Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 222

‫في بلد الشياء الخيرة‬

‫تأليف‬
‫بول أوستر‬

‫ترجمة‬
‫أسامة منزلجي‬

‫الهداء‬
‫إلى دددد ددددددد‬

‫‪1‬‬
‫ت ليس بالبعيد ‪ ،‬أثناء عبوري بوابة الحلم ‪،‬‬‫قبل وق ٍ‬
‫ت بزيارة منطقة الموت تلك التي تقع فيها مدينة‬ ‫قم ُ‬
‫الدمار الشهيرة ‪.‬‬
‫ناثانييل هوثورن‬

‫بول أوستر‬
‫ول ِد َ بول أوستر في نيو جرسي في عام ‪. 1947‬‬
‫بعد دراسته في جامعة كولومبيا عاش في فرنسا‬
‫مدة أربع سنوات ‪ .‬ومنذ عام ‪ 1974‬نشر قصائد ‪،‬‬
‫ومقالت ‪ ،‬وروايات ‪ ،‬وسيناريوهات أفلم‬

‫‪2‬‬
‫وترجمات ‪ .‬وحّرر أيضا ً المجموعة القصصية "‬
‫دددددد دددددد دد دددددد ددددددددد " ‪.‬‬
‫وهو ُيقيم في بروكلن ‪ ،‬في نيويورك ‪ .‬من رواياته‬
‫الخرى " دددددد ددددددد " ‪ " ،‬ددد ددددد "‬
‫‪ " ،‬دددددد دددددددد " ‪ " ،‬ددددددددد "‬
‫وغيرها ‪.‬‬

‫ت تقول ‪ ،‬هذه هي آخر الشياء ‪ .‬إنها تختفي‬ ‫كت َب َ ْ‬


‫ن أخبرك عن‬ ‫واحدا ً بعد آخر ول تعود أبدا ً ‪ .‬أستطيع أ ْ‬
‫بعضها شاهدته بأم عيني ‪ ،‬عن تلك التي لم يُعد لها‬

‫‪3‬‬
‫ن يتوّفر لي الوقت لفعل‬ ‫ك في أ ْ‬ ‫وجود ‪ ،‬لكني أش ّ‬
‫ن كل شيء يحدث الن بسرعة فائقة ‪ ،‬ول‬ ‫ذلك ‪ .‬إ ّ‬
‫ن أجاريها ‪.‬‬ ‫أستطيع أ ْ‬
‫ت لم تَر أيا ً من‬ ‫ن تفهم ‪ .‬أن َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫إنني ل أتوقع من َ‬
‫ور المر‬ ‫ن تتص ّ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ت لما استطع َ‬ ‫هذا ‪ ،‬وحتى لو حاول َ‬
‫‪ .‬هذه هي آخر الشياء ‪ .‬ترى منزل ً قائما ً في يوم ‪،‬‬
‫ت فيه‬ ‫وفي اليوم التالي يختفي ‪ .‬الشارع الذي مشي َ‬
‫بالمس يختفي اليوم ‪ .‬حتى الطقس هو في حالة‬
‫مس يتبعه آخر ماطر ‪،‬‬ ‫مش ِ‬‫مستمر ‪ .‬والنهار ال ُ‬ ‫تدّفق ُ‬
‫مثِلج يتبعه نهار يسوده الضباب ‪ ،‬أو دفء‬ ‫والنهار ال ُ‬
‫تتبعه برودة ‪ ،‬أو ريح يتبعها سكون ‪ ،‬مدة طويلة من‬
‫البرد القارص ‪ ،‬ومن ثم كما اليوم ‪ ،‬ونحن في قلب‬
‫طر ‪ ،‬دافئ إلى‬ ‫الشتاء ‪ ،‬بعد ظهيرة من الضوء الع ِ‬
‫درجة ارتداء فقط سترات صوفية ‪ .‬عندما تعيش في‬
‫مض عينيك‬ ‫المدينة ‪ ،‬تتعّلم أل ّ ُتسّلم بأي شيء ‪ .‬أغ ِ‬
‫برهة ‪ ،‬ثم استد ِْر لتنظر إلى شيٍء آخر ‪ ،‬وإذا‬
‫ن ماثل ً أمام عينيك قد اختفى ‪ .‬كما‬ ‫بالشيء الذي كا َ‬
‫ترى ‪ ،‬ل شيء يدوم ‪ ،‬ول حتى الفكار التي في‬
‫رأسك ‪ .‬وينبغي أل ّ تهدر وقتك في البحث عنها ‪.‬‬
‫فعندما تختفي ‪ ،‬تكون تلك نهايتها ‪.‬‬
‫وتتواصل رسالتها ‪ ،‬تقول ‪ :‬هكذا أعيش ‪ .‬أنا ل‬
‫آكل الكثير ؛ فقط ما يكفي ليجعلني قادرة على‬
‫النتقال من خطوة إلى خطوة ‪ ،‬ل أكثر ‪ .‬أحيانا ً‬
‫ن الخطوة‬ ‫دة حتى أني أشعر أ ّ‬ ‫ش ّ‬ ‫يكون ضعفي من ال ِ‬
‫التالية لن تأتي أبدا ً ‪ .‬لكني أنجح في ذلك ‪ .‬وعلى‬
‫ن ترى‬ ‫لت ‪ ،‬أتابعُ طريقي ‪ .‬يجب أ ْ‬ ‫الرغم من الز ّ‬
‫سن التصّرف ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كيف أح ِ‬
‫شوارع المدينة موجودة في كل مكان ‪ ،‬وليس‬
‫هناك شارعان متشابهان ‪ .‬إنني أضعُ قدما ً أمام‬

‫‪4‬‬
‫دم الخرى أمام الولى ‪ ،‬ومن‬ ‫الخرى ‪ ،‬ومن ثم الَق َ‬
‫كن من فعل ذلك من جديد ‪ .‬ل‬ ‫ن أتم ّ‬ ‫ثم آمل في أ ْ‬
‫ن تفهم كيف هو الحال معي الن ‪.‬‬ ‫أكثر ‪ .‬يجب أ ْ‬
‫دم ؛ أتنّفس ما ُيتاح لي من هواء ‪ ،‬وآكل‬ ‫إنني أتق ّ‬
‫م شيء هو‬ ‫ن أه ّ‬ ‫ل قدر ممكن ‪ .‬ومهما ُيقال ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫أق ّ‬
‫ن تبقى واقفا ً على قدميك ‪.‬‬ ‫أ ْ‬
‫ت ‪ ،‬لقد‬ ‫ن أغادر ‪ .‬قل َ‬ ‫كر ما قلته لي قبل أ ْ‬ ‫أتذ ُ‬
‫اختفى وليم ‪ ،‬وعلى الرغم من البحث الحثيث فإني‬
‫لم أعثر عليه أبدا ً ‪ .‬تلك كانت كلماتك ‪ .‬ثم قلت لك‬
‫مني ما قلت ‪ ،‬وإني سأعثر على أخي ‪ .‬ومن‬ ‫إنه ل يه ّ‬
‫ك ‪ .‬كم من‬ ‫ت ذلك القارب الفظيع وغادرت َ‬ ‫ثم استقلل ُ‬
‫كر ‪ .‬سنون‬ ‫الوقت مضى على ذلك ؟ لم أعد أتذ ّ‬
‫وسنون ‪ ،‬أعتقد ‪ .‬ولكن هذا مجّرد تخمين ‪ .‬ل أجد‬
‫ت الدرب ‪ ،‬ول شيء‬ ‫حَرجا ً في هذا ‪ .‬لقد أضع ُ‬ ‫َ‬
‫سُيعيدني إليها أبدا ً ‪.‬‬
‫ن‬
‫تأ ْ‬ ‫كد ‪ .‬ولول جوعي ‪ ،‬لما استطع ُ‬ ‫هذا أمٌر مؤ ّ‬
‫ل قدٍر‬ ‫ود على الكتفاء بأق ّ‬ ‫ن يتع ّ‬ ‫أستمر ‪ .‬على المرء أ ْ‬
‫ي بالقليل ‪ ،‬وقّلت‬ ‫ل ما ُيريده ‪ ،‬رض َ‬ ‫ممكن ‪ .‬فكلما ق ّ‬
‫ل أفضل ‪ .‬هذا ما تفعله‬ ‫ح في حا ٍ‬ ‫حاجته ‪ ،‬وأصب َ‬
‫ب أفكارك رأسا ً على‬ ‫المدينة بك ؛ إنها تقل ُ‬
‫ب في الحياة ‪ ،‬وفي‬ ‫ك ترغ ُ‬ ‫عقب ‪ ،‬تجعل َ‬
‫ك الحياة ‪.‬‬ ‫ن تنزع من َ‬ ‫الوقت نفسه تحاول أ ْ‬
‫ن تفعل أو ل تفعل ‪ .‬وإذا‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ول مفّر من هذا ‪ .‬فإ ّ‬
‫كد من قدرتك على القيام‬ ‫ن تتأ ّ‬ ‫ت ‪ ،‬لن تستطيع أ ْ‬ ‫فعل َ‬
‫به في المرة التالية ‪ .‬وإذا لم تفعل ‪ ،‬فلن تفعل‬
‫أبدا ً ‪.‬‬
‫ب لك الن ‪ .‬ولكي أكون‬ ‫م بالضبط لماذا أكت ُ‬ ‫ل أعل ُ‬
‫ت إلى‬ ‫ن جئ ُ‬ ‫كر فيك تقريبا ً منذ أ ْ‬ ‫صادقة ‪ ،‬أنا لم أف ّ‬
‫هنا ‪ .‬ولكن فجأة ‪ ،‬وبعد مرور كل ذلك الوقت ‪،‬‬

‫‪5‬‬
‫رع في تدوينه ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ن لديّ ما أقوله ‪ ،‬وإذا لم أس ِ‬ ‫أشعر بأ ّ‬
‫ن تقرأه ‪.‬‬
‫فسوف ينفجر رأسي ‪ .‬ل مانع لديّ في أ ْ‬
‫ن‬
‫ن أرسله إليك – على افتراض أ ّ‬ ‫بل ل أمانع في أ ْ‬
‫ن ‪ .‬ربما يتوقف المر عند هذا الحد ‪ .‬إنني‬ ‫هذا ممك ٌ‬
‫ك بعيد جدا ً عني ول‬
‫م شيئا ً ؛ لن َ‬‫ك ل تعل ُ‬‫ب لن َ‬ ‫أكت ُ‬
‫تعلم أي شيء ‪.‬‬

‫س نحيلون جدا ً ‪ .‬أحيانا ً‬ ‫ت تقول ‪ ،‬هناك أنا ٌ‬ ‫كتب َ ْ‬


‫تذروهم الريح ‪ .‬والرياح في المدينة شرسة ‪ ،‬دائما ً‬
‫ب قوية من النهر وتصفر في أذنيك ‪ ،‬ودائما ً‬ ‫ته ُ‬
‫ك إلى المام والخلف ‪ ،‬ودائما ً تدّوم الوراق‬ ‫تدفع َ‬
‫مستغربا ً رؤية‬ ‫والنفايات وتضعها في دربك ‪ .‬وليس ُ‬
‫أرقّ الناس حجما ً يتجولون في جماعات من اثنين أو‬
‫حبال‬ ‫ثلثة ‪ ،‬وأحيانا ً عائلت بأكملها ترتبط معها ً ب ِ‬
‫وسلسل ‪ ،‬لكي يدعم بعضهم بعضا ً في وجه الهّبات‬
‫القوية ‪ .‬وهناك آخرون يتخّلون عن محاولة الخروج‬
‫كلها ‪ ،‬ويتشّبثون بممرات البواب وبفجوات في‬
‫كل‬ ‫الجدران ‪ ،‬حتى أصبح أشد ّ الجواء صفاًء ُيش ّ‬
‫ن ننتظر بهدوء‬ ‫تهديدا ً ‪ .‬ويقولون لنفسهم ‪ ،‬الفضل أ ْ‬
‫طم على‬ ‫ح بنا ونتح ّ‬‫ن ُيطا َ‬
‫في الزوايا على أ ْ‬
‫ن ُيصبح المرء في‬ ‫الحجارة ‪ .‬ومن الممكن أيضا ً أ ْ‬
‫نهاية المطاف بارعا ً جدا ً في الستغناء عن الكل‬
‫بحيث ل يأكل أي شيء على الطلق ‪.‬‬
‫ن المر أسوأ بالنسبة إلى أولئك‬ ‫بل إ ّ‬
‫الذين ُيكافحون جوعهم ‪ .‬فالفراط في‬
‫التفكير في الطعام ل يؤدي إل ّ إلى‬
‫المشاكل ‪ .‬أولئك هم الممسوسون ‪ ،‬الذين‬
‫يرفضون الذعان للحقائق ‪ .‬إنهم يجوسون‬
‫الشوارع في كل الوقات ‪ ،‬يفّتشون عن ل َُقم ٍ ‪،‬‬

‫‪6‬‬
‫مجازفات هائلة من أجل حتى أصغر‬ ‫ويرتكبون ُ‬
‫كسرة طعام ‪ .‬ومهما عثروا ‪ ،‬فلن يكون كافيا ً ‪ .‬إنهم‬ ‫ُ‬
‫يأكلون ول يشبعون أبدا ً ‪ ،‬يفترسون طعامهم بسرعة‬
‫الحيوانات ‪ ،‬أصابعهم النحيلة تنتزع ‪ ،‬وفكوكهم‬
‫معظمه يقطر‬ ‫المرتعشة ل تهدأ عن الحركة ‪ .‬و ُ‬
‫إلى أسفل ذقونهم ‪ ،‬وما ينجحون في‬
‫ابتلعه يتقّيؤونه عادة من جديد بعد بضع‬
‫ن الطعام هو‬ ‫ت بطيء ‪ ،‬وكأ ّ‬ ‫دقائق ‪ .‬إنه مو ٌ‬
‫نار ‪ ،‬جنون ‪ ،‬يحرقهم بدءا ً من الداخل ‪.‬‬
‫ويعتقدون أنهم يأكلون ليبقوا على قيد‬
‫الحياة ‪ ،‬ولكنهم في النهاية يّتضح أنهم هم‬
‫المأكولون ‪.‬‬
‫ن الطعام مسألة معّقدة ‪ ،‬وإذا لم‬ ‫ح ‪ ،‬فإ ّ‬‫وكما يّتض َ‬
‫ش في‬ ‫يتعّلم المرء قبول ما ُيعطى له ‪ ،‬فلن يعي َ‬
‫ن فترات النقص تتكّرر ‪ ،‬والطعام‬ ‫سلم مع نفسه ‪ .‬إ ّ‬
‫الذي منحه متعة ذات يوم سيختفي في اليوم التالي‬
‫ل السواق المحلّية هي الماكن الشد ّ أمانا ً‬ ‫‪ .‬لع ّ‬
‫ن السعار‬ ‫وق ‪ ،‬ولك ّ‬ ‫مد عليها من أجل التس ّ‬ ‫وُيعت َ َ‬
‫مرتفعة والتشكيلت رديئة ‪ .‬وذات يوم ل يتبّقى إل‬
‫الفجل ‪ ،‬وفي اليوم التالي ل يتبّقى غير كعكة‬
‫شوكولة بائتة ‪ .‬وتغيير حميتك مرات كثيرة وبتطّرف‬
‫ن يكون صعبا ً جدا ً على معدتك ‪ .‬لك ّ‬
‫ن‬ ‫يمكن أ ْ‬
‫السواق المحلّية تتمّيز بأنها محمّية من رجال‬
‫ن ما يشتريه‬ ‫ل يعرف المرء أ ّ‬ ‫الشرطة ‪ ،‬وعلى الق ّ‬
‫سوف تهضمه معدته هو وليس معدة شخص آخر ‪.‬‬
‫وسرقة الطعام شائعة جدا ً في الشوارع حتى أنها‬
‫لم تُعد ُتعت ََبر جريمة ‪ .‬وفوق ذلك كله ‪ ،‬السواق‬
‫مجاز قانونا ً لتوزيع‬ ‫المحلّية هي الشكل الوحيد ال ُ‬
‫صين‬ ‫الطعام ‪ .‬وهناك العديد من بائعي الطعام الخا ّ‬

‫‪7‬‬
‫ن بضاعتهم يمكن‬ ‫موّزعين في أرجاء المدينة ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬
‫مصادرتها في أي وقت ‪ .‬حتى القادرين على أ ْ‬ ‫ُ‬
‫يدفعوا لرجال الشرطة الرشاوى اللزمة للبقاء في‬
‫مستمّر‬ ‫عملهم ل يزالون يواجهون التهديد ال ُ‬
‫بالتعّرض لهجوم من اللصوص ‪ .‬واللصوص أيضا ً‬
‫مت‬ ‫يغيرون على زبائن السواق المحلية ‪ ،‬وقد ت ّ‬
‫ن واحدا ً من كل صفقتي‬ ‫البرهنة إحصائيا ً على أ ّ‬
‫ن المر ل‬ ‫شراء تؤدي إلى السرقة ‪ .‬وأعتقد أ ّ‬
‫يستحق المجازفة بالكثير من أجل متعة عابرة لكل‬
‫ن الناس‬ ‫برتقالة أو تذّوق لحم خنزير مطبوخ ‪ .‬لك ّ‬
‫ل في كل يوم ‪،‬‬ ‫ة تح ّ‬‫ل يشبعون ‪ :‬الجوع لعن ٌ‬
‫والبطن حفرة ل قاع لها ‪ ،‬بحجم العالم ‪.‬‬
‫لذلك ‪ ،‬فالسواق الخاصة تقوم بعمل جيد ‪ ،‬على‬
‫الرغم من العوائق ‪ ،‬تنهض من مكان وتذهب إلى‬
‫آخر ‪ ،‬وهي على الدوام في حالة نشاط ‪ ،‬تظهر مدة‬
‫ن ما ومن ثم تختفي عن‬ ‫ساعة أو اثنتين في مكا ٍ‬
‫النظار ‪ .‬ولكن هناك تحذيرا ً واحدا ً ‪ .‬إذا كان لبد ل َ‬
‫ك‬
‫ن تحصل على الطعام من السواق الخاصة ‪،‬‬ ‫أ ْ‬
‫فاحرص على تجّنب البّقالين الخارقين للقانون ‪،‬‬
‫من‬ ‫ش ‪ ،‬وهناك الكثيرون م ّ‬ ‫ن الحتيال متف ّ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫يرغبون في بيع أي شيء لمجّرد الربح ‪ :‬بيض‬
‫وبرتقال مملوء بالنشارة ‪ ،‬زجاجات مملوءة بالبول‬
‫على أنها بيرة ‪ .‬كل ‪ ،‬ل يوجد شيء ل يفعله الناس ‪،‬‬
‫ل أفضل ‪.‬‬ ‫ك ستصبح في حا ٍ‬ ‫وسرعان ما تتعّلم أن َ‬

‫ن‬‫ت ‪ ،‬عندما تسير في الشوارع ‪ ،‬يجب أ ْ‬ ‫وتابعَ ْ‬


‫ت في‬‫دم خطوة فخطوة ‪ ،‬وإل وقع َ‬ ‫ن تتق ّ‬ ‫تتذ ّ‬
‫كر أ ْ‬
‫ن تبقى مفتوحة على‬‫المحظور ‪ .‬وعيناك يجب أ ْ‬
‫الدوام ‪ ،‬انظر إلى أعلى ‪ ،‬وإلى أسفل ‪ ،‬وأمامك ‪،‬‬

‫‪8‬‬
‫وخلفك ‪ ،‬راقب الجساد الخرى ‪ ،‬احذر ما ل‬
‫تتوّقعه ‪ .‬والرتطام بشخص آخر قد يكون أمرا ً مميتا ً‬
‫ن يرتطم شخصان حتى يبدءان بتبادل‬ ‫‪ .‬يكفي أ ْ‬
‫اللكمات ‪ .‬أو ‪ ،‬يسقطان على الرض ول ُيحاولن‬
‫شفاء من وجع‬ ‫النهوض بعد ذلك ‪ .‬فكما تعلم ‪ ،‬ل ِ‬
‫الجساد ‪ .‬وهو أسوأ هنا من أي مكان آخر ‪.‬‬
‫ن تتعّلم‬ ‫كل مشكلة خاصة ‪ .‬يجب أ ْ‬ ‫الدبش ُيش ّ‬
‫كتل الصخر‬ ‫كيف تتعامل مع الخاديد الخفّية ‪ ،‬مع ُ‬
‫حفر الضحلة ‪ ،‬لكي ل تتعّثر بها‬ ‫التي تظهر فجأةً ‪ ،‬وال ُ‬
‫أو تتأّذى ‪ .‬ومن ثم هناك المكوس ‪ ،‬وهي السوأ‬
‫ن تستخدم الدهاء لتتجّنبها ‪.‬‬ ‫على الطلق ‪ ،‬وينبغي أ ْ‬
‫م‬ ‫ت القمامة ‪ ،‬ترتفعُ أكوا ٌ‬ ‫مع ْ‬‫فكلما انهارت أبنية أو تج ّ‬
‫ضخمة في وسط الطريق ‪ ،‬تسد كل الممرات ‪.‬‬
‫والناس ُيقيمون مثل تلك المتاريس كلما توّفرت‬
‫ومونها ‪ ،‬بالهراوات ‪ ،‬أو بالبنادق ‪،‬‬ ‫المواد ‪ ،‬ومن ثم ُيك ّ‬
‫أو حجارة الجر ‪ ،‬وينتظرون في مواقعهم مرور‬
‫ن‬
‫تأ ْ‬ ‫الناس ‪ .‬إنهم ُيهيمنون على الطريق ‪ .‬فإذا أرد َ‬
‫ن ُتعطي الحرس ما يطلبون ‪ .‬أحيانا ً‬ ‫كأ ْ‬‫تعبر ‪ ،‬فعلي َ‬
‫يكون مال ً ؛ وأحيانا ً أخرى طعاما ً ؛ وأحيانا ً جنسا ً ‪.‬‬
‫ن وآخر تسمع عن وقوع‬ ‫والضرب شائع ‪ ،‬وبين حي ٍ‬
‫جريمة قتل ‪.‬‬
‫س جديدة ‪ ،‬وتختفي المكوس‬ ‫وتظهر مكو ٌ‬
‫القديمة ‪ .‬ول تعلم أبدا ً أي الشوارع تسلك وأّيها‬
‫ك المدينة شيئا ً فشيئا ً من‬ ‫تتجّنب ‪ .‬وتسرق َ‬
‫ر ثابت ‪،‬‬ ‫ي مم ٍ‬‫ن يوجد أ ّ‬ ‫يقينك ‪ .‬ل يمكن أ ْ‬
‫ن تبقى على قيد الحياة فقط إذا‬ ‫كأ ْ‬ ‫ويمكن َ‬
‫لم يكن هناك أي شيء ضروري بالنسبة‬
‫ن تكون قادرا ً ‪ ،‬دون سابق‬ ‫إليك ‪ .‬يجب أ ْ‬
‫ن تترك أي عمل‬ ‫إنذار ‪ ،‬على التغّير ‪ ،‬على أ ْ‬

‫‪9‬‬
‫تقوم به ‪ ،‬وترتدّ ‪ .‬وفي النهاية ‪ ،‬ليس هناك أي‬
‫ن تتعّلم‬ ‫شيء ليس هكذا ‪ .‬ونتيجة لذلك ‪ ،‬يجب أ ْ‬
‫ن‬
‫ف بصرك ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫كيف تقرأ الشارات ‪ .‬وعندما يضع ُ‬
‫سة الشم‬ ‫ت حا ّ‬ ‫النف أحيانا ً ينفع كبديل ‪ .‬لقد أضح ْ‬
‫عندي حاّدة بصورة شاذة ‪ .‬وعلى الرغم من الثار‬
‫مفاجئ ‪ ،‬والدوار ‪ ،‬والخوف‬ ‫الجانبية – كالغثيان ال ُ‬
‫الذي ُيرافق الهواء الفاسد الذي ُيغير على جسدي –‬
‫فإنها تحميني عند المنعطفات ‪ ،‬وقد تكون هذه على‬
‫ن المكوس لها‬ ‫جانب عظيم من الخطر ‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫ممّيزة تتعّلم كيف تتعّرف عليها ‪ ،‬حتى‬ ‫رائحة عفنة ُ‬
‫من مسافة بعيدة ‪ .‬الكوام المؤّلفة من مزيج من‬
‫من أيضا ً‬ ‫الحجارة ‪ ،‬والسمنت ‪ ،‬والخشب ‪ ،‬تتض ّ‬
‫قمامة وِقطعا ً من الجص ‪ ،‬وتعمل أشعة الشمس‬
‫منتجة رائحة كريهة أسوأ‬ ‫عملها في تلك القمامة ‪ُ ،‬‬
‫ن آخر ‪ ،‬ويفعل المطر فعله‬ ‫مما تصدر من أي مكا ٍ‬
‫في الجص ‪ ،‬ويجعله يتبّثر ويذوب ‪ ،‬بحيث أنه هو‬
‫ث منه رائحة خاصة ‪ ،‬وعندما‬ ‫أيضا ً يتحّلب وتنبع ُ‬
‫ة في نوبات متناوبة من‬ ‫تتداخل مع بعضها ‪ ،‬متفاعل ً‬
‫الجفاف والرطوبة ‪ ،‬يبدأ عبق المكوس بالنتشار ‪.‬‬
‫ود ‪ ،‬فالعادات‬ ‫ن تتع ّ‬ ‫الشيء الساسي ليس أ ْ‬
‫ن تقابل كل شيء ‪ ،‬ولو‬ ‫مميتة ‪ .‬يجب أ ْ‬ ‫ُ‬
‫ك لم تعرفه من قبل ‪.‬‬ ‫للمرة المائة ‪ ،‬وكأن َ‬
‫ددت المرات ‪ ،‬فيجب دائما ً أ ْ‬
‫ن‬ ‫ومهما تع ّ‬
‫ن هذا أمر‬ ‫تكون المرة الولى ‪ .‬أنا أدرك أ ّ‬
‫مستحيل ‪ ،‬لكنه قاعدة الساسية ‪.‬‬
‫قد تعتقد أنه عاجل ً أو آجل ً سينتهي هذا كله في‬
‫النهاية ‪ .‬الشياء تنهار وتختفي ‪ ،‬ول شيَء جديد َ‬
‫ُيخَلق ‪ .‬الناس يموتون ‪ ،‬والمواليد يرفضون أ ْ‬
‫ن‬
‫ت خللها هنا ‪ ،‬ل‬ ‫يولدوا ‪ .‬وطوال السنوات التي عش ُ‬

‫‪10‬‬
‫ت ولدة طفل واحد ‪ .‬ومع ذلك ‪،‬‬ ‫أذكر أني شهد ُ‬
‫س جددٌ يحّلون مكان الذين‬ ‫هناك دائما ً أنا ٌ‬
‫فقون من المدينة ومن‬ ‫اختفوا ‪ .‬إنهم يتد ّ‬
‫البلدان البعيدة ‪ ،‬يجّرون عربات ممتلئة‬
‫بأمتعتهم ‪ُ ،‬يقرقعون بعرباتهم المتهالكة ‪،‬‬
‫ن يتعلموا‬‫وكلهم جياع ‪ ،‬وبل مأوى ‪ .‬وإلى أ ْ‬
‫أساليب التعامل مع المدينة ‪ ،‬يبقى أولئك الوافدين‬
‫جدد ضحايا سهلة ‪ .‬كثير منهم ُتسلب نقودهم‬ ‫ال ُ‬
‫بالحتيال قبل انصرام اليوم الول ‪ .‬بعضهم يدفعون‬
‫شقق ل وجود لها ‪ ،‬وآخرون ُيغرون بإعطاء‬ ‫ثمن ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫عمولت من أجل وظائف وهمية ‪ ،‬وأيضا ً هناك َ‬
‫دخراتهم ليشتروا طعاما ً يّتضح أنه مرسوم‬ ‫م ّ‬
‫ُينفقون ُ‬
‫وى ‪ .‬هذه فقط النواع العادية جدا ً من‬ ‫على ورق مق ّ‬
‫الخدع ‪ .‬وأعرف رجل ً يكسب قوت عيشه بالوقوف‬
‫أمام مجلسي المدينة القديم ويطلب نقودا ً كلما مّر‬
‫وافد جديد وألقى نظرة على برج الساعة ‪ .‬فإذا‬
‫ص‬
‫مساعده ‪ ،‬الواقف كشخ ٍ‬ ‫جرى نزاع ‪ ،‬يتظاهر ُ‬
‫غّر ‪ ،‬بأداء شعائر النظر إلى الساعة ويدفع له ‪،‬‬
‫ن هذا هو‬‫وذلك لكي يعتقد الشخص الغريب أ ّ‬
‫ن‬‫التصّرف العادي ‪ .‬والمذهل في المر ليس أ ّ‬
‫ن‬‫ل عليهم جدا ً أ ْ‬ ‫محتالين موجودون ‪ ،‬بل أّنه سه ٌ‬ ‫ال ُ‬
‫يقنعوا الناس بالتخّلي عن نقودهم ‪.‬‬
‫بالنسبة إلى الذين لديهم مكان يعيشون فيه ‪،‬‬
‫ن يفقدوه ‪ .‬وغالبية البنية ل‬ ‫هناك دائما ً خطر أ ْ‬
‫يمتلكها أحد ‪ ،‬ولذلك ل حقوق لك كنزيل ‪ :‬ل عقد‬
‫إيجار ‪ ،‬ل حجة لديك تستند عليها إذا ما واجهت‬
‫ن ُيطَرد الناس بالقوة من‬ ‫صعوبة ‪ .‬وليس غريبا ً أ ْ‬
‫شققهم وُيرمى بهم إلى الشارع ‪ .‬فتقتحم عليك‬ ‫ُ‬
‫مدججة بالبنادق والهراوات ويأمرونك‬ ‫جماعة منزلك ُ‬

‫‪11‬‬
‫ن تتغلب‬ ‫ك تستطيع أ ْ‬ ‫بالخروج ‪ ،‬وإذا لم تعتقد أن َ‬
‫عليهم ‪ ،‬فأي خيار آخر لديك ؟ هذه الممارسة‬
‫معروفة باسم اقتحام المنزل ‪ ،‬وقليل من الناس في‬
‫ت‬
‫المدينة لم يفقدوا منازلهم بهذه الطريقة في وق ٍ‬
‫ت محظوظا ً بما‬ ‫من الوقات ‪ .‬ولكن حتى إذا كن َ‬
‫يكفي لتفلت من هذا الشكل الخاص من الطرد ‪،‬‬
‫ملك‬ ‫فلن تعلم أبدا ً متى ستقع فريسة أحد أصحاب ال ُ‬
‫مبتزون ُيمارسون الرهاب تقريبا ً‬ ‫الوهميين ‪ .‬وهناك ُ‬
‫على كل حي في المدينة ‪ُ ،‬يجبرون الناس على دفع‬
‫كنوا من البقاء في‬ ‫إتاوة الحماية فقط لكي يتم ّ‬
‫شون‬ ‫لكا ً للبناء ‪ ،‬يغ ّ‬ ‫م ّ‬‫شققهم ‪ .‬إنهم ُيعلنون أنفسهم ُ‬ ‫ُ‬
‫النزلء ‪ ،‬ويكادون ل يواجهون أي مقاومة ‪.‬‬
‫ولكن بالنسبة إلى الذين ليست لديهم بيوت‬
‫يتجاوز الوضع الفلت من تنفيذ الحكم ‪ .‬فل وجود‬
‫مى بالمكان الشاغر ‪ .‬ولكن مع ذلك ‪ُ ،‬تديُر‬ ‫ِلما ُيس ّ‬
‫مكاتب التأجير ما يشبه المشروع التجاري ‪ .‬وفي‬
‫كل يوم ينشرون ملحظات في الصحيفة ‪ُ ،‬يعلنون‬
‫شقق وهمية لكي يجذبوا الناس إلى‬ ‫فيها عن ُ‬
‫دع بهذه‬ ‫مكاتبهم ويجمعوا منهم الرسوم ‪ .‬ل أحد ُيخ َ‬
‫من يرغبون في‬ ‫الممارسة ‪ ،‬ولكن هناك الكثيرون م ّ‬
‫إسقاط آخر قرش يملكونه في تلك الوعود‬
‫الجوفاء ‪ .‬إنهم يصلون إلى خارج المكاتب في‬
‫الصباح الباكر وينتظرون بصبر في صف واحد ‪،‬‬
‫كنوا من‬ ‫أحيانا ً على مدى ساعات ‪ ،‬فقط لكي يتم ّ‬
‫الجلوس مع أحد المندوبين مدة عشر دقائق‬
‫دها‬ ‫ويتفّرجوا على صور البنية في شوارع تح ّ‬
‫شقق مؤّثثة بالسجاد‬ ‫مريحة ‪ ،‬ول ُ‬ ‫الشجار ‪ ،‬ولُغرف ُ‬
‫وكراسي الجلد الوثيرة – مشاهد تلّفها السكينة‬
‫فد ُ من المطبخ ‪ ،‬وببخار‬ ‫وتوحي بعبق رائحة القهوة ي ِ‬

‫‪12‬‬
‫مام ساخن ‪ ،‬وباللوان البّراقة للنباتات المزروعة‬ ‫ح ّ‬
‫مستكينة على عتبة النافذة ‪ .‬ول يبدو‬ ‫ُ‬
‫في أصص وال ُ‬
‫ن تلك الصور الفوتوغرافية‬ ‫ن أحدا ً يأبه بأ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ت قبل عشر سنوات ‪.‬‬ ‫قطَ ْ‬ ‫الت ُ ِ‬
‫كثيٌر منا عادوا أطفال ً من جديد ‪ .‬وهذا ل يعني ‪،‬‬
‫كما تفهم ‪ ،‬أننا نبذل مجهودا ً في هذا الّتجاه ‪ ،‬أو أ ّ‬
‫ن‬
‫أحدا ً يعي هذا ‪ .‬ولكن عندما يغيب المل ‪ ،‬عندما يجد‬
‫المرء أنه تخّلى عن المل حتى في احتمال وجود‬
‫أمل ‪ ،‬يميل إلى ملء المساحات الفارغة بالحلم ‪،‬‬
‫بأفكار وقصص صغيرة طفولّية لكي يحث نفسه‬
‫على الستمرار ‪ .‬حتى أشد الناس صلبة يواجهون‬
‫صعوبة في كبح أنفسهم ‪ .‬إنهم يتخّلون فجأةً عما‬
‫دمات ‪ ،‬ويجلسون ‪،‬‬ ‫جل ََبة أو مق ّ‬‫يفعلون ‪ ،‬بل َ‬
‫ويتكلمون عن الرغبات التي كانت تتصاعد داخلهم ‪.‬‬
‫ضلة ‪ .‬وغالبا ً‬ ‫مف ّ‬ ‫والطعام ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬هو أحد المواضيع ال ُ‬
‫صفون وجبة بتفاصيل‬ ‫ما تسمع مجموعة من الناس ي ِ‬
‫مشهيات وينتقلون‬ ‫دقيقة ‪ ،‬بدءا ً بأنواع الحساء وال ُ‬
‫ببطء إلى الفاكهة ‪ ،‬ويتوقفون عند كل مذاق وتابل ‪،‬‬
‫كزين تارةً على‬ ‫مر ّ‬‫عند مختلف النكهات والروائح ‪ُ ،‬‬
‫طريقة العداد ‪ ،‬وتارة على تأثير الطعام نفسه ‪ ،‬من‬
‫أول لسعة مذاق على اللسان إلى الحساس‬
‫بالسلم المنتشر بالتدريج بينما الطعام ينتقل إلى‬
‫الحنجرة ومن ثم يصل إلى المعدة ‪ .‬تلك الحاديث‬
‫تستمر أحيانا ً ساعات طويلة ‪ ،‬ولديهم بروتوكول‬
‫م بدّقة فائقة ‪ .‬فينبغي أل تضحك أبدا ً ‪ ،‬مثل ً ‪،‬‬ ‫س ُ‬ ‫يت ّ ِ‬
‫ن ينال من أفضل ما‬ ‫وينبغي أل ّ تسمح لجوعك أ ْ‬
‫مدة ‪ .‬وهذا‬ ‫لديك ‪ .‬فل نوبات توتر ‪ ،‬ول آهات غير متع ّ‬
‫سد حديثا ً عن‬ ‫يؤدي إلى ذرف الدمع ‪ ،‬ول شيء ُيف ِ‬
‫الطعام بسرعة أكثر من الدموع ‪ .‬ولكي تحصل على‬

‫‪13‬‬
‫ن يقفز إلى‬ ‫ن تسمح لذهنك أ ْ‬ ‫أفضل النتائج ينبغي أ ْ‬
‫الكلمات القادمة من أفواه الخرين ‪ .‬وإذا كان في‬
‫ن تستهلكك ‪ ،‬فسوف تتمكن‬ ‫استطاعة الكلمات أ ْ‬
‫ميه الناس "‬ ‫من نسيان جوعك الحاضر وتلج ما ُيس ّ‬
‫ن يقول‬ ‫م ْ‬‫منطقة الهالة النورانّية الثابتة " ‪ .‬بل ثمة َ‬
‫ن هناك قيمة غذائية في تلك الحاديث عن الطعام‬ ‫إ ّ‬
‫سب وبرغبة متساوية‬ ‫ت بالتركيز المنا ِ‬ ‫– إذا ما حظي َ ْ‬
‫مشاركين فيها ‪.‬‬ ‫في اليمان بالكلمات بين ال ُ‬
‫هذا كله ينتمي إلى لغة الشباح ‪ .‬وهناك أنواع‬
‫ممكنة أخرى عديدة من الحاديث بهذه اللغة ‪.‬‬
‫معظمها يبدأ عندما يقول أحدهم لخر ‪ :‬أتمنى ‪ .‬وما‬
‫يتمّنونه قد يكون أي شيء ‪ ،‬طالما أنه شيء ل‬
‫ن الشمس ل تغرب أبدا ً‬ ‫ن يحدث ‪ .‬أتمنى لو أ ّ‬ ‫يمكن أ ْ‬
‫ن‬
‫ن النقود تنمو في جيبي ‪ .‬أتمنى لو أ ّ‬ ‫‪ .‬أتمنى لو أ ّ‬
‫ت تفهم الِفكرة ‪.‬‬ ‫المدينة تعود كما في أيام زمان ‪ .‬أن َ‬
‫أشياء سخيفة وصبيانية ‪ ،‬بل معنى وغير واقعية ‪.‬‬
‫سكون بالعتقاد بأنه مهما كانت‬ ‫عموما ً ‪ ،‬الناس يتم ّ‬
‫الشياء في الماضي سيئة ‪ ،‬فإنها أفضل من الشياء‬
‫الن ‪ .‬وما كانت عليه قبل يومين هو أفضل مما‬
‫ت‬
‫كانت عليه حتى في المس القريب ‪ .‬وكلما أوغل َ‬
‫في الماضي ‪ُ ،‬يصبح العالم أجمل ومرغوبا ً أكثر ‪.‬‬
‫وتجّر نفسك من النوم في صباح كل يوم لكي تواجه‬
‫شيئا ً هو دائما ً أسوأ مما واجهته في اليوم الذي‬
‫ن‬
‫جد َ قبل أ ْ‬‫ن بالحديث عن العالم الذي وُ ِ‬ ‫سبقه ‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن ُتضلل نفسك بالعتقاد‬ ‫تأوي إلى النوم ‪ ،‬تستطيع أ ْ‬
‫سد ‪ ،‬ليس أكثر ول‬ ‫ن اليوم الحاضر هو ببساطة تج ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ل من ذكريات اليام الخرى كلها التي تحملها‬ ‫أق ّ‬
‫داخلك ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫أنا أفهم لماذا يلعب الناس هذه اللعبة ‪ ،‬لكنها ل‬
‫ن أتكّلم لغة الشباح ‪،‬‬ ‫ضأ ْ‬ ‫تستهويني شخصيا ً ‪ .‬أرف ُ‬
‫مبتعدة‬ ‫ت الخرين يتكلمون بها ‪ ،‬أمشي ُ‬ ‫وكلما سمع ُ‬
‫ت الشياء‬ ‫ُ‬
‫ي ‪ .‬نعم ‪ ،‬لقد تغّير ْ‬ ‫أو أضعُ يديّ على أذن ّ‬
‫ت فتاة ً صغيرة عابثة ‪.‬‬ ‫ت تعلم كم كن ُ‬ ‫ي ‪ .‬أن َ‬ ‫بالنسبة إل ّ‬
‫لم تكن تشبع من سماع حكاياتي ‪ ،‬من العوالم التي‬
‫ب فيها معا ً ‪ .‬قلعة الل عودة ‪،‬‬ ‫ت أخترعها لنلع َ‬ ‫كن ُ‬
‫أرض الرمال ‪ ،‬غابة الكلمات المنسّية ‪.‬‬
‫ن‬
‫ن أروي لك الكاذيب ‪ ،‬أ ْ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ت أح ّ‬ ‫كرها ؟ كم كن ُ‬ ‫أتذ ُ‬
‫ب وجهك‬ ‫ن أراق َ‬ ‫ك وأجعلك ُتصدق حكاياتي ‪ ،‬أ ْ‬ ‫أخدع َ‬
‫وهو يصير جاد ّا ً وأنا أقودك من مشهد غريب إلى‬
‫مخت َل ََقة ‪ ،‬وتبدأ بالبكاء ‪.‬‬ ‫ك بأنها كلها ُ‬ ‫آخر ‪ .‬ثم أخبر َ‬
‫ت‬‫ك تلك بقدر ما أحبب ُ‬ ‫ت دموع َ‬ ‫أعتقد أني أحبب ُ‬
‫ت خبيثة قليل ً ‪ ،‬حتى في‬ ‫ابتسامتك ‪ .‬نعم ‪ ،‬لعلي كن ُ‬
‫تلك اليام ‪ ،‬وأنا أرتدي الثوب الصغير الذي كانت‬
‫أمي تدفعني إلى لبسه ‪ ،‬وأنا صاحبة الركبتين‬
‫ج الطفلة الصغير الخالي‬ ‫النحيلتين والقبيحتين ‪ ،‬وفر ُ‬
‫ك أحببتني ‪ ،‬أليس كذلك ؟ أحببتني‬ ‫شعر ‪ .‬لكن َ‬ ‫من ال َ‬
‫حتى الجنون ‪.‬‬
‫ت عاقلة تماما ً وشديدة الترّوي ‪ .‬ل‬ ‫الن أصبح ُ‬
‫ن أكون كالخرين ‪ .‬إنني أرى ما تفعله‬ ‫أريد أ ْ‬
‫ن الناس ‪-‬‬ ‫أوهامهم بهم ‪ ،‬ولن أدع هذا يحدث لي ‪ .‬إ ّ‬
‫الشباح دائما ً يموتون أثناء نومهم ‪ .‬يتجولون مدة‬
‫شهر أو اثنين مع ابتسامة غريبة على وجوههم ‪،‬‬
‫ووهج الختلف الغريب يكتنفه ‪ ،‬وكأنهم قد بدؤوا توا ً‬
‫بالختفاء ‪ .‬الشارات ل ُيخطئها أحد ‪ ،‬حتى‬
‫دين الخفيف ‪،‬‬ ‫ذرة ‪ :‬توّرد الخ ّ‬ ‫مح ّ‬ ‫التلميحات ال ُ‬
‫ول‬‫والعينان تصبحان فجأة ً أكبر من المعتاد ‪ ،‬التح ّ‬
‫مذهل ‪ ،‬الرائحة الكريهة المنبعثة من الجسد‬ ‫ال ُ‬

‫‪15‬‬
‫الدنى ‪ .‬ولكن لعله موت سعيد ‪ .‬إنني راغبة في‬
‫منحهم هذا ‪ .‬وأحيانا ً أكاد أحسدهم ‪ .‬ولكن أخيرا ً ‪ ،‬ل‬
‫ن ُأطلق العنان لنفسي ‪ .‬لن أسمح بذلك ‪.‬‬ ‫أستطيع أ ْ‬
‫مل ‪ ،‬حتى ولو أّدى‬ ‫سوف أصمد قدر ما أستطيع التح ّ‬
‫إلى موتي ‪.‬‬

‫هناك ميتات أخرى أكثر درامّية ‪ .‬هناك‬


‫الراكضون ‪ ،‬مثل ً ‪ ،‬وهم جماعة من الناس‬
‫يركضون خلل الشوارع بأسرع ما في طاقتهم ‪،‬‬
‫ويضربون بأذرعم بعنف ما حولهم ‪ ،‬ويلكمون‬
‫الهواء ‪ ،‬ويصرخون بأعلى أصواتهم ‪ .‬وفي أغلب‬
‫الحيان يتنّقلون جماعات ‪ :‬ستة ‪ ،‬أو عشرة ‪ ،‬أو‬
‫حتى عشرين منهم يحتشدون معا ً في الشارع ‪ ،‬ل‬
‫يتوقفون أمام أي عائق في دربهم ‪ ،‬يركضون‬
‫ن يسقطوا من فرط الرهاق ‪.‬‬ ‫ويركضون إلى أ ْ‬
‫ن ُيرهقوا‬‫ن يموتوا بأسرع ما يمكن ‪ ،‬أ ْ‬ ‫والهدف هو أ ْ‬
‫أنفسهم إلى أقصى ما تحتمله قلوبهم ‪ .‬ويقول‬
‫ن ل أحد يتحّلى بالشجاعة اللزمة لفعل‬ ‫الراكضون إ ّ‬
‫هذا وحده ‪ .‬فبالركض جماعة كل فرد من المجموعة‬
‫جعه الهتاف ‪ ،‬يسوط نفسه إلى‬ ‫يدفعه الباقون ‪ُ ،‬يش ّ‬
‫مل عقاب ذاتي مسعور ‪ .‬هذه هي المفارقة‬ ‫درجة تح ّ‬
‫ن تتدّرب‬‫‪ .‬فلكي تقتل نفسك بالركض ‪ ،‬عليك أول ً أ ْ‬
‫ن تكون راكضا ً جيدا ً ‪ .‬وإل ‪ ،‬فلن تتصف بالقوة‬ ‫على أ ْ‬
‫ن الراكضين يمرون‬ ‫اللزمة لقطع مسافة كافية ‪ .‬لك ّ‬
‫ف‬‫باستعدادات حماسية ليواجهوا قدرهم ‪ ،‬وإذا تصاد َ‬
‫در ‪ ،‬يعرفون‬ ‫ن سقطوا في طريقهم إلى ذلك الَق َ‬ ‫أ ْ‬
‫كيف ينهضون على الفور ويواصلون طريقهم ‪.‬‬
‫أعتقد أنه نوع من التدّين ‪ .‬هناك العديد من المكاتب‬
‫الموّزعة في أرجاء المدينة كلها – واحد لكل منطقة‬

‫‪16‬‬
‫من المناطق السكنّية التسع – ولكي تنضم إليهم ‪،‬‬
‫يجب تمر بسلسلة من الشعائر الصعبة ‪ :‬كحبس‬
‫أنفاسك تحت الماء ‪ ،‬والصيام ‪ ،‬ووضع يدك في لهب‬
‫شمعة ‪ ،‬وعدم التكّلم مع أحد على مدى سبعة أيام ‪.‬‬
‫ن ترضخ لدستور الجماعة ‪.‬‬ ‫وحالما ُتقَبل ‪ ،‬يجب أ ْ‬
‫من ستة أشهر أو سبعة من العيش‬ ‫وهذا يتض ّ‬
‫المشترك ‪ ،‬ونظاما ً صارما ً من التمارين والتدّرب ‪،‬‬
‫ل بالتدريج للطعام ‪ .‬وعندما ُيصبح‬ ‫واستهلكا ً يق ّ‬
‫مستعدا ً للركض حتى الموت ‪ ،‬يكون‬ ‫العضو ُ‬
‫ت واحد إلى نقطة القوة‬ ‫ل في وق ٍ‬ ‫قد وص َ‬
‫مطلق ‪ .‬إنه يستطيع‬ ‫مطلقة والضعف ال ُ‬ ‫ال ُ‬
‫ن يركض إلى البد ‪ ،‬وفي الوقت‬ ‫نظريا ً أ ْ‬
‫نفسه يكون جسمه قد استنفد مصادره كلها‬
‫كب ُيعطي النتيجة المرغوبة ‪ .‬فينطلق مع‬ ‫‪ .‬هذا المر ّ‬
‫ن‬
‫مقّرر ويظل يركض إلى أ ْ‬ ‫رفاقه في صباح اليوم ال ُ‬
‫يطير خارج نفسه ‪ .‬وفي النهاية ‪ ،‬تتمّلص روحه‬
‫وتتحّرر ‪ ،‬ويسقط جسده على الرض ‪ ،‬ويموت ‪.‬‬
‫ن طريقتهم ناجحة بنسبة تسعين‬ ‫وُيعلن الراكضون أ ّ‬
‫مضطر إلى‬ ‫ن ل أحد تقريبا ً ُ‬ ‫في المائة – وهذا يعني أ ّ‬
‫ن يقوم بمحاولة ثانية للركض حتى الموت ‪.‬‬ ‫أ ْ‬
‫والكثر شيوعا ً هي ميتات العزلة ‪ .‬ولكن حتى‬
‫ن تتحول إلى ما يشبه الطقس العام ‪ .‬إذ‬ ‫هذه يجب أ ْ‬
‫يرتقي الناس إلى أعلى الماكن لمجّرد القفز ‪.‬‬
‫ن ثمة ما‬ ‫ف بأ ّ‬ ‫مى ‪ ،‬وأعتر ُ‬ ‫القفزة الخيرة ‪ ،‬كما ُتس ّ‬
‫ُيثير في مراقبة أحدها ‪ ،‬شيئا ً يبدو أنه يفتح عالما ً‬
‫جديدا ً بأكمله من الحرية داخلك ‪ :‬لكي ترى الجسد‬
‫الواقف على حافة السطح ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬دائما ً ‪ ،‬لحظة‬
‫ذذ بتلك الثواني‬ ‫ة في التل ّ‬
‫الترّدد الوجيزة ‪ ،‬وكأّنما رغب ً‬
‫ن حياتك‬ ‫الختامية ‪ ،‬والطريقة التي يبدو فيها كأ ّ‬

‫‪17‬‬
‫تتجمع في حنجرتك ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬يندفع الجسد ‪،‬‬
‫كد متى‬ ‫ن تتأ ّ‬ ‫بحركة غير متوقعة )إذ ل يمكنك أبدا ً أ ْ‬
‫سيحدث المر( ‪ ،‬يشقّ الهواء ويهبط طائرا ً إلى‬
‫ب في‬ ‫هل للحماس الذي يد ّ‬ ‫الشارع ‪ .‬سوف ُتذ َ‬
‫الحشود المتجمهرة ‪ :‬تسمعُ هتافهم المسعور ‪،‬‬
‫ف المشهد وجماله انتزعاهم‬ ‫ن عن َ‬ ‫وترى إثارتهم ‪ .‬وكأ ّ‬
‫من أنفسهم ‪ ،‬جعلهما ينسون حقارة حياتهم الخاصة‬
‫ن‬
‫‪ .‬القفزة الخيرة هي شيء يستطيع كل شخص أ ْ‬
‫ن‬
‫يفهمه ‪ ،‬وتتلءم مع التوق الداخلي لكل شخص ‪ :‬أ ْ‬
‫ة‬
‫ن يمحو نفسه في لحظةٍ وجيز ٍ‬ ‫يموت بومضة ‪ ،‬أ ْ‬
‫ن الموت هو‬ ‫مجيدةٍ واحدة ‪ .‬أحيانا ً أعتقد أ ّ‬
‫ن له أي مشاعر ‪ .‬إنه‬ ‫الشيء الوحيد الذي نك ّ‬
‫شكلنا الفني ‪ ،‬الطريقة الوحيدة التي‬
‫ن ُنعّبر عن أنفسنا ‪.‬‬ ‫نستطيع بها أ ْ‬
‫ن‬
‫ن ينجحون في أ ْ‬ ‫م ْ‬‫ومع هذا ‪ ،‬هناك بيننا َ‬
‫ت أيضا ً أصبح منبعا ً للحياة ‪.‬‬ ‫ن المو َ‬ ‫يعيشوا ‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫ومع وجود كل أولئك الذين يفكرون في كيف‬
‫سُبل‬‫يضعون نهاية للشياء ‪ ،‬ويتأملون في ال ُ‬
‫ن تتخّيل‬‫المتنوعة لمغادرة هذا العالم ‪ ،‬تستطيع أ ْ‬
‫ن‬
‫متاحة للربح ‪ .‬والشخص البارع يستطيع أ ْ‬ ‫الُفَرص ال ُ‬
‫ش حياةً رغدة حقا ً من موت الخرين ‪ .‬ذلك أّنه‬ ‫يعي َ‬
‫ليس كل شخص يتحّلى بشجاعةِ الراكضين أو‬
‫مساعدة لكي‬ ‫القافزين ‪ ،‬والعديد يحتاجون إلى ال ُ‬
‫يّتخذوا قرارهم ‪ .‬والقدرة على تسديد تكاليف هذه‬
‫مسَبق ‪ ،‬ولهذا السبب فقط ثلة‬ ‫ط ُ‬ ‫الخدمات هي شر ٌ‬
‫من أشد الناس ثراًء يستطيعون على تلك التكاليف ‪.‬‬
‫ن التجارة ناشطة مع ذلك ‪ ،‬خاصة في عيادات‬ ‫لك ّ‬
‫القتل الرحيم ‪ .‬وهذه لها تشكيلت عديدة متنوعة ‪،‬‬
‫استنادا ً إلى مقدار ما ترغب في إنفاقه من مال ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫والشكل البسط والرخص ل يستغرق أكثر من‬
‫ن عنها بوصفها رحلة العودة ‪.‬‬ ‫ساعة أو اثنتين ‪ ،‬وُيعل َ ْ‬
‫جل اسمك في العيادة ‪ ،‬وُتسدد قيمة بطاقتك‬ ‫تس ّ‬
‫على طاولة المكتب ‪ ،‬ومن ثم تؤخذ إلى غرفة‬
‫عد ّ حديثا ً ‪ .‬ويضع َ‬
‫ك‬ ‫صغيرة خاصة مزّودة بسرير أ ُ ِ‬
‫مرافق فيه ويعطيك حقنة ‪ ،‬ومن ثم تغوص في‬ ‫ُ‬
‫النوم ول تفيق أبدا ً ‪ .‬والتالي على لئحة السعار هو‬
‫رحلة العجائب ‪ ،‬وتدوم من يوم إلى ثلثة أيام ‪.‬‬
‫وهذه تتألف من سلسلة من الحقن ‪ ،‬تفصل بينها‬
‫فترات منتظمة ‪ ،‬تمنح الزبون إحساسا ً حيويا ً‬
‫بالنغماس والسعادة ‪ ،‬قبل إعطاء الحقنة الخيرة‬
‫ن‬
‫القاتلة ‪ .‬ثم هناك رحلة المتعة ‪ ،‬التي يمكن أ ْ‬
‫ض‬‫خل الزبون خللها في في ٍ‬ ‫عين ‪ُ .‬يد َ‬ ‫تستمر أسبو َ‬
‫س‬
‫ب ُيناف ُ‬ ‫مد ّّ بسبل الرفاهية بأسلو ٍ‬ ‫من الحياة ‪ ،‬وي ُ َ‬
‫روعة فنادق الترفيه القديمة ‪ .‬فهناك الوجبات‬
‫المدروسة ‪ ،‬وأنواع النبيذ ‪ ،‬والتسلية ‪ ،‬وحتى ماخور ‪،‬‬
‫يخدم الرجال والنساء على السواء ‪ .‬وهذا ُيكل ّ ُ‬
‫ف‬
‫مبلغا ً كبيرا ً من المال ‪ ،‬ولكن بالنسبة إلى البعض‬
‫ن فرصة العيش حياةً طيبة ‪ ،‬حتى لمدة قصيرة‬ ‫فإ ّ‬
‫من الزمن ‪ ،‬هي غواية ل ُتقاَوم ‪.‬‬
‫ن عيادات القتل الرحيم ليست الطريقة‬ ‫لك ّ‬
‫الوحيدة لشراء موتك الخاص ‪ .‬هناك نوادي الغتيال‬
‫ن‬‫طردة ‪ .‬فمن يريد أ ْ‬ ‫أيضا ً ‪ ،‬وهذه تكتسب شعبية م ّ‬
‫يموت ‪ ،‬لكنه من فرط الخوف بحيث ُينّفذ المر‬
‫بنفسه ‪ ،‬ينضم إلى نادي الغتيال في منطقته‬
‫الخاصة لكي يدفع رسما ً متواضعا ً نسبيا ً ‪ .‬ثم ُيعّين له‬
‫قاتل ‪ .‬ول ُيخبرون الزبون أيّ شيء عن الترتيبات ‪،‬‬
‫ويبقى كل ما يتعّلق بموته لغزا ً بالنسبة إليه ‪ :‬التاريخ‬
‫مّتبعة ‪ ،‬وهوية قاتله ‪ .‬وبصورة‬ ‫‪ ،‬المكان ‪ ،‬الطريقة ال ُ‬

‫‪19‬‬
‫ما تسير الحياة كالمعتاد ‪ .‬ويبقى الموت في الفق ‪،‬‬
‫مبهم ‪ .‬وبدل الشيخوخة ‪،‬‬ ‫ن شكله ُ‬ ‫مطلقا ً ‪ ،‬لك ّ‬ ‫يقينا ً ُ‬
‫والمرض ‪ ،‬أو وقوع حادث ‪ ،‬يمكن لعضو نادي‬
‫ت سريع وعنيف في‬ ‫ن يصبو إلى مو ٍ‬ ‫الغتيال أ ْ‬
‫ب جدا ً ‪ :‬رصاصة في الدماغ ‪ ،‬طعنة‬ ‫مستقبل قري ٍ‬
‫خنجر في الظهر ‪ ،‬يدان ُتطِبقان على العنق في‬
‫ن الهدف من ذلك كله هو‬ ‫منتصف الليل ‪ .‬ويبدو لي أ ّ‬
‫ذرا ً ‪ .‬فالموت لم يُعد شيئا ً‬ ‫ح َ‬
‫جعل المرء أكثر َ‬
‫ي يسكن كل لحظة من‬ ‫مجّردا ً ‪ ،‬بل احتمال حقيق ّ‬ ‫ُ‬
‫الحياة ‪ .‬وبدل النصياع سلبيا ً للمحتوم ‪ُ ،‬يصبح‬
‫دفون للغتيال أشد ّ حذرا ً ‪ ،‬ونشاطا ً في‬ ‫مسته َ‬ ‫ال ُ‬
‫ن فهما ً‬ ‫تحركاتهم ‪ ،‬وأكثر امتلًء بحس الحياة – وكأ ّ‬
‫جديدا ً للشياء غّيرهم ‪ .‬عديد منهم ارتدوا وآثروا‬
‫معّقدة ‪ .‬ذلك أن َ‬
‫ك‬ ‫ن هذه مسألة ُ‬ ‫الحياة من جديد ‪ .‬لك ّ‬
‫مح لك‬ ‫م إلى نادي الغتيال ‪ ،‬ل ُيس َ‬ ‫حالما تنض ّ‬
‫ت في قتل‬ ‫بالنسحاب ‪ .‬من ناحية أخرى ‪ ،‬إذا نجح َ‬
‫ن تتحّرر من التزامك – وإذا شئت ‪،‬‬ ‫ك ‪ ،‬يمكن أ ْ‬ ‫قاتل َ‬
‫ت نفسك كقاتل ‪ .‬هذا هو خطر‬ ‫يمكن استئجارك أن َ‬
‫مجزٍ جدا ً ‪ .‬ومن النادر‬ ‫عمل القاتل والسبب في أنه ُ‬
‫ل ‪ ،‬لنه بالضرورة أكثر خبرة من‬ ‫ل القات ُ‬ ‫ن ُيقت َ َ‬‫أ ْ‬
‫ن ذلك يحدث أحيانا ً ‪ .‬وبين‬ ‫مقّررة ‪ ،‬لك ّ‬ ‫ضحيته ال ً‬
‫الفقراء ‪ ،‬خاصة الشبان الفقراء ‪ ،‬هناك العديد الذين‬
‫دخرون على مدى أشهر وحتى سنين فقط لكي‬ ‫ي ّ‬
‫كنوا من النضمام إلى نادي الغتيال ‪ .‬والهدف‬ ‫يتم ّ‬
‫م استئجارهم كقاتلين – وبالتالي لكي‬ ‫ن يت ّ‬ ‫هو أ ْ‬
‫يرفعوا من مستوى عيشهم ‪ .‬وقليلون ينجحون في‬
‫ك قصص بعض أولئك الفتية ‪،‬‬ ‫ذلك ‪ .‬ولو حكيت ل َ‬
‫لجافاك النوم طوال أسبوع كامل ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ن هذا كله يقود إلى عدد هائل من المشاكل‬ ‫إ ّ‬
‫ن الناس ل‬ ‫العملّية ‪ .‬كمسألة الجثث ‪ ،‬مثل ً ‪ .‬إ ّ‬
‫يموتون هنا كما كانوا يفعلون أيام زمان ‪ ،‬يلفظون‬
‫أنفاسهم بهدوء في أسّرتهم أو في ملذٍ نظيف في‬
‫ن‬
‫جناح من مستشفى‪ -‬بل يموتون حيثما يتصادف أ ْ‬
‫يكونوا ‪ ،‬وفي الغالب هذا يعني الشارع ‪ .‬أنا ل أقصد‬
‫بكلمي فقط الراكضين والقافزين وأعضاء نادي‬
‫ن عددهم ضئيل جدًا( ‪ ،‬وإنما‬ ‫الغتيال )ذلك أ ّ‬
‫ن نصف عدد‬ ‫ِقطاعات ضخمة من السكان ‪ .‬إ ّ‬
‫مشّردون ‪ ،‬وليس لهم أي مكان يلجئون‬ ‫السكان ُ‬
‫ت – على‬ ‫إليه ‪ .‬إذا ً الجثث تلقاها كيفما التف ّ‬
‫الرصفة ‪ ،‬على ممرات البواب ‪ ،‬وفي الشوارع‬
‫ن أعطيك تفاصيل ‪ .‬يكفيني‬ ‫نفسها ‪ .‬ل تطلب مني أ ْ‬
‫ن أذكر هذا – بل أكثر من كاف ‪ .‬ومهما كان ما‬ ‫أ ْ‬
‫ن المشكلة الحقيقية ليست الفتقار إلى‬ ‫تعتقد ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الشفقة ‪ .‬ل شيء ينكسر هنا أسرع من القلب ‪.‬‬
‫ن غالبية الجثث عارية ‪ .‬ويجوس المنّقبون‬ ‫إ ّ‬
‫الشوارع في كل الوقات ‪ ،‬وسرعان ما ُيجّرد‬
‫الموتى من ممتلكاتهم ‪ .‬أول ما يختفي هي الحذية ‪،‬‬
‫لنها مطلوبة جدا ً ومن الصعب العثور عليها ‪ .‬الشيء‬
‫التالي الذي يجذب النتباه هو الجيوب ‪ ،‬ولكن في‬
‫المعتاد كل شيء آخر بعد ذلك ‪ ،‬الملبس وكل ما‬
‫ماشات ‪،‬‬ ‫تحتويه ‪ .‬وأخيرا ً يأتي حاملو الزاميل والك ّ‬
‫نل‬ ‫يخلعون أسنان الذهب والفضة من الفواه ‪ .‬ول ّ‬
‫ن العديد من العائلت‬ ‫مفّر من هذه الحقيقة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫تعتني بأمر التجريد بنفسها ‪ ،‬غير راغبة في ترك‬
‫المر للغرباء ‪ .‬وفي بعض الحالت ‪ ،‬ينشأ ذلك من‬
‫حفاظ على كرامة أحّبائهم ؛ وفي‬ ‫الرغبة في ال ٍِ‬
‫حالت أخرى تكون مجرد مسألة أنانّية ‪ .‬ولكن هذه‬

‫‪21‬‬
‫ب سن زوجك‬ ‫نقطة شديدة الدّقة ‪ .‬فإذا كان ذه ُ‬
‫ن‬‫ك مدة شهر ‪ ،‬فمن يستطيع أ ْ‬ ‫ن ُيطِعم َ‬‫يمكن أ ْ‬
‫ن مثل هذا السلوك‬ ‫مأ ّ‬
‫يلومك على انتزاعه ؟ أعل ُ‬
‫ش هنا‬‫ن تعي َ‬
‫تأ ْ‬ ‫ض الِفطرة ‪ ،‬ولكن إذا أرد َ‬ ‫ُيناق ُ‬
‫ن تكون قادرا ً على التخّلي عن المبادئ ‪.‬‬ ‫فيجب أ ْ‬
‫في صباح كل يوم ‪ ،‬ترسل المدينة شاحنات لكي‬
‫تجمع الجثث ‪ .‬هذا هو العمل الرئيسي للحكومة ‪،‬‬
‫وُينَفق من الموال على هذا أكثر من أي شيء آخر ‪.‬‬
‫وعلى أطراف المدينة من كل جانب هناك محارق –‬
‫ن ترى ليل ً‬ ‫مى بمراكز التحويل – ويمكنك أ ْ‬ ‫ما ُيس ّ‬
‫ونهارا ً الدخان يتصاعد إلى عنان السماء ‪ .‬ولكن بما‬
‫مزرية ‪ ،‬والكثير منها تحول‬ ‫ن الشوارع في حالة ُ‬ ‫أ ّ‬
‫طراد ‪ .‬ويضطر‬ ‫إلى حطام ‪ُ ،‬يصبح العمل صعبا ً با ّ‬
‫الرجال إلى إيقاف الشاحنات والخروج لكي يقوموا‬
‫بالجمع سيرا ً على القدام ‪ ،‬وهذا ُيبطئ من وتيرة‬
‫العمل إلى درجة كبيرة ‪ .‬وفوق ذلك كله ‪ ،‬هناك‬
‫العطال الميكانيكية المتكررة التي تحصل‬
‫للشاحنات واندفاع المشاهدين أحيانا ً وهم يرمون‬
‫الحجارة على عمال شاحنة الموت سلوك شائع بين‬
‫مسّلحون‬ ‫ن العمال ُ‬ ‫مشردين ‪ .‬وعلى الرغم من أ ّ‬ ‫ال ُ‬
‫ومعروف عنهم أنهم ُيطلقون رصاص مدافعهم‬
‫ن بعض رامي الحجارة‬ ‫الرشاشة على الحشود ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫من الرشاقة والخفة بحيث يختبئون ‪ ،‬وأسلوبهم في‬
‫صل جماعة العمال إلى التوقف التام ‪.‬‬ ‫الختفاء يو ِ‬
‫ليس هناك دافع مفهوم لحوادث الهجوم تلك ‪ .‬إنها‬
‫ن‬
‫تنشأ من الغضب ‪ ،‬والشمئزاز ‪ ،‬والضجر ‪ ،‬ول ّ‬
‫مجموع العمال هم موظفو المدينة الوحيدون الذين‬
‫كلون أهدافا ً مناسبة ‪.‬‬ ‫يظهرون في الحي ‪ ،‬فإنهم ُيش ّ‬
‫ن الحجارة تمّثل اشمئزاز الناس‬ ‫وقد يقول قائل إ ّ‬

‫‪22‬‬
‫من الحكومة التي ل تفعل أي شيء لهم حتى‬
‫ن الحجارة هي تعبير‬ ‫مغالة ‪ .‬إ ّ‬‫ن هذه ُ‬ ‫مماتهم ‪ .‬لك ّ‬
‫ن المدينة خالية من كل‬ ‫عن التعاسة ‪ ،‬ل أكثر ‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫مفرطو الجوع ‪،‬‬ ‫ن الناس ُ‬ ‫هذه السياسة ‪ .‬إ ّ‬
‫مشوشون ‪ ،‬وفي حالة نزاع بعضهم مع البعض‬ ‫و ُ‬
‫الخر بسبب هذا ‪.‬‬
‫ت مجّرد‬ ‫استغرقَ العبور مدة عشرة أيام ‪ ،‬وكن ُ‬
‫ت القبطان‬ ‫ك تعلم هذا أصل ً ‪ .‬لقد قابل َ‬ ‫مسافرة ‪ .‬لكن َ‬ ‫ُ‬
‫ت مقصورتي ‪ ،‬ول حاجة إلى‬ ‫والطاقم ‪ ،‬وشاهد َ‬
‫ت وقتي أنظر‬ ‫استعراض المر من جديد ‪ .‬لقد أمضي ُ‬
‫إلى المياه والسماء ولم أفتح كتابا ً طوال عشرة أيام‬
‫ت‬‫كاملة ‪ .‬ووصلنا إلى المدينة ليل ً ‪ ،‬وعندئذٍ فقط بدأ ُ‬
‫أشعر بالخوف قليل ً ‪ .‬كان الشاطئ أسود اللون‬
‫بأكمله ‪ ،‬ل ترى عليه ضوءا ً في أي مكان ‪ ،‬وشعرت‬
‫ش فيه إل‬ ‫ج عالما ً خفي ّا ً ‪ ،‬مكانا ً ل يعي ُ‬ ‫كما لو أننا نل ُ‬
‫العميان ‪ .‬ولكن كان معي عنوان مكتب وليم ‪،‬‬
‫ي‬
‫ت في نفسي ‪ ،‬كل ما عل ّ‬ ‫فاطمئن قلبي قليل ً ‪ .‬قل ُ‬
‫ن أذهب إلى هناك ‪ ،‬وعندئذٍ سوف‬ ‫ن أفعله هو أ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫ت بثقة بأنني‬ ‫ل شعر ُ‬ ‫تتوالى المور تلقائيا ً ‪ .‬على الق ّ‬
‫ن‬
‫سأكون قادرة على اللحاق بوليم ‪ .‬لكني لم أدرك أ ّ‬
‫ن‬‫الشارع قد اختفى ‪ .‬لم تكن المشكلة هي أ ّ‬
‫ن المبنى مهجور ‪ .‬فلم يكن هناك‬ ‫ل أو أ ّ‬ ‫المكتب خا ٍ‬
‫أي مبنى ‪ ،‬أو شارع ‪ ،‬أو أي شيء ‪ :‬ل شيء غير‬
‫الحجارة والحطام على امتداد أميال من حولي ‪.‬‬
‫ت‬
‫تلك كانت المنطقة السكنية الثالثة ‪ ،‬كما عِلم ُ‬
‫شي نوع من الوباء‬ ‫لحقا ً ‪ ،‬وقبل عام تقريبا ً من تف ّ‬
‫ت‬
‫هناك ‪ .‬كانت حكومة المدينة قد جاءت ‪ ،‬وسوَّر ْ‬
‫وته بالرض ‪ .‬أو‬ ‫ت كل شيء وس ّ‬ ‫المنطقة ‪ ،‬وأحرقَ ْ‬
‫ُ‬
‫رط في‬ ‫ت منذ ذلك الحين أل ّ أف ِ‬ ‫هكذا قيل ‪ .‬وتعّلم ُ‬

‫‪23‬‬
‫أخذ الشياء التي ُتقال لي على محمل الجد ‪ .‬ليس‬
‫ن يكذبوا عليك ‪ ،‬ولكن عندما‬ ‫لّنه يحق للناس أ ْ‬
‫مبهمة بسرعة‬ ‫يتعّلق المر بالماضي ‪ ،‬تصبح الحقيقة ُ‬
‫‪ .‬وتبرز الساطير في غضون ساعات ‪ ،‬وتسري‬
‫خمة ‪ ،‬وسرعان ما ُتدَفن الحقائق‬ ‫مض ّ‬‫الحكايات ال ُ‬
‫ل من النظريات الغريبة ‪ .‬في المدينة ‪،‬‬ ‫تحت جب ٍ‬
‫دق فقط ما ُتخبرك به عيناك‬ ‫ن تص ّ‬ ‫أفضل مدخل هو أ ْ‬
‫ن أشياء‬ ‫كد النجاح ‪ .‬ل ّ‬ ‫‪ .‬ولكن حتى هذا ليس مؤ ّ‬
‫قليلة جدا ً فقط تبقى كما هي ‪ ،‬خاصة هنا ‪ ،‬لّنه‬
‫يجب استيعاب أشياء كثيرة مع كل خطوة ‪ ،‬وهناك‬
‫ن‬
‫دى الفهم ‪ .‬وكل ما تراه ُيمكن أ ْ‬ ‫أشياء كثيرة تتح ّ‬
‫ك ‪ ،‬وكأنما بمجرد رؤيتك لشيء‬ ‫يجرحك ‪ ،‬أو يختزل َ‬
‫ن‬‫ن من الخطر أ ْ‬ ‫يؤخذ جزٌء منك ‪ .‬وغالبا ً تشعر أ ّ‬
‫ح عينيك ‪ ،‬أو حتى‬ ‫ن ُتشي َ‬‫ك رغبة في أ ْ‬ ‫تنظر ‪ ،‬وتنتاب َ‬
‫ن‬
‫ن ُتغمضهما ‪ .‬ولهذا السبب ‪ ،‬من السهل أ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫ت ترى حقا ً‬ ‫ن ل تكون واثقا ً مما إذا كن َ‬ ‫ترتبك ‪ ،‬أ ْ‬
‫ك تنظر إليه ‪ .‬فلعلك تتخّيله ‪ ،‬أو‬ ‫الشيء الذي تظن أن َ‬
‫ت قد‬ ‫تخلطه مع شيٍء آخر ‪ ،‬أو تتذكر شيئا ً كن َ‬
‫ت‬‫شاهدته من قبل – أو لعلك تخّيلته من قبل ‪ .‬ها أن َ‬
‫ن تنظر ببساطة‬ ‫ترى مدى تعقيد المر ‪ .‬ليس كافيا ً أ ْ‬
‫وتقول لنفسك ‪ " :‬أنا أنظر إلى ذلك الشيء " ‪ ،‬ذلك‬
‫ل هذا عندما يكون الغرض الماثل أمام عينيك‬ ‫ن فع َ‬‫أ ّ‬
‫هو قلم رصاص ‪ ،‬مثل ً ‪ ،‬هو أمر ‪ .‬ولكن ماذا يحدث‬
‫عندما تجد نفسك تنظر إلى طفل مّيت ‪ ،‬إلى فتاة‬
‫ددة في الشارع عارية من أي ملبس ‪،‬‬ ‫صغيرة مم ّ‬
‫شم والدماء تجّللها ؟ ماذا ستقول لنفسك‬ ‫مه ّ‬ ‫ورأسها ُ‬
‫ن‬‫حينئذٍ ؟ إنها ‪ ،‬كما ترى ‪ ،‬ليست مسألة بسيطة أ ْ‬
‫ن‬
‫تقول وبل مواربة ‪ " :‬أنا أنظر إلى طفلة مّيتة " ‪ .‬إ ّ‬
‫عقلك يبدو عاجزا ً عن صياغة الكلمات ‪ ،‬تعجز‬

‫‪24‬‬
‫ن الشيء الماثل‬ ‫ن تفعل ذلك ‪ .‬ل ّ‬ ‫بصورة ما عن أ ْ‬
‫ن تفصله بسهولة‬ ‫أمام عينيك ليس شيئا ً تستطيع أ ْ‬
‫شديدة عن نفسك ‪ .‬هذا ما أعنيه بقولي يجرحك ‪ :‬ل‬
‫ن كل شيء ينتمي‬ ‫ن تكتفي بالنظر ‪ ،‬ل ّ‬ ‫يمكنك أ ْ‬
‫ل جزءا ً من القصة المطوية‬ ‫بصورة ما إليك ‪ ،‬يشك ّ ُ‬
‫ن تجعل نفسك قاسيا ً‬ ‫ن من الجيد أ ْ‬ ‫داخلك ‪ .‬وأعتقد أ ّ‬
‫ن يؤثر عليك بعد ذلك ‪.‬‬ ‫جدا ً بحيث ل شيء يستطيع أ ْ‬
‫ك ستصبح وحيدا ً ‪ ،‬منفصل ً تماما ً عن كل شخص‬ ‫لكن َ‬
‫آخر بحيث تصبح الحياة مستحيلة ‪ .‬وهناك أشخاص‬
‫ول‬‫ينجحون في فعل هذا هنا ‪ ،‬يجدون القوة للتح ّ‬
‫هش إذ تعلم قِّلة عددهم ‪.‬‬ ‫ك سُتد َ‬ ‫إلى وحوش ‪ ،‬لكن َ‬
‫أو ‪ ،‬بعبارة أخرى ‪ :‬لقد أصبحنا جميعا ً وحوشا ً ‪ ،‬ولكن‬
‫ن ليس في داخله بقايا الحياة كما‬ ‫م ْ‬
‫ليس هناك َ‬
‫كانت ذات مرة ‪.‬‬
‫ل الحياة‬ ‫ل هذه أعظم المشاكل قاطبة ‪ .‬لع ّ‬ ‫لع ّ‬
‫ن‬
‫كما نعرفها قد انتهت ‪ ،‬ومع ذلك ل أحد يستطيع أ ْ‬
‫ل محّلها ‪ .‬وأولئك منا الذين نشؤوا‬ ‫يفهم ما الذي ح ّ‬
‫ن بما يكفي‬ ‫في مكان آخر ‪ ،‬أو كانوا كباَر الس ّ‬
‫ن مجّرد‬ ‫كروا عالما ً مختلفا ً عن هذا ‪ ،‬يجدون أ ّ‬ ‫ليتذ ّ‬
‫الصمود من يوم ٍ إلى آخر هو كفاح هائل ‪ .‬أنا ل‬
‫أتحدث فقط عن الصعوبات ‪ .‬فبما أنه ل يواجهك إل‬
‫أشياء عادية جدا ً ‪ ،‬لم تُعد تعرف كيف تتصّرف ‪،‬‬
‫ك ل تعرف كيف تتصّرف ‪ ،‬تجد نفسك عاجزا ً‬ ‫ولن َ‬
‫وش ‪ .‬ومن حولك تتوالى‬ ‫مش ّ‬‫ن العقل ُ‬ ‫عن التفكير ‪ .‬إ ّ‬
‫ج اضطرابا ً‬ ‫التغّيرات واحدا ً بعد آخر ‪ ،‬وكل يوم ُينت ُ‬
‫جديدا ً ‪ ،‬وتصبح الفتراضات القديمة مجرد هباء‬
‫ن‬‫ت تريد أ ْ‬ ‫وخواء ‪ .‬وهذه ورطة ‪ .‬من ناحية ‪ ،‬أن َ‬
‫ن ُتنجز أفضل الشياء ‪.‬‬ ‫ن تتكّيف ‪ ،‬وأ ْ‬ ‫تعيش ‪ ،‬أ ْ‬
‫ن إنجاز هذا‬ ‫ولكن ‪ ،‬من ناحية أخرى ‪ ،‬يبدو أ ّ‬

‫‪25‬‬
‫ك ذات‬‫يستلزم قتل كل الشياء التي دفعت َ‬
‫يوم إلى التفكير في نفسك ككائن بشري ‪.‬‬
‫ن أقول ؟ لكي تعيش ‪ ،‬عليك‬ ‫هل تفهم ما أحاو ُ‬
‫لأ ْ‬
‫ن تموت ‪ .‬لهذا السبب يستسلم الكثير من الناس ‪.‬‬ ‫أ ْ‬
‫إذ مهما كافحوا ‪ ،‬يعلمون أنهم لبد سيخسرون ‪.‬‬
‫وعند هذه النقطة يصبح الكفاح حتما ً شيئا ً ل معنى‬
‫له ‪.‬‬

‫الصورة تصبح باهتة الن ‪ :‬ما حدث وما لم يحدث‬


‫‪ ،‬الشوارع للمرة الولى ‪ ،‬اليام ‪ ،‬الليالي ‪ ،‬السماء‬
‫من فوقي ‪ ،‬الحجارة الممتدة إلى ما بعد المدى ‪.‬‬
‫كر النظر عاليا ً ‪ ،‬وكأني أفتش السماء‬ ‫يبدو أني أتذ ّ‬
‫بحثا ً عن نقص ‪ ،‬عن فائض ‪ ،‬عن شيٍء يجعلها‬
‫ن‬
‫مختلفة عن سواها من السموات الخرى ‪ ،‬وكأ ّ‬
‫ت أراها‬ ‫سر الشياء التي كن ُ‬
‫ن تف ّ‬
‫السماء تستطيع أ ْ‬
‫من حولي ‪ .‬ولكن قد أكون مخطئة ‪ .‬لعّلي أنق ُ‬
‫ل‬
‫ملحظات فترة لحقة إلى تلك اليام الولى ‪ .‬لكني‬
‫ل الن‬ ‫ن تكون شديدة الهمية ‪ ،‬على الق ّ‬ ‫ك في أ ْ‬‫أش ّ‬
‫‪.‬‬
‫ن‬
‫بعد الكثير من الدراسة المتأّنية ‪ ،‬أستطيع أ ْ‬
‫ن السماء هنا هي نفسها السماء التي‬ ‫ُ‬
‫أقرر بأمان أ ّ‬
‫ك ‪ .‬لدينا الغيوم نفسها والضياء نفسه ‪،‬‬ ‫ُتظل َ‬
‫والعواصف نفسها والهدوء نفسه ‪ ،‬والرياح نفسها‬
‫ل كل شيء معها ‪ .‬فإذا كانت الثار مختلفة‬ ‫التي تحم ُ‬
‫قليل ً هنا ‪ ،‬فذلك حصرا ً بسبب ما يحدث في‬
‫السفل ‪ .‬الليالي ‪ ،‬مثل ً ‪ ،‬ليست بالضبط مثل تلك‬
‫التي في الوطن ‪ .‬الظلن نفسه والكثافة نفسها ‪،‬‬
‫ولكن من دون الحساس بالسكون ‪ ،‬بل فقط تيار‬
‫دك إلى أسفل وتدفعك‬ ‫ي متواصل ‪ ،‬غمغمة تش ّ‬ ‫داخل ّ‬

‫‪26‬‬
‫إلى المام ‪ ،‬دون راحة ‪ .‬ومن ثم ‪ ،‬خلل النهار ‪،‬‬
‫مل – بريق‬ ‫هناك الضياء الذي يكون أحيانا ً ل ُيحت َ َ‬
‫ُيبهرك ويبدو أنه ُيبّيض كل شيء ‪ ،‬وكل السطوح‬
‫مثّلمة تلمع ‪ ،‬والهواء نفسه يكاد يومض ‪ .‬ويتشك ّ ُ‬
‫ل‬ ‫ال ُ‬
‫وه بها اللوان أكثر فأكثر كلما‬ ‫الضوء بطريقة تتش ّ‬
‫ض‬
‫ظلل تضطرب ‪ ،‬بنب ٍ‬ ‫ت منها ‪ .‬حتى ال ِ‬ ‫اقترب َ‬
‫ن‬
‫ي ‪ ،‬محموم على طول الحواف ‪ .‬ويجب أ ْ‬ ‫عشوائ ّ‬
‫تحرص في مثل هذا الضوء على أل تفتح عينيك‬
‫معّينة تسمح‬ ‫واسعا ً ‪ ،‬وعلى أل تفتح عينيك إل بدرجة ُ‬
‫حفاظ على توازنك ‪ .‬فإذا لم تفعل ‪ ،‬ستتعّثر‬ ‫لك بال ِ‬
‫دد لك‬ ‫ُ‬
‫ن أع ّ‬ ‫ت في حاجةٍ إلى أ ْ‬ ‫في مشيك ‪ ،‬ولس ُ‬
‫مخاطر السقوط ‪ .‬ولول حلول الظلم ‪ ،‬والليالي‬
‫الغريبة التي تهبط علينا ‪ ،‬فإني أشعر أحيانا ً أ ّ‬
‫ن‬
‫ن اليام تنتهي‬ ‫السماء ستحترق عن بكرة أبيها ‪ .‬إ ّ‬
‫ن تفعل ‪ ،‬في اللحظة التي يبدو‬ ‫عندما يتوجب عليها أ ْ‬
‫ت الشياء التي تسطع‬ ‫ن الشمس قد أرهَق ْ‬ ‫فيها أ ّ‬
‫ن يلتحم‬ ‫عليها ‪ .‬لم يُعد في استطاعة أي شيء أ ْ‬
‫دق كله سوف‬ ‫ن العالم الذي ل ُيص ّ‬ ‫بالضياء ‪ .‬إ ّ‬
‫يذوب ‪ ،‬وستكون النهاية ‪.‬‬
‫ببطء وثبات ‪ ،‬تبدو المدينة أنها تستهلك‬
‫نفسها ‪ ،‬حتى وهي ل تزال موجودة ‪ .‬ول‬
‫ن‬‫سبيل إلى شرح ذلك ‪ .‬أستطيع فقط أ ْ‬
‫دعي الفهم ‪ .‬في‬ ‫نأ ّ‬ ‫جل ‪ ،‬ل أستطيع أ ْ‬ ‫أس ّ‬
‫كل يوم في الشوارع تسمع انفجارات ‪،‬‬
‫ن ما بعيدا ً عنك هناك بناء‬ ‫وكأنما في مكا ٍ‬
‫ك ل ترى‬ ‫ن الرصيف يغور ‪ .‬لكن َ‬ ‫ينهار أو أ ّ‬
‫ت من تلك‬ ‫ذلك أبدا ً يحدث ‪ .‬ومهما سمع َ‬
‫ن مصدرها يبقى خفي ّا ً ‪ .‬وقد‬ ‫الصوات ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن انفجارا ً سوف يحدث بين حين وآخر في‬ ‫تعتقد أ ّ‬

‫‪27‬‬
‫خر في وجه الحتمال ‪.‬‬ ‫ن الحقائق تتب ّ‬ ‫حضورك ‪ .‬لك ّ‬
‫ن تلك الصوات ل‬ ‫ينبغي أل تعتقد أني ألّفق المر – إ ّ‬
‫تنشأ في رأسي ‪ ،‬فالخرون يسمعونها أيضا ً ‪ ،‬حتى‬
‫ن لم تكن تجذب الكثير من النتباه ‪ .‬أحيانا ً‬ ‫وإ ْ‬
‫يتوقفون لكي يعّلقوا عليها ‪ ،‬لكنهم ل يبدون أبدا ً‬
‫ن الصوت أفضل قليل ً الن ‪،‬‬ ‫قلقين ‪ .‬وقد يقولون إ ّ‬
‫صلة بالحرب بعد ظهيرة هذا‬ ‫أو إنه يبدو قليل ً ذا ِ‬
‫ت أطرح العديد من السئلة حول تلك‬ ‫اليوم ‪ .‬وكن ُ‬
‫النفجارات ‪ ،‬لكني لم أحصل على أي جواب ‪ .‬ليس‬
‫أكثر من تحديق أبله أو هّز الكتفين ‪ .‬وأخيرا ً ‪ ،‬عِلم ُ‬
‫ت‬
‫ن بعض الشياء ل أحد يستفسر عنها ‪ ،‬وأّنه حتى‬ ‫أ ّ‬
‫هنا هناك مواضيع ل أحد يرغب في النقاش حولها ‪.‬‬

‫بالنسبة إلى الذين في الحضيض ‪ ،‬هناك الشوارع‬


‫والحدائق العامة ومحطات القطار النفقي القديمة ‪.‬‬
‫معّرضا ً فيها لكل‬
‫ك تكون ُ‬ ‫والشوارع هي السوأ ‪ ،‬لن َ‬
‫مصادفة وإزعاج ‪ .‬أما الحدائق العامة فوضعها أكثر‬ ‫ُ‬
‫استقرارا ً بصورة ما ‪ ،‬بعيدا ً عن مشاكل المرور‬
‫وتدّفق المارة ‪ ،‬ولكن ما لم تكن أحد المحظوظين‬
‫وتحصل على خيمة أو كوخ ‪ ،‬فلن تتحّرر من أحوال‬
‫الطقس ‪ .‬في محطات القطار النفقي فقط‬
‫ك سوف تنجو من الظروف‬ ‫ن تتأ ّ‬
‫كد من أن َ‬ ‫تستطيع أ ْ‬
‫مضطر إلى قبول‬ ‫ت ُ‬‫ن هناك أيضا ً أن َ‬‫القاسية ‪ ،‬ولك ْ‬
‫حشدٍ من العوامل المزعجة الخرى ‪ :‬الرطوبة ‪،‬‬
‫مستمر لصراخ‬ ‫والحشود الغفيرة ‪ ،‬والضجيج ال ُ‬
‫مفتونون بأصداء أصواتهم ‪.‬‬ ‫الناس ‪ ،‬وكأنهم ُ‬
‫ت أخشى المطر‬ ‫خلل تلك السابيع الولى ‪ ،‬كن ُ‬
‫أكثر من أي شيء آخر ‪ .‬حتى البرد كان أمره تافها ً‬
‫ل بفحم دافئ )كان‬ ‫بالمقارنة ‪ ،‬فمسألته ببساطة ُتح ّ‬

‫‪28‬‬
‫عندي منه( والتحّرك بنشاط للمحافظة على جريان‬
‫ت أيضا ً فوائد أوراق الصحف ‪ ،‬فهي‬ ‫رف ُ‬ ‫الدم ‪ .‬وع ِ‬
‫دون أدنى شك أفضل المواد وأرخصها لعزل‬
‫ض باكرا ً‬ ‫ن تنه َ‬‫ملبسك ‪ .‬وفي اليام الباردة ‪ ،‬عليك أ ْ‬
‫جدا ً من النوم صباحا ً لكي تضمن العثور على مكان‬
‫كل أمام أكشاك بيع‬ ‫جيد في الصفوف التي تتش ّ‬
‫در مدة النتظار بحكمة ‪ ،‬إذ‬ ‫ن ُتق ّ‬ ‫الصحف ‪ .‬ويجب أ ْ‬
‫ليس هناك ما هو أسوأ من الوقوف في هواء الصباح‬
‫ن في‬ ‫تأ ّ‬ ‫البارد أطول مما ينبغي ‪ .‬وإذا ظنن َ‬
‫ن تبقى هناك أكثر من عشرين أو‬ ‫استطاعتك أ ْ‬
‫ن‬
‫حكمة السائدة هي أ ْ‬ ‫خمس وعشرين دقيقة ‪ ،‬فال ِ‬
‫تنتقل وتنسى المر ‪.‬‬
‫ت‬‫ك نجح َ‬ ‫حالما ُتشتري صحيفة ‪ ،‬على افتراض أن َ‬
‫ن تأخذ صفيحة‬ ‫ن أفضل ما تفعله هو أ ْ‬ ‫في ذلك ‪ ،‬فإ ّ‬
‫منها ‪ ،‬وتمّزقها إلى شرائط ‪ ،‬ومن ثم تلويها على‬
‫شكل حزم صغيرة ‪ .‬تلك العقد جيدة لحشوها في‬
‫دم الحذاء ‪ ،‬من أجل سد الفجوات التي يتسرب‬ ‫مق ّ‬
‫منها الهواء حول الكاحلين ‪ ،‬وسد الثغرات في‬
‫ن أفضل إجراء غالبا ً‬ ‫ثوبك ‪ .‬أما الطراف والجزع ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ف عدد من العقد المنفلتة حول الجسم ‪ .‬وأما‬ ‫هو ل ّ‬
‫منطقة العنق ‪ ،‬فمن المفيد ضفر عدد من العقد‬
‫على شكل ياقة ‪ .‬والجراء كله يمنحك منظرا ً منتفخا ً‬
‫مدا ً ‪ ،‬له ميزة تجميلية في إخفاء النحافة ‪.‬‬ ‫مض ّ‬‫‪ُ ،‬‬
‫مين بالمحافظة على المظاهر ‪،‬‬ ‫مهت ّ‬‫وبالنسبة إلى ال ُ‬
‫مى ‪ ،‬تعمل كنوع‬ ‫ن " وجبة الصحف " ‪ ،‬كما ُتس ّ‬ ‫فإ ّ‬
‫ن الناس‬ ‫حفاظ على ماء الوجه ‪ .‬إ ّ‬ ‫من تقنية ال ِ‬
‫يموتون جوعا ً بالمعنى الحرفي للكلمة ‪،‬‬
‫ببطون خاوية وأطراف تشبه العيدان ‪،‬‬
‫ن يبدوا وكأنهم‬ ‫ويمشون وهم يحاولون أ ْ‬

‫‪29‬‬
‫دع‬
‫يزنون مائتين أو ثلثمائة رطل ‪ .‬ول أحد ُيخ َ‬
‫ن تمّيز أولئك الشخاص عن‬ ‫بذلك التخّفي – يمكن َ‬
‫كأ ْ‬
‫ن‬
‫ل هذا ليس هو المهم ‪ .‬إ ّ‬ ‫ُبعد نصف ميل – ولكن لع ّ‬
‫ما ُيحاولون قوله هو إنهم يعرفون ما حدث لهم ‪،‬‬
‫ويشعرون بالخجل منه ‪ .‬وأجسادهم المنتفخة تمّثل ‪،‬‬
‫أكثر من أي شيء آخر ‪ ،‬دللة الوعي ‪ ،‬علمة وعي‬
‫الذات المرير ‪ .‬إنهم يتحولون إلى ُنسخ متهكمة‬
‫وساخرة للثرياء والحسني التغذية ‪ ،‬وُيثبتون ‪ ،‬وهم‬
‫محَبطة ‪ ،‬وشبه‬ ‫في ذلك المظهر الذي ُيعت ََبر كطعنة ُ‬
‫ددة إلى الحس بالمسؤولية ‪ ،‬أنهم‬ ‫مس ّ‬ ‫مخبولة ‪ُ ،‬‬
‫مجرد نقيض ِلما يتظاهرون بأنهم عليه – ويعلمون‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫ك ما أن تتبّلل ‪ ،‬ل‬ ‫ن المطر ل ُيقَهر ‪ .‬ذلك أن َ‬ ‫لك ّ‬
‫ف عن دفع ثمن ذلك على مدى ساعات وحتى‬ ‫تك ّ‬
‫أيام لحقة ‪ .‬ليس هناك غلطة أفدح من الوقوع‬
‫وسط سيل المطر ‪ .‬فأنت ليس فقط تتعّرض لخطر‬
‫ن تعاني من عدد هائل‬ ‫الصابة بالبرد ‪ ،‬بل ويجب أ ْ‬
‫من الشياء المزعجة ‪ :‬من ملبسك المنقوعة‬
‫مدة ‪،‬‬ ‫عظامك التي تشعر أنها متج ّ‬ ‫بالرطوبة ‪ ،‬و ِ‬
‫ن يعطب حذاءك ‪ .‬وإذا‬ ‫دق دائما ً من أ ْ‬‫مح ِ‬ ‫والخطر ال ُ‬
‫كان البقاء واقفا ً على قدميك هو المهمة الوحيدة‬
‫ل من‬ ‫ن يكون الحذاء أق ّ‬ ‫ور عواقب أ ْ‬ ‫الهامة ‪ ،‬فتص ّ‬
‫مرا ً‬‫مد ّ‬‫مناسب ‪ .‬ول شيء يؤّثر في الحذاء تأثيرا ً ُ‬
‫ن ُينَقع تماما ً ‪ .‬وهذا قد يؤدي إلى شتى‬ ‫أكثر من أ ْ‬
‫أنواع المشاكل ‪ :‬البثور ‪ ،‬والورام الملتهبة ‪،‬‬
‫ومسامير القدمين ‪ ،‬وأظافر القدمين المغروزة في‬
‫وهات – وتكون مؤلمة أثناء‬ ‫اللحم ‪ ،‬والقروح ‪ ،‬والتش ّ‬
‫المشي ‪ ،‬وتشعر بالضياع التام ‪ .‬خطوة ثم خطوة ثم‬
‫ت في‬ ‫خطوة ‪ :‬هذه هي القاعدة الذهبية ‪ .‬وإذا فشل َ‬

‫‪30‬‬
‫ن تستلقي حيث أنت‬ ‫فعل حتى هذا ‪ ،‬فيمكنك أ ْ‬
‫ف عن التنّفس ‪.‬‬ ‫وتأمر نفسك بالك ّ‬
‫ولكن كيف السبيل إلى تجّنب المطر إذا كان في‬
‫ن يضرب في أي لحظة ؟ أحيانا ً ‪ ،‬بل‬ ‫استطاعته أ ْ‬
‫ل من‬ ‫غالبا ً ‪ ،‬عندما تجد نفسك خارج المنزل ‪ ،‬تنتق ُ‬
‫ن ما ل خيار‬ ‫ن إلى آخر ‪ ،‬في طريقك إلى مكا ٍ‬ ‫مكا ٍ‬
‫م فجأة ً السماَء ‪ ،‬وتتلطم‬ ‫لك بشأنه ‪ ،‬يغمر الظل ُ‬
‫الغيوم ‪ ،‬وترى نفسك منقوعا ً حتى الجلد ‪ .‬وحتى إذا‬
‫ت في العثور على ملجأ لحظة بدء هطل المطر‬ ‫نجح َ‬
‫ن تكون حريصا ً‬ ‫ونجوت بنفسك مرة ‪ ،‬يبقى أمامك أ ْ‬
‫ن‬‫ل الحرص بعد توقف المطر ‪ .‬فعندئذٍ عليك أ ْ‬ ‫ك ّ‬
‫حفر على‬ ‫كل في ال ُ‬ ‫تنتبه من البرك التي تتش ّ‬
‫الرصيف ‪ ،‬والبحيرات التي تظهر أحيانا ً من‬
‫التصدعات ‪ ،‬وحتى الوحل الذي ينّز من السفل ‪،‬‬
‫ص فيه حتى كاحليك وهو غادر ‪ .‬وبوجود تلك‬ ‫وتغو ُ‬
‫منّقرة ‪،‬‬ ‫الشوارع المزرية ‪ ،‬وأشياء كثيرة متصدعة ‪ُ ،‬‬
‫سرة ‪ ،‬ل مفّر من تلك الزمات ‪ .‬وعاجل ً‬ ‫مك ّ‬ ‫محّفرة و ُ‬ ‫ُ‬
‫خياَر لك فيه‬ ‫ن حيث ل َ‬ ‫أو آجل ً ‪ ،‬سوف تصل إلى مكا ٍ‬
‫صرا ً من كل جانب ‪ .‬وليس هناك‬ ‫محا َ‬
‫‪ ،‬تجد نفسك ُ‬
‫ن ينتبه إليها ‪ ،‬والعالم‬ ‫فقط السطح التي عليه أ ْ‬
‫طر من العلى‬ ‫الذي يلمس قدميك ‪ ،‬بل هناك الَق ْ‬
‫أيضا ً ‪ ،‬والماء الذي ينساب من الفاريز ‪ ،‬ومن ثم ‪،‬‬
‫والسوأ من ذلك ‪ ،‬الرياح القوية التي غالبا ً ما تتبع‬
‫هطل المطر ‪ ،‬دوامات الهواء الضارية ‪ ،‬التي تنزلق‬
‫بخفة على أسطح البحيرات والِبرك وتسوط المياه‬
‫وتعيدها إلى الجو ‪ ،‬تسوقها إلى المام كدبابيس‬
‫خُز وجهك وتدّوم حولك ‪ ،‬وتجعل‬ ‫صغيرة ‪ ،‬وسهام ت ِ‬
‫ب‬‫ن ترى أي شيء ‪ .‬وعندما ته ّ‬ ‫من الصعب عليك أ ْ‬
‫الرياح بعد المطر ‪ ،‬يرتطم الناس بعضهم ببعض‬

‫‪31‬‬
‫ب مزيد من القتال في الشوارع ‪،‬‬ ‫باستمرار ‪ ،‬وينش ُ‬
‫ويبدو الهواء نفسه مشحونا ً بالتهديد ‪.‬‬
‫ن التكّهن بحالة الطقس بأي قدرٍ من الدّقة هو‬ ‫إ ّ‬
‫ن يضع خططا ً ‪،‬‬ ‫أمر فريد ‪ ،‬عندئذ يستطيع المرء أ ْ‬
‫ً‬
‫ويعرف متى يتجّنب الشوارع ‪ ،‬ويستعد للتغّيرات‬
‫دما ً ‪ .‬ولكن كل شيء يحدث بسرعة فائقة هنا ‪،‬‬ ‫مق ّ‬ ‫ُ‬
‫النتقالت تحدث بسرعة كبيرة ‪ ،‬وما هو صحيح في‬
‫ت‬
‫لحظة ل يعود كذلك في اللحظة التالية ‪ .‬لقد أهدر ُ‬
‫الكثير من الوقت في البحث عن علمات في الجو ‪،‬‬
‫ن أدّقق في الجو بحثا ً عن إشارات ع ّ‬
‫ما‬ ‫أحاول أ ْ‬
‫سيتلو ومتى ‪ :‬لون الغيوم وبروزها ‪ ،‬وسرعة الرياح‬
‫واتجاهها ‪ ،‬وروائح المنبعثة في ساعة معّينة ‪ ،‬ونسيج‬
‫السماء ليل ً ‪ ،‬وانتشار غروب الشمس ‪ ،‬وكثافة‬
‫الندى عند الفجر ‪ .‬ولكن ل شيء ساعدني في‬
‫ذلك ‪ .‬وربط الشياء بعضها ببعض من أجل إقامة‬
‫صلة بين غيوم بعد الظهيرة ورياح المساء – مثل‬ ‫ِ‬
‫هذه الشياء ل تؤدي إل إلى الجنون ‪ .‬وتدور في‬
‫حساباتك ومن ثم ‪ ،‬في اللحظة التي تقتنع‬ ‫دوامة ِ‬
‫طر ‪ ،‬تستمر الشمس في السطوع طوال‬ ‫بأنها سُتم ِ‬
‫النهار ‪.‬‬
‫ن تستعد لحدوث‬ ‫ن تفعله عندئذٍ هو أ ْ‬‫ما ينبغي أ ْ‬
‫ن الراء تختلف اختلفا ً شديدا ً بأفضل‬ ‫أي شيء ‪ .‬لك ّ‬
‫طريقة بهذا الشأن ‪ .‬فمثل ً ‪ ،‬هناك أقّلية صغيرة‬
‫ن الطقس السيئ يأتي من الفكار السيئة ‪.‬‬ ‫تعتقد أ ّ‬
‫ن‬
‫من أ ّ‬ ‫ن هذا مدخل ً صوفيا ً إلى المسألة ‪ ،‬لنه يتض ّ‬ ‫إ ّ‬
‫الفكار يمكن ترجمتها مباشرةً إلى أحداث في‬
‫العالم الماديّ ‪ .‬وبالنسبة إليها ‪ ،‬عندما تقّلب في‬
‫ذهنك فكرةً قاتمة أو متشائمة ‪ ،‬فإنها ُتطل ِقُ سحابة‬
‫ف من الناس بتقليب‬ ‫في السماء ‪ .‬وإذا قام عدد كا ٍ‬

‫‪32‬‬
‫أفكار كئيبة في وقت واحد ‪ ،‬فسوف يبدأ المطر‬
‫بالهطل ‪ .‬وهذا هو سبب التحولت المذهلة‬
‫دعون ‪ ،‬وسبب‬ ‫والسريعة في حالة الطقس ‪ ،‬كما ي ّ‬
‫ي لمناخنا‬ ‫عجز الجميع عن إعطاء تفسيرٍ علم ّ‬
‫الغريب الطوار ‪ .‬وحّلهم هو المحافظة على‬
‫حالة مرح متواصلة ‪ ،‬مهما كانت الظروف‬
‫من حولنا كئيبة ‪ .‬ل عبوس ‪ ،‬ل تنهدات‬
‫عميقة ‪ ،‬ل دموع ‪ .‬هؤلء الناس معروفون‬
‫باسم المبتسمين ‪ ،‬ول يوجد في المدينة‬
‫كلها فئة أشدّ منها براءة وبساطة ‪ .‬وإذا كان‬
‫في المكان هداية غالبية السكان إلى معتقداتهم ‪،‬‬
‫ن الطقس سوف يبدأ أخيرا ً‬ ‫ن يقتنعوا بأ ّ‬‫فيمكن أ ْ‬
‫سن بالتالي ‪ .‬لذلك‬ ‫ن الحياة سوف تتح ّ‬ ‫بالستقرار وبأ ّ‬
‫فهم دائما ً يهتدون ‪ ،‬وعلى الدوام يبحثون عن موالين‬
‫دد ‪ ،‬ولكن اعتدال السلوك الذي فرضوه على‬ ‫ج ُ‬‫ُ‬
‫مقنعين ضعفاء ‪ .‬إنهم نادرا ً ما‬ ‫أنفسهم يجعلهم ُ‬
‫نجحوا في اكتساب أحد ‪ ،‬وبالتالي لم تتعّرض‬
‫أفكارهم للختبار – لنه من دون عدد كبير من‬
‫المؤمنين لن تتوفر أفكاٌر جيدة كافية لحداث الفرق‬
‫ن هذا الفتقار إلى البرهان ل يزيدهم إل عنادا ً‬ ‫‪ .‬لك ّ‬
‫ك تهّز رأسك ‪ ،‬ونعم ‪ ،‬أوافقك على‬ ‫في إيمانهم ‪ .‬أرا َ‬
‫َّ‬
‫مضللون ‪.‬‬ ‫مثيرون للسخرية و ُ‬ ‫ن هؤلء الناس ُ‬ ‫أ ّ‬
‫ولكن ‪ ،‬على مدى أيام المدينة ‪ ،‬هناك قوة معّينة في‬
‫ل سخفا ً عن غيرها ‪ .‬إ ّ‬
‫ن‬ ‫محاجتهم – ولعلها ل تق ّ‬ ‫ُ‬
‫صحبة‬ ‫ن يكونوا ُ‬ ‫المبتسمين ‪ ،‬كأناس ‪ ،‬يميلون إلى أ ْ‬
‫ن لطفهم وتفاؤلهم هما ترياق مقبول‬ ‫مبِهجة ‪ ،‬ل ّ‬ ‫ُ‬
‫لعلج المرارة الغاضبة التي تجدها في كل مكان آخر‬
‫‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫مى‬ ‫بالمقارنة ‪ ،‬هناك مجموعة أخرى ُتس ّ‬
‫ن الظروف سوف‬ ‫الزاحفون ‪ .‬هؤلء يؤمنون بأ ّ‬
‫مقنع بالمعنى‬ ‫ن ُنبدي – بأسلوب ُ‬ ‫تزداد سوءا ً إلى أ ْ‬
‫ي – مدى شعورنا بالخجل من أسلوب حياتنا‬ ‫الحرف ّ‬
‫في الماضي ‪ .‬وحّلهم هو النبطاح على الرض‬
‫ن‬
‫ورفض العودة من جديد إلى وضع الوقوف إلى أ ْ‬
‫ت كافية ‪.‬‬ ‫ن توبتهم اعت ُب َِر ْ‬ ‫ُتعطى لهم علمة تفيد ُ بأ ّ‬
‫ن تكون عليه تلك الشارة هو موضوع‬ ‫وما ُيفت ََرض أ ْ‬
‫مناقشات نظرية طويلة ‪ .‬ويقول البعض إنها شهٌر‬ ‫ُ‬
‫من المطر ‪ ،‬ويقول البعض الخر إنها شهر من‬
‫الطقس الصافي ‪ ،‬وجماعة أخرى تقول إنها لن‬
‫ف لها المر في قلوبها ‪ .‬وهناك‬ ‫ش َ‬ ‫ن ُيك َ‬ ‫تعرف إلى أ ْ‬
‫فئتان أساسيتان في هذه المجموعة – الكلب‬
‫ن الزحف على اليدي‬ ‫والفاعي ‪ .‬الولى راضية بأ ّ‬
‫ن الثانية ترى‬ ‫ب ُيبدي ندما ً كافيا ً ‪ ،‬في حين أ ّ‬ ‫والُرك َ ْ‬
‫أنه لن ينفع إل الزحف على البطن ‪ .‬وغالبا ً ما ينشب‬
‫ل عنيف بين الفئتين – وكل منهما تتنافس على‬ ‫قتا ٌ‬
‫السيطرة على الخرى – ولكن لم تتمكن أي منهما‬
‫ن الجماعة على‬ ‫ب أْتباع ‪ ،‬والن أعتقد أ ّ‬ ‫من اكتسـا ِ‬
‫حافة الحتضار ‪.‬‬
‫في النهاية ‪ ،‬ليس لدى الناس رأي ثابت حول‬
‫ت الجماعات المتنوعة‬ ‫هذه المسائل ‪ .‬وإذا أحصي ُ‬
‫التي لديها نظرية متماسكة حول الطقس )قارعو‬
‫الطبول ‪ ،‬أتباع نهاية العالم ‪ ،‬والمتحدون الحرار( ‪،‬‬
‫كل أكثر من نقطة في دلو ‪.‬‬ ‫ك في أنها سُتش ّ‬ ‫أش ّ‬
‫ن ما سُتخت ََزل إليه في الغالب هو حظ‬ ‫وأعتقد أ ّ‬
‫ن السماء محكومة بالمصادفة ‪ ،‬بِقوى هي‬ ‫صرف ‪ .‬إ ّ‬ ‫ِ‬
‫ن ل أحد يستطيع‬ ‫من فرط التعقيد والغموض بحيث أ ّ‬
‫ت بالمطر ‪،‬‬ ‫ن يشرحها شرحا ً وافيا ً ‪ .‬وإذا حدث وتبل ّ َ‬ ‫أ ْ‬

‫‪34‬‬
‫ت عاثر الحظ ‪ ،‬وهذا كل ما في المر ‪ .‬وإذا‬ ‫فأن َ‬
‫صلة له‬‫ت جافا ً ‪ ،‬فهذا أفضل ‪ .‬ولكن ل ِ‬‫ث وبقي َ‬
‫حد َ‬
‫كل أي‬‫ن المطر ل ُيش ّ‬ ‫بموقف َ‬
‫ك أو معتقداتك ‪ .‬إ ّ‬
‫ت أو آخر ‪ ،‬يهطل على الجميع ‪،‬‬ ‫فرق ‪ .‬فهو ‪ ،‬في وق ٍ‬
‫وعندما يهطل ‪ُ ،‬يصبح الجميع متساوين – ل أحد‬
‫أفضل من الخر ‪ ،‬ول أسوأ ‪ ،‬الجميع متعادلون‬
‫ومتساوون ‪.‬‬

‫ن لديّ الكثير أفضي به إليك ‪ .‬ثم أبدأ بقول‬ ‫إ ّ‬


‫ك قِّلة ما أفهم ‪ .‬حقائق وأرقام ‪،‬‬ ‫شيء ‪ ،‬وفجأةً أدر ُ‬
‫أعني ‪ ،‬معلومات دقيقة عن حياتنا هنا في المدينة ‪.‬‬
‫ن يفعله ‪ .‬لقد أرسل َْته‬‫هذا ما كان على وليم أ ْ‬
‫الصحيفة إلى هنا ليحصل على التقرير الصحفي ‪،‬‬
‫ن ُيرسل تقريرا ً جديدا ً في كل‬ ‫ظر منه أ ْ‬‫وكان ُينت َ‬
‫أسبوع ‪ .‬مقالت ذات خلفية تاريخية ‪ ،‬واهتمام‬
‫إنساني ‪ .‬لكننا لم نحصل على الكثير ‪ ،‬أليس‬
‫مت ‪ .‬إذا لم‬ ‫كذلك ؟ بضع رسائل قصيرة ومن ثم ص ْ‬
‫ن أتوقع من‬ ‫ينجح وليم ‪ ،‬فل أعلم كيف أستطيع أ ْ‬
‫ن أفعل شيئا ً أفضل ‪ .‬ل أفهم كيف تحافظ‬ ‫نفسي أ ْ‬
‫ت‬
‫المدينة على استمرار حركتها ‪ ،‬وحتى إذا استقصي ُ‬
‫ن ذلك سيستغرقُ مدة طويلة‬ ‫هذه المسائل ‪ ،‬فإ ّ‬
‫بحيث أّنه ريثما أتوصل إلى جلّية المر سيكون‬
‫الوضع كله قد تغّير ‪ .‬أين تنمو الخضروات ‪ ،‬مثل ً ‪،‬‬
‫ن أعطيك‬ ‫وكيف ُتنَقل إلى المدينة ‪ .‬أنا ل أستطيع أ ْ‬
‫ن الناس‬ ‫الجوبة ‪ ،‬ولم أقابل أحدا ً يستطيع ذلك ‪ .‬إ ّ‬
‫يتحدثون عن المناطق الزراعية التي تقع في‬
‫المناطق الخلفية الغربية ‪ ،‬ولكن هذا ل يعني أنها‬
‫ن الناس يتحدثون في كل شيء هنا ‪،‬‬ ‫حقيقية ‪ .‬إ ّ‬
‫خاصة في المور التي ل يعلمون أي شيء عنها ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ن كل شيء يتهاوى ‪ ،‬بل‬ ‫وما ُيذهلني بغرابته ليس أ ّ‬
‫ن تلشي‬ ‫ن الكثير من الشياء تبقى موجودة ‪ .‬إ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫العالم يستغرقُ وقتا ً طويل ً ‪ ،‬أطول بكثير مما تعتقد ‪,‬‬
‫والحياة تستمر ‪ ،‬وكل شخص منا يبقى شاهدا ً على‬
‫مأساته الصغيرة الخاصة ‪ .‬صحيح أنه لم تُعد هناك‬
‫ض آخر فيلم سينمائي‬ ‫ن ع َْر َ‬ ‫مدارس ؛ وصحيح أ ّ‬
‫ن النبيذ‬ ‫ت ؛ وصحيح أ ّ‬ ‫ض ْ‬‫ث قبل خمس سنوات م َ‬ ‫حد َ َ‬‫َ‬
‫ن الثرياء فقط‬ ‫أصبح نادر الوجود الن بحيث أ ّ‬
‫يستطيعون دفع ثمنه ‪ ،‬ولكن هل هذا هو معنى‬
‫الحياة ؟ فليتهاوى كل شيء ‪ ،‬ومن ثم فلنر ماذا‬
‫ن نرى ماذا‬ ‫م قضية قاطبة ‪ :‬أ ْ‬ ‫ل هذه أه ّ‬ ‫يتبّقى ‪ .‬لع ّ‬
‫سيحدث عندما لن يتبّقى أي شيء ‪ ،‬وما إذا كنا‬
‫سـننجو من ذلك كله أم ل ‪.‬‬
‫ن تكون خطيرة ‪ ،‬وغالبا ً ما تكون‬ ‫يمكن للعواقب أ ْ‬
‫ن يوجد جنبا ً‬ ‫م يمكن أ ْ‬ ‫عكس توقعاتك ‪ .‬واليأس التا ّ‬
‫إلى جنب مع أروع الختراعات ؛ ويمتزج عامل‬
‫النتروبي‪ 1‬مع النشوء ‪ .‬ولنه ل يتبّقى إل القليل ‪ ،‬ل‬
‫كر استعمالت لمواد كانت‬ ‫ُيرمى أي شيء ‪ ،‬وُتبت َ َ‬
‫منبوذة في السابق بوصفها حثالة ‪ .‬والمر كله يتعّلق‬
‫وع ذهنك‬ ‫بأسلوب جديد في التفكير ‪ .‬والُندرة تط ّ‬
‫ك راغب في‬ ‫نحو إيجاد حلول جديدة ‪ ،‬وتكتشف أن َ‬
‫ضمر أفكارٍ ما كانت لتخطر في بالك في السابق ‪.‬‬
‫خذ مثل ً موضوع النفاية النسانية ‪ ،‬النفاية النسانية‬
‫الواقعية ‪ .‬ولم تُعد تجري هنا أي أعمال سباكة ‪.‬‬
‫ت‪،‬‬ ‫ت ورشح ْ‬ ‫ت ‪ ،‬والمراحيض تشّقق ْ‬ ‫فالمواسير تآكل ْ‬
‫معظمه ‪ .‬وبدل جعل‬ ‫ب في ُ‬ ‫ونظام الصرف تخّر َ‬
‫الناس يصونون أنفسهم ويتخّلصون من قذارتهم‬
‫وشة – مما قد يؤدي إلى العماء‬ ‫مش ّ‬‫بطريقة ُ‬
‫م دقيق ُيحَرس بموجبه كل حي‬ ‫جد َ نظا ٌ‬ ‫والمرض – أو ِ‬
‫‪ - 1‬النتروبي ‪ :‬عامل رياضي يعتبر مقياسًا للطاقة غير الُمستفادة في نظام دينامي حراري ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ق من جامعي القذار ليل ً ‪ ،‬يجوب أفراده‬ ‫بفري ٍ‬
‫الشوارع ثلث مرات في اليوم ‪ ،‬يجّرون ويدفعون‬
‫مشّقق ‪ ،‬ويقرعون‬ ‫آلتهم الصدئة على الرصيف ال ُ‬
‫أجراسهم لكي يخرج سكان الحي وُيفرغون دلئهم‬
‫في الحاوية ‪ .‬وتفوح الروائح الكريهة قوية ‪ .‬وعندما‬
‫أ ُقِّر هذا النظام للمرة الولى الشخاص الوحيدون‬
‫الذين أبدوا رغبة في أداء العمل كانوا السجناء –‬
‫م عليهم بسجن‬ ‫ن ُيحك َ َ‬ ‫مريبا ً بين أ ْ‬‫مِنحوا خيارا ً ُ‬
‫الذين ُ‬
‫مخّففا ً إذا قِبلوا ‪ .‬لك ّ‬
‫ن‬ ‫حكما ً ُ‬ ‫طويل المد إذا رفضوا و ُ‬
‫الوضع تغي َّر منذ ذلك الحين ‪ ،‬واّتخذ جامعو القذارة‬
‫مساٍو‬ ‫ُ‬
‫الن وضع موظفين رسميين وأعطوا مأوى ُ‬
‫ن هذا يبدو‬‫لما ُيعطى لرجال الشرطة ‪ .‬وأعتقد أ ّ‬
‫سب من هذا العمل ‪،‬‬ ‫مكت َ َ‬ ‫أمرا ً جيدا ً ‪ .‬فلول المتياز ال ُ‬
‫ما الذي يدعو أي شخص إلى الرغبة فيه ؟ إنه فقط‬
‫ن تبلغه‬‫ُيبّين المدى الذي يمكن لفعالّية الحكومة أ ْ‬
‫ف معّينة ‪ .‬جثث موتى وغائط – عندما‬ ‫في ظرو ٍ‬
‫يتعّلق المر بإزالة المخاطر التي ُتحدِقُ بالصحة ‪،‬‬
‫ن مدراءنا هم رومان حتما ً في تنظيمهم ‪ ،‬نموذج‬ ‫فإ ّ‬
‫للِفكر الصافي والفعالية ‪.‬‬
‫ن المر ل ينتهي عند هذا الحد ‪ .‬فحين ينتهي‬ ‫لك ّ‬
‫جامعو القذارة من عملهم ل يكونون قد تخّلصوا منه‬
‫هكذا ببساطة ‪ .‬فالغائط والقمامة أصبحا ثروة‬
‫هامة ‪ ،‬فمع انخفاض مخزون الفحم والزيت إلى‬
‫مستويات دنيا بدرجة خطيرة ‪ ،‬أصبحا الشيئين‬
‫اللذين ُيزّوداننا بالكثير من الطاقة التي ل نزال‬
‫ن كل منطقة سكنية لها‬ ‫قادرين على إنتاجها ‪ .‬إ ّ‬
‫مصنعها الخاص لنتاج الطاقة ‪ ،‬وهذه ُتدار بأكملها‬
‫بقوة القمامة ‪ .‬أما الوقود فهو من أجل إدارة‬
‫السيارات ‪ ،‬وتدفئة المنازل – وهذا كله مصدره غاز‬

‫‪37‬‬
‫ن هذا‬ ‫كأ ّ‬‫الميثان الذي ُتنتجه تلك المصانع ‪ .‬إنني ُأدر ُ‬
‫مضحكا ً ‪ ،‬ولكن ل أحد ُيلقي نكات حول‬ ‫ك ُ‬ ‫قد يبدو ل َ‬
‫هد‬‫ن ُيشا َ‬‫م ْ‬‫دية ‪ ،‬وكل ُ‬ ‫ن الغائط تجارة ج ّ‬ ‫هذا هنا ‪ .‬إ ّ‬
‫وهو يرمي به في الشوارع ُيقبض عليه ‪ .‬وإذا‬
‫كم عليك تلقائيا ً بعقوبة‬ ‫ت جريمة أخرى ُيح َ‬ ‫ارتكب َ‬
‫ن نظاما ً كهذا يعمل على القضاء على‬ ‫الموت ‪ .‬إ ّ‬
‫ت العمل المطلوب منك ‪ ،‬سرعان ما‬ ‫عبثك ‪ .‬وإذا أّدي َ‬
‫تتوقف عن التفكير فيه ‪.‬‬
‫ت‬‫أهم شيء هو البقاء على قيد الحياة ‪ .‬إذا نوي َ‬
‫ن تجد طريقة لكسب‬ ‫ن تبقى حيا ً هنا ‪ ،‬فعليك أ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫المال ‪ ،‬ومع ذلك فلم يبقَ هناك إل وظائف قليلة‬
‫بالمعنى القديم للكلمة ‪ .‬ومن غير إقامة علقات‬
‫ن تحصل حتى على أدنى‬ ‫عامة ‪ ،‬ل تستطيع أ ْ‬
‫المناصب الحكومية )كاتب ‪ ،‬أو حاجب ‪ ،‬أو عامل في‬
‫ح‬
‫مركز التحويل ‪ ،‬وما إلى ذلك( ‪ .‬والشيء نفسه يص ّ‬
‫على العمال المتنوعة الشرعية وغير الشرعية التي‬
‫تجري في أرجاء المدينة )عيادات القتل الرحيم ‪،‬‬
‫ملك‬ ‫وعمليات الطعام المرتد ّ ‪ ،‬وأصحاب ال ُ‬
‫الغامضين( ‪ .‬وإذا لم تكن تعرف أحدهم ‪ ،‬فل فائدة‬
‫من طلب العمل من أي من أولئك الناس ‪ .‬لذلك ‪،‬‬
‫بالنسبة إلى الذين في القاع ‪ ،‬تنقيب القمامة هو‬
‫ل لهم ‪،‬‬ ‫ن ل عم َ‬ ‫م ْ‬
‫ل َ‬‫الحل الكثر شيوعا ً ‪ .‬إنه عم ُ‬
‫ن عشرة إلى عشرين في المائة من‬ ‫وتخميني هو أ ّ‬
‫ت به لفترة‬ ‫السكان منخرطون فيه ‪ .‬أنا نفسي قم ُ‬
‫وجيزة من الزمن ‪ ،‬والحقائق بسيطة جدا ً ‪ :‬ما أ ْ‬
‫ن‬
‫ن تتوقف ‪ .‬إنه يستهلك‬ ‫تبدأ ‪ ،‬يكاد يستحيل عليك أ ْ‬
‫الكثير منك ‪ ،‬ول يبقَ لديك الوقت للتفكير في فعل‬
‫أي شيء آخر ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫كل المنّقبونون يندرجون في واحدة من فئتين‬
‫أساسيتين ‪ :‬جامعو القمامة وصائدو الغراض ‪.‬‬
‫المجموعة الولى أكبر بكثير من الثانية ‪ ،‬وإذا ما‬
‫ك به بقوة طوال‬ ‫س ُ‬‫ل المرء باجتهاد ‪ ،‬فإنه يتم ّ‬ ‫م َ‬‫ع ِ‬
‫اثني عشرة أو أربع عشرة ساعة في اليوم ‪ ،‬بل‬
‫هناك فرصة في كسب لقمة العيش منه ‪ .‬وطوال‬
‫سنين طويلة لم يكن هناك نظام قمامة محلي ‪.‬‬
‫ت المدينة على أيدي سماسرة‬ ‫سم ْ‬ ‫وبدل ً عنه قُ ّ‬
‫ن واحد على كل منطقة سكنية‬ ‫قمامة محليين – وعُي ّ َ‬
‫– اشتروا الحقوق من حكومة المدينة لجمع القمامة‬
‫في مناطقهم ‪ .‬ولكي يحصل أحدهم على عمل جمع‬
‫ن يحصل على تصريح من‬ ‫القمامة كان عليه أول ً أ ْ‬
‫أحد السماسرة – ويجب دفع مبلغ شهري لذلك ‪،‬‬
‫وأحيانا ً قد يصل حتى خمسين في المائة مما يكسبه‬
‫‪ .‬والعمل بدون الحصول على تصريح مسألة‬
‫مغرية ‪ ،‬لكنها أيضا ً خطرة إلى أبعد مدى ‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫مه من المفتشين يجوبون‬ ‫لكل سمسار طاقَ َ‬
‫ن يجمع القمامة ‪ .‬فإذا‬ ‫م ْ‬‫الشوارع ‪ ،‬وُيحققون مع كل َ‬
‫ق‬
‫ن ُيقدم الوراق اللزمة ‪ ،‬يح ّ‬ ‫لم يستطع أ ْ‬
‫ن يدفع‬ ‫ن ُيغّرموه ‪ ،‬فإذا لم يستطع أ ْ‬ ‫للمفتشين أ ْ‬
‫الغرامة ‪ُ ،‬يقَبض عليه ‪ .‬وهذا يعني الترحيل إلى أحد‬
‫معسكرات العمل في غرب المدينة – ويمضي‬
‫السنوات السبع التالية في السجن ‪ .‬ويقول البعض‬
‫ن الحياة في المعسكرات أفضل منها في المدينة ‪،‬‬ ‫إ ّ‬
‫ن هذا مجّرد تخمين ‪ .‬وقد تجاوز عدد ٌ وافٌر‬ ‫لك ّ‬
‫ن ل أحد‬ ‫ض عليهم ‪ ،‬ولك ْ‬ ‫ن ُيقب َ‬ ‫مدوا أ ْ‬ ‫حدودهم وتع ّ‬
‫رآهم بعد ذلك ‪.‬‬
‫ت حسب الصول كجامع‬ ‫جل َ‬‫س ّ‬‫ك ُ‬ ‫على فرض أن َ‬
‫ك تكسب‬ ‫قمامة وكانت أوراقك كلها نظامّية ‪ ،‬فإن َ‬

‫‪39‬‬
‫ك بقدر ما تجمع من قمامة وتأخذها إلى أقرب‬ ‫نقود َ‬
‫مصنع للطاقة ‪ .‬وهناك يدفعون مبلغا ً كبيرا ً جدا ً‬
‫مقابل كل رطل – وهي كمية ضئيلة – ومن ثم‬
‫معالجة ‪.‬‬ ‫توضع القمامة في إحدى حاويات ال ُ‬
‫وق‬ ‫ضلة لنقل القمامة هي عربة التس ّ‬ ‫مف ّ‬
‫والوسيلة ال ُ‬
‫ت‬‫– التي تشبه تلك التي لدينا في الوطن ‪ .‬وقد أثبت ْ‬
‫سلل المعدنية القائمة على دواليب أنها‬ ‫تلك ال ِ‬
‫وسيلة متينة ‪ ،‬ول شك في أّنها تعمل بفعالّية أكبر‬
‫من أي شيء آخر ‪ .‬ووسيلة النقل الكبر حجما ً تكون‬
‫هقة في جّرها بعد ملئها حتى آخرها ‪ ،‬والصغر‬ ‫مر ِ‬ ‫ُ‬
‫حجما ً تتطّلب عددا ً كبيرا ً من المشاوير إلى‬
‫كتّيب حول هذا الموضوع‬ ‫شَر ُ‬ ‫المستودع ‪) .‬بل لقد ن ُ ِ‬
‫ت دّقة هذه الفتراضات( ‪.‬‬ ‫قبل بضع سنوات ‪ ،‬أثب َ‬
‫ن تلك العربات مطلوبة جدا ً ‪،‬‬ ‫ونتيجة لذلك ‪ ،‬فإ ّ‬
‫كن‬‫ن يتم ّ‬ ‫والهدف الول لي جامع قمامة جديد هو أ ْ‬
‫من شراء واحدة ‪ .‬وهذا قد يستغرقُ شهورا ً ‪ ،‬بل‬
‫ن تحصل على عربة ‪،‬‬ ‫وسنين أيضا ً – ولكن إلى أ ْ‬
‫معادلة قاتلة‬ ‫ن تبدأ العمل ‪ .‬وثمة ُ‬ ‫يستحيل عليك أ ْ‬
‫ن دخل العمل قليل‬ ‫تكمن وراء هذا كله ‪ .‬فبما أ ّ‬
‫ت‪،‬‬ ‫دخر أي شيء – وإذا فعل َ‬ ‫جدا ً ‪ ،‬فمن النادر أ ْ‬
‫نت ّ‬
‫ك تحرم نفسك من شيء‬ ‫ن ذلك عادة ً يعني أن َ‬ ‫فإ ّ‬
‫ي ‪ :‬كالطعام ‪ ،‬مثل ً ‪ ،‬الذي بدونه لن تحصل‬ ‫أساس ّ‬
‫على القوة اللزمة لداء العمل الضروري لكسب‬
‫ت ترى‬ ‫المال من أجل شراء العربة ‪ .‬ها أن َ‬
‫ت ضعفا ً ‪ ،‬؛‬ ‫ت بجد ّ ‪ ،‬ازدد َ‬ ‫المشكلة ‪ .‬وكلما عمل َ‬
‫زفا ً ‪ .‬ولكن‬ ‫مستن ِ‬ ‫ح العمل ُ‬ ‫ت ضعفا ً ‪ ،‬أصب َ‬ ‫وكلما ازدد َ‬
‫ت في‬ ‫ك حتى إذا نجح َ‬ ‫هذه فقط البداية ‪ ،‬ذلك أن َ‬
‫ن تحرص على صيانتها‬ ‫كأ ْ‬ ‫الحصول على عربة ‪ ،‬فعلي َ‬
‫مرةً للدوات ‪ ،‬وينبغي السهر على‬ ‫مد ّ‬ ‫ن الشوارع ُ‬ ‫‪.‬إ ّ‬

‫‪40‬‬
‫الدواليب بصورة خاصة باستمرار ‪ .‬ولكن حتى إذا‬
‫ت في التغّلب على هذه المسائل ‪ ،‬فهناك‬ ‫نجح َ‬
‫ي بأل تدع العربة تغيب عن ناظريك ‪.‬‬ ‫م إضاف ّ‬ ‫التزا ٌ‬
‫ن اللصوص‬ ‫ت ثمينة جدا ً ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ن العربات أضح ْ‬ ‫وبما أ ّ‬
‫يرغبون في سرقتها قبل غيرها – وليست هناك‬
‫ن غالبية‬ ‫كارثة أفدح من فقدان عربتك ‪ .‬ولذلك فإ ّ‬
‫الكّناسين يلبسون ما يشبه الحبل ُيعَرف باسم "‬
‫الحبل السّري " – أي حبل ‪ ،‬أو رسن كلب ‪ ،‬أو‬
‫سلسلة ‪ ،‬تلّفها حول جذعك بالمعنى الحرفي للكلمة‬
‫صلها بالعربة ‪ .‬وهذا يجعل السير عمل ً‬ ‫ومن ثم ت ِ‬
‫هقا ً ‪ ،‬لكّنه يستحق العناء ‪ .‬وبسبب الضجيج الذي‬ ‫مر ِ‬
‫ُ‬
‫ُتثيره تلك السلسل أثناء سير العربة تتخّبط على‬
‫طول الشارع ‪ ،‬غالبا ً ما ُيشار إلى الكّناسين بلقب "‬
‫الموسيقيون " ‪.‬‬
‫ن يقوم بإجراءات التسجيل‬ ‫على صائد الغراض أ ْ‬
‫نفسها التي يقوم بها جامع القمامة ويخضع لعمليات‬
‫ن عمله هو من نوع‬ ‫التفتيش العشوائية نفسها ‪ ،‬لك ّ‬
‫آخر ‪ .‬جامع القمامة يبحث عن النفايات ؛ أما صائد‬
‫مسترّدة ‪ .‬إنه يبحث عن‬ ‫الغراض فيبحث عن أشياء ُ‬
‫بضاعة ومواد معّينة يمكن استعمالها من جديد ‪،‬‬
‫ن يفعل ما يشاء بما‬ ‫وعلى الرغم من أنه حر في أ ْ‬
‫يعثر عليه ‪ ،‬إل أنه في العموم يبيعه لحد وكلء‬
‫النعاش الموّزعون في أرجاء المدينة – مقاولين‬
‫خاصين ُيحولون سقط المتاع إلى بضاعة جديدة‬
‫التي ُتباع في نهاية المطاف في السوق المفتوحة ‪.‬‬
‫ل متعدد الجوانب – فهم‬ ‫والمقاولون يقومون بعم ٍ‬
‫من ناحية يبيعون الخردة ‪ ،‬ومن ناحية أخرى‬
‫مصّنعون ‪ ،‬وأيضا ً أصحاب دكاكين – ومع اندثار‬ ‫ُ‬
‫أنماط أخرى من النتاج في المدينة ‪ ،‬أصبحوا من‬

‫‪41‬‬
‫أثرى الثرياء ‪ ،‬وأصحاب نفوذ ‪ ،‬ل ُينافسهم في ذلك‬
‫إل سماسرة القمامة أنفسهم ‪ .‬لذلك ‪ ،‬فصائد‬
‫ش حياةً مقبولة من‬ ‫ن يعي َ‬ ‫الغراض الجيد يمكنه أ ْ‬
‫ن‬‫ن يكون سريعا ً ‪ ،‬وبارعا ً ‪ ،‬وأ ْ‬ ‫عمله ‪ .‬ولكن يجب أ ْ‬
‫يعلم أين يبحث ‪ .‬الشبان يبذلون جهدا ً كبيرا ً في ذلك‬
‫‪ ،‬ونادرا ً ما نرى صائد أغراض يتجاوز من العمر‬
‫العشرين أو الخامسة والعشرين ‪ .‬والذين ل‬
‫يحصلون على العلمة اللزمة سرعان ما يتوجب‬
‫ل آخر ‪ ،‬إذ ل شيء يضمن‬ ‫ن يبحثوا عن عم ٍ‬ ‫عليهم أ ْ‬
‫ن تحصل على أي شيء مقابل ما تبذله من جهود ‪.‬‬ ‫أ ْ‬
‫محافظون أكثر ‪،‬‬ ‫وجامعو القمامة هم أكبر سنا ً و ُ‬
‫راضون بالكد ّ المتواصل في أعمالهم لنهم يعلمون‬
‫ل إذا عملوا‬ ‫أنه سيزودهم بأسباب العيش – على الق ّ‬
‫كد حقا ً ‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫ن‬ ‫بأقصى جهودهم ‪ .‬ولكن ل شيء مؤ ّ‬
‫ت رهيبة على كل مستويات‬ ‫المنافسة أصبح ْ‬
‫دد‬ ‫ت الشياء في المدينة ‪ ،‬تر ّ‬ ‫الكنس ‪ .‬وكلما ند َُر ْ‬
‫ك في‬ ‫الناس أكثر في رمي أي شيء ‪ .‬في حين أن َ‬
‫ت لتترّدد في رمي قشور البرتقال إلى‬ ‫السابق ما كن َ‬
‫حق‬ ‫الشارع ‪ ،‬أما الن حتى قشور البرتقال ُتس َ‬
‫لتصبح عصيدة يأكلها كثير من الناس ‪ .‬قميص‬
‫ل ‪ ،‬زوج من السراويل الداخلية الممزقة ‪،‬‬ ‫ي با ٍ‬
‫رياض ّ‬
‫ت الن ُتحَفظ‬ ‫وحافة قبعة – كل هذه الشياء أصبح ْ‬
‫لكي ترّقع معا ً وُيصن َعَ منها ملبس جديدة ‪ .‬وترى‬
‫أناسا ً يرتدون ملبس غاية في الغرابة وتناُفر اللوان‬
‫ب في‬ ‫مرّقع ‪ ،‬تعلم أنه ربما تسب ّ َ‬ ‫‪ ،‬وكلما مّر شخص ُ‬
‫كساد عمل صائد أغراض آخر ‪.‬‬
‫ومع ذلك ‪ ،‬هذا ما عملت فيه – صيد الغراض ‪.‬‬
‫ف بحيث أباشره قبل‬ ‫سن بقدرٍ كا ٍ‬ ‫ح َ‬‫ظ َ‬‫ت ذات ح ٍ‬ ‫وكن ُ‬
‫ت تصريحا ً‬ ‫ن اشتري ُ‬ ‫ن تنفذ نقودي ‪ .‬وحتى بعد أ ْ‬ ‫أ ْ‬

‫‪42‬‬
‫)بسبعة عشر غلوتًا( ‪ ،‬والعربة )بستة وستين‬
‫غلوتًا( ‪ ،‬ورسنا ً وحذاًء جديدا ً )بخمسة غلوتا ً وبإحدى‬
‫ي غلوت ‪.‬‬ ‫ي معي أكثر من مائت ّ‬ ‫وسبعين غلوتًا( ‪ ،‬بق َ‬
‫ت لي هامشا ً لرتكاب‬ ‫كانت تلك ثروة ‪ ،‬لنها أتاح ْ‬
‫ت إلى كل مساعدة‬ ‫الخطأ ‪ ،‬وعند هذه النقطة احتج ُ‬
‫أستطيع الحصول عليها ‪ .‬وعاجل ً أو آجل ً سوف تغرق‬
‫أو تعوم – أما في الوقت الحاضر كان لديّ ما‬
‫سك به ‪ :‬قطعة من الخشب العائم ‪ ،‬لوح من‬ ‫أتم ّ‬
‫حطام ليحمل ثقلي ‪.‬‬
‫في البدء ‪ ،‬لم يجرِ المر على ما ُيرام ‪ .‬كانت‬
‫ت دائما ً أشعر‬ ‫ي حينئذٍ ‪ ،‬وكن ُ‬ ‫المدينة جديدة عل ّ‬
‫ت كلها ‪،‬‬ ‫ت الوقت على غزوات أخفَق ْ‬ ‫دد ُ‬‫بالضياع ‪ .‬وب ّ‬
‫ت في‬ ‫جد َ ْ‬
‫ل سيئة في شوارع قاحلة ‪ ،‬وُ ِ‬ ‫على كت ٍ‬
‫المكان الخطأ في الوقت الخطأ ‪ .‬وإذا تصادف‬
‫ت بها‬‫ت على شيء ‪ ،‬فذلك دائما ً لني تعّثر ُ‬ ‫وعثر ُ‬
‫مصادفة هي مدخلي الوحيد ‪،‬‬ ‫مصادفة ‪ .‬كانت ال ُ‬ ‫ُ‬
‫ي ومن ثم النحناء‬ ‫مبّرر بعين ّ‬
‫عملية رؤية شيء بل أي ُ‬
‫للتقاطه ‪ .‬لم يكن لديّ أسلوب معّين كما لدى‬
‫مسبقا ً ‪ ،‬ول‬ ‫الخرين ‪ ،‬ول طريقة لمعرفة ِوجهتي ُ‬
‫س بما سيحدث وأين ومتى ‪ .‬واستغرقَ مني سنين‬ ‫ح ّ‬
‫طويلة من العيش في المدينة لصل إلى هذه‬
‫مبتدئة ‪ ،‬وافدة جديدة جاهلة‬ ‫ت مجّرد ُ‬ ‫النقطة ‪ ،‬وكن ُ‬
‫تكاد ل تعرف الطريق بين منطقة سكنية وأخرى ‪.‬‬
‫ة تماما ً ‪ .‬كانت لد ّ‬
‫ي‬ ‫ومع ذلك ‪ ،‬لم أكن فاشل ً‬
‫ساقاي ‪ ،‬قبل أي شيء ‪ ،‬وقدٌر من حماسة الشباب‬
‫لدفعي نحو المام ‪ ،‬حتى عندما كانت التوّقعات أق ّ‬
‫ل‬
‫ت أعدو باندفاٍع يقطع النفاس في‬ ‫جعة ‪ .‬كن ُ‬ ‫مش ّ‬ ‫من ُ‬
‫ة خطرة ومتاريس المكوس ‪،‬‬ ‫كل مكان ‪ ،‬أخترقُ أزق ً‬
‫أنحدر فجأةً من شارٍع إلى آخر ‪ ،‬ول أفشل في‬

‫‪43‬‬
‫المل في العثور على ُلقية استثنائية عند المنعطف‬
‫ت دائما ً أنظر‬‫ن من الغريب أنني كن ُ‬ ‫التالي ‪ .‬أعتقد أ ّ‬
‫ش عن أشياء‬ ‫إلى السفل إلى الرض ‪ ،‬ودائما ً أفت ُ‬
‫ن‬
‫مكسورة ومنبوذة ‪ .‬وبعد فترة من الوقت ‪ ،‬لبد أ ْ‬
‫يؤّثر ذلك على العقل ‪ .‬إذ ل شيء يبقى على حاله ‪.‬‬
‫هناك قطع من أشياء مختلفة ‪ ،‬ولكنها متنافرة ‪ .‬ومع‬
‫ذلك ‪ ،‬وبطريقة شديدة الغرابة ‪ ،‬وعلى حواف كل‬
‫م من جديد ‪ .‬وأخيرا ً‬ ‫ذلك العماء ‪ ،‬بدأ كل شيء يلتح ُ‬
‫تصبح تفاحة مسحوقة وبرتقالة مسحوقة شيئا ً واحدا ً‬
‫‪ ،‬أليس كذلك ؟ ل يمكن التمييز بين الثوب الجيد‬
‫والثوب الرديء إذا كان كلهما ممزقا ً ‪ ،‬أليس‬
‫ل الشياء‬ ‫كذلك ؟ وعند نقطة معّينة ‪ ،‬تنح ّ‬
‫وتصبح روثا ً ‪ ،‬أو غبارا ً ‪ ،‬أو فضلت ‪ ،‬وُيصبح‬
‫لديك شيء جديد ‪ ،‬ذرة أو مادة متكّتلة ل‬
‫شكل لها ‪ .‬إنها ركام ‪ ،‬هباء ‪ ،‬قطعة من‬
‫العالم الذي ل مكان له ‪ :‬ل شيء ‪ .‬وعلى‬
‫ن‬
‫ن يسترد الشياء قبل أ ْ‬ ‫صائد الغراض أ ْ‬
‫تصل إلى هذه الحالة المزرية ‪ .‬ول يمكن َ‬
‫ك‬
‫ن ذلك‬ ‫ن تتوقع العثور على شيء كامل – ل ّ‬ ‫أ ْ‬
‫مصادفة ‪ ،‬خطأ ً يرتكبه الشخص الذي‬ ‫يحدث ُ‬
‫ن ُتبدد وقتك‬ ‫أضاعه – ول تستطيع أيضا ً أ ْ‬
‫مستهَلك تماما ً ‪ .‬بل‬ ‫في البحث عن شيء ُ‬
‫تبقى بين الثنين ‪ ،‬تبحث عن أشياء ل زالت تحتفظ‬
‫ت عديمة الفائدة ‪.‬‬ ‫ن أضح ْ‬ ‫بشكلها الصلي – حتى وإ ْ‬
‫ت‬ ‫ص آخر أنه يستحق الرمي ‪ ،‬عليك أن َ‬ ‫وما وجد شخ ٌ‬
‫حصه ‪ُ ،‬تدقق النظر فيه ‪ ،‬وتعيده إلى الحياة ‪.‬‬ ‫ن تتف ّ‬‫أ ْ‬
‫قطعة خيط ‪ ،‬سدادة زجاجة ‪ ،‬لوح خشب سليم من‬
‫طم – ل ينبغي إهمال أي من هذه‬ ‫مح ّ‬ ‫صندوق ُ‬
‫كك ‪ ،‬ولكن ليس كل جزء‬ ‫مف ّ‬‫ن كل شيء ُ‬ ‫الشياء ‪ .‬إ ّ‬

‫‪44‬‬
‫ل ليس في وقت واحد ‪ .‬والعمل هو‬ ‫منه ‪ ،‬على الق ّ‬
‫كز على الجزر السليمة الصغيرة تلك ‪،‬‬ ‫ن تر ّ‬ ‫أ ْ‬
‫وتتخّيلها مجتمعة مع جزر أخرى ‪ ،‬ثم مع أخرى ‪،‬‬
‫ن تنقذ ما يمكن‬ ‫كل هكذا أرخبيل ً جديدا ً ‪ .‬ويجب أ ْ‬ ‫لتش ّ‬
‫ن‬‫ن ُتهمل الباقي ‪ .‬والخدعة هي أ ْ‬ ‫إنقاذه وتتعّلم أ ْ‬
‫تفعل ذلك بأسرع ما في وسعك ‪.‬‬
‫ت غنائمي كافية تقريبا ً ‪ .‬من‬ ‫وشيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬أصبح ْ‬
‫سقط المتاع طبعا ً ‪ ،‬لكنها أيضا ً أشياء غير متوّقعة‬
‫مخّرب ذو عدسة‬ ‫على الطلق ‪ :‬تلسكوب شبه ُ‬
‫مشروخة ؛ قناع فرانكنشتاين من المطاط ؛ دولب‬
‫دراجة هوائية ؛ آلة كاتبة سيريلية‪ 2‬مفقود منها فقط‬
‫خمسة مفاتيح وزر المسافة ؛ وجواز سفر رجل‬
‫اسمه كوين ‪ .‬هذه الغنائم كانت تعويضا ً عن بعض‬
‫سن البلء‬ ‫ُ‬
‫ت أح ِ‬ ‫اليام السيئة ‪ ،‬ومع مرور الوقت بدأ ُ‬
‫ف في وكلء النعاش بحيث أترك جانبا ً بعض‬ ‫بقدر كا ٍ‬
‫ن أفعل ما هو أفضل ‪،‬‬ ‫المال ‪ .‬أعتقد أنه كان يمكن أ ْ‬
‫ت‬‫ولكني رسمت بضعة خطوط داخلي ‪ ،‬حدودا ً رفض ُ‬
‫ن أتجاوزها ‪ .‬كلمس الموتى ‪ ،‬مثل ً ‪ .‬وتجريد الجثث‬ ‫أ ْ‬
‫هو أحد أشد ّ أوجه تنقيب القمامة ربحا ً ‪ ،‬وهناك قليل‬
‫من صائدي الغراض الذين ل يثبون لقتناص الفرصة‬
‫ت أقول لنفسي أني حمقاء ‪ ،‬فتاة صغيرة ثرية‬ ‫‪ .‬وكن ُ‬
‫ن تعيش ‪ ،‬ولكن ل شيء كان‬ ‫موسوسة ل تريد أ ْ‬
‫ُيساعدني ‪ .‬لقد حاولت ‪ .‬بل إني في مرةً أو مرتين‬
‫ت أفعل – ولكن عندما حانت اللحظة ‪ ،‬لم أجد‬ ‫كد ُ‬
‫الشجاعة للتنفيذ ‪ .‬وأذكُر رجل ً عجوزا ً وفتاة‬
‫ي‬
‫ت يد ّ‬ ‫ت القرفصاء بجوارهما ‪ ،‬وترك ُ‬ ‫مراهقة ‪ :‬جلس ُ‬
‫ن‬ ‫ن أقنع نفسي بأ ّ‬ ‫تقتربان من جّثتيهما ‪ ،‬وأنا أحاول أ ْ‬
‫المر غير ذات أهمية ‪ .‬ومن ثم ‪ ،‬ذات يوم في‬
‫ت جثة‬ ‫الصباح الباكر على طريق لمبشيد ‪ ،‬وجد ُ‬
‫‪ - 2‬سيريلية ‪ :‬نسبة إلى ُمخترع أحرفها السلفية القديمة القديس سيريل )‪. ( 869 -827‬‬

‫‪45‬‬
‫صبي صغير في السادسة ‪ .‬لم أتمكن من دفع‬
‫ت بأني أرفع‬ ‫نفسي إلى فعل ذلك ‪ .‬ليس لني شعر ُ‬
‫ن أتخذ قرارا ً أخلقيا ً عميقا ً – ببساطة لم أق َ‬
‫و‬ ‫من أ ْ‬
‫على الوصول إلى ذلك الحد ‪.‬‬
‫ت ملتصقة‬ ‫هناك شيء آخر آلمني وهو أني كن ُ‬
‫منقبين ‪ ،‬ولم‬ ‫ط مع باقي ال ُ‬ ‫بنفسي ‪ .‬لم أكن أختل ُ‬
‫ن المرء‬ ‫أبذل أي جهد لعقد صداقة مع أي منهم ‪ .‬لك ّ‬
‫ة ليحمي نفسه من الصقور‬ ‫يحتاج إلى أنصار ‪ ،‬خاص ً‬
‫– المنّقبين الذين يكسبون عيشهم من سرقة‬
‫منّقبين آخرين ‪ .‬والمفتشون ُيديرون ظهورهم لهذه‬ ‫ُ‬
‫كزون انتباههم على أولئك اللذين‬ ‫القذارة ‪ ،‬وُير ّ‬
‫يكنسون بل تصريح ‪ .‬لذلك بالنسبة إلى المتّقبين‬
‫متاح للجميع ‪ ،‬مع نوبات هجوم‬ ‫الصيلين العمل ُ‬
‫ن أي شيء‬ ‫س بأ ّ‬‫مضاد ‪ ،‬وإحسا ٌ‬ ‫مستمر وهجوم ُ‬
‫ن يحدث لك في أي وقت ‪ .‬وكانت غنائمي‬ ‫ممكن أ ْ‬
‫دل مرة في السبوع ‪ ،‬وتكّرر المر‬ ‫ُتسَرق مني بمع ّ‬
‫دما ً ‪،‬‬‫مق ّ‬‫إلى درجة أني صرت أحصي خسائري ُ‬
‫ل كان في‬ ‫وكأنها كانت جزءا ً عاديا ً من العمل ‪ .‬لع ّ‬
‫ن أتجّنب بعضا ً من تلك‬ ‫استطاعتي مع الصدقاء أ ْ‬
‫الغارات ‪ .‬ولكن على المدى الطويل لم يُعد المر‬
‫ة مثيرة للشمئزاز –‬ ‫يهمني ‪ .‬كان المنّقبون جماع ً‬
‫صقورا ً أو ل صقور على قدم المساواة – وكان ُيثير‬
‫ن أصغي إلى مشاريعهم ‪ ،‬وتباهيهم‬ ‫تقّزز نفسي أ ْ‬
‫بأنفسهم ‪ ،‬وأكاذيبهم ‪ .‬أهم شيء كان أني لم أفقد‬
‫عربتي أبدا ً ‪ .‬هكذا كانت أيامي الولى في المدينة ‪،‬‬
‫ت ل أزال قوية الُبنية بحيث أتمسك بها ‪،‬‬ ‫وكن ُ‬
‫وسريعة بما يكفي لفّر من وجه الخطر كلما‬
‫ت إلى ذلك ‪.‬‬ ‫اضطرر ُ‬

‫‪46‬‬
‫م أني أحيانا ً أشرد عن‬ ‫ملني ‪ .‬أعل ُ‬ ‫ن تتح ّ‬
‫أرجو أ ْ‬
‫الموضوع ‪ ،‬ولكن إذا لم أدّون الشياء كما ظهرت‬
‫لي ‪ ،‬أشعُر أني سأفقدها إلى البد ‪ .‬فعقلي لم يُعد‬
‫ح أشد بطئا ً ‪ ،‬كسول ً‬ ‫كما كان في السابق ‪ .‬أصب َ‬
‫ة أبسط فكرة ُتسّبب لي إرهاقا ً‬ ‫ل انتباها ً ‪ ،‬ومتابع ُ‬ ‫وأق ّ‬
‫شديدا ً ‪ .‬إذن ‪ ،‬هكذا يبدأ المر على الرغم من‬
‫ن الكلمات ل تأتي إل عندما أعتقد أني لن‬ ‫جهودي ‪ .‬إ ّ‬
‫كن من العثور عليها بعد الن ‪ ،‬في اللحظة التي‬ ‫أتم ّ‬
‫ن كل يوم يجلب‬ ‫س من إيجادها مرة أخرى ‪ .‬إ ّ‬ ‫أيأ ُ‬
‫معه الصراع نفسه ‪ ،‬الخواء نفسه ‪ ،‬الرغبة نفسها‬
‫في النسيان وفي عدم النسيان ‪ .‬عندما يبدأ المر ‪،‬‬
‫فإنه ل يبدأ إل هنا ‪ ،‬ل يبدأ إل عند هذا الخط الذي‬
‫يبدأ قلم الرصاص برسمه ‪ .‬وتبدأ القصة وتنتهي ‪،‬‬
‫دم ومن ثم تضيع ‪ ،‬وبين كل كلمة وأخرى كم‬ ‫وتتق ّ‬
‫من فترة صمت ‪ ،‬وكلمات تهرب وتتلشى ‪ ،‬ول تعود‬
‫أبدا ً ‪.‬‬
‫كر أي شيء‬ ‫ن أتذ ّ‬
‫تأ ْ‬ ‫على مدى زمن طويل حاول ُ‬
‫ت في ذلك أكثر بحصر أفكاري في الحاضر ‪،‬‬ ‫‪ .‬ونجح ُ‬
‫ن الذاكرة ‪ ،‬كما تعلم ‪ ،‬هي الف ّ‬
‫خ‬ ‫ت العبوس ‪ .‬إ ّ‬ ‫وتجّنب ُ‬
‫ت‬
‫رص ُ‬ ‫ح نفسي ‪ ،‬ح ِ‬ ‫الكبر ‪ ،‬وبذلت أقصى جهدي لكب َ‬
‫على أل ّ تتسّرب أفكاري إلى اليام الماضية ‪ .‬ولكني‬
‫ت أنزلقُ ‪ ،‬قليل ً كل يوم كما يبدو ‪ ،‬والن‬ ‫مؤخرا ً ب ُ‬
‫ك‪.‬‬ ‫ث خللها بوالديّ ‪ ،‬بوليم ‪ ،‬ب َ‬ ‫هناك أوقات أتشب ّ ُ‬
‫ت فتاة صغيرة جدا ً وجامحة ‪ ،‬أليس كذلك ؟‬ ‫لقد كن ُ‬
‫ل لم يكن في صالحي ‪،‬‬ ‫نموت بسرعة خارقة بشك ٍ‬
‫ن ُيخبرني شيئا ً ل‬ ‫ولم يكن في استطاعة أحد أ ْ‬
‫كر إل في اللم الذي سّببته‬ ‫أعرفه توا ً ‪ .‬الن ل أف ّ‬
‫ت والدتي عندما أخبرتها أني‬ ‫لوالديّ ‪ ،‬وكيف بكي ْ‬
‫راحلة ‪ .‬وكأنما لم يكن يكفيهما فقدانهما وليم ‪ ،‬وها‬

‫‪47‬‬
‫ت‬‫هما الن سيفقدانني أنا أيضا ً ‪ .‬أرجوك – إذا رأي َ‬
‫ن‬‫ل لهما إني آسفة ‪ .‬أنا في حاجة إلى أ ْ‬ ‫والديّ ‪ ،‬قُ ْ‬
‫ن سيفعل هذا نيابة عني ‪ ،‬وليس‬ ‫م ْ‬
‫ن هناك َ‬ ‫أعلم أ ّ‬
‫ن أعتمد ُ عليه غيرك ‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫لديّ َ‬
‫نعم ‪ ،‬هناك أشياء كثيرة أشعر بالخجل منها ‪.‬‬
‫أحيانا ً ل تبدو لي حياتي أكثر من سلسلة من‬
‫الندامات ‪ ،‬والنعطافات الخاطئة ‪ ،‬والخطاء التي ل‬
‫ُتغت ََفر ‪ .‬هذه هي المشكلة عندما تبدأ بالنظر إلى‬
‫ت ‪ ،‬وتشعر‬‫ك ترى نفسك كما كن َ‬ ‫الوراء ‪ .‬إن َ‬
‫ن الوان قد فات الن على العتذار ‪،‬‬ ‫بالرعب ‪ .‬لك ّ‬
‫ك هذا ‪ .‬فات الوان على أي شيء ما عدا‬ ‫أنا أدر ُ‬
‫مواصلة ما أعمل ‪ .‬إذن هذه هي الكلمات ‪ .‬وعاجل ً‬
‫م ما‬ ‫ن أقول كل شيء ‪ ،‬ول يه ّ‬ ‫أو آجل ً سوف أحاول أ ْ‬
‫هي النتيجة ومتى تحل ‪ ،‬سواء أكان الشيء الول‬
‫هو الشيء الثاني أو الشيء الثاني هو الخير ‪ .‬المر‬
‫ت فقط‬ ‫كله كان ُيدّوم في رأسي دفعة واحدة ‪ ،‬وكن ُ‬
‫سك بشيء مدة كافية لقول إنه انتصار ‪ .‬إذا كان‬ ‫أتم ّ‬
‫كلمي ُيربكك ‪ ،‬أنا آسفة ‪ .‬ولكن ل خيار لي ‪ .‬يجب‬
‫ن أتناول المر بأشد ّ ما أستطيع من صرامة ‪.‬‬ ‫أ ْ‬

‫ل هذا‬‫ت تقول ‪ ،‬لم أعثر على وليم أبدا ً ‪ .‬لع ّ‬ ‫تابع ْ‬


‫كان معروفا ً دون قول ‪ .‬لم أعثر عليه أبدا ً ‪ ،‬ولم‬
‫أقابل أحدا ً يعرف مكانه ‪ .‬ودّلني عقلي إلى أنه قد‬
‫ت متيّقنة ‪ .‬ل وجود لدليل يدعم‬ ‫مات ‪ ،‬لكني لس ُ‬
‫ن أحصل على‬ ‫حتى أشد ّ التخمينات جموحا ً ‪ ،‬وإلى أ ْ‬
‫ن متفّتح ‪ .‬بدون‬ ‫ن أحتفظ بذه ٍ‬ ‫ضل أ ْ‬
‫برهان ‪ ،‬أف ّ‬
‫ن‬
‫ن ييأس ‪ .‬إ ّ‬ ‫ن يأمل ول أ ْ‬ ‫معرفة ل يستطيع المرء أ ْ‬
‫ك‪،‬‬ ‫ن يش ّ‬ ‫ن يفعله هو أ ْ‬ ‫أفضل ما يمكن للنسان أ ْ‬
‫وفي ظل الظروف الراهنة الشك هو أعظم نعمة ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ن‬
‫ن لم يكن وليم في المدينة ‪ ،‬يمكن أ ْ‬ ‫حتى وإ ْ‬
‫ن هذا البلد مترامي‬ ‫ن آخر ‪ .‬إ ّ‬ ‫يكون في مكا ٍ‬
‫ن‬
‫الطراف ‪ ،‬كما تعلم ‪ ،‬ول أحد يعلم أين يمكن أ ْ‬
‫يكون قد ذهب ‪ .‬وبعد المنطقة الزراعية إلى الغرب‬
‫ن هناك بضع مئات من الميال من‬ ‫ُيفت ََرض أ ْ‬
‫ن هناك المزيد من‬ ‫الصحراء ‪ .‬ولكن بعدها ُيقال إ ّ‬
‫المدن ‪ ،‬وسلسل الجبال ‪ ،‬والمناجم والمصانع ‪،‬‬
‫ومن المناطق الشاسعة تمتد حتى تصل محيطا ً‬
‫ل في هذا قدٌر من الحقيقة ‪ .‬فإذا كان المر‬ ‫آخر ‪ .‬لع ّ‬
‫ظه في أحد‬ ‫بح ّ‬‫ن يكون وليم قد جّر َ‬ ‫كذلك ‪ ،‬يمكن أ ْ‬
‫تلك الماكن ‪ .‬أنا ل أنسى مدى صعوبة الرحيل عن‬
‫ن‬
‫ن وليم يمكن أ ْ‬ ‫المدينة ‪ ،‬ولكن نحن الثنان نعلم أ ْ‬
‫ل إمكانية للرحيل‬ ‫يفعل هذا ‪ .‬فإذا كان قد توّفر له أق ّ‬
‫‪ ،‬فقد وجد وسيلة لذلك ‪.‬‬
‫أنا لم أخبرك بهذا من قبل ‪ ،‬لكني في وقت ما‬
‫خلل السبوع الخير من تواجدي في الوطن ‪،‬‬
‫ن أوّدعك بثلثة‬ ‫محّرر صحيفة وليم ‪ .‬قبل أ ْ‬ ‫ت ُ‬‫قابل ُ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫ت ِذكر المر لني لم أِرد أ ْ‬ ‫أيام أو أربعة ‪ ،‬وتجّنب ُ‬
‫ندخل في نزاع آخر‪ .‬لقد كانت الحوال سيئة أصل ً ‪،‬‬
‫سد تلك اللحظات الخيرة التي‬ ‫ولم يكن ذلك إل لُيف ِ‬
‫أمضيناها معا ً ‪ .‬ل تغضب مني الن ‪ .‬أتوسل إليك ‪ .‬ل‬
‫مل ‪.‬‬ ‫ن في استطاعتي التح ّ‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫محّرر بوغات – وهو رجل أصلح ‪،‬‬ ‫كان اسم ال ُ‬
‫مالتين عتيق الطراز ‪،‬‬ ‫كبير البطن ‪ ،‬يرتدي بنطال ً بح ّ‬
‫ويضعُ ساعة يد في جيبه ‪ .‬وقد دفعني إلى التفكير‬
‫مجَهد ‪ ،‬يلعقُ رأس قلمه الرصاص قبل‬ ‫دي ‪ُ :‬‬ ‫في ج ّ‬
‫مشّبعا ً‬ ‫مجّرد بدا ُ‬‫ن يكتب به ‪ ،‬ينشُر جوا ً من الخير ال ُ‬ ‫أ ْ‬
‫بالمكر ‪ ،‬بدماثة ُتقن ّعُ حدا ً سري ّا ً من القسوة ‪.‬‬
‫ب الساعة في غرفة الستقبال ‪.‬‬ ‫ت ما ُيقار ُ‬ ‫وانتظر ُ‬

‫‪49‬‬
‫ح مستعدا ً لستقبالي ‪ ،‬فقادني من‬ ‫وأخيرا ً أصب َ‬
‫مرفقي إلى غرفة مكتبه ‪ ،‬وأجلسني على كرسيه ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ت أتكّلم مدة خمس دقائق‬ ‫وأصغى إلى قصتي ‪ .‬وبقي ُ‬
‫ن وليم لم‬ ‫ن ُيقاطعني ‪ .‬قال إ ّ‬ ‫أو عشر دقائق قبل أ ْ‬
‫يبعث أي رسالة منذ تسعة أشهر ‪ .‬نعم ‪ ،‬لقد تفّهم‬
‫ت في المدينة ‪ ،‬ولكن ل دخل‬ ‫طل ْ‬‫ن السيارات تع ّ‬ ‫أ ّ‬
‫مراسل الجيد دائما ً ينجح في‬ ‫لهذا في الموضوع ‪ .‬ال ُ‬
‫مراسليه ‪.‬‬ ‫إرسال مقالته – وكان وليم أفضل ُ‬
‫وانقطاع فترة تسعة أشهر ل يعني إل شيئا ً واحدا ً ‪:‬‬
‫ت‬
‫ط في المشاكل ‪ ،‬وأنه لن يعود ‪ .‬هزز ُ‬ ‫ن وليم توّر َ‬ ‫أ ّ‬
‫ي بفظاظة شديدة ‪ ،‬ولم أجب مباشرة ‪ ،‬وقلت‬ ‫كتف ّ‬
‫من ‪.‬‬ ‫له إنه فقط ُيخ ّ‬
‫قال " ل تفعلي ‪ ،‬أيتها الصغيرة ‪ .‬سوف ُتصابين‬
‫ت إلى هناك "‬ ‫بالجنون إذا ذهب ِ‬
‫ت صغيرة ‪ .‬أنا في التاسعة‬ ‫قلت " أنا لس ُ‬
‫ن أعتني بنفسي أفضل مما‬ ‫عشرة ‪ ،‬وأستطيع أ ْ‬
‫تظن "‬
‫" ل يهمني حتى لو كان عمرك مائة ‪ .‬ل أحد‬
‫يخرج من هناك سالما ً ‪ .‬إنها آخر العالم اللعين "‬
‫ت قد‬ ‫ت متيّقنة من أنه على حق ‪ .‬لكني كن ُ‬ ‫كن ُ‬
‫ت عزمي ‪ ،‬ول شيء كان سُيجبرني على تغييره‬ ‫عقد ُ‬
‫‪ .‬وعندما لحظ بوغارت عنادي بدأ ُيغّير أساليبه ‪.‬‬
‫ت رجل ً آخر إلى هناك‬ ‫قال " انظري ‪ ،‬لقد أرسل ُ‬
‫مل‬ ‫قبل نحو شهر ‪ .‬وسوف تصلني أخباره قريبا ً ‪ .‬ل ِ َ‬
‫ن تحصلي على‬ ‫كأ ْ‬
‫ننتظر حتى ذلك الحين ؟ يمكن ِ‬
‫ن تذهبي "‬ ‫كل الجوبة التي تريدين من دون أ ْ‬
‫ل هذا بأخي ؟ "‬ ‫" ما دخ ُ‬

‫‪50‬‬
‫كل جزءا ً من المقال ‪ ،‬أيضا ً ‪ .‬وإذا‬ ‫ن وليم ُيش ّ‬ ‫"إ ّ‬
‫مراسل بعمله ‪ ،‬فسوف يكتشف ما حصل‬ ‫قام ذلك ال ُ‬
‫له "‬
‫ت على‬ ‫جته ليست متينة ‪ .‬وثب ّ‬ ‫نح ّ‬ ‫ك بوغات أ ّ‬ ‫أدر َ‬
‫ي‬
‫مصممة على اّتقاء أسلوبه البو ّ‬ ‫موقفي ‪ ،‬وأنا ُ‬
‫النيق ‪ ،‬وشيئا ً فشيئا ً بدا أنه استسلم ‪ .‬وأعطاني‬
‫ن أطلبه منه ‪ ،‬ومن‬ ‫مراسل الجديد دون أ ْ‬ ‫اسم ال ُ‬
‫ح درج خزانة الضابير خلف‬ ‫ثم ‪ ،‬وكإيماءة أخيرة ‪ ،‬فت َ‬
‫ج منه صورة فوتوغرافية لشاب ‪.‬‬ ‫طاولة مكتبه وأخر َ‬
‫قال ‪ ،‬وهو يرمي بها إلى طاولة المكتب ‪ " ،‬ربما‬
‫سبا ً "‬
‫ن تأخذي هذه معك ‪ ،‬تح ّ‬ ‫ينبغي أ ْ‬
‫ت عليها نظرة‬ ‫مراسل ‪ .‬ألقي ُ‬ ‫كانت صورة ال ُ‬
‫سريعة ومن ثم دسسُتها في حقيبتي لكي ُألزمه ‪.‬‬
‫وهنا انتهى كلمنا ‪ .‬كان اللقاء فاترا ً ‪ ،‬لم يستسلم‬
‫ن بوغات كان غاضبا ً‬ ‫خلله أيٌ منا للخر ‪ .‬أعتقد أ ّ‬
‫معجبا ً قليل ً ‪.‬‬ ‫وأيضا ً ُ‬
‫كري أني أخبرتك هذا "‬ ‫قال " فقط تذ ّ‬
‫ن ُأعيد وليم ‪ ،‬سأعود‬ ‫قلت " لن أنسى ‪ .‬بعد أ ْ‬
‫ك بحديثنا هذا "‬ ‫كر َ‬‫إلى هنا وُأذ ّ‬
‫دل رأيه ‪.‬‬ ‫ف شيئا ً ‪ ،‬ثم بدا أنه قد ب ّ‬ ‫كاد بوغات ُيضي َ‬
‫ي يديه برفق على سطح‬ ‫أطلقَ تنهيدا ً ‪ ،‬وضرب كف ّ‬
‫ض واقفا ً عن كرسيه ‪ .‬قال " ل ُتسيئي‬ ‫الطاولة ‪ ،‬ونه َ‬
‫ك ‪ .‬كل ما في المر أني أعتقد‬ ‫ت ضد ِ‬ ‫فهمي ‪ .‬أنا لس ُ‬
‫ك ترتكبين خطأ ً ‪ .‬هناك فرق ‪ ،‬كما تعلمين "‬ ‫أن ِ‬
‫" ربما ‪ .‬ولكن ل يزال من الخطأ عدم فعل شيء‬
‫ن الناس في حاجة إلى الوقت ‪ ،‬وينبغي أل تقفز‬ ‫‪.‬إ ّ‬
‫ما تتكّلم "‬ ‫ن تعرف ع ّ‬ ‫إلى الستنتاج قبل أ ْ‬
‫قال بوغات " هذه هي المشكلة ‪ .‬أنا أعرف‬
‫ما أتكّلم "‬ ‫بالضبط ع ّ‬

‫‪51‬‬
‫عند هذه النقطة أعتقد أننا تصافحنا ‪ ،‬أو لعلنا‬
‫ل منا إلى الخر عبر طاولة‬ ‫اكتفينا بتباُدل التحديق ك ٌ‬
‫المكتب ‪ .‬ثم مشى معي خلل غرفة الطباعة ومنها‬
‫إلى المصاعد في الرواق ‪ .‬انتظرنا هناك يرين علينا‬
‫ن نتبادل النظرات ‪ .‬أخذ بوغات‬ ‫الصمت ‪ ،‬دون حتى أ ْ‬
‫يهتز إلى المام والخلف على عقبيه ‪ ،‬وهو ُيدندن بل‬
‫نغم من داخل فمه ‪ .‬كان جليا ً أنه قد بدأ توا ً في‬
‫ح الباب وخطوت إلى داخل‬ ‫شيء آخر ‪ .‬وعندما فُت ِ َ‬
‫المصعد ‪ ،‬قال لي بضجر ‪ " ،‬عيشي حياة سعيدة ‪،‬‬
‫ن ُتتاح لي فرصة الرد ‪،‬‬ ‫أيتها الصغيرة " ‪ .‬وقبل أ ْ‬
‫ت أهبط إلى أسفل ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أغل ِقَ الباب ‪ ،‬وكن ُ‬

‫ت تلك الصورة الفوتوغرافّية‬ ‫في النهاية ‪ ،‬شك ّل َ ْ‬


‫ل الفرق ‪ .‬ولم أكن حتى ُأخطط لخذها معي ‪،‬‬ ‫ك ّ‬
‫لكني وضعتها مع أمتعتي في الدقيقة الخيرة ‪ ،‬بعد‬
‫ن وليم قد اختفى‬ ‫تفكير متأخر ‪ .‬حينئذ ٍ لم أكن أعلم أ ّ‬
‫ن أجد بديله في مكتب‬ ‫تأ ْ‬‫ت قد توّقع ُ‬ ‫‪ ،‬طبعا ً ‪ .‬كن ُ‬
‫الصحيفة وأبدأ بحثي هناك ‪ .‬ولكن ل شيء جرى‬
‫ت إلى المنطقة‬ ‫طة ‪ .‬فعندما وصل ُ‬ ‫حسب الخ ّ‬
‫ن تلك‬ ‫تأ ّ‬ ‫ت ما حدث لها ‪ ،‬فهم ُ‬ ‫السكنية الثالثة ورأي ُ‬
‫ت فجأةً الشيء الوحيد الذي بقي لي‬ ‫الصورة أصبح ْ‬
‫صلة لي بوليم ‪.‬‬ ‫‪ .‬كانت آخر ِ‬
‫كان اسم الرجل صمويل فار ‪ ،‬ولكن فيما عدا‬
‫ت بعدائّية‬ ‫ذلك لم أعرف أي شيء عنه ‪ .‬وقد تصّرف ُ‬
‫ن‬
‫مفرطة مع بوغات بحيث لم يكن من الممكن أ ْ‬
‫أطلب أي تفاصيل ‪ ،‬والن لم يعد أمتلك إل القليل‬
‫س‬
‫ن من الح ٍ‬ ‫لُيعينني ‪ .‬اسم ووجه ‪ ،‬ل أكثر ‪ .‬وبعو ٍ‬
‫السليم والّتضاع قد أوّفر على نفسي الكثير من‬
‫ت سام دون أدنى شك ‪ ،‬ولكن‬ ‫المشاكل ‪ .‬وقد قابل ُ‬

‫‪52‬‬
‫ل علقة لهذا بي ‪ .‬حدث المر بمحض المصادفة ‪،‬‬
‫في واحدة من ضربات الحظ الصغيرة التي تهبط‬
‫ن‬
‫عليك من السماء ‪ .‬وقد مّر وقت طويل قبل أ ْ‬
‫ن أتذ ّ‬
‫كره ‪.‬‬ ‫يحدث ذلك – وقت أطول مما أود ّ أ ْ‬
‫ولت خللها‬ ‫اليام الولى كانت الصعب ‪ .‬تج ّ‬
‫كالسائر في نومه ‪ ،‬ل أدري أين أنا ‪ ،‬ول حتى أجرؤ‬
‫ت حقائبي لعميل‬ ‫على التكّلم مع أحد ‪ .‬وذات مرة بع ُ‬
‫في وكالة النعاش ‪ ،‬مما وّفر لي طعاما ً لمدة طويلة‬
‫ت بالعمل كمنّقبة ‪ ،‬لم يكن‬ ‫ن بدأ ُ‬‫‪ ،‬ولكن حتى بعد أ ْ‬
‫ة‬
‫معّرض ً‬ ‫ت أنام في العراء ُ‬ ‫لدي مكان أبيت فيه ‪ .‬كن ُ‬
‫ث في كل يوم على مكان‬ ‫لتقّلبات الطقس ‪ ،‬أبح ُ‬
‫مختلف لقضي الليل فيه ‪ .‬ويعلم الله كم دامت تلك‬
‫ت‬
‫الفترة ‪ ،‬ولكن ل شك في أنها كانت السوأ ‪ ،‬اقترب ُ‬
‫خللها كثيرا ً من الهلك ‪ .‬أسبوعين أو ثلثة على‬
‫ت من فرط‬ ‫ل ‪ ،‬وربما دامت حتى أشهر ‪ .‬كن ُ‬ ‫الق ّ‬
‫ن عقلي قد توقف عن العمل ‪.‬‬ ‫البؤس حتى بدا كأ ّ‬
‫ة من الغريزة‬ ‫ت بليدة الحس من الداخل ‪ ،‬كتل ً‬ ‫أصبح ُ‬
‫والنانية ‪ .‬في ذلك الوقت حدثت لي أشياء مريعة ‪،‬‬
‫ض‬
‫ت أتعّر ُ‬ ‫ت منها ‪ .‬كد ُ‬ ‫ول أزال أجهل كيف نجو ُ‬
‫للغتصاب على يد جابي مكوس عند منعطف‬
‫ت طعاما ً من‬ ‫ديكشنري بليس وجادة ملدون ‪ .‬وسرق ُ‬
‫ن يسرقني ذات ليلة في ردهة مسرح‬ ‫عجوز حاو َ‬
‫لأ ْ‬
‫ت العصيدة من‬ ‫ومين مغناطيسيا ً القديم – انتزع ُ‬ ‫المن ّ‬
‫بين يديه ولم أشعر حتى بالسف حيال ذلك ‪ .‬لم‬
‫يكن لدي أصدقاء ‪ ،‬ل أحد لتحدث معه ‪ ،‬ول أحد‬
‫لتقاسم وجبة معه ‪ .‬ولول صورة سام ‪ ،‬ل أعتقد أني‬
‫علمي بأنه موجود في المدينة‬ ‫ت نجوت ‪ .‬مجّرد ِ‬ ‫كن ُ‬
‫دد لنفسي ‪ ،‬هذا هو‬ ‫ُ‬
‫ت أر ّ‬‫دني بشيٍء أصبو إليه ‪ .‬كن ُ‬ ‫أم ّ‬
‫الرجل الذي سيساعدك ‪ ،‬وحالما تعثري عليه ‪،‬‬

‫‪53‬‬
‫ج الصورة من‬ ‫ت أخر ُ‬ ‫سيتغّير كل شيء ‪ .‬ولبد أني كن ُ‬
‫ت‬‫جيبي مائة مرة في اليوم ‪ .‬وسرعان ما أضح ْ‬
‫ضنة جدا ً حتى كاد الوجه ينطمس ‪ .‬ولكن‬ ‫مزّيتة ومتغ ّ‬ ‫ُ‬
‫ت قد حفظته غيبا ً ‪ ،‬ولم تُعد الصـورة بحد‬ ‫عندئذٍ كن ُ‬
‫س صغير يدفع‬ ‫ت بها كتميمة ‪ ،‬كتر ٍ‬ ‫م ‪ .‬احتفظ ُ‬ ‫ذاتها ته ّ‬
‫عني اليأس ‪.‬‬
‫ثم تغّير حظي ‪ .‬حدث ذلك بعد نحو شهر أو اثنين‬
‫من مباشرتي العمل كصائد أغراض ‪ ،‬ولكن هذا‬
‫ت أمشي على طول ضواحي‬ ‫مجّرد تخمين ‪ .‬كن ُ‬
‫المنطقة السكنية الخامسة ذات يوم ‪ ،‬بالقرب من‬
‫البقعة التي كانت تقوم فيها ساحة فيلمنت ‪ ،‬وإذا‬
‫بي أرى امرأة ممشوقة القامة ‪ ،‬في منتصف‬
‫وق على الحجارة ‪،‬‬ ‫العمر ‪ ،‬تدفعُ أمامها عربة تس ّ‬
‫دم ببطء وبخطى متعّثرة ‪ ،‬وكان جليا ً‬ ‫تتقافز وهي تتق ّ‬
‫كر فيما تفعله ‪ .‬كانت الشمس‬ ‫أّنها لم تكن تف ّ‬
‫ساطعة في ذلك النهار ‪ ،‬ذلك النوع من الشمس‬
‫الذي يبهر البصار ويجعل الشياء خفّية ‪ ،‬وكان الجو‬
‫حارا ً ‪ ،‬أذكر هذا ‪ ،‬حارا ً جدا ً ‪ ،‬إلى درجة الصابة‬
‫بالدوار ‪ .‬وفي الوقت الذي نجحت المرأة في بلوغ‬
‫منتصف الشارع ‪ ،‬ظهرت عصبة من الراكضين‬
‫طف ‪ .‬كانوا اثنا عشر أو خمسة‬ ‫منطلقة عند المنع َ‬
‫صين‬ ‫عشر ‪ ،‬وكانوا مندفعين بأقصى سرعة ‪ ،‬ومترا ّ‬
‫معا ً ‪ ،‬يصرخون بهتافهم المنتشي الذي يقطر‬
‫ت‬
‫ض ْ‬‫ت المرأة تنظر إليهم ‪ ،‬وكأنها انتف َ‬ ‫بالموت ‪ .‬رأي ُ‬
‫ن‬‫فجأة مستيقظة من حلم يقظتها ‪ ،‬ولكن بدل أ ْ‬
‫ت في مكانها ‪ ،‬واقفة كغزال‬ ‫تزيح من الدرب ‪ ،‬ثبت ْ‬
‫حائر وقع في فخ الضواء المامية لسيارة ‪ .‬ولسبب‬
‫ت الحبل السّري‬ ‫ما ‪ ،‬وحتى الن ل أعلم لماذا حلل ُ‬
‫ت على‬ ‫ت وقبض ُ‬ ‫ت من حيث كن ُ‬ ‫عن وسطي ‪ ،‬وركض ُ‬

‫‪54‬‬
‫ي ‪ ،‬وجررتها بعيدا ً عن الطريق‬ ‫ي ذراع ّ‬ ‫المرأة بكلت ّ‬
‫قبل ثانية أو اثنتين من مرور الراكضين ‪ .‬على آخر‬
‫رمق ‪ .‬ولو لم أفعل ذلك ‪ ،‬لديست حتى الموت ‪.‬‬
‫ت‬
‫ت إيزابل ‪ .‬في تلك اللحظة بدأ ْ‬ ‫هكذا قابل ُ‬
‫حياتي الحقيقية في تلك المدينة ‪ ،‬في السّراء‬
‫مقدمة ‪ ،‬حشدا ً من‬ ‫والضّراء ‪ .‬كل شيء آخر كان ُ‬
‫الخطوات المتعّثرة ‪ ،‬من اليام والليالي ‪ ،‬من فكرة‬
‫ل أذكرها ‪ .‬ولول تلك اللحظة الل عقلنية في الشارع‬
‫ن‬
‫ك في أ ّ‬ ‫ت أحكي لك قصتي هذه ‪ .‬وأش ّ‬ ‫‪ ،‬لما كن ُ‬
‫ل شكلي ذاك في‬ ‫القصة كانت ستكتمل وأنا أحم ُ‬
‫ذلك الوقت ‪.‬‬
‫استلقينا ونحن نلهث في المجرور ‪ ،‬ول نزال‬
‫ث إحدانا بالخرى ‪ .‬ومع اختفاء آخر الراكضين‬ ‫تتشب ّ ُ‬
‫ن إيزابل أخذت تفهم بالتدريج‬ ‫عند المنعطف ‪ ،‬بدا أ ّ‬
‫ت حولها ‪،‬‬ ‫ت في جلستها ‪ ،‬وتلّفت ْ‬ ‫ما حدث لها ‪ .‬اعتدل ْ‬
‫ت تبكي ‪.‬‬ ‫ي ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬وببطٍء شديد ‪ ،‬بدأ ْ‬ ‫ت إل ّ‬
‫ونظر ْ‬
‫كانت لحظة من الدراك المرعب بالنسبة إليها ‪.‬‬
‫ليس لنها كانت قاب قوسين من الموت ‪ ،‬بل لنها‬
‫ت بالسى لجلها ‪ ،‬وأيضا ً‬ ‫لم تعلم أين هي ‪ .‬شعر ُ‬
‫ن هذه المرأة النحيلة ‪،‬‬ ‫م ْ‬‫بشيٍء من الخوف ‪َ .‬‬
‫المرتعشة ‪ ،‬بوجهها الطويل وعيناها الغائرتين –‬
‫وماذا أفعل أنا باستلقائي بجوارها في الشارع ؟‬
‫ت‬
‫بدت وكأنها تكاد تفقد عقلها ‪ ،‬وحالما اسـتعد ُ‬
‫ن أرحل ‪.‬‬ ‫أنفاسي ‪ ،‬كان حافزي الول هو أ ْ‬
‫قالت ‪ ،‬وهي تمد ّ يدها بحركة مترّددة نحو‬
‫وجهي ‪ " ،‬آه ‪ ،‬يا طفلتي العزيزة ‪ .‬آه ‪ ،‬يا عزيزتي ‪،‬‬
‫ت‬‫ت نفسك ‪ .‬لقد هبب ِ‬ ‫الحلوة ‪ ،‬الصغيرة ‪ ،‬لقد جرح ِ‬
‫ت ‪ .‬أتدرين‬ ‫رح ِ‬‫ج ِ‬
‫ت التي ُ‬ ‫إلى نجدة امرأة عجوز ‪ ،‬وأن ِ‬
‫م هذا ‪ ،‬لكنهم ل‬ ‫لماذا ؟ لنني منحوسة ‪ .‬الكل يعل ُ‬

‫‪55‬‬
‫مصارحتي بهذا ‪ .‬لكني‬ ‫يملكون الشجاعة الكافية ل ُ‬
‫ن لم ُيخبرني أحد "‬ ‫ل شيء ‪ ،‬حتى وإ ْ‬ ‫أعلم ‪ .‬أعلم ك ّ‬
‫ت نفسي بحجر عندما سقطنا ‪،‬‬ ‫ت قد جرح ُ‬ ‫كن ُ‬
‫وكان الدم يسيل من صدغي اليسر ‪ .‬ولكن لم تكن‬
‫ت‬‫الصابة خطيرة ‪ ،‬ولم تسبب لي الذعر ‪ .‬وهمم ُ‬
‫صة صغيرة لفراقها ‪.‬‬ ‫ت بغ ّ‬ ‫بوداعها والنطلق ‪ ،‬فشعر ُ‬
‫ن أرافقها إلى منزلها‬ ‫ت في نفسي ‪ ،‬ربما يجب أ ْ‬ ‫قل ُ‬
‫كد من أّنه لن يقع لها مكروه آخر ‪ .‬فساعدتها‬ ‫لتأ ّ‬
‫ت عربة‬ ‫ميها واستعد ُ‬ ‫للنهوض والوقوف على قد َ‬
‫وق من الطرف المقابل للساحة ‪.‬‬ ‫التس ّ‬
‫ت " سوف يغضب فرديناند مني ‪ .‬هذه ثالث‬ ‫قال ْ‬
‫مرة على التوالي التي أعود فيها فارغة اليدين ‪.‬‬
‫خر كهذا ‪ ،‬وينتهي أمري "‬ ‫بضعة أيام ٍ أ ُ َ‬
‫ن تعودي إلى المنزل‬ ‫ك يجب أ ْ‬ ‫ت " أعتقد أن ِ‬ ‫قل ُ‬
‫ت‬‫في كل الحوال ‪ .‬على القل لفترةٍ وجيزة ‪ .‬أن ِ‬
‫ول مع هذه العربة‬ ‫ك بالتج ّ‬ ‫ل ل تسمح ل ِ‬ ‫الن في حا ٍ‬
‫معك "‬
‫" ولكن فرديناند سيغضب حتى الجنون عندما‬
‫ضر شيئا ً "‬ ‫ُ‬
‫يرى أني لم أح ِ‬
‫قلت " ل تقلقي ‪ ،‬سأشرح له ما حدث "‬
‫ن‬‫ما أتحدث طبعا ً ‪ ،‬لك ّ‬ ‫لم تكن لديّ أدنى فكرة ع ّ‬
‫مفاجئ‬ ‫كن من كبحه ‪ :‬دفقٌ ُ‬ ‫شيئا ً تمّلكني ‪ ،‬ولم أتم ّ‬
‫من الشفقة ‪ ،‬من الحاجة الحمقاء إلى العتناء بهذه‬
‫ل القصص القديمة عن إنقاذ حياة أحدهم‬ ‫المرأة ‪ .‬لع ّ‬
‫ن يحدث هذا مرة حتى‬ ‫صحيحة ‪ .‬وُيقال إّنه ما أ ْ‬
‫ُيصبح ذلك الشخص ضمن مسؤوليتك ‪ ،‬وسواء‬
‫ل منكما ينتمي إلى‬ ‫ت أم لم ُتحب ‪ُ ،‬يصبح ك ٌ‬ ‫أحبب َ‬
‫الخر إلى البد ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫استغرقَ منا الوصول إلى منزلها ما ُيقارب الثلث‬
‫ساعات ‪ .‬وفي الظروف العادية ‪ ،‬ل يستغرق ذلك‬
‫ن إيزابل تتحّرك ببطٍء‬ ‫أكثر من نصف ساعة ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن الشمس‬ ‫شديد ‪ ،‬تمشي بخطى متعّثرة ‪ ،‬حتى أ ّ‬
‫ت تغرب عند وصولنا إلى هناك ‪ .‬لم‬ ‫كانت قد بدأ ْ‬
‫ل سّري )كانت قد أضاعته قبل ذلك‬ ‫يكن معها حب ٌ‬
‫ت بين‬ ‫ببضعة أيام ‪ ،‬كما قالت( ‪ ،‬وكانت العربة تنفل ْ‬
‫ن وآخر من بين يديها وتندفع وهي تتخّبط على‬ ‫حي ٍ‬
‫ص‬
‫طول الشارع ‪ .‬وفي إحدى المراحل كاد شخ ٌ‬
‫ي‬ ‫يد‬ ‫إحدى‬ ‫أبقي‬ ‫ينتزعها منها ‪ .‬بعد ذلك ‪ ،‬قررت أن ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ ْ‬
‫على العربة ويدا ً أخرى على عربتي ‪ ،‬مما أبطأ‬
‫دمنا أكثر من ذي قبل ‪ .‬وسرنا على طول حواف‬ ‫تق ّ‬
‫المنطقة السكنية السادسة منحرفتين بعيدا ً عن‬
‫تكتلت متاريس المكوس في جادة الذاكرة ‪ ،‬ومن‬
‫ثم انتقلنا بسرعة إلى أوفيس سيكتر في شارع‬
‫بيراميد حيث أقام رجال الشرطة ثكنة لهم ‪ .‬أثناء‬
‫مشيها المتعّرج ‪ ،‬المتعّثر ‪ ،‬أخبرتني إيزابل الكثير‬
‫ساما ً للعلنات‬ ‫ن زوجها كان ر ّ‬ ‫عن حياتها ‪ .‬قالت إ ّ‬
‫التجارية ‪ ،‬ولكن لما كان العديد من العمال التجارية‬
‫يغلق أبوابه أو تعجز عن دفع التكاليف ‪ ،‬أصبح‬
‫فرديناند عاطل ً عن العمل منذ أعوام عديدة ‪ .‬وأدمن‬
‫شرب الخمر لفترة من الوقت – كان يسرق نقودا ً‬
‫من حقيبة إيزابل ليل ً لكي يروي إدمانه ‪ ،‬أو يتس ّ‬
‫كع‬
‫حول مصنع التقطير في المنطقة السكنية الرابعة ‪،‬‬
‫ن يرقص لهم‬ ‫ول نقودا ً من العمال مقابل أ ْ‬ ‫يتس ّ‬
‫ن قامت ذات‬ ‫مضحكة – إلى أ ْ‬ ‫ويحكي لهم حكايات ُ‬
‫ف عن الخروج بعد‬ ‫يوم عصابة من الرجال بضربه فك ّ‬
‫ن يتزحزح من مكانه ‪،‬‬ ‫ذلك ‪ .‬والن هو يرفض أ ْ‬
‫ويلزم شقتهما الصغيرة ليل ً ونهارا ً ‪ ،‬ول ينبت بأي‬

‫‪57‬‬
‫كلمة ول ُيبدي اهتماما ً بالحفاظ على حياتهما ‪ .‬وترك‬
‫أمر الشئون العملية ليزابل ‪ ،‬بما أنه لم يُعد يعتبر‬
‫ن يوليها انتباهه ‪ .‬الشيء‬ ‫ن تلك التفاصيل تستحق أ ْ‬ ‫أ ّ‬
‫الوحيد الذي أصبح يهتم به هو هوايته ‪ :‬صنع نماذج‬
‫سُفن ووضعها داخل زجاجات ‪.‬‬ ‫مصّغرة ل ُ‬ ‫ُ‬
‫قالت إيزابل " إنها جميلة جدا ً ‪ ،‬وسوف‬
‫تسامحينه ِلما هو عليه ‪ .‬يا لها من سفن صغيرة جدا ً‬
‫ك ترغبين في‬ ‫‪ ،‬ممتازة وصغيرة ‪ .‬إنها تجعل ِ‬
‫النكماش حتى تصبحي بحجم دبوس ‪ ،‬ومن ثم‬
‫تصعدين إلى متنها وتبحرين ‪...‬‬
‫ن فرديناند فنان ‪ ،‬وحتى في‬ ‫ثم تابعت " إ ّ‬
‫الماضي كان مزاجيا ً ‪ ،‬رجل ً ل يمكن التنّبؤ بما‬
‫سيفعله ‪ .‬فمن دقيقة إلى أخرى هناك شيء يدفعه‬
‫ن‬‫إلى النطلق في جهة أو أخرى ‪ .‬ولكن يجب أ ْ‬
‫ن‬
‫تري الشارات التي رسمها ! الجميع يريدون أ ْ‬
‫يستغّلوا فرديناند ‪ ،‬وقد نّفذ َ أعمال ً لكافة أنواع‬
‫المحال التجارية ‪ .‬صيدليات ‪ ،‬بقالية ‪ ،‬محلت بيع‬
‫السجائر ‪ ،‬محلت بيع المجوهرات ‪ ،‬حانات ‪ ،‬محلت‬
‫بيع الكتب ‪ ،‬كل شيء ‪ .‬حينئذ ٍ كان لديه مكان‬
‫لعمله ‪ ،‬في قلب منطقة المخازن من المدينة ‪،‬‬
‫وهي منطقة صغيرة جميلة ‪ .‬ولكن كل شيء انتهى‬
‫الن ‪ :‬المناشير ‪ ،‬فراشي الرسم ‪ ،‬دلء اللوان ‪،‬‬
‫روائح النشارة والورنيش ‪ .‬كله ذهب أثناء عملية‬
‫التطهير الثانية للمنطقة السكنية الثامنة ‪ ،‬وكانت‬
‫تلك النهاية "‬
‫لم أفهم نصف ما قالته إيزابل ‪ .‬ولكن بعد قراءة‬
‫محاولة ملء الفراغات بنفسي ‪،‬‬ ‫ما بين السطور و ُ‬
‫ن لديها أربعة أولد ‪ ،‬كلهم إما ماتوا أو هربوا‬ ‫تأ ّ‬‫فهم ُ‬
‫ت‬‫ن فقد فرديناند عمله ‪ ،‬أصبح ْ‬ ‫من المنزل ‪ .‬وبعد أ ْ‬

‫‪58‬‬
‫ن المرء يتوّقع من امرأة في‬ ‫منّقبة ِقمامة ‪ .‬إ ّ‬ ‫إيزابل ُ‬
‫ن الغريب‬ ‫ن تكتتب كجامعة قمامة ‪ ،‬لك ّ‬ ‫مثل سنها أ ْ‬
‫ت تصّيد الغراض ‪ .‬وقد أذهلني بكونه‬ ‫أنها اختار ْ‬
‫وره ‪ .‬فهي لم تكن سريعة‬ ‫أسوأ اختيار ممكن تص ّ‬
‫مل‬ ‫الحركة ‪ ،‬ول بارعة ‪ ،‬ول تتحّلى بالقدرة على التح ّ‬
‫ت عن‬ ‫ض ْ‬‫ت ‪ ،‬إنها تعلم هذا كله ‪ ،‬لكّنها عوّ َ‬ ‫‪ .‬نعم ‪ ،‬قال ْ‬
‫نقائصها بمزايا معّينة أخرى – بموهبة خاصة في‬
‫معرفة ِوجهتها ‪ ،‬وِفطرة في اكتشاف أشياء في‬
‫دها‬‫مهملة ‪ ،‬وبمغناطيس داخلي بدا كأنه يش ّ‬ ‫أماكن ُ‬
‫إلى المكان الصحيح ‪ .‬هي نفسها لم تجد لذلك‬
‫ن الحقيقة تقول إنها عثرت على أشياء‬ ‫تفسيرا ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫مخّرمة‬ ‫مذهلة ‪ :‬حقيبة مملوءة بملبس داخلّية ُ‬ ‫ُ‬
‫ن تعيش من ثمنها على‬ ‫استطاعت هي وفرديناند أ ْ‬
‫مدى ما ُيقارب الشهر ‪ ،‬وآلة ساكسيفون في أحسن‬
‫حال ‪ ،‬وعلبة مختومة من أحزمة الجلد الجديدة )بدا‬
‫ن آخر‬ ‫أنها خرجت من المصنع توا ً ‪ ،‬على الرغم من أ ّ‬
‫ح عاطل ً عن العمل منذ ما يزيد‬ ‫مصّنع للحزمة أصب َ‬ ‫ُ‬
‫عن الخمس سنوات( ‪ ،‬ونسخة من العهد الجديد‬
‫مغّلفة بجلد الِعجل‬ ‫ش الرز و ُ‬‫مطبوعة على ورق ق ّ‬
‫ن‬‫هبة الحواف ‪ .‬ولكن هذا كان قبل زم ٍ‬ ‫مذ ّ‬ ‫وبصفحات ُ‬
‫مضى ‪ ،‬كما قالت ‪ ،‬وعلى مدى الشهر الستة‬
‫منهكة ‪ ،‬ومن‬ ‫ت ُ‬ ‫ت تفقد موهبتها ‪ .‬أصبح ْ‬ ‫الماضية أخذ ْ‬
‫فرط التعب بحيث تعجز عن الوقوف على قدميها‬
‫مدة طويلة ‪ ،‬وأصبح عقلها يشرد باستمرار بعيدا ً عن‬
‫عملها ‪ .‬وفي كل يوم تقريبا ً تكتشف أنها تسير في‬
‫ن تعرف أين كانت ‪،‬‬ ‫شارٍع ل تعرفه ‪ ،‬وتنعطف دون أ ْ‬
‫ل حيا ً وتعتقد أنها في مكان آخر ‪ .‬قالت ‪ ،‬أثناء‬ ‫وتدخ ُ‬
‫ك‬‫ن تواجد ِ‬ ‫توّقفنا للستراحة عند أحد البواب ‪ " ،‬إ ّ‬
‫معجزة ‪ ،‬وليس مجرد حادث طارئ‬ ‫هناك كان بمثابة ُ‬

‫‪59‬‬
‫ي أخيرا ً شخصا ً‬ ‫‪ .‬لقد صّليت طويل ً لله لنه أرس َ‬
‫ل إل ّ‬
‫ن الناس لم يعودوا يذكرون الله ‪،‬‬ ‫مأ ّ‬‫لُينقذني ‪ .‬أعل ُ‬
‫ولكن ل حيلة لي في ذلك ؛ إنني أفك ُّر فيه في كل‬
‫ن ينام فرديناند ‪ُ .‬أحدّثه‬ ‫يوم ‪ ،‬وأصّلي له ليل ً بعد أ ْ‬
‫ن فرديناند لم‬ ‫في قلبي طوال الوقت ‪ .‬والن بما أ ّ‬
‫يعد يقول لي أي شيء ‪ ،‬أصبح الله هو صديقي‬
‫ي ‪ .‬أعلم أنه شديد‬ ‫الوحيد ‪ ،‬الوحيد الذي ُيصغي إل ّ‬
‫النشغال وليس لديه وقت ُيخصصه لمرأة عجوز‬
‫ن الله سيد ٌ محترم ‪ ،‬وقد وضعني ضمن‬ ‫مثلي ‪ ،‬لك ّ‬
‫اهتماماته ‪ .‬واليوم ‪ ،‬وبعد طول انتظار ‪ ،‬قام بزيارتي‬
‫ت الطفلة العزيزة‬ ‫ي كدللة على حّبه ‪ .‬أن ِ‬ ‫ك إل ّ‬ ‫‪ .‬أرسل ِ‬
‫ي ‪ ،‬والن سأعتني‬ ‫‪ ،‬الحلوة ‪ ،‬التي أرسلها الله إل ّ‬
‫ك ‪ ،‬سأفعل كل ما في استطاعتي من أجلك ‪ .‬ل‬ ‫ب ِ‬
‫كع في الشوارع من‬ ‫نوم بعد الن في العراء ‪ ،‬ل تس ّ‬
‫الصباح وحتى المساء ‪ ،‬ول كوابيس ‪ .‬هذا كله انتهى‬
‫ة سوف تحصلين على‬ ‫ت حي ّ ً‬
‫ك ‪ .‬وما دم ُ‬ ‫عد ِ‬‫الن ‪ ،‬أ ِ‬
‫مك مما يقوله فرديناند ‪ .‬فمن الن‬ ‫مأوى ‪ ،‬ول يه ّ‬
‫ف رأسك وسوف يتوّفر‬ ‫وصاعدا ً ‪ ،‬سوف ُيظلل سق ٌ‬
‫دم شكري لله ِلما فعله‬ ‫لك طعام تأكليه ‪ .‬هكذا سأق ّ‬
‫ت‬‫من أجلي ‪ .‬لقد استجاب لصلواتي ‪ ،‬والن أن ِ‬
‫طفلتي الصغيرة ‪ ،‬العزيزة والحلوة ‪ ،‬عزيزتي حّنة‬
‫التي وهبها الله لي "‬

‫كان منزلهما يقعُ في سيركس لين ‪ ،‬في عمق‬


‫شبكة من الزقة الصغيرة والممرات القذرة التي‬
‫تتلوى خلل قلب المنطقة السكنية الثانية ‪ .‬كان ذاك‬
‫ت إلى‬
‫الجزء القدم من المدينة ‪ ،‬ولم أكن قد ذهب ُ‬
‫هناك قبل ذلك إل مرة واحدة أو مّرتين ‪ .‬كان ما‬
‫ُيلقيه المنّقبون في ذلك الحي سقيم ‪ ،‬وكانت‬

‫‪60‬‬
‫ت طريقي في متاهات‬ ‫أعصابي تتوتر كلما أضع ُ‬
‫ي من الخشب ‪،‬‬ ‫شوارعها ‪ .‬وكان معظم المنازل مبن ّ‬
‫ب غريبة ‪ .‬فبدل حجر القرميد القابل‬ ‫وذلك لسبا ٍ‬
‫كل والحجارة المتفتتة ‪ ،‬بأكوامها الخشنة والبقايا‬ ‫للتآ ُ‬
‫مغبّرة ‪ ،‬تبدو الشياء هنا منحنية ومتدّلية ‪ ،‬تتثّبت‬ ‫ال ُ‬
‫وى بطء وتغوص في الرض ‪.‬‬ ‫تحت وطأة ثقلها ‪ ،‬وتتل ّ‬
‫ن هذه‬ ‫وإذا كانت البنية الخرى تتفتت بصورة ما ‪ ،‬فإ ّ‬
‫البنية كانت تذوي ‪ ،‬كعجائز فقدوا قوتهم ‪ ،‬كمصابين‬
‫ن يقفوا‬ ‫بالتهاب المفاصل لم يُعد في مقدورهم أ ْ‬
‫على أقدامهم ‪ .‬العديد من السقف انهارت ‪،‬‬
‫والمفاصل صدئت حتى أضحت كالسفنج ‪ ،‬وترى هنا‬
‫وهناك منازل بأكملها تميل باتجاهين متعاكسين –‬
‫ن لمسة من إصبع ‪ ،‬أو نفخة‬ ‫تكاد تنهار بحيث أ ّ‬
‫واحدة ‪ ،‬كانت كفيلة بتسويتها بالرض ‪.‬‬
‫أما المنزل الذي تعيش فيه إيزابل فكان مبنيا ً من‬
‫ل منها يتألف‬ ‫الجر ‪ .‬كان يتأّلف من ستة طوابق ك ٌ‬
‫شقق صغيرة ‪ ،‬ومطلع د ََرج مظلم ‪ ،‬ود ََرج‬ ‫من أربع ُ‬
‫متخلخل ‪ ،‬ومتهرئ ‪ ،‬ودهان مقشور عن الجدران ‪.‬‬
‫وكان النمل والصراصير تجري في كل مكان ل‬
‫ُيضايقها أحد ‪ ،‬والمكان كله يفوح بعبق عفونة الكل‬
‫ن المبنى‬ ‫الفاسد ‪ ،‬والملبس القذرة ‪ ،‬والغبار ‪ .‬لك ّ‬
‫ن أرى‬ ‫ذاته بدا متينا ً بقدرٍ معقول ‪ ،‬ولم يسعني إل أ ْ‬
‫ن‬
‫دل أحوالنا ‪ .‬ولو أ ّ‬ ‫أني محظوظة ‪ .‬ما أسرع ما تتب ّ‬
‫ن المر‬ ‫ن أذهب إلى هناك أ ّ‬ ‫أحدا ً أخبرني قبل أ ْ‬
‫دقته ‪ .‬أما الن‬ ‫سينتهي بي إلى العيش فيه ‪ ،‬لما ص ّ‬
‫ت عطّية عظيمة ‪.‬‬ ‫فشعرت بالسعادة ‪ ،‬وكأّني مُنح ُ‬
‫وعبارتا قذارة وراحة عبارتان نسبيتان ‪ ،‬قبل أي‬
‫ي ثلثة أشهر أو أربعة على قدومي‬ ‫شيء ‪ .‬وبعد مض ّ‬

‫‪61‬‬
‫ت راغبة في قبول منزلي الجديد‬ ‫إلى المدينة ‪ ،‬أصبح ُ‬
‫ن تنتابني أدنى رعشة ‪.‬‬ ‫هذا دون أ ْ‬
‫جَلبة عندما أعلنت‬ ‫لم ي ُِثر فرديناند الكثير من ال َ‬
‫إيزابل أنني سأنتقل للقامة معهما ‪ .‬من الناحية‬
‫ت المر بطريقة‬ ‫التكتيكية ‪ ،‬أعتقد أنها عالج ْ‬
‫صحيحة ‪ .‬فهي لم تطلب إذنه لمكوثي هناك ‪ ،‬بل‬
‫أبلغته ببساطة أنه أصبح هناك الن ثلثة أشخاص‬
‫ن فرديناند كان قد تخّلى منذ زمن‬ ‫بدل اثنين ‪ .‬وبما أ ّ‬
‫بعيد عن اّتخاذ أي قرار عملي في هذه المنطقة ‪،‬‬
‫كد على سيطرته في‬ ‫ن يؤ ّ‬
‫بات من الصعب عليه أ ْ‬
‫ن عليه‬ ‫ن ُيسّلم ضمنا ً بأ ّ‬ ‫تلك المنطقة الوحيدة دون أ ْ‬
‫كب المزيد من المسؤولية في مناطق أخرى ‪.‬‬ ‫ن يتن ّ‬ ‫أ ْ‬
‫ت يديها منها ‪.‬‬ ‫ض ْ‬
‫ولم ت ُِثر إيزابل مسألة الله ‪ ،‬لنها نف َ‬
‫وأعطته سردا ً جافا ً للوقائع ‪ ،‬وأخبرته كيف أنقذُتها ‪،‬‬
‫مضيفة ِذكر المكان والزمان ‪ ،‬ولكن دون تنميق أو‬ ‫ُ‬
‫متظاهرا ً‬ ‫تعليق ‪ .‬أصغى فرديناند إليها في صمت ‪ُ ،‬‬
‫بأنه ل يوليها انتباها ً ‪ ،‬وهو يرميني بنظرة مختلسة‬
‫بين حين وآخر ‪ ،‬لكنه في الغالب كان ُيحدق بعيدا ً‬
‫ٍ‬
‫ن ل شيء من هذا‬ ‫باتجاه النافذة ‪ ،‬ويتصّرف كأ ّ‬
‫ت إيزابل ‪ ،‬بدا لبرهة من الزمن‬ ‫ن انته ْ‬‫صه ‪ .‬وبعد أ ْ‬ ‫يخ ّ‬
‫كر في المر ‪ ،‬ثم هّز كتفيه استخفافا ً ‪ .‬ونظر‬ ‫أنه ُيف ّ‬
‫ك‬‫ي مباشرةً للمرة الولى وقال " من المؤسف أن ِ‬ ‫إل ّ‬
‫ت بكل ذلك العناء ‪ .‬من الفضل لتلك العجوز‬ ‫مرر ِ‬
‫ن ينتظر‬ ‫ن تموت " ‪ .‬ثم انسحب ‪ ،‬دون أ ْ‬ ‫الهرمة أ ْ‬
‫جوابي ‪ ،‬إلى كرسيه في ركن الغرفة وعاد إلى‬
‫مصّغر ‪.‬‬ ‫العمل في نموذج السفينة ال ُ‬
‫ن فرديناند لم يكن سيئا ً كما اعتقدت ‪ ،‬على‬ ‫لك ّ‬
‫ل ليس في البداية ‪ .‬هو حتما ً لم يكن متعاونا ً ‪،‬‬ ‫الق ّ‬
‫ولكن من دون الخبث الصريح الذي توّقعته منه ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫كانت نوبات سوء طبعه قصيرة ‪ ،‬وهّبات نكده كذلك‬
‫معظم الوقت لم يكن يقول أي شيء ‪،‬‬ ‫‪ ،‬لكنه في ُ‬
‫مل‬‫ن يتحدث إلى أي شخص ‪ ،‬ويتأ ّ‬ ‫ويرفض بعناد أ ْ‬
‫بكآبة وهو قابع في زاويته كمخلوق شاذ سيء النّية ‪.‬‬
‫كان فرديناند رجل ً قبيح المنظر ‪ ،‬ول يتحّلى بأي‬
‫شيء يجعلك تنسى ُقبحه – ل سحر ‪ ،‬ل كرم ‪ ،‬ل‬
‫مخّلصة ‪ .‬كان رقيق الِعظام ومنحني‬ ‫سماحة ُ‬
‫ف كبير معقوف ورأس شبه أصلع ‪.‬‬ ‫الظهر ‪ ،‬وذا أن ٍ‬
‫مجّعدا ً وأشعث ‪،‬‬‫وما تبقى لديه من شعر كان ُ‬
‫ق من كل الجوانب ‪ ،‬وبشرته شاحبة‬ ‫ينتصب بحن ٍ‬
‫شحوب المرضى – بياضها غريب ‪ ،‬بدا أشد ّ بياضا ً‬
‫شعر السود الذي ينمو في كل مكان من‬ ‫بسبب ال َ‬
‫جسمه – على ذراعيه ‪ ،‬وساقيه ‪ ،‬وصدره ‪ .‬يتركه‬
‫ناميا ً دائما ً ‪ ،‬وكانت ملبسه رّثة ‪ ،‬وتراه دائما ً حافيا ً ‪،‬‬
‫وبدا أشبه بنسخة كرتونّية من أحد المتسكعين على‬
‫ن هوسه بالسفن قاده إلى لعب دور‬ ‫الشواطئ ‪ .‬وكأ ّ‬
‫فرة ‪ .‬أو العكس ‪ .‬عندما‬ ‫مق ِ‬
‫ملقى على جزيرة ُ‬ ‫ل ُ‬‫رج ٍ‬
‫وجد نفسه منبوذا ً بدأ ربما ببناء سفن كدللة على ما‬
‫ي – كنداء سّري لطلب‬ ‫ُيعانيه من بؤس داخل ّ‬
‫ن نداءه‬‫ن أنه اعتقد أ ّ‬‫ن ذلك لم يع ِ‬ ‫النجدة ‪ .‬لك ّ‬
‫ن فرديناند لن يذهب إلى أي مكان‬ ‫سُيستجاب ‪ .‬إ ّ‬
‫بعد الن ‪ ،‬وكان يعلم ذلك ‪ .‬وفي إحدى أمزجته‬
‫ف لي ذات مرة بأنه لم يطأ أبدا ً خارج‬ ‫الدمثة ‪ ،‬اعتر َ‬
‫الشقة منذ أكثر من أربع سنوات ‪ .‬قال ‪ ،‬مومئا ً إلى‬
‫النافذة ‪ " ،‬ل يوجد في الخارج إل الموت ‪ .‬هناك‬
‫ن‬
‫مفترسة في تلك المياه ‪ ،‬وحيتان يمكنها أ ْ‬ ‫أسماك ُ‬
‫ك دفعة واحدة ‪ .‬تشّبثي بالشاطئ ‪ ،‬هذه‬ ‫تبتلع ِ‬
‫ك ‪ ،‬تشّبثي بالشاطئ وابعثي قدر ما‬ ‫نصيحتي ل ِ‬
‫تستطيعين من رسائل الدخان "‬

‫‪63‬‬
‫ن إيزابل لم ُتبالغ في تقدير مواهب فرديناند ‪.‬‬ ‫لك ّ‬
‫منّفذة‬ ‫فقد كانت سفنه ِقطعا ً صغيرةً من الهندسة ‪ُ ،‬‬
‫معة ببراعة ‪ ،‬وما‬ ‫مج ّ‬ ‫ممة و ُ‬ ‫مص ّ‬ ‫مذهلة ‪ُ ،‬‬ ‫حرفّية ُ‬ ‫ب ِ‬
‫دامت تتوفر لديه المواد الكافية والثاث – قطع من‬
‫صمغ ‪ ،‬والخيوط ‪ ،‬وأحيانا ً‬ ‫الخشب والورق ‪ ،‬وال ِ‬
‫زجاجة – فإنه يستغرق في عمله ول ُيثير الكثير من‬
‫ن أفضل طريقة‬ ‫تأ ّ‬
‫المشاكل في المنزل ‪ .‬وقد عِلم ُ‬
‫لقامة علقة جيدة معه هي في التظاهر بأنه غير‬
‫ت عن أسلوبي لكي أبرهن‬ ‫موجود ‪ .‬في البداية خرج ُ‬
‫صنا ً‬
‫مح ّ‬ ‫ن فرديناند كان ُ‬ ‫سلمّية ‪ ،‬لك ّ‬ ‫له عن نواياي ال ِ‬
‫جيدا ً ‪ ،‬ويشعر باشمئزاز كامل من نفسه ومن العالم‬
‫بحيث أني لم أنجح ‪ .‬الكلمات اللطيفة لم تكن تعني‬
‫ولها إلى تهديد ‪ .‬ذات‬ ‫كان ُيح ّ‬ ‫له أي شيء ‪ ،‬وغالبا ً ما‬
‫ت إعجابي بسفنه‬ ‫وأبدي‬ ‫مرة ‪ ،‬مثل ً ‪ ،‬ارتكبت خطأ ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت إلى أنها ستجلب الكثير من‬ ‫ل وألمح ُ‬ ‫ت عا ٍ‬ ‫بصو ٍ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ض َ‬ ‫ن فرديناند ثار وغ ِ‬ ‫ن يبيعها ‪ .‬لك ّ‬ ‫المال إذا قّرر أ ْ‬
‫شى في أنحاء الغرفة ‪،‬‬ ‫وقفَز عن كرسيه وأخذ يتم ّ‬
‫وح بمطواته في وجهي ‪ .‬صاح " أبيع سفني !‬ ‫وهو ُيل ّ‬
‫ن تقتليني أول ً ‪ .‬لن أتخّلى عن أي‬ ‫كأ ْ‬ ‫ت ؟ علي ِ‬ ‫جنن ِ‬‫أ ُ‬
‫واحدة منها – أبدا ً ! هذا تمّرد ‪ ،‬هو كذلك ‪ .‬إنه‬
‫مسّلح ! كلمة واحدة تخرج منك ‪ ،‬وستجدين‬ ‫عصيان ُ‬
‫نفسك في الشارع ! "‬
‫ن يقبض على الفئران التي‬ ‫كان ولعه الوحيد هو أ ْ‬
‫ن‬‫تسكن جدران المنزل ‪ .‬كان في استطاعتنا أ ْ‬
‫نسمعها تتحرك هناك ليل ً ‪ ،‬تقرض ما تعُثر عليه من‬
‫ُفتات صغيرة ‪ .‬أحيانا ً يكون الضجيج عاليا ً إلى درجة‬
‫أنه ُيقلق نومنا ‪ ،‬لكنها كانت فئران بارعة وليس من‬
‫ب فرديناند مصيدة‬ ‫السهل القبض عليها ‪ .‬وقد نص َ‬
‫شَبك من السلك والخشب ‪،‬‬ ‫صغيرة مؤّلفة من َ‬

‫‪64‬‬
‫وفي كل ليلة كان يعمل باجتهاد على تزويدها بقطع‬
‫طعم ‪ .‬المصيدة لم تقتل الفئران ‪ .‬عندما‬ ‫من ال ُ‬
‫كانت تلجها بحثا ً عن طعام ‪ ،‬كان الباب ُيصفع‬
‫خلفها ‪ ،‬وُتحجز داخل القفص ‪ .‬كان ذلك يحدث مرةً‬
‫واحدة أو مرتين في الشهر ‪ ،‬ولكن عندما كان‬
‫فرديناند في الصباح ويكتشف وجود فأر في‬
‫القفص ‪ ،‬يكاد ُيصاب بالجنون من فرط السعادة –‬
‫ت‬‫يتقافز حول القفص وُيصفق بيديه ‪ ،‬ويشخر بصو ٍ‬
‫ق عميق من الضحك ‪ .‬ويلتقط الفأر من‬ ‫ل في دف ٍ‬ ‫عا ٍ‬
‫ن على لهب الموقد ‪.‬‬ ‫ذيله ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬يقوم بشّيه بتأ ٍ‬
‫وى ويصّر من حلوة‬ ‫كان مشهدا ً فظيعا ً ‪ ،‬والفأر يتل ّ‬
‫مستغرقا ً‬ ‫ن فرديناند كان يلزم الهدوء ‪ُ ،‬‬ ‫الروح ‪ ،‬لك ّ‬
‫م وُيثرثر بينه وبين نفسه‬ ‫تماما ً فيما يفعل ‪ُ ،‬يغمغ ُ‬
‫حول أطايب اللحم ‪ .‬وُيعلن بعد انتهاء عملية التحمير‬
‫طعه قطعا ً‬ ‫‪ ،‬عن إفطارٍ فخم للقائد ‪ ،‬ومن ثم ‪ُ ،‬يق ّ‬
‫م‬
‫ي ‪ ،‬ويلته ُ‬ ‫ولعابه يسيل وعلى وجهه تكشير شيطان ّ‬
‫المخلوق حتى آخره ‪ ،‬ويبصق بعناية الِعظام أثناء‬
‫المضغ ‪ .‬وكان يضع الِعظام على عتبة النافذة لكي‬
‫ف ‪ ،‬وأخيرا ً يستخدمها كقطع يستفيد منها في‬ ‫تج ّ‬
‫سفنه – كصواري أو سواري أعلم أو رماح صيد‬
‫كك أضلع صدر فأر‬ ‫الحيتان ‪ .‬وأذكر أنه ذات مرة ف ّ‬
‫واستخدمها كمجاديف من أجل سفينة شراعية ‪.‬‬
‫م جمجمة فأر كتمثال‬ ‫وفي مناسبة أخرى ‪ ،‬استخد َ‬
‫ن‬
‫دمة سفينة قراصنة شراعية ‪ .‬ويجب أ ْ‬ ‫ثّبته على مق ّ‬
‫أعترف أنه كان عمل ً صغيرا ً لمعا ً ‪ ،‬على الرغم من‬
‫ن منظره كان ُيثير اشمئزازي ‪.‬‬ ‫أ ّ‬
‫في أيام الجو الصافي كان فرديناند يتمركز على‬
‫كرسيه أمام النافذة المفتوحة ‪ ،‬ويضع وسادته على‬
‫عتبتها ‪ ،‬ويجلس هناك على امتداد ساعات طويلة ‪،‬‬

‫‪65‬‬
‫جاثما ً نحو المام ‪ ،‬وذقنه بين يديه ‪ُ ،‬يرسل نظره‬
‫إلى الشارع في السفل ‪ .‬وكان من المستحيل‬
‫كر فيه ‪ ،‬بما أنه لم ينطق أي كلمة ‪،‬‬ ‫معرفة ما ُيف ّ‬
‫لكنه كان بين حين وآخر ‪ ،‬فلنُقل كل ساعة أو‬
‫ساعتين بعد إحدى فترات اليقظة الطويلة تلك ‪ ،‬يبدأ‬
‫رغا ً سيول ً من الهراء‬ ‫مف ِ‬
‫ت ضارٍ ‪ُ ،‬‬ ‫بالثرثرة بصو ٍ‬
‫الشرس ‪ .‬فيهدر " اطحنوهم ‪ ،‬اطحنوهم وانثروا‬
‫رمادهم ‪ .‬الخنازير ‪ ،‬عن ِبكرة أبيهم ! هدهدني ‪ ،‬يا‬
‫ث مهما لهثت ‪،‬‬ ‫عدّوي النيق ‪ ،‬لن تنال مني هنا ‪ .‬اله ْ‬
‫سم ٍ‬‫أنا آمن هنا " ‪ .‬ويتدفق الهراء بعد الهراء منه ك ُ‬
‫م في دمه ‪ .‬كان يصخب ويهذي هكذا على مدى‬ ‫تراك َ‬
‫خمس عشرة أو عشرين دقيقة ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬على‬
‫جل ‪ ،‬وبل إنذار ‪ ،‬يعود إلى الصمت من جديد ‪،‬‬ ‫عَ َ‬
‫ت فجأة ‪.‬‬ ‫ة داخله قد هدأ ْ‬ ‫ن عاصف ً‬ ‫وكأ ّ‬
‫ت‬‫ت فيها هناك ‪ ،‬أخذ ْ‬ ‫خلل الشهر التي أقم ُ‬
‫سفن فرديناند تصبح تدريجيا ً أصغر فأصغر ‪.‬‬
‫ل زجاجات الويسكي والبيرة بزجاجات‬ ‫واستبد َ‬
‫سعال وأنابيب الختبار ‪ ،‬ثم بقوارير العطر‬ ‫شراب ال ٌ‬
‫ن أصبح ُينشئ سفنا ً بأبعادٍ‬ ‫الفارغة ‪ ،‬إلى أ ْ‬
‫ميكروسكوبّية ‪ .‬لم أفهم اجتهاده ‪ ،‬ومع ذلك لم يبد ُ‬
‫صغَُر حجم السفينة ‪،‬‬ ‫ن فرديناند يتعب منه ‪ .‬وكلما َ‬ ‫أ ّ‬
‫ت‬ ‫ازداد تعّلقه بها ‪ .‬وفي مناسبة أو اثنتين ‪ ،‬استيقظ ُ‬
‫كر قليل ً عن المعتاد لرى‬ ‫صباحا ً في وقت ُ‬
‫مب ّ‬
‫فرديناند جالسا ً عند النافذة ورافعا ً إحدى السفن في‬
‫الهواء ‪ ،‬يلعب بها كطفل في السادسة ‪ ،‬وهو ُيحّركها‬
‫في الجو مع إصدار صوت هدير ‪ ،‬وُيطِلقها في‬
‫ت متنوعة ‪،‬‬ ‫ي ‪ ،‬وُيغمغم لنفسه بأصوا ٍ‬ ‫ط وهم ّ‬ ‫محي ٍ‬
‫وكأنه يقوم بأدوارٍ في لعبةٍ من ابتكاره ‪ .‬يا لفرديناند‬
‫الحمق المسكين ‪ .‬وذات ليلة قال لي ‪ ،‬وهو يتباهى‬

‫‪66‬‬
‫صغَُر حجمها كان أفضل ‪.‬‬ ‫بإنجازاته كفّنان ‪ " ،‬كلما َ‬
‫نل‬ ‫وذات يوم سأصنعُ سفينة صغيرة إلى درجة أ ّ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫أحد سيتمكن من رؤيتها ‪ .‬عندئذٍ ستعرفين مع َ‬
‫تتعاملين ‪ ،‬أيتها العاهرة الصغيرة الذكية ‪ .‬سفينة من‬
‫صغر بحيث لن يراها أحد ! سوف يؤّلفون كتابا ً‬ ‫ال ِ‬
‫ن أنا ‪،‬‬ ‫م ْ‬‫عني ‪ ،‬وسأصبح مشهورا ً ‪ .‬عندئذ ٍ ستعرفين َ‬
‫يا عاهرتي الصغيرة الخبيثة ‪ .‬لن تعرفي أبدا ً ما الذي‬
‫م بك ‪ .‬ها ‪ ،‬ها ! لن تعرفي أبدا ً ! "‬‫أل ّ‬

‫عشنا في غرفةٍ متوسطة الحجم ‪ ،‬مساحتها‬


‫دما ً عرضا ً وعشرين طول ً ‪ .‬كانت‬ ‫خمسة عشر قَ َ‬
‫مخّيم صغيرة ‪ ،‬وطاولة ‪،‬‬ ‫هناك مغسلة ‪ ،‬ومدفأة ُ‬
‫ف ثالث – ومبولة حجرة النوم‬ ‫وكرسيان – لحقا ً ُأضي َ‬
‫في الركن ‪ ،‬يفصلها عن باقي الغرفة ملءة رقيقة ‪.‬‬
‫ل من‬ ‫وكان فرديناند وإيزابل ينامان منفصَلين ‪ ،‬ك ٌ‬
‫ت في ثالث ‪ .‬لم تكن هناك‬ ‫ن مختلف ‪ ،‬وأنا نم ُ‬ ‫رك ٍ‬
‫أسّرة ‪ ،‬بل بطانية مطوية تحتي لتفصلني عن‬
‫مقارنة مع الشهر‬ ‫الرضّية ‪ ،‬ولم أكن منزعجة ‪ .‬و ُ‬
‫ت مرتاحة جدا ً ‪.‬‬‫التي أمضيتها في العراء ‪ ،‬كن ُ‬
‫جعل حضوري المور أسهل على إيزابل ‪ ،‬وبدا‬
‫لفترة من الزمن أنها استعادت شيئا ً من قوتها ‪.‬‬
‫كانت تؤدي العمال كلها – تصّيد الغراض في‬
‫الشوارع ‪ ،‬زيارات لوكالة النعاش ‪ ،‬وشراء الطعام‬
‫من السوق المحلّية ‪ ،‬وطبخ وجبة العشاء في‬
‫المنزل ‪ ،‬وإفراغ الوساخ في الصباح – وعلى الق ّ‬
‫ل‬
‫أصبح هناك الن شخص ُيقاسمها حمل العبء ‪.‬‬
‫وخلل السابيع القليلة الولى ‪ ،‬كنا نفعل كل شيء‬
‫معا ً ‪ .‬وعندما أستعيد الماضي الن ‪ ،‬أقول إنها كانت‬
‫أفضل اليام التي عشناها ‪ :‬كنا نخرج نحن الثنتين‬

‫‪67‬‬
‫إلى الشارع قبل طلوع الشمس ‪ ،‬نقوم بجولت في‬
‫فرة ‪ ،‬والجادات‬ ‫الفجر الهادئ ‪ ،‬في الزقة المق ِ‬
‫ن الوقت كان ربيعا ً‬ ‫محيطة بها ‪ .‬أعتقد أ ّ‬ ‫العريضة ال ُ‬
‫حينئذ ٍ ‪ ،‬في الجزء الخير من شهر نيسان ‪ ،‬وكان‬
‫ل خادع ‪ ،‬جيدا ً جدا ً إلى درجة أن َ‬
‫ك‬ ‫الطقس جيدا ً بشك ٍ‬
‫ن البرد‬ ‫ت تشعر أنها لن ُتمطر بعد ذلك أبدا ً ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫كن َ‬
‫والريح قد اختفيا إلى البد ‪ .‬كنا نأخذ معنا عربة‬
‫واحدة فقط ‪ ،‬تاركين الخرى في المنزل ‪ ،‬وأدفعها‬
‫أمامي ببطء ‪ ،‬وأمشى بالتزامن مع خطوة إيزابل ‪،‬‬
‫ن تجد سبيلها ‪ ،‬وتستوعب المكان من‬ ‫وأنتظر أ ْ‬
‫حولها ‪ .‬كل ما قالته عن نفسها كان صحيحا ً ‪ .‬كانت‬
‫تتمتع بموهبة خارقة في ذلك النوع من العمال ‪،‬‬
‫وحتى وهي في أضعف حالتها كانت بارعة كأي‬
‫ت أشعر أنها شيطان ‪،‬‬ ‫شخص راقبته ‪ .‬أحيانا ً كن ُ‬
‫ساحرة بكل ما في الكلمة من معنى ‪ ,‬تعثُر على‬
‫ح عليها كي ُتخبرني‬ ‫ت أل ّ‬‫سحر ‪ .‬وكن ُ‬ ‫الشياء بقوة ال ِ‬
‫ن تبوح بالكثير ‪.‬‬ ‫كيف تفعل ذلك ‪ ،‬لكنها لم تستطع أ ْ‬
‫كر برصانة بضع دقائق ومن ثم‬ ‫كانت تسكت ‪ ،‬وتف ّ‬
‫م حول اللتزام بالمر وعدم التخّلي‬ ‫ُتدلي بتعليق عا ّ‬
‫عن المل – بتعبيرات غاية في البهام بحيث أنها لم‬
‫دم لي أي مساعدة ‪ .‬وما تعّلمته في نهاية المر‬ ‫تق ّ‬
‫ت عليه من المراقبة ‪ ،‬وليس الصغاء ‪،‬‬ ‫منها حصل ُ‬
‫واستوعبُته بما ُيشبه عملية التناضح ‪ ،‬بالطريقة‬
‫نفسها التي تتعّلم بها لغة جديدة ‪ .‬كنا ننطلق بل‬
‫هدى ‪ ،‬نتجول عشوائيا ً بصورة أو بأخرى إلى أ ْ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫س حول المكان الذي ينبغي أ ْ‬ ‫ينتاب إيزابل حد ٌ‬
‫نبحث فيه ‪ ،‬فأهرول إلى البقعة ‪ ،‬تاركة إياها ورائي‬
‫لكي تحرس العربة ‪ .‬وإذا أخذنا في العتبار قِّلة‬
‫ن الغنائم كانت جيدة ‪،‬‬ ‫الشوارع في ذلك الوقت ‪ ،‬فإ ّ‬

‫‪68‬‬
‫ل ‪ ،‬وبل ريب كان‬ ‫أو تعيننا على الستمرار على الق ّ‬
‫عملنا معا ً مفيدا ً ‪ .‬لكننا لم نكن نتكّلم كثيرا ً ونحن‬
‫ذرتني منه إيزابل‬ ‫نجوب الشوارع ‪ .‬وهذا خطر ح ّ‬
‫كري في أي شيء آخر ‪ ،‬كما‬ ‫مرات عديدة ‪ .‬ل تف ّ‬
‫قالت ‪ .‬فقط ذوبي في الشارع وتظاهري‬
‫مل ؛ ل حزن أو‬ ‫ن جسمك ل وجود له ‪ .‬ل تأ ّ‬ ‫بأ ّ‬
‫سعادة ؛ ل شيء غير الشارع ‪ ،‬وكل شيء‬
‫كزي فقط على‬ ‫فارغ في الداخل ‪ ،‬ر ّ‬
‫الخطوة التالية التي ستتخذينها ‪ .‬وهذه ‪،‬‬
‫دتني بها ‪ ،‬هي‬ ‫من بين كل النصائح التي أم ّ‬
‫همُتها ‪.‬‬ ‫الوحيدة التي ف ِ‬
‫ولكن ‪ ،‬حتى بتوّفر مساعدتي ‪ ،‬والميال القليلة‬
‫ن تمشيها في كل يوم ‪ ،‬إل‬ ‫التي كان على إيزابل أ ْ‬
‫ت تخور ‪ .‬وشيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬ازدادت‬ ‫ن ِقواها بدأ ْ‬ ‫أ ّ‬
‫الصعوبة عليها في القيام بعمل خارج المنزل ‪،‬‬
‫طوال التي تقضيها سيرا ً‬ ‫ومناقشة أمر الساعات ال ِ‬
‫على قدميها ‪ ،‬وفي صباح أحد اليام حدث المحتوم ‪،‬‬
‫ن تنهض ‪ ،‬كانت آلم‬ ‫ولم يُعد في استطاعتها أ ْ‬
‫ت وحدي ‪ .‬ومنذ ذلك اليوم‬ ‫ساقيها تتفاقم ‪ ،‬وخرج ُ‬
‫ت أقوم بالعمل كله ‪.‬‬ ‫فصاعدا ً ‪ ،‬صر ُ‬
‫ن هذه حقائق ‪ ،‬وأنا أسردها عليك واحدة بعد‬ ‫إ ّ‬
‫أخرى ‪ .‬لقد توليت شؤون المنزل يوما ً بعد يوم ‪.‬‬
‫ت المسؤولة الوحيدة ‪ ،‬التي تقوم بكل شيء ‪.‬‬ ‫كن ُ‬
‫كر‬ ‫ت تذ ُ‬ ‫ك إلى الضحك ‪ .‬أن َ‬ ‫ن هذا سيدفع َ‬ ‫وأنا واثقة أ ّ‬
‫كيف كان وضعي في المنزل ‪ :‬كان هناك طّباخ ‪،‬‬
‫س في أدراج‬ ‫وخادمة ‪ ،‬والغسيل النظيف المطوي ُيد ّ‬
‫مضطرة أبدا ً‬ ‫ن ُ‬‫الخزانة في كل يوم جمعة ‪ .‬لم أك ْ‬
‫إلى تحريك إصبع واحد ‪ .‬العالم كله كان موهوبا ً لي ‪،‬‬
‫ة ‪ :‬دروس العزف على‬ ‫ت أتقّبل ذلك بداه ً‬ ‫وكن ُ‬

‫‪69‬‬
‫البيانو ‪ ،‬ودروس الفن ‪ ،‬وتمضية فصول الصيف على‬
‫شاطئ البحيرة في الريف ‪ ،‬ورحلت إلى خارج‬
‫البلد مع أصدقائي ‪ .‬أما الن فأصبحت كادحة ‪،‬‬
‫ن‬‫صين ما كان يمكن لي أ ْ‬ ‫معيل الوحيد لشخ َ‬ ‫ال ُ‬
‫أقابلهما في حياتي السابقة ‪ .‬إيزابل ‪ ،‬بنقائها وطيبتها‬
‫الجنونيين ؛ وفرديناند ‪ ،‬المنجرف مع نوبات الغضب‬
‫الشرسة والمخبولة ‪ .‬كان المر كله غاية في الغرابة‬
‫ن إيزابل‬‫ن الحقيقة هي أ ّ‬ ‫‪ ،‬وبعيد الحتمال ‪ .‬لك ّ‬
‫ت حياتي تماما ً كما أنقذ ُ‬
‫ت أنا حياتها ‪ ،‬ولم‬ ‫أنقذ ْ‬
‫ن أمتنع عن تقديم ما في‬ ‫يخطر في بالي أبدا ً أ ْ‬
‫وسعي ‪ .‬وتحولت من كوني فتاة صغيرة مشّردة‬
‫أبعداها عن الشارع ‪ ،‬إلى المعيار المضبوط التي‬
‫حال بينهما وبين الدمار الشامل ‪ .‬فمن دوني ما كانا‬
‫ن‬
‫خر بشأ ْ‬ ‫استمّرا عشرة أيام ‪ .‬ل أعني بكلمي التفا ُ‬
‫ما فعلته ‪ ،‬ولكن للمرة الولى في حياتي أصبح هناك‬
‫ي ‪ ،‬وأنا لم أخذلهم ‪.‬‬ ‫أناس يعتمدون عل ّ‬

‫في البداية ‪ ،‬كانت إيزابل ُتصّر على أنها على ما‬


‫ن بضعة أيام من‬ ‫ُيرام ‪ ،‬وأنه ليس بها أي خطب وأ ّ‬
‫ن ُتشفيها ‪ .‬كانت تقول لي عند‬ ‫الراحة ل يمكن أ ْ‬
‫ي‬
‫مغادرتي في الصباح " سوف أقف على قدم ّ‬
‫ن سرعان‬ ‫سريعا ً ‪ .‬إنها مجرد مشكلة عابرة " ‪ .‬ولك ّ‬
‫ما تداعى ذلك الوهم ‪ .‬وتوالت السابيع ‪ ،‬ولم يتغّير‬
‫ح جليا ً لكلينا أنها‬ ‫حالها ‪ .‬وبحلول منتصف الربيع أصب َ‬
‫ت عندما‬ ‫سن أبدا ً ‪ .‬والضربة القاضية حل ّ ْ‬‫لن تتح ّ‬
‫ل في‬ ‫متعام ٍ‬‫ت إلى بيع عربتها ورخصتها إلى ُ‬ ‫اضطرر ُ‬
‫السوق السوداء في المنطقة السكنية الرابعة ‪ .‬كان‬
‫مطَلق بمرضها ‪ ،‬ولكن لم يكن في‬ ‫ذلك العتراف ال ُ‬
‫وسعنا فعل أي شيء ‪ .‬واستمّر بقاء العربة في‬

‫‪70‬‬
‫ن يستفيد منها أي‬ ‫المنزل يوما ً بعد يوم ‪ ،‬دون أ ْ‬
‫سة إلى المال في ذلك‬ ‫شخص ‪ ،‬وكنا في حاجة ما ّ‬
‫ت إيزابل بنفسها‬ ‫ح ْ‬‫الوقت ‪ .‬وكما كان متوّقعا ً ‪ ،‬اقتر َ‬
‫ن أذهب وأبيعها ‪ ،‬ولكن هذا ل يعني‬ ‫في نهاية المر أ ْ‬
‫أنه لم يكن قاسيا ً عليها ‪.‬‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬تغّيرت العلقة بيننا قليل ً ‪ .‬فلم نعد‬
‫ت بإحساس شديد‬ ‫شريكتين متعادلتين ‪ ،‬ولنها شعر ْ‬
‫بالذنب ‪ ،‬لنها وضعت على كاهلي مزيدا ً من العمل ‪،‬‬
‫ف موقفا ً حاميا ً ‪ ،‬بل وهستيريا ً من‬ ‫ت تق ُ‬‫أصبح ْ‬
‫ت أقوم وحدي بعمل‬ ‫ن بدأ ُ‬ ‫موضوع سعادتي ‪ .‬وبعد أ ْ‬
‫ت حملة من أجل تغيير شكلي ‪ .‬فأنا‬ ‫الغارة ‪ ،‬شن ّ ْ‬
‫صلة يومية بالشوارع ‪ ،‬كما‬ ‫ن تكون لي ِ‬ ‫أجمل من أ ْ‬
‫ت‬
‫ح ْ‬
‫ن ‪ .‬شر َ‬ ‫قالت ‪ ،‬ويجب فعل شيٍء بهذا الشأ ْ‬
‫ك تنطلقين هكذا في صباح‬ ‫ن أرا ِ‬‫مل أ ْ‬ ‫قائلة " ل أتح ّ‬
‫كل يوم ‪ .‬هناك أمور فظيعة تقع للفتيات الصغيرات‬
‫طوال الوقت ‪ ،‬أشياء فظيعة جدا ً ل أستطيع حتى أ ْ‬
‫ن‬
‫آتي على ِذكرها ‪ .‬أوه ‪ ،‬آّنا ‪ ،‬يا طفلتي الصغيرة‬
‫ح نفسي أبدا ً ‪،‬‬ ‫ك الن ‪ ،‬لن أسام َ‬ ‫العزيزة ‪ ،‬إذا خسرت ِ‬
‫سوف أموت في الحال ‪ .‬لم يُعد هناك أي مكان‬
‫ن تتخّلي عن كل ذلك " ‪.‬‬ ‫للغرور ‪ ،‬يا ملكي – يجب أ ْ‬
‫ت تبكي ‪،‬‬ ‫تكّلمت إيزابل بقناعة راسخة حتى أنها بدأ ْ‬
‫ن‬
‫ن أجاريها على أ ْ‬ ‫ت أنه سيكون من الفضل أ ْ‬ ‫وفهم ُ‬
‫ت‬‫أخوض جدال ً معها ‪ .‬والحق أقول ‪ ،‬لقد انزعج ُ‬
‫ت بعضا ً من تلك المور‬ ‫ت قد شهد ُ‬ ‫كثيرا ً ‪ .‬لكني كن ُ‬
‫ن تأتي على ِذكرها ‪،‬‬ ‫التي لم يكن في استطاعتها أ ْ‬
‫ولم يكن لدي الكثير أقوله لناقضها ‪ .‬وأول شيء‬
‫شعري – وكان عمل ً شنيعا ُ ‪.‬‬ ‫ن أعالجه هو َ‬ ‫يأ ْ‬
‫كان عل ّ‬
‫ن أفعله هو أل أنفجر بالبكاء ‪،‬‬ ‫كل ما استطعت أ ْ‬
‫ن أتحّلى‬ ‫وإيزابل تقص شعري ‪ ،‬وتطلب مني أ ْ‬

‫‪71‬‬
‫بالشجاعة ‪ ،‬ومع ذلك كانت ترتجف كلها طوال‬
‫ي‬
‫ن أموم ّ‬ ‫ن تنتحب تعبيرا ً عن حز ٍ‬ ‫تأ ْ‬ ‫الوقت ‪ ،‬وأوشك ْ‬
‫قاتم ‪ ،‬وزادت المور سوءا ً ‪ .‬وكان فرديناند حاضرا ً‬
‫عين‬ ‫أيضا ً ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬جالسا ً في زاويته ‪ ،‬معقود الذرا َ‬
‫ل قاس ‪ .‬ضحك‬ ‫على صدره ‪ُ ،‬يراقب المشهد بانفصا ٍ‬
‫عندما سقط كرسّيي على الرض ‪ ،‬ولما استمّر في‬
‫ت أبدو أقرب شبها ً بحاجز ‪،‬‬ ‫السقوط قال إني بدأ ُ‬
‫ن تفعل إليزابل هذا بي ‪ ،‬الن بعد‬ ‫مضحكا ً أ ّ‬ ‫وأليس ُ‬
‫ف فرجها وأصبح كقطعة من خشب ‪ .‬وكانت‬ ‫ج ّ‬
‫س في أذني " ل ُتصغي إليه ‪ ،‬يا ملكي ‪.‬‬ ‫إيزابل تهم ُ‬
‫ل تولي أيا ً من الشياء الرهيبة التي يقولها أي انتباه‬
‫" ‪ .‬ولكن كان صعبا ً تجاهله ‪ ،‬صعبا ً عدم التأّثر‬
‫بضحكه الخبيث ‪ .‬وعندما انتهت إيزابل أخيرا ً ‪،‬‬
‫ن ألقي نظرة ‪.‬‬ ‫ت مني أ ْ‬ ‫أعطتني مرآةً صغيرة وطلب ْ‬
‫ت شديدة‬ ‫مرعبة ‪ .‬لقد بدو ُ‬ ‫اللحظات الولى كانت ُ‬
‫القبح حتى أني لم أتعّرف على نفسي ‪ .‬وكأني‬
‫ت في‬ ‫م بي ؟ قل ُ‬ ‫ت إلى شخص آخر ‪ .‬ماذا أل ّ‬ ‫تحول ُ‬
‫نفسي ‪ .‬أين أنا ؟ ثم ‪ ،‬في تلك اللحظة بالذات ‪،‬‬
‫انفجر فرديناند من جديد ضاحكا ً ؛ كان ممتلئا ً‬
‫بالنكاية ‪ ،‬وكان ذلك فوق طاقتي على احتماله ‪.‬‬
‫ت ُأصيب وجهه بها ‪.‬‬ ‫ت بالمرآة عبر الغرفة و ُ‬
‫كد ُ‬ ‫أطح ُ‬
‫مّرت من فوق كتفه ‪ ،‬وضربت الحائط ‪ ،‬وسقطت‬
‫شمة ‪ .‬اكتفى فرديناند للحظة أو‬ ‫على الرض مته ّ‬
‫ت ذلك ‪ ،‬ومن‬ ‫دق أني فعل ُ‬ ‫مص ّ‬‫اثنتين بفغر فمه ‪ ،‬غير ُ‬
‫ت إلى إيزابل ‪ ،‬وجسمه كله يهتز من فرط‬ ‫ثم التف َ‬
‫ت هذا ؟‬ ‫الغضب ‪ ،‬ويكاد يفقد عقله ‪ ،‬وقال " أرأي ِ‬
‫ن‬
‫تأ ْ‬ ‫ن تقتلني ! العاهرة القذرة حاول ْ‬ ‫تأ ْ‬
‫لقد حاول ْ‬
‫مستعدة للتعاطف‬ ‫ن إيزابل لم تكن ُ‬ ‫تقتلني ! " لك ّ‬
‫ت أخيرا ً ‪ .‬ومنذ ذلك‬ ‫معه ‪ ،‬وبعد بضع دقائق سك َ‬

‫‪72‬‬
‫ت‬‫ضف كلمة واحدة حول المر ‪ ،‬لم يأ ِ‬ ‫الحين لم ي ُ ِ‬
‫شعري أبدا ً ‪.‬‬ ‫على ِذكر موضوع َ‬
‫ن أتعايش مع الوضع ‪.‬‬ ‫تأ ْ‬ ‫في نهاية المر ‪ ،‬تعّلم ُ‬
‫فكرة هي التي أزعجتني ‪ ،‬ولكن عندما‬ ‫ن ال ِ‬
‫لك ّ‬
‫ت فيه ‪ ،‬لم يبد ُ سيئا ً جدا ً ‪ .‬لم يكن في نّية‬ ‫انخرط ُ‬
‫ن أبدو أشبه بصبي – ل أقنعة ‪،‬‬ ‫إيزابل ‪ ،‬أساسا ً ‪ ،‬أ ْ‬
‫ي‬
‫صفة النثوية لد ّ‬ ‫ول شوارب – بل فقط لتجعل ال ِ‬
‫ت عليها ‪ .‬وعلى‬ ‫ل بروزا ً ‪ ،‬أو نتوءاتي ‪ ،‬كما أطلَق ْ‬ ‫أق ّ‬
‫دعاء بأني كذلك‬ ‫غلمّية ‪ ،‬وال ّ‬ ‫أي حال لم أكن مرة ُ‬
‫ت تذكر أحمر شفاهي‬ ‫الن لم يكن لينجح ‪ .‬أن َ‬
‫والقراط الفاضحة ‪ ،‬وتنانيري الضيقة والحواشي‬
‫ن أرتدي وأقوم بدور‬ ‫تأ ْ‬ ‫الضئيلة ‪ .‬ولطالما أحبب ُ‬
‫مغرية الرجال ‪ ،‬حتى ونحن أطفال ‪ .‬وما أرادته‬ ‫ُ‬
‫ت النتباه إل بأقل قدر‬ ‫ُ‬
‫ف ْ‬ ‫ن ل أل ِ‬ ‫إيزابل كان يعني لي أ ْ‬
‫ن الرؤوس لن تستدير نحوي‬ ‫كد من أ ّ‬ ‫ممكن ‪ ،‬والتأ ّ‬
‫صت شعري ‪ ،‬أعطتني‬ ‫نق ّ‬ ‫وأنا ماّرة ‪ .‬وهكذا ‪ ،‬بعد أ ْ‬
‫قلنسوة ‪ ،‬وسترة فضفاضة ‪ ،‬وبنطال ً من الصوف ‪،‬‬
‫وحذاًء ضخما ً – كانت قد اشترته حديثا ً لنفسها ‪ .‬كان‬
‫ن زوجا ً من‬
‫الحذاء واسعا ً أكثر مما ينبغي ‪ ،‬ولك ْ‬
‫الجوارب الكبيرة بدا أنه يقضي على مشكلة تقّرح‬
‫ن تدّثر جسمي بتلك الملبس ‪ ،‬أصبح‬ ‫الجلد ‪ .‬وبعد أ ْ‬
‫ثدياي وردفاي مختفية تماما ً ‪ ،‬بحيث لم يبقَ ما‬
‫مخّيلة قوية‬ ‫يشتهيه أي رجل ‪ .‬وكان يتطّلب المر ُ‬
‫لمعرفة ما يكمن هناك ‪ ،‬وإذا كان في المدينة أي‬
‫نقص فهو في المخّيلة ‪.‬‬
‫ت ‪ .‬أستيقظ باكرا ً في الصباح وأخرج ‪،‬‬ ‫هكذا عش ُ‬
‫وأقضي اليام الطويلة في الشوارع ‪ ،‬ومن ثم أعود‬
‫ت غارقة في العمل‬ ‫إلى المنزل من جديد ليل ً ‪ .‬كن ُ‬
‫دة‬ ‫كر كثيرا ً في أي شيء ‪ ،‬ومن ِ‬
‫ش ّ‬ ‫بحيث ل أف ّ‬

‫‪73‬‬
‫الرهاق بحيث ل أبتعد عن نفسي وأنظر أمامي ‪،‬‬
‫وفي كل ليلة بعد تناول طعام العشاء لم أكن أرغب‬
‫إل بالنهيار في ركني والستغراق في النوم ‪ .‬ولسوء‬
‫ت تغييرا ً في‬ ‫الحظ ‪ ،‬كانت واقعة المرآة قد أحدث َ ْ‬
‫محتمل ‪،‬‬ ‫فرديناند ‪ ،‬وازداد التوّتر بيننا وكاد يغدو غير ُ‬
‫بالضافة إلى أنه أصبح يمضي أيامه في المنزل مع‬
‫ت‬‫إيزابل – مما حرمه من حّريته وعزلته – وأصبح ُ‬
‫ت قريبة منه ‪ .‬وأنا ل أتحدث‬ ‫مركز انتباهه كلما كن ُ‬
‫مر ‪ ،‬ول عن عمليات التنقيب الصغيرة‬ ‫فقط عن التذ ّ‬
‫المستمرة لكي يعرف كم كسبت من نقود أو‬
‫الطعام الذي جلبته إلى المنزل من أجل وجباتنا ‪ .‬كل‬
‫‪ ،‬فهذا كله كان متوّقعا ً منه ‪ .‬المشكلة كانت أفظع‬
‫من ذلك ‪ ،‬وأشد ّ تدميرا ً في الحنق الكامن وراءها ‪.‬‬
‫ت فجـأةً متنّفس فرديناند الوحيد ‪،‬‬ ‫فقد أصبح ُ‬
‫السبيل الوحيد للهروب من إيزابل ‪ ،‬ولنه كان‬
‫ذبه ‪ ،‬خرج عن‬ ‫ن وجودي بحد ّ ذاته كان ُيع ّ‬ ‫يمقتني ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي ‪ .‬كان‬ ‫مسلكه في جعل المور شديدة الصعوبة عل ّ‬
‫ب حياتي بكل ما في الكلمة من معنى ‪،‬‬ ‫ُيخّر ُ‬
‫ي ألف‬ ‫ن عل ّ‬ ‫وُيضايقني في كل فرصة ُتتاح له ‪،‬و يش ّ‬
‫ت‬‫هجوم ٍ صغير بحيث ل أجد سبيل ً لتفاديها ‪ .‬وأدرك ُ‬
‫كر إلى أين سيؤدي بي ذلك كله ‪ ،‬ولكن‬ ‫مب ِ‬‫ت ُ‬‫في وق ٍ‬
‫ل شيء هّيأني له ‪ ،‬ولم أعرف كيف أدافع عن‬
‫نفسي ‪.‬‬
‫ت تعرف كل شيء عني ‪ .‬تعرف ما يحتاجه‬ ‫أن َ‬
‫جسمي وما ل يحتاجه ‪ ،‬أي صراخ وجوع يكمن فيه ‪.‬‬
‫ن كهذا ‪.‬‬ ‫ن هذه الشياء ل تختفي ‪ ،‬حتى في مكا ٍ‬ ‫إ ّ‬
‫ل هنا ‪،‬‬ ‫ص النغماس في الفكار أق ّ‬ ‫ن ُفر َ‬ ‫يأ ّ‬ ‫بديه ّ‬
‫مستعدا ً‬ ‫ن تكون ُ‬ ‫وعندما تسير في الشوارع يجب أ ْ‬
‫ف‬
‫ن ُتطّهر ذهنك من كل انحرا ٍ‬ ‫حتى الصميم ‪ ،‬أ ْ‬

‫‪74‬‬
‫ي – ومع ذلك ‪ ،‬هناك لحظات تكون خللها‬ ‫جنس ّ‬
‫وحدك ‪ ،‬في السرير ليل ً مثل ً ‪ ،‬والعالم من حولك‬
‫كله ظلم ‪ ،‬وُيصبح صعبا ً أل ّ تتخّيل نفسك في أوضاع‬
‫متنوعة ‪ .‬ل أنكُر مدى شعوري بالوحدة وأنا في‬
‫ك إلى‬ ‫ن تدفع َ‬ ‫ن مثل هذه الشياء يمكن أ ْ‬ ‫زاويتي ‪ .‬إ ّ‬
‫مرّوع ‪،‬‬ ‫الجنون أحيانا ً ‪ .‬تشعر بوجع داخلك ‪ ،‬وجع ُ‬
‫صاخب ‪ ،‬وإذا لم تفعل شيئا ً لعلجه ‪ ،‬لن ينتهي ‪.‬‬
‫ط نفسي ‪ ،‬ولكن‬ ‫ن أضب َ‬ ‫تأ ْ‬‫ويعلم الله أني حاول ُ‬
‫أحيانا ً لم تكن تبقى لديّ قدرة على الحتمال ‪ ،‬أحيانا ً‬
‫ي‬
‫ض عين ّ‬ ‫ت أغم ُ‬ ‫ن قلبي سينفجر ‪ .‬كن ُ‬ ‫بأ ّ‬‫ت أحس ُ‬ ‫كن ُ‬
‫ن دماغي يكون في‬ ‫لك‬ ‫‪،‬‬ ‫النوم‬ ‫على‬ ‫نفسي‬ ‫بر‬ ‫وُ‬
‫أج‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ج بصور النهار الذي‬ ‫حالة اضطراب شديد ‪ ،‬يض ّ‬
‫ي بصخب الشوارع والجساد ‪،‬‬ ‫ل عل ّ‬ ‫عشته توا ً ‪ ،‬ينها ُ‬
‫ن في ذهني لكي تزيد‬ ‫ومهانات فرديناند ل تزال تر ّ‬
‫ن‬
‫في التشويش التام ‪ ،‬ويرفض النوم ببساطة أ ْ‬
‫يأتيني ‪ .‬والشيء الوحيد الذي كان له أي تأثير هو‬
‫الستمناء ‪ .‬اغفر لي فظاظتي ‪ ،‬لكني ل أرى أي‬
‫ف لنا‬ ‫ل شائع وكا ٍ‬ ‫معنى لتصّنع الكلمات ‪ .‬إنه ح ٌ‬
‫جميعا ً ‪ ،‬وفي ظل الظروف الراهنة ‪ ،‬لم يكن لد ّ‬
‫ي‬
‫ت أبدأ بلمس جسدي ‪ ،‬بل‬ ‫الكثير من الخيارات ‪ .‬كن ُ‬
‫ن يديّ تنتميان إلى شخص‬ ‫وعي تقريبا ً ‪ ،‬متظاهرة بأ ّ‬
‫ب‬‫ي يديّ بخّفة على بطني ‪ ،‬وأداع ُ‬ ‫ك راحت ّ‬ ‫آخر‪ -‬وأدل ّ ُ‬
‫ي‬‫ض على ردف ّ‬ ‫داخل فخذيّ ‪ ،‬بل إني أحيانا ً أقب ُ‬
‫ن هناك اثنين مني‬ ‫ك اللحم بأظافري ‪ ،‬وكأ ّ‬ ‫وأدع ُ‬
‫محزنة‬ ‫ن هذا مجرد لعبة ُ‬ ‫ونحن متعانقان ‪ .‬أنا أفهم أ ّ‬
‫ن جسدي مع ذلك كان يستجيب لتلك‬ ‫قليل ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫معُ في‬ ‫الخدع ‪ ،‬وأخيرا ً أشعُر بسيل الرطوبة يتج ّ‬
‫السفل ‪ ،‬ويقوم الصبع الوسط من يدي اليمنى‬
‫عظامي على‬ ‫بالباقي ‪ .‬وعندما أنتهي ‪ ،‬يسري في ِ‬

‫‪75‬‬
‫ن أستغرق أخيرا ً‬ ‫ي إلى أ ْ‬ ‫قل على جفن ّ‬ ‫الفور وهن ‪ُ ،‬يث ِ‬
‫في النوم ‪.‬‬
‫ربما كان كل شيء على ما يرام وجيد ‪ .‬المشكلة‬
‫هي أنه في مثل تلك الحياء المزدحمة كان من‬
‫ل‬‫ت في ليا ٍ‬ ‫ل صوت ‪ ،‬ولبد أني زلل ُ‬ ‫الخطر إصدار أق ّ‬
‫ن تفلت مني في‬ ‫ت لهة أو همسة أ ْ‬ ‫معّينة‪ ،‬وسمح ُ‬
‫ت‬‫اللحظة الحاسمة ‪ .‬أقول هذا لني سرعان ما عِلم ُ‬
‫ي ‪ ،‬ومع شخص صاحب‬ ‫ن فرديناند كان يستمع إل ّ‬ ‫أ ّ‬
‫عقل خسيس مثله ‪ ،‬لم يستغرق منه طويل ً ليفهم‬
‫صبغة‬‫كنه المر ‪ .‬وشيئا ً فشيئا ً أضحت إهاناته ذات ِ‬
‫مزاح القبيح ‪.‬‬ ‫جنسية أكثر – وابل ً من التلميحات وال ٌُ‬
‫فتارة ً يدعوني عاهرة حقيرة قذرة الخيال ‪ ،‬وتارة‬
‫يقول ل رجل يرغب في لمس حيوان بارد مثلي –‬
‫ي من كل‬ ‫وكل عبارة تناقض سابقتها ‪ ،‬تنهال عل ّ‬
‫جانب ‪ ،‬وبل توقف ‪ .‬كان أمرا ً حقيرا ً من أوله إلى‬
‫ت أنه سينتهي نهاية سيئة علينا كلنا ‪.‬‬ ‫آخره ‪ ،‬وعرف ُ‬
‫كانت هناك بذرة مستقّرة في عقل فرديناند ‪ ،‬ول‬
‫سبيل إلى إخراجها ‪ .‬كان يستجمع شجاعته ‪ ،‬وُيسرع‬
‫ت أنه في كل يوم يزداد وقاحة ‪،‬‬ ‫في العمل ‪ ،‬ولحظ ُ‬
‫طة ‪.‬‬‫ويكتسب ثقة في النفس ‪ ،‬وُيكّرس نفسه للخ ّ‬
‫ت قد مررت بمثل تلك التجربة مع جامع المكوس‬ ‫كن ُ‬
‫ن تلك جرت في وضح النهار‪،‬‬ ‫في بولفار ملدون ‪ ،‬لك ّ‬
‫ت قادرة على الفرار منه ‪ .‬وتلك قصة مختلفة ‪.‬‬ ‫وكن ُ‬
‫ن شيئا ً حدث هناك ‪،‬‬ ‫كانت الشقة صغيرة جدا ً ‪ ،‬ولو أ ّ‬
‫ن النوم‬‫لوقعت في الفخ ‪ .‬ولم أدرِ ماذا أفعل ‪ ،‬ل ّ‬
‫جافاني من جديد ‪.‬‬
‫ت أي شهر ‪ .‬أذكُر‬ ‫كان الوقت صيفا ً ‪ ،‬نسي ُ‬
‫الحرارة ‪ ،‬واليام الطويلة التي تغلي في الدم ‪،‬‬
‫والليالي الخالية من الهواء ‪ .‬كانت الشمس تغرب ‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫مثقل ً بالروائح‬ ‫معّلقا ً فوقك ‪ُ ،‬‬
‫ن الهواء الحاّر يبقى ُ‬ ‫لك ّ‬
‫مل ‪ .‬في واحدة من تلك الليالي قام‬ ‫التي ل ُتحت َ َ‬
‫فرديناند أخيرا ً بحركته – قاطعا ً أرض الغرفة على‬
‫مقتربا ً من سريري بتسّلل أحمق ‪ .‬ولسباب‬ ‫أربع ‪ ،‬و ُ‬
‫ت‬ ‫ل أزال أجهلها ‪ ،‬زال رعبي كله لحظة لمسني ‪ .‬كن ُ‬
‫مستلقية هناك في الظلم ‪ ،‬أتظاهُر بأني نائمة ‪ ،‬ل‬ ‫ُ‬
‫ن أقاومه أم أكتفي بالصراخ‬ ‫ن كان يجب أ ْ‬ ‫أدري إ ْ‬
‫بأعلى صوتي ‪ .‬وفجأة تجّلى لي أنه يجب أل أفعل أيا ً‬
‫من المرين ‪ .‬وضعَ فرديناند يده على ثديي وأصدَر‬
‫ة صغيرة شبه مكبوتة ‪ ،‬واحد من تلك الصوات‬ ‫ضحك ً‬
‫النيقة ‪ ،‬الخسيسة التي ل تصدر إل عن أناس هم‬
‫ت بدّقة‬ ‫عداد الموتى ‪ ،‬وفي تلك اللحظة عرف ُ‬ ‫في ِ‬
‫ماذا سأفعل ‪ .‬كان في تلك المعرفة يقين عميق لم‬
‫أشعر به من قبل ‪ .‬لم أقاوم ‪ ،‬ولم أصرخ ‪ ،‬ولم‬
‫ي من أي جزء مني ‪ .‬بدا أّنه لم‬ ‫ل ذات ّ‬ ‫يصدر أي رد ّ فع ٍ‬
‫م ‪ .‬أعني ل شيء على الطلق ‪.‬‬ ‫يُعد أي شيء يه ّ‬
‫كان هناك هذا النوع من اليقين في داخلي ‪ ،‬وقد‬
‫ت‬‫مر كل شيء آخر ‪ .‬ولحظة لمسني فرديناند عرف ُ‬ ‫د ّ‬
‫أني سأقتله ‪ ،‬وكان يقيني من القوة ‪ ،‬والسطوة ‪،‬‬
‫ما أضمره ‪ ،‬لكي يفهم‬ ‫ت أتوقف وأخبره ع ّ‬ ‫حتى كد ُ‬
‫رأيي فيه ولماذا يسـتحق الموت ‪.‬‬
‫ب بجسمه مني ‪ ،‬متمددا ً على طول حافة‬ ‫اقتر َ‬
‫ك وجهه الخشن على عنقي ‪ ،‬وهو‬ ‫الحشّية ‪ ،‬وبدأ يح ّ‬
‫م لي كيف أنه كان على حق طوال الوقت ‪،‬‬ ‫ُيغمغ ُ‬
‫ونعم ‪ ،‬سوف يقوم بمضاجعتي ‪ ،‬ونعم ‪ ،‬سوف أحب‬
‫كل لحظة منها ‪ .‬كانت أنفاسه تفوح برائحة اللحم‬
‫مقدد والّلفت الذي كنا قد تناولناه على العشاء ‪،‬‬ ‫ال ُ‬
‫وكان كلنا يتصّبب عرقا ً ‪ ،‬وجسدانا مكسوان بالعرق‬
‫‪ .‬كان الهواء خانقا ً في تلك الغرفة ‪ ،‬وساكنا ً تماما ً ‪،‬‬

‫‪77‬‬
‫وكلما لمسني شعرت بالماء المالح ينزلقُ على‬
‫ت‬‫بشرتي ‪ .‬لم أفعل أي شيء لوِقفه ‪ ،‬واكتفي ُ‬
‫دد منهكة وبل شغف ولم أُفه بأي كلمة ‪ .‬وبعد‬ ‫بالتم ّ‬
‫ت بذلك ‪ ،‬شعرت به‬ ‫قليل ‪ ،‬بدأ ينسى نفسه ‪ ،‬شعر ُ‬
‫ت‬‫يغزو جسدي ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬عندما بدأ يعتليني ‪ ،‬أطبق ُ‬
‫ت ذلك بخّفة في أول‬ ‫أظافر يديّ حول عنقه ‪ .‬فعل ُ‬
‫ت‬
‫ث معه ‪ ،‬وكأني استسلم ُ‬ ‫متظاهرة ً بأني أعب ُ‬ ‫المر ‪ُ ،‬‬
‫أخيرا ً لسحره ‪ ،‬سحره الذي ل ُيقاَوم ‪ ،‬ولهذا السبب‬
‫ت أضغط ‪ ،‬فصدر عن‬ ‫لم يشك في شيء ‪ .‬ثم بدأ ُ‬
‫حنجرته صوت صغير حاد ّ ومكتوم ‪ .‬في تلك‬
‫ن باشرت الضغط ‪،‬‬ ‫اللحظة الولى بعد أ ْ‬
‫غ‪،‬‬ ‫ت بسعادة غامرة ‪ ،‬بإحساس طا ٍ‬ ‫شعر ُ‬
‫ة داخلّية‬ ‫ت عتب ً‬ ‫جامح ‪ ،‬بالنشوة ‪ .‬وكأني اجتز ُ‬
‫م مختلفا ً ‪ ،‬مكانا ً من‬ ‫ح العال ُ‬ ‫‪ ،‬وفجأةً أصب َ‬
‫ت‬
‫البساطة التي ل تخطر على بال ‪ .‬أغمض ُ‬
‫ت أشعر كأني أطير في‬ ‫ي ‪ ،‬ومن ثم بدأ ُ‬ ‫عين ّ‬
‫ه‬
‫ل ل متنا ٍ‬ ‫ك في أرجاء لي ٍ‬ ‫ل ‪ ،‬أتحّر ُ‬ ‫ء خا ٍ‬ ‫فضا ٍ‬
‫من الظلم والنجوم ‪ .‬وطوال مدة قبضي‬
‫ت خارج‬ ‫حّرة ‪ .‬كن ُ‬‫ت ُ‬ ‫على عنق فرديناند ‪ ،‬كن ُ‬
‫جاذبية الرض ‪ ،‬خارج الليل ‪ ،‬خارج أي تفكير‬
‫في نفسي ‪.‬‬
‫ثم كان الجزء الغرب ‪ .‬ففي اللحظة التي بدا‬
‫ن بضع لحظات من الضغط سوف‬ ‫فيها واضحا ً لي أ ّ‬
‫ت سراحه ‪ .‬ول دخل لذلك‬ ‫ُتنهي المر ‪ ،‬أطلق ُ‬
‫بالضعف ‪ ،‬أو بالشفقة ‪ .‬كانت قبضتي حول عنق‬
‫فرديناند قوية كالحديد ‪ ،‬وما كان يمكن لي حركة‬
‫ن ترخيها ‪ .‬والذي حدث هو أني‬ ‫ضرب أو رفس أ ْ‬
‫ت بها ‪ .‬ل‬ ‫ت المتعة التي شعر ُ‬ ‫فجأة وعي ُ‬
‫أدري بأي عبارة أخرى أصفها ‪ ،‬ولكن عند‬

‫‪78‬‬
‫النهاية ‪ ،‬وأنا مستلقية على ظهري في‬
‫رج الحياة‬ ‫ُ‬
‫الظلم القائظ ‪ ،‬وأضغط ببطء لخ ِ‬
‫ت أني ل أقتله ِدفاعا ً عن‬ ‫من فرديناند ‪ ،‬فهم ُ‬
‫النفس – بل أقتله لمجّرد الستمتاع بذلك ‪.‬‬
‫ت‬ ‫وعي فظيع ‪ ،‬وعي فظيع ‪ ،‬فظيع ‪ .‬ترك ُ‬
‫عنق فرديناند ودفعته بعيدا ً عني بأشد‬
‫عنف ‪ .‬ولم أشعر إل بالشمئزاز ‪ ،‬إل‬
‫بالغضب والمرارة ‪ .‬وكاد ل يهم أني‬
‫توقفت ‪ .‬المر كله كان يتعّلق ببضع لحظات‬
‫ت أفضل من‬ ‫ت أني لس ُ‬ ‫‪ ،‬لكني الن أدرك ُ‬
‫فرديناند ‪ ،‬ولست أفضل من أي شخص‬
‫آخر ‪.‬‬
‫شهقَ فرديناند شهقة هائلة وصافرة صدرت من‬
‫ي ‪ ،‬أشبه بنهيق حمار ‪.‬‬ ‫رئتيه ‪ ،‬صوت بائس ‪ ،‬ل إنسان ّ‬
‫ض على حنجرته ‪،‬‬ ‫ذوى منهارا ً على الرض وقب َ‬
‫ب الهواء بيأس ‪،‬‬ ‫وصدره يجيش رعبا ً ‪ ،‬وهو يع ّ‬
‫ظ رذاذا ً ‪ ،‬ويسعل ‪ ،‬ويتقّيأ الكارثة على نفسه ‪.‬‬ ‫ويلف ُ‬
‫ت تعلم ما الذي‬ ‫ت له " الن صرت تفهم ‪ .‬الن ب ّ‬ ‫قل ُ‬
‫يواجهك ‪ .‬في المرة التالية التي تحاول فيها شيئا ً‬
‫كهذا ‪ ،‬لن أكون شديدة الكرم "‬
‫لم أنتظر حتى يبرأ تماما ً ‪ .‬سوف يعيش ‪ ،‬وهذا‬
‫ت ملبسي على‬ ‫ف ‪ .‬ارتدي ُ‬‫ف ‪ ،‬بل أكثر من كا ٍ‬ ‫كا ٍ‬
‫ت‬
‫عجل وغادرت الشقة ‪ ،‬هابطة الد ََرج ومن ثم خرج ُ‬
‫إلى قلب الليل ‪ .‬حدث كل شيء بسرعة كبيرة ‪.‬‬
‫ن المر ‪ ،‬من البداية وحتى النهاية ‪ ،‬لم‬ ‫تأ ّ‬‫وأدرك ُ‬
‫ت إيزابل نائمة‬ ‫يستغرق أكثر من بضع دقائق ‪ .‬وبقي َ ْ‬
‫ت‬
‫خلل ذلك ‪ .‬وهذه معجزة بحد ّ ذاتها ‪ .‬لقد أوشك ُ‬
‫ن أقتل زوجها ‪ ،‬وهي مستغرقة في نومها ل ُتبدي‬ ‫أ ْ‬
‫حراكا ً ‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪79‬‬
‫ت على وجهي مدة ساعتين أو ثلث ‪ ،‬ثم‬ ‫هم ُ‬ ‫ِ‬
‫ت إلى الشقة ‪ .‬كانت الساعة تقترب من‬ ‫رجع ُ‬
‫الرابعة صباحا ً ‪ ،‬وكان فرديناند وإيزابل نائمين في‬
‫زاويتيهما المعتادتين ‪ .‬وأعتقد أنه كان أمامي حتى‬
‫ن يبدأ الجنون ‪ :‬فرديناند‬ ‫الساعة السادسة قبل أ ْ‬
‫وح بذراعيه ‪ ،‬يرغي‬ ‫ب في أرجاء الغرفة ‪ُ ،‬يل ّ‬ ‫يصخ ُ‬
‫دد الجرائم التي ارتكبتها ‪ .‬لم يكن هنا‬ ‫ويزبد ‪ُ ،‬يع ّ‬
‫سبيل إلى تفادي ما حدث ‪ .‬الشيء الوحيد الذي لم‬
‫أكن متأكدة منه هو كيف سيكون رد فعل إيزابل‬
‫ف إلى جانبي ‪،‬‬ ‫عليه ‪ .‬وأخبرتني غريزتي أنها ستق ُ‬
‫لكنني لم أكن متأكدة ‪ .‬فل أحد يعلم أي ولءات‬
‫ستطفو على السطح عند اللحظة الحاسمة ‪ ،‬وأي‬
‫خض في الوقت الذي ل تتوقع‬ ‫ن تتم ّ‬ ‫صراعات يمكن أ ْ‬
‫ن أستعد ّ للسوأ – لِعلمي‬ ‫تأ ْ‬ ‫أبدا ً حصولها ‪ .‬وحاول ُ‬
‫أنه إذا سارت المور ضدي ‪ ،‬فسوف أخرج إلى‬
‫الشوارع من جديد في ذلك اليوم بالذات ‪.‬‬
‫ت أول ً ‪ ،‬كعادتها ‪ .‬لم يكن المر‬ ‫إيزابل استيقظ ْ‬
‫ن آلم ساقيها تكون في العموم‬ ‫سهل ً عليها ‪ ،‬بما أ ّ‬
‫دها في الصباح ‪ ،‬وغالبا ً تمضي عشرون أو‬ ‫على أش ّ‬
‫ن تجد الشجاعة لتنهض واقفة ‪.‬‬ ‫ثلثون دقيقة قبل أ ْ‬
‫وصباح ذلك اليوم بالذات كان شديد الوطأة عليها ‪،‬‬
‫ت‬‫وبينما هي تقوم بعملية استجماع ِقواها ‪ ،‬رح ُ‬
‫أشغل نفسي في أنحاء الشقة كالمعتاد ‪ ،‬في‬
‫ن شيئا ً لم يحدث ‪ :‬غلي ُ‬
‫ت‬ ‫محاولة للتصّرف وكأ ّ‬
‫ت المائدة – التزمت‬ ‫طعت الخبز ‪ ،‬وأعدد ُ‬ ‫الماء ‪ ،‬وق ّ‬
‫بالروتين اليومي ‪ .‬وفي فترات الصباح في المعتاد‬
‫يبقى فرديناند ناعسا ً حتى آخر لحظة ممكنة ‪ ،‬ل‬
‫م رائحة طبخ الثريد‬ ‫ن يش ّ‬ ‫يتزحزح من مكانه إلى أ ْ‬

‫‪80‬‬
‫على المدفأة ‪ ،‬ول توليه أي منا أي انتباه ‪ .‬كان وجهه‬
‫ت إلى أنه‬ ‫متجها ً نحو الجدار ‪ ،‬والظواهر كلها أشار ْ‬
‫ببساطة متمسك بالنوم بعناد أكثر من المعتاد ‪.‬‬
‫وبالنظر إلى ما جرى له في الليلة السابقة ‪ ،‬بدا هذا‬
‫منطقيا ً بقدرٍ معقول ‪ ،‬ولم أف ّ‬
‫كر فيه ‪.‬‬
‫ولكن في نهاية المر أصبح صمته جليا ً ‪ .‬أكملنا أنا‬
‫وإيزابل استعداداتنا المتنوعة وتهّيأنا للجلوس على‬
‫مائدة الفطار ‪ .‬في الحالة العتيادية ‪ ،‬تكون إحدانا‬
‫ت فرديناند ‪ ،‬ولكن في‬ ‫ض ْ‬
‫في ذلك الوقت قد حّر َ‬
‫ن‬‫صباح ذلك اليوم لم تُفه أي منا بأي كلمة ‪ .‬بدا أ ّ‬
‫ت‬‫نوعا ً غريبة من الترّدد يسود الجو ‪ ،‬وبعد قليل بدأ ُ‬
‫ن‬‫أشعر بأّننا نتجّنب إثارة الموضوع عن عمد ‪ ،‬وبأ ّ‬
‫ن تدع الخرى تتكّلم أول ً ‪ .‬كانت لدي‬ ‫ل منا قّررت أ ْ‬ ‫ك ً‬
‫ن لم يكن في‬ ‫أسبابي للتزام الهدوء ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬ولك ّ‬
‫المكان التنّبؤ بسلوك إيزابل ‪ .‬كان غريبا ً في صميمه‬
‫ن تغييرا ً‬ ‫دي وبالعصاب المتوترة ‪ ،‬وكأ ّ‬ ‫‪ ،‬يوحي بالتح ّ‬
‫ت في نفسي ‪،‬‬ ‫مدَرك طرأ عليها ‪ .‬لم أفهمه ‪ .‬قل ُ‬ ‫غير ُ‬
‫مخطئة بشأن الليلة الفائتة ؛ لعلها كانت‬ ‫ت ُ‬ ‫لعلي كن ُ‬
‫ت‬
‫ل عينيها كانتا مفتوحتين ‪ ،‬وشاهد ْ‬ ‫يقظة ؛ لع ّ‬
‫المشهد القذر كله ‪.‬‬
‫ت على ما ُيرام ‪ ،‬إيزابل ؟ "‬ ‫سألتها " هل أن ِ‬
‫ت ‪ ،‬وهي تنفحني بواحدة من ابتساماتها‬ ‫قال ْ‬
‫المخبولة ‪ ،‬الملئكية ‪ " ،‬نعم ‪ ،‬يا عزيزتي ‪ .‬طبعا ً‬
‫على ما ُيرام "‬
‫ت‬‫ن نوقظ فرديناند ؟ أن ِ‬ ‫ن علينا أ ْ‬‫" أل تعتقدين أ ّ‬
‫تعلمين كيف ُيصبح عندما نباشر الكل من دونه ‪ .‬ل‬
‫ن يعتقد أننا نسلب حصته "‬ ‫نريد منه أ ْ‬
‫قالت ‪ ،‬وهي تطلق تنهيدا ً ‪ " ،‬كل ‪ ،‬ل أعتقد أننا‬
‫ت أستمتع بهذه‬ ‫نريد هذا ‪ .‬كل ما في المر أنني كن ُ‬

‫‪81‬‬
‫اللحظة من الرفقة الممتعة ‪ .‬إننا نادرا ً ما ننفرد‬
‫ن المنزل الذي يشمله‬ ‫بنفسينا ‪ .‬أل تعتقدين أ ّ‬
‫الصمت يتمتع بسحرٍ خاص ؟ "‬
‫ن‬‫" نعم ‪ ،‬إيزابل ‪ ،‬أعتقد هذا ‪ .‬ولكن أعتقد أيضا ً أ ّ‬
‫الوقت قد حان ليقاظ فرديناند "‬
‫خر‬‫ن أؤ ّ‬ ‫ت أحاول أ ْ‬ ‫" إذا أصررت ‪ .‬أنا فقط كن ُ‬
‫ن تكون شديدة‬ ‫اللحظة الحاسمة ‪ .‬الحياة يمكن أ ْ‬
‫الروعة ‪ ،‬حتى في مثل هذه الوقات ‪ .‬من المؤسف‬
‫كرون إل في إفسادها "‬ ‫ن بعض الناس ل يف ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ل أي شيء للرد على تلك الملحظات‬ ‫لم أقُ ْ‬
‫ن شيئا ً لم يكن على ما‬ ‫ملّغزة ‪ .‬من الواضح أ ّ‬ ‫ال ُ‬
‫من كنهه ‪ .‬مشيت إلى ركن‬ ‫ُ‬
‫ت أخ ّ‬ ‫ت قد بدأ ُ‬
‫ُيرام ‪ ،‬وكن ُ‬
‫ت‬
‫ت القرفصاء إلى جواره ‪ ،‬ووضع ُ‬ ‫فرديناند ‪ ،‬وجلس ُ‬
‫ت الكتف‬ ‫يدي على كتفه ‪ .‬لم يحدث أي شيء ‪ .‬هزز ُ‬
‫‪ ،‬وعندما لم ُيبدِ فرديناند أي حركة ‪ ،‬قلبته على‬
‫ظهره ‪ .‬للوهلة الولى والثانية لم أَر أي شيء ‪.‬‬
‫مضطرب‬ ‫انتابني فقط إحساس ‪ ،‬إحساس عاجل ُ‬
‫ي ‪ .‬هذا رجل ميت ‪ ،‬قلت لنفسي ‪ .‬فرديناند‬ ‫لف ّ‬ ‫تغلغ َ‬
‫ي هاتين ‪ .‬عندئذٍ فقط‬ ‫رجل ميت ‪ ،‬وأنا أنظر إليه بعين ّ‬
‫ت بالفعل‬ ‫وهت بتلك الكلمات لنفسي ‪ ،‬رأي ُ‬ ‫نت ّ‬ ‫‪ ،‬بعد أ ْ‬
‫محجريهما ‪،‬‬ ‫حالة وجهه ‪ :‬عيناه الجاحظتان ‪ ،‬من ِ‬
‫ف المتجمد حول‬ ‫ولسانه البارز من فمه ‪ ،‬والدم الجا ّ‬
‫ن يكون فرديناند‬ ‫ت في نفسي ‪ ،‬ل يمكن أ ْ‬ ‫أنفه ‪ .‬قل ُ‬
‫ت الشقة ‪ ،‬ول يمكن‬ ‫ميتا ً ‪ .‬لقد كان حيا ً عندما غادر ُ‬
‫ن ُأغلق فمه ‪،‬‬ ‫تأ ْ‬‫ن تكون يداي قد سّببتا هذا ‪ .‬حاول ُ‬ ‫أ ْ‬
‫كيه كانا قد تيّبسا ‪ ،‬ولم أتمكن من تحريكهما ‪.‬‬ ‫نف ّ‬‫لك ّ‬
‫عظام وجهه ‪ ،‬ولم تكن‬ ‫ن أكسر ِ‬ ‫ن ذلك كان يعني أ ْ‬ ‫ل ّ‬
‫لديّ القوة على فعل ذلك ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫ت هادئ " إيزابل ‪ ،‬أعتقد أنه ُيستحسن‬ ‫ت بصو ٍ‬ ‫قل ُ‬
‫ن تأتي إلى هنا "‬ ‫أ ْ‬
‫ش صوتها أي‬ ‫ت " أهناك خطب ؟ " ‪ .‬لم ُيف ِ‬ ‫سأل ْ‬
‫ن‬
‫ن كانت تعلم ما الذي أنوي أ ْ‬ ‫شيء ‪ ،‬ولم أعرف إ ْ‬
‫أريها ‪.‬‬
‫ي وانظري بنفسك "‬ ‫" فقط تعال ّ‬
‫ت إيزابل‬‫كما كانت قد اضطرت مؤخرا ً ‪ ،‬جّر ْ‬
‫قدميها عبر أرضية الغرفة وهي ُتمسك كرسّيها‬
‫ت إلى زاوية فرديناند ‪ ،‬قامت‬ ‫ليدعمها ‪ .‬وعندما وصل ْ‬
‫بمناورة لتعود إلى الجلوس على كرسيها ‪ ،‬وتوقفت‬
‫لتستعيد أنفاسها ‪ ،‬ومن ثم نظرت أسفل ً إلى الجثة ‪.‬‬
‫ت بالتحديق إليها ‪،‬‬ ‫على مدى بضع لحظات اكتَف ْ‬
‫م ‪ ،‬ل ُتبدي أي مشاعر من أي نوع ‪ .‬ثم ‪،‬‬ ‫بتجّرد تا ّ‬
‫ن ُتثير أي إيماءة أو ُتصدر أي ضجيج ‪،‬‬ ‫فجأةً ‪ ،‬ودون أ ْ‬
‫ت الدموع من عينيها ‪ ،‬بل وعي ‪،‬‬ ‫ت تبكي – انهمر ْ‬ ‫بدأ ْ‬
‫كما بدا ‪ ،‬وجرت على وجنتيها ‪ .‬كما يبكي الطفال‬
‫أحيانا ً – بل نشيج أو لهاث ‪ :‬بل ماء يجري باستمرار‬
‫من حنفّيتين متطابقتين ‪.‬‬
‫قالت ‪ ،‬ول زالت تنظر إلى أسفل إلى الجثة ‪" ،‬‬
‫ن فرديناند سيفيق بعد الن " ‪ .‬وكأّنها ل‬ ‫ل أعتقد أ ّ‬
‫ن عينيها‬‫ن تنظر إلى أي شيء آخر ‪ ،‬وكأ ّ‬ ‫تستطيع أ ْ‬
‫مثّبتتين إلى تلك البقعة إلى البد ‪.‬‬ ‫ستبقيان ُ‬
‫" ماذا تعتقدين أنه حصل ؟ "‬
‫" الِعلم عند الله وحده ‪ ،‬يا عزيزتي ‪ ،‬ولن أحاول‬
‫من "‬ ‫ن أخ ّ‬ ‫أ ْ‬
‫" لبد أنه مات أثناء نومه "‬
‫ن هذا كلم معقول ‪ .‬لبد أنه مات‬ ‫" نعم ‪ ،‬أعتقد أ ّ‬
‫أثناء النوم "‬
‫" كيف تشعرين ‪ ،‬إيزابل ؟ "‬

‫‪83‬‬
‫" ل أعلم ‪ .‬ل زال الوقت مبكرا ً جدا ً لعرف ‪ .‬أما‬
‫م أنه قول فظيع ‪،‬‬ ‫الن فأعتقد أني سعيدة ‪ .‬أعل ُ‬
‫ن أعتقد أني سعيدة جدا ً "‬ ‫ولك ْ‬
‫ت تستحقين القليل‬ ‫" إنه ليس قول ً فظيعا ً ‪ .‬أن ِ‬
‫من السكينة كأي إنسان آخر "‬
‫" كل ‪ ،‬يا عزيزتي ‪ ،‬إنه فظيع ‪ .‬ولكن ل حيلة لي‬
‫ن ل ُيعاقبني‬
‫ن ُيسامحني الله ‪ .‬آمل أ ْ‬ ‫فيه ! آمل أ ْ‬
‫على ما أشعر به الن "‬

‫ت إيزابل ما تبّقى من فترة الصباح بالثرثرة‬ ‫ض ْ‬ ‫أم َ‬


‫ن أمد ّ لها يد‬‫تأ ْ‬ ‫حول جثة فرديناند ‪ .‬ورفض ْ‬
‫المساعدة ‪ ،‬وعلى مدى عدة ساعات اكتفيت‬
‫مراقبتها ‪ .‬وطبعا ً لم يكن هناك‬ ‫بالجلوس في ركني و ُ‬
‫أي معنى في تغطية فرديناند بأي قطعة ملبس ‪،‬‬
‫ن تنظر‬ ‫تأ ْ‬ ‫ن إيزابل أصّرت على ذلك ‪ .‬لقد أراد ْ‬ ‫لك ّ‬
‫ن‬
‫إلى الرجل الذي عاشت معه سنين طويلة ‪ ،‬قبل أ ْ‬
‫مره الغضب والشفقة على الذات ‪.‬‬ ‫ُيد ّ‬
‫ت لحيته ‪،‬‬ ‫غسلته بالصابون والماء ‪ ،‬وحلَق ْ‬
‫سته بذلته الزرقاء‬ ‫ت أظافره ‪ ،‬ومن ثم ألب َ‬ ‫وشذ ّب َ ْ‬
‫التي كان يرتدي في المناسبات الخاصة في الماضي‬
‫ت البذلة طوال سنوات عديدة تحت لوح‬ ‫‪ .‬لقد خّبأ ْ‬
‫ن يجبرها فرديناند على بيعها إذا‬ ‫الرضّية ‪ ،‬خشية أ ْ‬
‫ت البذلة واسعة كثيرا ً عليه‬ ‫لم يعرف مكانها ‪ .‬أصبح ْ‬
‫ت إلى إضافة ثقب جديد إلى حزامه‬ ‫الن ‪ ،‬واضطر ْ‬
‫ت بنطلونه حول خصره ‪ .‬كانت إيزابل تعمل‬ ‫لكي ُتثب ّ ْ‬
‫دق ‪ ،‬وتجتهد في كل تفصيل بمثابرة ُتثير‬ ‫ببطء ل ُيص ّ‬
‫الجنون ‪ ،‬ومن دون توقف ‪ ،‬أو إسراع ‪ ،‬وبعد فترة‬
‫ن يتم كل‬ ‫تأ ْ‬‫ت توّتر أعصابي ‪ .‬أرد ُ‬ ‫ت بدأ ْ‬‫من الوق ْ‬
‫ن إيزابل لم تولني‬ ‫شيء بأسرع ما يمكن ‪ ،‬لك ّ‬

‫‪84‬‬
‫انتباهها ‪ .‬كانت شديدة النهماك في عملها ‪ ،‬وأش ّ‬
‫ك‬
‫في أنها كانت حتى تعلم بوجودي معها ‪ .‬وأثناء عملها‬
‫كانت ل تتوقف عن التكّلم مع فرديناند ‪ ،‬تؤنبه‬
‫ن يسمعها‬ ‫ن في استطاعته أ ْ‬ ‫بصوت ناعم ‪ُ ،‬تثرثُر وكأ ّ‬
‫‪ ،‬وكأّنه ُيصغي إلى كل كلمة قالتها ‪ .‬ول أعتقد أنه‬
‫كان لدي أي خيار آخر ‪ ،‬بتكشير الموت المرعب‬
‫ن أدعها تتكّلم ‪ .‬على أي‬ ‫المرتسم على وجهه ‪ ،‬غير أ ْ‬
‫حال كانت تلك فرصتها الخيرة ‪ ،‬وللمرة الول لم‬
‫يكن في وسعه عمل شيء لسكاتها ‪.‬‬
‫استمرت في عملها حتى نهاية الفترة الصباحية –‬
‫شط شعره ‪ ،‬وتزيل الُنسالة عن سترته ‪ ،‬وترّتبه‬ ‫تم ّ‬
‫وُتعيد ترتيبه وكأنها تعتني بدمية‪ .‬وعندما انتهت أخيرا ً‬
‫ت مع‬ ‫ن نقرر ماذا سنفعل بالجثة ‪ .‬كن ُ‬ ‫‪ ،‬كان علينا أ ْ‬
‫حمل فرديناند والنزول به الدرج وتركه في الشارع ‪،‬‬
‫ن هذا تصرف غاية في القسوة‬ ‫تأ ّ‬ ‫ن إيزابل شعر ْ‬ ‫لك ّ‬
‫ل ‪ ،‬كما قالت ‪ ،‬سوف نضعه في عربة‬ ‫‪ .‬على الق ّ‬
‫السلب وندفعه عبر المدينة إلى أحد مراكز‬
‫دة أسباب ‪ .‬أول ً ‪ ،‬فرديناند‬ ‫ت هذا لع ّ‬ ‫التحويل ‪ .‬عارض ُ‬
‫ن نقله خلل‬ ‫كان شديد الضخامة ‪ ،‬وتوصلنا إلى أ ّ‬
‫ت انقلب‬ ‫الشوارع ينطوي على مخاطرة ‪ .‬وتخّيل ُ‬
‫العربة ‪ ،‬وتراءى لي فرديناند يسقط منها ‪ ،‬ثم‬
‫ن‬
‫طفهما اللصوص ‪ .‬والهم هو أ ّ‬ ‫فرديناند والعربة ُيخت َ َ‬
‫إيزابل لم تكن تقوى على القيام بمثل ذلك العمل ‪،‬‬
‫ي‪.‬‬ ‫ن تتسّبب لنفسها بأذى حقيق ّ‬ ‫ت قلقة من أ ْ‬ ‫وكن ُ‬
‫ن‬‫ويمكن ليوم طويل تقضيه سيرا ً على قدميها أ ْ‬
‫يتسّبب بتدمير البقية الباقية من صحتها ‪ ،‬ولن‬
‫ت‪.‬‬ ‫سل ْ‬ ‫أوافقها ‪ ،‬مهما بكت وتو ّ‬
‫ل رديء ‪ .‬لقد بدا معقول ً‬ ‫أخيرا ً ‪ ،‬توصلنا إلى ح ٍ‬
‫تماما ً في ذلك الوقت ‪ ،‬ولكن عندما أستعيد ذكراه‬

‫‪85‬‬
‫الن ‪ُ ،‬يذهلني بأنه شديد الغرابة ‪ .‬فبعد الكثير من‬
‫ن نجّر فرديناند إلى السطح ‪،‬‬ ‫التوتر والترّدد ‪ ،‬قّررنا أ ْ‬
‫ن نجعله يبدو أشبه‬ ‫ومن ثم نرميه منه ‪ .‬والهدف هو أ ْ‬
‫ن فرديناند ل‬ ‫ل الجيران سيظنون أ ّ‬ ‫بقافز ‪ .‬على الق ّ‬
‫زال يتمّتع بشيء من الروح المقاتلة ‪ ،‬كما قالت‬
‫محّلق فوق‬ ‫إيزابل ‪ .‬سوف ينظرون إليه وهو ُ‬
‫السطح ويقولون لنفسهم هذا رجل يتحّلى‬
‫ل المسائل بنفسه ‪ .‬ولم يكن من‬ ‫بالشجاعة ليح ّ‬
‫الصعب إدراك كم أعجبتها تلك الفكرة ‪ .‬وكما قلت ‪،‬‬
‫كنا سنتظاهر ‪ ،‬في قرارتنا ‪ ،‬أننا نرميه من على متن‬
‫حارة ‪:‬‬ ‫سفينة ‪ .‬فهذا ما يفعلون عندما يموت أحد الب ّ‬
‫ت إيزابل هذه‬ ‫م ‪ .‬نعم ‪ ،‬أحب ّ ْ‬ ‫يرميه زملؤه إلى الي ّ‬
‫الفكرة كثيرا ً ‪ .‬سوف نصعد إلى السطح ونتظاهر‬
‫بأننا واقفتان على سطح سفينة ‪ .‬وسيكون الهواء‬
‫بمثابة المياه ‪ ،‬والرض ستكون قاع المحيط ‪.‬‬
‫حار ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين‬ ‫وسيحظى فرديناند بجنازة ب ّ‬
‫محكمة إلى درجة‬ ‫طة ُ‬ ‫خ ّ‬
‫سينتمي إلى البحر ‪ .‬كانت ال ِ‬
‫دد فرديناند ليرتاح‬ ‫أنها أسكتت كل نقاش ‪ .‬سوف يتم ّ‬
‫ملكا ً لسماك القرش ‪.‬‬ ‫في القاع ‪ ،‬وأخيرا ً سُيصبح ُ‬
‫لسوء الحظ ‪ ،‬لم يكن المر بسيطا ً كما بدا ‪ .‬فقد‬
‫كانت الشقة تقع في أعلى المبنى ‪ ،‬ولكن لم يكن‬
‫هناك د ََرج لبلوغ السطح ‪ .‬والسبيل الوحيد إليه كان‬
‫سّلم ضّيق يؤدي إلى فتحة في السقف – ما يشبه‬ ‫ُ‬
‫الباب المسحور يكن فتحه بدفعه نحو العلى من‬
‫سّلم يتألف من عدد من الدرجات‬ ‫الداخل ‪ .‬وكان ال ُ‬
‫ن هذا‬ ‫ول يعلو أكثر من سبعة أقدام أو ثمانية ‪ ،‬لك ّ‬
‫كان يعني أّنه يجب حمل فرديناند إلى أعلى بذراٍع‬
‫سك للتوازن ‪ .‬ولم‬ ‫ن الخرى سوف تتم ّ‬ ‫واحدة بما أ ّ‬
‫ت‬‫دم إيزابل الكثير من العون ‪ ،‬وهكذا اضطرر ُ‬ ‫تق ّ‬

‫‪86‬‬
‫ن أدفع من‬ ‫تأ ْ‬ ‫إلى تنفيذ المر كله وحدي ‪ .‬حاول ُ‬
‫ن أشد ّ من أعلى ؛ لقد كان‬ ‫تأ ْ‬‫السفل ‪ ،‬ثم حاول ُ‬
‫أثقل ‪ ،‬وأضخم ‪ ،‬وعديم الكتلة بالنسبة إلى قدرتي‬
‫على معالجته ‪ ،‬وهناك في عّز قيظ الصيف‬
‫ي‪ ،‬لم أفهم كيف‬ ‫الملتهب ‪ ،‬والعََرق يقطر داخل عين ّ‬
‫ن كنا سنصل إلى‬ ‫لإ ْ‬ ‫ت أتساء ُ‬‫سأنجز المهمة ‪ .‬وبدأ ُ‬
‫النتيجة نفسها إذا جررنا فرديناند وأعدناه إلى الشقة‬
‫ودفعناه خارج النافذة ‪ .‬طبعا ً ‪ ،‬لن يكن هذا الحل‬
‫دراميا ً كالول ‪ ،‬ولكن في ظل الظروف السائدة بدا‬
‫ت على الستسلم ‪،‬‬ ‫بديل ً مقبول ً ‪ .‬وعندما أوشك ُ‬
‫ف فرديناند بقطعة‬ ‫ت ليزابل فكرة ‪ .‬سوف ُنغل ّ ُ‬ ‫خطر ْ‬
‫قماش ‪ ،‬كما قالت ‪ ،‬ثم نربط هذه بقطعة أخرى‬
‫ونستخدمها كحبل نرفع بواسطته الحمل ‪ .‬وهذه‬
‫ل‬‫أيضا ً لم تكن تلك مسألة بسيطة ‪ ،‬ولكن على الق ّ‬
‫لم أكن مضطرة إلى الرتقاء والحمل في وقت‬
‫ت فرديناند على‬ ‫ت إلى السطح ورفع ُ‬ ‫واحد ‪ .‬انتقل ُ‬
‫دفعات ‪ .‬وأخيرا ً وصلت الجثة إلى أعلى ‪ ،‬وإيزابل‬
‫ن الجثة‬ ‫واقفة في السفل ‪ ،‬تعطي توجيهاتها بشأ ْ‬
‫ت على بطني ‪،‬‬ ‫وتحرص على أل تعلق ‪ .‬ثم انبطح ُ‬
‫ت‬
‫ت يدي إلى أسفل في الظلم ‪ ،‬وساعد ُ‬ ‫ومدد ُ‬
‫إيزابل على الرتقاء إلى السطح أيضا ً ‪ .‬ولن أتحدث‬
‫لت ‪ ،‬وعن الكوارث الوشيكة ‪ ،‬وصعوبات‬ ‫عن الز ّ‬
‫ت أخيرا ً خلل الفتحة وشّقت‬ ‫التشّبث ‪ .‬وعندما زحف ْ‬
‫طريقها ببطء من فوقي ‪ ،‬كنا نحن الثنتان‬
‫مستنزفتين حتى أننا انهرنا على السطح الحاّر‬ ‫ُ‬
‫المكسو بالقطران ‪ ،‬وبقينا بضع دقائق غير قادرتين‬
‫ل حركة ‪ .‬وأذكر وأنا‬ ‫على النهوض ‪ ،‬وعلى التيان بأق ّ‬
‫متمددة على ظهري وأنظر عاليا ً إلى السماء ‪،‬‬
‫معتقدة أنني أوشك أطفو خارج جسدي ‪ ،‬وأكافح‬ ‫ُ‬

‫‪87‬‬
‫طمة تماما ً‬ ‫مح ّ‬ ‫كي ألتقط أنفاسي ‪ ،‬وأشعر بأني ُ‬
‫بالشمس الساطعة ‪ ،‬اللذعة بجنون ‪.‬‬
‫لم يكن المبنى عاليا ً جدا ً ‪ ،‬لكنها كانت المرة‬
‫الولى التي أعلو فيها كل تلك المسافة عن الرض ‪.‬‬
‫وبدأ النسيم الخفيف ُيحّرك الشياء جيئة وذهابا ً ‪،‬‬
‫ت‬‫ي وألقي ُ‬ ‫ت أخيرا ً واقفة على قدم ّ‬ ‫وعندما نهض ُ‬
‫ت‬‫هل ُ‬ ‫نظرة إلى العالم المختلط في السفل ‪ ،‬ذ ُ ِ‬
‫ت المحيط – بعيدا ً على الحافة ‪،‬‬ ‫عندما اكتشف ُ‬
‫كشريط من الضوء الرمادي‪-‬الزرق يخفق من بعيد ‪.‬‬
‫ن أشاهد المحيط هكذا ‪ ،‬ول‬ ‫كان شيئا ً غريبا ً أ ْ‬
‫ي‪.‬‬ ‫ن أعّبر لك عن الثر الذي تركه عل ّ‬ ‫أستطيع أ ْ‬
‫فللمرة الولى منذ وصولي ‪ ،‬أحصل على برهان‬
‫ن المدينة ليست ممتدة في كل مكان ‪ ،‬على‬ ‫على أ ّ‬
‫ن هناك عوالم أخرى‬ ‫ن ثمة شيئا ً موجودا ً بعدها ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ق من‬ ‫إلى جانب هذا ‪ .‬كان أشبه بالرؤيا ‪ ،‬كدف ٍ‬
‫ن التفكير فيه كاد‬ ‫ي ‪ ،‬حتى أ ّ‬ ‫الوكسجين إلى رئت ّ‬
‫ت أسطح المنازل واحدا ً بعد‬ ‫ُيصيبني بالدوار ‪ .‬شاهد ُ‬
‫محرقات ومن‬ ‫ت الدخان يرتفع من ال ِ‬ ‫آخر ‪ .‬شاهد ُ‬
‫ت انفجارا ً صادرا ً من شارٍع‬ ‫مصانع الطاقة ‪ .‬سمع ُ‬
‫ت الناس يسيرون في السفل ‪ ،‬من‬ ‫مجاور ‪ .‬شاهد ُ‬ ‫ُ‬
‫ت بالريح‬ ‫صغر بحيث ل يبدون بشرا ً ‪ .‬أحسس ُ‬ ‫شدة ال ِ‬ ‫ِ‬
‫ت رائحة العفن في الهواء ‪.‬‬ ‫س وجهي وشمم ُ‬ ‫تلم ُ‬
‫كل شيء بدا غريبا ً لعيني ‪ ،‬وبينما أنا واقفة‬
‫هناك على السطح بجوار إيزابل ‪ ،‬ول أزال‬
‫شدة الرهاق بحيث أنطق بأي كلمة ‪،‬‬ ‫من ِ‬
‫ت فجأةً بأني ميتة ‪ ،‬ميتة مثل فرديناند‬ ‫شعر ُ‬
‫ببذلته الزرقاء ‪ ،‬ميتة كالذين ُيحرقون‬
‫ويتلشون على هيئة دخان عند حواف‬
‫ت منذ‬ ‫ت أشد هدوءا ً مما كن ُ‬ ‫المدينة ‪ .‬أصبح ُ‬

‫‪88‬‬
‫زمن بعيد ‪ ،‬بل في الواقع سعيدة تقريبا ً ‪،‬‬
‫لكنها سعادة من النوع غير المحسوس ‪،‬‬
‫ن تلك السعادة ل دخل لها بي ‪ .‬ثم ‪ ،‬وبل‬ ‫وكأ ّ‬
‫ت أبكي – أعني بكاًء حقيقيا ً ‪ ،‬أنشج‬ ‫مقدمات ‪ ،‬بدأ ُ‬
‫طعة ‪ ،‬والهواء يخرج‬ ‫من أعماق صدري ‪ ،‬بأنفاس متق ّ‬
‫ت‬
‫ن كن ُ‬ ‫مني مخنوقا ً – أصرخ بطريقة لم أفعلها منذ أ ْ‬
‫ت‬
‫وقتني إيزابل بذراعيها ‪ ،‬وأبقي ُ‬ ‫طفلة صغيرة ‪ .‬ط ّ‬
‫وجهي مدفونا ً في كتفها مدة طويلة ‪ ،‬وأنا أجهش‬
‫من أعماق قلبي من دون أي سبب ‪ .‬لم أدرِ من أين‬
‫ت كل تلك الدموع ‪ ،‬ولكن على مدى أشهر عديدة‬ ‫أت ْ‬
‫ت أعيش‬ ‫بعد ذلك لم أكن متمالكة نفسي ‪ .‬بقي ُ‬
‫ن إلى آخر ‪ ،‬ولكن‬ ‫قل من مكا ٍ‬ ‫فس ‪ ،‬وأتن ّ‬ ‫وأتن ّ‬
‫لم أتمكن من الفرار من التفكير في أني‬
‫ن ُيعيدني إلى‬ ‫ميتة ‪ ،‬في أنه ل شيء يمكنه أ ْ‬
‫الحياة من جديد ‪.‬‬
‫وبعد قليل عدنا إلى عملنا على السطح ‪ .‬حينئذٍ‬
‫ت متأخر من بعد الظهيرة ‪،‬‬ ‫كنا قد أصبحنا في وق ٍ‬
‫وكان الحّر قد بدأ ُيذيب القطران ‪ ،‬ويجعله على‬
‫شكل وسادة سميكة ‪ ،‬دبقة ‪ .‬وخلل عملية رفع‬
‫سّلم ‪ ،‬لم تكن بذلته طّيعة ‪،‬‬ ‫فرديناند إلى أعلى ال ُ‬
‫ت إيزابل في‬ ‫وحالما أزلنا عنه قطعة القماش ‪ ،‬خاض ْ‬
‫عملية أخرى طويلة من الترتيب والعداد ‪ .‬وعندما‬
‫ت إيزابل‬ ‫حانت أخيرا ً لحظة حمله إلى الحافة ‪ ،‬أصّر ْ‬
‫على وجوب جعله معتدل ً ‪ ،‬وإل ضاع الهدف من‬
‫ن فرديناند قافز ‪،‬‬ ‫مأ ّ‬ ‫ن نخلق وهْ َ‬ ‫اللغز ‪ .‬كان علينا أ ْ‬
‫كما قالت ‪ ،‬والقافز ل يزحف ‪ ،‬بل يسير بجرأة إلى‬
‫خ عاليا ً ‪ .‬ولم يكن من‬ ‫حافة الهاوية ورأسه شام ٌ‬
‫سبيل لمجادلة ذلك المنطق ‪ ،‬وهكذا أمضينا عدة‬
‫دقائق بعد ذلك ونحن نصارع جسد فرديناند‬

‫‪89‬‬
‫ن أوقفناه بشكل‬ ‫ده إلى أ ْ‬
‫الخامل ‪ ،‬ندفعه ونش ّ‬
‫مهزوز على قدميه ‪ .‬كان فصل ً هزليا ً صغيرا ً‬
‫وشنيعا ً ‪ ،‬أؤكد لك ‪ .‬كان الميت فرديناند واقفا ً بيننا ‪،‬‬
‫يتذبذب كدمية عملقة بنابض – شعره يهب مع الريح‬
‫‪ ،‬وبنطلونه ينزلق إلى أسفل ردفيه ‪ ،‬وذلك التعبير‬
‫المذهول ‪ ،‬المرعوب ل يزال مرتسما ً على وجهه ‪.‬‬
‫وأثناء سيرنا به نحو زاوية السطح ‪ ،‬كانت ركبتاه‬
‫تنثنيان وتنجّران ‪ ،‬وحين وصلنا إلى هناك كان حذاءه‬
‫قد ن ُزِعَ ‪ .‬ولم تتحّلى أي منا بالشجاعة الكافية‬
‫ن هناك‬ ‫كد من أ ّ‬ ‫للقتراب من الحافة ‪ ،‬وهكذا لم نتأ ّ‬
‫أحدا ً في الشارع ليشهد ما حدث ‪ .‬وعلى مسافة‬
‫نحو ياردة من الحافة ‪ ،‬ولم نجرؤ على القتراب أكثر‬
‫ت واحد لكي ُنزامن بين‬ ‫من ذلك ‪ ،‬رحنا نعد ّ في وق ٍ‬
‫جهدينا ومن ثم ندفع بفرديناند دفعة واحدة قوية ‪،‬‬
‫وارتددنا نحو الخلف على الفور لكي ل يحملنا الزخم‬
‫معه ‪ .‬أول ً ضرب بطنه الحافة ‪ ،‬مما جعله يقفز قليل ً‬
‫ت أصغي إلى‬ ‫‪ ،‬ومن ثم انهار ‪ .‬وأذكُر أني رح ُ‬
‫صوت ارتطام الجثة على الرصيف ‪ ،‬لكني‬
‫لم أسمع إل صوت نبضي ‪ ،‬صوت قلبي‬
‫ض في رأسي ‪ .‬وكانت تلك هي آخر مرة نرى‬ ‫ينب ُ‬
‫فيها فرديناند ‪ .‬ولم تنزل أي منا إلى الشارع طوال‬
‫ما تبقى من ذلك النهار ‪ ،‬وعندما خرجت في صباح‬
‫اليوم التالي لباشر جولتي مع العربة ‪ ،‬كانت جثة‬
‫فرديناند قد اختفت ‪ ،‬مع كل ما كان يرتدي ‪.‬‬

‫من ذلك‬ ‫ت مع إيزابل حتى النهاية ‪ .‬وتض ّ‬


‫مكث ُ‬
‫الصيف والخريف ‪ ،‬وأكثر من ذلك بقليل – حتى‬
‫أوائل الشتاء ‪ ،‬عندما بدأ البرد يوجه ضرباته‬
‫برصانة ‪ .‬وخلل كل تلك الشهر لم نتحدث عن‬

‫‪90‬‬
‫فرديناند – ل عن حياته ‪ ،‬ول عن موته ‪ ،‬ول عن أي‬
‫ن إيزابل قد‬‫دق أ ّ‬ ‫ن أص ّ‬ ‫شيء ‪ .‬كان صعبا ً عل ّ‬
‫يأ ْ‬
‫استجمعت ِقواها أو شجاعتها لقتله ‪ ،‬ولكن كان ذلك‬
‫ي ‪ .‬وفي‬‫هو التفسير الوحيد المفهوم بالنسبة إل ّ‬
‫ت أقع فريسة غواية سؤالها عن‬ ‫عدة كد ُ‬ ‫مناسبات ِ‬
‫تلك الليلة ‪ ،‬لكني لم أتمكن من دفع نفسي إلى‬
‫ن إيزابل وحدها ‪،‬‬ ‫فعل ذلك ‪ .‬كان ذلك بصورة ما شأ َ‬
‫ن لي‬ ‫وإذا لم ترغب هي بالتحدث عنها ‪ ،‬لم أشعر أ ّ‬
‫الحق في سؤالها ‪.‬‬
‫كد كان ما يلي ‪ :‬ل أحد منا كانت آسفة‬ ‫والمؤ ّ‬
‫على رحيله ‪ .‬وبعد الجنازة التي أقمناها على السطح‬
‫ت كل متعّلقاته وبعُتها ‪ ،‬حتى‬ ‫بيوم أو اثنين جمع ُ‬
‫نماذج السفن وأنبوب الصمغ الذي بقي نصفه‪ ،‬ولم‬
‫تُفه إيزابل بأي كلمة ‪ .‬فبالنسبة إليها حان الوقت‬
‫ن المور لم‬ ‫لفساح المجال لحتمالت جديدة ‪ ،‬لك ّ‬
‫تجرِ في هذا الّتجاه ‪ .‬فقد واصلت صحتها تدهورها ‪،‬‬
‫ولم تُعد قادرة حقا ً على الستمتاع بالحياة من دون‬
‫فرديناند ‪ .‬في الحقيقة ‪ ،‬بعد ما حدث في ذلك اليوم‬
‫على السطح ‪ ،‬لم تغادر الشقة أبدا ً ‪.‬‬
‫ن‬
‫ن إيزابل تحتضر ‪ ،‬ولكن لم أعتقد أ ّ‬ ‫ت أعلم أ ّ‬
‫كن ُ‬
‫ذلك سيحدث بسرعة ‪ .‬بدأ المر بعجزها عن المشي‬
‫ن لم‬ ‫‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬شيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬انتشر الضعف ‪ ،‬إلى أ ْ‬
‫تعد فقط ساقاها هما العاجزتان عن الحركة ‪ ،‬بل‬
‫كل شيء بدءا ً من ذراعيها نزول ً على طول عمودها‬
‫الِفقري ‪ ،‬وأخيرا ً حتى حنجرتها وفمها ‪ .‬كان نوعا ً من‬
‫تصّلب النسجة ‪ ،‬كما أخبرتني ‪ ،‬ولم يكن له أي‬
‫دتها قد ماتت بالمرض نفسه قبل‬ ‫علج ‪ .‬كانت ج ّ‬
‫زمن بعيد ‪ ،‬وكانت إيزابل تشير إليه ببساطة بكلمة‬
‫" النهيار " أو " التحّلل " ‪ .‬وكان في استطاعتي أ ْ‬
‫ن‬

‫‪91‬‬
‫أحاول التخفيف عنها ‪ ،‬ولكن فيما عدا ذلك لم يكن‬
‫في المستطاع فعل أي شيء ‪.‬‬
‫مضطرة إلى‬ ‫ت ُ‬
‫أما السوأ من ذلك فهو أني بقي ُ‬
‫ب‬ ‫جو ِ‬ ‫مضطرة إلى الستيقاظ باكرا ً و َ‬ ‫ت ُ‬ ‫العمل ‪ .‬كن ُ‬
‫الشوارع ‪ ،‬بحثا ً عما أستطيع أن أعثر عليه ‪ .‬ولم أعد‬
‫ن أجد‬ ‫طراد أ ْ‬ ‫ي با ّ‬ ‫أقوم به بحماس ‪ ،‬وأصبح صعبا ً عل ّ‬
‫كأ ‪ ،‬تتوزع أفكاري في‬ ‫ت دائما ً أتل ّ‬‫شيئا ً ذا قيمة ‪ .‬كن ُ‬
‫جهة ‪ ،‬وخطواتي في جهة أخرى ‪ ،‬عاجزة عن القيام‬
‫ت‬‫بأي حركة سريعة أو واثقة ‪ .‬ومرارا ً وتكرارا ً تعّرض ُ‬
‫للضرب على أيدي صائدين آخرين ‪ .‬كانوا يبدون‬
‫كأنهم يظهرون من العدم ويختطفون الغرض حالما‬
‫ت إلى قضاء‬ ‫م بالتقاطه ‪ .‬وهذا يعني أني اضطرر ُ‬ ‫أه ّ‬
‫المزيد فالمزيد من الوقت خارج المنزل لجمع‬
‫ي فكرة أنه‬ ‫نصيبي ‪ ،‬وطوال الوقت كانت تغير عل ّ‬
‫ت‬‫ن أكون في المنزل لعتني بإيزابل ‪ .‬وكن ُ‬ ‫يجب أ ْ‬
‫م بها أثناء غيابي ‪ ،‬وأنها‬ ‫ن خطبا ً سيل ّ‬ ‫دائما ً أتخّيل أ ّ‬
‫ستموت وأنا بعيدة عنها ‪ ،‬وكان هذا يكفي لُيشتت‬
‫دقني ‪ ،‬كان‬ ‫انتباهي ‪ ،‬لجعلي أنسى أداء عملي ‪ .‬وص ّ‬
‫ينبغي القيام بذلك العمل ‪ ،‬وإل ما توّفر لنا طعام‬
‫نأكله ‪.‬‬
‫مع اقتراب النهاية ‪ ،‬أصبح من المستحيل على‬
‫ن أضعها بطريقة‬ ‫ت أحاول أ ْ‬ ‫ن تتحّرك ‪ .‬كن ُ‬ ‫إيزابل أ ْ‬
‫كم كثيرا ً‬ ‫آمنة على السرير ‪ ،‬ولكن لنها لم تعد تتح ّ‬
‫بعضلتها ‪ ،‬كانت دائما ً تنزلق من جديد بعد ذلك ببضع‬
‫دقائق ‪ .‬هذا التغيير في الوضعية كان يؤلمها‪ ،‬وحتى‬
‫ضغط وزن جسمها على الرض كان يجعلها تشعر‬
‫كل إل جزءا ً من‬ ‫ن اللم ل يش ّ‬ ‫وكأنها ُتدَفن حّية ‪ .‬لك ّ‬
‫عظامها وصل أخيرا ً‬ ‫المشكلة ‪ .‬فانهيار عضلتها و ِ‬
‫ت إيزابل تفقد‬ ‫حتى نحرها ‪ ،‬وعندما حدث هذا بدأ ْ‬

‫‪92‬‬
‫ن تحّلل الجسم هو أمر ‪،‬‬ ‫القدرة على الكلم ‪ .‬إ ّ‬
‫ن المرء يشعر‬ ‫أما عندما يختفي الصوت فإ ّ‬
‫بأنه ليس موجودا ً ‪ .‬بدأ المر باضطراب في‬
‫النطق – أصبحت الكلمات غير مفهومة في نهاياتها ‪،‬‬
‫ت رخوة وأقل وضوحا ً ‪،‬‬ ‫والحرف الصامتة أصبح ْ‬
‫وأضحت تدريجيا ً أشبه بالحرف الصوتية ‪ .‬في أول‬
‫ل هذا كبير اهتمام ‪ .‬كان هناك الكثير من‬ ‫المر لم أو ِ‬
‫حة التي تستوجب التفكير فيها ‪ ،‬وحينئذٍ‬ ‫مل ِ ّ‬
‫المور ال ُ‬
‫ل من الجهد ‪.‬‬ ‫ل قلي ٍ‬‫كان ل يزال ممكنا ً فهمها مع بذ ِ‬
‫ن المر استمّر في التدهور ‪ ،‬ووجدتني أبذل جهدا ً‬ ‫لك ّ‬
‫ل أو بآخر أنجح‬ ‫ت بشك ٍ‬ ‫لفهم ما تحاول قوله ‪ ،‬وكن ُ‬
‫ن الصعوبة كانت تزداد مع مرور‬ ‫أخيرا ً في تبّينه ‪ ،‬لك ّ‬
‫ت أنها لم‬ ‫اليام ‪ .‬ثم ‪ ،‬في صباح أحد اليام ‪ ،‬أدرك ُ‬
‫تعد تتكّلم أبدا ً ‪ .‬كانت تقرقر وتنخر ‪ ،‬تحاول‬
‫ن تقول لي شيئا ً ولكنها ل تنجح إل في‬ ‫أ ْ‬
‫إخراج بقبقة غير مترابطة ‪ ،‬ضجيجا ً شنيعا ً‬
‫بدا أشبه بالعماء نفسه ‪ .‬كان اللعاب يقطر‬
‫من زاويتي فمها ‪ ،‬وأصبحت البقبقة تتدفق‬
‫مبهم من الفوضى‬ ‫ن حزين ٌ‬ ‫منها ‪ ،‬كلح ٍ‬
‫ت إيزابل عندما سمعت نفسها‬ ‫واللم ‪ .‬بك ْ‬
‫ت تعبير عدم التصديق‬ ‫في ذلك الصباح ورأ ْ‬
‫على وجهها ‪ ،‬ول أعتقد أني شعرت مرة‬
‫بالرثاء لي شخص يفوق شعوري نحوها‬
‫م بأكمله‬ ‫ب العال ُ‬ ‫ذ ‪ .‬وشيئا ً فشيئا ً تسّر َ‬ ‫حينئ ٍ‬
‫ق تقريبا ً أي شيء منها ‪.‬‬ ‫ذ لم يب َ‬ ‫منها ‪ ،‬وعندئ ٍ‬
‫ن إيزابل بعد‬ ‫لكنها لم تكن بالضبط النهاية ‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫حوالي عشرة أيام كان ل يزال فيها من القوة ما‬
‫يكفي لتكتب رسائل لي بقلم رصاص ‪ .‬وبعد ظهيرة‬
‫ت‬‫أحد اليام ذهبت إلى أحد وكلء البعث واشتري ُ‬

‫‪93‬‬
‫دفترا ً كبيرا ً ذا غلف أزرق ‪ .‬كل الصفحات كانت‬
‫ن العثور على‬ ‫فارغة ‪ ،‬مما جعله غالي الثمن ‪ ،‬بما أ ّ‬
‫الدفاتر الجيدة شديد الصعوبة في المدينة ‪ .‬ولكن‬
‫ن المر لي يستحق العناء إلى أقصى مدى ‪،‬‬ ‫بدا أ ّ‬
‫ن كان‬ ‫سعر ‪ .‬كان الوكيل رجل ً سبقَ أ ْ‬ ‫مهما كان ال ِ‬
‫بيننا عمل – السيد غامبينو ‪ ،‬أحدب في شارع الصين‬
‫– وأذكر أني ساومته بضراوة ‪ ،‬وكل منا ُيماحك‬
‫الخر على مدى ما يقرب من نصف ساعة ‪ .‬ولم‬
‫أتوصل إلى دفعه إلى تخفيض سعر الدفتر ‪ ،‬ولكنه‬
‫في النهاية أضاف عليه ستة أقلم رصاص ومبراة‬
‫صغيرة بلستيكية بدون تكلفة زائدة ‪.‬‬
‫والغريب أني أكتب في ذلك الدفتر الزرق نفسه‬
‫الن ‪ .‬ولم تتمكن إيزابل من الستفادة منه كثيرا ً‬
‫بأكثر من خمس أو ست صفحات ‪ ،‬وبعد وفاتها لم‬
‫ُيطاوعني قلبي على رميه ‪ .‬فأخذته معي في‬
‫أسفاري ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين وأنا أحتفظ به دائما ً –‬
‫الدفتر الزرق ‪ ،‬وأقلم الرصاص الستة الصفراء ‪،‬‬
‫والمبراة الخضراء ‪ .‬ولو لم أجد هذه الشياء في‬
‫ك ‪ .‬ولكن‬ ‫ت الكتابة ل َ‬ ‫حقيبتي في ذلك اليوم ‪ ،‬لما بدأ ُ‬
‫الدفتر بكل صفحاته الفارغة كان موجودا ً فيها ‪،‬‬
‫ح للتقط أحد أقلم‬ ‫مل ّ‬
‫وفجأةً شعرت بحافز ُ‬
‫الرصاص وبدأت كتابة هذه الرسالة ‪ .‬وحتى الن‬
‫ن‬
‫ي‪:‬أ ْ‬ ‫م بالنسبة إل ّ‬ ‫هو الشيء الوحيد الها ّ‬
‫ونها كلها على‬ ‫تكون لي كلمتي الخاصة ‪ ،‬وأد ّ‬
‫ن يفوت الوان ‪ .‬إنني‬ ‫هذه الصفحات قبل أ ْ‬
‫أرتعش عندما أفكر في مدى اّتصال كل شيء معا ً ‪.‬‬
‫ت هذه الكلمة ‪.‬‬ ‫جد َ ْ‬
‫ولو لم تفقد إيزابل صوتها ‪ ،‬لما وُ ِ‬
‫ن الكلمات فرغت منها ‪ ،‬وهذه الكلمات الخرى‬ ‫ل ّ‬

‫‪94‬‬
‫ن تتذكر هذا ‪ .‬لول إيزابل ‪،‬‬ ‫خرجت مني ‪ .‬أريد منك أ ْ‬
‫ت بدأت ‪.‬‬ ‫لما كان هناك أي شيء الن ‪ .‬لما كن ُ‬
‫ن ما قتلها هو نفسه ما أخذ منها‬ ‫في النهاية ‪ ،‬إ ّ‬
‫ت حنجرتها تماما ً عن العمل ‪،‬‬ ‫صوتها ‪ .‬وأخيرا ً كّف ْ‬
‫ن تبتلع ‪ .‬ومنذ ذلك‬ ‫ولهذا السبب لم يعد في قدرتها أ ْ‬
‫الحين فصاعدا ً ‪ ،‬أصبح تناول الطعام الجامد أمرا ً‬
‫غير وارد ‪ ،‬ولكن في نهاية المطاف أصبح مستحيل ً‬
‫ت أضع بضع‬ ‫ن تبتلع حتى الماء ‪ .‬وأصبح ُ‬ ‫عليها أ ْ‬
‫قطرات من الرطوبة على شفتيها لمنع فمها من‬
‫ن المر أضحى‬ ‫الجفاف ‪ ،‬ولكن كانت كلنا تعلم أ ّ‬
‫فقط مسألة وقت ‪ ،‬بما أنها صارت تموت من الجوع‬
‫بل مبالغة ‪ ،‬تحتضر بسبب انعدام التغذية ‪ .‬كان شيئا ً‬
‫ن إيزابل تبتسم‬ ‫ي ذات مرة أ ّ‬ ‫خّيل إل ّ‬ ‫فظيعا ً ‪ ،‬ولكني ُ‬
‫لي ‪ ،‬عندما حانت النهاية ‪ ،‬وأنا جالسة بجوارها أبلل‬
‫شفتيها بالماء ‪ .‬ولكن لست متأكدة من ذلك تماما ً ‪،‬‬
‫ت حينئذ ٍ تشرد بعيدا ً عني ‪،‬‬ ‫بما أنها كانت قد أضح ْ‬
‫ن‬‫ن أعتقد أنها كانت ابتسامة ‪ ،‬حتى وإ ْ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ولكني أح ّ‬
‫لم تكن إيزابل تعي ما تفعل ‪ .‬لقد كانت تشعر‬
‫بالذنب لنها مرضت ‪ ،‬وبالخجل لضطرارها إلى‬
‫ن الحقيقة هي أني‬ ‫ي في كل شيء ‪ ،‬لك ّ‬ ‫الّتكال عل ّ‬
‫ي ‪ .‬وما‬ ‫ت في حاجة إليها بقدر احتياجها هي إل ّ‬ ‫كن ُ‬
‫ذ ‪ ،‬بعد البتسامة ‪ ،‬هذا إذا كانت‬ ‫حدث عندئ ٍ‬
‫ت تختنق بلعابها‬ ‫ن إيزابل بدأ ْ‬ ‫ابتسامة ‪ ،‬هو أ ّ‬
‫ن تبتلعه ‪،‬‬ ‫نفسه ‪ ،‬ولم يعد في استطاعتها أ ْ‬
‫وعلى الرغم من محاولتي تنظيف فمها‬
‫معظمه كان ينزلق عائدا ً إلى‬ ‫ن ُ‬ ‫بأصابعي ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ق هناك هواء‬ ‫حنجرتها ‪ ،‬وسرعان ما لم يب َ‬
‫فسه ‪ .‬والصوت الذي كانت ُتصدره عندئذٍ‬ ‫تتن ّ‬

‫‪95‬‬
‫مجّردا ً من الكفاح‬ ‫هن ‪ُ ،‬‬
‫مريع ‪ ،‬لكنه كان شديد الوَ َ‬
‫دم طويل ً ‪.‬‬ ‫الحقيقي ‪ ،‬حتى أنه لم ي ُ‬

‫ت عددا ً من‬ ‫ت لحق من ذلك اليوم ‪ ،‬جمع ُ‬ ‫في وق ٍ‬


‫الشياء من الشّقة ‪ ،‬وحزمُتها ووضعتها في عربتي ‪،‬‬
‫وأخذتها إلى جاّدة بروغريس في المنطقة السكنية‬
‫ن‬‫ن أفكر بوضوح – بل أستطيع أ ْ‬ ‫الثامنة ‪ .‬لم أك ْ‬
‫ن ذلك لم‬ ‫ت أعي ذلك عندئذ ٍ – لك ّ‬ ‫كر أني كن ُ‬ ‫أتذ ّ‬
‫ت أطباقا ً ‪ ،‬ملبس ‪ ،‬بطانيات ‪ ،‬قدورا ً ‪،‬‬ ‫ُيعقني ‪ .‬بع ُ‬
‫ي ‪ ،‬ويعلم الله ماذا أيضا ً – كل ما وقعَ تحت‬ ‫مقال َ‬
‫يدي ‪ .‬لقد أراحني التخّلص منها جميعا ً ‪ ،‬وبصورةٍ ما‬
‫ي ‪ .‬في‬ ‫ل ذلك محل ذرف الدموع بالنسبة إل ّ‬ ‫ح ّ‬
‫الواقع كان البكاء قد نفد مني ‪ ،‬منذ ذلك اليوم على‬
‫ت برغبة في‬ ‫السطح ‪ ،‬وبعد وفاة إيزابل ‪ .‬شعر ُ‬
‫تحطيم الشياء ‪ ،‬في قلب المنزل رأسا ً على عِقب ‪.‬‬
‫وأخذت النقود وقطعت المدينة إلى أوزون‬
‫ت عليه من أثواب‬ ‫ت أجمل ما عثر ُ‬ ‫بروسبكت واشتري ُ‬
‫مين ‪،‬‬ ‫؛ كان أبيض اللون ‪ ،‬مع تخاريم عند الياقة والك ّ‬
‫ووشاحا ً عريضا ً من الساتان ُيحيط بالوسط ‪ .‬أعتقد‬
‫ت أنها ترتديه ‪.‬‬ ‫ن إيزابل كانت ستفرح لو أنها عرف ْ‬ ‫أ ّ‬
‫ي‪.‬‬‫بعد ذلك ‪ ،‬أضحت المور مضطربة بالنسبة إل ّ‬
‫مرهقة ‪ ،‬كما هو مفهوم ‪ ،‬وكان تفكيري‬ ‫ت ُ‬ ‫كن ُ‬
‫مشوشا ً مما يجعل المرء يشعر أنه لم يُعد كما‬ ‫ُ‬
‫كان ‪ ،‬وعندما ينجرف خارجا ً وداخل ً منطقة الوعي ‪،‬‬
‫ت إيزابل‬ ‫على الرغم من أنه يقظ ‪ .‬أذكُر أني رفع ُ‬
‫ي الرعشة عندما شعرت كم‬ ‫تف ّ‬ ‫سَر ْ‬‫يو َ‬ ‫بين ذراع ّ‬
‫ت خفيفة الوزن ‪ .‬كأني أحمل طفلة ‪ ،‬بِعظام ٍ‬ ‫أضح ْ‬
‫ت إلى الشارع‬ ‫كالريش وجسم رقيق ولّين ‪ .‬ثم خرج ُ‬
‫‪ ،‬أدفُعها على العربة عبر المدينة ‪ ،‬وأذكُر أني‬

‫‪96‬‬
‫ن كل المارة ينظرون إلى العربة ‪،‬‬ ‫تأ ّ‬ ‫ت ‪ ،‬شعر ُ‬ ‫خف ُ‬
‫ن ُيهاجموني ويسرقون‬ ‫ويتساءلون كيف يمكنهم أ ْ‬
‫ثوب إيزابل الذي ترتدي ‪ .‬وبعد ذلك ‪ ،‬أكاد أرى‬
‫ل إلى بوابة مركز التحويل الثالث وأنتظر‬ ‫نفسي أص ُ‬
‫في الصف مع آخرين كثيرين – ثم ‪ ،‬عندما جاء‬
‫دوري ‪ ،‬دفعَ لي أحد الموظفين الجر المعتاد ‪ .‬هو‬
‫أيضا ً ألقى نظرة إلى ثوب إيزابل تتجاوز مجرد‬
‫ت أرى الدولب يدور في رأسه القذر‬ ‫الهتمام ‪ ،‬وكد ُ‬
‫ت له إنه‬ ‫ت النقود التي أعطانيها وقل ُ‬ ‫الصغير ‪ .‬دفع ُ‬
‫يستطيع الحتفاظ بها إذا وعد َ بحرق الثوب مع‬
‫إيزابل ‪ .‬وطبعا ً وافقَ – وهو ينفحني غمزة سوقّية ‪،‬‬
‫كمن يشترك في جريمة – ولكن لم يكن هناك من‬
‫سبيل لمعرفة ما إذا كان قد صدقَ في وعده ‪.‬‬
‫سر سبب تفضيلي عدم‬ ‫أعتقد أنه لم يفعل ‪ ،‬مما ُيف ّ‬
‫التفكير في ذلك المر على الطلق ‪.‬‬
‫بعد مغادرة مركز التحويل ‪ ،‬لبد أني تجولت‬
‫هدى ‪ .‬ولحقا ً ‪،‬‬ ‫ن شارد ‪ ،‬بل ُ‬ ‫بعض الوقت ‪ ،‬بذه ٍ‬
‫ن ما ‪ ،‬ربما في ممر‬ ‫ت في النوم في مكا ٍ‬ ‫استغرق ُ‬
‫ن أشعر بأني‬ ‫ت دون أ ْ‬‫أحد البواب ‪ ،‬لكنني استيقظ ُ‬
‫ت في‬ ‫كر ُ‬ ‫أفضل من ذي قبل ‪ ،‬بل ربما أسوأ ‪ .‬وف ّ‬
‫ت مستعدة‬ ‫ت أني لس ُ‬ ‫العودة إلى الشّقة ‪ ،‬ثم قّرر ُ‬
‫ت من احتمال وجودي وحدي‬ ‫لمواجهة المر ‪ .‬فزع ُ‬
‫هناك ‪ ،‬من العودة إلى تلك الغرفة والجلوس هناك‬
‫ل بضع‬ ‫ت في نفسي ‪ ،‬لع ّ‬ ‫ول أفعل أي شيء ‪ .‬قل ُ‬
‫ساعات من الهواء المنعش قد تفيدني قليل ً ‪ .‬ثم ‪،‬‬
‫ت بالتدريج أين أنا ‪،‬‬ ‫ت أكثر وعرف ُ‬ ‫ن صحو ُ‬ ‫بعد أ ْ‬
‫ت أنني لم أعد أملك عربة ‪ .‬كان الحبل‬ ‫اكتشف ُ‬
‫ن العربة‬ ‫السّري ل يزال حول خصري بأمان ‪ ،‬لك ّ‬
‫ي الشارع بحثا ً‬ ‫ت في كل جهت ّ‬ ‫نفسها اختفت ‪ .‬نظر ُ‬

‫‪97‬‬
‫ب إلى باب ‪،‬‬ ‫عنها ‪ ،‬وأنا أندفع مسعورة منتقلة من با ٍ‬
‫محرقة أو أنها‬ ‫ولكن بل فائدة ‪ .‬إما أنني تركتها في ال ِ‬
‫ت مني أثناء نومي ‪ .‬كان ذهني شديد‬ ‫سرِقَ ْ‬
‫ُ‬
‫التشويش عندئذ ٍ فلم أعرف أي الحالتين هي‬
‫ح ‪ .‬هذا كل ما يتطّلبه المر ‪ .‬برهة أو اثنتين‬ ‫الص ّ‬
‫مشرقا ً ‪ ،‬وثانية واحدة عندما‬ ‫عندما يكون انتباهك ُ‬
‫ن تكون يقظا ً ‪ ،‬ثم يضيع كل شيء ‪ ،‬عملك‬ ‫تنسى أ ْ‬
‫سح فجأةً ‪ .‬لقد كانت العربة هي الشيء‬ ‫كله ُيم َ‬
‫الوحيد الذي أحتاج إليه لبقى على قيد الحياة ‪ ،‬وهل‬
‫ت لفعل أفضل من ذلك‬ ‫ت ‪ .‬وما كن ُ‬‫هي قد اختف ْ‬
‫ت‬‫ب نفسي لو أني تناولت شفرة موسى وحزز ُ‬ ‫لخّر َ‬
‫عنقي ‪.‬‬
‫ن الجزء‬ ‫كان ذلك أمرا ً سيئا ً جدا ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫الغريب كان أنه لم يبدُ أني منزعجة ‪ .‬من‬
‫الناحية الموضوعية ‪ ،‬كانت خسارة العربة‬
‫كارثة ‪ ،‬لكنها أيضا ً منحتني الشيء الوحيد‬
‫الذي أردته سّرا ً منذ زمن بعيد ‪ :‬عذرا ً‬
‫للتخّلي عن التنقيب في القمامة ‪ .‬لقد‬
‫ت فيه إكراما ً ليزابل ‪ ،‬أما وقد توفيت ‪ ،‬لم‬ ‫توّرط ُ‬
‫ل جزءا ً من حياتي‬ ‫أتخّيل نفسي أقوم به ‪ .‬لقد شك ّ َ‬
‫ي ‪ ،‬وها قد جاءت فرصتي لكي‬ ‫انتهى بالنسبة إل ّ‬
‫ي‬
‫انطلق في مسار جديد ‪ ،‬وأتولى زمام حياتي بيد ّ‬
‫وأنجز شيئا ً بها ‪.‬‬
‫مزّيفي الوثائق في‬ ‫ت دون توّقف إلى أحد ُ‬ ‫انطلق ُ‬
‫المنطقة السكنية الخامسة وُبعته إجازة التنقيب‬
‫مقابل ثلثة عشر غلوتا ً ‪ .‬وكانت النقود التي كسبتها‬
‫عين أو‬ ‫في ذلك اليوم تكفي لعالتي مدة أسبو َ‬
‫ت ‪ ،‬لم تكن لديّ أي‬ ‫ن بدأ ْ‬‫ثلثة ‪ ،‬ولكن الن وبعد أ ْ‬
‫ت إلى الشقة وأنا مملوءة‬ ‫نّية في التوّقف ‪ .‬وعد ُ‬

‫‪98‬‬
‫ن أجمعها‬ ‫بالخطط‪ ،‬وأحصي النقود التي أستطيع أ ْ‬
‫ت طوال‬ ‫من بيع أغراض الشقة الزائدة ‪ .‬عمل ُ‬
‫الليل ‪ ،‬أجمع المواد وأكومها في وسط الغرفة ‪.‬‬
‫رغ الصناديق ‪،‬‬ ‫نهبت الخزانة من كل غرض مفيد ‪ُ ،‬‬
‫أف‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وأفتش الدراج ‪ ،‬ثم ‪ ،‬عند حوالي الساعة الخامسة‬
‫ت من مخبأ إيزابل تحت الرض غّلة‬ ‫صباحا ً ‪ ،‬انتزع ُ‬
‫ة طعام من الفضة ‪،‬‬ ‫غير متوقعة ‪ :‬سكينا ً وشوك َ‬
‫هبة الحواف من الكتاب المقدس ‪ ،‬وجيبا ً‬ ‫مذ ّ‬
‫ونسخة ُ‬
‫ن وأربعين غلوتا ً نقدا ً ‪ .‬وأمضيت‬ ‫صغيرا ً محشوا ً بثما ٍ‬
‫وم المواد القابلة للبيع في‬ ‫كامل اليوم التالي أك ّ‬
‫حقيبة سفر وأحملها وأمشي بها إلى مختلف فروع‬
‫وكالة التحويل في أنحاء المدينة ‪ ،‬أبيعُ كمية من‬
‫الغراض ومن ثم أعود إلى الشقة لعد ّ كمية‬
‫ت أكثر من ثلثمائة‬ ‫أخرى ‪ .‬وفي العموم ‪ ،‬جمع ُ‬
‫كل ُثلثها( ‪ ،‬وفجأةً‬ ‫غلوت )ثمن السكين والشوكة ش ّ‬
‫ت نفسي مدة خمسة أشهر أو ستة‬ ‫ت أني ضمن ُ‬ ‫وجد ُ‬
‫كاملة ‪ .‬وفي ظل تلك الظروف ‪ ،‬كان أكثر مما‬
‫طلبته ‪ .‬وشعرت بأني غنّية ‪ ،‬كأني أقف على قمة‬
‫العالم ‪.‬‬
‫دم طويل ً ‪ .‬في تلك‬ ‫ن هذه الروح العالية لم ت ُ‬ ‫لك ّ‬
‫مرهقة من جولة البيع ‪،‬‬ ‫الليلة أويت إلى السرير وأنا ُ‬
‫ل من‬ ‫وفي صباح اليوم التالي ‪ ،‬بعد بزوغ الفجر بأق ّ‬
‫ساعة ‪ ،‬أيقظني طرقٌ مدوٍ على الباب ‪ .‬غريبة‬
‫السرعة التي يعرف المرء بها مثل هذه الشياء ‪،‬‬
‫ن سمعت هدير‬ ‫ولكن أول ما خطر على بالي بعد أ ْ‬
‫ذلك الطرق كان المل في أل يقتلوني ‪ .‬بل لم ت َُتح‬
‫مقتحمون‬ ‫ي ‪ .‬فتح ال ُ‬ ‫لي الفرصة للوقوف على قدم ّ‬
‫الباب بالقوة واجتازوا العتبة حاملين الهراوات‬
‫ت‬‫المعتادة والعصي بأيديهم ‪ .‬كانوا ثلثة ‪ ،‬وتعّرف ُ‬

‫‪99‬‬
‫على أضخم اثنين منهم وكانا من آل غوندرسن من‬
‫ن الخبر‬ ‫ت في نفسي ‪ ،‬لبد أ ّ‬ ‫الطابق السفلي ‪ .‬قل ُ‬
‫انتقل بسرعة ‪ .‬لم يكن قد مضى أكثر من يومين‬
‫على وفاة إيزابل ‪ ،‬وها هم الجيران يثبون ‪.‬‬
‫قال أحدهم " انهضي ‪ ،‬يا فتاة ‪ .‬حان وقت‬
‫الرحيل ‪ .‬فقط اخرجي بلطف وهدوء ‪ ،‬ولن نؤذيك "‬
‫مل ‪ .‬قلت ‪،‬‬ ‫محِبطا ً جدا ً ‪ ،‬ول ُيحت َ َ‬‫مته ُ‬‫كان المر بر ّ‬
‫وأنا أخرج من بين الغطية ‪ " ،‬أعطوني بضع دقائق‬
‫ت أقصى جهدي لبقى‬ ‫لحزم أغراضي " ‪ .‬بذل ُ‬
‫ن أي بادرة عنف‬ ‫هادئة ‪ ،‬لكظم غضبي ‪ ،‬لِعلمي أ ّ‬
‫مهاجمتي ‪.‬‬ ‫من جانبي لن تؤدي إل إلى ُ‬
‫قال أحدهم " حسن ‪ ،‬سوف نعطيك ثلث‬
‫دقائق ‪ .‬ولكن ل أكثر من ملء حقيبة ‪ .‬فقط ضعي‬
‫فيها أغراضك فيها وارحلي "‬
‫ت‬
‫ن درجة الحرارة انخفض ْ‬ ‫المعجزة كانت أ ّ‬
‫ت آوي‬ ‫ت قد أصبح ُ‬ ‫بصورة متطرفة أثناء الليل ‪ ،‬وكن ُ‬
‫إلى السرير وأنا مرتدية ملبسي كلها ‪ ،‬وقد وفَّر‬
‫ي ذلك إحراج ارتداء ملبسي أمامهم ‪ ،‬ولكن قبل‬ ‫عل ّ‬
‫ت‬‫هذا – وهو ما أنقذ حياتي في نهاية المطاف – كن ُ‬
‫ت الغلوتات الثلثمائة داخل جيوب‬ ‫قد وضع ُ‬
‫بنطلوني ‪ .‬فأنا لست من النوع الذي يؤمن‬
‫مسبقا ً بما‬ ‫ت أعلم ُ‬ ‫بالستبصار ‪ ،‬ولكن يبدو كأني كن ُ‬
‫سيحدث ‪ .‬وتابعني السفاحون الثلثة عن ُقرب وأنا‬
‫أمل حقيبة الظهر ‪ ،‬ولكن لم يكن أيٌ منهم يتحلى‬
‫بما يكفي من الذكاء ليرتاب في مكان إخفائي‬
‫النقود ‪ .‬ثم غادرت المكان بأسرع ما في استطاعتي‬
‫ت برهة في‬ ‫‪ ،‬هابطة الد ََرج اثنين اثنين ‪ .‬وتوقّف ُ‬
‫ت الباب‬ ‫السفل للتقط أنفاسي ومن ثم فتح ُ‬
‫المامي بدفعه ‪ ،‬فضربني الهواء كما المطرقة ‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫كانت الريح عاصفة والجو باردا ً ‪ ،‬واندفعَ الشتاء إلى‬
‫ي ‪ ،‬وكانت الشياء من حولي تتطاير بعنف ‪،‬‬ ‫أذن ّ‬
‫مسرعة على‬ ‫طم إلى أشلء على جوانب البنية ‪ُ ،‬‬ ‫تتح ّ‬
‫سر وتنتثر كعدد كبير من شظايا‬ ‫طول الشوارع ‪ ،‬تتك ّ‬
‫الثلج ‪ .‬كان قد مضى على وجودي في المدينة حتى‬
‫ذلك الحين أكثر من عام ‪ ،‬ولم يحدث أي شيء ‪.‬‬
‫ت بل عمل‬ ‫كان في جيبي مبلغ من المال ‪ ،‬ولكني كن ُ‬
‫ت به من‬‫‪ ،‬ول مكان أعيش فيه ‪ .‬وبعد كل ما مرر ُ‬
‫صفر ‪.‬‬
‫ت إلى نقطة ال ِ‬ ‫تقلبات الزمن ‪ ،‬عد ُ‬

‫ن الحقائق ل‬ ‫على الرغم مما قد تفترض ‪ ،‬فإ ّ‬


‫ك قادرا ً على الدخول ‪ ،‬ل‬ ‫يمكن عكسها ‪ .‬ومجّرد كون َ‬
‫ن تخرج ‪ .‬فالمداخل ل‬ ‫ن في استطاعتك أ ْ‬ ‫يعني أ ّ‬
‫ن‬‫تتحول إلى مخارج ‪ ،‬ول شيء يضمن أ ْ‬
‫يبقى الباب الذي اجتزته قبل برهة في‬
‫مكانه عندما تستدير لتبحث عنه من جديد ‪.‬‬
‫ت‬‫هكذا هو الحال في المدينة ؛ كلما اعتقد َ‬
‫ن‬
‫ك تعرف جواب السؤال ‪ ،‬تكتشف أ ّ‬ ‫أن َ‬
‫السؤال ل معنى له ‪.‬‬
‫ن أهرب ‪ .‬أول ً ‪ ،‬بدا‬ ‫ت أسابيع عدة أحاول أ ْ‬ ‫أمضي ُ‬
‫ن هناك عددا ً غير محدود من الحتمالت ‪ ،‬وعددا ً‬ ‫أ ّ‬
‫هائل ً من الساليب للعودة إلى الوطن ‪ ،‬وبتوّفر بعض‬
‫ن المر سيكون‬ ‫المال معي لعمل به ‪ ،‬لم أعتقد أ ّ‬
‫صعبا ً جدا ً ‪ .‬وطبعا ً كان هذا خطأ ‪ ،‬لكني لم أرغب‬
‫ت‬ ‫في العتراف بذلك إل بعد فترة من الوقت ‪ .‬كن ُ‬
‫ن‬‫ت على متن سفينة خيرية ‪ ،‬وبدا منطقيا ً أ ْ‬ ‫قد وصل ُ‬
‫ن أعود على متن‬ ‫ن في استطاعتي أ ْ‬ ‫أفترض أ ّ‬
‫م‬‫ت إلى الميناء وأنا على أت ّ‬ ‫أخرى ‪ .‬لذلك ‪ ،‬نزل ُ‬
‫ت‬‫الستعداد لرشوة أي موظف رسمي إذا اضطرر ُ‬

‫‪101‬‬
‫إلى ذلك لكي أضمن السفر ‪ .‬لكني لم أَر أي سفينة‬
‫ت‬‫في الفق ‪ ،‬وحتى سفن الصيد الصغيرة التي كن ُ‬
‫ت ‪ .‬وبدل ذلك ‪،‬‬ ‫قد شاهدتها قبل ذلك بشهر غادر ْ‬
‫مال – مئات‬ ‫ج بالع ّ‬‫متها تع ّ‬ ‫كانت الواجهة المائية بر ّ‬
‫ومئات منهم ‪ ،‬كما بدوا لي ‪ ،‬أكثر من قدرتي على‬
‫رغون الدبش من سيارات‬ ‫دهم ‪ .‬بعضهم كانوا ُيف ِ‬ ‫ع ّ‬
‫النقل ‪ ،‬وآخرون يحملون حجارة القرميد والحجارة‬
‫العادية إلى حافة الماء ‪ ،‬وغيرهم يحفرون الساس‬
‫لقامة ما بدا جدارا ً بحريا ً أو استحكامات ‪ .‬وكان‬
‫مسّلحون يقفون على‬ ‫حّراس من رجال شرطة ُ‬
‫ج‬
‫الرصفة ُيشرفون على العمال ‪ ،‬والمكان يض ّ‬
‫ث فيه الفوضى – هدير اللت ‪ ،‬وأناس‬ ‫بالصخب وتعي ُ‬
‫يركضون جيئة وذهابا ً ‪ ،‬وأصوات رؤساء المجموعات‬
‫ن هذا هو مشروع‬ ‫حأ ّ‬ ‫تصرخ بإصدار الوامر ‪ .‬واّتض َ‬
‫الجدار البحري ‪ ،‬مشروع العمال العامة كانت‬
‫الحكومة الجديدة قد أطلقته ‪ .‬الحكومات تأتي‬
‫وترحل بسرعة هنا ‪ ،‬وغالبا ً ما تصعب مواكبة‬
‫التغيرات ‪ .‬وهذا أول ما سمعته عن التغّير الحالي ‪،‬‬
‫ت أحدهم عن الهدف من إنشاء الجدار‬ ‫وعندما سأل ُ‬
‫ن‬‫محتمَلة ‪ .‬إ ّ‬‫البحري ‪ ،‬فقال إنه وقاية من حرب ُ‬
‫ي يتعاظم ‪ ،‬كما قال ‪،‬‬ ‫التهديد بوقوع اجتياٍح أجنب ّ‬
‫ن نحمي وطننا ‪ .‬وبفضل‬ ‫ومن واجبنا كمواطنين أ ْ‬
‫جهود الزعيم العظيم فلن الفلني – كائنا ً ما كان‬
‫م جمع المواد المتخّلفة عن‬ ‫اسم القائد الجديد ‪ -‬ت ّ‬
‫مرة من أجل الحماية ‪ ،‬وسوف يوّفر‬ ‫مد ّ‬
‫البنية ال ُ‬
‫المشروع العمل للف الناس ‪ .‬وكم يدفعون ؟‬
‫سألته ‪ .‬قال ‪ ،‬ل يقدمون مال ً ‪ ،‬بل مكانا ً للعيش‬
‫ن أكتتب ؟ قلت ‪ ،‬ل‬ ‫مني أ ْ‬ ‫ووجبة دافئة يوميا ً ‪ .‬هل يه ّ‬
‫شكرا ً ‪ ،‬لدي أعمال أخرى ‪ .‬قال ‪ ،‬حسن ‪ ،‬لدي‬

‫‪102‬‬
‫ت الحكومة‬ ‫در ْ‬‫متسع من الوقت لغّير رأيي ‪ .‬وقد ق ّ‬
‫مدة إنهاء العمل على الجدار بخمسين عاما ً على‬
‫ل ‪ .‬قلت ‪ ،‬هذا جيد ‪ ،‬ولكن حتى ذلك الحين كيف‬ ‫الق ّ‬
‫يخرج المرء من هنا ؟ قال ‪ ،‬وهو يهّز رأسه ‪ ،‬أوه كل‬
‫مح للسفن بالمجيء –‬ ‫‪ ،‬هذا مستحيل ‪ .‬لم يُعد ُيس َ‬
‫ن يرحل ‪ .‬وماذا‬ ‫ت أحد ‪ ،‬ل أحد يستطيع أ ْ‬ ‫وإذا لم يأ ِ‬
‫عن الطائرات ؟ قلت ‪ .‬قال ‪ ،‬وهو يبتسم لي‬
‫ت توا ً نكتة لم يفهمها ‪،‬‬ ‫ملّغزة ‪ ،‬وكأنني ألقي ُ‬ ‫بطريقة ُ‬
‫ت ‪ ،‬الطائرة آلة تطير في الجو‬ ‫وما هي الطائرة ؟ قل ُ‬
‫ن إلى آخر ‪ .‬قال ‪ ،‬هذا‬ ‫ل الناس من مكا ٍ‬ ‫وتنق ُ‬
‫مرتابة ‪ .‬ل وجود لمثل هذا‬ ‫سخف ‪ ،‬ورماني بنظرةٍ ُ‬
‫كر ؟ قال ‪ ،‬ل أعلم‬ ‫الشيء ‪ .‬مستحيل ‪ .‬سألته ‪ ،‬أل تذ ُ‬
‫ن تتورطي في المشاكل‬ ‫كأ ْ‬ ‫ما تتكلمين ‪ .‬يمكن ِ‬ ‫ع ّ‬
‫ن يتحدث‬ ‫ك هراء كهذا ‪ .‬ل تحب الحكومة أ ْ‬ ‫بنشر ِ‬
‫الناس عن مثل هذه القصص ‪ .‬إنها ُتسيء إلى‬
‫الروح المعنوية ‪.‬‬
‫ن يواجهك هنا ‪.‬‬ ‫ت ترى ماذا يمكن أ ْ‬ ‫ها أن َ‬
‫المر ل يتعّلق فقط بالشياء التي تختفي –‬
‫ن تختفي ‪ ،‬حتى تختفي معها ِذكراها‬ ‫بل ما أ ْ‬
‫مظلمة ‪،‬‬ ‫كل في العقل مناطق ُ‬ ‫أيضا ً ‪ .‬تتش ّ‬
‫صل ً لستدعاء‬ ‫وإذا لم تبذل جهدا ً متوا ِ‬
‫الشياء التي اختفت ‪ ،‬فسرعان ما ستضيع‬
‫بالنسبة إليك إلى البد ‪ .‬أنا لم أعد منيعة ضد‬
‫ن هناك‬ ‫هذا المرض كأي شخص آخر ‪ ،‬ول شك في أ ّ‬
‫الكثير من المناطق الخاوية داخلي ‪ .‬يختفي شيء ‪،‬‬
‫كر فيه ‪،‬‬ ‫ن تف ّ‬ ‫ت أطول مما ينبغي قبل أ ْ‬ ‫فإذا انتظر َ‬
‫فلن يستطيع أي قد ْرٍ من الجهد مهما بلغت طاقته‬
‫ن الذاكرة ‪ ،‬أصل ً ‪ ،‬ليست عمل ً إراديا ً ؛‬ ‫ن ُيعيده ‪ .‬إ ّ‬ ‫أ ْ‬
‫إنها شيء يحدث رغم أنفك ‪ ،‬ومع التغييرات الهائلة‬

‫‪103‬‬
‫ن يتداعى‬ ‫جح أ ْ‬ ‫مر ّ‬ ‫التي تحدث طوال الوقت ‪ ،‬فمن ال ُ‬
‫الذهن ‪ ،‬وتنزلق الشياء منه ‪ .‬وأحيانا ً ‪ ،‬عندما أجد‬
‫ت مني ‪ ،‬أبدأ‬ ‫نفسي أتحسس بحثا ً عن فكرة تمّلص ْ‬
‫بالنجراف إلى اليام الخوالي في أرض الوطن ‪،‬‬
‫كر كيف كان الحال وأنا طفلة صغيرة عندما‬ ‫أتذ ّ‬
‫كانت العائلة بأكملها تتوجه إلى الشمال على متن‬
‫قطار لقضاء عطل الصيف ‪ .‬كان أخي الكبر وليم‬
‫دائما ً يدعني أجلس على عتبة النافذة ‪ ،‬وغالبا ً ما‬
‫م أحدا ً ‪ ،‬بل أجلس ووجهي مضغوط على‬ ‫ت ل أكل ّ ُ‬ ‫كن ُ‬
‫س‬
‫النافذة وأتفّرج على المشهد في الخارج ‪ ،‬أدر ُ‬
‫مسرعا ً‬ ‫السماء والشجار والمياه أثناء مرور القطار ُ‬
‫يقطع الفيافي ‪ .‬كان المشهد دائما ً جميل ً في‬
‫نظري ‪ ،‬بل أجمل بكثير من الشياء التي في المدينة‬
‫ت لم تري‬ ‫‪ ،‬وفي كل عام أقول لنفسي ‪ ،‬يا آن ‪ ،‬أن ِ‬
‫ن‬
‫ن تتذكريه ‪ ،‬حاولي أ ْ‬ ‫ل من هذا – حاولي أ ْ‬ ‫أجم َ‬
‫تستذكري كل الشياء الجميلة التي تشاهدينها ‪،‬‬
‫ك دائما ً ‪ ،‬حتى عندما لن‬ ‫وبهذه الطريقة ستبقى مع ِ‬
‫تتمكني من مشاهدتها بعد ذلك ‪ .‬ول أعتقد أني‬
‫ت مليا ً إلى العالم أكثر مما فعلت وأنا في تلك‬ ‫نظر ُ‬
‫الرحلت على متن القطار المتوجه إلى الشمال ‪.‬‬
‫ن ُيصبح كل ذلك‬ ‫ن ُيصبح كل شيء لي ‪ ،‬أ ْ‬ ‫تأ ْ‬ ‫أرد ُ‬
‫كره ‪،‬‬ ‫ن أتذ ّ‬ ‫الجمال جزءا ً مني ‪ ،‬وأذكر أني حاولت أ ْ‬
‫أ ُ‬
‫ن‬
‫سك به إلى أ ْ‬ ‫ن أتم ّ‬‫ن أخّزنه لستعيده لحقا ً ‪ ،‬أ ْ‬ ‫ْ‬
‫ن المر‬ ‫سة ‪ .‬لك ّ‬ ‫ة ما ّ‬‫يأتي وقت وأحتاج إليه حاج ً‬
‫ي معي ‪ .‬لقد‬ ‫ن ل شيء منه بق َ‬ ‫الغريب هو أ ّ‬
‫ب أو لخر‬ ‫مضنيا ً ‪ ،‬ولكن لسب ٍ‬ ‫ت جهدا ً ُ‬ ‫بذل ُ‬
‫كان ينتهي بي المر إلى فقدانه ‪ ،‬وفي‬
‫ن‬‫تأ ْ‬ ‫النهاية الشيء الوحيد الذي استطع ُ‬
‫كره هو الجهد الذي بذلته في المحاولة ‪.‬‬ ‫أتذ ّ‬

‫‪104‬‬
‫الشياء ذاتها تلشت بسرعة كبيرة ‪ ،‬وفي‬
‫ت تختفي‬ ‫وقت مشاهدتي لها كانت قد بدأ ْ‬
‫ل محلها أشياء أخرى‬ ‫من ذهني ‪ ،‬ويح ّ‬
‫ن أتمكن من رؤيتها ‪ .‬الشيء‬ ‫ت قبل أ ْ‬‫اختف ْ‬
‫ي لي هو ضباب ‪ ،‬ضباب‬ ‫الوحيد الذي بق َ‬
‫بّراق وجميل ‪ .‬أما الشجار والسماء والمياه‬
‫– فتلشت كلها ‪ .‬كانت دائما ً تتلشى ‪ ،‬قبل‬
‫ن أستحوذ عليها ‪.‬‬ ‫أ ْ‬
‫ن أشعر ببساطة بالغثيان ‪.‬‬ ‫لذلك ‪ ،‬لن يفيدني أ ْ‬
‫ن كل شخص يميل إلى النسيان ‪ ،‬حتى تحت أفضل‬ ‫إ ّ‬
‫ن كهذا ‪ ،‬حيث كل ذلك الختفاء‬ ‫الظروف ‪ ،‬وفي مكا ٍ‬
‫ور العدد‬ ‫ن تتص ّ‬‫الفعلي عن العالم الماديّ ‪ ،‬تستطيع أ ْ‬
‫الكبير من الشياء التي ُتنسى طوال الوقت ‪ .‬وفي‬
‫ن الناس ينسون ‪ ،‬بل‬ ‫النهاية ‪ ،‬ليست المشكلة هي أ ْ‬
‫أنهم ليس دائما ً ينسون الشيء نفسه ‪ .‬فما ل يزال‬
‫ن يضيع‬ ‫موجودا ً كذكرى بالنسبة إلى شخص يمكن أ ْ‬
‫إلى البد بالنسبة إلى شخص آخر ‪ ،‬وهذا يخلق‬
‫مصاعب ‪ ،‬وعوائق ل ُتزال في وجه الفهم ‪ .‬كيف‬
‫ن تتحدث مع شخص عن الطائرات ‪ ،‬مثل ً ‪،‬‬ ‫كأ ْ‬‫يمكن َ‬
‫إذا كان ذلك الشخص ل يعرف ما هي الطائرات ؟‬
‫إنها عملية محو بطيئة ولكن ل مناص منها ‪ .‬الكلمات‬
‫تدوم أكثر من الشياء ‪ ،‬ولكنها في نهاية المطاف‬
‫تتلشى أيضا ً ‪ ،‬على قدم المساواة مع الصور التي‬
‫أثارتها ذات يوم ‪ .‬مجموعات كاملة من الشياء‬
‫تختفي – ُأصص الزهار ‪ ،‬مثل ً ‪ ،‬أو فلتر السجائر ‪ ،‬أو‬
‫الربطة المطاطية – وسوف تتمكن من تمييز هذه‬
‫كر معناها ‪ .‬ولكن‬ ‫ن لم تستطع تذ ّ‬ ‫الكلمات ‪ ،‬حتى وإ ْ‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬وشيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬تصبح الكلمات مجرد‬
‫أصوات ‪ ،‬مجموعة عشوائية من الصوات المزمارّية‬

‫‪105‬‬
‫والهوائّية ‪ ،‬كعاصفة من الفونيمات‪ 3‬المدّومة ‪،‬‬
‫وأخيرا ً ينهار كل شيء ويتحول إلى بربرة ‪ .‬لن يعود‬
‫لتعبير " أصيص أزهار " أي معنى ككلمة "‬
‫‪ . " Splandigo‬سوف يسمعها عقلك ‪ ،‬لكنه‬
‫جلها كشيٍء غير مفهوم ‪ ،‬ككلمة مأخوذة من‬ ‫سُيس ّ‬
‫لغةٍ ل ُتحسنها ‪ .‬ومع تساقط المزيد فالمزيد‬
‫قع من حولك ‪،‬‬ ‫من هذه الكلمات الغريبة الو ْ‬
‫تصبح الحاديث شاقة ‪ .‬في الواقع ‪ ،‬يصبح‬
‫كل شخص يتكّلم لغته الخاصة ‪ ،‬ومع دمار‬
‫جمل التفاهم المتبادل ‪ُ ،‬يصبح من الصعب‬ ‫ُ‬
‫طراد التواصل مع أي إنسان ‪.‬‬ ‫با ّ‬
‫ت إلى التخّلي عن فكرة العودة إلى‬ ‫اضطرر ُ‬
‫ن من بين كل المور التي وقعت‬ ‫الوطن ‪ .‬وأعتقد أ ّ‬
‫لي حتى الن ‪ ،‬كان هذا أصعبها على التقّبل ‪ .‬وحتى‬
‫ت نفسي ودفعتها إلى‬ ‫ت قد خدع ُ‬ ‫ذلك الحين ‪ ،‬كن ُ‬
‫ن أعود متى شئت ‪.‬‬ ‫ن في استطاعتي أ ْ‬ ‫العتقاد أ ّ‬
‫ولكن مع مباشرة مشروع إنشاء الجدار البحري ‪،‬‬
‫طمت‬ ‫وحشد العديد من الشخاص لمنع الرحيل ‪ ،‬تح ّ‬
‫مطمِئنة إلى أشلء ‪ .‬أول ً ماتت‬ ‫هذه الفكرة ال ُ‬
‫ت الشقة ‪ .‬عزائي الوحيد كان‬ ‫إيزابل ‪ ،‬ثم فقد ُ‬
‫ت منه أيضا ً فجأة ً ‪.‬‬ ‫رم ُ‬‫ح ِ‬
‫التفكير في الوطن ‪ ،‬وها قد ُ‬
‫وللمرة الولى منذ قدومي إلى المدينة ‪ ،‬اكتنفني‬
‫التشاؤم ‪.‬‬
‫ت في النطلق في الّتجاه المعاكس ‪ .‬كانت‬ ‫كر ُ‬‫ف ّ‬
‫نقطة فيدلر الحدودية قائمة عند الحافة الغربية من‬
‫المدينة ‪ ،‬وكل ما كان مطلوبا ً منك لعبوره هو إذن‬
‫ن أي شيء كان سيكون أفضل من‬ ‫تأ ّ‬ ‫سفر ‪ .‬شعر ُ‬
‫ت جيئة‬ ‫ن تنّقل ُ‬
‫المدينة ‪ ،‬حتى المجهول ‪ ،‬ولكن بعد أ ْ‬
‫وذهابا ً بين وكالت حكومية عديدة ‪ ،‬أنتظر في‬
‫‪ - 3‬الفونيمة ‪ِ :‬وحدة الكلم ال ُ‬
‫صغرى التي تساعد على تمييز نطق لفظة ما عن أخرى في لغة أو لهجة ‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫ن أحمل طلبي‬ ‫الطابور يوما ً بعد يوم ليقولوا لي أ ْ‬
‫ن أسعار أذن‬ ‫ت أخيرا ً أ ّ‬‫إلى دائرة أخرى ‪ ،‬تعّلم ُ‬
‫ي غلوت ‪ .‬وكان هذا‬ ‫السفر قد ارتفعت إلى مائت ّ‬
‫شيء غير وارد ‪ ،‬بما أنه سيعني استهلك أكبَر قسم ٍ‬
‫ة واحدة ‪ .‬وسمعت كلما ً عن وجود‬ ‫من مالي دفع ً‬
‫منظمة سرية تعمل في تهريب الناس إلى خارج‬
‫ن كثيرا ً من الناس‬ ‫كلفة ‪ ،‬لك ّ‬ ‫عشر ال ُ‬ ‫المدينة مقابل ُ‬
‫يرون إنها في الواقع خدعة – شكل بارع من الفخ‬
‫ممته الحكومة الجديدة ‪ُ .‬يقال إنها وضعت رجال‬ ‫ص ّ‬
‫شرطة عند الطرف النائي من النفق ‪ ،‬وحالما‬
‫تزحف إلى الطرف الخر يتم القبض عليك – ومن‬
‫ثم ُترسل على الفور إلى أحد معسكرات العمل‬
‫الجباري في منطقة التعدين الجنوبية ‪ .‬ولم يكن‬
‫ن كانت تلك الشاعة‬ ‫هناك من سبيل لمعرفة إ ْ‬
‫ت أنها ل تستحق‬ ‫صحيحة أم زائفة ‪ ،‬لكني اكتشف ُ‬
‫ن‬
‫ت المشكلة ‪ .‬إ ّ‬ ‫ل الشتاء ‪ ،‬وواجه ُ‬ ‫مجازفة ‪ .‬ثم ح ّ‬ ‫ال ُ‬
‫ن ينتظر حتى الربيع –‬ ‫أي تفكير في المغادرة يجب أ ْ‬
‫على افتراض ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬أني سأتمكن من الصمود‬
‫حتى الربيع ‪ .‬وفي ظل الظروف السائدة ‪ ،‬بدا لي‬
‫ن هذا مشكوك فيه ‪.‬‬ ‫أ ّ‬

‫ي حسبما أذكر – الشتاء‬ ‫كان أقسى شتاء مّر عل ّ‬


‫الرهيب ‪ ،‬كما أطلقَ عليه الجميع – وحتى الن ‪ ،‬بعد‬
‫سم في‬ ‫ث حا ِ‬
‫حدوثه بسنوات ‪ ،‬ل زال يبرز كحد ٍ‬
‫ط فاصل بين فترةٍ زمنية والتي‬ ‫تاريخ المدينة ‪ ،‬كخ ٍ‬
‫تليها ‪.‬‬
‫استمر البرد طوال خمسة أشهر أو ستة ‪ .‬وبين‬
‫ن لفترة وجيزة ‪ ،‬ولكن‬ ‫ن وآخر كان يحدث ذوبا ٌ‬ ‫حي ٍ‬
‫فترات الدفء العابرة تلك زادت الطين ب ِّلة ‪ .‬كانت‬

‫‪107‬‬
‫ج طوال أسبوع كامل – كانت عواصف عاتية ‪،‬‬ ‫ُتثل ُ‬
‫ُتعمي البصار ‪ ،‬تضرب المدينة بالبياض – ثم تظهر‬
‫الشمس ‪ ،‬تحرق برهة وجيزة بشد ّةِ شمس‬
‫الصيف ‪ .‬ويذوب الثلج ‪ ،‬وبحلول منتصف الظهيرة‬
‫مر المجارير مياه مندفعة ‪،‬‬ ‫تفيض الشوارع ‪ ،‬وُتغ َ‬
‫وأينما نظرت تجد تللؤ المياه المجنون والضوء ‪،‬‬
‫ل إلى قطعة كريستال ضخمة ‪،‬‬ ‫ن العلم كّله تحوّ َ‬
‫وكأ ّ‬
‫تذوب ‪ .‬وفجأةً ‪ ،‬تكفهّر السماء ‪ ،‬ويبدأ الليل ‪ ،‬وتهبط‬
‫صفر –‬ ‫درجة الحرارة من جديد إلى ما دون درجة ال ِ‬
‫مد الماء بسرعة كبيرة بحيث يتخذ الثلج أشكال ً‬ ‫ُتج ّ‬
‫غريبة ‪ :‬نتوءات وتموجات والتفافات ‪ ،‬وأمواجا ً كاملة‬
‫سعر‬ ‫مصّغر ِلما ُيشبه ال ُ‬‫مدت في ذروتها ‪ ،‬كشكل ُ‬ ‫تج ّ‬
‫الجيولوجي ‪ .‬وطبعا ً ‪ ،‬مع حلول الصباح ‪ُ ،‬يصبح‬
‫المشي أمرا ً مستحيل ً – الناس ينزلقون على‬
‫أنفسهم ‪ ،‬والجماجم تنكسر على الثلج ‪ ،‬والجساد‬
‫تتخّبط بعجز على السطح الملساء ‪ ،‬القاسية ‪ .‬ومن‬
‫ثم ُتثلج من جديد ‪ ،‬ويتكّرر المر ‪ .‬استمر هذا الوضع‬
‫على مدى أشهر ‪ ،‬وعندما انتهى ‪ ،‬كان قد مات آلف‬
‫وآلف من الناس ‪ .‬وكانت الحياة بالنسبة إلى‬
‫مشّردين شبه مستحيلة ‪ ،‬ولكن حتى الذين وجدوا‬ ‫ال ُ‬
‫مأوى وطعاما ً جيدا ً عانوا من خسائر ل ُتحصى ‪.‬‬
‫وانهارت البنية القديمة تحت وطأة الثلوج ‪،‬‬
‫ت عائلت بأكملها ‪ .‬وجرف البرد الناس إلى‬ ‫حَق ْ‬‫س ِ‬ ‫و ُ‬
‫حافة الجنون ‪ ،‬وأخيرا ً لم يُعد الجلوس طوال النهار‬
‫في شقة تنقصها التدفئة أفضل بكثير من البقاء في‬
‫طمون أثاث منازلهم‬ ‫الخارج ‪ .‬كان الناس ُيح ّ‬
‫ويحرقونه للحصول على بعض الدفء ‪،‬‬
‫وكان الكثير من تلك النيران تخرج عن‬
‫مر في كل يوم تقريبا ً‬ ‫السيطرة ‪ ,‬والبنية ُتد ّ‬

‫‪108‬‬
‫معات سكنية بأكملها وأحياء ‪.‬‬ ‫مج ّ‬‫‪ ،‬وأحيانا ً ُ‬
‫ن تندلع واحدة من تلك الحرائق ‪ ،‬حتى‬ ‫فما أ ْ‬
‫مشّردين إلى‬ ‫تندفع أعداد هائلة من ال ُ‬
‫الموقع ويقفون هناك ما دام المبنى يحترق‬
‫– يستمتعون بالدفء ‪ ،‬وُيحّيون ألسنة اللهب‬
‫ت أشجار المدينة‬ ‫وهي تعلو نحو السماء ‪ .‬وقُط ِعَ ْ‬
‫ت كوقود ‪ .‬واختفت‬ ‫حرِقَ ْ‬‫كلها خلل فصل الشتاء و ُ‬
‫الحيوانات الليفة ؛ وقُت َِلت الطيور ‪ .‬أصبح نقص‬
‫ن مشروع إنشاء الجدار البحري‬ ‫الطعام حادا ً حتى أ ّ‬
‫عُّلق – فقط بعد بدايته بستة أشهر – وذلك من أجل‬
‫الستعانة بكل ما يتوفر من رجال الشرطة في‬
‫حماية شحن المنتجات إلى السواق ‪ .‬ومع ذلك ‪،‬‬
‫وقعت بعض أحداث الشغب بسبب الطعام ‪ ،‬أدت‬
‫إلى المزيد من القتلى ‪ ،‬والكوارث ‪ .‬ول أحد يعلم‬
‫عدد الموتى الذين سقطوا أثناء فصل الشتاء ‪ ،‬لكني‬
‫سمعت أرقاما ً تقديرية تراوحت ما بين ثلث إلى ُربع‬
‫عدد السكان ‪.‬‬
‫وبصورة ما ‪ ،‬صمد حظي ‪ .‬وفي أواخر شهر‬
‫ي خلل أعمال شغب‬ ‫تشرين ثاني كاد ُيقَبض عل ّ‬
‫بسبب الطعام في جادة بطليموس ‪ .‬وكالمعتاد ‪،‬‬
‫كان في ذلك اليوم طابور ل نهاية له ‪ ،‬وبعد النتظار‬
‫لكثر من ساعتين في البرد القارص دون إحراز‬
‫دمونني بإهانة‬ ‫دم ‪ ،‬بدأ فقط ثلثة رجال كانوا يتق ّ‬ ‫تق ّ‬
‫أحد الحّراس من رجال الشرطة ‪ .‬فشهر الشرطي‬
‫جه مباشرةً نحونا ‪ ،‬وهو مستعد‬ ‫هراوته وتو ّ‬
‫ن يقف في طريقه ‪ ،‬وسياسته‬ ‫م ْ‬
‫للنقضاض على كل َ‬
‫ن يضرب أول ً ومن ثم يستجوب لحقا ً ‪،‬‬ ‫هي أ ْ‬
‫ت أنه لن ُتتاح لي الفرصة للدفاع عن نفسي ‪.‬‬ ‫وأدرك ُ‬
‫ن أتوقف‬ ‫ت تاركة الطابور ‪ ،‬دون حتى أ ْ‬ ‫فانطلق ُ‬

‫‪109‬‬
‫ت أعدو في الشارع ‪ ،‬راكضة بكل ما‬ ‫كر ‪ ،‬واندفع ُ‬ ‫لف ّ‬
‫أوتيت من قوة ‪ .‬مشى الشرطي باتجاهي خطوتين‬
‫أو ثلث ‪ ،‬وقد أصابته الحيرة اللحظية ‪ ،‬لكنه عاد‬
‫كز انتباهه على‬ ‫ن ير ّ‬‫فتوقف ‪ ،‬وكان جليا ً أنه أراد أ ْ‬
‫ن أخرج‬ ‫الحشد ‪ .‬فبالنسبة إليه من الفضل بكثير أ ْ‬
‫ت أركض ‪ ،‬وحالما وصلت إلى‬ ‫من الصورة ‪ .‬ظلل ُ‬
‫ت الحشد ينفجر بصراٍخ قبيح ‪،‬‬ ‫المنعطف ‪ ،‬سمع ُ‬
‫ث ذلك بي رعبا ً حقيقيا ً ‪ ،‬ذلك أني‬ ‫ي ‪ ،‬خلفي ‪ .‬ب ّ‬ ‫عدائ ّ‬ ‫ِ‬
‫ن المنطقة بأكملها‬ ‫ت خلل بضع دقائق أ ّ‬ ‫عِلم ُ‬
‫اجتاحتها فرقة جديدة من شرطة مكافحة الشغب ‪.‬‬
‫وتابعت الركض بأسرع ما أوتيت من قوة ‪ ،‬منتقلة‬
‫من شارٍع إلى آخر ‪ ،‬وأنا من فرط الخوف بحيث‬
‫عجزت عن النظر خلفي ‪ .‬وأخيرا ً ‪ ،‬بعد مرور ربع‬
‫محاذاة بناء ضخم ‪.‬‬ ‫ت نفسي أركض ب ُ‬ ‫ساعة ‪ ،‬وجد ُ‬
‫ن يتعّقبني أم ل ‪ ،‬ولكن‬ ‫م ْ‬
‫ن كان هناك َ‬ ‫ولم أعلم إ ْ‬
‫ب يقع أمامي ببضعة أقدام‬ ‫ح با ٌ‬‫في تلك اللحظة فُت ِ َ‬
‫ع‬
‫فاندفعت أدخله مباشرة ‪ .‬كان هناك رجل نحيل يض ُ‬
‫م‬
‫ف على العتبة ‪ ،‬ويه ّ‬ ‫نظارات ذو وجه شاحب يق ُ‬
‫مسرعة ‪.‬‬ ‫ت ُ‬ ‫ي مرعوبا ً عندما مرر ُ‬ ‫بالخروج ‪ ،‬فنظر إل ّ‬
‫ت ما بدا أنه مكتب لمؤسسة ما –‬ ‫ت قد دخل ُ‬ ‫كن ُ‬
‫عبارة عن غرفة صغيرة تضم ثلثة أو أربعة مكاتب‬
‫وأكواما ً من الوراق والكتب ‪.‬‬
‫قال متبّرما ً " ممنوع الدخول إلى هنا ‪ .‬هذه‬
‫مكتبة عامة "‬
‫ن أسترد‬ ‫لأ ْ‬ ‫قلت ‪ ،‬وأنا أنطوي على نفسي أحاو ُ‬
‫ن كان قصر الحاكم ‪.‬‬ ‫أنفاسي ‪ " ،‬ل يهمني حتى وإ ْ‬
‫ن ُيخرجني "‬ ‫أنا هنا الن ‪ ،‬ول أحد يستطيع أ ْ‬

‫‪110‬‬
‫مضطر للتبليغ عنك‬ ‫ت أنيق ‪ ،‬نّيق ‪ " ،‬أنا ُ‬ ‫قال بصو ٍ‬
‫ن تدخلي إلى هنا هكذا ‪ .‬هذه مكتبة‬ ‫كأ ْ‬
‫‪ .‬ل يمكن ِ‬
‫عامة ‪ ،‬ول ُيسمح لحد بالدخول من دون تصريح "‬
‫منافق ولم أدرِ ماذا أقول ‪.‬‬ ‫أربكني كثيرا ً موقفه ال ُ‬
‫ن‬
‫ن أحاول أ ْ‬ ‫مرهقة ‪ ،‬وعلى آخر رمق ‪ ،‬وبدل أ ْ‬ ‫ت ُ‬
‫كن ُ‬
‫ت بدفعه إلى الرض بأقوى ما‬ ‫أتجادل معه ‪ ،‬اكتفي ُ‬
‫استطعت ‪ .‬كان تصرفا ً سخيفا ً ‪ ،‬لكني لم أتمكن من‬
‫كبح زمام نفسي ‪ .‬طارت النظارة عن وجهه‬
‫ت أرضخ‬ ‫وضربت الرض ‪ ،‬ولبرهة من الزمن كد ُ‬
‫لغواء سحقها تحت قدمي ‪.‬‬
‫ن شئت ‪ ،‬لكني لن أغادر هذا‬ ‫قلت " بّلغ عني إ ْ‬
‫ن تتاح له الفرصة‬ ‫المكان إل جّرا ً " ‪ ،‬ثم ‪ ،‬وقبل أ ْ‬
‫ت حولي واجتزت الباب الموجود في‬ ‫للنهوض ‪ ،‬تلّف ّ‬
‫الطرف المقابل من الغرفة ركضا ً ‪.‬‬
‫وصلت إلى قاعة كبيرة ‪ ،‬كانت غرفة رحبة‬
‫ب عالية وأرضية من الرخام ‪.‬‬ ‫ف ذي قبا ٍ‬ ‫ورائعة بسق ٍ‬
‫كان التباُين المفاجئ بين غرفة المكتب الصغيرة‬
‫خطاي تترّدد‬ ‫مذهل ً ‪ .‬كان وقع ُ‬ ‫المساحة الشاسعة ُ‬
‫ن‬‫ن في استطاعتي أ ْ‬ ‫ي ‪ ،‬وبدا لي كأ ّ‬ ‫أصداؤه وتعود إل ّ‬
‫أسمع ترجيع أنفاسي على الجدران ‪ .‬كانت‬
‫شى جيئة وذهابا ً في أرجاء‬ ‫مجموعات من الناس تتم ّ‬
‫المكان ‪ ،‬يتبادلون فيما بينهم الحاديث بهدوء ‪ ،‬وكان‬
‫ن جاّدة ‪ .‬استدار عدد‬ ‫جليا ً أنهم منغمسون في شؤو ٍ‬
‫ن‬
‫من الرؤوس في اتجاهي عندما ولجت الغرفة ‪ ،‬لك ّ‬
‫ذلك كان مجّرد رد فعل ‪ ،‬وبعد برهة أشاحوا جميعا ً‬
‫بوجوههم من جديد ‪ .‬مررت بأولئك القوم بأشد ّ ما‬
‫مطرقة أنظر إلى‬ ‫يمكن من هدوء وحذر ‪ ،‬وأنا ُ‬
‫الرض وأتظاهُر بأني عارفة إلى أين أنا متوجهة ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ت مطلع د ََرج‬ ‫وبعد ثلثين أو أربعين خطوة وجد ُ‬
‫ت أرتقيه ‪.‬‬ ‫وبدأ ُ‬
‫كانت تلك المرة الولى التي أدخل فيها المكتبة‬
‫الوطنية ‪ .‬كانت صرحا ً رائعا ً ‪ ،‬بما ع ُل ّقَ من لوحات‬
‫كام والقادة ‪،‬‬ ‫على الجدران تمثل صورا ً شخصية للح ّ‬
‫وصفوف من العمدة على الطراز اليطالي ‪،‬‬
‫مطّعم الجميل – كان أحد العلمات‬ ‫والرخام ال ُ‬
‫الممّيزة بين أبنية المدينة ‪ .‬ولكن ‪ ،‬كما يحدث مع‬
‫ت‪.‬‬ ‫كل شيء آخر ‪ ،‬كانت أفضل أيامه قد ول ّ ْ‬
‫فالسقف في الطابق الثاني فيها ثغرة ‪ ،‬والعمدة‬
‫مبعثرة في كل‬ ‫ت ‪ ،‬والكتب والوراق ُ‬ ‫دمت وتشّقق ْ‬ ‫ته ّ‬
‫معات من الشخاص‬ ‫ت أشاهد ُ تج ّ‬ ‫مكان ‪ .‬وبقي ُ‬
‫يتجولون – غالبيتهم من الرجال ‪ ،‬كما أدركت –‬
‫ولكن ل أحد أولني أي انتباه ‪ .‬وعلى الجانب‬
‫ت بابا ً‬‫المقابل من أرُفف فهرس البطاقات ‪ ،‬وجد ُ‬
‫مكسوا ً بالجلد الخضر اللون يؤدي إلى مطلع د ََرج‬
‫ت ذلك الد ََرج إلى المستوى التالي‬ ‫مغَلق ‪ .‬ارتقي ُ‬ ‫ُ‬
‫ق طويل ‪ ،‬منخفض‬ ‫ت إلى روا ٍ‬ ‫ومن ثم خرج ُ‬
‫السقف ‪ ،‬يحتوي عددا ً كبيرا ً من البواب على كل‬
‫جانبيه ‪ .‬لم يكن هناك أحد غيري في الرواق ‪ ،‬وبما‬
‫أني لم أسمع أي صوت يتناهي من خلف البواب ‪،‬‬
‫ن أفتح الباب‬ ‫تأ ْ‬‫ن الغرف خالية ‪ .‬فحاول ُ‬ ‫تأ ّ‬ ‫افترض ُ‬
‫الول على يميني ‪ ،‬لكنه كان موصدا ً ‪ .‬والباب الثاني‬
‫خلفا ً لكل التوقعات ‪ ،‬فُت ِ َ‬
‫ح‬ ‫كان أيضا ً موصدا ً ‪ .‬ثم ‪ ،‬و ِ‬
‫الباب الثالث ‪ .‬في الداخل ‪ ،‬كان هناك ستة رجال‬
‫جالسين حول طاولة من خشب ‪ ،‬يتحدثون بأصوات‬
‫مجّردة من الثاث‬ ‫حة ‪ ،‬حيوية ‪ .‬كانت الغرفة ُ‬ ‫مل ّ‬
‫وخالية من النوافذ ‪ ،‬والدهان الذي يميل لونه إلى‬
‫شر على الجدران والماء يقطر من‬ ‫الصفرار يتق ّ‬

‫‪112‬‬
‫ملحين ‪ ،‬ويرتدون‬ ‫السقف ‪ .‬الرجال الستة كانوا ُ‬
‫ت من شدة‬ ‫ملبس سوداء ‪ ،‬ويعتمرون قبعات ‪ .‬كن ُ‬
‫الذهول حين اكتشفت وجودهم هناك حتى أني‬
‫ن‬
‫ت بإغلق الباب ‪ ،‬لك ّ‬ ‫ت شهقة قصيرة وهمم ُ‬ ‫أطلق ُ‬
‫أكبر الرجال الجالسين حول الطاولة سنا ً ابتسم لي‬
‫ابتسامة رائعة ‪ ،‬زاخرة بالدفء والرقة حتى أني‬
‫ترّددت ‪.‬‬
‫ن نقدم لك أي خدمة ؟ "‬ ‫قال " هل نستطيع أ ْ‬
‫ف‪،‬‬ ‫مخت ٍ‬ ‫مثقل ً بلكنة )كان لفظ ‪ُ th‬‬ ‫كان صوته ُ‬
‫وحرف ‪ w‬تحول إلى ‪ ، (v‬لكني لم أعرف من أي بلد‬
‫ت في عينيه ‪ ،‬فأشاع ومض التعّرف‬ ‫جاءوا ‪ .‬ثم نظر ُ‬
‫الرعشة في جسمي ‪.‬‬
‫ن كل اليهود قد ماتوا "‬ ‫تأ ّ‬‫ت " حسب ُ‬ ‫همس ُ‬
‫ي عدد‬ ‫قال ‪ ،‬وهو يبتسم لي من جديد ‪ " ،‬لقد بق َ‬
‫قليل منا ‪ .‬ليس من السهل التخّلص منا ‪ ،‬في الواقع‬
‫"‬
‫قلت بل تفكير " أنا يهودية أيضا ً ‪ ،‬واسمي آّنا‬
‫ت إلى هنا من مكان بعيد ‪ .‬إنني في‬ ‫بلوم ‪ ،‬وأتي ُ‬
‫المدينة منذ أكثر من عام ‪ ،‬أبحث عن أخي ‪ .‬ل‬
‫أعتقد أنك تعرفه ‪ .‬اسمه وليم ‪ ،‬وليم بلوم "‬
‫قال ‪ ،‬وهو يهّز رأسه نفيا ً ‪ " ،‬كل ‪ ،‬يا عزيزتي ‪ ،‬أنا‬
‫لم أقابل أخاك " ‪ .‬نظر إلى زملئه عبر الطاولة‬
‫ن ل أحد منهم كان‬ ‫وسألهم السـؤال نفسه ‪ ،‬ولك ْ‬
‫يعرف وليم ‪.‬‬
‫قلت " لقد مّر وقت طويل ‪ .‬وإذا لم يكن قد نجح‬
‫في الهروب بوسيلة ما ‪ ،‬فأنا متأكدة من أنه مات "‬
‫قال الحاخام برّقة " هذا أمر مستحيل ‪ .‬لقد مات‬
‫الكثيرون ‪ ،‬كما تعلمين ‪ .‬ومن الفضل أل تتوقعي‬
‫حدوث معجزات "‬

‫‪113‬‬
‫" لم أعد أؤمن بالله ‪ ،‬إذا كان هذا ما تعني ‪ .‬لقد‬
‫تخّليت عن هذا كله عندما كنت طفلة صغيرة "‬
‫قال الحاخام " من الصعب أل تفعلي ‪ .‬عندما‬
‫تفكرين في الشواهد ‪ ،‬ل يعود هناك سبب وجيه يمنع‬
‫الكثيرين من التفكير كما تفعلين "‬
‫ك دددد تؤمن بالله "‬ ‫قلت " ل تُقل لي إن َ‬
‫ن كان يسمعنا أم ل فهذه‬ ‫" إننا نكّلمه ‪ .‬أما إ ْ‬
‫مسألة أخرى "‬
‫تابعت " زميلتي إيزابل كانت تؤمن بالله ‪ .‬هي‬
‫ت نسختها من الكتاب المقدس‬ ‫أيضا ً ماتت ‪ .‬لقد بع ُ‬
‫مقابل سبعة غلوتات للسيد غامبينو ‪ .‬وكيل مؤسسة‬
‫البعث ‪ .‬كان عمل ً فظيعا ً ‪ ،‬أليس كذلك ؟ "‬
‫" ليس بالضرورة ‪ .‬هناك أشياء أهم من الكتب ‪،‬‬
‫قبل كل شيء ‪ .‬الطعام يأتي قبل الصلوات "‬
‫ما حدث لي في حضور ذلك الرجل كان أمرا ً‬
‫شَبها ً‬ ‫ت معه ‪ ،‬أبدو أقرب َ‬ ‫غريبا ً ‪ ،‬ولكن كلما تكلم ُ‬
‫كرني بالشياء كما كانت وأنا فتاة‬ ‫بطفلة ‪ .‬ربما ذ ّ‬
‫تل‬ ‫صغيرة جدا ً ‪ ،‬في العصور المظلمة عندما كن ُ‬
‫ن‬
‫أزال أؤمن بما قاله لي أبويّ وأساتذتي ‪ .‬لك ّ‬
‫ت متأكدة مما أقول ‪ ،‬أني‬ ‫الحقيقة هي ‪ ،‬ولس ُ‬
‫ت أنه‬ ‫رف ُ‬ ‫ت أني أقف على أرض صلبة معه ‪ ،‬وع ِ‬ ‫شعر ُ‬
‫ن أثق به ‪ .‬ووجدتني ‪ ،‬بل وعي ‪،‬‬ ‫شخص يمكنني أ ْ‬
‫ج منه صورة‬ ‫ُ‬
‫أمد ّ يدي إلى جيب معطفي وأخرِ ُ‬
‫صمويل فار ‪.‬‬
‫قلت " أنا أبحث أيضا ً عن هذا الرجل ‪ .‬اسمه‬
‫ن يعلم ما حدث‬ ‫صمويل فار ‪ ،‬وهناك أمل كبير في أ ْ‬
‫لخي "‬
‫صها‬
‫ح َ‬ ‫ن تف ّ‬ ‫أعطيت الصورة للحاخام ‪ ،‬ولكن بعد أ ْ‬
‫بضع لحظات ‪ ،‬هّز رأسه وقال أنه ل يتعّرف على‬

‫‪114‬‬
‫ي ‪ ،‬تكّلم رج ٌ‬
‫ل‬ ‫الوجه ‪ .‬وحين بدأت الخيبة تتسلل إل ّ‬
‫يجلس على الطرف المقابل من الطاولة ‪ .‬كان‬
‫حمرة كانت‬ ‫أصغرهم سنا ً ‪ ،‬ولحيته الضاربة إلى ال ُ‬
‫ل كثافة من لحية أي منهم ‪.‬‬ ‫أصغر وأق ّ‬
‫ن أقول‬ ‫قال بخوف " أيها الحاخام ‪ ،‬هل لي أ ْ‬
‫شيئا ً ؟ "‬
‫ت في حاجة إلى أذن ‪ ،‬يا‬ ‫قال الحاخام " لس َ‬
‫ن تقول ما تشاء "‬ ‫إسحق ‪ .‬يمكنك أ ْ‬
‫كد ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬ولكني‬ ‫قال الشاب " ل شيء مؤ ّ‬
‫ن هذا الشخص ‪ .‬على الق ّ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬
‫أعتقد أني أعرف َ‬
‫أعرف شخصا ً بهذا السم ‪ .‬ولعله ليس الشخص‬
‫الذي تبحث عنه السيدة الشابة ‪ ،‬لكني أعرف السم‬
‫"‬
‫قال الحاخام ‪ ،‬وهو يزلق الصورة الفوتوغرافية‬
‫ق نظرةً على الصورة‬ ‫عبر الطاولة نحوه ‪ " ،‬إذن ‪ ،‬ال ِ‬
‫"‬
‫نظر إسحق ‪ ،‬وكان التعبير المرتسم على وجهه‬
‫شديد الرصانة ‪ ،‬وخاليا ً من أي استجابة ‪ ،‬حتى أني‬
‫ن الشبه‬ ‫فقدت المل على الفور ‪ .‬وأخيرا ً قال " إ ّ‬
‫حصتها الن ‪ ،‬أعتقد أنه‬ ‫ن تف ّ‬‫ضعيف جدا ً ‪ .‬ولكن بعد أ ْ‬
‫ن هذا هو الرجل " ‪ .‬ثم‬ ‫ليس هنا أدنى شك في أ ّ‬
‫مثقفة ‪،‬‬ ‫انفرجت أسارير وجه إسحق الشاحبة ‪ ،‬ال ُ‬
‫دة ‪.‬‬‫ع ّ‬‫عن ابتسامة ‪ .‬وتابعَ " لقد تحدثت معه مرات ِ‬
‫إنه رجل ذكي ‪ ،‬لكنه ينطوي على مرارة شديدة ‪.‬‬
‫لقد اختلفنا تقريبا ً حول كل شيء "‬
‫ن ُتتاح لي الفرصة‬ ‫لم أصدق ما أسمع ‪ .‬وقبل أ ْ‬
‫لقول أي كلمة ‪ ،‬سأل الحاخام " وأين يمكن العثور‬
‫على هذا الرجل ‪ ،‬يا إسحق ؟ "‬

‫‪115‬‬
‫قال إسحق " إنه ليس بعيدا ً عن هنا " ‪ ،‬وضحك‬
‫م هنا في المكتبة‬ ‫ضحكا ً مكبوتا ً ‪ ،‬ثم أضاف " إنه ُيقي ُ‬
‫"‬
‫وأخيرا ً قلت " أهذا صحيح ؟ صحيح ؟ "‬
‫ك إليه الن ‪ ،‬إذا‬ ‫ن آخذ ِ‬ ‫" طبعا ً صحيح ‪ .‬أستطيع أ ْ‬
‫ت إلى الحاخام ‪" ،‬‬ ‫ت " ‪ ،‬وترد ّد َ إسحق ‪ ،‬ثم التف َ‬ ‫شئ ِ‬
‫ك"‬ ‫بعد إذن َ‬
‫ل " ألهذا الرجل‬ ‫ن الحاخام بدا قلقا ً قليل ً ‪ .‬سأ َ‬ ‫لك ّ‬
‫صلة بإحدى الكاديميات ؟ "‬ ‫ِ‬
‫علمي ‪ .‬أعتقد أنه‬ ‫قال إسحق " ليس حسب ِ‬
‫مستقل ‪ .‬لقد أخبرني أنه كان يعمل لصالح إحدى‬ ‫ُ‬
‫ن ما "‬‫الصحف في مكا ٍ‬
‫قلت " هذا صحيح ‪ .‬هذا صحيح تماما ً ‪ .‬إ ّ‬
‫ن‬
‫صمويل فار صحفي "‬
‫مقاطعتي ‪ " ،‬وماذا يعمل‬ ‫متجاهل ً ُ‬‫سأل الحاخام ‪ُ ،‬‬
‫الن ؟ "‬
‫" إنه يؤلف كتابا ً ‪ .‬ل أعرف ما هو موضوعه ‪،‬‬
‫ن أعتقد أّنه يتعّلق بالمدينة ‪ .‬لقد تبادلنا الحديث‬ ‫ولك ْ‬
‫عددا ً من المرات في البهو الرئيسي ‪ .‬إنه يطرح‬
‫أسئلة ثاقبة "‬
‫سأل الحاخام " أهو مؤّيد ؟ "‬
‫قال إسحق " إنه حياديّ ‪ ،‬ل مع ول ضد ‪ .‬إنه‬
‫ذب ‪ ،‬لكنه عادل تماما ً ‪ ،‬وبل حافز "‬ ‫مع ّ‬ ‫رجل ُ‬
‫ن‬
‫ت تفهمين أ ّ‬ ‫ي وشرح قائل ً " أن ِ‬ ‫التفت الحاخام إل ّ‬
‫معّرضة للخطر لنه لم‬ ‫لدينا أعداء ك ُُثرا ً ‪ .‬وتصاريحنا ُ‬
‫دم بحذٍر‬ ‫ن أتق ّ‬‫يأ ْ‬ ‫يُعد لدينا وضعا ً أكاديميا ً كامل ً ‪ ،‬وعل ّ‬
‫ت برأسي إيجابا ً ‪ ،‬في محاولة‬ ‫شديد " ‪ .‬أومأ ُ‬
‫ما يتحدث ‪ .‬تابع " ل أرى‬ ‫لتصّرف وكأني أعلم ع ّ‬
‫ن ُيرينا إسحق أين ُيقيم ذلك الرجل "‬ ‫مانعا ً في أ ْ‬

‫‪116‬‬
‫قلت " شكرا ً لك ‪ ،‬أيها الحاخام ‪ .‬أنا ممتنة لك‬
‫كثيرا ً "‬
‫ك إسحق حتى الباب ‪ ،‬ولكن ل‬ ‫" سوف يوصل ِ‬
‫ن يبتعد أكثر من ذلك ‪ .‬أهذا واضح ‪،‬‬ ‫أريد له أ ْ‬
‫مريد بهيئة من السيطرة‬ ‫إسحق ؟ " ‪ ،‬ونظر إلى ال ُ‬
‫الهادئة ‪.‬‬
‫قال إسحق " نعم ‪ ،‬أيها الحاخام "‬
‫ض الحاخام عن كرسيه واقفا ً وصافحني ‪.‬‬ ‫ثم نه َ‬
‫مرهقا ً جدا ً ‪" .‬‬
‫قال ‪ ،‬وقد بدا فجأةً عجوزا ً جدا ً ‪ ،‬و ُ‬
‫ن أعرف نتيجة المر "‬ ‫أريد أ ْ‬
‫قلت " سأعود ‪ .‬أعدك "‬

‫كانت الغرفة تقع في الطابق التاسع ‪ ،‬في أعلى‬


‫البناء ‪ .‬وحالما وصلنا إلى هنا انطلقَ إسحق مبتعدا ً ‪،‬‬
‫م باعتذارٍ غير مفهوم حول كونه غير قادر‬ ‫وهو ُيغمغ ُ‬
‫ت نفسي وحدي من جديد‬ ‫على البقاء ‪ ،‬ومن ثم وجد ُ‬
‫‪ ،‬واقفة في الرواق الحالك الظلم مع شمعة صغيرة‬
‫مضاءة أحملها بيدي الُيسرى ‪ .‬هناك قانون في حياة‬ ‫ُ‬
‫ت‬‫ك أل تقرع بابا ً إل إذا عرف َ‬ ‫ن علي َ‬
‫المدينة يقول إ ّ‬
‫ت كل‬ ‫ماذا يوجد في الجانب المقابل ‪ .‬فهل قطع ُ‬
‫زل على رأسي كارثة‬ ‫تلك المسافة فقط لكي ُ‬
‫أن‬
‫ِ‬
‫ي أكثر‬‫ن صمويل فار لم يكن بالنسبة إل ّ‬ ‫جديدة ؟ إ ّ‬
‫ل تافهة ‪.‬‬ ‫ق مستحيل وآما ٍ‬ ‫من اسم ‪ ،‬من رمزٍ لشتيا ٍ‬
‫ت قد استخدمته كحافز لي على الستمرار ‪ ،‬أما‬ ‫وكن ُ‬
‫ت بالرعب ‪ .‬ولو‬ ‫ت إلى بابه ‪ ،‬شعر ُ‬ ‫ن وصل ُ‬ ‫الن بعد أ ْ‬
‫ت‬‫لم تكن الشمعة تشتعل بسرعة ‪ ،‬فربما ما وجد ُ‬
‫الشجاعة لطرق الباب ‪.‬‬
‫عدائي ‪ ،‬من داخل الغرفة ‪.‬‬ ‫نادى صوت خشن ‪ِ ،‬‬
‫ل"‬‫قال " ارح ْ‬

‫‪117‬‬
‫" أنا أبحث عن صمويل فار ‪ .‬هل صمويل فار‬
‫موجود هنا ؟ "‬
‫ن ُيريده ؟ "‬‫م ْ‬‫ل الصوت " َ‬ ‫سأ َ‬
‫قلت " آّنا بلوم "‬
‫أجاب الصوت " ل أعرف أحدا ً باسم آّنا بلوم ‪.‬‬
‫ارحلي "‬
‫قلت " أنا أخت وليم ‪ ،‬ومنذ أكثر من عام وأنا‬
‫ن تطلب مني‬ ‫أحاول العثور عليك ‪ .‬ل يمكنك أ ْ‬
‫الرحيل الن ‪ .‬إذا لم تفتح لي الباب ‪ ،‬سأبقى أقرع‬
‫ن تفعل "‬ ‫إلى أ ْ‬
‫ت صوت جّر كرسي على الرض ‪ ،‬تبعه وقع‬ ‫سمع ُ‬
‫ت مزلجا ً ينسحب‬ ‫خطى تقترب مني ‪ ،‬ومن ثم سمع ُ‬ ‫ُ‬
‫ح الباب ‪ ،‬وفجأة ً غمرني الضوء ‪،‬‬ ‫من مقّره ‪ .‬وفُت ِ َ‬
‫سيل هائل من أشعة الشمس تدفّقَ من الردهة من‬
‫ي بضع لحظات‬ ‫نافذة في الغرفة ‪ .‬استغرق عين ّ‬
‫ت أخيرا ً في تمييز‬ ‫ودا عليه ‪ .‬وعندما نجح ُ‬ ‫لتتع ّ‬
‫الشخص الواقف أمامي ‪ ،‬أول ما شاهدته كان‬
‫جه مباشرةً إلى‬ ‫مسدسا ً – مسدسا ً أسود صغيرا ً مو ّ‬
‫بطني ‪ .‬كان هو صمويل فار حتما ً ‪ ،‬لكنه لم يُعد‬
‫ُيشبه الصورة الفوتوغرافية في شيء ‪ .‬فالرجل‬
‫الشاب الصلب في الصورة تحول إلى شخص هزيل‬
‫ة‬
‫ن طاق ً‬ ‫ملتٍح ‪ ،‬تحت عينيه دائرتان سوداوان ‪ ،‬وبدا أ ّ‬ ‫ُ‬
‫ث من جسمه ‪.‬‬ ‫عصبّية ‪ ،‬ل يمكن التكّهن بها ‪ ،‬تنبع ُ‬
‫ن لم يَنم منذ شهر ‪.‬‬ ‫م ْ‬‫ت عليه مظهَر َ‬ ‫أضَف ْ‬
‫دعين ؟ "‬ ‫نت ّ‬ ‫م ْ‬‫ك َ‬
‫كد من أن ِ‬ ‫ل " كيف أتأ ّ‬ ‫سأ َ‬
‫ك ستكون أحمق إذا لم‬ ‫" لني أقول هذا ‪ .‬لن َ‬
‫دقني "‬ ‫تص ّ‬
‫ك تدخلين إل إذا‬ ‫" أحتاج إلى برهان ‪ .‬لن أدع ِ‬
‫ت برهانا ً "‬ ‫دم ِ‬ ‫ق ّ‬

‫‪118‬‬
‫ن تصغي إلى كلمي‬ ‫ن تفعله هو أ ْ‬ ‫" كل ما عليك أ ْ‬
‫ن لكنتي تشبه لكنتك ‪ .‬فنحن من البلد نفسه ‪،‬‬ ‫‪.‬إ ّ‬
‫والمدينة نفسها ‪ .‬ولعّلنا ترعرعنا في الحي نفسه "‬
‫ن‬
‫كأ ْ‬ ‫ن ُيقل ّد َ صوتا ً ‪ .‬علي ِ‬ ‫" أي شخص يستطيع أ ْ‬
‫تعطيني أكثر من هذا "‬
‫ت منه‬ ‫ت يدي إلى جيب معطفي وأخرج ُ‬ ‫مدد ُ‬
‫ك في هذه "‬ ‫الصورة الفوتوغرافية ‪ ،‬وقلت ‪ " ،‬ما رأي َ‬
‫ن‬
‫حصها مدة عشر ثوان أو عشرين ‪ ،‬دون أ ْ‬ ‫تف ّ‬
‫ن جسمه كله قد‬ ‫يقول أي كلمة ‪ ،‬وشيئا ً فشيئا ً بدا أ ّ‬
‫تهاوى ‪ ،‬وغاص داخل نفسه ‪ .‬وعندما عاد إلى النظر‬
‫ن المسدس كان يتدّلى على‬ ‫تأ ّ‬ ‫ي من جديد ‪ ،‬رأي ُ‬ ‫إل ّ‬
‫جانبه ‪.‬‬
‫قال برفق ‪ ،‬أشبه بالهمس " يا إلهي ‪ ،‬من أين‬
‫ت على هذه ؟ "‬ ‫حصل ِ‬
‫ن أغادر "‬ ‫" من بوغات ‪ .‬لقد أعطانيها قبل أ ْ‬
‫ت أبدو "‬ ‫قال " إنه أنا ‪ .‬هكذا كن ُ‬
‫" أعلم "‬
‫دق ‪ ،‬أليس كذلك ؟ "‬ ‫" أمر ل ُيص ّ‬
‫ت‬
‫كري منذ متى وأن ِ‬ ‫ن تتذ ّ‬‫" ليس بالضبط ‪ .‬يجب أ ْ‬
‫موجودة هنا "‬
‫بدا لبرهة من الزمن أنه انساقَ مع أفكاره ‪.‬‬
‫ي من جديد ‪ ،‬بدا وكأنه لم يُعد يتعّرف‬ ‫وعندما نظر إل ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫عل ّ‬
‫ت‬‫ك ؟ " ‪ ،‬فرأي ُ‬ ‫ت أن ِ‬ ‫ن قل ِ‬ ‫معتذرا ً " َ‬
‫م ْ‬ ‫ابتسم لي ُ‬
‫ن ثلثة أو أربعة من أسنانه السفلى مفقودة ‪.‬‬ ‫أ ّ‬
‫" آّنا بلوم ‪ .‬أخت وليم بلوم "‬
‫" بلوم ‪ .‬على غرار ‪ doom‬و ‪ ، gloom‬فهمت "‬
‫" بالضبط ‪ .‬بلوم على غرار ‪ womb‬و ‪. tomb‬‬
‫اختر ما شئت "‬

‫‪119‬‬
‫ك ترغبين في الدخول ‪ ،‬أليس كذلك ؟‬
‫" أعتقد أن ِ‬
‫"‬
‫" نعم ‪ .‬لهذا أنا هنا ‪ .‬لدينا الكثير لنتحدث بشأنه "‬
‫كانت الغرفة صغيرة ‪ ،‬ولكن ليس إلى درجة أل‬
‫صين ‪ .‬ثمة فرشة على الرض ‪ ،‬وطاولة‬ ‫تتسع لشخ َ‬
‫مكتب وكرسي بجوار النافذة ‪ ،‬ومدفأة تعمل‬
‫بالحطب ‪ ،‬وكميات كبيرة من الوراق والكتب‬
‫ومة عند أحد الجدران ‪ ،‬وملبس داخل صندوق‬ ‫مك ّ‬
‫كرني بمهجع نوم الطلب‬ ‫وى ‪ .‬مما ذ ّ‬ ‫من الورق المق ّ‬
‫ت لزيارتك ‪.‬‬ ‫– ُيشبه مهجعك في الجامعة عندما أتي ُ‬
‫كان السقف منخفضا ً ‪ ،‬وينحدر أسفل ً نحو الجدار‬
‫ن تنتقل إلى‬ ‫ك ل تستطيع أ ْ‬ ‫دة بحيث أن َ‬ ‫ح ّ‬‫الخارجي ب ِ‬
‫ن تحني ظهرك ‪.‬‬ ‫ذلك الجانب من الغرفة من دون أ ْ‬
‫ن النافذة الممتدة على طول ذلك الجدار كانت‬ ‫لك ّ‬
‫ت كامل‬ ‫رائعة – شيئا ً جميل ً ‪ ،‬على هيئة مروحة احتل ّ ْ‬
‫مساحته تقريبا ً ‪ .‬كانت مصنوعة من ألواح زجاج‬
‫سمة بألواح مائلة من‬ ‫مق ّ‬
‫صصة ‪ُ ،‬‬ ‫مف ّ‬ ‫سميكة ‪ُ ،‬‬
‫معّقدة كجناح فراشة ‪.‬‬ ‫كلت منظومة ُ‬ ‫الرصاص ‪ ،‬وش ّ‬
‫ن ترى بكل معنى الكلمة على امتداد‬ ‫كان يمكن أ ْ‬
‫أميال طويلة عبر النافذة – وحتى نقطة فيدلر‬
‫الحدودية وما بعدها ‪.‬‬
‫س‬
‫ي لجلس على السرير ‪ ،‬ثم جل َ‬ ‫أومأ سام إل ّ‬
‫على كرسي طاولة المكتب ودار باتجاهي ‪ .‬واعتذر‬
‫ن وضَعه غير مستقّر ‪،‬‬ ‫جه المسدس نحوي ‪ ،‬ل ّ‬ ‫لنه و ّ‬
‫ن ُيخاطر ‪ .‬إنه ُيقيم في‬ ‫كما قال ‪ ،‬ولم يستطع أ ْ‬
‫المكتبة العامة منذ حوالي العام ‪ ،‬وقد ُأشيعَ أنه‬
‫ُيخّبئ كمية من في غرفته ‪.‬‬
‫من‬ ‫ن أخ ّ‬‫قلت " من مظهر الشياء هنا ‪ ،‬ل يمكن أ ْ‬
‫أنك ثريّ "‬

‫‪120‬‬
‫" أنا ل أستخدم المال لنفسي ؛ أنا أنفقه على‬
‫الكتاب الذي أؤّلفه ‪ .‬إنني أدفع للذين يأتون إلى هنا‬
‫ويتكلمون معي ‪ .‬أدفع الكثير من المال في المقابلة‬
‫الواحدة ‪ ،‬حسب طول مدة كل واحدة ‪ .‬غلوت واحد‬
‫للساعة الولى ‪ ،‬ونصف غلوت لكل ساعة إضافية ‪.‬‬
‫لقد أجريت المئات منها ‪ ،‬قصة بعد أخرى ‪ .‬ل أعرف‬
‫ن القصة‬ ‫ت تعلمين أ ّ‬ ‫طريقة أخرى لنجاز المر ‪ .‬أن ِ‬
‫كبيرة جدا ً ‪ ،‬ومن المستحيل على أي شخص واحد‬
‫ن يحكيها "‬ ‫أ ْ‬
‫كان بوغات قد أرسل سام إلى المدينة ‪ ،‬وحتى‬
‫ما دفعه إلى قبول المهمة ‪.‬‬ ‫الن ل يزال يتساءل ع ّ‬
‫َ‬
‫ث‬ ‫ن شيئا ً رهيبا ً قد حد َ‬‫قال " لقد عِلمنا جميعا ً أ ّ‬
‫ك ‪ .‬فلم نسمع عنه أي شيء منذ ستة أشهر ‪،‬‬ ‫لخي ِ‬
‫صلة له بالمر ‪.‬‬ ‫ن كان الذي تبعه فثمة ِ‬ ‫وكائنا ً َ‬
‫م ْ‬
‫وطبعا ً ‪ ،‬لم يدع بوغات هذا ُيزعجه ‪ ،‬ودعاني إلى‬
‫مكتبه ذات صباح وقال " هذه هي الفرصة التي‬
‫طالما انتظرَتها ‪ ،‬أيها الشاب ‪ .‬سُأرسلك إلى هناك‬
‫ل محل بلوم " ‪ .‬كانت تعليماتي واضحة ‪ :‬اكتب‬ ‫لتح ّ‬
‫التقارير ‪ ،‬واعرف ما حادث لوليم ‪ ،‬وابقَ على قيد‬
‫الحياة ‪ .‬وبعد ثلثة أيام ‪ ،‬أقاموا لي حفل وداع‬
‫دموا شمبانيا وسيجارا ً ‪ .‬وشرب بوغات نخبا ً ‪،‬‬ ‫وق ّ‬
‫وشرب الجميع نخب صحتي ‪ ،‬وتصافحنا ‪ ،‬وصفعني‬
‫على ظهري ‪ .‬وشعرت أني ضيف في جنازتي ‪.‬‬
‫ل لم يكن لديّ ثلثة أولد ووعاًء‬ ‫ولكن على الق ّ‬
‫ي في انتظاري في المنزل مثل‬ ‫مملوءا ً بسمك ذهب ّ‬
‫ن الرئيس رجل‬ ‫ت عنه ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪4‬‬
‫ويلوبي ‪ .‬ومهما قل َ‬
‫ساس ‪ .‬وأنا لم أحقد عليه أبدا ً لنه اختارني‬ ‫ح ّ‬
‫ت في الذهاب ‪.‬‬ ‫للمهمة ‪ .‬والحقيقة هي أني ربما رغب ُ‬
‫ن أستقيل ‪ .‬هكذا بدأ‬ ‫وإل لكان في إمكاني ببساطة أ ْ‬
‫‪ -‬المترجم‬ ‫‪ - 4‬كليمنس ويلوبي ‪ :‬إحدى شخصيات رواية " إيفلينا " للروائية النكليزية فراسيس ) فاني( برني )‪(1840 -1752‬‬

‫‪121‬‬
‫ت أقلمي الرصاص ‪،‬‬ ‫المر ‪ .‬حزمت أمتعتي ‪ ،‬وبري ُ‬
‫ت عبارات الوداع ‪ .‬حدث ذلك قبل عام ونصف‬ ‫وتبادل ُ‬
‫‪ .‬ول حاجة إلى القول إني لم ُأرسل أي تقرير ‪ ،‬ولم‬
‫ت‬
‫أعثر على وليم ‪ .‬وفي تلك الثناء يبدو أني بقي ُ‬
‫ن أراهن على المدة‬ ‫على قيد الحياة ‪ .‬لكني ل أريد أ ْ‬
‫التي سأبقى خللها على هذا الحال "‬
‫ددا ً أكثر‬
‫ن تعطيني شيئا ً مح ّ‬ ‫ت آمل أ ْ‬ ‫قلت " كن ُ‬
‫عن وليم ‪ ،‬بطريقة أو بأخرى "‬
‫دد في هذا‬ ‫مح ّ‬ ‫هّز سام رأسه نفيا ً ‪ " .‬ل شيء ُ‬
‫المكان ‪ .‬وإذا أخذنا في العتبار المكانات‬
‫ن تكوني سعيدة بذلك "‬ ‫المتوفرة ‪ ،‬جدير بك أ ْ‬
‫كد "‬ ‫" لن أتخّلى عن المل ‪ ،‬إل بعد أ ْ‬
‫ن أتأ ّ‬
‫حكمة‬ ‫ن من ال ِ‬ ‫" هذه هي ميزتك ‪ .‬لكني ل أعتقد أ ّ‬
‫توّقع أي شيء غير السوأ "‬
‫" هذا ما قاله لنا الحاخام "‬
‫" هذا ما يقوله أي رجل عاقل "‬
‫ي ‪ ،‬يسخر من ذاته ‪،‬‬ ‫تكّلم سام بصوت عصب ّ‬
‫منتقل ً بسرعة من موضوع إلى آخر بطرق كان صعبا ً‬
‫ت أتمتع بحس رجل على حافة‬ ‫ن أتابعها ‪ .‬كن ُ‬
‫يأ ْ‬‫عل ّ‬
‫النهيار – شخص أرهقَ نفسه إلى درجة لم يُعد‬
‫معَ أكثر من ثلثة‬ ‫مل ‪ .‬لقد ج ّ‬ ‫بعدها قادرا ً على التح ّ‬
‫آلف صفحة من الملحظات ‪ ،‬كما قال ‪ .‬وشعر أنه‬
‫لو استمر في العمل على تلك الوتيرة فسوف ُينهي‬
‫العمل التمهيدي للكتاب في غضون خمسة إلى‬
‫ن النقود كادت‬ ‫ستة أشهر ‪ .‬وكانت المشكلة هي أ ّ‬
‫ن الكّفة لم تعد تميل لصالحه ‪ .‬فلم يُعد‬ ‫تنفد ‪ ،‬وبدا أ ّ‬
‫قادرا ً على تكاليف إجراء المقابلت ‪ ،‬ومع انخفاض‬
‫موارده المالية إلى مستوى خطير ‪ ،‬أصبح ل يأكل إل‬
‫مرةً كل يومين ‪ .‬وهذا ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬زاد الطين ب ِّلة ‪ .‬فقد‬

‫‪122‬‬
‫تسّربت منه قوته ‪ ،‬وفي بعض الحيان كان ينتابه‬
‫دوار بحيث ل يعود يرى الكلمات التي يكتبها ‪ .‬قال‬
‫إنه كان أحيانا ً يستغرق في النوم وهو على طاولة‬
‫ن يشعر ‪.‬‬ ‫الكتابة دون أ ْ‬
‫ن ُتنهي عملك ‪.‬‬ ‫قلت " سوف تقتل نفسك قبل أ ْ‬
‫ن تتوقف عن تأليف‬ ‫وما الِعبرة من ذلك ؟ يجب أ ْ‬
‫الكتاب وتعتني بنفسك "‬
‫ن الكتاب هو‬ ‫" ل أستطيع التوقف ‪ .‬إ ّ‬
‫ضني على الستمرار‬ ‫الشيء الوحيد الذي يح ّ‬
‫في الحياة ‪ .‬إنه يمنعني من التفكير في‬
‫نفسي ومن استغراقي في حياتي الخاصة ‪.‬‬
‫ت عن العمل فيه ‪ ،‬سأضيع ‪ .‬ول‬ ‫وإذا توقف ُ‬
‫أعتقد أني سأتمكن من العيش يوما ً آخر "‬
‫ن سيقرأ كتابك‬ ‫م ْ‬
‫قلت بغضب " ليس هناك َ‬
‫ت من صفحات ‪ ،‬فلن‬ ‫اللعين ‪ .‬أل تفهم ؟ مهما كتب َ‬
‫يَر أحد نتيجة عملك "‬
‫ت مخطئة ‪ .‬سوف أحمل المخطوط وأعود‬ ‫" أن ِ‬
‫شر الكتاب ‪ ،‬وسيعرف الجميع‬ ‫إلى الوطن ‪ .‬سوف ُين َ‬
‫ما الذي يحدث هنا "‬
‫ت ل تعرف ماذا تقول ‪ .‬ألم تسمع عن‬ ‫" أن َ‬
‫مشروع الجدار البحري ؟ بات من المستحيل‬
‫الخروج من هنا "‬
‫" أعرف بأمر الجدار البحري ‪ ،‬ولكن هذا مجرد‬
‫دقيني ‪ .‬على‬ ‫مكان واحد ‪ .‬هناك أماكن أخرى ‪ ،‬ص ّ‬
‫طول الساحل إلى الشمال ‪ ،‬وغربا ً خلل المناطق‬
‫المعزولة ‪ .‬وعندما يحين الوقت المناسب ‪ ،‬سأكون‬
‫مستعدا ً "‬
‫" لن تعيش حتى ذلك الحين ‪ .‬مع انتهاء فصل‬
‫الشتاء ‪ ،‬لن تكون مستعدا ً لي شيء "‬

‫‪123‬‬
‫" سوف تستجد ّ أمور ‪ .‬فإذا لم يحدث ذلك ‪،‬‬
‫حسن ‪ ،‬لن يهمني شيء "‬
‫ي معك من نقود ؟ "‬ ‫" كم بق َ‬
‫" ل أعلم ‪ .‬ما بين الثلثين والخمسة والثلثين‬
‫غلوت ‪ ،‬أعتقد "‬
‫ت لدى سماعي مدى ضآلة المبلغ ‪ .‬وحتى لو‬ ‫ذُ ِ‬
‫هل ُ‬
‫ت كل إجراء احترازي ممكن ‪ ،‬ولم ُتنِفق إل عن‬ ‫اّتخذ َ‬
‫ن مبلغ ثلثين غلوتا ً لن يدوم‬ ‫الضرورة القصوى ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ت فجأةً‬ ‫معك أكثر من ثلثة أو أربعة أسابيع ‪ .‬وفهم ُ‬
‫مدى خطورة موقف سام ‪ .‬لقد كان يتوجه مباشرة‬
‫إلى حتفه ‪ ،‬ولم يكن حتى يعي ذلك "‬
‫ت الكلمات تخرج من فمي ‪ .‬ولم تكن‬ ‫هنا ‪ ،‬بدأ ْ‬
‫ن سمعتها بنفسي ‪،‬‬ ‫ما تعنيه إلى أ ْ‬‫لدي أدنى فكرة ع ّ‬
‫ن حينئذٍ كان الوان قد فات ‪ .‬قلت " لديّ بعض‬ ‫ولك ْ‬
‫النقود ‪ .‬ليست كثيرة ‪ ،‬لكنها أكثر بكثير مما لديك "‬
‫قال سام " يا للشهامة "‬
‫ن‬
‫ت ل تفهم ‪ .‬أنا في حاجة إلى مكا ٍ‬ ‫قلت " أن َ‬
‫ت في حاجة إلى النقود ‪ .‬فإذا جمعنا‬ ‫ُ‬
‫م فيه ‪ ،‬وأن َ‬ ‫أقي ُ‬
‫مواردنا معا ً ‪ ،‬فقد ُتتاح لنا فرصة لتجاوز فصل‬
‫الشتاء ‪ .‬فإذا لم نفعل ‪ ،‬فسوف نموت كلنا ‪ .‬ول‬
‫ن هناك شكا ً في هذا ‪ .‬سوف نموت ‪ ،‬ومن‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫ت مضطرا ً إلى‬ ‫ك لس َ‬‫ن نموت في حين أن َ‬ ‫الحمق أ ْ‬
‫ذلك "‬
‫ت فظاظة كلماتي كلينا معا ً ‪ ،‬ولم ينطق أي‬ ‫صعق ْ‬
‫منا بأي كلمة بضع لحظات ‪ .‬لقد كان كل شيء‬
‫ت بصورة ما في‬ ‫منافيا ً للعقل ‪ ،‬لكني نجح ُ‬ ‫صارخا ً ‪ ،‬و ُ‬
‫قول الحقيقة ‪ .‬وكان دافعي الول هو العتذار ‪،‬‬
‫ولكن مع تدفق الكلمات وبقائها في الجو بيننا ‪،‬‬
‫ة للتراجع عنها‬ ‫ت نفسي كاره ً‬ ‫أصبح لها معنى ‪ ،‬ووجد ُ‬

‫‪124‬‬
‫ن ذلك‬ ‫‪ .‬وأعتقد أننا فهمنا نحن الثنان ما يحدث ‪ ،‬لك ّ‬
‫لم يجعل قول الكلمة التالية أمرا ً سهل ً ‪ .‬ففي‬
‫مواقف مشابهة ‪ ،‬من المعروف عن سكان هذه‬
‫المدينة أنه يقتل أحدهم الخر ‪ .‬ول ُيعت ََبر قت ُ‬
‫ل‬
‫ص لخر من أجل غرفة أمرا ً جلل ً ‪ ،‬أو من أجل‬ ‫شخ ٍ‬
‫ل ما منعنا من إيذاء‬ ‫حفنة من القطع النقدية ‪ .‬ولع ّ‬
‫أحدنا الخر كان حقيقة بسيطة هي أننا ل ننتمي إلى‬
‫هذا المكان ‪ .‬لم نكن من سكان تلك المدينة ‪ .‬لقد‬
‫ل ذلك كان‬ ‫نشأنا وترعرعنا في مكان آخر ‪ ،‬ولع ّ‬
‫ن كل ً منا يعرف شيئا ً عن الخر ‪.‬‬ ‫كافيا ً لجعلنا نشعر أ ّ‬
‫ن أقول إني متأكدة من ذلك ‪ .‬لقد‬ ‫ل أستطيع أ ْ‬
‫مجّردة تقريبا ً ‪ ،‬وبدا‬ ‫مصادفة بطريقة ُ‬ ‫جمعت بيننا ال ُ‬
‫ن ذلك أضفى على اللقاء منطقا ً فريدا ً من نوعه ‪،‬‬ ‫أ ّ‬
‫ت اقتراحا ً غريبا ً ‪،‬‬ ‫دم ُ‬ ‫ي منا ‪ .‬وق ّ‬ ‫قوةً ل تعتمد على أ ٍ‬
‫كقفزة جامحة نحو العلقة الحميمة ‪ ،‬ولم يُقل سام‬
‫ن ذلك الصمت بحد ّ ذاته كان‬ ‫تأ ّ‬ ‫أي كلمة ‪ .‬وشعر ُ‬
‫ت الشياُء التي قلُتها‬ ‫ل اكتسب ْ‬ ‫خارقا ً ‪ ،‬وأنه كلما طا َ‬
‫مزيدا ً من الشرعّية ‪ .‬وعندما انتهى ‪ ،‬لم يبقَ شيء‬
‫نناقشه ‪.‬‬
‫قال سام ‪ ،‬وهو يتلّفت حوله في الغرفة الصغيرة‬
‫ن تنامي ؟ "‬ ‫‪ " ،‬المكان مزدحم هنا ‪ .‬أين تنوين أ ْ‬
‫قلت " ل يهم ‪ .‬سوف نجد حل ً "‬
‫ي‬
‫ف ابتسامة عند زاويت ّ‬ ‫قال ‪ ،‬وهو يرسم أخ ّ‬
‫ك أحيانا ً ‪ .‬بل إنه‬ ‫فمه ‪ " ،‬كان وليم يتحدث عن ِ‬
‫ك ‪ .‬كان يقول ‪ ،‬احذر أختي الصغيرة ‪ .‬إنها‬ ‫ح ّ‬
‫ذرني من ِ‬
‫ت ‪ ،‬آّنا بلوم ‪ ،‬سريعة‬ ‫سريعة الغضب ‪ .‬أهكذا أن ِ‬
‫الغضب ؟ "‬
‫قلت " أعرف بماذا تفكر ‪ ،‬ولكن ل تقلق ‪ ،‬لن‬
‫ت غبية ‪ ،‬قبل أي شيء ‪.‬‬ ‫أقف في طريقك ‪ .‬أنا لس ُ‬

‫‪125‬‬
‫سن التفكير ‪ .‬سوف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سن القراءة والكتابة ‪ .‬وأح ِ‬ ‫أنا أح ِ‬
‫ُينّفذ الكتاب بوتيرةٍ أسرع بسبب وجودي "‬
‫ت إلى هنا‬‫ت قلقا ً ‪ ،‬آّنا بلوم ‪ .‬لقد جئ ِ‬‫" أنا لس ُ‬
‫ت‬
‫ت على سريري ‪ ،‬وتبّرع ِ‬ ‫هربا ً من البرد ‪ ،‬وارتمي ِ‬
‫ن أقلق ؟ "‬ ‫بجعلي ثريا ً – وتتوقعين مني أ ْ‬
‫دى الثلثمائة غلوت ‪ .‬بل‬ ‫" ل تبالغ ‪ .‬المبلغ ل يتع ّ‬
‫دى المائتين وخمسة وسبعين "‬ ‫ل يتع ّ‬
‫" هذا ما قلت – رجل غني "‬
‫" إذا أصررت "‬
‫حسن ح ّ‬ ‫ُ‬
‫ظنا نحن‬ ‫" بل أصّر ‪ .‬وأقول أيضا ً ‪ :‬من ُ‬
‫ن المسدس لم يكن محشوا ً "‬ ‫الثنين أ ّ‬

‫ت على قيد الحياة في ذلك الشتاء‬ ‫هكذا بقي ُ‬


‫مريع ‪ .‬عشت في المكتبة العامة مع سام ‪ ،‬وعلى‬ ‫ال ُ‬
‫مدى الشهر الستة التالية كانت تلك الغرفة‬
‫ك‬‫الصغيرة هي مركز عالمي ‪ .‬ول أعتقد أنه سيصدم َ‬
‫ن تسمع إننا كنا ننام في سريرٍ واحد ‪ .‬على المرء‬ ‫أ ْ‬
‫ن يكون مصنوعا ً من حجر لُيقاوم مثل ذلك‬ ‫أ ْ‬
‫التصّرف ‪ ،‬وعندما حدث المر أخيرا ً في الليلة الثالثة‬
‫أو الرابعة ‪ ،‬شعر كلنا بأنه أحمق لننا انتظرنا كل‬
‫تلك المدة لنفعل ‪ .‬في أول المر كانت المسألة‬
‫جسدية محض ‪ ،‬تصادما ً مجنونا ً وتشاُبك أعضاء ‪،‬‬
‫ق مكبوت ‪ .‬كان حس التحّرر هائل ً ‪،‬‬ ‫ً‬
‫تنفيسا عن شب ٍ‬
‫وعلى مدى اليام القليلة التالية تضاجعنا حتى‬
‫الستنزاف ‪ .‬ثم هدأ اليقاع ‪ ،‬وكأننا اضطررنا إلى‬
‫ذلك ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬شيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬على مدى السابيع‬
‫التي تلت ‪ ،‬تحول المر إلى حب حقيقي ‪ .‬وأنا ل‬
‫أتكّلم فقط الحنان أو عن مزايا الحياة المشتركة ‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫لقد كان حّبنا عميقا ً ول عودة عنه ‪ ،‬وفي النهاية‬
‫جين ‪ ،‬وكأننا لن نفترق أبدا ً ‪.‬‬ ‫أصبحنا كالمتزو َ‬
‫تلك كانت أسعد أيامي ‪ .‬ليس فقط هنا ‪ ،‬كما‬
‫تعلم ‪ ،‬بل في أي مكان – كانت أفضل أيام حياتي ‪.‬‬
‫ن أكون غاية في‬ ‫والغريب أنه كان في استطاعتي أ ْ‬
‫ن العيش مع‬ ‫السعادة في تلك اليام الفظيعة ‪ ،‬لك ّ‬
‫ل الفرق ‪ .‬ظاهريا ً ‪ ،‬لم يتغّير شيء ‪.‬‬ ‫لك ّ‬ ‫سام شك ّ َ‬
‫ل كما هو ‪ ،‬والمشاكل نفسها كان‬ ‫الكفاح نفسه ظ ّ‬
‫يجب مواجهتها في كل يوم ‪ ،‬ولكن الن أصبحت‬
‫ت أؤمن بأنه عاجل ً أو آجل ً‬ ‫هناك إمكانية المل ‪ ،‬وبدأ ُ‬
‫ستنتهي متاعبنا ‪ .‬كان سام يعرف المدينة أكثر من‬
‫ن يتلو لئحة‬ ‫أي شخص عرفته ‪ .‬كان في استطاعته أ ْ‬
‫بكل الحكومات التي جاءت على مدى السنوات‬
‫ن ُيعطيك‬ ‫العشر الخيرة ؛ وكان في استطاعته أ ْ‬
‫محافظين ‪ ،‬وعددا ً ل ُيحصى من‬ ‫كام ‪ ،‬وال ُ‬ ‫ح ّ‬‫أسماء ال ُ‬
‫ن يحكي‬ ‫الموظفين الثانويين ؛ كان في استطاعته أ ْ‬
‫ت مصانع‬ ‫تاريخ جامعي المكوس ‪ ،‬ويصف كيف ُبني َ ْ‬
‫الطاقة ‪ ،‬وُيعطي سردا ً تفصيليا ً حتى لصغر‬
‫الطوائف ‪ .‬ومعرفته الكثير وكونه ل يزال في‬
‫ن يشعر بالثقة بالنفس فيما يخص‬ ‫استطاعته أ ْ‬
‫متاحة للخروج – كل ذلك أقنعني ‪ .‬لم يكن‬ ‫ُفرصنا ال ُ‬
‫وه الحقائق ‪ .‬لقد كان ‪ ،‬قبل‬ ‫سام من النوع الذي ُيش ّ‬
‫ن ينظر بريبة‬ ‫ب على أ ْ‬ ‫أي شيء ‪ ،‬صحافيا ً ‪ ،‬وقد تدّر َ‬
‫مبهمة ‪ .‬إذا قال‬ ‫إلى العالم ‪ .‬بل تمّني ‪ ،‬أو افتراضات ُ‬
‫ن نعود إلى الوطن ‪ ،‬فذلك يعني‬ ‫ن من الممكن لنا أ ْ‬ ‫إ ّ‬
‫ن ذلك ممكنا ً ‪.‬‬ ‫أنه يعلم جيدا ً أ ّ‬
‫في العموم ‪ ،‬لم يكن سام متفائل ً ‪ ،‬وليس من‬
‫ن تقول عنه سهل القياد ‪ .‬كان‬ ‫النوع الذي يمكن أ ْ‬
‫فيه ما ُيشبه الغضب يضطرب داخله طوال الوقت ‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫ب محموما ً‬ ‫ذب ‪ ،‬يتقل ّ ُ‬‫وحتى عندما ينام يبدو أنه يتع ّ‬
‫ل شخصا ً ما في أحلمه ‪.‬‬ ‫تحت الغطية وكأنه ُيقات ُ‬
‫ت إليه كان في حالة سيئة ‪ ،‬وتغذية‬ ‫وعندما جئ ُ‬
‫سيئة ‪ ،‬ويسعل باستمرار ‪ ،‬ولم يستِعد ما يشبه‬
‫الصحة الجيدة إل بعد مرور أكثر من شهر ‪ .‬وحتى‬
‫ت أخرج‬ ‫ت أقوم بالعمل كله ‪ .‬كن ُ‬ ‫ذلك الحين ‪ ،‬كن ُ‬
‫رغ القمامة ‪ ،‬وأطبخ وجباتنا‬ ‫ُ‬
‫لشتري الطعام ‪ ،‬وأف ِ‬
‫ظف الغرفة ‪ .‬ولحقا ً ‪ ،‬عندما أصبح سام قويا ً بما‬ ‫وُأن ّ‬
‫مل البرد من جديد ‪ ،‬بدأ يخرج في أوقات‬ ‫يكفي ليتح ّ‬
‫صّرا ً على‬ ‫م ِ‬
‫الصباح ليقوم بالعمال الخفيفة بنفسه ‪ُ ،‬‬
‫ن ألزم الفراش لواصل نومي ‪ .‬كان سام موهوبا ً‬ ‫أ ْ‬
‫جدا ً في إظهار اللطف – وأحّبني أيضا ً ‪ ،‬أكثر مما‬
‫ن يحبني أي إنسان ‪ .‬وإذا كانت نوبات‬ ‫توقعت أ ْ‬
‫السى ُتبِعده عني أحيانا ً ‪ ،‬إل أنها كانت نوبات داخلية‬
‫مه ‪ ،‬وكان يميل إلى إرهاق‬ ‫ي الكتاب هو ه ّ‬ ‫‪ .‬وبق َ‬
‫مل ‪.‬‬ ‫نفسه به ‪ ،‬بالعمل فيه إلى ما فوق طاقة التح ّ‬
‫ط تنظيم ِ كل المادة اليائسة التي‬ ‫وعندما يواجه ضغ َ‬
‫جمعها ليصنع منها شيئا ً منسجما ً ‪ ،‬يبدأ فجأةً بفقدان‬
‫ميه عديم الفائدة ‪ُ ،‬ركاما ً‬ ‫إيمانه بالمشروع ‪ .‬وُيس ّ‬
‫ل أشياء ل يمكن‬ ‫ن يقو َ‬
‫لأ ْ‬ ‫عقيما ً من الوراق ُيحاو ُ‬
‫قولها ‪ ،‬ومن ثم يتقوقع داخل حالة من اليأس تدوم‬
‫ما بين اليوم والثلثة أيام ‪ .‬تلك المزجة السوداوية‬
‫كانت دائما ً تليها فترات من الرّقة القصوى ‪ .‬كان‬
‫يشتري لي حينئذٍ هدايا صغيرة – تفاحة ‪ ،‬مثل ً ‪ ،‬أو‬
‫شريطا ً لربط به شعري ‪ ،‬أو قطعة شوكولة ‪ .‬ربما‬
‫ن ُينفق النقود الزائدة ‪،‬‬ ‫كان تصّرفا ً خاطئا ً منه أ ْ‬
‫ت‬‫ن أتأّثر بتلك اللفتات ‪ .‬كن ُ‬ ‫يأ ْ‬ ‫ولكن كان صعبا ً عل ّ‬
‫مدبرة المنزل التي ل تؤمن‬ ‫ي‪ُ ،‬‬ ‫ف العمل ّ‬ ‫دائما ً الطر َ‬
‫الهراء وُتقّتر وتقتصد ‪ ،‬ولكن عندما يدخل سام حامل ً‬

‫‪128‬‬
‫هدية غالية الثمن مثل تلك ‪ ،‬كان شعورا ً بالفرح‬
‫ت‬‫ده ‪ .‬كن ُ‬ ‫ي ‪ .‬ول أقوى على ر ّ‬ ‫ض عل ّ‬ ‫يغمرني ‪ ،‬يفي ُ‬
‫ن أعرف أنه ُيحبني ‪ ،‬وإذا كان ذلك‬ ‫في حاجة إلى أ ْ‬
‫ت أرغب في دفع‬ ‫ن نقودا ً ستنفد قريبا ً ‪ ،‬كن ُ‬ ‫يعني أ ّ‬
‫ذلك الثمن ‪.‬‬
‫ونما لدينا معا ً ولعٌ بتدخين السجائر ‪ .‬والتبغ عزيز‬
‫المنال هنا ‪ ،‬وعندما تجده تدفع ثمنه غاليا ً جدا ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬
‫صلت من المتعاملين بالسوق‬ ‫م بعض ال ِ‬ ‫سام أقا َ‬
‫السوداء أثناء تجميعه مواد البحث من أجل كتابه ‪،‬‬
‫وكان غالبا ً قادرا ً على العثور على حزمة من‬
‫دى الغلوت‬ ‫عشرين علبة مقابل سعرٍ منخفض ل يتع ّ‬
‫أو الغلوت نصف ‪ .‬وأنا أتحدث عن سجائر حقيقية ‪،‬‬
‫من الطراز القديم ‪ ،‬من النوع الذي ُتنتجه المصانع‬
‫صقا ً عليه من الخارج‬ ‫مل َ‬‫ون و ُ‬ ‫مل ّ‬‫مغّلفا ً بورق ُ‬ ‫ويأتي ُ‬
‫هاتف خليوي ‪ .‬والتي كان سام يشتريها كانت‬
‫وعة كانت قد‬ ‫مسروقة من سفن خيرّية أجنبية متن ّ‬
‫ت هنا في الماضي ‪ ،‬وكانت أسماء الماركات‬ ‫رس ْ‬
‫ُتكَتب بلغات أجنبية ل نستطيع قراءتها ‪ .‬كنا ندخنها‬
‫بعد هبوط الظلم ‪ ،‬ونحن مستلقيان على السرير‬
‫ل من النافذة الكبيرة ‪ ،‬التي على شكل‬ ‫ونط ُ‬
‫ب السماء واضطراباتها ‪ ،‬والسحب‬ ‫مروحة ‪ ،‬نراق ُ‬
‫وهي تمّر من أمام القمر ‪ ،‬والنجوم الصغيرة ‪،‬‬
‫والعواصف الثلجية العنيفة القادمة من العلى ‪ .‬كنا‬
‫ننفث الدخان من الفم ونراقبه يطفو عابرا ً الغرفة ‪،‬‬
‫كل‬ ‫ويرمي ظلل ً على الجدار البعيد تتبعثر حالما تتش ّ‬
‫س‬
‫ح ّ‬ ‫سمة عابرة جميلة ‪ِ ،‬‬ ‫‪ .‬كان في المشهد كله ِ‬
‫در يجّرنا معه إلى زوايا مجهولة من عالم‬ ‫بالَق َ‬
‫ٍ عن أرض‬ ‫دثنا حينئذ‬‫النسيان ‪ .‬وكثيرا ً ما تح ّ‬
‫الوطن ‪ ،‬واستحضرنا أكبَر عددٍ ممكن من‬

‫‪129‬‬
‫دها حميمية‬ ‫الذكريات ‪ ،‬واستعدنا أصغر الصور وأش ّ‬
‫سد الواهن – الشجار الوافرة على‬ ‫بنوٍع من التج ّ‬
‫طول جادة ميرو في شهر تشرين أول ‪ ،‬وساعات‬
‫الحائط ذات الرقام الرومانية في غرف الدرس في‬
‫المدارس الحكومية ‪ ،‬والضواء التي على شكل تّنين‬
‫مثّبتة في المطعم الصيني مقابل الجامعة ‪.‬‬ ‫أخضر وال ُ‬
‫ن‬ ‫ن نتشارك نكهة تلك الشياء ‪ ،‬أ ْ‬ ‫كان في مقدورنا أ ْ‬
‫ش من جديد حوادث ل حصر لها في عالم ٍ‬ ‫نعي َ‬
‫ن ذلك كان‬ ‫عرفناه معا ً منذ أيام طفولتنا ‪ ،‬وأعتقد أ ّ‬
‫محافظة على علوّ روحنا المعنوية ‪،‬‬ ‫ُيساعدنا في ال ُ‬
‫ن‬‫على دفعنا إلى العتقاد بأننا سنستطيع ذات يوم أ ْ‬
‫نعود إلى ذلك كله ‪.‬‬
‫مقيمين في‬ ‫م كم كان عدد الشخاص ال ُ‬ ‫ل أعل ُ‬
‫المكتبة العامة في ذلك الوقت ‪ ،‬لكني أعتقد أنه‬
‫تجاوز المائة بكثير ‪ ،‬بل وأكثر بكثير ‪ .‬المقيمون كانوا‬
‫كلهم من المثقفين والك ُّتاب ‪ ،‬بقايا حركة التطهير‬
‫ت أثناء حقبة شغب سابقة ‪ .‬ووفقا ً لسام ‪،‬‬ ‫التي وقع ْ‬
‫مح ‪،‬‬‫ة من التسا ُ‬ ‫سست الحكومة التي تلت سياس ً‬ ‫أ ّ‬
‫ت المثقفين في عدد من المدارس الحكومية‬ ‫وأو ْ‬
‫في أرجاء المدينة – القاعة الرياضية في الجامعة ‪،‬‬
‫مستشفى مهجور ‪ ،‬المكتبة العامة ‪ . ،‬ترتيبات اليواء‬
‫سر وجود مدفأة‬ ‫تلك استقّرت بالكامل )مما ُيف ّ‬
‫ب في غرفة سام والمغاسل والمراحيض‬ ‫الحديد الص ّ‬
‫ل ممتاز في الطابق السادس( ‪،‬‬ ‫التي تعمل بشك ٍ‬
‫م عددا ً‬ ‫وفي نهاية المطاف تم توسيع البرنامج ليض ّ‬
‫من المجموعات الدينية والصحفيين الجانب ‪ .‬ولكن‬
‫ت الحكومة التالية السلطة بعد ذلك‬ ‫م ْ‬‫عندما استل َ‬
‫ت تلك السياسة ‪ .‬لم ُتنتَزع المساكن‬ ‫بسنتين ‪ ،‬توقف ْ‬
‫ً‬
‫من المثقفين ‪ ،‬ولكن أيضا لم ُيعطوا أي دعم ٍ‬

‫‪130‬‬
‫ي ‪ .‬كانت نسبة الخوف من العقوبة عالية‬ ‫حكوم ّ‬
‫ن العديد من المثقفين‬ ‫بصورة مفهومة ‪ ،‬بما أ ّ‬
‫أجبرتهم الظروف على الخروج والبحث عن أنواع‬
‫ركوا على هواهم ‪،‬‬ ‫أخرى من العمل ‪ .‬والذين بقوا ت ُ ِ‬
‫أهملتهم كل الحكومات التي كانت تأتي إلى السلطة‬
‫وتخرج منها ‪ .‬ونما بين مختلف القطاعات في‬
‫ل‬‫صحبة ‪ ،‬على الق ّ‬ ‫المكتبة العامة قد ٌْر من حس ال ُ‬
‫ن العديد منهم كانوا راغبين في تبادل‬ ‫إلى درجة أ ّ‬
‫سر وجود الجماعات‬ ‫الحاديث والفكار ‪ .‬وهذا ُيف ّ‬
‫الذين رأيتهم في البهو في اليوم الول ‪ .‬كانت‬
‫الحاديث العامة تدور في فترة الصباح مدة ساعتين‬
‫مى ساعات التمشية – وكان ُيدعى كل‬ ‫– التي تس ّ‬
‫ن ُيقيم في المكتبة العامة إلى الشتراك فيها ‪.‬‬ ‫م ْ‬‫َ‬
‫وكان سام قد قابل إسحق خلل إحدى تلك‬
‫الجلسات ‪ ،‬لكنه في العموم كان ينأى بنفسه عنها ‪،‬‬
‫لنه وجد المثقفين ل ُيثيرون الهتمام إل بكونهم‬
‫ظاهرة بحد ذاتهم – وهو أحد جوانب الحياة في‬
‫ن سّرية ‪:‬‬‫المدينة ‪ .‬كلهم كانوا منشغلين بمه ٍ‬
‫ث جارية وأخرى وردت‬ ‫يفتشون عن نظائر بين أحدا ٍ‬
‫في الدب الكلسيكي ‪ ،‬تحليلت إحصائية لميول‬
‫السكان ‪ ،‬تأليف قاموس جديد ‪ ،‬وما إلى ذلك ‪ .‬لم‬
‫يكن هذا النوع من الشياء مفيد لسام ‪ ،‬لكنه حاول‬
‫ن‬
‫مهِ أ ّ‬
‫ل منهم ‪ ،‬لِعل ِ‬ ‫صلة جيدة مع ك ٍ‬ ‫ن يبقى على ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ن يتحولوا إلى أشرار عندما‬ ‫المثقفين يمكن أ ْ‬
‫ت‬‫ن يسخر منهم ‪ .‬وقد تعّرف ُ‬ ‫م ْ‬
‫ن هناك َ‬ ‫يعتقدون أ ّ‬
‫على العديد منهم عََرضا ً – أثناء وقوفي في الطابور‬
‫حاملة دلوا ً أمام مغسلة الطابق السادس ‪ ،‬أتباد ُ‬
‫ل‬
‫وصفات الطعمة مع النسوة ‪ ،‬وأصغي إلى الثرثرة –‬

‫‪131‬‬
‫ن‪،‬‬ ‫ت نصيحة سام ولم أنخرط مع أي منه ّ‬ ‫لكني اّتبع ُ‬
‫دية ولكن متحّفظة منهن ‪.‬‬ ‫ت على مسافةٍ و ّ‬ ‫وبقي ُ‬
‫ت‬‫فيما عدا سام ‪ ،‬الشخص الوحيد الذي كن ُ‬
‫ت خلل الشهر الول‬ ‫أتحدث معه كان الحاخام ‪ .‬كن ُ‬
‫أو نحوه أقوم بزيارته كلما ُأتيحت لي الفرصة ‪-‬‬
‫ساعة حّرة في وقت متأخر من بعد الظهيرة ‪ ،‬مثل ً ‪،‬‬
‫أو واحدة من تلك اللحظات التي يغرق خللها سام‬
‫في كتابه ول تكون هناك أي أعمال صغيرة تتطلب‬
‫التنفيذ ‪ .‬كان الحاخام دائما ً منشغل بمريديه ‪ ،‬مما‬
‫يعني أنه لم يكن يتوفر لديه الوقت لجلي ‪ ،‬لكننا‬
‫نجحنا في النخراط في عدد من الحاديث الجيدة ‪.‬‬
‫ي خلل‬ ‫كره هو التعليق الذي أدلى به إل ّ‬ ‫وأشد ّ ما أتذ ّ‬
‫ن من‬ ‫زيارتي الخيرة ‪ .‬وفي ذلك الوقت وجدت أ ّ‬
‫ن أستمر في التفكير فيه منذ ذلك الحين ‪.‬‬ ‫مذهل أ ْ‬ ‫ال ُ‬
‫ن كل يهودي يعتقد أنه ينتمي إلى آخر‬ ‫لقد قال إ ّ‬
‫جيل من اليهود ‪ .‬نحن دائما ً موجودون في النهاية ‪،‬‬
‫ف على حافة اللحظة الخيرة ‪ ،‬ولماذا ينبغي‬ ‫دائما ً نق ُ‬
‫كر هذه‬ ‫ن نكون مختلفين الن ؟ لعّلي أتذ ّ‬ ‫ن نتوّقع أ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫الكلمات لنني لم أره ثانية بعد ذلك الحديث ‪ .‬وفي‬
‫ت فيها إلى الطابق الثالث ‪،‬‬ ‫المرة التالية التي هبط ُ‬
‫ل محّله رجل آخر في‬ ‫كان الحاخام قد رحل ‪ ،‬وح ّ‬
‫الغرفة – رجل أصلع ‪ ،‬نحيل ‪ ،‬يضع نظارة ذات إطار‬
‫سلكي ‪ .‬كان جالسا ً على طاولة ويكتب بغضب في‬
‫محاطا ً بأكوام من الوراق وبما بدا أنها‬ ‫كرة ‪ ،‬و ُ‬ ‫مف ّ‬ ‫ُ‬
‫ت‬‫عدد من الِعظام والجماجم النسانية ‪ .‬وحالما ولج ُ‬
‫ي وعلى وجهه تعبير منزعج ‪،‬‬ ‫الغرفة ‪ ،‬رفع بصره إل ّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫عدائ ّ‬‫بل و ِ‬
‫ن تقرعي الباب ؟ "‬ ‫قال " ألم تتعّلمي قط أ ْ‬
‫" أنا أبحث عن الحاخام "‬

‫‪132‬‬
‫ي وكأني حمقاء‬ ‫دق إل ّ‬ ‫ما ً شفتيه وُيح ّ‬
‫قال بن ََزق ‪ ،‬زا ّ‬
‫مين "‬ ‫‪ " ،‬الحاخام رحل ‪ .‬كل اليهود رحلوا قبل يو َ‬
‫" ماذا تقول ؟ "‬
‫كّرر ‪ ،‬وهو يزفر تنهيد المتعاض ‪ " ،‬لقد رحل‬
‫مين ‪ .‬واليانسيين‪ 5‬سيرحلون غدا ً ‪،‬‬ ‫اليهود قبل يو َ‬
‫ي‬
‫والجزويت سيرحلون في يوم الثنين ‪ .‬أل تعرفين أ ّ‬
‫شيء ؟ "‬
‫ما تتحدث عنه "‬ ‫" ليس لديّ أدنى فكرة ع ّ‬
‫" إنها القوانين الجديدة ‪ .‬لقد فقدت المجموعات‬
‫ن هناك شخصا ً‬ ‫دق أ ّ‬‫الدينية وضعها الكاديمي ‪ .‬ل أص ّ‬
‫جاهل ً إلى هذه الدرجة "‬
‫ن تظن‬ ‫م ْ‬ ‫" ل داعي للتحدث بهذه اللغة الحقيرة ‪َ .‬‬
‫نفسك ‪ ،‬على أي حال ؟ "‬
‫قال " اسمي دوجاردان ‪ .‬آنري دوجاردان ‪ .‬أنا‬
‫عالم في العراق البشرية "‬
‫صك الن ؟ "‬ ‫ت تخ ّ‬‫" والغرفة أصبح ْ‬
‫" بالضبط ‪ .‬هذه الغرفة لي "‬
‫" وماذا عن الصحفيين الجانب ؟ هل تغّير‬
‫وضعهم أيضا ً ؟ "‬
‫" ل فكرة لديّ ‪ .‬هذا ليس من اختصاصي "‬
‫ن هذه الِعظام والجماجم هي‬ ‫" أعتقد أ ّ‬
‫اختصاصك "‬
‫" هذا صحيح ‪ .‬إنني أعمل على تحليلها "‬
‫ن كانت ؟ "‬ ‫م ْ‬
‫" لِ َ‬
‫مدوا حتى‬ ‫س تج ّ‬ ‫ث مجهولةِ الهوية ‪ .‬لنا ٍ‬ ‫" لجث ٍ‬
‫الموت "‬
‫" هل تعلم أين الحاخام الن ؟ "‬
‫كما ً " إنه في طريقه إلى أرض الميعاد ‪،‬‬ ‫قال مته ّ‬
‫ت ما‬ ‫بل شك ‪ .‬والن اذهبي من فضلك ‪ .‬لقد هدر ِ‬
‫‪ - 5‬اليانسيين ‪ :‬أصحاب المذهب الينسي القائل بفقدان حرية الرادة وبأ ّ‬
‫ن الخلص من طريق موت المسيح مقصور على فئة قليلة ‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ن‬
‫بأ ْ‬ ‫يكفي من وقتي ‪ .‬لديّ عمل هام أؤديه ‪ ،‬ول أح ّ‬
‫ن‬
‫ن تغلقي الباب بعد أ ْ‬‫كري أ ْ‬ ‫ُأقا َ‬
‫طع ‪ .‬شكرا ً ل ِ‬
‫ك ‪ .‬وتذ ّ‬
‫تخرجي "‬

‫في النهاية ‪ ،‬لم نُعد سام وأنا نعاني من تلك‬


‫ف فشل مشروع إقامة الجدار‬ ‫القوانين ‪ .‬فقد أضع َ‬
‫ن يخوضوا في‬ ‫البحري وضع الحكومة ‪ ،‬وقبل أ ْ‬
‫ة نظام‬ ‫م السلط َ‬ ‫مسألة الصحافيين الجانب ‪ ،‬استل َ‬
‫حكم جديد ‪ .‬ولم تُعد عمليات طرد الجماعات الدينية‬ ‫ُ‬
‫ي‬
‫ي تافه ويائس ‪ ،‬هجوم عشوائ ّ‬ ‫ض هزل ّ‬ ‫أكثر من عر ٍ‬
‫على أولئك الذين كانوا عاجزين عن الدفاع عن‬
‫أنفسهم ‪ .‬وقد أذهلني عدم جدوى المر كله ‪ ،‬الذي‬
‫لم يعمل إل على جعل اختفاء الحاخام أمرا ً صعب‬
‫ت ترى كيف هو حال الشياء في هذا‬ ‫التقّبل ‪ .‬ها أن َ‬
‫البلد ‪ .‬كل شيء يختفي ‪ ،‬الناس والشياء على قدم‬
‫ت على‬‫المساواة ‪ ،‬الحياء والموات ‪ .‬لقد حزن ُ‬
‫ت بشد ّةِ وطأته على كاهلي ‪.‬‬ ‫خسارة صديقي ‪ ،‬شعر ُ‬
‫لم أكن حتى متيّقنة من موته ليواسيني – ل شيء‬
‫مفترس ‪.‬‬ ‫غير ما يشبه العدم الجوف وال ُ‬
‫م في حياتي ‪.‬‬ ‫ب سام هو اله ّ‬ ‫ح كتا ُ‬‫بعد ذلك ‪ ،‬أصب َ‬
‫ن فكرة إمكانية‬ ‫ت أننا ما دمنا نعمل عليه فإ ّ‬ ‫وأدرك ُ‬
‫وجود مستقبل سوف تستمر بالنسبة إلينا ‪ .‬وقد‬
‫ح لي ذلك في اليوم الول ‪،‬‬ ‫ن يشر َ‬ ‫ل سام أ ْ‬‫حاو َ‬
‫ت كل مهمة‬ ‫لكني الن فهمُته بنفسي ‪ .‬لقد أّدي ُ‬
‫مطلوبة – تصنيف الصفحات ‪ ،‬تحرير المقابلت ‪،‬‬
‫نسخ النسخ النهائية ‪ ،‬وصنع نسخة نظيفة من‬
‫المخطوط بالكتابة العادية ‪ .‬وكان من الفضل لو‬
‫ن سام كان قد باع‬ ‫توّفر لدينا آلة كاتبة ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫آلته الكاتبة المحمولة قبل ذلك ببضعة أشهر ‪ ،‬ولم‬

‫‪134‬‬
‫مل تكاليف شراء أخرى ‪.‬‬ ‫ن نتح ّ‬ ‫يكن في استطاعتنا أ ْ‬
‫وكما كان الحال ‪ ،‬كان صعبا ً جدا ً المحافظة على‬
‫ف من أقلم الرصاص وأقلم الحبر ‪ .‬كان‬ ‫مخزون كا ٍ‬
‫نقص المواد في فصل الشتاء قد رفع السعار إلى‬
‫مستويات قياسية ‪ ،‬ولول أقلم الرصاص الستة التي‬
‫ف‬
‫كانت في حوزتي – بالضافة إلى أقلم الحبر الجا ّ‬
‫ت منا‬ ‫ة في الشارع – لنفد ْ‬ ‫مصادف ً‬ ‫ت عليها ُ‬ ‫التي عثر ُ‬
‫المواد الساسية ‪ .‬كانت لدينا وفرة من الوراق‬
‫ن دزينة من المواعين في اليوم‬ ‫)كان سام قد خّز َ‬
‫ت مشكلة‬ ‫ن الشموع ش ّ‬
‫كل ْ‬ ‫الذي انتقلنا فيه( ‪ ،‬لك ّ‬
‫ت على عملنا ‪ .‬كان ضوء النهار ضروريا ً لنا‬ ‫أخرى أّثر ْ‬
‫ن ُنقّلل من نفقاتنا ‪ ،‬لكننا كنا في قلب‬ ‫إذا أردنا أ ْ‬
‫الشتاء ‪ ،‬والشمس تقتفي أثر قوسها الهزيل عبر‬
‫صفحة السماء فقط بساعات قليلة قصيرة ‪ ،‬وإذا‬
‫ن يستمر ‪ ،‬كان ينبغي‬ ‫أردنا للعمل في الكتاب أ ْ‬
‫ن نحد ّ من تدخيننا‬ ‫تقديم بعض التضحيات ‪ .‬حاولنا أ ْ‬
‫للسجائر حتى أربع أو خمس سجائر في الليلة‬
‫الواحدة ‪ ،‬وفي نهاية المطاف ترك سام لحيته‬
‫تسترسل وتنمو من جديد ‪ .‬كانت المواس ُتعد ّ من‬
‫قبيل الترف ‪ ،‬أصل ً ‪ ،‬ووصل بنا المر إلى الختيار ما‬
‫بين الوجه الناعم له أو الساقين الناعمتين لي ‪.‬‬
‫وفازت الساقان بسهولة ‪.‬‬
‫احتجنا إلى الشموع نهارا ً وليل ً من أجل ترتيب‬
‫الوراق ‪ .‬وكانت الكتب موجودة في مركز البناء ‪،‬‬
‫ي من الجدران ‪.‬‬ ‫وبالتالي لم تكن هناك نوافذ على أ ٍ‬
‫ن‬
‫ت منذ زم ٍ‬ ‫ن الطاقة الكهربائية كانت قد قُط ِعَ ْ‬ ‫وبما أ ّ‬
‫ن نحمل ضوءنا‬ ‫بعيد ‪ ،‬لم يبقَ أمامنا خيار غير أ ْ‬
‫ت من الوقات ‪ ،‬كما ُيقال ‪ ،‬كان‬ ‫بأنفسنا ‪ .‬وفي وق ٍ‬
‫مجّلد في المكتبة الوطنية ‪.‬‬ ‫هنا ما يفوق المليون ُ‬

‫‪135‬‬
‫ت إلى حدٍ كبير عندما‬ ‫تلك العداد كانت قد اخت ُزِل َ ْ‬
‫ن تبّقى هناك مئات اللف‬ ‫وصلت إلى هناك ‪ ،‬ولك ْ‬
‫ل من المطبوعات ‪ .‬بعض الكتب كانت‬ ‫م هائ ٌ‬ ‫منها ‪ ،‬ك ٌ‬
‫ل قائم على رفوفها ‪ ،‬والبعض الخر‬ ‫موضوعة بشك ٍ‬
‫ت‬‫وم ْ‬ ‫مبعثرة بصورة فوضوية على الرض ‪ ،‬وغيرها ك ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ت‬‫ض ْ‬ ‫على هيئة أكوام غريبة الشكل ‪ .‬كانت قد فُرِ َ‬
‫إجراءات صارمة في المكتبة ضد نقل المجلدات من‬
‫البناء ‪ ،‬ولكن مع ذلك كان العديد منها ُيهّرب إلى‬
‫الخارج وُيباع في السوق السوداء ‪ .‬وعلى أي حال‬
‫ش يدور حول ما إذا كانت المكتبة في الواقع‬ ‫كان نقا ٌ‬
‫مَر‬‫ل زالت مكتبة ‪ .‬فقد كان نظام التصنيف قد د ُ ّ‬
‫ن الكثير من الكتب كانت في غير‬ ‫بالكامل ‪ ،‬ول ّ‬
‫أماكنها ‪ ،‬بات من المستحيل في الواقع العثور على‬
‫ت في حسبانك أنه كانت‬ ‫أي مجلد تريده ‪ .‬وإذا أخذ َ‬
‫ن القول‬ ‫مخّزنة ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫هناك سبعة طوابق من الكتب ال ُ‬
‫ن كتابا ً هو في غير مكانه يشبه كثيرا ً قول إنه لم‬ ‫إ ّ‬
‫يُعد موجودا ً ‪ .‬وعلى الرغم من أنه قد يكون‬
‫ن الحقيقة‬ ‫موجودا ً ماديا ً في المبنى ‪ ،‬فإ ّ‬
‫كن من العثور‬ ‫الواقعة هي أنه ل أحد سيتم ّ‬
‫ت من أجل سام عن‬ ‫عليه بعد ذلك ‪ .‬وقد فتش ُ‬
‫ن أغلب‬ ‫مسجلين المحليين الُقدامى ‪ ،‬لك ّ‬ ‫عدد من ال ُ‬
‫عمليات بحثي في ذلك المكان كانت ببساطة جمع‬
‫كتب ل على التعيين ‪ .‬لم أحب كثيرا ً وجودي هناك ‪،‬‬
‫ة ‪ ،‬وُأضطر إلى‬ ‫مصادف ً‬ ‫ن قد أقابل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حيث ل أعلم َ‬
‫ت‬
‫م رائحة كل تلك الرطوبة والعفونة العتيقة ‪ .‬كن ُ‬ ‫ش ّ‬
‫أتأّبط أكبر عدد ممكن من الكتب وأندفعُ عائدة إلى‬
‫غرفتنا في الطابق العلى ‪ .‬ومن الكتب كنا‬
‫نستمد الدفء خلل فصل الشتاء ‪ .‬وفي‬
‫غياب أي نوع آخر من الوقود ‪ ،‬كنا نحرقها‬

‫‪136‬‬
‫ب طلبا ً للحرارة ‪ .‬أعلم‬ ‫في مدفأة الحديد الص ّ‬
‫ن هذا يبدو تصرفا ً رهيبا ً ‪ ،‬ولكن حقا ً لم يكن أمامنا‬ ‫أ ّ‬
‫مد حتى الموت ‪.‬‬ ‫ن نفعل ذلك أو نتج ّ‬ ‫خيار ‪ .‬فإما أ ْ‬
‫ن‬
‫ت المفارقة الناجمة عن ذلك – أ ْ‬ ‫وطبعا ً أدرك ُ‬
‫تقضي كل تلك الشهر نعمل على كتاب وفي الوقت‬
‫نفسه نضطر إلى حرق مئات من الكتب الخرى‬
‫لكي نبقى دافئين ‪ .‬والغريب في المر هو أني لم‬
‫ت‬‫صدقا ً ‪ ،‬أعتقد حقا ً أني استمتع ُ‬ ‫أشعر بأي ندم ‪ .‬و ِ‬
‫برمي تلك الكتب إلى ألسنة النار ‪ .‬لعّلها أطلَق ْ‬
‫ت‬
‫ن داخلي ؛ لعّلها كانت ببساطة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫غضبا سري ّا كام ٍ‬
‫ن ما حدث لها ل يهم ‪ .‬فالعالم‬ ‫اعترافا ً بحقيقة أ ّ‬
‫مل‬ ‫ل الن ُتستع َ‬ ‫ت إليه انتهى ‪ ،‬وعلى الق ّ‬ ‫الذي انتم ْ‬
‫معظمها لم يكن‬ ‫لهدف معّين ‪ .‬وعلى أي حال ‪ُ ،‬‬
‫ن ُيفَتح – روايات رومانسية ‪ ،‬ومجموعات‬ ‫يستحق أ ْ‬
‫مقررات مدرسية عفا‬ ‫خطب السياسية ‪ ،‬و ُ‬ ‫من ال ُ‬
‫ت على شيء بدا‬ ‫ت كلما عثر ُ‬ ‫عليها الزمن ‪ .‬وكن ُ‬
‫مستساغا ً ‪ ،‬أحتفظ به لقرأه ‪ .‬وأحيانا ً ‪ ،‬عندما كان‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ت أقرأ له قبل أ ْ‬ ‫الرهاق ينال من سام ‪ ،‬كن ُ‬
‫ت أجزاء من‬ ‫يستغرق في النوم ‪ .‬وأذك ُُر أني قرأ ُ‬
‫ت‬
‫كتاب هيرودوتوس بتلك الطريقة ‪ ،‬وذات ليلة قرأ ُ‬
‫الكتاب الصغير الغريب الذي أّلفه سيرانو دو‬
‫ن‪،‬‬ ‫برجيراك عن رحلته إلى القمر والشمس ‪ .‬ولك ْ‬
‫في النهاية ‪ ،‬كان كل شيء يجد طريقه إلى‬
‫المدفأة ‪ ،‬كل شيء كان يتحول إلى دخان ‪.‬‬
‫عندما أسترجع المر الن ‪ ،‬أجد أني ل أزال أؤمن‬
‫ن تسير على ما ُيرام بالنسبة‬ ‫بأّنه كان يمكن للمور أ ْ‬
‫ن ننهي الكتاب ‪ ،‬وعاجل ً أو آجل ً‬ ‫إلينا ‪ .‬كان يمكن أ ْ‬
‫كنا سنجد طريقة للعودة إلى الوطن ‪ .‬ولول الخطأ‬
‫الفاضح والحمق الذي ارتكبته ُقبيل انتهاء فصل‬

‫‪137‬‬
‫ك هذه‬ ‫ت جالسة أمامك الن ‪ ،‬أحكي ل َ‬ ‫الشتاء ‪ ،‬لكن ُ‬
‫ت خطأ‬ ‫القصة بصوتي مباشرة ‪ .‬وحقيقة أني ارتكب ُ‬
‫ن‬ ‫بريئا ً ل ُيقّلل مما سّببه من ألم ‪ .‬كان ينبغي أ ْ‬
‫ت ثقتي‬ ‫ور ‪ ،‬ووضع ُ‬ ‫ت بته ّ‬‫أعرف أكثر ‪ ،‬ولني تصّرف ُ‬
‫ت‬ ‫طم ُ‬ ‫في شخص ل سبب لديّ للوثوق منه ‪ ،‬ح ّ‬
‫ٍ‬
‫ت‬‫مر ُ‬ ‫متها ‪ .‬أنا ل أقول هذا بمأساوّية ‪ .‬لقد د ّ‬ ‫حياتي بر ّ‬
‫كل شيء بحماقتي ‪ ،‬ول ُيلم في ذلك غيري أنا ‪.‬‬
‫حدث المر كما يلي ‪ُ .‬بعيد بداية العام الجديد ‪،‬‬
‫ت أني حامل ‪ .‬ولما لم أكن أعلم كيف‬ ‫اكتشف ُ‬
‫ت بالخبر لنفسي بعض‬ ‫سيستقبل سام ذلك ‪ ،‬احتفظ ُ‬
‫ت بحالة سيئة من‬ ‫ُ‬
‫الوقت ‪ ،‬ولكن ذات يوم أصب ُ‬
‫غثيان الصباح‪ - 6‬عرق بارد ‪ ،‬وتقّيؤ على الرض –‬
‫دق ‪،‬‬ ‫ت إليه الحقيقة ‪ .‬فرح سام بها فرحا ً ل ُيص ّ‬ ‫وأنهي ُ‬
‫ربما كان أشد ّ فرحا ً مني ‪ .‬ل أعني أني لم أكن‬
‫ن‬
‫ت تفهم ‪ ،‬ولكن لم أستطع أ ْ‬ ‫أرغب في الطفل ‪ ،‬أن َ‬
‫ن‬
‫ت أشعر بأ ّ‬ ‫ت به من خوف ‪ ،‬وأحيانا ً كن ُ‬ ‫أرد ّ ما شعر ُ‬
‫أعصابي تخونني ‪ ،‬عندما أفكر في أني سألد طفل ً‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫ب بالجنون ‪ .‬لك ّ‬ ‫في ظل تلك الظروف أكاد أصا ُ‬
‫ذلك كان ُيعادله حماس سام للمر ‪ .‬لقد كان‬
‫منتعشا ً بكل معنى الكلمة بفكرة أنه سُيصبح أبا ً ‪، .‬‬
‫ف من شكوكي ‪ ،‬جعلني أنظر إلى‬ ‫وشيئا ً فشيئا ً خّف َ‬
‫ل حسن ‪ .‬الطفل يعني أننا قد نجونا ‪،‬‬ ‫الحمل كفأ ٍ‬
‫كما قال ‪ .‬لقد تغّلبنا على الظروف الصعبة ‪ ،‬ومنذ‬
‫ذلك الحين فصاعدا ً سيصبح كل شيء مختلفا ً ‪ .‬وإننا‬
‫بإنجابنا طفل ً معا ً ‪ ،‬جعلنا بداية عالم جديد أمرا ً‬
‫ٍ‬
‫دث بتلك‬ ‫ت سام يتح ّ‬ ‫ممكنا ً ‪ .‬لم أكن قد سمع ُ‬
‫الطريقة قبل ذلك ‪ .‬بكثير من الشجاعة ‪ ،‬والعواطف‬
‫ت حين سمعت تلك‬ ‫دم ُ‬‫ص ِ‬‫المثالية – حتى أني ُ‬

‫‪ُ - 6‬تصاب به النساء الحوامل عادة ‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫ن هذا ل يعني أني لم أحبها ‪.‬‬ ‫الشياء تصدر عنه ‪ .‬لك ّ‬
‫ُ‬
‫دقها ‪.‬‬ ‫ت أص ّ‬ ‫لقد أحببُتها كثيرا ً ‪ ،‬بل إني في الواقع بدأ ُ‬
‫أشد ّ ما أردته هو أل ّ أخذله ‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫بعض فترات الصباح السيئة خلل السابيع الولى ‪،‬‬
‫ن أحافظ على القيام‬ ‫تأ ْ‬ ‫ت صحتي جيدة ‪ ،‬وحاول ُ‬ ‫بقي َ ْ‬
‫ت أفعل من قبل ‪.‬‬ ‫ي من عمل ‪ ،‬كما كن ُ‬ ‫جب عل ّ‬ ‫بما تو ّ‬
‫وبحلول منتصف شهر آذار ‪ ،‬ظهرت بوادر ُتشير إلى‬
‫ت العواصف تق ّ‬
‫ل‬ ‫وته ‪ :‬أخذ ْ‬ ‫ن الشتاء بدأ يفقد ق ّ‬ ‫أ ّ‬
‫قليل ً ‪ ،‬وفترات ذوبان الثلوج تطول ‪ .‬ل أعني بقولي‬
‫ن الطقس أصبح دافئا ً ‪ ،‬ولكن كانت هناك‬ ‫هذا أ ّ‬
‫ن الشياء تتحرك في ذلك‬ ‫إشارات عديدة ُتوحي بأ ّ‬
‫ن السوأ قد انتهى ‪.‬‬ ‫الّتجاه ‪ ،‬شعور متواضع جدا ً بأ ّ‬
‫ن حذائي كان حينئذٍ قد بدأ يتهّرأ – وهو‬ ‫وشاء الحظ أ ّ‬
‫ن بعيد ‪ .‬ول‬ ‫نفسه الذي أعطتنيه إيزابل قبل زم ٍ‬
‫ت به ‪ .‬لقد كان‬ ‫ن أحسب كم ميل ً مشي ُ‬ ‫يمكنني أ ْ‬
‫مل كل خطوة‬ ‫معي منذ أكثر من عام ‪ ،‬وتح ّ‬
‫ن من المدينة ‪ ،‬وها‬ ‫خطوتها ‪ ،‬ورافقني إلى كل رك ٍ‬
‫ي كله ‪ ،‬والجزاء‬ ‫هو الن قد تمّزق تماما ً ‪ :‬النعل بل ِ َ‬
‫مزقا ً ‪ ،‬على الرغم من أني بذل ُ‬
‫ت‬ ‫العليا أضحت ُ‬
‫ن‬
‫أقصى جهدي لسد ّ الثقوب بورق الصحف ‪ ،‬لك ّ‬
‫الشوارع الرطبة كانت شديدة الوطأة عليه ‪ ،‬وكانت‬
‫قدماي طبعا ً ُتنقعان بالماء كلما خرجت ‪ .‬أعتقد أ ّ‬
‫ن‬
‫هذا حدث مرارا ً كثيرة ‪ ،‬وذات يوم في أوائل شهر‬
‫مَرضا ً حقيقيا ً ‪ ،‬اكتم َ‬
‫ل‬ ‫نيسان أصابني برد ‪ .‬كان َ‬
‫باللم ونوبات الرتعاش ‪ ،‬والتهاب الحلق والعطس ‪.‬‬
‫ن ذلك البرد‬ ‫وبسبب انهماك سام بمسألة الحمل ‪ ،‬فإ ّ‬
‫أصابه بالرعب إلى حد ّ الهستريا ‪ .‬وترك كل أعماله‬
‫وأخذ يعتني بي ‪ ،‬يحوم حول السرير كممرضة‬
‫دد النقود في شراء أشياء باهظة الثمن‬ ‫مخبولة ‪ ،‬وُيب ّ‬

‫‪139‬‬
‫سنت صحتي في‬ ‫معّلب ‪ .‬وتح ّ‬ ‫حساء ال ُ‬ ‫كالشاي وال ِ‬
‫ن سام‬ ‫ن بعد ذلك س ّ‬ ‫غضون ثلثة أيام أو أربعة ‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن أضع قدمي خارج المنزل ‪،‬‬ ‫قانونا ً ‪ .‬إنه ل يريدني أ ْ‬
‫ن يتمكن من شراء حذاء جديد لي ‪.‬‬ ‫كما قال ‪ ،‬إلى أ ْ‬
‫ضع والمهام الخرى كلها‬ ‫كان يقول بأعمال التب ّ‬
‫سك‬ ‫ن هذا أمر سخيف ‪ ،‬لكنه تم ّ‬ ‫ت له إ ّ‬ ‫بنفسه ‪ .‬قل ُ‬
‫ن يدعني ُأثنيه عن فعل ذلك ‪.‬‬ ‫ضأ ْ‬ ‫برأيه ورف َ‬
‫مل كمريضة ‪ ،‬لمجّرد أني‬ ‫قلت " ل أريد أ ُ‬
‫ن أعا َ‬ ‫ْ‬
‫حامل "‬
‫ك ‪ ،‬بل بالحذاء ‪.‬‬ ‫قال سام " المر ل يتعّلق ب ِ‬
‫ت‪ ،‬سوف تتبّلل قدماك ‪ .‬والصابة التالية‬ ‫فكلما خرج ِ‬
‫بالبرد لن يكون سهل ً الشفاء منها ‪ ،‬كما تعلمين ‪،‬‬
‫ك؟"‬ ‫وماذا سيحدث لنا إذا اشتد ّ المرض علي ِ‬
‫ت قلقا ً إلى هذا الحد ‪ ،‬لماذا ل تعطيني‬ ‫" إذا كن َ‬
‫حذاءك لنتعله عندما أخرج ؟ "‬
‫" إنه واسع جدا ً عليك ‪ .‬سوف تخرج قدماك منه‬
‫كطفلة ‪ ،‬وسرعان ما ستقعين ‪ .‬فماذا سيحدث‬
‫عندئذ ٍ ؟ حالما ستسقطين على الرض ‪ ،‬سوف‬
‫يسلبك أحدهم إياه من قدميك "‬
‫ن أفعل أي شيء إذا كانت لدي‬ ‫" ل يسعني أ ْ‬
‫ت"‬ ‫قدمان صغيرتان ‪ .‬هكذا وِلد ُ‬
‫" قدماك جميلتان ‪ ،‬يا آّنا ‪ .‬إنهما أدقّ قدمان‬
‫ل الرض التي‬ ‫خلقتا حتى الن ‪ .‬أنا أعبدهما ‪ُ .‬أقب ّ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫تمشيان عليها ‪ .‬لهذا يجب حمايتهما ‪ .‬ويجب أ ْ‬
‫نحرص على أل ُيصيبهما أي أذى "‬
‫ت‬
‫ي ‪ .‬كن ُ‬ ‫السابيع القليلة التالية كانت صعبة عل ّ‬
‫ب سام وهو يهدر وقته على أشياء كان يمكن‬ ‫أراق ُ‬
‫ن أؤديها بنفسي بسهولة ‪ ،‬والكتاب لم ُيحرز أي‬ ‫لي أ ْ‬
‫ن يكون زوج تافه‬ ‫دم ‪ .‬وقد أغضبني التفكير في أ ّ‬ ‫تق ّ‬

‫‪140‬‬
‫ن يتسّبب في الكثير من‬ ‫من الحذية أمكنه أ ْ‬
‫ت أني‬ ‫المشاكل ‪ .‬وكان الطفل قد بدأ يظهر ‪ ،‬وشعر ُ‬
‫بقرة ل فائدة منها ‪ ،‬أو أميرة حمقاء تلزم المنزل‬
‫طوال النهار بينما ملكها وفارسها خرج إلى الحرب ‪.‬‬
‫ن أعثر على حذاء ‪ ،‬هكذا‬ ‫ليت كان في استطاعتي أ ْ‬
‫ت أكرر لنفسي ‪ ،‬إذن لعادت الحياة إلى حركتها‬ ‫كن ُ‬
‫الطبيعية ‪ .‬ورحت أفتش في الجوار ‪ ،‬أسأل الناس‬
‫ت‬
‫أثناء انتظاري في الطابور أمام المغسلة ‪ ،‬بل نزل ُ‬
‫ن‬
‫خلل ساعات التمشية في البهو بضع مرات لرى إ ْ‬
‫ن يدّلني ‪ .‬ولكن بل فائدة ‪ ،‬ولكن‬ ‫كان في وسع أحد أ ْ‬
‫ت دوجاردان في رواق الطابق‬ ‫ذات يوم صادف ُ‬
‫السادس ‪ ،‬وسرعان ما اندمج في حديث معي ‪،‬‬
‫ت قد تجّنبت‬ ‫ُيبربر وكأننا صديقين حميمين ‪ .‬وكن ُ‬
‫دوجاردان منذ لقائنا الول في غرفة الحاخام ‪ ،‬وتلك‬
‫الصداقة المفاجئة من جانبه صدمتني بغرابتها ‪ .‬كان‬
‫مراوغا ً حقيرا ً متحذلقا ً ‪ ،‬وخلل تلك‬ ‫دوجاردان رجل ً ُ‬
‫الشهر تجّنبني بقدر ما حرصت على تجّنبته ‪ .‬هذه‬
‫طف ‪.‬‬ ‫المرة كان يشعّ بالبتسامات وبالهتمام المتعا ِ‬
‫ك في حاجةٍ إلى حذاء ‪ .‬إذا كان‬ ‫قال " لقد سمعت أن ِ‬
‫هذا صحيحا ً ‪ ،‬قد أتمكن من مساعدتك في هذا‬
‫ن هناك‬ ‫ن أفهم فورا ً أ ّ‬ ‫المجال " ‪ .‬كان ينبغي أ ْ‬
‫ن ِذكر كلمة " حذاء " بددت انتباهي ‪.‬‬ ‫خطبا ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫ت شديدة اللهفة للحصول عليه ‪ ،‬كما تفهم ‪،‬‬ ‫كن ُ‬
‫صى دوافعه ‪.‬‬ ‫ن أتق ّ‬
‫طر في بالي أ ْ‬ ‫بحيث لم يخ ُ‬
‫ب لي له‬ ‫تابعَ قائل ً " المر هو كما يلي ‪ .‬لديّ قري ٌ‬
‫صلة بـ ‪ ،‬همممم ‪ ،‬كيف أقول ‪ ،‬بشئون البيع‬ ‫ِ‬
‫والشراء ‪ .‬أشياء للستعمال ‪ ،‬كما تعلمين ‪ ،‬سلع‬
‫استهلكية ‪ ،‬أشياء من هذا النوع ‪ .‬أحيانا ً تقع تحت‬
‫يديه أحذية – من النوع الذي أنتعله الن ‪ ،‬مثل ً – ول‬

‫‪141‬‬
‫ن لديه مخزونا ً منها‬ ‫ن من الخطأ افتراض أ ّ‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫ف أني ذاهب إلى منزله هذه‬ ‫الن ‪ .‬وبما أنه يتصاد ُ‬
‫ن أطلب شيئا ً‬ ‫الليلة ‪ ،‬فل بأس ‪ ،‬ل بأس أبدا ً ‪ ،‬أ ْ‬
‫ك ‪ .‬طبعا ً ‪ ،‬أنا في حاجة إلى معرفة قياس‬ ‫لجل ِ‬
‫قدمك – هممم ‪ ،‬ليس كبيرا ً في اعتقادي – والمبلغ‬
‫ن هذه تفاصيل ‪ ،‬مجّرد‬ ‫الذي ترغبين في دفعه ‪ .‬ولك ّ‬
‫دد موعدا ً للقاء غدا ً‬ ‫ن ُنح ّ‬‫تفاصيل ‪ .‬وإذا استطعنا أ ْ‬
‫ك بعض المعلومات حينئذ ‪ .‬في حاجة‬ ‫فقد أحمل إلي ِ‬
‫إلى أحذية ‪ ،‬ومن مظهر الحذاء الذي تنتعلينه الن‬
‫صين عنها ‪ .‬رث ومتهّرئ ‪ .‬لن ينفع ‪،‬‬ ‫أفهم لماذا تتق ّ‬
‫خاصة في حالة الطقس التي نمر بها هذه اليام "‬
‫أخبرته عن مقياس قدمي ‪ ،‬والمبلغ الذي أود ّ‬
‫ددنا موعدا ً في بعد ظهيرة اليوم‬ ‫إنفاقه ‪ ،‬ومن ثم ح ّ‬
‫التالي ‪ .‬وعلى الرغم من طلوة لسانه ‪ ،‬لم يسعني‬
‫ن يبدو‬
‫لأ ْ‬ ‫ن دوجاردان كان ُيحاو ُ‬ ‫ن أشعر بأ ّ‬ ‫إل أ ْ‬
‫لطيفا ً ‪ .‬لعله ترك تلك التجارة التي نسبها إلى قريبه‬
‫‪ ،‬لكني لم أَر أي خطأ في ذلك ‪ .‬علينا جميعا ً أن‬
‫نحصل على نقود بصورة ما ‪ ،‬وإذا كان ي ُعِد ّ خطة أو‬
‫ح‬
‫ت في أل أبو َ‬ ‫اثنتين في الخفاء ‪ ،‬فمرحى له ‪ .‬ونجح ُ‬
‫بأي شيء لسام عن هذا اللقاء طوال بقية اليوم ‪.‬‬
‫ن قريب دوجاردان سيفعل‬ ‫كد أ ّ‬‫فلم يكن هناك ما يؤ ّ‬
‫ت الصفقة ‪ ،‬أود ّ‬ ‫م ْ‬‫أي شيء من أجلي ‪ ،‬ولكن إذا ت ّ‬
‫ت أقصى جهدي كي ل أّتكئ‬ ‫ن تكون مفاجأة ‪ .‬وبذل ُ‬ ‫أ ْ‬
‫ت حينئذٍ إلى‬ ‫على هذا ‪ .‬كانت مواردنا المالية قد قل ّ ْ‬
‫ل من مائة غلوت ‪ ،‬والرقم الذي ذكرته لدوجاردان‬ ‫أق ّ‬
‫كان منخفضا ً جدا ً – فقط أحد عشر أو اثنا عشر‬
‫غلوت ‪ ،‬أعتقد ‪ ،‬وربما حتى عشرة ‪ .‬ومن ناحية‬
‫أخرى ‪ ،‬لم ُيفاجأ بَعرضي ‪ ،‬وبدا لي هذا دللة على‬
‫التشجيع ‪ .‬كان كافيا ً على أي حال للبقاء على‬

‫‪142‬‬
‫آمالي ‪ ،‬وعلى مدى الربع والعشرين ساعة التالية‬
‫ت أدور في دّوامة من التوّقع ‪.‬‬ ‫رح ُ‬
‫تقابلنا في الزاوية الشمالية الغربية من البهو‬
‫الرئيسي عند الساعة الثانية من اليوم التالي ‪ .‬ظهَر‬
‫دوجاردان حامل ً كيسا ً من الورق الب ُّني ‪ ،‬وحالما‬
‫ن المور سارت على ما ُيرام ‪.‬‬ ‫تأ ّ‬‫رأيت الكيس عِلم ُ‬
‫قال ‪ ،‬وهو ُيمسكني من ذراعي بحركة المتآمر‬
‫ويقودني إلى خلف عمود ٍ من الرخام حيث ل أحد‬
‫ظين ‪ .‬كان‬ ‫ن يرانا ‪ " ،‬أعتقد أننا كنا محظو َ‬ ‫يمكن أ ْ‬
‫لدى قريبي زوج من مقياس قدميك ‪ ،‬وهو يرغب‬
‫في بيعه لنا مقابل ثلثة عشر غلوتا ً ‪ .‬وآسف لني لم‬
‫ن‬‫ل من هذا ‪ ،‬لك ّ‬ ‫أتمكن من تخفيض المبلغ إلى أق ّ‬
‫ت إليه ‪ .‬ولما كانت البضاعة من‬ ‫صل ُ‬ ‫هذا أفضل ما تو ّ‬
‫ت‬‫نوعية جيدة ‪ ،‬ل زالت الصفقة ممتازة " ‪ .‬التف َ‬
‫دوجاردان نحو الجدار بحيث أصبح ظهره يواجهني ‪،‬‬
‫ذر حذاًء من الكيس ‪ .‬كان فردة القدم‬ ‫ج بح َ‬‫وأخر َ‬
‫اليسرى لحذاٍء من الجلد الُبني ‪ .‬وكان جليا ً أنه من‬
‫طاط القاسي ‪،‬‬ ‫نوعية أصلية ‪ ،‬وكان النعل من الم ّ‬
‫مثاليا ً من أجل جوب شوارع‬ ‫مريحا ً – ِ‬ ‫المتين ويبدو ُ‬
‫المدينة ‪ .‬وزيادة على ذلك ‪ ،‬كان الحذاء تقريبا ً على‬
‫ن‬‫حالته الصلية ‪ .‬قال دوجاردان " جّربيه ‪ .‬لنرى إ ْ‬
‫كان على مقاسك " ‪ .‬فعلت ‪ .‬وبينما أنا واقفة هناك‬
‫ي على طول النعل الداخلي‬ ‫ألوي أصابع قدم ّ‬
‫الملس ‪ ،‬شعرت أني أسعد مما كنت منذ زمن بعيد‬
‫ت حياتي ‪ .‬لقد فزنا بصفقة جيدة‬ ‫‪ .‬قلت " لقد أنقذ َ‬
‫مقابل ثلثة عشـر غلوتا ً ‪ .‬أعطني الفردة الخرى ‪،‬‬
‫ن دوجاردان بدا‬ ‫وسـأدفع لك في الحال " ‪ .‬لك ّ‬
‫مترّددا ً ‪ ،‬ومن ثم ‪ ،‬أراني ‪ ،‬وعلى وجهه تعبير‬ ‫ُ‬

‫‪143‬‬
‫س فارغ ‪ .‬قلت " أهـذه مزحة ؟‬ ‫ن الكيـ َ‬ ‫محَرج ‪ ،‬أ ّ‬ ‫ُ‬
‫أين الفردة الخرى ؟ "‬
‫قال " ليست معي "‬
‫" إذن هي مجرد عملية إغراء صغيرة بائسة ‪،‬‬
‫أليس كذلك ؟ ُتدّلي فردة حذاء جيد أمام أنفي ‪،‬‬
‫دما ً ‪،‬‬
‫مق ّ‬‫وتدفعني إلى إعطائك نقودا ً ثمن الزوج ُ‬
‫دم لي قطعة عتيقة متهّرئة للقدم الخرى‬ ‫ومن ثم ُتق ّ‬
‫‪ .‬أليس كذلك ؟ حسـن ‪ ،‬أنا آسفة ‪ ،‬لكني لن أقع‬
‫ضحية هذا الفخ ‪ .‬لن ترى مني غلوتا ً واحدا ً إل بعد‬
‫ن أرى فردة الحذاء الخرى "‬ ‫أ ْ‬
‫ت ل تفهمين ‪ .‬المر ليس‬ ‫" كل ‪ ،‬آنسة بلوم ‪ ،‬أن ِ‬
‫ن فردة الحذاء الخرى هي‬ ‫كذلك على الطلق ‪ .‬إ ّ‬
‫دما ً‬
‫مق ّ‬ ‫ك نقودا ً ُ‬ ‫من النوعية نفسها ‪ ،‬ول أحد يطلب من ِ‬
‫ن هذا هو أسلوب قريبي في‬ ‫‪ .‬ولكن أخشى أ ّ‬
‫ن تتوجهي شخصيا ً إلى‬ ‫مل ‪ .‬لقد أصّر على أ ْ‬ ‫التعا ُ‬
‫ُ‬
‫ن أثنيه‬ ‫تأ ْ‬ ‫مكتبه من أجل إكمال الصفقة ‪ .‬لقد حاول ُ‬
‫ن‬
‫ي ‪ .‬قال ‪ ،‬بثم ِ‬ ‫ن ُيصغي إل ّ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫عن ذلك ‪ ،‬لكنه رف َ‬
‫س كهذا ل ضرورة لوجود وسيط "‬ ‫بخ ٍ‬
‫ك ل يث ِقُ فيك‬ ‫ن قريب َ‬‫ن ُتفِهمني أ ّ‬ ‫" هل تحاول أ ْ‬
‫من أجل ثلثة عشر غلوت ؟ "‬
‫ن هذا يضعني في موقف شديد‬ ‫ف با ّ‬ ‫" أعتر ُ‬
‫ن قريبي رجل صلب ‪ .‬إنه ل يث ِقُ في‬ ‫الحراج ‪ .‬ولك ّ‬
‫أي شخص فيما يتعّلق بالعمل ‪ .‬تستطيعين أ ْ‬
‫ن‬
‫تتصوري شعوري وهو ُيخبرني هذا ‪ .‬إنه يرمي ظل ً‬
‫من الريبة على استقامتي ‪ ،‬وهذا شيء مرير ل‬
‫يمكن ابتلعه ‪ ،‬أؤكد لك "‬
‫ي شيئا ً ‪ ،‬فلماذا أزعج َ‬
‫ت‬ ‫ت ل تحمل إل ّ‬ ‫" ما دم َ‬
‫ت موعدا ً ؟ "‬ ‫دد َ‬ ‫نفسك وح ّ‬

‫‪144‬‬
‫ن‬
‫ك ‪ ،‬آنسة بلوم ‪ ،‬ولم أرغب في أ ْ‬ ‫" لقد وعدت ِ‬
‫ن قريبي‬ ‫أنكث وعدي ‪ .‬وهذا وحده سوف ُيثِبت أ ّ‬
‫كر في كرامتي ‪ ،‬كما‬ ‫ن أف ّ‬‫على حق ‪ ،‬ثم يجب أ ْ‬
‫تعلمين ‪ ،‬وفي كبريائي ‪ .‬هذه أشياء أشد ّ أهمية من‬
‫المال "‬
‫ه شائبة ‪ ،‬ول‬ ‫شب ُ‬‫كان أداء دوجاردان مؤّثرا ً ‪ .‬لم ت ِ‬
‫رحت‬ ‫ج ِ‬‫حتى شرخ صغير يوحي بـأنه ليس إل رجل ُ‬
‫ن‬
‫ت في نفسي ‪ :‬إنه ُيريد ل ْ‬ ‫مشاعره في العمق ‪ .‬قل ُ‬
‫يبقى نظيفا ً في عين قريبه ‪ ،‬ولذلك هو يرغب في‬
‫ن ُيقدم لي هذا المعروف ‪ .‬إنه امتحان له ‪ ،‬وإذا‬ ‫أ ْ‬
‫ن قريبه سوف يبدأ بالسماح‬ ‫ت في اجتيازه ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫نجح ُ‬
‫ت‬‫ت ترى كيف كن ُ‬ ‫له بعقد صفقات خاصة به ‪ .‬ها أن َ‬
‫ت‬‫ت أني فق ُ‬ ‫ن أكون بارعة ‪ .‬لقد حسب ُ‬ ‫أحاول أ ْ‬
‫دوجاردان براعة ‪ ،‬ولهذا السبب لم يكن لدي سبب‬
‫للخوف ‪.‬‬
‫كانت فترة بعد ظهر بّراقة ‪ .‬سطعت الشمس‬
‫منا بين‬ ‫فيه في كل مكان ‪ ،‬وكانت الريح تض ّ‬
‫مزمن –‬ ‫ض ُ‬ ‫ت من مر ٍ‬ ‫ن برأ ْ‬ ‫م ْ‬
‫تك َ‬‫ذراعيها ‪ .‬شعر ُ‬
‫ي‬
‫م ّ‬ ‫ماّرة بتجربة ذلك الضوء من جديد ‪ ،‬شاعرةً بقد َ‬
‫خطى‬ ‫تتحركان تحتي في الهواء الطلق ‪ .‬مشينا ب ُ‬
‫بخّفة ‪ ،‬متفادين عدد ل ُيحصى من العوائق ‪،‬‬
‫منحرفين برشاقة حول أكوام من الحطام خّلفها‬
‫فصل الشتاء ‪ ،‬ولم نكد نتبادل أي كلمة طوال‬
‫الطريق ‪ .‬كان فصل الربيع قد أصبح على البواب‬
‫دون أدنى شك ‪ ،‬ولكن كانت ل تزال هناك بقعٌ من‬
‫الثلج والجليد حاضرة في الظلل البارزة من جوانب‬
‫البنية ‪ ،‬وفي الشوارع ‪ ،‬حيث كانت أشعة الشمس‬
‫أقوى ‪ ،‬تدّفقت أنهٌر عريضة بين الحجارة المتحركة‬
‫دم ُنتفا ً من الرصيف ‪ .‬بعد مرور عشر‬ ‫بعنف وُته ّ‬

‫‪145‬‬
‫دقائق تحول حذائي إلى كتلة بائسة ‪ ،‬في الداخل‬
‫كما في الخارج ‪ :‬كان الجورب منقوعا ً تماما ً ‪،‬‬
‫ل‬‫ي رطبة ولزجة بتأثير النّز البارد ‪ .‬لع ّ‬ ‫م ّ‬‫وأصابع قد َ‬
‫كر هذه التفاصيل الن ‪ ،‬ولكنها‬ ‫ن أتذ ّ‬
‫من الغريب أ ْ‬
‫تبرُز بحيوية شديدة من ذلك اليوم – الستمتاع‬
‫بالرحلة ‪ ،‬الحساس شبه الثمل ‪ ،‬والبهيج ‪ ،‬للحركة ‪.‬‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬عندما وصلنا إلى حيث كنا ذاهَبين ‪ ،‬حدثت‬
‫كرها ‪ .‬وإذا‬ ‫المور بسرعة كبيرة بحيث أعجز عن تذ ّ‬
‫ن ذلك يتم على هيئة صور‬ ‫ي الن ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫تراءت إل ّ‬
‫قصيرة ‪ ،‬منعزلة ‪ ،‬متكّتلة عشوائيا ً ‪ ،‬بعيدا ً عن أي‬
‫سياق ‪ ،‬تفجيرات من الضوء والظل ‪ .‬البناء ‪ ،‬على‬
‫كر أّنه‬‫مثال ‪ ،‬لم يترك أي انطباع لديّ ‪ .‬أتذ ّ‬ ‫سبيل ال ِ‬
‫كان قائما ً عند حافة منطقة مستودع في المنطقة‬
‫السكنّية الثامنة ‪ ،‬ليس بعيدا ً عن المكان الذي كان‬
‫المكان الذي كان فرديناند قد وضع فيه لفتة‬
‫ن إيزابل كانت قد‬ ‫محترفه – ولكن ذلك فقط ل ّ‬ ‫ُ‬
‫ت أني أقف‬ ‫أشارت إلى الشارع أثناء مرورنا ‪ ،‬وشعر ُ‬
‫ت من شدة الشرود‬ ‫على أرض مألوفة ‪ .‬ربما كن ُ‬
‫بحيث لم أستوعب شكل الشياء ‪ ،‬ومن الستغراق‬
‫كر إل في مدى سعادة سام‬ ‫في أفكاري بحيث لم أف ّ‬
‫ن واجهة المبنى خالية‬ ‫عندما أعود ‪ .‬ونتيجة لذلك ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ي ‪ .‬كذلك المر مع حركة المشي خلل‬ ‫بالنسبة إل ّ‬
‫الباب المامي وارتقاء عدة مجموعات من الد ََرج ‪.‬‬
‫ن تلك الشياء لم تحدث ‪ ،‬على الرغم من يقيني‬ ‫وكأ ّ‬
‫من أنها حدثت ‪ .‬وأول صورة تمّثلت لي بجلء هي‬
‫صورة وجه قريب دوجاردان ‪ .‬ولعّله ليس وجهه‬
‫بالضبط ‪ ،‬ولكن ملحظتي أنه كان يضع نظارة ذات‬
‫ب‬‫حواف سلكّية مثل دوجاردان ‪ ،‬وتساؤلي – باقتضا ٍ‬
‫شديد ‪ ،‬لجزٍء صغير جدا ً من الثانية – إذا كانا قد‬

‫‪146‬‬
‫اشترياهما من الشخص نفسه ‪ .‬ل أعتقد في الواقع‬
‫ت إلى ذلك الوجه لكثر من ثانية أو اثنتين ‪،‬‬ ‫أني نظر ُ‬
‫ت لصافحه ‪ ،‬فُت ِ َ‬
‫ح‬ ‫دم ُ‬ ‫ذلك أني حينئذٍ فقط ‪ ،‬عندما تق ّ‬
‫ن‬
‫ة ‪ ،‬ذلك ل ّ‬ ‫مصادف ً‬ ‫ن ذلك حدث ُ‬ ‫ب خلفه – يبدو أ ّ‬ ‫با ٌ‬
‫ضجيجه وهو يدور حول مفاصله جعل تعبيره ينتقل‬
‫مفاجئة ‪ ،‬اليائسة ‪ ،‬وعلى‬ ‫دية ال ُ‬ ‫من الود ّ إلى الج ّ‬
‫مل نفسه عناء‬ ‫ن ُيح ّ‬ ‫الفور استدار لكي ُيغلقه دون أ ْ‬
‫ت أني قد‬ ‫مصافحتي – وفي تلك اللحظة فهم ُ‬ ‫ُ‬
‫صلة لها بالحذاء‬ ‫ن زيارتي لذلك المكان ل ِ‬ ‫ت‪،‬أ ّ‬ ‫دع ُ‬ ‫خ ِ‬‫ُ‬
‫ت‪،‬‬ ‫ل من أي نوع ‪ .‬ذلك أني تمكن ُ‬ ‫أو النقود أو بعم ٍ‬
‫عندئذٍ بالضبط ‪ ،‬خلل الفترة الوجيزة جدا ً التي‬
‫ن أرى‬ ‫ن ُيغلق الباب من جديد ‪ ،‬من أ ْ‬ ‫ت قبل أ ْ‬ ‫مّر ْ‬
‫بوضوح ما في داخل الغرفة الخرى ‪ ،‬ولم يكن ثمة‬
‫أي مجال للشك فيما رأيت هناك ‪ :‬ثلث أو أربع‬
‫طافات تعليق اللحم‬ ‫معّلقة عارية من خ ّ‬ ‫جثث بشرية ُ‬ ‫ُ‬
‫‪ ،‬وثمة رجل آخر يحمل فأسا ً صغيرا ً يميل فوق‬
‫ت‬ ‫طع أعضاء جّثة أخرى ‪ .‬وكانت قد انتشر ْ‬ ‫طاولة ُيق ّ‬
‫ن هناك‬ ‫إشاعات في المكتبة العامة تفيد بأ ّ‬
‫دقها ‪ .‬والن‬ ‫مشرحات بشرية منتشرة ‪ ،‬لكني لم أص ّ‬
‫ن الباب الواقع خلف قريب دوجاردان فُت ِ َ‬
‫ح‬ ‫‪،‬ل ّ‬
‫ن ألقي نظرة سريعة على‬ ‫ُ‬
‫تأ ْ‬ ‫مصادفة ‪ ،‬استطع ُ‬ ‫ُ‬
‫ده هذان الرجلن لي ‪ .‬عندئذ ٍ ‪،‬‬ ‫المصير الذي أع ّ‬
‫ن أسمع‬ ‫ت أحيانا ً أ ْ‬ ‫ت أصرخ ‪ .‬استطع ُ‬ ‫أعتقد أني بدأ ُ‬
‫نفسي أصرخ بكلمة " قاتلن " وأكررها مرارا ً ‪ .‬لك ّ‬
‫ن‬
‫ن ُأعيد‬ ‫ذلك لم يستمر طويل ً ‪ .‬من المستحيل أ ْ‬
‫ترتيب أفكاري بدءا ً من تلك اللحظة ‪ ،‬من المستحيل‬
‫ت نافذة‬ ‫ت أفكر في أي شيء ‪ .‬رأي ُ‬ ‫ن كن ُ‬ ‫ن أعرف إ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫ت‬ ‫ت نحوها ‪ .‬وأذكُر أني رأي ُ‬ ‫إلى يساري فاندفع ُ‬
‫ت‬‫ي ‪ ،‬لكنني ركض ُ‬ ‫ضان عل ّ‬ ‫دوجاردان وقريبه ينق ّ‬

‫‪147‬‬
‫ت من‬‫هاربة من ذراعيهما الممدودة واسعا ً واندفع ُ‬
‫سر الزجاج والهواء‬ ‫خلل النافذة ‪ .‬أذكُر صوت تك ّ‬
‫ن السقوط كان طويل ً ‪،‬‬ ‫ب وجهي ‪ .‬لبد أ ّ‬ ‫يضر ُ‬
‫ت‬
‫ف لدرك أني كن ُ‬ ‫طويل ً ‪ ،‬على أي حال ‪ ،‬بقدرٍ كا ٍ‬
‫ف لعلم أني حالما أرتطم‬ ‫أسقط ‪ :‬طويل ً بقدرٍ كا ٍ‬
‫بالرض سأموت ‪.‬‬

‫ن أسرد عليك ما‬ ‫ل ‪ ،‬شيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬أ ْ‬‫إنني أحاو ُ‬


‫حدث ‪ .‬ول حيلة لي إذا كانت هناك فجوات في‬
‫ذاكرتي ‪ .‬فبعض الحداث ترفض أن تظهر ‪ ،‬مهما‬
‫بذلت من جهد ‪ .‬إنني عاجزة عن استحضارها ‪ .‬يجب‬
‫ت فيها بالرض ‪،‬‬ ‫ن أتجاوز اللحظة التي ارتطم ُ‬ ‫أ ْ‬
‫ولكن ل أحمل ذكرى عن شعوري باللم ‪ ،‬أو عن‬
‫كد هو‬ ‫مكان سقوطي ‪ .‬ولكن الشيء الوحيد المؤ ّ‬
‫ت ‪ .‬ول زال هذا المر ُيحّيرني ‪ .‬بعد مرور‬ ‫م ْ‬‫أني لم أ ُ‬
‫أكثر من سنتين على سقوطي من تلك النافذة ‪ ،‬ل‬
‫ت في البقاء على‬ ‫أزال عاجزة عن فهم كيف نجح ُ‬
‫قيد الحياة ‪.‬‬
‫ت بل‬ ‫ت عندما رفعوني ‪ ،‬لكني بقي ُ‬ ‫قالوا إني أنن ُ‬
‫حراك بعد ذلك ‪ ،‬وأكاد ل أتنّفس ‪ ،‬أو يصدر عني أي‬ ‫ِ‬
‫ت طويل ‪ .‬لم ُيخبروني كم من‬ ‫صوت ‪ .‬ومّر وق ٌ‬
‫الوقت ‪ ،‬لكني أعتقد أنه كان أكثر من يوم كامل ‪،‬‬
‫ي أخيرا ً قالوا‬
‫ربما ثلثة أو أربعة ‪ .‬وعندما فتحت عين ّ‬
‫ن المر كان رجوعا ً من عالم الموتى أكثر منه‬ ‫إ ّ‬
‫شفاء ‪ ،‬كان دون أدنى شك عودة من العدم ‪ .‬أذكُر‬ ‫ِ‬
‫ت في‬ ‫ت كيف أصبح ُ‬ ‫ت سقفا ً فوقي وتساءل ُ‬ ‫أني مّيز ُ‬
‫الداخل ‪ ،‬ولكن في اللحظة التالية طعنني شعور‬
‫باللم – في رأسي ‪ ،‬على طول جانبي اليمن ‪ ،‬وفي‬
‫ضا ً إلى درجة أني شهقت ‪.‬‬ ‫م ّ‬
‫م ِ‬‫بطني – وكان اللم ُ‬

‫‪148‬‬
‫ت أتمدد على سرير ‪ ،‬سرير حقيقي بأغطية‬ ‫كن ُ‬
‫ن أفعله‬ ‫ووسائد ‪ ،‬ولكن كل ما كان في مقدوري أ ْ‬
‫جع مع انتقال اللم بين‬ ‫ددة ‪ ،‬وأتو ّ‬ ‫ن أبقى متم ّ‬ ‫هو أ ْ‬
‫ت امرأة في مجال‬ ‫أجزاء جسمي ‪ .‬وفجأةً ظهر ْ‬
‫ي وعلى وجهها ابتسامة ‪ .‬كانت في‬ ‫بصري ‪ ،‬تنظر إل ّ‬
‫نحو الثامنة والثلثين أو الربعين من العمر ‪ ،‬ذات‬
‫وج وعينين واسعتين خضراوين ‪.‬‬ ‫شعر أسود متم ّ‬
‫ن‬
‫تأ ْ‬ ‫ت أشعر حينئذ ٍ ‪ ،‬استطع ُ‬ ‫وعلى الرغم مما كن ُ‬
‫ن‬
‫أرى أنها جميلة – لعلها أجمل امرأة رأيتها منذ أ ْ‬
‫ت إلى المدينة ‪.‬‬ ‫قدم ُ‬
‫ك متألمة كثيرا ً "‬ ‫ت " لبد أن ِ‬ ‫قال ْ‬
‫ت في مزاٍج‬ ‫أجبت " ل داعي للبتسام ؛ لس ُ‬
‫ت‬
‫يسمح لي بالبتسام " ‪ .‬يعلم الله من أين نشأ ْ‬
‫م كان شديد الوطأة‬ ‫ن الل َ‬ ‫لدي تلك الحساسية ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬
‫ن يبدو أ ّ‬ ‫ت بما خطر لي من كلمات ‪ .‬لك ّ‬ ‫بحيث نطق ُ‬
‫المرأة لم تتأّثر ‪ ،‬وظلت تبتسم البتسامة المواسية‬
‫ذاتها ‪.‬‬
‫ك حّية "‬ ‫ن أرى أن ِ‬ ‫قالت " يسرني أ ْ‬
‫ن تبرهني لي‬ ‫كأ ْ‬ ‫ت ميتة ؟ علي ِ‬ ‫" تعنين أني لس ُ‬
‫دقه "‬ ‫ن أص ّ‬ ‫ذلك قبل أ ْ‬
‫ك ذراع مكسورة ‪ ،‬وضلعان مكسوران ‪،‬‬ ‫" لدي ِ‬
‫ن لسانك وحده‬ ‫ونتوء كبير في رأسك ‪ .‬وأعتقد أ ّ‬
‫دليل كاف "‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ن أتخّلى عن وقاحتي ‪َ " ،‬‬ ‫قلت ‪ ،‬رافضة أ ْ‬
‫ت ‪ ،‬على أي حال ‪ ،‬ملك الرحمة ؟ "‬ ‫أن ِ‬
‫" أنا فيكتوريا ووبرن ‪ .‬وهذا منزل آل ووبرن ‪.‬‬
‫نحن نقدم المسـاعدة للناس هنا "‬
‫ن ُيصبحن طبيبات ‪ .‬هذا‬ ‫" ل ُيسمح للجميلت أ ْ‬
‫ضد القوانين "‬

‫‪149‬‬
‫ت طبيبة ‪ .‬والدي كان كذلك ‪ ،‬لكنه ميت‬ ‫" أنا لس ُ‬
‫الن ‪ .‬وهو الذي أسس منزل آل ووبرن "‬
‫ت ذات مرة شخصا ً يتكّلم عن هذا‬ ‫" لقد سمع ُ‬
‫ت أنه ُيلّفقُ "‬ ‫المكان ‪ .‬حسب ُ‬
‫دقه‬ ‫" هذا يحدث ‪ .‬بات من الصعب معرفة ما ُيص ّ‬
‫المرء "‬
‫ت التي جلبتني إلى هنا ؟ "‬ ‫" أأن ِ‬
‫" كل ‪ ،‬بل السيد فريك فعل ‪ .‬فريك وحفيده ‪،‬‬
‫ويلي ‪ .‬إنهما يخرجان بالسيارة بعد ظهيرة كل يوم‬
‫ن يحتاجون إلى‬ ‫م ْ‬‫أربعاء ليقوما بجولتهما ‪ .‬ليس كل َ‬
‫ن يصلوا إلى هنا وحدهم ‪ ،‬كما‬ ‫مساعدة يستطيعون أ ْ‬
‫ن‬
‫تعلمين ‪ ،‬لذلك نحن نخرج لنعثر عليهم ‪ .‬نحاول أ ْ‬
‫ل شخصا ً واحدا ً جديدا ً بهذه‬ ‫نستقبل على الق ّ‬
‫الطريقة في كل أسبوع "‬
‫ي عن طريق المصادفة ؟ "‬ ‫" تعنين أنهما عثرا عل ّ‬
‫ت من تلك النافذة "‬ ‫" كانا ماّرين عندما سقط ِ‬
‫قلت بلهجة دفاعية " لم أكن أحاول النتحار ‪.‬‬
‫ينبغي أل تراودك أي أفكار غريبة حول هذا "‬
‫" القافزون ل يقفزون من النوافذ ‪ .‬وعندما‬
‫يفعلون يحرصون على فتحها أول ً "‬
‫دد على المعنى ‪ " ،‬أنا ل‬ ‫ُ‬
‫قلت بعنف لكي أش ّ‬
‫ن نطقت بهذه‬ ‫ن أنتحر " ‪ ،‬ولكن بعد أ ْ‬ ‫يمكن أ ْ‬
‫دى لي ‪ .‬قلت من‬ ‫ت الحقيقة القاتمة تتب ّ‬ ‫الكلمات بدأ ْ‬
‫مقبلة على النجاب ‪،‬‬ ‫ن أنتحر ‪ .‬أنا ُ‬ ‫جديد " ل يمكن أ ْ‬
‫حبلى إلى النتحار ؟‬ ‫كما ترين ‪ ،‬فما الذي يدفع ب ُ‬
‫ت ذلك "‬ ‫ستكون مجنونة إذا فعل ْ‬
‫ت‬‫ل فيها تعبير وجهها أدرك ُ‬ ‫من الطريقة التي تبد ّ َ‬
‫ن يخبرني أحد ‪.‬‬ ‫على الفور ما حدث ‪ .‬أدركته دون أ ْ‬
‫مله‬
‫ن يتح ّ‬‫عد حامل ً ‪ .‬كان السقوط أشد ّ من أ ْ‬ ‫لم أ ُ‬

‫‪150‬‬
‫ك عن مدى‬ ‫ن أعّبر ل َ‬‫طفلي ‪ ،‬وقد مات ‪ .‬ل أستطيع أ ْ‬
‫ي في تلك‬ ‫طت كل شيء في عين ّ‬ ‫الكآبة التي غ ّ‬
‫اللحظة ‪ .‬كان بؤسا ً حيوانيا ً ‪ ،‬خشنا ً ‪ ،‬تمّلكني ‪ ،‬ولم‬
‫يعد في داخله أي صور ‪ ،‬أو أفكار ‪ ،‬ل شيء على‬
‫ت أبكي قبل‬ ‫كر فيه ‪ .‬ولبد أني بدأ ُ‬ ‫الطلق أراه أو أف ّ‬
‫ن تقول أي كلمة ‪.‬‬ ‫أ ْ‬
‫ن‬
‫سد على وجنتي بيدها ‪ " ،‬إ ّ‬ ‫قالت ‪ ،‬وهي تم ّ‬
‫ن تحبلي أصل ً هو من قبيل المعجزة ‪" ،‬‬ ‫ك في أ ْ‬ ‫نجاح ِ‬
‫ت تعلمين هذا‬ ‫الطفال لم يعودوا ُيولدون هنا ‪ .‬أن ِ‬
‫علمي به ‪ .‬لم يحدث هذا منذ سنين "‬ ‫بقدر ِ‬
‫ن أتكّلم بين نوبات النشيج‬ ‫لأ ْ‬‫قلت بغضب ‪ ،‬أحاو ُ‬
‫ت مخطئة ‪ .‬طفلي كان سيعيش ‪.‬‬ ‫‪ " ،‬ل يهمني ‪ ،‬أن ِ‬
‫ن طفلي كان سيعيش "‬ ‫أعرف أ ّ‬
‫في كل مرة جاش فيها صدري ‪ ،‬كان اللم‬
‫ن ذلك‬ ‫ن أخنق تلك النوبات ‪ ،‬لك ّ‬ ‫تأ ْ‬ ‫يلسعني ‪ .‬حاول ُ‬
‫ت من‬ ‫لم يعمل إل على جعلها أشد ّ وطأة ‪ .‬وارتجف ُ‬
‫الجهد الذي بذلته لحافظ على سكوني ‪ ،‬وهذا بدوره‬
‫ض ‪ .‬حاولت‬ ‫مم ّ‬ ‫أطلقَ سلسلة من نوبات اللم ال ُ‬
‫ك‪.‬‬‫ن تواسيني ‪ .‬أخيرا ً قلت " ارحلي أرجو ِ‬ ‫فيكتوريا أ ْ‬
‫ت شديدة الرقة معي‬ ‫ل أريد أحدا ً معي الن ‪ .‬لقد كن ِ‬
‫‪ ،‬لكني في حاجة إلى النفراد بنفسي "‬
‫استغرق الشفاء من إصاباتي فترة طويلة ‪ .‬جراح‬
‫ن تترك آثار دائمة )ندب على‬ ‫ت من دون أ ْ‬ ‫وجهي برأ ْ‬
‫ت‬
‫جبيني وآخر بالقرب من الصدغ( ‪ ،‬وخلل ذلك برأ ْ‬
‫أضلعي ‪ .‬أما ذراعي المكسور فلم يلتئم بسهولة ‪،‬‬
‫ول زال ُيسبب لي الكثير من المشاكل ‪ :‬ألما ً كلما‬
‫حّركته بخّفة كبيرة أو في الجهة الخطأ ‪ ،‬وعجزا ً عن‬
‫ضمادات على رأسي‬ ‫ل كامل ‪ .‬بقَيت ال َِ‬ ‫دها بشك ٍ‬ ‫م ّ‬
‫مدة ُتقارب الشهر ‪ ،‬وخمدت الورام والخدوش ‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫لكني منذ ذلك الحين وأنا ُأعاني من الصداع ‪ :‬نوبات‬
‫شقيقة كأنها طعن سكين ُتهاجم في لحظات‬
‫ي ينبض في خلفّية‬ ‫ل عََرض ّ‬ ‫عشوائية ‪ ،‬بوجٍع كلي ٍ‬
‫ص المصائب الخرى ‪ ،‬فإني‬ ‫جمجمتي ‪ .‬وفيما يخ ّ‬
‫ن رحمي لغز ‪ ،‬ول سبيل‬ ‫أترد ّد ُ في التحدث عنها ‪ .‬إ ّ‬
‫إلى قياس مقدار الكارثة التي وقعت داخله ‪.‬‬
‫كل إل جزءا ً من‬ ‫ن الضرر المادي ل ُيش ّ‬ ‫لك ّ‬
‫المشكلة ‪ .‬فبعد ساعات قليلة من حديثي الذي‬
‫ت في‬ ‫أجريته مع فيكتوريا ‪ ،‬وصلني خبر سيء ‪ ،‬وكد ُ‬
‫ت أكره الحياة ‪ .‬ففي‬ ‫تلك اللحظة أستسلم ‪ ،‬كد ُ‬
‫ت إلى غرفتي‬ ‫كر من مساء ذلك اليوم عاد ْ‬ ‫مب ّ‬ ‫وقت ُ‬
‫حاملة صينية من الطعام ‪ .‬فأخبرتها عن مدى لهفتي‬
‫للذهاب إلى المكتبة الوطنية والعثور على سام ‪.‬‬
‫قلت ‪ ،‬إنه سيكون قلقا ً حتى الموت وإني أحتاج إلى‬
‫التواجد معه الن ‪ .‬صرخت ‪ ،‬الن ‪ ،‬أحتاج إلى‬
‫ت‬
‫ت أعصابي ‪ ،‬ورح ُ‬ ‫التواجد معه الن ‪ .‬وفجأة ً فقد ُ‬
‫كم في نفسي ‪ .‬وكان‬ ‫ش ول أقدر على التح ّ‬ ‫أجه ُ‬
‫ُ‬
‫ل في‬ ‫الصبي ويلي ذو الخمسة عشر عاما ً قد أر ِ‬
‫س َ‬
‫مرا ً ‪ .‬لقد‬ ‫مد ّ‬ ‫ن الخبر الذي عاد به كان ُ‬ ‫مهمة ‪ ،‬لك ّ‬
‫اشتعلت النيران في المكتبة في بعد ظهيرة ذلك‬
‫اليوم ‪ ،‬كما قال ‪ ،‬وانهار السقف ‪ .‬لم يعرف أحد‬
‫ت في المبنى كله ‪،‬‬ ‫ن النار الن شب ّ ْ‬ ‫ت ‪ ،‬لك ّ‬
‫كيف اندلع ْ‬
‫ن أكثر من مائة شخص حوصروا في‬ ‫وقيل أ ّ‬
‫الداخل ‪ .‬وكان ل يزال غير واضح ما إذا كان أحد قد‬
‫ن حتى‬ ‫ن الشائعات كثيرة ‪ .‬ولك ْ‬ ‫نجح في الهرب ؛ لك ّ‬
‫إذا كان سام أحد أولئك المحظوظين ‪ ،‬لم يكن هناك‬
‫ن يعثر عليه ‪.‬‬ ‫في مقدور ويلي أو أي شخص آخر أ ْ‬
‫ن كل شيء‬ ‫وإذا كان قد مات أسوة بالخرين ‪ ،‬فإ ّ‬

‫‪152‬‬
‫ي ‪ .‬لم أر أي سبيل آخر ‪ .‬إذا مات‬ ‫سيضيع بالنسبة إل ّ‬
‫كد أني لن أراه بعد الن ‪.‬‬ ‫‪ ،‬فمن المؤ ّ‬
‫ن أتعامل‬ ‫يأ ْ‬‫تلك كانت الحقائق التي كان عل ّ‬
‫معها خلل الشهر الولى لي في منزل ووبرن ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬أشد ّ ظلمة من أي‬ ‫مظلمة بالنسبة إل ّ‬ ‫كانت فترة ُ‬
‫ت في‬ ‫فترة عرفتها حتى ذلك الحين ‪ .‬في البدء أقم ُ‬
‫غرفة في الطابق العلوي ‪ .‬كان يأتي شخص ثلث‬
‫مرات لزيارتي – مرتين ليجلب الوجبات ‪ ،‬ومرة‬
‫رغ المبولة ‪ .‬كانت هناك دائما ً جلبة أناس في‬ ‫لُيف ِ‬
‫السفل )أصوات ‪ ،‬تنّقل أقدام ‪ ،‬أنين وضحك ‪،‬‬
‫ت من‬ ‫وضحك ساخر وغطيط في الليل( ‪ ،‬لكني كن ُ‬
‫فرط الضعف والقنوط بحيث أزعج نفسي بمغادرة‬
‫ت أتأمل بكآبة وأعبس ‪ ،‬وأستغرق في‬ ‫السرير ‪ .‬كن ُ‬
‫الهم تحت الغطية ‪ ،‬وأبكي دون سبب ‪ .‬كان الربيع‬
‫ت معظم وقتي أنظر إلى‬ ‫ل حينئذٍ ‪ ،‬وأمضي ُ‬ ‫قد ح ّ‬
‫ص الحلي المعمارية‬ ‫ح ُ‬‫الغيوم عبر النافذة ‪ ،‬أتف ّ‬
‫البارزة على طول أعلى الجدران ‪ ،‬وأحد ّقُ إلى‬
‫التشققات في السقف ‪ .‬وعلى مدى اليام العشرة‬
‫ت حتى‬ ‫أو الثني عشر الولى ‪ ،‬ل أعتقد أني نجح ُ‬
‫في الخروج إلى الرواق ‪.‬‬
‫كان منزل ووبرن منزل ً يتأّلف من خمسة طوابق‬
‫محاط‬ ‫وأكثر من عشرين غرفة – يبتعد عن الشارع و ُ‬
‫بحديقةٍ خاصةٍ صغيرة ‪ .‬كان قد بناه جد ّ الدكتور‬
‫ووبرن قبل نحو مائة عام واعت ُب َِر أحد أشد المنازل‬
‫ت فترة‬ ‫الخاصة أناقة في المدينة ‪ .‬وعندما بدأ ْ‬
‫الضطرابات كان الدكتور من بين أول الذين جذبوا‬
‫النتباه إلى أعداد المشّردين المتزايد ‪ .‬ولنه كان‬
‫محتَرما ً ينحدر من عائلة عريقة ‪ ،‬كانت‬ ‫طبيبا ً ُ‬
‫تصريحاته تجد رواجا ً جيدا ً ‪ ،‬وسرعان ما أصبح‬

‫‪153‬‬
‫معروفا ً بين حلقات الثرياء لدعم قضيته ‪ُ .‬أقيمت‬
‫مآدب عشاء لجمع التبرعات ‪ ،‬وحفلت رقص‬
‫ل عدد ٌ من‬ ‫خيرية ‪ ،‬ونشاطات اجتماعية أخرى ‪ ،‬وتحو َ‬
‫البنية بأكملها إلى ملجئ ‪ .‬وترك الدكتور ووبرن‬
‫مهنته الخاصة لكي يقوم بإدارة منازل السبيل ‪ ،‬كما‬
‫ماها وفي صباح كل يوم كان يخرج بسيارته مع‬ ‫س ّ‬
‫سائقه الخاص ليقوم بزيارتها ‪ ،‬يتحدث مع الناس‬
‫دم كل مساعدة طبّية ممكنة ‪.‬‬ ‫المقيمين هناك ويق ّ‬
‫وأصبح ما يشبه السطورة في المدينة ‪ ،‬ومعروفا ً‬
‫بطيبته ومثاليته ‪ ،‬وكلما تحدث الناس عن البربرية‬
‫ن الفعال النبيلة‬ ‫التي مروا بها ‪ ،‬يرِد ُ اسمه لثبات أ ّ‬
‫ن‬‫ن بعيد ‪ ،‬قبل أ ْ‬ ‫ن ذلك قبل زم ٍ‬ ‫ل زالت ممكنة ‪ .‬لك ّ‬
‫ن تنحط أخيرا ً‬ ‫ن من الممكن للشياء أ ْ‬ ‫يؤمن أحد بـأ ّ‬
‫إلى هذا الدرك الذي وصلت إليه ‪ .‬ثم ساءت‬
‫الوضاع ‪ ،‬وأخذ النجاح الذي حّققه مشروع الدكتور‬
‫ووبرن ينهار تدريجيا ً ‪ .‬وتزايد عدد المشّردين بأمواج‬
‫ت نقود تمويل الملجئ بتدريٍج‬ ‫هندسية هائلة ‪ ،‬وقل ّ ْ‬
‫مساو ‪ .‬واختفى الثرياء بالتدريج ‪ ،‬تسللوا إلى خارج‬ ‫ُ‬
‫البلد مع ذهبهم وجواهرهم ‪ ،‬والذين بقوا لم يعد في‬
‫ن يكونوا كرماء ‪ .‬لقد أنفقَ الطبيب مبالغ‬ ‫مقدرتهم أ ْ‬
‫ن ذلك لم يوِقف‬ ‫ضخمة من ماله على الملجئ ‪ ،‬لك ّ‬
‫الفشل ‪ ،‬واضطروا واحدا ً بعد آخر إلى إغلق أبوابهم‬
‫ن يدع‬‫ضأ ْ‬ ‫ن أحدا ً غيره لستسلم ‪ ،‬لكنه رف َ‬ ‫‪ .‬لو أ ّ‬
‫المر عند هذا الحد ‪ .‬قال ‪ ،‬إذا لم يتمكن من يوفر‬
‫ن يوّفر المئات ‪ ،‬وإذا لم‬ ‫اللف ‪ ،‬فلعله يستطيع أ ْ‬
‫ن يوّفر‬ ‫ن يوّفر المئات ‪ ،‬فلعله يستطيع أ ْ‬ ‫يستطع أ ْ‬
‫عشرين أو ثلثين ‪ .‬لم تُعد الرقام هامة ‪ .‬حينئذٍ لم‬
‫ن أي مساعدة‬ ‫يكن قد حدث شيء ‪ ،‬وأدر َ‬
‫كأ ّ‬
‫ن ُيقدمها ستكون فقط رمزية – مجرد‬ ‫يستطيع أ ْ‬

‫‪154‬‬
‫لفتة في وجه دمار كامل ‪ .‬حدث ذلك قبل ست أو‬
‫سبع سنوات مضت ‪ ،‬وكان الدكتور ووبرن قد تجاوز‬
‫ن يفتح‬ ‫الستين من العمر ‪ .‬وقّرر ‪ ،‬بدعم ٍ من ابنته ‪ ،‬أ ْ‬
‫محوّل ً الطابقين‬‫أبواب منزله الخاص للغرباء ‪ُ ،‬‬
‫الوَلين من منزل العائلة إلى مزيج من المستشفى‬
‫م شراء مؤن للمطبخ ‪،‬‬ ‫ت السّرة ‪ ،‬وت ّ‬ ‫والملجأ ‪ .‬وبيعَ ْ‬
‫وشّقا طريقهما شيئا ً فشيئا ً بما تبّقى من أصول ثروة‬
‫العائلة للحفاظ على سير العملية ‪ .‬وعندما‬
‫ت النقود ‪ ،‬بدءا يبيعان المقتنيات الثمينة‬ ‫اسُتنزِفَ ْ‬
‫غرف الطوابق العليا تفَرغ تدريجيا ً‬ ‫والثرية ‪ ،‬وأخذت ُ‬
‫من محتوياتها ‪ .‬وتمكنا ‪ ،‬بجهدٍ متواصل يكسر‬
‫الظهور ‪ ،‬من إيواء ثمانية عشر إلى أربٍع وعشرين‬
‫مح للمعوزين‬ ‫شخصا ً دفعة واحدة ‪ .‬وكان ُيس َ‬
‫بالمكوث مدة عشرة أيام ؛ أما الذين اشتد ّ عليهم‬
‫المرض فيمكثون مدة أطول ‪ .‬وكان ُيمَنح كل منهم‬
‫سريرا ً نظيفا ً ووجبتين دافئتين في اليوم ‪ .‬وطبعا ً لم‬
‫ن الناس‬ ‫ل أي شيء بهذه الطريقة ‪ ،‬ولك ّ‬ ‫ن ُيح ّ‬
‫يك ْ‬
‫معاناة‬ ‫ل ‪ُ ،‬يمنحون فترة راحة من ُ‬ ‫كانوا ‪ ،‬على الق ّ‬
‫ة ليستجمعوا ِقواهم قبل الستمرار‬ ‫مشاكلهم ‪ ،‬فرص ً‬
‫ن نفعل أكثر‬ ‫‪ .‬وكان الطبيب يقول ‪ " ،‬ل نستطيع أ ْ‬
‫من ذلك ؛ لكننا نفعل القليل الذي نقدر على فعله "‬
‫لم يكن قد مّر على وفاة الدكتور ووبرن أكثر من‬
‫ت إلى منزل آل ووبرن ‪.‬‬ ‫أربعة أشهر عندما وصل ُ‬
‫كانت فيكتوريا والخرون يبذلون أقصى جهدهم من‬
‫أجل الستمرار من دونه ‪ ،‬ولكن كان من الضروري‬
‫إحداث تغييرات – خاصة في وجهة النظر الطبّية من‬
‫الشياء ‪ ،‬بما أنه لم يكن هناك أحد يقوم بعمل‬
‫الطبيب ‪ .‬كانت فيكتوريا والسيد فريك ممرضين‬
‫ن ذلك كان بعيدا ً كل الُبعد عن القدرة‬ ‫كفيئين ‪ ،‬لك ّ‬

‫‪155‬‬
‫على وظيفة تشخيص المراض ووصف الِعلج ‪.‬‬
‫ت اهتماما ً‬ ‫سر السبب في أني تلّقي ُ‬ ‫ن هذا ُيف ّ‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫ُ‬
‫ضروا‬ ‫خاصا ً منهم ‪ .‬فمن بين كل الجرحى الذين أح ِ‬
‫ن استجاب لعنايتهم ‪،‬‬ ‫م ْ‬
‫ت أول َ‬‫منذ وفاة الطبيب ‪ ،‬كن ُ‬
‫ت‬ ‫شفاء ‪ .‬بهذا المعنى ‪ ،‬عمل ُ‬ ‫ن أبدى دلئل ال ِ‬ ‫م ْ‬‫وأول َ‬
‫على تبرير تصميمهم على إبقاء أبواب منزل ووبرن‬
‫صتهم ‪ ،‬المثل‬ ‫مثال ً على نجاح ق ّ‬ ‫ت ِ‬
‫مفتوحة ‪ .‬لقد كن ُ‬
‫ن‬
‫الساطع على ما كان ل يزال في إمكانهم أ ْ‬
‫ُيحّققوه ‪ ،‬ولهذا السبب ظلوا ُيراعونني قدر ما‬
‫تطّلب المر ‪ ،‬ودّللوني وأنا في مزاجي الكئيب ‪،‬‬
‫وبّرؤوني من أي تهمة ‪.‬‬
‫لقد رأى السيد فريك أنه يمكن القول تقريبا ً إني‬
‫ل سائقا ً خاصا ً‬ ‫م َ‬
‫ت من بين الموات ‪ .‬كان قد ع ِ‬ ‫نهض ُ‬
‫للطبيب مدة طويلة )واحدا ً وأربعين عاما ً ‪ ،‬كما قال‬
‫لي( ‪ ،‬وشاهد من الحياة والموت عن ُقرب أكثر مما‬
‫شهد معظم الناس ‪ .‬وحسب أقواله لم تمّر عليه‬
‫حالة تشبه حالتي ‪ .‬ويقول " كل يا سيدتي ‪ ،‬يا‬
‫ت ذلك بأم‬ ‫عداد الموات ‪ .‬رأي ُ‬ ‫ت في ِ‬ ‫آنستي ‪ ،‬لقد كن ِ‬
‫ت إلى الحياة " ‪.‬‬ ‫ت ميتة ‪ ،‬ومن ثم عد ِ‬ ‫عيني ‪ .‬كن ِ‬
‫كانت للسيد فريك طريقة خاطئة نحويا ً في الكلم ‪،‬‬
‫وش وهو ُيحاول التعبير‬ ‫وغالبا ً ما كانت أفكاره تتش ّ‬
‫عنها ‪ .‬وأعتقد أنه لم يكن لذلك أي دخل في جودة‬
‫تفكيره – ببساطة كانت الكلمات تزعجه ‪ .‬كانت‬
‫لديه صعوبة في إدارتها على لسانه ‪ ،‬وكان أحيانا ً‬
‫يتلعثم بها وكأنها أشياء مادية ‪ ،‬حجارة عادية تتلطم‬
‫داخل فمه ‪ .‬ولهذا السبب ‪ ،‬بدأ ُيبدي حساسية‬
‫ل‬
‫خاصة حيال خواص الكلمات نفسها ‪ :‬أصواتها بمعز ٍ‬
‫عن معانيها ‪ ،‬وتناغمها وتنافرها ‪ .‬وذات مرة شرح‬
‫لي قائل ً " الكلمات تعّلمني كيف أعرف ‪ .‬ولهذا‬

‫‪156‬‬
‫ن أكون عجوزا ً ‪ .‬اسمي أوتو ‪ .‬جيئة وذهابا ً‬ ‫ينبغي أ ْ‬
‫ن‬‫يبقى نفسه ‪ .‬ل نهاية له بل يبدأ من جديد ‪ .‬يجب أ ْ‬
‫أعيش مرتين على هذا الساس ‪ ،‬مرتين أكثر من أي‬
‫ت أيضا ً ‪ ،‬يا آنسة ‪ .‬اسمك مثل‬ ‫شخص آخر ‪ .‬وأن ِ‬
‫اسمي ‪ .‬أ‪-‬ن‪-‬ا ‪ .‬جيئة وذهابا ً يبقى نفسه ‪ ،‬مثل‬
‫ن تولدي من جديد ‪ .‬إنها‬ ‫اسمي أوتو ‪ .‬لهذا ينبغي أ ْ‬
‫ك‬‫ت تموتين ‪ ،‬ورأيت ُ ِ‬ ‫نعمة من الحظ ‪ ،‬يا آنسة آّنا ‪ .‬كد ُ‬
‫ي ‪ .‬إنها نعمة الحظ العظمى "‬ ‫تولدين من جديد بعين ّ‬
‫ن متبّلد ‪ ،‬باستقامة‬ ‫كان ُيحيط بذلك العجوز حس ٌ‬
‫الشائكة ‪ ،‬النحيلة ‪ ،‬والفكين اللذين بلون العاج ‪ .‬كان‬
‫ولءه للدكتور ووبرن ل يلين ‪ ،‬وحتى الن يقوم‬
‫بصيانة السيارة التي كان يقودها له – سيارة بيرس‬
‫أرو عتيقة ‪ ،‬بست عشرة أسطوانة ‪ ،‬وقدمّيتين‬
‫ومقاعد مستقيمة الظهر مكسوة بالجلد ‪ .‬تلك‬
‫السيارة السوداء ‪ ،‬البالغة الخمسين من العمر كانت‬
‫سمة الغريبة الوحيدة في الطبيب ‪ ،‬وفي أمسية‬ ‫ال ِ‬
‫كل يوم ثلثاء ‪ ،‬ومهما كان لديه من عمل آخر‬
‫ضروري النجاز ‪ ،‬كان فريك يخرج إلى المرأب‬
‫ل عن ساعتين‬ ‫الكائن خلف المنزل ويقضي ما ل يق ّ‬
‫ظفها ‪ ،‬ويجعلها في أفضل شكل‬ ‫معها وُين ّ‬‫وهو ُيل ّ‬
‫ممكن للخروج بها في جولت بعد ظهيرة يوم‬
‫محّرك لكي يسير على غاز‬ ‫ف ال ُ‬
‫الربعاء ‪ .‬كان قد كي ّ َ‬
‫الميثان ‪ ،‬وهذه المهارة اليدوية كانت السبب‬
‫الرئيسي دون شك في عدم انهيار منزل آل‬
‫كب‬ ‫ح أنابيب المياه ‪ ،‬ور ّ‬ ‫ووبرن ‪ .‬كان قد أصل َ‬
‫شات ‪ ،‬وحفر بئرا ً جديدة ‪ .‬هذه وأشياء أخرى كثيرة‬ ‫د ّ‬
‫ت المكان نشطا ً خلل أصعب الفترات ‪ .‬حفيده ‪،‬‬ ‫أبق ْ‬
‫مساعدا ً له في كل تلك المشاريع ‪،‬‬ ‫ل ُ‬‫ويلي ‪ ،‬عم َ‬
‫وهو يتبعه في صمت من عمل إلى آخر ‪ ،‬بشكله‬

‫‪157‬‬
‫الكئيب ‪ ،‬القزم ‪ ،‬مرتديا ً سترة صوفيه خضراء اللون‬
‫فضفاضة وذات قلنسوة ‪ .‬وكانت خطة فريك تقضي‬
‫ن‬
‫ل محله بعد وفاته ‪ ،‬لك ّ‬ ‫بتعليم الصبي ما يكفي ليح ّ‬
‫ويلي لم يبد ُ أنه سريع التعّلم ‪ .‬قال لي فريك ذات‬
‫يوم حول هذا الموضوع " ل داعي للقلق ‪ .‬لقد بدأنا‬
‫مع ويلي ببطء ‪ .‬ل سبب للندفاع ‪ .‬وعندما سيحين‬
‫وقت موتي سيكون الصبي قد أصبح بدوره عجوزا ً "‬
‫ت أكبر اهتمام ٍ بي ‪.‬‬ ‫ن فيكتوريا هي التي أبد ْ‬ ‫لك ّ‬
‫شفائي هاما ً بالنسبة إليها ‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن‬ ‫ت كم كان ِ‬ ‫لقد ذكر ُ‬
‫واقة إلى‬ ‫دى ذلك ‪ .‬لقد كانت ت ّ‬ ‫ن المر يتع ّ‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫وجود شخص تتحدث معه ‪ ،‬ومع استعادتي لِقواي‬
‫ت تترّدد أكثر إلى الطابق الِعلوي‬ ‫تدريجيا ً ‪ ،‬بدأ ْ‬
‫لتزورني ‪ .‬فمنذ وفاة أبيها وهي وحدها مع فريك‬
‫وويلي ‪ُ ،‬تدير الملجأ وتشرف على العمل ‪ ،‬ولكن لم‬
‫ن ُيشاركها أفكارها ‪ .‬وشيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬بدا‬ ‫م ْ‬
‫يكن هناك َ‬
‫ن نتبادل‬ ‫أني أنا ذلك الشخص ‪ .‬كان صعبا ً علينا ً أ ْ‬
‫ت كم من أشياء‬ ‫الحديث ‪ ،‬ومع تطور صداقتنا ‪ ،‬أدرك ُ‬
‫تجمعنا ‪ .‬صحيح أني لم أكن أنحدر من عائلة ثرية‬
‫مريحة ‪ ،‬مملوءة‬ ‫ن فترة طفولتي كانت ُ‬ ‫مثلها ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬‫س بأ ّ‬ ‫ت مع إحسا ٍ‬ ‫بروائع ومزايا بورجوازية ‪ ،‬وعش ُ‬
‫ت على مدارس‬ ‫رغباتي كلها ممكنة التحّقق ‪ .‬تردد ُ‬
‫ت أعرف‬ ‫ت قادرة على مناقشة كتب ‪ .‬كن ُ‬ ‫راقية وكن ُ‬
‫الفرق بين نبيذ بوجوليه ونبيذ بوردو ‪ ،‬وأعرف لماذا‬
‫ن ‪ .‬ولو أني‬ ‫م ْ‬‫كان شوبرت موسيقيا ً أعظم من شو َ‬
‫ت فيه فيكتوريا في‬ ‫ت في العالم الذي وُل ِد َ ْ‬ ‫عش ُ‬
‫ت أقرب إلى كوني عضوا ً‬ ‫منزل آل ووبرن ‪ ،‬لصبح ُ‬
‫في طبقتها الجتماعية أكثر من أي شخص قاب َل َْته‬
‫ن فيكتوريا‬ ‫ن أوحي بأ ّ‬ ‫منذ سنين ‪ .‬ل أقصد بكلمي أ ْ‬
‫كانت متعجرفة ‪ .‬فالمال نفسه لم يكن ُيثير اهتمامها‬

‫‪158‬‬
‫ن‬‫‪ ،‬وقد أدارت ظهرها للشياء التي ُيمثلها منذ زم ٍ‬
‫بعيد ‪ .‬كل ما في المر أنه كانت تجمعنا لغة معّينة ‪،‬‬
‫ت أفهمها دون‬ ‫وعندما كانت تحدثني عن ماضيها ‪ ،‬كن ُ‬
‫ن أطلب منها شروحا ً ‪.‬‬ ‫أ ُ‬
‫ن أضطر إلى أ ْ‬ ‫ْ‬
‫كانت قد تزوجت مرتين – مرة لفترة وجيزة ‪،‬‬
‫كم ‪،‬‬ ‫ت بته ّ‬
‫في " تكافؤ اجتماعي رائع " ‪ ،‬كما عّبر ْ‬
‫ت إليه باسم تومي ‪،‬‬ ‫ل أشار ْ‬ ‫والمرة الثانية من رج ٍ‬
‫لكني لم أعرف أبدا ً كنيته ‪ .‬من الواضح أنه كان‬
‫محاميا ً ‪ ،‬وأنجبا معا ً طفَلين ‪ ،‬بنت وصبي ‪ .‬وعندما‬
‫ت المشاكل ‪ ،‬كان ينجذب بصورة متزايدة نحو‬ ‫بدأ ْ‬
‫مساعدا ً في الحزب‬ ‫ل أول ً سكرتيرا ً ُ‬ ‫السياسة ‪ ،‬فعم َ‬
‫الخضر )وفي وقت من الوقات ‪ ،‬كانت كل‬
‫مز إليها باللوان( ‪ ،‬ومن‬ ‫النتماءات السياسية هنا ُير َ‬
‫ظمته‬ ‫ثم ‪ ،‬عندما استوعب الحزب الزرق عضوية من ّ‬
‫ي للنصف‬ ‫ق مدين ّ‬ ‫س ٍ‬‫من ّ‬‫ف استراتيجي ‪ ،‬ك ُ‬ ‫في تحال ٍ‬
‫الغربي من المدينة ‪ .‬وفي زمن الثورات ضد‬
‫المكوس ‪ ،‬قبل أحد عشر أو اثني عشر عاما ً ‪ ،‬عل ِ َ‬
‫ق‬
‫وسط أعمال شغب على طول نيرو بروسبكت‬
‫ق ناريّ من رجل شرطة ‪ .‬بعد وفاة‬ ‫ُ‬
‫ب بطل ٍ‬ ‫أصي َ‬
‫تومي ‪ ،‬حّثها والدها على مغادرة البلد مع والديها‬
‫)اللذان كانا ل يتجاوزان الثالثة والرابعة من العمر‬
‫ت ‪ .‬وبدل ذلك‬ ‫ن فيكتوريا رفض ْ‬ ‫في ذلك الوقت( ‪ ،‬لك ّ‬
‫أرسلتهما مع والد َيّ تومي لكي يعيشا في إنكلترا ‪.‬‬
‫ن تكون إحدى أولئك الذين‬ ‫لم ترغب في أ ْ‬
‫يستسلمون ويهربون ‪ ،‬كما قالت ‪ ،‬ولكنها أيضا ً لم‬
‫ض ولديها للكوارث التي ستلي ‪.‬‬ ‫ن ُتعّر َ‬ ‫ترغب في أ ْ‬
‫ن ُيضطر‬ ‫في اعتقادي ‪ ،‬هناك قرارات ل أحد ينبغي أ ْ‬
‫إلى اّتخاذها ‪ ،‬خيارات هي ببساطة ثقيلة الوطأة‬
‫على العقل ‪ .‬ومهما كان ما تفعله في نهاية المطاف‬

‫‪159‬‬
‫‪ ،‬فسوف تندم عليه ‪ ،‬وسوف تظل تندم عليه ما‬
‫حييت ‪ .‬ورحل الطفلن إلى إنكلترا ‪ ،‬وعلى مدى‬
‫ت فيكتوريا في الّتصال‬ ‫العام التالي أو العامين نجح ْ‬
‫بهما بريديا ً ‪ .‬ثم بدأ نظام البريد يتعطل ‪ .‬أصبحت‬
‫طع وغير متوّقع – ألم‬ ‫متق ّ‬ ‫ل ُ‬ ‫التصالت تتم بشك ٍ‬
‫النتظار المستمر ‪ ،‬والرسائل التي ُترمى عشوائيا ً‬
‫ت تماما ً ‪ .‬كان ذلك قبل‬ ‫في البحر – وأخيرا ً توقف ْ‬
‫ثماني سنوات ‪ .‬منذ ذلك الحين لم تصل منهما كلمة‬
‫ت عن كل أمل في‬ ‫واحدة ‪ ،‬وكانت فيكتوريا قد تخل ْ‬
‫رؤيتهما من جديد ‪.‬‬
‫ك أوجه التشابه‬ ‫كر هذه الشياء لبّين ل َ‬ ‫إنني أذ ُ‬
‫ت في تشكيل‬ ‫بين تجاربنا ‪ ،‬الروابط التي ساعد ْ‬
‫صداقتنا ‪ .‬كان الناس الذين أحبتهم قد رحلوا عن‬
‫ل فظيع كرحيل الناس الذين أحببُتهم عن‬ ‫حياتها بشك ٍ‬
‫حياتي ‪ .‬أزواجنا وأولدنا ‪ ،‬والدها وأخوها – كلهم‬
‫ت عافيتي‬ ‫تلشوا في الموت والشك ‪ .‬وعندما استعد ُ‬
‫بما يكفي لرحل ‪ ،‬بدا لي )ولكن إلى أين أذهب ؟(‬
‫ن تدعوني إلى المكوث معها‬ ‫ن من الطبيعي جدا ً أ ْ‬ ‫أ ّ‬
‫في منزل آل ووبرن لعمل فيه كعضو في الهيئة ‪.‬‬
‫لم يكن الحل الذي تمنّيته ‪ ،‬ولكن في ظل الظروف‬
‫ة‬
‫السائدة لم أَر أي خيار آخر ‪ .‬وقد أزعجتني فلسف ُ‬
‫ل أفضل قليل ً – فكرة مساعدة أشخاص‬ ‫ل بشك ٍ‬ ‫م ْ‬‫اع َ‬
‫غرباء ‪ ،‬والتضحية بالنفس من أجل قضية ‪ .‬لقد كان‬
‫ديا ً ‪ ،‬وغيري ّا ً أكثر مما ينبغي‬ ‫مجّردا ً ‪ ،‬وج ّ‬ ‫المبدأ ُ‬
‫ت أؤمن بما جاء في كتاب سام ‪،‬‬ ‫ي ‪ .‬كن ُ‬ ‫بالنسبة إل ّ‬
‫ن كان‬ ‫تإ ْ‬ ‫ن سام كان حبيبي ‪ ،‬وحياتي ‪ ،‬وتساءل ُ‬ ‫لك ّ‬
‫سل‬ ‫ُ‬
‫س نفسي لنا ٍ‬ ‫ن أكّر َ‬ ‫صلب طبيعتي أ ْ‬ ‫من ُ‬
‫ددي ‪ ،‬لكنها لم‬ ‫ت فيكتوريا تر ّ‬ ‫أعرفهم ‪ .‬ولحظ ْ‬
‫ن ذلك‬ ‫ن تغّير رأيي ‪ .‬وأعتقد أ ّ‬ ‫تجادلني أو تحاول أ ْ‬

‫‪160‬‬
‫التحّفظ من جانبها هو ما دفعني ‪ ،‬أكثر من أي شيء‬
‫وها ً ول حاول ْ‬
‫ت‬ ‫آخر ‪ ،‬إلى القبول ‪ .‬لم تلقي خطابا ً ُ‬
‫مف ّ‬
‫دمة على إنقاذ روحي ‪ .‬بل قالت‬ ‫مق ِ‬
‫ن ُتقنعني بأنني ُ‬ ‫أ ْ‬
‫ببساطة ‪ " :‬هناك الكثير من العمل يجب إنجازه‬
‫ن نأمل في إنهائه ‪.‬‬ ‫هنا ‪ ،‬يا أّنا ‪ ،‬أكثر مما يمكن أ ْ‬
‫ن‬
‫ما سيحدث في حالتك ‪ ،‬لك ّ‬ ‫ليست لديّ أي فكرة ع ّ‬
‫القلوب الكسيرة أحيانا ً تندمل بالعمل "‬

‫هقا ً ‪ .‬لم يكن‬ ‫مر ِ‬


‫كان روتين العمل ل نهاية له و ُ‬
‫دئ‬ ‫ن أي شيء ُيه ّ‬ ‫ذلك دواًء بقدر ما كان إلهاًء ‪ ،‬لك ّ‬
‫دة اللم كان مقبول ً لديّ ‪ .‬على أي حال لم‬ ‫ح ّ‬‫من ِ‬
‫ت مخزوني‬ ‫ت قد استنفذ ُ‬ ‫أكن أتوّقع معجزات ؛ كن ُ‬
‫ل شيٍء من الن فصاعدا ً‬ ‫نك ّ‬ ‫تأ ّ‬‫منها ‪ ،‬وأدرك ُ‬
‫سيكون آثارا ً للكارثة – كحياة رهيبة ‪ ،‬تحدث بعد‬
‫الموت ‪ ،‬حياة تستمر بالحدوث لي ‪ ،‬على الرغم من‬
‫ت‬‫ف ‪ .‬ولكني بدأ ُ‬ ‫ت ‪ .‬إذن ‪ ،‬الوجع لم يخت ِ‬ ‫أنها انته ْ‬
‫ل ‪ ،‬وأني لم‬ ‫ن بكائي أصبح أق ّ‬ ‫ظأ ّ‬ ‫شيئا ً فشيئا ً ألح ُ‬
‫ن أستغرق في‬ ‫أع ُد ْ أنقع وسادتي بها بالضرورة قبل أ ْ‬
‫ت أني‬ ‫النوم ليل ً ‪ ،‬بل إني في إحدى المرات اكتشف ُ‬
‫ت في البقاء ثلث ساعات متواصلة من دون‬ ‫نجح ُ‬
‫ن تلك كانت انتصارات‬ ‫ف بأ ّ‬ ‫التفكير في سام ‪ .‬أعتر ُ‬
‫صغيرة ‪ ،‬ولكن في ظل الظروف التي أحاطت بي‬
‫ن في وضٍع يسمح لي بالسخرية منها ‪.‬‬ ‫حينئذٍ ‪ ،‬لم أك ْ‬
‫ل‬
‫كان في الطابق السفلي ست غرف يضم ك ٍ‬
‫منها ثلثة أو أربعة أسّرة ‪ .‬الطابق الثاني كان يحتوي‬
‫ردتا للحالت الصعبة ‪ ،‬وفي‬ ‫ُ‬
‫صتين أف ِ‬ ‫غرفتين خا ّ‬
‫إحدى تينك الغرفتين أمضيت أسابيعي الولى في‬
‫حت‬ ‫ن باشرت العمل ‪ ،‬أصب َ‬ ‫منزل آل ووبرن ‪ .‬وبعد أ ْ‬
‫لدي غرفة نوم خاصة في الطابق الرابع ‪ .‬وغرفة‬

‫‪161‬‬
‫م فريك وويلي‬ ‫فيكتوريا كانت في آخر الرواق ‪ ،‬وأقا َ‬
‫في غرفةٍ كبيرة تقع فوق غرفتها مباشرة ‪ .‬الشخص‬
‫الوحيد الخر من الهيئة أقام في الطابق السفلي ‪،‬‬
‫في غرفة بعيدة عن المطبخ ‪ .‬وهي ماغي فاين ‪،‬‬
‫ماء وخرساء سّنها غير معروف كانت تعمل‬ ‫امرأة ص ّ‬
‫صر القامة ‪ ،‬ذات‬ ‫سالة ‪ .‬كانت شديدة قِ َ‬ ‫طّباخة وغ ّ‬
‫وجه‬ ‫فخذين ثخينين ‪ ،‬وقصيرين ‪ ،‬ووجه عريض ُيت ّ‬
‫دغل من الشعر الحمر ‪ .‬وفيما عدا الحاديث التي‬
‫تجريها بالشارات مع فيكتوريا ‪ ،‬لم تكن تتواصل مع‬
‫أحد ‪ .‬كانت تؤدي عملها بما ُيشبه النشوة الكئيبة ‪،‬‬
‫ل إليها بعناد وكفاءة ‪ ،‬وتعمل‬ ‫ل يوك ُ‬‫ل عم ٍ‬ ‫جُز ك ّ‬
‫وُتن ِ‬
‫ن كانت تنام‬ ‫تإ ْ‬ ‫ساعات طويلة إلى درجة أني تساءل ُ‬
‫ت على وجودي ‪ ،‬لكنها‬ ‫أبدا ً ‪ .‬ونادرا ً ما حّيتني وتعّرفَ ْ‬
‫ن‬
‫فأ ْ‬ ‫ن وآخر ‪ ،‬في تلك المناسبات التي تصاد َ‬ ‫بين حي ٍ‬
‫كنا معا ً وحدنا ‪ ،‬كانت تربت على كتفي ‪ ،‬وتبتسم لي‬
‫ض من‬ ‫ابتسامة واسعة ‪ ،‬ومن ثم تواصل بتقديم عر ٍ‬
‫الحركات اليمائية الدقيقة كالتي يقوم بها مغني‬
‫الوبرا وهو يؤدي أغنية أوبرالية – مصحوبة بإيماءات‬
‫مبدية‬ ‫مسرحية وأصوات حلقّية مهتزة ‪ .‬ثم تنحني ‪ُ ،‬‬
‫امتنانا ً جميل ً لتحيات جمهور وهمي ‪ ،‬وتعود على‬
‫عجل إلى عملها ‪ ،‬دون فترة توّقف أو انتقال ‪ .‬كان‬
‫شيئا ً جنونيا ً تماما ً ‪ .‬حدث ذلك حوالي ست مرات أو‬
‫ن تسّليني أم‬ ‫لأ ْ‬ ‫ن كانت تحاو ُ‬ ‫سبع ‪ ،‬لكني لم أفهم إ ْ‬
‫ُتخيفني ‪ .‬وعلى مدى السنوات التي أمضتها هناك ‪،‬‬
‫كما قالت فيكتوريا ‪ ،‬لم ُتغني ماغي لي شخص‬
‫آخر ‪.‬‬
‫ن يوافق‬ ‫كان على كل نزيل ‪ ،‬كما كنا نسميهم ‪ ،‬أ ْ‬
‫مح له بالقامة في‬ ‫ن ُيس َ‬‫ط معّينة قبل أ ْ‬‫على شرو ٍ‬
‫منزل ووبرن ‪ .‬مثل ً ‪ ،‬ممنوع القتال أو السرقة ‪،‬‬

‫‪162‬‬
‫ن ُيرّتب‬‫والرغبة في النسجام مع المجموع ‪ :‬أ ْ‬
‫سريره بنفسه ‪ ،‬ويحمل صحنه إلى المطبخ بعد‬
‫انتهائه من تناول الوجبات ‪ ،‬وما إلى ذلك ‪ .‬في‬
‫المقابل ‪ ،‬كان ُيمَنح النزلء غرفة وإقامة ‪ ،‬ومجموعة‬
‫جديدة من الملبس ‪ ،‬وُفرصة للستحمام في كل‬
‫ددة من التسهيلت ‪ .‬وهذه‬ ‫مح ّ‬‫يوم ‪ ،‬واستفادةً غير ُ‬
‫من النزول إلى الصالة – التي تتضمن عددا ً من‬ ‫تتض ّ‬
‫مريحة ‪ ،‬ومكتبة عامرة ‪ ،‬وألعابا ً‬ ‫الرائك والكراسي ال ُ‬
‫من شتى النواع )الورق ‪ ،‬البينغو ‪ ،‬الطاولة( –‬
‫بالضافة إلى فناٍء يقعُ خلف المنزل ‪ ،‬وكان مكانا ً‬
‫ص عندما يكون‬ ‫ل خا ّ‬ ‫س فيه ممتع بشك ٍ‬ ‫الجلو ُ‬
‫الطقس صحوا ً ‪ .‬وهناك مضمار للعب الكروكيت في‬
‫ي ‪ ،‬وشبكة للعب تنس الريشة ‪،‬‬ ‫الركن القص ّ‬
‫ومجموعة كبيرة من كراسي المرج ‪ .‬وبكل‬
‫المعايير ‪ ،‬كان منزل ووبرن أشبه بالجنة ‪ ،‬ملجئا ً‬
‫ن‬ ‫محيطان به ‪ .‬لك ّ‬ ‫رعويا ً بعيدا ً عن البؤس والقذارة ال ُ‬
‫ممتّنة‬ ‫هذا لم يكن دائما ً صحيحا ً ‪ .‬طبعا ً الغالبية كانت ُ‬
‫مل من أجلها ‪ ،‬ولكن‬ ‫ت ما ُيع َ‬ ‫‪ ،‬والغالبية استحسن ْ‬
‫كان هناك عديد ٌ آخرون يواجهون صعوبات ‪ .‬فقد‬
‫ن أي‬ ‫كانت الشجارات سائدة بين النزلء ‪ ،‬وبدا أ ّ‬
‫ن يتسبب في نشوبها ‪ :‬طريقة أكل‬ ‫شيء يمكن أ ْ‬
‫أحدهم لطعامه أو لكز أنفه ‪ ،‬وتناقض رأي هذا مع‬
‫ت‬‫سعال أحدهم أو شخيره في وق ٍ‬ ‫رأي ذاك ‪ ،‬و ُ‬
‫ن ينام – كل الشياء الصغيرة التافهة‬ ‫ُيحاول آخر أ ْ‬
‫مع أناس فجأة ً معا ً تحت سق ٍ‬
‫ف‬ ‫التي تظهر عندما ُيج َ‬
‫واحد ‪ .‬أعتقد أنه ل شيء غير اعتيادي في هذا ‪،‬‬
‫مثيرة للشفقة ‪ ،‬مهزلة‬ ‫ت دائما ً أجدها ُ‬ ‫لكنني كن ُ‬
‫محزنه وسخيفة ُيمثلها المرء وُيكّرر أداءها ‪.‬‬ ‫صغيرة ُ‬
‫كل نزلء منزل ووبرن تقريبا ً كانوا يعيشون في‬

‫‪163‬‬
‫ل التباُين بين تلك الحياة‬ ‫الشوارع مدة طويلة ‪ .‬ولع ّ‬
‫ة شديدة الوطأة عليهم ‪.‬‬ ‫كل صدم ً‬ ‫وهذه كانت تش ّ‬
‫ود على العتناء بنفسه ‪ ،‬على التفكير‬ ‫فالمرء يتع ّ‬
‫ن‬
‫فقط في صالحه ‪ ،‬ومن ثم يأتي شخص وُيخبرك أ ّ‬
‫ن تتعاون مع مجموعة من الغرباء ‪ ،‬فئة‬ ‫عليك أ ْ‬
‫ك‬‫ت أل تثقَ فيها ‪ .‬وبما أن َ‬ ‫الناس نفسها التي تعّلم َ‬
‫ك ستعود إلى الشوارع في غضون عدد قليل‬ ‫تعلم أن َ‬
‫ن تعاني مشّقة‬ ‫من اليام ‪ ،‬فهل يستأهل المر أ ْ‬
‫النفصال عن ذاتك من أجل ذلك ؟‬
‫نزلء آخرون بدا أنهم شعروا بخيبة المل مما‬
‫وجدوه في منزل ووبرن ‪ .‬هؤلء هم الذين انتظروا‬
‫ن يعترفوا بأّنهم غالوا في توقعاتهم‬ ‫طويل ً قبل أ ْ‬
‫محولين منزل ووبرن إلى جّنة‬ ‫بشكل غير عقلني – ُ‬
‫ق ممكن شعروا به ‪ .‬وفكرة‬ ‫أرضّية ‪ ،‬غاية كل تو ٍ‬
‫السماح لهم بالعيش هناك دفعتهم إلى الستمرار‬
‫في العيش من يوم ٍ إلى آخر ‪ ،‬ولكن حالما دخلوا‬
‫ن يختبروا خيبة المل ‪.‬‬ ‫المكان فعل ً ‪ ،‬كان عليهم أ ْ‬
‫فلم يكونوا يلجون عالما ً سحريا ً ‪ ،‬قبل أي شيء ‪.‬‬
‫لقد كان منزل ووبرن مكانا ً ممتعا ً للسكنى ‪ ،‬لكنه‬
‫كان مع ذلك موجودا ً في العالم الواقعي ‪ ،‬وما تجده‬
‫هناك هو مزيد ٌ من الحياة – حياة أفضل ‪ ،‬ربما ‪،‬‬
‫ولكنها ل زالت مجرد حياة كالتي عرفتها دائما ً ‪.‬‬
‫المر المدهش هو السرعة التي تكّيف بها الجميع‬
‫ت إليهم – السّرة‬ ‫م ْ‬‫لوسائل الرائحة المادية التي فُد ّ َ‬
‫والدش ‪ ،‬والطعام اللذيذ والملبس النظيفة ‪،‬‬
‫وفرصة أل يفعلوا أي شيء ‪ .‬وبعد مرور يوم أو‬
‫يومين في منزل ووبرن ‪ ،‬أصبح في إمكان الرجال‬
‫ن‬
‫والنساء الذين كانوا يأكلون من حاويات القمامة أ ْ‬
‫يجلسوا أمام وليمة ممدودة على طاولة جميلة بكل‬

‫‪164‬‬
‫ف بها تجار‬ ‫الثقة بالنفس ورباطة الجأش التي يّتص ُ‬
‫مستغربا ً‬ ‫ل هذا ليس ُ‬ ‫الطبقة الوسطى البدينون ‪ .‬لع ّ‬
‫ة ‪ ،‬وعندما‬ ‫كما يبدو ‪ .‬نحن جميعا ً نتقّبل المور بداه ً‬
‫يتعّلق المر بأشياء أساسية كالطعام والمأوى ‪،‬‬
‫أشياء لعلها لنا بفعل الحق الطبيعي ‪ ،‬فسرعان ما‬
‫نعتبرها جزءا ً ل يتجّزأ منا ‪ .‬ول ننتبه إلى الشياء التي‬
‫ن نفقدها ‪ .‬وحالما نستعيدها ‪،‬‬ ‫كانت معنا إل بعد أ ْ‬
‫ف عن ملحظة وجودها من جديد ‪ .‬هذه كانت‬ ‫نك ّ‬
‫مشكلة الناس الذين شعروا بالخيبة من منزل‬
‫ووبرن ‪ .‬كانوا قد عاشوا في الفاقة مدة طويلة‬
‫بحيث لم يعودوا يفكرون في أي شيء آخر ‪ ،‬ولكن‬
‫حالما يعودون إلى الشياء التي كانوا قد فقدوها ‪،‬‬
‫ُيذهلون إذ يكتشفون أّنه لم يتغّير أي شيء فيهم ‪.‬‬
‫ي العالم كما كان دائما ً ‪ .‬لقد أصبحت بطونهم‬ ‫لقد بق َ‬
‫ل ل شيء آخر تغّير‬ ‫ممتلئة الن ‪ ،‬ولكن على الق ّ‬
‫فيهم ‪.‬‬
‫لطالما كنا حريصين على تحذير الناس من‬
‫ن نصيحتنا‬ ‫مصاعب النهار الفائت ‪ ،‬ولكن ل أعتقد أ ّ‬
‫ن تستعد‬ ‫كأ ْ‬‫ت كثيرا ً أحدا ً منهم ‪ .‬إذ ل يمكن َ‬ ‫أفاد ْ‬
‫ن سُيحَبط في‬ ‫لشيء كهذا ‪ ،‬ول سبيل لنا لتوّقع َ‬
‫م ْ‬
‫ن لن يفعل ‪ .‬بعض الناس كانوا‬ ‫م ْ‬ ‫اللحظة الحاسمة و َ‬
‫قادرين على المغادرة من دون إصابة ‪ ،‬ولكن هناك‬
‫آخرين لم يتمكنوا من مواجهة الوضع ‪ .‬وعانوا معاناة‬
‫شديدة لمجرد فكرة العودة إلى الشوارع – خاصة‬
‫الرقيقين ‪ ،‬الّلطف ‪ ،‬الذين كانوا ممتنين كثيرا ً‬
‫ت‬‫للمساعدة التي قدمناها إليهم – وأحيانا ً كن ُ‬
‫ن كان أي شيء من المر‬ ‫دية إ ْ‬ ‫أتساءل بكل ج ّ‬
‫ن أكتفي‬ ‫يستحق العناء ‪ ،‬ما إذا كان من الفضل أ ْ‬
‫هبات للناس ومن ثم انتزاعها منهم بعد ذلك‬ ‫بتقديم ِ‬

‫‪165‬‬
‫بلحظة ‪ .‬كانت العملية تتسم بقسوة شديدة ‪ ،‬وغالبا ً‬
‫ن مشاهدة رجال ونساء‬ ‫مل ‪ .‬إ ّ‬‫ما وجدتها ل ُتحت َ َ‬
‫بالغين وهم ينهارون على ُركبهم ويتوسلون إلينا كي‬
‫يبقوا يوما ً آخر ؛ ومشاهدة الدموع ‪ ،‬والعويل ‪،‬‬
‫مل ‪ .‬كان‬‫والمناشدات المسعورة ‪ ،‬أمٌر ل ُيحت َ َ‬
‫دعي المرض – ينهارون في وضع الغماء‬ ‫بعضهم ي ّ‬
‫م ‪ ،‬متظاهرين بالشلل – وآخرون كانوا يتمادون‬ ‫التا ّ‬
‫إلى درجة جرح أنفسهم عمدا ً ‪ :‬قطع شرايين الرسغ‬
‫‪ ،‬حفر سيقانهم بالمقص ‪ ،‬بتر أصابع اليدي والقدام‬
‫ت حالت انتحار ‪،‬‬ ‫‪ .‬ثم ‪ ،‬في وقائع قصوى ‪ ،‬حدث ْ‬
‫ل أربع حالت أذكرها ‪ .‬كان من‬ ‫كانت هناك على الق ّ‬
‫دم المـساعدة في منزل ووبرن ‪،‬‬ ‫ن نق ّ‬ ‫المفترض أ ْ‬
‫مرهم ‪.‬‬ ‫ولكن أحيانا ً كنا في الواقع ند ّ‬
‫ن تقبل فكرة‬ ‫ن المأزق كان كبيرا ً ‪ .‬فما أ ْ‬ ‫لك ّ‬
‫احتمال وجود بعض الطيبة في منزل مثل منزل‬
‫ووبرن ‪ ،‬حتى تغرق في مستنقٍع من التناقضات ‪ .‬إذ‬
‫ن ُتحاجج ببساطة بالقول إّنه يجب السماح‬ ‫ل يكفي أ ْ‬
‫ن‬ ‫ت تقصد أ ْ‬ ‫ة إذا كن َ‬ ‫للنزلء بالبقاء مدة أطول – خاص ً‬
‫صفا ً ‪ .‬وماذا عن كل أولئك الخرين‬ ‫من ِ‬‫تكون ُ‬
‫الواقفين في الخارج ‪ ،‬ينتظرون فرصة الدخول ؟‬
‫ل شخص يشَغل سريرا ً في منزل‬ ‫ن مقابل ك ّ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ووبرن ‪ ،‬هناك عدد آخر يتوسل للسماح له‬
‫بالدخول ‪ .‬فأيها أفضل – مساعدة عدد كبير من‬
‫الناس قليل ً أم أعدادا ً صغيرة منهم كثيرا ً ؟ ل أعتقد‬
‫ن هناك جوابا ً على هذا السؤال ‪ .‬كان الدكتور‬ ‫حقا ً أ ّ‬
‫ت‬‫مم ْ‬‫ووبرن قد باشر المشروع بطريقة معّينة ‪ ،‬وص ّ‬
‫فيكتوريا على اللتزام به حتى النهاية ‪ .‬وهذا لم‬
‫ُيصحح مساره بالضرورة ‪ .‬لكنه لم يضّره أيضا ً ‪.‬‬
‫والمشكلة لم تكمن في المنهاج بقدر ما كانت في‬

‫‪166‬‬
‫طبيعة المشكلة ذاتها ‪ .‬لقد كان هناك عدد كبير جدا ً‬
‫من الناس ينتظرون الحصول على المساعدة ول‬
‫يوجد عدد كاف من الشخاص لتقديمها لهم ‪ .‬كانت‬
‫هقة ‪ ،‬ول ترحم في الدمار الذي‬ ‫مر ِ‬‫العملية الحسابية ُ‬
‫سّببته ‪ .‬ومهما بذلنا من جهد ‪ ،‬كان من المستحيل‬
‫تفادي الفشل ‪ .‬هذا كان الوضع باختصار ‪ .‬ولم لم‬
‫م ‪ ،‬لما كانت‬ ‫نكن نرغب في قبول عقم العمل التا ّ‬
‫هناك أي فائدة من الستمرار فيه ‪.‬‬
‫كان معظم وقتي ُيستهَلك في مقابلة النزلء‬
‫المتوّقعين ‪ ،‬أدّون أسماءهم في قوائم ‪ ،‬وأنظ ّ ُ‬
‫م‬
‫جداول بالشخاص الذين سينضمون إلينا وموعد ذلك‬
‫‪ .‬كانت المقابلت تتم من التاسعة صباحا ً وحتى‬
‫ت‬
‫دل كن ُ‬‫الواحدة من بعد الظهيرة ‪ ،‬وفي المع ّ‬
‫س وعشرين شخصا ً في‬ ‫أتحدث مع عشرين إلى خم ٍ‬
‫ت أقابلهم فرادى ‪ ،‬واحدا ً بعد آخر ‪ ،‬في‬ ‫اليوم ‪ .‬كن ُ‬
‫القاعة المامية من المنزل ‪ .‬ويبدو أنه كانت قد‬
‫وقعت بعض الحوادث القبيحة في الماضي –‬
‫هجمات عنيفة ‪ ،‬مجموعات من الشخاص ُيحاولون‬
‫اقتحام الباب – وهكذا كان ينبغي وجود حرس‬
‫مسلحين في حالة استعداد أثناء إجراء اللقاءات ‪.‬‬
‫ف في الخارج على الد ََرج المامي‬ ‫كان فريك يق ُ‬
‫دم‬ ‫ن يتق ّ‬‫ب الحشد ويحرص على أ ْ‬ ‫حامل ً بندقية ‪ُ ،‬يراق ُ‬
‫الطابور بيسر وعلى أل تخرج المور عن السيطرة ‪.‬‬
‫ن تقطع‬ ‫معة خارج المنزل كان يمكن أ ْ‬ ‫والعداد المتج ّ‬
‫النفاس ‪ ،‬خاصة خلل الشهر الحارة ‪ .‬ولم يكن‬
‫س وسبعين‬ ‫مع من خمسين إلى خم ٍ‬ ‫غريبا ً أ ْ‬
‫ن يتج ّ‬
‫ن‬‫شخصا ً في الشارع في لحظة معّينة ‪ .‬وهذا يعني أ ّ‬
‫معظم الناس الذين شاهدتهم كانوا ينتظرون من‬
‫ثلثة إلى ستة أيام لمجرد الحصول على فرصة‬

‫‪167‬‬
‫لجراء مقابلة – ينامون على الرصيف ‪ ،‬ويتقدمون‬
‫ن يأتي‬ ‫ببطء في الطابور ‪ ،‬ويصبرون بعناد إلى أ ْ‬
‫دورهم في النهاية ‪ .‬كانوا يتعّثرون وهم يدخلون عل ّ‬
‫ي‬
‫‪ ،‬واحدا ً إثر آخر ‪ ،‬دفق متواصل ‪ ،‬ل ينقطع ‪ ،‬من‬
‫الناس ؛ يجلسون على الكرسي الحمر المكسو‬
‫بالجلد على الجانب المقابل من الطاولة أمامي ‪،‬‬
‫وأطرح عليه كل السئلة اللزمة ‪ .‬السم ‪ ،‬السن ‪،‬‬
‫الوضع العائلي ‪ ،‬العمل السابق ‪ ،‬آخر عنوان دائم ‪،‬‬
‫وما إلى ذلك ‪ .‬لم يكن ذلك يستغرق أكثر من‬
‫دقيقتين ‪ ،‬ولكن نادرا ً ما توقفت المقابلة عند هذا‬
‫الحد ‪ .‬كانوا كلهم يرغبون في إخباري بحكاياتهم ‪،‬‬
‫ن أصغي ‪ .‬كانت حكاية‬ ‫ولم يكن أمامي خيار إل أ ْ‬
‫مختلفة في كل مرة ‪ ،‬ومع ذلك كانت كل حكاية في‬
‫النهاية هي نفسها ‪ .‬سلسلة من عثرات الحظ ‪،‬‬
‫ن حياتنا‬ ‫وسوء التقدير ‪ ،‬وثقل عبء الظروف ‪ .‬إ ّ‬
‫مصادفات المتشعبة‬ ‫ليست أكثر من كمية من ال ُ‬
‫ت تفاصيلها ‪ ،‬كلها تشترك في‬ ‫وع ْ‬‫الجوانب ‪ ،‬ومهما تن ّ‬
‫العتباطية الساسية في تصميمها ‪ :‬هذا ثم ذاك ‪،‬‬
‫وبسبب ذلك ‪ ،‬وهذا ‪ .‬ذات يوم استيقظت فوجدت ‪.‬‬
‫ن أركض بسرعة كافية‬ ‫ت ساقي فلم أستطع أ ْ‬ ‫وجرح ُ‬
‫ي زوجي ‪.‬‬ ‫‪ .‬قالت زوجتي ‪ ،‬وسقطت أمي ‪ ،‬ونس َ‬
‫ت‬‫ت مئات من هذه الحكايات ‪ ،‬وأحيانا ً كن ُ‬ ‫سمع ُ‬
‫مل أكثر من‬ ‫ن أتح ّ‬ ‫أشعر أنه لم يُعد في استطاعتي أ ْ‬
‫مضطرة إلى إظهار تعاطفي ‪ ،‬إلى‬ ‫ت ُ‬
‫ذلك ‪ .‬كن ُ‬
‫ن‬
‫سبة ‪ ،‬لك ّ‬ ‫اليماء برأسي في كل المواقع المنا ِ‬
‫ن أحافظ‬ ‫تأ ْ‬ ‫محترف الذي حاول ُ‬ ‫السلوك الهادئ ‪ ،‬ال ُ‬
‫عليه كان دفاعا ً ضعيفا ً في وجه الشياء التي‬
‫مهّيأة للصغاء لحكايات فتيات‬ ‫ن ُ‬‫سمعتها ‪ .‬لم أك ْ‬
‫عملن بغايا في عيادات القتل الرحيم ‪ .‬لم أكن‬

‫‪168‬‬
‫موهوبة في مجال الصغاء إلى أمهات يحكين لي‬
‫كيف مات أطفالهن ‪ .‬كان شيئا ً شديد الفظاعة ‪،‬‬
‫ن أفعله‬ ‫والقسوة ‪ ،‬وكان ذلك أقصى ما استطعت أ ْ‬
‫ت أدّون اسم الشخص‬ ‫لختبئ خلف ِقناع العمل ‪ .‬كن ُ‬
‫دد له موعدا ً – بعد ذلك بشهرين ‪ ،‬أو‬ ‫في لئحة وأح ّ‬
‫ثلثة ‪ ،‬أو حتى أربعة ‪ .‬وأقول له ‪ ،‬حينئذٍ سوف نجد‬
‫لك مكانا ً ‪ .‬وعندما يحين الموعد لينتقلوا إلى منزل‬
‫ت أستقبلهم ‪ .‬ذلك كان عملي الساسي‬ ‫ووبرن ‪ ،‬كن ُ‬
‫ن أستعرض المكان مع‬ ‫في فترات بعد الظهيرة ‪ :‬أ ْ‬
‫جدد ‪ ،‬أشرح لهم القوانين ‪ ،‬وأساعدهم‬ ‫الوافدين ال ُ‬
‫في الستقرار ‪ .‬وكان معظمهم ينجح في المحافظة‬
‫ددتها لهم قبلها بأسابيع‬‫على المواعيد التي ح ّ‬
‫ن بعضهم كان يفشل في الحضور ‪ .‬ولم‬ ‫عديدة ‪ ،‬ولك ّ‬
‫يكن صعبا ً أبدا ً معرفة السبب ‪ .‬كانت السياسة‬
‫مّتبعة هي الحتفاظ بسرير ذلك الشخص مفتوحا ً‬ ‫ال ُ‬
‫مدة يوم ٍ كامل ‪ .‬فإذا لم يظهر حتى ذلك الحين ‪،‬‬
‫أشطب اسمه من اللئحة ‪.‬‬

‫ون منزل ووبرن كان رجل ً اسمه بوريس‬ ‫مم ّ‬


‫ستيبانوفيتش ‪ .‬كان يزّودنا بالطعام الذي نحتاجه ‪،‬‬
‫دات وأدوات صغيرة ‪.‬‬ ‫وبالصابون ‪ ،‬والمناشف ‪ ،‬ومع ّ‬
‫كان يظهر أربع أو خمس مرات في السبوع ‪ ،‬يجلب‬
‫الغراض التي طلبناها منه ومن ثم يأخذ معه كنزا ً‬
‫آخر من كنوز عزبة ووبرن ‪ :‬إبريق شاي صيني ‪،‬‬
‫مجموعة من أغطية ظهر الكرسي ‪ ،‬آلة كمان أو‬
‫مخّزنة في‬ ‫إطار لوحة – كل الغراض التي كانت ُ‬
‫دنا بالمال الذي‬ ‫غرف الطابق الخامس ول تزال تم ّ‬ ‫ُ‬
‫ُيحافظ على استمرار منزل ووبرن مفتوحا ً ‪ .‬كان‬
‫بوريس ستيبانوفيتش موجودا ً معنا منذ فترة‬

‫‪169‬‬
‫طويلة ‪ ،‬كما أخبرتني فيكتوريا ‪ ،‬منذ أيام ملجئ‬
‫ن الرجلين‬ ‫يأ ّ‬‫الدكتور ووبرن الصلية ‪ .‬ومن الجل ّ‬
‫كانا قد تعارفا قبل ذلك بسنين عديدة ‪ ،‬وحسب ما‬
‫ن يعقد‬
‫عرفته عن الدكتور ووبرن ‪ ،‬أدهشني أ ْ‬
‫مريب كبوريس ستيبانوفيتش ‪.‬‬ ‫صداقة مع شخص ُ‬
‫ن الطبيب كان قد أنفذ حياة‬ ‫صلة بأ ّ‬
‫ن لذلك ِ‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫ن يكون المر بالعكس ‪ .‬لقد‬ ‫بوريس ‪ ،‬ولكن يمكن أ ْ‬
‫ن أتأ ّ‬
‫كد‬ ‫ت عدة نسخ مختلفة للقصة ول يمكن أ ْ‬ ‫سمع ُ‬
‫أّيها الصحيح ‪.‬‬
‫كان بوريس ستيبانوفيتش رجل ً ممتلئ الجسم ‪،‬‬
‫في منتصف العمر بدا تقريبا ً بدينا ً بمعايير المدينة ‪.‬‬
‫مبهرجة )يعتمر قبعات‬ ‫كان يحب ارتداء الملبس ال ُ‬
‫من الفرو ‪ ،‬وُيمسك بعصي للمشي ‪ ،‬ويضع زهرة‬
‫عروة( ‪ ،‬وفي وجهه المستدير ‪ ،‬والمشدود ‪ ،‬كان‬
‫ل‬
‫كرني برئيس قبيلة هندي أو بعاه ٍ‬ ‫هناك شيء ذ ّ‬
‫م بقدرٍ من‬ ‫س ُ‬‫شرقي ‪ .‬كان كل ما كان يفعله يت ِ‬
‫التمّيز ‪ ،‬حتى طريقته في تدخين السجائر – كان‬
‫يمسكها بإحكام بين البهام والسّبابة ‪ ،‬ويستنشق‬
‫الدخان بل مبالة أنيقة ‪ ،‬معكوسة ‪ ،‬ومن ثم ُيطلقه‬
‫من خلل منخريه الضخمين كانطلق البخار من‬
‫إبريق ماء يغلي ‪ .‬ولكن غالبا ً ما كان من الصعب‬
‫ت أتعّرف عليه‬ ‫متابعته أثناء الحديث ‪ ،‬وبعدما أخذ ُ‬
‫ن أتوقع الكثير من الفوضى كلما فتح‬ ‫تأ ْ‬ ‫أكثر ‪ ،‬تعّلم ُ‬
‫بوريس ستيبانوفيتش فمه ‪ .‬لقد كان مولعا ً باللفاظ‬
‫ضبة ‪ ،‬ويكتب ملحظات‬ ‫مبهمة وبالتلميحات المقت َ َ‬ ‫ال ُ‬
‫بسيطة تتضمن صور مزخرفة سرعان ما تضيع‬
‫ن ُيدَفع‬ ‫ن تفهمها ‪ .‬كان بوريس يكره أ ْ‬ ‫ت تحاول أ ْ‬ ‫وأن َ‬
‫إلى قول شيء واضح ‪ ،‬وكان يستخدم اللغة كأداة‬
‫تنّقل – تتنّقل باستمرار ‪ ،‬تندفعُ وتخدع ‪ ،‬تدور ‪،‬‬

‫‪170‬‬
‫تختفي ‪ ،‬وتعود فتظهر من جديد في بقعة أخرى ‪.‬‬
‫وكان في مناسبات مختلفة يحكي لي العديد من‬
‫الحكايات عن نفسه ‪ ،‬وسرد لي العديد من‬
‫الصراعات من حياته ‪ ،‬بحيث لم أعد أصدق أي‬
‫كد لي أنه وُل ِد َ في المدينة‬‫شيء ‪ .‬في يوم ‪ ،‬يؤ ّ‬
‫وعاش هناك طوال حياته ‪ .‬وفي اليوم التالي ‪ ،‬وكأنه‬
‫ي روايته السابقة ‪ُ ،‬يخبرني أنه وُل ِد َ في باريس‬ ‫نس َ‬
‫مهاجَرين روسيين ‪ .‬ثم ‪ُ ،‬يغّير‬ ‫وأنه البن الكبر ل ُ‬
‫ن بوريس‬ ‫المسار من جديد ‪ ،‬ويعترف لي بأ ّ‬
‫ستيبانوفيتش هو اسمه الحقيقي ‪ .‬وبسبب توّرطه‬
‫ببعض المشاكل المزعجة مع رجال الشرطة التراك‬
‫في شبابه‪ ،‬اّتخذ هوية أخرى ‪ .‬ومنذ ذلك الحين ‪ ،‬غي َّر‬
‫كر ماذا كان‬ ‫ت عديدة بحيث لم يُعد يتذ ّ‬ ‫اسمه مرا ٍ‬
‫ن‬
‫اسمه الحقيقي ‪ .‬وقال ‪ ،‬ل بأس ‪ .‬على الرجل أ ْ‬
‫ت في‬ ‫م ماذا كن َ‬ ‫يعيش لحظة بلحظة ‪ ،‬وماذا يه ّ‬
‫ت اليوم ؟ في‬ ‫ن أن َ‬‫م ْ‬ ‫الشهر الفائت ما دمت تعرف َ‬
‫الصل ‪ ،‬قال ‪ ،‬كان هنديا ً ألغونكويني ‪ ،‬ولكن بعد‬
‫ي ‪ .‬هو‬ ‫ت والدته من كونت روس ّ‬ ‫وفاة والده ‪ ،‬تزوج ْ‬
‫نفسه لم يتزوج ‪ ،‬أو بالحرى تزوج ثلث مرات –‬
‫حسب النسخة التي تخدم غرضه وقت حكايتها ‪.‬‬
‫وكلما باشر بوريس ستيبانوفيتش في إحدى حكاياته‬
‫ت نقطة معّينة‬ ‫الشخصية ‪ ،‬كان دائما ً يفعل ذلك لُيثب َ‬
‫ن‬
‫– وكأنما بلجوئه إلى تجربته الخاصة يستطيع أ ْ‬
‫ُيعلن سيطرته النهائية على أي موضوع ‪ .‬ولهذا‬
‫وره من أعمال ‪،‬‬ ‫ط في كل ما يمكن تص ّ‬ ‫السبب انخر َ‬
‫من أشد العمال اليدوية تواضعا ً إلى احتلل أشد ّ‬
‫المواقع التنفيذية علوّا ً ‪ .‬عمل غاسل ً للطباق ‪،‬‬
‫ومشعوذا ً ‪ ،‬وبائع سيارات ‪ ،‬وبروفسورا ً في الدب ‪،‬‬
‫محّرَر صحيفة ‪ ،‬ومديَر‬ ‫ونشال ً ‪ ،‬وسمساَر عقارات ‪ ،‬و ُ‬

‫‪171‬‬
‫ص في أزياء النساء ‪ .‬وأنا‬ ‫ص ٍ‬ ‫ت كبير متخ ّ‬ ‫ن مبيعا ٍ‬ ‫مخز ِ‬
‫ت‬‫مهنا ً أخرى دون أدنى شك ‪ ،‬ولكن أصبح ْ‬ ‫أنسى ِ‬
‫لديك فكرة ‪ .‬وبوريس ستيبانوفيتش لم يكن يتوقع‬
‫دق ما يقول ‪ ،‬ولكن في الوقت‬ ‫ن تص ّ‬ ‫ك حقا ً أ ْ‬ ‫من َ‬
‫ملّفقة على أنها‬ ‫نفسه لم يكن يتعامل مع حكاياته ال ُ‬
‫أكاذيب ‪ .‬لقد كانت جزءا ً من خطةٍ واعية تقريبا ً‬
‫دل مع‬ ‫ن يتب ّ‬ ‫لختراع عالم ٍ ساّر لنفسه – عالم يمكن أ ْ‬
‫دل نزواته ‪ ،‬ل يخضع للقوانين نفسها والضرورات‬ ‫تب ّ‬
‫الكئيبة التي تجّر بقّيتنا معها ‪ .‬فإذا كان هذا ل يجعل‬
‫منه شخصا ً واقعيا ً بالمعنى الصارم للكلمة ‪ ،‬فإنه لم‬
‫من يضللون أنفسهم ‪ .‬وبوريس‬ ‫يكن أيضا ً م ّ‬
‫جح المتآمر كما بدا ‪،‬‬ ‫ستيبانوفيتش لم يكن المتب ّ‬
‫ل‬‫مخادع والودود كان هناك دائما ً قلي ٌ‬ ‫وتحت مظهر ال ُ‬
‫من شيء ما – ربما ِفطنة ‪ ،‬إحساس بفهم أعمق ‪.‬‬
‫ولن أتمادى إلى درجة القول إنه إنسان طّيب )ليس‬
‫ن إيزابل وفيكتوريا‬ ‫بالمعنى الذي أقول به إ ّ‬
‫طيبتان( ‪ ،‬ولكن كان لبوريس مجموعة من القواعد‬
‫خلفا ً لي إنسان آخر قابلته ‪ ،‬نج َ‬
‫ح‬ ‫وقد التزم بها ‪ .‬و ِ‬
‫في التعالي على ظروفه ‪ .‬الجوع ‪ ،‬القتل ‪ ،‬أسوأ‬
‫عب َْرهما ‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫أشكال الوحشية – مّر بهما ‪ ،‬بل و ِ‬
‫دما ً ‪،‬‬ ‫مق ّ‬‫بدا دائما ً سالما ً ‪ .‬وكأنه تخّيل كل إمكانية ُ‬
‫م عميق ‪،‬‬ ‫ولذلك لم ُيفاجأ بما حدث ‪ .‬كان تشاؤ ٌ‬
‫صل فيه ‪،‬‬ ‫مر ‪ ،‬ومتناغم تماما ً مع الحقائق ‪ ،‬متأ ّ‬ ‫مد ّ‬ ‫و ُ‬
‫إلى درجة أنه في الواقع جعله مرحا ً ‪.‬‬
‫كانت فيكتوريا تطلب مني مرة أو مرتين في‬
‫ن أصطحب بوريس ستيبانوفيتش في‬ ‫السبوع أ ْ‬
‫جولته في أرجاء المدينة – " جولت البيع والشراء "‬
‫ت قادرة‬ ‫ميها ‪ .‬وهذا ل يعني أني كن ُ‬ ‫‪ ،‬كما كان ُيس ّ‬
‫ت دائما ً أسعد‬ ‫على مساعدته كثيرا ً ‪ ،‬ولكن كن ُ‬

‫‪172‬‬
‫بفرصة ترك العمل ‪ ،‬حتى ولو فقط لبضع ساعات ‪.‬‬
‫ن فيكتوريا فهمت هذا ‪ ،‬وكانت حريصة على‬ ‫وأعتقد أ ّ‬
‫ت‬‫ي مزاجي كئيبا ً ‪ ،‬وبقي ُ‬ ‫ي كثيرا ً ‪ .‬وبق َ‬
‫أل تضغط عل ّ‬
‫ب بسهولة‬ ‫شة – أضطر ُ‬ ‫في الغالب في حالة ذهنية ه ّ‬
‫ح نكدة وصموتا ً دون أي سبب ظاهر ‪ .‬ربما‬ ‫‪ ،‬وأصب ُ‬
‫ت‬‫ل بوريس ستيبانوفيتش دواءً ناجعا ً لي ‪ ،‬وبدأ ُ‬ ‫شك ّ َ‬
‫أترّقب موعد جولتنا الصغيرة بوصفها فترات‬
‫استراحة من رتابة أفكاري ‪.‬‬
‫لم أكن أبدا ً طرفا ً في جولت شراء بوريس‬
‫)حيث كان يجد الطعام اللزم لمنزل ووبرن وينجح‬
‫في تحديد الشياء التي طلبناها منه( ‪ ،‬ولكني غالبا ً‬
‫ت أخدمه أثناء قيامه ببيع الشياء التي انتقتها‬ ‫ما كن ُ‬
‫ولها إلى نقد ‪ .‬كان يأخذ عشرة‬ ‫فيكتوريا لكي يح ّ‬
‫بالمائة من تلك الصفقات ‪ ،‬ولكن إذا شاهدته وهو‬
‫يعمل لظننت أنه يعمل حصرا ً لصالح نفسه ‪ .‬لقد‬
‫جعل بوريس لنفسه قانونا ً وهو أل يلجأ إلى وكالة‬
‫النعاش نفسها أكثر من مرة واحدة في الشهر ‪.‬‬
‫ونتيجة لذلك ‪ ،‬تجولنا واسعا ً في أرجاء المدينة ‪ ،‬في‬
‫كل مرة ننطلق في جهة ‪ ،‬غالبا ً نجوب مناطق لم‬
‫أشاهدها قبل ذلك ‪ .‬كان بوريس يمتلك سيارة ذات‬
‫ن‬
‫يوم – سيارة شتوتس بيركات ‪ ،‬كما اّدعى – ولك ّ‬
‫حالة الشوارع أصبح ل يمكن العتماد عليها بالنسبة‬
‫ي ‪ ،‬وأصبح بعد ذلك يقوم بتنقلته سيرا ً على‬ ‫إل ّ‬
‫قدميه ‪ .‬يتأّبط الغرض الذي أعطته فيكتوريا إياه ‪،‬‬
‫ويرتجل دروبا ً ونحن نواصل السير ‪ ،‬ودائما ً يحرص‬
‫على تجّنب الحشود ‪ .‬كان يأخذني خلل أزقة خلفّية‬
‫وممرات منبوذة ‪ ،‬نطأ بأناقة الرصفة التالفة ‪ ،‬نجتاز‬
‫شراك ‪ ،‬وهو يميل تارة‬ ‫عددا ً كبيرا ً من المخاطر وال ِ‬
‫ن يكسر ولو‬ ‫نحو يمينه ‪ ،‬وأخرى نحو يساره ‪ ،‬دون أ ْ‬

‫‪173‬‬
‫مرة واحدة إيقاع خطاه ‪ .‬كان يتنّقل برشاقة‬
‫مدهشة بالنسبة إلى رجل في مثل ُبنية جسمه ‪،‬‬
‫َ‬
‫ت صعوبة في مواكبة خطوته ‪.‬‬ ‫وكثيرا ً ما وجد ُ‬
‫وُيهمهم بوريس بأغنية لنفسه ‪ ،‬وُيثرثر حول هذا‬
‫ب‬‫ي وأنا أخ ّ‬ ‫الشيء أو ذاك ‪ ،‬هو يرقص بابتهاج عصب ّ‬
‫خلفه ‪ .‬وبدا أنه يعرف كل وكالت النعاش ‪ ،‬وك ٌ‬
‫ل‬
‫ن يقتحم‬ ‫منها كان يستدعي حشد روتين مختلف ‪ :‬كأ ْ‬
‫عين ‪ ،‬أو يتسلل‬ ‫باب أحدها ويدخل مفتوح الذرا َ‬
‫بهدوء إلى أخرى ‪ .‬وكل شخصية لها نقطة ضعفها ‪،‬‬
‫وكان بوريس دائما ً ينقر على الوتر المناسب‬
‫للدخول إلى قلبها ‪ .‬فإذا كانت نقطة ضعف العميل‬
‫هي الطراء ‪ُ ،‬يطريه بوريس ‪ :‬وإذا كان العميل‬
‫مولعا ً باللون الزرق ‪ُ ،‬يعطيه بوريس شيئا ً لونه أزرق‬
‫مق ‪ ،‬وآخرون‬ ‫من ّ‬‫ضل السلوك ال ُ‬
‫‪ .‬البعض كان ُيف ّ‬
‫ن يلعبوا على كونهم أصدقاء حميمين ‪ ،‬بينما‬ ‫يحبون أ ْ‬
‫هناك آخرون تبقى العلقة معهم ضمن نطاق العمل‬
‫صرف ‪ .‬كان بوريس ُيدللهم جميعا ً ‪ ،‬ويكذب من‬ ‫ال ِ‬
‫ن هذا كان‬ ‫بين أسنانه دون أي وازع من ضمير ‪ .‬لك ّ‬
‫فقط جانبا ً من اللعبة ‪ ،‬ولم يكن بوريس يعتقد ولو‬
‫للحظة أنها لعبة ‪ .‬كانت حكاياته منافية للعقل ‪ ،‬لكنه‬
‫كان ُيلّفقها بسرعة كبيرة ‪ ،‬ويخرج بتفاصيل دقيقة ‪،‬‬
‫ويظل يتكّلم بكل اقتناع ‪ ،‬بحيث يصبح من الصعب‬
‫أل تجد نفسك منغمسا ً ‪ .‬فيقول ‪ ،‬مثل ً ‪ " ،‬سيدي‬
‫العزيز الطيب ‪ ،‬انظر بعناية إلى كوب الشاي هذا ‪.‬‬
‫ض عينيك ‪ ،‬وقّربه من‬ ‫احمله بيدك ‪ ،‬إذا شئت ‪ .‬أغم ْ‬
‫شفتيك ‪ ،‬وتخّيل نفسك تشرب الشاي منه – تماما ً‬
‫ت ‪ ،‬في‬ ‫ت قبل إحدى وثلثين عاما ً مض ْ‬ ‫كما فعل ُ‬
‫ت ل أزال‬ ‫غرفة جلوس الكونتيسة أوبلوموف ‪ .‬كن ُ‬
‫يافعا ً في ذلك الوقت ‪ ،‬أدرس الدب في الجامعة ‪،‬‬

‫‪174‬‬
‫ً‬
‫ت هذا ‪ ،‬نحيل ً ووسيما ‪ ،‬وذا رأ ٍ‬
‫س‬ ‫ونحيل ً ‪ ،‬إذا ص ّ‬
‫دق َ‬
‫مجّعد ‪ .‬وكانت الكونتيسة أجمل امرأة‬ ‫من الشعر ال ُ‬
‫في مينسك ‪ ،‬أرملة شابة ذات مفاتن خارقة ‪ .‬وكان‬
‫الكونت ‪ ،‬وريث ثروة أوبلوموف العظيمة ‪ ،‬قد قُت ِ َ‬
‫ل‬
‫في مبارزة – مسألة شرف ‪ ،‬ل مجال لمناقشتها هنا‬
‫ن تتخّيل أثر هذا الرجال المحيطين‬ ‫– وتستطيع أ ْ‬
‫بها ‪ .‬وأصبح المتوددون إليها حشدا ً غفيرا ً ؛ كان‬
‫ن صورة جمال‬ ‫صالونها موضح حسد مينسك كلها ‪ .‬إ ّ‬
‫تلك المرأة ‪ ،‬يا صديقي ‪ ،‬لم تفارق خيالي أبدا ً ‪:‬‬
‫الشعر الحمر البّراق ؛ الصدر البيض ‪ ،‬الجّياش ؛‬
‫والعينان تومضان بالذكاء – ونعم ‪ ،‬لمحة مراِوغة أبدا ً‬
‫خبث ‪ .‬كان ذلك كافيا ً ليدفع إلى الجنون ‪.‬‬ ‫من ال ُ‬
‫شعرا ً‬ ‫وتنافسنا لجتذاب انتباهها ‪ ،‬لقد عبدناها ‪ ،‬كتبنا ِ‬
‫لها ‪ ،‬كنا جميعا ً في حالة حب مسعور ‪ .‬ومع ذلك‬
‫ت أنا ‪ ،‬بوريس ستيبانوفيتش الشاب ‪ ،‬الذي نجح‬ ‫كن ُ‬
‫ك هذا‬ ‫في الفوز بود ّ تلك الغاوية الوحيدة ‪ .‬إنني أخبر َ‬
‫ت كيف كان‬ ‫ضع ‪ .‬ولو رأيتني حينئذٍ ‪ ،‬لفهم َ‬ ‫كله بتوا ُ‬
‫ذلك ممكنا ً ‪ .‬كانت هناك أماكن للقاء في زوايا نائية‬
‫في المدينة ‪ ،‬لقاءات آخر الليل ‪ ،‬زيارات سّرية إلى‬
‫عّليتي )كانت تجتاز الشوارع متخّفية( ‪ ،‬وفصل‬
‫الصيف الطويل ‪ ،‬المنتشي ذاك أمضيته ضيفا ً في‬
‫عزبتها في الريف ‪ .‬وغمرتني الكونتيسة بكرمها –‬
‫ليس فقط بشخصها ‪ ،‬وكان ذلك سيكون كافيا ً ‪،‬‬
‫ف ! – بل بالهدايا التي‬ ‫ك ‪ ،‬بل أكثر من كا ٍ‬ ‫أؤكد ل َ‬
‫جلبتها معها ‪ ،‬والمعاملة اللطيفة الدائمة التي‬
‫ملّبسة‬‫أغدقتني بها ‪ .‬مجلدات أعمال بوشكين ُ‬
‫بالجلد ‪ .‬سماور من الفضة ‪ .‬ساعة من ذهب ‪ .‬أشياء‬
‫دها كلها ‪ .‬من بينها طقم شاي‬ ‫كثيرة ل يمكنني ع ّ‬
‫ص ذات يوم أحد أفراد البلط‬ ‫ممتاز كان يخ ّ‬

‫‪175‬‬
‫الفرنسي )الدوق فانتوماس ‪ ،‬أعتقد( ‪ ،‬لم أستخدمه‬
‫ت به من أجل‬ ‫إل عندما جاءت لزيارتي ‪ ،‬واحتفظ ُ‬
‫تلك المناسبات التي كان شغفها يدفعها إلى قطع‬
‫ي‬
‫مجتاحة بالثلوج وترتمي بين ذراع ّ‬ ‫شوارع مينسك ال ُ‬
‫‪ .‬وا حسرتاه ‪ ،‬ما أقسى الزمن ! لقد عانى ذلك‬
‫ت ‪ ،‬والفناجين‬ ‫صحاف تشّقق ْ‬ ‫در السنين ‪ :‬ال ِ‬ ‫الطقم قَ َ‬
‫ت ‪ ،‬وضاع عالم كامل ‪ .‬ومع هذا ‪ ،‬ورغم ذلك‬ ‫سر ْ‬ ‫تك ّ‬
‫صلة لي بالماضي ‪.‬‬ ‫ي تذكار واحد ‪ ،‬آخر ِ‬ ‫كله ‪ ،‬بق َ‬
‫ت تحمل بيدك ذكرياتي‬ ‫عامله برفق ‪ ،‬يا صديقي ‪ .‬أن َ‬
‫"‬
‫خداع كانت مقدرته على جعل الشياء‬ ‫ن ال ِ‬
‫أعتقد ُ أ ّ‬
‫ج بالحياة ‪ .‬كان بوريس ستيبانوفيتش‬ ‫الخاملة تض ّ‬
‫يقود رجال وكالة النعاش بعيدا ً عن الشياء نفسها ‪،‬‬
‫خلهم بلطف إلى عالم ٍ ل يعود فيه الشيء‬ ‫ُيد ِ‬
‫المعروض للبيع فنجان الشاي بل الكونتيسة‬
‫ن كانت تلك‬ ‫مإ ْ‬ ‫أوبلوموف نفسها ‪ .‬لم يُعد يه ّ‬
‫ن يبدأ صوت بوريس‬ ‫الحكايات صحيحة أم ل ‪ .‬فما أ ْ‬
‫متها ‪.‬‬ ‫بالعمل ‪ ،‬حتى ُيصبح كافيا ً للعبث بالقضية بر ّ‬
‫ل ذلك الصوت كان سلحه المضى ‪ .‬كان يمتلك‬ ‫ولع ّ‬
‫جرس ‪،‬‬ ‫سلسلة من التعديلت الصوتية وأنواعا ً من ال َ‬
‫ة وذهابا ً بين‬‫ل جيئ ً‬ ‫وفي خطاباته كان دائما ً يتنّق ُ‬
‫الصوات القاسية والناعمة ‪ ،‬سامحا ً للكلمات أ ْ‬
‫ن‬
‫ل كثيف ‪،‬‬ ‫ل واب ٍ‬‫ترتفع وتسقط وهي تتدّفق على شك ِ‬
‫معّقد التصميم ‪ ،‬من المقاطع الصوتية ‪ .‬كان بوريس‬ ‫ُ‬
‫ضعيفا ً أمام العبارات المبتذلة والعواطف الدبية ‪،‬‬
‫ولكن على الرغم من اللغة الميتة ‪ ،‬كانت الحكايات‬
‫ج بحيوية رائعة ‪ .‬كان التوزيع هو كل شيء ‪ ،‬ولم‬ ‫تض ّ‬
‫دع ‪.‬‬‫خ َ‬‫س ال ِ‬ ‫يكن بوريس يترّدد في استخدام حتى أخ ّ‬
‫ف دموعا ً حقيقية ‪ .‬وإذا‬ ‫وإذا لزم المر ‪ ،‬قد يزر ُ‬

‫‪176‬‬
‫طم الغرض على الرض ‪.‬‬ ‫ن ُيح ّ‬‫ب المر ‪ ،‬يمكن أ ْ‬ ‫تطل ّ َ‬
‫وذات مرة ‪ ،‬ولكي ُيبرهن عن قناعته بطقم من‬
‫الكؤوس التي تبدو سريعة العطب ‪ ،‬أخذ يقذفها في‬
‫ت دائما ً‬ ‫الهواء ويتلعب بها مدة خمس دقائق ‪ .‬كن ُ‬
‫ل من الحرج من تلك العروض ‪ ،‬ولكن ل‬ ‫أشعر بقلي ٍ‬
‫شك في أنها كانت تنجح ‪ .‬كانت القيمة ُتحددها‬
‫الحاجة والطلب ‪ ،‬قبل أي شيء ‪ ،‬والطلب على‬
‫الثريات الثمينة لم يكن كبيرا ً جدا ً ‪ .‬وحدهم الثرياء‬
‫ن يدفعوا ثمنها –‬‫كان في استطاعتهم أ ْ‬
‫كالمستفيدين من السوق السوداء ‪ ،‬وسماسرة‬
‫النفايات ‪ ،‬وعملء النعاش أنفسهم – وكان بوريس‬
‫سُيخطئ لو أنه أصّر على فائدتها ‪ .‬النقطة كلها هي‬
‫كل رموزا ً‬ ‫أنها كانت كماليات ‪ ،‬يقتنيها المرء لنها تش ّ‬
‫للثراء والقوة ‪ .‬وعلى هذا الساس خرجت حكايات‬
‫الكونتيسة أوبلوموف ودوقات القرن الثامن عشر‬
‫الفرنسيين ‪ .‬وعندما تشتري مزهرية أثرية من‬
‫ك ل تقتني فقط‬ ‫بوريس ستيبانوفيتش ‪ ،‬فإن َ‬
‫مزهرية ‪ ،‬بل تحصل معها على عالم ٍ كامل ‪.‬‬
‫كانت شّقة بوريس تقع في مبنى صغير في جادة‬
‫توركواز ‪ ،‬ل تبعد أكثر من مسيرة عشر دقائق عن‬
‫منزل ووبرن ‪ .‬وبعد إتمام عملنا مع عملء النعاش ‪،‬‬
‫كنا غالبا ً نعود لنحتسي كأسا ً من الشاي ‪ .‬كان‬
‫دم معه‬ ‫بوريس شديد الولع بالشاي ‪ ،‬وعادة كان ُيق ّ‬
‫نوعا ً من المعجنات ‪ -‬وهي أنواع شائنة من محل‬
‫بيت الكعك في جادة ويندسور ‪ :‬فطائر منتفخة‬
‫محّلى بالقرفة ‪ ،‬وإصبعية بالشوكولة‬ ‫بالكريما ‪ ،‬كعك ُ‬
‫‪ ،‬وكلها ابتيعت بأسعار باهظة ‪ .‬ولكن لم يكن في‬
‫استطاعة بوريس مقاومة إغراء تلك الملذات‬
‫ذذ بأكلها ببطء ‪ ،‬وكان مضغه‬ ‫الصغيرة ‪ ،‬وكان يتل ّ‬

‫‪177‬‬
‫مصحوبا ً بهمهمة موسيقية واهية تصدر عن حنجرته ‪،‬‬
‫ضجيج تحتي منتظم يقع ما بين الضحك والتنّهد‬
‫ت أستمتع في جلسات الشاي أيضا ً ‪،‬‬ ‫الطويل ‪ .‬كن ُ‬
‫ليس بسبب الطعمة بقدر ما كان بسبب إصرار‬
‫ن‬
‫بوريس على مشاركتها معي ‪ .‬كان يقول ‪ ،‬إ ّ‬
‫ن‬
‫رفيقتي الرملة الشابة شديدة الضعف ‪ .‬ويجب أ ْ‬
‫عظامها ‪ ،‬وُنعيد التوّرد إلى‬ ‫نضع بعض اللحم على ِ‬
‫ي النسة آّنا بلوم نفسها ‪ .‬كان‬ ‫وجنتيها ‪ ،‬توّرد عين ّ‬
‫ت‬‫ي أل أستمتع بتلك المعاملة ‪ ،‬وأحيانا ً كن ُ‬ ‫صعبا ً عل ّ‬
‫ن كل حماسة بوريس الشديدة ليست أكثر‬ ‫أشعر أ ّ‬
‫من تمثيلية تحزيرية يؤديها لمتعتي ‪ .‬كان يتلّبس ‪،‬‬
‫مهّرج ‪ ،‬النذل والفيلسوف ‪،‬‬ ‫على التوالي ‪ ،‬أدوار ال ُ‬
‫ت أنها أوجه لشخصية‬ ‫ولكن كلما عرفته أكثر ‪ ،‬رأي ُ‬
‫واحدة – يحشد أسلحته المتنوعة في جهد لعادتي‬
‫إلى الحياة ‪ .‬وأصبحنا صديقين حميمين ‪ ،‬وأنا أدين‬
‫مثابر‬ ‫لبوريس بتعاطفه معي ‪ ،‬بالهجوم المراوغ وال ُ‬
‫الذي شّنه على تحصينات حزني ‪.‬‬
‫كانت الشّقة رثة ‪ ،‬من ثلث غرف ‪ ،‬تعيث‬
‫خارية ‪،‬‬ ‫نف ّ‬‫م فيها عبر السنين – أوا ٍ‬ ‫بفوضى ما تراك َ‬
‫ملبس ‪ ،‬حقائب ‪ ،‬ملءات ‪ ،‬سجاد ‪ ،‬وكل صنوف‬
‫سقط المتاع ‪ .‬وفور عودته إلى المنزل ‪ ،‬ينسحب‬
‫بوريس إلى غرفة نومه ‪ ،‬ويخلع بذلته وُيعّلقها بعناية‬
‫في الخزانة ومن ثم يرتدي بنطلونا ً عتيقا ً ‪ ،‬وينتعل‬
‫مام ‪ .‬وهذا الخير كان‬ ‫خّفا ً ‪ ،‬ويضع عليه مبذل الح ّ‬ ‫ِ‬
‫منّفقة‬ ‫ت – حكاية طويلة ُ‬ ‫ض ْ‬
‫ِذكرى وهمية من أيام م َ‬
‫مصنوعة من المخمل الحمر ‪ ،‬مع ياقة من جلد‬
‫القاقوم وأساور أكمام ‪ ،‬وقد أضحى متهّرئا ً تماما ً‬
‫مين وموضع‬ ‫الن ‪ ،‬وفيه ثقوب سّببها العث في الك ُ ّ‬
‫ن بوريس ارتداه مع‬ ‫منتسل على طول الظهر – لك ّ‬ ‫ُ‬

‫‪178‬‬
‫خصلت من‬ ‫ن أعاد ُ‬‫حزمة الريش المعتادة ‪ .‬وبعد أ ْ‬
‫شعره الخفيف إلى الخلف وينضح عنقه بماء‬ ‫َ‬
‫خطى واسعة إلى غرفة الجلوس‬ ‫الكولونيا ‪ ،‬ويخرج ب ُ‬
‫مغبّرة استعدادا ً لشرب الشاي ‪.‬‬ ‫المزدحمة وال ُ‬
‫في الغالب ‪ُ ،‬يمِتعني بسرد حكايات من حياته ‪،‬‬
‫ن أخرى كنا ننظر إلى الشياء‬ ‫ولكن في أحيا ٍ‬
‫المختلفة في الغرفة ونتحدث عنها – صناديق من‬
‫التحف ‪ ،‬كنوز صغيرة غريبة ‪ُ ،‬فتات آلف جولت‬
‫ة بتشكيلته‬ ‫البيع والشراء ‪ .‬كان بوريس فخورا ً خاص ً‬
‫من القبعات التي كان ُيخزنها في صندوق خشبي‬
‫كبير يضعه بجوار النافذة ‪ .‬ول أعلم كم لديه منها‬
‫داخله ‪ ،‬لكنها أعتقد دزينتين أو ثلث ‪ ،‬وربما أكثر ‪.‬‬
‫أحيانا ً ‪ ،‬كان ينتقي اثنتين منها لكي نعتمرهما أثناء‬
‫شرب الشاي ‪ .‬تلك اللعبة كانت تسّليه كثيرا ً ‪،‬‬
‫وأعترف بأني أنا نفسي استمتعت بها ‪ ،‬على الرغم‬
‫من أني أجد صعوبة في شرح السبب ‪ .‬كانت هناك‬
‫قبعات كاوبوي وقبعات دربي ‪ ،‬وطرابيش وخوذات‬
‫الفّلين ‪ ،‬قلنسوات جامعية وقبعات البيريه – كل ما‬
‫ت‬ ‫ن تتخيله من أغطية الرأس ‪ .‬وكلما سأل ُ‬ ‫يمكن أ ْ‬
‫بوريس عن سبب جمعه لها ‪ ،‬يعطيني جوابا ً مختلفا ً ‪.‬‬
‫ن اعتمار القبعات يشكل جزءا ً‬ ‫وذات مرة ‪ ،‬قال إ ّ‬
‫ن‬‫من مذهبه ‪ .‬وفي مناسبة أخرى ‪ ،‬شرح لي قائل ً إ ّ‬
‫ص ذات يوم أحد أقاربه‬ ‫كل قبعة من قبعاته كانت تخ ّ‬
‫وأنه اعتمرها لكي يجتمع مع أرواح الموتى من‬
‫أسلفه ‪ .‬وباعتماره قبعة كان يكتسب المزايا‬
‫الروحية لصاحبها السابق ‪ ،‬كما قال ‪ .‬والصحيح ‪ ،‬هو‬
‫أنه أطلقَ على كل من قبعاته اسما ً ‪ ،‬لكني اعتبر ُ‬
‫ت‬
‫أنها ُتبرُِز مشاعره الخاصة حول القبعات أكثر مما‬
‫تمّثل الشخاص الذين كانوا أحياء فعل ً ‪ .‬الطربوش ‪،‬‬

‫‪179‬‬
‫دربي كانت السير‬ ‫مثل ً ‪ ،‬كان العم عبد الله ‪ .‬وال ِ‬
‫تشارلز ‪ .‬والقلنسوة الجامعية كانت البروفسور‬
‫سولومون ‪ .‬ولكن ‪ ،‬في مناسبة أخرى أيضا ً ‪ ،‬عندما‬
‫ح بوريس قائل ً إّنه‬ ‫ت الموضوع من جديد ‪ ،‬شر َ‬ ‫أثر ُ‬
‫ن يعتمر القبعات لنها تمنع أفكاره من الفرار‬ ‫يحب أ ْ‬
‫من رأسه ‪ .‬فإذا اعتمرناها معا ً أثناء شرب الشاي ‪،‬‬
‫ننخرط في أحاديث أكثر ذكاًء وحماسا ً ‪ .‬قال ‪ ،‬منتقل ً‬
‫ن القبعة تؤّثر على العقل‬ ‫إلى استخدام الفرنسية " إ ّ‬
‫‪7‬‬
‫ت الرأس ‪ ،‬ل تكون الفكرة حمقاء "‬ ‫‪ .‬فإذا حم ْ‬
‫وفي مناسبة واحدة فقط بدا فيها بوريس أنه‬
‫حذ ََره ‪ ،‬وذلك الحديث أذكره جيدا ً ‪،‬‬ ‫يتخّلى عن َ‬
‫الحديث الذي يبرز بحيوية شديدة في ذاكرتي ‪.‬‬
‫كانت ُتمطر بعد ظهيرة ذلك اليوم – يوم كئيب ‪،‬‬
‫ت أضّيع الوقت أكثر من المعتاد ‪،‬‬ ‫منقوع – وأخذ ُ‬
‫ن أغادر دفء الشقة وأعود إلى منزل‬ ‫ةأ ْ‬ ‫كاره ً‬
‫ووبرن ‪ .‬كان بوريس في مزاٍج حزين غريب ‪ ،‬وخلل‬
‫ت أنا التي تقود دفة الحديث ‪.‬‬ ‫معظم الجلسة كن ُ‬ ‫ُ‬
‫معطفي‬ ‫ت أخيرا ً شجاعتي لرتدي ِ‬ ‫وعندما استجمع ُ‬
‫مبلل ‪ ،‬وانعكاس‬ ‫كر رائحة الصوف ال ُ‬ ‫وأودعه )أتذ ّ‬
‫ضوء الشموع على زجاج النافذة ‪ ،‬وحميمّية اللحظة‬
‫ك بوريس بيدي‬ ‫الشبيهة بتجويف مغارة( ‪ ،‬أمس َ‬
‫ي مع‬‫مها بقوة داخل يده ‪ ،‬ورفع بصره إل ّ‬ ‫وض ّ‬
‫مبهمة ‪.‬‬ ‫ابتسامة كئيبة ‪ُ ،‬‬
‫ن تفهمي ‪ ،‬يا عزيزتي ‪ ،‬أنه كله وهم‬ ‫قال " يجب أ ْ‬
‫"‬
‫ت واثقة من أني أفهم ما تعني ‪ ،‬يا بوريس‬ ‫" لس ُ‬
‫"‬
‫س من‬ ‫ي على أسا ٍ‬ ‫" أعني منزل ووبرن ‪ .‬إنه مبن ّ‬
‫الغيوم "‬
‫‪ - 7‬الصل بالفرنسية ‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫" يبدو لي متينا ً بكل معنى الكلمة ‪ .‬أنا موجودة‬
‫هناك في كل يوم ‪ ،‬كما تعلم ‪ ،‬والمنزل لم يتزحزح‬
‫أبدا ً ‪ .‬لم يتمايل قط "‬
‫" الن ‪ ،‬نعم ‪ .‬ولكن انتظري بعض الوقت ‪،‬‬
‫وحينئذ ٍ ستفهمين ما أعني بقولي "‬
‫" كم يبلغ " بعض الوقت " هذا ؟ "‬
‫ن غرف الطابق الخامس‬ ‫" مهما بلغ ‪ .‬إ ّ‬
‫مزدحمة ‪ ،‬كما تعلمين ‪ ،‬وعاجل ً أو آجل ً لن يبقى‬
‫ل منذ الن – وما‬ ‫ن المخزون يق ّ‬ ‫هناك ما ُيباع ‪ .‬إ ّ‬
‫ُيفَقد ‪ ،‬ل يمكن استعادته "‬
‫ن كل شيء ينتهي ‪،‬‬ ‫" هل الوضع بهذا السوء ؟ إ ّ‬
‫ن يكون الحال‬ ‫يا بوريس ‪ .‬ل أفهم لماذا ينبغي أ ْ‬
‫مختلفا ً بالنسبة إلى منزل ووبرن "‬
‫ك ‪ .‬ولكن ماذا‬ ‫" ل ضير في قول هذا بالنسبة إلي ِ‬
‫عن المسكينة فيكتوريا ؟ "‬
‫ت‬‫كر ْ‬ ‫" فيكتوريا ليست غبية ‪ .‬أنا واثقة من أنها ف ّ‬
‫في هذه المور "‬
‫" وفيكتوريا عنيدة أيضا ً ‪ .‬سوف تصمد حتى ين َُفق‬
‫آخر غلوت ‪ ،‬وعندئذ ٍ لن تكون أفضل حال ً من‬
‫ن تساعدهم "‬ ‫الشخاص الذين كانت تحاول أ ْ‬
‫" أليس هذا عملها ؟ "‬
‫ن أعتني بها ‪ ،‬ول‬ ‫ت والدها بأ ّ‬ ‫" نعم ول ‪ .‬لقد وعد ُ‬
‫ك رأيتها عندما كانت‬ ‫ن أنقض وعدي ‪ .‬ليت ِ‬ ‫أنوي أ ْ‬
‫شابة – قبل سنين عديدة ‪ ،‬قبل النهيار ‪ .‬كانت غاية‬
‫كر في‬ ‫ن أف ّ‬‫ذبني أ ْ‬ ‫في الجمال ‪ ،‬وممتلئة بالحياة ‪ .‬وُيع ّ‬
‫ن يحدث لها كل ما هو سيء "‬ ‫أّنه يمكن أ ْ‬
‫ك تبدو‬‫" إنني مندهشة منك ‪ ،‬يا بوريس ‪ .‬إن َ‬
‫ي عفن "‬ ‫كعاطف ّ‬

‫‪181‬‬
‫" أخشى أننا جميعا ً نتكّلم بلغة الشباح ‪ .‬لقد‬
‫دني‬‫ب بخط اليد على الجدار ‪ ،‬ولم يم ّ‬ ‫ت ما ك ُت ِ َ‬ ‫قرأ ُ‬
‫ن موارد منزل‬ ‫شيء مما جاء فيه بالشجاعة ‪ .‬إ ّ‬
‫ووبرن سوف تنفد ‪ .‬أنا لديّ موارد إضافية في هذه‬
‫الشقة ‪ ،‬طبعا ً " – وهنا قام بوريس بحركة إيماء‬
‫ت أغراض الغرفة كلها – " ولكن حتى‬ ‫مسح شمل ْ‬
‫هذه سوف تنفد سريعا ً ‪ .‬وإذا لم نباشر بالنظر إلى‬
‫ي منا "‬
‫المام ‪ ،‬لن يتبقّ هناك أي مستقبل ل ٍ‬
‫ن تقول ؟ "‬ ‫" ماذا تحاول أ ْ‬
‫" نضع خططا ً ‪ .‬نأخذ المكانات في حسباننا ‪.‬‬
‫نعمل "‬
‫ن تجاريك ؟ "‬ ‫" وتتوّقع من فيكتوريا أ ْ‬
‫ت إلى جانبي ‪،‬‬ ‫" ليس بالضرورة ‪ .‬ولكن إذا وقف ِ‬
‫ل ستكون هناك فرصة "‬ ‫على الق ّ‬
‫ن‬
‫ك إلى العتقاد بأّني أستطيع أ ْ‬ ‫" ما الذي يدفع َ‬
‫أمارس أي تأثير عليها ؟ "‬
‫" عيناي في رأسي ‪ .‬أنا أرى ما ستفعلين هناك ‪،‬‬
‫ن فيكتوريا لم تستجب لي شخص كما‬ ‫يا أّنا ‪ .‬إ ّ‬
‫ك"‬‫متّيمة ب ِ‬‫تستجيب إليك ‪ .‬إنها ُ‬
‫" نحن مجرد صديقتين "‬
‫" بل أكثر من هذا ‪ ،‬يا عزيزتي ‪ .‬أكثر بكثير "‬
‫ما تتحدث "‬ ‫" ل أفهم ع ّ‬
‫" ستفهمين ‪ .‬عاجل ً أو آجل ً ‪ ،‬ستفهمين كل كلمة‬
‫قلتها ‪ .‬أنا أضمن هذا "‬

‫كان بوريس على حق ‪ .‬ففي نهاية المطاف ‪،‬‬


‫فهمت ‪ .‬في نهاية المطاف ‪ ،‬كل المور التي كانت‬
‫ت ‪ .‬ولكن استغرقَ مني‬‫ن تحدث ‪ ،‬حدث ْ‬ ‫توشك أ ْ‬
‫ك ذلك وقتا ً طويل ً ‪ .‬في الحقيقة ‪ ،‬لم أدركه إل‬‫إدرا ُ‬

‫‪182‬‬
‫عذره ‪ ،‬إذا‬ ‫ن لع ّ‬
‫ل لهذا ُ‬ ‫ن صدمني مباشرة – ولك ْ‬ ‫بعد أ ْ‬
‫أخذنا في العتبار أني أشد ّ الناس قاطبة جهل ً ‪.‬‬
‫ن‬‫م هنا ‪ ،‬لك ّ‬‫ت أتلعث ُ‬ ‫م أني بدأ ُ‬ ‫ملني ‪ .‬أعل ُ‬ ‫تح ّ‬
‫الكلمات ل تردني بسرعة لعّبر عما أريد قوله ‪.‬‬
‫ور كيف كانت المور بالنسبة‬ ‫ن تتص ّ‬ ‫ن تحاول أ ْ‬ ‫يجب أ ْ‬
‫إلينا حينئذٍ – الحساس بالجل يرزح بثقله علينا ‪،‬‬
‫ن‬
‫م في كل لحظة ‪ .‬إ ّ‬ ‫والجو غير الواقعي الذي ُيخي ّ ُ‬
‫سحاقّية هو مجرد اصطلح سريري ‪ ،‬ول‬ ‫النزعة ال ُ‬
‫ف الوقائع ‪ .‬ففيكتوريا وأنا لم ُنصبح زوجا ً‬ ‫ص ُ‬‫ُين ِ‬
‫ت‬‫بالمعنى العتيادي للكلمة ‪ .‬بالحرى ‪ ،‬لقد أصبح ْ‬
‫ل منا‬ ‫ل منا ملذا ً للخرى ‪ ،‬المكان الذي تلجأ إليه ك ٌ‬ ‫ك ٌ‬
‫لتجد الراحة والعزلة ‪ .‬وعلى المدى الطويل ‪ ،‬كان‬
‫ل أهمية فيه ‪ .‬فالجسد مجرد‬ ‫الجنس الجزء الق ّ‬
‫جسد ‪ ،‬قبل أي شيء ‪ ،‬ول يكاد يبدو هاما ً ما إذا‬
‫ص رجل ً أم امرأة ‪ .‬كان‬ ‫كانت اليد التي تلمسك تخ ّ‬
‫اجتماعي بفيكتوريا يمنحني متعة ‪ ،‬ولكنه أيضا ً‬
‫منحني الشجاعة على العيش في الحاضر من‬
‫عد أنظر‬ ‫جديد ‪ .‬ذلك كان الشيء الكثر أهمية ‪ .‬لم أ ُ‬
‫ن هذا‬ ‫إلى الوراء طوال الوقت ‪ ،‬وشيئا ً فشيئا ً بدا أ ّ‬
‫شفاء بعض الجراح التي ل ُتحصى‬ ‫يعمل على ِ‬
‫وحملُتها داخلي ‪ .‬لم أعد متكاملة كما كنت ‪ ،‬ولكن‬
‫عد أكره حياتي ‪ .‬لقد أحّبتني امرأةٌ ‪،‬‬ ‫ل لم أ ُ‬ ‫على الق ّ‬
‫ن أحبها ‪ .‬أنا ل‬ ‫ن في مقدوري أ ْ‬ ‫تأ ّ‬ ‫ومن ثم اكتشف ُ‬
‫ن تتقّبله‬ ‫ن تتفّهم هذا ‪ ،‬بل فقط أ ْ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ب من َ‬ ‫أطل ُ‬
‫كحقيقة ‪ .‬في حياتي الكثير من المور التي أندم‬
‫ن هذا ليس أحدها ‪.‬‬ ‫عليها ‪ ،‬ولك ْ‬
‫بدأ المر مع نهاية فصل الصيف ‪ ،‬بعد وصولي‬
‫ت‬ ‫إلى منزل ووبرن بثلثة أشهر أو أربعة ‪ .‬جاء ْ‬
‫فيكتوريا إلى غرفتي لكي ُتجري معي واحدا ً من‬

‫‪183‬‬
‫ت شديدة‬ ‫أحاديث آخر الليل ‪ ،‬وأذكُر أني كن ُ‬
‫الرهاق ‪ ،‬وأشعر بألم ٍ في أسفل عنقي وبأني أشد ّ‬
‫ك ظهري بطريقة‬ ‫اّتكال ً من ذي قبل ‪ .‬أخذت تدل ّ ُ‬
‫وّدية ‪ ،‬في محاولة لزالة التوتر عن عضلتي ‪ ،‬تفعل‬
‫ن‬‫الشيء الخوي نفسه الذي يمكن لي شخص أ ْ‬
‫يفعله في مثل تلك الظروف ‪ .‬ولكن لم يكن أحد قد‬
‫لمسني منذ أشهر – منذ الليلة الخيرة التي أمضيتها‬
‫ت‬ ‫ت أنسى متعة التدليك هكذا ‪ .‬ظل ّ ْ‬ ‫مع سام – وكد ُ‬
‫فيكتوريا ُتحّرك يديها أعلى عمودي الفقري‬
‫وأسفله ‪ ،‬وأخيرا ً أدخلتهما تحت قميصي ‪ ،‬واضع ً‬
‫ة‬
‫أصابعها على بشرتي العارية ‪ .‬كان ذلك شيئا ً غير‬
‫ت أطفو من‬ ‫عادي يحدث معي ‪ ،‬وسرعان ما بدأ ُ‬
‫ن‬
‫ن جسمي يوشك أ ْ‬ ‫شدة الستمتاع ‪ ،‬شاعرة كأ ّ‬
‫ن أيا ً منا كانت‬ ‫يتداعى ‪ .‬ولكن حتى عندئذٍ ل أعتقد أ ّ‬
‫تعرف ما الذي سيحدث ‪ .‬كانت عملية بطيئة ‪،‬‬
‫ف‬ ‫ت بالتواء من مرحلة إلى مرحلة دون هد ٍ‬ ‫وتن ٌّقل ْ‬
‫ي‪،‬‬ ‫دد ‪ .‬وعند نقطة ما انزلقَ الغطاء عن ساق ّ‬ ‫مح ّ‬ ‫ُ‬
‫فلم أزعج نفسي بإعادته إلى موضعه ‪ .‬وأخذت يدا‬
‫فيكتوريا تتسلل إلى مساحات أوسع من جسمي ‪،‬‬
‫ي‬
‫ي وتتجولن أسفل خاصرت ّ‬ ‫ي وردف ّ‬ ‫بما فيها ساق ّ‬
‫ي ‪ ،‬وأخيرا ً لم يبقَ مكان‬ ‫وترتفعان على طول كتف ّ‬
‫ت على ظهري ‪،‬‬ ‫في جسمي لم تلمسه ‪ .‬ثم انقلب ُ‬
‫ومالت فيكتوريا فوقي ‪ ،‬وهي عارية من تحت مبذل‬
‫ل وبارز من الفتحة ‪.‬‬ ‫الستحمام ‪ ،‬وأحد ثدييها متد ٍ‬
‫ت جميلة جدا ً ‪ .‬أعتقد أني أريد أ ْ‬
‫ن‬ ‫ت لها ‪ ،‬أن ِ‬ ‫قل ُ‬
‫ت أقّبل‬‫ت قليل ً في جلستي وبدأ ُ‬ ‫أموت ‪ .‬اعتدل ُ‬
‫ثديها ‪ ،‬ذلك الثدي المدّور والجميل الذي كان أضخم‬
‫ل الهالة الناعمة السمراء ‪،‬‬ ‫بكثير من ثديي ‪ ،‬وأقب ّ ُ‬
‫ك لساني على طول الخط المعترض للوردة‬ ‫وأحّر ُ‬

‫‪184‬‬
‫الزرقاء التي تبرز مباشرة من تحت الجلد ‪ ,‬بدا لي‬
‫شيئا ً خطرا ً وصادما ً ‪ ،‬وللوهلة الولى أو نحوها‬
‫ت برغبة ل يمكن العثور عليها إل‬ ‫ت أني تعّثر ُ‬ ‫شعر ُ‬
‫دم طويل ً ‪،‬‬ ‫ن ذلك الشعور لم ي ُ‬ ‫في ظلم الحلم – لك ّ‬
‫ت نفسي على سجيتها ‪ ،‬واستسلمت‬ ‫وبعد ذلك ترك ُ‬
‫لها كليا ً ‪.‬‬
‫استمررنا في النوم معا ً على مدى السابيع‬
‫ت أشعُر بألفة هناك ‪ .‬لقد‬ ‫القليلة التالية ‪ ،‬وأخيرا ً بدأ ُ‬
‫ف‬
‫كانت طبيعة العمل في منزل ووبرن ُتضعِ ُ‬
‫مد عليه ‪ ،‬وبل‬ ‫المعنويات بدون وجود شخص ُيعت َ َ‬
‫س‬
‫ن دائم تستقّر فيه المشاعر ‪ .‬لقد جاء أنا ٌ‬ ‫مكا ٍ‬
‫ت بنا حيوات كثيرة جدا ً‬ ‫كثيرون ورحلوا ‪ ،‬ومّر ْ‬
‫ن تبدأ بالتعّرف على شخص ‪ ،‬حتى‬ ‫ورحلت ‪ ،‬وما إ ْ‬
‫تراه يحزم أمتعته ويرحل ‪ .‬ثم يأتي آخر ‪ ،‬وينام في‬
‫السرير الذي كان يشغله الول ‪ ،‬ويجلس على‬
‫الكرسي نفسه ‪ ،‬ويمشي على البقعة ذاتها من‬
‫الرض ‪ ،‬ومن ثم يحين وقت رحيل ذلك الشخص ‪،‬‬
‫ويتكّرر المر من جديد ‪ .‬وفي مقابل ذلك ‪ ،‬كانت‬
‫فيكتوريا وأنا نعيش إحدانا من أجل الخرى – على‬
‫السّراء والضّراء ‪ ،‬كما كنا نقول – وكان هذا هو‬
‫الشيء الوحيد الذي لم يتغّير ‪ ،‬على الرغم من‬
‫التغّيرات التي كانت تحدث من حولنا ‪ .‬وبسبب تلك‬
‫ت قادرة على التصاُلح مع العمل ‪،‬‬ ‫العلقة ‪ ،‬أصبح ُ‬
‫دئ على معنوياتي ‪ .‬ثم‬ ‫مه ّ‬
‫وهذا بدوره كان له أثر ُ‬
‫ن نستمر‬ ‫حدثت أموٌر أخرى ‪ ،‬ولم يُعد في إمكاننا أ ْ‬
‫كما كنا ‪ .‬سوف أتحدث عن هذا بعد لحظة ‪ ،‬ولكن‬
‫ن ل شيء تغّير حقا ً ‪ .‬كان الرابط ل يزال‬ ‫المهم هو أ ّ‬
‫موجودا ً ‪ ،‬وتعّلمت إلى البد كم كانت فيكتوريا‬
‫شخصية متمّيزة ‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫كنا في منتصف شهر كانون أول ‪ ،‬مع ظهور أول‬
‫بوادر البرد الحقيقي ‪ .‬لم يكن فصل الشتاء قاسيا ً‬
‫ن يعرف ذلك‬ ‫كسابقه ‪ ،‬ولكن ل أحد كان يمكن أ ْ‬
‫دما ً ‪ .‬وجلب البرد معه كل الذكريات السيئة‬ ‫مق ّ‬
‫ُ‬
‫للسنة المنصرمة ‪ ،‬وكان في المكان الشعور‬
‫بالرعب يتصاعد في الشوارع ‪ ،‬ويأس الناس وهم‬
‫ن يستجمعوا ِقواهم استعدادا ً للهجوم‬ ‫ُيحاولون أ ْ‬
‫المفاجئ ‪ .‬وأصبحت الطوابير أمام منزل ووبرن‬
‫ت خلل الشهر العديدة الخيرة ‪،‬‬ ‫أطول من أي وق ٍ‬
‫ت نفسي أعمل ساعات إضافية للحق بإيقاع‬ ‫ووجد ُ‬
‫التدّفق ‪ .‬في صباح اليوم الذي أتحدث عنه ‪ ،‬أذكر‬
‫ل‬
‫ت عشرة أشخاص أو أحد عشر بتسلس ٍ‬ ‫أني استقبل ُ‬
‫ل مع حكايته الخاصة الرهيبة ‪ .‬أحدهم –‬ ‫سريع ‪ ،‬ك ٌ‬
‫اسمها ميليسا رايلي ‪ ،‬امرأة في نحو الستين من‬
‫ت‬‫العمر – كانت من فرط الضطراب حتى أنها انهار ْ‬
‫ن‬
‫ت بيدي وهي تطلب أ ْ‬ ‫أمامي وهي تبكي ‪ ،‬وتشّبث ْ‬
‫أساعدها في العثور على زوجها الضائع ‪ ،‬الذي كان‬
‫قد خرج في شهر حزيران ولم تسمع عنه أي شيء‬
‫ن افعل ؟ قلت‬ ‫منذ ذلك الوقت ‪ .‬ماذا تتوقعين مني أ ْ‬
‫ن أترك موقعي وأخرج لجوب‬ ‫‪ .‬ل أستطيع أ ْ‬
‫ك ‪ ،‬لديّ الكثير جدا ً من العمل ينتظر‬ ‫الشوارع مع ِ‬
‫ت في إثارة الصخب ‪،‬‬ ‫النجاز هنا ‪ .‬لكنها استمّر ْ‬
‫ووجدتني أثور غضبا ً منها لنها لحوح ‪ .‬قلت ‪،‬‬
‫ت المرأة الوحيدة في هذه المدينة التي‬ ‫انظري ‪ ،‬لس ِ‬
‫ت زوجها ‪ .‬لقد رحل زوجي منذ الفترة التي‬ ‫فقد ْ‬
‫رحل فيها زوجك ‪ .‬وكل ما أعرفه أنه ميت مثل‬
‫زوجك ‪ ،‬ول يهمي هذا ‪ .‬فهل ترينني أبكي وأشد ّ‬
‫ن نواجهه ‪ .‬ثم‬ ‫شعري ؟ إنه وضع علينا جميعا ً أ ْ‬
‫ت نفسي لني تلّفظت بكل تلك التفاهات ‪،‬‬ ‫كره ُ‬

‫‪186‬‬
‫ولنني عاملتها بفظاظة شديدة ‪ ،‬ولكنها كانت تجعل‬
‫كر وهي تثرثر بكلم ٍ هستيري‬ ‫ن أف ّ‬‫يأ ْ‬
‫من الصعب عل ّ‬
‫كك عن السيد رايلي وعن أولدهما ورحلة شهر‬ ‫مف ّ‬‫و ُ‬
‫العسل التي قاما بها قبل سبعةٍ وثلثين عاما ً ‪ .‬أخيرا ً‬
‫ن عاهرة باردة‬ ‫قالت لي ‪ ،‬أنا ل يهمني أمرك ‪ .‬إ ّ‬
‫ك‬‫ن يكون لها زوج ‪ ،‬ويمكن ِ‬ ‫القلب مثلك ل تستحق أ ْ‬
‫ك وتغرزيه بين‬ ‫مرّفه خاصت ِ‬ ‫ن تأخذي منزل ووبرن ال ُ‬ ‫أ ْ‬
‫ت تتكلمين‬ ‫ن الدكتور الطيب سمعك وأن ِ‬ ‫عينيك ‪ .‬لو أ ّ‬
‫ل في قبره ‪ .‬أو شيئا ً كهذا ‪ ،‬على الرغم من‬ ‫‪ ،‬لتملم َ‬
‫ت السيدة‬ ‫كر الكلمات الحرفّية ‪ .‬ثم نهض ْ‬ ‫أني ل أتذ ّ‬
‫ت آخر تعبير‬ ‫ت ونفث ْ‬‫رايلي واقفة على قدميها وغادر ْ‬
‫ت رأسي على‬ ‫ت ‪ ،‬وضع ُ‬ ‫عن السخط ‪ .‬وحالما رحل ْ‬
‫ن لم‬ ‫ي ‪ ،‬وأنا أتساءل إ ْ‬ ‫ت عين ّ‬ ‫حافة المكتب وأغمض ُ‬
‫ن أقابل‬ ‫أكن من شدة الرهاق بحيث ل يمكنني أ ْ‬
‫أناسا ً آخرين في ذلك اليوم ‪ .‬لقد كانت المقابلة‬
‫ت زمام مشاعري ُيفلت‬ ‫مرة ‪ ،‬وغلطتي أني ترك ُ‬ ‫مد ّ‬ ‫ُ‬
‫مبّرر للتنفيس عن‬ ‫عذر لي في ذلك ‪ ،‬ل ٌ‬ ‫مني ‪ .‬ول ُ‬
‫مشاكلي في امرأة عجوز كان جليا ً أنها ل تملك‬
‫كامل قواها العقلية من شدة حزنها ‪ .‬ولبد أني‬
‫ت قليل ً حينئذٍ ‪ ،‬ربما مدة خمس دقائق ‪ ،‬ربما‬ ‫غفو ُ‬
‫ت متأكدة ‪ .‬كل ما‬ ‫لدقيقة واحدة أو اثنتين – لس ُ‬
‫ن مسافة ل متناهية تفصل بين‬ ‫أعرفه هو أّنه بدا كأ ّ‬
‫ي‬
‫تلك اللحظة والتي تليها ‪ ،‬بين لحظة إغماض عين ّ‬
‫ت بصري ‪ ،‬وإذا بسام ٍ ماثل‬ ‫وفتحهما من جديد ‪ .‬رفع ُ‬
‫أمامي ‪ ،‬جالس على الكرسي أمامي لكي ُيجري‬
‫ت أني ل أزال‬ ‫المقابلة التالية ‪ .‬للوهلة الولى حسب ُ‬
‫ت لنفسي ‪ ،‬إنه وهم ‪ .‬إنه خارج من أحد‬ ‫نائمة ‪ .‬قل ُ‬
‫تلك الحلم التي تتخيل فيها نفسك يقظا ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬
‫ت‬
‫اليقظة ليست أكثر من جزء من الحلم ‪ .‬ثم قل ُ‬

‫‪187‬‬
‫ت أنه هو نفسه ول‬ ‫لنفسي ‪ :‬سام – وفي الحال أدرك ُ‬
‫أحد غيره ‪ .‬هذا هو سام ‪ ،‬لكنه أيضا ً ليس سام ‪ .‬هذا‬
‫سام في جسدٍ آخر ‪ ،‬شعره شائب وثمة رضوض‬
‫على جانب وجهه ‪ ،‬وأصابعه سوداء ‪ ،‬ممزقة ‪،‬‬
‫س هناك وفي عينيه نظرة‬ ‫مخّربة ‪ .‬جل َ‬ ‫وملبسه ُ‬
‫شاردة تماما ً ‪ ،‬وميتة – بدا لي كأنه غائص داخل‬
‫ل شيء‬ ‫تك ّ‬ ‫نفسه ‪ ،‬ضائع بكل معنى الكلمة ‪ .‬رأي ُ‬
‫في لمحة سريعة ‪ ،‬في دوامة ‪ ،‬في ومضة ‪ .‬هذا هو‬
‫ت‬‫ي ‪ ،‬لم يعرفني ‪ .‬شعر ُ‬ ‫سام ‪ ،‬لكنه لم يتعّرف عل ّ‬
‫ت أنه‬‫بقلبي يضرب بقوة ‪ ،‬ولبرهة من الزمن ظنن ُ‬
‫ت دمعتان‬ ‫ي ‪ .‬ثم ‪ ،‬وببطٍء شديد ‪ ،‬بدأ ْ‬ ‫سُيغمى عل ّ‬
‫ض على شفته‬ ‫ي سام ‪ .‬كان يع ّ‬ ‫تجريان على وجنت ّ‬
‫السفلى ‪ ،‬وكانت ذقنه ترتعش بحركة ل إرادية ‪.‬‬
‫وفجأةً ‪ ،‬بدأ جسمه كله يهتز ‪ ،‬والهواء ينفث من فمه‬
‫ع‬
‫‪ ،‬والنشيج الذي كان ُيكافح كي ُيبقيه داخله اندف َ‬
‫ح بوجهه بعيدا ً عني ‪ ،‬وهو ل يزال‬ ‫خارجا ً ‪ .‬وأشا َ‬
‫ن النوبات ظلت تنخع‬ ‫ن يكبح نفسه ‪ ،‬لك ّ‬ ‫ُيحاول أ ْ‬
‫جسمه ‪ ،‬وظل الضجيج اللهث ‪ ،‬الخشن ‪ ،‬يفلت من‬
‫ت واقفة عن الكرسي ‪،‬‬ ‫بين شفتيه المغلقتين ‪ .‬نهض ُ‬
‫وأنا أترّنح نحو الجانب الخر من الطاولة ‪ ،‬وأحطته‬
‫ت صوت حفيف‬ ‫ي ‪ .‬وحالما لمسته ‪ ،‬سمع ُ‬ ‫بذراع ّ‬
‫مجّعدة يصدر من معطفه ‪ .‬في اللحظة‬ ‫صحيفة ُ‬
‫ف‬
‫ت أبكي ‪ ،‬ومن ثم لم أعد أستطيع الك ّ‬ ‫التالية ‪ ،‬بدأ ُ‬
‫ت رأسي عميقا ً في‬ ‫دة ‪ ،‬ودفن ُ‬‫ت به بش ّ‬ ‫سك ُ‬ ‫‪ .‬تم ّ‬
‫ف‪.‬‬ ‫قماش معطفه ‪ ،‬ولم أجد سبيل ً إلى الك ّ‬

‫ت أسابيع قبل‬
‫حدث هذا قبل أكثر من عام ‪ .‬ومر ْ‬
‫ف ليتكّلم عن المور‬
‫ن يستعيد سام عافيته بقدر كا ٍ‬
‫أ ْ‬
‫التي وقعت له ‪ ،‬ولكن حتى عندئذ ٍ كانت حكاياته‬

‫‪188‬‬
‫ن‬
‫مبهمة ‪ ،‬مملوءة بالمتناقضات والفراغات ‪ .‬بدا أ ّ‬ ‫ُ‬
‫كل شيء يجري دفعة واحدة ‪ ،‬كما قال ‪ ،‬ووجد َ‬
‫صعوبة في تمييز الخطوط العامة للحداث ‪ ،‬ولم‬
‫كن من فصل يوم عن آخر ‪ .‬تذك َّر أنه كان ينتظر‬ ‫يتم ّ‬
‫حضوري ‪ ،‬وهو جالس في الغرفة حتى الساعة‬
‫السادسة أو السابعة من صباح اليوم التالي ‪ ،‬وأخيرا ً‬
‫خرج ليبحث عني ‪ .‬عندما عاد كان الوقت قد تجاوز‬
‫منتصف الليل ‪ ،‬وفي ذلك الوقت كانت النار قد‬
‫ف بين الحشود التي‬ ‫ت في المكتبة العامة ‪ .‬ووق َ‬ ‫شب ّ ْ‬
‫ت لتتفّرج على النار ‪ ،‬ثم انهاَر السقف أخيرا ً ‪،‬‬ ‫مع ْ‬ ‫تج ّ‬
‫ت كتبنا تحترق مع كل شيء في المبنى ‪.‬‬ ‫وشاهد ُ‬
‫ن يرى المشهد بعين‬ ‫قال إّنه في الواقعَ يستطيع أ ْ‬
‫عقله ‪ ،‬وأنه في الواقع يعرف بدّقة اللحظة التي‬
‫م صفحات المخطوط ‪.‬‬ ‫دخل فيها اللهب غرفتنا والته َ‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬فقد كل شيء هويته ‪ .‬وضعَ نقودا ً في‬
‫جيبه ‪ ،‬وحمل ملبسه على ظهره ‪ ،‬وانطلق ‪.‬‬
‫كر غير البحث‬ ‫وطوال شهرين لم يفعل أي شيء ُيذ َ‬
‫عني – ينام أينما كان ‪ ،‬ويأكل فقط عندما ُيصبح ل‬
‫ح في البقاء‬ ‫مناص من ذلك ‪ .‬وبهذه الطريقة نج َ‬
‫حيا ً ‪ ،‬ولكن مع نهاية فصل الصيف أوشكت نقوده‬
‫على النفاد ‪ .‬والسوأ من ذلك ‪ ،‬كما قال ‪ ،‬أنه تخّلى‬
‫ت ‪ ،‬ولم يعد‬ ‫عن البحث عني ‪ .‬لقد اقتنعَ بأني قد م ّ‬
‫ل زائف ‪ .‬وانسحب إلى‬ ‫مل تعذيب نفسه بأم ٍ‬ ‫يتح ّ‬
‫زاوية من ديوجين ترمينال – محطة القطار‬
‫القديمة في الجزء الشمالي الغربي من‬
‫ش بين المنبوذين والمجانين ‪،‬‬ ‫المدينة – وعا َ‬
‫الشباح التي تجوب الروقة الطويلة وغرف‬
‫النتظار المهجورة ‪ .‬قال ‪ ،‬كان المر أشبه‬
‫ول إلى حيوان ‪ ،‬إلى مخلوق تحت‬ ‫بالتح ّ‬

‫‪189‬‬
‫ي ‪ .‬ومرة أو‬ ‫ت شتو ّ‬ ‫أرضي دخل في سبا ٍ‬
‫مال ً لحمال المنّقبين‬ ‫مرتين في السبوع يعمل ح ّ‬
‫الثقيلة ‪ ،‬يعمل من أجل الجر الزهيد الذي يتلّقاه‬
‫منهم ‪ ،‬ولكن في أغلب الوقت لم يكن يفعل أي‬
‫ن يتزحزح من مكانه إل للضرورة‬ ‫شيء ‪ ،‬رافضا ً أ ْ‬
‫ن أحقق شيئا ً ‪.‬‬ ‫القصوى ‪ .‬قال " تخّليت عن فكرة أ ْ‬
‫ن أقيم في‬ ‫ن أغادر محيطي ‪ ،‬أ ْ‬ ‫أصبح هدف حياتي أ ْ‬
‫صلتي ‪ ،‬واحدا ً بعد‬ ‫ت ِ‬‫مكان ل يؤذيني أحد ‪ .‬وقطع ُ‬
‫ت أحبها ‪.‬‬ ‫آخر ‪ ،‬لكي أتخلى عن كل الشياء التي كن ُ‬
‫ن ُأحقق الل مبالة ‪ ،‬ل‬ ‫وكانت الفكرة هي أ ْ‬
‫و بحيث تحميني ضد‬ ‫مبالة من القوة والسم ّ‬
‫ك ‪ ،‬يا أّنا ؛‬ ‫قي المزيد من العتداءات ‪ .‬وّدعت ِ‬ ‫تل ّ‬
‫ت فكرة العودة إلى الوطن ‪.‬‬ ‫دع ُ‬‫وّدعت الكتاب ؛ و ّ‬
‫ت‬‫ن أوّدع نفسي ‪ .‬وشيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬أصبح ُ‬ ‫تأ ْ‬
‫وحاول ُ‬
‫صافي الذهن كبوذا ‪ ،‬أجلس في زاويتي ل أولي‬
‫العالم من حولي أي انتباه ‪ .‬ولول جسدي –‬
‫المتطلبات العََرضّية لمعدتي ‪ ،‬ولحشائي – لما‬
‫ت ُأرد ّد ُ لنفسي ‪ ،‬ل أريد‬ ‫ت أبدا ً من مكاني ‪ .‬كن ُ‬ ‫تحّرك ُ‬
‫ور‬ ‫شيئا ً ‪ ،‬لن أقتني شيئا ً ‪ ،‬لن أكون شيئا ً ‪ .‬لم أتص ّ‬
‫ت من‬ ‫حل ً أشد مثالّية من ذلك ‪ .‬وفي النهاية ‪ ،‬اقترب ُ‬
‫العيش حياة الحجر "‬
‫منحنا سام الغرفة الكائنة في الطابق الثاني التي‬
‫ت أشغلها ذات يوم ‪ .‬كان في حالةٍ ُيرثى لها ‪،‬‬ ‫كن ُ‬
‫ل كان الوضع دقيقا ً جدا ً ‪.‬‬ ‫وخلل اليام العشرة الوَ ْ‬
‫ت كل وقتي تقريبا ً معه ‪ ،‬أؤدي واجباتي‬ ‫أمضي ُ‬
‫الخرى بأسرع ما يمكن ‪ ،‬ولم تعترض فيكتوريا على‬
‫ذلك ‪ .‬وهذا ما وجدته رائعا ً فيها ‪ .‬ليس فقط لم‬
‫جعتني ‪ .‬كان في‬ ‫تعترض ‪ ،‬بل خرجت عن عادتها وش ّ‬
‫فهمها للوضع شيء خارق ‪ ،‬في مقدرتها على‬

‫‪190‬‬
‫مفاجئة ‪ ،‬العنيفة تقريبا ً ‪ ،‬لسلوبنا‬ ‫استيعاب النهاية ال ُ‬
‫ن ُتكاشفني‬ ‫ت أنتظر منها أ ْ‬ ‫السابق في الحياة ‪ .‬وبقي ُ‬
‫ن‬
‫مظِهرة ً خيبة أمل أو غيرة ‪ ،‬ولك ْ‬ ‫ن تنفجر ُ‬ ‫فجأةً ‪ ،‬أ ْ‬
‫ل شيء من هذا حدث ‪ .‬كان أول رد فعل على الخبر‬
‫ن سام كان ل‬ ‫هو إبداء سعادتها – سعادتها لجلي ‪ ،‬ل ّ‬
‫ت تبذل جهدا ً‬ ‫يزال على قيد الحياة – وبعد ذلك أصبح ْ‬
‫ل عن جهدي كي يستعيد عافيته ‪ .‬لقد‬ ‫حثيثا ً ل يق ّ‬
‫ن‬
‫تأ ّ‬‫ت بخسارة شخصية ‪ ،‬لكنها أيضا ً أدرك ْ‬ ‫مني َ ْ‬
‫ُ‬
‫ل كسبا ً لمنزل ووبرن ‪ .‬ففكرة‬ ‫وجوده هناك مث ّ َ‬
‫ة رجل مثل‬ ‫انضمام رجل إلى الهيئة الدارية ‪ ،‬خاص ً‬
‫سام – لم يكن عجوزا ً مثل فريك ول بطيء الفهم‬
‫هل مثل ويلي – كانت كافية لتصحيح المور‬ ‫وغير مؤ ّ‬
‫ن يكون‬ ‫بالنسبة إليها ‪ .‬هذا التصميم كان يمكن أ ْ‬
‫مخيفا ً ‪ ،‬كما اكتشفت ‪ ،‬ولكن ل شيء كان أه ّ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫بالنسبة إلى فيكتوريا من منزل ووبرن – ول حتى أنا‬
‫‪ ،‬ول حتى هي نفسها ‪ ،‬إذا كان يمكن تخّيل هذا ‪ .‬ل‬
‫ن أفرط في التبسيط ‪ ،‬ولكن مع‬ ‫أريد أ ْ‬
‫ت أشعر بأنها سمحت لي‬ ‫مرور الوقت بدأ ُ‬
‫شفاء ‪.‬‬ ‫ن أقع في حبها لكي أتمكن من ال ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ت بؤرة اهتمامها‬ ‫ت ‪ ،‬نقل ُ‬ ‫ن برأ ُ‬ ‫والن بعد أ ْ‬
‫مني إلى سام ‪ .‬في الواقع لقد كان منزل‬
‫ووبرن هو الحقيقة الوحيدة بالنسبة إليها ‪،‬‬
‫وفي النهاية لم يبق هناك أي شيء أهم منه‬
‫‪.‬‬
‫ل سام إلى الطابق العلوي لُيقيم‬ ‫أخيرا ً ‪ ،‬انتق َ‬
‫معي في الطابق الرابع ‪ .‬وأخذ وزنه يزيد ببطء ‪،‬‬
‫وبدأ ببطء ُيشبه نفسه كما كان ‪ ،‬ولكن بالنسبة إليه‬
‫ن يعود كل شيء إلى سابق‬ ‫لم يكن في المكان أ ْ‬
‫عهده – ليس الن ‪ ،‬أبدا ً ‪ .‬أنا ل أتحدث فقط عن‬

‫‪191‬‬
‫ض قبل‬ ‫ت بجسده – الشعر الذي ابي ّ‬ ‫محن التي نزل ْ‬ ‫ال ِ‬
‫ت ‪ ،‬والرجفة القليلة‬ ‫الوان ‪ ،‬والسنان التي سقط ْ‬
‫ولكن المستمرة في يديه – بل أتحدث عن المور‬
‫الداخلية أيضا ً ‪ .‬فلم يُعد سام ذلك الشاب‬
‫ت معه في المكتبة العامة ‪.‬‬ ‫المتعجرف الذي عش ُ‬
‫لقد تغي َّر بما مّر به من تجارب ‪ ،‬وأصبح متواضعا ً‬
‫تقريبا ً بسببها ‪ ،‬وأصبح لسلوكه الن إيقاع أهدأ ‪،‬‬
‫وأشد صفاًء ‪ .‬أصبح يتحدث على فترات عن العودة‬
‫ت أنه لم يكن‬ ‫إلى تأليف الكتاب ‪ ،‬ولكني رأي ُ‬
‫كل حل ً بالنسبة إليه ‪،‬‬ ‫مسا ً ‪ .‬فلم يُعد الكتاب ُيش ّ‬ ‫متح ّ‬
‫ن ضاع ولوعه ‪ ،‬بدا قادرا ً أكثر على فهم‬ ‫وبعد أ ْ‬
‫ت له ‪ ،‬التي وقعت لنا جميعا ً ‪.‬‬ ‫الحداث التي وقع ْ‬
‫ود‬‫واستعاد َ ِقواه ‪ ،‬وشيئا ً فشيئا ً أخذنا من جديد نتع ّ‬
‫ن علقتنا أصبحت أكثر‬ ‫على بعض ‪ ،‬ولكن بدا لي أ ّ‬
‫ت‬
‫ت قد تغّير ُ‬ ‫ما كانت في السابق ‪ .‬ربما كن ُ‬ ‫توازنا ً ع ّ‬
‫ن الحقيقة هي أني‬ ‫أنا أيضا ً خلل تلك الشهر ‪ ،‬لك ّ‬
‫ي أكثر مما فعل‬ ‫ن سام أصبح يحتاج إل ّ‬ ‫تأ ّ‬ ‫شعر ُ‬
‫ن يحتاج‬ ‫م ْ‬
‫ن هناك َ‬ ‫حينئذٍ ‪ ،‬وأعجبني هذا الحساس بأ ّ‬
‫ي ‪ ،‬أعجبني أكثر من أي شيء آخر في العالم ‪.‬‬ ‫إل ّ‬
‫ت‬‫بدأ بالعمل مع بداية شهر شباط ‪ .‬أول ً ‪ ،‬كن ُ‬
‫معاِرضة تماما ً لمسألة العمل التي نصحته بها‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫ت في المر ملي ّا ‪ ،‬كما قالت ‪،‬‬ ‫كر ْ‬‫فيكتوريا ‪ .‬لقد ف ّ‬
‫ن يخدم مصالح‬ ‫ن سام يمكن أ ْ‬ ‫تأ ّ‬ ‫وفي النهاية رأ ْ‬
‫منزل ووبرن بصورة أفضل إذا أصبح هو الطبيب‬
‫ت " قد تجد هذه فكرة غريبة ‪ ،‬ولكن‬ ‫الجديد ‪ .‬وتابع ْ‬
‫منذ وفاة والدي ‪ ،‬ونحن نتخّبط ‪ .‬لم يُعد المكان‬
‫متماسكا ً ‪ ،‬لم يُعد هناك إحساس بالهدف ‪ .‬إننا نمنح‬
‫الناس المأكل والمأوى لفترة وجيزة من الوقت ‪،‬‬
‫مصّغرا ً من المؤازرة التي‬ ‫وهذا كل شيء – نوعا ً ُ‬

‫‪192‬‬
‫بالكاد تكفي أحدا ً ‪ .‬في الماضي ‪ ،‬كان الناس يأتون‬
‫ن يكونوا بالقرب من والدي ‪ .‬حتى‬ ‫لنهم أرادوا أ ْ‬
‫عندما كان يعجز عن مساعدتهم كطبيب ‪ ،‬كان يتوفر‬
‫ليتكلم معهم وُيصغي إلى مشاكلهم ‪ .‬هذا هو‬
‫سن لمجّرد‬ ‫المهم ‪ .‬لقد جعل الناس يشعرون بتح ّ‬
‫كونه كما كان ‪ .‬لقد كان الناس ُيمنحون طعاما ً ‪،‬‬
‫مِنحوا أمل ً ‪ .‬ولو كان لدينا طبيب آخر‬ ‫ولكنهم أيضا ً ُ‬
‫هنا الن ‪ ،‬لستطعنا ربما القتراب أكثر من روح هذا‬
‫المكان كما كان ذات مرة "‬
‫ن سام ليس طبيبا ً ‪ .‬سيكون ذلك كذبا ً ‪،‬‬ ‫قلت " لك ّ‬
‫ن تساعدي الناس إذا كان‬ ‫ول أفهم كيف تستطيعين أ ْ‬
‫أول ما تفعلينه هو الكذب عليهم "‬
‫كر‬ ‫أجابت فيكتوريا " هذا ليس كذبا ً ؛ إنه عملية تن ّ‬
‫‪ .‬الكذب يكون لسباب أنانية ‪ ،‬ولكن في هذه الحالة‬
‫نحن لن نأخذ أي شيء لنفسنا ؛ إنه للخرين ‪ ،‬هو‬
‫ن سام‬ ‫طريقة لمنحهم أمل ً ‪ .‬وما داموا يعتقدون أ ّ‬
‫طبيب ‪ ،‬سيؤمنون بما يقول "‬
‫ن أحدا ً اكتشف المر ؟ عندئذٍ‬ ‫" ولكن ماذا لو أ ّ‬
‫دقنا أحد بعد ذلك – حتى لو قلنا‬ ‫سننتهي ‪ .‬لن ُيص ّ‬
‫الحقيقة "‬
‫ن يفضح‬ ‫" ل أحد سيكتشفه ‪ .‬ل يمكن لسام أ ْ‬
‫نفسه ‪ ،‬لنه لن ُيمارس الطب ‪ .‬حتى لو أراد ذلك ‪،‬‬
‫لم يتبقّ له طب ُيمارسه ‪ .‬لدينا زجاجتان من‬
‫السبرين ‪ ،‬وصندوق أو اثنين من الضمادات ‪ ،‬وهذا‬
‫كل ما في المر ‪ .‬وكون الدكتور فار أطلقَ على‬
‫نفسه هذا اللقب ل يعني أنه سيقوم بعمل الطبيب ‪.‬‬
‫سوف يتكّلم ‪ ،‬والناس سُيصغون إليه ‪ .‬هذا أقصى ما‬
‫سيفعله ‪ .‬إنها طريقة لمنح الناس فرصة لستمداد‬
‫القوة "‬

‫‪193‬‬
‫ن سام فشل في مهمته ؟ "‬ ‫" ماذا لو أ ّ‬
‫" إذن فقد فشل ‪ .‬لكننا لن نعرف ذلك إل إذا‬
‫قمنا بالمحاولة ‪ ،‬فهل سنفعل ؟ "‬
‫أخيرا ً ‪ ،‬وافقَ سام على خوض التجربة ‪ .‬قال "‬
‫ت مائة عام‬ ‫ما كان هذا ليخطر على بالي ‪ ،‬ولو عش ُ‬
‫كم ‪ ،‬وعلى‬ ‫ن أّنا تجد المَر يدعو إلى الته ّ‬ ‫أخرى ‪ .‬إ ّ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫المدى الطويل أعتقد أنها على حق ‪ .‬ولكن َ‬
‫كم ؟ الناس‬ ‫ن كل الحقائق ل تدعو إلى الته ّ‬ ‫يدري أ ّ‬
‫يموتون هناك ‪ ،‬وسواء أعطيناهم طاسا ً من الحساء‬
‫أو أنقذنا أرواحهم ‪ ،‬فسوف يموتون في كل‬
‫الحوال ‪ .‬إنني ل أجد سبيل ً إلى تفادي هذا ‪ .‬إذا‬
‫ن حصولنا على طبيب زائف‬ ‫كانت فيكتوريا تظن أ ّ‬
‫ن أنا‬ ‫م ْ‬ ‫مطلوب منه الكلم سيسّهل عليهم المر ‪ ،‬ف َ‬
‫ن هذا‬ ‫ك في أ ّ‬ ‫حتى أقول إنها على خطأ ؟ أنا أش ّ‬
‫سيفيد كثيرا ً ‪ ،‬ولكن ل يبدو أنه سيضّر كثيرا ً أيضا ً ‪.‬‬
‫محاولة ‪ ،‬وأنا راغب في خوضها لهذا السبب "‬ ‫إنها ُ‬
‫ن غضبي استمّر‬ ‫م سام على موافقته ‪ ،‬لك ّ‬ ‫لم أل ُ ْ‬
‫ن أراها‬ ‫من فيكتوريا لبعض الوقت ‪ .‬لقد صعقني أ ْ‬
‫كم حول ما هو صحيح وما هو‬ ‫مح َ‬‫صبها بجدال ُ‬ ‫ُتبّرر تع ّ‬
‫كر ‪ ،‬وسيلة ُتبررها‬ ‫مها ما شئت – كذبة ‪ ،‬تن ّ‬ ‫س ّ‬ ‫خطأ ‪َ .‬‬
‫ن هذه الخطة صدمتني بكونها خيانة‬ ‫الغاية – فإ ّ‬
‫ت قد عانيت ما يكفي من وخز‬ ‫لمبادئ والدها ‪ .‬كن ُ‬
‫الضمير بشأن منزل ووبرن حتى ذلك الحين ‪ ،‬وإذا‬
‫كان هنا شيء ساعدني على قبول المكان في‬
‫الصل ‪ ،‬فهو فيكتوريا نفسها ‪ .‬استقامتها ‪ ،‬صفاء‬
‫دوافعها ‪ ،‬والّتقاد الخلقي الذي وجدته فيها – هذه‬
‫ي ‪ ،‬وقد منحتني القوة‬ ‫الشياء كانت قدوة بالنسبة إل ّ‬
‫ن في‬ ‫على الستمرار ‪ .‬والن ‪ ،‬فجأةً ‪ ،‬بدا أ ّ‬
‫مظلما ً لم ألحظه من قبل ‪.‬‬ ‫داخلها عالما ً ُ‬

‫‪194‬‬
‫ت‬‫ب لي خيبة أمل ‪ ،‬وشعر ُ‬ ‫أعتقد أنه سب ّ َ‬
‫وعني أنه‬ ‫لبعض الوقت بكراهية نحوها ‪ ،‬ور ّ‬
‫ح أنها تشبه أي شخص آخر ‪ .‬ولكن بعد‬ ‫اّتض َ‬
‫ت أفهم الوضع بجلء أكثر ‪،‬‬ ‫ذلك ‪ ،‬عندما بدأ ُ‬
‫ت فيكتوريا في إخفاء‬ ‫ب غضبي ‪ .‬ونجح ْ‬ ‫ذه َ‬
‫ن منزل‬ ‫ن الحقيقة كانت أ ّ‬ ‫الحقيقة عني ‪ ،‬لك ّ‬
‫ووبرن كان على حافة الغرق ‪ .‬وبالنسبة‬
‫كر أكثر من‬ ‫إلى سام لم تكن عملية التن ّ‬
‫محاولة لنقاذ شيء من الدمار ‪ ،‬مقطعا ً‬
‫م إلى‬ ‫ختاميا ً صغيرا ً غريب الشكل ي ُ َ‬
‫ض ّ‬
‫مقطوعة موسيقية انتهى عزفها أصل ً ‪ .‬كان‬
‫كل شيء قد انتهى ‪ .‬كل ما في المر هو‬
‫ت ذلك بعد ‪.‬‬ ‫أني لم أكن قد أدرك ُ‬

‫ن سام قد نجح في أداء دوره‬ ‫المفارقة كانت أ ّ‬


‫كطبيب ‪ .‬كانت عناصر الدعم اللزم حاضرة لجله –‬
‫ماعة ‪،‬‬‫المعطف البيض ‪ ،‬والحقيبة السوداء ‪ ،‬والس ّ‬
‫م‬
‫وميزان الحرارة – وقد استعان بها لعطاء الثر التا ّ‬
‫‪ .‬ول ريب في أنه بدا أشبه بطبيب ‪ ،‬ولكن بعد قليل‬
‫بدأ يتصّرف كطبيب ‪ ،‬أيضا ً ‪ .‬ذلك كان الجزء الذي ل‬
‫ت أتذمر من ذلك‬ ‫دق من المر ‪ .‬أول ً ‪ ،‬كن ُ‬ ‫ُيص ّ‬
‫ن فيكتوريا‬ ‫ول ‪ ،‬ولم أرغب في العتراف بأ ّ‬ ‫التح ّ‬
‫كانت على صواب ؛ ولكن في نهاية المطاف كان‬
‫ن أرضخ للوقائع ‪ .‬لقد تجاوب الناس‬ ‫لبد لي من أ ْ‬
‫مع سام ‪ .‬كانت لديه طريقة في الصغاء إليهم‬
‫جعلتهم يرغبون في الكلم ‪ ،‬وكانت الكلمات تتدفق‬
‫ن‬
‫من أفواههم حالما يجلس معهم ‪ .‬ولشك في أ ْ‬
‫التدريب الذي تلّقاه ليكون صحفيا ً قد أعانه في ذلك‬
‫ب ُبعدا ً إضافيا ً هو الوقار ‪،‬‬
‫كله ‪ ،‬أما الن فقد تشّر َ‬

‫‪195‬‬
‫ن الناس وثقوا بتلك‬ ‫شخصية النسان الخّير ‪ ،‬ول ّ‬
‫ن سمعها‬ ‫الشخصية ‪ ،‬أخبروه بأشياء لم يسبق له أ ْ‬
‫من أي شخص ‪ .‬وكأنه كان كاهن العتراف ‪ ،‬كما‬
‫ح يستحسن الخير الذي ينتج‬ ‫قال ‪ ،‬وشيئا ً فشيئا ً أصب َ‬
‫عندما سمح له الناس بإزاحة العبء الذي ُيثقل‬
‫كواهلهم – الثر المفيد لُنطق الكلم ‪ ،‬لتحرير‬
‫الكلمات التي تحكي حكاية ما حدث لهم ‪ .‬وأعتقد‬
‫ن سام نجح‬ ‫ن الغواء كان البدء باليمان بالدور ‪ ،‬لك ّ‬ ‫أ ّ‬
‫في البقاء على مسافةٍ منه ‪ .‬وكان يمزح حول المر‬
‫ة ‪ ،‬وأخيرا ً خرج بمجموعة من السماء ُيطلقها‬ ‫خفي ً‬‫ِ‬
‫على نفسه – دكتور شامويل فار ‪ ،‬دكتور‬
‫ن تحت‬ ‫تأ ّ‬ ‫كواكنشام ‪ ،‬دكتور بنك ‪ .‬ولكني شعر ُ‬
‫ن المنصب عنى له أكثر مما رغب في‬ ‫ذلك الهزل أ ّ‬
‫البوح به ‪ .‬لقد منحة مظهر الطبيب فجأةً مدخل ً إلى‬
‫الفكار الحميمة للخرين ‪ ،‬وتلك الفكار أضحت الن‬
‫جزءا ً من شخصيته ‪ .‬وأصبح عالمه الداخلي أكبر ‪،‬‬
‫وأصلب ‪ ،‬وأكثر قدرة على استيعاب الشياء التي‬
‫سن أل‬ ‫توضع فيه ‪ .‬وذات مرة قال لي " ُيستح َ‬
‫أكون نفسي ‪ .‬لو لم أحصل على ذلك‬
‫الشخص الخر لختبئ وراءه – الذي يرتدي‬
‫المعطف البيض والنظرة المتعاطفة على‬
‫ن‬
‫ن في استطاعتي أ ْ‬ ‫وجهه – ل أعتقد أ ّ‬
‫طمني الحكايات ‪.‬‬ ‫أتحمل هذا ‪ .‬سوف ُتح ّ‬
‫ي الن طريقة‬ ‫وواقع الحال أّنه أصبح لد ّ‬
‫ن أضعها‬ ‫خاصة في الصغاء إليها ‪ ،‬وهي أ ْ‬
‫في المكان المناسب لها – بجوار قصتي‬
‫الخاصة ‪ ،‬بجوار قصة النفس التي لم أعد‬
‫ت أصغي إليهم "‬ ‫أملكها ما دم ُ‬

‫‪196‬‬
‫ل فصل الربيع باكرا ً ‪ ،‬وبحلول‬ ‫في ذلك العام ح ّ‬
‫منتصف شهر آذار كانت أزهار الزعفران تتفتح في‬
‫الحديقة الخلفية – سيقان صفراء وقرمزية تنبت من‬
‫الحواف المعشوشبة ‪ ،‬الخضر النضر ممزوج ببرك‬
‫من الطين الجاف ‪ .‬حتى الليالي كانت دافئة حينئذ ٍ ‪،‬‬
‫شى قليل ً حول المكان‬ ‫وأحيانا ً كنا سام وأنا نتم ّ‬
‫ن نأوي إلى الفراش ‪ .‬كان ممتعا ً‬ ‫مسّيج قبل أ ْ‬ ‫ال ُ‬
‫معتمة‬ ‫الخروج خلل تلك اللحظات ‪ ،‬ونوافذ المنزل ُ‬
‫خلفنا ‪ ،‬والنجوم تحترق بوهن فوقنا ‪ .‬وكلما قمنا‬
‫ت أشعر بأني أحبه من‬ ‫بتلك الجولت الصغيرة ‪ ،‬كن ُ‬
‫ت أحبه في ذلك الظلم ‪،‬‬ ‫جديد ‪ ،‬في كل مرة كن ُ‬
‫كر كيف كان حالنا في البداية ‪،‬‬ ‫ث بذراعه وأتذ ّ‬ ‫وأتشب ّ ُ‬
‫في اليام الخوالي خلل الشتاء الرهيب ‪ ،‬عندما‬
‫أقمنا في المكتبة العامة وكنا في كل ليلة نطل من‬
‫النافذة ذات الطار الكبير ‪ ،‬الشبيه بالمروحة ‪ .‬ولم‬
‫دث عن المستقبل ‪ .‬لم نضع خططا ً أو‬ ‫نعد نتح ّ‬
‫نتحدث عن العودة إلى الوطن ‪ .‬لقد استهل َ َ‬
‫كنا‬
‫الحاضر بشكل كامل ‪ ،‬وبوجود كل ذلك العمل الذي‬
‫ينتظر النجاز في كل يوم ‪ ،‬بكل الرهاق الذي يليه ‪،‬‬
‫لم يكن هناك وقت للتفكير في أي شيٍء آخر ‪ .‬كان‬
‫ن هذا لم‬ ‫ن مخيف في هذه الحياة ‪ ،‬لك ّ‬ ‫هناك تواز ٌ‬
‫ت أشعر بأني‬ ‫يجعلها بالضرورة سيئة ‪ ،‬وأحيانا ً كن ُ‬
‫مجاراة الشياء كما‬ ‫تقريبا ً سعيدة بعيشي هناك ‪ ،‬ب ُ‬
‫هي ‪.‬‬
‫ن تستمر ‪.‬‬ ‫تلك الشياء ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬ما كان يمكن أ ْ‬
‫هما ً ‪ ،‬كما قال بوريس ستيبانوفيتش ذات‬ ‫لقد كانت و ْ‬
‫ن يوِقف التغيرات من‬ ‫يوم ‪ ،‬ول شيء يمكنه أ ْ‬
‫الحدوث ‪ .‬ومع نهاية شهر نيسان ‪ ،‬بدأنا نشعر‬
‫ت لنا جلّية‬ ‫ح ْ‬ ‫ت فيكتوريا وشر َ‬ ‫بالضيق ‪ .‬وأخيرا ً انهار ْ‬

‫‪197‬‬
‫ت إجراءات القتصاد الضرورية‬ ‫الوضع ‪ ،‬وعندئذ ٍ ‪ ،‬بدأ ْ‬
‫ُتطّبق واحدا ً إثر آخر ‪ .‬أول ً كانت جولت أيام الربعاء‬
‫تتم ‪ .‬وقّررنا أنه ل داعي لنفاق النقود على السيارة‬
‫مكِلفا ً فوق طاقتنا ‪ ،‬وكان هناك ما‬ ‫‪ .‬لقد كان الوقود ُ‬
‫يكفي من الناس ينتظروننا عند الباب ‪ .‬ول داعي‬
‫للخروج والبحث عنهم ‪ ،‬كما قالت فيكتوريا ‪ ،‬ول‬
‫ض على ذلك ‪ .‬وبعد ظهيرة ذلك‬ ‫حتى فريك اعتر َ‬
‫اليوم ‪ ،‬قمنا بآخر دورة في أرجاء المدينة – قاد‬
‫ت مع‬ ‫فريك السيارة وجلس ويلي إلى جانبه ‪ ،‬وجلس ُ‬
‫سام في الخلف ‪ .‬اخترقنا الجادات المحيطية ‪ ،‬وكنا‬
‫نغوص أحيانا ً في هذا الحي أو ذاك لُنلقي نظرة ‪،‬‬
‫حفر بينما فريك ُيناور بالسيارة فوق‬ ‫وشعرنا بال ُ‬
‫الخاديد والفجوات ‪ .‬لم يُقل أحد منا الكثير حول أي‬
‫شيء ‪ .‬اكتفينا بمراقبة المشاهد وهي تنساب مارة‬
‫ن‬
‫بنا ‪ ،‬وأعتقد أنه كان ينتابنا قليل من الروع من أ ّ‬
‫ن تلك هي المرة‬ ‫هذا لن يحدث من جديد ‪ ،‬وأ ّ‬
‫الخيرة ‪ ،‬وسرعان ما بدا كأننا لم نعد نرى أي شيء‬
‫س غريب من‬ ‫‪ ،‬بل نجلس في أماكننا ونشعر بيأ ٍ‬
‫القيادة ضمن دوائر ‪ .‬وبعد ذلك ‪ ،‬أودع فريك‬
‫السيارة المرأب وأقفل الباب ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين ل‬
‫أعتقد أنه فتحه مرة أخرى ‪ .‬وذات مرة ‪ ،‬عندما كنا‬
‫معا ً في الحديقة ‪ ،‬أشار إلى المرأب عبر الطريق ‪،‬‬
‫ج فمه العريض ‪ ،‬الد َْرد ْ ‪ ،‬عن ابتسامة ‪ .‬قال "‬ ‫وانفر َ‬
‫الشياء التي كنتم ترونها لم يعد لها وجود ‪.‬‬
‫ع في‬ ‫قولوا لها وداعا ً وانسوها ‪ .‬أصبحت تش ُ‬
‫الذهن الن ‪ .‬لقد اختفت ‪ ،‬وتلشت ‪.‬‬
‫ت"‬ ‫هجت ثم ُنسي َ ْ‬ ‫تو ّ‬
‫الملبس اختفت بعد ذلك – كل ما أخذناه‬
‫جان أعطيناه للنزلء ‪ ،‬القمصان والحذية ‪،‬‬ ‫بالم ّ‬

‫‪198‬‬
‫والسترات والكنزات ‪ ،‬والبناطيل ‪ ،‬والقبعات ‪،‬‬
‫والقفزات ‪ .‬وكان بوريس ستيبانوفيتش قد اشترى‬
‫تلك الغراض بالجملة من ممول في المنطقة‬
‫ح عاطل ً عن‬ ‫ن ذلك الرجل أصب َ‬ ‫السكنية الرابعة ‪ ،‬لك ّ‬
‫س بسببه ُقطاع‬ ‫العمل الن ‪ ،‬بل في الحقيقة أفل َ‬
‫الطرق ووكالت النعاش ‪ ،‬ولم يعد لدينا الوسائل‬
‫اللزمة لمنع حلول النهاية ‪ .‬حتى في أيام الرخاء‬
‫بلغت نسبة شراء الملبس ثلثين إلى أربعين بالمائة‬
‫ن جاءت أيام‬ ‫من ميزانية منزل ووبرن ‪ .‬والن ‪ ،‬بعد أ ْ‬
‫ن نحذف هذه‬ ‫العسر أخيرا ً ‪ ،‬لم يُعد أمامنا إل أ ْ‬
‫النفقات من دفاتر الحسابات ‪ .‬ل تخفيضات ‪ ،‬ل‬
‫ب‬‫ضرِ َ‬‫إنقاص تدريجي – بل كل شيء دفعة واحدة ‪ُ ،‬‬
‫متها "‬‫ت فيكتوريا حملة س ّ‬ ‫دفعة واحدة ‪ .‬وباشر ْ‬
‫إصلح ُيمليه الضمير " ‪ ،‬فخّزنت مختلف أنواع أدوات‬
‫الخياطة – إبر ‪ ،‬مكّبات خيوط ‪ ،‬قطع من القمشة ‪،‬‬
‫ت كل‬ ‫كشتبانات ‪ ،‬بيض رفو ‪ ،‬وما إلى ذلك – وفعل ْ‬
‫ما في وسعها لتصلح الملبس التي كان الناس‬
‫يرتدونها أصل ً عندما جاؤوا إلى منزل ووبرن ‪ .‬وكانت‬
‫الفكرة توفير أكبر قدرٍ ممكن من النقود من أجل‬
‫م‪،‬‬‫ن هذا هو الشيء اله ّ‬ ‫توفير الطعام ‪ ،‬وبما أ ّ‬
‫الشيء الفضل من أجل النزلء ‪ ،‬اّتفقنا جميعا ً على‬
‫تصحيح هذا المسار ‪ .‬ومع ذلك ‪ ،‬ومع استمرار خواء‬
‫غرف الطابق الخامس من محتوياتها ‪ ،‬لم يُعد حتى‬
‫ن تتحمل أي نقص ‪ .‬ويوما ً بعد‬ ‫لمؤونة الطعام أ ْ‬
‫كر ‪ ،‬الملح ‪ ،‬الزبد ‪،‬‬ ‫س ّ‬
‫يوم ‪ ،‬أخذت المواد تلغى – ال ُ‬
‫الفاكهة ‪ ،‬حصص اللحم الصغيرة التي سمحنا بها‬
‫لنفسنا ‪ ،‬وكأس الحليب الذي نشربه أحيانا ً ‪ .‬وكلما‬
‫ت فيكتوريا عن إجراٍء آخر للقتصاد ‪ُ ،‬تصاب‬ ‫أعلن ْ‬
‫ماغي فاين بنوبة – تنفجر على هيئة حركات إيمائية‬

‫‪199‬‬
‫مهّرج تمّثل شخصا ً يبكي ‪ ،‬فُتدّلي رأسها‬ ‫عنيفة من ُ‬
‫ي‬
‫وتسنده إلى الجدار ‪ ،‬وترخي ذراعيها على جانب ّ‬
‫ن الوضع لم‬ ‫ن تطير بعيدا ً ‪ .‬لك ّ‬ ‫ساقيها وكأنها تنوي أ ْ‬
‫يكن سهل ً على أيّ منا ‪ .‬فقد كنا جميعا ً قد تع ّ‬
‫ودنا‬
‫على الحصول على كفايتنا من الطعام ‪ ،‬وإجراءات‬
‫ت صدمة مؤلمة لجسادنا ‪ .‬وكان‬ ‫الحرمان تلك سّبب ْ‬
‫ن أقّلب التفكير في السؤال من جديد‬ ‫لبد لي من أ ْ‬
‫مع نفسي – ما معنى الشعور بالجوع ‪ ،‬كيف نفصل‬
‫فكرة الطعام عن فكرة الستمتاع ‪ ،‬كيف نقبل ما‬
‫ن نشتهي المزيد ‪ .‬وبحلول منتصف‬ ‫ُيوهب لنا دون أ ْ‬
‫حميتنا لتقتصر على تشكيلة من‬ ‫ت ِ‬ ‫زل ْ‬‫الصيف اخت ُ ِ‬
‫الحبوب ‪ ،‬والنشويات ‪ ،‬وخضروات الجذور – كاللفت‬
‫ن نزرع الحديقة‬ ‫‪ ،‬والشوندر ‪ ،‬والجزر ‪ .‬حاولنا أ ْ‬
‫ن البذور كانت نادرة ‪ ،‬ولم ننجح إل في‬ ‫الخلفية ‪ ،‬لك ّ‬
‫ت ماغي قدر‬ ‫زرع بضعة رؤوس من الخس ‪ .‬وارتجل ْ‬
‫حساء‬‫ت عددا ً من أنواع ال ِ‬ ‫استطاعتها ‪ ،‬فطبخ ْ‬
‫ت بغضب تشكيلة من الحبوب‬ ‫الخفيف ‪ ،‬وأعد ّ ْ‬
‫والمعكرونة ‪ ،‬وصنعت زلبية من خلط طحين أبيض‬
‫– وهي كرات من العجين اللزج كادت تصيبنا‬
‫بالخَرف ‪ .‬ومقارنة بما كنا نأكله في السابق ‪ ،‬كان‬
‫هذا شيئا ً كريها ً ‪ ،‬لكنه أبقانا على قيد الحياة رغم‬
‫مثير للكآبة ليس نوعية الطعام ‪،‬‬ ‫ذلك كله ‪ .‬والمر ال ُ‬
‫ن المور تزداد سوءا ً ‪ .‬وشيئا ً فشيئا ً‬ ‫بل يقيننا من أ ّ‬
‫‪ ،‬أخذ الفرق بين منزل ووبرن وباقي‬
‫المدينة يتضاءل ‪ .‬كنا ُنبت ََلع ‪ ،‬ولم يعرف أح ٌ‬
‫د‬
‫منا كيف يمنع حدوث هذا ‪.‬‬
‫ثم اختفت ماغي ‪ .‬ذات يوم طلبناها فلم نجدها ‪،‬‬
‫ولم نعثر على ما يدلنا على مكان رحيلها ‪ .‬لبد أنها‬
‫راحت تتجول أثناء نومنا جميعا ً في الطوابق العليا ‪،‬‬

‫‪200‬‬
‫سر أبدا ً سبب تركها أغراضها كلها‬ ‫ن هذا ل ُيف ّ‬ ‫لك ّ‬
‫ن من‬ ‫ن تهرب ‪ ،‬بدا أ ّ‬ ‫تأ ْ‬‫وراءها ‪ .‬إذا كانت قد قصد ْ‬
‫ن نعتقد أنها ستحزم أمتعتها استعدادا ً‬ ‫المنطقي أ ْ‬
‫للرحلة ‪ .‬أمضى ويلي يومين أو ثلثة وهو يفتش عنها‬
‫في المنطقة المجاورة ‪ ،‬لكنه لم يجد لها أثرا ً ‪ ،‬ولم‬
‫يرها أي من الشخاص الذين تحدث معهم ‪ .‬بعد ذلك‬
‫ن‬
‫‪ ،‬تولى ويلي القيام بشؤون المطبخ ‪ .‬ولكن ‪ ،‬ما أ ْ‬
‫بدأنا نشعر بالرتياح في العمل ‪ ،‬حتى حدث أمر آخر‬
‫‪ .‬فجأة ً ‪ ،‬وبل سابق إنذار ‪ ،‬توفي جد ّ ويلي ‪ .‬وحاولنا‬
‫ن فريك كان عجوزا ً‬ ‫ن نواسي أنفسنا بالتفكير في أ ّ‬ ‫أ ْ‬
‫– في نحو الثمانين من العمر ‪ ،‬كما قالت فيكتوريا –‬
‫رحنا كثيرا ً ‪ .‬فقد توفي في فراشه ذات‬ ‫ن هذا لم ي ُ ِ‬‫لك ّ‬
‫ليلة من أوائل شهر تشرين أول ‪ ،‬وويلي هو الذي‬
‫ف‬‫ظ في الصباح واكتش َ‬ ‫ف الجّثة ‪ :‬عندما استيق َ‬ ‫اكتش َ‬
‫ن‬‫ده ل يزال في سريره ‪ ،‬وعندما حاول أ ْ‬ ‫نج ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ن العجوز واقع‬ ‫يوقظه ‪ ،‬وجد وهو مملوء بالرعب أ ّ‬
‫على الرض ‪ .‬كان المر أصعب على ويلي ‪ ،‬طبعا ً ‪،‬‬
‫لكننا جميعا ً تأّلمنا لوفاته على طريقتنا ‪ .‬ذرف سام‬
‫دموعا ً حّرى عليه ‪ ،‬ولم يكّلم بوريس ستيبانوفيتش‬
‫ن سمع النبأ ‪،‬‬ ‫أحدا ً طوال أربٍع وعشرين ساعة بعد أ ْ‬
‫الذي كان بمثابة الخبر الجدير بالتسجيل بالنسبة إليه‬
‫‪ .‬ولم ُتظِهر فيكتوريا الكثير على السطح ‪ ،‬لكنها‬
‫مضت وقامت بعمل متهور ‪ ،‬وأنا أعلم كم كانت‬
‫مطَلق ‪ .‬لقد كان دفن الموتى‬ ‫قريبة من اليأس ال ُ‬
‫مخالف للقانون الصارم ‪ .‬إذ ينبغي أخذ الجثث كلها‬ ‫ُ‬
‫ن ل يرضخ لهذا‬ ‫م ْ‬‫إلى أحد مراكز التحويل ‪ ،‬وكل َ‬
‫الجراء يتعّرض لقسى عقوبة ‪ :‬غرامة قيمتها مائتين‬
‫وخمسين غلوتا ً ‪ُ ،‬تدَفع أمام القضاء ‪ ،‬النفي الفوري‬
‫إلى أحد معسكرات العمل في الجزء الجنوبي‬

‫‪201‬‬
‫الغربي من البلد ‪ .‬وعلى الرغم من ذلك كله ‪ ،‬وفي‬
‫ت‬‫علمها بوفاة فريك ‪ ،‬أعلن ْ‬ ‫غضون ساعة من ِ‬
‫فيكتوريا عن عزمها إقامة جنازة له في الحديقة بعد‬
‫ن ُيثنيها عن فعل‬ ‫ظهيرة ذلك اليوم ‪ .‬حاول سام أ ْ‬
‫ت " ل أحد سيعلم‬ ‫ن تنثني ‪ .‬قال ْ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ذلك ‪ ،‬لكنها رفض ْ‬
‫بهذا ‪ .‬وحتى إذا اكتشفت الشرطة المر ‪ ،‬ل يهم ‪.‬‬
‫ف‬‫ن نفعل الصواب ‪ .‬إذا تركنا قانونا ً أحمق يق ُ‬ ‫يجب أ ْ‬
‫عقبة في طريقنا ‪ ،‬فنحن ل نستحقُ أيّ شيء " ‪.‬‬
‫كان تصّرفا ً متهورا ً ‪ ،‬وغير مسؤول على الطلق ‪،‬‬
‫ت بأنها تفعل الصواب إكراما ً‬ ‫ولكن في أعماقي آمن ُ‬
‫ل من‬ ‫لويلي ‪ .‬لقد كان ويلي صبيا ً يتمتع بذكاء أق ّ‬
‫عادي ‪ ،‬وفي سن السابعة عشرة كان ل يزال‬
‫ت تكاد ل تفهم العالم من حوله ‪ .‬وقد‬ ‫حبيس عنف ذا ٍ‬
‫رعاه فريك ‪ ،‬وفك َّر بالنيابة عنه ‪ ،‬ومشى معه حرفيا ً‬
‫ده ‪،‬‬ ‫خطوة بخطوة على درب حياته ‪ .‬وبعد رحيل ج ّ‬
‫ح‬
‫ل به ‪ .‬الن أصب َ‬ ‫ن يح ّ‬‫لم يُعد معروفا ً ماذا يمكن أ ْ‬
‫ويلي في حاجةٍ إلى إيماءة تصدر عنا – توكيدٍ‬
‫ن على أننا‬ ‫درامي ‪ ،‬صريح ‪ ،‬على ولئنا ‪ ،‬برها ٍ‬
‫كل‬ ‫سندعمه مهما كانت النتائج ‪ .‬كانت الجنازة تش ّ‬
‫مجازفة كبرى ‪ ،‬ولكن حتى على ضوء ما حدث ‪ ،‬ل‬ ‫ُ‬
‫ن فيكتوريا كانت مخطئة في ركوبها ‪.‬‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫ك النفير‬ ‫ج ويلي المرأب ‪ ،‬وف ّ‬ ‫قبل الجنازة ‪ ،‬ول َ‬
‫من السيارة ‪ ،‬وأمضى الردح الكبر من الساعة وهو‬
‫معه ‪ .‬كان نفيرا ً عتيق الطراز كالذي ُيستعمل على‬ ‫ُيل ّ‬
‫دراجات الطفال – لكنه أكبر حجما ً وأجمل ‪ ،‬له بوق‬
‫من النحاس ومقبض من المطاط السود بحجم‬
‫ثمرة الليمون الهندي تقريبا ً ‪ .‬ثم حفَر هو وسام‬
‫حفرة بجوار أكمات الزعرور البّري في الفناء‬ ‫ُ‬
‫الخلفي ‪ .‬حمل ستة من النزلء جثمان فريك ونقلوه‬

‫‪202‬‬
‫من المنزل إلى القبر ‪ ،‬وبينما هم ُينزلونه إلى بطن‬
‫حرصا ً‬ ‫ده ‪ِ ،‬‬‫الرض ‪ ،‬وضعَ ويلي النفير على صدر ج ّ‬
‫ن ُيدَفن معه ‪ .‬ثم قرأ بوريس‬ ‫منه على أ ْ‬
‫ستيبانوفيتش قصيدة قصيرة كان قد أّلفها‬
‫للمناسبة ‪ ،‬وبعد ذلك أعاد سام وويلي التراب إلى‬
‫الحفرة ‪ .‬كانت مراسم بدائية بامتياز – ل صلوات ‪،‬‬
‫ن – ولكن مجّرد أدائها كان دللة ذات مغزى ‪.‬‬ ‫ول أغا ٍ‬
‫معين هناك في الخارج – النزلء‬ ‫كان الجميع متج ّ‬
‫كلهم ‪ ،‬أعضاء هيئة الدارة كلهم – ومع انتهاء المر‬
‫ضعَ حجٌر صغير على‬ ‫كانت الدموع تمل عيوننا ‪ .‬وُ ِ‬
‫موقع القبر للتعّرف على المكان ‪ ،‬ومن ثم ولجنا‬
‫المنزل ‪.‬‬
‫ن نرّتب الفوضى التي‬ ‫بعد ذلك ‪ ،‬حاولنا جميعا ً أ ْ‬
‫سّببها ويلي ‪ .‬وأوكلت إليه فيكتوريا مسؤوليات‬
‫ف حارسا ً مع سلح‬ ‫ن يق َ‬ ‫ت له أ ْ‬ ‫جديدة ‪ ،‬بل وسمح ْ‬
‫أثناء إجرائي المقابلت في الصالة ‪ ،‬وبذل سام جهدا ً‬
‫م الفتى كيف يحلق ذقنه‬ ‫ليأخذه تحت جناحه – عل ّ َ‬
‫ل لئق ‪ ،‬وكيف يكتب اسمه بالكتابة العادية ‪،‬‬ ‫بشك ٍ‬
‫سم ‪ .‬استجاب ويلي بشكل جيد‬ ‫وكيف يجمع ويق ِ‬
‫لذلك الهتمام ‪ .‬ولول ضربة الحظ الكئيبة ‪ ،‬أعتقد‬
‫لكان حاله أفضل بكثير ‪ .‬ولكن بعد جنازة فريك ‪،‬‬
‫زارنا رجل شرطة من مركز الشرطة المحلية ‪ .‬كان‬
‫شخصية مظهرها ُيثير السخرية ‪ ،‬قصير وبدين‬
‫وأحمر الوجه ‪ ،‬يتباهى بلبسه زيا ً رسميا ً جديدا ً‬
‫ي مؤخرا ً للضباط من ذلك الفرع من الخدمة‬ ‫ُ‬
‫أعط َ‬
‫العامة – زيا ً أحمر اللون بّراق ‪ ،‬وبنطلونا ً أبيض‬
‫ل حذاًء طويل الرقبة من الجلد‬ ‫لركوب الخيل ‪ ،‬وينتع ُ‬
‫السود المدبوغ ‪ ،‬ويعتمر قبعة عسكرية تتماشى‬
‫معه ‪ .‬كان ُيطقطق بوضوح بزّيه السخيف ‪ ،‬ولنه‬

‫‪203‬‬
‫ن أزراره‬ ‫ت في الواقع أ ّ‬ ‫أصّر على نفخ صدره ‪ ،‬ظنن ُ‬
‫ي‬‫تكاد تقفز من مكانها مع فرقعة ‪ .‬وقرقع بعقب ّ‬
‫ت الباب ‪ ،‬ولول المدفع‬ ‫قدميه وحّياني عندما فتح ُ‬
‫ن‬
‫ت منه ربما أ ْ‬ ‫الرشاش الذي تدّلى من كتفه ‪ ،‬لطلب ُ‬
‫ُيغادر ‪ .‬قال " هل هذا منزل فيكتوريا ووبرن ؟ " ‪،‬‬
‫قلت " نعم ‪ ،‬مع آخرين " ‪ .‬أجاب ‪ ،‬وهو يدفعني‬
‫حي جانبا ً ‪،‬‬ ‫جانبا ً من طريقه ويدخل الصالة ‪ " ،‬إذن تن ّ‬
‫يا آنسة ‪ .‬التحقيق سيبدأ "‬
‫ن أحدهم‬ ‫سأوّفر عليك التفاصيل ‪ .‬خلصة القول أ ّ‬
‫كان قد بل ّغَ بأمر الجنازة للشرطة ‪ ،‬وقد جاؤوا‬
‫ليتأكدوا من صحة الشكوى ‪ .‬لبد أنه كان أحد النزلء‬
‫مذهلة ل أحد منا ُيطاوعه‬ ‫ن تلك كانت خيانة ُ‬ ‫‪ ،‬لك ّ‬
‫ن أحدهم‬ ‫ن يتخّيل هذا ‪ .‬ل شك في أ ّ‬ ‫ن ُيحاول أ ْ‬ ‫قلبه أ ْ‬
‫كان حاضرا ً الجنازة ‪ ،‬وُأجب َِر على مغادرة منزل‬
‫مخصصة له فحمل ضغينة بسبب‬ ‫مدة ال ُ‬‫ووبرن بعد ال ُ‬
‫إجباره على العودة إلى الشوارع ‪ .‬كان ذلك تخمينا ً‬
‫ل الشرطة هي‬ ‫منطقيا ً ‪ ،‬لكنه لم ي ُِفد بشيء ‪ .‬لع ّ‬
‫التي دفعت لذلك الشخص نقودا ً ‪ ،‬ولعله قام بذلك‬
‫ن‬
‫فقط بداعي النكاية ‪ .‬مهما كان السبب ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الخبارية كانت دقيقة جدا ً ‪ .‬خرج شرطي الدراجة‬
‫مساعديه‬ ‫النارية إلى الحديقة الخلفية مع اثنين من ُ‬
‫يتبعانه ‪ ،‬ومسح رقعة الرض بضع لحظات ‪ ،‬ومن ثم‬
‫أشار إلى مكان حفر القبر ‪ .‬وأمر بإحضار رفوش ‪،‬‬
‫مساعدان بسرعة على العمل ‪ ،‬بحثا ً عن‬ ‫ب ال ُ‬‫وأنك ّ‬
‫الجثة التي كانوا يعلمون أنها موجودة هناك ‪ .‬قال‬
‫مخالف جدا ً للقانون ‪.‬‬ ‫شرطي الدراجة " هذا تصّرف ُ‬
‫النانية التي ينطوي عليها الدفن في هذا اليوم وهذا‬
‫من دون‬ ‫العصر – تصوروا ما ُيثيره من ضغينة ‪ .‬ف ِ‬
‫جثث نحرقها ‪ ،‬سوف ننهار بسرعة ‪ ،‬دون أدنى‬

‫‪204‬‬
‫شك ‪ ،‬سوف نغرق كلنا ‪ .‬من أين سنستمد وقودنا ‪،‬‬
‫كيف سنبقى على قيد الحياة ؟ في هذا الوقت من‬
‫ن نكون جميعا ً‬ ‫حالة الطوارئ الوطنية ‪ ،‬علينا أ ْ‬
‫ن نوفر أي جثة ‪ ،‬والذين آلوا‬ ‫يقظين ‪ .‬ل يمكننا أ ْ‬
‫ن يخرقوا هذا القانون يجب أل نسمح‬ ‫على أنفسهم أ ْ‬
‫لهم بالفلت ‪ .‬إنهم أشرار من أسوأ صنف ‪،‬‬
‫دون ‪ .‬يجب اجتثاثهم‬ ‫مجرمون خائنون ‪ ،‬حثالة مرت ّ‬
‫معاقبتهم "‬ ‫و ُ‬
‫عندئذٍ كنا جميعا ً قد خرجنا إلى الحديقة ‪،‬‬
‫وتجمهرنا حول القبر بينما ذلك الحمق ُيثرثر‬
‫بملحظاته الشريرة ‪ ،‬الحمقاء ‪ .‬شحب وجه فيكتوريا‬
‫‪ ،‬ولو لم أكن موجودة هناك لشد ّ من أزرها ‪ ،‬أعتقد‬
‫ن تنهار ‪ .‬على الجانب الخر من‬ ‫أنها كان يمكن أ ْ‬
‫ب ويلي عن‬ ‫مّتسعة ‪ ،‬كان سام ُيراق ُ‬ ‫الحفرة ال ُ‬
‫مساعدا شرطي‬ ‫ُقرب ‪ .‬كان الفتى يبكي ‪ ،‬وبينما ُ‬
‫الدراجة يواصلن إزالة التراب ورميه بإهمال على‬
‫ت ممسوس‬ ‫الشجيرات ‪ ،‬أخذ بكاؤه يعلو بصو ٍ‬
‫ن ترموه ‪.‬‬ ‫دي ‪ .‬ل يجوز أ ْ‬ ‫بالرعب ‪ " .‬هذا تراب ج ّ‬
‫ن‬‫دي " ‪ .‬وأصبح من العلوّ حتى أ ّ‬ ‫صج ّ‬ ‫هذا التراب يخ ّ‬
‫شرطي الدراجة اضطّر إلى التوّقف في منتصف‬
‫خطبته الطّنانة ‪ .‬رمقَ ويلي بامتعاض ‪ ،‬ثم ‪ ،‬عندما‬
‫م بتحريك ذراعه في اتجاه مسدسه الرشاش ‪،‬‬ ‫ه ّ‬
‫أطبقَ سام بيده على فم ويلي وبدأ يجّره بعيدا ً‬
‫باتجاه المنزل – وهو ُيكافح كي يكبحه والصبي‬
‫وى ويرفس طوال الطريق عبر المرج ‪ .‬في تلك‬ ‫يتل ّ‬
‫الثناء ‪ ،‬سقط أحد النزلء على الرض وأخذ يتوسل‬
‫شرطي الدراجة كي يؤمن ببراءتهم ‪ .‬فلم يكونوا‬
‫يعلمون شيئا ً عن تلك الجريمة الشنيعة ؛ لم يكونوا‬
‫ن أحدا ً أخبرهم‬ ‫موجودين عندما حدث المر ؛ لو أ ّ‬

‫‪205‬‬
‫عن مثل تلك الفعال الشنيعة ‪ ،‬لما وافقوا على‬
‫جزون ُرغما ً عنهم ‪.‬‬ ‫محت َ َ‬‫البقاء هناك ؛ إنهم جميعا ً ُ‬
‫متذّللة واحدة بعد أخرى ‪،‬‬ ‫وتوالت التصريحات ال ُ‬
‫ت باشمئزاٍز‬ ‫جبن الجماعي ‪ .‬وشعر ُ‬ ‫كانفجار من ال ُ‬
‫ن امرأة عجوز –‬ ‫ت في البصق ‪ .‬بل إ ّ‬ ‫شديد حتى رغب ُ‬
‫ت بحذاء الشرطي‬ ‫اسمها بيول ستانسكي – تشّبث ْ‬
‫ن يتخّلص منها‬ ‫ت ُتقّبله ‪ .‬حاول أ ْ‬ ‫والطويل الرقبة وبدأ ْ‬
‫‪ ،‬ولكن عندما لم تتركه ‪ ،‬ضربها برأس حذائه على‬
‫ب‬‫ن وتنشج ككل ٍ‬ ‫بطنها وجعلها تنبطح‪ -‬وهي تئ ّ‬
‫مضروب ‪ .‬ولحسن حظنا جميعا ً ‪ ،‬اختار بوريس‬
‫ن يدخل علينا في تلك اللحظة‬ ‫ستيبانوفيتش أ ْ‬
‫بالذات ‪ .‬فتح النوافذ الفرنسية في خلفّية المنزل ‪،‬‬
‫وخرج منها بنشاط إلى المرج ‪ ،‬وخطا نحو الضجيج‬
‫بهدوء ‪ ،‬يكاد يبدو السرور على وجهه ‪ .‬وكأنه كان قد‬
‫شاهد ذلك المشهد مئات المرات من قبل ‪ ،‬ول‬
‫دره – ل الشرطة ‪ ،‬ول المسدسات ‪،‬‬ ‫شيء كان سيك ّ‬
‫ول أي شيء ‪ .‬كانا يجّران الجّثة خارج الحفرة عندما‬
‫ددا ً هناك على‬ ‫مم ّ‬ ‫م إلينا ‪ ،‬وكان فريك المسكين ُ‬ ‫انض ّ‬
‫ظتا من رأسه ‪،‬‬ ‫ح َ‬ ‫ج َ‬‫العشب ‪ ،‬وكانت عيناه قد َ‬
‫وث بالتراب ‪ ،‬وحشد من الديدان‬ ‫مل ّ‬‫والوجه كله ُ‬
‫البيضاء تتلوى داخل فمه ‪ .‬ولم ُيزعج بوريس‬
‫ستيبانوفيتش نفسه بإلقاء نظرة عليه ‪ .‬ومشى‬
‫مباشرة نحو شرطي الدراجة ذي المعطف الحمر ‪،‬‬
‫وخاطبه بجنرال ‪ ،‬ثم جّره جانبا ً ‪ .‬لم أسمع ما قاله ‪،‬‬
‫ي‬
‫ف عن التكشير ول ّ‬ ‫ن بوريس لم يك ّ‬ ‫تأ ّ‬‫لكني رأي ُ‬
‫ج من جيبه‬ ‫حاجبيه وهما يتحدثان ‪ .‬وأخيرا ً ‪ ،‬أخر َ‬
‫حزمة من النقود ‪ ،‬أخذ منها ورقة نقدية بعد أخرى ‪،‬‬
‫ومن ثم وضع النقود في يد شرطي الدراجة ‪ .‬لم‬
‫أفهم معنى ذلك – ما إذا كان بوريس قد دفع‬

‫‪206‬‬
‫الغرامة أم أنهما عقدا نوعا ً من الّتفاق السريّ –‬
‫ل قصير ‪ ،‬سريع ‪،‬‬ ‫ن ذلك كان مدى الصفقة ‪ :‬تباد ُ‬ ‫لك ّ‬
‫مساعدان الجثة‬ ‫م المر ‪ .‬حمل ال ُ‬ ‫للنقود ‪ ،‬ومن ثم ت ّ‬
‫عبر المرج ‪ ،‬وخلل المنزل ‪ ،‬ومن ثم إلى الواجهة‬
‫المامية ‪ ،‬وهناك رمياها إلى خلفّية سيارة شحن‬
‫التي كانت متوقفة في الشارع ‪ .‬ومن جديد ألقى‬
‫شرطي الدراجة على مسمعنا خطبة رّنانة وهو على‬
‫دية تامة ‪ ،‬وهو يستخدم الكلمات نفسها‬ ‫الد ََرج – بج ّ‬
‫التي كان قد استخدمها في الحديقة – ومن ثم حّيانا‬
‫موّدعا ً ‪ ،‬وطقطقَ عقبيه ‪ ،‬ومشى نحو سيارة‬
‫الشحن ‪ ،‬وهو ُيبِعد جانبا ً المتفرجين الوسخين‬
‫بحركات قصيرة خاطفة من يده ‪ .‬وحالما ابتعد مع‬
‫ت إلى الحديقة بحثا ً عن نفير‬ ‫مساعديه ‪ ،‬هرع ُ‬ ‫ُ‬
‫ت في تلميعه من جديد لكي أعطيه‬ ‫السيارة ‪ .‬ف ّ‬
‫كر ُ‬
‫ت إلى‬ ‫لويلي ‪ ،‬لكني لم أعثر عليه ‪ .‬بل إني هبط ُ‬
‫ن كان هناك ‪ ،‬لكني لم أجده ‪.‬‬ ‫القبر المفتوح لرى إ ْ‬
‫وكالعديد من الغراض قبله ‪ ،‬اختفى النفير‬
‫ن يترك أثرا ً ‪.‬‬ ‫دون أ ْ‬

‫لقد نجت رقابنا لفترة وجيزة من الوقت ‪ .‬لم‬


‫ن‬
‫يذهب أحد إلى السجن ‪ ،‬في أي الحوال ‪ ،‬لك ّ‬
‫النقود التي سّلمها بوريس لشرطي الدراجة أره َ‬
‫ق‬
‫كثيرا ً مدخراتنا ‪ .‬وفي غضون ثلثة أيام من نبش قبر‬
‫فريك ‪ ،‬بيعت آخر الغراض من الطابق الخامس ‪:‬‬
‫فّتاحة رسائل مطلّية بماء الذهب ‪ ،‬وطاولة من‬
‫خشب الماهوغاني ‪ ،‬والستائر المخمل الزرقاء التي‬
‫معّلقة على النوافذ ‪ .‬بعد ذلك ‪ ،‬استطعنا بعد‬
‫كانت ُ‬
‫ن نجمع بعض النقود الضافية من بيع كتب من‬ ‫جهد أ ْ‬
‫مكتبة الطابق السفلي – ملء رّفين من كتب‬

‫‪207‬‬
‫ديكنز ‪ ،‬وخمس مجموعات من مؤلفات شكسبير‬
‫منمنما ً ل‬
‫مجّلدا ً ُ‬
‫)إحداها عبارة عن ثمان وثلثين ُ‬
‫يتعدى حجمها راحة يدك( ‪ ،‬وكتابا ً لجين أوستن ‪،‬‬
‫ورة من رواية " ددد‬ ‫مص ّ‬ ‫وآخر لشوبنهاور ‪ ،‬ونسخة ُ‬
‫ن الحد ّ الدنى للسعار كان قد انهار‬ ‫دددددد "‪ -‬لك ّ‬
‫في سوق الكتب حينئذٍ ‪ ،‬وتلك الشياء لم تكن تجلب‬
‫أكثر من مبلغ تافه ‪ .‬ومنذ تلك النقطة فصاعدا ً أصبح‬
‫ن مخزونه لم يكن بعيدا ً‬ ‫بوريس هو الذي يعيلنا ‪ .‬لك ّ‬
‫عن النفاد ‪ ،‬ولم نخدع أنفسنا بالعتقاد بأنه سيدوم‬
‫طويل ً ‪ .‬ومنحنا أنفسنا مدة ثلثة أشهر أو أربعة في‬
‫أحسن الحوال ‪ .‬ومع مجيء الربيع من جديد ‪،‬‬
‫ل من ذلك ‪.‬‬ ‫ن المدة ربما تكون أق ّ‬ ‫أدركنا أ ّ‬
‫التصّرف المعقول كان إغلق منزل ووبرن‬
‫ن نتحدث مع فيكتوريا في المر ‪،‬‬ ‫حينئذٍ ‪ .‬حاولنا أ ْ‬
‫ولكن كان صعبا ً عليها اّتخاذ مثل تلك الخطوة ‪ ،‬وتبع‬
‫ذلك بضعة أسابيع من التردد ‪ .‬ثم ‪ ،‬عندما أوشك‬
‫ن ُيقنعها ‪ ،‬انت ُزِع َ القرار من بين يديها ‪ ،‬بل‬ ‫بوريس أ ْ‬
‫من أيدينا جميعا ً ‪ .‬أنا أشير إلى ويلي ‪ .‬يبدو ‪ ،‬بإدرا ٍ‬
‫ك‬
‫ن المر كان سينجح‬ ‫ن من المحتوم تماما ً أ ّ‬ ‫متأخر ‪ ،‬أ ّ‬
‫ن أيا ً منا‬‫تإ ّ‬
‫ب عليك إذا قل ُ‬ ‫بتلك الطريقة ‪ ،‬لكني أكذ ُ‬
‫ن يراها ‪ .‬لقد كنا جميعا ً منهمكين حتى‬ ‫استطاع َ أ ْ‬
‫رؤوسنا في المهام التي بين أيدينا ‪ ،‬وعندما حدث‬
‫المر في نهاية المطاف ‪ ،‬كان أشبه بالصاعقة التي‬
‫تقع دون سابق إنذار ‪ ،‬أشبه بانفجارٍ في أعماق‬
‫الرض ‪.‬‬
‫بعد عملية إخراج جثة فريك ‪ ،‬لم يُعد ويلي‬
‫كسابق عهده ‪ .‬تابع أداء عمله ‪ ،‬ولكن فقط في‬
‫صمت ‪ ،‬في عزلةٍ من التحديق وهز الكتفين الجوف‬
‫ظى عيناه بالغضب‬ ‫ت تقترب منه ‪ ،‬تتل ّ‬ ‫‪ .‬وحالما كن َ‬

‫‪208‬‬
‫وبالعدائية والمتعاض ‪ ،‬بل إنه في إحدى المرات‬
‫ت ذلك مرة‬ ‫ن فعل ُ‬ ‫ن يؤذيني إ ْ‬ ‫أزاح يدي وكأنه ينوي أ ْ‬
‫ت‬‫أخرى ‪ .‬كنا نعمل معا ً في المطبخ كل يوم ‪ ،‬وكن ُ‬
‫ربما أقضي وقتا ً أكثر معه أكثر من أي شخص آخر ‪.‬‬
‫ن‬
‫ت أقصى جهدي لساعده ن ولكن ل أعتقد أ ّ‬ ‫وبذل ُ‬
‫دك‬ ‫نج ّ‬ ‫ت أقول ‪ ،‬إ ّ‬ ‫ت أقوله أث َّر فيه ‪ .‬كن ُ‬ ‫شيئا ً مما كن ُ‬
‫على ما ُيرام ‪ .‬إنه في الجنة الن ‪ ،‬وما يحدث‬
‫ن‬
‫كأ ْ‬ ‫ن روحه حّية ‪ ،‬ول يريد من َ‬ ‫م‪.‬إ ّ‬‫لجسده ل يه ّ‬
‫ن يؤذيه‬ ‫تقلق بشأنه كما تفعل ‪ .‬ل شيء يمكن أ ْ‬
‫ن يشرح فكرة‬ ‫لأ ْ‬‫ت كأني والد ُيحاو ُ‬ ‫أيضا ً ‪ .‬شعر ُ‬
‫ل صغير ‪ ،‬وأتفوه بالهراء المنافق نفسه‬ ‫الموت لطف ٍ‬
‫م ما‬ ‫ت قد سمعته من والديّ ‪ .‬ولكن ل يه ّ‬ ‫الذي كن ُ‬
‫ن ويلي لم يكن يتلّقى شيئا ً منه ‪ .‬كان‬ ‫ت‪،‬ل ّ‬ ‫قل ُ‬
‫ل مما قبل التاريخ ‪ ،‬والطريقة الوحيدة‬ ‫كرج ٍ‬
‫ن يستجيب بها للموت هي‬ ‫التي كان يمكن أ ْ‬
‫كر فيه كإله ‪.‬‬ ‫ن يف ّ‬ ‫ن يعبد قريبه الراحل ‪ ،‬أ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫ت هذا غريزيا ً ‪.‬‬ ‫كانت فيكتوريا قد فهم ْ‬
‫دس‬ ‫مق ّ‬ ‫ر ُ‬ ‫وأصبح موقع قبر فريك كمزا ٍ‬
‫بالنسبة إلى ويلي ‪ ،‬وها هو الن قد أصبح‬
‫طم نظام الشياء ‪ ،‬وما كان‬ ‫مهجورا ً ‪ .‬وتح ّ‬
‫ن‬ ‫يمكن لي كمية من الكلم تصدر عني أ ْ‬
‫ُيعيد ترتيبها ‪.‬‬
‫وبدأ يخرج بعد العشاء ‪ ،‬ونادرا ً ما يرجع قبل‬
‫الثانية أو الثالثة صباحا ً ‪ .‬كان من المستحيل معرفة‬
‫ما يفعله هناك في الشوارع ‪ ،‬بما أنه لم يكن يتكّلم‬
‫عن ذلك ‪ ،‬ولم يكن هناك من فائدة من طرح أي‬
‫ت أنه‬ ‫سؤال عليه ‪ .‬وذات صباح لم يظهر أبدا ً ‪ .‬حسب ُ‬
‫ربما خرج لُيحضر طعاما ً ‪ ،‬ولكن ‪ُ ،‬بعيد الغداء ‪ ،‬دخ َ‬
‫ل‬
‫ن ينطق بكلمة وبدأ بتقطيع‬ ‫إلى المطبخ دون أ ْ‬

‫‪209‬‬
‫الخضروات ‪ ،‬ويكاد يتحداني لكي أتأّثر بغطرسته ‪.‬‬
‫كان الوقت حينئذٍ أواخر شهر تشرين ثاني ‪ ،‬وكان‬
‫هدى ‪.‬‬ ‫ل بل ُ‬ ‫ويلي قد قام بجولته الخاصة ‪ ،‬كنجم ٍ ضا ّ‬
‫ويئست من العتماد عليه للقيام بنصيبه من العمل ‪.‬‬
‫ت أقبل مساعدته ؛ وعندما‬ ‫عندما يكون موجودا ً ‪ ،‬كن ُ‬
‫ت أؤدي العمل وحدي ‪ .‬وذات مرة ‪ ،‬غاب‬ ‫ُيغادر ‪ ،‬كن ُ‬
‫ن يرجع ؛ وفي مرة أخرى غاب‬ ‫مين قبل أ ْ‬ ‫مدة يو َ‬
‫ثلثة أيام ‪ .‬فترات الغياب تلك التي كانت تستطيل‬
‫كرنا‬ ‫دفعتنا إلى التفكير في أنه ربما يضيع منا ‪ .‬وف ّ‬
‫أّنه سيأتي وقت ‪ ،‬عاجل أو آجل ‪ ،‬لن يعود أبدا ً بعدها‬
‫‪ ،‬أو بصورةٍ أو بأخرى لن يشعر بوجوده أحد كحال‬
‫ماغي فاين ‪ .‬في ذلك الحين كان لدينا الكثير من‬
‫العمل لننجزه ‪ ،‬وكان الجتهاد لبقاء سفينتها‬
‫مضنيا ً ‪ ،‬بحيث لم‬ ‫الموشكة على الغرق طافية عمل ً ُ‬
‫كر في ويلي عندما يغيب ‪ .‬في المرة‬ ‫يعد أحد ُيف ّ‬
‫التالية غاب مدة ستة أيام ‪ ،‬وعندئذ ٍ شعرنا جميعا ً‬
‫خر جدا ً من‬ ‫ت متأ ّ‬
‫بأننا لن نراه بعد ذلك ‪ .‬ثم ‪ ،‬في وق ٍ‬
‫ذات ليلة خلل السبوع الول من شهر كانون أول ‪،‬‬
‫مجفلين على صوت وطأ أقدام‬ ‫أفقنا من نومنا ُ‬
‫طم صادر عن غرف الطوابق العليا ‪ .‬رّدة‬ ‫مرعب وتح ّ‬
‫ن أناسا ً من الذين‬ ‫فعلي الولى كانت اعتقادي أ ّ‬
‫يقفون في الطابور خارجا ً اقتحم المنزل ‪ ،‬ثم ‪،‬‬
‫حالما قفز سام من السرير وأمسك بالبندقية التي‬
‫نحتفظ بها في غرفتنا ‪ ،‬سمعنا صوت طلق ناري من‬
‫شاش من السفل ‪ ،‬انفجارا ً هائل ً وتبعُثر‬ ‫مسدس ر ّ‬
‫ت‬
‫طلقات رصاص ‪ ،‬ثم المزيد فالمزيد منها ‪ .‬سمع ُ‬
‫ت بالمنزل يهتز من شدة‬ ‫أشخاصا ً يصرخون ‪ ،‬وشعر ُ‬
‫ت طلق المسدس الرشاش‬ ‫وطء القدام ‪ ،‬وسمع ُ‬
‫ت‬
‫ت الرضيات ‪ .‬أضأ ُ‬ ‫ُيمّزق الجدران ‪ ،‬والنوافذ ‪ ،‬وُيفت ّ ُ‬

‫‪210‬‬
‫ت سام إلى أعلى الد ََرج ‪ ،‬وأنا أتوقع بكل‬ ‫شمعة وتبع ُ‬
‫ي الدراجة النارية أو أحد رجاله ‪،‬‬ ‫ن أرى شرط ّ‬ ‫ثقة أ ْ‬
‫ت لّلحظة التي سأتلّقى فيها طلقة تمزقني إربا ً‬ ‫وتهّيأ ُ‬
‫‪ .‬كانت فيكتوريا قد هرعت للتو وأصبحت أمامنا ‪،‬‬
‫مسّلحة ‪ .‬وطبعا ً لم يكن ذلك‬ ‫ومما فهمته لم تكن ُ‬
‫ك في‬ ‫شرطي الدراجة ‪ ،‬على الرغم من أني ل أش ّ‬
‫دسه ‪ .‬كان ويلي على مسطبة الطابق‬ ‫أنه كان مس ّ‬
‫الثاني يرتقي إلى أعلى أمامنا والسلح في يديه ‪.‬‬
‫كانت الشمعة بعيدة جدا ً عنه ولم أتمكن من النظر‬
‫ن‬‫ظأ ّ‬‫إلى وجهه ‪ ،‬ولكن رأيته يتوقف عندما لح َ‬
‫ق‬‫ت " كفى ‪ ،‬ويلي ‪ .‬ال ِ‬ ‫فيكتوريا آتية باتجاهه ‪ .‬قال ْ‬
‫ق المسدس حال ً " ‪ .‬ل أعلم‬ ‫المسدس من يدك ‪ .‬ال ِ‬
‫ن الحقيقة‬ ‫ن ُيطِلق النار عليها ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن كان ينوي أ ْ‬ ‫إ ْ‬
‫هي أنه لم ُيلِقه ‪ .‬كان سام قد أصبح بجوار فيكتوريا‬
‫ن قالت تلك الكلمات بلحظة ‪ ،‬ضغط‬ ‫عندئذٍ ‪ ،‬وبعد أ ْ‬
‫ف الطلق صدر ويلي ‪،‬‬ ‫على الزناد وأطلقَ النار ‪ .‬نس َ‬
‫ن‬
‫وفجأةً طار نحو الخلف ‪ ،‬وتخّبط على الد ََرج إلى أ ْ‬
‫ن يصل‬ ‫بلغَ أسفله ‪ .‬أعتقد أنه كان قد مات قبل أ ْ‬
‫ب‬ ‫ُ‬
‫ن يعرف أنه أصي َ‬ ‫إلى هناك ‪ ،‬مات قبل حتى أ ْ‬
‫ق ناري ‪.‬‬ ‫بطل ٍ‬

‫ت ‪ .‬من‬ ‫حدث ذلك قبل ستة أسابيع أو سبعة مض ْ‬


‫النزلء الثماني عشر الذين كانوا يعيشون هنا في‬
‫ل سبعة ‪ ،‬ونجح خمسة في الهرب ‪،‬‬ ‫ذلك الوقت ‪ ،‬قُت ِ َ‬
‫ح ثلثة ‪ ،‬وثلثة بقوا سالمين ‪ .‬السيد هسيا ‪،‬‬ ‫جرِ َ‬‫و ُ‬
‫وهو وافد جديد كان يقوم بخدٍع بورق اللعب في‬
‫ق ناريّ عند‬ ‫ً‬
‫ي متأثرا بجراح طل ٍ‬
‫الليلة الفائتة ‪ ،‬توف َ‬
‫الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي ‪.‬‬
‫ل من السيد روزنبرغ والسيدة رودنيكي ‪.‬‬ ‫يك ٌ‬
‫شف َ‬ ‫و ُ‬

‫‪211‬‬
‫كنا قد اعتنينا بهما على مدى أكثر من أسبوع ‪،‬‬
‫وحالما أصبحا قويين بما يكفي للمشي من جديد ‪،‬‬
‫صرفناهما ‪ .‬كانا آخر نزلء منزل ووبرن ‪ .‬وفي صباح‬
‫اليوم الذي تل الكارثة ‪ ،‬وضعَ سام لفتة وثّبتها‬
‫بمسمار إلى الباب المامي ‪ :‬منزل ووبرن‬
‫ق ‪ .‬الناس المتجمعون في الخارج لم يتفّرقوا‬ ‫ُ‬
‫أغل ِ َ‬
‫ت عليهم ‪ ،‬ومع مرور‬ ‫ن وطأة البرد اشتد ّ ْ‬ ‫حال ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫مغلقا ً ‪ ،‬بدأ الحشد بالتفّرق ‪ .‬ومنذ‬ ‫اليام وبقاء الباب ُ‬
‫ذلك الحين ونحن نجلس ‪ ،‬نضع خططا ً عما سنفعله‬
‫ن نجتاز فصل شتاء آخر ‪ .‬وكان‬ ‫بعد ذلك ‪ ،‬نحاول أ ْ‬
‫سام وبوريس يقضيان الردح الكبر من النهار في‬
‫المرأب ‪ ،‬يختبرون السيارة ليتأكدا من أنها تعمل‬
‫جيدا ً ‪ .‬وكانت الخطة تقضي بركوب السيارة‬
‫والبتعاد عن المكان حالما يصبح الجو دافئا ً ‪ .‬حتى‬
‫ت‬
‫فيكتوريا تقول إنها ترغب في الرحيل ‪ ،‬لكني لس ُ‬
‫ن كانت جادة في قولها ‪ .‬أعتقد أننا سوف‬ ‫متأكدة إ ْ‬
‫نعرف هذا عندما يحين الوقت ‪ .‬واستنادا ً على حالة‬
‫الطقس التي سادت على مدى الساعات الثنتين‬
‫والسبعين الخيرة ‪ ،‬أعتقد أننا لن ننتظر طويل ً ‪.‬‬
‫بذلنا أقصى جهدنا لنعتني بالجثث ‪ ،‬بتنظيف ما‬
‫حصل من تدمير ‪ ،‬بمسح الدماء ‪ .‬وزيادة على ذلك ‪،‬‬
‫ن أقول أي شيء ‪ .‬انتهينا مع حلول بعد‬ ‫ل أريد أ ْ‬
‫ظهيرة اليوم التالي ‪ .‬ارتقينا أنا وسام إلى الطابق‬
‫ن النوم جافاني ‪ .‬أما سام‬ ‫العلوي لننام قليل ً ‪ ،‬لك ّ‬
‫فاستغرق في النوم في الحال ‪ .‬ولم أرغب في‬
‫ت على الرض في‬ ‫إزعاجه ‪ ،‬فغادرت السرير وجلس ُ‬
‫ن كانت حقيبتي موجودة‬ ‫فأ ْ‬ ‫ركن الغرفة ‪ .‬وتصاد َ‬
‫ش فيها ‪ ،‬من دون أي سبب‬ ‫ت أفت ُ‬ ‫هناك ‪ ،‬فبدأ ُ‬
‫ت من جديد المفكرة‬ ‫ذ اكتشف ُ‬ ‫معّين ‪ .‬عندئ ٍ‬

‫‪212‬‬
‫ت اشتريتها لجل إيزابل ‪.‬‬ ‫الزرقاء التي كن ُ‬
‫الصفحات الولى كانت مملوءة برسائلها ‪،‬‬
‫الملحظات القصيرة التي كتبتها خلل‬
‫اليام الخيرة من مرضها ‪ .‬معظم الرسائل‬
‫كانت غاية في البساطة – أشياء مثل "‬
‫شكرا ً " أو " ماء " أو " عزيزتي أّنا " – ولكن‬
‫خم‬ ‫مض ّ‬ ‫ش ‪ ،‬ال ُ‬ ‫ت خط اليد ذاك ‪ ،‬اله ّ‬ ‫عندما رأي ُ‬
‫ت كم كانت تكافح‬ ‫‪ ،‬على الصفحة وتذ ّ‬
‫كر ُ‬
‫عد تلك‬ ‫لتجعل الكلمات واضحة ‪ ،‬لم ت ُ‬
‫الرسائل البسيطة تبدو شديدة البساطة‬
‫على الطلق ‪ .‬وفي الحال اندفعت آلف الشياء‬
‫ن أتوقف لفكر‬ ‫عائدة إلى ذاكرتي ‪ .‬ومن دون حتى أ ْ‬
‫ت تلك الوراق بهدوء من الدفتر ‪،‬‬ ‫في المر ‪ ،‬مزق ُ‬
‫مرب ٍّع أنيق ‪ ،‬وأعدته إلى الحقيبة‬ ‫وطويتها على شكل ُ‬
‫ت قد‬ ‫ت أحد أقلم الرصاص التي كن ُ‬ ‫‪ .‬ثم ‪ ،‬أخرج ُ‬
‫ت‬
‫ن بعيد ‪ ،‬ووضع ُ‬ ‫اشتريتها من السيد غامبينو قبل زم ٍ‬
‫ي وباشرت بكتابة هذه الرسالة ‪.‬‬ ‫الدفتر على ُركبت ّ‬
‫ف بضع‬ ‫ب فيها ‪ُ ،‬أضي ُ‬ ‫منذ ذلك الحين وأنا أكت ُ‬
‫ك كل شيء‬ ‫نل َ‬ ‫ن أدوّ َ‬ ‫صفحات في كل يوم ‪ ،‬أحاو ُ‬
‫لأ ْ‬
‫ت ‪ ،‬وكم ضاع مني ولن‬ ‫ل كم أسقط ُ‬ ‫‪ .‬أحيانا ً أتساء ُ‬
‫أعثر عليه أبدا ً ‪ ،‬ولكن هذه أسئلة ل يمكن الجابة‬
‫ح من‬ ‫عنها ‪ .‬الوقت يضيقُ الن ‪ ،‬وينبغي أل أسف َ‬
‫ن‬
‫تأ ّ‬ ‫الكلمات أكثر مما ينبغي ‪ .‬في البدء ‪ ،‬حسب ُ‬
‫المر لن يستغرق وقتا ً طويل ً – بضعة أيام لكي‬
‫أعطيك ما هو أساسي ‪ ،‬ل أكثر ‪ .‬والن امتل الدفتر‬
‫سر‬ ‫كله تقريبا ً ‪ ،‬وبالكاد لمست السطح ‪ .‬وهذا ُيف ّ‬
‫ن خط يدي أصبح أصغر باطراد مع‬ ‫السبب في أ ّ‬
‫ل‬‫ن أضعَ ك ّ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ت أحاو ُ‬ ‫دمي في الكتابة ‪ .‬لقد كن ُ‬ ‫تق ّ‬
‫ن يفوت الوان ‪،‬‬ ‫ل إلى النهاية قبل أ ْ‬ ‫ن أص َ‬ ‫شيء ‪ ،‬أ ْ‬

‫‪213‬‬
‫ن الكلمات‬ ‫ت نفسي ‪ .‬إ ّ‬ ‫ك الن كم خدع ُ‬ ‫ولكني أدر ُ‬
‫ت‬‫ل تسمح بمثل هذه الشياء ‪ .‬فكلما اقترب َ‬
‫من النهاية ‪ ،‬زاد ما ترغب في قوله ‪ .‬فما‬
‫ث نفسك‬ ‫ة تخترعها لتح ّ‬ ‫م ‪ ،‬غاي ٌ‬‫النهاية إل وه ٌ‬
‫ت تدر ُ‬
‫ك‬ ‫على الستمرار ‪ ،‬ولكن يأتي وق ٌ‬
‫ك لن تبلغها أبدا ً ‪ .‬ربما تضطر إلى‬ ‫عنده أن َ‬
‫ن ذلك فقط لنه لم يُعد يتوفر لديك‬ ‫التوقف ‪ ،‬ولك ّ‬
‫ت إلى‬ ‫ك وصل َ‬ ‫ن هذا ل يعني أن َ‬ ‫وقت ‪ .‬وتتوقف ‪ ،‬ولك ْ‬
‫النهاية ‪.‬‬
‫أصبحت الكلمات أصغر فأصغر باطراد ‪،‬‬
‫عد مقروءة ‪.‬‬ ‫صغيرة إلى درجة أنها ربما لم ت ُ‬
‫مما يدفعني إلى التفكير في فرديناند وفي‬
‫قواربه ‪ ،‬في أسطوله القزم من السفن‬
‫م الله‬ ‫حرة والمراكب الشراعية ‪ .‬يعل ُ‬ ‫مب ِ‬
‫ال ُ‬
‫ن هذه الرسالة‬ ‫لماذا أثابر ‪ .‬ل أعتقد أ ّ‬
‫ستصلك ‪ .‬إنها كالمناداة في الفراغ ‪،‬‬
‫غ رهيب شاسع ‪ .‬ثم ‪ ،‬عندما‬ ‫كالصراخ في فرا ٍ‬
‫ي‬
‫تف ّ‬ ‫سَر ْ‬ ‫ت لنفسي ببرهة من التفاؤل ‪َ ،‬‬ ‫سمح ُ‬
‫رعشة لدى تفكيري فيما سيحدث إذا لم تصلك‬
‫الرسالة ‪ .‬سوف تذهلك الشياء التي كتبُتها ‪ ،‬سوف‬
‫ينتابك القلق حتى درجة الشمئزاز ‪ ،‬وعندئذٍ سوف‬
‫ترتكب الغلطة الحمقاء نفسها التي ارتكبُتها ‪ .‬فل‬
‫تفعل ‪ ،‬أتوسل إليك ‪ .‬إنني أعرفك جيدا ً بحيث أعلم‬
‫ن لي أيّ قدرٍ من‬ ‫ت ل تزال تك ّ‬ ‫ك ستفعل ‪ .‬إذا كن َ‬ ‫بأن َ‬
‫مل‬ ‫ن أتح ّ‬ ‫الحب ‪ ،‬فل تقع في هذا الفخ ‪ .‬ل أستطيع أ ْ‬
‫التفكير في أنك تقلق بشأني ‪ ،‬في أنك ربما تتسكع‬
‫ن واحدا ً منا قد ضاع ‪.‬‬ ‫في تلك الشوارع ‪ .‬يكفي أ ّ‬
‫ن تبقى هناك إكراما ً‬ ‫ن تبقى حيث أنت ‪ ،‬وأ ْ‬ ‫الهم هو أ ْ‬
‫لي في ذهني ‪ .‬أنا هنا ‪ ،‬وأنت هناك ‪ .‬هذا هو‬

‫‪214‬‬
‫عزائي الوحيد ‪ ،‬وينبغي أل تفعل أي شيء‬
‫مره ‪.‬‬ ‫ن ُيد ّ‬ ‫من شأنه أ ْ‬
‫ن لم ينته المر بهذا‬ ‫من ناحية أخرى ‪ ،‬حتى وإ ْ‬
‫ن‬
‫الدفتر إلى الوصول إليك ‪ ،‬ل شيء ُيحّتم عليك أ ْ‬
‫ن‬
‫تقرأه ‪ .‬ليس لديك أي التزام نحوي ‪ ،‬ول أريد أ ْ‬
‫ن تفعل أيّ شيء ضد‬ ‫ك على أ ْ‬ ‫أعتقد أني أجبرت ُ َ‬
‫ن يؤول المر إلى هذا‬ ‫إرادتك ‪ .‬وأحيانا ً أجدني آمل أ ْ‬
‫– إلى أل تجد ببساطة الشجاعة على البدء ‪ .‬أنا أفهم‬
‫التناُقض ‪ ،‬ولكن هذا ما أشعر به أحيانا ً ‪ .‬فإذا كان‬
‫هذا هو الحال ‪ ،‬فالكلمات التي أكتبها لجلك الن‬
‫غير مرئّية بالنسبة إليك منذ الن ‪ .‬لن تراها عيناك‬
‫هق ذهنك بأدق تفاصيل ما قلت ‪ .‬لع ّ‬
‫ل‬ ‫أبدا ً ‪ ،‬لن ُتر ِ‬
‫ت‬
‫هذا أفضل بكثير ‪ .‬ومع ذلك ‪ ،‬ل أعتقد أني كن ُ‬
‫ن أرميها ‪ .‬فإذا‬ ‫سأرغب في تدمير هذه الرسالة أو أ ْ‬
‫ن تسّلمها بدل ذلك‬ ‫شئت أل تقرأها ‪ ،‬فعليك ربما أ ْ‬
‫ن يحصل‬ ‫إلى والديّ ‪ .‬أنا واثقة من أنهما سيودان أ ْ‬
‫ن لم يتمكنا من دفع نفسيهما‬ ‫على الدفتر ‪ ،‬حتى وإ ْ‬
‫ن يضعاها في‬ ‫هما أيضا ً إلى قراءتها ‪ .‬يمكنهما أ ْ‬
‫ن ما في غرفتي في المنزل ‪ .‬أعتقد أني أحب‬ ‫مكا ٍ‬
‫ن المر انتهى بها إلى‬ ‫تأ ّ‬ ‫ن يحدث هذا ‪ ،‬إذا عِلم ُ‬ ‫أ ْ‬
‫تلك الغرفة ‪ ،‬على أحد الرفف فوق سريري ‪ ،‬مثل ً ‪،‬‬
‫جنبا ً إلى جنب مع ُدماي القديمة ورداء راقصة الباليه‬
‫الذي ارتديت وأنا في السابعة من عمري – إنها آخر‬
‫شيء تتذكرني به بواسطته ‪.‬‬

‫لم أعد أخرج كثيرا ً ‪ .‬فقط عندما يأتي دوري‬


‫ضع ‪ ،‬ولكن حتى حينئذٍ يتبّرع سام في‬
‫للقيام بالتب ّ‬
‫ت الن عادة‬
‫المعتاد في الحلول محلي ‪ .‬لقد فقد ُ‬
‫التجوال في الشوارع ‪ ،‬وأصبحت النزهات تسّبب لي‬

‫‪215‬‬
‫ضغطا ً عصبيا ً شديدا ً ‪ .‬أعتقد أنها مسألة تواُزن ‪.‬‬
‫ونوبات الصداع كانت شديدة اليلم هذا الشتاء أيضا ً‬
‫ت إلى المشي أكثر من خمسين أو‬ ‫‪ ،‬وكلما اضطرر ُ‬
‫ت‬‫ت أترّنح ‪ .‬وكلما خطو ُ‬ ‫مائة ياردة ‪ ،‬أشعر بأني بدأ ُ‬
‫ن البقاء في المنزل لم‬ ‫خطوة ‪ ،‬أعتقد أني سأقع ‪ .‬إ ّ‬
‫ي ‪ .‬إنني أتابع إعداد الطبخ كله تقريبا ً ‪،‬‬ ‫يُعد صعبا ً عل ّ‬
‫ت أعد ّ الوجبات لعشرين أو ثلثين‬ ‫ن كن ُ‬‫ولكن بعد أ ْ‬
‫ة واحدة ‪ ،‬أصبح الطبخ لربعة شيئا ً ل‬ ‫شخصا ً دفع ً‬
‫كر بالمقارنة ‪ .‬وعلى أي حال لم نعد نأكل الكثير ‪.‬‬ ‫ُيذ َ‬
‫فقط ما يكفي لُيسكت ألم الجوع ‪ ،‬ولكن ليس أكثر‬
‫دخر نقودنا من أجل القيام‬ ‫نن ّ‬ ‫من هذا ‪ .‬إننا نحاول أ ْ‬
‫بالرحلة وينبغي أل ننكث بوعدنا لنظام الحكم هذا ‪.‬‬
‫لقد كان فصل الشتاء باردا ً نسبيا ً ‪ ،‬بقدر برودة‬
‫الشتاء الرهيب ‪ ،‬ولكن من دون سقوط الثلوج‬
‫المتواصل والرياح العاتية ‪ .‬وقد حافظنا على‬
‫دفئنا بنزع أجزاء من المنزل ورمي القطع‬
‫في الفرن ‪ .‬فيكتوريا هي التي اقترحت فعل‬
‫ن أؤكد ما إذا كان ذلك‬ ‫ذلك ‪ ،‬ولكن ل أستطيع أ ْ‬
‫يعني أنها كانت تستشرف المستقبل أم أنها لم تُعد‬
‫طر البواب ‪،‬‬ ‫تأبه ‪ .‬انتزعنا أجزاًء من الدرابزين ‪ ،‬وأ ُ ُ‬
‫والحواجز ‪ .‬كان يسود المَر سرور فوضويّ في أول‬
‫المر – بتقطيع المنزل من أجل استخدامه وقودا ً –‬
‫ولكن الن أصبح فقط شيئا ً ُيثير الكتئاب ‪ .‬لقد‬
‫أضحى معظم الغرف عاريا ً ‪ ،‬ونشعر كما لو أننا‬
‫نعيش داخل محطة حافلت مهجورة ‪ ،‬وهو بناء‬
‫معد ّ للتدمير ‪.‬‬ ‫قديم آيل للسقوط ُ‬
‫عين الخيرين ‪ ،‬كان سام يخرج‬ ‫على مدى السبو َ‬
‫شط حدود المدينة ‪ ،‬يبحث‬ ‫تقريبا ً في كل يوم لُيم ّ‬
‫ن‬‫الوضع على طول المتاريس ‪ُ ،‬يراقب بعناية ليرى إ ْ‬

‫‪216‬‬
‫كان هناك تجمعات للجيش أم ل ‪ .‬مثل تلك‬
‫كل فرقا ً كبيرا ً عندما يحين‬ ‫ن تش ّ‬ ‫المعلومات يمكن أ ْ‬
‫الوقت ‪ .‬أما حاليا ً ‪ ،‬فمتراس فيدلر يبدو أنه اختيارنا‬
‫المنطقي ‪ .‬إنه الحاجز الذي يقع في أقصى الغرب ‪،‬‬
‫ق تؤدي إلى قلب بلد مفتوح‬ ‫ويقود مباشرةً إلى طري ٍ‬
‫ن البوابة اللفّية الجنوبية أغوتنا أيضا ً ‪ .‬هناك‬ ‫‪ .‬لك ّ‬
‫حركة مرور على الجانب المقابل ‪ ،‬كما قيل لنا ‪،‬‬
‫ددة ‪.‬‬‫مش ّ‬ ‫ن البوابة نفسها ليست الحراسة عليها ُ‬ ‫لك ّ‬
‫والخيار الوحيد الذي ألغيناه دون أدنى شك هو جهة‬
‫الشمال ‪ .‬فكما يبدو هناك خطر فادح واضطراب‬
‫في ذلك الجزء من البلد ‪ ،‬ومنذ بعض الوقت والناس‬
‫ن جيوشا ً أجنبية تحتشد‬ ‫يتحدثون عن اجتياح ‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫ن‬‫دة لتضرب المدينة بعد أ ْ‬ ‫في الغابات وتعد ّ العِ ّ‬
‫ن سمعنا مثل هذه‬ ‫يذوب الثلج ‪ .‬وطبعا ً سبقَ أ ْ‬
‫دق ‪ .‬وقد‬ ‫الشاعات ‪ ،‬ومن الصعب معرفة ماذا نص ّ‬
‫حصل بوريس ستيبانوفيتش منذ الن على إجازات‬
‫السفر عبر رشوة الموظفين الرسميين ‪ ،‬لكنه ل‬
‫عدة في كل يوم كامنا ً حول‬ ‫زال يقضي ساعات ِ‬
‫ن يلتقط‬ ‫أبنية البلدية في مركز المدينة ‪ ،‬على أمل أ ْ‬
‫معلومة صغيرة تكون ذات فائدة لنا ‪ .‬ونحن‬
‫ن هذا‬‫محظوظون لحصولنا على إجازات السفر ‪ ،‬لك ّ‬
‫ل يعني بالضرورة أنها نافذة المفعول ‪ .‬قد تكون‬
‫مزّورة ‪ ،‬وفي هذه الحالة سوف يتم إلقاء القبض‬
‫رف على الخروج ‪.‬‬ ‫مش ِ‬‫علينا حالما نعّرف بأنفسنا لل ُ‬
‫ن نعود إلى‬ ‫أو قد ُيصادرها دون أي سبب ويأمرنا بأ ْ‬
‫ن مثل هذه المور تقع ‪،‬‬ ‫حيث أتينا ‪ .‬من المعروف أ ّ‬
‫ن نستعد لي احتمال ‪ .‬لذلك ‪ ،‬استمر‬ ‫وعلينا أ ْ‬
‫ن الحاديث‬ ‫بوريس في الستطلع والصغاء ‪ ،‬لك ّ‬
‫التي يسمعها شديدة التشويش والتناُفر بحيث تكون‬

‫‪217‬‬
‫ن‬
‫ن هذا يعني أ ّ‬ ‫لها أي قيمة صلبة ‪ .‬إنه يعتقد أ ّ‬
‫الحكومة سوف تسقط من جديد ‪ .‬وإذا كان المر‬
‫كذلك فقد نتمكن من الستفادة من الفوضى‬
‫المؤقتة ‪ ،‬ولكن حتى هذه اللحظة ل شيء واضح‬
‫حقا ً ‪ .‬ل شيء واضح ‪ ،‬ول زلنا ننتظر ‪ .‬وفي‬
‫هذه الثناء ‪ ،‬تقبع السيارة في المرأب ‪،‬‬
‫معّبأة بالحقائب وبملء تسع حاويات كبيرة‬ ‫ُ‬
‫من الوقود الضافي ‪.‬‬
‫ل بوريس لُيقيم معنا قبل حوالي شهر ‪.‬‬ ‫انتق َ‬
‫ن‬‫أصبح أشد نحول ً قليل ً عما كان عليه ‪ ،‬وبين حي ٍ‬
‫سمة الرهاق على وجهه ‪ ،‬وكأنه ُيعاني‬ ‫وآخر أتبّين ِ‬
‫ض ما ‪ .‬لكنه لم يكن يشتكي أبدا ً ‪ ،‬ولذلك‬ ‫من مر ٍ‬
‫من المستحيل معرفة خطبه ‪ .‬من الناحية‬
‫الجسدية ‪ ،‬ل ريب في أنه فقد َ بعضا ً من وزنه ‪،‬‬
‫ل‬‫ت ‪ ،‬على الق ّ‬ ‫ن معنوياته تأّثر ْ‬ ‫ولكني ل أعتقد أ ّ‬
‫ن ولعه الساسي في هذه اليام هو‬ ‫ليس ظاهريا ً ‪ .‬إ ّ‬
‫ن ُنغادر المدينة ‪.‬‬ ‫ن ُيحاول معرفة ماذا سنفعل بعد أ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫وفي صباح كل يوم يخرج بخطة جديدة ‪ ،‬وكل واحدة‬
‫أشد ّ سخفا ً من سابقتها ‪ .‬وأحدثها تتفوق عليها جميعا ً‬
‫سّره متعّلق بها ‪ .‬إنه ُيريد منا‬ ‫‪ ،‬ولكني أعتقد أنه في ِ‬
‫سحر ‪.‬‬ ‫ن نبتدع عرضا ً من أعمال ال ِ‬ ‫نحن الربعة أ ْ‬
‫ن نتجول في الريف في سيارتنا ‪ ،‬كما‬ ‫يمكننا أ ْ‬
‫يقول ‪ ،‬ونقدم عروضا ً مقابل الطعام والمأوى ‪.‬‬
‫سيكون هو الساحر ‪ ،‬طبعا ً ‪ ،‬وسيرتدي بذلة سوداء‬
‫رسمية وسيعتمر قبعة عالية من الحرير ‪ .‬وسيكون‬
‫منادي على العرض ‪ ،‬وفيكتوريا مديرة‬ ‫سام هو ال ُ‬
‫مساعدة – الشابة المغرية‬ ‫العمال ‪ .‬وسأكون أنا ال ُ‬
‫التي تقفز في المكان بزّيها الضيق ‪ ،‬اللمع ‪ .‬سوف‬
‫أناول المايسترو أدواته خلل العرض ‪ ،‬وكخاتمة‬

‫‪218‬‬
‫نهائية أرتقي صندوقا ً خشبيا ً ويتم نشري إلى نصفين‬
‫‪ .‬ثم سترين فترة وجيزة من الصمت ‪ ،‬وفي اللحظة‬
‫المناسبة ‪ ،‬عندما ُيفَقد كل أمل ‪ ،‬أظهر من الصندوق‬
‫وأنا سليمة العضاء ‪ ،‬أومئ بانتصار ‪ ،‬أوّزع القبلت‬
‫مشرقة ‪،‬‬ ‫على الحشد ‪ ،‬وعلى وجهي ابتسامة ُ‬
‫مصطنَعة ‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ن نحلم‬ ‫بالنظر إلى ما نصبو إليه ‪ ،‬من الممتع أ ْ‬
‫بتلك الشياء التافهة ‪ .‬أصبح ذوبان الثلوج واضحا ً‬
‫الن ‪ ،‬بل وهناك فرصة سانحة للمغادرة في صباح‬
‫ن نأوي إلى السرير ‪ :‬إذا‬ ‫كرنا قبل أ ْ‬‫الغد ‪ .‬هكذا ف ّ‬
‫ن نتفوه‬ ‫ت الجواء واعدة ‪ ،‬فسوف ننطلق دون أ ْ‬ ‫بد ْ‬
‫ب‬
‫بأي كلمة ‪ .‬نحن الن في قلب الليل ‪ ،‬والريح ته ّ‬
‫وتتغلغل في شقوق المنزل ‪ .‬الجميع نائمون ‪ ،‬وأنا‬
‫ن‬‫لأ ْ‬ ‫جالسة في الطابق السفلي في المطبخ ‪ ،‬أحاو ُ‬
‫ن أتخّيله ‪ .‬بل ل‬ ‫أتخّيل ما ينتظرني ‪ .‬ل أستطيع أ ْ‬
‫ن أبدأ في التفكير فيما سيحدث لنا‬ ‫أستطيع حتى أ ْ‬
‫هناك ‪ .‬كل شيء ممكن ‪ ،‬وهذا ُيعادل ل شيء‬
‫‪ ،‬ويعادل الولدة في عالم ٍ لم يوجد من قبل‬
‫ن نغادر المدينة ‪،‬‬ ‫‪ .‬قد نعثر على ويليام بعد أ ْ‬
‫ن كل‬ ‫ولكني أحاول أل أغالي في المل ‪ .‬إ ّ‬
‫ما أطلبه الن هو فرصة عيش يوم آخر ‪.‬‬
‫ك من عالم ٍ آخر ‪.‬‬ ‫هذه أّنا بلوم ‪ ،‬صديقت َ‬
‫وعندما نصل إلى حيث نحن ذاهبون ‪،‬‬
‫دك ‪.‬‬ ‫ع ُ‬ ‫ب إليك من جديد ‪ ،‬أ ِ‬ ‫ن أكت َ‬ ‫لأ ْ‬‫سأحاو ُ‬

‫ـ انتهـى ـ‬

‫‪219‬‬
‫صفحة الغلف الخلفية‬

‫" دددد دددد دددددد دد ددددددد ‪ .‬دددد‬


‫ددددددددددددددد دددددددددددد د ددددد‬
‫"‬ ‫دددددد دد دددد دد ‪...‬‬
‫دددد‬

‫هذه قصة أّنا بلوم ورحلة بحثها عن أخيها‬


‫ماة ‪ .‬ولكنها‬ ‫المفقود ‪ ،‬ويليام ‪ ،‬في المدينة الل ٌُ‬
‫مس ّ‬
‫م عليها بالخفاق ‪ ،‬وهكذا‬ ‫كالمدينة نفسها ‪ ،‬محكو ٌ‬
‫ن كل ما يتبّقى هو ما كتبته أّنا عن سرد ما حدث ‪.‬‬ ‫فإ ّ‬

‫ن رواية بول أوستر " دد ددد ددددددد‬ ‫إ ّ‬


‫مر‬‫مد ّ‬
‫دد و ُ‬
‫مح ّ‬ ‫ددددددد " تأخذنا إلى عالم ٍ غير ُ‬
‫تختفي الذات فيه وسط مظاهر الرعب التي ُتحيط‬
‫ي–‬
‫ي ‪ ،‬وهم ّ‬ ‫ن هذا ليس مجرد َ عالم ٍ مستقبل ّ‬ ‫بنا ‪ .‬ولك ْ‬
‫رز بعضا ً من‬ ‫كرنا بعالمنا ‪ ،‬وهو بذلك ُيب ِ‬ ‫إنه عالم ُيذ ّ‬
‫أشد ّ جوانبه سوادا ً ‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫مع ّ‬
‫ذب‬ ‫ن " دد ددد ددددددد ددددددد " ُ‬ ‫"إ ّ‬
‫وعابث ذهنيا ً كمؤلفات بيكيت ‪ ،‬ويبقى في العقل‬
‫وفي الحاسيس "‬
‫من " دددد دددد"‬

‫مترعٌ بالفكار الذكية ‪ ...‬يمزجها‬‫" هذا الكتاب ُ‬


‫س عظيم بالمغامرة ‪ ،‬وُيطِلق عددا ً من‬‫أوستر بح ٍ‬
‫البتكارات الغريبة في وجه القارئ "‬
‫من " دددددددد "‬

‫ي‬
‫ن أوستر روائ ٌ‬
‫هج ول ُينسى ‪ ...‬إ ّ‬
‫" إنه كتاب يتو ّ‬
‫عبقريّ "‬
‫من " ددددد دددددددد "‬

‫‪221‬‬
222

You might also like