Amrad Al Quloob - Ibn Taymiyyah

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 14

‫ر


أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬

‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫‪ $‬ام ا"!  ‬

‫وقال شيخ اإلسالم تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه ﷲ تعالى الحمد ' نستعينه ونستغفره ونعوذ‬
‫با' من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يھد ﷲ فال مضل له ومن يضلل فال ھادي له ‪.‬‬
‫وأشھد أن ال إله إال ﷲ وحده ال شريك له وأشھد أن محمدا عبده ورسوله صلى ﷲ عليه وعلى آله‬
‫وأصحابه وسلم تسليما‬
‫فصل " في مرض القلوب وشفائھا "‬
‫قال ﷲ تعالى عن المنافقين ‪ } :‬في قلوبھم مرض فزادھم ﷲ مرضا { وقال تعالى ‪ } :‬ليجعل ما‬
‫يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبھم مرض والقاسية قلوبھم { وقال ‪ } :‬لئن لم ينته المنافقون‬
‫والذين في قلوبھم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بھم ثم ال يجاورونك فيھا إال قليال {‬
‫وقال ‪ } :‬وال يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبھم مرض والكافرون‬
‫ماذا أراد ﷲ بھذا مثال { وقال تعالى ‪ } :‬قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور‬
‫وھدى ورحمة للمؤمنين { وقال ‪ } :‬وننزل من القرآن ما ھو شفاء ورحمة للمؤمنين وال يزيد‬
‫الظالمين إال خسارا { وقال ‪ } :‬ويشف صدور قوم مؤمنين { } ويذھب غيظ قلوبھم { ‪ .‬و "‬
‫مرض البدن " خالف صحته وصالحه وھو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية‬
‫فإدراكه إما أن يذھب كالعمى والصمم ‪ .‬وإما أن يدرك األشياء على خالف ما ھي عليه كما يدرك‬
‫الحلو مرا وكما يخيل إليه أشياء ال حقيقة لھا في الخارج ‪ .‬وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن‬
‫تضعف قوته عن الھضم أو مثل أن يبغض األغذية التي يحتاج إليھا ويحب األشياء التي تضره‬
‫ويحصل له من اآلالم بحسب ذلك ؛ ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يھلك ؛ بل فيه نوع قوة‬
‫على إدراك الحركة اإلرادية في الجملة ] فيتولد من ذلك [ ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد‬
‫الكمية أو الكيفية ‪ ) :‬فاألول أما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء وأما بسبب زياداتھا فيحتاج إلى‬
‫استفراغ ‪ .‬و ) الثاني كقوة في الحرارة والبرودة خارج عن االعتدال فيداوى ‪.‬‬

‫فصل وكذلك " مرض القلب "‬


‫ھو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره وإرادته فتصوره بالشبھات التي تعرض له حتى ال يرى‬
‫الحق أو يراه على خالف ما ھو عليه وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار ؛‬
‫فلھذا يفسر المرض تارة بالشك والريب ‪ .‬كما فسر مجاھد وقتادة قوله ‪ } :‬في قلوبھم مرض { أي‬
‫شك ‪ .‬وتارة يفسر بشھوة الزنا كما فسر به قوله ‪ } :‬فيطمع الذي في قلبه مرض { ‪ .‬ولھذا صنف‬
‫الخرائطي " كتاب اعتالل القلوب " أي مرضھا وأراد به مرضھا بالشھوة والمريض يؤذيه ما ال‬
‫يؤذي الصحيح فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك من األمور التي ال يقوى عليھا‬
‫لضعفه بالمرض ‪ .‬والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة ال تطيق ما يطيقه‬
‫القوي والصحة تحفظ بالمثل وتزال بالضد والمرض يقوى بمثل سببه ‪ .‬ويزول بضده فإذا حصل‬
‫للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وزاد ضعف قوته حتى ربما يھلك ‪ .‬وإن حصل له ما‬
‫يقوي القوة ويزيل المرض كان بالعكس ‪ .‬و " مرض القلب " ألم يحصل في القلب كالغيظ من‬
‫عدو استولى عليك فإن ذلك يؤلم القلب ‪ .‬قال ﷲ تعالى ‪ } :‬ويشف صدور قوم مؤمنين { }‬
‫ويذھب غيظ قلوبھم { فشفاؤھم بزوال ما حصل في قلوبھم من األلم ويقال ‪ :‬فالن شفي غيظه‬
‫وفي القود استشفاء أولياء المقتول ونحو ذلك ‪ .‬فھذا شفاء من الغم والغيظ والحزن وكل ھذه آالم‬

‫‪1‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫تحصل في النفس ‪ .‬وكذلك " الشك والجھل " يؤلم القلب قال النبي صلى ﷲ عليه وسلم } ھال‬
‫سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال { ‪ .‬والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى‬
‫يحصل له العلم واليقين ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق ‪ :‬قد شفاني بالجواب ‪ .‬والمرض‬
‫دون الموت فالقلب يموت بالجھل المطلق ويمرض بنوع من الجھل فله موت ومرض وحياة‬
‫وشفاء وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه فلھذا مرض‬
‫القلب إذا ورد عليه شبھة أو شھوة قوت مرضه وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب‬
‫صالحه وشفائه ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبھم مرض { ألن ذلك‬
‫أورث شبھة عندھم والقاسية قلوبھم ليبسھا فأولئك قلوبھم ضعيفة بالمرض فصار ما ألقى الشيطان‬
‫فتنة لھم وھؤالء كانت قلوبھم قاسية عن اإليمان فصار فتنة لھم ‪ .‬وقال ‪ } :‬لئن لم ينته المنافقون‬
‫والذين في قلوبھم مرض والمرجفون في المدينة { كما قال ‪ } :‬وليقول الذين في قلوبھم مرض {‬
‫لم تمت قلوبھم كموت الكفار والمنافقين وليست صحيحة صالحة كصالح قلوب المؤمنين بل فيھا‬
‫مرض شبھة وشھوات وكذلك } فيطمع الذي في قلبه مرض { وھو مرض الشھوة فإن القلب‬
‫الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليھا بخالف القلب المريض بالشھوة فإنه لضعفه يميل‬
‫إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه‬
‫مرض ‪ .‬والقرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبھات والشھوات ففيه من البينات‬
‫ما يزيل الحق من الباطل فيزيل أمراض الشبھة المفسدة للعلم والتصور واإلدراك بحيث يرى‬
‫األشياء على ما ھي عليه وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترھيب والقصص التي‬
‫فيھا عبرة ما يوجب صالح القلب فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره فيبقى القلب محبا‬
‫للرشاد مبغضا للغي بعد أن كان مريدا للغي مبغضا للرشاد ‪ .‬فالقرآن مزيل لألمراض الموجبة‬
‫لإلرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فطر عليھا كما يعود‬
‫البدن إلى الحال الطبيعي ويغتذي القلب من اإليمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذي البدن بما‬
‫ينميه ويقومه فإن زكاة القلب مثل نماء البدن ‪ .‬و " الزكاة في اللغة " النماء والزيادة في الصالح ‪.‬‬
‫يقال ‪ :‬زكا الشيء إذا نما في الصالح فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح كما‬
‫يحتاج البدن أن يربى باألغذية المصلحة له وال بد مع ذلك من منع ما يضره فال ينمو البدن إال‬
‫بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره كذلك القلب ال يزكو فينمو ويتم صالحه إال بحصول ما ينفعه‬
‫ودفع ما يضره وكذلك الزرع ال يزكو إال بھذا ‪ .‬و " الصدقة " لما كانت تطفئ الخطيئة كما يطفئ‬
‫الماء النار صار القلب يزكو بھا وزكاته معنى زائد على طھارته من الذنب ‪ .‬قال ﷲ تعالى ‪} :‬‬
‫خذ من أموالھم صدقة تطھرھم وتزكيھم بھا { وكذلك ترك الفواحش يزكو بھا القلب ‪ .‬وكذلك‬
‫ترك المعاصي فإنھا بمنزلة األخالط الرديئة في البدن ومثل الدغل في الزرع فإذا استفرغ البدن‬
‫من األخالط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن وكذلك‬
‫القلب إذا تاب من الذنوب كان استفراغا من تخليطاته حيث خلط عمال صالحا وآخر سيئا فإذا تاب‬
‫من الذنوب تخلصت قوة القلب وإراداته لألعمال الصالحة واستراح القلب من تلك الحوادث‬
‫الفاسدة التي كانت فيه ‪ .‬فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬ولوال فضل ﷲ عليكم‬
‫ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا { وقال تعالى ‪ } :‬وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ھو أزكى لكم‬
‫{ وقال ‪ } :‬قل للمؤمنين يغضوا من أبصارھم ويحفظوا فروجھم ذلك أزكى لھم إن ﷲ خبير بما‬
‫يصنعون { وقال تعالى ‪ } :‬قد أفلح من تزكى { } وذكر اسم ربه فصلى { وقال تعالى ‪ } :‬قد‬
‫أفلح من زكاھا { } وقد خاب من دساھا { وقال تعالى ‪ } :‬وما يدريك لعله يزكى { وقال تعالى ‪:‬‬
‫} فقل ھل لك إلى أن تزكى { } وأھديك إلى ربك فتخشى { فالتزكية وإن كان أصلھا النماء‬
‫والبركة وزيادة الخير فإنما تحصل بإزالة الشر ؛ فلھذا صار التزكي يجمع ھذا وھذا ‪ .‬وقال ‪} :‬‬
‫وويل للمشركين { } الذين ال يؤتون الزكاة { وھي التوحيد واإليمان الذي به يزكو القلب فإنه‬
‫يتضمن نفي إلھية ما سوى الحق من القلب وإثبات إلھية الحق في القلب وھو حقيقة ال إله إال ﷲ ‪.‬‬
‫وھذا أصل ما تزكو به القلوب ‪ .‬والتزكية جعل الشيء زكيا ‪ :‬إما في ذاته وإما في االعتقاد والخبر‬

‫‪2‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫؛ كما يقال عدلته إذا جعلته عدال في نفسه أو في اعتقاد الناس قال تعالى ‪ } :‬فال تزكوا أنفسكم {‬
‫أي تخبروا بزكاتھا وھذا غير قوله ‪ } :‬قد أفلح من زكاھا { ولھذا قال ‪ } :‬ھو أعلم بمن اتقى {‬
‫وكان اسم زينب برة فقيل تزكي نفسھا فسماھا رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم زينب ‪ .‬وأما قوله ‪:‬‬
‫} ألم تر إلى الذين يزكون أنفسھم بل ﷲ يزكي من يشاء { أي يجعله زاكيا ويخبر بزكاته كما‬
‫يزكي المزكي الشھود فيخبر بعدلھم ‪ .‬و " العدل " ھو االعتدال واالعتدال ھو صالح القلب كما‬
‫أن الظلم فساده ولھذا جميع الذنوب يكون الرجل فيھا ظالما لنفسه والظلم خالف العدل فلم يعدل‬
‫على نفسه ؛ بل ظلمھا ؛ فصالح القلب في العدل وفساده في الظلم وإذا ظلم العبد نفسه فھو الظالم‬
‫وھو المظلوم كذلك إذا عدل فھو العادل والمعدول عليه فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من‬
‫خير وشر ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬لھا ما كسبت وعليھا ما اكتسبت { ‪ .‬والعمل له أثر في القلب من نفع‬
‫وضر وصالح قبل أثره في الخارج فصالحھا عدل لھا وفسادھا ظلم لھا قال تعالى ‪ } :‬من عمل‬
‫صالحا فلنفسه ومن أساء فعليھا { وقال تعالى ‪ } :‬إن أحسنتم أحسنتم ألنفسكم وإن أسأتم فلھا {‬
‫قال بعض السلف ‪ :‬إن للحسنة لنورا في القلب وقوة في البدن وضياء في الوجه وسعة في الرزق‬
‫ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لظلمة في القلب وسوادا في الوجه ووھنا في البدن ونقصا في‬
‫الرزق وبغضا في قلوب الخلق ‪ .‬وقال تعالى ‪ } :‬كل امرئ بما كسب رھين { وقال تعالى ‪ } :‬كل‬
‫نفس بما كسبت رھينة { وقال ‪ } :‬وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لھا من دون ﷲ ولي‬
‫وال شفيع وإن تعدل كل عدل ال يؤخذ منھا أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا { وتبسل أي ترتھن‬
‫وتحبس وتؤسر ؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه والمرض إنما ھو‬
‫بإخراج المزاج مع أن االعتدال المحض السالم من األخالط ال سبيل إليه لكن األمثل ؛ فاألمثل ؛‬
‫فھكذا صحة القلب وصالحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم واالنحراف ‪ .‬والعدل المحض‬
‫في كل شيء متعذر علما وعمال ولكن األمثل فاألمثل ؛ ولھذا يقال ‪ :‬ھذا أمثل ويقال للطريقة‬
‫السلفية ‪ :‬الطريقة المثلى ‪ .‬وقال تعالى ‪ } :‬ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم {‬
‫وقال تعالى ‪ } :‬وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ال نكلف نفسا إال وسعھا { ‪ .‬وﷲ تعالى بعث‬
‫الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط وأعظم القسط عبادة ﷲ وحده ال شريك له ثم العدل على‬
‫الناس في حقوقھم ثم العدل على النفس ‪ .‬والظلم " ثالثة أنواع " ‪ :‬والظلم كله من أمراض القلوب‬
‫والعدل صحتھا وصالحھا ‪ .‬قال أحمد بن حنبل لبعض الناس ‪ :‬لو صححت لم تخف أحدا أي‬
‫خوفك من المخلوق ھو من مرض فيك كمرض الشرك والذنوب ‪ .‬وأصل صالح القلب ھو حياته‬
‫واستنارته قال تعالى ‪ } :‬أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في‬
‫الظلمات ليس بخارج منھا { ‪ .‬لذلك ذكر ﷲ حياة القلوب ونورھا وموتھا وظلمتھا في غير موضع‬
‫‪ .‬كقوله ‪ } :‬لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين { وقوله تعالى } يا أيھا الذين آمنوا‬
‫استجيبوا ' وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم { ثم قال ‪ } :‬واعلموا أن ﷲ يحول بين المرء وقلبه‬
‫وأنه إليه تحشرون { وقال تعالى ‪ } :‬يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي { ‪ .‬ومن‬
‫أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ‪ .‬وفي الحديث الصحيح } مثل البيت‬
‫الذي يذكر ﷲ فيه والبيت الذي ال يذكر ﷲ فيه مثل الحي والميت { وفي الصحيح أيضا ‪} :‬‬
‫اجعلوا من صالتكم في بيوتكم وال تتخذوھا قبورا { ‪ .‬وقد قال تعالى ‪ } :‬والذين كذبوا بآياتنا صم‬
‫وبكم في الظلمات { وذكر سبحانه آية النور وآية الظلمة فقال ‪ } :‬ﷲ نور السماوات واألرض‬
‫مثل نوره كمشكاة فيھا مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنھا كوكب دري يوقد من شجرة‬
‫مباركة زيتونة ال شرقية وال غربية يكاد زيتھا يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور { فھذا‬
‫مثل نور اإليمان في قلوب المؤمنين ثم قال ‪ } :‬والذين كفروا أعمالھم كسراب بقيعة يحسبه‬
‫الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد ﷲ عنده فوفاه حسابه وﷲ سريع الحساب أو‬
‫كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضھا فوق بعض إذا‬
‫أخرج يده لم يكد يراھا ومن لم يجعل ﷲ له نورا فما له من نور { ‪ ) .‬فاألول مثل االعتقادات‬
‫الفاسدة واألعمال التابعة لھا يحسبھا صاحبھا شيئا ينفعه فإذا جاءھا لم يجدھا شيئا ينفعه فوفاه ﷲ‬

‫‪3‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫حسابه على تلك األعمال ‪ .‬و ) الثاني ‪ :‬مثل للجھل البسيط وعدم اإليمان والعلم فإن صاحبھا في‬
‫ظلمات بعضھا فوق بعض ال يبصر شيئا ؛ فإن البصر إنما ھو بنور اإليمان والعلم ‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬
‫} إن الذين اتقوا إذا مسھم طائف من الشيطان تذكروا فإذا ھم مبصرون { وقال تعالى ‪ } .‬ولقد‬
‫ھمت به وھم بھا لوال أن رأى برھان ربه { وھو برھان اإليمان الذي حصل في قلبه فصرف ﷲ‬
‫به ما كان ھم به وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب عليه خطيئة إذ فعل خيرا ولم يفعل سيئة ‪ .‬وقال‬
‫تعالى ‪ } :‬لتخرج الناس من الظلمات إلى النور { وقال ‪ } :‬ﷲ ولي الذين آمنوا يخرجھم من‬
‫الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤھم الطاغوت يخرجونھم من النور إلى الظلمات { وقال ‪:‬‬
‫} يا أيھا الذين آمنوا اتقوا ﷲ وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به‬
‫{ ‪ .‬ولھذا ضرب ﷲ لإليمان " مثلين " ‪ .‬مثال بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد ومثال‬
‫بالنار التي بھا النور وما يقترن بما يوقد عليه من الزبد ‪ .‬وكذلك ضرب ﷲ للنفاق " مثلين " قال‬
‫تعالى ‪ } :‬أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرھا فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه‬
‫في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب ﷲ الحق والباطل فأما الزبد فيذھب جفاء‬
‫وأما ما ينفع الناس فيمكث في األرض كذلك يضرب ﷲ األمثال { وقال تعالى في المنافقين ‪} :‬‬
‫مثلھم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذھب ﷲ بنورھم وتركھم في ظلمات ال‬
‫يبصرون { } صم بكم عمي فھم ال يرجعون { } أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق‬
‫يجعلون أصابعھم في آذانھم من الصواعق حذر الموت وﷲ محيط بالكافرين { } يكاد البرق‬
‫يخطف أبصارھم كلما أضاء لھم مشوا فيه وإذا أظلم عليھم قاموا ولو شاء ﷲ لذھب بسمعھم‬
‫وأبصارھم إن ﷲ على كل شيء قدير { ‪ .‬فضرب لھم مثال كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأھا‬
‫ﷲ والمثل المائي كالمثل النازل من السماء وفيه ظلمات ورعد وبرق يرى ‪ .‬ولبسط الكالم في‬
‫ھذه األمثال موضع آخر ‪ .‬وإنما المقصود ھنا ذكر حياة القلوب وإنارتھا وفي الدعاء المأثور }‬
‫اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا { ‪ .‬و " الربيع " ھو المطر الذي ينزل من السماء فينبت‬
‫به النبات قال النبي صلى ﷲ عليه وسلم } إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم { ‪ .‬والفصل‬
‫الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه وغيرھم‬
‫يسمي الربيع الفصل الذي يلي الشتاء ؛ فإن فيه تخرج األزھار التي تخلق منھا الثمار وتنبت‬
‫األوراق على األشجار ‪ .‬والقلب الحي المنور ؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل والقلب‬
‫الميت فإنه ال يسمع وال يبصر ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما ال يسمع إال‬
‫دعاء ونداء صم بكم عمي فھم ال يعقلون { وقال تعالى ‪ } :‬ومنھم من يستمعون إليك أفأنت تسمع‬
‫الصم ولو كانوا ال يعقلون { } ومنھم من ينظر إليك أفأنت تھدي العمي ولو كانوا ال يبصرون {‬
‫وقال تعالى ‪ } :‬ومنھم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبھم أكنة أن يفقھوه وفي آذانھم وقرا وإن‬
‫يروا كل آية ال يؤمنوا بھا حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن ھذا إال أساطير األولين‬
‫{ اآليات ‪ .‬فأخبر أنھم ال يفقھون بقلوبھم وال يسمعون بآذانھم وال يؤمنون بما رأوه من النار كما‬
‫أخبر عنھم حيث قالوا ‪ } :‬قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب‬
‫{ ‪ .‬فذكروا الموانع على القلوب ‪ ،‬والسمع واألبصار وأبدانھم حية تسمع األصوات وترى‬
‫األشخاص ؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البھائم لھا سمع وبصر وھي تأكل‬
‫وتشرب وتنكح ولھذا قال تعالى ‪ } :‬ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما ال يسمع إال دعاء‬
‫ونداء { ‪ .‬فشبھھم بالغنم الذي ينعق بھا الراعي وھي ال تسمع إال نداء ‪ .‬كما قال في اآلية األخرى‬
‫‪ } :‬أم تحسب أن أكثرھم يسمعون أو يعقلون إن ھم إال كاألنعام بل ھم أضل سبيال { وقال تعالى ‪:‬‬
‫} ولقد ذرأنا لجھنم كثيرا من الجن واإلنس لھم قلوب ال يفقھون بھا ولھم أعين ال يبصرون بھا‬
‫ولھم آذان ال يسمعون بھا أولئك كاألنعام بل ھم أضل { فطائفة من المفسرين تقول في ھذه اآليات‬
‫وما أشبھھا كقوله ‪ } :‬وإذا مس اإلنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره‬
‫مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه { وأمثالھا مما ذكر ﷲ في عيوب اإلنسان وذمھا فيقول ھؤالء ‪:‬‬
‫ھذه اآلية في الكفار والمراد باإلنسان ھنا الكافر فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظھر‬

‫‪4‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫اإلسالم في ھذا الذم والوعيد نصيب ؛ بل يذھب وھمه إلى من كان مظھرا للشرك من العرب أو‬
‫إلى من يعرفھم من مظھري الكفر كاليھود والنصارى ومشركي الترك والھند ‪ .‬ونحو ذلك فال‬
‫ينتفع بھذه اآليات التي أنزلھا ﷲ ليھتدي بھا عباده ‪ .‬فيقال ‪ - :‬أوال ‪ : -‬المظھرون لإلسالم فيھم‬
‫مؤمن ومنافق والمنافقون كثيرون في كل زمان والمنافقون في الدرك األسفل من النار ‪ .‬ويقال ‪:‬‬
‫" ثانيا " اإلنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر وإن كان معه إيمان كما قال النبي صلى ﷲ‬
‫عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ‪ } :‬أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة‬
‫منھن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعھا ‪ :‬إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاھد غدر ‪.‬‬
‫وإذا خاصم فجر { فأخبر أنه من كانت فيه خصلة منھن كانت فيه خصلة من النفاق ‪ .‬وقد ثبت في‬
‫الحديث الصحيح أنه قال ألبي ذر رضي ﷲ عنه } إنك امرؤ فيك جاھلية { وأبو ذر ‪ -‬رضي ﷲ‬
‫عنه ‪ -‬من أصدق الناس إيمانا وقال في الحديث الصحيح ‪ } :‬أربع في أمتي من أمر الجاھلية ‪:‬‬
‫الفخر باألحساب والطعن في األنساب والنياحة واالستسقاء بالنجوم { وقال في الحديث الصحيح‬
‫} لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ‪ .‬قالوا ‪ :‬اليھود‬
‫والنصارى قال ‪ :‬فمن { وقال أيضا في الحديث الصحيح ‪ } :‬لتأخذن أمتي ما أخذت األمم قبلھا‬
‫شبرا بشبر وذراعا بذراع ‪ .‬قالوا ‪ :‬فارس والروم قال ‪ :‬ومن الناس إال ھؤالء { ‪ .‬وقال ابن أبي‬
‫مليكة ‪ :‬أدركت ثالثين من أصحاب محمد ‪ -‬صلى ﷲ عليه وسلم ‪ -‬كلھم يخاف النفاق على نفسه‬
‫وعن علي ‪ -‬أو حذيفة ‪ -‬رضي ﷲ عنھما ما ‪ -‬قال ‪ :‬القلوب " أربعة " ‪ .‬قلب أجرد فيه سراج‬
‫يزھر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذاك قلب الكافر وقلب منكوس ‪ .‬فذاك قلب المنافق وقلب فيه‬
‫مادتان ‪ :‬مادة تمده اإليمان ومادة تمده النفاق فأولئك قوم خلطوا عمال صالحا وآخر سيئا ‪ .‬وإذا‬
‫عرف ھذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر ﷲ في اإليمان من مدح شعب اإليمان وذم شعب الكفر‬
‫وھذا كما يقول بعضھم في قوله ‪ } :‬اھدنا الصراط المستقيم { ‪ .‬فيقولون المؤمن قد ھدي إلى‬
‫الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الھدى ثم يجيب بعضھم بأن المراد ثبتنا على الھدى كما‬
‫تقول العرب للنائم ‪ :‬نم حتى آتيك أو يقول بعضھم ألزم قلوبنا الھدى فحذف الملزوم ويقول‬
‫بعضھم زدني ھدى وإنما يوردون ھذا السؤال لعدم تصورھم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد‬
‫الھداية إليه ؛ فإن المراد به العمل بما أمر ﷲ به وترك ما نھى ﷲ عنه في جميع األمور ‪.‬‬
‫واإلنسان وإن كان أقر بأن محمدا رسول ﷲ وأن القرآن حق على سبيل اإلجمال فأكثر ما يحتاج‬
‫إليه من العلم بما ينفعه ويضره وما أمر به وما نھى عنه في تفاصيل األمور وجزئياتھا لم يعرفه‬
‫وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونھي في القرآن والسنة فالقرآن‬
‫والسنة إنما تذكر فيھما األمور العامة الكلية ال يمكن غير ذلك ال تذكر ما يخص به كل عبد ولھذا‬
‫أمر اإلنسان في مثل ذلك بسؤال الھدى إلى الصراط المستقيم ‪ .‬والھدى إلى الصراط المستقيم‬
‫يتناول ھذا كله يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصال ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره‬
‫الكليات ويتناول إلھام العمل بعلمه فإن مجرد العلم بالحق ال يحصل به االھتداء إن لم يعمل بعلمه‬
‫ولھذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية ‪ } :‬إنا فتحنا لك فتحا مبينا { } ليغفر لك ﷲ ما تقدم من ذنبك‬
‫وما تأخر ويتم نعمته عليك ويھديك صراطا مستقيما { وقال في حق موسى وھارون ‪} :‬‬
‫وآتيناھما الكتاب المستبين { } وھديناھما الصراط المستقيم { والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء ﷲ‬
‫من األمور الخبرية والعلمية االعتقادية والعملية مع أنھم كلھم متفقون على أن محمدا حق والقرآن‬
‫حق فلو حصل لكل منھم الھدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ثم الذين علموا ما‬
‫أمر ﷲ به أكثرھم يعصونه و ] ال [ يحتذون حذوه فلو ھدوا إلى الصراط المستقيم في تلك‬
‫األعمال لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نھوا عنه والذين ھداھم ﷲ من ھذه األمة حتى صاروا من‬
‫أولياء ﷲ المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤھم ﷲ بھذا الدعاء في كل صالة مع علمھم‬
‫بحاجتھم وفاقتھم إلى ﷲ دائما في أن يھديھم الصراط المستقيم ‪ .‬فبدوام ھذا الدعاء واالفتقار‬
‫صاروا من أولياء ﷲ المتقين ‪ .‬قال سھل بن عبد ﷲ التستري ليس بين العبد وبين ربه طريق‬
‫أقرب إليه من االفتقار وما حصل فيه الھدى في الماضي فھو محتاج إلى حصول الھدى فيه في‬

‫‪5‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫المستقبل وھذا حقيقة قول من يقول ‪ :‬ثبتنا واھدنا لزوم الصراط ‪ .‬وقول من قال ‪ :‬زدنا ھدى‬
‫يتناول ما تقدم ؛ لكن ھذا كله ھدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم ؛ فإن العمل في‬
‫المستقبل بالعلم لم يحصل بعد وال يكون مھتديا حتى يعمل في المستقبل بالعلم وقد ال يحصل العلم‬
‫في المستقبل بل يزول عن القلب وإن حصل فقد ال يحصل العمل فالناس كلھم مضطرون إلى ھذا‬
‫الدعاء ؛ ولھذا فرضه ﷲ عليھم في كل صالة فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منھم إليه وإذا‬
‫حصل الھدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة‬
‫وﷲ أعلم ‪.‬‬

‫واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة اإلرادية أو مجرد العلم والقدرة كما‬
‫يظن ذلك طائفة من النظار في علم ﷲ وقدرته كأبي الحسين البصري ‪ .‬قالوا ‪ :‬إن حياته أنه بحيث‬
‫يعلم ويقدر بل الحياة صفة قائمة بالموصوف وھي شرط في العلم واإلرادة والقدرة على األفعال‬
‫االختيارية وھي أيضا مستلزمة لذلك فكل حي له شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة وكل ما له‬
‫علم وإرادة وعمل اختياري فھو حي ‪ .‬والحياء مشتق من الحياة ؛ فإن القلب الحي يكون صاحبه‬
‫حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح فإن حياة القلب ھي المانعة من القبائح التي تفسد القلب ولھذا قال‬
‫النبي صلى ﷲ عليه وسلم } الحياء من اإليمان { وقال ‪ } :‬الحياء والعي شعبتان من اإليمان ‪.‬‬
‫والبذاء والبيان شعبتان من النفاق { فإن الحي يدفع ما يؤذيه ؛ بخالف الميت الذي ال حياة فيه ]‬
‫فإنه [ يسمى وقحا والوقاحة الصالبة وھو اليبس المخالف لرطوبة الحياة فإذا كان وقحا يابسا‬
‫صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه ‪ ،‬وامتناعه من القبح كاألرض اليابسة ال يؤثر‬
‫فيھا وطء األقدام بخالف األرض الخضرة ‪ .‬ولھذا كان الحي يظھر عليه التأثر بالقبح وله إرادة‬
‫تمنعه عن فعل القبح بخالف الوقح الذي ليس بحي فال حياء معه وال إيمان يزجره عن ذلك ‪.‬‬
‫فالقلب إذا كان حيا فمات اإلنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقھا للبدن ليست ھي في‬
‫نفسھا ميتة بمعنى زوال حياتھا عنھا ‪ .‬ولھذا قال تعالى ‪ } :‬وال تقولوا لمن يقتل في سبيل ﷲ‬
‫أموات بل أحياء { وقال تعالى ‪ } :‬وال تحسبن الذين قتلوا في سبيل ﷲ أمواتا بل أحياء { مع أنھم‬
‫موتى داخلون في قوله ‪ } :‬كل نفس ذائقة الموت { وفي قوله ‪ } :‬إنك ميت وإنھم ميتون { وقوله‬
‫‪ } :‬وھو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم { فالموت المثبت غير الموت المنفي ‪ .‬المثبت ھو فراق‬
‫الروح البدن والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن ‪ .‬وھذا كما أن النوم أخو الموت‬
‫فيسمى وفاة ويسمى موتا وإن كانت الحياة موجودة فيھما ‪ .‬قال ﷲ تعالى ‪ } :‬ﷲ يتوفى األنفس‬
‫حين موتھا والتي لم تمت في منامھا فيمسك التي قضى عليھا الموت ويرسل األخرى إلى أجل‬
‫مسمى { ‪ .‬وكان } النبي صلى ﷲ عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول ‪ :‬الحمد ' الذي أحيانا‬
‫بعد ما أماتنا وإليه النشور { وفي حديث آخر ‪ } :‬الحمد ' الذي رد علي روحي وعافاني في‬
‫جسدي وأذن لي بذكره وفضلني على كثير ممن خلق تفضيال { وإذا أوى إلى فراشه يقول ‪} :‬‬
‫اللھم أنت خلقت نفسي وأنت توفاھا لك مماتھا ومحياھا إن أمسكتھا فارحمھا وإن أرسلتھا فاحفظھا‬
‫بما تحفظ به عبادك الصالحين { ويقول ‪ } :‬باسمك اللھم أموت وأحيا {‬

‫فصل ومن أمراض القلوب " الحسد " كما قال بعضھم في حده ‪ :‬إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن‬
‫حال األغنياء فال يجوز أن يكون الفاضل حسودا ؛ ألن الفاضل يجري على ما ھو الجميل وقد قال‬
‫طائفة من الناس ‪ :‬إنه تمني زوال النعمة عن المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلھا بخالف الغبطة‬
‫فإنه تمني مثلھا من غير حب زوالھا عن المغبوط ‪ .‬والتحقيق أن الحسد ھو البغض والكراھة لما‬
‫يراه من حسن حال المحسود وھو نوعان ‪ ) :‬أحدھما كراھة للنعمة عليه مطلقا فھذا ھو الحسد‬
‫المذموم وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه فيكون ذلك مرضا في قلبه ويلتذ‬
‫بزوال النعمة عنه وإن لم يحصل له نفع بزوالھا ؛ لكن نفعه زوال األلم الذي كان في نفسه ولكن‬
‫ذلك األلم لم يزل إال بمباشرة منه وھو راحة وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه‬

‫‪6‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫والمرض باق ؛ فإن بغضه لنعمة ﷲ على عبده مرض فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود‬
‫وأعظم منھا وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود ‪ .‬والحاسد ليس له غرض في شيء‬
‫معين ؛ لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع ‪ .‬ولھذا قال من قال ‪ :‬إنه تمني زوال النعمة فإن من‬
‫كره النعمة على غيره تمنى زوالھا بقلبه ‪ .‬و ) النوع الثاني ‪ :‬أن يكره فضل ذلك الشخص عليه‬
‫فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه فھذا حسد وھو الذي سموه الغبطة وقد سماه النبي صلى ﷲ‬
‫عليه وسلم حسدا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي ﷲ عنھما أنه‬
‫قال ‪ } :‬ال حسد إال في اثنتين ‪ :‬رجل آتاه ﷲ الحكمة فھو يقضي بھا ويعلمھا ورجل آتاه ﷲ ماال‬
‫وسلطه على ھلكته في الحق { ھذا لفظ ابن مسعود ‪ .‬ولفظ ابن عمر } رجل آتاه ﷲ القرآن فھو‬
‫يقوم به آناء الليل والنھار ورجل آتاه ﷲ ماال فھو ينفق منه في الحق آناء الليل والنھار { رواه‬
‫البخاري من حديث أبي ھريرة ولفظه ‪ } :‬ال حسد إال في اثنتين رجل آتاه ﷲ القرآن فھو يتلوه‬
‫الليل والنھار فسمعه رجل فقال ‪ :‬يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي ھذا فعملت فيه مثل ما يعمل ھذا‬
‫ورجل آتاه ﷲ ماال فھو يھلكه في الحق فقال رجل ‪ :‬يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي ھذا فعملت فيه‬
‫مثل ما يعمل ھذا { فھذا الحسد الذي نھى عنه النبي صلى ﷲ عليه وسلم إال في موضعين ھو‬
‫الذي سماه أولئك الغبطة وھو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه ‪ .‬فإن قيل ‪ :‬إذا لم‬
‫سمي حسدا وإنما أحب أن ينعم ﷲ عليه ؟ ‪ .‬قيل مبدأ ھذا الحب ھو نظره إلى إنعامه على الغير‬
‫وكراھته أن يتفضل عليه ولوال وجود ذلك الغير لم يحب ذلك فلما كان مبدأ ذلك كراھته أن‬
‫يتفضل عليه الغير كان حسدا ؛ ألنه كراھة تتبعھا محبة وأما من أحب أن ينعم ﷲ عليه مع عدم‬
‫التفاته إلى أحوال الناس فھذا ليس عنده من الحسد شيء ‪ .‬ولھذا يبتلى غالب الناس بھذا القسم‬
‫الثاني وقد تسمى المنافسة فيتنافس االثنان في األمر المحبوب المطلوب كالھما يطلب أن يأخذه‬
‫وذلك لكراھية أحدھما أن يتفضل عليه اآلخر كما يكره المستبقان كل منھما أن يسبقه اآلخر‬
‫والتنافس ليس مذموما مطلقا بل ھو محمود في الخير ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬إن األبرار لفي نعيم { }‬
‫على األرائك ينظرون { } تعرف في وجوھھم نضرة النعيم { } يسقون من رحيق مختوم { }‬
‫ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون { فأمر المنافس أن ينافس في ھذا النعيم ال ينافس في‬
‫نعيم الدنيا الزائل وھذا موافق لحديث النبي صلى ﷲ عليه وسلم فإنه نھى عن الحسد إال فيمن‬
‫أوتي العلم فھو يعمل به ويعلمه ومن أوتي المال فھو ينفقه فأما من أوتي علما ولم يعمل به ولم‬
‫يعلمه أو أوتي ماال ولم ينفقه في طاعة ﷲ فھذا ال يحسد وال يتمنى مثل حاله فإنه ليس في خير‬
‫يرغب فيه بل ھو معرض للعذاب ومن ولي والية فيأتيھا بعلم وعدل أدى األمانات إلى أھلھا‬
‫وحكم بين الناس بالكتاب والسنة فھذا درجته عظيمة ؛ لكن ھذا في جھاد عظيم كذلك المجاھد في‬
‫سبيل ﷲ ‪ .‬والنفوس ال تحسد من ھو في تعب عظيم فلھذا لم يذكره وإن كان المجاھد في سبيل ﷲ‬
‫أفضل من الذي ينفق المال ؛ بخالف المنفق والمعلم فإن ھذين ليس لھم في العادة عدو من خارج‬
‫فإن قدر أنھما لھما عدو يجاھدانه ‪ .‬فذلك أفضل لدرجتھما وكذلك لم يذكر النبي صلى ﷲ عليه‬
‫وسلم المصلي والصائم والحاج ؛ ألن ھذه األعمال ال يحصل منھا في العادة من نفع الناس الذي‬
‫يعظمون به الشخص ويسودونه ما يحصل بالتعليم واإلنفاق ‪ .‬والحسد في األصل إنما يقع لما‬
‫يحصل للغير من السؤدد والرياسة وإال فالعامل ال يحسد في العادة ولو كان تنعمه باألكل والشرب‬
‫والنكاح أكثر من غيره بخالف ھذين النوعين فإنھما يحسدان كثيرا ولھذا يوجد بين أھل العلم‬
‫الذين لھم أتباع من الحسد ما ال يوجد فيمن ليس كذلك وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله فھذا‬
‫ينفع الناس بقوت القلوب وھذا ينفعھم بقوت األبدان والناس كلھم محتاجون إلى ما يصلحھم من‬
‫ھذا وھذا ‪ .‬ولھذا ضرب ﷲ سبحانه " مثلين " ‪ :‬مثال بھذا ومثال بھذا فقال ‪ } :‬ضرب ﷲ مثال‬
‫عبدا مملوكا ال يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فھو ينفق منه سرا وجھرا ھل يستوون‬
‫الحمد ' بل أكثرھم ال يعلمون { } وضرب ﷲ مثال رجلين أحدھما أبكم ال يقدر على شيء وھو‬
‫كل على مواله أينما يوجھه ال يأت بخير ھل يستوي ھو ومن يأمر بالعدل وھو على صراط‬
‫مستقيم { ‪ .‬و ) المثالن ضربھما ﷲ سبحانه لنفسه المقدسة ولما يعبد من دونه ؛ فإن األوثان ال‬

‫‪7‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫تقدر ال على عمل ينفع وال على كالم ينفع فإذا قدر عبد مملوك ال يقدر على شيء وآخر قد رزقه‬
‫ﷲ رزقا حسنا فھو ينفق منه سرا وجھرا ھل يستوي ھذا المملوك العاجز عن اإلحسان وھذا‬
‫القادر على اإلحسان المحسن إلى الناس سرا وجھرا وھو سبحانه قادر على اإلحسان إلى عباده‬
‫وھو محسن إليھم دائما فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي ال يقدر على شيء حتى يشرك به‬
‫معه وھذا مثل الذي أعطاه ﷲ ماال فھو ينفق منه آناء الليل والنھار ‪ .‬و ) المثل الثاني إذا قدر‬
‫شخصان أحدھما أبكم ال يعقل وال يتكلم وال يقدر على شيء وھو مع ھذا كل على مواله أينما‬
‫يوجھه ال يأت بخير فليس فيه من نفع قط بل ھو كل على من يتولى أمره وآخر عالم عادل يأمر‬
‫بالعدل ويعمل بالعدل فھو على صراط مستقيم ‪ .‬وھذا نظير الذي أعطاه ﷲ الحكمة فھو يعمل بھا‬
‫ويعلمھا الناس ‪ .‬وقد ضرب ذلك مثال لنفسه ؛ فإنه سبحانه عالم عادل قادر يأمر بالعدل وھو قائم‬
‫بالقسط على صراط مستقيم ‪ .‬كما قال تعالى ‪ } :‬شھد ﷲ أنه ال إله إال ھو والمالئكة وأولو العلم‬
‫قائما بالقسط ال إله إال ھو العزيز الحكيم { وقال ھود ‪ } :‬إن ربي على صراط مستقيم { ‪ .‬ولھذا‬
‫كان الناس يعظمون دار العباس كان عبد ﷲ يعلم الناس وأخوه يطعم الناس فكانوا يعظمون على‬
‫ذلك ‪ .‬ورأى معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وھو يفتيھم فقال ‪ :‬ھذا وﷲ الشرف أو‬
‫نحو ذلك ‪ .‬ھذا وعمر بن الخطاب رضي ﷲ عنه نافس أبا بكر رضي ﷲ عنه اإلنفاق كما ثبت في‬
‫الصحيح عن عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ﷲ عنه ‪ -‬قال ‪ } :‬أمرنا رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم‬
‫أن نتصدق فوافق ذلك ماال عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ‪ .‬قال ‪ :‬فجئت بنصف‬
‫مالي قال ‪ :‬فقال لي رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم ما أبقيت ألھلك قلت مثله وأتى أبو بكر رضي‬
‫ﷲ عنه بكل ما عنده فقال له رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم ما أبقيت ألھلك قال أبقيت لھم ﷲ‬
‫ورسوله فقلت ال أسابقك إلى شيء أبدا { ‪ .‬فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة ؛ لكن‬
‫حال الصديق رضي ﷲ عنه أفضل منه وھو أنه خال من المنافسة مطلقا ال ينظر إلى حال غيره ‪.‬‬
‫وكذلك } موسى صلى ﷲ عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى ﷲ‬
‫عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى ﷲ عليه وسلم فقيل له ‪ :‬ما يبكيك ؟ فقال ‪ :‬أبكي ؛‬
‫ألن غالما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلھا من أمتي { أخرجاه في الصحيحين‬
‫وروي في بعض األلفاظ المروية غير الصحيح } مررنا على رجل وھو يقول ويرفع صوته ‪:‬‬
‫أكرمته وفضلته قال ‪ :‬فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السالم فقال ‪ :‬من ھذا معك يا جبريل ؟ قال ‪:‬‬
‫ھذا أحمد قال ‪ :‬مرحبا بالنبي األمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح ألمته قال ‪ :‬ثم اندفعنا فقلت من‬
‫ھذا يا جبريل ؟ قال ‪ :‬ھذا موسى بن عمران قلت ‪ :‬ومن يعاتب ؟ قال ‪ :‬يعاتب ربه فيك قلت ‪:‬‬
‫ويرفع صوته على ربه قال إن ﷲ عز وجل قد عرف صدقه { ‪ .‬وعمر رضي ﷲ عنه كان مشبھا‬
‫بموسى ونبينا حاله أفضل من حال موسى فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك ‪ .‬وكذلك كان في‬
‫الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه كانوا سالمين من جميع ھذه األمور فكانوا أرفع درجة ممن‬
‫عنده منافسة وغبطة وإن كان ذلك مباحا ولھذا استحق أبو عبيدة رضي ﷲ عنه أن يكون أمين‬
‫ھذه األمة فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه كان أحق باألمانة‬
‫ممن يخاف مزاحمته ؛ ولھذا يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان ويؤتمن على الوالية‬
‫الصغرى من يعرف أنه ال يزاحم على الكبرى ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض‬
‫في أخذ شيء منه وإذا اؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على الغنم فال يقدر أن يؤدي‬
‫األمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه ‪ .‬وفي الحديث الذي رواه اإلمام أحمد في‬
‫مسنده عن } أنس رضي ﷲ عنه قال ‪ :‬كنا يوما جلوسا عند رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم فقال ‪:‬‬
‫يطلع عليكم اآلن من ھذا الفج رجل من أھل الجنة قال ‪ :‬فطلع رجل من األنصار تنطف لحيته من‬
‫وضوء قد علق نعليه في يده الشمال فسلم فلما كان الغد قال النبي صلى ﷲ عليه وسلم مثل ذلك‬
‫فطلع ذلك الرجل على مثل حاله فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى ﷲ عليه وسلم مقالته فطلع‬
‫ذلك الرجل على مثل حاله فلما قام النبي صلى ﷲ عليه وسلم اتبعه عبد ﷲ بن عمرو بن العاص‬
‫رضي ﷲ عنه فقال ‪ :‬إني الحيت أبي فأقسمت أن ال أدخل عليه ثالثا فإن رأيت أن تؤويني إليك‬

‫‪8‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫حتى تمضي الثالث فعلت قال ‪ :‬نعم قال أنس رضي ﷲ عنه فكان عبد ﷲ يحدث أنه بات عنده‬
‫ثالث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئا ؛ غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه ذكر ﷲ عز وجل‬
‫وكبر حتى يقوم إلى صالة الفجر فقال عبد ﷲ غير أني لم أسمعه يقول إال خيرا فلما فرغنا من‬
‫الثالث وكدت أن أحقر عمله قلت ‪ :‬يا عبد ﷲ لم يكن بيني وبين والدي غضب وال ھجرة ولكن‬
‫سمعت رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم يقول ثالث مرات يطلع عليكم رجل من أھل الجنة فطلعت‬
‫أنت الثالث مرات فأردت أن آوي إليك ألنظر ما عملك فأقتدي بذلك فلم أرك تعمل كثير عمل فما‬
‫الذي بلغ بك ما قال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم ؟ قال ‪ :‬ما ھو إال ما رأيت غير أنني ال أجد‬
‫على أحد من المسلمين في نفسي غشا وال حسدا على خير أعطاه ﷲ إياه قال عبد ﷲ ھذه التي‬
‫بلغت بك وھي التي ال نطيق { ‪ .‬فقول عبد ﷲ بن عمرو له ھذه التي بلغت بك وھي التي ال نطيق‬
‫يشير إلى خلوه وسالمته من جميع أنواع الحسد ‪ .‬وبھذا أثنى ﷲ تعالى على األنصار فقال ‪ } :‬وال‬
‫يجدون في صدورھم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسھم ولو كان بھم خصاصة { أي مما‬
‫أوتي إخوانھم المھاجرون قال المفسرون ال يجدون في صدورھم حاجة أي حسدا وغيظا مما‬
‫أوتي المھاجرون ثم قال بعضھم من مال الفيء وقيل من الفضل والتقدم فھم ال يجدون حاجة مما‬
‫أوتوا من المال وال من الجاه والحسد يقع على ھذا ‪ .‬وكان بين األوس والخزرج منافسة على‬
‫الدين فكان ھؤالء إذا فعلوا ما يفضلون به عند ﷲ ورسوله أحب اآلخرون أن يفعلوا نظير ذلك‬
‫فھو منافسة فيما يقربھم إلى ﷲ كما قال ‪ } :‬وفي ذلك فليتنافس المتنافسون { ‪.‬‬

‫وأما الحسد المذموم كله فقد قال تعالى في حق اليھود ‪ } :‬ود كثير من أھل الكتاب لو يردونكم من‬
‫بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسھم من بعد ما تبين لھم الحق { يودون أي يتمنون ارتدادكم‬
‫حسدا فجعل الحسد ھو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لھم الحق ؛ ألنھم لما رأوا أنكم قد‬
‫حصل لكم من النعمة ما حصل ؛ بل ما لم يحصل لھم مثله حسدوكم وكذلك في اآلية األخرى ‪} :‬‬
‫أم يحسدون الناس على ما آتاھم ﷲ من فضله فقد آتينا آل إبراھيم الكتاب والحكمة وآتيناھم ملكا‬
‫عظيما { } فمنھم من آمن به ومنھم من صد عنه وكفى بجھنم سعيرا { وقال تعالى ‪ } :‬قل أعوذ‬
‫برب الفلق { } من شر ما خلق { } ومن شر غاسق إذا وقب { } ومن شر النفاثات في العقد {‬
‫} ومن شر حاسد إذا حسد { ‪ .‬وقد ذكر طائفة من المفسرين أنھا ) نزلت بسبب حسد اليھود للنبي‬
‫صلى ﷲ عليه وسلم حتى سحروه ‪ :‬سحره لبيد بن األعصم اليھودي فالحاسد المبغض للنعمة على‬
‫من أنعم ﷲ عليه بھا ظالم معتد والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منھي عن ذلك إال فيما يقربه إلى‬
‫ﷲ فإذا أحب أن يعطى مثل ما أعطي مما يقربه إلى ﷲ فھذا ال بأس به وإعراض قلبه عن ھذا‬
‫بحيث ال ينظر إلى حال الغير أفضل ‪ .‬ثم ھذا الحسد إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالما معتديا‬
‫مستحقا للعقوبة إال أن يتوب وكان المحسود مظلوما مأمورا بالصبر والتقوى فيصبر على أذى‬
‫الحاسد ويعفو ويصفح عنه كما قال تعالى ‪ } :‬ود كثير من أھل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم‬
‫كفارا حسدا من عند أنفسھم من بعد ما تبين لھم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي ﷲ بأمره { وقد‬
‫ابتلي يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا ‪ } :‬ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن‬
‫أبانا لفي ضالل مبين { فحسدوھما على تفضيل األب لھما ولھذا قال يعقوب ليوسف ‪ } :‬ال‬
‫تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان لإلنسان عدو مبين { ‪ .‬ثم إنھم ظلموه‬
‫بتكلمھم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقا لمن ذھب به إلى بالد الكفر فصار مملوكا لقوم كفار‬
‫ثم إن يوسف ابتلي بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليھا ويستعين عليه بمن يعينه‬
‫على ذلك فاستعصم واختار السجن على الفاحشة وآثر عذاب الدنيا على سخط ﷲ فكان مظلوما‬
‫من جھة من أحبه لھواه وغرضه الفاسد ‪ .‬فھذه المحبة أحبته لھوى محبوبھا شفاؤھا وشفاؤه إن‬
‫وافقھا وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير ملقى في الجب ثم أسيرا مملوكا بغير‬
‫اختياره فأولئك أخرجوه من إطالق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره وھذه ألجأته إلى‬
‫أن اختار أن يكون محبوسا مسجونا باختياره فكانت ھذه أعظم في محنته وكان صبره ھنا صبرا‬

‫‪9‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫اختياريا اقترن به التقوى بخالف صبره على ظلمھم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم‬
‫يصبر عليھا صبر الكرام سال سلو البھائم ‪ .‬والصبر الثاني أفضل الصبرين ؛ ولھذا قال ‪ } :‬إنه‬
‫من يتق ويصبر فإن ﷲ ال يضيع أجر المحسنين { ‪ .‬وھكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه وطلب‬
‫منه الكفر أو الفسوق أو العصيان وإن لم يفعل أوذي وعوقب فاختار األذى والعقوبة على فراق‬
‫دينه ‪ :‬إما الحبس وإما الخروج من بلده كما جرى للمھاجرين حيث اختاروا فراق األوطان على‬
‫فراق الدين وكانوا يعذبون ويؤذون ‪ .‬وقد أوذي النبي صلى ﷲ عليه وسلم بأنواع من األذى فكان‬
‫يصبر عليھا صبرا اختياريا فإنه إنما يؤذى لئال يفعل ما يفعله باختياره وكان ھذا أعظم من صبر‬
‫يوسف ‪ :‬ألن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل بالحبس والنبي صلى ﷲ عليه‬
‫وسلم وأصحابه طلب منھم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتھم بالقتل فما دونه وأھون ما عوقب‬
‫به الحبس فإن المشركين حبسوه وبني ھاشم بالشعب مدة ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه فلما‬
‫بايعت األنصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه ھو وأصحابه عن‬
‫ذلك ولم يكن أحد يھاجر إال سرا إال عمر بن الخطاب ونحوه فكانوا قد ألجئوھم إلى الخروج من‬
‫ديارھم ومع ھذا منعوا من منعوه منھم عن ذلك وحبسوه ‪ .‬فكان ما حصل للمؤمنين من األذى‬
‫والمصائب ھو باختيارھم طاعة ' ورسوله لم يكن من المصائب السماوية التي تجري بدون‬
‫اختيار العبد من جنس حبس يوسف ال من جنس التفريق بينه وبين أبيه وھذا أشرف النوعين‬
‫وأھلھا أعظم درجة ‪ -‬وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب‬
‫بمصائبه ‪ -‬فإن ھذا أصيب وأوذي باختياره طاعة ' يثاب على نفس المصائب ويكتب له بھا عمل‬
‫صالح ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬ذلك بأنھم ال يصيبھم ظمأ وال نصب وال مخمصة في سبيل ﷲ وال يطئون‬
‫موطئا يغيظ الكفار وال ينالون من عدو نيال إال كتب لھم به عمل صالح إن ﷲ ال يضيع أجر‬
‫المحسنين { ‪ .‬بخالف المصائب التي تجري بال اختيار العبد كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ‬
‫اللصوص ماله فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليھا ال على نفس ما يحدث من المصيبة ؛ لكن‬
‫المصيبة يكفر بھا خطاياه فإن الثواب إنما يكون على األعمال االختيارية وما يتولد عنھا ‪ .‬والذين‬
‫يؤذون على اإليمان وطاعة ﷲ ورسوله ويحدث لھم بسبب ذلك حرج أو مرض أو حبس أو فراق‬
‫وطن وذھاب مال وأھل أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال ھم في ذلك على طريقة األنبياء‬
‫وأتباعھم كالمھاجرين األولين فھؤالء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لھم به عمل صالح كما‬
‫يثاب المجاھد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار وإن كانت ھذه‬
‫اآلثار ليست عمال فعله يقوم به لكنھا متسببة عن فعله االختياري وھي التي يقال لھا متولدة ‪ .‬وقد‬
‫اختلف الناس ھل يقال إنھا فعل لفاعل السبب أو ' أو ال فاعل لھا والصحيح أنھا مشتركة بين‬
‫فاعل السبب وسائر األسباب ولھذا كتب له بھا عمل صالح ‪ .‬والمقصود أن " الحسد " مرض من‬
‫أمراض النفس وھو مرض غالب فال يخلص منه إال قليل من الناس ولھذا يقال ‪ :‬ما خال جسد من‬
‫حسد لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه ‪ .‬وقد قيل للحسن البصري ‪ :‬أيحسد المؤمن ؟ فقال ما أنساك‬
‫إخوة يوسف ال أبا لك ولكن عمه في صدرك فإنه ال يضرك ما لم تعد به يدا ولسانا ‪ .‬فمن وجد في‬
‫نفسه حسدا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر ‪ .‬فيكره ذلك من نفسه وكثير من الناس‬
‫الذين عندھم دين ال يعتدون على المحسود فال يعينون من ظلمه ولكنھم أيضا ال يقومون بما يجب‬
‫من حقه بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه وال يذكرون محامده وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا‬
‫وھؤالء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك ؛ ال معتدون عليه وجزاؤھم أنھم‬
‫يبخسون حقوقھم فال ينصفون أيضا في مواضع وال ينصرون على من ظلمھم كما لم ينصروا ھذا‬
‫المحسود وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب ‪ .‬ومن اتقى ﷲ وصبر فلم يدخل في الظالمين‬
‫نفعه ﷲ بتقواه ‪ :‬كما جرى لزينب بنت جحش ‪ -‬رضي ﷲ عنھا ‪ -‬فإنھا كانت ھي التي تسامي‬
‫عائشة من أزواج النبي ‪ -‬صلى ﷲ عليه وسلم ‪ -‬وحسد النساء بعضھن لبعض كثير غالب ال سيما‬
‫المتزوجات بزوج واحد فإن المرأة تغار على زوجھا لحظھا منه فإنه بسبب المشاركة يفوت‬
‫بعض حظھا ‪ .‬وھكذا الحسد يقع كثيرا بين المتشاركين في رئاسة أو مال إذا أخذ بعضھم قسطا‬

‫‪10‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫من ذلك وفات اآلخر ؛ ويكون بين النظراء لكراھة أحدھما أن يفضل اآلخر عليه كحسد إخوة‬
‫يوسف كحسد ابني آدم أحدھما ألخيه فإنه حسده لكون أن ﷲ تقبل قربانه ولم يتقبل قربان ھذا ؛‬
‫فحسده على ما فضله ﷲ من اإليمان والتقوى ‪ -‬كحسد اليھود للمسلمين ‪ -‬وقتله على ذلك ؛ ولھذا‬
‫قيل أول ذنب عصي ﷲ به ثالثة ‪ :‬الحرص والكبر والحسد ‪ .‬فالحرص من آدم والكبر من إبليس‬
‫والحسد من قابيل حيث قتل ھابيل ‪ .‬وفي الحديث } ثالث ال ينجو منھن أحد ‪ :‬الحسد والظن‬
‫والطيرة ‪ .‬وسأحدثكم بما يخرج من ذلك إذا حسدت فال تبغض وإذا ظننت فال تحقق وإذا تطيرت‬
‫فامض { رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي ھريرة ‪ .‬وفي السنن عن النبي صلى ﷲ عليه وسلم }‬
‫دب إليكم داء األمم قبلكم ‪ :‬الحسد والبغضاء وھي الحالقة ال أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين {‬
‫فسماه داء كما سمى البخل داء في قوله ‪ } :‬وأي داء أدوأ من البخل { فعلم أن ھذا مرض وقد جاء‬
‫في حديث آخر } أعوذ بك من منكرات األخالق واألھواء واألدواء { فعطف األدواء على‬
‫األخالق واألھواء ‪ .‬فإن " الخلق " ما صار عادة للنفس وسجية ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬وإنك لعلى خلق‬
‫عظيم { قال ابن عباس وابن عيينة وأحمد بن حنبل رضي ﷲ عنھم عنھم ‪ :‬على دين عظيم وفي‬
‫لفظ عن ابن عباس ‪ :‬على دين اإلسالم ‪ .‬وكذلك قالت عائشة ‪ -‬رضي ﷲ عنھا ‪ : -‬كان خلقه‬
‫القرآن ‪ .‬وكذلك قال الحسن البصري ‪ :‬أدب القرآن ھو الخلق العظيم ‪ .‬وأما " الھوى " فقد يكون‬
‫عارضا والداء ھو المرض وھو تألم القلب والفساد فيه وقرن في الحديث األول الحسد بالبغضاء ؛‬
‫ألن الحاسد يكره أوال فضل ﷲ على ذلك الغير ؛ ثم ينتقل إلى بغضه ؛ فإن بغض الالزم يقتضي‬
‫بغض الملزوم فإن نعمة ﷲ إذا كانت الزمة وھو يحب زوالھا وھي ال تزول إال بزواله أبغضه‬
‫وأحب عدمه والحسد يوجب البغي كما أخبر ﷲ تعالى عمن قبلنا ‪ :‬أنھم اختلفوا من بعد ما جاءھم‬
‫العلم بغيا بينھم فلم يكن اختالفھم لعدم العلم بل علموا الحق ولكن بغى بعضھم على بعض كما‬
‫يبغي الحاسد على المحسود ‪ .‬وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي ﷲ عنه أن النبي صلى ﷲ‬
‫عليه وسلم قال ‪ } :‬ال تحاسدوا وال تباغضوا ؛ وال تدابروا وال تقاطعوا وكونوا عباد ﷲ إخوانا‬
‫وال يحل لمسلم أن يھجر أخاه فوق ثالث ليال ‪ :‬يلتقيان فيصد ھذا ويصد ھذا وخيرھما الذي يبدأ‬
‫بالسالم { وقد قال صلى ﷲ عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضا }‬
‫والذي نفسي بيده ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه { ‪ .‬وقد قال تعالى ‪ } :‬وإن منكم‬
‫لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم ﷲ علي إذ لم أكن معھم شھيدا { } ولئن أصابكم‬
‫فضل من ﷲ ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معھم فأفوز فوزا عظيما { ‪.‬‬
‫فھؤالء المبطئون لم يحبوا إلخوانھم المؤمنين ما يحبون ألنفسھم بل إن أصابتھم مصيبة فرحوا‬
‫باختصاصھم وإن أصابتھم نعمة لم يفرحوا لھم بھا بل أحبوا أن يكون لھم منھا حظ فھم ال‬
‫يفرحون إال بدنيا تحصل لھم أو شر دنيوي ينصرف عنھم إذا كانوا ال يحبون ﷲ ورسوله والدار‬
‫اآلخرة ولو كانوا كذلك ألحبوا إخوانھم وأحبوا ما وصل إليھم من فضله وتألموا بما يصيبھم من‬
‫المصيبة ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوء المؤمنين فليس منھم ‪ .‬ففي الصحيحين‬
‫عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول ‪ } :‬سمعت رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم‬
‫يقول ‪ :‬مثل المؤمنين في توادھم وتراحمھم وتعاطفھم مثل الجسد الواحد ‪ .‬إذا اشتكى منه شيء‬
‫تداعى له سائر الجسد بالحمى والسھر { وفي الصحيحين عن أبي موسى األشعري رضي ﷲ‬
‫عنه قال ‪ } :‬قال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك‬
‫بين أصابعه { ‪ .‬والشح مرض والبخل مرض والحسد شر من البخل كما في الحديث الذي رواه‬
‫أبو داود عن النبي صلى ﷲ عليه وسلم أنه قال ‪ } :‬الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب‬
‫والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار { وذلك أن البخيل يمنع نفسه والحسود يكره نعمة‬
‫ﷲ على عباده وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد لنظرائه وقد يكون فيه‬
‫بخل بال حسد لغيره والشح أصل ذلك ‪ .‬وقال تعالى ‪ } :‬ومن يوق شح نفسه فأولئك ھم المفلحون‬
‫{ وفي الصحيحين عن النبي صلى ﷲ عليه وسلم أنه قال ‪ } :‬إياكم والشح فإنه أھلك من كان‬
‫قبلكم أمرھم بالبخل فبخلوا وأمرھم بالظلم فظلموا وأمرھم بالقطيعة فقطعوا { وكان عبد الرحمن‬

‫‪11‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول ‪ :‬اللھم قني شح نفسي فقال له رجل ‪ :‬ما أكثر ما تدعو‬
‫بھذا فقال ‪ :‬إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة ‪ .‬والحسد يوجب الظلم ‪.‬‬

‫فصل فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعھا بل وحبھا لما يضرھا ولھذا يقرن‬
‫الحسد بالحقد والغضب وأما مرض الشھوة والعشق فھو حب النفس لما يضرھا وقد يقترن به‬
‫بغضھا لما ينفعھا والعشق مرض نفساني وإذا قوي أثر في البدن فصار مرضا في الجسم إما من‬
‫أمراض الدماغ كالماليخوليا ؛ ولھذا قيل فيه ھو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا وإما من‬
‫أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك ‪ .‬والمقصود ھنا " مرض القلب " فإنه أصل محبة‬
‫النفس لما يضرھا كالمريض البدن الذي يشتھي ما يضره وإذا لم يطعم ذلك تألم وإن أطعم ذلك‬
‫قوي به المرض وزاد ‪ .‬كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاھدة ومالمسة وسماعا بل‬
‫ويضره التفكر فيه والتخيل له وھو يشتھي ذلك فإن منع من مشتھاه تألم وتعذب وإن أعطي‬
‫مشتھاه قوي مرضه وكان سببا لزيادة األلم ‪ .‬وفي الحديث ‪ } :‬أن ﷲ يحمي عبده المؤمن الدنيا‬
‫كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب { وفي مناجاة موسى المأثورة عن وھب التي رواھا‬
‫اإلمام أحمد في ) كتاب الزھد " } يقول ﷲ تعالى ‪ :‬إني ألذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائھا كما‬
‫يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الھلكة ‪ .‬وإني ألجنبھم سكونھا وعيشھا كما يجنب الراعي‬
‫الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذلك لھوانھم علي ولكن ليستكملوا نصيبھم من كرامتي سالما‬
‫موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطفئه الھوى { ‪ .‬وإنما شفاء المريض بزوال مرضه بل بزوال ذلك‬
‫الحب المذموم من قلبه ‪ .‬والناس في العشق على قولين ‪ :‬قيل إنه من باب اإلرادات وھذا ھو‬
‫المشھور ‪ .‬وقيل ‪ :‬من باب التصورات وأنه فساد في التخييل حيث يتصور المعشوق على ما ھو‬
‫به قال ھؤالء ‪ :‬ولھذا ال يوصف ﷲ بالعشق وال أنه يعشق ؛ ألنه منزه عن ذلك وال يحمد من‬
‫يتخيل فيه خياال فاسدا ‪ .‬وأما األولون فمنھم من قال ‪ :‬يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة ؛ وﷲ‬
‫يحب ويحب وروي في أثر عن عبد الواحد بن زيد أنه قال ‪ } :‬ال يزال عبدي يتقرب إلي يعشقني‬
‫وأعشقه { وھذا قول بعض الصوفية ‪ .‬والجمھور ال يطلقون ھذا اللفظ في حق ﷲ ؛ ألن العشق‬
‫ھو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي وﷲ تعالى محبته ال نھاية لھا فليست تنتھي إلى‬
‫حد ال تنبغي مجاوزته ‪ .‬قال ھؤالء ‪ :‬والعشق مذموم مطلقا ال يمدح ال في محبة الخالق وال‬
‫المخلوق ألنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود و ) أيضا فإن لفظ " العشق " إنما‬
‫يستعمل في العرف في محبة اإلنسان المرأة أو صبي ال يستعمل في محبة كمحبة األھل والمال‬
‫والوطن والجاه ومحبة األنبياء والصالحين وھو مقرون كثيرا بالفعل المحرم ‪ :‬إما بمحبة امرأة‬
‫أجنبية أو صبي يقترن به النظر المحرم واللمس المحرم وغير ذلك من األفعال المحرمة ‪ .‬وأما‬
‫محبة الرجل المرأته أو سريته ] محبة [ تخرجه عن العدل بحيث يفعل ألجلھا ما ال يحل ويترك‬
‫ما يجب كما ھو الواقع كثيرا حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة ؛ لمحبته الجديدة وحتى يفعل من‬
‫مطالبھا المذمومة ما يضره في دينه ودنياه مثل أن يخصھا بميراث ال تستحقه أو يعطي أھلھا من‬
‫الوالية والمال ما يتعدى به حدود ﷲ أو يسرف في اإلنفاق عليھا أو يملكھا من أمور محرمة‬
‫تضره في دينه ودنياه وھذا في عشق من يباح له وطؤھا ‪ .‬فكيف عشق األجنبية والذكران من‬
‫العالمين ؟ ففيه من الفساد ما ال يحصيه إال رب العباد وھو من األمراض التي تفسد دين صاحبھا‬
‫وعرضه ثم قد تفسد عقله ثم جسمه ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬فال تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه‬
‫مرض { ‪ .‬ومن في قلبه مرض الشھوة وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض‬
‫والطمع الذي يقوي اإلرادة والطلب ويقوي المرض بذلك بخالف ما إذا كان آيسا من المطلوب‬
‫فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف اإلرادة فيضعف الحب فإن اإلنسان ال يريد أن يطلب ما ھو آيس‬
‫منه فال يكون مع اإلرادة عمل أصال بل يكون حديث نفس إال أن يقترن بذلك كالم أو نظر ونحو‬
‫ذلك فيأثم بذلك ‪ .‬فأما إذا ابتلي بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقواه ﷲ وقد روي في‬
‫الحديث ‪ } :‬أن من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات كان شھيدا { وھو معروف من رواية يحيى‬

‫‪12‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫القتات عن مجاھد عن ابن عباس مرفوعا وفيه نظر وال يحتج بھذا ‪ .‬لكن من المعلوم بأدلة الشرع‬
‫أنه إذا عف عن المحرمات نظرا وقوال وعمال وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى ال يكون في ذلك كالم‬
‫محرم إما شكوى إلى المخلوق وإما إظھار فاحشة وإما نوع طلب للمعشوق وصبر على طاعة ﷲ‬
‫وعن معصيته وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة ؛ فإن ھذا‬
‫يكون ممن اتقى ﷲ وصبر } إنه من يتق ويصبر فإن ﷲ ال يضيع أجر المحسنين { وھكذا مرض‬
‫الحسد وغيره من أمراض النفوس وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه ﷲ فينھاھا خشية من ﷲ كان‬
‫ممن دخل في قوله ‪ } :‬وأما من خاف مقام ربه ونھى النفس عن الھوى { } فإن الجنة ھي‬
‫المأوى { فالنفس إذا أحبت شيئا سعت في حصوله بما يمكن حتى تسعى في أمور كثيرة تكون‬
‫كلھا مقامات لتلك الغاية فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضا مذموما وفعل ذلك كان آثما مثل‬
‫أن يبغض شخصا لحسده له فيؤذي من له به تعلق إما بمنع حقوقھم ؛ أو بعدوان عليھم ‪ .‬أو لمحبة‬
‫له لھواه معه فيفعل ألجله ما ھو محرم أو ما ھو مأمور به ' فيفعله ألجل ھواه ال ' وھذه‬
‫أمراض كثيرة في النفوس واإلنسان قد يبغض شيئا فيبغض ألجله أمورا كثيرة بمجرد الوھم‬
‫والخيال ‪ .‬وكذلك يحب شيئا فيحب ألجله أمورا كثيرة ؛ ألجل الوھم والخيال كما قال شاعرھم ‪:‬‬
‫أحب لحبھا السودان حتى أحب لحبھا سود الكالب فقد أحب سوداء ؛ فأحب جنس السواد حتى في‬
‫الكالب وھذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته ‪ .‬فنسأل ﷲ تعالى أن يعافي قلوبنا من كل‬
‫داء ؛ ونعوذ با' من منكرات األخالق واألھواء واألدواء ‪ .‬والقلب إنما خلق ألجل " حب ﷲ‬
‫تعالى " وھذه الفطرة التي فطر ﷲ عليھا عباده كما قال النبي صلى ﷲ عليه وسلم } كل مولود‬
‫يولد على الفطرة فأبواه يھودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ؛ كما تنتج البھيمة بھيمة جمعاء ھل‬
‫تحسون فيھا من جدعاء ثم يقول أبو ھريرة رضي ﷲ عنه اقرءوا إن شئتم ‪ } :‬فطرة ﷲ التي‬
‫فطر الناس عليھا ال تبديل لخلق ﷲ { { أخرجه البخاري ومسلم ‪ .‬فا' سبحانه فطر عباده على‬
‫محبته وعبادته وحده ؛ فإذا تركت الفطرة بال فساد كان القلب عارفا با' محبا له عابدا له وحده‬
‫لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يھودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وھذه كلھا تغير فطرته التي‬
‫فطره عليھا وإن كانت بقضاء ﷲ وقدره ‪ -‬كما يغير البدن بالجدع ‪ -‬ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر‬
‫ﷲ تعالى لھا من يسعى في إعادتھا إلى الفطرة ‪ .‬والرسل صلى ﷲ عليھم وسلم بعثوا لتقرير‬
‫الفطرة وتكميلھا ال لتغيير الفطرة وتحويلھا وإذا كان القلب محبا ' وحده مخلصا له الدين لم يبتل‬
‫بحب غيره ] أصال [ فضال أن يبتلى بالعشق ‪ .‬وحيث ابتلي بالعشق فلنقص محبته ' وحده ‪.‬‬
‫ولھذا لما كان يوسف محبا ' مخلصا له الدين لم يبتل بذلك بل قال تعالى ‪ } :‬كذلك لنصرف عنه‬
‫السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين { ‪ .‬وأما امرأة العزيز فكانت مشركة ھي وقومھا فلھذا‬
‫ابتليت بالعشق وما يبتلى بالعشق أحد إال لنقص توحيده وإيمانه وإال فالقلب المنيب إلى ﷲ الخائف‬
‫منه فيه صارفان يصرفان عن العشق ‪ ) :‬أحدھما إنابته إلى ﷲ ومحبته له فإن ذلك ألذ وأطيب من‬
‫كل شيء فال تبقى مع محبة ﷲ محبة مخلوق تزاحمه ‪ .‬و ) الثاني خوفه من ﷲ فإن الخوف‬
‫المضاد للعشق يصرفه وكل من أحب شيئا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف عن محبته بمحبة ما‬
‫ھو أحب إليه منه إذا كان يزاحمه وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه‬
‫من ترك ذاك الحب فإذا كان ﷲ أحب إلى العبد من كل شيء وأخوف عنده من كل شيء لم‬
‫يحصل معه عشق وال مزاحمة إال عند غفلة أو عند ضعف ھذا الحب والخوف بترك بعض‬
‫الواجبات وفعل بعض المحرمات فإن اإليمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فكلما فعل العبد‬
‫الطاعة محبة ' وخوفا منه وترك المعصية حبا له وخوفا منه قوي حبه له وخوفه منه فيزيل ما‬
‫في القلب من محبة غيره ومخافة غيره ‪ .‬وھكذا أمراض األبدان ‪ :‬فإن الصحة تحفظ بالمثل‬
‫والمرض يدفع بالضد فصحة القلب باإليمان تحفظ بالمثل وھو ما يورث القلب إيمانا من العلم‬
‫النافع والعمل الصالح فتلك أغذية له كما في حديث ابن مسعود مرفوعا وموقوفا } إن كل آدب‬
‫يحب أن تؤتى مأدبته وأن مأدبة ﷲ ھي القرآن { واآلدب المضيف فھو ضيافة ﷲ لعباده ‪ .‬مثل‬
‫آخر الليل وأوقات األذان واإلقامة وفي سجوده وفي أدبار الصلوات ويضم إلى ذلك االستغفار ؛‬

‫‪13‬‬
‫ر 
أاض اب و ؤه ‬
‫  ة ا ‬
‫فإنه من استغفر ﷲ ثم تاب إليه متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى ‪ .‬وليتخذ وردا من " األذكار "‬
‫في النھار ووقت النوم وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف فإنه ال يلبث أن يؤيده‬
‫ﷲ بروح منه ويكتب اإليمان في قلبه ‪ .‬وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس‬
‫باطنة وظاھرة فإنھا عمود الدين وليكن ھجيراه ال حول وال قوة إال با' فإنھا بھا تحمل األثقال‬
‫وتكابد األھوال وينال رفيع األحوال ‪ .‬وال يسأم من الدعاء والطلب فإن العبد يستجاب له ما لم‬
‫يعجل فيقول ‪ :‬قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي وليعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع‬
‫الكرب وأن مع العسر يسرا ولم ينل أحد شيئا من ختم الخير نبي فمن دونه إال بالصبر ‪ .‬والحمد‬
‫' رب العالمين وله الحمد والمنة على اإلسالم والسنة حمدا يكافئ نعمه الظاھرة والباطنة وكما‬
‫ينبغي لكرم وجھه وعز جالله ‪ .‬وصلى ﷲ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمھات‬
‫المؤمنين والتابعين لھم بإحسان إلى يوم الدين ‪ .‬وسلم تسليما كثيرا ‪.‬‬

‫‪14‬‬

You might also like