ،‬وعدل وتقى‪.‬‬
‫وهمّت أ مه أن ت سكته بلط مة قا سية‪ ،‬ول كن ال يد ال تي امتدت كال سهم‪ ،‬ما لب ثت أم ا سترخت وتنحّت أمام النور الذي زاد و سامة وج هه‬
‫وبهاءه جلل يفرض الحترام‪ ،‬وهدوءا يفرض القناع‪..‬‬
‫ولكن‪ ،‬اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والذى‪ ،‬فان في مقدرتها أ‪ ،‬تثأر لللهة التي هجرها بأسلوب آخر‪..‬‬
‫وهكذا م ضت به الى ر كن ق صي من أركان دار ها‪ ،‬وحب سته ف يه‪ ،‬وأحك مت عل يه اغل قه‪ ،‬و ظل ره ين محب سه ذاك‪ ،‬ح تى خرج ب عض‬
‫المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة‪ ،‬فاحتال لنفسه حين سمع النبأ‪ ،‬وغافل أمه وحراسه‪ ،‬ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا‪..‬‬

‫ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين‪ ،‬ثم يعود معهم الى مكة‪ ،‬ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الصحاب الذين يأمرهم‬
‫الرسول بالهجرة فيطيعون‪.‬‬
‫ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة‪ ،‬فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان‪ ،‬ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته‬
‫على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار‪ ،‬واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها العلى‪،‬‬
‫وخالقها العظيم‪..‬‬

‫خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول ال‪ ،‬فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض‬
‫عيونهم دمعا شجيّا‪..‬‬
‫ذلك أن هم رأوه‪ ..‬يرتدي جلبا با مرق عا بال يا‪ ،‬وعاودت هم صورته الولى ق بل ا سلمه‪ ،‬ح ين كا نت ثيا به كزهور الحدي قة النضرة‪ ،‬وأل قا‬
‫وعطرا‪..‬‬
‫وتملى رسول ال مشهده بنظرات حكيمة‪ ،‬شاكرة محبة‪ ،‬وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" لقد رأيت مصعبا هذا‪ ،‬وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه‪ ،‬ثم ترك ذلك كله حبا ل ورسوله"‪!!.‬‬

‫لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة‪ ..‬وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر اللهة وحاقت به لعنتها‪،‬‬
‫حتى ولو يكون هذا النسان ابنها‪!!..‬‬
‫ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة‪ .‬فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين‬
‫به على حبسه‪..‬‬
‫وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم‪ ،‬فودعته باكية‪ ،‬وودعها باكيا‪..‬‬
‫وكش فت لح ظة الوداع عن ا صرار عج يب على الك فر من جا نب الم وا صرار أ كبر على اليمان من جا نب ال بن‪ ..‬فح ين قالت له و هي‬
‫تخرجهمن بيتها‪ :‬اذهب لشأنك‪ ،‬لم أعد لك أمّا‪ .‬اقترب منها وقال‪":‬يا أمّه اني لك ناصح‪ ،‬وعليك شفوق‪ ،‬فاشهدي بأنه ل اله ال ال‪ ،‬وأن‬
‫محمدا عبده ورسوله"‪...‬‬
‫أجابته غاضبة مهتاجة‪ ":‬قسما بالثواقب‪ ،‬ل أدخل في دينك‪ ،‬فيزرى برأيي‪ ،‬ويضعف غقلي"‪!!..‬‬
‫وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة‪ ..‬وأصبح الفتى المتأنق المعطّر‪ ،‬ل يرى ال مرتديا أخشن‬
‫الثياب‪ ،‬يأكل يوما‪ ،‬ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة‪ ،‬والمتألقة بنور ال‪ ،‬كانت قد جعلت منه انسانا آخر يمل العين‬
‫جلل والنفس روعة‪...‬‬
‫**‬

‫وآنئذ‪ ،‬اختاره الرسول لعظم مهمة في حينها‪ :‬أن يكون سفيره الى المدينة‪ ،‬يفقّه النصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة‪،‬‬
‫ويدخل غيرهم في دين ال‪ ،‬ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم‪..‬‬
‫كان في أصحاب رسول ال يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها‪ ،‬وأقرب من الرسول قرابة‪ ..‬ولكن الرسول اختار مصعب الخير‪،‬‬
‫وهو يعلم أ نه يكل ال يه بأخ طر قضا يا ال ساعة‪ ،‬ويل قي ب ين يد يه مصير ال سلم في المدي نة ال تي ستكون دار الهجرة‪ ،‬ومنطلق الدعوة‬
‫والدعاة‪ ،‬والمبشرين والغزاة‪ ،‬بعد حين من الزمان قريب‪..‬‬
‫وحمسل مصسعب المانسة مسستعينا بمسا أنعسم ال عليسه مسن رجاحسة العقسل وكريسم الخلق‪ ،‬ولقسد غزا أفئدة المدينسة وأهلهسا بزهده وترفعسه‬
‫واخلصه‪ ،‬فدخلوا في دين ال أفواجا‪..‬‬

‫لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة‪ ،‬ولكنه ام يكد يتم‬
‫بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا ل وللرسول‪!!..‬‬
‫وفسي موسسم الحسج التالي لبيعسة العقبسة‪ ،‬كان مسسلمو المدينسة يرسسلون الى مكسة للقاء الرسسول وفدا يمثلهسم وينوب عنهسم‪ ..‬وكان عدد‬
‫أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة‪ ..‬جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير"‪.‬‬
‫لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلئه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم عرف كيف يختار‪..‬‬
‫فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها‪.‬ز عرف أنه داعية الى ال تعالى‪ ،‬ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى‪ ،‬والى‬
‫صراط مستقيم‪ .‬وأنه كرسوله الذي آمن به‪ ،‬ليس عليه ال البلغ‪..‬‬

‫هناك ن هض في ضيا فة "أسعد بم زرارة" يفشيان م عا القبائل والبو يت والمجالس‪ ،‬تال يا على الناس ما كان معه من كتاب ر به‪ ،‬هات فا‬
‫بينهم في رفق عظيم بكلمة ال (انما ال اله واحد)‪..‬‬
‫ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه‪ ،‬لول فطنة عقله‪ ،‬وعظمة روحه‪..‬‬

‫ذات يوم فاجأه وهو يعظ النس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الشهل بالمدينة‪ ،‬فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا‬
‫الذي جاء يفتن قومه عن دينهم‪ ..‬ويدعوهم لهجر آلهتهم‪ ،‬ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل‪ ،‬ولم يألفوه من قبل‪!..‬‬
‫ان آلهت هم مع هم راب ضة في مجاثمهاو اذا حتاج ها أ حد عرف مكان ها وولى وج هه ساعيا الي ها‪ ،‬فتك شف ضرّه وتل بي دعاءه‪ ...‬هكذا‬
‫يتصورون ويتوهمون‪..‬‬
‫أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم‪ ،‬فما أحد يعرف مكانه‪ ،‬ول أحد يستطيع أن يراه‪!!..‬‬
‫وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي‪ ،‬وثورته المتحفزة‪ ،‬حتى وجلوا‪..‬‬
‫ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا‪ ،‬متهلل‪..‬‬
‫وقف اسيد أمامه مهتاجا‪ ،‬وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة‪:‬‬
‫"ما جاء بكما الى حيّنا‪ ،‬تسهفان ضعفاءنا‪..‬؟ اعتزلنا‪ ،‬اذا كنتما ل تريدان الخروج من الحياة"‪!!..‬‬
‫وفي مثل هدوء البحر وقوته‪..‬‬
‫وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته‪ ..‬انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال‪:‬‬
‫"أول تجلس فتستمع‪..‬؟! فان رضيت أمرنا قبلته‪ ..‬وان كرهته كففنا عنك ما تكره"‪.‬‬
‫ال أكبر‪ .‬ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام‪!!..‬‬

‫كان أسيد رجل أريبا عاقل‪ ..‬وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره‪ ،‬فيدعوه أن يسمع ل غير‪ ..‬فان اقتنع‪ ،‬تركه لقتناعهو‬
‫وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم‪ ،‬وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضا ّر ول مضارّ‪..‬‬
‫هنالك أجابه أسيد قائل‪ :‬أنصفت‪ ..‬وألقى حربته الى الرض وجلس يصغي‪..‬‬
‫ولم ي كد م صعب يقرأ القرآن‪ ،‬ويف سر الدعوة ال تي جاء ب ها مح مد بن عبدال عل يه ال صلة وال سلم‪ ،‬ح تى أخذت أ سارير أ سيد تبرق‬
‫وتشرق‪ ..‬وتتغير مع مواقع الكلم‪ ،‬وتكتسي بجماله‪!!..‬‬
‫ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائل‪:‬‬
‫"ما أحسن هذا القول وأصدقه‪ ..‬كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"‪..‬؟؟‬
‫وأجابوه بتهليلة رجّت الرض رجّا‪ ،‬ثم قال له مصعب‪:‬‬
‫"يطهر ثوبه وبدنه‪ ،‬ويشهد أن ل اله ال ال"‪.‬‬
‫فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه‪ ،‬ووقف يعلن أن ل اله ال ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال‪..‬‬
‫وسرى الخبر كالضوء‪ ..‬وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع‪ ،‬وأسلم ثم تله سعد بن عبادة‪ ،‬وتمت باسلمهم النعمة‪ ،‬وأقبل أهل‬
‫المدي نة بعضهم على بعض يتساءلون‪ :‬اذا كان أسيد بن حض ير‪ ،‬وسعد ابن معاذ‪ ،‬وسعد بن عبادة قد أسلموا‪ ،‬ففيم تخلفنا‪..‬؟ هيا الى‬
‫مصعب‪ ،‬فلنؤمن معه‪ ،‬فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه‪!!..‬‬

‫**‬

‫لقد نجح أول سفراء الرسول صلى ال عليه وسلم نجاحا منقطع النظير‪ ..‬نجاه\حا هو له أهل‪ ،‬وبه جدير‪..‬‬
‫وتمضي اليام والعوام‪ ،‬ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة‪ ،‬وتتلمظ قريش بأحقادها‪ ..‬وتعدّ عدّة باطلها‪ ،‬لتواصل مطاردتها الظالمة‬
‫لعباد ال الصسالحين‪ ..‬وتقوم غزوة بدر‪ ،‬قيتلقون فيهسا درسسا يفقدهسم بقيسة صسوابهم ويسسعون الى الثأر‪،‬و تجيسء غزوة أحسد‪ ..‬ويعبسئ‬
‫الم سلمون أنف سهم‪ ،‬وي قف الر سول صلى ال عل يه و سلم و سط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤم نة ليختار من بين ها من يح مل الرا ية‪..‬‬
‫ويدعو مصعب الخير‪ ،‬فيتقدم ويحمل اللواء‪..‬‬
‫وتشب المعركة الرهيبة‪ ،‬ويحتدم القتال‪ ،‬ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلة والسلم‪ ،‬ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن‬
‫رأوا المشركين ينسحبون منهزمين‪ ،‬لكن عملهم هذا‪ ،‬سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة‪ ..‬ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش‬
‫تغشاهم من أعلى الجبل‪ ،‬وتعمل فيهم على حين غرّة‪ ،‬السيوف الظامئة المجنونة‪..‬‬
‫حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين‪ ،‬ركزا على رسول ال صلى ال عليه وسلم لينالوه‪..‬‬
‫وأدرك م صعب بن عم ير الخ طر الغادر‪ ،‬فر فع اللواء عال يا‪ ،‬وأطلق ت كبيرة كالزئ ير‪ ،‬وم ضى يجول ويتوا ثب‪ ..‬و كل ه مه أن يل فت ن ظر‬
‫العداء ال يه ويشغل هم عن الر سول صلى ال عل يه و سلم بنف سه‪ ،‬وجرّد من ذا ته جي شا بأ سره‪ ..‬أ جل‪ ،‬ذ هب م صعب يقا تل وحده كأ نه‬
‫جيش لجب غزير‪..‬‬
‫يد تحمل الراية في تقديس‪..‬‬
‫ويد تضرب بالسيف في عنفزان‪..‬‬
‫ولكن العداء يتكاثرون عليه‪ ،‬يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول‪..‬‬

‫لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم‪!!..‬‬
‫يقول ابن سعد‪ :‬أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري‪ ،‬عن أبيه قال‪:‬‬
‫[ح مل م صعب بن عم ير اللواء يوم أ حد‪ ،‬فل ما جال الم سلمون ث بت به م صعب‪ ،‬فأق بل ا بن قميئة و هو فارس‪ ،‬فضر به على يده اليم نى‬
‫فقطعها‪ ،‬ومصعب يقول‪ :‬وما محمد ال رسول قد خلت من قبله الرسل‪..‬‬
‫وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه‪ ،‬فضرب يده اليسرى فقطعها‪ ،‬فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول‪ :‬وما محمد‬
‫ال رسول قد خلت من قبله الرسل‪..‬‬
‫ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح‪ ،‬ووقع مصعب‪ ،‬وسقط اللواء]‪.‬‬
‫وقع مصعب‪ ..‬وسقط اللواء‪!!..‬‬
‫وقع حلية الشهادة‪ ،‬وكوكب الشهداء‪!!..‬‬
‫وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء واليمان‪..‬‬
‫كان يظن أنه اذا سقط‪ ،‬فسيصبح طريق القتلة الى رسول ال صلى ال عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة‪..‬‬
‫ولكنه كان يعزي نفسه في رسول ال عليه الصلة والسلم من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع‬
‫منه ذراعا‪:‬‬
‫(وما محمد ال رسول قد خلت من قبله الرسل)‬
‫هذه الية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها‪ ،‬ويكملها‪ ،‬ويجعلها‪ ،‬قرآنا يتلى‪..‬‬

‫**‬

‫وبعد انتهاء المعركة المريرة‪ ،‬وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا‪ ،‬وقد أخفى وجهه في تراب الرض المضمخ بدمائه الزكية‪..‬‬
‫لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول ال يصيبه السوء‪ ،‬فأخفى وجهه حتى ل يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه‪!!..‬‬
‫أو لكأنه خجلن اذ سقط شهيدا قبلن يطمئن على نجاة رسول ال‪ ،‬وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه‪!!..‬‬
‫لك ال يا مصعب‪ ..‬يا من ذكرك عطر الحياة‪!!..‬‬

‫**‬

‫وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها‪..‬‬


‫وعند جثمان مصعب‪ ،‬سالت دموع وفيّة غزيرة‪..‬‬
‫يقوا خبّاب بن الرت‪:‬‬
‫[هاجرنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في سبيل اله‪ ،‬نبتغي وجه ال‪ ،‬فوجب أجرنا على ال‪ ..‬فمنا من مضى‪ ،‬ولم يأكل من أجره‬
‫في دنياه شيئا‪ ،‬من هم م صعب بن عم ير‪ ،‬ق تل يوم أ حد‪ ..‬فلم يو جد له ش يء يك فن ف يه ال نمرة‪ ..‬فك نا اذا وضعنا ها على رأ سه تعرّت‬
‫رجله‪ ،‬واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه‪ ،‬فقال لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ":‬اجعلوها مما يلي رأسه‪ ،‬واجعلوا على رجليه‬
‫من نبات الذخر"‪..]..‬‬
‫وعلى الرغم من اللم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى ال عليه وسلم في عمه حمزة‪ ،‬وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيل‬
‫أفاض دموع الرسول عليه السلم‪ ،‬وأوجع فؤاده‪..‬‬
‫وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور‪..‬‬
‫على الرغم من كل هذا‪ ،‬فقد وقف على جثمان أول سفرائه‪ ،‬يودعه وينعاه‪..‬‬
‫أجل‪ ..‬وقف الرسول صلى ال عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما‪:‬‬
‫(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ال عليه)‬
‫ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة‪ ،‬وما بها أرق حلة‪ ،‬ول أحسن لمّة منك‪" .‬ثم هأنتذا شعث الرأس في‬
‫بردة"‪..‬؟!‬
‫وهتف الرسول عليه الصلة والسلم وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال‪:‬‬
‫"ان رسول ال يشهد أنكم الشهداء عند ال يوم القيامة"‪.‬‬
‫ثم أقبل على أصحابه الحياء حوله وقال‪:‬‬
‫"أيها الناس زوروهم‪،‬وأتوهم‪ ،‬وسلموا عليهم‪ ،‬فوالذي نفسي بيده‪ ،‬ل يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة‪ ،‬ال ردوا عليه السلم"‪..‬‬

‫**‬

‫السلم عليك يا مصعب‪..‬‬


‫السلم عليكم يا معشر الشهداء‪..‬‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‪..‬‬

‫سلمان الفارسي‬
‫الباحث عن الحقيقة‬

‫من بلد فارس‪ ،‬يجيء البطل هذه المرة‪..‬‬


‫ومن بلد فارس‪ ،‬عانق السلم مؤمنون كثيرون فيما بعد‪ ،‬فجعل منهم أفذادا ل يلحقون في اليمان‪ ،‬وفي العلم‪ ..‬في الدين‪ ،‬وفي الدنيا‪..‬‬

‫وان ها لحدى روائع ال سلم وعظمائه‪ ،‬أل يد خل بلدا من بلد ال اا ويث ير في اعجاز با هر‪ ،‬كل نبوغ ها ويحرّ‪ :‬كل طاقات ها‪ ،‬ويحرج‬
‫خبسء العبقريسة المسستكنّة فسي أهلهسا وذويهسا‪ ..‬فاذا الفلسسفة المسسلمون‪ ..‬والطباء المسسلمون‪ ..‬والفقهاء المسسلمون‪ ..‬والفلكيون‬
‫المسلمون‪ ..‬والمخترعون المسلمون‪ ..‬وعلماء الرياضة المسامون‪..‬‬
‫واذا بهم يبزغون من كل أفق‪ ،‬ويطلعون من كل بلد‪ ،‬حتى تزدحم عصور السلم الولى بعبقريات هائلة في كل مجالت العقل‪ ،‬والرادة‪،‬‬
‫والضمير‪ ..‬أوطانهم شتى‪ ،‬ودينهم واحد‪!!..‬‬
‫ولقد تنبأ الرسول عليه السلم بهذا المد المبارك لدينه‪ ..‬ل‪ ،‬بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير العليم‪ ..‬ولقد زوي له الزمان والمكان‬
‫ذات يوم ورأى رأي العين راية السلم تخفق فوق مدائن الرض‪ ،‬وقصور أربابها‪..‬‬
‫وكان سلمان الفارسي شاهدا‪ ..‬وكان له بما حدث علقة وثقى‪.‬‬

‫كان ذلك يوم الخندق‪ .‬في السنة الخامسة للهجرة‪ .‬اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة‪ ،‬مؤلبين المشركين ومحزّبين الحزاب‬
‫على رسول ال والمسلمين‪ ،‬متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد‪.‬‬
‫ووض عت خ طة الحرب الغادرة‪ ،‬على أن يه جم ج يش قر يش وغطفان "المدي نة" من خارج ها‪ ،‬بين ما يها جم ب نو قري ظة من الدا خل‪ ،‬و من‬
‫وراء صفوف المسلمين‪ ،‬الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم‪ ،‬وتجعلهم ذكرى‪!..‬‬
‫وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم‪.‬‬
‫وسقط في أيدي المسلمين‪ ،‬وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة‪.‬‬
‫وصوّر القرآن الموقف‪ ،‬فقال ال تعالى‪:‬‬
‫(اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت البصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بال الظنونا)‪.‬‬

‫أرب عة وعشرون ألف مقا تل ت حت قيادة أ بي سفيان وعيي نة بن ح صن يقتربون من المدي نة ليطوقو ها وليبطشوا بطشت هم الحا سمة كي‬
‫ينتهوا من محمد ودينه‪ ،‬وأصحابه‪..‬‬
‫وهذا الجيش ل يمثل قريشا وحدها‪ ..‬بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في السلم خطرا عليها‪.‬‬
‫انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول‪ :‬أفرادا‪ ،‬وجماعات‪ ،‬وقبائل‪ ،‬ومصالح‪..‬‬
‫ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب‪..‬‬
‫وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في المر‪..‬‬
‫وطبعا‪ ،‬أجمعوا على الدفاع والقتال‪ ..‬ولكن كيف الدفاع؟؟‬
‫هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين‪ ،‬الغزير الشعر‪ ،‬الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما‪ ،‬واحتراما كبيرا‪.‬‬

‫تقدّم سلمان الفارسي وألقى من فوق هضبة عالية‪ ،‬نظرة فاحصة على المدينة‪ ،‬فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها‪ ..‬بيد‬
‫أن هناك فجوة واسعة‪ ،‬ومهيأة‪ ،‬يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر‪.‬‬
‫وكان سلمان قد خبر في بلد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال‪ ،‬فتقدم للرسول صلى ال عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده‬
‫العرب من قبل في حروبها‪ ..‬وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة‪.‬‬
‫وال يعلم ‪ ،‬ماذا كان المصسير الذي كان ينتظسر المسسلمين فسي تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكسد قريسش تراه حتسى دوختهسا‬
‫المفاجأة‪ ،‬وظلت قوات ها جاث مة في خيام ها شهرا و هي عاجزة عن اقتحام المدي نة‪ ،‬ح تى أر سل ال تعالى علي ها ذات ليلة ر يح صرصر‬
‫عاتية اقتلعت خيامها‪ ،‬وبدّدت شملها‪..‬‬
‫ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل الى حيث جاءوا‪ ..‬فلول يائسة منهوكة‪!!..‬‬

‫**‬

‫خلل ح فر الخندق كان سلمان يأ خذ مكا نه مع الم سلمين و هم يحفرون ويدأبون‪ ..‬وكان الر سول عل يه ال صلة وال سلم يح مل معوله‬
‫ويضرب معهم‪ .‬وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه‪ ،‬اعترضت معولهم صخور عاتية‪..‬‬
‫كان سلمان قوي البنية شديد السر‪ ،‬وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا‪ ،‬ولكنه وقف أمام هذه الصخرة‬
‫عاجزا‪ ..‬وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا‪!!..‬‬
‫وذهب سلمان الى رسول ال صلى ال عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية‪.‬‬
‫وعاد الرسول عليه الصلة والسلم مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة‪..‬‬
‫وحين رآها دعا بمعول‪ ،‬وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلعن مرمى الشظايا‪..‬‬
‫وسمّى بال‪ ،‬ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة‪ ،‬وهوى به على الصخرة‪ ،‬فاذا بها تنثلم‪ ،‬ويخرج من ثنايا‬
‫صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا‪.‬‬
‫ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين ل بتيها‪ ،‬أي يضيء جوانب المدينة‪ ..‬وهتف رسول ال صلى ال عليه وسلم مكبرا‪:‬‬
‫"ال أكبر‪..‬أعطيت مفاتيح فارس‪ ،‬ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة‪ ،‬ومدائن كسرى‪ ،‬وان أمتي ظاهرة عليها"‪..‬‬

‫ثم رفع المعول‪ ،‬وهوت ضربته الثانية‪ ،‬فتكررت لظاهرة‪ ،‬وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع‪ ،‬وهلل الرسول عليه السلم‬
‫مكبرا‪:‬‬
‫"ال أكبر‪ ..‬أعطيت مفاتيح الروم‪ ،‬ولقد أضار لي منها قصورها الحمراء‪ ،‬وان أمتيظاهرة عليها"‪.‬‬

‫ثم ضري ضرب ته الثال ثة فأل قت ال صخرة سلمها وا ستسلمها‪ ،‬وأضاء برق ها الشد يد البا هر‪ ،‬وهلل الر سول وهلل الم سلمون م عه‪..‬‬
‫وأنبأ هم أ نه يب صر الن ق صور سورية و صنعاء و سواها من مدائن الرض ال تي ستخفق فوق ها را ية ال يو ما‪ ،‬و صاح الم سلمون في‬
‫ايمان عظيم‪:‬‬
‫هذا ما وعدنا ال ورسوله‪.‬ز‬
‫وصدق ال ورسوله‪!!..‬‬

‫كان سلمان صاحب المشورة بح فر الخندق‪ ..‬وكان صاحب ال صخرة ال تي تفجرت من ها ب عض أ سرار الغ يب والم صير‪ ،‬ح ين ا ستعان‬
‫علي ها بر سول ال صلى ال ع يه و سلم‪ ،‬وكان قائ ما الى جوار الر سول يرى الضوء‪ ،‬وي سمع البشرى‪ ..‬ول قد عاش ح تى رأى البشرى‬
‫حقيقة يعيشها‪ ،‬وواقعا يحياه‪ ،‬فرأى مداءن الفرس والروم‪..‬‬
‫رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق‪..‬‬
‫رأى جنبات الرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير‪!!..‬‬

‫**‬

‫وها هو ذا‪ ،‬جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة‪،‬‬
‫ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس الى المسيحية‪ ،‬ثم الى السلم‪..‬‬
‫كيف غادر ثراء أبيه الباذخ‪ ،‬ورمى نفسه في أحضان الفاقة‪ ،‬بحثا عن خلص عقله وروحه‪!!!..‬‬
‫كيف بيع في سوق الرقيق‪ ،‬وهو في طريق بحثه عن الحقيقة‪..‬؟؟‬
‫كيف التقى بالرسول عليه الصلة والسلم‪ ..‬وكيف آمن به‪..‬؟؟‬
‫تعالوا نقترب من مجلسه الجليل‪ ،‬ونصغ الى النبأ الباهر الذي يرويه‪..‬‬

‫**‬

‫[كنت رجل من أهل أصبهان‪ ،‬من قرية يقال لها "جي"‪..‬‬


‫وكان أبي دهقان أرضه‪.‬‬
‫وكنت من أحب عباد ال اليه‪..‬‬
‫وقد اجتهدت في المجوسية‪ ،‬حتى كنت قاطن النار التي نوقدها‪ ،‬ول نتركها نخبو‪..‬‬
‫وكان لبي ضيعة‪ ،‬أرسلني اليها يوما‪ ،‬فخرجت‪ ،‬فمررت بكنيسة للنصارى‪ ،‬فسمهتهم يصلون‪ ،‬فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون‪ ،‬فأعجبني‬
‫ما رأيت من صلتهم‪ ،‬وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه‪ ،‬فما برحتهم حتى غابت الشمس‪ ،‬ول ذهبت الى ضيعة أبي‪ ،‬ول‬
‫رجعت اليه حتى بعث في أثري‪...‬‬
‫وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلتهم عن أصل دينهم‪ ،‬فقالوا في الشام‪..‬‬
‫وقلت لبي حين عدت اليه‪ :‬اني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلتهم‪ ،‬ورأيت أن دينهم خير من ديننا‪..‬‬
‫فحازرني وحاورته‪ ..‬ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني‪..‬‬
‫وأرسلت الى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم اذا قدم عليهم ركب من الشام‪ ،‬أن يخبروني قبل عودتهم اليها لرحل الى‬
‫الشام معهم‪ ،‬وقد فعلوا‪ ،‬فحطمت الحديد وخرجت‪ ،‬وانطلقت معهم الى الشام‪..‬‬
‫وهناك سألت عن عالمهم‪ ،‬فقيل لي هو السقف‪ ،‬صاحب الكنيسة‪ ،‬فأتيته وأخبرته خبري‪ ،‬فأقمت معه أخدم‪ ،‬وأصلي وأتعلم‪..‬‬
‫وكان هذا السقف رجل سوء في دينه‪ ،‬اذ كان يجمع الصدقات من النس ليوزعها‪ ،‬ثم يكتنزها لنفسه‪.‬‬
‫ثم مات‪..‬‬
‫وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه‪ ،‬فما رأيت رجل على دينهم خيرا منه‪ ،‬ول أعظم منه رغبة في الخرة‪ ،‬وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة‪..‬‬
‫وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله‪ ..‬فلما حضر قدره قلت له‪ :‬انه قد حضرك من أمر ال تعالى ما ترى‪ ،‬فبم تأمرني والى‬
‫من توصي بي؟؟‬
‫قال‪ :‬أي بني‪ ،‬ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه ال رجل بالموصل‪..‬‬
‫فلما توفي‪ ،‬أتيت صاحب الموصل‪ ،‬فأخبرته الخبر‪ ،‬وأقمت معه ما شاء ال أن أقيم‪ ،‬ثم حضرته الوفاة‪ ،‬سألته فأمرني أن ألحق برجل في‬
‫عمورية في بلد الروم‪ ،‬فرحلت اليه‪ ،‬وأقمت معه‪ ،‬واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات‪..‬‬
‫ثم حضرته الوفاة‪ ،‬فقلت له‪ :‬الى من توصي بي؟ فقال لي‪ :‬يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه‪ ،‬آمرك أن تأتيه‪ ،‬ولكنه قد أظلك‬
‫زمان نبي يبعث بدين ابراهيم حنيفا‪ ..‬يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين‪ ،‬فان استطعت أن تخلص اليه فافعل‪.‬‬
‫وان له آيات ل تخفى‪ ،‬فهو ل يأكل الصدقة‪ ..‬ويقبل الهدية‪ .‬وان بين كتفيه خاتم النبوة‪ ،‬اذا رأيته عرفته‪.‬‬

‫ومر بي ركب ذات يوم‪ ،‬فسألتهم عن بلدهم‪ ،‬فعلمت أنهم من جزيرة العرب‪ .‬فقلت لهم‪ :‬أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني‬
‫معكم الى أرضكم؟‪ ..‬قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى‪ ،‬وهناك ظلموني‪ ،‬وباعوني الى رجل من يهود‪ ..‬وبصرت بنخل كثير‪ ،‬فطمعت أن تكون‬
‫هذه البلدة التي وصفت لي‪ ،‬والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر‪ ..‬ولكنها لم تكنها‪.‬‬
‫وأق مت ع ند الر جل الذي اشترا ني‪ ،‬ح تى قدم عل يه يو ما ر جل من يهود ب ني قري ظة‪ ،‬فابتاع ني م نه‪ ،‬ثم خرج بي ح تى قد مت المدي نة!!‬
‫فوال ما هو ال ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي‪..‬‬
‫وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث ال رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف‪.‬‬
‫وانسي لفسي رأس نخلة يومسا‪ ،‬وصساحبي جالس تحتهسا اذ أقبسل رجسل مسن يهود‪ ،‬مسن بنسي عمسه‪ ،‬فقال يخاطبسه‪ :‬قاتسل ال بنسي قيلة اهنسم‬
‫ليتقاصفون على رجل بقباء‪ ،‬قادم من مكة يزعم أنه نبي‪..‬‬
‫فوال ما أن قالها حتى أخذتني العرواء‪ ،‬فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا‪ ،‬أقول‪ :‬ماذا تقول‪.‬؟ ما الخبر‪..‬؟‬
‫فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة‪ ،‬ثم قال‪ :‬مالك ولهذا‪..‬؟‬
‫أقبل على عملك‪..‬‬
‫فأقبلت على عملي‪ ..‬ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء‪ ..‬فدخلت عليه ومعه‬
‫ن فر من أ صحابه‪ ،‬فقلت له‪ :‬ان كم أ هل حا جة وغر بة‪ ،‬و قد كان عندي طعام نذر ته لل صدقة‪ ،‬فل ما ذ كر لي مكان كم رأي تم أ حق الناس به‬
‫فجئتكم به‪..‬‬
‫ثم وضعته‪ ،‬فقال الرسول لصحابه‪ :‬كلوا باسم ال‪ ..‬وأمسك هو فلم يبسط اليه يدا‪..‬‬
‫فقلت في نفسي‪ :‬هذه وال واحدة ‪ ..‬انه ل يأكل الصدقة‪!!..‬‬
‫ثم رجعت وعدت الى الرسول عليه السلم في الغداة‪ ،‬أحمل طعاما‪ ،‬وقلت له عليه السلم‪ :‬اني رأيتك ل تأكل الصدقة‪ ..‬وقد كان عندي‬
‫شيء أحب أن أكرمك به هدية‪ ،‬ووضعته بين يديه‪ ،‬فقال لصحابه كلوا باسم ال‪..‬‬
‫وأكل معهم‪..‬‬
‫قلت لنفسي‪ :‬هذه وال الثانية‪ ..‬انه يأكل الهدية‪!!..‬‬
‫ثم رج عت فمك ثت ما شاء ال‪ ،‬ثم أتي ته‪ ،‬فوجد ته في البق يع قد ت بع جنازة‪ ،‬وحوله أ صحابه وعل يه شملتلن مؤتزرا بواحدة‪ ،‬مرتد يا‬
‫الخرى‪ ،‬فسلمت عليه‪ ،‬ثم عدلت لنظر أعلى ظهره‪ ،‬فعرف أني أريد ذلك‪ ،‬فألقى بردته عن كاهله‪ ،‬فاذا العلمة بين كتفيه‪ ..‬خاتم النبوة‪،‬‬
‫كما وصفه لي صاحبي‪..‬‬
‫فأكببت عليه أقبله وأبكي‪ ..‬ثم دعاني عليه الصلة والسلم فجلست بين يديه‪ ،‬وحدثته حديثي كما أحدثكم الن‪..‬‬
‫ثم أسلمت‪ ..‬وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد‪..‬‬
‫و في ذات يوم قال الر سول عل يه ال صلة وال سلم‪ ":‬كا تب سيدك ح تى يعت قك"‪ ،‬فكاتب ته‪ ،‬وأ مر الر سولصحابه كي يعونو ني‪ .‬وحرر ال‬
‫رقبتي‪ ،‬وعشت حرا مسلما‪ ،‬وشهدت مع رسول ال غزوة الخندق‪ ،‬والمشاهد كلها‪ .‬هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لبن سعد‬
‫ج ‪.4‬‬

‫**‬

‫بهذه الكلمات الوضاء العذاب‪ ..‬تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي‬
‫تصله بال‪ ،‬وترسم له دوره في الحياة‪..‬‬
‫فأي انسان شامخ كان هذا النسان‪..‬؟‬
‫أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة‪ ،‬وفرضته ارادته الغلبة على المصاعب فقهرتها‪ ،‬وعلى المستحيل فجعلته ذلول‪..‬؟‬
‫أي تبتسل للحقيقسة‪ ..‬وأي ولء لهسا هذا الذي أخرج صساحبه طائعسا مختارا مسن ضياع أبيسه وثرائه ونعمائه الى المجهول بكسل أعبائه‪،‬‬
‫ومشاقسه‪ ،‬ينتقسل مسن أرض الى أرض‪ ..‬ومسن بلد الى بلد‪ ..‬ناصسبا‪ ،‬كادحسا عابدا‪ ..‬تفحسص بصسيرته الناقدة الناس‪ ،‬والمذاهسب والحياة‪..‬‬
‫ويظل في اصراره العظيم وراء الحق‪ ،‬وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا‪ ..‬ثم يثيبه ال ثوابه الوفى‪ ،‬فيجمعه بالحق‪،‬‬
‫ويلق يه بر سوله‪ ،‬ثم يعط يه من طول الع مر ما يش هد م عه بكل تا عين يه رايات ال تخ فق في كل مكان من الرض‪ ،‬وعباده الم سلمون‬
‫يملؤن أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدل‪..‬؟!!‬

‫**‬

‫ماذا نتوقع أن يكون اسلم رجل هذه همته‪ ،‬وهذا صدقه؟‬


‫لقد كان اسلم البرار المتقين‪ ..‬وقد كان في زهده‪ ،‬وفطنته‪ ،‬وورعه أشبه الناس بعمر بن الخطاب‪.‬‬
‫أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة‪ ..‬وكان أبو الدرداء رضي ال عنه يقوم الليل ويصوم النهار‪ ..‬وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته‬
‫في العبادة على هذا النحو‪.‬‬
‫وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه على الصوم‪ ،‬وكان نافلة‪..‬‬
‫فقال له أبو الدرداء معاتبا‪ :‬أتمنعني أن أصوم لربي‪ ،‬وأصلي له‪..‬؟ّ‬
‫فأجابه سلمان قائل‪:‬‬
‫ان لعينك عليك حقا‪ ،‬وان لهلك عليك حقا‪ ،‬صم وافطر‪ ،‬وصل ونم‪..‬‬
‫فبلغ ذلك الرسول صلى ال عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫" لقد أشبع سلمان علما "‪.‬‬
‫وكان الرسول عليه السلم يرى فطنته وعلمه كثيرا‪ ،‬كما كان يطري خلقه ودينه‪..‬‬
‫ويوم الخندق‪ ،‬وقف النصار يقولون‪ :‬سلمان منا‪ ..‬وقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا‪..‬‬
‫وناداهم الرسول قائل‪ ":‬سلمان منا آل البيت"‪.‬‬

‫وانه بهذا الشرف لجدير‪..‬‬


‫وكان علي بن أبي طالب رضي ال عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال‪:‬‬
‫[ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت‪ ..‬من لكم بمثل لقمان الحكيم‪..‬؟‬
‫أوتي العلم الول‪ ،‬والعلم الخر‪ ،‬وقرأ الكتاب الول والكتاب الخر‪ ،‬وكان بحرا ل ينزف]‪.‬‬
‫ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلم جميعا المنزلة الرفيعة والمكان السمى‪.‬‬
‫ففي خلفة عمر جاء المدينة زائرا‪ ،‬فصنع عمر ما ل نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا‪ ،‬اذ جمع أصحابه وقال لهم‪:‬‬
‫"هيا بنا نخرج لستقبال سلمان"‪!!.‬‬
‫وخرج بهم لستقباله عند مشارف المدينة‪.‬‬
‫لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا‪ ،‬ومجاهدا وعابدا‪.‬‬
‫وعاش مع خليفته أبي بكر‪ ،‬ثم أمير المؤمنين عمر‪ ،‬ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلفته‪.‬‬
‫و في مع ظم هذه ال سنوات‪ ،‬كا نت رايات ال سلم تمل ال فق‪ ،‬وكا نت الكنوز والموال تح مل الى المدي نة فيئا وجز ية‪ ،‬فتورّع ال نس في‬
‫صورة أعطيت منتظمة‪ ،‬ومرتبات ثابتة‪.‬‬
‫وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها‪ ،‬فكثرت العمال والمناصب تبعا لها‪..‬‬
‫فأين كان سلمان في هذا الخضم‪..‬؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك‪..‬؟‬

‫**‬

‫افتحوا ابصاركم جيدا‪..‬‬


‫أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل‪..‬؟‬
‫انه سلمان‪..‬‬
‫انظروه جيدا‪..‬‬
‫انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد الى ركبته‪..‬‬
‫انه هو‪ ،‬في جلل مشيبه‪ ،‬وبساطة اهابه‪.‬‬
‫لقد كان عطاؤه وفيرا‪ ..‬كان بين أربعة وستة آلف في العام‪ ،‬بيد أنه كان يوزعه جميعا‪ ،‬ويرفض أن يناله منه درهم واحد‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"أشتري خوصا بدرهم‪ ،‬فأعمله‪ ،‬ثم أبيعه بثلثة دراهم‪ ،‬فأعيد درهما فيه‪ ،‬وأنفق درهما على عيالي‪ ،‬وأتصدّق بالثالث‪ ..‬ولو أن عمر بن‬
‫الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!‬

‫**‬

‫ثم ماذا يا أتباع محمد‪..‬؟‬


‫ثم ماذا يا شرف النسانية في كل عصورها وواطنها‪..‬؟؟‬
‫لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم‪ ،‬مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر واخوانهم‪ ،‬أن مرجع ذلك‬
‫كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة‪..‬‬
‫ف ها ن حن أمام ر جل من فارس‪ ..‬بلد البذخ والترف والمدن ية‪ ،‬ولم ي كن من الفقراء بل من صفوة الناس‪ .‬ما باله ير فض هذا المال‬
‫والثروة والنعيم‪ ،‬ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده‪..‬؟‬
‫ما باله يرفض اامارة ويهرب منها ويقول‪:‬‬
‫"ان استطعت أن تأكل التراب ول تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل‪."..‬‬
‫ما باله يهرب من المارة والمن صب‪ ،‬ال أن تكون امارة على سريّة ذاه بة الى الجهاد‪ ..‬وال أن تكون في ظروف ل ي صلح ل ها سواه‪،‬‬
‫فيكره عليها اكراها‪ ،‬ويمضي اليها باكيا وجل‪..‬؟‬
‫ثم ما باله حين يلي على المارة المفروضة عليه فرضا يأبى أنيأخذ عطاءها الحلل‪..‬؟؟‬
‫روى هشام عن حسان عن الحسن‪:‬‬
‫" كان عطاء سلمان خمسة آلف‪ ،‬وكان على ثلثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها‪ ،‬ويلبس نصفها‪"..‬‬
‫"وكان اذا خرج عطاؤه أمضاه‪ ،‬ويأكل من عمل يديه‪."..‬‬
‫ما باله يصنع كل هذا الصنيع‪ ،‬ويزهد كل ذلك الزهد‪ ،‬وه الفارسي‪ ،‬ابن النعمة‪ ،‬وربيب الحضارة‪..‬؟‬
‫لنستمع الجواب منه‪ .‬وهو على فراش الموت‪ .‬تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم‪.‬‬
‫دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان‪..‬‬
‫قال له سعد‪ ":‬ما يبكيك يا أبا عبد ال‪..‬؟ لقد توفي رسول ال وهو عنك راض"‪.‬‬
‫فأجابه سلمان‪:‬‬
‫" وال ما أبكي جزعا من الموت‪ ،‬ولحرصا على الدنيا‪ ،‬ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم عهد الينا عهدا‪ ،‬فقال‪ :‬ليكن حظ أحدكم‬
‫من الدنيا مثل زاد الراكب‪ ،‬وهأنذا حولي هذه الساود"!!‬

‫يعني بالساود الشياء الكثيرة!‬


‫قال سعد فنظرت‪ ،‬فلم أرى حوله ال جفنة ومطهرة‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا أبا عبدال اعهد الينا بعهد نأخذه عنك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" يا سعد‪:‬‬
‫اذكر عند ال همّتك اذا هممت‪..‬‬
‫وعند حكمتك اذا حكمت‪..‬‬
‫وعند يدك اذا قسمت‪"..‬‬

‫هذا هو اذن الذي مل نفسه غنى‪ ،‬بقدر ما ملها عزوفا عن الدنيا بأموالها‪ ،‬ومناصبها وجاهها‪ ..‬عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫اليه والى أصحابه جميعا‪ :‬أل يدعو الدنيا تتملكهم‪ ،‬وأل يأخذ أحدهم منها ال مثل زاد الركب‪..‬‬
‫ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل‪ ،‬مخافة أن يكون قد جاوز المدى‪.‬‬
‫ليس حوله ال جفنة يأكل فيها‪ ،‬ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا‪..‬‬
‫ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر‪..‬؟‬

‫وفي اليام التي كان فيها أميرا على المدائن‪ ،‬لم يتغير من حاله شيء‪ .‬فقد رفض أن يناله من مكافأة المارة درهم‪ ..‬وظل يأكل من‬
‫عمل الخوص‪ ..‬ولباسه ليس ال عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها‪..‬‬
‫وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر‪..‬‬
‫كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه‪ ،‬فلم يكد يبصر أمامه رجل يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم‪ ،‬حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله‪،‬‬
‫حتى اذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله‪..‬‬
‫وأشار للرجل فأقبل عليه‪ ،‬وقال له الشامي‪ :‬احمل عني هذا‪ ..‬فحمله ومضيا معا‪.‬‬
‫واذ هما على الطريق بلغا جماعة من النس‪ ،‬فسلم عليهم‪ ،‬فأجابوا واقفين‪ :‬وعلى المير السلم‪..‬‬
‫وعلى المير السلم‪..‬؟‬
‫أي أمير يعنون‪..‬؟!!‬
‫هكذا سأل الشامي نفسه‪..‬‬
‫ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين‪:‬‬
‫عنك أيها المير‪!!..‬‬
‫فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي‪ ،‬فسقط في يده‪ ،‬وهربت كلمات العتذار والسف من بين شفتيه‪ ،‬واقترب ينتزع الحمل‪.‬‬
‫ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول‪:‬‬
‫" ل‪ ،‬حتى أبلغك منزلك"‪!!..‬‬

‫**‬

‫سئل يوما‪ :‬ما الذي يبغض المارة الى نفسك‪.‬؟‬


‫فأجاب‪ " :‬حلوة رضاعها‪ ،‬ومرارة فطامها"‪..‬‬
‫ويدخل عليه صاحبه يوما بيته‪ ،‬فاذا هو يعجن‪ ،‬فيسأله‪:‬‬
‫أين الخادم‪..‬؟‬
‫فيجيبه قائل‪:‬‬
‫" لقد بعثناها في حاجة‪ ،‬فكرهنا أن نجمع عليها عملين‪"..‬‬

‫وح ين نقول بي ته فلنذ كر تمامسا‪ ،‬ماذا كان ذاك البيست‪..‬؟ فحيسن ه مّ سلمان ببناء هذا الذي يسسمّى مع التجوّز بيتسا‪ ،‬سسأل البنّاء‪ :‬ك يف‬
‫ستبنيه‪..‬؟‬
‫وكان البنّاء حصيفا ذكيا‪ ،‬يعرف زهد سلمان وورعه‪ ..‬فأجابه قائل‪ ":‬ل تخف‪ ..‬انها بناية تستظل بها من الحر‪ ،‬وتسكن فيها من البرد‪،‬‬
‫اذا وقفت فيها أصابت رأسك‪ ،‬واذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"‪!..‬‬
‫فقال له سلمان‪" :‬نعم هكذا فاصنع"‪.‬‬
‫لم ي كن هناك من طيبات الحياة الدن يا ش يء ما ير كن ال يه سلمان لح ظة‪ ،‬أو تتعلق به نف سه اثارة‪ ،‬ال شيئا كان يحرص عل يه أبلغ‬
‫الحرص‪ ،‬ولقد ائتمن عليه زوجته‪ ،‬وطلب اليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين‪.‬‬
‫وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه‪ ،‬ناداها‪:‬‬
‫"هلمي خبيّك التي استخبأتك"‪!!..‬‬
‫فجاءت بها‪ ،‬واذا هي صرة مسك‪ ،‬كان قد أصابها يوم فتح "جلولء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته‪.‬‬
‫ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه‪ ،‬ثم ماثه بيده‪ ،‬وقال لزوجته‪:‬‬
‫"انضجيه حولي‪ ..‬فانه يحصرني الن خلق من خلق ال‪ ،‬ل يأكلون الطعام‪ ،‬وانما يحبون الطيب"‪.‬‬
‫فلما فعلت قال لها‪ ":‬اجفئي علي الباب وانزلي"‪ ..‬ففعلت ما أمرها به‪..‬‬
‫وبعد حين صعدت اليه‪ ،‬فاذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه‪.‬‬
‫قد لحقت بالمل العلى‪ ،‬وصعدت على أجنحة الشوق اليه‪ ،‬اذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد‪ ،‬وصاحبيه أبي بكر وعمر‪ ..‬ومع‬
‫ثلة مجيدة من الشهداء والبرار‪.‬‬

‫**‬

‫لطالما برّح الشوق الظامئ بسلمان‪..‬‬


‫وآن اليوم أن يرتوي‪ ،‬وينهل‪..‬‬

‫أبو ذر الغفاري‬
‫زعيم المعارضة وعدو الثروات‬

‫أقبل على مكة نشوان مغتبطا‪..‬‬


‫صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى واللم‪ ،‬بيد أن الغاية التي يسعى اليها‪ ،‬أنسته جراحه‪ ،‬وأفاضت على روحه‬
‫الحبور والبشور‪.‬‬
‫ودخلها متنكرا‪ ،‬كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوّفوا بآلهة الكعبة العظام‪ ..‬أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه‪ ،‬أو طال به السفر‬
‫والرتحال فأوى اليها يستريح ويتزوّد‪.‬‬
‫فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويستمع اليه لفتكوا به‪.‬‬
‫و هو ل يرى بأ سا في أن يفتكوا به‪ ،‬ول كن ب عد أن يقا بل الر جل الي ق طع الفيا في ليراه‪ ،‬وب عد أن يؤ من به‪ ،‬ان اقت نع ب صدقه واطمأن‬
‫لدعوته‪..‬‬
‫ولقد مضى يتسمّع النباء من بعيد‪ ،‬وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد اقترب منهم في حذر‪ ،‬حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك‬
‫ما دله على محمد‪ ،‬وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه‪.‬‬
‫في صبيحة يوم ذهب الى هناك‪ ،‬فوجد الرسول صلى ال عليه وسلم جالسا وحده‪ ،‬فاقترب منه وقال‪ :‬نعمت صباحا يا أخا العرب‪..‬‬
‫فأجاب السول عليه الصلة والسلم‪ :‬وعليك السلم يا أخاه‪.‬‬
‫قال أبو ذر‪:‬أنشدني مما تقول‪..‬‬
‫فأجاب الرسول عليه الصلة والسلم‪ :‬ما هو بشعر فأنشدك‪ ،‬ولكنه قرآن كريم‪.‬‬
‫قال أ[و ذر‪ :‬اقرأ عليّ‪..‬‬
‫فقرأ عليه الرسول‪ ،‬وأ[و ذر يصغي‪ ..‬ولم يمضي من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر‪:‬‬
‫"أشهد أن ل اله ال ال‪.‬‬
‫وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"!‬
‫وسأله النبي‪ :‬ممن أنت يا أخا العرب‪..‬؟‬
‫فأجابه أبو ذر‪ :‬من غفار‪..‬‬
‫وتألقت ابتسامة على فم السول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واكتسى وجهه الدهشة والعجب‪..‬‬
‫وضحك أبو ذر كذلك‪ ،‬فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول عليه السلم حين علم أن هذا الذي يجهر بالسلم أمامه انما هو‬
‫رجل من غفار‪!!..‬‬
‫فغفار هذه قبيلة ل يدرك لها شأو في قطع الطريق‪!!..‬‬
‫وأهلها مضرب المثال في السطو غير المشروع‪ ..‬انهم حلفاء الليل والظلم‪ ،‬والويل لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلة غفار‪.‬‬
‫أفيجيء منهم اليوم‪ ،‬والسلم ل يزال دينا غصّا مستخفيا‪ ،‬واحد ليسلم‪..‬؟!‬

‫يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه‪:‬‬


‫"‪ ..‬فجعل النبي صلى ال عليه وسلم يرفع بصره ويصوّبه تعجبا‪ ،‬لما كان من غفار‪ ،‬ثم قال‪ :‬ان ال يهدي من يشاء‪.‬‬
‫ولقد كان أبو ذر رضي ال عنه أحد الذين شاء لهم الهدى‪ ،‬وأراد بهم الخير‪.‬‬
‫وانه لذو بصر بالحق‪ ،‬فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء ال لهم الهدى‪ ،‬وأراد بهم الخير‪.‬‬
‫وانه لذو بصر بالحق‪ ،‬فقد روي عنه أنه أحد الذين كلنوا يتألهون في الجاهلية‪ ،‬أي يتمرّدون على عبادة الصنام‪ ،‬ويذهبون الى اليمان‬
‫باله خالق عظ يم‪ .‬وهكذا ما كاد ي سمع بظهور نبي ي سفّه عبادة ال صناك وعبّاد ها‪ ،‬ويدعو الى عبادة ال الوا حد القهار‪ ،‬ح تى حث ال يه‬
‫الخطى‪ ،‬وشدّ الرحال‪.‬‬

‫**‬

‫أسلم أبو ذر من فوره‪..‬‬


‫وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس‪..‬‬
‫اذن‪ ،‬هو قد أسلم في اليام الولى‪ ،‬بل الساعات الولى للسلم‪ ،‬وكان اسلمه مبكرا‪..‬‬
‫وح ين أ سلم كلن الر سول يه مس بالدعوة هم سا‪ ..‬يه مس ب ها الى نف سه‪ ،‬والى الخم سة الذ ين آمنوا م عه‪ ،‬ولم ي كن أمام أ بي ذر ال أن‬
‫يحمل ايمانه بين جنبيه‪ ،‬ويتسلل به مغادرا مكة‪ ،‬وعائدا الى قومه‪...‬‬
‫ولكن أبا ذر‪ ،‬جندب بن جنادة‪ ،‬يحمل طبيعة فوارة جيّاشة‪.‬‬
‫ل قد خلق ليتمرّد على البا طل أ نى يكون‪ ..‬و ها هو ذا يرى البا طل بعين يه‪ ..‬حجارة مر صوصة‪ ،‬ميلد عابدي ها أقدم من ميلد ها‪ ،‬تنح ني‬
‫أمامها الجباه والعقول‪ ،‬ويناديها الناس‪ :‬لبيك‪ ..‬لبيك‪!!..‬‬
‫وصحيح أنه رأى الرسول يؤثر لهمس في أيامه تلك‪ ..‬ولكن ل بدّ من صيحة يصيحها هذا الثائر الجليل قبل أن يرحل‪.‬‬
‫لقد توجه الى الرسول عليه الصلة والسلم فور اسلمه بهذا السؤال‪:‬‬
‫يا رسول ال‪ ،‬بم تأمرني‪..‬؟‬
‫فأجابه الرسول‪ :‬ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري‪..‬‬
‫فقال أبو ذر‪ :‬والذي نفسي بيده ل أرجع حتى أصرخ بالسلم في المسجد‪!!..‬‬
‫ألم أقل لكم‪..‬؟؟‬
‫تلك طبيعة متمرّدة جيّاشة‪ ،‬أفي اللحظة التي يكشف فيها أبو ذر عالما جديدا بأسره يتمثل في الرسول الذي آمن به‪ ،‬وفي الدعوة التي‬
‫سمع بتباشيرها على لسانه‪ ..‬أفي هذه اللحظة يراد له أن يرجع الى أهله صامتا‪.‬؟‬
‫هذا أمر فوق طاقته‪..‬‬
‫هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته‪:‬‬
‫[أشهد أن ل اله ال ال‪ ..‬وأشهد أن محمدا رسول ال]‪...‬‬

‫كانت هذه الصيحة أول صيحة بالسلم تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها‪ ..‬صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ول نسب‬
‫ول حمى‪..‬‬
‫ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملقيه‪ ..‬فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه‪..‬‬
‫وترامى النبأ الى العباس عم النبي‪ ،‬فجاء يسعى‪ ،‬وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم ال بالحيلة لذكية‪ ،‬قال له‪:‬‬
‫" يا مع شر قر يش‪ ،‬أن تم تجار‪ ،‬وطريق كم على غفار‪ ،،‬وهذا ر جل من رجال ها‪ ،‬ان يحرّض قو مه علي كم‪ ،‬يقطعوا على قوافل كم الطر يق"‪..‬‬
‫فثابوا الى رشدهم وتركوه‪.‬‬
‫ولكن أبا ذر‪ ،‬وقد ذاق حلوة الذى في سبيل ال‪ ،‬ل يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد‪!!...‬‬
‫وهكذا ل يكاد في اليوم الثا ني ورب ما في ن فس اليوم‪ ،‬يل قى امرأت ين تطوفان بال صنمين (أ ساف‪ ،‬واثلة) ودعوانه ما‪ ،‬ح تى ي قف عليه ما‬
‫ويسفه الصنمين تسفيها مهينا‪ ..‬فتصرخ المرأتان‪ ،‬ويهرول الرجال كالجراد‪ ،‬ثم ل يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه‪..‬‬
‫وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن ل اله ال ال وأن محمدا رسول ال"‪ .‬ويدرك الرسول عليه الصلة والسلم طبيعة تلميذه‬
‫الجديد الوافد‪ ،‬وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل‪ .‬بيد أن وقته لم يأت بعد‪ ،‬فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه‪ ،‬حتى اذا سمع بظهور‬
‫الدين عاد وأدلى في مجرى الحداث دلوه‪..‬‬

‫**‬

‫ويعود أ بو ذر الى عشير ته وقو مه‪ ،‬فيحدثه هم عن ال نبي الذي ظ هر يد عو الى عبادة ال وحده ويهدي لمكارم الخلق‪ ،‬ويد خل قو مه‬
‫في السلم‪ ،‬واحدا اثر واحد‪ ..‬ول يمتفي بقبيلته غفار‪ ،‬بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه‪!!..‬‬
‫وتتابع اليام رحلتها في موكب الزمن‪ ،‬ويهاجر الرسول صلى ال عليه وسلم الى المدينة‪ ،‬ويستقر بها والمسلمون معه‪.‬‬
‫وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان‪ ،‬أثارت أقدامهم النقع‪ ..‬ولول تكبيراتهم الصادعة‪ ،‬لحبسهم الرائي جيشا‬
‫مغيرا من جيوش الشرك‪..‬‬
‫اقترب الموكب اللجب‪ ..‬ودخل المدينة‪ ..‬ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى ال عليه وسلم ومقامه‪..‬‬
‫لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم‪ ،‬جاء بهما ابو ذر مسلمين جميعا رجال ونساءا‪ .‬شيوخا وشبابا‪ ،‬وأطفال‪!!..‬‬
‫وكان من حق الرسول عليه الصلة والسلم أن يزداد عجبا ودهشة‪..‬‬
‫فبالمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجل واحدا من غفار يعلن اسلمه وايمانه‪ ،‬وقال معبّرا عن دهشته‪:‬‬
‫"ان ال يهدي من يشاء"‪!!..‬‬
‫أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة‪..‬وقد قطعت في السلم بضع سنين منذ هداها ال على يد أبي ذر‪ ،‬وتجيء معها قبيلة‬
‫أسلم‪..‬‬
‫ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان‪ ،‬قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق‪.‬‬
‫أليس ال يهدي من يشاء حقا‪..‬؟؟‬
‫لقد ألقى الرسول عليه الصلة والسلم على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا‪..‬‬
‫ونظر الى قبيلة غفار وقال‪:‬‬
‫"غفار غفر ال لها"‪.‬‬
‫ثم الى قبيلة أسلم فقال‪:‬‬
‫"وأسلم سالمها ال"‪..‬‬
‫وأبو ذر هذا الداعية الرائع‪ ..‬القوي الشكيمة‪ ،‬العزيز المنال‪ ..‬أل يختصه الرسول عليه الصلة والسلم بتحية‪..‬؟؟‬
‫أجل‪ ..‬ولسوف يكون جزاؤه موفورا‪ ،‬وتحيته مباركة‪..‬‬
‫ولسوف يحمل صدره‪ ،‬ويحمل تاريخه‪ ،‬أرفع الوسمة وأكثرها جلل وعزة‪..‬‬
‫ولسوف تفنى القرون والجيال‪ ،‬والناس يرددون رأي الرسول صلى ال عليه وسلم في أبي ذر‪:‬‬
‫" ما أقلّت الغبراء‪ ،‬ول أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"‪!!..‬‬
‫ويدرك الرسول عليه الصلة والسلم طبيعة تلميذه الجديد الوافد‪ ،‬وقدرته اباهرة على مواجهة الباطل‪ ..‬بيد أن وقته لم يأت بعد‪ ،‬فيعيد‬
‫عليه أمره بالعودة الى قومه‪ ،‬حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الحداث دلّوه‪..‬‬

‫**‬

‫أصدق لهجة في أبي ذر‪..‬؟‬


‫لقد قرأ الرسول عليه الصلة والسلم مستقبل صاحبه‪ ،‬ولخص حياته كلها في هذه الكلمات‪..‬‬
‫فالصدق الجسور‪ ،‬هو جوهر حياة أبي ذر كلها‪..‬‬
‫صدق باطمه‪ ،‬وصدق ظاهره‪..‬‬
‫صدق عقيدته وصدق لهجته‪..‬‬
‫ولسوف يحيا صادقا‪ ..‬ل يغالط نفسه‪ ،‬ول يغالط غيره‪ ،‬ول يسمح لحد أن يغالطه‪..‬‬
‫ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء‪ ..‬فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر‪..‬‬
‫انما الصدق جهر وعلن‪ ..‬جهر بالحق وتحد للباطل‪..‬تأييد للصواب ودحض للخطأ‪..‬‬
‫الصدق ولء رشيد للحق‪ ،‬وتعبير جريء عنه‪ ،‬وسير حثيث معه‪..‬‬

‫ولقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر‬
‫صدقه وصلبته‪ ،‬فكان يأمره دائما أن يجعل الناة والصبر نهجه وسبيله‪.‬‬
‫وألقى الرسول يوما هذا السؤال‪:‬‬
‫" يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"‪..‬؟‬
‫فأجاب قائل‪:‬‬
‫"اذن والذي بعثك بالحق‪ ،‬لضربن بسيفي"‪!!.‬‬
‫فقال له الرسول عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫"أفل أدلك على خير من ذلك‪..‬؟‬
‫اصبر حتى تلقاني"‪.‬‬
‫ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات‪..‬؟؟‬
‫المراء‪ ..‬والمال‪..‬؟؟‬

‫تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته‪ ،‬وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل‪..‬‬
‫ولقد عرفها رسول ال فألقى عليه السؤال‪ ،‬ليزوده هذه النصيحة الثمينة‪":‬اصبر حتى تلقاني"‪..‬‬
‫ولسوف يحفظ أبو ‪1‬ر وصية معلمه‪ ،‬فلن يحمل السيف الذي توّد به المراء الذين يثرون من مال المة‪ ..‬ولكنه أيضا لن يسكت عنهم‬
‫لحظة من نهار‪..‬‬
‫أجل اذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم‪ ،‬فانه ل ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار‪..‬‬
‫ولسوف يفعل‪..‬‬

‫**‬

‫ومضى عهد الرسول‪ ،‬ومن بعده عصر أبي بكر‪ ،‬وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها‪..‬‬
‫حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة‪ ،‬لم تكن تجد لرغباتها سبيل ول منفذا‪.‬‬
‫وأيامئذ‪ ،‬لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللهبة‪...‬‬

‫ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر‪ ،‬فارضا على ولة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الرض‪ ،‬زهدا وتقشفا‪ ،‬ودعل‬
‫يكاد يكون فوق طاقة البشر‪..‬‬

‫ان واليا من ولته في العراق‪ ،‬أو في الشام‪ ،‬أ‪ ،‬في صنعاء‪ ..‬أو في أي من البلد النائية البعيدة‪ ،‬ل يكاد يصل اليها نوعا من الحلوى‪،‬‬
‫ل يجد عا مة الناس قدرة على شرائه‪ ،‬حتى يكون الخبر قد وصل الى عمر بعد أيام‪ .‬وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي‬
‫ذلك الوالي الى المدينة ليلقى حسابه العسير‪!!..‬‬
‫ليهنأ أبو ذر اذن‪ ..‬وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين‪..‬‬
‫وما دام ل يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايقع استغلل السلطة‪ ،‬واحتكارالثروة‪ ،‬فان ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة‪،‬‬
‫وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا‪..‬‬
‫وهكذا تفرغ لعبادة ربه‪ ،‬وللجهاد في سبيله‪ ..‬غير لئذ بالصمت اذا رأى مخالفة هنا‪ ،‬أو هناك‪ ..‬وقلما كان يرى‪..‬‬

‫ب يد أن أع ظم‪ ،‬وأعدل‪ ،‬وأروع حكام البشر ية قاط بة ير حل عن الدن يا ذات يوم‪ ،‬تار كا وراءه فرا غا هائل‪ ،‬ومحد ثا رحيله من ردود‬
‫الفعل ما ل مفرّ منه ول طاقة للناس به‪ .‬وتستمر القتوح في مدّها‪ ،‬ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها‪..‬‬
‫ويرى أبو ذر الخطر‪..‬‬

‫ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية ال‪..‬‬
‫ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري‪ ،‬توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للعمال الصالحات‪..‬‬
‫ان المال الذي جعله ال خادما مطيعا للنسان‪ ،‬يوشك أن يتحوّل الى سيّد مستبد‪..‬‬
‫ومع من؟‬
‫مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة‪ ،‬في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه‪!!..‬‬
‫ان خيرات الرض التي ذرأها ال للناس جميعا‪ ..‬وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن اصير حكرا ومزية‪..‬‬
‫ان ال سلطة ال تي هي م سؤولية ترت عد من هول ح ساب ال علي ها أفئدة البرار‪ ،‬تتحول الى سبيل لل سيطرة‪ ،‬وللثراء‪ ،‬وللترف المد مر‬
‫الوبيل‪..‬‬
‫رأى أ بو ذر كل هذا فلم يب حث عن واج به ول عن م سؤوليته‪ ..‬بل راح ي مد يمي نه الى سيفه‪ ..‬و هز به الهواء فمز قه‪ ،‬ون هض قائ ما‬
‫يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة‪ ..‬لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول‪ ،‬فأعاد السيف الى‬
‫غمده‪ ،‬فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم‪..‬‬
‫(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ال خطأ)‬
‫ليس دوره اليوم أن يقتل‪ ..‬بل أن يعترض‪..‬‬
‫وليس السيف أداة التغيير والتقويم‪ ،‬بل الكلمة الصادقة‪ ،‬المينة المستبسلة‪..‬‬
‫الكلمة العادلة التي ل تضل طريقها‪ ،‬ول ترهب عواقبها‪.‬‬

‫لقد أخبر الرسول يوما وعلى مل من أصحابه‪ ،‬أن الرض لم تقلّ‪ ،‬وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر‪..‬‬
‫ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة‪ ،‬وصدق القتناع‪ ،‬فما حاجته الى السيف‪..‬؟‬
‫ان كلمة واحدة يقولها‪ ،‬لمضى من ملء الرض سيوفا‪..‬‬

‫فليخرج بصسدقه هذا‪ ،‬الى المراء‪ ..‬الى الغنياء‪ .‬الى جميسع الذيسن أصسبحوا يشكلون بركونهسم الى الدنيسا خطرا على الديسن الذي جاء‬
‫هاديا‪ ،‬ل جابيا‪ ..‬ونبوة ل ملكا‪ ..،‬ورحمة ل عذابا‪ ..‬وتواضعا ل استعلء‪ ..‬وتكافؤ ل تمايز‪ ..‬وقناعة ل جشعا‪ ..‬وكفاية ل ترفا‪ ..‬واتئادا‬
‫في أخذ الحياة‪ ،‬ل فتونا بها ول تهالكا عليها‪..‬‬
‫فليخرج الى هؤلء جميعا‪ ،‬حتى يحكم ال بينهم وبينه بالحق‪ ،‬وهو خير الحاكمين‪.‬‬

‫**‬

‫وخرج أبسو ذر الى معاقسل السسلطة والثروة‪ ،‬يغزوهسا بمعارضتسه معقل معقل‪ ..‬وأصسبح فسي أيام معدودات الرايسة التسي التفست حولهسا‬
‫الجماهير والكادحون‪ ..‬حتى في القطار النائية التي لم يره أهلها بعد‪ ..‬طاره اليها ذكره‪ .‬وأصبح ل يمر بأرض‪ ،‬بل ول يبلغ اسمه قوما‬
‫ال أثار تسؤلت هامّة تهدد مصالح ذوي الشلطة والثراء‪.‬‬
‫ولو أراد هذا الثائر الجل يل أن يت خذ لنف سه ولحرك ته عل ما خا صا ل ما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتو هج حمرة وله با‪،‬‬
‫فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان‪ ..‬ويردده النس عنه كأنه نشيد‪ ..‬هذه الكلمات‪:‬‬
‫"بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة"‪!!..‬‬
‫ل يصغد جبل‪ ،‬ول ينزل سهل‪ ،‬ول يدخل مدينة‪ ،‬ول يواجه أميرا ال وهذه الكلمات على لسانه‪.‬‬
‫ولم يعد النس يبصرونه قادما ال استقبلوه بهذه الكلمات‪:‬‬
‫" بشّر الكانزين بمكاو من نار"‪..‬‬
‫لقسد صسارت هذه العبارة علمسا على رسسالته التسي نذر حياتسه لهسا‪ ،‬حيسن رأى الثروات تتركسز وتحتكسر‪ ..‬وحيسن رأى السسلطة اسستعلء‬
‫واستغلل‪ ..‬وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته سنوات الرسالة العظمى من جمال وورع‪ ،‬وتفان واخلص‪..‬‬

‫لقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة‪ ..‬هناك في الشام حيث "معاوية بن أبي سفيان" يحكم أرضا من أكثر بلد السلم خصوبة‬
‫وخيرا وفيضا‪ ،‬وانه ليعطي الموال ويوزعها بغير حساب‪ ،‬يتألف بها الناس الذين لهم حظ ومكانة‪ ،‬ويؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو‬
‫اليه طموحه البعيد‪.‬‬
‫هناك الضياع والقصور والثروات تفتن الباقية من حملة الجعوة‪ ،‬فليدرك أبو ذر الخطر قبل أن يحيق ويدمّر‪..‬‬
‫وحسر زعيم المعارضة رداءه المتواضع عن ساقيه‪ ،‬وسابق الريح الى الشام‪..‬‬
‫ولم يكد الناس العاديون يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق‪ ،‬والتفوا حوله أينما ذهب وسار‪..‬‬
‫حدثنا يا أبا ذر‪..‬‬
‫حدثنا يا صاحب رسول ال‪..‬‬
‫ويل قي أ بو ذر على الجموع حوله نظرات فاح صة‪ ،‬فيرى أكثر ها ذوي ح صاصة وف قر‪ ..‬ثم ير نو بب صره ن حو المشارف القري بة فيرى‬
‫القصور والضياع‪..‬‬
‫ثم يصرخ في الحافين حوله قائل‪:‬‬
‫" عجبت لمن ل يجد القوت في بيته‪ ،‬كيف ل يخرج على النس شاهرا سيفه"‪..‬؟؟!!‬

‫ثم يذكر من فوره وصية رسول ال أن يضع الناة مكان النقلب‪ ،‬والكلمة الشجاعة مكان السيف‪ ..‬فيترك لغة الحرب هذه ويعود الى‬
‫لغة المنطق والقناع‪ ،‬فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط‪ ..‬وأنهم جميعا شركاء في الرزق‪ ..‬وأنه ل فضل لحد على‬
‫أحد ال بالتقوى‪ ..‬وأن أمير القوم ووليهم‪ ،‬هو أول من يجوع اذا جاعوا‪ ،‬وآخر من شبع اذا شبعوا‪..‬‬
‫ل قد قرر أن يخلق بكلما ته وشجاع ته رأ يا عامّا من كل بلد ال سلم يكون له من الفط نة والمنا عة‪ ،‬والقوة ما يجعله شكي مة لمرائه‬
‫وأغنيائه‪ ،‬وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم‪ ،‬أو محتكرة للثروة‪.‬‬

‫وفي أيام قلئل‪ ،‬كانت الشام كلها كخليا نحل وجدت ملكتها المطاعة‪ ..‬ولو أعطى أبو ذر اشارة عابرة بالثورة لشتعلت نارا‪ ..‬ولكنه‬
‫كما قلنا‪ ،‬حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه‪ ،‬وصارت كلماته حديث المجالس والمساجد والطريق‪.‬‬
‫ول قد بلغ خطره على المتيازات الناشئة مداه‪ ،‬يوم نا ظر معاو ية على مل من الناس‪ .‬ثم أبلغ الشا هد للمناظرة‪ ،‬الغائب عن ها‪ .‬و سارت‬
‫الرياح بأخبارها‪..‬‬
‫ولقد وقف أبو ذر أصدق العالمين لهجة‪ ،‬كما وصفه نبيه وأستاذه‪..‬‬
‫وقف يسائل معاوية في غير خوف ول مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما‪ ،‬وعن ثروته اليوم‪!!..‬‬
‫وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة‪ ،‬وعن قصوره بالشام اليوم‪!!..‬‬
‫ثم يوجه السؤال للجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية الى الشام وصار لبعضهم قصور وضياع‪.‬‬
‫ثم يصيح فيهم جميعا‪ :‬أفأنت الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم‪..‬؟؟‬
‫ويتولى الجابة عنهم‪ :‬نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن‪ ،‬وشهدتم مع الرسول المشاهد‪..‬‬
‫ثم يعود ويسأل‪ :‬أل تجدون في كتاب ال هذه الية‪:‬‬
‫(والذين يكنزون الذهب والفضة ول ينفقونها في سبيل ال فبشرهم بعذاب أليم‪ ..‬يوم يحمى عليها في نار جهنّم‪ ،‬فتكوى بها جباههم‪،‬‬
‫وجنوبهم‪ ،‬وظهورهم‪ ،‬هذا ما كنزتم لنفسكم‪ ،‬فذوقوا ما كنتم تكنزون)‪..‬؟؟‬

‫ويختلم معاوية طريق الحديث قائل‪ :‬لقد أنزلت هذه الية في أهل الكتاب‪..‬‬
‫ويصيح أبو ذر‪ :‬ل بل أنزلت لنا ولهم‪..‬‬
‫ويتابع أبو ذر القول ناصحا معاوية ومن معه أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال‪ ..‬وأل يدّخر أحدهم لنفسه أكثر من‬
‫حاجات يومه‪..‬‬
‫وتتناقل المحافل والجموع نبأ هذه المناظرة وأنباء أبي ذر‪..‬‬
‫ويتعالى نشيد أبي ذر في البيوت والطرقات‪:‬‬
‫(بشّر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة)‪..‬‬

‫وي ستشعر معاو ية الخ طر‪ ،‬وتفز عه كلمات الثائر الجل يل‪ ،‬ولك نه يعرف له قدره‪ ،‬فل يق ّر به ب سوء‪ ،‬ويك تب عن فوره للخلي فة عثمان‬
‫رضي ال عنه يقول له‪ ":‬ان أبا ذر قد أفسد النس بالشام"‪..‬‬
‫ويكتب عثمان لبي ذر يستدعيه للمدينة‪.‬‬
‫ويحسر أبي ذر طرف ردائه عن ساقيه مرّة أخرى ويسافر الى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة‬
‫والوداع‪!!..‬‬

‫**‬

‫(ل حاجة لي في دنياكم)‪!!..‬‬


‫هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل الى المدسنة‪ ،‬وجرى بينهما حوار طويل‪.‬‬
‫ل قد خرج عثمان من حواره مع صاحبه‪ ،‬و من النباء ال تي توافدت عل يه من كل القطار عن مشاي عة الجماه ير لراء أ بي ذر‪ ،‬بادراك‬
‫صحيح لخطر دعوته وقوتها‪ ،‬وقرر أن يحتفظ به الى جواره في المدينة‪ ،‬محددا بها اقامته‪.‬‬
‫ولقد عرض عثمان قراره على أبي ذر عرضا رفيقا‪ ،‬رقيقا‪ ،‬فقال له‪ ":‬ابق هنا يجانبي‪ ،‬تغدو عليك القاح وتروح"‪..‬‬
‫وأجابه أبو ذر‪:‬‬
‫(ل حاجة لي في دنياكم)‪!.‬‬

‫أجل ل حاجة له في دنيا الناس‪ ..‬انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح‪ ،‬ويحيون الحياة ليعطوا ل ليأخذوا‪!!..‬‬
‫ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي ال عنه أن يأذن له الخروج الى الرّبذة فأذن له‪..‬‬

‫ول قد ظل و هو في احتدام معارض ته أمي نا ل ور سوله‪ ،‬حاف ظا في اعماق رو حه الن صيحة ال تي وجه ها ال يه الر سول عل يه ال صلة‬
‫والسلم أل يحمل السيف‪ ..‬لكأن الرسول رأى الغيب كله‪ ..‬غيب أبي ذر ومستقبله‪ ،‬فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية‪.‬‬
‫ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بايقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لشباع ولعهم وكيدهم‪.‬‬
‫جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة‪ ،‬فزجرهم بكلمات حاسمة‪:‬‬
‫" وال لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة‪ ،‬أ جبل‪ ،‬لسمعت‪ ،‬وأطعت‪ ،‬وصبرت واحتسبت‪ ،‬ورأيت ذلك خيرا لي‪"..‬‬
‫" ولوسيّرني ما بين الفق الى الفق‪ ،‬لسمعت وأطعت‪ ،‬وصبرت واحتسبت‪ ،‬ورأيت ذلك خيرا لي‪..‬‬
‫" ولو ردّني الى منزلي‪ ،‬لسمعت وأطعت‪ ،‬وصبرت واحتسبت‪ ،‬ورأيت ذلك خيرا لي"‪..‬‬

‫ذلك رجل ل يريد غرضا من أغراض الدنيا‪ ،‬ومن ثم أفاء ال عليه نور البصيرة‪ ..‬و من ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عل يه الفتنة‬
‫المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها‪ ..‬كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر‪ ،‬فتحاشاه أيضا‪ ،‬ورفع صوته ل سيفه بكلمة‬
‫الحق ولهجة الصدق‪ ،‬ل أطماع تغريه‪ ..‬ول عواقب تثنيه‪!..‬‬
‫لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة المينة وتبتّل‪.‬‬

‫و سيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال‪ ،‬فالح كم والمال يملكان من الغراء والفت نة ما يخا فه أ بو ذر على اخوا نه‬
‫الذين حملوا راية السلم مع رسولهم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والذين يجب أن يظلوا لها حاملين‪.‬‬
‫والحكم والمال أيضا‪ ،‬هما عصب الحياة للمة والجماعات‪ ،‬فاذا اعتورهما الضلل تعرضت مصاير الناس للخطر الكيد‪.‬‬
‫ولقد كان أبو ذر يتمنى لصحاب الرسول أل يلي أحد منهم امارة أو يجمع ثروة‪ ،‬وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى‪ ،‬وعبّادا ل‪..‬‬
‫وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال‪ ،‬وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا‪ ..‬ولطالما سمع النبي صلى ال عليه وسلم يحذر‬
‫أصحابه من اغراء المارة ويقول عنها‪:‬‬
‫"‪ ..‬انها أمانة‪ ،‬وانها يوم القيامة خزي وندامة‪ ..‬ال من أخذها بحقها‪ ،‬وأدّى الذي عليه فيها"‪...‬‬

‫ولقد بلغ المر بأبي ذر لى تجنّب اخوانه ان لم يكن مقاطعتهم‪،‬لنهم ولوا المارات‪ ،‬وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة‪..‬‬
‫لقيه أبو موسى الشعري يوما‪ ،‬فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه‪ ":‬مرحبا أبا ذر‪ ..‬مرحبا بأخي"‪.‬‬
‫ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول‪:‬‬
‫" لست بأخيك‪ ،‬انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا"‪!..‬‬
‫كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا‪ ،‬ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له‪:‬‬
‫(اليك عني‪ ..‬ألست الذي وليت المارة‪ ،‬فتطاولت في البنيان‪ ،‬واتخذت لك ماشية وزرعا)‪..‬؟؟‬
‫ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات‪..‬‬
‫وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الجكم والثروة‪..‬‬
‫ولكن لبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه‪ ،‬ومع ايمانه‪ ،‬فأبو ذر يقف بأحلمه وأعماله‪ ..‬بسلوكه ورؤاه‪ ،‬عند المستوى الذي‬
‫خلفه لهم رسول ال وصاحباه‪ ..‬أبو بكر وعمر‪..‬‬

‫واذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية ل يدرك شأوها‪ ،‬فان ا با ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل‪ ،‬ول سيما لولئك‬
‫الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلم‪ ،‬وصلوا وراءه‪ ،‬وجاهدوا معه‪ ،‬وبايعوه على السمع والطاعة‪.‬‬
‫كما أنه يدرك بوعيه المضيء‪ ،‬ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصاير الناس‪ ،‬ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم‪ ،‬أو عدالة‬
‫الثروة‪ ،‬يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته‪.‬‬

‫**‬

‫ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حامل لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلم وصاحبيه‪ ،‬أمينا عليها‪ ،‬حارسا لها‪ ..‬وكان أستاذ في‬
‫فن التفوق على مغريات المارة والثروة‪...،‬‬
‫عرضت عليه المارة بالعراق فقال‪:‬‬
‫" ل وال‪ ..‬لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا"‪..‬‬
‫ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله‪:‬‬
‫أليس لك ثوب غير هذا‪..‬؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين‪..‬؟‬
‫فأجابه أبو ذر‪ " :‬يا بن أخي‪ ..‬لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني"‪..‬‬
‫قال له‪ :‬وال انك لمحتاج اليهما!!‬
‫فأجاب أب ذر‪" :‬الل هم غ فر‪ ..‬ا نك لمعظّم للدن يا‪ ،‬أل ست ترى عل يّ هذه البردة‪..‬؟؟ ولي أخرى ل صلة الجم عة‪ ،‬ولي عنزة أحلب ها‪ ،‬وأتان‬
‫أركبها‪ ،‬فأي نعمة أفضل ما نحن فيه"‪..‬؟؟‬

‫**‬
‫وجلس يوما يحدّث ويقول‪:‬‬
‫[أوصاني خليلي بسبع‪..‬‬
‫أمرني بحب المساكين والدنو منهم‪..‬‬
‫وأمرني أن أنظر الى من هو دوني‪ ،‬ولأنظر الى من هو فوقي‪..‬‬
‫وأمرني أل أسأل أحد شيئا‪..‬‬
‫وأمرني أن أصل الرحم‪..‬‬
‫وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا‪..‬‬
‫وأمرني أن ل أخاف في ال لومة لئم‪..‬‬
‫وأمرني أن أكثر من‪ :‬ل حول ول قوة ال بال]‪.‬‬

‫ولقد عاش هذه الوصية‪ ،‬وصاغ حياته وفقها‪ ،‬حتى صار "ضميرا" بين قومه وأمته‪..‬‬

‫ويقول المام علي رضي ال عنه‪:‬‬


‫"لم يبق اليوم أحد ل يبالي في ال لومة لئم غير أبي ذر"‪!!..‬‬
‫عاش يناهض استغلل الحكم‪ ،‬واحتكار الثروة‪..‬‬
‫عاش يدحض الخطأ‪ ،‬ويبني الصواب‪..‬‬
‫عاش متبتل لمسؤولية النصح والتحذير‪..‬‬
‫يمنعونه من الفتوى‪ ،‬فيزداد صوته بها ارتفاعا‪ ،‬ويقول لمانعيه‪:‬‬
‫" والذي نفسي بيده‪ ،‬لو وضعتم السيف فوق عنقي‪ ،‬ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن تحتزوا‬
‫لنفذتها"‪!!..‬‬

‫ويا ليت المسلمين استمعوا يومئذ لقوله ونصحه‪..‬‬


‫اذن ل ما ماتت في مهدها تلك الف تن التي تفقم فيما ب عد أمرها وا ستفحل خطرها‪ ،‬وع ّر ضت تادواة والمجتمع وال سلم لخطار‪ ،‬ما كان‬
‫أقساها من أخطار‪.‬‬
‫والن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة‪ ..‬المكان الذي اختار القامة فيه اثر خلفه مع عثمان رضي ال عنه‪ ،‬فتعالوا بنا اليه نؤد‬
‫للراحل العظيم تحية الوداع‪ ،‬ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام‪.‬‬
‫ان هذه السيدة السمراء الضامرة‪ ،‬الجالسة الى جواره تبكي‪ ،‬هي زوجته‪..‬‬
‫وانه ليسألها‪ :‬فيم البكاء والموت حق‪..‬؟‬
‫فتجيبه بأنها تبكي‪ " :‬لنك تموت‪ ،‬وليس عندي ثوب يسعك كفنا"‪!!..‬‬
‫ن رجل منكم بفلة من‬
‫"‪ ..‬ل تبكي‪ ،‬فاني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول‪ :‬ليموت ّ‬
‫الرض‪ ،‬تشهده عصابة من المؤمنين‪..‬‬
‫و كل من كان م عي في ذلك المجلس مات في جما عة وقر ية‪ ،‬ولم ي بق من هم غيري ‪ ..‬وهأنذا بالفلة أموت‪ ،‬فرا قبي الطر يق‪ ،،‬ف ستطلع‬
‫علينا عصابة من المؤمنين‪ ،‬فاني وال ما كذبت ول كذبت"‪.‬‬
‫وفاضت روحه الى ال‪..‬‬
‫ولقد صدق‪..‬‬
‫فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء‪ ،‬تؤلف جماعة من المؤمنين‪ ،‬وعلى رأسهم عبدال بن مسعود صاحب رسول ال‪.‬‬
‫وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه‪ ..‬مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت‪ ،‬والى جواره سيدة وغلم يبكيان‪..‬‬
‫ويلوي زمام داب ته والر كب م عه صوب المش هد‪ ،‬ول يكاد يل قي نظرة على الجثمان‪ ،‬ح تى ت قع عيناه على و جه صاحبه وأخ يه في ال‬
‫والسلم أبي ذر‪.‬‬
‫وتفيض عيناه بالدمع‪ ،‬ويقف على جثمانه الطاهر يقول‪ ":‬صدق رسول ال‪ ..‬نمشي وحدك‪ ،‬وتموت وحدك‪ ،‬وتبعث وحدك"‪!.‬‬
‫ويجلس ابن مسعود رضي ال عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها‪ ":‬تمشي وحدك‪ ..‬وتموت حدك‪ ..‬وتبعث وحدك"‪...‬‬

‫**‬

‫كان ذلك في غزوة تبوك‪ ..‬سنة تسع من الهجرة‪ ،‬وقد أمر الرسول عليه السلم بالتهيؤ لملقاة الروم‪ ،‬الذين شرعوا يكيدون للسلم‬
‫ويأتمرون به‪.‬‬
‫وكانت اليام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ‪..‬‬
‫وكانت الشقة بعيدة‪ ..‬والعدو مخيفا‪..‬‬
‫ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين‪ ،‬تعللوا بشتى المعاذير‪..‬‬
‫وخرج الرسسول وصسحبه‪ ..‬وكلمسا أمعنوا فسي السسير ازدادوا جهدا ومشقسة‪ ،‬فجعسل الرجسل يتخلف‪ ،‬ويقولون يسا رسسول اللهتخلف فلن‪،‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫" دعوه‪.‬‬
‫فان يك فيه خير فسيلحقه ال بكم‪..‬‬
‫وان يك غير ذلك فقد أراحكم ال منه"‪!!..‬‬
‫وتلفت القوم ذات مرة‪ ،‬فلم يجدوا أبا ذر‪ ..‬وقالوا للرسول عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫لقد تخلف أبو ذر‪ ،‬وأبطأ به بعيره‪..‬‬
‫وأعاد الرسول مقالته الولى‪..‬‬
‫كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من العياء خطاه‪..‬‬
‫وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد‪ ،‬ولكن العياء كان يلقي ثقله على البعير‪..‬‬
‫ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الثر‪ ،‬فنزل من فوق ظهر البعير‪ ،‬وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى‬
‫ماشيا على قدميه‪ ،‬مهرول‪ ،‬وسط صحراء ملتهبة‪ ،‬كما يدرك رسوله عليه السلم وصحبه‪..‬‬

‫و في الغداة‪ ،‬و قد و ضع الم سلمون رحال هم لي ستريحوا‪ ،‬ب صر أحد هم فرأى سحابة من الن قع والغبار تخ في وراء ها ش بح ر جل ي غذ‬
‫السير‪..‬‬
‫وقال الذي رأى‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذا رجل يمشي على الطريق وحده‪..‬‬
‫وقال الرسول عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫(كن أبا ذر)‪..‬‬

‫وعادوا لما كانوا فيه من حديث‪ ،‬ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم‪ ،‬وعندها يعرفون من هو‪..‬‬
‫وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا‪ ..‬يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلعا‪ ،‬وحمله فوق ظهره بتؤدة‪ ..‬ولكنه مغتبط فرحان لنه‬
‫أردك القافلة المباركة‪ ،‬ولم يتخلف عن رسول ال واخوانه المجاهدين‪..‬‬
‫وحين بلغ أول القافلة‪ ،‬صاح صائهحم‪ :‬يار سول ال‪ :‬انه وال أبا ذر‪..‬‬
‫وسار أبو ذر صوب الرسول‪.‬‬
‫ولم يكد صلى ال عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫[يرحم ال أبا ذر‪..‬‬
‫يمشي وحده‪..‬‬
‫ويموت وحده‪..‬‬
‫ويبعث وحده‪.]..‬‬

‫وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد‪ ،‬مات أبو ذر وحيدا‪ ،‬في فلة الربذة‪ ..‬بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم‬
‫يتألق فوقه سواه‪ ..‬ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده‪ ،‬وبطولة صموده‪..‬‬

‫ولسوف يبعث عند ال وحيدا كذلك؛ لن زحام فضائله المتعددة‪ ،‬لن يترك بجانبه مكانا لحد سواه‪!!!..‬‬

‫بلل بن رباح‬
‫الساخر من الهوال‬

‫كان عمر بن الخطاب‪ ،‬اذا ذكر أبو بكر قال‪:‬‬


‫" أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"‪..‬‬
‫يعني بلل رضي ال عنه‪..‬‬
‫وان رجل يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ‪..‬‬
‫ل كن هذا الر جل الشد يد ال سمرة‪ ،‬النح يف النا حل‪ ،‬المفرط الطول ال كث الش عر‪ ،‬الخف يف العارض ين‪ ،‬لم ي كن ي سمع كلمات المدح والثناء‬
‫توجه اليه‪ ،‬وتغدق عليه‪ ،‬ال ويحني رأسه ويغض طرفه‪ ،‬ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل‪:‬‬
‫"انما أنا حبشي‪ ..‬كنت بالمس عبدا"‪!!..‬‬
‫فمن هذا الحبشي الذي كان بالمس عبدا‪!!..‬‬
‫انه "بلل بن رباح" مؤذن السلم‪ ،‬ومزعج الصنام‪..‬‬
‫انه احدى معجزات اليمان والصدق‪.‬‬
‫احدى معجزات السلم العظيم‪..‬‬
‫في كل عشرة مسلمين‪ .‬منذ بدأ السلم الى اليوم‪ ،‬والى ما شاء ال سنلتقي بسبعة على القل يعرفون بلل‪..‬‬
‫أي أن هناك مئات المليين من البشر عبر القرون والجيال عرفوا بلل‪ ،‬وحفظوا اسمه‪ ،‬وعرفوا دوره‪ .‬تماما كما عرفوا أعظم خليفتين‬
‫في السلم‪ :‬أبي بكر وعمر‪!!...‬‬
‫وانك لتسأل الطفل الذي ل يزال يحبو في سنوات دراسته الولى في مصر‪ ،‬أ‪ ،‬باكستان‪ ،‬أ‪ ،‬الصين‪..‬‬
‫وفي المريكيتين‪ ،‬وأوروبا وروسيا‪..‬‬
‫وفي تاعراق ‪ ،‬وسوريا‪ ،‬وايران والسودان‪..‬‬
‫في تونس والمغرب والجزائر‪..‬‬
‫في أعماق أفريقيا‪ ،‬وفوق هضاب آسيا‪..‬‬
‫في كل يقعة من الرض يقتنها مسلمون‪ ،‬تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم‪ :‬من بلل يا غلم؟‬
‫فيجيبك‪ :‬انه مؤذن الرسول‪ ..‬وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬

‫وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه السلم بلل‪ ..‬فاعلم أن بلل هذا‪ ،‬لم يكن قبل السلم أكثر من عبد رقيق‪ ،‬يرعى ابل سيّده على‬
‫حفنات من التمر‪ ،‬حتى يطو به الموت‪ ،‬ويطوّح به الى أعماق النسيان‪..‬‬
‫لكن صدق ايمانه‪ ،‬وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته‪ ،‬وفي تاريخه مكانا عليّا في السلم بين العظماء والشرفاء والكرماء‪...‬‬
‫ان كثيرا من عليّة البشر‪ ،‬وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم‪ ،‬لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلل العبد الحبشي‪!!..‬‬
‫بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلل‪..‬‬
‫ان سواد بشرته‪ ،‬وتواضع حسبه ونسبه‪ ،‬وهوانه على النس كعبد رقيق‪ ،‬لم يحرمه حين آثر السلم دينا‪ ،‬من أن يتبوأ المكان الرفيع‬
‫الذي يؤهله له صدقه ويقينه‪ ،‬وطهره‪ ،‬وتفانيه‪..‬‬

‫ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب‪ ،‬ال حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها‪..‬‬
‫فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلل‪ ،‬ينتمي الى أصول غريبة‪ ..‬ليس له أهل‪ ،‬ول حول‪ ،‬ول يملك من حياته شيئا‪ ،‬فهو ملك لسيّده‬
‫الذي اشتراه بماله‪ ..‬يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته‪..‬‬
‫كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن‪ ،‬ل يمكن أن يقدر على شيء ول أن يكون شيئا‪..‬‬
‫ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا‪ ،‬فيقدر على ايمان‪ ،‬هيهات أن يقدر على مثله سواه‪ ..‬ثم يكون أول مؤذن للرسول والسلم العمل الذي‬
‫كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول‪!!..‬‬
‫أجل‪ ..‬بلل بن رباح!‬
‫أيّة بطولة‪ ..‬وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلث بلل ابن رباح‪..‬؟!‬

‫**‬

‫انه حبشي من أمة السود‪ ...‬جعلته مقاديره عبدا لناس من بني جمح بمكة‪ ،‬حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم‪..‬‬
‫كان يعيش عيشة الرقيق‪ ،‬تمضي أيامه متشابهة قاحلة‪ ،‬ل حق له في يومه‪ ،‬ول أمل له في غده‪!!..‬‬
‫ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه‪ ،‬حين أخذ النس في مكة يتناقلونها‪ ،‬وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم‪ ،‬سيما "أمية‬
‫بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلل أحد عبيدها‪..‬‬
‫لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا‪ ،‬وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا‪ ،‬وغمّا وشرا‪..‬‬

‫وكانت أذن بلل تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون‪ ،‬الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد‪ ..‬وكان يحس أنها صفات جديدة على‬
‫هذه البيئة التي يعيش فيها‪ ..‬كما كانت أذنه تلتقط من خلل أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته‪!!..‬‬
‫أجل انه ليسمعهم يعجبون‪ ،‬ويحارون‪ ،‬في هذا الذي جاء به محمد‪!!..‬‬
‫ويقول بعضهم لبعض‪ :‬ما كان محمد يوما كاذبا‪ .‬ول ساحرا‪..‬ول مجنونا‪ ..‬وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله‪ ،‬حتى نصدّ عنه‬
‫الذين سيسارعون الى دينه‪!!..‬‬
‫سمعهم يتحدّثون عن أمانته‪..‬‬
‫عن وفائه‪..‬‬
‫عن رجولته وخلقه‪..‬‬
‫عن نزاهته ورجاحة عقله‪..‬‬
‫وسمعهم يتهامسون بالسباب ال تي تحملهم على تحد يّ وعداوته‪ ،‬تلك هي‪ :‬ولؤهم لد ين آبائهم أول‪ .‬والخوف على مجد قريش ثانيا‪،‬‬
‫ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني‪ ،‬كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها‪ ،‬ثم الحقد على بني هاشم‪ ،‬أن يخرج منهم‬
‫دون غيرهم نبي ورسول‪!...‬‬

‫**‬

‫وذات يوم يبصر بلل ب رباح نور ال‪ ،‬ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه‪ ،‬فيذهب الى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويسلم‪..‬‬
‫ول يل بث خبر ا سلمه أن يذ يع‪ ..‬وتدور الرض برؤوس أ سياده من ب ني ج مح‪ ..‬تلك الرؤوس ال تي نفخ ها ال كبر وأثقل ها الغرور‪!!..‬‬
‫وتجثم شياطين الرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلم عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار‪..‬‬
‫عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد‪..‬؟!‬
‫ويقول أميّة لنفسه‪ :‬ومع هذا فل بأس‪ ..‬ان شمس هذا اليوم لن تغرب ال ويغرب معها اسلم هذا العبد البق‪!!..‬‬
‫ولكن الشمس لم تغرب قط باسلم بلل بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها‪ ،‬وحماة الوثنية فيها‪!...‬‬

‫**‬

‫أما بلل فقد كان له موقف ليس شرفا للسلم وحده‪ ،‬وان كان السلم أحق به‪ ،‬ولكنه شرف للنسانية جميعا‪..‬‬
‫لقد صمد لقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام‪.‬‬
‫ولكأنما جعله ال مثل على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة ل ينالن من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها‪ ،‬واعتصمت بباريها‪ ،‬وتشبثت‬
‫بحقها‪..‬‬
‫لقد أعطى بلل درسا بليغا للذين في زمانه‪ ،‬وفي كل مان‪ ،‬للذين على دينه وعلى كل دين‪ ..‬درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته ل‬
‫يباعان بملء الرض ذهبا‪ ،‬ول بملئها عذابا‪..‬‬
‫لقد وضع عريانا فوق الجمر‪ ،‬على أن يزيغ عن دينه‪ ،‬أو يزيف اقتناعه فأبى‪..‬‬

‫ل قد جعل الرسول عل يه ال صلة والسلم‪ ،‬والسلم‪ ،‬من هذا الع بد الحبشي الم ستضعف أستاذا للبشر ية كلها في فن احترام الضم ير‪،‬‬
‫والدفاع عن حريته وسيادته‪..‬‬
‫لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة‪ ..‬فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان‪ ،‬ثم يأتون‬
‫بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال‪ ،‬ويلقون به فوق جسده وصدره‪..‬‬
‫ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم‪ ،‬حتى رقّت لبلل من هول عذابه بعض قلوب جلديه‪ ،‬فرضوا آخر المر أن يخلوا سبيله‪ ،‬على أن‬
‫يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم‪ ،‬ول تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره‪..‬‬

‫ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه‪ ،‬ويشتري بها حياته نفسه‪ ،‬دون أن يفقد ايمانه‪ ،‬ويتخلى‬
‫عن اقتناعه‪..‬‬
‫حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلل أن يقولها‪!..‬‬
‫نعم لقد رفض أن يقولها‪ ،‬وصار يردد مكانها نشيده الخالد‪":‬أحد أحد"‬
‫يقولون له‪ :‬قل كما نقول‪..‬‬
‫فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية‪:‬‬
‫"ان لساني ل يحسنه"‪!!..‬‬
‫ويظل بلل في ذوب الحميم وصخره‪ ،‬حتى اذا حان الصيل أقاموه‪ ،‬وجعلوا في عنقه حبل‪ ،‬ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة‬
‫وشوارعها‪ .‬وبلل ل يلهج لسانه بغير نشيده المقدس‪ ":‬أحد أحد"‪.‬‬

‫وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه‪:‬‬


‫غدا قل كلمات خير في آلهتنا‪ ،‬قل ربي اللت والعزى‪ ،‬لنذرك وشأتك‪ ،‬فقد تعبنا من تعذيبك‪ ،‬حتى لكأننا نحن المعذبون!‬
‫فيهز رأسه ويقول‪ ":‬أحد‪ ..‬أحد‪."..‬‬
‫ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا‪ ،‬ويصيح‪ :‬أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء‪..‬؟واللت والعزى لجعلنك للعبيد والسادة مثل‪.‬‬
‫ويجيب بلل في يقين المؤمن وعظمة القديس‪:‬‬
‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬
‫ويعود للحديث والمساومة‪ ،‬من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫خل عنك يا أميّة‪ ..‬واللت لن يعذب بعد اليوم‪ ،‬ان بلل منا أمه جاريتنا‪ ،‬وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلمه حديث قريش وسخريّتها‪..‬‬
‫ويحدّق بلل في الوجوه الكاذبة الماكرة‪ ،‬ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر‪ ،‬ويقول في هدوء يزلزلهم زلزال‪:‬‬
‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬
‫وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة‪ ،‬ويؤخذ بلل الى الرمضاء‪ ،‬وهو صابر محتسب‪ ،‬صامد ثابت‪.‬‬
‫ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه‪ ،‬ويصيح بهم‪:‬‬
‫(أتقتلون رجل أن يقول ربي ال)؟؟‬
‫ثم يصيح في أميّة بن خلف‪ :‬خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا‪..‬‬
‫وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة‪..‬‬

‫لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لل قد بلغ في في نفوسهم أشده‪ ،‬ولنهم‬
‫كانوا من التجار‪ ،‬فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته‪..‬‬
‫باعوه لبي بكر الذي حرّره من فوره‪ ،‬وأخذ بلل مكانه بين الرجال الحرار‪...‬‬

‫وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلل منطلقا به الى الحرية قال له أمية‪:‬‬
‫خذه‪ ،‬فواللت والعزى‪ ،‬لو أبيت ال أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها‪..‬‬
‫وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة المل وكان حريّا بأل يجيبه‪..‬‬
‫ولكن لن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له‪ ،‬وندّا‪،‬أجاب أمية قائل‪:‬‬
‫وال لو أبيتم أنتم ال مائة أوقية لدفعتها‪!!..‬‬

‫وانطلق بصاحبه الى رسول ال يبشره بتحريره‪ ..‬وكان عيدا عظيما!‬


‫وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة‪ ،‬واستقرارهم بها‪ ،‬يشرّع الرسول للصلة أذانها‪..‬‬
‫فمن يكون المؤذن للصلة خمس مرات كل يوم‪..‬؟ وتصدح عبر الفق تكبيراته وتهليلته‪..‬؟‬
‫انه بلل‪ ..‬الذي صاح منذ ثلث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن‪" :‬ال أحد‪..‬أحد"‪.‬‬
‫لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للسلم‪.‬‬
‫ي مضى يمل الفئدة ايمانا‪ ،‬والسماع روعة وهو ينادى‪:‬‬
‫وبصوته النديّ الشج ّ‬
‫ال أكبر‪ ..‬ال أكبر‬
‫ال أكبر ‪ ..‬ال أكبر‬
‫أشهد أن لاله ال ال‬
‫أشهد أن ل اله ال ال‬
‫أشهد أن محمدا رسول ال‬
‫أشهد أن محمدا رسول ال‬
‫حي على الصلة‬
‫حي على الصلة‬
‫حي على الفلح‬
‫حي على الفلح‬
‫ال أكبر‪ ..‬ال أكبر‬
‫لاله ال ال‪...‬‬

‫ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا‪..‬‬
‫وتدور الحرب عنيفسة قاسسية ضاريسة‪..‬وبلل هناك يصسول ويجول فسي أول غزوة يخوضهسا السسلم‪ ،‬غزوة بدر‪ ..‬تلك الغزوة التسي أمسر‬
‫الرسول عليه السلم أن يكون شعارها‪" :‬أحد‪..‬أحد"‪.‬‬

‫**‬

‫في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلذ أكبادها‪ ،‬وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم‪!!..‬‬
‫ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" ‪ ..‬هذا الذي كان سيدا لبلل‪ ،‬والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة‪..‬‬

‫ه مّ بالنكوص لول أن ذ هب ال يه صديقه "عق بة بن أ بي مع يط" ح ين علم عن ن بأ تخاذله وتقاع سه‪ ،‬حامل في يمي نه مجمرة ح تى اذا‬
‫واجهه وهو جالس وسط قومه‪ ،‬ألقى الجمرة بين يديه وقال له‪ :‬يا أبا علي‪ ،‬استجمر بهبذ‪ ،‬فانما أنت من النساء‪!!!..‬‬
‫وصاح به أمية قائل‪ :‬قبحك ال‪ ،‬وقبّح ما جئت به‪..‬‬
‫ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج‪..‬‬
‫أيّة أسرار للقدر‪ ،‬يطويها وينشرها‪..‬؟‬
‫لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لمية على تعذيب بلل‪ ،‬وغير بلل من المسلمين المستضعفين‪..‬‬
‫واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه‪!!..‬‬
‫كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!‬
‫لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب‪ ..‬ولول تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج‪!!..‬‬
‫ول كن ال بالغ أمره‪ ،‬فليخرج أم ية فان بي نه وب ين ع بد من عباد ال ح سابا قدي ما‪ ،‬جاء أوان ت صفيته‪ ،‬فالديّان ل يموت‪ ،‬وك ما تدينون‬
‫تدانون‪!!..‬‬

‫وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين‪ ..‬فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه‪ ،‬ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين البرياء‪ ،‬هو‬
‫نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه‪..‬‬
‫وبيد من‪..‬؟‬
‫بيد بلل نفسه‪ ..‬وبلل وحده!!‬
‫نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلسل‪ ،‬وأوجع صاحبها ضربا‪ ،‬وعذابا‪..‬‬
‫مع هذه اليد ذاتها‪ ،‬هي اليوم‪ ،‬وفي غزوة بدر‪ ،‬على موعد أجاد القدر توقيته‪ ،‬مع جلد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا‪..‬‬
‫ولقد حدث هذا تماما‪..‬‬

‫وحين بدأ القتال بين الفريقين‪ ،‬وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم‪ ":‬أحد‪ ..‬أحد" انخلع قلب أمية‪ ،‬وجاءه النذير‪..‬‬
‫ان الكلمة التي كان يرددها بالمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار المة الجديدة كلها‪!!..‬‬
‫"أحد‪..‬أحد"؟؟!!‬
‫أهكذا‪..‬؟ وبهذه السرعة‪ ..‬وهذا النمو العظيم‪..‬؟؟‬

‫**‬

‫وتلحمت السيوف وحمي القتال‪..‬‬


‫وبين ما المعر كة تقترب من نهايت ها‪ ،‬ل مح أم ية بن خلف" ع بد الرح من بن عوف" صاحب ر سول ال‪ ،‬فاحت مى به‪ ،‬وطلب ال يه أن يكون‬
‫أسيره رجاء أن يخلص بحياته‪..‬‬
‫وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره‪ ،‬ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى‪.‬‬
‫وفي الطريق لمح بلل فصاح قائل‪:‬‬
‫"رأس الكفر أميّة بن خلف‪ ..‬ل نجوت ان نجا"‪.‬‬
‫ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر‪ ،‬فصاح به عبد الرحمن بن عوف‪:‬‬
‫"أي بلل‪ ..‬انه أسيري"‪.‬‬
‫أسير والحرب مشبوبة دائرة‪..‬؟‬
‫أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين‪..‬؟‬
‫ل‪ ..‬ذلك في رأي بلل ضحك بالعقول وسخرية‪ ..‬ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية‪..‬‬
‫سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم‪ ،‬وهذا المأزق‪ ،‬وهذا المصير‪!!..‬‬
‫ورأى بلل أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬فصاح بأعلى صوته في المسلمين‪:‬‬
‫"يا أنصار ال‪ ..‬رأس الكفر أمية بن خلف‪ ،‬ل نجوت ان نجا"‪!...‬‬
‫وأقبلت كوك بة من الم سلمين تق طر سيوفهم المنا يا‪ ،‬وأحا طت بأم ية واب نه ولم ي ستطع ع بد الرح من بن عوف أن ي صنع شيئا‪ ..‬بل لم‬
‫يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم‪.‬‬
‫وألقى بلل على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة‪ ،‬ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح‪:‬‬
‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬
‫**‬

‫ل أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلل في مثل هذا المقام‪..‬‬
‫فلو أن اللقاء بين بلل وأمية ت ّم في ظروف أخرى‪ ،‬لجازنا أن نسال بلل حق التسامح‪ ،‬وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل‬
‫به‪.‬‬
‫لكن اللقاء الذي تم بينهما‪ ،‬كان في حرب‪ ،‬جاءها كل فريق ليفني غريمه‪..‬‬

‫ال سيوف تتو هج‪ ..‬والقتلى ي سقطون‪ ..‬والمنا يا تتوا ثب‪ ،‬ثم يب صر بلل أم ية الذي لم يترك في ج سده مو ضع أنملة ال ويح مل آثار‬
‫تعذيب‪.‬‬
‫وأين يبصره وكيف‪..‬؟‬
‫يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين‪ ،‬ولو أدرك رأس بلل ساعتئذ لطوّح به‪..‬‬
‫في ظروف كهذه يلتقي الرجلن فيها‪ ،‬ل يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلل‪ :‬لماذا لم يصفح الصفح الجميل‪..‬؟؟‬

‫**‬

‫وتمضي اليام وتفتح مكة‪..‬‬


‫ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلف من المسلمين‪..‬‬
‫ويتوجه الى الكعبة رأسا‪ ..‬هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الصنام‪!!..‬‬
‫لقد جاء الحق وزهق الباطل‪..‬‬
‫ومن اليوم ل عزى‪ ..‬ول لت‪ ..‬ول هبل‪ ..‬لن يجني النسان بعد اليوم هامته لحجر‪ ،‬ول وثن‪ ..‬ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم ال ال‬
‫الي ليس كمثله شيء‪ ،‬الواحد الحد‪ ،‬الكبير المتعال‪..‬‬
‫ويدخل الرسول الكعبة‪ ،‬مصطحبا معه بلل‪!..‬‬
‫ول يكاد يدخلها حتى يواجه تمثال منحوتا‪ ،‬يمثل ابراهيم عليه السلم وهو يستقسم بالزلم‪ ،‬فيغضب الرسول ويقول‪:‬‬
‫"قاتلهم ال‪..‬‬
‫ما كان شيخنا يستقسم بالزلم‪ ..‬ما كان ابراهيم يهوديا ول نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين"‪.‬‬

‫ويأمر بلل أن يعلو ظهر المسجد‪ ،‬ويؤذن‪.‬‬


‫ويؤذن بلل‪ ..‬فيالروعة الزمان‪ ،‬واملكان‪ ،‬والمناسبة‪!!..‬‬
‫كفت الحياة في مكة عن الحركة‪ ،‬ووقفت اللوف المسلمة كالنسمة الساكنة‪ ،‬تردد في خشوع وهمس كلمات الذان ورء بلل‪.‬‬

‫والمشركون في بيوتهم ل يكادون يصدقون‪:‬‬


‫أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالمس من هذا الديار‪..‬؟؟‬
‫أهذا هو حقا‪ ،‬ومعه عشرة آلف من المؤمنين‪..‬؟؟‬
‫أهذا هو حقا الذي قاتلناه‪ ،‬وطاردنبه‪ ،‬وقتلنا أحب الناس اليه‪..‬؟‬
‫أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه‪ ،‬ويقول لنا‪:‬‬
‫"اذهبوا فأنتم الطلقاء"‪!!..‬‬
‫ولكن ثلثة من أشراف قريش‪ ،‬كانوا جلوسا بفناء الكعبة‪ ،‬وكأنما يلفحهم مشهد بلل وهو يدوس أصنامهم بقدميه‪ ،‬ويرسل من فوق‬
‫ركامها المهيل صوته بالذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع‪..‬‬
‫أما هؤلء الثلثة فهم‪ ،‬أبوسفيان بن حرب‪ ،‬وكان قد أسلم منذ ساعات‪ ،‬وعتّاب بن أسيد‪ ،‬والحارث بن هشام‪ ،‬وكانا لم يسلما بعد‪.‬‬

‫قال عتاب وعينه على بلل وهو يصدح بأذانه‪:‬‬


‫لقد أكرم ال اسيدا‪ ،‬أل يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه‪ .‬وقال الحارث‪:‬‬
‫أما وال لو أعلم أن محمدا محق لتبعته‪!!..‬‬
‫وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائل‪:‬‬
‫اني ل أقول شيئا‪ ،‬فلو تكلمت لخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم‪ ،‬وقرأ وجوههم في لحظة‪ ،‬قال وعيناه تتألقان‬
‫بنور ال‪ ،‬وفرحة النصر‪:‬‬
‫قد علمت الذي قلتم‪!!!..‬‬
‫ومضى يحدثهم بما قالوا‪..‬‬
‫فصاح الحارث وعتاب‪:‬‬
‫نشهد أنك رسول ال‪ ،‬وال ما سمعنا أحد فنقول أخبرك‪!!..‬‬
‫واستقبل بلل بقلوب جديدة‪..‬في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة‪:‬‬
‫" يامعشر قريش‪..‬‬
‫ان ال قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالباء‪..‬‬
‫الناس من آدم وآدم من تراب"‪..‬‬

‫**‬

‫وعاش بلل مع ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪ ،‬يش هد م عه المشا هد كل ها‪ ،‬يؤذن لل صلة‪ ،‬ويح يي ويح مي شعائر هذا الد ين العظ يم‬
‫الذي أخرجه من الظلمات الى النور‪ ،‬ومن الرق الى الحريّة‪..‬‬
‫وعل شأن السلم‪ ،‬وعل معه شأن المسلمين‪ ،‬وكان بلل يزداد كل يوم قربا من قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي كان يصفه‬
‫بأنه‪ ":‬رجل من أهل الجنة"‪..‬‬
‫لكن بلل بقي كما هو كريما متواضعا‪ ،‬ل يرى نفسه ال أنه‪ ":‬الحبشي الذي كان بالمس عبدا"‪!!..‬‬

‫ذهب يوما يخطب لنفسه ولخيه زوجتين فقال لبيهما‪:‬‬


‫"أنا بلل‪ ،‬هذا أخي عبدان من الحبشة‪ ..‬كنا ضال ين فهدانا ال‪ ..‬وم نا عبد ين فأعتقنا ال‪ ..‬ان تزوّجونا فالحمد ل‪ ..‬وان تمنعونا فال‬
‫أكبر‪!!"..‬‬

‫**‬

‫وذهب الرسول الى الرفيق العلى راضيا مرضيا‪ ،‬ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق‪..‬‬
‫وذهب بلل الى خليفة رسول ال يقول له‪:‬‬
‫" يا خليفة رسول ال‪..‬‬
‫اني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل ال"‪..‬‬
‫فقال له أبو بكر‪ :‬فما تشاء يا بلل‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬أردت أن أرابط في سبيل ال حتىأموت‪..‬‬
‫قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟‬
‫قال بلل وعيناه تفيضان من الدمع‪ ،‬اني ل أؤذن لحد بعد رسول ال‪.‬‬
‫قال أبو بكر‪ :‬بل ابق وأذن لنا يا بلل‪..‬‬
‫قال بلل‪ :‬ان كنت أعتقتني لكون لك فليكن لك ما تريد‪ .‬وان كنت أعتقتني ل فدعني وما أعتقتني له‪..‬‬
‫قالبو بكر‪ :‬بل أعتقتك ل يا بلل‪..‬‬
‫ويختلف الرواة‪ ،‬فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا‪.‬‬
‫ويروي بعضهم الخر‪ ،‬أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة‪ ،‬فلما قبض وولي عمر الخلفة استأذنه وخرج الى الشام‪.‬‬

‫على أية حال‪ ،‬فقد نذر بلل بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور السلم‪ ،‬مصمما أن يلقى ال ورسوله وهو على خير عمل يحبانه‪.‬‬

‫ولم ي عد يصسدح بالذان ب صوته الشجسي الحفيّس المه يب‪ ،‬ذلك أنسه لم ينطسق فسي أذا نه "أش هد أن محمدا رسسول ال" ح تى تج يش به‬
‫الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه‪ ،‬وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته‪.‬‬
‫وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلل على أن يؤذن لهم صلة واحدة‪.‬‬
‫ودعا أمير المؤمنين بلل‪ ،‬وقد حان وقت الصلة ورجاه أن يؤذن لها‪.‬‬
‫و صعد بلل وأذن‪ ..‬فب كى ال صحابة الذ ين كانوا أدركوا ر سول ال وبلل يؤذن له‪ ..‬بكوا ك ما لم يبكوا من ق بل أبدا‪ ..‬وكان ع مر أشد هم‬
‫بكاء‪!!..‬‬

‫**‬

‫ومات بلل في الشام مرابطا في سبيل ال كما أراد‪.‬‬

‫وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلبة في الوقوف الى جانب العقيدة والقتناع‪...‬‬

‫عبد ال بن عمر‬
‫المثابر‪ ،‬الوّاب‬

‫تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال‪:‬‬


‫"لقد بايعت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪..‬‬
‫فما نكثت ول بدّلت الى يومي هذا‪..‬‬
‫وما بايعت صاحب فتنة‪..‬‬
‫ول أيقظت مؤمنا من مرقده"‪..‬‬
‫وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين‪ ،‬والذي بدأت علقته بالسلم والرسول‪ ،‬وهو في الثالثة عشر‬
‫من العمر‪ ،‬حين صحب أباه في غزوة بدر‪ ،‬راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان‪ ،‬لول أن ردّه الرسول عليه السلم لصغر سنه‪..‬‬
‫من ذلك اليوم‪ ..‬بل وق بل ذلك اليوم ح ين صحب أباه في هجر ته الى المدي نة‪ ..‬بدأت صلة الغلم ذي الرجولة المبكرة بالر سول عل يه‬
‫السلم والسلم‪..‬‬

‫و من ذلك اليوم الى اليوم الذي يل قى ف يه ر به‪ ،‬بال غا من الع مر خم سة وثمان ين عا ما‪ ،‬سنجد ف يه حيث ما نلقاه‪ ،‬المثابر الوّاب الذي ل‬
‫ينحرف عن نهجه قيد أشعرة‪ ،‬ول يند عن بيعة بايعها‪ ،‬ول يخيس بعهد أعطاه‪..‬‬
‫وان المزايا التي تأخذ البصار الى عبدالل بن عمر لكثيرة‪.‬‬
‫فعلمه وتواضعه‪ ،‬واستقامة ضميره ونهجه‪ ،‬وجوده‪ ،‬وورعه‪ ،‬ومثابرته‪ ،‬على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة‪..‬‬
‫كل هذه الفضائل والخصال‪ ،‬صاغ ابن عمر عمره منها‪ ،‬وشخصيته الفذة‪ ،‬وحياته الطاهرة الصادقة‪..‬‬
‫لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا‪ ..‬وتعلم مع أبيه من رسول ال الخير كله والعظمة كلها‪..‬‬
‫لقد أحسن كأبيه اليمان بال ورسوله‪ ..‬ومن ثم‪ ،‬كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر اللباب‪..‬‬
‫فهو ينظر‪ ،‬ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر‪ ،‬فيحاكيه في دقة واخبات‪..‬‬
‫هنا مثل‪ ،‬كان الرسول عليه الصلة والسلم يصلي‪ ..‬فيصلي ابن عمر في ذات المكان‪..‬‬
‫وهنا كان الرسول عليه الصلة والسلم يدعو قائما‪ ،‬فيدعو ابن عمر قائما‪...‬‬
‫وهنا كان الرسول يدعو جالسا‪ ،‬فيدعو عبدال جالسا‪..‬‬
‫وه نا وعلى هذا الطر يق نزل الر سول يو ما من فوق ظ هر ناق ته‪ ،‬و صلى ركعت ين‪ ،‬ف صنع ا بن ع مر ذلك اذا جم عه ال سفر بن فس البق عة‬
‫والمكان‪..‬‬

‫بل ا نه ليذكر أن ناقة الر سول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة‪ ،‬ق بل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها‪ ،‬وي صلي ركعتين‪ ،‬و قد‬
‫تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها‪.‬‬
‫لكن عبدالل بن عمر ل يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته‪ ،‬ثم ينيخها‪ ،‬ثم يصلي ركعتين للله‪ ..‬تماما كما رأى المشهد من قبل‬
‫مع رسول ال‪..‬‬

‫ولقد أثار فرط اتباعه هذا‪ ،‬أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها فقالت‪:‬‬
‫"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى ال عليه وسلم في منازله‪ ،‬كما كان يتبعه ابن عمر"‪.‬‬
‫ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولء الوثيق‪ ،‬حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول‪:‬‬
‫"اللهم أبق عبدال بن عمر ما أبقيتني‪ ،‬كي أقتدي به‪ ،‬فاني ل أعلم أحد على المر الول غيره"‪.‬‬

‫وبقوة هذا التحري لشديد الويق لخطى لبرسول وسنته‪ ،‬كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول ال ول يروي عنه عليه السلم حديثا‬
‫ال اذا كان ذاكرا كل حروفه‪ ،‬حرفا‪ ..‬حرفا‪.‬‬
‫وقد قال معاصروه‪..‬‬
‫"لم يكن من أصحاب رسول ال أحد أشد حذرا من أل يزيد في حديث رسول ال أو ينقص منه‪ ،‬من عبدال بن عمر"‪!!..‬‬

‫وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا‪..‬‬


‫جاءه يوما رجل يستفتيه‪ ،‬فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائل‪:‬‬
‫" ل علم لي بما تسأل عنه"‬
‫وذهب الرجل في سبيله‪ ،‬ول يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلن فرحا ويقول لنفسه‪:‬‬
‫"سئل ابن عمر عما ل يعلم‪ ،‬فقال ل أعلم"‪!..‬‬
‫كان يخاف أن يجتهد في فتياه‪ ،‬فيخطئ في اجتهاده‪ ،‬وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم‪ ،‬للمخطئ أجر وللمصيب أجرين‪،‬‬
‫فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا‪.‬‬
‫وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة‪..‬‬
‫لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمهع‪ ،‬وكانت تضمن لشاغرها ثراء‪ ،‬وجاها‪ ،‬ومجدا‪..‬‬
‫ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء‪ ،‬وللجاه‪ ،‬وللمجد‪..‬؟!‬

‫دعاه يوما الخليفة عثمان رضي ال عنهما‪ ،‬وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة‪ ،‬فاعتذر‪ ..‬وألح عليه عثمان‪ ،‬فثابر على اعتذاره‪..‬‬
‫وسأله عثمان‪ :‬أتعصيني؟؟‬
‫فأجاب ابن عمر‪:‬‬
‫" كل‪ ..‬ولكن بلغني أن القضاة ثلثة‪..‬‬
‫قاض يقضي بجهل‪ ،‬فهو في النار‪..‬‬
‫وقاض يقضي بهوى‪ ،‬فهو في النار‪..‬‬
‫وقاض يجتهد ويصيب‪ ،‬فهو كفاف‪ ،‬ل وزر‪ ،‬ول أجر‪..‬‬
‫واني لسائلك بال أن تعفيني"‪..‬‬
‫وأعفاه عثمان‪ ،‬بعد أن أخذ عليه العهد أل يخبر أحدا بهذا‪.‬‬
‫ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس‪ ،‬وانه ليخشى اذا عرف التقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا‬
‫نهجه‪ ،‬وعندئذ ل يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا‪..‬‬

‫وقد يبدو هذا الموقف لعبد ال بن عمر سمة من سمات السلبية‪.‬‬


‫بيد أنه ليس كذلك‪ ،‬فعبد ال بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه‪ ..‬بل هناك كثيرون من أصحاب رسول ال‬
‫الورعين الصالحين‪ ،‬وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل‪..‬‬
‫ولم ي كن في تخلي ا بن ع مر ع نه تعط يل لوظي فة القضاء‪ ،‬ول القاء ب ها ب ين أيدي الذ ين ل ي صلحون ل ها‪ ..‬و من ث ّم قد آ ثر البقاء مع‬
‫نفسه‪ ،‬ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة‪ ،‬والمزيد من العبادة‪..‬‬

‫كما أنه في ذلك الحين من حياة السلم‪ ،‬كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الموال‪ ،‬وكثرت المناصب والمارات‪.‬‬
‫وشرع اغراء المال والمنا صب يقترب من ب عض القلوب المؤم نة‪ ،‬م ما ج عل ب عض أ صحاب الر سول‪ ،‬ومن هم ا بن ع مر‪ ،‬يرفعون را ية‬
‫المقاومة لهذا الغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثل في الزهد والورع والعزوف عن المانصب الكبيرة‪ ،‬وقهر فتنتها واغرائها‪...‬‬

‫**‬

‫لقد كان ابن عمر‪،‬أخا الليل‪ ،‬يقومه مصليا‪ ..‬وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا‪..‬‬
‫ولقد رأى في شبابه رؤيا‪ ،‬فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدال‪ ،‬ومناط غبطته وحبوره‪..‬‬

‫ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه‪:‬‬


‫"رأيت على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق‪ ،‬وكأنني ل أريد مكانا في الجنة ال طارت بي اليه‪..‬‬
‫ورأيت كأن اثنين أتياني‪ ،‬وأرادا أن يذهبا بي الى النار‪ ،‬فتلقاهما ملك فقال‪ :‬ل ترع‪ ،‬فخليّا عني‪..‬‬
‫فق صت حف صة ‪ -‬أخ تي‪ -‬على ال نبي صلى ال عل يه و سلم رؤياي‪ ،‬فقال ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪ :‬ن عم الر جل عبدال‪ ،‬لو كان‬
‫يصلي من الليل فيكثر"‪..‬‬
‫ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه‪ ،‬لم يدع قيام الليل في حله‪ ،‬ول في ترحاله‪..‬‬
‫فكان يصلي ويتلو القرآن‪ ،‬ويذكر ربه كثيرا‪ ..‬وكان كأبيه‪ ،‬تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن‪.‬‬

‫يقول عبيد بن عمير‪ :‬قرأت يوما على عبدال بن عمر هذه الية‪:‬‬
‫(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشه يد وجئ نا بك على هؤلء شهيدا‪.‬يومئذ يود الذين كفروا وع صوا الرسول لو تسوّى بهم الرض ول‬
‫يكتمون ال حديثا)‪..‬‬
‫فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه‪.‬‬
‫وجلس يوما بين اخوانه فقرا‪:‬‬
‫(ويل للمطففين‪ ،‬الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون‪ ،‬واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‪ ،‬أل ي ظن أولئك أنهم ميعوثون‪ ،‬ليوم عظيم‪،‬‬
‫يوم يقوم الناس لرب العالمين)‪..‬‬
‫ثم مضى يردد الية‪:‬‬
‫(‪..‬يوم يقوم الناس لرب العالمين)‪.‬‬
‫ودموعه تسيل كالمطر‪ .‬حتى وقع من كثرة وجده وبكائه‪!!..‬‬

‫**‬

‫ولقد كان جوده‪ ،‬وزهده‪ ،‬وورعه‪ ،‬تعمل معا في فن عظيم‪ ،‬لتشكل أروع فضائل هذا النسان العظيم‪ ..‬فهو يعطي الكثير لنه جواد‪..‬‬
‫ويعطي الحلل الطيب لنه ورع‪..‬‬
‫ول يبالي أن يتركه الجود فقيرا‪ ،‬لنه زاهد‪!!..‬‬

‫وكان ابن عمر رضي ال عنه‪ ،‬من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة‪ ،‬اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته‪ ،‬وكان راتبه من بيت المال‬
‫وفيرا‪ ..‬ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط‪ ،‬انما كان يرسله غدقا على الفقراء‪ ،‬والمساكين والسائلبن‪..‬‬
‫يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته‪ ،‬فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلفدرهم وقطيفة‪..‬‬
‫وفي اليوم التالي‪ ،‬رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا‪.. -‬‬
‫فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالمس أربعة آلف‪،‬وقطيفة‪..‬؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ول يجد معه ثمنه‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬انه لم يبت بالمس حتى فرقها جميعها‪ ،‬ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره‪ ،‬خرج‪ ..‬ثم عاد وليست معه‪ ،‬فسألناه عنهتا‪ .‬فقال‪:‬‬
‫انه وهبها لفقير‪!!..‬‬
‫فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف‪ .‬حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا‪ ،‬وصاح في الناس‪:‬‬
‫" يا معشر التجار‪..‬‬
‫ما تصنعون بالدنيا‪ ،‬وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها‪ ،‬ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"‪..‬؟؟!!‬
‫أل ان من كان محمد أستاذه‪ ،‬وعمر أباه‪ ،‬لعظيم‪ ،‬كفء لكل عظيم‪!!..‬‬
‫ان وجود عبد ال بن عمر‪ ،‬وزهزد وورعه‪ ،‬هذه الخصال الثلثة‪ ،‬كانت تحكي لدى عبد ال صدق القدوة‪ ..‬وصدق البنوّة‪..‬‬
‫فما كان لمن يمعن في التأسي برسول ال‪ ،‬حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى ال عليه وسلم يوقف ناقته‪ .‬ويقول" لعل خفا‬
‫يقع على خف"‪!.‬‬
‫والذي يذ هب برأ يه في برأب يه وتوقيره والعجاب به الى المدى الذي كا نت شخ صية ع مر تفر ضه على العداء‪ ،‬فضل عن القرباء‪.‬‬
‫فضل عن البناء‪..‬‬
‫أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول‪ ،‬ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا‪..‬‬
‫ولقد كانت الموال تاتيه وافرة كثيرة‪ ..‬ولكنها تمر به مرورا‪ ..‬وتعبر داره عبورا‪..‬‬
‫ولم يكن جوده سبيل الى الزهو‪ ،‬وال الى حسن الحدوثة‪.‬‬
‫و من ثم‪ .‬ف قد كان ي خص به المحتاج ين والفقراء‪ ..‬وقل ما كان يأ كل الطعام وحده‪ ..‬فل بد أن يكون م عه أيتام‪ ،‬أو فقراء‪ ..‬وطال ما كان‬
‫يعاتب بعض أبنائه‪ ،‬حين يولمون للغنياء‪ ،‬ول يأتون معهم بالفقراء‪ ،‬ويقول لهم‪:‬‬
‫"تدعون الشباع‪ .‬وتدعون الجياع"‪!!..‬‬

‫وعرف الفقراء عطفه‪ ،‬وذاقوا حلوة بره وحنانه‪ ،‬فكانوا يجلسون في طريقه‪ ،‬كي يصحبهم الى داره حين يراهم‪ ..‬وكانوا يحفون به‬
‫كما تحف أفواج النحل بالزاهير ترتشف منها الرحيق‪!..‬‬

‫**‬

‫لقد كان المال بين يديه خادما ل سيدا‪،،‬‬


‫وكان وسيلة لضروات العيش ل للترف‪..‬‬
‫ولم يكن ماله وحده‪ ،‬بل كان للفقراء فيه حق معلوم‪ ،‬بل حق متكافئ ل يتميز فيه بنصيب‪..‬‬
‫ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده‪ ..‬فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا‪ ،‬ول يسعى اليها‪ ،‬بل ول رجو منها ال كا يستر الجسد‬
‫من لباس‪ ،‬ويقيم الود من الطعام‪..‬‬

‫أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان‪ ،‬وانه لتقر عيناي‪ ،‬اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه‪ ،‬وترتدي هذا الثوب الجميل‪..‬‬
‫قال له ابن عمر‪ :‬أرنيه اذن‪..‬‬
‫ثم لمسه وقال‪ :‬أحرير هذا‪.‬؟‬
‫قال صاحبه‪ :‬ل ‪ ..‬انه قطن‪.‬‬
‫وتمله ع بد ال قليل‪ ،‬ثم دف عه بيمي نه وهويقول‪":‬ل‪.‬ا ني أخاف على نف سي‪ ..‬أخاف ان يجعل ني مختال فخورا‪ ..‬وال ل ي حب كل مختال‬
‫فخور"‪!!..‬‬

‫وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا‪..‬‬


‫وسأله ابن عمر‪ :‬ما هذا؟‬
‫قال‪ :‬هذا دواء عظيم جئتك به من العراق‪.‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬وماذا يطبب هذا الدواء‪..‬؟؟‬
‫قال‪ :‬يهضم الطعام‪..‬‬
‫فالتسم ابن عمر وقال لصاحبه‪ ":‬يهضم الطعام‪..‬؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما"‪!!.‬‬

‫ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما‪ ،‬لم يكنيترك الشبع خصاصة‪ ،‬بلزهدا وورعا‪ ،‬ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه‪..‬‬
‫كان يخاف أن يقال له يوم القيامة‪:‬‬
‫(أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)‪..‬‬

‫وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر شبيل‪..‬‬


‫ولقد تحدث عن نفسه قائل‪:‬‬
‫"ما وضعت لبنة على لبنة‪ ،‬ول غرست نخلة منذ توفي رسول ال صلى ال عليه وسلم"‪..‬‬
‫ويقول ميمون بن مهران‪:‬‬
‫" دخلت على ابن عمر‪ ،‬فقوّمت كل شيء في بيته من فراش‪ ،‬ولحاف وبساط‪ .‬ومن كل شيء فيه‪ ،‬فما وجدته تساوي مئة ردهم"‪!!..‬‬
‫لم يكن ذلك عن فقر‪.‬ز قد كان ابن عمر ثريا‪..‬‬
‫ول كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا‪..‬‬
‫زامكا كان عن زهد في الدنيا‪ ،‬وازدراء للترف‪ ،‬والتزام لمنهجه في الصدق والورع‪..‬‬
‫ولقد عمّر ابن عمر طويل‪ ،‬وعاش في العصر الموي الذي فاضت فيها لموال وانتشرت الضياع‪ ،‬وغطى البذخ أكث الدور‪ ..‬بل قل أكثر‬
‫القصور‪..‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا‪ ،‬ل يبرح نهجه ول يتخلى عن ورعه وزهده‪.‬‬
‫واذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال‪:‬‬
‫"لقد اجتمعت وأصحابي على أمر‪ ،‬واني أخاف ان خالفتهم أل ألحق بهم"‪..‬‬
‫ثم يعلم الخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا‪ ،‬فيرفع يده الى السماء ويقول‪:‬‬
‫"اللهم انك تعلم أنه لول مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا"‪.‬‬

‫**‬

‫أجل‪ ..‬لول مخافة ربه لزاحم في الدنيا‪ ،‬ولكان من الظافرين‪..‬‬


‫بل انه لم يكن بحاجة الى أن يزاحم‪ ،‬فقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها‪..‬‬
‫وهل هناك كمنصب الخلفة اغراء‪..‬؟‬
‫لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه‪ ..‬وهدد بالقتل ان لم يقبل‪ .‬فازداد له رفضا‪ ،‬وعنه اعراضا‪!!..‬‬

‫يقول الحسن رضي ال عنه‪:‬‬


‫" لما قتل عثمان بن عفان‪ ،‬قالوا لعبد ال بن عمر‪ :‬انك سيّد الناس‪ ،‬وابن سيد الناس‪ ،‬فاخرج نبايع لك الناس‪..‬‬
‫قال‪ :‬ان وال لئن استطعت‪ ،‬ل يهراق بسببي محجمة من دم‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬لتخرجن‪ ،‬أ‪ ،‬لنقتلنكك على فراشك‪ ..‬فأعاد عليهم قوله الول‪..‬‬
‫فأطمعوه‪ ..‬وخوّفوه‪ ..‬فما استقبلوا منه شيئا"‪!!..‬‬
‫وفيما بعد‪ ..‬وبينما الزمان يمر‪ ،‬والفتن تكثر‪ ،‬كان ابن عمر دوما هو المل‪ ،‬فيلح الناس عليه‪ ،‬كي يقبل منصب الخلفة‪ ،‬ويجيئوا له‬
‫بالبيعة‪ ،‬ولكنه كان دائما يأبى‪..‬‬
‫ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر‪..‬‬
‫بيد أن كان له منطقه وحجته‪.‬فبعد مقتل عثمان رضي ال عنه‪ ،‬ساءت المور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر‪..‬‬

‫وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلفة‪ ،‬فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها‪ ،‬ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين‪،‬‬
‫مختارين‪ ،‬أما أن يحمل واحد ل غير على بيعته بالسيف‪ ،‬فهذا ما يرفضه‪ ،‬ويرفض الخلفة معه‪..‬‬
‫وآنئذ‪ ،‬لم يكن ذلك ممكنا‪ ..‬فعلى الرغم من فضله‪ ،‬واجماع المسلمين على حبه وتوقيره‪ ،‬فان اتساع المصار‪ ،‬وتنائبها‪ ،‬والخلفات التي‬
‫احتد مت ب ين الم سلمين‪ ،‬وجعلت هم شي عا تتنا بذ بالحرب‪ ،‬وتتنادى لل سيف‪ ،‬لم يج عل ال جو مه يأ لهذا الجماع الذي يشتر طه عبدال بن‬
‫عمر‪..‬‬

‫لقيه رجل يوما فقال له‪ :‬ما أحد شر لمة محمد منك‪!..‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬ولم‪..‬؟ فوال ما سفكت دماءهم‪ ،‬ول فرقت جماعتهم‪ ،‬ول شققت عصاهم‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان‪..‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬ما أحب أنها أتتني‪ ،‬ورجل يقول‪ :‬ل‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬نعم‪.‬‬

‫وحتى بعد أن سارت الحداث شوطا طويل‪ ،‬واستقر المر لمعاوية‪ ..‬ثم لبنه يزيد من بعده‪.‬ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلفة‬
‫زاهدا فيها بعد أيام من توليها‪..‬‬
‫حتى في ذلك اليوم‪ ،‬وابن عمر شيخ مسن كبير‪ ،‬كان ل يزال أمل الناس‪ ،‬وأمل الخلفة‪ ..‬فقد ذهب اليه مروان قال له‪:‬‬
‫هلم يدك نبايع لك‪ ،‬فانك سيد العرب وابن سيدها‪..‬‬
‫قال له ابن عمر‪ :‬كيف نصنع بأهل المشرق‪..‬؟‬
‫قال مروان‪ :‬نضربهم حتى يبايعوا‪..‬‬
‫قال ابن عمر‪":‬وال ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما‪ ،‬ويقتل بسببي رجل واحد"‪!!..‬‬
‫فانصرف عنه مروان وهو ينشد‪:‬‬
‫والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا‬ ‫اني أرى فتنة تغلي مراجلها‬
‫يعني بأبي ليلى‪ ،‬معاوية بن يزيد‪...‬‬

‫**‬

‫هذا الرفض لستعمال القوة والسيف‪ ،‬هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية‪ ،‬موقف العزلة‬
‫والحياد جاعل شعاره ونهجه هذه الكلمات‪:‬‬
‫"من قال حي على الصلة أجبته‪..‬‬
‫ومن قال حي على الفلح أجبته‪..‬‬
‫ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت‪ :‬ل"‪!!.‬‬
‫ولكنه في عزلته تلك وفي حياده‪ ،‬ل يماليء باطل‪..‬‬
‫فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته‪..‬‬
‫حتى توعده بالقتل‪ ،‬وهو القائل‪ ":‬لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"‪!!..‬‬

‫وذات يوم‪ ،‬وقف الحجاج خطيبا‪ ،‬فقال‪ ":‬ان ابن الزبير حرّف كتاب ال"!‬
‫فصاح ابن عمر في وجهه‪ ":‬كذبت‪ ،‬كذبت‪ ،‬كذبت"‪.‬‬
‫وسقط في يد الحجاج‪ ،‬وصعقته المفاجأة‪ ،‬وهو الذي يرهبه كل شيء‪ ،‬فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء‪..‬‬
‫ولوذح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج‪ ،‬وأجابه الناس منبهرون‪ ":‬ان تفعل ما تتوعد به فل عجب‪ ،‬فانك سفيه متسلط"‪!!..‬‬
‫ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه‪ ،‬حريصا على أل يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب‪ ،‬رافضا أن ينحاز لي فريق‪...‬‬
‫يقول أبو العالية البراء‪:‬‬
‫" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر‪ ،‬وهو ل يشعر بي‪ ،‬فسمعته يقول لنفسه‪:‬‬
‫" واضعين سيوفهم على عواتقهم‪ ،‬يقتل بعضهم بعضا يقولون‪ :‬يا عبد ال بن عمر‪ ،‬أعط يدك"‪..‬؟!‬

‫وكان ينفجر أسى وألما‪ ،‬حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم‪!!..‬‬
‫ولو استطاع أن يمنع القتال‪ ،‬ويصون الدم لفعل‪ ،‬ولكن الحداث كانت أقوى منه فاعتزلها‪.‬‬
‫ولقد كان قلبه مع علي رضي ال عنه‪ ،‬بل وكان معه يقينه فيما يبدو‪ ،‬حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه‪:‬‬
‫" ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا ال أني لم أقاتل مع عليّ‪ ،‬الفئة الباغية"‪!!..‬‬

‫على أ نه ح ين ر فض أن يقا تل مع المام علي الذي كان ال حق له‪ ،‬وكان ال حق م عه‪ ،‬فا نه لم يف عل ذلك هر با‪ ،‬وال التما سا للنجاة‪ ..‬بل‬
‫رفضا للخلف كله‪ ،‬والفتنة كلها‪ ،‬وتجنبا لقتال ل يدو بين مسلم ومشرك‪ ،‬بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا‪..‬‬
‫ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال‪ ":‬يا أبا عبد الرحمن‪ ،‬أنت ابن عم‪ ..‬وأنت صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنت‬
‫وأنت‪ ،‬فما يمنعك من هذا المر_ يعني نصرة علي_؟؟‬
‫فأجابه قائل‪:‬‬
‫" يمنعني أن ال تعالى حرّم عليّ دم المسلم‪ ،‬لقد قال عز وجل‪( :‬قاتلوهم حتى ل تكون فتنة‪ ،‬ويكون الدين ‪)..‬‬
‫ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين ل‪،‬اما اليوم‪ .‬فيم نقاتل‪..‬؟؟‬
‫لقد قاتلت الوثان تمل الحرم‪ ..‬من الركن الى الباب‪ ،‬حتى نضاها ال من أرض العرب‪..‬‬
‫أفأقاتل اليوم من يقول ل اله ال ال"‪.‬؟!‬
‫هكذا كان منطقه‪ ،‬وكانت حجته‪ ،‬وكان اقتناعه‪..‬‬

‫ف هو اذن لم يتج نب القتال ولم يشترك ف يه‪ ،‬لهرو با‪ ،‬أ‪ ،‬سلبية‪ ،‬بل رف ضا لقرار حرب أهل ية ب ين ال مة المؤم نة‪ ،‬وا ستنكافا على أن‬
‫يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا‪..‬‬
‫ولقسد عاش عبسد ال بسن عمسر طويل‪ ..‬وعاصسر اليام التسي فتحست أبواب الدنيسا على المسسلمين‪ ،‬وفاضست الموال‪ ،‬وكثرت المناصسب‪،‬‬
‫واستشرت المطامح والرغبات‪..‬‬

‫لكن قدرته النفسية الهائلة‪ ،‬غيّرت كيمياء الومن‪ !!..‬فجعلت عصر الطموح والمال والفتن‪ ..‬جعلت هذا العصر بالنسبة اليه‪ ،‬أيام زهد‪،‬‬
‫وورع ويلم‪ ،‬عاشها المثابر الواب ب كل يقينه‪ ،‬ون سكه وترفعه‪ ..‬ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة ال تي صاغها و صقلها السلم في‬
‫أيامه الولى العظيمة الشاهقة‪..‬‬
‫ل قد تغيّرت طبي عة الحياة‪ ،‬مع بدء الع صر الموي‪ ،‬ولم ي كن ثمّة م فر من ذلك التغي ير‪ ..‬وأ صبح الع صر يومئذ‪ ،‬ع صر تو سع في كل‬
‫شيء‪ ..‬توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب‪ ،‬بل ومطامح الجماعة والفراد أيضا‪.‬‬
‫ووسط لجج الغراء‪ ،‬وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع‪ ،‬وبمغانمه‪ ،‬ومباهجه‪ ،‬كان ابن عمر يعيش مع فضائله‪ ،‬في شغل عن ذلك‬
‫كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم‪.‬‬
‫ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروعه فقالوا‪:‬‬
‫( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)‬

‫بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله‪ ،‬أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر‪ ..‬فيقولون‪:‬‬
‫( كان عمر في زمان له فيه نظراء‪ ،‬وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)‪!!..‬‬
‫وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها‪ ،‬أما عمر فل يقارن بمثله أحد‪ ..‬وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير‪..‬‬

‫**‬

‫و في العام الثاث وال سبعين للهجرة‪ ..‬مالت الش مس للمغ يب‪ ،‬ورف عت احدى سفن البد ية مرا سيها‪ ،‬مبحرة الى العالم ال خر والرف يق‬
‫العلى‪ ،‬حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد ال بن عمر بن الخطاب‪ .‬كان آخر الصحابة رحيل عن الدنيا‬
‫كلها أنس بن مالك رضي ال عنه‪ ،‬توفي بالبصرة‪ ،‬عام واحد وتسعين‪ ،‬وقيل عام ثلث وتسعين‪.‬‬

‫سعد بن أبي وقاص‬


‫السد في براثنه‬

‫أقلقست النباء أميسر المؤمنيسن عمسر بسن الخطاب‪ ،‬عندمسا جاءتسه تترى بالهجمات الغادرة التسي تشنهسا قوات الفرس على المسسلمين‪..‬‬
‫وبمعر كة الج سر ال تي ذ هب ضحيت ها في يوم وا حد أرب عة آلف شه يد‪ ..‬وبن قض أ هل العراق عهود هم‪ ،‬والمواث يق ال تي كا نت علي هم‪..‬‬
‫فقرر أن يذهب بنفسه لبقود جيوش المسلمين‪ ،‬في معركة فاصلة ضد الفرس‪.‬‬
‫وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم ال وجهه‪..‬‬
‫ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود‪ ،‬وينتدب لهذه الهمة واحدا غيره من أصحابه‪..‬‬

‫وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والسلم يعيش أيامه الفاصلة‪ ،‬عمل‬
‫غير سديد‪..‬‬

‫وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي‪_:‬الصلة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب‪ ،‬فانتقل مع بعض أهل المدينة الى‬
‫حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه‪ ..‬وانتهى الرأي الى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وقرر المجتمعون أن يعود عمر الى المدينة‪،‬‬
‫وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين‪..‬‬
‫ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي‪ ،‬وعاد يسأل أصحابه‪:‬‬
‫فمن ترون أن نبعث الى العراق‪..‬؟؟‬
‫وصمتوا قليل يفكرون‪..‬‬
‫ثم صاح عبد الرحمن بن عوف‪ :‬وجدته‪!!..‬‬
‫قال عمر‪ :‬فمن هو‪..‬؟‬
‫قال عبد الرحمن‪" :‬السد في براثنه‪ ..‬سعد بن مالك الزهري‪"..‬‬

‫وأيّد الم سلمون هذا الختيار‪ ،‬وأر سل أم ير المؤمن ين الى سعد بن مالك الزهري " سعد بن أ بي وقاص" ووله امارة العراق‪ ،‬وقيادة‬
‫الجيش‪..‬‬
‫فمن هو السد في براثنه‪..‬؟‬
‫من هذا الذي كان اذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائل‪:‬‬
‫"هذا خالي‪ ..‬فليرني امرؤ خاله"‪!!..‬‬

‫انه سعد بن أبي وقاص‪ ..‬جده أهيب بن مناف‪ ،‬عم السيدة آمنة أم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪..‬‬
‫لقد عانق السلم وهو ابن سبع عشرة سنة‪ ،‬وكان اسلمه مبكرا‪ ،‬وانه ليتحدث عن نفسه فيقول‪:‬‬
‫" ‪ ..‬ولقد أتى عليّ يوم‪ ،‬واني لثلث السلم"‪!!..‬‬
‫يعني أنه كان ثالث أول ثلثة سارعوا الى السلم‪..‬‬

‫ف في اليام الولى ال تي بدأ الر سول يتحدث في ها عن ال ال حد‪ ،‬و عن الد ين الجد يد الذي يزف الر سول بشراه‪ ،‬وق بل أن يت خذ ال نبي‬
‫صلى ال عليه وسلم من دار الرقم ملذا له ولصحابه الذين بدءوا يؤمنون به‪ ..‬كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول‬
‫ال مبايعا‪..‬‬
‫وانّ كتب التارييخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلم أبي بكر وعلى يديه‪..‬‬
‫ولعله يومئذ أعلن ا سلمه مع الذ ين أعلنوه باقناع أ بي ب كر ايّا هم‪ ،‬و هم عثمان ا بن عفان‪ ،‬والزب ير ا بن العوّام‪ ،‬وع بد الرح من بن‬
‫عوف‪ ،‬وطلحة بن عبيد ال‪.‬‬
‫ومع هذا ل يمنع سبقه بالسلم سرا‪..‬‬
‫وان لسعد بن أبي وقاص لمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر‪..‬‬
‫بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك‪ ،‬ال بشيئين عظيمين‪..‬‬
‫أولهما‪ :‬أنه أول من رمى بسهم في سبيل ال‪ ،‬وأول من رمي أيضا‪..‬‬
‫وثانيهما‪ :‬أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد‪:‬‬
‫" ارم سعد فداك أبي وأمي"‪..‬‬

‫أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين‪ ،‬ويلهج يشكر ال عليهما فيقول‪:‬‬
‫" وال اني لوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل ال"‪.‬‬
‫ويقول علي ابن أبي طالب‪:‬‬
‫" ما سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه ال سعدا‪ ،‬فاني سمعته يوم أحد يقول‪ :‬ارم سعد‪ ..‬فداك أبي وأمي"‪..‬‬
‫كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين‪ ،‬وكان له سلحان رمحه ودعاؤه‪..‬‬

‫اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه‪ ..‬واذا دعا ال دعاء أجابه‪!!..‬‬


‫وكان‪ ،‬وأصحابه معه‪ ،‬يردّون ذلك الى دعاء الرسول له‪ ..‬فذات يوم وقد رأى الرسول صلى ال عليه وسلم منه ما سرّه وق ّر عينه‪ ،‬دعا‬
‫له هذه الدعوة المأثورة‪..‬‬
‫" اللهم سدد رميته‪ ..‬وأجب دعوته"‪.‬‬

‫وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع‪ ،‬وعرف هو ذلك نفسه وأمره‪ ،‬فلم يكن يدعو على أحد ال مفوّضا الى‬
‫ال أمره‪.‬‬

‫من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول‪:‬‬


‫" رأى سعد رجل يسب عليا‪ ،‬وطلحة والزبير فنهاه‪ ،‬فلم ينته‪ ،‬فقال له‪ :‬اذن أدعو عليك‪ ،‬فقال ارجل‪ :‬أراك تتهددني كأنك نبي‪!!..‬‬
‫ب أقواما سبقت لهم منك الحسنى‪ ،‬وأنه‬
‫فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين‪ ،‬ثم رفع يديه وقال‪ :‬اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد س ّ‬
‫قد أسخطك سبّه ايّاهم‪ ،‬فاجعله آية وعبرة‪..‬‬
‫فلم يمض غير وقت قصير‪ ،‬حتى خرجت من احدى الدور ناقة نادّة ل يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس‪ ،‬كأنها تبحث عن شيء‪،‬‬
‫ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها‪ ..‬وما زالت تتخبطه حتى مات"‪..‬‬
‫ان هذه الظاهرة‪ ،‬تنبىء أوّل ما تنبىء عن شفافية روحه‪ ،‬وصدق يقينه‪ ،‬وعمق اخلصه‪.‬‬

‫وكذلكم كان سعد‪ ،‬روحه حر‪ ..‬ويقينه صلب‪ ..‬واخلصه عميق‪ ..‬وكان دائب الستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلل‪ ،‬فهو يرفض في‬
‫اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة‪..‬‬
‫ول قد عاش سعد ح تى صار من أغنياء الم سلمين وأثريائ هم‪ ،‬ويوم مات خلف وراءه ثروة غ ير قليلة‪ ..‬و مع هذا فاذا كا نت وفرة المال‬
‫وحلله قلما يجتمعان‪ ،‬فقد اجتمعا بين يدي سعد‪ ..‬اذ آتاه ال الكثير‪ ،‬الحلل‪ ،‬الطيب‪..‬‬
‫وقدرته على جمع المال من الحلل الخالص‪ ،‬يضاهيها‪ ،‬قدرته في انفاقه في سبيل ال‪..‬‬

‫في حجة الوداع‪ ،‬كان هناك مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأصابه المرض‪ ،‬وذهب الرسول يعوده‪ ،‬فساله سعد قائل‪:‬‬
‫"يا رسول ال‪ ،‬اني ذو مال ول يرثني ال ابنة‪ ،‬أفأتصدّق بثلثي مالي‪..‬؟‬
‫قال النبي‪ :‬ل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبنصفه؟‬
‫قال النبي‪ :‬ل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبثلثه‪..‬؟‬
‫قال النبي‪ :‬نعم‪ ،‬والثلث كثير‪ ..‬انك ان تذر ورثتك أغنياء‪ ،‬خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس‪ ،‬وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه‬
‫ال ال أجرت بها‪ ،‬حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك"‪..‬‬
‫ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة‪ ..‬فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين‪..‬‬

‫**‬

‫وكان سعد كثير البكاء من خشية ال‪.‬‬


‫وكان اذا استمع للرسول يعظهم‪ ،‬ويخطبهم‪ ،‬فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره‪..‬‬
‫وكان رجل أوتي نعمة التوفيق والقبول‪..‬‬

‫ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه‪ ،‬رنا بصره الى الفق في اصغاء من يتلقى همسا وسرا‪ ..‬ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم‪:‬‬
‫" يطلع علينا الن رجل من أهل الجنة"‪..‬‬
‫وأخذ الصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ‪..‬‬
‫وبعد حين قريب‪ ،‬طلع عليهم سعد بن أبي وقاص‪.‬‬
‫ولقد لذ به فيما بعد عبد ال بن عمرو بن العاص سائل اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى ال من عمل وعبادة‪ ،‬جعله أهل لهذه‬
‫المثوبة‪ ،‬وهذه البشرى‪ ..‬فقال له سعد‪:‬‬
‫" ل شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد‪..‬‬
‫غير أني ل أحمل لحد من المسلمين ضغنا ول سوءا"‪.‬‬

‫هذا هو السد في براثنه‪ ،‬كما وصفه عبد الرحمن بن عوف‪..‬‬


‫وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم‪..‬‬
‫كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لصعب مهمة تواجه السلم والمسلمين‪..‬‬
‫انه مستجاب الدعوة‪ ..‬اذا سأل ال النصر أعطاه اياه‪..‬‬
‫زانه عفّ الطعمة‪ ..‬عف اللسان‪ ..‬عف الضمير‪..‬‬
‫وانه واحد من أهل الجنة‪ ..‬كما تنبأ له الرسول‪..‬‬
‫وانه الفارس يوم بدر‪ .‬والفارس يوم أحد‪ ..‬والفارس في كل مشهد شهده مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪..‬‬
‫وأخرى‪ ،‬ل ينساها عمر ول يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم المور‪ ،‬تلك‬
‫هي صلبة اليمان‪..‬‬

‫ان عمر ل ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول‪..‬‬
‫يومئذ أخفقت جميع محاولت رده وصده عن سبيل ال‪ ..‬فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه‬
‫الى وثنية أهله وذويه‪..‬‬

‫لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب‪ ،‬حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه‪ ،‬ومضت في تصميم مستميت تواصل اضرابها عن‬
‫الطعام والسراب حتى أوشكت على الهلك‪..‬‬
‫كل ذلك وسعد ل يبالي‪ ،‬ول يبيع ايمانه ودينه بشيء‪ ،‬حتى ولو يكون هذا الشيء حياةأمه‪..‬‬
‫وحين كانت تشرف على الموت‪ ،‬أخذه بعض أهله اليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت‪..‬‬

‫وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر‪..‬‬


‫بيد أن ايمانه بال ورسوله كان قد تفوّق على كل صخر‪ ،‬وعلى كل لذ‪ ،‬فاقترب بوجهه من وجه أمه‪ ،‬وصاح بها لتسمعه‪:‬‬
‫" تعلمين وال يا أمّه‪ ..‬لو كانت لك مائة نفس‪ ،‬فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء‪..‬‬
‫فكلي ان شئت أو ل تأكلي"‪!!..‬‬
‫وعدلت أمه عن عزمهت\ا‪ ..‬ونزل الوحي يحيي موقف سعد‪ ،‬ويؤيده فيقول‪:‬‬
‫( وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فل تطعهما)‪..‬‬
‫أليس هو السد في براثنه حقا‪..‬؟؟‬

‫اذن فليغرس أم ير المؤمن ين لواء القاد سية في يمي نه‪ .‬وليرم به الفرس المجتمع ين في أك ثر من مائةألف من المقاتل ين المدرب ين‪.‬‬
‫المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الرض يومئذ من عتاد وسلح‪ ..‬تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ‪ ،‬وأدهى دهاتها‪..‬‬
‫أجل الى هؤلء في فيالقهم الرهيبة‪..‬خرج سعد في ثلثين ألف مقاتل ل غير‪ ..‬في أيديهم رماح‪ ..‬ولكن في قلوبهم ارادة الدين الجديد‬
‫بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان‪ ،‬وشوق نادر وباهر الى الموت و الى الشهادة‪!!..‬‬
‫والتقى الجمعان‪.‬‬
‫ولكن ل‪ ..‬لم يلتق الجمعان بعد‪..‬‬
‫وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيهاته‪ ..‬وها هو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه بالمبادرة الى القادسية‪ ،‬فانها باب‬
‫فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى‪:‬‬
‫" يا سعد بن وهيب‪..‬‬
‫ل يغرّنّك من ال‪ ،‬أن قيل‪ :‬خال رسول ال وصاحبه‪ ،‬فان ال ليس بينه وبين أحد نسب ال بطاعته‪ ..‬والناس شريفهم ووضيعهم في ذات‬
‫ال سوء‪ ..‬ال ربهم‪ ،‬وهم عباده‪ ..‬يتفاضلون بالعافية‪ ،‬ويدركون ما عند ال بالطاعة‪ .‬فانظر المر الذي رأيت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم منذ بعث الى أن فارقنا عليه‪ ،‬فالزمه‪ ،‬فانه المر‪".‬‬
‫ثم يقول له‪:‬‬
‫" اكتب اليّ بجميع أحوالكم‪ ..‬وكيف تنزلون‪..‬؟‬
‫وأين يكون عدوّكم منكم‪..‬‬
‫واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"‪!!..‬‬

‫ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه‪.‬‬
‫وينزل سعد القادسية‪ ،‬ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا‪ ،‬كما لم يتجمعوا من قبل‪ ،‬ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم "رستم"‪..‬‬

‫ويكتب سعد الى عمر‪ ،‬فيكتب اليه أمير المؤمنين‪:‬‬


‫" ل يكربنّك ما تسمع منهم‪ ،‬ول ما يأتونك به‪ ،‬واستعن بال‪ ،‬وتوكل عليه‪ ،‬وابعث اليه رجال من أهل لنظر والرأي والجلد‪ ،‬يدعونه الى‬
‫ال‪ ..‬واكتب اليّ في كل يوم‪"..‬‬
‫ويعود سعد فيكتب لمير المؤمنين قائل‪:‬‬
‫" ان رستم قد عسكر ب ساباط وج ّر الخيول والفيلة وزحف علينا"‪.‬‬
‫ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا‪..‬‬
‫ان سعد الفارس الذكي المقدام‪ ،‬خال رسول ال‪ ،‬والسابق الى السلم‪ ،‬بطل المعارك والغزوات‪ ،‬والذي ل ينبو له سيف‪ ،‬ول يزيغ منه‬
‫رمسح‪ ..‬يقسف على رأس جيشسه فسي احدى معارك التاريسخ الكسبرى‪ ،‬ويقسف وكأنسه جندي عادي‪ ..‬ل غرور القوة‪ ،‬ول صسلف الزعامسة‪،‬‬
‫يحملنه على الركون المفرط لثقته بنفسه‪ ..‬بل هو يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد‪ ،‬فيرسل له كل يوم كتابا‪،‬‬
‫ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب‪ ،‬المشورة والرأي‪...‬‬

‫ذلك أن سعدا يعلم أن ع مر في المدي نة ل يف تي وحده‪ ،‬ول يقرر وح جه‪ ..‬بل ي ستشير الذ ين حوله من الم سلمين و من خيار أ صحاب‬
‫رسول ال‪ ..‬وسعد ل يريد برغم كل ظروف الحرب‪ ،‬أن يحرم نفسه‪ ،‬ول أن يحرم جيشه‪ ،‬من بركة الشورى وجدواها‪ ،‬ل سيّما حين‬
‫يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم‪..‬‬

‫**‬

‫وينفذ سعد وصية عمر‪ ،‬فيرسل الى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه الى ال والى السلم‪..‬‬
‫ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس‪ ،‬وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم‪:‬‬
‫" ان ال اختار نا ليخرج ب نا من يشاء من خل قه من الوثن ية الى التوح يد‪ ...‬و من ض يق الدن يا الى سعتها‪ ،‬و من جور الحكام الى عدل‬
‫السلم‪..‬‬
‫فمن قبل ذلك منا‪ ،‬قبلنا منه‪ ،‬ورجعنا عنه‪ ،‬ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد ال‪"..‬‬
‫ويسأل رستم‪ :‬وما وعد ال الذي وعدكم اياه‪..‬؟؟‬
‫فيجيبه الصحابي‪:‬‬
‫" الجنة لشهدائنا‪ ،‬والظفر لحيائنا"‪.‬‬
‫ويعود لبوفد الى قائد المسلمين سعد‪ ،‬ليخبروه أنها الحرب‪..‬‬
‫وتمتلىء عينا سعد بالدموع‪..‬‬

‫لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليل‪ ،‬أو تقدمت قليل‪ ..‬فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته‪ ..‬وملت الدمامل جسده حتى‬
‫ما كان يستطيع أن يجلس‪ ،‬فضل أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة‪!!..‬‬
‫فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم‪ ،‬أولوأنها استأخرت حتى يبل ويشفى‪ ،‬اذن لبلى فيها بلءه العظيم‪ ..‬أما الن‪ ..‬ولكن‪ ،‬ل‪،‬‬
‫فرسول ال صلى ال عليه وسلم علمهم أل يقول أحدهم‪ :‬لو‪ .‬لن لو هذه تعني العجز‪ ،‬والمؤمن القوي ل يعدم الحيلة‪ ،‬ول يعجز أبدا‪..‬‬

‫عنئذ هب السد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا‪ ،‬مستهل خطابه بالية الكريمة‪:‬‬
‫(بسم ال الرحمن الرحيم‪..‬‬
‫ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادي الصالحون)‪..‬‬
‫وبعد فراغه من خطبته‪ ،‬صلى بالجيش صلة الظهر‪ ،‬ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا‪ :‬ال أكبر‪ ..‬ال أكبر‪ ..‬ال أكبر‪ ..‬ال أكبر‪..‬‬
‫ودوّى الكن وأوّب مع المكبرين‪ ،‬ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو‪ ،‬وصاح في جنوده‪ :‬هيا على بركة ال‪..‬‬

‫و صعد و هو متحامل على نف سه وآل مه الى شر فة الدار ال تي كان ينزل ب ها ويتخذ ها مركزا لقياد ته‪..‬و في الشر فة جلس متكئا على‬
‫صدره فوق وسادة‪ .‬باب داره مفتوح‪ ..‬وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا‪ ..‬ولكنه ل يرهب ول يخاف‪..‬‬
‫دمامله تنبح وتنزف‪ ،‬ولكنه عنها في شغل‪ ،‬فهو من الشرفة يكبر ويصيح‪ ..‬ويصدر أوامره لهؤلء‪ :‬أن تقدّموا صوب الميمنة‪ ..‬وللئك‪:‬‬
‫أن سدوا ثغرات الميسرة‪ ..‬أمامك يا مغيرة‪ ..‬وراءهم يا جرير‪ ..‬اضرب يا نعمان‪ ..‬اهجم يا أشعث‪ ..‬وأنت يا قعقاع‪ ..‬تقدموا يا أصحاب‬
‫محمد‪!!..‬‬
‫وكان صوته المفعم بقوة العزم والمل‪ ،‬يجعل من كل جندي فردا‪ ،‬جيشا بأسره‪..‬‬
‫وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح‪.‬ز وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار‪!!..‬‬
‫وطارت فلول هم المهزو مة ب عد أن رأوا م صرع قائد هم وخيرة جنود هم‪ ،‬وطارد هم كالج يش الم سلم ع تى نهاو ند‪ ..‬ثم المدائن فدخلو ها‬
‫ليحملوا ايوان كسرى وتاجه‪ ،‬غنيمة وفيئا‪!!..‬‬

‫**‬

‫وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلء عظيما‪..‬‬


‫وكا نت موقعة المدائن‪ ،‬بعد موقعة القادسية بقرابة عامين‪ ،‬جرت خللهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين‪ ،‬حتى تجمعن كل‬
‫فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسها‪ ،‬متأهبة لموقف أخير وفاصل‪..‬‬
‫وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه‪ .‬فقرر أن يسلبهم هذه المزية‪ ..‬ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة في موسم‬
‫فيضانه وجيشانه‪..‬‬
‫هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف السد في براثنه‪!!..‬‬

‫ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر‪ ،‬ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم‪!!..‬‬
‫وهكذا أ صدر سعد أمره الى جي شه بعبور ن هر دجلة‪ ..‬وأ مر بالب حث عن مخا ضة في الن هر تمكّن من عبور هذا الن هر‪ ..‬وأخيرا عثروا‬
‫على مكان ل يخلو عبوره من المخاطر البالغة‪..‬‬

‫وقبل أن يبدأ الجيش الجيش عمل ية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الو صول على الضفة الخرى التي يرابط الع طو‬
‫حولها‪ ..‬وعندئذ جهز كتيبتين‪..‬‬
‫الولى‪ :‬واسمها كتيبة الهوال وأمّر سعد عليها عاصم ابنعمرو والثانية‪ :‬اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع ابن عمرو‪..‬‬

‫وكان على جنود هات ين الكتيبت ين أن يخوضوا الهوال ل كي يف سحوا على الض فة الخرى مكا نا آم نا للج يش العابر على أثر هم‪ ..‬ول قد‬
‫أدوا العمل بمهارة مذهلة‪..‬‬
‫ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون‪..‬‬
‫نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه‪..‬‬
‫وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫" ان السلم جديد‪..‬‬
‫ذلّلت وال لهم البحار‪ ،‬كما ذلّل لهم البرّ‪..‬‬
‫ن منه أفواجا‪ ،‬كما دخلوه أفواحا"‪!!..‬‬
‫والذي نفس سلمان بيده ليخرج ّ‬
‫ولقد كان ‪ ..‬وكما اقتحموا نهر دجلة أفواجا‪ ،‬خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا‪ ،‬بل لم تضع منهم شكيمة فرس‪..‬‬

‫ول قد سقط من أحد المقاتل ين قد حه‪ ،‬فعز عل يه أن يكون الوح يد ب ين رفاقه الذي يضيع منه شيء‪ ،‬فنادى في أصحابه ليعاونوه على‬
‫انتشاله‪ ،‬ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه‪!!..‬‬

‫وتصف لنا احدى الروايات التاريخية‪ ،‬روعة المشهد وهم يعبرون دجلة‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫[أمر سعد المسلمين أن يقولوا‪ :‬حسبنا ال ونعم الوكيل‪ ..‬ثم اقتحم بفرسه دجلة‪ ،‬واقتحم الناس وراءه‪ ،‬لم يتخلف عنه أحد‪ ،‬فساروا فيها‬
‫كأنمسا يسسيرون على وجسه الرض حتسى ملؤا مسا بيسن الجانسبين‪ ،‬ولم يعسد وجسه الماء يرى مسن أفواج الفرسسان والمشاة‪ ،‬وجعسل الناس‬
‫يتحدثون و هم ي سيرون على و جه الماء كأن هم يتحدون على و جه الرض؛ وذلك ب سبب ما شعروا به من الطمأني نة وال من‪ ،‬والوثوق‬
‫بأمر ال ونصره ووعيده وتأييده]‪!!..‬‬

‫ويوم ولى عمر سعدا امارة العراق‪ ،‬راح يبني للناس ويعمّر‪ ..‬كوّف الكوفة‪ ،‬وأرسى قواعد السلم في البلد العريضة الواسعة‪..‬‬
‫وذات يوم شكاه أهل الكوفة لمير المؤمنين‪ ..‬لقد غلبهم طبعهم المتمرّد‪ ،‬فزعموا زعمهم الضاحك‪ ،‬قالوا‪ ":‬ان سعدا ل يحسن يصلي"‪!!..‬‬
‫ويضحك سعد من ملء فاه‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"وال اني لصلي بهم صلة رسول ال‪ ..‬أطيل في الركعتين الوليين‪ ،‬وأقصر في الخريين"‪..‬‬
‫ويستدعيه عمر الى المدينة‪ ،‬فل يغضب‪ ،‬بل يلبي نداءه من فوره‪..‬‬
‫وبعد حين يعتزم عمر ارجاعه الى الكوفة‪ ،‬فيجيب سعد ضاحكا‪:‬‬
‫" اأتمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني ل أحسن الصلة"‪..‬؟؟‬
‫ويؤثر البقاء في المدينة‪..‬‬

‫وحين اعتدي على أم ير المؤمنين ع مر رضي ال ع نه وأرضاه‪ ،‬اختار من بين أصحاب الرسول عليه ال صلة والسلم‪ ،‬ستة رجال‪،‬‬
‫ليكون اليهم أمر الخليفة الجديد قائل انه اختار ستة مات رسول ال وهو عنهم راض‪ ..‬وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص‪.‬‬
‫بل يبدو من كلمات عمر الخيرة‪ ،‬أنه لو كان مختارا لخلفة واحدا من الصحابة لختار سعدا‪..‬‬
‫فقد قال لصحابه وهو يودعهم ويوصيهم‪:‬‬
‫" ان وليها سعد فذاك‪..‬‬
‫وان وليه غيره فليستعن بسعد"‪.‬‬

‫**‬

‫ويمتد العمر بسعج‪ ..‬وتجيء الفتنة الكبرى‪ ،‬فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولده أل ينقلوا اليه شيئا من أخبارها‪..‬‬
‫وذات يوم تشرئب العناق نحوه‪ ،‬ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫يا عم‪ ،‬ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا المر‪.‬‬
‫فيجيبه سعد‪:‬‬
‫" أريد من مائة ألف سيف‪ ،‬سيفا واحدا‪ ..‬اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا‪ ،‬واذا ضربت به الكافر قطع"‪!!..‬‬
‫ويدرك ابن أخيه غرضه‪ ،‬ويتركه في عزلته وسلمه‪..‬‬
‫وحين انتهى المر لمعاوية‪ ،‬واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا‪:‬‬
‫مالك لم تقاتل معنا‪..‬؟؟‬
‫فأجابه‪:‬‬
‫" اني مررت بريح مظلمة‪ ،‬فقلت‪ :‬أخ ‪ ..‬أخ‪..‬‬
‫واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني‪"..‬‬
‫فقل زعاوية‪ :‬ليس في كتاب ال أخ‪ ..‬أخ‪ ..‬ولكن قال ال تعالى‪:‬‬
‫(وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‪ ،‬فأصلحوا بينهما‪ ،‬فان بغت احداهما على الخرى‪ ،‬فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر ال)‪.‬‬
‫وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة‪ ،‬ول مع العادلة على الباغية‪.‬‬
‫أجابه سعد قائل‪:‬‬
‫" ما كنت لقاتل رجل قال له رسول ال‪ :‬أنت مني بمنزلة هرون من موسى ال أنه ل نبي بعدي"‪.‬‬

‫**‬

‫وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة‪ ،‬وقد جاوز سعد الثمانين‪ ،‬كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء ال‪.‬‬
‫ويروي لنا ولده لحظاته الخيرة فيقول‪:‬‬
‫[ كان رأس أبي في حجري‪ ،‬وهو يقضي‪ ،‬فبكيت وقال‪ :‬ما يبكيك يا بنيّ‪..‬؟؟‬
‫ان ال ل يعذبني أبدا وأني من أهل الجنة]‪!!..‬‬
‫ان صلبة ايمانه ل يوهنها حتى رهبة المةت وزلزاله‪.‬‬
‫ولقد بشره الرسول عليه الصلة والسلم‪ ،‬وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلة والسلم أوثق ايمان‪..‬ز واذن ففيم الخوف‪..‬؟‬
‫[ ان ال ل يعذبتي أبدا‪ ،‬واني من أهل الجنة]‪.‬‬

‫بيد أنه يريد أن يلقى ال وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله‪ ..‬ومن ث ّم فقد أشار الى خزانته ففتوحها‪ ،‬ثم‬
‫أخرجوا منها رداء قديما قي بلي وأخلق‪ ،‬ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائل‪:‬‬
‫[ لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر‪ ،‬ولقد ادخرته لهذا اليوم]‪!!..‬‬

‫اجل‪ ،‬ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب‪ ..‬انه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا‪ ،‬صادقا شجاعا!!‬
‫وفوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة‪ ،‬ليأخذ مكانه في سلم الى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين‬
‫سبقوه الى ال‪ ،‬ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه‪.‬‬

‫**‬

‫وداعا يا سعد‪!!..‬‬
‫وداعا يا بطل القادسية‪ ،‬وفاتح المدائن‪ ،‬ومطفىء النار المعبودة في فارس الى البد‪!!..‬‬

‫صهيب بن سنان‬
‫ربح البيع يا أبا يحيى!!‬

‫ولد في أحضان النعيم‪..‬‬


‫ف قد ا كن أبوه حا كم البلّة وول يا علي ها لك سرى‪ ..‬وكان من العرب الذ ين نزحوا الى العراق ق بل ال سلم بع هد طو يل‪ ،‬و في ق صره القائم‬
‫على شاطئ الفرات‪ ،‬مما يلي الجزيرة والموصل‪ ،‬عاش الطفل ناعما سعيدا‪..‬‬
‫وذات يوم تعرضت البلد لهجوم الروم‪ ..‬وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلم " صهيب بن سنان"‪..‬‬
‫ويقتنصه تجار الرقيق‪ ،‬وينتهي طوافه الى مكة‪ ،‬حيث بيع لعبد ال بن جدعان‪ ،‬بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلد الروم‪ ،‬حتى أخذ‬
‫لسانهم ولهجتهم‪.‬‬
‫ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلصه‪ ،‬فيعتقه ويحرره‪ ،‬ويهيء له فرصة التجار معه‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ..‬ولندع صديقع عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم‪:‬‬
‫" لقيت صهيب بن سنان على باب دار الرقم‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم فيها‪..‬‬
‫فقلت له‪ :‬ماذا تريد‪..‬؟‬
‫فأجابني وما تريد أنت‪..‬؟‬
‫قلت له‪ :‬أريد أن أدخل على محمد‪ ،‬فأسمع ما يقول‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأنا اريد ذلك‪..‬‬
‫فدخلنا على الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فعرض علينا السلم فأسلمنا‪.‬‬
‫ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا‪..‬‬
‫ثم خرجنا ونحن مستخفيان"‪!!.‬‬
‫عرف صهيب طريقع اذن الى دار الرقم‪..‬‬
‫عرف طريقه الى الهدى والنور‪ ،‬وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم‪..‬‬
‫فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة‪ ..‬بل كان يعني تخطي حدود عالم‬
‫بأسره‪!..‬‬
‫عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق‪ ،‬ونظام وحياة‪..‬‬
‫وتخطي عتبة دار الرقم‪ ،‬التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة المر وواقعه عبور خضمّ من الهوال‪ ،‬واسع‪،‬‬
‫وعريض‪..‬‬
‫واقتحام تلك العتبة‪ ،‬كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام‪!..‬‬
‫وبالنسبة للفقراء‪ ،‬والغرباء‪ ،‬والرقيق‪ ،‬كان اقتحام عقبة دار الرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر‪.‬‬

‫وان صساحبنا صسهيبا لرجسل غريسب‪ ..‬وصسديقه الذي لقيسه على باب الدار‪ ،‬عمّار بسن ياسسر رجسل فقيسر‪ ..‬فمسا بالهمسا يسستقبلن الهول‬
‫ويشمّران سواعدهما لملقاته‪..‬؟؟‬
‫انه نداء اليمان الذي ل يقاوم‪..‬‬
‫وانها شمائل محمد عليه الصلة والسلم‪ ،‬الذي يملؤ عبيرها أفئدة البرار هدى وحبا‪..‬‬
‫وانها روعة الجديد المشرق‪ .‬تبهر عقول سئمت عفونة القديم‪ ،‬وضلله وافلسه‪..‬‬
‫وانها قبل هذا كله رحمة ال يصيب بها من يشاء‪ ..‬وهداه يهدي اليه من ينيب‪...‬‬
‫أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين‪..‬‬
‫وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين‪!!..‬‬
‫ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين‪..‬‬
‫وانه ليتحدث صادقا عن ولئه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول‪ ،‬وسار تحت راية السلم فيقول‪:‬‬
‫" لم يشهد رسول ال صلى ال عليه وسلم مشهدا قط ال كنت حاضره‪..‬‬
‫ولم يبايع بيعة قط ال كنت حاضرها‪..‬‬
‫ول يسر سرية قط‪ .‬ال كنت حاضرها‪..‬‬
‫ول غزا غزاة قط‪ ،‬أوّل الزمان وآخره‪ ،‬ال منت فيها عن يمينه أ‪ ،‬شماله‪..‬‬
‫وما خاف المسلمون أمامهم قط‪ ،‬ال كنت أمامهم‪..‬‬
‫ول خافوا وراءهم ال كنت وراءهم‪..‬‬
‫وما جعلت رسول ال صلى ال عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"‪!!..‬‬
‫هذه صورة باهرة‪ ،‬ليمان فذ وولء عظيم‪..‬‬
‫ولقد كان صهيب رضي ال عنه وعن اخوا نه أجمعين‪ ،‬أهل لهذا اليمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور ال‪ ،‬ووضع يمينه في‬
‫يكين الرسول‪..‬‬
‫يومئذ أخذت علقاته بالناس‪ ،‬وبالدنيا‪ ،‬بل وبنفسه‪ ،‬طابعا جديدا‪ .‬يومئذ‪ .‬امتشق نفسا صلبة‪ ،‬زاهدة متفانية‪ .‬وراح يستقبل بها الحداث‬
‫فيطوّعها‪ .‬والهوال فيروّعها‪.‬‬
‫ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور‪.‬ز فل يتخلف عن مشهد ول عن خطر‪ ..‬منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم‪ ..‬وعن‬
‫شهوة الحياة‪ ،‬الى عشق الخطر وحب الموت‪..‬‬
‫ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولئه الجليل بيوم هجرته‪ ،‬ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته‬
‫الرابحة خلل سنوات كثيرة قضاها في مكة‪ ..‬تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جللها تردد ول نكوص‪.‬‬
‫فعندما همّ الرسول بالهجرة‪ ،‬علم صهيب بها‪ ،‬وكان المفروض أن يكون ثالث ثلثة‪ ،‬هم الرسول‪ ..‬وأبو بكر‪ ..‬وصهيب‪..‬‬
‫بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول‪..‬‬
‫ووقع صهيب في بعض فخاخهم‪ ،‬فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة ال‪..‬‬
‫وحاور صهيب وداور‪ ،‬حتى استطاع أن يفلت من شانئيه‪ ،‬وامتطى ظهر ناقته‪ ،‬وانطلق بها الصحراء وثبا‪..‬‬
‫بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوهخ‪ ..‬ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائل‪:‬‬
‫" يا معشر قريش‪..‬‬
‫لقد علمتم أني من أرماكم رجل‪ ..‬وأيم وال ل تصلون ال يّ حتى ارمي كبل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى ل يبقى في‬
‫يدي منه شيء‪ ،‬فأقدموا ان شئتم‪..‬‬
‫وان شئتم دللتكم على مالي‪ ،‬وتتركوني وشاني"‪..‬‬

‫ولقد استاموا لنفسهم‪ ،‬وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له‪:‬‬


‫أتيتنا صعلوكا فقيرا‪ ،‬فكثر مالك عندنا‪ ،‬وبلغت بيننا ما بلغت‪ ،‬والن تنطلق بنفسك وبمالك‪..‬؟؟‬
‫فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته‪ ،‬وتركوه وشأنه‪ ،‬وقفلوا الى مكة راجعين‪..‬‬

‫والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك‪ ،‬وفي غير حذر‪ ،‬فلم يسألوه بيّنة‪ ..‬بل ولم يستحلفوه على صدقه‪ !!..‬وهذا موقف يضفي على‬
‫صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين‪!!..‬‬
‫واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا‪ ،‬حتى أردك الرسول صلى ال عليه وسلم في قباء‪..‬‬

‫كان الرسول حالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهلا‪:‬‬
‫" ربح البيع أبا يحيى‪!!..‬‬
‫ربح البيع أبا يحيى‪!!..‬‬
‫وآنئذ نزلت الية الكريمة‪:‬‬
‫( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات ال‪ ،‬وال رؤوف بالعباد)‪..‬‬

‫أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات ال بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها‪ ،‬ولم يحس قط أنه المغبون‪..‬‬
‫فمال المال‪ ،‬وما الذهب وما الدنيا كلها‪ ،‬اذا بقي له ايمانه‪ ،‬واذا بقيت لضميره سيادته‪ ..‬ولمصيره ارادته‪..‬؟؟‬
‫كان الرسول يحبه كثيرا‪ ..‬وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه‪ ،‬خفيف الروح‪ ،‬حاضر النكتة‪..‬‬
‫رآه الرسول يأكل رطبا‪ ،‬وكان باحدى عينيه رمد‪..‬‬
‫فقال له الرسول ضاحكا‪ ":‬أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"‪..‬؟‬
‫فأجاب قائل‪ ":‬وأي بأس‪..‬؟ اني آكله بعيني الخرى"‪!!..‬‬
‫وكان جوّادا معطاء‪ ..‬ين فق كل عطائه من ب يت المال في سبيل ال‪ ،‬يع ين محتا جا‪ ..‬يغ يث مكرو با‪ "..‬ويط عم الطعام على ح به م سكينا‬
‫ويتيما وأسيرا"‪.‬‬
‫حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له‪ :‬أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف‪..‬؟‬
‫فأجابه صهيب لقد سمعت رسول ال يقول‪:‬‬
‫" خياركم من أطعم الطعام"‪.‬‬

‫**‬

‫ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم‪ ،‬فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلة مزية تمل حياته ألفة‬
‫وعظمة‪..‬‬
‫فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلة الفجر‪..‬‬
‫وعندما احس نهاية الجل‪ ،‬فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الخيرة قال‪:‬‬
‫" وليصلّ بالناس صهيب"‪..‬‬
‫لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة‪ ،‬ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد‪..‬‬

‫وخليفسة المسسلمين هسو الذي يؤمهسم فسي الصسلة‪ ،‬ففسي اليام الشاغرة بيسن وفاة أميسر المؤمنيسن‪ ،‬واختيار الخليفسة الجديسد‪ ،‬مسن يؤم‬
‫المسلمين في الصلة‪..‬؟‬
‫ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى ال ليستأني ألف مرة قبل أن يختار‪ ..‬فاذا اختار‪ ،‬فل أحد‬
‫هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الختيار‪..‬‬
‫ولقد اختار عمر صهيبا‪..‬‬
‫اختاره ليكون امام المسلمين في الصلة حتى ينهض الخليفة الجديد‪ ..‬بأعباء مهمته‪..‬‬
‫اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة‪ ،‬فكان هذا الختيار من تمام نعمة ال على عبده الصالح صهيب بن سنان‪..‬‬

‫معاذ بن جبل‬
‫أعلمهم بالحلل والحرام‬

‫عندما كان الرسول عليه الصلة والسلم يبابع النصار بيعة العقبة الثانية‪ .‬كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم‪ ،‬شاب‬
‫مشرق الوجه‪ ،‬رائع النظرة‪ ،‬برّاق الثنايا‪ ..‬يبهر البصار بهوئه وسمته‪ .‬فاذا تحدّث ازدادت البصار انبهارا‪!!..‬‬
‫ذلك كان معاذ بن جبل رضي ال عنه‪..‬‬
‫هو اذن رجل من النصار‪ ،‬بايع يوم العقبة الثانية‪ ،‬فصار من السابقين الولين‪.‬‬
‫ورجل له مثل اسبقيته‪ ،‬ومثل ايمانه ويقينه‪ ،‬ل يتخلف عن رسول ال في مشهد ول في غزاة‪ .‬وهكذا صنع معاذ‪..‬‬
‫على أن آلق مزاياه‪ ،‬وأعظم خصائصه‪ ،‬كان فقهه‪..‬‬
‫بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهل لقول الرسول عنه‪:‬‬
‫" أعلم أمتي بالحلل والحرام معاذ بن جبل"‪..‬‬
‫وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله‪ ،‬وشجاعة ذكائه‪ .‬سأله الرسول حين وجهه الى اليمن‪:‬‬
‫" بما تقضي يا معاذ؟"‬
‫فأجابه قائل‪ " :‬بكتاب ال"‪..‬‬
‫قال الرسول‪ " :‬فان لم تجد في كتاب ال"‪..‬؟‬
‫"أقضي بسنة رسوله"‪..‬‬
‫قال الرسول‪ " :‬فان لم تجد في سنة رسوله"‪..‬؟‬
‫قال معاذ‪ ":‬أجتهد رأيي‪ ،‬ول آلوا"‪..‬‬
‫فتهلل وجه الرسول وقال‪:‬‬
‫" الحمد ل الذي وفق رسول رسول ال لما يرضي رسول ال"‪.‬‬

‫فولء معاذ لكتاب ال‪ ،‬ولسنة رسوله ل يحجب عقله عن متابعة رؤاه‪ ،‬ول يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة‪ ،‬التي تنتظر‬
‫من يكتشفها ويواجهها‪.‬‬
‫ول عل هذه القدرة على الجتهاد‪ ،‬والشجا عة في ا ستعمال الذكاء والع قل‪ ،‬ه ما اللتان مكن تا معاذا من ثرائه الفق هي الذي فاق به أقرا نه‬
‫واخوانه‪ ،‬صار كما وصفه الرسول عليه الصلة والسلم " أعلم الناس بالحلل والحرام"‪.‬‬
‫وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في المور‪..‬‬
‫فهذا عائذ ال بن عبدال يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم في أول خلفة عمر‪..‬قال‪:‬‬
‫" فجل ست مجل سا ف يه ب ضع وثلثون‪ ،‬كل هم يذكرون حدي ثا عن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪ ،‬و في الحل قة شاب شد يد الد مة‪ ،‬حلو‬
‫ب القوم سنا‪ ،‬فاذا اشت به عليهم من الحد يث شيء ردّوه ال يه فأفتاهم‪ ،‬ول يحدثهم ال ح ين ي سألونه‪ ،‬ول ما‬
‫المنطق‪ ،‬وضيء‪ ،‬وهو أش ّ‬
‫قضي مجلسهم دنوت منه وسالته‪ :‬من أنت يا عبد ال؟ قال‪ :‬أنا معاذ بن جبل"‪.‬‬

‫وهذا أبو مسلم الخولني يقول‪:‬‬


‫" دخلت م سجد ح مص فاذا جما عة من الكهول يتو سطهم شاب برّاق الثنا يا‪ ،‬صامت ل يتكلم‪.‬ز فاذا امترى القوم في ش يء توجهوا ال يه‬
‫يسألونه‪.‬ز فقلت لجليس لي‪ :‬من هذا‪..‬؟ قال‪ :‬معاذ بن جبل‪ ..‬فوقع في نفسي حبه"‪.‬‬

‫وهذا شهر بن حوشب يقول‪:‬‬


‫" كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل‪ ،‬نظروا اليه هيبة له"‪..‬‬

‫ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي ال عنه يستثيره كثيرا‪..‬‬


‫وكان يقول في بض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه‪:‬‬
‫" لول معاذ بن جبل لهلك عكر"‪..‬‬

‫ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقل أحسن تدريبه‪ ،‬ومنطقا آسرا مقنعا‪ ،‬ينساب في هدوء واحاطة‪..‬‬

‫فحيثما نلتقي به من خلل الروايات التاريخية عنه‪ ،‬نجده كما أسلفنا واسط العقد‪..‬‬
‫فهو دائما جالس والناس حوله‪ ..‬وهو صموت‪ ،‬ل يتحدث ال على شوق الجالسين الى حديثه‪..‬‬
‫واذا اختلف الجالسون في أمر‪ ،‬أعادوه الى معاذ لبفصل فيه‪..‬‬
‫فاذا تكلم‪ ،‬كان كما وصفه أحد معاصريه‪:‬‬
‫" كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"‪..‬‬

‫ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه‪ ،‬وفي اجلل المسلمين له‪ ،‬أيام الرسول وبعد مماته‪ ،‬وهو شاب‪ ..‬فلقد مات معاذ في خلفة عمر‬
‫ولم يجاوز من العمر ثلثا وثلثين سنة‪!!..‬‬
‫وكان معاذ سمح اليد‪ ،‬والنفس‪ ،‬والخلق‪..‬‬
‫فل يسأل عن شيء ال أعطاه جزلن مغتبطا‪..‬ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله‪.‬‬
‫ومات الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين‪..‬‬

‫وفسي خلفسة أبسي بكسر رجسع معاذ مسن اليمسن‪ ،‬وكان عمسر قسد علم أن معاذا أثرى‪ ..‬فاقترح على الخليفسة أبسي بكسر أن يشاطره ثروتسه‬
‫وماله‪!..‬‬
‫ولم ينتظر عمر‪ ،‬بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته‪..‬‬

‫كان معاذ ظا هر ال كف‪ ،‬طا هر الذ مة‪ ،‬ولئن كان قد أثري‪ ،‬فا نه لم يكت سب اث ما‪ ،‬ولم يقترف شب هة‪ ،‬و من ثم ف قد ر فض عرض ع مر‪،‬‬
‫وناقشه رأيه‪..‬‬
‫وتركه عمر وانصرف‪..‬‬
‫وفي الغداة‪ ،‬كان معاذ يطوي الرض حثيثا شطر دار عمر‪..‬‬
‫ول يكاد يلقاه‪ ..‬حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول‪:‬‬
‫" لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء‪ ،‬أخشى على نفسي الغرق‪ ..‬حتى جئت وخلصتني يا عمر"‪..‬‬
‫وذهبا معا الى أبي بكر‪ ..‬وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله‪ ،‬فقال أبو بكر‪ ":‬ل آخذ منك شيئا"‪..‬‬
‫فنظر عمر الى معاذ وقال‪ ":‬الن حلّ وطاب"‪..‬‬
‫ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا‪ ،‬لو علم أنه أخذه بغير حق‪..‬‬
‫وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن‪..‬‬
‫وان ما هو ع صر الم ثل كان يز خر بقوم يت سابقون الى ذرى الكمال المي سور‪ ،‬فمنهم الطائر المحلق‪ ،‬ومنهم المهرول‪ ،‬ومنهم المقت صد‪..‬‬
‫ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون‪.‬‬

‫**‬

‫ويهاجر معاذ الى الشام‪ ،‬حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها‪ ،‬فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم‬
‫لمعاذ‪ ،‬استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام‪ ،‬ول يمضي عليه في المارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا‪..‬‬
‫وكان عمر رضي ال عنه يقول‪:‬‬
‫" لو استخلفت معاذ بن جبل‪ ،‬فسألني ربي‪ :‬لماذا استخلفته؟ لقلت‪ :‬سمعن نبيك يقول‪ :‬ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ‪ ،‬كان معاذ‬
‫بين أيديهم"‪..‬‬
‫والستخلف الذي يعنيه عمر هنا‪ ،‬هو الستخلف على المسلمين جميعا‪ ،‬ل على بلد أو ولية‪..‬‬
‫فلقد سئل عمر قبل موته‪ :‬لو عهدت الينا‪..‬؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه‪..‬‬
‫لاجاب قائل‪:‬‬
‫" لو كان معاذ بن جبل حيا‪ ،‬ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل‪ ،‬فسألني‪ :‬من ولّيت على أمة محمد‪ ،‬لقلت‪ :‬ولّيت عليهم معاذ بن جبل‪،‬‬
‫بعد أن سمعت النبي يقول‪ :‬معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة"‪.‬‬

‫**‬
‫قال الرسول صلى ال عليه وسلم يوما‪:‬‬
‫" يا معاذ‪ ..‬وال اني لحبك فل تنس أن تقول في عقب كل صلة‪ :‬اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"‪..‬‬
‫أجل اللهم أعنّي‪ ..‬فقد كان الرسول دائب اللحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه ل حول لهم ول قوة‪ ،‬ول سند ول عون‬
‫ال بال‪ ،‬ومن ال العلي العظيم‪..‬‬
‫ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه‪..‬‬
‫لقيه الرسول ذات صباح فسأله‪:‬‬
‫"كيف أصبحت يامعاذ"‪..‬؟؟‬
‫قال‪:‬‬
‫" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول ال"‪.‬‬
‫قال النبي‪:‬‬
‫‪:‬ان لكل حق حقيقة‪ ،‬فما حقيقة ايمانك"‪..‬؟؟‬
‫قال معاذ‪:‬‬
‫" ما أصبحت قط‪ ،‬ال ظننت أني ل أمسي‪ ..‬ول أمسيت مساء ال ظننت أني ل أصبح‪..‬‬
‫ول خطوت خطوة ال ظننت أني ل أتبعها غيرها‪..‬‬
‫وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها‪..‬‬
‫وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون‪..‬‬
‫وأهل النار في النار يعذبون‪"..‬‬
‫فقال له الرسول‪:‬‬
‫" عرفت فالزم"‪..‬‬
‫أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره ل‪ ،‬فلم يعد يبصر شيئا سواه‪..‬‬

‫ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال‪:‬‬


‫"ان معاذا كان أمّة‪ ،‬قانتا ل حنيفا‪ ،‬ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلم"‪..‬‬

‫**‬

‫وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم‪ ،‬والى ذكر ال‪..‬‬


‫وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول‪:‬‬
‫" احذروا زيغ الحكيم‪ ..‬وارفوا الحق بالحق‪ ،‬فان الحق نورا"‪!!..‬‬
‫وكان يرى العبادة قصدا‪ ،‬وعدل‪..‬‬
‫قال له يوما أحد المسلمين‪ :‬علمني‪.‬‬
‫قال معاذ‪ :‬وهل أنت مطيعي اذا علمتك‪..‬؟‬
‫قال الرجل‪ :‬اني على طاعتك لحريص‪..‬‬
‫فقال له معاذ‪:‬‬
‫" صم وافطر‪..‬‬
‫وص ّل ونم‪..‬‬
‫واكتسب ول تأثم‪.‬‬
‫ن ال مسلما‪..‬‬
‫ول تموت ّ‬
‫واياك ودعوة المظلوم"‪..‬‬
‫وكان يرى العلم معرفة‪ ،‬وعمل فيقول‪:‬‬
‫" تعلموا ما شئتم أن تتعلموا‪ ،‬فلن ينفعكم ال بالعلم جتى تعملوا"‪..‬‬

‫وكان يرى اليمان بال وذكره‪ ،‬استحضارا دائما لعظمته‪ ،‬ومراجعة دائمة لسلوك النفس‪.‬‬
‫يقول السود بن هلل‪:‬‬
‫" كنا نمشي مع معاذ‪ ،‬فقال لنا‪ :‬اجلسوا بنا نؤمن ساعة"‪..‬‬
‫ول عل سبب صمته الكث ير كان راج عا الى عمل ية التأ مل والتف كر ال تي ل تهدأ ول ت كف دا خل نف سه‪ ..‬هذا الذي كان ك ما قال للر سول‪ :‬ل‬
‫يخطو خطوة‪ ،‬ويظن أنه سيتبعها بأخرى‪ ..‬وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه‪ ،‬واستغراقه في محاسبته نفسه‪..‬‬

‫**‬

‫وحان أجل معاذ‪ ،‬ودعي للقاء ال‪...‬‬


‫وفي سكرات الموت تنطلق عن اللشعور حقيقة كل حي‪ ،‬وتجري على لسانه ‪،‬ان استكاع الحديث‪ ،‬كلمات تلخص أمره وحياته‪..‬‬
‫وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم‪.‬‬
‫فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم‪:‬‬
‫ب الدن يا لجري النهار‪ ،‬ول لغرس الشجار‪ ..‬ول كن لظ مأ‬
‫" ال هم ا ني ك نت أخا فك‪ ،‬لكن ني اليوم أرجوك‪ ،‬الل هم ا نك تعلم أ ني لم أ كن أح ّ‬
‫الهواجر ومكابدة الساعات‪ ،‬ونيل المزيد من العلم واليمان والطاعة"‪..‬‬
‫وبسط يمينه كأنه يصافح الموت‪ ،‬وراح في غيبوبته يقول‪:‬‬
‫" مرحبا بالموت‪..‬‬
‫حبيب جاء على فاقه"‪..‬‬

‫وسافر معاذ الى ال‪...‬‬

‫المقداد بن عمرو‬
‫أول فرسان السلم‬

‫تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا‪:‬‬


‫" أول من عدا به فرسه في سبيل ال‪ ،‬المقداد بن السود‪..‬‬
‫والمقداد بن السود‪ ،‬هو بطلنا هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية السود بن ع بد يغوث فتبناه‪ ،‬فصار يدعى المقداد بن‬
‫السود‪ ،‬حتى اذا نزلت الية الكريمة التي تنسخ التبني‪ ،‬نسب لبيه عمرو بن سعد‪..‬‬
‫والمقداد من المبكّرين بالسلم‪ ،‬وسابع سبعة جاهروا باسلمهم وأعلنوه‪ ،‬حامل نصيبه من أذى قريش ونقمتها‪ ،‬فيس شجاعة الرجال‬
‫وغبطة الحواريين‪!!..‬‬
‫ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم‪..‬‬
‫يقول عبدال بن مسعود صاحب رسول ال‪:‬‬
‫ب اليّ مما في الرض جميعا"‪.‬‬
‫" لقد شهدت من المقداد مشهدا‪ ،‬لن أكون صاحبه‪ ،‬أح ّ‬

‫في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا‪.‬ز حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد‪ ،‬وخيلئها وكبريائها‪..‬‬
‫في ذلك اليوم‪ ..‬والمسلمون قلة‪ ،‬لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل السلم‪ ،‬فهذه أول غزوة لهم يخوضونها‪..‬‬
‫ووقف الرسول يعجم ايمان الذين معه‪ ،‬ويبلوا استعدادهم لملقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه‪..‬‬
‫وراح يشاور هم في ال مر‪ ،‬وأ صحاب الر سول يعلمون أ نه ح ين يطلب المشورة والرأي‪ ،‬فا نه يف عل ذلك ح قا‪ ،‬وأ نه يطلب من كل وا حد‬
‫حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه‪ ،‬فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها‪ ،‬ويخالفها فل حرج عليه ول تثريب‪..‬‬

‫وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات‪ ...‬وقبل أن يسبقه أحد بالحديث ه مّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته‬
‫القاطعة شعار المعركة‪ ،‬ويسهم في تشكيل ضميرها‪.‬‬
‫ولكنه قبل أن يحرك شفتيه‪ ،‬كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا‪ ..‬وقال أبو بكر فأحسن‪ ،‬وتله عمر بن الخطاب‬
‫فقل وأحسن‪..‬‬
‫ثم تقدم المقداد وقال‪:‬‬
‫" يا رسول ال‪..‬‬
‫امض لما أراك ال‪ ،‬فنحن معك‪..‬‬
‫وال ل نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى‬
‫اذهب أنت وربك فقاتل انا هاهنا قاعدون‪..‬‬
‫بل نقول لك‪ :‬اذهب أنت وربك فقاتل انا معكما مقاتلون‪!!..‬‬
‫والذي بعثك بالحق‪ ،‬لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه‪ .‬ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن‬
‫خلفك حتى يفتح ال لك"‪ ..‬انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف‪ ..‬وتلل وجه رسول ال وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد‪..‬‬
‫وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن‬
‫أراد قول‪ ..‬وطراز الحديث لمن يريد حديثا‪!!..‬‬

‫أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين‪ ،‬فقام سعد بن معاذ زعيم النصار‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" يا رسول ال‪..‬‬
‫ن ما جئت به هو الحق‪ ..‬وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا‪ ،‬فامض يا رسول ال لما أردت‪ ،‬فنحن‬
‫لقد آمنا بك وصدّقناك‪ ،‬وشهدنا أ ّ‬
‫معك‪ ..‬والذي عثك بالحق‪ ..‬لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك‪ ،‬ما تخلف منا رجل واحد‪ ،‬وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا‬
‫غدا‪..‬‬
‫انا لصبر في الحرب‪ ،‬صدق في اللقاء‪ ..‬ولعل ال يريك منا ما تقر عينك‪ ..‬فسر على بركة ال"‪..‬‬
‫وامتل قلب الرسول بشرا‪..‬‬
‫وقال لصحابه‪ ":‬سيروا وأبشروا"‪..‬‬
‫والتقى الجمعان‪..‬‬
‫وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلثة ل غير‪ :‬المقداد بن عمرو‪ ،‬ومرثد بن أبي مرثد‪ ،‬والزبير بن العوّام‪ ،‬بينما كان بقية المجاهدين‬
‫مشاة‪ ،‬أو راكبين ابل‪..‬‬

‫**‬

‫ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل‪ ،‬ل تصور شجاعته فحسب‪ ،‬بل تصور لنا حكمته الراجحة‪ ،‬وتفكيره العميق‪..‬‬
‫وكذلك كان المقداد‪..‬‬
‫كان حكيما أريبا‪ ،‬ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات‪ ،‬بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة‪ ،‬وسلوك قويم مطرّد‪ .‬وكانت‬
‫تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته‪..‬‬

‫وله الرسول على احدى الوليات يوما‪ ،‬فلما رجع سأله النبي‪:‬‬
‫" كيف وجدت المارة"‪..‬؟؟‬
‫فأجاب في صدق عظيم‪:‬‬
‫" لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس‪ ،‬وهم جميعا دوني‪..‬‬
‫والذي بعثك بالحق‪ ،‬ل اتآمرّن على اثنين بعد اليوم‪ ،‬أبدا"‪..‬‬
‫واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون‪..‬؟‬
‫واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون‪..‬؟‬
‫رجل ل يخدع عن نفسه‪ ،‬ول عن ضعفه‪..‬‬
‫يلي المارة‪ ،‬فيغشى نفسه الزهو وال صلف‪ ،‬ويكتشف في نفسه هذا الضعف‪ ،‬فيقسم ليجنّبها مظانه‪ ،‬وليرفض المارة بعد تلك التجربة‬
‫ويتتحاماها‪ ..‬ثم يبر بقسمه فل يكون أميرا بعد ذلك أبدا‪!!..‬‬
‫لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول ال‪ ..‬هوذا‪:‬‬
‫" ان السعيد لمن جنّب الفتن"‪..‬‬
‫واذا كان قد رأى في المارة زهوا يفتنه‪ ،‬أو يكاد يفتنه‪ ،‬فان سعادته اذن في تجنبها‪..‬‬
‫ومن مظاهر حكمته‪ ،‬طول أناته في الحكم على الرجال‪..‬‬
‫وهذه أيضا تعلمها من رسول ال‪ ..‬فقد علمهم عليه السلم أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي‪..‬‬

‫وكان المقداد ير جئ حك مه الخ ير على الناس الى لح ظة الموت‪ ،‬ليتأ كد أن هذا الذي ير يد أن ي صدر عل يه حك مه لن يتغ ير ولن يطرأ‬
‫على حياته جديد‪ ..‬وأي تغيّر‪ ،‬أو أي جديد بعد الموت‪..‬؟؟‬
‫وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلل هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫" جلسنا الى المقداد يوما فم ّر به رجل‪..‬‬


‫فقال مخاطبا المقداد‪ :‬طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول ال صلى اله عليه وسلم‪..‬‬
‫وال لوددناةلو أن رأينا ما رأيت‪ ،‬وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال‪:‬‬
‫ما يح مل أحدكم على أن يتم نى مشهدا غيّ به ال ع نه‪ ،‬ل يدري لو شهده ك يف كان ي صير ف يه؟؟ وال‪ ،‬ل قد عا صر ر سول ال صلى ال‬
‫عل يه وسسلم أقوام كبّهسم ال عز وجسل على مناخر هم في جه نم‪ .‬أول تحمدون ال الذي جنّبكسم مثل بلئ هم‪ ،‬وأخرج كم مؤمن ين بربكسم‬
‫ونبيكم"‪..‬‬
‫حكمة وأية حكمة‪!!..‬‬
‫انك ل تلتقي بمؤمن يحب ال ورسوله‪ ،‬ال وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه‪!..‬‬
‫ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه المنية‪..‬‬
‫ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك اليام‪ ..‬أن يكون من أصحاب الجحيم‪..‬‬
‫ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين‪.‬‬
‫وأليس من الخير اذن أن يحمد ال الذي رزقه الحياة في عصور استق ّر فيها السلم‪ ،‬فأخذه صفوا عفوا‪..‬‬
‫هذه نظرة المقداد‪ ،‬تتألق حكمة وفطنة‪ ..‬وفي كل مواقفه‪ ،‬وتجاربه‪ ،‬وكلماته‪ ،‬كان الريب الحكيم‪..‬‬

‫**‬

‫وكان حب المقداد للسلم عظيما‪..‬‬


‫وكان الى جانب ذلك‪ ،‬واعيا حكيما‪..‬‬
‫والحب حين يكون عظيما وحكيما‪ ،‬فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا‪ ،‬ل يجد غبطة هذا الحب في ذاته‪ ..‬بل في مسؤولياته‪..‬‬
‫والمقداد بن عمرو من هذا الطراز‪..‬‬
‫فح به الرسول‪ .‬مل قل به وشعوره بم سؤولياته عن سلمة الرسول‪ ،‬ولم يكن ت سمع في المدي نة فزعة‪ ،‬ال ويكون المقداد في م ثل ل مح‬
‫البصر واقفا على باب رسول ال ممتطيا صهوة فرسه‪ ،‬ممتشقا مهنّده وحسامه‪!!..‬‬
‫وحبه للسلم‪ ،‬مل قلبه بمسؤولياته عن حماية السلم‪ ..‬ليس فقط من كيد أعدائه‪ ..‬بل ومن خطأ أصدقائه‪..‬‬

‫خرج يوما في سريّة‪ ،‬تمكن العدو فيها من حصارهم‪ ،‬فأصدر أمير السرية أمره بأل يرعى أحد دابته‪ ..‬ولكن أحد المسلمين لم يحط‬
‫بالمر خبرا‪ ،‬فخالفه‪ ،‬فتلقى من المير عقوبة أكثر مما يستحق‪ ،‬أ‪ ،‬لعله ل يستحقها على الطلق‪..‬‬
‫فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح‪ ،‬فسأله‪ ،‬فأنبأه ما حدث‬
‫فأخذ المقداد بيمينه‪ ،‬ومضيا صوب المير‪ ،‬وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له‪:‬‬
‫" والن أقده من نفسك‪..‬‬
‫ومكّنه من القصاص"‪!!..‬‬
‫وأذ عن الم ير‪ ..‬ب يد أن الجندي ع فا و صفح‪ ،‬وانت شى المقداد بعظ مة المو قف‪ ،‬وبعظ مة الد ين الذي أفاء علي هم هذه العزة‪ ،‬فراح يقول‬
‫وكأنه يغني‪:‬‬
‫" لموتنّ‪ ،‬والسلم عزيز"‪!!..‬‬

‫أجل تلك كانت أمنيته‪ ،‬أن يموت والسلم عزيز‪ ..‬ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه المنية مثابرة باهرة جعلته أهل لن يقول‬
‫له الرسول عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫"ان ال أمرني بحبك‪..‬‬
‫وأنبأني أنه يحبك"‪...‬‬
‫سعيد بن عامر‬
‫العظمة تحت السمال‬

‫أيّنا سمع هذا السم‪ ،‬وأيّنا سمع به من قبل‪..‬؟‬


‫أغلب الظن أن أكثنا‪ ،‬ان لم نكن جميعا‪ ،‬لم نسمع به قط‪ ..‬وكأني بكم اذ تطالعونه الن تتساءلون‪ :‬ومن يكون عامر هذا‪..‬؟؟‬
‫أجل سنعلم من هذا السعيد‪!!..‬‬

‫**‬

‫انه واحد من كبار الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وان لم يكن لسمه ذلك الرنين المألوف لسماء كبار الصحابة‪.‬‬
‫انه واحد من كبار التقياء الخفياء‪!!..‬‬
‫ول عل من نافلة القول وتكراره‪ ،‬أن ننوه بملزم ته ر سول ال في جم يع مشاهده وغزوا ته‪ ..‬فذلك كان ن هج الم سلمين جمي عا‪ .‬و ما كان‬
‫لمؤمن أن يتخلف عن رسول ال في سلم أو جهاد‪.‬‬
‫أسلم سعيد قبيل فتح خيبر‪ ،‬ومنذ عانق السلم وبايع الرسول‪ ،‬أعطاهما كل حياته‪ ،‬ووجوده ومصيره‪.‬‬
‫فالطاعة‪ ،‬والزهد‪ ،‬والسمو‪ ..‬والخبات‪ ،‬والورع‪ ،‬والترفع‪.‬‬
‫كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا النسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا‪..‬‬
‫وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها‪ ،‬علينا أن نكون من الفطنة بحيث ل نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر‪..‬‬
‫فحين تقع العين على سعيد في الزحام‪ ،‬لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل‪..‬‬
‫ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة النمية‪ ..‬أشعث أغبر‪ . .‬ليس في ملبسه‪ ،‬ول في شكله الخرجي‪ ،‬ما يميزه عن فقراء المسلمين‬
‫بشيء‪!!.‬‬
‫فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليل على حقيقته‪ ،‬فلن نبصر شيئا‪ ،‬فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أ يّ‬
‫من مظاهر البذخ والزخرف‪.‬‬
‫انها هناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله‪.‬‬
‫أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف‪..‬؟ انه شيء يشبه هذا‪..‬‬

‫**‬

‫عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولية الشام‪ ،‬تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه‪.‬‬
‫وأسلوب عمر في اختيار ولته ومعاونيه‪ ،‬أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر‪ ،‬والدقة‪ ،‬والناة‪ ..‬ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه‬
‫وال في أقصى الرض سيسأل عنه ال اثنين‪ :‬عمر أول‪ ..‬وصاحب الخطأ ثانيا‪..‬‬
‫ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولة مرهفة‪ ،‬ومحيطة‪،‬وبصيرة‪ ،‬أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا‪..‬‬
‫والشام يومئذ حاضرة كبيرة‪ ،‬والحياة في ها ق بل دخول ال سلم بقرون‪ ،‬تتقلب ب ين حضارات مت ساوقة‪ ..‬و هي مر كز هام لتجارة‪ .‬ومر تع‬
‫رحيب للنعمة‪ ..‬وهي بهذا‪ ،‬ولهذا درء اغراء‪ .‬ول يصلح لها في رأي عمر ال قديس تفر كل شياطين الغراء أمام عزوفه‪ ..‬وال زاهد‪،‬‬
‫عابد‪ ،‬قانت‪ ،‬أواب‪..‬‬
‫وصاح عمر‪ :‬قد وجدته‪ ،‬اليّ بسعيد بن عامر‪!!..‬‬
‫وفيما بعد يجيء سعيد الى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولية حمص‪..‬‬
‫ولكن سعيجا يعتذر ويقول‪ " :‬ل تفتنّي يا أمير المؤمنين"‪..‬‬
‫فيصيح به عمر‪:‬‬
‫" وال ل أدعك‪ ..‬أتضعون أمانتكم وخلفتكم في عنقي‪ ..‬ثم تتركوني"‪..‬؟؟!!‬

‫واقتنع سعيد في لحظة‪ ،‬فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا القناع‪.‬‬
‫أجل‪ .‬ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلفتهم‪ ،‬ثم ينركوه وحيدا‪..‬واذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر‪ ،‬فأنّى لعمر‬
‫من يعينه على تبعات الحكم الثقال‪..‬؟؟‬
‫خرج سعيد الى حمص ومعه زوجته‪ ،‬وكانا عروسين جديدين‪ ،‬وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة‪ ..‬وزوّده عمر بقدر‬
‫طيّب من المال‪.‬‬
‫ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر‪ ..‬وأشارت هليه بأن يشتري ما‬
‫يلزمهما من لباس لئق‪ ،‬ومتاع وأثاث‪ ..‬ثم يدخر الباقي‪..‬‬
‫وقال لها سعيد‪ :‬أل أدلك على خير من هذا‪..‬؟؟ نحن في بلد تجارتها رابحة‪ ،‬وسوقها رائجة‪ ،‬فلنعط المال م يتجر لنا فيه وينمّيه‪..‬‬
‫قالت‪ :‬وان خسرت تجارته‪..‬؟‬
‫قال سعيد‪ :‬سأجعل ضمانا عليه‪!!..‬‬
‫قالت‪ :‬فنعم اذن‪..‬‬
‫وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات غعيشه المتقشف‪ ،‬ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين‪..‬‬

‫ومرّت اليام‪ ..‬وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من الرباح‪..‬‬
‫ويجيبها سعيد‪ :‬انها تجارة موفقة‪ ..‬وان الرباح تنمو وتزيد‪.‬‬
‫وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة المر فابتسم‪ .‬ثم ضحك ضحكة أوحت الى روع الزوجة بالشك والريب‪،‬‬
‫فألحت عليه أن يصارحها الحديث‪ ،‬فقا لها‪ :‬لقد تصدق بماله جكيعه من ذلك اليوم البعيد‪.‬‬
‫فبكت زوجة سعيد‪ ،‬وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فل هي ابتاعت لنفسها ما تريد‪ ،‬وال المال بقي‪..‬‬
‫ونظر اليها سعيد وقد زادتها دموعها الوديعة السية جمال وروعة‪.‬‬
‫وقبل أن ينال المشهد الفاتن من نفسه ضعفا‪ ،‬ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين الراحلين فقال‪:‬‬
‫" لقد كان لي أصحاب سبقوني الى ال‪ ...‬وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"‪!!..‬‬

‫واذ خشي أن تدل عليه بجمالها‪ ،‬وكأنه يوجه الحديث الى نفسه معها‪:‬‬
‫" تعلمين أن في الجنة من الحور الع ين والخيرات الحسان‪ ،‬ما لو أطلت واحدة منهن على الرض لضاءتها جميعا‪ ،‬ولقهر نورها نور‬
‫الشمس والقمر معا‪ ..‬فلن أضحي بك من أجلهن‪ ،‬أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"‪!!..‬‬
‫وأنهى حديثه كما بدأه‪ ،‬هادئا مبتسما راضيا‪..‬‬
‫وسكنت زوجته‪ ،‬وأدركت أنه ل شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد‪ ،‬وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه‪!!..‬‬

‫**‬

‫كانت حمص أيامئذ‪ ،‬توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف‪ ،‬كثرة تمرّد أهلها واختلفهم على ولتهم‪.‬‬
‫ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها‪...‬‬
‫وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا‪ ،‬فقد هدى ال قلوبهم لعبده الصالح سعيد‪ ،‬فأحبوه وأطاعوه‪.‬‬
‫ولقد سأله عمر يوما فقال‪ " :‬ان أهل الشام يحبونك"‪.‬؟‬
‫فأجابه سعيد قائل‪ ":‬لني أعاونهم وأواسيهم"‪!..‬‬
‫ب يد أن مه ما ي كن أ هل ح مص حب ل سعيد‪ ،‬فل م فر من أن يكون هناك ب عض التذ مر والشكوى‪ ..‬على ال قل لتث بت ح مص أن ها ل تزال‬
‫المانفس القوي لكوفة العراق‪...‬‬
‫وتقدم البعض يشكون منه‪ ،‬وكانت شكوى مباركة‪ ،‬فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل‪ ،‬عجيب عجيب جدا‪..‬‬
‫طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها‪ ،‬واحدة واحدة‪..‬‬
‫فنهض المتحدث بلسان هذه المجموعة وقال‪ :‬نشكو منه أربعا‪:‬‬
‫" ل يخرج الينا حت يتعالى النهار‪..‬‬
‫وا يجيب أحدا بليل‪..‬‬
‫وله في الشهر يومان ل يخرج فيهما الينا ول نراه‪،‬‬
‫وأخرى ل حيلة له فيها ولكنها تضايقنا‪ ،‬وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"‪..‬‬
‫وجلس الرجل‪:‬‬
‫وأطرق عمر مليا‪ ،‬وابتهل الى ال همسا قال‪:‬‬
‫" اللهم اني أعرفه من خير عبادك‪..‬‬
‫اللهم ل تخيّب فيه فراستي"‪..‬‬
‫ودعاه للدفاع عن نفسه‪ ،‬فقال سعيد‪:‬‬
‫أما قولهم اني ل أخرج اليهم حتى يتعالى النهار‪..‬‬
‫" فوال لقد كنت أكره ذكر السبب‪ ..‬انه ليس لهلي خادم‪ ،‬فأنا أعجن عجيني‪ ،‬ثم أدعه يختمر‪ ،‬ثم اخبز خبزي‪ ،‬ثم أتوضأ للضحى‪ ،‬ثم‬
‫أخرج اليهم"‪..‬‬
‫وتهلل وجه عمر وقال‪ :‬الحمد للله‪ ..‬والثانية‪..‬؟!‬
‫وتابع سعيد حديثه‪:‬‬
‫وأما قولهم‪ :‬ل أجيب أحدا بليل‪..‬‬
‫فوال‪ ،‬لقد كنت أكره ذكر السبب‪ ..‬اني جعلت النهار لهم‪،‬والليل لربي"‪..‬‬
‫أما قولهم‪ :‬ان لي يومين في الشهر ل أخرج فيهما‪...‬‬
‫" فليس لي خادم يغسل ثوبي‪ ،‬وليس بي ثياب أبدّلها‪ ،‬فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين‪ ..‬وفي آخر النهار أخرج اليهم "‪.‬‬
‫وأما قولهم‪ :‬ان الغشية تأخذني بين الحين والحين‪..‬‬
‫" ف قد شهدت م صرع خبيب الن صاري بم كة‪ ،‬و قد بض عت قر يش لح مه‪ ،‬وحملوه على جذ عه‪ ،‬و هم يقولون له‪ :‬أ حب أن محمدا مكا نك‪،‬‬
‫وأنت سليم معافى‪..‬؟ فيجيبهم قائل‪ :‬وال ما أحب أني في أهلي وولدي‪ ،‬معي عافية الدنيا ونعيمها‪ ،‬ويصاب رسول ال بشوكة‪..‬‬
‫فكل ما ذكرت ذلك المش هد الذي رأيت هو أ نا يومئذ من المشرك ين‪ ،‬ثم تذكرت تر كي ن صرة خبيب يوم ها‪ ،‬أرت جف خو فا من عذاب ال‪،‬‬
‫ويغشاني الذي يغشاني"‪..‬‬
‫وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة‪..‬‬
‫ولم يمالك عمر نفسه ونشوه‪ ،‬فصاح من فرط حبوره‪.‬‬
‫" الحمد للله الذي لم يخيّب فراستي"‪!.‬‬
‫وعانق سعيدا‪ ،‬وقبّل جبهته المضيئة العالية‪...‬‬
‫**‬

‫أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من الخق‪..‬؟‬


‫أي معلم كان رسول ال‪..‬؟‬
‫اي نور نافذ‪ ،‬كان كتاب ال‪..‬؟؟‬
‫وأي مدرسة ملهمة ومعلمة‪ ،‬كان السلم‪..‬؟؟‬
‫ولكن‪ ،‬هل تستطيع الرض أن تحمل فوق ظهرها عددا كثيرا من هذا الطراز‪..‬؟؟‬
‫انه لو حدث هذا‪ ،‬لما بقيت أرضا‪ ،‬انها تصير فردوسا‪..‬‬
‫أجل تصير الفردوس الموعود‪..‬‬
‫ولما كان الفردوس لم يأت زمانه بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الرض من هذا الطراز المجيد الجليل‪ ..‬قللون دائما ونادرون‪..‬‬
‫وسعيد بن عامر واحد منهم‪..‬‬
‫كان عطاؤه وراتبه بحكم عمله ووظيفته‪ ،‬ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه‪ ..‬ثم يوزع باقيه على بيوت أخرى فقيرة‪...‬‬
‫ولقد قيل له يوما‪:‬‬
‫" توسّع بهذا الفائض على أهلم وأصهارك"‪..‬‬
‫فأجاب قائل‪:‬‬
‫" ولماذا أهلي وأصهاري‪..‬؟‬
‫ل وال ما أنا ببائع رضا ال بقرابة"‪..‬‬

‫وطالما كان يقال له‪:‬‬


‫" توسّع وأهل بيتك في النفقة وخذ من طيّبات الحياة"‪..‬‬
‫ولكنه كان يجيب دائما‪ ،‬ويردد أبدا كلماته العظيمة هذه‪:‬‬
‫" ما أنا بالنتخلف عن الرعيل الول‪ ،‬بعد أن سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬يجمع ال عز وجل الناس للحساب‪ ،‬فيحيء‬
‫فقراء المؤمنيسن يزفون كمسا تزف الحامام‪ ،‬فيقال لهسم‪ :‬قفوا للحسساب‪ ،‬فيقولون‪ :‬مسا كان لنسا شيسء نحاسسب عليسه‪ ..‬فيقول ال‪ :‬صسدق‬
‫عبادي‪ ..‬فيدخلون الجنة قبل الناس"‪..‬‬

‫**‬

‫وفي العام العشرين من الهجرة‪ ،‬لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة‪ ،‬وأتقى ما يكون قلبا‪ ،‬وأنضر ما يكون سيرة‪..‬‬
‫لقد طال شوقه الى الرعيل الول الذي نذر حياته لحفظه وعهده‪ ،‬وتتبع خطاه‪..‬‬
‫أجل لقد طال شوقه الى رسوله ومعلمه‪ ..‬والى رفاقه الوّابين المتطهرين‪..‬‬
‫واليوم يلقيهم قرير العين‪ ،‬مطمئن النفس‪ ،‬خفيف الظهر‪..‬‬
‫ليس معه ول وراءه من أحمال الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله‪،،‬‬
‫ليس معه ال ورعه‪ ،‬وزهده‪ ،‬وتقاه‪ ،‬وعظمة نفسه وسلوكه‪..‬‬
‫وفضائل تثقل الميزان‪ ،‬ولكنها ل تثقل الظهور‪!!..‬‬
‫ومزايا هز بها صاحبها الدنيا‪ ،‬ولم يهزها غرور‪!!..‬‬
‫**‬

‫سلم على سعيد بن عامر‪..‬‬


‫سلم عليه في محياه‪ ،‬وأخراه‪..‬‬
‫وسلم‪ ..‬ثم سلم على سيرته وذكراه‪..‬‬
‫وسلم على الكرام البررة‪ ..‬أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫حمزة بن عبد المطلب‬


‫أسد ال وسيّد الشهداء‬

‫كانت مكة تغطّ في نومها‪ ،‬بعد يوم مليء بالسعي‪ ،‬وبالكدّ‪ ،‬وبالعبادة وباللهو‪..‬‬
‫والقرشيون يتقلبون في مضاجع هم هاجع ين‪ ..‬غ ير وا حد هناك يتجا فى عن المض جع جنباه‪ ،‬يأوي الى فرا شه مبركا‪ ،‬وي ستريح ساعات‬
‫قليلة‪ ،‬ثم ينهض في شوق عظيم‪ ،‬لنه مع ال على موعد‪ ،‬فيعمد الى مصله في حجرته‪ ،‬ويظل يناجي ربه ويدعوه‪ ..‬وكلما استيقظت‬
‫زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالته الحارّو الملحة‪ ،‬وأخذتها الشفقة عليه‪ ،‬ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم‪ ،‬يجيبها‬
‫ودموع عينيه تسابق كلماته‪:‬‬
‫" لقد انقضى عهد النوم يا خديجة"‪!!..‬‬
‫لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد‪ ،‬وان كان قد بدأ يشغل انتباهها‪ ،‬فلقد كان حديث عهد بدعوته‪ ،‬وكان يقول كلمته سرا وهمسا‪.‬‬
‫كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا‪..‬‬
‫وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والجلل‪ ،‬ويطوي جوانحه على شوق عظيم الى اليمان به والسير في قافلته‬
‫المباركة‪ ،‬ل يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة‪ ،‬وضغوط التقاليد والوراثة‪ ،‬والتردد بين نداء الغروب‪ ،‬ونداء الشروق‪.‬‬
‫من هؤلء كان حمزة بن عبد المطلب‪ ..‬عم النبي صلى ال عليه وسلم وأخوه من الرضاعة‪.‬‬

‫**‬

‫كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله‪ ..‬وكان على بيّنة من حقيقة أمره‪ ،‬وجوهر خصاله‪..‬‬
‫فهو ل يعرف معرفة العم بابن أخيه فحسب‪ ،‬بل معرفة الخ بالخ‪ ،‬والصديق بالصديق‪ ..‬ذلك أن رسول ال وحمزة من جيل واحد‪ ،‬وسن‬
‫متقاربة‪ .‬نشأ معا وتآخيا معا‪ ،‬وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة‪..‬‬

‫ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق‪ ،‬فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة‪ ،‬وافساح مكان لنفسه بين زعماء مكة‬
‫و سادات قر يش‪ ..‬في ح ين ع كف مح مد على اضواء رو حه ال تي انطل قت تن ير له الطر يق الى ال وعلى حد يث قل به الذي نأى به من‬
‫ضوضاء الحياة الى التأمل العميق‪ ،‬والى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه‪..‬‬
‫نقول لئن كان شباب كل منه ما قد ات خذ وج هة مغايرة‪ ،‬فان حمزة لم ت غب عن وع يه لح ظة من نهار فضائل تر به وا بن أخ يه‪ ..‬تلك‬
‫الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة‪ ،‬وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم‪.‬‬
‫في صبيحة ذلك اليوم‪ ،‬خرج حمزة كعادته‪.‬‬
‫وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم‪ ،‬يستمع لما يقولون‪..‬‬
‫وكانوا يتحدثون عن محمد‪..‬‬
‫ولول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه‪ ..‬وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد‪ ،‬والغيظ والمرارة‪.‬‬
‫لقد كانوا من قبل ل يبالون‪ ،‬أو هم يتظاهرون بعدم الكتراث واللمبالة‪.‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬فوجوههم تموج موجا بالقلق‪ ،‬والهمّ‪ ،‬والرغبة في الفتراس‪.‬‬
‫وضحك حمزة من أحاديثهم طويل‪ ..‬ورماهم بالمبالغة‪ ،‬وسوء التقدير‪..‬‬

‫وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر النس علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن المر حتى تنام قريش‪ ،‬ثم‬
‫تصبح يوما وقد ساء صاحبها‪ ،‬وظهر أمر ابن أخيه عليها‪...‬‬
‫ومضوا في حديثهم يزمجرون‪ ،‬ويتوعدون‪ ..‬وحمزة يبتسم تارّة‪ ،‬ويمتعض أخرى‪ ،‬وحين انفض الجميع وذهب كل الى سبيله‪ ،‬كان حمزة‬
‫مثقل الرأس بأفكار جديدة‪ ،‬وخواطر جديدة‪ .‬راح يستقبل بها أمر ابن أخيه‪ ،‬ويناقشه مع نفسه من جديد‪!!!...‬‬

‫**‬

‫ومضت اليام‪ ،‬ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول‪..‬‬
‫ثم تتحوّل همهمة قريش الى تحرّش‪ .‬وحمزة يرقب الموقف من بعيد‪..‬‬
‫ان ثبات ابن أخيه ليبهره‪ ..‬وان تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها‪ ،‬برغم ما عرفت من تفان وصمود‪!!..‬‬
‫ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه‪ ،‬فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد الى وعي‬
‫حمزة منفا أو سبيل‪..‬‬
‫فحمزة خير من عرف محمدا‪ ،‬من طفولته الباكرة‪ ،‬الى شباب الطاهر‪ ،‬الى رجولته المينة السامقة‪..‬‬
‫انه يعرفه تماما كما يعرف نغسه‪ ،‬بل أكثر مما يعرف نفسه‪ ،‬ومنذ جاءا الى الحياة معا‪ ،‬وترعرعا معا‪ ،‬وبلغا أشدّهما معا‪ ،‬وحياة محمد‬
‫كلها نقية كأشعة الشمس‪ !!..‬ل يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة‪ ،‬ل يذكر أنه رآه يوما غاضبا‪ ،‬أو قانطا‪ ،‬أو طامعا‪،‬أو لهيا‪،‬‬
‫أو مهزوزا‪...‬‬
‫وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب‪ ،‬بل وبرجاحة العقل‪ ،‬وقوة اارادة أيضا‪..‬‬
‫ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابهة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل المانة‪ ..‬وهكذا طوى صدره الى حين على أمر‬
‫سيتكشّف في يوم قريب‪..‬‬

‫**‬

‫وجاء اليوم الموعود‪..‬‬


‫وخرج حمزة من داره‪،‬متوش حا قو سه‪ ،‬ميمّ ما وج هه ش طر الفلة ليمارس هواي ته المحب بة‪ ،‬ورياض ته الثيرة‪ ،‬ال صيد‪ ..‬وكان صاحب‬
‫مهارة فائقة فيه‪..‬‬
‫وقضى هناك بعض يومه‪ ،‬ولما عاد من قنصه‪ ،‬ذهب كعادته الى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا الى داره‪.‬‬
‫وقريبا من الكعبة‪ ،‬لقته خادم لعبدال بن جدعان‪..‬‬
‫ولم تكد تبصره حتى قالت له‪:‬‬
‫" يا أبا عمارة‪ ..‬لو رأيت ما اقي ابن أخيك محمد آنفا‪ ،‬من أبي الحكم بن هشام‪ ..‬وجده جالسا هناك ‪ ،‬فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره"‪..‬‬
‫ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول ال‪..‬‬
‫واستمع حمزة جيدا لقولها‪ ،‬ثم أطرق لحظة‪ ،‬ثم مد يمينه الى قوسه فثبتها فوق كتفه‪ ..‬ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الطعبة‬
‫راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل‪ ..‬فان هو لم يجده هناك‪ ،‬فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلقيه‪..‬‬
‫ولكنه ل يكاد يبلغ الكعبة‪ ،‬حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش‪..‬‬
‫وفي هدوء رهيب‪ ،‬تقدّم حمزة من أبي جهل‪ ،‬ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه‪ ،‬وقبل أن يفيق الجالسون من‬
‫الدهشة‪ ،‬صاح حمزة في أبي جهل‪:‬‬
‫" أتشتم محمدا‪ ،‬وأنا على دينه أقول ما يقول‪..‬؟! ال فردّ ذلك عليّ ان استطعت"‪..‬‬

‫وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه‪ ،‬وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت‬
‫بهم طالصاعقة‪ ..‬الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه‪ ،‬ويقول ما يقوله‪..‬‬
‫أحمزة يسلم‪..‬؟‬
‫أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة‪..‬؟؟‬
‫انها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا‪ ..‬فاسلم حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالسلم‪ ،‬وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما‬
‫يعزز دعوته ويشدّ ازره‪ ،‬وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها‪!!..‬‬
‫أ جل أ سلم حمزة‪ ،‬وأعلن على المل ال مر الذي كان يطوي عل يه صدره‪ ،‬وترك الج مع الذا هل يجت ّر خي بة أمله‪ ،‬وأ با ج هل يل عق دماءه‬
‫النازفة من رأسه المشجوج‪ ..‬ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى الى قوسه فثبتها فوق كتفه‪ ،‬واستقبل الطريق الى داره في خطواته الثابتة‪،‬‬
‫وبأسه الشديد‪!..‬‬

‫**‬

‫كان حمزة يحمل عقل نافذا‪ ،‬وضميرا مستقيما‪..‬‬


‫وحين عاد الى بيته ونضا عنه متاعب يومه‪ .‬جلس يفكر‪ ،‬ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب‪..‬‬
‫كيف أعلن اسلمه ومتى‪..‬؟‬
‫لقد أعلنه في لحظات الحميّة‪ ،‬والغضب‪ ،‬والنفعال‪..‬‬
‫لقد ساءه أن يساء الى ابن اخيه‪ ،‬ويظلم دون أن يجد له ناصرا‪ ،‬فيغضب له‪ ،‬وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم‪ ،‬فش جّ رأس أبي جهل‬
‫وصرخ في وجهه باسلمه‪...‬‬
‫ول كن هل هذا هو الطر يق الم ثل لك يغدار الن سان د ين آبائه وقو مه‪ ...‬د ين الدهور والع صور‪ ..‬ثم ي ستقبل دي نا جديدا لم يخ تبر ب عد‬
‫تعاليمه‪ ،‬ول يعرف عن حقيقته ال قليل‪..‬‬
‫صحيح أنه ل يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده‪..‬‬
‫ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا‪ ،‬بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات‪ ،‬في لحظة غضب‪ ،‬مثلما صنع حمزة الن‪..‬؟؟؟‬

‫وشرع يفكّر‪ ..‬وقضى أياما‪ ،‬ل يهدأ له خاطر‪ ..‬وليالي ل يرقأ له فيها جفن‪..‬‬
‫وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل‪ ،‬يفرض الشك نفسه كوسيلة الى المعرفة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬لم يكد حمزة يستعمل في ب حث قضية السلم‪ ،‬ويوازن بين الدين القديم‪ ،‬والد ين الجد يد‪ ،‬ح تى ثارت في نفسه شكوك أرجاها‬
‫الحنين الفطري الموروث الى دين آبائه‪ ..‬والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد‪..‬‬
‫وا ستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة‪ ،‬وآلهاها وأصنامها‪ ...‬وعن المجاد الدينية ال تى أفاءتها هذه اللهة المنحو تة على قر يش كلها‪،‬‬
‫وعلى مكة بأسرها‪.‬‬
‫لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها‪..‬‬
‫ولكن اذا كان مقدورا له أن يكون أح أتباع هذه الدعوة‪ ،‬المؤمنين بها‪ ،‬والذائدين عنها‪ ..‬فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين‪..‬؟‬
‫لحظة غضب وحميّة‪..‬؟ أم أوقات تفكير ورويّة‪..‬؟‬
‫وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره‪ ،‬ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق‪..‬‬

‫وبدأ النسلخ من هذا التاريخ م\كله‪ ..‬وهذا الدين القديم العريق‪ ،‬هوّة تتعاظم مجتازها‪..‬‬
‫وع جب حمزة ك يف يت سنى لن سان أن يغادر د ين آبائه بهذه ال سهولة وهذه ال سرعة‪ ..‬وندم على ما ف عل‪ ..‬ولك نه وا صل رحلة الع قل‪..‬‬
‫ولما رأى أن العقل وحده ل يكفي لجأ الى الغيب بكل اخلصه وصدقه‪..‬‬
‫وع ند الكع بة‪ ،‬كان ي ستقبل ال سماء ضار عا‪ ،‬مبتهل‪ ،‬م ستنجدا ب كل ما في الكون من قدرة ونور‪ ،‬كي يهتدي الى ال حق والى الطر يق‬
‫المستقيم‪..‬‬
‫ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ فيقول‪:‬‬
‫"‪ ..‬ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي‪ ..‬وبت من الشك في أمر عظيم‪ ،‬ل أكتحل بنوم‪..‬‬
‫ثم أتيت الكعبة‪ ،‬وتضرّعت تاة ال أن يشرح صدري للحق‪ ،‬ويذهب عني الريب‪ ..‬فاستجاب ال لي ومل قلبي يقينا‪..‬‬
‫وغدوت الى رسول ال صلى الل عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري‪ ،‬فدع ال أن يثبت قلبي على دينه‪"..‬‬
‫وهكذا أسلم حمزة اسلم اليقيم‪..‬‬

‫**‬

‫أعز ال السلم بحمزة‪..‬ز ووقف شامخا قويا يذود عن رسول ال‪ ،‬وعن المستضعفين من أصحابه‪..‬‬
‫ورآه أبسو جهسل يقسف فسي صسفوف المسسلمين‪ ،‬فأدرك أنهسا الحرب ل محالة‪ ،‬وراح يحرّض قريشسا على انزال الذى بالرسسول وصسحبه‪،‬‬
‫ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طرقها مغايظة وأحقاده‪..‬‬
‫ولم يستطع حمزة أن يمنع كل الذى ولكن اسلمه مع ذلك كان وقاية ودرعا‪ ..‬كما كان اغراء ناجحا لكثير من القبائل التي قادها اسلم‬
‫حمزة أول‪ .‬ثم اسلم عمر بن الخطاب بعد ذلك الى السلم فدخلت فيه أفواجا‪!!..‬‬
‫ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته‪ ،‬وبأسه‪ ،‬وحياته‪ ،‬ل ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم‪:‬‬
‫"أسد ال‪ ،‬وأسد رسوله"‪..‬‬
‫وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو‪ ،‬كان أميرها حمزة‪..‬‬
‫وأول راية عقدها رسول ال صلى ال عليه وسلم لحد من المسلمين كانت لحمزة‪..‬‬
‫ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر‪ ،‬كان أسد ال ورسوله هناك يصنع العاجيب‪!!..‬‬

‫**‬

‫وعادت فلول قريش من بدر الى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها‪ ...‬ورجع أبو سفيان مخلوع القلب‪ ،‬مطأطئ ال{اس‪ .‬وقد خلّف على‬
‫أرض المعركة جثث سادة قريش‪ ،‬من أمثال أبي جهل‪ ..‬وعتبة بن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬وأميّة بن خلف‪ .‬وعقبة بن أبي معيط‪..‬‬
‫والسود بن عبدال المخزومي‪ ،‬والوليد بن عتبة‪ ..‬والنفر بن الحارث‪ ..‬والعاص بن سعيد‪ ..‬وطعمة ابن عد يّ‪ ..‬وعشرات مثلهم من‬
‫رجال قريش وصناديدها‪.‬‬
‫وما كانت قريش لتتجرّع هذه الهزيمة المنكرة في سلم‪ ...‬فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها‪ ،‬لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلها‪ ..‬وصمّمت‬
‫قريش على الحرب‪..‬‬

‫**‬

‫وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها‪ ،‬ومعها حلفاؤها من قبائل العرب‪ ،‬وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى‪.‬‬
‫وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين‪ :‬الرسول صلى اله عليه وسلم‪ ،‬وحمزة رضي ال عنه وأرضاه‪..‬‬
‫أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب‪ ،‬يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة‪..‬‬

‫ول قد اختاروا ق بل الخروج‪ ،‬الر جل الذي وكلوا ال يه أ مر حمزة‪ ،‬و هو ع بد حب شي‪ ،‬كان ذا مهارة خار قة في قذف الحر بة‪ ،‬جعلوا كل‬
‫دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه ضربة قاتلة من رمحه‪ ،‬وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر‪ ،‬مهما يكن‬
‫مصير المعركة واتجاه القتال‪.‬‬
‫ووعدوه بثمن غال وعظيم هو حريّته‪ ..‬فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم‪ ..‬وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر‬
‫فقال له جبير"‬
‫" اخرج مع الناس وان أنت قتلت حمزة فأنت عتيق"‪!!..‬‬
‫ثم أحالوه الى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون‪..‬‬
‫وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها‪ ،‬وعمها‪ ،‬وأخاها‪ ،‬وابنها‪ ..‬وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض هؤلء‪ ،‬وأجهز على البعض‬
‫الخر‪..‬‬
‫من أ جل هذا كا نت أك ثر القرشي ين والقرشيّات تحري ضا على الخروج للحرب‪ ،‬ل لش يء ال لتظ فر برأس حمزة مه ما ي كن الث من الذي‬
‫تتطلبه المغامرة‪!!..‬‬
‫ولقد لبثت أياما قبل الخروج للحرب‪ ،‬ول عمل لها ال افراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم به‪..‬‬

‫ول قد وعد ته ان هو ن جح في قال حمزة بأث من ما تملك المرأة من متاع وزي نة‪ ،‬فل قد أم سكت بأنامل ها الحاقدة قرط ها اللؤلؤي الثم ين‬
‫وقلئدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها‪ ،‬ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي‪:‬‬
‫" كل هذا لك‪ ،‬ان قتلت حمزة"‪!!..‬‬
‫وسال لعاب وحشي‪ ،‬وطارت خواطره توّاقة مشتاقة الى المعركة التي سيربح فيها حريّته‪ ،‬فل يصير بعد عبدا أو رقيقا‪ ،‬والتي سيخرج‬
‫منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش‪ ،‬وزوجة زعيمها‪ ،‬وابنة سيّدها‪!!..‬‬
‫كانت المؤمرة اذن‪ ..‬وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي ال عنه بشكل واضح وحاسم‪..‬‬

‫**‬

‫وجاءت غزوة أحد‪...‬‬


‫والتقى الجيشان‪ .‬وتوسط حمزة أرض الموت والقتال‪ ،‬مرتديا لباس الحرب‪ ،‬وعلى صدره ريشة النعام التي تعوّد أن يزيّن بها صدره في‬
‫القتال‪..‬‬
‫وراح يصول ويجول‪ ،‬ل يريد رأسا ال قطعه بسيفه‪ ،‬ومضى يضرب في المشركين‪ ،‬وكأن المنايا طوع أمره‪ ،‬يقف بها من يشاء فتصيبه‬
‫في صميمه‪!!.‬‬

‫وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم‪ ..‬وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة‪ ..‬ولول أن ترك الرماة مكانهم‬
‫فوق الجبل‪ ،‬ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم‪ ..‬لول تركهم مكانهم وفتحوا الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت‬
‫غزوة أحد مقبرة لقريش كلها‪ ،‬رجالها‪ ،‬ونسائها بل وخيلها وابلها‪!!..‬‬

‫لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة‪ ،‬واعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة‪ ..‬وراح المسلمون يجمعون أنفسهم‬
‫من جديدو ويحملون سلحهم الذي كان بعض هم قد وض عه ح ين رأى ج يش مح مد ين سحب ويولي الدبار‪ ..‬ول كن المفاجأة كا نت قا سية‬
‫عنيفة‪.‬‬
‫ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلءه‪..‬‬
‫وأخذ يضرب عن يمينه وشماله‪ ..‬وبين يديه ومن خلفه‪ ..‬ووحشيّ هناك يراقبه‪ ،‬ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحنوه ضربته‪..‬‬
‫ولندع وحشا يصف لنا المشهد بكلماته‪:‬‬
‫[‪ ..‬وكنت جل حبشيا‪ ،‬أقذف بالحربة قذف لحبشة‪ ،‬فقلما أخطئ بها شيئا‪ ..‬فلما التقى النس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في‬
‫عرض الناس مثل الجمل الورق‪ ..‬يهدّ الناس بسيفه هدّا‪ ،‬ما يقف امامه شيء‪ ،‬فوال اني لتهيأ له أريده‪ ،‬وأستتر منه بشجرة لقتحمه‬
‫ي يا بن مقطّعة البظرو‪ .‬ثم ضربه ضربة فما أخطأ‬
‫أو ليدنو مني‪ ،‬اذ تقدّمني اليه سباع بن عبد العزى‪ .‬فلما رآه حمزة صاح به‪ :‬هل مّ ال ّ‬
‫رأسه‪..‬‬
‫عندئذ هززت حرب تي ح تى اذا رض يت من ها دفعت ها فوق عت في ثنّ ته ح تى خر جت من ب ين رجل يه‪ ..‬ون هض نحوي فغلب على امره ثم‬
‫مات‪..‬‬
‫وأتيته فأخذت حربتي‪ ،‬ثم رجعت الى المعسكر فقعدت فيه‪ ،‬اذ لم يكن لي فيه حاجة‪ ،‬فقد قتلته لعتق‪]..‬‬

‫ول بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه‪:‬‬


‫[فلما قدمت مكة أعتقت‪ ،‬ثم أقمت بها حتى دخلها رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الفتح فهربت الى الطائف‪..‬‬
‫فلما خرج وفد الطائف الى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليسلم تعيّت عليّ المذاهب‪ .‬وقلت ‪ :‬الحق بالشام أو اليمن أو سواها‪..‬‬
‫فوال اني لفي ذلك من همي اذ قال لي رجل‪ :‬ويحك‪ !..‬ان رسول اله‪ ،‬وال ل يقتل أحد من الناس يدخل دينه‪..‬‬
‫فخرجت حتى قدمت على رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة فلم يرني ال قائما أمامه أشهد شهادة الحق‪ .‬فلما رآني قال‪ :‬أوحش يّ‬
‫أ نت‪..‬؟ قلت‪ :‬ن عم يا ر سول ال‪ ..‬قال‪ :‬فحدّث ني ك يف قتلت حمزة‪ ،‬فحدّث ته‪ ..‬فل ما فر غت من حدي ثي قال‪ :‬وي حك‪ ..‬غيّب ع ني وج هك‪..‬‬
‫فكنت أتنكّب طريق رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث كان‪ ،‬لئل يراني حتى قبضه ال اليه‪..‬‬
‫فلما خرج المسلمون الى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم‪ ،‬وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة‪ ..‬فلما التقى النس رأيت‬
‫مسيلمة الكذاب قائما‪ ،‬في يده السيف‪ ،‬فتهيأت له‪ ،‬وهززت حربتي‪ ،‬حتى اذا رضيته منها دفعتها عليه فوقعت فيه‪..‬‬
‫فان كنت قد قتلت بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة‪ ..‬فاني لرجو أن يغفر ال لي اذ قتلت بها شرّ الناس مسيلمة]‪..‬‬

‫**‬

‫هكذا سقط أسد ال ورسوله‪ ،‬شهيدا مجيدا‪!!..‬‬


‫وكما كانت حياته مدوّية‪ ،‬كانت موتته مدوّية كذلك‪..‬‬
‫فلم يك تف أعداؤه بمقتله‪ ..‬وك يف يكتفون أو يقتنعون‪ ،‬و هم الذ ين جنّدوا كل أموال قر يش و كل رجال ها في هذه المعر كة ال تي لم يريدوا‬
‫بها سوى الرسول وعمّه حمزة‪..‬‬
‫لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان‪ ..‬أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة‪ ..‬واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة‪ ..‬وعندما‬
‫عاد بها الى هند كان يناولها الكبد بيمناه‪ ،‬ويتلقى منها قرطها وقلئدها بيسراه‪ ،‬مكافأة له على انجاز مهمته‪..‬‬

‫ومض غت ه ند ب نت عت بة الذي صرعه الم سلمون ببدر‪ ،‬وزو جة أ بي سفيان قائد جيوش الشرك الوثن ية‪،‬مض غت ك بد حمزة‪ ،‬راج ية أن‬
‫تش في تلك الحما قة حقد ها وغل ها‪ .‬ول كن الك بد ا ستعصت على أنياب ها‪ ،‬وأعجزت ها أن ت سيغها‪ ،‬فأخرجت ها من فم ها‪ ،‬ثم علت صخرة‬
‫مرتفعة‪ ،‬وراحت تصرخ قائلة‪:‬‬
‫نحن جزيناكم بيوم بدر‬
‫والحرب بعد الحرب ذات سعر‬
‫ما كان عن عتبة لي من صبر‬
‫ول أخي وعمّه وبكري‬
‫شفيت نفسي وقضيت نذري‬
‫أزاح وحشي غليل صدري‬

‫وانتهت المعركة‪ ،‬وامتطى المشركون ابلهم‪ ،‬وساقوا خيلهم قافلين الى مكة‪..‬‬
‫ونزل الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه معه الى أرض المعركة لينظر شهداءها‪..‬‬
‫وهناك في ب طن الوادي‪ .‬وا هو يتف حص وجوه أ صحابه الذ ين باعوا ل أنف سهم‪ ،‬وقدّمو ها قراب ين مبرورة لرب هم ال كبير‪ .‬و قف فجأة‪..‬‬
‫ونظر‪ .‬فوجم‪ ..‬وضغط على أسنانه‪ ..‬وأسبل جفنيه‪..‬‬

‫فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على هذه الوحش ية البش عة فيمثل بجثمان ميت على ال صورة التي رأى فيها جثمان ع مه‬
‫الشهيد حمزة بن عبد المطلب أسد ال وسيّد الشهداء‪..‬‬
‫وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر وقال وعيناه على جثمان عمّه‪:‬‬
‫" لن اصاب بمصلك أبدا‪..‬‬
‫وما وقفت موقفا قط أغيظ اليّ من موقفي هذا‪."..‬‬

‫ثم التفت الى أصحابه وقال‪:‬‬


‫" لول أن تحزن صفيّة _أخت حمزة_ ويكون سنّه من بعدي‪ ،‬لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير‪ ..‬ولئن أظهرني ال‬
‫على قريش في موطن من المواطن‪ ،‬لمثلن بثلثين رجل منهم‪"..‬‬
‫فصاح أصحاب الرسول‪:‬‬
‫" وال لئن ظفرنا بهم يوما من الدهر‪ ،‬لنمثلن بهم‪ ،‬مثلة لم يمثلها أحد من العرب‪"!!..‬‬

‫ول كن ال الذي أكرم حمزة بالشهادة‪ ،‬يكرّ مه مرة أخرى بأن يج عل من م صرعه فر صة لدرس عظ يم يح مي العدالة الى ال بد‪ ،‬ويج عل‬
‫الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا‪..‬‬
‫وهكذا لم ي كد الر سول صلى ال عل يه و سلم يفرغ من القاء وعيده ال سالف ح تى جاءه الو حي و هو في مكا نه لم يبرحه بهذه ال ية‬
‫الكريمة‪:‬‬
‫(ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وجادلهم بالتي هي أحسن‪ ،‬ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ‪ ،‬وهو أعلم بالمهتدين‪.‬‬
‫وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‪ ،‬ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‪.‬‬
‫واصبر وما صبرك ال بال‪ ،‬ول تحزن عليهم‪ ،‬ول تك في ضيق مما يمكرون‪.‬‬
‫ان ال مع الذين اتقوا‪ ،‬والذين هم محسنون‪)..‬‬
‫وكان نزول هذه اليات‪ ،‬في هذا الموظن‪ ،‬خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على ال‪..‬‬

‫**‬

‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحبه أعظم الحب‪ ،‬فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب‪..‬‬
‫بل كان اخاه من الرضاعة‪..‬‬
‫وتربه في الطفولة‪..‬‬
‫وصديق العمر كله‪..‬‬
‫وفي لحظات الوداع هذه‪ ،‬لم يجد الرسول صلى ال عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد الشهداء المعركة جميعا‪..‬‬
‫وهكذا ح مل جثمان حمزة الى مكان ال صلة على أرض المعر كة ال تي شهدت بلءه‪ ،‬واحتض نت دماءه‪ ،‬ف صلى عل يه الر سول صلى ال‬
‫عل يه و سلم وأ صحابه‪ ،‬ثم جيء يشه يد آ خر‪ ،‬ف صلى عل يه الر سول‪ ..‬ثم ر فع وترك حمزة مكا نه‪ ،‬وجيء بشه يد ثاث فو ضع الى جوار‬
‫حمزة وصلى عليهما الرسول‪..‬‬
‫وهكذا جيء بالشهداء‪ ..‬شهيد بعد شهيد‪ ..‬والرسول عليه الصلة والسلم يصلي على كل واحد منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على‬
‫عمّه يومئذ سبعين صلة‪..‬‬

‫**‬

‫وينصرف الرسول من المعركة الي بيته‪ ،‬فيسمع في طريقه نساء بني عبد الشهل يبكين شهداءهن‪ ،‬فيقول عليه الصلة والسلم من‬
‫فرط حنانه وحبه‪:‬‬
‫" لكنّ حمزة ل بواكي له"‪!!..‬‬

‫ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه الصلة والسلم يطيب نفسا اذا بكت النساء عمه‪ ،‬فيسرع الى نساء بني عبد الشهل‬
‫ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن… ول يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج اليهن‪ ،‬ويقول‬
‫" ما الى هذا قصدت‪ ،‬ارجعن يرحمكن ال‪ ،‬فل بكاء بعد اليوم"‬
‫ولقد ذهب أصحاب رسول ال يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة‪.‬‬

‫فقال حسان بن ثابت‪:‬‬


‫دع عنك دارا قد عفا رسمها‬
‫وابك على حمزة ذي النائل‬
‫اللبس الخيل اذا أحجمت‬
‫كالليث في غابته الباسل‬
‫أبيض في الذروة من بني هاشم‬
‫لم يمر دون الحق بالباطل‬
‫مال شهيدا بين أسيافكم‬
‫شلت يدا وحشي من قاتل‬

‫وقال عبد ال بن رواحة‪:‬‬


‫بكت عيني وحق لها بكاها‬
‫وما يغني البكاء ول العويل‬
‫على أسد الله غداة قالوا‪:‬‬
‫أحمزة ذاكم الرجل القتيل‬
‫أصيب المسلمون به جميعا‬
‫هناك وقد أصيب به الرسول‬
‫أبا يعلى‪ ،‬لك الركان هدّت‬
‫وأنت الماجد البرّ الوصول‬

‫وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى ال عليه وسلم وأخت حمزة‪:‬‬
‫دعاه اله الحق ذو العرش دعوة‬
‫الى جنة يحيا بها وسرور‬
‫فذاك ما كنا نرجي ونرتجي‬
‫لحمزة يوم الحشر خير مصير‬
‫فوال ما أنساك ما هبّت الصبا‬
‫بكاءا وحزنا محضري وميسري‬
‫على أسد ال الذي كان مدرها‬
‫يذود عن السلم كل كفور‬
‫أقول وقد أعلى النعي عشيرتي‬
‫جزى ال خيرا من أخ ونصير‬

‫على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول ال له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال‪:‬‬
‫" رحمة ال عليك‪ ،‬فانك كنت وصول للرحم فعول للخيرات"‪..‬‬

‫**‬

‫لقد كان مصاب النبي صلى ال عليه وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا‪ .‬وكان العزاء فيه مهمة صعبة‪ ..‬بيد أن القدر طكانت تدّخر‬
‫لرسول ال أجمل عزاء‪.‬‬
‫ففي طريقه من أحد الى داره مرّ عليه الصلة والسلم بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها‪ ،‬وأخوها‪..‬‬
‫وحين أبصرت المسلمين عائدين من الغزو‪ ،‬سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة‪..‬‬
‫فنعوا اليها الزوج‪..‬والب ‪..‬والخ‪..‬‬
‫واذا بها تسألهم في لهفة‪:‬‬
‫" وماذا فعل رسول ال"‪..‬؟؟‬
‫قالوا‪:‬‬
‫" خيرا‪ ..‬هو بحمد ال كما تحبين"‪!!..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫" أرونيه‪ ،‬حتىأنظر اليه"‪!!..‬‬
‫ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رأته أقبلت نحوه تقول‪:‬‬
‫" كل مصيبة بعدك‪ ،‬أمرها يهون"‪!!..‬‬

‫**‬

‫أجل‪..‬‬
‫لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه‪..‬‬
‫ولعل الرسول صلى ال عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ الفريد‪ ،‬فليس في دنيا البذل‪ ،‬والولء‪ ،‬والفداء لهذا نظير‪..‬‬
‫سيدة ضعيفة‪ ،‬مسكينة‪ ،‬تفقد في ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها‪ ..‬ثم يكون ردّها على الناعي لحظة سمعها الخبر الذي يهدّ الجبال‪:‬‬
‫" وماذا فعل رسول ال"‪..‬؟؟!!‬

‫ل قد كان مش هد أجاد القدر ر سمه وتوقي ته ليج عل م نه للر سول الكر يم صلى ال عل يه و سلم عزاء أي عزاء‪ ..‬في أ سد ال‪ ،‬و سيّد‬
‫الشهداء‪!!..‬‬

‫عبدال بن مسعود‬
‫أول صادح بالقرآن‬

‫ق بل أن يد خا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم دار الر قم‪ ،‬كان عبدال بن م سعود قد آ من به‪ ،‬وأ بح سادس ستة أ سلموا واتبعوا‬
‫الرسول‪ ،‬عليه وعليهم الصلة والسلم‪..‬‬
‫هو اذن من الوائل المبكرين‪..‬‬
‫ولقد تحدث عن أول لقائه برسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫" ك نت غل ما ياف عا‪ ،‬أر عى غن ما لعق بة بن أ بي مع يط فجاء ال نبي صلى ال عل يه و سلم‪ ،‬وأبوب كر فقال‪ :‬يا غلم‪ ،‬هل عندك من ل بن‬
‫تسقينا‪..‬؟؟‬
‫فقلت‪ :‬اني مؤتمن‪ ،‬ولست ساقيكما‪..‬‬
‫فقال النبي عليه الصلة والسلم‪ :‬هل عندك من شاة حائل‪ ،‬لم ينز عليها الفحل‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪..‬‬
‫فأتيتهما بها‪ ،‬فاعتلفها النبي ومسح الضرع‪ ..‬ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة‪ ،‬فاحتلب فيها‪ ،‬فشرب أبو بكر ثم شربت‪..‬ثم قال للضرع‪:‬‬
‫اقلص‪ ،‬فقلص‪..‬‬
‫فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم بعد لك‪ ،‬فقلت‪ :‬علمني من هذا القول‪.‬‬
‫فقال‪ :‬انك غلم معلم"‪...‬‬

‫**‬

‫ل قد انب هر عبدال بن م سعود ح ين رأى عبدال ال صالح ور سوله الم ين يد عو ر به‪ ،‬ويم سح ضر عا ل ع هد له بالل بن ب عد‪ ،‬فهذا هو‬
‫يعطي من خير ال ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين‪!!..‬‬
‫وما كان يدري يومها‪ ،‬أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا‪ ،‬وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا‪،‬‬
‫وتلمؤها هدى ونور‪..‬‬
‫بل ما كان يدري يومها‪ ،‬أنه وهو ذلك الغلم الفقير الضعيف الجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط‪ ،‬سيكون احدى هذه المعجزات يوم‬
‫يخلق السلم منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش‪ ،‬ويقهر جبروت ساداتها‪..‬‬
‫فيذ هب و هو الذي لم ي كن يجرؤ أن ي مر بمجلس ف يه أ حد أشراف م كة ال مطرق الرأس حث يث الخ طى‪ ..‬نقول‪ :‬يذ هب ب عد ا سلمه الى‬
‫مجمع الشراف عند الكعبة‪ ،‬وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم‪ .‬ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن ال‪:‬‬
‫(بسم ال الرحمن الرحيم‪ ،‬الرحمن‪ ،‬علّم القرآن‪ ،‬خلق النسان‪ ،‬علّمه البيان‪ ،‬الشمس والقمر بحسبان‪ ،‬والنجم والشجر يسجدان)‪.‬‬
‫ثم يوا صل قراء ته‪ .‬وزعماء قر يش مشدوهون‪ ،‬ل ي صدقون أعين هم ال تي ترى‪ ..‬ول آذان هم ال تي ت سمع‪ ..‬ول يت صورون أن هذا الذي‬
‫يتحدى بأسهم‪ ..‬وكبريائهم‪..‬انما هو أجير واحد منهم‪ ،‬وراعي غنم لشريف من شرفائهم‪ ..‬عبدال بن مسعود الفقير المغمور‪!!..‬‬
‫ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير‪..‬‬
‫انه الزبير رضي ال عنه يقول‪:‬‬
‫" كان أول من ج هر بالقرآن ب عد ر سول ال صلى ال عل يه و سلم بم كة‪ ،‬عبدال بن م سعود ر ضي ال ع نه‪ ،‬اذ اجت مع يو ما أ صحاب‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا‪:‬‬
‫وال ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط‪ ،‬فمن رجل يسمعهموه‪..‬؟؟‬
‫فقال عبدال بن مسعود‪:‬أنا‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬ان نخشاهم عليك‪ ،‬انما نريد رجل له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه‪..‬‬
‫قال‪ :‬دعوني‪ ،‬فان ال سيمنعني‪..‬‬
‫فغدا ا بن م سعود ح تى ا تى المقام في الض حى‪ ،‬وقر يش في أنديت ها‪ ،‬فقام ع ند المقام ثم قرأ‪ :‬ب سم ال الرح من الرح يم _راف عا صوته_‬
‫الرحمن‪ ..‬علم القرآن‪ ،‬ثم استقبلهم يقرؤها‪..‬‬
‫فتأملوه قائلين‪ :‬ما يقول ابن ام عبد‪..‬؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد‪..‬‬
‫فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه‪ ،‬وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا ال أن يبلغ‪..‬‬
‫ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده‪ ،‬فقالوا له‪:‬‬
‫هذا الذي خشينا عليك‪..‬‬
‫فقال‪ :‬ما كان أعداء ال أهون عليّ منهم الن‪ ،‬ولئن شئتم لغادينّهم بمثلها غدا‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬حسبك‪ ،‬فقد أسمعتهم ما يكرهون"‪!!..‬‬

‫أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه‪ ..‬ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء‪،‬‬
‫سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية ال‪ ،‬ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار‪!!..‬‬
‫ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب‪..‬‬
‫ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة‪ ،‬وصار الغلم الجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات‪!!..‬‬

‫**‬

‫لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة‪..‬‬


‫بل ول بعيدا عن الزحام‪!!..‬‬
‫فل مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال‪ ،‬ول بين الذين أوتوا بسطة في الجسم‪ ،‬ول بين الذين أوتوا حظا من الجاه‪..‬‬
‫فهو من المال معدم‪ ..‬وهو في الجسم ناحل‪ ،‬ضامر‪ ..‬وهو في الجاه مغمور‪..‬‬
‫ولكن السلم يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر‪!..‬‬
‫ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين‪ ،‬وتسهم في تغيير مصير التاريخ‪!..‬‬
‫ويمنحه مكان انزوائه وضياعه‪ ،‬خلودا‪ ،‬وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلم التاريخ‪!!..‬‬
‫ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلة والسلم يوم قال له‪ " :‬انك غلم معلّم" فقد علمه ربه‪ ،‬حتى صار فقيه المة‪ ،‬وعميد حفظة‬
‫القرآن جميعا‪.‬‬
‫يقول على نفسه‪:‬‬
‫" أخذت من فم رسول ال صلى ال عليه زسلم سبعين سورة‪ ،‬ل ينازعني فيها أحد"‪..‬‬
‫ولكأن ما أراد ال مثوب ته ح ين خا طر بحيا ته في سبيل ان يج هر بالقرآن ويذي عه في كل مكان بم كة أثناء سنوات الضطهاد والعذاب‬
‫فأعطاه سبحانه موهبة الداء الرائع في تلوته‪ ،‬والفهم السديد في ادراك معانيه‪..‬‬

‫ولقد كان رسول ال يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول‪:‬‬


‫" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد"‪.‬‬
‫ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته‪،‬ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن‪.‬‬
‫يقول عليه السلم‪:‬‬
‫" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"‪..‬‬
‫" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل‪ ،‬فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"‪!!..‬‬
‫ولطالما كان يطيب لرسول ال عليه السلم أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود‪..‬‬
‫دعاه يوما الرسول‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫" اقرأ عليّ يا عبد ال"‪..‬‬
‫قال عبد ال‪:‬‬
‫" أقرأ عليك‪ ،‬وعليك أنزل يا رسول ال"؟!‬
‫فقال له الرسول‪:‬‬
‫"اني أحب أن أسمعه من غيري"‪..‬‬
‫فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى‪:‬‬
‫(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلء شهيدا‪..‬‬
‫يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الرض‪..‬‬
‫ول يكتمون ال حديثا)‪..‬‬
‫فغلب البكاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفاضت عيناه بالدموع‪ ،‬وأشار بيده الى ابن مسعود‪:‬‬
‫أن" حسبك‪ ..‬حسبك يا ابن مسعود"‪..‬‬

‫وتحدث هو بنعمة ال فقال‪:‬‬


‫" وال ما نزل من القرآن ش يء ال وأ نا أعلم في أي ش يء نزل‪ ،‬و ما أ حد أعلم بكتاب ال م ني‪ ،‬ولو أعلم أحدا تمت طى ال يه ال بل أعلم‬
‫مني بكتاب ال لتيته وما أنا بخيركم"!!‬

‫ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬


‫قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي ال عنه‪:‬‬
‫" لقد ملئ فقها"‪..‬‬
‫وقال أبو موسى الشعري‪:‬‬
‫" ل تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"‬
‫ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب‪ ..‬بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى‪.‬‬
‫يقول عنه حذيفة‪:‬‬
‫" ما رأيت أحدا أشبه برسول ال في هديه‪ ،‬ودلّه‪ ،‬وسمته من ابن مسعود‪...‬‬
‫ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم أن ابن ام عبد لقربهم الى ال زلفى"‪!!..‬‬
‫واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم ال وجهه فقالوا له‪:‬‬
‫"يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما رأينا رجل كان أحسن خلقا ول أرفق تعليما‪ ،‬ول أحسن مجالسة‪ ،‬ول أشد ورعا من عبدال بن مسعود‪..‬‬
‫قال علي‪:‬‬
‫نشدتكم ال‪ ،‬أهو صدق من قلوبكم‪..‬؟؟‬
‫قالوا‪:‬‬
‫نعم‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫اللهم اني أشهدك‪ ..‬اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل‪..‬‬
‫لقد قرأ القرآن فأحلّ حلله‪ ،‬وحرّم حرامه‪..‬فقيه في الدين‪ ،‬عالم بالسنة"‪!..‬‬

‫وكان أصحاب رسول ال عليه الصلة والسلم يتحدثون عن عبدال بن مسعود فيقولون‪:‬‬
‫" ان كان ليؤذن له اذا حججنا‪ ،‬ويشهد اذا غبنا"‪..‬‬
‫وهم يريدون بهذا‪ ،‬أن عبد ال رضي ال عنه كان يظفر من الرسول صلى ال عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه‪ ،‬فيدخل عليه بيته‬
‫أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه‪ .‬وكان دون غيره من ال صّحب موضع سرّه ونجواه‪ ،‬حتى كان يلقب بس صاحب‬
‫السواد أي صاحب السر‪..‬‬

‫يقول أبو موسى الشعري رضي ال عنه‪:‬‬


‫"لقد رأيت النبي عليه الصلة والسلم‪ ،‬وما أرى ال ابن مسعود من أهله"‪..‬‬
‫ذلك أن النبيب صلى ال عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما‪ ،‬وكان يحب فيه ورعه وفطنته‪ ،‬وعظمة نفسه‪ ..‬حتى قال الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم فيه‪:‬‬
‫" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين‪ ،‬لمّرت ابن أم عبد"‪..‬‬
‫وقد مرّت بنا من قبل‪ ،‬وصية االرسول لصحابه‪:‬‬
‫" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"‪...‬‬

‫وهذا الحب‪ ،‬وهذه الثقة أهله لن يكون شديد لبقرب من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له‬
‫الرسول عليه الصلة والسلم‪ ":‬اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"‪..‬‬
‫فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلم في أي وقت يشاء من ليل أو نهار‪...‬‬
‫وهكذا قال عنه أصحابه‪:‬‬
‫" كان يؤذن له اذا حججنا‪ ،‬ويشهد اذا غبنا"‪..‬‬

‫ول قد كان ا بن م سعود أهل لهذه المزيّة‪ ..‬فعلى الر غم من أن الخل طة الدان ية على هذا الن حو‪ ،‬من شأن ها أن تر فع الكل فة‪ ،‬فان ا بن‬
‫مسعود لم يزدد بها ال خشوعا‪ ،‬واجلل‪ ،‬وأدبا‪..‬‬
‫ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده‪ ،‬مظهره حين كان يحدّث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد وفاته‪...‬‬

‫فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلم‪ ،‬نجده اذا حرّك شفتيه ليقول‪ :‬سمعت رسول ال يحدث ويقول‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫يحدث ويقول‪ ...‬تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الضطراب والقلق‪ ،‬خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف‪!!..‬‬

‫ولنستمع لخوانه يصفون هذه الظاهرة‪..‬‬


‫يقول عمرو بن ميمون‪:‬‬
‫" اختلفت الى عبدال بن مسعود سنة‪ ،‬ما سمعه يتحدث فيها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ال أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى‬
‫على لسانه‪ :‬قال رسول ال‪ ،‬فعله الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته‪ ،‬ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"‪!!..‬‬
‫ويقول علقمة بن قيس‪:‬‬
‫" كان عبدال بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا‪ ،‬فما سمعته في عشية منها يقول‪ :‬قال رسول ال غير مرة واحدة‪ ..‬فنظرت اليه‬
‫وهو معتمد على عصا‪ ،‬فاذا عصاه ترتجف‪ ،‬وتتزعزع"‪!!..‬‬
‫ويحدثنا مسروق عن عبدال‪:‬‬
‫" حدّث ا بن م سعود يو ما حدي ثا فقال‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه و سلم‪ ..‬ثم أر عد وأرعدت ثيا به‪ ..‬ثم قال‪:‬أو نحو ذا‪ ..‬أو ش به‬
‫ذا"‪!!..‬‬
‫الى هذا المدى العظيم بلغ اجلله رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبلغ توقيره اياه‪ ،‬وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه‪!!..‬‬
‫فالرجل الذي عاصره رسول ال صلى ال عليه وسلم أكثرمن غيره‪ ،‬كان ادراكه لجلل هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا‪ ..‬ومن ث ّم كان‬
‫أدبه مع الرسول صلى ال عليه وسلم في حياته‪ ،‬ومع ذكراه في مماته‪ ،‬أدبا فريدا‪!!..‬‬

‫**‬
‫لم ي كن يفارق ر سول ال صلى ال عل يه وسلم في سفر‪ ،‬ول في ح ضر‪ ..‬ول قد ش هد المشا هد كلها جميع ها‪ ..‬وكان له يوم بدر شأن‬
‫مذكور مسع أب جهسل الذي حصسدته سسيوف المسسلمين فسي ذلك اليوم الجليسل‪ ..‬وعرف خلفاء الرسسول وأصسحابه له قدره‪ ..‬فوله أميسر‬
‫المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة‪ .‬وقال لهلها حين أرسله اليهم‪:‬‬
‫" اني وال الذي ل اله ال هو‪ ،‬قد آثرتكم به على نفسي‪ ،‬فخذوا منه وتعلموا"‪.‬‬
‫ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله‪ ،‬ول أحد مثله‪..‬‬
‫واجماع أهل الكوفة على حب انسان‪ ،‬أمر يشبه المعجزات‪..‬‬
‫ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة‪ ،‬ل يصبرون على طعام واحد‪ !!..‬ول يطيقون الهدوء والسلم‪..‬‬

‫ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي ال عنه عزله عن الكوفة وقالوا له‪ ":‬أقم معنا ول تخرج‪ ،‬ونحن‬
‫نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"‪..‬‬
‫ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه‪ ،‬اذ قال لهم‪:‬‬
‫" ان له عليّ الطاعة‪ ،‬وانها ستكون أمور وفتن‪ ،‬ول أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"‪!!..‬‬
‫ان هذا المو قف الجل يل الورع ي صلنا بمو قف ا بن م سعود من الخلبيفةعثمان‪ ..‬فل قد حدث بينه ما حوار وخلف تفاق ما ح تى ح جب عن‬
‫عبدال راتبه ومعاشه من بيت المل‪ ،،‬ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي ال عنه كلمة سوء واحدة‪..‬‬
‫بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة‪..‬‬
‫وحين ترامى الى مسمعه محاولت اغتيال عثمان‪ ،‬قال كلمته المأثورة‪:‬‬
‫" لئن قتلوه‪ ،‬ل يستخلفون بعده مثله"‪.‬‬
‫ويقولبعض أصحاب ابن مسعود‪:‬‬
‫" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"‪..‬‬

‫**‬

‫ولقد آتاه ال الحكمة مثلما أعطاه التقوى‪.‬‬


‫وكان يملك القدرة على رؤية العماق‪ ،‬والتعبير عنها في أناقة وسداد‪..‬‬
‫لنستمع له مثل وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول‪:‬‬
‫" كان اسلمه فتحا‪ ..‬وكانت هجرته نصرا‪ ..‬وكانت امارته رحمة‪."..‬‬
‫ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول‪:‬‬
‫" ان ربكم ليس عنده ليل ول نهار‪ ..‬نور السموات والرض من نور وجهه"‪!!..‬‬
‫ويتحدث عن الع مل وأهمي ته في ر فع الم ستوى الد بي ل صاحبه‪ ،‬فيقول‪ ":‬ا ني لم قت الر جل‪ ،‬اذ أراه فار غا‪ ..‬ل يس في ش يء من ع مل‬
‫الدنيا‪ ،‬ول عمل الخرة"‪..‬‬
‫ومن كلماته الجامعة‪:‬‬
‫" خير الغنى غنى النفس ‪ ،‬وخير الزاد التقوى‪ ،‬وشر العمى عمى القلب‪ ،‬وأعظم الخطايا الكذب‪ ،‬وشرّ المكاسب الربا‪ ،‬وشرّ المأكل مال‬
‫اليتيم‪ ،‬ومن يعف ال عنه‪ ،‬ومن يغفر ال له"‪..‬‬

‫**‬
‫هذا هو عبدال بن مسعود صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة‪ ،‬عاشها صاحبها في سبيل ال‪ ،‬ورسوله ودينه‪..‬‬
‫هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور‪!!..‬‬
‫نحيف‪ ،‬قصير‪ ،‬يكاد الجالس يوازيه طول وهو قائم‪..‬‬
‫له ساقان ناحلتان دقيقتان‪ ..‬صعد به ما يو ما أعلى شجرة يجت ني من ها أرا كا لر سول اله صلى ال عل يه و سلم‪ ..‬فرأى أ صحاب ال نبي‬
‫دقتهما فضحكوا‪ ،‬فقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود‪ ،‬لهما أثقل في الميزان عند ال من جبل أحد"‪!!..‬‬
‫أجل هذا هو الفقير الجير‪ ،‬الناحل الوهنان‪ ..‬الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور‪..‬‬
‫ولقد حظي من توفيق ال ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الوائل بين أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ..‬أولئك الذين بشروا وهم‬
‫على ظهر الرض برضوان ال وجنّته‪..‬‬

‫وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلة والسلم‪ ،‬مع خلفائه من بعده‪..‬‬
‫وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات السلم ومشيئته‪..‬‬

‫ورأى المنا صب تب حث عن شاغلي ها من الم سلمين‪ ،‬والموال الوفيرة تتدحرج ب ين أيدي هم‪ ،‬ف ما شغله من ذلك ش يء عن الع هد الذي‬
‫عاهد ال عليه ورسوله‪ ..‬ول صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته‪..‬‬

‫ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها‪ ،‬ويتغنى بها‪ ،‬ويتمنى لو أنه أدركها‪..‬‬

‫ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها‪:‬‬


‫" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة تبوك‪ ..‬فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر‬
‫اليها‪ ،‬فاذا رسول ال‪ ،‬وأبوبكر وعمر‪ ،‬واذا عبدال ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫في حفرته‪ ،‬وأبو بكر وع مر يدليانه اليه‪ ،‬والرسول يقول‪ :‬ادنيا ال يّ أخاكما‪ ..‬فدلياه اليه‪ ،‬فلما هيأه للحده قال‪ :‬اللهم اني أمسيت عنه‬
‫راضيا فارض عنه‪ ..‬فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"‪!!..‬‬

‫**‬

‫تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه‪.‬‬


‫وهي ل تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء‪ ،‬ومنصب وجاه‪..‬‬
‫ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب‪ ،‬عظيم النفس‪ ،‬وثيق اليقين‪ ..‬رجل هداه ال‪ ،‬وربّاه الرسول‪ ،‬وقاده القرآن‪!!..‬‬

‫حذيفة بن اليمان‬
‫عدوّ النفاق وصديق الوضوح‬

‫خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي ال عنه‪..‬‬
‫خرجوا ت سبقهم أشواق هم الى هذا ال صحابي الجل يل الذي سمعوا الكث ير عو ور عه وتقاه‪ ..‬و سمعوا أك ثر عن بلئه العظ يم في فتوحات‬
‫العراق‪..‬‬
‫واذ هم ينتظرون المو كب الوا فد‪ ،‬أب صروا أمام هم رجل مضيئا‪ ،‬ير كب حمارا على ظهره اكاف قد يم‪ ،‬و قد أ سدل الر جل ساقيه‪ ،‬وأم سك‬
‫بكلتا يديه رغيفا وملحا‪ ،‬وهو يأكل ويمضغ طعامه‪!..‬‬
‫وحين توسط جمعهم‪ ،‬وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون‪ ،‬كاد صوابهم يطير‪!!..‬‬
‫ولكن فيم العجب‪..‬؟!‬
‫وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر‪..‬؟!‬
‫الحق أنهم معذورون‪ ،‬فما عهدت بلدهم أيام فارس‪ ،‬ول قبل فارس ولة من هذا الطراز الجليل‪!!.‬‬

‫**‬

‫وسار حذيفة‪ ،‬والناس محتشدون حوله‪ ،‬وحافون به‪..‬‬


‫وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا‪ ،‬ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال‪:‬‬
‫" اياكم ومواقف الفتن"‪!!..‬‬
‫قالوا‪:‬‬
‫وما مواقف الفتن يا أبا عبدال‪!!..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫" أبواب المراء"‪..‬‬
‫يدخل أحدكم على الوالي أو المير‪ ،‬فيصدّقه بالكذب‪ ،‬ويمتدحه بما ليس فيه"‪!..‬‬
‫وكان استهلل بارعا‪ ،‬بقدر ما هو عجيب‪!!..‬‬
‫واستعاد النس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد‪ ،‬من أنه ل يمقت في الدنيا كلها ول يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت‬
‫النفاق ويحتقره‪.‬‬
‫وكان هذا الستهلل أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد‪ ،‬وعن منهجه في الحكم والولية‪..‬‬

‫**‬

‫فس حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق‪ ،‬وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة‪.‬‬
‫ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول ال صلى ال عليه وسلم واعنق ثلثتهم السلم‪ ،‬والسلم يزيد موهبته هذه‬
‫مضاء وصقل‪..‬‬
‫فلقد عانق دينا قويا‪ ،‬نظيفا‪ ،‬شجاعا قويما‪ ..‬يحتقر الجبن والنفاق‪ ،‬والكذب‪...‬‬
‫وتأدّب على يدي رسول ال واضح كفق الصبح‪ ،‬ل تخفى عليهم من حياته‪ ،‬ول من أعماق نفسه خافية‪ ..‬صادق وأمين‪..‬يحب القوياء‬
‫في الحق‪ ،‬ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين‪!!..‬‬

‫فلم ي كن ث مة مجال ترعرع ف يه موه بة حذي فة وتزد هر م ثل هذا المجال‪ ،‬في رحاب هذا الد ين‪ ،‬وب ين يدي هذا الر سول‪ ،‬وو سط هذا‬
‫ارّعيل العظيم من الصحاب‪!!..‬‬
‫ول قد ن مت موهب ته فعل أع ظم نماء‪ ..‬وتخ صص في قراءة الوجوه وال سرائر‪ ..‬يقرأ الوجوه في نظرة‪ ..‬ويبلوك نه العماق الم ستترة‪،‬‬
‫والدخائل المخبوءة‪ .‬في غير عناء‪..‬‬
‫ولقد بلغ من ذلك ما يريد‪ ،‬حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي ال عنه‪ ،‬وهو الملهم الفطن الريب‪ ،‬يستدل برأي حذيفة‪ ،‬وببصيرته في‬
‫اختيار الرجال ومعرفتهم‪.‬‬
‫ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده‪ ..‬وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى‪ ،‬ومن ثم‬
‫يجب على الريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه‪ ،‬ومظانه‪..‬‬
‫وهكذا عكف حذيفة رضي ال عنه على دراسة الشر والشرار‪ ،‬والنفاق والمؤمنين‪..‬‬
‫يقول‪:‬‬
‫" كان الناس يسألون رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الخير‪ ،‬وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني‪..‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول ال فهل بعد هذا الخير من شر؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل بعد هذا الشر من خير؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬وفيه دخن‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وما طخنه‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬قوم يستنون بغير سنتي‪ ..‬ويهتدون يغير هديي‪ ،‬وتعرف منهم وتنكر‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وهل بعد ذلك الخير من شر‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬نعم! دعاة على أبواب جهنم‪ ،‬من أجابهم اليها قذفوه فيها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬فما تأمرني ان أدركني ذلك‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬تلزم جماعة المسلمين وامامهم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فان لم يكن لهم جماعة ول امام‪..‬؟؟‬
‫قال‪ :‬تعتزل تلك الفرق كلها‪ ،‬ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"‪!!..‬‬
‫أرأيتم قوله‪ ":‬كان الناس يسألون رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الخير‪ ،‬وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"‪..‬؟؟‬

‫لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن‪ ،‬مسالك الشرور ليتقها‪ ،‬وليحذر الناس منها‪ .‬ولقد أفاء عليه هذا‬
‫بصرا بالدنيا‪ ،‬وخبرة بالنس‪ ،‬ومعرفة بالزمن‪ ..‬وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف‪ ،‬وحصانة حكيم‪...‬‬

‫ويقول رضي ال عنه‪:‬‬


‫" ان اله تعالى بعث محدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فدعا النس من الضللة الى الهدى‪ ،‬ومن الكفر الى اليمان‪ ،‬فاستجاب له من استجاب‪،‬‬
‫فحيي بالحق من كان ميتا‪...‬‬
‫ومات بالباطل من كان حيا‪..‬‬
‫ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلفة على مناهجها‪..‬‬
‫ثم يكون ملكا عضوضا‪!!..‬‬
‫فمن النس من ينكر بقلبه‪ ،‬ويده ولسانه‪ ..‬أولئك استجابوا لحق‪..‬‬
‫ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه‪ ،‬كافا يده‪ ،‬فهذا ترك شعبة من الحق‪..‬‬
‫ومنهم من ينكر بقلبه‪ ،‬كافا يده ولسانه‪ ،‬فهذا ترك شعبتين من الحق‪..‬‬
‫ومنهم من ل ينكر بقلبه ول بيده ول بلسانه‪ ،‬فذلك ميّت الحياء"‪!...‬‬
‫ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلل فيها فيقول‪:‬‬
‫" القلوب أربعة‪:‬‬
‫قلب أغلف‪ ،‬فذلك قلب الكافر‪..‬‬
‫وقلب مصفح‪ ،‬فذلك قلب المنافق‪..‬‬
‫وقلب أجرد‪ ،‬فيه سراج يزهر‪ ،‬فذلك قلب المؤمن‪..‬‬
‫وقلب فيه نفاق وايمان‪ ،‬فمثلليمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب‪ ..‬ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم‪ :‬فأيهما غلب‪ ،‬غلب"‪!!...‬‬

‫وخبرة حذيفة بالشر‪ ،‬واصراره على مقاومته وتحدّيه‪ ،‬أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة‪ ،‬وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة‪:‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫" جئت النبي صلى ال عليه وسلم فقلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ان لي لسانا ذربا على أهلي‪ ،‬وأخشى أن يدخلني النار‪..‬‬
‫فقال لي النبي عليه الصلة والسلم‪ :‬فأين أنت من الستغفار‪..‬؟؟ اني لستغفر ال في اليوم مائة مرة"‪...‬‬

‫**‬

‫هذا هو حذيفة عدو النفاق‪ ،‬صديق الوضوح‪..‬‬


‫ورجل من هذا الطراز‪ ،‬ل يكون ايمانه ال وثيقا‪ ..‬ول يكون ولؤه ال عميقا‪ ..‬وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولئه‪..‬‬
‫لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد‪..‬وبأيد مسلمة‪ ،‬قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن‪!!..‬‬
‫وكان حذيفة يتلفت مصادفة‪ ،‬فرأى السيوف تنوشه‪ ،‬فصاح في ضاربيه‪ :‬أبي‪ ...‬أبي‪ ..‬انه أبي‪!!..‬‬
‫لكن القضاء كان قد حم‪..‬‬
‫وحين عرف المسلمون‪ ،‬تولهم الحزن والوجوم‪ ..‬لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" يغفر ال لكم‪ ،‬وهو أرحم الراحمين"‪..‬‬
‫ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلءه‪ ،‬ويؤدي واجبه‪..‬‬
‫وتنتهي المعركة‪ ،‬ويبلغ الخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي ال عنه‪ ،‬ويتصدّق‬
‫بها على المسلمين‪ ،‬فيزداد الرسول حبا له وتقديرا‪...‬‬

‫**‬

‫وايمان حذيفة وولؤه‪ ،‬ل يعترفان‬


‫بالعجز‪ ،‬ول بالضعف‪..‬بل ول بالمستحيل‪....‬‬
‫في غزوة الحندق‪..‬وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود‪ ،‬أراد رسول ال عليه الصلة والسلم أن يقف على‬
‫آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه‪.‬‬

‫كان اليل مظلما ورهيبا‪ ..‬وكانت العواصف تزأر وتصطخب‪ ،‬كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها‪ ..‬وكان الموقف‬
‫كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع‪ ،‬وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم‪..‬‬
‫فمسن يملك آنئذ القوة‪،‬وأي قوة ليذهسب وسسط مخاطسر حالكسة الى معسسكر العداء ويقتحمسه‪ ،‬أو يتسسلل داخله ثسم يبلوا أمرهسم ويعرف‬
‫أخبارهم‪..‬؟؟‬
‫ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر‪..‬‬
‫ترى من يكون البطل‪..‬؟‬
‫انه هو‪..‬حذيفة بن اليمان‪!..‬‬
‫دعاه الرسول صلى ال عليه وسلم فلبى‪ ،‬ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك ال أن يلبي‪ ..‬مشيرا بهذا الى أنه‬
‫كان يرهب المهمة الموكولة اليه‪ ،‬ويخشى عواقبها‪ ،‬والقيام بها تحت وطأة الجوع‪ ،‬والصقيع‪ ،‬والعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار‬
‫المشركين شهرا أو يزيد‪!..‬‬
‫وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا‪...‬‬
‫فاقد قطع المسافة بين المعسكرين‪ ،‬واخترق الحصار‪ ..‬وتسلل الى معسكر قريش‪ ،‬وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر‪ ،‬فخيّم‬
‫عليه الظلم‪،‬واتخذ حذيفة رضي ال عنه مكانه وسط صفوف المحاربين‪...‬‬
‫وخشي أبوسفيان قائد قؤيش‪ ،‬أن يفجأهم الظلم بمتسللين من المسلمين‪ ،‬فقام يحذر جيشه‪ ،‬وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع‪:‬‬
‫" يا معشر قريش‪ ،‬لينظر كل منكم جليسه‪ ،‬وليأخذ بيده‪ ،‬وليعرف اسمه"‪.‬‬
‫يقول حذيفة"‬
‫" فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري‪ ،‬وقلت لهمن أنت‪..‬؟ قال‪ :‬فلن بن فلن؟"‪...‬‬
‫وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلم‪!..‬‬
‫وا ستأنف أ بو سفيان نداءه الى الج يش قائل‪ ":‬يا مع شر قر يش‪ ..‬ان كم وال ما أ صبحتم بدار مقام‪ ..‬ل قد هل كت الكراع _ أي الخ يل_‬
‫والخسف_ أي البسل_‪ ،‬وأخلفتنابنسو قري ظة‪ ،‬وبلغنسا عنهسم الذي نكره‪ ،‬ولقي نا من شدّة الر يح‪ ،‬ما تطمئن ل نا قدر‪ ،‬ول تقوم لنسا نار‪ ،‬ول‬
‫يستمسك لنا بناء‪ ،‬فارتحلوا فاني مرتحل"‪..‬‬
‫ثم نهض فوق جمله‪ ،‬وبدأ المسير فتبعه المحاربون‪..‬‬
‫يقول حذيفة‪:‬‬
‫ي أل تحدث شيئا حتى تأتيني‪ ،‬لقتلته بسهم"‪..‬‬
‫" لول عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ال ّ‬
‫وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلة والسلم فأخبره الخبر‪ ،‬وزف البشرى اليه‪...‬‬

‫**‬

‫ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون‪..‬‬


‫ورجل الصومعة العابد‪ ،‬المتأمل ل يكاد يحمل شيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلل حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر البصار‪..‬‬
‫وحسبنا أن نعلم‪ ،‬أنه كان ثالث ثلثة‪ ،‬أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها‪!..‬‬

‫وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه‪..‬‬


‫و في معر كة نهاو ند العظ نى‪ ،‬ح يث احت شد الفرس في مائة ألف مقا تل وخم سين ال فا‪ ..‬اختار ع مر لقيادة الجيوش الم سلمة النعمان بن‬
‫مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة‪..‬‬
‫وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول‪:‬‬
‫" اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه‪ ..‬وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن‪..‬‬
‫فاذا استشهد النعمان‪ ،‬فليأخذ الراية حذيفة‪ ،‬فاذا استشهد فجرير بن عدال‪..‬‬
‫وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع‪...‬‬
‫والتقى الجيشان‪..‬‬
‫الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا‪..‬‬
‫والمسلمون في ثلثين ألفا لغير‪...‬‬
‫وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا‪..‬‬
‫و سقط قائد الم سلمين قتيل‪ ،‬سقط النعمان بن مقرّن‪ ،‬وق بل أن تهوي الرا ية الم سلمة الى الرض كان القائد الجد يد قد ت سلمها بيمي نه‪،‬‬
‫وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم‪ ...‬ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان‪...‬‬
‫حمل الراية من فوره‪ ،‬وأوصى بأل ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة‪ ..‬ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما‬
‫له‪..‬‬
‫أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور‪ ،‬بديهيته المشرقة‪ ..‬ثم انثنى كالعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا‪:‬‬
‫" ال أبكر صدق وعده!!‬
‫ال أكبر نصر جنده!!"‬
‫ثسم لوى زمام فرسسه صسوب المقاتليسن فسي جيوشسه ونادى‪ :‬يسا أتباع محمسد‪ ..‬هاهسي ذي جنان ال تتهيسأ لسستقبالكم فل تطيلوا عليهسا‬
‫النتظار‪..‬‬
‫هيا يا رجال بدر‪..‬‬
‫تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك‪..‬‬
‫لقد احتفظ حذيفة بكا حماسة المعركة وأشواقها‪ ،‬ان لم يكن قد زاد منها وفيها‪..‬‬
‫وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس‪ ..‬هزيمة ل نكاد نجد لها نظيرا‪!!..‬‬

‫**‬

‫هذا العبقري في حمته‪ ،‬حين تضمّه صومعته‪..‬‬


‫والعبقري في فدائيته‪ ،‬حين يقف فوق أرض القتال‪..‬‬
‫هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه‪ ،‬ومشورةتطلب منه‪ ..‬فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة‬
‫واستوطنوها‪..‬‬
‫وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا‪.‬‬
‫مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملءمة‪ ،‬فينتقل بالمسلمين اليها‪..‬‬
‫يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان‪..‬؟‬
‫انه حذيفة بن اليمان‪ ..‬ذهب ومعه سلمان بن زياد‪ ،‬يرتادان لمسلمين المكان الملئم‪..‬‬
‫فلما بلغا أرض الكوفة‪ ،‬وكانت حصباء جرداء مرملة‪ .‬شمّ حذيفة عليها أنسام العافية‪ ،‬فقال لصاحبه‪ :‬هنا المنزل ان شاء ال‪..‬‬
‫وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة‪...‬‬
‫وما كاد المسلمون ينتقلون اليها‪ ،‬حتى شفي سقيمهم‪ .‬وقوي ضعيفهم‪ .‬ونبضت بالعافية عروقهم‪!!..‬‬
‫لقد كان حذيفة واسع الذكاء‪ ،‬متنوع الخبرة‪ ،‬وكان يقول للمسلمين دائما‪:‬‬
‫" ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للخرة‪ ..‬ول الذين يتركون الخرة للدنيا‪ ..‬ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"‪...‬‬
‫**‬

‫وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلثين‪..‬دعي للقاء ال‪ ..‬واذ هو يتهيأ للرحلة الخيرة دخل عليه بعض أصحابه‪ ،‬فسألهم‪:‬‬
‫أجئتم معكم بأكفان‪..‬؟؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪..‬‬
‫قال‪ :‬أرونيها‪..‬‬
‫فلما رآها‪ ،‬وجدها جديدة فارهة‪..‬‬
‫فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة‪ ،‬وقال لهم‪:‬‬
‫" ما هذا لي بكفن‪ ..‬انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص‪..‬‬
‫فاني لن أترك في القبر ال قليل‪ ،‬حتى أبدّل خيرا منهما‪ ...‬أو ش ّر منهما"‪!!..‬‬
‫وتمتم بكلمات‪ ،‬ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها‪:‬‬
‫" مرحبا بالموت‪..‬‬
‫حبيب جاء على شوق‪..‬‬
‫ل أفلح من ندم"‪..‬‬
‫وصعدت الى ال روح من أعظم أرواح البشر‪ ،‬ومن أكثرها تقى‪ ،‬وتآلقا‪ ،‬واخباتا‪...‬‬

‫عمّار بن ياسر‬
‫رجل من الجنة‪!!..‬‬

‫لو كان هناك أناس يولدون في الجنة‪ ،‬ثم يشيبون في رحابها ويكبرون‪..‬‬
‫ثم يجاء بهم الى الرض ليوكون زينة لها‪ ،‬ونورا‪ ،‬لكان عمّار‪ ،‬وأمه سميّة‪ ،‬وأبوه ياسر من هؤلء‪!!..‬‬
‫ولكن لماذا نقول‪ :‬لو‪ ..‬لماذا مفترض هذا التراض‪ ،‬وقد كان آل ياسر فعل من أهل الجنة‪..‬؟؟‬
‫وما كان الرسول عليه الصلة والسلم مواسيا لهم فحسب حين قال‪:‬‬
‫" صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة"‪..‬‬
‫بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه‪..‬‬

‫**‬

‫خرج ياسر والد عمّار‪ ،‬من بلده في اليمن يطلب أخا له‪ ،‬ويبحث عنه‪..‬‬
‫وفي مكة طاب له المقام‪ ،‬فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة‪..‬‬
‫وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط‪..‬‬
‫ومن هذا الزواج المبارك رزق ال البوين عمارا‪..‬‬
‫وكان اسلمهم مبكرا‪ ..‬شأن البرار الذين هداهم ال‪..‬‬
‫وشأن البرار المبكّرين أيضا‪ ،‬أخذوا نصيبهم الوفى من عذاب قريش وأهوالها‪!!..‬‬
‫ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر‪..‬‬
‫فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة‪ ،‬تولوهم بالوعيد والتهديد‪ ،‬ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له‪ ":‬تركت دين آبائك وهم‬
‫خير منك‪ ..‬لنسفّهنّ حلمك‪ ،‬ولنضعنّ شرفك‪ ،‬ولنكسدنّ تجارتك‪ ،‬ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية‪.‬‬
‫وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها‪ ،‬أو عبيدها‪ ،‬أصلتهم سعيرا‪.‬‬
‫ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق‪..‬‬
‫وو كل أ مر تعذيب هم الى ب ني مخزوم‪ ،‬يخرجون ب هم جمي عا‪ ..‬يا سر‪ ،‬سمية وعمار كل يوم الى رمضاء م كة الملته بة‪ ،‬وي صبّون علي هم‬
‫جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!‬

‫ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا‪ .‬ولن نفيض في الحديث عنها الن‪ ..‬فلنا ان شاء ال مع جلل تضحيتها‪ ،‬وعظمة‬
‫ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك اليام الخالدات‪..‬‬
‫وليكن حسبنا الن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول الى آخرها شرفا ل ينفد‪،‬‬
‫وكرامة ل ينصل بهاؤها‪!..‬‬
‫موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور‪ ..‬وللشرفاء في كل الزمان‪!!..‬‬

‫**‬

‫كان الرسول عليه الصلة والسلم يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون‪..‬‬
‫ولم يكن ىنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الذى شيئا‪..‬‬
‫وكانت تلك مشيئة ال‪..‬‬
‫فالد ين الجد يد‪ ،‬ملة ابراه يم حني فا‪ ،‬الد ين الذي ير فع مح مد لواءه ل يس حر كة ا صلح عار ضة عابرة‪ ..‬وان ما هو ن هج حياة للبشر ية‬
‫المؤمنة‪ ..‬ول بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكا بطولته‪ ،‬وتضحياته ومخاطراته‪...‬‬
‫ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة‪ ،‬هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا ل يزول‪ ،‬وخلودا ل يبلى‪!!!..‬‬

‫انها العبير يمل أفئدة المؤمنين ولء‪ ،‬وغبطة وحبورا‪.‬‬


‫وانها المنار الذي يهدي الجيال الوافدة الى حقيقة الدين‪ ،‬وصدقه وعظمته‪..‬‬
‫وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للسلم تضحياته وضحاياه‪ ،‬ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية‪...‬‬
‫فهو يقول‪:‬‬
‫(أحسب الناس أن يتركوا‪ ،‬أن يقولوا آمنّا‪ ،‬وهم ل يفتنون)؟!‬

‫(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة‪ ،‬ولمّا يعلم ال الذين جاهدوا منكم‪ ،‬ويعلم الصابرين)؟‬

‫ن ال الذين صدقوا‪ ،‬وليعلمنّ الكاذبين)‪.‬‬


‫(ولقد فتنّا الذين من قبلهم‪ ،‬فليعلم ّ‬

‫(أم حسبتم أن تتركوا‪ ،‬ولما يعلم ال الذين جاهدوا منكم‪)..‬‬

‫(ما كان ال ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)‪..‬‬

‫(وما أصابكم يوم التقى الجمعان‪ ،‬فباذن ال‪ ،‬وليعلم المؤمنين)‪.‬‬


‫أجسل هكذا علم القرآن حملتسه وأبناءه‪ ،‬أن التضحيسة جوهسر اليمان‪ ،‬وأن مقاومسة التحديّات الغاشمسة الظالمسة بالثبات وبالصسبر‬
‫وبالصرار‪ ..‬انما تشكّل أبهى فضائل اليمان وأروعها‪..‬‬
‫ومن ث مّ فان دين ال هذا وهو يضع قواعده‪ ،‬ويرسي دعائمه‪ ،‬ويعطي مثله‪ ،‬ل بد له أن يدعم وجوده بالتضحية‪ ،‬ويزكّي نفسه بالفداء‪،‬‬
‫مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثل عاليا للمؤمنين القادمين‪.‬‬
‫ولقد كانت سميّة‪ ..‬وكان ياسر‪ ..‬وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اهتارتها مقادير السلم لتصوغ من تضحياتها وثباتها‬
‫واصراراها وثيقة عظمته وخلوده‪..‬‬

‫**‬

‫قلنا ان رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر‪ ،‬محيّيا صمودها‪ ،‬وبطولتها‪ ..‬وكان قلبه الكبير يذوبرحمة‬
‫وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما ل طاقة لهم به‪.‬‬
‫وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار‪:‬‬
‫" يا رسول ال‪ ..‬لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"‪..‬‬
‫فنا داه الرسول‪ :‬صبرا أبا اليقظان‪..‬‬
‫صبرا آل ياسر‪..‬‬
‫فان موعدكم الجنة"‪..‬‬
‫ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة‪.‬‬
‫فيقول عمرو بن الحكم‪:‬‬
‫" كان عمّار يعذب حتى ل يدري ما يقول"‪.‬‬
‫ويقول عمرو بن ميمون‪:‬‬
‫" أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار‪ ،‬فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يمر به‪ ،‬ويمر يده على رأسه ويقول‪ :‬يا نار كوني بردا‬
‫وسلما على عمّار‪ ،‬كما كنت بردا وسلما على ابراهيم"‪..‬‬
‫على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار‪ ،‬وان فدح ظهره ودغدغ قواه‪..‬‬
‫ولم يش عر عمار بالهلك ح قا‪ ،‬ال في ذلك اليوم الذي ا ستنجد ف يه جلدوه ب كل عبقريت هم في الجري مة والب غي‪ ..‬ف من ال كي بالنار‪ ،‬الى‬
‫صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة‪ ..‬الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه‪ ،‬وتتسلخ قروحه وجروحه‪..‬‬
‫في ذلك اليوم اذ ف قد وع يه ت حت وطأة هذا العول فقالوا له‪ :‬أذ كر آلهت نا بخ ير‪ ،‬وأخذوا يقولون له‪ ،‬و هو يردد وراء هم القول في غ ير‬
‫شعور‪.‬‬
‫في لك اليوم‪ ،‬وب عد أن أفاق قليل من غيبو بة تعذيبه‪ ،‬تذكّر ما قاله فطار صوابه‪ ،‬وتج سمت هذه الهفوة أ ما نف سه ح تى رآها خطيئة ل‬
‫مغفرة لها ول كفارة‪ ..‬وفي لحظات معدودات‪ ،‬أوقع به الشعور بالثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما‪!!..‬‬

‫ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه ل محالة‪..‬‬
‫ل قد كان يحت مل الهول المن صّب على ج سده‪ ،‬لن رو حه هناك شام خة‪ ..‬أ ما الن و هو ي ظن أن الهزي مة أدر كت رو حه ف قد أشر فت به‬
‫همومه وجزعه على الموت والهلك‪..‬‬
‫لكن ال العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلل ختامه‪..‬‬
‫وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا‪ ،‬وهاتفا به‪ :‬انهض أيها البطا‪ ..‬ل تثريب عليك ول حرج‪..‬‬
‫ولقي رسول ال صلى ال عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي‪ ،‬فجعل يمسح دموعه بيده‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫" أخذك الكفار‪ ،‬فغطوك في الماء‪ ،‬فقلت كذا‪ ..‬وكذا‪..‬؟؟"‬
‫أجاب عمّار وهو ينتحب‪ :‬نعم يا رسول ال‪...‬‬
‫فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يبتسم‪ ":‬ان عادوا‪ ،‬فقل لهم مثل قولك هذا"‪!!..‬‬
‫ثم تل عليه الية الكريمة‪:‬‬
‫( ال من أكره وقلبه مطمئن باليمان)‪..‬‬
‫واستردّ عمّار سكينة نفسه‪ ،‬ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما‪ ،‬ولم يعد يلقي له وبال‪..‬‬
‫لقد ربح روحه‪ ،‬وربح ايمانه‪ ..‬ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة‪ ،‬فليكن بعدئذ ما يكون‪!!..‬‬
‫وصمد عمّار حتى حل العياء بجلديه‪ ،‬وارتدّوا أمام اصراره صاغرين‪!!..‬‬

‫**‬

‫استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها‪ ،‬وأخذ المجتمع السلمي هناك يتشكّل سريعا‪ ،‬ويستكمل نفسه‪..‬‬
‫ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة‪،‬أخذ عمار مكانه عليّا‪!!..‬‬
‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحبه حبا حمّا‪ ،‬ويباهي أصحابه بايمانه وهديه‪..‬‬
‫يقول عنه صلى ال عليه وسلم‪/‬‬
‫‪ :‬ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه"‪.‬‬

‫وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد‪ ،‬قال رسول ال‪ ":‬من عادى عمارا‪ ،‬عاداه ال‪ ،‬ومن أبغض عمارا أبغضه ال"‬
‫ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل السلم ال أن يسارع الى عمار معتذرا اليه‪ ،‬وطامعا في صفحه الجميل‪!!..‬‬
‫وحين كان رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها‪ ،‬ارتجز المام علي كرّم ال وجهه أنشودة‬
‫راح يرددها ويرددها المسلمون معه‪ ،‬فيقولون‪:‬‬
‫ل يستوي من يعمر المساجدا‬
‫يدأب فيها قائما وقاعدا‬
‫ومن يرى عن الغبار حائدا‬

‫وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد النشودة ويرفع بها صوته‪ ..‬وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به‪ ،‬فغاضبه ببعض‬
‫القول فغضب الرسول صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫" ما لهم ولعمّار‪..‬؟‬
‫يدعوهم الى الجنة‪ ،‬ويدعونه الى النار‪..‬‬
‫ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"‪...‬‬

‫واذا أ حب ر سول ال صلى ال عل يه و سلم م سلما الى هذا ال حد‪ ،‬فل بد أن يكون ايما نه‪ ،‬وبلؤه‪ ،‬وولؤه‪ ،‬وعظ مة نف سه‪ ،‬وا ستقامة‬
‫ضميره ونهجه‪ ..‬قد بلغت المدى‪ ،‬وانتهت الى ذروة الكمال الميسور‪!!..‬‬
‫وكذلكم كان عمار‪..‬‬
‫ل قد كال ال له نعم ته وهداه بالمكيال الو فى‪ ،‬وبلف في درجات الهدى واليق ين ما ج عل الر سول صلى ال عل يه و سلم يزكّي ايما نه‪،‬‬
‫ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثل فيقول‪:‬‬
‫" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر‪ ...‬واهتدوا بهدي عمّار"‪..‬‬
‫ولقد وصفه الرواة فقالوا‪:‬‬
‫" كان طوّال‪ ،‬أشهل‪ ،‬رحب ما بين المنكبين‪ ..‬من أطول الناس سكوتا‪ ،‬وأقلهم كلما"‪..‬‬
‫فكيف سارت حياة هذا العملق‪ ،‬الصامت الشهل‪ ،‬العريض الصدر‪ ،‬الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع‪ ،‬كما يحمل في نفس الوقت‬
‫وثيقة صموده الهائل‪ ،‬والمذهل وعظمته الخارقة‪..‬؟!‬
‫كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص‪ ،‬والمؤمن الصادق‪ ،‬والفدائي الباهر‪..‬؟؟‬
‫لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد‪ ..‬بدرا‪ ،‬وأحدا‪ ،‬والخندق وتبوك‪ ..‬ويقيّتها جميعل‪.‬‬
‫ولما ذهب الرسول صلى ال عليه وسلم الى الرفيق العلى‪ ،‬واصل العملق زحفه‪..‬‬
‫ف في لقاء الم سلمين مع الفرس‪ ،‬و مع الروم‪ ،‬و من ق بل ذلك في لقائ هم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناك في ال صفوف الولى‬
‫دوما‪ ..‬جنديا باسل أمينا‪ ،‬ل تنبو لسيفه ضربة‪ ..‬ومؤمنا ورعا جليل‪ ،‬ل تأخذه عن ال رغبة‪..‬‬
‫وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه يختار ولة المسلمين في دقة وتحفّظ من يخ\تار مصيره‪ ،‬كانت عيناه تقعان‬
‫دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"‪..‬‬
‫وهكذا سارع اليه ووله الكوفة‪ ،‬وجعل ابن مسعود معه على بيت المال‪..‬‬
‫وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا‪ ..‬وابن مسعود معلما ووزيرا‪..‬‬
‫وانهما من النجباء‪ ،‬من أصحاب محمد‪ ،‬ومن أهل بدر"‪..‬‬

‫ولقد سار عمّار في وليته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا‪..‬‬
‫لقد زادته الولية تواضعا وورعا وزهدا‪..‬‬
‫يقول ابن أبي الهذيل‪ ،‬وهو من معاصريه في الكوفة‪:‬‬
‫" رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها‪ ،‬ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره‪ ،‬ويمضي بها الى داره"‪!!..‬‬

‫ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة‪ ":‬يا أجدع الذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة‪ ..‬فل يزيد‬
‫المير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه‪:‬‬
‫" خير أذنيّ سببت‪ ..‬لقد أصيبت في سبيل ال"‪!!..‬‬
‫أ جل لقد أ صيب في سبيل ال في يوم اليمامة‪ ،‬وكان يو ما من أيام عمّار المجيدة‪ ..‬اذا انطلق العملق في استبسال عا صف يح صد في‬
‫جيش مسيلمة الكذاب‪ ،‬ويهدي اليه المنايا والدمار‪..‬‬
‫واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل‪ ،‬فيندفعون كالسهام المقذوفة‪.‬‬
‫يقول عبدال بن عمر رضي ال عنهما‪:‬‬
‫" را يت عمّار بن يا سر يوم اليما مة على صخرة‪ ،‬و قد أشرف ي صيح‪ :‬يا مع شر الم سلمين‪ ..‬أ من الج نة تفرّون‪..‬؟ أ نا عمّار بن يا سر‪،‬‬
‫هلموا اليّ‪ ..‬فنظرت اليه‪ ،‬فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح‪ ،‬وهو يقاتل أشد القتال"‪!!!..‬‬
‫أل من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق‪ ،‬والمعلم الكامل‪ ،‬فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه‪ ،‬وليسأل نفسه‪:‬‬
‫هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم‪ ،‬ومعلم عظيم؟؟‬

‫اذا خاضوا في سبيل ال قتال اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة‪ ،‬ل عن النصر‪!!..‬‬
‫واذا كانوا خلفاء وحكّاما‪ ،‬ذهب الخليفة يحلب شياه اليامى‪ ،‬ويعجن خبز اليتامى‪ ..‬كما فعل أبو بكر وعمر‪!!..‬‬
‫واذا كانوا ولة حملوا طعامسم على ظهورهسم مربوطسا بحبسل‪ ..‬كمسا فعسل عمّار‪ ..‬أو تنازلوا عسن راتبهسم وجلسسوا ي صنعون مسن الخوص‬
‫المجدول أوعية ومكاتل‪ ،‬كما صنع سلمان‪!!..‬‬
‫أل فلن حن الجباه تحيّة واجلل للد ين الذي أنجب هم‪ ،‬وللر سول الذي ربّا هم‪ ..‬وق بل الد ين والر سول‪ ،‬ال العل يّ ال كبير الذي اجتبا هم لهذا‬
‫كله‪..‬‬
‫وهداهم لهذا كله‪ ..‬وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس‪!!..‬‬

‫**‬

‫كان الحذيفة بن اليمان‪ ،‬الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء ال‪ ،‬ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين‬
‫له" بمن تأمرنا‪ ،‬اذا اختلف الناس"‪..‬؟‬
‫فأجابهم حذيفة‪ ،‬وهو يلقي بآخر كلماته‪:‬‬
‫" عليكم بابن سميّة‪ ..‬فانه لن يفارق الحق حتى يمةت"‪..‬‬
‫أ جل ان عمارا ليدور مع ال حق ح يث يدور‪ ..‬والن ن حن نق فو آثاره المبار كة‪ ،‬ونتت بع معالم حيا ته العظي مة‪ ،‬تعلوْا نقترب من مش هد‬
‫عظيم‪..‬‬
‫ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلله‪ ،‬في صولته وكماله‪ ،‬في تفانيه واصراره‪ ،‬في تفوقه واقتداره‪ ،‬تعالْوا نبصر مشهد‬
‫مشهدا يسبق هذا المشهد‪ ،‬ويتنبأ به‪ ،‬ويهيئ له‪...‬‬

‫كان ذلك ا ثر ا ستقرار الم سلمين في المدي نة‪ ،‬و قد ن هض الر سول الم ين وحوله ال صحابة البرار‪ ،‬شع ثا لرب هم و غبرا‪ ،‬بنون بي ته‪،‬‬
‫ويقيمون مسجده‪ ..‬قد امتلت أفئدتهم المؤمنة غبطة‪ ،‬وتألقت بشرا‪ ،‬وابتهلت حمدا لربها وشكرا‪..‬‬
‫الجميع يعملون في خبور وأمل‪ ..‬يحملون الحجارة‪ ،‬أو يعجنون الملط‪ ..‬أو يقيمون البناء‪..‬‬
‫فوج هنا وفوج هناك‪..‬‬
‫والفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة‪:‬‬
‫لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل‬
‫هكذا يغنون وينشدون‪..‬‬
‫ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى‪:‬‬
‫اللهم ان العيش عيش الخرة فارحم النصار والمهاجرة‬
‫وتغريدة ثالثة‪:‬‬
‫ل يستوب من يعمّر مسجدا‬
‫يدأب فيها قائما وقاعدا‬
‫ومن يرى الغبار عنه حائدا‬
‫انها خليا ل تعمل‪ ..‬انهم جنوده‪ ،‬يحملون لواءه‪ ،‬ويرفعون بناءه‪..‬‬
‫ورسوله الطيّب المين معهم‪ ،‬يحمل من الحجارة أعتاها‪ ،‬ويمارس من العمل أشقه‪ ..‬وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية‬
‫المخبتة‪..‬‬
‫والسماء من فوقهم تغبط الرض التي تحملهم فوق ظهرها‪ ..‬والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها‪!!..‬‬
‫وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها‪...‬‬

‫ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول ال‪ ،‬فيأخذه اليه حنان عظيم‪ ،‬ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه‪ ،‬ويتأمّل‬
‫وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور ال‪ ،‬ثم يقول على مل من أصحابه جميعا‪:‬‬
‫" ويح ابن سميّة‪ !!..‬تقتله الفئة الباغية"‪...‬‬

‫وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته‪ ،‬فيظن بعض اخوانه أنه قد مات‪ ،‬فيذهب ينعاه الى رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ويفزّع الصحاب من وقع النبأ‪ ..‬لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة‪:‬‬
‫" ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية"‪..‬‬
‫فمن تكون هذه الفئة يا ترى‪..‬؟؟‬
‫ومتى‪..‬؟ وأي‪..‬؟‬
‫لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم‪..‬‬
‫ولكنه لم يروّع‪ ..‬فهو منذ أسلم‪ ،‬وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار‪...‬‬
‫ومضت اليام‪ ..‬والعوام‪..‬‬
‫ذهب الرسول صلى ال عليه وسلم الى الرفيق العلى‪ ..‬ثم لحق به الى رضوان ال أبو بكر‪ ..‬ثم لحق بهما الى رضوان ال عمر‪..‬‬
‫وولي الخلفة ذي النورين عثمان بن عفان رضي ال عنه‪..‬‬
‫وكانت المؤمرات ض ّد السلم تعمل عملها االمستميت‪ ،‬وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب‪..‬‬
‫وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت ته بّ على المدينة كريح السموم من تلك البلد التي دمّر السلم ملكها‬
‫وعروشها‪..‬‬
‫وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها‪ ،‬فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلد السلم‪..‬‬
‫ولعل عثمان رضي ال عنه‪ ،‬لم يعط المور ما تستحقه من الهتمام والحذر‪ ،‬فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي ال عنه‪ ،‬وانفتحت‬
‫على المسلمين أبواب الفتنة‪ ..‬وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم ال وجهه حقه في المر‪ ،‬وفي الخلفة‪...‬‬

‫وتعددت اتجاهات الصحابة‪ ..‬فمنهم من نفض يديه من الخلف وأوى الى بيتهخ‪ ،‬جاعل شعاره كلمة ابن عمر‪:‬‬
‫" من قال حيّ على الصلة أجبته‪...‬‬
‫ي على الفلح أجبته‪..‬‬
‫ومن قال ح ّ‬
‫ي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله‪ ،‬قلت‪ :‬ل؟‪..‬‬
‫ومن قال ح ّ‬
‫ومنهم من انحاز الى معاوية‪..‬‬
‫ومنهم من وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة‪ ،‬وخليفة المسلمين‪..‬‬
‫ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟‬
‫أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" واهتدوا بهدي عمّار"‪..‬؟‬
‫أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" من عادى عمّارا عاداه ال"‪..‬؟‬
‫والذي كان اذا سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال‪:‬‬
‫" مرحبا بالطيّب المقدام‪ ،‬ائذنوا له"‪!!..‬‬

‫لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب‪ ،‬ل متحيّزا ول متعصبا‪ ،‬بل مذعنا للحق‪ ،‬وحافظا للعهد‪..‬‬
‫فعليّ خليفة المسلمين‪ ،‬وصاحب البيعة بالمامة‪ ..‬ولقد أخذ الخلفة وهو لها أهل وبها جدير‪..‬‬
‫وعليّ قبل هذا وبعد هذا‪ ،‬صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول ال صلى ال عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى‪..‬‬
‫ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار‪ ،‬ليهتدي بنور بصيرته واخلصه الى صاحب الحق الوحد في النزاع‪ ..‬ولم يكن صاحب الحق‬
‫يومئذ في يقينه سوى عليّ‪ ،‬فأخذ مكانه الى جواره‪..‬‬
‫وفرح علي رضي ال عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يمئذ مثله وازداد ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل‬
‫عليه وسار معه‪..‬‬
‫وجاء يوم صفين الرهيب‪.‬‬
‫وخرج المام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه‪.‬‬
‫وخرج معه عمار‪..‬‬
‫كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلثة وتسعين‪..‬‬
‫ثلث وتسعون عاما ويخرج للقتال‪..‬؟‬
‫أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤليته وواجبه‪ ..‬ولقد قاتل أش ّد وأروع مما يقاتل أبناء الثلثين‪!!...‬‬
‫كان الرجل الدائم الصمت‪ ،‬القليل الكلم‪ ،‬ل يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما ال بهذه الضراعة‪:‬‬
‫" عائذ بال من فتنة‪...‬‬
‫عائذ بال من فتنة‪."..‬‬
‫وبعيد وفاة الرسول صلى ال عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم‪..‬‬
‫وكلما كانت اليام تمر‪ ،‬كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه‪ ..‬كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه‪..‬‬
‫وح ين و قع الخ طر ونش بت الفت نة‪ ،‬كان ا بن سميّة‪ .‬يعرف مكا نه فو قف يوم صفين حامل سيفه و هو ا بن الثال ثة والت سعين ك ما قل نا‬
‫ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته‪..‬‬
‫ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائل‪:‬‬

‫" ايها الناس‪:‬‬


‫سيروا ب نا ن حو هؤلء القوم الذ ين يزعمون أن هم يثأرون لعثمان‪ ،‬ووال ما ق صدهم ال خذ بثأره‪ ،‬ولكن هم ذاقوا الدن يا‪ ،‬وا ستمرءوها‪،‬‬
‫وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم‪..‬‬
‫وما كان لهؤلء سابقة في السلم يستحقون بها طاعة المسلمين لهم‪ ،‬ول الولية عليهم‪ ،‬ول عرفت قلوبهم من خشية ال ما يحملهم‬
‫على اتباع الحق‪...‬‬
‫وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان‪ ..‬وما يريدون ال أن يكونوا جبابرة وملوكا؟‪...‬‬
‫ثم أخذ الراية بيده‪ ،‬ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة‪ ،‬وصاح في الناس قائل‪:‬‬
‫" والذي نفسي بيده‪ ..‬لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهأنذا أقاتل بها اليوم‪..‬‬
‫والذي نفسي بيده‪ .‬لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر‪ ،‬لعلمت أننا على الحق‪ ،‬وأنهم على الباطل"‪..‬‬
‫ولقد تبع الناس عمارا‪ ،‬وآمنوا بصدق كلماته‪..‬‬
‫يقول أبو عبدالرحمن السلمي‪:‬‬
‫" شهدنا مع عل يّ رضي ال عنه صفين‪ ،‬فرأيت عمار ابن ياسر رضي اله عنه ل يأخذ في ناحية من نواحيها‪ ،‬ول واد من أوديتها‪ ،‬ال‬
‫رأيت أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"‪!!..‬‬
‫كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول‪ ،‬يؤمن أنه واحد من شهدائها‪..‬‬
‫وقد كانت نبوءة رسول ال صلى ال عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبرة‪:‬‬
‫" تقتل عمّار الفئة الباغية"‪..‬‬
‫من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة‪:‬‬
‫"اليوم القى الحبة محمدا وصحبه"‪!!..‬‬

‫ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله المويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما‪:‬‬
‫لقد ضربناكم على تنزيله‬
‫واليوم نضربكم على تأويله‬
‫ضربا يزيل الهام عن مقليه‬
‫ويذهل الخليل عن خليله‬
‫أو يرجع الحق الى سبيله‬
‫و هو يع ني بهذا أن أ صحاب الر سول ال سابقين‪ ،‬وعمارا من هم قاتلوا الموي ين بال مس وعلى رأ سهم أ بو سفيان الذي كان يح مل لواء‬
‫الشرك‪ ،‬ويقود جيوش المشركين‪..‬‬
‫قاتلوهم بالمس‪ ،‬وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لنهم مشركون‪..‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬وان يكونوا قد أسلموا‪ ،‬وان يكن القرآن الكريم ل يأمرهم صراحة بقتالهم‪ ،‬ال أن اجتهاد عمار رضي ال عنه في بحثه عن‬
‫الحق‪ ،‬وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه‪ ،‬وحتى تنصفئ الى البد نار التمرّد والفتنة‪..‬‬
‫ويعني كذلك‪ ،‬أنهم بالمس قاتلوا المويين لكفرهم بالدين والقرآن‪..‬‬

‫واليوم يقاتلون المويين لنحرافهم بالدين‪ ،‬وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره‪ ،‬ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه‬
‫لغراضهم وأطماعهم‪!!..‬‬

‫كان ا بن الثال ثة والت سعين‪ ،‬يخوض آ خر معارك حيا ته الم ستبسلة الشام خة‪ ..‬كان يل قن الحياة ق بل أن ير حل عن ها آ خر درو سه في‬
‫الثبات على الحق‪ ،‬ويترك لها آخر مواقفه العظيمة‪ ،‬الشريفة المعلمة‪..‬‬
‫ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا‪ ،‬حتى ل تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية‪..‬‬
‫بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد‪ ،‬أفقدتهم صوابهم‪ ،‬فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لصابته‪ ،‬حتى اذا‬
‫تمكّنوا منه أصابوه‪...‬‬

‫**‬
‫كان ج يش معاوي بة ينت ظم من كثير ين من الم سلمين الجدد‪ ..‬الذ ين أ سلموا على قرع طبول الف تح ال سلمي في البلد الكثيرة ال تي‬
‫حررها السلم من سيطرة الروم والفرس‪ ..‬وكان أكثر هؤلء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي‪ ..‬الخليفة‪،‬‬
‫والمام‪ ،‬كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعال‪..‬‬
‫وهذا الخلف على خطورته‪ ،‬كان يمكن أن ينتهي بسلم لو ظلت المور بأيدي المسلمين الوائل‪ ..‬ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى‬
‫تناولته أيد كثيرة ل يهمها مصير السلم‪ ،‬وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما‪..‬‬
‫شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول ال صلى ال عليه وسلم التي سمعها أصحابه‬
‫جميعا ذات يوم بعيد‪ ،‬وهم يبنون المسجد بالمدينة‪..‬‬
‫" ويح ابن سمية‪ ،‬تقتله الفئة الباعغية"‪.‬‬
‫وعرف الناس الن من تكون الفئة الباغية‪ ..‬انها الفئة التي قتلت عمّارا‪ ..‬وما قتله ال فئة معاوية‪..‬‬

‫وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا‪..‬‬


‫أما فريق معاوية‪ ،‬فقد بدأ الشك يغز قلوبهم‪ ،‬وتهيأ بعضهم للتمرد‪ ،‬والنضمام الى عليّ‪..‬‬
‫ولم يكد معاوية يسمع بما حدث‪ .‬حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق ‪ ،‬وأن الرسول صلى ال عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا‬
‫ستقتله الفئة الباغية‪ ..‬ولكن من الذي قتل عمّارا‪...‬؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائل‪:‬‬
‫" انما قتله الذين خرجوا به من داره‪ ،‬وجاؤا به الى القتال"‪..‬‬
‫وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك‪ ،‬واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم‪...‬‬

‫**‬

‫أمّا عمّار‪ ،‬فقد حمله المام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه‪ ..‬ثم دفنه في ثيابه‪..‬‬
‫أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور‪ ..‬فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل‪ ،‬وقدّيس عظيم من‬
‫طراز عمّار‪...‬‬

‫ووقف المسلمون على قبره يعجبون‪..‬‬


‫منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة‪ ..‬تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه‪ ،‬وهو يصيح‪:‬‬
‫" اليوم ألقى الحبة‪ ،‬محمدا وصحبة"‪!!..‬‬
‫أكان معهم اليوم على موعد يعرفه‪ ،‬وميقات ينتظره‪...‬؟؟!!‬
‫وأقبل بعض الصحاب على بعضهم يتساءلون‪...‬‬
‫قال أحدهم لصاحبه‪ :‬أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ..‬وفجأة تهلل وجهه وقال‪:‬‬
‫" اشتاقت الجنة لعمّار"‪..‬؟؟‬
‫قال له صاحبه نعم‪ ،‬ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلل‪..‬‬
‫اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار‪..‬‬
‫واذن‪ ،‬فقد طال شوقها اليه‪ ،‬وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته‪ ،‬وينجز آخر واجباته‪..‬‬
‫ولقد أدّاها في ذمّة‪ ،‬وأنجزها في غبطة‪..‬‬
‫أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان‪..‬؟؟‬
‫بلى آن له أن يبلي النداء‪ ..‬فما جزاء الحسان ال الحسان‪ ..‬وهكذا ألقى رمحه ومضى‪..‬‬

‫وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه‪ ،‬كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك‪ ..‬في جنات الخلق‪ ،‬التي طال شوقها‬
‫لعمّار‪!...‬‬

‫عبادة بن الصامت‬
‫نقيب في حزب ال‬

‫انه واحد من النصار الذين قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" لو أن الن صار سلكوا واديا أو شعبا‪ ،‬لسلكت وادي النصار وشعبهم‪ ،‬ولول الهجرة لك نت من أمراء النصار"‪..‬طوعبادة بن ال صامت‬
‫بعد كونه من النصار‪ ،‬فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم‪...‬‬
‫وحين ما جاء و فد الن صار الول الى م كة ليبا يع الر سول عل يه ال سلم‪ ،‬تلك البي عة المشهورة بسس بي عة العق بة الولى‪ ،‬كان عبادة بن‬
‫ال صامت ر ضي ال ع نه أ حد الث ني ع شر مؤم نا‪ ،‬الذ ين سارعوا الى ال سلم‪ ،‬وب سطوا أيمان هم الى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‬
‫مبايعين‪ ،‬وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين‪...‬‬

‫وحينما كان موعد الحج في العام التالي‪ ،‬يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد النصار الثاني‪ ،‬مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة‪ ،‬كان‬
‫عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء النصار‪..‬‬

‫وفيما بعد والمشاهد تتوالى‪ ..‬ومواقف التضحية والبذل‪ ،‬والفداء تتابع‪ ،‬كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية‪...‬‬
‫ومنذ اختار ال ورسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الختيار‪..‬‬
‫كل ولئه ل‪ ،‬وكل طاعته ل‪ ،‬وكل علقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا اليمان‪..‬‬
‫كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة‪..‬‬

‫زمنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة‪ ،‬ويهودها يتظاهرون بمسالمته‪ ..‬حتى كانت اليام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد‪،‬‬
‫فشرع يهود المدينة يتنمّرون‪..‬‬
‫وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين‪..‬‬
‫ول يكذد عبادة يرى موقفهم هذا‪ ،‬حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائل‪:‬‬
‫" انما أتولى ال‪ ،‬ورسوله‪ ،‬والمؤمنين‪...‬‬
‫فيتنزل القرآن محييا موقفه وولءه‪ ،‬قائل في آياته‪:‬‬
‫( ومن يتولى ال ورسوله‪ ،‬والذين آمنوا‪ ،‬فان حزب ال هم الغالبون)‪...‬‬

‫**‬

‫لقد أعلنت الية الكريمة قيام حزب ال‪..‬‬


‫وحزب ال‪ ،‬هم أولئك المؤمنون الذ ين ينهضون حول رسسول ال صلى ال عليسه و سلم حامليسن رايسة الهدى وال حق‪ ،‬والذيسن يشكلون‬
‫امتدادا مبار كا ل صفوف المؤمن ين الذ ين سبقوهم عبر التار يخ حول أ نبيائهم ور سلهم‪ ،‬مبلّغ ين في أزمان هم وأع صارهم كل مة ال ال حي‬
‫القيّوم‪..‬‬
‫ولن يقتصر حزب ال على أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل سيمتد عبر الجيال الوافدة‪ ،‬والزمنة المقبلة حتى يرث ال الرض‬
‫ومن عليها‪ ،‬ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بال وبرسوله‪..‬‬

‫وهكذا فان الر جل الذي نزلت هذه ال ية الكري مة تح يي موق فه وتش يد بولئه وايما نه‪ ،‬لن ي ظل مجرّد نق يب الن صار في المدي نة‪ ،‬بل‬
‫سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الرض جميعا‪.‬‬
‫أجل لقد أصبحعبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج‪ ،‬رائدا من روّاد السلم‪ ،‬وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في‬
‫معظم أقطار الرض ل في جبل‪ ،‬ول في جبلين‪ ،‬أو ثلثة بل الى ما شاء ال من أجيال‪ ..‬ومن أزمان‪ ..‬ومن آماد‪!!..‬‬

‫**‬

‫سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية المراء والولة‪..‬‬
‫سمعه يتحدث عليه الصلة والسلم‪ ،‬عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق‪ ،‬أو تعبث ذمته بمال‪ ،‬فزلزل زلزال‪ ،‬وأقسم بال‬
‫أل يكون أميرا على أثنين أبدا‪..‬‬
‫ولقد برّ بقسمه‪..‬‬
‫وفي خلفة أمير المؤمنين عمر ؤضي ال عنه‪ ،‬لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما‪ ،‬ال تعليم النس وتفقيههم في الدين‪.‬‬
‫أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة‪ ،‬مبتعدا بنفسه عن العمال الخرى‪ ،‬المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء‪ ،‬والمحفوفة أيضا‬
‫بالخطار التي يخشاها على مصيره ودينه‬
‫وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلثة‪ :‬هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء‪ ..‬حيث ملؤا البلد علما وفقها ونورا‪...‬‬
‫وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك‪ ،‬معاوية‪..‬‬

‫**‬

‫كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود‪ ..‬الى المدينة المنورة عاصمة السلم ودار الخلفة‪ ،‬فيرى‬
‫فيها عمر ابن الخطاب‪..‬رجل لم يخلق من طرازه سواه‪!!..‬‬
‫ثم يرتد بصره الى حيث يقيم‪ ،‬في فلسطين‪ ..‬فيرى معاوية بن أبي سفيان‪..‬رجل يحب الدنيا‪ ،‬ويعشق السلطان‪...‬‬
‫وعبادة من الرعيل الول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم‪ ..‬الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية‪،‬‬
‫وعانق السلم رغبا ل رهبا‪ ..‬وباع نفسه وماله‪...‬‬
‫عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه‪ ،‬وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته‪..‬‬
‫واذا كان هناك من الحياء م ثل أعلى للحاكم يمل ن فس عبادة رو عة‪ ،‬وقلبه ث قة‪ ،‬فهو ذلك الر جل الشاهق الرا بض هناك في المدي نة‪..‬‬
‫عمر بن الخطاب‪..‬‬
‫فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس‪ ،‬فستكون الشقة بين الثنين واسعة‪ ،‬وسيكون الصراع محتوما‪ ..‬وقد كان‪!!..‬‬

‫**‬

‫يقول عبادة رضي ال عنه‪:‬‬


‫" بايعنا رسول ال صلى ال عليه وسلم على أل نخاف في ال لومة لئم"‪..‬‬
‫وعبادة خير من يفي بالبيعة‪ .‬واذن فهو لن يخشى معاوية بكا سلطانه‪ ،‬وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه‪..‬‬
‫ولقسد شهسد أهسل فل سطين يومئذ عج با‪ ..‬وترامست أنباء المعارضسة الج سورة التسي يشنّهسا عبادة على معاو ية الى أقطار كثيرة مسن بلد‬
‫السلم فكانت قدوة ونبراسا‪..‬‬
‫وعلى الرغسم مسن الحلم الواسسع الرحيسب الذي اشتهسر بسه معاويسة فقسد ضاق صسدره بمواقسف عبادة ورأى فيهسا تهديدا مباشرا لهيبسة‬
‫سلطانه‪..‬‬
‫ورأى عبادة من جان به أن م سافة الخلف بي نه وب ين معاو ية تزداد وتت سع‪ ،‬فقال لمعاو ية‪ ":‬وال ل أ ساكنك أر ضا واحدة أبدا"‪ ..‬وغادر‬
‫فلسطين الى المدينة‪..‬‬

‫**‬

‫كان أمير المؤمنين عمر‪ ،‬عظيم الفطنة‪ ،‬بعيد النظر‪ ..‬وكان حريصا على أل يدع أمثال معاوية من الولة الذين يعتمدون على ذكائهم‬
‫ويسستعملونه بغيسر حسساب دون أن يحيطهسم بنفسر مسن الصسحابة الورعيسن الزاهديسن والنصسحاء المخلصسين‪ ،‬كسي يكبحوا جماح الطموح‬
‫والرغبة لدى أولئك الولة‪ ،‬وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده‪..‬‬

‫من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله‪ ":‬ما الذي جاء بك يا عبادة"‪...‬؟؟ ولما‬
‫قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر‪:‬‬
‫" ارجع الى مكانك‪ ،‬فقبّح ال أرضا ليس فيها مثلك‪!!..‬‬
‫ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه‪:‬‬
‫" ل امرة لك على عبادة"‪!!..‬‬
‫أجل ان عبادة أمير نفسه‪..‬‬
‫وحين يكرّم عمر الفاروق رجل مثل هذا التكريم‪ ،‬فانه يكون عظيما‪..‬‬
‫وقد كان عبادة عظيما في ايمانه‪ ،‬وفي استقامة ضميره وحياته‪...‬‬

‫**‬
‫وفي العام الهجري الرابع والثلثين‪ ،‬توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء النصار والسلم‪ ،‬تاركا في الحياة‬
‫عبيره وشذاه‪....‬‬

You might also like