على هامش الثورة - ذكريات ثورية

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 99

3122

1
‫على هامش الثورة ‪ -‬ذكرٌات ثورٌة‬
‫عبدالرحمن جمال‬

‫االسم من اختٌار‪ :‬محمد نصرهللا‬


‫صورة الؽبلؾ‪ :‬طارق وجٌه‬
‫تصمٌم فنً و إخراج‪ :‬عبدالرحمن جمال‬

‫بالتعاون مع مدونة "فكرة و كٌبورد ‪ ..‬و حبة هٌاس"‬


‫‪http://tahyeesa.blogspot.com‬‬

‫جمٌع حقوق الطبع و النشر محفوظة لكل‬


‫مصري و مصرٌة‪ ،‬على أرض هذا الوطن أو‬
‫خارجه‪ٌ ،‬عٌشون بٌننا على أرض الواقع أو ال‬
‫ٌزالون فً عالم الغٌب‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ربما لم تحظ ثورة فً تارٌخ مصر الذي ٌضرب بجذوره فً‬
‫أعماق الزمن بمثل هذا االهتمام الذي حظٌت به ثورة الخامس و‬
‫العشرٌن من ٌناٌر‪ ،‬فهً لٌست الثورة الشعبٌة األولى بحق فً‬
‫تارٌخ مصر‪ ،‬بل هً أٌضًا أول ثورة على مستوى العالم ٌعلن‬
‫الثوار عن قٌامهم بها قبل موعدها بعشرة أٌام كاملة‪ ،‬و هً‬
‫الثورة األولى التً تنطلق من الفضاء التخٌلً لئلنترنت ثم تهبط‬
‫إلى الشارع‪ ،‬و هً الثورة األولى التً حظٌت منذ لحظتها األولى‬
‫بهذا الكم من المتابعة و التوثٌق‪ ،‬أكان هذا التوثٌق صورً ا ثابتة أو‬
‫متحركة أو شهادات حٌة ٌكتبها من ٌمتلك قلمًا ٌبرع فً‬
‫استعماله‪..‬‬

‫عندما بدأت كتابة هذه األوراق‪ ،‬كنت أكتبها ألننً أعرؾ أننا‬
‫سننسى؛ فالشعب المصري اعتاد النسٌان وسٌلة لتخفٌؾ الهموم‬
‫عنه ‪ ..‬كنت أكتب كً أترك ألوالدي – إن جاءوا – وثٌقة‬
‫ٌعرفون بها كم و كٌؾ ضحى أجدادهم كً ٌنعموا بحرٌتهم ‪..‬‬

‫‪3‬‬
‫إننً ال أقول إننً أإرخ للثورة‪ ،‬فالحدث أكبر من شخص واحد‪،‬‬
‫بل إن جل ما أستطٌع أن أدعٌه هو أننً أشارك فً التؤرٌخ‪،‬‬
‫بتسجٌل شهادتً و مشاهداتً لما حدث فً تلك األٌام‪ ،‬عل من‬
‫ٌؤتون بعدنا ٌقرأونها لٌستخلصوا منها ما سٌكتبونه فً كتب‬
‫التارٌخ‪ ،‬و مقررات المدارس‪ ،‬و البرامج الوثابقٌة التً ستتحدث‬
‫عن هذه الفترة الفارقة فً تارٌخنا ‪..‬‬

‫بدأت الكتابة متؤخرً ا خمسة أٌام كاملة‪ ،‬مدفو ًعا فً البداٌة بعدم‬
‫إٌمانً بؤن الحدث على هذا القدر من الضخامة‪ ،‬ثم مدفوعًا‬
‫بتسارع األحداث للحد الذي جعل متابعتها فحسب شٌ ًبا مره ًقا ‪..‬‬

‫من أجل ذلك ستجدون بعض االضطراب فً الخط الزمنً‬


‫للسرد؛ إذ بدأته من لحظة بدء التدوٌن‪ ،‬ثم عدت إلى الوراء قلٌبلً‪،‬‬
‫ثم عاودت االلتزام بخط الزمن‪ ،‬و إننً ألعتذر منكم لذلك ‪..‬‬

‫إننً لم أقدم الكثٌر لهذه الثورة‪ ،‬اللهم إال بعض الدعم المعنوي و‬
‫القلٌل من التؽطٌة اإلخبارٌة‪ ،‬و بعض الحشد الجماهٌري‪ ،‬و إننً‬
‫ألرجو أن تجعل هذه األوراق رصٌدي فً الثورة أكبر‪ ،‬إن لم‬
‫ٌكن فً صنعها‪ ،‬فعلى األقل فً الحفاظ علٌها من النسٌان ‪..‬‬

‫و هللا الموفق‪،‬‬
‫اإلسكندرٌة فً الثامن و العشرٌن من فبراٌر‬
‫عام أحد عشر و ألفٌن من المٌبلد‬

‫‪4‬‬
‫‪ٌ 41‬ناٌر ‪3122‬‬
‫من الصعب فً مثل هذه اللحظات أن تجلس لتكتب ‪ ..‬كل دقٌقة‬
‫هً حدث جدٌد ‪ ..‬كل ثانٌة هً تطور مفصلً فً األحداث ‪..‬‬
‫كل لحظة هً منعطؾ تارٌخً ‪..‬‬

‫من الصعب أن تجلس لتكتب‪ ،‬فمشاعرك لٌست بداخلك‪ ،‬و لٌس‬


‫ٌحتوٌها جسدك أو تحتضنها روحك ‪ ..‬إحساسك باللحظة قد ٌبلػ‬
‫بك ح ًدا ٌجعلك تبالػ حتى الخرافة‪ ،‬أو تنظر فً ترقب حتى‬
‫اإلصابة بقرحة المعدة من فرط التوتر ‪..‬‬

‫بدأ األمر منذ خمسة أٌام ‪ ..‬بدأ منذ خمسة أٌام‪ ،‬لكن تسارع‬
‫األحداث لم ٌترك لً الفرصة كً أتابعها فضبلً عن أن أسجلها ‪..‬‬
‫من أجل ذلك سابدأ – كً ال أنسى‪ ،‬و كً ٌسٌر السرد فً طرٌق‬
‫ال ٌسبب ارتبا ًكا لً أو لك – من النهاٌة‪ ،‬و أعنً بهذه النهاٌة تلك‬

‫‪5‬‬
‫اللحظة التً أجلس فٌها ألكتب‪ ،‬فاألحداث التً بدأت فً الثبلثاء‬
‫الخامس و العشرٌن من ٌناٌر ال تبدو لها فً األفق نهاٌة قرٌبة ‪..‬‬

‫الٌوم هو األحد‪ ،‬الثبلثون من ٌناٌر‪ ،‬عام أحد عشر و ألفٌن من‬


‫المٌبلد‪ ..‬ال زالت الببلد على حالها ‪ ..‬حالة من االنتعاش – إن‬
‫صح التعبٌر – تؽمر الشعب المصري من أعبله إلى اسفله ‪..‬‬
‫الشعب الذي طالما وصفه الكثٌرون – و أنا أولهم‪ ،‬و لست أنكر‬
‫هذا – أنه شعب جبان خانع خمول كسول مرتش أفاق كذاب‬
‫منافق ‪ ..‬الشعب الذي لم ٌسلم من السباب‪ ،‬و ال حتى من سبابه‬
‫نفسه ‪ ..‬هذا الشعب العجٌب‪ ،‬الذي هو منافق و تملإ قلبه التقوى‬
‫فً الوقت ذاته‪ ،‬و هو عربٌد لكنه ٌصلً الفروض الخمس‪ ،‬و‬
‫ٌخاؾ هللا لكنه ٌداوم على الكذب و النفاق‪ ..‬لكن الحق أن هذا ما‬
‫كان‪ ،‬أما ما هو اآلن فشًء آخر و ال شك ‪..‬‬

‫حالة االنتعاش و الصحوة ال زالت مستمرة‪ ،‬لكننً على عكس‬


‫األٌام الماضٌة لم أبق فً البٌت ألتابع األحداث على شاشة‬
‫الجزٌرة‪ ،‬التً أؼلقوا مقرها فً مصر "بالضبة و المفتاح"‪ ،‬و‬
‫أزالوا معالمها من على القمر المصري ناٌل سات‪ ،‬فً محاولة‬
‫ساذجة منهم للـ"تعتٌم"‪ ،‬و هو ما ٌعكس ؼبا ًء مزرًٌا من جانبهم‬
‫بالطبع ‪..‬‬

‫كل ٌ فً مكانه‬
‫على عكس األٌام الماضٌة لم أبق فً المنزل ألشاهد عن بعد‪ ،‬بل‬
‫قررت أن أذهب للمستشفى األمٌري هنا فً اإلسكندرٌة‪ ،‬إذ‬

‫‪6‬‬
‫بلؽتنً أنباء أنهم بحاجة إلى أطباء ٌسدون الفراغ الذي لم ٌنشؤ‬
‫عن ؼٌاب األطباء‪ ،‬بل عن التزاٌد الشنٌع فً أعداد القتلى و‬
‫الجرحى ‪ ..‬و ال أقول الشنٌع من باب المبالؽة أو التهوٌل‪ ،‬بل هو‬
‫الوصؾ األدق و األنسب لما حدث؛ فالتزاٌد لٌس نتٌجة "ثورة‬
‫الشعب"‪ ،‬بل هو نتٌجة "قذارة النظام"‪ ،‬و كان من الممكن أن ٌمر‬
‫األمر بسبلم أكبر لوال الؽباء فً التعامل و الحمق فً تعاطً‬
‫ً‬
‫عقودا إلى الخلؾ‬ ‫الموقؾ‪ ،‬و استمرار العقلٌة األمنٌة التً أذهبتنا‬
‫فً معالجة الموقؾ ‪..‬‬

‫ذهبت الٌوم‪ ،‬ألصل فً حدود العاشرة أو العاشرة و النصؾ‬


‫صباحً ا‪ ،‬و قد مررت على كل ما كنت أمر علٌه منذ أٌام قلٌلة فً‬
‫ذهابً إلى الكلٌة كل ٌوم ‪ ..‬مررت علٌه ألرى ماذا حدث‪ ،‬و ذلك‬
‫للمرة األولى منذ أن انفلت الوضع األمنً و اشتعل ٌوم الجمعة‬
‫الثامن و العشرٌن من ٌناٌر ‪..‬‬

‫لست بحاجة لوصؾ نقاط الشرطة التً أصبحت كتبلً من الفحم و‬


‫السخام‪ ،‬و خرابب تنضح بسواد قدٌم من الظلم و العنؾ و‬
‫التعذٌب أدى بها إلى سوادها الحالً الناتج عن االحتراق ‪ ..‬لست‬
‫بحاجة إلى وصؾ ما حدث لنقطة شرطة سٌدي جابر على سبٌل‬
‫المثال‪ ،‬و التً أصبح ال ٌرى منها إال بوابتها الوهمٌة و علٌها‬
‫أحرؾ ببلستٌكٌة التهمتها النٌران فشوهتها‪ ،‬و ما سوى ذاك فهو‬
‫خراب ‪ ..‬لست بحاجة إلى وصؾ نقطة شرطة باب شرقً‪ ،‬و‬
‫نادي الشرطة المجاور لها‪ ،‬و اللذان تحوال إلى ما ٌشبه خرابب‬
‫بابل ‪ ..‬لست بحاجة إلى وصؾ مبنى محافظة اإلسكندرٌة‪ ،‬الذي‬

‫‪7‬‬
‫تهدم بفعل الحرٌق‪ ،‬و لك أن تتخٌل قوة الحرٌق و درجة الحرارة‬
‫ضا لٌس ٌرى سواها على‬‫التً تهدم الحجر و الحدٌد‪ ،‬فتحٌله أنقا ً‬
‫مد البصر ‪ ..‬لست بحاجة‪ ،‬ألنك عزٌزي القارئ قد رأٌت مثل‬
‫هذا أًٌا كان موقعك فً الجمهورٌة ‪..‬‬

‫كنت أرصد ما أرى‪ ،‬و رصدت فٌما رصدت هإالء الرجال‬


‫العظام و الشباب الرابع الذٌن تبرعوا دون توجٌه من أحد‪ ،‬و‬
‫دون تعلٌمات من أحد‪ ،‬و دون انتظار أجر من أحد ‪ ..‬تبرعوا‬
‫بتنظٌم حركة المرور ‪ ..‬ثبلثة أو أربعة عند كل تقاطع ٌتابعون‬
‫حركة السٌر‪ ،‬و ٌنظمون مرور السٌارات‪ ،‬فٌما عكس و ٌعكس‬
‫أننا لسنا بهذه القذارة التً تصورناها و نتصورها ‪ ..‬ما زلنا على‬
‫درجة من النقاء رؼم كل هذا الطٌن الذي ؼطى أجسادنا ‪..‬‬

‫خلف المدرعة‬
‫خط سٌري إلى المستشفى ٌوصلنً إلى شارع فإاد حٌث مبنى‬
‫محافظة اإلسكندرٌة‪ ،‬ثم انعطؾ ٌمٌ ًنا فً شارع المتحؾ‬
‫الرومانً حتى أصل إلى بوابة المستشفى الربٌسة ‪..‬‬

‫وصلت إلى مبنى المحافظة‪ ،‬و فوجبت و فُجعت مما رأٌت‪،‬‬


‫لكننً ابتلعت كل هذا إذ الحظت أن حالة من الهرج و المرج قد‬
‫عمت المكان و المتواجدٌن‪ ،‬و أن امرأة تصرخ كما لو كانوا‬
‫ٌذبحونها بسكٌن بارد‪ ،‬ألكتشؾ فً النهاٌة أن تستدعً النجدة‪،‬‬
‫المتمثلة فً المدرعات المتمركزة هناك ‪..‬‬

‫‪8‬‬
‫انطلقت فً طرٌقً‪ ،‬فٌما انطلقت ورابً المدرعة بطاقمها‪ ،‬و‬
‫ألول مرة أرى مشه ًدا كهذا ‪ ..‬مدرعة بهدٌر محركاتها و‬
‫جنزٌرها تمرق بجانبً بسرعة جنونٌة متوجهة صوب‬
‫المستشفى‪ ،‬التً ٌبدو من صراخ المرأة أنها تتعرض إلى هجوم‬
‫عنٌؾ ‪..‬‬

‫عبرت الطرٌق سرٌ ًعا و لحقت بالمدرعة على باب المستشفى‪،‬‬


‫حٌث تباطبت قلٌبلً‪ ،‬لتنطلق بعدها و تستقر داخل المستشفى‪،‬‬
‫لٌكتشؾ الكل أن األمر قد انتهى ‪ ..‬و األمر الذي انتهى هو أن‬
‫مجموعة من الناس قد اثارت الشؽب لست أدري كٌؾ و ال لم –‬
‫و لم أهتم بالسإال فً الواقع – لكن رجال الحماٌة الشعبٌة‪ ،‬و هم‬
‫من موظفً الكلٌة الذٌن قرروا النزول لحماٌة المستشفى و الدفاع‬
‫عنها ‪ ..‬أنهى هإالء الرجال ما حدث و احتووا الموقؾ‪ ،‬لكنها‬
‫بالطبع كانت بداٌة مثٌرة للؽاٌة ‪ ..‬أنا أدخل المسشتفى خلؾ‬
‫مدرعة !‬

‫هدوء نسبً‬
‫الهدوء كان سٌد الموقؾ لحظة وصولً ‪ ..‬قسم االستقبال‬
‫هاديء‪ ،‬فبل شًء سوى الحاالت المعتادة‪ ،‬ما بٌن مرضى‬
‫الذبحة‪ ،‬أو التسمم‪ ،‬أو التهابات مجرى البول ‪ ..‬لكن ما عرفته‬
‫منذ اللحظة األولى لوصولً هو أن المستشفى بالكامل قد‬
‫ُخصص للحوادث‪ ،‬و أن كافة العنابر قد انقلبت عنابر جراحٌة‪ ،‬و‬
‫اختفى – تقرٌبًا – مسمى "الباطنة" من المستشفى ‪ ..‬معلومة‬

‫‪9‬‬
‫لست أجد أصدق منها تعبٌرً ا و تبرٌرً ا لما كتبته منذ أسطر‪ ،‬عن‬
‫وصفً للتزاٌد فً أعداد القتلى و الجرحى بإنه "شنٌع" ‪..‬‬

‫ظل األمر على هذا الحال حتى بدأت أولى البشابر ‪ ..‬مصاب‬
‫بطلق ناري "رش" أتى إلى المستشفى محوالً من العجمً‪،‬‬
‫استقرت فً جسده اثنتان من هذه الطلقات‪ ،‬أحسست بواحدة‬
‫منهما تحت جلده‪ ،‬و هو إحساس لست أحب أن أعٌشه بكل‬
‫تؤكٌد‪..‬‬

‫ثم حالة أخرى هً كسر فً الساق‪ ،‬ثم أخرى هى طلقة دخلت فً‬
‫ساقه ثم خرجت‪ ،‬ثم أخرى استقرت طلقة فً رأسه بٌنما دخلت‬
‫األخرى و خرجت‪ ،‬ثم أخرى هً ثبلث طلقات أصابته ٌوم‬
‫الجمعة‪ ،‬لٌكتشؾ أن أحدها ال زالت فً جسده ‪..‬‬

‫طلق ناري ‪ ..‬طلق ناري ‪ ..‬طلق ناري !‬

‫هذا رصاص حً‪ ،‬و لٌس رصاص مطاطً‪ ،‬أو شظاٌا القنابل‬
‫المسٌلة للدموع‪ ،‬إن كان لها شظاٌا ‪ ..‬هذا رصاص حً !‬

‫كنت أعتقد أن من ٌتحدثون عن إطبلق النار من الشرطة‬


‫ٌبالؽون‪ ،‬أو ٌخلطون بٌن الرصاص المطاطً و الرصاص‬
‫الحً‪ ،‬لكننً اكتشفت الٌوم أنهم كانوا على حق‪ ،‬ربما بؤكثر مما‬
‫أرادوا ‪ ..‬المشكلة أنه و فً ؼٌاب الشرطة فً الوقت الحالً‪،‬‬
‫فإنه ال تفسٌر لهذا الطلق الناري إال بؤن مصدرها هو أسلحة‬

‫‪10‬‬
‫الشرطة التً استولى علٌها المخربون و قطاع الطرق و‬
‫اللصوص الذٌن أطلقتهم الداخلٌة لٌثٌروا الفوضى فً الببلد‪ ،‬أو‬
‫انطلقوا من السجون فً ظل الفوضى التً أثارها زمبلإهم‬
‫بإٌعاز من الداخلٌة ‪ ..‬أًٌا كان األمر‪ ،‬فالنتٌجة واحدة‪ :‬هنالك سبلح‬
‫فً أٌدي شرذمة ال ٌعرفون الرحمة‪ ،‬و هم طلقاء فً الشوارع‪،‬‬
‫لٌس لهم إال رحمة هللا تنزل بنا فنمسكهم قبل أن ٌفعلوا شٌ ًبا ‪..‬‬

‫المبلحظة التً لفتت انتباهً أن هناك من أتوا و قد اخترقت‬


‫طلقات الرصاص المطاطً أجسادهم‪ ،‬و هو ما ٌعنً أن إطبلق‬
‫هذا الرصاص كان من مسافة قرٌبة إلى حد مزعج‪ ،‬ال تتعدي‬
‫األربعٌن مترً ا أو ما هو أقل – و هً أقل بالتؤكٌد ‪ ..‬مبلحظة‬
‫تعنً ببساطة أن الشرطة لم تكن تدفع المتظاهرٌن أو تصدهم أو‬
‫تفرقهم‪ ،‬بل كان الهدؾ صراحة هو القتل ‪..‬‬

‫موجات‬
‫لم ٌكن الٌوم كله مشؽوالً و مزدحمًا ‪ ..‬وصلت الساعة العاشرة‪،‬‬
‫و لم تبدأ سخونة األحداث فً حرق أصابعً إال فً الثانٌة‬
‫عشرة‪ ،‬لٌهدأ الجو بعدها‪ ،‬ثم ٌشتعل ‪ ..‬موجات متتالٌات من‬
‫التزاٌد فً الجرحى ثم النقصان‪ ،‬ثم التزاٌد ثم النقصان‪ ،‬و ربما‬
‫لٌس ٌدل هذا على شًء بؤكثر مما ٌدل على أن سقوط الضحاٌا‬
‫ٌتوالى و ٌتتالى‪ ،‬و أن فترات الهدوء النسبً إن هً إال الفترات‬
‫التً ٌقضٌها هإالء الجرحى فً السقوط أو المجًء ‪ ..‬أقول هذا‬
‫ألن المستشفى األمٌري تستقبل حوادث اإلسكندرٌة بؤكملها‪ ،‬ما‬

‫‪11‬‬
‫ٌعنً أنه لو وقعت إصابة فً أقصى ؼرب اإلسكندرٌة‪ ،‬فإن‬
‫صاحبها لٌس أمامه من مكان لٌداوٌه إال المستشفى األمٌري ‪..‬‬

‫العجٌب‪ ،‬و الذي اندهشت لسماعه‪ ،‬هو أن الجٌش نفسه ٌطلق‬


‫النٌران ‪ ..‬ربما كانت حوادث لها خصوصٌتها‪ ،‬إذ لم أسمع إال‬
‫بحادثتٌن من هذه الفبة‪ ،‬إال أنهما كانتا بارزتٌن ‪ ..‬األولى كانت‬
‫رجبلً فً األربعٌنات‪ ،‬أصابه طلق ناري حسب كبلمه عندما لم‬
‫ٌستجب لنداء الجندي الذي استوقفه ‪" ..‬الجٌش ٌقول لك تقؾ‬
‫تقؾ ‪ ..‬أول مرة حٌضرب فً الهوا‪ ،‬و فً المرة التانٌة فً‬
‫رجلك ‪ ..‬اللً مش على راسه بطحة بٌقؾ ما ٌهموش‪ٌ ،‬بقى لو‬
‫ما وقفتش أو جرٌت ٌبقى أنت ؼلط"‬

‫أما اآلخر فهو ذلك الذي أصٌب برصاصتٌن فً رأسه‪ ،‬استقرت‬


‫واحدة و خرجت األخرى‪ ،‬و تركته و هو على التنفس‬
‫االصطناعً‪ ،‬و لست أدري إالم وصلت حالته ‪ ..‬لكننً رؼم هذا‬
‫لست أظن هذه الحالة تحدٌ ًدا بسبب الجٌش‪ ،‬فالرصاص الذي‬
‫أصٌب به "رش"‪ ،‬و هو ما ال ٌستعمله الجٌش بالتؤكٌد‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى أن ما رأٌته من ضباط الجٌش و جنوده ٌجعلنً ال أصدق‬
‫هذا‪ ،‬ناهٌك عن أن الجٌش ال ٌصوب للرأس أب ًدا‪ ،‬بل كل إصاباته‬
‫النارٌة فً الساق أو القدم ‪..‬‬

‫أخبار ما سبق‬
‫لكننً بالطبع لم أترك فرصة تواجدي فً المستشفى تمر سُدى‪،‬‬
‫فقد استؽللت هذه الفرصة و سؤلت و تركت أذنً تسمع و تلتقط‬

‫‪12‬‬
‫ماذا حدث فً األٌام السابقة التً كنت فٌها فً المنزل‪ ،‬و لقد‬
‫سمعت عجبًا ‪..‬‬

‫أحد المرضى جاء ٌشتكً من استقرار أحد الطلقات الرش فً‬


‫جسده‪ ،‬و بعٌ ًدا عن أن الرجل قد أصابنً بـ"النقطة" ألنه لم‬
‫ٌكتشؾ أنها ال زالت بداخله إال بعد ثبلثة أٌام‪ ،‬فإن الرجل قد‬
‫أفاض فً الحدٌث ‪ ..‬الرجل ٌعمل كمساعد عملٌات فً مركز‬
‫خاص لطب العٌون‪ ،‬قال لً إنهم باألمس فقط – السبت‪ ،‬التاسع‬
‫و العشرون – قد سجلوا ما ٌتجاوز ستمابة حالة انفجار مقلة‬
‫العٌن‪ ،‬نتٌجة الشظاٌا أو الرصاص أو الحجارة و قطع الزجاج‬
‫التً كانت تتطاٌر بسبب أعمال الشؽب و النهب و السلب‪ ،‬و هو‬
‫رقم مفزع‪ ،‬إذا علمت أن مثل هذه الحاالت ٌتهافت علٌها‬
‫األطباء‪ ،‬ألنها قلٌلة الحدوث‪ ،‬و تتطلب – تقرٌبًا – إعادة بناء‬
‫ً‬
‫مبالؽا‪ ،‬لكن حتى لو‬ ‫مقلة العٌن من جدٌد ‪ ..‬قد ٌكون الرجل‬
‫افترضنا أن الرقم الحقٌقً هو ُسدس هذا الرقم‪ ،‬فهو أمر جلل‬
‫أٌ ً‬
‫ضا ‪..‬‬

‫األطباء ٌتحدثون عن أنهم قضوا أطول نوبة عمل فً حٌاتهم‪ ،‬إذ‬


‫كانت من الثامنة فً صباح الجمعة‪ ،‬حتى الثامنة من صباح‬
‫السبت التالً ‪ ..‬أربعة و عشرون ساعة متصلة من العمل الذي‬
‫ال ٌتوقؾ !‬

‫المثٌر – للدهشة و للتقزز – فً األمر أن هذه الساعات األربعة‬


‫و عشرون لم تكن إلسعاؾ كل المصابٌن‪ ،‬بل كانت إلسعاؾ‬

‫‪13‬‬
‫الحاالت الحرجة فقط‪ ،‬فؤولبك المصابون الذي كانوا فً حالة‬
‫مستقرة‪ ،‬أي إن إصاباتهم خفٌفة أو سطحٌة‪ ،‬و فً أماكن ؼٌر‬
‫حٌوٌة من أجسادهم‪ ،‬كانوا ال ٌؤتون للمستشفى‪ ،‬إذ كانت الشرطة‬
‫– وقت كانت موجودة – تقبض علٌهم‪ ،‬كً ال ٌشهدوا علٌها !‬

‫ضا‪ ،‬فإن المستشفى سجلت خمسٌن و‬ ‫و بحسب رواٌات األطباء أٌ ً‬


‫ثبلثمابة حالة دخلت فً هذا الٌوم المشهود – ٌوم الجمعة – بعٌ ًدا‬
‫عن الحاالت التً لم تسجل‪ ،‬ألنه ال وقت لذلك‪ ،‬و التً تبلػ على‬
‫األقل نفس الرقم ‪..‬‬

‫أما من مات من هإالء حتى لحظة كتابتً هذه السطور‪ ،‬فقد‬


‫تجاوز المابة‪ ،‬ما بٌن من جاءوا موتى أصبلً‪ ،‬أو من ماتوا بعد‬
‫وصولهم نتٌجة لحرج موقفهم‪ ،‬أو ماتوا بمضاعفات إصاباتهم ‪..‬‬

‫البعض داخل المستشفى ٌتحدث عن البلطجٌة و قطاع الطرق‬


‫الذٌن هجموا على المستشفى ٌرٌدون تدمٌرها‪ ،‬حتى إنهم وصفوا‬
‫الوضع لحظتها أنه كان "عمل تحت تهدٌد السبلح" ‪ ..‬أنت تعمل‬
‫كالمدرعة التً ترقد أمام نقطة الشرطة التً أمام بٌتً مع اثنتٌن‬
‫أخرتٌن‪ ،‬و مطالب فً الوقت ذاته أن تحمً نفسك من هجوم‬
‫لست تدري متى سٌؤتٌك‪ ،‬و ال من أي جهة سٌؤتٌك‪ ،‬و ال تعرؾ‬
‫أسٌؤتٌك و أنت متفرغ له أم و أنت مشؽول برجل ٌموت‪ ،‬لكنك‬
‫فً النهاٌة ٌجب أن توقفه‪ ،‬و إال فقدت حٌاتك قبل كل شًء ‪..‬‬

‫‪14‬‬
‫ثبلجة الموتى أصبحت مقبرة جماعٌة‪ ،‬و لٌس مما ٌدهش لو‬
‫وجدت جثتٌن فوق بعضهما البعض داخل وحدات التبرٌد‪ ،‬فهذا‬
‫هو السبٌل الوحٌد الستٌعاب األعداد المتزاٌدة و المهولة منهم ‪..‬‬

‫‪ٌ 36‬ناٌر ‪3122‬‬


‫البداٌة‬
‫فً اعتقادي‪ ،‬فإن ٌوم الفصل الحقٌقً كان ٌوم الجمعة؛‬
‫فمظاهرات الثبلثاء بدأت ثم انفضت‪ ،‬و إن استمرت بشكل أقل‬
‫حدة ٌومً األربعاء و الخمٌس‪ ،‬و سارت الحٌاة بعدها بسبلم‪،‬‬
‫لكن هذا ال ٌنفً أنها أحدثت تؽٌٌرً ا فاصبلً بالطبع‪ ،‬ثم انطلقت‬
‫الدعوات بعدها لمظاهرات حاشدة ؼاضبة فً أنحاء مصر‪،‬‬
‫احتجاجً ا على من ماتوا فً مظاهرات ٌوم الثبلثاء السلمٌة تمامًا‪،‬‬
‫و هنا كانت لحظة الحسم ‪ ..‬لحظة الحسم التً كانت بداٌة كرة‬
‫الثلج التً ال زالت تكبر ٌومًا بعد ٌوم‪ ،‬فبل تتوقؾ األحداث إال‬
‫لتستمر ‪..‬‬

‫لكننً رؼم اعتقادي هذا‪ ،‬ال أستطٌع أن أقفز فوق هذه اللحظات‪،‬‬
‫و أتناساها فٌما أكتب‪ ،‬لذا فإننً أطلب منك أن تعٌرنً انتباهك‪،‬‬
‫إذ سؤروي ما رأٌت و عشت منذ بداٌة األحداث ‪..‬‬

‫بداٌة األحداث كانت قبل ٌوم الخامس و العشرٌن‪ ،‬بعد أن أشعل‬


‫ما حدث فً تونس حماسة المصرٌٌن‪ ،‬و انطلقت الدعوات على‬
‫اإلنترنت تدعو إلى ثورة شعبٌة تزٌح النظام الفاسد بكل رموزه و‬
‫أشكاله و أشخاصه‪ ،‬و حددت ٌوم الخامس و العشرٌن من ٌناٌر‬

‫‪15‬‬
‫موع ًدا النطبلق المظاهرات المطالبة باإلصبلح و التؽٌٌر و‬
‫إسقاط النظام – و هً المطالب التً ظهرت على الترتٌب الذي‬
‫كتبت تقرٌبًا ‪..‬‬

‫أعترؾ أننً لم أكن ممن أٌد هذه المظاهرات فً البداٌة ‪ ..‬كنت‬


‫أراها كؤخواتها البلبً سبقنها‪ ،‬مظاهرة هنا أو هناك‪ ،‬على سلم‬
‫هذه النقابة أو تلك‪ ،‬تهدؾ فً النهاٌة إلى التصوٌر و الحدٌث إلى‬
‫الفضابٌات‪ ،‬و التقاط بعض الصور التً س ُتنشر على‬
‫‪ facebook‬و ‪ twitter‬مع الكثٌر من التعلٌقات حول فساد‬
‫النظام و "لن نخضع" و كل هذا الحدٌث الفارغ ‪..‬‬

‫كنت أراها فً الوقت ذاته شٌ ًبا هبلمًٌا ‪ ..‬الحدٌث عن المظاهرات‬


‫التً ستنطلق ٌوم الخامس و العشرٌن كان ٌدور حول قٌام‬
‫"ثورة"‪ ،‬إال أن ما رأٌته أمامً ال ٌمت لعالم الثورات بصلة‪ ،‬و‬
‫هنا أنقل ما كتبه أحدهم عن هذه المظاهرات‪ ،‬قبل أن تنطلق بٌوم‬
‫واحد‪ ،‬إذ قال ما معناه‪" :‬أنا بصراحة عمرٌش شفت ثورة انطلقت‬
‫من على ‪ group‬على الـ ‪ ،facebook‬و ال سمعت عن قابد‬
‫ثورة كان بٌكلم زمبلبه من قادة الثورة عن طرٌق الـ‬
‫‪ messages‬و الـ ‪ .. SMS‬أنا اللً أعرفه إنهم بٌوزعوا‬
‫منشورات و بٌتقابلوا فً أماكن سرٌة عشان المحافظة على‬
‫عنصر المفاجؤة"‬

‫كان هذا هو ما استشعرته وقتها‪ ،‬فبل ما ٌدعون إلٌه ٌنتمً إلى‬


‫عالم الثورات؛ إذ الثورة حركة و انتفاضة تؤتً عفوٌة و دون‬

‫‪16‬‬
‫تخطٌط مسبق‪ ،‬و ؼالبًا ما تكون عند الوصول لنقطة البلعودة‪ ،‬أو‬
‫كتلة الشعب الحرجة‪ ،‬و هً كتلة ال ٌعلم أحد متى ٌصل إلٌها‬
‫الشعب‪ ،‬و ال حتى الشعب نفسه ‪ ..‬و ال هً إنقبلب؛ إذ اإلنقبلب‬
‫حركة ٌقوم بها مجموعة محددة‪ ،‬وف ًقا لخطة محكمة و دقٌقة‪،‬‬
‫تمتلك القدرة على السٌطرة على مراكز القوة فً الببلد و إحكام‬
‫القبضة علٌها‪ ،‬و إقصاء الحكم السابق‪ ،‬و هو ما ال ٌتوافر فً هذه‬
‫الحالة أٌضً ا ‪..‬‬

‫لهذا كان الوصؾ األدق لما سٌحدث فً الخامس و العشرٌن من‬


‫ٌناٌر هو أنها مظاهرة ال أكثر و ال أقل ‪ ..‬قد تحدث فً الوقت‬
‫ذاته فً جمٌع أنحاء الجمهورٌة‪ ،‬لكن هذا ال ٌزٌد و ال ٌنقص من‬
‫األمر شٌ ًبا؛ فإضراب السادس من أبرٌل فً نسخته األولى كانت‬
‫الدعوة إلٌه فً عموم الجمهورٌة أٌضًا‪ ،‬لكنه لم ٌحقق شٌ ًبا من‬
‫هذا ‪..‬‬

‫إال أننً أرى أن ما حدث ٌحتم علٌنا أن نعٌد تعرٌؾ مصطلحاتنا‬


‫بناء علٌه‪ ،‬و على نتابجه ‪ ..‬الثورات ٌمكن أن تنطلق بتخطٌط‬
‫علنً واضح صرٌح‪ ،‬عبر وسابل االتصال ؼٌر المباشر‪ ،‬و عبر‬
‫اإلنترنت‪ ،‬و وسابل ترفٌهٌة فً األساس و اجتماعٌة فً المقام‬
‫األول كـ ‪ facebook‬و ‪ .. twitter‬من الممكن أن تنطلق‬
‫الثورات من الفضاء لتهبط إلى الشارع‪ ،‬و من الممكن أن تكون‬
‫وسابل اتصال أعضاء مجلس قٌادة الثورة هً الرسابل القصٌرة‬
‫و ‪ status‬على ‪ .. facebook‬من الممكن أن ٌحدث هذا‪ ،‬و إن‬
‫لم ٌكن ممك ًنا‪ ،‬ففسر لً ما نشاهده اآلن ‪..‬‬

‫‪17‬‬
‫و هذه الثورة لم تبدأ "ثورة" بمعناها االصطبلحً منذ الٌوم‬
‫األول‪ ،‬بل بدأت كمظاهرات حاشدة ٌعلن الناس فٌها انتصارهم‬
‫على شبح الخوؾ الذي جثم على صدورهم حتى أذاقهم الذل‬
‫ألوا ًنا‪ ،‬و قد عبر أحد أصدقابً عن هذا بؤنه الٌوم – الثبلثاء –‬
‫حطم صنم الخوؾ الذي كان بداخله ‪ٌ ..‬علن الناس انتصارهم‬
‫على الخوؾ‪ ،‬و ٌعلنون مطالب محددة‪ :‬لقمة العٌش بكرامة‪ ،‬و‬
‫الحٌاة فً كل مناحٌها بكرامة‪ ،‬مصر لن تكون قزمة بعد اآلن‪ ،‬و‬
‫لن نسمح ألحد أن ٌجعلها كذلك ‪ ..‬مطالب ثورٌة‪ ،‬لكن وسٌلة‬
‫نقلها ظلت مظاهرات سلمٌة‪ ،‬و ال شًء ٌصفها ؼٌر أنها‬
‫مظاهرات ‪..‬‬

‫إال أننا فً خضم إعادة تعرٌؾ مصطلحاتنا السٌاسٌة‪ ،‬ال بد و أن‬


‫ننظر بعٌن االعتبار إلى أننا كنا نستخدم‪ ،‬و ال زلنا‪ ،‬بعض‬
‫المصطلحات بصورة ؼٌر صحٌحة؛ فثورة الثالث و العشرٌن من‬
‫ٌولٌو على سبٌل المثال لٌست ثورة‪ ،‬بل هً انقبلب عسكري‪ ،‬أو‬
‫باألحرى حركة تصحٌح لمسار الجٌش المصري‪ ،‬و تخلٌصه من‬
‫الفساد الذي كان مستشرًٌا فٌه‪ ،‬ثم امتد اإلصبلح لٌشمل الببلد‬
‫كلها‪ ،‬و هو ما أفضى فً النهاٌة إلى تحول اإلصبلح إلى انقبلب‬
‫عسكري‪ ،‬لكنها لم تكن ثورة أو انتفاضة من شعب مصر ‪ ..‬لربما‬
‫انتفض الشعب بعد ذلك مإٌ ًدا الجٌش و الضباط األحرار‪ ،‬لكننً‬
‫أتحدث عن الشرارة األولى و من أطلقها‪ ،‬و على أساسها أقول‬
‫أهً ثورة و انتفاضة‪ ،‬أم انقبلب ‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫و طب ًقا للتعرٌفات التً ذكرتها من قبل‪ٌ ،‬مكننا أن نقول أن ما‬
‫حدث كان مزٌجً ا من االنقبلب و الثورة‪ ،‬و هو ٌإسس فً الوقت‬
‫ذاته لفكرة االنقبلب الشعبً‪ ،‬الذي ال ٌقوم به قادة فً الجٌش أو‬
‫أعضاء فً حزب معٌن‪ ،‬بل ٌقوم به الشعب بكل ما تحمله كلمة‬
‫الشعب من معنى ‪ٌ ..‬مكننا القول أن األمر بدأ كانقبلب‪ ،‬تتوافر‬
‫فٌه شروط التخطٌط المسبق و الحشد كً نعتبره انقبلبًا‪ ،‬و تزول‬
‫عنه نقطة التخطٌط الدقٌق المدروس‪ ،‬و هو ما ٌجعل األمر عفوًٌا‬
‫ٌدخله تحت بند الثورات‪ ،‬و بهذا نجد أننا ال زلنا نحافظ على‬
‫خصوصٌتنا التً لطالما صدّع رإوسنا سدنة النظام البابد بها‪،‬‬
‫مبررٌن كل ما ٌرتكبون من أخطاء‪ ،‬و قمنا بحركة ال هً ثورة و‬
‫ال هً انقبلب‪ ،‬بل مزٌج فرٌد من االثنٌن‪ ،‬أو ما ٌمكن أن نسمٌه‬
‫االنقبلبات الثورٌة‪ ،‬لكن هذه الخصوصٌة لسنا ننفرد بها‪ ،‬بل‬
‫سبقنا إلٌها بكل تؤكٌد‪ ،‬و دون ذرة من شك‪ ،‬الشعب التونسً ‪..‬‬

‫أعود و أقول إننً لم أكن مإٌ ًدا لهذه المظاهرات‪ ،‬لٌس كما قال‬
‫بعض الشٌوخ ألنها تفتح الباب أمام من ٌستهدفون مصر كً‬
‫ٌمرحوا و ٌعٌثوا فً األرض فسا ًدا كما ٌحلوا لهم‪ ،‬مستؽلٌن‬
‫فرصة الفوضى التً تنشؤ عن مثل هذه المظاهرات عادة‪ ،‬و قد‬
‫كنت أحمل المخاوؾ ذاتها فً الواقع‪ ،‬لكن سبب عدم تؤٌٌدي‬
‫الربٌس كان أننً أراها مظاهرة أخرى تضاؾ إلى أخواتها‪،‬‬
‫خاصة و أن من دعوا إلٌها‪ ،‬أو من ظهر لً أنه ٌدعو إلٌها – فبل‬
‫أحد‪ ،‬و ال قوة سٌاسٌة فً الببلد تستطٌع الزعم أنها من دعت و‬
‫حركت هذه المظاهرات – كانوا هم أنفسهم الذٌن دعوا إلى ما‬

‫‪19‬‬
‫سبق من مظاهرات ‪ ..‬نفس األشخاص ٌدعون إلى نفس األشٌاء‪،‬‬
‫فما الذي ٌجعلنً أتوقع أن ٌؤتً األمر بنتابج مختلفة ؟‬

‫مساء االثنٌن تحدثت مع أحد أصدقابً عن هذه المظاهرات‪ ،‬و قد‬


‫كان ٌدعونً إلى االنضمام‪ ،‬فشرحت له وجهة نظري التً‬
‫ذكرتها منذ سطور‪ ،‬ثم أضفت إننً أود لو أكون مخط ًبا‪ ،‬و الحق‬
‫أننً بدأت استشعر أننً على خطؤ بعد أن تحدثت إلى بعض‬
‫أصدقابً ممن حملوا على عاتقهم مهمة الدعوة إلى هذه‬
‫المظاهرات‪ ،‬إذ أحسست أن الحماس الذي ٌتحدثون به كان ٌفوق‬
‫كل ما سبق‪ ،‬و ما رأٌته من نفس األشخاص فٌما سبق ‪..‬‬

‫ً‬
‫متخذا موقؾ المتفرج المراقب‪ ،‬و‬ ‫لكننً على أٌة حال ظللت‬
‫تابعت ما حدث على الشاشات و على اإلنترنت و المواقع‬
‫اإلخبارٌة‪ ،‬ثم استمعت فً الٌوم التالً لشهادات حٌة من زمبلبً‬
‫الذٌن اشتركوا فً هذه المسٌرات ‪..‬‬

‫انطلقت فً اإلسكندرٌة مسٌرتان‪ ،‬واحدة من شرقها‪ ،‬من منطقة‬


‫سٌدي بشر و العصافرة‪ ،‬و أخرى من ؼربها‪ ،‬من المنشٌة و‬
‫محطة مصر‪ ،‬و قد اتفق المنظمون على ‪ facebook‬أن تتقابل‬
‫المسٌرتان فً منطقة سٌدي جابر‪ ،‬أو فً وسط اإلسكندرٌة‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬ثم تنطلق مرة أخرى حسبما تقتضً الظروؾ ‪..‬‬

‫‪20‬‬
‫اشترك صدٌقً هذا الذي حطم صنم الخوؾ بداخله فً المسٌرة‬
‫التً انطلقت من المنشٌة‪ ،‬و أنقل هنا شهادته بكلماتً ال كلماته‪،‬‬
‫لكن المضمون هو ذاته ‪ ..‬قال‪:‬‬
‫ذهبت مع صدٌق لً للحاق بمسٌرة المنشٌة‪ ،‬التً‬
‫علمت بمكانها من ‪ ،facebook‬لكننً فوجبت لدى‬
‫وصولً أن المكان هادئ هدوء القبور ‪ ..‬كان الوقت‬
‫ظهرً ا‪ ،‬و كان المكان خالًٌا كؤن شٌ ًبا لن ٌكون‪ ،‬لكننً لم‬
‫أتراجع‪ ،‬بل فضلت االنتظار و متابعة الموقؾ‪ ،‬علّنً‬
‫جبت مبكرً ا عن الموعد المضروب ‪..‬‬

‫وقفنا نشرب شٌ ًبا ٌروي عطشنا‪ ،‬و بٌنما نحن كذلك‬


‫فوجبنا بالبعض ٌؤتً من الشوارع الجانبٌة جرًٌا‪ ،‬بٌنما‬
‫قوات من الشرطة تجري خلفهم‪ ،‬فً محاولة لتطوٌقهم‬
‫و حصرهم فً مكان واحد‪ ،‬فانطلقنا معهم ‪..‬‬

‫ظلت هذه المناورات مستمرة من مٌدان الجندي‬


‫المجهول حٌث بدأت‪ ،‬حتى وصلنا إلى مٌدان محطة‬
‫الرمل‪ ،‬و كنا كلما تقدمنا تزاٌدنا‪ ،‬حتى إذا بلؽنا محطة‬
‫الرمل كنا قد شكلنا عد ًدا ال بؤس به‪ ،‬و انطلقت الهتافات‬
‫متتالٌات من حناجرنا ‪..‬‬

‫استقرت األمور قلٌبلً فً مٌدان محطة الرمل‪ ،‬و انتظم‬


‫المسٌر نو ًعا‪ ،‬رؼم أن الشرطة كانت ال تزال تحاول‬
‫تطوٌقنا و حصرنا فً مساحة ضٌقة ‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫كنا نهتؾ بؤعلى الصوت "بتاعتنا كلنا" أو "سلمٌة ‪..‬‬
‫سلمٌة" كلما أراد أحدهم أن ٌهشم شٌ ًبا‪ ،‬أو ٌحطم‬
‫مركبات الترام أو المحبلت الموجودة فً المٌدان‪،‬‬
‫لدرجة أن البعض أقدم على ضرب أولبك الذٌن أقدموا‬
‫على التكسٌر و التخرٌب ضربًا مبرحً ا‪ ،‬أو كما ٌقول‬
‫المثل الشعبً "علقة ما أكلهاش حرامً فً مولد"‬

‫واصلنا المسٌر حتى بلؽنا شارع بورسعٌد‪ ،‬و بدأت‬


‫الحركة تنتظم أكثر فؤكثر‪ ،‬و بدأنا ُنحصر بحكم طبٌعة‬
‫المكان الجؽرافٌة‪ ،‬و ضٌق الشارع الذي هو علٌه منذ‬
‫القدم‪ ،‬و استمرت المسٌرة التً ال ٌمكن أن نقول عنها‬
‫أكثر من إنها تعبٌر رابع عن الرأي ‪..‬‬

‫كانت الهتافات تتردد "ٌسقط ٌسقط حسنً مبارك" و‬


‫"عٌش حرٌة كرامة إنسانٌة"‪ ،‬و كنا كلما توقفنا و‬
‫نظرنا لؤلعلى نرى الناس تشاهدنا و تلتقط لنا الصور و‬
‫تسجل هذه اللحظات‪ ،‬فكنا نهتؾ بصوت واحد "انزل ‪..‬‬
‫انزل"‪ ،‬فما كان من بعض الرجال الواقفٌن إال أن‬
‫نزلوا‪ ،‬فٌما أصاب الحرج البعض اآلخر فدخلوا بٌوتهم‬
‫و فضلوا القعود ‪..‬‬

‫كنت أنظر خلفً و على امتداد النظر أرى بشرً ا تمؤل‬


‫شارع بورسعٌد‪ ،‬ربما لمسافة تتجاوز األربعة‬

‫‪22‬‬
‫كٌلومترات‪ ،‬و هو الشًء الذي أشعرنً أننا نتؽٌر‪ ،‬و‬
‫أننا قد خرجنا من الكفن الذي كفنونا فٌه ثبلثٌن عامًا ‪..‬‬

‫و فً لحظات كثٌرة بدا أن الشرطة التً كانت تحوطنا‬


‫و تحاصرنا باستمرار قد ضاقت بنا ذر ًعا‪ ،‬و قررت أن‬
‫تنهً وجودنا بؤي ثمن‪ ،‬و هنا بدأت الركبلت و‬
‫الضربات و المناورات فً الشوارع الجانبٌة ‪ ..‬لقد‬
‫اشتركت قببلً فً مظاهرات اإلخوان المسلمٌن من أجل‬
‫ؼزة و فلسطٌن‪ ،‬و هً مظاهرات منظمة ٌعرؾ فٌها‬
‫رجل األمن قابد المظاهرة‪ ،‬الذي اتفق معه من األساس‬
‫على خروجها‪ ،‬و عادة ما ٌكون التفاوض مع‬
‫المتظاهرٌن عن طرٌق هذا الشخص‪ ،‬لكن رجال‬
‫الشرطة هذه المرة – و هذا ما استشعرته بحكم خبرتً‬
‫السابقة – قد وقعوا فً حٌرة شدٌدة‪ ،‬فبل توجد جهة‬
‫معٌنة أو شخص محدد ٌمكنهم أن ٌتحدثوا إلٌه من أجل‬
‫السٌطرة على الوضع‪ ،‬و لذا لم ٌكن أمامه لتنفٌذ هدفه‬
‫سوى الضرب و الركل و مطاردة المتظاهرٌن‬
‫كاللصوص فً الشوارع الجانبٌة ‪ ..‬لقد شاهدت أحد‬
‫المتظاهرٌن و الضابط ٌطلب منه أن ٌلتزم جانب‬
‫الطرٌق و أن ٌتحرك فً اتجاه معٌن‪ ،‬و بدا على‬
‫الضابط أنه أمام موقؾ لم ٌعهده من قبل‪ :‬هإالء قوم‬
‫ً‬
‫مجددا ‪ ..‬قال له‬ ‫قرروا أنهم لن ٌخضعوا لجبلدٌهم‬
‫الفتى‪" :‬أل مش حؤوعى ‪ ..‬أنا حؤتحرك فً المكان اللً‬
‫ٌعجبنً"‬

‫‪23‬‬
‫لم أشترك فً مظاهرات ذلك الٌوم‪ ،‬لكننً شاهدت جانبًا منها‪ ،‬فً‬
‫التلفاز و على اإلنترنت‪ ،‬و بعٌنً عندما ذهبت ألقضً حاجة فً‬
‫منطقة جلٌم‪ ،‬و مررت بسٌدي جابر‪ ،‬حٌث وصلت أولى‬
‫المسٌرات القادمة من شرق المدٌنة ‪ ..‬لم أكوّ ن لحظتها رأًٌا بعٌنه‬
‫تجاه هذا الحدث‪ ،‬و تجاه ما رأٌته‪ ،‬لكننً استطٌع أن أقول أن‬
‫رإٌتً لما كان كانت شٌ ًبا ضرورًٌا حتى أحكم بنفسً أن ما‬
‫حدث ٌوم الجمعة الثامن و العشرٌن‪ ،‬من انتشار ألعمال النهب و‬
‫السلب لم ٌكن بفعل هإالء على اإلطبلق ‪..‬‬

‫خط النار‬
‫فً السوٌس كان األمر أعنؾ و أشد‪ ،‬و لو قررنا أن نختار مدٌنة‬
‫تكون مقر انطبلق الشرارة الحقٌقٌة لما حدث فٌما تبل ذلك من‬
‫أٌام‪ ،‬فإننً أختار السوٌس و ال شك ‪..‬‬

‫منذ اللحظة األولى و األمور هناك مشتعلة ‪ ..‬حسبما تنامى إلى‬


‫مسامعً فإن من أشعل الفتٌل كان النظام نفسه‪ ،‬فً محاولة‬
‫لتبرٌر استخدام العنؾ و إطبلق الرصاص على المتظاهرٌن و‬
‫فضهم بؤعنؾ الوسابل‪ ،‬و ذلك بإطبلق النار أو قذؾ الحجارة‬
‫على ضباط الشرطة‪ ،‬لترد الشرطة بعنؾ‪ ،‬و ٌرد الشعب بعنؾ‬
‫أشد‪ ،‬و ٌشتعل الموقؾ‪ ،‬و هو ما حدث ‪..‬‬

‫رد الشرطة كان ؼبًٌا و ال رٌب؛ فإطبلق الرصاص الحً على‬


‫من ال ٌحملون السبلح هو شٌمة الوضٌع‪ ،‬حتى لو افترضنا أن‬
‫أحد أو بعض المواطنٌن قد أطلق الرصاص الحً أو الحجارة‬

‫‪24‬‬
‫على أفراد الشرطة ‪ ..‬رد الشرطة الؽبً أورث السوٌس ثبلثة‬
‫قتلى‪ ،‬و ثؤرً ا لن ٌموت سرٌ ًعا بٌن الشعب و الشرطة ‪..‬‬

‫و كؤن هذا الؽباء لٌس ٌكفً‪ ،‬ختم النظام الحفل بفقرة مثٌرة‬
‫ألعصاب أي شخص‪ ،‬و لو كان لوحً ا من الثلج‪ ،‬إذ أصر على‬
‫منع تشٌٌع جنازة هإالء الثبلثة‪ ،‬كً ال ٌتجمهر الناس‪ ،‬و هو ما‬
‫أدى بالشٌخ حافظ سبلمة‪ ،‬رجل المقاومة الذي حارب الٌهود و‬
‫اإلنجلٌز و الفرنسٌٌن كثٌرً ا‪ ،‬و له تارٌخ طوٌل مشرؾ ‪ ..‬أدى‬
‫هذا الطلب العجٌب الؽبً أن أصر الشٌخ و الناس على أن‬
‫ٌشٌعوا الجنازة حتى لو فعلوا هذا بتهدٌد المدافع ‪..‬‬

‫أحد جٌرانً كان هناك بحكم دراسته فً كلٌة هندسة التعدٌن و‬


‫البترول‪ ،‬و روى لً عندما عاد بعد انتهاء فترة امتحاناته ما‬
‫حدث هناك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫سكنً فً مدٌنة السوٌس فً منطقة بعٌدة بعض الشًء‬
‫عن قلب األحداث‪ ،‬لكننً كنت استؽل رؼبة سابقً‬
‫األجرة الشدٌدة فً الحدٌث لٌرووا تفاصٌل ما ٌجري‪،‬‬
‫هذا باإلضافة بالطبع لما شاهدته بعٌنً‪ ،‬حتى و إن كان‬
‫قلٌبلً ‪..‬‬

‫اشتعال الموقؾ كان بعد إطبلق الشرطة الرصاص‬


‫على المواطنٌن‪ ،‬ما تسبب فً وفاة ثبلثة‪ ،‬ثم أشعل‬
‫النظام الموقؾ أكثر و أكثر عندما رفض تشٌٌع جنازة‬
‫هإالء الثبلثة‪ ،‬لكن الشٌخ حافظ سبلمة قالها صراحة‬

‫‪25‬‬
‫عندما منعوهم من استبلم الجثث من المشرحة‪:‬‬
‫"حناخدهم و حنصلً علٌهم و حنعمل جنازة"‬

‫األمر البلفت بحق لبلنتباه هو أن عنؾ النظام كان فوق‬


‫كل تصور ‪ ..‬أنا ال أتحدث عن العنؾ البدنً‪ ،‬بل‬
‫أتحدث عن رد الفعل بشكل عام ‪ ..‬قطع خطوط الهاتؾ‬
‫المحمول و خدمات اإلنترنت بدأ هناك مبكرً ا‪ ،‬فبٌنما‬
‫كان انقطاع الخدمات فً مصر كلها مع بداٌة ٌوم‬
‫الجمعة‪ ،‬الثامن و العشرٌن‪ ،‬حدث هذا فً السوٌس مع‬
‫بداٌة األزمة تقرٌبًا‪ ،‬ثم ازداد الرد عن ًفا عندما قطعوا‬
‫إمدادات المٌاه و الكهرباء للمنازل ‪ ..‬شخص لٌس لدٌه‬
‫ماء و ال كهرباء و ال اتصاالت من أي نوع‪ ،‬ما الذي‬
‫ٌجعله ٌظل فً بٌته ؟! لقد اسهموا فً اشتعال الموقؾ‬
‫أكثر‪ ،‬و نزول من قرروا عدم النزول بمثل هذه‬
‫التصرفات ‪..‬‬

‫جدا على مر‬ ‫أهل السوٌس ذاقوا الكثٌر‪ ،‬و الكثٌر ً‬


‫تارٌخهم‪ ،‬و لذلك ماتت قلوبهم‪ ،‬و أصبح الخوؾ لدٌهم‬
‫كالدٌناصورات؛ منقرض ال وجود له ‪ ..‬من أجل هذا‬
‫كان ردهم على هذه االعتداءات الؽٌر مبررة قوًٌا ‪..‬‬

‫روى لً أحد سابقً األجرة أن الشباب قاموا بتصنٌع‬


‫بعض قنابل المولوتوؾ من أجل الرد على اعتداءات‬
‫الشرطة و األمن المركزي‪ ،‬و قاموا بتصنٌع بعض‬

‫‪26‬‬
‫ضا‪ ،‬أو ما أطلقوا علٌه اسم‬ ‫القنابل العنقودٌة أٌ ً‬
‫"الباراشوت"‪ ،‬و هً قنابل مولوتوؾ تحتوي بداخلها‬
‫عدد من المسامٌر و الكرات المعدنٌة الصؽٌرة ‪ ..‬لقد‬
‫تحولت السوٌس إلى ساحة حرب دون أدنى مبالؽة‪ ،‬و‬
‫ال أجد مبررً ا لهذا كله إال الؽباء فً التعامل‪ ،‬و تحكٌم‬
‫العقلٌة األمنٌة البحتة ‪..‬‬

‫فً طرٌق العودة إلى اإلسكندرٌة‪ ،‬و كان هذا ٌوم‬


‫الخمٌس الذي سبق جمعة الؽضب‪ ،‬تلقى سابق حافلة‬
‫النقل العام التً تقلنً مكالمة هاتفٌة تخبره أن ٌبقى فً‬
‫اإلسكندرٌة‪ ،‬فطرٌق اإلسكندرٌة‪-‬السوٌس مؽلق حتى‬
‫إشعار آخر ‪ ..‬شعرت لحظتها كما لو كانوا ٌحاصرون‬
‫أهل السوٌس من أجل إخضاعهم‪ ،‬و إحكام السٌطرة‬
‫علٌهم ‪..‬‬

‫‪ٌ 32‬ناٌر ‪3122‬‬


‫جمعة الغضب‬
‫مع بداٌة ٌوم الجمعة‪ ،‬الثامن و العشرٌن من ٌناٌر‪ ،‬أدركت أن‬
‫هذا الٌوم سٌكون مختل ًفا بكافة المقاٌٌس ‪ ..‬استٌقظت صباحً ا و‬
‫تفقدت أحوال اتصال اإلنترنت؛ إذ كان االتصال بطٌ ًبا بط ًبا رهٌبًا‬
‫ٌوم الخمٌس‪ ،‬و كانت اإلشاعات تتردد أنهم سٌقطعون خدمة‬
‫اإلنترنت‪ ،‬كوسٌلة لتحجٌم الموقؾ المشتعل‪ ،‬و الذي أشتعل فً‬
‫األساس عن طرٌق ‪ ،facebook‬الذي حجبوه بطرق و وسابل‬
‫مختلفة‪ ،‬نجح الصؽٌر قبل الكبٌر فً تخطٌها و تجاوزها ‪..‬‬

‫‪27‬‬
‫تفقدت االتصال فوجدته مقطوعً ا‪ ،‬فتؤكدت أننا سنشهد ٌومًا‬
‫سنتحدث عنه ألجٌال قادمة ‪ ..‬عدت من طابور الخبز ألجد أن‬
‫خدمة الهواتؾ المحمولة قد انقطعت هً األخرى‪ ،‬فتؤكدت أننا‬
‫سنشهد حربًا‪ ،‬فقطع االتصاالت كان بالفعل إعبلن حرب ‪..‬‬

‫هدوء ساد األجواء حتى صبلة الجمعة ‪ ..‬خطبة الجمعة نفسها فً‬
‫المسجد الذي أدٌت فٌه الصبلة كانت كما لو أن الخطٌب ٌعٌش‬
‫فً كوكب آخر؛ إذ تحدث عن معاملة اإلسبلم لؽٌر المسلمٌن‬
‫على مر التارٌخ !‬

‫خرجنا من المسجد كؤنه ال شًء‪ ،‬لكن هذا كان ألن المسجد ٌقع‬
‫فً منطقة هادبة نسبًٌا – سموحة ‪ ..‬توجهت إلى السوق إلحضار‬
‫بعض الطلبات‪ ،‬ألجد أولى البوادر‪ :‬مظاهرة تمر من خلفً بطول‬
‫شارع أبً قٌر‪ ،‬تهتؾ بحماس و برقً ‪ ..‬عدت إلى المنزل ألجد‬
‫أن القاهرة قد بلؽت الحد األقصى من التوتر و االشتعال‪ ،‬و لمّا‬
‫ٌبدأ األمر بعد‪ ،‬أما السوٌس فكانت تواصل اشتعالها لٌس إال ‪..‬‬

‫كنا نتابع الموقؾ هنا فً اإلسكندرٌة‪ ،‬و فً القاهرة و السوٌس و‬


‫مصر كلها عبر شاشات التلفزٌون و قلق شدٌد ٌجتاحنا ‪ ..‬أمام‬
‫منزلً المتواضع مرت ثبلث مظاهرات متتالٌات‪ ،‬كان القاسم‬
‫المشترك بٌنها هو أنها مرت بسبلم ‪ ..‬ألقى بعض المتظاهرون‬
‫زجاجات المٌاه الفارؼة على نقطة شرطة سٌدي جابر‪ ،‬و بعضهم‬
‫ألقى قطع الحجارة‪ ،‬لكن الباقٌن أوقفوهم على الفور ‪..‬‬

‫‪28‬‬
‫نزلت ألإدي صبلة المؽرب لٌفاجبنً جاري مهندس التعدٌن‬
‫مستقببلً أن الربٌس أعلن فرض حظر التجول فً محافظات‬
‫القاهرة و اإلسكندرٌة و السوٌس‪ ،‬و أن الجٌش سٌهبط إلى‬
‫الشارع ‪ ..‬كان هذا فً اللحظة نفسها التً انسحبت فٌها الشرطة‬
‫من الجمهورٌة بؤكملها ‪..‬‬

‫حظٌت بمشاهدة حٌة لما رآه آخرون على شاشات التلفزٌون‪ ،‬من‬
‫حرق لنقاط الشرطة و النهب و التكسٌر‪ ،‬فؤمام منزلً مباشرة‬
‫كما قلت نقطة شرطة سٌدي جابر ‪ ..‬تعالت الضوضاء فً‬
‫الشارع فخرجنا لنر ماذا ٌحدث‪ ،‬لنجد أن العشرات قد فروا من‬
‫شارع أبً قٌر الربٌس إلى شارعنا الجانبً‪ ،‬و أن هناك من‬
‫ٌدمرون سٌارة "بوكس" بعنؾ و حقد‪ ،‬فٌما ٌحاول شباب الشارع‬
‫إٌقافهم ‪ ..‬لحظات و اخترقت أنوفنا رابحة احتراق ببلستٌكٌة‬
‫نفاذة شدٌدة التهٌٌج‪ ،‬فؤدركنا على الفور أن حرٌ ًقا ما قد شب‪ ،‬و‬
‫هو ما جعلنا نتراجع على الفور ‪..‬‬

‫فٌما بعد حكى لً أحد جٌرانً‪ ،‬و قد شهد ما حدث من مستوى‬


‫الشارع‪ ،‬و كان واق ًفا لحظة حدوث كل هذا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫كنا واقفٌن أنا و مجموعة من أهالً الشارع نشاهد ما‬
‫حدث ‪ ..‬مجموعة من البلطجٌة و ال شك هم هإالء‬
‫الذٌن شاهدنا ‪ ..‬أشعلوا النٌران فً نقطة الشرطة‪ ،‬ثم‬
‫سرقوا الخزٌنة التً ُتحفظ فٌها "األحراز"‪ ،‬و بدأوا فً‬
‫طرقها بمطرقة سرقوها من منزل مجاور‪ ،‬محاولٌن‬
‫الوصول للمخدرات المحفوظة بداخلها ‪..‬‬

‫‪29‬‬
‫كنا ثبلثة أو أربعة واقفٌن عاجزٌن أن نتدخل ‪ ..‬الفتى‬
‫الذي ٌقود هذه المجموعة و رفاقه ٌحملون سكاكٌن و‬
‫مدي‪ ،‬و هو نفسه – قابد المجموعة – كان ٌحمل على‬
‫كتفه مدف ًعا رشا ًشا‪ ،‬و قالها صراحة‪" :‬أنا حرامً و‬
‫معاٌا سبلح ‪ ..‬الدكر فٌكم ٌورٌنً حٌعمل إٌه" ‪ ..‬لم‬
‫نستطع سوى أن نخلع المدفع عنه‪ ،‬و لست أدري كٌؾ‬
‫فعل هذا من فعلها ‪..‬‬

‫ظلوا ٌطرقون و ٌطرقون على الخزٌنة حتى ملوا‪ ،‬ثم‬


‫اختتموا الحفل بإشعال النار فً سٌارة و هم ٌرددون‬
‫شعارات مضادة للنظام و الحكومة‪ ،‬لكننً بالطبع ال‬
‫ٌمكن أن أصدق أن هإالء من شباب المظاهرات‪ ،‬و لو‬
‫"حلفوا ع المٌاه تجمد" ‪..‬‬

‫أحد جٌرانً أخبرنً أن هإالء الحثالة قرروا بعد أن أحرقوا‬


‫نقطة الشرطة أن ٌحرقوا محطة البنزٌن و مستودع الؽاز‬
‫الواقعٌن بجوار نقطة الشرطة‪ ،‬و هو ما كان سٌفضً إلى كارثة‬
‫بكل المقاٌٌس‪ ،‬و لربما لم أكن ألجلس مجلسً هذا ألكتب إلٌكم ‪..‬‬

‫المثٌر لبلنتباه هو ما قاله آخر أنهم وجدوا أسلحة نقطة الشرطة‬


‫مجموعة فً جوال‪ ،‬و معدة للتهرٌب‪ ،‬و ربما لم ٌنقذنا من خطر‬
‫تهرٌبها سوى تواجد الجٌش‪ ،‬الذي تسلم الجوال من بعض قاطنً‬
‫الشارع‪ ،‬الذٌن أخذوا ٌتفقدون نقطة الشرطة‪ ،‬بعد أن ساعدوا فً‬
‫إطفابها‪ ،‬و هو ما تم بجهود ذاتٌة تقرٌبًا‪ ،‬إذ أن البلطجٌة الذٌن‬

‫‪30‬‬
‫أُطلقت ٌدهم فً األرض لم تسلم سٌارات اإلطفاء هً األخرى‬
‫منهم‪ ،‬لكنهم اكتفوا بسرقة معداتها و تركها ً‬
‫جثثا خاوٌة على‬
‫األرض ‪..‬‬

‫مشهد سٌارة اإلطفاء التً اعتبلها البلطجٌة وصفه جاري نفسه‬


‫الذي كان شاه ًدا على اإلعتداء على خزانة نقطة الشرطة ‪ ..‬قال‪:‬‬
‫فرحنا عندما رأٌنا سٌارة إطفاء تؤتً مسرعة‪ ،‬إذ كان‬
‫القسم مشتعبلً‪ ،‬و ٌهدد محطة الوقود التً بجانبه‪ ،‬لكن‬
‫فرحتنا زالت عندما وجدنا مجموعة أخرى من‬
‫البلطجٌة و قطاع الطرق تعتلً ظهر السٌارة و تهتؾ‬
‫و تصٌح‪ ،‬ثم أوقفوا السٌارة فً منتصؾ شارع أبً‬
‫قٌر‪ ،‬أمام نقطة الشرطة تقرٌبًا‪ ،‬ثم هبطوا عنها ‪..‬‬

‫ظنناهم سٌتركونها‪ ،‬لكننا فوجبنا بهم ٌخلعون عنها كل‬


‫ما ٌمكن خلعه ‪ ..‬المضخات ‪ ..‬البطارٌة ‪ ..‬المسامٌر ‪..‬‬
‫كل شًء تقرٌبًا‪ ،‬ثم رحلوا و تركوها جثة هامدة فً‬
‫وسط الطرٌق‪ ،‬و اضطررنا أن نستعمل إمكانٌاتنا‬
‫البسٌطة للسٌطرة على الحرٌق ‪..‬‬

‫و من اإلسكندرٌة إلى القاهرة‪ ،‬أنقل شهادة حٌة لما حدث فً قسم‬


‫الشرابٌة‪ ،‬كتبها أحد شهود العٌان إذ ٌقول‪:‬‬
‫لادذًٕ اٌظش‪ٚ‬ف ٌحع‪ٛ‬س ِشا٘ذج حٍح ٌحشٌك لغُ‬
‫اٌششاتٍح‪ ٚ ،‬واْ رٌه ٌ‪ َٛ‬اٌجّؼح اٌّاظً ‪ ٛ٘ٚ‬اٌٍ‪َٛ‬‬
‫اٌزي ش‪ٙ‬ذ تذاٌح اخرفاء سجاي األِٓ‪ ،‬ففً ٘زا اٌٍ‪ ٚ َٛ‬فً‬

‫‪31‬‬
‫ذّاَ اٌغاػح اٌغادعح ِغاء‪ِ ٚ ،‬غ إػالْ لشاس حظش‬
‫اٌرج‪ٛ‬ي وٕد ِر‪ٛ‬اجذا ‪ٚ‬عػ ِظا٘شاخ ٍِذاْ اٌرحشٌش‬
‫ٌّراتؼح اٌّ‪ٛ‬لف ٕ٘ان‪.‬‬

‫‪ ٚ‬وّا اخرفى سجاي األِٓ‪ ،‬اخرفد أٌعا ‪ٚ‬عائً‬


‫اٌّ‪ٛ‬اصالخ‪ ،‬فٍُ اعرطغ اٌؼ‪ٛ‬دج إٌى ِٕضًٌ تّٕطمح‬
‫جضٌشج اٌغالَ‪ ،‬خاصح أْ اٌّغافح تؼٍذج ػٓ ٍِذاْ‬
‫اٌرحشٌش‪ ،‬فمشسخ اٌز٘اب إًٌ ِٕضي أحذ ِؼاسفً‬
‫اٌّ‪ٛ‬ج‪ٛ‬د تـ"اٌششاتٍح" ٌغ‪ٌٛٙ‬ح اٌز٘اب إٌٍٗ ُِرشجال‪ٚ ،‬‬
‫تاٌفؼً أخزخ غشٌمً إٌى ٕ٘ان‪ ٚ ،‬تّجشد ‪ٚ‬ص‪ ًٌٛ‬إٌى‬
‫إٌّطمح اٌّ‪ٛ‬ج‪ٛ‬دج تج‪ٛ‬اس ِحطح ِرش‪ ٚ‬غّشج ‪ٚ‬جذخ‬
‫ٔفغً – فً دلائك ِؼذ‪ٚ‬دج – ِحاصشا تآالف ِٓ اٌثشش‬
‫اٌ ُّغٍحٍٓ تاألعٍحح اٌثٍعاء ‪ ٚ‬غٍش اٌثٍعاء‪ ،‬فرغّشخ‬
‫فً ِىأً أِاَ تاب لغُ "اٌششاتٍح" ػٕذ تذء اٌّؼشوح‪.‬‬

‫واْ اٌّ‪ٛ‬لف ِخٍفا تاٌفؼً؛ فاٌعثاغ ‪ٚ‬اٌؼغاوش ٌذافؼ‪ْٛ‬‬


‫تىً ل‪ٛ‬ج ػٓ أس‪ٚ‬اح‪ ،ُٙ‬تؼذ أْ أغٍم‪ٛ‬ا وً ِٕافز اٌمغُ‪ٚ ،‬‬
‫‪ٚ‬ظؼ‪ٛ‬ا ورال حذٌذٌح أِاَ تاتٗ ‪ ٚ‬أخز‪ٚ‬ا ِ‪ٛ‬الؼ‪ٌّٕ ُٙ‬غ‬
‫ػٍٍّح االلرحاَ ‪ ٚ‬لاِ‪ٛ‬ا تئغالق إٌاس ػٍى وً ِٓ ٌمرشب‬
‫ِٓ اٌمغُ‪ٌ ٚ ،‬ىٕ‪ٌ ٌُ ُٙ‬صّذ‪ٚ‬ا أوثش ِٓ عاػح ‪ٚ‬احذج‪،‬‬
‫فمذ صاد ػذد اٌّمرحٍّٓ ٌٍمغُ‪ ِٓ ُِٕٙ ٚ ،‬واْ ٌغرخذَ‬
‫سشاشاخ ‪ ٚ‬تٕادق آٌٍح‪ ٚ ،‬عشػاْ ِا اشرؼٍد إٌٍشاْ‬
‫تاٌمغُ تؼذِا أٌُمً ػٍٍٗ صجاجاخ "اٌّ‪ٌٛٛ‬ذ‪ٛ‬ف" ‪ٚ‬‬
‫ػث‪ٛ‬اخ اٌثٕضٌٓ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫ذح‪ٛ‬ي اٌمغُ إٌى ورٍح ٔاس فً ث‪ٛ‬اْ ِؼذ‪ٚ‬دج‪ ٚ ،‬حا‪ٚ‬ي ِٓ‬
‫فٍٗ اٌ‪ٙ‬ش‪ٚ‬ب‪ ٚ ،‬تذأخ ػٍٍّاخ ٔ‪ٙ‬ة ‪ ٚ‬عشلح وً‬
‫ِحر‪ٌٛ‬اخ اٌمغُ‪ ،‬فمذ ‪ٚ‬جذخ اٌثؼط ٌخشج تخضٌٕح وثٍشج‬
‫‪ ً٘ ٚ‬خضٌٕح ِؤِ‪ٛ‬س اٌمغُ‪ ٚ ،‬اٌثؼط األخش ٌخشج‬
‫تؤج‪ٙ‬ضج اٌىّثٍ‪ٛ‬ذش ‪ ٚ‬أج‪ٙ‬ضج اٌرىٍٍف‪ٕ٘ ٚ ،‬ان ِٓ خشج‬
‫حاِال ػذد ِٓ اٌىشاعً‪ ٚ ،‬وزٌه االعرٍالء ػٍى‬
‫األعٍحح اٌّ‪ٛ‬ج‪ٛ‬دج تٗ‪ٚ ٚ ،‬جذخ ػششاخ اٌّغاجٍٓ‬
‫ٌ‪ٙ‬ش‪ ٌْٛٚ‬خاسجٍٓ ِٓ اٌمغُ‪.‬‬

‫تؼذ ِش‪ٚ‬س ِا ٌمشب ِٓ ثالز عاػاخ – ‪ ٚ‬تؼذِا ذح‪ٛ‬ي‬


‫اٌمغُ إٌى خشاتح – تذأ اٌّمرحّ‪ ٚ ،ٌٗ ْٛ‬اٌزٌٓ وأ‪ٛ‬ا‬
‫ٌرذفم‪ ْٛ‬إٌٍٗ تاعرخذاَ اٌّ‪ٛ‬ذ‪ٛ‬عٍىالخ اٌثخاسٌح‪ ،‬فً‬
‫االٔصشاف‪ُِ ،‬شددٌٓ ػثاساخ االٔرصاس‪ٚ ٚ ،‬لر‪ٙ‬ا فمػ‬
‫تذأخ أذحشن تثػء حرى أعرىًّ غشٌمً‪.‬‬

‫‪ٚ‬أٔا فً غشٌمً إٌى ِٕضي أحذ ِؼاسفً‪ ،‬سا‪ٚ‬دًٔ عؤاي‪:‬‬


‫ِا ً٘ د‪ٚ‬افغ ‪ ٚ‬أعثاب إشؼاي إٌاط فً ألغاَ اٌششغح؟‬
‫‪ٚٚ‬جذخ أْ ٕ٘ان فشصح ٌٓ ذرىشس وثٍشا ٌٍرؼشف ػٍى‬
‫اإلجاتح ِٓ ػٍٕح ِّٓ لاِ‪ٛ‬ا ت‪ٙ‬زا األِش تاٌفؼً‪.‬‬

‫"أٔا خذخ تراسي ِٓ اٌعثاغ ‪ٚ‬األِٕاء‪ ٚ ،‬وذا أٔاَ ‪ٚ‬أٔا‬


‫ِغرشٌح" ٘ىزا لاي ذاِش‪ ٛ٘ ٚ ،‬عائك ٍِىش‪ٚ‬تاص ‪ٚ‬‬
‫ٌمٍُ تإٌّطمح ػضتح أت‪ ٛ‬حشٍش‪ ٚ ،‬أ‪ٚ‬ظح أْ تؼط‬
‫إِٔاء اٌششغح تاٌمغُ وأ‪ٛ‬ا غاٌثا ِا ٌفشظ‪ ْٛ‬اإلذا‪ٚ‬اخ‬

‫‪33‬‬
‫ػٍى اٌغائمٍٓ حرى ٌغّح‪ٛ‬ا ٌ‪ ُٙ‬تاٌّش‪ٚ‬س ‪ ٚ‬اٌؼًّ‪،‬‬
‫ِشٍشا إٌى أٔٗ ذؼشض إل٘أح ِٕز ػآٍِ‪ٌ ٚ ،‬ىٕٗ ٌُ‬
‫ٌٕغ‪ٙ‬ا‪ ،‬فؼٕذِا سفط أْ ٌذفغ اإلذا‪ٚ‬ج ألحذ األِٕاء راخ‬
‫ِشج‪ ،‬واْ ِصٍشٖ اٌعشب ‪ ٚ‬اٌغحً فً اٌشاسع أِاَ‬
‫صِالئٗ ‪ ٚ‬أِاَ اٌّاسج‪.‬‬

‫‪ٕ٘ ٚ‬ان أٌعا ِٓ واْ دافؼٗ إٌى ذخشٌة اٌمغُ ٘‪ٛ‬‬


‫إخشاج ألاست‪ِ ٚ ُٙ‬ؼاسف‪ ِٓ ُٙ‬عجٓ اٌمغُ‪ُِٕٙ ٚ ،‬‬
‫ش‪ٛ‬لً اٌزي أ‪ٚ‬ظح أْ أخاٖ ِحث‪ٛ‬ط تاٌمغُ تؼذ ظثطٗ‬
‫‪ٌ ٛ٘ ٚ‬رؼاغى اٌّخذساخ لثً ش‪ٙ‬شٌٓ‪ ٚ ،‬لاي إْ ٘زٖ‬
‫اٌفشصح ٌٓ ذرىشس حرى ٌغرطٍغ فه حثظ أخٍٗ‪.‬‬

‫وّا ر٘ة اٌثؼط إلشؼاي إٌاس فً أ‪ٚ‬ساق اٌّحاظش‬


‫‪ِٚ‬غرٕذاخ ذذٌٕ‪ ُٙ‬ا‪ ٚ‬ذذٌٓ ألاست‪٘ ٚ ،ُٙ‬زا ِا لاٌٗ ػثذ‬
‫اٌىشٌُ اٌزي أساد أْ ٌحشق أحذ اإلحشاص اٌّرؼٍمح تمعٍح‬
‫لرً ٘‪ِ ٛ‬ر‪ ُٙ‬فٍ‪ٙ‬ا‪ ،‬وّا أْ ٕ٘ان ِٓ تٍٓ اٌّمرحٍّٓ ٌٍمغُ‬
‫ِٓ ‪ٚ‬جذ فً األِش فشصح ٌالعرٍالء ػٍى األعٍحح‬
‫اٌّ‪ٛ‬ج‪ٛ‬دج تٗ‪ ،‬وّا أْ اٌثؼط لاِ‪ٛ‬ا تغشلح ِحر‪ٌٛ‬اخ‬
‫اٌمغُ‪ٚ ٚ ،‬جذخ أٔ‪ِ ُٙ‬مرٕؼ‪ ْٛ‬أْ ٘زا حم‪.ُٙ‬‬

‫عدت من المشاهدة الحٌة على أرض الواقع لمتابعة ما ٌجري‬


‫على شاشات التلفزٌون ‪ ..‬انسحاب تام للشرطة من الجمهورٌة‬
‫بؤكلمها‪ ،‬و انتشار مرٌع للبلطجٌة و اللصوص و قطاع الطرق ‪..‬‬
‫فً البداٌة ظننا أن هذه هً ثورة الجٌاع التً تحدث عنها الجمٌع‬

‫‪34‬‬
‫و أن المهمشٌن و سكان العشوابٌات قد خرجوا من تحت األرض‬
‫ٌطلبون الثؤر من األؼنٌاء الذٌن قتلوهم أحٌاء و أحالوا حٌاتهم‬
‫جحٌمًا‪ ،‬كما كان األمر مع انتفاضة ‪ 7711‬على سبٌل المثال‪،‬‬
‫لكننا مع الوقت أدركنا أن األمر لٌس كذلك ‪ ..‬هإالء أناس وُ جهوا‬
‫توجٌهًا صرٌحً ا‪ :‬خربوا مصر ‪ ..‬احرقوها و دمروها ‪ ..‬انشروا‬
‫الفوضى ‪ ..‬انشروا الذعر ‪ ..‬و كان هذا بالطبع بالتزامن مع‬
‫اختفاء الشرطة‪ ،‬و تؤخر نزول و انتشار الجٌش ‪..‬‬

‫رفض الكثٌرون هذه المظاهرات و قالوا إنها ستتسبب فً إصابة‬


‫الببلد بحالة من الفوضى العارمة و تؽرقنا فً بحر متبلطم من‬
‫العبثٌة التً لن تنتهً قرٌبًا ‪ ..‬البعض من هإالء كان من رجال‬
‫النظام الذٌن ٌرٌدون "استقرار االستمرار"‪ ،‬و البعض كان‬
‫ٌتحدث من منطلق أن مثل هذه المظاهرات تشهد دومًا اندساس‬
‫ً‬
‫وسطا مناسبًا‬ ‫بلطجٌة و لصوص و قطاع طرق‪ ،‬ما ٌجعلها‬
‫النتشار أعمال العنؾ و التخرٌب‪ ،‬و البعض تحدث من منطلق‬
‫أنها لٌست الطرٌقة الشرعٌة للخروج على الحاكم الظالم ‪ ..‬أًٌا‬
‫كان الرأي الذي تبناه أي مخلوق كان‪ ،‬فإن أح ًدا لم ٌكن ٌتوقع أن‬
‫ٌكون سبب الفوضى هو أوامر علٌا بانسحاب تام للشرطة من‬
‫الشوارع و المراكز‪ ،‬و فً الوقت نفسه إخبلء السجون من‬
‫روادها من المجرمٌن و السفاحٌن و القتلة‪ ،‬و إطبلقهم فً‬
‫الشوارع لنشر الرعب و الفوضى ‪ ..‬لم ٌكن من الممكن أن ٌتخٌل‬
‫إنسان أنه سٌتخٌل مثل هذا السٌنارٌو المرٌع ‪..‬‬

‫‪35‬‬
‫فً األٌام التً تلت هذا تحدث الكثٌرون عن السجون التً كانت‬
‫ُتهدم أسوارها ببلدوزرات من أجل إطبلق المسجونٌن بداخلها‪ ،‬و‬
‫تحدث البعض من الذٌن قُبض علٌهم مرة أخرى أن ملثمٌن فتحوا‬
‫الزنازٌن و أرهبوهم بالمدافع اآللٌة كً ٌخرجوا ‪..‬‬

‫صحفً بالوفد اتصل ببرنامج العاشرة مسا ًء و أخبر مذٌعته منى‬


‫محتجزا بنقطة شرطة البدرشٌن على‬‫ً‬ ‫الشاذلً أن قرٌبًا له كان‬
‫ذمة قضٌة مالٌة – شٌك بدون رصٌد – روى له أن أحد‬
‫المجندٌن فً النقطة فتح باب الزنزانة أمام المسجونٌن قاببلً‪:‬‬
‫"ٌاال مع السبلمة" ‪ ..‬بالطبع لٌس كل المسجونٌن من عٌنة هذا‬ ‫ّ‬
‫الشخص المحتجز على ذمة قضٌة مالٌة‪ ،‬بل بهم نسبة ال بؤس بها‬
‫من المجرمٌن الجنابٌٌن بالطبع ‪..‬‬

‫األمر ال ٌخلو من مإامرة ‪ٌ ..‬قول البعض إن هذا جزء من‬


‫سٌنارٌو الفوضى الذي ٌتبناه النظام من أجل إعادة قبضته مرة‬
‫أخرى على مصر ‪ ..‬الفوضى تعم الببلد‪ ،‬و من ثم ٌخرج رموزه‬
‫قابلٌن‪" :‬ما إحنا قلنا لكم ‪ ..‬شفتوا آخرة االعتراض علٌنا إٌه ؟!"‬

‫نظرة بسٌطة إلى الموازانات العامة السابقة تجعلك تدرك أن‬


‫وزارة الداخلٌة كانت تستهلك اثنتً عشرة ملٌارً ا من الجنٌهات‬
‫كل عام فً المتوسط‪ ،‬و هو الرقم الذي قفز إلى اثنٌن و عشرٌن‬
‫ملٌارً ا فً األعوام األخٌرة‪ ،‬ثم ها هً النتٌجة عندما احتجناهم ‪..‬‬
‫ً‬
‫مبلؽا بهذا الحجم‬ ‫طاقم الحرس الذي أدفع له من جٌبً كل عام‬

‫‪36‬‬
‫هرب عندما احتجته ‪ ..‬إنها لٌست مإامرة فحسب‪ ،‬بل هً جرٌمة‬
‫خٌانة عظمى و ال شك ‪..‬‬

‫تابعنا ما ٌجري على شاشات التلفزٌون‪ ،‬و أدركنا أن مصر‬


‫تحترق ‪ ..‬ال‪ ،‬بل ُتحرق ‪ُ ..‬تحرق عم ًدا و دون ذرة من رحمة أو‬
‫نخوة ‪ ..‬جمٌع مراكز و نقاط الشرطة‪ ،‬و مقرات الحزب‬
‫الوطنً‪ ،‬و مقرات أجهزة أمن الدولة‪ ،‬و بعض المنشآت‬
‫األخرى؛ كلها أُحرقت‪ ،‬فً إطار مخطط الفوضى الذي تبناه‪ ،‬و‬
‫ال ٌزال‪ ،‬النظام البابد ‪ ..‬حتى المتحؾ المصري لم ٌسلم !‬

‫ثم اتحفنا الربٌس مبارك بخطاب أقل ما ٌقال عنه إنه "ال عبلقة‬
‫جدا ‪ ..‬ثبلثة أٌام من‬ ‫له بالواقع" ‪ ..‬الخطاب جاء متؤخرً ا ً‬
‫االحتجاجات المتصلة‪ ،‬و ٌوم دام مرعب ثقٌل على كل مصري‪،‬‬
‫و حظر تجول فُرض و قوات مسلحة تنتشر فً الببلد‪ ،‬و إذا به‬
‫ٌخرج لٌقول إن الحكومة لم تنفذ توجٌهاته كما ٌجب‪ ،‬و هً‬
‫السبب فً ما حدث‪ ،‬و تصرفاتها هً المحرك لثورة الناس‪ ،‬و‬
‫لذلك فهو ٌقٌلها !‬

‫جاء الخطاب بالطبع دون التوقعات‪ ،‬و جاء مخٌبًا لآلمال‪ ،‬و‬
‫مإسسً ا لنظرٌة "العناد الرباسً" ‪ ..‬بٌنما توقع الجمٌع أن ٌخرج‬
‫الربٌس لٌقول إننً استٌجب لمطالب الشعب كاملة‪ ،‬و سؤفعل كذا‬
‫و كذا‪ ،‬أو أمرت بكذا و كذا‪ ،‬و سؤتنحى عن الحكم‪ ،‬خرج إلٌنا‬
‫بشًء ال عبلقة له بؤرض الواقع إطبل ًقا ‪..‬‬

‫‪37‬‬
‫ذكرنً هذا بما حدث فً آخر عهد ربٌس الوزراء األسبق‬
‫عاطؾ عبٌد ‪ ..‬م ّل الجمٌع من الحدٌث عن ضرورة إقالة هذا‬
‫الرجل‪ ،‬فهو سٌهلك الحرث و النسل‪ ،‬و لن ٌترك أخضر و ال‬
‫ٌابس إال و باعه فً إطار سٌاسات الخصخصة المستفزة التً‬
‫أرسى دعابمها‪ ،‬و أكملها من بعده محمود محًٌ الدٌن‪ ،‬لكن‬
‫اإلجابة كانت دومًا الصمت المطبق من مبارك ‪ ..‬عندما م ّل‬
‫الناس ح ًقا و تركوا الحدٌث فً هذا الشؤن‪ ،‬خرج علٌنا الرجل‬
‫فجؤة بقرار التعدٌل الوزاري‪ ،‬و كؤنه كان ٌقول إنه شخص ال‬
‫ُتلوى له ذراع‪ ،‬و ال ٌُجبر على شًء !‬

‫هذه المرة ٌستخدم األسلوب ذاته‪ ،‬و لكن على نطاق أكبر ‪ ..‬هو‬
‫ال ٌدرك أن البلد لم تعد كما كانت‪ ،‬و أن طرٌقته فً إدارة‬
‫الموقؾ بالعناد و التعنت لن توصلنا إال إلى كارثة محققة‪ ،‬لكنه‬
‫أقرب ما ٌكون للوصؾ "أخذته العزة باإلثم"‬

‫فً حدٌثه لجرٌدة المصري الٌوم قال الكاتب الصحفً محمد‬


‫حسنٌن هٌكل إن أحد المقربٌن من مبارك قال إنه حاول جاه ًدا أن‬
‫ٌقنع مبارك بضرورة تعٌٌن أحد األشخاص‪ ،‬ألنه ٌحمل من‬
‫المإهبلت كذا و كذا‪ ،‬و معه عدة شهادات دكتوراه فً تخصصه‪،‬‬
‫لكنه أبى و قال‪" :‬و أنا معاٌا دكتوراه فً العند"‬

‫بالطبع كان رد الفعل متوق ًعا و منطقًٌا‪ :‬ارحل ‪ ..‬الشعب ٌرٌد‬


‫إسقاط الربٌس ‪ ..‬تحول الموقؾ إلى عناد متبادل‪ ،‬و أصبح‬
‫الشعار "سٌب و أنا أسٌب"‬

‫‪38‬‬
‫بعد خطاب مبارك جاء خطاب الربٌس األمرٌكً باراك أوباما‪،‬‬
‫الذي كان واضحً ا أنه ٌلعب على كافة الحبال كً ال ٌخسر ً‬
‫أحدا؛‬
‫فالموقؾ كان و ال شك مفاج ًبا للجمٌع‪ ،‬بمن فٌهم المصرٌٌن‪ ،‬و‬
‫ضبابًٌا إلى حد بعٌد ‪..‬‬

‫أكد فً البداٌة أنه ٌجب على الحكومة المصرٌة أن تعٌد خدمات‬


‫اإلنترنت و المحمول‪ ،‬و تخطو خطوات أكثر جدٌة نحو‬
‫اإلصبلح‪ ،‬و هو كبلم مابع بالطبع‪ٌ ،‬عبر عن رؼبة فً اتخاذ‬
‫موقؾ‪ ،‬لكن دون أن ٌكون فً اتجاه محدد‪ ،‬فً انتظار اتضاح ما‬
‫ستسفر عنه األٌام ‪..‬‬

‫‪ٌ 32‬ناٌر ‪3122‬‬


‫النائب‬
‫فً الٌوم التالً – السبت‪ ،‬التاسع و العشرون من ٌناٌر – كان‬
‫الجمٌع بانتظار الحكومة الجدٌدة التً وعد الربٌس أنه سٌكلفها‬
‫تكلٌفات محددة و جدٌدة‪ ،‬لكن تشكٌل الحكومة تؤخر كثٌرً ا‪ ،‬و هو‬
‫ما أكد لدى الناس تلك الفكرة المترسخة فً أذهانهم‪ ،‬و هً أن‬
‫النظام المصري تحول إلى دٌناصور من العصر الجوارسً‪،‬‬
‫ٌتحرك ببطء‪ ،‬و ٌفكر ببطء ‪ ..‬لٌس بطٌ ًبا فحسب‪ ،‬بل هو بطًء‬
‫بشكل قاتل و ؼبً ‪..‬‬

‫فً الظهٌرة أعادت شركات المحمول الخدمة مرة أخرى‪ ،‬بعد‬


‫انقطاع دام ٌومًا كامبلً‪ ،‬لكنها كانت عودة جزبٌة‪ ،‬أي عودة‬
‫االتصال الصوتً فقط‪ ،‬دون عودة خدمة الرسابل النصٌة ‪..‬‬

‫‪39‬‬
‫ثم جاء الخبر الذي انتظره الجمٌع منذ ثبلثٌن عامًا‪ ،‬و عٌّن‬
‫مبارك ناببًا له !‬

‫تعٌٌن النابب كان هو المخرج الذي توقعه الجمٌع للربٌس من هذه‬


‫األزمة؛ فٌحٌل سلطات ربٌس الجمهورٌة إلى ناببه‪ ،‬و ٌختفً هو‬
‫من المشهد‪ ،‬لكن ما فوجبنا به جمٌعً ا هو أن الرجل مستمر و ال‬
‫ٌتحرك ‪..‬‬

‫لم أرتح كثٌرً ا لتعٌٌن عمر سلٌمان كنابب للربٌس‪ ،‬فهو فً نظري‬
‫الرجل الذي أدار المفاوضات الفلسطٌنٌة اإلسرابٌلٌة لصالح‬
‫ً‬
‫تنفٌذا لسٌاسات الدولة‪ ،‬فهذا ال‬ ‫إسرابٌل‪ ،‬حتى و إن كان ٌفعل هذا‬
‫ٌعفٌه‪ ،‬بل ٌزٌد الجرم جرمًا آخر ‪ ..‬أًٌا كانت درجة صبلحه‪ ،‬أنا‬
‫ال أثق فً الصالحٌن الذٌن ٌقبلون العمل تحت مظلة الفاسدٌن ‪..‬‬

‫و باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن الرجل عقلٌة تفاوضٌة ال أرتاح كثٌرً ا‬


‫لوضعها فً مواجهة الثوار‪ ،‬إذ شعرت إنه سٌبتلعهم و سٌقلب‬
‫الطاولة علٌهم ‪..‬‬

‫و بعد إعبلن تعٌٌن نابب ربٌس الجمهورٌة‪ ،‬أعلن التلفزٌون‬


‫المصري عن تعٌٌن الفرٌق أحمد شفٌق – وزٌر الطٌران‬
‫السابق– ربٌ ًسا للوزراء‪ ،‬و هو ما فسره البعض – مازحً ا – بإن‬
‫مبارك اختار الرجل كً ٌسهّل له رحلة آمنة !‬

‫‪40‬‬
‫الحقٌقة أن هذا النظام أثبت قدرة ال متناهٌة على الثبات‪ ،‬بل‬
‫الجمود؛ فرؼم كل ما حدث‪ ،‬ال زال ٌتعامل بالطرٌقة نفسها‪،‬‬
‫فٌؤتً بؤشخاص من العهد القدٌم‪ ،‬و ٌقول إنهم سٌقودون قاطرة‬
‫العهد الجدٌد ‪..‬‬

‫لم ٌكن التشكٌل الوزاري مستؽربًا‪ ،‬فالوزراء الذٌن صنعوا‬


‫األزمة – من وجهة نظر النظام – قد اختفوا‪ ،‬لكن الحقٌقة أنهم‬
‫جزء من األزمة و لٌسوا األزمة كلها ‪ ..‬اختفى هإالء‪ ،‬لكن‬
‫كثٌرٌن من المؽضوب علٌهم شعبًٌا ظلوا‪ ،‬لعل أبرزهم سامح‬
‫فهمً‪ ،‬و أنس الفقً‪ ،‬و مصٌلحً ‪ ..‬تعدٌل وزاري بطعم العناد‪،‬‬
‫و هو طعم لم ٌزد األمر إال تؤزمًا ‪..‬‬

‫تقارٌر‬
‫عادت االتصاالت‪ ،‬فقررت االطمبنان على األصدقاء‪ ،‬فاتصلت‬
‫فً البداٌة بصدٌقٌن لً فً دمنهور؛ إذ سمعت أن الدنٌا قد قامت‬
‫هنالك و لم تقعد‪ ،‬فؤكدا لً األمر ‪ ..‬قال األول‪ ،‬و كان قد اشترك‬
‫فً مظاهرات ٌوم الجمعة‪:‬‬
‫سلمٌة حتى النخاع ‪ ..‬هذا ما أصؾ به هذه المظاهرة‬
‫التً خرجت بعد صبلة الجمعة ‪ ..‬اتجهنا إلى مٌدان‬
‫الساعة حٌث كل شًء تقرٌبًا فً دمنهور‪ :‬مقر جهاز‬
‫مباحث أمن الدولة‪ ،‬نقطة الشرطة‪ ،‬مقر الحزب‬
‫الوطنً‪ ،‬المحكمة ‪ ..‬لسبب ما‪ ،‬ربما هو عقود الظلم و‬
‫القهر التً رآها الناس على ٌد هذا الجهاز‪ ،‬أصٌب‬
‫الناس بحالة من الهٌاج التً أزكاها شعورهم بالحرٌة‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫فانطلقوا صوب مبنى مباحث أمن الدولة ٌرٌدون‬
‫االنقضاض علٌه‪ ،‬فما كان من ضابط ؼبً بالداخل إال‬
‫ً‬
‫ثبلثا‬ ‫أن أفرغ من مدفع رشاش عدة طلقات أصابت‬
‫فؤردتهم قتلى‪ ،‬فاستشاط الجمع ؼضبًا و اندفعوا ال‬
‫ً‬
‫واحدا‪ :‬رأس هذا القاتل ‪..‬‬ ‫ٌرٌدون إال هد ًفا‬

‫أحرقوا المبنى‪ ،‬أو لنكن أدق أحرقه الضباط و أجهز‬


‫علٌه الناس‪ ،‬و أحرقوا مقر الحزب الوطنً‪ ،‬و نقطة‬
‫الشرطة‪ ،‬و جزءًا من المحكمة ‪ ..‬كان األمر عندنا‬
‫مختلؾ عن بقٌة محافظات الجمهورٌة‪ ،‬فالحرق بدأ‬
‫مبكرً ا‪ ،‬و بدأته الجماهٌر الؽاضبة و أتمه البلطجٌة ‪..‬‬

‫حزنت ج ًدا أن احترق مقر مباحث أمن الدولة‪ ،‬فما‬


‫بداخله فضابح و أسرار لن تودي بهم إلى اإلعدام‬
‫فحسب‪ ،‬بل توجب إعدامهم ألؾ مرة ‪ ..‬لكنه احترق !‬

‫أنا اآلن واقؾ أحمً منطقتً ممن أطلقوهم من السجون‬


‫و نقاط الشرطة‪ ،‬و قد نظمنا جماعة ممن ٌنتمون‬
‫لئلخوان المسلمٌن ‪ ..‬جمعوا شباب كل شارع فً‬
‫مجموعات تتناوب الحراسة‪ ،‬و أشعر و أنا واقؾ اآلن‬
‫كؤننا فً حرب ‪ ..‬إننً خابؾ !‬

‫أما صدٌقً اآلخر فلم ٌشترك فً المظاهرة‪ ،‬لكنه أعطانً صورة‬


‫عن الوضع فً منطقة أخرى من دمنهور‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫الوضع هنا متؤزم ‪ ..‬اقتحموا منزالً بجوارنا و سرقوا‬
‫ما فٌه و اؼتصبوا زوج صاحب المنزل ‪ ..‬األحادٌث‬
‫تدور حول رجال ٌدورون ٌركبون الدراجات النارٌة‬
‫للقٌام بعملٌات سطو و نهب‪ ،‬و نحن نحتاط لهذا بإذن‬
‫هللا ‪..‬‬

‫سؤنزل اآلن ألحرس ناصٌة الشارع ممس ًكا بساطور‪ ،‬و‬


‫هللا ٌحفظنا و ٌحمٌنا ‪..‬‬

‫فكرة اللجان الشعبٌة التً تحمً الممتلكات العامة و الخاصة‬


‫أطلقها البعض أسوة بما حدث فً تونس ‪ ..‬لست أدري ما الذي‬
‫جعلهم ٌلجؤون إلى مثل هذه اللجان فً تونس‪ ،‬لكن ؼٌاب الشرطة‬
‫التام – حتى شرطة المرور و اآلثار ! – و انطبلق البلطجٌة فً‬
‫كل مكان جعل هذه اللجان ضرورة ال فكاك منها ‪..‬‬

‫اتصلت بصدٌق ثالث من قاطنً اإلسكندرٌة‪ ،‬لكنه ٌسكن منطقة‬ ‫ُ‬


‫تعد من األهداؾ الجٌدة لمثل هذه الهجمات ‪ ..‬منطقة ثرٌة نوعً ا‪،‬‬
‫و هادبة بطبٌعتها‪ ،‬و محاطة بعدد من المناطق الموبوءة بمثل هذا‬
‫الداء العضال‪ :‬البلطجٌة ‪ ..‬قال‪:‬‬
‫لقد أقمنا ً‬
‫عددا من المتارٌس عند بداٌة و نهاٌة الشارع‪..‬‬
‫نفتش كل السٌارات و ال نسمح بمرور شخص ؼرٌب‬
‫عن المكان‪ ،‬و لقد أثمرت جهودنا خٌرً ا رؼم كل‬
‫شًء‪ ..‬أمسكنا بسٌارة مسروقة كانت تقل عد ًدا من‬
‫البلطجٌة‪ ،‬و هنالك أخرى أفلتت ‪..‬‬

‫‪43‬‬
‫المزٌة رؼم كل شًء هنا أن الكثٌرٌن من قاطنً‬
‫المكان ممن ٌحملون السبلح بحكم المهنة‪ ،‬فهم بٌن‬
‫ضباط شرطة حالٌون‪ ،‬أو سابقون ‪ ..‬من المرٌح أن‬
‫تعمل بجانب محترؾ ‪..‬‬

‫صدٌق آخر أخبرنً عن المنطقة الشمالٌة العسكرٌة‪ ،‬القرٌبة من‬


‫كورنٌش اإلسكندرٌة فً منطقة سٌدي جابر ‪ ..‬توقؾ عندها لفترة‬
‫لدى عودته من المستشفى لٌبلً‪ ،‬فمنزله هو اآلخر ٌقع فً منطقة‬
‫ثرٌة نوعً ا‪ ،‬و عندما وصلها أخبره ضابط الجٌش أن تخطً‬
‫الحاجز الذي فرضوه ممنوع‪ ،‬فهم ٌقومون بما ٌشبه "المناورة"‬
‫للقبض على البعض‪ ،‬و ال بد له أن ٌنتظر قلٌبلً قبل أن ٌستطٌع‬
‫المرور ‪ ..‬توقؾ عندها و حكى لً عن "الضبطٌات" المتتالٌة‪،‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ً‬
‫ٌؤتً الجنود باللص منهم محموال من قمٌصه و سرواله‬
‫كالدجاجة ‪ ..‬مسكٌن هو؛ ضٌّع عمره و أدخل نفسه‬
‫دابرة ال فكاك منها؛ فؤحكام المحكمة العسكرٌة التً‬
‫سٌحاكم أمامها نهابٌة و قاطعة و ال نقض فٌها و ال‬
‫استبناؾ‪ ،‬و هً ؼالبًا ال ترحم خرق حظر التجول ‪..‬‬

‫و على ؼٌر توقع وجدنا سٌارة أجرة و سٌارة‬


‫"سرفٌس" تنقضان على القٌادة‪ ،‬و هو ما ٌعنً انتحارً ا‬
‫مإك ًدا‪ ،‬لكن القبعات الحمراء المرفوعة من داخل‬
‫السٌارتٌن أكدت أن هإالء هم "ضبطٌة" أخرى !‬

‫‪44‬‬
‫‪ 2‬فبراٌر ‪3122‬‬
‫الملٌونٌة األولى‬
‫مر السبت و األحد و االثنٌن دون أحداث جدٌدة على المستوى‬
‫الجماهٌري‪ ،‬اللهم إال أصداء ما حدث ٌوم الجمعة‪ ،‬و حالة التخبط‬
‫التً شهدناها‪ ،‬حتى استفاق الناس من ترنحهم و بدأوا فً تنظٌم‬
‫شبونهم نو ًعا ما ‪ ..‬مشهد مدرعات الجٌش و هً رابضة فً‬
‫شوارع المدٌنة أورثنً إحسا ًسا بإننا فً أٌام حرب‪ ،‬و الحق أننا‬
‫كنا فعبلً فً أٌام حرب ‪..‬‬

‫كثٌرً ا ما كنت أقول إن النظام المصري الحالً ٌعكس صورة‬


‫م رٌعة من ؼباء بنً البشر‪ ،‬و ٌرٌنا إلى أي حد ٌمكن أن ٌصل‬
‫ابن آدم فً مراتب الببلهة ‪ ..‬أقول هذا بسبب قرار حظر التجول‬
‫الذي مدّه الجٌش – أو النظام لنكن أدق – لٌصبح من الثالثة‬
‫عصرً ا إلى الثامنة صباحً ا‪ ،‬بعد أن كان من الخامسة عصرً ا إلى‬
‫السابعة صباحً ا‪ ،‬و ذلك أٌضً ا بعد أن كان من السادسة مسا ًء إلى‬
‫السابعة صباحً ا ‪..‬‬

‫تصعٌد حظر التجول لم ٌبعث للناس إال برسالة واحدة‪ :‬النظام‬


‫ٌزداد عنا ًدا فوق عناده ‪..‬‬

‫من األشٌاء المضحكة التً تكررت كثٌرً ا هو أن المظاهرات ال‬


‫تبدأ إال مع بدء سرٌان حظر التجول‪ ،‬و كؤن ؼالبٌة الناس ٌتبعون‬
‫المزحة الشهٌرة‪" :‬تعالوا ننزل نشوؾ حظر التجول دا عامل‬
‫إزاي ؟!"‬

‫‪45‬‬
‫دعا المتظاهرون و الناشطون السٌاسون إلى مظاهرة ملٌونٌة فً‬
‫القاهرة و المحافظات‪ ،‬من أجل الضؽط على النظام المصري و‬
‫الربٌس حسنً مبارك كً ٌرحل‪ ،‬و اختاروا لها ٌوم الثبلثاء‬
‫األول من فبراٌر ‪ ..‬كانت التوقعات بإن عدد المتظاهرٌن من‬
‫الصعب أن ٌصل إلى ملٌون أو أن ٌتجاوزه‪ ،‬لكن ما حدث كان‬
‫على العكس تمامًا ‪..‬‬

‫مٌدان التحرٌر منفر ًدا حوى بداخله ما تجاوز الملٌون و نصؾ‬


‫الملٌون من المتظاهرٌن‪ ،‬فً مشهد تراه الببلد للمرة األولى ‪..‬‬
‫شعوري لحظتها أننً أشاهد نقبلً مباشرً ا من الحرم المكً فً‬
‫موسم الحج ‪ ..‬بشر ال حصر لعددهم‪ ،‬لكن مطالبهم محصورة فً‬
‫شًء واحد‪ :‬ارحل ‪..‬‬

‫لٌلتها – لٌلة الثبلثاء األول من فبراٌر – ألقى الربٌس مبارك‬


‫خطابًا إلى األمة ‪ ..‬توقع الجمٌع أن ٌكون هذا هو خطاب التنحً‪،‬‬
‫لكننا فوجبنا بالرجل ٌضع نظرٌة العناد الرباسً موضع التنفٌذ‬
‫مرة أخرى ‪..‬‬

‫ال أرٌد أن أقول إن الخطاب اتسم بشًء من الذكاء إذ تبلعب‬


‫بمشاعر المصرٌٌن‪ ،‬و عاطفتهم الجٌاشة‪ ،‬و مٌلهم الفطري إلى‬
‫تحكٌم العاطفة على العقل‪ ،‬فالخطاب لم ٌكن ذكًٌا بقدر ما كان‬
‫ً‬
‫خبٌثا ‪..‬‬

‫‪46‬‬
‫تحدث الربٌس عن خدمته لهذا الوطن لسنٌن طوٌلة‪ ،‬و رؼبته فً‬
‫أن ٌموت على أرضه و ٌدفن فٌه‪ ،‬و هو الشًء الذي دعا إبراهٌم‬
‫عٌسى أن ٌعلق قاببل‪" :‬لٌست عندي أي مشكلة فً أن ٌموت‬
‫الربٌس على أرض الوطن‪ ،‬و لكن ً‬
‫بعٌدا عن كرسً الرباسة" !‬

‫الشعب ٌرٌده أن ٌتنحى اآلن و فورً ا‪ ،‬و إذا به ٌقول إنه باق حتى‬
‫نهاٌة والٌته "من أجل ضمان أمن مصر و استقرارها"‪ ،‬و أنه لم‬
‫ٌكن ٌنتوي الترشح مرة أخرى لمنصب الرباسة‪ ،‬و هو قول ٌرٌد‬
‫أن ٌقول به أن سٌتنحى و لكن ألنه ال ٌرٌد أن ٌستمر فً منصبه‪،‬‬
‫ال ألن الشعب ٌطالبه بهذا‪ ،‬و أنه – و ٌاللعجب – لم ٌكن طالب‬
‫سلطة فً ٌوم من األٌام !‬

‫ثم أعلن عن قبوله الطعون فً عضوٌات بعض األعضاء فً‬


‫مجلس الشعب‪ ،‬و هً خطوة تبرز بعنؾ العناد الذي ال حدود له‬
‫الذي ٌتمتع به هذا الشخص ‪ ..‬ما معنى أن تقبل أربعمابة طعن‬
‫فً مجلس عدد أعضابه خمسمابة ؟ معناه أن المجلس باطل بكافة‬
‫المقاٌٌس‪ ،‬فمن باب أولى أن تحله‪ ،‬إن لم ٌكن استجابة لمطالب‬
‫الشعب‪ ،‬فاستجابة للعقل و المنطق ‪..‬‬

‫ثم ضرب بطلب إلؽاء الدستور و تشكٌل لجنة لوضع دستور‬


‫جدٌد عُرض الحابط و عرضه و طوله‪ ،‬فكل ما فعله هو أن قبل‬
‫"متفضبلً" بطلب تعدٌل "بعض" مواد الدستور‪ ،‬خاصة المواد‬
‫‪ 17‬و ‪ ،11‬و هو التفاؾ مستفز على المطلب‪ ،‬الذي ٌرى فً‬

‫‪47‬‬
‫الدستور الحالً مؤساة قانونٌة؛ فنصؾ سلطات الدولة فً ٌد‬
‫الربٌس‪ ،‬و هو شًء ال ٌصدقه ذو عقل ‪..‬‬

‫العجٌب فعبلً هو ما حدث فً الٌومٌن التالٌٌن‪ ،‬إذ تراجع البعض‬


‫عن مواصلة االعتصام و التظاهر‪ ،‬بحجة أن الرجل قد استجاب‬
‫لمطالب الشعب‪ ،‬و البعض توقؾ ألن "الراجل كبٌر برضو و ما‬
‫ٌصحش اللً بٌحصل ده"‪ ،‬و هو ما حاول النظام أن ٌستثٌره فً‬
‫قلوب المصرٌٌن‪ :‬أن ٌتعاملوا مع الربٌس باعتباره األب الذي‬
‫ٌعنً الخروج علٌه العقوق و الفسق و المعصٌة‪ ،‬و الحق أنه‬
‫نجح مع كثٌرٌن ‪..‬‬

‫العجٌب و الؽرٌب فً األمر هو أن هإالء المتعاطفٌن شكل‬


‫األؼلبٌة منهم كبار السن‪ ،‬و كلما تقدم فً العمر كلما أصبح أكثر‬
‫تؤٌٌ ًدا ‪ ..‬فسرتها بتساوي تفكٌرهم مع تفكٌر الرجل الذي ٌنتمً‬
‫لنفس المرحلة العمرٌة‪ ،‬و فسرها البعض بإن هذا شًء طبٌعً‪،‬‬
‫فهإالء هم الذٌن علمونا معنى الخوؾ من النظام و "امش حنب‬
‫الحٌط" و "مالكش دعوة ٌا ابنً" ‪ ..‬أًٌا كان‪ ،‬فإن الكارثة هً أن‬
‫هذا التعاطؾ طال بعضً ا من الشباب المتظاهرٌن ‪..‬‬

‫منذ هذه اللحظة‪ ،‬بدأت اآللة اإلعبلمٌة تزٌد من قذارتها‪ ،‬فبعد أن‬
‫كانت تحجب و تمنع القنوات األجنبٌة من تؽطٌة الحدث‪،‬‬
‫أصبحت تتخذ خطوات جادة بهدؾ قلب المابدة على المتظاهرٌن‪،‬‬
‫الذي ال ٌزالون فً نظر النظام "قلة مندسة" ‪..‬‬

‫‪48‬‬
‫أولى هذه الخطوات كانت من القنوات "المستقلة"‪ ،‬التً ثبت أنها‬
‫حكومٌة حتى النخاع‪ ،‬فبدأت فً استضافة بعض الشباب الذٌن‬
‫قالت إنهم من الشباب المتظاهرٌن فً مٌدان التحرٌر‪ ،‬لنفاجا بهم‬
‫ٌعتذرون عما فعلوا !‬

‫قالوا إنهم لم ٌتصوروا أن تصل األمور لهذه المرحلة‪ ،‬و أنهم‬


‫أرادوا اإلصبلح و قد حصلوا علٌه بخطاب "سٌادة" الربٌس !‬

‫ثم خرج علٌنا سٌد علً و هناء السمري فً برنامج ‪ 84‬ساعة‪،‬‬


‫أو سٌد و بهانة كما أحب أن أسمٌهما‪ ،‬بحكاٌة عجٌبة‪ ،‬تصلح فٌلمًا‬
‫هندًٌا و ال شك ‪..‬‬

‫و الحكاٌة هً أن لدٌهم سب ًقا صحفًٌا بكل المقاٌٌس‪ ،‬و هو فتاة‬


‫أتوا بها لتتحدث عن التدرٌب الذي تلقته على ٌد األمرٌكٌٌن و‬
‫الموساد فً الوالٌات المتحدة تحت دعوى نشر الدٌمقراطٌة‪ ،‬و‬
‫المبالػ الخٌالٌة التً تقاضتها كراتب و مكافآت‪ ،‬لدرجة أنها كانت‬
‫تتقاضى خمسة آالؾ دوالر كمصروؾ ٌومً !‬

‫المضحك بشدة وسط هذا الهراء هو سبب خروجها اآلن لئلدالء‬


‫بمثل هذه األقوال الخطٌرة‪ ،‬و لٌس قبل ذلك‪ ،‬و كانت اإلجابة هً‬
‫أنها تؤثرت كثٌرً ا بخطاب السٌد الربٌس و بكت و ذرفت الدموع‪،‬‬
‫ألن قلبها طاوعها أن تخون مصر‪ ،‬و فً الببلد أمثال مبارك !‬

‫‪49‬‬
‫‪ 3‬فبراٌر ‪3122‬‬
‫المالٌٌن المباركٌة‬
‫فً الٌوم التالً‪ ،‬األربعاء‪ ،‬عادت خدمة اإلنترنت إلى العمل‪ ،‬و‬
‫هو ما فسره البعض من محبً نظرٌة المإامرة أن النظام فعل‬
‫هذا من أجل إحداث فرقة بٌن الناس‪ ،‬تشعلها مواقع ‪facebook‬‬
‫و ‪ twitter‬كما أشعلت نار الثورة‪ ،‬و هو الشًء الذي به قدر من‬
‫المنطق‪ ،‬و الذي كنت تلمسه لو أنك تابعت المنتدٌات و المواقع‬
‫اإلخبارٌة و التعلٌقات على األخبار المختلفة ‪..‬‬

‫لكن الحدث األبرز كان خروج مظاهرات مإٌدة للربٌس !‬

‫لم ٌكن هذا شٌ ًبا عجٌبًا فحسب‪ ،‬بل ٌجعل المرء ٌفؽر فاه ‪ ..‬أال‬
‫زال فً هذا الشعب من ٌإمن بإن هذا الرجل و هذا النظام قادر‬
‫على قٌادة الببلد و العباد ؟!‬

‫لكن نظرة إلى عٌنة من المتظاهرٌن المإٌدٌن لمبارك تجعلك‬


‫تدرك أنه استعان بنفس الوجوه التً ٌستعٌن بها دابمًا؛ الفقراء‬
‫الجاهلون الذٌن ٌنظرون إلى مبارك كؤنه نصؾ إله و أب حان‬
‫لن تستقٌم الدنٌا بدونه ‪ ..‬أقسم أن أحد المتظاهرٌن المإٌدٌن‬
‫لمبارك قال – و سمعته بؤذنً‪" :‬دول والدك ٌا رٌس ‪ ..‬اؼفر و‬
‫ارحم و سامحهم" !‬

‫اؼفر و ارحم !!‬

‫‪50‬‬
‫األمر بالطبع لم ٌمر مرور الكرام ‪ ..‬فالمظاهرات التً كانت‬
‫بالمبات‪ ،‬و كانت أمام ماسبٌرو و فً مٌدان مصطفى محمود‪،‬‬
‫صورها التلفزٌون المصري و الجرابد الحكومٌة على أنها‬
‫ملٌونٌة‪ ،‬بٌنما كانت الصور واضحة وضوح الشمس على‬
‫شاشات الفضابٌات األجنبٌة و العربٌة ‪ ..‬هإالء شرذمة و هإالء‬
‫هم ح ًقا القلة المندسة ‪..‬‬

‫إال أن البلفت للنظر أن بعض المتظاهرٌن كانوا بالفعل من عامة‬


‫الناس البسطاء الذٌن اقتنعوا بالفعل أن الربٌس قد فعل كل ما‬
‫طلبه الثوار‪ ،‬و هو ما ٌكشؾ عن دهاء و خبث‪ ،‬و عن مدى‬
‫عاطفٌة هذا الشعب ‪..‬‬

‫موقعة الجمل‬
‫تعاطؾ البعض مع مبارك‪ ،‬و خرج آخرون ٌإٌدونه فً‬
‫مظاهرات لم نسمع بها منذ بداٌة األزمة‪ ،‬لكن الوضع فً مٌدان‬
‫التحرٌر ظل كما هو‪ :‬مبات اآلالؾ معتصمون‪ ،‬و المزٌد‬
‫ٌتوافدون ثم ٌعودون إلى دٌارهم ‪..‬‬

‫لم ٌشهد المٌدان أي تطورات سوى استمرار توافد المتظاهرٌن و‬


‫تردٌد الهتافات الملتهبة‪ ،‬حتى دقت عقارب الساعة الثالثة إال‬
‫الثلث عصرً ا ‪ ..‬لحظتها شاهدنا على شاشات التلفزٌون شٌ ًبا‬
‫عجٌبًا ‪..‬‬

‫‪51‬‬
‫للحظة ظننا أننا نشاهد مكا ًنا آخر فً هذه الدنٌا‪ ،‬لكننا تؤكدنا أننا‬
‫نشاهد لقطات من مٌدان التحرٌر ‪ ..‬المتظاهرون ٌرمون الحجارة‬
‫على أشخاص ٌبدو أنهم ٌرٌدون دخول المٌدان‪ ،‬ثم تحول األمر‬
‫إلى معركة حقٌقٌة؛ حواجز و مجموعات رماة و مجموعة دعم‪،‬‬
‫و هو شًء أؼرقنا جمٌ ًعا فً بحور من الدهشة ‪ ..‬كٌؾ ٌفعل‬
‫المصرٌون هذا ببعضهم البعض ؟!‬

‫و هنا أنقل شهادة واحد ممن كانوا داخل المٌدان فً ذلك الٌوم‬
‫المشهود ‪ ..‬الشهادة كتبها من قلب مٌدان التحرٌر الدكتور نبٌل‬
‫بهجت‪ ،‬أستاذ المسرح بجامعة حلوان‪ ،‬و الكاتب و المخرج‬
‫المسرحى و مإسس فرقة ومضة‪ ،‬و نشرها الكاتب الساخر ببلل‬
‫فضل فً جرٌدة المصري الٌوم ‪ٌ ..‬قول‪:‬‬
‫ما حدث ٌوم األربعاء الثانى من فبراٌر عام ‪1177‬‬
‫ضد المصرٌٌن المتظاهرٌن سلم ًٌا فً مٌدان التحرٌر‬
‫وسط القاهرة هو جرٌمة بشعة استندت إلى مخطط‬
‫شٌطانى نقدم لكم هنا توثٌ ًقا لها‪ .‬فً مساء الثبلثاء توقع‬
‫البعض أن ٌنخفض عدد المتظاهرٌن فً المٌدان نسب ًٌا‬
‫بعد مسٌرة الملٌون التً وصل تعدادها إلى ما ٌزٌد‬
‫على الخمسة مبلٌٌن تقرٌ ًبا‪ ،‬و بالفعل جاء األربعاء‬
‫لٌنخفض العدد و نفاجؤ عند الصباح ببعض األشخاص‬
‫ٌقفون عند بوابات الدخول ٌهتفون لمبارك‪ ،‬و لقد‬
‫شعرت باألسى عندما تؤملت وجوه مإٌدٌه و أشكالهم‪،‬‬
‫و أدركت كٌؾ سكب الماء على جبل من الرمل ٌدعى‬
‫تارٌخه عندما استعان بهوالء المؤجورٌن لكً ٌمثلوه‪،‬‬

‫‪52‬‬
‫مر الٌوم‪ ،‬و بدأنا نسمع فً الثانٌة عن أنباء تجمع‬
‫لبضع مبات عند مٌدان عبدالمنعم رٌاض‪.‬‬

‫كنا فً البداٌة نظنهم جاءوا للتظاهر و التشوٌش‪ ،‬و‬


‫لكنهم بدأوا االحتكاك بنا بالسباب‪ ،‬و تبل ذلك فً تمام‬
‫الثانٌة و النصؾ تقرٌ ًبا جلبة و أصوات قرع سٌاط و‬
‫فوجبنا بالبلطجٌة فوق الخٌول و الجمال ٌحملون السنج‬
‫و السٌاط و العصً‪ ،‬لتعود الهجانة التً كنا نراها فً‬
‫األفبلم‪ ،‬و هً تضرب الناس بالسٌاط‪ ،‬نالنً أحد‬
‫سٌاطها‪ ،‬و لكن بعد فترة وجٌزة سٌطر الشباب على‬
‫أحد هإالء و أخذوا منه حصانه فدب الخوؾ فً قلوب‬
‫رفاقه و تراجعوا‪ .‬هكذا كان المشهد األول من االحتكاك‬
‫المباشر‪ .‬احتمى الشباب بعدها ببعض العربات و‬
‫اضطروا لكً ٌصنعوا من ألواح الصاج التً كانت‬
‫ً‬
‫حابطا‬ ‫تستخدمها المقاولون العرب فً موقع البناء‬
‫متحر ًكا لصد هجوم بلطجٌة الربٌس الذٌن جاءونا‬
‫مإٌدٌن بالسنج و الجنازٌر و السٌاط و األسلحة‬
‫البٌضاء‪.‬‬

‫بعد هذه الهجمة تراجعوا و تجمعوا لٌوحدوا صفوفهم و‬


‫كؤنها الحرب‪ ،‬و تشكلت لدٌنا الخطة سرٌعً ا؛ فنحن‬
‫عزل و البد لنا من دفاع عن النفس‪ ،‬و أوحوا إلٌنا‬
‫بالسبلح عندما أخذوا ٌهاجموننا بالحجارة ‪ ..‬إنها‬
‫الحجارة‪ ،‬فلم ٌكن لنا بد لكى ندافع عن حٌاتنا سوى‬

‫‪53‬‬
‫استخدام ببلط المٌدان و تكسٌره إلى قطع صؽٌرة بعد‬
‫تشكٌل مجموعات عمل سرٌعة لتكسٌر الببلط و أخرى‬
‫لحمله و دفعه للرماة‪ ،‬و فرٌق استطبلعى ٌرصد‬
‫تحركات مجموعات مبارك‪ ،‬و أخرى توزعت على‬
‫المنافذ السبعة للمٌدان على مستوٌٌن ٌفصل بٌن كل‬
‫منها قرابة ‪ 011‬متر‪.‬‬

‫كل هذا حدث فً أقل من لحظات‪ ،‬بدأ الشباب‬


‫ٌتراصون فً صفوؾ متتالٌة‪ٌ ،‬حضن بعضه البعض‬
‫بصدور عارٌة‪ ،‬وكؤنها قصٌدة الكعكة الحجرٌة ألمل‬
‫دنقل تتشكل أمامى واق ًعا بٌد الشباب المعتصمٌن‪ .‬بدأ‬
‫الوقت ٌمر علٌنا وزحؾ الظبلم فكانت الفكرة األولى‬
‫استدعاء الناس إلى المٌدان‪ ،‬لكن كٌؾ وحظر التجول‬
‫قد بدأ فرضه من الثالثة عصرً ا وحتى الثامنة صباحً ا ؟‬
‫لم ٌكن لدٌنا خٌار سوى الدعم المعنوى لبعضنا البعض‬
‫فؤخذنا نشٌع عن وجود مظاهرات مإٌدة تزحؾ إلٌنا‪ ،‬و‬
‫بالفعل حدثت مسٌرة داخلٌة لتقنع المرابطٌن بؤن المدد‬
‫وصل و ارتفعت معنوٌات الناس‪ ،‬و بدأنا فً وضع‬
‫المتارٌس لحماٌة أنفسنا منهم‪ ،‬فقد بدا علٌهم احتراؾ‬
‫اإلجرام لما ٌحملونه من سنج و سٌوؾ و مطاوي كانت‬
‫فً أٌدٌهم ساعات الهجوم وهتفنا جمٌعً ا‪ :‬حسنً اتجنن‪.‬‬

‫كان االشتباك األول عند ساحة المتحؾ‪ ،‬و لؤلسؾ بدأ‬


‫فعبل باإلضرار بؤطرافه التً تم إلقاء قنابل المولوتوؾ‬

‫‪54‬‬
‫علٌها‪ .‬ذهبنا إلى الجٌش لنناشده حماٌة المتحؾ من‬
‫هإالء‪ ،‬فبدأ الجٌش حماٌة شوارع الجامعة األمرٌكٌة و‬
‫طلعت حرب و قصر العٌنً بشكل خفؾ الضؽط على‬
‫المتظاهرٌن‪ .‬بدأنا ننتقل من شارع إلى آخر‪ ،‬و شاهدت‬
‫بسالة لم أر لها نظٌرً ا؛ كان البعض ٌطرق على الحدٌد‬
‫لٌحدث أصواتا كإشارات لتجمع الشباب عند منفذ‬
‫معٌن‪ ،‬و كؤنهم ٌوقظون الموتى من جدٌد ٌنفخون فٌهم‬
‫الروح‪ٌ ،‬قولون ها نحن أبناإك ٌا مصر جبنا إلٌك نجدد‬
‫الملحمة‪ ،‬و فً الوقت الذي كنا نعانً تحت الضؽط و‬
‫نبتكر الحٌل لدفع البلطجٌة عنا‪ ،‬بعد أن أنهكنا التعب‪،‬‬
‫كان هناك مذٌاع ٌذٌع أحادٌث اإلذاعة الرسمٌة البالٌة‬
‫عن دعاة الشؽب‪ .‬كان اإلعبلم الرسمى ٌقول بكل‬
‫وقاحة أن الموضوع ٌتلخص فً مجموعتٌن من‬
‫البلطجٌة تتصارع على المٌدان‪ ،‬وكان بعض المراسلٌن‬
‫فً البرامج الفضابٌة ٌضللون الرأى العام و ٌزعم‬
‫بعضهم أن بٌننا إٌرانٌٌن و أفؽان و باكستانٌٌن‪ ،‬مع أنه‬
‫لم ٌكن بٌننا من أجانب إال بعض مراسلً وكاالت‬
‫األنباء األجنبٌة‪ ،‬فمن أٌن جاإوا بالحدٌث عن تلك‬
‫الوجوه ؟ قال الكثٌرون فً تلك الوسابل اإلعبلمٌة إننا‬
‫إخوان فً الوقت الذى كنت أرى بعٌنى وسط‬
‫المعتصمٌن مثقفٌن و فنانٌن و أساتذة جامعة أعرؾ‬
‫مواقفهم ضد اإلخوان‪ .‬كل هذه االكاذٌب كانت محاولة‬
‫منهم لتجٌٌش الرأي العام العالمً ضدنا باستخدام‬
‫اإلسبلموفوبٌا لتعطٌهم أمرٌكا إشارة بسحقنا‪ ،‬و لؤلسؾ‬

‫‪55‬‬
‫فإن برامج شهٌرة وصح ًفا كنا نظنها محترمة ؼٌرت‬
‫من لهجتها فً دعم ثورة الشباب‪ ،‬وهو ما ٌجعلنا‬
‫نتساءل هل فعبل تم تهدٌد مبلك تلك القنوات و الصحؾ‬
‫بفتح ملفاتهم فحدث ما حدث من تخاذل و انحٌاز‪.‬‬

‫لقد وصفنا اإلعبلم الرسمً بالبلطجٌة فهل عضو‬


‫المجلس األعلى للثقافة و عضو اتحاد الكتاب و عضو‬
‫نقابة المهن التمثٌلٌة و األستاذ الجامعً و المسرحً‬
‫بلطجً ؟ والطبٌب الذى كان بجواري بلطجً ؟ و‬
‫الشاعر الذى لم أره منذ سنوات وتقابلنا سو ًٌا ونحن‬
‫ننحنً اللتقاط األحجار بلطجً ؟ و مدٌر إحدى أهم‬
‫شبكات المعلومات بلطجً ؟ و أعضاء هٌبة التدرٌس‬
‫بلطجٌة ؟ و المهندسون و األزهرٌون و القساوسة و‬
‫المحامون و األطباء الذٌن جهزوا مراكز إلسعافنا‬
‫بلطجٌة ؟ و شباب الجامعات بلطجٌة ؟ و لماذا صمتوا‬
‫عن بلطجٌة الربٌس الذٌن استخدموا ضدنا أمس قنابل‬
‫المولوتوؾ والقنابل المسٌلة للدموع‪ ،‬و فرٌق من‬
‫الهجانة و أخٌرً ا الرصاص الحى ؟ كان بلطجٌة الربٌس‬
‫قد كسروا أبواب العمارات المؽلقة المواجهة للمتحؾ‬
‫المصري و استخدموها إلمطارنا بقنابل المولوتوؾ و‬
‫الحجارة‪ ،‬و لكننا كنا مصرٌن على الصمود و الدفاع‬
‫عن أنفسنا‪ ،‬و بعد فترة تمكنا من التقدم و القبض على‬
‫البلطجٌة المتمركزٌن فوق العمارات‪ ،‬و تم احتجازهم‬
‫دون إٌذابهم‪ ،‬و سٌطر المتظاهرون على كل المواقع‬

‫‪56‬‬
‫التً استولى علٌها بلطجٌة الربٌس من أسطح المنازل‪،‬‬
‫و احتجزنا منهم ما ٌقارب ‪ 71‬فر ًدا‪ ،‬وكان مثب ًتا فً‬
‫بطاقات هوٌات بعضهم أنهم رجال أمن‪ ،‬أما اآلخرون‬
‫فكانوا من البلطجٌة معتادي اإلجرام‪ ،‬حتى أنه كان‬
‫واضحً ا ج ًدا أنهم قد تناولوا مواد مخدرة أثرت على‬
‫وعٌهم بشهادة بعض األطباء الذٌن تواجدوا بالمٌدان‪ ،‬و‬
‫اعترؾ هإالء بؤنهم قد تم تؤجٌرهم من قبل بعض نواب‬
‫مجلس الشعب بوجبة ؼذابٌة‪ ،‬و بمبالػ تتفاوت بٌن‬
‫خمسٌن و مابتى جنٌه‪ ،‬و قد أخذنا بعض الدراجات‬
‫البخارٌة لهإالء فاعترؾ بعضهم باالستٌبلء على إحدى‬
‫الدراجات البخارٌة التً تنتمً للحرس الجمهورى‬
‫وعلى عربة شرطة‪.‬‬

‫بعدها اشتدت المواجهات و استطاع المتظاهرون‬


‫تطهٌر مٌدان التحرٌر من أعوان مبارك من أمناء‬
‫الشرطة و المرتزقة و السٌطرة علٌهم‪ ،‬و كنا إذا‬
‫سٌطرنا على أحدهم بعد نفاد ذخٌرته تعلو الصٌحات‬
‫من بٌننا (محدش ٌضربه ثورتنا ثورة سلمٌة سلمٌة)‪،‬‬
‫حتى بعد أن سقط منا البعض بالرصاص الحً اآلتً‬
‫من فوق الكوبري‪ ،‬كان بعضنا ٌلتؾ حول من ٌقبض‬
‫علٌه منهم كسٌاج لحماٌتهم من الؽاضبٌن‪ ،‬و نتٌجة لهذه‬
‫الهجمات بالرصاص و المولوتوؾ وقع مبات الجرحى‬
‫من المتظاهرٌن‪ ،‬و لم ٌعد المستشفى المٌدانى الذى أقٌم‬
‫فً أحد المساجد القرٌبة كاف ًٌا الحتواء المرضى و‬

‫‪57‬‬
‫عشرات األطباء المتطوعٌن‪ ،‬فقام األطباء بإقامة‬
‫مستشفى مٌدانى فً قلب مكان المواجهات بجوار‬
‫المتحؾ المصرى‪ .‬و بعد ‪ 71‬ساعة من المواجهات‪ ،‬فر‬
‫الهاربون منهم فوقفوا على كوبري أكتوبر بمواجهة‬
‫عبدالمنعم رٌاض‪ ،‬و حوالى الساعة الثالثة صباحً ا دوّ ت‬
‫أصوات عدة طلقات قبل أن تصٌب العزل‪ ،‬فهرول‬
‫المتظاهرون ٌحملون المصابٌن باألعٌرة النارٌة فً‬
‫الرأس و البطن و األقدام‪ ،‬و بعدها سمعنا طلقات نارٌة‬
‫على أوقات متفرقة منها طلقات متتالٌة ربما ٌكون‬
‫مصدرها رشا ًشا آل ًٌا‪ ،‬و فً تلك اللحظة توجه‬
‫المتظاهرون لكتٌبة الجٌش التً كانت تتمركز عند‬
‫المتحؾ‪ ،‬و لم تبد أي استعداد للتدخل عدا إطفاء بعض‬
‫الحرابق التً كانت تشعلها قنابل المولوتوؾ التً كان‬
‫ٌلقٌها أنصار مبارك من أسطح األبنٌة ومن كوبري‬
‫أكتوبر‪ .‬اتجه بعضنا إلى هذه الكتٌبة و بدأوا بالتفاوض‬
‫معهم لٌطلقوا و لو طلقة واحدة فً الهواء‪ ،‬و صرخ‬
‫فٌهم البعض‪ :‬أعطونا أسلحتكم نحمٌكم و نحمً أنفسنا !‬
‫هنا تدخل الجٌش بعدها وسٌطر نسب ًٌا على الموقؾ بعد‬
‫ان أصابت طلقات مإٌدي مبارك حوالً ‪ً 11‬‬
‫فردا سقط‬
‫منهم قرابة ‪ 7‬شهداء‪ ،‬و ظلت فلول منهم تحاول إنهاكنا‬
‫باإلشارات البذٌبة تارة أو بقذؾ الحجارة‪ ،‬و كنا نعلم‬
‫أنها محاولة إلنهاكنا‪ ،‬فهم كما تؤكدنا من هوٌات الذٌن‬
‫قبضنا علٌهم لٌسوا سوى رجال أمنه الذٌن أخفاهم فجؤة‬
‫و عادوا إلٌنا فً زى مإٌدٌه‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫لقد سطر الشباب بدمابهم ٌوم الخمٌس ٌو ًما بطول ًٌا من‬
‫بطوالت هذا الشعب الذى حاول مبارك وأعوانه طمس‬
‫مبلمحه على مدار ‪ 01‬عا ًما‪ .‬كان الشاب ٌُجرح فٌذهب‬
‫إلى إحدى نقاط اإلسعافات األولٌة ٌداوي نفسه و‬
‫ٌسترٌح دقابق ٌجفؾ دماءه و ٌعود بعدها للمواجهات‪،‬‬
‫لم ٌخرج أحد منا دون جرح‪ ،‬و كنا نسخر و نقول "من‬
‫ؼرزة لعشرة متعتبرهوش مجروح"‪ .‬لم ٌإثر فً نفسنا‬
‫إال قتل بعض المتظاهرٌن بدم بارد عندما أطلقوا‬
‫الرصاص الحً على صدورهم و رإوسهم‪.‬‬

‫أخٌرً ا استقبلنا الفجر و كؤنه زابر عزٌز‪ ،‬و جاء نور‬


‫الصباح لٌمؤلنا أمل بؤن المتظاهرٌن سٌؤتون إلٌنا و قد‬
‫وفٌنا لهم و لمصر بوعدنا؛ أن أعوان مبارك لن ٌؤخذوا‬
‫المٌدان إال على أجسادنا‪ .‬بدأنا نراهم و كؤنهم نبضات‬
‫أمل تؤتى إلٌنا ٌحملون معهم طعا ًما و دواء و كل ما‬
‫نحتاجه‪ ،‬جاإوا لٌتسلموا مواقعنا و قد وفٌنا لهم بما‬
‫وعدنا‪ ،‬و نشٌر إلى جروحنا فً سخرٌة و ٌردد بعضنا‬
‫"هذا هو مفهوم مبارك لبلنتقال اآلمن للسلطة"‪ ،‬لٌجىء‬
‫الصباح و معه نداء واحد‪" :‬حاكموا الذٌن أطلقوا‬
‫الرصاص على األبرٌاء‪ ،‬ومن أمرهم بذلك‪ ،‬ومن سكت‬
‫على ذلك"‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫‪ 5‬فبراٌر ‪3122‬‬
‫تداعٌات‬
‫ٌمكننً القول بنفس راضٌة أن ما حدث ٌوم األربعاء أفقد‬
‫النظام كل تؤٌٌد ممكن ‪ ..‬أولبك الذٌن كانوا على استعداد‬
‫لتصدٌق خطاب مبارك تحولوا إلى التطرؾ الكامل و‬
‫المطالبة بإعدامه !‬

‫البعض اتهم رجاالً فً الحزب الوطنً بالتورط فً هذه‬


‫الموقعة‪ ،‬و البعض اختص صفوت الشرٌؾ بهذه التهمة‪،‬‬
‫ألنها أسلوبه المفضل فً إدارة الصراعات ‪..‬‬

‫على أٌة حال‪ ،‬فقد وصل األمر إلى منطقة مسدودة‪ ،‬و لم تعد‬
‫تفلح تلك المظاهرات الخاببة المإٌدة‪ ،‬و ال اللؽة العاطفٌة فً‬
‫البٌانات‪ ،‬و ال أي عملٌات تجمٌل لوجه النظام القبٌح ‪..‬‬

‫تصاعدت المطالب بعد أن كانت "عٌش ‪ ..‬حرٌة ‪ ..‬كرامة‬


‫إنسانٌة" إلى "الشعب ٌرٌد إسقاط النظام" و بعد موقعة‬
‫الجمل أصبحت "الشعب ٌرٌد إعدام الربٌس"‬

‫أعلن المتظاهرون أن ٌوم الجمعة التالً هو جمعة الرحٌل‪،‬‬


‫و أمهلوا الربٌس الخمٌس و الجمعة كً ٌرحل عنا و عن‬
‫الببلد بكامل كرامته دون أن ٌتعرض له أحد‪ ،‬و أعلنوا أنهم‬

‫‪60‬‬
‫سٌتوجهون إلى القصر الجمهوري إذا لم ٌستجب أحد إلى‬
‫مطالبهم و مطال ب الشعب‪ ،‬و دعوا إلى مظاهرة ملٌونٌة‬
‫حاشدة فً مٌدان التحرٌر و كافة المحافظات ‪..‬‬

‫و كما كان متوقعً ا مر ٌوم الجمعة باستخدام نظرٌة "اخبطوا‬


‫دماؼكم فً الحٌط"‪ ،‬لٌعلن بعدها المعتصمون أنها مظاهرات‬
‫ملٌونٌة طوال األسبوع القادم الذي أسموه أسبوع الصمود ‪..‬‬

‫‪ 21‬فبراٌر ‪3122‬‬
‫أسبوع الصمود‬
‫الحقٌقة أن األحداث الكبرى فً هذا األسبوع لٌست بالتً‬
‫تثٌر شهٌة المرء للحدٌث عنها‪ ،‬اللهم إال إعبلن الجٌش‬
‫اعترافه بمشروعٌة مطالب الشعب‪ ،‬استمرار المفاوضات و‬
‫المباحثات مع ممثلً قوى الشعب‪ ،‬الذٌن لست أدري من‬
‫فوّ ضهم بشًء كهذا‪ ،‬و استمرار التصرٌحات الؽبٌة لعمر‬
‫سلٌمان‪ ،‬و التً أوضح فٌها أن النظام ٌترنح أكثر مما‬
‫مضى‪..‬‬

‫"النظام لم و لن ٌنهار" ‪" ..‬كنا نعرؾ بما ٌحدث منذ عام" ‪..‬‬
‫"الدولة ال تستطٌع تحمل االحتجاجات أكثر من ذلك" ‪..‬‬
‫"علٌكم أن تختاروا بٌن الفوضى و االستقرار" ‪..‬‬
‫تصرٌحات ال تدل إال على ضعؾ شدٌد‪ ،‬أو هً كما توقعت‬

‫‪61‬‬
‫و توقع البعض محاولة لكسب الوقت إلعادة ترتٌب‬
‫األوراق‪..‬‬

‫مر هذا األسبوع – أسبوع الصمود – كبٌبًا مرٌبًا ‪ ..‬كان‬


‫الشعور العام أن النظام ٌحاول االلتفاؾ حول الثورة أًٌا كان‬
‫الثمن‪ ،‬و أًٌا كانت الوسٌلة ‪ ..‬بعض الوجوه القدٌمة قُدمت‬
‫للمحاكمة‪ ،‬كوسٌلة لتهدبة الرأي العام‪ ،‬و هو إجراء من‬
‫جملة إجراءات تدل على استمرار موجة الؽباء الكاسحة‬
‫لدى النظام‪ ،‬التً جعلته تتصور أن هذا قد ٌجعل الناس تهدأ‬
‫أو حتى تحاول أن تهدأ ‪ ..‬المكتب التنفٌذي للحزب الوطنً‬
‫استقال بتشكٌله الذي صار من ثوابت السٌاسة فً مصر‪ ،‬و‬
‫هو إجراء آخر هدؾ إلى تهدبة الوضع‪ ،‬لكن النظام لم ٌفهم‬
‫أن كل خطوة ٌقدم علٌها هً تنازل ٌفهم الناس منه أن‬
‫استمرار الضؽط ٌ عنً أن ٌحصل الشعب على المزٌد‪ ،‬و أن‬
‫الطرٌق إلى إقصاء هذه الطؽمة الفاسدة صار أقصر ‪..‬‬

‫مللت متابعة األخبار طوال هذا األسبوع‪ ،‬إذ شعرت أن كل‬


‫ٌوم كسابقه‪ ،‬و أن ما سٌلٌه مثله‪ ،‬و أن األمر صار ٌتحرك‬
‫ببطء‪ ،‬و كؤن النظام بدٌناصورٌته قد صبػ الثورة بصبؽته‪،‬‬
‫و ظللت على هذا الحال حتى صدمنً أحد أصدقابً‬
‫بتصرٌح ألحمد شفٌق‪ٌ ،‬قول فٌه أن الربٌس مبارك قد ٌتنحى‬
‫اللٌلة ‪ ..‬كان هذا عند اقتراب مؽرب الخمٌس‪ ،‬العاشر من‬

‫‪62‬‬
‫فبراٌر‪ ،‬فهُرعت إلى التلفزٌون أدٌر القنوات حتى استقررت‬
‫عند العربٌة‪ ،‬و أخذت أقرأ التصرٌحات التً تتابعت تترى‬
‫على الشاشة ‪..‬‬

‫"الفرٌق أحمد شفٌق‪ :‬مبارك قد ٌتنحى اللٌلة" ‪" ..‬أنس الفقً‪:‬‬


‫مبارك لم و لن ٌتنحى" ‪" ..‬المجلس األعلى للقوات المسلحة‬
‫منعقد و سٌصدر بٌا ًنا بعد قلٌل" ‪ ..‬كان التصرٌح األخٌر هو‬
‫األهم على اإلطبلق‪ ،‬فانعقاد المجلس األعلى للقوات المسلحة‬
‫فسره الكثٌرون بإنه بداٌة الخطة المتوقعة منذ زمن‪ ،‬و هً‬
‫أن ٌنقلب الجٌش على الربٌس لٌحمً الببلد من عناده‬
‫الرهٌب‪ ،‬و هً خطوة تؤخرت كثٌرً ا‪ ،‬لكنها على أٌة حال‬
‫أفضل من أن تظل الببلد على هذه الحال حتى تندلع حرب‬
‫أهلٌة بٌن المإٌدٌن (البلطجٌة) و المعارضٌن (السكان‬
‫األصلٌٌن لمصر) ‪..‬‬

‫لحظات و أذٌع البٌان األول للقوات المسلحة‪ ،‬الذي قالوا فٌه‬


‫إن الجٌش ٌعترؾ بمطالب الشعب المشروعة‪ ،‬و إن‬
‫المجلس انعقد و مستمر فً االنعقاد‪ ،‬و كانت هذه هً‬
‫اإلشارة أن األمر جلل‪ ،‬و أن سٌنارٌو االنقبلب بات وشٌ ًكا‬
‫للؽاٌة ‪ ..‬بالطبع كانت كلمة "البٌان رقم ‪ "7‬دلٌبلً على وجود‬
‫بٌانات تالٌة‪ ،‬و أشارت الصور التً نقلها التلفزٌون النعقاد‬

‫‪63‬‬
‫المجلس و عدم وجود مبارك أو ناببه بٌن الحضور أن‬
‫األمر بات مسؤلة وقت ‪..‬‬

‫ثم أعلن التلفزٌون أن مبارك سٌلقً كلمة بعد قلٌل‪ ،‬و‬


‫باعتبار أن اإلعبلن كان فً حدود السابعة‪ ،‬فهذا ٌعنً أنه‬
‫سٌلقً الخطاب بحلول منتصؾ اللٌل‪ ،‬و هو ما كان فعبلً‪ ،‬إذ‬
‫طل علٌنا بطلعته البهٌة بحلول الحادٌة عشرة‪ ،‬لٌلقً خطابًا‬
‫جدٌدا سوى مزٌد من السخط و الؽضب‬ ‫ً‬ ‫ممبلً‪ ،‬لم ٌقدم‬
‫الشعبً ‪..‬‬

‫كان رد الفعل األول من مٌدان التحرٌر هو تردٌد "ارحل"‬


‫عشرات المرات خبلل الخطاب‪ ،‬الذي توقؾ الجمٌع عن‬
‫االستماع إلٌه من الدقٌقة الثالثة أو الرابعة ‪ ..‬أنا شخصًٌا‬
‫فقدت األمل تمامًا فً الخطاب مع كلمة "لن أتهاون" التً‬
‫ذكرها فً بداٌة الخطاب ‪" ..‬لن" تنفً المستقبل‪ ،‬و هو ما‬
‫ٌعنً أن الرجل لدٌه أمل أن ٌستمر ‪..‬‬

‫األمر الذي الحظه الجمٌع هو االضطراب الواضح فً‬


‫"مونتاج و تصوٌر" الخطاب ‪ ..‬ظهرت لقطات من زاوٌة‬
‫مختلفة‪ ،‬و فً لقطات كان ٌقرأ من شاشة أمامه‪ ،‬و فً‬
‫أخرى كان ٌقرأ من ورق بٌده‪ ،‬و هو ما جعل البعض ٌقول‬
‫إن الخطاب كان بمحتوى مختلؾ‪ ،‬و أن الرجل كان سٌتنحى‬

‫‪64‬‬
‫بالفعل‪ ،‬بدالً من كبلمه الخابب عن نقل صبلحٌاته لعمر‬
‫سلٌمان إلجراء التعدٌبلت المطلوبة فً الدستور‪ ،‬إلى آخر‬
‫هذا الهراء ‪ ..‬قال البعض أن الرجل كان سٌتنحى بالفعل‪،‬‬
‫لكنه لسبب ما ؼ ٌّر ما سٌقول‪ ،‬لكننً أرى أن األمر أكبر من‬
‫هذا ‪ ..‬قال البعض اآلخر أن هذا ألن الرجل سقط مؽشًٌا‬
‫علٌه مرتٌن أثناء الخطاب‪ ،‬بسبب سوء ظروفه الصحٌة‪ ،‬و‬
‫هو أمر مقبول‪ ،‬و إن كان ال ٌدعمه هذا اإلشراق الذي كان‬
‫بادًٌا على محٌاه و هو ٌلقً الخطاب‪ ،‬و فسره البعض بإن‬
‫المقصود هو أن ٌنشؽل الناس بتحلٌل هذا التضارب‪ ،‬كنوع‬
‫من اإللهاء‪ ،‬و هو رأي له وجاهته أٌضً ا‪ ،‬و تظل هذه‬
‫الفوضى التً ألمت بخطابه األخٌر محل تساإالت عدٌدة‪،‬‬
‫ربما لن نجد إجابات مإكدة لها فً القرٌب العاجل ‪..‬‬

‫كان أسرع رد فعل هو زحؾ اآلالؾ نحو قصر العروبة‪ ،‬و‬


‫هً خطوة تؤجلت كثٌرً ا خشٌة وقوع مصادمات دموٌة مع‬
‫الحرس الجمهوري الذي ال ٌعرؾ سوى "الضرب فً‬
‫الملٌان"‪ ،‬لكن الكٌل قد طفح ‪..‬‬

‫بدأ الزحؾ بعد انتهاء الخطاب مباشرة‪ ،‬إذ نزح ما ٌقرب‬


‫من ثبلثة آالؾ نحو القصر‪ ،‬و استمر تدفق اآلالؾ طوال‬
‫اللٌل و طوال نهار الجمعة‪ ،‬و شعر الجمٌع أن اللحظة‬
‫األخٌرة قد حانت ‪..‬‬

‫‪65‬‬
‫‪ 22‬فبراٌر ‪3122‬‬
‫الرحٌل‬
‫قررت أن أشترك فً المظاهرة التً ستنطلق من مسجد‬
‫القابد إبراهٌم بعد صبلة الجمعة‪ ،‬و هً المظاهرة األولى‬
‫التً أشترك فٌها فً حٌاتً‪ ،‬لكن ما منعنً ساب ًقا كان‬
‫ٌتؤرجح ما بٌن إٌمانً بعدم جدوى المظاهرات أصبلً‪ ،‬و بٌن‬
‫رفض والدي القاطع‪ ،‬بدعوى حماٌتً من األذى ‪ ..‬حتى هذه‬
‫المرة شدد أال أتجه مع المتظاهرٌن إذا تقرر أن نتجه إلى‬
‫قصر رأس التٌن‪ ،‬تفادًٌا للحرس الجمهوري‪ ،‬و هو ما‬
‫ضربت به عُرض الحابط بالطبع ‪..‬‬

‫ً‬
‫تحدٌدا كان محرك هذا القرار بداخلً ‪..‬‬ ‫لست أدري ماذا‬
‫لربما كان شعوري أننً ٌجب أن أفعل شٌ ًبا‪ ،‬و لو كان أن‬
‫ً‬
‫واحدا على األقل‪ ،‬فواحد إلى واحد إلى‬ ‫أزٌد سواد الناس‬
‫آخرٌن ٌصنعون تلك الحشود العمبلقة التً تخرج ترفض‬
‫حكمه ‪..‬‬

‫لسبب ما شعرت أن الٌوم هو ٌوم النهاٌة‪ ،‬و كان شعورً ا‬


‫قوًٌا ‪ ..‬ربما كان هذا مرجعه إلى أنها المرة األولى التً‬
‫أشترك فٌها فً مظاهرة‪ ،‬لكن الشعور كان قوًٌا لدرجة‬
‫ٌصعب معها رده إلى هذا فقط ‪..‬‬

‫‪66‬‬
‫قبل أن أذهب إلى الصبلة تناقشت مع صٌدالنً فٌما ٌحدث‪،‬‬
‫و قد أبدى اقتناعه الشدٌد أننا نعبث بهذا الوطن ‪ ..‬لقد حققنا‬
‫أشٌاء عظٌمة فً رأٌه‪ ،‬لكننا سنضٌع كل هذا بإصرارنا‬
‫األبله على رحٌل الربٌس اآلن‪ ،‬و ماذا ٌضٌر لو تركناه‬
‫األشهر الستة المتبقٌة ؟! و ضرب لً مثبلً بإنه لو أن لً أبًا‬
‫أتى من الموبقات ما ٌجعله من الفجرة الفاسقٌن‪ ،‬أفبل أصلً‬
‫علٌه إن مات ؟ كان الشاهد فً مثله هذا أن مبارك كهذا‬
‫الوالد الفاسق‪ ،‬الذي ٌجب على االبن أن ٌحترمه حتى‬
‫النهاٌة‪ ،‬و ال ٌخرجه بهذه الصورة المهٌنة التً نرٌدها‬
‫للرجل ‪ ..‬بالطبع دخلت فً جدل عقٌم أن هذا لٌس أبً‪ ،‬و‬
‫القٌاس فاسد من األساس‪ ،‬لكنه برر هذا بإن هذا ما أعتاد‬
‫علٌه المصرٌون منذ القدم ‪..‬‬

‫الحق أنه أحبطنً‪ ،‬و فً الوقت ذاته أعطانً اإلحساس‬


‫الكامل بؤن جٌله أصبح خارج نطاق الخدمة تمامًا ‪..‬‬

‫وصلت المسجد قبل الصبلة بقلٌل‪ ،‬ربما بربع الساعة أو‬


‫أكثر قلٌبلً‪ ،‬و أوجدت لً موضعً ا بشق األنفس‪ ،‬و عددت‬
‫نفسً من المحظوظٌن ح ًقا‪ ،‬ألن من أتوا بعدي لم ٌجدوا‬
‫مستقر إصبع ‪..‬‬

‫‪67‬‬
‫جلست استمع لخطبة الشٌخ المحبلوي‪ ،‬التً كانت ثورٌة‬
‫حتى النخاع ‪ ..‬الكلمات األكثر تكرارً ا كانت "استمروا"‪،‬‬
‫"اثبتوا"‪" ،‬ال تتراجعوا"‪" ،‬النصر حلٌفكم بإذن هللا" ‪ ..‬كان‬
‫ٌتحدث من أعماق قلبه بصورة تجعل الحجر ٌتحرك‪ ،‬و هو‬
‫ما ٌمكن أن تتفهمه فً ضوء أن الرجل ممنوع من الخطابة‬
‫منذ ثبلثٌن عامًا أو تزٌد‪ ،‬و السبب كان – أٌضً ا – آراإه‬
‫المناهضة للنظام وقتها – السادات ‪..‬‬

‫بعد الصبلة أعلن المتحدث من فوق السٌارة التً حملت‬


‫عددا من مكبرات الصوت – لتقود الجموع و تردد‬ ‫ً‬
‫الهتافات‪ ،‬و هً وسٌلة إخوانٌة قدٌمة لتنظٌم المظاهرات –‬
‫أننا سننطلق إلى القصر الرباسً برأس التٌن‪ ،‬و هو طبعً ا‬
‫انطبلق رمزي‪ ،‬ألن الرجل لٌس هناك بكل تؤكٌد‪ ،‬و ما‬
‫ذهابنا إال لننقل إلى القاهرة رسالة أننا لم نعد نخشى شٌ ًبا‬
‫بحق و أننا مصممون على اإلطاحة بهذا النظام الفاسد إلى‬
‫األبد ‪..‬‬

‫فً الوقت نفسه واصل المبلٌٌن – دون مبالؽة – تدفقهم إلى‬


‫مٌدان التحرٌر و قصر العروبة ‪ ..‬مرأى مٌدان التحرٌر‬
‫كان نسخة من مشهد الحرم فً ذي الحجة ‪ ..‬أكاد أقسم أن‬
‫هإالء لم ٌكونوا بؤقل من خمسة مبلٌٌن بؤي حال من‬
‫األحوال‪ ،‬إن لم ٌكونوا الضعؾ على األقل ‪..‬‬

‫‪68‬‬
‫انطلقت المظاهرة‪ ،‬و التقٌت صدٌ ًقا فوجبت أنه حضر‪ ،‬إذ‬
‫أن والده ٌفكر بذات طرٌقة والدي‪ ،‬لكنه أخبرنً أنه نزل‬
‫خلسة‪ ،‬و أن والده ال ٌعلم أصبل أنه فً مسجد القابد إبراهٌم‬
‫لٌشترك فً المظاهرة ‪..‬‬

‫كان العدد ؼفٌرً ا لدرجة تجعل التقدٌر المبدبً هو أن نصؾ‬


‫شعب اإلسكندرٌة فً الشارع ‪ ..‬عندما أصبحنا فً المنشٌة‬
‫أمام نصب الجندي المجهول‪ ،‬و هً نقطة ٌمكن أن تقول‬
‫إنها فً منتصؾ طرٌق الجٌش (الكورنٌش)‪ ،‬وقفنا نستطلع‬
‫العدد و العدة‪ ،‬فخرجنا باستنتاج هام‪ :‬هإالء فعبلً قلة مندسة!‬

‫كانت الهتافات المعتادة تتردد بقوة‪ ،‬مع بعض اإلضافات‬


‫ولٌدة اللحظة‪ ،‬لعل أكثرها إضحا ًكا هً "إحنا بناكل فول و‬
‫فبلفل ‪ ..‬لٌه مجوعنا ٌا حسنً ٌا سافل"‪ً ،‬‬
‫ردا على "إفٌه"‬
‫وجبات الكنتاكً التً ُتوزع على المتظاهرٌن ‪ ..‬كان هناك‬
‫أٌضً ا "أنت فٌن ٌا حسنً شعبك بٌدور علٌك"‪ ،‬كتنوٌع على‬
‫األؼنٌة الشعبٌة الشهٌرة ‪..‬‬

‫بالطبع امتؤلت المظاهرات بالبلفتات الضاحكة المضحكة‬


‫التً أصبحت من سمات الثورة المصرٌة‪ ،‬أحدها كان‬
‫"مبارك قبل ما تمشً‪ ،‬ممكن أعرؾ اسم الحمار اللً‬
‫بٌكتب لك خطاباتك ؟" و "بلؽة اإلشارة ٌمكن تفهم" مع‬

‫‪69‬‬
‫حروؾ كلمة ارحل مكتوبة بلؽة األصابع‪ ،‬و "طب سٌبونً‬
‫أكمل أجندتً" ً‬
‫ردا على "إفٌه" األجندات الخارجٌة التً‬
‫ٌنفذها المتظاهرون ‪..‬‬

‫أثناء المسٌر قابلنا بعضً ا من أساتذة كلٌة الطب‪ ،‬منهم بعض‬


‫من رموز الفساد المعروفٌن‪ ،‬و هو ما جعلنً أكاد استلقً‬
‫على ظهري من الضحك و الدهشة معً ا ‪ ..‬قلت لصدٌقً‬
‫معبرً ا عن دهشتً و شعوري بهزلٌة الموقؾ‪ :‬رموز الفساد‬
‫تتظاهر ضد النظام الفاسد ‪ٌ ..‬ا للعجب !‬

‫كان المشهد مذهبلً لدرجة تجعل من الصعب اعتبار كل هذا‬


‫العدد ٌنتمً إلى "مظاهرة"‪ ،‬بل هً عدة مظاهرات اندمجت‬
‫و تبلحمت ‪ ..‬على حد تعبٌر صدٌقً‪ ،‬فإن علم المظاهرات‬
‫منذ أن قام المتظاهر األول بمظاهرته لم ٌشهد مثل هذا‬
‫العدد‪ ..‬البشر بالمبلٌٌن فً الشارع‪ ،‬و هو ما جعلنً‬
‫أتساءل‪ :‬ما هو العدد المطلوب كً ٌفهم مبارك الرسالة‬
‫كاملة و بوضوح ؟! هل ٌرٌد أن ٌكون الشعب بؤكمله فً‬
‫الشوارع ؟!‬

‫وصلنا قصر رأس التٌن بعد العصر بحوالً نصؾ الساعة‪،‬‬


‫و طوال الطرٌق كان المزٌد من الناس ٌنضم إلٌنا‪ ،‬و كؤن‬
‫العدد الذي كنا قد بلؽناه لٌس كافًٌا ‪ ..‬بالطبع كانت الدبابات‬

‫‪70‬‬
‫و المدرعات تقؾ على مسافة كبٌرة من القصر كحاجز بٌنه‬
‫و بٌن المحتجٌن‪ ،‬لكن هدؾ المظاهرة لم ٌكن بالطبع اقتحام‬
‫القصر أو حتى التلوٌح بذلك‪ ،‬بل هً – كما قلت – رسالة‬
‫ً‬
‫سقوطا‬ ‫رمزٌة للنظام ‪ ..‬لم نعد نخاؾ‪ ،‬و لن نهدأ حتى تسقط‬
‫ال رجعة فٌه ‪..‬‬

‫وقفنا قلٌبلً نستطلع األجواء‪ ،‬و األؼانً و الهتافات تتردد‪ ،‬ثم‬


‫صعدت برفقة صدٌقً لمقهى ٌرتفع عن الشارع مقدار‬
‫طابق سكنً‪ ،‬من أجل رإٌة أكثر بانورامٌة‪ ،‬فشعرنا أن‬
‫وصؾ المظاهرة هو وصؾ ٌبخس هإالء حقهم ‪..‬‬

‫تابعت األخبار التً تتتابع على شاشة الجزٌرة‪ ،‬و أصبح‬


‫شعوري أن الٌوم هو ٌوم الحسم أقوى من ذي قبل ‪..‬‬
‫الحشود عند قصر العروبة جاوزت سبعٌن أل ًفا‪ ،‬و المبلٌٌن‬
‫فً مٌدان التحرٌر لم تعد تخضع لقدرة المرء على الحساب‪،‬‬
‫و شٌوخ األزهر ٌنظمون مسٌرة لٌنضموا لثوار التحرٌر ‪..‬‬
‫لقد أصبحت مصر فعلًٌا فً الشارع ‪..‬‬

‫بدأنا طرٌق العودة‪ ،‬التزامًا منً بالموعد الذي ضربته‬


‫لعودتً للمنزل‪ ،‬و قد بدأت الشمس للتو رحلتها نحو‬
‫المؽرب ‪ ..‬بالطبع كانت الوسٌلة الوحٌدة هً أن تعود‬
‫سابرً ا‪ ،‬فؤي شًء على عجبلت ال ٌجد له مكا ًنا وسط هذا‬

‫‪71‬‬
‫البحر البشري ‪ ..‬كانت الشمس تمٌل إلى المؽٌب أكثر و ال‬
‫ت زال الحشود تتوافد‪ ،‬و طوال طرٌق العودة لم نعدم رإٌة‬
‫المزٌد من الناس ٌتوجهون نحو القصر ‪..‬‬

‫أذكر أن أحد الشوارع الجانبٌة المتصلة بطرٌق الكورنٌش‬


‫قرب قصر رأس التٌن كانت أرضه مختفٌة تمامًا لكثرة‬
‫المتظاهرٌن ‪ ..‬لفظة شارع جانبً توحً حتمًا بالصؽر‪ ،‬لكن‬
‫لو علمت أن طول هذا الشارع ٌتجاوز الخمسمابة متر‬
‫فستدرك إلى أي حد كان العدد كبٌرً ا ‪ ..‬هإالء لم تتح لهم‬
‫الفرصة كً ٌلتحموا بالمتظاهرٌن على طرٌق الكورنٌش‪،‬‬
‫ألن الكورنٌش لم ٌعد ٌحتمل باألساس ‪..‬‬

‫فً طرٌقنا تناقشنا مع بابع خردوات فً الخمسٌنات من‬


‫عمره‪ ،‬و هو من ذات الصنؾ و الجبلة التً وجدت علٌها‬
‫عبثا أٌها المبلعٌن ‪ ..‬هناك من ال ٌجدون‬‫الصٌدالنً‪ :‬كفاكم ً‬
‫قوت ٌومهم بسببكم‪ ،‬و البسطاء قد اكتووا بنار األسعار التً‬
‫قفزت بشكل جنونً فً األٌام الماضٌة ‪..‬‬

‫ً‬
‫بسٌطا للؽاٌة‪ ،‬و هو أن هإالء لم ٌكونوا ٌجدون‬ ‫كان الرد‬
‫قوت ٌومهم من قبل ‪ ..‬الجنٌهات العشرة التً ٌحصل علٌها‬
‫ً‬
‫مجازا – تتبخر قبل أن ٌصل إلى سرٌره ‪..‬‬ ‫عامل البناء –‬

‫‪72‬‬
‫نحن لسنا المسإولون عن تردي وضعه المالً‪ ،‬بل إننا قد‬
‫خرجنا لٌنعم هو و أطفال بحٌاة أفضل ‪..‬‬

‫مررنا بعدد من المقاهً‪ ،‬و أخذنا نتتبع نشرات األخبار ‪..‬‬


‫أذكر لحظتها أن قناة العربٌة نقلت خبرً ا عاجبلً عن إقبلع‬
‫مروحٌتٌن من قصر الرباسة – و كان هذا فً حدود‬
‫الخامسة عصرً ا – ثم قرأنا نفس الخبر على قناة الجزٌرة‬
‫فً مقهى آخر على بعد دقابق‪ ،‬أن ثبلث مروحٌات قد‬
‫هبطت فً ساحة قصر الرباسة‪ ،‬فقلت لصدٌقً‪ :‬ستجد‬
‫التلفزٌون المصري ٌقول "توك توك رباسً ٌؽادر قصر‬
‫العروبة" !‬

‫كان من الواضح بالطبع أن األمر ٌقترب من نهاٌته‪ ،‬لكننا لم‬


‫نكن قادرٌن على التصدٌق‪ ،‬أو تخٌل أن لحظة كهذه قد تمر‬
‫بنا ‪ ..‬عدنا‪ ،‬و طوال الطرٌق كنا نتحدث عن االحتماالت ‪..‬‬
‫وصلت المنزل و قد أُذن لصبلة المؽرب منذ لحظات‪ ،‬و‬
‫شعرت بحركة ؼرٌبة فً الشارع و بعض األصوات التً‬
‫تدل على الفرح الطاؼً إن شبنا الدقة ‪ ..‬التهمت درجات‬
‫السلم بؤسرع من البرق و فتحت باب الشقة لٌقذفنً أخً‬
‫بالخبر‪" :‬الراجل مشً"‬

‫‪73‬‬
‫!!!‬

‫الوصؾ الدقٌق لهذه اللحظة هو أنها ال ٌمكن أن توصؾ ‪..‬‬


‫لدقابق أظن أنها جاوزت العشر ظللت كالمشدوه ‪ ..‬أردت أن‬
‫أصرخ ‪ ..‬أن أكبر ‪ ..‬أن أقفز من شرفة المنزل من فرط‬
‫سعادتً ‪ ..‬لم أكن أصدق ‪ ..‬حسنً مبارك قد رحل !‬

‫قررت أن أنزل الشارع مرة أخرى الحتفل ‪ ..‬لست أدري‬


‫كٌؾ احتملت الفترة ما بٌن سماعً الخبر و حتى صبلة‬
‫العشاء‪ ،‬لكن األكٌد هو أننً احتملتها بمعجزة ‪ ..‬أقول هذا‬
‫ألن ما كان بداخلً لحظتها كان طاقة راحة عمبلقة الحجم و‬
‫القوة‪ ،‬ترٌد أن تنطلق ‪ ..‬أن تتحرر‪ ،‬كما تحرر الشعب‬
‫المصري ‪..‬‬

‫لحظتها قلت إن نزولً الشارع له تؤثٌر ال مثٌل له ‪ ..‬فً‬


‫الٌوم الوحٌد الذي قررت فٌه النزول و التظاهر رحل الرجل‬
‫على الفور !‬

‫انطلقت بعد صبلة العشاء إلى محطة قطار سٌدي جابر‪ ،‬أحد‬
‫أماكن التجمعات الكبرى للمتظاهرٌن السكندرٌٌن‪ ،‬باإلضافة‬
‫طبعً ا إلى ساحة مسجد القابد إبراهٌم ‪ ..‬هناك كان الناس‬
‫ٌحتفلون كما لو أنهم قد قٌل لهم‪ :‬لقد أوتً كل منكم مثلما‬

‫‪74‬‬
‫أوتً قارون ألؾ مرة ‪ ..‬الحق أنهم أوتوا ما هو أكبر و‬
‫أؼلى و أبهى؛ حرٌتهم ‪..‬‬

‫أذكر أن سٌدة فً الثبلثٌنات أو هً حولها‪ ،‬كانت قد رفعت‬


‫عقٌرتها بزؼرودة طوٌلة فرحً ا بالتنحً و الرحٌل‪ ،‬فقلت‬
‫ممازحً ا‪ :‬طب كمان واحدة عشان الحباٌب‪ ،‬و إذا بها بكل‬
‫بساطة تطلق الثانٌة ‪ ..‬لقد كانت تفعل هذا بفرح حقٌقً‪،‬‬
‫تستطٌع أن تسمعه جلًٌا واضحً ا فً صوتها و فً حركاتها و‬
‫تعابٌر وجهها‪ ،‬و هً بالطبع لم تكن وحدها فً هذا ‪..‬‬

‫ذكر لً أحد أصدقابً أنه قبل أن أصل مٌدان المحطة حدث‬


‫أن مر بابع موز متجول كان ٌصرخ بؤعلى صوت‪ :‬باتنٌن و‬
‫نص عشان التنحً ‪ ..‬باتنٌن و نص‪ ،‬ثم سكت على حٌن‬
‫ؼرة و قال كؤنما الكلمات تنفجر من داخله و هو ٌلوح بٌده‪:‬‬
‫طب و هللا ما باٌع ‪ٌ ..‬اال كله بببلش ‪ٌ ..‬اال بببلش ‪! ..‬‬

‫ما بعد الرحٌل‬


‫ظللت فً الشارع احتفل حتى الحادٌة عشرة ‪ ..‬بالطبع أكمل‬
‫البعض االحتفال حتى الصباح‪ ،‬لكننً فضلت – و‬
‫اضطررت أٌضا – أن أعود مبكرً ا ‪ ..‬الجو العام هو الراحة‬
‫التامة و الشعور بؤن جببلً ثقٌبلً قد انزاح عن كواهلنا ‪ ..‬كان‬
‫هذا هو نص تعبٌر أحد أصدقابً الذي شاركنا االحتفال ‪..‬‬

‫‪75‬‬
‫الصدٌق نفسه قال بٌنما نحن نتناقش فٌما حدث‪ ،‬و فً هذه‬
‫اللحظة التارٌخٌة‪:‬‬
‫إن هللا ٌمهل و ال ٌهمل ‪ ..‬أنظر كم من الذنوب فعل‬
‫هإالء ‪ ..‬كٌؾ كانوا ٌزوّ رون و ٌنهبون و‬
‫ٌرتشون‪ ،‬و قد أمهلهم هللا ‪ ..‬أمهلهم حتى إذا عاقبهم‬
‫لم ٌفلتهم ‪ ..‬لم ٌكن األمر أنهم ٌذنبون فحسب‪ ،‬بل‬
‫هذا "ال ُفجر" و المجاهرة بالفساد التً بلؽت ً‬
‫حدا‬
‫ٌجعل قوم لوط جوارهم من الصالحٌن المصلحٌن !‬

‫عندما بدأت فً كتابة هذه األوراق‪ ،‬بدأت متؤخرً ا عن‬


‫الحدث عدة أٌام‪ ،‬و ظللت متؤخرً ا‪ ،‬إما لتبلحق األحداث‬
‫بصورة تجعل الجلوس للكتابة أمرً ا صعبًا‪ ،‬أو النشؽالً‬
‫ببعض األمور األخرى‪ ،‬لكننً كنت قد قررت أن أتوقؾ‬
‫عندما تنتهً الؽمة و تنزاح‪ ،‬و كان هذا ٌعنً فً ذهنً‬
‫تنحً مبارك و ذهابه ببل رجعة‪ ،‬لكن تؤخري المستمر فً‬
‫التدوٌن جعلنً أرى مرحلة ما بعد الرحٌل‪ ،‬و جعلنً أدرك‬
‫أننا لم ننته من الثورة‪ ،‬و أن الثورة لم تصل لنهاٌة المطاؾ‬
‫برحٌل رأس األفعى‪ ،‬بل هً فً بداٌتها فحسب؛ فجسد‬
‫األفعى ال زال ٌتلوى و ٌتحرك‪ ،‬فً محاولة للحصول على‬
‫رأس جدٌدة ‪..‬‬

‫‪76‬‬
‫إننً إذ أختم هذه األوراق فً الٌوم السابع و العشرٌن من‬
‫فبراٌر لعام أحد عشر و ألفٌن من المٌبلد ال أعنً أننً بهذا‬
‫أكتب نهاٌة القصة‪ ،‬بل هً فحسب ضرورة السرد و‬
‫الحكً‪ ،‬التً تحتم أن أضع نهاٌة لحدٌثً‪ ،‬لٌست بالضرورة‬
‫توافق نهاٌة الحدث‪ ،‬لكنها على األقل تقؾ عند محطة مهمة‬
‫منه‪ ،‬و هً التً وضعتها نصب عٌنً من البداٌة‪ ،‬و ال أود‬
‫أن أحٌد عنها‪ ،‬رؼم كل ما ٌجري فً أرجاء مصر‪ ،‬التً‬
‫أشعر أنها تولد من جدٌد‪ ،‬و ٌدفع المرء دفعً ا كً ٌكتب عنه‬
‫و ٌسجله ‪..‬‬

‫إنها تولد من جدٌد‪ ،‬لكن البعض ٌرٌد أن ٌجهض هذه‬


‫الوالدة‪ ،‬فإن لم ٌفلح فإنه ٌحاول أن ٌؤتً الولٌد الجدٌد‬
‫ً‬
‫مستنسخا من الجثة القدٌمة التً دفن‬ ‫ً‬
‫مسخا‬ ‫مشوهًا شابهًا‬
‫الناس رفاتها بعد أن أحرقوها‪ ،‬و أولبك فً معرض‬
‫محاوالتهم تلك ال ٌتورعون عن فعل كل ما ٌمكنهم من هذا‪،‬‬
‫لكن العبرة بمن تكون له الكلمة األخٌرة ‪..‬‬

‫إننً أشعر رؼم كل هذا التوتر الذي ٌسود األجواء‪ ،‬و حالة‬
‫الترقب و التفاإل الحذر و االستعداد للمعركة فً كل لحظة‪،‬‬
‫و الحدٌث الذي بات ٌفرض نفسه و بقوة عن الثورة‬
‫المضادة و فلول النظام البابد التً تحاول تنظٌم صفوفها من‬
‫أجل العودة مرة أخرى ‪ ..‬رؼم كل هذا‪ ،‬و رؼم أننً أشعر‬

‫‪77‬‬
‫به فً داخلً‪ ،‬و لٌس مجرد رصد لحالة مجتمع‪ ،‬إال أننً‬
‫أشعر أن األمر فً النهاٌة سٌنتهً على خٌر ‪..‬‬

‫أشعر بهذا ألن ما مضى لم ٌكن من الممكن أن ٌفكر أحد فً‬


‫التفكٌر فٌه‪ ،‬لكنه حدث ‪ ..‬عناٌة هللا كانت تحوطنا منذ‬
‫اللحظة األولى‪ ،‬و كل شًء مر تشعر كما لو أن األمر لم‬
‫ٌكن لٌحدث إال به ‪..‬‬

‫ؼٌاب الشرطة المفاجا مثبلً‪ ،‬و ما أدى إلٌه من تبلحم بٌن‬


‫ً‬
‫منفردا ٌساهم بنسبة النصؾ‬ ‫الناس إلى حد جعل هذا الحدث‬
‫فً نجاح الثورة – و هذا هو تقدٌري الشخصً ‪..‬‬

‫أشعر أن هللا قدر و ٌقدر لنا الخٌر‪ ،‬رؼم كل الضباب الذي‬


‫ٌكسو المشهد ‪ ..‬أشعر بهذا‪ ،‬و إنً ألرجو أن ٌكون ح ًقا ‪..‬‬

‫عبدالرحمن جمال‬
‫اإلسكندرٌة فً السابع و العشرٌن من فبراٌر‬
‫عام أحد عشر و ألفٌن من المٌبلد‬

‫‪78‬‬
‫طارق وجٌه‬
‫محمد نصرهللا‬
‫عبدالرحمن ٌحٌى‬
‫محمد هانً‬
‫محمد رمضان‬
‫علً شعث‬
‫محمد أشرؾ بركات‬
‫عبدالرحمن شرٌؾ‬
‫عبدالرحمن كمال‬
‫ولٌد ربٌع‬

‫‪79‬‬
‫عبدالرحمن جمال دردٌر‬ ‫‪‬‬
‫من موالٌد اإلسكندرٌة‪ 07 ،‬أؼسطس ‪7747‬‬ ‫‪‬‬
‫ٌدرس الطب بجامعة اإلسكندرٌة‪ ،‬كطالب فً‬ ‫‪‬‬
‫الفرقة الخامسة‪ ،‬بكلٌة الطب البشري‬
‫مدون ٌنشر مقاالته على مدونة "فكرة و كٌبورد ‪..‬‬ ‫‪‬‬
‫و حبة هٌاس" مع مجموعة من زمبلء الدراسة‬
‫و باإلضافة إلى مقاالت الرأي‪ ،‬فإنه قاص‪ ،‬نشر‬ ‫‪‬‬
‫فصوالً من بعض قصصه على مدونته‪ ،‬مثل‬
‫"الذهب األحمر"‪" ،‬بلد الدخان الهابط إلى أسفل"‪،‬‬
‫ً‬
‫تمهٌدا للنشر الورقً‪.‬‬ ‫"السٌؾ"‪ ،‬و ؼٌرهم‪،‬‬

‫‪80‬‬

You might also like