Professional Documents
Culture Documents
بول أوستر - بلد الأشياء الأخيرة
بول أوستر - بلد الأشياء الأخيرة
تأليف
بول أوستر
ترجمة
أسامة منزلجي
الهداء
إلى دددد ددددددد
1
ت ليس بالبعيد ،أثناء عبوري بوابة الحلم ،قبل وق ٍ
ت بزيارة منطقة الموت تلك التي تقع فيها مدينة قم ُ
الدمار الشهيرة .
ناثانييل هوثورن
بول أوستر
ول ِد َ بول أوستر في نيو جرسي في عام . 1947
بعد دراسته في جامعة كولومبيا عاش في فرنسا
مدة أربع سنوات .ومنذ عام 1974نشر قصائد ،
ومقالت ،وروايات ،وسيناريوهات أفلم
2
وترجمات .وحّرر أيضا ً المجموعة القصصية "
دددددد دددددد دد دددددد ددددددددد " .
وهو ُيقيم في بروكلن ،في نيويورك .من رواياته
الخرى " دددددد ددددددد " " ،ددد ددددد "
" ،دددددد دددددددد " " ،ددددددددد "
وغيرها .
3
ن يتوّفر لي الوقت لفعل ك في أ ْ وجود ،لكني أش ّ
ن كل شيء يحدث الن بسرعة فائقة ،ول ذلك .إ ّ
ن أجاريها . أستطيع أ ْ
ت لم تَر أيا ً من ن تفهم .أن َ كأ ْ إنني ل أتوقع من َ
ور المر ن تتص ّ تأ ْ ت لما استطع َ هذا ،وحتى لو حاول َ
.هذه هي آخر الشياء .ترى منزل ً قائما ً في يوم ،
ت فيه وفي اليوم التالي يختفي .الشارع الذي مشي َ
بالمس يختفي اليوم .حتى الطقس هو في حالة
مس يتبعه آخر ماطر ، مش ِمستمر .والنهار ال ُ تدّفق ُ
مثِلج يتبعه نهار يسوده الضباب ،أو دفء والنهار ال ُ
تتبعه برودة ،أو ريح يتبعها سكون ،مدة طويلة من
البرد القارص ،ومن ثم كما اليوم ،ونحن في قلب
طر ،دافئ إلى الشتاء ،بعد ظهيرة من الضوء الع ِ
درجة ارتداء فقط سترات صوفية .عندما تعيش في
مض عينيك المدينة ،تتعّلم أل ّ ُتسّلم بأي شيء .أغ ِ
برهة ،ثم استد ِْر لتنظر إلى شيٍء آخر ،وإذا
ن ماثل ً أمام عينيك قد اختفى .كما بالشيء الذي كا َ
ترى ،ل شيء يدوم ،ول حتى الفكار التي في
رأسك .وينبغي أل ّ تهدر وقتك في البحث عنها .
فعندما تختفي ،تكون تلك نهايتها .
وتتواصل رسالتها ،تقول :هكذا أعيش .أنا ل
آكل الكثير ؛ فقط ما يكفي ليجعلني قادرة على
النتقال من خطوة إلى خطوة ،ل أكثر .أحيانا ً
ن الخطوة دة حتى أني أشعر أ ّ ش ّ يكون ضعفي من ال ِ
التالية لن تأتي أبدا ً .لكني أنجح في ذلك .وعلى
ن ترى لت ،أتابعُ طريقي .يجب أ ْ الرغم من الز ّ
سن التصّرف . ُ
كيف أح ِ
شوارع المدينة موجودة في كل مكان ،وليس
هناك شارعان متشابهان .إنني أضعُ قدما ً أمام
4
دم الخرى أمام الولى ،ومن الخرى ،ومن ثم الَق َ
كن من فعل ذلك من جديد .ل ن أتم ّ ثم آمل في أ ْ
ن تفهم كيف هو الحال معي الن . أكثر .يجب أ ْ
دم ؛ أتنّفس ما ُيتاح لي من هواء ،وآكل إنني أتق ّ
م شيء هو ن أه ّ ل قدر ممكن .ومهما ُيقال ،فإ ّ أق ّ
ن تبقى واقفا ً على قدميك . أ ْ
ت ،لقد ن أغادر .قل َ كر ما قلته لي قبل أ ْ أتذ ُ
اختفى وليم ،وعلى الرغم من البحث الحثيث فإني
لم أعثر عليه أبدا ً .تلك كانت كلماتك .ثم قلت لك
مني ما قلت ،وإني سأعثر على أخي .ومن إنه ل يه ّ
ك .كم من ت ذلك القارب الفظيع وغادرت َ ثم استقلل ُ
كر .سنون الوقت مضى على ذلك ؟ لم أعد أتذ ّ
وسنون ،أعتقد .ولكن هذا مجّرد تخمين .ل أجد
ت الدرب ،ول شيء حَرجا ً في هذا .لقد أضع ُ َ
سُيعيدني إليها أبدا ً .
ن
تأ ْ كد .ولول جوعي ،لما استطع ُ هذا أمٌر مؤ ّ
ل قدٍر ود على الكتفاء بأق ّ ن يتع ّ أستمر .على المرء أ ْ
ي بالقليل ،وقّلت ل ما ُيريده ،رض َ ممكن .فكلما ق ّ
ل أفضل .هذا ما تفعله ح في حا ٍ حاجته ،وأصب َ
ب أفكارك رأسا ً على المدينة بك ؛ إنها تقل ُ
ب في الحياة ،وفي ك ترغ ُ عقب ،تجعل َ
ك الحياة . ن تنزع من َ الوقت نفسه تحاول أ ْ
ن تفعل أو ل تفعل .وإذا ما أ ْ ول مفّر من هذا .فإ ّ
كد من قدرتك على القيام ن تتأ ّ ت ،لن تستطيع أ ْ فعل َ
به في المرة التالية .وإذا لم تفعل ،فلن تفعل
أبدا ً .
ب لك الن .ولكي أكون م بالضبط لماذا أكت ُ ل أعل ُ
ت إلى ن جئ ُ كر فيك تقريبا ً منذ أ ْ صادقة ،أنا لم أف ّ
هنا .ولكن فجأة ،وبعد مرور كل ذلك الوقت ،
5
رع في تدوينه ، ُ
ن لديّ ما أقوله ،وإذا لم أس ِ أشعر بأ ّ
ن تقرأه .
فسوف ينفجر رأسي .ل مانع لديّ في أ ْ
ن
ن أرسله إليك – على افتراض أ ّ بل ل أمانع في أ ْ
ن .ربما يتوقف المر عند هذا الحد .إنني هذا ممك ٌ
ك بعيد جدا ً عني ول
م شيئا ً ؛ لن َك ل تعل ُب لن َ أكت ُ
تعلم أي شيء .
6
مجازفات هائلة من أجل حتى أصغر ويرتكبون ُ
كسرة طعام .ومهما عثروا ،فلن يكون كافيا ً .إنهم ُ
يأكلون ول يشبعون أبدا ً ،يفترسون طعامهم بسرعة
الحيوانات ،أصابعهم النحيلة تنتزع ،وفكوكهم
معظمه يقطر المرتعشة ل تهدأ عن الحركة .و ُ
إلى أسفل ذقونهم ،وما ينجحون في
ابتلعه يتقّيؤونه عادة من جديد بعد بضع
ن الطعام هو ت بطيء ،وكأ ّ دقائق .إنه مو ٌ
نار ،جنون ،يحرقهم بدءا ً من الداخل .
ويعتقدون أنهم يأكلون ليبقوا على قيد
الحياة ،ولكنهم في النهاية يّتضح أنهم هم
المأكولون .
ن الطعام مسألة معّقدة ،وإذا لم ح ،فإ ّوكما يّتض َ
ش في يتعّلم المرء قبول ما ُيعطى له ،فلن يعي َ
ن فترات النقص تتكّرر ،والطعام سلم مع نفسه .إ ّ
الذي منحه متعة ذات يوم سيختفي في اليوم التالي
ل السواق المحلّية هي الماكن الشد ّ أمانا ً .لع ّ
ن السعار وق ،ولك ّ مد عليها من أجل التس ّ وُيعت َ َ
مرتفعة والتشكيلت رديئة .وذات يوم ل يتبّقى إل
الفجل ،وفي اليوم التالي ل يتبّقى غير كعكة
شوكولة بائتة .وتغيير حميتك مرات كثيرة وبتطّرف
ن يكون صعبا ً جدا ً على معدتك .لك ّ
ن يمكن أ ْ
السواق المحلّية تتمّيز بأنها محمّية من رجال
ن ما يشتريه ل يعرف المرء أ ّ الشرطة ،وعلى الق ّ
سوف تهضمه معدته هو وليس معدة شخص آخر .
وسرقة الطعام شائعة جدا ً في الشوارع حتى أنها
لم تُعد ُتعت ََبر جريمة .وفوق ذلك كله ،السواق
مجاز قانونا ً لتوزيع المحلّية هي الشكل الوحيد ال ُ
صين الطعام .وهناك العديد من بائعي الطعام الخا ّ
7
ن بضاعتهم يمكن موّزعين في أرجاء المدينة ،لك ّ
ن
مصادرتها في أي وقت .حتى القادرين على أ ْ ُ
يدفعوا لرجال الشرطة الرشاوى اللزمة للبقاء في
مستمّر عملهم ل يزالون يواجهون التهديد ال ُ
بالتعّرض لهجوم من اللصوص .واللصوص أيضا ً
مت يغيرون على زبائن السواق المحلية ،وقد ت ّ
ن واحدا ً من كل صفقتي البرهنة إحصائيا ً على أ ّ
ن المر ل شراء تؤدي إلى السرقة .وأعتقد أ ّ
يستحق المجازفة بالكثير من أجل متعة عابرة لكل
ن الناس برتقالة أو تذّوق لحم خنزير مطبوخ .لك ّ
ل في كل يوم ، ة تح ّل يشبعون :الجوع لعن ٌ
والبطن حفرة ل قاع لها ،بحجم العالم .
لذلك ،فالسواق الخاصة تقوم بعمل جيد ،على
الرغم من العوائق ،تنهض من مكان وتذهب إلى
آخر ،وهي على الدوام في حالة نشاط ،تظهر مدة
ن ما ومن ثم تختفي عن ساعة أو اثنتين في مكا ٍ
النظار .ولكن هناك تحذيرا ً واحدا ً .إذا كان لبد ل َ
ك
ن تحصل على الطعام من السواق الخاصة ، أ ْ
فاحرص على تجّنب البّقالين الخارقين للقانون ،
من ش ،وهناك الكثيرون م ّ ن الحتيال متف ّ ذلك أ ّ
يرغبون في بيع أي شيء لمجّرد الربح :بيض
وبرتقال مملوء بالنشارة ،زجاجات مملوءة بالبول
على أنها بيرة .كل ،ل يوجد شيء ل يفعله الناس ،
ل أفضل . ك ستصبح في حا ٍ وسرعان ما تتعّلم أن َ
8
وخلفك ،راقب الجساد الخرى ،احذر ما ل
تتوّقعه .والرتطام بشخص آخر قد يكون أمرا ً مميتا ً
ن يرتطم شخصان حتى يبدءان بتبادل .يكفي أ ْ
اللكمات .أو ،يسقطان على الرض ول ُيحاولن
شفاء من وجع النهوض بعد ذلك .فكما تعلم ،ل ِ
الجساد .وهو أسوأ هنا من أي مكان آخر .
ن تتعّلم كل مشكلة خاصة .يجب أ ْ الدبش ُيش ّ
كتل الصخر كيف تتعامل مع الخاديد الخفّية ،مع ُ
حفر الضحلة ،لكي ل تتعّثر بها التي تظهر فجأةً ،وال ُ
أو تتأّذى .ومن ثم هناك المكوس ،وهي السوأ
ن تستخدم الدهاء لتتجّنبها . على الطلق ،وينبغي أ ْ
م ت القمامة ،ترتفعُ أكوا ٌ مع ْفكلما انهارت أبنية أو تج ّ
ضخمة في وسط الطريق ،تسد كل الممرات .
والناس ُيقيمون مثل تلك المتاريس كلما توّفرت
ومونها ،بالهراوات ،أو بالبنادق ، المواد ،ومن ثم ُيك ّ
أو حجارة الجر ،وينتظرون في مواقعهم مرور
ن
تأ ْ الناس .إنهم ُيهيمنون على الطريق .فإذا أرد َ
ن ُتعطي الحرس ما يطلبون .أحيانا ً كأ ْتعبر ،فعلي َ
يكون مال ً ؛ وأحيانا ً أخرى طعاما ً ؛ وأحيانا ً جنسا ً .
ن وآخر تسمع عن وقوع والضرب شائع ،وبين حي ٍ
جريمة قتل .
س جديدة ،وتختفي المكوس وتظهر مكو ٌ
القديمة .ول تعلم أبدا ً أي الشوارع تسلك وأّيها
ك المدينة شيئا ً فشيئا ً من تتجّنب .وتسرق َ
ر ثابت ، ي مم ٍن يوجد أ ّ يقينك .ل يمكن أ ْ
ن تبقى على قيد الحياة فقط إذا كأ ْ ويمكن َ
لم يكن هناك أي شيء ضروري بالنسبة
ن تكون قادرا ً ،دون سابق إليك .يجب أ ْ
ن تترك أي عمل إنذار ،على التغّير ،على أ ْ
9
تقوم به ،وترتدّ .وفي النهاية ،ليس هناك أي
ن تتعّلم شيء ليس هكذا .ونتيجة لذلك ،يجب أ ْ
ن
ف بصرك ،فإ ّ كيف تقرأ الشارات .وعندما يضع ُ
سة الشم ت حا ّ النف أحيانا ً ينفع كبديل .لقد أضح ْ
عندي حاّدة بصورة شاذة .وعلى الرغم من الثار
مفاجئ ،والدوار ،والخوف الجانبية – كالغثيان ال ُ
الذي ُيرافق الهواء الفاسد الذي ُيغير على جسدي –
فإنها تحميني عند المنعطفات ،وقد تكون هذه على
ن المكوس لها جانب عظيم من الخطر .ذلك أ ّ
ممّيزة تتعّلم كيف تتعّرف عليها ،حتى رائحة عفنة ُ
من مسافة بعيدة .الكوام المؤّلفة من مزيج من
من أيضا ً الحجارة ،والسمنت ،والخشب ،تتض ّ
قمامة وِقطعا ً من الجص ،وتعمل أشعة الشمس
منتجة رائحة كريهة أسوأ عملها في تلك القمامة ُ ،
ن آخر ،ويفعل المطر فعله مما تصدر من أي مكا ٍ
في الجص ،ويجعله يتبّثر ويذوب ،بحيث أنه هو
ث منه رائحة خاصة ،وعندما أيضا ً يتحّلب وتنبع ُ
ة في نوبات متناوبة من تتداخل مع بعضها ،متفاعل ً
الجفاف والرطوبة ،يبدأ عبق المكوس بالنتشار .
ود ،فالعادات ن تتع ّ الشيء الساسي ليس أ ْ
ن تقابل كل شيء ،ولو مميتة .يجب أ ْ ُ
ك لم تعرفه من قبل . للمرة المائة ،وكأن َ
ددت المرات ،فيجب دائما ً أ ْ
ن ومهما تع ّ
ن هذا أمر تكون المرة الولى .أنا أدرك أ ّ
مستحيل ،لكنه قاعدة الساسية .
قد تعتقد أنه عاجل ً أو آجل ً سينتهي هذا كله في
النهاية .الشياء تنهار وتختفي ،ول شيَء جديد َ
ُيخَلق .الناس يموتون ،والمواليد يرفضون أ ْ
ن
ت خللها هنا ،ل يولدوا .وطوال السنوات التي عش ُ
10
ت ولدة طفل واحد .ومع ذلك ، أذكر أني شهد ُ
س جددٌ يحّلون مكان الذين هناك دائما ً أنا ٌ
فقون من المدينة ومن اختفوا .إنهم يتد ّ
البلدان البعيدة ،يجّرون عربات ممتلئة
بأمتعتهم ُ ،يقرقعون بعرباتهم المتهالكة ،
ن يتعلمواوكلهم جياع ،وبل مأوى .وإلى أ ْ
أساليب التعامل مع المدينة ،يبقى أولئك الوافدين
جدد ضحايا سهلة .كثير منهم ُتسلب نقودهم ال ُ
بالحتيال قبل انصرام اليوم الول .بعضهم يدفعون
شقق ل وجود لها ،وآخرون ُيغرون بإعطاء ثمن ُ
ن
م ْ عمولت من أجل وظائف وهمية ،وأيضا ً هناك َ
دخراتهم ليشتروا طعاما ً يّتضح أنه مرسوم م ّ
ُينفقون ُ
وى .هذه فقط النواع العادية جدا ً من على ورق مق ّ
الخدع .وأعرف رجل ً يكسب قوت عيشه بالوقوف
أمام مجلسي المدينة القديم ويطلب نقودا ً كلما مّر
وافد جديد وألقى نظرة على برج الساعة .فإذا
ص
مساعده ،الواقف كشخ ٍ جرى نزاع ،يتظاهر ُ
غّر ،بأداء شعائر النظر إلى الساعة ويدفع له ،
ن هذا هووذلك لكي يعتقد الشخص الغريب أ ّ
نالتصّرف العادي .والمذهل في المر ليس أ ّ
نل عليهم جدا ً أ ْ محتالين موجودون ،بل أّنه سه ٌ ال ُ
يقنعوا الناس بالتخّلي عن نقودهم .
بالنسبة إلى الذين لديهم مكان يعيشون فيه ،
ن يفقدوه .وغالبية البنية ل هناك دائما ً خطر أ ْ
يمتلكها أحد ،ولذلك ل حقوق لك كنزيل :ل عقد
إيجار ،ل حجة لديك تستند عليها إذا ما واجهت
ن ُيطَرد الناس بالقوة من صعوبة .وليس غريبا ً أ ْ
شققهم وُيرمى بهم إلى الشارع .فتقتحم عليك ُ
مدججة بالبنادق والهراوات ويأمرونك جماعة منزلك ُ
11
ن تتغلب ك تستطيع أ ْ بالخروج ،وإذا لم تعتقد أن َ
عليهم ،فأي خيار آخر لديك ؟ هذه الممارسة
معروفة باسم اقتحام المنزل ،وقليل من الناس في
ت
المدينة لم يفقدوا منازلهم بهذه الطريقة في وق ٍ
ت محظوظا ً بما من الوقات .ولكن حتى إذا كن َ
يكفي لتفلت من هذا الشكل الخاص من الطرد ،
ملك فلن تعلم أبدا ً متى ستقع فريسة أحد أصحاب ال ُ
مبتزون ُيمارسون الرهاب تقريبا ً الوهميين .وهناك ُ
على كل حي في المدينة ُ ،يجبرون الناس على دفع
كنوا من البقاء في إتاوة الحماية فقط لكي يتم ّ
شون لكا ً للبناء ،يغ ّ م ّشققهم .إنهم ُيعلنون أنفسهم ُ ُ
النزلء ،ويكادون ل يواجهون أي مقاومة .
ولكن بالنسبة إلى الذين ليست لديهم بيوت
يتجاوز الوضع الفلت من تنفيذ الحكم .فل وجود
مى بالمكان الشاغر .ولكن مع ذلك ُ ،تديُر ِلما ُيس ّ
مكاتب التأجير ما يشبه المشروع التجاري .وفي
كل يوم ينشرون ملحظات في الصحيفة ُ ،يعلنون
شقق وهمية لكي يجذبوا الناس إلى فيها عن ُ
دع بهذه مكاتبهم ويجمعوا منهم الرسوم .ل أحد ُيخ َ
من يرغبون في الممارسة ،ولكن هناك الكثيرون م ّ
إسقاط آخر قرش يملكونه في تلك الوعود
الجوفاء .إنهم يصلون إلى خارج المكاتب في
الصباح الباكر وينتظرون بصبر في صف واحد ،
كنوا من أحيانا ً على مدى ساعات ،فقط لكي يتم ّ
الجلوس مع أحد المندوبين مدة عشر دقائق
دها ويتفّرجوا على صور البنية في شوارع تح ّ
شقق مؤّثثة بالسجاد مريحة ،ول ُ الشجار ،ولُغرف ُ
وكراسي الجلد الوثيرة – مشاهد تلّفها السكينة
فد ُ من المطبخ ،وببخار وتوحي بعبق رائحة القهوة ي ِ
12
مام ساخن ،وباللوان البّراقة للنباتات المزروعة ح ّ
مستكينة على عتبة النافذة .ول يبدو ُ
في أصص وال ُ
ن تلك الصور الفوتوغرافية ن أحدا ً يأبه بأ ّ أ ّ
ت قبل عشر سنوات . قطَ ْ الت ُ ِ
كثيٌر منا عادوا أطفال ً من جديد .وهذا ل يعني ،
كما تفهم ،أننا نبذل مجهودا ً في هذا الّتجاه ،أو أ ّ
ن
أحدا ً يعي هذا .ولكن عندما يغيب المل ،عندما يجد
المرء أنه تخّلى عن المل حتى في احتمال وجود
أمل ،يميل إلى ملء المساحات الفارغة بالحلم ،
بأفكار وقصص صغيرة طفولّية لكي يحث نفسه
على الستمرار .حتى أشد الناس صلبة يواجهون
صعوبة في كبح أنفسهم .إنهم يتخّلون فجأةً عما
دمات ،ويجلسون ، جل ََبة أو مق ّيفعلون ،بل َ
ويتكلمون عن الرغبات التي كانت تتصاعد داخلهم .
ضلة .وغالبا ً مف ّ والطعام ،طبعا ً ،هو أحد المواضيع ال ُ
صفون وجبة بتفاصيل ما تسمع مجموعة من الناس ي ِ
مشهيات وينتقلون دقيقة ،بدءا ً بأنواع الحساء وال ُ
ببطء إلى الفاكهة ،ويتوقفون عند كل مذاق وتابل ،
كزين تارةً على مر ّعند مختلف النكهات والروائح ُ ،
طريقة العداد ،وتارة على تأثير الطعام نفسه ،من
أول لسعة مذاق على اللسان إلى الحساس
بالسلم المنتشر بالتدريج بينما الطعام ينتقل إلى
الحنجرة ومن ثم يصل إلى المعدة .تلك الحاديث
تستمر أحيانا ً ساعات طويلة ،ولديهم بروتوكول
م بدّقة فائقة .فينبغي أل تضحك أبدا ً ،مثل ً ، س ُ يت ّ ِ
ن ينال من أفضل ما وينبغي أل ّ تسمح لجوعك أ ْ
مدة .وهذا لديك .فل نوبات توتر ،ول آهات غير متع ّ
سد حديثا ً عن يؤدي إلى ذرف الدمع ،ول شيء ُيف ِ
الطعام بسرعة أكثر من الدموع .ولكي تحصل على
13
ن يقفز إلى ن تسمح لذهنك أ ْ أفضل النتائج ينبغي أ ْ
الكلمات القادمة من أفواه الخرين .وإذا كان في
ن تستهلكك ،فسوف تتمكن استطاعة الكلمات أ ْ
ميه الناس " من نسيان جوعك الحاضر وتلج ما ُيس ّ
ن يقول م ْمنطقة الهالة النورانّية الثابتة " .بل ثمة َ
ن هناك قيمة غذائية في تلك الحاديث عن الطعام إ ّ
سب وبرغبة متساوية ت بالتركيز المنا ِ – إذا ما حظي َ ْ
مشاركين فيها . في اليمان بالكلمات بين ال ُ
هذا كله ينتمي إلى لغة الشباح .وهناك أنواع
ممكنة أخرى عديدة من الحاديث بهذه اللغة .
معظمها يبدأ عندما يقول أحدهم لخر :أتمنى .وما
يتمّنونه قد يكون أي شيء ،طالما أنه شيء ل
ن الشمس ل تغرب أبدا ً ن يحدث .أتمنى لو أ ّ يمكن أ ْ
ن
ن النقود تنمو في جيبي .أتمنى لو أ ّ .أتمنى لو أ ّ
ت تفهم الِفكرة . المدينة تعود كما في أيام زمان .أن َ
أشياء سخيفة وصبيانية ،بل معنى وغير واقعية .
سكون بالعتقاد بأنه مهما كانت عموما ً ،الناس يتم ّ
الشياء في الماضي سيئة ،فإنها أفضل من الشياء
الن .وما كانت عليه قبل يومين هو أفضل مما
ت
كانت عليه حتى في المس القريب .وكلما أوغل َ
في الماضي ُ ،يصبح العالم أجمل ومرغوبا ً أكثر .
وتجّر نفسك من النوم في صباح كل يوم لكي تواجه
شيئا ً هو دائما ً أسوأ مما واجهته في اليوم الذي
ن
جد َ قبل أ ْن بالحديث عن العالم الذي وُ ِ سبقه ،ولك ْ
ن ُتضلل نفسك بالعتقاد تأوي إلى النوم ،تستطيع أ ْ
سد ،ليس أكثر ول ن اليوم الحاضر هو ببساطة تج ّ أ ّ
ل من ذكريات اليام الخرى كلها التي تحملها أق ّ
داخلك .
14
أنا أفهم لماذا يلعب الناس هذه اللعبة ،لكنها ل
ن أتكّلم لغة الشباح ، ضأ ْ تستهويني شخصيا ً .أرف ُ
مبتعدة ت الخرين يتكلمون بها ،أمشي ُ وكلما سمع ُ
ت الشياء ُ
ي .نعم ،لقد تغّير ْ أو أضعُ يديّ على أذن ّ
ت فتاة ً صغيرة عابثة . ت تعلم كم كن ُ ي .أن َ بالنسبة إل ّ
لم تكن تشبع من سماع حكاياتي ،من العوالم التي
ب فيها معا ً .قلعة الل عودة ، ت أخترعها لنلع َ كن ُ
أرض الرمال ،غابة الكلمات المنسّية .
ن
ن أروي لك الكاذيب ،أ ْ بأ ْ ت أح ّ كرها ؟ كم كن ُ أتذ ُ
ب وجهك ن أراق َ ك وأجعلك ُتصدق حكاياتي ،أ ْ أخدع َ
وهو يصير جاد ّا ً وأنا أقودك من مشهد غريب إلى
مخت َل ََقة ،وتبدأ بالبكاء . ك بأنها كلها ُ آخر .ثم أخبر َ
تك تلك بقدر ما أحبب ُ ت دموع َ أعتقد أني أحبب ُ
ت خبيثة قليل ً ،حتى في ابتسامتك .نعم ،لعلي كن ُ
تلك اليام ،وأنا أرتدي الثوب الصغير الذي كانت
أمي تدفعني إلى لبسه ،وأنا صاحبة الركبتين
ج الطفلة الصغير الخالي النحيلتين والقبيحتين ،وفر ُ
ك أحببتني ،أليس كذلك ؟ أحببتني شعر .لكن َ من ال َ
حتى الجنون .
ت عاقلة تماما ً وشديدة الترّوي .ل الن أصبح ُ
ن أكون كالخرين .إنني أرى ما تفعله أريد أ ْ
ن الناس - أوهامهم بهم ،ولن أدع هذا يحدث لي .إ ّ
الشباح دائما ً يموتون أثناء نومهم .يتجولون مدة
شهر أو اثنين مع ابتسامة غريبة على وجوههم ،
ووهج الختلف الغريب يكتنفه ،وكأنهم قد بدؤوا توا ً
بالختفاء .الشارات ل ُيخطئها أحد ،حتى
دين الخفيف ، ذرة :توّرد الخ ّ مح ّ التلميحات ال ُ
ولوالعينان تصبحان فجأة ً أكبر من المعتاد ،التح ّ
مذهل ،الرائحة الكريهة المنبعثة من الجسد ال ُ
15
الدنى .ولكن لعله موت سعيد .إنني راغبة في
منحهم هذا .وأحيانا ً أكاد أحسدهم .ولكن أخيرا ً ،ل
ن ُأطلق العنان لنفسي .لن أسمح بذلك . أستطيع أ ْ
مل ،حتى ولو أّدى سوف أصمد قدر ما أستطيع التح ّ
إلى موتي .
16
من المناطق السكنّية التسع – ولكي تنضم إليهم ،
يجب تمر بسلسلة من الشعائر الصعبة :كحبس
أنفاسك تحت الماء ،والصيام ،ووضع يدك في لهب
شمعة ،وعدم التكّلم مع أحد على مدى سبعة أيام .
ن ترضخ لدستور الجماعة . وحالما ُتقَبل ،يجب أ ْ
من ستة أشهر أو سبعة من العيش وهذا يتض ّ
المشترك ،ونظاما ً صارما ً من التمارين والتدّرب ،
ل بالتدريج للطعام .وعندما ُيصبح واستهلكا ً يق ّ
مستعدا ً للركض حتى الموت ،يكون العضو ُ
ت واحد إلى نقطة القوة ل في وق ٍ قد وص َ
مطلق .إنه يستطيع مطلقة والضعف ال ُ ال ُ
ن يركض إلى البد ،وفي الوقت نظريا ً أ ْ
نفسه يكون جسمه قد استنفد مصادره كلها
كب ُيعطي النتيجة المرغوبة .فينطلق مع .هذا المر ّ
ن
مقّرر ويظل يركض إلى أ ْ رفاقه في صباح اليوم ال ُ
يطير خارج نفسه .وفي النهاية ،تتمّلص روحه
وتتحّرر ،ويسقط جسده على الرض ،ويموت .
ن طريقتهم ناجحة بنسبة تسعين وُيعلن الراكضون أ ّ
مضطر إلى ن ل أحد تقريبا ً ُ في المائة – وهذا يعني أ ّ
ن يقوم بمحاولة ثانية للركض حتى الموت . أ ْ
والكثر شيوعا ً هي ميتات العزلة .ولكن حتى
ن تتحول إلى ما يشبه الطقس العام .إذ هذه يجب أ ْ
يرتقي الناس إلى أعلى الماكن لمجّرد القفز .
ن ثمة ما ف بأ ّ مى ،وأعتر ُ القفزة الخيرة ،كما ُتس ّ
ُيثير في مراقبة أحدها ،شيئا ً يبدو أنه يفتح عالما ً
جديدا ً بأكمله من الحرية داخلك :لكي ترى الجسد
الواقف على حافة السطح ،ومن ثم ،دائما ً ،لحظة
ذذ بتلك الثواني ة في التل ّ
الترّدد الوجيزة ،وكأّنما رغب ً
ن حياتك الختامية ،والطريقة التي يبدو فيها كأ ّ
17
تتجمع في حنجرتك ،ومن ثم ،يندفع الجسد ،
كد متى ن تتأ ّ بحركة غير متوقعة )إذ ل يمكنك أبدا ً أ ْ
سيحدث المر( ،يشقّ الهواء ويهبط طائرا ً إلى
ب في هل للحماس الذي يد ّ الشارع .سوف ُتذ َ
الحشود المتجمهرة :تسمعُ هتافهم المسعور ،
ف المشهد وجماله انتزعاهم ن عن َ وترى إثارتهم .وكأ ّ
من أنفسهم ،جعلهما ينسون حقارة حياتهم الخاصة
ن
.القفزة الخيرة هي شيء يستطيع كل شخص أ ْ
ن
يفهمه ،وتتلءم مع التوق الداخلي لكل شخص :أ ْ
ة
ن يمحو نفسه في لحظةٍ وجيز ٍ يموت بومضة ،أ ْ
ن الموت هو مجيدةٍ واحدة .أحيانا ً أعتقد أ ّ
ن له أي مشاعر .إنه الشيء الوحيد الذي نك ّ
شكلنا الفني ،الطريقة الوحيدة التي
ن ُنعّبر عن أنفسنا . نستطيع بها أ ْ
ن
ن ينجحون في أ ْ م ْومع هذا ،هناك بيننا َ
ت أيضا ً أصبح منبعا ً للحياة . ن المو َ يعيشوا .ذلك أ ّ
ومع وجود كل أولئك الذين يفكرون في كيف
سُبليضعون نهاية للشياء ،ويتأملون في ال ُ
ن تتخّيلالمتنوعة لمغادرة هذا العالم ،تستطيع أ ْ
ن
متاحة للربح .والشخص البارع يستطيع أ ْ الُفَرص ال ُ
ش حياةً رغدة حقا ً من موت الخرين .ذلك أّنه يعي َ
ليس كل شخص يتحّلى بشجاعةِ الراكضين أو
مساعدة لكي القافزين ،والعديد يحتاجون إلى ال ُ
يّتخذوا قرارهم .والقدرة على تسديد تكاليف هذه
مسَبق ،ولهذا السبب فقط ثلة ط ُ الخدمات هي شر ٌ
من أشد الناس ثراًء يستطيعون على تلك التكاليف .
ن التجارة ناشطة مع ذلك ،خاصة في عيادات لك ّ
القتل الرحيم .وهذه لها تشكيلت عديدة متنوعة ،
استنادا ً إلى مقدار ما ترغب في إنفاقه من مال .
18
والشكل البسط والرخص ل يستغرق أكثر من
ن عنها بوصفها رحلة العودة . ساعة أو اثنتين ،وُيعل َ ْ
جل اسمك في العيادة ،وُتسدد قيمة بطاقتك تس ّ
على طاولة المكتب ،ومن ثم تؤخذ إلى غرفة
عد ّ حديثا ً .ويضع َ
ك صغيرة خاصة مزّودة بسرير أ ُ ِ
مرافق فيه ويعطيك حقنة ،ومن ثم تغوص في ُ
النوم ول تفيق أبدا ً .والتالي على لئحة السعار هو
رحلة العجائب ،وتدوم من يوم إلى ثلثة أيام .
وهذه تتألف من سلسلة من الحقن ،تفصل بينها
فترات منتظمة ،تمنح الزبون إحساسا ً حيويا ً
بالنغماس والسعادة ،قبل إعطاء الحقنة الخيرة
ن
القاتلة .ثم هناك رحلة المتعة ،التي يمكن أ ْ
ضخل الزبون خللها في في ٍ عين ُ .يد َ تستمر أسبو َ
س
ب ُيناف ُ مد ّّ بسبل الرفاهية بأسلو ٍ من الحياة ،وي ُ َ
روعة فنادق الترفيه القديمة .فهناك الوجبات
المدروسة ،وأنواع النبيذ ،والتسلية ،وحتى ماخور ،
يخدم الرجال والنساء على السواء .وهذا ُيكل ّ ُ
ف
مبلغا ً كبيرا ً من المال ،ولكن بالنسبة إلى البعض
ن فرصة العيش حياةً طيبة ،حتى لمدة قصيرة فإ ّ
من الزمن ،هي غواية ل ُتقاَوم .
ن عيادات القتل الرحيم ليست الطريقة لك ّ
الوحيدة لشراء موتك الخاص .هناك نوادي الغتيال
نطردة .فمن يريد أ ْ أيضا ً ،وهذه تكتسب شعبية م ّ
يموت ،لكنه من فرط الخوف بحيث ُينّفذ المر
بنفسه ،ينضم إلى نادي الغتيال في منطقته
الخاصة لكي يدفع رسما ً متواضعا ً نسبيا ً .ثم ُيعّين له
قاتل .ول ُيخبرون الزبون أيّ شيء عن الترتيبات ،
ويبقى كل ما يتعّلق بموته لغزا ً بالنسبة إليه :التاريخ
مّتبعة ،وهوية قاتله .وبصورة ،المكان ،الطريقة ال ُ
19
ما تسير الحياة كالمعتاد .ويبقى الموت في الفق ،
مبهم .وبدل الشيخوخة ، ن شكله ُ مطلقا ً ،لك ّ يقينا ً ُ
والمرض ،أو وقوع حادث ،يمكن لعضو نادي
ت سريع وعنيف في ن يصبو إلى مو ٍ الغتيال أ ْ
ب جدا ً :رصاصة في الدماغ ،طعنة مستقبل قري ٍ
خنجر في الظهر ،يدان ُتطِبقان على العنق في
ن الهدف من ذلك كله هو منتصف الليل .ويبدو لي أ ّ
ذرا ً .فالموت لم يُعد شيئا ً ح َ
جعل المرء أكثر َ
ي يسكن كل لحظة من مجّردا ً ،بل احتمال حقيق ّ ُ
الحياة .وبدل النصياع سلبيا ً للمحتوم ُ ،يصبح
دفون للغتيال أشد ّ حذرا ً ،ونشاطا ً في مسته َ ال ُ
ن فهما ً تحركاتهم ،وأكثر امتلًء بحس الحياة – وكأ ّ
جديدا ً للشياء غّيرهم .عديد منهم ارتدوا وآثروا
معّقدة .ذلك أن َ
ك ن هذه مسألة ُ الحياة من جديد .لك ّ
مح لك م إلى نادي الغتيال ،ل ُيس َ حالما تنض ّ
ت في قتل بالنسحاب .من ناحية أخرى ،إذا نجح َ
ن تتحّرر من التزامك – وإذا شئت ، ك ،يمكن أ ْ قاتل َ
ت نفسك كقاتل .هذا هو خطر يمكن استئجارك أن َ
مجزٍ جدا ً .ومن النادر عمل القاتل والسبب في أنه ُ
ل ،لنه بالضرورة أكثر خبرة من ل القات ُ ن ُيقت َ َأ ْ
ن ذلك يحدث أحيانا ً .وبين مقّررة ،لك ّ ضحيته ال ً
الفقراء ،خاصة الشبان الفقراء ،هناك العديد الذين
دخرون على مدى أشهر وحتى سنين فقط لكي ي ّ
كنوا من النضمام إلى نادي الغتيال .والهدف يتم ّ
م استئجارهم كقاتلين – وبالتالي لكي ن يت ّ هو أ ْ
يرفعوا من مستوى عيشهم .وقليلون ينجحون في
ك قصص بعض أولئك الفتية ، ذلك .ولو حكيت ل َ
لجافاك النوم طوال أسبوع كامل .
20
ن هذا كله يقود إلى عدد هائل من المشاكل إ ّ
ن الناس ل العملّية .كمسألة الجثث ،مثل ً .إ ّ
يموتون هنا كما كانوا يفعلون أيام زمان ،يلفظون
أنفاسهم بهدوء في أسّرتهم أو في ملذٍ نظيف في
ن
جناح من مستشفى -بل يموتون حيثما يتصادف أ ْ
يكونوا ،وفي الغالب هذا يعني الشارع .أنا ل أقصد
بكلمي فقط الراكضين والقافزين وأعضاء نادي
ن عددهم ضئيل جدًا( ،وإنما الغتيال )ذلك أ ّ
ن نصف عدد ِقطاعات ضخمة من السكان .إ ّ
مشّردون ،وليس لهم أي مكان يلجئون السكان ُ
ت – على إليه .إذا ً الجثث تلقاها كيفما التف ّ
الرصفة ،على ممرات البواب ،وفي الشوارع
ن أعطيك تفاصيل .يكفيني نفسها .ل تطلب مني أ ْ
ن أذكر هذا – بل أكثر من كاف .ومهما كان ما أ ْ
ن المشكلة الحقيقية ليست الفتقار إلى تعتقد ،فإ ّ
الشفقة .ل شيء ينكسر هنا أسرع من القلب .
ن غالبية الجثث عارية .ويجوس المنّقبون إ ّ
الشوارع في كل الوقات ،وسرعان ما ُيجّرد
الموتى من ممتلكاتهم .أول ما يختفي هي الحذية ،
لنها مطلوبة جدا ً ومن الصعب العثور عليها .الشيء
التالي الذي يجذب النتباه هو الجيوب ،ولكن في
المعتاد كل شيء آخر بعد ذلك ،الملبس وكل ما
ماشات ، تحتويه .وأخيرا ً يأتي حاملو الزاميل والك ّ
نل يخلعون أسنان الذهب والفضة من الفواه .ول ّ
ن العديد من العائلت مفّر من هذه الحقيقة ،فإ ّ
تعتني بأمر التجريد بنفسها ،غير راغبة في ترك
المر للغرباء .وفي بعض الحالت ،ينشأ ذلك من
حفاظ على كرامة أحّبائهم ؛ وفي الرغبة في ال ٍِ
حالت أخرى تكون مجرد مسألة أنانّية .ولكن هذه
21
ب سن زوجك نقطة شديدة الدّقة .فإذا كان ذه ُ
نك مدة شهر ،فمن يستطيع أ ْ ن ُيطِعم َيمكن أ ْ
ن مثل هذا السلوك مأ ّ
يلومك على انتزاعه ؟ أعل ُ
ش هنان تعي َ
تأ ْ ض الِفطرة ،ولكن إذا أرد َ ُيناق ُ
ن تكون قادرا ً على التخّلي عن المبادئ . فيجب أ ْ
في صباح كل يوم ،ترسل المدينة شاحنات لكي
تجمع الجثث .هذا هو العمل الرئيسي للحكومة ،
وُينَفق من الموال على هذا أكثر من أي شيء آخر .
وعلى أطراف المدينة من كل جانب هناك محارق –
ن ترى ليل ً مى بمراكز التحويل – ويمكنك أ ْ ما ُيس ّ
ونهارا ً الدخان يتصاعد إلى عنان السماء .ولكن بما
مزرية ،والكثير منها تحول ن الشوارع في حالة ُ أ ّ
طراد .ويضطر إلى حطام ُ ،يصبح العمل صعبا ً با ّ
الرجال إلى إيقاف الشاحنات والخروج لكي يقوموا
بالجمع سيرا ً على القدام ،وهذا ُيبطئ من وتيرة
العمل إلى درجة كبيرة .وفوق ذلك كله ،هناك
العطال الميكانيكية المتكررة التي تحصل
للشاحنات واندفاع المشاهدين أحيانا ً وهم يرمون
الحجارة على عمال شاحنة الموت سلوك شائع بين
مسّلحون ن العمال ُ مشردين .وعلى الرغم من أ ّ ال ُ
ومعروف عنهم أنهم ُيطلقون رصاص مدافعهم
ن بعض رامي الحجارة الرشاشة على الحشود ،إل أ ّ
من الرشاقة والخفة بحيث يختبئون ،وأسلوبهم في
صل جماعة العمال إلى التوقف التام . الختفاء يو ِ
ليس هناك دافع مفهوم لحوادث الهجوم تلك .إنها
ن
تنشأ من الغضب ،والشمئزاز ،والضجر ،ول ّ
مجموع العمال هم موظفو المدينة الوحيدون الذين
كلون أهدافا ً مناسبة . يظهرون في الحي ،فإنهم ُيش ّ
ن الحجارة تمّثل اشمئزاز الناس وقد يقول قائل إ ّ
22
من الحكومة التي ل تفعل أي شيء لهم حتى
ن الحجارة هي تعبير مغالة .إ ّن هذه ُ مماتهم .لك ّ
ن المدينة خالية من كل عن التعاسة ،ل أكثر .ذلك أ ّ
مفرطو الجوع ، ن الناس ُ هذه السياسة .إ ّ
مشوشون ،وفي حالة نزاع بعضهم مع البعض و ُ
الخر بسبب هذا .
ت مجّرد استغرقَ العبور مدة عشرة أيام ،وكن ُ
ت القبطان ك تعلم هذا أصل ً .لقد قابل َ مسافرة .لكن َ ُ
ت مقصورتي ،ول حاجة إلى والطاقم ،وشاهد َ
ت وقتي أنظر استعراض المر من جديد .لقد أمضي ُ
إلى المياه والسماء ولم أفتح كتابا ً طوال عشرة أيام
تكاملة .ووصلنا إلى المدينة ليل ً ،وعندئذٍ فقط بدأ ُ
أشعر بالخوف قليل ً .كان الشاطئ أسود اللون
بأكمله ،ل ترى عليه ضوءا ً في أي مكان ،وشعرت
ش فيه إل ج عالما ً خفي ّا ً ،مكانا ً ل يعي ُ كما لو أننا نل ُ
العميان .ولكن كان معي عنوان مكتب وليم ،
ي
ت في نفسي ،كل ما عل ّ فاطمئن قلبي قليل ً .قل ُ
ن أذهب إلى هناك ،وعندئذٍ سوف ن أفعله هو أ ْ أ ْ
ت بثقة بأنني ل شعر ُ تتوالى المور تلقائيا ً .على الق ّ
ن
سأكون قادرة على اللحاق بوليم .لكني لم أدرك أ ّ
نالشارع قد اختفى .لم تكن المشكلة هي أ ّ
ن المبنى مهجور .فلم يكن هناك ل أو أ ّ المكتب خا ٍ
أي مبنى ،أو شارع ،أو أي شيء :ل شيء غير
الحجارة والحطام على امتداد أميال من حولي .
ت
تلك كانت المنطقة السكنية الثالثة ،كما عِلم ُ
شي نوع من الوباء لحقا ً ،وقبل عام تقريبا ً من تف ّ
ت
هناك .كانت حكومة المدينة قد جاءت ،وسوَّر ْ
وته بالرض .أو ت كل شيء وس ّ المنطقة ،وأحرقَ ْ
ُ
رط في ت منذ ذلك الحين أل ّ أف ِ هكذا قيل .وتعّلم ُ
23
أخذ الشياء التي ُتقال لي على محمل الجد .ليس
ن يكذبوا عليك ،ولكن عندما لّنه يحق للناس أ ْ
مبهمة بسرعة يتعّلق المر بالماضي ،تصبح الحقيقة ُ
.وتبرز الساطير في غضون ساعات ،وتسري
خمة ،وسرعان ما ُتدَفن الحقائق مض ّالحكايات ال ُ
ل من النظريات الغريبة .في المدينة ، تحت جب ٍ
دق فقط ما ُتخبرك به عيناك ن تص ّ أفضل مدخل هو أ ْ
ن أشياء كد النجاح .ل ّ .ولكن حتى هذا ليس مؤ ّ
قليلة جدا ً فقط تبقى كما هي ،خاصة هنا ،لّنه
يجب استيعاب أشياء كثيرة مع كل خطوة ،وهناك
ن
دى الفهم .وكل ما تراه ُيمكن أ ْ أشياء كثيرة تتح ّ
ك ،وكأنما بمجرد رؤيتك لشيء يجرحك ،أو يختزل َ
نن من الخطر أ ْ يؤخذ جزٌء منك .وغالبا ً تشعر أ ّ
ح عينيك ،أو حتى ن ُتشي َك رغبة في أ ْ تنظر ،وتنتاب َ
ن
ن ُتغمضهما .ولهذا السبب ،من السهل أ ْ أ ْ
ت ترى حقا ً ن ل تكون واثقا ً مما إذا كن َ ترتبك ،أ ْ
ك تنظر إليه .فلعلك تتخّيله ،أو الشيء الذي تظن أن َ
ت قد تخلطه مع شيٍء آخر ،أو تتذكر شيئا ً كن َ
تشاهدته من قبل – أو لعلك تخّيلته من قبل .ها أن َ
ن تنظر ببساطة ترى مدى تعقيد المر .ليس كافيا ً أ ْ
وتقول لنفسك " :أنا أنظر إلى ذلك الشيء " ،ذلك
ل هذا عندما يكون الغرض الماثل أمام عينيك ن فع َأ ّ
هو قلم رصاص ،مثل ً ،هو أمر .ولكن ماذا يحدث
عندما تجد نفسك تنظر إلى طفل مّيت ،إلى فتاة
ددة في الشارع عارية من أي ملبس ، صغيرة مم ّ
شم والدماء تجّللها ؟ ماذا ستقول لنفسك مه ّ ورأسها ُ
نحينئذٍ ؟ إنها ،كما ترى ،ليست مسألة بسيطة أ ْ
ن
تقول وبل مواربة " :أنا أنظر إلى طفلة مّيتة " .إ ّ
عقلك يبدو عاجزا ً عن صياغة الكلمات ،تعجز
24
ن الشيء الماثل ن تفعل ذلك .ل ّ بصورة ما عن أ ْ
ن تفصله بسهولة أمام عينيك ليس شيئا ً تستطيع أ ْ
شديدة عن نفسك .هذا ما أعنيه بقولي يجرحك :ل
ن كل شيء ينتمي ن تكتفي بالنظر ،ل ّ يمكنك أ ْ
ل جزءا ً من القصة المطوية بصورة ما إليك ،يشك ّ ُ
ن تجعل نفسك قاسيا ً ن من الجيد أ ْ داخلك .وأعتقد أ ّ
ن يؤثر عليك بعد ذلك . جدا ً بحيث ل شيء يستطيع أ ْ
ك ستصبح وحيدا ً ،منفصل ً تماما ً عن كل شخص لكن َ
آخر بحيث تصبح الحياة مستحيلة .وهناك أشخاص
ولينجحون في فعل هذا هنا ،يجدون القوة للتح ّ
هش إذ تعلم قِّلة عددهم . ك سُتد َ إلى وحوش ،لكن َ
أو ،بعبارة أخرى :لقد أصبحنا جميعا ً وحوشا ً ،ولكن
ن ليس في داخله بقايا الحياة كما م ْ
ليس هناك َ
كانت ذات مرة .
ل الحياة ل هذه أعظم المشاكل قاطبة .لع ّ لع ّ
ن
كما نعرفها قد انتهت ،ومع ذلك ل أحد يستطيع أ ْ
ل محّلها .وأولئك منا الذين نشؤوا يفهم ما الذي ح ّ
ن بما يكفي في مكان آخر ،أو كانوا كباَر الس ّ
ن مجّرد كروا عالما ً مختلفا ً عن هذا ،يجدون أ ّ ليتذ ّ
الصمود من يوم ٍ إلى آخر هو كفاح هائل .أنا ل
أتحدث فقط عن الصعوبات .فبما أنه ل يواجهك إل
أشياء عادية جدا ً ،لم تُعد تعرف كيف تتصّرف ،
ك ل تعرف كيف تتصّرف ،تجد نفسك عاجزا ً ولن َ
وش .ومن حولك تتوالى مش ّن العقل ُ عن التفكير .إ ّ
ج اضطرابا ً التغّيرات واحدا ً بعد آخر ،وكل يوم ُينت ُ
جديدا ً ،وتصبح الفتراضات القديمة مجرد هباء
نت تريد أ ْ وخواء .وهذه ورطة .من ناحية ،أن َ
ن ُتنجز أفضل الشياء . ن تتكّيف ،وأ ْ تعيش ،أ ْ
ن إنجاز هذا ولكن ،من ناحية أخرى ،يبدو أ ّ
25
ك ذاتيستلزم قتل كل الشياء التي دفعت َ
يوم إلى التفكير في نفسك ككائن بشري .
ن أقول ؟ لكي تعيش ،عليك هل تفهم ما أحاو ُ
لأ ْ
ن تموت .لهذا السبب يستسلم الكثير من الناس . أ ْ
إذ مهما كافحوا ،يعلمون أنهم لبد سيخسرون .
وعند هذه النقطة يصبح الكفاح حتما ً شيئا ً ل معنى
له .
26
إلى المام ،دون راحة .ومن ثم ،خلل النهار ،
مل – بريق هناك الضياء الذي يكون أحيانا ً ل ُيحت َ َ
ُيبهرك ويبدو أنه ُيبّيض كل شيء ،وكل السطوح
مثّلمة تلمع ،والهواء نفسه يكاد يومض .ويتشك ّ ُ
ل ال ُ
وه بها اللوان أكثر فأكثر كلما الضوء بطريقة تتش ّ
ض
ظلل تضطرب ،بنب ٍ ت منها .حتى ال ِ اقترب َ
ن
ي ،محموم على طول الحواف .ويجب أ ْ عشوائ ّ
تحرص في مثل هذا الضوء على أل تفتح عينيك
معّينة تسمح واسعا ً ،وعلى أل تفتح عينيك إل بدرجة ُ
حفاظ على توازنك .فإذا لم تفعل ،ستتعّثر لك بال ِ
دد لك ُ
ن أع ّ ت في حاجةٍ إلى أ ْ في مشيك ،ولس ُ
مخاطر السقوط .ولول حلول الظلم ،والليالي
الغريبة التي تهبط علينا ،فإني أشعر أحيانا ً أ ّ
ن
ن اليام تنتهي السماء ستحترق عن بكرة أبيها .إ ّ
ن تفعل ،في اللحظة التي يبدو عندما يتوجب عليها أ ْ
ت الشياء التي تسطع ن الشمس قد أرهَق ْ فيها أ ّ
ن يلتحم عليها .لم يُعد في استطاعة أي شيء أ ْ
دق كله سوف ن العالم الذي ل ُيص ّ بالضياء .إ ّ
يذوب ،وستكون النهاية .
ببطء وثبات ،تبدو المدينة أنها تستهلك
نفسها ،حتى وهي ل تزال موجودة .ول
نسبيل إلى شرح ذلك .أستطيع فقط أ ْ
دعي الفهم .في نأ ّ جل ،ل أستطيع أ ْ أس ّ
كل يوم في الشوارع تسمع انفجارات ،
ن ما بعيدا ً عنك هناك بناء وكأنما في مكا ٍ
ك ل ترى ن الرصيف يغور .لكن َ ينهار أو أ ّ
ت من تلك ذلك أبدا ً يحدث .ومهما سمع َ
ن مصدرها يبقى خفي ّا ً .وقد الصوات ،فإ ّ
ن انفجارا ً سوف يحدث بين حين وآخر في تعتقد أ ّ
27
خر في وجه الحتمال . ن الحقائق تتب ّ حضورك .لك ّ
ن تلك الصوات ل ينبغي أل تعتقد أني ألّفق المر – إ ّ
تنشأ في رأسي ،فالخرون يسمعونها أيضا ً ،حتى
ن لم تكن تجذب الكثير من النتباه .أحيانا ً وإ ْ
يتوقفون لكي يعّلقوا عليها ،لكنهم ل يبدون أبدا ً
ن الصوت أفضل قليل ً الن ، قلقين .وقد يقولون إ ّ
صلة بالحرب بعد ظهيرة هذا أو إنه يبدو قليل ً ذا ِ
ت أطرح العديد من السئلة حول تلك اليوم .وكن ُ
النفجارات ،لكني لم أحصل على أي جواب .ليس
أكثر من تحديق أبله أو هّز الكتفين .وأخيرا ً ،عِلم ُ
ت
ن بعض الشياء ل أحد يستفسر عنها ،وأّنه حتى أ ّ
هنا هناك مواضيع ل أحد يرغب في النقاش حولها .
28
عندي منه( والتحّرك بنشاط للمحافظة على جريان
ت أيضا ً فوائد أوراق الصحف ،فهي رف ُ الدم .وع ِ
دون أدنى شك أفضل المواد وأرخصها لعزل
ض باكرا ً ن تنه َملبسك .وفي اليام الباردة ،عليك أ ْ
جدا ً من النوم صباحا ً لكي تضمن العثور على مكان
كل أمام أكشاك بيع جيد في الصفوف التي تتش ّ
در مدة النتظار بحكمة ،إذ ن ُتق ّ الصحف .ويجب أ ْ
ليس هناك ما هو أسوأ من الوقوف في هواء الصباح
ن في تأ ّ البارد أطول مما ينبغي .وإذا ظنن َ
ن تبقى هناك أكثر من عشرين أو استطاعتك أ ْ
ن
حكمة السائدة هي أ ْ خمس وعشرين دقيقة ،فال ِ
تنتقل وتنسى المر .
تك نجح َ حالما ُتشتري صحيفة ،على افتراض أن َ
ن تأخذ صفيحة ن أفضل ما تفعله هو أ ْ في ذلك ،فإ ّ
منها ،وتمّزقها إلى شرائط ،ومن ثم تلويها على
شكل حزم صغيرة .تلك العقد جيدة لحشوها في
دم الحذاء ،من أجل سد الفجوات التي يتسرب مق ّ
منها الهواء حول الكاحلين ،وسد الثغرات في
ن أفضل إجراء غالبا ً ثوبك .أما الطراف والجزع ،فإ ّ
ف عدد من العقد المنفلتة حول الجسم .وأما هو ل ّ
منطقة العنق ،فمن المفيد ضفر عدد من العقد
على شكل ياقة .والجراء كله يمنحك منظرا ً منتفخا ً
مدا ً ،له ميزة تجميلية في إخفاء النحافة . مض ُّ ،
مين بالمحافظة على المظاهر ، مهت ّوبالنسبة إلى ال ُ
مى ،تعمل كنوع ن " وجبة الصحف " ،كما ُتس ّ فإ ّ
ن الناس حفاظ على ماء الوجه .إ ّ من تقنية ال ِ
يموتون جوعا ً بالمعنى الحرفي للكلمة ،
ببطون خاوية وأطراف تشبه العيدان ،
ن يبدوا وكأنهم ويمشون وهم يحاولون أ ْ
29
دع
يزنون مائتين أو ثلثمائة رطل .ول أحد ُيخ َ
ن تمّيز أولئك الشخاص عن بذلك التخّفي – يمكن َ
كأ ْ
ن
ل هذا ليس هو المهم .إ ّ ُبعد نصف ميل – ولكن لع ّ
ما ُيحاولون قوله هو إنهم يعرفون ما حدث لهم ،
ويشعرون بالخجل منه .وأجسادهم المنتفخة تمّثل ،
أكثر من أي شيء آخر ،دللة الوعي ،علمة وعي
الذات المرير .إنهم يتحولون إلى ُنسخ متهكمة
وساخرة للثرياء والحسني التغذية ،وُيثبتون ،وهم
محَبطة ،وشبه في ذلك المظهر الذي ُيعت ََبر كطعنة ُ
ددة إلى الحس بالمسؤولية ،أنهم مس ّ مخبولة ُ ،
مجرد نقيض ِلما يتظاهرون بأنهم عليه – ويعلمون
ذلك .
ك ما أن تتبّلل ،ل ن المطر ل ُيقَهر .ذلك أن َ لك ّ
ف عن دفع ثمن ذلك على مدى ساعات وحتى تك ّ
أيام لحقة .ليس هناك غلطة أفدح من الوقوع
وسط سيل المطر .فأنت ليس فقط تتعّرض لخطر
ن تعاني من عدد هائل الصابة بالبرد ،بل ويجب أ ْ
من الشياء المزعجة :من ملبسك المنقوعة
مدة ، عظامك التي تشعر أنها متج ّ بالرطوبة ،و ِ
ن يعطب حذاءك .وإذا دق دائما ً من أ ْمح ِ والخطر ال ُ
كان البقاء واقفا ً على قدميك هو المهمة الوحيدة
ل من ن يكون الحذاء أق ّ ور عواقب أ ْ الهامة ،فتص ّ
مرا ًمد ّمناسب .ول شيء يؤّثر في الحذاء تأثيرا ً ُ
ن ُينَقع تماما ً .وهذا قد يؤدي إلى شتى أكثر من أ ْ
أنواع المشاكل :البثور ،والورام الملتهبة ،
ومسامير القدمين ،وأظافر القدمين المغروزة في
وهات – وتكون مؤلمة أثناء اللحم ،والقروح ،والتش ّ
المشي ،وتشعر بالضياع التام .خطوة ثم خطوة ثم
ت في خطوة :هذه هي القاعدة الذهبية .وإذا فشل َ
30
ن تستلقي حيث أنت فعل حتى هذا ،فيمكنك أ ْ
ف عن التنّفس . وتأمر نفسك بالك ّ
ولكن كيف السبيل إلى تجّنب المطر إذا كان في
ن يضرب في أي لحظة ؟ أحيانا ً ،بل استطاعته أ ْ
ل من غالبا ً ،عندما تجد نفسك خارج المنزل ،تنتق ُ
ن ما ل خيار ن إلى آخر ،في طريقك إلى مكا ٍ مكا ٍ
م فجأة ً السماَء ،وتتلطم لك بشأنه ،يغمر الظل ُ
الغيوم ،وترى نفسك منقوعا ً حتى الجلد .وحتى إذا
ت في العثور على ملجأ لحظة بدء هطل المطر نجح َ
ن تكون حريصا ً ونجوت بنفسك مرة ،يبقى أمامك أ ْ
نل الحرص بعد توقف المطر .فعندئذٍ عليك أ ْ ك ّ
حفر على كل في ال ُ تنتبه من البرك التي تتش ّ
الرصيف ،والبحيرات التي تظهر أحيانا ً من
التصدعات ،وحتى الوحل الذي ينّز من السفل ،
ص فيه حتى كاحليك وهو غادر .وبوجود تلك وتغو ُ
منّقرة ، الشوارع المزرية ،وأشياء كثيرة متصدعة ُ ،
سرة ،ل مفّر من تلك الزمات .وعاجل ً مك ّ محّفرة و ُ ُ
خياَر لك فيه ن حيث ل َ أو آجل ً ،سوف تصل إلى مكا ٍ
صرا ً من كل جانب .وليس هناك محا َ
،تجد نفسك ُ
ن ينتبه إليها ،والعالم فقط السطح التي عليه أ ْ
طر من العلى الذي يلمس قدميك ،بل هناك الَق ْ
أيضا ً ،والماء الذي ينساب من الفاريز ،ومن ثم ،
والسوأ من ذلك ،الرياح القوية التي غالبا ً ما تتبع
هطل المطر ،دوامات الهواء الضارية ،التي تنزلق
بخفة على أسطح البحيرات والِبرك وتسوط المياه
وتعيدها إلى الجو ،تسوقها إلى المام كدبابيس
خُز وجهك وتدّوم حولك ،وتجعل صغيرة ،وسهام ت ِ
بن ترى أي شيء .وعندما ته ّ من الصعب عليك أ ْ
الرياح بعد المطر ،يرتطم الناس بعضهم ببعض
31
ب مزيد من القتال في الشوارع ، باستمرار ،وينش ُ
ويبدو الهواء نفسه مشحونا ً بالتهديد .
ن التكّهن بحالة الطقس بأي قدرٍ من الدّقة هو إ ّ
ن يضع خططا ً ، أمر فريد ،عندئذ يستطيع المرء أ ْ
ً
ويعرف متى يتجّنب الشوارع ،ويستعد للتغّيرات
دما ً .ولكن كل شيء يحدث بسرعة فائقة هنا ، مق ّ ُ
النتقالت تحدث بسرعة كبيرة ،وما هو صحيح في
ت
لحظة ل يعود كذلك في اللحظة التالية .لقد أهدر ُ
الكثير من الوقت في البحث عن علمات في الجو ،
ن أدّقق في الجو بحثا ً عن إشارات ع ّ
ما أحاول أ ْ
سيتلو ومتى :لون الغيوم وبروزها ،وسرعة الرياح
واتجاهها ،وروائح المنبعثة في ساعة معّينة ،ونسيج
السماء ليل ً ،وانتشار غروب الشمس ،وكثافة
الندى عند الفجر .ولكن ل شيء ساعدني في
ذلك .وربط الشياء بعضها ببعض من أجل إقامة
صلة بين غيوم بعد الظهيرة ورياح المساء – مثل ِ
هذه الشياء ل تؤدي إل إلى الجنون .وتدور في
حساباتك ومن ثم ،في اللحظة التي تقتنع دوامة ِ
طر ،تستمر الشمس في السطوع طوال بأنها سُتم ِ
النهار .
ن تستعد لحدوث ن تفعله عندئذٍ هو أ ْما ينبغي أ ْ
ن الراء تختلف اختلفا ً شديدا ً بأفضل أي شيء .لك ّ
طريقة بهذا الشأن .فمثل ً ،هناك أقّلية صغيرة
ن الطقس السيئ يأتي من الفكار السيئة . تعتقد أ ّ
ن
من أ ّ ن هذا مدخل ً صوفيا ً إلى المسألة ،لنه يتض ّ إ ّ
الفكار يمكن ترجمتها مباشرةً إلى أحداث في
العالم الماديّ .وبالنسبة إليها ،عندما تقّلب في
ذهنك فكرةً قاتمة أو متشائمة ،فإنها ُتطل ِقُ سحابة
ف من الناس بتقليب في السماء .وإذا قام عدد كا ٍ
32
أفكار كئيبة في وقت واحد ،فسوف يبدأ المطر
بالهطل .وهذا هو سبب التحولت المذهلة
دعون ،وسبب والسريعة في حالة الطقس ،كما ي ّ
ي لمناخنا عجز الجميع عن إعطاء تفسيرٍ علم ّ
الغريب الطوار .وحّلهم هو المحافظة على
حالة مرح متواصلة ،مهما كانت الظروف
من حولنا كئيبة .ل عبوس ،ل تنهدات
عميقة ،ل دموع .هؤلء الناس معروفون
باسم المبتسمين ،ول يوجد في المدينة
كلها فئة أشدّ منها براءة وبساطة .وإذا كان
في المكان هداية غالبية السكان إلى معتقداتهم ،
ن الطقس سوف يبدأ أخيرا ً ن يقتنعوا بأ ّفيمكن أ ْ
سن بالتالي .لذلك ن الحياة سوف تتح ّ بالستقرار وبأ ّ
فهم دائما ً يهتدون ،وعلى الدوام يبحثون عن موالين
دد ،ولكن اعتدال السلوك الذي فرضوه على ج ُُ
مقنعين ضعفاء .إنهم نادرا ً ما أنفسهم يجعلهم ُ
نجحوا في اكتساب أحد ،وبالتالي لم تتعّرض
أفكارهم للختبار – لنه من دون عدد كبير من
المؤمنين لن تتوفر أفكاٌر جيدة كافية لحداث الفرق
ن هذا الفتقار إلى البرهان ل يزيدهم إل عنادا ً .لك ّ
ك تهّز رأسك ،ونعم ،أوافقك على في إيمانهم .أرا َ
َّ
مضللون . مثيرون للسخرية و ُ ن هؤلء الناس ُ أ ّ
ولكن ،على مدى أيام المدينة ،هناك قوة معّينة في
ل سخفا ً عن غيرها .إ ّ
ن محاجتهم – ولعلها ل تق ّ ُ
صحبة ن يكونوا ُ المبتسمين ،كأناس ،يميلون إلى أ ْ
ن لطفهم وتفاؤلهم هما ترياق مقبول مبِهجة ،ل ّ ُ
لعلج المرارة الغاضبة التي تجدها في كل مكان آخر
.
33
مى بالمقارنة ،هناك مجموعة أخرى ُتس ّ
ن الظروف سوف الزاحفون .هؤلء يؤمنون بأ ّ
مقنع بالمعنى ن ُنبدي – بأسلوب ُ تزداد سوءا ً إلى أ ْ
ي – مدى شعورنا بالخجل من أسلوب حياتنا الحرف ّ
في الماضي .وحّلهم هو النبطاح على الرض
ن
ورفض العودة من جديد إلى وضع الوقوف إلى أ ْ
ت كافية . ن توبتهم اعت ُب َِر ْ ُتعطى لهم علمة تفيد ُ بأ ّ
ن تكون عليه تلك الشارة هو موضوع وما ُيفت ََرض أ ْ
مناقشات نظرية طويلة .ويقول البعض إنها شهٌر ُ
من المطر ،ويقول البعض الخر إنها شهر من
الطقس الصافي ،وجماعة أخرى تقول إنها لن
ف لها المر في قلوبها .وهناك ش َ ن ُيك َ تعرف إلى أ ْ
فئتان أساسيتان في هذه المجموعة – الكلب
ن الزحف على اليدي والفاعي .الولى راضية بأ ّ
ن الثانية ترى ب ُيبدي ندما ً كافيا ً ،في حين أ ّ والُرك َ ْ
أنه لن ينفع إل الزحف على البطن .وغالبا ً ما ينشب
ل عنيف بين الفئتين – وكل منهما تتنافس على قتا ٌ
السيطرة على الخرى – ولكن لم تتمكن أي منهما
ن الجماعة على ب أْتباع ،والن أعتقد أ ّ من اكتسـا ِ
حافة الحتضار .
في النهاية ،ليس لدى الناس رأي ثابت حول
ت الجماعات المتنوعة هذه المسائل .وإذا أحصي ُ
التي لديها نظرية متماسكة حول الطقس )قارعو
الطبول ،أتباع نهاية العالم ،والمتحدون الحرار( ،
كل أكثر من نقطة في دلو . ك في أنها سُتش ّ أش ّ
ن ما سُتخت ََزل إليه في الغالب هو حظ وأعتقد أ ّ
ن السماء محكومة بالمصادفة ،بِقوى هي صرف .إ ّ ِ
ن ل أحد يستطيع من فرط التعقيد والغموض بحيث أ ّ
ت بالمطر ، ن يشرحها شرحا ً وافيا ً .وإذا حدث وتبل ّ َ أ ْ
34
ت عاثر الحظ ،وهذا كل ما في المر .وإذا فأن َ
صلة لهت جافا ً ،فهذا أفضل .ولكن ل ِث وبقي َ
حد َ
كل أين المطر ل ُيش ّ بموقف َ
ك أو معتقداتك .إ ّ
ت أو آخر ،يهطل على الجميع ، فرق .فهو ،في وق ٍ
وعندما يهطل ُ ،يصبح الجميع متساوين – ل أحد
أفضل من الخر ،ول أسوأ ،الجميع متعادلون
ومتساوون .
35
ن كل شيء يتهاوى ،بل وما ُيذهلني بغرابته ليس أ ّ
ن تلشي ن الكثير من الشياء تبقى موجودة .إ ّ أ ّ
العالم يستغرقُ وقتا ً طويل ً ،أطول بكثير مما تعتقد ,
والحياة تستمر ،وكل شخص منا يبقى شاهدا ً على
مأساته الصغيرة الخاصة .صحيح أنه لم تُعد هناك
ض آخر فيلم سينمائي ن ع َْر َ مدارس ؛ وصحيح أ ّ
ن النبيذ ت ؛ وصحيح أ ّ ض ْث قبل خمس سنوات م َ حد َ ََ
ن الثرياء فقط أصبح نادر الوجود الن بحيث أ ّ
يستطيعون دفع ثمنه ،ولكن هل هذا هو معنى
الحياة ؟ فليتهاوى كل شيء ،ومن ثم فلنر ماذا
ن نرى ماذا م قضية قاطبة :أ ْ ل هذه أه ّ يتبّقى .لع ّ
سيحدث عندما لن يتبّقى أي شيء ،وما إذا كنا
سـننجو من ذلك كله أم ل .
ن تكون خطيرة ،وغالبا ً ما تكون يمكن للعواقب أ ْ
ن يوجد جنبا ً م يمكن أ ْ عكس توقعاتك .واليأس التا ّ
إلى جنب مع أروع الختراعات ؛ ويمتزج عامل
النتروبي 1مع النشوء .ولنه ل يتبّقى إل القليل ،ل
كر استعمالت لمواد كانت ُيرمى أي شيء ،وُتبت َ َ
منبوذة في السابق بوصفها حثالة .والمر كله يتعّلق
وع ذهنك بأسلوب جديد في التفكير .والُندرة تط ّ
ك راغب في نحو إيجاد حلول جديدة ،وتكتشف أن َ
ضمر أفكارٍ ما كانت لتخطر في بالك في السابق .
خذ مثل ً موضوع النفاية النسانية ،النفاية النسانية
الواقعية .ولم تُعد تجري هنا أي أعمال سباكة .
ت، ت ورشح ْ ت ،والمراحيض تشّقق ْ فالمواسير تآكل ْ
معظمه .وبدل جعل ب في ُ ونظام الصرف تخّر َ
الناس يصونون أنفسهم ويتخّلصون من قذارتهم
وشة – مما قد يؤدي إلى العماء مش ّبطريقة ُ
م دقيق ُيحَرس بموجبه كل حي جد َ نظا ٌ والمرض – أو ِ
- 1النتروبي :عامل رياضي يعتبر مقياسًا للطاقة غير الُمستفادة في نظام دينامي حراري .
36
ق من جامعي القذار ليل ً ،يجوب أفراده بفري ٍ
الشوارع ثلث مرات في اليوم ،يجّرون ويدفعون
مشّقق ،ويقرعون آلتهم الصدئة على الرصيف ال ُ
أجراسهم لكي يخرج سكان الحي وُيفرغون دلئهم
في الحاوية .وتفوح الروائح الكريهة قوية .وعندما
أ ُقِّر هذا النظام للمرة الولى الشخاص الوحيدون
الذين أبدوا رغبة في أداء العمل كانوا السجناء –
م عليهم بسجن ن ُيحك َ َ مريبا ً بين أ ْمِنحوا خيارا ً ُ
الذين ُ
مخّففا ً إذا قِبلوا .لك ّ
ن حكما ً ُ طويل المد إذا رفضوا و ُ
الوضع تغي َّر منذ ذلك الحين ،واّتخذ جامعو القذارة
مساٍو ُ
الن وضع موظفين رسميين وأعطوا مأوى ُ
ن هذا يبدولما ُيعطى لرجال الشرطة .وأعتقد أ ّ
سب من هذا العمل ، مكت َ َ أمرا ً جيدا ً .فلول المتياز ال ُ
ما الذي يدعو أي شخص إلى الرغبة فيه ؟ إنه فقط
ن تبلغهُيبّين المدى الذي يمكن لفعالّية الحكومة أ ْ
ف معّينة .جثث موتى وغائط – عندما في ظرو ٍ
يتعّلق المر بإزالة المخاطر التي ُتحدِقُ بالصحة ،
ن مدراءنا هم رومان حتما ً في تنظيمهم ،نموذج فإ ّ
للِفكر الصافي والفعالية .
ن المر ل ينتهي عند هذا الحد .فحين ينتهي لك ّ
جامعو القذارة من عملهم ل يكونون قد تخّلصوا منه
هكذا ببساطة .فالغائط والقمامة أصبحا ثروة
هامة ،فمع انخفاض مخزون الفحم والزيت إلى
مستويات دنيا بدرجة خطيرة ،أصبحا الشيئين
اللذين ُيزّوداننا بالكثير من الطاقة التي ل نزال
ن كل منطقة سكنية لها قادرين على إنتاجها .إ ّ
مصنعها الخاص لنتاج الطاقة ،وهذه ُتدار بأكملها
بقوة القمامة .أما الوقود فهو من أجل إدارة
السيارات ،وتدفئة المنازل – وهذا كله مصدره غاز
37
ن هذا كأ ّالميثان الذي ُتنتجه تلك المصانع .إنني ُأدر ُ
مضحكا ً ،ولكن ل أحد ُيلقي نكات حول ك ُ قد يبدو ل َ
هدن ُيشا َم ْدية ،وكل ُ ن الغائط تجارة ج ّ هذا هنا .إ ّ
وهو يرمي به في الشوارع ُيقبض عليه .وإذا
كم عليك تلقائيا ً بعقوبة ت جريمة أخرى ُيح َ ارتكب َ
ن نظاما ً كهذا يعمل على القضاء على الموت .إ ّ
ت العمل المطلوب منك ،سرعان ما عبثك .وإذا أّدي َ
تتوقف عن التفكير فيه .
تأهم شيء هو البقاء على قيد الحياة .إذا نوي َ
ن تجد طريقة لكسب ن تبقى حيا ً هنا ،فعليك أ ْ أ ْ
المال ،ومع ذلك فلم يبقَ هناك إل وظائف قليلة
بالمعنى القديم للكلمة .ومن غير إقامة علقات
ن تحصل حتى على أدنى عامة ،ل تستطيع أ ْ
المناصب الحكومية )كاتب ،أو حاجب ،أو عامل في
ح
مركز التحويل ،وما إلى ذلك( .والشيء نفسه يص ّ
على العمال المتنوعة الشرعية وغير الشرعية التي
تجري في أرجاء المدينة )عيادات القتل الرحيم ،
ملك وعمليات الطعام المرتد ّ ،وأصحاب ال ُ
الغامضين( .وإذا لم تكن تعرف أحدهم ،فل فائدة
من طلب العمل من أي من أولئك الناس .لذلك ،
بالنسبة إلى الذين في القاع ،تنقيب القمامة هو
ل لهم ، ن ل عم َ م ْ
ل َالحل الكثر شيوعا ً .إنه عم ُ
ن عشرة إلى عشرين في المائة من وتخميني هو أ ّ
ت به لفترة السكان منخرطون فيه .أنا نفسي قم ُ
وجيزة من الزمن ،والحقائق بسيطة جدا ً :ما أ ْ
ن
ن تتوقف .إنه يستهلك تبدأ ،يكاد يستحيل عليك أ ْ
الكثير منك ،ول يبقَ لديك الوقت للتفكير في فعل
أي شيء آخر .
38
كل المنّقبونون يندرجون في واحدة من فئتين
أساسيتين :جامعو القمامة وصائدو الغراض .
المجموعة الولى أكبر بكثير من الثانية ،وإذا ما
ك به بقوة طوال س ُل المرء باجتهاد ،فإنه يتم ّ م َع ِ
اثني عشرة أو أربع عشرة ساعة في اليوم ،بل
هناك فرصة في كسب لقمة العيش منه .وطوال
سنين طويلة لم يكن هناك نظام قمامة محلي .
ت المدينة على أيدي سماسرة سم ْ وبدل ً عنه قُ ّ
ن واحد على كل منطقة سكنية قمامة محليين – وعُي ّ َ
– اشتروا الحقوق من حكومة المدينة لجمع القمامة
في مناطقهم .ولكي يحصل أحدهم على عمل جمع
ن يحصل على تصريح من القمامة كان عليه أول ً أ ْ
أحد السماسرة – ويجب دفع مبلغ شهري لذلك ،
وأحيانا ً قد يصل حتى خمسين في المائة مما يكسبه
.والعمل بدون الحصول على تصريح مسألة
مغرية ،لكنها أيضا ً خطرة إلى أبعد مدى ،ذلك أ ّ
ن ُ
مه من المفتشين يجوبون لكل سمسار طاقَ َ
ن يجمع القمامة .فإذا م ْالشوارع ،وُيحققون مع كل َ
ق
ن ُيقدم الوراق اللزمة ،يح ّ لم يستطع أ ْ
ن يدفع ن ُيغّرموه ،فإذا لم يستطع أ ْ للمفتشين أ ْ
الغرامة ُ ،يقَبض عليه .وهذا يعني الترحيل إلى أحد
معسكرات العمل في غرب المدينة – ويمضي
السنوات السبع التالية في السجن .ويقول البعض
ن الحياة في المعسكرات أفضل منها في المدينة ، إ ّ
ن هذا مجّرد تخمين .وقد تجاوز عدد ٌ وافٌر لك ّ
ن ل أحد ض عليهم ،ولك ْ ن ُيقب َ مدوا أ ْ حدودهم وتع ّ
رآهم بعد ذلك .
ت حسب الصول كجامع جل َس ّك ُ على فرض أن َ
ك تكسب قمامة وكانت أوراقك كلها نظامّية ،فإن َ
39
ك بقدر ما تجمع من قمامة وتأخذها إلى أقرب نقود َ
مصنع للطاقة .وهناك يدفعون مبلغا ً كبيرا ً جدا ً
مقابل كل رطل – وهي كمية ضئيلة – ومن ثم
معالجة . توضع القمامة في إحدى حاويات ال ُ
وق ضلة لنقل القمامة هي عربة التس ّ مف ّ
والوسيلة ال ُ
ت– التي تشبه تلك التي لدينا في الوطن .وقد أثبت ْ
سلل المعدنية القائمة على دواليب أنها تلك ال ِ
وسيلة متينة ،ول شك في أّنها تعمل بفعالّية أكبر
من أي شيء آخر .ووسيلة النقل الكبر حجما ً تكون
هقة في جّرها بعد ملئها حتى آخرها ،والصغر مر ِ ُ
حجما ً تتطّلب عددا ً كبيرا ً من المشاوير إلى
كتّيب حول هذا الموضوع شَر ُ المستودع ) .بل لقد ن ُ ِ
ت دّقة هذه الفتراضات( . قبل بضع سنوات ،أثب َ
ن تلك العربات مطلوبة جدا ً ، ونتيجة لذلك ،فإ ّ
كنن يتم ّ والهدف الول لي جامع قمامة جديد هو أ ْ
من شراء واحدة .وهذا قد يستغرقُ شهورا ً ،بل
ن تحصل على عربة ، وسنين أيضا ً – ولكن إلى أ ْ
معادلة قاتلة ن تبدأ العمل .وثمة ُ يستحيل عليك أ ْ
ن دخل العمل قليل تكمن وراء هذا كله .فبما أ ّ
ت، دخر أي شيء – وإذا فعل َ جدا ً ،فمن النادر أ ْ
نت ّ
ك تحرم نفسك من شيء ن ذلك عادة ً يعني أن َ فإ ّ
ي :كالطعام ،مثل ً ،الذي بدونه لن تحصل أساس ّ
على القوة اللزمة لداء العمل الضروري لكسب
ت ترى المال من أجل شراء العربة .ها أن َ
ت ضعفا ً ،؛ ت بجد ّ ،ازدد َ المشكلة .وكلما عمل َ
زفا ً .ولكن مستن ِ ح العمل ُ ت ضعفا ً ،أصب َ وكلما ازدد َ
ت في ك حتى إذا نجح َ هذه فقط البداية ،ذلك أن َ
ن تحرص على صيانتها كأ ْ الحصول على عربة ،فعلي َ
مرةً للدوات ،وينبغي السهر على مد ّ ن الشوارع ُ .إ ّ
40
الدواليب بصورة خاصة باستمرار .ولكن حتى إذا
ت في التغّلب على هذه المسائل ،فهناك نجح َ
ي بأل تدع العربة تغيب عن ناظريك . م إضاف ّ التزا ٌ
ن اللصوص ت ثمينة جدا ً ،فإ ّ ن العربات أضح ْ وبما أ ّ
يرغبون في سرقتها قبل غيرها – وليست هناك
ن غالبية كارثة أفدح من فقدان عربتك .ولذلك فإ ّ
الكّناسين يلبسون ما يشبه الحبل ُيعَرف باسم "
الحبل السّري " – أي حبل ،أو رسن كلب ،أو
سلسلة ،تلّفها حول جذعك بالمعنى الحرفي للكلمة
صلها بالعربة .وهذا يجعل السير عمل ً ومن ثم ت ِ
هقا ً ،لكّنه يستحق العناء .وبسبب الضجيج الذي مر ِ
ُ
ُتثيره تلك السلسل أثناء سير العربة تتخّبط على
طول الشارع ،غالبا ً ما ُيشار إلى الكّناسين بلقب "
الموسيقيون " .
ن يقوم بإجراءات التسجيل على صائد الغراض أ ْ
نفسها التي يقوم بها جامع القمامة ويخضع لعمليات
ن عمله هو من نوع التفتيش العشوائية نفسها ،لك ّ
آخر .جامع القمامة يبحث عن النفايات ؛ أما صائد
مسترّدة .إنه يبحث عن الغراض فيبحث عن أشياء ُ
بضاعة ومواد معّينة يمكن استعمالها من جديد ،
ن يفعل ما يشاء بما وعلى الرغم من أنه حر في أ ْ
يعثر عليه ،إل أنه في العموم يبيعه لحد وكلء
النعاش الموّزعون في أرجاء المدينة – مقاولين
خاصين ُيحولون سقط المتاع إلى بضاعة جديدة
التي ُتباع في نهاية المطاف في السوق المفتوحة .
ل متعدد الجوانب – فهم والمقاولون يقومون بعم ٍ
من ناحية يبيعون الخردة ،ومن ناحية أخرى
مصّنعون ،وأيضا ً أصحاب دكاكين – ومع اندثار ُ
أنماط أخرى من النتاج في المدينة ،أصبحوا من
41
أثرى الثرياء ،وأصحاب نفوذ ،ل ُينافسهم في ذلك
إل سماسرة القمامة أنفسهم .لذلك ،فصائد
ش حياةً مقبولة من ن يعي َ الغراض الجيد يمكنه أ ْ
نن يكون سريعا ً ،وبارعا ً ،وأ ْ عمله .ولكن يجب أ ْ
يعلم أين يبحث .الشبان يبذلون جهدا ً كبيرا ً في ذلك
،ونادرا ً ما نرى صائد أغراض يتجاوز من العمر
العشرين أو الخامسة والعشرين .والذين ل
يحصلون على العلمة اللزمة سرعان ما يتوجب
ل آخر ،إذ ل شيء يضمن ن يبحثوا عن عم ٍ عليهم أ ْ
ن تحصل على أي شيء مقابل ما تبذله من جهود . أ ْ
محافظون أكثر ، وجامعو القمامة هم أكبر سنا ً و ُ
راضون بالكد ّ المتواصل في أعمالهم لنهم يعلمون
ل إذا عملوا أنه سيزودهم بأسباب العيش – على الق ّ
كد حقا ً ،ذلك أ ّ
ن بأقصى جهودهم .ولكن ل شيء مؤ ّ
ت رهيبة على كل مستويات المنافسة أصبح ْ
دد ت الشياء في المدينة ،تر ّ الكنس .وكلما ند َُر ْ
ك في الناس أكثر في رمي أي شيء .في حين أن َ
ت لتترّدد في رمي قشور البرتقال إلى السابق ما كن َ
حق الشارع ،أما الن حتى قشور البرتقال ُتس َ
لتصبح عصيدة يأكلها كثير من الناس .قميص
ل ،زوج من السراويل الداخلية الممزقة ، ي با ٍ
رياض ّ
ت الن ُتحَفظ وحافة قبعة – كل هذه الشياء أصبح ْ
لكي ترّقع معا ً وُيصن َعَ منها ملبس جديدة .وترى
أناسا ً يرتدون ملبس غاية في الغرابة وتناُفر اللوان
ب في مرّقع ،تعلم أنه ربما تسب ّ َ ،وكلما مّر شخص ُ
كساد عمل صائد أغراض آخر .
ومع ذلك ،هذا ما عملت فيه – صيد الغراض .
ف بحيث أباشره قبل سن بقدرٍ كا ٍ ح َظ َت ذات ح ٍ وكن ُ
ت تصريحا ً ن اشتري ُ ن تنفذ نقودي .وحتى بعد أ ْ أ ْ
42
)بسبعة عشر غلوتًا( ،والعربة )بستة وستين
غلوتًا( ،ورسنا ً وحذاًء جديدا ً )بخمسة غلوتا ً وبإحدى
ي غلوت . ي معي أكثر من مائت ّ وسبعين غلوتًا( ،بق َ
ت لي هامشا ً لرتكاب كانت تلك ثروة ،لنها أتاح ْ
ت إلى كل مساعدة الخطأ ،وعند هذه النقطة احتج ُ
أستطيع الحصول عليها .وعاجل ً أو آجل ً سوف تغرق
أو تعوم – أما في الوقت الحاضر كان لديّ ما
سك به :قطعة من الخشب العائم ،لوح من أتم ّ
حطام ليحمل ثقلي .
في البدء ،لم يجرِ المر على ما ُيرام .كانت
ت دائما ً أشعر ي حينئذٍ ،وكن ُ المدينة جديدة عل ّ
ت كلها ، ت الوقت على غزوات أخفَق ْ دد ُبالضياع .وب ّ
ت في جد َ ْ
ل سيئة في شوارع قاحلة ،وُ ِ على كت ٍ
المكان الخطأ في الوقت الخطأ .وإذا تصادف
ت بهات على شيء ،فذلك دائما ً لني تعّثر ُ وعثر ُ
مصادفة هي مدخلي الوحيد ، مصادفة .كانت ال ُ ُ
ي ومن ثم النحناء مبّرر بعين ّ
عملية رؤية شيء بل أي ُ
للتقاطه .لم يكن لديّ أسلوب معّين كما لدى
مسبقا ً ،ول الخرين ،ول طريقة لمعرفة ِوجهتي ُ
س بما سيحدث وأين ومتى .واستغرقَ مني سنين ح ّ
طويلة من العيش في المدينة لصل إلى هذه
مبتدئة ،وافدة جديدة جاهلة ت مجّرد ُ النقطة ،وكن ُ
تكاد ل تعرف الطريق بين منطقة سكنية وأخرى .
ة تماما ً .كانت لد ّ
ي ومع ذلك ،لم أكن فاشل ً
ساقاي ،قبل أي شيء ،وقدٌر من حماسة الشباب
لدفعي نحو المام ،حتى عندما كانت التوّقعات أق ّ
ل
ت أعدو باندفاٍع يقطع النفاس في جعة .كن ُ مش ّ من ُ
ة خطرة ومتاريس المكوس ، كل مكان ،أخترقُ أزق ً
أنحدر فجأةً من شارٍع إلى آخر ،ول أفشل في
43
المل في العثور على ُلقية استثنائية عند المنعطف
ت دائما ً أنظرن من الغريب أنني كن ُ التالي .أعتقد أ ّ
ش عن أشياء إلى السفل إلى الرض ،ودائما ً أفت ُ
ن
مكسورة ومنبوذة .وبعد فترة من الوقت ،لبد أ ْ
يؤّثر ذلك على العقل .إذ ل شيء يبقى على حاله .
هناك قطع من أشياء مختلفة ،ولكنها متنافرة .ومع
ذلك ،وبطريقة شديدة الغرابة ،وعلى حواف كل
م من جديد .وأخيرا ً ذلك العماء ،بدأ كل شيء يلتح ُ
تصبح تفاحة مسحوقة وبرتقالة مسحوقة شيئا ً واحدا ً
،أليس كذلك ؟ ل يمكن التمييز بين الثوب الجيد
والثوب الرديء إذا كان كلهما ممزقا ً ،أليس
ل الشياء كذلك ؟ وعند نقطة معّينة ،تنح ّ
وتصبح روثا ً ،أو غبارا ً ،أو فضلت ،وُيصبح
لديك شيء جديد ،ذرة أو مادة متكّتلة ل
شكل لها .إنها ركام ،هباء ،قطعة من
العالم الذي ل مكان له :ل شيء .وعلى
ن
ن يسترد الشياء قبل أ ْ صائد الغراض أ ْ
تصل إلى هذه الحالة المزرية .ول يمكن َ
ك
ن ذلك ن تتوقع العثور على شيء كامل – ل ّ أ ْ
مصادفة ،خطأ ً يرتكبه الشخص الذي يحدث ُ
ن ُتبدد وقتك أضاعه – ول تستطيع أيضا ً أ ْ
مستهَلك تماما ً .بل في البحث عن شيء ُ
تبقى بين الثنين ،تبحث عن أشياء ل زالت تحتفظ
ت عديمة الفائدة . ن أضح ْ بشكلها الصلي – حتى وإ ْ
ت ص آخر أنه يستحق الرمي ،عليك أن َ وما وجد شخ ٌ
حصه ُ ،تدقق النظر فيه ،وتعيده إلى الحياة . ن تتف ّأ ْ
قطعة خيط ،سدادة زجاجة ،لوح خشب سليم من
طم – ل ينبغي إهمال أي من هذه مح ّ صندوق ُ
كك ،ولكن ليس كل جزء مف ّن كل شيء ُ الشياء .إ ّ
44
ل ليس في وقت واحد .والعمل هو منه ،على الق ّ
كز على الجزر السليمة الصغيرة تلك ، ن تر ّ أ ْ
وتتخّيلها مجتمعة مع جزر أخرى ،ثم مع أخرى ،
ن تنقذ ما يمكن كل هكذا أرخبيل ً جديدا ً .ويجب أ ْ لتش ّ
نن ُتهمل الباقي .والخدعة هي أ ْ إنقاذه وتتعّلم أ ْ
تفعل ذلك بأسرع ما في وسعك .
ت غنائمي كافية تقريبا ً .من وشيئا ً فشيئا ً ،أصبح ْ
سقط المتاع طبعا ً ،لكنها أيضا ً أشياء غير متوّقعة
مخّرب ذو عدسة على الطلق :تلسكوب شبه ُ
مشروخة ؛ قناع فرانكنشتاين من المطاط ؛ دولب
دراجة هوائية ؛ آلة كاتبة سيريلية 2مفقود منها فقط
خمسة مفاتيح وزر المسافة ؛ وجواز سفر رجل
اسمه كوين .هذه الغنائم كانت تعويضا ً عن بعض
سن البلء ُ
ت أح ِ اليام السيئة ،ومع مرور الوقت بدأ ُ
ف في وكلء النعاش بحيث أترك جانبا ً بعض بقدر كا ٍ
ن أفعل ما هو أفضل ، المال .أعتقد أنه كان يمكن أ ْ
تولكني رسمت بضعة خطوط داخلي ،حدودا ً رفض ُ
ن أتجاوزها .كلمس الموتى ،مثل ً .وتجريد الجثث أ ْ
هو أحد أشد ّ أوجه تنقيب القمامة ربحا ً ،وهناك قليل
من صائدي الغراض الذين ل يثبون لقتناص الفرصة
ت أقول لنفسي أني حمقاء ،فتاة صغيرة ثرية .وكن ُ
ن تعيش ،ولكن ل شيء كان موسوسة ل تريد أ ْ
ُيساعدني .لقد حاولت .بل إني في مرةً أو مرتين
ت أفعل – ولكن عندما حانت اللحظة ،لم أجد كد ُ
الشجاعة للتنفيذ .وأذكُر رجل ً عجوزا ً وفتاة
ي
ت يد ّ ت القرفصاء بجوارهما ،وترك ُ مراهقة :جلس ُ
ن ن أقنع نفسي بأ ّ تقتربان من جّثتيهما ،وأنا أحاول أ ْ
المر غير ذات أهمية .ومن ثم ،ذات يوم في
ت جثة الصباح الباكر على طريق لمبشيد ،وجد ُ
- 2سيريلية :نسبة إلى ُمخترع أحرفها السلفية القديمة القديس سيريل ). ( 869 -827
45
صبي صغير في السادسة .لم أتمكن من دفع
ت بأني أرفع نفسي إلى فعل ذلك .ليس لني شعر ُ
ن أتخذ قرارا ً أخلقيا ً عميقا ً – ببساطة لم أق َ
و من أ ْ
على الوصول إلى ذلك الحد .
ت ملتصقة هناك شيء آخر آلمني وهو أني كن ُ
منقبين ،ولم ط مع باقي ال ُ بنفسي .لم أكن أختل ُ
ن المرء أبذل أي جهد لعقد صداقة مع أي منهم .لك ّ
ة ليحمي نفسه من الصقور يحتاج إلى أنصار ،خاص ً
– المنّقبين الذين يكسبون عيشهم من سرقة
منّقبين آخرين .والمفتشون ُيديرون ظهورهم لهذه ُ
كزون انتباههم على أولئك اللذين القذارة ،وُير ّ
يكنسون بل تصريح .لذلك بالنسبة إلى المتّقبين
متاح للجميع ،مع نوبات هجوم الصيلين العمل ُ
ن أي شيء س بأ ّمضاد ،وإحسا ٌ مستمر وهجوم ُ
ن يحدث لك في أي وقت .وكانت غنائمي ممكن أ ْ
دل مرة في السبوع ،وتكّرر المر ُتسَرق مني بمع ّ
دما ً ،مق ّإلى درجة أني صرت أحصي خسائري ُ
ل كان في وكأنها كانت جزءا ً عاديا ً من العمل .لع ّ
ن أتجّنب بعضا ً من تلك استطاعتي مع الصدقاء أ ْ
الغارات .ولكن على المدى الطويل لم يُعد المر
ة مثيرة للشمئزاز – يهمني .كان المنّقبون جماع ً
صقورا ً أو ل صقور على قدم المساواة – وكان ُيثير
ن أصغي إلى مشاريعهم ،وتباهيهم تقّزز نفسي أ ْ
بأنفسهم ،وأكاذيبهم .أهم شيء كان أني لم أفقد
عربتي أبدا ً .هكذا كانت أيامي الولى في المدينة ،
ت ل أزال قوية الُبنية بحيث أتمسك بها ، وكن ُ
وسريعة بما يكفي لفّر من وجه الخطر كلما
ت إلى ذلك . اضطرر ُ
46
م أني أحيانا ً أشرد عن ملني .أعل ُ ن تتح ّ
أرجو أ ْ
الموضوع ،ولكن إذا لم أدّون الشياء كما ظهرت
لي ،أشعُر أني سأفقدها إلى البد .فعقلي لم يُعد
ح أشد بطئا ً ،كسول ً كما كان في السابق .أصب َ
ة أبسط فكرة ُتسّبب لي إرهاقا ً ل انتباها ً ،ومتابع ُ وأق ّ
شديدا ً .إذن ،هكذا يبدأ المر على الرغم من
ن الكلمات ل تأتي إل عندما أعتقد أني لن جهودي .إ ّ
كن من العثور عليها بعد الن ،في اللحظة التي أتم ّ
ن كل يوم يجلب س من إيجادها مرة أخرى .إ ّ أيأ ُ
معه الصراع نفسه ،الخواء نفسه ،الرغبة نفسها
في النسيان وفي عدم النسيان .عندما يبدأ المر ،
فإنه ل يبدأ إل هنا ،ل يبدأ إل عند هذا الخط الذي
يبدأ قلم الرصاص برسمه .وتبدأ القصة وتنتهي ،
دم ومن ثم تضيع ،وبين كل كلمة وأخرى كم وتتق ّ
من فترة صمت ،وكلمات تهرب وتتلشى ،ول تعود
أبدا ً .
كر أي شيء ن أتذ ّ
تأ ْ على مدى زمن طويل حاول ُ
ت في ذلك أكثر بحصر أفكاري في الحاضر ، .ونجح ُ
ن الذاكرة ،كما تعلم ،هي الف ّ
خ ت العبوس .إ ّ وتجّنب ُ
ت
رص ُ ح نفسي ،ح ِ الكبر ،وبذلت أقصى جهدي لكب َ
على أل ّ تتسّرب أفكاري إلى اليام الماضية .ولكني
ت أنزلقُ ،قليل ً كل يوم كما يبدو ،والن مؤخرا ً ب ُ
ك. ث خللها بوالديّ ،بوليم ،ب َ هناك أوقات أتشب ّ ُ
ت فتاة صغيرة جدا ً وجامحة ،أليس كذلك ؟ لقد كن ُ
ل لم يكن في صالحي ، نموت بسرعة خارقة بشك ٍ
ن ُيخبرني شيئا ً ل ولم يكن في استطاعة أحد أ ْ
كر إل في اللم الذي سّببته أعرفه توا ً .الن ل أف ّ
ت والدتي عندما أخبرتها أني لوالديّ ،وكيف بكي ْ
راحلة .وكأنما لم يكن يكفيهما فقدانهما وليم ،وها
47
تهما الن سيفقدانني أنا أيضا ً .أرجوك – إذا رأي َ
نل لهما إني آسفة .أنا في حاجة إلى أ ْ والديّ ،قُ ْ
ن سيفعل هذا نيابة عني ،وليس م ْ
ن هناك َ أعلم أ ّ
ن أعتمد ُ عليه غيرك . م ْ لديّ َ
نعم ،هناك أشياء كثيرة أشعر بالخجل منها .
أحيانا ً ل تبدو لي حياتي أكثر من سلسلة من
الندامات ،والنعطافات الخاطئة ،والخطاء التي ل
ُتغت ََفر .هذه هي المشكلة عندما تبدأ بالنظر إلى
ت ،وتشعرك ترى نفسك كما كن َ الوراء .إن َ
ن الوان قد فات الن على العتذار ، بالرعب .لك ّ
ك هذا .فات الوان على أي شيء ما عدا أنا أدر ُ
مواصلة ما أعمل .إذن هذه هي الكلمات .وعاجل ً
م ما ن أقول كل شيء ،ول يه ّ أو آجل ً سوف أحاول أ ْ
هي النتيجة ومتى تحل ،سواء أكان الشيء الول
هو الشيء الثاني أو الشيء الثاني هو الخير .المر
ت فقط كله كان ُيدّوم في رأسي دفعة واحدة ،وكن ُ
سك بشيء مدة كافية لقول إنه انتصار .إذا كان أتم ّ
كلمي ُيربكك ،أنا آسفة .ولكن ل خيار لي .يجب
ن أتناول المر بأشد ّ ما أستطيع من صرامة . أ ْ
48
ن
ن لم يكن وليم في المدينة ،يمكن أ ْ حتى وإ ْ
ن هذا البلد مترامي ن آخر .إ ّ يكون في مكا ٍ
ن
الطراف ،كما تعلم ،ول أحد يعلم أين يمكن أ ْ
يكون قد ذهب .وبعد المنطقة الزراعية إلى الغرب
ن هناك بضع مئات من الميال من ُيفت ََرض أ ْ
ن هناك المزيد من الصحراء .ولكن بعدها ُيقال إ ّ
المدن ،وسلسل الجبال ،والمناجم والمصانع ،
ومن المناطق الشاسعة تمتد حتى تصل محيطا ً
ل في هذا قدٌر من الحقيقة .فإذا كان المر آخر .لع ّ
ظه في أحد بح ّن يكون وليم قد جّر َ كذلك ،يمكن أ ْ
تلك الماكن .أنا ل أنسى مدى صعوبة الرحيل عن
ن
ن وليم يمكن أ ْ المدينة ،ولكن نحن الثنان نعلم أ ْ
ل إمكانية للرحيل يفعل هذا .فإذا كان قد توّفر له أق ّ
،فقد وجد وسيلة لذلك .
أنا لم أخبرك بهذا من قبل ،لكني في وقت ما
خلل السبوع الخير من تواجدي في الوطن ،
ن أوّدعك بثلثة محّرر صحيفة وليم .قبل أ ْ ت ُقابل ُ
ن ُ
ت ِذكر المر لني لم أِرد أ ْ أيام أو أربعة ،وتجّنب ُ
ندخل في نزاع آخر .لقد كانت الحوال سيئة أصل ً ،
سد تلك اللحظات الخيرة التي ولم يكن ذلك إل لُيف ِ
أمضيناها معا ً .ل تغضب مني الن .أتوسل إليك .ل
مل . ن في استطاعتي التح ّ أعتقد أ ّ
محّرر بوغات – وهو رجل أصلح ، كان اسم ال ُ
مالتين عتيق الطراز ، كبير البطن ،يرتدي بنطال ً بح ّ
ويضعُ ساعة يد في جيبه .وقد دفعني إلى التفكير
مجَهد ،يلعقُ رأس قلمه الرصاص قبل دي ُ : في ج ّ
مشّبعا ً مجّرد بدا ُن يكتب به ،ينشُر جوا ً من الخير ال ُ أ ْ
بالمكر ،بدماثة ُتقن ّعُ حدا ً سري ّا ً من القسوة .
ب الساعة في غرفة الستقبال . ت ما ُيقار ُ وانتظر ُ
49
ح مستعدا ً لستقبالي ،فقادني من وأخيرا ً أصب َ
مرفقي إلى غرفة مكتبه ،وأجلسني على كرسيه ، ِ
ت أتكّلم مدة خمس دقائق وأصغى إلى قصتي .وبقي ُ
ن وليم لم ن ُيقاطعني .قال إ ّ أو عشر دقائق قبل أ ْ
يبعث أي رسالة منذ تسعة أشهر .نعم ،لقد تفّهم
ت في المدينة ،ولكن ل دخل طل ْن السيارات تع ّ أ ّ
مراسل الجيد دائما ً ينجح في لهذا في الموضوع .ال ُ
مراسليه . إرسال مقالته – وكان وليم أفضل ُ
وانقطاع فترة تسعة أشهر ل يعني إل شيئا ً واحدا ً :
ت
ط في المشاكل ،وأنه لن يعود .هزز ُ ن وليم توّر َ أ ّ
ي بفظاظة شديدة ،ولم أجب مباشرة ،وقلت كتف ّ
من . له إنه فقط ُيخ ّ
قال " ل تفعلي ،أيتها الصغيرة .سوف ُتصابين
ت إلى هناك " بالجنون إذا ذهب ِ
ت صغيرة .أنا في التاسعة قلت " أنا لس ُ
ن أعتني بنفسي أفضل مما عشرة ،وأستطيع أ ْ
تظن "
" ل يهمني حتى لو كان عمرك مائة .ل أحد
يخرج من هناك سالما ً .إنها آخر العالم اللعين "
ت قد ت متيّقنة من أنه على حق .لكني كن ُ كن ُ
ت عزمي ،ول شيء كان سُيجبرني على تغييره عقد ُ
.وعندما لحظ بوغارت عنادي بدأ ُيغّير أساليبه .
ت رجل ً آخر إلى هناك قال " انظري ،لقد أرسل ُ
مل قبل نحو شهر .وسوف تصلني أخباره قريبا ً .ل ِ َ
ن تحصلي على كأ ْ
ننتظر حتى ذلك الحين ؟ يمكن ِ
ن تذهبي " كل الجوبة التي تريدين من دون أ ْ
ل هذا بأخي ؟ " " ما دخ ُ
50
كل جزءا ً من المقال ،أيضا ً .وإذا ن وليم ُيش ّ "إ ّ
مراسل بعمله ،فسوف يكتشف ما حصل قام ذلك ال ُ
له "
ت على جته ليست متينة .وثب ّ نح ّ ك بوغات أ ّ أدر َ
ي
مصممة على اّتقاء أسلوبه البو ّ موقفي ،وأنا ُ
النيق ،وشيئا ً فشيئا ً بدا أنه استسلم .وأعطاني
ن أطلبه منه ،ومن مراسل الجديد دون أ ْ اسم ال ُ
ح درج خزانة الضابير خلف ثم ،وكإيماءة أخيرة ،فت َ
ج منه صورة فوتوغرافية لشاب . طاولة مكتبه وأخر َ
قال ،وهو يرمي بها إلى طاولة المكتب " ،ربما
سبا ً "
ن تأخذي هذه معك ،تح ّ ينبغي أ ْ
ت عليها نظرة مراسل .ألقي ُ كانت صورة ال ُ
سريعة ومن ثم دسسُتها في حقيبتي لكي ُألزمه .
وهنا انتهى كلمنا .كان اللقاء فاترا ً ،لم يستسلم
ن بوغات كان غاضبا ً خلله أيٌ منا للخر .أعتقد أ ّ
معجبا ً قليل ً . وأيضا ً ُ
كري أني أخبرتك هذا " قال " فقط تذ ّ
ن ُأعيد وليم ،سأعود قلت " لن أنسى .بعد أ ْ
ك بحديثنا هذا " كر َإلى هنا وُأذ ّ
دل رأيه . ف شيئا ً ،ثم بدا أنه قد ب ّ كاد بوغات ُيضي َ
ي يديه برفق على سطح أطلقَ تنهيدا ً ،وضرب كف ّ
ض واقفا ً عن كرسيه .قال " ل ُتسيئي الطاولة ،ونه َ
ك .كل ما في المر أني أعتقد ت ضد ِ فهمي .أنا لس ُ
ك ترتكبين خطأ ً .هناك فرق ،كما تعلمين " أن ِ
" ربما .ولكن ل يزال من الخطأ عدم فعل شيء
ن الناس في حاجة إلى الوقت ،وينبغي أل تقفز .إ ّ
ما تتكّلم " ن تعرف ع ّ إلى الستنتاج قبل أ ْ
قال بوغات " هذه هي المشكلة .أنا أعرف
ما أتكّلم " بالضبط ع ّ
51
عند هذه النقطة أعتقد أننا تصافحنا ،أو لعلنا
ل منا إلى الخر عبر طاولة اكتفينا بتباُدل التحديق ك ٌ
المكتب .ثم مشى معي خلل غرفة الطباعة ومنها
إلى المصاعد في الرواق .انتظرنا هناك يرين علينا
ن نتبادل النظرات .أخذ بوغات الصمت ،دون حتى أ ْ
يهتز إلى المام والخلف على عقبيه ،وهو ُيدندن بل
نغم من داخل فمه .كان جليا ً أنه قد بدأ توا ً في
ح الباب وخطوت إلى داخل شيء آخر .وعندما فُت ِ َ
المصعد ،قال لي بضجر " ،عيشي حياة سعيدة ،
ن ُتتاح لي فرصة الرد ، أيتها الصغيرة " .وقبل أ ْ
ت أهبط إلى أسفل . ُ
أغل ِقَ الباب ،وكن ُ
52
ل علقة لهذا بي .حدث المر بمحض المصادفة ،
في واحدة من ضربات الحظ الصغيرة التي تهبط
ن
عليك من السماء .وقد مّر وقت طويل قبل أ ْ
ن أتذ ّ
كره . يحدث ذلك – وقت أطول مما أود ّ أ ْ
ولت خللها اليام الولى كانت الصعب .تج ّ
كالسائر في نومه ،ل أدري أين أنا ،ول حتى أجرؤ
ت حقائبي لعميل على التكّلم مع أحد .وذات مرة بع ُ
في وكالة النعاش ،مما وّفر لي طعاما ً لمدة طويلة
ت بالعمل كمنّقبة ،لم يكن ن بدأ ُ ،ولكن حتى بعد أ ْ
ة
معّرض ً ت أنام في العراء ُ لدي مكان أبيت فيه .كن ُ
ث في كل يوم على مكان لتقّلبات الطقس ،أبح ُ
مختلف لقضي الليل فيه .ويعلم الله كم دامت تلك
ت
الفترة ،ولكن ل شك في أنها كانت السوأ ،اقترب ُ
خللها كثيرا ً من الهلك .أسبوعين أو ثلثة على
ت من فرط ل ،وربما دامت حتى أشهر .كن ُ الق ّ
ن عقلي قد توقف عن العمل . البؤس حتى بدا كأ ّ
ة من الغريزة ت بليدة الحس من الداخل ،كتل ً أصبح ُ
والنانية .في ذلك الوقت حدثت لي أشياء مريعة ،
ض
ت أتعّر ُ ت منها .كد ُ ول أزال أجهل كيف نجو ُ
للغتصاب على يد جابي مكوس عند منعطف
ت طعاما ً من ديكشنري بليس وجادة ملدون .وسرق ُ
ن يسرقني ذات ليلة في ردهة مسرح عجوز حاو َ
لأ ْ
ت العصيدة من ومين مغناطيسيا ً القديم – انتزع ُ المن ّ
بين يديه ولم أشعر حتى بالسف حيال ذلك .لم
يكن لدي أصدقاء ،ل أحد لتحدث معه ،ول أحد
لتقاسم وجبة معه .ولول صورة سام ،ل أعتقد أني
علمي بأنه موجود في المدينة ت نجوت .مجّرد ِ كن ُ
دد لنفسي ،هذا هو ُ
ت أر ّدني بشيٍء أصبو إليه .كن ُ أم ّ
الرجل الذي سيساعدك ،وحالما تعثري عليه ،
53
ج الصورة من ت أخر ُ سيتغّير كل شيء .ولبد أني كن ُ
تجيبي مائة مرة في اليوم .وسرعان ما أضح ْ
ضنة جدا ً حتى كاد الوجه ينطمس .ولكن مزّيتة ومتغ ّ ُ
ت قد حفظته غيبا ً ،ولم تُعد الصـورة بحد عندئذٍ كن ُ
س صغير يدفع ت بها كتميمة ،كتر ٍ م .احتفظ ُ ذاتها ته ّ
عني اليأس .
ثم تغّير حظي .حدث ذلك بعد نحو شهر أو اثنين
من مباشرتي العمل كصائد أغراض ،ولكن هذا
ت أمشي على طول ضواحي مجّرد تخمين .كن ُ
المنطقة السكنية الخامسة ذات يوم ،بالقرب من
البقعة التي كانت تقوم فيها ساحة فيلمنت ،وإذا
بي أرى امرأة ممشوقة القامة ،في منتصف
وق على الحجارة ، العمر ،تدفعُ أمامها عربة تس ّ
دم ببطء وبخطى متعّثرة ،وكان جليا ً تتقافز وهي تتق ّ
كر فيما تفعله .كانت الشمس أّنها لم تكن تف ّ
ساطعة في ذلك النهار ،ذلك النوع من الشمس
الذي يبهر البصار ويجعل الشياء خفّية ،وكان الجو
حارا ً ،أذكر هذا ،حارا ً جدا ً ،إلى درجة الصابة
بالدوار .وفي الوقت الذي نجحت المرأة في بلوغ
منتصف الشارع ،ظهرت عصبة من الراكضين
طف .كانوا اثنا عشر أو خمسة منطلقة عند المنع َ
صين عشر ،وكانوا مندفعين بأقصى سرعة ،ومترا ّ
معا ً ،يصرخون بهتافهم المنتشي الذي يقطر
ت
ض ْت المرأة تنظر إليهم ،وكأنها انتف َ بالموت .رأي ُ
نفجأة مستيقظة من حلم يقظتها ،ولكن بدل أ ْ
ت في مكانها ،واقفة كغزال تزيح من الدرب ،ثبت ْ
حائر وقع في فخ الضواء المامية لسيارة .ولسبب
ت الحبل السّري ما ،وحتى الن ل أعلم لماذا حلل ُ
ت على ت وقبض ُ ت من حيث كن ُ عن وسطي ،وركض ُ
54
ي ،وجررتها بعيدا ً عن الطريق ي ذراع ّ المرأة بكلت ّ
قبل ثانية أو اثنتين من مرور الراكضين .على آخر
رمق .ولو لم أفعل ذلك ،لديست حتى الموت .
ت
ت إيزابل .في تلك اللحظة بدأ ْ هكذا قابل ُ
حياتي الحقيقية في تلك المدينة ،في السّراء
مقدمة ،حشدا ً من والضّراء .كل شيء آخر كان ُ
الخطوات المتعّثرة ،من اليام والليالي ،من فكرة
ل أذكرها .ولول تلك اللحظة الل عقلنية في الشارع
ن
ك في أ ّ ت أحكي لك قصتي هذه .وأش ّ ،لما كن ُ
ل شكلي ذاك في القصة كانت ستكتمل وأنا أحم ُ
ذلك الوقت .
استلقينا ونحن نلهث في المجرور ،ول نزال
ث إحدانا بالخرى .ومع اختفاء آخر الراكضين تتشب ّ ُ
ن إيزابل أخذت تفهم بالتدريج عند المنعطف ،بدا أ ّ
ت حولها ، ت في جلستها ،وتلّفت ْ ما حدث لها .اعتدل ْ
ت تبكي . ي ،ومن ثم ،وببطٍء شديد ،بدأ ْ ت إل ّ
ونظر ْ
كانت لحظة من الدراك المرعب بالنسبة إليها .
ليس لنها كانت قاب قوسين من الموت ،بل لنها
ت بالسى لجلها ،وأيضا ً لم تعلم أين هي .شعر ُ
ن هذه المرأة النحيلة ، م ْبشيٍء من الخوف َ .
المرتعشة ،بوجهها الطويل وعيناها الغائرتين –
وماذا أفعل أنا باستلقائي بجوارها في الشارع ؟
ت
بدت وكأنها تكاد تفقد عقلها ،وحالما اسـتعد ُ
ن أرحل . أنفاسي ،كان حافزي الول هو أ ْ
قالت ،وهي تمد ّ يدها بحركة مترّددة نحو
وجهي " ،آه ،يا طفلتي العزيزة .آه ،يا عزيزتي ،
تت نفسك .لقد هبب ِ الحلوة ،الصغيرة ،لقد جرح ِ
ت .أتدرين رح ِج ِ
ت التي ُ إلى نجدة امرأة عجوز ،وأن ِ
م هذا ،لكنهم ل لماذا ؟ لنني منحوسة .الكل يعل ُ
55
مصارحتي بهذا .لكني يملكون الشجاعة الكافية ل ُ
ن لم ُيخبرني أحد " ل شيء ،حتى وإ ْ أعلم .أعلم ك ّ
ت نفسي بحجر عندما سقطنا ، ت قد جرح ُ كن ُ
وكان الدم يسيل من صدغي اليسر .ولكن لم تكن
تالصابة خطيرة ،ولم تسبب لي الذعر .وهمم ُ
صة صغيرة لفراقها . ت بغ ّ بوداعها والنطلق ،فشعر ُ
ن أرافقها إلى منزلها ت في نفسي ،ربما يجب أ ْ قل ُ
كد من أّنه لن يقع لها مكروه آخر .فساعدتها لتأ ّ
ت عربة ميها واستعد ُ للنهوض والوقوف على قد َ
وق من الطرف المقابل للساحة . التس ّ
ت " سوف يغضب فرديناند مني .هذه ثالث قال ْ
مرة على التوالي التي أعود فيها فارغة اليدين .
خر كهذا ،وينتهي أمري " بضعة أيام ٍ أ ُ َ
ن تعودي إلى المنزل ك يجب أ ْ ت " أعتقد أن ِ قل ُ
تفي كل الحوال .على القل لفترةٍ وجيزة .أن ِ
ول مع هذه العربة ك بالتج ّ ل ل تسمح ل ِ الن في حا ٍ
معك "
" ولكن فرديناند سيغضب حتى الجنون عندما
ضر شيئا ً " ُ
يرى أني لم أح ِ
قلت " ل تقلقي ،سأشرح له ما حدث "
نما أتحدث طبعا ً ،لك ّ لم تكن لديّ أدنى فكرة ع ّ
مفاجئ كن من كبحه :دفقٌ ُ شيئا ً تمّلكني ،ولم أتم ّ
من الشفقة ،من الحاجة الحمقاء إلى العتناء بهذه
ل القصص القديمة عن إنقاذ حياة أحدهم المرأة .لع ّ
ن يحدث هذا مرة حتى صحيحة .وُيقال إّنه ما أ ْ
ُيصبح ذلك الشخص ضمن مسؤوليتك ،وسواء
ل منكما ينتمي إلى ت أم لم ُتحب ُ ،يصبح ك ٌ أحبب َ
الخر إلى البد .
56
استغرقَ منا الوصول إلى منزلها ما ُيقارب الثلث
ساعات .وفي الظروف العادية ،ل يستغرق ذلك
ن إيزابل تتحّرك ببطٍء أكثر من نصف ساعة ،لك ّ
ن الشمس شديد ،تمشي بخطى متعّثرة ،حتى أ ّ
ت تغرب عند وصولنا إلى هناك .لم كانت قد بدأ ْ
ل سّري )كانت قد أضاعته قبل ذلك يكن معها حب ٌ
ت بين ببضعة أيام ،كما قالت( ،وكانت العربة تنفل ْ
ن وآخر من بين يديها وتندفع وهي تتخّبط على حي ٍ
ص
طول الشارع .وفي إحدى المراحل كاد شخ ٌ
ي يد إحدى أبقي ينتزعها منها .بعد ذلك ،قررت أن ُ
ّ ّ ُ ْ
على العربة ويدا ً أخرى على عربتي ،مما أبطأ
دمنا أكثر من ذي قبل .وسرنا على طول حواف تق ّ
المنطقة السكنية السادسة منحرفتين بعيدا ً عن
تكتلت متاريس المكوس في جادة الذاكرة ،ومن
ثم انتقلنا بسرعة إلى أوفيس سيكتر في شارع
بيراميد حيث أقام رجال الشرطة ثكنة لهم .أثناء
مشيها المتعّرج ،المتعّثر ،أخبرتني إيزابل الكثير
ساما ً للعلنات ن زوجها كان ر ّ عن حياتها .قالت إ ّ
التجارية ،ولكن لما كان العديد من العمال التجارية
يغلق أبوابه أو تعجز عن دفع التكاليف ،أصبح
فرديناند عاطل ً عن العمل منذ أعوام عديدة .وأدمن
شرب الخمر لفترة من الوقت – كان يسرق نقودا ً
من حقيبة إيزابل ليل ً لكي يروي إدمانه ،أو يتس ّ
كع
حول مصنع التقطير في المنطقة السكنية الرابعة ،
ن يرقص لهم ول نقودا ً من العمال مقابل أ ْ يتس ّ
ن قامت ذات مضحكة – إلى أ ْ ويحكي لهم حكايات ُ
ف عن الخروج بعد يوم عصابة من الرجال بضربه فك ّ
ن يتزحزح من مكانه ، ذلك .والن هو يرفض أ ْ
ويلزم شقتهما الصغيرة ليل ً ونهارا ً ،ول ينبت بأي
57
كلمة ول ُيبدي اهتماما ً بالحفاظ على حياتهما .وترك
أمر الشئون العملية ليزابل ،بما أنه لم يُعد يعتبر
ن يوليها انتباهه .الشيء ن تلك التفاصيل تستحق أ ْ أ ّ
الوحيد الذي أصبح يهتم به هو هوايته :صنع نماذج
سُفن ووضعها داخل زجاجات . مصّغرة ل ُ ُ
قالت إيزابل " إنها جميلة جدا ً ،وسوف
تسامحينه ِلما هو عليه .يا لها من سفن صغيرة جدا ً
ك ترغبين في ،ممتازة وصغيرة .إنها تجعل ِ
النكماش حتى تصبحي بحجم دبوس ،ومن ثم
تصعدين إلى متنها وتبحرين ...
ن فرديناند فنان ،وحتى في ثم تابعت " إ ّ
الماضي كان مزاجيا ً ،رجل ً ل يمكن التنّبؤ بما
سيفعله .فمن دقيقة إلى أخرى هناك شيء يدفعه
نإلى النطلق في جهة أو أخرى .ولكن يجب أ ْ
ن
تري الشارات التي رسمها ! الجميع يريدون أ ْ
يستغّلوا فرديناند ،وقد نّفذ َ أعمال ً لكافة أنواع
المحال التجارية .صيدليات ،بقالية ،محلت بيع
السجائر ،محلت بيع المجوهرات ،حانات ،محلت
بيع الكتب ،كل شيء .حينئذ ٍ كان لديه مكان
لعمله ،في قلب منطقة المخازن من المدينة ،
وهي منطقة صغيرة جميلة .ولكن كل شيء انتهى
الن :المناشير ،فراشي الرسم ،دلء اللوان ،
روائح النشارة والورنيش .كله ذهب أثناء عملية
التطهير الثانية للمنطقة السكنية الثامنة ،وكانت
تلك النهاية "
لم أفهم نصف ما قالته إيزابل .ولكن بعد قراءة
محاولة ملء الفراغات بنفسي ، ما بين السطور و ُ
ن لديها أربعة أولد ،كلهم إما ماتوا أو هربوا تأ ّفهم ُ
تن فقد فرديناند عمله ،أصبح ْ من المنزل .وبعد أ ْ
58
ن المرء يتوّقع من امرأة في منّقبة ِقمامة .إ ّ إيزابل ُ
ن الغريب ن تكتتب كجامعة قمامة ،لك ّ مثل سنها أ ْ
ت تصّيد الغراض .وقد أذهلني بكونه أنها اختار ْ
وره .فهي لم تكن سريعة أسوأ اختيار ممكن تص ّ
مل الحركة ،ول بارعة ،ول تتحّلى بالقدرة على التح ّ
ت عن ض ْت ،إنها تعلم هذا كله ،لكّنها عوّ َ .نعم ،قال ْ
نقائصها بمزايا معّينة أخرى – بموهبة خاصة في
معرفة ِوجهتها ،وِفطرة في اكتشاف أشياء في
دهامهملة ،وبمغناطيس داخلي بدا كأنه يش ّ أماكن ُ
إلى المكان الصحيح .هي نفسها لم تجد لذلك
ن الحقيقة تقول إنها عثرت على أشياء تفسيرا ً ،لك ّ
مخّرمة مذهلة :حقيبة مملوءة بملبس داخلّية ُ ُ
ن تعيش من ثمنها على استطاعت هي وفرديناند أ ْ
مدى ما ُيقارب الشهر ،وآلة ساكسيفون في أحسن
حال ،وعلبة مختومة من أحزمة الجلد الجديدة )بدا
ن آخر أنها خرجت من المصنع توا ً ،على الرغم من أ ّ
ح عاطل ً عن العمل منذ ما يزيد مصّنع للحزمة أصب َ ُ
عن الخمس سنوات( ،ونسخة من العهد الجديد
مغّلفة بجلد الِعجل ش الرز و ُمطبوعة على ورق ق ّ
نهبة الحواف .ولكن هذا كان قبل زم ٍ مذ ّ وبصفحات ُ
مضى ،كما قالت ،وعلى مدى الشهر الستة
منهكة ،ومن ت ُ ت تفقد موهبتها .أصبح ْ الماضية أخذ ْ
فرط التعب بحيث تعجز عن الوقوف على قدميها
مدة طويلة ،وأصبح عقلها يشرد باستمرار بعيدا ً عن
عملها .وفي كل يوم تقريبا ً تكتشف أنها تسير في
ن تعرف أين كانت ، شارٍع ل تعرفه ،وتنعطف دون أ ْ
ل حيا ً وتعتقد أنها في مكان آخر .قالت ،أثناء وتدخ ُ
كن تواجد ِ توّقفنا للستراحة عند أحد البواب " ،إ ّ
معجزة ،وليس مجرد حادث طارئ هناك كان بمثابة ُ
59
ي أخيرا ً شخصا ً .لقد صّليت طويل ً لله لنه أرس َ
ل إل ّ
ن الناس لم يعودوا يذكرون الله ، مأ ّلُينقذني .أعل ُ
ولكن ل حيلة لي في ذلك ؛ إنني أفك ُّر فيه في كل
ن ينام فرديناند ُ .أحدّثه يوم ،وأصّلي له ليل ً بعد أ ْ
ن فرديناند لم في قلبي طوال الوقت .والن بما أ ّ
يعد يقول لي أي شيء ،أصبح الله هو صديقي
ي .أعلم أنه شديد الوحيد ،الوحيد الذي ُيصغي إل ّ
النشغال وليس لديه وقت ُيخصصه لمرأة عجوز
ن الله سيد ٌ محترم ،وقد وضعني ضمن مثلي ،لك ّ
اهتماماته .واليوم ،وبعد طول انتظار ،قام بزيارتي
ت الطفلة العزيزة ي كدللة على حّبه .أن ِ ك إل ّ .أرسل ِ
ي ،والن سأعتني ،الحلوة ،التي أرسلها الله إل ّ
ك ،سأفعل كل ما في استطاعتي من أجلك .ل ب ِ
كع في الشوارع من نوم بعد الن في العراء ،ل تس ّ
الصباح وحتى المساء ،ول كوابيس .هذا كله انتهى
ة سوف تحصلين على ت حي ّ ً
ك .وما دم ُ عد ِالن ،أ ِ
مك مما يقوله فرديناند .فمن الن مأوى ،ول يه ّ
ف رأسك وسوف يتوّفر وصاعدا ً ،سوف ُيظلل سق ٌ
دم شكري لله ِلما فعله لك طعام تأكليه .هكذا سأق ّ
تمن أجلي .لقد استجاب لصلواتي ،والن أن ِ
طفلتي الصغيرة ،العزيزة والحلوة ،عزيزتي حّنة
التي وهبها الله لي "
60
ت طريقي في متاهات أعصابي تتوتر كلما أضع ُ
ي من الخشب ، شوارعها .وكان معظم المنازل مبن ّ
ب غريبة .فبدل حجر القرميد القابل وذلك لسبا ٍ
كل والحجارة المتفتتة ،بأكوامها الخشنة والبقايا للتآ ُ
مغبّرة ،تبدو الشياء هنا منحنية ومتدّلية ،تتثّبت ال ُ
وى بطء وتغوص في الرض . تحت وطأة ثقلها ،وتتل ّ
ن هذه وإذا كانت البنية الخرى تتفتت بصورة ما ،فإ ّ
البنية كانت تذوي ،كعجائز فقدوا قوتهم ،كمصابين
ن يقفوا بالتهاب المفاصل لم يُعد في مقدورهم أ ْ
على أقدامهم .العديد من السقف انهارت ،
والمفاصل صدئت حتى أضحت كالسفنج ،وترى هنا
وهناك منازل بأكملها تميل باتجاهين متعاكسين –
ن لمسة من إصبع ،أو نفخة تكاد تنهار بحيث أ ّ
واحدة ،كانت كفيلة بتسويتها بالرض .
أما المنزل الذي تعيش فيه إيزابل فكان مبنيا ً من
ل منها يتألف الجر .كان يتأّلف من ستة طوابق ك ٌ
شقق صغيرة ،ومطلع د ََرج مظلم ،ود ََرج من أربع ُ
متخلخل ،ومتهرئ ،ودهان مقشور عن الجدران .
وكان النمل والصراصير تجري في كل مكان ل
ُيضايقها أحد ،والمكان كله يفوح بعبق عفونة الكل
ن المبنى الفاسد ،والملبس القذرة ،والغبار .لك ّ
ن أرى ذاته بدا متينا ً بقدرٍ معقول ،ولم يسعني إل أ ْ
ن
دل أحوالنا .ولو أ ّ أني محظوظة .ما أسرع ما تتب ّ
ن المر ن أذهب إلى هناك أ ّ أحدا ً أخبرني قبل أ ْ
دقته .أما الن سينتهي بي إلى العيش فيه ،لما ص ّ
ت عطّية عظيمة . فشعرت بالسعادة ،وكأّني مُنح ُ
وعبارتا قذارة وراحة عبارتان نسبيتان ،قبل أي
ي ثلثة أشهر أو أربعة على قدومي شيء .وبعد مض ّ
61
ت راغبة في قبول منزلي الجديد إلى المدينة ،أصبح ُ
ن تنتابني أدنى رعشة . هذا دون أ ْ
جَلبة عندما أعلنت لم ي ُِثر فرديناند الكثير من ال َ
إيزابل أنني سأنتقل للقامة معهما .من الناحية
ت المر بطريقة التكتيكية ،أعتقد أنها عالج ْ
صحيحة .فهي لم تطلب إذنه لمكوثي هناك ،بل
أبلغته ببساطة أنه أصبح هناك الن ثلثة أشخاص
ن فرديناند كان قد تخّلى منذ زمن بدل اثنين .وبما أ ّ
بعيد عن اّتخاذ أي قرار عملي في هذه المنطقة ،
كد على سيطرته في ن يؤ ّ
بات من الصعب عليه أ ْ
ن عليه ن ُيسّلم ضمنا ً بأ ّ تلك المنطقة الوحيدة دون أ ْ
كب المزيد من المسؤولية في مناطق أخرى . ن يتن ّ أ ْ
ت يديها منها . ض ْ
ولم ت ُِثر إيزابل مسألة الله ،لنها نف َ
وأعطته سردا ً جافا ً للوقائع ،وأخبرته كيف أنقذُتها ،
مضيفة ِذكر المكان والزمان ،ولكن دون تنميق أو ُ
متظاهرا ً تعليق .أصغى فرديناند إليها في صمت ُ ،
بأنه ل يوليها انتباها ً ،وهو يرميني بنظرة مختلسة
بين حين وآخر ،لكنه في الغالب كان ُيحدق بعيدا ً
ٍ
ن ل شيء من هذا باتجاه النافذة ،ويتصّرف كأ ّ
ت إيزابل ،بدا لبرهة من الزمن ن انته ْصه .وبعد أ ْ يخ ّ
كر في المر ،ثم هّز كتفيه استخفافا ً .ونظر أنه ُيف ّ
كي مباشرةً للمرة الولى وقال " من المؤسف أن ِ إل ّ
ت بكل ذلك العناء .من الفضل لتلك العجوز مرر ِ
ن ينتظر ن تموت " .ثم انسحب ،دون أ ْ الهرمة أ ْ
جوابي ،إلى كرسيه في ركن الغرفة وعاد إلى
مصّغر . العمل في نموذج السفينة ال ُ
ن فرديناند لم يكن سيئا ً كما اعتقدت ،على لك ّ
ل ليس في البداية .هو حتما ً لم يكن متعاونا ً ، الق ّ
ولكن من دون الخبث الصريح الذي توّقعته منه .
62
كانت نوبات سوء طبعه قصيرة ،وهّبات نكده كذلك
معظم الوقت لم يكن يقول أي شيء ، ،لكنه في ُ
ملن يتحدث إلى أي شخص ،ويتأ ّ ويرفض بعناد أ ْ
بكآبة وهو قابع في زاويته كمخلوق شاذ سيء النّية .
كان فرديناند رجل ً قبيح المنظر ،ول يتحّلى بأي
شيء يجعلك تنسى ُقبحه – ل سحر ،ل كرم ،ل
مخّلصة .كان رقيق الِعظام ومنحني سماحة ُ
ف كبير معقوف ورأس شبه أصلع . الظهر ،وذا أن ٍ
مجّعدا ً وأشعث ،وما تبقى لديه من شعر كان ُ
ق من كل الجوانب ،وبشرته شاحبة ينتصب بحن ٍ
شحوب المرضى – بياضها غريب ،بدا أشد ّ بياضا ً
شعر السود الذي ينمو في كل مكان من بسبب ال َ
جسمه – على ذراعيه ،وساقيه ،وصدره .يتركه
ناميا ً دائما ً ،وكانت ملبسه رّثة ،وتراه دائما ً حافيا ً ،
وبدا أشبه بنسخة كرتونّية من أحد المتسكعين على
ن هوسه بالسفن قاده إلى لعب دور الشواطئ .وكأ ّ
فرة .أو العكس .عندما مق ِ
ملقى على جزيرة ُ ل ُرج ٍ
وجد نفسه منبوذا ً بدأ ربما ببناء سفن كدللة على ما
ي – كنداء سّري لطلب ُيعانيه من بؤس داخل ّ
ن نداءهن أنه اعتقد أ ّن ذلك لم يع ِ النجدة .لك ّ
ن فرديناند لن يذهب إلى أي مكان سُيستجاب .إ ّ
بعد الن ،وكان يعلم ذلك .وفي إحدى أمزجته
ف لي ذات مرة بأنه لم يطأ أبدا ً خارج الدمثة ،اعتر َ
الشقة منذ أكثر من أربع سنوات .قال ،مومئا ً إلى
النافذة " ،ل يوجد في الخارج إل الموت .هناك
ن
مفترسة في تلك المياه ،وحيتان يمكنها أ ْ أسماك ُ
ك دفعة واحدة .تشّبثي بالشاطئ ،هذه تبتلع ِ
ك ،تشّبثي بالشاطئ وابعثي قدر ما نصيحتي ل ِ
تستطيعين من رسائل الدخان "
63
ن إيزابل لم ُتبالغ في تقدير مواهب فرديناند . لك ّ
منّفذة فقد كانت سفنه ِقطعا ً صغيرةً من الهندسة ُ ،
معة ببراعة ،وما مج ّ ممة و ُ مص ّ مذهلة ُ ، حرفّية ُ ب ِ
دامت تتوفر لديه المواد الكافية والثاث – قطع من
صمغ ،والخيوط ،وأحيانا ً الخشب والورق ،وال ِ
زجاجة – فإنه يستغرق في عمله ول ُيثير الكثير من
ن أفضل طريقة تأ ّ
المشاكل في المنزل .وقد عِلم ُ
لقامة علقة جيدة معه هي في التظاهر بأنه غير
ت عن أسلوبي لكي أبرهن موجود .في البداية خرج ُ
صنا ً
مح ّ ن فرديناند كان ُ سلمّية ،لك ّ له عن نواياي ال ِ
جيدا ً ،ويشعر باشمئزاز كامل من نفسه ومن العالم
بحيث أني لم أنجح .الكلمات اللطيفة لم تكن تعني
ولها إلى تهديد .ذات كان ُيح ّ له أي شيء ،وغالبا ً ما
ت إعجابي بسفنه وأبدي مرة ،مثل ً ،ارتكبت خطأ ً
ُ ُ
ت إلى أنها ستجلب الكثير من ل وألمح ُ ت عا ٍ بصو ٍ
ب، ض َ ن فرديناند ثار وغ ِ ن يبيعها .لك ّ المال إذا قّرر أ ْ
شى في أنحاء الغرفة ، وقفَز عن كرسيه وأخذ يتم ّ
وح بمطواته في وجهي .صاح " أبيع سفني ! وهو ُيل ّ
ن تقتليني أول ً .لن أتخّلى عن أي كأ ْ ت ؟ علي ِ جنن ِأ ُ
واحدة منها – أبدا ً ! هذا تمّرد ،هو كذلك .إنه
مسّلح ! كلمة واحدة تخرج منك ،وستجدين عصيان ُ
نفسك في الشارع ! "
ن يقبض على الفئران التي كان ولعه الوحيد هو أ ْ
نتسكن جدران المنزل .كان في استطاعتنا أ ْ
نسمعها تتحرك هناك ليل ً ،تقرض ما تعُثر عليه من
ُفتات صغيرة .أحيانا ً يكون الضجيج عاليا ً إلى درجة
أنه ُيقلق نومنا ،لكنها كانت فئران بارعة وليس من
ب فرديناند مصيدة السهل القبض عليها .وقد نص َ
شَبك من السلك والخشب ، صغيرة مؤّلفة من َ
64
وفي كل ليلة كان يعمل باجتهاد على تزويدها بقطع
طعم .المصيدة لم تقتل الفئران .عندما من ال ُ
كانت تلجها بحثا ً عن طعام ،كان الباب ُيصفع
خلفها ،وُتحجز داخل القفص .كان ذلك يحدث مرةً
واحدة أو مرتين في الشهر ،ولكن عندما كان
فرديناند في الصباح ويكتشف وجود فأر في
القفص ،يكاد ُيصاب بالجنون من فرط السعادة –
تيتقافز حول القفص وُيصفق بيديه ،ويشخر بصو ٍ
ق عميق من الضحك .ويلتقط الفأر من ل في دف ٍ عا ٍ
ن على لهب الموقد . ذيله ،ومن ثم ،يقوم بشّيه بتأ ٍ
وى ويصّر من حلوة كان مشهدا ً فظيعا ً ،والفأر يتل ّ
مستغرقا ً ن فرديناند كان يلزم الهدوء ُ ، الروح ،لك ّ
م وُيثرثر بينه وبين نفسه تماما ً فيما يفعل ُ ،يغمغ ُ
حول أطايب اللحم .وُيعلن بعد انتهاء عملية التحمير
طعه قطعا ً ،عن إفطارٍ فخم للقائد ،ومن ثم ُ ،يق ّ
م
ي ،ويلته ُ ولعابه يسيل وعلى وجهه تكشير شيطان ّ
المخلوق حتى آخره ،ويبصق بعناية الِعظام أثناء
المضغ .وكان يضع الِعظام على عتبة النافذة لكي
ف ،وأخيرا ً يستخدمها كقطع يستفيد منها في تج ّ
سفنه – كصواري أو سواري أعلم أو رماح صيد
كك أضلع صدر فأر الحيتان .وأذكر أنه ذات مرة ف ّ
واستخدمها كمجاديف من أجل سفينة شراعية .
م جمجمة فأر كتمثال وفي مناسبة أخرى ،استخد َ
ن
دمة سفينة قراصنة شراعية .ويجب أ ْ ثّبته على مق ّ
أعترف أنه كان عمل ً صغيرا ً لمعا ً ،على الرغم من
ن منظره كان ُيثير اشمئزازي . أ ّ
في أيام الجو الصافي كان فرديناند يتمركز على
كرسيه أمام النافذة المفتوحة ،ويضع وسادته على
عتبتها ،ويجلس هناك على امتداد ساعات طويلة ،
65
جاثما ً نحو المام ،وذقنه بين يديه ُ ،يرسل نظره
إلى الشارع في السفل .وكان من المستحيل
كر فيه ،بما أنه لم ينطق أي كلمة ، معرفة ما ُيف ّ
لكنه كان بين حين وآخر ،فلنُقل كل ساعة أو
ساعتين بعد إحدى فترات اليقظة الطويلة تلك ،يبدأ
رغا ً سيول ً من الهراء مف ِ
ت ضارٍ ُ ، بالثرثرة بصو ٍ
الشرس .فيهدر " اطحنوهم ،اطحنوهم وانثروا
رمادهم .الخنازير ،عن ِبكرة أبيهم ! هدهدني ،يا
ث مهما لهثت ، عدّوي النيق ،لن تنال مني هنا .اله ْ
سم ٍأنا آمن هنا " .ويتدفق الهراء بعد الهراء منه ك ُ
م في دمه .كان يصخب ويهذي هكذا على مدى تراك َ
خمس عشرة أو عشرين دقيقة ،ومن ثم ،على
جل ،وبل إنذار ،يعود إلى الصمت من جديد ، عَ َ
ت فجأة . ة داخله قد هدأ ْ ن عاصف ً وكأ ّ
تت فيها هناك ،أخذ ْ خلل الشهر التي أقم ُ
سفن فرديناند تصبح تدريجيا ً أصغر فأصغر .
ل زجاجات الويسكي والبيرة بزجاجات واستبد َ
سعال وأنابيب الختبار ،ثم بقوارير العطر شراب ال ٌ
ن أصبح ُينشئ سفنا ً بأبعادٍ الفارغة ،إلى أ ْ
ميكروسكوبّية .لم أفهم اجتهاده ،ومع ذلك لم يبد ُ
صغَُر حجم السفينة ، ن فرديناند يتعب منه .وكلما َ أ ّ
ت ازداد تعّلقه بها .وفي مناسبة أو اثنتين ،استيقظ ُ
كر قليل ً عن المعتاد لرى صباحا ً في وقت ُ
مب ّ
فرديناند جالسا ً عند النافذة ورافعا ً إحدى السفن في
الهواء ،يلعب بها كطفل في السادسة ،وهو ُيحّركها
في الجو مع إصدار صوت هدير ،وُيطِلقها في
ت متنوعة ، ي ،وُيغمغم لنفسه بأصوا ٍ ط وهم ّ محي ٍ
وكأنه يقوم بأدوارٍ في لعبةٍ من ابتكاره .يا لفرديناند
الحمق المسكين .وذات ليلة قال لي ،وهو يتباهى
66
صغَُر حجمها كان أفضل . بإنجازاته كفّنان " ،كلما َ
نل وذات يوم سأصنعُ سفينة صغيرة إلى درجة أ ّ
ن
م ْ أحد سيتمكن من رؤيتها .عندئذٍ ستعرفين مع َ
تتعاملين ،أيتها العاهرة الصغيرة الذكية .سفينة من
صغر بحيث لن يراها أحد ! سوف يؤّلفون كتابا ً ال ِ
ن أنا ، م ْعني ،وسأصبح مشهورا ً .عندئذ ٍ ستعرفين َ
يا عاهرتي الصغيرة الخبيثة .لن تعرفي أبدا ً ما الذي
م بك .ها ،ها ! لن تعرفي أبدا ً ! "أل ّ
67
إلى الشارع قبل طلوع الشمس ،نقوم بجولت في
فرة ،والجادات الفجر الهادئ ،في الزقة المق ِ
ن الوقت كان ربيعا ً محيطة بها .أعتقد أ ّ العريضة ال ُ
حينئذ ٍ ،في الجزء الخير من شهر نيسان ،وكان
ل خادع ،جيدا ً جدا ً إلى درجة أن َ
ك الطقس جيدا ً بشك ٍ
ن البرد ت تشعر أنها لن ُتمطر بعد ذلك أبدا ً ،وأ ّ كن َ
والريح قد اختفيا إلى البد .كنا نأخذ معنا عربة
واحدة فقط ،تاركين الخرى في المنزل ،وأدفعها
أمامي ببطء ،وأمشى بالتزامن مع خطوة إيزابل ،
ن تجد سبيلها ،وتستوعب المكان من وأنتظر أ ْ
حولها .كل ما قالته عن نفسها كان صحيحا ً .كانت
تتمتع بموهبة خارقة في ذلك النوع من العمال ،
وحتى وهي في أضعف حالتها كانت بارعة كأي
ت أشعر أنها شيطان ، شخص راقبته .أحيانا ً كن ُ
ساحرة بكل ما في الكلمة من معنى ,تعثُر على
ح عليها كي ُتخبرني ت أل ّسحر .وكن ُ الشياء بقوة ال ِ
ن تبوح بالكثير . كيف تفعل ذلك ،لكنها لم تستطع أ ْ
كر برصانة بضع دقائق ومن ثم كانت تسكت ،وتف ّ
م حول اللتزام بالمر وعدم التخّلي ُتدلي بتعليق عا ّ
عن المل – بتعبيرات غاية في البهام بحيث أنها لم
دم لي أي مساعدة .وما تعّلمته في نهاية المر تق ّ
ت عليه من المراقبة ،وليس الصغاء ، منها حصل ُ
واستوعبُته بما ُيشبه عملية التناضح ،بالطريقة
نفسها التي تتعّلم بها لغة جديدة .كنا ننطلق بل
هدى ،نتجول عشوائيا ً بصورة أو بأخرى إلى أ ْ
ن ُ
نس حول المكان الذي ينبغي أ ْ ينتاب إيزابل حد ٌ
نبحث فيه ،فأهرول إلى البقعة ،تاركة إياها ورائي
لكي تحرس العربة .وإذا أخذنا في العتبار قِّلة
ن الغنائم كانت جيدة ، الشوارع في ذلك الوقت ،فإ ّ
68
ل ،وبل ريب كان أو تعيننا على الستمرار على الق ّ
عملنا معا ً مفيدا ً .لكننا لم نكن نتكّلم كثيرا ً ونحن
ذرتني منه إيزابل نجوب الشوارع .وهذا خطر ح ّ
كري في أي شيء آخر ،كما مرات عديدة .ل تف ّ
قالت .فقط ذوبي في الشارع وتظاهري
مل ؛ ل حزن أو ن جسمك ل وجود له .ل تأ ّ بأ ّ
سعادة ؛ ل شيء غير الشارع ،وكل شيء
كزي فقط على فارغ في الداخل ،ر ّ
الخطوة التالية التي ستتخذينها .وهذه ،
دتني بها ،هي من بين كل النصائح التي أم ّ
همُتها . الوحيدة التي ف ِ
ولكن ،حتى بتوّفر مساعدتي ،والميال القليلة
ن تمشيها في كل يوم ،إل التي كان على إيزابل أ ْ
ت تخور .وشيئا ً فشيئا ً ،ازدادت ن ِقواها بدأ ْ أ ّ
الصعوبة عليها في القيام بعمل خارج المنزل ،
طوال التي تقضيها سيرا ً ومناقشة أمر الساعات ال ِ
على قدميها ،وفي صباح أحد اليام حدث المحتوم ،
ن تنهض ،كانت آلم ولم يُعد في استطاعتها أ ْ
ت وحدي .ومنذ ذلك اليوم ساقيها تتفاقم ،وخرج ُ
ت أقوم بالعمل كله . فصاعدا ً ،صر ُ
ن هذه حقائق ،وأنا أسردها عليك واحدة بعد إ ّ
أخرى .لقد توليت شؤون المنزل يوما ً بعد يوم .
ت المسؤولة الوحيدة ،التي تقوم بكل شيء . كن ُ
كر ت تذ ُ ك إلى الضحك .أن َ ن هذا سيدفع َ وأنا واثقة أ ّ
كيف كان وضعي في المنزل :كان هناك طّباخ ،
س في أدراج وخادمة ،والغسيل النظيف المطوي ُيد ّ
مضطرة أبدا ً ن ُالخزانة في كل يوم جمعة .لم أك ْ
إلى تحريك إصبع واحد .العالم كله كان موهوبا ً لي ،
ة :دروس العزف على ت أتقّبل ذلك بداه ً وكن ُ
69
البيانو ،ودروس الفن ،وتمضية فصول الصيف على
شاطئ البحيرة في الريف ،ورحلت إلى خارج
البلد مع أصدقائي .أما الن فأصبحت كادحة ،
نصين ما كان يمكن لي أ ْ معيل الوحيد لشخ َ ال ُ
أقابلهما في حياتي السابقة .إيزابل ،بنقائها وطيبتها
الجنونيين ؛ وفرديناند ،المنجرف مع نوبات الغضب
الشرسة والمخبولة .كان المر كله غاية في الغرابة
ن إيزابلن الحقيقة هي أ ّ ،وبعيد الحتمال .لك ّ
ت حياتي تماما ً كما أنقذ ُ
ت أنا حياتها ،ولم أنقذ ْ
ن أمتنع عن تقديم ما في يخطر في بالي أبدا ً أ ْ
وسعي .وتحولت من كوني فتاة صغيرة مشّردة
أبعداها عن الشارع ،إلى المعيار المضبوط التي
حال بينهما وبين الدمار الشامل .فمن دوني ما كانا
ن
خر بشأ ْ استمّرا عشرة أيام .ل أعني بكلمي التفا ُ
ما فعلته ،ولكن للمرة الولى في حياتي أصبح هناك
ي ،وأنا لم أخذلهم . أناس يعتمدون عل ّ
70
ن يستفيد منها أي المنزل يوما ً بعد يوم ،دون أ ْ
سة إلى المال في ذلك شخص ،وكنا في حاجة ما ّ
ت إيزابل بنفسها ح ْالوقت .وكما كان متوّقعا ً ،اقتر َ
ن أذهب وأبيعها ،ولكن هذا ل يعني في نهاية المر أ ْ
أنه لم يكن قاسيا ً عليها .
بعد ذلك ،تغّيرت العلقة بيننا قليل ً .فلم نعد
ت بإحساس شديد شريكتين متعادلتين ،ولنها شعر ْ
بالذنب ،لنها وضعت على كاهلي مزيدا ً من العمل ،
ف موقفا ً حاميا ً ،بل وهستيريا ً من ت تق ُأصبح ْ
ت أقوم وحدي بعمل ن بدأ ُ موضوع سعادتي .وبعد أ ْ
ت حملة من أجل تغيير شكلي .فأنا الغارة ،شن ّ ْ
صلة يومية بالشوارع ،كما ن تكون لي ِ أجمل من أ ْ
ت
ح ْ
ن .شر َ قالت ،ويجب فعل شيٍء بهذا الشأ ْ
ك تنطلقين هكذا في صباح ن أرا ِمل أ ْ قائلة " ل أتح ّ
كل يوم .هناك أمور فظيعة تقع للفتيات الصغيرات
طوال الوقت ،أشياء فظيعة جدا ً ل أستطيع حتى أ ْ
ن
آتي على ِذكرها .أوه ،آّنا ،يا طفلتي الصغيرة
ح نفسي أبدا ً ، ك الن ،لن أسام َ العزيزة ،إذا خسرت ِ
سوف أموت في الحال .لم يُعد هناك أي مكان
ن تتخّلي عن كل ذلك " . للغرور ،يا ملكي – يجب أ ْ
ت تبكي ، تكّلمت إيزابل بقناعة راسخة حتى أنها بدأ ْ
ن
ن أجاريها على أ ْ ت أنه سيكون من الفضل أ ْ وفهم ُ
تأخوض جدال ً معها .والحق أقول ،لقد انزعج ُ
ت بعضا ً من تلك المور ت قد شهد ُ كثيرا ً .لكني كن ُ
ن تأتي على ِذكرها ، التي لم يكن في استطاعتها أ ْ
ولم يكن لدي الكثير أقوله لناقضها .وأول شيء
شعري – وكان عمل ً شنيعا ُ . ن أعالجه هو َ يأ ْ
كان عل ّ
ن أفعله هو أل أنفجر بالبكاء ، كل ما استطعت أ ْ
ن أتحّلى وإيزابل تقص شعري ،وتطلب مني أ ْ
71
بالشجاعة ،ومع ذلك كانت ترتجف كلها طوال
ي
ن أموم ّ ن تنتحب تعبيرا ً عن حز ٍ تأ ْ الوقت ،وأوشك ْ
قاتم ،وزادت المور سوءا ً .وكان فرديناند حاضرا ً
عين أيضا ً ،طبعا ً ،جالسا ً في زاويته ،معقود الذرا َ
ل قاس .ضحك على صدره ُ ،يراقب المشهد بانفصا ٍ
عندما سقط كرسّيي على الرض ،ولما استمّر في
ت أبدو أقرب شبها ً بحاجز ، السقوط قال إني بدأ ُ
ن تفعل إليزابل هذا بي ،الن بعد مضحكا ً أ ّ وأليس ُ
ف فرجها وأصبح كقطعة من خشب .وكانت ج ّ
س في أذني " ل ُتصغي إليه ،يا ملكي . إيزابل تهم ُ
ل تولي أيا ً من الشياء الرهيبة التي يقولها أي انتباه
" .ولكن كان صعبا ً تجاهله ،صعبا ً عدم التأّثر
بضحكه الخبيث .وعندما انتهت إيزابل أخيرا ً ،
ن ألقي نظرة . ت مني أ ْ أعطتني مرآةً صغيرة وطلب ْ
ت شديدة مرعبة .لقد بدو ُ اللحظات الولى كانت ُ
القبح حتى أني لم أتعّرف على نفسي .وكأني
ت في م بي ؟ قل ُ ت إلى شخص آخر .ماذا أل ّ تحول ُ
نفسي .أين أنا ؟ ثم ،في تلك اللحظة بالذات ،
انفجر فرديناند من جديد ضاحكا ً ؛ كان ممتلئا ً
بالنكاية ،وكان ذلك فوق طاقتي على احتماله .
ت ُأصيب وجهه بها . ت بالمرآة عبر الغرفة و ُ
كد ُ أطح ُ
مّرت من فوق كتفه ،وضربت الحائط ،وسقطت
شمة .اكتفى فرديناند للحظة أو على الرض مته ّ
ت ذلك ،ومن دق أني فعل ُ مص ّاثنتين بفغر فمه ،غير ُ
ت إلى إيزابل ،وجسمه كله يهتز من فرط ثم التف َ
ت هذا ؟ الغضب ،ويكاد يفقد عقله ،وقال " أرأي ِ
ن
تأ ْ ن تقتلني ! العاهرة القذرة حاول ْ تأ ْ
لقد حاول ْ
مستعدة للتعاطف ن إيزابل لم تكن ُ تقتلني ! " لك ّ
ت أخيرا ً .ومنذ ذلك معه ،وبعد بضع دقائق سك َ
72
تضف كلمة واحدة حول المر ،لم يأ ِ الحين لم ي ُ ِ
شعري أبدا ً . على ِذكر موضوع َ
ن أتعايش مع الوضع . تأ ْ في نهاية المر ،تعّلم ُ
فكرة هي التي أزعجتني ،ولكن عندما ن ال ِ
لك ّ
ت فيه ،لم يبد ُ سيئا ً جدا ً .لم يكن في نّية انخرط ُ
ن أبدو أشبه بصبي – ل أقنعة ، إيزابل ،أساسا ً ،أ ْ
ي
صفة النثوية لد ّ ول شوارب – بل فقط لتجعل ال ِ
ت عليها .وعلى ل بروزا ً ،أو نتوءاتي ،كما أطلَق ْ أق ّ
دعاء بأني كذلك غلمّية ،وال ّ أي حال لم أكن مرة ُ
ت تذكر أحمر شفاهي الن لم يكن لينجح .أن َ
والقراط الفاضحة ،وتنانيري الضيقة والحواشي
ن أرتدي وأقوم بدور تأ ْ الضئيلة .ولطالما أحبب ُ
مغرية الرجال ،حتى ونحن أطفال .وما أرادته ُ
ت النتباه إل بأقل قدر ُ
ف ْ ن ل أل ِ إيزابل كان يعني لي أ ْ
ن الرؤوس لن تستدير نحوي كد من أ ّ ممكن ،والتأ ّ
صت شعري ،أعطتني نق ّ وأنا ماّرة .وهكذا ،بعد أ ْ
قلنسوة ،وسترة فضفاضة ،وبنطال ً من الصوف ،
وحذاًء ضخما ً – كانت قد اشترته حديثا ً لنفسها .كان
ن زوجا ً من
الحذاء واسعا ً أكثر مما ينبغي ،ولك ْ
الجوارب الكبيرة بدا أنه يقضي على مشكلة تقّرح
ن تدّثر جسمي بتلك الملبس ،أصبح الجلد .وبعد أ ْ
ثدياي وردفاي مختفية تماما ً ،بحيث لم يبقَ ما
مخّيلة قوية يشتهيه أي رجل .وكان يتطّلب المر ُ
لمعرفة ما يكمن هناك ،وإذا كان في المدينة أي
نقص فهو في المخّيلة .
ت .أستيقظ باكرا ً في الصباح وأخرج ، هكذا عش ُ
وأقضي اليام الطويلة في الشوارع ،ومن ثم أعود
ت غارقة في العمل إلى المنزل من جديد ليل ً .كن ُ
دة كر كثيرا ً في أي شيء ،ومن ِ
ش ّ بحيث ل أف ّ
73
الرهاق بحيث ل أبتعد عن نفسي وأنظر أمامي ،
وفي كل ليلة بعد تناول طعام العشاء لم أكن أرغب
إل بالنهيار في ركني والستغراق في النوم .ولسوء
ت تغييرا ً في الحظ ،كانت واقعة المرآة قد أحدث َ ْ
محتمل ، فرديناند ،وازداد التوّتر بيننا وكاد يغدو غير ُ
بالضافة إلى أنه أصبح يمضي أيامه في المنزل مع
تإيزابل – مما حرمه من حّريته وعزلته – وأصبح ُ
ت قريبة منه .وأنا ل أتحدث مركز انتباهه كلما كن ُ
مر ،ول عن عمليات التنقيب الصغيرة فقط عن التذ ّ
المستمرة لكي يعرف كم كسبت من نقود أو
الطعام الذي جلبته إلى المنزل من أجل وجباتنا .كل
،فهذا كله كان متوّقعا ً منه .المشكلة كانت أفظع
من ذلك ،وأشد ّ تدميرا ً في الحنق الكامن وراءها .
ت فجـأةً متنّفس فرديناند الوحيد ، فقد أصبح ُ
السبيل الوحيد للهروب من إيزابل ،ولنه كان
ذبه ،خرج عن ن وجودي بحد ّ ذاته كان ُيع ّ يمقتني ،ل ّ
ي .كان مسلكه في جعل المور شديدة الصعوبة عل ّ
ب حياتي بكل ما في الكلمة من معنى ، ُيخّر ُ
ي ألف ن عل ّ وُيضايقني في كل فرصة ُتتاح له ،و يش ّ
تهجوم ٍ صغير بحيث ل أجد سبيل ً لتفاديها .وأدرك ُ
كر إلى أين سيؤدي بي ذلك كله ،ولكن مب ِت ُفي وق ٍ
ل شيء هّيأني له ،ولم أعرف كيف أدافع عن
نفسي .
ت تعرف كل شيء عني .تعرف ما يحتاجه أن َ
جسمي وما ل يحتاجه ،أي صراخ وجوع يكمن فيه .
ن كهذا . ن هذه الشياء ل تختفي ،حتى في مكا ٍ إ ّ
ل هنا ، ص النغماس في الفكار أق ّ ن ُفر َ يأ ّ بديه ّ
مستعدا ً ن تكون ُ وعندما تسير في الشوارع يجب أ ْ
ف
ن ُتطّهر ذهنك من كل انحرا ٍ حتى الصميم ،أ ْ
74
ي – ومع ذلك ،هناك لحظات تكون خللها جنس ّ
وحدك ،في السرير ليل ً مثل ً ،والعالم من حولك
كله ظلم ،وُيصبح صعبا ً أل ّ تتخّيل نفسك في أوضاع
متنوعة .ل أنكُر مدى شعوري بالوحدة وأنا في
ك إلى ن تدفع َ ن مثل هذه الشياء يمكن أ ْ زاويتي .إ ّ
مرّوع ، الجنون أحيانا ً .تشعر بوجع داخلك ،وجع ُ
صاخب ،وإذا لم تفعل شيئا ً لعلجه ،لن ينتهي .
ط نفسي ،ولكن ن أضب َ تأ ْويعلم الله أني حاول ُ
أحيانا ً لم تكن تبقى لديّ قدرة على الحتمال ،أحيانا ً
ي
ض عين ّ ت أغم ُ ن قلبي سينفجر .كن ُ بأ ّت أحس ُ كن ُ
ن دماغي يكون في لك ، النوم على نفسي بر وُ
أج
ّ ِ
ج بصور النهار الذي حالة اضطراب شديد ،يض ّ
ي بصخب الشوارع والجساد ، ل عل ّ عشته توا ً ،ينها ُ
ن في ذهني لكي تزيد ومهانات فرديناند ل تزال تر ّ
ن
في التشويش التام ،ويرفض النوم ببساطة أ ْ
يأتيني .والشيء الوحيد الذي كان له أي تأثير هو
الستمناء .اغفر لي فظاظتي ،لكني ل أرى أي
ف لنا ل شائع وكا ٍ معنى لتصّنع الكلمات .إنه ح ٌ
جميعا ً ،وفي ظل الظروف الراهنة ،لم يكن لد ّ
ي
ت أبدأ بلمس جسدي ،بل الكثير من الخيارات .كن ُ
ن يديّ تنتميان إلى شخص وعي تقريبا ً ،متظاهرة بأ ّ
بي يديّ بخّفة على بطني ،وأداع ُ ك راحت ّ آخر -وأدل ّ ُ
يض على ردف ّ داخل فخذيّ ،بل إني أحيانا ً أقب ُ
ن هناك اثنين مني ك اللحم بأظافري ،وكأ ّ وأدع ُ
محزنة ن هذا مجرد لعبة ُ ونحن متعانقان .أنا أفهم أ ّ
ن جسدي مع ذلك كان يستجيب لتلك قليل ً ،لك ّ
معُ في الخدع ،وأخيرا ً أشعُر بسيل الرطوبة يتج ّ
السفل ،ويقوم الصبع الوسط من يدي اليمنى
عظامي على بالباقي .وعندما أنتهي ،يسري في ِ
75
ن أستغرق أخيرا ً ي إلى أ ْ قل على جفن ّ الفور وهن ُ ،يث ِ
في النوم .
ربما كان كل شيء على ما يرام وجيد .المشكلة
هي أنه في مثل تلك الحياء المزدحمة كان من
لت في ليا ٍ ل صوت ،ولبد أني زلل ُ الخطر إصدار أق ّ
ن تفلت مني في ت لهة أو همسة أ ْ معّينة ،وسمح ُ
تاللحظة الحاسمة .أقول هذا لني سرعان ما عِلم ُ
ي ،ومع شخص صاحب ن فرديناند كان يستمع إل ّ أ ّ
عقل خسيس مثله ،لم يستغرق منه طويل ً ليفهم
صبغةكنه المر .وشيئا ً فشيئا ً أضحت إهاناته ذات ِ
مزاح القبيح . جنسية أكثر – وابل ً من التلميحات وال ٌُ
فتارة ً يدعوني عاهرة حقيرة قذرة الخيال ،وتارة
يقول ل رجل يرغب في لمس حيوان بارد مثلي –
ي من كل وكل عبارة تناقض سابقتها ،تنهال عل ّ
جانب ،وبل توقف .كان أمرا ً حقيرا ً من أوله إلى
ت أنه سينتهي نهاية سيئة علينا كلنا . آخره ،وعرف ُ
كانت هناك بذرة مستقّرة في عقل فرديناند ،ول
سبيل إلى إخراجها .كان يستجمع شجاعته ،وُيسرع
ت أنه في كل يوم يزداد وقاحة ، في العمل ،ولحظ ُ
طة .ويكتسب ثقة في النفس ،وُيكّرس نفسه للخ ّ
ت قد مررت بمثل تلك التجربة مع جامع المكوس كن ُ
ن تلك جرت في وضح النهار، في بولفار ملدون ،لك ّ
ت قادرة على الفرار منه .وتلك قصة مختلفة . وكن ُ
ن شيئا ً حدث هناك ، كانت الشقة صغيرة جدا ً ،ولو أ ّ
ن النوملوقعت في الفخ .ولم أدرِ ماذا أفعل ،ل ّ
جافاني من جديد .
ت أي شهر .أذكُر كان الوقت صيفا ً ،نسي ُ
الحرارة ،واليام الطويلة التي تغلي في الدم ،
والليالي الخالية من الهواء .كانت الشمس تغرب ،
76
مثقل ً بالروائح معّلقا ً فوقك ُ ،
ن الهواء الحاّر يبقى ُ لك ّ
مل .في واحدة من تلك الليالي قام التي ل ُتحت َ َ
فرديناند أخيرا ً بحركته – قاطعا ً أرض الغرفة على
مقتربا ً من سريري بتسّلل أحمق .ولسباب أربع ،و ُ
ت ل أزال أجهلها ،زال رعبي كله لحظة لمسني .كن ُ
مستلقية هناك في الظلم ،أتظاهُر بأني نائمة ،ل ُ
ن أقاومه أم أكتفي بالصراخ ن كان يجب أ ْ أدري إ ْ
بأعلى صوتي .وفجأة تجّلى لي أنه يجب أل أفعل أيا ً
من المرين .وضعَ فرديناند يده على ثديي وأصدَر
ة صغيرة شبه مكبوتة ،واحد من تلك الصوات ضحك ً
النيقة ،الخسيسة التي ل تصدر إل عن أناس هم
ت بدّقة عداد الموتى ،وفي تلك اللحظة عرف ُ في ِ
ماذا سأفعل .كان في تلك المعرفة يقين عميق لم
أشعر به من قبل .لم أقاوم ،ولم أصرخ ،ولم
ي من أي جزء مني .بدا أّنه لم ل ذات ّ يصدر أي رد ّ فع ٍ
م .أعني ل شيء على الطلق . يُعد أي شيء يه ّ
كان هناك هذا النوع من اليقين في داخلي ،وقد
تمر كل شيء آخر .ولحظة لمسني فرديناند عرف ُ د ّ
أني سأقتله ،وكان يقيني من القوة ،والسطوة ،
ما أضمره ،لكي يفهم ت أتوقف وأخبره ع ّ حتى كد ُ
رأيي فيه ولماذا يسـتحق الموت .
ب بجسمه مني ،متمددا ً على طول حافة اقتر َ
ك وجهه الخشن على عنقي ،وهو الحشّية ،وبدأ يح ّ
م لي كيف أنه كان على حق طوال الوقت ، ُيغمغ ُ
ونعم ،سوف يقوم بمضاجعتي ،ونعم ،سوف أحب
كل لحظة منها .كانت أنفاسه تفوح برائحة اللحم
مقدد والّلفت الذي كنا قد تناولناه على العشاء ، ال ُ
وكان كلنا يتصّبب عرقا ً ،وجسدانا مكسوان بالعرق
.كان الهواء خانقا ً في تلك الغرفة ،وساكنا ً تماما ً ،
77
وكلما لمسني شعرت بالماء المالح ينزلقُ على
تبشرتي .لم أفعل أي شيء لوِقفه ،واكتفي ُ
دد منهكة وبل شغف ولم أُفه بأي كلمة .وبعد بالتم ّ
ت بذلك ،شعرت به قليل ،بدأ ينسى نفسه ،شعر ُ
تيغزو جسدي ،ومن ثم ،عندما بدأ يعتليني ،أطبق ُ
ت ذلك بخّفة في أول أظافر يديّ حول عنقه .فعل ُ
ت
ث معه ،وكأني استسلم ُ متظاهرة ً بأني أعب ُ المر ُ ،
أخيرا ً لسحره ،سحره الذي ل ُيقاَوم ،ولهذا السبب
ت أضغط ،فصدر عن لم يشك في شيء .ثم بدأ ُ
حنجرته صوت صغير حاد ّ ومكتوم .في تلك
ن باشرت الضغط ، اللحظة الولى بعد أ ْ
غ، ت بسعادة غامرة ،بإحساس طا ٍ شعر ُ
ة داخلّية ت عتب ً جامح ،بالنشوة .وكأني اجتز ُ
م مختلفا ً ،مكانا ً من ح العال ُ ،وفجأةً أصب َ
ت
البساطة التي ل تخطر على بال .أغمض ُ
ت أشعر كأني أطير في ي ،ومن ثم بدأ ُ عين ّ
ه
ل ل متنا ٍ ك في أرجاء لي ٍ ل ،أتحّر ُ ء خا ٍ فضا ٍ
من الظلم والنجوم .وطوال مدة قبضي
ت خارج حّرة .كن ُت ُ على عنق فرديناند ،كن ُ
جاذبية الرض ،خارج الليل ،خارج أي تفكير
في نفسي .
ثم كان الجزء الغرب .ففي اللحظة التي بدا
ن بضع لحظات من الضغط سوف فيها واضحا ً لي أ ّ
ت سراحه .ول دخل لذلك ُتنهي المر ،أطلق ُ
بالضعف ،أو بالشفقة .كانت قبضتي حول عنق
فرديناند قوية كالحديد ،وما كان يمكن لي حركة
ن ترخيها .والذي حدث هو أني ضرب أو رفس أ ْ
ت بها .ل ت المتعة التي شعر ُ فجأة وعي ُ
أدري بأي عبارة أخرى أصفها ،ولكن عند
78
النهاية ،وأنا مستلقية على ظهري في
رج الحياة ُ
الظلم القائظ ،وأضغط ببطء لخ ِ
ت أني ل أقتله ِدفاعا ً عن من فرديناند ،فهم ُ
النفس – بل أقتله لمجّرد الستمتاع بذلك .
ت وعي فظيع ،وعي فظيع ،فظيع .ترك ُ
عنق فرديناند ودفعته بعيدا ً عني بأشد
عنف .ولم أشعر إل بالشمئزاز ،إل
بالغضب والمرارة .وكاد ل يهم أني
توقفت .المر كله كان يتعّلق ببضع لحظات
ت أفضل من ت أني لس ُ ،لكني الن أدرك ُ
فرديناند ،ولست أفضل من أي شخص
آخر .
شهقَ فرديناند شهقة هائلة وصافرة صدرت من
ي ،أشبه بنهيق حمار . رئتيه ،صوت بائس ،ل إنسان ّ
ض على حنجرته ، ذوى منهارا ً على الرض وقب َ
ب الهواء بيأس ، وصدره يجيش رعبا ً ،وهو يع ّ
ظ رذاذا ً ،ويسعل ،ويتقّيأ الكارثة على نفسه . ويلف ُ
ت تعلم ما الذي ت له " الن صرت تفهم .الن ب ّ قل ُ
يواجهك .في المرة التالية التي تحاول فيها شيئا ً
كهذا ،لن أكون شديدة الكرم "
لم أنتظر حتى يبرأ تماما ً .سوف يعيش ،وهذا
ت ملبسي على ف .ارتدي ُف ،بل أكثر من كا ٍ كا ٍ
ت
عجل وغادرت الشقة ،هابطة الد ََرج ومن ثم خرج ُ
إلى قلب الليل .حدث كل شيء بسرعة كبيرة .
ن المر ،من البداية وحتى النهاية ،لم تأ ّوأدرك ُ
ت إيزابل نائمة يستغرق أكثر من بضع دقائق .وبقي َ ْ
ت
خلل ذلك .وهذه معجزة بحد ّ ذاتها .لقد أوشك ُ
ن أقتل زوجها ،وهي مستغرقة في نومها ل ُتبدي أ ْ
حراكا ً . ِ
79
ت على وجهي مدة ساعتين أو ثلث ،ثم هم ُ ِ
ت إلى الشقة .كانت الساعة تقترب من رجع ُ
الرابعة صباحا ً ،وكان فرديناند وإيزابل نائمين في
زاويتيهما المعتادتين .وأعتقد أنه كان أمامي حتى
ن يبدأ الجنون :فرديناند الساعة السادسة قبل أ ْ
وح بذراعيه ،يرغي ب في أرجاء الغرفة ُ ،يل ّ يصخ ُ
دد الجرائم التي ارتكبتها .لم يكن هنا ويزبد ُ ،يع ّ
سبيل إلى تفادي ما حدث .الشيء الوحيد الذي لم
أكن متأكدة منه هو كيف سيكون رد فعل إيزابل
ف إلى جانبي ، عليه .وأخبرتني غريزتي أنها ستق ُ
لكنني لم أكن متأكدة .فل أحد يعلم أي ولءات
ستطفو على السطح عند اللحظة الحاسمة ،وأي
خض في الوقت الذي ل تتوقع ن تتم ّ صراعات يمكن أ ْ
ن أستعد ّ للسوأ – لِعلمي تأ ْ أبدا ً حصولها .وحاول ُ
أنه إذا سارت المور ضدي ،فسوف أخرج إلى
الشوارع من جديد في ذلك اليوم بالذات .
ت أول ً ،كعادتها .لم يكن المر إيزابل استيقظ ْ
ن آلم ساقيها تكون في العموم سهل ً عليها ،بما أ ّ
دها في الصباح ،وغالبا ً تمضي عشرون أو على أش ّ
ن تجد الشجاعة لتنهض واقفة . ثلثون دقيقة قبل أ ْ
وصباح ذلك اليوم بالذات كان شديد الوطأة عليها ،
توبينما هي تقوم بعملية استجماع ِقواها ،رح ُ
أشغل نفسي في أنحاء الشقة كالمعتاد ،في
ن شيئا ً لم يحدث :غلي ُ
ت محاولة للتصّرف وكأ ّ
ت المائدة – التزمت طعت الخبز ،وأعدد ُ الماء ،وق ّ
بالروتين اليومي .وفي فترات الصباح في المعتاد
يبقى فرديناند ناعسا ً حتى آخر لحظة ممكنة ،ل
م رائحة طبخ الثريد ن يش ّ يتزحزح من مكانه إلى أ ْ
80
على المدفأة ،ول توليه أي منا أي انتباه .كان وجهه
ت إلى أنه متجها ً نحو الجدار ،والظواهر كلها أشار ْ
ببساطة متمسك بالنوم بعناد أكثر من المعتاد .
وبالنظر إلى ما جرى له في الليلة السابقة ،بدا هذا
منطقيا ً بقدرٍ معقول ،ولم أف ّ
كر فيه .
ولكن في نهاية المر أصبح صمته جليا ً .أكملنا أنا
وإيزابل استعداداتنا المتنوعة وتهّيأنا للجلوس على
مائدة الفطار .في الحالة العتيادية ،تكون إحدانا
ت فرديناند ،ولكن في ض ْ
في ذلك الوقت قد حّر َ
نصباح ذلك اليوم لم تُفه أي منا بأي كلمة .بدا أ ّ
تنوعا ً غريبة من الترّدد يسود الجو ،وبعد قليل بدأ ُ
نأشعر بأّننا نتجّنب إثارة الموضوع عن عمد ،وبأ ّ
ن تدع الخرى تتكّلم أول ً .كانت لدي ل منا قّررت أ ْ ك ً
ن لم يكن في أسبابي للتزام الهدوء ،طبعا ً ،ولك ّ
المكان التنّبؤ بسلوك إيزابل .كان غريبا ً في صميمه
ن تغييرا ً دي وبالعصاب المتوترة ،وكأ ّ ،يوحي بالتح ّ
ت في نفسي ، مدَرك طرأ عليها .لم أفهمه .قل ُ غير ُ
مخطئة بشأن الليلة الفائتة ؛ لعلها كانت ت ُ لعلي كن ُ
ت
ل عينيها كانتا مفتوحتين ،وشاهد ْ يقظة ؛ لع ّ
المشهد القذر كله .
ت على ما ُيرام ،إيزابل ؟ " سألتها " هل أن ِ
ت ،وهي تنفحني بواحدة من ابتساماتها قال ْ
المخبولة ،الملئكية " ،نعم ،يا عزيزتي .طبعا ً
على ما ُيرام "
تن نوقظ فرديناند ؟ أن ِ ن علينا أ ْ" أل تعتقدين أ ّ
تعلمين كيف ُيصبح عندما نباشر الكل من دونه .ل
ن يعتقد أننا نسلب حصته " نريد منه أ ْ
قالت ،وهي تطلق تنهيدا ً " ،كل ،ل أعتقد أننا
ت أستمتع بهذه نريد هذا .كل ما في المر أنني كن ُ
81
اللحظة من الرفقة الممتعة .إننا نادرا ً ما ننفرد
ن المنزل الذي يشمله بنفسينا .أل تعتقدين أ ّ
الصمت يتمتع بسحرٍ خاص ؟ "
ن" نعم ،إيزابل ،أعتقد هذا .ولكن أعتقد أيضا ً أ ّ
الوقت قد حان ليقاظ فرديناند "
خرن أؤ ّ ت أحاول أ ْ " إذا أصررت .أنا فقط كن ُ
ن تكون شديدة اللحظة الحاسمة .الحياة يمكن أ ْ
الروعة ،حتى في مثل هذه الوقات .من المؤسف
كرون إل في إفسادها " ن بعض الناس ل يف ّ أ ّ
ل أي شيء للرد على تلك الملحظات لم أقُ ْ
ن شيئا ً لم يكن على ما ملّغزة .من الواضح أ ّ ال ُ
من كنهه .مشيت إلى ركن ُ
ت أخ ّ ت قد بدأ ُ
ُيرام ،وكن ُ
ت
ت القرفصاء إلى جواره ،ووضع ُ فرديناند ،وجلس ُ
ت الكتف يدي على كتفه .لم يحدث أي شيء .هزز ُ
،وعندما لم ُيبدِ فرديناند أي حركة ،قلبته على
ظهره .للوهلة الولى والثانية لم أَر أي شيء .
مضطرب انتابني فقط إحساس ،إحساس عاجل ُ
ي .هذا رجل ميت ،قلت لنفسي .فرديناند لف ّ تغلغ َ
ي هاتين .عندئذٍ فقط رجل ميت ،وأنا أنظر إليه بعين ّ
ت بالفعل وهت بتلك الكلمات لنفسي ،رأي ُ نت ّ ،بعد أ ْ
محجريهما ، حالة وجهه :عيناه الجاحظتان ،من ِ
ف المتجمد حول ولسانه البارز من فمه ،والدم الجا ّ
ن يكون فرديناند ت في نفسي ،ل يمكن أ ْ أنفه .قل ُ
ت الشقة ،ول يمكن ميتا ً .لقد كان حيا ً عندما غادر ُ
ن ُأغلق فمه ، تأ ْن تكون يداي قد سّببتا هذا .حاول ُ أ ْ
كيه كانا قد تيّبسا ،ولم أتمكن من تحريكهما . نف ّلك ّ
عظام وجهه ،ولم تكن ن أكسر ِ ن ذلك كان يعني أ ْ ل ّ
لديّ القوة على فعل ذلك .
82
ت هادئ " إيزابل ،أعتقد أنه ُيستحسن ت بصو ٍ قل ُ
ن تأتي إلى هنا " أ ْ
ش صوتها أي ت " أهناك خطب ؟ " .لم ُيف ِ سأل ْ
ن
ن كانت تعلم ما الذي أنوي أ ْ شيء ،ولم أعرف إ ْ
أريها .
ي وانظري بنفسك " " فقط تعال ّ
ت إيزابلكما كانت قد اضطرت مؤخرا ً ،جّر ْ
قدميها عبر أرضية الغرفة وهي ُتمسك كرسّيها
ت إلى زاوية فرديناند ،قامت ليدعمها .وعندما وصل ْ
بمناورة لتعود إلى الجلوس على كرسيها ،وتوقفت
لتستعيد أنفاسها ،ومن ثم نظرت أسفل ً إلى الجثة .
ت بالتحديق إليها ، على مدى بضع لحظات اكتَف ْ
م ،ل ُتبدي أي مشاعر من أي نوع .ثم ، بتجّرد تا ّ
ن ُتثير أي إيماءة أو ُتصدر أي ضجيج ، فجأةً ،ودون أ ْ
ت الدموع من عينيها ،بل وعي ، ت تبكي – انهمر ْ بدأ ْ
كما بدا ،وجرت على وجنتيها .كما يبكي الطفال
أحيانا ً – بل نشيج أو لهاث :بل ماء يجري باستمرار
من حنفّيتين متطابقتين .
قالت ،ول زالت تنظر إلى أسفل إلى الجثة " ،
ن فرديناند سيفيق بعد الن " .وكأّنها ل ل أعتقد أ ّ
ن عينيهان تنظر إلى أي شيء آخر ،وكأ ّ تستطيع أ ْ
مثّبتتين إلى تلك البقعة إلى البد . ستبقيان ُ
" ماذا تعتقدين أنه حصل ؟ "
" الِعلم عند الله وحده ،يا عزيزتي ،ولن أحاول
من " ن أخ ّ أ ْ
" لبد أنه مات أثناء نومه "
ن هذا كلم معقول .لبد أنه مات " نعم ،أعتقد أ ّ
أثناء النوم "
" كيف تشعرين ،إيزابل ؟ "
83
" ل أعلم .ل زال الوقت مبكرا ً جدا ً لعرف .أما
م أنه قول فظيع ، الن فأعتقد أني سعيدة .أعل ُ
ن أعتقد أني سعيدة جدا ً " ولك ْ
ت تستحقين القليل " إنه ليس قول ً فظيعا ً .أن ِ
من السكينة كأي إنسان آخر "
" كل ،يا عزيزتي ،إنه فظيع .ولكن ل حيلة لي
ن ل ُيعاقبني
ن ُيسامحني الله .آمل أ ْ فيه ! آمل أ ْ
على ما أشعر به الن "
84
انتباهها .كانت شديدة النهماك في عملها ،وأش ّ
ك
في أنها كانت حتى تعلم بوجودي معها .وأثناء عملها
كانت ل تتوقف عن التكّلم مع فرديناند ،تؤنبه
ن يسمعها ن في استطاعته أ ْ بصوت ناعم ُ ،تثرثُر وكأ ّ
،وكأّنه ُيصغي إلى كل كلمة قالتها .ول أعتقد أنه
كان لدي أي خيار آخر ،بتكشير الموت المرعب
ن أدعها تتكّلم .على أي المرتسم على وجهه ،غير أ ْ
حال كانت تلك فرصتها الخيرة ،وللمرة الول لم
يكن في وسعه عمل شيء لسكاتها .
استمرت في عملها حتى نهاية الفترة الصباحية –
شط شعره ،وتزيل الُنسالة عن سترته ،وترّتبه تم ّ
وُتعيد ترتيبه وكأنها تعتني بدمية .وعندما انتهت أخيرا ً
ت مع ن نقرر ماذا سنفعل بالجثة .كن ُ ،كان علينا أ ْ
حمل فرديناند والنزول به الدرج وتركه في الشارع ،
ن هذا تصرف غاية في القسوة تأ ّ ن إيزابل شعر ْ لك ّ
ل ،كما قالت ،سوف نضعه في عربة .على الق ّ
السلب وندفعه عبر المدينة إلى أحد مراكز
دة أسباب .أول ً ،فرديناند ت هذا لع ّ التحويل .عارض ُ
ن نقله خلل كان شديد الضخامة ،وتوصلنا إلى أ ّ
ت انقلب الشوارع ينطوي على مخاطرة .وتخّيل ُ
العربة ،وتراءى لي فرديناند يسقط منها ،ثم
ن
طفهما اللصوص .والهم هو أ ّ فرديناند والعربة ُيخت َ َ
إيزابل لم تكن تقوى على القيام بمثل ذلك العمل ،
ي. ن تتسّبب لنفسها بأذى حقيق ّ ت قلقة من أ ْ وكن ُ
نويمكن ليوم طويل تقضيه سيرا ً على قدميها أ ْ
يتسّبب بتدمير البقية الباقية من صحتها ،ولن
ت. سل ْ أوافقها ،مهما بكت وتو ّ
ل رديء .لقد بدا معقول ً أخيرا ً ،توصلنا إلى ح ٍ
تماما ً في ذلك الوقت ،ولكن عندما أستعيد ذكراه
85
الن ُ ،يذهلني بأنه شديد الغرابة .فبعد الكثير من
ن نجّر فرديناند إلى السطح ، التوتر والترّدد ،قّررنا أ ْ
ن نجعله يبدو أشبه ومن ثم نرميه منه .والهدف هو أ ْ
ن فرديناند ل ل الجيران سيظنون أ ّ بقافز .على الق ّ
زال يتمّتع بشيء من الروح المقاتلة ،كما قالت
محّلق فوق إيزابل .سوف ينظرون إليه وهو ُ
السطح ويقولون لنفسهم هذا رجل يتحّلى
ل المسائل بنفسه .ولم يكن من بالشجاعة ليح ّ
الصعب إدراك كم أعجبتها تلك الفكرة .وكما قلت ،
كنا سنتظاهر ،في قرارتنا ،أننا نرميه من على متن
حارة : سفينة .فهذا ما يفعلون عندما يموت أحد الب ّ
ت إيزابل هذه م .نعم ،أحب ّ ْ يرميه زملؤه إلى الي ّ
الفكرة كثيرا ً .سوف نصعد إلى السطح ونتظاهر
بأننا واقفتان على سطح سفينة .وسيكون الهواء
بمثابة المياه ،والرض ستكون قاع المحيط .
حار ،ومنذ ذلك الحين وسيحظى فرديناند بجنازة ب ّ
محكمة إلى درجة طة ُ خ ّ
سينتمي إلى البحر .كانت ال ِ
دد فرديناند ليرتاح أنها أسكتت كل نقاش .سوف يتم ّ
ملكا ً لسماك القرش . في القاع ،وأخيرا ً سُيصبح ُ
لسوء الحظ ،لم يكن المر بسيطا ً كما بدا .فقد
كانت الشقة تقع في أعلى المبنى ،ولكن لم يكن
هناك د ََرج لبلوغ السطح .والسبيل الوحيد إليه كان
سّلم ضّيق يؤدي إلى فتحة في السقف – ما يشبه ُ
الباب المسحور يكن فتحه بدفعه نحو العلى من
سّلم يتألف من عدد من الدرجات الداخل .وكان ال ُ
ن هذا ول يعلو أكثر من سبعة أقدام أو ثمانية ،لك ّ
كان يعني أّنه يجب حمل فرديناند إلى أعلى بذراٍع
سك للتوازن .ولم ن الخرى سوف تتم ّ واحدة بما أ ّ
تدم إيزابل الكثير من العون ،وهكذا اضطرر ُ تق ّ
86
ن أدفع من تأ ْ إلى تنفيذ المر كله وحدي .حاول ُ
ن أشد ّ من أعلى ؛ لقد كان تأ ْالسفل ،ثم حاول ُ
أثقل ،وأضخم ،وعديم الكتلة بالنسبة إلى قدرتي
على معالجته ،وهناك في عّز قيظ الصيف
ي ،لم أفهم كيف الملتهب ،والعََرق يقطر داخل عين ّ
ن كنا سنصل إلى لإ ْ ت أتساء ُسأنجز المهمة .وبدأ ُ
النتيجة نفسها إذا جررنا فرديناند وأعدناه إلى الشقة
ودفعناه خارج النافذة .طبعا ً ،لن يكن هذا الحل
دراميا ً كالول ،ولكن في ظل الظروف السائدة بدا
ت على الستسلم ، بديل ً مقبول ً .وعندما أوشك ُ
ف فرديناند بقطعة ت ليزابل فكرة .سوف ُنغل ّ ُ خطر ْ
قماش ،كما قالت ،ثم نربط هذه بقطعة أخرى
ونستخدمها كحبل نرفع بواسطته الحمل .وهذه
لأيضا ً لم تكن تلك مسألة بسيطة ،ولكن على الق ّ
لم أكن مضطرة إلى الرتقاء والحمل في وقت
ت فرديناند على ت إلى السطح ورفع ُ واحد .انتقل ُ
دفعات .وأخيرا ً وصلت الجثة إلى أعلى ،وإيزابل
ن الجثة واقفة في السفل ،تعطي توجيهاتها بشأ ْ
ت على بطني ، وتحرص على أل تعلق .ثم انبطح ُ
ت
ت يدي إلى أسفل في الظلم ،وساعد ُ ومدد ُ
إيزابل على الرتقاء إلى السطح أيضا ً .ولن أتحدث
لت ،وعن الكوارث الوشيكة ،وصعوبات عن الز ّ
ت أخيرا ً خلل الفتحة وشّقت التشّبث .وعندما زحف ْ
طريقها ببطء من فوقي ،كنا نحن الثنتان
مستنزفتين حتى أننا انهرنا على السطح الحاّر ُ
المكسو بالقطران ،وبقينا بضع دقائق غير قادرتين
ل حركة .وأذكر وأنا على النهوض ،وعلى التيان بأق ّ
متمددة على ظهري وأنظر عاليا ً إلى السماء ،
معتقدة أنني أوشك أطفو خارج جسدي ،وأكافح ُ
87
طمة تماما ً مح ّ كي ألتقط أنفاسي ،وأشعر بأني ُ
بالشمس الساطعة ،اللذعة بجنون .
لم يكن المبنى عاليا ً جدا ً ،لكنها كانت المرة
الولى التي أعلو فيها كل تلك المسافة عن الرض .
وبدأ النسيم الخفيف ُيحّرك الشياء جيئة وذهابا ً ،
تي وألقي ُ ت أخيرا ً واقفة على قدم ّ وعندما نهض ُ
تهل ُ نظرة إلى العالم المختلط في السفل ،ذ ُ ِ
ت المحيط – بعيدا ً على الحافة ، عندما اكتشف ُ
كشريط من الضوء الرمادي-الزرق يخفق من بعيد .
ن أشاهد المحيط هكذا ،ول كان شيئا ً غريبا ً أ ْ
ي. ن أعّبر لك عن الثر الذي تركه عل ّ أستطيع أ ْ
فللمرة الولى منذ وصولي ،أحصل على برهان
ن المدينة ليست ممتدة في كل مكان ،على على أ ّ
ن هناك عوالم أخرى ن ثمة شيئا ً موجودا ً بعدها ،وأ ّ أ ّ
ق من إلى جانب هذا .كان أشبه بالرؤيا ،كدف ٍ
ن التفكير فيه كاد ي ،حتى أ ّ الوكسجين إلى رئت ّ
ت أسطح المنازل واحدا ً بعد ُيصيبني بالدوار .شاهد ُ
محرقات ومن ت الدخان يرتفع من ال ِ آخر .شاهد ُ
ت انفجارا ً صادرا ً من شارٍع مصانع الطاقة .سمع ُ
ت الناس يسيرون في السفل ،من مجاور .شاهد ُ ُ
ت بالريح صغر بحيث ل يبدون بشرا ً .أحسس ُ شدة ال ِ ِ
ت رائحة العفن في الهواء . س وجهي وشمم ُ تلم ُ
كل شيء بدا غريبا ً لعيني ،وبينما أنا واقفة
هناك على السطح بجوار إيزابل ،ول أزال
شدة الرهاق بحيث أنطق بأي كلمة ، من ِ
ت فجأةً بأني ميتة ،ميتة مثل فرديناند شعر ُ
ببذلته الزرقاء ،ميتة كالذين ُيحرقون
ويتلشون على هيئة دخان عند حواف
ت منذ ت أشد هدوءا ً مما كن ُ المدينة .أصبح ُ
88
زمن بعيد ،بل في الواقع سعيدة تقريبا ً ،
لكنها سعادة من النوع غير المحسوس ،
ن تلك السعادة ل دخل لها بي .ثم ،وبل وكأ ّ
ت أبكي – أعني بكاًء حقيقيا ً ،أنشج مقدمات ،بدأ ُ
طعة ،والهواء يخرج من أعماق صدري ،بأنفاس متق ّ
ت
ن كن ُ مني مخنوقا ً – أصرخ بطريقة لم أفعلها منذ أ ْ
ت
وقتني إيزابل بذراعيها ،وأبقي ُ طفلة صغيرة .ط ّ
وجهي مدفونا ً في كتفها مدة طويلة ،وأنا أجهش
من أعماق قلبي من دون أي سبب .لم أدرِ من أين
ت كل تلك الدموع ،ولكن على مدى أشهر عديدة أت ْ
ت أعيش بعد ذلك لم أكن متمالكة نفسي .بقي ُ
ن إلى آخر ،ولكن قل من مكا ٍ فس ،وأتن ّ وأتن ّ
لم أتمكن من الفرار من التفكير في أني
ن ُيعيدني إلى ميتة ،في أنه ل شيء يمكنه أ ْ
الحياة من جديد .
وبعد قليل عدنا إلى عملنا على السطح .حينئذٍ
ت متأخر من بعد الظهيرة ، كنا قد أصبحنا في وق ٍ
وكان الحّر قد بدأ ُيذيب القطران ،ويجعله على
شكل وسادة سميكة ،دبقة .وخلل عملية رفع
سّلم ،لم تكن بذلته طّيعة ، فرديناند إلى أعلى ال ُ
ت إيزابل في وحالما أزلنا عنه قطعة القماش ،خاض ْ
عملية أخرى طويلة من الترتيب والعداد .وعندما
ت إيزابل حانت أخيرا ً لحظة حمله إلى الحافة ،أصّر ْ
على وجوب جعله معتدل ً ،وإل ضاع الهدف من
ن فرديناند قافز ، مأ ّ ن نخلق وهْ َ اللغز .كان علينا أ ْ
كما قالت ،والقافز ل يزحف ،بل يسير بجرأة إلى
خ عاليا ً .ولم يكن من حافة الهاوية ورأسه شام ٌ
سبيل لمجادلة ذلك المنطق ،وهكذا أمضينا عدة
دقائق بعد ذلك ونحن نصارع جسد فرديناند
89
ن أوقفناه بشكل ده إلى أ ْ
الخامل ،ندفعه ونش ّ
مهزوز على قدميه .كان فصل ً هزليا ً صغيرا ً
وشنيعا ً ،أؤكد لك .كان الميت فرديناند واقفا ً بيننا ،
يتذبذب كدمية عملقة بنابض – شعره يهب مع الريح
،وبنطلونه ينزلق إلى أسفل ردفيه ،وذلك التعبير
المذهول ،المرعوب ل يزال مرتسما ً على وجهه .
وأثناء سيرنا به نحو زاوية السطح ،كانت ركبتاه
تنثنيان وتنجّران ،وحين وصلنا إلى هناك كان حذاءه
قد ن ُزِعَ .ولم تتحّلى أي منا بالشجاعة الكافية
ن هناك كد من أ ّ للقتراب من الحافة ،وهكذا لم نتأ ّ
أحدا ً في الشارع ليشهد ما حدث .وعلى مسافة
نحو ياردة من الحافة ،ولم نجرؤ على القتراب أكثر
ت واحد لكي ُنزامن بين من ذلك ،رحنا نعد ّ في وق ٍ
جهدينا ومن ثم ندفع بفرديناند دفعة واحدة قوية ،
وارتددنا نحو الخلف على الفور لكي ل يحملنا الزخم
معه .أول ً ضرب بطنه الحافة ،مما جعله يقفز قليل ً
ت أصغي إلى ،ومن ثم انهار .وأذكُر أني رح ُ
صوت ارتطام الجثة على الرصيف ،لكني
لم أسمع إل صوت نبضي ،صوت قلبي
ض في رأسي .وكانت تلك هي آخر مرة نرى ينب ُ
فيها فرديناند .ولم تنزل أي منا إلى الشارع طوال
ما تبقى من ذلك النهار ،وعندما خرجت في صباح
اليوم التالي لباشر جولتي مع العربة ،كانت جثة
فرديناند قد اختفت ،مع كل ما كان يرتدي .
90
فرديناند – ل عن حياته ،ول عن موته ،ول عن أي
ن إيزابل قددق أ ّ ن أص ّ شيء .كان صعبا ً عل ّ
يأ ْ
استجمعت ِقواها أو شجاعتها لقتله ،ولكن كان ذلك
ي .وفيهو التفسير الوحيد المفهوم بالنسبة إل ّ
ت أقع فريسة غواية سؤالها عن عدة كد ُ مناسبات ِ
تلك الليلة ،لكني لم أتمكن من دفع نفسي إلى
ن إيزابل وحدها ، فعل ذلك .كان ذلك بصورة ما شأ َ
ن لي وإذا لم ترغب هي بالتحدث عنها ،لم أشعر أ ّ
الحق في سؤالها .
كد كان ما يلي :ل أحد منا كانت آسفة والمؤ ّ
على رحيله .وبعد الجنازة التي أقمناها على السطح
ت كل متعّلقاته وبعُتها ،حتى بيوم أو اثنين جمع ُ
نماذج السفن وأنبوب الصمغ الذي بقي نصفه ،ولم
تُفه إيزابل بأي كلمة .فبالنسبة إليها حان الوقت
ن المور لم لفساح المجال لحتمالت جديدة ،لك ّ
تجرِ في هذا الّتجاه .فقد واصلت صحتها تدهورها ،
ولم تُعد قادرة حقا ً على الستمتاع بالحياة من دون
فرديناند .في الحقيقة ،بعد ما حدث في ذلك اليوم
على السطح ،لم تغادر الشقة أبدا ً .
ن
ن إيزابل تحتضر ،ولكن لم أعتقد أ ّ ت أعلم أ ّ
كن ُ
ذلك سيحدث بسرعة .بدأ المر بعجزها عن المشي
ن لم ،ومن ثم ،شيئا ً فشيئا ً ،انتشر الضعف ،إلى أ ْ
تعد فقط ساقاها هما العاجزتان عن الحركة ،بل
كل شيء بدءا ً من ذراعيها نزول ً على طول عمودها
الِفقري ،وأخيرا ً حتى حنجرتها وفمها .كان نوعا ً من
تصّلب النسجة ،كما أخبرتني ،ولم يكن له أي
دتها قد ماتت بالمرض نفسه قبل علج .كانت ج ّ
زمن بعيد ،وكانت إيزابل تشير إليه ببساطة بكلمة
" النهيار " أو " التحّلل " .وكان في استطاعتي أ ْ
ن
91
أحاول التخفيف عنها ،ولكن فيما عدا ذلك لم يكن
في المستطاع فعل أي شيء .
مضطرة إلى ت ُ
أما السوأ من ذلك فهو أني بقي ُ
ب جو ِ مضطرة إلى الستيقاظ باكرا ً و َ ت ُ العمل .كن ُ
الشوارع ،بحثا ً عما أستطيع أن أعثر عليه .ولم أعد
ن أجد طراد أ ْ ي با ّ أقوم به بحماس ،وأصبح صعبا ً عل ّ
كأ ،تتوزع أفكاري في ت دائما ً أتل ّشيئا ً ذا قيمة .كن ُ
جهة ،وخطواتي في جهة أخرى ،عاجزة عن القيام
تبأي حركة سريعة أو واثقة .ومرارا ً وتكرارا ً تعّرض ُ
للضرب على أيدي صائدين آخرين .كانوا يبدون
كأنهم يظهرون من العدم ويختطفون الغرض حالما
ت إلى قضاء م بالتقاطه .وهذا يعني أني اضطرر ُ أه ّ
المزيد فالمزيد من الوقت خارج المنزل لجمع
ي فكرة أنه نصيبي ،وطوال الوقت كانت تغير عل ّ
تن أكون في المنزل لعتني بإيزابل .وكن ُ يجب أ ْ
م بها أثناء غيابي ،وأنها ن خطبا ً سيل ّ دائما ً أتخّيل أ ّ
ستموت وأنا بعيدة عنها ،وكان هذا يكفي لُيشتت
دقني ،كان انتباهي ،لجعلي أنسى أداء عملي .وص ّ
ينبغي القيام بذلك العمل ،وإل ما توّفر لنا طعام
نأكله .
مع اقتراب النهاية ،أصبح من المستحيل على
ن أضعها بطريقة ت أحاول أ ْ ن تتحّرك .كن ُ إيزابل أ ْ
كم كثيرا ً آمنة على السرير ،ولكن لنها لم تعد تتح ّ
بعضلتها ،كانت دائما ً تنزلق من جديد بعد ذلك ببضع
دقائق .هذا التغيير في الوضعية كان يؤلمها ،وحتى
ضغط وزن جسمها على الرض كان يجعلها تشعر
كل إل جزءا ً من ن اللم ل يش ّ وكأنها ُتدَفن حّية .لك ّ
عظامها وصل أخيرا ً المشكلة .فانهيار عضلتها و ِ
ت إيزابل تفقد حتى نحرها ،وعندما حدث هذا بدأ ْ
92
ن تحّلل الجسم هو أمر ، القدرة على الكلم .إ ّ
ن المرء يشعر أما عندما يختفي الصوت فإ ّ
بأنه ليس موجودا ً .بدأ المر باضطراب في
النطق – أصبحت الكلمات غير مفهومة في نهاياتها ،
ت رخوة وأقل وضوحا ً ، والحرف الصامتة أصبح ْ
وأضحت تدريجيا ً أشبه بالحرف الصوتية .في أول
ل هذا كبير اهتمام .كان هناك الكثير من المر لم أو ِ
حة التي تستوجب التفكير فيها ،وحينئذٍ مل ِ ّ
المور ال ُ
ل من الجهد . ل قلي ٍكان ل يزال ممكنا ً فهمها مع بذ ِ
ن المر استمّر في التدهور ،ووجدتني أبذل جهدا ً لك ّ
ل أو بآخر أنجح ت بشك ٍ لفهم ما تحاول قوله ،وكن ُ
ن الصعوبة كانت تزداد مع مرور أخيرا ً في تبّينه ،لك ّ
ت أنها لم اليام .ثم ،في صباح أحد اليام ،أدرك ُ
تعد تتكّلم أبدا ً .كانت تقرقر وتنخر ،تحاول
ن تقول لي شيئا ً ولكنها ل تنجح إل في أ ْ
إخراج بقبقة غير مترابطة ،ضجيجا ً شنيعا ً
بدا أشبه بالعماء نفسه .كان اللعاب يقطر
من زاويتي فمها ،وأصبحت البقبقة تتدفق
مبهم من الفوضى ن حزين ٌ منها ،كلح ٍ
ت إيزابل عندما سمعت نفسها واللم .بك ْ
ت تعبير عدم التصديق في ذلك الصباح ورأ ْ
على وجهها ،ول أعتقد أني شعرت مرة
بالرثاء لي شخص يفوق شعوري نحوها
م بأكمله ب العال ُ ذ .وشيئا ً فشيئا ً تسّر َ حينئ ٍ
ق تقريبا ً أي شيء منها . ذ لم يب َ منها ،وعندئ ٍ
ن إيزابل بعد لكنها لم تكن بالضبط النهاية .ذلك أ ّ
حوالي عشرة أيام كان ل يزال فيها من القوة ما
يكفي لتكتب رسائل لي بقلم رصاص .وبعد ظهيرة
تأحد اليام ذهبت إلى أحد وكلء البعث واشتري ُ
93
دفترا ً كبيرا ً ذا غلف أزرق .كل الصفحات كانت
ن العثور على فارغة ،مما جعله غالي الثمن ،بما أ ّ
الدفاتر الجيدة شديد الصعوبة في المدينة .ولكن
ن المر لي يستحق العناء إلى أقصى مدى ، بدا أ ّ
ن كان سعر .كان الوكيل رجل ً سبقَ أ ْ مهما كان ال ِ
بيننا عمل – السيد غامبينو ،أحدب في شارع الصين
– وأذكر أني ساومته بضراوة ،وكل منا ُيماحك
الخر على مدى ما يقرب من نصف ساعة .ولم
أتوصل إلى دفعه إلى تخفيض سعر الدفتر ،ولكنه
في النهاية أضاف عليه ستة أقلم رصاص ومبراة
صغيرة بلستيكية بدون تكلفة زائدة .
والغريب أني أكتب في ذلك الدفتر الزرق نفسه
الن .ولم تتمكن إيزابل من الستفادة منه كثيرا ً
بأكثر من خمس أو ست صفحات ،وبعد وفاتها لم
ُيطاوعني قلبي على رميه .فأخذته معي في
أسفاري ،ومنذ ذلك الحين وأنا أحتفظ به دائما ً –
الدفتر الزرق ،وأقلم الرصاص الستة الصفراء ،
والمبراة الخضراء .ولو لم أجد هذه الشياء في
ك .ولكن ت الكتابة ل َ حقيبتي في ذلك اليوم ،لما بدأ ُ
الدفتر بكل صفحاته الفارغة كان موجودا ً فيها ،
ح للتقط أحد أقلم مل ّ
وفجأةً شعرت بحافز ُ
الرصاص وبدأت كتابة هذه الرسالة .وحتى الن
ن
ي:أ ْ م بالنسبة إل ّ هو الشيء الوحيد الها ّ
ونها كلها على تكون لي كلمتي الخاصة ،وأد ّ
ن يفوت الوان .إنني هذه الصفحات قبل أ ْ
أرتعش عندما أفكر في مدى اّتصال كل شيء معا ً .
ت هذه الكلمة . جد َ ْ
ولو لم تفقد إيزابل صوتها ،لما وُ ِ
ن الكلمات فرغت منها ،وهذه الكلمات الخرى ل ّ
94
ن تتذكر هذا .لول إيزابل ، خرجت مني .أريد منك أ ْ
ت بدأت . لما كان هناك أي شيء الن .لما كن ُ
ن ما قتلها هو نفسه ما أخذ منها في النهاية ،إ ّ
ت حنجرتها تماما ً عن العمل ، صوتها .وأخيرا ً كّف ْ
ن تبتلع .ومنذ ذلك ولهذا السبب لم يعد في قدرتها أ ْ
الحين فصاعدا ً ،أصبح تناول الطعام الجامد أمرا ً
غير وارد ،ولكن في نهاية المطاف أصبح مستحيل ً
ت أضع بضع ن تبتلع حتى الماء .وأصبح ُ عليها أ ْ
قطرات من الرطوبة على شفتيها لمنع فمها من
ن المر أضحى الجفاف ،ولكن كانت كلنا تعلم أ ّ
فقط مسألة وقت ،بما أنها صارت تموت من الجوع
بل مبالغة ،تحتضر بسبب انعدام التغذية .كان شيئا ً
ن إيزابل تبتسم ي ذات مرة أ ّ خّيل إل ّ فظيعا ً ،ولكني ُ
لي ،عندما حانت النهاية ،وأنا جالسة بجوارها أبلل
شفتيها بالماء .ولكن لست متأكدة من ذلك تماما ً ،
ت حينئذ ٍ تشرد بعيدا ً عني ، بما أنها كانت قد أضح ْ
نن أعتقد أنها كانت ابتسامة ،حتى وإ ْ بأ ْ ولكني أح ّ
لم تكن إيزابل تعي ما تفعل .لقد كانت تشعر
بالذنب لنها مرضت ،وبالخجل لضطرارها إلى
ن الحقيقة هي أني ي في كل شيء ،لك ّ الّتكال عل ّ
ي .وما ت في حاجة إليها بقدر احتياجها هي إل ّ كن ُ
ذ ،بعد البتسامة ،هذا إذا كانت حدث عندئ ٍ
ت تختنق بلعابها ن إيزابل بدأ ْ ابتسامة ،هو أ ّ
ن تبتلعه ، نفسه ،ولم يعد في استطاعتها أ ْ
وعلى الرغم من محاولتي تنظيف فمها
معظمه كان ينزلق عائدا ً إلى ن ُ بأصابعي ،فإ ّ
ق هناك هواء حنجرتها ،وسرعان ما لم يب َ
فسه .والصوت الذي كانت ُتصدره عندئذٍ تتن ّ
95
مجّردا ً من الكفاح هن ُ ،
مريع ،لكنه كان شديد الوَ َ
دم طويل ً . الحقيقي ،حتى أنه لم ي ُ
96
ن كل المارة ينظرون إلى العربة ، تأ ّ ت ،شعر ُ خف ُ
ن ُيهاجموني ويسرقون ويتساءلون كيف يمكنهم أ ْ
ثوب إيزابل الذي ترتدي .وبعد ذلك ،أكاد أرى
ل إلى بوابة مركز التحويل الثالث وأنتظر نفسي أص ُ
في الصف مع آخرين كثيرين – ثم ،عندما جاء
دوري ،دفعَ لي أحد الموظفين الجر المعتاد .هو
أيضا ً ألقى نظرة إلى ثوب إيزابل تتجاوز مجرد
ت أرى الدولب يدور في رأسه القذر الهتمام ،وكد ُ
ت له إنه ت النقود التي أعطانيها وقل ُ الصغير .دفع ُ
يستطيع الحتفاظ بها إذا وعد َ بحرق الثوب مع
إيزابل .وطبعا ً وافقَ – وهو ينفحني غمزة سوقّية ،
كمن يشترك في جريمة – ولكن لم يكن هناك من
سبيل لمعرفة ما إذا كان قد صدقَ في وعده .
سر سبب تفضيلي عدم أعتقد أنه لم يفعل ،مما ُيف ّ
التفكير في ذلك المر على الطلق .
بعد مغادرة مركز التحويل ،لبد أني تجولت
هدى .ولحقا ً ، ن شارد ،بل ُ بعض الوقت ،بذه ٍ
ن ما ،ربما في ممر ت في النوم في مكا ٍ استغرق ُ
ن أشعر بأني ت دون أ ْأحد البواب ،لكنني استيقظ ُ
ت في كر ُ أفضل من ذي قبل ،بل ربما أسوأ .وف ّ
ت مستعدة ت أني لس ُ العودة إلى الشّقة ،ثم قّرر ُ
ت من احتمال وجودي وحدي لمواجهة المر .فزع ُ
هناك ،من العودة إلى تلك الغرفة والجلوس هناك
ل بضع ت في نفسي ،لع ّ ول أفعل أي شيء .قل ُ
ساعات من الهواء المنعش قد تفيدني قليل ً .ثم ،
ت بالتدريج أين أنا ، ت أكثر وعرف ُ ن صحو ُ بعد أ ْ
ت أنني لم أعد أملك عربة .كان الحبل اكتشف ُ
ن العربة السّري ل يزال حول خصري بأمان ،لك ّ
ي الشارع بحثا ً ت في كل جهت ّ نفسها اختفت .نظر ُ
97
ب إلى باب ، عنها ،وأنا أندفع مسعورة منتقلة من با ٍ
محرقة أو أنها ولكن بل فائدة .إما أنني تركتها في ال ِ
ت مني أثناء نومي .كان ذهني شديد سرِقَ ْ
ُ
التشويش عندئذ ٍ فلم أعرف أي الحالتين هي
ح .هذا كل ما يتطّلبه المر .برهة أو اثنتين الص ّ
مشرقا ً ،وثانية واحدة عندما عندما يكون انتباهك ُ
ن تكون يقظا ً ،ثم يضيع كل شيء ،عملك تنسى أ ْ
سح فجأةً .لقد كانت العربة هي الشيء كله ُيم َ
الوحيد الذي أحتاج إليه لبقى على قيد الحياة ،وهل
ت لفعل أفضل من ذلك ت .وما كن ُهي قد اختف ْ
تب نفسي لو أني تناولت شفرة موسى وحزز ُ لخّر َ
عنقي .
ن الجزء كان ذلك أمرا ً سيئا ً جدا ً ،لك ّ
الغريب كان أنه لم يبدُ أني منزعجة .من
الناحية الموضوعية ،كانت خسارة العربة
كارثة ،لكنها أيضا ً منحتني الشيء الوحيد
الذي أردته سّرا ً منذ زمن بعيد :عذرا ً
للتخّلي عن التنقيب في القمامة .لقد
ت فيه إكراما ً ليزابل ،أما وقد توفيت ،لم توّرط ُ
ل جزءا ً من حياتي أتخّيل نفسي أقوم به .لقد شك ّ َ
ي ،وها قد جاءت فرصتي لكي انتهى بالنسبة إل ّ
ي
انطلق في مسار جديد ،وأتولى زمام حياتي بيد ّ
وأنجز شيئا ً بها .
مزّيفي الوثائق في ت دون توّقف إلى أحد ُ انطلق ُ
المنطقة السكنية الخامسة وُبعته إجازة التنقيب
مقابل ثلثة عشر غلوتا ً .وكانت النقود التي كسبتها
عين أو في ذلك اليوم تكفي لعالتي مدة أسبو َ
ت ،لم تكن لديّ أي ن بدأ ْثلثة ،ولكن الن وبعد أ ْ
ت إلى الشقة وأنا مملوءة نّية في التوّقف .وعد ُ
98
ن أجمعها بالخطط ،وأحصي النقود التي أستطيع أ ْ
ت طوال من بيع أغراض الشقة الزائدة .عمل ُ
الليل ،أجمع المواد وأكومها في وسط الغرفة .
رغ الصناديق ، نهبت الخزانة من كل غرض مفيد ُ ،
أف
ِ ُ
وأفتش الدراج ،ثم ،عند حوالي الساعة الخامسة
ت من مخبأ إيزابل تحت الرض غّلة صباحا ً ،انتزع ُ
ة طعام من الفضة ، غير متوقعة :سكينا ً وشوك َ
هبة الحواف من الكتاب المقدس ،وجيبا ً مذ ّ
ونسخة ُ
ن وأربعين غلوتا ً نقدا ً .وأمضيت صغيرا ً محشوا ً بثما ٍ
وم المواد القابلة للبيع في كامل اليوم التالي أك ّ
حقيبة سفر وأحملها وأمشي بها إلى مختلف فروع
وكالة التحويل في أنحاء المدينة ،أبيعُ كمية من
الغراض ومن ثم أعود إلى الشقة لعد ّ كمية
ت أكثر من ثلثمائة أخرى .وفي العموم ،جمع ُ
كل ُثلثها( ،وفجأةً غلوت )ثمن السكين والشوكة ش ّ
ت نفسي مدة خمسة أشهر أو ستة ت أني ضمن ُ وجد ُ
كاملة .وفي ظل تلك الظروف ،كان أكثر مما
طلبته .وشعرت بأني غنّية ،كأني أقف على قمة
العالم .
دم طويل ً .في تلك ن هذه الروح العالية لم ت ُ لك ّ
مرهقة من جولة البيع ، الليلة أويت إلى السرير وأنا ُ
ل من وفي صباح اليوم التالي ،بعد بزوغ الفجر بأق ّ
ساعة ،أيقظني طرقٌ مدوٍ على الباب .غريبة
السرعة التي يعرف المرء بها مثل هذه الشياء ،
ن سمعت هدير ولكن أول ما خطر على بالي بعد أ ْ
ذلك الطرق كان المل في أل يقتلوني .بل لم ت َُتح
مقتحمون ي .فتح ال ُ لي الفرصة للوقوف على قدم ّ
الباب بالقوة واجتازوا العتبة حاملين الهراوات
تالمعتادة والعصي بأيديهم .كانوا ثلثة ،وتعّرف ُ
99
على أضخم اثنين منهم وكانا من آل غوندرسن من
ن الخبر ت في نفسي ،لبد أ ّ الطابق السفلي .قل ُ
انتقل بسرعة .لم يكن قد مضى أكثر من يومين
على وفاة إيزابل ،وها هم الجيران يثبون .
قال أحدهم " انهضي ،يا فتاة .حان وقت
الرحيل .فقط اخرجي بلطف وهدوء ،ولن نؤذيك "
مل .قلت ، محِبطا ً جدا ً ،ول ُيحت َ َمته ُكان المر بر ّ
وأنا أخرج من بين الغطية " ،أعطوني بضع دقائق
ت أقصى جهدي لبقى لحزم أغراضي " .بذل ُ
ن أي بادرة عنف هادئة ،لكظم غضبي ،لِعلمي أ ّ
مهاجمتي . من جانبي لن تؤدي إل إلى ُ
قال أحدهم " حسن ،سوف نعطيك ثلث
دقائق .ولكن ل أكثر من ملء حقيبة .فقط ضعي
فيها أغراضك فيها وارحلي "
ت
ن درجة الحرارة انخفض ْ المعجزة كانت أ ّ
ت آوي ت قد أصبح ُ بصورة متطرفة أثناء الليل ،وكن ُ
إلى السرير وأنا مرتدية ملبسي كلها ،وقد وفَّر
ي ذلك إحراج ارتداء ملبسي أمامهم ،ولكن قبل عل ّ
تهذا – وهو ما أنقذ حياتي في نهاية المطاف – كن ُ
ت الغلوتات الثلثمائة داخل جيوب قد وضع ُ
بنطلوني .فأنا لست من النوع الذي يؤمن
مسبقا ً بما ت أعلم ُ بالستبصار ،ولكن يبدو كأني كن ُ
سيحدث .وتابعني السفاحون الثلثة عن ُقرب وأنا
أمل حقيبة الظهر ،ولكن لم يكن أيٌ منهم يتحلى
بما يكفي من الذكاء ليرتاب في مكان إخفائي
النقود .ثم غادرت المكان بأسرع ما في استطاعتي
ت برهة في ،هابطة الد ََرج اثنين اثنين .وتوقّف ُ
ت الباب السفل للتقط أنفاسي ومن ثم فتح ُ
المامي بدفعه ،فضربني الهواء كما المطرقة .
100
كانت الريح عاصفة والجو باردا ً ،واندفعَ الشتاء إلى
ي ،وكانت الشياء من حولي تتطاير بعنف ، أذن ّ
مسرعة على طم إلى أشلء على جوانب البنية ُ ، تتح ّ
سر وتنتثر كعدد كبير من شظايا طول الشوارع ،تتك ّ
الثلج .كان قد مضى على وجودي في المدينة حتى
ذلك الحين أكثر من عام ،ولم يحدث أي شيء .
ت بل عمل كان في جيبي مبلغ من المال ،ولكني كن ُ
ت به من ،ول مكان أعيش فيه .وبعد كل ما مرر ُ
صفر .
ت إلى نقطة ال ِ تقلبات الزمن ،عد ُ
101
إلى ذلك لكي أضمن السفر .لكني لم أَر أي سفينة
تفي الفق ،وحتى سفن الصيد الصغيرة التي كن ُ
ت .وبدل ذلك ، قد شاهدتها قبل ذلك بشهر غادر ْ
مال – مئات ج بالع ّمتها تع ّ كانت الواجهة المائية بر ّ
ومئات منهم ،كما بدوا لي ،أكثر من قدرتي على
رغون الدبش من سيارات دهم .بعضهم كانوا ُيف ِ ع ّ
النقل ،وآخرون يحملون حجارة القرميد والحجارة
العادية إلى حافة الماء ،وغيرهم يحفرون الساس
لقامة ما بدا جدارا ً بحريا ً أو استحكامات .وكان
مسّلحون يقفون على حّراس من رجال شرطة ُ
ج
الرصفة ُيشرفون على العمال ،والمكان يض ّ
ث فيه الفوضى – هدير اللت ،وأناس بالصخب وتعي ُ
يركضون جيئة وذهابا ً ،وأصوات رؤساء المجموعات
ن هذا هو مشروع حأ ّ تصرخ بإصدار الوامر .واّتض َ
الجدار البحري ،مشروع العمال العامة كانت
الحكومة الجديدة قد أطلقته .الحكومات تأتي
وترحل بسرعة هنا ،وغالبا ً ما تصعب مواكبة
التغيرات .وهذا أول ما سمعته عن التغّير الحالي ،
ت أحدهم عن الهدف من إنشاء الجدار وعندما سأل ُ
نمحتمَلة .إ ّالبحري ،فقال إنه وقاية من حرب ُ
ي يتعاظم ،كما قال ، التهديد بوقوع اجتياٍح أجنب ّ
ن نحمي وطننا .وبفضل ومن واجبنا كمواطنين أ ْ
جهود الزعيم العظيم فلن الفلني – كائنا ً ما كان
م جمع المواد المتخّلفة عن اسم القائد الجديد -ت ّ
مرة من أجل الحماية ،وسوف يوّفر مد ّ
البنية ال ُ
المشروع العمل للف الناس .وكم يدفعون ؟
سألته .قال ،ل يقدمون مال ً ،بل مكانا ً للعيش
ن أكتتب ؟ قلت ،ل مني أ ْ ووجبة دافئة يوميا ً .هل يه ّ
شكرا ً ،لدي أعمال أخرى .قال ،حسن ،لدي
102
ت الحكومة در ْمتسع من الوقت لغّير رأيي .وقد ق ّ
مدة إنهاء العمل على الجدار بخمسين عاما ً على
ل .قلت ،هذا جيد ،ولكن حتى ذلك الحين كيف الق ّ
يخرج المرء من هنا ؟ قال ،وهو يهّز رأسه ،أوه كل
مح للسفن بالمجيء – ،هذا مستحيل .لم يُعد ُيس َ
ن يرحل .وماذا ت أحد ،ل أحد يستطيع أ ْ وإذا لم يأ ِ
عن الطائرات ؟ قلت .قال ،وهو يبتسم لي
ت توا ً نكتة لم يفهمها ، ملّغزة ،وكأنني ألقي ُ بطريقة ُ
ت ،الطائرة آلة تطير في الجو وما هي الطائرة ؟ قل ُ
ن إلى آخر .قال ،هذا ل الناس من مكا ٍ وتنق ُ
مرتابة .ل وجود لمثل هذا سخف ،ورماني بنظرةٍ ُ
كر ؟ قال ،ل أعلم الشيء .مستحيل .سألته ،أل تذ ُ
ن تتورطي في المشاكل كأ ْ ما تتكلمين .يمكن ِ ع ّ
ن يتحدث ك هراء كهذا .ل تحب الحكومة أ ْ بنشر ِ
الناس عن مثل هذه القصص .إنها ُتسيء إلى
الروح المعنوية .
ن يواجهك هنا . ت ترى ماذا يمكن أ ْ ها أن َ
المر ل يتعّلق فقط بالشياء التي تختفي –
ن تختفي ،حتى تختفي معها ِذكراها بل ما أ ْ
مظلمة ، كل في العقل مناطق ُ أيضا ً .تتش ّ
صل ً لستدعاء وإذا لم تبذل جهدا ً متوا ِ
الشياء التي اختفت ،فسرعان ما ستضيع
بالنسبة إليك إلى البد .أنا لم أعد منيعة ضد
ن هناك هذا المرض كأي شخص آخر ،ول شك في أ ّ
الكثير من المناطق الخاوية داخلي .يختفي شيء ،
كر فيه ، ن تف ّ ت أطول مما ينبغي قبل أ ْ فإذا انتظر َ
فلن يستطيع أي قد ْرٍ من الجهد مهما بلغت طاقته
ن الذاكرة ،أصل ً ،ليست عمل ً إراديا ً ؛ ن ُيعيده .إ ّ أ ْ
إنها شيء يحدث رغم أنفك ،ومع التغييرات الهائلة
103
ن يتداعى جح أ ْ مر ّ التي تحدث طوال الوقت ،فمن ال ُ
الذهن ،وتنزلق الشياء منه .وأحيانا ً ،عندما أجد
ت مني ،أبدأ نفسي أتحسس بحثا ً عن فكرة تمّلص ْ
بالنجراف إلى اليام الخوالي في أرض الوطن ،
كر كيف كان الحال وأنا طفلة صغيرة عندما أتذ ّ
كانت العائلة بأكملها تتوجه إلى الشمال على متن
قطار لقضاء عطل الصيف .كان أخي الكبر وليم
دائما ً يدعني أجلس على عتبة النافذة ،وغالبا ً ما
م أحدا ً ،بل أجلس ووجهي مضغوط على ت ل أكل ّ ُ كن ُ
س
النافذة وأتفّرج على المشهد في الخارج ،أدر ُ
مسرعا ً السماء والشجار والمياه أثناء مرور القطار ُ
يقطع الفيافي .كان المشهد دائما ً جميل ً في
نظري ،بل أجمل بكثير من الشياء التي في المدينة
ت لم تري ،وفي كل عام أقول لنفسي ،يا آن ،أن ِ
ن
ن تتذكريه ،حاولي أ ْ ل من هذا – حاولي أ ْ أجم َ
تستذكري كل الشياء الجميلة التي تشاهدينها ،
ك دائما ً ،حتى عندما لن وبهذه الطريقة ستبقى مع ِ
تتمكني من مشاهدتها بعد ذلك .ول أعتقد أني
ت مليا ً إلى العالم أكثر مما فعلت وأنا في تلك نظر ُ
الرحلت على متن القطار المتوجه إلى الشمال .
ن ُيصبح كل ذلك ن ُيصبح كل شيء لي ،أ ْ تأ ْ أرد ُ
كره ، ن أتذ ّ الجمال جزءا ً مني ،وأذكر أني حاولت أ ْ
أ ُ
ن
سك به إلى أ ْ ن أتم ّن أخّزنه لستعيده لحقا ً ،أ ْ ْ
ن المر سة .لك ّ ة ما ّيأتي وقت وأحتاج إليه حاج ً
ي معي .لقد ن ل شيء منه بق َ الغريب هو أ ّ
ب أو لخر مضنيا ً ،ولكن لسب ٍ ت جهدا ً ُ بذل ُ
كان ينتهي بي المر إلى فقدانه ،وفي
نتأ ْ النهاية الشيء الوحيد الذي استطع ُ
كره هو الجهد الذي بذلته في المحاولة . أتذ ّ
104
الشياء ذاتها تلشت بسرعة كبيرة ،وفي
ت تختفي وقت مشاهدتي لها كانت قد بدأ ْ
ل محلها أشياء أخرى من ذهني ،ويح ّ
ن أتمكن من رؤيتها .الشيء ت قبل أ ْاختف ْ
ي لي هو ضباب ،ضباب الوحيد الذي بق َ
بّراق وجميل .أما الشجار والسماء والمياه
– فتلشت كلها .كانت دائما ً تتلشى ،قبل
ن أستحوذ عليها . أ ْ
ن أشعر ببساطة بالغثيان . لذلك ،لن يفيدني أ ْ
ن كل شخص يميل إلى النسيان ،حتى تحت أفضل إ ّ
ن كهذا ،حيث كل ذلك الختفاء الظروف ،وفي مكا ٍ
ور العدد ن تتص ّالفعلي عن العالم الماديّ ،تستطيع أ ْ
الكبير من الشياء التي ُتنسى طوال الوقت .وفي
ن الناس ينسون ،بل النهاية ،ليست المشكلة هي أ ْ
أنهم ليس دائما ً ينسون الشيء نفسه .فما ل يزال
ن يضيع موجودا ً كذكرى بالنسبة إلى شخص يمكن أ ْ
إلى البد بالنسبة إلى شخص آخر ،وهذا يخلق
مصاعب ،وعوائق ل ُتزال في وجه الفهم .كيف
ن تتحدث مع شخص عن الطائرات ،مثل ً ، كأ ْيمكن َ
إذا كان ذلك الشخص ل يعرف ما هي الطائرات ؟
إنها عملية محو بطيئة ولكن ل مناص منها .الكلمات
تدوم أكثر من الشياء ،ولكنها في نهاية المطاف
تتلشى أيضا ً ،على قدم المساواة مع الصور التي
أثارتها ذات يوم .مجموعات كاملة من الشياء
تختفي – ُأصص الزهار ،مثل ً ،أو فلتر السجائر ،أو
الربطة المطاطية – وسوف تتمكن من تمييز هذه
كر معناها .ولكن ن لم تستطع تذ ّ الكلمات ،حتى وإ ْ
بعد ذلك ،وشيئا ً فشيئا ً ،تصبح الكلمات مجرد
أصوات ،مجموعة عشوائية من الصوات المزمارّية
105
والهوائّية ،كعاصفة من الفونيمات 3المدّومة ،
وأخيرا ً ينهار كل شيء ويتحول إلى بربرة .لن يعود
لتعبير " أصيص أزهار " أي معنى ككلمة "
. " Splandigoسوف يسمعها عقلك ،لكنه
جلها كشيٍء غير مفهوم ،ككلمة مأخوذة من سُيس ّ
لغةٍ ل ُتحسنها .ومع تساقط المزيد فالمزيد
قع من حولك ، من هذه الكلمات الغريبة الو ْ
تصبح الحاديث شاقة .في الواقع ،يصبح
كل شخص يتكّلم لغته الخاصة ،ومع دمار
جمل التفاهم المتبادل ُ ،يصبح من الصعب ُ
طراد التواصل مع أي إنسان . با ّ
ت إلى التخّلي عن فكرة العودة إلى اضطرر ُ
ن من بين كل المور التي وقعت الوطن .وأعتقد أ ّ
لي حتى الن ،كان هذا أصعبها على التقّبل .وحتى
ت نفسي ودفعتها إلى ت قد خدع ُ ذلك الحين ،كن ُ
ن أعود متى شئت . ن في استطاعتي أ ْ العتقاد أ ّ
ولكن مع مباشرة مشروع إنشاء الجدار البحري ،
طمت وحشد العديد من الشخاص لمنع الرحيل ،تح ّ
مطمِئنة إلى أشلء .أول ً ماتت هذه الفكرة ال ُ
ت الشقة .عزائي الوحيد كان إيزابل ،ثم فقد ُ
ت منه أيضا ً فجأة ً . رم ُح ِ
التفكير في الوطن ،وها قد ُ
وللمرة الولى منذ قدومي إلى المدينة ،اكتنفني
التشاؤم .
ت في النطلق في الّتجاه المعاكس .كانت كر ُف ّ
نقطة فيدلر الحدودية قائمة عند الحافة الغربية من
المدينة ،وكل ما كان مطلوبا ً منك لعبوره هو إذن
ن أي شيء كان سيكون أفضل من تأ ّ سفر .شعر ُ
ت جيئة ن تنّقل ُ
المدينة ،حتى المجهول ،ولكن بعد أ ْ
وذهابا ً بين وكالت حكومية عديدة ،أنتظر في
- 3الفونيمة ِ :وحدة الكلم ال ُ
صغرى التي تساعد على تمييز نطق لفظة ما عن أخرى في لغة أو لهجة .
106
ن أحمل طلبي الطابور يوما ً بعد يوم ليقولوا لي أ ْ
ن أسعار أذن ت أخيرا ً أ ّإلى دائرة أخرى ،تعّلم ُ
ي غلوت .وكان هذا السفر قد ارتفعت إلى مائت ّ
شيء غير وارد ،بما أنه سيعني استهلك أكبَر قسم ٍ
ة واحدة .وسمعت كلما ً عن وجود من مالي دفع ً
منظمة سرية تعمل في تهريب الناس إلى خارج
ن كثيرا ً من الناس كلفة ،لك ّ عشر ال ُ المدينة مقابل ُ
يرون إنها في الواقع خدعة – شكل بارع من الفخ
ممته الحكومة الجديدة ُ .يقال إنها وضعت رجال ص ّ
شرطة عند الطرف النائي من النفق ،وحالما
تزحف إلى الطرف الخر يتم القبض عليك – ومن
ثم ُترسل على الفور إلى أحد معسكرات العمل
الجباري في منطقة التعدين الجنوبية .ولم يكن
ن كانت تلك الشاعة هناك من سبيل لمعرفة إ ْ
ت أنها ل تستحق صحيحة أم زائفة ،لكني اكتشف ُ
ن
ت المشكلة .إ ّ ل الشتاء ،وواجه ُ مجازفة .ثم ح ّ ال ُ
ن ينتظر حتى الربيع – أي تفكير في المغادرة يجب أ ْ
على افتراض ،طبعا ً ،أني سأتمكن من الصمود
حتى الربيع .وفي ظل الظروف السائدة ،بدا لي
ن هذا مشكوك فيه . أ ّ
107
ج طوال أسبوع كامل – كانت عواصف عاتية ، ُتثل ُ
ُتعمي البصار ،تضرب المدينة بالبياض – ثم تظهر
الشمس ،تحرق برهة وجيزة بشد ّةِ شمس
الصيف .ويذوب الثلج ،وبحلول منتصف الظهيرة
مر المجارير مياه مندفعة ، تفيض الشوارع ،وُتغ َ
وأينما نظرت تجد تللؤ المياه المجنون والضوء ،
ل إلى قطعة كريستال ضخمة ، ن العلم كّله تحوّ َ
وكأ ّ
تذوب .وفجأةً ،تكفهّر السماء ،ويبدأ الليل ،وتهبط
صفر – درجة الحرارة من جديد إلى ما دون درجة ال ِ
مد الماء بسرعة كبيرة بحيث يتخذ الثلج أشكال ً ُتج ّ
غريبة :نتوءات وتموجات والتفافات ،وأمواجا ً كاملة
سعر مصّغر ِلما ُيشبه ال ُمدت في ذروتها ،كشكل ُ تج ّ
الجيولوجي .وطبعا ً ،مع حلول الصباح ُ ،يصبح
المشي أمرا ً مستحيل ً – الناس ينزلقون على
أنفسهم ،والجماجم تنكسر على الثلج ،والجساد
تتخّبط بعجز على السطح الملساء ،القاسية .ومن
ثم ُتثلج من جديد ،ويتكّرر المر .استمر هذا الوضع
على مدى أشهر ،وعندما انتهى ،كان قد مات آلف
وآلف من الناس .وكانت الحياة بالنسبة إلى
مشّردين شبه مستحيلة ،ولكن حتى الذين وجدوا ال ُ
مأوى وطعاما ً جيدا ً عانوا من خسائر ل ُتحصى .
وانهارت البنية القديمة تحت وطأة الثلوج ،
ت عائلت بأكملها .وجرف البرد الناس إلى حَق ْس ِ و ُ
حافة الجنون ،وأخيرا ً لم يُعد الجلوس طوال النهار
في شقة تنقصها التدفئة أفضل بكثير من البقاء في
طمون أثاث منازلهم الخارج .كان الناس ُيح ّ
ويحرقونه للحصول على بعض الدفء ،
وكان الكثير من تلك النيران تخرج عن
مر في كل يوم تقريبا ً السيطرة ,والبنية ُتد ّ
108
معات سكنية بأكملها وأحياء . مج ّ ،وأحيانا ً ُ
ن تندلع واحدة من تلك الحرائق ،حتى فما أ ْ
مشّردين إلى تندفع أعداد هائلة من ال ُ
الموقع ويقفون هناك ما دام المبنى يحترق
– يستمتعون بالدفء ،وُيحّيون ألسنة اللهب
ت أشجار المدينة وهي تعلو نحو السماء .وقُط ِعَ ْ
ت كوقود .واختفت حرِقَ ْكلها خلل فصل الشتاء و ُ
الحيوانات الليفة ؛ وقُت َِلت الطيور .أصبح نقص
ن مشروع إنشاء الجدار البحري الطعام حادا ً حتى أ ّ
عُّلق – فقط بعد بدايته بستة أشهر – وذلك من أجل
الستعانة بكل ما يتوفر من رجال الشرطة في
حماية شحن المنتجات إلى السواق .ومع ذلك ،
وقعت بعض أحداث الشغب بسبب الطعام ،أدت
إلى المزيد من القتلى ،والكوارث .ول أحد يعلم
عدد الموتى الذين سقطوا أثناء فصل الشتاء ،لكني
سمعت أرقاما ً تقديرية تراوحت ما بين ثلث إلى ُربع
عدد السكان .
وبصورة ما ،صمد حظي .وفي أواخر شهر
ي خلل أعمال شغب تشرين ثاني كاد ُيقَبض عل ّ
بسبب الطعام في جادة بطليموس .وكالمعتاد ،
كان في ذلك اليوم طابور ل نهاية له ،وبعد النتظار
لكثر من ساعتين في البرد القارص دون إحراز
دمونني بإهانة دم ،بدأ فقط ثلثة رجال كانوا يتق ّ تق ّ
أحد الحّراس من رجال الشرطة .فشهر الشرطي
جه مباشرةً نحونا ،وهو مستعد هراوته وتو ّ
ن يقف في طريقه ،وسياسته م ْ
للنقضاض على كل َ
ن يضرب أول ً ومن ثم يستجوب لحقا ً ، هي أ ْ
ت أنه لن ُتتاح لي الفرصة للدفاع عن نفسي . وأدرك ُ
ن أتوقف ت تاركة الطابور ،دون حتى أ ْ فانطلق ُ
109
ت أعدو في الشارع ،راكضة بكل ما كر ،واندفع ُ لف ّ
أوتيت من قوة .مشى الشرطي باتجاهي خطوتين
أو ثلث ،وقد أصابته الحيرة اللحظية ،لكنه عاد
كز انتباهه على ن ير ّفتوقف ،وكان جليا ً أنه أراد أ ْ
ن أخرج الحشد .فبالنسبة إليه من الفضل بكثير أ ْ
ت أركض ،وحالما وصلت إلى من الصورة .ظلل ُ
ت الحشد ينفجر بصراٍخ قبيح ، المنعطف ،سمع ُ
ث ذلك بي رعبا ً حقيقيا ً ،ذلك أني ي ،خلفي .ب ّ عدائ ّ ِ
ن المنطقة بأكملها ت خلل بضع دقائق أ ّ عِلم ُ
اجتاحتها فرقة جديدة من شرطة مكافحة الشغب .
وتابعت الركض بأسرع ما أوتيت من قوة ،منتقلة
من شارٍع إلى آخر ،وأنا من فرط الخوف بحيث
عجزت عن النظر خلفي .وأخيرا ً ،بعد مرور ربع
محاذاة بناء ضخم . ت نفسي أركض ب ُ ساعة ،وجد ُ
ن يتعّقبني أم ل ،ولكن م ْ
ن كان هناك َ ولم أعلم إ ْ
ب يقع أمامي ببضعة أقدام ح با ٌفي تلك اللحظة فُت ِ َ
ع
فاندفعت أدخله مباشرة .كان هناك رجل نحيل يض ُ
م
ف على العتبة ،ويه ّ نظارات ذو وجه شاحب يق ُ
مسرعة . ت ُ ي مرعوبا ً عندما مرر ُ بالخروج ،فنظر إل ّ
ت ما بدا أنه مكتب لمؤسسة ما – ت قد دخل ُ كن ُ
عبارة عن غرفة صغيرة تضم ثلثة أو أربعة مكاتب
وأكواما ً من الوراق والكتب .
قال متبّرما ً " ممنوع الدخول إلى هنا .هذه
مكتبة عامة "
ن أسترد لأ ْ قلت ،وأنا أنطوي على نفسي أحاو ُ
ن كان قصر الحاكم . أنفاسي " ،ل يهمني حتى وإ ْ
ن ُيخرجني " أنا هنا الن ،ول أحد يستطيع أ ْ
110
مضطر للتبليغ عنك ت أنيق ،نّيق " ،أنا ُ قال بصو ٍ
ن تدخلي إلى هنا هكذا .هذه مكتبة كأ ْ
.ل يمكن ِ
عامة ،ول ُيسمح لحد بالدخول من دون تصريح "
منافق ولم أدرِ ماذا أقول . أربكني كثيرا ً موقفه ال ُ
ن
ن أحاول أ ْ مرهقة ،وعلى آخر رمق ،وبدل أ ْ ت ُ
كن ُ
ت بدفعه إلى الرض بأقوى ما أتجادل معه ،اكتفي ُ
استطعت .كان تصرفا ً سخيفا ً ،لكني لم أتمكن من
كبح زمام نفسي .طارت النظارة عن وجهه
ت أرضخ وضربت الرض ،ولبرهة من الزمن كد ُ
لغواء سحقها تحت قدمي .
ن شئت ،لكني لن أغادر هذا قلت " بّلغ عني إ ْ
ن تتاح له الفرصة المكان إل جّرا ً " ،ثم ،وقبل أ ْ
ت حولي واجتزت الباب الموجود في للنهوض ،تلّف ّ
الطرف المقابل من الغرفة ركضا ً .
وصلت إلى قاعة كبيرة ،كانت غرفة رحبة
ب عالية وأرضية من الرخام . ف ذي قبا ٍ ورائعة بسق ٍ
كان التباُين المفاجئ بين غرفة المكتب الصغيرة
خطاي تترّدد مذهل ً .كان وقع ُ المساحة الشاسعة ُ
نن في استطاعتي أ ْ ي ،وبدا لي كأ ّ أصداؤه وتعود إل ّ
أسمع ترجيع أنفاسي على الجدران .كانت
شى جيئة وذهابا ً في أرجاء مجموعات من الناس تتم ّ
المكان ،يتبادلون فيما بينهم الحاديث بهدوء ،وكان
ن جاّدة .استدار عدد جليا ً أنهم منغمسون في شؤو ٍ
ن
من الرؤوس في اتجاهي عندما ولجت الغرفة ،لك ّ
ذلك كان مجّرد رد فعل ،وبعد برهة أشاحوا جميعا ً
بوجوههم من جديد .مررت بأولئك القوم بأشد ّ ما
مطرقة أنظر إلى يمكن من هدوء وحذر ،وأنا ُ
الرض وأتظاهُر بأني عارفة إلى أين أنا متوجهة .
111
ت مطلع د ََرج وبعد ثلثين أو أربعين خطوة وجد ُ
ت أرتقيه . وبدأ ُ
كانت تلك المرة الولى التي أدخل فيها المكتبة
الوطنية .كانت صرحا ً رائعا ً ،بما ع ُل ّقَ من لوحات
كام والقادة ، على الجدران تمثل صورا ً شخصية للح ّ
وصفوف من العمدة على الطراز اليطالي ،
مطّعم الجميل – كان أحد العلمات والرخام ال ُ
الممّيزة بين أبنية المدينة .ولكن ،كما يحدث مع
ت. كل شيء آخر ،كانت أفضل أيامه قد ول ّ ْ
فالسقف في الطابق الثاني فيها ثغرة ،والعمدة
مبعثرة في كل ت ،والكتب والوراق ُ دمت وتشّقق ْ ته ّ
معات من الشخاص ت أشاهد ُ تج ّ مكان .وبقي ُ
يتجولون – غالبيتهم من الرجال ،كما أدركت –
ولكن ل أحد أولني أي انتباه .وعلى الجانب
ت بابا ًالمقابل من أرُفف فهرس البطاقات ،وجد ُ
مكسوا ً بالجلد الخضر اللون يؤدي إلى مطلع د ََرج
ت ذلك الد ََرج إلى المستوى التالي مغَلق .ارتقي ُ ُ
ق طويل ،منخفض ت إلى روا ٍ ومن ثم خرج ُ
السقف ،يحتوي عددا ً كبيرا ً من البواب على كل
جانبيه .لم يكن هناك أحد غيري في الرواق ،وبما
أني لم أسمع أي صوت يتناهي من خلف البواب ،
ن أفتح الباب تأ ْن الغرف خالية .فحاول ُ تأ ّ افترض ُ
الول على يميني ،لكنه كان موصدا ً .والباب الثاني
خلفا ً لكل التوقعات ،فُت ِ َ
ح كان أيضا ً موصدا ً .ثم ،و ِ
الباب الثالث .في الداخل ،كان هناك ستة رجال
جالسين حول طاولة من خشب ،يتحدثون بأصوات
مجّردة من الثاث حة ،حيوية .كانت الغرفة ُ مل ّ
وخالية من النوافذ ،والدهان الذي يميل لونه إلى
شر على الجدران والماء يقطر من الصفرار يتق ّ
112
ملحين ،ويرتدون السقف .الرجال الستة كانوا ُ
ت من شدة ملبس سوداء ،ويعتمرون قبعات .كن ُ
الذهول حين اكتشفت وجودهم هناك حتى أني
ن
ت بإغلق الباب ،لك ّ ت شهقة قصيرة وهمم ُ أطلق ُ
أكبر الرجال الجالسين حول الطاولة سنا ً ابتسم لي
ابتسامة رائعة ،زاخرة بالدفء والرقة حتى أني
ترّددت .
ن نقدم لك أي خدمة ؟ " قال " هل نستطيع أ ْ
ف، مخت ٍ مثقل ً بلكنة )كان لفظ ُ th كان صوته ُ
وحرف wتحول إلى ، (vلكني لم أعرف من أي بلد
ت في عينيه ،فأشاع ومض التعّرف جاءوا .ثم نظر ُ
الرعشة في جسمي .
ن كل اليهود قد ماتوا " تأ ّت " حسب ُ همس ُ
ي عدد قال ،وهو يبتسم لي من جديد " ،لقد بق َ
قليل منا .ليس من السهل التخّلص منا ،في الواقع
"
قلت بل تفكير " أنا يهودية أيضا ً ،واسمي آّنا
ت إلى هنا من مكان بعيد .إنني في بلوم ،وأتي ُ
المدينة منذ أكثر من عام ،أبحث عن أخي .ل
أعتقد أنك تعرفه .اسمه وليم ،وليم بلوم "
قال ،وهو يهّز رأسه نفيا ً " ،كل ،يا عزيزتي ،أنا
لم أقابل أخاك " .نظر إلى زملئه عبر الطاولة
ن ل أحد منهم كان وسألهم السـؤال نفسه ،ولك ْ
يعرف وليم .
قلت " لقد مّر وقت طويل .وإذا لم يكن قد نجح
في الهروب بوسيلة ما ،فأنا متأكدة من أنه مات "
قال الحاخام برّقة " هذا أمر مستحيل .لقد مات
الكثيرون ،كما تعلمين .ومن الفضل أل تتوقعي
حدوث معجزات "
113
" لم أعد أؤمن بالله ،إذا كان هذا ما تعني .لقد
تخّليت عن هذا كله عندما كنت طفلة صغيرة "
قال الحاخام " من الصعب أل تفعلي .عندما
تفكرين في الشواهد ،ل يعود هناك سبب وجيه يمنع
الكثيرين من التفكير كما تفعلين "
ك دددد تؤمن بالله " قلت " ل تُقل لي إن َ
ن كان يسمعنا أم ل فهذه " إننا نكّلمه .أما إ ْ
مسألة أخرى "
تابعت " زميلتي إيزابل كانت تؤمن بالله .هي
ت نسختها من الكتاب المقدس أيضا ً ماتت .لقد بع ُ
مقابل سبعة غلوتات للسيد غامبينو .وكيل مؤسسة
البعث .كان عمل ً فظيعا ً ،أليس كذلك ؟ "
" ليس بالضرورة .هناك أشياء أهم من الكتب ،
قبل كل شيء .الطعام يأتي قبل الصلوات "
ما حدث لي في حضور ذلك الرجل كان أمرا ً
شَبها ً ت معه ،أبدو أقرب َ غريبا ً ،ولكن كلما تكلم ُ
كرني بالشياء كما كانت وأنا فتاة بطفلة .ربما ذ ّ
تل صغيرة جدا ً ،في العصور المظلمة عندما كن ُ
ن
أزال أؤمن بما قاله لي أبويّ وأساتذتي .لك ّ
ت متأكدة مما أقول ،أني الحقيقة هي ،ولس ُ
ت أنه رف ُ ت أني أقف على أرض صلبة معه ،وع ِ شعر ُ
ن أثق به .ووجدتني ،بل وعي ، شخص يمكنني أ ْ
ج منه صورة ُ
أمد ّ يدي إلى جيب معطفي وأخرِ ُ
صمويل فار .
قلت " أنا أبحث أيضا ً عن هذا الرجل .اسمه
ن يعلم ما حدث صمويل فار ،وهناك أمل كبير في أ ْ
لخي "
صها
ح َ ن تف ّ أعطيت الصورة للحاخام ،ولكن بعد أ ْ
بضع لحظات ،هّز رأسه وقال أنه ل يتعّرف على
114
ي ،تكّلم رج ٌ
ل الوجه .وحين بدأت الخيبة تتسلل إل ّ
يجلس على الطرف المقابل من الطاولة .كان
حمرة كانت أصغرهم سنا ً ،ولحيته الضاربة إلى ال ُ
ل كثافة من لحية أي منهم . أصغر وأق ّ
ن أقول قال بخوف " أيها الحاخام ،هل لي أ ْ
شيئا ً ؟ "
ت في حاجة إلى أذن ،يا قال الحاخام " لس َ
ن تقول ما تشاء " إسحق .يمكنك أ ْ
كد ،طبعا ً ،ولكني قال الشاب " ل شيء مؤ ّ
ن هذا الشخص .على الق ّ
ل م ْ
أعتقد أني أعرف َ
أعرف شخصا ً بهذا السم .ولعله ليس الشخص
الذي تبحث عنه السيدة الشابة ،لكني أعرف السم
"
قال الحاخام ،وهو يزلق الصورة الفوتوغرافية
ق نظرةً على الصورة عبر الطاولة نحوه " ،إذن ،ال ِ
"
نظر إسحق ،وكان التعبير المرتسم على وجهه
شديد الرصانة ،وخاليا ً من أي استجابة ،حتى أني
ن الشبه فقدت المل على الفور .وأخيرا ً قال " إ ّ
حصتها الن ،أعتقد أنه ن تف ّضعيف جدا ً .ولكن بعد أ ْ
ن هذا هو الرجل " .ثم ليس هنا أدنى شك في أ ّ
مثقفة ، انفرجت أسارير وجه إسحق الشاحبة ،ال ُ
دة .ع ّعن ابتسامة .وتابعَ " لقد تحدثت معه مرات ِ
إنه رجل ذكي ،لكنه ينطوي على مرارة شديدة .
لقد اختلفنا تقريبا ً حول كل شيء "
ن ُتتاح لي الفرصة لم أصدق ما أسمع .وقبل أ ْ
لقول أي كلمة ،سأل الحاخام " وأين يمكن العثور
على هذا الرجل ،يا إسحق ؟ "
115
قال إسحق " إنه ليس بعيدا ً عن هنا " ،وضحك
م هنا في المكتبة ضحكا ً مكبوتا ً ،ثم أضاف " إنه ُيقي ُ
"
وأخيرا ً قلت " أهذا صحيح ؟ صحيح ؟ "
ك إليه الن ،إذا ن آخذ ِ " طبعا ً صحيح .أستطيع أ ْ
ت إلى الحاخام " ، ت " ،وترد ّد َ إسحق ،ثم التف َ شئ ِ
ك" بعد إذن َ
ل " ألهذا الرجل ن الحاخام بدا قلقا ً قليل ً .سأ َ لك ّ
صلة بإحدى الكاديميات ؟ " ِ
علمي .أعتقد أنه قال إسحق " ليس حسب ِ
مستقل .لقد أخبرني أنه كان يعمل لصالح إحدى ُ
ن ما "الصحف في مكا ٍ
قلت " هذا صحيح .هذا صحيح تماما ً .إ ّ
ن
صمويل فار صحفي "
مقاطعتي " ،وماذا يعمل متجاهل ً ُسأل الحاخام ُ ،
الن ؟ "
" إنه يؤلف كتابا ً .ل أعرف ما هو موضوعه ،
ن أعتقد أّنه يتعّلق بالمدينة .لقد تبادلنا الحديث ولك ْ
عددا ً من المرات في البهو الرئيسي .إنه يطرح
أسئلة ثاقبة "
سأل الحاخام " أهو مؤّيد ؟ "
قال إسحق " إنه حياديّ ،ل مع ول ضد .إنه
ذب ،لكنه عادل تماما ً ،وبل حافز " مع ّ رجل ُ
ن
ت تفهمين أ ّ ي وشرح قائل ً " أن ِ التفت الحاخام إل ّ
معّرضة للخطر لنه لم لدينا أعداء ك ُُثرا ً .وتصاريحنا ُ
دم بحذٍر ن أتق ّيأ ْ يُعد لدينا وضعا ً أكاديميا ً كامل ً ،وعل ّ
ت برأسي إيجابا ً ،في محاولة شديد " .أومأ ُ
ما يتحدث .تابع " ل أرى لتصّرف وكأني أعلم ع ّ
ن ُيرينا إسحق أين ُيقيم ذلك الرجل " مانعا ً في أ ْ
116
قلت " شكرا ً لك ،أيها الحاخام .أنا ممتنة لك
كثيرا ً "
ك إسحق حتى الباب ،ولكن ل " سوف يوصل ِ
ن يبتعد أكثر من ذلك .أهذا واضح ، أريد له أ ْ
مريد بهيئة من السيطرة إسحق ؟ " ،ونظر إلى ال ُ
الهادئة .
قال إسحق " نعم ،أيها الحاخام "
ض الحاخام عن كرسيه واقفا ً وصافحني . ثم نه َ
مرهقا ً جدا ً " .
قال ،وقد بدا فجأةً عجوزا ً جدا ً ،و ُ
ن أعرف نتيجة المر " أريد أ ْ
قلت " سأعود .أعدك "
117
" أنا أبحث عن صمويل فار .هل صمويل فار
موجود هنا ؟ "
ن ُيريده ؟ "م ْل الصوت " َ سأ َ
قلت " آّنا بلوم "
أجاب الصوت " ل أعرف أحدا ً باسم آّنا بلوم .
ارحلي "
قلت " أنا أخت وليم ،ومنذ أكثر من عام وأنا
ن تطلب مني أحاول العثور عليك .ل يمكنك أ ْ
الرحيل الن .إذا لم تفتح لي الباب ،سأبقى أقرع
ن تفعل " إلى أ ْ
ت صوت جّر كرسي على الرض ،تبعه وقع سمع ُ
ت مزلجا ً ينسحب خطى تقترب مني ،ومن ثم سمع ُ ُ
ح الباب ،وفجأة ً غمرني الضوء ، من مقّره .وفُت ِ َ
سيل هائل من أشعة الشمس تدفّقَ من الردهة من
ي بضع لحظات نافذة في الغرفة .استغرق عين ّ
ت أخيرا ً في تمييز ودا عليه .وعندما نجح ُ لتتع ّ
الشخص الواقف أمامي ،أول ما شاهدته كان
جه مباشرةً إلى مسدسا ً – مسدسا ً أسود صغيرا ً مو ّ
بطني .كان هو صمويل فار حتما ً ،لكنه لم يُعد
ُيشبه الصورة الفوتوغرافية في شيء .فالرجل
الشاب الصلب في الصورة تحول إلى شخص هزيل
ة
ن طاق ً ملتٍح ،تحت عينيه دائرتان سوداوان ،وبدا أ ّ ُ
ث من جسمه . عصبّية ،ل يمكن التكّهن بها ،تنبع ُ
ن لم يَنم منذ شهر . م ْت عليه مظهَر َ أضَف ْ
دعين ؟ " نت ّ م ْك َ
كد من أن ِ ل " كيف أتأ ّ سأ َ
ك ستكون أحمق إذا لم " لني أقول هذا .لن َ
دقني " تص ّ
ك تدخلين إل إذا " أحتاج إلى برهان .لن أدع ِ
ت برهانا ً " دم ِ ق ّ
118
ن تصغي إلى كلمي ن تفعله هو أ ْ " كل ما عليك أ ْ
ن لكنتي تشبه لكنتك .فنحن من البلد نفسه ، .إ ّ
والمدينة نفسها .ولعّلنا ترعرعنا في الحي نفسه "
ن
كأ ْ ن ُيقل ّد َ صوتا ً .علي ِ " أي شخص يستطيع أ ْ
تعطيني أكثر من هذا "
ت منه ت يدي إلى جيب معطفي وأخرج ُ مدد ُ
ك في هذه " الصورة الفوتوغرافية ،وقلت " ،ما رأي َ
ن
حصها مدة عشر ثوان أو عشرين ،دون أ ْ تف ّ
ن جسمه كله قد يقول أي كلمة ،وشيئا ً فشيئا ً بدا أ ّ
تهاوى ،وغاص داخل نفسه .وعندما عاد إلى النظر
ن المسدس كان يتدّلى على تأ ّ ي من جديد ،رأي ُ إل ّ
جانبه .
قال برفق ،أشبه بالهمس " يا إلهي ،من أين
ت على هذه ؟ " حصل ِ
ن أغادر " " من بوغات .لقد أعطانيها قبل أ ْ
ت أبدو " قال " إنه أنا .هكذا كن ُ
" أعلم "
دق ،أليس كذلك ؟ " " أمر ل ُيص ّ
ت
كري منذ متى وأن ِ ن تتذ ّ" ليس بالضبط .يجب أ ْ
موجودة هنا "
بدا لبرهة من الزمن أنه انساقَ مع أفكاره .
ي من جديد ،بدا وكأنه لم يُعد يتعّرف وعندما نظر إل ّ
ي.
عل ّ
تك ؟ " ،فرأي ُ ت أن ِ ن قل ِ معتذرا ً " َ
م ْ ابتسم لي ُ
ن ثلثة أو أربعة من أسنانه السفلى مفقودة . أ ّ
" آّنا بلوم .أخت وليم بلوم "
" بلوم .على غرار doomو ، gloomفهمت "
" بالضبط .بلوم على غرار wombو . tomb
اختر ما شئت "
119
ك ترغبين في الدخول ،أليس كذلك ؟
" أعتقد أن ِ
"
" نعم .لهذا أنا هنا .لدينا الكثير لنتحدث بشأنه "
كانت الغرفة صغيرة ،ولكن ليس إلى درجة أل
صين .ثمة فرشة على الرض ،وطاولة تتسع لشخ َ
مكتب وكرسي بجوار النافذة ،ومدفأة تعمل
بالحطب ،وكميات كبيرة من الوراق والكتب
ومة عند أحد الجدران ،وملبس داخل صندوق مك ّ
كرني بمهجع نوم الطلب وى .مما ذ ّ من الورق المق ّ
ت لزيارتك . – ُيشبه مهجعك في الجامعة عندما أتي ُ
كان السقف منخفضا ً ،وينحدر أسفل ً نحو الجدار
ن تنتقل إلى ك ل تستطيع أ ْ دة بحيث أن َ ح ّالخارجي ب ِ
ن تحني ظهرك . ذلك الجانب من الغرفة من دون أ ْ
ن النافذة الممتدة على طول ذلك الجدار كانت لك ّ
ت كامل رائعة – شيئا ً جميل ً ،على هيئة مروحة احتل ّ ْ
مساحته تقريبا ً .كانت مصنوعة من ألواح زجاج
سمة بألواح مائلة من مق ّ
صصة ُ ، مف ّ سميكة ُ ،
معّقدة كجناح فراشة . كلت منظومة ُ الرصاص ،وش ّ
ن ترى بكل معنى الكلمة على امتداد كان يمكن أ ْ
أميال طويلة عبر النافذة – وحتى نقطة فيدلر
الحدودية وما بعدها .
س
ي لجلس على السرير ،ثم جل َ أومأ سام إل ّ
على كرسي طاولة المكتب ودار باتجاهي .واعتذر
ن وضَعه غير مستقّر ، جه المسدس نحوي ،ل ّ لنه و ّ
ن ُيخاطر .إنه ُيقيم في كما قال ،ولم يستطع أ ْ
المكتبة العامة منذ حوالي العام ،وقد ُأشيعَ أنه
ُيخّبئ كمية من في غرفته .
من ن أخ ّقلت " من مظهر الشياء هنا ،ل يمكن أ ْ
أنك ثريّ "
120
" أنا ل أستخدم المال لنفسي ؛ أنا أنفقه على
الكتاب الذي أؤّلفه .إنني أدفع للذين يأتون إلى هنا
ويتكلمون معي .أدفع الكثير من المال في المقابلة
الواحدة ،حسب طول مدة كل واحدة .غلوت واحد
للساعة الولى ،ونصف غلوت لكل ساعة إضافية .
لقد أجريت المئات منها ،قصة بعد أخرى .ل أعرف
ن القصة ت تعلمين أ ّ طريقة أخرى لنجاز المر .أن ِ
كبيرة جدا ً ،ومن المستحيل على أي شخص واحد
ن يحكيها " أ ْ
كان بوغات قد أرسل سام إلى المدينة ،وحتى
ما دفعه إلى قبول المهمة . الن ل يزال يتساءل ع ّ
َ
ث ن شيئا ً رهيبا ً قد حد َقال " لقد عِلمنا جميعا ً أ ّ
ك .فلم نسمع عنه أي شيء منذ ستة أشهر ، لخي ِ
صلة له بالمر . ن كان الذي تبعه فثمة ِ وكائنا ً َ
م ْ
وطبعا ً ،لم يدع بوغات هذا ُيزعجه ،ودعاني إلى
مكتبه ذات صباح وقال " هذه هي الفرصة التي
طالما انتظرَتها ،أيها الشاب .سُأرسلك إلى هناك
ل محل بلوم " .كانت تعليماتي واضحة :اكتب لتح ّ
التقارير ،واعرف ما حادث لوليم ،وابقَ على قيد
الحياة .وبعد ثلثة أيام ،أقاموا لي حفل وداع
دموا شمبانيا وسيجارا ً .وشرب بوغات نخبا ً ، وق ّ
وشرب الجميع نخب صحتي ،وتصافحنا ،وصفعني
على ظهري .وشعرت أني ضيف في جنازتي .
ل لم يكن لديّ ثلثة أولد ووعاًء ولكن على الق ّ
ي في انتظاري في المنزل مثل مملوءا ً بسمك ذهب ّ
ن الرئيس رجل ت عنه ،فإ ّ 4
ويلوبي .ومهما قل َ
ساس .وأنا لم أحقد عليه أبدا ً لنه اختارني ح ّ
ت في الذهاب . للمهمة .والحقيقة هي أني ربما رغب ُ
ن أستقيل .هكذا بدأ وإل لكان في إمكاني ببساطة أ ْ
-المترجم - 4كليمنس ويلوبي :إحدى شخصيات رواية " إيفلينا " للروائية النكليزية فراسيس ) فاني( برني )(1840 -1752
121
ت أقلمي الرصاص ، المر .حزمت أمتعتي ،وبري ُ
ت عبارات الوداع .حدث ذلك قبل عام ونصف وتبادل ُ
.ول حاجة إلى القول إني لم ُأرسل أي تقرير ،ولم
ت
أعثر على وليم .وفي تلك الثناء يبدو أني بقي ُ
ن أراهن على المدة على قيد الحياة .لكني ل أريد أ ْ
التي سأبقى خللها على هذا الحال "
ددا ً أكثر
ن تعطيني شيئا ً مح ّ ت آمل أ ْ قلت " كن ُ
عن وليم ،بطريقة أو بأخرى "
دد في هذا مح ّ هّز سام رأسه نفيا ً " .ل شيء ُ
المكان .وإذا أخذنا في العتبار المكانات
ن تكوني سعيدة بذلك " المتوفرة ،جدير بك أ ْ
كد " " لن أتخّلى عن المل ،إل بعد أ ْ
ن أتأ ّ
حكمة ن من ال ِ " هذه هي ميزتك .لكني ل أعتقد أ ّ
توّقع أي شيء غير السوأ "
" هذا ما قاله لنا الحاخام "
" هذا ما يقوله أي رجل عاقل "
ي ،يسخر من ذاته ، تكّلم سام بصوت عصب ّ
منتقل ً بسرعة من موضوع إلى آخر بطرق كان صعبا ً
ت أتمتع بحس رجل على حافة ن أتابعها .كن ُ
يأ ْعل ّ
النهيار – شخص أرهقَ نفسه إلى درجة لم يُعد
معَ أكثر من ثلثة مل .لقد ج ّ بعدها قادرا ً على التح ّ
آلف صفحة من الملحظات ،كما قال .وشعر أنه
لو استمر في العمل على تلك الوتيرة فسوف ُينهي
العمل التمهيدي للكتاب في غضون خمسة إلى
ن النقود كادت ستة أشهر .وكانت المشكلة هي أ ّ
ن الكّفة لم تعد تميل لصالحه .فلم يُعد تنفد ،وبدا أ ّ
قادرا ً على تكاليف إجراء المقابلت ،ومع انخفاض
موارده المالية إلى مستوى خطير ،أصبح ل يأكل إل
مرةً كل يومين .وهذا ،طبعا ً ،زاد الطين ب ِّلة .فقد
122
تسّربت منه قوته ،وفي بعض الحيان كان ينتابه
دوار بحيث ل يعود يرى الكلمات التي يكتبها .قال
إنه كان أحيانا ً يستغرق في النوم وهو على طاولة
ن يشعر . الكتابة دون أ ْ
ن ُتنهي عملك . قلت " سوف تقتل نفسك قبل أ ْ
ن تتوقف عن تأليف وما الِعبرة من ذلك ؟ يجب أ ْ
الكتاب وتعتني بنفسك "
ن الكتاب هو " ل أستطيع التوقف .إ ّ
ضني على الستمرار الشيء الوحيد الذي يح ّ
في الحياة .إنه يمنعني من التفكير في
نفسي ومن استغراقي في حياتي الخاصة .
ت عن العمل فيه ،سأضيع .ول وإذا توقف ُ
أعتقد أني سأتمكن من العيش يوما ً آخر "
ن سيقرأ كتابك م ْ
قلت بغضب " ليس هناك َ
ت من صفحات ،فلن اللعين .أل تفهم ؟ مهما كتب َ
يَر أحد نتيجة عملك "
ت مخطئة .سوف أحمل المخطوط وأعود " أن ِ
شر الكتاب ،وسيعرف الجميع إلى الوطن .سوف ُين َ
ما الذي يحدث هنا "
ت ل تعرف ماذا تقول .ألم تسمع عن " أن َ
مشروع الجدار البحري ؟ بات من المستحيل
الخروج من هنا "
" أعرف بأمر الجدار البحري ،ولكن هذا مجرد
دقيني .على مكان واحد .هناك أماكن أخرى ،ص ّ
طول الساحل إلى الشمال ،وغربا ً خلل المناطق
المعزولة .وعندما يحين الوقت المناسب ،سأكون
مستعدا ً "
" لن تعيش حتى ذلك الحين .مع انتهاء فصل
الشتاء ،لن تكون مستعدا ً لي شيء "
123
" سوف تستجد ّ أمور .فإذا لم يحدث ذلك ،
حسن ،لن يهمني شيء "
ي معك من نقود ؟ " " كم بق َ
" ل أعلم .ما بين الثلثين والخمسة والثلثين
غلوت ،أعتقد "
ت لدى سماعي مدى ضآلة المبلغ .وحتى لو ذُ ِ
هل ُ
ت كل إجراء احترازي ممكن ،ولم ُتنِفق إل عن اّتخذ َ
ن مبلغ ثلثين غلوتا ً لن يدوم الضرورة القصوى ،فإ ّ
ت فجأةً معك أكثر من ثلثة أو أربعة أسابيع .وفهم ُ
مدى خطورة موقف سام .لقد كان يتوجه مباشرة
إلى حتفه ،ولم يكن حتى يعي ذلك "
ت الكلمات تخرج من فمي .ولم تكن هنا ،بدأ ْ
ن سمعتها بنفسي ، ما تعنيه إلى أ ْلدي أدنى فكرة ع ّ
ن حينئذٍ كان الوان قد فات .قلت " لديّ بعض ولك ْ
النقود .ليست كثيرة ،لكنها أكثر بكثير مما لديك "
قال سام " يا للشهامة "
ن
ت ل تفهم .أنا في حاجة إلى مكا ٍ قلت " أن َ
ت في حاجة إلى النقود .فإذا جمعنا ُ
م فيه ،وأن َ أقي ُ
مواردنا معا ً ،فقد ُتتاح لنا فرصة لتجاوز فصل
الشتاء .فإذا لم نفعل ،فسوف نموت كلنا .ول
ن هناك شكا ً في هذا .سوف نموت ،ومن أعتقد أ ّ
ت مضطرا ً إلى ك لس َن نموت في حين أن َ الحمق أ ْ
ذلك "
ت فظاظة كلماتي كلينا معا ً ،ولم ينطق أي صعق ْ
منا بأي كلمة بضع لحظات .لقد كان كل شيء
ت بصورة ما في منافيا ً للعقل ،لكني نجح ُ صارخا ً ،و ُ
قول الحقيقة .وكان دافعي الول هو العتذار ،
ولكن مع تدفق الكلمات وبقائها في الجو بيننا ،
ة للتراجع عنها ت نفسي كاره ً أصبح لها معنى ،ووجد ُ
124
ن ذلك .وأعتقد أننا فهمنا نحن الثنان ما يحدث ،لك ّ
لم يجعل قول الكلمة التالية أمرا ً سهل ً .ففي
مواقف مشابهة ،من المعروف عن سكان هذه
المدينة أنه يقتل أحدهم الخر .ول ُيعت ََبر قت ُ
ل
ص لخر من أجل غرفة أمرا ً جلل ً ،أو من أجل شخ ٍ
ل ما منعنا من إيذاء حفنة من القطع النقدية .ولع ّ
أحدنا الخر كان حقيقة بسيطة هي أننا ل ننتمي إلى
هذا المكان .لم نكن من سكان تلك المدينة .لقد
ل ذلك كان نشأنا وترعرعنا في مكان آخر ،ولع ّ
ن كل ً منا يعرف شيئا ً عن الخر . كافيا ً لجعلنا نشعر أ ّ
ن أقول إني متأكدة من ذلك .لقد ل أستطيع أ ْ
مجّردة تقريبا ً ،وبدا مصادفة بطريقة ُ جمعت بيننا ال ُ
ن ذلك أضفى على اللقاء منطقا ً فريدا ً من نوعه ، أ ّ
ت اقتراحا ً غريبا ً ، دم ُ ي منا .وق ّ قوةً ل تعتمد على أ ٍ
كقفزة جامحة نحو العلقة الحميمة ،ولم يُقل سام
ن ذلك الصمت بحد ّ ذاته كان تأ ّ أي كلمة .وشعر ُ
ت الشياُء التي قلُتها ل اكتسب ْ خارقا ً ،وأنه كلما طا َ
مزيدا ً من الشرعّية .وعندما انتهى ،لم يبقَ شيء
نناقشه .
قال سام ،وهو يتلّفت حوله في الغرفة الصغيرة
ن تنامي ؟ " " ،المكان مزدحم هنا .أين تنوين أ ْ
قلت " ل يهم .سوف نجد حل ً "
ي
ف ابتسامة عند زاويت ّ قال ،وهو يرسم أخ ّ
ك أحيانا ً .بل إنه فمه " ،كان وليم يتحدث عن ِ
ك .كان يقول ،احذر أختي الصغيرة .إنها ح ّ
ذرني من ِ
ت ،آّنا بلوم ،سريعة سريعة الغضب .أهكذا أن ِ
الغضب ؟ "
قلت " أعرف بماذا تفكر ،ولكن ل تقلق ،لن
ت غبية ،قبل أي شيء . أقف في طريقك .أنا لس ُ
125
سن التفكير .سوف ُ ُ
سن القراءة والكتابة .وأح ِ أنا أح ِ
ُينّفذ الكتاب بوتيرةٍ أسرع بسبب وجودي "
ت إلى هنات قلقا ً ،آّنا بلوم .لقد جئ ِ" أنا لس ُ
ت
ت على سريري ،وتبّرع ِ هربا ً من البرد ،وارتمي ِ
ن أقلق ؟ " بجعلي ثريا ً – وتتوقعين مني أ ْ
دى الثلثمائة غلوت .بل " ل تبالغ .المبلغ ل يتع ّ
دى المائتين وخمسة وسبعين " ل يتع ّ
" هذا ما قلت – رجل غني "
" إذا أصررت "
حسن ح ّ ُ
ظنا نحن " بل أصّر .وأقول أيضا ً :من ُ
ن المسدس لم يكن محشوا ً " الثنين أ ّ
126
لقد كان حّبنا عميقا ً ول عودة عنه ،وفي النهاية
جين ،وكأننا لن نفترق أبدا ً . أصبحنا كالمتزو َ
تلك كانت أسعد أيامي .ليس فقط هنا ،كما
تعلم ،بل في أي مكان – كانت أفضل أيام حياتي .
ن أكون غاية في والغريب أنه كان في استطاعتي أ ْ
ن العيش مع السعادة في تلك اليام الفظيعة ،لك ّ
ل الفرق .ظاهريا ً ،لم يتغّير شيء . لك ّ سام شك ّ َ
ل كما هو ،والمشاكل نفسها كان الكفاح نفسه ظ ّ
يجب مواجهتها في كل يوم ،ولكن الن أصبحت
ت أؤمن بأنه عاجل ً أو آجل ً هناك إمكانية المل ،وبدأ ُ
ستنتهي متاعبنا .كان سام يعرف المدينة أكثر من
ن يتلو لئحة أي شخص عرفته .كان في استطاعته أ ْ
بكل الحكومات التي جاءت على مدى السنوات
ن ُيعطيك العشر الخيرة ؛ وكان في استطاعته أ ْ
محافظين ،وعددا ً ل ُيحصى من كام ،وال ُ ح ّأسماء ال ُ
ن يحكي الموظفين الثانويين ؛ كان في استطاعته أ ْ
ت مصانع تاريخ جامعي المكوس ،ويصف كيف ُبني َ ْ
الطاقة ،وُيعطي سردا ً تفصيليا ً حتى لصغر
الطوائف .ومعرفته الكثير وكونه ل يزال في
ن يشعر بالثقة بالنفس فيما يخص استطاعته أ ْ
متاحة للخروج – كل ذلك أقنعني .لم يكن ُفرصنا ال ُ
وه الحقائق .لقد كان ،قبل سام من النوع الذي ُيش ّ
ن ينظر بريبة ب على أ ْ أي شيء ،صحافيا ً ،وقد تدّر َ
مبهمة .إذا قال إلى العالم .بل تمّني ،أو افتراضات ُ
ن نعود إلى الوطن ،فذلك يعني ن من الممكن لنا أ ْ إ ّ
ن ذلك ممكنا ً . أنه يعلم جيدا ً أ ّ
في العموم ،لم يكن سام متفائل ً ،وليس من
ن تقول عنه سهل القياد .كان النوع الذي يمكن أ ْ
فيه ما ُيشبه الغضب يضطرب داخله طوال الوقت ،
127
ب محموما ً ذب ،يتقل ّ ُوحتى عندما ينام يبدو أنه يتع ّ
ل شخصا ً ما في أحلمه . تحت الغطية وكأنه ُيقات ُ
ت إليه كان في حالة سيئة ،وتغذية وعندما جئ ُ
سيئة ،ويسعل باستمرار ،ولم يستِعد ما يشبه
الصحة الجيدة إل بعد مرور أكثر من شهر .وحتى
ت أخرج ت أقوم بالعمل كله .كن ُ ذلك الحين ،كن ُ
رغ القمامة ،وأطبخ وجباتنا ُ
لشتري الطعام ،وأف ِ
ظف الغرفة .ولحقا ً ،عندما أصبح سام قويا ً بما وُأن ّ
مل البرد من جديد ،بدأ يخرج في أوقات يكفي ليتح ّ
صّرا ً على م ِ
الصباح ليقوم بالعمال الخفيفة بنفسه ُ ،
ن ألزم الفراش لواصل نومي .كان سام موهوبا ً أ ْ
جدا ً في إظهار اللطف – وأحّبني أيضا ً ،أكثر مما
ن يحبني أي إنسان .وإذا كانت نوبات توقعت أ ْ
السى ُتبِعده عني أحيانا ً ،إل أنها كانت نوبات داخلية
مه ،وكان يميل إلى إرهاق ي الكتاب هو ه ّ .وبق َ
مل . نفسه به ،بالعمل فيه إلى ما فوق طاقة التح ّ
ط تنظيم ِ كل المادة اليائسة التي وعندما يواجه ضغ َ
جمعها ليصنع منها شيئا ً منسجما ً ،يبدأ فجأةً بفقدان
ميه عديم الفائدة ُ ،ركاما ً إيمانه بالمشروع .وُيس ّ
ل أشياء ل يمكن ن يقو َ
لأ ْ عقيما ً من الوراق ُيحاو ُ
قولها ،ومن ثم يتقوقع داخل حالة من اليأس تدوم
ما بين اليوم والثلثة أيام .تلك المزجة السوداوية
كانت دائما ً تليها فترات من الرّقة القصوى .كان
يشتري لي حينئذٍ هدايا صغيرة – تفاحة ،مثل ً ،أو
شريطا ً لربط به شعري ،أو قطعة شوكولة .ربما
ن ُينفق النقود الزائدة ، كان تصّرفا ً خاطئا ً منه أ ْ
تن أتأّثر بتلك اللفتات .كن ُ يأ ْ ولكن كان صعبا ً عل ّ
مدبرة المنزل التي ل تؤمن يُ ، ف العمل ّ دائما ً الطر َ
الهراء وُتقّتر وتقتصد ،ولكن عندما يدخل سام حامل ً
128
هدية غالية الثمن مثل تلك ،كان شعورا ً بالفرح
تده .كن ُ ي .ول أقوى على ر ّ ض عل ّ يغمرني ،يفي ُ
ن أعرف أنه ُيحبني ،وإذا كان ذلك في حاجة إلى أ ْ
ت أرغب في دفع ن نقودا ً ستنفد قريبا ً ،كن ُ يعني أ ّ
ذلك الثمن .
ونما لدينا معا ً ولعٌ بتدخين السجائر .والتبغ عزيز
المنال هنا ،وعندما تجده تدفع ثمنه غاليا ً جدا ً ،لك ّ
ن
صلت من المتعاملين بالسوق م بعض ال ِ سام أقا َ
السوداء أثناء تجميعه مواد البحث من أجل كتابه ،
وكان غالبا ً قادرا ً على العثور على حزمة من
دى الغلوت عشرين علبة مقابل سعرٍ منخفض ل يتع ّ
أو الغلوت نصف .وأنا أتحدث عن سجائر حقيقية ،
من الطراز القديم ،من النوع الذي ُتنتجه المصانع
صقا ً عليه من الخارج مل َون و ُ مل ّمغّلفا ً بورق ُ ويأتي ُ
هاتف خليوي .والتي كان سام يشتريها كانت
وعة كانت قد مسروقة من سفن خيرّية أجنبية متن ّ
ت هنا في الماضي ،وكانت أسماء الماركات رس ْ
ُتكَتب بلغات أجنبية ل نستطيع قراءتها .كنا ندخنها
بعد هبوط الظلم ،ونحن مستلقيان على السرير
ل من النافذة الكبيرة ،التي على شكل ونط ُ
ب السماء واضطراباتها ،والسحب مروحة ،نراق ُ
وهي تمّر من أمام القمر ،والنجوم الصغيرة ،
والعواصف الثلجية العنيفة القادمة من العلى .كنا
ننفث الدخان من الفم ونراقبه يطفو عابرا ً الغرفة ،
كل ويرمي ظلل ً على الجدار البعيد تتبعثر حالما تتش ّ
س
ح ّ سمة عابرة جميلة ِ ، .كان في المشهد كله ِ
در يجّرنا معه إلى زوايا مجهولة من عالم بالَق َ
ٍ عن أرض دثنا حينئذالنسيان .وكثيرا ً ما تح ّ
الوطن ،واستحضرنا أكبَر عددٍ ممكن من
129
دها حميمية الذكريات ،واستعدنا أصغر الصور وأش ّ
سد الواهن – الشجار الوافرة على بنوٍع من التج ّ
طول جادة ميرو في شهر تشرين أول ،وساعات
الحائط ذات الرقام الرومانية في غرف الدرس في
المدارس الحكومية ،والضواء التي على شكل تّنين
مثّبتة في المطعم الصيني مقابل الجامعة . أخضر وال ُ
ن ن نتشارك نكهة تلك الشياء ،أ ْ كان في مقدورنا أ ْ
ش من جديد حوادث ل حصر لها في عالم ٍ نعي َ
ن ذلك كان عرفناه معا ً منذ أيام طفولتنا ،وأعتقد أ ّ
محافظة على علوّ روحنا المعنوية ، ُيساعدنا في ال ُ
نعلى دفعنا إلى العتقاد بأننا سنستطيع ذات يوم أ ْ
نعود إلى ذلك كله .
مقيمين في م كم كان عدد الشخاص ال ُ ل أعل ُ
المكتبة العامة في ذلك الوقت ،لكني أعتقد أنه
تجاوز المائة بكثير ،بل وأكثر بكثير .المقيمون كانوا
كلهم من المثقفين والك ُّتاب ،بقايا حركة التطهير
ت أثناء حقبة شغب سابقة .ووفقا ً لسام ، التي وقع ْ
مح ،ة من التسا ُ سست الحكومة التي تلت سياس ً أ ّ
ت المثقفين في عدد من المدارس الحكومية وأو ْ
في أرجاء المدينة – القاعة الرياضية في الجامعة ،
مستشفى مهجور ،المكتبة العامة . ،ترتيبات اليواء
سر وجود مدفأة تلك استقّرت بالكامل )مما ُيف ّ
ب في غرفة سام والمغاسل والمراحيض الحديد الص ّ
ل ممتاز في الطابق السادس( ، التي تعمل بشك ٍ
م عددا ً وفي نهاية المطاف تم توسيع البرنامج ليض ّ
من المجموعات الدينية والصحفيين الجانب .ولكن
ت الحكومة التالية السلطة بعد ذلك م ْعندما استل َ
ت تلك السياسة .لم ُتنتَزع المساكن بسنتين ،توقف ْ
ً
من المثقفين ،ولكن أيضا لم ُيعطوا أي دعم ٍ
130
ي .كانت نسبة الخوف من العقوبة عالية حكوم ّ
ن العديد من المثقفين بصورة مفهومة ،بما أ ّ
أجبرتهم الظروف على الخروج والبحث عن أنواع
ركوا على هواهم ، أخرى من العمل .والذين بقوا ت ُ ِ
أهملتهم كل الحكومات التي كانت تأتي إلى السلطة
وتخرج منها .ونما بين مختلف القطاعات في
لصحبة ،على الق ّ المكتبة العامة قد ٌْر من حس ال ُ
ن العديد منهم كانوا راغبين في تبادل إلى درجة أ ّ
سر وجود الجماعات الحاديث والفكار .وهذا ُيف ّ
الذين رأيتهم في البهو في اليوم الول .كانت
الحاديث العامة تدور في فترة الصباح مدة ساعتين
مى ساعات التمشية – وكان ُيدعى كل – التي تس ّ
ن ُيقيم في المكتبة العامة إلى الشتراك فيها . م َْ
وكان سام قد قابل إسحق خلل إحدى تلك
الجلسات ،لكنه في العموم كان ينأى بنفسه عنها ،
لنه وجد المثقفين ل ُيثيرون الهتمام إل بكونهم
ظاهرة بحد ذاتهم – وهو أحد جوانب الحياة في
ن سّرية :المدينة .كلهم كانوا منشغلين بمه ٍ
ث جارية وأخرى وردت يفتشون عن نظائر بين أحدا ٍ
في الدب الكلسيكي ،تحليلت إحصائية لميول
السكان ،تأليف قاموس جديد ،وما إلى ذلك .لم
يكن هذا النوع من الشياء مفيد لسام ،لكنه حاول
ن
مهِ أ ّ
ل منهم ،لِعل ِ صلة جيدة مع ك ٍ ن يبقى على ِ أ ْ
ن يتحولوا إلى أشرار عندما المثقفين يمكن أ ْ
تن يسخر منهم .وقد تعّرف ُ م ْ
ن هناك َ يعتقدون أ ّ
على العديد منهم عََرضا ً – أثناء وقوفي في الطابور
حاملة دلوا ً أمام مغسلة الطابق السادس ،أتباد ُ
ل
وصفات الطعمة مع النسوة ،وأصغي إلى الثرثرة –
131
ن، ت نصيحة سام ولم أنخرط مع أي منه ّ لكني اّتبع ُ
دية ولكن متحّفظة منهن . ت على مسافةٍ و ّ وبقي ُ
تفيما عدا سام ،الشخص الوحيد الذي كن ُ
ت خلل الشهر الول أتحدث معه كان الحاخام .كن ُ
أو نحوه أقوم بزيارته كلما ُأتيحت لي الفرصة -
ساعة حّرة في وقت متأخر من بعد الظهيرة ،مثل ً ،
أو واحدة من تلك اللحظات التي يغرق خللها سام
في كتابه ول تكون هناك أي أعمال صغيرة تتطلب
التنفيذ .كان الحاخام دائما ً منشغل بمريديه ،مما
يعني أنه لم يكن يتوفر لديه الوقت لجلي ،لكننا
نجحنا في النخراط في عدد من الحاديث الجيدة .
ي خلل كره هو التعليق الذي أدلى به إل ّ وأشد ّ ما أتذ ّ
ن من زيارتي الخيرة .وفي ذلك الوقت وجدت أ ّ
ن أستمر في التفكير فيه منذ ذلك الحين . مذهل أ ْ ال ُ
ن كل يهودي يعتقد أنه ينتمي إلى آخر لقد قال إ ّ
جيل من اليهود .نحن دائما ً موجودون في النهاية ،
ف على حافة اللحظة الخيرة ،ولماذا ينبغي دائما ً نق ُ
كر هذه ن نكون مختلفين الن ؟ لعّلي أتذ ّ ن نتوّقع أ ْ أ ْ
الكلمات لنني لم أره ثانية بعد ذلك الحديث .وفي
ت فيها إلى الطابق الثالث ، المرة التالية التي هبط ُ
ل محّله رجل آخر في كان الحاخام قد رحل ،وح ّ
الغرفة – رجل أصلع ،نحيل ،يضع نظارة ذات إطار
سلكي .كان جالسا ً على طاولة ويكتب بغضب في
محاطا ً بأكوام من الوراق وبما بدا أنها كرة ،و ُ مف ّ ُ
تعدد من الِعظام والجماجم النسانية .وحالما ولج ُ
ي وعلى وجهه تعبير منزعج ، الغرفة ،رفع بصره إل ّ
ي. عدائ ّبل و ِ
ن تقرعي الباب ؟ " قال " ألم تتعّلمي قط أ ْ
" أنا أبحث عن الحاخام "
132
ي وكأني حمقاء دق إل ّ ما ً شفتيه وُيح ّ
قال بن ََزق ،زا ّ
مين " " ،الحاخام رحل .كل اليهود رحلوا قبل يو َ
" ماذا تقول ؟ "
كّرر ،وهو يزفر تنهيد المتعاض " ،لقد رحل
مين .واليانسيين 5سيرحلون غدا ً ، اليهود قبل يو َ
ي
والجزويت سيرحلون في يوم الثنين .أل تعرفين أ ّ
شيء ؟ "
ما تتحدث عنه " " ليس لديّ أدنى فكرة ع ّ
" إنها القوانين الجديدة .لقد فقدت المجموعات
ن هناك شخصا ً دق أ ّالدينية وضعها الكاديمي .ل أص ّ
جاهل ً إلى هذه الدرجة "
ن تظن م ْ " ل داعي للتحدث بهذه اللغة الحقيرة َ .
نفسك ،على أي حال ؟ "
قال " اسمي دوجاردان .آنري دوجاردان .أنا
عالم في العراق البشرية "
صك الن ؟ " ت تخ ّ" والغرفة أصبح ْ
" بالضبط .هذه الغرفة لي "
" وماذا عن الصحفيين الجانب ؟ هل تغّير
وضعهم أيضا ً ؟ "
" ل فكرة لديّ .هذا ليس من اختصاصي "
ن هذه الِعظام والجماجم هي " أعتقد أ ّ
اختصاصك "
" هذا صحيح .إنني أعمل على تحليلها "
ن كانت ؟ " م ْ
" لِ َ
مدوا حتى س تج ّ ث مجهولةِ الهوية .لنا ٍ " لجث ٍ
الموت "
" هل تعلم أين الحاخام الن ؟ "
كما ً " إنه في طريقه إلى أرض الميعاد ، قال مته ّ
ت ما بل شك .والن اذهبي من فضلك .لقد هدر ِ
- 5اليانسيين :أصحاب المذهب الينسي القائل بفقدان حرية الرادة وبأ ّ
ن الخلص من طريق موت المسيح مقصور على فئة قليلة .
133
ن
بأ ْ يكفي من وقتي .لديّ عمل هام أؤديه ،ول أح ّ
ن
ن تغلقي الباب بعد أ ْكري أ ْ ُأقا َ
طع .شكرا ً ل ِ
ك .وتذ ّ
تخرجي "
134
مل تكاليف شراء أخرى . ن نتح ّ يكن في استطاعتنا أ ْ
وكما كان الحال ،كان صعبا ً جدا ً المحافظة على
ف من أقلم الرصاص وأقلم الحبر .كان مخزون كا ٍ
نقص المواد في فصل الشتاء قد رفع السعار إلى
مستويات قياسية ،ولول أقلم الرصاص الستة التي
ف
كانت في حوزتي – بالضافة إلى أقلم الحبر الجا ّ
ت منا ة في الشارع – لنفد ْ مصادف ً ت عليها ُ التي عثر ُ
المواد الساسية .كانت لدينا وفرة من الوراق
ن دزينة من المواعين في اليوم )كان سام قد خّز َ
ت مشكلة ن الشموع ش ّ
كل ْ الذي انتقلنا فيه( ،لك ّ
ت على عملنا .كان ضوء النهار ضروريا ً لنا أخرى أّثر ْ
ن ُنقّلل من نفقاتنا ،لكننا كنا في قلب إذا أردنا أ ْ
الشتاء ،والشمس تقتفي أثر قوسها الهزيل عبر
صفحة السماء فقط بساعات قليلة قصيرة ،وإذا
ن يستمر ،كان ينبغي أردنا للعمل في الكتاب أ ْ
ن نحد ّ من تدخيننا تقديم بعض التضحيات .حاولنا أ ْ
للسجائر حتى أربع أو خمس سجائر في الليلة
الواحدة ،وفي نهاية المطاف ترك سام لحيته
تسترسل وتنمو من جديد .كانت المواس ُتعد ّ من
قبيل الترف ،أصل ً ،ووصل بنا المر إلى الختيار ما
بين الوجه الناعم له أو الساقين الناعمتين لي .
وفازت الساقان بسهولة .
احتجنا إلى الشموع نهارا ً وليل ً من أجل ترتيب
الوراق .وكانت الكتب موجودة في مركز البناء ،
ي من الجدران . وبالتالي لم تكن هناك نوافذ على أ ٍ
ن
ت منذ زم ٍ ن الطاقة الكهربائية كانت قد قُط ِعَ ْ وبما أ ّ
ن نحمل ضوءنا بعيد ،لم يبقَ أمامنا خيار غير أ ْ
ت من الوقات ،كما ُيقال ،كان بأنفسنا .وفي وق ٍ
مجّلد في المكتبة الوطنية . هنا ما يفوق المليون ُ
135
ت إلى حدٍ كبير عندما تلك العداد كانت قد اخت ُزِل َ ْ
ن تبّقى هناك مئات اللف وصلت إلى هناك ،ولك ْ
ل من المطبوعات .بعض الكتب كانت م هائ ٌ منها ،ك ٌ
ل قائم على رفوفها ،والبعض الخر موضوعة بشك ٍ
توم ْ مبعثرة بصورة فوضوية على الرض ،وغيرها ك ُ ّ ُ
تض ْ على هيئة أكوام غريبة الشكل .كانت قد فُرِ َ
إجراءات صارمة في المكتبة ضد نقل المجلدات من
البناء ،ولكن مع ذلك كان العديد منها ُيهّرب إلى
الخارج وُيباع في السوق السوداء .وعلى أي حال
ش يدور حول ما إذا كانت المكتبة في الواقع كان نقا ٌ
مَرل زالت مكتبة .فقد كان نظام التصنيف قد د ُ ّ
ن الكثير من الكتب كانت في غير بالكامل ،ول ّ
أماكنها ،بات من المستحيل في الواقع العثور على
ت في حسبانك أنه كانت أي مجلد تريده .وإذا أخذ َ
ن القول مخّزنة ،فإ ّ هناك سبعة طوابق من الكتب ال ُ
ن كتابا ً هو في غير مكانه يشبه كثيرا ً قول إنه لم إ ّ
يُعد موجودا ً .وعلى الرغم من أنه قد يكون
ن الحقيقة موجودا ً ماديا ً في المبنى ،فإ ّ
كن من العثور الواقعة هي أنه ل أحد سيتم ّ
ت من أجل سام عن عليه بعد ذلك .وقد فتش ُ
ن أغلب مسجلين المحليين الُقدامى ،لك ّ عدد من ال ُ
عمليات بحثي في ذلك المكان كانت ببساطة جمع
كتب ل على التعيين .لم أحب كثيرا ً وجودي هناك ،
ة ،وُأضطر إلى مصادف ً ن قد أقابل ُ م ْ حيث ل أعلم َ
ت
م رائحة كل تلك الرطوبة والعفونة العتيقة .كن ُ ش ّ
أتأّبط أكبر عدد ممكن من الكتب وأندفعُ عائدة إلى
غرفتنا في الطابق العلى .ومن الكتب كنا
نستمد الدفء خلل فصل الشتاء .وفي
غياب أي نوع آخر من الوقود ،كنا نحرقها
136
ب طلبا ً للحرارة .أعلم في مدفأة الحديد الص ّ
ن هذا يبدو تصرفا ً رهيبا ً ،ولكن حقا ً لم يكن أمامنا أ ّ
مد حتى الموت . ن نفعل ذلك أو نتج ّ خيار .فإما أ ْ
ن
ت المفارقة الناجمة عن ذلك – أ ْ وطبعا ً أدرك ُ
تقضي كل تلك الشهر نعمل على كتاب وفي الوقت
نفسه نضطر إلى حرق مئات من الكتب الخرى
لكي نبقى دافئين .والغريب في المر هو أني لم
تصدقا ً ،أعتقد حقا ً أني استمتع ُ أشعر بأي ندم .و ِ
برمي تلك الكتب إلى ألسنة النار .لعّلها أطلَق ْ
ت
ن داخلي ؛ لعّلها كانت ببساطة ً ً
غضبا سري ّا كام ٍ
ن ما حدث لها ل يهم .فالعالم اعترافا ً بحقيقة أ ّ
مل ل الن ُتستع َ ت إليه انتهى ،وعلى الق ّ الذي انتم ْ
معظمها لم يكن لهدف معّين .وعلى أي حال ُ ،
ن ُيفَتح – روايات رومانسية ،ومجموعات يستحق أ ْ
مقررات مدرسية عفا خطب السياسية ،و ُ من ال ُ
ت على شيء بدا ت كلما عثر ُ عليها الزمن .وكن ُ
مستساغا ً ،أحتفظ به لقرأه .وأحيانا ً ،عندما كان ُ
ن
ت أقرأ له قبل أ ْ الرهاق ينال من سام ،كن ُ
ت أجزاء من يستغرق في النوم .وأذك ُُر أني قرأ ُ
ت
كتاب هيرودوتوس بتلك الطريقة ،وذات ليلة قرأ ُ
الكتاب الصغير الغريب الذي أّلفه سيرانو دو
ن، برجيراك عن رحلته إلى القمر والشمس .ولك ْ
في النهاية ،كان كل شيء يجد طريقه إلى
المدفأة ،كل شيء كان يتحول إلى دخان .
عندما أسترجع المر الن ،أجد أني ل أزال أؤمن
ن تسير على ما ُيرام بالنسبة بأّنه كان يمكن للمور أ ْ
ن ننهي الكتاب ،وعاجل ً أو آجل ً إلينا .كان يمكن أ ْ
كنا سنجد طريقة للعودة إلى الوطن .ولول الخطأ
الفاضح والحمق الذي ارتكبته ُقبيل انتهاء فصل
137
ك هذه ت جالسة أمامك الن ،أحكي ل َ الشتاء ،لكن ُ
ت خطأ القصة بصوتي مباشرة .وحقيقة أني ارتكب ُ
ن بريئا ً ل ُيقّلل مما سّببه من ألم .كان ينبغي أ ْ
ت ثقتي ور ،ووضع ُ ت بته ّأعرف أكثر ،ولني تصّرف ُ
ت طم ُ في شخص ل سبب لديّ للوثوق منه ،ح ّ
ٍ
تمر ُ متها .أنا ل أقول هذا بمأساوّية .لقد د ّ حياتي بر ّ
كل شيء بحماقتي ،ول ُيلم في ذلك غيري أنا .
حدث المر كما يلي ُ .بعيد بداية العام الجديد ،
ت أني حامل .ولما لم أكن أعلم كيف اكتشف ُ
ت بالخبر لنفسي بعض سيستقبل سام ذلك ،احتفظ ُ
ت بحالة سيئة من ُ
الوقت ،ولكن ذات يوم أصب ُ
غثيان الصباح - 6عرق بارد ،وتقّيؤ على الرض –
دق ، ت إليه الحقيقة .فرح سام بها فرحا ً ل ُيص ّ وأنهي ُ
ربما كان أشد ّ فرحا ً مني .ل أعني أني لم أكن
ن
ت تفهم ،ولكن لم أستطع أ ْ أرغب في الطفل ،أن َ
ن
ت أشعر بأ ّ ت به من خوف ،وأحيانا ً كن ُ أرد ّ ما شعر ُ
أعصابي تخونني ،عندما أفكر في أني سألد طفل ً
ن ُ
ب بالجنون .لك ّ في ظل تلك الظروف أكاد أصا ُ
ذلك كان ُيعادله حماس سام للمر .لقد كان
منتعشا ً بكل معنى الكلمة بفكرة أنه سُيصبح أبا ً ، .
ف من شكوكي ،جعلني أنظر إلى وشيئا ً فشيئا ً خّف َ
ل حسن .الطفل يعني أننا قد نجونا ، الحمل كفأ ٍ
كما قال .لقد تغّلبنا على الظروف الصعبة ،ومنذ
ذلك الحين فصاعدا ً سيصبح كل شيء مختلفا ً .وإننا
بإنجابنا طفل ً معا ً ،جعلنا بداية عالم جديد أمرا ً
ٍ
دث بتلك ت سام يتح ّ ممكنا ً .لم أكن قد سمع ُ
الطريقة قبل ذلك .بكثير من الشجاعة ،والعواطف
ت حين سمعت تلك دم ُص ِالمثالية – حتى أني ُ
138
ن هذا ل يعني أني لم أحبها . الشياء تصدر عنه .لك ّ
ُ
دقها . ت أص ّ لقد أحببُتها كثيرا ً ،بل إني في الواقع بدأ ُ
أشد ّ ما أردته هو أل ّ أخذله .وعلى الرغم من
بعض فترات الصباح السيئة خلل السابيع الولى ،
ن أحافظ على القيام تأ ْ ت صحتي جيدة ،وحاول ُ بقي َ ْ
ت أفعل من قبل . ي من عمل ،كما كن ُ جب عل ّ بما تو ّ
وبحلول منتصف شهر آذار ،ظهرت بوادر ُتشير إلى
ت العواصف تق ّ
ل وته :أخذ ْ ن الشتاء بدأ يفقد ق ّ أ ّ
قليل ً ،وفترات ذوبان الثلوج تطول .ل أعني بقولي
ن الطقس أصبح دافئا ً ،ولكن كانت هناك هذا أ ّ
ن الشياء تتحرك في ذلك إشارات عديدة ُتوحي بأ ّ
ن السوأ قد انتهى . الّتجاه ،شعور متواضع جدا ً بأ ّ
ن حذائي كان حينئذٍ قد بدأ يتهّرأ – وهو وشاء الحظ أ ّ
ن بعيد .ول نفسه الذي أعطتنيه إيزابل قبل زم ٍ
ت به .لقد كان ن أحسب كم ميل ً مشي ُ يمكنني أ ْ
مل كل خطوة معي منذ أكثر من عام ،وتح ّ
ن من المدينة ،وها خطوتها ،ورافقني إلى كل رك ٍ
ي كله ،والجزاء هو الن قد تمّزق تماما ً :النعل بل ِ َ
مزقا ً ،على الرغم من أني بذل ُ
ت العليا أضحت ُ
ن
أقصى جهدي لسد ّ الثقوب بورق الصحف ،لك ّ
الشوارع الرطبة كانت شديدة الوطأة عليه ،وكانت
قدماي طبعا ً ُتنقعان بالماء كلما خرجت .أعتقد أ ّ
ن
هذا حدث مرارا ً كثيرة ،وذات يوم في أوائل شهر
مَرضا ً حقيقيا ً ،اكتم َ
ل نيسان أصابني برد .كان َ
باللم ونوبات الرتعاش ،والتهاب الحلق والعطس .
ن ذلك البرد وبسبب انهماك سام بمسألة الحمل ،فإ ّ
أصابه بالرعب إلى حد ّ الهستريا .وترك كل أعماله
وأخذ يعتني بي ،يحوم حول السرير كممرضة
دد النقود في شراء أشياء باهظة الثمن مخبولة ،وُيب ّ
139
سنت صحتي في معّلب .وتح ّ حساء ال ُ كالشاي وال ِ
ن سام ن بعد ذلك س ّ غضون ثلثة أيام أو أربعة ،ولك ْ
ن أضع قدمي خارج المنزل ، قانونا ً .إنه ل يريدني أ ْ
ن يتمكن من شراء حذاء جديد لي . كما قال ،إلى أ ْ
ضع والمهام الخرى كلها كان يقول بأعمال التب ّ
سك ن هذا أمر سخيف ،لكنه تم ّ ت له إ ّ بنفسه .قل ُ
ن يدعني ُأثنيه عن فعل ذلك . ضأ ْ برأيه ورف َ
مل كمريضة ،لمجّرد أني قلت " ل أريد أ ُ
ن أعا َ ْ
حامل "
ك ،بل بالحذاء . قال سام " المر ل يتعّلق ب ِ
ت ،سوف تتبّلل قدماك .والصابة التالية فكلما خرج ِ
بالبرد لن يكون سهل ً الشفاء منها ،كما تعلمين ،
ك؟" وماذا سيحدث لنا إذا اشتد ّ المرض علي ِ
ت قلقا ً إلى هذا الحد ،لماذا ل تعطيني " إذا كن َ
حذاءك لنتعله عندما أخرج ؟ "
" إنه واسع جدا ً عليك .سوف تخرج قدماك منه
كطفلة ،وسرعان ما ستقعين .فماذا سيحدث
عندئذ ٍ ؟ حالما ستسقطين على الرض ،سوف
يسلبك أحدهم إياه من قدميك "
ن أفعل أي شيء إذا كانت لدي " ل يسعني أ ْ
ت" قدمان صغيرتان .هكذا وِلد ُ
" قدماك جميلتان ،يا آّنا .إنهما أدقّ قدمان
ل الرض التي خلقتا حتى الن .أنا أعبدهما ُ .أقب ّ ُ ُ
ن
تمشيان عليها .لهذا يجب حمايتهما .ويجب أ ْ
نحرص على أل ُيصيبهما أي أذى "
ت
ي .كن ُ السابيع القليلة التالية كانت صعبة عل ّ
ب سام وهو يهدر وقته على أشياء كان يمكن أراق ُ
ن أؤديها بنفسي بسهولة ،والكتاب لم ُيحرز أي لي أ ْ
ن يكون زوج تافه دم .وقد أغضبني التفكير في أ ّ تق ّ
140
ن يتسّبب في الكثير من من الحذية أمكنه أ ْ
ت أني المشاكل .وكان الطفل قد بدأ يظهر ،وشعر ُ
بقرة ل فائدة منها ،أو أميرة حمقاء تلزم المنزل
طوال النهار بينما ملكها وفارسها خرج إلى الحرب .
ن أعثر على حذاء ،هكذا ليت كان في استطاعتي أ ْ
ت أكرر لنفسي ،إذن لعادت الحياة إلى حركتها كن ُ
الطبيعية .ورحت أفتش في الجوار ،أسأل الناس
ت
أثناء انتظاري في الطابور أمام المغسلة ،بل نزل ُ
ن
خلل ساعات التمشية في البهو بضع مرات لرى إ ْ
ن يدّلني .ولكن بل فائدة ،ولكن كان في وسع أحد أ ْ
ت دوجاردان في رواق الطابق ذات يوم صادف ُ
السادس ،وسرعان ما اندمج في حديث معي ،
ت قد تجّنبت ُيبربر وكأننا صديقين حميمين .وكن ُ
دوجاردان منذ لقائنا الول في غرفة الحاخام ،وتلك
الصداقة المفاجئة من جانبه صدمتني بغرابتها .كان
مراوغا ً حقيرا ً متحذلقا ً ،وخلل تلك دوجاردان رجل ً ُ
الشهر تجّنبني بقدر ما حرصت على تجّنبته .هذه
طف . المرة كان يشعّ بالبتسامات وبالهتمام المتعا ِ
ك في حاجةٍ إلى حذاء .إذا كان قال " لقد سمعت أن ِ
هذا صحيحا ً ،قد أتمكن من مساعدتك في هذا
ن هناك ن أفهم فورا ً أ ّ المجال " .كان ينبغي أ ْ
ن ِذكر كلمة " حذاء " بددت انتباهي . خطبا ً ،لك ّ
ت شديدة اللهفة للحصول عليه ،كما تفهم ، كن ُ
صى دوافعه . ن أتق ّ
طر في بالي أ ْ بحيث لم يخ ُ
ب لي له تابعَ قائل ً " المر هو كما يلي .لديّ قري ٌ
صلة بـ ،همممم ،كيف أقول ،بشئون البيع ِ
والشراء .أشياء للستعمال ،كما تعلمين ،سلع
استهلكية ،أشياء من هذا النوع .أحيانا ً تقع تحت
يديه أحذية – من النوع الذي أنتعله الن ،مثل ً – ول
141
ن لديه مخزونا ً منها ن من الخطأ افتراض أ ّ أعتقد أ ّ
ف أني ذاهب إلى منزله هذه الن .وبما أنه يتصاد ُ
ن أطلب شيئا ً الليلة ،فل بأس ،ل بأس أبدا ً ،أ ْ
ك .طبعا ً ،أنا في حاجة إلى معرفة قياس لجل ِ
قدمك – هممم ،ليس كبيرا ً في اعتقادي – والمبلغ
ن هذه تفاصيل ،مجّرد الذي ترغبين في دفعه .ولك ّ
دد موعدا ً للقاء غدا ً ن ُنح ّتفاصيل .وإذا استطعنا أ ْ
ك بعض المعلومات حينئذ .في حاجة فقد أحمل إلي ِ
إلى أحذية ،ومن مظهر الحذاء الذي تنتعلينه الن
صين عنها .رث ومتهّرئ .لن ينفع ، أفهم لماذا تتق ّ
خاصة في حالة الطقس التي نمر بها هذه اليام "
أخبرته عن مقياس قدمي ،والمبلغ الذي أود ّ
ددنا موعدا ً في بعد ظهيرة اليوم إنفاقه ،ومن ثم ح ّ
التالي .وعلى الرغم من طلوة لسانه ،لم يسعني
ن يبدو
لأ ْ ن دوجاردان كان ُيحاو ُ ن أشعر بأ ّ إل أ ْ
لطيفا ً .لعله ترك تلك التجارة التي نسبها إلى قريبه
،لكني لم أَر أي خطأ في ذلك .علينا جميعا ً أن
نحصل على نقود بصورة ما ،وإذا كان ي ُعِد ّ خطة أو
ح
ت في أل أبو َ اثنتين في الخفاء ،فمرحى له .ونجح ُ
بأي شيء لسام عن هذا اللقاء طوال بقية اليوم .
ن قريب دوجاردان سيفعل كد أ ّفلم يكن هناك ما يؤ ّ
ت الصفقة ،أود ّ م ْأي شيء من أجلي ،ولكن إذا ت ّ
ت أقصى جهدي كي ل أّتكئ ن تكون مفاجأة .وبذل ُ أ ْ
ت حينئذٍ إلى على هذا .كانت مواردنا المالية قد قل ّ ْ
ل من مائة غلوت ،والرقم الذي ذكرته لدوجاردان أق ّ
كان منخفضا ً جدا ً – فقط أحد عشر أو اثنا عشر
غلوت ،أعتقد ،وربما حتى عشرة .ومن ناحية
أخرى ،لم ُيفاجأ بَعرضي ،وبدا لي هذا دللة على
التشجيع .كان كافيا ً على أي حال للبقاء على
142
آمالي ،وعلى مدى الربع والعشرين ساعة التالية
ت أدور في دّوامة من التوّقع . رح ُ
تقابلنا في الزاوية الشمالية الغربية من البهو
الرئيسي عند الساعة الثانية من اليوم التالي .ظهَر
دوجاردان حامل ً كيسا ً من الورق الب ُّني ،وحالما
ن المور سارت على ما ُيرام . تأ ّرأيت الكيس عِلم ُ
قال ،وهو ُيمسكني من ذراعي بحركة المتآمر
ويقودني إلى خلف عمود ٍ من الرخام حيث ل أحد
ظين .كان ن يرانا " ،أعتقد أننا كنا محظو َ يمكن أ ْ
لدى قريبي زوج من مقياس قدميك ،وهو يرغب
في بيعه لنا مقابل ثلثة عشر غلوتا ً .وآسف لني لم
نل من هذا ،لك ّ أتمكن من تخفيض المبلغ إلى أق ّ
ت إليه .ولما كانت البضاعة من صل ُ هذا أفضل ما تو ّ
تنوعية جيدة ،ل زالت الصفقة ممتازة " .التف َ
دوجاردان نحو الجدار بحيث أصبح ظهره يواجهني ،
ذر حذاًء من الكيس .كان فردة القدم ج بح َوأخر َ
اليسرى لحذاٍء من الجلد الُبني .وكان جليا ً أنه من
طاط القاسي ، نوعية أصلية ،وكان النعل من الم ّ
مثاليا ً من أجل جوب شوارع مريحا ً – ِ المتين ويبدو ُ
المدينة .وزيادة على ذلك ،كان الحذاء تقريبا ً على
نحالته الصلية .قال دوجاردان " جّربيه .لنرى إ ْ
كان على مقاسك " .فعلت .وبينما أنا واقفة هناك
ي على طول النعل الداخلي ألوي أصابع قدم ّ
الملس ،شعرت أني أسعد مما كنت منذ زمن بعيد
ت حياتي .لقد فزنا بصفقة جيدة .قلت " لقد أنقذ َ
مقابل ثلثة عشـر غلوتا ً .أعطني الفردة الخرى ،
ن دوجاردان بدا وسـأدفع لك في الحال " .لك ّ
مترّددا ً ،ومن ثم ،أراني ،وعلى وجهه تعبير ُ
143
س فارغ .قلت " أهـذه مزحة ؟ ن الكيـ َ محَرج ،أ ّ ُ
أين الفردة الخرى ؟ "
قال " ليست معي "
" إذن هي مجرد عملية إغراء صغيرة بائسة ،
أليس كذلك ؟ ُتدّلي فردة حذاء جيد أمام أنفي ،
دما ً ،
مق ّوتدفعني إلى إعطائك نقودا ً ثمن الزوج ُ
دم لي قطعة عتيقة متهّرئة للقدم الخرى ومن ثم ُتق ّ
.أليس كذلك ؟ حسـن ،أنا آسفة ،لكني لن أقع
ضحية هذا الفخ .لن ترى مني غلوتا ً واحدا ً إل بعد
ن أرى فردة الحذاء الخرى " أ ْ
ت ل تفهمين .المر ليس " كل ،آنسة بلوم ،أن ِ
ن فردة الحذاء الخرى هي كذلك على الطلق .إ ّ
دما ً
مق ّ ك نقودا ً ُ من النوعية نفسها ،ول أحد يطلب من ِ
ن هذا هو أسلوب قريبي في .ولكن أخشى أ ّ
ن تتوجهي شخصيا ً إلى مل .لقد أصّر على أ ْ التعا ُ
ُ
ن أثنيه تأ ْ مكتبه من أجل إكمال الصفقة .لقد حاول ُ
ن
ي .قال ،بثم ِ ن ُيصغي إل ّ ضأ ْ عن ذلك ،لكنه رف َ
س كهذا ل ضرورة لوجود وسيط " بخ ٍ
ك ل يث ِقُ فيك ن قريب َن ُتفِهمني أ ّ " هل تحاول أ ْ
من أجل ثلثة عشر غلوت ؟ "
ن هذا يضعني في موقف شديد ف با ّ " أعتر ُ
ن قريبي رجل صلب .إنه ل يث ِقُ في الحراج .ولك ّ
أي شخص فيما يتعّلق بالعمل .تستطيعين أ ْ
ن
تتصوري شعوري وهو ُيخبرني هذا .إنه يرمي ظل ً
من الريبة على استقامتي ،وهذا شيء مرير ل
يمكن ابتلعه ،أؤكد لك "
ي شيئا ً ،فلماذا أزعج َ
ت ت ل تحمل إل ّ " ما دم َ
ت موعدا ً ؟ " دد َ نفسك وح ّ
144
ن
ك ،آنسة بلوم ،ولم أرغب في أ ْ " لقد وعدت ِ
ن قريبي أنكث وعدي .وهذا وحده سوف ُيثِبت أ ّ
كر في كرامتي ،كما ن أف ّعلى حق ،ثم يجب أ ْ
تعلمين ،وفي كبريائي .هذه أشياء أشد ّ أهمية من
المال "
ه شائبة ،ول شب ُكان أداء دوجاردان مؤّثرا ً .لم ت ِ
رحت ج ِحتى شرخ صغير يوحي بـأنه ليس إل رجل ُ
ن
ت في نفسي :إنه ُيريد ل ْ مشاعره في العمق .قل ُ
يبقى نظيفا ً في عين قريبه ،ولذلك هو يرغب في
ن ُيقدم لي هذا المعروف .إنه امتحان له ،وإذا أ ْ
ن قريبه سوف يبدأ بالسماح ت في اجتيازه ،فإ ّ نجح ُ
تت ترى كيف كن ُ له بعقد صفقات خاصة به .ها أن َ
تت أني فق ُ ن أكون بارعة .لقد حسب ُ أحاول أ ْ
دوجاردان براعة ،ولهذا السبب لم يكن لدي سبب
للخوف .
كانت فترة بعد ظهر بّراقة .سطعت الشمس
منا بين فيه في كل مكان ،وكانت الريح تض ّ
مزمن – ض ُ ت من مر ٍ ن برأ ْ م ْ
تك َذراعيها .شعر ُ
ي
م ّ ماّرة بتجربة ذلك الضوء من جديد ،شاعرةً بقد َ
خطى تتحركان تحتي في الهواء الطلق .مشينا ب ُ
بخّفة ،متفادين عدد ل ُيحصى من العوائق ،
منحرفين برشاقة حول أكوام من الحطام خّلفها
فصل الشتاء ،ولم نكد نتبادل أي كلمة طوال
الطريق .كان فصل الربيع قد أصبح على البواب
دون أدنى شك ،ولكن كانت ل تزال هناك بقعٌ من
الثلج والجليد حاضرة في الظلل البارزة من جوانب
البنية ،وفي الشوارع ،حيث كانت أشعة الشمس
أقوى ،تدّفقت أنهٌر عريضة بين الحجارة المتحركة
دم ُنتفا ً من الرصيف .بعد مرور عشر بعنف وُته ّ
145
دقائق تحول حذائي إلى كتلة بائسة ،في الداخل
كما في الخارج :كان الجورب منقوعا ً تماما ً ،
لي رطبة ولزجة بتأثير النّز البارد .لع ّ م ّوأصابع قد َ
كر هذه التفاصيل الن ،ولكنها ن أتذ ّ
من الغريب أ ْ
تبرُز بحيوية شديدة من ذلك اليوم – الستمتاع
بالرحلة ،الحساس شبه الثمل ،والبهيج ،للحركة .
بعد ذلك ،عندما وصلنا إلى حيث كنا ذاهَبين ،حدثت
كرها .وإذا المور بسرعة كبيرة بحيث أعجز عن تذ ّ
ن ذلك يتم على هيئة صور ي الن ،فإ ّ تراءت إل ّ
قصيرة ،منعزلة ،متكّتلة عشوائيا ً ،بعيدا ً عن أي
سياق ،تفجيرات من الضوء والظل .البناء ،على
كر أّنهمثال ،لم يترك أي انطباع لديّ .أتذ ّ سبيل ال ِ
كان قائما ً عند حافة منطقة مستودع في المنطقة
السكنّية الثامنة ،ليس بعيدا ً عن المكان الذي كان
المكان الذي كان فرديناند قد وضع فيه لفتة
ن إيزابل كانت قد محترفه – ولكن ذلك فقط ل ّ ُ
ت أني أقف أشارت إلى الشارع أثناء مرورنا ،وشعر ُ
ت من شدة الشرود على أرض مألوفة .ربما كن ُ
بحيث لم أستوعب شكل الشياء ،ومن الستغراق
كر إل في مدى سعادة سام في أفكاري بحيث لم أف ّ
ن واجهة المبنى خالية عندما أعود .ونتيجة لذلك ،فإ ّ
ي .كذلك المر مع حركة المشي خلل بالنسبة إل ّ
الباب المامي وارتقاء عدة مجموعات من الد ََرج .
ن تلك الشياء لم تحدث ،على الرغم من يقيني وكأ ّ
من أنها حدثت .وأول صورة تمّثلت لي بجلء هي
صورة وجه قريب دوجاردان .ولعّله ليس وجهه
بالضبط ،ولكن ملحظتي أنه كان يضع نظارة ذات
بحواف سلكّية مثل دوجاردان ،وتساؤلي – باقتضا ٍ
شديد ،لجزٍء صغير جدا ً من الثانية – إذا كانا قد
146
اشترياهما من الشخص نفسه .ل أعتقد في الواقع
ت إلى ذلك الوجه لكثر من ثانية أو اثنتين ، أني نظر ُ
ت لصافحه ،فُت ِ َ
ح دم ُ ذلك أني حينئذٍ فقط ،عندما تق ّ
ن
ة ،ذلك ل ّ مصادف ً ن ذلك حدث ُ ب خلفه – يبدو أ ّ با ٌ
ضجيجه وهو يدور حول مفاصله جعل تعبيره ينتقل
مفاجئة ،اليائسة ،وعلى دية ال ُ من الود ّ إلى الج ّ
مل نفسه عناء ن ُيح ّ الفور استدار لكي ُيغلقه دون أ ْ
ت أني قد مصافحتي – وفي تلك اللحظة فهم ُ ُ
صلة لها بالحذاء ن زيارتي لذلك المكان ل ِ ت،أ ّ دع ُ خ ُِ
ت، ل من أي نوع .ذلك أني تمكن ُ أو النقود أو بعم ٍ
عندئذٍ بالضبط ،خلل الفترة الوجيزة جدا ً التي
ن أرى ن ُيغلق الباب من جديد ،من أ ْ ت قبل أ ْ مّر ْ
بوضوح ما في داخل الغرفة الخرى ،ولم يكن ثمة
أي مجال للشك فيما رأيت هناك :ثلث أو أربع
طافات تعليق اللحم معّلقة عارية من خ ّ جثث بشرية ُ ُ
،وثمة رجل آخر يحمل فأسا ً صغيرا ً يميل فوق
ت طع أعضاء جّثة أخرى .وكانت قد انتشر ْ طاولة ُيق ّ
ن هناك إشاعات في المكتبة العامة تفيد بأ ّ
دقها .والن مشرحات بشرية منتشرة ،لكني لم أص ّ
ن الباب الواقع خلف قريب دوجاردان فُت ِ َ
ح ،ل ّ
ن ألقي نظرة سريعة على ُ
تأ ْ مصادفة ،استطع ُ ُ
ده هذان الرجلن لي .عندئذ ٍ ، المصير الذي أع ّ
ن أسمع ت أحيانا ً أ ْ ت أصرخ .استطع ُ أعتقد أني بدأ ُ
نفسي أصرخ بكلمة " قاتلن " وأكررها مرارا ً .لك ّ
ن
ن ُأعيد ذلك لم يستمر طويل ً .من المستحيل أ ْ
ترتيب أفكاري بدءا ً من تلك اللحظة ،من المستحيل
ت نافذة ت أفكر في أي شيء .رأي ُ ن كن ُ ن أعرف إ ْ أ ْ
ت ت نحوها .وأذكُر أني رأي ُ إلى يساري فاندفع ُ
تي ،لكنني ركض ُ ضان عل ّ دوجاردان وقريبه ينق ّ
147
ت منهاربة من ذراعيهما الممدودة واسعا ً واندفع ُ
سر الزجاج والهواء خلل النافذة .أذكُر صوت تك ّ
ن السقوط كان طويل ً ، ب وجهي .لبد أ ّ يضر ُ
ت
ف لدرك أني كن ُ طويل ً ،على أي حال ،بقدرٍ كا ٍ
ف لعلم أني حالما أرتطم أسقط :طويل ً بقدرٍ كا ٍ
بالرض سأموت .
148
ت أتمدد على سرير ،سرير حقيقي بأغطية كن ُ
ن أفعله ووسائد ،ولكن كل ما كان في مقدوري أ ْ
جع مع انتقال اللم بين ددة ،وأتو ّ ن أبقى متم ّ هو أ ْ
ت امرأة في مجال أجزاء جسمي .وفجأةً ظهر ْ
ي وعلى وجهها ابتسامة .كانت في بصري ،تنظر إل ّ
نحو الثامنة والثلثين أو الربعين من العمر ،ذات
وج وعينين واسعتين خضراوين . شعر أسود متم ّ
ن
تأ ْ ت أشعر حينئذ ٍ ،استطع ُ وعلى الرغم مما كن ُ
ن
أرى أنها جميلة – لعلها أجمل امرأة رأيتها منذ أ ْ
ت إلى المدينة . قدم ُ
ك متألمة كثيرا ً " ت " لبد أن ِ قال ْ
ت في مزاٍج أجبت " ل داعي للبتسام ؛ لس ُ
ت
يسمح لي بالبتسام " .يعلم الله من أين نشأ ْ
م كان شديد الوطأة ن الل َ لدي تلك الحساسية ،لك ّ
ن
ن يبدو أ ّ ت بما خطر لي من كلمات .لك ّ بحيث نطق ُ
المرأة لم تتأّثر ،وظلت تبتسم البتسامة المواسية
ذاتها .
ك حّية " ن أرى أن ِ قالت " يسرني أ ْ
ن تبرهني لي كأ ْ ت ميتة ؟ علي ِ " تعنين أني لس ُ
دقه " ن أص ّ ذلك قبل أ ْ
ك ذراع مكسورة ،وضلعان مكسوران ، " لدي ِ
ن لسانك وحده ونتوء كبير في رأسك .وأعتقد أ ّ
دليل كاف "
ن
م ْن أتخّلى عن وقاحتي َ " ، قلت ،رافضة أ ْ
ت ،على أي حال ،ملك الرحمة ؟ " أن ِ
" أنا فيكتوريا ووبرن .وهذا منزل آل ووبرن .
نحن نقدم المسـاعدة للناس هنا "
ن ُيصبحن طبيبات .هذا " ل ُيسمح للجميلت أ ْ
ضد القوانين "
149
ت طبيبة .والدي كان كذلك ،لكنه ميت " أنا لس ُ
الن .وهو الذي أسس منزل آل ووبرن "
ت ذات مرة شخصا ً يتكّلم عن هذا " لقد سمع ُ
ت أنه ُيلّفقُ " المكان .حسب ُ
دقه " هذا يحدث .بات من الصعب معرفة ما ُيص ّ
المرء "
ت التي جلبتني إلى هنا ؟ " " أأن ِ
" كل ،بل السيد فريك فعل .فريك وحفيده ،
ويلي .إنهما يخرجان بالسيارة بعد ظهيرة كل يوم
ن يحتاجون إلى م ْأربعاء ليقوما بجولتهما .ليس كل َ
ن يصلوا إلى هنا وحدهم ،كما مساعدة يستطيعون أ ْ
ن
تعلمين ،لذلك نحن نخرج لنعثر عليهم .نحاول أ ْ
ل شخصا ً واحدا ً جديدا ً بهذه نستقبل على الق ّ
الطريقة في كل أسبوع "
ي عن طريق المصادفة ؟ " " تعنين أنهما عثرا عل ّ
ت من تلك النافذة " " كانا ماّرين عندما سقط ِ
قلت بلهجة دفاعية " لم أكن أحاول النتحار .
ينبغي أل تراودك أي أفكار غريبة حول هذا "
" القافزون ل يقفزون من النوافذ .وعندما
يفعلون يحرصون على فتحها أول ً "
دد على المعنى " ،أنا ل ُ
قلت بعنف لكي أش ّ
ن نطقت بهذه ن أنتحر " ،ولكن بعد أ ْ يمكن أ ْ
دى لي .قلت من ت الحقيقة القاتمة تتب ّ الكلمات بدأ ْ
مقبلة على النجاب ، ن أنتحر .أنا ُ جديد " ل يمكن أ ْ
حبلى إلى النتحار ؟ كما ترين ،فما الذي يدفع ب ُ
ت ذلك " ستكون مجنونة إذا فعل ْ
تل فيها تعبير وجهها أدرك ُ من الطريقة التي تبد ّ َ
ن يخبرني أحد . على الفور ما حدث .أدركته دون أ ْ
مله
ن يتح ّعد حامل ً .كان السقوط أشد ّ من أ ْ لم أ ُ
150
ك عن مدى ن أعّبر ل َطفلي ،وقد مات .ل أستطيع أ ْ
ي في تلك طت كل شيء في عين ّ الكآبة التي غ ّ
اللحظة .كان بؤسا ً حيوانيا ً ،خشنا ً ،تمّلكني ،ولم
يعد في داخله أي صور ،أو أفكار ،ل شيء على
ت أبكي قبل كر فيه .ولبد أني بدأ ُ الطلق أراه أو أف ّ
ن تقول أي كلمة . أ ْ
ن
سد على وجنتي بيدها " ،إ ّ قالت ،وهي تم ّ
ن تحبلي أصل ً هو من قبيل المعجزة " ، ك في أ ْ نجاح ِ
ت تعلمين هذا الطفال لم يعودوا ُيولدون هنا .أن ِ
علمي به .لم يحدث هذا منذ سنين " بقدر ِ
ن أتكّلم بين نوبات النشيج لأ ْقلت بغضب ،أحاو ُ
ت مخطئة .طفلي كان سيعيش . " ،ل يهمني ،أن ِ
ن طفلي كان سيعيش " أعرف أ ّ
في كل مرة جاش فيها صدري ،كان اللم
ن ذلك ن أخنق تلك النوبات ،لك ّ تأ ْ يلسعني .حاول ُ
ت من لم يعمل إل على جعلها أشد ّ وطأة .وارتجف ُ
الجهد الذي بذلته لحافظ على سكوني ،وهذا بدوره
ض .حاولت مم ّ أطلقَ سلسلة من نوبات اللم ال ُ
ك.ن تواسيني .أخيرا ً قلت " ارحلي أرجو ِ فيكتوريا أ ْ
ت شديدة الرقة معي ل أريد أحدا ً معي الن .لقد كن ِ
،لكني في حاجة إلى النفراد بنفسي "
استغرق الشفاء من إصاباتي فترة طويلة .جراح
ن تترك آثار دائمة )ندب على ت من دون أ ْ وجهي برأ ْ
ت
جبيني وآخر بالقرب من الصدغ( ،وخلل ذلك برأ ْ
أضلعي .أما ذراعي المكسور فلم يلتئم بسهولة ،
ول زال ُيسبب لي الكثير من المشاكل :ألما ً كلما
حّركته بخّفة كبيرة أو في الجهة الخطأ ،وعجزا ً عن
ضمادات على رأسي ل كامل .بقَيت ال َِ دها بشك ٍ م ّ
مدة ُتقارب الشهر ،وخمدت الورام والخدوش ،
151
لكني منذ ذلك الحين وأنا ُأعاني من الصداع :نوبات
شقيقة كأنها طعن سكين ُتهاجم في لحظات
ي ينبض في خلفّية ل عََرض ّ عشوائية ،بوجٍع كلي ٍ
ص المصائب الخرى ،فإني جمجمتي .وفيما يخ ّ
ن رحمي لغز ،ول سبيل أترد ّد ُ في التحدث عنها .إ ّ
إلى قياس مقدار الكارثة التي وقعت داخله .
كل إل جزءا ً من ن الضرر المادي ل ُيش ّ لك ّ
المشكلة .فبعد ساعات قليلة من حديثي الذي
ت في أجريته مع فيكتوريا ،وصلني خبر سيء ،وكد ُ
ت أكره الحياة .ففي تلك اللحظة أستسلم ،كد ُ
ت إلى غرفتي كر من مساء ذلك اليوم عاد ْ مب ّ وقت ُ
حاملة صينية من الطعام .فأخبرتها عن مدى لهفتي
للذهاب إلى المكتبة الوطنية والعثور على سام .
قلت ،إنه سيكون قلقا ً حتى الموت وإني أحتاج إلى
التواجد معه الن .صرخت ،الن ،أحتاج إلى
ت
ت أعصابي ،ورح ُ التواجد معه الن .وفجأة ً فقد ُ
كم في نفسي .وكان ش ول أقدر على التح ّ أجه ُ
ُ
ل في الصبي ويلي ذو الخمسة عشر عاما ً قد أر ِ
س َ
مرا ً .لقد مد ّ ن الخبر الذي عاد به كان ُ مهمة ،لك ّ
اشتعلت النيران في المكتبة في بعد ظهيرة ذلك
اليوم ،كما قال ،وانهار السقف .لم يعرف أحد
ت في المبنى كله ، ن النار الن شب ّ ْ ت ،لك ّ
كيف اندلع ْ
ن أكثر من مائة شخص حوصروا في وقيل أ ّ
الداخل .وكان ل يزال غير واضح ما إذا كان أحد قد
ن حتى ن الشائعات كثيرة .ولك ْ نجح في الهرب ؛ لك ّ
إذا كان سام أحد أولئك المحظوظين ،لم يكن هناك
ن يعثر عليه . في مقدور ويلي أو أي شخص آخر أ ْ
ن كل شيء وإذا كان قد مات أسوة بالخرين ،فإ ّ
152
ي .لم أر أي سبيل آخر .إذا مات سيضيع بالنسبة إل ّ
كد أني لن أراه بعد الن . ،فمن المؤ ّ
ن أتعامل يأ ْتلك كانت الحقائق التي كان عل ّ
معها خلل الشهر الولى لي في منزل ووبرن .
ي ،أشد ّ ظلمة من أي مظلمة بالنسبة إل ّ كانت فترة ُ
ت في فترة عرفتها حتى ذلك الحين .في البدء أقم ُ
غرفة في الطابق العلوي .كان يأتي شخص ثلث
مرات لزيارتي – مرتين ليجلب الوجبات ،ومرة
رغ المبولة .كانت هناك دائما ً جلبة أناس في لُيف ِ
السفل )أصوات ،تنّقل أقدام ،أنين وضحك ،
ت من وضحك ساخر وغطيط في الليل( ،لكني كن ُ
فرط الضعف والقنوط بحيث أزعج نفسي بمغادرة
ت أتأمل بكآبة وأعبس ،وأستغرق في السرير .كن ُ
الهم تحت الغطية ،وأبكي دون سبب .كان الربيع
ت معظم وقتي أنظر إلى ل حينئذٍ ،وأمضي ُ قد ح ّ
ص الحلي المعمارية ح ُالغيوم عبر النافذة ،أتف ّ
البارزة على طول أعلى الجدران ،وأحد ّقُ إلى
التشققات في السقف .وعلى مدى اليام العشرة
ت حتى أو الثني عشر الولى ،ل أعتقد أني نجح ُ
في الخروج إلى الرواق .
كان منزل ووبرن منزل ً يتأّلف من خمسة طوابق
محاط وأكثر من عشرين غرفة – يبتعد عن الشارع و ُ
بحديقةٍ خاصةٍ صغيرة .كان قد بناه جد ّ الدكتور
ووبرن قبل نحو مائة عام واعت ُب َِر أحد أشد المنازل
ت فترة الخاصة أناقة في المدينة .وعندما بدأ ْ
الضطرابات كان الدكتور من بين أول الذين جذبوا
النتباه إلى أعداد المشّردين المتزايد .ولنه كان
محتَرما ً ينحدر من عائلة عريقة ،كانت طبيبا ً ُ
تصريحاته تجد رواجا ً جيدا ً ،وسرعان ما أصبح
153
معروفا ً بين حلقات الثرياء لدعم قضيته ُ .أقيمت
مآدب عشاء لجمع التبرعات ،وحفلت رقص
ل عدد ٌ من خيرية ،ونشاطات اجتماعية أخرى ،وتحو َ
البنية بأكملها إلى ملجئ .وترك الدكتور ووبرن
مهنته الخاصة لكي يقوم بإدارة منازل السبيل ،كما
ماها وفي صباح كل يوم كان يخرج بسيارته مع س ّ
سائقه الخاص ليقوم بزيارتها ،يتحدث مع الناس
دم كل مساعدة طبّية ممكنة . المقيمين هناك ويق ّ
وأصبح ما يشبه السطورة في المدينة ،ومعروفا ً
بطيبته ومثاليته ،وكلما تحدث الناس عن البربرية
ن الفعال النبيلة التي مروا بها ،يرِد ُ اسمه لثبات أ ّ
نن بعيد ،قبل أ ْ ن ذلك قبل زم ٍ ل زالت ممكنة .لك ّ
ن تنحط أخيرا ً ن من الممكن للشياء أ ْ يؤمن أحد بـأ ّ
إلى هذا الدرك الذي وصلت إليه .ثم ساءت
الوضاع ،وأخذ النجاح الذي حّققه مشروع الدكتور
ووبرن ينهار تدريجيا ً .وتزايد عدد المشّردين بأمواج
ت نقود تمويل الملجئ بتدريٍج هندسية هائلة ،وقل ّ ْ
مساو .واختفى الثرياء بالتدريج ،تسللوا إلى خارج ُ
البلد مع ذهبهم وجواهرهم ،والذين بقوا لم يعد في
ن يكونوا كرماء .لقد أنفقَ الطبيب مبالغ مقدرتهم أ ْ
ن ذلك لم يوِقف ضخمة من ماله على الملجئ ،لك ّ
الفشل ،واضطروا واحدا ً بعد آخر إلى إغلق أبوابهم
ن يدعضأ ْ ن أحدا ً غيره لستسلم ،لكنه رف َ .لو أ ّ
المر عند هذا الحد .قال ،إذا لم يتمكن من يوفر
ن يوّفر المئات ،وإذا لم اللف ،فلعله يستطيع أ ْ
ن يوّفر ن يوّفر المئات ،فلعله يستطيع أ ْ يستطع أ ْ
عشرين أو ثلثين .لم تُعد الرقام هامة .حينئذٍ لم
ن أي مساعدة يكن قد حدث شيء ،وأدر َ
كأ ّ
ن ُيقدمها ستكون فقط رمزية – مجرد يستطيع أ ْ
154
لفتة في وجه دمار كامل .حدث ذلك قبل ست أو
سبع سنوات مضت ،وكان الدكتور ووبرن قد تجاوز
ن يفتح الستين من العمر .وقّرر ،بدعم ٍ من ابنته ،أ ْ
محوّل ً الطابقينأبواب منزله الخاص للغرباء ُ ،
الوَلين من منزل العائلة إلى مزيج من المستشفى
م شراء مؤن للمطبخ ، ت السّرة ،وت ّ والملجأ .وبيعَ ْ
وشّقا طريقهما شيئا ً فشيئا ً بما تبّقى من أصول ثروة
العائلة للحفاظ على سير العملية .وعندما
ت النقود ،بدءا يبيعان المقتنيات الثمينة اسُتنزِفَ ْ
غرف الطوابق العليا تفَرغ تدريجيا ً والثرية ،وأخذت ُ
من محتوياتها .وتمكنا ،بجهدٍ متواصل يكسر
الظهور ،من إيواء ثمانية عشر إلى أربٍع وعشرين
مح للمعوزين شخصا ً دفعة واحدة .وكان ُيس َ
بالمكوث مدة عشرة أيام ؛ أما الذين اشتد ّ عليهم
المرض فيمكثون مدة أطول .وكان ُيمَنح كل منهم
سريرا ً نظيفا ً ووجبتين دافئتين في اليوم .وطبعا ً لم
ن الناس ل أي شيء بهذه الطريقة ،ولك ّ ن ُيح ّ
يك ْ
معاناة ل ُ ،يمنحون فترة راحة من ُ كانوا ،على الق ّ
ة ليستجمعوا ِقواهم قبل الستمرار مشاكلهم ،فرص ً
ن نفعل أكثر .وكان الطبيب يقول " ،ل نستطيع أ ْ
من ذلك ؛ لكننا نفعل القليل الذي نقدر على فعله "
لم يكن قد مّر على وفاة الدكتور ووبرن أكثر من
ت إلى منزل آل ووبرن . أربعة أشهر عندما وصل ُ
كانت فيكتوريا والخرون يبذلون أقصى جهدهم من
أجل الستمرار من دونه ،ولكن كان من الضروري
إحداث تغييرات – خاصة في وجهة النظر الطبّية من
الشياء ،بما أنه لم يكن هناك أحد يقوم بعمل
الطبيب .كانت فيكتوريا والسيد فريك ممرضين
ن ذلك كان بعيدا ً كل الُبعد عن القدرة كفيئين ،لك ّ
155
على وظيفة تشخيص المراض ووصف الِعلج .
ت اهتماما ً سر السبب في أني تلّقي ُ ن هذا ُيف ّ أعتقد أ ّ
ُ
ضروا خاصا ً منهم .فمن بين كل الجرحى الذين أح ِ
ن استجاب لعنايتهم ، م ْ
ت أول َمنذ وفاة الطبيب ،كن ُ
ت شفاء .بهذا المعنى ،عمل ُ ن أبدى دلئل ال ِ م ْوأول َ
على تبرير تصميمهم على إبقاء أبواب منزل ووبرن
صتهم ،المثل مثال ً على نجاح ق ّ ت ِ
مفتوحة .لقد كن ُ
ن
الساطع على ما كان ل يزال في إمكانهم أ ْ
ُيحّققوه ،ولهذا السبب ظلوا ُيراعونني قدر ما
تطّلب المر ،ودّللوني وأنا في مزاجي الكئيب ،
وبّرؤوني من أي تهمة .
لقد رأى السيد فريك أنه يمكن القول تقريبا ً إني
ل سائقا ً خاصا ً م َ
ت من بين الموات .كان قد ع ِ نهض ُ
للطبيب مدة طويلة )واحدا ً وأربعين عاما ً ،كما قال
لي( ،وشاهد من الحياة والموت عن ُقرب أكثر مما
شهد معظم الناس .وحسب أقواله لم تمّر عليه
حالة تشبه حالتي .ويقول " كل يا سيدتي ،يا
ت ذلك بأم عداد الموات .رأي ُ ت في ِ آنستي ،لقد كن ِ
ت إلى الحياة " . ت ميتة ،ومن ثم عد ِ عيني .كن ِ
كانت للسيد فريك طريقة خاطئة نحويا ً في الكلم ،
وش وهو ُيحاول التعبير وغالبا ً ما كانت أفكاره تتش ّ
عنها .وأعتقد أنه لم يكن لذلك أي دخل في جودة
تفكيره – ببساطة كانت الكلمات تزعجه .كانت
لديه صعوبة في إدارتها على لسانه ،وكان أحيانا ً
يتلعثم بها وكأنها أشياء مادية ،حجارة عادية تتلطم
داخل فمه .ولهذا السبب ،بدأ ُيبدي حساسية
ل
خاصة حيال خواص الكلمات نفسها :أصواتها بمعز ٍ
عن معانيها ،وتناغمها وتنافرها .وذات مرة شرح
لي قائل ً " الكلمات تعّلمني كيف أعرف .ولهذا
156
ن أكون عجوزا ً .اسمي أوتو .جيئة وذهابا ً ينبغي أ ْ
نيبقى نفسه .ل نهاية له بل يبدأ من جديد .يجب أ ْ
أعيش مرتين على هذا الساس ،مرتين أكثر من أي
ت أيضا ً ،يا آنسة .اسمك مثل شخص آخر .وأن ِ
اسمي .أ-ن-ا .جيئة وذهابا ً يبقى نفسه ،مثل
ن تولدي من جديد .إنها اسمي أوتو .لهذا ينبغي أ ْ
كت تموتين ،ورأيت ُ ِ نعمة من الحظ ،يا آنسة آّنا .كد ُ
ي .إنها نعمة الحظ العظمى " تولدين من جديد بعين ّ
ن متبّلد ،باستقامة كان ُيحيط بذلك العجوز حس ٌ
الشائكة ،النحيلة ،والفكين اللذين بلون العاج .كان
ولءه للدكتور ووبرن ل يلين ،وحتى الن يقوم
بصيانة السيارة التي كان يقودها له – سيارة بيرس
أرو عتيقة ،بست عشرة أسطوانة ،وقدمّيتين
ومقاعد مستقيمة الظهر مكسوة بالجلد .تلك
السيارة السوداء ،البالغة الخمسين من العمر كانت
سمة الغريبة الوحيدة في الطبيب ،وفي أمسية ال ِ
كل يوم ثلثاء ،ومهما كان لديه من عمل آخر
ضروري النجاز ،كان فريك يخرج إلى المرأب
ل عن ساعتين الكائن خلف المنزل ويقضي ما ل يق ّ
ظفها ،ويجعلها في أفضل شكل معها وُين ّوهو ُيل ّ
ممكن للخروج بها في جولت بعد ظهيرة يوم
محّرك لكي يسير على غاز ف ال ُ
الربعاء .كان قد كي ّ َ
الميثان ،وهذه المهارة اليدوية كانت السبب
الرئيسي دون شك في عدم انهيار منزل آل
كب ح أنابيب المياه ،ور ّ ووبرن .كان قد أصل َ
شات ،وحفر بئرا ً جديدة .هذه وأشياء أخرى كثيرة د ّ
ت المكان نشطا ً خلل أصعب الفترات .حفيده ، أبق ْ
مساعدا ً له في كل تلك المشاريع ، ل ُويلي ،عم َ
وهو يتبعه في صمت من عمل إلى آخر ،بشكله
157
الكئيب ،القزم ،مرتديا ً سترة صوفيه خضراء اللون
فضفاضة وذات قلنسوة .وكانت خطة فريك تقضي
ن
ل محله بعد وفاته ،لك ّ بتعليم الصبي ما يكفي ليح ّ
ويلي لم يبد ُ أنه سريع التعّلم .قال لي فريك ذات
يوم حول هذا الموضوع " ل داعي للقلق .لقد بدأنا
مع ويلي ببطء .ل سبب للندفاع .وعندما سيحين
وقت موتي سيكون الصبي قد أصبح بدوره عجوزا ً "
ت أكبر اهتمام ٍ بي . ن فيكتوريا هي التي أبد ْ لك ّ
شفائي هاما ً بالنسبة إليها ،ولك ْ
ن ت كم كان ِ لقد ذكر ُ
واقة إلى دى ذلك .لقد كانت ت ّ ن المر يتع ّ أعتقد أ ّ
وجود شخص تتحدث معه ،ومع استعادتي لِقواي
ت تترّدد أكثر إلى الطابق الِعلوي تدريجيا ً ،بدأ ْ
لتزورني .فمنذ وفاة أبيها وهي وحدها مع فريك
وويلي ُ ،تدير الملجأ وتشرف على العمل ،ولكن لم
ن ُيشاركها أفكارها .وشيئا ً فشيئا ً ،بدا م ْ
يكن هناك َ
ن نتبادل أني أنا ذلك الشخص .كان صعبا ً علينا ً أ ْ
ت كم من أشياء الحديث ،ومع تطور صداقتنا ،أدرك ُ
تجمعنا .صحيح أني لم أكن أنحدر من عائلة ثرية
مريحة ،مملوءة ن فترة طفولتي كانت ُ مثلها ،لك ّ
نس بأ ّ ت مع إحسا ٍ بروائع ومزايا بورجوازية ،وعش ُ
ت على مدارس رغباتي كلها ممكنة التحّقق .تردد ُ
ت أعرف ت قادرة على مناقشة كتب .كن ُ راقية وكن ُ
الفرق بين نبيذ بوجوليه ونبيذ بوردو ،وأعرف لماذا
ن .ولو أني م ْكان شوبرت موسيقيا ً أعظم من شو َ
ت فيه فيكتوريا في ت في العالم الذي وُل ِد َ ْ عش ُ
ت أقرب إلى كوني عضوا ً منزل آل ووبرن ،لصبح ُ
في طبقتها الجتماعية أكثر من أي شخص قاب َل َْته
ن فيكتوريا ن أوحي بأ ّ منذ سنين .ل أقصد بكلمي أ ْ
كانت متعجرفة .فالمال نفسه لم يكن ُيثير اهتمامها
158
ن ،وقد أدارت ظهرها للشياء التي ُيمثلها منذ زم ٍ
بعيد .كل ما في المر أنه كانت تجمعنا لغة معّينة ،
ت أفهمها دون وعندما كانت تحدثني عن ماضيها ،كن ُ
ن أطلب منها شروحا ً . أ ُ
ن أضطر إلى أ ْ ْ
كانت قد تزوجت مرتين – مرة لفترة وجيزة ،
كم ، ت بته ّ
في " تكافؤ اجتماعي رائع " ،كما عّبر ْ
ت إليه باسم تومي ، ل أشار ْ والمرة الثانية من رج ٍ
لكني لم أعرف أبدا ً كنيته .من الواضح أنه كان
محاميا ً ،وأنجبا معا ً طفَلين ،بنت وصبي .وعندما
ت المشاكل ،كان ينجذب بصورة متزايدة نحو بدأ ْ
مساعدا ً في الحزب ل أول ً سكرتيرا ً ُ السياسة ،فعم َ
الخضر )وفي وقت من الوقات ،كانت كل
مز إليها باللوان( ،ومن النتماءات السياسية هنا ُير َ
ظمته ثم ،عندما استوعب الحزب الزرق عضوية من ّ
ي للنصف ق مدين ّ س ٍمن ّف استراتيجي ،ك ُ في تحال ٍ
الغربي من المدينة .وفي زمن الثورات ضد
المكوس ،قبل أحد عشر أو اثني عشر عاما ً ،عل ِ َ
ق
وسط أعمال شغب على طول نيرو بروسبكت
ق ناريّ من رجل شرطة .بعد وفاة ُ
ب بطل ٍ أصي َ
تومي ،حّثها والدها على مغادرة البلد مع والديها
)اللذان كانا ل يتجاوزان الثالثة والرابعة من العمر
ت .وبدل ذلك ن فيكتوريا رفض ْ في ذلك الوقت( ،لك ّ
أرسلتهما مع والد َيّ تومي لكي يعيشا في إنكلترا .
ن تكون إحدى أولئك الذين لم ترغب في أ ْ
يستسلمون ويهربون ،كما قالت ،ولكنها أيضا ً لم
ض ولديها للكوارث التي ستلي . ن ُتعّر َ ترغب في أ ْ
ن ُيضطر في اعتقادي ،هناك قرارات ل أحد ينبغي أ ْ
إلى اّتخاذها ،خيارات هي ببساطة ثقيلة الوطأة
على العقل .ومهما كان ما تفعله في نهاية المطاف
159
،فسوف تندم عليه ،وسوف تظل تندم عليه ما
حييت .ورحل الطفلن إلى إنكلترا ،وعلى مدى
ت فيكتوريا في الّتصال العام التالي أو العامين نجح ْ
بهما بريديا ً .ثم بدأ نظام البريد يتعطل .أصبحت
طع وغير متوّقع – ألم متق ّ ل ُ التصالت تتم بشك ٍ
النتظار المستمر ،والرسائل التي ُترمى عشوائيا ً
ت تماما ً .كان ذلك قبل في البحر – وأخيرا ً توقف ْ
ثماني سنوات .منذ ذلك الحين لم تصل منهما كلمة
ت عن كل أمل في واحدة ،وكانت فيكتوريا قد تخل ْ
رؤيتهما من جديد .
ك أوجه التشابه كر هذه الشياء لبّين ل َ إنني أذ ُ
ت في تشكيل بين تجاربنا ،الروابط التي ساعد ْ
صداقتنا .كان الناس الذين أحبتهم قد رحلوا عن
ل فظيع كرحيل الناس الذين أحببُتهم عن حياتها بشك ٍ
حياتي .أزواجنا وأولدنا ،والدها وأخوها – كلهم
ت عافيتي تلشوا في الموت والشك .وعندما استعد ُ
بما يكفي لرحل ،بدا لي )ولكن إلى أين أذهب ؟(
ن تدعوني إلى المكوث معها ن من الطبيعي جدا ً أ ْ أ ّ
في منزل آل ووبرن لعمل فيه كعضو في الهيئة .
لم يكن الحل الذي تمنّيته ،ولكن في ظل الظروف
ة
السائدة لم أَر أي خيار آخر .وقد أزعجتني فلسف ُ
ل أفضل قليل ً – فكرة مساعدة أشخاص ل بشك ٍ م ْاع َ
غرباء ،والتضحية بالنفس من أجل قضية .لقد كان
ديا ً ،وغيري ّا ً أكثر مما ينبغي مجّردا ً ،وج ّ المبدأ ُ
ت أؤمن بما جاء في كتاب سام ، ي .كن ُ بالنسبة إل ّ
ن كان تإ ْ ن سام كان حبيبي ،وحياتي ،وتساءل ُ لك ّ
سل ُ
س نفسي لنا ٍ ن أكّر َ صلب طبيعتي أ ْ من ُ
ددي ،لكنها لم ت فيكتوريا تر ّ أعرفهم .ولحظ ْ
ن ذلك ن تغّير رأيي .وأعتقد أ ّ تجادلني أو تحاول أ ْ
160
التحّفظ من جانبها هو ما دفعني ،أكثر من أي شيء
وها ً ول حاول ْ
ت آخر ،إلى القبول .لم تلقي خطابا ً ُ
مف ّ
دمة على إنقاذ روحي .بل قالت مق ِ
ن ُتقنعني بأنني ُ أ ْ
ببساطة " :هناك الكثير من العمل يجب إنجازه
ن نأمل في إنهائه . هنا ،يا أّنا ،أكثر مما يمكن أ ْ
ن
ما سيحدث في حالتك ،لك ّ ليست لديّ أي فكرة ع ّ
القلوب الكسيرة أحيانا ً تندمل بالعمل "
161
م فريك وويلي فيكتوريا كانت في آخر الرواق ،وأقا َ
في غرفةٍ كبيرة تقع فوق غرفتها مباشرة .الشخص
الوحيد الخر من الهيئة أقام في الطابق السفلي ،
في غرفة بعيدة عن المطبخ .وهي ماغي فاين ،
ماء وخرساء سّنها غير معروف كانت تعمل امرأة ص ّ
صر القامة ،ذات سالة .كانت شديدة قِ َ طّباخة وغ ّ
وجه فخذين ثخينين ،وقصيرين ،ووجه عريض ُيت ّ
دغل من الشعر الحمر .وفيما عدا الحاديث التي
تجريها بالشارات مع فيكتوريا ،لم تكن تتواصل مع
أحد .كانت تؤدي عملها بما ُيشبه النشوة الكئيبة ،
ل إليها بعناد وكفاءة ،وتعمل ل يوك ُل عم ٍ جُز ك ّ
وُتن ِ
ن كانت تنام تإ ْ ساعات طويلة إلى درجة أني تساءل ُ
ت على وجودي ،لكنها أبدا ً .ونادرا ً ما حّيتني وتعّرفَ ْ
ن
فأ ْ ن وآخر ،في تلك المناسبات التي تصاد َ بين حي ٍ
كنا معا ً وحدنا ،كانت تربت على كتفي ،وتبتسم لي
ض من ابتسامة واسعة ،ومن ثم تواصل بتقديم عر ٍ
الحركات اليمائية الدقيقة كالتي يقوم بها مغني
الوبرا وهو يؤدي أغنية أوبرالية – مصحوبة بإيماءات
مبدية مسرحية وأصوات حلقّية مهتزة .ثم تنحني ُ ،
امتنانا ً جميل ً لتحيات جمهور وهمي ،وتعود على
عجل إلى عملها ،دون فترة توّقف أو انتقال .كان
شيئا ً جنونيا ً تماما ً .حدث ذلك حوالي ست مرات أو
ن تسّليني أم لأ ْ ن كانت تحاو ُ سبع ،لكني لم أفهم إ ْ
ُتخيفني .وعلى مدى السنوات التي أمضتها هناك ،
كما قالت فيكتوريا ،لم ُتغني ماغي لي شخص
آخر .
ن يوافق كان على كل نزيل ،كما كنا نسميهم ،أ ْ
مح له بالقامة في ن ُيس َط معّينة قبل أ ْعلى شرو ٍ
منزل ووبرن .مثل ً ،ممنوع القتال أو السرقة ،
162
ن ُيرّتبوالرغبة في النسجام مع المجموع :أ ْ
سريره بنفسه ،ويحمل صحنه إلى المطبخ بعد
انتهائه من تناول الوجبات ،وما إلى ذلك .في
المقابل ،كان ُيمَنح النزلء غرفة وإقامة ،ومجموعة
جديدة من الملبس ،وُفرصة للستحمام في كل
ددة من التسهيلت .وهذه مح ّيوم ،واستفادةً غير ُ
من النزول إلى الصالة – التي تتضمن عددا ً من تتض ّ
مريحة ،ومكتبة عامرة ،وألعابا ً الرائك والكراسي ال ُ
من شتى النواع )الورق ،البينغو ،الطاولة( –
بالضافة إلى فناٍء يقعُ خلف المنزل ،وكان مكانا ً
ص عندما يكون ل خا ّ س فيه ممتع بشك ٍ الجلو ُ
الطقس صحوا ً .وهناك مضمار للعب الكروكيت في
ي ،وشبكة للعب تنس الريشة ، الركن القص ّ
ومجموعة كبيرة من كراسي المرج .وبكل
المعايير ،كان منزل ووبرن أشبه بالجنة ،ملجئا ً
ن محيطان به .لك ّ رعويا ً بعيدا ً عن البؤس والقذارة ال ُ
ممتّنة هذا لم يكن دائما ً صحيحا ً .طبعا ً الغالبية كانت ُ
مل من أجلها ،ولكن ت ما ُيع َ ،والغالبية استحسن ْ
كان هناك عديد ٌ آخرون يواجهون صعوبات .فقد
ن أي كانت الشجارات سائدة بين النزلء ،وبدا أ ّ
ن يتسبب في نشوبها :طريقة أكل شيء يمكن أ ْ
أحدهم لطعامه أو لكز أنفه ،وتناقض رأي هذا مع
تسعال أحدهم أو شخيره في وق ٍ رأي ذاك ،و ُ
ن ينام – كل الشياء الصغيرة التافهة ُيحاول آخر أ ْ
مع أناس فجأة ً معا ً تحت سق ٍ
ف التي تظهر عندما ُيج َ
واحد .أعتقد أنه ل شيء غير اعتيادي في هذا ،
مثيرة للشفقة ،مهزلة ت دائما ً أجدها ُ لكنني كن ُ
محزنه وسخيفة ُيمثلها المرء وُيكّرر أداءها . صغيرة ُ
كل نزلء منزل ووبرن تقريبا ً كانوا يعيشون في
163
ل التباُين بين تلك الحياة الشوارع مدة طويلة .ولع ّ
ة شديدة الوطأة عليهم . كل صدم ً وهذه كانت تش ّ
ود على العتناء بنفسه ،على التفكير فالمرء يتع ّ
ن
فقط في صالحه ،ومن ثم يأتي شخص وُيخبرك أ ّ
ن تتعاون مع مجموعة من الغرباء ،فئة عليك أ ْ
كت أل تثقَ فيها .وبما أن َ الناس نفسها التي تعّلم َ
ك ستعود إلى الشوارع في غضون عدد قليل تعلم أن َ
ن تعاني مشّقة من اليام ،فهل يستأهل المر أ ْ
النفصال عن ذاتك من أجل ذلك ؟
نزلء آخرون بدا أنهم شعروا بخيبة المل مما
وجدوه في منزل ووبرن .هؤلء هم الذين انتظروا
ن يعترفوا بأّنهم غالوا في توقعاتهم طويل ً قبل أ ْ
محولين منزل ووبرن إلى جّنة بشكل غير عقلني – ُ
ق ممكن شعروا به .وفكرة أرضّية ،غاية كل تو ٍ
السماح لهم بالعيش هناك دفعتهم إلى الستمرار
في العيش من يوم ٍ إلى آخر ،ولكن حالما دخلوا
ن يختبروا خيبة المل . المكان فعل ً ،كان عليهم أ ْ
فلم يكونوا يلجون عالما ً سحريا ً ،قبل أي شيء .
لقد كان منزل ووبرن مكانا ً ممتعا ً للسكنى ،لكنه
كان مع ذلك موجودا ً في العالم الواقعي ،وما تجده
هناك هو مزيد ٌ من الحياة – حياة أفضل ،ربما ،
ولكنها ل زالت مجرد حياة كالتي عرفتها دائما ً .
المر المدهش هو السرعة التي تكّيف بها الجميع
ت إليهم – السّرة م ْلوسائل الرائحة المادية التي فُد ّ َ
والدش ،والطعام اللذيذ والملبس النظيفة ،
وفرصة أل يفعلوا أي شيء .وبعد مرور يوم أو
يومين في منزل ووبرن ،أصبح في إمكان الرجال
ن
والنساء الذين كانوا يأكلون من حاويات القمامة أ ْ
يجلسوا أمام وليمة ممدودة على طاولة جميلة بكل
164
ف بها تجار الثقة بالنفس ورباطة الجأش التي يّتص ُ
مستغربا ً ل هذا ليس ُ الطبقة الوسطى البدينون .لع ّ
ة ،وعندما كما يبدو .نحن جميعا ً نتقّبل المور بداه ً
يتعّلق المر بأشياء أساسية كالطعام والمأوى ،
أشياء لعلها لنا بفعل الحق الطبيعي ،فسرعان ما
نعتبرها جزءا ً ل يتجّزأ منا .ول ننتبه إلى الشياء التي
ن نفقدها .وحالما نستعيدها ، كانت معنا إل بعد أ ْ
ف عن ملحظة وجودها من جديد .هذه كانت نك ّ
مشكلة الناس الذين شعروا بالخيبة من منزل
ووبرن .كانوا قد عاشوا في الفاقة مدة طويلة
بحيث لم يعودوا يفكرون في أي شيء آخر ،ولكن
حالما يعودون إلى الشياء التي كانوا قد فقدوها ،
ُيذهلون إذ يكتشفون أّنه لم يتغّير أي شيء فيهم .
ي العالم كما كان دائما ً .لقد أصبحت بطونهم لقد بق َ
ل ل شيء آخر تغّير ممتلئة الن ،ولكن على الق ّ
فيهم .
لطالما كنا حريصين على تحذير الناس من
ن نصيحتنا مصاعب النهار الفائت ،ولكن ل أعتقد أ ّ
ن تستعد كأ ْت كثيرا ً أحدا ً منهم .إذ ل يمكن َ أفاد ْ
ن سُيحَبط في لشيء كهذا ،ول سبيل لنا لتوّقع َ
م ْ
ن لن يفعل .بعض الناس كانوا م ْ اللحظة الحاسمة و َ
قادرين على المغادرة من دون إصابة ،ولكن هناك
آخرين لم يتمكنوا من مواجهة الوضع .وعانوا معاناة
شديدة لمجرد فكرة العودة إلى الشوارع – خاصة
الرقيقين ،الّلطف ،الذين كانوا ممتنين كثيرا ً
تللمساعدة التي قدمناها إليهم – وأحيانا ً كن ُ
ن كان أي شيء من المر دية إ ْ أتساءل بكل ج ّ
ن أكتفي يستحق العناء ،ما إذا كان من الفضل أ ْ
هبات للناس ومن ثم انتزاعها منهم بعد ذلك بتقديم ِ
165
بلحظة .كانت العملية تتسم بقسوة شديدة ،وغالبا ً
ن مشاهدة رجال ونساء مل .إ ّما وجدتها ل ُتحت َ َ
بالغين وهم ينهارون على ُركبهم ويتوسلون إلينا كي
يبقوا يوما ً آخر ؛ ومشاهدة الدموع ،والعويل ،
مل .كانوالمناشدات المسعورة ،أمٌر ل ُيحت َ َ
دعي المرض – ينهارون في وضع الغماء بعضهم ي ّ
م ،متظاهرين بالشلل – وآخرون كانوا يتمادون التا ّ
إلى درجة جرح أنفسهم عمدا ً :قطع شرايين الرسغ
،حفر سيقانهم بالمقص ،بتر أصابع اليدي والقدام
ت حالت انتحار ، .ثم ،في وقائع قصوى ،حدث ْ
ل أربع حالت أذكرها .كان من كانت هناك على الق ّ
دم المـساعدة في منزل ووبرن ، ن نق ّ المفترض أ ْ
مرهم . ولكن أحيانا ً كنا في الواقع ند ّ
ن تقبل فكرة ن المأزق كان كبيرا ً .فما أ ْ لك ّ
احتمال وجود بعض الطيبة في منزل مثل منزل
ووبرن ،حتى تغرق في مستنقٍع من التناقضات .إذ
ن ُتحاجج ببساطة بالقول إّنه يجب السماح ل يكفي أ ْ
ن ت تقصد أ ْ ة إذا كن َ للنزلء بالبقاء مدة أطول – خاص ً
صفا ً .وماذا عن كل أولئك الخرين من ِتكون ُ
الواقفين في الخارج ،ينتظرون فرصة الدخول ؟
ل شخص يشَغل سريرا ً في منزل ن مقابل ك ّ ذلك أ ّ
ووبرن ،هناك عدد آخر يتوسل للسماح له
بالدخول .فأيها أفضل – مساعدة عدد كبير من
الناس قليل ً أم أعدادا ً صغيرة منهم كثيرا ً ؟ ل أعتقد
ن هناك جوابا ً على هذا السؤال .كان الدكتور حقا ً أ ّ
تمم ْووبرن قد باشر المشروع بطريقة معّينة ،وص ّ
فيكتوريا على اللتزام به حتى النهاية .وهذا لم
ُيصحح مساره بالضرورة .لكنه لم يضّره أيضا ً .
والمشكلة لم تكمن في المنهاج بقدر ما كانت في
166
طبيعة المشكلة ذاتها .لقد كان هناك عدد كبير جدا ً
من الناس ينتظرون الحصول على المساعدة ول
يوجد عدد كاف من الشخاص لتقديمها لهم .كانت
هقة ،ول ترحم في الدمار الذي مر ِالعملية الحسابية ُ
سّببته .ومهما بذلنا من جهد ،كان من المستحيل
تفادي الفشل .هذا كان الوضع باختصار .ولم لم
م ،لما كانت نكن نرغب في قبول عقم العمل التا ّ
هناك أي فائدة من الستمرار فيه .
كان معظم وقتي ُيستهَلك في مقابلة النزلء
المتوّقعين ،أدّون أسماءهم في قوائم ،وأنظ ّ ُ
م
جداول بالشخاص الذين سينضمون إلينا وموعد ذلك
.كانت المقابلت تتم من التاسعة صباحا ً وحتى
ت
دل كن ُالواحدة من بعد الظهيرة ،وفي المع ّ
س وعشرين شخصا ً في أتحدث مع عشرين إلى خم ٍ
ت أقابلهم فرادى ،واحدا ً بعد آخر ،في اليوم .كن ُ
القاعة المامية من المنزل .ويبدو أنه كانت قد
وقعت بعض الحوادث القبيحة في الماضي –
هجمات عنيفة ،مجموعات من الشخاص ُيحاولون
اقتحام الباب – وهكذا كان ينبغي وجود حرس
مسلحين في حالة استعداد أثناء إجراء اللقاءات .
ف في الخارج على الد ََرج المامي كان فريك يق ُ
دم ن يتق ّب الحشد ويحرص على أ ْ حامل ً بندقية ُ ،يراق ُ
الطابور بيسر وعلى أل تخرج المور عن السيطرة .
ن تقطع معة خارج المنزل كان يمكن أ ْ والعداد المتج ّ
النفاس ،خاصة خلل الشهر الحارة .ولم يكن
س وسبعين مع من خمسين إلى خم ٍ غريبا ً أ ْ
ن يتج ّ
نشخصا ً في الشارع في لحظة معّينة .وهذا يعني أ ّ
معظم الناس الذين شاهدتهم كانوا ينتظرون من
ثلثة إلى ستة أيام لمجرد الحصول على فرصة
167
لجراء مقابلة – ينامون على الرصيف ،ويتقدمون
ن يأتي ببطء في الطابور ،ويصبرون بعناد إلى أ ْ
دورهم في النهاية .كانوا يتعّثرون وهم يدخلون عل ّ
ي
،واحدا ً إثر آخر ،دفق متواصل ،ل ينقطع ،من
الناس ؛ يجلسون على الكرسي الحمر المكسو
بالجلد على الجانب المقابل من الطاولة أمامي ،
وأطرح عليه كل السئلة اللزمة .السم ،السن ،
الوضع العائلي ،العمل السابق ،آخر عنوان دائم ،
وما إلى ذلك .لم يكن ذلك يستغرق أكثر من
دقيقتين ،ولكن نادرا ً ما توقفت المقابلة عند هذا
الحد .كانوا كلهم يرغبون في إخباري بحكاياتهم ،
ن أصغي .كانت حكاية ولم يكن أمامي خيار إل أ ْ
مختلفة في كل مرة ،ومع ذلك كانت كل حكاية في
النهاية هي نفسها .سلسلة من عثرات الحظ ،
ن حياتنا وسوء التقدير ،وثقل عبء الظروف .إ ّ
مصادفات المتشعبة ليست أكثر من كمية من ال ُ
ت تفاصيلها ،كلها تشترك في وع ْالجوانب ،ومهما تن ّ
العتباطية الساسية في تصميمها :هذا ثم ذاك ،
وبسبب ذلك ،وهذا .ذات يوم استيقظت فوجدت .
ن أركض بسرعة كافية ت ساقي فلم أستطع أ ْ وجرح ُ
ي زوجي . .قالت زوجتي ،وسقطت أمي ،ونس َ
تت مئات من هذه الحكايات ،وأحيانا ً كن ُ سمع ُ
مل أكثر من ن أتح ّ أشعر أنه لم يُعد في استطاعتي أ ْ
مضطرة إلى إظهار تعاطفي ،إلى ت ُ
ذلك .كن ُ
ن
سبة ،لك ّ اليماء برأسي في كل المواقع المنا ِ
ن أحافظ تأ ْ محترف الذي حاول ُ السلوك الهادئ ،ال ُ
عليه كان دفاعا ً ضعيفا ً في وجه الشياء التي
مهّيأة للصغاء لحكايات فتيات ن ُسمعتها .لم أك ْ
عملن بغايا في عيادات القتل الرحيم .لم أكن
168
موهوبة في مجال الصغاء إلى أمهات يحكين لي
كيف مات أطفالهن .كان شيئا ً شديد الفظاعة ،
ن أفعله والقسوة ،وكان ذلك أقصى ما استطعت أ ْ
ت أدّون اسم الشخص لختبئ خلف ِقناع العمل .كن ُ
دد له موعدا ً – بعد ذلك بشهرين ،أو في لئحة وأح ّ
ثلثة ،أو حتى أربعة .وأقول له ،حينئذٍ سوف نجد
لك مكانا ً .وعندما يحين الموعد لينتقلوا إلى منزل
ت أستقبلهم .ذلك كان عملي الساسي ووبرن ،كن ُ
ن أستعرض المكان مع في فترات بعد الظهيرة :أ ْ
جدد ،أشرح لهم القوانين ،وأساعدهم الوافدين ال ُ
في الستقرار .وكان معظمهم ينجح في المحافظة
ددتها لهم قبلها بأسابيععلى المواعيد التي ح ّ
ن بعضهم كان يفشل في الحضور .ولم عديدة ،ولك ّ
يكن صعبا ً أبدا ً معرفة السبب .كانت السياسة
مّتبعة هي الحتفاظ بسرير ذلك الشخص مفتوحا ً ال ُ
مدة يوم ٍ كامل .فإذا لم يظهر حتى ذلك الحين ،
أشطب اسمه من اللئحة .
169
طويلة ،كما أخبرتني فيكتوريا ،منذ أيام ملجئ
ن الرجلين يأ ّالدكتور ووبرن الصلية .ومن الجل ّ
كانا قد تعارفا قبل ذلك بسنين عديدة ،وحسب ما
ن يعقد
عرفته عن الدكتور ووبرن ،أدهشني أ ْ
مريب كبوريس ستيبانوفيتش . صداقة مع شخص ُ
ن الطبيب كان قد أنفذ حياة صلة بأ ّ
ن لذلك ِ أعتقد أ ّ
ن يكون المر بالعكس .لقد بوريس ،ولكن يمكن أ ْ
ن أتأ ّ
كد ت عدة نسخ مختلفة للقصة ول يمكن أ ْ سمع ُ
أّيها الصحيح .
كان بوريس ستيبانوفيتش رجل ً ممتلئ الجسم ،
في منتصف العمر بدا تقريبا ً بدينا ً بمعايير المدينة .
مبهرجة )يعتمر قبعات كان يحب ارتداء الملبس ال ُ
من الفرو ،وُيمسك بعصي للمشي ،ويضع زهرة
عروة( ،وفي وجهه المستدير ،والمشدود ،كان
ل
كرني برئيس قبيلة هندي أو بعاه ٍ هناك شيء ذ ّ
م بقدرٍ من س ُشرقي .كان كل ما كان يفعله يت ِ
التمّيز ،حتى طريقته في تدخين السجائر – كان
يمسكها بإحكام بين البهام والسّبابة ،ويستنشق
الدخان بل مبالة أنيقة ،معكوسة ،ومن ثم ُيطلقه
من خلل منخريه الضخمين كانطلق البخار من
إبريق ماء يغلي .ولكن غالبا ً ما كان من الصعب
ت أتعّرف عليه متابعته أثناء الحديث ،وبعدما أخذ ُ
ن أتوقع الكثير من الفوضى كلما فتح تأ ْ أكثر ،تعّلم ُ
بوريس ستيبانوفيتش فمه .لقد كان مولعا ً باللفاظ
ضبة ،ويكتب ملحظات مبهمة وبالتلميحات المقت َ َ ال ُ
بسيطة تتضمن صور مزخرفة سرعان ما تضيع
ن ُيدَفع ن تفهمها .كان بوريس يكره أ ْ ت تحاول أ ْ وأن َ
إلى قول شيء واضح ،وكان يستخدم اللغة كأداة
تنّقل – تتنّقل باستمرار ،تندفعُ وتخدع ،تدور ،
170
تختفي ،وتعود فتظهر من جديد في بقعة أخرى .
وكان في مناسبات مختلفة يحكي لي العديد من
الحكايات عن نفسه ،وسرد لي العديد من
الصراعات من حياته ،بحيث لم أعد أصدق أي
كد لي أنه وُل ِد َ في المدينةشيء .في يوم ،يؤ ّ
وعاش هناك طوال حياته .وفي اليوم التالي ،وكأنه
ي روايته السابقة ُ ،يخبرني أنه وُل ِد َ في باريس نس َ
مهاجَرين روسيين .ثم ُ ،يغّير وأنه البن الكبر ل ُ
ن بوريس المسار من جديد ،ويعترف لي بأ ّ
ستيبانوفيتش هو اسمه الحقيقي .وبسبب توّرطه
ببعض المشاكل المزعجة مع رجال الشرطة التراك
في شبابه ،اّتخذ هوية أخرى .ومنذ ذلك الحين ،غي َّر
كر ماذا كان ت عديدة بحيث لم يُعد يتذ ّ اسمه مرا ٍ
ن
اسمه الحقيقي .وقال ،ل بأس .على الرجل أ ْ
ت في م ماذا كن َ يعيش لحظة بلحظة ،وماذا يه ّ
ت اليوم ؟ في ن أن َم ْ الشهر الفائت ما دمت تعرف َ
الصل ،قال ،كان هنديا ً ألغونكويني ،ولكن بعد
ي .هو ت والدته من كونت روس ّ وفاة والده ،تزوج ْ
نفسه لم يتزوج ،أو بالحرى تزوج ثلث مرات –
حسب النسخة التي تخدم غرضه وقت حكايتها .
وكلما باشر بوريس ستيبانوفيتش في إحدى حكاياته
ت نقطة معّينة الشخصية ،كان دائما ً يفعل ذلك لُيثب َ
ن
– وكأنما بلجوئه إلى تجربته الخاصة يستطيع أ ْ
ُيعلن سيطرته النهائية على أي موضوع .ولهذا
وره من أعمال ، ط في كل ما يمكن تص ّ السبب انخر َ
من أشد العمال اليدوية تواضعا ً إلى احتلل أشد ّ
المواقع التنفيذية علوّا ً .عمل غاسل ً للطباق ،
ومشعوذا ً ،وبائع سيارات ،وبروفسورا ً في الدب ،
محّرَر صحيفة ،ومديَر ونشال ً ،وسمساَر عقارات ،و ُ
171
ص في أزياء النساء .وأنا ص ٍ ت كبير متخ ّ ن مبيعا ٍ مخز ِ
تمهنا ً أخرى دون أدنى شك ،ولكن أصبح ْ أنسى ِ
لديك فكرة .وبوريس ستيبانوفيتش لم يكن يتوقع
دق ما يقول ،ولكن في الوقت ن تص ّ ك حقا ً أ ْ من َ
ملّفقة على أنها نفسه لم يكن يتعامل مع حكاياته ال ُ
أكاذيب .لقد كانت جزءا ً من خطةٍ واعية تقريبا ً
دل مع ن يتب ّ لختراع عالم ٍ ساّر لنفسه – عالم يمكن أ ْ
دل نزواته ،ل يخضع للقوانين نفسها والضرورات تب ّ
الكئيبة التي تجّر بقّيتنا معها .فإذا كان هذا ل يجعل
منه شخصا ً واقعيا ً بالمعنى الصارم للكلمة ،فإنه لم
من يضللون أنفسهم .وبوريس يكن أيضا ً م ّ
جح المتآمر كما بدا ، ستيبانوفيتش لم يكن المتب ّ
لمخادع والودود كان هناك دائما ً قلي ٌ وتحت مظهر ال ُ
من شيء ما – ربما ِفطنة ،إحساس بفهم أعمق .
ولن أتمادى إلى درجة القول إنه إنسان طّيب )ليس
ن إيزابل وفيكتوريا بالمعنى الذي أقول به إ ّ
طيبتان( ،ولكن كان لبوريس مجموعة من القواعد
خلفا ً لي إنسان آخر قابلته ،نج َ
ح وقد التزم بها .و ِ
في التعالي على ظروفه .الجوع ،القتل ،أسوأ
عب َْرهما ،ومع ذلك أشكال الوحشية – مّر بهما ،بل و ِ
دما ً ، مق ّبدا دائما ً سالما ً .وكأنه تخّيل كل إمكانية ُ
م عميق ، ولذلك لم ُيفاجأ بما حدث .كان تشاؤ ٌ
صل فيه ، مر ،ومتناغم تماما ً مع الحقائق ،متأ ّ مد ّ و ُ
إلى درجة أنه في الواقع جعله مرحا ً .
كانت فيكتوريا تطلب مني مرة أو مرتين في
ن أصطحب بوريس ستيبانوفيتش في السبوع أ ْ
جولته في أرجاء المدينة – " جولت البيع والشراء "
ت قادرة ميها .وهذا ل يعني أني كن ُ ،كما كان ُيس ّ
ت دائما ً أسعد على مساعدته كثيرا ً ،ولكن كن ُ
172
بفرصة ترك العمل ،حتى ولو فقط لبضع ساعات .
ن فيكتوريا فهمت هذا ،وكانت حريصة على وأعتقد أ ّ
تي مزاجي كئيبا ً ،وبقي ُ ي كثيرا ً .وبق َ
أل تضغط عل ّ
ب بسهولة شة – أضطر ُ في الغالب في حالة ذهنية ه ّ
ح نكدة وصموتا ً دون أي سبب ظاهر .ربما ،وأصب ُ
تل بوريس ستيبانوفيتش دواءً ناجعا ً لي ،وبدأ ُ شك ّ َ
أترّقب موعد جولتنا الصغيرة بوصفها فترات
استراحة من رتابة أفكاري .
لم أكن أبدا ً طرفا ً في جولت شراء بوريس
)حيث كان يجد الطعام اللزم لمنزل ووبرن وينجح
في تحديد الشياء التي طلبناها منه( ،ولكني غالبا ً
ت أخدمه أثناء قيامه ببيع الشياء التي انتقتها ما كن ُ
ولها إلى نقد .كان يأخذ عشرة فيكتوريا لكي يح ّ
بالمائة من تلك الصفقات ،ولكن إذا شاهدته وهو
يعمل لظننت أنه يعمل حصرا ً لصالح نفسه .لقد
جعل بوريس لنفسه قانونا ً وهو أل يلجأ إلى وكالة
النعاش نفسها أكثر من مرة واحدة في الشهر .
ونتيجة لذلك ،تجولنا واسعا ً في أرجاء المدينة ،في
كل مرة ننطلق في جهة ،غالبا ً نجوب مناطق لم
أشاهدها قبل ذلك .كان بوريس يمتلك سيارة ذات
ن
يوم – سيارة شتوتس بيركات ،كما اّدعى – ولك ّ
حالة الشوارع أصبح ل يمكن العتماد عليها بالنسبة
ي ،وأصبح بعد ذلك يقوم بتنقلته سيرا ً على إل ّ
قدميه .يتأّبط الغرض الذي أعطته فيكتوريا إياه ،
ويرتجل دروبا ً ونحن نواصل السير ،ودائما ً يحرص
على تجّنب الحشود .كان يأخذني خلل أزقة خلفّية
وممرات منبوذة ،نطأ بأناقة الرصفة التالفة ،نجتاز
شراك ،وهو يميل تارة عددا ً كبيرا ً من المخاطر وال ِ
ن يكسر ولو نحو يمينه ،وأخرى نحو يساره ،دون أ ْ
173
مرة واحدة إيقاع خطاه .كان يتنّقل برشاقة
مدهشة بالنسبة إلى رجل في مثل ُبنية جسمه ،
َ
ت صعوبة في مواكبة خطوته . وكثيرا ً ما وجد ُ
وُيهمهم بوريس بأغنية لنفسه ،وُيثرثر حول هذا
بي وأنا أخ ّ الشيء أو ذاك ،هو يرقص بابتهاج عصب ّ
خلفه .وبدا أنه يعرف كل وكالت النعاش ،وك ٌ
ل
ن يقتحم منها كان يستدعي حشد روتين مختلف :كأ ْ
عين ،أو يتسلل باب أحدها ويدخل مفتوح الذرا َ
بهدوء إلى أخرى .وكل شخصية لها نقطة ضعفها ،
وكان بوريس دائما ً ينقر على الوتر المناسب
للدخول إلى قلبها .فإذا كانت نقطة ضعف العميل
هي الطراء ُ ،يطريه بوريس :وإذا كان العميل
مولعا ً باللون الزرق ُ ،يعطيه بوريس شيئا ً لونه أزرق
مق ،وآخرون من ّضل السلوك ال ُ
.البعض كان ُيف ّ
ن يلعبوا على كونهم أصدقاء حميمين ،بينما يحبون أ ْ
هناك آخرون تبقى العلقة معهم ضمن نطاق العمل
صرف .كان بوريس ُيدللهم جميعا ً ،ويكذب من ال ِ
ن هذا كان بين أسنانه دون أي وازع من ضمير .لك ّ
فقط جانبا ً من اللعبة ،ولم يكن بوريس يعتقد ولو
للحظة أنها لعبة .كانت حكاياته منافية للعقل ،لكنه
كان ُيلّفقها بسرعة كبيرة ،ويخرج بتفاصيل دقيقة ،
ويظل يتكّلم بكل اقتناع ،بحيث يصبح من الصعب
أل تجد نفسك منغمسا ً .فيقول ،مثل ً " ،سيدي
العزيز الطيب ،انظر بعناية إلى كوب الشاي هذا .
ض عينيك ،وقّربه من احمله بيدك ،إذا شئت .أغم ْ
شفتيك ،وتخّيل نفسك تشرب الشاي منه – تماما ً
ت ،في ت قبل إحدى وثلثين عاما ً مض ْ كما فعل ُ
ت ل أزال غرفة جلوس الكونتيسة أوبلوموف .كن ُ
يافعا ً في ذلك الوقت ،أدرس الدب في الجامعة ،
174
ً
ت هذا ،نحيل ً ووسيما ،وذا رأ ٍ
س ونحيل ً ،إذا ص ّ
دق َ
مجّعد .وكانت الكونتيسة أجمل امرأة من الشعر ال ُ
في مينسك ،أرملة شابة ذات مفاتن خارقة .وكان
الكونت ،وريث ثروة أوبلوموف العظيمة ،قد قُت ِ َ
ل
في مبارزة – مسألة شرف ،ل مجال لمناقشتها هنا
ن تتخّيل أثر هذا الرجال المحيطين – وتستطيع أ ْ
بها .وأصبح المتوددون إليها حشدا ً غفيرا ً ؛ كان
ن صورة جمال صالونها موضح حسد مينسك كلها .إ ّ
تلك المرأة ،يا صديقي ،لم تفارق خيالي أبدا ً :
الشعر الحمر البّراق ؛ الصدر البيض ،الجّياش ؛
والعينان تومضان بالذكاء – ونعم ،لمحة مراِوغة أبدا ً
خبث .كان ذلك كافيا ً ليدفع إلى الجنون . من ال ُ
شعرا ً وتنافسنا لجتذاب انتباهها ،لقد عبدناها ،كتبنا ِ
لها ،كنا جميعا ً في حالة حب مسعور .ومع ذلك
ت أنا ،بوريس ستيبانوفيتش الشاب ،الذي نجح كن ُ
ك هذا في الفوز بود ّ تلك الغاوية الوحيدة .إنني أخبر َ
ت كيف كان ضع .ولو رأيتني حينئذٍ ،لفهم َ كله بتوا ُ
ذلك ممكنا ً .كانت هناك أماكن للقاء في زوايا نائية
في المدينة ،لقاءات آخر الليل ،زيارات سّرية إلى
عّليتي )كانت تجتاز الشوارع متخّفية( ،وفصل
الصيف الطويل ،المنتشي ذاك أمضيته ضيفا ً في
عزبتها في الريف .وغمرتني الكونتيسة بكرمها –
ليس فقط بشخصها ،وكان ذلك سيكون كافيا ً ،
ف ! – بل بالهدايا التي ك ،بل أكثر من كا ٍ أؤكد ل َ
جلبتها معها ،والمعاملة اللطيفة الدائمة التي
ملّبسةأغدقتني بها .مجلدات أعمال بوشكين ُ
بالجلد .سماور من الفضة .ساعة من ذهب .أشياء
دها كلها .من بينها طقم شاي كثيرة ل يمكنني ع ّ
ص ذات يوم أحد أفراد البلط ممتاز كان يخ ّ
175
الفرنسي )الدوق فانتوماس ،أعتقد( ،لم أستخدمه
ت به من أجل إل عندما جاءت لزيارتي ،واحتفظ ُ
تلك المناسبات التي كان شغفها يدفعها إلى قطع
ي
مجتاحة بالثلوج وترتمي بين ذراع ّ شوارع مينسك ال ُ
.وا حسرتاه ،ما أقسى الزمن ! لقد عانى ذلك
ت ،والفناجين صحاف تشّقق ْ در السنين :ال ِ الطقم قَ َ
ت ،وضاع عالم كامل .ومع هذا ،ورغم ذلك سر ْ تك ّ
صلة لي بالماضي . ي تذكار واحد ،آخر ِ كله ،بق َ
ت تحمل بيدك ذكرياتي عامله برفق ،يا صديقي .أن َ
"
خداع كانت مقدرته على جعل الشياء ن ال ِ
أعتقد ُ أ ّ
ج بالحياة .كان بوريس ستيبانوفيتش الخاملة تض ّ
يقود رجال وكالة النعاش بعيدا ً عن الشياء نفسها ،
خلهم بلطف إلى عالم ٍ ل يعود فيه الشيء ُيد ِ
المعروض للبيع فنجان الشاي بل الكونتيسة
ن كانت تلك مإ ْ أوبلوموف نفسها .لم يُعد يه ّ
ن يبدأ صوت بوريس الحكايات صحيحة أم ل .فما أ ْ
متها . بالعمل ،حتى ُيصبح كافيا ً للعبث بالقضية بر ّ
ل ذلك الصوت كان سلحه المضى .كان يمتلك ولع ّ
جرس ، سلسلة من التعديلت الصوتية وأنواعا ً من ال َ
ة وذهابا ً بينل جيئ ً وفي خطاباته كان دائما ً يتنّق ُ
الصوات القاسية والناعمة ،سامحا ً للكلمات أ ْ
ن
ل كثيف ، ل واب ٍترتفع وتسقط وهي تتدّفق على شك ِ
معّقد التصميم ،من المقاطع الصوتية .كان بوريس ُ
ضعيفا ً أمام العبارات المبتذلة والعواطف الدبية ،
ولكن على الرغم من اللغة الميتة ،كانت الحكايات
ج بحيوية رائعة .كان التوزيع هو كل شيء ،ولم تض ّ
دع .خ َس ال ِ يكن بوريس يترّدد في استخدام حتى أخ ّ
ف دموعا ً حقيقية .وإذا وإذا لزم المر ،قد يزر ُ
176
طم الغرض على الرض . ن ُيح ّب المر ،يمكن أ ْ تطل ّ َ
وذات مرة ،ولكي ُيبرهن عن قناعته بطقم من
الكؤوس التي تبدو سريعة العطب ،أخذ يقذفها في
ت دائما ً الهواء ويتلعب بها مدة خمس دقائق .كن ُ
ل من الحرج من تلك العروض ،ولكن ل أشعر بقلي ٍ
شك في أنها كانت تنجح .كانت القيمة ُتحددها
الحاجة والطلب ،قبل أي شيء ،والطلب على
الثريات الثمينة لم يكن كبيرا ً جدا ً .وحدهم الثرياء
ن يدفعوا ثمنها –كان في استطاعتهم أ ْ
كالمستفيدين من السوق السوداء ،وسماسرة
النفايات ،وعملء النعاش أنفسهم – وكان بوريس
سُيخطئ لو أنه أصّر على فائدتها .النقطة كلها هي
كل رموزا ً أنها كانت كماليات ،يقتنيها المرء لنها تش ّ
للثراء والقوة .وعلى هذا الساس خرجت حكايات
الكونتيسة أوبلوموف ودوقات القرن الثامن عشر
الفرنسيين .وعندما تشتري مزهرية أثرية من
ك ل تقتني فقط بوريس ستيبانوفيتش ،فإن َ
مزهرية ،بل تحصل معها على عالم ٍ كامل .
كانت شّقة بوريس تقع في مبنى صغير في جادة
توركواز ،ل تبعد أكثر من مسيرة عشر دقائق عن
منزل ووبرن .وبعد إتمام عملنا مع عملء النعاش ،
كنا غالبا ً نعود لنحتسي كأسا ً من الشاي .كان
دم معه بوريس شديد الولع بالشاي ،وعادة كان ُيق ّ
نوعا ً من المعجنات -وهي أنواع شائنة من محل
بيت الكعك في جادة ويندسور :فطائر منتفخة
محّلى بالقرفة ،وإصبعية بالشوكولة بالكريما ،كعك ُ
،وكلها ابتيعت بأسعار باهظة .ولكن لم يكن في
استطاعة بوريس مقاومة إغراء تلك الملذات
ذذ بأكلها ببطء ،وكان مضغه الصغيرة ،وكان يتل ّ
177
مصحوبا ً بهمهمة موسيقية واهية تصدر عن حنجرته ،
ضجيج تحتي منتظم يقع ما بين الضحك والتنّهد
ت أستمتع في جلسات الشاي أيضا ً ، الطويل .كن ُ
ليس بسبب الطعمة بقدر ما كان بسبب إصرار
ن
بوريس على مشاركتها معي .كان يقول ،إ ّ
ن
رفيقتي الرملة الشابة شديدة الضعف .ويجب أ ْ
عظامها ،وُنعيد التوّرد إلى نضع بعض اللحم على ِ
ي النسة آّنا بلوم نفسها .كان وجنتيها ،توّرد عين ّ
تي أل أستمتع بتلك المعاملة ،وأحيانا ً كن ُ صعبا ً عل ّ
ن كل حماسة بوريس الشديدة ليست أكثر أشعر أ ّ
من تمثيلية تحزيرية يؤديها لمتعتي .كان يتلّبس ،
مهّرج ،النذل والفيلسوف ، على التوالي ،أدوار ال ُ
ت أنها أوجه لشخصية ولكن كلما عرفته أكثر ،رأي ُ
واحدة – يحشد أسلحته المتنوعة في جهد لعادتي
إلى الحياة .وأصبحنا صديقين حميمين ،وأنا أدين
مثابر لبوريس بتعاطفه معي ،بالهجوم المراوغ وال ُ
الذي شّنه على تحصينات حزني .
كانت الشّقة رثة ،من ثلث غرف ،تعيث
خارية ، نف ّم فيها عبر السنين – أوا ٍ بفوضى ما تراك َ
ملبس ،حقائب ،ملءات ،سجاد ،وكل صنوف
سقط المتاع .وفور عودته إلى المنزل ،ينسحب
بوريس إلى غرفة نومه ،ويخلع بذلته وُيعّلقها بعناية
في الخزانة ومن ثم يرتدي بنطلونا ً عتيقا ً ،وينتعل
مام .وهذا الخير كان خّفا ً ،ويضع عليه مبذل الح ّ ِ
منّفقة ت – حكاية طويلة ُ ض ْ
ِذكرى وهمية من أيام م َ
مصنوعة من المخمل الحمر ،مع ياقة من جلد
القاقوم وأساور أكمام ،وقد أضحى متهّرئا ً تماما ً
مين وموضع الن ،وفيه ثقوب سّببها العث في الك ُ ّ
ن بوريس ارتداه مع منتسل على طول الظهر – لك ّ ُ
178
خصلت من ن أعاد ُحزمة الريش المعتادة .وبعد أ ْ
شعره الخفيف إلى الخلف وينضح عنقه بماء َ
خطى واسعة إلى غرفة الجلوس الكولونيا ،ويخرج ب ُ
مغبّرة استعدادا ً لشرب الشاي . المزدحمة وال ُ
في الغالب ُ ،يمِتعني بسرد حكايات من حياته ،
ن أخرى كنا ننظر إلى الشياء ولكن في أحيا ٍ
المختلفة في الغرفة ونتحدث عنها – صناديق من
التحف ،كنوز صغيرة غريبة ُ ،فتات آلف جولت
ة بتشكيلته البيع والشراء .كان بوريس فخورا ً خاص ً
من القبعات التي كان ُيخزنها في صندوق خشبي
كبير يضعه بجوار النافذة .ول أعلم كم لديه منها
داخله ،لكنها أعتقد دزينتين أو ثلث ،وربما أكثر .
أحيانا ً ،كان ينتقي اثنتين منها لكي نعتمرهما أثناء
شرب الشاي .تلك اللعبة كانت تسّليه كثيرا ً ،
وأعترف بأني أنا نفسي استمتعت بها ،على الرغم
من أني أجد صعوبة في شرح السبب .كانت هناك
قبعات كاوبوي وقبعات دربي ،وطرابيش وخوذات
الفّلين ،قلنسوات جامعية وقبعات البيريه – كل ما
ت ن تتخيله من أغطية الرأس .وكلما سأل ُ يمكن أ ْ
بوريس عن سبب جمعه لها ،يعطيني جوابا ً مختلفا ً .
ن اعتمار القبعات يشكل جزءا ً وذات مرة ،قال إ ّ
نمن مذهبه .وفي مناسبة أخرى ،شرح لي قائل ً إ ّ
ص ذات يوم أحد أقاربه كل قبعة من قبعاته كانت تخ ّ
وأنه اعتمرها لكي يجتمع مع أرواح الموتى من
أسلفه .وباعتماره قبعة كان يكتسب المزايا
الروحية لصاحبها السابق ،كما قال .والصحيح ،هو
أنه أطلقَ على كل من قبعاته اسما ً ،لكني اعتبر ُ
ت
أنها ُتبرُِز مشاعره الخاصة حول القبعات أكثر مما
تمّثل الشخاص الذين كانوا أحياء فعل ً .الطربوش ،
179
دربي كانت السير مثل ً ،كان العم عبد الله .وال ِ
تشارلز .والقلنسوة الجامعية كانت البروفسور
سولومون .ولكن ،في مناسبة أخرى أيضا ً ،عندما
ح بوريس قائل ً إّنه ت الموضوع من جديد ،شر َ أثر ُ
ن يعتمر القبعات لنها تمنع أفكاره من الفرار يحب أ ْ
من رأسه .فإذا اعتمرناها معا ً أثناء شرب الشاي ،
ننخرط في أحاديث أكثر ذكاًء وحماسا ً .قال ،منتقل ً
ن القبعة تؤّثر على العقل إلى استخدام الفرنسية " إ ّ
7
ت الرأس ،ل تكون الفكرة حمقاء " .فإذا حم ْ
وفي مناسبة واحدة فقط بدا فيها بوريس أنه
حذ ََره ،وذلك الحديث أذكره جيدا ً ، يتخّلى عن َ
الحديث الذي يبرز بحيوية شديدة في ذاكرتي .
كانت ُتمطر بعد ظهيرة ذلك اليوم – يوم كئيب ،
ت أضّيع الوقت أكثر من المعتاد ، منقوع – وأخذ ُ
ن أغادر دفء الشقة وأعود إلى منزل ةأ ْ كاره ً
ووبرن .كان بوريس في مزاٍج حزين غريب ،وخلل
ت أنا التي تقود دفة الحديث . معظم الجلسة كن ُ ُ
معطفي ت أخيرا ً شجاعتي لرتدي ِ وعندما استجمع ُ
مبلل ،وانعكاس كر رائحة الصوف ال ُ وأودعه )أتذ ّ
ضوء الشموع على زجاج النافذة ،وحميمّية اللحظة
ك بوريس بيدي الشبيهة بتجويف مغارة( ،أمس َ
ي معمها بقوة داخل يده ،ورفع بصره إل ّ وض ّ
مبهمة . ابتسامة كئيبة ُ ،
ن تفهمي ،يا عزيزتي ،أنه كله وهم قال " يجب أ ْ
"
ت واثقة من أني أفهم ما تعني ،يا بوريس " لس ُ
"
س من ي على أسا ٍ " أعني منزل ووبرن .إنه مبن ّ
الغيوم "
- 7الصل بالفرنسية .
180
" يبدو لي متينا ً بكل معنى الكلمة .أنا موجودة
هناك في كل يوم ،كما تعلم ،والمنزل لم يتزحزح
أبدا ً .لم يتمايل قط "
" الن ،نعم .ولكن انتظري بعض الوقت ،
وحينئذ ٍ ستفهمين ما أعني بقولي "
" كم يبلغ " بعض الوقت " هذا ؟ "
ن غرف الطابق الخامس " مهما بلغ .إ ّ
مزدحمة ،كما تعلمين ،وعاجل ً أو آجل ً لن يبقى
ل منذ الن – وما ن المخزون يق ّ هناك ما ُيباع .إ ّ
ُيفَقد ،ل يمكن استعادته "
ن كل شيء ينتهي ، " هل الوضع بهذا السوء ؟ إ ّ
ن يكون الحال يا بوريس .ل أفهم لماذا ينبغي أ ْ
مختلفا ً بالنسبة إلى منزل ووبرن "
ك .ولكن ماذا " ل ضير في قول هذا بالنسبة إلي ِ
عن المسكينة فيكتوريا ؟ "
تكر ْ " فيكتوريا ليست غبية .أنا واثقة من أنها ف ّ
في هذه المور "
" وفيكتوريا عنيدة أيضا ً .سوف تصمد حتى ين َُفق
آخر غلوت ،وعندئذ ٍ لن تكون أفضل حال ً من
ن تساعدهم " الشخاص الذين كانت تحاول أ ْ
" أليس هذا عملها ؟ "
ن أعتني بها ،ول ت والدها بأ ّ " نعم ول .لقد وعد ُ
ك رأيتها عندما كانت ن أنقض وعدي .ليت ِ أنوي أ ْ
شابة – قبل سنين عديدة ،قبل النهيار .كانت غاية
كر في ن أف ّذبني أ ْ في الجمال ،وممتلئة بالحياة .وُيع ّ
ن يحدث لها كل ما هو سيء " أّنه يمكن أ ْ
ك تبدو" إنني مندهشة منك ،يا بوريس .إن َ
ي عفن " كعاطف ّ
181
" أخشى أننا جميعا ً نتكّلم بلغة الشباح .لقد
دنيب بخط اليد على الجدار ،ولم يم ّ ت ما ك ُت ِ َ قرأ ُ
ن موارد منزل شيء مما جاء فيه بالشجاعة .إ ّ
ووبرن سوف تنفد .أنا لديّ موارد إضافية في هذه
الشقة ،طبعا ً " – وهنا قام بوريس بحركة إيماء
ت أغراض الغرفة كلها – " ولكن حتى مسح شمل ْ
هذه سوف تنفد سريعا ً .وإذا لم نباشر بالنظر إلى
ي منا "
المام ،لن يتبقّ هناك أي مستقبل ل ٍ
ن تقول ؟ " " ماذا تحاول أ ْ
" نضع خططا ً .نأخذ المكانات في حسباننا .
نعمل "
ن تجاريك ؟ " " وتتوّقع من فيكتوريا أ ْ
ت إلى جانبي ، " ليس بالضرورة .ولكن إذا وقف ِ
ل ستكون هناك فرصة " على الق ّ
ن
ك إلى العتقاد بأّني أستطيع أ ْ " ما الذي يدفع َ
أمارس أي تأثير عليها ؟ "
" عيناي في رأسي .أنا أرى ما ستفعلين هناك ،
ن فيكتوريا لم تستجب لي شخص كما يا أّنا .إ ّ
ك"متّيمة ب ِتستجيب إليك .إنها ُ
" نحن مجرد صديقتين "
" بل أكثر من هذا ،يا عزيزتي .أكثر بكثير "
ما تتحدث " " ل أفهم ع ّ
" ستفهمين .عاجل ً أو آجل ً ،ستفهمين كل كلمة
قلتها .أنا أضمن هذا "
182
عذره ،إذا ن لع ّ
ل لهذا ُ ن صدمني مباشرة – ولك ْ بعد أ ْ
أخذنا في العتبار أني أشد ّ الناس قاطبة جهل ً .
نم هنا ،لك ّت أتلعث ُ م أني بدأ ُ ملني .أعل ُ تح ّ
الكلمات ل تردني بسرعة لعّبر عما أريد قوله .
ور كيف كانت المور بالنسبة ن تتص ّ ن تحاول أ ْ يجب أ ْ
إلينا حينئذٍ – الحساس بالجل يرزح بثقله علينا ،
ن
م في كل لحظة .إ ّ والجو غير الواقعي الذي ُيخي ّ ُ
سحاقّية هو مجرد اصطلح سريري ،ول النزعة ال ُ
ف الوقائع .ففيكتوريا وأنا لم ُنصبح زوجا ً ص ُُين ِ
تبالمعنى العتيادي للكلمة .بالحرى ،لقد أصبح ْ
ل منا ل منا ملذا ً للخرى ،المكان الذي تلجأ إليه ك ٌ ك ٌ
لتجد الراحة والعزلة .وعلى المدى الطويل ،كان
ل أهمية فيه .فالجسد مجرد الجنس الجزء الق ّ
جسد ،قبل أي شيء ،ول يكاد يبدو هاما ً ما إذا
ص رجل ً أم امرأة .كان كانت اليد التي تلمسك تخ ّ
اجتماعي بفيكتوريا يمنحني متعة ،ولكنه أيضا ً
منحني الشجاعة على العيش في الحاضر من
عد أنظر جديد .ذلك كان الشيء الكثر أهمية .لم أ ُ
ن هذا إلى الوراء طوال الوقت ،وشيئا ً فشيئا ً بدا أ ّ
شفاء بعض الجراح التي ل ُتحصى يعمل على ِ
وحملُتها داخلي .لم أعد متكاملة كما كنت ،ولكن
عد أكره حياتي .لقد أحّبتني امرأةٌ ، ل لم أ ُ على الق ّ
ن أحبها .أنا ل ن في مقدوري أ ْ تأ ّ ومن ثم اكتشف ُ
ن تتقّبله ن تتفّهم هذا ،بل فقط أ ْ كأ ْ ب من َ أطل ُ
كحقيقة .في حياتي الكثير من المور التي أندم
ن هذا ليس أحدها . عليها ،ولك ْ
بدأ المر مع نهاية فصل الصيف ،بعد وصولي
ت إلى منزل ووبرن بثلثة أشهر أو أربعة .جاء ْ
فيكتوريا إلى غرفتي لكي ُتجري معي واحدا ً من
183
ت شديدة أحاديث آخر الليل ،وأذكُر أني كن ُ
الرهاق ،وأشعر بألم ٍ في أسفل عنقي وبأني أشد ّ
ك ظهري بطريقة اّتكال ً من ذي قبل .أخذت تدل ّ ُ
وّدية ،في محاولة لزالة التوتر عن عضلتي ،تفعل
نالشيء الخوي نفسه الذي يمكن لي شخص أ ْ
يفعله في مثل تلك الظروف .ولكن لم يكن أحد قد
لمسني منذ أشهر – منذ الليلة الخيرة التي أمضيتها
ت ت أنسى متعة التدليك هكذا .ظل ّ ْ مع سام – وكد ُ
فيكتوريا ُتحّرك يديها أعلى عمودي الفقري
وأسفله ،وأخيرا ً أدخلتهما تحت قميصي ،واضع ً
ة
أصابعها على بشرتي العارية .كان ذلك شيئا ً غير
ت أطفو من عادي يحدث معي ،وسرعان ما بدأ ُ
ن
ن جسمي يوشك أ ْ شدة الستمتاع ،شاعرة كأ ّ
ن أيا ً منا كانت يتداعى .ولكن حتى عندئذٍ ل أعتقد أ ّ
تعرف ما الذي سيحدث .كانت عملية بطيئة ،
ف ت بالتواء من مرحلة إلى مرحلة دون هد ٍ وتن ٌّقل ْ
ي، دد .وعند نقطة ما انزلقَ الغطاء عن ساق ّ مح ّ ُ
فلم أزعج نفسي بإعادته إلى موضعه .وأخذت يدا
فيكتوريا تتسلل إلى مساحات أوسع من جسمي ،
ي
ي وتتجولن أسفل خاصرت ّ ي وردف ّ بما فيها ساق ّ
ي ،وأخيرا ً لم يبقَ مكان وترتفعان على طول كتف ّ
ت على ظهري ، في جسمي لم تلمسه .ثم انقلب ُ
ومالت فيكتوريا فوقي ،وهي عارية من تحت مبذل
ل وبارز من الفتحة . الستحمام ،وأحد ثدييها متد ٍ
ت جميلة جدا ً .أعتقد أني أريد أ ْ
ن ت لها ،أن ِ قل ُ
ت أقّبلت قليل ً في جلستي وبدأ ُ أموت .اعتدل ُ
ثديها ،ذلك الثدي المدّور والجميل الذي كان أضخم
ل الهالة الناعمة السمراء ، بكثير من ثديي ،وأقب ّ ُ
ك لساني على طول الخط المعترض للوردة وأحّر ُ
184
الزرقاء التي تبرز مباشرة من تحت الجلد ,بدا لي
شيئا ً خطرا ً وصادما ً ،وللوهلة الولى أو نحوها
ت برغبة ل يمكن العثور عليها إل ت أني تعّثر ُ شعر ُ
دم طويل ً ، ن ذلك الشعور لم ي ُ في ظلم الحلم – لك ّ
ت نفسي على سجيتها ،واستسلمت وبعد ذلك ترك ُ
لها كليا ً .
استمررنا في النوم معا ً على مدى السابيع
ت أشعُر بألفة هناك .لقد القليلة التالية ،وأخيرا ً بدأ ُ
ف
كانت طبيعة العمل في منزل ووبرن ُتضعِ ُ
مد عليه ،وبل المعنويات بدون وجود شخص ُيعت َ َ
س
ن دائم تستقّر فيه المشاعر .لقد جاء أنا ٌ مكا ٍ
ت بنا حيوات كثيرة جدا ً كثيرون ورحلوا ،ومّر ْ
ن تبدأ بالتعّرف على شخص ،حتى ورحلت ،وما إ ْ
تراه يحزم أمتعته ويرحل .ثم يأتي آخر ،وينام في
السرير الذي كان يشغله الول ،ويجلس على
الكرسي نفسه ،ويمشي على البقعة ذاتها من
الرض ،ومن ثم يحين وقت رحيل ذلك الشخص ،
ويتكّرر المر من جديد .وفي مقابل ذلك ،كانت
فيكتوريا وأنا نعيش إحدانا من أجل الخرى – على
السّراء والضّراء ،كما كنا نقول – وكان هذا هو
الشيء الوحيد الذي لم يتغّير ،على الرغم من
التغّيرات التي كانت تحدث من حولنا .وبسبب تلك
ت قادرة على التصاُلح مع العمل ، العلقة ،أصبح ُ
دئ على معنوياتي .ثم مه ّ
وهذا بدوره كان له أثر ُ
ن نستمر حدثت أموٌر أخرى ،ولم يُعد في إمكاننا أ ْ
كما كنا .سوف أتحدث عن هذا بعد لحظة ،ولكن
ن ل شيء تغّير حقا ً .كان الرابط ل يزال المهم هو أ ّ
موجودا ً ،وتعّلمت إلى البد كم كانت فيكتوريا
شخصية متمّيزة .
185
كنا في منتصف شهر كانون أول ،مع ظهور أول
بوادر البرد الحقيقي .لم يكن فصل الشتاء قاسيا ً
ن يعرف ذلك كسابقه ،ولكن ل أحد كان يمكن أ ْ
دما ً .وجلب البرد معه كل الذكريات السيئة مق ّ
ُ
للسنة المنصرمة ،وكان في المكان الشعور
بالرعب يتصاعد في الشوارع ،ويأس الناس وهم
ن يستجمعوا ِقواهم استعدادا ً للهجوم ُيحاولون أ ْ
المفاجئ .وأصبحت الطوابير أمام منزل ووبرن
ت خلل الشهر العديدة الخيرة ، أطول من أي وق ٍ
ت نفسي أعمل ساعات إضافية للحق بإيقاع ووجد ُ
التدّفق .في صباح اليوم الذي أتحدث عنه ،أذكر
ل
ت عشرة أشخاص أو أحد عشر بتسلس ٍ أني استقبل ُ
ل مع حكايته الخاصة الرهيبة .أحدهم – سريع ،ك ٌ
اسمها ميليسا رايلي ،امرأة في نحو الستين من
تالعمر – كانت من فرط الضطراب حتى أنها انهار ْ
ن
ت بيدي وهي تطلب أ ْ أمامي وهي تبكي ،وتشّبث ْ
أساعدها في العثور على زوجها الضائع ،الذي كان
قد خرج في شهر حزيران ولم تسمع عنه أي شيء
ن افعل ؟ قلت منذ ذلك الوقت .ماذا تتوقعين مني أ ْ
ن أترك موقعي وأخرج لجوب .ل أستطيع أ ْ
ك ،لديّ الكثير جدا ً من العمل ينتظر الشوارع مع ِ
ت في إثارة الصخب ، النجاز هنا .لكنها استمّر ْ
ووجدتني أثور غضبا ً منها لنها لحوح .قلت ،
ت المرأة الوحيدة في هذه المدينة التي انظري ،لس ِ
ت زوجها .لقد رحل زوجي منذ الفترة التي فقد ْ
رحل فيها زوجك .وكل ما أعرفه أنه ميت مثل
زوجك ،ول يهمي هذا .فهل ترينني أبكي وأشد ّ
ن نواجهه .ثم شعري ؟ إنه وضع علينا جميعا ً أ ْ
ت نفسي لني تلّفظت بكل تلك التفاهات ، كره ُ
186
ولنني عاملتها بفظاظة شديدة ،ولكنها كانت تجعل
كر وهي تثرثر بكلم ٍ هستيري ن أف ّيأ ْ
من الصعب عل ّ
كك عن السيد رايلي وعن أولدهما ورحلة شهر مف ّو ُ
العسل التي قاما بها قبل سبعةٍ وثلثين عاما ً .أخيرا ً
ن عاهرة باردة قالت لي ،أنا ل يهمني أمرك .إ ّ
كن يكون لها زوج ،ويمكن ِ القلب مثلك ل تستحق أ ْ
ك وتغرزيه بين مرّفه خاصت ِ ن تأخذي منزل ووبرن ال ُ أ ْ
ت تتكلمين ن الدكتور الطيب سمعك وأن ِ عينيك .لو أ ّ
ل في قبره .أو شيئا ً كهذا ،على الرغم من ،لتملم َ
ت السيدة كر الكلمات الحرفّية .ثم نهض ْ أني ل أتذ ّ
ت آخر تعبير ت ونفث ْرايلي واقفة على قدميها وغادر ْ
ت رأسي على ت ،وضع ُ عن السخط .وحالما رحل ْ
ن لم ي ،وأنا أتساءل إ ْ ت عين ّ حافة المكتب وأغمض ُ
ن أقابل أكن من شدة الرهاق بحيث ل يمكنني أ ْ
أناسا ً آخرين في ذلك اليوم .لقد كانت المقابلة
ت زمام مشاعري ُيفلت مرة ،وغلطتي أني ترك ُ مد ّ ُ
مبّرر للتنفيس عن عذر لي في ذلك ،ل ٌ مني .ول ُ
مشاكلي في امرأة عجوز كان جليا ً أنها ل تملك
كامل قواها العقلية من شدة حزنها .ولبد أني
ت قليل ً حينئذٍ ،ربما مدة خمس دقائق ،ربما غفو ُ
ت متأكدة .كل ما لدقيقة واحدة أو اثنتين – لس ُ
ن مسافة ل متناهية تفصل بين أعرفه هو أّنه بدا كأ ّ
ي
تلك اللحظة والتي تليها ،بين لحظة إغماض عين ّ
ت بصري ،وإذا بسام ٍ ماثل وفتحهما من جديد .رفع ُ
أمامي ،جالس على الكرسي أمامي لكي ُيجري
ت أني ل أزال المقابلة التالية .للوهلة الولى حسب ُ
ت لنفسي ،إنه وهم .إنه خارج من أحد نائمة .قل ُ
تلك الحلم التي تتخيل فيها نفسك يقظا ً ،لك ّ
ن
ت
اليقظة ليست أكثر من جزء من الحلم .ثم قل ُ
187
ت أنه هو نفسه ول لنفسي :سام – وفي الحال أدرك ُ
أحد غيره .هذا هو سام ،لكنه أيضا ً ليس سام .هذا
سام في جسدٍ آخر ،شعره شائب وثمة رضوض
على جانب وجهه ،وأصابعه سوداء ،ممزقة ،
س هناك وفي عينيه نظرة مخّربة .جل َ وملبسه ُ
شاردة تماما ً ،وميتة – بدا لي كأنه غائص داخل
ل شيء تك ّ نفسه ،ضائع بكل معنى الكلمة .رأي ُ
في لمحة سريعة ،في دوامة ،في ومضة .هذا هو
تي ،لم يعرفني .شعر ُ سام ،لكنه لم يتعّرف عل ّ
ت أنهبقلبي يضرب بقوة ،ولبرهة من الزمن ظنن ُ
ت دمعتان ي .ثم ،وببطٍء شديد ،بدأ ْ سُيغمى عل ّ
ض على شفته ي سام .كان يع ّ تجريان على وجنت ّ
السفلى ،وكانت ذقنه ترتعش بحركة ل إرادية .
وفجأةً ،بدأ جسمه كله يهتز ،والهواء ينفث من فمه
ع
،والنشيج الذي كان ُيكافح كي ُيبقيه داخله اندف َ
ح بوجهه بعيدا ً عني ،وهو ل يزال خارجا ً .وأشا َ
ن النوبات ظلت تنخع ن يكبح نفسه ،لك ّ ُيحاول أ ْ
جسمه ،وظل الضجيج اللهث ،الخشن ،يفلت من
ت واقفة عن الكرسي ، بين شفتيه المغلقتين .نهض ُ
وأنا أترّنح نحو الجانب الخر من الطاولة ،وأحطته
ت صوت حفيف ي .وحالما لمسته ،سمع ُ بذراع ّ
مجّعدة يصدر من معطفه .في اللحظة صحيفة ُ
ف
ت أبكي ،ومن ثم لم أعد أستطيع الك ّ التالية ،بدأ ُ
ت رأسي عميقا ً في دة ،ودفن ُت به بش ّ سك ُ .تم ّ
ف. قماش معطفه ،ولم أجد سبيل ً إلى الك ّ
ت أسابيع قبل
حدث هذا قبل أكثر من عام .ومر ْ
ف ليتكّلم عن المور
ن يستعيد سام عافيته بقدر كا ٍ
أ ْ
التي وقعت له ،ولكن حتى عندئذ ٍ كانت حكاياته
188
ن
مبهمة ،مملوءة بالمتناقضات والفراغات .بدا أ ّ ُ
كل شيء يجري دفعة واحدة ،كما قال ،ووجد َ
صعوبة في تمييز الخطوط العامة للحداث ،ولم
كن من فصل يوم عن آخر .تذك َّر أنه كان ينتظر يتم ّ
حضوري ،وهو جالس في الغرفة حتى الساعة
السادسة أو السابعة من صباح اليوم التالي ،وأخيرا ً
خرج ليبحث عني .عندما عاد كان الوقت قد تجاوز
منتصف الليل ،وفي ذلك الوقت كانت النار قد
ف بين الحشود التي ت في المكتبة العامة .ووق َ شب ّ ْ
ت لتتفّرج على النار ،ثم انهاَر السقف أخيرا ً ، مع ْ تج ّ
ت كتبنا تحترق مع كل شيء في المبنى . وشاهد ُ
ن يرى المشهد بعين قال إّنه في الواقعَ يستطيع أ ْ
عقله ،وأنه في الواقع يعرف بدّقة اللحظة التي
م صفحات المخطوط . دخل فيها اللهب غرفتنا والته َ
بعد ذلك ،فقد كل شيء هويته .وضعَ نقودا ً في
جيبه ،وحمل ملبسه على ظهره ،وانطلق .
كر غير البحث وطوال شهرين لم يفعل أي شيء ُيذ َ
عني – ينام أينما كان ،ويأكل فقط عندما ُيصبح ل
ح في البقاء مناص من ذلك .وبهذه الطريقة نج َ
حيا ً ،ولكن مع نهاية فصل الصيف أوشكت نقوده
على النفاد .والسوأ من ذلك ،كما قال ،أنه تخّلى
ت ،ولم يعد عن البحث عني .لقد اقتنعَ بأني قد م ّ
ل زائف .وانسحب إلى مل تعذيب نفسه بأم ٍ يتح ّ
زاوية من ديوجين ترمينال – محطة القطار
القديمة في الجزء الشمالي الغربي من
ش بين المنبوذين والمجانين ، المدينة – وعا َ
الشباح التي تجوب الروقة الطويلة وغرف
النتظار المهجورة .قال ،كان المر أشبه
ول إلى حيوان ،إلى مخلوق تحت بالتح ّ
189
ي .ومرة أو ت شتو ّ أرضي دخل في سبا ٍ
مال ً لحمال المنّقبين مرتين في السبوع يعمل ح ّ
الثقيلة ،يعمل من أجل الجر الزهيد الذي يتلّقاه
منهم ،ولكن في أغلب الوقت لم يكن يفعل أي
ن يتزحزح من مكانه إل للضرورة شيء ،رافضا ً أ ْ
ن أحقق شيئا ً . القصوى .قال " تخّليت عن فكرة أ ْ
ن أقيم في ن أغادر محيطي ،أ ْ أصبح هدف حياتي أ ْ
صلتي ،واحدا ً بعد ت ِمكان ل يؤذيني أحد .وقطع ُ
ت أحبها . آخر ،لكي أتخلى عن كل الشياء التي كن ُ
ن ُأحقق الل مبالة ،ل وكانت الفكرة هي أ ْ
و بحيث تحميني ضد مبالة من القوة والسم ّ
ك ،يا أّنا ؛ قي المزيد من العتداءات .وّدعت ِ تل ّ
ت فكرة العودة إلى الوطن . دع ُوّدعت الكتاب ؛ و ّ
تن أوّدع نفسي .وشيئا ً فشيئا ً ،أصبح ُ تأ ْ
وحاول ُ
صافي الذهن كبوذا ،أجلس في زاويتي ل أولي
العالم من حولي أي انتباه .ولول جسدي –
المتطلبات العََرضّية لمعدتي ،ولحشائي – لما
ت ُأرد ّد ُ لنفسي ،ل أريد ت أبدا ً من مكاني .كن ُ تحّرك ُ
ور شيئا ً ،لن أقتني شيئا ً ،لن أكون شيئا ً .لم أتص ّ
ت من حل ً أشد مثالّية من ذلك .وفي النهاية ،اقترب ُ
العيش حياة الحجر "
منحنا سام الغرفة الكائنة في الطابق الثاني التي
ت أشغلها ذات يوم .كان في حالةٍ ُيرثى لها ، كن ُ
ل كان الوضع دقيقا ً جدا ً . وخلل اليام العشرة الوَ ْ
ت كل وقتي تقريبا ً معه ،أؤدي واجباتي أمضي ُ
الخرى بأسرع ما يمكن ،ولم تعترض فيكتوريا على
ذلك .وهذا ما وجدته رائعا ً فيها .ليس فقط لم
جعتني .كان في تعترض ،بل خرجت عن عادتها وش ّ
فهمها للوضع شيء خارق ،في مقدرتها على
190
مفاجئة ،العنيفة تقريبا ً ،لسلوبنا استيعاب النهاية ال ُ
ن ُتكاشفني ت أنتظر منها أ ْ السابق في الحياة .وبقي ُ
ن
مظِهرة ً خيبة أمل أو غيرة ،ولك ْ ن تنفجر ُ فجأةً ،أ ْ
ل شيء من هذا حدث .كان أول رد فعل على الخبر
ن سام كان ل هو إبداء سعادتها – سعادتها لجلي ،ل ّ
ت تبذل جهدا ً يزال على قيد الحياة – وبعد ذلك أصبح ْ
ل عن جهدي كي يستعيد عافيته .لقد حثيثا ً ل يق ّ
ن
تأ ّت بخسارة شخصية ،لكنها أيضا ً أدرك ْ مني َ ْ
ُ
ل كسبا ً لمنزل ووبرن .ففكرة وجوده هناك مث ّ َ
ة رجل مثل انضمام رجل إلى الهيئة الدارية ،خاص ً
سام – لم يكن عجوزا ً مثل فريك ول بطيء الفهم
هل مثل ويلي – كانت كافية لتصحيح المور وغير مؤ ّ
ن يكون بالنسبة إليها .هذا التصميم كان يمكن أ ْ
مخيفا ً ،كما اكتشفت ،ولكن ل شيء كان أه ّ
م ُ
بالنسبة إلى فيكتوريا من منزل ووبرن – ول حتى أنا
،ول حتى هي نفسها ،إذا كان يمكن تخّيل هذا .ل
ن أفرط في التبسيط ،ولكن مع أريد أ ْ
ت أشعر بأنها سمحت لي مرور الوقت بدأ ُ
شفاء . ن أقع في حبها لكي أتمكن من ال ِ أ ْ
ت بؤرة اهتمامها ت ،نقل ُ ن برأ ُ والن بعد أ ْ
مني إلى سام .في الواقع لقد كان منزل
ووبرن هو الحقيقة الوحيدة بالنسبة إليها ،
وفي النهاية لم يبق هناك أي شيء أهم منه
.
ل سام إلى الطابق العلوي لُيقيم أخيرا ً ،انتق َ
معي في الطابق الرابع .وأخذ وزنه يزيد ببطء ،
وبدأ ببطء ُيشبه نفسه كما كان ،ولكن بالنسبة إليه
ن يعود كل شيء إلى سابق لم يكن في المكان أ ْ
عهده – ليس الن ،أبدا ً .أنا ل أتحدث فقط عن
191
ض قبل ت بجسده – الشعر الذي ابي ّ محن التي نزل ْ ال ِ
ت ،والرجفة القليلة الوان ،والسنان التي سقط ْ
ولكن المستمرة في يديه – بل أتحدث عن المور
الداخلية أيضا ً .فلم يُعد سام ذلك الشاب
ت معه في المكتبة العامة . المتعجرف الذي عش ُ
لقد تغي َّر بما مّر به من تجارب ،وأصبح متواضعا ً
تقريبا ً بسببها ،وأصبح لسلوكه الن إيقاع أهدأ ،
وأشد صفاًء .أصبح يتحدث على فترات عن العودة
ت أنه لم يكن إلى تأليف الكتاب ،ولكني رأي ُ
كل حل ً بالنسبة إليه ، مسا ً .فلم يُعد الكتاب ُيش ّ متح ّ
ن ضاع ولوعه ،بدا قادرا ً أكثر على فهم وبعد أ ْ
ت له ،التي وقعت لنا جميعا ً . الحداث التي وقع ْ
ودواستعاد َ ِقواه ،وشيئا ً فشيئا ً أخذنا من جديد نتع ّ
ن علقتنا أصبحت أكثر على بعض ،ولكن بدا لي أ ّ
ت
ت قد تغّير ُ ما كانت في السابق .ربما كن ُ توازنا ً ع ّ
ن الحقيقة هي أني أنا أيضا ً خلل تلك الشهر ،لك ّ
ي أكثر مما فعل ن سام أصبح يحتاج إل ّ تأ ّ شعر ُ
ن يحتاج م ْ
ن هناك َ حينئذٍ ،وأعجبني هذا الحساس بأ ّ
ي ،أعجبني أكثر من أي شيء آخر في العالم . إل ّ
تبدأ بالعمل مع بداية شهر شباط .أول ً ،كن ُ
معاِرضة تماما ً لمسألة العمل التي نصحته بها ُ
ً
ت في المر ملي ّا ،كما قالت ، كر ْفيكتوريا .لقد ف ّ
ن يخدم مصالح ن سام يمكن أ ْ تأ ّ وفي النهاية رأ ْ
منزل ووبرن بصورة أفضل إذا أصبح هو الطبيب
ت " قد تجد هذه فكرة غريبة ،ولكن الجديد .وتابع ْ
منذ وفاة والدي ،ونحن نتخّبط .لم يُعد المكان
متماسكا ً ،لم يُعد هناك إحساس بالهدف .إننا نمنح
الناس المأكل والمأوى لفترة وجيزة من الوقت ،
مصّغرا ً من المؤازرة التي وهذا كل شيء – نوعا ً ُ
192
بالكاد تكفي أحدا ً .في الماضي ،كان الناس يأتون
ن يكونوا بالقرب من والدي .حتى لنهم أرادوا أ ْ
عندما كان يعجز عن مساعدتهم كطبيب ،كان يتوفر
ليتكلم معهم وُيصغي إلى مشاكلهم .هذا هو
سن لمجّرد المهم .لقد جعل الناس يشعرون بتح ّ
كونه كما كان .لقد كان الناس ُيمنحون طعاما ً ،
مِنحوا أمل ً .ولو كان لدينا طبيب آخر ولكنهم أيضا ً ُ
هنا الن ،لستطعنا ربما القتراب أكثر من روح هذا
المكان كما كان ذات مرة "
ن سام ليس طبيبا ً .سيكون ذلك كذبا ً ، قلت " لك ّ
ن تساعدي الناس إذا كان ول أفهم كيف تستطيعين أ ْ
أول ما تفعلينه هو الكذب عليهم "
كر أجابت فيكتوريا " هذا ليس كذبا ً ؛ إنه عملية تن ّ
.الكذب يكون لسباب أنانية ،ولكن في هذه الحالة
نحن لن نأخذ أي شيء لنفسنا ؛ إنه للخرين ،هو
ن سام طريقة لمنحهم أمل ً .وما داموا يعتقدون أ ّ
طبيب ،سيؤمنون بما يقول "
ن أحدا ً اكتشف المر ؟ عندئذٍ " ولكن ماذا لو أ ّ
دقنا أحد بعد ذلك – حتى لو قلنا سننتهي .لن ُيص ّ
الحقيقة "
ن يفضح " ل أحد سيكتشفه .ل يمكن لسام أ ْ
نفسه ،لنه لن ُيمارس الطب .حتى لو أراد ذلك ،
لم يتبقّ له طب ُيمارسه .لدينا زجاجتان من
السبرين ،وصندوق أو اثنين من الضمادات ،وهذا
كل ما في المر .وكون الدكتور فار أطلقَ على
نفسه هذا اللقب ل يعني أنه سيقوم بعمل الطبيب .
سوف يتكّلم ،والناس سُيصغون إليه .هذا أقصى ما
سيفعله .إنها طريقة لمنح الناس فرصة لستمداد
القوة "
193
ن سام فشل في مهمته ؟ " " ماذا لو أ ّ
" إذن فقد فشل .لكننا لن نعرف ذلك إل إذا
قمنا بالمحاولة ،فهل سنفعل ؟ "
أخيرا ً ،وافقَ سام على خوض التجربة .قال "
ت مائة عام ما كان هذا ليخطر على بالي ،ولو عش ُ
كم ،وعلى ن أّنا تجد المَر يدعو إلى الته ّ أخرى .إ ّ
ن
م ْ المدى الطويل أعتقد أنها على حق .ولكن َ
كم ؟ الناس ن كل الحقائق ل تدعو إلى الته ّ يدري أ ّ
يموتون هناك ،وسواء أعطيناهم طاسا ً من الحساء
أو أنقذنا أرواحهم ،فسوف يموتون في كل
الحوال .إنني ل أجد سبيل ً إلى تفادي هذا .إذا
ن حصولنا على طبيب زائف كانت فيكتوريا تظن أ ّ
ن أنا م ْ مطلوب منه الكلم سيسّهل عليهم المر ،ف َ
ن هذا ك في أ ّ حتى أقول إنها على خطأ ؟ أنا أش ّ
سيفيد كثيرا ً ،ولكن ل يبدو أنه سيضّر كثيرا ً أيضا ً .
محاولة ،وأنا راغب في خوضها لهذا السبب " إنها ُ
ن غضبي استمّر م سام على موافقته ،لك ّ لم أل ُ ْ
ن أراها من فيكتوريا لبعض الوقت .لقد صعقني أ ْ
كم حول ما هو صحيح وما هو مح َصبها بجدال ُ ُتبّرر تع ّ
كر ،وسيلة ُتبررها مها ما شئت – كذبة ،تن ّ س ّ خطأ َ .
ن هذه الخطة صدمتني بكونها خيانة الغاية – فإ ّ
ت قد عانيت ما يكفي من وخز لمبادئ والدها .كن ُ
الضمير بشأن منزل ووبرن حتى ذلك الحين ،وإذا
كان هنا شيء ساعدني على قبول المكان في
الصل ،فهو فيكتوريا نفسها .استقامتها ،صفاء
دوافعها ،والّتقاد الخلقي الذي وجدته فيها – هذه
ي ،وقد منحتني القوة الشياء كانت قدوة بالنسبة إل ّ
ن في على الستمرار .والن ،فجأةً ،بدا أ ّ
مظلما ً لم ألحظه من قبل . داخلها عالما ً ُ
194
تب لي خيبة أمل ،وشعر ُ أعتقد أنه سب ّ َ
وعني أنه لبعض الوقت بكراهية نحوها ،ور ّ
ح أنها تشبه أي شخص آخر .ولكن بعد اّتض َ
ت أفهم الوضع بجلء أكثر ، ذلك ،عندما بدأ ُ
ت فيكتوريا في إخفاء ب غضبي .ونجح ْ ذه َ
ن منزل ن الحقيقة كانت أ ّ الحقيقة عني ،لك ّ
ووبرن كان على حافة الغرق .وبالنسبة
كر أكثر من إلى سام لم تكن عملية التن ّ
محاولة لنقاذ شيء من الدمار ،مقطعا ً
م إلى ختاميا ً صغيرا ً غريب الشكل ي ُ َ
ض ّ
مقطوعة موسيقية انتهى عزفها أصل ً .كان
كل شيء قد انتهى .كل ما في المر هو
ت ذلك بعد . أني لم أكن قد أدرك ُ
195
ن الناس وثقوا بتلك شخصية النسان الخّير ،ول ّ
ن سمعها الشخصية ،أخبروه بأشياء لم يسبق له أ ْ
من أي شخص .وكأنه كان كاهن العتراف ،كما
ح يستحسن الخير الذي ينتج قال ،وشيئا ً فشيئا ً أصب َ
عندما سمح له الناس بإزاحة العبء الذي ُيثقل
كواهلهم – الثر المفيد لُنطق الكلم ،لتحرير
الكلمات التي تحكي حكاية ما حدث لهم .وأعتقد
ن سام نجح ن الغواء كان البدء باليمان بالدور ،لك ّ أ ّ
في البقاء على مسافةٍ منه .وكان يمزح حول المر
ة ،وأخيرا ً خرج بمجموعة من السماء ُيطلقها خفي ًِ
على نفسه – دكتور شامويل فار ،دكتور
ن تحت تأ ّ كواكنشام ،دكتور بنك .ولكني شعر ُ
ن المنصب عنى له أكثر مما رغب في ذلك الهزل أ ّ
البوح به .لقد منحة مظهر الطبيب فجأةً مدخل ً إلى
الفكار الحميمة للخرين ،وتلك الفكار أضحت الن
جزءا ً من شخصيته .وأصبح عالمه الداخلي أكبر ،
وأصلب ،وأكثر قدرة على استيعاب الشياء التي
سن أل توضع فيه .وذات مرة قال لي " ُيستح َ
أكون نفسي .لو لم أحصل على ذلك
الشخص الخر لختبئ وراءه – الذي يرتدي
المعطف البيض والنظرة المتعاطفة على
ن
ن في استطاعتي أ ْ وجهه – ل أعتقد أ ّ
طمني الحكايات . أتحمل هذا .سوف ُتح ّ
ي الن طريقة وواقع الحال أّنه أصبح لد ّ
ن أضعها خاصة في الصغاء إليها ،وهي أ ْ
في المكان المناسب لها – بجوار قصتي
الخاصة ،بجوار قصة النفس التي لم أعد
ت أصغي إليهم " أملكها ما دم ُ
196
ل فصل الربيع باكرا ً ،وبحلول في ذلك العام ح ّ
منتصف شهر آذار كانت أزهار الزعفران تتفتح في
الحديقة الخلفية – سيقان صفراء وقرمزية تنبت من
الحواف المعشوشبة ،الخضر النضر ممزوج ببرك
من الطين الجاف .حتى الليالي كانت دافئة حينئذ ٍ ،
شى قليل ً حول المكان وأحيانا ً كنا سام وأنا نتم ّ
ن نأوي إلى الفراش .كان ممتعا ً مسّيج قبل أ ْ ال ُ
معتمة الخروج خلل تلك اللحظات ،ونوافذ المنزل ُ
خلفنا ،والنجوم تحترق بوهن فوقنا .وكلما قمنا
ت أشعر بأني أحبه من بتلك الجولت الصغيرة ،كن ُ
ت أحبه في ذلك الظلم ، جديد ،في كل مرة كن ُ
كر كيف كان حالنا في البداية ، ث بذراعه وأتذ ّ وأتشب ّ ُ
في اليام الخوالي خلل الشتاء الرهيب ،عندما
أقمنا في المكتبة العامة وكنا في كل ليلة نطل من
النافذة ذات الطار الكبير ،الشبيه بالمروحة .ولم
دث عن المستقبل .لم نضع خططا ً أو نعد نتح ّ
نتحدث عن العودة إلى الوطن .لقد استهل َ َ
كنا
الحاضر بشكل كامل ،وبوجود كل ذلك العمل الذي
ينتظر النجاز في كل يوم ،بكل الرهاق الذي يليه ،
لم يكن هناك وقت للتفكير في أي شيٍء آخر .كان
ن هذا لم ن مخيف في هذه الحياة ،لك ّ هناك تواز ٌ
ت أشعر بأني يجعلها بالضرورة سيئة ،وأحيانا ً كن ُ
مجاراة الشياء كما تقريبا ً سعيدة بعيشي هناك ،ب ُ
هي .
ن تستمر . تلك الشياء ،طبعا ً ،ما كان يمكن أ ْ
هما ً ،كما قال بوريس ستيبانوفيتش ذات لقد كانت و ْ
ن يوِقف التغيرات من يوم ،ول شيء يمكنه أ ْ
الحدوث .ومع نهاية شهر نيسان ،بدأنا نشعر
ت لنا جلّية ح ْ ت فيكتوريا وشر َ بالضيق .وأخيرا ً انهار ْ
197
ت إجراءات القتصاد الضرورية الوضع ،وعندئذ ٍ ،بدأ ْ
ُتطّبق واحدا ً إثر آخر .أول ً كانت جولت أيام الربعاء
تتم .وقّررنا أنه ل داعي لنفاق النقود على السيارة
مكِلفا ً فوق طاقتنا ،وكان هناك ما .لقد كان الوقود ُ
يكفي من الناس ينتظروننا عند الباب .ول داعي
للخروج والبحث عنهم ،كما قالت فيكتوريا ،ول
ض على ذلك .وبعد ظهيرة ذلك حتى فريك اعتر َ
اليوم ،قمنا بآخر دورة في أرجاء المدينة – قاد
ت مع فريك السيارة وجلس ويلي إلى جانبه ،وجلس ُ
سام في الخلف .اخترقنا الجادات المحيطية ،وكنا
نغوص أحيانا ً في هذا الحي أو ذاك لُنلقي نظرة ،
حفر بينما فريك ُيناور بالسيارة فوق وشعرنا بال ُ
الخاديد والفجوات .لم يُقل أحد منا الكثير حول أي
شيء .اكتفينا بمراقبة المشاهد وهي تنساب مارة
ن
بنا ،وأعتقد أنه كان ينتابنا قليل من الروع من أ ّ
ن تلك هي المرة هذا لن يحدث من جديد ،وأ ّ
الخيرة ،وسرعان ما بدا كأننا لم نعد نرى أي شيء
س غريب من ،بل نجلس في أماكننا ونشعر بيأ ٍ
القيادة ضمن دوائر .وبعد ذلك ،أودع فريك
السيارة المرأب وأقفل الباب ،ومنذ ذلك الحين ل
أعتقد أنه فتحه مرة أخرى .وذات مرة ،عندما كنا
معا ً في الحديقة ،أشار إلى المرأب عبر الطريق ،
ج فمه العريض ،الد َْرد ْ ،عن ابتسامة .قال " وانفر َ
الشياء التي كنتم ترونها لم يعد لها وجود .
ع في قولوا لها وداعا ً وانسوها .أصبحت تش ُ
الذهن الن .لقد اختفت ،وتلشت .
ت" هجت ثم ُنسي َ ْ تو ّ
الملبس اختفت بعد ذلك – كل ما أخذناه
جان أعطيناه للنزلء ،القمصان والحذية ، بالم ّ
198
والسترات والكنزات ،والبناطيل ،والقبعات ،
والقفزات .وكان بوريس ستيبانوفيتش قد اشترى
تلك الغراض بالجملة من ممول في المنطقة
ح عاطل ً عن ن ذلك الرجل أصب َ السكنية الرابعة ،لك ّ
س بسببه ُقطاع العمل الن ،بل في الحقيقة أفل َ
الطرق ووكالت النعاش ،ولم يعد لدينا الوسائل
اللزمة لمنع حلول النهاية .حتى في أيام الرخاء
بلغت نسبة شراء الملبس ثلثين إلى أربعين بالمائة
ن جاءت أيام من ميزانية منزل ووبرن .والن ،بعد أ ْ
ن نحذف هذه العسر أخيرا ً ،لم يُعد أمامنا إل أ ْ
النفقات من دفاتر الحسابات .ل تخفيضات ،ل
بضرِ َإنقاص تدريجي – بل كل شيء دفعة واحدة ُ ،
متها "ت فيكتوريا حملة س ّ دفعة واحدة .وباشر ْ
إصلح ُيمليه الضمير " ،فخّزنت مختلف أنواع أدوات
الخياطة – إبر ،مكّبات خيوط ،قطع من القمشة ،
ت كل كشتبانات ،بيض رفو ،وما إلى ذلك – وفعل ْ
ما في وسعها لتصلح الملبس التي كان الناس
يرتدونها أصل ً عندما جاؤوا إلى منزل ووبرن .وكانت
الفكرة توفير أكبر قدرٍ ممكن من النقود من أجل
م،ن هذا هو الشيء اله ّ توفير الطعام ،وبما أ ّ
الشيء الفضل من أجل النزلء ،اّتفقنا جميعا ً على
تصحيح هذا المسار .ومع ذلك ،ومع استمرار خواء
غرف الطابق الخامس من محتوياتها ،لم يُعد حتى
ن تتحمل أي نقص .ويوما ً بعد لمؤونة الطعام أ ْ
كر ،الملح ،الزبد ، س ّ
يوم ،أخذت المواد تلغى – ال ُ
الفاكهة ،حصص اللحم الصغيرة التي سمحنا بها
لنفسنا ،وكأس الحليب الذي نشربه أحيانا ً .وكلما
ت فيكتوريا عن إجراٍء آخر للقتصاد ُ ،تصاب أعلن ْ
ماغي فاين بنوبة – تنفجر على هيئة حركات إيمائية
199
مهّرج تمّثل شخصا ً يبكي ،فُتدّلي رأسها عنيفة من ُ
ي
وتسنده إلى الجدار ،وترخي ذراعيها على جانب ّ
ن الوضع لم ن تطير بعيدا ً .لك ّ ساقيها وكأنها تنوي أ ْ
يكن سهل ً على أيّ منا .فقد كنا جميعا ً قد تع ّ
ودنا
على الحصول على كفايتنا من الطعام ،وإجراءات
ت صدمة مؤلمة لجسادنا .وكان الحرمان تلك سّبب ْ
ن أقّلب التفكير في السؤال من جديد لبد لي من أ ْ
مع نفسي – ما معنى الشعور بالجوع ،كيف نفصل
فكرة الطعام عن فكرة الستمتاع ،كيف نقبل ما
ن نشتهي المزيد .وبحلول منتصف ُيوهب لنا دون أ ْ
حميتنا لتقتصر على تشكيلة من ت ِ زل ْالصيف اخت ُ ِ
الحبوب ،والنشويات ،وخضروات الجذور – كاللفت
ن نزرع الحديقة ،والشوندر ،والجزر .حاولنا أ ْ
ن البذور كانت نادرة ،ولم ننجح إل في الخلفية ،لك ّ
ت ماغي قدر زرع بضعة رؤوس من الخس .وارتجل ْ
حساءت عددا ً من أنواع ال ِ استطاعتها ،فطبخ ْ
ت بغضب تشكيلة من الحبوب الخفيف ،وأعد ّ ْ
والمعكرونة ،وصنعت زلبية من خلط طحين أبيض
– وهي كرات من العجين اللزج كادت تصيبنا
بالخَرف .ومقارنة بما كنا نأكله في السابق ،كان
هذا شيئا ً كريها ً ،لكنه أبقانا على قيد الحياة رغم
مثير للكآبة ليس نوعية الطعام ، ذلك كله .والمر ال ُ
ن المور تزداد سوءا ً .وشيئا ً فشيئا ً بل يقيننا من أ ّ
،أخذ الفرق بين منزل ووبرن وباقي
المدينة يتضاءل .كنا ُنبت ََلع ،ولم يعرف أح ٌ
د
منا كيف يمنع حدوث هذا .
ثم اختفت ماغي .ذات يوم طلبناها فلم نجدها ،
ولم نعثر على ما يدلنا على مكان رحيلها .لبد أنها
راحت تتجول أثناء نومنا جميعا ً في الطوابق العليا ،
200
سر أبدا ً سبب تركها أغراضها كلها ن هذا ل ُيف ّ لك ّ
ن من ن تهرب ،بدا أ ّ تأ ْوراءها .إذا كانت قد قصد ْ
ن نعتقد أنها ستحزم أمتعتها استعدادا ً المنطقي أ ْ
للرحلة .أمضى ويلي يومين أو ثلثة وهو يفتش عنها
في المنطقة المجاورة ،لكنه لم يجد لها أثرا ً ،ولم
يرها أي من الشخاص الذين تحدث معهم .بعد ذلك
ن
،تولى ويلي القيام بشؤون المطبخ .ولكن ،ما أ ْ
بدأنا نشعر بالرتياح في العمل ،حتى حدث أمر آخر
.فجأة ً ،وبل سابق إنذار ،توفي جد ّ ويلي .وحاولنا
ن فريك كان عجوزا ً ن نواسي أنفسنا بالتفكير في أ ّ أ ْ
– في نحو الثمانين من العمر ،كما قالت فيكتوريا –
رحنا كثيرا ً .فقد توفي في فراشه ذات ن هذا لم ي ُ ِلك ّ
ليلة من أوائل شهر تشرين أول ،وويلي هو الذي
فظ في الصباح واكتش َ ف الجّثة :عندما استيق َ اكتش َ
نده ل يزال في سريره ،وعندما حاول أ ْ نج ّ أ ّ
ن العجوز واقع يوقظه ،وجد وهو مملوء بالرعب أ ّ
على الرض .كان المر أصعب على ويلي ،طبعا ً ،
لكننا جميعا ً تأّلمنا لوفاته على طريقتنا .ذرف سام
دموعا ً حّرى عليه ،ولم يكّلم بوريس ستيبانوفيتش
ن سمع النبأ ، أحدا ً طوال أربٍع وعشرين ساعة بعد أ ْ
الذي كان بمثابة الخبر الجدير بالتسجيل بالنسبة إليه
.ولم ُتظِهر فيكتوريا الكثير على السطح ،لكنها
مضت وقامت بعمل متهور ،وأنا أعلم كم كانت
مطَلق .لقد كان دفن الموتى قريبة من اليأس ال ُ
مخالف للقانون الصارم .إذ ينبغي أخذ الجثث كلها ُ
ن ل يرضخ لهذا م ْإلى أحد مراكز التحويل ،وكل َ
الجراء يتعّرض لقسى عقوبة :غرامة قيمتها مائتين
وخمسين غلوتا ً ُ ،تدَفع أمام القضاء ،النفي الفوري
إلى أحد معسكرات العمل في الجزء الجنوبي
201
الغربي من البلد .وعلى الرغم من ذلك كله ،وفي
تعلمها بوفاة فريك ،أعلن ْ غضون ساعة من ِ
فيكتوريا عن عزمها إقامة جنازة له في الحديقة بعد
ن ُيثنيها عن فعل ظهيرة ذلك اليوم .حاول سام أ ْ
ت " ل أحد سيعلم ن تنثني .قال ْ تأ ْ ذلك ،لكنها رفض ْ
بهذا .وحتى إذا اكتشفت الشرطة المر ،ل يهم .
فن نفعل الصواب .إذا تركنا قانونا ً أحمق يق ُ يجب أ ْ
عقبة في طريقنا ،فنحن ل نستحقُ أيّ شيء " .
كان تصّرفا ً متهورا ً ،وغير مسؤول على الطلق ،
ت بأنها تفعل الصواب إكراما ً ولكن في أعماقي آمن ُ
ل من لويلي .لقد كان ويلي صبيا ً يتمتع بذكاء أق ّ
عادي ،وفي سن السابعة عشرة كان ل يزال
ت تكاد ل تفهم العالم من حوله .وقد حبيس عنف ذا ٍ
رعاه فريك ،وفك َّر بالنيابة عنه ،ومشى معه حرفيا ً
ده ، خطوة بخطوة على درب حياته .وبعد رحيل ج ّ
ح
ل به .الن أصب َ ن يح ّلم يُعد معروفا ً ماذا يمكن أ ْ
ويلي في حاجةٍ إلى إيماءة تصدر عنا – توكيدٍ
ن على أننا درامي ،صريح ،على ولئنا ،برها ٍ
كل سندعمه مهما كانت النتائج .كانت الجنازة تش ّ
مجازفة كبرى ،ولكن حتى على ضوء ما حدث ،ل ُ
ن فيكتوريا كانت مخطئة في ركوبها . أعتقد أ ّ
ك النفير ج ويلي المرأب ،وف ّ قبل الجنازة ،ول َ
من السيارة ،وأمضى الردح الكبر من الساعة وهو
معه .كان نفيرا ً عتيق الطراز كالذي ُيستعمل على ُيل ّ
دراجات الطفال – لكنه أكبر حجما ً وأجمل ،له بوق
من النحاس ومقبض من المطاط السود بحجم
ثمرة الليمون الهندي تقريبا ً .ثم حفَر هو وسام
حفرة بجوار أكمات الزعرور البّري في الفناء ُ
الخلفي .حمل ستة من النزلء جثمان فريك ونقلوه
202
من المنزل إلى القبر ،وبينما هم ُينزلونه إلى بطن
حرصا ً ده ِ ،الرض ،وضعَ ويلي النفير على صدر ج ّ
ن ُيدَفن معه .ثم قرأ بوريس منه على أ ْ
ستيبانوفيتش قصيدة قصيرة كان قد أّلفها
للمناسبة ،وبعد ذلك أعاد سام وويلي التراب إلى
الحفرة .كانت مراسم بدائية بامتياز – ل صلوات ،
ن – ولكن مجّرد أدائها كان دللة ذات مغزى . ول أغا ٍ
معين هناك في الخارج – النزلء كان الجميع متج ّ
كلهم ،أعضاء هيئة الدارة كلهم – ومع انتهاء المر
ضعَ حجٌر صغير على كانت الدموع تمل عيوننا .وُ ِ
موقع القبر للتعّرف على المكان ،ومن ثم ولجنا
المنزل .
ن نرّتب الفوضى التي بعد ذلك ،حاولنا جميعا ً أ ْ
سّببها ويلي .وأوكلت إليه فيكتوريا مسؤوليات
ف حارسا ً مع سلح ن يق َ ت له أ ْ جديدة ،بل وسمح ْ
أثناء إجرائي المقابلت في الصالة ،وبذل سام جهدا ً
م الفتى كيف يحلق ذقنه ليأخذه تحت جناحه – عل ّ َ
ل لئق ،وكيف يكتب اسمه بالكتابة العادية ، بشك ٍ
سم .استجاب ويلي بشكل جيد وكيف يجمع ويق ِ
لذلك الهتمام .ولول ضربة الحظ الكئيبة ،أعتقد
لكان حاله أفضل بكثير .ولكن بعد جنازة فريك ،
زارنا رجل شرطة من مركز الشرطة المحلية .كان
شخصية مظهرها ُيثير السخرية ،قصير وبدين
وأحمر الوجه ،يتباهى بلبسه زيا ً رسميا ً جديدا ً
ي مؤخرا ً للضباط من ذلك الفرع من الخدمة ُ
أعط َ
العامة – زيا ً أحمر اللون بّراق ،وبنطلونا ً أبيض
ل حذاًء طويل الرقبة من الجلد لركوب الخيل ،وينتع ُ
السود المدبوغ ،ويعتمر قبعة عسكرية تتماشى
معه .كان ُيطقطق بوضوح بزّيه السخيف ،ولنه
203
ن أزراره ت في الواقع أ ّ أصّر على نفخ صدره ،ظنن ُ
يتكاد تقفز من مكانها مع فرقعة .وقرقع بعقب ّ
ت الباب ،ولول المدفع قدميه وحّياني عندما فتح ُ
ن
ت منه ربما أ ْ الرشاش الذي تدّلى من كتفه ،لطلب ُ
ُيغادر .قال " هل هذا منزل فيكتوريا ووبرن ؟ " ،
قلت " نعم ،مع آخرين " .أجاب ،وهو يدفعني
حي جانبا ً ، جانبا ً من طريقه ويدخل الصالة " ،إذن تن ّ
يا آنسة .التحقيق سيبدأ "
ن أحدهم سأوّفر عليك التفاصيل .خلصة القول أ ّ
كان قد بل ّغَ بأمر الجنازة للشرطة ،وقد جاؤوا
ليتأكدوا من صحة الشكوى .لبد أنه كان أحد النزلء
مذهلة ل أحد منا ُيطاوعه ن تلك كانت خيانة ُ ،لك ّ
ن أحدهم ن يتخّيل هذا .ل شك في أ ّ ن ُيحاول أ ْ قلبه أ ْ
كان حاضرا ً الجنازة ،وُأجب َِر على مغادرة منزل
مخصصة له فحمل ضغينة بسبب مدة ال ُووبرن بعد ال ُ
إجباره على العودة إلى الشوارع .كان ذلك تخمينا ً
ل الشرطة هي منطقيا ً ،لكنه لم ي ُِفد بشيء .لع ّ
التي دفعت لذلك الشخص نقودا ً ،ولعله قام بذلك
ن
فقط بداعي النكاية .مهما كان السبب ،فإ ّ
الخبارية كانت دقيقة جدا ً .خرج شرطي الدراجة
مساعديه النارية إلى الحديقة الخلفية مع اثنين من ُ
يتبعانه ،ومسح رقعة الرض بضع لحظات ،ومن ثم
أشار إلى مكان حفر القبر .وأمر بإحضار رفوش ،
مساعدان بسرعة على العمل ،بحثا ً عن ب ال ُوأنك ّ
الجثة التي كانوا يعلمون أنها موجودة هناك .قال
مخالف جدا ً للقانون . شرطي الدراجة " هذا تصّرف ُ
النانية التي ينطوي عليها الدفن في هذا اليوم وهذا
من دون العصر – تصوروا ما ُيثيره من ضغينة .ف ِ
جثث نحرقها ،سوف ننهار بسرعة ،دون أدنى
204
شك ،سوف نغرق كلنا .من أين سنستمد وقودنا ،
كيف سنبقى على قيد الحياة ؟ في هذا الوقت من
ن نكون جميعا ً حالة الطوارئ الوطنية ،علينا أ ْ
ن نوفر أي جثة ،والذين آلوا يقظين .ل يمكننا أ ْ
ن يخرقوا هذا القانون يجب أل نسمح على أنفسهم أ ْ
لهم بالفلت .إنهم أشرار من أسوأ صنف ،
دون .يجب اجتثاثهم مجرمون خائنون ،حثالة مرت ّ
معاقبتهم " و ُ
عندئذٍ كنا جميعا ً قد خرجنا إلى الحديقة ،
وتجمهرنا حول القبر بينما ذلك الحمق ُيثرثر
بملحظاته الشريرة ،الحمقاء .شحب وجه فيكتوريا
،ولو لم أكن موجودة هناك لشد ّ من أزرها ،أعتقد
ن تنهار .على الجانب الخر من أنها كان يمكن أ ْ
ب ويلي عن مّتسعة ،كان سام ُيراق ُ الحفرة ال ُ
مساعدا شرطي ُقرب .كان الفتى يبكي ،وبينما ُ
الدراجة يواصلن إزالة التراب ورميه بإهمال على
ت ممسوس الشجيرات ،أخذ بكاؤه يعلو بصو ٍ
ن ترموه . دي .ل يجوز أ ْ بالرعب " .هذا تراب ج ّ
ندي " .وأصبح من العلوّ حتى أ ّ صج ّ هذا التراب يخ ّ
شرطي الدراجة اضطّر إلى التوّقف في منتصف
خطبته الطّنانة .رمقَ ويلي بامتعاض ،ثم ،عندما
م بتحريك ذراعه في اتجاه مسدسه الرشاش ، ه ّ
أطبقَ سام بيده على فم ويلي وبدأ يجّره بعيدا ً
باتجاه المنزل – وهو ُيكافح كي يكبحه والصبي
وى ويرفس طوال الطريق عبر المرج .في تلك يتل ّ
الثناء ،سقط أحد النزلء على الرض وأخذ يتوسل
شرطي الدراجة كي يؤمن ببراءتهم .فلم يكونوا
يعلمون شيئا ً عن تلك الجريمة الشنيعة ؛ لم يكونوا
ن أحدا ً أخبرهم موجودين عندما حدث المر ؛ لو أ ّ
205
عن مثل تلك الفعال الشنيعة ،لما وافقوا على
جزون ُرغما ً عنهم . محت َ َالبقاء هناك ؛ إنهم جميعا ً ُ
متذّللة واحدة بعد أخرى ، وتوالت التصريحات ال ُ
ت باشمئزاٍز جبن الجماعي .وشعر ُ كانفجار من ال ُ
ن امرأة عجوز – ت في البصق .بل إ ّ شديد حتى رغب ُ
ت بحذاء الشرطي اسمها بيول ستانسكي – تشّبث ْ
ن يتخّلص منها ت ُتقّبله .حاول أ ْ والطويل الرقبة وبدأ ْ
،ولكن عندما لم تتركه ،ضربها برأس حذائه على
بن وتنشج ككل ٍ بطنها وجعلها تنبطح -وهي تئ ّ
مضروب .ولحسن حظنا جميعا ً ،اختار بوريس
ن يدخل علينا في تلك اللحظة ستيبانوفيتش أ ْ
بالذات .فتح النوافذ الفرنسية في خلفّية المنزل ،
وخرج منها بنشاط إلى المرج ،وخطا نحو الضجيج
بهدوء ،يكاد يبدو السرور على وجهه .وكأنه كان قد
شاهد ذلك المشهد مئات المرات من قبل ،ول
دره – ل الشرطة ،ول المسدسات ، شيء كان سيك ّ
ول أي شيء .كانا يجّران الجّثة خارج الحفرة عندما
ددا ً هناك على مم ّ م إلينا ،وكان فريك المسكين ُ انض ّ
ظتا من رأسه ، ح َ ج َالعشب ،وكانت عيناه قد َ
وث بالتراب ،وحشد من الديدان مل ّوالوجه كله ُ
البيضاء تتلوى داخل فمه .ولم ُيزعج بوريس
ستيبانوفيتش نفسه بإلقاء نظرة عليه .ومشى
مباشرة نحو شرطي الدراجة ذي المعطف الحمر ،
وخاطبه بجنرال ،ثم جّره جانبا ً .لم أسمع ما قاله ،
ي
ف عن التكشير ول ّ ن بوريس لم يك ّ تأ ّلكني رأي ُ
ج من جيبه حاجبيه وهما يتحدثان .وأخيرا ً ،أخر َ
حزمة من النقود ،أخذ منها ورقة نقدية بعد أخرى ،
ومن ثم وضع النقود في يد شرطي الدراجة .لم
أفهم معنى ذلك – ما إذا كان بوريس قد دفع
206
الغرامة أم أنهما عقدا نوعا ً من الّتفاق السريّ –
ل قصير ،سريع ، ن ذلك كان مدى الصفقة :تباد ُ لك ّ
مساعدان الجثة م المر .حمل ال ُ للنقود ،ومن ثم ت ّ
عبر المرج ،وخلل المنزل ،ومن ثم إلى الواجهة
المامية ،وهناك رمياها إلى خلفّية سيارة شحن
التي كانت متوقفة في الشارع .ومن جديد ألقى
شرطي الدراجة على مسمعنا خطبة رّنانة وهو على
دية تامة ،وهو يستخدم الكلمات نفسها الد ََرج – بج ّ
التي كان قد استخدمها في الحديقة – ومن ثم حّيانا
موّدعا ً ،وطقطقَ عقبيه ،ومشى نحو سيارة
الشحن ،وهو ُيبِعد جانبا ً المتفرجين الوسخين
بحركات قصيرة خاطفة من يده .وحالما ابتعد مع
ت إلى الحديقة بحثا ً عن نفير مساعديه ،هرع ُ ُ
ت في تلميعه من جديد لكي أعطيه السيارة .ف ّ
كر ُ
ت إلى لويلي ،لكني لم أعثر عليه .بل إني هبط ُ
ن كان هناك ،لكني لم أجده . القبر المفتوح لرى إ ْ
وكالعديد من الغراض قبله ،اختفى النفير
ن يترك أثرا ً . دون أ ْ
207
ديكنز ،وخمس مجموعات من مؤلفات شكسبير
منمنما ً ل
مجّلدا ً ُ
)إحداها عبارة عن ثمان وثلثين ُ
يتعدى حجمها راحة يدك( ،وكتابا ً لجين أوستن ،
ورة من رواية " ددد مص ّ وآخر لشوبنهاور ،ونسخة ُ
ن الحد ّ الدنى للسعار كان قد انهار دددددد " -لك ّ
في سوق الكتب حينئذٍ ،وتلك الشياء لم تكن تجلب
أكثر من مبلغ تافه .ومنذ تلك النقطة فصاعدا ً أصبح
ن مخزونه لم يكن بعيدا ً بوريس هو الذي يعيلنا .لك ّ
عن النفاد ،ولم نخدع أنفسنا بالعتقاد بأنه سيدوم
طويل ً .ومنحنا أنفسنا مدة ثلثة أشهر أو أربعة في
أحسن الحوال .ومع مجيء الربيع من جديد ،
ل من ذلك . ن المدة ربما تكون أق ّ أدركنا أ ّ
التصّرف المعقول كان إغلق منزل ووبرن
ن نتحدث مع فيكتوريا في المر ، حينئذٍ .حاولنا أ ْ
ولكن كان صعبا ً عليها اّتخاذ مثل تلك الخطوة ،وتبع
ذلك بضعة أسابيع من التردد .ثم ،عندما أوشك
ن ُيقنعها ،انت ُزِع َ القرار من بين يديها ،بل بوريس أ ْ
من أيدينا جميعا ً .أنا أشير إلى ويلي .يبدو ،بإدرا ٍ
ك
ن المر كان سينجح ن من المحتوم تماما ً أ ّ متأخر ،أ ّ
ن أيا ً مناتإ ّ
ب عليك إذا قل ُ بتلك الطريقة ،لكني أكذ ُ
ن يراها .لقد كنا جميعا ً منهمكين حتى استطاع َ أ ْ
رؤوسنا في المهام التي بين أيدينا ،وعندما حدث
المر في نهاية المطاف ،كان أشبه بالصاعقة التي
تقع دون سابق إنذار ،أشبه بانفجارٍ في أعماق
الرض .
بعد عملية إخراج جثة فريك ،لم يُعد ويلي
كسابق عهده .تابع أداء عمله ،ولكن فقط في
صمت ،في عزلةٍ من التحديق وهز الكتفين الجوف
ظى عيناه بالغضب ت تقترب منه ،تتل ّ .وحالما كن َ
208
وبالعدائية والمتعاض ،بل إنه في إحدى المرات
ت ذلك مرة ن فعل ُ ن يؤذيني إ ْ أزاح يدي وكأنه ينوي أ ْ
تأخرى .كنا نعمل معا ً في المطبخ كل يوم ،وكن ُ
ربما أقضي وقتا ً أكثر معه أكثر من أي شخص آخر .
ن
ت أقصى جهدي لساعده ن ولكن ل أعتقد أ ّ وبذل ُ
دك نج ّ ت أقول ،إ ّ ت أقوله أث َّر فيه .كن ُ شيئا ً مما كن ُ
على ما ُيرام .إنه في الجنة الن ،وما يحدث
ن
كأ ْ ن روحه حّية ،ول يريد من َ م.إ ّلجسده ل يه ّ
ن يؤذيه تقلق بشأنه كما تفعل .ل شيء يمكن أ ْ
ن يشرح فكرة لأ ْت كأني والد ُيحاو ُ أيضا ً .شعر ُ
ل صغير ،وأتفوه بالهراء المنافق نفسه الموت لطف ٍ
م ما ت قد سمعته من والديّ .ولكن ل يه ّ الذي كن ُ
ن ويلي لم يكن يتلّقى شيئا ً منه .كان ت،ل ّ قل ُ
ل مما قبل التاريخ ،والطريقة الوحيدة كرج ٍ
ن يستجيب بها للموت هي التي كان يمكن أ ْ
كر فيه كإله . ن يف ّ ن يعبد قريبه الراحل ،أ ْ أ ْ
ت هذا غريزيا ً . كانت فيكتوريا قد فهم ْ
دس مق ّ ر ُ وأصبح موقع قبر فريك كمزا ٍ
بالنسبة إلى ويلي ،وها هو الن قد أصبح
طم نظام الشياء ،وما كان مهجورا ً .وتح ّ
ن يمكن لي كمية من الكلم تصدر عني أ ْ
ُيعيد ترتيبها .
وبدأ يخرج بعد العشاء ،ونادرا ً ما يرجع قبل
الثانية أو الثالثة صباحا ً .كان من المستحيل معرفة
ما يفعله هناك في الشوارع ،بما أنه لم يكن يتكّلم
عن ذلك ،ولم يكن هناك من فائدة من طرح أي
ت أنه سؤال عليه .وذات صباح لم يظهر أبدا ً .حسب ُ
ربما خرج لُيحضر طعاما ً ،ولكن ُ ،بعيد الغداء ،دخ َ
ل
ن ينطق بكلمة وبدأ بتقطيع إلى المطبخ دون أ ْ
209
الخضروات ،ويكاد يتحداني لكي أتأّثر بغطرسته .
كان الوقت حينئذٍ أواخر شهر تشرين ثاني ،وكان
هدى . ل بل ُ ويلي قد قام بجولته الخاصة ،كنجم ٍ ضا ّ
ويئست من العتماد عليه للقيام بنصيبه من العمل .
ت أقبل مساعدته ؛ وعندما عندما يكون موجودا ً ،كن ُ
ت أؤدي العمل وحدي .وذات مرة ،غاب ُيغادر ،كن ُ
ن يرجع ؛ وفي مرة أخرى غاب مين قبل أ ْ مدة يو َ
ثلثة أيام .فترات الغياب تلك التي كانت تستطيل
كرنا دفعتنا إلى التفكير في أنه ربما يضيع منا .وف ّ
أّنه سيأتي وقت ،عاجل أو آجل ،لن يعود أبدا ً بعدها
،أو بصورةٍ أو بأخرى لن يشعر بوجوده أحد كحال
ماغي فاين .في ذلك الحين كان لدينا الكثير من
العمل لننجزه ،وكان الجتهاد لبقاء سفينتها
مضنيا ً ،بحيث لم الموشكة على الغرق طافية عمل ً ُ
كر في ويلي عندما يغيب .في المرة يعد أحد ُيف ّ
التالية غاب مدة ستة أيام ،وعندئذ ٍ شعرنا جميعا ً
خر جدا ً من ت متأ ّ
بأننا لن نراه بعد ذلك .ثم ،في وق ٍ
ذات ليلة خلل السبوع الول من شهر كانون أول ،
مجفلين على صوت وطأ أقدام أفقنا من نومنا ُ
طم صادر عن غرف الطوابق العليا .رّدة مرعب وتح ّ
ن أناسا ً من الذين فعلي الولى كانت اعتقادي أ ّ
يقفون في الطابور خارجا ً اقتحم المنزل ،ثم ،
حالما قفز سام من السرير وأمسك بالبندقية التي
نحتفظ بها في غرفتنا ،سمعنا صوت طلق ناري من
شاش من السفل ،انفجارا ً هائل ً وتبعُثر مسدس ر ّ
ت
طلقات رصاص ،ثم المزيد فالمزيد منها .سمع ُ
ت بالمنزل يهتز من شدة أشخاصا ً يصرخون ،وشعر ُ
ت طلق المسدس الرشاش وطء القدام ،وسمع ُ
ت
ت الرضيات .أضأ ُ ُيمّزق الجدران ،والنوافذ ،وُيفت ّ ُ
210
ت سام إلى أعلى الد ََرج ،وأنا أتوقع بكل شمعة وتبع ُ
ي الدراجة النارية أو أحد رجاله ، ن أرى شرط ّ ثقة أ ْ
ت لّلحظة التي سأتلّقى فيها طلقة تمزقني إربا ً وتهّيأ ُ
.كانت فيكتوريا قد هرعت للتو وأصبحت أمامنا ،
مسّلحة .وطبعا ً لم يكن ذلك ومما فهمته لم تكن ُ
ك في شرطي الدراجة ،على الرغم من أني ل أش ّ
دسه .كان ويلي على مسطبة الطابق أنه كان مس ّ
الثاني يرتقي إلى أعلى أمامنا والسلح في يديه .
كانت الشمعة بعيدة جدا ً عنه ولم أتمكن من النظر
نظأ ّإلى وجهه ،ولكن رأيته يتوقف عندما لح َ
قت " كفى ،ويلي .ال ِ فيكتوريا آتية باتجاهه .قال ْ
ق المسدس حال ً " .ل أعلم المسدس من يدك .ال ِ
ن الحقيقة ن ُيطِلق النار عليها ،لك ّ
ن كان ينوي أ ْ إ ْ
هي أنه لم ُيلِقه .كان سام قد أصبح بجوار فيكتوريا
ن قالت تلك الكلمات بلحظة ،ضغط عندئذٍ ،وبعد أ ْ
ف الطلق صدر ويلي ، على الزناد وأطلقَ النار .نس َ
ن
وفجأةً طار نحو الخلف ،وتخّبط على الد ََرج إلى أ ْ
ن يصل بلغَ أسفله .أعتقد أنه كان قد مات قبل أ ْ
ب ُ
ن يعرف أنه أصي َ إلى هناك ،مات قبل حتى أ ْ
ق ناري . بطل ٍ
211
كنا قد اعتنينا بهما على مدى أكثر من أسبوع ،
وحالما أصبحا قويين بما يكفي للمشي من جديد ،
صرفناهما .كانا آخر نزلء منزل ووبرن .وفي صباح
اليوم الذي تل الكارثة ،وضعَ سام لفتة وثّبتها
بمسمار إلى الباب المامي :منزل ووبرن
ق .الناس المتجمعون في الخارج لم يتفّرقوا ُ
أغل ِ َ
ت عليهم ،ومع مرور ن وطأة البرد اشتد ّ ْ حال ً ،لك ّ
مغلقا ً ،بدأ الحشد بالتفّرق .ومنذ اليام وبقاء الباب ُ
ذلك الحين ونحن نجلس ،نضع خططا ً عما سنفعله
ن نجتاز فصل شتاء آخر .وكان بعد ذلك ،نحاول أ ْ
سام وبوريس يقضيان الردح الكبر من النهار في
المرأب ،يختبرون السيارة ليتأكدا من أنها تعمل
جيدا ً .وكانت الخطة تقضي بركوب السيارة
والبتعاد عن المكان حالما يصبح الجو دافئا ً .حتى
ت
فيكتوريا تقول إنها ترغب في الرحيل ،لكني لس ُ
ن كانت جادة في قولها .أعتقد أننا سوف متأكدة إ ْ
نعرف هذا عندما يحين الوقت .واستنادا ً على حالة
الطقس التي سادت على مدى الساعات الثنتين
والسبعين الخيرة ،أعتقد أننا لن ننتظر طويل ً .
بذلنا أقصى جهدنا لنعتني بالجثث ،بتنظيف ما
حصل من تدمير ،بمسح الدماء .وزيادة على ذلك ،
ن أقول أي شيء .انتهينا مع حلول بعد ل أريد أ ْ
ظهيرة اليوم التالي .ارتقينا أنا وسام إلى الطابق
ن النوم جافاني .أما سام العلوي لننام قليل ً ،لك ّ
فاستغرق في النوم في الحال .ولم أرغب في
ت على الرض في إزعاجه ،فغادرت السرير وجلس ُ
ن كانت حقيبتي موجودة فأ ْ ركن الغرفة .وتصاد َ
ش فيها ،من دون أي سبب ت أفت ُ هناك ،فبدأ ُ
ت من جديد المفكرة ذ اكتشف ُ معّين .عندئ ٍ
212
ت اشتريتها لجل إيزابل . الزرقاء التي كن ُ
الصفحات الولى كانت مملوءة برسائلها ،
الملحظات القصيرة التي كتبتها خلل
اليام الخيرة من مرضها .معظم الرسائل
كانت غاية في البساطة – أشياء مثل "
شكرا ً " أو " ماء " أو " عزيزتي أّنا " – ولكن
خم مض ّ ش ،ال ُ ت خط اليد ذاك ،اله ّ عندما رأي ُ
ت كم كانت تكافح ،على الصفحة وتذ ّ
كر ُ
عد تلك لتجعل الكلمات واضحة ،لم ت ُ
الرسائل البسيطة تبدو شديدة البساطة
على الطلق .وفي الحال اندفعت آلف الشياء
ن أتوقف لفكر عائدة إلى ذاكرتي .ومن دون حتى أ ْ
ت تلك الوراق بهدوء من الدفتر ، في المر ،مزق ُ
مرب ٍّع أنيق ،وأعدته إلى الحقيبة وطويتها على شكل ُ
ت قد ت أحد أقلم الرصاص التي كن ُ .ثم ،أخرج ُ
ت
ن بعيد ،ووضع ُ اشتريتها من السيد غامبينو قبل زم ٍ
ي وباشرت بكتابة هذه الرسالة . الدفتر على ُركبت ّ
ف بضع ب فيها ُ ،أضي ُ منذ ذلك الحين وأنا أكت ُ
ك كل شيء نل َ ن أدوّ َ صفحات في كل يوم ،أحاو ُ
لأ ْ
ت ،وكم ضاع مني ولن ل كم أسقط ُ .أحيانا ً أتساء ُ
أعثر عليه أبدا ً ،ولكن هذه أسئلة ل يمكن الجابة
ح من عنها .الوقت يضيقُ الن ،وينبغي أل أسف َ
ن
تأ ّ الكلمات أكثر مما ينبغي .في البدء ،حسب ُ
المر لن يستغرق وقتا ً طويل ً – بضعة أيام لكي
أعطيك ما هو أساسي ،ل أكثر .والن امتل الدفتر
سر كله تقريبا ً ،وبالكاد لمست السطح .وهذا ُيف ّ
ن خط يدي أصبح أصغر باطراد مع السبب في أ ّ
لن أضعَ ك ّ لأ ْ ت أحاو ُ دمي في الكتابة .لقد كن ُ تق ّ
ن يفوت الوان ، ل إلى النهاية قبل أ ْ ن أص َ شيء ،أ ْ
213
ن الكلمات ت نفسي .إ ّ ك الن كم خدع ُ ولكني أدر ُ
تل تسمح بمثل هذه الشياء .فكلما اقترب َ
من النهاية ،زاد ما ترغب في قوله .فما
ث نفسك ة تخترعها لتح ّ م ،غاي ٌالنهاية إل وه ٌ
ت تدر ُ
ك على الستمرار ،ولكن يأتي وق ٌ
ك لن تبلغها أبدا ً .ربما تضطر إلى عنده أن َ
ن ذلك فقط لنه لم يُعد يتوفر لديك التوقف ،ولك ّ
ت إلى ك وصل َ ن هذا ل يعني أن َ وقت .وتتوقف ،ولك ْ
النهاية .
أصبحت الكلمات أصغر فأصغر باطراد ،
عد مقروءة . صغيرة إلى درجة أنها ربما لم ت ُ
مما يدفعني إلى التفكير في فرديناند وفي
قواربه ،في أسطوله القزم من السفن
م الله حرة والمراكب الشراعية .يعل ُ مب ِ
ال ُ
ن هذه الرسالة لماذا أثابر .ل أعتقد أ ّ
ستصلك .إنها كالمناداة في الفراغ ،
غ رهيب شاسع .ثم ،عندما كالصراخ في فرا ٍ
ي
تف ّ سَر ْ ت لنفسي ببرهة من التفاؤل َ ، سمح ُ
رعشة لدى تفكيري فيما سيحدث إذا لم تصلك
الرسالة .سوف تذهلك الشياء التي كتبُتها ،سوف
ينتابك القلق حتى درجة الشمئزاز ،وعندئذٍ سوف
ترتكب الغلطة الحمقاء نفسها التي ارتكبُتها .فل
تفعل ،أتوسل إليك .إنني أعرفك جيدا ً بحيث أعلم
ن لي أيّ قدرٍ من ت ل تزال تك ّ ك ستفعل .إذا كن َ بأن َ
مل ن أتح ّ الحب ،فل تقع في هذا الفخ .ل أستطيع أ ْ
التفكير في أنك تقلق بشأني ،في أنك ربما تتسكع
ن واحدا ً منا قد ضاع . في تلك الشوارع .يكفي أ ّ
ن تبقى هناك إكراما ً ن تبقى حيث أنت ،وأ ْ الهم هو أ ْ
لي في ذهني .أنا هنا ،وأنت هناك .هذا هو
214
عزائي الوحيد ،وينبغي أل تفعل أي شيء
مره . ن ُيد ّ من شأنه أ ْ
ن لم ينته المر بهذا من ناحية أخرى ،حتى وإ ْ
ن
الدفتر إلى الوصول إليك ،ل شيء ُيحّتم عليك أ ْ
ن
تقرأه .ليس لديك أي التزام نحوي ،ول أريد أ ْ
ن تفعل أيّ شيء ضد ك على أ ْ أعتقد أني أجبرت ُ َ
ن يؤول المر إلى هذا إرادتك .وأحيانا ً أجدني آمل أ ْ
– إلى أل تجد ببساطة الشجاعة على البدء .أنا أفهم
التناُقض ،ولكن هذا ما أشعر به أحيانا ً .فإذا كان
هذا هو الحال ،فالكلمات التي أكتبها لجلك الن
غير مرئّية بالنسبة إليك منذ الن .لن تراها عيناك
هق ذهنك بأدق تفاصيل ما قلت .لع ّ
ل أبدا ً ،لن ُتر ِ
ت
هذا أفضل بكثير .ومع ذلك ،ل أعتقد أني كن ُ
ن أرميها .فإذا سأرغب في تدمير هذه الرسالة أو أ ْ
ن تسّلمها بدل ذلك شئت أل تقرأها ،فعليك ربما أ ْ
ن يحصل إلى والديّ .أنا واثقة من أنهما سيودان أ ْ
ن لم يتمكنا من دفع نفسيهما على الدفتر ،حتى وإ ْ
ن يضعاها في هما أيضا ً إلى قراءتها .يمكنهما أ ْ
ن ما في غرفتي في المنزل .أعتقد أني أحب مكا ٍ
ن المر انتهى بها إلى تأ ّ ن يحدث هذا ،إذا عِلم ُ أ ْ
تلك الغرفة ،على أحد الرفف فوق سريري ،مثل ً ،
جنبا ً إلى جنب مع ُدماي القديمة ورداء راقصة الباليه
الذي ارتديت وأنا في السابعة من عمري – إنها آخر
شيء تتذكرني به بواسطته .
215
ضغطا ً عصبيا ً شديدا ً .أعتقد أنها مسألة تواُزن .
ونوبات الصداع كانت شديدة اليلم هذا الشتاء أيضا ً
ت إلى المشي أكثر من خمسين أو ،وكلما اضطرر ُ
تت أترّنح .وكلما خطو ُ مائة ياردة ،أشعر بأني بدأ ُ
ن البقاء في المنزل لم خطوة ،أعتقد أني سأقع .إ ّ
ي .إنني أتابع إعداد الطبخ كله تقريبا ً ، يُعد صعبا ً عل ّ
ت أعد ّ الوجبات لعشرين أو ثلثين ن كن ُولكن بعد أ ْ
ة واحدة ،أصبح الطبخ لربعة شيئا ً ل شخصا ً دفع ً
كر بالمقارنة .وعلى أي حال لم نعد نأكل الكثير . ُيذ َ
فقط ما يكفي لُيسكت ألم الجوع ،ولكن ليس أكثر
دخر نقودنا من أجل القيام نن ّ من هذا .إننا نحاول أ ْ
بالرحلة وينبغي أل ننكث بوعدنا لنظام الحكم هذا .
لقد كان فصل الشتاء باردا ً نسبيا ً ،بقدر برودة
الشتاء الرهيب ،ولكن من دون سقوط الثلوج
المتواصل والرياح العاتية .وقد حافظنا على
دفئنا بنزع أجزاء من المنزل ورمي القطع
في الفرن .فيكتوريا هي التي اقترحت فعل
ن أؤكد ما إذا كان ذلك ذلك ،ولكن ل أستطيع أ ْ
يعني أنها كانت تستشرف المستقبل أم أنها لم تُعد
طر البواب ، تأبه .انتزعنا أجزاًء من الدرابزين ،وأ ُ ُ
والحواجز .كان يسود المَر سرور فوضويّ في أول
المر – بتقطيع المنزل من أجل استخدامه وقودا ً –
ولكن الن أصبح فقط شيئا ً ُيثير الكتئاب .لقد
أضحى معظم الغرف عاريا ً ،ونشعر كما لو أننا
نعيش داخل محطة حافلت مهجورة ،وهو بناء
معد ّ للتدمير . قديم آيل للسقوط ُ
عين الخيرين ،كان سام يخرج على مدى السبو َ
شط حدود المدينة ،يبحث تقريبا ً في كل يوم لُيم ّ
نالوضع على طول المتاريس ُ ،يراقب بعناية ليرى إ ْ
216
كان هناك تجمعات للجيش أم ل .مثل تلك
كل فرقا ً كبيرا ً عندما يحين ن تش ّ المعلومات يمكن أ ْ
الوقت .أما حاليا ً ،فمتراس فيدلر يبدو أنه اختيارنا
المنطقي .إنه الحاجز الذي يقع في أقصى الغرب ،
ق تؤدي إلى قلب بلد مفتوح ويقود مباشرةً إلى طري ٍ
ن البوابة اللفّية الجنوبية أغوتنا أيضا ً .هناك .لك ّ
حركة مرور على الجانب المقابل ،كما قيل لنا ،
ددة .مش ّ ن البوابة نفسها ليست الحراسة عليها ُ لك ّ
والخيار الوحيد الذي ألغيناه دون أدنى شك هو جهة
الشمال .فكما يبدو هناك خطر فادح واضطراب
في ذلك الجزء من البلد ،ومنذ بعض الوقت والناس
ن جيوشا ً أجنبية تحتشد يتحدثون عن اجتياح ،ذلك أ ّ
ندة لتضرب المدينة بعد أ ْ في الغابات وتعد ّ العِ ّ
ن سمعنا مثل هذه يذوب الثلج .وطبعا ً سبقَ أ ْ
دق .وقد الشاعات ،ومن الصعب معرفة ماذا نص ّ
حصل بوريس ستيبانوفيتش منذ الن على إجازات
السفر عبر رشوة الموظفين الرسميين ،لكنه ل
عدة في كل يوم كامنا ً حول زال يقضي ساعات ِ
ن يلتقط أبنية البلدية في مركز المدينة ،على أمل أ ْ
معلومة صغيرة تكون ذات فائدة لنا .ونحن
ن هذامحظوظون لحصولنا على إجازات السفر ،لك ّ
ل يعني بالضرورة أنها نافذة المفعول .قد تكون
مزّورة ،وفي هذه الحالة سوف يتم إلقاء القبض
رف على الخروج . مش ِعلينا حالما نعّرف بأنفسنا لل ُ
ن نعود إلى أو قد ُيصادرها دون أي سبب ويأمرنا بأ ْ
ن مثل هذه المور تقع ، حيث أتينا .من المعروف أ ّ
ن نستعد لي احتمال .لذلك ،استمر وعلينا أ ْ
ن الحاديث بوريس في الستطلع والصغاء ،لك ّ
التي يسمعها شديدة التشويش والتناُفر بحيث تكون
217
ن
ن هذا يعني أ ّ لها أي قيمة صلبة .إنه يعتقد أ ّ
الحكومة سوف تسقط من جديد .وإذا كان المر
كذلك فقد نتمكن من الستفادة من الفوضى
المؤقتة ،ولكن حتى هذه اللحظة ل شيء واضح
حقا ً .ل شيء واضح ،ول زلنا ننتظر .وفي
هذه الثناء ،تقبع السيارة في المرأب ،
معّبأة بالحقائب وبملء تسع حاويات كبيرة ُ
من الوقود الضافي .
ل بوريس لُيقيم معنا قبل حوالي شهر . انتق َ
نأصبح أشد نحول ً قليل ً عما كان عليه ،وبين حي ٍ
سمة الرهاق على وجهه ،وكأنه ُيعاني وآخر أتبّين ِ
ض ما .لكنه لم يكن يشتكي أبدا ً ،ولذلك من مر ٍ
من المستحيل معرفة خطبه .من الناحية
الجسدية ،ل ريب في أنه فقد َ بعضا ً من وزنه ،
لت ،على الق ّ ن معنوياته تأّثر ْ ولكني ل أعتقد أ ّ
ن ولعه الساسي في هذه اليام هو ليس ظاهريا ً .إ ّ
ن ُنغادر المدينة . ن ُيحاول معرفة ماذا سنفعل بعد أ ْ أ ْ
وفي صباح كل يوم يخرج بخطة جديدة ،وكل واحدة
أشد ّ سخفا ً من سابقتها .وأحدثها تتفوق عليها جميعا ً
سّره متعّلق بها .إنه ُيريد منا ،ولكني أعتقد أنه في ِ
سحر . ن نبتدع عرضا ً من أعمال ال ِ نحن الربعة أ ْ
ن نتجول في الريف في سيارتنا ،كما يمكننا أ ْ
يقول ،ونقدم عروضا ً مقابل الطعام والمأوى .
سيكون هو الساحر ،طبعا ً ،وسيرتدي بذلة سوداء
رسمية وسيعتمر قبعة عالية من الحرير .وسيكون
منادي على العرض ،وفيكتوريا مديرة سام هو ال ُ
مساعدة – الشابة المغرية العمال .وسأكون أنا ال ُ
التي تقفز في المكان بزّيها الضيق ،اللمع .سوف
أناول المايسترو أدواته خلل العرض ،وكخاتمة
218
نهائية أرتقي صندوقا ً خشبيا ً ويتم نشري إلى نصفين
.ثم سترين فترة وجيزة من الصمت ،وفي اللحظة
المناسبة ،عندما ُيفَقد كل أمل ،أظهر من الصندوق
وأنا سليمة العضاء ،أومئ بانتصار ،أوّزع القبلت
مشرقة ، على الحشد ،وعلى وجهي ابتسامة ُ
مصطنَعة . ٌ
ن نحلم بالنظر إلى ما نصبو إليه ،من الممتع أ ْ
بتلك الشياء التافهة .أصبح ذوبان الثلوج واضحا ً
الن ،بل وهناك فرصة سانحة للمغادرة في صباح
ن نأوي إلى السرير :إذا كرنا قبل أ ْالغد .هكذا ف ّ
ن نتفوه ت الجواء واعدة ،فسوف ننطلق دون أ ْ بد ْ
ب
بأي كلمة .نحن الن في قلب الليل ،والريح ته ّ
وتتغلغل في شقوق المنزل .الجميع نائمون ،وأنا
نلأ ْ جالسة في الطابق السفلي في المطبخ ،أحاو ُ
ن أتخّيله .بل ل أتخّيل ما ينتظرني .ل أستطيع أ ْ
ن أبدأ في التفكير فيما سيحدث لنا أستطيع حتى أ ْ
هناك .كل شيء ممكن ،وهذا ُيعادل ل شيء
،ويعادل الولدة في عالم ٍ لم يوجد من قبل
ن نغادر المدينة ، .قد نعثر على ويليام بعد أ ْ
ن كل ولكني أحاول أل أغالي في المل .إ ّ
ما أطلبه الن هو فرصة عيش يوم آخر .
ك من عالم ٍ آخر . هذه أّنا بلوم ،صديقت َ
وعندما نصل إلى حيث نحن ذاهبون ،
دك . ع ُ ب إليك من جديد ،أ ِ ن أكت َ لأ ْسأحاو ُ
ـ انتهـى ـ
219
صفحة الغلف الخلفية
220
مع ّ
ذب ن " دد ددد ددددددد ددددددد " ُ "إ ّ
وعابث ذهنيا ً كمؤلفات بيكيت ،ويبقى في العقل
وفي الحاسيس "
من " دددد دددد"
ي
ن أوستر روائ ٌ
هج ول ُينسى ...إ ّ
" إنه كتاب يتو ّ
عبقريّ "
من " ددددد دددددددد "
221
222