جدلية الرواية -زكريا المحرمي

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 184

‫قراءة في جدلية الرواية والدراية‬

‫عند أهل الحديث‬

‫تأليف ‪:‬‬

‫زكريا بن خليفة المحرمي‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫تمهيــــــد‬
‫اختار ال عز وجل العرب ليكونوا حملة رسالته ومستودع أمانته‪ ،‬واصطفى منهم‬
‫أفضلهم خلقًا وأشرفهم نسبًا ليكون النبي المين وسيد النبياء والمرسلين ‪ ،‬وكان‬
‫العرب يتميزون عن غيرهم من المم بتشبعهم بمكارم الخلق وجميل الصفات‪ ،‬فقد‬
‫كانوا أهل شجاعة ونبل وكرم‪ ،‬ولعل هذه الخلق الحميدة والمزايا الجليلة هي من بقايا‬
‫ف ِإْبَراِهيَم‬‫ضْي ِ‬‫ث َ‬ ‫حِدي ُ‬‫ك َ‬‫دين إبراهيم ‪ ،‬الذي وصفه ال تعالى بالكرم في قوله }َهْل َأَتا َ‬
‫جاء‬ ‫غ ِإَلى َأْهِلِه َف َ‬
‫ن * َفَرا َ‬‫لٌم َقْوٌم ّمنَكُرو َ‬
‫سَ‬‫لًما َقاَل َ‬
‫سَ‬
‫عَلْيِه َفَقاُلوا َ‬
‫خُلوا َ‬
‫ن * ِإْذ َد َ‬‫اْلُمْكَرِمي َ‬
‫ن{ الذاريات‪.26-24 :‬‬ ‫سِمي ٍ‬
‫جٍل َ‬ ‫ِبِع ْ‬
‫ويذهب البعض إلى أن عبادتهم للصنام كان سببها إسرافهم في تعظيم الكعبة‪،‬‬
‫فكانوا "يحملون معهم بعضًا من أحجارها في أسفارهم‪ ،‬فيضعونه حيث ينزلون‬
‫ويطوفون عليه كطوافهم بالكعبة‪ ،‬حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا‬
‫من الحجارة‪ ،‬وأعجبهم‪ ،‬حتى خلفت الخلوف‪ ،‬ونسوا ما كانوا عليه‪ ،‬واستبدلوا بدين‬
‫إبراهيم وإسماعيل غيره‪ ،‬فعبد الكثير منهم الوثان)‪.(1‬‬
‫"لم يكن العرب قبل ظهور السلم أهل فكر وثقافة‪ ،‬بل كانوا اتباع شهوات‬
‫جامحة من أثرة وجشع ورياء وتهارش وحقد وعصبيات طائشة‪ .‬لقد اكتسحتهم عاصفة‬
‫الهواء وأغرقهم طوفان شهواتها‪ ،‬فأصيبت أفكارهم بالشلل‪ ،‬ووسط هذه الجهالت‬
‫المركبة والنماذج التي ل حصر لها من الضلل والغفلة أخذ السلم رويدًا رويدًا ينشر‬
‫أشعته‪ ،‬فأخرج تلك المة من الظلم إلى النور وجعلها مصباحًا وهاجًا يضيء ويهدي‪،‬‬
‫ورفع تلك القبائل من سفوح الغرائز إلى قمم الهمم والفكار)‪.(2‬‬
‫وقد ساهمت بساطة العرب الفطرية وصفائهم العقلي المفرغ من المعارف‬
‫والمناهج المعقدة‪ ،‬وعدم إيغال الخرافات الوثنية في نفوسهم في ترسيخ صورة السلم‬
‫الصحيح فيهم‪ ،‬فلم يكن هناك كثير اصطدام بين الموروث الفكري لديهم وبين هذا النور‬
‫الجديد بعقيدته الشفافة التي ذابت في تكوينهم‪.‬‬
‫ل في أرجاء المعمورة‪ ،‬ودخلت فيه شعوب‬ ‫وقد انتشر السلم انتشارًا سريعًا وهائ ً‬
‫وأمم مختلفة‪ ،‬تلك الشعوب والمم كان لها تاريخ فكري وإرث ثقافي من حكمة وأمثال‬
‫وشعر وأدب وعلوم مدونة وكتب مطولة –كما هو الحال عند اليهود والنصارى‬
‫والزرداشتية والمزدكية والفلسفة‪ -‬ومنهم من مارس البحث العلمي والتنظير الفلسفي‪،‬‬
‫فلما دخلوا في السلم بدءوا يطبقون تلك المناهج التي ورثوها من آبائهم على الفكر‬
‫الجديد الذي يحمله السلم‪.‬‬
‫"حتى العقيدة عند بعض المسلمين لم تخل من تأثير تلك المواريث‪ ،‬والمستقصي‬
‫لتاريخ المسلمين وعقائدهم يدرك أن الذين دخلوا في السلم من المم الخرى الغنية‬
‫بالمواريث الثقافية لم يفهموه بحذافيره كما فهمه العرب الفقراء إلى التاريخ والثقافة‪ ،‬فقد‬
‫ابن هشام "السيرة النبوية" ص ‪.40‬‬ ‫‪1‬‬

‫محمد الغزالي "فقه السيرة" ص ‪-21‬ص ‪ 22‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫فهمه كل قوم مشوبًا بكثير من تقاليدهم الدينية القديمة‪ ،‬فصورة الله عند النصراني غير‬
‫صورته عند الفارسي‪ ،‬والتي هي بالطبع غير الصورة التي عند اليهودي أو الرومي أو‬
‫الوثني‪ ،‬وكذلك اللفاظ المستعملة في الديانات كجهنم والجنة وإبليس والملئكة والخرة‬
‫والنبي ونحو ذلك من معان عند هؤلء تخالف المعاني التي يتصورها الخر")‪.(3‬‬
‫وهذا التأثير لم يكن محدود الزمن بل استمر إلى فترات متأخرة‪ ،‬ومنها ما هو باق‬
‫إلى زماننا هذا‪ ،‬والشواهد على ذلك كثيرة‪ ،‬ومن ذلك ما ذكره ابن بطوطة )ت ‪779‬هـ(‬
‫في رحلته من أن أهل بلدة )إيوالتن( الفريقية "ل غيرة عند رجالهم‪ ،‬ول ينتسب أحدهم‬
‫إلى أبيه بل ينتسب لخاله‪ ،‬ول يرث الرجل إل أبناء أخته دون بنيه‪ ،‬وذلك شيء ما رأيته‬
‫قط إل عند كفار المليبار‪ ،‬وأما هؤلء فمسلمون‪ ،‬محافظون على الصلوات وتعلم الفقه‬
‫وحفظ القرآن‪ ،‬وأما نسائهم فل يحتشمن من الرجال ول يحتجبن مع مواظبتهن على‬
‫الصلوات‪ ،‬والنساء هنالك يكون لهن الصدقاء والصحاب من الرجال الجانب وكذلك‬
‫للرجال صواحب من النساء الجنبيات‪ ،‬ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها‪،‬‬
‫فل ينكر ذلك")‪.(4‬‬
‫أما التأثير الخطر فهو ذلك الذي زامن تشكّل العقل المسلم‪ ،‬وقد تم ذلك التأثير في‬
‫عصر تدوين الروايات المنسوبة للنبي ‪ ‬التي تمت في القرن الثاني والثالث الهجريين‪،‬‬
‫إنه تأثير الفكر الفارسي وديانته المختلفة الزرداشتية والمزدكية والمانوية‪ ،‬بالضافة إلى‬
‫تأثير فكر أهل الكتاب‪ ،‬وتأثير الفلسفة اليونانية‪ ،‬هذا التأثير أدى إلى ظهور تراث الثقافات‬
‫المختلفة في قوالب نصية منسوبة إلى النبي ‪ ‬لتسهيل عملية عبورها إلى طوائف المة‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫ل "تميزوا بميلهم لعبادة المظاهر الطبيعية‪ ،‬حيث الشمس تمثل "عين‬ ‫فالفرس مث ً‬
‫ال" والضوء "ابن ال" والظلمة والجدب آلهة الشر‪ ،‬وظهر فيهم زردشت )‪ 583‬ق‪.‬م(‬
‫سَتا ‪ "Avesta‬وعليه شرح يسمى "زندافست"‪ ،‬ومن تعاليمه أن للعالم‬ ‫بكتابه المسمى "أِف ْ‬
‫أصلين أو إلهين‪ :‬أصل الخير وهو "أهور" أو أهورامرزدا‪ ،‬وأصل الشر وهو‬
‫"أهرمن"‪ ،‬وهما في نزاع دائم‪ ،‬فأصل الخير من نور وأشجار وحيوانات نافعة من‬
‫"أهور"‪ ،‬وأصل الشر من ظلمة وحيوانات ضارة من "أهرمن"‪ ،‬والناس بين متبع لإله‬
‫الخير ومتبع لله الشر‪ ،‬ومن عقائده أن للنسان حياتين‪ :‬دنيا وآخره‪ ،‬والروح تحلق فوق‬
‫الجسد في الثلثة اليام الولى من وفاته‪ ،‬وعند الحساب تمر النفس على صراط ممدود‬
‫على شفير جهنم‪ ،‬وهو للمؤمن عريض سهل المجاز‪ ،‬وللكافر أرق من الشعرة‪ ،‬فمن آمن‬
‫ل كريما‪،‬‬ ‫وعمل صالحًا جاز الصراط بسلم‪ ،‬ولقي "أهورا" فأحسن لقاءه‪ ،‬وأنزله منز ً‬
‫وإل سقط في الجحيم وصار عبدًا لـ"أهرمن"‪ ،‬وإن تعادلت سيئاته وحسناته ذهب الروح‬
‫إلى العراف إلى يوم الفصل‪ .‬وهذه العقائد موجودة بأكملها عند بعض الفرق السلمية‪.‬‬
‫وظهر في بلد الفرس "ماني" مؤسس "المانوية" )‪216-215‬م( وانتشر مذهبه‬
‫الذي هو خليط من الزرادشتيه والنصرانية في آسيا وأوروبا‪ ،‬ونظرته للعالم المكون من‬
‫أحمد أمين "فجر السلم" ص ‪ 94‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫رحلة ابن بطوطة المسماة "تحفة النظار في غرائب المصار" ص ‪.688-687‬‬ ‫‪4‬‬
‫أصلين "نور وظلمة" هي نفس نظرة زرادشت‪ ،‬ولكنه نزع للرهبنة ودعا إلى الزهد‪،‬‬
‫وشرع صلوات كثيرة وصيام أيام طويلة‪ ،‬وحرم النكاح ليتعجل فناء العالم‪ ،‬وهذه الراء‬
‫موجودة عند بعض طوائف الصوفية")‪.(5‬‬
‫كما أن الفرس الساسانين كانوا ينظرون إلى ملوكهم من الكاسرة على أنهم‬
‫كائنات إلهية اصطفاها ال وأيدها بروح من عنده‪ ،‬وأن دماءهم إلهية‪ ،‬ول يجوز أن يكون‬
‫الملك في غير أصحاب تلك الدماء‪ ،‬وحين دخل هؤلء السلم كانوا في الحزب العلوي‬
‫فأسسوا نظرية الرفض لبي بكر وعمر والتشيع لعلي وأبنائه‪ ،‬فنظروا إلى علي وأبنائه‬
‫نظرتهم لملوكهم)‪ ،(6‬ووطدوا دعائم هذه النظرية باختلق أسطورة زواج الحسين بن‬
‫علي من "شاه بنوه" ابنة يزدجرد ملك الفرس‪ ،‬وبذلك تم التزواج بين الدماء اللهية‬
‫الكسروية والدماء اللهية العلوية)‪.(7‬‬
‫أما النصارى فقد نقلوا إلى بعض الفرق السلمية العتقاد بارتفاع المسيح إلى‬
‫السماء‪ ،‬ونزوله قبل يوم القيامة)‪ .(8‬كما نقلوا إليهم فكرة وجود ال تعالى في السماء‪،‬‬
‫ويظهر ذلك من خلل كلم هؤلء واستدللهم لعقيدة وجود ال في السماء بنصوص‬
‫النجيل حيث يقول ابن تيمية‪" :‬وفي النجيل أن المسيح ‪ ‬قال‪ :‬ل تحلفوا بالسماء فإنها‬
‫كرسي ال‪ .‬وقال للحواريين‪ :‬إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم الذي في السماء يغفر لكم‬
‫كلكم‪ ،‬انظروا إلى طير السماء فإنهن ل يزرعن ول يحصدن ول يجمعن في الهواء‬
‫وأبوكم الذي في السماء هو الذي يرزقهن‪ ،‬أفلستم أفضل منهن؟ ومثل هذا من الشواهد‬
‫كثير يطول به الكتاب")‪.(9‬‬
‫ويرى البعض أن أفكار القدرية قد بثها يوحنا النصراني الدمشقي الذي هو من‬
‫حفدة سرجون بن منصور الرومي النصراني المسئول عن الشؤون المالية للدولة الموية‬
‫في عهد معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك بن مروان)‪.(10‬‬
‫والدولة الموية بدءًا بمعاوية بن أبي سفيان متهمة بالتساهل في تمرير الكثير من‬
‫العقائد الباطلة التي اعتمدتها في مقابل العقائد الصحيحة للمعارضين للحكم الموي‬
‫الوراثي اللشوري‪ ،‬فقد اعتمد المويون عقيدة الجبر‪ ،‬التي مؤداها أن ملكهم تم باختيار‬
‫ال ول يملك المسلمون إل التسليم بذلك‪ ،‬ول يجوز لهم العتراض عليه‪ ،‬لنهم بذلك‬
‫يعترضون على أمر ال وقضائه‪ ،‬وتساهلوا في عقيدة الرجاء‪ ،‬وأن العاصي ل يدخل‬
‫النار بسبب شفاعة الرسول ‪ ،‬أما إذا قّدر له أن يدخلها فإنه سيخرج منها ل محالة إلى‬
‫أعلى عليين حيث يغبطه الشهداء والنبّيون‪ ،‬وذلك منهم للتغطية على مظاهر الفسوق‬

‫‪ 5‬أحمد أمين "فجر السلم" ص ‪-99‬ص ‪ .104‬بتصرف‪.‬‬


‫‪ 6‬أحمد أمين "فجر السلم" ص ‪ .111‬ونظرية الحق اللهي ‪ Divine right‬انتشرت في أوربا‬
‫في القرنين السادس عشر والسابع بواسطة الكنيسة‪.‬‬
‫‪ 7‬علي شريعتي "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" ص ‪.124‬‬
‫‪ 8‬راجع مناقشة هذه الفكرة في الفصل الخاص بها من هذا الكتاب ‪.‬‬
‫‪ 9‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪ 5‬ص ‪.406‬‬
‫‪ 10‬حسين عطوان "الفرق السلمية في العصر الموي" ص ‪ ،43-36‬نقله حسن المالكي‬
‫"قراءة في كتب العقائد" ص ‪.88-85‬‬
‫والفساد والمجون التي ابتلعهم‪ ،‬كما أنهم قاموا بتقريب علماء السوء الذين اعتمدوا على‬
‫الفكر النجيلي المنحرف القائم على "دع ما لقيصر لقيصر‪ ،‬وما ل ل"‪ ،‬و "إذا ضربك‬
‫المير على خدك اليمن فأدر له الخد اليسر"‪ ،‬ليقتلوا روح المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬ومحاربة الظلم والفساد في المجتمع السلمي‪.‬‬
‫بل إن بعضهم شارك في وضع الحاديث التي ترسخ العقائد التوراتية‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ما رواه ابن خزيمة عن عروة بن الزيبر أنه قال‪" :‬قدمت على عبد الملك فذكرت عنده‬
‫الصخرة التي ببيت المقدس‪ ،‬فقال عبد الملك‪ :‬هذه صخرة الرحمن التي وضع عليها‬
‫رجله‪ ...‬فأنكر عليه عروة")‪ .(11‬وهذه العقيدة التي يدعو إليها عبد الملك بن مروان هي‬
‫مما نقله اليهود للمة فقد روي أن عبدال بن مسعود مّر بشيخ يحدث عن التوراة فلما‬
‫رأى ابن مسعود سكت‪ ،‬فقال‪ :‬وبم يحدثكم صاحبكم فقالوا‪ :‬ذكر أن ال لما خلق السماوات‬
‫والرض صعد إلى السماء من بيت المقدس‪ ،‬ووضع رجله على صخرة بيت المقدس‪،‬‬
‫فاسترجع ابن مسعود ثم قال‪ :‬اللهم ل كفر بعد إيمان يقولها مرارا ثم قال‪َ} :‬وّدوْا َلْو‬
‫سَواء{ النساء‪ ،89 :‬فهل قلتم كما قال إبراهيم خليل‬ ‫ن َ‬‫ن َكَما َكَفُروْا َفَتُكوُنو َ‬
‫َتْكُفُرو َ‬
‫ن{ أي الزائلين المنتقلين‪ ،‬أل فاتهموا اليهود على‬ ‫ب الِفِلي َ‬ ‫الرحمن ‪} :‬ل ُأ ِ‬
‫ح ّ‬
‫دينكم")‪.(12‬‬
‫وروى الذهبي في كتابه "العّلو" أن جرير بن الخطفي جاء إلى عبدالملك‬
‫ليمتدحه‪ ،‬فقال‪ :‬ما جاء بك يا جرير؟ قال‪:‬‬
‫‪13‬‬
‫ل) (‬ ‫ونوٌر وإسلٌم عليك دلي ُ‬ ‫أتاك بي ال الذي فوق عرشه‬
‫وروى أبو الشيخ في كتابه "العظمة" رواية من طريق أبي صفوان عبدال بن‬
‫سعيد بن عبد الملك بن مروان الموي وهو من أبناء السرة الموية الحاكمة عن كعب‬
‫الحبار أنه قال‪ :‬قال ال في التوراة‪ ،‬أنا ال فوق عبادي‪ ،‬وعرشي فوق جميع خلقي وأنا‬
‫على عرشي أدبر أمور عبادي")‪.(14‬‬
‫بالضافة إلى ذلك كان المويون يقومون بإرهاب العلماء الذين يرفضون الفكر‬
‫الموي المستورد من الديانات المحّرفة‪ ،‬حيث قاموا بجلد ربيعة بن أبي عبد الرحمن‬
‫أستاذ مالك بن أنس‪ ،‬وكان ذلك بسبب وشاية أبي الزناد عامل بني أمية الذي اشتهر‬
‫برواية روايات التجسيم التي أنكرها مالك بن أنس‪ ،‬وحين سأل مالك عن مصدر هذه‬
‫ل لهؤلء حتى مات"‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫الروايات قيل له إنها من رواية أبي الزناد قال‪" :‬لم يزل عام ً‬
‫"وكان صاحب عمال يتبعهم")‪.(15‬‬

‫‪ 11‬ابن خزيمة "التوحيد" ص ‪ .241‬تحقيق سمير الزهيري‪.‬‬


‫‪ 12‬الربيع بن حبيب "الجامع الصحيح" برقم ‪ .879‬ذكر عبد الجواد ياسين في "السلطة في‬
‫السلم" ص ‪ 274‬أن كعب الحبار هو من كان يروي حديث وضع الرحمن رجله على‬
‫الصخرة بالضافة إلى روايات كثيرة في تقديس صخرة بيت المقدس‪ ،‬وأحال في تحقيق‬
‫الروايات إلى كتاب "نهاية الرب" للنويري ج ‪1‬ص ‪.332‬‬
‫‪ 13‬الذهبي "العّلو" ص ‪ 380‬برقم ‪.316‬‬
‫‪ 14‬أبو الشيخ "العظمة" ص ‪ ،96-95‬برقم ‪.246‬‬
‫ث مثل هذه العقائد بين المسلمين‬
‫لقد كانت الجواء مواتية لحكام بني أمية لب ّ‬
‫لسباب عديدة‪ ،‬أولها احتكاك المسلمين هناك بالمجتمع النصراني العربي‪ ،‬بما يحمله من‬
‫أحقاد نصرانية ضد السلم ونبيه الكريم‪ ،‬كما أنهم كانوا قريبين جدًا من الكنيسة‬
‫الرومانية التي اعتمدت الهرمسية فلسفة لها‪ ،‬والهرمسية هي عبارة عن ردة فكرية‬
‫للعقلنية اليونانية الرسطية‪ ،‬أشعل أوراها المشاكل الجتماعية والقتصادية التي خلقتها‬
‫حملة السكندر المقدوني‪ ،‬مما أدى إلى تمزق العقلنية اليونانية وتناحر أتباعها‪ ،‬وبروز‬
‫شروخ الشكاك في جدرانها‪ ،‬إلى أن أخذت في إلتهام نفسها مفرخة حالة من اللعقلنية‬
‫استغلها الفيلسوف اليهودي إفلوطين ليعيد قراءة فكر فيثاغورث اللعقلني ممزوجًا‬
‫بالميراث الفكري اليهودي الخرافي‪ ،‬وكان يغذيها وقود الخرافة والعلوم الكهنوتية‬
‫الفارسية القديمة كالسحر والتنجيم‪ ،‬وتم صب هذه العلوم الخرافية في قوالب فلسفية تمت‬
‫إحاطتها بالعصمة عن طريق نسبتها إلى هرمس "المثلث بالحكمة والنبوة والملك")‪.(16‬‬
‫فظهر بعد ذلك ما عرف بالفكر الهرمسي الذي اتخذ من حّران بالشام مركزًا له‪ ،‬ومن‬
‫هذه المدينة ظهر ابن تيمية الذي أحيى الكثير من تلك الفكار الهرمسية كما سيأتي بيانه‪.‬‬
‫كما أن المويين قاموا بحركة نشــطة تمثلــت فــي ترجمــة كتــب‬
‫ثقافات وآراء ومناهج المم المنحرفة‪ ،‬وابتدأ تلــك الحركــة خالــد بــن‬
‫يزيــد بـن معاويــة)‪ ،(17‬وقــاموا بفتــح مــدارس لبنــاء المســلمين كــي‬
‫يتعلموا تلك الكتب والمناهج‪ ،‬مما حدا بالسيريانيين إلى ترجمة كتــب‬
‫اللهيــات اليونانيــة وبثهــا بيــن المســلمين‪ ،‬وكــان علــى رأس هــؤلء‬
‫يعقوب الرهــاوي الــذي أفــتى لرجــال الــدين النصــارى بجــواز تعليــم‬
‫الفلسفة لبناء المسلمين في العهــد المــوي‪ ،‬ول يمكــن تجاهــل دور‬
‫حنين بن إسحاق وابنه إسحاق وابن أخته حــبيش فــي تلــك الترجمــة‬
‫في العهد العباسي)‪.(18‬‬
‫واستطاع اليهود –خاصة في العهد الموي‪ -‬أن يبثوا الكثير من أفكار بني‬
‫إسرائيل بين المسلمين‪ ،‬فلهذا اصطلح العلماء والمحققون على تسمية رواياتهم وأخبارهم‬
‫"السرائيليات" وذلك تميزًا لها عن غيرها‪ ،‬لكثرتها وخطورة محتواها‪ ،‬وعلى رأس‬
‫هؤلء كعب الحبار من علماء يهود حمير باليمن‪ ،‬والذي أسلم في عهد عمر بن‬
‫الخطاب‪ .‬وانبهر به بعض الصحابة فصاروا يحدثون بما يرويه من عجائب وغرائب‬
‫كتب اليهود)‪ ،(19‬خاصة عبدال بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعبدال بن عباس‬

‫‪ 15‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪8‬ص ‪ ،103‬العقيلي "الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪ ،251‬راجع حسن‬
‫السقاف في تعليقه على كتاب "العّلو" للذهبي ص ‪.382-381‬‬
‫‪ 16‬البعض يرى أن هرمس هو إله يوناني‪ ،‬وآخرون يرون أنه الله الفرعوني "طوط"‪،‬‬
‫وفلسفة العرب يرون أنه النبي إدريس عليه السلم‪ ،‬ولمعرفة المزيد عن الهرمسية‪ ،‬راجع‬
‫"تكوين العقل العربي" لمحمد عابد الجابري‪ ،‬الفصلين الثامن والتاسع‪.‬‬
‫‪ 17‬ابن النديم "الفهرست" ص ‪ ،300‬طبع دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1417‬هـ‬
‫‪ 18‬أحمد أمين "فجر السلم" ص ‪.132‬‬
‫وعبدال بن مسعود)‪ .(20‬بيد أن بعض الصحابة لم يطمئن له واتهمه بالكذب‪ ،‬حيث قال‬
‫عنه معاوية‪" :‬كنا نبلو عليه الكذب")‪ ،(21‬ويروي ابن حجر في "الصابة" تكذيبه عن‬
‫حذيفة‪ .‬وكذا ابن عباس نسبه إلى الكذب)‪ ،(22‬وكّذبه أبو ذر في مجلس عثمان وضربه‬
‫بين أذنيه وقال له‪" :‬يا ابن اليهودية")‪ ،(23‬ومنعه عوف بن مالك من الرواية إلى أن سمح‬
‫له معاوية بذلك‪.‬‬
‫ويروي البعض أنه لما أراد عمر بن الخطاب بناء المسجد القصى استشار الناس‬
‫هل يجعله أمام الصخرة أم خلفها‪ ،‬فقال له كعب الحبار‪ :‬ابنه خلف الصخرة‪ .‬فقال عمر‪:‬‬
‫"يا ابن اليهودية‪ ،‬خالطتك يهوديتك‪ ،‬بل أبنيه أمام الصخرة حتى ل يستقبلها المصلون"‪،‬‬
‫وقد استبطن كعب اتهام عمر إياه حتى رئي اتصاله بالمتآمرين في اغتيال عمر مع سبق‬
‫إنذار منه لعمر بأنه سيقتل‪ ،‬متظاهرًا بالنقل عن كتب أهل الكتاب!)‪ ،(24‬ومع ذلك فقد‬
‫استطاع كعب أن يجعل مطّرف بن مالك يصلي والصخرة حائلة بينه وبين الكعبة!)‪.(25‬‬
‫ويروى أن كعبا قال لبي هريرة‪" :‬أل أخبرك عن إسحاق بن إبراهيم النبي؟ قال‪:‬‬
‫أبو هريرة‪ :‬بلى‪ .‬قال كعب‪ :‬لما رأى إبراهيم أن يذبح إسحاق قال الشيطان‪ :‬وال لئن لم‬
‫أفتن عندها آل إبراهيم ل أفتن أحدا منهم أبدا")‪ ... (26‬إلى نهاية الرواية التي يخبر فيها‬
‫كعب الحبار أبا هريرة أن الذبيح المفدي بالكبش العظيم المذكور في القرآن هو إسحاق‬
‫‪ ‬وليس إسماعيل ‪ ‬جد الرسول محمد ‪.!‬‬
‫وقد تأثر بكلم كعب هذا الكثير من الصحابة‪ ،‬حيث يقول ابن كثير‪" :‬وهكذا روى‬
‫ابن إسحاق عن عبد ال بن أبي بكر عن الزهري عن أبي سفيان عن العلء بن حارثة‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه عن كعب الحبار أنه قال‪ :‬هو إسحاق‪ .‬وهذه القوال وال‬
‫أعلم كلها مأخوذة عن كعب الحبار‪ ،‬فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر‬
‫رضي ال عنه عن كتبه قديمًا‪ ،‬فربما استمع له عمر رضي ال عنه‪ ،‬فترخص الناس في‬
‫استماع ما عنده‪ ،‬ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه المة وال أعلم حاجة إلى‬
‫حرف واحد مما عنده‪ ،‬وقد حكى البغوي القول بأنه إسحاق عن عمر وعلي وابن مسعود‬

‫‪ 19‬يقول الذهبي في "سير أعلم النبلء" ج ‪3‬ص ‪ 489‬أن كعبا ً "جالس أصحاب النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم فكان يحدثهم عن الكتب السرائيلية"‪.‬‬
‫‪ 20‬ابن كثير في مقدمة تفسيره ص ‪.13‬‬
‫‪ 21‬البخاري ‪.7361‬‬
‫‪ 22‬محمد بن زاهد الكوثري "مقالت الكوثري" ص ‪.128‬‬
‫‪ 23‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.68‬‬
‫‪ 24‬محمد بن زاهد الكوثري "مقالت الكوثري" ص ‪ ،128‬وقصة نصيحة كعب لعمر بالصلة‬
‫َ‬
‫سَرى‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي أ ْ‬ ‫حا َ‬
‫سب ْ َ‬
‫خلف الصخرة ذكرها ابن كثير في تفسيره ج ‪3‬ص ‪ .20‬لقوله تعالى } ُ‬
‫َ‬
‫صى{ السراء ‪.1‬‬ ‫جد ِ القْ َ‬
‫س ِ‬ ‫حَرام ِ إ َِلى ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫جد ِ ا ل ْ َ‬
‫س ِ‬
‫م ْ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ب ِعَب ْد ِهِ ل َي ْل ً ّ‬
‫م َ‬
‫‪ 25‬أقر بذلك الذهبي في "سير أعلم النبلء" ج ‪3‬ص ‪.493‬‬
‫‪ 26‬الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" برقم ]‪ .[4045‬والغريب أن الحاكم قال بعد‬
‫هذه الرواية‪" :‬سياق هذا الحديث من كلم كعب الحبار ولو ظهر فيه سند لحكمت بالصحة‬
‫على شرط الشيخين فإن هذا إسناد صحيح ل غبار عليه"!!‪.‬‬
‫والعباس رضي ال عنهم ومن التابعين عن كعب الحبار وسعيد بن جبير وقتادة‬
‫ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي")‪.(27‬‬
‫ومما رواه كعب الحبار من الخبار الظاهرة البطلن هو ما رواه عطاء بن أبي‬
‫مروان عن أبيه أن كعب الحبار حلف له بال الذي فلق البحر لموسى إنا لنجد في‬
‫التوراة أن داود نبي ال ‪ ‬كان إذا انصرف من صلته قال‪" :‬اللهم أصلح لي ديني الذي‬
‫جعلته لي عصمة")‪ .(28‬ومعلوم أن داود ‪ ‬جاء بعد موسى ‪ ‬بمئات السنين أي بعد‬
‫نزول التوراة‪ ،‬فكيف ُيذكر في التوراة؟!‪.‬‬
‫يهودي آخر نقل إلى المسلمين بعض مواريث اليهود العقدية هو وهب بن منبه‬
‫الحميري اليمني الذي يقول فيه الذهبي‪" :‬وروايته للمسند قليلة‪ ،‬وإنما غزارة علمه في‬
‫السرائيليات ومن صحائف أهل الكتاب")‪ ،(29‬روى أن ال خلق السماوات والرض في‬
‫سبعة أيام معارضاً للقرآن الكريم‪ ،‬فقد قال في تفسير قوله تعالى ؤ}َوُهَو اّلِذي َ‬
‫خَلق‬
‫عَلى اْلَماء{هود‪ 7 :‬ما نصه‪" :‬إن العرش‬ ‫شُه َ‬
‫عْر ُ‬
‫ن َ‬‫سّتِة َأّياٍم َوَكا َ‬
‫ض ِفي ِ‬
‫ت َواَلْر َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ال ّ‬
‫كان قبل أن يخلق ال السماوات والرض‪ ،‬ثم قبض قبضة من صفاء الماء‪ ،‬ثم فتح‬
‫القبضة فارتفع دخان‪ ،‬ثم قضاهن سبع سموات في يومين‪ ،‬ثم أخذ طينة من الماء فوضعها‬
‫مكان البيت‪ ،‬ثم دحا الرض منها‪ ،‬ثم خلق القوات في يومين‪ ،‬والسماوات في يومين‪،‬‬
‫وخلق الرض في يومين‪ ،‬ثم فرغ من آخر الخلق يوم السابع")‪.(30‬‬
‫فل نستغرب إذن أن نجد نفس هذه الرواية في "صحيح مسلم" من طريق أبي‬
‫ل‪" :‬وهذا الحديث من‬ ‫هريرة مرفوعة للنبي ‪ ! ‬وقد علق ابن كثير على تلك الرواية قائ ً‬
‫غرائب صحيح مسلم‪ ،‬وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ‪،‬‬
‫وجعلوه من كلم كعب‪ ،‬وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلم كعب الحبار‪ ،‬وإنما اشتبه‬
‫على بعض الرواة فجعلوه مرفوعًا وقد حرر ذلك البيهقي)‪ .(31‬وكلم كعب الحبار ل‬
‫شك أنه لن يختلف عن كلم وهب بن منبه فهما يوردان من نفس الثقافة‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه كذلك‪" :‬أن السماوات والبحار لفي الهيكل وإن الهيكل لفي‬
‫الكرسي‪ ،‬وإن قدميه عز وجل لعلى الكرسي‪ ،‬وقد عاد الكرسي كالنعل في قدميه")‪.(32‬‬
‫يقول حسن السقاف معلقًا على بث كعب الحبار ووهب بن منبه لروايات التجسيم‬
‫بين المسلمين‪" :‬فإذا كان ما خرجتما منه هو الدين الباطل المحّرف وما دخلتما فيه هو‬
‫الحق الصحيح المحفوظ‪ ،‬فالواجب عليكما الذي يقتضيه إسلمكما هو العراض عن‬
‫أفكار وكتب ونصوص الدين القديم والقبال على نصوص دين الحق الجديد القرآن‬
‫الكريم والسنة النبوية المطهرة ‪ ...‬فبدل أن يقول كعب الحبار‪ :‬قال ال تعالى في القرآن‬
‫‪27‬ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" ج ‪4‬ص ‪.19‬‬
‫‪ 28‬النسائي في "السنن الصغرى" برقم )‪.(1346‬‬
‫‪ 29‬الذهبي في "سير أعلم النبلء" ج ‪4‬ص ‪.545‬‬
‫‪ 30‬الطبري ذلك في تفسيره ج ‪12‬ص ‪.5‬‬
‫‪ 31‬ابن كثير في تفسيره ج ‪ 1‬ص ‪.89-88‬‬
‫‪ 32‬تاريخ الطبري ج ‪1‬ص ‪ ،41‬عبد الله بن أحمد بن حنبل "السنة" ج ‪2‬ص ‪ .477‬وهذه‬
‫العقيدة كما سترى هي نفس عقيدة مدرسة التجسيم!‪.‬‬
‫الكريم نراه يقول‪ :‬قرأت في التوراة كذا وكذا‪ .‬ونراه يفسر القرآن بأفكار إسرائيلية )أي‬
‫يهودية( يردها كثير من أهل العلم")‪.(33‬‬
‫يهودي آخر بث في المسلمين بعض أوزار بني إسرائيل هو نوف البكالي الذي‬
‫سى ِلَفَتاُه َل َأْبَر ُ‬
‫ح‬ ‫قال أن موسى المقصود في سورة الكهف بقوله تعالى }َوِإْذ َقاَل ُمو َ‬
‫حُقًبا{ الكهف ‪ ،60‬ليس هو النبي موسى ‪ ‬بل‬ ‫ي ُ‬‫ضَ‬
‫ن َأْو َأْم ِ‬
‫حَرْي ِ‬
‫جَمَع اْلَب ْ‬
‫حّتى َأْبُلَغ َم ْ‬
‫َ‬
‫ل‪ :‬إن نوفاً البكالي‬ ‫رجل آخر‪ .‬وردّ عليه وحين سأل سعيد بن جبير عبدال بن عباس قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر‪ .‬فرد ابن عباس قائ ً‬
‫"كذب عدو ال")‪.(34‬‬
‫ل بتراث اليهود الفكري هو عبدال بن سلم الذي‬ ‫يهودي آخر دخل السلم محم ً‬
‫حُموًدا{السراء ‪ 79‬بقوله‪:‬‬ ‫ك َمَقاًما ّم ْ‬ ‫ك َرّب َ‬
‫سى َأن َيْبَعَث َ‬ ‫ُنسب إليه أنه فسر قوله تعالى } َ‬
‫ع َ‬
‫"إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم ‪ ‬فأقعد بين يدي ال على كرسيه") (!‪.‬‬
‫‪35‬‬

‫يقول حسن السقاف‪" :‬وهذا من جملة السرائيليات التي نقلها ابن سلم‪ ،‬وحاول‬
‫أن يغرسها في المة السلمية‪ ،‬وكلمه هذا هو أصل حديث الشفاعة الطويل وحديث‬
‫الرؤية الطويل الذي فيه ذكر الصراط وغيره‪ ،‬والذي حكمنا بشذوذه ورّده في غير ما‬
‫كتاب من كتبنا‪ ،‬وهذا الثر يثبت لنا أن هذه الفكار مأخوذة من السرائيليات‪ ،‬وعبدال‬
‫بن سلم من أكابر أحبار اليهود وعلمائهم قبل أن يسلم‪ ،‬وعنه وعن مثله انتقلت هذه‬
‫ن هذه‬ ‫الفكار الخبيثة التجسيمية إلى المة‪ ،‬وثبوت هذا عن عبدال بن سلم يفيدنا أ ّ‬
‫العقائد والتصورات والفكار مصدرها يهودي وليس إسلميًا أبدًا")‪.(36‬‬
‫وقد وضعت روايات في فضائل هؤلء‪ ،‬من ذلك ما روي أن سعد بن أبي وقاص‬
‫قال في عبدال بن سلم‪" :‬ما سمعت النبي ‪ ‬يقول لحد يمشي على الرض إنه من‬
‫عنِد‬‫ن ِ‬ ‫ن ِم ْ‬‫أهل الجنة إل لعبدال بن سلم‪ ،‬قال‪ :‬وفيه نزلت هذه الية }ُقْل َأَرَأْيُتْم ِإن َكا َ‬
‫ل َل َيْهِدي‬ ‫ن ا َّ‬‫سَتْكَبْرُتْم ِإ ّ‬
‫ن َوا ْ‬‫عَلى ِمْثِلِه َفآَم َ‬‫سَراِئيَل َ‬ ‫شاِهٌد ّمن َبِني ِإ ْ‬
‫شِهَد َ‬ ‫ل َوَكَفْرُتم ِبِه َو َ‬‫ا ِّ‬
‫ن{ الحقاف ‪ .( )"10‬علمًا بأن الية مكية وابن سلم أسلم في المدينة!‪،‬‬ ‫‪37‬‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫اْلَقْوَم ال ّ‬
‫وقد ذكر الطبري في تفسيره للية أن مسروق قال‪" :‬وال ما نزلت في عبدال بن سلم‪،‬‬
‫ضَعت روايات في مدح‬ ‫ما أنزلت إل في مكة‪ ،‬وما أسلم عبدال إل في المدينة"‪ .‬كذلك و ِ‬
‫وهب بن منبه‪ ،‬واّدعوا أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬سيكون في أمتي رجل يقال له وهب يهب ال‬
‫له الحكمة")‪.(38‬‬
‫وقد يتساءل البعض عن سبب عدم وجود الكثير من النصوص السرائيلية‬
‫المروية في كتب الحديث في المصادر السرائيلية "التوراة والنجيل"!‪ ،‬وقد يكون سبب‬
‫‪ 33‬حسن السقاف في مقدمة تحقيقه لكتاب "العلو" للذهبي ص ‪.20‬‬
‫‪ 34‬البخاري ‪.122‬‬
‫‪ 35‬الحاكم في المستدرك ‪ ،4/568‬ابن أبي عاصم في سنته ‪ ،786‬الخلل في سنته في‬
‫مواضع كثيرة ص ‪ ،260-209‬والذهبي في "العلو" ‪.191‬‬
‫‪ 36‬حسن السقاف في تعليقه على كتاب "العلو" للذهبي ص ‪.307‬‬
‫‪ 37‬البخاري ‪.3812‬‬
‫‪ 38‬ابن الجوزي "الموضوعات" ج ‪1‬ص ‪.354‬‬
‫ذلك أن اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية ليسوا من الراسخين‬
‫في العلم في دياناتهم‪ ،‬وأن ما يرونه ليس نصًا خالصًا من كتبهم وإنما هو مزيج من تلك‬
‫النصوص مضاف إليه تفسير هؤلء لتلك النصوص‪ ،‬خاصة وأن تفسيرهم يعتمد علي‬
‫خلفيتهم المعرفية التي ل شك أنها تأثرت بالكثير من الفكار الخرافية والوثنية المنتشرة‬
‫في البيئة المحيطة بهم‪ ،‬ومما يعزز هذا الحتمال هو عدم وجود نصوص توراتية او‬
‫إنجيلية مترجمة إلى اللغة العربية‪ ،‬يقول أبو هريرة‪" :‬كان أهل الكتاب يقرءون التوراة‬
‫بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لهل السلم")‪.(39‬‬
‫وتأثير العقائد الباطلة على الفكر السلمي بسبب حالة الهوان السياسي‪ ،‬والخواء‬
‫الفكري التي مرت بها المة السلمية بعد عصر الصحابة لم يتوقف في عصر من‬
‫العصور‪ ،‬فقد ذكر علي شريعتي ‪-‬عالم الجتماع الشيعي‪ -‬كيف نقل النصارى إلى‬
‫المسلمين بعض طقوسهم وعقائدهم‪ ،‬حيث يقول‪" :‬يقول قساوسة المسيحية إنهم يحملون‬
‫قبسًا من الروح أي الروح القدس‪ ،‬وهو أحد التجلّيات الثلثة للله‪ ،‬ومن هنا ينبغي أن‬
‫يرجع الناس إليهم من أجل التصال بال‪ ،‬وهم مكلّفون بنشر الروح التي يحملونها في‬
‫العالم‪ ،‬ومن هنا يأتي لقب "روحاني"‪ ،‬الذي يلقبون به أنفسهم‪ .‬وليس لهذا اللقب وجود‬
‫في السلم لنه ل وجود لهذه الطبقة‪ ،‬وهو موجود فقط عند الشيعة‪ ،‬وعلى الخص‬
‫شيعة إيران الذين يستخدمون روحاني )رجل الدين الشيعي من سللة علي(‪ ،‬وروحانيات‬
‫)هيئة رجال الدين من سللة علي(‪ ،‬وأظن أنه استخدام جديد لن هذا اللقب ل وجود له‬
‫في نصوصنا الدينية القديمة‪ ،‬ول شك عندي في أنه نقل عن المسيحية‪.‬‬
‫وأظن ذلك كان على أيدي الصفوية الذين اقتبسوا كل المراسم والشعائر‬
‫والعلمات المذهبية من قبيل‪ :‬التكية )إلى جوار المسجد( وهيئات دق على الصدور وقفل‬
‫السلسل حول الجسد بالقفال وضرب الجسد بالسلسل والضرب بالقمة )سيف قيصر(‬
‫وحمل الجريدة )المترجم‪ :‬شكل على هيئة صليب يحمل في المواكب المذهبية(‪ ،‬والعلم‬
‫والعلمة والرسوم‪ .‬وإقامة التمثيليات )تمثليات المعجزات والميستر‪ ،‬وإعادة المسيحيين‬
‫آلم المسيح وصلبه عند ذكرى الجمعة الحزينة‪ ،‬وأناشيد تعذيب عيسى أو القداسات ل‬
‫تزال موجودة إلى اليوم بنصها وفصها في مسرحيات اللورد(‪ .‬وذلك لكي ينفصل التشيع‬
‫عن المذهب السني من كل نواحي المراسم والشعائر والمظهر والتمثيليات الدينية‪ ،‬ول‬
‫يحس الشيعي بأي وجه اشتراك مع المسلمين من غير الشيعة الذين كانوا في حالة حرب‬
‫دائمة معهم‪ ،‬وكان قيام الصفوية في الصل ضدهم‪ .‬لكن لما لم يكن للتشيع قبل الصفوية‬
‫أي مجال للمظاهر المذهبية الخاصة‪ ،‬وعلوة على هذا كان السني والشيعي يكونان أمة‬
‫واحدا ويشتركان معا في العقيدة والعمل والعبادة‪ ،‬ول خلف بينهما إل‬
‫ً‬ ‫واحدة ومجتمعاً‬
‫في بعض مسائل ثانوية‪ ،‬إل أنه بعد استقرار النظام الصفوي الذي كان عدوه الصلي‬
‫أهل السنة والنظام العثماني‪ ،‬بذلت جهود كثيرة لكي تنمحي الوجوه المشتركة التي تخفف‬
‫من العداوة وتقوي الوحدة أو على القل تحد انتشار العدوة‪.‬وذلك بحيث يحس الشيعي أنه‬
‫صاحب دين مختلف‪ ،‬ويحس السني أنه صاحب دين مختلف‪ ،‬ويحسان أنهما نقيضان‪.‬‬
‫صحيح البخاري برقم ‪.4485‬‬ ‫‪39‬‬
‫وأحد هذه الجهود والبدع والبتكارات الجديدة في الشعائر الدينية والرموز‬
‫والعلمات الخاصة التي ل سابقة دينية لها‪ ،‬وكانوا مضطرين لهذا المر إلى التقليد‬
‫والقتباس من العادات والمراسم الخاصة الدينية لوربا الشرقية‪ ،‬وكان الصفويون على‬
‫صلة قريبة منهم ومصالح مشتركة وصداقة حميمة وتكتل ضد العثمانيين‪ .‬وكان عندهم‬
‫وزير خاص بأمور أناشيد الروضة كان من مهامه تقليد )الفنون الدينية( من أوربا‬
‫واقتباسها‪ ،‬انظروا إلى الستائر السوداء المفتوحة التي تكتب حواشيها أشعار محتشم‪،‬‬
‫تقليد كامل لطراز ستائر الكنيسة‪.‬‬
‫وتصوير الشخصيات الدينية مثل الرسول والئمة وهو في السلم مكروه‬
‫موجود دون زيادة أو نقصان‪ ،‬حتى ما يسمى بالجريدة هي تماما الصليب المقدس‪ ،‬ولم‬
‫يطرأ على شكله أي تغيير أو تبديل‪ .‬وهذه الجريدة تحملها جماعات الدق على الصدور‬
‫دون أن يكون لها أي دور أو معنى أو تبرير )وحتى حملة الجريدة ل يعلمون هم أنفسهم‬
‫ماذا تكون هذه ومن أجل أي شيء في الصل(‪ ،‬وفي نفس الوقت يهتمون بها جداً‬
‫ويتعصبون لها‪ ،‬وحيثية كل جماعة واحترامها مرهونان بثقل جريدتها وزينتها وتعقيدها‬
‫وارتفاع ثمنها‪.‬‬
‫وحملة الجريدة لهم ألقاب وشخصيات متميزة خاصة‪ ،‬ولنهم يقومون بهذه‬
‫الرسالة الدينية العظيمة التي ل تتأتى من كل انسان توجد لهم )مجوزات ل تجوز‬
‫لغيرهم(‪ ،‬حتى كيفية حمل الجريدة لم يغير أدنى تغيير‪ ،‬وأظن كلمة جريدة ليست فارسية‬
‫أو عربية بل هي تلفظ فارسي أو معرب للصليب في اللتينية‪ .‬ليس لدينا روحاني في‬
‫السلم‪ ،‬لدينا علماء‪ ،‬وعلقتهم بالناس هي العلقة بين العالم والعامي وبين المتخصص‬
‫وغير المتخصص‪ ،‬ل بين المقدس وغير المقدس وحامل البركة وفاقدها والروحاني‬
‫والمادي والمراد والمريد")‪.(40‬‬
‫وبجانب التمازج الطبيعي والتلقائي للثقافات المختلفة مع السلم والتي أدت إلى‬
‫ظهور أفكار وعقائد غريبة عن السلم الصحيح‪ ،‬كان هناك عامل آخر ساهم في تشويه‬
‫الثقافة السلمية‪ ،‬وهو التآمر من قبل أعداء السلم‪ ،‬فبعد فشل الهجمة العسكرية‬
‫الشرسة التي قادها وثنيو جزيرة العرب‪ ،‬نحت تلك القوى منحى الحرب الثقافية من أجل‬
‫تشويه الفكر السلمي‪.‬‬
‫سلك هؤلء طريقة سهلة لبث فكرهم المنحرف بين المسلمين وذلك عن طريق‬
‫الندساس في وسط المجتمع المسلم والتظاهر بصورة السلم‪ ،‬والقرآن الكريم يسجل لنا‬
‫ي ُأنِزَل‬‫ب آِمُنوْا ِباّلِذ َ‬
‫طآِئَفٌة ّمنْ َأْهِل اْلِكَتا ِ‬‫بدايات هذه المرحلة في قوله تعالى‪َ} :‬وَقاَلت ّ‬
‫ن{آل عمران ‪.72‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫خَرُه َلَعّلُهْم َيْر ِ‬
‫جَه الّنَهاِر َواْكُفُروْا آ ِ‬
‫ن آَمُنوْا َو ْ‬
‫عَلى اّلِذي َ‬
‫َ‬
‫وهذه الحقيقة التاريخية التي يسجلها القرآن الكريم يؤكدها ما روي أن عبدال بن‬
‫مسعود مر بشيخ يحدث عن التوراة‪ ،‬فلما رأى ابن مسعود سكت‪ ،‬فقال‪ :‬وبم يحدثكم‬

‫علي شريعتي "العودة إلى الذات" هامش الصفحات ‪.359-358‬‬ ‫‪40‬‬


‫صاحبكم‪ ،‬فقالوا‪ :‬ذكر أن ال لما خلق السماوات والرض صعد إلى السماء من بيت‬
‫المقدس‪ ،‬ووضع رجله على صخرة بيت المقدس)‪.(41‬‬
‫وقد أحيطت العملية برمتها بسياج العصمة عن طريق اختلق الروايات وتعليبها‪،‬‬
‫ونسبتها إلى النبي ‪ ‬والتي تدعو المسلمين إلى المطالعة والبحث في كتب تلك الملل‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات ما جاء من طريق عبدال بن عمرو بن العاص منسوبًا إلى النبي ‪‬‬
‫أنه قال‪" :‬حدثوا عن بني إسرائيل ول حرج")‪ .(42‬ورواية أخرى من طريق أبي هريرة‬
‫منسوبة إلى الرسول ‪ ‬وفيها "ل تصدقوا أهل الكتاب ول تكذبوهم‪ ،‬وقولوا آمنا بال‬
‫وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم")‪.(43‬‬
‫وهذا الموقف الغامض المتأرجح بين عدم التصديق وعدم التكذيب يخالف أمر‬
‫ب َوَما ُهَو ِم َ‬
‫ن‬ ‫ن اْلِكَتا ِ‬‫سُبوُه ِم َ‬ ‫حَ‬ ‫ب ِلَت ْ‬
‫سَنَتُهم ِباْلِكَتا ِ‬ ‫ال تعالى بتكذيبهم حين قال‪َ} :‬يْلُوو َ‬
‫ن َأْل ِ‬
‫ب َوُهْم‬ ‫ل اْلَكِذ َ‬‫عَلى ا ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ل َوَيُقوُلو َ‬ ‫عنِد ا ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫ل َوَما ُهَو ِم ْ‬ ‫عنِد ا ّ‬‫ن ِ‬ ‫ن ُهَو ِم ْ‬‫ب َوَيُقوُلو َ‬ ‫اْلِكَتا ِ‬
‫ن{ آل عمران ‪ .78‬ول يعقل أن يدعونا الرسول ‪ ‬إلى التحديث عنهم بعد أن‬ ‫َيْعَلُمو َ‬
‫أخبرنا القرآن الكريم أنهم يكذبون‪ ،‬فل يعقل أن يخالف نبي ال ربه‪ ،‬ومعارضة هذه‬
‫الرواية لنص الكتاب العزيز كافية لردها‪.‬‬
‫وكيف نقبل ما عندهم وال تعالى يخبرنا عن مدى حقدهم على عقيدتنا حين‬
‫حّرُفوَنُه‬ ‫ل ُثّم ُي َ‬‫لَم ا ّ‬ ‫ن َك َ‬‫سَمُعو َ‬ ‫ق ّمْنُهْم َي ْ‬ ‫ن َفِري ٌ‬ ‫ن َأن ُيْؤِمُنوْا َلُكْم َوَقْد َكا َ‬ ‫طَمُعو َ‬ ‫يقول‪َ} :‬أَفَت ْ‬
‫ضُهْم ِإَل َ‬
‫ى‬ ‫ل َبْع ُ‬ ‫خَ‬ ‫ن آَمُنوْا َقاُلوْا آَمّنا َوِإَذا َ‬ ‫ن * َوِإَذا َلُقوْا اّلِذي َ‬ ‫عَقُلوُه َوُهْم َيْعَلُمو َ‬‫ِمن َبْعِد َما َ‬
‫ن{البقرة‪:‬‬ ‫ل َتْعِقُلو َ‬‫عنَد َرّبُكْم َأَف َ‬ ‫جوُكم ِبِه ِ‬ ‫حآ ّ‬‫عَلْيُكْم ِلُي َ‬
‫ل َ‬‫حا ّ‬ ‫حّدُثوَنُهم ِبَما َفَت َ‬‫ض َقاُلوْا َأُت َ‬
‫َبْع ٍ‬
‫‪.76-75‬‬
‫ن َأن ُيَنّزَل‬ ‫شِرِكي َ‬ ‫ن َأْهلِ اْلِكَتابِ َوَل اْلُم ْ‬ ‫ن َكَفُروْا ِم ْ‬ ‫ويقول عز وجل‪ّ} :‬ما َيَوّد اّلِذي َ‬
‫ب َلْو َيُرّدوَنُكم‬ ‫ن َأْهِل اْلِكَتا ِ‬ ‫خْيٍر ّمن ّرّبُكْم{ البقرة‪ .105:‬ويقول‪َ } :‬وّد َكِثيٌر ّم ْ‬ ‫ن َ‬ ‫عَلْيُكم ّم ْ‬‫َ‬
‫ق{ البقرة‪.109 :‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ن َلُهُم اْل َ‬‫سِهم ّمن َبْعِد َما َتَبّي َ‬ ‫عنِد َأنُف ِ‬‫ن ِ‬ ‫سًدا ّم ْ‬‫ح َ‬ ‫ّمن َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفارًا َ‬
‫سُهْم‬ ‫ن ِإّل َأنُف َ‬ ‫ضّلو َ‬ ‫ضّلوَنُكْم َوَما ُي ِ‬ ‫ب َلْو ُي ِ‬ ‫ن َأْهِل اْلِكَتا ِ‬ ‫طآِئَفٌة ّم ْ‬ ‫ويقول تعالى‪َ} :‬وّدت ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫طيُعوْا َفِريًقا ّم َ‬ ‫ن آَمُنَوْا ِإن ُت ِ‬ ‫ن{ آل عمران ‪ .69‬ويقول‪َ} :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬ ‫شُعُرو َ‬ ‫َوَما َي ْ‬
‫ن{ آل عمران‪.100:‬‬ ‫ب َيُرّدوُكم َبْعَد ِإيَماِنُكْم َكاِفِري َ‬ ‫ُأوُتوْا اْلِكَتا َ‬
‫لقد علّبت أيادي أعداء السلم تلك الروايات لحث المسلمين على التحايل على‬
‫أوامر ال‪ ،‬ودفعهم إلى مطالعة تلك الكتب المسمومة‪ ،‬وللسف انجرف في هذا التيار‬
‫مجموعة من المسلمين‪ ،‬وكان على رأس هؤلء جماعة من الصحابة مثل أبي هريرة‬
‫وعبدال بن عمرو بن العاص‪ ،‬وربما كان هذا النجراف من الصحابة سببه بساطة‬
‫العربي وعذرية فطرته التي لم تدنسها الموروثات الدينية المنحرفة لهل الملل المنحرفة‪،‬‬
‫فقد كانت الوثنية طارئة على قلبه وليست متجذرة كتجذرها في قلوب أهل الكتاب‪ ،‬وحين‬

‫الجامع الصحيح مسند الربيع بن حبيب البصري رقم )‪.(879‬‬ ‫‪41‬‬

‫البخاري ‪.3461‬‬ ‫‪42‬‬

‫البخاري ‪.7362‬‬ ‫‪43‬‬


‫رأوا ذلك الموروث الهائل المليء بالعجائب والساطير انبهروا به‪ ،‬وقاموا بنقله إلى‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫يقول الذهبي‪ :‬أن عبدال بن عمرو بن العاص كان قد أدمن النظر في كتب بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬واعتنى بذلك)‪ ،(44‬ويقول ابن كثير‪ :‬أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬فكان يحدث منهما)‪.(45‬‬
‫أما أبو هريرة فقد قيل‪ :‬إنه كان يحدث عن كعب الحبار حتى قال عنه كعب‪" :‬ما‬
‫رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة")‪ ،(46‬ويقال إنه كان يكثر من‬
‫الرواية عن كعب الحبار إلى درجة أن الرواة كانوا يخلطون بين روايات كعب الحبار‬
‫وروايات الرسول ‪ ،‬فقد قال بسر بن سعيد‪" :‬اتقوا ال‪ ،‬وتحفظوا من الحديث‪ ،‬فوال‬
‫لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة‪ ،‬فيحدث عن رسول ال ‪ ‬ويحدثنا عن كعب ثم يقوم‪،‬‬
‫فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول ال عن كعب‪ ،‬ويجعل حديث كعب عن‬
‫رسول ال ‪.(47)"‬‬
‫وحين تبين خطر هــؤلء الكتــابيين لبعــض الصــحابة توقفــوا عــن‬
‫الخذ منهم وبدأوا يحذرون الناس من شــرهم‪ ،‬فعبــدالله بــن عبــاس‬
‫الذي عرف عنه مجالسة أولئك الكتابيين ثار عليهــم بعــد ذلــك وقــال‬
‫معاتبا ً غيــره‪" :‬يــا معشــر المســلمين‪ ،‬كيــف تســألون أهــل الكتــاب؟‬
‫وكتابكم الذي أنزل على نـبيه ‪ ‬أحـدث الخبـار بـالله‪ ،‬تقرءونــه لـم‬
‫يشب‪ ،‬وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بــدلوا مــا كتــب اللــه وغيــروا‬
‫منننا ً{‬ ‫شت َُروا ْ ِبنن ِ‬
‫ه ثَ َ‬ ‫د الل ّ ِ‬
‫ه ل ِي َ ْ‬ ‫عن ِ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫هن َ‬
‫ذا ِ‬ ‫بأيديهم الكتاب فقالوا‪َ } :‬‬
‫مسائلتهم؟ ول واللــه‬ ‫البقرة ‪ ،79‬أفل ينهاكم ما جاءكم من العلم عن ُ‬
‫ما رأينا رجل ً منهم قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم") (‪.‬‬
‫‪48‬‬

‫لكن المشكلة حــدثت فــي تبنــي بعــض الفــرق الســلمية لفكــر‬


‫منحرف تشكل مــن امــتزاج المــوروث الــديني القــديم لهــل الملــل‬
‫السابقة‪ ،‬وصار يقدّم على أنه الممثل الرسمي للســلم‪ ،‬ومــا عــداه‬
‫من أفكار نابعة من صميم العقيدة الســلمية يعتــبر كفــرا ً وزندقــة!‪.‬‬
‫هذا الفكر لم ينحصر دوره في بناء التركيب العقدي لتلك الفرق بــل‬
‫تجاوزه إلى التدخل فــي البنــاء الفقهــي ومنظومــة أحكــام الشــريعة‬
‫السلمية وتناغمها مع الواقع‪ ،‬مما أفرز منهجا ً نصوصيا ً جزئيا ً يخــتزل‬
‫التغير البشــري المطــرد وتفــاعله المتجــدد مــع الكــون والحيــاة فــي‬
‫أطنان الموروث الروائي الذي حصدته العقليـة الجمعيـة لـرواة أهـل‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪3‬ص ‪.81‬‬ ‫‪44‬‬

‫ابن كثير في مقدمة تفسيره "تفسير القرآن العظيم" ج ‪ 1‬ص ‪13‬‬ ‫‪45‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.600‬‬ ‫‪46‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.606‬‬ ‫‪47‬‬

‫البخاري ‪.2685‬‬ ‫‪48‬‬


‫الحديث‪.‬‬
‫وسوف نحــاول فــي الفصــول القادمــة استكشــاف هــذا الفكــر‪،‬‬
‫وسبر أسباب ظهوره‪ ،‬ودراسة منهج القائمين عليه‪.‬‬

‫زكريا المحّرمي‬

‫تاريـــخ الروايــــــة‬

‫السنة النبوية تشكل مصدر التشريع الثاني المكمل للقرآن الكريم‪ ،‬فهي بيان لما في‬
‫س َما ُنّزَل‬
‫ن ِللّنا ِ‬ ‫الكتاب العزيز من شرائع وتعليمات يقول تعالى }َوَأنَزْلَنا ِإَلْي َ‬
‫ك الّذْكَر ِلُتَبّي َ‬
‫ن{ النحل‪ ،44 :‬وقد اهتمت جميع طوائف المة وفرقها باتباع‬ ‫ِإَليِْهْم َوَلَعّلُهْم َيَتَفّكُرو َ‬
‫السنة والحفاظ عليها‪ ،‬بيد أنه ونتيجة لتفاوت المدارك العقلية لمنظري كل فريق‪ ،‬ونتيجة‬
‫للدور الجبروتي الطاغي للسلطة الحاكمة اختلفت المة في تحديد مفهوم السنة وطريقة‬
‫التعامل معها‪ ،‬فبعد أن كانت السنة في عهد الرسول صلى ال عليه وسلم وصحابته‬
‫الكرام تمثل المنهاج والطريقة العملية التي مارسها الرسول ‪ ‬لشرائع الدين وشعائره‪،‬‬
‫انحرف هذا المفهوم وتوسع وتمدد ليشمل كل ما أثر عن النبي ‪ ‬من قول أو فعل أو‬
‫تقرير‪ ،‬وهذا المفهوم للسنة يتجاهل العوامل الزمانية والمكانية للحظة النص الصلية أي‬
‫اللحظة التي قال فيها النبي ‪ ‬ذلك القول وفعل ذلك الفعل وأقر ذلك التقرير‪ ،‬فهل كان‬
‫هذا الفعل أو القول أو التقرير‪:‬‬
‫‪ .1‬حكمًا شرعيًا ملزمًا للمة جمعاء كما هو الحال مع تبيين شرائع الدين وقوانينه‬
‫التي جاءت مجملة في الكتاب العزيز والتي أمر ال عز وجل المة باتباعها كما في قــوله‬
‫عْنفُه َفففاْنَتُهوا{ الحشــر‪ ،7 :‬مــع التأكيــد‬ ‫خُذوُه َوَما َنَهاُكْم َ‬ ‫سوُل َف ُ‬ ‫عز وجل }َوَما آَتاُكُم الّر ُ‬
‫حى{‬ ‫ي ُيففو َ‬ ‫حف ٌ‬
‫ن ُه فَو ِإّل َو ْ‬ ‫على أن ما أتانا به الرسول صلى ال عليه وسلم هو الــوحي }ِإ ْ‬
‫النجم‪ ،4 :‬والوحي يشمل القرآن الكريم "الذكر" والسنة "البيان" لما في القرآن‪.‬‬
‫‪ .2‬أم كان اجتهادًا من النبي ‪ ‬بمعزل عن الوحي لنازلة لها حيثياتها الزمانية‬
‫والمكانية قد يصيب فيه الحق المطلق أو ل يصيب الحق الذي يليق بمقامه كما هو الحال‬
‫ن َلُه‬
‫ي َأن َيُكو َ‬ ‫ن ِلَنِب ّ‬‫في مسألة التعامل مع أسرى بدر التي أكّدها قوله تعالى }َما َكا َ‬
‫حِكيٌم‬‫عِزيزٌ َ‬ ‫ل َ‬ ‫خَرَة َوا ُ‬ ‫لِ‬ ‫ل ُيِريُد ا َ‬
‫ض الّدْنَيا َوا ُ‬
‫عَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫ض ُتِريُدو َ‬ ‫ن ِفي اَلْر ِ‬ ‫خَ‬ ‫حّتى ُيْث ِ‬‫سَرى َ‬ ‫َأ ْ‬
‫ظيٌم { النفال‪ ،67-66 :‬والتي‬ ‫عِ‬ ‫ب َ‬
‫عَذا ٌ‬ ‫خْذُتْم َ‬
‫سُكْم ِفيَما َأ َ‬
‫ق َلَم ّ‬
‫سَب َ‬
‫ل َ‬ ‫نا ِ‬ ‫ب ّم َ‬ ‫* َلْوَل ِكَتا ٌ‬
‫يعلق عليها محمد رشيد رضا بقوله‪" :‬أن النبي نفسه قد يخطئ في اجتهاده‪ ،‬ولكن ال‬
‫تعالى يبين له ذلك ول يقره عليه كما صرح به العلماء‪ ،‬فهو معصوم من الخطأ في‬
‫التبليغ عن ال تعالى ل في الرأي والجتهاد‪ .‬ومنه ما سبق من اجتهاده صلوات ال‬
‫وسلمه عليه بمكة في العراض عن العمى الفقير الضعيف عبدال بن أم مكتوم‬
‫)رض( حين جاءه يسأله وهو يدعو كبراء أغنياء المشركين المتكبرين إلى السلم لئل‬
‫جاَءُه‬ ‫عَبسَ َوَتَوّلى َأن َ‬ ‫يعرضوا عن سماع دعوته‪ ،‬فعاتبه ال تعالى على ذلك بقوله } َ‬
‫عَمى{ عبس‪.(49)"1 :‬‬ ‫ال ْ‬
‫شٌر ّمْثُلُكْم‬ ‫ل يدخل في إطار الطبيعة البشرية للنبي ‪ُ} ‬قْل ِإّنَما َأَنا َب َ‬ ‫‪ .3‬أم كان فع ً‬
‫ي{ الكهف‪ ،110 :‬كما هو الحال مع ارتياده للسواق ولبسه لباس أهل زمانه‪،‬‬ ‫حى ِإَل ّ‬‫ُيو َ‬
‫وركوبه وسائل مواصلتهم‪ ،‬واستخدامه آلتهم الحرفية والحربية‪ ،‬واستعانته بأدويتهم‬
‫واطبائهم‪.‬‬
‫ونتيجة لتساع مفهوم السنة‪ ،‬الذي واكب التغيرات السياسية التي حدثت في المة‬
‫حيث المذاهب الفقهية تتفاصل والفرق الكلمية تتجادل والقوى السياسية تتناحر‪ ،‬بدأ‬
‫بعض المسلمين بشكل عفوي بتدوين السنة ليتم حفظها من العبث‪ ،‬لكن تأثير تلك‬
‫الحروب السياسية والكلمية والفقهية ألقى بظلله على عملية التدوين‪ ،‬حيث كانت كل‬
‫فرقة تطلب النص الذي يؤيد موقفها ضد الخر‪ ،‬فتضخمت بذلك نصوص السنة تضخمًا‬
‫رهيبًا كان للسلطة فيه الدور الكبر‪ ،‬وكان وراء عملية التضخيم هذه مجموعة من الرواة‬
‫العوام الذين لم يتمرسوا الفقه ومبادئه قاموا بجمع الروايات وحشوها في مصنفات‬
‫ضخمة فعرفوا بالحشوية)‪ ،(50‬ونتيجة لفراطهم في جمع وتخييش الروايات تعارف‬
‫الناس على تسميتهم بـ "أهل الحديث"‪ ،‬ولما في هذا المصطلح من جاذبية في نفوس‬
‫البسطاء والعوام استطاع هؤلء استغلل الظروف الموضوعية السياسية والفكرية لتثبيت‬
‫محمد رشيد رضا "تفسير المنار" ج ‪10‬ص ‪.81‬‬ ‫‪49‬‬

‫قال الفراهيدي في "العين" ج ‪1‬ص ‪" :388‬الحشو من الناس‪ :‬من ل يعتد به"اهـ‪.‬‬ ‫‪50‬‬
‫مناهجهم وترسيخ أفكارهم‪ ،‬واعتبروا أنفسهم الممثل الوحيد للسنة النبوية وأن مخالفيهم‬
‫أهل بدعة وضلل!‪.‬‬
‫ولتأكيد قدسية فكر أهل الحديث بين عوام المة صّور هؤلء لتباعهم أن السنة‬
‫أفضل من القرآن الكريم‪ ،‬لن القرآن في نظرهم محتاج للسنة‪ ،‬والسنة مستقلة غير‬
‫محتاجة للقرآن الكريم‪ ،‬فقد قال البربهاري‪" :‬إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى‬
‫القرآن")‪ .(51‬مع أن هذه الدعوى ينقضها العقل والنقل فحجية السنة كما قال المام‬
‫الشاطبي تأتي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم)‪ ،(52‬فالكتاب مقطوع بثبوته إجما ً‬
‫ل‬
‫ل لوصوله إلينا بالتواتر‪ ،‬ولم تختلف المة بجميع طوائفها عليه‪ ،‬بينما السنة‬ ‫وتفصي ً‬
‫ل لن معظم الروايات أحادية‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬ولكنها مظنونة الثبوت تفصي ً‬ ‫مقطوع بثبوتها إجما ً‬
‫والحاد ظني الثبوت) (‪ .‬كما أن حجية السنة تنبع أساسًا من أمر ال لرسوله ‪ ‬بتبيين‬ ‫‪53‬‬

‫ن{‬ ‫س َما ُنّزَل ِإَلْيِهْم َوَلَعّلُهْم َيَتَفّكُرو َ‬


‫ن ِللّنا ِ‬ ‫أحكام القرآن للناس }َوَأنَزْلَنا ِإَلْي َ‬
‫ك الّذْكَر ِلُتَبّي َ‬
‫عدم الشرح لم يتأثر‬ ‫النحل‪ ،44 :‬ول يمكن أن يكون الشرح أفضل من المشروح‪ ،‬لنه لو ُ‬
‫عدم المشروح لم يكن للشرح فائدة)‪.(54‬‬ ‫المشروح بينما لو ُ‬
‫إذا السّنة في جوهرها هي شرح لمجمل القرآن‪ ،‬بمعنى آخر هي الجزئيات العملية‬
‫للحكام المجملة في كتاب ال العزيز والتي ُأمَر الرسول ‪ ‬بتوضيحها للمه‪ ،‬وهذه‬
‫السّنة العملية اتفقت المة على الكثير منها‪ ،‬وهو ما تناقلته بالتواتر كعدد ركعات الصلة‪،‬‬
‫وقيمة الزكاة‪ ،‬وشعائر الحج كالوقوف في عرفة‪ ،‬ثم المبيت في مزدلفة‪ ،‬ورمي‬
‫الجمرات‪ ،‬والرجم والختتان وغيرها‪ .‬أما أطنان الروايات الحادية التي يفرضها علينا‬
‫أهل الحديث على أنها السنة المقصودة بالحجية والاّتباع‪ ،‬فل يمكن قبولها إل وفق نظام‬
‫صارم من التحقيق والتدقيق‪ ،‬ينبع من الرغبة في تنزيه الشريعة من الدخيل عليها‪.‬‬
‫وهذه النتجية نفسها يلخصها عبد ال بن محمد بن بركة )ت ‪362‬هـ( بقوله‪:‬‬
‫"والسنة على ضربين‪ :‬فسنة قد اجتمع عليها‪ ،‬وقد استغني بالجماع عن طلب صحتها‪،‬‬
‫وسنة مختلف فيها‪ ،‬ولم يبلغ الكل علمها‪ ،‬وهي التي يقع التنازع بين الناس في صحتها‪.‬‬
‫فلذلك تجب السانيد والبحث عن صحتها ثم التنازع في تأويلها إذا صحت بنقلها‪ ،‬فإذا‬
‫اختلفوا في حكمها كان مرجعهم إلى الكتاب")‪.(55‬‬

‫موقف الرسول ‪ ‬والصحابة من الروايات الحادية‪:‬‬


‫لو كانت كل تلك الطنان من الروايات الحادية التي كّدسها لنا أهل الحديث تمثل‬
‫جوهر السلم –كما هوالحال مع القرآن الكريم والسنة العملية‪ -‬لجعل لها رسول ال ‪‬‬
‫كّتابا يدونونها‪ ،‬ووضع لها طريقة مناسبة للجمع كما هو الحال مع عملية تدوين القرآن‬

‫حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.89‬‬ ‫‪51‬‬

‫الشاطبي "الموافقات" القسم الرابع ص ‪.5‬‬ ‫‪52‬‬

‫الخطيب البغدادي "الكفاية في علم الرواية" ص ‪.18‬‬ ‫‪53‬‬

‫الشاطبي "الموافقات" القسم الرابع ص ‪.6‬‬ ‫‪54‬‬

‫عبد الله بن محمد بن بركة "الجامع" ج ‪1‬ص ‪.280‬‬ ‫‪55‬‬


‫الكريم وجمعه‪ ،‬ولو كانت كل تلك الروايات الحادية من بين الشياء التي يجب عليه تبليغها‬
‫لجتهد ‪ ‬في حفظها‪ ،‬ولحدّد لها المنهج المناسب في عملية النقل والتبليغ حتى ل يسمح‬
‫للروايات الموضوعة والضعيفة بالولوج إليها‪ ،‬وهذه الضوابط التي يفترض بالرسول ‪‬‬
‫أن يفعلها ناتجة من أمر ال تعالى له بتبليغ المة أولها وآخرها بالحكام التفصيلية للدين‬
‫ك َوِإن ّلْم َتْفعَْل َفَما‬
‫ك ِمن ّرّب َ‬ ‫السلمي‪ ،‬فال تعالى يقول‪َ} :‬يا َأّيَها الّر ُ‬
‫سوُل َبّلْغ َما ُأنِزَل ِإَلْي َ‬
‫ساَلَتُه{ المائدة ‪.67‬‬
‫ت ِر َ‬
‫َبّلْغ َ‬
‫بيد أن الحقيقة التاريخية تؤكد عكس ذلك تمامًا‪ ،‬فقد استفاضت الخبار عن منع‬
‫الرسول ‪ ‬من كتابة بعض الروايات)‪ ،(56‬وجاء عنه ‪ ‬أنه قال‪" :‬ل تكتبوا عني سوى‬
‫القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه")‪ ،(57‬وجاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال‪:‬‬
‫"جهدنا بالنبي ‪ ‬أن يأذن لنا في الكتاب فأبى")‪ ،(58‬وعنه أيضًا أنه قال‪" :‬ما كنا نكتب‬
‫غير التشهد والقرآن")‪ ،(59‬وقال أبو هريرة‪" :‬خرج علينا رسول ال ‪ ‬ونحن نكتب‬
‫الحاديث‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا‪ :‬أحاديث نسمعها منك‪ .‬قال‪ :‬كتاب غير كتاب‬
‫ال!‪ ،‬أتدرون‪ .‬ما ضل المم قبلكم إل بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب ال تعالى")‪.(60‬‬
‫واستمر هذا الموقف المعارض من تدوين الروايات والخبار إلى عهد الصحابة‬
‫ي عن أبي بكر الصديق أنه جمع الناس فقال‪" :‬إنكم تحدثون‬ ‫رضوان ال عليهم‪ ،‬فقد ُرو َ‬
‫عن رسول ال ‪ ‬أحاديث تختلفون فيها‪ ،‬والناس من بعدكم أشد اختلفاً‪ ،‬فل تحدثوا عن‬
‫رسول ال شيئا‪ ،‬فمن سألكم فقولوا‪ :‬بيننا وبينكم كتاب ال‪ ،‬فاستحلوا حلله‪ ،‬وحرموا‬
‫حرامه")‪ .(61‬أما عمر بن الخطاب فقد جاء أنه طفق يستخير ال شهرًا‪ ،‬ثم قال‪" :‬إني‬
‫كنت أريد أن أكتب السنن‪ ،‬وإني ذكرت قومًا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب‬
‫ال‪ ،‬وإني وال ل أشوب كتاب ال بشيء أبداً")‪ ،(62‬ثم كتب في المصار "من كان عنده‬
‫شيء من الروايات فليمحه")‪ ،(63‬وروى عنه أنه أحرق مجموعة من الروايات وقال‪:‬‬
‫"مثناة كمثناة أهل الكتاب")‪ .(64‬وكان من شدة احتياطه في منع كتابة الروايات الحادية‬
‫يخرج مع رسله إلى الفاق ويسير معهم في الطريق ليقول لهم‪" :‬إنكم تاتون بلدة لهلها‬
‫دوي بالقرآن كدوي النحل‪ ،‬فل تصدوهم بالحاديث عن رسول ال ‪ ‬وأنا‬
‫شريككم")‪ .(65‬بل قد وصل به الحتياط في منع الحديث إلى درجة حبس مجموعة من‬

‫‪ 56‬نقل شعيب الرنؤوط في تعليقه على "سير أعلم النبلء" للذهبي ج ‪3‬ص ‪ 81‬قول ابن‬
‫القيم في "تهذيب السنن" ‪ 5/245‬ما نصه‪ " :‬قد صح عن النبي ‪ ‬النهي عن الكتابة"اهـ ‪.‬‬
‫‪ 57‬الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص ‪ 33‬من طريق أبي سعيد الخدري ورواه مسلم]‬
‫‪ ،(3004)-72 [7510‬وأحمد ‪.1/171‬‬
‫‪ 58‬الخطيب البغدادي نفس المصدر ص ‪.33-21‬‬
‫‪ 59‬أبو داود ‪ ،3648‬وابن أبي شيبة في "المصنف" برقم ‪.2991‬‬
‫‪ 60‬الخطيب البغدادي نفس المصدر ص ‪.34‬‬
‫‪ 61‬الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج ‪1‬ص ‪.3‬‬
‫‪ 62‬الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص ‪.49‬‬
‫‪ 63‬ابن سعد "الطبقات الكبرى" ج ‪1‬ص ‪206‬‬
‫‪ 64‬ابن سعد "الطبقات الكبرى" ج ‪5‬ص ‪140‬‬
‫‪ 65‬الخطيب البغداي "شرف أصحاب الحديث" ص ‪.87‬‬
‫كبار الصحابة لكثارهم من التحديث فقد روي أنه بعث إلى عبدال بن مسعود وأبي‬
‫الدرداء وأبي مسعود النصاري‪ ،‬فقال لهم‪" :‬ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول ال‬
‫‪‬؟"‪ ،‬فحبسهم! بالمدينة حتى استشهد)‪.(66‬‬
‫وروي عن عبدال بن مسعود أنه أحرق صحيفة بها بعض الحاديث ثم قال‪:‬‬
‫"اذكر ال رجلً يعلمها عند أحد إل أعلمني به‪ ،‬وال لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها‪ ،‬بهذا‬
‫هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب ال وراء ظهورهم كأنهم ل يعلمون")‪ ،(67‬وأراد‬
‫ل‪" :‬إن رسول ال ‪ ‬أمرنا أل نكتب شيئًا‬ ‫معاوية أن يكتب حديثًا فنهاه زيد بن ثابت قائ ً‬
‫من حديثه")‪.(68‬‬
‫ل من أهل اليمن‬ ‫وتعلل أهل الحديث بأن هذا المنع منسوخ بما رووه من أن رج ً‬
‫قال‪" :‬اكتبوا لي يا رسول ال‪ ،‬فقال رسول ال ‪ :‬اكتبوا لبي شاه‪ .‬فقلت للوزاعي‪ :‬ما‬
‫قوله‪ :‬اكتبوا لي يا رسول ال؟ قال‪ :‬هذه الخطبة التي سمعها من رسول ال ‪.(69)" ‬‬
‫بيد أن هذا الحتجاج ينقضه سياق الرواية نفسها ‪ ،‬فكما هو واضح من الرواية أن‬
‫الرسول ‪ ‬إنما سمح للرجل بكتابة خطبة الوداع لنها تمثل مجموعة من أحكام الشرع‬
‫التفصيلية "السنة العملية"‪ ،‬وقد سمعها عشرات اللف من الصحابة‪ ،‬وكتبت في حضور‬
‫الرسول ‪ ‬وتحت إشرافه‪ ،‬وموضع الخطبة شائع‪ ،‬وحضره جمع غفير فيستحيل‬
‫تحريف حرف منه‪ ،‬فهي بذلك تجري مجرى السنة المتواترة التي أطبقت عليها المة‪،‬‬
‫ومنع الرسول ‪ ‬كان للروايات الحادية‪ ،‬ونفس هذا التحليل يجري على أحكام‬
‫الصدقات والديات والفرائض التي كتبت في حديث عمر بن حزم‪ ،‬ولو كان هذا إذنًا‬
‫بكتابة الروايات الحادية لما ثبت عن الصحابة منع كتابة مثل تلك الروايات‪ ،‬ولما استدل‬
‫أبى سعيد الخدري بالمنع بعد وفاة الرسول ‪ ،‬ولما منع زيد بن ثابت معاوية من‬
‫الكتابة‪.‬‬
‫وقال أهل الحديث للجابة عن منع النبي ‪ ‬وصحابته للرواية بقولهم إن المنع‬
‫كان ضروريًا في بداية المر لكي ل يختلط الحديث بالقرآن!‪ ،‬وهذا احتجاج واٍه لن‬
‫العرب معروفون بالفصاحة وشدة الحفظ فل يمكن أن يختلط عليهم القرآن بغيره‪ ،‬خاصة‬
‫وأن القرآن معجز في ألفاظه وتركيبه‪ ،‬ول يمكن أن يختلط به غيره)‪.(70‬‬
‫والظاهر أن المنع من الرواية كان القصد منه عدم الخلط بين الجانب التشريعي‬
‫للسنة الذي تواتر عمليًا عند المة‪ ،‬وبين الجانب البشري أو التشريعي غير الملزم‬
‫كاجتهادت النبي ‪ ‬في القضايا اليومية ذات الصبغة المحلية المأطرة في حدود الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬خاصة وأنها حوادث لم يشهدها إل فرد أو أفراد قليلون من الصحابة وهم غير‬
‫معصومين من الخطأ والنسيان والرواية بالمعنى مع اختلف ملكاتهم العقلية‪ ،‬بالضافة‬
‫إلى أن النبي ‪ ‬أراد البقاء على دائرة اللزام في أضيق الحدود‪ ،‬وأراد البقاء على‬
‫الخطيب البغدادي "شرف أصحاب الحديث" ص ‪.87‬‬ ‫‪66‬‬

‫ابن عبد البر "جامع بيان العلم وفضله" ص ‪.92‬‬ ‫‪67‬‬

‫الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص ‪ ،35‬أبو داود ‪.3647‬‬ ‫‪68‬‬

‫البخاري ‪.2434‬‬ ‫‪69‬‬

‫عبد الجواد ياسين "السلطة في السلم" ص ‪.244‬‬ ‫‪70‬‬


‫دائرة الباحة واسعة كما قررها منهج القرآن الكريم‪ ،‬بينما ستحمل الروايات الحادية‬
‫مضامين إلزامية مع مرور الزمن لختلطها بالتشريع الملزم‪.‬‬

‫النفلت الروائي‪:‬‬
‫إن القراءة السابقة لعملية التدوين الولى للروايات والموقف منها نستخلص منه‬
‫أن عملية تدوين الروايات الحادية لقت سدًا منيعًا من الرسول ‪ ‬وصاحبيه أبي بكر‬
‫وعمر‪ ،‬فماذا حدث بعد ذلك؟‬
‫في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان‪ ،‬ومع بداية تفجر الفتنة بين الصحابة وما‬
‫تبعها من اغتيال الخليفة‪ ،‬حدث انفلت روائي رهيب أذكى جذوته انبهار الصحابة بما‬
‫يرويه كعب الخبار وغيره ممن طالع كتب أهل الكتاب‪ ،‬وكان للعوامل السياسية‬
‫المتفجرة دورها في إذكاء نار النفلت الروائي‪ ،‬فقد كانت هناك مراجعات كثيرة بين‬
‫الخليفة ومنتقديه‪ ،‬واحتاج المر إلى التذكير بسيرة الرسول ‪ ‬وسيرة الشيخين من‬
‫بعده)‪.(71‬‬
‫بعكس عمر بن الخطاب الذي حظر على كعب الحبار الرواية والتحديث‪ ،‬كان‬
‫عثمان بن عفان يستمع لروايات كعب الحبار ويستشيره في أمور المة‪ ،‬وقد أورد‬
‫الذهبي في ترجمة أبي ذر الغفاري في "سير أعلم النبلء" أكثر من رواية تؤكد على‬
‫ثورة أبي ذر ضد آراء كعب الحبار في مجلس الخليفة عثمان‪ ،‬ومنها أن أبا ذر دخل‬
‫على عثمان وعنده كعب فأقبل عثمان على كعب‪ ،‬فقال‪" :‬يا أبا إسحاق‪ ،‬ما تقول فيمن‬
‫جمع هذا المال‪ ،‬فكان يتصدق منه ويصل الرحم؟ قال كعب‪ :‬إني لرجو له‪ .‬فغضب –أي‬
‫أبو ذر‪ -‬ورفع عليه العصا")‪.(72‬‬
‫وُروي أن معاوية بن أبي سفيان اتهم كعبًا بالكذب)‪ ،(73‬ول يبعد أن يكون ذلك في‬
‫عهد عثمان لن كعبًا انتقل إلى الشام التي كان معاوية واليًا عليها)‪ ،(74‬ولم يكن كعب‬
‫ليحّدث بغرائبه في عهد عمر‪ .‬وأبو هريرة نفسه يؤكد حقيقة بدء الرواية في عهد ما بعد‬
‫عمر بن الخطاب حيث يقول‪" :‬لو كنت أحّدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني‬
‫بمخفقته")‪ ،(75‬ويقول أيضًا‪" :‬إني لحّدث أحاديث لو كنت تكلمت بها في زمن عمر لشج‬
‫رأسي")‪.(76‬‬

‫‪ 71‬لمراجعة قضية مناقشات عثمان والصحابة‪ ،‬راجع علي الحجري "الباضية ومنهجية‬
‫البحث" ص ‪.119-108‬‬
‫‪ 72‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.68-67‬‬
‫‪ 73‬البخاري ‪7361‬‬
‫‪ 74‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪3‬ص ‪490‬‬
‫‪ 75‬الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج ‪1‬ص ‪ ،7‬مصنف عبد الرزاق برقم ‪.20496‬‬
‫‪ 76‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.601‬‬
‫وبعد اغتيال الخليفة عثمان بن عفان فشا التحديث في جماعة معاوية إلى درجة‬
‫أن علي بن أبي طالب اتهمهم بإفساد سنة رسول ال ‪ ،‬فقد قال عنهم في صفين‪:‬‬
‫"قاتلهم ال أي عصابة بيضاء سودوا‪ ،‬وأي حديث من حديث رسول ال ‪ ‬أفسدوا") (‪.‬‬
‫‪77‬‬

‫وحقيقة انتشار التحديث في حزب معاوية وشيعته يؤكدها ما ثبت عن معاوية أنه‬
‫ل‪" :‬إن رسول ال ‪ ‬أمرنا أل نكتب شيئا من‬ ‫أراد أن يكتب حديثًا فنهاه زيد بن ثابت قائ ً‬
‫حديثه")‪.(78‬‬
‫وقد وصل إفساد المويين في الحديث إلى درجة كبيرة دفعت ببعض الصحابة‬
‫إلى العلن عن التوقف عن الرواية‪ ،‬فقد جاء عن عبدال بن عباس–حزب علي‪ -‬أنه‬
‫قال‪" :‬إنا كنا نحدث عن رسول ال ‪ ‬إذ لم يكن يكذب عليه‪ ،‬فلما ركب الناس الصعب‬
‫والذلول‪ ،‬تركنا الحديث عنه")‪.(79‬‬
‫وقد بّينا في مقدمة الكتاب دور السلطة الموية في تشجيع رواية أحاديث التجسيم‬
‫والرجاء‪ .‬يقول ابن عبد البر‪" :‬قال عبدالرحمن بن مهدي وقد سئل أي الحديث أصح‬
‫قال‪ :‬حديث أهل الحجاز قيل له ثم من؟ قال‪ :‬حديث أهل البصرة‪ .‬قيل ثم من؟ قال‪ :‬حديث‬
‫أهل الكوفة‪ ،‬قالوا‪ :‬فالشام؟ قال‪ :‬فنفض يده")‪.(80‬‬
‫ويشير البعض إلى أن أبا هريرة وهو أكثر الناس رواية عن الرسول ‪ ‬حيث‬
‫روى )‪ (5374‬حديثًا)‪ (81‬كان من شيعة معاوية‪ ،‬حيث كان مروان بن الحكم يستخلفه‬
‫على المدينة)‪ .(82‬يقول سعيد بن المسّيب‪" :‬كان أبو هريرة إذا أعطاه معاوية سكت‪ ،‬فإذا‬
‫أمسك عنه تكلم")‪.(83‬‬

‫أبو هريرة والنفلت الروائي‪:‬‬


‫يقول أبو هريرة "ما أحد من أصحاب رسول ال أكثر حديثًا مني عنه‪ ،‬إل ما‬
‫كان من عبدال بن عمرو‪ ،‬فإنه يكتب وكنت ل أكتب")‪.(84‬‬
‫بيد أن عبدال بن عمرو بن العاص ‪-‬وهو من شيعة معاوية أيضًا‪ -‬قد روى )‬
‫‪ (671‬حديثًا فقط‪ ،‬وهي التي جمعها له أحمد بن حنبل في مسنده‪ ،‬وربما لو حذفنا المكرر‬
‫منها لنقص العدد إلى حّد كبير‪ ،‬لكنه روى عن أهل الكتاب‪ ،‬وأدمن النظر في كتبهم‪،‬‬

‫‪ 77‬الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج ‪1‬ص ‪12‬‬


‫‪ 78‬الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص ‪.35‬‬
‫‪" 79‬صحيح مسلم" المقدمة ]‪ [19‬و ]‪ [20‬و]‪[21‬‬
‫‪ 80‬ابن عبد البر "التمهيد" ج ‪1‬ص ‪.81‬‬
‫‪ 81‬السيوطي "تدريب الرواي" ج ‪2‬ص ‪.675‬‬
‫‪ 82‬صحيح مسلم ]‪(2087)-48[5464‬‬
‫‪ 83‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.615‬‬
‫‪ 84‬البخاري ‪ ،113‬ولكن الثابت أن أبا هريرة روى أضعاف أضعاف روايات عبدالله بن‬
‫عمرو!‪.‬‬
‫واعتنى بذلك)‪ ،(85‬وأصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب‪ ،‬فكان يحدث‬
‫منهما!)‪.(86‬‬
‫أما أبو هريرة فقد كان يحدّث عن كعب الحبار حتى قال عنه كعب "ما رأيت‬
‫أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة")‪ ،(87‬وكان أبو هريرة يكثر من الرواية‬
‫عن كعب الحبار إلى درجة أن الرواة كانوا يخلطون بين روايات كعب وروايات‬
‫الرسول ‪ ،‬فقد قال بسر بن سعيد‪" :‬اتقوا ال‪ ،‬وتحفظوا من الحديث‪ ،‬فوال لقد رأيتنا‬
‫نجالس أبا هريرة‪ ،‬فيحدث عن رسول ال ‪ ‬ويحدثنا عن كعب ثم يقوم‪ ،‬فأسمع بعض‬
‫من كان معنا يجعل حديث رسول ال عن كعب‪ ،‬ويجعل حديث كعب عن رسول ال ‪‬‬
‫")‪ ،(88‬بينما نسبه آخرون إلى التدليس والخلط بين روايات كعب الحبار وروايات‬
‫الرسول ‪ ،!‬فقد روي عن شعبة أنه قال‪" :‬أبو هريرة كان يدلس‪ ،‬أي يروي ما يسمعه‬
‫من كعب وما سمعه من رسول ال ‪ ،‬ول يميز هذا من هذا")‪.(89‬‬
‫ويفسر البعض متابعة أبي هريرة لكعب الحبار بأنه كان منبهرًا بما عند كعب‬
‫من عجائب الخبار‪ ،‬ونودار الساطير التلمودية‪ ،‬ويؤكد أبو هريرة نفسه على هذا‬
‫الجتهاد في طلب العلم من كعب الحبار حيث يقول‪" :‬خرجت إلى الطور فلقيت كعب‬
‫الحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة‪ ،‬وحدثته عن رسول ال ‪.(90)" ‬‬
‫بيد أن هذا الثنائي الروائي "كعب وأبي هريرة" كان محل متابعة ومراقبة من قبل‬
‫كثير من الصحابة‪ ،‬حتى وصل المر بعمر بن الخطاب أن هددهما بالطرد من المدينة‪،‬‬
‫فقد قال عمر لبي هريرة‪" :‬لتتركن الحديث عن رسول ال ‪ ‬أو للحقنك بأرض دوس!‬
‫وقال لكعب‪ :‬لتتركن الحديث‪ ،‬أو للحقنك بأرض القردة")‪.(91‬‬
‫ومن المستحيل أن يروي أبو هريرة كل تلك الروايات عن الرسول ‪ ‬وحده‪،‬‬
‫وذلك لسباب بدهية أهمها‪ :‬أنه أسلم متأخرًا في عام خيبر في السنة السابعة للهجرة‪ ،‬أي‬
‫أنه لم يعاصر الرسول ‪ ‬إل أربعة سنوات فقط –وربما أقل لنه ابتعث إلى البحرين‪، -‬‬
‫بينما عاشره بقية المهاجرين ثلثًا وعشرين عامًا‪ ،‬كما أنه دخل السلم وهو كبيٌر السن‪،‬‬
‫فقد كان يبلغ من العمر أكثر من ثلثين عامًا‪ ،‬ومعلوم أن ملكة الحفظ في هذا السن تكون‬
‫قد وهنت وضعفت مقارنة مع حفظ صغار السن كما هو الحال مع عبدال بن عباس‬
‫وعلي بن أبي طالب وعائشة أم المؤمنين‪.‬‬
‫لقد كان أبو هريرة في واقع المر ل يحدث عن الرسول ‪ ‬فقط‪ ،‬بل كان يحّدث‬
‫عن الصحابة ما سمعوه عن النبي ‪ ،‬فقد روى روايات مسندة عن أحداث وقعت قبل‬

‫‪ 85‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪3‬ص ‪.81‬‬


‫‪ 86‬ابن كثير في مقدمة تفسيره "تفسير القرآن العظيم" ج ‪ 1‬ص ‪13‬‬
‫‪ 87‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.600‬‬
‫‪ 88‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.606‬‬
‫‪ 89‬محمد بن محمد أبو شهبة "دفاع عن السنة" ص ‪.110‬‬
‫‪ 90‬الربيع بن حبيب "المسند" ‪ ،279‬مالك ‪.243‬‬
‫‪ 91‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪ ،632-579‬قال شعيب الرنؤوط محقق الكتاب‬
‫معلقا ً على رواية تهديد عمر بطرد كعب وأبا هريرة ما نصه‪" :‬وهذا إسناد صحيح"اهـ‪.‬‬
‫دخوله السلم‪ ،‬حيث روى أن الرسول ‪ ‬قال لعّمه‪" :‬قل ل إله إل ال أشهد لك بها يوم‬
‫القيامة")‪ ،(92‬وأن الرسول ‪ ‬قال لقومه حين أنزل ال تعالى عليه قوله تعالى }َوَأنِذْر‬
‫ن{الشعراء‪" 214 :‬يا معشر قريش ل أغني عنكم من ال شيئًا")‪،(93‬‬ ‫ك اَْلْقَرِبي َ‬
‫شيَرَت َ‬
‫عِ‬‫َ‬
‫‪94‬‬
‫بدون ذكر الواسطة الذي أبلغه بتلك الحداث‪ ،‬مما حدا بشعبة إلى اتهامه بالتدليس) (‪،‬‬
‫وقال شعبة‪" :‬حّدث أبو هريرة‪ ،‬فرّد عليه سعد حديثًا‪ ،‬فوقع بينهما كلم‪ ،‬حتى ارتجت‬
‫البواب بينهما")‪.(95‬‬
‫يقول السرخسي‪" :‬واشتهر عن بعض الصحابة ومن بعدهم بمعارضة روايته‬
‫بالقياس‪ ،‬فابن عباس عندما سمعه يروي "توضئوا مما مسته النار")‪ ،(96‬قال‪" :‬أرأيت لو‬
‫توضأت بماء سخن أكنت تتوضأ منه؟ أرأيت لو ادهن أهلك بدهن فادهنت به شاربك‬
‫أكنت تتوضأ منه؟"‪ ...‬ولما سمعه يروي "من حمل جنازة فليتوضأ")‪" ،(97‬قال‪" :‬أيلزمنا‬
‫الوضوء من حمل عيدان يابسة؟" ‪ ...‬ولما سمعت عائشة أم المؤمنين أن أبا هريرة يروي‬
‫أن ولد الزنا شر الثلثة‪ .‬قالت‪" :‬كيف يصح هذا وقد قال ال تعالى }َوَل َتِزُر َواِزرٌَة ِوْزَر‬
‫خَرى{ النعام‪164 :‬؟ ‪ ...‬وروي أن عائشة قالت لبن أخيها أل تعجب من كثرة‬ ‫ُأ ْ‬
‫رواية هذا الرجل ورسول ال ‪ ‬حدث بأحاديث لو عدها عاد لحصاها) (!‪ ،‬وقال‬
‫‪98‬‬

‫إبراهيم النخعي‪ :‬كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون")‪.(99‬‬


‫والعجيب أن تجد روايات مرفوعة إلى الرسول ‪ ‬من طريق أبي هريرة تصف‬
‫الذي يحدث بكل ما يسمع أنه "كّذاب" حيث جاء فيها‪" :‬كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل‬
‫ما سمع")‪ ،(100‬ومع ذلك ترى روايات أبي هريرة من الغزارة والكثرة بحيث صارت‬
‫كالسيل الهادر باعتراف أبي هريرة نفسه!‪ ،‬فقد قال مجيبًا على تساؤل الصحابة حول‬
‫كثرة روايته‪" :‬لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته")‪،(101‬‬
‫وقال مقرًا باستغراب الناس من كثرة روايته‪" :‬إنكم تقولون‪ :‬إن أبا هريرة يكثر الحديث‬
‫عن رسول ال ‪ ‬وتقولون‪ :‬ما بال المهاجرين والنصار ل يحدثون عن رسول ال ‪‬‬
‫بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالسواق‪،‬‬
‫وكنت ألزم رسول ال ‪ ‬على ملء بطني‪ ،‬فأشهد إذا غابوا‪ ،‬واحفظ إذا نسوا ‪ ...‬وقد قال‬
‫‪ 92‬مسلم ]‪.(25)-41[134‬‬
‫‪ 93‬مسلم ]‪ ،(204)-348[501‬والبخاري ‪.2753‬‬
‫‪ 94‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.608‬‬
‫‪ 95‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪.603‬‬
‫‪ 96‬مسلم ]‪.(351)-90[788‬‬
‫‪ 97‬أحمد ‪2/454‬‬
‫‪ 98‬صحيح مسلم ]‪.(2493)-71[7509‬‬
‫‪ 99‬أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي "المحرر في أصول الفقه" ج ‪1‬ص ‪ ،255‬وقال‬
‫السرخسي معلقًا‪ :‬فلما كان ما اشتهر من السلف في هذا الباب قلنا‪ :‬ما وافق القياس من‬
‫روايته فهو معمول به‪ ،‬وما خالف القياس فإن تلقته المة بالقبول فهو معمول به‪ ،‬وإل‬
‫فالقياس الصحيح شرعا ً مقدم على روايته فيما ينسد باب الرأي فيه‪.‬‬
‫‪ 100‬صحيح مسلم ‪ 7‬و ‪ 8‬و ‪ ،9‬وجاء في مقدمة صحيح مسلم ]‪ [10‬عن مالك قوله‪" :‬اعلم‬
‫دث بكل ما سمع‪ ،‬ول يكون إماما ً أبدًا‪ ،‬وهو يحدث بكل ما سمع"‪.‬‬ ‫أنه ليس يسلم رجل ح ّ‬
‫‪ 101‬الذهبي "تذكرة الحفاظ" في ترجمة عمر بن الخطاب ج ‪1‬ص ‪.7‬‬
‫رسول ال ‪ ‬في حديث يحدثه‪" :‬إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع‬
‫ي حتى إذا قضى رسول ال ‪ ‬مقالته‬ ‫إليه ثوبه إل وعى ما أقول" فبسطت نمرة عل ّ‬
‫جمعتها إلى صدري فما نسيت مقالة رسول ال ‪ ‬تلك من شيء") (‪ ،‬مما يوحي أن‬
‫‪102‬‬

‫أبا هريرة لم يرو حديث ذم كثرة الرواية وإنما ُنسب إليه‪ ،‬أو أنه كان ل يرى أن الرواية‬
‫عن النبي ‪ ‬تدخل ضمن إطار المنع من التحديث بكل شيء‪ ،‬وأنه لم يدرك أبعاد نهي‬
‫النبي ‪ ‬والخلفاء من بعده للرواية‪.‬‬
‫ونحن ل نشكك في صفاء عقيدة أبي هريرة ول في نقاء سريرته‪ ،‬ولكن رواياته‬
‫عن أهل الكتاب جّرت بلًء على المة‪ ،‬كما أن الوضاعين اتخذوا أبا هريرة تكئة لتعليب‬
‫الروايات ونسبتها إلى الرسول ‪ ،‬فكثرة روايات أبي هريرة خاصة في الغرائب‬
‫والعجائب التي نقلها عن كعب الحبار‪ ،‬تسّهل على هؤلء وضع الحاديث على لسان‬
‫أبي هريرة ونسبتها إلى الرسول ‪ ‬لدمغها بخاتم العصمة واللزام‪.‬‬

‫عملية التدوين الرسمية للروايات‪:‬‬


‫رأينا سابقًا أن عملية رواية الحديث قد بدأت مبكرًا في عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬إل‬
‫أن أبا بكر وعمر استطاعا تضييق الخناق عليها‪ ،‬وكثرت بعد ذلك في عهد عثمان بن‬
‫عفان‪ ،‬وازدادت زيادة مهولة في العصر الموي‪ ،‬إل أن تلك العملية كانت مبعثرة وغير‬
‫منظمة‪ ،‬وبدأت عملية التدوين الرسمية في عهد الدولة العباسية‪ ،‬في عهد أبي جعفر‬
‫المنصور العباسي الذي أمر مالك بن أنس بتأليف كتابه "الموطأ")‪ ،(103‬ثم ظهرت بعد‬
‫ذلك كتب الحديث المدونة في كنف الدولة العباسية‪.‬‬
‫بيد أن الدولة الموية كان لها قدم السبق في تسييس عملية الرواية وجعلها تتم في‬
‫كنفها‪ ،‬فأول من قام بعملية جمع للروايات تحت عين السلطة الموية هو الزهري الذي‬
‫كان أحد علماء البلط الموي‪ ،‬حيث لزم عبد الملك بن مروان‪ ،‬ثم ولده الوليد‪ ،‬ثم‬
‫سليمان‪ ،‬ثم عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ثم يزيد)‪ .(104‬وكانت علقته بالسلطة الموية مح ّ‬
‫ل نقد‬
‫من بعض المحّدثين أنفسهم‪ ،‬فقد قال عنه مكحول‪" :‬أي رجل هو لول أفسد نفسه بصحبة‬
‫الملوك")‪ .(105‬وقد كتب إليه عشرون ومائة من الفقهاء يؤنبونه ويعيرونه بما فعل منهم‬
‫التابعي الكبير جابر بن زيد)‪ ،(106‬وصحبته للملوك دفعته إلى عيش حياة الترف‪،‬‬
‫ومحاولة إخفاء خيوط الشيب‪ ،‬فقد كان يخضب لحيته بالسواد حتى أن مالك بن أنس‬

‫‪ 102‬البخاري ‪ ،2047‬ومسلم ]‪ .(2492)-159[6397‬وحديث ضم ثوب أبي هريرة بالروايات فلم ينس منها شيئًا هو‬
‫حديث آحادي ل تثبت به معجزة‪ ،‬والواقع يخالفها‪ ،‬فكم من رواية ردها الصحابة لن ابا هريرة لم يضبطها‪ ،‬وهذه‬
‫الرواية من جنس الروايات العجيبة التي استنكرها الصحابة على أبي هريرة‪ .‬وقد روى مسلم نفس هذه الرواية من‬
‫طريق مالك بن أنس برقم ]‪ [6398‬وقال‪" :‬غير أن مالكًا انتهى حديثه عند انقضاء قول أبي هريرة‪ ،‬ولم يذكر في‬
‫حديثه الرواية عن النبي ‪) :‬من يبسط ثوبه( إلى آخره"!‪.‬‬
‫‪ 103‬عبد الوهاب عبد اللطيف في مقدمته على كتاب "موطأ مالك" ص ‪.12‬‬
‫‪ 104‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪5‬ص ‪.331‬‬
‫‪ 105‬الذهبي نفس المصدر ج ‪5‬ص ‪.339‬‬
‫‪ 106‬أبو يعقوب الورجلني "الدليل والبرهان" ج ‪1‬ص ‪.20‬‬
‫انخدع به وظنه شابًا)‪ .(107‬ومع كل ذلك فقد كان مدلسًا لم يلتق بالكثير من الصحابة الذين‬
‫روى عنهم!‪ ،‬حتى قال يحيى بن سعيد القطان‪" :‬مرسل الزهري شر من مرسل‬
‫غيره")‪ ،(108‬وكان الشافعي يقول‪" :‬إرسال الزهري ليس بشيء‪ ،‬لنا نجده يروي عن‬
‫سليمان بن أرقم)‪ ،(109‬وقد بيّنا في مقدمة الكتاب دور السلطة الموية في تجنيد المحدثين‬
‫لترسيخ أفكارها وعقائدها!‪.‬‬
‫بالضافة إلى ذلك كان المويون يقومون بإرهاب العلماء الذين يعارضون‬
‫السلطة الموية‪ ،‬ويرفضون الفكر الموي المستورد من الديانات المحرفة‪ ،‬حيث قاموا‬
‫بجلد ربيعة بن أبي عبد الرحمن أستاذ مالك بن أنس‪ ،‬وكان ذلك بسبب وشاية المحّدث‬
‫ل لهؤلء حتى‬ ‫أبي الزناد الذي وصفه مالك بن أنس بالعمالة لبني أمية‪" :‬لم يزل عام ً‬
‫مات" وقال‪" :‬وكان صاحب عّمال يتبعهم")‪.(110‬‬
‫ثم فشا التدوين في الطبقة التي تلي الزهري‪ ،‬فكان أول من جمع الروايات ابن‬
‫جريج بمكة‪ ،‬وابن إسحاق ومالك بالمدينة‪ ،‬والربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة‬
‫وحماد بن سلمة بالبصرة‪ ،‬وسفيان الثوري بالكوفة‪ ،‬والوزاعي بالشام‪ ،‬وهشيم بواسط‬
‫ومعمر باليمن‪ ،‬وجرير بن عبد الحميد بالري)‪.(111‬‬
‫أما ابن جريج فقد اشتهر بالتدليس حتى قال عنه أحمد بن حنبل‪ :‬بعض هذه‬
‫الحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة‪ ،‬كان ابن جريج ل يبالي من‬
‫أين يأخذها‪ .‬وقد تزوج سبعين امرأًة بالمتعة)‪ .(112‬ومحمد بن إسحاق المدني وّهاه‬
‫كثيرون كالدارقطني والنسائي ويحيى بن سعيد القطان ومالك وغيرهم وحشا السيرة‬
‫النبوية أشياء منكرة منقطعة وأشعارًا مكذوبة)‪ ،(113‬وصاحبا الصحيح لم يحتجا به‪ ،‬إنما‬
‫استشهد مسلم به في أحاديث معدودة‪ ،‬ربما خمسة قد رواهن غيره‪ ،‬وذكره البخاري في‬
‫الشواهد ذكرًا من غير رواية)‪.(114‬‬
‫أما مالك بن أنس فقد صنف كتابه "الموطأ" الذي تكلم فيه كثير من أهل الحديث‬
‫لما حوى من أحاديث مرسلة ومنقطعة وبلغات‪ ،‬وقد صّنفه ابن حزم ضمن الدرجة‬
‫الثالثة من الكتب المقبولة في الحديث! مقدمًا عليه كتب السنن والمسانيد)‪ ،(115‬وأشهر‬
‫رواة "الموطأ" هو يحيى بن يحيى بن كثير‪ ،‬وقد شك في سماعه لبعض روايات الموطأ‬
‫فرواه عن زياد بن عبدال شبطون عن مالك‪ .‬ويحيى بن يحيى هذا قال عنه ابن عبد البر‪:‬‬
‫‪ 107‬الذهبي نفس المصدر ج ‪5‬ص ‪.344‬‬
‫‪ 108‬الذهبي نفس المصدر ج ‪5‬ص ‪.338‬‬
‫‪ 109‬الذهبي نفس المصدر ج ‪5‬ص ‪.339‬‬
‫‪ 110‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪8‬ص ‪ ،103‬العقيلي "الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪ ،251‬راجع حسن‬
‫السقاف في تعليقه على كتاب "العّلو" للذهبي ص ‪.382-381‬‬
‫‪ 111‬معظم حسين في مقدمته على كتاب "معرفة علوم الحديث" للحاكم النيسابوري‪.‬‬
‫‪ 112‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪.659‬‬
‫‪ 113‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪3‬ص ‪.475-469‬‬
‫‪ 114‬البيهقي "السماء والصفات" ص ‪.577‬‬
‫‪ 115‬عبد الوهاب عبد اللطيف في مقدمة "موطأ مالك برواية محمد بن حسن الشيباني" ص‬
‫‪.14‬‬
‫"لم يكن له بصر بالحديث‪ ،‬وأن له وهمًا وتصحيفًا في مواضع كثيرة من الموطأ")‪.(116‬‬
‫والثاني هو محمد بن الحسن الشيباني ضعفه النسائي وغيره من جهة حفظه)‪ ،(117‬وقال‬
‫عنه يحيى بن معين جهمي كذاب‪ ،‬وفي رواية‪ :‬ضعيف‪ ،‬وقال عنه أسد بن عمرو أنه‬
‫كذاب)‪.(118‬‬
‫أما الربيع بن صبيح فقد ضعفه شعبة جدًا‪ ،‬وقال عنه أبو الوليد أنه كان يدلس‪،‬‬
‫ورفض يحيى بن معين الحديث عنه‪ ،‬وقال عفان‪ :‬أن أحاديثه مقلوبة كلها)‪ .(119‬أما سعيد‬
‫بن أبي عروبة فهو قدري مدلس اختلط في آخره حتى يروى أنه يقول "مالك خازن النار‬
‫ي هو؟")‪ .(120‬أما حماد بن سلمة فله أوهام‪ ،‬احتج به مسلم في أحاديث معدودة‬ ‫يح ّ‬ ‫من أ ّ‬
‫‪121‬‬
‫في الصول من طريق ثابت وتحايده البخاري) (‪ ،‬ساء حفظه حين كبر وكان يحدث‬
‫من كتابه وضاع كتابه فقام يحدث الناس من حفظه‪ ،‬انفرد بأحاديث منكرة في‬
‫الصفات)‪ (122‬من بينها "أن ال خلق ذاته من عرق الخيل")‪.(123‬‬
‫أما سفيان الثوري فكان ل ينتقي الرجال الذين يروي عنهم‪ ،‬وقال عنه ابن‬
‫المبارك‪ :‬حّدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلسه‪ ،‬فلما رآني استحى وقال نرويه عنك!‬
‫)‪ ،(124‬وقال عنه الخطيب البغدادي‪" :‬حب السناد وشهوة الراوية غلبا على قلبه‪ ،‬حتى‬
‫كان يحدث عن الضعفاء‪ ،‬ومن ل يحتج بروايته‪ ،‬فمن اشتهر منهم باسمه ذكر كنيته‬
‫تدليسًا للرواية عنه")‪ .(125‬أما الوزاعي فقد قال عنه يحيى بن معين أنه في الزهري‬
‫ليس بذاك‪ ،‬وقال أحمد بن حنبل إن حديثه ضعيف‪ ،‬وأنه يحتج في حديثه بمن لم يقف على‬
‫حاله‪ ،‬وأنه يحتج بالمقاطيع)‪.(126‬‬
‫أما هشيم فهو مدلس مشهور‪ ،‬فقد قال عنه أحمد بن حنبل أنه حدث عن جماعة لم‬
‫يسمع منهم‪ ،‬وقال سفيان الثوري‪ :‬هشيم ل تكتبوا عنه‪ ،‬وقال الهروي‪ :‬إن هشيمًا كتب عن‬
‫الزهري نحوًا من ثلثمائة حديث‪ ،‬فكانت في صحيفة‪ ،‬فجاءت الريح فرمت الصحيفة‪،‬‬
‫فنزلوا فلم يجدوها‪ ،‬وحفظ هشيم منها تسعة أحاديث فقط!)‪ ،(127‬وتغير بآخره‪ ،‬وقال عنه‬
‫يحيى بن معين‪ :‬ل يدري ما يخرج من رأسه)‪ .(128‬أما معمر بن راشد الزدي فقد قال‬

‫ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪11‬ص ‪.261‬‬ ‫‪116‬‬

‫الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪ ،282‬و "ميزان العتدال" ج ‪3‬ص ‪.515‬‬ ‫‪117‬‬

‫العقيلي "الضعفاء" ج ‪4‬ص ‪.55-52‬‬ ‫‪118‬‬

‫العقيلي "الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪ ،52‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪.42-41‬‬ ‫‪119‬‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪ ،153-151‬العقيلي "الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪115-111‬‬ ‫‪120‬‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪،595-590‬‬ ‫‪121‬‬

‫ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪3‬ص ‪.14-11‬‬ ‫‪122‬‬

‫أوردها من طريقه البيهقي "السماء والصفات" ج ‪2‬ص ‪.529‬‬ ‫‪123‬‬

‫ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪4‬ص ‪.104-101‬‬ ‫‪124‬‬

‫الخطيب البغدادي "شرف أصحاب الحديث" ص ‪.119‬‬ ‫‪125‬‬

‫ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪6‬ص ‪.218-215‬‬ ‫‪126‬‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪4‬ص ‪.308-306‬‬ ‫‪127‬‬

‫ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪11‬ص ‪.56-53‬‬ ‫‪128‬‬


‫أبو حاتم إن في أحاديثه أغاليط‪ ،‬وقال يحيى بن معين‪ :‬معمر عن ثابت‪ :‬ضعيف)‪،(129‬‬
‫وقال ابن معين‪ :‬إذا حدثك عن العراقيين فخالفه)‪.(130‬‬
‫أما جرير بن عبد الحميد فقد قال عنه أحمد بن حنبل‪ :‬لم يكن بالذكي في الحديث‪،‬‬
‫اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الحول‪ ،‬وقال أبو حاتم‪ :‬تغّير قبل موته‪ ،‬وقال البيهقي‬
‫في سننه‪ :‬قد نسب آخر عمره إلى سوء الحفظ‪ ،‬وقال الشاذكوني‪ :‬وكان جرير قد حدثنا‬
‫عن "مغيرة عن إبراهيم" في طلق الخرس‪ ،‬ثم حثنا به "عن سفيان عن مغيرة عن‬
‫إبراهيم"‪ ،‬قال‪ :‬فبينا أنا عند ابن أخيه إذ رأيت على ظهر كتاب لبن أخيه‪" :‬عن ابن‬
‫المبارك عن سفيان بالحديث"‪ ،‬وكان هذا حديثاً موضوعًا‪ ،‬فسألته‪ ،‬فقال‪ :‬حدثنيه رجل‬
‫خراساني عن ابن المبارك‪ .‬فقلت له‪ :‬قد حدثت به مرة عن مغيرة‪ ،‬ولست أراك تقف على‬
‫شيء)‪ ،(131‬قال ابن حجر العسقلني معلقًا على هذه القصة‪" :‬إن صحت رواية‬
‫الشاذكوني فجرير كان يدلس")‪.(132‬‬

‫الرواية مع أهل الحديث‪:‬‬


‫وحرموا على‬
‫ثم ورث هذا الرث كله أهل الحديث الذين استأثروا به لنفسهم ّ‬
‫كل من خالفهم الولوج في بحره‪ ،‬فقد قال ابن سيرين‪" :‬لم يكونوا يسألون عن السناد‪،‬‬
‫فلما وقعت الفتنة‪ ،‬قالوا‪ :‬سموا لنا رجالكم‪ ،‬فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم‪ ،‬وينظر‬
‫إلى أهل البدع فل يؤخذ حديثهم")‪ ،(133‬وقال عبدال بن المبارك‪" :‬بيننا وبين القوم‬
‫القوائم‪ ،‬يعني السناد")‪ .(134‬لقد أراد أهل الحديث أن يكونوا هم الورثة الوحيدين لتركة‬
‫بني أمية الروائية‪ ،‬فقّعدوا القواعد ورسخوا البنيان لمنع تسلل أي أحد من غير هذه‬
‫المنظومة إلى فنائها‪ ،‬فلهذا فمن النادر أن تجد راويًا من خارج منظومة أهل الحديث إل‬
‫والجرح قد سبقه!‪.‬‬
‫فها هو أحمد بن حنبل إمام هذه المدرسة بل منازع يحّرم على أتباعه الخذ من‬
‫أصحاب أبي حنيفة حيث يقول عنهم‪" :‬أصحاب أبي حنيفة ليس ينبغي أن يروى عنهم‬
‫شيء")‪ ،(135‬ولما أخذ أحد أتباعه كتب أبي حنيفة هجره أحمد‪ ،‬وكتب إليه "إن تركت‬
‫كتب أبي حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك")‪ ،(136‬بل قد وصل بهم المر إلى درجة‬

‫‪ 129‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪4‬ص ‪.154‬‬


‫‪ 130‬ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪10‬ص ‪.221-219‬‬
‫‪ 131‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪ ،396-394‬العقيلي "الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪.200‬‬
‫‪ 132‬ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪2‬ص ‪.69‬‬
‫‪ 133‬مقدمة صحيح مسلم ]‪ ،[27‬والترمذي في "العلل" الملحق بكتاب "سنن الترمذي" ص‬
‫‪.1072‬‬
‫‪ 134‬مقدمة صحيح مسلم ]‪.[32‬‬
‫‪ 135‬العقيلي "كتاب الضعفاء الكبير" ج ‪1‬ص ‪ 23‬في ترجمة أسد بن عمرو البجلي‪) :‬حدثنا‬
‫عبدالله بن أحمد قال‪ :‬سألت أبي عن أسد بن عمرو‪ ،‬صدوق؟ قال‪(.. :‬‬
‫‪ 136‬محمد بن عبد الوهاب "الدرر السنية في الجوبة النجدية" جمع عبد الرحمن بن محمد‬
‫القحطاني ج ‪1‬ص ‪35‬‬
‫تكفيره!‪ ،‬حيث قال أحدهم "اذهب إلى الكافر يعني أبا حنيفة" وقال آخر‪" :‬ما ولد في‬
‫السلم مولد أشأم عليه من أبي حنيفة" وقال غيره‪" :‬أبو حنيفة هذا‪ ،‬وال إني لرجو أن‬
‫يدخله ال عز وجل نار جهنم")‪.(137‬‬
‫ومع أن محمدًا بن إدريس الشافعي كان المنظر الساسي والمبلور الرئيسي‬
‫للنظرة الجرئية النصوصية التي قام عليها فقه أهل الحديث إل أن اعتماد الشافعي على‬
‫آليات عقلية كالقياس‪ ،‬نّفرت منه كثيرًا من أهل الحديث‪ ،‬فقد تحاشا البخاري ومسلم‬
‫الرواية عنه)‪ ،(138‬ولم يرو عنه أبو داود إل حديثًا واحدًا)‪ ،(139‬وقال عنه ابن أبي حاتم‪:‬‬
‫"كان الشافعي فقيهًا‪ ،‬ولم تكن له معرفة بالحديث")‪.(140‬‬
‫أما مالك بن أنس فمع انخراطه في سلك الرواية إل أنه أصيب ببعض شرر أهل‬
‫الحديث بسبب منهجه المتقدم في محاكمة الروايات الحادية إلى السنة العملية الجارية‬
‫عند أهل المدينة‪ ،‬وقد نقل أحمد بن حنبل أن ابن أبي ذئب كان يقول أن المام مالك‬
‫يستحق القتل!‪ ،‬وقال‪" :‬كان يقول في مالك وفي تركه الحديث يرويه عن النبي ‪،‬‬
‫وذكر له "البيعان بالخيار ما لم يفترقا" وترك مالك الخذ به‪ ،‬حتى يبلغ به‪ ،‬يعني‬
‫يقتل")‪ .(141‬وأحمد بن حنبل نفسه يصف مالك بن أنس بالتخليط!‪ ،‬فقد قال ابن أبي يعلى‪:‬‬
‫"وذكر له ابن الشافعي عن الحديث الذي يرويه مالك عن النبي ‪ ‬وخالفه‪ ،‬فقال‪ :‬هذا‬
‫تخليط")‪ .(142‬يقول النووي مبينًا سبب الفجوة بين المام مالك وبين أهل الحديث‪" :‬وأما‬
‫قول مالك فهو اصطلح له وحده منفرد به عن العلماء فل يقبل قوله في رد السنن‪ ،‬لترك‬
‫فقهاء المدينة العلم بها وكيف يصح هذا المذهب؟ مع العلم بأن الفقهاء ورواة الخبار لم‬
‫يكونوا في عصره‪ ،‬ول في العصر الذي قبله منحصرين في المدينة‪ ،‬ول في الحجاز‪ ،‬بل‬
‫كانوا متفرقين في أقطار الرض مع كل واحد قطعة من الخبار ل يشاركه فيها أحد‪،‬‬
‫فنقلها ووجب على كل مسلم قبولها‪ ،‬ومع هذا فالمسألة متصورة في أصول الفقه غنية‬
‫عن الطالة فيها هنا‪ ،‬هذا كله لو سلم أن فقهاء المدينة متفقون على عدم خيار المجلس‪،‬‬
‫ولكن ليس هم متفقين‪ ،‬فهذا ابن أبي ذئب أحد أئمة فقهاء المدينة في زمن مالك أنكر على‬
‫مالك في هذه المسألة وأغلظ في القول بعبارات مشهورة‪ ،‬حتى قال‪ :‬يستتاب مالك من‬
‫ذلك")‪.(143‬‬
‫أما الباضية وهم من المعارضين السياسيين لحكم بني أمية‪ ،‬فقد كان لهم أهل‬
‫الحديث من أشد العداء‪ ،‬ويكفي الروايات التي حشيت بها كتب الحديث والتي تدعو إلى‬

‫عبدالله بن أحمد "كتاب السنة" ص ‪.223-148‬‬ ‫‪137‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪10‬ص ‪.5‬‬ ‫‪138‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪10‬ص ‪.5‬‬ ‫‪139‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.261‬‬ ‫‪140‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.292‬‬ ‫‪141‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.292‬‬ ‫‪142‬‬

‫النووي "المجموع" ج ‪9‬ص ‪.177‬‬ ‫‪143‬‬


‫قتلهم واستباحة أموالهم ونسائهم!‪ ،‬فقد حشرهم البخاري في زمرة الملحدة الذين يجوز‬
‫قتلهم)‪.(144‬‬
‫وقد نفر أهل الحديث من كل من شموا منه رائحة الفكر الإباضي حتى وصل بهم‬
‫المر إلى ردّ روايات التابعي الكبير عكرمة مولى عبدال بن عباس بسبب اتهامهم إياه‬
‫بأنه يرى رأي الباضية‪ ،‬علمًا بأن عكرمة كان من أفضل التابعين‪ ،‬حيث يقول عنه ابن‬
‫منده‪" :‬أما حال عكرمة في نفسه فقد عدّله أمة من التابعين منهم زيادة على سبعين رج ً‬
‫ل‬
‫من خيار التابعين ورفعائهم‪ ،‬وهذه منزلة تكاد ل توجد منهم لكبير أحد من‬
‫ل‪" :‬أحد أوعية العلم‪ ،‬تكلم فيه‬ ‫التابعين")‪ .(145‬وينقل لنا الذهبي رأي أهل الحديث فيه قائ ً‬
‫لرأيه ل لحفظه فاتهم برأي الخوارج‪ ،‬ابن المديني عن يعقوب الحضرمي عن جده قال‪:‬‬
‫وكان يرى رأي الباضية ‪ ...‬عن عطاء بن أبي رباح أن عكرمة كان إباضيًا")‪.(146‬‬
‫مثال آخر من أمثلة تجنّب أهل الحديث الرواية عن الباضية وغيرهم ممن‬
‫طان السدوسي إمام‬‫وصفته السلطة الموية بصفة الخوارج!‪ ،‬هو عمران بن ح ّ‬
‫الصفرية)‪ (147‬قال عنه الذهبي‪" :‬ل يتابع على حديثه قاله العقيلي قال وكان‬
‫خارجيا")‪ ،!(148‬علمًا بأن الذهبي نفسه قال عنه في نفس الموضع ما نصه‪" :‬فإن عمران‬
‫صدوق في نفسه‪ ،‬وقال العجلي‪ :‬تابعي ثقة‪ ،‬وقال أبو داود‪ :‬ليس في أهل الهواء أصح‬
‫حديثا من الخوارج")‪ ،(149‬وخالف البخاري مرة أخرى أهل الحديث فيه وروى عنه في‬
‫صحيحه‪.‬‬
‫المثال الخر على تجنّب المحّدثين للمنتسبين إلى فكر الباضية هو الوليد بن كثير‬
‫المخزومي الذي قال عنه الذهبي‪" :‬ثقة صدوق‪ ،‬حديثه في الصحاح ‪ ...‬قال ابن معين‪:‬‬
‫ثقة")‪ (150‬إل أنه هوجم من قبل أهل الحديث بسبب مذهبه! حيث ينقل الذهبي لنا موقف‬
‫ل‪" :‬قال أبو داود‪ :‬ثقة إل إنه إباضي‪ ،‬وقال ابن سعد‪ :‬ليس‬ ‫أهل الحديث من الوليد قائ ً‬
‫بذلك")‪.(151‬‬
‫والعجب كل العجب من هؤلء يقّرون بأن الإباضية هم أصحّ الناس حديثًا‬
‫وأصدقهم إل أنهم مع ذلك يتجنبون الرواية عنهم!‪.‬‬

‫‪ 144‬البخاري "باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم" انظر فتح الباري ج‬
‫‪14‬ص ‪.286‬‬
‫‪ 145‬ابن حجر العسقلني "إرشاد الساري" ص ‪602-597‬‬
‫‪ 146‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪3‬ص ‪ .97-93‬وقد خالف البخاري أهل الحديث‪ ،‬واحتج‬
‫بعكرمة في أكثر من موضع‪ ،‬كما احتج به بعض أصحاب السنن‪.‬‬
‫‪ 147‬كان الصفرية يشتركون مع الباضية في المعارضة السياسية والعسكرية مع السلطة‬
‫الموية إل أنهم يصفون العاصي بالشرك "التكفير" بعكس الباضية الذين يصفون العاصي‬
‫بالفسق ول يخرجونه من الملة‪ .‬راجع محمد بن إبراهيم الكندي "بيان الشرع" ج ‪3‬ص‬
‫‪.417‬‬
‫‪ 148‬الذهبي في "ميزان العتدال" ج ‪3‬ص ‪.235‬‬
‫ب البغدادي في "الكفاية" ص ‪.130‬‬ ‫‪ 149‬الذهبي المصدر السابق‪ ،‬ونقل كلم أبي دواد الخطي ُ‬
‫‪ 150‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪4‬ص ‪.345‬‬
‫‪ 151‬نفس المصدر السابق‪.‬‬
‫ل فعمرو بن عبيد أبو عثمان البصري‬ ‫ولم يكن الموقف من المعتزلة بأحسن حا ً‬
‫المعتزلي الذي قال عنه الذهبي‪" :‬مع زهده وتألهه ‪ ...‬وقد كان المنصور يخضع لزهد‬
‫عمرو وعبادته ‪ ...‬كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث واعتزل مجلس‬
‫الحسن هو جماعة عنده")‪ ،(152‬ومع كل هذا الزهد والعبادة في الرجل إل أن أهل الحديث‬
‫اختلقوا عليه الروايات للقدح في عدالته‪ ،‬حيث ينقل الذهبي موقف أهل الحديث من عمرو‬
‫ل‪" :‬ابن عون عن ثابت البناني قال‪ :‬رأيت عمرو بن عبيد في المنام وهو يحك آية من‬ ‫قائ ً‬
‫المصحف‪ ،‬فقلت‪ :‬أما تتقي ال؟ قال‪ :‬إني أبّدل مكانها خيرًا منها ‪ ...‬سمعت سعد بن معاذ‬
‫يصيح في مسجد البصرة يقول ليحيى القطان‪ :‬أما تتقي ال؟ تروي عن عمرو بن عبيد!‬
‫ب{ المسد‪ ،1 :‬في اللوح المحفوظ لم‬‫ب َوَت ّ‬
‫ت َيَدا َأِبي َلَه ٍ‬‫قد سمعته يقول‪ :‬لو كانت }َتّب ْ‬
‫يكن ل على العباد حجة")‪.(153‬‬
‫وقد اعتبر أحد علماء المسلمين رد أهل الحديث لرواية عمرو بن عبيد بأنها‬
‫"خيانة للسند‪ .‬لن الذي أوجب قبول خبر العدول يوجب قبول خبر هذا")‪.(154‬‬
‫أما واصل بن عطاء البصري إمام المعتزلة فقد كان أسوأ حظًا من صاحبه فقد‬
‫نسبه أهل الحديث إلى الكفر‪ ،‬يقول الذهبي في ترجمته لواصل بن عطاء‪" :‬وقال أبو الفتح‬
‫الزدي‪ :‬رجل سوء كافر")‪.(155‬‬

‫التناقض في المواقف‪:‬‬
‫وأهل الحديث مع تجريحهم لثقات المسلمين من المذاهب المختلفة الحنفية‬
‫والباضية والمعتزلة‪ ،‬يوثقون الضعفاء والمتروكين إذا ما وافقوا هواهم!‪ ،‬فها هما أحمد‬
‫ل ضعيفًا لرضاهما عنه‪ ،‬يقول الذهبي في ترجمة‬ ‫بن حنبل وتلميذه أبو حاتم يوثقان رج ً‬
‫عامر بن صالح بن عبدال‪" :‬واه لعل ما روى أحمد بن حنبل عن أحد أوهى من هذا‪ ،‬ثم‬
‫إنه سئل عنه فقال‪ :‬ثقة‪ ،‬لم يكن يكذب‪ .‬وقال الدارقطني‪ :‬يترك‪ ،‬وقال النسائي‪ :‬ليس بثقة‪.‬‬
‫ن أحمد! يحدث عن عامر بن صالح!‬ ‫وقال أبو داود‪ :‬سمعت يحيى بن معين يقول‪ :‬ج ّ‬
‫وقال ابن معين أيضًا‪ :‬ليس بشيء‪،‬وروى أحمد بن محمد بن محرز‪ ،‬عن ابن معين‪ ،‬قال‪:‬‬
‫كذاب خبيث عدو ال‪ ،‬فقلت لبن معين‪ :‬أحمد يحدث عنه‪ ،‬فقال‪ :‬هو يعلم أنا تركنا هذا‬
‫الشيخ في حياته‪ .‬قال أبو حاتم‪ :‬ما أرى بحديثه بأسًا")‪.(156‬‬
‫وها هو الذهبي نفسه يقدح في بشر المريسي المعتزلي ويصفه بشرب النبيذ حيث‬
‫قال عنه‪" :‬وكان جهميًا له قدر عند الدولة‪ ،‬وكان يشرب النبيذ")‪ .(157‬بينما يتأول لهل‬
‫الحديث الذين يشربون النبيذ كما في ترجمة وكيع بن الجراح‪ ،‬حيث قال‪" :‬فرضي ال‬
‫عن وكيع وأين مثل وكيع؟! ومع هذا فكان ملزمًا لشرب نبيذ الكوفة الذي يسكر الكثار‬
‫‪ 152‬الذهبي في "ميزان العتدال"ج ‪ 3‬ص ‪.280-273‬‬
‫‪ 153‬نفس المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ 154‬انظر عبد الجود ياسين "السلطة في السلم" ص ‪.152‬‬
‫‪ 155‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪4‬ص ‪.329‬‬
‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪.360‬‬ ‫‪156‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪10‬ص ‪.201‬‬ ‫‪157‬‬


‫ل في شربه ‪ ...‬ول يوبخ بما فعله باجتهاد")‪ .(158‬بل أن ابن حنبل نفسه‬ ‫منه فكان متأو ً‬
‫ل سكيرًا لنه يوافقه في المذهب!‪ ،‬فحين سأل عن خلف بن هشام وقيل له‪" :‬يا‬ ‫يوثق رج ً‬
‫أبا عبدال إنه يشرب"‪ .‬قال‪" :‬قد انتهى إلينا علم هذا عنه‪ ،‬ولكن هو وال عندنا الثقة‬
‫المين‪ ،‬شرب أو لم يشرب")‪.(159‬‬
‫ومن أفحش تعصبات أهل الحديث تعديلهم لحماد بن سلمة بن دينار البصري )ت‬
‫‪167‬هـ( الذي قال عنه أحمد بن حنبل‪ :‬هو أعلم الناس بحديث خاله حميد الطويل‪ .‬وقال‬
‫عنه يحيى بن معين‪ :‬هو أعلم الناس بثابت‪ .‬وقال عبد ال بن المبارك‪ :‬ما رأيت أحدًا أشبه‬
‫لول من حماد‪ .‬وقال ابن حبان‪ :‬ما أنصف من جانب حديث حماد‪ .‬وقال وهيب‪:‬‬ ‫بمسالك ا ُ‬
‫‪160‬‬
‫كان حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا) (‪ .‬وحماد هذا روى روايات منكرة شهد أئمة‬
‫الحديث أنفسهم ببطلنها!‪ ،‬منها عن أبي هريرة قال‪ :‬قيل‪ :‬يا رسول ال مم خلق ربنا؟‬
‫ل فأجراها فعرقت فخلق‬ ‫فقال‪" :‬من ماء مرور‪ ،‬ل من أرض ول من سماء‪ ،‬خلق خي ً‬
‫نفسه من ذلك العرق")‪ .(161‬هذه الرواية الساقطة التي قال عنها الجوزقاني‪" :‬هذا الحديث‬
‫كفر وزندقة ول ينقاس")‪ .(162‬حاول أهل الحديث تبرئة إمامهم حماد بن سلمة منها!‪،‬‬
‫وادعوا بأن محمد بن شجاع الثلجي وضعه على حماد بن سلمة ليشين به أهل‬
‫الحديث)‪ .(163‬ومحمد بن شجاع الثلجي )ت ‪266‬هـ( قال عنه ابن حجر‪" :‬قال ابن‬
‫المنادي‪ :‬كان يتفقه ويقرئ الناس القرآن‪ ،‬مات فجأة في ذي الحجة‪ .‬وقال أبو بكر أحمد‬
‫بن كامل القاضي‪ :‬كان فقيه العراق في وقته ‪ ...‬وكان المتوكل هم بتوليته القضاء‪ .‬فقيل‬
‫له‪ :‬هو من أصحاب بشر المريسي‪ ،‬فقال‪ :‬نحن نعد في أصحاب بشر‪ ،‬فقطع الكتاب‪ .‬قال‬
‫المروزي وثنا أبو إسحاق الهاشمي سمعت الزيادي يقول‪ :‬أشهدنا ابن الثلجي على‬
‫وصيته‪ ،‬وكان فيها‪ :‬ول يعطىمن ثلثي إل من قال‪ :‬القرآن مخلوق")‪ .(164‬فهو إذا من‬
‫علماء المعتزلة وفقهائهم‪ ،‬وكما هو معلوم أن المعتزلة يرون أن البهتان كبيرة تخلد‬
‫ل الثلجي رواية هذا الكفر البواح والكذب‬‫صاحبها في النار‪ ،‬فمن المستبعد جدًا أن يستح ّ‬
‫على رسول ال ‪.‬‬
‫واتهام أهل الحديث للثلجي ناتج من بغضهم للمعتزلة الذين وقفوا في صف‬
‫المأمون في محنة خلق القرآن التي راح ضحيتها الكثير من أئمة الحديث كنعيم بن حماد‬
‫وأحمد بن نصر الخزاعي كما سيأتي بيانه‪ .‬وقد نقل الذهبي عن الثلجي قوله‪" :‬حدثني‬
‫إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي‪ :‬قال‪ :‬كان حماد بن سلمة ل ُيعرف بهذه الحاديث –‬
‫يعني التي في الصفات‪ -‬حتى خرج مرة إلى عبادان‪ ،‬فجاء وهو يرويها‪ ،‬فل أحسب إل‬
‫‪ 158‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪9‬ص ‪.143‬‬
‫‪ 159‬ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.145‬‬
‫‪ 160‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪.592-590‬‬
‫‪ 161‬البيهقي السماء والصفات ص‪529 ،‬ابن الجوزي "الموضوعات" ج ‪1‬ص ‪ ،64‬أبو عبدالله‬
‫الجوزقاني "الباطيل والمناكير" ص ‪ ،50-49‬برقم ‪ 52‬و ‪.53‬‬
‫‪ 162‬أبو عبدالله الجوزقاني "الباطيل والمناكير" ص ‪.51‬‬
‫‪ 163‬الجوزقاني "الباطيل والمناكير" ص ‪ ،50‬البيهقي السماء والصفات ص ‪ ،529‬ابن‬
‫الجوزي "الموضوعات" ج ‪1‬ص ‪.64‬‬
‫‪ 164‬ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪9‬ص ‪.189‬‬
‫شيطانًا خرج إليه من البحر‪ ،‬فألقاها إليه")‪ .(165‬ومن الروايات المستنكرة التي رواها‬
‫حماد بن سلمة‪ ،‬ما نسب إلى النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬رأيت ربي جعدًا أمرد عليه حلة‬
‫خضراء")‪ .(166‬وروى أيضًا أن عبدال بن عباس قال‪" :‬أن محمدًا رأى ربه‪ ،‬في صورة‬
‫شاب أمرد‪ ،‬دونه ستر من لؤلؤ‪ ،‬قدميه أو رجليه في خضرة")‪.(167‬‬

‫أهل الحديث يكفر بعضهم بعضًا‪:‬‬


‫مع إقرار أهل الحديث بأن البخاري ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبا خيثمة‬
‫ومحمد بن سعد وابن أبي شيبة هم من كبار أئمة الحديث إل أنهم انقلبوا عليهم‪ ،‬وطعنوا‬
‫في دينهم‪ ،‬وتركوا الحديث عنهم بسبب موقفهم المخالف لعقيدة أهل الحديث‪.‬‬
‫‪168‬‬
‫ح كتب الحديث عند المحدثين) (‪:‬‬ ‫فمحمد بن إسماعيل البخاري صاحب أص ّ‬
‫تركه أهل الحديث حين رفض القرار لهم بأن لفظ القرآن غير مخلوق!‪ ،‬وقعد وحيدًا في‬
‫منزله‪ ،‬فمرقوا عليه وقالوا له‪" :‬ترجع عن هذا القول حتى نعود إليك")‪ ،(169‬وقال فيه‬
‫أحدهم‪" :‬أل من يختلف إلى مجلسه فل يختلف إلينا فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في‬
‫اللفظ ونهيناه فلم ينته فل تقربوه ومن يقربه فل يقربنا")‪ ،(170‬وقال فيه أيضًا‪" :‬من زعم‬
‫أن القرآن مخلوق فقد كفر‪ ،‬وخرج عن اليمان‪ ،‬وبانت منه امرأته‪ ،‬يستتاب فإن تاب وإل‬
‫ضربت عنقه‪ ،‬وجعل ماله فيئًا بين المسلمين‪ ،‬ولم يدفن في مقابرهم‪ ،‬ومن وقف فقال ل‬
‫أقول مخلوق مخلوق‪ ،‬فقد ضاهى الكفر‪ ،‬ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع‬
‫ل يجالس ول يكلم‪ ،‬ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه")‪.(171‬‬
‫وقال فيه أيضًا‪" :‬قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية واللفظية عندي شر من‬
‫الجهمية")‪ .(172‬وتركه كذلك أبو حاتم وأبو زرعة الرازي بسبب موقفه من لفظ القرآن‪،‬‬
‫يقول ابن أبي حاتم‪" :‬قدم محمد بن إسماعيل الري سنة خمسين ومئتين وسمع منه أبي‬
‫وأبو زرعة وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن‬
‫لفظه بالقرآن مخلوق")‪ .(173‬وطرده أمير بخارى من بلده لنفس السبب)‪.(174‬‬
‫وقد ذكر ابن الجوزي موقف أحمد بن حنبل وأتباعه من كبار أئمة المحّدثين الذين‬
‫أقّروا بخلق القرآن بعد أن هددهم الخليفة العباسي المأمون وناظرهم بالمعتزلة‪ ،‬ومن‬
‫هؤلء الئمة‪ :‬يحيى بن معين‪ ،‬وعلي بن المديني‪ ،‬ومحمد بن سعد صاحب "الطبقات‬
‫‪ 165‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪.593‬‬
‫‪ 166‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪.593‬‬
‫‪ 167‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪.593‬‬
‫‪ 168‬ابن الصلح "مقدمة ابن الصلح في علوم الحديث" ص ‪.23‬‬
‫‪ 169‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪12‬ص ‪.454‬‬
‫‪ 170‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪12‬ص ‪.455‬‬
‫‪ 171‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪12‬ص ‪.456‬‬
‫‪ 172‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪12‬ص ‪ .459‬قال أحمد بن حنبل‪" :‬من قال لفظي‬
‫بالقرآن مخلوق فهو جهمي كافر"اهـ‪ .‬نقله ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.113‬‬
‫‪ 173‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪12‬ص ‪.462‬‬
‫‪ 174‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪12‬ص ‪.463‬‬
‫الكبرى"‪ ،‬وابن أبي شيبة وأبو خيثمة زهير بن حرب‪ ،‬وأبو نصر التمار)‪ .(175‬وقد رفض‬
‫أحمد بن حنبل الكتابة والتحديث عن أبي النصر التمار‪ ،‬كما أنه لم يصل عليه حين‬
‫مات)‪ .(176‬أما أبو خيثمة فقد أغلق أحمد بن حنبل الباب في وجهه‪ ،‬وحين جاء يحيى بن‬
‫معين يزوره في مرضه أعرض عنه‪ ،‬ولم يكلمه حتى أنه لم يرد عليه السلم)‪ .(177‬وقال‬
‫أحمد بن حنبل‪" :‬وما يدري يحيى بن معين؟ فكل شيء يعرفه يحيى اضرب عليه")‪.(178‬‬
‫وقال الذهبي‪" :‬قال ابن المقري‪ :‬سمعت محمد بن عقيل البغدادي يقول‪ :‬قال إبراهيم بن‬
‫هانئ‪ :‬رأيت أبا داود يقع في يحيى بن معين‪ ،‬فقلت‪ :‬تقع في مثل يحيى ! فقال‪ :‬من جرّ‬
‫ذيول الناس جرّوا ذيله ‪ ...‬وقد قال أحمد بن حنبل‪ :‬أكره الكتابة عمن أجاب في المحنة‬
‫كيحيى وأبي نصر التمار")‪.(179‬‬
‫أما علي بن المديني فكان أكثر من تضرر بشرر الحنابلة‪ ،‬فقد اتهمه أحمد بن‬
‫حنبل بأنه يغير ألفاظ الروايات ليرضي السلطة)‪ ،(180‬وأنه يروي عن أحمد بن أبي دواد‬
‫ويوهم الناس أنه يروي عن أحمد بن حنبل وذلك بقوله عن أبي عبدال)‪ ،(181‬وأنه يجري‬
‫ونعله في يده‪ ،‬وثيابه في فمه ليصلي خلف المعتزلة)‪ ،(182‬واعتبره العقيلي من الضعفاء!‬
‫حيث قال عنه‪" :‬جنح إلى ابن أبي داود والجهمية ‪ ...‬قرأت على عبدال بن أحمد كتاب‬
‫"العلل" عن أبيه فرأيت فيه حكايات كثيرة عن أبيه عن علي بن عبدال‪ ،‬ثم قد ضرب‬
‫اسمه وكتب فوقه حدثنا رجل ثم ضرب فوق الحديث كله‪ ،‬فسألت عبدال فقال‪ :‬كان أبي‬
‫‪-‬يقصد أحمد بن حنبل‪ -‬حدثنا عنه ثم أمسك عن اسمه‪ ،‬وكان يقول‪ :‬يقول حدثنا رجل ثم‬
‫ترك حديثه بعد ذاك ‪ ...‬قال الحضرمي‪ :‬قال لنا عمرو بن محمد وذكر علي بن المديني‪،‬‬
‫وقال‪ :‬زعم المخذول في هذا الحديث")‪.(183‬‬
‫أما ابن جرير الطبري فقد قال الذهبي‪" :‬ما أعلم على أديم الرض أعلم من محمد‬
‫بن جرير ولقد ظلمته الحنابلة")‪ ،(184‬وقال‪" :‬وقد وقع بين ابن جرير وبين ابن أبي داود‬
‫وكان كل منهما ل ينصف الخر وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود فكثروا‬
‫وشغبوا على ابن جرير وناله أذى ولزم بيته نعوذ بال من الهوى")‪.(185‬‬
‫يقول الكوثري في مقدمة كتاب "نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية" للزيلعي‪:‬‬
‫"وقال ابن الجوزي في "التلبيس"‪ :‬ومن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث‪ ،‬قدح‬
‫بعضهم في بعض‪ ،‬طلبًا للتشفي‪ ،‬ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله‬
‫‪ 175‬ابن الجوزي "مناقب أحمد بن حنبل" ص ‪ ،519‬وذكر منهم ابن أبي شيبة ص ‪.525‬‬
‫ابن الجوزي "مناقب أحمد بن حنبل" ص ‪.519‬‬ ‫‪176‬‬

‫‪ 177‬ابن الجوزي "مناقب أحمد بن حنبل" ص ‪.523‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.266‬‬ ‫‪178‬‬

‫‪ 179‬الذهبي في "ميزان العتدال" ج ‪3‬ص ‪.410‬‬

‫‪ 180‬ابن الجوزي "مناقب أحمد بن حنبل" ص ‪.525‬‬

‫‪ 181‬الذهبي" سير أعلم النبلء" ج ‪11‬ص ‪.56‬‬

‫‪ 182‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪11‬ص ‪.56‬‬

‫العقيلي "كتاب الضعفاء الكبير" ج ‪3‬ص ‪.240-235‬‬ ‫‪183‬‬

‫‪ 184‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪14‬ص ‪.273‬‬

‫‪ 185‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪14‬ص ‪.277‬‬


‫ل أعلم بالمقاصد‪ ،‬ودليل خبث هؤلء سكوتهم‬ ‫قدماء هذه المة‪ ،‬للذب عن الشرع‪ ،‬وا ّ‬
‫ل يشرح كيفية تلعب الهواء‬ ‫عمن أخذوا عنه"‪ .‬وقد أفرد الكوثري قبل ذلك بحثًا متكام ً‬
‫بالمحدثين في مسألة الجرح والتعديل قال فيه‪" :‬انظر قول ابن عدي في إبراهيم بن محمد‬
‫بن أبي يحيى السلمي‪ ،‬شيخ الشافعي‪) :‬نظرت الكثير من حديثه فلم أجد له حديثًا منكرًا(‬
‫مع أنك تعلم أقوال أهل النقد فيه‪ ،‬كأحمد وابن حبان‪ ،‬قال العجلي‪) :‬مدني‪ ،‬رافضي‪،‬‬
‫جهمي‪ ،‬قدري‪ ،‬ل يكتب حديثه(‪ ،‬بل كذبه غير واحد من النقاد‪ ،‬ولول أن الشافعي كان‬
‫يكثر منه‪ ،‬قدر إكثاره من مالك‪ ،‬لما سعى ابن عدي في تقوية أمره‪ ،‬استنادًا إلى قول مثل‬
‫ابن عقدة‪ .‬ومن معايب كامل ابن عدي‪ ،‬طعنه في الرجل بحديث‪ ،‬مع أن آفته الراوي عن‬
‫الرجل‪ ،‬دون الرجل نفسه‪ ،‬وقد أقر بذلك الذهبي في مواضع من "الميزان"‪ .‬ومن هذا‬
‫القبيل كلمه في أبي حنيفة في مروياته البالغة – عند ابن عدي – ثلثمائة حديث‪ ،‬وإنما‬
‫تلك الحاديث من رواية آباء بن جعفر النجيرمي‪ ،‬وكل ما في تلك الحاديث من‬
‫المؤاخذات كلها‪ ،‬بالنظر إلى هذا الراوي الذي هو من مشايخ ابن عدي‪ ،‬ويحاول ابن‬
‫عدي أن يلصق ما للنجيرمي إلى أبي حنيفة مباشرة"‪.‬‬

‫التدليس‪:‬‬
‫التدليس هو الستر والخفاء وعدم التبيين للعيب‪ ،‬يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي‪:‬‬
‫س في البيع وفي كل شيء‪ ،‬إذا لم يبّين له عيبه")‪ .(186‬والمحدثون يستخدمون نفس‬ ‫"وَذّل َ‬
‫‪187‬‬
‫هذ المعنى اللغوي لوصف التدليس في الحديث) (‪ .‬والتدليس في الحديث على ضربين‪:‬‬
‫ث أنه سمع الحديث من شخص معين وهو لم يسمعه منه‪ ،‬ومنه‬ ‫الول أن يوهم المحد ُ‬
‫أيضًا أن يسمع من ثقة حديثًا في إسناده رجل ضعيف فيقوم بحذف الضعيف من السناد‬
‫ل بالثقات‪ ،‬وهذا التدليس يعرف بالتسوية أي يسوي الثقات‬
‫بحيث يظهر السناد مسلس ً‬
‫بطرح الضعفاء‪ ،‬وهو شّر أنواع التدليس‪ .‬والضرب الثاني‪ :‬أن يسمع المحدث من شخص‬
‫ضعيف فيغير من اسم الضعيف أو كنيته حتى ل ُيعَرف أنه رواه عن ضعيف)‪.(188‬‬
‫وللتدليس مفاسد كثيرة‪ ،‬أهمها أنه سبيل للكذب على رسول ال ‪ ،‬وإفساد الدين‪،‬‬
‫وذلك بالرواية عن الكذابين والوضاعين والمجرحين‪ ،‬وقد حكم أئمة الحديث على‬
‫ي من أن أدلس"‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫ب أل ّ‬
‫المدلسين بأشنع الوصاف‪ ،‬يقول شعبة‪" :‬لن أزني أح ُ‬
‫"التدليس في الحديث أشد من الزنا‪ ،‬ولئن أسقط من السماء إلى الرض‪ ،‬أحب إليّ من أن‬
‫أدلس"‪ ،‬وقال‪" :‬التدليس أخو الكذب"‪ ،‬وقال حّماد بن أسامة "خرب ال بيوت المدلسين‪،‬‬
‫ما هم عندي إل كذابون"‪ ،‬وقال حماد بن زيد‪" :‬التدليس كذب"‪ ،‬ثم ذكر حديث النبي ‪‬‬
‫للمتشبع بم لم يعط "المتشبع بما لم يعط كلبس ثوبي زور" قال حماد‪" :‬ول أعلم المدلس‬
‫إل متشبعًا بما لم يعط" وقال عبدال بن المبارك‪" :‬لن نخّر من السماء أحب إلي من أن‬

‫‪ 186‬الخليل بن أحمد الفراهيدي "كتاب العين" ج ‪1‬ص ‪.588‬‬


‫‪ 187‬صالح بن سعيد عومار "التدليس" ص ‪.29‬‬
‫صرف‪.‬‬‫الخطيب البغدادي "الكفاية" ص ‪257‬وص ‪ 265‬بت ّ‬
‫‪188‬‬
‫أدلس حديثًا"‪ ،‬وقال وكيع‪" :‬نحن ل نستحل التدليس في الثياب فكيف في الحديث")‪.(189‬‬
‫حَمُدوْا ِبَما َلْم‬
‫ن َأن ُي ْ‬ ‫وقال الذهبي‪" :‬وهو –أي التدليس‪ -‬داخل في قوله تعالى‪ّ} :‬وُي ِ‬
‫حّبو َ‬
‫َيْفَعُلوْا{ آل عمران‪ ،188 :‬قلت‪ :‬والمدلس فيه شيء من الغش‪ ،‬وفيه عدم نصح‬
‫للمة")‪.(190‬‬
‫والذي يسمع هذا الكلم عن التدليس وأضراره وحكم فاعله يظن أن أئمة الحديث‬
‫لم يتلبسوا بشيء منه‪ ،‬إل أن الواقع بخلف ذلك فإنك ل تجد واحدًا منهم إل وقد اتهم‬
‫بالتدليس!‪ .‬ومن أئمة الحديث وغيرهم ممن عرف بالتدليس‪:‬‬
‫ابن شهاب الزهري‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬محمد بن مسلم بن عبيد ال بن شهاب‬
‫الزهري الفقيه المدني نزيل الشام مشهور بالمامة والجللة من التابعين وصفه الشافعي‬
‫والدارقطني وغير واحد بالتدليس")‪.(191‬‬
‫ومالك بن أنس‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬مالك بن أنس المام المشهور يلزم من جعل‬
‫التسوية تدليسا أن يذكره فيهم لنه كان يروى عن ثور بن زيد حديث عكرمة عن ابن‬
‫عباس‪ ،‬وكان يحذف عكرمة وقع ذلك ما حديث في الموطأ يقول عن ثور عن بن عباس‬
‫ول يذكر عكرمة وكذا كان يسقط عاصم بن عبد ال من إسناد آخر")‪ .(192‬وقال عنه ابن‬
‫كثير‪" :‬قلت‪ :‬الظاهر أن المام مالكًا إنما اسقط ذكر نعيم بن ريبعة عمدًا لما جهل حال‬
‫نعيم‪ ،‬ولم يعرفه فإنه غير معروف إل من هذا الحديث‪ ،‬ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن ل‬
‫يرتضيهم‪ ،‬ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات ويقطع كثيرًا من الموصولت")‪.(193‬‬
‫ومحمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬محمد بن إسماعيل بن إبراهيم‬
‫بن المغيرة البخاري المام وصفه بذلك أبو عبد ال بن مندة في كلم له فقال فيه أخرج‬
‫البخاري قال فلن وقال لنا فلن وهو تدليس")‪ .(194‬وقال عنه أيضًا‪" :‬كلم ابن الصلح‬
‫ل قال فلن‪،‬‬ ‫بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائ ً‬
‫ويوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ‪ .‬قلت‪ ... :‬ومنها ما ل يورده في‬
‫ي ‪ ...‬وأما قول‬ ‫مكان آخر من الصحيح مثل حديث الباب‪ ،‬فهذا مما كان أشكل أمره عل ّ‬
‫ابن الصلح أن الذي يورده بصيغة )قال( حكمه حكم السناد المعنعن‪ ،‬والعنعنة من غير‬
‫ل‪ ،‬فهو بحث وافقه‬ ‫المدلس محمولة على التصال‪ ،‬وليس البخاري مدلسًا‪ ،‬فيكون متص ً‬
‫عليه ابن مندة والتزمه‪ ،‬فقال‪ :‬أخرج البخاري )قال( وهو تدليس ‪ ...‬والذي يظهر لي أن‬
‫مراد ابن مندة أن صورته صورة التدليس لنه يورده بالصيغة المحتملة‪ ،‬ويوجد بينه‬
‫واسطة وهذا التدليس بعينه")‪.(195‬‬

‫‪ 189‬الخطيب البغدادي "الكفاية" ص ‪.257-255‬‬


‫‪ 190‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ‪ ،7/460‬نقله عنه صالح بن سعيد عومار في "التدليس" ص‬
‫‪.107‬‬
‫‪ 191‬ابن حجر العسقلني "طبقات المدلسين" ص ‪.45‬‬
‫‪ 192‬ابن حجر العسقلني "طبقات المدلسين" ص ‪.23‬‬
‫‪ 193‬ابن كثير "التفسير" ج ‪2‬ص ‪ ،296‬عند تفسير اليات ‪ 174-172‬من سورة العراف‪.‬‬
‫‪ 194‬ابن حجر العسقلني "طبقات المدلسين" ص ‪.24‬‬
‫‪ 195‬ابن حجر العسقلني "فتح الباري" ج ‪11‬ص ‪ ،177‬عند تعليقه على الحديث رقم ‪.5590‬‬
‫ومسلم بن الحجاج‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري‬
‫المام المشهور قال ابن مندة أنه كان يقول فيما لم يسمعه من مشائخه قال لنا فلن وهو‬
‫تدليس")‪.(196‬‬
‫وأبو داود الطيالسي‪ ،‬قال عنه ابن حجر "سليمان بن داود الطيالسي أبو داود‬
‫الحافظ المشهور بكنيته من الثقات المكثرين قال يزيد بن زريع سألته عن حديثين لشعبة‬
‫فقال لم أسمعهما منه قال ثم حدث بهما عن شعبة‪ .‬قال الذهبي ودلسهما عنه فكان‬
‫ماذا")‪.(197‬‬
‫وأبو نعيم الصفهاني‪ ،‬قال عنه ابن حجر العسقلني‪" :‬أحمد بن عبد ال بن أحمد‬
‫بن إسحاق الصبهاني الحافظ أبو نعيم‪ .‬صاحب التصانيف الكثيرة الشائعة‪ ،‬منها‪ :‬حلية‬
‫الولياء‪ ،‬ومعرفة الصحابة‪ ،‬والمستخرجين على الصحيحين‪ .‬كانت له إجازة من أناس‬
‫أدركهم ولم يلقهم‪ ،‬فكان يروى عنهم بصيغة أخبرنا ول يبين كونها إجازة‪ ،‬لكنه كان إذا‬
‫حدث عن من سمع منه يقول‪ :‬حدثنا‪ ،‬سواء كان ذلك قراءة أو سماعًا‪ ،‬وهو اصطلح له‬
‫تبعه عليه بعضهم‪ ،‬وفيه نوع تدليس")‪.(198‬‬
‫وسفيان الثوري‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬سفيان بن سعيد الثوري المام المشهور‬
‫الفقيه العابد الحافظ الكبير وصفه النسائي وغيره بالتدليس")‪ .(199‬وقال عنه ابن المبارك‪:‬‬
‫حدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلسه‪ ،‬فلما رآني استحى وقال نرويه عنك!)‪ .(200‬وقال‬
‫عنه الخطيب البغدادي‪" :‬حب السناد وشهوة الراوية غلبا على قلبه‪ ،‬حتى كان يحدث‬
‫عن الضعفاء‪ ،‬ومن ل يحتج بروايته‪ ،‬فمن اشتهر منهم باسمه ذكر كنيته تدليسًا للرواية‬
‫عنه")‪.(201‬‬
‫وسفيان بن عيينه‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬سفيان بن عيينة الهللي الكوفي ثم المكي‬
‫المام المشهور فقيه الحجاز في زمانه كان يدلس لكن ل يدلس إل عن ثقة ‪ ...‬ووصفه‬
‫النسائي وغيره بالتدليس")‪ .(202‬وهذا الدفاع البارد بأنه يدلس عن ثقة مردود بحقيقة أن‬
‫روايات الثقات تزيد في رصيد راويها فكيف يدلسها عنهم والتدليس مطعن في الرواية؟!‪.‬‬
‫وأيوب السختياني‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬أيوب بن أبي تميمة السختياني‪ ،‬أحد‬
‫الئمة متفق على الحتجاج به‪ ،‬رأى أنسًا ولم يسمع منه فحدث عنه بعدة أحاديث بالعنعنة‬
‫أخرجها عنه الدارقطني والحاكم في كتابهما")‪.(203‬‬

‫ص ‪.26‬‬ ‫‪ 196‬ابن حجر العسقلني "طبقات المدلسين"‬


‫ص ‪.33‬‬ ‫‪ 197‬نفس المصدر‬
‫ص ‪.18‬‬ ‫‪ 198‬ابن حجر العسقلني "طبقات المدلسين"‬
‫ص ‪.32‬‬ ‫‪ 199‬نفس المصدر‬
‫ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ج ‪4‬ص ‪.104-101‬‬ ‫‪200‬‬

‫الخطيب البغدادي "شرف أصحاب الحديث" ص ‪.119‬‬ ‫‪201‬‬

‫‪ 202‬نفس المصدر ص ‪.32‬‬


‫‪ 203‬نفس المصدر ص ‪.19‬‬
‫والدارقطني‪ ،‬قال عنه ابن حجر‪" :‬علي بن عمر بن مهدي الدارقطني الحافظ‬
‫المشهور‪ ،‬قال أبو الفضل بن طاهر كان له مذهب خفي في التدليس يقول قرئ على أبي‬
‫القاسم البغوي حدثكم فلن فيوهم أنه سمع منه لكن ل يقول وأنا أسمع")‪.(204‬‬
‫وسليمان بن مهران العمش‪ :‬قال عنه الذهبي‪" :‬ما نقموا عليه إل التدليس‪ ،‬قال‬
‫الجوزجاني‪ :‬قال وهب بن زمعة المروزي‪ :‬سمعت ابن المبارك يقول‪" :‬إنما أفسد حديث‬
‫أهل الكوفة أبو إسحاق والعمش‪ ،‬وقال جرير بن عبد الحميد‪ :‬سمعت مغيرة يقول‪ :‬أهلك‬
‫أهل الكوفة أبو إسحاق وأعميشكم هذا")‪.(205‬‬

‫الوضع في الحديث‪:‬‬
‫لقد كان للحداث السياسية التي مرت بها الدولة السلمية بعد مقتل الخليفة‬
‫عثمان بن عفان وانقسام المة إلى شيعة علي وشيعة معاوية أثره البالغ في تفشي الوضع‬
‫في الحديث للنتصار على الخر‪.‬‬
‫كانت بداية الوضع في الحديث مبكرة جدًا في عهد النبي ‪ ‬فقد قال‪ :‬عبدال بن‬
‫الحارث أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار")‪ (206‬في حق‬
‫عبدال بن أبي جذعة‪ ،‬أتى ثقيفا بالطائف‪ ،‬فقال‪ :‬هذه حلة رسول ال ‪ ‬أمرني أن أتبوأ‬
‫أي بيوتكم شئت‪ .‬فقالوا‪ :‬هذه بيوتنا فتبوأ أيها شئت‪ .‬فانتظر يخلو الليل‪ ،‬فقال‪ :‬وأتبوأ أي‬
‫نسائكم شئت‪ .‬فقالوا‪ :‬له إن عهدنا برسول ال ‪ ‬يحرم الزنا‪ ،‬فسنرسل إليه‪ ،‬فأرسلوا إليه‬
‫ل‪ ،‬فسار إليه‪ ،‬فأخبره القصة‪ ،‬فغضب رسول ال ‪ ‬غضبًا شديدًا فلذلك قال " من‬ ‫رسو ً‬
‫كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"‪.‬‬
‫واستمر التقول على رسول ال ‪ ‬في عصر الصحابة‪ ،‬وكان ذلك في روايات‬
‫التفسير والملحم حتى أن أحمد بن حنبل قال‪" :‬ثلثة ليس لها أصل‪ :‬التفسير والملحم‬
‫والمغازي")‪ .(207‬ففي التفسير جاء أن مروان بن الحكم حين كان واليًا لمعاوية على‬
‫الحجاز طلب من الناس مبايعة يزيد وليًا للمر بعد معاوية‪ ،‬فقال له عبد الرحمن بن أبي‬
‫بكر الصديق‪ :‬أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي ال عنه‪ ،‬وال ما جعلها في أحد من ولده وأهل‬
‫ل على ال‬ ‫بيته‪ ،‬ول جعلها معاوية في ولده إل رحمة وكرمة لولده‪ .‬فقال مروان متقو ً‬
‫ف ّلُكَما َأَتِعَداِنِني{ الحقاف‪:‬‬
‫ورسوله‪ :‬إن هذا الذي أنزل ال فيه }َواّلِذي َقاَل ِلَواِلَدْيِه ُأ ّ‬
‫‪ ،17‬فقالت عائشة رضي ال عنها من وراء الحجاب‪ :‬ما أنزل ال فينا شيئًا من القرآن إل‬

‫نفس المصدر ص ‪.22‬‬ ‫‪204‬‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪.224‬‬ ‫‪205‬‬

‫مسند الربيع بن حبيب برقم ‪ ،738‬وقصة سبب الحديث برقم ‪.739‬‬ ‫‪206‬‬

‫السيوطي "التقان في علوم القرآن" المجلد الثاني ص ‪.354‬‬ ‫‪207‬‬


‫أن ال أنزل عذري)‪ .(208‬وفي الملحم جاء عن أبي هريرة أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬ل تقوم‬
‫الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه")‪ ،(209‬رد هذا الحديث معاوية‬
‫ل منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب‬ ‫ابن أبي سفيان وقال‪" :‬أما بعد فإنه بلغني أن رجا ً‬
‫ال‪ ،‬ول تؤثر عن رسول ال ‪ .‬وأولئكم جهالكم‪ ،‬فإياكم والماني التي تضل‬
‫أهلها")‪.(210‬‬
‫ومن أوائل الشياء التي طرقها الوضع في الحديث هي فضائل الشخاص‪ ،‬حيث‬
‫وضع كل أصحاب مذهب الحاديث الكثيرة في فضائل أئمتهم ورؤساء أحزابهم‪ .‬فقد‬
‫تبنت الشيعة نظرية المامة الوراثية‪ ،‬وعلبوا للنتصار لنظريتهم روايات منسوبة للنبي‬
‫‪ ‬تزعم أن النبي ‪ ‬أوصى بالولية من بعده لعلي بن أبي طالب ثم لسلسلة بعينها من‬
‫أبناء فاطمة‪ ،‬وقابلهم أهل الحديث من شيعة معاوية بنصوص منسوبة إلى النبي ‪ ‬هي‬
‫عبارة عن مضادات نصية مقابلة للطرح الشيعي العلوي‪ ،‬ففي مقابل نص الوصية لعلي‬
‫ظهرت أحاديث في صحيح البخاري وغيره يجزم الطبري والشعري وابن حزم أنها‬
‫نص في الوصية لبي بكر‪ ،‬وفي مقابل الحاديث التي أوردها الشيعة العلويون في‬
‫ل عن إثبات حكمه‬ ‫الطعن على معاوية ظهرت أحاديث تسهب في فضله وكرامته فض ً‬
‫وخلفته‪ ،‬وفي مقابل فكرة المهدي العلوي التي اخترعها الشيعة‪ ،‬ظهرت نصوص عند‬
‫أهل الحديث تتكلم عن مهدي غير علوي كالمهدي الموي السفياني وكالمهدي‬
‫العباسي)‪.(211‬‬
‫وتفشى الوضع في الحديث بعد ذلك خاصة من قبل أعداء السلم الزنادقة ومنهم‬
‫عبد الكريم بن أبي العرجاء خال معن بن زائدة وربيب حماد بن سلمة إمام أهل الحديث‪،‬‬
‫وكان يدس الحاديث في كتب حماد)‪ ،(212‬ولما أمر بقتله قال‪" :‬وال لقد وضعت فيكم‬
‫أربعة آلف حديث أحرم فيها الحلل وأحل فيها الحرام‪ ،‬ولقد فطرتكم في يوم صومكم‬
‫وصومتكم في يوم فطركم")‪ ،(213‬وُروي عن المهدي أنه قال‪" :‬أقر عندي رجل من‬
‫الزنادقة أنه وضع أربعة مائة حديث‪ ،‬فهي تجول في أيدي الناس")‪ ،(214‬وكان حماد بن‬
‫زيد يقول‪" :‬وضعت الزنادقة على رسول ال ‪ ‬أربعة عشر ألف حديث")‪.(215‬‬
‫ضاعين زهاد المتصوفة وعبادها‪ ،‬وكان يحيى بن سعيد القطان‬ ‫ومن بين الو ّ‬
‫‪216‬‬
‫يقول‪" :‬ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه في من ينسب إلى الخير والزهد") ( حيث‬
‫ُيروى عن غلم خليل الزاهد العابد الذي يتقوت الباقل تصوفًا والذي أغلقت أسواق بغداد‬
‫‪ 208‬البخاري ‪ ،4827‬ونص كلم عبدالرحمن لمروان من رواية ابن أبي حاتم في تفسير ابن‬
‫كثير ج ‪4‬ص ‪.173‬‬
‫‪ 209‬البخاري ‪ 7117‬ومسلم ]‪.(2910)-60[7308‬‬
‫‪ 210‬البخاري ‪.7139‬‬
‫‪ 211‬عبد الجواد ياسين "السلطة في السلم" ص ‪ 236-235‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 212‬ابن الجوزي "الموضوعات" المقدمة ص ‪.15‬‬
‫‪ 213‬ابن الجوزي "الموضوعات" المقدمة ص ‪.15‬‬
‫‪ 214‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.15‬‬
‫‪ 215‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.16‬‬
‫‪ 216‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.18‬‬
‫يوم موته)‪ (217‬أنه سأل عن أحاديث الرقائق التي يحدث بها فقال‪" :‬وضعناها لنرقق بها‬
‫قلوب العامة")‪ ،(218‬وسئل ميسرة بن مهدي عن أحاديث "من قرأ كذا فله كذا" فقال‪:‬‬
‫"وضعتها أرغب الناس فيها")‪ ،(219‬وكان أبو داود النخعي أطول الناس قيامًا بليل‬
‫سئل أبو عصمة نوح بن أبي‬ ‫وأكثرهم صيامًا بنهار وكان يضع الحديث وضعًا)‪ ،(220‬و ُ‬
‫مريم المروزي من أين له عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟‬
‫فقال‪" :‬إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن‬
‫إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة")‪.(221‬‬
‫وكان الوضاعون من الخبث بمكان حتى أنهم كانوا يضعون لكل كلم استحسنوه‬
‫إسنادًا كما جاء عن محمد بن سعيد الذي قال‪" :‬ل بأس إذا كان كلم حسن أن تضع له‬
‫إسنادًا")‪ ،(222‬ومعلوم أن منهج أهل الحديث يقوم أساسًا على النظر في السند ويتجاهل‬
‫صعت بأسانيد جيدة)‪(223‬؟‪.‬‬ ‫المتن‪ ،‬فماذا عن الحاديث الموضوعة التي ر ّ‬

‫ملحظات على الجرح والتعديل‪:‬‬


‫وإن كنا ل ننكر بعض الجهود النظرية التي يقدمها لنا علم الحديث‪ ،‬من خلل‬
‫بعض الدوات النقدية التي استخدمها في وزن السانيد واختبارها‪ ،‬والوصول إلى درجة‬
‫ما من تنقية السنة وتبوبيها‪ ،‬إل أننا نتحفظ على هذه الحقيقة بعدة ملحظات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أدوات علم الحديث لم تستطع أن تحول بين التاريخ والنظمة الحاكمة‬
‫ل")‪.(224‬‬
‫والفرق الموازية لها فكريًا وسياسيًا‪ ،‬وبين العبث بالسنة إنشاءًا وتأوي ً‬
‫الثانية‪" :‬علم الحديث التقليدي كان يواجه معضلة عسيرة تتمثل في هذا الكم الهائل‬
‫من الروايات الواجب فحصها‪ ،‬وهذا العدد الغفير من الرواة الواجب وزنهم بالجرح‬
‫والتعديل‪ .‬ولكن هذه المعضلة بغير شك‪ ،‬كانت تحكمية إلى حد كبير‪ ،‬بمعنى أنه كان‬
‫بالوسع تلفيها من حيث البتداء‪ .‬لقد صنع أهل الحديث المشكلة بأيديهم‪ ،‬ثم راحوا‬
‫يجهدون أنفسهم لوضع الحلول لها‪ .‬وذلك أن عملية جمع الحديث وتدوينه لم تكتف‬
‫بالمتواتر والمستفيض أو المشهور الشائع كما كان ينبغي‪ ،‬بل راحت تفتش في ضرب‬
‫عجيب من المبالغة والنهم‪ ،‬وبقدر واضح من التصنع والفتعال عن كل خبر تشتم فيه‬

‫‪ 217‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.17‬‬


‫‪ 218‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.17‬‬
‫‪ 219‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.17‬‬
‫‪ 220‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.18‬‬
‫‪ 221‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.18‬‬
‫‪ 222‬ابن الجوزي نفس المصدر ص ‪.18‬‬
‫‪ 223‬يقول الشيخ أحمد بن سعود السيابي حفظه الله‪" :‬لعل هذا –من وجهة نظري‪ -‬الذي‬
‫ضخم الروايات عن أبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص وغيرهما‪ ،‬فأظن أن تلك‬
‫الروايات وضعت عنهم بالسانيد‪ ،‬ول استبعد أن يكون هناك تأثير شيعي في الموضوع‪،‬‬
‫حيث إنهما محسوبان على المويين من وجهة نظر الشيعة"اهـ‪.‬‬
‫‪224‬عبد الجواد ياسين "السلطة في السلم" ص ‪.25‬‬
‫رائحة النسبة إلى النبي ‪ ‬المر الذي فتح الباب واسعًا أمام سيل جارف من الروايات‬
‫والخبار")‪.(225‬‬
‫الثالثة‪ :‬يقول عبد الجواد ياسين‪" :‬نحن نزعم أن النص النهائي للسنة كتب في‬
‫غضون الفترة التالية للنقلب‪ .‬نعني بذلك أنه كتب على يد أهل الحديث‪ ،‬وفي ظل أجواء‬
‫العصبية والتعصب المصاحبة لحمى النتقام‪ .‬المر الذي ترك أثره الواضح في "القائمة‬
‫النهائية للرجال" كما اعتمدها أحمد بن حنبل زعيم المحدثين‪ .‬فقد راح أحمد بن حنبل‬
‫يمارس الجرح والتعديل بميزان مذهبي ضيق‪ ،‬وفرضت قضايا "المحنة" ذاتها على‬
‫سئل إذا اجتمع رجلن‪ ،‬أحدهما قد أمتحن )من قبل السلطة في قضية خلق‬ ‫الميزان‪ .‬وقد" ُ‬
‫القرآن( والخر لم يمتحن‪ ،‬ثم حضرت الصلة فأيهما يقدم؟ فقال‪ :‬يقدم الذي لم يمتحن‪.‬‬
‫وسئل عمن قال لفظي )تلفظي( بالقرآن مخلوق‪ .‬فقال‪ :‬هذا ل يكلم ول ُيصلى خلفه‪ ،‬وإن‬
‫صلى رجل أعاد"‪ .‬وهكذا كان أحمد )ومن ورائه كتائب التدوين( يرد كل من خالفه في‬
‫هذه القضية ول يقبل روايته‪ .‬ثم زاد في ذلك حتى رد رواية "المتوقف" الذي لم يتكلم في‬
‫مسألة خلق القرآن‪ ،‬فكان يقول "فلن واقفي مشؤوم" ولقد بالغ أحمد في ذلك حتى ذهب‬
‫يقول‪" :‬ل أحب الرواية عمن أجاب في المحنة كيحيى بن معين" رغم أن هذا الخير‬
‫أستاذه‪.‬‬
‫ونحن نعجب من هذا الموقف الحنبلي المتعصب‪ ،‬ونرى فيه ضربًا من السذاجة‬
‫الفكرية وضيق الفق‪ ،‬ونأسف شديد السف لن أصحابه بالذات ودون غيرهم‪ ،‬هم‬
‫الذين كتبوا علم الحديث ودونوا السنة‪ ،‬ثم شرعوا يكتبون الفقه ويقدمون باسم السلم‬
‫منظومة مفصلة وجاهزة‪ ،‬هي تلك التي يتم توارثها بين المسلمين حتى اليوم‪.‬‬
‫ومما يزيد من هذا العجب أن أحمد بن حنبل لم يكن من المتشددين في توثيق‬
‫الرجال‪ ،‬فقد كان يروي عن عامر بن صالح بن عبدال بن الزبير‪ .‬الذي قال فيه النسائي‬
‫ليس بثقة‪ .‬وقال الدارقطني‪ :‬يترك‪ ،‬وقال ابن معين‪ :‬كذاب خبيث عدو ال ليس بشيء ‪...‬‬
‫ومسند أحمد ملئ بأمثال عامر بن صالح‪ ،‬هنا يتجلى أثر النقلب واضحًا في الجرح‬
‫والتعديل‪ ،‬ومن ثم في قبول الحديث ورده‪ ،‬أو بعبارة مكافئة في ثبوت النص السني‬
‫ذاته")‪.(226‬‬
‫الرابعة‪" :‬في نشوء هذا العلم ذاته دليل على وجود هذه الحالة التي استوجبت‬
‫النشوء‪ ،‬أي حالة الطلب المتزايد على الحديث بشكل مبالغ فيه‪ ،‬مما ل بد أن يترجم إلى‬
‫زيادة في العرض")‪.(227‬‬

‫عملية تخييش الروايات‪:‬‬


‫ومع كل هذه الرهاصات التاريخية التي شابت عملية تدوين وجمع الروايات‬
‫المنسوبة للنبي ‪ ‬والثار المنسوبة إلى صحابته الكرام‪ ،‬ومع استفحال حالة العبث‬
‫عبد الجواد ياسين "السلطة في السلم" ص ‪.237‬‬ ‫‪225‬‬

‫عبد الجواد ياسين "السلطة في السلم" ص ‪.151-150‬‬ ‫‪226‬‬

‫عبد الجواد ياسين "السلطة في السلم" ص ‪.237‬‬ ‫‪227‬‬


‫ل من قبل السلطة والمذاهب الفقهية والكلمية المتناحرة‪ ،‬ومع‬ ‫المفرط بالسنة تعليبًا وتأوي ً‬
‫فشّو الوضع في الحديث من قبل أصحاب الهواء وأصحاب العقليات الصوفية الخرافية‪،‬‬
‫فإن عملية التصنيف والتبويب والتأليف في علم الحديث جاءت متأخرة جدًا‪ ،‬حيث تمت‬
‫في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري‪ ،‬وابتدأها الربيع بن صبيح ومالك بن‬
‫أنس في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري‪ ،‬وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي‬
‫وأبو داود وابن ماجة والنسائي في القرن الثالث الهجري‪ ،‬والكثير من هذه الكتب إن لم‬
‫يكن كلها قد طعن فيها أهل الحديث أنفسهم!‪.‬‬
‫ل طعن فيه كثير من أئمة الحديث‪ ،‬وقد أقّر ابن حجر بوجود‬ ‫فصحيح البخاري مث ً‬
‫‪228‬‬
‫مئة وعشرة أحاديث منتقدة على صحيح البخاري) (‪ ،‬وأهم تلك النتقادات هي التي‬
‫وجهها أبو الحسن الدارقطني في كتابه "العلل"‪ ،‬وقد أقّر ابن حجر بقوة تلك النتقادات‪،‬‬
‫حيث قال‪" :‬وقال –يقصد النووي‪ -‬في مقدمة شرح البخاري‪ :‬فصل قد استدرك‬
‫الدارقطني على البخاري ومسلم أحاديث فطعن في بعضها‪ ،‬وذلك الطعن مبني على‬
‫قواعد لبعض المحدثين ضعيفة جدًا‪ ،‬مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الفقه والصول‬
‫وغيرهم‪ ،‬فل تغتر بذلك اهـ كلمه‪ ،‬وسيظهر من سياقها انها ليست كلها كذلك")‪.(229‬‬
‫فابن حجر يقّر أن انتقادات الدارقطني ليست واهية كما زعم النووي‪ ،‬علمًا بان انتقادات‬
‫الدارقطني كانت إسنادية بحتة‪ ،‬ولم تتطرق –كعادة أهل الحديث‪ -‬إلى نقد المتون‪.‬‬
‫وقد تطرق محمد رشيد رضا إلى قضية الشكالت الكثيرة في متون روايات‬
‫البخاري حيث قال‪" :‬وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها رأيتها كلها في صناعة الفن‪ ،‬ولكنك‬
‫إذا قرأت الشرح نفسه رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالت في معانيها أو تعارضها مع‬
‫تعارضها مع غيرها مع محاولة الجمع بين المختلفات‪ ،‬وحل المشكلت بما يرضيك‬
‫بعضه دون بعض")‪ .(230‬وقال‪" :‬ل يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر قد يصدق‬
‫عليه بعض ما عدوه من علمة الوضع")‪.(231‬‬
‫وقال عداب الحمش موضحًا محاولة ابن حجر الدفاع عن صحيح البخاري‪" :‬وقد‬
‫ض الطرف‬ ‫تكلم فيه صاحبه على علل الحديث والرجال كلم خبير ناقد‪ ،‬بيد أنه كان يغ ّ‬
‫عن كثير من العلل‪ ،‬التي تعّكر على مواقفه الواضحة في الدفاع عن صحيح البخاري‪،‬‬
‫وعن صحيح مسلم تبعًا")‪.(232‬‬
‫وقد أقّر الذهبي بوجود كثير من المجاهيل في صحيح البخاري ومسلم!‪ ،‬ففي ترجمته‬
‫لحفص بن بغيل قال‪" :‬قال ابن القطان ل يعرف له حال ول يعرف" فعلق الذهبي على‬

‫‪ 228‬ابن حجر العسقلني "هدي الساري" ‪.543-502‬‬


‫‪ 229‬ابن حجر العسقلني "هدي الساري" ص ‪.502‬‬
‫‪ 230‬نقله أبو رية "أضواء على السنة المحمدية" ص ‪.250‬‬
‫‪ 231‬نقله أبو رية في "أضواء على السنة المحمدية" ص ‪ .279‬راجع أبو شهبة "دفاع عن‬
‫السنة" ص ‪.236‬‬
‫‪ 232‬عداب محمود الحمش "علم تخريج الحديث ونقده" ص ‪.52-51‬‬
‫خلق كثير مستورون‪ ،‬ما‬ ‫ل‪" :‬ففي الصحيحين من هذا النمط َ‬ ‫تجريح ابن القطان للرجل قائ ً‬
‫‪233‬‬
‫ضّعفهم أحد ول هم بمجاهيل" ) (‪.‬‬
‫أما صحيح مسلم‪ ،‬فقد روى صاحبه مسلم بن الحجاج روايات كثيرة عن‬
‫المنسوبين للتشيع‪ ،‬يقول الخطيب البغدادي‪" :‬أبا عبد ال محمد بن يعقوب وسئل عن‬
‫الفضل بن محمد الشعراني‪ ،‬فقال‪ :‬صدوق في الرواية إل أنه كان من الغالين في التشيع‪.‬‬
‫قيل له‪ :‬فقد حدثت عنه في الصحيح‪ ،‬فقال‪ :‬لن كتاب أستاذى ملن من حديث الشيعة‬
‫يعنى مسلم بن الحجاج")‪ ،(234‬وقد زجره أستاذه أبو زرعة الرازي بسبب هذا الميل‬
‫العلوي وحشو كتابه بما ينصر عقائد الشيعة‪ ،‬وقال له‪" :‬يطرق لهل البدع علينا"‪،‬‬
‫وكذلك فعل محمد بن مسلم بن وادة)‪.(235‬‬
‫وقال النووي‪ :‬أن مسلمًا روى أحاديث كثيرة مختلف في صحتها)‪ ،(236‬وقال ابن‬
‫تيمية‪" :‬ومما قد يسمى صحيحًا ما يصححه بعض علماء الحديث‪ ،‬وآخرون يخالفونهم في‬
‫تصحيحه‪ ،‬فيقولون‪ :‬هو ضعيف ليس بصحيح‪ ،‬مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه‬
‫ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم‪ ،‬إما مثله أو دونه أو فوقه")‪.(237‬‬
‫ومسند أحمد الذي يعتبرمن أكبر الموسوعات الحديثية‪ ،‬قد طعن فيه أئمة الحنابلة‬
‫من أهل الحديث‪ ،‬يقول ابن الجوزي‪" :‬كان قد سألني بعض أصحاب الحديث هل في‬
‫مسند المام أحمد ما ليس بصحيح؟ فقلت‪ :‬نعم ‪ ...‬فإن المام أحمد روى المشهور والجيد‬
‫والردئ‪ ،‬ثم هو قد رد كثيرًا مما روى ولم يقل به ولم يجعله مذهبًا‪ ،‬ومن نظر في كتاب‬
‫"العلل" الذي صنفه أبو بكر الخلل رأى أحاديث كثيرة كلها في المسند طعن فيها‬
‫أحمد")‪ .(238‬وقال الذهبي‪" :‬وفي "المسند" جملة من الحاديث الضعيفة مما ل يسوغ‬
‫نقلها ول يجوزالحتجاج بها‪ ،‬وفيه أحاديث عديدة شبه موضوعة")‪.(239‬‬
‫وجامع الترمذي المشهور بـ "سنن الترمذي"‪ ،‬قال عنه الذهبي‪" :‬قلت في الجامع‬
‫علم نافع وفوائد غزيرة ورؤوس المسائل‪ ،‬وهو أحد أصول السلم لول ماكدره بأحاديث‬
‫واهية بعضها موضوع‪ ،‬وكثير منها في الفضائل ‪ ...‬قلت‪ :‬جامعه قاض له بإمامته‬
‫وحفظه وفقهه‪ ،‬ولكن يترخص في قبول الحاديث‪ ،‬ول يشدد‪ ،‬ونفسه في التضعيف‬
‫رخو")‪.(240‬‬
‫وسنن ابن ماجة‪ ،‬قال عنه الذهبي‪" :‬غض من رتبة سننه ما في الكتاب من‬
‫المناكير وقليل من الموضوعات‪ ،‬وقول أبي زرعة إن صح فإنما عنى بثلثين حديثًا‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪.556‬‬ ‫‪233‬‬

‫الخطيب البغدادي "الكفاية" ص ‪.131‬‬ ‫‪234‬‬

‫النووي "مقدمة شرح المنهاج في صحيح مسلم بن الحجاج" ص ‪.32‬‬ ‫‪235‬‬

‫‪ 236‬النووي "مقدمة شرح صحيح مسلم" ص ‪.25‬‬


‫‪ 237‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪ 18‬ص ‪.17‬‬
‫ابن الجوزي "صيد الخاطر" ص ‪.334-33‬‬ ‫‪238‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪11‬ص ‪.329‬‬ ‫‪239‬‬

‫الذهبي "سير أعمال النبلء" ج ‪13‬ص ‪.276-274‬‬ ‫‪240‬‬


‫الحاديث المطرحة الساقطة‪ ،‬وأما الحاديث التي ل تقوم بها حجة فكثيرة‪ ،‬لعلها نحو‬
‫اللف")‪.(241‬‬
‫ومسند الطيالسي‪ ،‬صاحبه هو سليمان بن داود )ت ‪204‬هـ(‪ ،‬قال عنه الذهبي‪:‬‬
‫"ثقة أخطأ في أحاديث‪ ،‬قال إبراهيم بن سعيد الجوهري الحافظ‪ :‬أخطأ أبو داود في ألف‬
‫حديث‪ ،‬وقال أبو حاتم‪ :‬أبو داود محدث صدوق‪ ،‬كان كثير الخطأ ‪ ...‬قال يزيد‪ :‬حدثت‬
‫بهما أبا دواد فكتبهما عني‪ ،‬ثم حدث بهما عن شعبة‪ .‬قلت‪ :‬دلسهما‪ ،‬فكان ماذا")‪.(242‬‬
‫والنسائي صاحب السنن‪ ،‬كان يميل إلى التشيع حيث ألف كتاب أسماه "خصائص‬
‫علي" ضمنه سننه‪ ،‬وكان يميل إلى رأي الشيعة في إجازة إتيان النساء في الدبر!‪ ،‬قال‬
‫عنه الذهبي‪" :‬قال مرة بعض الطلبة ما أظن أبا عبدالرحمن إل أنه يشرب النبيذ للنضرة‬
‫التي في وجهه‪ ،‬وقال آخر ليت شعري ما يرى في إتيان النساء في أدبارهن‪ ،‬قال‪ :‬فسئل‬
‫عن ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬النبيذ حرام‪ ،‬ول يصح في الدبر شيء‪ ،‬لكن حدث محمد بن كعب القرظي‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬اسق حرثك حيث شئت‪ ،‬فل ينبغي أن يتجاوز قوله")‪.(243‬‬
‫وعبدالرزاق بن همام صاحب "المصنف"‪ ،‬قال عنه الذهبي‪" :‬أحد الئمة الثقات‪،‬‬
‫كان عباس العنبري أحد من رحل إليه‪ ،‬وقال‪" :‬إنه لكذاب"‪ .‬وقال النسائي‪ :‬فيه نظر لمن‬
‫كتب عنه بآخره‪ ،‬وقال ابن عدي في كامله‪ :‬حّدث بأحاديث في الفضائل لم يوافق عليها‪،‬‬
‫قلت‪ :‬كان يتشيع‪ .‬وقد قال أحمد‪ :‬إنه عمي آخر عمره‪ ،‬وكان ُيَلّقن فيتلّقن‪ ،‬فسماع من سمع‬
‫عنه بعد العمى ل شيء‪ ،‬قال ابن الصلح‪ :‬وجدت فيما روى الطبراني عن الّدبري عنه‬
‫أحاديث استنكرتها‪ ،‬فأحلت أمرها على ذلك ‪ ...‬أبا حاتم قال‪ :‬يكتب حديثه ول يحتج‬
‫به")‪.(244‬‬
‫وابن الجعد صاحب المسند‪ ،‬قال عنه ابن عدي‪" :‬قال حسين بن فهم سمعت يحيى‬
‫بن معين يقول وسئل أيهما أثبت أبو النضر أو علي بن الجعد؟ فقال‪ :‬يحيى خرب ال بيت‬
‫علي إن كان في الثبت مثل أبي النضر أو نحو هذا من القول‪ .‬وبلغني عن أحمد بن حنبل‬
‫أنه ضعفه‪ ،‬وقال‪ :‬نهيت ابني عبد ال أن يكتب عنه وعبد ال لم يكتب عن أحد إل عن من‬
‫أمره أبوه بالكتابة عنه وكتب عبد ال عن شيخ يقال له يحيى بن عبدويه من أهل بغداد‬
‫وكان يحدث عن شعبة ويحيى بن عبدويه ليس بالمعروف ولم يكتب عن علي بن الجعد‬
‫مع شهرته لن أباه نهاه عن الكتابة عنه")‪.(245‬‬
‫وابن أبي شيبة صاحب "المصنف"‪ ،‬قال عنه الذهبي‪" :‬قال أحمد بن حنبل‪ :‬دع‬
‫ابن أبي شيبة في ذا‪ ،‬وانظر ما يقول غيره‪ ،‬يريد أبو عبدال كثرة خطئه ‪ ...‬وقال جعفر‬
‫ل لم أحب‬ ‫الفريابي‪ :‬سألت محمد بن عبدال بن نمير عن بني شيبة ثلثتهم‪ ،‬قال فيهم قو ً‬
‫أن أذكره")‪.(246‬‬
‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪13‬ص ‪.279‬‬ ‫‪241‬‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪.203‬‬ ‫‪242‬‬

‫الذهبي في سير أعلم النبلء ج ‪14‬ص ‪.128‬‬ ‫‪243‬‬

‫الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪.622‬‬ ‫‪244‬‬

‫ابن عدي "الكامل في الضعفاء" ج ‪5‬ص ‪.213‬‬ ‫‪245‬‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪.490‬‬ ‫‪246‬‬


‫والبزار صاحب "المسند"‪ ،‬أحمد بن عمرو )ت ‪292‬هـ( قال عنه الذهبي‪" :‬قال‬
‫أبو أحمد الحاكم‪ :‬يخطيء في السناد والمتن ‪ ...‬وقال الحاكم‪ :‬سألت الدارقطني عنه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يخطيء في السناد والمتن‪ ،‬حّدث بالمسند بمصر حفظًا‪ ،‬ينظر في كتب الناس‪،‬‬
‫ويحّدث من حفظه‪ ،‬ولم يكن منه كتب‪ ،‬فأخطأ في أحاديث كثيرة‪ ،‬جّرحه النسائي‪ ،‬وهو‬
‫ثقة يخطيء كثيرًا")‪.(247‬‬
‫قام هؤلء المحّدثون بعملية تخييش لمحصول الروايات التي انتجتها مزارع‬
‫الرواية في عهد بني أمية وبني العباس‪ ،‬معتمدين على آليات الجرح والتعديل السنادية‬
‫دون تطرق إلى قراءة الروايات قراءة نقدية‪ ،‬فلهذا تجد روايات كثيرة تعتبر صحيحة‬
‫السند بمقاييس الجرح والتعديل الكلسيكية إل أنها مخالفة للقواعد الكّلية المستوحاة من‬
‫النصوص القطعية المحكمة من الكتاب العزيز والمجتمع عليه من سنة النبي ‪ ،‬ومن‬
‫نماذج ذلك‪:‬‬

‫روايات تطعن في النبي ‪:‬‬


‫سحر‪ ،‬وأنه كان ُيخّيل إليه‬ ‫من أمثلة ذلك الروايات التي تقول أن الرسول ‪‬قد ُ‬
‫‪248‬‬
‫أنه "كان يفعل الشيء وما فعله"‪ ،‬وأنه "كان يأتي النساء ول يأتيهن") (‪ .‬وهذه‬
‫الروايات تطعن في رسالة النبي ‪ ،‬لن فعله وتصرفاته ‪ ‬محل متابعة ومراقبة من‬
‫المة لتعلقها بجوانب الرسالة وتبيين القرآن الكريم وشرحه‪ ،‬وكيف يمكن قبول مثل هذه‬
‫ضر العداء له حيث قال‬ ‫الرواية وال سبحانه وتعالى قد أكد على عصمة نبيه ‪ ‬من ُ‬
‫شْيًئا{المائدة ‪ ،42‬وقال أيضًا‪َ} :‬يا أَّيَها‬ ‫ك َ‬ ‫ضّرو َ‬ ‫عْنُهْم َفَلن َي ُ‬ ‫ض َ‬ ‫عز وجل‪َ} :‬وِإن ُتْعِر ْ‬
‫ك ِم َ‬
‫ن‬ ‫صُم َ‬
‫ل َيْع ِ‬‫ساَلَتُه َوا ّ‬‫ك َوِإن ّلْم َتْفَعْل َفَما َبّلْغتَ ِر َ‬ ‫ك ِمن ّرّب َ‬ ‫سوُل َبّلْغ َما ُأنِزَل ِإَلْي َ‬‫الّر ُ‬
‫ن{ المائدة ‪ ،67‬إن مثل هذه الروايات تثبت قول‬ ‫ل َل َيْهِدي اْلَقْوَم اْلَكاِفِري َ‬ ‫نا ّ‬ ‫س ِإ ّ‬
‫الّنا ِ‬
‫ن ِإّل‬
‫ن ِإن َتّتِبُعو َ‬‫ظاِلُمو َ‬‫المشركين الذين اّدعوا أن النبي ‪ ‬كان مسحورًا }ِإْذ َيُقوُل ال ّ‬
‫حوًرا{ السراء ‪.47‬‬ ‫سُ‬ ‫ل ّم ْ‬
‫جً‬ ‫َر ُ‬
‫ل من أثر سم الشاة التي‬ ‫بل إن بعض الروايات تدعي أن الرسول ‪ ‬مات مقتو ً‬
‫قدمتها له اليهودية في خيبر‪ ،‬فقد جاء في بعض الروايات أن الرسول ‪ ‬قال لعائشة أم‬
‫المؤمنين قبل وفاته‪" :‬يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر‪ ،‬فهذا آوان‬
‫وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم")‪ .(249‬وجاء أن أنس بن مالك قال‪" :‬فما زلت‬
‫أعرفها في لهوات رسول ال ‪ (250)"‬يقصد مضغة السم من الشاة!‪ ،‬وهذه القصة تنافي‬
‫سوُل َبّلْغ َما ُأنِزَل‬ ‫تأكيد ال عز وجل ووعده لنبيه ‪ ‬بأنه عاصمه من الناس }َيا َأّيَها الّر ُ‬
‫ل َل َيْهِدي‬ ‫نا ّ‬ ‫ن الّناسِ ِإ ّ‬ ‫ك ِم َ‬
‫صُم َ‬
‫ل َيْع ِ‬ ‫ساَلَتُه َوا ّ‬ ‫ت ِر َ‬‫ك َوِإن ّلْم َتْفَعْل َفَما َبّلْغ َ‬ ‫ك ِمن ّرّب َ‬ ‫ِإَليْ َ‬
‫ن{ المائدة ‪.67‬‬ ‫اْلَقْوَم اْلَكاِفِري َ‬
‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪.124‬‬ ‫‪247‬‬

‫البخاري ‪ 3175‬و ‪ 3268‬و ‪ 5763‬و ‪ 5765‬ومسلم ]‪.2189-43 [5703‬‬ ‫‪248‬‬

‫البخاري ‪.4428‬‬ ‫‪249‬‬

‫مسلم ]‪.2190-45 [5705‬‬ ‫‪250‬‬


‫ومن الروايات المعارضة لنصوص الكتاب العزيز رواية أمر الرسول ‪ ‬لسهلة‬
‫بنت سهيل أن ترضع سالم مولى أبي حذيفة ‪-‬زوجها‪ -‬وهو رجل شاب ملتحي! حيث‬
‫ل خاصًا في صحيحه لسرد هذه الرواية العجيبة والتي جاء فيها "جاءت‬ ‫يفرد مسلم فص ً‬
‫سهلة بنت سهيل إلى رسول ال ‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول ال إني لرى في وجه أبي حذيفة‬
‫من دخول سالم‪ ،‬فقال رسول ال ‪" :‬ارضعيه"‪ .‬فقال‪ :‬أنه ذو لحية‪ ،‬فقال "أرضعيه‬
‫يذهب ما وجه أبو حذيفة"‪ .‬فقالت‪ :‬وال ما عرفته في وجه أبي حذيفة"‪ ،‬وفي رواية أنها‬
‫حين قالت للرسول ‪ ‬أن سالمًا رجل كبير‪ .‬قال لها‪" :‬قد علمت أنه رجل كبير")‪.(251‬‬
‫وهذه الرواية تخالف مجمل الخلق السلمية التي تنظم العلقة بين الرجل والمرأة‬
‫القائمة على العفة والطهارة‪ ،‬وتعارض أمر ال تعالى للمؤمنين والمؤمنات بغض البصر‬
‫وعدم التطلع إلى زينة النساء من غير ذوات المحارم والتي أصلتها سورة النور وخاصة‬
‫ن َوَل ُيْبِدينَ‬ ‫جُه ّ‬ ‫ن ُفُرو َ‬ ‫ظَ‬ ‫حَف ْ‬‫ن َوَي ْ‬
‫صاِرِه ّ‬‫ن َأْب َ‬ ‫ن ِم ْ‬‫ضَ‬ ‫ض ْ‬ ‫ت َيْغ ُ‬ ‫قوله تعالى‪َ} :‬وُقل ّلْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫ن ِإّل‬‫ن ِزيَنَتُه ّ‬ ‫ن َوَل ُيْبِدي َ‬ ‫جُيوبِِه ّ‬‫عَلى ُ‬ ‫ن َ‬ ‫خُمِرِه ّ‬ ‫ن ِب ُ‬ ‫ضِرْب َ‬
‫ظَهَر ِمْنَها َوْلَي ْ‬ ‫ن ِإّل َما َ‬‫ِزيَنَتُه ّ‬
‫ن َأْو َبِني‬ ‫خَواِنِه ّ‬ ‫ن َأْو ِإ ْ‬‫ن َأْو َأْبَناء ُبُعوَلِتِه ّ‬‫ن َأْو َأْبَناِئِه ّ‬ ‫ن َأْو آَباء ُبُعوَلِتِه ّ‬ ‫ن َأْو آَباِئِه ّ‬
‫ِلُبُعوَلِتِه ّ‬
‫غْيِر ُأْوِلي اِْلْرَبِة‬ ‫ن َ‬ ‫ن َأِو الّتاِبِعي َ‬ ‫ت َأْيَمانُُه ّ‬
‫ن َأْو َما َمَلَك ْ‬ ‫ساِئِه ّ‬ ‫ن َأْو ِن َ‬
‫خَواِتِه ّ‬ ‫ن َأْو َبِني َأ َ‬
‫خَواِنِه ّ‬‫ِإ ْ‬
‫ن ِلُيْعَلَم‬
‫جِلِه ّ‬‫ن ِبَأْر ُ‬‫ضِرْب َ‬‫ساء َوَل َي ْ‬ ‫ت الّن َ‬
‫عْوَرا ِ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ظَهُروا َ‬ ‫ن َلْم َي ْ‬
‫طْفِل اّلِذي َ‬‫جاِل َأِو ال ّ‬‫ن الّر َ‬ ‫ِم َ‬
‫ن{ النور‪.31 :‬‬ ‫حو َ‬ ‫ن َلَعّلُكْم ُتْفِل ُ‬
‫جِميًعا َأّيَها اْلُمْؤِمُنو َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن َوُتوُبوا ِإَلى ا ِّ‬ ‫ن ِمن ِزيَنِتِه ّ‬ ‫خِفي َ‬
‫َما ُي ْ‬
‫بل لقد وصل السفاف بهذه الروايات إلى النيل من عرض السيدة عائشة أم‬
‫المؤمنين حيث جاء في أحدها أن أم سلمة تستغرب من عائشة كيف تسمح للغلمان‬
‫المشارّفي الحلم بالدخول عليها!‪ ،‬وأن عائشة ردت عليها محتجة برواية سهلة‬
‫وإرضاعها لسالم مولى أبي حذيفة!‪ .‬ونص الرواية‪" :‬قالت أم سلمة لعائشة‪ :‬إنه يدخل‬
‫ي‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬أما لك في رسول ال‬ ‫عليك الغلم اليفع الذي ما أحب أن يدخل عل ّ‬
‫أسوة؟ ‪ ..‬فذكرت قصة امرأة أبي حذيفة"!)‪.(252‬‬
‫وجاء في بعض الروايات أن الرسول ‪ ‬كان يدخل على النساء اللواتي لسن من‬
‫محارمه وأنه ينام بين أيديهن وأنهن كنّ يفليين رأسه؟! فقد جاء فيها أن الرسول ‪‬‬
‫"كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه‪ ،‬وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت‪.‬‬
‫فدخل عليها رسول ال ‪ ‬فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام رسول ال ‪ ،(253)"‬وهذا‬
‫الفعل الذي تنسبه مثل هذه الروايات إلى الرسول ‪ ‬مخالف لصريح القرآن الذي يصف‬
‫ظيٍم{ القلم ‪ ،4‬والمجتمع‬ ‫عِ‬ ‫ق َ‬ ‫خُل ٍ‬‫ك َلَعلى ُ‬ ‫الرسول ‪ ‬بأنه صاحب أخلق عظيمة }َوِإّن َ‬
‫عليه من سنة الرسول ‪ ‬القولية والفعلية التي تحرم الخلوة بين الرجل والمرأة‪ ،‬فقد ثبت‬
‫عنه ‪ ‬قوله ‪" :‬إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من النصار‪ :‬يا رسول ال!‬

‫‪ 251‬صحيح مسلم باب "رضاعة الكبير" الروايات ]‪ 1453-26 [3600‬إلى ]‪)-31 [3605‬‬
‫‪(1454‬‬
‫‪ 252‬صحيح مسلم باب "رضاعة الكبير" ]‪(1453)-29[3603‬‬
‫‪ 253‬البخاري ‪2789‬‬
‫أفرأيت الحمو؟ قال‪ :‬الحمو الموت")‪ ،(254‬فكيف يتصور منه ‪ ‬النوم عند امرأة أجنبية‬
‫ثم تقوم بفلي رأسه!‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضًا ما جاء في بعض الروايات من محاولة الرسول ‪ ‬للنتحار‪ ،‬حيث‬
‫كان يصعد "رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له‬
‫جبريل فقال‪ :‬يا محمد إنك رسول ال حقًا‪ .‬فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع")‪.(255‬‬
‫فكيف يجوز تصور رغبة الرسول ‪ ‬في النتحار وال تعالى يقول‪َ} :‬وَل َتْقُتُلوْا‬
‫ل َوَل ُتْلُقوْا‬ ‫حيًما{ النساء ‪ ،29‬ويقول‪َ} :‬وَأنِفُقوْا ِفي َ‬
‫سِبيِل ا ّ‬ ‫ن ِبُكْم َر ِ‬
‫ل َكا َ‬ ‫نا ّ‬‫سُكْم ِإ ّ‬‫َأنُف َ‬
‫ن{ البقرة ‪ ،195‬إن إثبات الهّم‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬
‫ب اْلُم ْ‬
‫ح ّ‬‫ل ُي ِ‬
‫نا ّ‬
‫سُنَوْا ِإ ّ‬
‫ح ِ‬
‫ِبَأيِْديُكْم ِإَلى الّتْهُلَكِة َوَأ ْ‬
‫بالنتحار للرسول ‪ ‬يعطي المنتحرين ذريعة لقتراف فعلتهم‪ ،‬فطالما أن الرسول ‪‬‬
‫قادته نفسه إلى النتحار لول إنقاذ جبريل له‪ ،‬فكيف بمن هو دونه ممن ليس له وحي ينقذه‬
‫من هذه الرغبة التي لم يصمد أمامها النبي المعصوم؟!‬
‫وجاء في بعض الروايات أن النبي ‪ ‬كان يمشي عاريًا أمام الناس! فقد جاء عن‬
‫جابر بن عبدال أنه قال‪" :‬أن رسول ال ‪ ‬كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره‬
‫فقال له العباس عمه‪ :‬يا بن أخي لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة‪ .‬قال‪:‬‬
‫فحله‪ ،‬فجعله على منكبيه‪ ،‬فسقط مغشيًا عليه‪ .‬فما رؤي بعد ذلك عرياناً ‪ .(256)" ‬يقول‬
‫الشيخ أحمد بن حمد الخليلي‪" :‬من يصدق هذه الرواية ولو جاءت بأصح السانيد كما‬
‫ك َلَعلى‬ ‫يزعمون؟!‪ ،‬من يصدق أن النبي ‪ ‬الذي يصفه ال بأنه على خلق عظيم }َوِإّن َ‬
‫ظيٍم{ القلم‪ ،4 :‬يصل به المر أن يبدي عورته‪ ،‬ذلك الشيء ل يرضاه حتى أولئك‬ ‫عِ‬ ‫ق َ‬ ‫خلُ ٍ‬‫ُ‬
‫ل عن‬ ‫الذين يعيشون في الدغال أبعد ما يكونون عن الحضارة وعن القيم النسانية فض ً‬
‫القيم الدينية‪ ،‬من الذي يصدق هذا")‪.(257‬‬
‫وتنسب بعض الروايات إلى النبي ‪ ‬الغرق في الجهل والخرافة!‪ ،‬فقد جاء فيها‬
‫أنه ‪ ‬قال‪" :‬ول تحينوا بصلتكم طلوع الشمس ول غروبها‪ .‬فإنها تطلع بين قرني‬
‫شيطان")‪ ،(258‬ومعلوم أن الشمس تسطع على كل سطح الكرة الرضية المقابل لها‪،‬‬
‫واشعاعاها ل ينقطع عن الرض في لحظة من اللحظات‪ ،‬ولكل أهل أقليم من الرض‬
‫مطلعهم الخاص‪ ،‬فهل الكرة الرضية محاطة بحجاب محكم من الشياطين شبيه بطبقة‬
‫ل؟!‪.‬‬ ‫الوزون مث ً‬
‫وجاء في بعض الروايات أن الرسول ‪ ‬أخذ بيد أبي هريرة وقال له‪" :‬خلق ال‬
‫عز وجل‪ -‬التربة يوم السبت‪ ،‬وخلق فيها الجبال يوم الحد‪ ،‬وخلق الشجر يوم الثنين‪،‬‬
‫وخلق المكروه يوم الثلثاء‪ ،‬وخلق النور يوم الربعاء‪ ،‬وبث فيها الدواب يوم الخميس‪،‬‬

‫مسلم ]‪(2172)-20[5674‬‬ ‫‪254‬‬

‫البخاري ‪.6982‬‬ ‫‪255‬‬

‫البخاري ‪ 364‬و ‪ 1852‬و ‪.3829‬‬ ‫‪256‬‬

‫أحمد بن حمد الخليلي "إعادة صياغة المة" ص ‪.149‬‬ ‫‪257‬‬

‫صحيح البخاري ‪.3271‬‬ ‫‪258‬‬


‫وخلق آدم ‪ ‬بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات‬
‫الجمعة فيما بين العصر إلى الليل")‪.(259‬‬
‫وهذه الرواية التي تدّعي أن خلق الكون تم في سبعة أيام مخالفة لنص الكتاب‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ت‬ ‫العزيز الذي يؤكد أن ال عز وجل خلق الكون في ستة أيام }َوَلَقْد َ‬
‫خَلْقَنا ال ّ‬
‫ب{ ق‪ .38 :‬قال ابن كثير معلقًا‬ ‫سَنا ِمن ّلُغو ٍ‬
‫سّتِة َأّياٍم َوَما َم ّ‬
‫ض َوَما َبْيَنُهَما ِفي ِ‬
‫َواَْلْر َ‬
‫على هذه الرواية‪" :‬وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم‪ ،‬وقد تكلم عليه علي بن‬
‫المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ‪ ،‬وجعلوه من كلم كعب‪ ،‬وأن أبا هريرة إنما‬
‫سمعه من كلم كعب الحبار‪ ،‬وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعًا وقد حرر‬
‫ذلك البيهقي")‪.(260‬‬

‫روايات تطعن في النبياء عليهم السلم‪:‬‬


‫جاء في أحد الروايات أن موسى ‪ ‬استقبل ملك الموت حين أخبره بموعد وفاته‬
‫بلطمة على عينه فقأها!‪ ،‬فقد ُنسب إلى النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬أرسل ملك الموت إلى موسى‬
‫‪ ‬فلما جاءه صّكه ففقأ عينه‪ ،‬فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد ل يريد الموت‪،‬‬
‫قال‪ :‬فرد ال إليه عينه وقال‪ :‬ارجع إليه‪ ،‬فقل له‪ :‬يضع يده على متن ثور‪ ،‬فله بما غطت‬
‫يده بكل شعرة سنة‪ ،‬قال‪ :‬أي رب ثم مه؟ قال‪ :‬ثم الموت")‪.(261‬‬
‫وهذا الفعل ل تجوز نسبته إلى موسى ‪ ‬لمخالفته للنصوص القطعية من الكتاب‬
‫العزيز التي تؤكد على أن الجل ل يستقدم ول يستأخر‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬وَأنِفُقوا ِمن ّما‬
‫صّد َ‬
‫ق‬ ‫جٍل َقِريبٍ َفَأ ّ‬‫خْرَتِني ِإَلى َأ َ‬
‫ب َلْوَل َأ ّ‬
‫ت َفَيُقوَل َر ّ‬‫حَدُكُم اْلَمْو ُ‬
‫ي َأ َ‬
‫َرَزْقَناُكم ّمن َقْبِل َأن َيْأِت َ‬
‫خِبيٌر ِبَما‬
‫ل َ‬ ‫جُلَها َوا ُّ‬‫جاء َأ َ‬
‫سا ِإَذا َ‬
‫ل َنْف ً‬
‫خَر ا ُّ‬‫ن * َوَلن ُيَؤ ّ‬ ‫حي َ‬‫صاِل ِ‬
‫ن ال ّ‬‫َوأَُكن ّم َ‬
‫ن{المنافقون‪.11-10 :‬‬ ‫َتْعَمُلو َ‬
‫والرواية تصف ملك الموت بصورة الدميين‪ ،‬كما أنها تزري بالملئكة وتبين‬
‫ضعفهم أمام النبي الذي يمجده اليهود!‪ ،‬مما يثير الريبة في مصدرها‪.‬‬
‫يقول الشيخ محمد الغزالي مستنكرًا هذه الرواية‪" :‬وقد وقع لي وأنا بالجزائر أن‬
‫طالبًا سألني‪ :‬أصحيح أن موسى ‪ ‬فقأ عين ملك الموت عندما جاء لقبض روحه بعدما‬
‫استوفى أجله؟ فقلت للطالب وأنا ضائق الصدر‪ :‬وماذا يفيدك هذا الحديث؟ إنه ل يتصل‬
‫بعقيدة‪ ،‬ول يرتبط به عمل! والمة السلمية تدور عليها الرحى وخصومها طامعون‬
‫في إخماد أنفاسها! اشتغل بما هو أهم وأجدى ‪ ...‬وعدت لنفسي أفكر‪ :‬إن الحديث صحيح‬
‫السند‪ ،‬لكن متنه يثير الريبة‪ ،‬إذ يفيد أن موسى يكره الموت‪ ،‬ول يحب لقاء ال بعدما‬
‫انتهى أجله‪ ،‬وهذا المعنى مرفوض بالنسبة إلى الصالحين من عباد ال كما جاء في‬
‫الحديث الخر "من أحب لقاء ال أحب ال لقاءه"‪ .‬فكيف بأنبياء ال؟ وكيف بواحد من‬

‫من طريق أبي هريرة‪ ،‬مسلم ]‪.(2789)-27[7054‬‬ ‫‪259‬‬

‫ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" ج ‪ 1‬ص ‪.89-88‬‬ ‫‪260‬‬

‫من طريق أبي هريرة‪ ،‬صحيح البخاري ‪ 3407‬وصحيح مسلم ]‪.(2372)-157 [6148‬‬ ‫‪261‬‬
‫أولي العزم‪ .‬إن كراهيته للموت بعدما جاءه ملكه أمر مستغرب! ثم هل الملئكة تعرض‬
‫لهم العاهات التي تعرض للبشر من عمى أو عور؟ ذاك بعيد")‪.(262‬‬
‫ثم قال معلقًا على المازري الذي اعتبر من رد الحديث ملحدًا‪" :‬هذا الدفاع كله‬
‫خفيف الوزن‪ ،‬وهو دفاع تافه ل يساغ!‪ ،‬ومن وصم منكر الحديث باللحاد فهو يستطيل‬
‫في أعراض المسلمين‪ ،‬والحق أن في متنه علة قادحة تنزل به عن مرتبة الصحة‪،‬‬
‫ورفضه أو قبوله خلف فكري‪ ،‬وليس خلفا عقائديًا‪ ،‬والعلة في المتن يبصرها‬
‫المحققون‪ ،‬وتخفى على أصحاب الفكر السطحي")‪.(263‬‬
‫وتنسب بعض الروايات الكذب إلى إبراهيم ‪ ‬فقد روي عن النبي ‪ ‬أنه قال‪:‬‬
‫"لم يكذب إبراهيم ‪ ‬إل ثلث كذبات ثنتين منهن في ذات ال قوله }إني سقيم{ وقوله‬
‫}بل فعله كبيرهم هذا{‪ ،‬وقال‪ :‬بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة‬
‫فقيل له‪ :‬إن ها هنا رجلً معه امرأة من أحسن الناس‪ .‬فأرسل إليه فسأله عنها‪ ،‬فقال‪ :‬من‬
‫هذه‪ .‬قال‪ :‬أختي‪ .‬فأتى سارة‪ ،‬فقال‪ :‬يا سارة ليس على وجه الرض مؤمن غيري‬
‫وغيرك‪ ،‬وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي‪ ،‬فل تكذبيني)‪.(264‬‬
‫ثم يأتي تفصيل القصة في رواية أخرى‪ ،‬وفيها‪" .‬فأرسل بها إليه‪ ،‬فقام إليها‪،‬‬
‫ضأ وتصلي‪ ،‬فقالت‪ :‬اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إل‬ ‫فقامت تو ّ‬
‫ي الكافر‪ .‬فغط حتى ركض برجله‪ ،‬قال العرج‪ :‬قال أبو سلمة‬ ‫على زوجي‪ ،‬فل تسلط عل ّ‬
‫بن عبدالرحمن‪ :‬إن أبا هريرة قال‪ :‬قالت‪ :‬اللهم إن يمت يقال‪ :‬هي قتلته فأرسل‪ .‬ثم قام‬
‫إليها‪ ،‬فقامت توضأ تصلي وتقول‪ :‬اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك‪ ،‬وأحصنت فرجي‬
‫ي هذا الكافر‪ .‬فغط حتى ركض برجله قال‪ :‬عبد الرحمن‪،‬‬ ‫إل على زوجي‪ ،‬فل تسلط عل ّ‬
‫قال‪ :‬أبو سلمة‪ ،‬قال‪ :‬أبو هريرة‪ ،‬فقالت‪ :‬اللهم إن يمت فيقال‪ :‬هي قتلته‪ ،‬فأرسل في الثانية‬
‫ي إل شيطانًا‪ ،‬أرجعوها إلى إبراهيم‪ ،‬وأعطوها‬ ‫أو في الثالثة‪ ،‬فقال‪ :‬وال ما أرسلتم إل ّ‬
‫آجر‪ ،‬فرجعت إلى إبراهيم ‪ ‬فقالت أشعرت أن ال كبت الكافر وأخدم وليدة") (‪.‬‬
‫‪265‬‬

‫محمد الغزالي "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" ص ‪34‬‬ ‫‪262‬‬

‫محمد الغزالي نفس المصدر ص ‪.36‬‬ ‫‪263‬‬

‫من طريق أبي هريرة‪ ،‬صحيح البخاري ‪ ،3358‬وصحيح مسلم ]‪.(2371)-154[6145‬‬ ‫‪264‬‬

‫‪ 265‬البخاري ‪.2217‬‬
‫وهذه القصة منقولة حرفيًُا من التوراة)‪ ،(266‬يقول الفخر الرازي‪" :‬واعلم أن‬
‫بعض الحشوية روى عن النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬ما كذب إبراهيم ‪ ‬إل ثلث كذبات"‬
‫فقلت‪ :‬الولى أن ل نقبل مثل هذه الخبار‪ .‬فقال على طريق الستنكار‪ :‬فإن لم نقبله لزمنا‬
‫تكذيب الرواة‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم ‪ ،‬وإن رددناه‬
‫لزمنا الحكم بتكذيب الرواة‪ ،‬ول شك أن صون إبراهيم ‪ ‬عن الكذب أولى من صون‬
‫طائفة من المجاهيل عن الكذب")‪.(267‬‬
‫و"آجر" الخادمة هي "هاجر" أم إسماعيل ‪ ،‬وبذلك يكون النبي محمد ‪ ‬من‬
‫حا َوآَل‬
‫طَفى آَدَم َوُنو ً‬‫صَ‬‫لا ْ‬
‫نا ّ‬ ‫أبناء الماء والجواري! مع أن ال تعالى يقول‪ِ} :‬إ ّ‬
‫عِليٌم{ آل‬‫سِميٌع َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض َوا ّ‬
‫ضَها ِمن َبْع ٍ‬
‫ن * ُذّرّيًة َبْع ُ‬‫عَلى اْلَعاَلِمي َ‬
‫ن َ‬
‫عْمَرا َ‬
‫ِإْبَراِهيَم َوآَل ِ‬
‫عمران‪.34-33 :‬‬
‫وجاء في أحد الروايات أن موسى ‪ ‬كان يكشف عروته أمام الناس!‪ ،‬فقد جاء‬
‫من طريق أبي هريرة أن النبي ‪ ‬قال"كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم‬
‫إلى بعض‪ ،‬وكان موسى يغتسل وحده‪ .‬فقالوا‪ :‬وال ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إل أنه‬
‫آدر (متورم الخصية(‪ ،‬فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر‪ ،‬ففر الحجر بثوبه!‪،‬‬
‫فخرج موسى في إثره يقول‪ :‬ثوبي يا حجر‪ ،‬حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬وال ما بموسى من بأس‪ .‬وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا‪ .‬فقال أبو هريرة وال‬
‫إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر")‪.(268‬‬

‫‪ 266‬جاء في العهد القديم‪ ،‬سفر التكوين‪ ،‬الصحاح ‪ 18-1 :20‬ما نصه‪" :‬وانتقل إبراهيم من‬
‫هناك إلى ارض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار‪ .‬وقال إبراهيم عن‬
‫سارة امرأته هي أختي‪ .‬فأرسل ابيمالك ملك جرار واخذ سارة‪ .‬فجاء الله إلى ابيمالك في‬
‫حلم الليل وقال له‪ :‬ها أنت مّيت من أجل المرأة التي أخذتها فإنها متزوجة ببعل‪ .‬ولكن لم‬
‫يكن ابيمالك قد اقترب إليها‪ .‬فقال‪ :‬يا سيد أأمة بارة تقتل‪ .‬ألم يقل هو لي إنها أختي وهي‬
‫أيضا نفسها قالت‪ :‬هو أخي‪ .‬بسلمة قلبي ونقاوة يديّ فعلت هذا‪ .‬فقال له الله في الحلم‪:‬‬
‫ي‪ .‬لذلك‬‫أنا أيضا علمت أنك بسلمة قلبك فعلت هذا‪ .‬وأنا أيضا أمسكتك عن أن تخطئ إل ّ‬
‫ي فيصّلي لجلك فتحيا‪ .‬وإن كنت لست‬ ‫سها‪ .‬فالن رد امرأة الرجل فانه نب ّ‬ ‫لم ادعك تم ّ‬
‫كر ابيمالك في الغد ودعا جميع عبيده‬ ‫تردها فاعلم انك موتا تموت أنت وكل من لك‪ .‬فب ّ‬
‫وتكلم بكل هذا الكلم في مسامعهم‪ .‬فخاف الرجال جدا‪ .‬ثم دعا ابيمالك إبراهيم وقال له‪:‬‬
‫ي وعلى مملكتي خطية عظيمة‪ .‬أعمال ل‬ ‫ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت عل ّ‬
‫تعمل عملت بي‪ .‬وقال ابيمالك لبراهيم ماذا رأيت حتى عملت هذا الشيء‪ .‬فقال إبراهيم‬
‫أني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة‪ .‬فيقتلونني لجل امرأتي‪ .‬وبالحقيقة أيضا‬
‫هي أختي ابنة أبى‪ .‬غير أنها ليست ابنة أمي‪ .‬فصارت لي زوجة‪ .‬وحدث لما أتاهني الله من‬
‫ي‪ .‬في كل مكان نأتي إليه قولي عني‬ ‫بيت أبي أنى قلت لها هذا معروفك الذي تصنعين إل ّ‬
‫وعبيدا وإماء وأعطاها لبراهيم‪ .‬ورد إليه سارة امرأته‪.‬‬
‫ً‬ ‫هو أخي‪ .‬فأخذ ابيمالك غنماً وبقراً‬
‫وقال ابيمالك هو ذا ارضي قدامك‪ .‬اسكن في ما حسن في عينيك‪ .‬وقال لسارة أنى قد‬
‫أعطيت أخاك ألفا ً من الفضة‪ .‬ها هو لك غطاء عين من جهة كل ما عندك وعند كل واحد‬
‫فأنصفت‪ .‬فصّلى إبراهيم إلى الله‪ .‬فشفى الله ابيمالك وامرأته وجواريه فولدن‪ .‬لن الرب‬
‫كان قد اغلق كل رحم لبيت ابيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم "اهـ‪.‬‬
‫‪267‬الفخر الرازي في تفسيره لسورة يوسف الية ‪ 24‬ج ‪18‬ص ‪.199‬‬
‫‪ 268‬البخاري ‪.278‬‬
‫ولنا أن نتساءل كيف سمح موسى لقومه أن يغتسلوا عراًة ينظر بعضهم إلى‬
‫بعض؟ وادعاء المتكلفين أن ال تعالى لم يأمره بأن يخبرهم بستر العورة غير مقبول لن‬
‫مثل هذه المور تعتبر من أبجديات الشرائع السماوية‪ ،‬فكيف يتصور أن يخوض موسى‬
‫‪ ‬بقومه البحر ويواجه بهم صلف فرعون وهو لم يخبرهم بعد بوجوب ستر العورة؟‬
‫وسياق القصة يدلل على أصولها التوراتية التي ربما اقتبسها أبو هريرة من كعب الحبار‬
‫ونسبها الرواة إلى الرسول ‪.‬‬

‫روايات تطعن في موقف السلم من المرأة‪:‬‬


‫حّرر السلم المرأة من هوان الجاهلية والفكار الوثنية التي لبست الملل‬
‫المنحرفة‪ ،‬وساوت بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات كل بحسب تكوينه‬
‫البيولجي والنفسي والجتماعي‪ ،‬بيد ان بعض الروايات الحادية تنسب إلى الرسول ‪‬‬
‫أنه جعل المرأة في منزلة الحمير والكلب!‪ ،‬حيث روي أنه قال‪" :‬يقطع الصلة المرأة‬
‫والحمار والكلب")‪ .(269‬وأحمد بن حنبل –وهو إمام أهل الحديث‪ -‬أخذه شيء من الشك‬
‫في هذه الرواية فقال‪" :‬الذي ل أشك فيه أن الكلب السود يقطع الصلة‪ ،‬وفي نفسي من‬
‫الحمار والمرأة شيء")‪ ،(270‬والكلب السود في حقيقته ل يختلف عن الكلب الحمر‪ ،‬بيد‬
‫أن الروايات تنسب إلى الرسول ‪ ‬أنه قال‪" :‬الكلب السود شيطان")‪ ،(271‬ونعجب من‬
‫هذه العنصرية التي انتقلت أيضًا إلى عالم الكلب حيث صار اللون السود في الكلب‬
‫شر اللوان!‪.‬‬
‫وقد ردت السيدة عائشة هذه الرواية وقالت‪" :‬قد شبهتمونا بالكلب والحمير‪ ،‬وال‬
‫لقد رأيت رسول ال ‪ ‬يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة")‪.(272‬‬
‫وقالت‪" :‬إن المرأة لدابة سوء لقد رأيتني بين يدي رسول ال ‪ ‬معترضة كاعتراض‬
‫الجنازة وهو يصلي")‪ ،(273‬ورد ابن عباس أيضًا هذه الرواية قائ ً‬
‫ل "بئسما عدلتم بامرأة‬
‫مسلمة كلبًا وحمارًا‪ ،‬لقد رأيتني أقبلت على حمار ورسول ال ‪ ‬يصلي بالناس حتى إذا‬
‫كنت قريبًا منه مستقبلُه نزلت عنه وخليت عنه‪ ،‬ودخلت مع رسول ال ‪ ‬في صلته فما‬
‫أعاد رسول ال ‪ ‬صلته ول نهاني عما صنعت ‪ ...‬ولقد كان رسول ال ‪ ‬يصلي في‬
‫ي من بعض حجرات النبي ‪ ،‬فذهب يجتاز الصفوف بين يديه‪ ،‬فمنعه‬ ‫مسجد فخرج جد ٌ‬
‫رسول ال ‪ ،‬أفل تقولون‪ :‬الجدي يقطع الصلة") (‪.‬‬
‫‪274‬‬

‫واّدعت أحد الروايات أنه ‪ ‬قال‪" :‬لول حواء لما خانت أنثى زوجها") (‪ ،‬علمًا‬
‫‪275‬‬

‫بأنه ل ذكر في القرآن الكريم على أن زوج آدم قد خانته‪ ،‬أو أنها دعته إلى فعل‬
‫من طريق أبي هريرة‪ ،‬مسلم ]‪(511)-266[1139‬‬ ‫‪269‬‬

‫نقله الترمذي في سننه ص ‪ 128‬أثناء تعليقه على الرواية رقم ‪.338‬‬ ‫‪270‬‬

‫مسلم ]‪.(510)-265[1137‬‬ ‫‪271‬‬

‫البخاري ‪ ،514‬ومسلم ]‪.(512) 270[1143‬‬ ‫‪272‬‬

‫‪ 273‬البخاري ‪ ،508‬ومسلم ]‪.(512)-269[1142‬‬


‫مسند أحمد بن حنبل ‪.2222‬‬ ‫‪274‬‬

‫من طريق أبي هريرة‪ ،‬صحيح البخاري ‪.3330‬‬ ‫‪275‬‬


‫ل ثم زوجه بالتبعية‪ ،‬حيث قال عز‬ ‫المعصية! بل إن ال تعالى أثبت المخالفة لدم قب ً‬
‫عْزًما{ طه‪ ،115 :‬ثم قال‬ ‫جْد َلُه َ‬ ‫ي َوَلْم َن ِ‬
‫سَ‬ ‫عِهْدَنا ِإَلى آَدَم ِمن َقْبُل َفَن ِ‬ ‫وجل‪َ} :‬وَلَقْد َ‬
‫ك ّل َيْبَلى *‬ ‫خْلِد َوُمْل ٍ‬
‫جَرِة اْل ُ‬‫شَ‬‫عَلى َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َقاَل َيا آَدُم َهْل َأُدّل َ‬ ‫طا ُ‬‫شْي َ‬
‫س ِإَلْيِه ال ّ‬
‫سَو َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬فَو ْ‬
‫صى آَدُم َرّبُه‬‫ع َ‬ ‫جّنِة َو َ‬‫ق اْل َ‬‫عَلْيِهَما ِمن َوَر ِ‬ ‫ن َ‬ ‫صَفا ِ‬
‫خ ِ‬ ‫طِفَقا َي ْ‬
‫سْوآُتُهَما َو َ‬ ‫ت َلُهَما َ‬ ‫ل ِمْنَها َفَبَد ْ‬‫َفَأَك َ‬
‫َفَغَوى{ طه ‪ .121-120‬فالخطأ الصلي صدر من آدم الذي اتبع وسوسة الشيطان‪ ،‬وأما‬
‫الزوجة فخطأها كان في اتباع زوجها على الخطأ‪ .‬ولو سلمنا بخطأ زوج آدم‪ ،‬فما ذنبها‬
‫عَلْيَها َوَل َتِزُر‬
‫س ِإّل َ‬ ‫سبُ ُكّل َنْف ٍ‬ ‫حتى تنتقل معصيتها إلى بناتها وال تعالى يقول‪َ} :‬وَل َتْك ِ‬
‫ن{ النعام ‪.164‬‬ ‫خَتِلُفو َ‬‫جُعُكْم َفُيَنّبُئُكم ِبَما ُكنتُْم ِفيِه َت ْ‬‫خَرى ُثّم ِإَلى َرّبُكم ّمْر ِ‬ ‫َواِزَرٌة ِوْزَر ُأ ْ‬
‫وتزعم أحد الروايات أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬إن المرأة خلقت من ضلع‪ ،‬وأن أعوج‬
‫شيء في الضلع أعله")‪ .(276‬علمًا بأن عقيدة خلق المرأة من الضلع هي توراتية المنشأ‬
‫فقد جاء في سفر التكوين‪" :‬فأوقع الرب الله سباتاً على آدم فنام‪ .‬فأخذ واحدة من‬
‫أضلعه ومل مكانها لحماً‪ .‬وبنى الرب الله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها‬
‫إلي آدم‪ .‬فقال آدم هذه الن عظم من عظامي ولحم من لحمي‪ .‬هذه تدعى امرأة لنها من‬
‫امرأ أخذت‪ .‬لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً")‪.(277‬‬
‫خَلَقُكم‬‫لقد بين ال تعالى أن النثى خلقت من الذكر }َيا َأّيَها الّناسُ اّتُقوْا َرّبُكُم اّلِذي َ‬
‫جَها{ النساء‪ ،1 :‬فهذه حقيقة يقينة ل مراء فيها‪ ،‬أما‬ ‫ق ِمْنَها َزْو َ‬‫خَل َ‬‫حَدٍة َو َ‬
‫س َوا ِ‬ ‫ّمن ّنْف ٍ‬
‫طريقة هذا الخلق وطبيعته وموضعه فلم يخبرنا ال تعال به‪ ،‬فهو يقع في دائرة الغيب‬
‫التي ل يجوز اختراقها إل بالدليل القطعي اليقيني‪ ،‬وليست روايات التوراة المحرفة‬
‫ومرويات أهل الحديث إل محاولة لختراق حجب الغيب الذي لم يأذن ال تعالى للنسان‬
‫بولوجه لنعدام المصلحة في حصول هذه المعرفة‪.‬‬

‫نفدم وإقفرار بالخطفأ‪:‬‬


‫نتيجة لفراط أهل الحديث في الرواية وما شابها من صراع مذهبي‪ ،‬وتلبس‬
‫البعض بالتدليس والوضع‪ ،‬وجدنا بعض أئمة الحديث يتلهفون على ماضيهم‪ ،‬ويسحون‬
‫دموع الندم لفراطهم في رواية الحاديث الحادية التي حذر منها الرسول ‪ ‬وصحابته‬
‫الكرام‪ ،‬فها هو سفيان الثوري )ت ‪161‬هـ( يقول‪" :‬لوددت أني لم أكن دخلت في شيء‬
‫ي ول لي")‪ .(278‬وقال‬
‫منه –قال الخطيب‪ :‬يعني الحديث‪ ،-‬ولوددت أني أفلت منه‪ ،‬ل عل ّ‬
‫أيضًا‪" :‬ليتني أنجو منه كفافًا –قال الخطيب‪ :‬يعني الحديث")‪ .(279‬وقال‪" :‬ما أخاف على‬
‫نفسي غير الحديث")‪ .(280‬وقال‪" :‬وددت أن كل حديث في صدري‪ ،‬وكل حديث حفظه‬

‫‪ 276‬من طريق أبي هريرة‪ ،‬البخاري ‪.3331‬‬


‫‪ 277‬سفر التكوين ‪.25-21 :2‬‬
‫الخطيب البغدادي "شرف أصحاب الحديث" ص ‪ 117‬برقم ‪.264‬‬ ‫‪278‬‬

‫الخطيب البغدادي "شرف أصحاب الحديث" ص ‪ 117‬برقم ‪.265‬‬ ‫‪279‬‬

‫الخطيب البغدادي "شرف أصحاب الحديث" ص ‪ 121‬برقم ‪.279‬‬ ‫‪280‬‬


‫الرجال عني‪ ،‬نسخ من دري وصدورهم")‪ .(281‬وقال أيضًا‪" :‬أرى كل شيء من أنواع‬
‫الخير ينقص‪ ،‬وهذا الحديث إلى زيادة‪ ،‬فأظن أنه لو كان من أسباب الخير لنقص‬
‫أيضًا")‪ .(282‬بهذه الفلسفة البسيطة أدرك الثوري على إمامته ومنزلته بين أهل الحديث‬
‫بطلن منهج المحّدثين‪.‬‬
‫بينما كان لمغيرة بن مقسم الضّبي )ت ‪130‬هـ( سبب آخر لمفارقته أهل الحديث‬
‫بعد أن أفنى عمره بينهم وسبر أحوالهم‪ ،‬فقد قال‪" :‬ما طلب أحد هذا الحديث إل قلت‬
‫صلته")‪ .(283‬وقلة الصلة ربما كان سببها استغراق هؤلء في التحديث ظانين أنه من‬
‫أفضل القربات إلى ال‪.‬‬
‫بينما يرى شعبة بن الحجاج )ت ‪160‬هـ( أن الستغراق في الحديث يجّرد قلب‬
‫المسلم من اليمان الصادق‪ ،‬فقد قال عن سبب هجره لهل الحديث ومفارقته لهم وتوبته‬
‫عن منهجهم‪" :‬إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬فهل أنتم‬
‫منتهون")‪ ،(284‬وقال نادمًا على ما مضى من عمله في الحديث‪" :‬ما أنا مقيم على شيء‬
‫أخوف عّلي أن يدخلني النار منه –قال الخطيب‪ :‬يعني الحديث")‪ .(285‬أما أبو بكر بن‬
‫عياش )ت ‪193‬هـ( فكان سبب مفارقته لهل الحديث هو ما عرف عنهم من أخلق حين‬
‫قال عنهم‪" :‬أصحاب الحديث هم شّر الخلق")‪.(286‬‬
‫أما سليمان بن مهران العمش )ت ‪148‬هـ( فقد كان أكثر هؤلء نفورًا من‬
‫ي من أن أحّدث بسبعين‬
‫الحديث وأهله‪ ،‬فقد قال‪" :‬لن أتصدق بكسرة أحب إل ّ‬
‫حديثًا")‪ .(287‬وقال موافقًا ابن عياش‪" :‬ما في الدنيا قوم شّر من أصحاب الحديث") (‪،‬‬
‫‪288‬‬

‫وقال مؤكدًا على سوء هذه الخلق التي عاشر أهلها‪" :‬لو خل هذا الباب لصحاب‬
‫حديده")‪.(289‬‬‫الحديث لسرقوا َ‬
‫كانت ردة فعل العمش ضد أهل الحديث كيبرة جدًا إلى درجة أنه قال‪" :‬لو كانت‬
‫لي أكلب كنت أرسلها على أصحاب الحديث")‪ ،(290‬وقد نفذ تهديده ضد أهل الحديث!‪،‬‬
‫فقد قال جرير‪" :‬كنا نأتي العمش‪ ،‬وكان له كلب يؤذي أصحاب الحديث‪ ،‬فجئناه يومًا‪،‬‬
‫وقد مات‪ ،‬فهجمنا عليه‪ ،‬فلما رآنا‪ ،‬بكى ثم قال‪ :‬هلك من كان يأمر بالمعروف وينهى عن‬
‫المنكر")‪.(291‬‬

‫‪.272‬‬ ‫ص ‪ 119‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪281‬‬

‫‪.286‬‬ ‫ص ‪ 123‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪282‬‬

‫‪.250‬‬ ‫ص ‪ 112‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪283‬‬

‫‪.256‬‬ ‫ص ‪ 114‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪284‬‬

‫‪.270‬‬ ‫ص ‪ 160‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪285‬‬

‫‪.323‬‬ ‫ص ‪ 136‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪286‬‬

‫‪.306‬‬ ‫ص ‪ 130‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪287‬‬

‫‪.308‬‬ ‫ص ‪ 131‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪288‬‬

‫‪.310‬‬ ‫ص ‪ 131‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪289‬‬

‫‪.309‬‬ ‫ص ‪ 131‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪290‬‬

‫‪.316‬‬ ‫ص ‪ 134‬برقم‬ ‫الحديث"‬ ‫أصحاب‬ ‫"شرف‬ ‫البغدادي‬ ‫الخطيب‬ ‫‪291‬‬


‫الحديث الحاد والعقائد‪:‬‬
‫يعلّمنا القرآن الحكيم المنهج القويم في التعامل مع الخبار والروايات حتى ل‬
‫ننـزلق وراء الهواء والرغبات‪ ،‬ونضيع في دائرة أوهام أصحاب المرويات‪ ،‬يقول‬
‫جَهاَلٍة‬
‫صيُبوا َقْوًما ِب َ‬
‫ق ِبَنَبٍأ َفَتَبّيُنوا َأن ُت ِ‬
‫سٌ‬‫جاءُكْم َفا ِ‬ ‫ن آَمُنوا ِإن َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن{ الحجرات‪ ،6:‬واستفاضت الأخبار في أن هذه الية‬ ‫عَلى َما َفَعْلُتْم َناِدِمي َ‬‫حوا َ‬ ‫صِب ُ‬
‫َفُت ْ‬
‫نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي أمره النبي ‪ ‬بالذهاب إلى بني المصطلق‬
‫ليجمع الزكاة‪ ،‬وفي منتصف الطريق أوهمه الشيطان أن القوم سيغدرون به بسبب ثأر‬
‫بينهم في الجاهلية‪ ،‬فرجع إلى النبي ‪ ‬وقال له‪ :‬إن القوم منعوني الزكاة وأرادوا قتلي‪.‬‬
‫فنزلت الية لتفضح أمره)‪.(292‬‬
‫فبينما يقول أهل الحديث إن الصحابة كلهم عدول ل يرقى إليهم جرح)‪ ،(293‬نجد‬
‫أن القرآن الكريم قد أثبت أنهم ربما ل يصدقون في روايتهم!‪ .‬فكيف بغيرهم من الناس؟!‪.‬‬
‫إن هذا النص القاطع من الكتاب العزيز يوضح لنا أن الشخص الذي يأتينا بالخبر‬
‫ل يمكن أن نقطع بصدقه ما لم يكن معصومًا كالنبياء‪ ،‬أما الصحابة ومن دونهم فهم غير‬
‫معصومين من الكذب والوهم والنسيان‪ ،‬فلهذا فإن مبلغ إفادة خبر الرجل الثقة هو العلم‬
‫الظني الذي يحتمل الصدق والكذب‪ ،‬ول يمكن أن يصل خبر هذا الشخص الواحد –‬
‫الحادي كما في مصطلح علم الحديث‪ -‬غير المعصوم إلى درجة العلم اليقيني إل إن جاء‬
‫من طريق مجموعة كبيرة من الناس يستحيل تواطؤهم جميعًا على الكذب‪ ،‬وهذا الخبر‬
‫يسمى عندئذ بالخبر المتواتر‪.‬‬
‫ومن الدلئل على ظنية حديث الحاد‪:‬‬
‫ل‪ :‬العوامل البشرية الداخلية التي تعتري الراوي وهي نوعان‪ :‬إرادية كالكذب‬ ‫أو ً‬
‫والتدليس‪ ،‬ول إرادية كالوهم والخلط والذهول والنسيان‪.‬‬
‫وعوامل خارجية كالحذف والبتر وسقوط الكلمات في أثناء النسخ والرواية‬
‫بالمعنى‪ ،‬هذه العوامل تتناقص كلما ازداد عدد رواة الخبر‪.‬‬
‫ول ُيجادل في هذه العوامل لظهور دلئلها‪ ،‬إل أن بعض أهل الحديث قد يستنكر‬
‫جواز الوهم والنسيان للرواة‪ ،‬والحجة عليهم وصف رب العالمين لدم ‪ ‬بالنسيان حين‬
‫عْزًما {طه‪ ،115:‬وكذلك المر‬ ‫جْد َلُه َ‬ ‫ي َوَلْم َن ِ‬
‫سَ‬ ‫عِهْدَنا ِإَلى آَدَم ِمن َقْبُل َفَن ِ‬ ‫قال‪َ } :‬وَلَقْد َ‬
‫ن َأْمِري‬ ‫ت َوَل ُتْرِهْقِني ِم ْ‬‫سي ُ‬
‫خْذِني ِبَما َن ِ‬ ‫بالنسبة لموسى ‪ ‬حين قال‪َ} :‬قاَل َل ُتَؤا ِ‬
‫سًرا{ الكهف‪ .73 :‬فإذا كان قد جاز وصف النبياء بالنسيان –في غير الوحي‬ ‫ع ْ‬
‫ُ‬
‫المعصوم‪ -‬فكيف برواة الحديث؟ هذا إذا سلمنا بعدالة الراوي‪ ،‬وإل فالباطن ل يعلمه إل‬

‫تفسير ابن كثير ج ‪4‬ص ‪.228‬‬ ‫‪292‬‬

‫ابن الصلح "مقدمة ابن الصلح في علم الحديث" ص ‪.182‬‬ ‫‪293‬‬


‫ال‪ ،‬فلربما كان هذا الرجل مظهرًا الستقامة مبطنًا النفاق والعداء للسلم كما هو الحال‬
‫مع الزنادقة‪.‬‬
‫وقد أقّر ابن خزيمة بجواز نسيان الصحابة لبعض الحاديث حيث قال‪:‬‬
‫صوا‬‫"فأصحاب النبي ‪ ‬ربما اختصروا أخبار النبي ‪ ،‬إذا حّدثوا بها‪ ،‬وربما اقت ّ‬
‫الحديث بتمامه‪ ،‬وربما كان اختصارًا بعد الخبار‪ ،‬أو بعض السامعين يحفظ بعض‬
‫الخبر‪ ،‬ول يحفظ جميع الخبر‪ ،‬وربما نسي بعد الحفظ بعض المتن")‪ .(294‬فإذا كان هذا‬
‫هو حال الصحابة فكيف بمن هم دونهم؟!‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬لو كان كل خبر يفيد العلم القطعي لما تعارض خبران‪ ،‬ولفاد كلهما علمًا‬
‫ل‪ ،‬بينما الواقع يخالف ذلك‪ ،‬فكم سمعنا من زيد ما يخالف كلم عمرو‪،‬‬ ‫قطعيًا منفص ً‬
‫فتصديق النقيضيين واعتقادهما من العبث‪ ،‬فلهذا كان خبر الحاد ظنّيا‪ ،‬فإذا جاء خبر‬
‫آخر إما أن يعضده ويقويه‪ ،‬وإما أن يدمغه ويلغيه‪ ،‬وهذا هو المشاهد في واقع حياة البشر‬
‫الجتماعية والعلمية‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬أن تصحيح الحاديث وتضعيفها هي أمور في أصلها ظنية‪ ،‬يقول ابن‬
‫الصلح‪" :‬ومتى قالوا‪) :‬هذا حديث صحيح(‪ ،‬فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الوصاف‬
‫المذكورة‪ ،‬وليس من شرطه أن يكون مقطوعًا به في نفس المر‪ ،‬إذ منه ما ينفرد بروايته‬
‫عدد واحد")‪.(295‬‬
‫وقد أمرنا ال عز وجل في كتابه الكريم بالعتماد على الدلئل القطعية والحقائق‬
‫اليقينية لبناء حصن العقيدة الراسخ‪ ،‬حيث يقول تعالى في حواره للمشركين في مسألة‬
‫ق َأَفَمن َيْهِدي ِإَلى‬ ‫ح ّ‬ ‫ل َيْهِدي ِلْل َ‬ ‫ق ُقلِ ا ّ‬ ‫ح ّ‬‫شَرَكآِئُكم ّمن َيْهِدي ِإَلى اْل َ‬ ‫التوحيد‪ُ} :‬قْل َهْل ِمن ُ‬
‫ن{ يونس‪ .35:‬ثم‬ ‫حُكُمو َ‬ ‫ف َت ْ‬ ‫ي ِإّل َأن ُيْهَدى َفَما َلُكْم َكْي َ‬ ‫ق َأن ُيّتَبَع َأّمن ّل َيِهّد َ‬ ‫ح ّ‬‫ق َأ َ‬
‫ح ّ‬
‫اْل َ‬
‫يبين عز وجل أن عقيدة المشركين تقوم على الظنون والوهام‪ ،‬بينما عقيدة أهل السلم‬
‫ن َل‬‫ظّ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫تقوم على العلم واليقين‪ ،‬حيث يقول عز وجل‪َ} :‬وَما َيّتبُِع َأْكَثُرُهْم ِإّل َ‬
‫ظّنا َإ ّ‬
‫ن َأن ُيْفَتَرى ِمن‬ ‫ن َهفَذا اْلُقْرآ ُ‬ ‫ن * َوَما َكا َ‬ ‫عَليٌم ِبَما َيْفَعُلو َ‬‫ل َ‬‫نا ّ‬ ‫شْيًئا ِإ ّ‬
‫ق َ‬ ‫ح ّ‬‫ن اْل َ‬
‫ُيْغِني ِم َ‬
‫ن{‬‫ب اْلَعاَلِمي َ‬ ‫ب ِفيِه ِمن ّر ّ‬ ‫صيَل اْلِكَتابِ َل َرْي َ‬ ‫ن َيَدْيِه َوَتْف ِ‬‫ق اّلِذي َبْي َ‬ ‫صِدي َ‬‫ل َوَلفِكن َت ْ‬ ‫نا ّ‬ ‫ُدو ِ‬
‫يونس ‪.37-36‬‬
‫فهذه اليات المحكمة تبين للمسلم المنهج المثل في بناء العقيدة‪ ،‬وهذا المنهج يقوم‬
‫على القطعي اليقيني كالنصوص المحكمة من القرآن الكريم‪ ،‬والسنة المجتمع عليها‬
‫والعلوم الكونية القطعية التي تفيد علمًا ضروريًا ل يجد القلب ترددًا في قبوله واعتقاده‪،‬‬
‫وقد سفه حال الكافرين المتبعين للظن كأخبار الحاد‪.‬‬
‫كما أن ال عز وجل يين لنا ضرورة التوثق من شهادات آحاد الناس في أمور‬
‫ت ُثّم َلْم َيْأُتوا‬
‫صَنا ِ‬‫ح َ‬ ‫ن اْلُم ْ‬‫ن َيْرُمو َ‬ ‫المعاملت التي ل تتعلق بالعقيدة‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن{‬ ‫سُقو َ‬ ‫ك ُهُم اْلَفا ِ‬ ‫جْلَدًة َوَل َتْقَبُلوا َلُهْم شََهاَدًة َأَبًدا َوُأْوَلِئ َ‬
‫ن َ‬ ‫جِلُدوُهْم َثَماِني َ‬ ‫شَهَداء َفا ْ‬‫ِبَأْرَبَعِة ُ‬
‫جٌل‬
‫ن َفَر ُ‬‫جَلْي ِ‬
‫جاِلُكْم َفِإن ّلْم َيُكوَنا َر ُ‬ ‫ن من ّر َ‬ ‫شِهيَدْي ِ‬‫شِهُدوْا َ‬ ‫سَت ْ‬‫النور‪ ،4 :‬وقوله }َوا ْ‬
‫ابن خزيمة "التوحيد" ص ‪ .519‬تحقيق سمير الزهيري‪.‬‬ ‫‪294‬‬

‫ابن الصلح "مقدمة ابن الصلح في علوم الحديث" ص ‪.21‬‬ ‫‪295‬‬


‫ن{ البقرة‪ ،282 :‬فإذا كان الّدين وقضايا الزنا تحتاج إلى أكثر من شاهد عدل‪،‬‬ ‫َواْمَرَأَتا ِ‬
‫فكيف بالعقيدة التي هي مدار علقة الفرد بربه؟!‪.‬‬
‫من هنا أجمعت المة على وجوب التواتر في هذه الخبار الواردة عن النبي ‪،‬‬
‫لكي يُبنى عليها العلم اليقيني الضروري الذي ل يجد النسان دفعًا له في قلبه‪ ،‬والذي‬
‫يمكن أن يؤسس عليه عقيدة راسخة ل يجوز مخالفتها‪ ،‬كما تم الجماع أيضًا على أن‬
‫الخبار التي ل تتوفر فيها شروط التواتر أنها أخبار آحاد تفيد الظن موجبة للعمل إن‬
‫كانت متفقة ومنظومة القواعد الكّلية المستنبطة من النصوص المحكمة من الكتاب‬
‫العزيز‪ ،‬والسنة المجتمع عليها‪ ،‬والقوانين والسنن الكونية الثابتة‪ ،‬لكنها ل تنفرد بتأسيس‬
‫شيء من العقائد‪.‬‬
‫يقول النووي‪" :‬وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر‪ ،‬سواء كان‬
‫الراوي له واحدًا أو أكثر‪ .‬واختلف في حكمه‪ ،‬فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة‬
‫والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الصول أن خبر الواحد الثقة حجة‬
‫من حجج الشرع‪ ،‬يلزم العمل بها ويفيد الظن ول يفيد العلم‪ ،‬وأن وجوب العمل به عرفناه‬
‫بالشرع ل بالعقل)‪.(296‬‬
‫وهذا الكلم عن خبر الواحد الموافق لمنظومة القواعد الكّلية التي رسختها‬
‫نصوص القرآن الكريم‪ ،‬والسنة المجتمع عليها‪ ،‬ودلئل العقل القطعية‪.‬‬
‫والخبر المتواتر هو المطابق للواقع الذي يرويه عدد كبير من الناس يستحيل‬
‫تواطئهم على الكذب‪ ،‬وسمي بالمتواتر لوقوعه على التعاقب والتوالي‪ ،‬واختلف أهل‬
‫الحديث في أقل حد للتواتر فقيل خمسة طرق‪ ،‬وقيل عشرة في كل طبقة من طبقات‬
‫السناد‪ ،‬وقيل أكثر من ذلك‪ ،‬بيد أن هناك شرطًا مهمًا للتواتر وهو اتفاق ثقات المة من‬
‫الصحابة وتابعوهم بإحسان عليه‪ ،‬وجريان عملهم عليه‪ .‬يقول ابن بركة‪" :‬والسنة على‬
‫ضربين‪ :‬فسنة قد اجتمع عليها‪ ،‬وقد استغني بالجماع عن طلب صحتها‪ ،‬وسنة مختلف‬
‫فيها‪ ،‬ولم يبلغ الكل علمها‪ ،‬وهي التي يقع التنازع بين الناس في صحتها")‪.(297‬‬
‫فلهذا فإن المفهوم الشائع بأن التواتر يقصد به كثرة الطرق التي جمعها أهل‬
‫الحديث محتاج إلى إعادة نظر في صحته‪ ،‬لنفراد طائفة من المة دون غيرها برواية‬
‫تلك الطرق‪ ،‬ومن هنا نجد أن الروايات التي ينفرد أهل الحديث بروايتها ل يمكن لها‬
‫وحدها أن تأسس علمًا يقينيًا تقوم عليه العقيدة مهما تعددت طرقها‪ ،‬لنها في الحقيقة‬
‫روايات آحادية‪ ،‬ترويها طائفة من طوائف المة دون بقية الطوائف‪.‬‬
‫والرسول ‪ ‬وصحابته هم من أكثر الناس تطبيقًا لقاعدة ظنية خبر الحاد وعدم‬
‫القطع بصحته ورده إذا لم يتوافق مع القواعد الكّلية‪ ،‬ومن أمثلة ذلك أن النبي ‪ ‬صلى‬
‫الظهر أو العصر ركعتين‪ ،‬فقال له رجل يعرف بذي اليدين‪ :‬يا رسول ال أنسيت أم‬
‫قصرت الصلة؟ فقال له النبي ‪ :‬لم أنس ولم تقصر ‪ ...‬ثم قال للناس‪ :‬أكما قال ذو‬

‫النووي في "شرح صحيح مسلم" ج ‪1‬ص ‪.12-11‬‬ ‫‪296‬‬

‫ابن بركة "الجامع" ج ‪1‬ص ‪.280‬‬ ‫‪297‬‬


‫اليدين؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فتقدم وصلى ما ترك")‪ .(298‬فالنبي ‪ ‬لم يكتف في هذه الرواية‬
‫بخبر ذي اليدين‪ ،‬فأراد أن يتأكد ليقطع الشك باليقين‪ ،‬علمًا بأن القضية عملية وليست‬
‫اعتقادية‪.‬‬
‫وأبو بكر الصديق حين جاءته جدة تريد أن توّرث‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما أجد لك في كتاب‬
‫ال شيئًا وما علمت أن رسول ال ‪ ‬ذكر ذلك‪ ،‬ثم سأل الناس‪ ،‬فقام المغيرة فقال‪:‬‬
‫حضرت رسول ال صلى ال عليه وسلم يعطيها السدس‪ ،‬فلم يتيقن أبو بكر من كلمه‬
‫فقال له‪ :‬هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك‪ ،‬فأنفذه أبو بكر)‪.(299‬‬
‫أما عمر بن الخطاب فحين أخبره أحد النصار عن قصة النبي ‪ ‬مع زوجاته‬
‫ت ُقُلوُبُكَما{ التحريم‪ 4 :‬في زوجات‬ ‫صَغ ْ‬
‫ل َفَقْد َ‬ ‫ونزول قوله تعالى } ِإن َتُتوَبا ِإَلى ا ِّ‬
‫النبي‪ ،‬لم يقطع عمر بصدق الخبر فذهب بنفسه لسؤال النبي ‪ ‬عن ذلك‪ .‬وجاءه أبو‬
‫موسى الشعرى فاستأذن ثلث مرات فلم يؤذن له فرجع‪ ،‬فأرسل عمر في أثره قال‪ :‬لم‬
‫رجعت؟ قال‪ :‬سمعت رسول ال ‪ ‬يقول‪" :‬إذا سّلم أحدكم ثلثًا فلم يجب فليرجع"‪ ،‬فلم‬
‫يقطع عمر بصدق خبره وقال له‪ :‬وال لتقيمن عليه بينة‪ .‬أمنكم أحد سمعه من النبي ‪‬؟‬
‫ي صدق كلم أبي موسى)‪ (300‬لموافقته القواعد الكّلية التي تأمر بالستئذان‪،‬‬ ‫فأكد له أب ّ‬
‫وتنهى عن إزعاج أهل البيت والجيران‪.‬‬
‫كما أنه حين أخبرته فاطمة بنت قيس أن الرسول ‪ ‬لم يأمر لها بصدقة أو سكنى‬
‫طّلْقُتُم‬ ‫حين طلقها زوجها‪ ،‬لم يصدقها ورد خبرها لمخالفته قوله تعالى }َيا َأّيَها الّنِب ّ‬
‫ي ِإَذا َ‬
‫ن ِمن ُبُيوِتِهنّ َوَل‬ ‫جوُه ّ‬ ‫خِر ُ‬
‫ل َرّبُكْم َل ُت ْ‬
‫صوا اْلِعّدَة َواّتُقوا ا َّ‬
‫ح ُ‬ ‫ن َوَأ ْ‬‫ن ِلِعّدِتِه ّ‬
‫طّلُقوُه ّ‬ ‫ساء َف َ‬ ‫الّن َ‬
‫شٍة ّمَبّيَنٍة { الطلق‪ ،1 :‬فقال‪ :‬ل ندع كتاب ربنا بقول امرأة‬ ‫ح َ‬‫ن ِبَفا ِ‬‫ن ِإّل َأن َيْأِتي َ‬‫جَ‬ ‫خُر ْ‬
‫َي ْ‬
‫‪301‬‬
‫جهلت أو نسيت) (‪.‬‬
‫أما السيدة عائشة رضي ال عنها فقد ردت خبر فاطمة بنت قيس الذي رده عمر‬
‫كما رأينا سابقًا لمخالفته كتاب ال تعالى)‪ ،(302‬كما أنها ردت ما رواه عمر بن الخطاب‬
‫أن الرسول ‪ ‬قال‪" :‬إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه")‪ (303‬وقالت‪" :‬يرحم ال عمر‪،‬‬
‫وال ما حّدث رسول ال ‪ ‬إن ال ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه‪ ،‬ولكن رسول ال ‪‬‬
‫قال‪" :‬إن ال ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه" وقالت‪" :‬حسبكم القرآن }َو َ‬
‫ل َتِزُر‬
‫خَرى{ النعام‪ .(304)"164 :‬كما ردت ما رواه ابن عباس أن الرسول ‪‬‬ ‫َواِزَرٌة ِوْزَر ُأ ْ‬

‫‪ 298‬البخاري ‪ 1227‬ومسلم ‪ .(573) 97‬والرواية تشير كذلك إلى محاكمة الصحابي فعل‬
‫النبي ‪ ‬بالمستقر المجمع عليه من العمل‪.‬‬
‫‪ 299‬الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج ‪1‬ص ‪.6‬‬
‫‪ 300‬البخاري ‪.6245‬‬
‫‪ 301‬مسلم ]‪.(1480)-46[3710‬‬
‫‪ 302‬مسلم ]‪.(1480)-40[3703‬‬
‫‪ 303‬البخاري ‪ 1286‬و ‪.1287‬‬
‫‪ 304‬البخاري ‪.1288‬‬
‫قال‪" :‬رأيت ربي عز وجل")‪ ،(305‬وفي رواية أن ابن عباس قال‪" :‬رآه بقلبه")‪،(306‬‬
‫فحين سألها مسروق‪ :‬هل رأى محمد ‪ ‬ربه؟ قالت‪ :‬لقد قفّ شعري مما قلت‪ ،‬أين أنت‬
‫من ثلث من حدثكهن قد كذب؟ من حدثك أن محمدًا قد رأى رّبه فقد كذب‪ .‬ثم قرأت }ّل‬
‫خِبيُر{ النعام‪َ} ،103 :‬وَما َكا َ‬
‫ن‬ ‫ف اْل َ‬
‫طي ُ‬‫صاَر َوُهَو الّل ِ‬‫ك اَلْب َ‬ ‫صاُر َوُهَو ُيْدِر ُ‬ ‫ُتْدِرُكُه اَلْب َ‬
‫شاء‬‫ي ِبِإْذِنِه َما َي َ‬‫حَ‬ ‫سوًل َفُيو ِ‬ ‫سَل َر ُ‬‫ب َأْو ُيْر ِ‬
‫جا ٍ‬
‫حَ‬ ‫حًيا َأْو ِمن َوَراء ِ‬ ‫ل ِإّل َو ْ‬‫ِلَبشٍَر َأن ُيَكّلَمُه ا ُّ‬
‫وردت خبر أبى ذر عن الرسول ‪ ‬في قطع‬ ‫حِكيٌم{ الشورى‪ّ .( )"51 :‬‬
‫‪307‬‬
‫ي َ‬ ‫عِل ّ‬
‫ِإّنُه َ‬
‫الحمار والكلب السود والمرأة للصلة)‪ ،(308‬كما ردت خبر ابن عمر الذي فيه أن‬
‫الرسول ‪ ‬اعتمر في رجب)‪.(309‬‬
‫ل من الصحابة لقاعدة ظنية الحاد وقطعية المتواتر لم يقبل الصحابة‬ ‫وتفعي ً‬
‫رضوان ال تعالى عليهم في أثناء جمعهم للقرآن الكريم أخبار الحاد‪ ،‬يقول ابن كثير‪:‬‬
‫"وأما إن روي على أنه قرآن فإنه لم يتواتر فل يثبت بمثل خبر الواحد قرآن‪ ،‬ولهذا لم‬
‫يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي ال عنه في المصحف")‪.(310‬‬
‫وهذا المنهج هو الذي سار عليه التابعون ومن بعدهم من فقهاء المة فقد قال‬
‫المام جابر بن زيد رحمه ال حين سأل عن المسح على الخفين في الوضوء‪" :‬كيف‬
‫يمسح الرجل على خفيه وال سبحانه وتعالى يخاطبنا في كتابه بنفس الوضوء؟! وال‬
‫أعلم بما يرويه مخالفونا في أحاديثهم")‪ .(311‬وقال أبو غانم الخراساني‪" :‬سألت أبا‬
‫المؤرج‪ :‬هل في الصلة قنوت؟‪ .‬قال‪ :‬حدثني أبو عبيدة أنه سأل جابر بن زيد عن ذلك‬
‫جًدا َوَقاِئًما‬ ‫فقال‪ :‬الصلة كلها قنوت‪ .‬قال ال تبارك وتعالى‪َ} :‬أّمنْ ُهَو َقاِنتٌ آَناء الّلْيِل َ‬
‫سا ِ‬
‫ن ِإّنَما‬
‫ن َل َيْعَلُمو َ‬‫ن َواّلِذي َ‬
‫ن يَْعَلُمو َ‬
‫سَتِوي اّلِذي َ‬‫حَمَة َرّبِه ُقْل َهْل َي ْ‬‫جو َر ْ‬ ‫خَرَة َوَيْر ُ‬‫لِ‬ ‫حَذُر ا ْ‬‫َي ْ‬
‫ب{ الزمر‪ .9 :‬قلت‪ :‬يا أبا الشعثاء‪ ،‬ليس عن هذا أسألك‪ ،‬ولكن إنما‬ ‫َيَتَذّكُر ُأْوُلوا اَْلْلَبا ِ‬
‫أسألك عن الذي يفعل هؤلء بعد الركوع‪ ،‬يدعون ويهللون وهم قيام‪ .‬قال‪ :‬هذا أمر محدث‬
‫ل نعرفه ول نؤثره عمن مضى من هذه المة")‪ .(312‬فالمام جابر يرد الخبار المخالفة‬
‫لصريح الكتاب العزيز والعمل المستقر عند المة‪.‬‬
‫أما عبدال بن عبد العزيز )ت ‪150‬هـ( فحين سئل عن "العمرا والرقبا والسكنى"‬
‫قال‪" :‬معنى العمرا والرقبا والسكنى من العمر‪ ،‬أن يقول الرجل‪ :‬قد عمرتك هذه الدار‬
‫حياتك فهي لك عمرًا‪ ،‬ولك رقبًا‪ ،‬ولك سكنًا على إنها لحياتك‪ .‬قال أبو عبيدة رفع الحديث‬
‫إلى جابر بن زيد إلى ابن عباس أنه قال‪ :‬من عمر شيئًا حياته فهو له حياته‪ ،‬ولورثته من‬

‫‪ 305‬ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" ج ‪4‬ص ‪ 275‬في تفسير سورة النجم الية ‪،18-5‬‬
‫والحديث رواه أحمد وعلق عليه ابن كثير قائ ً‬
‫ل‪" :‬إسناده على شرط الصحيح"اهـ ‪.‬‬
‫‪ 306‬مسلم ]‪.(176)-284[436‬‬
‫‪ 307‬البخاري ‪ ،4855‬ومسلم ]‪.(177)-287[439‬‬
‫‪ 308‬مسلم ]‪.(510)265[1137‬‬
‫‪ 309‬البخاري ‪ 1775‬و ‪1776‬ومسلم ]‪.(1255)219 [3036‬‬
‫‪ 310‬ابن كثير في تفسيره ج ‪1‬ص ‪.336‬‬
‫‪ 311‬مسند الربيع بن حبيب برقم ‪.123‬‬
‫‪ 312‬أبو غانم الخراساني "المدونة الصغرى" ج ‪1‬ص ‪.67‬‬
‫بعد مماته" ثم قال‪" :‬وكان غيره من الفقهاء ل يجيز ذلك ول يراه لورثته من بعده‪ ،‬وكان‬
‫إبراهيم ممن ل يجيز ذلك‪ ،‬ويقول في العمرا‪ :‬إذا مات الذي عمرها فهي راجعة‪ ،‬إل أن‬
‫يقول‪ :‬هي لك ولعقبك‪ .‬وقول إبراهيم أعدل عندي"‪ .‬فلما قيل له‪" :‬وكيف يكون هذا وهنًا‬
‫وضعفًا وقد قال رسول ال ‪ :‬من عمر شيئًا فهو له حياته وبعد مماته؟ قال‪" :‬لو اتفق‬
‫الناس على هذا الحديث من رسول ال ‪ ‬لم يخالفه أحد من الفقهاء‪ ،‬ولم يجاوزه بالقياس‬
‫وبالرغبة عنه‪ ،‬لن كل ما كان من رسول ال ‪ ‬ل ينبغي لحد أن يخالف فيه")‪.(313‬‬
‫فابن عبد العزيز لم تكبله صحة السند بل تعامل مع الراوية وفق القواعد الكلية‬
‫للشريعة السلمية‪ ،‬وأكد في نفس الوقت على حقيقة مهمة وهي أن الرواية الصحيحة‬
‫السند التي لم يستقر عمل المة عليها ليست حجة ملزمة‪.‬‬
‫وقال أبو غانم الخراساني‪" :‬قلت لبي المؤرج‪ :‬إن هؤلء يقولون ويروون عن‬
‫عبدال بن عمر أنه كان يقول‪ :‬هذا البحر وتحته سبعة أبحر‪ ،‬وتحتها النيران‪ ،‬وكان ينهى‬
‫ي من أن أغتسل من‬ ‫عن الوضوء والغتسال بماء البحر‪ ،‬وكان يقول‪ :‬لن أتيمم أحب إل ّ‬
‫ماء البحر‪ .‬قال أبو المؤرج‪ :‬لسنا نأخذ بهذا من حديث ابن عمر‪ ،‬وقد كان أبوه أمير‬
‫المؤمنين رحمة ال عليه يقول بخلف هذا القول‪ ،‬ويجيز الوضوء بماء البحر والغتسال‬
‫به من الجنابة")‪ .(314‬فابن المؤرج يرّد رواية ابن عمر حين خالفت العمل الذي استقرت‬
‫عليه المة‪.‬‬
‫وقد يقال‪ :‬لماذا التفريق بين العقيدة وفقه المعاملت بحيث اشترط التواتر في‬
‫العقيدة ولم يشترط في فقه المعاملت؟‬
‫يجاب بأن أسباب اشتراط التواتر في العقيدة قد تم بيانه سابقا مدعومًا بالدلة‬
‫القطعية من القرآن والسنة المجتمع عليها والتي استقر على العمل عليها‪ ،‬أما المعاملت‬
‫الفقهية فإن العلم اليقيني ضروري في تأصيل القواعد الكّلية التي تحكم تلك المعاملت‪،‬‬
‫وقد أسلفنا سابقًا أن القواعد الكّلية تقوم على استقراء الدلة المحكمة من الكتاب العزيز‪،‬‬
‫والسنة المجتمع عليها‪ ،‬وعلى القطعيات العقلية‪.‬‬
‫أما نفس تلك المعاملت في خصوصها فجائز الخذ بالظن فيها بشرط عدم‬
‫تعارض هذا الظن مع القواعد الكّلية اليقينية‪ ،‬فلو ألزمنا البشر الدليل اليقيني في كل‬
‫معاملتهم لتوقفت حركة الحياة وتعسرت خاصة‪ ،‬فلو توقف حد الزنا والسرقة والقتل على‬
‫الدليل اليقيني لتعطلت الحدود‪ ،‬وكثر الفساد في المجتمع‪ ،‬ومن لطف ال تعالى بعباده أنه‬
‫أنزل لهم ما يناسب حركية الحياة ودينامكية العلقات الجتماعية‪ ،‬فأجاز لهم قبول شهادة‬
‫الرجلين في قضايا الدّين‪ ،‬وقبول شهادة الأربعة في قضايا الزنا‪ ،‬كما أن ال عز وجل قد‬
‫وجه الزوجين إلى التراجع عن طلقهما إن هم ظنا أن يعمل بأحكام السرة التي شرعها‬
‫حُدوَد‬
‫ظّنا َأن ُيِقيَما ُ‬
‫جَعا ِإن َ‬
‫عَلْيِهَما َأن َيَتَرا َ‬
‫ح َ‬‫جَنا َ‬
‫ل ُ‬ ‫السلم‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬فِإن َ‬
‫طّلَقَها َف َ‬
‫ن{ البقرة‪.230 :‬‬ ‫ل ُيَبّيُنَها ِلَقْوٍم َيْعَلُمو َ‬
‫حُدوُد ا ّ‬
‫ك ُ‬
‫ل َوِتْل َ‬
‫ا ّ‬

‫أبو غانم الخراساني "المدونة" ج ‪1‬ص ‪.348-347‬‬ ‫‪313‬‬

‫أبو غانم الخراساني "المدونة" ج ‪1‬ص ‪.136-135‬‬ ‫‪314‬‬


‫فالخلصة أن المعاملت الفقهية يجوز الحكم فيها وفق الدليل الظني المتوافق مع‬
‫منظومة القواعد الكّلية اليقينة‪.‬‬
‫وقد جاء تطبيق الصحابة لقاعدة قبول خبر الحاد غير المصادم للقواعد الكّلية‬
‫المستوحاة من النصوص القطعية والثوابت العقلية والقوانين الكونية كنموذج للمة من‬
‫بعدهم‪ ،‬فلما اختلف الناس في مسألة دخول البلد التي حل بها الطاعون حين خرج عمر‬
‫بن الخطاب إلى الشام حتى أخبرهم عبدالرحمن بن عوف رضي ال عنه بأنه سمع النبي‬
‫‪ ‬يقول‪" :‬إذا سمعتم الطاعون بأرض قوم فل تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها‬
‫فل تخرجوا منها" فعرض الصحابة خبر عبد الرحمن بن عوف على القواعد الكّلية‬
‫التالية‪:‬‬
‫القاعدة الولى‪ :‬أن الخبرة البشرية تؤكد انتشار الطاعون عن طريق القتراب من‬
‫الشخص المصاب‪.‬‬
‫القاعدة الكّلية الثانية‪ :‬السلم يحرم تعريض النفس للهلك‪.‬‬
‫يقول تعالى‪َ} :‬وَل ُتْلُقوْا ِبَأْيِديُكْم ِإَلى الّتْهُلَكِة{ البقرة‪.195 :‬‬
‫حيًما{ النساء‪.29 :‬‬ ‫ن ِبُكْم َر ِ‬
‫ل َكا َ‬
‫نا ّ‬‫سُكْم ِإ ّ‬ ‫ويقول‪َ} :‬وَل َتْقُتُلوْا َأنُف َ‬
‫‪315‬‬
‫فقبلوا خبر عبد الرحمن بن عوف) ( لموافقته هذه القواعد الكّلية‪.‬‬
‫بيد أن أهل الحديث عارضوا إجماع المة بأن خبر الحاد ل يفيد العلم وقالوا‪:‬‬
‫"إن حديث الحاد حجة في مسائل العقيدة"‪ ،‬وهذا الموقف المتزمت المعارض لجماع‬
‫المة نابع من اكتشافهم أن الروايات التي يتشبثون بها لبنيان صرحهم الفكري ل تحقق‬
‫شرط التواتر فهي كلها آحادية‪ ،‬بل إن معظمها أحاديث مكذوبة وضعيفة حتى بمقاييس‬
‫علم الحديث التقليدية القائمة على الجرح والتعديل‪.‬‬
‫يقول إبراهيم بن أحمد بن شاقل‪ ،‬أبو إسحاق البزار )ت ‪269‬هـ( مقررًا مذهب‬
‫أهل الحديث في قبول الحديث الحاد في العقائد وأنه يفيد العلم القطعي عندهم‪" :‬ولما‬
‫ل ذلك على أنها موجبة للعلم")‪.(316‬‬ ‫لدّ‬ ‫كانت أخبار الحاد في الصفات ل توجب عم ً‬
‫وقال عبدالعزيز الراجحي‪" :‬قد أجمع الصحابة رضي ال عنهم والتابعون لهم بإحسان‪،‬‬
‫على قبول أخبار الحاد‪ ،‬سواء كان ذلك في الصول –أي المسائل العتقادية‪ -‬أم‬
‫الفروع‪ ،‬ولم يخالف منهم أحد")‪.(317‬‬
‫وقد أسرف الراجحي كثيرًا عندما وصف من قال بظنية حديث الحاد بأنه زنديق‬
‫ملحد‪ ،‬حيث يقول‪" :‬وسمى هذا التعيس كتابه بـ )السيف الحاد على من أخذ بالحديث‬
‫الحاد في مسائل العتقاد(‪ ،‬فلزم لذلك )قدوم كتائب الجهاد لغزو أهل الزندقة واللحاد‬
‫القائلين بعدم الخذ بالحديث الحاد في مسائل العتقاد( ليعملوا سيوفهم في رقابهم‪،‬‬
‫ويجعلوهم عبرة لبقية أذنابهم")‪ .(318‬لن أحمد بن حنبل إمام أهل الحديث يقّر بظنية‬

‫البخاري ‪.5729‬‬ ‫‪315‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪2‬ص ‪.119‬‬ ‫‪316‬‬

‫عبدالعزيز الراجحي "قدوم كتائب الجهاد" ص ‪.8‬‬ ‫‪317‬‬

‫‪ 318‬عبد العزيز الراجحي "قدوم كتائب الجهاد" ص ‪.7‬‬


‫حديث الحاد!‪ ،‬فقد نقل عنه أبو محمد رزق ال بن عبد الوهاب التميمي الحنبلي )ت‬
‫‪488‬هـ( في مقدمته في عقيدة أحمد بن حنبل وأصول مذهبه التي ضمنها ابن أبي يعلى‬
‫كتابه "طبقات الحنابلة" القول بذلك‪ ،‬حيث قال‪ " :‬فأما خبر الحاد فيوجب العمل بموجبه‪،‬‬
‫والمصير إلى حكم نطقه‪ ،‬دون القطع بعينه‪ ،‬وإنما يحسن فيه الظن بالناقل أو الجهل‬
‫حكى عن بعض أصحابه أنه يقول‪ :‬إنه يوجب العلم‪ .‬وما وجدته من‬ ‫بالراوي ‪ ...‬وقد ُ‬
‫‪319‬‬
‫لفظه‪ ،‬ول أظنه يذهب إليه") (‪.‬‬
‫والكلم الذي ذكره ابن شاقل والراجحي مخالف للحقائق العلمي والتاريخية‪ ،‬فقد‬
‫نقلنا إقرار النووي –وهو من أئمة الحديث‪ -‬إجماع المة على ظنية حديث الحاد‪ ،‬كما‬
‫بينا بالمثلة سابقًا كيف رد الصحابة الكثير من الروايات التي جاء بها صحابة آخرون!‪.‬‬
‫وأكثر متأخرو أهل الحديث الذين تأثروا بالمدارس الكلمية –خاصة المدرسة‬
‫الشعرية‪ -‬خالفوا توجه أئمتهم‪ ،‬وأقروا بظنية الحديث الحاد‪ ،‬وقد سبق أن نقلنا كلم‬
‫النووي في المسألة‪ ،‬ونضيف إليه قول اثنين من كبار أئمة الحديث المعتبرين عند‬
‫الراجحي!‪ ،‬فقد قال الذهبي‪" :‬ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى‬
‫وأرجح مما انفرد به واحد‪ ،‬وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن‬
‫درجة الظن إلى درجة العلم‪ ،‬إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ول يكاد يجوز ذلك‬
‫على ثقتين لم يخالفهما أحد")‪ .(320‬وقال ابن كثير‪" :‬وأما إن روي على أنه قرآن فإنه لم‬
‫يتواتر فل يثبت بمثل خبر الواحد قرآن‪ ،‬ولهذا لم يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان‬
‫رضي ال عنه في المصحف")‪.(321‬‬

‫الخلصة‪:‬‬
‫نستنتج مما مضى أن أطنان الروايات التي يفرضها علينا أهل الحديث ل يمكن‬
‫قبولها كممثل للسنة النبوية دون عرض على القواعد الكّلية للشريعة السلمية‪.‬‬
‫يجب إعادة تعريف جديد للحديث الصحيح فالتعريف التقليدي "كل ما اتصل سنده‬
‫بالعدول الضابطين من غير شذوذ ول علة")‪ (322‬ل يفي بالغرض‪ ،‬وذلك لن المقصود‬
‫بالشذوذ غالبًا هو مخالفة روايات الثقات)‪ ،(323‬أما العلة فهي أيضًا تختص بالسند !‪ ،‬حيث‬
‫يقول النووي في "شرح تقريب النووي" ما نصه‪" :‬والعلة عبارة عن سبب قادح مع أن‬
‫الظاهر السلمة منه‪ ،‬وتتطرق إلى السناد الجامع شروط الصحة ظاهرًا وتدرك بتفرد‬

‫‪ 319‬ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪2‬ص ‪.246-245‬‬


‫‪ 320‬الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج ‪1‬ص ‪.6‬‬
‫موا ْ ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫س َ‬
‫طى وَُقو ُ‬ ‫صل َةِ ال ْوُ ْ‬
‫ت وال ّ‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ظوا ْ ع ََلى ال ّ‬
‫حافِ ُ‬
‫‪ 321‬ابن كثير في تفسير قوله تعالى } َ‬
‫ن{ البقرة‪ 238 :‬ج ‪ 1‬ص ‪.336‬‬ ‫َقان ِِتي َ‬
‫‪ 322‬النووي "شرح تقريب النووي"‪ ،‬نقله السيوطي "تدريب الرواي في شرح تقريب النووي‬
‫" ج ‪1‬ص ‪.62-61‬‬
‫‪ 323‬يقول السيوطي في "تدريب الرواي" ج ‪1‬ص ‪" 64‬لم يفصح بمراده من الشذوذ هنا‪،‬‬
‫وقد ذكر في نوعه ثلثة أقوال‪ ،‬أحدها‪ :‬مخالفة الثقة لرجح منه‪ ،‬والثاني‪ :‬تفرد الثقة مطلقًا‪،‬‬
‫والثالث‪ :‬تفرد الرواي مطلقًا"اهـ‪.‬‬
‫الراوي وبمخالفته غيره له مع قرائن تنبه العارف على وهم بإرسال أو وقف أو دخول‬
‫حديث في حديث أو غير ذلك")‪.(324‬‬
‫فالتعريف للحديث الصحيح عند أهل الحديث يختص بالناحية السنادية فقط!‪ ،‬وقد‬
‫رأينا مجموعة غير قليلة من الروايات في كتابي البخاري ومسلم المعروفين‬
‫بالصحيحين)‪ (325‬ل يمكن القبول بها لمعارضتها نصوص القرآن الكريم والمجتمع عليه‬
‫من سنة رسول ال ‪ ‬ودواعي العقل والسنن الكونية‪ ،‬فلهذا لبد للمة من أن تتخلص‬
‫من عقدة القداسة للمرويات الحادية التي أثكلت كاهلها وأن تعرض هذه الطنان من‬
‫الروايات على محك أحكم وأقوم من المحك الذي استخدمه أهل الحديث‪ ،‬هذا المحك‬
‫يعتمد على‪:‬‬
‫أوًل‪ :‬النقد الخارجي للرواية عن طريق النظر في السناد )الجرح والتعديل(‬
‫بحيث تترك روايات الضعفاء ما لم يعضدها نص قرآني أو سنة صحيحة مجتمع عليها‪،‬‬
‫أو حقيقة كونية ثابتة‪.‬‬
‫كما ينبغي تحاشي رواية غلة أهل الحديث والمشتهرين بالعمالة للسلطة‪ ،‬يقول‬
‫الفخر الرازي‪" :‬إن هؤلء المحّدثين يخرجون الروايات بأقل العلل‪ ،‬مثل‪ :‬إنه‪ ،‬ناقل‬
‫ل إلى حب علي فكان رافضيًا فل تقبل روايته‪ ،‬ومثل‪ :‬كان معبد الجهني‬ ‫الرواية‪ ،‬كان مائ ً‬
‫ل بالقدر فل تقبل روايته‪ ،‬وما كان فيهم عاقل يقول‪ :‬إنه )أي الرواي( وصف ال‬ ‫قائ ً‬
‫‪326‬‬
‫تعالى بما يبطل إلهيته وربوبيته فل تقبل روايته‪ .‬إن هذا من العجائب") (‪.‬‬
‫وما قاله الرزاي هو ما أكد عليه الكثير من عقلء المة‪ ،‬فها هو أبو عبيدة مسلم‬
‫بن أبي كريمة يقول‪" :‬ل ينبغي أن تأخذ العلم من مبتدع لنه يدعو لبدعته‪ ،‬ول من سفيه‬
‫يدعو إلى سفهه‪ ،‬ول ممن يكذب وإن كان صادقًا في فتواه‪ ،‬ول ممن ل يفرز مذهبه من‬
‫مذهب غيره")‪.(327‬‬
‫ويقول الشيخ ناصر بن أبي نبهان‪" :‬وذلك من دان برؤية الباري‪ ،‬وأن محمدًا رآه‬
‫في الدنيا بعينه‪ ،‬فليس بحجة فيما ينقله عن النبي ‪ ،‬ول عن الصحابة‪ ،‬مما لم تقم على‬
‫صحته الحجة على غيرهم من الفرق‪ ،‬لن ذلك متهم‪ ،‬والمبطل ل يكون حجة على أحد‬
‫في شيء لم تقم عليه الحجة بصحة ذلك")‪ .(328‬وقال أيضًا‪" :‬وعلى هذه الصفة هل هم‬
‫أمناء على نقل الخبار عن النبي ‪ ‬وعن أصحابه؟ وهل هم حجة على أحد من‬
‫المسلمين؟ وهل تصح شهادتهم‪ ،‬وتقبل على غيرهم من أهل الحق في درهم‬
‫واحد؟")‪.(329‬‬

‫‪ 324‬السيوطي "تدريب الرواي في شرح تقريب النووي" ج ‪1‬ص ‪.295‬‬


‫‪ 325‬ينقل عبد العزيز الراجحي في كتابه "قدوم كتائب الجهاد" ص ‪ 175‬كلما ً لبي إسحاق‬
‫السفرائيني )‪418‬هـ( قال فيه‪" :‬أهل الصنعة مجمعون على أن الخبار التي اشتمل عليها‬
‫الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها ول يحصل الخلف فيها بحال"اهـ‪.‬‬
‫‪ 326‬الفخر الرزاي "أساس التقديس" ص ‪.63‬‬
‫‪ 327‬عمرو بن خليفة النامي "دراسات عن الياضية" ص ‪.127‬‬
‫‪ 328‬نقله جميل بن خميس السعدي في "قاموس الشريعة" ج ‪7‬ص ‪.317‬‬
‫‪ 329‬نقله جميل بن خميس السعدي في "قاموس الشريعة" ج ‪7‬ص ‪.292‬‬
‫ويقول ابن بركة موضحًا أسباب التوجس من روايات أهل الحديث‪" :‬ومخالفونا‬
‫ينكرون منا أنا ل نقبل أحاديثهم ونقلدهم فيها‪ ،‬وفيهم عبد الملك بن مروان وأعوانه ‪...‬‬
‫واحتج بعض أصحابنا بأن قال‪ :‬إن ال تعالى نهانا عن تصديق هؤلء‪ ،‬وأن يوجب شيئًا‬
‫من تفويض الدين إليهم بإجماع‪ ،‬قال‪ :‬لن المخبر شاهد‪ ،‬وكل شاهد ليس بعدل‪ ،‬فهو‬
‫مردود الشهادة عقوبة على فسقه وفجوره‪ ،‬وليكن زاجرًا من عمله‪ ،‬وإن ذلك من حكم‬
‫شَهَداء{ ومن نتهمه ل‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ِم َ‬
‫ضْو َ‬ ‫القرآن ل من قبل الرأي‪ ،‬قال ال جل ذكره‪ِ} :‬مّمن َتْر َ‬
‫عَلى‬ ‫شَهَداء َ‬ ‫طا ّلَتُكوُنوْا ُ‬ ‫سً‬
‫جَعْلَناُكْم ُأّمًة َو َ‬
‫ك َ‬ ‫نرضاه في خبر قال ال جل ذكره }َوَكَذِل َ‬
‫س{ فأخبر بأن الخيار هم الشهداء‪ ،‬والحجة ل على خلقه") (‪.‬‬
‫‪330‬‬
‫الّنا ِ‬
‫ثانيًا‪ :‬النقد الداخلي للروايات عن طريق عرضها على نصوص الكتاب العزيز‪ ،‬فقد‬
‫ثبت عن النبي ‪ ‬أنه قال "إنكم ستختلفون من بعدي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب‬
‫ال‪ ،‬فما وافقه فعني‪ ،‬وما خالفه فليس عني")‪ .(331‬وهذه الرواية التي ادعى أهل الحديث أنها‬
‫موضوعة!)‪ ،(332‬يشهد على صحتها القرآن الكريم الذي يقول ال عز وجل فيه‪} :‬أََف َ‬
‫ل‬
‫لًفا َكِثيًرا{ النساء‪ ،82 :‬مع‬ ‫خِت َ‬
‫جُدوْا ِفيِه ا ْ‬ ‫ل َلَو َ‬
‫غْيِر ا ّ‬‫عنِد َ‬‫ن ِ‬ ‫ن ِم ْ‬‫ن َوَلْو َكا َ‬ ‫ن اْلُقْرآ َ‬‫َيَتَدبُّرو َ‬
‫علمنا بأن السنة هي بيان لما في القرآن الكريم بنص قوله تعالى }َوَأنَزْلَنا ِإَلْي َ‬
‫ك الّذكَْر ِلُتَبّي َ‬
‫ن‬
‫ن{ النحل‪.44 :‬‬ ‫س َما ُنّزَل ِإَلْيِهْم َوَلَعّلُهْم َيَتَفّكُرو َ‬
‫ِللّنا ِ‬
‫فما اتسق مع القواعد المستوحاة من نصوص الكتاب العزيز التي ل تعارض فيها‬
‫ول تناقض أخذ به‪ ،‬وما لم ينسجم مع تلك القواعد نظر في تأويله ومحاولة رفع الشتباه‬
‫والتعارض بينه وبين نصوص الكتاب العزيز‪ ،‬فإن استعصى الجمع بينه وبين نصوص‬
‫الكتاب العزيز المجكمة المنسجمة المتآلفة رّد ورفض‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬عرض الروايات على القواعد الكّلية المستوحاة من المجتمع عليه من سنة‬
‫النبي ‪ ‬التي أجمع عليها الصحابة وتابعوهم بإحسان والتي جرى عليها عمل الرعيل‬
‫الول من الصحابة والتابعين‪ ،‬دون خلف بينهم في ثبوت ذلك العمل عن النبي ‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬رّد الروايات المخالفة للقواعد الكّلية المستوحاة من الحقائق الكونية‬
‫القطعية‪ ،‬والحقائق التاريخية الثابتة‪ ،‬فل يجوز مخالفة الكتاب المسطور الذي هو الكتاب‬
‫العزيز وشرحه "سنة النبي ‪ "‬للكتاب المنظور الذي هو الكون بسننه وقوانينه الثابتة‬
‫التي شاء ال سبحانه وتعالى أن ل تتغير ول تبدل‪.‬‬
‫خامسًا‪ :‬رّد الروايات المخالفة للقواعد الكّلية المستوحاة من الحقائق العقلية اليقينة‪،‬‬
‫ول يقصد بالعقل هنا محض الهوى أو الذوق الفردي وإنما يقصد به الحقائق العقلية‬
‫اليقينة المبنية على القطعيات الحسية والعلمية والتاريخية‪ ،‬كاستحالة الجمع بين‬
‫النقيضين‪ ،‬ووجود شيء واحد في وقت واحد في مكانين‪.‬‬

‫‪ 330‬عبدالله بن محمد بن بركة "الجامع" ج ‪2‬ص ‪.315-314‬‬


‫‪ 331‬مسند الربيع بن حبيب برقم ‪.40‬‬
‫‪ 332‬قال العجلوني في "كشف الخفاء" ج ‪2‬ص ‪ 386‬معلقا ً على هذه الرواية‪" :‬وهذا الحديث‬
‫من أوضع الموضوعات"‪ .‬وذلك أن أهل الحديث ل يقرون رواية الباضية مع أنها مروية‬
‫عندهم بسند ثلثي متصل عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي ‪.!‬‬
‫ونحن نجد أن هذه القواعد قد استخدمها الصحابة أنفسهم "إذ أن المتأمل في‬
‫مواقفهم تجاه الخبار المنسوبة للنبي ‪ ،‬والمدقق في اجتهاداتهم يلحظ أنهم لم يتبعوا‬
‫توجيهات رسول ال اتباعًا حرفيًا‪ ،‬ولم ينتهجوا في فهم أقواله نهجًا نصوصيًا‪ ،‬بل كانوا‬
‫دائمًا ينظروا في مقاصد فعله وخطابه‪ ،‬ويربطونه بقواعد القرآن الكّلية‪ ،‬فإذا تبين أن قوله‬
‫أو فعله بيان مطلق لكتاب ال ل يتقيد بقيود الزمان والمكان‪ ،‬ول يتعلق بأحوال خاصة‬
‫اتبعوه دون تغيير أو تحوير‪ ،‬كما فعلوا عندما اتبعوه في صلته وصيامه وحجه‪ .‬أما إذا‬
‫تبين لهم أن قوله او فعله متعلق بتطبيق قواعد الكتاب وكلياته وفقًا لخصوص الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬اجتهدوا في تحقيق الكّليات التي سعى لتحقيقها‪ ،‬والعمل بالمقاصد التي دعته‬
‫إلى قول أو فعل‪ ،‬وإن أدى ذلك إلى مخالفة ظاهر قول رسول ال وفعله")‪.(333‬‬
‫وقد ذكر متأخري أهل الحديث الذي تأثروا بالمدرسة الشعرية هذه القواعد‪ ،‬ومن‬
‫ذلك قول الخطيب البغدادي )ت ‪463‬هـ(‪" :‬ول يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل‪،‬‬
‫وحكم القرآن الثابت المحكم‪ ،‬والسنة المعلومة والفعل الجاري مجرى السنة وكل دليل‬
‫مقطوع به")‪ ،(334‬ونقل السيوطي )ت ‪911‬هـ( موافقة ابن حجر العسقلني )ت ‪852‬هـ(‬
‫لقول الخطيب البغدادي السابق)‪ .(335‬وقال ابن الجوزي الحنبلي )ت ‪597‬هـ(‪" :‬المستحيل‬
‫لو صدر عن الثقات ردّ ونسب إليهم الخطأ‪ .‬أل ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات‬
‫فأخبروا أن الجمل قد دخل في سم الخياط لما نفعتنا ثقتهم ول أثرت في خبرهم‪ ،‬لنهم‬
‫أخبروا بمستحيل‪ ،‬فكل حديث رأيته يخالف المعقول‪ ،‬أو يناقض الصول‪ ،‬فاعلم أنه‬
‫موضوع‪ ،‬فل تتكلف اعتباره‪ ،‬وأعلم أنه قد يجيء في كتابنا هذا من الحاديث ما ل يشك‬
‫في وضعه‪ ،‬غير أنه ل يتعين لنا الواضع من الرواة‪ ،‬وقد يتفق رجال الحديث كلهم ثقاة‬
‫والحديث موضوع أو مقلوب أو مدلس")‪ ،(336‬وقال ابن كثير )ت ‪774‬هـ(‪" :‬معرفة‬
‫الموضوع المختلق المصنوع وعلى ذلك شواهد كثيرة منها ‪ ...‬مخالفة لما ثبت في الكتاب‬
‫والسنة الصحيحة")‪.(337‬‬
‫بيد أنا للسف لم نجد لهؤلء جهدًا عمليًا في نقد متون الروايات إذا صح سندها‪،‬‬
‫وخاصة تلك التي جاءت في صحيحي البخاري ومسلم‪.‬‬
‫وإلى أن ُترجع المة هذا الكم الهائل من الروايات الحادية التي أثقلها بها أهل‬
‫الحديث إلى القواعد الكّلية "سيظل الختلف والفتراق بين المة‪ ،‬فليس من المبالغة‬
‫القول أن الجمود الفكري والفقهي المتمثل بالعجز عن تطوير المؤسسات التربوية‬
‫والقتصادية والسياسية‪ ،‬والتراجع المخزي في قدرات العقل المسلم البداعية والبتكارية‬
‫المتمثل بالتخلف التقني والتنظيمي والتخطيطي يرجع إلى هيمنة العقلية النصوصية التي‬
‫جم مخياله‪ ،‬لذلك فإننا نرى إن تحرير العقل المسلم من المنهجية‬ ‫تكبل العقل المسلم وتح ّ‬

‫لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪.153-152‬‬ ‫‪333‬‬

‫الخطيب البغدادي "الكفاية" ص ‪.432‬‬ ‫‪334‬‬

‫السيوطي "تدريب الراوي" ج ‪1‬ص ‪.325‬‬ ‫‪335‬‬

‫ابن الجوزي "الموضوعات" ج ‪1‬ص ‪65‬‬ ‫‪336‬‬

‫أحمد شاكر "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير" ص ‪.74‬‬ ‫‪337‬‬
‫النصوصية وربطه بالرؤية القرآنية شرط ضروري لتحقيق ارتقاء علمي ونهضة‬
‫‪338‬‬
‫عمرانية‪ ،‬وهذا بدوره يتطلب تحديد السس المنهجية لستخراج الرؤية القرآنية") (‪.‬‬

‫قراءة في منهج أهل الحديث‬

‫يقوم منهج أهل الحديث في مجمله على التعامل التجزيئي النصوصي في استنباط‬
‫الحكام الفقهية‪ ،‬ويتمثل ذلك في اختزال التعامل مع القضايا المطروحة وفق النصوص‬
‫الجزئية والتي هي في معظمها روايات آحادية‪ ،‬دون مراعاة للقواعد الكّلية التي تحكم‬
‫لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪.162‬‬ ‫‪338‬‬
‫تلك النصوص الجزئية‪ ،‬وقد استطاعت هذه الممارسة التجزيئية التسرب إلى المدرسة‬
‫الفقهية من خلل المام الشافعي ومقولته المشهورة‪" :‬اذا صح الحديث فهو مذهبي‪ ،‬وإذا‬
‫صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط")‪ .(339‬فقد سببت مقولة الشافعي لبسًا كبيرًا في‬
‫أذهان كثير من الفقهاء بين مفهوم الحديث وارتباطه بالسنة‪ ،‬ومعلوم لدى فقهاء المة أنه‬
‫ل يجوز مخالفة سنة النبي ‪ ‬إل أن ذلك ل ينسحب على الروايات الحادية المنسوبة‬
‫إلى النبي ‪ ‬التي يعبر عنها أهل الحديث بـ "الحاديث"‪ ،‬وهذا اللبس جعل الكثير من‬
‫الفقهاء يتوهمون أن الرواية الحادية الصحية السند تمثل السنة!‪ ،‬فيمتنع الجتهاد في‬
‫حضورها‪ ،‬ويجب إنزال حكمها ومدلولها على الحوادث المختلفة دون اعتبار للبعاد‬
‫الزمانية والمكانية!‪.‬‬
‫إل أن المدرسة الفقهية التي تعتمد القواعد الكّلية في محكامتها للروايات الحادية‬
‫واستنطاق الحكام المختلفة وإنزالها على الواقع حاولت مواجهة مّد المنهج النصوصي‬
‫التجزيئي لهل الحديث‪ ،‬وكان أبو حنيفة من أكثر الفقهاء الذين واجهوا هذا المنهج‪ ،‬مما‬
‫حدا بأهل الحديث إلى مهاجمته وتكفيره!‪ ،‬يقول ابن عبد البر‪" :‬إن كثيرًا من أهل الحديث‬
‫استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرًا من أخبار العدول‪ ،‬لنه كان يذهب في ذلك‬
‫إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الحاديث ومعاني القرآن‪ ،‬فما شذ عن ذلك رده‬
‫وسماه شاذًا")‪ .(340‬وقال‪" :‬وأما سائر أهل الحديث فهم أعداء لبي حنيفة‬
‫وأصحابه")‪ ،(341‬ويذكر محمد بن عبد الوهاب موقف أحمد بن حنبل من أبي حنيفة قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫"ولما أخذ بعض أئمة الحديث كتب أبي حنيفة هجره أحمد‪ ،‬وكتب إليه إن تركت كتب‬
‫أبي حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك")‪ ،(342‬ونقل العقيلي طعن أحمد بن حنبل في‬
‫أبي حنيفة وأصحابه وقوله فيهم‪" :‬أصحاب أبي حنيفة ليس ينبغي أن يروى عنهم‬
‫شيء")‪ .(343‬ونقل عبدال بن أحمد بن حنبل في كتابه "السنة" تكفير حماد بن سليمان‬
‫لبي حنيفة‪" :‬قال لي حماد بن سليمان اذهب إلى الكافر يعني أبا حنيفة")‪ ،(344‬ونقل فيه‬
‫قولهم‪" :‬ما ولد في السلم مولود أشأم عليه من أبي حنيفة")‪ ،(345‬وفيه أيضًا‪" :‬أبو حنيفة‬
‫هذا‪ ،‬وال إني لرجو أن يدخله ال عز وجل نار جهنم")‪.(346‬‬
‫ولم تكن المدرسة الفقهية الباضية بمعزل عن هجوم أهل الحديث‪ ،‬وذلك أن هذه‬
‫ل بالقياس")‪ ،(347‬والقياس عندهم‬ ‫المدرسة حسب تعبير الشهرستاني‪" :‬أشد الناس قو ً‬
‫يعتمد على عرض القضايا على القواعد الكّلية المتسنبطة من النصوص المحكمة من‬
‫‪ 339‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪10‬ص ‪.35‬‬
‫‪ 340‬ابن عبد البر "النتقاء" ص ‪.149‬‬
‫‪ 341‬ابن عبد البر في "النتقاء" ص ‪ .203‬راجع عبد الجواد ياسين "السلطة في السلم" ص‬
‫‪.79‬‬
‫‪ 342‬محمد بن عبد الوهاب "الدرر السنية في الجوبة النجدية" ج ‪1‬ص ‪.35‬‬
‫‪ 343‬العقيلي في كتابه "الضعفاء الكبير" ج ‪1‬ص ‪ 23‬في ترجمة أسد بن عمرو البجلي‪.‬‬
‫‪ 344‬كتاب "السنة" لعبدالله بن أحمد بن حنبل ص ‪.184‬‬
‫‪ 345‬كتاب "السنة" لعبدالله بن أحمد بن حنبل ص ‪.187‬‬
‫‪ 346‬كتاب "السنة" لعبدالله بن أحمد بن حنبل ص ‪.223‬‬
‫‪ 347‬الشهرستاني "الملل والنحل" ص ‪.134‬‬
‫الكتاب والسنة المجتمع عليها‪ ،‬فعلى سبيل المثال استخرج زهران المسعودي في كتاب‬
‫"الجامع" لبن بركة )ت ‪362‬هـ( سبعة وخمسين قاعدة فقهية كلية‪ ،‬وستة وسبعين‬
‫ضابطًا كليًا‪ ،‬بالضافة إلى القواعد والضوابط الكّلية التي لم يذكرها ابن بركة بالنص‪،‬‬
‫ولكن يمكن استخراجها بالستقراء)‪ ،(348‬والمستقريء لمؤلفات الباضية الوائل يجدهم‬
‫يردون كثيرًا من الروايات الحادية مع صحة اسانيدها لعدم توافقها مع القواعد الكّلية‬
‫التي رسختها النصوص القطعية المحكمة‪.‬‬
‫هذا المنهج الفقهي المتقدم جعل أهل الحديث يصنفون الباضية ضمن فرق‬
‫الخوارج "الزارقة والنجدات والصفرية والبيهسية"‪ ،‬مع أن الباضية ل يقولون بأن‬
‫المسلم العاص خارج من الملة مباح الدم كما يقول الخوارج‪ ،‬بل هم يحّرمون دماء أهل‬
‫القبلة مهما اختلفوا معهم في المذهب والمنهج‪ ،‬ول يفرقون بين الباضية وبين أهل القبلة‬
‫في النكاح والتعامل)‪ ،(349‬إل أن أهل الحديث أنزلوا عليهم أقصى الحكام‪ ،‬فها هو ابن‬
‫قدامة الحنبلي يقول‪ " :‬وقال مالك في الباضية وسائر أهل البدع يستتابون فإن تابوا وإل‬
‫ضربت أعناقهم")‪ ،(350‬وقال أيضًا‪ " :‬وظاهر كلم أحمد رحمه ال أنه ل يصلى على‬
‫الخوارج فإنه قال أهل البدع إن مرضوا فل تعودوهم وإن ماتوا فل تصلوا ‪ ...‬وقال مالك‬
‫ل يصلى على الباضية ول القدرية وسائر أصحاب الهواء ول تتبع جنائزهم ول تعاد‬
‫مرضاهم")‪.(351‬‬
‫لعل من السباب المهمة التي حرضت أهل الحديث على مهاجمة الفقهاء الشعور‬
‫بعقدة النقص‪ ،‬والقرار الداخلي بالضعف أمام الفقهاء الذين يتميزون بملكات ومدارك‬
‫عقلية عركها السهر على دراسة نصوص الكتاب العزيز‪ ،‬وصقلها محاولة اكتشف‬
‫القواعد الكّلية التي تربط النصوص بعضها وتنتظمها في إطار يضمن عدم تعارضها‬
‫وتناقضها‪ ،‬أما أهل الحديث فإن الجري المفزع وراء الروايات الحادية ومحاولة حفظ‬
‫أكبر قدر منها قتل ملكة التدبر والتأمل والبحث‪ ،‬فصاروا يعانون من البساطة والسطحية‬
‫في التعامل مع المعطيات المختلفة‪.‬‬
‫وحقيقة بساطة أهل الحديث التي تحركهم للثورة على الفقهاء!‪ ،‬قد أقر بها كبار‬
‫المحدثين بقوله فيما‬
‫ّ‬ ‫أهل الحديث‪ ،‬فقد اعترف محمد بن إسحاق بن خزيمة بضعف عقلية‬
‫رواه البيهقي‪" :‬خرج أبو بكر محمد إسحاق يومًا قرب العصر من منزله فتبعته‪ ،‬وأنا ل‬
‫أدري أين مقصده إلى أن بلغ باب معمر‪ ،‬فدخل دار أبي عبد الرحمن‪ ،‬ثم خرج وهو‬
‫منقسم القلب‪ ،‬فلما بلغ المربعة الصغيرة‪ ،‬وقرب من خان مكي‪ ،‬وقف وقال لمنصور‬
‫الصيدلني‪ :‬تعال‪ .‬فعدا إليه منصور‪ ،‬فلما وقف بين يديه‪ ،‬قال له‪ :‬ما صنعتك؟ قال أنا‬
‫عطار‪ .‬قال‪ :‬تحسن صنعة الساكفة؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬تحسن صنعة النجارين؟ قال‪ :‬ل‪ .‬فقال‬
‫لنا‪ :‬إذا كان العطار ل يحسن غير ما هو فيه فما تنكرون على فقيه راوي حديث أنه ل‬
‫‪ 348‬زهران المسعودي "المام ابن بركة ودوره الفقهي في المدرسة الباضية" الفصل‬
‫الثاني ص ‪.276-131‬‬
‫‪ 349‬راجع محمد بن إبراهيم الكندي "بيان الشرع" ج ‪3‬ص ‪.417‬‬
‫‪ 350‬ابن قدامة الحنبلي "المغني" ج ‪9‬ص ‪.7‬‬
‫‪351‬ابن قدامة الحنبلي "المغني" ج ‪9‬ص ‪.11‬‬
‫يحسن الكلم")‪ .(352‬ونقل البيهقي عتاب عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي لبن خزيمة‬
‫حيث قال‪" :‬ما لبي بكر والكلم؟ إنما الولى بنا وبه أن ل نتكلم فيما لم نتعلمه")‪.(353‬‬
‫ويقّر الشعبي –وهو أحد أئمة الحديث‪ -‬بأن أهل الحديث ليس لهم دراية وتمرس‬
‫بفنون الفقه‪ ،‬فيقول‪" :‬إنا لسنا بفقهاء‪ ،‬ولكن رواة الحديث")‪.(354‬‬
‫ويقول ابن الجوزي الحنبلي وهو من متأخري أهل الحديث‪" :‬فترى المحدّث‬
‫يكتب ويسمع خمسين سنة ويجمع الكتب ول يدري ما فيها‪ ،‬ولو وقعت له حادثة في‬
‫صلته لفتقر إلى بعض أحداث المتفقهة الذين يترددون إليه لسماع الحديث منه‪،‬‬
‫وبهؤلء تمكن الطاعنون على المحدثين فقالوا‪ :‬زوامل أسفار ل يدرون ما معهم‪ .‬فإن‬
‫أفلح أحدهم ونظر في حديثه فربما عمل بحديث منسوخ وربما فهم من الحديث ما يفهم‬
‫العامي الجاهل وعمل بذلك")‪.(355‬‬
‫وقال‪" :‬قال الخطابي‪" :‬وقد كان ابن صاعد كبير القدر في المحّدثين لكنه لما قلت‬
‫مخالطته للفقهاء كان ل يفهم جواب فتوى ‪ ...‬فجاءته امرأة فقالت‪ :‬أيها الشيخ ما تقول في‬
‫بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أو نجس؟ فقال يحيى‪ :‬ويحك‪ .‬كيف سقطت‬
‫الدجاجة إلى البئر‪ .‬قالت‪ :‬لم تكن البئر مغطاة‪ .‬فقال يحيى‪ :‬أل غطيتها حتى ل يقع فيها‬
‫شيء‪ .‬قال البهري‪ :‬فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإل فهو طاهر")‪.(356‬‬
‫وقال عنهم الفقيه أبو المؤرج‪" :‬فهم يروون الرواية ول يعرفون وجهها ول‬
‫معانيها")‪ .(357‬ومصداق ذلك ما رواه الخطيب البغدادي من أن امرأة وقفت على مجلس‬
‫فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث‪ ،‬فسمعتهم‬
‫يقولون‪ :‬قال رسول ال ‪ ،‬ورواه فلن‪ ،‬وما حدث به غير فلن‪ .‬فسألتهم عن الحائض‬
‫تغسل الموتى؟ فلم يجبها أحد منهم‪ ،‬وجعل بعضهم ينظر إلى بعض‪ .‬فأقبل أبو ثور‪ ،‬فقالوا‬
‫لها‪ :‬عليك بالمقبل‪ .‬فالتفتت إليه فسألته‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬تغسل الميت بحديث عائشة أن النبي‬
‫‪ ‬قال لها‪" :‬حيضتك ليست في يدك"‪ ،‬ولقولها‪" :‬كنت أفرق رأس رسول ال ‪ ‬بالماء‬
‫وأنا حائض"‪ .‬قال أبو ثور‪ :‬فإذا فرقت رأس الحي فالميت أولى به‪ .‬فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬رواه‬
‫فلن وحدثنا فلن‪ ،‬وخاضوا في الطرق‪ .‬فقالت المرأة‪:‬فأين كنتم إلى الن؟!)‪.(358‬‬
‫فليس مستغربًا أن تسمع الشافعي يقول لهل الحديث‪" :‬أنتم الصيادلة‪ ،‬ونحن‬
‫الطباء")‪ .(359‬وهذا التوصيف الدقيق يعكس الحالة المنكوسة التي يمكن أن يصل إليها‬
‫المر إذا تجاوز الصيادلة الطباء وقاموا بعلج الناس بأنفسهم‪ ،‬فقد يستخدمون دواء ما‬
‫وهو ل يناسب المريض!‪ ،‬والفقه مثل الطب‪ ،‬إنه إنزال النص على الواقع‪ ،‬فكما يختار‬
‫‪ 352‬البيهقي في كتابه "السماء والصفات" ج ‪2‬ص ‪.400‬‬
‫‪ 353‬البيهقي في كتابه "السماء والصفات" ج ‪2‬ص ‪.401‬‬
‫‪ 354‬رواه أبو نعيم في الحلية ‪ 4/313‬وعثمان الدارمي في "الرد على المريسي" ص ‪385‬‬
‫نص رقم ‪.207‬‬
‫‪ 355‬ابن الجوزي "تلبيس إبليس" ص ‪.158‬‬
‫‪ 356‬ابن الجوزي "تلبيس إبليس" ص ‪.159‬‬
‫‪ 357‬الديوان المعروض‪ ،‬كتاب الصيام ص ‪.47‬‬
‫‪ 358‬الخطيب البغدادي "تاريخ بغداد" ج ‪6‬ص ‪.67‬‬
‫‪ 359‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪10‬ص ‪.23‬‬
‫الطبيب الدواء المناسب لكل مريض حسب خصوصيته النفسية والعضوية‪ ،‬يختار الفقيه‬
‫الحكم المناسب لكل حالة حسب ظروفها الزمانية والمكانية‪ ،‬بيد أن أهل الحديث‬
‫استطاعوا مع مرور اليام إقصاء الفقهاء عن الساحة الفكرية‪ ،‬بل واستطاعوا تعميم‬
‫منهجم النصوصي الصيدلني على الفقهاء!‪.‬‬
‫يقول الشيخ محمد الغزالي‪" :‬وبعض المشتغلين بالحديث يستوعر تدبر القرآن‪،‬‬
‫ودراسة دللته القريبة والبعيدة‪ ،‬ويستسهل سماع حديث ما‪ ،‬ثم يختطف الحكم منه‬
‫فيشقي البلد والعباد"‪.‬‬
‫وقال ضاربًا أمثلة لشطحات أهل الحديث الفقهية التي تفرخها النظرة الجزئية في‬
‫التعامل مع النصوص‪":‬في هذه اليام صدر تصحيح من الشيخ اللباني لحديث "لحم‬
‫البقر داء" وكل متدبر للقرآن الكريم يدرك أن الحديث ل قيمة له‪ ،‬مهما كان سنده‪ ،‬إن ال‬
‫ن به على الناس فكيف يكون داًء؟"‪.‬‬ ‫تعالى في موضعين من كتابه أباح لحم البقر وامت ّ‬
‫وقال‪" :‬وقد ظهرت في الجزائر فتوى لواحد من أهل الحديث حاربناها بقوة قبل‬
‫أن تصيب السلم وأهله بضر شديد‪ .‬إن على التجار في بضائعهم زكاة يتقربون إلى ال‬
‫بأدائها‪ ،‬والتجار في الدنيا ملوك المال‪ ،‬وقد افتتح النجليز القارة الهندية بشركة تجارية‪،‬‬
‫ول يزال الستعمار القتصادي يهيمن على ميادين التجارة حتى يتملك أعناق الشعوب!‬
‫فكيف يزعم زاعم أن عروض التجارة ل زكاة فيها‪ ،‬وأين نذهب بقوله تعالى }َيا َأّيَها‬
‫عٌة{‬ ‫شَفا َ‬
‫خّلٌة َوَل َ‬ ‫ي َيْوٌم ّل َبْيٌع ِفيِه َوَل ُ‬ ‫ن آَمُنوْا َأنِفُقوْا ِمّما َرَزْقَناُكم ّمن َقْبِل َأن َيْأِت َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫ن{ النفال‪،3 :‬‬ ‫لَة َوِمّما َرَزْقَناُهْم ُينِفُقو َ‬
‫صَ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫البقرة‪ ،254:‬وقوله تعالى }اّلِذي َ‬
‫ن ُيِقيُمو َ‬
‫ض{‬‫ن اَلرْ ِ‬ ‫جَنا َلُكم ّم َ‬
‫خَر ْ‬‫سْبُتْم َوِمّما َأ ْ‬
‫ت َما َك َ‬‫طّيَبا ِ‬‫ن آَمُنوْا َأنِفُقوْا ِمن َ‬‫وقوله } َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫البقرة‪ ،267 :‬لكن الشاب المشتغل بالحديث النبوي نادى في الناس أل زكاة في عروض‬
‫التجارة‪ ،‬إذ ل أصل لها فيما قرأ‪ ،‬وضم إلى ذلك أن الزكاة في التجارة ل تخرج إل في‬
‫القمح والشعير والتمر والزبيب‪ ،‬كأن الكرة الرضية هي نجد وتهامة والحجاز"‪.‬‬
‫والمأساة التي نعاني منها‪ ،‬ونخشى بلءها على الصحوة السلمية تجيء من قبل‬
‫قوم يسمون أنفسهم "الخوة أهل الحديث" نلحظ عليهم عيوبًا ثلثة‪ :‬اكتراثهم بالمرويات‬
‫الواهية‪ ،‬وبناء العللي فوقها‪ ،‬ثم سوء فهمهم للصحاح وتعصبهم لما يفهمون من أخطاء‪،‬‬
‫ثم عجزهم عن إدراك الحكمة القرآنية‪ ،‬ووقوفهم بعيدًا عن محاور القرآن وغاياته")‪.(360‬‬
‫فعندما نرى مثل هذه الرزايا ندرك مغزى كلم المام الفقيه أبي عبيدة مسلم بن‬
‫أبي كريمة حين قال‪ " :‬كل صاحب حديث ليس له أمام في الفقه فهو ضال‪ ،‬ولول أن ال‬
‫ن علينا بجابر بن زيد لضللنا")‪.(361‬‬ ‫تعالى م ّ‬
‫فها هو المحّدث ناصر الدين اللباني يفتي بمنع النساء من لبس حلق وأساور‬
‫وأطواق الذهب! حيث يقول‪" :‬واعلم أن الحديث فيه دللة بينة على تحريم الذهب‬
‫والحرير‪ ،‬وهو بعمومه يشمل النساء مع الرجال‪ ،‬إل أنه قد جاءت أحاديث تدل على أن‬
‫النساء مستثنيات من التحريم‪ ،‬كالحديث المشهور‪" :‬هذان حرام على ذكور أمتي حل‬
‫محمد الغزالي "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" ص ‪.78-20‬‬ ‫‪360‬‬

‫‪ 361‬عمرو النامي "دراسات حول الباضية" ص ‪.80‬‬


‫لناثها" إل أن هذا ليس على عمومه‪ ،‬فقد جاءت أحاديث صحيحة تحرم على النساء‬
‫جنسًا معينًا من الذهب‪ ،‬وهو ما كان طوقًا أو سوارًا أو حلقة")‪.(362‬‬
‫بل والدهى من ذلك أنه استدل لرأيه برواية هابطة جاء فيها "أن عمر بن‬
‫الخطاب خطب إلى علي ابنته أم كلثوم‪ ،‬فذكر له صغرها‪ ،‬فقيل له إن ردك فعاوده‪ .‬فقال‬
‫له علي‪ :‬أبعث بها إليك‪ ،‬فإن رضيت فهي امرأتك‪ ،‬فأرسل بها إليه‪ ،‬فكشف عن ساقيها‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬لول أنك أمير المؤمنين لصككت عينك" وهذا الكلم ل يجوز في حق أحقر‬
‫صعاليك مكة فيكيف يرضاه المحّدث اللباني في عمر بن الخطاب!" ثم أردف اللباني‬
‫مؤكدًا على أن قوله هو قول المحّدثين من قبله‪" :‬وعن أحمد ثلث روايات‪ :‬إحداهن أن‬
‫ينظر إلى وجهها ويديها‪ ،‬والثانية‪ :‬ينظر ما يظهر غالبًا كالرقبة والساقين ونحوهما‪،‬‬
‫والثالثة‪ :‬ينظر إليها كلها عورة وغيرها‪ ،‬فإنه نص على أنه يجوز أن ينظر إليها‬
‫متجردة!‪ .‬قلت –اللباني‪ -‬والرواية الثانية هي القرب إلى ظاهر الحديث‪ ،‬وتطبيق‬
‫الصحابة له وال أعلم")‪.(363‬‬
‫ومع إقرار أهل الحديث ببساطة الرواة وعدم فقههم إل أنهم يقبلون روايتهم‬
‫بالمعنى!‪ ،‬يقول النووي‪" :‬فصل إذا أراد الحديث بالمعنى ‪ ...‬قال جمهور السلف والخلف‬
‫من الطوائف المذكورة‪ ،‬يجوز في الجميع إذا جزم بأنه أدى المعنى")‪ ،(364‬ويقول‬
‫الترمذي‪" :‬فأما من أقام السناد وحفظه‪ ،‬وغير اللغظ‪ ،‬فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم‬
‫يتغير المعنى")‪.(365‬‬
‫ونحن وإن كنا ل ننكر جواز الرواية بالمعنى فقد قال أبو عبيدة مسلم بن أبي‬
‫كريمة‪" :‬ل يؤثر تغيير موقع كلمات في أحاديث الرسول أو الثار‪ ،‬بأن نقدمها أو‬
‫نؤخرها إذا بقى المعنى واحدًا"‪ .‬ثم سئل‪ :‬ماذا بشأن إضافة أو حذف حروف كالواو أو‬
‫اللف المهموزة إذا لم يغير ذلك المعنى؟" فقال‪" :‬أرجو أن ل حرج في ذلك")‪ ،(366‬لكن‬
‫الشكال يكمن في إفراط أهل الحديث ‪-‬على قلة فقههم‪ -‬في الرواية بالمعنى حيث نقل‬
‫الترمذي عن محمد بن سيرين أنه قال‪" :‬كنت أسمع الحديث من عشرة‪ ،‬اللفظ مختلف‬
‫والمعنى واحد"!‪ ،‬ونقل عن سفيان الثوري أنه قال‪" :‬إن قلت لكم أنا أحدثكم كما سمعت‬
‫فل تصدقوني‪ ،‬إنما هو المعنى"‪.(367).‬‬
‫وقد أقّر أبو سليمان الخطابي بهذه الشكالية حين قال‪" :‬وليس كل الرواة يراعون‬
‫لفظ الحديث حتى ل يتعدوه‪ ،‬بل كثير منهم يحدث على المعنى‪ ،‬وليس كل منهم‬
‫فقيه")‪.(368‬‬

‫دث محمد ناصر الدين اللباني "سلسلة الحاديث الصحيحة" المجلد الول ص‬
‫‪ 362‬المح ّ‬
‫‪.597‬‬
‫‪ 363‬اللباني "سلسلة الحاديث الصحيحة" المجلد الول ص ‪.157-156‬‬
‫‪ 364‬النووي مقدمة شرح صحيح مسلم ج ‪1‬ص ‪.40‬‬
‫‪ 365‬الترمذي "العلل" الملحق بكتاب "سنن الترمذي" ص ‪.1076-1075‬‬
‫‪ 366‬عمرو النامي "دراسات عن الباضية" ص ‪.127‬‬
‫‪ 367‬الترمذي "العلل" الملحق بكتاب "سنن الترمذي" ص ‪.1076-1075‬‬
‫‪ 368‬البيهقي في "السماء والصفات"ج ‪2‬ص ‪ 427‬باب‪ :‬ما ذكر في النفس‪.‬‬
‫فكيف تقبل رواية غير الفقهاء كحجة في الشرع دون عرض على قواعد الفقه‬
‫الكّلية)‪ (369‬المستنبطة من نصوص الكتاب العزيز‪ ،‬والسنة المستقرة المجتمع عليها‪،‬‬
‫والثوابت العقلية والكونية والتاريخية؟!‪.‬‬

‫إشكالية تعارض العقل والنقل بين الفقهاء وأهل الحديث‪:‬‬


‫من بين القضايا الساسية التي أدت إلى انزلق أهل الحديث إلى منحدر التعامل‬
‫ل إلى السفاف الفقهي والعقدي المتمثل في‬ ‫الجزئي مع نصوص الشريعة الغراء وصو ً‬
‫عقيدة التجسيم قضية أيهما أحق بالتقديم العقل أم النقل‪ ،‬الرواية أم الرأي‪ ،‬وأبرز من‬
‫تعرض لمناقشة أهل الحديث في هذه المسألة الفخر الرزاي في كتابه "أساس التقديس"‬
‫حيث توصل بعد النظر والتحليل إلى النتيجة التالية‪" :‬الدلئل القطعية العقلية إذا قامت‬
‫على ثبوت شيء‪ ،‬ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلف ذلك‪ ،‬فهناك ل يخلو الحال‬
‫من أحد أمور أربعة‪:‬‬
‫‪-‬إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكّذب الظواهر العقلية‪ ،‬وذلك باطل لنه ل‬
‫يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إل إذا عرفنا بالدلئل العقلية إثبات الصانع‬
‫وصفاته‪ ،‬وكيفية دللة المعجزة على صدق الرسول ‪ ،‬وظهور المعجزات على محمد‬
‫‪ .‬ولو جوزنا القدح في الدلئل العقلية القطعية صار العقل متهمًا غير مقبول القول‪،‬‬
‫ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الصول‪ ،‬وإذا لم تثبت هذه الصول‬
‫خرجت الدلئل النقلية عن كونها مفيدة‪ ،‬فثبت أن القدح لتصحيح النقل يفضي إلى القدح‬
‫في العقل والنقل معًا وأنه باطل‪.‬‬
‫‪ -‬ولما بطلت القسام الولى لم يبق إل أن يقطع بمقتضى الدلئل العقلية القاطعة‬
‫بأن هذه الدلئل النقلية أما أن يقال إنها غير صحيحة‪ ،‬أو يقال إنها صحيحة إل أن المراد‬
‫منها غير ظواهرها‪ .‬ثم إن جوزنا التأويل واشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلت‬
‫على التفصيل‪ ،‬وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى ال تعالى‪.‬‬
‫‪370‬‬
‫فهذا هو القانون الكّلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات") (‪.‬‬
‫إل أن ابن تيمية تعقبه‪ ،‬وانتصر لمذهب أهل الحديث بالقول‪" :‬إذا تعارض الشرع‬
‫والعقل وجب تقديم الشرع‪ ،‬لن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به‪ ،‬والشرع لم‬
‫يصدق العقل في كل ما أخبره به")‪.(371‬‬

‫‪ 369‬القاعدة الفقهية هي "الكلية التي َتَعّر ُ‬


‫ف أحوال الجزئيات وأحكامها منها بحيث يمكن للفقيه بواسطتها الهيمنة على‬
‫شتات المسائل والنوازل التي ينظر فيها بتصنيفها وترتيبها" )محمد الطاهر الميساوي في تحقيقه لكتاب "مقاصد‬
‫الشريعة السلمية" لبن عاشور ص ‪.(78‬‬
‫‪ 370‬الفخر الرازي "أساس التقديس" ص ‪ .221-220‬نقله لؤي صافي في "إعمال العقل"‬
‫ص ‪.81‬‬
‫‪ 371‬ابن تيمية "درء تعارض العقل والنقل" ص ‪.138‬‬
‫يرى لؤي صافي في كتابه المميز جدًا "إعمال العقل" أن إشكالية تعارض العقل‬
‫ل من داخل العقل السلمي الذي تشكل بتأثير الخطاب القرآني‪،‬‬ ‫والنقل لم تنبع أص ً‬
‫ولكنها طرأت نتيجة لتأثر الفكر السلمي بالفلسفة الغريقية‪ ،‬ذلك أن الخطاب القرآني‬
‫يستنكر العقلية الرافضة للوحي استنادًا إلى مرجعية تاريخية غير عقلية }َوِإَذا ِقيَل َلُهُم‬
‫عوُهْم ِإَلى‬‫ن َيْد ُ‬‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫عَلْيِه آَباءَنا َأَوَلْو َكا َ‬
‫جْدَنا َ‬
‫ل َقاُلوا َبْل َنّتِبُع َما َو َ‬‫اّتِبُعوا َما َأنَزَل ا ُّ‬
‫سِعيِر{ لقمان‪ .31 :‬لن هذه العقلية منغلقة رافضة للنظر في أطروحات الخطاب‬ ‫ب ال ّ‬ ‫عَذا ِ‬
‫َ‬
‫المنزل وتعقل مضمونه‪ .‬كما دعا القرآن إلى تأسيس المعتقدات على قواعد معرفية ثابتة‪،‬‬
‫وعلي يقين علمي ناجم عن نظرة ناقدة متفحصة‪.‬‬
‫صَر َواْلُفَؤاَد ُكّل ُأولفِئ َ‬
‫ك‬ ‫سْمَع َواْلَب َ‬‫ن ال ّ‬ ‫عْلٌم ِإ ّ‬
‫ك ِبِه ِ‬
‫س َل َ‬
‫ف َما َلْي َ‬ ‫يقول تعالى }َوَل َتْق ُ‬
‫ن ِإّل‬
‫عْلٍم ِإن َيّتِبُعو َ‬
‫ن ِ‬‫سُؤوًل{ السراء‪ ،36 :‬وقال أيضًا‪َ} :‬وَما َلُهم ِبِه ِم ْ‬ ‫عْنُه َم ْ‬ ‫ن َ‬‫َكا َ‬
‫شْيًئا{ النجم‪.28 :‬‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬‫ن اْل َ‬
‫ن َل ُيْغِني ِم َ‬ ‫ظّ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن َوِإ ّ‬‫ظّ‬‫ال ّ‬
‫والقرآن يدعو النسان إلى الستدلل على وجود ال وقدرته من خلل النظر في‬
‫ب{‬ ‫ف الّلْيِل َوالّنَهاِر لَياتٍ ُّلْوِلي الْلَبا ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫خِت َ‬
‫ض َوا ْ‬
‫ت َواَلْر ِ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ق ال ّ‬
‫خْل ِ‬‫ن ِفي َ‬ ‫ملكوته }ِإ ّ‬
‫آل عمران‪ ،190 :‬ويدعوه إلى التصديق بمرجعية الكتاب اللهية من خلل التدبر في‬
‫لًفا َكِثيًرا{‬‫خِت َ‬
‫جُدوْا ِفيِه ا ْ‬‫ل َلَو َ‬‫غْيِر ا ّ‬ ‫عنِد َ‬‫ن ِ‬
‫ن ِم ْ‬ ‫ن َوَلْو َكا َ‬
‫ن اْلُقْرآ َ‬
‫ل َيَتَدّبُرو َ‬‫آياته }َأَف َ‬
‫النساء‪.82 :‬‬
‫ثم يفصل لؤي صافي الحديث في إشكالية التعارض من خلل استعراض مفهوم‬
‫العقل‪ ،‬وانقسامه إلى عقل فطري "غريزي"‪ ،‬وعقل متحصل "مكتسب"‪ ،‬وأن العقل‬
‫الفطري يتحدد بالقدرة على توليد تصورات كلية بسيطة تتحصل من خلل تجريد‬
‫المدركات الحسية‪ ،‬ترتبط فيما بينها لتشكل أحكامًا ينجم عنها تصورات مركبة‪ ،‬وهذه‬
‫الحكام والتصورات تشكل القاعدة المنطقية والرياضية‪ ،‬مثل قاعدة كون الكل أكبر من‬
‫الجزء‪ .‬وهذ القسم من العقل هو الذي يمثل القاسم المشترك بين الناس كلهم‪ ،‬ويؤدي‬
‫فقدانه إلى اختلل الفهم والعجز عن التفكير السليم‪.‬‬
‫أما العقل المكتسب‪ ،‬فإنه متحصل من الخبرة النسانية‪ ،‬ومتولد من تطبيق العقل‬
‫الفطري على موضوع ما‪ ،‬فعملية النمو العقلي في حقيقتها نمو للعقل المكتسب بتحصيل‬
‫المعارف والستفادة من خبرات السابقين‪ ،‬وإعمال مباديء العقل الفطري على مصدر‬
‫معرفي معين‪.‬‬
‫والعقل المكتسب ينطوي على ثلثة أنواع من الحكام‪:‬‬
‫‪-1‬أحكام متعالية عن الوجود الحسي ومرتبطة بالوجود المغّيب‪ ،‬كالحكم بأن‬
‫النفوس تبعث من جديد بعد موتها لتثاب على أعمالها‪.‬‬
‫‪-2‬أحكام قيمية توجه العقل في دائرة الحياة الجتماعية‪ ،‬كالحكم بأن الصدق حسن‬
‫والكذب قبيح‪.‬‬
‫‪-3‬أحكام تجريبية مستمدة من ملحظات النسان الطبيعية والتاريخية‪ ،‬كالحكم‬
‫بسقوط الجسام التي تزيد كثافتها عن كثافة الهواء نحو مركز الرض)‪.(372‬‬
‫ل‪ :‬إن التأمل في بنية العقل يظهر لنا أن التعارض بين‬ ‫ويضيف لؤي صافي قائ ً‬
‫أحكام الوحي وأحكام العقل الفطري غير ممكن‪ ،‬نظرًا لخلو العقل الفطري من الحكام‬
‫المضمونية واقتصاره على الحكام الجرائية‪ ،‬فهو ل يملك أن يقضي بصدق أحكام‬
‫مضمونية منفردة أو كذبها‪ ،‬لكنه قادر على الطعن في مصداقية منظومة من الحكام من‬
‫ل أن يعارض حكم القرآن‬ ‫خلل إظهار تناقضها الداخلي‪ ،‬فل يملك العقل الفطري مث ً‬
‫بخلق النسان من طين‪ ،‬فإذا ظهر التساق الداخلي لمنظومة الحكام القرآنية امتنع على‬
‫العقل الفطري العتراض أو التشكيك في أي حكم منفرد من أحكام القرآن‪ .‬فإذا امتنع قيام‬
‫تعارض بين الوحي والعقل الفطري فهل يمكن قيام تعارض بين الوحي والعقل‬
‫المكتسب؟‬
‫للجابة عن هذا السؤال يجدر بنا أن نلحظ بدءًا البنية الداخلية للخطاب القرآني‪،‬‬
‫إذ يتألف القرآن من آيات تنطوي على أحكام متعلقة بثلثة مستويات من الوجود‪ :‬الوجود‬
‫الكّلي المغيب‪ ،‬والوجود الطبيعي المشاهد‪ ،‬والوجود النساني الجتماعي المعيش‪.‬‬
‫لكن الحكام القرآنية هذه ليست أحكامًا ناجزة بل أحكام ثاوية في النص المنزل‬
‫تحتاج إلى إعمال عقل ونظر قبل استخراجها‪ ،‬ولن الوحي مصدر معرفي يستمد العقل‬
‫مضمونه منه فإن قيام تعارض مباشر بين آيات الكتاب والعقل المكتسب من تطبيق العقل‬
‫الفطري على تلك اليات ممتنع أيضًا‪ ،‬إذ ل يمكن بأي حال أن تتعارض المفاهيم‬
‫والتصورات المستمدة من مصدر معرفي مع المعطيات المعرفية لذلك المصدر‪ ،‬لن تلك‬
‫المعطيات تؤلف المادة التي يستخدمها العقل الفطري لتشكيل العقل المكتسب‪ ،‬فمصدر‬
‫التعارض بين العقل والوحي ل بد أن يعود إلى أحكام ناجمة من مصادر أخرى‪ .‬فما‬
‫المصادر الخرى المولدة للمعارف العقلية؟‬
‫المصدر الخر للمعرفة الذي تتولد منه تصورات العقل وأحكامه هو الوجود‬
‫الطبيعي والجتماعي للنسان‪ .‬لقد ارتبط مفهوم العقل بالمعرفة الطبيعية ارتباطًا حميمًا‬
‫حتى أطلق المسلمون المتقدمون صفة عقلي على كل ما ارتبط بالنظر في المحيط‬
‫الطبيعي والجتماعي للنسان‪ ،‬لذلك أدرجوا الطب والهندسة والحساب والفلك‬
‫والسياسات المدنية في دائرة العلوم العقلية‪.‬‬
‫فانقسام العلوم بين عقلي ونقلي يكشف لنا بعدًا جديدًا في طبيعة إشكالية التعارض‬
‫يتعلق بالمعارف المكتسبة من خلل النظر في معطيات الواقع المحسوس‪ ،‬والتأمل في‬
‫بنية الواقع المشهود‪ .‬ومن هنا يظهر لنا أن مشكلة تعارض العقل والنقل ل تنبع من‬
‫رفض عقلي مباشر لنصوص منقولة‪ ،‬بل تتعلق بتناقض دللت النص المنقول‬
‫وتجليات الواقع المشهود‪ .‬لكننا إذا أمعنا النظر في في طبيعة الحكام المضمونية‬
‫المستمدة من الوحي والواقع وجدنا التعارض بين العقل المكتسب والوحي القرآني ممتنع‬
‫في دائرة الحكام المتعالية والقيمية لن النظر في الواقع المشهود ل يمكن أن يولد‬
‫لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪ ،103-80‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪372‬‬
‫أحكامًا متعالية أو قيمية دون هداية الوحي ذاته‪ ،‬الذي يمثل المصدر الرئيس لمثل هذ‬
‫الحكام‪.‬‬
‫فإمكان التعارض قائم في دائرة الحكام التجريبية وحدها‪ .‬بيد أنه من الطريف‬
‫ملحظة أن هذه الدائرة لم تكن يومًا من اليام عبر تاريخ الفكر السلمي كله مدارًا‬
‫للتعارض‪ .‬في حين أن الخلفات التصورية بين فرق المسلمين ومذاهبهم تركزت في‬
‫دائرة الحكام المتعالية‪.‬‬
‫لذلك فإننا نرى أن إشكالية التعارض في جوهرها ليست تعارضًا بين أحكام‬
‫لمتناع التعارض بين الحكام المستمدة من الوحي المقطوع في ثبوته‪ ،‬وتلك المستخرجة‬
‫من النظر في آيات الفاق والنفس‪ .‬بل التعارض في حقيقته تعارض بين منهجيات‬
‫البحث والنظر‪ ،‬ومنظومات الحكام المضمونية الناتجة عنها‪ ،‬لذلك وجدنا أن الخلف‬
‫بين ابن تيمية والرازي ليس خلفًا في تعارض أحكام نقلية وعقلية بعينها‪ ،‬بل خلف في‬
‫آليات الستدلل وأولويات المصادر‪ ،‬فابن تيمية يرفض تقديم قطعيات العقول على‬
‫ظنيات الخبار بالقول‪" :‬مقدمات الدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء‬
‫والشتباه والختلف والضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من‬
‫تطرقه إلى مقدمات الدلة السمعية")‪.(373‬‬
‫فالقضية في جوهرها إذن قضية رفض أهل الحديث لتحكيم المدارك العقلية في‬
‫النص‪ ،‬سواء ما تعلق منه بتأويل آيات الكتاب عند امتناع حمل معانيها على ظاهرها أو‬
‫برّد أخبار الحاد ظنية الثبوت عند تعارضها مع اليقينات العقلية)‪.(374‬‬
‫بيد أن موقف أهل الحديث الرافض لقحام العقل في فهم النص‪ ،‬والمصر على‬
‫الحرفية في الفهم والّتباع حتى عند تعارض دللة النص الظاهرية مع اعتقده العقل‬
‫يقينًا‪ ،‬موقف مضطرب يؤدي إلى اعتبار الجزئي ورفض الكّلي‪ ،‬واعتماد الظني ورد‬
‫اليقيني‪ ،‬ذلك أن فهم النصوص وتحديد دللتها يتوقف على أمرين‪.‬‬
‫الول‪ :‬تحديد معاني اللفاظ من خلل مقارنتها بالستخدامات المختلفة لللفاظ‬
‫ضمن الخطاب الكّلي‪ ،‬وبالتالي فإن تحديد معنى اللفاظ المتضمنة في النص يحتاج إلى‬
‫عملية استقراء ينتقل فيها العقل من الجزئي إلى الكّلي‪ ،‬من خلل مقايسة الجزئيات‬
‫بعضها ببعض‪.‬‬
‫أما المر الثاني المهم الذي يتوقف عليه فهم النصوص فيتعلق باختيار المدلول‪،‬‬
‫وتحديد أوجه دللة النص عليه‪ .‬وهذا يعني أن فهم أي جزئي ل يتم إل من خلل ربطه‬
‫بمجموعة من الكّليات التي تشكل في جوهرها الحكام المضمونية لعقل المفسر لمفهوم‬
‫النص‪.‬‬
‫وبناًء على ما تقدم نخلص إلى أن الوصول إلى اليقين المعرفي ل يمكن أن يتم إل‬
‫من خلل تطوير منظومة من الحكام الكّلية اليقينة المتحصلة من خلل نظر واستدلل‬
‫عقليين في مصدري المعرفة الرئيسيين‪ :‬الوحي والواقع‪ .‬بمعنى أن الحكام الكّلية هذه‬
‫ابن تيمية "درء تعارض العق والنقل" ص ‪.174‬‬ ‫‪373‬‬

‫لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪ .105-103‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪374‬‬


‫تتولد نتيجة لتواطؤ الحكام الجزئية المستقرأة من مفردات الوحي وتمظهرات الواقع‪،‬‬
‫ومن هذا المنطلق يظهر تهافت دعوة أهل الحديث إلى تأسيس المواقف على أساس‬
‫نصوص مجتزئة أو حوادث متفرقة‪ ،‬ذلك أن تظافر النصوص وتواطؤ الحوادث شرط‬
‫أساسي للوصول إلى قناعات راسخة وأحكام يقينية‪ ،‬ومن تأسيس تصور كلي لجال من‬
‫مجالت الوجود‪.‬‬
‫وهكذا يظهر لنا أن تعارض العقل والنقل في فحواه تعارض بين نصوص جزئية‬
‫ومجموعة من المباديء الكّلية‪ ،‬وبالتالي النظر العلمي يقتضي إلحاق الجزئي بقاعدة‬
‫كلية‪ ،‬فإن تعذر نظرنا في إمكان تعديل القاعدة الكّلية لدفع التعارض الكّلي والجزئي‪،‬‬
‫فإن تعذر فل مفر من التوقف في اعتبار الجزئي واستمرار العمل بالكّلي‪ ،‬أي التوقف‬
‫في النص‪ ،‬واعتماد منظومة القواعد الكّلية التي تشكل البنية الداخلية لعقل الناظر في‬
‫النص)‪.(375‬‬
‫وقد عمد الفخر الرزاي في كتابه "أساس التقديس" إلى تأسيس قواعد عقلية يقينية‬
‫مستنبطة من نصوص الوحي‪ ،‬يحاكم من خللها حشوية ابن خزيمة الذي حاول في كتابه‬
‫"التوحيد" منع تأويل النصوص وحملها على المجاز لينتصر لعقيدة التشبيه التي يتبناها‬
‫أهل الحديث‪ ،‬ولم يعرض الرازي قواعده بصورة منهجية لكننا نستطيع تقسيمها إلى أربع‬
‫قواعد تنزيهية‪:‬‬
‫القاعدة ‪ :1‬يمتنع تشابه الباري أو تماثله مع أي من خلقه‪:‬‬
‫حٌد{‬
‫صَمُد * َلْم َيِلْد َوَلْم ُيوَلْد * َوَلْم َيُكن ّلُه ُكُفًوا َأ َ‬‫ل ال ّ‬ ‫حٌد * ا ُّ‬ ‫}ُقْل ُهَو ا ُّ‬
‫ل َأ َ‬
‫الخلص‪.4-1 :‬‬
‫ن{ البقرة‪.22 :‬‬ ‫ل َأنَدادًا َوَأنُتْم َتْعَلُمو َ‬‫جَعُلوْا ِّ‬ ‫}َف َ‬
‫ل َت ْ‬
‫يٌء{ الشورى‪.11 :‬‬ ‫ش ْ‬ ‫س َكِمْثِلِه َ‬ ‫}َلْي َ‬
‫سِمّيا{ الشورى‪.11 :‬‬ ‫}َهْل َتْعَلُم َلُه َ‬
‫القاعدة ‪ :2‬يمتنع تحيز الباري في سماء أو أرض لنه خالق لهما‪،‬‬
‫ن عنهما‪:‬‬‫قيوم عليهما‪ ،‬ومستغ ٍ‬
‫ي اْلَقّيوُم{ البقرة‪.255 :‬‬ ‫حّ‬ ‫}ا ّ‬
‫ل َل ِإَلفَه ِإّل ُهَو اْل َ‬
‫صّوُر{ الحشر‪.24 :‬‬ ‫ئ اْلُم َ‬ ‫ق اْلَباِر ُ‬
‫خاِل ُ‬
‫ل اْل َ‬‫}ُهَو ا ُّ‬
‫ل{ النعام‪.12 :‬‬‫ض ُقل ِّ‬
‫ت َواَلْر ِ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫}ُقل ّلَمن ّما ِفي ال ّ‬
‫ض ِإَلٌه{ الزخرف‪.84 :‬‬
‫سَماء ِإَلٌه َوِفي اَْلْر ِ‬‫}َوُهَو اّلِذي ِفي ال ّ‬
‫القاعدة ‪ :3‬يتسامى الباري عن حدود الزمان والمكان‪:‬‬
‫ن{ الحديد‪.3 :‬‬
‫طُ‬‫ظاِهُر َواْلَبا ِ‬
‫خُر َوال ّ‬‫لِ‬‫}ُهَو اَْلّوُل َوا ْ‬
‫جَهُه{ القصص‪.88 :‬‬ ‫ك ِإّل َو ْ‬
‫يٍء َهاِل ٌ‬
‫ش ْ‬‫}ُكّل َ‬
‫القاعدة ‪ :4‬يستحيل تخصص الباري في جهة‪:‬‬
‫ب{ البقرة‪.186 :‬‬
‫عّني َفِإّني َقِري ٌ‬
‫عَباِدي َ‬
‫ك ِ‬ ‫}َوِإَذا َ‬
‫سَأَل َ‬
‫لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪ .107-105‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪375‬‬
‫ل{ البقرة‪.115 :‬‬
‫جُه ا ّ‬
‫ب َفَأْيَنَما ُتَوّلوْا َفَثّم َو ْ‬
‫ق َواْلَمْغِر ُ‬
‫شِر ُ‬ ‫}َو ِّ‬
‫ل اْلَم ْ‬
‫القاعدة ‪ :5‬يمتنع قياس الغائب على الشاهد عند تحديد صفات الذات‬
‫اللهية لختلف المقيس والمقيس عليه‪.‬‬
‫وبذلك تكتمل القواعد الكّلية التي تشكل منظومة الحكام التي يرجع إليها الرزاي‬
‫لدى تأويله للنصوص وتحديده لدللت اللفاظ المرتبطة بأسماء ال وصفاته‪.‬‬
‫وانطلقًا من منظومة الحكام السابقة يعمد الرازي إلى استعراض النصوص‬
‫سَتَوى{ طه‪،5:‬‬ ‫عَلى اْلَعْرشِ ا ْ‬
‫ن َ‬ ‫التي يدل ظاهرها على التجسيم‪ ،‬كقوله تعالى }الّر ْ‬
‫حَم ُ‬
‫فيبين ضرورة تأويل الية وإخراج الستواء من الحقيقة إلى المجاز لستحالة حمل‬
‫المعنى على الحقيقة‪ .‬فحقيقة الستواء الستقرار على العرش والجلوس عليه‪ ،‬وهو محال‬
‫في حق ال تبارك وتعالى‪ ،‬ويخلص الرازي إلى أن الستواء يعني في سياق الية‬
‫الستيلء والقهر والسطيرة)‪.(376‬‬
‫ويلخص لؤي صافي رؤيته للمنهج الكّلي الذي استخلصه من خلل استقرائه‬
‫الدقيق لفكر الفخر الرزاي بقوله‪" :‬إن القضية التي يثيرها الرزاي هنا قضية منهج‬
‫استنباط المفاهيم والحكام من النصوص‪ ،‬فنراه يرفض منهج المحّدثين الذين يعتمدون‬
‫الخبار المرفوعة إلى رسول ال ‪ ‬ما دام سندها صحيحًا‪ ،‬ول يرون حاجة في النظر‬
‫إلى التساق الداخلي للمفاهيم والحكام المستنبطة من أحاديث الحاد ذات الطبيعة‬
‫الظنية‪ ،‬ول يبدون رغبة في التحقق من انسجام المعاني المستخرجة من الحديث وتلك‬
‫المستمدة من القرآن الكريم")‪.(377‬‬
‫وهذا المنهج هو الذي سار عليه الراسخون في العلم‪ ،‬فقد استخرج زهران‬
‫المسعودي في بحثه القيم حول المام أبو محمد عبدال بن محمد بن بركة )ت ‪362‬هـ(‬
‫ومكانته الفقهية في المدرسة الباضية من خلل كتابه "الجامع" سبعة وخمسين قاعدة‬
‫فقهية‪ ،‬وستة وسبعين ضابطًا كليًا‪ ،‬بالضافة إلى القواعد والضوابط الكّلية التي لم يذكرها‬
‫ابن بركة بالنص‪ ،‬ولكن يمكن استخراجها بالستقراء)‪ ،(378‬ومنهج ابن بركة هو نفس‬
‫منهج الصحابة الذين أوضحنا سابقًا ردهم للخبار غير المتفقة مع القواعد الكّلية‪ ،‬وهو‬
‫المنهج الذي سار عليه فقهاء التابعين وتلمذتهم كجابر بن زيد وأبي عبيدة والربيع بن‬
‫حبيب وعبدال بن عبد العزيز وغيرهم من الفقهاء كأبي حنيفة وأبي ثور‪.‬‬
‫إل أن المنهج الذي سار عليه ابن بركة والذي يمثل جوهر المدرسة الباضية‬
‫أهمل مع تقادم الزمن ولم يجد من يعتني به!‪ ،‬ونحن نرى أن هذا المنهج هو الحل المثل‬
‫لزمة الفكر السلمي الراهنة‪ ،‬فالنظرة القواعدية الكّلية تشتمل على كل الحلول الجزئية‬
‫التي طرحها المفكرون السلميون لمعالجة الزمة الفكرية السلمية‪ ،‬فالقواعد الكّلية‬
‫ظر لها محمد عبده ومحمد الطاهر بن عاشور‬ ‫تضمن ترسيخ "مقاصد الشريعة" التي ن ّ‬
‫‪ 376‬لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪ .111-108‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 377‬لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪.112‬‬
‫‪ 378‬زهران المسعودي "المام ابن بركة ودوره الفقهي في المدرسة الباضية" الفصل‬
‫الثاني ص ‪.276-131‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬وتضمن كذلك تمديد "دائرة الباحة النصية"‪ ،‬وتقليص "دائرة اللزام" الذي‬
‫نادى إليه عبد الجواد ياسين)‪ ،(379‬وهي تتجاوز الشكالت التقنية للقياس الفقهي‪،‬‬
‫بالضافة إلى عدم تجاوزها المخل للروايات الحادية‪ ،‬وإنما حددت لها طرقًا في التعامل‬
‫بما يضمن النسجام والتساق والتناغم بين النصوص المختلفة حتى تشكل بنيانًا متماسكًا‬
‫محكمًا يستطيع المواءمة بين النص والواقع‪.‬‬
‫وقد يّدعي البعض أن علم أصول الفقه فيه مع علم الجرح والتعديل غنية عن‬
‫منهج القواعد الكّلية‪ ،‬إل أن المر غير ذلك تمامًا فعلم أصول الفقه قائم في أساسه على‬
‫النظر إلى النصوص كقوالب لفظية مفككة‪ ،‬بينما منهج القواعد الكّلية يتعامل مع‬
‫النصوص كعالم متجانس من الجزئيات التي تتآلف لتشكل البناء الكّلي الذي يقم عليه‬
‫ل‪" :‬معظم مسائله مختلف‬ ‫فضاء الفقه الرحب‪ ،‬يّعلق ابن عاشور على علم الصول قائ ً‬
‫ظار‪ ،‬مستمر بينهم الخلف في الصول تبعًا للختلف في الفروع‪ .‬وإن شئت‬ ‫فيها بين الن ّ‬
‫فقل‪ :‬قد استمر بينهم الخلف في الصول لن قواعد الصول انتزعوها من صفات تلك‬
‫الفروع‪ ،‬إذ كان علم الصول لم يدّون إل بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين ‪ ...‬على أن معظم‬
‫مسائل أصول الفقه ل ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها‪ ،‬ولكنها تدور حول‬
‫محور استنباط الحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكن العارف بها من انتزاع‬
‫الفروع منها‪ ،‬أو من انتزاع أوصاف ُتؤِذن بها تلك اللفاظ‪ ،‬ويمكن أن ُتجعل تلك‬
‫الوصاف باعثًا على التشريع‪ ،‬فتقاس فروع كثيرة على مورد لفظ منها باعتقاد اشتمال‬
‫تلك الفروع كلها على الوصف الذي اعتقدوا أنه مراٌد من لفظ الشارع‪ ،‬وهو الوصف‬
‫المسمى بالعلة")‪.(380‬‬
‫وقال ابن عاشور نافيًا درجة القطع عن علم أصول الفقه‪" :‬معظم أصول الفقه‬
‫مظنونة")‪ ،(381‬وقال أيضًا‪" :‬وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الولى من كتاب‬
‫الموافقات الستدلل على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت بطائل" )‪ .(382‬ولكنه امتدح‬
‫منهج القواعد الكلية بالقول‪" :‬ولقد فاضت كلمات مباركة من بعض أئمة الدين أمست‬
‫قواعد قطعية للتفقه‪ ،‬إل أن تناثرها وانغمارها بوقوعها في أثناء الستدلل على جزئيات‪،‬‬
‫يسارع إليها بإبعادها عن ذاكرة من قد ينتفع بها عند الحاجة إليها‪ ،‬وهذا مثل قولهم‪" :‬ل‬
‫ضرر ول ضرار"‪ ،‬وقول عمر بن عبد العزيز "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من‬
‫الفجور"‪ ،‬وقول مالك في الموطأ‪" :‬ودين ال يسر")‪.(383‬‬
‫يقول لؤي صافي‪" :‬إن النظر المدقق في منهجية القواعد القياسية يظهر لنا تماسك‬
‫هذه المنهجية واتساقها مستمد من قدرتها على توظيف مبادئ العقل وعملياته المختلفة‬
‫للوصول إلى نتائج راسخة‪ ،‬بدءًا من عملية التحليل ومرورًا بعملية القياس وانتهاءًا‬
‫بعملية التركيب‪ .‬إذ يعمد المجتهد في فهم النصوص إلى تحليلها إلى مفرداتها وتحديد‬
‫عبد الجواد ياسين في كتابه "السلطة في السلم"‪.‬‬ ‫‪379‬‬

‫ابن عاشور "مقاصد الشريعة السلمية" ص ‪.167-166‬‬ ‫‪380‬‬

‫ابن عاشور "مقاصد الشريعة السلمية" ص ‪.168‬‬ ‫‪381‬‬

‫‪ 382‬ابن عاشور "مقاصد الشريعة السلمية" ص ‪.172‬‬


‫‪ 383‬ابن عاشور "مقاصد الشريعة السلمية" ص ‪.173‬‬
‫معانيها ومنطقها الداخلي‪ ،‬ثم إعادة تركيبها بناًء على تشابه دللتها ومقاصدها‪ .‬وهكذا‬
‫يؤدي اتحاد مقاصد الحكام الجزئية إلى تركيبها وفق قواعد كلية ومن ثم القياس على‬
‫ل من القياس على الجزئي‪ ،‬لذلك فإن اعتماد القواعد الكلية ليس إلغاء لعملية‬ ‫الكلي بد ً‬
‫القياس بل تلخيصها من ترددها الظني والسمو بها إلى مستوى معرفي أكثر ثبوتًا‬
‫ورسوخًا")‪.(384‬‬
‫أما عن منهجية استخراج مثل هذه القواعد فيلخصها لؤي صافي في النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬تحديد النصوص المرتبطة بالموضوع المدروس من كتاب ال العظيم وسنة رسوله‬
‫الكريم‪.‬‬
‫‪ -2‬تحليل النصوص بغية تعيين معاني اللفاظ المفردة اللغوية ودللتها الصطلحية في‬
‫الخطاب القرآني أو النبوي‪ ،‬وتحديد دللت النظم الثاوي في التركيب الصرفي والنحوي‬
‫للنصوص‪.‬‬
‫‪ -3‬تعليل النصوص بالنظر إلى مناط الحكام المرتبطة بالنصوص وتحديد المقصد أو‬
‫المصلحة او السبب الذي يدور حوله الحكم وجودًا وعدمًا‪.‬‬
‫‪ -4‬استقراء المعاني الكلية لنصوص الكتاب وصياغتها وفق عدد من القواعد العامة‪.‬‬
‫‪ -5‬عرض نصوص السنة على القواعد المصاغة في الخطوة السابقة للنظر في تأثيرها‬
‫على هذه القواعد من حيث تخصيص عامها‪ ،‬أو بيان مجملها أو تقييد مطلقها‪.‬‬

‫‪ -6‬اعتماد القواعد القياسية المتحصلة لفهم الواقع المدروس‪ ،‬أو توجيهه والحكم عليه‪،‬‬
‫وهو ما يعرف في علم الصول بتحقيق المناط)‪.(385‬‬
‫وفي هذا الطار يمكن لنا نتفهم عدم اهتمام كثير من أئمة الفقه لعلوم الجرح‬
‫والتعديل ومرويات أهل الحديث‪ ،‬فأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة وحين سئل أبو عبيدة‬
‫عن الشخص الذي ل يحفظ الروايات هل يستطيع تدريس العلم؟ قال‪" :‬سبحان ال‪ ،‬أك ّ‬
‫ل‬
‫الناس يحفظون الحديث؟ بل يؤخذ العلم عن الثقات‪ ،‬وإن كانوا ل يعلمون حديثًا‬
‫واحدًا")‪.(386‬‬

‫الجتهاد والتقليد عند أهل الحديث‪:‬‬


‫إن الهروب من إعمال العقل في النصوص هو أساس البنية الفكرية لمدرسة أهل‬
‫الحديث‪ ،‬وهذه القاعدة يلخصها الحسن بن علي البربهاري )ت ‪329‬هـ( في دعوته‬
‫لتباعه وقوله لهم‪" :‬فال ال في نفسك وعليك بالثر والتقليد‪ ،‬فإن الدين إنما هو‬
‫التقليد")‪.(387‬‬

‫لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪.205‬‬ ‫‪384‬‬

‫لؤي صافي "إعمال العقل" ص ‪.196-195‬‬ ‫‪385‬‬

‫عمرو النامي "دراسات عن الباضية" ص ‪.127‬‬ ‫‪386‬‬

‫‪ 387‬حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.118‬‬


‫فالدين عند أتباع هذه المدرسة هو التقليد‪ ،‬أما إعمال العقل في آيات ال الكونية‬
‫والتعامل مع القرآن الكريم بتدبر وتمعن كما أمرنا ال تعالى بقوله‪ِ} :‬كَتابٌ َأنَزْلَناُه ِإَلْي َ‬
‫ك‬
‫ب{ص‪ 29 :‬فهو مغيب عندهم‪ .‬وفي كلم‬ ‫ك ّلَيّدّبُروا آَياِتِه َوِلَيَتَذّكَر ُأْوُلوا اَْلْلَبا ِ‬
‫ُمَباَر ٌ‬
‫البربهاري مخالفة صريحة لمنهج القرآن الكريم الذي اعتبر التقليد العمى دون وعي‬
‫عَلى آَثاِرِهم‬ ‫عَلى ُأّمٍة َوِإّنا َ‬‫جْدَنا آَباءَنا َ‬ ‫وتعقل من صفات أتباع الملل المنحرفة }ِإّنا َو َ‬
‫ّمْقَتُدوَن{الزخرف ‪ ،23‬والذي حذر من مغبة التقليد العمى بقوله‪ِ} :‬إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫ب{ البقرة‪:‬‬ ‫سَبا ُ‬ ‫لْ‬‫ت ِبِهُم ا َ‬ ‫طَع ْ‬ ‫ب َوَتَق ّ‬ ‫ن اّتَبُعوْا َوَرَأُوْا اْلَعَذا َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬ ‫اّتِبُعوْا ِم َ‬
‫‪.166‬‬
‫بل قد وصل المر بالبربهاري إلى رفض عرض أقوال أئمته على كتاب ال‬
‫حِميٍد{ فصلت ‪،42‬‬ ‫حِكيٍم َ‬ ‫ن َ‬ ‫خْلِفِه َتنِزيٌل ّم ْ‬‫ن َ‬‫ن َيَدْيِه َوَل ِم ْ‬ ‫طُل ِمن َبْي ِ‬ ‫الذي }َل َيْأِتيِه اْلَبا ِ‬
‫فهو يقول‪" :‬وإذا سمعت الرجل تأتيه بالثر فل يريده‪ ،‬ويريد القرآن‪ ،‬فل ُيشك أنه رجل‬
‫قد احتوى على الزندقة")‪ .(388‬ودعوة البربهاري هي اجترار لصداء تجاوزتها عجلة‬
‫المد اليماني الذي بدد ظلم الجاهلية‪ ،‬فهي تجسد من وصفهم ال تعالى بقوله‪َ} :‬وِإَذا ِقيَل‬
‫عَلْيِه آَباءَنا َأَوَلْو َكا َ‬
‫ن‬ ‫جْدَنا َ‬
‫سُبَنا َما َو َ‬
‫ح ْ‬ ‫سوِل َقاُلوْا َ‬ ‫ل َوِإَلى الّر ُ‬ ‫َلُهْم َتَعاَلْوْا ِإَلى َما َأنَزَل ا ّ‬
‫ن{ المائدة‪ ،104 :‬بينما القرآن العظيم يدعو أتباعه إلى‬ ‫شْيًئا َوَل َيْهَتُدو َ‬ ‫ن َ‬ ‫آَباُؤُهْم َل َيْعَلُمو َ‬
‫سَنُه‬
‫ح َ‬ ‫ن َأ ْ‬‫ن اْلَقْوَل َفَيّتِبُعو َ‬
‫سَتِمُعو َ‬ ‫التفكر والنظر واتباع أقرب القوال إلى الحق }اّلِذي َ‬
‫ن َي ْ‬
‫ب{ الزمر‪.18 :‬‬ ‫ك ُهْم ُأْوُلوا اَْلْلَبا ِ‬ ‫ل َوُأْوَلِئ َ‬ ‫ن َهَداُهُم ا ُّ‬ ‫ك اّلِذي َ‬
‫ُأوَْلِئ َ‬
‫ول تعارض بين دعوة البربهاري لتقليد الثر وبين رفض أهل الحديث عدم اتباع‬
‫الفقهاء ومنهجهم القائم على القواعد الكّلية‪ ،‬ذلك أن أهل الحديث يرون في أطنان‬
‫الروايات الحادية التي مخازنهم كفيلة بتغطية جميع الحتياجات الفقهية والعقدية‪ ،‬فهم ل‬
‫يبالبون بالتفاوت الزماني والمكاني بين لحظة النص في تلك الروايات وبين الواقع الذي‬
‫يستلزم الحكمة في إنزال النص عليه‪.‬‬
‫وظن كثير من المفكرين أن دعوة أهل الحديث التي ظهرت حديثًا تحت مسمى‬
‫"السلفية" هي دعوة للجتهاد من خلل التعامل المباشر مع النصوص‪ ،‬إل أن هؤلء‬
‫سرعان ما سيكتشفون خطأ تصورهم حين يدركون أن الجتهاد عند أهل الحديث يقصد‬
‫به التقيد الحرفي بالتراث الروائي!‪.‬‬
‫وابن القيم الجوزية يؤكد على حقيقة تقديم أهل الحديث للروايات الضعيفة الواهية‬
‫على الجتهاد القائم على محاكمة الجزئي "الروايات الحادية" بالكّلي "نصوص الكتاب‬
‫والسنة المجتمع عليها ودلئل العقل القطعية"‪ ،‬حيث يروي ابن القيم عن عبدال بن أحمد‬
‫ي من الرأي‪ .‬فسألت أبي‬ ‫بن حنبل أنه قال‪" :‬سمعت أبي يقول‪ :‬الحديث الضعيف أحب إل ّ‬
‫عن الرجل يكون ببلد ل يجد فيه إل صاحب حديث ل يعرف صحيحه من سقيمه‪،‬‬

‫حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.113‬‬ ‫‪388‬‬


‫وأصحاب رأي‪ ،‬فتنزل به النازلة‪ .‬فقال أبي‪ :‬يسأل أصحاب الحديث ول يسأل أصحاب‬
‫الرأي‪ ،‬ضعيف الحديث أقوى من الرأي")‪.(389‬‬
‫ونتيجة لهذه العقلية السطحية التي تعامل بها أهل الحديث‪ ،‬صار بسطاؤهم أرضًا‬
‫خصبة تنبت فيها عقائد أهل الملل المنحرفة‪ ،‬خاصة إنهم وجدوا ما يتكئون عليه من آيات‬
‫متشابهات في القرآن الكريم تعجز مداركهم العقلية عن تدبر معانيها وتأويل ما فيها‪،‬‬
‫وتجاوزا ذلك إلى تعليب الروايات المنسوبة إلى النبي ‪ ‬للنتصار لعقائد المم‬
‫المجسمة‪ .‬يقول ابن الجوزي‪" :‬واعلم أن عموم المحّدثين حملوا ظاهر ما تعلق من‬
‫صفات الباري سبحانه وتعالى على مقتضى الحس فشبهوا‪ ،‬لنهم لم يخالطوا الفقهاء‬
‫فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم")‪.(390‬‬

‫قدسية القرون الثلثة الولى‪:‬‬


‫ل يخفى على الباحث أن أهل الحديث ينزعون إلى تقديس أقوال وآثار أصحاب‬
‫ق في‬‫القرون الثلثة الولى فهم حسب تعبيرهم‪" :‬كانوا أعلم بلغة القرآن ومراميه‪ ،‬وأد ّ‬
‫محكمه ومتشابهه‪ ،‬وأعرف بالفرق بين الحق والباطل‪ ،‬وأعظم محبة للحق الذي أرسل به‬
‫محمد ‪ ،‬وأصبر على متابعة الحق واحتمال الذى‪ ،‬وكانوا يرون في الحجج العقلية‬
‫المنتزعة من الكتاب والسنة غناًء تامًا عن الطريق القياسية الكلمية‪ ،‬ولم يصدر عنهم ذم‬
‫جنس الكلم‪ ،‬ول ذم الستدلل والنظر والجدل الذي أمر ال به ورسوله‪ ،‬أو الستدلل‬
‫بما بينه ال ورسوله‪ ،‬ول ذم كلم هو حق‪ ،‬وإنما صدر عنهم ذم الكلم الباطل المخالف‬
‫للكتاب والسنة‪ ،‬والمخالف للعقل أيضًا‪ ،‬فهم أهل نظر ودراية بجانب كونهم علماء أثر‬
‫ورواية")‪.(391‬‬
‫فاستغل غلتهم هذه القدسية المزعومة للسلف للتشنيع والشغب وتأليب التباع من‬
‫العوام على المخالفين عن طريق وصفهم بمعاداة السلف‪ ،‬ومن ذلك قول ابن تيمية في‬
‫مخالفيه "التزموا لذلك تجهيل السلف‪ ،‬وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة‬
‫والورع والتسبيح وقيام الليل‪ ،‬ولم تكن الحقائق من شأنهم")‪.(392‬‬
‫إن من بين أهم المشاكل التي تعتري منهج أهل الحديث تكمن في النظرة إلى‬
‫النص الخالص –القرآن والسنة‪ -‬كبناء من اللفاظ والجمل والتراكيب البيانية‪ ،‬مما يترتب‬
‫عليه اعتبار أهل القرون الثلثة الولى هم العلم بالشريعة لستطاعتهم بملكتهم اللسانية‬
‫استفادة المعاني والحكام‪ ،‬أما رؤية النص باعتباره عالمًا واسعًا من الحكام والنظم‬
‫والمقاصد والهياكل التي يشيد عليها بنيان الفقه حسب الظروف الزمانية والمكانية فهي‬
‫مغيبة‪ ،‬لنها تستلزم إلى جانب اللة اللغوية التي يعتمد عليها منهج المحّدثين استخدام‬
‫أدوات تفكيرية وعقلية لم ينفرد بها أصحاب القرون الثلثة‪ ،‬بل شاركهم فيها غيرهم‪ ،‬بل‬
‫‪ 389‬ابن القيم الجوزية "أعلم الموقعين" ج ‪1‬ص ‪.77-76‬‬
‫‪ 390‬ابن الجوزي "تلبيس إبليس" ص ‪.160-159‬‬
‫‪ 391‬عبدالله عبد المحسن التركي‪ ،‬وشعيب الرنؤوط في تقديمهما لكتاب "شرح العقيدة‬
‫الطحاوية" ج ‪1‬ص ‪.10‬‬
‫‪ 392‬محمد الموصلي "مختصر الصواعق المرسلة" ج ‪1‬ص ‪.37-36‬‬
‫أننا نسطتيع القول إن أصحاب القرون المتأخرة لهم خلفية ثقافية ومعارف علمية أكبر من‬
‫أولئك الذين عاشوا في القرون الولى والذين انحصرت معارفهم في مفردات بيئتهم‬
‫البسيطة‪.‬‬
‫وحين أدرك أهل الحديث أن نظرتهم للنص المنحصرة في بنائه اللفظي ستؤدي‬
‫إلى محدوديته حيال الزمن المتغير‪ ،‬قاموا بعلمية توسيع هائلة لدائرة النص‪ ،‬فحشروا فيها‬
‫أقوال وآراء علمائهم التي جعلوها موازية للنص الخالص –القرآن والسنة‪ ،-‬ثم قاموا‬
‫بعملية تحصين لتلك الراء عن طريق التنصيص على خيرية أصحابها على بقية المة!‪.‬‬
‫ل للقرآن والسنة وآراء أئمتهم من أهل تلك القرون‪.‬‬ ‫وبذلك أصبح النص عندهم شام ً‬
‫والرواية التي تم تعليبها للنتصار لهل القرون الثلثة الولى هي ما نسب إلى‬
‫الرسول ‪ ‬أنه قال‪" :‬خير أمتي قرني‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬قال عمران‪:‬‬
‫فل أدري أذكر بعد قرنه قرنين‪ ،‬أو ثلثًا‪ ،‬ثم إن بعدكم قوما يشهدون ول يستشهدون‪،‬‬
‫ويخونون ول يؤتمنون‪ ،‬وينذرون ول يفون‪ ،‬ويظهر فيهم السمن")‪ .(393‬ويلحظ على‬
‫هذه الرواية بالضافة إلى كونها تتحدث عن الغيب)‪ ،(394‬أنها تعتمد البعد الزمني كميزان‬
‫للمفاضلة بين البشر‪ ،‬وليس للنسان في هذا البعد قدرة ول اختيار‪ ،‬فما ذنب الذين ولدوا‬
‫في القرون المتأخرة أن ل تنالهم هذه الخيرية المزعومة‪ ،‬وهذا الميزان الزماني‬
‫للمفاضلة بين البشر مخالف للنصوص القطعية من الكتاب العزيز‪ ،‬فال تعالى يقول‪َ} :‬يا‬
‫عنَد‬
‫ن َأْكَرَمُكْم ِ‬‫شُعوًبا َوَقَباِئَل ِلَتَعاَرُفوا ِإ ّ‬
‫جَعْلَناُكْم ُ‬
‫خَلْقَناُكم ّمن َذَكٍر َوُأنَثى َو َ‬ ‫س ِإّنا َ‬
‫َأّيَها الّنا ُ‬
‫خِبيٌر{ الحجرات ‪ ،13‬فمقياس الخيرية عند ال تعالى هو التقوى‪،‬‬ ‫عِليٌم َ‬
‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬‫ل َأْتَقاُكْم ِإ ّ‬
‫ا ِّ‬
‫ول قيمة للبعد الزماني ول المكاني في السلم‪.‬‬
‫ومن دلئل مخالفتها للقرآن الكريم معارضتها لقوله تعالى‪ُ} :‬كنُتْم َ‬
‫خْيَر ُأّمٍة‬
‫ل{ آل عمران‬ ‫ن ِبا ّ‬ ‫ن اْلُمنَكرِ َوُتْؤِمُنو َ‬
‫عِ‬ ‫ن َ‬ ‫ف َوَتْنَهْو َ‬
‫ن ِباْلَمْعُرو ِ‬
‫س َتْأُمُرو َ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬‫خِر َ‬ ‫ُأ ْ‬
‫‪ ،110‬والخطاب لكل الصالحين من المة في كل زمان ومكان إن تحقق فيهم المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر واليمان بال‪ ،‬وليس في الية تخصيص لفترة زمنية كما‬
‫تفترضه الرواية السابقة!‪.‬‬
‫إن هذه الرواية ومثيلتها بجانب وصفها للسلم بالقليمية الزمانية والمكانية‪،‬‬
‫وبجانب سحقها لروح التنافس في فعل الخيرات‪ ،‬وبجانب بثها لروح الهزيمة والوهن في‬
‫أفراد المة‪ ،‬هي أيضًا مخالفة للثوابت التاريخية التي تؤكد على أن أصحاب القرون‬
‫ل ممن جاء بعدهم‪ ،‬ففي عهد بني أمية الذين بدأ عهدهم‬ ‫الثلثة الولى ليسوا بأفضل حا ً‬
‫في القرن الول الهجري‪ ،‬بدأ الستبداد السياسي‪ ،‬وترسخت فيه الديكتاتورية المقيتة‪،‬‬
‫‪ 393‬البخاري ‪ 3650‬و ‪ 3651‬ومسلم ]‪.(2533)-210 [6469‬‬
‫‪ 394‬الغيب ل يمكن القطع فيه إل بالدليل القطعي الثبوت والقطعي الدللة‪ ،‬كنصوص القرآن‬
‫الكريم الصريحة أو السنة المتواترة الصحيحة المجتمع عليها‪ ،‬وهذه الرواية لو صحت ل‬
‫تعدو أن تكون آحادية ظنية الثبوت‪ .‬وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها لمسروق‪:‬‬
‫ما َ‬
‫ذا‬ ‫س ّ‬‫ف ٌ‬ ‫"ومن حدثك أنه –أي النبي ‪ -‬يعلم ما في غد فقد كذب‪ ،‬ثم قرأت }وَ َ‬
‫ما ت َد ِْري ن َ ْ‬
‫دا{لقمان‪ "34 :‬البخاري ‪.4855‬‬ ‫ب غَ ً‬ ‫ت َك ْ ِ‬
‫س ُ‬
‫وابتدع النتقال العمودي للسلطة كما هو الحال عند الكاسرة والقياصرة‪ ،‬وحدثت في‬
‫عهدهم المذابح المختلفة حيث قتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب)‪ ،(395‬وقتل أحفاد‬
‫رسول ال ‪ ‬الحسن الذي مات مسمومًا)‪ ،(396‬والحسين الذي قتلته قوات يزيد بن‬
‫معاوية)‪ .(397‬ثم تلى ذلك عهد بني العباس الذين قاموا بجرائم القتل الجماعية ضد‬
‫المويين‪ ،‬وانتشر في عهدهم الفساد الداري‪ ،‬وتفشى الخلل الجتماعي وظهر المجون‬
‫واللهو والعبثية وتعطيل حدود ال‪ ،‬كما ظهرت المذاهب الفقهية والكلمية التي ما زالت‬
‫تتناحر إلى اليوم‪.‬‬
‫ونحن إذا رجعنا إلى الرواية التي احتج بها أهل الحديث ونظرنا إلى كلمة "قرن"‬
‫التي اصطلح المحّدثون على أنها تعني "مائة عامة"‪ ،‬وحاولنا استقراء النصوص اللغوية‬
‫القريبة من عهد النبوة ‪-‬وأصدق هذه النصوص هو ما جاء في القرآن الكريم‪ -‬لتأكد من‬
‫صحة هذا الصطلح‪ ،‬سنجد أن كلمة "قرن" وردت في سبعة مواضع من الكتاب‬
‫العزيز وهي‪:‬‬
‫ض َما َلْم ُنَمّكن ّلُكمْ‬‫ن ّمّكّناُهْم ِفي اَلْر ِ‬ ‫}َأَلْم َيَرْوْا َكْم َأْهَلْكَنا ِمن َقْبِلِهم ّمن َقْر ٍ‬
‫حِتِهْم َفَأْهَلْكَناُهم ِبُذُنوِبِهْم‬
‫جِري ِمن َت ْ‬ ‫جَعْلَنا اَلْنَهاَر َت ْ‬
‫عَلْيِهم ّمْدَراًرا َو َ‬‫سَماء َ‬ ‫سْلَنا ال ّ‬
‫َوَأْر َ‬
‫ن َأَثاًثا‬‫سُ‬ ‫ح َ‬ ‫ن{ النعام‪َ} ،6 :‬وَكْم َأْهَلْكَنا َقْبَلُهم ّمن َقْر ٍ‬
‫ن ُهْم َأ ْ‬ ‫خِري َ‬ ‫شْأَنا ِمن َبْعِدِهْم َقْرًنا آ َ‬‫َوَأْن َ‬
‫سَمُع َلُهْم‬ ‫حٍد َأْو َت ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫س ِمْنُهم ّم ْ‬ ‫ح ّ‬‫ن َهْل ُت ِ‬ ‫َوِرْئًيا{مريم‪َ} ،74:‬وَكْم َأْهَلْكَنا َقْبَلُهم ّمن َقْر ٍ‬
‫ن{المؤمنون‪َ} ،31:‬كْم َأْهَلْكَنا ِمن‬ ‫خِري َ‬‫شْأَنا ِمن َبْعِدِهْم َقْرًنا آ َ‬‫ِرْكًزا{مريم‪ُ} ،98 :‬ثّم َأن َ‬
‫شا{ ق‪.36:‬‬ ‫ط ً‬‫شّد ِمْنُهم َب ْ‬‫ن { ص‪َ} ،3 :‬وَكْم َأْهَلْكَنا َقْبَلُهم ّمن َقْرنٍ ُهْم َأ َ‬ ‫َقْبِلِهم ّمن َقْر ٍ‬
‫والقرن في جميع هذه المواضع يعني "المة"‪ ،‬ومعنى ذلك أن "القرن" بمعنى‬
‫"مئة عام" كما تفترضه الرواية لم يكن معهودًا عند العرب في عهد التنزيل مما يثير‬
‫الشكوك حول اختلقها في وقت متأخر‪ .‬ويؤكد هذا الفتراض تفسير الخليل بن أحمد‬
‫ن‪ ،‬ويقال‪:‬‬ ‫ن بعد َقْر ٍ‬ ‫ن‪ :‬المة‪ .‬وَقْر ُ‬ ‫ل‪" :‬الَقْر ُ‬ ‫الفراهيدي )ت ‪172‬هـ( لمعنى "القرن" قائ ً‬
‫ن ستون سنة")‪ ،(398‬فهو قد أثبت أن القرن يعني المة‪ ،‬وذكر بصيغة‬ ‫عْمُر كل قر ٍ‬ ‫ُ‬
‫التمريض "يقال" أن القرن قد يراد به ستون عامًا!‪ .‬فإذا علمنا أن "القرن" في لغة‬
‫العرب على عصر الرسول ‪ ‬تعني "المة" ستكون دللة الرواية كالتالي‪" :‬خير أمتي‬

‫‪ 395‬هناك روايات تشير إلى تدبير معاوية قتل علي عن طريق الشعث بن قيس الذي‬
‫استخدم عبد الرحمن بن ملجم لهذا الغرض )راجع ابن سعد "الطبقات" ج ‪3‬ص ‪،37‬‬
‫البلذري "النساب" ج ‪3‬ص ‪ (254‬والشعث كان متهما بأنه عميل لمعاوية )راجع احمد‬
‫معروف "قراءة جديدة في مواقف الخوارج" ص ‪ ،59‬وص ‪ ،71‬ولمزيد من التفاصيل )راجع‬
‫ناصر السابعي "الخوارج والحقيقة الغائبة" ص ‪ .(174-163‬والشعث بن قيس ارتد عن‬
‫السلم أيام أبي بكر )الطبري" التاريخ" ج ‪2‬ص ‪ ،(304-30‬وقد ندم أبو بكر على عدم قتله‬
‫وقال فيه "وددت يوم أتيت بالشعث بن قيس أن ضربت عنقه‪ ،‬فإنه يخيل إلي انه ل يرى‬
‫شرا ً إل سعى فيه وأعان عليه" )البلذري "فتوح البلدان" ص ‪.(112‬‬
‫‪ 396‬دست له السم زوجته جعدة بنت الشعث بن قيس )ابن حجر العسقلني "التهذيب" ج‬
‫‪23‬ص ‪ ،274‬رقم ‪.(1331‬‬
‫‪ 397‬الطبري "التاريخ" ج ‪2‬ص ‪.305‬‬
‫‪ 398‬الخليل بن أحمد الفراهيدي "كتاب العين" ج ‪3‬ص ‪.1468‬‬
‫أمتي‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬قال عمران‪ :‬فل أدري أذكر بعد أمته أمتين‪ ،‬أو‬
‫ثلثًا‪ ،‬ثم إن بعدكم قوما يشهدون ول يستشهدون‪ ،‬ويخونون ول يؤتمنون‪ ،‬وينذرون ول‬
‫يفون‪ ،‬ويظهر فيهم السمن"‪ .‬وهذا التركيب البالغ الركاكة ل يمكن توهم صدوره من‬
‫ل إلى إحتمال كون الرواية مختلقة في عصور متأخرة‪.‬‬ ‫مشكاة النبوة‪ ،‬وهو يشير فع ً‬
‫وقد ذكر ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري ما يوافق تحليلنا السابق‬
‫حيث قال‪" :‬والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من المور المقصودة‪،‬‬
‫ويقال إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو‬
‫مذهب أو عمل")‪ .(399‬ثم ذكر ابن حجر المعنى الذي وصل إليه المحّدثون وكيف‬
‫اضطربوا في معناه فقال‪" :‬ويطلق القرن على مدة من الزمان‪ ،‬واختلفوا في تحديدها من‬
‫عشرة أعوام إلى مائة وعشرين‪ ،‬لكن لم أر من صرح بالسبعين ول بمائة وعشرة‪ ،‬وما‬
‫عدا ذلك فقد قال به قائل‪ .‬وذكر الجوهري بين الثلثين والثمانين‪ ،‬وقد وقع في حديث عبد‬
‫ال بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور‪ ،‬وقال صاحب المطالع‪:‬‬
‫القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد وثبتت المائة في حديث عبد ال بن بسر وهي ما عند‬
‫أكثر أهل العراق‪ ،‬ولم يذكر صاحب "المحكم" الخمسين وذكر من عشر إلى سبعين ثم‬
‫قال‪ :‬هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن‪ ،‬وهذا أعدل القوال وبه صرح ابن‬
‫العرابي")‪.(400‬‬
‫فالضطراب نشأ من محاولة التلفيق بين الروايات المختلفة للوصول إلى حل‬
‫للشكال الذي افتعلته الرواية المزعومة‪ ،‬ولم يعول المحّدثون على مرجعية القرآن‬
‫الكريم لستجلء حقيقة هذا المصطلح‪ ،‬وليس هذا بمستغرب عليهم‪ ،‬فهم يتعاملون مع‬
‫النصوص بصورة مفككة مسلوخة من إطارها الكّلي‪ ،‬تجعلهم يقعون في التخبط‬
‫والتناقض والضطراب‪.‬‬
‫وأهل الحديث أنفسهم يروون عن أبي هريرة قوله‪" :‬سمعت الصادق المصدوق‬
‫يقول‪ :‬هلكة أمتي على أيدي غلمة من قريش‪ .‬فقال مروان‪ :‬لعنة ال عليهم غلمة‪ ،‬فقال أبو‬
‫هريرة‪ :‬لو شئت أن أقول بني فلن وبني فلن لفعلت‪ .‬فكنت –الراوي سعيد بن عمرو‪-‬‬
‫أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا قال لنا‪ :‬عسى‬
‫هؤلء أن يكونوا منهم")‪ .(401‬فهذه الراوية تناقض الراوية السابقة لنها تقول إن هلك‬
‫المة سيكون على أيدي المويين أي في القرن الول الذي يفترض فيه القدسية والخيرية‬
‫المطلقة حسب رواية أهل الحديث‪.‬‬
‫وأهل الحديث مع تجاهلهم لنصوص القرآن الكريم والحقائق التاريخية التي تثبت‬
‫بطلن رواية القرون الثلثة رفضوا كذلك بعض المرويات التي تعارض تلك الرواية‪،‬‬
‫ثل المطر ل يدرى أوله خير أم آخره")‪ .(402‬وهذه الرواية‬ ‫ومنها رواية "مثلُ أمتي ِم ُ‬
‫‪ 399‬ابن حجر العسقلني في "فتح الباري" ج ‪7‬ص ‪.351‬‬
‫‪ 400‬ابن حجر العسقلني نفس المصدر‪.‬‬
‫‪ 401‬البخاري ‪.7058‬‬
‫‪ 402‬قال ابن حجر موثقا ً لهذه الرواية كما في "فتح الباري" ج ‪7‬ص ‪) :.351‬وهو حديث‬
‫حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة ‪ ...‬عند الترمذي بإسناد أقوى منه من حديث‬
‫أقرب لمنهج كتاب ال وأصح من حيث موافقتها للقواعد العامة للشريعة السلمية التي‬
‫تعتبر التقوى –اليمان والعمل‪ -‬هو مقياس الخيرية وميزان المفاضلة بين الناس‪.‬‬
‫رواية أخرى تجاهلتها عقلية أهل الحديث هي ما نسب إلى أبي عبيدة أنه قال‪" :‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬أأحد خير منا؟ أسلمنا معك‪ ،‬وجاهدنا معك!‪ .‬قال‪ :‬قوم يكونون من بعدكم‬
‫يؤمنون بي ولم يروني")‪ .(403‬ورواية أخرى رواها الربيع بن حبيب من طريق ابن‬
‫عباس أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬خير أمتي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي‬
‫ويعملون بأمري ولم يروني فأولئك لهم الدرجات العلى إل من تعمق في الفتنة")‪.(404‬‬
‫وهذه الروايات وإن كانت متوافقة في المعنى مع عموم الخيرية لمة محمد ‪ ‬أولها‬
‫وآخرها إل أنه ل يمكن تلقيها على إطلقها‪ ،‬ففضل الصحابة وجهادهم بأموالهم وأنفسهم‬
‫وتضحياتهم الجسام في سبيل نشر هذا الدين ل يمكن إنكاره‪ ،‬ونستطيع القول من خلل‬
‫استقراء نصوص القرآن الكريم أن الصحابة في عمومهم كانوا أفضل المة إيمانًا وبذ ً‬
‫ل‬
‫وتضحيًة‪ ،‬والمنصف ل يمكن أن يغمط تاريخهم المشرّف المرصع بالجهاد والتضحية‬
‫بالغالي والنفيس‪.‬‬
‫ونحن وإن كنا نقّر بأن المهاجرين الولين ومن اتبعهم بإحسان من الصحابة هم‬
‫ل وجهادًا‪ ،‬إل أننا ل ننساق وراء العواطف كما فعل المحّدثون‪،‬‬ ‫خير المة ديناً وخلقًا وبذ ً‬
‫فنحن ل نقول بأن الصحابة هم أعلم الناس بعد النبياء كما قال أهل الحديث الذين يروون‬
‫في الجانب المقابل أن الصحابة كانوا ضعفاء في حفظ الكتاب العزيز‪ ،‬حيث لم يحفظه‬
‫ل إل أربعة)‪.!(405‬‬ ‫منهم كام ً‬
‫فالصحابة كغيرهم من البشر تتفاوت قدراتهم العقلية‪ ،‬ففيهم العالم وفيهم القل‬
‫علمًا‪ ،‬وفيهم الذكي وفيهم القل ذكاًء‪ ،‬فوجود مثل عمر وعلي وابن عباس ل ينفي وجود‬
‫مثل من بال في المسجد أمام النبي ‪ .(406)‬ونتيجة لهذا التفاوات في الملكات والقدرات‬
‫بين الصحابة اختلفوا في الكثير من القضايا الفقهية والسياسية‪ ،‬ويمكن رصد بعض من‬
‫ذلك في كتب الفقه وفي تفسير الطبري‪.‬‬

‫محنة "خلق القرآن" والدعاية الشعبية‪:‬‬

‫أنس‪ ،‬وصححه ابن حبان من حديث عمار"اهـ‪..‬‬


‫‪ 403‬قال ابن حجر موثقا ً للرواية كما "فتح الباري" ج ‪7‬ص ‪" 351‬روى أحمد والدارمي‬
‫والطبراني من حديث أبي جمعة قال‪ :‬وإسناده حسن وقد صححه الحاكم"اهـ‪.‬‬
‫‪ 404‬الجامع الصحيح مسند الربيع بن حبيب برقم ‪.38‬‬
‫‪ 405‬يروي أهل الحديث عن أنس بن مالك أنه قال‪" :‬ما جمع القرآن على عهد رسول الله‬
‫‪ ‬إل أربعة كلهم من النصار" البخاري ‪ ،3810‬و ‪ ،3996‬و ‪ ،5003‬و ‪ ،5004‬ومسلم]‬
‫‪ .(2465)-120 ،(2465)-119[6340‬وهذا الحديث يخلق إشكال كبيرا ً يتعارض مع حقيقة‬
‫تواتر القرآن من صدور الصحابة إلى من بعدهم‪ ،‬ويفتح أبوابا ً للطعن في الكتاب العزيز‬
‫ل‪ ،‬وفي عصرنا هذا عشرات الطفال من‬ ‫ة وتفصي ً‬ ‫وقطعية ثبوته‪ ،‬فهو كلم مرفوض جمل ً‬
‫العرب والعجم يحفظون القرآن الكريم بأكمله فكيف بالصحابة وأطفال الصحابة؟!‪.‬‬
‫‪ 406‬البخاري ‪.219‬‬
‫يروي أبو يعقوب الورجلني )ت ‪570‬هـ( أن أول من أشاع فكرة خلق القرآن بين‬
‫المسلمين هو رجل يهودي يدعى أبو شاكر الديصاني‪ ،‬وحين واجه فقهاء المسلمين بهذه‬
‫المسألة عرضوها على منظومة القواعد الكّلية التالية‪:‬‬
‫القاعدة الولى‪ :‬ال سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء وما سواه‬
‫مخلوق‪.‬‬
‫يٍء{ النعام‪.102 :‬‬ ‫ش ْ‬‫ق ُكّل َ‬ ‫خاِل ُ‬ ‫}َذِلُكُم ا ّ‬
‫ل َرّبُكْم ل ِإَلفَه ِإّل ُهَو َ‬
‫يٍء{‬
‫ش ْ‬
‫ق ُكّل َ‬
‫خاِل ُ‬
‫ل َ‬
‫عَلْيِهْم ُقِل ا ّ‬
‫ق َ‬
‫خْل ُ‬
‫شاَبَه اْل َ‬
‫خْلِقِه َفَت َ‬
‫خَلُقوْا َك َ‬
‫شَرَكاء َ‬‫ل ُ‬ ‫}َأْم َ‬
‫جَعُلوْا ِّ‬
‫الرعد‪.16 :‬‬
‫القاعدة الثانية‪ :‬ال سبحانه وتعالى هو المنفرد بالزلية والقدم‪.‬‬
‫خُر{ الحديد‪.3 :‬‬
‫لِ‬‫}ُهَو اَْلّوُل َوا ْ‬
‫القاعدة الثالثة‪ :‬ال سبحانه وتعالى ل يشبهه شيء من مخلوقاته في‬
‫صفاته وأفعاله‪.‬‬
‫حٌد{‬
‫صَمُد * َلْم َيِلْد َوَلْم ُيوَلْد * َوَلْم َيُكن ّلُه ُكُفًوا َأ َ‬‫ل ال ّ‬ ‫حٌد * ا ُّ‬ ‫‪ُ}-1‬قْل ُهَو ا ُّ‬
‫ل َأ َ‬
‫الخلص‪.4-1 :‬‬
‫ن{ البقرة‪.22 :‬‬ ‫ل َأنَدادًا َوَأنُتْم َتْعَلُمو َ‬‫جَعُلوْا ِّ‬ ‫‪َ}-2‬ف َ‬
‫ل َت ْ‬
‫يٌء{ الشورى‪.11 :‬‬ ‫ش ْ‬ ‫س َكِمْثِلِه َ‬ ‫‪َ}-3‬لْي َ‬
‫سِمّيا{ الشورى‪.11 :‬‬ ‫‪َ}-4‬هْل َتْعَلُم َلُه َ‬
‫القاعدة الرابعة‪ :‬ال سبحانه وتعالى ل يكلم البشر إل من وراء حجاب‪.‬‬
‫ب{ الشورى‪.51 :‬‬ ‫جا ٍ‬ ‫حَ‬‫حًيا َأْو ِمن َوَراء ِ‬ ‫ل ِإّل َو ْ‬
‫شٍر َأن ُيَكّلَمُه ا ُّ‬ ‫}َوَما َكا َ‬
‫ن ِلَب َ‬
‫القاعدة الخامسة‪ :‬القرآن كلم ال تعالى‪.‬‬
‫ل{ التوبة‪.6 :‬‬
‫لَم ا ّ‬
‫سَمَع َك َ‬‫حّتى يَ ْ‬ ‫جْرُه َ‬‫ك َفَأ ِ‬‫جاَر َ‬
‫سَت َ‬‫نا ْ‬ ‫شِرِكي َ‬‫ن اْلُم ْ‬ ‫حٌد ّم َ‬ ‫}َوِإ ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫القاعدة السادسة‪ :‬القرآن الكريم ُمنزٌل ُمحدث‪.‬‬
‫ل{ السراء‪.106 :‬‬ ‫ث َوَنّزْلَناُه َتنِزي ً‬‫عَلى ُمْك ٍ‬ ‫س َ‬ ‫عَلى الّنا ِ‬ ‫}َوُقْرآنًا َفَرْقَناُه ِلَتْقَرَأُه َ‬
‫ن{ الشعراء‪.192 :‬‬ ‫}َوِإّنُه َلَتنِزيُل َر ّ‬
‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ن َيَدْيِه{ النعام‪.92 :‬‬ ‫ق اّلِذي َبْي َ‬ ‫صّد ُ‬
‫ك ّم َ‬ ‫ب َأنَزْلَناُه ُمَباَر ٌ‬‫}َوَهفَذا ِكَتا ٌ‬
‫القاعدة السابعة‪ :‬الكلم ل يستلزم حروفًا وأصواتا‪.‬‬
‫‪-1‬الدماغ يتكلم مع أعضاء الجسم فيوجهها دون أن ينطق بحرف‪.‬‬
‫‪-2‬النسان يتكلم مع الخر كتابًة عبر جهاز الحاسوب دون أن ينطق بحرف‪.‬‬
‫وفق هذه القواعد حاكم عقلء المة أطروحة أبي شاكر الديصاني في مسألة خلق‬
‫القرآن‪.‬‬
‫فالقرآن وفق القاعدة الولى ل يمكن أن يكون خالقًا لن الخالق هو ال تعالى وحده‪،‬‬
‫فالقرآن ل شك مخلوق‪ .‬ووفق القاعدة الثانية ل يمكن أن يكون القرآن أزليًا وإل لصار‬
‫شريكًا ل في اللوهية‪ ،‬ووفق القاعدة الثالثة ل يمكن أن يوصف تعالى بأنه يتكلم ككلم‬
‫مخلوقاته‪ ،‬ووفق القاعدة الرابعة فإن تكليم ال تعالى لموسى ‪ ‬الذي ذكره في قوله‬
‫سى َتْكِليًما{ النساء‪ 164 :‬هو تكليم من وراء حجاب‪ ،‬وتكليم غيره‬ ‫ل ُمو َ‬ ‫تعالى }َوَكّلَم ا ّ‬
‫من النبياء كان عن طريق الوحي‪ ،‬ووفق القاعدة الخامسة فإن القرآن الكريم هو كلم‬
‫ال سبحانه وتعالى ل يجوز نسبته إلى أحد غيره كجبريل أو النبي محمد ‪ ،‬ووفق‬
‫القاعدة السادسة فإن القرآن الكريم ُمنزل والنزول من صفات المخلوقات‪ ،‬والقرآن الكريم‬
‫ُمحدث والحدوث من صفات المخلوقات‪ ،‬ووفق القاعدة السابعة فإن القرآن هو كلم ال‬
‫سبحانه وتعالى أوحاه إلى جبريل‪ ،‬ول يستلزم ذلك أن يكون جبريل قد سمع حروفًا‬
‫وأصواتًا‪.‬‬
‫فحكم فقهاء المة بأن القرآن الكريم هو كلم ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنه مخلوق ل‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وكان أبو شاكر الديصاني يطمح إلى دفع المسلمين إلى القول بقدم القرآن الكريم‬
‫"كلم ال"‪ ،‬لن قوله هذا سيؤدي إلى تعدد اللهة وإلى القول بألوهية المسيح عيسى بن‬
‫مريم ‪ ‬الذي وصفه ال سبحانه وتعالى بأنه كلمة منه في قوله }ِإْذ َقاَل ِ‬
‫ت اْلَملِئكَُة َيا‬
‫ن َمْرَيَم{ آل عمران‪ .45 :‬فتكون‬ ‫سى اْب ُ‬
‫عي َ‬
‫ح ِ‬
‫سي ُ‬
‫سُمُه اْلَم ِ‬
‫ك ِبَكِلَمٍة ّمْنُه ا ْ‬
‫شُر ِ‬
‫ل ُيَب ّ‬
‫نا ّ‬ ‫َمْرَيُم ِإ ّ‬
‫العقيدة السلمية متناقضة تدعو إلى وحدانية ال بينما تقّر بوجود قدماء غير ال!‪.‬‬
‫فلما لم يجد عند فقهاء المسلمين آذانًا صاغية اتجه إلى أهل الحديث وتظاهر بينهم‬
‫بالورع والوقار‪ ،‬فلم يزل كذلك حتى ادعى المرض وجاءه أهل الحديث يعودونه‪،‬‬
‫فتظاهر بالبكاء‪ ،‬وحين سألوا عن سبب بكاءه ومرضه قال‪ :‬أتيت إلى حلقة حماد بن أبي‬
‫حنيفة إذ جاءه رجل فقال له‪ :‬ما تقول في القرآن؟ فقال‪ :‬وما عسى أن أقول في القرآن؟‬
‫فقال له الرجل‪ :‬هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال حماد بن أبي حنيفة‪ :‬وما في هذا من‬
‫العجب؟ القرآن مخلوق‪ .‬فعمد يا إخوتي إلى كلم ال ونوره وضيائه الذي خرج منه وإليه‬
‫يعود‪ ،‬فجعله مخلوقًا فعظمت مصيبتي يا أخوتي في القرآن العظيم‪ ،‬ولقد أمرتكم يا‬
‫اخوتي قبل هذا أن نعتزل مجالسهم ول نسمع كلمهم‪ ،‬فاستجاب القوم بالبكاء في كل‬
‫ناحية!‪ ،‬فقال بعضهم لبعض‪ :‬وجب علينا جهاد هؤلء القوم)‪.(407‬‬
‫وانجرف أهل الحديث نحو دعاية أبي شاكر الديصاني فقال أحمد بن حنبل أن‬
‫القرآن هو‪" :‬كلم ال‪ ،‬قديم غير مخلوق")‪ .(408‬ولما سئل عمن قال أن ال عز وجل لم‬
‫يتكلم بصوت‪ ،‬قال‪ :‬بلى يتكلم سبحانه بصوت)‪ .(409‬ونسبوا إلى الرسول ‪ ‬القول‪" :‬إذا‬
‫تكلم ال عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان")‪ .(410‬ووصل بهم‬
‫التعصب إلى تكفير مخالفيهم‪ ،‬فحين سئل ابن حنبل عمن قال‪" :‬القرآن مخلوق"‪ .‬قال‪:‬‬
‫"َكفر")‪ .(411‬كما أنه وصف من قال‪ :‬لفظي بالقرآن مخلوق بالكفر)‪ ،(412‬وكان هذا سبب‬
‫محنة البخاري كما بيناه سابقًا‪.‬‬
‫أبو يعقوب الورجلني "الدليل والبرهان" ج ‪1‬ص ‪.19-18‬‬ ‫‪407‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.156‬‬ ‫‪408‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.372‬‬ ‫‪409‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪ ،281‬والدارمي "نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.31‬‬ ‫‪410‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.74‬‬ ‫‪411‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.113‬‬ ‫‪412‬‬


‫في عام ‪197‬هـ هاجم المأمون أخاه المين في بغداد وضرب أهلها بالمنجنيق‬
‫وأحرق بيوتها بالنفط‪ ،‬فُقتل المين في محرم عام ‪198‬هـ‪ ،‬وقام الجنود بقطع الطريق‬
‫وأخذ الغلمان والنساء علنية من الطرق‪ ،‬ولما رأى الناس أن الوالي ل يمنعهم تقدم‬
‫بعض أهل الحديث للقيام بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة جنود الوالي‪،‬‬
‫وتصادف ذلك مع وصية المأمون لعلي بن موسى بن جعفر من أحفاد علي بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬فرفض قسم كبير من أهل بغداد هذه الوصية وأعلنوا خلعهم للمأمون ومبايعة‬
‫إبراهيم بن المهدي العباسي)‪ ،(413‬وكما يحدث دائمًا‪ ،‬فإن المعارضة للدولة ورجالها ل‬
‫تتمكن في نفوس الناس إل إذا ارتبطت برموز ونماذج وشعارات تعّين "البديل"‪ ،‬وإذا‬
‫كانت الشيعة قد اتخذت فكرة "المهدي المنتظر" رمزًا ربطت به أتباعها‪ ،‬فإن قسمًا كبيرًا‬
‫من أهل الحديث قد ظل على ارتباط عاطفي بالمويين‪ ،‬فظهرت فكرة "السفياني")‪.(414‬‬
‫ولكن بسبب خيانة الجند هرب إبراهيم وبايع الجند للمأمون‪ ،‬ودخل المأمون بغداد عام‬
‫‪204‬هـ‪ ،.‬وحين استتبت المور للمأمون بدأ بتتبع أهل الحديث بعد أن ادرك خطورة‬
‫اتساع نفوذهم السياسي بين العامة‪ ،‬بالضافة إلى دورهم الهام في تقوية المويين خصوم‬
‫أسرته التقليدين‪.‬‬
‫عمد المأمون إلى قضية خلق القرآن ليجعلها السبب الظاهر في محاربته لئمة أهل‬
‫الحديث فيما عرف بمحنة "خلق القرآن"‪ ،‬ولم تنته القضية بوفاة المأمون‪ ،‬وذلك دليل‬
‫قاطع على أن المسألة لم تكن مسألة قناعات فكرية دينية أراد المأمون فرضها‪ ،‬ول قضية‬
‫التحريض الذي يقال أن المعتزلة مارسوه على المأمون بعد أن استمالوه إليهم لفرض‬
‫مذهبهم الذي من جملة مسائله الفرعية مسألة "خلق القرآن" كل‪ .‬إن القضية كانت قضية‬
‫الدولة ككل‪ ،‬وبعبارة عصرنا‪ :‬قضية "أمن الدولة"‪ ،‬يتجلى ذلك واضحًا من الهمية‬
‫القصوى التي أعطاها المأمون لهذه المسألة في وصيته‪ ،‬وهو على فراش الموت‪ ،‬إلى‬
‫أخيه وخلفه المعتصم الذي لم يكن من أهل العلم كالمأمون‪ ،‬وإنما كان عسكري الميول‬
‫والطبع‪ ،‬فامتحن الناس بـ "خلق القرآن" أكثر مما فعل المأمون‪ .‬لما توفي المعتصم سنة‬
‫‪227‬هـ وتولى الخلفة بعده الواثق‪ ،‬سار هذا الخير على ما كان عليه المأمون‬
‫والمعتصم من امتحان أهل الحديث في القول بـ "خلق القرآن"‪.‬‬
‫إن المسألة إذن أعظم من مجرد التصريح أو عدم التصريح بـ "خلق القرآن"‪،‬‬
‫المسألة تكمن فيما سكتت عنه المصادر التاريخية من أسباب حقيقية للفتنة وهو "الشغب"‬
‫على الخليفة ومحاولة "الخروج عليه" والثورة ضده وانتزاع السلطة منه كما فعل أحمد‬
‫بن نصر الخزاعي في عهد الواثق‪.‬‬
‫ولما لم يكن المأمون ول المعتصم ول الواثق ول رجال دولتهم يرغبون ول كان‬
‫في مصلحتهم التصريح بأن المر يتعلق بتهديد "أمن الدولة" تمامًا مثلما أنه لم يكن الذين‬
‫تعرضوا للمتحان يرغبون ول كان في مصلحتهم التصريح بأن الهدف من معارضتم‬

‫تاريخ الطبري أحداث عام ‪197‬هـ وما بعد‪ .‬المجلد الخامس ص ‪ 74‬وما بعد‪.‬‬ ‫‪413‬‬

‫محمد عابد الجابري "المثقفون في الحضارة العربية" ص ‪ ،94‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪414‬‬


‫القول بـ "خلق القرآن"‪ ،‬هو تعبئة الناس ضدها‪ .‬وهكذا بقي الصراع يجري على سطح‬
‫القضية بتوظيف مسألة دينية لغرض سياسي!‪.‬‬
‫أما قضية دور المعتزلة في "المحنة" فقد تعرضت لنوع من التواطؤ التاريخي‬
‫الغريب‪ ،‬فبسبب رغبة الدولة وأهل الحديث تحويل معركتهم السياسية إلى صراع ديني‪،‬‬
‫وبسبب رغبة أهل الحديث تصوير اضطهاد الدولة لهم سببه ديني بحت‪ ،‬وجه أهل‬
‫الحديث أصابع التهام إلى المعتزلة وأنهم هم الذين زينوا للمأمون القول بـ "خلق‬
‫القرآن"‪ ،‬وأن رجال المعتزلة الذين استوزروا للمأمون والمعتصم والواثق هم المدبرون‬
‫للمحنة والمشرفين على تنفيذها)‪.(415‬‬
‫أما صورة ابن حنبل بعد انتهاء هذه المحنة فقد بقيت حاضرة وما تزال في قلب‬
‫"الصراع" في ذاكرة أهل الحديث‪ ،‬ليس لنه كان متشددًا في الدين‪ ،‬فكم من المتشددين‬
‫مات ذكرهم بمجرد وفاتهم بل لنه كان الشخصية التي واجهت السلطة وصمدت في‬
‫وجهها‪ ،‬إنه وإن لم يكن –بالنسبة لهل الحديث‪ -‬البطل الوحيد في محنة "خلق القرآن"‬
‫التي اختلطت فيها السياسية بالدين إل أنه بقي حيًا يرزق ليجسد بمواقفه "بطل المحنة"‬
‫إلى أن مات)‪ .(416‬وهذا هو سر اعتبار أهل الحديث أحمد بن حنبل إمامهم الول‪ ،‬فهو‬
‫بالنسبة لهم نموذج التحدي والثبات على المواقف‪.‬‬

‫تضخيم الرجال‪:‬‬
‫تضخيم الرجال‪ ،‬وتقديس آرائهم واجتهاداتهم‪ ،‬ورفعها إلى درجة النصوص‬
‫القرآنية ونصوص السنة النبوية التي ل تقبل المعارضة‪ ،‬فلو رجعت إلى ما كتبه غلة‬
‫ل لوجدتهم يقيسون أقوال العلماء بأقوال أحمد بن‬ ‫أهل الحديث حول مسألة خلق القرآن مث ً‬
‫حنبل‪ ،‬وصاروا يحتكمون إلى مواقفه‪ ،‬وكل فريق منهم يّدعي أنه الموافق لتلك الأقوال!‪.‬‬
‫والغريب أن أئمة الحديث كالبخاري ويحيى بن معين لم يسلموا من تقديس غلة‬
‫هذه المدرسة لقوال أحمد بن حنبل!‪ ،‬فنتيجة لختلفات هؤلء الجزئية مع تيار التجسيم‬
‫في مدرسة أهل الحديث تمت محاصرتهم وفتنتهم‪ .‬يقول ابن القيم‪" :‬فخفى تفريق‬
‫البخاري وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث‪ ،‬ولم يفهم بعضهم مراده‪ ،‬وتعلقوا‬
‫ل مستفيضًا أنه قال‪) :‬من قال‪ :‬لفظي بالقرآن مخلوق‪ .‬فهو‬ ‫بالمنقول عن المام أحمد نق ً‬
‫جهمي‪ ،‬ومن قال‪ :‬غير مخلوق‪ .‬فهو مبتدع( ‪ ...‬وتمسكوا بإطلق المام أحمد وإنكاره‬
‫على من قال‪ :‬لفظي بالقرآن مخلوق‪ ،‬وأنه جهمي‪ ،‬فتركب من مجموع هذه المور فتنة‬
‫وقعت بين أهل الحديث")‪.(417‬‬
‫إن لحمد بن حنبل عند هؤلء جاذبية فريدة‪ ،‬فلهذا تجدهم ينسبون إليه القوال‬
‫والعقائد من أجل الانتصار بها على خصومهم‪ ،‬كأنه نبي معصوم!‪ ،‬وقد أُّلفت في أقواله‬
‫وفضائله وعقائده الكثير من الكتب‪ .‬يقول عبد الرحمن بن محمد العاصمي‪" :‬وكان أبو‬
‫محمد عابد الجابري "المثقفون في الحضارة العربية" ص ‪ .91-79‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪415‬‬

‫محمد عابد الجابري "المثقفون في الحضارة العربية" ص ‪ 112-11‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪416‬‬

‫نقله عنه محمد الموصلي في "مختصر الصواعق المرسلة" ج ‪2‬ص ‪.662-661‬‬ ‫‪417‬‬
‫عبدال المام أحمد بن محمد بن حنبل رضي ال عنه أوفاهم فضيلة‪ ،‬وأقربهم إلى ال‬
‫وسيلة‪ ،‬وأوسعهم معرفة بحديث رسول ال ‪ ،‬وأتبعهم له وأكثرهم تتبعًا لمذاهب‬
‫الصحابة والتابعين‪ ،‬وأزهدهم في الدنيا وأطوعهم لربه‪ ،‬ومذهبه مؤيد بالدلة")‪.(418‬‬
‫إن هذه العبارات البسيطة التي يخطها العاصمي تفتح لنا نافذة على مدى تعظيم‬
‫هؤلء لحمد بن حنبل‪ ،‬فل غرو إذن أن نرى أسنة هؤلء قد أشرعت في وجه مخالفي‬
‫منهج أحمد بن حنبل‪ ،‬ويكفي أن ترجع إلى كتاب "مناقب المام أحمد" لبن الجوزي‬
‫الذي جمع فيه الروايات التي وضعها هؤلء في فضل أحمد بن حنبل‪ ،‬من ذلك أن النبي‬
‫حارة)‪ ،(419‬والنظرة‬ ‫إلياس ‪ ،‬والملك الموكل بجزائر البحار يبعثان له السلم مع الب ّ‬
‫منه تعدل عبادة سنة)‪ ،(420‬وأنه يرى الشيطان ويكلمه)‪ ،(421‬ويأمر النمل بالخروج من‬
‫داره فيخرج)‪ ،(422‬والنخلة تحمل حين يضع فيها قلمه)‪ ،(423‬وأنه رأى ال في المنام)‪.(424‬‬
‫وليس المر مقتصرًا على أحمد بن حنبل وحده‪ ،‬فهناك أحمد بن تيمية الذي ُيعد‬
‫من أهم المنظرين لمدرسة أهل الحديث‪ ،‬والمفارقة العجيبة تكمن في كون أحمد بن تيمية‬
‫قد عاش محنة شبيهة بمحنة أحمد بن حنبل التي عّركته ليحمل لواء إمامة أهل الحديث‪،‬‬
‫حيث تم سجن ابن تيمية من قبل السلطة التي كانت تتبنى العقيدة الشعرية‪ ،‬وحاولت‬
‫السلطة إجباره على التنازل عن فتاواه وعقيدته‪ ،‬لكنه رفض الرضوخ للسلطة مستلهمًا‬
‫موقف إمامه ابن حنبل‪ ،‬فقضى ابن تيمية في السجن ليخّلد ذكراه عند اتباعه كنموذج آخر‬
‫من نماذج الصمود والتحدي في وجه طغيان السلطة‪.‬‬
‫يلخص لنا العاصمي مركزه من مدرسة أهل الحديث بقوله "إلى أن أقام ال تعالى‬
‫العالم الرباني مفتي المة بحر العلوم شيخ السلم )أحمد بن تيمية( المجتهد المطلق‪،‬‬
‫المجمع على فضله وإمامته‪ ،‬الذي جمع العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد‪ ،‬جدد ال‬
‫به الدين بعد دروسه‪ ،‬وأحيا به هدي سيد المرسلين بعد أفول شمسه‪ ،‬وادحض به جميع‬
‫بدع المبتدعين‪ ،‬وانبلج الحق اليقين")‪ .(425‬وهذه الهالة من العظمة التي يضفيها العاصمي‬
‫على ابن تيمية تفوق حدود الشرع‪ ،‬حيث وصفه بالحاطة بالعلوم كلها!‪ ،‬وال تعالى يقول‬
‫ل{ السراء‪.85 :‬‬ ‫}َوَما ُأوِتيُتم ّمن اْلِعْلِم ِإّل َقِلي ً‬
‫بينما يرى مخالفي غلة أهل الحديث في ابن تيمية عكس ذلك حيث يلخص زاهد‬
‫الكوثري مدى الثر الهائل الذي شكله بروز ابن تيمية على الساحة الفكرية في الشام‬
‫بالقول "وكاد أن ل يبقى بينهم حشوي لول جالية حران بعد نكبة بغداد حطوا رحلهم‬
‫بالشام‪ ،‬ونبغ من بينهم رجل حسنت نشأته في الطلب على ذكائه وحافظة وسمت‪ ،‬وتمكن‬

‫عبد الرحمن بن محمد العاصمي "الدرر السنية في الجوبة النجدية" ج ‪1‬ص ‪.11‬‬ ‫‪418‬‬

‫‪ 419‬ابن الجوزي "مناقب المام أحمد بن حنبل" ص ‪.191-190‬‬


‫‪ 420‬ابن الجوزي "مناقب المام احمد بن حنبل" ص ‪.202‬‬
‫‪ 421‬ابن الجوزي "مناقب المام احمد بن حنبل" ص ‪.245‬‬
‫‪ 422‬ابن الجوزي "مناقب المام احمد بن حنبل" ص ‪.397‬‬
‫‪ 423‬ابن الجوزي "مناقب المام احمد بن حنبل" ص ‪.398‬‬
‫‪ 424‬ابن الجوزي "مناقب المام احمد بن حنبل" ص ‪.583‬‬
‫عبد الرحمن بن محمد العاصمي "الدرر السنية في الجوبة النجدية" ج ‪1‬ص ‪.12‬‬ ‫‪425‬‬
‫من اجتلب ثقة شيوخ العلم إلى نفسه وثنائهم عليه‪ ،‬وكان واعظًا طلق اللسان‪ ،‬فإذا هو‬
‫يجري على خطة مدبرة في إحلل المذهب الحشوي تحت ستار مذهب السلف")‪.(426‬‬

‫التحذير من كتب المدارس الخرى‪:‬‬


‫اعتمدت سياسية منظري أهل الحديث على بناء أخطبوط إعلمي هائل يفرض‬
‫على أتباعه دراسة مناهج هذه المدرسة وحدها دون غيرها من المدارس الفكرية‬
‫كالباضية والشعرية والمعتزلة بل وحتى مدرسة الرأي الحنفية‪ ،‬مما كان له أبلغ الثر‬
‫في ترسيخ أفكار هذه المدرسة لدى أتباعها‪ ،‬وتحصينهم من أفكار المدارس السلمية‬
‫الخرى‪.‬‬
‫وقد وصلت الجرأة بغلتهم إلى أمر أتباعهم بالتصديق واليمان بكل ما يقررونه‬
‫لهم وكأنه وحي منزل‪ ،‬ومن هؤلء حسن البربهاري الذي قال‪" :‬وعليك بالتصديق‬
‫والتسليم والتفويض والرضى لما في هذا الكتاب ‪ ...‬فإنه من استحل شيئًا خلف ما في‬
‫هذا الكتاب فإنه ليس يدين ل بدين وقد رده كله‪ ،‬كما لو أن عبدا آمن بجميع ما قال ال‬
‫تبارك وتعالى إل أنه شك في حرف فقد رد جميع ما قال ال تعالى وهو كافر")‪.(427‬‬
‫وكلم البربهاري الذي يصف كتابه بالعصمة والذي يضاهئ فيه قول ال تعالى‬
‫حِكيٍم‬
‫ن َ‬
‫خْلِفِه َتنِزيٌل ّم ْ‬
‫ن َ‬
‫ن َيَدْيِه َوَل ِم ْ‬ ‫في وصفه لكتابه العزيز }َل َيْأِتيِه اْلَبا ِ‬
‫طُل ِمن َبْي ِ‬
‫حِميٍد{ فصلت‪ ،42 :‬ينطلق من مسلمات فكرية عند أهل الحديث تقوم على تقديس كلم‬ ‫َ‬
‫البشر واعتبار الروايات الحادية بمنزلة القرآن الكريم في قطعية ثبوتها وحجيتها!‪.‬‬
‫ويقول البربهاري أيضًا‪" :‬من أقّر بما في هذا الكتاب وآمن به واتخذه إمامًا‪ ،‬ولم‬
‫يشك في حرف منه‪ ،‬ولم يجحد حرفًا واحدًا‪ ،‬فهو صاحب سنة وجماعة‪ ،‬كامل قد كملت‬
‫فيه السنة‪ ،‬ومن جحد حرفًا مما في هذا الكتاب‪ ،‬أو شك أو وقف‪ ،‬فهو صاحب‬
‫هوى")‪ .(428‬وما في هذا كلم البربهاري من مجازفة لتكفير عباد ال‪ ،‬وتوزيع صكوك‬
‫النتساب إلى "السنة والجماعة" على غلة أهل الحديث الذين يعتقدون عصمة‬
‫البربهاري كاف لبيان تهافته وبطلنه‪.‬‬
‫والناظر في كتب غلة أهل الحديث العقدية ككتاب "السنة" لعبد ال بن أحمد بن‬
‫حنبل‪ ،‬وكتاب "السنة" للخلل‪ ،‬وكتاب "اليمان" لبن مندة‪ ،‬وكتاب "التوحيد" لبن‬
‫خزيمة‪ ،‬وكتاب "البانة" لبن بطة‪ ،‬وكتاب "العظمة" لبي الشيخ‪ ،‬وكتاب "العلو"‬
‫للذهبي يجدها مليئة بتلك النوعية الرديئة من الأقوال والروايات التي لو أعملت فيها‬
‫الموازيين التقليدية للجرح والتعديل التي يشهرها هؤلء كالسيف في وجه معارضيهم‪،‬‬

‫زاهد الكوثري في مقدمة كتاب "تبيين كذب المفتري" ص ‪.17‬‬ ‫‪426‬‬

‫‪ 427‬حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.100‬‬


‫‪ 428‬حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.125‬‬
‫والتي تمثل كل بضاعتهم في التعامل مع الروايات المنسوبة إلى الرسول ‪ ‬لكانت كفيلة‬
‫برد معظمها‪.‬‬
‫وفي نفس الوقت الذي يحيطون فيه كتبهم بسياج العصمة والقداسة تجدهم‬
‫يحقرون علماء المذاهب الخرى‪ ،‬وذلك من أجل صد اتباعهم عن مطالعة فكر‬ ‫ّ‬
‫المخالفين‪ ،‬يقول ابن تيمية‪" :‬ولهذا كانوا يقولون‪ :‬إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬إن المعتزلة مخانيث الفلسفة؛ والشعرية مخانيث المعتزلة‪ .‬وكان يحيـى بن‬
‫عمار يقول‪ :‬المعتزلة الجهمية الذكور‪ ،‬والشعرية الجهمية الناث")‪ .(429‬مع العلم بأن‬
‫الشاعرة يمثلون غالبية المة السلمية باعتراف أحد أتباع ابن تيمية!‪ ،‬حيث يقول عبد‬
‫الرحمن أبا بطين‪" :‬إذا عرفت مذاهب الفرق المسؤول عنها فأعلم‪ :‬أن أكثر أهل‬
‫المصار اليوم أشعرية")‪.(430‬‬
‫ل عن أن يصدر من‬ ‫ول ُيظَن أن هذا السفاف الخلقي الذي ل يليق بعاّمي فض ً‬
‫عالم كابن تيمية يعد فلتة لسان‪ ،‬بل هو منهج التزمه في كثير من مؤلفاته‪ ،‬وقد تكرر في‬
‫أكثر من مناسبة في كتابه "مجموع الفتاوى"‪ ،‬وهو يتكرر أيضًا عند أتباعه‪ ،‬يقول ابن‬
‫القيم‪" :‬أفيظن أفراخ المعتزلة ومخانيث الجهمية ومقلدو اليونان أن يضعوا لواء رفعه‬
‫ال")‪ ،(431‬ويقول أيضًا‪:‬‬
‫كلب الروافض أخبث‬ ‫هـذا كما قال الخبيث‬
‫‪432‬‬
‫الحيــوان) (‬ ‫لصحبـه‬
‫انشاء الروافض أخبـث‬ ‫وهو الذي أنشـأ‬
‫‪433‬‬
‫الحيـوان) (‬ ‫الخـوارج مثل‬
‫الكفران ينحازوا ول‬ ‫ليسوا مخانيـث الوجـود‬
‫‪434‬‬
‫اليمـــان) (‬ ‫فل إلى‬
‫لـم تنفتـح منكـم لهمم عينـان‬ ‫ولجل ذا كنتـم مخانيثــًا‬
‫فُتـرون بعد السلب‬ ‫لهم‬
‫‪435‬‬
‫كالنسـوان) (‬ ‫حذرًا من استرجاعهم‬
‫تبـدو عليـه شمائل‬ ‫لسلحهم‬
‫النســـوان‬ ‫وتـرى المخنـث حين‬
‫ولكـل زنديق أخي‬ ‫يقرع سمعه‬
‫‪436‬‬
‫الكفــران) (‬ ‫ويظــل منكوحًا لكـل‬
‫‪ 429‬ابن تيمية "الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز" المطبوعة في "مجموع الفتاوى" ج ‪6‬‬
‫ص ‪.359‬‬
‫‪ 430‬عبد الرحمن أبا بطين"الدرر السنية في الجوبة النجدية" ج ‪1‬ص ‪.219‬‬
‫‪ 431‬ابن القيم في "اجتماع الجيوش السلمية" ص ‪.298‬‬
‫‪ 432‬محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" ج ‪1‬ص ‪.245‬‬
‫‪ 433‬محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" ج ‪1‬ص ‪.287‬‬
‫‪ 434‬محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" ج ‪2‬ص ‪.47‬‬
‫‪ 435‬محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" ج ‪2‬ص ‪.154‬‬
‫‪ 436‬محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" ج ‪2‬ص ‪.177‬‬
‫معطّل‬
‫هذه هي المحاورة العلمية عند غلة أهل الحديث‪ ،‬وهكذا يلجمون الخصم‬
‫سّبوْا‬
‫ل َفَي ُ‬
‫نا ّ‬
‫ن ِمن ُدو ِ‬
‫عو َ‬
‫ن َيْد ُ‬ ‫بالحجة!‪ ،‬وهذا هو امتثالهم لقوله تعالى‪َ} :‬وَل َت ُ‬
‫سّبوْا اّلِذي َ‬
‫عْلٍم{ النعام‪.108 :‬‬
‫عْدًوا ِبَغْيِر ِ‬
‫ل َ‬
‫ا ّ‬
‫فإذا عرف المرء الطابع الهجومي الذي ينتهجه أهل الحديث في‬
‫خطابهم الفكري أدرك مــدى الشراســة الــتي يمكــن أن يصــل إليهــا‬
‫أتباعهم في حوارهم مع الخر‪ ،‬فالتكفير والخراج من الملة يعد شيئا ً‬
‫سهل ً طالما حقق لذة الشعور بنشوة النتصار!‪ ،‬يقول عبــد الرحمــن‬
‫بن حسن‪" :‬وهذه الطائفة التي تنســب إلــى أبــي الحســن الشــعري‬
‫وصفوا رب العالمين بصفات المعدوم والجماد‪ ،‬فقد أعظموا الفريــة‬
‫على الله وخالفوا أهل الحق من السلف والئمة وأتباعهم ‪ ...‬فالئمة‬
‫من أهل السنة وأتباعهم لهم مصنفات في الرد علــى هــذه الطائفــة‬
‫الكافرة المعاندة")‪ .(437‬وبجرة قلم صار معظم المة السلمية مــن‬
‫الكفرة الخارجين من الملة!‪.‬‬
‫بل أن جرعات التطعيم ضد الفكر المخالف لهل الحديث وصلت إلى حد تفضيل‬
‫الفسقة واليهود والنصارى على أتباع المدارس الخرى‪ ،‬فها هو أحمد بن حنبل يقول‪:‬‬
‫ساق روضة من رياض الجنة‪ ،‬وقبور أهل البدعة من الزهاد‬ ‫"قبور أهل السنة من الف ّ‬
‫حفرة من حفر النار")‪ .(438‬ويقول أرطأة بن المنذر‪" :‬لن يكون ابني فاسقًا من الفساق‬
‫ي من أن يكون صاحب هوى")‪.(439‬‬ ‫أحب إل ّ‬
‫وها هو البربهاري يقول‪" :‬وإذا رأيت الرجل من أهل السنة رديء الطريق‬
‫ل وهو على السنة‪ ،‬فاصحبه واجلس معه‬ ‫والمذهب فاسقًا فاجرًا‪ ،‬صاحب معاصي ضا ً‬
‫فإنه ليس يضرك معصيته‪ ،‬وإذا رأيت الرجل مجتهدًا في العبادة متقشفًا محترقًا بالعبادة‬
‫صاحب بدعة فل تجالسه ول تقعد معه ول تسمع كلمه")‪ ،(440‬وقال أيضًا‪" :‬ل تجلس‬
‫مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة")‪ ،(441‬وقال أيضًا‪" :‬آكل مع يهودي‬
‫ونصراني ول آكل مع مبتدع‪ ،‬وأحب أن أكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من‬
‫حديد")‪.(442‬‬
‫بل قد وصل المر بالبربهاري إلى دعوة أصحابه إلــى اســتخدام‬
‫العنـف والرهـاب ضـد مخـالفيهم‪ ،‬حيـث يقـول‪" :‬إذا علـم اللـه مـن‬
‫الرجل أنه مبغض لصــاحب بدعــة غفــر لــه وإن قــل عملــه‪ ،‬ول يكــن‬
‫‪ 437‬عبدالرحمن بن حسن "الدرر السنية في الجوبة النجدية" ج ‪3‬ص ‪.139‬‬
‫‪ 438‬ابن الجوزي "مناقب المام احمد بن حنبل" ص ‪ ،253‬وابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة"‬
‫‪ .1/184‬والبدعة يقصد بها إنكار التجسيم الذي ينتهجه أهل الحديث!‪.‬‬
‫‪ 439‬ابن بطة العكبري "الشرح والبانة" ص ‪ 149‬برقم ‪.87‬‬
‫‪ 440‬حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.117-114‬‬
‫‪ 441‬حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.128‬‬
‫‪ 442‬حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.129‬‬
‫صاحب سنة يماليء صاحب بدعة إل نفاقًا‪ ،‬ومن أعرض بــوجهه عــن‬
‫صاحب بدعة مل الله قلبه إيمانًا‪ ،‬ومن انتهر صاحب بدعة آمنــه اللــه‬
‫يوم الفزع الكبر‪ ،‬ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مــائة‬
‫درجة")‪.(443‬‬
‫ولم تكن هذه الـدعوات شنشـنات فارغـة بـل كـان لهـا أصـداء‬
‫واسعة عند أتباع أهل الحديث‪ ،‬ومن ذلك ما حدثنا به التاريخ أن أهل‬
‫الحديث ببغداد سألوا ابن جريــر الطــبري صــاحب التفســير والتاريــخ‬
‫عن "المقام المحمود"‪ ،‬وكانوا ينتظرون منه أن يوافقهم على قولهم‬
‫بــأنه إجلس اللــه تعــالى للرســول ‪ ‬بجنبــه تعــالى علــى عرشــه‪،‬‬
‫فنهرهم قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫ول له في عـرشـــه جـليـــس‬ ‫سبحـان مـن ليـس له‬
‫أنيس‬
‫فثاروا عليه‪ ،‬ورموه بالمحابر والحجار حتى أوشكوا أن يقتلوه‪ ،‬وقد تمكنت‬
‫الجنود بشق النفس من استنفاذ الطبري من أيديهم حتى أوصلوه إلى بيته‪ ،‬وعاش تحت‬
‫حراسة الجنود في بيته إلى أن مات سنة ‪310‬هـ‪ ،‬وقام البربهاري بالدعوة بالسيف إلى‬
‫القول بأن المقام المحمود هو إقعاد الرسول في جنب ال على العرش‪ ،‬وكان ذلك ببغداد‬
‫عام اقتلع القرامطة الحجر السود من الكعبة)‪.(444‬‬
‫مثال آخر على إرهاب المحّدثين لمخالفيهم يحكيه ابن بطوطة في رحلته‬
‫المشهورة حيث يقول‪" :‬فحضرته –يقصد ابن تيمية‪ -‬يوم الجمعة وهو يعظ الناس على‬
‫منبر الجامع ويذكرهم‪ ،‬فكان من جملة كلمه أن قال‪" :‬إن ال ينزل إلى السماء كنزولي‬
‫هذا" ونزل درجة من على المنبر‪ ،‬فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء‪ ،‬وأنكر ما‬
‫تكلم به‪ ،‬فقامت العامة إلى هذا الفقيه‪ ،‬وضربوه باليدي والنعال ضربًا كثيرًا حتى سقطت‬
‫عمامته")‪ .(445‬وقال إبراهيم بن سعيد الطروش‪" :‬سألت أحمد بن حنبل عن قتل‬
‫الجهمية؟ فقال‪ :‬أرى قتل دعاتهم")‪.(446‬‬
‫لقد عرف منظرو أهل الحديث مكامن النفط في جيوب القشرة الرضية المسفلتة‬
‫بها عقول أتباعهم‪ ،‬فقاموا باستغللها لتنفجر كالقنابل الذرية في وجوه المخالفين‪ ،‬مما‬
‫يفسر المجازر التي قام بها هؤلء ضد مخالفيهم كما سجلها لنا صاحب كتاب "المجد في‬
‫تاريخ نجد")‪.(447‬‬
‫حسن البربهاري "شرح السنة" ص ‪.129‬‬ ‫‪443‬‬

‫الكوثري "مقالت الكوثري" ص ‪.393-392‬‬ ‫‪444‬‬

‫ابن بطوطة "رحلة ابن بطوطة" ص ‪.113‬‬ ‫‪445‬‬

‫‪ 446‬ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.90‬‬


‫‪ 447‬يقول ابن بشر في وصف المجزرة التي قام بها أتباع هذه المدرسة ضد مخالفيهم في‬
‫وقعة اليتيمة عام ‪1265‬هـ‪ ،‬ج ‪1‬ص ‪ 264-263‬ما نصه‪) :‬وحامت عليهم حوائم السام‪ ،‬حتى‬
‫ولوا منهزمين وعلى وجوههم هاربين‪ ،‬وذهل الوالد منهم عن ولده‪ ،‬والمنهزم أشفق على‬
‫السلمة فرمى ما بيده‪ ،‬واستمر الضرب والطعن في أقفيتهم بعد أن كان في صدورهم‪،‬‬
‫استمالة العوام‪:‬‬
‫في العهد العباسي الول ومع تعاظم دور الشيعة الشعوبية‪ ،‬انضوت خليا‬
‫المانوية السرية في نسيج الشعوبية‪ ،‬وجعلت تحارب السلم ودولته لنشر الفكر المانوي‬
‫الثنوي "النور والظلمة" بين أفراد الشعوبية‪ ،‬وقامت تلك الخليا المانوية بحملة ثقافية‬
‫كبيرة عرفت بـ "معركة الكتب"‪ ،‬قامت خللها بترجمة الكتب الفارسية المانوية القديمة‬
‫ونشرها وتوزيعها بين أتباع الشعوبية‪ ،‬ونتيجة لبساطة منهج المحدثين لم يستطيعوا‬
‫ب المعتزلة للذب عن السلم وأهله‪ ،‬وقاموا بفضح‬ ‫مواجهة المّد الثنوي المانوي‪ ،‬فه ّ‬
‫الفكر المانوي عن طريق الرجوع إلى العقل الكوني والحتكام إليه‪.‬‬
‫هذا الصراع الذي استطاع فيه المعتزلة كنس الفكر المانوي من الساحة الفكرية‬
‫السلمية‪ ،‬جعل أهل الحديث يستشعرون الخطر الذي يشكله فكر المعتزلة المتقدم على‬
‫فكرهم الهرمسي البدائي‪ ،‬فتحالفوا كعادتهم مع السلطة الحاكمة لمحاصرة المعتزلة‪،‬‬
‫واستغلوا جانب الحرية في عقيدة المعتزلة التي تقوم على حرية الفرد في الختيار‪،‬‬
‫والتي تستلزم الشورى وحرية إختيار الحاكم لتأليب السلطة المستبدة ضد المعتزلة‪ ،‬فتمت‬
‫محاصرتهم ومطاردتهم والخلص منهم‪.‬‬
‫بعد انحسار فكر المعتزلة وخلوا الساحة الفكرية لهل الحديث خاصة بعد انتهاء‬
‫محنة أحمد بن حنبل مع المأمون‪ .‬قام أهل الحديث بنشر فكرهم الهرمسي في المجتمع‪،‬‬
‫فانتشر بين العوام كالنار في الهشيم بسبب تسطيحه للقضايا العقدية‪ ،‬وتشبيهه صفات ال‬
‫تعالى الغيبية بصفات ما يشاهدونه في حياتهم من كائنات ومخلوقات‪ ،‬معتمدين في ذلك‬
‫على قياس الغائب بالشاهد‪ ،‬خاصة وأن هذا الفكر يتوافق مع المواريث الفكرية لدى‬
‫الكثير من الشعوب التي دخلت السلم محملة بأوزار تراثها الوثني‪.‬‬
‫لقد اعتمد أهل الحديث أسلوبًا دعائيًا مكثفًا يعتمد على عبارات الجزم والقطع‬
‫والطلق في التدليل على أفكاره وآرائه‪ ،‬وتكذيب أدلة مخالفيه‪ .‬بالضافة إلى إطلق‬
‫الدعاوى الرنانة من قبيل أن طرحهم الفكري هو امتداد لفكر السلف المقدس!‪ ،‬يقول ابن‬
‫تيمية‪" :‬فمذهب السلف رضوان ال عليهم‪ :‬إثبات الصفات وإجراؤها على‬
‫ظاهرها")‪.(448‬‬
‫وانتقل القتل من نحورهم إلى ظهورهم‪ ،‬فلم تر إل رؤوسا مقطوعة وأسلبا منزوعة‪،‬‬
‫وأشلء مطروحة وجلودا مجروحة‪ ،‬فلم ترجع عنهم خيل المسلمين ورجالهم وأبطالهم حتى‬
‫قتلوا فيهم قتل ذريعا‪ ،‬وفتكوا فيهم فتكا شنيعا(اهـ‪ .‬والقتلى الذين يصفهم ابن بشر ليسوا‬
‫جيشا ً من المشركين بل هي قبيلة صغيرة آمنة من المسلمين المخالفين لتباع ابن بشر!‪.‬‬
‫‪ 448‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪4‬ص ‪ .6‬يقول ابن جهبل )ت ‪733‬هـ( في "الحقائق‬
‫الجلية في الرد على ابن تيمية" ص ‪" :32‬وفي هـذا الفـرق من يكذب على السابقين‬
‫الولين من النصار والمهاجرين‪ ،‬ويزعم أنهم يقولون بمقالته‪ ،‬ولو أنفق ملء الرض ذهبا ً‬
‫ما استطاع أن يروي عليهم كلمة تصدق دعواه‪ ،‬وتستر هذا الفريق بالسلف حفظا ً لرياسته‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫والحطام الذي يجتلبه }يريدو َ‬
‫م{ النساء‪ ،91 :‬وهؤلء يتحلون‬ ‫مُنوا ْ قَوْ َ‬
‫مهُ ْ‬ ‫مُنوك ُ ْ‬
‫م وَي َأ َ‬ ‫ن أن ي َأ َ‬
‫ُ ِ ُ َ‬
‫بالرياء والتقشف فيجعلون الروث مفضضا ً والكنيف مبيضا ً ويزهدون في الذرة ليحصلوا‬
‫الدرة"‪.‬‬
‫ولم يتورع غلتهم عن قلب الحقائق‪ ،‬من قبيل الزعم بأن مخالفيهم في العقيدة قد‬
‫رجعوا إلى عقيدة أهل الحديث في آخر حياتهم!‪ ،‬وكمثال على ذلك يقول ابن تيمية‪:‬‬
‫"وتجد عامة هؤلء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك‪،‬‬
‫أما عند الموت أو قبل الموت ‪ ...‬هذا أبو الحسن الشعري نشأ في العتزال أربعين عاما‬
‫يناظر عليه ثم رجع عن ذلك ‪ ...‬وهذا أبو حامد الغزالي ‪ ...‬ينتهي في هذه المسائل إلى‬
‫الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف‪ ،‬وإن كان بعد ذلك رجع‬
‫إلى طريقة أهل الحديث ‪ ...‬وكذلك أبو عبدال محمد بن عمر الرازي ‪ ...‬وهذا إمام‬
‫الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره‪ ،‬واختار مذهب السلف")‪.(449‬‬
‫وقد فند حسن السقاف هذه الدعاوى بقوله‪" :‬وهل يتخيل هؤلء المتمسلفون بأن‬
‫الغزالي وإمام الحرمين وغيرهم رجعوا إلى عقيدة البعوضة والذبابة التي كان يعتنقها‬
‫الشيخ الحراني الناصة على قدم العالم بالنوع‪ ،‬وإثبات الحد والحركة والجهة وقيام‬
‫الحوادث بذات الرب سبحانه وتقدس عما يقولون‪ ،‬أم أنهم رجعوا إلى )عقيدة البقرة( التي‬
‫يذكرها ابن القيم في آخر اجتماع جيوشه")‪ .(450‬وأسهب السقاف في دحض هذه الدعاوى‬
‫في كتابه "صحيح شرح العقيدة الطحاوية"‪ ،‬وكذلك فعل عبد الوهاب السبكي في "طبقات‬
‫الشافعية الكبرى"‪.‬‬
‫وقد أدرك البعض حقيقة استمالة أهل الحديث للعوام من الناس لبسط نفوذهم على‬
‫المجتمع‪ ،‬حيث يقول ابن القشيري )ت ‪514‬هـ(‪" :‬ولقد نبغت نابغة من الرعاع‪ ،‬لول‬
‫استزللهم العوام بما يقرب من أفهامهم ويتصور في أوهامهم لجللت هذا المكتوب عن‬
‫تلطيخه بذكرهم‪ ،‬يقولون نحن نأخذ بالظاهر ونجري اليات الموهمة تشبيهاً والخبار‬
‫المقتضية حدًا وعضوًا على الظاهر‪ ،‬ول يجوز أن نطرق التأويل إلى شئ ويتمسكون‬
‫ل{آل عمران‪.7 :‬‬ ‫بقوله تعالى‪َ} :‬وَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإّل ا ّ‬
‫وهؤلء والذي أرواحنا بيده لضر على السلم من اليهود والنصارى‬
‫والمجوس وعبدة الوثان‪ ،‬لن ضللت الكفار ظاهرة يتجنبها المسلمون‪ ،‬وهؤلء أتوا‬
‫الدين والعوام من طريق يغتر به المستضعفون‪ ،‬فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلوا‬
‫في قلوبهم وصف المعبود سبحانه بالعضاء والجوارح والركوب والنزول والتكاء‬
‫والستلقاء والستواء بالذات والتردد في الجهات‪ ،‬فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه‬
‫إلى تخيل المحسوسات فاعتقد الفضائح فسال به السيل وهو ل يدري")‪.(451‬‬

‫للمجفففففاز)‪:(452‬‬ ‫انكار أهل الحديث‬


‫‪ 449‬ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ج ‪ 4‬ص ‪.74 – 72‬‬
‫‪ 450‬حسن السقاف في رده على كتاب "منهج الشاعرة في العقيدة" لسفر الحوالي‪.‬‬
‫‪ 451‬غاية البيان‪ ،‬قسم البحاث بهيئة المشاريع الخيرية السلمية ص ‪.42‬‬
‫‪ 452‬يقول الشيخ خميس بن راشد العدوي‪ :‬الذي أراه في المجاز أن اللفظة تحتمل معنيين‪:‬‬
‫معنى قريب يتبادر للذهن في حال تجرد الكلمة‪ ،‬إما لصل النشأة أو لكثافة الستعمال‪،‬‬
‫وهذا ما نسميه بحقيقة الستعمال فبمجرد ذكر اليد نتصور الجارحة أو العين أو نحو ذلك‪.‬‬
‫ومعنى أبعد منه‪ ،‬والبعد ناشئ من قلة الستعمال بالنسبة للحقيقة‪ ،‬ولكن نذهب إليه ضمنا ً‬
‫المجاز هو فن من فنون اللغة‪ ،‬استعمله العرب في لغتهم منذ قديم الزمن لتقريب‬
‫المعاني وترسيخ الصّور الفنية الجميلة‪ ،‬بأسلوب سهل وألفاظ مختزلة قصيرة ل تستطيع‬
‫الكلمات الكثيرة والتراكيب الطويلة توصيلها‪ ،‬خاصة بالنسبة للنسان البسيط الذي ل‬
‫يستطيع إدراك معاني اللفاظ الصعبة والتراكيب المعقدة‪ ،‬فحين يقول العربي لخر‬
‫مخبرًا إياه عن شجاعة محمد‪" :‬محمٌد أسٌد"‪ ،‬وعن كرمه‪" :‬محمٌد بحٌر"‪ ،‬وعن صلبته‬
‫ل"‪ ،‬سترتسم في ذهن الرجل الثاني صورًا عن شجاعة محمد وكرمه وصلبته‬ ‫"محمٌد جب ٌ‬
‫ل تستطيع اللفاظ الخرى مهما كثرت أن تعبر عنها بنفس تلك الدقة والقوة والصفاء‪،‬‬
‫فلهذا كان المجاز فنًا أساسيًا من فنون لغات البشر‪.‬‬
‫من جهة أخرى فإن كل لغة في العالم مكونة من مجموعة من الحروف الهجائية‬
‫ترتبط مع بعضها لتكّون الكلمات التي تشكل قاموس كل لغة‪ ،‬فلو افترضنا غياب المجاز‬
‫في أي لغة عالمية ستصاب تلك اللغة بالضعف وعدم القدرة على التعبير عن الكثير من‬
‫المعاني ‪-‬خاصة المستحدثة منها‪ -‬بسبب محدودية الكلمات التي يمكن أن تنتظم منها‬
‫حروف تلك اللغة‪ ،‬بيد أن استخدام المجاز يسمح بتضمين الكلمة الواحدة الكثير من‬
‫المعاني‪ ،‬بحيث تستطيع تلك اللغة استيعاب كل المعاني المستحدثة‪ ،‬وهذه النقطة‬
‫الجوهرية غفل عنها بعض من انساق وراء الدعاية الستشراقية التي تتهم اللغة العربية‬
‫بالقصور بسبب محدودية ألفاظها)‪.(453‬‬
‫والقرآن الكريم نزل بلغة العرب بكل ما فيها من بلغة ومجاز‪ ،‬يقول تعالى‪:‬‬
‫ث َلُهْم ِذْكًرا{‬‫حِد ُ‬
‫ن َأْو ُي ْ‬
‫عيِد َلَعّلُهْم َيّتُقو َ‬‫ن اْلَو ِ‬
‫صّرْفَنا ِفيِه ِم َ‬
‫عَرِبّيا َو َ‬‫ك َأنَزْلَناُه ُقْرآًنا َ‬ ‫}وََكَذِل َ‬
‫طه‪ .113 :‬فلهذا استخدم الكتاب العزيز الكثير من الصور المجازية لتقريب المعاني‬
‫وترسيخها في عقول البشر بأبسط اللفاظ وأوجزها وأعجزها كقوله تعالى‪ُ } :‬‬
‫ضِرَب ْ‬
‫ت‬
‫س{ آل عمران‪ ،112 :‬حيث‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫حْبٍل ّم َ‬
‫ل َو َ‬‫نا ّ‬ ‫حْبٍل ّم ْ‬
‫ن َما ُثِقُفوْا ِإّل ِب َ‬‫علَْيِهُم الّذّلُة َأْي َ‬
‫َ‬
‫جِميًعا َوَل َتَفّرُقوْا{‬
‫ل َ‬ ‫حْبِل ا ّ‬‫صُموْا ِب َ‬ ‫عَت ِ‬ ‫عّبر عن العهد والميثاق بالحبل‪ ،‬وقوله تعالى }َوا ْ‬
‫حْبٌل ّمن‬‫جيِدَها َ‬‫آل عمران‪ ،103 :‬حيث عّبر عن السلم بالحبل‪ ،‬وقوله تعالى‪ِ} :‬في ِ‬
‫سٍد{ المسد‪ ،4 :‬حيث الحبل بمعناه المشهور عند الناس‪ .‬فالكلمة نفسها إل أن معناها‬ ‫ّم َ‬
‫تغير حسب اختلف السياق والقرائن‪ ،‬وهذا هو المجاز‪.‬‬
‫ومع تسليم العقلء لحقيقة وجود المجاز في لغات البشر‪ ،‬ومع إجماعهم على‬
‫بدهية هذه الحقيقة‪ ،‬إل أن تغلغل فكر التجسيم في عقول غلة أهل الحديث أدى بهم إلى‬
‫سلمات‪ ،‬وإنكار المجاز في اللغة العربية‬ ‫القفز فوق جُدر البدهيات‪ ،‬وتهديم حصون المُ ّ‬
‫والقرآن الكريم!‪.‬‬

‫َ‬
‫م{الفتح‪ ،10 :‬ل يمكن أن‬ ‫وضرورة لسياق الكلم‪ ،‬فاليد في قوله تعالى‪}:‬ي َد ُ الل ّهِ فَوْقَ أي ْ ِ‬
‫ديهِ ْ‬
‫نستخدمها إل على سبيل المجاز ضرورة وحتما لن السياق يمنع معناها الحقيقي القريب‬
‫المتبادر مباشرة‪.‬‬
‫‪ 453‬من هؤلء محمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي"‪ ،‬وقد رد عليه جورج‬
‫طرابيشي في كتابه "نقد نقد العقل العربي" ردا ً علميا ً رزينا ً دحض فيه شبهاته التي أثارها‬
‫حول لغة القرآن‪.‬‬
‫يعبر ابن القيم الجوزية عن رؤية أتباع هذه المدرسة اتجاه المجاز في كتابه‬
‫"الصواعق المرسلة" الذي اختصره محمد الموصلي وجعل أحد عناوينه "كسر‬
‫الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق السماء والصفات‪ ،‬وهو طاغوت‬
‫المجاز" بالقول‪" :‬وإذا علم أن تقسيم اللفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيمًا شرعيًا ول‬
‫عقليًا ول لغويًا‪ ،‬فهو اصطلح محض‪ ،‬وهو اصطلح حدث بعد القرون الثلثة المفضلة‬
‫بالنص‪ ،‬وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم")‪.(454‬‬
‫من خلل هذه المقدمة البسيطة لبن القيم نستطيع أن نستوحي بعض الجوانب‬
‫النفسية في الممارسة التنظيرية لغلة أهل الحديث‪ ،‬فمن الواضح أن خصومهم ألزموهم‬
‫بالدلة القاطعة بطلن مذهب التجسيم‪ ،‬وأن منشأ الخبط الذي وقعوا فيه منشأه عدم‬
‫تعاملهم مع النصوص بما تعارف عليه العرب من مجاز واستعارات لغوية‪ ،‬فكانت أبسط‬
‫الطرق لسقاط حجج مخالفيهم هي إنكار المسلمات "المجاز" التي يمكن الحتكام إليها‪،‬‬
‫وبالتالي تظل استدللت خصومهم غير ملزمة لنها مجرد مغالطات لفظية حسب تحليل‬
‫ابن القيم‪.‬‬
‫وكما هو الحال دائمًا يحاول ابن القيم إشهار سيف السلف في وجه الخصوم‪،‬‬
‫ونفس العمل قام به ابن تيمية حين قال‪" :‬فإنه لم يوجد في كلم أحد من أهل الفقه‬
‫والصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف‪ ،‬وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلم‬
‫في أصول الفقه لم يقسم هذا التقسيم‪ ،‬ول تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز ‪ ...‬وكذلك منع من أن‬
‫يكون في القرآن مجاز محمد بن جرير منذر‪ ،‬وغيره من المالكية‪ ،‬ومنع منه داود بن‬
‫علي وابنه ‪ ...‬وأما سائر الئمة فلم يقل أحد منهم ول من قدماء أصحاب أحمد أن في‬
‫القرآن مجازًا‪ ،‬وإنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة‪ ،‬وما علمته‬
‫موجودًا في المائة الثانية‪ ،‬اللهم إل أن يكون أواخرها")‪.(455‬‬
‫وهذا السلوب الدعائي المليء بالطلق في نفي ظهور المجاز قبل المائة الثالثة‬
‫من الهجرة‪ ،‬والقطع في تأكيد ظهوره بعد ذلك ل قيمة له في سوق العلم‪ ،‬وهو مدفوع‬
‫ومعارض بحقائق ل تقبل الجدل‪" .‬ونقرر في البداية أنه ليس مهمًا أن يرد لفظ المجاز‬
‫بعينه عند السلف‪ ،‬فاللفظ مجرد اصطلح والمصطلحات غالبًا ما تتأخر في الظهور عن‬
‫الفن نفسه‪ ،‬ولم تبدأ أوائل المجاز في القرن الثالث كما يرى ابن تيمية‪ ،‬وإنما فشا المجاز‬
‫في القرن الثالث‪ ،‬وداود الظاهري الذي ذكر ابن تيمية أنه أول أنكر المجاز في القرآن‬
‫توفي عام ‪ 270‬هـ‪ ،‬وها نحن قد عرفنا أنه أنكر قبل موته طبعًا أن يكون في القرآن‬
‫ل‪ :‬أن المجاز كان معروفًا قبل وفاته‪ ،‬ثانيًا‪ :‬أن أمر المجاز‬
‫مجاز‪ .‬وهذا النكار يفيد‪ ،‬أو ً‬
‫قد اشتهر وأن قومًا لم يقصروا أمر المجاز على اللغة وحدها‪ ،‬بل قالوا به في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬لن النكار إنما ينصب على الثبات‪ ،‬ثم نرى عند الجاحظ وهو أسبق وفاة من‬
‫الظاهري وإن كان يعاصره‪ ،‬نرى الستعارة تقفز إلى الظهور بجانب المجاز الذي لول‬
‫مرة عند أبي زيد القرشي‪ ،‬ثم تله أبو عبيدة في كتابه المعروف‪ ،‬وقد أورد الجاحظ لفظ‬
‫ابن القيم " مختصر الصواعق المرسلة" لمحمد الموصلي ص ‪.233‬‬ ‫‪454‬‬

‫‪ 455‬ابن تيمية "اليمان" ص ‪ ،80‬وص ‪.81‬‬


‫ن َأْمَوالَ‬
‫ن َيْأُكُلو َ‬ ‫المجاز في كتابه "الحيوان" )‪ (5/25‬حيث قال في قوله تعالى } ِإ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن سَِعيًرا{ النساء‪ ،10:‬قال الجاحظ‪:‬‬ ‫صَلْو َ‬
‫سَي ْ‬
‫طوِنِهْم َناًرا َو َ‬
‫ن ِفي ُب ُ‬
‫ظْلًما ِإّنَما َيْأُكُلو َ‬
‫اْليََتاَمى ُ‬
‫‪456‬‬
‫وهذا مجاز آخر") (‪.‬‬
‫و"نلتقي بمباحث الستعارة والمجاز مرة أخرى عند علم من أعلم القرن الثالث‬
‫وهو ابن قتيبة الذي قال في كتابه "تأويل مشكل القرآن"‪" :‬وبكل هذه المذاهب نزل‬
‫القرآن ‪ ...‬لن العجم لم تتوسع في المجاز اتساع العرب"‪ ،‬وقد قال الشافعي في‬
‫"الرسالة" ص ‪" :52‬فإنما خاطب ال بكتابه العرب بلسانها ‪ ...‬وظاهرًا يعرف في سياقه‬
‫أنه يراد به غير ظاهره‪ ،‬ونقل البزدوي )ت ‪483‬هـ( في "أصوله" )‪ (1/64‬استعمال‬
‫الشافعي لمصطلح المجاز حيث قال‪" :‬وقال الشافعي رحمه ال‪ :‬إن الطلق يقع بلفظ‬
‫التحرير مجازًا‪ ،‬والعتاق يقع بلفظ الطلق مجازًا"‪ ،‬كما أورد البزدوي في "أصوله" )‬
‫‪ (80-77/ 2‬استخدام أبي حنيفة لمصطلح المجاز حيث قال‪ :‬وقال أبو حنيفة‪ :‬إن المجاز‬
‫خلف عن الحقيقة في التكلم ل في الحكم‪ ،‬بل هو في الحكم أصل")‪.(457‬‬
‫والغريب أن مصطلح "المجاز" الذي ينكر ابن تيمية وجوده في القرون الثلثة‬
‫الولى قد أثبته أحد أئمة أهل الحديث في القرن الثالث الهجري وهو عثمان بن سعيد‬
‫الدارمي )ت ‪280‬هـ( الذي قال‪" :‬ويلك أيها الثلجي‪ ،‬أتعّلم بوجه العربية ولغات العرب‬
‫وأشعارهم من هو أعلم بها منك؟ هذا ههنا في المعروف جائز على المجاز‪ ،‬ل يستحيل‪،‬‬
‫وفي يدي ال اللتين يقول‪) :‬خلقت بهما آدم( يستحيل")‪ .(458‬وقال أيضًا‪" :‬ضحك الزرع‬
‫مثل على المجاز‪ ،‬وضحك ال أصل وحقيقة للضحك")‪ ،(459‬فهذا الكلم الواضح من إمام‬
‫ابن تيمية يؤكد على أن إطلق ابن تيمية النفي لوجود مصطلح المجاز في القرون الثلثة‬
‫المقدسة عنده عبارة عن فرقعات دعائية تستهدف العوام‪ ،‬ول تستند على أية أرضية‬
‫علمية‪.‬‬
‫كما أن ضعف حجة منكري المجاز أدى ببعض المحسوبين على أهل الحديث‬
‫إلى العتراف بالمجاز والرد على من أنكره‪ ،‬فها هو ابن قدامة الحنبلي )ت ‪620‬هـ(‬
‫يقول‪" :‬والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز وهو اللفظ المستعمل موضوعه الصلي‬
‫على وجه يصح ‪ ...‬وذلك كله مجاز‪ ،‬لنه استعمال اللفظ في غير موضوعه‪ ،‬ومن منع‬
‫فقد كابر‪ ،‬ومن سلم وقال‪ :‬ل أسميه مجازا فهو نزاع في عبارة ل فائدة في المشاحة‬
‫فيه")‪ ،(460‬وقال ابن كثير‪" :‬والملك في الحقيقة هو ال عز وجل ‪ ...‬فأما تسمية غيره في‬
‫الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز")‪.(461‬‬

‫‪ 456‬عبد العظيم المطعني "المجاز في اللغة والقرآن بين مجوزيه ومانعيه" ج ‪ 2‬ص ‪-647‬‬
‫‪.651‬‬
‫‪ 457‬المطعني نفس المصدر ج ‪2‬ص ‪.679-652‬‬
‫‪ 458‬عثمان الدارمي "رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد" ص ‪.414‬‬
‫‪ 459‬عثمان الدارمي نفس المصدر ص ‪.486‬‬
‫‪ 460‬ابن قدامة الحنبلي "روضة الناظر" ج ‪ 1‬ص ‪.64‬‬
‫دين{ الفاتحة‪:‬‬
‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬
‫مـل ِ ِ‬
‫‪ 461‬ابن كثير في تفسيره ج ‪ 1‬ص ‪ 39‬في تفسير قوله تعالى‪َ } :‬‬
‫‪.4‬‬
‫وابن تيمية الذي يشنع على مخالفيه ويستهزئ بإثباتهم للمجاز ومصطلحه‪ ،‬لم‬
‫يستطع الفكاك من ضرورة استخدام هذا الفن ومصطلحه فهو يقول‪" :‬فمن ظن أن هذا‬
‫الستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئًا من صفات المخلوقين مع كون النص قد خصه بال‪،‬‬
‫سم الكلم في‬ ‫ل جدًا بدللت اللغات‪ ،‬ومعرفة الحقيقة والمجاز")‪ ،(462‬فهو هنا يق ّ‬ ‫كان جاه ً‬
‫اللغة إلى حقيقة ومجاز‪ ،‬ويقول أيضًا‪" :‬لو كان هذا يعرف في اللغة أن استوى على كذا‬
‫بمعنى عمد إلى فعله‪ ،‬وهذا ل يعرف قط في اللغة ل حقيقة ول مجازًا ول في نظم ول‬
‫في نثر")‪ ،(463‬وقال‪" :‬ومن فرق بين صفة وصفة مع تساويهما في أسباب الحقيقة‬
‫والمجاز‪ :‬كان متناقضًا في مذهبه‪ ،‬مشابها لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض")‪.(464‬‬
‫ن المجاز في اللغة العربية‪ ،‬وأوضح ضوابط استخدامه‬ ‫وقد أقّر ابن تيمية بوجود ف ّ‬
‫حين قال‪" :‬ومعلوم باتفاق العقلء‪ :‬أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز فل بد أن يقرن‬
‫بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي‪ ،‬فإذا كان الرسول المبين الذي بين للناس ما‬
‫نزل إليهم يعلم أن المراد بالكلم خلف مفهومه ومقتضاه‪ ،‬كان عليه أن يقرن بخطابه ما‬
‫يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد")‪ .(465‬وهذا إقرار من ابن تيمية بوجود فن‬
‫المجاز في اللغة!‪ .‬ول اختلف معه في وجوب القرينة اللزمة لتجاوز ظاهر الكلم‬
‫والخذ بمجازه‪ ،‬إل أن المثير للستغراب حقًا هو أسلوب الستخفاف الذي يتعامل به ابن‬
‫تيمية مع أتباعه!‪ .‬فتارة يقول لهم‪ :‬ل يوجد مجاز في اللغة والقرآن‪ .‬وأخرى يقول‪:‬‬
‫المجاز موجود لكن مصطلحه مبتدع‪ .‬وتارة يستخدم المجاز بنفسه ويحتج به‪ ،‬وأخرى‬
‫يطالب مخالفيه بالتزام ضوابط المجاز في اللغة!‪.‬‬
‫يقول الشيخ أحمد بن حمد الخليلي‪" :‬ولعمري أن إنكار المجاز رأسًا أو إنكاره من‬
‫كلم ال وكلم رسوله ‪ ‬ليس هو إل مكابرة صريحة للعقل وتحدياً سافراً للواقع الذي‬
‫ل يحتاج في وضوحه إلى دليل‪.‬‬
‫إذا احتـاج النهــــار إلى دليــل‬ ‫وليـس يصح في الذهـان‬
‫شـيء‬
‫فإن المجاز ليس مقصورًا على لغة من اللغات‪ ،‬وإنما هو من محاسن جميع‬
‫اللغات‪ ،‬وبه يستطيع المتحدث بها أن يجاري أساطينها في مضمار البلغة‪ ،‬وإنكاره في‬
‫كلم ال وكلم رسوله دعوى لم يقم عليها دليل‪ ،‬ويترتب عليها إخراج القرآن والحديث‬
‫عن أسلوب الكلم العربي المبين‪ ،‬وسلبهما بلغة اللسان العربي‪ ،‬وأقوى دليل وأوضح‬
‫حجة وقوع المجاز في الكتاب العزيز والحديث الشريف‪ ،‬فكم مخبر في كلم ال سبحانه‬
‫ل{ ونحوه‪ ،‬ومن المعلوم أن كلمة اتقى ‪-‬في أصل وضعها‪-‬‬ ‫المر بالتقوى بلفظ }اّتُقوا ا َ‬
‫بمعنى تجنب‪ ،‬لن اتقى على وزن افتعل مطاوع لوقاه يقيه بمعنى جنبه‪ ،‬وليس من‬

‫"مجموع الفتاوى" ج ‪ 5‬ص ‪.208‬‬ ‫تيمية‬ ‫ابن‬ ‫‪462‬‬

‫نفس المصدر ج ‪ 5‬ص ‪.521‬‬ ‫تيمية‬ ‫ابن‬ ‫‪463‬‬

‫نفس المصدر ج ‪ 5‬ص ‪.212‬‬ ‫تيمية‬ ‫ابن‬ ‫‪464‬‬

‫نفس المصدر ج ‪ 5‬ص ‪.167‬‬ ‫تيمية‬ ‫ابن‬ ‫‪465‬‬


‫المعقول أن يكون المراد من المر بتقوى ال تجنب ذاته تعالى‪ ،‬وإنما المراد تجنب‬
‫سخطه بفعل أوامره وترك نواهيه‪.‬‬
‫ومنها قوله عز من قائل في وصف كتابه العزيز‪َ} :‬ل َيْأِتيِه اْلَبا ِ‬
‫طُل ِمن َبْينِ َيَدْيِه‬
‫خْلِفِه{ فصلت‪ ،42 :‬وليس للقرآن يدان محسوستان‪ ،‬ول خلف حقيقي‪ ،‬ومنه‬ ‫ن َ‬
‫َوَل ِم ْ‬
‫ن{المجادلة‪ ،22 :‬ومن المعروف بالبديهة أنه‬ ‫ب ِفي ُقُلوِبِهُم اِْليَما َ‬ ‫قوله تعالى }ُأْوَلِئ َ‬
‫ك َكَت َ‬
‫ليس المراد منه أنه أخذ القلم وخط في قلوبهم اليمان كما يخط الكتاب في الصحيفة‪،‬‬
‫شوا ِفي َمَناِكِبَها{الملك‪ ،15:‬مع أن الرض ل مناكب لها‪،‬‬ ‫ومنه قوله عز وجل }َفاْم ُ‬
‫‪466‬‬
‫وهو في القرآن أكثر من أن يمكننا استيفاؤه") (‪.‬‬
‫ومن أسباب انتشار فكرة الجمود اللغوي وعدم القدرة على استيعاب اتباع أهل‬
‫الحديث للمجاز دخول جماعات كبيرة من الشعوب غير العربية المختلفة العراق‬
‫المتعددة اللسن في السلم‪ ،‬بحيث تكدرت الطباع‪ ،‬واختفى الحس المرهف‪ ،‬وكثر اللحن‬
‫نتيجة التداخل والتمازج بين العرب وهذه الشعوب‪ ،‬مما أدى إلى انتشار الركاكة في اللغة‬
‫لدى قطاع واسع من المة‪ ،‬خاصة العوام منهم)‪ .(467‬يقول أبو عبيدة معمر بن المثنى‬
‫التيمي )ت ‪210‬هـ(‪" :‬قالوا‪ :‬إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين‪ ،‬و مصداق ذلك آية من‬
‫ن َقْوِمِه{ إبراهيم ‪ ،4‬فلم يحتج السلف ول الذين‬ ‫سا ِ‬‫سوٍل ِإّل ِبِل َ‬ ‫القرآن‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫سْلَنا ِمن ّر ُ‬
‫أدركوا وحيه إلى النبي ‪ ‬أن يسألوا عن معانيه لنهم عرب اللسن‪ ،‬فاستغنوا بعلمهم به‬
‫عن المسألة عن معانيه‪ ،‬وعما فيه مما في كلم العرب مثله من الوجوه والتلخيص‪ .‬وفي‬
‫القرآن مثل ما في الكلم العربي من وجوه العراب‪ ،‬ومن الغريب والمعاني")‪.(468‬‬

‫انكار أهل الحديث للتأويل‪:‬‬


‫كان هدف غلة أهل الحديث من إنكار المجاز هو منع تأويل نصوص القرآن‬
‫الكريم ونصوص السنة النبوية‪ ،‬وأصل هذا المنع عبارة عن ردة فعل هوجاء على‬
‫التأويل الغنوصي الذي اعتمدته الِفرق الباطنية لنصرة مذاهبها‪ ،‬حيث اّدعت تلك الفرق‬
‫أن القرآن الكريم له ظاهر وله باطن‪ ،‬وأن هذا الباطن اختصت فئة معينة بمعرفته‪.‬‬
‫واستغلت الشعوبية فكرة باطن القرآن الكريم لتضمين النصوص القرآنية معاني فاسدة‬
‫من موروثها الديني المانوي)‪ .(469‬ومن بين تلك التأويلت الباطنية قولهم في تأويل قوله‬
‫‪ 466‬أحمد بن حمد الخليلي في تعليقه على كتاب "مشارق أنوار العقول" لعبد الله السالمي‬
‫ص ‪.274 – 273‬‬
‫‪ 467‬أبو حيان الندلسي مقدمة تفسيره "البحر المحيط"‪.‬‬
‫‪ 468‬أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي "غريب القرآن" ج ‪ 1‬ص ‪ .8‬وعبارة أبي عبيدة‬
‫التيمي هذه تؤكد أيضا ً على وجود المجاز في اللغة العربية فنا ً وإن لم يذكر مصطلح‬
‫المجاز لفظًا‪.‬‬
‫‪ 469‬يقول علي شريعتي في الرد على أصحاب هذه الفلسفة‪" :‬ولهذا كان السعي الحثيث‬
‫من أجل أل نقرأ القرآن ول نتدبره‪ ،‬ول نفهمه‪ ،‬وبحجج كثيرة مثل أننا ل نفهم القرآن‪ ،‬وأن‬
‫للقرآن سبعين بطنًا‪ ،‬ولكل بطن سبعون بطنًا‪ ،‬وأن التفسير بالعقل ممنوع وحرام‪ ،‬ولهذا‬
‫ل‪} :‬أفل يتدبرون القرآن{ ويقول في جواب أعدائه الذين يعّرفون القرآن‬ ‫يصّرح القرآن قائ ً‬
‫باعتباره صعبا ً جدا ً ومعقدا جدا‪ ،‬ولكن بلهجة رقيقة مشفقة كي يبعدوا الناس عن القرآن‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ن{ الرحمن‪ .19:‬أن البحرين هما علي وفاطمة‪ ،‬وبينهما‬ ‫ن َيْلَتِقَيا ِ‬
‫حَرْي ِ‬ ‫تعالى }َمَر َ‬
‫ج اْلَب ْ‬
‫برزخ ل يبغيان هو النبي ‪ ،‬ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان أي الحسن والحسين) (‪.‬‬
‫‪470‬‬

‫وردة الفعل المتعسفة هذه تدل على ضعف منهج أهل الحديث في مقارعة الفرق‬
‫المنحرفة‪ ،‬لنه وفي الجانب الخر سجل لنا التاريخ حقيقة فضح المعتزلة للعقائد الباطنية‬
‫للشيعة الشعوبية دون اللجوء إلى منع التأويل‪ ،‬لن التأويل في جوهره هو رد النصوص‬
‫المتشابهة إلى النصوص المحكمة‪ ،‬والنظر فيها من خلل القواعد الكّلية للشريعة‬
‫السلمية المستنبطة من النصوص المحكمة للكتاب العزيز والسنة المجتمع عليها هو‬
‫مطلب أساسي في التعامل مع النصوص المتشابهة‪.‬‬
‫يقول الشيخ خميس العدوي‪" :‬إن دين ال واضح المعالم‪ ،‬وضيء المسالك‪ ،‬بّين‬
‫الحكام‪ ،‬جاء ليناسب الجوانب الثابتة من النفس النسانية‪ ،‬كما أنه ل يعوق حركة‬
‫النسان في الحياة‪ ،‬فمن خاصية هذا الدين‪ ،‬خلوده وصلحيته لكل زمان ومكان‪ ،‬ولذلك‬
‫كان من مشيئة ال تعالى‪ ،‬أن يكون في دينه الخاتم‪ ،‬آيات محكمات هن أم الكتاب‪ ،‬تكشف‬
‫عن الحقائق الثابتة‪ ،‬سواء تعلقت بمقام اللوهية العظيم أو العقائد الغيبية‪ ،‬أو بما يتوائم‬
‫مع رغبات نفس النسان في العبودية ل تعالى‪ ،‬أو بما يتلزم مع حاجة المة إلى‬
‫الثوابت في كثير من القضايا‪ ،‬إل أن من طبيعة الحياة‪ ،‬الحركة والنتقال من طور إلى‬
‫طور‪ ،‬والتبدل من وضع إلى وضع‪ ،‬فجعل ال تعالى كثيرًا من آيات كتابه قابلة للتأويل‬
‫حتى تتناسب مع احتياج البشر للستمداد من كتاب ال تعالى لتسيير حياتهم‪ ،‬والنظر في‬
‫أمر معاشهم‪ ،‬وحتى يكون العمار الكوني المطلوب من النسان إعمارًا صحيحًا ل‬
‫انتكاسة فيه‪ ،‬لكن بشرط أن ل ينسينا المتشابه الواقع في كتاب ال تعالى المحكم من‬
‫اليات‪ ،‬وأن ل نركن إلى هذا التشابه لنثير به الفتنة‪ ،‬ولعلم ال السابق بحال النسان‪ ،‬فقد‬
‫حَكَما ٌ‬
‫ت‬ ‫ت ّم ْ‬‫ب ِمْنُه آَيا ٌ‬‫ك اْلِكَتا َ‬‫عَلْي َ‬
‫ي َأنَزَل َ‬‫حّذر جل وعلى من ذلك بقوله تعالى }ُهَو اّلِذ َ‬
‫شاَبَه ِمْنُه اْبِتَغاء‬
‫ن َما َت َ‬‫ن في ُقُلوِبِهْم َزْيٌغ َفَيّتِبُعو َ‬ ‫ت َفَأّما اّلِذي َ‬
‫شاِبَها ٌ‬ ‫خُر ُمَت َ‬‫ب َوُأ َ‬‫ُهنّ ُأّم اْلِكَتا ِ‬
‫ن آَمّنا ِبِه ُكّل‬‫ن ِفي اْلِعْلِم َيُقوُلو َ‬ ‫خو َ‬ ‫سُ‬ ‫ل َوالّرا ِ‬‫اْلفِْتَنِة َواْبِتَغاء َتْأِويِلِه َوَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإّل ا ّ‬
‫ب{ آل عمران‪.7 :‬‬ ‫عنِد َرّبَنا َوَما َيّذّكُر ِإّل ُأْوُلوْا الْلَبا ِ‬ ‫ّمنْ ِ‬
‫ولذلك جاء في كتاب ال تعالى وسنة رسوله الكريم ‪ ‬القطعي المنبني على‬
‫دلئل المحكم‪ ،‬وهو الركن الركين من الشريعة الذي ل يجوز الختلف فيه قطعًا‪ ،‬وجاء‬
‫في كتاب ال تعالى وسنة رسوله عليه الصلة والسلم أيضًا الظني المنبني على دلئل‬
‫الظاهر والمتشابه وهذا أمر اقتضته حكمة ل البالغة حتى يتسع دينه العظيم للفوارق‬
‫العقلية والفكرية والعلمية لعباده جل وعل)‪.(471‬‬
‫والنصوص المحكمة يراد بها النصوص المتناغمة مع بعضها بحيث تكون أص ً‬
‫ل‬
‫راسخًا موثقًا ل اضطراب فيه ول خلل‪ ،‬والنصوص المتشابهة هي النصوص التي تدخل‬

‫ر{"علي شريعتي "فاطمة هي‬ ‫مد ّك ِ ٍ‬


‫من ّ‬ ‫ن ِللذ ّك ْرِ فَهَ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫سْرَنا ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬ ‫يقول في جوابهم‪} :‬وَل َ َ‬
‫قد ْ ي َ ّ‬
‫فاطمة" ص ‪.50‬‬
‫‪ 470‬ابن مطهر الحّلي "نهج الحق وكشف الصدق" ص ‪.188‬‬
‫‪ 471‬خميس بن راشد العدوي "رؤية تاريخية" ص ‪.51-50‬‬
‫معانيها الكثير من الشتاه والضطراب والتعارض‪ ،‬ولن التضارب والتناقض ل يمكن‬
‫عنِد‬ ‫ن ِ‬ ‫ن ِم ْ‬‫ن َوَلْو َكا َ‬‫ن اْلُقْرآ َ‬
‫ل يََتَدّبُرو َ‬ ‫ل حيث يقول تعالى }َأَف َ‬ ‫ل نق ً‬ ‫نسبته إلى ال تعالى عق ً‬
‫لًفا َكِثيًرا{ النساء‪ ،82 :‬وجب على المسلمين أن يرجعوا‬ ‫خِت َ‬‫جُدوْا ِفيِه ا ْ‬‫ل َلَو َ‬
‫غْيِر ا ّ‬‫َ‬
‫النصوص المتضاربة إلى منظومة النصوص المتناغمة حتى تنسجم في سياقها فيرتفع‬
‫اللبس والضطراب والتعارض‪ ،‬وهذا هو التأويل‪.‬‬
‫ولن تأويل النصوص المتشابهة يعتبر من أهم السلحة التي تنسف عقيدة التجسيم‬
‫التي يتبناها غلة أهل الحديث‪ ،‬كان لزامًا على منظري هذه المدرسة إيجاد آلية لتجاوز‬
‫التأويل‪ ،‬والتخلص من إلزاماته‪ ،‬وأبسط طريقة لفعل ذلك هو إنكار "التأويل" من أساسه‪،‬‬
‫كما هو الحال مع "المجاز"‪.‬‬
‫اتّبع غلة أهل الحديث لنكار التأويل نفس السلوب الذي اتبعوه في نفي المجاز‬
‫من خلل استخدام العبارات التي توحي بالجزم المطلق‪ ،‬وامتلك الحقيقة التي ل تقبل‬
‫الجدل‪ ،‬ورفع قميص السلف الموسوم بالعصمة!‪ ،‬واتهام المخالف بالبدعة‪.‬‬
‫يقول ابن القيم في رده على التأويل‪" :‬التأويل‪ :‬تفعيل من آل يؤول إلى كذا إذا‬
‫صار إليه‪ ،‬فالتأويل التصيير‪ ،‬وأولته تأويلً إذا صيرته إليه‪ ،‬فآل وتأول وهو مطاوع‬
‫أولته‪ .‬وقال الجوهري‪ :‬التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء‪ ،‬وقد أولته وتأولته تأولً‬
‫بمعنى‪ ،‬قال العشى‪:‬‬
‫تأول ربعي السقاب فأصبحــا‬ ‫على أنها كانت تأول‬
‫حبها‬
‫ل لن‬ ‫قال أبو عبيدة‪ :‬تأول حبها‪ ،‬أي تفسيره ومرجعه ‪ ...‬ثم تسمى العاقبة تأوي ً‬
‫سوِل‬ ‫ل َوالّر ُ‬ ‫يٍء َفُرّدوُه ِإَلى ا ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫عُتْم ِفي َ‬ ‫المر يصير إليها‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪َ} :‬فِإن َتَناَز ْ‬
‫ل{ النساء‪ ،59 :‬وتسمى حقيقة‬ ‫ن َتْأِوي ً‬‫سُ‬ ‫ح َ‬‫خْيٌر َوَأ ْ‬‫ك َ‬ ‫خِر َذِل َ‬‫ل َواْلَيْوِم ال ِ‬
‫ن ِبا ّ‬ ‫ِإن ُكنُتْم ُتْؤِمُنو َ‬
‫ن ِإّل َتْأِويَلُه َيْوَم‬
‫ظُرو َ‬‫ل لأن المر ينتهي إليها‪ ،‬ومنه قوله }َهْل َين ُ‬ ‫الشيء المخبر به تأوي ً‬
‫ق{ العراف ‪،53‬‬ ‫ح ّ‬‫سُل رَّبَنا ِباْل َ‬‫ت ُر ُ‬ ‫جاء ْ‬ ‫سوُه ِمن َقْبُل َقْد َ‬ ‫ن َن ُ‬‫َيْأِتي َتْأِويُلُه َيُقوُل اّلِذي َ‬
‫فمجيء تأويله مجيء نفس ما أخبرت به الرسل من اليوم الخر والمعاد وتفاصيله‪،‬‬
‫والجنة والنار‪ ،‬ويسمى تعبير الرؤيا تأويلًا بالعتبارين‪ ،‬فإنه تفسير لها وهو عاقبتها وما‬
‫ي ِمن َقْبُل{يوسف ‪،100‬‬ ‫ت َهفَذا َتْأِويلُ ُرْؤَيا َ‬ ‫تؤول إليه‪ ،‬وقال يوسف لبيه‪َ} :‬وَقاَل َيا َأَب ِ‬
‫أي حقيقتها مصيرها إلى ها هنا ‪ ...‬فالتأويل في كتاب ال تعالى المراد به حقيقة المعنى‬
‫الذي يؤول اللفظ إليه وهي الحقيقة الموجودة في الخارج ‪ ...‬فهذا هو التأويل في كلم ال‬
‫ورسوله‪ .‬وأما التأويل في اصطلح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم‬
‫به معنى التفسير والبيان")‪.(472‬‬
‫وهذا المدخل الذي افتتح به ابن القيم رده للتأويل يوافق جزئيًا ما عليه الطرف‬
‫الخر‪ ،‬والذي يعّرف التأويل كما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي )ت ‪175‬هـ( ‪" :‬الَتَأّول‬
‫والَتْأِويل‪ :‬تفسير الكلم الذي تختلف معانيه‪ ،‬ول يصح إل ببيان غير لفظه")‪ ،(473‬وقول‬
‫ابن القيم "الصواعق المرسلة" ج ‪1‬ص ‪.178-175‬‬ ‫‪472‬‬

‫الخليل بن أحمد الفراهيدي "كتاب العين" ج ‪ 1‬ص ‪.120‬‬ ‫‪473‬‬


‫سَرَه‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وتَأّوَلُه‪:‬دّبَرُه وقّدرُه وَف ّ‬
‫ل الكلَم تأوي ً‬ ‫جَعُه‪ .‬وأّو َ‬
‫الفيروزآبادي‪" :‬أّوَلُه إليه‪َ :‬ر َ‬
‫ل‪ :‬عباَرُة الّرؤيا")‪.(474‬‬‫والتأوي ُ‬
‫إل أن ابن القيم ابتعد عن التعّرض لليات المتشابهات التي لو أخذناها بصورة‬
‫مجتزأة بعيدًا عن النظر لنسجامها وفق القواعد الكّلية للشريعة السلمية‪ ،‬والتي تتطلب‬
‫معرفة الدوات اللغوية كالمجاز لدى ذلك إلى التعارض والتناقض في النصوص وعدم‬
‫مقدرة الفقه على التماهي مع الواقع الجتماعي المتغير‪.‬‬
‫بل نجده عوضًا عن ذلك ينتقل إلى مرحلة أخرى من التشويش العلمي عن‬
‫طريق نسبة التأويل إلى من سماهم بأهل الهواء والبدع!‪ ،‬فهو يقول بعد ذلك‪ " :‬وأما‬
‫المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن‬
‫ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من‬
‫أهل الصول والفقه ولهذا يقولون التأويل على خلف الصل والتأويل يحتاج إلى دليل‪،‬‬
‫وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين‪ ،‬فصنف جماعة في تأويل‬
‫آيات الصفات وأخبارها كأبي بكر بن فورك وابن مهدي الطبري وغيرهما‪ ،‬وعارضهم‬
‫آخرون‪ ،‬فصنفوا في إبطال تلك التأويلت كالقاضي أبي يعلى والشيخ موفق الدين ابن‬
‫قدامة")‪.(475‬‬
‫وما لم يذكره ابن القيم لتباعه هو أن من يسميهم "الجهمية والمعتزلة‬
‫والمتكلمين" يفرقون بين التفسير الذي هو بيان حقيقة الشيء‪ ،‬وبين التأويل الذي هو‬
‫إرجاع الكلم عما ينصرف إليه من ظواهر ربما تؤدي إلى التعارض والتضارب إلى‬
‫القواعد الكّلية المحكمة المتناغمة المنسجمة مع بعضها بدلئل القرائن التي تصحبه‪ ،‬بينما‬
‫حصر ابن القيم التأويل في نفس معنى التفسير‪ .‬فإن قام ابن القيم بتفسير اليات‬
‫المتشابهات عن طريق إرجاعها إلى منظومة القواعد الكّلية المحكمة وفق ضوابط‬
‫القرائن المصحابة فقد وافق الصواب‪ ،‬ول يضير بعد ذلك أن يسمي فعله هذا تفسيرًا أو‬
‫ل‪.‬‬
‫ل فل مشاحة في الصطلح‪ ،‬فنفس عمله الذي يسميه هو تفسيرًا يسميه غيره تأوي ً‬ ‫تأوي ً‬
‫لقد كان التأويل بل شك ضروريًا لتوضيح معاني آيات القرآن الكريم‪ ،‬وتجلية‬
‫خفاياها ودفع اللبس عن بعضها‪ ،‬فلول التأويل لما استطعنا أن نفهم "النسيان" المنسوب‬
‫سَيُهْم{ التوبة ‪ 67‬وقوله‪} :‬اْلَيْوَم َنن َ‬
‫ساُكْم‬ ‫ل َفَن ِ‬ ‫لرب العالمين في قوله تعالى‪َ} :‬ن ُ‬
‫سوْا ا ّ‬
‫سيُتْم ِلَقاء َيْوِمُكْم َهَذا{ الجاثية ‪ ،34‬والتي بتفعيل آليات التأويل أدركنا أن معناه أنه‬ ‫َكَما َن ِ‬
‫يعاملهم معاملة المتجاهل لدعائهم ورجائهم فل يجيب لهم دعوة في الدنيا ول يشملهم‬

‫‪ 474‬الفيروزآبادي "القاموس المحيط" في باب ص ‪.866‬‬


‫‪475‬ابن القيم الجوزية "الصواعق المرسلة" ج ‪1‬ص ‪ .180-178‬وبالغ ابن القيم في إلهاب مشاعر الحقد لدى أتباعه‬
‫ضد مخالفيهم الذين يفرقون بين التفسير والتأويل‪ ،‬وذلك عن طريق وصفهم بصفات بشعة كقوله‪:‬‬
‫تلـك الراذل سفــلــة الحيـوان‬
‫إن الكلم مع الكبــار وليس مع‬ ‫جيــف الوجود أخبث النســـان‬
‫أوسـاخ هـذا الخلــق بل أنتانهراجع‪ :‬محمد خليل هراس في شرح قصيدة ابن القيم النونية ج ‪1‬ص ‪.348‬‬
‫برحمته في الخرة‪ ،‬وكذلك لم نكن لندرك معنى إتيان ال في قوله تعالى‪َ} :‬فَأَتاُهُم الُّ‬
‫سُبوا{ الحشر ‪ ،2‬والتي تعني إتيان عذاب ال الهائل الذي ل يخطر ببال‪.‬‬ ‫حَت ِ‬
‫ث َلْم َي ْ‬
‫حْي ُ‬‫ِمنْ َ‬
‫إنه ضروري جدًا لتنزيه ال عن صفات النقص التي يمكن أن تسبق إلى الذهن عند قراءة‬
‫ن{ آل عمران ‪ ،54‬فالمكر المنسوب‬ ‫خْيُر اْلَماِكِري َ‬
‫ل َ‬ ‫قوله تعالى }َوَمَكُروْا َوَمَكَر ا ّ‬
‫ل َوا ّ‬
‫إلى ال هو استدراج المعاندين‪ ،‬والملء لهم حتى يأخذهم ال تعالى بذنوبهم‪.‬‬
‫ل{البقرة‪:‬‬ ‫وتتجلى ضرورة التأوّيل في قوله سبحانه }َفَأْيَنَما ُتَوّلوْا َفَثّم َو ْ‬
‫جُه ا ّ‬
‫‪ ،115‬فإن أهل الحديث يحصرون الذات العلية في جهة العلّو فوق العرش لقوله سبحانه‬
‫سَتَوى{ طه‪ ،5:‬والية الولى‪-‬إن لم تأوّل‪ -‬أفادت أن النسان‬ ‫شا ْ‬ ‫عَلى اْلَعْر ِ‬‫ن َ‬ ‫}الّر ْ‬
‫حَم ُ‬
‫أينما ذهب في هذه الرض فهناك وجه ال‪ ،‬وفي هذا ما يقتضي أن وجه ال سبحانه متدل‬
‫من عرشه إلى أرضه عام لكل جوانب الرض‪ ،‬ول يستطيع أهل الحديث التصريح بهذا‬
‫القول‪.‬‬
‫إذًا هم يتركون اليات المحكمات التي هي أم الكتاب ويتبعون ما تشابه من آيات‬
‫التي يجب رد تفسيرها إلى المحكمات ‪-‬وهو المصطلح عليه بالتأويل‪ -‬حرصًا على‬
‫ل لكلم ال على ما تقتضيه‬ ‫سلمة اليات من التناقضات التي يتعالى عنها كلم ال‪ ،‬وحم ً‬
‫قواعد اللسان العربي المبين الذي شرفه ال بجعله لسان كتابه ولسان نبيه عليه أفضل‬
‫الصلة والسلم)‪.(476‬‬
‫وأمام هذا الزخم الهائل من الستدللت التي تدعم موقف المفرقين بين التأويل‬
‫والتفسير‪ ،‬بنى منظرو مدرسة التجسيم من غلة أهل الحديث سدودًا جديدة من الشبهات‬
‫لتحصين أتباعهم من قبول تلك الفكار!‪.‬‬
‫يقول ابن القيم‪" :‬قال شيخ السلم‪ :‬إن كان الحق فيما يقوله هؤلء النفاة الذين‬
‫الذين ل يوجد ما يقولونه في الكتاب والسنة وكلم القرون الثلثة المعظمة على سائر‬
‫القرون‪ ،‬ول في كلم أحد من أئمة السلم المقتدى بهم‪ ،‬بل ما في الكتاب والسنة وكلم‬
‫السلف والئمة يوجد دالً على خلف الحق عندهم‪ ،‬إما نصاً وإما ظاهراً بل دالً عندهم‬
‫على الكفر والضلل‪ ،‬لزم من ذلك لوازم باطلة منها الول‪ :‬أن يكون ال سبحانه قد أنزل‬
‫في كتابه وسنة نبيه من هذه اللفاظ ما يضلهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ومنها أن يكون قد نزل بيان الحق والصواب لهم‪ ،‬ولم يفصح به‪ ،‬بل رمز إليه‬
‫رمزاً وألغزه إلغازاً ل يفهم منه ذلك إل بعد الجهد الجهيد‪ .‬الثالث‪ :‬ومنها أن يكون قد كلف‬
‫عباده أن ل معناه من تلك اللفاظ حقائقها وظواهرها‪ ،‬وكلفهم أن معناه منها ما ل تدل‬
‫عليه‪ ،‬ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك‪ .‬الرابع‪ :‬ومنها أن يكون دائماً متكلماً في هذا الباب‬
‫بما ظاهره خلف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب")‪.(477‬‬
‫وقول ابن تيمية الذي نقله ابن القيم من أن كلم مخالفيه ليس له سند من الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬يدور في فلك الدعاية المضادة للمخالفين والتشويش على التباع‪ ،‬لن ال عز‬
‫ك اْلِكَتا َ‬
‫ب‬ ‫عَلْي َ‬ ‫وجل يؤكد وجود اليات المتشابهة المحتاجة إلى التأويل‪ُ} :‬هَو اّلِذ َ‬
‫ي َأنَزَل َ‬
‫أحمد بن حمد الخليلي في تعليقه على كتاب "مشارق أنوار العقول" ص ‪.275‬‬ ‫‪476‬‬

‫ابن القيم الجوزية "الصواعق المرسلة" ج ‪1‬ص ‪.315-314‬‬ ‫‪477‬‬


‫ن َما‬‫ن في ُقُلوِبِهْم َزْيٌغ َفَيّتِبُعو َ‬‫ت َفَأّما اّلِذي َ‬
‫شاِبَها ٌ‬ ‫خُر ُمَت َ‬‫ب َوُأ َ‬
‫ن ُأّم اْلِكَتا ِ‬
‫ت ُه ّ‬ ‫حَكَما ٌ‬‫ت ّم ْ‬‫ِمنُْه آَيا ٌ‬
‫ن ِفي اْلِعْلِم‬
‫خو َ‬ ‫سُ‬‫ل َوالّرا ِ‬‫شاَبَه ِمْنُه اْبِتَغاء اْلِفْتَنِة َواْبِتَغاء َتْأِويِلِه َوَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإّل ا ّ‬‫َت َ‬
‫عنِد َرّبَنا َوَما َيّذّكُر ِإّل ُأْوُلوْا الْلَبابِ{ آل عمران ‪ ،7‬فهذه الية‬ ‫ن ِ‬ ‫ن آَمّنا ِبِه ُكّل ّم ْ‬ ‫َيُقوُلو َ‬
‫نص صريح على وجود آيات دللتها غير واضحة "متشابهات" تحتاج إلى الظهار‬
‫جِلّيات الواضحات "المحكمات"‪.‬‬ ‫والتبيين "التأويل" عن طريق عرضها على اليات ال َ‬
‫وقول ابن القيم "أن يكون ال سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيه من هذه اللفاظ‬
‫ما يضلهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل"‪ .‬ليس بحجة‪ ،‬لن غلة أهل الحديث حين‬
‫أخذوا بظواهر اللفاظ اعتقدوا التشبيه والتجسيم‪ .‬وماذا يقول ابن القيم في قوله تعالى‪:‬‬
‫خْيُر‬
‫ل َ‬ ‫ل َوا ّ‬ ‫سُبوا{ الحشر‪ ،2:‬وقوله }َوَمَكُروْا َوَمَكَر ا ّ‬ ‫حَت ِ‬‫ث َلْم َي ْ‬
‫حْي ُ‬ ‫ن َ‬‫ل ِم ْ‬ ‫}َفَأَتاُهُم ا ُّ‬
‫سَيُهْم{التوبة‪ ،67 :‬هل يمكنه أن يثبت‬ ‫ل َفَن ِ‬‫سوْا ا ّ‬ ‫ن{ آل عمران ‪ ،54‬وقوله }َن ُ‬ ‫اْلَماِكِري َ‬
‫ظواهر هذه اليات التي تؤدي إلى وصف ال تعالى بمعاني باطلة كالحركة‪ ،‬والنتقال‪،‬‬
‫والمكر‪ ،‬والنسيان؟‪ .‬بيد أن عقلء المسلمين ل يقولون أن ال عز وجل أنزل ما ُيضل‪ ،‬بل‬
‫يقولون‪ :‬أن الذي يتعامل مع القرآن الكريم دون امتلك معرفة بأبسط فنون اللغة العربية‬
‫ل محالة سيضل ويضل غيره‪.‬‬
‫أما قول ابن القيم "ومنها أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب ولم يفصح به‪ ،‬بل‬
‫رمز إليه رمزًا وألغزه إلغازًا ل يفهم منه إل بعد الجهد الجهيد‪ .‬ومنها أن يكون قد كلف‬
‫عباده أل يفهموا من تلك اللفاظ حقائقها وظواهرها‪ ،‬وكلّفهم أن يفهموا منها ما ل تدل‬
‫عليه‪ .‬ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك" ليس إل مناورة فاشلة‪ ،‬فقد ذكرنا قبل ذلك أن‬
‫المجاز ل يمكن أن يصار إليه إل بالقرائن‪ ،‬وليس في ذلك محنة وإلغاز كما يّدعي ابن‬
‫القيم‪ ،‬لن هذا المجاز من معهود اللغة العربية التي نزل بها كتاب ال وتكلم بها نبيه ‪،‬‬
‫بيد أن دخول اللحن في اللغة بسبب دخول العاجم واستفحال أمر أهل الحديث الذين‬
‫ألغوا المجاز والتأويل‪ ،‬أدى إلى عدم استساغة العوام للصور البلغية في اللغة التي‬
‫يمثلها المجاز‪.‬‬
‫يقول الشيخ ابن بركة‪" :‬لو كان القرآن كله محكمًا ل يحتمل التأويل ول يمكن‬
‫الختلف فيه لسقطت المحنة فيه وتبلدت العقول وبطل التفاضل والجتهاد في السبق إلى‬
‫الفضل واستوت منازل العباد‪ ،‬وال يتعالى أن يفعل ما هذا سبيله‪ ،‬بل الواجب في حكمته‬
‫ل يرجع إليه‪ ،‬وبعضه‬ ‫ورحمته ما صنع وقدر فيه‪ ،‬إذ جعل بعضه محكمًا ليكون أص ً‬
‫متشابهًا يحتاج فيه إلى الستخراج والستنباط ورده إلى الحكم وإعمال العقول والفكر‪،‬‬
‫ليستحق بذلك الثواب الذي هو العوض")‪.(478‬‬

‫التناقض في المنهج‪:‬‬
‫إن المستقرئ لواقع غلة أهل الحديث يجدهم يأخذون بظواهر النصوص متى‬
‫وافقت هواهم‪ ،‬و يؤولونها متى تعارضت مع عقيدة التجسيم التي ينتحلونها‪ ،‬مع العلم بأن‬

‫ابن بركة البهلوي "الجامع" ج ‪ 1‬ص ‪.56‬‬ ‫‪478‬‬


‫ل يقول صالح‬ ‫قواعد مدرستهم تقوم على الخذ بظواهر اللفاظ وعدم تأويلها‪ ،‬فمث ً‬
‫الفوزان‪" :‬والتحريف‪ :‬هو التغيير وإمالة الشيء عن وجهه ‪ ...‬وهو نوعان‪ ... :‬الثاني‪:‬‬
‫تحريف المعنى‪ ،‬وهو العدول به عن وجهه وحقيقته‪ ،‬وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر ‪...‬‬
‫والتعطيل هو نفي المعنى الصحيح من غير استبدال له بمعنى آخر كفعل المفوضة ‪...‬‬
‫واللحاد في أسماء ال وصفاته أنواع‪ ... :‬النوع الرابع‪ :‬جحد معانيها وحقائقها")‪.(479‬‬
‫فالذي يؤول النصوص المتشابهة ويفسرها بما يتوافق والمحكم من النصوص‬
‫والثوابت العقلية في نظر الفوزان محرّف ومعطّل وملحد!‪ ،‬بيد أنا نتساءل كيف تعامل‬
‫الفوزان نفسه مع اليات التي تخالف توجه مدرسته؟‪.‬‬
‫طنُ{‬‫ظاِهُر َواْلَبا ِ‬ ‫خُر َوال ّ‬ ‫لِ‬‫يقول الفوزان في تفسير قوله تعالى‪ُ} :‬هَو اَْلّوُل َوا ْ‬
‫الحديد‪" 3 :‬وفي اسمه )الظاهر( و )الباطن( إحاطته المكانية ‪ ...‬ومعنى الظهور يقتضي‬
‫العلو وظاهر الشيء ما عل منه‪ ،‬وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء")‪.(480‬‬
‫فلماذا عدل الفوزان عن المعنى الظاهر لقوله تعالى "الباطن" ولم يقل إن ذاته‬
‫ادعاها‪ ،‬وهي عدم التحريف‬ ‫أسفل كل شيء؟! أليس هذا ابتعادًا عن المنهجية التي ّ‬
‫والتعطيل واللحاد في صفات ال عن طريق تأويلها؟!‪.‬‬
‫لِل َواِْلْكَراِم{‬ ‫جَ‬ ‫ك ُذو اْل َ‬ ‫وقال الفوزان في تفسير قوله تعالى‪َ} :‬وَيْبَقى َو ْ‬
‫جُه َرّب َ‬
‫الرحمن ‪" :27‬ول يبقى أحد سوى وجهه الكريم‪ ،‬فإن الرب سبحانه ل يموت بل هو الحي‬
‫جَهُه{القصص‪:‬‬ ‫ك ِإّل َو ْ‬‫يٍء َهاِل ٌ‬‫الذي ل يموت أبدًا"‪ .‬وقال في تفسير قوله تعالى‪ُ} :‬كّل شَ ْ‬
‫جَهُه{ منصوب‬ ‫‪" 88‬كل من في السماء ومن في الرض سيذهبون ويموتون } ِإّل َو ْ‬
‫‪481‬‬
‫على الستثناء‪ ،‬وهذا إخبار بأنه الدائم الباقي الذي تموت الخلئق ول يموت") (‪.‬‬
‫فلماذا قال هنا‪ :‬إن الوجه عبارة عن ذات ال؟ وليس بمعنى الوجه الذي هو‬
‫الجارحة‪ ،‬بحيث يهلك كل شيء حتى اليد والجنب والساق والقدم التي أثبتها أهل الحديث‬
‫ل‪ ،‬جميعها سيهلك ول يبقى سوى الوجه وحده‪ .‬بيد أنه لجأ في هذه الحالة إلى التأويل‬
‫الذي أسماه في البداية بالتحريف واللحاد والتعطيل‪ .‬والعجيب أنه يقول بعد ذلك‪:‬‬
‫"الشاهد من اليتين‪ :‬أن فيهما إثبات الوجه ل سبحانه")‪ .(482‬كيف يكون الشاهد إثبات‬
‫الوجه)‪ ،(483‬وهو قد ذكر سابقًا أن المقصود في الية هلك كل شيء سوى "ذات ال"‬
‫وليس سوى وجهه الحقيقي الذي يدعيه مجسمة أهل الحديث؟!‪.‬‬
‫‪ 479‬صالح الفوزان "شرح العقيدة الواسطية" ص ‪.18-15‬‬
‫‪ 480‬صالح الفوزان المصدر السابق ص ‪.29‬‬
‫‪ 481‬صالح الفوزان المصدر السابق ص ‪.48‬‬
‫‪ 482‬صالح الفوزان نفس المصدر ص ‪.48‬‬
‫‪ 483‬ويبرر أهل الحديث إثبات الوجه لله تعالى من هذه الية بقولهم‪" :‬لو لم يكن لله عز‬
‫وجل )وجـه( على الحقيقة لما جاز استعمال هذا اللفظ في معنى الذات فإن اللفظ‬
‫الموضوع لمعنى ل يمكن أن يستعمل في معنى آخر إل إذا كان المعنى الصلي ثابتا ً‬
‫للموصوف" )محمد خليل هراس "شرح العقيدة الواسطية" لبن تيمية ص ‪ .(65‬والواقع‬
‫ه{ فصلت‪:‬‬ ‫خل ْ ِ‬
‫ف ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ وََل ِ‬
‫م ْ‬ ‫من ب َي ْ ِ‬ ‫يرد هذه الدعوى‪ ،‬فالله تعالى يقول‪َ} :‬ل ي َأ ِْتيهِ ال َْباط ِ ُ‬
‫ل ِ‬
‫شوا ِفي‬ ‫م ُ‬ ‫‪ ،42‬وأصل اليد ليس موجودا ً في القرآن‪ ،‬والله تعالى يقول في الرض‪َ} :‬فا ْ‬
‫مَناك ِب َِها{ الملك‪ ،15:‬والرض ل مناكب لها‪.‬‬
‫َ‬
‫عُيِنَنا{الطور‪48 :‬‬‫ك ِبَأ ْ‬
‫ك َفِإّن َ‬
‫حْكِم َرّب َ‬ ‫وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى‪َ} :‬وا ْ‬
‫صِبْر ِل ُ‬
‫جِري‬ ‫")فإنك بأعيننا( أي‪ :‬بمرأى منا وتحت حفظنا"‪ .‬وفي قوله تعالى‪َ} :‬ت ْ‬
‫ِبَأعُْيِنَنا{القمر‪" 14 :‬أي‪ :‬بمنظر ومرأى منا وحفظ لها"‪ .‬ثم قال بعد ذلك‪" :‬الشاهد من‬
‫اليات‪ :‬أن فيها إثبات العينين ل تعالى حقيقة")‪.(484‬‬
‫فإذا كانت اليتان تثبتان عينين لرب العالمين كما يقول الفوزان فلماذا لم يقل إن‬
‫عْيِني{ تعني لتتربى وتكبر فوق عين ال تعالى‪ ،‬وأن قوله‬ ‫عَلى َ‬ ‫صَنَع َ‬‫قوله تعالى‪َ} :‬وِلُت ْ‬
‫عُيِنَنا{ تعني أن سفينة نوح تسبح فوق عين ال تعالى؟‪.‬‬ ‫جِري ِبَأ ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬ت ْ‬
‫ن َما ُكنُتْم{ الحديد‪،4 :‬‬‫كذلك فعل الفوزان في تفسير قوله تعالى‪َ} :‬وُهَو َمَعُكْم َأْي َ‬
‫ل َمَعَنا{التوبة‪ ،40 :‬وغيرها من آيات المعية‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬ ‫نا ّ‬‫ن ِإ ّ‬
‫حَز ْ‬‫وقوله تعالى‪َ} :‬ل َت ْ‬
‫ن َما ُكنُتْم{ أي‪ :‬هو معكم بعلمه") (‪.‬‬
‫‪485‬‬
‫)}َوُهَو َمَعُكْم َأْي َ‬
‫في جميع ما سبق نجد أن الفوزان قد خالف ما أوجبه على الناس‪ ،‬ولم يلتزم هو‬
‫نفسه بالخذ بظواهر اللفاظ‪ ،‬لقد اضطر الفوزان كما اضطر معه أهل الحديث إلى العمل‬
‫بالتأويل‪ ،‬وقام بما حّرمه على مخالفيه وهو رد اليات المتشابهات إلى المحكم منها!!‪.‬‬
‫ومن بين المطبات التي أوقع الفوزان فيها نفسها قوله في تفسير قوله تعالى‪:‬‬
‫ل َمْغُلوَلٌة{المائدة‪" :64 :‬يخبر تعالى عنهم بأنهم وصفوه بأنه بخيل‪،‬‬ ‫ت اْلَيُهوُد َيُد ا ّ‬ ‫}َوَقاَل ِ‬
‫‪486‬‬
‫كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء‪ ،‬ل أنهم يعنون أن يده موثقة") (‪ .‬حيث اضطر‬
‫الفوزان إلى الدفاع عن اليهود وذلك عن طريق تأويل قولهم "يد ال مغلولة" بالبخل مع‬
‫أقر به‬
‫أن ظاهر هذا القول يفيد أنهم يقصدون أن "يد ال موثقة"‪ ،‬ومنهج الفوزان الذي ّ‬
‫في البداية هو الخذ بظواهر اللفاظ وعدم صرفها عن ظاهرها‪ ،‬فتركه للخذ بظاهر‬
‫ل َمْغُلوَلٌة{ ل يوجد له ما يبرره سوى خشيته من إدراك أتباعه أن‬ ‫قول اليهود‪َ } :‬يُد ا ّ‬
‫فكر مدرسته يشترك مع فكر اليهود في التشبيه والتجسيم‪.‬‬
‫وقد انجرف الشوكاني في تطبيق منهج حظر التأويل‪ ،‬حتى في تفسير قوله تعالى‬
‫ل َمَعَنا{التوبة‪،40 :‬‬ ‫نا ّ‬ ‫ن ِإ ّ‬‫حَز ْ‬‫ن َما ُكنُتْم{ الحديد‪ ،4 :‬وقوله تعالى }لَ َت ْ‬ ‫}وَُهَو َمَعُكْم َأْي َ‬
‫التي اضطر غلة أهل الحديث إلى تأويلها‪ ،‬حيث قال‪" :‬فنقول في مثل هذه اليات‪ :‬هكذا‬
‫جاء القرآن إن ال سبحانه مع هؤلء‪ ،‬ول نتكلف تأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد‬
‫بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته‪ ،‬فإن هذا شعبة من شعب التأويل تخالف‬
‫مذاهب السلف‪ ،‬وتباين ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم")‪ .(487‬أي أن ال تعالى‬
‫موجود بذاته في كل مكان!‪.‬‬

‫صالح الفوزان نفس المصدر ص ‪.51‬‬ ‫‪484‬‬

‫صالح الفوزان نفس المصدرص ‪.67‬‬ ‫‪485‬‬

‫صالح الفوزان نفس المصدر ص ‪.49‬‬ ‫‪486‬‬

‫‪ 487‬محمد بن علي الشوكاني "التحف في مذاهب السلف" ص ‪.28‬‬


‫إحياء الموروث القديم للملل المنحرفة‬
‫القتباس من أهل الوثان‪:‬‬
‫كما أسلفنا سابقًا أن الخطاب العلمي لهل الحديث موجه بصورة أساسية نحو‬
‫العوام‪ ،‬وهو يعتمد على إثارة العاطفة ودغدغة المشاعر مع تجاهله الواضح لثوابت‬
‫العقل ودلئل النقل‪ ،‬وفي إطار إثارة عاطفة العوام نحو هذا الفكر قام أربابه بالستدلل‬
‫بكلم أهل الملل الخرى المنحرفة عن السلم ليوهموا عوام الناس أن هذه العقيدة‬
‫أجمعت عليها المم!‪.‬‬
‫مع أن إجماع المم المخالف لنصوص الشرع ودواعي العقل ل يعد حجة عند‬
‫عقلء المسلمين‪ ،‬ولو كان في إجماعهم حجة للزم أهل الحديث اّتباعهم في عبادة‬
‫الوثان‪ ،‬والقول بتعدد اللهة‪ ،‬وإثبات الزوجة والولد ل تعالى‪.‬‬
‫ن ُكّلِه{ التوبة‪:‬‬ ‫عَلى الّدي ِ‬ ‫ظِهَرُه َ‬ ‫ق ِلُي ْ‬
‫ح ّ‬ ‫لقد أرسل ال رسوله ‪ِ} ‬باْلُهَدى َوِدي ِ‬
‫ن اْل َ‬
‫‪ ،33‬وكانت النسانية قبل مبعثه تتخبط في ظلمات الجهل والوثنية والضلل المبين }‬
‫عَلْيِهْم آَياِتِه َوُيَزّكيِهْم‬
‫ن َأنُفسِِهْم َيْتُلو َ‬
‫سوًل ّم ْ‬ ‫ث ِفيِهْم َر ُ‬ ‫ن ِإْذ َبَع َ‬
‫عَلى اْلُمؤِمِني َ‬ ‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫َلَقْد َم ّ‬
‫ن{ آل عمران ‪ ،164‬وحين‬ ‫ضلٍل ّمِبي ٍ‬ ‫حْكَمَة َوِإن َكاُنوْا ِمن َقْبُل َلِفي َ‬ ‫ب َواْل ِ‬‫َويَُعّلُمُهُم اْلِكَتا َ‬
‫جاء الرسول ‪ ‬بهذا الدين القويم كانت ردة فعل الكفرة هي التكذيب والسخرية والجحود‬
‫ن َهَذا‬ ‫جاءُهم ّمنذٌِر ّمْنُهْم َوَقاَل اْلَكاِفُرو َ‬ ‫جُبوا َأن َ‬ ‫عِ‬ ‫لن فطرهم قد عفنتها الوثنية } َو َ‬
‫ب{ص ‪َ} ،5-4‬وِإَذا ِقيَل َلُهُم‬ ‫جا ٌ‬ ‫عَ‬ ‫يٌء ُ‬ ‫ش ْ‬
‫ن َهَذا َل َ‬‫حًدا ِإ ّ‬
‫لِلَهَة ِإَلًها َوا ِ‬
‫جَعَل ا ْ‬‫ب * َأ َ‬ ‫حٌر َكّذا ٌ‬ ‫سا ِ‬‫َ‬
‫جُد ِلَما َتْأُمُرَنا وََزاَدُهْم ُنُفوًرا{ الفرقان‪.61 :‬‬ ‫سُ‬ ‫ن َأَن ْ‬
‫حَم ُ‬
‫ن َقاُلوا َوَما الّر ْ‬ ‫حَم ِ‬
‫جُدوا ِللّر ْ‬ ‫اسْ ُ‬
‫عقول فارغة‪ ،‬وقلوب متحجرة‪ ،‬وفطر ملوثة هذه التي ترفض نور اليمان بال تعالى‪،‬‬
‫ن{النعام‪.1 :‬‬ ‫وتعدل به غيره }ُثّم اّلِذي َ‬
‫ن َكَفُروْا ِبَرّبِهم َيْعِدُلو َ‬
‫ن{النشقاق‪،22 :‬‬ ‫لم يصدق الوثنيون بربوبية ال }َبِل اّلِذي َ‬
‫ن َكَفُروْا ُيَكّذُبو َ‬
‫ب{البروج‪.19:‬‬ ‫ن َكَفُروا ِفي َتْكِذي ٍ‬ ‫وازدادوا غيًّا بعد غيّ وتكذيبًا بعد تكذيب }َبِل اّلِذي َ‬
‫فكيف يتصور مسلم عاقل أن يأخذ عقيدته من هؤلء المشركين الذين اتخذوا من دون ال‬
‫آلهة؟!‪.‬‬
‫بيد أّنا ‪-‬للسف‪ -‬وجدنا غلة أهل الحديث ينقلون عقائد أولئك الوثنيين في كتبهم‬
‫العقدية!‪ .‬بل هم تعدوا هذه المرحلة إلى درجة التصريح والحتجاج بأقوال أهل الوثان‬
‫والديانات المنحرفة‪ ،‬من ذلك قول ابن تيمية‪" :‬وأهل السنة يقولون لهم‪ ... :‬معلوم أن‬
‫مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد‪ ،‬وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه‪،‬‬
‫بخلف الصفات فإنه لم ينكر شيئًا منها أحد من العرب‪ .‬فعلم أن إقرار العقول بالصفات‪:‬‬
‫أعظم من إقرارها بالمعاد‪ ،‬وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات‪ ،‬فكيف يجوز مع‬
‫هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر‪ ،‬وما أخبر به من المعاد هو على ما‬
‫أخبر به")‪.(488‬‬
‫واستشهد ابن تيمية بقول أمية بن أبي الصلت –من شعراء الجاهلية‪ -‬حيث قال‪:‬‬
‫"والمم كلها عجمها وعربها تقول‪ :‬إن ال عز وجل في السماء ‪ ...‬وقال أمية بن الصلت‪:‬‬
‫ربنا أمسى في السماء كبيرًا‬ ‫مجدوا ال فهو للمجد‬
‫وسوى فوق السماء سريرًا‬ ‫أهـل‬
‫ترى دونه المـلئـك‬ ‫بالبناء العلى الذي سبق‬
‫‪489‬‬
‫صورًا") (‬ ‫الناس‬
‫شرجعاً مـا ينـاله بصـر‬
‫العين‬
‫وكلم ابن تيمية واضح البطلن لما فيه من رد لنصوص الكتاب العزيز التي‬
‫ذكرناها سابقًا‪ ،‬ول يصح أن يقال إن المشركين عارفون بصفات ال!‪ ،‬وأنهم آمنوا بها‬
‫وأقروها‪ ،‬ولكن مبلغ كفرهم هو الجحود بيوم القيامة!‪ ،‬فالقرآن طوله وعرضه ينص على‬
‫إنكار المشركين لوجود ال فكيف الحال بصفاته!‪.‬‬
‫ويقول ابن القيم مفتخرًا لموافقة عقيدته لعقيدة عنترة الوثني‪" :‬ويكفي أن شعراء‬
‫الجاهلية مقرة به على فطرتهم الولى‪ ،‬كما قال عنترة في قصيدته‪:‬‬
‫إذا كان ربي في السمــاء‬ ‫يـا عـبـل أيـن المنية مهـربـي‬
‫‪490‬‬
‫قضــاهـا) (‬

‫‪ 488‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪ 5‬ص ‪.33‬‬


‫‪ 489‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪ 5‬ص ‪.405‬‬
‫ابن القيم اجتماع الجيوش السلمية" ج ‪ 8‬ص ‪.287‬‬ ‫‪490‬‬
‫وأي فطرة لهل الوثان!‪ ،‬ألم تقدهم هذه الفطرة إلى عبادة الحجارة الصماء؟! ألم‬
‫جاءُهم ّمنِذٌر ّمْنُهْم َوَقاَل اْلَكاِفُرو َ‬
‫ن‬ ‫جُبوا َأن َ‬ ‫عِ‬‫يستهزيء هؤلء بذات ال حين قالوا‪َ } :‬و َ‬
‫جابٌ{ص‪.5 :‬‬ ‫عَ‬
‫يٌء ُ‬
‫ش ْ‬
‫ن َهَذا َل َ‬
‫حًدا ِإ ّ‬
‫لِلَهَة ِإَلًها َوا ِ‬
‫جَعَل ا ْ‬
‫ب * َأ َ‬
‫حٌر َكّذا ٌ‬
‫سا ِ‬
‫َهَذا َ‬
‫وروى عبدال بن أحمد بن حنبل‪ :‬أن رسول ال ‪ ‬أنشد قول أمية بن الصلت‬
‫والنسر للخرى‬ ‫رجـل وثور تحت رجل‬
‫‪491‬‬
‫وليث مرصد) (‪.‬‬ ‫يمـينه‬
‫أي أن رجل ال اليمنى –تعالى ال‪ -‬فوق ملكين على هيئة إنسان وثور‪ ،‬بينما‬
‫رجله الأخرى فوق ملكين على هيئة نسر وأسد!‪ .‬وهذا التجسيم ووصف الملئكة بصفات‬
‫الحيوانات يمثل جوهر العقيدة التلمودية‪ ،‬فما الذي حدا بغلة أهل الحديث إلى قبول هذه‬
‫الفكار المنحرفة عن منهج السلم الصحيح)‪.(492‬‬

‫القتباس من أهل الكتاب‪:‬‬


‫في نفس إطار الصخب الدعائي الذي يمارسه أهل الحديث‪ ،‬ومحاولتهم التصوير‬
‫بأن عقيدة التجسيم محل إجماع جميع الديانات!‪ ،‬كما يقول ابن القيم‪:‬‬
‫رسل الله الواحد المنان‬ ‫هذا وخامس عشرها الجماع من‬
‫قد صرحوا بالفوق‬ ‫فـالمرسلون جميـعـهـم مع كتبـهم‬
‫للرحمن‬ ‫هذا ونـقـطع نحن أيـضًا أنـــه‬
‫إجماعهم قـطـعًا على‬
‫برهان)‪(493‬‬
‫صّور غلة أهل الحديث لتباعهم أن التوراة والنجيل لم يحّرفا!‪ ،‬وأن العقائد‬
‫التي تحويها موافقة تمامًا لعقيدة السلم الصافية!‪ ،‬حيث يقول ابن القيم‪" :‬ثم هب أن‬
‫الكتاب العربي جاء على لغة العرب وعبارة لسانهم في الستعارة والمجاز‪ ،‬فما قولهم في‬
‫الكتاب العبراني وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف‪ ،‬وليس لقائل أن يقول‪ :‬إن ذلك‬
‫الكتاب محرف كله‪ .‬وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم ل يطاق تعديدهم‪ ،‬وبلدهم‬
‫متباينة‪ ،‬وأوهامهم متباينة‪ ،‬منهم يهودي ونصراني‪ ،‬وهم أمتان متعاديتان‪ ،‬فظاهر من هذا‬
‫كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون‪ ،‬مقربًا مال يفهمون إلى أفهامهم‬
‫بالتمثيل والتشبيه‪ ،‬ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة")‪.(494‬‬
‫ويقول ابن تيمية‪" :‬وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة‬
‫تجسيمًا‪ ،‬ومع هذا فلم ينكر رسول ال ‪ ‬وأصحابه على اليهود شيئا من ذلك‪ ،‬ول قالوا‪:‬‬
‫أنتم مجسمون‪ ،‬بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي ‪ ‬شيئًا من الصفات أقرهم‬
‫‪ 491‬عبدالله بن أحمد بن حنبل "السنة" ص ‪.504‬‬
‫‪ 492‬يقول زاهد الكوثري في مقدمة كتاب "تبيين كذب المفتري" ص ‪" 18‬الحشوية أسقطها‬
‫الجهل والجمود وترتئي آراء الجاهلية ورثتها من نحل كانوا عليها قبل السلم وراجت‬
‫عليهم تمويهات المموهين من الثنوية وأهل الكتاب والصابئة"‪.‬‬
‫‪ 493‬محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" ج ‪1‬ص ‪.226‬‬
‫‪ 494‬ابن القيم الجوزية "الصواعق المرسلة" ج ‪3‬ص ‪.1104-1103‬‬
‫الرسول على ذلك وذكر ما يصدقه")‪ .(495‬وقال أيضًا‪" :‬فقد علم أنه ‪ ‬قد ذم أهل الكتاب‬
‫على ما حرفوه وبدله‪ ،‬ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات‪ ،‬فلو كان إنكار ذلك‬
‫عليهم أولى‪ ،‬فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجبًا منهم وتصديقًا‬
‫لهم؟! ولم يعبهم قط بما تعيب به أهل الثبات")‪ .(496‬وقال أيضًا‪" :‬والتوراة مملوءة من‬
‫الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث‪ ،‬وليس فيها تصريح بالمعاد كما‬
‫في القرآن‪ ،‬فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد‬
‫به احدهما أولى‪ ،‬والثاني مما يعلم بالضطرار من دين الرسول أنه باطل فالول أولى‬
‫بالبطلن")‪.(497‬‬
‫وقال‪" :‬فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلوتها إن كانوا صادقين في نقل‬
‫ما يخالف ذلك‪ ،‬فإنهم كانوا يلوون ألسنتهم ثم يقولون هذا من عند ال ويكذبون في كلمهم‬
‫وكتابهم‪ .‬فلهذا ل تقبل الترجمة إل من ثقة‪ .‬فإذا احتج أحدهم على خلف القرآن برواية‬
‫عن الرسل المتقدمين مثل الذي يروى عن موسى أنه قال‪" :‬تمسكوا بالسبت ما دامت‬
‫السماوات والرض" أمكننا أن نقول لهم‪ :‬في أي كتاب هذا؟ أحضروه‪ ،‬وقد علمنا أن هذا‬
‫ليس في كتبهم وإنما هو مفترى مكذوب")‪ .(498‬وقال أيضًا‪" :‬وكذلك إذا سئلوا عما في‬
‫الكتاب من ذكر أسماء ال وصفاته لتقام الحجة عليهم وعلى غيرهم‪ ،‬بموافقة‬
‫النبياءالمتقدمين لمحمد ‪ ،‬فحرفوا الكلم عن مواضعه‪ :‬أمكن معرفة ذلك‪ ،‬كما‬
‫تقدم")‪.(499‬‬
‫وقد استدل ابن تيمية بالتوراة المحرفة في إثبات بعض العقائد‪ ،‬ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫"وهكذا في التوراة ما يوافق خبر ال في القرآن ‪ ...‬ما ذكره ال في التوراة يدل على أنه‬
‫خلق هذا العالم من مادة أخرى")‪.(500‬‬
‫واحتج بالنجيل أيضًا حيث قال‪" :‬وفي النجيل أن المسيح ‪ ‬قال‪ :‬ل تحلفوا‬
‫بالسماء فإنها كرسي ال‪ .‬وقال للحواريين‪ :‬إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم)‪ (501‬الذي في‬
‫السماء يغفر لكم كلكم‪ ،‬انظروا إلى طير السماء فإنهن ل يزرعن ول يحصدن ول يجمعن‬
‫في الهواء وأبوكم الذي في السماء هو الذي يرزقهن‪ ،‬أفلستم أفضل منهن؟ ومثل هذا من‬
‫الشواهد كثير يطول به الكتاب)‪.(502‬‬
‫ويؤكد ابن تيمية على دراسته للتوارة وتبحره فيها بقوله‪" :‬واللفاظ العبرية‬
‫تقارب اللفاظ العربية بعض المقاربة‪ ،‬كما تتقارب السماء في الشتقاق الكبر‪ .‬وقد‬

‫‪ 495‬ابن تيمية "منهاج السنة" ج ‪ 2‬ص ‪.562‬‬


‫‪ 496‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" المجلد الخامس ص ‪.34‬‬
‫‪ 497‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" المجلد الخامس ص ‪.34‬‬
‫‪ 498‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" المجلد الرابع ص ‪.112 -111‬‬
‫‪ 499‬ابن تيمية مجموع الفتاوى" المجلد الرابع ص ‪.112‬‬
‫‪ 500‬ابن تيمية "منهاج السنة" ج ‪ 1‬ص ‪.363‬‬
‫‪ 501‬وهذا احتجاج منه بقول النصارى بأبوة الله تعالى للمسيح التي هي أصل عقيدة التثليث‬
‫الوثنية‪.‬‬
‫‪" 502‬مجموع الفتاوى" ج ‪ 5‬ص ‪.406‬‬
‫سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب فوجدت اللغتين متقاربتين غاية‬
‫التقارب‪ ،‬حتى صرت أفهم كثير من كلمهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية")‪.(503‬‬
‫ويؤكد حمود التويجري على تشابه عقيدة غلة أهل الحديث مع عقائد التوراة‬
‫بقوله‪" :‬وأيضا هذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن النبياء كالتوراة في‬
‫السفر الول منها‪ :‬سنخلق بشرًا على صورتنا يشبهها")‪ .(504‬وقال أيضًا‪" :‬روى صفوان‬
‫الموي بإسناده إلى كعب الحبار قال‪ :‬قال ال عز وجل في التوراة‪ :‬أنا ال فوق عبادي‪،‬‬
‫وعرشي فوق جميع خلقي‪ ،‬وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي‪ ،‬ول يخفى علي شيء في‬
‫السماء ول في الرض")‪.(505‬‬
‫بل إن أئمة أهل الحديث يؤكدون على تقديمهم لكلم اليهود والنصارى على كلم‬
‫مخالفيهم من أهل السلم‪ ،‬حيث يقول عبدال بن المبارك‪" :‬إنا لنحكي كلم اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬ول نستطيع أن نحكي كلم الجهمية")‪.(506‬‬
‫ونحن نعجب من هؤلء وجرأتهم على رد كتاب ال الذي يؤكد تحريف التوراة‬
‫والنجيل‪ ،‬ويؤكد عداء أهل الكتاب للسلم وأهله‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬فَوْيٌل ّلّلِذي َ‬
‫ن َيْكُتُبو َ‬
‫ن‬
‫ل َفَوْيٌل ّلُهم ّمّما َكَتَب ْ‬
‫ت‬ ‫شَتُروْا ِبِه َثَمنًا َقِلي ً‬‫ل ِلَي ْ‬
‫عنِد ا ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن َهفَذا ِم ْ‬ ‫ب ِبَأْيِديِهْم ُثّم َيُقوُلو َ‬
‫اْلِكَتا َ‬
‫ن َأن ُيْؤِمُنوْا َلُكْم َوَقْد‬ ‫طَمُعو َ‬ ‫ن{ البقرة‪ .79:‬وقال تعالى‪َ} :‬أَفَت ْ‬ ‫سُبو َ‬ ‫َأْيِديِهْم َوَوْيٌل ّلُهْم ّمّما َيْك ِ‬
‫ن{البقرة‪:‬‬ ‫عَقُلوُه َوُهْم َيْعَلُمو َ‬ ‫حّرُفوَنُه ِمن َبْعِد َما َ‬ ‫ل ُثّم ُي َ‬
‫لَم ا ّ‬ ‫ن َك َ‬ ‫سَمُعو َ‬‫ق ّمْنُهْم َي ْ‬‫ن َفِري ٌ‬
‫َكا َ‬
‫ن َأن ُيَنّزَل عََلْيُكم‬ ‫شِرِكي َ‬ ‫ب َوَل اْلُم ْ‬ ‫ن َأْهِل اْلِكَتا ِ‬‫ن َكَفُروْا ِم ْ‬ ‫‪ .75‬وقال تعالى‪ّ} :‬ما َيَوّد اّلِذي َ‬
‫ن َأْهِل اْلِكَتابِ َلْو َيُرّدوَنُكم ّمن‬ ‫خْيٍر ّمن ّرّبُكْم{البقرة‪ ،105 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وّد َكِثيٌر ّم ْ‬ ‫ّمنْ َ‬
‫ن آَمُنَوْا ِإن‬ ‫سِهم{البقرة‪ .109 :‬وقال‪َ } :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬ ‫عنِد َأنُف ِ‬‫ن ِ‬ ‫سًدا ّم ْ‬‫ح َ‬‫َبْعِد ِإيَماِنُكْم ُكّفارًا َ‬
‫ب َيُرّدوُكم َبْعَد ِإيَماِنُكْم َكاِفِرينَ{ آل عمران‪،100 :‬‬ ‫ن ُأوُتوْا اْلِكَتا َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫طيُعوْا َفِريًقا ّم َ‬ ‫ُت ِ‬
‫فكيف بعد هذا التحذير من أهل الكتاب وكتبهم المحرفة‪ ،‬يستسيغ أي مسلم أخذ عقيدته من‬
‫تلك الكتب؟‬
‫ل ينكر تحريف التوراة والنجيل إل المغالط لنفسه‪ ،‬فنصوص تلك الكتب نفسها‬
‫تؤكد حقيقة التحريف التي ينكرها اليهود والنصارى‪ ،‬فقد تمت ترجمة العهد القديم إلى‬
‫اليونانية في القرن الثالث‪ ،‬وأضاف النصارى إليه فقرات جديدة زعموا أن اليهود قد‬
‫حذفوها من نسختهم الصلية‪ ،‬وقاموا أيضًا بتضخيم العهد القديم‪ ،‬وأضافوا إليه فصو ً‬
‫ل‬
‫كثيرة‪ ،‬ونفس المجموعة التي كتبت العهد القديم هي نفسها التي كتبت العهد الجديد)‪.(507‬‬
‫وقد أثارت الختلفات والتناقضات الواضحة في صفحات التوراة الحالية انتباه كثير من‬
‫الباحثين قديمًا وحديثًا‪ ،‬إل أن العالم الناقد الكاثوليكي أستروك )‪1753‬م( كان أول من‬

‫"مجموع الفتاوى" ج ‪ 4‬ص ‪.111– 110‬‬ ‫‪503‬‬

‫حمود التويجري "عقيدة أهل اليمان في خلق آدم على صورة الرحمن" ص ‪.76‬‬ ‫‪504‬‬

‫حمود التويجري "إثبات علو الله ومباينته لخلقه" ص ‪.53‬‬ ‫‪505‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪ ،174‬البخاري "خلق أفعال العباد" ص ‪.31‬‬ ‫‪506‬‬

‫‪507‬‬
‫‪Christopher Knight & Robert Lomas "The Hiram Key"page 61-62.‬‬
‫أشار صراحة إلى تعدد المصادر‪ ،‬واتفقت هذه العمال على أن التوراة تتكون من‬
‫مجموعة كتابات جمعت وحررت وضمت في عمل واحد)‪.(508‬‬
‫وتصديق القرآن لما مع اليهود إنما هو تصديق على الجمال‪ ،‬إن القرآن يصدقهم‬
‫فيما يذكرونه من إيمان بال‪ ،‬وإثبات للوحي‪ ،‬وتكليف الناس‪ ،‬وحساب على العمال! لكنه‬
‫ل يصدقهم حين يذكرون أن ال ندم على إغراق الرض بالطوفان‪ ،‬ثم ندم على ما صنع‬
‫واحتاج إلى من يذكره حتى ل يفعلها مرة أخرى! إنه ل يصدق العهد القديم حين يذكر أن‬
‫ال يتمشى على الرض‪ ،‬ثم مال إلى نبيه إبراهيم حيث تناول معه الغداء‪ ،‬ول يصدقه‬
‫ل‪ ،‬ثم لم يفلته حتى منحه لقب إسرائيل)‪.(509‬‬ ‫ل طوي ً‬‫حين يذكر أن ال صارع يعقوب لي ً‬
‫يقول محمد رشيد رضا‪" :‬ومن المعلوم من التاريخ بالقطع عندنا وعندهم أن‬
‫التوراة التي كتبها موسى ‪ ‬ووضعها في التابوت )صندوق العهد(‪ ،‬وأخذ الميثاق على‬
‫بني إسرائيل بحفظها كما هو منصوص في آخر سفر )تثنية الاشتراع( قد فقدت من‬
‫الوجود عندما أغار البابليون على اليهود وأحرقوا هيكل بيت المقدس‪ ،‬والتوراة‬
‫الموجودة الن يرجع أصلها إلى ما كتبه عزرا الكاهن بأمر "ارتحشتا" ملك فارس الذي‬
‫أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى أورشليم‪ ،‬وأذن له أن يكتب لهم كتابا من شريعة الرب‬
‫وشريعة الملك‪ ،‬ولذلك تكثر فيها اللفاظ البابلية كثرة فاحشة‪ ،‬وقد بينا تحقيق ذلك في‬
‫تفسير أول سورة آل عمران وبعض آيات من سورة النساء والمائدة‪ ،‬كما بينا أن إنجيل‬
‫المسيح عليه السلم لم يدون في عصره‪ ،‬ولم ينقله عنه الحواريون كما نقل القرآن تواترًا‬
‫بالحفظ والكتابة‪ ،‬ول كنقل الحديث بالسانيد المتصلة‪ ،‬وإنما ظهرت هذه الناجيل التي‬
‫هي قصص مختصرة له واشتهرت بعد ثلثة قرون كما ظهر عشرات غيرها‪ ،‬فاعتمد‬
‫أربعة منها رؤساء الكنيسة التي أسسها قسطنطين ملك الروم الذي تنصر تنصرًا سياسيًا‪،‬‬
‫وأدخل النصرانية في دور جديد ممزوج بالوثنية‪ ،‬وقد طرقنا أبواب البحث في "المنار"‬
‫مرارًا وتغلغلنا فيها أحيانًا‪ ،‬ومن ذلك مقال نشرناه في الجزء الثاني من المجلد السادس‬
‫"صفحة ‪ "321‬عقب ما كتب في شأن عثور بعض علماء الثار العادية من اللمان على‬
‫شريعة "حمورابي" منقوشة على عمود من صم الصفا في العراق‪ .‬فقد ظهر لهم أن‬
‫معظم شريعة التوراة موافقة لهذه الشريعة ما ظهر لبعض المحققين منهم أن أسفار هذه‬
‫التوراة مشتملة على المئات أو اللوف من اللفاظ البابلية المحضة‪ ،‬فجزم الحرار من‬
‫هؤلء الباحثين بأن التوراة مقتبسة وليست وحيًا من ال تعالى")‪.(510‬‬
‫وهناك الكثير من اتباع مدرسة أهل الحديث قد رّد على من أجاز الحتجاج‬
‫بالتوراة وأنكر تحريفها‪ ،‬فقد قال الذهبي‪" :‬ول ُيشرع لحد بعد نزول القرآن أن يقرأ‬
‫سوخة العمل‪ ،‬قد اختلط فيها الحق‬ ‫التوراة ول َأن يحفظها‪ ،‬لكونها ُمَبّدَلة ُمحّرفة من ُ‬
‫بالباطل‪ ،‬فلُتجتنب")‪ .(511‬وقال ابن كثير‪" :‬وقال وهب ابن منبه‪ :‬عن التوراة والنجيل‬

‫‪508‬محمد خليفة "علقة السلم باليهودية" ص ‪.18‬‬


‫‪ 509‬محمد الغزالي في كتابه "نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم" ص ‪.113‬‬
‫‪ 510‬محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" ج ‪1‬ص ‪.174‬‬
‫‪ 511‬الذهبي "سير أعلم النبلء" في ترجمة عبدالله بن عمرو بن العاص ج ‪3‬ص ‪.86‬‬
‫كما أنزلهما ال تعالى لم يغير منهما حرف ‪ ...‬فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك‪ ،‬فل‬
‫شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص")‪ ،(512‬وقال أيضاً‪" :‬فإن معاوية‬
‫كان يقول عن كعب‪ :‬إن كنا لنبلوا عليه الكذب‪ ،‬يعني فيما ينقله ل أنه كان يتعمد نقل ما‬
‫ليس في صحفه‪ ،‬ولكن الشأن في صحفه أنها من السرائيليات التي غالبها مبدل مصحف‬
‫محرف مختلق‪ ،‬ول حاجة لنا مع خير ال تعالى ورسول ال ‪ ‬إلى شيء منها بالكّلية‪،‬‬
‫فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض")‪.(513‬‬
‫ويقول صابر طعيمة في الرد على دعوى عدم تحريف صفات ال في التوراة‪:‬‬
‫"ولما كان بنو إسرائيل قطاعًا من البشر مستهدفًا من الرسالة السلمية بحكم‬
‫عموميتها ‪ ...‬وبأن يؤمنوا بالحق الذي جاء به السلم فطهر العقائد مما شابها من فكر‬
‫الصنم والوثن وما يتعلق بفكر الصنم والوثن من رموز وطقوس كهذه التي لوثت أسفار‬
‫العهد القديم ولوثتها")‪.(514‬‬
‫وقال‪" :‬وإنما تناول أبنائه من بعده‪ ،‬فالخُلق اليهودي المعوج والقائم على العدوان‬
‫والعقيدة الدينية المحرفة القائمة على التزييف وصور التجسيد والتشبيه التي يخلعونها‬
‫على الله والتي كانوا عليها في بدء عصر الدعوة السلمية")‪.(515‬‬
‫وإثبات الذهبي وابن كثير وصابر طعيمة لتحريف التوراة والنجيل يؤكد على‬
‫تناقض منهج غلة أهل الحديث‪ ،‬واتباعههم الهوى لنصرة مذاهبهم‪.‬‬

‫القتباس من أرباب الفلسفة الهرمسية‪:‬‬


‫إن تغرير غلة أهل الحديث بأتباعهم ل يقف عند حد!‪ ،‬فحين تراهم يحاربون‬
‫المعتزلة ويألبون العوام ضدهم بدعوى مطالعتهم كتب الفلسفة‪ ،‬وأنهم –المعتزلة‪-‬‬
‫مجموعة من ملحدة الغريق‪ ،‬تجدهم أنفسهم يستشهدون ‪-‬لترسيخ عقائدهم‪ -‬بأقوال‬
‫فلسفة اليونان وشواذ أفكارهم‪ ،‬ثم يروجون تلك الفكار بين العوام على أنها عقيدة‬
‫السلف المقدس!‪ ،‬من ذلك عقيدة "قدم أصل العالم"‪.‬‬
‫ولم نجد نصًا يدل على طرح مثل هذه القضية عند أهل الحديث الوائل‪ ،‬وأول من‬
‫طرح هذه القضية هو ابن تيمية الحّراني )ت ‪728‬هـ(‪ ،‬الذي يقول‪" :‬لم ل يجوز أن تكون‬
‫السماوات والرض بأنفسها مسبوقة بمادة بعد مادة ل إلى غاية ‪ ...‬فما الذي أوجب‬
‫مخالفة ما اتفقت عليه الرسل وأهل الملل وأساطين الفلسفة القدماء")‪ .(516‬وقال‪" :‬وذلك‬
‫القول بحدوث هذا العالم هو قول أساطين الفلسفة الذين كانوا قبل أرسطو‪ ،‬بل هم‬
‫يذكرون أن أرسطو أول من صرح بقدم الفلك‪ ،‬وأن المتقدمين من قبله من الساطين‬
‫كانوا يقولون‪ :‬إن هذا العالم محدث إما بصورته وإما بمادته وصورته‪ ،‬وأكثرهم يقولون‬

‫ابن كثير في تفسيره للية ‪ 78‬من سورة آل عمران ج ‪1‬ص ‪.424‬‬ ‫‪512‬‬

‫ابن كثير في تفسيره ج ‪3‬ص ‪.112‬‬ ‫‪513‬‬

‫صابر طعيمة "بنو إسرائيل بين نبأ القرآن وخبر العهد القديم" ص ‪.6‬‬ ‫‪514‬‬

‫نفس المصدر ص ‪.20‬‬ ‫‪515‬‬

‫ابن تيمية "منهاج السنة" ج ‪ 1‬ص ‪.220‬‬ ‫‪516‬‬


‫بتقدم مادة هذا العالم على صورته‪ .‬وهذا موافق لما أخبرت به الرسل صلوات ال‬
‫عليهم")‪ .(517‬وقال مشنعًا على من يقّر بوحدانية ال تعالى في الزل‪" :‬والعجب من‬
‫ذلك حكاية الجماع على كفر من نازع في أنه سبحانه لم يزل وحده ل شيء معه")‪.(518‬‬
‫وقال ابن عبد العّز )ت ‪792‬هـ( منتصرًا لكلم أستاذه الحّراني‪" :‬وللناس قولن في‬
‫هذا العالم‪ :‬هل هو مخلوق من مادة أم ل؟ ‪ ...‬منهم من قال‪ :‬إن المقصود إخباره بأن ال‬
‫كان موجودًا وحده‪ ،‬ولم يزل كذلك دائمًا‪ ،‬ثم ابتدأ إحداث جميع الحوادث ‪ ...‬والقول‬
‫الثاني‪ :‬المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه ال في ستة أيام‪ ،‬ثم‬
‫استوى على العرش ‪ ...‬دليل صحة هذا القول الثاني من وجوه ‪ ...‬ل يصح أن يكون‬
‫ل لأن قوله "وكان عرشه على‬ ‫ل معه أص ً‬ ‫المعنى أنه تعالى موجود وحده ل مخلوق أص ً‬
‫الماء" يردّ ذلك")‪.(519‬‬
‫وتابعه أيضًا تلميذه ابن القيم )ت ‪751‬هـ( الذي قال‪:‬‬
‫قلنا صدقـتم وهـو‬ ‫فلئــن زعمتــم أن ذاك‬
‫ذو إمكان‬ ‫تسلسل‬
‫هل بين ذلك قط من‬ ‫كتسلسل التـأثير في‬
‫فرقــان‬ ‫مستقبـــل‬
‫نقل ول نظـر ول‬ ‫وال ما افترقـا لذي عقـــل‬
‫‪520‬‬
‫برهـان) (‬ ‫ل‬
‫أزل لذي ذهن ول‬ ‫ما قال ذو عقـل بأن الفــرد‬
‫أعيـــان‬ ‫ذو‬
‫قبله أبدًا بـل‬ ‫بل كل فــرد مسبـوق بفــرد‬
‫‪521‬‬
‫حسبـــان) (‬
‫وقال محمد خليل هراس في شرحه لكلم ابن القيم السابق‪" :‬انقسم الناس في تسلسل‬
‫الحوادث والثار إلى ثلث طوائف فأهل السنة والجماعة ذهبوا إلى إمكانه في جانب‬
‫الماضي والمستقبل جميعًا بل فارق"‪.‬‬
‫ومعنى كلم هؤلء أن ال تعالى لم ينفرد بالوحدانية في الزل‪ ،‬وأنه لم يخلق‬
‫الشياء من عدم!‪ ،‬فعملية الخلق بالنسبة لهؤلء إنما هي مجرد عملية تحويل للشياء من‬
‫حالة إلى أخرى‪ ،‬وعملية التحويل هذه مستمرة منذ الزل!‪ .‬وفي هذا سلب لصفة إنفراد‬
‫ال تعالى بالزلية‪ ،‬وفيه إثبات لقدم أصل المخلوقات مع ال مما يؤدي إلى إثبات شريك‬
‫ل في القدم مما يترتب عليه إثبات شريك له في الربوبية‪ ،‬فطالما تساويا في القدم فل‬
‫يوجد مرجح لقدرة أحدهما على الخر إل بمرجح خارجي‪ ،‬مما يستلزم تعدد اللهة أو أن‬
‫يكون ال تعالى مخلوقًا لخر أعطاه القدرة على أصل العالم‪.‬‬
‫ابن تيمية "منهاج السنة" ج ‪1‬ص ‪.360‬‬ ‫‪517‬‬

‫ابن تيمية "نقد مراتب الجماع على هامش مراتب الجماع لبن حزم" ص ‪.36-33‬‬ ‫‪518‬‬

‫ابن عبد العّز "شرح العقيدة الطحاوية" ج ‪1‬ص ‪.205-202‬‬ ‫‪519‬‬

‫محمد خليل هراس "شرح القصيدة النونية" ج ‪1‬ص ‪.173‬‬ ‫‪520‬‬

‫نفس المصدر ج ‪1‬ص ‪.175‬‬ ‫‪521‬‬


‫وابن تيمية يقرر في كلمه السابق أن عقيدة قدم أصل العالم‪ ،‬قد استمده من‬
‫فلسفة اليونان!‪ ،‬بيد أن السؤال المطروح هو عن أي نوع من الفلسفة يتحدث ابن‬
‫تيمية؟ فالفلسفة اليونان ينقسمون إلى فريقين‪ ،‬الفريق الول هم الفلسفة القدماء أو الذين‬
‫يعرفون بالحكماء السبعة "تاليس الملطي‪ ،‬أناكسوغورس‪ ،‬وانكسيمانس‪ ،‬وانبادوقليس‪،‬‬
‫وفيثاغورس‪ ،‬وسقراط‪ ،‬وأفلطون"‪ ،‬وهؤلء كانت فلسفتهم فلسفة خرافية ل عقلية‪،‬‬
‫والفريق الثاني من الفلسفة هم أصحاب الفلسفة العقلية ومؤسس هذه الفلسفة العقلية هو‬
‫أرسطوطاليس‪ ،‬وسار طلبة أرسطو على منواله في تعاطي الفلسفة العقلية إلى أن أصيبت‬
‫المبرطورية الرومانية بالنهيار العسكري والقتصادي والجتماعي الذي كان من‬
‫تداعيات فشل حملة السكندر المقدوني‪ ،‬وأصيبت الساحة الفكرية اليونانية بحالة من‬
‫النحطاط‪ ،‬فظهر في هذه المرحلة رجل يهودي! يدعى إفلوطين‪ ،‬وقام بإعاد قراءة‬
‫للفلسفة اليونانية بطريقة خرافية تلمودية‪ ،‬ألغى فيها الفلسفة الرسطية‪ ،‬واعتمد على‬
‫فلسفة فيثاغورث اللعقلية‪ ،‬فأخرج مزيجًا من الفلسفة والخرافة صارت تعرف فيما بعد‬
‫بـ"الفلسفة الهرمسية" نسبة إلى هرمس )المثلث بالعلوم والحكمة( الذي يعتبر الله )أحد‬
‫آلهة اليونان أو الله طوط المصري(‪ ،‬أو الناطق باسم الله )هرمس= نبي= إدريس‬
‫‪ ،(‬وهي بجانب إحيائها لفلسفة فيثاغورث اللعقلية امتزجت فيها أيضًا الخرافات‬
‫التلمودية‪ ،‬والميثلوجيا النجيلية‪ ،‬والموروث الزرادشتي والهندي القديم)‪.(522‬‬
‫هذا الفكر الهرمسي الذي نشأ في القرنين الثاني والثالث الميلديين في‬
‫السنكدرية‪ ،‬انتقل بعد ذلك إلى حّران بالشام‪ ،‬وأصبحت حّران بذلك مركزًا للهرمسية‬
‫العالمية‪ ،‬وظلت على مر القرون بؤرة لتصدير الفكر الهرمسي إلى أرجاء البسيطة‪،‬‬
‫واستطاع هذا الفكر الهرمسي أن يخترق جميع المدارس الفكرية‪ .‬حتى المدارس‬
‫السلمية لم تسلم منه‪ ،‬حيث تسرب إلى الفكر السلمي بإجازة ورضى من الدولة‬
‫الموية‪ ،‬خاصة أيام خالد بن يزيد بن معاوية كما بيناه في المقدمة‪.‬‬
‫وحّران هذه هي نفس البلد الذي نشأ وترعرع فيه ابن تيمية إمام أهل الحديث في‬
‫القرنين السابع والثامن الهجريين‪ ،‬فقد ولد الرجل في بيئة هرمسية تسيطر عليها‬
‫الهرمسية الشراقية المتمثلة في الجماعات الصوفية ذات الفكر الحلولي والتحادي‪ ،‬لكن‬
‫خلفيته المعرفية الحنبلية دفعته بقوة للثورة ضد مظاهر التصوف الخرافي‪ ،‬مما جعله في‬
‫حالة صدام مستمر مع قوى التصوف الغنوصية‪ ،‬هذا الصدام اضطر ابن تيمية إلى‬
‫اللجوء للفلسفة في محاولة لنقض بنيان الفكر الصوفي الهرمسي‪ ،‬بيد أن الفلسفة المتاحة‬
‫لبن تيمية في حّران بؤرة الهرمسية لم تكن سوى الهرمسية نفسها!‪.‬‬
‫ونتيجة للعداء التاريخي بين الفلسفة الرسطية العقلية وبين أهل الحديث لم يستطع‬
‫ابن تيمية التفاعل اليجابي مع العقلنية الرسطية‪ ،‬بل وقف منها موقفًا سلبيًا محاربًا‬
‫دفعه إلى وصف أرسطو وأتباعه بالشرك وممارسة السحر!‪ ،‬حيث يقول فيهم‪" :‬كما كان‬
‫أرسطو وقومه من اليونان مشركين يعبدون الصنام ويعانون السحر‪ ،‬ولهم في ذلك‬

‫محمد عابد الجابري "تكوين العقل العربي" الفصل السابع من الكتاب‪ .‬بتصّرف‪.‬‬ ‫‪522‬‬
‫مصنفات وأخبارهم مشهورة‪ ،‬وآثارهم ظاهرة بذلك")‪ .(523‬واستقراء فكر أرسطو يؤكد‬
‫على إقرار الرجل بوجود إله واحد أسماه "واجب الوجود"‪ ،‬وأن هذا الواجب الوجود‬
‫يلزم أن يكون واحدًا فقط‪ ،‬وأنه محرك العالم‪ ،‬وأن علمه ذاتي غيرمكتسب‪ ،‬وأن بقية‬
‫الموجودات حادثة محتاجة إلى "الواجب الوجود")‪ ،(524‬إلى غير ذلك من أفكار تفيد‬
‫وصول الرجل عن طريق التفكر في ملكوت ال إلى وجود ال عز وجل‪ ،‬وذلك ليس‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ت‬ ‫ل ِفي ال ّ‬
‫قا ّ‬‫خَل َ‬
‫ف الّلْيِل َوالّنَهاِر َوَما َ‬
‫ل ِ‬
‫خِت َ‬ ‫بمستغرب فال تعالى يقول‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِفي ا ْ‬
‫ن{ يونس‪ ،6 :‬فاتهام ابن تيمية لرسطو بعبادة الصنام يدور‬ ‫ت ّلَقْوٍم َيّتُقو َ‬
‫ض لَيا ٍ‬
‫َواَلْر ِ‬
‫في نفس دوامة اتهام المخالف بالنحراف والكفر والبدعة‪ ،‬وعبدة الصنام هم في الحقيقة‬
‫قدماء الفلسفة اليونان الذين يعتقدون تعدد اللهة‪ ،‬وهؤلء هم أئمة الهرامسة الذين‬
‫تسرب فكرهم إلى أهل الحديث‪ ،‬وجعلهم يبتدعون القول بقدم أصل العالم‪.‬‬
‫وهناك بعض تلمذة ابن تيمية الذين انتقدوا قوله بقدم أصل العالم كالألباني الذي‬
‫ل إثبات حوادث ل أول‬ ‫قال‪" :‬ولقد أطال ابن تيمية رحمه ال في رده على الفلسفة محاو ً‬
‫لها‪ ،‬وجاء في أثناء كلمه بما تحار فيه العقول‪ ،‬ول تقبله أكثر القلوب ‪ ...‬كما يقول هو‬
‫وغيره بتسلسل الحوادث إلى ما ل نهاية‪ ،‬فذلك القول منه غير مقبول‪ ،‬بل هو مرفوض‬
‫بهذا الحديث‪ ،‬وكم كنا نود أن ل يلج ابن تيمية رحمه ال هذا المولج‪ ،‬لأن الكلم به شبيه‬
‫بالفلسفة وعلم الكلم")‪.(525‬‬
‫ج عليم اللسان ل تقر‬ ‫ف عنا فإنك ِمحجا ٌ‬ ‫والذهبي الذي قال له‪" :‬يا رجل بال عليك ك ّ‬
‫ول تنام‪ ،‬إياكم والغلوطات في الدين‪ ،‬كِره نبيك محمد ‪ ‬المسائل وعابها ونهى عن‬
‫كثرة السؤال وقال‪" :‬إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"‪ ،‬وكثرة‬
‫الكلم بغير دليل تقسي القلب إذا كان في الحلل والحرام‪ ،‬فكيف إذا كان في عبارات‬
‫اليونسية والفلسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب؟ وال قد صرنا ضحكة في الوجود‪،‬‬
‫فإلى كم تنّبش الكفريات الفلسفية لنرّد عليها بعقولنا‪ ،‬يا رجل قد بلعت سموم الفلسفة‬
‫وتصنيفاتهم مرات‪ .‬وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم‪ ،‬وتكمن وال في البدن ‪...‬‬
‫يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والنحلل لسيما إذا كان قليل العلم والدين‬
‫باطوليا شهوانيًا ‪ ...‬فهل معظم أتباعك إل قعيد مربوط خفيف العقل أو عاّمي كذاب بليد‬ ‫ً‬
‫‪526‬‬
‫الذهن") (‪.‬‬
‫‪ 523‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪ 4‬ص ‪.161‬‬
‫‪ 524‬الشهرستاني "الملل والنحل" ج ‪2‬ص ‪ .462-444‬إل أن أرسطو كفر حين قال أن رب‬
‫الكون تخلى عنه بعدما خلقه‪.‬‬
‫‪ 525‬ناصر الدين اللباني "سلسلة الحاديث الصحيحة" ج ‪1‬ص ‪ 108‬عند الكلم على الحديث‬
‫رقم ‪.133‬‬
‫‪ 526‬الرسالة معروفة باسم "النصيحة الذهبية"‪ ،‬وأصل المخطوطة محفوظ بدار الكتب‬
‫المصرية برقم )‪ 18823‬ب( ودار الكتب الظاهرية بدمشق برقم ) ‪ .(1347‬وقد ذكر‬
‫شعيب الرنؤوط محقق كتاب "سير أعلم النبلء" للذهبي في مقدمة الكتاب ج ‪1‬ص ‪38‬‬
‫بثبوت هذه الرسالة حين قال‪" :‬ومع أن الذهبي قد خالف رفيقه وشيخه )في مسائل أصلية‬
‫وفرعية( وأرسل إليه نصيحته الذهبية التي يلومه وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها‪ ،‬إل‬
‫أنه ل ريب قد تأثر به تأثرا ً عظيمًا"‪.‬‬
‫القتباس من الجن والحيوانات‪:‬‬
‫استمرارًا من أهل الحديث في استغفال أتباعهم‪ ،‬وإمعانًا منهم في إغراق المة في‬
‫عالم الخرافات الهرمسية‪ ،‬لفق غلة أهل الحديث قصصًا أسطورية تزعم استماعهم للجن‬
‫وللحيوانات والحشرات‪ ،‬وأن هذه المخلوقات توافقهم على عقيدة التجسيم‪ .‬في هذا الطار‬
‫يذكر ابن القيم قصة خرافية ملخصها أن أحد الجن دخل الحمام وقال‪:‬‬
‫أرضي عنه من علىالعرش أم‬ ‫كيف تهدأ جفون من‬
‫‪527‬‬
‫ل) (‬ ‫ليس يدري‬
‫وقال أحمد بن نصر الخزاعي‪" :‬رأيت مصابًا بالصرع قد وقع‪ ،‬فقرأت في أذنه‪،‬‬
‫فكلمتني الجنية من جوفه‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أبا عبد ال ‪ ،‬دعني أخنقه‪ ،‬فإنه يقول‪ :‬القرآن‬
‫مخلوق")‪.(528‬‬
‫وقال عبدال بن المهاجر‪" :‬دخل السجن على أبي عبدال شاب بعد ضربه‪ ،‬ومعه‬
‫قارورة فيها ماء رائحته ريح المسك‪ ،‬وقد هاج عليه الضرب في اليوم الثالث وصعب‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأتاه الشاب‪ ،‬فقال‪ :‬أقسمت عليك بال إل مكنتني من علجك‪ ،‬فتركه أبو عبدال‪،‬‬
‫ن تبع الشاب‪،‬‬ ‫فصب عليه ذلك الماء ومسحه‪ .‬فهدأ الضرب وسكن‪ .‬فلما رأى ذلك السجا ُ‬
‫فقال‪ :‬لو أعطيتني من هذا الماء؟ فقال‪ :‬إن ذلك ل يستقيم‪ ،‬إنه من ماء الجنة‪ ،‬أنزله لعقبه‬
‫آدم بأرض الهند‪ ،‬وأنا من سكان ذلك المكان من الجن‪ ،‬ثم غاب عن عينه‪ ،‬فأقبل السجان‬
‫مذعورًا")‪.(529‬‬
‫وكيف للنسان أن يرى أو يسمع الجن وال تعالى يقول‪َ} :‬يا َبِني آَدَم َل َيْفِتَنّنُكُم‬
‫سْوَءاِتِهَما ِإّنُه َيَراُكْم‬ ‫سُهَما ِلُيِرَيُهَما َ‬
‫عْنُهَما ِلَبا َ‬
‫ع َ‬ ‫جّنِة َينِز ُ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ج َأَبَوْيُكم ّم َ‬‫خَر َ‬‫ن َكَما َأ ْ‬‫طا ُ‬ ‫الشّْي َ‬
‫ن{العراف‪:‬‬ ‫ن َل ُيْؤِمُنو َ‬
‫ن َأْوِلَياء ِلّلِذي َ‬
‫طي َ‬
‫شَيا ِ‬
‫جَعْلَنا ال ّ‬‫ث َل َتَرْوَنُهْم ِإّنا َ‬ ‫حْي ُ‬‫ن َ‬ ‫ُهَو َوَقِبيُلُه ِم ْ‬
‫‪ ،27‬إن القدرة على رؤية وتكليم الجن لم تثبت لحد من البشر إل لسليمان ‪ ‬الذي‬
‫ب ِلي‬ ‫غِفْر ِلي َوَه ْ‬ ‫طلب من ال تعالى أن يعطيه ملكًا ل ينبغي لحد من بعده }َقاَل َربّ ا ْ‬
‫ب{ ص‪ ،35 :‬فلبى ال تعالى طلبه‬ ‫ت اْلَوّها ُ‬ ‫ك َأن َ‬ ‫ن َبْعِدي ِإّن َ‬‫حٍد ّم ْ‬‫ُملًْكا ّل َينَبِغي َِل َ‬
‫غّوا ٍ‬
‫ص‬ ‫ن ُكّل َبّناء َو َ‬
‫طي َ‬
‫شَيا ِ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫صا َ‬‫ث َأ َ‬
‫حْي ُ‬
‫خاء َ‬ ‫جِري ِبَأْمِرِه ُر َ‬ ‫ح َت ْ‬‫خْرَنا َلُه الّري َ‬ ‫سّ‬ ‫}َف َ‬
‫صَفاِد{ص‪ ،38-36 :‬فل يمكن لحد من البشر غيره أن يحوز‬ ‫ن ِفي اَْل ْ‬ ‫ن ُمَقّرِني َ‬‫خِري َ‬ ‫َوآ َ‬
‫على هذا المر‪.‬‬
‫قال الشيخ أبو محمد عبدال بن بركة‪" :‬من قال‪ :‬إن الجن يراهم بنو آدم‪،‬‬
‫ويكلمونهم‪ ،‬وأن السحرة ينقلبون حمامًا‪ ،‬فإن تاب وإل بريء منه‪ ،‬ول يجوز لحد أن‬
‫يقول‪ :‬أن أحدًا من بني آدم يرى إبليس –لعنه ال‪ -‬لن ال تعالى يقول‪ِ } :‬إّنُه َيَراكُْم ُهَو‬
‫ث َل َتَرْوَنُهْم{العراف‪ ،27 :‬وال أعلم")‪.(530‬‬ ‫حْي ُ‬‫ن َ‬‫َوَقِبيُلُه ِم ْ‬
‫ابن القيم "اجتماع الجيوش السلمية" ص ‪.294-293‬‬ ‫‪527‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.78‬‬ ‫‪528‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.187‬‬ ‫‪529‬‬

‫جميل بن خميس السعدي "قاموس الشريعة" ج ‪6‬ص ‪.330-329‬‬ ‫‪530‬‬


‫حتى النبي ‪ ‬لم يثبت تكليمه للجن‪ ،‬بل ثبت في الكتاب العزيز خلفه حيث يقول‬
‫جًبا{ الجن‪،1 :‬‬ ‫عَ‬ ‫سِمْعَنا ُقْرآًنا َ‬‫ن َفَقاُلوا ِإّنا َ‬‫جّ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫سَتَمَع َنَفٌر ّم َ‬ ‫ي َأّنُه ا ْ‬
‫ي ِإَل ّ‬‫تعالى‪ُ} :‬قْل ُأو ِ‬
‫حَ‬
‫فالرسول ‪ ‬لم يكلم الجن‪ ،‬وإنما أوحى ال إليه أن الجن قد سمعوا القرآن‪ ،‬وآمنوا به‪،‬‬
‫ضُروُه َقاُلوا‬‫ح َ‬ ‫ن َفَلّما َ‬‫ن اْلُقْرآ َ‬‫ن َيسَْتِمُعو َ‬
‫جّ‬ ‫ن اْل ِ‬ ‫ك َنَفًرا ّم َ‬ ‫وكذلك قوله تعالى }َوِإْذ َ‬
‫صَرْفَنا ِإَلْي َ‬
‫ن{ الحقاف‪ 30 :‬ليس فيه شيء من التكليم‬ ‫ي َوّلْوا ِإَلى َقْوِمِهم ّمنِذِري َ‬ ‫ضَ‬‫َأنصُِتوا َفَلّما ُق ِ‬
‫بين الرسول ‪ ‬وبين الجن‪ ،‬وما يروى عن ابن مسعود من قصة خطاب الرسول للجن‬
‫في الوادي)‪ ،(531‬ل يثبت لمخالفته نصوص الكتاب المسطور "القرآن العظيم"‪.‬‬
‫وقد أجاد التابعي الكبير المام جابر بن زيد حين احال قضية تكليم النبي ‪ ‬للجن‬
‫إلى عالم الغيب‪ ،‬حيث قال‪" :‬يروى عن عبدال بن مسعود ليلة الجن في إجازة النبي ‪‬‬
‫له أن يتوضأ بالنبيذ‪ .‬قد سمعت جملة من الصحابة يقولون‪ :‬ما حضر ابن مسعود تلك‬
‫الليلة‪ ،‬والذي رفع عنه كذب‪ ،‬وال أعلم بالغيب")‪ ،(532‬فهو يؤكد أن ما نسب إلى ابن‬
‫مسعود رضي ال عنه غير صحيح‪ ،‬وفي نفس الوقت يرشد المة إلى أن قضية الجن‬
‫هي من قضايا الغيب التي ل يقطع فيها إل بالدليل القطعي الذي يمثله النص القطعي‬
‫المتواتر في ثبوته ودللته من الكتاب أو السنة المتواترة التي ل يشك في تواترها‪ ،‬أو‬
‫النقل القطعي من الواقع والحس والمشاهدة‪.‬‬
‫وكلم المام جابر بن زيد موافق لكلم شيخه وأستاذه عبدال بن عباس الذي قال‪:‬‬
‫"ما قرأ رسول ال ‪ ‬على الجن ول رآهم")‪ ،(533‬وقال أيضًا‪" :‬وإنما أوحي إليه قول‬
‫الجن")‪.(534‬‬
‫ولو جئنا لكتاب ال المنظور "الكون"‪ ،‬ودققنا في سننه التي شاء ال تعالى أن ل‬
‫سّنِة ا ِّ‬
‫ل‬ ‫جَد ِل ُ‬
‫ت ِمن َقْبُل َوَلن َت ِ‬ ‫خَل ْ‬
‫ل اّلِتي َقْد َ‬ ‫سّنَة ا ِّ‬ ‫تتغير ول تتحول‪ ،‬كما قال عز وجل‪ُ } :‬‬
‫ل{‬‫حِوي ً‬ ‫ل َت ْ‬
‫سّنتِ ا ِّ‬‫جَد ِل ُ‬‫ل وََلن َت ِ‬‫ل َتْبِدي ً‬ ‫ت ا ِّ‬‫سّن ِ‬ ‫ل{ الفتح‪ ،23 :‬وقال‪َ} :‬فَلن َت ِ‬
‫جَد ِل ُ‬ ‫َتْبِدي ً‬
‫فاطر‪ ،43 :‬فإننا نجد أن طبائع الجن تختلف عن طبائع النس‪ ،‬فعالم الجن يدخل ضمن‬
‫دائرة الغيب التي ل يعلمها إل ال تعالى‪ ،‬ولم تصل علوم البشر الكونية إلى الدرجة التي‬
‫تؤهلهم للتواصل مع الجن‪.‬‬
‫واستخفاف غلة أهل الحديث بعقل المة جعلهم يستدلون بقصص خرافية تزعم‬
‫بأن الحشرات توافقهم على عقيدتهم الهرمسية‪ ،‬من ذلك ما ذكره أحمد بن حنبل من أن‬
‫وكيع حدثه‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال‪ :‬خرج سليمان‬
‫بن داود عليهما السلم يستسقي بالناس فمر على نملة مستلقية على قفاها‪ ،‬رافعة أحد‬
‫قوائمها إلى السماء وهي تقول‪ :‬اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك‪ ،‬فإما أن‬

‫ابن خزيمة برقم ‪ ،82‬الترمذي ‪.3271‬‬ ‫‪531‬‬

‫مسند الربيع برقم ‪.165‬‬ ‫‪532‬‬

‫رواه البيهقي في دلئل النبوة‪ ،‬نقله ابن كثير في تفسيره ج ‪4‬ص ‪.176‬‬ ‫‪533‬‬

‫البخاري ‪ 773‬و ‪.4921‬‬ ‫‪534‬‬


‫تسقينا أو تهلكنا")‪ .(535‬وهذه القصة الهرمسية وراءها راٍو ضعيف صاحب مناكير هو‬
‫زيد العمي)‪.(536‬‬
‫وفي نفس سياق التضليل العلمي الذي يمارسه غلة أهل الحديث يقول ابن‬
‫القيم‪" :‬وفي هذا الباب قصة حمر الوحش المشهورة التي ذكرها غير واحد‪ ،‬إنها انتهت‬
‫إلى الماء لترده فوجدت الناس حوله فتأخرت عنه فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى‬
‫السماء وجأرت إلى ال سبحانه بصوت واحد‪ ،‬فأرسل ال سبحانه عليها السماء بالمطر‬
‫حتى شربت وانصرفت")‪.(537‬‬
‫وهذه القصة ربما تكون مشهورة عند أصحاب الفكر الهرمسي‪ ،‬بيد أن العقل‬
‫السوي الذي نحتته نصوص القرآن الكريم وشكلته الفطرة السلمية الصافية ل يمكن أن‬
‫يقبلها لمخالفتها القوانين والسنن الكونية التي أثبت القرآن العظيم ثباتها وعدم تحولها‪،‬‬
‫فالحمير وبقية الحيوانات ل يمكن معرفة منطقها إل بمعجزة كالتي أعطاها ال تعالى‬
‫طْيِر َوُأوِتيَنا‬‫ق ال ّ‬ ‫ط َ‬ ‫عّلْمَنا َمن ِ‬ ‫س ُ‬‫ن َداُووَد َوَقاَل َيا َأّيَها الّنا ُ‬ ‫سَلْيَما ُ‬‫ث ُ‬ ‫لنبيه سليمان ‪َ} ‬وَوِر َ‬
‫ن{ النمل‪ ،16 :‬أو علم كوني لم تتوصل العلوم‬ ‫ضُل اْلُمِبي ُ‬ ‫ن َهَذا َلُهَو اْلَف ْ‬ ‫يٍء ِإ ّ‬‫ش ْ‬
‫ِمن ُكّل َ‬
‫البشريه إليه‪.‬‬
‫ولم ينس غلة أهل الحديث في خضم الدعاية العلمية لترويج فكرتهم الستدلل‬
‫بأقوال البقر‪ ،‬حيث يقول ابن القيم‪" :‬قال الرسول ‪" :‬أكرموا البقر فإنها سيدة البهائم‪،‬‬
‫ما رفعت طرفها إلى السماء حياء من ال ‪-‬عز وجل‪ -‬منذ عُِبَد العجل" ‪ ...‬والمقصود أن‬
‫هذه فطرة ال التي فطر عليها الحيوان‪ ،‬حتى أبلد الحيوان الذي نضرب ببلدته المثل‬
‫وهو البقر")‪ ،(538‬فإن كان الواجب تقديس البقر‪ ،‬لماذا التشنيع على الهندوس عباد‬
‫البقر؟!‪.‬‬
‫وروايات الحمير والنمل والبقر الخرافية تظهر عليها بصمات أهل الكتاب‪ ،‬فرب‬
‫حِمُلوَها َكَمَثِل‬ ‫حّمُلوا الّتْوَراَة ُثّم َلْم َي ْ‬‫ن ُ‬ ‫العالمين شبههم بالحمير حين قال فيهم‪َ} :‬مَثُل اّلِذي َ‬
‫ل َل َيْهِدي اْلَقْوَم‬ ‫ل َوا ُّ‬‫ن َكّذُبوا ِبآَياتِ ا ِّ‬ ‫س َمَثُل اْلَقْوِم اّلِذي َ‬‫سَفاًرا ِبْئ َ‬‫حِمُل َأ ْ‬‫حَماِر َي ْ‬
‫اْل ِ‬
‫ن{الجمعة‪ ،5:‬والنملة كانت لها قصة مع جيش سليمان ‪ ‬وهو نبي من أنبياء‬ ‫ظاِلِمي َ‬
‫ال ّ‬
‫ساِكَنُكْم َل‬‫خُلوا َم َ‬ ‫ت َنْمَلٌة َيا َأّيَها الّنْمُل اْد ُ‬
‫عَلى َواِدي الّنْمِل َقاَل ْ‬ ‫حّتى ِإَذا َأَتْوا َ‬‫بني إسرائيل } َ‬
‫ن{النمل‪ ،18 :‬والبقرة هي الله الذي عبده بنو‬ ‫شُعُرو َ‬‫جُنوُدُه َوُهْم َل َي ْ‬ ‫ن َو ُ‬‫سَلْيَما ُ‬‫طَمّنُكْم ُ‬‫حِ‬‫َي ْ‬
‫سًدا ّلُه‬
‫ج َ‬ ‫ل َ‬ ‫جً‬ ‫عْ‬ ‫حِلّيِهْم ِ‬
‫ن ُ‬‫سى ِمن َبْعِدِه ِم ْ‬ ‫خَذ َقْوُم ُمو َ‬ ‫إسرائيل! قال تعالى‪َ} :‬واّت َ‬
‫خَواٌر{العراف ‪.148‬‬ ‫ُ‬

‫‪ 535‬مصنف ابن أبي شيبة ‪ 29487‬و ‪ ،34273‬وابن القيم "إجتماع الجيوش" ص ‪.297‬‬
‫‪ 536‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪2‬ص ‪.102‬‬
‫‪ 537‬ابن القيم "اجتماع الجيوش السلمية" ص ‪.297-296‬‬
‫‪ 538‬ابن القيم "اجتماع الجيوش السلمية" ص ‪ .297‬قال محقق كتاب ابن القيم معلقا ً على‬
‫هذه القصة‪" :‬ذكره ابن الجوزي في الموضوعات )‪ (3/3‬ثم قال‪ :‬هذا الحديث موضوع‪،‬‬
‫والمتهم به عبدالله بن وهب النسوي‪ ،‬قال ابن حبان‪ :‬كان دجال ً يضع الحديث على الثقات‪،‬‬
‫ل يحل ذكره إل على سبيل القدح فيه"‪.‬‬
‫يقول زاهد الكوثري معلقًا على اقتباس غلة أهل الحديث من أصحاب الملل‬
‫المنحرفة‪" :‬والحشوية يجرون على طيشهم وعمايتهم واستتباعهم الرعاع والغوغاء‪،‬‬
‫ويتقولون في ال ما ل يجوزه الشرع ول العقل من إثبات الحركة له والنقلة والحد‬
‫والجهة والقعود والقعاد والستلقاء والستقرار إلى نحوها‪ ،‬تلقوه بالقبول من دجاجلة‬
‫الملبسين من الثنوية وأهل الكتاب‪ ،‬ومما ورثوه من أمم قد خلت‪ ،‬ويؤلفون في ذلك كتبًا‬
‫يملونها بالوقيعة في الخرين‪ ،‬ويخرقون حجاب الهيبة في الكفار")‪.(539‬‬

‫التجسيفم)‪(540‬‬ ‫عقيفدة‬
‫بيّنا سابقًا أن منهج أهل الحديث يقوم على الخذ بظواهر اللفاظ والسطحية في‬
‫التعامل مع النصوص المتمثلة في النظرة الجزئية المنسلخة عن الطار العام الذي‬
‫ترسخه القواعد الكّلية‪ ،‬وهذا المنهج النصوصي الجزئي ل يتوقف على نصوص اأحكام‬
‫فقط بل يتجاوزه إلى النصوص التي تتعلق بعقيدة التوحيد‪ ،‬ويلخص لنا ابن تيمية هذا‬
‫المنهج بالقول "فمذهب السلف رضوان ال عليهم‪ :‬إثبات الصفات وإجراؤها على‬
‫ظاهرها")‪ ،(541‬ويستطرد صالح الفوزان في التعبير عن هذا المنهج بالقول "اليمان‬
‫بصفاته التي وصف نفسه بها في كتابه أو وصفه بها رسوله في سنته وذلك بأن نثبتها له‬
‫كما جاءت في الكتاب والسنة بألفاظها ومعانيها من غير تحريف للفاظها ول تعطيل‬
‫لمعانيها")‪.(542‬‬
‫والشكال في هذه المنهج النصوصي التجزيئي الظاهري يتمثل في فشله في‬
‫ن ُأّم‬
‫ت ُه ّ‬
‫حَكَما ٌ‬
‫ت ّم ْ‬
‫ب ِمْنُه آَيا ٌ‬
‫ك اْلِكَتا َ‬
‫عَلْي َ‬ ‫التعامل مع النصوص المتشابهة }ُهَو اّلِذ َ‬
‫ي َأنَزَل َ‬
‫ت{ آل عمران‪ ،7 :‬فإن إجراء هذه "النصوص المتشابهة" على‬ ‫شاِبَها ٌ‬
‫خُر ُمَت َ‬
‫ب َوُأ َ‬
‫اْلِكَتا ِ‬
‫ل بها إلى‬
‫ظاهرها دون محاولة لتأويلها بما يتناسب وانسجام النصوص وتناغمها وصو ً‬
‫التوافق والتطابق والحكام "النصوص المحكمة" يؤدي إلى إشكالت نصية كبيرة أدت‬
‫بغلة أهل الحديث إلى انتحال عقيدة التجسيم‪.‬‬
‫وقد وصل الغلو والتطرف ببعض أهل الحديث في عقيدة التشبيه والتجسيم إلى‬
‫درجة وصفهم من يسكت عن اليات المتشابهات ويفوض معانيها إلى ال تعالى‬
‫بالزندقة!‪ ،‬فحين قال ابن قدامة الحنبلي‪" :‬وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظًا وترك‬

‫‪ 539‬زاهد الكوثري مقدمة كتاب "تبيين كذب المفتري" ص ‪.14‬‬


‫‪ 540‬التجسيم هو وصف الله تعالى بصفات الجسام‪ ،‬كوصفه بشغل حيز من الفراغ‪ ،‬ووصفه‬
‫بالجوارح والعضاء كالقول بأن له وجها ً ويدا ً وعينا ً وجنبا ً وساقًا‪.‬‬
‫‪ 541‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪4‬ص ‪.6‬‬
‫‪542‬صالح الفوزان "شرح العقيدة الواسطية" ص ‪.15‬‬
‫التعرض لمعناه‪ ،‬ونرد علمه إلى قائله")‪ ،(543‬رد عليه محمد بن إبراهيم آل الشيخ مشنعاً‬
‫ل‪" :‬أما ما ذكره في )اللمعة( فإنه ينطبق على مذهب المفوضة‪ ،‬وهو‬ ‫عليه هذه العبارة قائ ً‬
‫‪544‬‬
‫من شر المذاهب وأخبثها") (‪.‬‬
‫وهذا التعامل الخشن مع النصوص جعلهم يتوهمون أن ل تعالى‪:‬‬
‫‪-1‬صورة تشبه صورة النسان‪ ،‬وطوله ستون ذراعًا‪ :‬حيث رووا أن النبي ‪‬‬
‫قال‪" :‬خلق ال عز وجل آدم على صورته وطوله ستون ذراعًا")‪ .(545‬ورووا أنه ‪‬‬
‫قال‪" :‬ل تقبحوا الوجه‪ ،‬فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن")‪.(546‬‬
‫هذه الرواية التوراتية الصل ردها عقلء المسلمين من أول وهلة‪ ،‬فحين قيل‬
‫لبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة أن مقاتل بن سليمان يقول‪ :‬إن ال خلق آدم على صورته‪.‬‬
‫قال أبو عبيدة‪ :‬كذب مقاتل)‪.(547‬‬
‫‪-2‬أنه على صورة شاب أمرد ذو شعر أجعد ويلبس ملبس حمراء وخضراء‪:‬‬
‫فهم يروون من طريق عكرمة أن الرسول ‪ ‬قال‪" :‬رأيت ربي عز وجل شابًا أمرد‬
‫جعد قطط عليه حلة حمراء")‪ ،(548‬ومن طريق عكرمة أيضًا أنه قال‪" :‬رأيت ربي عز‬
‫وجل في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط عليه حلة خضراء")‪ ،(549‬ويروون كذلك‬
‫من طريق عكرمة أن الرسول ‪ ‬قال‪" :‬دخلت على ربي في جنة عدن شاب جعد في‬
‫ثوبين أخضرين")‪ ،(550‬ويروون كذلك من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه سئل هل‬
‫رأى محمد ربه؟ قال‪" :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬كيف رآه؟ قال‪ :‬في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ‪،‬‬
‫كان قدميه في خضرة")‪ ،(551‬رواية أخرى أنه ‪" ‬رأى رب العالمين عز وجل في‬
‫حظيرة من القدس في صورة شاب عليه تاج يلتمع البصر")‪ ،(552‬ورواية أخرى أنه "رآه‬

‫‪ 543‬ابن قدامة الحنبلي "لمعة العتقاد" ص ‪.31‬‬


‫‪ 544‬نقله محقق كتاب "لمعة العتقاد" لبن قدامة الحنبلي ص ‪.31‬‬
‫‪ 545‬البخاري ‪ .6227‬وقد جاء في العهد القديم‪ ،‬سفر التكوين الصحاح الول "فخلق الله‬
‫النسان على صورته‪ ،‬على صورة الله خلقها"!!‪.‬‬
‫‪ 546‬ابن خزيمة "التوحيد" ص ‪ ،98-97‬برقم ‪ 44‬و ‪ ،45‬وابن أبي عاصم في "السنة" برقم‬
‫‪ ،517‬والجري "الشريعة" ص ‪.314‬‬
‫‪ 547‬محمد بن إبراهيم الكندي "بيان الشرع" ج ‪3‬ص ‪.419‬‬
‫‪548‬ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪2‬ص ‪.39‬‬
‫‪ 549‬ابن أبي عاصم "السنة" ‪ 1/88‬حديث ‪ ،433‬والللكائي‪ ،‬والجري‪ ،‬وغيرهم‪ .‬راجع‬
‫تعليقات السماري على كتاب "نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.447-438‬‬
‫‪ 550‬ابن أبي عاصم "السنة" ‪ ،192-1/191‬وعبدالله بن أحمد في السنة برقم ‪،563‬‬
‫واللكائي‪ ،‬وأبو يعلى ‪ ،‬وغيرهم‪ .‬راجع تعلقات السماري على كتاب "نقض عثمان بن سعيد"‬
‫ص ‪.447-438‬‬
‫‪ 551‬الللكائي "شرح أصول التوحيد" برقم ‪ ،920‬ابن أبي عاصم ‪ 1/190‬برقم ‪ ،437‬وابن‬
‫خزيمة في التوحيد ‪ ،483-1/481‬وغيرهم‪ .‬راجع تعلقات السماري على كتاب "نقض‬
‫عثمان بن سعيد" ص ‪.447-438‬‬
‫‪ 552‬منصور السماري في تعليقه على كتاب "نقض عثمان بن سعيد على المريسي" ص‬
‫‪.445‬‬
‫على كرسي من ذهب يحمله أربعة‪ :‬ملك في صورة رجل وملك في صورة أسد وملك في‬
‫صورة ثور وملك في صورة نسر في روضة خضراء دونه فراش من ذهب")‪.(553‬‬
‫وبينما يعد من يثبت هذه الصفات مشهبًا مجسمًا عند عقلء المسلمين يعتبر غلة‬
‫أهل الحديث من ينكر هذه الروايات زنديقًا‪ ،‬حيث يقول الطبراني‪" :‬سمعت صدقة الحافظ‬
‫يقول‪ :‬من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق")‪ ،(554‬وحين اسُتأذن أحمد بن حنبل في‬
‫رواية هذه الروايات قال‪" :‬قد حّدث به العلماء‪ ،‬حّدث به")‪.(555‬‬
‫والعجيب أن عثمان الدارمي استنكر هذه الرواية وقال‪" :‬وال أعلم بعّلته‪ ،‬غير‬
‫أني استنكره جدًا لنه يعارض حديث أبي ذر أنه قال لرسول ال ‪" :‬هل رأيت ربك؟‬
‫فقال‪ :‬نور أنى أراه" ويعارضه قول عائشة رضي ال عنها‪" :‬من زعم أن محمد رأى‬
‫ربه فقد أعظم على ال الفرية")‪ ،(556‬وبذلك يكون الدارمي من الزنادقة في عرف‬
‫أصحابه من أهل الحديث!‪.‬‬
‫‪ -3‬وأن ل أسنانًا ولهاًة وشفتين‪ :‬فقد روى أهل الحديث أن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬
‫"فيتجلى لهم تبارك وتعالى حتى يضحك ‪ ...‬حتى تبدو لهاته وأضراسه")‪ ،(557‬وقال ابن‬
‫بطة وأبو يعلى‪" :‬وكذا يقال لهؤلء الجهمية المعطلة النفاة‪ :‬ما تقولون في قوله ‪:‬‬
‫"حتى تبدو لهواته وأضراسه")‪ ،(558‬وأجاب أبو عصمة حين سئل‪ :‬كيف كلم ال عز‬
‫وجل موسى ‪‬؟ بقوله‪" :‬مشافهة")‪.(559‬‬
‫‪ -4‬وأن له صدرًا وذراعين وجنبين وأصابع‪ :‬حيث روى أهل الحديث أن النبي‬
‫‪ ‬قال‪" :‬خلق ال الملئكة من نور الذراعين والصدر")‪ ،(560‬وهذا ل يعد تجسيمًا‬
‫عندهم!‪.‬‬
‫وقال الدارمي‪" :‬وأي عقوق لدم أعظم من أن يقول ال‪ :‬خلقت أباك آدم بيدي‬
‫دون من سواه من الخلئق‪ .‬فتقول‪ :‬ل‪ .‬ولكن خلقته بإرادتك دون يديك كما خلقت القردة‬
‫والخنازير والكلب والخنافس والعقارب")‪.(561‬‬

‫‪ 553‬عبدالله بن أحمد بن حنبل "السنة" ص ‪.35‬‬


‫‪ 554‬أبو يعلى "إبطال التأويلت" ‪ .1/143‬راجع تعليقات السماري على كتاب "نقض عثمان‬
‫بن سعيد" ص ‪.447-438‬‬
‫‪ 555‬ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ‪ .119-1/118‬راجع تعليقات السماري على كتاب‬
‫"نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.447-438‬‬
‫‪ 556‬عثمان الدرامي "نقض عثمان بن سعيد على المريسي" ص ‪.447‬‬
‫‪ 557‬رواه ابن مندة‪ ،‬راجع منصور السماري في تعليقه على كتاب" نقض عثمان بن سعيد"‬
‫ص ‪ ،483‬قال السماري ص ‪" :484‬والحديث صحيح وهذه اللفظة محفوظة فيه"‪.‬‬
‫‪ 558‬ابن بطة في "الرد على الجهمية" )‪ (3/111‬وأبي يعلى في "إبطال التأويلت" ص‬
‫سماري على كتاب" نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.485‬‬ ‫‪ .218-217‬راجع تعليقات ال ّ‬
‫‪ 559‬عبدالله بن أحمد بن حنبل "السنة" ص ‪.286‬‬
‫‪ 560‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪ ،475‬و عثمان الدارمي "نقض عثمان بن سعيد" ص‬
‫‪.376‬‬
‫‪ 561‬الدارمي "نقض عثمان بن سعيد على المريسي" ص ‪.97‬‬
‫وقال منصور السماري‪" :‬قد ورد عن بعض أهل العلم إثبات "الجنب" صفة‬
‫لله ‪...‬لو لم يكن سبحانه من ذوي الجنوب‪ ،‬لما جاز هذا الكلم فيه")‪ .(562‬وقالوا‪ :‬جاء‬
‫حبر يهودي إلى الرسول ‪ ‬فقال‪" :‬يا محمد إنا نجد أن ال يجعل السماوات على أصبع‬
‫والرضين على أصبع‪ ،‬والشجر على أصبع‪ ،‬والماء والثرى على أصبع‪ ،‬وسائر الخلق‬
‫على أصبع‪ .‬فيقول‪ :‬أنا الملك‪ .‬فضحك النبي ‪ ‬حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول‬
‫الحبر")‪ ،(563‬وهذه الرواية تبين أصل هذه العقيدة!‪.‬‬
‫‪ -5‬وأن له مفاصل وركبة‪ :‬حيث روى أهل الحديث‪" :‬يقول داود يوم القيامة‪:‬‬
‫ادنني‪ ،‬فيقال له‪ :‬ادنه‪ .‬فيدنو حتى يمس ركبته")‪ .(564‬بل إن عثمان الدارمي شنع على‬
‫المريسي تأويله للركبة أنها لحد المخلوقات‪ ،‬فقال الدارمي‪" :‬فلو كان لهذا المعارض من‬
‫يقطع لسانه كان قد نصحه‪ ،‬ويلك عن أي زنديق تروي هذه التفاسير ول تسميه؟ وأي‬
‫درك لداود إذا استغفر ال لذنبه‪ ،‬ولجأ إليه واستعاذ به في أن يدنيه إلى خلق سواه‪ ،‬فيمس‬
‫ركبته")‪ .(565‬ويروون كذلك أن ال تعالى "أبدى عن بعضه")‪.(566‬‬
‫‪ -6‬وأنه يشعر بالملل وأنه يمكر ويخدع ويضحك‪ :‬فبينما ينقل سلمة بن مسلم‬
‫ل‪" :‬ول يوصف ال تعالى‬ ‫العوتبي قول العقلء بعدم جواز وصف ال تعالى بالملل قائ ً‬
‫بالملل والملل والسآمة")‪ ،(567‬يقرر محمد بن صالح بن عثيمين أن ال تعالى يمل! لكن‬
‫يغطي كلمه بالقول‪" :‬ملل ال ليس كمللنا نحن بل هو ملل ليس فيه شيء من‬
‫النقص)‪.(568‬‬
‫ل‪" :‬وال ل يكون‬ ‫وبينما ينفي ابن كثير جواز وصف ال تعالى بالمكر والهزء قائ ً‬
‫منه المكر ول الهزء")‪ ،(569‬نجد ابن عثيمين يصف ال تعالى بالمكر والخداع! قائ ً‬
‫ل‬
‫"وأما الخداع فهو كالمكر يوصف ال تعالى به حين يكون مدحًا")‪ ،(570‬وذكر ذلك ابن‬
‫حال{ الخ تضمنت هذه‬ ‫تيمية في عقيدته الواسطية‪ ،‬حيث قال‪" :‬وقوله }َوُهَو َ‬
‫شِديُد اْلِم َ‬
‫اليات إثبات صفتي المكر والكيد وهما من صفات الفعل الختيارية ‪ ...‬وأما قوله }َوا ّ‬
‫ل‬
‫ن{ فمعناه أنفذهم وأسرعهم مكرًا")‪.(571‬‬‫خيُْر اْلَماِكِري َ‬
‫َ‬

‫منصور السماري في تعليقه على "نقض عثمان بن سعيد" في ص ‪.518‬‬ ‫‪562‬‬

‫البخاري ‪.4811‬‬ ‫‪563‬‬

‫عثمان بن سعيد "نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.463‬‬ ‫‪564‬‬

‫عثمان بن سعيد نفس المصدر ص ‪.464‬‬ ‫‪565‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.149‬‬ ‫‪566‬‬

‫سلمة بن مسلم العوتبي "الضياء" ج ‪2‬ص ‪.55‬‬ ‫‪567‬‬

‫محمد بن صالح بن عثيمين في "فتاوى العقيدة" ص ‪.51‬‬ ‫‪568‬‬

‫ابن كثير في تفسير الية ‪ 15‬من سورة البقرة في تفسيره ج ‪1‬ص ‪.69‬‬ ‫‪569‬‬

‫نفس المصدر ص ‪.52‬‬ ‫‪570‬‬

‫محمد خليل هراس "شرح العقيدة الواسطية" ص ‪.72‬‬ ‫‪571‬‬


‫ورووا عن النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬ضحك ال الليلة")‪ ،(572‬وأنه قال‪" :‬ضحك ربنا‬
‫من قنوط عباده وقرب غيره‪ ،‬قال أبو رزين‪ :‬أيضحك الرب يا رسول ال؟ قال‪:‬‬
‫نعم")‪.(573‬‬
‫‪ -7‬وأنه يتحرك وينزل ويهرول وتنتفض روحه‪ :‬حيث يقول محمد بن صالح بن‬
‫عثيمين‪" :‬ذكرنا في أول الكلم أن الذي ينزل هو ال نفسه")‪ ،(574‬وقال‪" :‬وأي مانع يمنع‬
‫من أن نؤمن بأن ال تعالى يأتي هرولة")‪ .(575‬ورووا أيضًا‪" :‬ثم ينزل في الساعة الثالثة‬
‫إلى السماء الدنيا بروحه وملئكته‪ ،‬وتنتفض فيقول‪ :‬قومي بعزتي")‪.(576‬‬
‫‪ -8‬وأنه يتكلم بصوت كصوت السلسلة الحديدية‪ :‬حيث نسبوا إلى الرسول ‪‬‬
‫القول‪" :‬إذا تكلم ال عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان")‪ .(577‬وقال‬
‫يعقوب بن يختان‪" :‬سئل أبو عبدال –يقصد أحمد بن حنبل‪ -‬عمن زعم أن ال عّز وجل‬
‫لم يتكلم بصوت؟ قال‪ :‬بلى يتكلم سبحانه بصوت")‪.(578‬‬
‫‪ -9‬وأنه يتنفس‪ ،‬وأن الريح هي أنفاسه‪ :‬فقد رووا أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬ل تسبوا‬
‫الريح فإنها نفس الرحمن")‪ ،(579‬وأنه قال‪" :‬اليمان يمان‪ ،‬والحكمة يمانية‪ ،‬وأجد نَفس‬
‫ربكم من قبل اليمن")‪.(580‬‬
‫‪ -10‬وأن له رجلين‪ ،‬وأنه يضع إحداهما على الخرى‪ ،‬وأنه يلبس نعاًل‪ :‬حيث‬
‫رووا عن وهب بن منبه في وصف ال تعالى أن "الكرسي كالنعل في قدميه")‪،(581‬‬
‫ورووا أيضًا"وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي")‪ .(582‬ورروا أيضاً أنه‬
‫"لما قضى ال خلقه استلقى‪ ،‬ووضع إحدى رجليه على الخرى")‪ .(583‬لعلهم أرادوا أن‬
‫يصفوه بالراحة بعد عناء الخلق!‪.‬‬
‫ونسبوا للنبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬فأما النار فل تمتلئ حتى يضع ال تبارك وتعالى‬
‫رجله‪ ،‬تقول‪ :‬قط قط قط‪ ،‬فهنالك تمتلئ")‪ ،(584‬وفي رواية "فأما النار فل تمتلئ فيضع‬

‫‪ 572‬البخاري ‪.3798‬‬
‫‪ 573‬أحمد ‪ 4/11‬و ‪ ،12‬ابن ماجه ‪.181‬‬
‫‪ 574‬محمد بن صالح بن عثيمين "فتاوى العقيدة" ص ‪.67‬‬
‫‪ 575‬نفس المصدر ص ‪.112‬‬
‫‪ 576‬ابن خزيمة "كتاب التوحيد" ص ‪ .296‬تحقيق سمير الزهيري‪.‬‬
‫‪ 577‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪ ،281‬والدارمي "نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.31‬‬
‫‪ 578‬ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.372‬‬
‫‪ 579‬النسائي "السنن الكبرى" ‪ ،6/232‬الحاكم "المستدرك على الصحيحين" ‪.2/272‬‬
‫‪ 580‬أحمد ‪ ،2/531‬ونقض عثمان بن سعيد على المريسي ص ‪.401‬‬
‫‪ 581‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪ ،477‬أبو الشيخ في "العظمة" ‪.4/1399‬‬
‫‪ 582‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.303‬‬
‫‪ 583‬الدرامي "نقض عثمان بن سعيد على المريسي" ص ‪ ،512‬ابن أبي عاصم "السنة" ‪ 249-1/248‬برقم ‪،568‬‬
‫والطبراني الكبير ‪ .19/13‬قال أبو يعلى في "إبطال التأويل" )‪" :(1/189‬قال أبو محمد الخلل هذا حديث إسناده كلهم‬
‫ثقات"‪ .‬وقد صحح اللباني هذه الرواية في "مختصر العلو" ص ‪ 98‬حيث قال‪" :‬رواته ثقات‪ ،‬رواه أبو بكر الخلل في‬
‫كتاب السنة له"‪ ،‬وأضاف في حاشية نفس الصفحة‪" :‬وذكر ابن القيم في "الجيوش السلمية" ص ‪" :34‬إسناده‬
‫صحيح على شرط البخاري"‪.‬‬
‫‪ 584‬مسلم ]‪.(2846)-36[7175‬‬
‫قدمه عليها‪ ،‬فتقول‪ :‬قط قط")‪ ،(585‬وأنه قال‪" :‬فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته‬
‫التي رأوه أول مرة‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬أنت ربنا‪ ،‬فل يكلمه إل النبياء فيقول‪:‬‬
‫هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون‪ :‬الساق‪ ،‬فيكشف عن ساقه‪ ،‬فيسجد له كل‬
‫مؤمن")‪.(586‬‬
‫‪ -11‬وأنه يجلس في جهنم‪ :‬حيث رووا "إن لجهنم سبع قناطر‪ ،‬والصراط‬
‫عليهن‪ ،‬وال عز وجل في الرابعة منهن")‪.(587‬‬
‫‪ -12‬ووصفوه بأنه يمشي في الرض ويشعر بالوحشة‪ :‬حيث رووا في وصفه‬
‫تعالى "فأصبح ربك يطوف في الرض‪ ،‬وخلت عليه البلد")‪.(588‬‬
‫وعبارة "خلت عليه البلد" تعني الشعور بالوحشة والوحدة‪ ،‬ومع فضاعة هذا‬
‫الوصف لرب العالمين فإن ابن القيم يقول معلقًا على هذه الراوية‪" :‬هذا حديث جليل‬
‫كبير‪ ،‬تنادي جللته وفخامُته وعظمُته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة")‪.(589‬‬
‫‪ -13‬ووصفوه بأنه جسم وأنه ثقيل الوزن‪ :‬حيث يقول محمد بن صالح بن‬
‫عثيمين‪" :‬إن كان يلزم من رؤية ال تعالى أن يكون جسمًا‪ ،‬فليكن ذلك")‪ ،(590‬وقالوا‪:‬‬
‫"إن الرحمن سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون‪ ،‬حتى إذا‬
‫قام المسبحون خفف عن حملة العرش")‪ ،(591‬وقالوا في تفسير قوله تعالى }ال ّ‬
‫سَماء‬
‫طٌر ِبِه{ أي‪ :‬مثقلة به")‪.!(592‬‬
‫ُمنَف ِ‬
‫‪ -14‬ووصفوه تعالى بأنه يلمس خلقه‪ :‬حيث رووا أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬أتاني‬
‫ربي في أحسن صورة ‪ ...‬فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي")‪ ،(593‬يقول‬
‫ابن بطة‪" :‬وأن ال عز وجل وضع يده بين كتفيه‪ ،‬فوجد بردها بين ثدييه‪ ،‬فعلم علم‬
‫الوليين والخريين")‪ .(594‬ويقول الدارمي‪" :‬خلق آدم بيده مسيسًا")‪ ،(595‬ورووا أيضًا‬
‫"يقول الرب عز وجل لداود أدنه حتى يضع بعضه على بعض")‪.(596‬‬
‫وقال أبو إسحاق بن شاقل البزار‪" :‬قلت لي سليمان الدمشقي‪ :‬بلغنا أنك حكيت‬
‫فضيلة الرسول ‪ ‬في ليلة المعراج‪ ،‬وقوله في الخبر "وضع يده بين كتفي‪ ،‬فوجدت‬
‫بردها‪ ،‬وذكر الحديث"‪ .‬فقال لي‪ :‬هذا إيمان ونية‪ ،‬لنه أريد مني روايته‪ ،‬وله عندي‬
‫‪ 585‬مسلم ]‪.(2846)-36[7173‬‬
‫‪ 586‬البخاري ‪ .7439‬وقد رّد مالك بن أنس هذه الروايات‪ ،‬ذكر ذلك الذهبي في ترجمة المام مالك في "سير أعلم‬
‫النبلء" ج ‪8‬ص ‪ 104-103‬حيث قال‪" :‬والحديث الذي جاء‪" :‬إن ال يكشف ساقه( و)أنه يدخل يده في جهنم حتى‬
‫يخرج من أراد( فأنكر مالك ذلك إنكارًا شديدًا‪ ،‬ونهى أن يحدث به أحد"!‪.‬‬
‫‪ 587‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.526‬‬
‫‪ 588‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪ .486‬ابن أبي عاصم "السنة" ج ‪1‬ص ‪.286‬‬
‫‪ 589‬ابن القيم"زاد المعاد في هدي خير العباد" ‪.57 -54 /3‬‬
‫‪ 590‬محمد بن صالح بن عثيمين "شرح العقيدة الواسطية" ص ‪.389‬‬
‫‪ 591‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.455‬‬
‫‪ 592‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.457‬‬
‫‪ 593‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.490‬‬
‫‪ 594‬ابن بطة العكبري "الشرح والبانة" ص ‪.275‬‬
‫‪ 595‬الدرامي "نقض عثمان بن سعيد على المريسي" ص ‪.64‬‬
‫‪ 596‬عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.507‬‬
‫سه‪ .‬فقلت له‪ :‬وكذا تقول في آدم لما خلقه بيده؟‬
‫معنى غير الظاهر‪ .‬قال‪ :‬وأنا ل أقول ًم ّ‬
‫قال‪ :‬كذا أقول‪ ،‬إن ال عز وجل ل يمس الشياء‪ .‬فقلت له‪ :‬سويت بين آدم وسواه‪،‬‬
‫فأسقطت فضيلته")‪.(597‬‬
‫‪-15‬ووصفوه بأنه يجلس ويتكئ على ظهره‪ ،‬وأنه يكتب بالقلم كالبشر‪ :‬حيث‬
‫رووا "كتب ال التوراة لموسى ‪ ‬بيده وهو مسند ظهره إلى الصخرة في ألواح من در‪،‬‬
‫فسمع صريف القلم ليس بينه وبينه إل الحجاب")‪ .(598‬وقالوا‪" :‬فقال آدم‪ :‬يا موسى‪،‬‬
‫اصطفاك ال بكلمه‪ ،‬وخط لك بيده")‪ .(599‬وقالوا‪" :‬هل يكون الستواء إل‬
‫بالجلوس؟")‪ .(600‬وقالوا‪" :‬إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط‬
‫الرحل الجديد")‪.(601‬‬
‫‪ -16‬ووصفوه بأنه يجلس النبي صلى معه على العرش ويشركه معه في‬
‫الربوبية‪:‬‬
‫حيث قالوا‪" :‬إنه ليقعد عليه جل وعز فما يفضل منه إل قيد الأصابع الربعة‪ ،‬وإن‬
‫له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب")‪.(602‬‬
‫وموضع الربعة الصابع الفاضل من العرش يعتقد هؤلء جلوس النبي ‪‬‬
‫عليه‪ ،‬حيث يقول أبو بكر النجاد‪" :‬فالذي ندين ال تعالى ونعتقده‪ :‬ما قد رسمناه وبيناه من‬
‫معاني الحاديث المسندة عن رسول ال ‪ ،‬وما قاله عبدال بن عباس ومن بعده من‬
‫ل بعد جيل‪ ،‬إلى وقت شيوخنا في تفسير قوله‬ ‫أهل العلم‪ ،‬واخذوا به كابرًا عن كابر‪ ،‬وجي ً‬
‫حُموًدا{ السراء‪ .79 :‬أن المقام المحمود هو قعوده‬ ‫ك َمَقاًما ّم ْ‬
‫ك َرّب َ‬
‫سى َأن َيْبَعَث َ‬ ‫تعالى } َ‬
‫ع َ‬
‫‪ ‬مع ربه على العرش‪ .‬وكان من جحد ذلك وتكلم فيه بالمعارضة إنما يريد بكلمه في‬
‫ذلك كلم الجهمية‪ ،‬يجانب ويباين‪ ،‬ويحذر منه‪ ،‬وكذلك أخبرني أبو بكر الكاتب عن أبي‬
‫داود السجستاني أنه قال‪ :‬من رد حديث مجاهد فهو جهمي ‪ ...‬فبذلك أقول‪ :‬ولو أن حالفًا‬
‫حلف بالطلق ثلثًا أن ال يقعد محمدًا ‪ ‬معه على العرش‪ ،‬واستفتاني في يمينه لقلت‬
‫له‪ :‬صدقت في قولك‪ ،‬وبررت في يمينك‪ ،‬وامرأتك على حالها‪ ،‬فهذا هو مذهينا وديننا‬
‫واعتقادنا وعليه نشأنا‪ ،‬ونحن عليه إلى أن نموت إن شاء ال‪ ،‬فلزم النكار على من رد‬
‫هذه الفضيلة التي قالها العلماء وتلقوها بالقبول‪ ،‬فمن ردها فهو من الفرق الهالكة")‪.(603‬‬
‫ينقل لنا أبو عبدال محمد بن حارث الخشني القيرواني )ت ‪361‬هـ( ما أحدثه‬
‫اعتقاد أهل الحديث بشأن قعود النبي ‪ ‬مع ربه على العرش من مهاترات بين أهل‬
‫ل‪ " :‬قال محمد‪ :‬قال لي بعض التجار بالقيروان‪ :‬شهدت ببغداد‬ ‫الحديث وعقلء المة قائ ً‬
‫رجلين يتناظران في تفسير المقام المحمود‪ ،‬فتقلد أحدهما أنه الجلوس مع ربه جل وعز‬
‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪2‬ص ‪.112‬‬ ‫‪597‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.294‬‬ ‫‪598‬‬

‫ابن خزيمة "التوحيد" ص ‪ .302‬تحقيق سمير الزهيري‪.‬‬ ‫‪599‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.106‬‬ ‫‪600‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.301‬‬ ‫‪601‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.305‬‬ ‫‪602‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪2‬ص ‪.10‬‬ ‫‪603‬‬


‫على العرش‪ ،‬وتقلد الخر أنه الشفاعة‪ .‬قال‪ :‬فرأيت كل واحد منهما يشيل نعله على‬
‫صاحبه‪ ،‬فهذا يقول‪" :‬يا عدو ال تستهين بال جل وعز‪ ،‬وتشبه به عبده"‪ .‬والخر يقول‪:‬‬
‫ل لكرامة ال جل وعز"‪ .‬فحكيت ذلك‬ ‫"يا عدو ال تستهين برسول ال ‪ ‬ول تراه أه ً‬
‫لمحمد بن أيمن‪ ،‬فقال لي‪ :‬شهدت أهل بغداد وقت كوني بها وقد وقعوا في هذا المعنى‪،‬‬
‫وقد تقلد أصحاب ابن حنبل أن الجلوس على العرش هو المقام المحمود‪ ،‬قال‪ :‬فعهدي‬
‫بكثير من وضاع الكتب وهم يحتالون في كتبهم فيخرجون إلى ذكر المقام المحمود‬
‫ليظهروا تقلد الجلوس على العرش‪ ،‬فيتوجهوا بذلك عند أصحاب ابن حنبل بهذا‬
‫المذهب")‪.(604‬‬
‫بل قد وصل المر بهؤلء إلى إعتقاد أن الرسول يشترك مع ال تعالى في‬
‫الربوبية في لحظة وجوده على العرش!‪ ،‬حيث يقول ابن النجاد‪" :‬وحدثنا معاذ بن المثنى‬
‫حدثنا خلد بن أسلم قال‪ :‬حدثنا محمد بن فضل عن ليث عن مجاهد كلهم قال في قول ال‬
‫عز وجل قال يجلسه معه على العرش‪ ،‬وسألت أبا يحيى الناقد ويعقوب المطوعي‬
‫وعبدال بن أحمد بن حنبل وجماعة من شيوخنا‪ ،‬فحدثوني بحديث محمد بن فضيل عن‬
‫ليث عن مجاهد‪ .‬وسألت أبا الحسن العطار عن ذلك؟ فحدثني بحديث مجاهد‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫سمعت محمد بن مصعب العابد يقول هذا‪ ،‬حتى ترى الخلئق الخلئق منزلته ‪ ،‬ثم‬
‫ينصرف محمد ‪ ‬إلى غرفة وجناته وأزواجه‪ ،‬ثم ينفرد عز وجل بربوبيته")‪ .(605‬وفي‬
‫هذا الكلم ما فيه مجازفة ومنافاة لعقيدة التوحيد!‪.‬‬
‫‪ -17‬ووصفوه بأنه يلهو ويلعب‪ :‬حيث رووا "دملج ال عز وجل لؤلؤة‬
‫بيده")‪ .(606‬وربما كان ذلك بسبب الملل الذي يعتقده أهل الحديث!‪.‬‬
‫‪ -18‬ووصفوه بأنه مترّدد‪ :‬حيث رووا أن ال تعالى يقول‪" :‬من عادى لي وليًا‬
‫فقد آذنته بالحرب ‪ ...‬وما ترّددت عن شيء أنا فاعله ترّددي عن نفس المؤمن يكره‬
‫الموت‪ ،‬وأنا أكره مساءته")‪.(607‬‬
‫وقد أقر الذهبي بفضاعة هذا الوصف ل تعالى وقال في ترجمته لخالد بن مخلد‬
‫رواي الحديث‪" :‬فهذا حديث غريب جدًا‪ ،‬لول هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات‬
‫خالد بن مخلد‪ ،‬وذلك لغرابة لفظه")‪ .(608‬وكان الواجب على الذهبي أن يقدم قدسية ال‬
‫على قدسية البخاري‪ ،‬وأن ل يتهيب من رد هذا الكلم الشنيع في حق ال تعالى‪ ،‬وابن‬
‫حجر العسقلني نفسه أقّر بضعف جميع طرق هذه الرواية في شرحه لصحيح‬
‫البخاري)‪.(609‬‬

‫دثين" ص ‪.118‬‬
‫أبو عبدالله محمد بن حارث الخشني القيرواني "أخبار الفقهاء والمح ّ‬ ‫‪604‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪2‬ص ‪.9‬‬ ‫‪605‬‬

‫عبدالله بن أحمد "السنة" ص ‪.297‬‬ ‫‪606‬‬

‫البخاري ‪.6502‬‬ ‫‪607‬‬

‫الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪1‬ص ‪.641‬‬ ‫‪608‬‬

‫ابن حجر العسقلني "فتح الباري" ج ‪13‬ص ‪.143‬‬ ‫‪609‬‬


‫‪ -19‬وأنه يجلس على البعوض‪ :‬حيث يقول الدارمي‪" :‬ولو قد شاء لستقر على‬
‫ظهر بعوضة‪ ،‬فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته‪ ،‬فكيف على عرش عظيم")‪ .(610‬ونحن‬
‫نعلم أن ال تعالى ل يعجزه شيء في الرض ول في السماء‪ ،‬ولكن ل يجوز أن نصفه‬
‫عز وجل بصفات النقص مثل الكل والشرب والستواء على البعوض ثم نعلق ذلك على‬
‫المشيئة!‪.‬‬
‫‪ -20‬وأن له حدًا‪ :‬حيث يقول ابن تيمية‪" :‬فقد دلّ الكتاب والسنة على معنى ذلك‬
‫كما تقدم احتجاج المام أحمد لذلك بما في القرآن مما يدلّ على أن ال تعالى له حّد يتميز‬
‫به عن المخلوقات")‪ ،(611‬وقال أيضًا‪" :‬وذلك ل ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له‬
‫ن حين أنكر‬‫حّد يعلمه هو ول يعلمه غيره")‪ .(612‬وقام أهل الحديث بطرد زميلهم ابن حبا ّ‬
‫الحّد)‪.(613‬‬
‫‪ -21‬وأنه يتكلم بصوت مسموع‪ :‬يقول ابن تيمية‪" :‬وجمهور المسلمين يقولون‪:‬‬
‫إن القرآن العربي كلم ال‪ ،‬وقد تكلم ال به بحرف وصوت")‪ ،(614‬وقال أيضًا‪ " :‬وفى‬
‫الصحيح إذا تكلم ال بالوحى سمع أهل السماوات كجر السلسلة على الصفوان‪ .‬فقوله )إذا‬
‫يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه")‪.(615‬‬
‫تكلم ال بالوحي سمع( ّ‬
‫‪ – 21‬وأنه أقرب إلى قمم الجبال وناطحات السحاب‪ ،‬والطائرات والمركبات‬
‫الفضائية من الناس في السفل‪ :‬حيث يقول عثمان بن سعيد الدارمي‪" :‬من أنبأك أن‬
‫رأس الجبل ليس بأقرب إلى ال تعالى من أسفله")‪ (616‬وقال ابن المبارك "رأس المنارة‬
‫أقرب إلى ال من أسفلها")‪.(617‬‬
‫وربما لو كان هؤلء يعيشون عصر اكتشاف الفضاء لقالوا‪" :‬إن القمار‬
‫الصناعية أقرب إلى ال من البشر"!‪.‬‬
‫فالحاصل أن غلة أهل الحديث يعتقدون ذات ال تعالى على صورة إنسان في‬
‫مرحلة الشباب طوله ستون ذراعًا‪ ،‬وأنه أمرد ل لحية له!‪ ،‬وقد أقّر بهذه العقيدة الشنيعة‬
‫أبو يعلى الفراء حيث قال‪" :‬ألزموني ما شئتم فإني التزمه إل اللحية والعورة")‪ .(618‬يقول‬
‫الشهرستاني‪" :‬المشبهة‪ :‬جماعه من الشيعة الغالية‪ ،‬وجماعه من أهل الحديث الحشوية‪،‬‬

‫‪ 610‬عثمان ال ‪21‬ي "نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.252‬‬


‫‪ 611‬ابن تيمية "بيان تلبيس الجهمية" ج ‪1‬ص ‪.445‬‬
‫‪ 612‬ابن تيمية "بيان تلبيس الجهمية ج ‪1‬ص ‪.443‬‬
‫‪ 613‬قال الذهبي في "سير أعلم النبلء" في ترجمة ابن حبان ج ‪16‬ص ‪ : 97‬وقال أبو‬
‫إسماعيل النصاري‪ :‬سمعت يحيى بن عمار الواعظ‪ ،‬وقد سألناه عن ابن حّبان‪ ،‬فقال‪ :‬نحن‬
‫أخرجناه من سجستان‪ ،‬كان له علم كثير‪ ،‬ولم يكن له كبير دين‪ ،‬قدم علينا‪ ،‬فأنكر الحد ّ‬
‫لله‪ ،‬فأخرجناه"‪.‬‬
‫‪ 614‬ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ج ‪ 5‬ص ‪.557-556‬‬
‫‪ 615‬ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪6‬ص ‪.234‬‬
‫‪ 616‬الدارمي "نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.290‬‬
‫‪ 617‬الدارمي "نقض عثمان بن سعيد" ص ‪.290‬‬
‫‪ 618‬نقله ابن العربي في كتابه "العواصم" ‪ ،2/283‬وقال إنه أبلغه أحد مشائخه‪ .‬انظر تعليق‬
‫حسن السقاف على كتاب "العّلو" للذهبي ص ‪.555‬‬
‫صرحوا بالتشبيه مثل‪ :‬الهشاميين من الشيعة‪ ،‬ومثل مضر وكهمس وأحمد الهجيمي‬
‫وغيرهم من الحشوية‪ ،‬قالوا‪ :‬إن معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض إما‬
‫روحانية وإما جسمانية‪ ،‬ويجوز عليه النتقال والنزول والصعود والستقرار والتمكن‪.‬‬
‫وأما ما ورد في التنزيل من الستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والتيان والفوقية‬
‫وغير ذلك فأجروها على ظاهرها‪ ،‬وزادوا في الخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى‬
‫النبي ‪ ،‬وأكثرها مقتبس من اليهود‪ ،‬فإن التشبيه فيهم طباع‪ ،‬حتى قالوا‪ ... :‬وإن‬
‫العرش لتئط من تحته كأطيط الرحل الحديد‪ ،‬وإنه ليفضل من كل جنب أربعة‬
‫أصابع")‪.(619‬‬

‫البلكفة )بل كيف(‪:‬‬


‫أدرك أهل الحديث ردة فعل المة السلمية ضدهم خاصة بعد إقرار غلتهم‬
‫بمذهب التجسيم الصريح‪ ،‬فلهذا اعتمدوا استراتيجية جديدة مبنية على اّدعاء أن الصفات‬
‫البشرية التي يثبوتنها ل تعالى هي غير معلومة الكيفية "بل كيف"‪ .‬يقول ابن تيمية‪:‬‬
‫"ومذهب السلف‪ :‬أنهم يصفون ال بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير‬
‫تحريف ول تعطيل ومن غير تكييف ول تمثيل")‪.(620‬‬
‫وقد يظن البعض أن المقصود بعبارة "من غير تكييف ول تمثيل" هو تنزيه ال‬
‫تعالى عن النقائص وتفويض معاني ألفاظ النصوص المتشابهة إلى علمه تعالى‪ ،‬بيد أن‬
‫قراءتنا السابقة لحقيقة منهج أهل الحديث القائم على إثبات ظواهر اللفاظ وإنكار المجاز‬
‫والتأويل يؤكد لنا خطأ هذا الظن‪ ،‬وأن البلكفة ليست إل مناورة للتملص من إلزامات‬
‫التجسيم‪.‬‬
‫والملحظ أن مصطلح البلكفة لم يثبت في شيء من نصوص القرآن والسنة!‪ ،‬فهو‬
‫مصطلح مبتدع‪ ،‬فكيف أخذ به أهل الحديث وهم الذين كثيرًا ما نراهم يشنون الغارات‬
‫ضد كل مبتدع من المصطلحات‪ ،‬بينما نراهم الن يفارقون منهجهم ليتخلصوا من‬
‫إلزامات منهجم؟!‪.‬‬
‫جَد‬
‫سُ‬‫ك َأن َت ْ‬ ‫وقد أخبرنا ال تعالى أنه خلق آدم بيديه في قوله }َقاَل َيا ِإْبِلي ُ‬
‫س َما َمَنَع َ‬
‫ن{ص‪ ،75 :‬وحسب منهج أهل الحديث‬ ‫ن اْلَعاِلي َ‬
‫ت ِم َ‬
‫ت َأْم ُكن َ‬
‫سَتْكَبْر َ‬
‫ي َأ ْ‬
‫ت ِبَيَد ّ‬
‫خَلْق ُ‬
‫ِلَما َ‬
‫تكون "اليد معلومة‪ ،‬لكنها غير معلومة الكيفية"‪.‬‬
‫وهذا الكلم غير مسلم به لن اليد إنما تكون معلومة إذا أريد بها الجارحة وإن لم‬
‫تعلم كيفيتها ‪-‬هل هي كيد البشر أم كيد الحيوانات أم غيرها‪ -‬وبذلك يلزم أهل الحديث‬
‫القول أن ال خلق آدم بيدين هما جارحتان‪ ،‬وإن لم ُتعلم كيفيتهما‪ .‬فإن وافق أهل الحديث‬
‫على هذا اللزام وأثبتوا الجارحة‪ ،‬فقد أقّروا بأنهم من المجسمة المشبهين ل تعالى بخلقه‪،‬‬
‫أما إذا كابروا وقالوا‪ :‬ليست اليد بالجارحة‪ .‬قيل لهم‪ :‬قد عدلتم عن ظاهر اللفظ‪ ،‬وخالفتم‬
‫منهجكم القاضي بالخذ بظواهر اللفاظ!‪ .‬فإن قالوا‪" :‬اليدان هما شيء آخر غير الجارحة‬
‫الملل والنحل الشهرستاني )‪479‬هـ( ص ‪.118‬‬ ‫‪619‬‬

‫ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج ‪5‬ص ‪.26‬‬ ‫‪620‬‬


‫ل ُيعَلم"‪ .‬فأنهم بهذا القول ل يثبتون شيئًا ل‪ ،‬أو أنهم يثبتون ما ل يعلمون‪ ،‬وهم بذلك‬
‫طلون آيات الكتاب العزيز‪ ،‬وينفون معنى الية القاضي بأن ال تعالى خلق آدم بقدرته‬ ‫يع ّ‬
‫وأمره‪ ،‬ويثبتون المجهول!‪.‬‬
‫يقول الزمخشري )ت ‪538‬هـ( ‪" :‬ثم تعجب من المتسمين بالسلم المتسمين بأهل‬
‫السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبًا‪ ،‬ول يغرنك تسترهم بالبلكفة‪ ،‬فإنه من‬
‫منصوبات أشياخهم‪ ،‬والقول ما قال بعض العدلية فيهم‪:‬‬
‫وجماعة حمٌر لعمري‬ ‫لجماعة سموا هواهم سنة‬
‫مؤكفة‬ ‫قد شبهوه بخـلـقه فتخـوفــوا‬
‫شنع الورى فتستروا‬
‫بالبلكفـة)‪(621‬‬
‫وقال الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي )ت ‪1287‬هـ( فيهم أيضًا ‪:‬‬
‫قال النبي بذا فمن‬ ‫فالي ما قالت بل كيف ول‬
‫أردفه‬ ‫أترى مقــالهم بـل كيف سـوى‬
‫إفك يزاد لقائل ما‬
‫أسخفــه)‪(622‬‬
‫وقد حاول أهل الحديث الدفاع عن موقفهم‪ ،‬وتبرير سبب أخذهم باللبلكفة‪ ،‬إذ يقول‬
‫ابن تيمية‪" :‬وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد بها ال تعالى بعلمها‪ ،‬وهو الكيف‬
‫المجهول الذي قال به السلف كمالك وغيره‪ :‬الستواء معلوم والكيف مجهول‪ .‬فالستواء‬
‫معلوم –يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة أخرى– وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون‬
‫في العلم‪ ،‬وأما كيفية ذلك الستواء فهذا من التأويل الذي ل يعلمه إل ال")‪.(623‬‬
‫ونسبة مصطلح البلكفة إلى مالك وغيره يدور في طاحونة ترسيخ قدسية القرون‬
‫الثلثة الولى‪ ،‬أما قول ابن تيمية‪" :‬فالستواء معلوم –يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة‬
‫أخرى–"‪ .‬فالجواب عليه‪ :‬أن الستواء معلوم لدى الخاص والعام من المة السلمية‪،‬‬
‫ل أن معنى هذا الاستواء‬ ‫لنه ثابت بنصوص الكتاب العزيز التي ل يجوز إنكارها‪ ،‬وفع ً‬
‫يعلمه علماء المة ويعلمون أنه يعني الانفراد المطلق وإذعان جميع جزيئات الكون –‬
‫التي يعبر عنها ال تعالى بـ "العرش"‪ -‬لملك ال تعالى وتصريفه وأمره‪.‬‬
‫وقوله "وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم" فصحيح أيضًا لن‬
‫إدراك هذا المعنى قد جاء عن طريق تأويل النصوص‪ ،‬لن ظاهر معنى الستواء‬
‫ل‪ ،‬فال تعالى يقول‪َ} :‬لْي َ‬
‫س‬ ‫ل ونق ً‬
‫"الجلوس أو الاستقرار" ل يليق بجلل ال تعالى عق ً‬
‫يٌء{الشورى‪ ،11 :‬فلهذا توجب على علماء المة المصير إلى تأويل ظاهر‬ ‫ش ْ‬
‫َكِمْثِلِه َ‬
‫معنى الاستواء إلى معناه المجازي‪ ،‬وهو الاستيلء والانفراد بالمر والتصريف‪ .‬فإن‬
‫أثبت ابن تيمية الستواء ل تعالى على معناه الظاهر وهو الجلوس والستقرار فقد أقّر‬
‫شاف" ج ‪2‬ص ‪.148‬‬ ‫محمود الزمخشري "الك ّ‬ ‫‪621‬‬

‫السالمي‪ ،‬مشارق أنوار العقول ص ‪.272‬‬ ‫‪622‬‬

‫ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ج ‪ 5‬ص ‪.37-36‬‬ ‫‪623‬‬


‫بالتشبيه والتجسيم‪ ،‬وإن قال بأن الستواء هو شيء آخر غير الجلوس والستقرار مع‬
‫ل وأنه ل يثبت ل شيئًا!‪.‬‬ ‫رفضه للتأويل‪ ،‬فقد أقّر بأنه ل يعلم معنى الية أص ً‬
‫وقول ابن تيمية‪" :‬وأما كيفية ذلك الستواء فهذا من التأويل الذي ل يعلمه إل‬
‫ال" فصحيح إن كان يقر بأن الستواء يعني كما أولناه سابقًا بالستيلء‪ ،‬لننا ل نعرف‬
‫كيفية هذا الستيلء وكيفية تصريف ال تعالى لذرات الكون‪ ،‬أما إذا رفض ابن تيمية‬
‫التأويل وقال بأن الستواء هو على ظاهره بمعنى الجلوس والستقرار‪ ،‬فتستره بنفي‬
‫كيفية هذا الجلوس ل ينجيه من الوقوع في التجسيم‪ ،‬لنه أثبت العّلو الحسي وهو‬
‫المعروف عند البشر والمخلوقات‪.‬‬
‫ومن بين المدافعين عن بلكفة أهل الحديث ابن قيم الجوزية الذي يقول‪" :‬ومراد‬
‫السلف بقولهم بل كيف‪ ،‬هو نفي للتأويل‪ ،‬فإنه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل‪ ،‬فإنهم هم‬
‫الذين يثبتون كيفية تخالف الحقيقة‪ ،‬فيقعون في ثلثة محاذير‪ :‬نفي الحقيقة‪ ،‬وإثبات‬
‫التكييف بالتأويل‪ ،‬وتعطيل الرب عن صفته التي أثبتها لنفسه")‪.(624‬‬
‫وابن القيم في كلمه هذا يقّر صراحًة سبب ابتداع أهل الحديث للبلكفة أل وهو‬
‫إنكار التأويل‪ .‬أما محاذير ابن القيم فل حقيقة لها في الواقع‪ ،‬لن تأويل اللفاظ المتشابهة‬
‫وردها إلى السائغ من كلم العرب يعتبر إثباتًا لحقيقتها وليس نفيًا لتلك الحقيقة كما ادعى‬
‫ابن القيم‪ ،‬أما إثبات ظواهر تلك اللفاظ الموهمة للتشبيه كما يفعل أهل الحديث فهو‬
‫التعطيل لمعانيها الصلية‪.‬‬
‫وإثباتنا للمعاني المجازية السائغة حسب قواعد اللغة ليس إثباتًا لكيفية صفات ال‬
‫بل هو إثبات لحقيقة الصفة كما يليق بجلل ال تعالى دون خوض بعد ذلك في كيفية تلك‬
‫الصفة‪ ،‬فنحن نثبت ل تعالى اليد بمعنى القدرة والقوة‪ ،‬والستواء بمعنى الستيلء‪ ،‬بينما‬
‫ل نستطيع أن نخوض في كيفية قدرة ال تعالى وكيفية استيلئه‪ ،‬لكن أهل الحديث يثبتون‬
‫اليد بمعناها الظاهري المتعارف عليه عند البشر "الجارحة"‪ ،‬ويثبتون الستواء بمعنى‬
‫الجلوس والستلقاء!‪ .‬يقول الشيخ صالح بن عمرات‪:‬‬
‫ل بخـلف ذلك‬ ‫فال ج ّ‬ ‫وكل ما صورته ببـالك‬
‫مّمن سواه ولذاك‬ ‫فعلم كنـه ذاته محــال‬
‫قــالوا‬ ‫"العجز عن إدراكـــــه إدراك‬
‫والخوض في إدراكه‬
‫إشـراك")‪(625‬‬
‫واثبات اللفاظ التي جاء فيها ذكر الصفات على ظاهرها يؤدي ل محالة إلى‬
‫التجسيم سواء أقال أهل الحديث بالبلكفة أم لم يقولوا‪.‬‬
‫أما القول بأن تأويل اللفاظ الموهمة للتجسيم مثل )اليد‪ ،‬العين‪ ،‬الوجه‪ ،‬الساق‪،‬‬
‫الجنب( هو تعطيل لمعانيها فليس بشيء‪ ،‬فقد ثبت في لغة العرب أن هذه اللفاظ يراد بها‬
‫معاني أخرى كالقوة‪ ،‬والحفظ‪ ،‬والذات‪ ،‬واشتداد المر على المجاز‪ ،‬فلهذا يصار إلى هذه‬
‫ابن القيم "اجتماع الجيوش السلمية" ص ‪.185-184‬‬ ‫‪624‬‬

‫نقله محمد ناصر في "الصول العقدية للناشئة المحمدية"‪.‬‬ ‫‪625‬‬


‫المعاني المجازية لدفع التضارب والتضاد في النصوص‪ .‬فمن كلم العرب في اليد‬
‫قولهم‪:‬‬
‫إذا أصبحت بيد الشمال‬ ‫وغداة ريح قـد كشفـت‬
‫زمامها‬ ‫وقرة‬
‫ومن كلم العرب في الجنب وأنه يأتي بمعنى المر‪ ،‬قول الشاعر‪:‬‬
‫أذن بهـا إل اطلعـت احتمالها‬ ‫فمـا ضنه في جنبك اليـوم‬
‫متهم‬
‫وما جاء في معنى الساق وهو شدة المر قولهم‪:‬‬
‫وجدت الحـرب بكم فجـدوا‬ ‫قد كشفت عن سـاقها فشـدوا‬
‫ومن كلم العرب في الوجه‪ ،‬وأنه يأتي بمعنى الذات‪ ،‬قولهم‪:‬‬
‫فأفلت منها وجهه‬ ‫ونحن حفـزنا الحوفـزان‬
‫عتـُد نهـد‬ ‫بطعنـة‬
‫وقول الشاعر‪:‬‬
‫إلى الرحمن يأتي‬ ‫وجــوه يـوم بدر نـاظـرات‬
‫بالفــــلح‬
‫فالدعاء أن البلكفة يقصد بها تنزيه ال عن الجوارح ومشابهة البشر ل أساس له‪،‬‬
‫بل الواقع بخلف ذلك فأهل الحديث يشنعون على من ينفي الجوارح عن ذات ال‪ ،‬حيث‬
‫يقول عثمان الدارمي‪" :‬واجده الذي يوحّده إله مخّدج منقوص‪ ،‬مشوه كشبح مقصوص ‪...‬‬
‫حد ال بكماله وبجميع صفاته‪ ،‬في علمه‬ ‫حد الصادق في توحيده الذي يو ّ‬ ‫ويلك‪ ،‬إنما المو ّ‬
‫حد‬‫وكلمه وقبضه وبسطه وهبوطه وارتفاعه ‪ ...‬هذا إلى التوحيد أقرب من هذا الذي يو ّ‬
‫إلهًا مخدجًا منقوصًا مقصوصًا‪ ،‬لو كان عبدًا على هذه الصفة لم يكن يساوي تمرتين‪،‬‬
‫فكيف يكون مثله إلهًا للعالمين")‪.(626‬‬
‫فالدارمي يرى أن من ينّزه ال عن الجوارح كعابد شبح‪ ،‬بينما من يثبت ل تعالى‬
‫حد الحق!‪ ،‬ونسي أن المخلوقات تختلف فيما بينها فمنها ما‬ ‫الجوارح والحركات فهو المو ّ‬
‫له أجنحة‪ ،‬ومنها ما له قرن‪ ،‬ومنها ما له مخالب وأنياب‪ ،‬ومنها ما له خرطوم‪ ،‬فيفترض‬
‫بالدارمي أن يثبت جميع هذه العضاء "الجنحة‪ ،‬والقرون‪ ،‬والمخالب والنياب‪،‬‬
‫والخراطيم" ل تعالى حتى ل يكون منقوصًا حسب منهجه!‪ ،‬إل إن كان قد رسخ في ذهنه‬
‫أن خالقه يشبه البشر فقط!‪.‬‬
‫وماذا لو قيل للدارمي‪ :‬اخبرنا عن العينين منه‪ ،‬هل يسمعان؟ واخبرونا عن‬
‫الذنين منه هل يبصران؟ واخبرنا عما سوى ذلك من جسد أليس ل يبصربه‪ ،‬ول يسمع‬
‫به‪ ،‬أليس منه ما ل يبصر به‪ ،‬ول يسمع ول ينطق به‪ ،‬ول يعقل؟ فهل تعّد ما ل يسمع‪،‬‬
‫ول ينطق‪ ،‬ول يعقل إله؟ فقد عاب ال قومًا عبدوا ما ل يسمع‪ ،‬ول يبصر حين قال‪:‬‬
‫سَمُع‬‫صّديًقا ّنِبّيا * ِإْذ َقاَل َِلِبيِه َيا َأَبتِ ِلَم َتْعُبُد َما َل َي ْ‬
‫ن ِ‬ ‫}َواْذُكْر ِفي اْلِكَتا ِ‬
‫ب ِإْبَراِهيَم ِإّنُه َكا َ‬
‫عثمان الدارمي "نقض عثمان بن سعيد على المريسي" ص ‪.320‬‬ ‫‪626‬‬
‫شْيًئا{مريم‪ .42-41 :‬واخبرنا عن العينين هل يبصران‬ ‫ك َ‬ ‫عن َ‬‫صُر َوَل ُيْغِني َ‬ ‫َوَل ُيْب ِ‬
‫نفسهما‪ ،‬فإن قلت أنهما يبصران نفسهما فقد وصفت ال بما ل تعقل‪ ،‬وإن قلت ل يبصران‬
‫نفسهما فقد أقررت بعجزهما)‪.(627‬‬
‫يقول الفخر الرازي في رده على ابن خزيمة‪" :‬واعلم بأن محمد بن إسحاق بن‬
‫خزيمة أورد استدلل أصحابنا بهذه الية في الكتاب الذي سماه ب )التوحيد(‪ ،‬وهو في‬
‫الحقيقة )كتاب الشرك(‪ ،‬واعترض عليها‪ ،‬وأنا أذكر حاصل كلمه بعد حذف التطويلت‪،‬‬
‫لنه كان رجل مضطربًا في الكلم قليل الفهم‪ ،‬ناقص العقل‪ ،‬فقال‪) :‬نحن نثبت ل وجهًا‬
‫ونقول‪ :‬إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لحرقت سبحات‬
‫وجهه كل شيء أدركه بصره‪ ،‬ووجه ربنا منفي عنه الهلك والفناء ونقول أن لبني آدم‬
‫وجوهًا كتب ال عليها الهلك والفناء ونفى عنها الجلل والكرام‪ ،‬غير موصوفة بالنور‬
‫والضياء والبهاء‪ ،‬ولو كان مجرد إثبات الوجه ل يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني‬
‫آدم وجوهًا وللخنازير والقردة والكلب وجوهًا‪ ،‬لكان شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير‬
‫والقردة والكلب(‪.‬‬
‫ثم قال‪) :‬ول شك أنه اعتقاد الجهمية‪ ،‬لنه لو قيل له‪ :‬وجهك يشبه وجه الخنازير‬
‫والقردة لغضب وشافه بالسوء‪ ،‬فعلمنا أنه ل يلزم من إثبات الوجه واليدين ل إثبات‬
‫التشبيه بين ال وخلقه( ‪ ...‬وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب )أن القرآن دل على وقوع‬
‫التسوية بين ذات ال تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة‪ ،‬ولم يلزم منها أن يكون القائل‬
‫مشبهًا فكذا ههنا( ونحن نعد الصور التي ذكرها على الستقصاء‪ ،‬فالول‪ :‬أنه تعالى قال‬
‫صيُر{الشورى‪ ،11:‬وقال في حق النسان‪َ} :‬ف َ‬
‫جَعْلَناُه‬ ‫سِميُع الَب ِ‬ ‫في هذه الية‪َ} :‬وُهَو ال ّ‬
‫سوُلُه{‬ ‫عَمَلُكْم َوَر ُ‬ ‫ل َ‬ ‫سَيَرى ا ّ‬ ‫صيًرا{النسان‪ ،2:‬الثاني‪ :‬قال‪َ} :‬وُقِل ا ْ‬
‫عَمُلوْا َف َ‬ ‫سِميًعا َب ِ‬‫َ‬
‫سَماء{‬ ‫جّو ال ّ‬ ‫خَراتٍ ِفي َ‬ ‫سّ‬ ‫التوبة‪ ،105:‬وقال في حق المخلوقين‪َ} :‬أَلْم َيَرْوْا ِإَلى ال ّ‬
‫طْيِر ُم َ‬
‫ك َفِإّن َ‬
‫ك‬ ‫حْكِم َرّب َ‬ ‫عُيِنَنا{هود‪َ} ،37:‬وا ْ‬
‫صِبْر ِل ُ‬ ‫ك ِبَأ ْ‬ ‫النحل‪ .79:‬الثالث‪ :‬قال‪َ} :‬وا ْ‬
‫صَنِع اْلُفْل َ‬
‫ن الّدْمِع{‬ ‫ض ِم َ‬ ‫ِبَأعُْيِنَنا{ الطور‪ ،48:‬وقال في حق المخلوقين‪َ} :‬تَرى َأ ْ‬
‫عُيَنُهْم َتِفي ُ‬
‫ي{ ص‪:‬‬ ‫ت ِبَيَد ّ‬‫خَلْق ُ‬‫جَد ِلَما َ‬
‫سُ‬‫ك َأن َت ْ‬‫س َما َمَنَع َ‬ ‫المائدة‪ ،83:‬الرابع‪ :‬قال لبليس‪َ} :‬يا ِإْبِلي ُ‬
‫ك ِبَما َقّدَم ْ‬
‫ت‬ ‫ن{المائدة‪ ،64:‬وقال في حق المخلوقين‪َ} :‬ذِل َ‬ ‫طَتا ِ‬‫سو َ‬‫‪ ،75‬وقال‪َ} :‬بْل َيَداُه َمْب ُ‬
‫ك{الحج‪ ... 10:‬الخامس‪ :‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ت َيَدا َ‬‫ك ِبَما َقّدَم ْ‬ ‫َأْيِديُكْم{آل عمران‪َ} ،182:‬ذِل َ‬
‫سَتُووا‬ ‫سَتَوى{طه‪ ،5 :‬وقال في الذين يركبون الدواب‪ِ} :‬لَت ْ‬ ‫شا ْ‬ ‫عَلى اْلَعْر ِ‬ ‫ن َ‬‫حَم ُ‬‫}الّر ْ‬
‫ي{ هود‬ ‫جوِد ّ‬ ‫عَلى اْل ُ‬ ‫ت َ‬ ‫ظُهوِرِه{ الزخرف‪ ،13:‬وقال في سفينة نوح‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَتَو ْ‬ ‫عَلى ُ‬‫َ‬
‫‪ ...44‬ثم طول في ضرب المثلة من هذا الجنس‪ ...‬فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬المعتبر في كل شيء‪ ،‬إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر‬
‫خارج عن ماهيته‪ ،‬ولكنه من لوازم تلك الماهية‪ ،‬وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس‬
‫من لوازم تلك الماهية‪ .‬وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات‬

‫محمد بن إبراهيم الكندي "بيان الشرع" ج ‪2‬ص ‪.332‬‬ ‫‪627‬‬


‫القائمة به وذلك معلوم بالبديهة‪ ،‬فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة‬
‫والحموضة ثم صارت في غاية السواد والحلوة‪ ،‬فالذات باقية والصفات مختلفة والذات‬
‫الباقية مغايرة للصفات المختلفة‪ ،‬وأيضا نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في‬
‫غاية البياض‪ ،‬فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل‪ ،‬بما ذكرنا أن الذوات‬
‫مغايرة للصفات‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا فنقول‪ :‬اختلف الصفات ل يوجب اختلف الذوات البتة‪ ،‬لننا نرى‬
‫الجسم الواحد كان ساكنًا ثم يصير متحركًا‪ ،‬ثم يسكن بعد ذلك‪ ،‬فالذوات باقية في الحوال‬
‫كلها على نهج واحد ونسق واحد‪ ،‬والصفات متعاقبة متزايلة‪ ،‬فثبت بهذا أن اختلف‬
‫الصفات والعراض ل يوجب اختلف الذوات‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا فنقول‪ :‬الجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للجسام التي‬
‫تألف منها وجه النسان والفرس‪ ،‬وإنما حصل الختلف بسبب العراض القائمة وهي‬
‫اللوان والشكال والخشونة والملسة وحصول الشعور فيه وعدم حصولها‪ ،‬فالختلف‬
‫إنما وقع بسبب الختلف في الصفات والعراض‪ ،‬فأما ذوات الجسام فهي متماثلة إل‬
‫أن العوام ل يعرفون الفرق بين الذات والصفات‪ ،‬فل جرم يقولون إن وجه النسان‬
‫مخالف لوجه الحمار‪ ،‬ولقد صدقوا‪ ،‬فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر‬
‫الصفات‪ ،‬فأما الجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية‪.‬‬
‫فثبت أن الكلم الذي أورده إنما ذكره لجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن‬
‫المعتبر في التماثل والختلف حقائق الشياء وماهيتها ل العراض والصفات القائمة‬
‫بها()‪.(628‬‬
‫يٌء{ الشورى‪11 :‬‬ ‫ش ْ‬ ‫وحاول ابن تيمية التملص من إلزام قوله تعالى }َلْيسَ َكِمْثِلِه َ‬
‫فقال‪" :‬وكذلك إذا قالوا الموصوفات تتماثل والجسام تتماثل والجواهر تتماثل وأرادوا أن‬
‫يٌء{ الشورى‪ 11 :‬على نفي مسمى هذه المور‬ ‫ش ْ‬ ‫س َكِمْثِلِه َ‬‫يستدلوا بقوله تعالى‪َ} :‬لْي َ‬
‫التي سموها بهذه السماء في اصطلحهم الحادث كان هذا افتراء على القرآن‪ ،‬فإن هذا‬
‫ليس هو المثل في لغة العرب ول لغة القرآن ول غيرهما قال تعالى‪َ} :‬وِإن َتَتَوّلْوا‬
‫غْيَرُكْم ُثّم َل َيُكوُنوا َأْمَثاَلُكْم{ محمد‪ ،38 :‬فنفى مماثلة هؤلء مع اتفاقهم في‬ ‫سَتْبِدْل َقْوًما َ‬
‫َي ْ‬
‫النسانية‪ .‬فكيف يقال إن لغة العرب توجب أن كل ما يشار إليه مثل كل ما يشار إليه‪،‬‬
‫ق ِمْثُلَها ِفي‬‫خَل ْ‬
‫ت اْلِعَماِد * اّلِتي َلْم ُي ْ‬
‫ك ِبَعاٍد * ِإَرَم َذا ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬أَلْم َتَر َكْي َ‬
‫ف َفَعَل َرّب َ‬
‫لِد{ الفجر‪ ،8-6 :‬فأخبر أنه لم يخلق مثلها في البلد وكلهما بلد‪ ،‬فكيف يقال إنه‬ ‫اْلبِ َ‬
‫يٌء{‬‫ش ْ‬‫س َكِمْثِلِه َ‬ ‫جسم فهو مثل لكل جسم في لغة العرب حتى يحمل على ذلك قوله}َلْي َ‬
‫الشورى‪ ،11 :‬وقد قال الشاعر ليس كمثل الفتى زهير‪ ،‬وقال ما إن كمثلهم في الناس من‬
‫بشر")‪.(629‬‬

‫يٌء{ الشورى‪ 11 :‬ج ‪27‬ص‬ ‫مث ْل ِهِ َ‬


‫ش ْ‬ ‫الفخر الرازي في تفسيره لقوله تعالى‪} :‬ل َي ْ َ‬
‫س كَ ِ‬ ‫‪628‬‬

‫‪.133-130‬‬
‫‪ 629‬ابن تيمية "بيان تلبيس الجهمية" ج ‪1‬ص ‪.533‬‬
‫والظاهر أن ابن تيمية قد فاته في غمرة الدفاع عن عقيدة أهل الحديث أن هناك‬
‫غْيَرُكْم ُثّم َل َيُكوُنوا َأْمَثاَلُكْم{‬ ‫قرينة تدل على أن قوله تعالى }َوِإن َتَتَوّلْوا َي ْ‬
‫سَتْبِدْل َقْوًما َ‬
‫محمد‪ ،38 :‬يقصد منه أن الاختلف بين القوم الموعودين والقوم المتوعدين ‪-‬وهما من‬
‫جنس واحد‪ -‬هو في الستجابة إلى أمر ال بالنفاق في سبيله فقط‪ .‬وذلك يؤكده سياق‬
‫خُل َوَمن‬ ‫ل َفِمنُكم ّمن َيْب َ‬ ‫سِبيِل ا ِّ‬ ‫ن ِلُتنِفُقوا ِفي َ‬ ‫عْو َ‬ ‫الية الذي جاء فيها }َهاَأنُتْم َهُؤَلء ُتْد َ‬
‫غْيَرُكْم ُثّم‬
‫سَتْبِدْل َقْوًما َ‬ ‫ي َوَأنُتُم اْلُفَقَراء وَِإن َتَتَوّلْوا َي ْ‬
‫ل اْلَغِن ّ‬
‫سِه َوا ُّ‬‫عن ّنْف ِ‬
‫خُل َ‬ ‫خْل َفِإّنَما َيْب َ‬
‫َيْب َ‬
‫َل َيُكوُنوا َأْمَثاَلُكْم{ محمد‪.38:‬‬
‫خَل ْ‬
‫ق‬ ‫ت اْلِعَماِد * اّلِتي َلْم ُي ْ‬ ‫ك ِبَعاٍد * ِإَرَم َذا ِ‬
‫ف َفَعَل َرّب َ‬ ‫أما قوله تعالى}َأَلْم َتَر َكْي َ‬
‫لِد{ الفجر‪ ،8-7:‬فإن الختلف المقصود بين إرم وغيرها من البلدان –‬ ‫ِمْثُلَها ِفي اْلِب َ‬
‫وهن جميعًا من جنس واحد‪ -‬هو اختلف في العمران فقط‪.‬‬
‫أما استدلل ابن تيمية بقول الشاعر‪:‬‬
‫خلق يساويـه في الفضائـل‬ ‫ليـس كمثـل الفتـى زهيـر‬
‫فهناك قرينة لفظية ظاهرة تبين أن المقصود بعدم المماثلة هو في الفضائل فقط‬
‫وهو قول الشاعر "يساويه في الفضائل"‪.‬‬
‫وربما التبس على ابن تيمية المر‪ ،‬فاليات والبيات التي يستدل بها هي للمقارنة‬
‫بين أشياء من جنس واحد "المدن والبشر"‪ ،‬وهو يريد أن يسحب هذه المقارنة بين‬
‫المخلوقات المتجانسة إلى المقارنة بين ال تعالى ومخلوقاته!‪ ،‬معتمدًا في ذلك منهج أهل‬
‫الحديث القائم على قياس الغائب على الشاهد!‪.‬‬
‫ومن الشبه التي يرددها أهل الحديث في إثبات منهجهم في التعامل مع النصوص‬
‫ي{‬ ‫ت ِبَيَد ّ‬
‫خَلْق ُ‬‫جَد ِلَما َ‬‫سُ‬ ‫ك َأن َت ْ‬ ‫المتشابهة بصورة ظاهرية تعلقهم بقوله تعالى‪َ} :‬ما َمَنَع َ‬
‫ل عن ابن القيم‪" :‬نفس هذا الكلم المذكور في‬ ‫ص‪ ،75:‬حيث يقول محمد الموصلي ناق ً‬
‫ي{ يأبى حمل الكلم على القدرة‪ ،‬لنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه‪،‬‬ ‫ت ِبَيَد ّ‬
‫خَلْق ُ‬‫قوله } َ‬
‫ثم عدى الفعل إلى اليد‪ ،‬ثم ثناها‪ ،‬ثم أدخل الباء التي تدخل على قوله‪ :‬كتبت بالقلم‪ ،‬ومثل‬
‫هذا النص صريح ل يحتمل مجازًا")‪ .(630‬والواقع بخلف قول ابن القيم فقوله تعالى }‬
‫ي{ عبارة عن صلة‪ ،‬فيكون المعنى المقصود "خلقت بنفسي"‪ ،‬وإضافة الخلق‬ ‫ت ِبَيَد ّ‬‫خَلْق ُ‬
‫َ‬
‫جَهُه{‬ ‫ك ِإّل َو ْ‬ ‫يٍء َهاِل ٌ‬‫ش ْ‬‫إلى ال هي إضافة تشريف وتعظيم‪ ،‬وهذا مثل قوله تعالى }ُكّل َ‬
‫القصص‪ 88:‬فالوجه صلة‪ ،‬ولو تنزّلنا بأن المقصود هو القدرة فإن في إضافة تلك القدرة‬
‫إلى ذات ال تعظيم ورفعة لدم‪ ،‬وهذا التركيب محتمل للمجاز قطعًا وليس كما ادعى ابن‬
‫ي‪.‬‬
‫القيم‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬يقول الملك هذا المجد صنعته بيد ّ‬
‫وإن أصر ابن القيم على إثبات يدين ل تعالى من هذه الية فيلزمه أيضًا بناءًا على‬
‫عِمَل ْ‬
‫ت‬ ‫قاعدته في إثبات ظواهر اللفاظ إثبات أيدي كثيرة ل تعالى القائل }ِمّما َ‬
‫َأْيِديَنا{يس‪ .71 :‬وإن تشبث ابن القيم بمقارنة حرف الباء لليد‪ ،‬فعليه أن يذكر أن ال‬
‫تعالى قال‪َ} :‬وَل ُتْلُقوْا ِبَأْيِديُكْم ِإَلى الّتْهُلَكِة{ البقرة‪ .195 :‬وليس يلقي النسان نفسه إلى‬

‫محمد الموصلي في "مختصر الصواعق المرسلة لبن القيم الجوزية" ص ‪.515‬‬ ‫‪630‬‬
‫التهلكة بيديه في الحقيقة‪ ،‬وإنما يلقيها بقول أو فعل ليس لليد فيه عمل‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬أْو‬
‫ح{ البقرة‪ ،237 :‬وعقد النكاح ل يكون باليد‪ ،‬إنما هو‬‫عْقَدُة الّنَكا ِ‬
‫َيْعُفَو اّلِذي ِبَيِدِه ُ‬
‫‪631‬‬
‫باللسان‪ ،‬فل يتعلق في ذلك) (‪.‬‬

‫الرجفاء)‪(632‬‬ ‫فكر‬
‫جاء السلم لينقذ البشرية من همجية الجاهلية وعبثيتها ويسير بها إلى نظام الكون‬
‫والمجتمع والسرة والسلوك الفردي‪ ،‬وجاء لينتشل الغنياء من قيود الشح وتعاسة‬
‫الحسد‪ ،‬ويحرر الفقراء من أغلل الحرمان وفوضى الوسائط التي فرضتها رغبات‬
‫‪631‬جميل بن خميس السعدي في "قاموس الشريعة" ج ‪5‬ص ‪ 274‬وص ‪.238-237‬‬
‫‪ 632‬الرجاء هو القول بأن الفاسق أمره مرجأ إلى مشيئة الله يوم القيامة‪ ،‬فإن شاء عذبه‪،‬‬
‫وإن شاء غفر له‪.‬‬
‫النفس المارة بالسوء للمل من أغنياء القوم ومترفيهم‪ ،‬ففرض السلم أوامر تنظم حياة‬
‫النسان‪ ،‬وحّرم أشياء لتجنبه العودة إلى مآسي الجاهلية‪ ،‬وجعل التيان بتلك الوامر‬
‫والنتهاء عن تلك المحرمات أساس العبادة التي من أجلها خلق النسان }َوَما َ‬
‫خَلْق ُ‬
‫ت‬
‫ن{ الذارايات‪ ،56 :‬هذه العبادة التي ترتقي بالنسان من‬ ‫س ِإّل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫ن َواِْلن َ‬ ‫جّ‬ ‫اْل ِ‬
‫حضيض الجاهلية إلى قمة الخلفة الكونية التي أرادها ال تعالى لدم وبنيه }ُهَو اّلِذي‬
‫ض َفَمن َكَفَر َفَعَلْيِه ُكْفُرُه{ فاطر‪.35 :‬‬ ‫ف ِفي اَْلْر ِ‬ ‫لِئ َ‬
‫خَ‬ ‫جَعَلُكْم َ‬
‫َ‬
‫ولن السلم رباني المصدر فإنه لم يغفل عن عوارض النفس البشرية التي ل‬
‫تلبث أن تخالط المعاصي من إخلل بالوامر أو انتهاك للمحرمات‪ ،‬فلهذا حدد قواعد‬
‫عامة للتعامل مع النفس البشرية إن هي اخطأت‪ ،‬فالمعاصي الصغيرة تلغى تلقائيًا طالما‬
‫استمر النسان في مسيرة الستقامة واللتزام بأوامر ال والبعد عن نواهيه }ِإن َت ْ‬
‫جَتِنُبوْا‬
‫ل َكِريًما{ النساء‪.31 :‬‬ ‫خً‬‫خْلُكم ّمْد َ‬
‫سّيَئاِتُكْم َوُنْد ِ‬
‫عنُكْم َ‬
‫عْنُه ُنَكّفْر َ‬
‫ن َ‬ ‫َكَبآِئَر َما ُتْنَهْو َ‬
‫أما المعاصي الكبيرة التي يصيبها النسان في حالت الضعف اليماني فقد جعل‬
‫ل ومخرجًا‪ ،‬وذلك عن طريق الوبة إلى جلل ال والتسليم بالتوبة‬ ‫السلم لها سبي ً‬
‫لجنابه‪ ،‬والندم على التفريط في أوامره‪ ،‬ومعاهدته تعالى على عدم الرجوع إلى هذه‬
‫حا ُثّم اْهَتَدى{ طه‪:‬‬ ‫صاِل ً‬
‫عِمَل َ‬
‫ن َو َ‬
‫ب َوآَم َ‬‫الكبائر مجددًا‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬وِإّني َلَغّفاٌر ّلَمن َتا َ‬
‫‪.82‬‬
‫السلم العظيم جاء مربيًا للنسان على الفضيلة والبعد عن مستنقعات الرذيلة كي‬
‫يكون جديرًا بحمل مشعل الخلفة الكونية‪ ،‬فلهذا نرى أن السلم مهد طريق الخير‬
‫وسهله‪ ،‬وجعل السدود والحواجز ليحول دون وقوع النسان في حبائل النفس المارة‬
‫بالسوء ومكائد الشيطان‪ ،‬واعطى دواء التوبة لكل من ابتلي بمرض المعاصي‪.‬‬
‫هذا هو السلم بصفاء عقيدته ونقاء شرائعه وأحكامه‪ ،‬إل أن نفوس المجرمين‬
‫المنتسبين للسلم أرادت إحياء فكر الجاهلية لتجعله قاعدة يسير على أساسها فكر المة‬
‫السلمية‪ ،‬فأوهموا المة وأوحوا إليها أن المسلم يستطيع ترك أوامر ال وانتهاك‬
‫محرماته –على ما في ذلك من إهلك للنفس والمجتمع والمة‪ -‬ومع ذلك يدخل ضمن‬
‫قائمة الفائزين بجنات ال ونعيمها الدائم دون حاجة للتوبة والوبة إلى جلل ال وحظيرة‬
‫شرعه!‪.‬‬
‫إن التعلق بمثل هذه الوهام قد أضر بالمة إضرارًا بالغًا وجرأها على النحلل‬
‫من الخلق والفضيلة‪ ،‬والنغماس في مستنقعات الفجور والرذيلة‪ ،‬حتى غدت أمة‬
‫مزدراة في عيون أعدائها‪ ،‬وفقدت مصداقيتها فيما تدعو إليه بسبب سلوكها المخالف‬
‫لقوالها‪ ،‬ول عجب إذن أن نعاني من الزمات الفكرية وما صاحبها من تداعيات سياسية‬
‫واقتصادية واجتماعية‪ ،‬كيف ل ونحن نعاني انشطارًا بين القول والعمل)‪.(633‬‬
‫لكن السلم العظيم لم يغفل عن مثل هذه الشطحات الشيطانية‪ ،‬فأكد على قواعد‬
‫راسخة اجتثت هذا الفكر العفن من جذوره‪ ،‬وهذه القواعد الكّلية أصلتها النصوص‬

‫خالد الوهيبي "معالم للزمن القادم" ص ‪.45‬‬ ‫‪633‬‬


‫المحكمة من الكتاب والسنة المجتمع عليها‪ ،‬والدلة العقلية القطعية التي تجزم ببطلن‬
‫هذه الفكار وسخافتها لما تبثه في المة من ابتعاد عن أوامر ال وانتهاك لحرماته‪.‬‬
‫وهذه القواعد الكّلية هي‪:‬‬
‫القاعدة الولى‪ :‬خلود أصحاب الكبائر في النار إن لم يتوبوا إلى ال‪.‬‬
‫حّرَم‬ ‫ن الّنْفسَ اّلِتي َ‬ ‫خَر َوَل َيْقُتُلو َ‬ ‫ل ِإَلًها آ َ‬‫ن َمَع ا ِّ‬ ‫عو َ‬ ‫ن َل َيْد ُ‬ ‫‪-1‬يقول تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ب َيْوَم اْلِقَياَمِة‬ ‫ف َلُه اْلَعَذا ُ‬‫ع ْ‬ ‫ضا َ‬ ‫ق َأَثاًما * ُي َ‬ ‫ك َيْل َ‬‫ن َوَمن َيْفَعْل َذِل َ‬ ‫ق َوَل َيْزُنو َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل ِإّل ِباْل َ‬‫ا ُّ‬
‫خُلْد ِفيِه ُمَهاًنا{ الفرقان‪ .69-68 :‬فجريمة القتل وجريمة الزنا هي من الكبائر التي‬ ‫َويَ ْ‬
‫تؤدي إلى الخلود في النار حسب دللة هذا النص الصريح‪.‬‬
‫جَزآُؤُه‬ ‫‪-2‬ويقول تعالى مؤكدًا على معنى الية السابقة‪َ} :‬وَمن َيْقُتْل ُمْؤِمًنا ّمَتَعّمًدا َف َ‬
‫ظيًما{ النساء‪.93 :‬‬ ‫عِ‬ ‫عَذاًبا َ‬‫عّد َلُه َ‬ ‫عَلْيِه َوَلَعَنُه َوَأ َ‬
‫ل َ‬ ‫با ّ‬ ‫ض َ‬ ‫غ ِ‬ ‫خاِلًدا ِفيَها َو َ‬ ‫جَهّنُم َ‬ ‫َ‬
‫‪ -3‬ويقول تعالى مؤكدًا على أن من تعدى حدود ال فهو خالد في النار وبئس‬
‫حِتَها اَلْنَهاُر‬ ‫جِري ِمن َت ْ‬ ‫جّناتٍ َت ْ‬ ‫خْلُه َ‬‫سوَلُه ُيْد ِ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫طِع ا ّ‬ ‫ل َوَمن ُي ِ‬ ‫حُدوُد ا ّ‬ ‫ك ُ‬ ‫القرار‪ِ} :‬تْل َ‬
‫خْلُه َناًرا‬ ‫حُدوَدُه ُيْد ِ‬ ‫سوَلُه َوَيَتَعّد ُ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫صا ّ‬ ‫ظيُم * َوَمن َيْع ِ‬ ‫ك اْلَفْوُز اْلَع ِ‬ ‫ن ِفيَها َوَذِل َ‬ ‫خاِلِدي َ‬‫َ‬
‫ن{ النساء ‪.14-13‬‬ ‫ب ّمِهي ٌ‬ ‫عَذا ٌ‬ ‫خاِلًدا ِفيَها َوَلُه َ‬ ‫َ‬
‫ساَلِتِه َوَمن‬ ‫ل َوِر َ‬ ‫ن ا ِّ‬‫غا ّم َ‬ ‫لً‬ ‫‪ -4‬ويقول تعالى مؤكدًا على معنى الية السابقة‪ِ} :‬إّل َب َ‬
‫ن ِفيَها َأَبًدا{ الجن‪.23 :‬‬ ‫خاِلِدي َ‬‫جَهّنَم َ‬ ‫ن َلُه َناَر َ‬ ‫سوَلُه َفِإ ّ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫َيْعصِ ا َّ‬
‫جَهّنَم‬ ‫ن َلُه َناَر َ‬ ‫سوَلُه َفَأ ّ‬‫ل َوَر ُ‬ ‫حاِدِد ا ّ‬ ‫‪ -5‬ويقول تعالى أيضًا‪َ} :‬أَلْم َيْعَلُموْا َأّنُه َمن ُي َ‬
‫ظيُم{ التوبة‪ .63 :‬وهذا نص واضح وصريح في خلود قاتل‬ ‫ي اْلَع ِ‬‫خْز ُ‬ ‫ك اْل ِ‬‫خاِلًدا ِفيَها َذِل َ‬ ‫َ‬
‫العمد في النار‪.‬‬
‫‪ -6‬ويقول تعالى مؤكدًا على خلود الظلمة الجبارين المتكبرين الرافضين للتوبة في‬
‫سَلَم َما ُكّنا َنْعَمُل ِمن‬ ‫سِهْم َفَأْلَقُوْا ال ّ‬
‫ظاِلِمي َأنُف ِ‬ ‫ن َتَتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ‬ ‫العذاب المهين‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن ِفيَها َفَلِبْئسَ‬ ‫خاِلِدي َ‬‫جَهّنَم َ‬ ‫ب َ‬ ‫خُلوْا َأْبَوا َ‬‫ن * َفاْد ُ‬ ‫عِليٌم ِبَما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬ ‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫سوٍء َبَلى ِإ ّ‬ ‫ُ‬
‫ن{ النحل‪.29-28 :‬‬ ‫َمْثَوى اْلُمَتَكّبِري َ‬
‫‪ -7‬ويقول تعالى حاكيًا عن خلود الفسقة في النار وحديثهم مع أسيادهم الذين‬
‫طَعتْ ِبِهُم‬ ‫ب َوَتَق ّ‬ ‫ن اّتَبُعوْا َوَرَأُوْا اْلَعَذا َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬ ‫ن اّتِبُعوْا ِم َ‬‫اضلوهم السبيل‪ِ} :‬إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ‬
‫ك ُيِريِهُم ا ّ‬
‫ل‬ ‫ن َلَنا َكّرًة َفَنَتَبّرَأ ِمْنُهْم َكَما َتَبّرُؤوْا ِمّنا َكَذِل َ‬ ‫ن اّتَبُعوْا َلْو َأ ّ‬ ‫سَباب ُ* َوَقاَل اّلِذي َ‬ ‫الَ ْ‬
‫ن الّناِر{ البقرة‪.167-166 :‬‬ ‫ن ِم َ‬ ‫جي َ‬‫خاِر ِ‬‫عَلْيِهْم َوَما ُهم ِب َ‬ ‫ت َ‬ ‫سَرا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫َأعَْماَلُهْم َ‬
‫ضو َ‬
‫ن‬ ‫‪-8‬ويقول تعالى مبينًا جزاء هؤلء الظالمين المقيم في جهنم }َوَتَراُهْم ُيْعَر ُ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫سِري َ‬ ‫خا ِ‬ ‫ن اْل َ‬‫ن آَمُنوا ِإ ّ‬ ‫ي َوَقاَل اّلِذي َ‬ ‫خِف ّ‬‫ف َ‬ ‫طْر ٍ‬ ‫ن ِمن َ‬ ‫ظُرو َ‬ ‫ن الّذّل َين ُ‬ ‫ن ِم َ‬ ‫شِعي َ‬‫خا ِ‬ ‫علَْيَها َ‬ ‫َ‬
‫ب ّمِقيٍم{ الشورى‪.45 :‬‬ ‫عَذا ٍ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ظاِلِمي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫سُهْم َوَأْهِليِهْم َيْوَم اْلِقَياَمِة َأَل ِإ ّ‬ ‫سُروا َأنُف َ‬ ‫خ ِ‬‫َ‬
‫عْنُهْم َوُهْم‬ ‫ن * َل ُيَفّتُر َ‬ ‫خاِلُدو َ‬ ‫جَهّنَم َ‬‫ب َ‬ ‫عَذا ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫جِرِمي َ‬ ‫ن اْلُم ْ‬ ‫‪ -8‬ويقول تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن{ ‪.76-74‬‬ ‫ظاِلِمي َ‬ ‫ظَلْمَناُهْم َوَلِكن َكاُنوا ُهُم ال ّ‬ ‫ن * َوَما َ‬ ‫سو َ‬ ‫ِفيِه ُمْبِل ُ‬
‫ومن نصوص السنة النبوية الصحيحة المجتمع عليها قول النبي ‪:‬‬
‫‪" -1‬ل يدخل الجنة مخّنث ول ديوث")‪(634‬‬
‫‪" -2‬الجنة حرام على من قتل ذّمّيا")‪.(635‬‬
‫‪" -3‬ل يدخل الجنة قتات")‪.(636‬‬
‫‪" -4‬ل يدخل الجنة قاطع رحم")‪.(637‬‬
‫‪" -5‬ل يدخل الجنة من ل يأمن جاره بوائقه")‪.(638‬‬
‫‪" -6‬ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر")‪.(639‬‬
‫‪" -7‬من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً‬
‫مخلدا فيها أبداً‪ ،‬ومن شرب سما فقتل نفسه‪ ،‬فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها‬‫ً‬
‫مخلدا فيها‬
‫ً‬ ‫أبداً‪ ،‬ومن تردى من جبل فقتل نفسه‪ ،‬فهو يتردى في نار جهنم خالداً‬
‫أبداً")‪.(640‬‬
‫القاعدة الثانية‪ :‬عقيدة خروج المصرين على الكبائر من النار إسرائيلية‬
‫الصل‪ ،‬وقد حذر ال تعالى منها‪:‬‬
‫‪ -1‬يقول تعالى حاكيًا عن اليهود‪َ} :‬وَقاُلوْا َلن َتَم ّ‬
‫سَنا الّناُر ِإّل َأّيامًا ّمْعُدوَدًة ُقلْ‬
‫ن{ البقرة‪:‬‬ ‫ل َما َل َتْعَلُمو َ‬‫ن عََلى ا ّ‬ ‫عْهَدُه َأْم َتُقوُلو َ‬‫ل َ‬ ‫فا ّ‬ ‫خِل َ‬
‫عْهًدا َفَلن ُي ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عنَد ا ّ‬ ‫خْذُتْم ِ‬‫َأّت َ‬
‫‪..80‬‬
‫س ِبَأَماِنّيُكْم َول‬‫‪ -2‬ويقول تعالى ناهيًا المسلمين عن اتباع فكر أهل الكتاب‪ّ} :‬لْي َ‬
‫صيًرا{‬ ‫ل َوِلّيا َوَل َن ِ‬‫نا ّ‬ ‫جْد َلُه ِمن ُدو ِ‬ ‫جَز ِبِه َوَل َي ِ‬
‫سوًءا ُي ْ‬ ‫ب َمن َيْعَمْل ُ‬ ‫ي َأْهِل اْلِكَتا ِ‬ ‫َأَماِن ّ‬
‫النساء‪.123 :‬‬
‫ف ِمن‬‫خَل َ‬ ‫‪ -3‬ويقول تعالى محذرًا المسلمين من السير في طريق بني اسرائيل‪َ} :‬ف َ‬
‫سُيْغَفُر َلَنا َوِإن َيْأِتِهْم‬
‫ن َ‬‫ض َهفَذا الْدَنى وََيُقوُلو َ‬ ‫عَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫خُذو َ‬‫ب َيْأ ُ‬
‫ف َوِرُثوْا اْلِكَتا َ‬ ‫خْل ٌ‬ ‫َبْعِدِهْم َ‬
‫حقّ‬ ‫ل ِإّل اْل َ‬
‫عَلى ا ّ‬ ‫ب َأن ّل ِيُقوُلوْا َ‬ ‫ق اْلِكَتا ِ‬‫عَلْيِهم ّميَثا ُ‬ ‫خْذ َ‬‫خُذوُه َأَلْم ُيْؤ َ‬
‫ض ّمْثُلُه َيْأ ُ‬‫عَر ٌ‬ ‫َ‬
‫ن{ العراف‪.169 :‬‬ ‫ل َتْعِقُلو َ‬
‫ن َأَف َ‬
‫ن َيّتُقو َ‬‫خْيٌر ّلّلِذي َ‬
‫خَرُة َ‬ ‫سوْا َما ِفيِه َوالّداُر ال ِ‬ ‫َوَدَر ُ‬
‫القاعدة الثالثة‪ :‬كلمات ال تعالى ل تتبدل ول تتغير ول يوصف تعالى‬
‫بالعلم بعد الجهل "البداء"‪ ،‬بل علمه مطلق‪.‬‬
‫عيِد * َما ُيَبّدُل اْلَقْوُل َلَديّ‬
‫ت ِإَلْيُكم ِباْلَو ِ‬
‫ي َوَقْد َقّدْم ُ‬
‫صُموا َلَد ّ‬ ‫‪-1‬يقول تعالى‪َ} :‬ل َت ْ‬
‫خَت ِ‬
‫ت َوَتُقوُل َهْل ِمن ّمِزيٍد{ ق‪.30-28 :‬‬ ‫ل ِ‬
‫جَهّنَم َهِل اْمَت َْ‬
‫لٍم ّلْلَعِبيِد * َيْوَم َنُقوُل ِل َ‬
‫ظّ‬‫َوَما َأَنا ِب َ‬

‫‪ 634‬الجامع الصحيح مسند المام الربيع بن حبيب برقم ‪.743‬‬


‫‪ 635‬الجامع الصحيح مسند المام الربيع بن حبيب برقم ‪ ،754‬والسنن الكبرى للبيهقي‬
‫مي ًّا‪ ،‬وفي لفظ البخاري برقم ‪" 6914‬من قتل‬
‫‪ 8/133‬في باب "ما جاء في إثم من قتل ذ ّ‬
‫نفسا ً معاهدا ً لم يرح رائحة الجنة"‪.‬‬
‫‪ 636‬البخاري ‪ ،5709‬ومسلم ]‪ ،(105)-168[290‬ورواه مسلم]‪ (105)-168[290‬بلفظ )ل‬
‫يدخل الجنة نمام(‪.‬‬
‫‪ 637‬مسلم]‪ ،(2556)-18[650‬البخاري ‪ ،5638‬الترمذي ‪ ،1909‬أبو داود ‪.1696‬‬
‫‪ 638‬مسلم ]‪.(46)-73[172‬‬
‫‪ 639‬مسلم ]‪ ،(91)-147[265‬الترمذي ‪ 1998‬و ‪ ،1999‬أبو داود ‪ ،4091‬ابن ماجه ‪.4173‬‬
‫‪ 640‬مسلم]‪.(109)-175[300‬‬
‫ن{ النعام‪:‬‬
‫سِلي َ‬
‫ك ِمن ّنَبِإ اْلُمْر َ‬
‫جاء َ‬
‫ل َوَلقْد َ‬ ‫‪-2‬وقال عز وجل‪َ} :‬وَل ُمَبّدَل ِلَكِلَما ِ‬
‫تا ّ‬
‫‪.34‬‬
‫ظيُم{ يونس ‪.64‬‬ ‫ك ُهَو اْلَفْوُز اْلَع ِ‬‫ل َذِل َ‬‫تا ّ‬ ‫‪-3‬وقال عز وجل‪َ} :‬ل َتْبِديَل ِلَكِلَما ِ‬
‫سِميُع‬
‫عْدًل ّل ُمَبّدِل ِلَكِلَماِتِه َوُهَو ال ّ‬ ‫صْدًقا َو َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ت َرّب َ‬‫ت َكِلَم ُ‬ ‫‪ -4‬وقال تعالى‪َ} :‬وَتّم ْ‬
‫اْلَعِليُم{ النعام‪.115 :‬‬
‫جَد‬
‫ك َل ُمَبّدَل ِلَكِلَماِتِه َوَلن َت ِ‬ ‫ب َرّب َ‬‫ك ِمن ِكَتا ِ‬ ‫ي ِإَلْي َ‬
‫حَ‬‫‪ -5‬وقال عز وجل‪َ} :‬واْتُل َما ُأو ِ‬
‫حًدا{ الكهف‪.27 :‬‬ ‫ِمن ُدوِنِه ُمْلَت َ‬
‫القاعدة الرابعة‪ :‬الشفاعة يوم القيامة ل ينالها إل المتقون‪.‬‬
‫ضى{النبياء‪.21 :‬‬ ‫ن اْرَت َ‬‫ن ِإّل ِلَم ِ‬ ‫‪-1‬يقول تعالى‪َ} :‬وَل َي ْ‬
‫شَفُعو َ‬
‫عْهًدا{ مريم‪:‬‬‫ن َ‬
‫حَم ِ‬
‫عنَد الّر ْ‬
‫خَذ ِ‬
‫ن اّت َ‬
‫عَة ِإّل َم ِ‬
‫شَفا َ‬ ‫‪-2‬يقول تعالى‪َ} :‬ل َيْمِلُكو َ‬
‫ن ال ّ‬
‫‪87‬‬
‫وفق هذه المنظومة المحكمة من القواعد الكّلية اليقينة المستنبطة من نصوص‬
‫الكتاب العزيز المحكمة‪ ،‬ومن نصوص السنة المجتمع عليها يجب على عقلء المسلمين‬
‫محاكمة مثل هذه الفكار التي تشبث أصحابها ببعض الدلة من متشابه اليات‬
‫والموضوع من الروايات‪.‬‬
‫لقد كان أهل الحديث من بين المروجين لهذه الفكار الموبوءة حيث استغلت السلطة‬
‫تبعيتهم لها وجعلتهم مطية لتبرير اسفافها وفجورها وبطشها بالضعفاء الذين غسل أهل‬
‫الحديث عقولهم بالروايات المعلبة الجاهزة لخدمة فكر السلطة‪.‬‬
‫والغريب أن أهل الحديث لم يغفلوا عن هذه المنظومة من القواعد المحكمة فحسب‪،‬‬
‫بل صاروا أكثر تشبثًا وترويجًا لفكر الرجاء من بني اسرائيل انفسهم!‪ ،‬حيث قالوا‪" :‬ل‬
‫تضر معصية مع إيمان"‪ ،‬فالقرار بالشهادتين كاف لدخول الجنة دون عقاب في الخرة‬
‫وإن عطلت جميع أوامر ال وإن انتهكت كل حرماته!‪ ،‬وقد صرح بهذه العقيدة خالد بن‬
‫سلمة بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي وهو من بني أمية)‪ (641‬مما يؤكد على‬
‫دور السلطة الموية في نشر هذه العقيدة‪ ،‬وشعبة بن الحجاج)‪ ،(642‬ويحيى بن‬
‫معين)‪ ،(643‬وإبراهيم بن طهمان)‪ ،(644‬وحماد بن أبي سليمان)‪ ،(645‬وعون بن‬
‫عبدال)‪ ،(646‬وأبو عبدال عمرو بن مرة المرادي)‪ ،(647‬وأبو معاوية السعدي)‪ ،(648‬وعبد‬

‫‪ 641‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪5‬ص ‪.373‬‬


‫‪ 642‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪11‬ص ‪.99‬‬
‫‪ 643‬الذهبي "ميزان العتدال" ج ‪3‬ص ‪ 351‬في ترجمة الفضل بن دكين‪ ،‬ونقل أن ابن معين‬
‫يقول‪" :‬وإذا قال‪ :‬فلن كان مرجئًا‪ ،‬فاعلم أنه صاحب سنة ل بأس به‪ .‬قلت ]أي الذهبي[‪:‬‬
‫هذا قول دال على أن يحيى كان يميل إلى الرجاء"اهـ‪.‬‬
‫‪ 644‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪7‬ص ‪.380‬‬
‫‪ 645‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪5‬ص ‪.233‬‬
‫‪ 646‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪5‬ص ‪.104‬‬
‫‪ 647‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪5‬ص ‪.196‬‬
‫‪ 648‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪9‬ص ‪.76‬‬
‫المجيد بن عبد العزيز)‪ ،(649‬وشبابة بن سوار)‪ ،(650‬ومحارب بن دثار بن كردوس)‪،(651‬‬
‫وجميع هؤل هم من أئمة الحديث!‪.‬‬
‫غير أن هناك فرقة أخرى من أهل الحديث لم تنجرف بعيدًا عن أصل الفكرة‬
‫السرائيلية‪ ،‬يقول أحمد بن حنبل معبرًا عن موقف هذه الفرقة‪" :‬وأصحاب الذنوب‬
‫والخطايا‪ ،‬فأمرهم إلى ال‪ ،‬إن شاء عذب‪ ،‬وإن شاء غفر")‪ .(652‬وقال أيضًا‪" :‬وأن ال‬
‫يخرج أقوامًا من النار")‪.(653‬‬
‫ول نرى فرقًا بين الفرقتين‪ ،‬فيبنما حسم الفريق الول أمره وصرح بإلغاء شرائع‬
‫السلم‪ ،‬وجعل الدين سلمًا للفجور ومطية للرذيلة‪ ،‬ورأى أن التارك للصلة المانع للزكاة‬
‫المفطر في رمضان المضّيع للحج السارق الزاني المرابي العاصي الفاسق الفاجر‬
‫سيدخل الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء دون عقاب أو عذاب‪ ،‬أضاف الفريق‬
‫الثاني شرطًا فضفاضًا على نفس كلم الفريق الول‪ ،‬وقال‪ :‬إن العاصي الفاسق الفاجر‬
‫سيدخل الجنة إما مباشرة دون عقاب كما قال الفريق الول‪ ،‬أو أنه سيدخل النار أيامًا‬
‫معدودات ليتطهر من ذنبه كما قالت بنو اسرائيل‪ ،‬وهذان الحتمالن "دخول العاص‬
‫للجنة مباشرة‪ ،‬أو دخوله إياها بعد قليل من العذاب" راجعان إلى مشيئة ال الذي هو بهذا‬
‫العتبار متردد متحير لم يحسم أمره ليقرر أي الحتمالين سيختار!‪.‬‬
‫وبعد استقرائنا لمنهج أهل الحديث في التعامل مع عقائدهم فإننا ل نشك أن أسلوب‬
‫تنظيرهم لعقيدة الرجاء سيتماشى مع ذلك المنهج القائم على الطلق والجزم‬
‫ل يقول‪" :‬وقد دلّ السمع دللة‬ ‫والستدلل بمتشابه القرآن وتلفيق الروايات‪ ،‬فابن القيم مث ً‬
‫قاطعة على دوام ثواب المطيعين‪ ،‬وأما عقاب العصاة فقد دل السمع أيضا دللة قاطعة‬
‫على انقطاعه في حق الموحدين")‪.(654‬‬
‫وإذا تجاوزنا هذا الخطاب الدعائي الذي رأينا تهاوي مثله أمام الفحص العلمي‬
‫المتجرد‪ ،‬وحاولنا قراءة هذه العقيدة ما لها وما عليها وفق القواعد الكّلية المستوحاة من‬
‫النصوص المحكمة من الكتاب والسنة التي بيناها سابقًا‪ ،‬فإننا سنجد أن دعاوى الرجاء‬
‫ل مع تلك القواعد المحكمة‪.‬‬ ‫الفارغة تتعارض تعارضًا هائ ً‬
‫فقد استدل أهل الحديث لتأسيس عقيدة الرجاء بآيات متشابهات كقوله تعالى }ُقْل‬
‫جِميًعا‬‫ب َ‬‫ل َيْغِفُر الّذُنو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫حَمِة ا ِّ‬
‫طوا ِمن ّر ْ‬
‫سِهْم َل َتْقَن ُ‬
‫عَلى َأنُف ِ‬
‫سَرُفوا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫عَباِد َ‬
‫َيا ِ‬
‫حيُم{ الزمر ‪.53‬‬ ‫ِإّنُه ُهَو اْلَغُفوُر الّر ِ‬
‫ول وجود في هذا الية ذكر لخروج أهل الكبائر من النار وأنهم سيخرجون من‬
‫النار كما يدعي هؤلء‪ ،‬إل إذا افترضوا وجود فراغ في النص يقول بأن ال يغفر الذنوب‬
‫حتى ولو لم يتب النسان من ذنبه!‪.‬‬
‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪9‬ص ‪.434‬‬ ‫‪649‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪9‬ص ‪.513‬‬ ‫‪650‬‬

‫الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪5‬ص ‪.218‬‬ ‫‪651‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪. 76‬‬ ‫‪652‬‬

‫ابن أبي يعلى "طبقات الحنابلة" ج ‪1‬ص ‪.316‬‬ ‫‪653‬‬

‫ابن القيم "حادي الرواح" ص ‪.175‬‬ ‫‪654‬‬


‫والحق أن هذه الية تقرر سعة مغفرة ال تعالى‪ ،‬وهذه المغفرة ليست عبثية كما‬
‫تفترضها العقلية الجمعية للمحّدثين‪ ،‬لن ذلك سيؤدي إلى التعارض والتناقض بين آيات‬
‫الكتاب العزيز‪ ،‬فالتوبة لها شروط حددتها نصوص قطعية من القرآن الكريم مثل قوله‬
‫حا ُثّم اْهَتَدى{ طه‪ ،82 :‬ولو سلمنا‬ ‫صاِل ً‬‫عِمَل َ‬ ‫ن َو َ‬ ‫ب َوآَم َ‬ ‫تعالى }َوِإّني َلَغّفاٌر ّلَمن َتا َ‬
‫بمنطق أهل الحديث وأسقطنا شرط التوبة للمغفرة لوقع التعارض والتناقض‪ ،‬بيد أن‬
‫السلوب المنطقي في التعامل مع هذه الية هي النظر إلى تناغمها مع بنيان النصوص‬
‫المحكمة الخرى التي توجب التوبة كشرط للمغفرة من الكبائر‪ ،‬والذي يؤكد ما توصلنا‬
‫إليه هو أن ال عز وجل يذكر بعد الية التي استدلوا بها مباشرة ضرورة التوبة والنابة‬
‫إليه قبل أن يأتيهم العذاب وتنعدم فرص المغفرة‪ ،‬وذلك في قوله تعالى }َوَأِنيُبوا ِإَلى‬
‫ن َما ُأنِزَل‬ ‫سَ‬ ‫ح َ‬‫ن * َواّتِبُعوا َأ ْ‬ ‫صُرو َ‬ ‫ب ُثّم َل ُتن َ‬ ‫سِلُموا َلُه ِمن َقْبِل َأن َيْأِتَيُكُم اْلَعَذا ُ‬ ‫َربُّكْم َوَأ ْ‬
‫ن * َأن َتُقوَل َنْفسٌ َيا‬ ‫شُعُرو َ‬ ‫ب َبْغَتًة َوَأنُتْم َل َت ْ‬
‫ِإَلْيُكم ّمن ّرّبُكم ّمن َقْبِل َأن َيْأِتَيُكُم الَعَذا ُ‬
‫ن{الزمر‪ ،56-54 :‬وما‬ ‫خِري َ‬
‫سا ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫ت َلِم َ‬‫ل َوِإن ُكن ُ‬ ‫ب ا ِّ‬‫جن ِ‬ ‫ت ِفي َ‬ ‫حسَْرَتى عَلى َما َفّرط ُ‬ ‫َ‬
‫وقع أهل الحديث في مطب الفهم السيء للنصوص إل بسبب تعاملهم معها بصور‬
‫مجتزئة مبتسرة مسلوخة من السياق العام والقواعد الكّلية التي حددتها النصوص القطعية‬
‫المحكمة‪.‬‬
‫ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬
‫ن‬ ‫شَر َ‬‫ل َل َيْغِفُر َأن ُي ْ‬ ‫نا ّ‬ ‫كذلك استدل أهل الحديث بقوله تعالى }ِإ ّ‬
‫لًل َبِعيًدا{النساء‪ ،116 :‬ول نجد في هذه‬ ‫ضَ‬ ‫ضّل َ‬ ‫ل َفَقْد َ‬ ‫ك ِبا ّ‬ ‫شِر ْ‬‫شاء َوَمن ُي ْ‬ ‫ك ِلَمن َي َ‬ ‫َذِل َ‬
‫الية أدنى إشارة إلى خروج أهل الكبائر من النار كما يدعي هؤلء!‪ ،‬إل إذا افترضوا‬
‫مرة أخرى أن هناك فراغًا في النص يجب ملؤه بأفهامهم‪ ،‬فالية ترسخ حقيقتين ثابتتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬غفرانه تعالى لجميع ذنوب أهل السلم‪.‬‬
‫الثانية‪:‬عدم مغفرته تعالى للشرك‪.‬‬
‫والخذ بظاهر الية دون مبالة في تناغمها مع بقية النصوص المحكمة سيؤدي إلى‬
‫إشكالت نصية كبيرة‪ ،‬وذلك أن المغفرة قد ربطها ال تعالى في نصوص محكمة كثيرة‬
‫حا ُثّم اْهَتَدى{ طه‪:‬‬ ‫صاِل ً‬
‫عِمَل َ‬ ‫ب َوآَمنَ َو َ‬ ‫بالتوبة كما في قوله تعالى }َوِإّني َلَغّفاٌر ّلَمن َتا َ‬
‫جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ‬
‫ن‬ ‫سَوَء ِب َ‬‫ن ال ّ‬ ‫ن َيْعَمُلو َ‬‫ل ِلّلِذي َ‬
‫عَلى ا ّ‬ ‫‪ ،82‬وقوله عز وجل‪ِ} :‬إّنَما الّتْوَبُة َ‬
‫ت الّتْوَبُة ِلّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫س ِ‬‫حِكيمًا * َوَلْي َ‬ ‫عِليمًا َ‬ ‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫عَلْيِهْم َوَكا َ‬ ‫ل َ‬ ‫با ّ‬ ‫ك َيُتو ُ‬‫ب َفُأْوَلفِئ َ‬‫ِمن َقِري ٍ‬
‫ن َوُهْم‬ ‫ن َيُموُتو َ‬ ‫ن َوَل اّلِذي َ‬ ‫ت َقاَل ِإّني ُتْبتُ ال َ‬ ‫حَدُهُم اْلَمْو ُ‬ ‫ضَر َأ َ‬ ‫ح َ‬ ‫حّتى ِإَذا َ‬ ‫ت َ‬ ‫سّيَئا ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫َيْعَمُلو َ‬
‫عَذاًبا َأِليًما{ النساء‪ .18-17 :‬فلو سلمنا بمنطق أهل الحديث‬ ‫عَتْدَنا َلُهْم َ‬
‫ك َأ ْ‬‫ُكّفاٌر ُأْوَلفِئ َ‬
‫للزمنا إلغاء هذه النصوص المحكمة من الكتاب العزيز والتشريع السلمي!‪.‬‬
‫إل أن التأويل المنضبط وفق القرائن اللغوية يفيدنا أن الية التي استدل بها أهل‬
‫الحديث جاءت بصيغة العموم‪ ،‬فهي إذا عامة‪ ،‬وقد خصصتها نصوص وجوب التوبة‬
‫لحصول المغفرة‪ ،‬وهذا التأويل النابع من روح اللغة العربية ينقذ آيات الكتاب العزيز من‬
‫الشتباه والتعارض والتناقض ويجعلها تتآلف في انسجام وتناغم يؤكد عظمة وإعجاز‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫والشيء نفسه يقال في ما قررته الية من عدم مغفرة ال تعالى للشرك‪ ،‬وذلك أن‬
‫ال تعالى أخبرنا بأنه يغفر للمشرك إن هو دخل في السلم‪ ،‬وذلك في قوله تعالى }َفِإ ْ‬
‫ن‬
‫ل َوُهَو‬ ‫سَيْكِفيَكُهُم ا ّ‬ ‫ق َف َ‬ ‫شَقا ٍ‬‫آَمُنوْا ِبِمْثِل َمآ آَمنُتم ِبِه َفَقِد اْهَتَدوْا ّوِإن َتَوّلْوْا َفِإّنَما ُهْم ِفي ِ‬
‫السِّميُع اْلَعِليُم{ البقرة‪ ،137 :‬فنفي ال سبحانه وتعالى للتوبة على المشرك عامة‬
‫خصصتها توبته على المشرك إذا أنفك عن شركه وتاب ودخل في حظيرة السلم‪.‬‬
‫ن َقِد‬‫جّ‬‫شَر اْل ِ‬
‫جِميًعا َيا َمْع َ‬ ‫شُرُهْم َ‬ ‫حُ‬‫واستدل أهل الحديث بقوله تعالى }َوَيْوَم ِي ْ‬
‫جَلَنا‬
‫ض َوَبَلْغَنا َأ َ‬‫ضَنا ِبَبْع ٍ‬ ‫س َرّبَنا اسَْتْمَتَع َبْع ُ‬ ‫ن اِلن ِ‬ ‫س َوَقاَل َأْوِلَيآُؤُهم ّم َ‬ ‫ن اِلن ِ‬ ‫سَتْكَثْرُتم ّم َ‬ ‫ا ْ‬
‫عليٌم{‬ ‫حِكيٌم َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َرّب َ‬‫ل ِإ ّ‬‫شاء ا ّ‬ ‫ن ِفيَها ِإّل َما َ‬ ‫خاِلِدي َ‬ ‫ت َلَنا َقاَل الّناُر َمْثَواُكْم َ‬ ‫جْل َ‬‫ي َأ ّ‬
‫اّلِذ َ‬
‫النعام‪ .128 :‬ول نص في الية على مصير أهل الكبائر كما يدّعي المحّدثون‪.‬‬
‫ل‪ :‬لن الية تتحدث عن مصير المشركين كما يفهم من سياقها العام‪ ،‬والدليل‬ ‫أو ً‬
‫صْدَرُه‬ ‫ح َ‬ ‫شَر ْ‬‫ل َأن َيْهِدَيُه َي ْ‬ ‫على ذلك هو قول ال تعالى في اليات قبل هذه }َفَمن ُيِرِد ا ّ‬
‫جَعُل‬ ‫ك َي ْ‬ ‫سَماء َكَذِل َ‬ ‫صّعُد ِفي ال ّ‬ ‫جا َكَأّنَما َي ّ‬‫حَر ً‬‫ضّيًقا َ‬ ‫صْدَرُه َ‬ ‫جَعْل َ‬ ‫ضّلُه َي ْ‬
‫لِم َوَمن ُيِرْد َأن ُي ِ‬ ‫سَ‬ ‫ِللِ ْ‬
‫ت ِلَقْوٍم‬ ‫صْلَنا الَيا ِ‬ ‫سَتِقيًما َقْد َف ّ‬ ‫ك ُم ْ‬‫ط َرّب َ‬‫صَرا ُ‬‫ن * َوَهفَذا ِ‬ ‫ن َل ُيْؤِمُنو َ‬ ‫عَلى اّلِذي َ‬ ‫س َ‬ ‫ج َ‬ ‫ل الّر ْ‬ ‫ا ّ‬
‫ن{النعام‪.127-125 :‬‬ ‫عنَد َرّبِهْم َوُهَو َوِلّيُهْم ِبَما َكاُنوْا َيْعَمُلو َ‬ ‫لِم ِ‬‫سَ‬ ‫ن * َلُهْم َداُر ال ّ‬ ‫َيّذّكُرو َ‬
‫ثم جاءت الية التي استدل بها أهل الحديث لتبين مصير الكافرين من النس والجن‬
‫ن اِلن ِ‬
‫س‬ ‫ن اِلنسِ َوَقاَل َأْوِلَيآُؤُهم ّم َ‬ ‫سَتْكَثْرُتم ّم َ‬‫ن َقِد ا ْ‬‫جّ‬ ‫شَر اْل ِ‬‫جِميًعا َيا َمْع َ‬ ‫شُرُهْم َ‬ ‫حُ‬ ‫}وََيْوَم ِي ْ‬
‫ن ِفيَها ِإّل‬ ‫خاِلِدي َ‬
‫ت َلَنا َقاَل الّناُر َمْثَواُكْم َ‬ ‫جْل َ‬
‫ي َأ ّ‬‫جَلَنا اّلِذ َ‬
‫ض َوَبَلْغَنا َأ َ‬ ‫ضَنا ِبَبْع ٍ‬
‫سَتْمَتَع َبْع ُ‬ ‫َرّبَنا ا ْ‬
‫عليٌم{النعام‪.128 :‬‬ ‫حِكيٌم َ‬
‫ك َ‬ ‫ن َرّب َ‬‫ل ِإ ّ‬
‫شاء ا ّ‬ ‫َما َ‬
‫ثم يؤكد ال تعالى على كفر الجن والنس المقصودين بالية في قوله تعالى بعد ذلك‬
‫س َأَلْم‬‫ن َواِلن ِ‬ ‫جّ‬‫شَر اْل ِ‬ ‫سُبونَ * َيا َمْع َ‬ ‫ضا ِبَما َكاُنوْا َيْك ِ‬ ‫ن َبْع ً‬ ‫ظاِلِمي َ‬‫ض ال ّ‬‫ك ُنَوّلي َبْع َ‬ ‫}وََكَذِل َ‬
‫عَلى‬ ‫شِهْدَنا َ‬ ‫عَلْيُكْم آَياِتي َوُينِذُروَنُكْم ِلَقاء َيْوِمُكْم َهفَذا َقاُلوْا َ‬ ‫ن َ‬
‫صو َ‬ ‫سٌل ّمنُكْم َيُق ّ‬ ‫َيْأتُِكْم ُر ُ‬
‫ن{النعام‪-129 :‬‬ ‫سِهْم َأّنُهْم َكاُنوْا َكاِفِري َ‬ ‫عَلى َأنُف ِ‬ ‫شِهُدوْا َ‬ ‫حَياُة الّدْنَيا َو َ‬
‫غّرْتُهُم اْل َ‬‫سَنا َو َ‬ ‫َأنُف ِ‬
‫‪.130‬‬
‫فاستدلل أهل الحديث بهذه الية يبين مدى المرواغة التي يمارسها أهل الحديث‬
‫على أتباعهم‪.‬‬
‫ل{ ل يدل على النقطاع‪ ،‬بل يدل‬ ‫شاء ا ّ‬ ‫ثانيًا‪ :‬الستثناء في قوله تعالى }ِإّل َما َ‬
‫على أن المخبر عنه –وهو الخلود في النار‪ -‬دائم بمشيئة ال عز وجل ل بمشيئة غيره‪،‬‬
‫ن ِفيَها َما َداَم ِ‬
‫ت‬ ‫خاِلِدي َ‬‫جّنِة َ‬‫سِعُدوْا َفِفي اْل َ‬ ‫ن ُ‬ ‫وذلك كما في قوله تعالى‪َ} :‬وَأّما اّلِذي َ‬
‫جُذوٍذ{هود‪ 108 :‬علمًا بأننا نقطع بأنه‬ ‫غْيَر َم ْ‬‫طاء َ‬ ‫عَ‬ ‫ك َ‬ ‫شاء َرّب َ‬ ‫ض ِإّل َما َ‬‫ت َواَلْر ُ‬ ‫السَّماَوا ُ‬
‫ل يخرج من الجنة أحد البتة‪ ،‬فالمقصود بالية أن دوام نعيم أهل الجنة إنما هو ثابت‬
‫شاء‬ ‫سى * ِإّل َما َ‬ ‫ل َتن َ‬ ‫ك َف َ‬‫بمشيئة ال ل بمشيئة غيره‪ ،‬ومثاله أيضًا قوله تعالى }سَُنْقِرُؤ َ‬
‫ل{العلى‪ ،7-6 :‬والنبي ‪ ‬لم ينس شيئًا من القرآن المقروء‪ ،‬ولو نسي شيئًا منه‬ ‫ا ُّ‬
‫لسقطت عصمة النبوة‪ ،‬ومثاله أيضًا قوله تعالى }ُثّم َأَماَتُه َفَأْقَبَرُه * ُثّم ِإَذا َ‬
‫شاء‬
‫َأنشََرُه{عبس‪ ،22-21 :‬علمًا بأن نشر الخلئق يوم القيامة أمر مقطوع بحصوله‪ ،‬ومثاله‬
‫ن{الفتح‪ ،27 :‬ودخولهم‬ ‫ل آِمِني َ‬‫شاء ا ُّ‬ ‫حَراَم ِإن َ‬‫جَد اْل َ‬
‫سِ‬ ‫ن اْلَم ْ‬ ‫أيضًا قوله تعالى‪َ} :‬لَتْد ُ‬
‫خُل ّ‬
‫سوَلُه‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ق ا ُّ‬ ‫صَد َ‬‫المسجد الحرام شيء مقطوع به وهو يؤكد قوله تعالى قبل ذلك }َلَقْد َ‬
‫ق{الفتح‪.(655)27 :‬‬ ‫ح ّ‬‫الّرْؤَيا ِباْل َ‬
‫كذلك استدل أهل الحديث لترسيخ عقيدة الرجاء في المة بقوله تعالى }َفَأّما اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫ت َواَلْرضُ ِإّل‬ ‫سَماَوا ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ن ِفيَها َما َداَم ِ‬ ‫خاِلِدي َ‬
‫ق* َ‬ ‫شِهي ٌ‬ ‫شُقوْا َفِفي الّناِر َلُهْم ِفيَها َزِفيٌر َو َ‬ ‫َ‬
‫ك َفّعاٌل ّلَما ُيِريُد{هود‪.107-106 :‬‬ ‫ن َرّب َ‬‫ك ِإ ّ‬
‫شاء َرّب َ‬ ‫َما َ‬
‫ك{ الذي نسج حوله أهل الحديث أحلمهم وأوهامهم‬ ‫شاء َرّب َ‬ ‫وقوله تعالى }ِإّل َما َ‬
‫يقال فيه نفس ما قيل في جواب الدليل السابق‪ .‬كما أنه يلزمهم القول حسب تأويلهم‬
‫الهرمسي للية الكريمة أن يقطعوا كذلك بخروج بعض أهل الجنة منها‪ ،‬وذلك لنه جاء‬
‫سِعُدوْا َفِفي‬ ‫ن ُ‬ ‫بعد هذه الية ما يقابلها في جزاء أهل الجنة وهو قوله تعالى }َوَأّما اّلِذي َ‬
‫غْيَر‬
‫طاء َ‬ ‫عَ‬‫ك َ‬ ‫شاء َرّب َ‬ ‫ض ِإّل َما َ‬ ‫ت َواَلْر ُ‬‫سَماَوا ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ن ِفيَها َما َداَم ِ‬ ‫خاِلِدي َ‬
‫جّنِة َ‬ ‫اْل َ‬
‫جُذوٍذ{هود‪.108 :‬‬ ‫َم ْ‬
‫ض { هو مما تقوله العرب في‬ ‫ت َواَلْر ُ‬ ‫سَماَوا ُ‬
‫ت ال ّ‬ ‫وأصل قوله تعالى } َما َداَم ِ‬
‫الستبعاد والتأبيد‪" ،‬كقولهم ل أفعل هذا ما اختلف الجديدان‪ ،‬وما اختلف الليل والنهار‪،‬‬
‫وما حّنت البل‪ ،‬وما أقام الجبل‪ ،‬وما دامت السموات والرض‪ ،‬وما أطما البحر" هذا كله‬
‫به يريدون به التأيبد واستبعاد النتهاء‪ ،‬فخاطبهم ال بما يعقلون من كلمهم")‪ ،(656‬بيد أن‬
‫التعاطي النصوصي التجزيئي الذي ينتهجه أهل الحديث بالضافة إلى إنكارهم المجاز‬
‫جدر اليات المحكمة‪.‬‬ ‫يجعلهم يتشبثون بظواهر اللفاظ المتشابهة ليتسلقوا ُ‬
‫ن َمآًبا‬ ‫غي َ‬ ‫طا ِ‬ ‫صاًدا * ِلْل ّ‬ ‫ت ِمْر َ‬ ‫جَهّنَم َكاَن ْ‬
‫ن َ‬ ‫واستدل أهل الحديث أيضًا بقوله تعالى }ِإ ّ‬
‫حَقاًبا{النبأ‪ .23-21 :‬ول وجود لذكر أهل الكبائر وخروجهم من النار في‬ ‫ن ِفيَها َأ ْ‬‫* َلِبِثي َ‬
‫هذه الية‪.‬‬
‫وكلمة الحقاب التي استشكلت على أفهام أهل الحديث مأخوذة من أحقب إذا‬
‫أردف‪ ،‬فهي تدل على الترادف المستمر الذي ل انقطاع له كما قال الحسن البصري‪:‬‬
‫"أما الحقاب فليس لها عدة إل الخلود في النار")‪ ،(657‬ويلزم أصحاب هذا الرأي الذي‬
‫توهم أن الية تقرر خروج أهل الكبائر من النار أن يقطعوا أيضًا بفناء عذاب النار‬
‫للكفار‪ ،‬لن الية تتحدث عن جميع أهل النار‪ ،‬ول ذكر للتفريق بين حال أهل الكبائر‬
‫وغيرهم إل إذا افترضنا وجود فراغات نصية يجب ملؤها بأفكار أهل الحديث!‪.‬‬
‫ل ِإّما ُيَعّذُبُهْم‬ ‫ن َِلْمِر ا ّ‬ ‫جْو َ‬ ‫ن ُمْر َ‬‫خُرو َ‬ ‫واستدل أهل الحديث كذلك بقوله تعالى }َوآ َ‬
‫عَلْيِهْم{ التوبة‪ ،106 :‬والية ل علقة لها بأصحاب الكبائر من أهل النار‪،‬‬ ‫ب َ‬ ‫َوِإّما َيُتو ُ‬
‫فنحن إذا رجعنا إلى السياق العام للية سنجد أن ما ذهبوا إليه إنما أملته عليهم أفهامهم‬
‫الملوثة بعقيدة الرجاء‪ ،‬فال تعالى يخبرنا عن أحوال العراب حول المدينة وأنهم على‬
‫ن َوِم ْ‬
‫ن‬ ‫ب ُمَناِفُقو َ‬ ‫عَرا ِ‬‫ن اَل ْ‬ ‫حْوَلُكم ّم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ثلثة فرق‪ ،‬الفريق الول هو فريق المنافقين‪َ} :‬وِمّم ْ‬
‫أحمد بن حمد الخليلي "الحق الدامغ" ص ‪ .193-192‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪655‬‬

‫جميل بن خميس السعدي "قاموس الشريعة" ج ‪5‬ص ‪.472‬‬ ‫‪656‬‬

‫تفسير الطبري ج ‪30‬ص ‪.11‬‬ ‫‪657‬‬


‫ن ِإَلى‬‫ن ُثّم ُيَرّدو َ‬‫سُنَعّذُبُهم ّمّرَتْي ِ‬
‫ن َنْعَلُمُهْم َ‬ ‫حُ‬ ‫ق َل َتْعَلُمُهْم َن ْ‬‫عَلى الّنَفا ِ‬‫َأْهِل اْلَمِديَنِة َمَرُدوْا َ‬
‫ظيٍم{ التوبة‪ ،101 :‬والفريق الثاني هم المؤمنون الذين تلبسوا ببعض المعاصي‬ ‫عِ‬‫ب َ‬ ‫عَذا ٍ‬‫َ‬
‫لكنهم سرعان ما أقّروا بذنوبهم‪ ،‬وتابوا توبة نصوحًا‪ ،‬وهؤلء سيغفر ال تعالى لهم‪:‬‬
‫ب عََلْيِهْم‬‫ل َأن َيُتو َ‬ ‫سى ا ّ‬ ‫عَ‬‫سّيًئا َ‬‫خَر َ‬ ‫حا َوآ َ‬ ‫صاِل ً‬
‫ل َ‬ ‫عَم ً‬‫طوْا َ‬ ‫خَل ُ‬
‫عَتَرُفوْا ِبُذُنوِبِهْم َ‬
‫نا ْ‬ ‫خُرو َ‬‫}َوآ َ‬
‫عَلْيِهْم ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫صّل َ‬‫طّهُرُهْم وَُتَزّكيِهم ِبَها َو َ‬ ‫صَدَقًة ُت َ‬‫ن َأْمَواِلِهْم َ‬ ‫خْذ ِم ْ‬
‫حيٌم * ُ‬ ‫غُفوٌر ّر ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ِإنّ ا ّ‬
‫خُذ‬
‫عَباِدِه َوَيْأ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫عْ‬‫ل ُهَو َيْقَبُل الّتْوَبَة َ‬‫نا ّ‬ ‫عِليٌم * َأَلْم َيْعَلُموْا َأ ّ‬ ‫سِميٌع َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ّلُهْم َوا ّ‬ ‫سَك ٌ‬‫ك َ‬ ‫لَت َ‬
‫صَ َ‬
‫سوُلُه‬‫عَمَلُكْم َوَر ُ‬‫ل َ‬‫عَمُلوْا َفسََيَرى ا ّ‬ ‫حيُم * َوُقِل ا ْ‬ ‫ب الّر ِ‬‫ل ُهَو الّتّوا ُ‬ ‫نا ّ‬ ‫ت َوَأ ّ‬‫صَدَقا ِ‬‫ال ّ‬
‫ن{ التوبة‪:‬‬ ‫شَهاَدِة َفُيَنّبُئُكم ِبَما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫عاِلِم اْلَغْي ِ‬
‫ن ِإَلى َ‬‫سُتَرّدو َ‬ ‫ن َو َ‬ ‫َواْلُمْؤِمُنو َ‬
‫‪.105-102‬‬
‫خُرو َ‬
‫ن‬ ‫أما الفريق الثالث فهم الذين ذكرتهم الية التي استدل بها أهل الحديث }َوآ َ‬
‫حِكيٌم{ التوبة‪ ،106 :‬وهذا‬ ‫عِليٌم َ‬‫ل َ‬ ‫عَلْيِهْم َوا ّ‬ ‫ب َ‬ ‫ل ِإّما ُيَعّذُبُهْم َوِإّما َيُتو ُ‬
‫ن َِلْمِر ا ّ‬ ‫جْو َ‬‫ُمْر َ‬
‫الفريق يشكله الذين خلطوا العمل الصالح بالعمل السيء‪ ،‬بيد أنهم لم يظهروا توبة‬
‫نصوحًا متبوعة بالعمل الصالح كما هو الحال مع الفريق الثاني‪ ،‬فلم يخبرنا ال تعالى‬
‫بمصيرهم‪ ،‬وأمرنا بالتوقف فيهم‪ ،‬وأخبرنا بأنه سوف يطلعنا على مصيرهم يوم القيامة‪،‬‬
‫ل منه في مصيرهم حاشاه عز وجل وهو الذي يعلم ما كان وما سيكون‪ ،‬فلهذا‬ ‫ليس جه ً‬
‫حِكيٌم{‪ .‬وهذا التقسيم يتوافق وما أصله علماؤنا في قضية الولية‬ ‫عِليٌم َ‬‫ل َ‬ ‫قال تعالى }َوا ّ‬
‫والبراءة‪ ،‬فالناس إما شخص بان لك صلحه فتواليه‪ ،‬أو شخص بان لك ضلله فتتبرأ‬
‫منه‪ ،‬أو شخص خفي عليك أمره فتتوقف فيه‪ ،‬وهذا التقسيم نفسه هو الذي جاءت اليات‬
‫السابقة لتبينه للمة‪ .‬وليس في الية دليل على عقيدة الرجاء من قريب أو بعيد‪.‬‬
‫مما سبق نجد أن النصوص الواضحة الجلية المحكمة تقطع بما ل يدع مجال للشك‬
‫أن أهل الكبائر من الفجار مخّلدون في النار‪ ،‬وأن دعوى النصية على خروجهم ليست إل‬
‫فقاعات تتبخر حين تلمس سطح الحقيقة‪.‬‬
‫وحين أعيّت أهل الحديث الحيلة في إثبات دعواهم اضطروا إلى اختلق النصوص‬
‫وتعليبها في طابع روائي‪ ،‬وتمت احاطتها بالعصمة عن طريق نسبتها إلى النبي ‪،!‬‬
‫وهذه النصوص يغلب عليها طابع الخرافة والساطير الموجودة في تراث المم السابقة‪،‬‬
‫وهي مع ذلك ل يمكن لها أن تؤسس عقيدة لنها روايات آحادية ظنية الثبوت –ونحن ل‬
‫نشك في وضعها‪ -‬كما أنها تصادم نصوصًا قطعية الثبوت والدللة في خلود أهل الكبائر‬
‫في النار‪.‬‬
‫من تلك الروايات المختلقة‪ ،‬ما نسبه أهل الحديث إلى الرسول ‪ ‬وأنه قال لبي‬
‫ذر‪" :‬ما من عبد قال‪ :‬ل إله إل ال ثم مات على ذلك إل دخل الجنة‪ .‬قال أبو ذر‪ :‬وإن‬
‫زنى وإن سرق؟ قال‪ :‬وإن زنى وإن سرق؟ فال‪ :‬وإن زنى وإن سرق‪ .‬قال‪ :‬وإن زنى‬
‫وإن سرق‪ .‬ثلثًا‪ ،‬ثم قال في الرابعة‪ :‬على رغم أنف أبي ذر")‪ .(658‬والبخاري في كتابه‬
‫"صحيح البخاري" أدرك سخافة الستدلل بهذه الرواية لثبات خروج أهل الكبائر من‬

‫البخاري ‪ 5827‬و ‪ 2388‬و ‪ 6444‬ومسلم]‪ (94)-153[272‬و]‪(94)-154[273‬‬ ‫‪658‬‬


‫ل‪" :‬قال أبو عبدال –يعني أحمد بن حنبل‪ : -‬هذا عند الموت أو قبله‬ ‫النار فعلق عليها قائ ً‬
‫‪659‬‬
‫إذا تاب أو ندم‪ ،‬وقال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬غفر له") (‪.‬‬
‫وهذه الرواية الملفقة عبارة عن دعوة مفتوحة للفجرة والمجرمين للسرقة واقتراف‬
‫فاحشة الزنا العظيمة!‪ ،‬وأبو ذر الغفاري رضي ال عنه ابتلي بوضع الحاديث الكثيرة‬
‫عليه‪ ،‬وذلك لنه كان شخصية محبوبة عند المسلمين لما تميز به تاريخه من زهد وورع‬
‫ووقوف أمام الظلمة من ولة بني أمية‪ ،‬حتى مات وحيدًا في أرض الربذة‪ ،‬وساهم نفيه‬
‫في سهولة التلفيق عليه لعدم وجود مصادر تبين من التقى أو من لم يلتق به‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات السطورية ما رواه أبو هريرة‪" :‬قال أناس‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هل‬
‫نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال‪ :‬هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب‪ .‬قالوا‪ :‬ل يا‬
‫رسول ال‪ ،‬قال‪ :‬هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب‪ .‬قالوا‪ :‬ل يا رسول‬
‫ال‪ ،‬قال‪ :‬فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك‪ ،‬يجمع ال الناس‪ ،‬فيقول‪ :‬من كان يعبد شيئًا‬
‫فليّتبعه‪ ،‬فيتبع من كان يعبد الشمس‪ ،‬ويتبع من كان يعبد القمر‪ ،‬ويّتبع من كان يعبد‬
‫الطواغيت‪ ،‬وتبقى هذه المة فيها منافقوها‪ ،‬فيأتيهم ال في غير الصورة التي يعرفون‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬نعوذ بال منك‪ ،‬هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا‪ ،‬فإذا أتانا ربنا‬
‫عرفناه‪ ،‬فيأتيهم ال في الصورة التي يعرفون‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬أنت ربنا‬
‫فيتبعونه‪ ،‬ويضرب جسر جهنم‪ ،‬قال رسول ال ‪ :‬فأكون أول من يجيز‪ ،‬ودعاء الرسل‬
‫يومئذ‪ :‬اللهم سلم سلم‪ .‬وبه كلليب مثل شوك السعدان‪ ،‬أما رأيتم شوك السعدان(‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫بلى يا رسول ال‪ ،‬قال‪) :‬فإنها مثل شوك السعدان‪ ،‬غير أنها ل يعلم قدر عظمها إل ال‪،‬‬
‫فتخطف الناس بأعمالهم‪ ،‬منهم الموبق بعمله ومنهم المخردل‪ ،‬ثم ينجو‪ ،‬حتى إذا فرغ ال‬
‫من القضاء بين عباده‪ ،‬وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج‪ ،‬ممن كان يشهد أن‬
‫ل إله إل ال‪ ،‬أمر الملئكة أن يخرجوهم‪ ،‬فيعرفونهم بعلمة آثار السجود‪ ،‬وحرم ال‬
‫على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود‪ ،‬فيخرجونهم قد امتحشوا‪ ،‬فيصب عليهم ماء‬
‫يقال له ماء الحياة‪ ،‬فينبتون نبات الحبة في حميل السيل‪ ،‬ويبقى رجل مقبل بوجهه على‬
‫النار‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب‪ ،‬قد قشبني ريحها‪ ،‬وأحرقني ذكاؤها‪ ،‬فاصرف وجهي عن النار‪ ،‬فل‬
‫يزال يدعو ال‪ ،‬فيقول‪ :‬لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره‪ ،‬فيقول‪ :‬ل وعزتك ل أسألك‬
‫غيره‪ ،‬فيصرف وجهه عن النار‪ ،‬ثم يقول بعد ذلك‪ :‬يا رب قربني إلى باب الجنة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫أليس قد زعمت أن ل تسألني غيره‪ ،‬ويلك ابن آدم ما أغدرك‪ ،‬فل يزال يدعو‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره‪ ،‬فيقول‪ :‬ل وعزتك ل أسألك غيره‪ ،‬فيعطي ال من‬
‫عهود ومواثيق أن ل يسأله غيره‪ ،‬فيقربه إلى باب الجنة‪ ،‬فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء‬
‫ال أن يسكت‪ ،‬ثم يقول‪ :‬رب أدخلني الجنة‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أوليس قد زعمت أن ل تسألني‬
‫غيره‪ ،‬ويلك يا ابن آدم ما أغدرك‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب ل تجعلني أشقى خلقك‪ ،‬فل يزال يدعو‬
‫حتى يضحك‪ ،‬فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها‪ ،‬فإذا دخل فيها قيل‪ :‬تمن من كذا‪،‬‬

‫البخاري "صحيح البخاري" ص ‪ 1249‬معلقا ً على الرواية رقم ‪.5827‬‬ ‫‪659‬‬


‫فيتمنى‪ ،‬ثم يقال له‪ :‬تمن من كذا‪ ،‬فيتمنى‪ ،‬حتى تنقطع به الماني‪ ،‬فيقول له‪ :‬هذا لك ومثله‬
‫معه(‪.(660)".‬‬
‫وفي رواية أبي سعيد الخدري الزيادة التالية‪" :‬فيأتيهم الجبار في صورة غير‬
‫صورته التي رأوها أول مرة‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬أنت ربنا‪ ،‬فل يكلمه إل‬
‫ساق‪ .‬فيكشف عن ساقه‪ ،‬فيسجد‬ ‫النبياء‪ ،‬فيقول‪ :‬هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون‪ :‬ال ّ‬
‫له كل مؤمن")‪.(661‬‬
‫والرواية يغلب عليها طابع المثيلوجيا والساطير السرائيلية‪ ،‬فهي مشحونة‬
‫بالتجسيم الفاضح والتشبيه الواضح‪ ،‬وهي تصور أحداث يوم القيامة كما لو كان مشهدًا‬
‫من مشاهد الثارة في أفلم الرعب‪ ،‬وينتهي بكوميديا ساخرة يكون فيها ال –حسب‬
‫تصوير الرواية الخرافية‪ -‬في موقف الله الذي يغدر به عبده كل حين ول ينتبه لذلك‪،‬‬
‫حتى ينال العبد ما يريد!‪.‬‬
‫يقول حسن السقاف معلقًا على هذه الرواية‪" :‬ومثل قضية الرؤية ومجيء ال تعالى‬
‫يوم القيامة وإتيانه بمقتضى الخيال اليهودي التجسيمي‪ ،‬وكذا فكرة الصراط بالمعنى الذي‬
‫أنكرناه وفندنا فكرته في "صحيح شرح الطحاوية" مأخوذ من كعب الحبار وعبدال بن‬
‫سلم بل شك وبل ريب‪ ،‬والحديث الطويل الذي فيه ذكر الرؤية والاتيان والصراط الذي‬
‫هو الجسر الذي على متن جهنم‪ ،‬وتشّكل ال بصورة وكشف لهم عن ساقه‪ ،‬كل هذه‬
‫الفكار جاءت في حديث واحد وهو الحديث الطويل الذي يرويه أبو هريرة وأبو سعيد‬
‫في الصحيحين وابن مسعود في غير الصحيحين‪ ،‬فل يشك المتأمل فيه أن هذه القصة‬
‫الطويلة المناقضة تمام المناقضة لما جاء في القرآن الكريم لم تأت إل من عند أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬وأنها من نسج خيالهم وقصصهم وتحريفهم ووضعهم‪ ،‬لسيما وأنهم كانوا‬
‫يفسرون القرآن على حسب النظريات القائمة بأذهانهم والمقتبسة من الفكر التجسيمي‬
‫المناقض للقواعد المثبتة في نفس القرآن الكريم")‪.(662‬‬
‫ومما يؤكد افتراض حسن السقاف أن هذه الرواية وهذه الفكار من تسريبات أهل‬
‫الكتاب هو ما ثبت بالنص القاطع في القرآن الكريم أن فكرة خروج أهل المعاصي من‬
‫سَنا الّناُر ِإّل َأّياًما‬ ‫النار هي فكرة إسرائيلية‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم َقاُلوْا َلن َتَم ّ‬
‫ن{ آل عمران ‪ .24‬وقال تعالى محذرًا‬ ‫غّرُهْم ِفي ِديِنِهم ّما َكاُنوْا َيْفَتُرو َ‬
‫ت َو َ‬
‫ّمْعُدوَدا ٍ‬
‫ي َأْهِل‬ ‫المسلمين من الوقوع في مهاوي هذه الفكرة السرائيلية }ّلْي َ‬
‫س ِبَأَماِنّيُكْم َول َأَماِن ّ‬
‫صيًرا{ النساء ‪.123‬‬ ‫ل َوِلّيا َوَل َن ِ‬
‫نا ّ‬ ‫جْد َلُه ِمن ُدو ِ‬ ‫جَز ِبِه َوَل َي ِ‬
‫سوًءا ُي ْ‬‫ب َمن َيْعَمْل ُ‬
‫اْلِكَتا ِ‬
‫واستدل أهل الحديث برواية نسجتها مخيلة أحد المرجئة من طريق أنس بن مالك‬
‫وأنه قال‪" :‬أن النبي ‪ ‬ومعاذ رديفه على الرحل قال‪ :‬يا معاذ بن جبل‪ .‬قال‪ :‬لبيك يا‬
‫رسول ال وسعديك‪ .‬قال‪ :‬يا معاذ‪ .‬قال‪ :‬لبيك يا رسول ال وسعديك ثلثًا‪ .‬قال‪ :‬ما من أحد‬

‫‪ 660‬البخاري ‪ 806‬و ‪ 6573‬و ‪.7437‬‬


‫‪ 661‬البخاري ‪.7439‬‬
‫‪ 662‬حسن بن علي السقاف في مقدمته على كتاب "العلو" للذهبي بتحقيق حسن السقاف‬
‫ص ‪.44‬‬
‫يشهد أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدًا رسول ال صدقًا من قلبه إل حرمه ال على النار‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أفل أخبر به الناس فيستبشروا‪ .‬قال‪ :‬إذا يتكلوا‪ .‬وأخبر بها معاذ عند‬
‫موته تأثمًا")‪.(663‬‬
‫"وهذا الحديث ينقض آخره أوله‪ ،‬ودلئل وضعه‪ :‬معارضته لنصوص الكتاب‬
‫ن َيْكُتُمو َ‬
‫ن‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫العزيز‪ ،‬وفيه كتم للعلم والشرع في قضية خطيرة جدًا مع قوله تعالى }ِإ ّ‬
‫ك َيلَعُنُهُم الّ‬ ‫ب ُأوَلفِئ َ‬
‫س ِفي اْلِكَتا ِ‬‫ت َواْلُهَدى ِمن َبْعِد َما َبّيّناُه ِللّنا ِ‬ ‫ن اْلَبّيَنا ِ‬
‫َما َأنَزْلَنا ِم َ‬
‫ك ِمن‬‫سوُل َبّلْغ َما ُأنِزَل ِإَلْي َ‬ ‫ن{ البقرة‪ ،159 :‬وقوله تعالى‪َ} :‬يا َأيَّها الّر ُ‬ ‫عُنو َ‬ ‫لِ‬ ‫َويَْلَعُنُهُم ال ّ‬
‫س{ المائدة‪ .67 :‬ومخالفة‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫ك ِم َ‬
‫صُم َ‬
‫ل َيْع ِ‬ ‫ساَلَتُه َوا ّ‬
‫ت ِر َ‬
‫ك َوِإن ّلْم َتْفَعْل َفَما َبّلْغ َ‬ ‫ّرّب َ‬
‫معاذ أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بإخباره‪ ،‬وهذا طعن في هذ الصحابي الجليل‪،‬‬
‫ل")‪.(664‬‬ ‫وعلى من يثبت هذا الطعن أن يسقط الرواية أص ً‬
‫واستدل أهل الحديث بما نسب إلى أبي هريرة أنه قال‪" :‬ثم كنا قعودًا حول رسول‬
‫ال ‪ ،‬ومعنا أبو بكر وعمر في نفر‪ ،‬فقام رسول ال ‪ ‬من بين أظهرنا‪ ،‬فأبطأ علينا‪،‬‬
‫وخشينا أن ُيقتطع دوننا‪ ،‬وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع‪ ،‬فخرجت أبتغي رسول ال‬
‫‪ ‬حتى أتيت حائطًا للنصار لبني النجار‪ ،‬فدرت به هل أجد له بابًا‪ ،‬فلم أجد‪ ،‬فإذا ربيع‬
‫يدخل في جوف حائط من بئر خارجة )والربيع الجدول(‪ ،‬فاحتفزت كما يحتفز الثعلب‪،‬‬
‫فدخلت على رسول ال ‪ ،‬فقال‪ :‬أبو هريرة‪ .‬فقلت‪ :‬نعم يا رسول ال‪ .‬قال‪ :‬ما شأنك؟‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا‪ ،‬فخشينا أن تقتطع دوننا‪ ،‬ففزعنا‪ ،‬فكنت أول‬
‫من فزع‪ ،‬فأتيت هذا الحائط‪ ،‬فاحتفزت كما يحتفز الثعلب‪ ،‬وهؤلء الناس ورائي‪ .‬فقال‪ :‬يا‬
‫أبا هريرة‪ ،‬وأعطاني نعليه‪ ،‬قال‪ :‬اذهب بنعلي هاتين‪ ،‬فمن لقيت من وراء هذا الحائط‬
‫يشهد أن ل إله إل ال مستقينا بها قلبه فبشره بالجنة‪ .‬فكان أول من لقيت عمر‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬
‫هاتان النعلن يا أبا هريرة؟‪ .‬فقلت‪ :‬هاتان نعل رسول ال ‪ ‬بعثني بهما من لقيت‬
‫يشهد أن ل إله إل ال مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة‪ .‬فضرب عمر بيده بين ثديي‪،‬‬
‫فخررت لستي‪ ،‬فقال‪ :‬ارجع يا أبا هريرة‪ ،‬فرجعت إلى رسول ال ‪ ،‬فأجهشت بكاء‪،‬‬
‫وركبني عمر‪ ،‬فإذا هو على أثري‪ ،‬فقال لي رسول ال ‪ :‬ما لك يا أبا هريرة‪ .‬قلت‪:‬‬
‫لقيت عمر‪ ،‬فأخبرته بالذي بعثتني به‪ ،‬فضرب بين ثديي ضربه خررت لستي‪ .‬قال‪:‬‬
‫ارجع‪ .‬فقال له رسول ال ‪ :‬يا عمر ما حملك على ما فعلت؟‪ .‬قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬بأبي‬
‫أنت وأمي‪ ،‬أبعثت أبا هريرة بنعليك‪ ،‬من لقي يشهد أن ل إله إل ال مستيقنًا بها قلبه بشره‬
‫بالجنة؟‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فل تفعل‪ ،‬فإني أخشى أن يّتكل الناس عليها‪ ،‬فخلهم يعملون‪ .‬قال‬
‫رسول ال ‪ :‬فخلهم)‪.(665‬‬
‫"وما قلناه عن الحديث السالف نقوله هنا مع التي‪:‬‬
‫رفض عمر بن الخطاب رضي ال عنه لحديث رسول ال ‪ ،‬وطعن في رسول‬
‫ال ‪ ‬المعصوم –حاشاه‪ -‬بأنه ل يعرف دقائق التشريع‪ .‬رضوخ الرسول ‪ ‬لعمر في‬
‫البخاري ‪ ،128‬ومسلم ]‪.(32)-53[148‬‬ ‫‪663‬‬

‫خميس بن راشد العدوي‪ ،‬نقل كلمه خالد الوهيبي "معالم الزمن القادم" ص ‪.60-59‬‬ ‫‪664‬‬

‫مسلم ]‪.(31)-52[147‬‬ ‫‪665‬‬


‫التشريع –حاشاه‪ .-‬ومع كل ذلك‪ ،‬فهذه الرواية أشبه بمسرحية هزلية‪ ،‬الرسول ‪ ‬وراء‬
‫الحائط يخبر أبا هريرة بهذا الكلم المناقض لكتاب ال تعالى والهدي الذي يعلمه‬
‫أصحابه‪ ،‬وفي هذه اللحظة‪ ،‬وهذا المكان يقرر الرسول ‪ ،‬وفي سرية ومن وراء الجدر‬
‫والحوائط أن )يمنح المة كرامة فعل المعاصي(‪ .‬ثم يكون خاتم الرسالة النبوية النعال‪ ،‬ثم‬
‫إتمامًا للمشهد الهزلي يلقى أبو هريرة عمر ويخبره‪ ،‬ويحدث الموقف المضحك‪ ،‬يضرب‬
‫عمر أبا هريرة ضربة قوية بين ثدييه‪ ،‬ويقع على أسته‪ ،‬ول بد أننا نتصور حركة أقدام‪،‬‬
‫ونسمع صوت الرتطام‪ ،‬ثم النهوض بعد التعثر والوجع‪ ،‬ثم الشكوى مع رسول ال ‪‬‬
‫إلى آخر المسرحية‪ ،‬حاشا رسول ال ‪ ‬وصحابته عن هذا الهراء الذي ل يستقيم عن‬
‫ل عن خاصتهم‪ ،‬وفيهم سيد الثقلين")‪.(666‬‬ ‫عوام الناس فض ً‬
‫واستدلوا كذلك برواية تزعم أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬شفاعتي لهل الكبائر من أمتي"‪،‬‬
‫وهذه الرواية مع بطلن متنها المصادم للقواعد الكّلية المستوحاة من النصوص المحكمة‬
‫من الكتاب العزيز‪ ،‬والذي يوحي بأن أفضل وسيلة لنيل الشفاعة هي عن طريق التردي‬
‫في درك الرذيلة وشرب الخمر وفعل الزنا‪ ،‬ومعارضتها لنص قوله تعالى }َوَل َي ْ‬
‫شَفُعو َ‬
‫ن‬
‫عنَد‬
‫خَذ ِ‬‫ن اّت َ‬
‫عَة ِإّل َم ِ‬
‫شَفا َ‬ ‫ضى{النبياء‪ ،21 :‬وقوله عز وجل }َل َيْمِلُكو َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن اْرَت َ‬
‫ِإّل ِلَم ِ‬
‫عْهًدا{ مريم‪ 87 :‬التي تحدد أهل الشفاعة تحديدًا دقيقًا وأنهم من أهل الرضوان‬ ‫ن َ‬‫حَم ِ‬
‫الّر ْ‬
‫والسعادة واليمان‪ ،‬ومعارضتها للرواية الصحيحة الثابتة عن النبي ‪ ‬التي قال فيها‪:‬‬
‫"ليست الشفاعة لهل الكبائر من أمتي")‪ ،(667‬فهي أيضًا باطلة سندًا بمقاييس الجرح‬
‫والتعديل التقليدية!‪.‬‬
‫‪668‬‬
‫فقد رويت عن أنس بن مالك من ست روايات‪ ،‬الولى من طريق ثابت البناني) (‬
‫رواها عنه معمر‪ ،‬وهذه الرواية ضعيفة ‪ ،‬لن رواية معمر عن ثابت ضعيفة‪ :‬قال ابن‬
‫معين‪ " :‬معمر عن ثابت ضعيف "‪ .‬وقال‪ " :‬وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي‬
‫النجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب كثير الوهام "‪ .‬وقال أيضًا‪" :‬إذا حدثك‬
‫معمر عن العراقيين فخالفه إل عن الزهري وابن طاووس ‪ ،‬فإن حديثه عنهما مستقيم ‪،‬‬
‫فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فل "‪ .‬وثابت بصري‪ .‬وقال أبو حاتم‪ " :‬ما حدث معمر‬
‫بالبصرة فيه أغاليط ")‪ ،(669‬وقد توبع معمر عن ثابت من وجهين‪ ،‬الول)‪ (670‬محمد بن‬
‫عبدال العصري عن ثابت‪ ،‬والعصري هذا قال عنه الذهبي‪" :‬ل يجوز أن يحتج‬
‫به")‪ .(671‬الثاني)‪ (672‬الحكم بن الخزرج عن ثابت‪ ،‬والحكم هذا مجهول‪ ،‬وإن ذكره كل‬

‫‪ 666‬خميس بن راشد العدوي‪ ،‬نقل كلمه خالد الوهيبي في "معالم الزمن القادم" ص ‪-66‬‬
‫‪.67‬‬
‫‪ 667‬الجامع الصحيح مسند الربيع بن حبيب برقم ‪.1004‬‬
‫‪ 668‬الترمذمي ‪ ،2440‬وابن حبان ‪ 14/387‬برقم) ‪ ،(6468‬والحاكم في مستدركه ‪1/139‬‬
‫برقم)‪.(228‬‬
‫‪ 669‬ابن حجر العسقلني "تهذيب التهذيب" ‪.221 ، 10/220‬‬
‫‪ 670‬الطبراني في الوسط ‪ 8/241‬برقم)‪ ،( 8518‬مسند ابي يعلى ‪ 6/40‬برقم)‪.(3284‬‬
‫‪ 671‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪.327‬‬
‫‪ 672‬ابن خزيمة "التوحيد" ج ‪2‬ص ‪ ،576‬برقم ‪.532‬‬
‫من البخاري)‪ ،(673‬وابن حبان)‪ (674‬فإنهما لم يوثقاه ‪ ،‬فل ينتقل عن حكم الجهالة‪ .‬الطريق‬
‫الثانية)‪ (675‬رواها أشعث الحداني عن أنس‪ ،‬وفيها بسطام بن حريث‪ ،‬قال عنه الذهبي‪:‬‬
‫"ل يعرف")‪ ،(676‬أما الطريق الثالثة)‪ (677‬فهي من طريق عنعنة قتادة الذي قال عنه‬
‫الذهبي‪" :‬حافظ ثقة لكنه مدلس")‪ ،(678‬وقد رواها عنه سعيد بن أبي عروبة الذي قال عنه‬
‫الذهبي‪" :‬تغير حفظه بآخره ويتهم بالقدر‪ ،‬قال أبو حاتم‪ :‬هو قبل أن يختلط ثقة")‪،(679‬‬
‫وروها عنهما عمر بن سعيد الشج أو البج الذي قال فيه البخاري‪" :‬منكر‬
‫الحديث")‪ .(680‬وروى الخامسة)‪ (681‬يزيد الرقاشي عن أنس‪ ،‬والرقاشي هذا قال عنه‬
‫الذهبي‪" :‬قال النسائي وغيره‪ :‬متروك")‪ .(682‬وروى السادسة)‪ (683‬عاصم الحول عن‬
‫أنس‪ ،‬وفيها عروة الرقي الذي قال عنه الذهبي‪" :‬ل يعرف")‪.(684‬‬
‫وجاءت كذلك من طريق جابر بن عبدال في روايتين‪ ،‬الولى)‪ (685‬فيها زهير بن‬
‫محمد العنبري التميمي المروزي الذي قال عنه الذهبي‪" :‬له غرائب‪ ،‬ضعفه ابن معين‪،‬‬
‫وقال البخاري‪ :‬روى أهل الشام عنه مناكير")‪ ،(686‬الثانية)‪ (687‬فيها محمد بن ثابت‬
‫البناني الذي قال فيه الذهبي‪" :‬قال البخاري‪ :‬فيه نظر‪ ،‬وقال النسائي‪ :‬ضعيف")‪.(688‬‬
‫وجاءت أيضًا من طريق ابن عباس)‪ ،(689‬وهي التي رواها موسى بن عبد‬
‫الرحمن الصنعاني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس‪ ،‬وموسى هذا قال فيه‬
‫الذهبي‪" :‬مشهور هالك‪ ،‬قال ابن حبان‪ :‬دجال‪ ،‬وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن‬
‫عباس كتابًا في التفسير")‪ .(690‬وجاءت كذلك من طريق ابن عمر)‪ ،(691‬وفيها أيوب بن‬
‫وائل الذي قال عنه الذهبي‪" :‬قال الزدي‪ :‬مجهول")‪.(692‬‬
‫‪ 673‬البخاري " التاريخ " )‪ 2/340‬رقم ‪.(2677‬‬
‫‪ 674‬وابن حبان في " الثقات " )‪.(6/187‬‬
‫‪ 675‬المستدرك ‪ 1/140‬برقم) ‪ ،( 230‬وأبي داود برقم ‪ ، 4739‬مسند أحمد ‪ 3/213‬برقم )‬
‫‪.(13245‬‬
‫‪ 676‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪.158‬‬
‫‪ 677‬مستدرك الحاكم ‪ 1/140‬برقم) ‪ ،(229‬ابن خزيمة "التوحيد" ج ‪2‬ص ‪ 574‬برقم ‪.529‬‬
‫‪ 678‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪.214‬‬
‫‪ 679‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪.410‬‬
‫‪ 680‬الذهبي ميزان العتدال " )‪ 3/200‬رقم ‪.(6124‬‬
‫‪ 681‬مسند ابي يعلى ‪ 7/139‬برقم) ‪ (4105‬مسند ابي يعلى ‪ 7/147‬برقم)‪.(4115‬‬
‫‪ 682‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪.534‬‬
‫‪ 683‬الطبراني في " الوسط " )‪ 4/344‬رقم ‪(3590‬‬
‫‪ 684‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪.56‬‬
‫‪ 685‬ابن حبان ‪ 14/386‬برقم)‪ ،(6467‬المستدرك ‪ 1/140‬برقم)‪ ،(231‬المستدرك ‪1/140‬‬
‫برقم)‪.(232‬‬
‫‪ 686‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪.371‬‬
‫‪ 687‬الترمذي برقم ‪ 2441‬وقال‪" :‬غريب من هذا الوجه"‪ ،‬والبزار ‪ 1/233‬برقم)‪.(1669‬‬
‫‪ 688‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪.273‬‬
‫‪ 689‬الطبراني في الوسط ‪ 5/75‬برقم )‪.(4713‬‬
‫‪ 690‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪2‬ص ‪.440‬‬
‫‪ 691‬الطبراني الوسط ‪ 6/106‬برقم) ‪.(5942‬‬
‫‪ 692‬الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪.151‬‬
‫فالرواية آحادية)‪ ،(693‬وهي واهية السند من جميع طرقها‪ ،‬فل يرتاب في وضعها‬
‫خاصة وأنها تعارض القواعد الكّلية التي أصلتها النصوص القطعية من الكتاب والسنة‬
‫المجتمع عليها‪.‬‬
‫وحين عجز أهل الحديث عن إثبات دعوى النصية والقطعية لفكر الرجاء‪ ،‬لجأوا‬
‫إلى التحايل على النص الصلي الذي يقطع بخلود أهل الكبائر في النار‪ ،‬وافترضوا أنه‬
‫منسوخ!‪ .‬علمًا بأن الخبار ل يدخلها النسخ‪" ،‬فالخبر إما صحيح أو مكذوب ول يقال إنه‬
‫منسوخ")‪.!(694‬‬
‫يقول ابن القيم‪" :‬وال تعالى ل يخلف وعده‪ ،‬وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم أن‬
‫إخلفه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تبارك وتعالى به")‪.(695‬‬
‫وهذا اعتراف من أرباب هذه المدرسة أن نصوص الوعيد ثابتة بحيث ل يمكن‬
‫إنكارها‪ ،‬فلهذا لجأوا إلى اختلق فكرة تنازل ال تعالى عن قراره يوم القيامة وتركه‬
‫لتهديده ووعيده‪ ،‬لنهم تصوروا أن ذلك الجمل في صفات ال!‪ ،‬وهذا التصور الفاسد‬
‫نابع من طبيعة البداوة التي ترعرع فيها هذا الفكر‪ ،‬حيث نشأ هؤلء في البادية حيث شيخ‬
‫القبيلة يعفو عن المجرم قبل تطبيق الحدّ عليه فتعطلت الحدود وانتشر الهرج والمرج‪،‬‬
‫عرف هؤلء قمة الكرم‪ ،‬بينما هو في السلم حضيض المحسوبية‬ ‫ويعد ذلك في ُ‬
‫والطبقية‪ ،‬فقد جاء النهي عن النبي ‪ ‬واضحًا عن هذا الفعل الذميم فقال‪" :‬إّنما هلك‬
‫الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا‬
‫ن فاطمة بنت محّمٍد سرقت لقطعت يدها")‪.(696‬‬ ‫عليه الحّد‪ ،‬وأيم ال لو أ ّ‬
‫كما أن خيال البداوة العريض الذي صور هوان وعيد ال تعالى في عقول هؤلء‬
‫منشؤه الشوائب الفكرية المستوردة من المم الخرى التي تصور الله ككيان له‬
‫عواطف وأحاسيس‪ ،‬والسلم النقي قائم على نصوص قطعية ثابتة موافقة للعقل والحس‬
‫صيُر{ الشورى ‪.11‬‬ ‫سِميُع الَب ِ‬ ‫يٌء َوُهَو ال ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫السليم تقول بأن ال تعالى }َلْي َ‬
‫س َكِمْثِلِه َ‬
‫وكيف يبدّل ال وعيده وقد نص في كتابه العزيز على عكس ذلك حيث قال‪َ} :‬ل‬
‫لٍم ّلْلَعِبيِد * َيْوَم‬‫ظّ‬ ‫ي َوَما َأَنا ِب َ‬‫عيِد * َما ُيَبّدُل اْلَقوُْل َلَد ّ‬
‫ت ِإَلْيُكم ِباْلَو ِ‬
‫ي َوَقْد َقّدْم ُ‬ ‫صُموا َلَد ّ‬‫خَت ِ‬
‫َت ْ‬
‫تا ّ‬
‫ل‬ ‫ت َوَتُقوُل َهْل ِمن ّمِزيٍد{ ق‪ .30-28 :‬وقال }َوَل ُمَبّدَل ِلَكِلَما ِ‬ ‫ل ِ‬‫جَهّنَم َهِل اْمَت َْ‬‫َنُقوُل ِل َ‬
‫ن{ النعام‪.34 :‬‬ ‫سِلي َ‬ ‫ك ِمن ّنَبِإ اْلُمْر َ‬ ‫جاء َ‬‫َوَلقْد َ‬
‫فكلمات ال ثابتة ل تتغير‪ ،‬وادعاء تغير هذه الكلمات مبني على تصور الله على‬
‫أنه كائن عاطفي متردد نادم على وعيده للمجرمين بالخلود في النار‪ ،‬وهذه الصورة‬
‫المهزوزة لذات ال ل شك في اسرائيليتها لمطابقتها الصورة المخزية التي تقدمها‬
‫النصرانية المحرفة القائمة على عقيدة الفداء)‪.(697‬‬

‫‪ 693‬قال الفخر الرازي بعد ذكره هذه الرواية في تفسير الية ‪ 48‬من سورة البقرة ج ‪ 2‬ص‬
‫‪ " :60‬واعلم أن النصاف أنه ل يمكن التمسك في مثل هذه المسألة بهذا الخبر وحده"‪.‬‬
‫‪ 694‬تفسير الطبري ج ‪30‬ص ‪ ،12‬والشاطبي "الموافقات" ج ‪3‬ص ‪.85‬‬
‫‪ 695‬ابن القيم الجوزية "حادي الرواح " ص ‪.271‬‬
‫‪ 696‬البخاري ‪ ،3288‬ومسلم ‪ ،1688‬والترمذي ‪ ،1455‬وأبو داود ‪.4373‬‬
‫إن دعوى أهل الحديث بإخلف الوعيد مصادمة لنصوص الكتاب العزيز‪ ،‬كما أنها‬
‫تهدم الشريعة السلمية ومجتمعها النقي الصالح الطاهر من الفسق والفجور والفواحش‪،‬‬
‫لن هذه الدعوى تجعل الفاجر من القتلة والزناة آمنًا من وعيد ال وعقابه! مما يدفعه إلى‬
‫التمادي في فسقه وفجوره وقتله للنفس وهدمه للسرة وتدميره للمجتمع‪ ،‬وال تعالى‬
‫عيِد{ ق‬ ‫ف َو ِ‬ ‫خا ُ‬ ‫ن َمن َي َ‬ ‫جّباٍر َفذَّكْر ِباْلُقْرآ ِ‬
‫عَلْيِهم ِب َ‬
‫ت َ‬
‫ن َوَما َأن َ‬ ‫عَلُم ِبَما َيُقوُلو َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫حُ‬‫يقول‪َ} :‬ن ْ‬
‫‪ ،45‬وهؤلء ل يخافون الوعيد لنهم أمنوه بمثل هذه الدعاوى الرخيصة‪ ،‬بل أن الوعيد‬
‫القرآني مرتبط بترسيخ التقوى الذي هو أساس اليمان بال تعالى حيث يقول عز وجل‬
‫ث َلُهْم ِذْكًرا{‬ ‫حِد ُ‬‫ن َأْو ُي ْ‬
‫عيِد َلَعّلُهْم َيّتُقو َ‬
‫ن اْلَو ِ‬‫صّرْفَنا ِفيِه ِم َ‬
‫عَرِبّيا َو َ‬ ‫}وََكَذِل َ‬
‫ك َأنَزْلَناُه ُقْرآًنا َ‬
‫طه‪ ،113 :‬فإذا انتفى الوعيد انتفى التقوى‪ ،‬وإذا انتفى التقوى انتفى الدين‪.‬‬
‫والشفاعة التي يحتج بها أهل الحديث لرد النصوص القطعية‪ ،‬قد بين ال تعالى في‬
‫ضى{النبياء‪،21 :‬‬ ‫ن اْرَت َ‬‫ن ِإّل ِلَم ِ‬ ‫شَفُعو َ‬‫كتابه العزيز في حق من تكون حين قال‪َ} :‬وَل َي ْ‬
‫وهل يرتضي ال تعالى المجرمين الفاسقين الذين حاربوه بالمعاصي‪ ،‬واستكبروا عليه‬
‫ولم يخضعوا لجبروته ورفضوا التوبة إلى جلله؟!‪.‬‬
‫عَة ِإّل َم ِ‬
‫ن‬ ‫شَفا َ‬‫ن ال ّ‬ ‫فالشفاعة تكون للمرتضين‪ ،‬الذين قال ال تعالى فيهم‪َ} :‬ل َيْمِلُكو َ‬
‫عْهًدا{ مريم‪ ،87 :‬وهم المؤمنون المتقون لتخفيف شدة الحساب‬ ‫ن َ‬‫حَم ِ‬‫عنَد الّر ْ‬‫خَذ ِ‬ ‫اّت َ‬
‫عنهم‪ ،‬وتسريع دخولهم الجنة‪ ،‬ولرفع منازلهم فيها‪.‬‬
‫"أما الشفاعة بمعنى هدم الناموس وإخراج المذنبين من النار‪ ،‬وإدخالهم الجنة‪ ،‬فهي‬
‫فوضى الوسايط التي نعرفها في الدنيا‪ ،‬ول وجود لها في الخرة‪ ،‬وكل ما جاء بهذا‬
‫المعنى في الحاديث النبوية فهو مشكوك في سنده لنه يخالف صريح القرآن‪ ،‬ول يعقل‬
‫من نبي القرآن أن يطالب بهدم القرآن‪ ،‬ولكن المسلمين الذين عرفوا بالاتكالية قد باتوا‬
‫ل على نبيهم الذي سوف يخرجهم في‬ ‫يفعلون كل منكر ويرتكبون عظائم الذنوب اتكا ً‬
‫حفنة واحدة من النار ويلقي بهم في الجنة بفضله وكرمه!‪ ،‬وهم الذين شكاهم إلى ربه في‬
‫خُذوا َهَذا اْلُقْرآ َ‬
‫ن‬ ‫ن َقْوِمي اّت َ‬ ‫ب ِإ ّ‬
‫سوُل َيا َر ّ‬ ‫ل‪َ} :‬وَقاَل الّر ُ‬ ‫صريح قرآنه وجأر بشكواه قائ ً‬
‫جوًرا{ الفرقان‪.(698)"30 :‬‬ ‫َمهْ ُ‬
‫يقول الشيخ محمد الغزالي‪":‬والجانب النساني الحر ظاهر في القرآن الكريم‪،‬‬
‫فأنت وحدك صانع مستقبلك‪ ،‬ومصور ملمحك‪ ،‬إن احسنت لم يستطع أحد أن يعترض‬
‫حا‬
‫صاِل ً‬‫عِمَل َ‬ ‫ن َ‬ ‫طريقك إلى الجنة‪ ،‬وإن أسأت لم يستطع أحد ان ينقذك من النار‪َ} :‬م ْ‬
‫لٍم ّلْلَعِبيِد{ فصلت‪ ،46 :‬فل وسطاء ول شفعاء‪،‬‬ ‫ظّ‬ ‫ك ِب َ‬‫ساء َفَعَلْيَها َوَما َرّب َ‬‫ن َأ َ‬
‫سِه َوَم ْ‬ ‫َفِلَنْف ِ‬
‫ول قرابين على نحو ما تصّور الوثنية‪ ،‬أو على نحو ما تصّور الديان السماوية التي‬
‫انحرفت")‪.(699‬‬

‫ل في جسد عيسى المسيح‬ ‫‪ 697‬تقوم النصرانية المحرفة على اعتقاد أن الله عز وجل ح ّ‬
‫ليتم صلبه من قبل اليهود كتكفير عن خطيئته باخراج آدم من الجنة!‪.‬‬
‫‪ 698‬مصطفى محمود "الشفاعة" ص ‪20-19‬‬
‫‪ 699‬محمد الغزالي "دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين" ص ‪.28‬‬
‫ومن الشبه التي تعلق بها أهل الحديث قولهم أنه من الظلم أن يخلد رجل مؤمن في‬
‫النار وكل معصيته أنه زنى مرة واحدة أو كذب كذبة واحدة أو أنه كان ممن يستمع‬
‫الغاني الماجنة!‪.‬‬
‫واستدللهم هذا ل يصمد أمام حجج القرآن الكريم‪ ،‬فالنسان المؤمن إيمانًا حقًا‬
‫يصعب تصور ملبسته للمعاصي‪ ،‬لن اليمان والعلم بالشريعة يتملكان كيان المسلم‬
‫لَة ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫صَ‬ ‫ب َوَأِقِم ال ّ‬‫ن اْلِكَتا ِ‬‫ك ِم َ‬‫ي ِإَلْي َ‬‫حَ‬‫فيحجزانه عن كل معصية‪ ،‬يقول تعالى‪} :‬اْتُل َما ُأو ِ‬
‫ن{ العنكبوت‪:‬‬ ‫صَنُعو َ‬‫ل َيْعَلُم َما َت ْ‬ ‫ل َأْكَبُر َوا ُّ‬
‫شاء َواْلُمنَكِر َوَلِذْكُر ا ِّ‬ ‫ح َ‬‫ن اْلَف ْ‬‫عِ‬‫لَة َتْنَهى َ‬ ‫الصّ َ‬
‫‪ ،45‬فإن حدث ووقع مثل هذا النسان في كبيرة من الكبائر فباب التوبة مفتوح ل يغلق‬
‫إل عند الموت‪ ،‬فما الذي يمنع هذا النسان من التوبة إن كان مؤمنًا حقًا؟‪.‬‬
‫شبهة أخرى أثارها أهل الحديث ليتملصوا من إلزام حجج القرآن الكريم‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫أن القول بخلود المسلم العاصي يعني مساوة المسلم بالكافر في الخلود وهذا ظلم!‪.‬‬
‫خُلوْا‬‫ونسي هؤلء أن النار دركات كما أن الجنة درجات‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬قاَل اْد ُ‬
‫حّتى‬ ‫خَتَها َ‬‫ت ُأ ْ‬
‫خَلتْ ُأّمٌة ّلَعَن ْ‬
‫س ِفي الّناِر ُكّلَما َد َ‬ ‫ن َواِلن ِ‬ ‫جّ‬ ‫ت ِمن َقْبِلُكم ّمن اْل ِ‬ ‫خَل ْ‬
‫ِفي ُأَمٍم َقْد َ‬
‫ضعًْفا ّم َ‬
‫ن‬ ‫عَذاًبا ِ‬ ‫ضّلوَنا َفآِتِهْم َ‬ ‫خَراُهْم ُلوَلُهْم َرّبَنا َهفُؤلء َأ َ‬ ‫ت ُأ ْ‬
‫جِميًعا َقاَل ْ‬ ‫ِإَذا اّداَرُكوْا ِفيَها َ‬
‫ن اْلُمَناِفِقي َ‬
‫ن‬ ‫ن{ العراف‪ ،38 :‬وقال عز وجل‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫ف َوَلفِكن ّل َتْعَلُمو َ‬ ‫ضْع ٌ‬ ‫الّناِر َقاَل ِلُكّل ِ‬
‫صيًرا{ النساء‪.145 :‬‬ ‫جَد َلُهْم َن ِ‬‫ن الّناِر َوَلن َت ِ‬ ‫سَفِل ِم َ‬‫ك اَل ْ‬ ‫ِفي الّدْر ِ‬
‫وليس الظلم في خلود أصحاب الكبائر الذين تكبروا على جلل ال‪ ،‬ولم يرضوا‬
‫بالتوبة إلى جنابه بل هذا هو عين العدل اللهي‪ ،‬فهل يعقل أن يتساوى المؤمن الذي أتعب‬
‫ليله ونهاره بإرضاء ال مع المجرم الذي ما انفك يحارب ال تعالى ويرفض التوبة إلى‬
‫جلله؟‬
‫وهل هذا المجرم الذي عرف ال تعالى وعرف شرعه لكنه حاربه بالمعاصي‬
‫والفواحش‪ ،‬ورفض التوبة إلى جلل ال أفضل من النصراني الزاهد العابد الحسن الخلق‬
‫الذي لم يسمع عن السلم إل كل ما يشين بسبب الدعاية المغرضة ضد السلم‪ ،‬فمات‬
‫على نصرانيته التي يظنها الدين الولى بالتباع!‪ ،‬فهل من العدل أن يخرج المسلم الذي‬
‫عرف ال تعالى لكنه لم يقدره حق قدره من النار بينما يخلد فيها ذلك النصراني؟ هذه‬
‫الفلسلفة ل يقولها إل من استهوته عقيدة بني إسرائيل الذين ظنوا ان انتسابهم إلى موسى‬
‫سَنا الّناُر ِإّل َأّياًما ّمْعُدوَدا ٍ‬
‫ت‬ ‫‪ ‬كفيل بإخراجهم من النار }َذِل َ‬
‫ك ِبَأّنُهْم َقاُلوْا َلن َتَم ّ‬
‫ن{ آل عمران‪ ،24 :‬والتي حذرنا ال تعالى منها بقوله‬ ‫َوغَّرُهْم ِفي ِديِنِهم ّما َكاُنوْا َيْفَتُرو َ‬
‫جْد َلُه ِمن ُدونِ ا ّ‬
‫ل‬ ‫جَز ِبِه َوَل َي ِ‬ ‫سوًءا ُي ْ‬ ‫ب َمن َيْعَمْل ُ‬ ‫ي َأْهِل اْلِكَتا ِ‬ ‫}ّلْي َ‬
‫س ِبَأَماِنّيُكْم َول َأَماِن ّ‬
‫صيًرا{ النساء‪.123 :‬‬ ‫َولِّيا َوَل َن ِ‬
‫يكفي حجة على أهل الحديث أن عقيدة الرجاء تهدم بنيان السلم لبنة لبنة بسبب‬
‫إشعارها للفسقة والفجار أن مفاتيح الجنة بين أيديهم‪ ،‬مما يدفعهم للتمادي في غيهم‬
‫وفسادهم باسم الدين‪ ،‬وهذا الشعور بعدم الخوف من وعيد ال تعالى الذي ترسخه عقيدة‬
‫الرجاء لم يصب عوام الناس فحسب بل أن هناك الكثير من أئمة الحديث ‪-‬مروجي فكر‬
‫الرجاء المسموم‪ -‬قد ابتلي بالفواحش من زنًا وشذوذ جنسي!‪.‬‬
‫من ذلك ما ذكره ابن القيم عن إمامه محمد الصبهاني حيث قال‪" :‬وأما قصة‬
‫محمد بن داود الصبهاني فغايتها أن تكون من سعيه المعفو المغفور ل من عمله‬
‫المشكور‪ ،‬وسلط الناس بذلك على عرضه‪ ،‬وال يغفر لنا وله‪ ،‬فإنه تعرض بالنظر إلى‬
‫وعيبا فكيف‬
‫ً‬ ‫السقم الذي صار به صاحب فراش‪ ،‬وهذا لو كان ممن يباح له لكان نقصاً‬
‫من صبي أجنبي وأرضاه الشيطان بحبه والنظر إليه عن مواصلته")‪.(700‬‬
‫ومن ذلك أيضًا ما ذكره الذهبي عن سبب خروج إمام أهل الحديث في زمانه‬
‫الخطيب البغدادي من دمشق حيث قال‪" :‬قال ابن طاهر في المنثور‪ :‬اخبرنا مكي الرميلي‬
‫قال‪ :‬كان سبب خروج الخطيب من دمشق أنه كان يختلف إليه صبي مليح فتلكم فيه‬
‫الناس‪ ،‬وكان أمير البلد رافضيًا متعصبًا‪ ،‬فجعل ذلك سببًا للفتك بالخطيب")‪.(701‬‬
‫وكذلك قصة يحيى بن أكثم قاضي القضاة مع الشذوذ الجنسي التي ذكرها ابن‬
‫عساكر الدمشقي)‪ ،(702‬وغيرها من القصص المؤسفة التي جمعها ابن حزم في كتابه‬
‫"طوق الحمامة")‪.(703‬‬
‫ونحن ل نسارع إلى تصديق كل ما يقال في أعراض الناس كما رواها أصحاب‬
‫هذه الكتب‪ ،‬فهي‪ :‬إما أن تصح‪ ،‬وتلك كارثة وطامة كبرى أن ينساق علماء لهم وزنهم‬
‫وراء النزوات والرغبات المحرمة‪ ،‬وإما ان ل تصح‪ ،‬فهي من الكاذيب التي تلفق في‬
‫حق العلماء‪ ،‬وتلك طامة أخرى أن يستباح الكذب في أعراض الناس وتشوه سمعتهم‪.‬‬
‫فإذا صح ما روي عن هؤلء العلماء ما الذي جرأهم على ذلك غير اعتقادهم‬
‫الجازم بأنهم سينالون شفاعة النبي ‪ ‬إن هم فعلوا الفواحش والكبائر‪ ،‬فقد نسبوا إلى‬
‫النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬شفاعتي لهل الكبائر من أمتي")‪ ،(704‬فلهذا تراهم يتسابقون في‬
‫الجريمة والفاحشة من أجل الحصول على هذه الشفاعة المزعومة التي صارت قنطرة‬
‫يعبر عليها الناس لشباع شهواتهم ورغباتهم‪.‬‬
‫ونتيجة لتغلغل هذا الفكر العفن في المة السلمية أّلف أحد السفهاء كتابًا أسماه‬
‫"من حقائق القرآن"! زعم فيه أن السلم يبيح شرب الخمر‪ ،‬ويبيح إقامة علقات‬
‫غرامية بين الرجال والنساء دون حاجة لزواج شرعي‪ ،‬وأن الحجاب هو من عادات‬
‫الجاهلية‪ ،‬وأن الواجب على الرجال الختلط مع النساء‪ ،‬وأن السلم فرض صلتين‬
‫فقط في اليوم والليلة‪ ،‬وأن المسلم يجوز له فطر رمضان وإن لم يكن مريضًا أو على‬
‫سفر‪ ،‬وأن الحج جائز في ثلثة أشهر وليس في أيام الحج المعلومة‪ ،‬وختم هذيانه‬
‫بالقرار عن سبب جرأته على هذا السفاف بقوله "فحتى لو اعتبرنا شرب الخمر‬
‫معصية في أحسن تقدير‪ ،‬فل تضر مع معصية إيمان")‪ .(705‬إنه الرجاء!!‪.‬‬
‫‪ 700‬ابن القيم "روض المحبين" ص ‪.130‬‬
‫‪ 701‬الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج ‪3‬ص ‪.1141‬‬
‫‪ 702‬ابن عساكر الدمشقي "تاريخ دمشق" ج ‪64‬ص ‪.85-81‬‬
‫‪ 703‬ابن حزم "طوق الحمامة" ص ‪.130-129‬‬
‫‪ 704‬سنن أبو داود ‪ ،4739‬وابن حبان في صحيحه برقم ‪ ،6467‬الحاكم في المستدرك برقم‬
‫‪.228‬‬
‫‪ 705‬محمد سليمان غانم "من حقائق القرآن الكريم" ص ‪.79‬‬
‫الفتن والملحم الخرافة والسطورة‬
‫نتيجة لسيادة فكر أهل الحديث الهرمسي في المة السلمية التي امتزج فكر‬
‫السلم الصافي لدى بعض طوائفها برواسب موروثاتها الثقافية القديمة‪ ،‬ونتيجة لتبني‬
‫السلطة لفكر الرجاء انتشرت في المة أفكار وخرافات أسطورية تتحدث عن أحداث‬
‫ستقع قبل يوم القيامة‪ ،‬وأن تلك الحداث هي من علمات الساعة‪ ،‬كنزول المسيح‪،‬‬
‫وظهور الدجال والمهدي وغيرها‪ ،‬هذه الفكار التي انتقلت إلينا من أصحاب الملل‬
‫والنحل الوثنية ‪-‬كما سنأكده لحقًا‪ -‬أصابت كيان المة السلمية في مقتل‪ ،‬حيث قتلت‬
‫فيها روح العمل والجهاد‪ ،‬فانقلب حال المة من العمل والجّد والجهاد اليحابي إلى حال‬
‫الكسل والتواكل والنتظار السلبي‪ ،‬كل ذلك اعتمادًا على الروايات السطورية التي تزعم‬
‫سيادة الكفر على اليمان وانتصار الشر على الخير إلى آخر الزمان حيث ينزل المسيح‬
‫ويظهر المهدي ليقاتلوا الدجال زعيم الشر‪.‬‬
‫ل "هناك فكرة شائعة لدى‬ ‫غّدة قائ ً‬
‫هذه هي الحقيقة المرة التي أقّر بها المحدث أبو ُ‬
‫عدد من عوام المسلمين‪ ،‬وهي أنهم يتخذون من إخبار الرسول ‪ ‬بهذه العلمات متكًأ‬
‫لهم في ترك العمل الجّدي إلى إعادة الحياة السلمية الصحيحة‪ ،‬وقد ربطوا بعلمات‬
‫الساعة أمرًا ل صلة له بها‪ ،‬وهو أن العمل الن ل يجدي‪ ،‬لنه ل بد أن يزداد الفساد‪،‬‬
‫وينتشر الضلل‪ ،‬وتأتي الخوارق التي تتقدم الساعة‪ ،‬من ظهور المهدي ونزول عيسى‬
‫‪ ،‬وحينئذ يعود السلم‪ ،‬وينتصر الدين‪ ،‬وينتشر الحق‪ ،‬ويقوى أهله‪ ،‬ويسود الحكم‬
‫بالسلم على وجهه‪ ،‬فل جدوى الن من مقاومة الباطل وأهله مهما حاول النسان‬
‫المسلم‪.‬‬
‫وهذه الفكرة الضالة الخبيثة‪ ،‬وقد تكون دخيلة على المسلمين بمخارز أعدائهم‬
‫الناعمة أسقطت السعي الجّدي الواجب‪ ،‬والوعي السلمي الصحيح عند هؤلء الجاهلين‬
‫ومن يدور في فلكهم من المسلمين الين‪ ،‬فقد أثرت فيهم تأثيرًا سلبيًا‪ ،‬وأحبطت منهم العمل‬
‫الجّدي والسعي المتواصل لعادة الحياة السلمية‪ .‬وكثيرًا ما خدع هؤلء الجاهلون‬
‫الغرار من المسلمين أشباههم‪ ،‬بقولهم لهم‪ :‬إن العالم قد اقترب من نهايته‪ ،‬وأن الحاديث‬
‫النبوية تدل على استمرار التدهور في شأن السلم والمسلمين‪ ،‬ولما كان المر هكذا‪،‬‬
‫كان ل جدوى من السعي لعمل شيء في وقف هذا التيار الفاسد‪ ،‬ومنع هذا النحدار‪ ،‬إذ‬
‫هو أمر قّدره ال تعالى‪ ،‬وبّلغه رسوله ‪ ،‬ول بد أنه واقع‪ ،‬فما علينا إل التسليم‬
‫والسكون")‪.(706‬‬
‫غّدة معالجة هذه المشكلة التي خلفها الركام الروائي لهل الحديث‪ ،‬بيد أن‬ ‫حاول أبو ُ‬
‫محاولته لم تخرج عن إطار منهج المحّدثين‪ ،‬فهو يقول‪" :‬ولو كانت هذه الفكرة صحيحة‬
‫سليمة ثابتة لما كان الجهد والجهاد من السلف في دفع كل زيغ وانحراف"!‪ ،‬هكذا وبكل‬
‫غّدة من الذين طمرت عقولهم روايات أهل الحديث أن ل‬ ‫براءة وعفوية يريد المحّدث أبو ُ‬
‫يستسلموا لبريقها وجاذبيتها الذي يخّدر العقول فيجعلها تعيش في وهم الخرافات‬
‫والساطير‪ ،‬ليس لن تلك الروايات مخالفة لنصوص الكتاب العزيز‪ ،‬ول لنها تصف‬
‫السلم بالخرافة والسطورية والغنوص الميثولوجي‪ ،‬ل!!‪ ،‬بل لن السلف لم يفكر هذا‬
‫التفكير!‪ .‬ولو كان السلف المقصود هم الصحابة والتابعون وتابعوهم ممن لم َينَقد لفكر‬
‫السلطة الخرافي فهو محق‪ ،‬وإن كان يقصد بالسلف أئمة أهل الحديث فهم أشد الناس‬
‫ل وتثبيطًا للناس من التحرر ضد أغلل السلطة الحاكمة‪ ،‬ول أّدل على ذلك من‬ ‫تواك ً‬
‫الروايات النهزامية التي تأمر بالتخاذل والهوان كالقول المنسوب إلى النبي ‪" ‬إنكم‬
‫‪ 706‬عبد الفّتاح أبو غ ُ ّ‬
‫دة في تقديمه لكتاب "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" لمحمد‬
‫الكشميري ص )و‪-‬ز(‪.‬‬
‫سأل‪ :‬يا‬‫ستلقون بعدي أثرة‪ ،‬فاصبروا حتى تلقوني على الحوض")‪ ،(707‬وأنه ‪ ‬حين ُ‬
‫نبي ال‪ ،‬أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا‪ ،‬فما تأمرنا؟ قال‪:‬‬
‫"اسمعوا وأطيعوا‪ ،‬فإنما عليهم ما حّملوا وعليكم ما حّملتم")‪.(708‬‬
‫وهذه الخرافات السطورية التي ُتعّد في قاموس أهل الحديث من علمات الساعة‬
‫التي يكفر منكرها‪ ،‬هي بل ريب نقل نصي لخرافات وأساطير أهل الكتاب المدونة في‬
‫كتبهم المقدسة "التوراة والنجيل والتلمود"‪ ،‬وسوف نبين للقاريء الكريم بطلن هذه‬
‫الروايات وتعارضها مع النصوص القطعية من الكتاب العزيز‪ ،‬وتعارضها مع الحس‬
‫والعقل السلمي المستنير‪ ،‬بالضافة إلى توثيق مصادرها من الكتب السرائيلية‬
‫المحّرفة!‪.‬‬
‫من أمثلة تلك الروايات السطورية ما نسب إلى النبي ‪ ‬أنه قال في وصفه‬
‫للدجال‪" :‬إنه شاب قطط عينه طافئة‪ ،‬كأني أشبهه بعبد العزي بن قطن‪ ،‬فمن أدركه منكم‬
‫فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف‪ ،‬إنه خارج خلة بين الشام والعراق‪ ،‬فعاث يمينا وعاث‬
‫ل‪ ،‬يا عباد ال فأثبتوا‪ .‬قلنا‪ :‬يا رسول ال وما لبثه في الرض؟ قال‪ :‬أربعون يوما‪،‬‬ ‫شما ً‬
‫يوم كسنة‪ ،‬ويوم كشهر‪ ،‬ويوم كجمعة‪ ،‬وسائر أيامه كأيامكم‪ ،‬قلنا‪ :‬يا رسول ال فذلك‬
‫اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلة يوم؟ قال‪ :‬ل‪ .‬اقدروا له قدره ‪ ...‬فيأتي على القوم‬
‫فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له‪ ،‬فيأمر السماء فتمطر‪ ،‬والرض فتنبت‪ ،‬فتروح‬
‫عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ‪ ...‬ويمر بالخربة‬
‫ل ممتلئًا شبابًا‬
‫فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل‪ ،‬ثم يدعو رج ً‬
‫فيضربه بالسيف‪ ،‬فيقطعه جزلتين رمية الغرض‪ ،‬ثم يدعوه‪ ،‬فيقبل ويتهلل وجهه يضحك‪،‬‬
‫فبينما هو كذلك إذ بعث ال المسيح بن مريم‪ ،‬فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق‬
‫بين مهرودتين‪ ،‬واضعًا كفيه على أجنحة ملكين ‪ ...‬فل يحل لكافر يجد ريح نفسه إل‬
‫مات‪ ،‬ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه‪ ،‬فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ‪ ...‬فبينما هو‬
‫كذلك إذ أوحى ال إلى عيسى‪ :‬إني قد أخرجت عبادًا لي ل يدان لحد بقتالهم‪ ،‬فحّرز‬
‫عبادي إلى الطور‪ ،‬ويبعث ال يأجوج ومأجوج‪ ،‬وهم من كل حدب ينسلون‪ ،‬فيمر أوائلهم‬
‫على بحيرة طبرية‪ ،‬فيشربون ما فيها‪ ،‬ويمر آخرهم فيقولون‪ :‬لقد كان بهذه مرة ماء‪،‬‬
‫ويحصر نبي ال عيسى وأصحابه‪ ،‬حتى يكون رأس الثور لحدهم خيرًا من مائة دينار‬
‫لحدكم اليوم‪ ،‬فيرغب نبي ال عيسى وأصحابه فيرسل ال عليهم النغف في رقابهم‪،‬‬
‫فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ‪ ...‬فيرسل ال طيرًا كأعناق البخت‪ ،‬فتحملهم‬
‫فتطرحهم حيث شاء ال ‪ ...‬ثم يقال للرض‪ :‬أنبتي ثمرتك وردي بركتك‪ ،‬فيومئذ تأكل‬
‫العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها‪ ،‬ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من البل‬
‫لتكفي الفئام من الناس‪ ،‬واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس‪ ،‬واللقحة من الغنم لتكفي‬
‫الفخذ من الناس‪ ،‬فبينما هم كذلك إذ بعث ال ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم‪ ،‬فتقبض‬

‫مسلم ]‪.(1845)-48[4779‬‬ ‫‪707‬‬

‫مسلم ]‪ ،(1846)-49[4782‬و]‪.50[4783‬‬ ‫‪708‬‬


‫روح كل مؤمن وكل مسلم‪ ،‬ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر‪ ،‬فعليهم‬
‫تقوم الساعة")‪.(709‬‬
‫وإذا حاولنا قراءة هذه الرواية وفق المنهج السليم سنجدها مخالفة للكثير من ضوابط‬
‫المنهج السلمي الصحيح المستوحى من النصوص المحكمة‪:‬‬
‫ل‪ :‬مخالفتها لمنهج القرآن الكريم حيث تتحدث عن يوم القيامة وتصفه بدقة‬ ‫أو ً‬
‫رقمية‪ ،‬وكأن النبي ‪ ‬يعلم الفترة الزمنية التي ستكون فيها‪ ،‬بينما يخبرنا ال عز وجل‬
‫في كتابه العزيز أن يوم القيامة سيأتي بغتة وأن النبي ‪ ‬مثله مثل بقية البشر ل يعلم‬
‫ساَها ُقْل‬ ‫ن ُمْر َ‬ ‫عِة َأّيا َ‬
‫سا َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫عِ‬ ‫ك َ‬ ‫شيئًا عن الزمان الذي ستكون فيه‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬ي ْ‬
‫سَأُلوَن َ‬
‫ض َل َتْأِتيكُْم ِإّل‬‫ت َواَلْر ِ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ت ِفي ال ّ‬ ‫جّليَها ِلَوْقِتَها ِإّل ُهَو َثُقَل ْ‬
‫عنَد َرّبي َل ُي َ‬ ‫عْلُمَها ِ‬‫ِإّنَما ِ‬
‫ن{‬ ‫ن َأْكَثَر الّناسِ َل َيْعَلُمو َ‬ ‫ل َوَلفِك ّ‬
‫عنَد ا ّ‬ ‫عْلُمَها ِ‬ ‫عْنَها ُقْل ِإّنَما ِ‬ ‫ي َ‬‫حِف ّ‬‫ك َ‬ ‫ك َكَأّن َ‬
‫سَأُلوَن َ‬
‫َبْغَتًة َي ْ‬
‫العراف‪.187 :‬‬
‫ثانيًا‪ :‬هذه الروايات تعطي أرقامًا محددة عن أوقات تلك الفتن وأزمانها‪ ،‬ومن أمثلة‬
‫ذلك أن الرسول ‪ ‬حين سأل كم سيلبث الدجال في الرض‪ .‬قال‪" :‬أربعون يومًا‪ ،‬يوم‬
‫كسنة‪ ،‬ويوم كشهر‪ ،‬ويوم كجمعة‪ ،‬وسائر أيامه كأيامكم"‪ .‬بينما نجد أن القرآن الكريم ل‬
‫يتعامل بنفس تلك الصورة الرقمية مع الحداث التي يتنبأ بها‪ ،‬فال تعالى حين بشر بنصر‬
‫سوَلهُ‬‫سَل َر ُ‬ ‫الدين لم يذكر الفترة الزمنية التي سيتم خللها هذا النصر }ُهَو اّلِذي َأْر َ‬
‫ن{التوبة‪ ،33 :‬وحين‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫ن ُكّلِه َوَلْو َكِرَه اْلُم ْ‬
‫عَلى الّدي ِ‬ ‫ظِهَرُه َ‬ ‫ق ِلُي ْ‬
‫ح ّ‬‫ن اْل َ‬‫ِبالُْهَدى َوِدي ِ‬
‫ربطت البشارة القرآنية بالتحديد الزمني جاء النص القرآني مع دقة التعبير معبرًا عن‬
‫ض َوُهم ّمن َبْعِد‬ ‫ت الّروُم*ِفي َأْدَنى اَْلْر ِ‬ ‫فترة زمنية مفتوحة‪ ،‬حيث يقول تعالى‪ُ } :‬‬
‫غِلَب ِ‬
‫ل اَْلْمُر ِمن َقْبُل َوِمن َبْعُد َوَيْوَمِئٍذ َيْفَر ُ‬
‫ح‬ ‫ن ِّ‬ ‫سِني َ‬‫ضِع ِ‬ ‫ن*ِفي ِب ْ‬ ‫سَيْغِلُبو َ‬
‫غلَِبِهْم َ‬‫َ‬
‫ن{الروم‪.4-2 :‬‬ ‫اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ثالثًا‪ :‬أن هذه الروايات تتحدث عن انقلب في القوانين والسنن الكونية قبل يوم‬
‫ل تتحدث عن تغير طول اليوم من أربع وعشرين ساعة إلى‬ ‫القيامة‪ ،‬فالرواية السابقة مث ً‬
‫أسبوع‪ ،‬وشهر‪ ،‬وسنة‪ ،‬وهذا الطول في مدة اليوم يستلزم تباطؤًا في دوران الرض حول‬
‫محورها مما يؤدي بالضرورة إلى تجّمد الرض‪ ،‬واختلل اتزانها‪ ،‬وانعدام الحياة فيها‪،‬‬
‫ونفس المر يقال في الروايات التي رواها أبو هريرة وتّدعي طلوع الشمس من المغرب‬
‫على أنها علمة من علمات الساعة)‪ ،(710‬وذلك يعني دوران الرض في اتجاه معاكس‬
‫لما هي عليه الن‪ ،‬مما يستلزم تباطؤ حركتها‪ ،‬ثم توقفها‪ ،‬وبعد ذلك بدء الحركة في‬
‫التجاه المعاكس‪ ،‬وعملية التباطؤ وحدها كفيلة بإحداث انهيار كامل في مظاهر الحياة‬
‫على سطح الرض‪ ،‬فكيف بالتوقف‪ ،‬والحركة العكسية!‪ .‬والظاهر أن مختلقي مثل هذه‬
‫الساطير كانوا يجهلون كروية الرض‪ ،‬ويفترضون مفاجأة الشمس لهم بخروجها من‬
‫المغرب‪ ،‬ولم يتفطنوا أن الشمس قبل أن تظهر لهم من المغرب يستلزم توقفها عن‬
‫‪ 709‬مسلم ]‪ ،(2937)-110[7373‬الترمذي ‪ ،2245‬ابن حبان ‪ ،(14/469) 6533‬مستدرك‬
‫الحاكم ‪.(4/538) 8508‬‬
‫‪ 710‬البخاري ‪ ،4635‬مسلم ]‪.(157)-248[396‬‬
‫الشراق على البشر في الجهة الخرى من الكرة الرضية!‪ ،‬هذا إذا افترضنا صمود‬
‫الغلف الجوي الرضي أمام هذا التغيير الفلكي الهائل‪ .‬وهذه التغيرات الكونية‬
‫سّنِة ا ِّ‬
‫ل‬ ‫جَد ِل ُ‬
‫ت ِمن َقْبُل َوَلن َت ِ‬ ‫خَل ْ‬‫ل اّلِتي َقْد َ‬ ‫المزعومة مخالفة قوله تعالى } ُ‬
‫سّنَة ا ِّ‬
‫ل{ الفتح‪.23 :‬‬ ‫َتْبِدي ً‬
‫رابعًا‪ :‬تلك الروايات محدودة الجغرافيا حيث تتحدث عن القاليم المرتبطة بتاريخ‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬فهي تتحدث عن دمشق‪ ،‬والعراق‪ ،‬وبيت المقدس‪ ،‬وطور سيناء‪،‬‬
‫والقسطنطينية‪ ،‬وكأن أحداث البشرية ستظل مرتبطة بالجغرافيا المشكلة للخلفية المعرفية‬
‫لمحّرفي التوراة والنجيل‪.‬‬
‫خامسًا‪ :‬تتحدث الروايات عن أسلحة بدائية )السيف‪ ،‬الرمح‪ ،‬الحربة ‪ ،(...‬وهي‬
‫السلحة التي تشكل الخلفية المعرفية العسكرية لعصر التدوين‪ ،‬وهذه السلحة تعتبر‬
‫بدائية جدًا أمام أبسط أسلحة هذا العصر‪ ،‬فكيف بالعصور القادمة!‪ .‬وهذا يتناقض مع‬
‫الدقة الرقمية للزمان والمكان والشخصيات لحداث تلك الروايات السطورية‪.‬‬
‫سادسًا‪ :‬تتحدث الروايات عن فتح القسطنطينية في آخر الزمان حين يظهر الدجال‪،‬‬
‫وينزل المسيح‪ ،‬وقد أفرد مسلم في صحيحه بابًا أسماه"باب في فتح قسطنطينية‪ ،‬وخروج‬
‫الدجال‪ ،‬ونزول عيسى بن مريم" جاء فيه من طريق أبي هريرة‪" :‬ل تقوم الساعة حتى‬
‫ينزل الروم بالعماق‪ ،‬أو بدابق‪ ،‬فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الرض‬
‫يومئذ ‪ ...‬فيفتتحون قسطنطينية‪ ،‬فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون‪ ،‬إذ‬
‫صاح فيهم الشيطان‪ :‬إن المسيح قد خلفكم في أهليكم‪ ،‬فيخرجون ‪ ...‬فينزل عيسى بن‬
‫مريم ‪ ‬فأمهم‪ ،‬فإذا رآه عدو ال ذاب كما يذوب الملح في الماء‪ ،‬فلو تركه لنذاب حتى‬
‫يهلك ولكن يقتله ال بيده فيريهم دمه في حربته")‪ ،(711‬بينما فتحت القسطنطينية عام‬
‫‪1453‬م على يد المسلمين‪ ،‬ولم يحدث شيء من تلك الحداث الملحمية إلى الن!‪.‬‬
‫سابعًا‪ :‬تتحدث الروايات عن تلك الحداث السطورية على أنها أشراط للساعة‬
‫بينما يظهر لمتدبر الكتاب العزيز أن أشراط الساعة قد ظهرت وتجلت‪ .‬يقول تعالى‪:‬‬
‫جاءْتُهمْ‬ ‫طَها َفَأّنى َلُهْم ِإَذا َ‬ ‫شَرا ُ‬
‫جاء َأ ْ‬ ‫عَة َأن َتْأِتَيُهم َبْغَتًة َفَقْد َ‬
‫سا َ‬‫ن ِإّل ال ّ‬
‫ظُرو َ‬ ‫}َفَهْل َين ُ‬
‫ِذْكَراُهْم{محمد‪ ،18 :‬وأهم هذه الشراط هي بعثة النبياء عليهم الصلة والسلم‪ ،‬يقول‬
‫جَزى ُكّل َنْفسٍ ِبَما‬ ‫خِفيَها ِلُت ْ‬
‫عَة َأِتَيٌة َأَكاُد ُأ ْ‬‫سا َ‬
‫ن ال ّ‬‫تعالى في حق موسى ‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ل َتْمَتُر ّ‬
‫ن‬ ‫عِة َف َ‬‫سا َ‬‫َتسَْعى{طه‪ ،15 :‬ويقول عّز وجل في حق عيسى ‪َ} :‬وِإّنُه َلِعْلٌم ّلل ّ‬
‫سَتِقيٌم{الزخرف‪ ،61 :‬وقال تعالى في مبعث نبينا محمد ‪:‬‬ ‫ط ّم ْ‬‫صَرا ٌ‬
‫ن َهَذا ِ‬ ‫ِبَها َواّتِبُعو ِ‬
‫لِزَفُة{النجم‪ ،57-56 :‬وقال النبي ‪" :‬بعثت أنا‬ ‫تا ْ‬‫ن الّنُذِر اُْلوَلى* َأِزَف ْ‬‫}َهَذا َنِذيٌر ّم َ‬
‫‪712‬‬
‫والساعة كهاتين‪ .‬وقرن بين السبابة والوسطى) (‪.‬‬
‫ثامنًا‪ :‬تصف هذه الروايات موعد يوم القيامة وصفًا دقيقًا‪ ،‬وتعطي أرقامًا وتفاصي ً‬
‫ل‬
‫كثيرة حول تلك الفترة‪ ،‬ول يحتاج المرء الذي يعيش تلك الحادث إلى كثير جهد لمعرفة‬

‫مسلم ]‪.(2897)-34[7278‬‬ ‫‪711‬‬

‫البخاري ‪.5301‬‬ ‫‪712‬‬


‫أنه في لحظات الدنيا الخرى قبل قيام الساعة!‪ ،‬وهذا مخالف لعنصر المفاجأة الذي جعله‬
‫عَة َأن َتْأِتَيُهم َبْغَتًة{محمد‪18 :‬‬ ‫سا َ‬‫ن ِإّل ال ّ‬ ‫ال تعالى في يوم القيامة‪َ} ،‬فَهْل َين ُ‬
‫ظُرو َ‬
‫تاسعًا‪ :‬معظم هذه الروايات آحادية‪ ،‬والكثير منها ضعيف السناد‪ ،‬ومعظها جاءت‬
‫من طريق أبي هريرة وغيره ممن تتلمذ على يدي كعب الحبار‪.‬‬
‫ولو عرضنا جميع روايات الفتن والملحم على الضوابط السابقة لستطعنا تنقية‬
‫الشريعة السلمية من الكثير من الدران التي ألصقها بها أهل الحديث‪ ،‬ولستطعنا أن‬
‫ننفخ في شباب المة روحًا إيجابية جديدة مليئة بالنشاط والتفاؤل وحب العمل‪،‬‬
‫ولستطاعت المة القيام مجددًا على رجليها‪ ،‬وأن تتخلص من الثر المخدرلروايات أهل‬
‫الحديث‪ ،‬ولستطاعت أن تقود المم‪ ،‬وأن تحقق وعده تعالى بالتمكين }َوَيْأَبى الّ ِإّل َأن‬
‫عَلى‬
‫ظِهَرُه َ‬‫ق ِلُي ْ‬
‫ح ّ‬
‫ن اْل َ‬
‫سوَلُه ِباْلُهَدى َوِدي ِ‬
‫سَل َر ُ‬
‫ن * ُهَو اّلِذي َأْر َ‬ ‫ُيِتّم ُنوَرُه َوَلْو َكِرَه اْلَكاِفُرو َ‬
‫ن{التوبة‪.33-32 :‬‬ ‫شِرُكو َ‬
‫ن ُكّلِه َوَلْو َكِرَه اْلُم ْ‬
‫الّدي ِ‬

‫نزول المسيح ‪ ‬وعقيدة بولس‪:‬‬


‫عاش اليهود في مصر حياة بائسة ذليلة‪ ،‬عانوا خللها من القهر والستبداد‪ ،‬ولكن‬
‫ما هو أهم في الحسابات القيمية هو حالة الهزيمة النفسية وحالة الستسلم الفكري‬
‫والتبعية الثقافية للحضارة الفرعونية‪ ،‬هذه التبعية تجسدت في الفطرة الوثنية التي جبل‬
‫عليها الفكر اليهودي‪ ،‬فبعد أن تشربت قلوبهم بحب العجول والبقار التي كانت تعتبر‬
‫آلهة الخصب في مصر الفرعونية اتخذوا العجل إلهًا قبل أن تجف أقدامهم من عبور‬
‫جَل ِمن َبْعِدِه‬ ‫خْذُتُم اْلِع ْ‬
‫سى ِباْلبَّيَناتِ ُثّم اّت َ‬‫جاءُكم ّمو َ‬ ‫البحر مع موسى عليه السلم }َوَلَقْد َ‬
‫سَمُعوْا‬ ‫خُذوْا َمآ آَتْيَناُكم ِبُقّوٍة َوا ْ‬ ‫طورَ ُ‬ ‫خْذَنا ِميَثاَقُكْم َوَرَفْعَنا َفْوَقُكُم ال ّ‬
‫ن * َوِإْذ َأ َ‬‫ظاِلُمو َ‬‫َوَأنُتْم َ‬
‫جَل ِبُكْفِرِهْم{البقرة‪ ،93-92 :‬ولم يعتبر‬ ‫شِرُبوْا ِفي ُقُلوِبِهُم اْلِع ْ‬ ‫صْيَنا َوُأ ْ‬ ‫ع َ‬
‫سِمْعَنا َو َ‬
‫َقاُلوْا َ‬
‫اليهود من الدرس‪ ،‬ولم يقّدروا توبة ال عليهم‪ ،‬فساخت أقدامهم في طريق الوثنية من‬
‫عُد ُأولُهَما َبعَْثَنا‬ ‫جاء َو ْ‬ ‫جديد‪ ،‬فسلط ال عليهم فيالق نبوخذ نصر الملك البابلي }َفِإَذا َ‬
‫عًدا ّمْفُعوًل{السراء‪،5 :‬‬ ‫ن َو ْ‬ ‫لَل الّدَياِر َوَكا َ‬ ‫خَ‬ ‫سوْا ِ‬ ‫جا ُ‬‫شِديٍد َف َ‬‫س َ‬‫عَباًدا ّلَنا ُأْوِلي َبْأ ٍ‬‫عَلْيُكْم ِ‬
‫َ‬
‫‪713‬‬
‫فنهبوا الموال‪ ،‬وسبوا النساء وأسروا الرجال) (‪.‬‬
‫وعلى عقيدة بعث العجل بمجرد أن يموت‪ ،‬وعلى عقيدة بنوة الملك الفرعوني آمين‬
‫رع )‪ (Amen Ra‬لله الوجود آمين )‪" (Amen‬انطلق اليهود في آشور وفي بابل‬
‫تحت سقف السبي‪ ،‬يبحثون عن هوية جديدة ُتبعث عليها دولتهم لتضاهي )حخور( حاكمة‬
‫السماء‪ ،‬وتكون كالروح الحية للشجار كما تقول عقيدة البقار‪ ،‬وتحت سقف البحث عن‬
‫هوية‪ ،‬وبعد سقوط دولة بابل وظهور دولة الفرس اتفق اليهود مع السومريين على إعادة‬
‫كتابة التوراة في بابل‪ ،‬وشكل العلماء لجنة لهذا الغرض برئاسة )عزرا(‪ ،‬وقد جمعت هذه‬
‫اللجنة معلومات من التاريخ القديم للمسيرة اليهودية‪ ،‬ومعلومات أرادوا إدخالها على‬

‫سفر الملوك الثاني ‪.24/8‬‬ ‫‪713‬‬


‫النصوص الصلية")‪ ،(714‬فظهرت أسفار التوراة المحرفة التي اختلط فيه القبس اللهي‬
‫بالوضع الوثني‪.‬‬
‫‪715‬‬
‫وقع اليهود في قهر الدولة الرومانية عام ‪ 63‬ق‪.‬م حتى عام ‪ 633‬ق‪.‬م) (‪" ،‬إل‬
‫أنهم لم يكونوا لقمة سائغة للرومان بل كانوا كالشوكة في خاصرة المبراطورية‬
‫الرومانية‪ ،‬كانوا في ترقب وانتظار لوصول المسيح الجديد )‪ (new messiah‬ليطرد‬
‫الرومان‪ ،‬كان النتظار يثير حماس الناس المحّليين‪ ،‬والمتعصبون اليهود كانوا يغتالون‬
‫كل متعامل مع السلطات الرومانية‪ ،‬وعندما ظهر المسيح عيسى ‪ ( (Jesus‬أو ابن‬
‫ال كما يسميه الناس المحليون في هذا الوقت العصيب‪ ،‬انقلب اليهود ضده بسبب إنكاره‬
‫للتعديلت الوثنية التي أوجدوها في التوراة‪ ،‬فألبوا عليه السلطة الحاكمة التي أرادت‬
‫ل آخر وهو يهودي‬ ‫صلبه‪ ،‬إل أن جهل الرومان بشخصية المسيح جعلتهم يصلبون رج ً‬
‫متعصب كان معارضًا للرومان‪ ،‬وقد أورد ماثيو في المخطوطات الولى في الصحاح‬
‫ل وهو )‪ (Jesus Barabbas‬وبارباس تعني ابن‬ ‫‪ 27 :16‬اسم الرجل المصلوب كام ً‬
‫ال!‪ ،‬فتم صلب اليهودي المتعصب بدل المسيح ‪ ‬الذي اختفى عن انظار السلطة‬
‫شّبَه َلُهْم{ النساء‪ ،157 :‬إل أنه قد تم في وقت‬ ‫واليهود }َوَما َقَتُلوُه َوَما َ‬
‫صَلُبوُه َوَلـِكن ُ‬
‫متأخر حذف القسم الول )‪ (Jesus‬من اسم اليهودي المصلوب‪ ،‬وابقوا على القسم‬
‫الثاني )‪ (Barabbas‬الذي يعني ابن ال‪ ،‬ليخلوا لهم الجو لترسيخ عقيدتهم‬
‫الوثنية")‪.(716‬‬
‫بعد اختفاء عيسى ‪ ‬ظهر بولس )شاول( على الساحة‪" ،‬نشأ بولوس في‬
‫طرسوس حيث كان تمثال ضخم للله اليوناني هراكليس )هرقل عند الرومان( يعرض‬
‫خلل شوارع المدينة سنويًا‪ ،‬كان هراكيلس عند اليونان ابن الله زوس ‪ zeus‬وكانوا‬
‫يعبدونه لما يعتقدون فيه من جلب الحظ السعيد‪ ،‬ولكونه مخّلص المؤمنين‪ ،‬ففي الدراما‬
‫الغريقية الميثولوجية ألكستيس ‪ Alkestis‬كتابة الديب يوريبيديس ‪ ،Euripides‬ترد‬
‫قصة نصف الله هراكليس وهو يغامر بالنزول إلى عالم الموت لنقاذ ألكستيس زوجة‬
‫صديقه‪ ،‬فلبد أن بولس في طرسوس كان يشاهد سنويًا ومنذ نعومة أظفاره الجموع‬
‫الهيستيرية التواقة لغسيل خطاياها‪ ،‬وهي تهتف لمخلصها نصف الله هراكليس‪ ،‬حاملة‬
‫تمثاله الضخم عبر شوارع المدينة‪ ،‬وأن بولس بعدما نشأ وترعرع في هذا الوسط الوثني‬
‫اكتسب من القناعة والمل أنه يمكن للبشر بكل ما فيهم من آثام أن يغسلوا خطاياهم بدم‬
‫مخّلص ما‪ ،‬تمامًا كما اعتقد الوثنيون في طرسوس أنهم يغسلون خطاياهم بدم الله‬
‫ميثراس‪ ،‬أو كما اعتقدوا أنه يمكن إنقاذهم من قبل نصف الله هراكليس الذي نزل إلى‬
‫عالم الموت لنقاذ أرواح البشرط)‪.(717‬‬

‫سعيد آيوب "ابتلءات المم" ص ‪.110-76‬‬ ‫‪714‬‬

‫سعيد آيوب "ابتلءات المم" ص ‪.122‬‬ ‫‪715‬‬

‫‪716‬‬
‫‪Christopher Knight "The Hiram" page: 66.‬‬
‫محمد فاروق الزين "المسيحية والسلم والستشراق" ص ‪.138-137‬‬ ‫‪717‬‬
‫ل‪" :‬إن اليهود جميعاً‬ ‫كان بولس يهوديًا متطرفًا كارهًا للنصارى‪ ،‬وهو يقّر بذلك قائ ً‬
‫يعرفون نشأتي من البداية ‪ ...‬ليشهدوا أني كنت فريسيًا أي تابعًا للمذهب الكثر تشددًا في‬
‫ديانتنا")‪ .(718‬بولس الذي امتزجت في لّبه وثنيات الفراعنة التي نقلها اليهود مع‬
‫ميثولوجيات الغريق أراد تطبيق أحلمه الوثنية على أتباع المسيح الذين يبغضهم بغضًا‬
‫شديدًا‪ ،‬وزعم بولوس أنه بينما كان متجهًا إلى دمشق للقاء القبض على بعض أتباع‬
‫المسيح سمع صوتًا يقول له‪" :‬شاول‪ .‬شاول‪ .‬لماذا تضطهدني؟ فسأل‪ :‬من أنت؟ فجاءه‬
‫الجواب‪ :‬أنا يسوع الذي تضطهده")‪ ،(719‬وأنه قال له‪" :‬فقد ظهرت لك لعّينك خادمًا لي‪،‬‬
‫وشاهدًا بهذه الرؤيا التي ترانا فيها الن‪ ،‬وبالرؤى التي ستراني فيها بعد اليوم‪ٍ ،‬وسأنقذك‬
‫من عبك ومن المم التي أرسلها إليك الن")‪ ،(720‬ومن هذا النقطة بدأ بولس في تشويه‬
‫الدين النصراني‪ ،‬وأول شيء فعله هو الدعاء بأن عيسى هو ابن ال‪ ،‬وأن روحه هي‬
‫تجلي للله في جسد بشر لتخليص البشرية من أخطائها‪ ،‬وقام بإلغاء الشريعة وقال‪" :‬إن‬
‫المسيح حررنا بالفداء من لعنة الشريعة‪ .‬إذ صار لعنة عوضًا عنا‪ .‬لنه قد كتب‪ :‬ملعون‬
‫كل من علق على خشبة")‪.(721‬‬
‫لقد كانت الطبيعة الوثنية المتمكنة من شغاف قلوب بني إسرائيل كفيلة بتسهيل‬
‫المر بالنسبة لبولس لبث فكرته "الفرعوإغريقية"‪ ،‬كما أن اختفاء المسيح المفاجيء‬
‫بالنسبة للبسطاء من أتباعه دفعهم للعتقاد بأنه رجع إلى السماء حيث يوجد أبوه "الله‬
‫الب"‪ ،‬وأعيد كتابة الناجيل بعد زمن وفق رؤية بولس القائلة بعروج عيسى في السماء‪،‬‬
‫ومن تلك النصوص‪" :‬وأخرجهم خارجا إلى بيت عنيا‪ ،‬ورفع يديه وباركهم‪ ،‬وفيما هو‬
‫يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلي السماء‪ ،‬فسجدوا له ورجعوا إلي أورشليم بفرح عظيم‪،‬‬
‫وكانوا كل حين في الهيكل يسّبحون ويباركون ال")‪ .(722‬نص آخر اختلقته مخيلة بولوس‬
‫وأتباعه‪" :‬لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم‪ ،‬وتكونون لي شهودًا في‬
‫أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة والى أقصى الرض‪ ،‬ولما قال هذا ارتفع وهم‬
‫ينظرون‪ ،‬وأخذته سحابة عن أعينهم‪ ،‬وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا‬
‫رجلن قد وقفا بهم بلباس أبيض‪ ،‬وقال‪ :‬أيها الرجال الجليليون‪ ،‬ما بالكم واقفين تنظرون‬
‫إلى السماء‪ ،‬إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً‬
‫إلى السماء")‪.(723‬‬
‫وقد تسربت عقيدة بولس "الفرعوإغريقية" إلى المسلمين عن طريق كعب الحبار‬
‫وأمثاله من مسلمة أهل الكتاب‪ ،‬فقد جاء في كتاب "الفتن" لنعيم بن حماد )ت ‪229‬هـ(‬
‫ثلثة أبواب في نزول عيسى ‪ ‬وسيرته ومدة بقائه وقتاله الدجال‪ ،‬وأورد ابن حماد في‬
‫هذه الفصول تسعًا وأربعين رواية‪ ،‬إحدى عشرة منها جاءت من طريق كعب الحبار!‪،‬‬
‫أعمال الرسل ‪.7-26/5‬‬ ‫‪718‬‬

‫أعمال الرسل ‪.7-9/3‬‬ ‫‪719‬‬

‫أعمال الرسل ‪.17-26/15‬‬ ‫‪720‬‬

‫غلطية ‪.3/13‬‬ ‫‪721‬‬

‫لوقا ‪.53-51 :24‬‬ ‫‪722‬‬

‫أعمال الرسل ‪.11-8 :1‬‬ ‫‪723‬‬


‫ورواية واحدة من طريق عبدال بن سلم!‪ ،‬ورواية أخرى من طريق نوف البكالي!‪،‬‬
‫وتسع روايات من طريق أبي هريرة!‪ ،‬وروايتان من طريق عبدال بن عمرو بن‬
‫العاص!‪ ،‬وهما ممن تتلمذ على يدي مسلمة أهل الكتاب كما أسلفنا في المقدمة‪ ،‬وهذا‬
‫يؤكد نظرية تسرب هذه الفكرة إلى المجتمع السلمي من أسفار أهل الكتاب‪ ،‬ثم تلقفها‬
‫بعض الصحابة الذين انبهروا بغرائب بني إسرائيل‪ ،‬ورفعها الرواة خطًأ إلى الرسول ‪‬‬
‫‪ .‬يقول بسر بن سعيد‪" :‬اتقوا ال‪ ،‬وتحفظوا من الحديث‪ ،‬فوال لقد رأيتنا نجالس أبا‬
‫هريرة‪ ،‬فيحدث عن رسول ال ‪ ‬ويحدثنا عن كعب ثم يقوم‪ ،‬فأسمع بعض من كان معنا‬
‫يجعل حديث رسول ال عن كعب‪ ،‬ويجعل حديث كعب عن رسول ال ‪.(724)"‬‬
‫ونتيجة لستغلل كعب الحبار وكتيبته لليات المتشابهات والعبث بتأويلها عن‬
‫طريق التفسير الهرمسي‪ ،‬وتحميلها ما ل تحتمل من معان انخدع الكثير من المسلمين‬
‫بهذه الفكرة‪ ،‬ولن هذه الفكرة توافق عقيدة العّلو الحسي التي ينتحلها أهل الحديث قام‬
‫هؤلء بتعليب الكثير من الروايات لترسيخ هذه الفكرة‪.‬‬
‫لقد أكّد ال تعالى على بطلن عقيدة بولس "الفرعوإغريقية"‪ ،‬وأكّد على حقيقة وفاة‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ك ِم َ‬ ‫طّهُر َ‬ ‫ي َوُم َ‬ ‫ك ِإَل ّ‬
‫ك َوَراِفُع َ‬ ‫سى ِإّني ُمَتَوّفي َ‬ ‫عي َ‬
‫ل َيا ِ‬ ‫المسيح ‪ ‬بقوله‪ِ } :‬إْذ َقاَل ا ّ‬
‫حُكُم‬‫جُعُكْم َفَأ ْ‬‫ي َمْر ِ‬‫ن َكَفُروْا ِإَلى َيْوِم اْلِقَياَمِة ُثّم ِإَل ّ‬‫ق اّلِذي َ‬ ‫ك َفْو َ‬
‫ن اّتَبُعو َ‬ ‫عُل اّلِذي َ‬
‫جا ِ‬ ‫َكفَُروْا َو َ‬
‫ن{آل عمران‪ .55 :‬وفيها أيضًا يؤكد على أن من آمن‬ ‫خَتِلُفو َ‬‫َبْيَنُكْم ِفيَما ُكنُتْم ِفيِه َت ْ‬
‫بالمسيح ‪ ‬سيكون لهم الغلبة على اليهود إلى يوم القيامة‪ ،‬وهذا ما حدث مع اعتماد‬
‫قسطنطين الديانة النصرانية كديانة رسمية للمبراطورية الرومانية‪ ،‬ومن ثم مجيء‬
‫السلم الذي رسخ عقيدة التوحيد التي جاء بها عيسى ‪ ‬والنبياء من قبله‪ ،‬وإلى وقتنا‬
‫الحاضر يعيش اليهود في جماعات مشتتة في أصقاع العالم‪ ،‬ويأكد ال تعالى لنا حقيقة‬
‫وفاة المسيح عن طريق إيراد إقرار المسيح ‪ ‬بموته‪ ،‬وعدم معرفته ما الذي حدث بعد‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ت َ‬ ‫ل َرّبي َوَرّبُكْم َوُكن ُ‬ ‫عُبُدوْا ا ّ‬‫نا ْ‬ ‫ت َلُهْم ِإّل َما َأَمْرَتِني ِبِه َأ ِ‬‫ل‪َ} :‬ما ُقْل ُ‬ ‫وفاته قائ ً‬
‫شِهيٌد{‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫عَلى ُكّل َ‬ ‫ت َ‬ ‫عَلْيِهْم َوَأن َ‬‫ب َ‬ ‫ت الّرِقي َ‬ ‫ت َأن َ‬‫ت ِفيِهْم َفَلّما َتَوّفْيَتِني ُكن َ‬ ‫شِهيًدا ّما ُدْم ُ‬ ‫َ‬
‫المائدة‪.117 :‬‬
‫وتعلق أهل الحديث بشبهة واهية لتفسير معنى الوفاة‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن المقصود بها هو‬
‫حُتم ِبالّنَهاِر ُثّم‬ ‫جَر ْ‬‫النوم‪ ،‬واستدلوا لذلك بقوله تعالى }َوُهَو اّلِذي َيَتَوّفاُكم ِبالّلْيِل َوَيْعَلُم َما َ‬
‫ن{ النعام‪:‬‬ ‫جُعُكْم ُثّم ُيَنّبُئُكم ِبَما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬‫سّمى ُثّم ِإَلْيِه َمْر ِ‬‫جٌل ّم َ‬ ‫ضى َأ َ‬ ‫َيْبَعُثُكْم ِفيِه ِلُيْق َ‬
‫‪ ،60‬وهم بذلك يغالطون أنفسهم‪ ،‬لن ال تعالى يخبرنا في هذه الية أنه هو من يتوفانا‬
‫"يميتنا" بالليل‪ ،‬لن الغالب على حالت الوفاة الطبيعة أنها تحدث بالليل بسبب السكون‬
‫والراحة التي تقلل من الشحنات العصبية القادمة من الدماغ مما يؤدي إلى توقف عضلة‬
‫القلب والرئة عن الحركة‪ ،‬وهذا معلوم من مشاهدات الناس لكثر حالت الوفاة والتي‬
‫تحصل غالبًا في الليل‪ ،‬ويؤكد ال تعالى على هذا المعنى الواضح الصريح بقوله‪} :‬ا ُّ‬
‫ل‬
‫‪ 724‬الذهبي "سير أعلم النبلء" ج ‪2‬ص ‪ .606‬وقد أسهبنا في توضيح كيفية تغلغل‬
‫السرائيليات من خلل بعض الصحابة المنبهرين بأخبار أهل الكتاب في المقدمة والفصل‬
‫الول من هذا الكتاب‪.‬‬
‫عَلْيَها اْلمَْو َ‬
‫ت‬ ‫ضى َ‬ ‫ك اّلِتي َق َ‬ ‫سُ‬ ‫ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ‬ ‫ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ‬ ‫حي َ‬ ‫س ِ‬ ‫َيَتوَّفى اَْلنُف َ‬
‫ن{ الزمر‪.42 :‬‬ ‫ت ّلَقْوٍم َيَتَفّكُرو َ‬ ‫لَيا ٍ‬ ‫ك َ‬ ‫ن ِفي َذِل َ‬ ‫سّمى ِإ ّ‬ ‫جٍل ُم َ‬ ‫خَرى ِإَلى َأ َ‬ ‫سُل اُْل ْ‬ ‫َويُْر ِ‬
‫وقد تكرر مصطلح الوفاة بمعنى الموت خمسة عشرة مرة في القرآن الكريم‪ ،‬وهي‬
‫جميعًا تعني الموت فقط ل غير‪ .‬وهذا ما يؤكده الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يقول‪:‬‬
‫سّه")‪ .(725‬ولم يذكر أن الوفاة يراد‬ ‫ي فلن‪ ،‬وتوفاه ال‪ ،‬إذا قبض نف َ‬ ‫"والوفاة‪ :‬المنية‪ ،‬وُتّوف ّ‬
‫بها النوم‪ ،‬مما يؤكد على أن هذا المصطلح "الوفاة= النوم" مصطلح حادث‪ ،‬اخترعته‬
‫عقلية أهل الحديث للدفاع عن عقيدة بولوس "الفرعوإغريقية"‪.‬‬
‫نا ّ‬
‫ل‬ ‫ل ِإَلْيِه َوَكا َ‬ ‫ي{‪ ،‬وقوله }َبل ّرَفَعُه ا ّ‬ ‫ك ِإَل ّ‬ ‫أما الرفع في قوله تعالى }َوَراِفُع َ‬
‫حِكيًما{ النساء‪ ،158 :‬الذي أثار حوله أهل الحديث الكثير من الضجيج لتوجيه‬ ‫عِزيًزا َ‬ ‫َ‬
‫أوهام الناس إلى المعاني الهرمسية التي يؤمنون بها‪ ،‬فهي تعبير قرآني يراد به رفع‬
‫خ ِمْنَها فََأْتَبَعُه‬ ‫سَل َ‬‫ي آَتْيَناُه آَياِتَنا َفان َ‬
‫عَلْيِهْم َنَبَأ اّلِذ َ‬‫المكانة‪ ،‬ومثال ذلك قوله تعالى }َواْتُل َ‬
‫ض َواّتَبَع َهَواُه‬ ‫خَلَد ِإَلى اَلْر ِ‬ ‫شْئَنا َلَرَفْعَناُه ِبَها َوَلفِكّنُه َأ ْ‬ ‫ن * َوَلْو ِ‬ ‫ن اْلَغاِوي َ‬ ‫ن ِم َ‬ ‫ن َفَكا َ‬ ‫طا ُ‬‫الشّْي َ‬
‫ن َكّذُبوْا ِبآَياِتَنا‬ ‫ك َمَثُل اْلَقْوِم اّلِذي َ‬ ‫ث َأْو َتْتُرْكُه َيْلَهث ّذِل َ‬ ‫عَلْيِه َيْلَه ْ‬
‫حِمْل َ‬ ‫ب ِإن َت ْ‬ ‫َفَمَثُلُه َكَمَثِل اْلَكْل ِ‬
‫ن{العراف ‪ ،176‬ففي هذه الية يخبرنا ال عن أحد‬ ‫ص َلَعّلُهْم َيَتَفّكُرو َ‬‫ص َ‬ ‫ص اْلَق َ‬ ‫ص ِ‬ ‫َفاْق ُ‬
‫الظالمين جاءته آيات ال البينات لكنه أعرض عنها واتبع هواه فكان من الخاسرين‪ ،‬وأنه‬
‫لو أخذ بتلك اليات لرفعه ال تعالى درجات عظيمة‪.‬‬
‫آية أخرى تؤكد معنى الرفع في القاموس القرآني هي قوله تعالى‪َ} :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫شُزوا‬ ‫ل َلُكْم َوِإَذا ِقيَل ان ُ‬ ‫ح ا ُّ‬ ‫سِ‬‫حوا َيْف َ‬ ‫سُ‬ ‫س َفاْف َ‬ ‫جاِل ِ‬ ‫حوا ِفي اْلَم َ‬ ‫سُ‬‫آَمُنوا ِإَذا ِقيَل َلُكْم َتَف ّ‬
‫خِبيٌر{‬ ‫ن َ‬ ‫ل ِبَما َتْعَمُلو َ‬ ‫جاتٍ َوا ُّ‬ ‫ن ُأوُتوا اْلِعْلَم َدَر َ‬ ‫ن آَمُنوا ِمنُكْم َواّلِذي َ‬ ‫ل اّلِذي َ‬ ‫شُزوا َيْرَفِع ا ُّ‬ ‫َفان ُ‬
‫المجادلة‪ ،11 :‬ولم نرى أحدًا من المؤمنين يعلو في طبقات الفضاء!‪ ،‬مما يؤكد على أن‬
‫الرفع المقصود هو رفع المكانة والمنزلة وليس رفع المكان والمنزل‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‬
‫ك{ النشراح‪ ،4 :‬يجري نفس المجرى‪.‬‬ ‫ك ِذْكَر َ‬ ‫}َوَرَفْعَنا َل َ‬
‫ومن الشواهد المؤكدة على أن الرفع يراد به رفع المكانة والمنزلة‪ ،‬وليس المكان‬
‫صّديًقا‬‫ن ِ‬ ‫والمنزل هو قوله تعالى في حق إدريس ‪َ} ‬واْذُكْر ِفي اْلِكَتابِ ِإْدِريسَ ِإّنُه َكا َ‬
‫عِلّيا{ مريم‪ .57-56:‬فيتوجب عليهم أن يثبتوا أيضًا أن إدريس في‬ ‫ّنِبّيا * َوَرَفْعَناُه َمَكاًنا َ‬
‫السماء أيضًا!‪ .‬وقد ذهب إلى ذلك بعضهم كما سنبينه في مناقشة قضية المعراج‪.‬‬
‫ومن بين المخالفات الصريحة في هذه الفكرة لنصوص الكتاب العزيز إدعاء خلود‬
‫خْلَد َأفَِإن‬
‫ك اْل ُ‬ ‫شٍر ّمن َقْبِل َ‬ ‫عيسى ‪ ‬إلى آخر الزمان‪ ،‬وال تعالى يقول‪َ} :‬وَما َ‬
‫جَعْلَنا ِلَب َ‬
‫جاًل‬ ‫ك ِإّل ِر َ‬ ‫سْلَنا َقْبَل َ‬‫ن{ النبياء ‪ .34‬كذلك تعارض قوله تعالى }َوَما َأْر َ‬ ‫خاِلُدو َ‬ ‫ت َفُهُم اْل َ‬ ‫ّم ّ‬
‫سًدا ّل َيْأُكُلو َ‬
‫ن‬ ‫جَ‬ ‫جَعْلَناُهْم َ‬‫ن * َوَما َ‬ ‫سَأُلوْا َأْهَل الّذْكِر ِإن ُكنُتْم َل َتْعَلُمو َ‬ ‫حي ِإَلْيِهْم َفا ْ‬ ‫ّنو ِ‬
‫ن{ النبياء‪ .8-7 :‬التي تؤكد موت وفناء جميع النبياء الرسل‬ ‫خاِلِدي َ‬ ‫طَعاَم َوَما َكاُنوا َ‬ ‫ال ّ‬
‫ول شك أن عيسى ‪ ‬واحد منهم‪.‬‬

‫الخليل بن أحمد الفراهيدي "كتاب العين" ج ‪3‬ص ‪.1972‬‬ ‫‪725‬‬


‫كما أن سنة ال في خلقه تستلزم وفاة البشر بعد سن معين‪ ،‬وبقاء عيسى ‪ ‬هذه‬
‫خَلْوا ِمن َقْبُل‬ ‫ن َ‬ ‫ل ِفي اّلِذي َ‬ ‫المدة يناقض تلك السنن التي أكدها ال تعالى بقوله‪} :‬سُّنَة ا ِّ‬
‫ت ِمن‬ ‫خَل ْ‬‫ل اّلِتي َقْد َ‬ ‫سّنَة ا ِّ‬‫ل{ الحزاب‪ ،62 :‬وقوله تعالى‪ُ } :‬‬ ‫ل َتْبِدي ً‬
‫سّنِة ا ِّ‬ ‫جَد ِل ُ‬‫َوَلن َت ِ‬
‫ل{ الفتح‪.23 :‬‬ ‫ل َتْبِدي ً‬‫سّنِة ا ِّ‬‫جَد ِل ُ‬ ‫َقْبلُ َوَلن َت ِ‬
‫وقد يحتج بعض الهرامسة بطول عمر نوح ‪ ،‬ول حجة في ذلك‪ ،‬فقد كان في‬
‫طول عمر نوح ‪ ‬آية لقومه‪ ،‬ولكنهم مع ذلك كفروا بال‪ ،‬وليس بناء السفينة بمعجزة‬
‫سٍر{ القمر‪،13 :‬‬ ‫ح َوُد ُ‬ ‫ت َأْلَوا ٍ‬‫عَلى َذا ِ‬ ‫حَمْلَناُه َ‬‫لن بناء السفن من مقدور البشر }َو َ‬
‫والمعجزة هي ما يعجز النسان عن التيان بمثله‪.‬‬
‫كما أن عصر المعجزات الحسية قد انتهى بنزول القرآن الكريم الذي حّول المعجزة‬
‫إلى سنة كونية وقانون إلهي ل يمكن اختراقه إل باستخدام السباب‪ ،‬والدليل على ذلك أن‬
‫ت ّمن‬ ‫عَلْيِه آَيا ٌ‬ ‫المشركين حين طالبوا النبي ‪ ‬بإنزال اليات قال لهم }َوَقاُلوا َلْوَل ُأنِزَل َ‬
‫ك اْلِكَتا َ‬
‫ب‬ ‫عَلْي َ‬‫ن * َأَوَلْم َيْكِفِهْم َأّنا َأنَزْلَنا َ‬ ‫ل َوِإّنَما َأَنا َنِذيٌر ّمِبي ٌ‬ ‫عنَد ا ِّ‬ ‫ت ِ‬ ‫لَيا ُ‬‫ّرّبِه ُقْل ِإّنَما ا ْ‬
‫ن{ العنكبوت‪ ،51-50 :‬والرسول‬ ‫حَمًة َوِذْكَرى ِلَقْوٍم ُيْؤِمُنو َ‬ ‫ك َلَر ْ‬‫ن ِفي َذِل َ‬ ‫عَلْيِهْم ِإ ّ‬
‫ُيْتَلى َ‬
‫‪ ‬وعى هذه الحقيقة فأخذ بأسباب النصر في بدر‪ ،‬وحين تخلى المسلمون عن تلك‬
‫السباب في معركة أحد عاقبهم ال تعالى بإنزال الهزيمة عليهم‪ ،‬ليربيهم على الخذ‬
‫بالسباب‪.‬‬
‫ول يظنن المسلم أن نزول الملئكة ببدر كان معجزة ل تحصل لغير أهل بدر‪،‬‬
‫وذلك أن دور الملئكة في بدر كان تثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين‪،‬‬
‫سُأْلِقي ِفي ُقُلو ِ‬
‫ب‬ ‫ن آَمُنوْا َ‬ ‫ك ِإَلى اْلَملِئَكِة َأّني َمَعُكْم َفَثبُّتوْا اّلِذي َ‬ ‫حي َرّب َ‬ ‫يقول تعالى‪ِ} :‬إْذ ُيو ِ‬
‫ن{ النفال‪.12 :‬‬ ‫ضِرُبوْا ِمْنُهْم ُكّل َبَنا ٍ‬ ‫ق َوا ْ‬ ‫عَنا ِ‬
‫ق اَل ْ‬ ‫ضِرُبوْا َفْو َ‬ ‫ب َفا ْ‬ ‫ع َ‬‫ن َكَفُروْا الّر ْ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫فتثبيت قلوب المؤمنين هي مهمة الملئكة‪ ،‬وضرب أعناق الكافرين هي مهمة‬
‫عم‪ ،‬لما كانت لهل بدر مزّية‪،‬‬ ‫المجاهدين‪ ،‬ولو كان الملئكة يحاربون بالسيوف كما ُيز َ‬
‫فكيف لينتصرون على ألف مقاتل كافر وهم معهم خمسة آلف مقاتل من الملئكة‬
‫مدججين بالسيوف!‪ ،‬وكأن الملئكة يعيشون عصرًا بدائيًا ل يعرفون فيه المدافع‬
‫والرشاشات والقنابل الذرية!‪ ،‬يقول تعالى مؤكدًا على حقيقة مهمة الملئكة في معركة‬
‫صِبُروْا َوَتّتُقوْا‬ ‫بدر وأنها لطمئة المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين‪َ} :‬بَلى ِإن َت ْ‬
‫جَعَلُه‬ ‫ن * َوَما َ‬ ‫سّوِمي َ‬ ‫ن اْلَملِئَكِة ُم َ‬ ‫ف ّم َ‬ ‫سِة آل ٍ‬ ‫خْم َ‬ ‫َوَيْأُتوُكم ّمن َفْوِرِهْم َهفَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكم ِب َ‬
‫حِكيِم{آل‬ ‫ل اْلَعِزيِز اْل َ‬ ‫عنِد ا ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫صُر ِإّل ِم ْ‬ ‫ن ُقُلوُبُكم ِبِه َوَما الّن ْ‬ ‫طَمِئ ّ‬
‫شَرى َلُكْم َوِلَت ْ‬ ‫ل ِإّل ُب ْ‬‫ا ّ‬
‫عمران‪.126:‬‬
‫يقول محمد حسين فضل ال‪" :‬إن بعثة الرسول ‪ ‬كانت للخروج من الطريقة‬
‫المثالية الخوارقية اللسننية إلى الطريقة السننية‪ ،‬فقد كان البشر قبل بعثته عليه الصلة‬
‫والسلم يعيشون حياة الخوارق والمعجزات‪ ،‬فجاء السلم لينقلهم إلى حياة السنن‬
‫والقوانين‪ ،‬وحين كان المعاصرون للدعوة السلمية يطلبون من الرسول ‪ ‬أن يأتي‬
‫بالمعجزات كما أرسل الولون‪ ،‬كان يرفض ذلك‪ ،‬وقد سجل القرآن الكريم طلبهم‪،‬‬
‫ت ّمن ّرّبِه ‪َ ..‬أَوَلْم َيْكِفِهمْ َأّنا‬ ‫عَلْيِه آَيا ٌ‬ ‫وسجل الرفض لطلبهم أيضًا‪َ} ،‬وَقاُلوا َلْوَل ُأنِزَل َ‬
‫ب{ العنكبوت‪ ،51-50 :‬ولكن الشعوب لم تدرك هذه النقلة فظلت تعيش‬ ‫ك اْلِكَتا َ‬
‫عَلْي َ‬‫َأنَزْلَنا َ‬
‫‪726‬‬
‫الخوارق والمعجزات‪ ،‬ولم تتكيف مع حياة السنن") (‪.‬‬
‫ومن دلئل معارضة فكرة بولس لنصوص الكتاب العزيز‪ ،‬معارضتها لقوله تعالى‬
‫ن * َقاَل ِفيَها‬ ‫حي ٍ‬‫ع ِإَلى ِ‬ ‫ض ُمسَْتَقّر َوَمَتا ٌ‬ ‫عُدّو َوَلُكْم ِفي اَلْر ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬ ‫طوْا َبْع ُ‬ ‫}َقاَل اْهِب ُ‬
‫ن{العراف‪ .25-24 :‬بينما تدعي هذه العقيدة حياة‬ ‫جو َ‬ ‫خَر ُ‬‫ن َوِمْنَها ُت ْ‬‫ن َوِفيَها َتُموُتو َ‬ ‫حَيْو َ‬
‫َت ْ‬
‫عيسى ‪ ‬في السماء خارج الرض!‪.‬‬
‫ومن بين المخالفات الصريحة لروايات نزول المسيح لنصوص الكتاب العزيز أن‬
‫تلك الروايات تتحدث عن "رفع الجزية" عن أهل الذمة‪ ،‬حيث جاء في أحدها بأن المسيح‬
‫سينزل في آخر الزمان وأنه "يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال‬
‫حتى ل يقبله أحد")‪ ،(727‬على أن الجزية على أهل الذمة من شرائع السلم التي ل يجوز‬
‫ل َوَل‬ ‫ن ِبا ّ‬ ‫ن َل ُيْؤِمُنو َ‬‫نسخها لثبوتها بنصوص الكتاب العزيز‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬قاِتُلوْا اّلِذي َ‬
‫ن ُأوُتوْا‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫ق ِم َ‬‫ح ّ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن ِدي َ‬ ‫سوُلُه َوَل َيِديُنو َ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫حّرَم ا ّ‬‫ن َما َ‬ ‫حّرُمو َ‬ ‫خِر َوَل ُي َ‬ ‫ِباْلَيْوِم ال ِ‬
‫ن{التوبة‪.29:‬‬ ‫غُرو َ‬ ‫صا ِ‬ ‫عن َيٍد َوُهْم َ‬ ‫جْزَيَة َ‬ ‫طوْا اْل ِ‬‫حّتى ُيْع ُ‬ ‫ب َ‬ ‫اْلِكَتا َ‬
‫إذًا هذه الروايات تروج لفكرة مفادها أن عيسى ‪ ‬سينزل بشرع جديد يلغي‬
‫الجزية!‪ ،‬وكما هو معلوم أن الشريعة السلمية خالدة ل يمكن نسخ شيء منها ول‬
‫حٍد‬‫حّمٌد َأَبا َأ َ‬‫ن ُم َ‬‫التلعب به‪ ،‬لن الرسول محمد ‪ ‬هو خاتم النبياء والمرسلين‪ّ} :‬ما َكا َ‬
‫عِليًما{الحزاب‪،40:‬‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬‫ل ِبُكّل َ‬ ‫ن ا ُّ‬‫ن َوَكا َ‬ ‫خاَتَم الّنِبّيي َ‬
‫ل َو َ‬‫سوَل ا ِّ‬ ‫جاِلُكْم َوَلِكن ّر ُ‬ ‫ّمن ّر َ‬
‫وهذه الروايات تبين أن عيسى ‪ ‬هو خاتم النبيين لنه سيأتي آخر الزمان ويغير في‬
‫شريعة السلم!‪.‬‬
‫وعقلء المة رفضوا هذه الروايات‪ ،‬يقول الشيخ عبدال السالمي‪" :‬أعلم أن نبينا‬
‫عليه الصلة والسلم ل نبي معه ول بعده‪ ،‬فما رواه قومنا من نزول عيسى ‪ ‬لم يصح‬
‫عند أصحابنا رحمهم ال تعالى")‪ .(728‬وقال الشيخ ناصر بن أبي نبهان‪" :‬وفي أخبار‬
‫قومنا أن ال يبعث المهدي‪ ،‬ويخرج الدجال‪ ،‬وينزل عيسى من السماء‪ ،‬وكل هذا في‬
‫نفسي بعيد من الصواب‪ ،‬ومعي أن الخضر هو ميت‪ ،‬وعيسى كذلك لقوله تعالى } ِإّني‬
‫ي{")‪.(729‬‬ ‫ك ِإَل ّ‬
‫ك َوَراِفُع َ‬ ‫ُمَتَوّفي َ‬
‫والية التي استغلها كعب الحبار وأهل الحديث من بعده لترسيخ فكرة بولس‬
‫صَرا ٌ‬
‫ط‬ ‫ن َهَذا ِ‬ ‫ن ِبَها َواّتِبُعو ِ‬
‫ل َتْمَتُر ّ‬‫عِة َف َ‬ ‫"الفرعوإغريقية" هي قوله تعالى }َوِإّنُه َلِعْلٌم ّلل ّ‬
‫سا َ‬
‫ّمسَْتِقيٌم{الزخرف‪ ،61 :‬وقالوا أن نزول المسيح هو أحد علمات الساعة!‪.‬‬
‫وهذا الفهم الهرمسي لهذه الية المتشابهة المبتسرة من سياقها المسلوخة من‬
‫تركيبها الكّلي أفرز لنا فكرة بولس الهرمسية في ثوب ُمأسلم!‪ ،‬ولو وضعنا الية في‬
‫سياقها العام لدركنا أن المقصود بها غير ما ذهب إليه هؤلء‪ ،‬يقول تعالى قبل هذه الية‬

‫محمد حسين فضل الله "أحاديث في قضايا الختلف والوحدة" ص ‪.387‬‬ ‫‪726‬‬

‫البخاري ‪ 3448‬ومسلم]‪.(155)-242 [389‬‬ ‫‪727‬‬

‫عبدالله بن حميد السالمي "معارج المال" ج ‪1‬ص ‪.52‬‬ ‫‪728‬‬

‫نقله الشيخ جميل بن خميس السعدي في "قاموس الشريعة" ج ‪6‬ص ‪.141-140‬‬ ‫‪729‬‬
‫مخاطبًا الرسول ‪ ‬وقومه مؤكدًا على أن النبي ‪ ‬والوحي والقرآن هو العلمة‬
‫صّم َأْو َتْهِدي اْلُعْم َ‬
‫ي‬ ‫سِمُع ال ّ‬ ‫ت ُت ْ‬‫والشارة ليوم القيامة التي سيسأل عنها الجميع‪َ} :‬أَفَأن َ‬
‫ك اّلِذي‬ ‫ن * َأْو ُنِرَيّن َ‬ ‫ك َفِإّنا ِمْنُهم ّمنَتِقُمو َ‬ ‫ن ِب َ‬‫ن * َفِإّما َنْذَهَب ّ‬ ‫لٍل ّمِبي ٍ‬ ‫ضَ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫َوَمن َكا َ‬
‫سَتِقيٍم *‬ ‫ط ّم ْ‬ ‫صَرا ٍ‬‫عَلى ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ك ِإّن َ‬
‫ي ِإَلْي َ‬
‫حَ‬ ‫ك ِباّلِذي ُأو ِ‬ ‫سْ‬ ‫سَتْم ِ‬ ‫ن * َفا ْ‬ ‫عَلْيِهم ّمْقَتِدُرو َ‬ ‫َوعَْدَناُهْم َفِإّنا َ‬
‫ن{ الزخرف‪.44-40 :‬‬ ‫سَأُلو َ‬ ‫ف ُت ْ‬‫سْو َ‬ ‫ك َو َ‬ ‫ك َوِلَقْوِم َ‬‫َوإِّنُه َلِذْكٌر ّل َ‬
‫ثم يخبرنا تعالى بأن بعثة المسيح ‪ ‬إلى اليهود المنحرفين تعد بالنسبة لهم علمة‬
‫ل ّلَبِني‬ ‫جَعْلَناُه َمَث ً‬‫عَلْيِه َو َ‬‫ن ُهَو ِإّل عَْبٌد َأْنَعْمَنا َ‬ ‫من علمات الساعة التي سيسألون عنها‪ِ} :‬إ ْ‬
‫عِة َف َ‬
‫ل‬ ‫سا َ‬ ‫ن * َوِإّنُه َلِعْلٌم ّلل ّ‬ ‫خُلُفو َ‬ ‫ض َي ْ‬
‫لِئَكًة ِفي اَْلْر ِ‬ ‫جَعْلَنا ِمنُكم ّم َ‬ ‫شاء َل َ‬ ‫سَراِئيَل * َوَلْو َن َ‬ ‫ِإ ْ‬
‫سَتِقيٌم{ الزخرف‪.61-59 :‬‬ ‫ط ّم ْ‬ ‫صَرا ٌ‬ ‫ن َهَذا ِ‬ ‫ن ِبَها َواّتِبُعو ِ‬ ‫َتْمَتُر ّ‬
‫فبعثة المسيح ‪ ‬هي علمة من علمات الساعة بالنسبة لليهود‪ ،‬كما أن القرآن هو‬
‫سى‬ ‫عي َ‬ ‫جاء ِ‬ ‫علمة من علمات الساعة بالنسبة للنبي ‪ ‬وأمته‪ .‬يقول تعالى‪َ} :‬وَلّما َ‬
‫طيُعو ِ‬
‫ن‬ ‫ل َوأَ ِ‬‫ن ِفيِه َفاّتُقوا ا َّ‬ ‫خَتِلُفو َ‬ ‫ض اّلِذي َت ْ‬ ‫ن َلُكم َبْع َ‬ ‫حْكَمِة َوُِلَبّي َ‬ ‫جْئُتُكم ِباْل ِ‬
‫ت َقاَل َقْد ِ‬ ‫ِبالَْبّيَنا ِ‬
‫ب ِمن َبْيِنِهْم‬ ‫حَزا ُ‬ ‫ف اَْل ْ‬ ‫خَتَل َ‬‫سَتِقيٌم * َفا ْ‬ ‫ط ّم ْ‬‫صَرا ٌ‬ ‫عُبُدوُه َهَذا ِ‬ ‫ل ُهَو َرّبي َوَرّبُكْم َفا ْ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫* ِإ ّ‬
‫عَة َأن َتْأِتَيُهم َبْغَتًة َوُهْم َل‬ ‫سا َ‬‫ن ِإلّ ال ّ‬ ‫ظُرو َ‬ ‫ب َيْوٍم َأِليٍم * َهْل َين ُ‬ ‫عَذا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ظَلُموا ِم ْ‬ ‫ن َ‬ ‫َفَوْيٌل ّلّلِذي َ‬
‫ن{ الزخرف‪.66-63 :‬‬ ‫شُعُرو َ‬ ‫َي ْ‬
‫وكذلك يعتبر مبعث موسى ‪ ‬علمة من علمات الساعة لقومه } َفَلّما َأَتاَها‬
‫خَتْرُت َ‬
‫ك‬ ‫طًوى * َوَأَنا ا ْ‬ ‫ك ِباْلَواِد اْلُمَقّدسِ ُ‬ ‫ك ِإّن َ‬‫خَلْع َنْعَلْي َ‬‫ك َفا ْ‬ ‫سى * ِإّني َأَنا َرّب َ‬ ‫ُنوِدي َيا ُمو َ‬
‫عَة‬
‫سا َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫لَة ِلِذْكِري * ِإ ّ‬ ‫صَ‬ ‫عُبْدِني َوَأِقِم ال ّ‬ ‫ل َل ِإَلَه ِإّل َأَنا َفا ْ‬ ‫حى * ِإّنِني َأَنا ا ُّ‬ ‫َفاسَْتِمْع ِلَما ُيو َ‬
‫سَعى{ طه‪.15-11 :‬‬ ‫س ِبَما َت ْ‬ ‫جَزى ُكّل َنْف ٍ‬ ‫خِفيَها ِلُت ْ‬‫َأِتيٌَة َأَكاُد ُأ ْ‬
‫وهذا ليس مستغربًا في التعبير القرآني فقد ذكر ال تعالى لنا قبل أربعة عشر قرنًا‬
‫عِة ِإّل‬ ‫سا َ‬ ‫ض َوَما َأْمُر ال ّ‬ ‫ت َواَلْر ِ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫غْي ُ‬‫ل َ‬ ‫أن الساعة أقرب من لمح البصر }َو ِّ‬
‫يٍء َقِديٌر{ النحل‪ .77 :‬هذا هو تأويل الية‬ ‫ش ْ‬ ‫عَلى ُكّل َ‬ ‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫ب ِإ ّ‬‫صِر َأْو ُهَو َأْقَر ُ‬ ‫ح اْلَب َ‬ ‫َكَلْم ِ‬
‫التي بنى عليها أهل الحديث تأويلتهم الخرافية والسطورية المصادمة للعقل والنقل‪.‬‬

‫المهدي والدجال‪:‬‬
‫من بين القضايا التي نضجت تحت لهيب سياط السر البابلي‪ ،‬هي قضية المهدي‬
‫المنتظر الذي سيخلص بني إسرائيل من الظلم والقهر‪ ،‬والظاهر أن مخيلة كتاب لجنة‬
‫التوراة في بابل استعادت نبوءة موسى ‪ ‬ببعثة نبي آخر الزمان وهو نبينا محمد ‪،‬‬
‫وقامت بإحاطته بصفات خوارقية خرافية‪ ،‬ثم انتقلت هذه الفكرة عبر بولس إلى‬
‫النصارى‪ ،‬ووصلت إلى المسلمين عبر كعب الحبار ومسلمة أهل الكتاب‪.‬‬
‫جاء في سفر الرؤيا‪" :‬وإذا بحصان أبيض يسمى راكبه الصادق المين الذي‬
‫يقضي ويحارب بالعدل")‪ ،(730‬ومع أن هذا النص يشير صراحة إلى نبوة محمد ‪،‬‬
‫وأنه هو مخلص المة من ضللت اليهود وفسادهم‪ ،‬إل أن العقلية الخرافية لهل‬

‫الرؤيا ‪.12/19‬‬ ‫‪730‬‬


‫الحديث انطلت عليها خدعة أهل الكتاب بأن هذه النبوة ليست لمحمد ‪ ،‬وإنما للمهدي‬
‫الذي سيأتي آخر الزمان! وليس بمستغربًا أن نجد نفس نص أهل الكتاب في رواية أهل‬
‫ل‪ ،‬كما ملئت ظلمًا‬ ‫الحديث التي تبشر بالمهدي المزعوم‪" :‬يمل الرض قسطًا وعد ً‬
‫وجورًا")‪ .(731‬وهل يعقل أن يكون هناك رجل أفضل من النبي محمد ‪ ‬بحيث ينشر‬
‫العدل والقسط في وقت قياسي في ربوع الكون الذي فشل النبي ‪ ‬حسب هذه الروايات‬
‫تحقيقه!‪.‬‬
‫حاول بولس الذي أغوى النصارى وأضلهم أن يمسخ كل فكرة تشير إلى نبوة‬
‫محمد ‪ ،‬فاختلقت مخيلته اليهودية الوثنية فكرة النبي الكذاب أو الدجال من تراث‬
‫ضِهم ّميَثاَقُهْم‬‫اليهود القديم حيث كانوا يقتلون النبياء ويتهمونهم بالكذب }َفِبَما َنْق ِ‬
‫عَلْيَها‬
‫ل َ‬ ‫طَبَع ا ّ‬‫ف َبْل َ‬‫غْل ٌ‬ ‫ق َوَقْوِلِهْم ُقُلوُبَنا ُ‬
‫ح ّ‬
‫ل َوَقْتِلِهُم اَلْنِبَياء ِبَغْيِر َ‬‫تا ّ‬ ‫َوُكْفِرِهم َبآَيا ِ‬
‫ل{النساء‪ ،155 :‬قام بولس بالتحذير من النبي القادم ووصفه‬ ‫ن ِإّل َقِلي ً‬‫ل ُيْؤِمُنو َ‬
‫ِبُكْفِرِهْم َف َ‬
‫بالدجال‪" :‬ورأيت الوحش وملوك الرض وجيوشهم قد احتشدوا ليحاربوا هذا الفارس‬
‫جال")‪ ،(732‬إل‬ ‫)المين الصادق( وجيشه ‪ ...‬فقبض على الوحش وعلى النبي المسيح الد ّ‬
‫أن كعب الحبار وأمثاله استطاعوا غرس فكرة الدجال المزعوم في عقول المسلمين!‪،‬‬
‫فقد قال‪ :‬كلب الساعة الدجال‪ ،‬ومن صبر على فتنة الدجال لم يفتن")‪.(733‬‬
‫ثم تنتقل الرواية من كعب الحبار إلى أبي هريرة الذي يقول‪" :‬إذا تشهد أحدكم‬
‫فليستعذ بال من أربع يقول‪ :‬اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم‪ ،‬ومن عذاب القبر‪ ،‬ومن‬
‫فتنة المحيا والممات‪ ،‬ومن شر فتنة المسيح الدجال")‪ ،(734‬ومنه إلى رواة أهل الحديث‬
‫ليقوموا بعملية حضانة لهذه الروايات لتفقس بعد ذلك مفرخة عشرات الروايات المنسوبة‬
‫إلى الكثير من الصحابة!‪.‬‬
‫حاولت روايات أهل الحديث وصف الدجال بصفات خرافية خوارقية كإنزال‬
‫المطر وجعل الماء نارًا والنار جنة‪ ،‬وإحياء الموتى إلى غير ذلك)‪ ،(735‬وهذه الصفات‬
‫الخارقة كان بعضها للنبياء للتدليل على صدق رسالتهم‪ ،‬فكيف تعطى لكّذاب؟ وما هي‬
‫حجية معجزات النبياء إن كانت متماثلة مع صفات الكذبة والدجالين‪ ،‬هذه الفكار تهدم‬
‫رسالت جميع النبياء‪ ،‬إنها بكل ببساطة وسيلة شيطانية للغاء النبوات!‪.‬‬

‫المعفراج‪:‬‬
‫من بين القضايا التي حامت حولها الكثير من التساؤلت وتضمنت أدلتها الكثير من‬
‫الشبهات قضية معراج النبي ‪ ‬إلى السماوات العلى‪ ،‬حيث يقول أهل الحديث إن النبي‬
‫‪ ‬قد عرج به من المسجد القصى إلى السماء السابعة‪ ،‬وهم يحتجون لذلك بقوله تعالى‪:‬‬
‫‪ 731‬ابن حبان ‪ ،(15/237) 6285‬المستدرك ‪.(4/488) 8364‬‬
‫‪ 732‬الرؤيا ‪ .20-19/19‬راجع سعيد أيوب "عقيدة المسيح الدجال" ص ‪.134‬‬
‫ماد "الفتن" برقم ‪ 1313‬ص ‪.355‬‬‫‪ 733‬نعيم بن ح ّ‬
‫‪ 734‬مسلم ]‪.(588)-130[1326‬‬
‫‪735‬مسلم ]‪ ،(2937)-110[7373‬الترمذي ‪ ،2245‬ابن حبان ‪ ،(14/469) 6533‬مستدرك‬
‫الحاكم ‪.(4/538) 8508‬‬
‫شِديُد اْلُقَوى * ُذو ِمّرةٍ‬ ‫عّلَمُه َ‬ ‫حى * َ‬ ‫ي ُيو َ‬ ‫حٌ‬ ‫ن ُهَو ِإّل َو ْ‬ ‫ن اْلَهَوى* ِإ ْ‬ ‫عِ‬‫ق َ‬ ‫ط ُ‬ ‫} َوَما َين ِ‬
‫حى‬ ‫ن َأْو َأْدَنى * َفَأْو َ‬ ‫سْي ِ‬‫ن َقابَ َقْو َ‬ ‫عَلى * ُثّم َدَنا َفَتَدّلى * َفَكا َ‬ ‫ق اَْل ْ‬
‫َفاسَْتَوى * َوُهَو ِباُْلُف ِ‬
‫عَلى َما َيَرى * َوَلَقْد َرآُه َنْزَلًة‬ ‫ب اْلُفَؤاُد َما َرَأى * َأَفُتَماُروَنُه َ‬ ‫حى * َما َكَذ َ‬ ‫عْبِدِه َما َأْو َ‬
‫ِإَلى َ‬
‫شى * َما‬ ‫سْدَرَة َما َيْغ َ‬ ‫شى ال ّ‬ ‫جّنُة اْلَمْأَوى * ِإذْ َيْغ َ‬ ‫عنَدَها َ‬ ‫سْدَرِة اْلُمْنَتَهى * ِ‬ ‫عنَد ِ‬ ‫خَرى * ِ‬ ‫ُأ ْ‬
‫ت َرّبِه اْلُكْبَرى{النجم‪.18-3 :‬‬ ‫ن آَيا ِ‬ ‫طَغى * َلَقْد َرَأى ِم ْ‬ ‫صُر َوَما َ‬ ‫غ اْلَب َ‬
‫َزا َ‬
‫وهذه اليات ل تدل على ما ذهبوا إليه‪ ،‬وإنما تذكر المّرتين اللتين رأى فيهما النبي‬
‫‪ ‬جبريل بصورته الحقيقية‪ ،‬وقد ثبت عن السيدة عائشة أنها قالت‪" :‬من زعم أن محمدًا‬
‫رأى ربه فقد أعظم‪ ،‬ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادًا ما بين الفق")‪،(736‬‬
‫ن َأْو َأْدَنى {‬ ‫سْي ِ‬
‫ب َقْو َ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫وحين سألها مسروق عن قوله تعالى } ُثّم َدَنا َفَتَدّلى * َفَكا َ‬
‫قالت‪" :‬ذاك جبريل‪ ،‬كان يأتيه في صورة الرجل‪ ،‬وإنما أتى هذه المرة في صورته التي‬
‫هيَ فسّد الفق")‪.(737‬‬
‫حى {يدل على أن بداية الوحي‬ ‫عْبِدِه َما َأْو َ‬‫حى ِإَلى َ‬ ‫وبذلك نعلم أن قوله تعالى } َفَأْو َ‬
‫كانت في رؤية النبي ‪ ‬للوحي معترضًا الفق‪ ،‬تلك الرؤية وذلك الوحي كان رهيبًا‬
‫على قلب النبي ‪ ‬الذي فّر إلى أهله ليزمّلوه ويدّثروه من قشعريرة الخوف‪ ،‬وهذا‬
‫بخلف ادعاء المؤرخين الذين قالوا إن النبي ‪ ‬كان يتعبّد قبل الوحي في غار حراء!‪،‬‬
‫هذا الدعاء من قبل المؤرخين فتح الباب على مصراعيه لعداء الدين للطعن في رسالة‬
‫النبي ‪ ‬وقولهم إنها كانت إرهاصات نفسية ناتجة من طول التعبد والتنحنث كما هو‬
‫الحال عند أئمة الصوفية‪.‬‬
‫ونحن لو رجعنا إلى سيرة النبياء السابقين لوجدنا أن بعثتهم تكون فجائيًة وبدون‬
‫ل موسى ‪ ‬جاءت قصة مبعثه مفاجئة له‪ ،‬يقول تعالى‪َ } :‬وَهْل َأَتا َ‬
‫ك‬ ‫ترتيب سابق‪ ،‬فمث ً‬
‫س َأْو‬ ‫سى * ِإْذ َرَأى َناًرا َفَقاَل َِلْهِلِه اْمُكُثوا ِإّني آَنسْتُ َناًرا ّلَعّلي آِتيُكم ّمْنَها ِبَقَب ٍ‬ ‫ث ُمو َ‬ ‫حِدي ُ‬
‫َ‬
‫ك ِباْلَواِد‬ ‫ك ِإّن َ‬‫خَلْع َنْعَلْي َ‬
‫ك َفا ْ‬ ‫سى * ِإّني َأَنا َرّب َ‬ ‫عَلى الّناِر ُهًدى * َفَلّما َأَتاَها ُنوِدي َيا ُمو َ‬ ‫جُد َ‬‫َأ ِ‬
‫ل َقْد‬ ‫نا ّ‬ ‫طًوى{ طه‪ .12-9 :‬وكذلك المر بالنسبة لطالوت }َوَقاَل َلُهْم َنِبّيُهْم ِإ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫اْلُمَقّد ِ‬
‫ك ِمْنُه َوَلْم ُيْؤ َ‬
‫ت‬ ‫ق ِباْلُمْل ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ن َأ َ‬
‫حُ‬ ‫عَلْيَنا َوَن ْ‬
‫ك َ‬ ‫ن َلُه اْلُمْل ُ‬
‫ت َمِلًكا َقاُلَوْا َأّنى َيُكو ُ‬‫طاُلو َ‬ ‫َبَعثَ َلُكْم َ‬
‫ل ُيْؤِتي‬ ‫سِم َوا ّ‬ ‫ج ْ‬‫طًة ِفي اْلِعْلِم َواْل ِ‬ ‫سَ‬ ‫عَلْيُكْم َوَزاَدُه َب ْ‬‫طَفاُه َ‬‫صَ‬‫لا ْ‬ ‫نا ّ‬ ‫ن اْلَماِل َقاَل ِإ ّ‬‫سَعًة ّم َ‬‫َ‬
‫عِليٌم{ البقرة‪.247 :‬‬ ‫سٌع َ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫شاء َوا ّ‬ ‫ُملَْكُه َمن َي َ‬
‫ل إلى } َنْزَلًة { أخرى‬ ‫أما الرؤية الثانية فقد كانت أعظم من الولى‪ ،‬إنها تشير فع ً‬
‫ل وضوحًا على أنها "نظرة بالبصر"‪ .‬يأكد ذلك قول‬ ‫بكل وضوح‪ ،‬وتظهرها بما ل يق ّ‬
‫ن آَياتِ َرّبِه اْلُكْبَرى{ أنه "رأى‬ ‫عبدال بن مسعود في تفسير قوله تعالى } َلَقْد َرَأى ِم ْ‬
‫رفرفًا أخضر سّد أفق السماء")‪.(738‬‬
‫سْدَرِة اْلُمْنَتَهى{‪" ،‬والسدرة واحدة السدر‪ ،‬وهو شجر‬ ‫ن هذا حصل عند } ِ‬ ‫على أ ّ‬
‫النبق‪ ،‬وهو من أشجار البادية دائم الخضرة كثير الفروع ممتد الظلل‪ ،‬واختيار شجرة‬
‫‪736‬البخاري ‪.3234‬‬
‫‪ 737‬البخاري ‪.3235‬‬
‫‪ 738‬البخاري ‪.3233‬‬
‫السدر للدللة على النهاية التي ل يتجاوزها مخلوق من العالم العلوي‪ ،‬لن شجر السدر‬
‫شجر صحراوي ينبت على حافة الصحراء بين البادية والحاضرة‪ ،‬فهو بهذا أمارة من‬
‫س الحياة الحضرية‪ ،‬وتقف على عتبتها‪ ،‬دون أن تتجاوزها‬ ‫أمارات البادية التي تكاد تما ّ‬
‫إلى ما وراءها‪ ،‬إنها أقوى وأقدر نبت أصيل من نبات البادية‪ ،‬يستطيع أن يمتد فيصل إلى‬
‫مشارف العالم الحضري‪ ،‬أما النخل فإنه وإن كان من نبت الصحراء إل أنه ل ظل له‬
‫يجتمع الناس تحته كما هو الشأن في شجر السدر‪ ،‬وأما العنب والرمان ونحوها فإنها من‬
‫ل‪ ،‬ثم استجلبت إلى البادية‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فإن شجرة السدر هنا تشير –‬ ‫نبات الحضارة أص ً‬
‫وال أعلم‪ -‬إلى نقطة التقاء بين عالمين‪ ،‬عالم البشر الذي تتحرك فيه البشرية جميعها‪،‬‬
‫والتي تستطيع بما يمدها ال سبحانه وتعالى من فضله أن تصعد في هذا العالم حتى تبلغ‬
‫سدرة المنتهى‪ ،‬ممثلة به في خاتم النبيين محمد صلوات ال وسلمه عليه‪ ،‬وعالم الملئكة‬
‫ل آخر ينطلقون فيه‪ ،‬ومنهم جبريل‬ ‫المقربين‪ ،‬الذين جعل ال لهم وراء سدرة المنتهى مجا ً‬
‫‪.(739)"‬‬
‫"ومن الملحظ أن النبي ‪ ‬في الرؤية الثانية توقف بصره عند هذا المنتهى‪،‬‬
‫طَغى{ النجم‪ ،17 :‬ول يعني ذلك فقط عدم الغلط‬ ‫صُر َوَما َ‬ ‫منتهى المصائر } َما َزا َ‬
‫غ اْلَب َ‬
‫والشتباه والتنبه الكامل الحسي للمعطي للنظر وهو جبريل‪ ،‬بل قد يعني كما ذكر ذلك‬
‫المفسرون التحديق في الموضوع بقّوة كي ل يهرب البصر إلى اللمتناهي الذي من‬
‫ف ول أماٌم‪ ،‬ول فوق ول تحت‪ ،‬فهو ما وراء العالم‬ ‫خلف‪ ،‬وفي الحقيقة ليس هناك خل ٌ‬
‫والجود بصيغة الستعارة")‪.(740‬‬
‫وأّول من أشاع بين المسلمين أن سدرة المنتهى هي سدرة في السماء السابعة كعب‬
‫الحبار اليهودي!‪ ،‬فقد جاء ابن عباس إلى كعب الحبار‪ ،‬فقال له‪ :‬حدثني عن قول ال‬
‫جّنُة اْلَمْأَوى{ فقال كعب‪" :‬إنها سدرة في أصل العرش إليها‬ ‫عنَدَها َ‬ ‫} ِ‬
‫سْدَرِة اْلُمْنَتَهى * ِ‬
‫ينتهي علم كل عالم ملك مقرب أو نبي مرسل ما خلفها غيب ل يعلمه إل ال‪ ،‬وقال‪ :‬إنها‬
‫سدرة على رؤوس حملة العرش‪ ،‬وإليها ينتهي علم الخلئق ثم ليس لحد وراءها")‪.(741‬‬
‫وتأكيدًا من أهل الحديث لتفسيرهم الهرمسي المستقى من كعب الحبار رووا رواية‬
‫من طريق أنس بن مالك‪ ،‬جاء فيها‪" :‬عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي ال‬
‫عنهما أن نبي ال ‪ ‬حدثهم عن ليلة أسري‪ .‬قال‪" :‬بينما أنا في الحطيم" ‪-‬وربما قال‪:‬‬
‫في الحجر‪ -‬مضطجعا إذ أتاني آت" فقد قال وسمعته يقول‪" :‬فشق ما بين هذه إلى هذه"‪،‬‬
‫فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به؟ قال‪ :‬من ثغرة نحره إلى شعرته‪ .‬وسمعته يقول‬
‫من قصه إلى شعرته‪" .‬فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا‪ ،‬فغسل‬
‫قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض"‪ .‬فقال له الجارود‪:‬‬
‫هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس‪ :‬نعم‪" .‬يضع خطوه ثم أقصى طرفه فحملت عليه‪،‬‬
‫فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا‪ ،‬فاستفتح فقيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جبريل‪ .‬قيل‪ :‬ومن‬
‫عبد الكريم الخطيب "التفسير القرآني للقرآن" المجلد السابع ص ‪.595-594‬‬ ‫‪739‬‬

‫هشام جعيط "الوحي والقرآن والنبوة" ص ‪.53-52‬‬ ‫‪740‬‬

‫تفسير الطبري ج ‪27‬ص ‪.52‬‬ ‫‪741‬‬


‫معك؟ قال‪ :‬محمد‪ .‬قيل‪ :‬وقد أرسل إليه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قيل‪ :‬مرحبًا به‪ ،‬فنعم المجيء جاء‪،‬‬
‫ففتح‪ ،‬فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال‪ :‬هذا أبوك فسلم عليه‪ .‬فسلمت عليه‪ ،‬فرد السلم‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬مرحبًا بالبن الصالح‪ ،‬والنبي الصالح‪ .‬ثم صعد حتى أتى السماء الثانية‪ ،‬فاستفتح‪،‬‬
‫قيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جبريل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪ :‬محمد‪ .‬قيل‪ :‬وقد أرسل إليه؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قيل‪ :‬مرحبًا به‪ ،‬فنعم المجيء جاء‪ ،‬ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا يحيى وعيسى‪ ،‬فسلم عليهما‪ ،‬فسلمت فردا‪ ،‬ثم قال‪ :‬مرحبًا بالخ الصالح والنبي‬
‫الصالح‪ .‬ثم صعد بي إلى السماء الثالثة‪ ،‬فاستفتح‪ ،‬قيل‪ :‬من هذا‪ ،‬قال‪ :‬جبريل‪ .‬قيل‪ :‬ومن‬
‫معك؟ قال‪ :‬محمد‪ .‬قيل‪ :‬وقد أرسل إليه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قيل‪ :‬مرحبًا به‪ ،‬فنعم المجيء جاء‪،‬‬
‫ففتح فلما خلصت إذا يوسف‪ ،‬قال‪ :‬هذا يوسف‪ ،‬فسلم عليه‪ .‬فسلمت عليه‪ ،‬فرد‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫مرحبًا بالخ الصالح والنبي الصالح‪ .‬ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة‪ ،‬فاستفتح قيل‪:‬‬
‫من هذا؟ قال‪ :‬جبريل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪ :‬محمد‪ .‬قيل‪ :‬أو قد أرسل إليه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قيل‪:‬‬
‫مرحبًا به فنعم المجيء جاء‪ ،‬ففتح فلما خلصت فإذا إدريس‪ ،‬قال‪ :‬هذا إدريس‪ ،‬فسلم عليه‪.‬‬
‫فسلمت عليه‪ ،‬فرد ثم قال‪ :‬مرحبًا بالخ الصالح والنبي الصالح‪ .‬ثم صعد بي حتى أتى‬
‫السماء الخامسة فاستفتح قيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جبريل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪ :‬محمد ‪.‬‬
‫قيل‪ :‬وقد أرسل إليه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قيل‪ :‬مرحبًا به فنعم المجيء جاء‪ ،‬فلما خلصت فإذا‬
‫هارون‪ ،‬قال‪ :‬هذا هارون فسلم عليه‪ .‬فسلمت عليه‪ ،‬فرد ثم قال‪ :‬مرحبا بالخ الصالح‬
‫والنبي الصالح‪ .‬ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل‪ :‬من هذا؟ قال‪:‬‬
‫جبريل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪ :‬محمد‪ .‬قيل‪ :‬أو قد أرسل إليه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قيل‪ :‬مرحباً به‬
‫فنعم المجيء جاء‪ ،‬فلما خلصت فإذا موسى‪ ،‬قال هذا موسى فسلم عليه‪ .‬فسلمت عليه‪،‬‬
‫فرد ثم قال‪ :‬مرحبا بالخ الصالح والنبي الصالح‪ ،‬فلما تجاوزت بكى‪ ،‬قيل له‪ :‬ما يبكيك؟‬
‫قال‪ :‬أبكي لن غلمًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي‪ .‬ثم‬
‫صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل فاستفتح قيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جبريل‪.‬‬
‫قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪ :‬محمد‪ .‬قيل‪ :‬أو قد أرسل إليه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قيل‪ :‬مرحبًا به فنعم‬
‫المجيء جاء‪ ،‬فلما خلصت فإذا إبراهيم‪ ،‬قال‪ :‬هذا أبوك فسلم عليه‪ .‬قال‪ :‬فسلمت عليه‪،‬‬
‫فرد السلم قال‪ :‬مرحبًا بالبن الصالح والنبي الصالح ثم ُرِفعت إلى سدرة المنتهى‪ ،‬فإذا‬
‫نبقها مثل قلل هجر‪ ،‬وإذا ورقها مثل آذان الفيلة‪ ،‬قال‪ :‬هذه سدرة المنتهى‪ ،‬وإذا أربعة‬
‫أنهار‪ :‬نهران باطنان‪ ،‬ونهران ظاهران‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذان يا جبريل؟ قال‪ :‬أما الباطنان‬
‫فنهران في الجنة‪ ،‬وأما الظاهران فالنيل والفرات‪ .‬ثم ُرفع لي البيت المعمور‪ ،‬ثم أتيت‬
‫بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل‪ ،‬فأخذت اللبن فقال‪ :‬هي الفطرة التي أنت‬
‫عليها وأمتك‪ ،‬ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلة كل يوم‪ ،‬فرجعت فمررت على‬
‫موسى فقال‪ :‬بم أمرت؟ قال‪ :‬أمرت بخمسين صلة كل يوم‪ ،‬قال‪ :‬أمتك ل تستطيع‬
‫خمسين صلة كل يوم‪ ،‬وإني وال قد جربت الناس قبلك‪ ،‬وعالجت بني إسرائيل أشد‬
‫المعالجة‪ ،‬فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لمتك‪ .‬فرجعت فوضع عني عشرًا‪ ،‬فرجعت‬
‫إلى موسى فقال مثله‪ ،‬فرجعت فوضع عني عشرًا فرجعت إلى موسى فقال مثله‪،‬‬
‫فرجعت فوضع عني عشرًا‪ ،‬فرجعت إلى موسى فقال مثله‪ ،‬فرجعت فأمرت بعشر‬
‫صلوات كل يوم‪ ،‬فرجعت فقال مثله‪ ،‬فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم‪ ،‬فرجعت‬
‫إلى موسى فقال‪ :‬بما أمرت؟ قلت‪ :‬أمرت بخمس صلوات كل يوم‪ .‬قال‪ :‬إن أمتك ل‬
‫تستطيع خمس صلوات كل يوم‪ ،‬وإني قد جربت الناس قبلك‪ ،‬وعالجت بني إسرائيل أشد‬
‫المعالجة‪ ،‬فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لمتك‪ .‬قال‪ :‬سألت ربي حتى استحييت‪ ،‬ولكن‬
‫أرضى وأسلم قال فلما جاوزت ناداني مناد‪ :‬أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي")‪.(742‬‬
‫ونسي أهل الحديث أنهم بهذه الرواية يطعنون في إيمان الرسول ‪ ،‬وأنه لول‬
‫عملية القلب المفتوح التي قام بها جراحو الملئكة برئاسة جبريل الذي اعتبرته الرواية‬
‫رئيس الطاقم الطبي‪ ،‬لول تلك العملية لما كان النبي ‪ ‬مؤمنًا خالصًا!‪ ،‬وبالرغم من‬
‫طول الراوية وكثرة تفاصيلها الهرمسية إل أنها لم تتطرق البتة إلى حادثة السراء‬
‫سَرى‬ ‫ن اّلِذي َأ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫العظيمة التي نص ال تعالى عليها في كتابه العزيز في قوله‪ُ } :‬‬
‫سْب َ‬
‫ن آَياِتَنا ِإّنُه‬‫حْوَلُه ِلُنِرَيُه ِم ْ‬
‫صى اّلِذي َباَرْكَنا َ‬‫جِد اَلْق َ‬ ‫سِ‬ ‫حَراِم ِإَلى اْلَم ْ‬‫جِد اْل َ‬
‫سِ‬ ‫ن اْلَم ْ‬‫ل ّم َ‬‫ِبَعبِْدِه َلْي ً‬
‫صيُر{ السراء‪.1 :‬‬ ‫سِميُع الَب ِ‬ ‫ُهَو ال ّ‬
‫فالقصة تقول أن المعراج كان مباشرة من مكة إلى السماء السابعة!‪ ،‬وقد تعطف‬
‫أحد الرواة الضعفاء المختلطين ليلفق بين القصتين)‪ ،(743‬والراوي هو حماد بن‬
‫سلمة)‪ (744‬الذي اشتهر برواياته المنكرة كرواية "خلق ال الفرس فأجراها فعرقت‪ ،‬ثم‬
‫خلق نفسه منها")‪.(745‬‬
‫والقصة تتكلم عن حيوان اسمه "البراق" يركبه جبريل! الذي يفترض أنه من‬
‫الملئكة الذين يخترقون حجب الزمان والمكان بين السماء والرض دون حاجة لوسائل‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ت‬ ‫طِر ال ّ‬ ‫ل َفا ِ‬‫حْمُد ِّ‬ ‫مواصلت بدائية!‪ ،‬وهو ذو أجنحة عظيمة كما قال تعالى‪} :‬اْل َ‬
‫شاء‬ ‫ق َما َي َ‬ ‫خْل ِ‬
‫ع َيِزيُد ِفي اْل َ‬ ‫ث َوُرَبا َ‬
‫ل َ‬
‫حٍة ّمْثَنى َوُث َ‬‫جِن َ‬‫ل ُأوِلي َأ ْ‬ ‫سً‬‫لِئَكِة ُر ُ‬‫عِل اْلَم َ‬‫جا ِ‬ ‫ض َ‬ ‫َواَْلْر ِ‬
‫يٍء َقِديٌر {فاطر‪.1 :‬‬ ‫ش ْ‬‫عَلى ُكّل َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫ِإ ّ‬
‫ثم تتحدث الرواية عن لقاء النبي ‪ ‬مع النبياء الذين يفترض أنهم ماتوا وأنهم في‬
‫حِييُكْم ُثّم ُيِميُتُكْم‬
‫ل ُي ْ‬‫رحمة ال‪ ،‬والميت ل يبعث إل يوم القيامة كما أكد ذلك القرآن }ُقِل ا ُّ‬
‫ن{الجاثية ‪ ،26‬ويقول‬ ‫ن َأَكَثَر الّناسِ َل َيْعَلُمو َ‬
‫ب ِفيِه َوَلِك ّ‬‫جَمُعُكْم ِإَلى َيْوِم اْلِقَياَمِة َل َري َ‬ ‫ُثّم َي ْ‬
‫ن الّناِر‬‫عِ‬ ‫ح َ‬ ‫حِز َ‬‫جوَرُكْم يَْوَم اْلِقَياَمِة َفَمن ُز ْ‬
‫ن ُأ ُ‬‫ت َوِإّنَما ُتَوّفْو َ‬
‫س َذآِئَقُة اْلَمْو ِ‬‫تعالى‪ُ} :‬كّل َنْف ٍ‬
‫ع اْلُغُروِر{آل عمران ‪.185‬‬ ‫حَياُة الّدْنَيا ِإّل َمَتا ُ‬
‫جّنَة َفَقْد َفاَز َوما اْل َ‬ ‫خَل اْل َ‬ ‫َوأُْد ِ‬
‫والعجيب أن النبياء الذين جاء ذكرهم في الرواية هم النبياء الذين يقر بهم بنو‬
‫اسرائيل‪ ،‬فلم يذكر شعيب ول هود ول صالح ول حتى نوح عليهم السلم وجاءت‬
‫منازلهم في السماء حسب أهميتهم للفكر السرائيلي‪ ، ،‬فلهذا جاء هارون وموسى‬
‫وابراهيم في السماوات العلى بينما آدم في سماء دون سماء النبياء الذين شكلوا تاريخ‬
‫بني اسرائيل!‪.‬‬

‫البخاري ‪.3887‬‬ ‫‪742‬‬

‫مسلم ]‪.(162)-259[411‬‬ ‫‪743‬‬

‫الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪.286‬‬ ‫‪744‬‬

‫البيهقي "السماء والصفات" ج ‪3‬ص ‪.529‬‬ ‫‪745‬‬


‫ولن راوي القصة الأسطورية جاهل في الجغرافيا‪ ،‬لم يعلم أن الفرات ينبع من‬
‫تركيا وأن النيل ينبع من بحيرة نيانزا التي اسماها المستعمرون "فكتوريا" في أعماق‬
‫أفريقيا!‪.‬‬
‫وقد جاء في بعض الروايات عند البخاري "ثم عل به فوق ذلك بما ل يعلمه إل‬
‫ب العّزة‪ ،‬فتدّلى حتى كان منه قاب قوسين أو‬ ‫ال‪ ،‬حتى جاء سدرة المنتهى‪ ،‬ودنا الجّبار ر ّ‬
‫أدنى")‪.(746‬‬
‫ف منها شعر النسان‪ ،‬والتي تصف ال تعالى بصفات‬ ‫وهذه العبارة البشعة التي يقِ ّ‬
‫الحيوانات والجمادات التي تتدلى من أعلى إلى أسفل استنكرها بعض أهل الحديث‬
‫أنفسهم‪ ،‬فقد قال الخطابي‪ :‬ليس في هذا الكتاب –يعني صحيح البخاري‪ -‬حديث أشنع‬
‫ظاهرًا ول أشنع مذاقًا من هذا الفصل‪ ،‬فإنه يقتضي تحديد مسافة بين أحد المذكورين‬
‫وبين الخر وتمييز مكان كل واحد منهما‪ ،‬هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له‬
‫بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل")‪.(747‬‬
‫والرواية بالضافة إلى ما سبق تصف الملئكة بالجهل‪ ،‬فهم لم يكونوا يعلمون أن‬
‫محمدًا ‪ ‬قد بعث إلى العالمين!‪ ،‬كما أنها تصفهم بجهل القادم إلى السماء بحيث تقوم‬
‫بعملية تدقيق في الهويات!‪ ،‬فتسأل جبريل عن نفسه‪ ،‬وعمن معه!‪ ،‬ويتكرر المشهد‬
‫الهزلي في كل سماء!‪ ،‬حتى يتصور المرء بأنه يقرأ عن رحلة سياحية عبر مطارات‬
‫العالم الثالث!‪.‬‬
‫ومما يدلل على الصول السرائيلية لهذة القصة ايحاءها بأن موسى ‪ ‬أعّلم من‬
‫ال تعالى بحال أمة محمد ‪ ،‬وأنه أحكم من النبي ‪.(748)‬‬
‫وقد ذكر الشيخ حسن السقاف أن هذه القصة منقوله حرفيًا من كتب اليهود حيث‬
‫قال‪" :‬وبالسؤال والتتبع وجدنا ان أصل هذه القصة موجود في كتب أهل الكتاب اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬مما أكد لنا أن هذه القصة بهذا الشكل والتصوير الوارد في هذا الحديث‬
‫المنسوب للنبي ‪ ‬فيها ما هو منحول من كتب المم السابقة‪ ،‬وهم اليهود والنصارى‪.‬‬
‫فهذه القصة موجودة في كتاب "إخنوخ" وهو من السفار القديمة عند اليهود‪ ،‬ولكن‬
‫الكنيسة بأقسامها الثلث )وهي المجامع الكنيسية المتأخرة( اعتبرته سفرًا غير قانوني‪.‬‬
‫ولكن الكنيسة الحبشية ل تزال تعتبره‪.‬‬
‫والثابت أن المفسرين والمسلمين المتقدمين بما فيهم جماعة الصحابة رضوان ال‬
‫عليهم أطّلعوا على هذا السفر‪ ،‬ولذلك ورد اسم )أخنوخ( في بعض التفاسير كتفسير‬
‫ل عند تفسير قوله تعالى في حق سيدنا إدريس ‪َ} ‬وَرَفْعَناُه َمَكاًنا َ‬
‫عِلّيا{‬ ‫القرطبي مث ً‬
‫وسفر )إخوخ( اليهودي هذا يحتوي على قصة رحلة )إخنوخ( وهو سيدنا إدريس‬
‫للسمواوات السبع‪ ،‬وإعلنات ال لخنوخ )كما يعبر(!‪ .‬وكذلك يحتوي –كما يقول‪ -‬على‬
‫‪ 746‬البخاري ‪.7517‬‬
‫‪ 747‬ابن حجر العسقلني "فتح الباري" ج ‪15‬ص ‪.455‬‬
‫ل‪" :‬ولماذا كان النبي موسى ‪‬‬‫‪ 748‬يتسائل الشيخ أحمد بن سعود السيابي حفظه الله قائ ً‬
‫ل؟" وهو تساؤل يشير إلى التأثير السرائيلي في‬‫هو المرشد لمحمد ‪ ‬دون إبراهيم ‪ ‬مث ً‬
‫صياغة قصة المعراج‪.‬‬
‫تحذيرات إخنوخ لبنائه!‪ ،‬وفي الفصل الثاني من سفر التكوين العدد )‪ 10‬و ‪ 11‬و ‪ 12‬و‬
‫‪ 13‬و ‪ (14‬ورد ذكر هذه النهار الربعة ببعض تغيير للسماء وهي‪ :‬فيحون‪ ،‬وجيحون‪،‬‬
‫وحداقل‪ ،‬والفرات‪ ،‬فالذي أّلف القصة حّور ودّور في هذه السماء إلى ما يناسب‬
‫معلومات العرب آنذاك")‪.(749‬‬
‫يقول الشيخ ناصر بن أبي نبهان‪" :‬أما معراجه بجسده‪ ،‬وروحه معًا إلى السماء أو‬
‫إلى ما هو أعلى فلم يأت صريح التنزيل بذلك‪ ،‬ول قامت الحجة بصحيح السنة‪ ،‬ول‬
‫يصح فيه الجماع الذي ل يجوز خلفه‪ ،‬وأن جميع ما ذكروه فيه من رؤيته في‬
‫السماوات النبياء‪ ،‬وذكر تخفيف الصلوات‪ ،‬وتردده على ال تعالى غير صحيح‪ ،‬وال‬
‫تعالى أسرى بجسده وروحه من المسجد الحرام إلى المسجد القصى‪ ،‬وأنزل في كرامته‬
‫ل في ذكرها‪ ،‬لنؤمن بهما فيه‪ ،‬فكيف ل يذكر الباري تعريجه من الرض إلى‬ ‫له هذه تنزي ً‬
‫السماوات أو إلى أعلى من السماوات في تنزيله؟ ولو كان صحيحًا لنزل ذكر ذلك‬
‫‪750‬‬
‫الباري في تنزيله‪ ،‬وجهل علم وقوع المعراج مما يسع فليس هو من العقائد الدينية") (‪.‬‬
‫وقال أبو طاهر المعتزلي‪" :‬فإن الية على إبطال دعاوهم أدل منه على تصحيحه‪.‬‬
‫وذلك لنه ل يجوز أن يذكر ال تعالى ما هو أصغر في الدلة وأحقر في العجوبة‪،‬‬
‫ويعرض عن ذكر ما هو أجل من ذلك بكثير‪ ،‬ول يخفى بأن العروج إلى السماء في‬
‫بعض ليلة أعجب في العقول من خروجه من مكة إلى بيت المقدس‪.‬‬
‫فلما ذكر إخراجه إلى بيت المقدس في ليلة على سبيل التعجب من ذلك والحث على‬
‫الستدلل به على قدرته وصحة نبوة نبيه؟ ولم يذكر من شأن المعراج ما ذكروه‪ ،‬دل‬
‫على وهاء دعواهم‪ ،‬وفساد خبرهم‪ ،‬فأما ما يذكرونه من الخبر المروي في هذا الباب‬
‫ففاسد من وجوه‪:‬‬
‫‪751‬‬
‫أحدها أنه من أخبار الحاد) ( الذي ل اعتماد عليه في باب إيجاد العلم‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬أنه ليس من الصحاح عند القوم‪.‬‬
‫وثالثها‪ :‬أن فيه التشبيه وذكر الحجاب‪ ،‬ما ل يجوز على ال‪.‬‬

‫‪ 749‬حسن السقاف "شرح العقيدة الطحاوية" ص ‪.599-598‬‬


‫‪ 750‬نقله عنه جميل بن خميس السعدي في "قاموس الشريعة" ج ‪6‬ص ‪.359-358‬‬
‫‪ 751‬ادعى البعض تواتر هذه الرواية إل أن جميع طرقها ل تخلو من مقال‪ ،‬فقد جاءت من طريق أنس بن مالك‪ ،‬بيد أن‬
‫من الملحظ اضطراب طرقها بعد ذلك فمنهم من يرويها عن أنس عن أبيه مالك بن صعصعه)مسلم ]‪)-264[416‬‬
‫‪ .(.(164‬وهي من طريق قتادة بن دعامة السدوسي وهو ضعيف مدلس‪ .‬ومنهم من يرويها عن أنس عن أبي ذّر‪ ،‬من‬
‫طريق الزهري )البخاري برقم ‪ ،349‬ومسلم برقم ]‪ ،((163)-263[415‬والزهري مدلس‪ ،‬وقد عّده ابن حجر في‬
‫"طبقات المدلسين" ج ‪1‬ص ‪ 45‬من الطبقة الثالثة من المدلسين‪ ،‬وبعضهم يرويها عن أنس عن النبي ‪ ‬دون واسطة‬
‫)البخاري برقم ‪ ،7517‬مسلم برقم ]‪ .((162)-259[411‬وهي عند البخاري من طريق شريك بن عبدال وهو ضعيف‬
‫)الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪ ،(.468‬وعند مسلم من طريق حماد بن سلمة المجسم صاحب الروايات‬
‫المنكرة )الذهبي "المغني في الضعفاء" ج ‪1‬ص ‪ .(286‬ورويت من طريق أبي سعيد الخدري‪ ،‬وعبدال بن مسعود‪،‬‬
‫وأبي هريرة إل أن ابن كثير ذكر في تفسيره ج ‪3‬ص ‪ 24‬أن فيها غرابة ونكارة‪ ،‬وقد حاول ابن كثير تكثير طرق‬
‫الرواية فأضاف روايات عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبدال وغيرهم إل أن رواياتهم لم يذكر فيها قصة المعراج‬
‫العجيبة!‪.‬‬
‫ورابعها‪ :‬أنه يتضمن من إيجاب البدء عل ال تعالى لنه بزعمهم على ما يروونه‬
‫في هذا الخبر نسخ خميسن صلة إلى خمس صلة شيئًا بعد شيء‪ ،‬ونسخ الشيء قبل‬
‫وقت فعله‪ ،‬وقبل وقت معرفة المكلف به بداء‪ ،‬والبداء على ال مستحيل")‪.(752‬‬
‫يقول عبد الكريم الخطيب‪" :‬الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج‬
‫يجد فيها كثيرًا من الّدس والكذب والتلفيق‪ ،‬ولليهود هنا‪ ،‬في هذه القصة‪ ،‬دور كبير في‬
‫س الخبار‪ ،‬وتلفيق الحاديث‪ ،‬حيث المجال فسيح يتسع لكل قول يقال في هذا العالم‬ ‫د ّ‬
‫س اليهود هنا‪ ،‬هو ما يروى في حديث المعراج من اللقاء‬ ‫العلوي ‪ ...‬وأبرز ما نراه من د ّ‬
‫الذي كان بين النبي وبين موسى عليهما الصلة والسلم وأن موسى سأل النبي صلوات‬
‫ال وسلمه عليه عما افترض ال على أمته من الصلة ‪ ...‬هذه الرواية تشير إلى أمور‬
‫ل‪ :‬ان تجعل موسى ‪ ‬ما يشبه الوصاية على النبي صلوات ال وسلمه عليه‪،‬‬ ‫منها‪ :‬أو ً‬
‫وهذ من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذة المنزلة ‪ ...‬وثانيًا‪ :‬ما وجه‬
‫الحكمة في أن يكون من تدبير ال سبحانه وتعالى أن تجيء فريضة الصلة على هذا‬
‫السلوب الذي يشبه المناقصات!‪ ،‬والذي يبدأ بخمسين صلة ثم ينتهي بخمس صلوات؟‬
‫وما الحكمة في أن يغدو النبي الكريم‪ ،‬ويروح بين موسى وربه هذه الغدوات والروحات؟‬
‫أل غدوة وروحة واحدة تكفي إن كان لبد من هذا؟ إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى‬
‫عليه إل أن يجيب عن هذه التساؤلت‪ ،‬وأن يكشف عن وجه الحكمة في هذا‪ ،‬فيجعل في‬
‫تمام الرواية‪" :‬أنها خمس في العمل وخمسون في الجر"‪ ،‬وهذا الذي جعله واضع‬
‫الرواية وجهًا داعيًا إلى قبولها‪ ،‬هو في الواقع الوجه الذي يكشف عن ردها‪ ،‬إذ ليست‬
‫الصلة وحدها هي التي تختص بهذه المزية في اعتبار الصلة بعشر صلوات‪ ،‬بل إن كل‬
‫العمال الطيبة توزن عند ال سبحانه وتعالى بهذا الميزان‪ ،‬كما يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫شُر َأْمَثاِلَها{ النعام‪ ... 160 :‬إن الذي يطالع قصة السراء‬
‫ع ْ‬
‫سَنِة َفَلُه َ‬
‫ح َ‬ ‫}َمن َ‬
‫جاء ِباْل َ‬
‫والمعراج على تلك الصورة أو الصور المجسدة التي تعرضعا كتب السيرة والتفسير‪،‬‬
‫ليموت في نفسه كثير من تلك المشاعر الروحية‪ ،‬التي كان خليقًا أن يثيرها فيه حديث‬
‫ل الذي يأخذ في حديث "السراء" لونًا بارزًا صارخًا –‬ ‫السراء والمعراج ‪...‬فالبراق مث ً‬
‫والذي يهيأ للرسول ليتخذ منه مطية إلى العالم العلوي‪ -‬هذا البراق ليس إل "أتانًا" ركب‬
‫عليه جناحان من ريش‪ ،‬فصار أشبه بلعبة من لعب الطفال التي يؤلفونها من حطام‬
‫شّد إليه النبياء دوابهم عند‬
‫بعض لعبهم التي انتهى دورها معهم‪ .‬ثم هذا الحجر الذي ي ُ‬
‫المسجد القصى‪ ،‬وتلك الحلقات المغروسة في هذا الحجر لتمسك المقاود والّلجم إنها‬
‫جميعها لتمسك بالمعاني الكريمة العالية التي كن يجدها المرء في نفسه لو أزاح هذا‬
‫الحجر من طريقها‪ ،‬وانزاحت معه اللجم والمقاود والسروج وغيرها‪ ،‬مما يكن في مرابط‬
‫الحيوان!")‪.(753‬‬

‫نقله عنه جميل بن خميس السعدي في "قاموس الشريعة" ج ‪6‬ص ‪.357-356‬‬ ‫‪752‬‬

‫عبد الكريم الخطيب "التفسير القرآني للقرآن" المجلد الرابع ص ‪.432-425‬‬ ‫‪753‬‬
‫قائمة بأهم المراجع‬

‫‪ -‬الباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالت‪ ،‬علي بن محمد الحجري‪،‬‬
‫طبع مطابع النهضة‪ ،‬مسقط‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1420‬هـ‪. .‬‬
‫‪-‬التقان في علوم القرآن‪ ،‬جلل الدين السيوطي‪ ،‬تحقيق محمد سالم هاشم‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬ابتلءات المم‪ ،‬سعيد أيوب‪ ،‬طبع‪ :‬دار الهادي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1412‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬إثبات علو ال ومباينته لخلقه‪ ،‬حمود التويجري‪ ،‬مكتبة المعارف الرياض‪ ،‬ط ‪1‬‬
‫‪1405‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬اجتماع الجيوش السلمية‪ ،‬ابن القيم الجوزية‪ ،‬تحقيق فواز أحمد زمرلي‪ ،‬دار الكتاب‬
‫العربي بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1408‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬أحاديث في قضايا الوحدة والختلف‪ ،‬محمد حسين فضل ال‪ ،‬إعداد نجيب نور الدين‪،‬‬
‫طبع دار الملك‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬إحياء علوم الدين‪ ،‬أبي حامد الغزالي‪ ،‬دار الجيل بيروت‪.‬‬
‫‪-‬أخبار الفقهاء والمحّدثين‪ ،‬أبو عبدال محمد بن حارث الخشني القيرواني‪ ،‬تحقيق سالم‬
‫مصطفى البدري‪ ،‬طبع دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1420‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬أخبار المجد في تاريخ نجد‪ ،‬عثمان بن عبد ال بن بشر النجدي‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن بن‬
‫عبد اللطيف آل الشيخ‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط ‪ 4‬سنة ‪1402‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬السرائيليات والموضوعات في كتب التفسير‪ ،‬محمد بن محمد بن شهبة‪ ،‬دار الجيل‬
‫بيروت ط ‪.1‬‬
‫‪-‬السماء والصفات‪ ،‬أبو بكر البيهقي‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن عميرة‪ ،‬دار الجيل بيروت‪ ،‬ط‬
‫‪ 1‬سنة ‪1417‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الصول العقدية للناشئة المحمدية‪ ،‬د‪ .‬محمد ناصر‪ ،‬طبع مكتبة الظامري‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪1993‬م‪.‬‬
‫‪-‬المام ابن بركة السليمي البهلوي )ت ‪362‬هـ‪972 -‬م( ودوره الفقهي في المدرسة‬
‫الباضية من خلل كتابه "الجامع" دراسة مقارنة‪ ،‬زهران بن خميس بن محمد‬
‫المسعودي‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ ‪2000-‬م‪.‬‬
‫‪-‬البحر المحيط‪ ،‬أبو حيان الندلسي‪ ،‬طبع دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت ط ‪.2‬‬
‫‪-‬البداية والنهاية‪ ،‬ابن كثير‪ ،‬دار إحياء التراث‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪1417 1‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬بلغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار‪ ،‬تحقيق عبد الفتاح لشين‪ ،‬مطبعة دار‬
‫القرآن‪ ،‬ميدان الزهر الشريف‪.‬‬
‫‪-‬بنو إسرائيل بين نبأ القرآن وخبر العهد القديم‪ ،‬صابر طعيمة‪ ،‬طبع عالم الكتب‪ ،‬بيروت‬
‫ط ‪ 1‬سنة ‪1404‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬بيان الشرع‪ ،‬محمد بن إبراهيم الكندي‪ ،‬طبع وزارة التراث القومي والثقافة‪ ،‬سلطنة‬
‫عمان‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1404‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬تاريخ الطبري "تاريخ المم والملوك"‪ ،‬أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‪ ،‬ط دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1422‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬تبيين كذب المفتري ‪ ،‬ابن عساكر الدمشقي )‪ 571‬هـ(‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‬
‫‪1404 3‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬التحف في مذاهب السلف‪ ،‬محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬تحقيق سيد عاصم‪ ،‬طبع‪ :‬دار‬
‫الصحابة للتراث‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1409‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬تدريب الراوي‪ ،‬جلل الدين السيوطي‪ ،‬طبع المكتبة العلمية بالمدينة المنورة‪،‬ط ‪.2‬‬
‫‪ -‬التشيع العلوي والتشيع الصوفي‪ ،‬علي شريعتي‪ ،‬طبع دار المير‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪1422‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬تكوين العقل العربي‪ ،‬محمد عابد الجابري‪ ،‬طبع مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ ،8‬سنة ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪-‬التدليس وأحكامه وآثاره النقدية‪ ،‬صالح بن سعيد عومار الجزائري‪ ،‬طبع دار ابن حزم‪،‬‬
‫ط ‪ 1‬سنة ‪1422‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬التفسير القرآني للقرآن‪ ،‬عبد الكريم الخطيب‪ ،‬طبع دار الفكر العربي‪.‬‬
‫‪-‬تقييد العلم‪ ،‬الخطيب البغدادي‪ ،‬تحقيق يوسف العش‪ ،‬طبعة دار إحياء السنة النبوية‪ ،‬ط ‪2‬‬
‫سنة ‪1974‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬تهذيب التهذيب‪ ،‬ابن حجر العسقلني‪ ،‬طبع‪ :‬دار الكتب العلمية بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪1415‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬التوحيد‪ ،‬ابن خزيمة‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد خليل هراس‪ ،‬طبع دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬سنة‬
‫‪1408‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الجامع الصحيح‪ ،‬مسند الربيع بن حبيب‪ ،‬طبع مكتبة مسقط‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1415‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الجامع‪ ،‬عبدال بن محمد بركة‪ ،‬تحقيق عيسى الباروني‪ ،‬المطبعة المشرقية‪ ،‬مطرح‪ ،‬ط‬
‫‪.1‬‬
‫‪-‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ابن عبدالبر‪ ،‬تحقيق مسعد عبد الحميد السعدني‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬حادي الرواح إلى بلد الفراح‪ ،‬ابن القيم الجوزية‪ ،‬طبع دار الفكر‪.‬‬
‫‪-‬الحق الدامغ‪ ،‬أحمد بن حمد الخليلي‪ ،‬مطابع النهضة‪ ،‬مسقط‪ ،‬ط ‪.1‬‬
‫‪ -‬الخوارج والحقيقة الغائبة‪ ،‬ناصر بن سليمان السابعي‪ ،‬طبع بمطابع النهضة‪ ،‬مسقط‪ ،‬ط‬
‫‪ 1‬سنة ‪1420‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الدرر السنية في الجوبة النجدية‪ ،‬لعبد الرحمن بن محمد القحطاني النجدي ‪،‬دار‬
‫العربية للطباعة والنشر ‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1402‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬الدّر اللقيط من البحر المحيط‪ ،‬تاج الدين أبو محمد أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن‬
‫مكتوم القيسي‪ ،‬مطبوع بهامش البحر المحيط لبن حيان الندلسي‪ ،‬طبع دار إحياء التراث‬
‫العربي‪ ،‬بيروت ط ‪.2‬‬
‫‪ -‬دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين‪ ،‬محمد الغزالي‪ ،‬طبع دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط ‪ 3‬سنة‬
‫‪1419‬هـ‪..‬‬
‫‪ -‬دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين وبيان الشبه الورادة على‬
‫السنة قديمًا وحديثًا وردها ردًا عليمًا صحيحًا‪ ،‬محمد بن محمد أبو شهبة‪ ،‬طبع مكتبة‬
‫السنة لصاحبها شرف الدين محمد عبد الفتاح حجازي‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1409‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬رحلة ابن بطوطة "تحفة النظار في غرائب المصار"‪ ،‬شرح طلل حرب‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪-‬الرسالة التدمرية‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬تحقيق زهير الشاويش‪ ،‬طبع المكتب السلمي‪ ،‬ط ‪ 5‬سنة‬
‫‪1988‬م‪.‬‬
‫‪ -‬السنة‪ ،‬عبدال بن أحمد بن حنبل ‪ ،‬تحقيق محمد القحطاني‪ ،‬طبع رمادي للنشر‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬ط ‪ 4‬سنة ‪1416‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬سنن الترمذي "الجامع الصحيح"‪ ،‬أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي‪ ،‬طبع دار ابن‬
‫حزم‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1422‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬سنن الدارمي‪ ،‬أبو محمد عبد ال بن بهرام الدارمي‪ ،‬طبع دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬سنة‬
‫‪1414‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬سنن أبي داود‪ ،‬أبو داود سسليمان بن الشعث السجستاني‪ ،‬ضبط وترقيم صدقي جميل‬
‫العطار‪ ،‬طبع دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬سير أعلم النبلء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬تحقيق شعيب الرنؤوط ‪ ،‬طبع مؤسسة الرسالة ‪،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪1401‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬السلطة في السلم‪ ،‬عبد الجواد ياسين‪ ،‬طبع المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‬
‫‪ ،2‬سنة ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪-‬سنن النسائي‪ ،‬أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني‪ ،‬تحقيق أحمد شمس‬
‫الدين‪ ،‬طبع دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1422‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬السيرة النبوية‪ ،‬أبو محمد عبد الملك بن هشام المحيري المعافري‪ ،‬طبع دار ابن حزم‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1422‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -‬الشرح والبانة على أصول السنة والديانة‪ ،‬عبيدال بن بطة العكبري‪ ،‬تحقيق رضا بن‬
‫نعسان معطي‪ ،‬طبعة مكتبة العلوم والحكم‪ ،‬المدينة المنورة‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1423‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬شرح السنة‪ ،‬البربهاري‪ ،‬تحقيق خالد الرّدادي‪ ،‬طبع دار السلف للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬ط ‪ 3‬سنة ‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬شرح صحيح مسلم‪ ،‬محي الدين أبي زكريا بن شرف النووي‪ ،‬طبع‪ :‬المكتبة العصرية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1422‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬شرح العقيدة الطحاوية‪ ،‬علي بن علي بن محمد بن أبي العّز الدمشقي‪ ،‬تحقيق عبدال‬
‫عبد المحسن التركي‪ ،‬وشعيب الرنؤوط‪ ،‬طبع مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1421‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬شرح العقيدة الواسطية‪ ،‬لبن تيمية‪ ،‬خليل محمد هراس‪ ،‬تعليق إسماعيل النصاري ‪،‬‬
‫طبعة دار الفكر‪.‬‬
‫‪ -‬شرح العقيدة الواسطية لبن تيمه‪ ،‬صالح الفوزان‪ ،‬طبع دار السلم‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط ‪1‬‬
‫سنة ‪ 1414‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬شرف أصحاب الحديث‪ ،‬الخطيب البغدادي‪ ،‬تحقيق محمد سعيد خطيب اوغلي‪ ،‬نشرته‬
‫دار إحياء السنة النبوية‪ ،‬نشريات كلية اللهيات‪ -‬جامعة أنقرة‪ ،‬تركيا‪ ،‬سنة ‪1971‬م‪.‬‬
‫‪-‬صحيح البخاري‪ ،‬محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬طبع دار السلم‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪1417‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬صحيح مسلم‪ ،‬مسلم بن الحجاج القيشيري‪ ،‬مراجعة هيثم خليفة الطعيمي‪ ،‬طبع المكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1422‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬صيد الخاطر‪ ،‬ابن الجوزي الحنبلي‪ ،‬تحقيق يوسف علي بديوي‪ ،‬طبع اليمامة‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫ط ‪ 2‬سنة ‪1423‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -‬الضعفاء الكبير‪ ،‬محمد بن عمرو العقيلي‪ ،‬تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1418‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬الضياء‪ ،‬سلمة بن مسلم العوتبي‪ ،‬طبع وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان‪ ،‬ط‬
‫‪ 1‬سنة ‪1411‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬طبقات الحنابلة‪ ،‬أبي الحسين محد بن محمد بن الحسين بن أبي يعلى الحنبلي‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1417‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬الطبقات الكبرى‪ ،‬محمد بن سعد الهاشمي‪ ،‬تحقيق محمد عبد القادر عطا‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1418‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -‬طوق الحمامة في اللفة واللف‪ ،‬علي بن أحمد بن سعيد بن حزم‪ ،‬تحقيق حسن كامل‬
‫الصيرفي‪ ،‬تقديم إبراهيم البياري‪.‬‬
‫‪-‬عقيدة المسلم‪ ،‬محمد الغزالي‪ ،‬طبع دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط ‪ 11‬سنة ‪1421‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬عقيدة المسيح الدجال في الديان قراءة في المستقبل‪ ،‬سعيد أيوب‪ ،‬طبع دار الهادي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1411‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬علم تخريج الحديث ونقده تأصيل وتطبيق‪ ،‬عداب محمود الحمش‪ ،‬طبع دار الفرقان‪،‬‬
‫عّمان‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1420‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬علقة السلم باليهودية‪ ،‬محمد خليفة‪ ،‬طبع دار الثقافة للنشر والتوزيع ‪ ،‬القاهرة سنة‬
‫‪ 1988‬م‪.‬‬
‫العلو للعلي الغفار‪ ،‬الذهبي‪ ،‬تحقيق حسن بن علي السقاف‪ ،‬طبع دار المام النووي‪،‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫الردن عّمان ‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1419‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬العودة إلى الذات‪ ،‬علي شريعتي‪ ،‬طبع الزهراء للعلم العربي‪ ،‬القاهرة ط ‪1413 2‬هـ‬
‫‪ -‬العين‪ ،‬الخليل بن أحمد الفراهيدي‪ ،‬طبع انتشارات اسوه‪ ،‬قم‪ -‬إيران‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1414‬هـ‬
‫‪.‬‬
‫‪-‬غاية البيان في تنزيه ال عن الجهة والمكان‪ ،‬إعداد قسم البحاث والدراسات السلمية‬
‫بهيئة المشاريع الخيرية السلمية‪ ،‬طبع دار المشاريع للنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪1‬‬
‫سنة ‪1420‬هـ‪..‬‬
‫‪-‬فاطمة هي فاطمة‪ ،‬علي شريعتي‪ ،‬طبع دار المير‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1423‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬فتاوى العقيدة‪ ،‬محمد بن صالح بن عثيمين‪ ،‬دار الجيل بيروت‪ ،‬ط ‪1414 2‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪ ،‬ابن حجر العسقلني‪ ،‬طبع دار الفكر‪ ،‬ط ‪1420‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الفتن‪ ،‬نعيم بن حماد الخزاعي‪ ،‬تعليق مجدي بن منصور بن سيد الشورى‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1418‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬فجر السلم‪ ،‬أحمد أمين‪ ،‬طبع دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 11‬سنة ‪.1975‬‬
‫‪-‬فقه السيرة‪ ،‬محمد الغزالي‪ ،‬تخريج الحاديث محمد ناصر الدين اللباني‪ ،‬طبع دار‬
‫الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬الفهرست‪ ،‬ابن النديم‪ ،‬تعليق إبراهيم رمضان‪ ،‬طبع دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة‬
‫‪1417‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬القاموس المحيط‪ ،‬محمد بن يعقوب الفيروزآبادي‪ ،‬ضبط يوسف الشيخ محمد البقاعي‪،‬‬
‫طبع دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬سنة ‪1420‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬قاموس الشريعة الحاوي لطرقها الوسيعة‪ ،‬جميل بن خميس السعدي‪ ،‬طبع وزارة‬
‫التراث القومي والثقافة‪ ،‬سلطنة عمان‪.‬‬
‫‪-‬قدوم كتائب الجهاد‪ ،‬عبدا العزيز بن فيصل الراجحي‪ ،‬دار الصميعي الرياض‪ ،‬ط ‪1‬‬
‫سنة ‪1419‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬قراءة في كتب العقائد المذهب الحنبلي نموذجًا‪ ،‬حسن بن فرحان المالكي‪ ،‬طبع مرك‬
‫الدراسات التاريخية‪ ،‬عّمان‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون القاويل في وجوه التأويل‪ ،‬محمود بن عمر‬
‫الزمخشري‪ ،‬طبع‪ :‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1417‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الكشاف عن ضللت حسن السقاف‪ ،‬سليمان بن ناصر العلوان‪ ،‬طبع‪ :‬دار المنار‪ ،‬ط ‪1‬‬
‫سنة ‪1413‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الكفاية في علم الرواية‪ ،‬الخطيب البغدادي‪ ،‬طبع دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬سنة‬
‫‪1409‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬لمعة العتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد‪ ،‬ابن قدامة الحنبلي‪ ،‬شرح محمد بن صالح‬
‫العثيمين‪ ،‬تحقيق أشرف عبد المقصود‪ ،‬دار السلف الرياض‪ ،‬ط ‪1415 3‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬مجاز القرآن‪ ،‬أبو عبيدة التيمي‪ ،‬طبع مؤسسة الرسالة‪ ،‬سوريا ط ‪ 2‬سنة ‪1981‬م‪ ،‬تحقيق‬
‫د‪ .‬محمد فؤاد سزكين‪.‬‬
‫‪-‬المجاز في اللغة والقرآن بين مجوزيه ومانعيه‪ ،‬عبد العظيم المطعني‪ ،‬ط ‪.1‬‬
‫‪-‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي‪ ،‬طبع مكتبة ابن تيميه‬
‫لطباعة ونشر الكتب السلفية‪.‬‬
‫‪-‬مختصر الصواعق المرسلة لن القيم الجوزية‪ ،‬تحقي رضوان جامع رضوان‪ ،‬طبع‬
‫دار الفكر سنة ‪1417‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬المحّرر في أصول الفقه‪ ،‬أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي‪ ،‬طبع‪ :‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫ط ‪ 1‬سنة ‪1417‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬مسألة الرؤية‪ ،‬حسن بن علي السقاف‪ ،‬طبع دار المام النووي‪ ،‬عّمان‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪1423‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬المسند‪ ،‬أحمد بن حنبل الشيباني‪ ،‬طبع بيت الفكار الدولية للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫‪1419‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬المسيحية والسلم والستشراق‪ ،‬محمد فاروق الزين‪ ،‬طبع‪ :‬دار الفكر‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط ‪2‬‬
‫سنة ‪1422‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬مشارق أنوار العقول‪ ،‬عبدال بن حميد السالمي‪ ،‬تحقيق عبدالمنعم العاني‪ ،‬طبع دار‬
‫الحكمة دمشق‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1416‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬معالم للزمن القادم‪ ،‬خالد الوهيبي‪ ،‬طبع‪ :‬مكتبة مشارق النوار‪ ،‬مسقط‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬معرفة علوم الحديث‪ ،‬الحاكم محمد بن عبدال االنيسابوري‪ ،‬تعليق معظم حسين‪ ،‬طبع‬
‫دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1397‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬مقالت الكوثري‪ ،‬محمد زاهد الكوثري‪ ،‬المكتبة الزهرية للتراث‪1414 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬المقالت السنية في كشف ضللت أحمد بن تيمية ‪ ،‬عبدال الهرري ‪،‬دار المشاريع‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬ط ‪ 4‬سنة ‪1419‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الملل والنحل‪ ،‬أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني‪ ،‬تحقيق أمير علي مهنا‪،‬‬
‫وعلي حسين فاعور‪ ،‬طبع دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 7‬سنة ‪1417‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬من حقائق القرآن الكريم‪ ،‬محمد سلمان غانم‪ ،‬طبع دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‬
‫‪2000‬م‪.‬‬
‫‪-‬المنار‪ ،‬السيد محمد رشيد رضا‪ ،‬الهيئة المصرية للكتاب‪ ،‬سنة ‪1972‬م‪.‬‬
‫‪-‬مناقب المام أحمد بن حنبل‪ ،‬ابن الجوزي الحنبلي‪ ،‬تحقيق عبدال عبدالمحسن التركي‪،‬‬
‫طبع هجر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪1409‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬منهاج السنة‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬تحقيق محمد رشاد سالم ‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1406‬هـ‪ ،‬جامعة المام‬
‫محمد بن سعود السلمية‪.‬‬
‫‪-‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬إبراهيم بن موسى الشاطبي‪ ،‬شرح عبدال دراز‪ ،‬طبع‬
‫دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪-‬الموضوعات‪ ،‬ابن الجوزي الحنبلي‪ ،‬تخريج توفيق حمدان‪ ،‬طبع دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1415‬هـ ‪.‬‬
‫‪-‬الموطأ‪ ،‬مالك بن أنس الصبحي‪ ،‬تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف‪ ،‬طبع المكتبة‬
‫العلمية‪ ،‬ط ‪.2‬‬
‫‪-‬ميزان العتدال‪ ،‬الذهبي‪ ،‬تحقيق محمد بن علي البجاوي‪ ،‬دار المعرفة بيروت‪.‬‬
‫‪-‬نقد نقد العقل العربي‪ ،‬جورج طرابيشي‪ ،‬طبع دار الساقي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪-‬نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد‪ ،‬عثمان بن سعيد الدارمي‪ ،‬تحقيق‬
‫سماري‪ ،‬طبع أضواء السلف‪ ،‬الرياض ط ‪ 1‬سنة ‪1419‬هـ‪.‬‬ ‫منصور بن عبدالعزيز ال ّ‬
‫طهر الحّلي‪ ،‬طبع دار الكتاب اللبناني‪.‬‬ ‫‪-‬نهج الحق وكشف الصدق‪ ،‬الحسن بن يوسف الم ّ‬
‫‪-‬هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى‪ ،‬ابن القيم الجوزية‪ ،‬ط ‪.1‬‬
‫‪-‬الوحي والقرآن والنبوة‪ ،‬هشام جعيط‪ ،‬طبع‪ :‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪2000‬م‪.‬‬

‫القراص المدمجة‪:‬‬
‫‪ -‬المكتبة اللفية للسنة النبوية‪ ،‬إصدار مركز التراث لبحاث الحاسب اللي‪ ،‬الصدار‬
‫‪ ،1.5‬سنة ‪1420‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬مكتبة الفقه وأصوله‪ ،‬إصدار مركز التراث لبحاث الحاسب اللي‪ ،‬الصدار ‪ ،1.5‬سنة‬
‫‪1420‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬مؤلفات الشيخ وتلميذه ابن القيم‪ ،‬إصدار مركز التراث لبحاث الحاسب اللي‪ ،‬الصدار‬
‫‪ ،1.0‬سنة ‪1420‬هـ‪..‬‬
‫‪ -‬تاريخ دمشق لبن عساكر‪ ،‬إصدار مركز التراث لبحاث الحاسب اللي‪ ،‬الصدار‬
‫الول‪ ،‬سنة ‪1420‬هـ‪. .‬‬

‫المصادر الجنبية‪:‬‬
‫‪-The HIRAM KEY, pharaohs, freemasons and the discovery of the‬‬
‫‪secret scrolls of Jesus.CHRISTOPHER KNIGHT & ROBERT‬‬
‫‪LOMAS, published by Arrow Books 1997, Berlin Germany.‬‬

‫الففهففرس‬
‫تمهيد‪ ............................................................................‬الفصل الول‪:‬‬
‫تاريخ الرواية ‪...................................................‬‬
‫موقف الرسول ‪ ‬والصحابة من الروايات الحادية‪..............................‬‬
‫النفلت الروائي‪......................................................................‬‬
‫أبو هريرة والنفلت الروائي‪...............................................‬‬
‫عملية التدوين الرسمية للروايات‪......................................................‬‬
‫الرواية مع أهل الحديث‪.............................................................‬‬
‫التناقض في المواقف‪..................................................................‬‬
‫أهل الحديث يكفر بعضهم بعضا‪.................................................‬‬
‫التدليس‪...............................................................................‬‬
‫الوضع في الحديث‪...................................................................‬‬
‫ملحظات على الجرح والتعديل ‪....................................................‬‬
‫عملية تخييش الروايات‪.............................................................‬‬
‫روايات تطعن في النبي ‪..........................................................‬‬
‫روايات تطعن في النبياء عليهم السلم‪................................................‬‬
‫روايات تطعن في موقف السلم من المرأة‪........................................‬‬
‫ندم وإقـرار بالخطـأ‪........................................................‬‬
‫الحديث الحاد والعقائد‪..................................................‬‬
‫الخلصة‪.........................................................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬قراءة في منهج أهل الحديث ‪...................................‬‬
‫إشكالية تعارض العقل والنقل بين الفقهاء وأهل الحديث ‪....................‬‬
‫التقليد والجتهاد عند أهل الحديث ‪............................................‬‬
‫قدسية القرون الثلثة الولى‪......................................................‬‬
‫أهل الحديث ومسألة خلق القرآن ‪........................................‬‬
‫تضخيم الرجـال‪..........................‬‬
‫التحذير من كتب المدارس الخرى‪.......................................‬‬
‫استمالة العوام‪....................................................................‬‬
‫إنكار أهل الحديث للمجاز ‪.......................................‬‬
‫إنكار أهل الحديث للتأويــل ‪..............................................‬‬
‫التناقض في المنهج‪..................................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬إحياء الموروث القديم للملل المنحرفة‪.......‬‬
‫القتباس من أهل الوثان‪.........................................................‬‬
‫القتباس من أهل الكتاب‪........................................................‬‬
‫القتباس من أرباب الفلسفة الهرمسية‪...............................................‬‬
‫القتباس من الجن والحيوانات‪....................................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬عقيدة التجسيم ‪...................................................‬‬
‫البلكفة )بل كيف(‪.................................................................‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬عقيففدة الرجاء‪......................................‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬الفتن والملحم الخرافة والسطورة‪...................‬‬
‫نزول المسيح ‪ ‬وعقيدة بولس‪...........................................‬‬
‫المهدي والدجال‪............................................................‬‬
‫المعــــراج‪.............................................................‬‬
‫قائمة بأهم المراجع‪........................................................‬‬
‫الفهرس‪.................................................................‬‬

You might also like