Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 69

‫المبحث الثاني‬

‫جهاد الصديق لهل الردة‬


‫حا‪ ،‬وبعض اليات التي حذرت من الردة‪:‬‬ ‫أولً‪ :‬الردة اصطل ً‬
‫حا‪:‬‬ ‫‪ 1-‬الردة اصطل ً‬
‫عرف النووي الردة بأنها‪ :‬قطع السلم بنية أو قول كفر أو فعل‪،‬‬
‫سواء قاله استهزاء أو عناًدا أو اعتقاًدا‪ ،‬فمن نفى الصانع أو الرسل‬
‫ل أو حلل محرًما بالجماع كالزنا وعكسه‪ ،‬أو نفى‬ ‫أو كّذب رسو ً‬
‫‪ ).‬وجوب مجمع عليه أو عكسه‪ ،‬أو عزم على الكفر أو تردد فيه كفر) ‪1‬‬
‫وعرفها عليش المالكي بأنها‪ :‬كفر المسلم بقول صريح أو لفظ‬
‫‪ ).‬يقتضيه أو بفعل يتضمنه ) ‪2‬‬
‫ن حزم الظاهري )المرتَد( بأنه‪ :‬كل من صح عنه أنه‬ ‫وعرف اب ُ‬
‫كان مسلًما متبرًئا من كل دين حاشا دين السلم‪ ،‬ثم ثبت عنه أنه‬
‫)ا ‪3‬ر(تد عن السلم وخرج إلى دين كتابي أو غير كتابي أو إلى غير دين ‪.‬‬
‫عا‪ :‬من أتى‬
‫عَلى َأْدَباِرُكْم" ]المائدة‪ ،[ 21 :‬وشر ً‬
‫وعرفه عثمان الحنبلي‪ :‬بأنه لغة‪ :‬الراجع‪ ،‬قال تعالى‪َ+ :‬ول َتْرَتّدوا َ‬
‫بما يوجب‬
‫‪ ).‬الكفر بعد إسلمه ) ‪4‬‬
‫ومعنى هذا أن المرتد هو كل من أنكر معلوًما من الدين‬
‫بالضرورة كالصلة والزكاة والنبوة وموالة المؤمنين‪ ،‬أو أتى بقول أو‬
‫ل غير الكفر‪5 ).‬‬ ‫) فعل ل يحتمل تأوي ً‬
‫‪ 2-‬بعض اليات التي أشارت إلى المرتدين‪:‬‬
‫أطلق ال ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬على المرتدين عن دينه عبارات‬
‫تشير إلى هذا المرتكس الوبيل الذي تحولوا إليه‪ ،‬منها الردة على‬
‫العقاب أو على الدبار والنقلب بالخسران وطمس الوجوه‪ ،‬ورد‬
‫اليدي في الفواه والرتياب والتردد واسوداد الوجوه ) ‪ ،(6‬قال تعالى‪:‬‬
‫عَلى‬ ‫ن َكَفُروا َيُرّدوكْم َ‬ ‫طيُعوا اّلذي َ‬ ‫ن آَمُنوا ِإن ُت ِ‬ ‫‪َ+‬يا َأّيها اّلذي َ‬
‫ن" ]آل عمران‪ ،[ 149 :‬وقال تعالى‪َ+ :‬يا‬ ‫سِري َ‬ ‫خا ِ‬ ‫عَقاِبُكْم َفَتْنَقِلُبوا َ‬
‫َأ ْ‬
‫صّدقا ّلما َمَعُكم‬ ‫ب آِمُنوا ِبَما َنّزْلَنا ُم َ‬ ‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬ ‫َأّيها اّلذي َ‬
‫عَلى َأْدَباِرَها َأْو َنْلَعَنُهْم‬‫جوًها َفَنُرّدها َ‬ ‫س ُو ُ‬ ‫طِم َ‬ ‫ل َأن ّن ْ‬ ‫ّمن َقْب ِ‬
‫ل َمْفُعول" ]النساء‪47 :‬‬ ‫ن َأْمُر ا ِ‬ ‫ت َوَكا َ‬ ‫سْب ِ‬‫ب ال ّ‬‫حا َ‬ ‫صَ‬‫‪َ ]،‬كَما َلَعّنا َأ ْ‬
‫وجاء في تفسير ابن كثير‪ :‬وطمسها أن تعمى وقوله‪ :‬فنردها على‬
‫(‪1‬‬
‫‪1‬م ‪ .5‬حمد الزهري الغمراوي‪ ،‬شرح على متن المنهاج‪ ،‬لشرف الدين النووي‪ :‬ص )‪9‬‬
‫(‪2‬‬
‫‪ ( .‬أحكام المرتد للسامرائي‪ :‬ص ‪44‬‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ، 11‬المطبعة المنيرية ‪ 1352‬ه‪ ( / .‬المحلى‪188 :‬‬
‫(‪4‬‬
‫‪ ( .‬أحكام المرتد للسامرائي‪ :‬ص ‪44‬‬
‫(‪5‬‬
‫( حركة الردة‪ ،‬د‪ .‬علي العتوم‪ :‬ص ‪ . 18‬وهو من أهم المراجع في بحث الردة‪.‬‬
‫(‪6‬‬
‫‪ ( .‬حركة الردة‪ :‬ص ‪18‬‬
‫‪149‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫أدبارها أي‪ :‬تجعل لحدهم عينين من قفاه‪ ،‬وهذا أبلغ في العقوبة‬
‫والنكال‪ ،‬وهذا مثل ضربه ال لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى‬
‫الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضللة يهرعون‬
‫‪ ).‬ويمشون القهقري على أدبارهم ) ‪1‬‬
‫جوٌه َفَأّما اّلذي َ‬
‫ن‬ ‫سَوّد ُو ُ‬ ‫جوٌه َوَت ْ‬ ‫ض ُو ُ‬
‫وقال تعالى‪َ+ :‬يْوَم َتْبَي ّ‬
‫ب ِبَما‬ ‫جوُهُهْم َأْكَفْرُتْم َبْعَد ِإيَماِنُكْم َفُذوُقوا اْلَعَذا َ‬ ‫ت ُو ُ‬ ‫سَوّد ْ‬ ‫اْ‬
‫ن" ]آل عمران‪106 :‬‬ ‫‪ُ ].‬كْنُتْم َتْكُفُرو َ‬
‫نقل القرطبي فيها جملة آراء منها رأي قتادة أنها في المرتدين‪ ،‬كما‬
‫نقل حا ديلًثبي هريرة وقال عنه‪ :‬يستشهد به بأن الية في الردة وهو‪:‬‬
‫يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض «‬
‫فأقول‪ :‬يا رب أصحابي! فيقول‪:‬ن ك ل علم لك ما أحدثوا بعدك‪ ،‬إنهم‬
‫‪ (2‬وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن ابن (‪ ».‬ارتدوا على أدبارهم القهقري‬
‫يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات « ‪ × :‬عباس قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫اليمين فأقول‪ :‬أصحابي‪ ،‬فيقال‪ :‬إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك‪ ،‬فأقول كما‬
‫قال العبد الصالح‪ :‬وكنت عليهم شهديا ًما دمت فيهم‪ ،‬فلما توفيتني كنت‬
‫أنت الرقيب عليهم‪ ،‬فيقال‪ :‬إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ‬
‫)‪ ». (3‬فارقتهم‬
‫ثانيًا‪ :‬أسباب الردة وأصنافها‪:‬‬
‫لها × إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول ال‬
‫ورقة الدين والسقم في ‪ ×،‬أسباب‪ ،‬منها‪ :‬الصدمة بموت رسول ال‬
‫فهم نصوصه‪ ،‬والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها‪ ،‬والتفلت من‬
‫النظام والخروج على السلطة الشرعية‪ ،‬والعصبية القبلية والطمع‬
‫في الملك‪ ،‬والتكسب بالدين والشح بالمال‪ ،‬والتحاسد‪ ،‬والمؤثرات‬
‫الجنبية ) ‪ (4‬كدور اليهود والنصارى والمجوس‪ ،‬وسنتحدث عن كل‬
‫سبب بإذن ال تعالى‪.‬‬
‫ل وعاد إلى‬‫وأما أصنافها‪ :‬فمنهم من ترك السلم جملة وتفصي ً‬
‫الوثنية وعبادة الصنام‪ ،‬ومنهم من ادعى النبوة‪ ،‬ومنهم من دعا إلى‬
‫ترك الصلة‪ ،‬ومنهم من بقي يعترف بالسلم ويقيم الصلة ولكنه‬
‫امتنع عن أداء زكاته‪ ،‬ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه‬
‫يمارس عاداته الجاهلية‪ ،‬ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من‬
‫‪ ).‬تكون الدبرة‪ ،‬وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير ) ‪5‬‬
‫قال الخطابي‪ :‬إن أهل الردة كانوا صنفين‪ :‬صنًفا ارتدوا عن‬
‫الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر‪ ،‬وهذه الفرقة طائفتان‪:‬‬
‫إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على‬
‫دعواه في النبوة‪ ،‬وأصحاب السود العنسي ومن كان من مستجيبيه‬
‫من أهل اليمن وغيرهم‪ ،‬وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا‬
‫(‪1‬‬
‫‪ ، 508‬طبعة الحلبي‪ ( /1، .‬تفسير ابن كثير‪507 :‬‬
‫(‪2‬‬
‫‪ ( /4.‬تفسير القرطبي‪166 :‬‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ( /2.‬الخصائص الكبرى للسيوطي‪456 :‬‬
‫(‪4‬‬
‫‪ ( .‬حركة الردة‪ ،‬على العتوم‪ 110 :‬إلى ‪137‬‬
‫(‪5‬‬
‫‪ (2 /1.‬شرح صحيح مسلم للنووي‪( . ( 202 :‬حركة الردة‪ ،‬على العتوم‪ :‬ص ‪20‬‬
‫‪150‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫مدعية النبوة لغيره‪ ،‬والطائفة الخرى ارتدوا عن الدين × محمد‬
‫وأنكروا الشرائع وتركوا الصلة والزكاة وغيرها من أمور الدين‬
‫وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية‪ ،‬والصنف الخر هم الذين‬
‫فرقوا بين الصلة والزكاة فأقروا بالصلة وأنكروا فرض الزكاة‬
‫ووجوب أدائها إلى المام ) ‪ ...(1‬وقد كان ضمن هؤلء المانعين للزكاة‬
‫من كان يسمح )بها( ول يمنعها إل أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك‪،‬‬
‫‪ ).‬وقبضوا أيديهم على ذلك ) ‪2‬‬
‫وقريب من هذا التقسيم لصناف المرتدين تقسيم القاضي‬
‫عياض غير أنهم عنده ثلثة‪ :‬صنف عادوا إلى عبادة الوثان‪ ،‬وصنف‬
‫تبعوا مسيلمة والسود العنسي‪ ،‬وكل منهما ادعى النبوة‪ ،‬وصنف‬
‫ثالث استمروا على السلم ولكنهم جحدوا الزكاة‪ ،‬وتأولوا بأنها‬
‫‪ × (3).‬خاصة بزمن النبي‬
‫وقسم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى‬
‫أربعة أصناف‪ :‬صنف عادوا إلى عبادة الوثان والصنام‪ ،‬وصنف اتبعوا‬
‫المتنبئين الكذبة السود العنسي ومسيلمة وسجاح‪ ،‬وصنف أنكروا‬
‫وجوب الزكاة وجحدوها‪ ،‬وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن‬
‫‪ ).‬يدفعوها إلى أبي بكر ) ‪4‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الردة أواخر عصر النبوة‪:‬‬
‫بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود‪،‬‬
‫× وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول‬
‫ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة‪ ،‬وكانت‬
‫حركة الردة في هذه الثناء لما تستعلن بشكل واسع‪ ،‬حتى إذا كان‬
‫أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول‬
‫ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس‪ ،‬بدأ ‪ ×،‬ال‬
‫الجمر يتململ من تحت الرماد‪ ،‬وأخذت الفاعي تطل برؤوسها من‬
‫جحورها‪ ،‬وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج‪ ،‬فوثب السود‬
‫العنسي باليمن‪ ،‬ومسيلمة الكذاب باليمامة‪ ،‬وطليحة السدي في بلد‬
‫قومه ) ‪ ،(5‬ولما كان أخطر متمردين على السلم وهما السود‬
‫العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق‬
‫ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع‪ ،‬وأنهما مشايعان بقوى‬
‫من أمرهما ما تقر به × غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أرى ال نبيه‬
‫عينه‪ ،‬ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده‪ ،‬فقد قال يوًما وهو‬
‫أيها الناس‪ ،‬إني قد أريت ليلة القدر ثم « ‪ :‬يخطب الناس على منبره‬
‫أنسيتها‪ ،‬ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما‬
‫‪ » (6).‬فطارا‪ ،‬فأولتهما هذين الكذابين‪ :‬صاحب اليمن وصاحب اليمامة‬
‫وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة‬
‫‪12‬‬
‫(‬
‫‪ ( /1.‬نفس المصدر السابق‪203 :‬‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ( /12.‬فتح الباري‪276 :‬‬
‫(‪4‬‬
‫‪ ( .‬الحكم بغير ما أنزل ال‪ ،‬د‪ :‬عبد الرحمن المحمود‪ :‬ص ‪239‬‬
‫(‪5‬‬
‫‪ ( .‬حركة الردة‪ :‬ص ‪65‬‬
‫(‪6‬‬
‫( مسند أحمد رقم‪ ، 11407 :‬باقي مسند المكثرين‪ ،‬وأصله في الصحيحين‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫لهما يدل على أنهما يقتلن بريحه لنه ل يغزوهما × فقالوا‪ :‬إن نفخه‬
‫بنفسه‪ ،‬وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دللة على كذبهما لن‬
‫شأنهما زخرف وتمويه‪ ،‬كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان؛‬
‫لن الساورة هم الملوك‪ ،‬ودل بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما‬
‫) يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيًقا على الذراع‪1 ).‬‬
‫بأن طيرانهما بالنفخ دللة ‪ :«...‬وعبر الدكتور علي العتوم بقوله‬
‫على ضعف كيدهما مهما تضاخم‪ ،‬فشأنهما زبد ل بد أن يؤول إلى‬
‫جفاء ما دام هذا الكيد مستمًدا من الشيطان فهو واهن ل محالة‪ ،‬إذ‬
‫أقل هجمة مركزة في سبيل ال تحيلهما أثًرا بعد عين‪ ،‬وكونهما من‬
‫ذهب دللة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لن الذهب رمز‬
‫لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه‪ ،‬وأنها سوارن إشارة إلى‬
‫محاولتهما الحاطة بكيان المسلمين عن طريق الحاطة بهم من كل‬
‫‪ » (2).‬جانب‪ ،‬تماًما كما يحيط السوار بالمعصم‬
‫رابًعا‪ :‬موقف الصديق من المرتدين‪:‬‬
‫في الناس خطيًبا فحمد ال ‪ ‬لما كانت الردة قام أبو بكر‬
‫وأثنى عليه ثم قال‪ :‬الحمد ل الذي هدى فكفى‪ ،‬وأعطى فأعفى‪ .‬إن‬
‫والعلم شريد‪ ،‬والسلم غريب طريد‪ ،‬قد رث × ال بعث محمًدا‬
‫خَلق ثوبه وضل أهله منه‪ ،‬ومقت ال أهل الكتاب فل يعطيهم‬ ‫حبله و َ‬
‫خيًرا لخير عندهم‪ ،‬ول يصرف عنهم شّرا لشر عندهم‪ ،‬وقد غيروا‬
‫كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه‪ ،‬والعرب المنون يحسبون أنهم في‬
‫شا وأظلهم ديًنا‪,‬‬ ‫منعة من ال ل يعبدونه ول يدعونه‪ ،‬فأجهدهم عي ً‬
‫في ظلف من الرض مع ما فيه من السحاب‪ ،‬فختمهم ال بمحمد‬
‫وجعلهم المة الوسطى‪ ،‬ونصرهم بمن اتبعهم‪ ،‬ونصرهم على غيرهم‪،‬‬
‫حتى قبض ال نبيه فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه‪،‬‬
‫خَل ْ‬
‫ت‬ ‫ل َقْد َ‬‫سو ٌ‬ ‫حّمد ِإل َر ُ‬ ‫وأخذ بأيديهم‪ ،‬وبغى هلكتهم‪َ+ :‬وَما ُم َ‬
‫عَقاِبُكْم‬
‫عَلى َأ ْ‬
‫ل اْنَقَلْبُتْم َ‬
‫ل َأَفِإن ّمات َأْو ُقِت َ‬‫ِمن َقْبِلِه الّرس ُ‬
‫جِزي ا ُ‬
‫ل‬ ‫سَي ْ‬
‫شْيًئا َو َ‬
‫ل َ‬ ‫عِقَبْيِه َفَلن ّيضّر ا َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ب َ‬‫َوَمن َيْنَقِل ْ‬
‫ن" ]آل عمران‪144 :‬‬ ‫شاكِري َ‬ ‫‪ ].‬ال ّ‬
‫إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم‪ ،‬ولم يكونوا‬
‫في دينهم –وإن رجعوا إليه‪ -‬أزهد منهم يومهم هذا‪ ،‬ولم تكونوا في‬
‫دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم‪ ،‬وقد‬
‫ل فأغناه‪:‬‬ ‫ل فهداه وعائ ً‬ ‫وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضا ً‬
‫حْفَرٍة ّمن الّنار َفَأنَقَذُكْم ّمْنَها" ]آل‬ ‫شَفا ُ‬ ‫عَلى َ‬ ‫‪َ+‬وُكْنُتْم َ‬
‫‪ ].‬عمران‪103 :‬‬
‫وال ل أدع أن أقاتل على أمر ال حتى ينجز ال وعده ويوفي‬
‫لنا عهده‪ ،‬ويقتل من قتل منا شهيًدا من أهل الجنة‪ ،‬ويبقى من بقي‬
‫منها خليفته وذريته في أرضه‪ ،‬قضاء ال الحق‪ ،‬وقوله الذي ل خلف‬
‫حا ِ‬
‫ت‬ ‫صال َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا ِمْنُكْم َو َ‬
‫ل اّلذي َ‬ ‫عَد ا ُ‬
‫له‪َ+ :‬و َ‬
‫ض" ) ‪] (3‬النور‪55 :‬‬ ‫خِلَفّنهْم ِفي الَْر ِ‬‫سَت ْ‬ ‫‪َ ].‬لَي ْ‬
‫(‪1‬‬
‫‪ ( .‬حركة الردة‪ ،‬للعتوم‪ :‬ص ‪66‬‬
‫(‪2‬‬
‫‪ ( .‬حركة الردة‪ :‬ص ‪66‬‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ( /6.‬البداية والنهاية‪316 :‬‬
‫‪152‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وقد أشار بعض الصحابة ‪-‬ومنهم عمر‪ -‬على الصديق بأن يترك‬
‫مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن اليمان من قلوبهم‪ ،‬ثم هم بعد‬
‫‪ ).‬ذلك يزكون‪ ،‬فامتنع الصديق عن ذلك وأباه ) ‪1‬‬
‫وكان أبو بكر × قال‪ :‬لما توفي رسول ال ‪ ‬فعن أبي هريرة‬
‫كيف نقاتل الناس وقد ‪ :‬وكفر من كفر من العرب‪ ،‬فقال عمر ‪،‬‬
‫أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‪ :‬ل إله إل « ‪ ×:‬قال رسول ال‬
‫ال‪ ،‬فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إل بحقه ) ‪ ،(2‬وحسابه‬
‫فقال‪ :‬وال لقاتلن من فّرق بين الصلة والزكاة‪ ،‬فإن ؟» على ال‬
‫الزكاة حق المال‪ ،‬وال لو منعوني عناًقا ) ‪ (3‬كانوا يؤدونها إلى رسول‬
‫‪ )،‬لقاتلتهم على منعها‪ .‬وفي رواية‪ :‬وال لو منعوني عقال ) ‪ × 4‬ال‬
‫كانوا يؤدونه إلى رسول ال لقاتلتهم على منعه‪ .‬قال عمر‪ :‬فوال ما‬
‫هو إل أن قد شرح ال صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق ) ‪ ،(5‬ثم قال‬
‫عمر بعد ذلك‪ :‬وال لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه المة جميًعا‬
‫) في قتال أهل الردة‪6 ).‬‬
‫وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر ‪-‬وهو يناقشه‪ -‬عن ناحية‬
‫فقهية مهمة أجلها له وكانت قد غابت عنه‪ ،‬وهي أن جملة جاءت‬
‫في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدليل على‬
‫وجوب محاربة من منع الزكاة حتى إن نطق بالشهادتين‪ ،‬هي قول‬
‫‪ ».(7)،‬فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها « ‪ ×:‬النبي‬
‫ل كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين رأًيا ملهًما وهو الرأي‬ ‫وفع ً‬
‫الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة السلم والمسلمين‪ ،‬وأي موقف‬
‫غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية‪،‬‬
‫ولول ال ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ‬
‫وتحولت مسيرته ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء‪ ،‬ولعادت‬
‫‪ ).‬الجاهلية تعيث في الرض فساًدا ) ‪8‬‬
‫لقد تجلى فهمه الدقيق للسلم وشدة غيرته على هذا الدين‬
‫وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبيه في الكلمة التي فاض بها‬
‫جنَانه‪ ،‬وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة‬ ‫لسانه ونطق بها َ‬
‫ل‪ ،‬وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا‬ ‫وكتاًبا حاف ً‬
‫الزكاة إلى بيت المال أو منعوها مطلًقا وأنكروا فرضيتها‪ :‬قد انقطع‬
‫الوحي وتم الدين‪ ،‬أينقص وأنا‬
‫حي؟ ) ‪ (9‬وفي رواية‪ :‬قال عمر‪ :‬فقلت‪ :‬يا خليفة رسول ال‪ ،‬تألف‬
‫الناس وارفق بهم‪ .‬فقال لي‪ :‬أجبار في الجاهلية خوار في السلم‪،‬‬
‫) قد انقطع الوحي وتم الدين‪ ،‬أينقص وأنا حي؟‪10 ) .‬‬
‫لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين‪ ،‬وما‬
‫(‪1‬‬
‫‪ ( /6.‬نفس المصدر السابق‪315 :‬‬
‫(‪2‬‬
‫‪34‬ع‬
‫ناًقا‪ :‬النثى من ولد المعز‪( .‬‬
‫‪2‬‬
‫)‬
‫بحقه‪ :‬حق السلم‪( .‬‬
‫(‬
‫ل‪ :‬هو الحبل الذي يعقل به البعير‪.‬‬ ‫( عقا ً‬
‫(‪5‬‬
‫‪ ( .‬البخاري‪ ،‬رقم‪ , 1400 :‬مسلم‪ ،‬رقم‪20 :‬‬
‫(‪6‬‬
‫‪ 24‬حروب الردة‪ ،‬محمد أحمد باشميل‪ :‬ص ( ‪78 . 21 ( .‬‬
‫مسلم‪ ،‬رقم‪6 ( :‬‬
‫(‬
‫‪ ( .‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ :‬ص ‪86‬‬
‫(‪9‬‬
‫‪ ( .‬المرتضى لبي الحسن الندوي‪ :‬ص ‪70‬‬
‫( ‪10‬‬
‫‪ ( .‬مشكاة المصابيح‪ ،‬كتاب المناقب‪ ،‬رقم‪6034 :‬‬
‫‪153‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫عزم على خوض الحرب إل بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح‪ ،‬إل‬
‫أنه كان سريع القرار حاسم الرأي‪ ،‬فلم يتردد لحظة واحدة بعد‬
‫ظهور الصواب له‪ ،‬وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر‬
‫–هذا الخليفة العظيم‪ -‬في حياته كلها ) ‪ ،(1‬ولقد اقتنع المسلمون‬
‫بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه‪.‬‬
‫أبعد الصحابة نظًرا وأحقهم فهًما وأربطهم ‪ ‬لقد كان أبو بكر‬
‫جناًنا وفي هذه الطامة العظيمة ) ‪ ،(2‬والمفاجأة المذهلة‪ ،‬ومن هنا أتى‬
‫قول سعيد بن المسيب ‪-‬رحمه ال‪ :-‬وكان أفقههم ‪-‬يعني الصحابة‪-‬‬
‫‪ ).‬وأمثلهم رأًيا ) ‪3‬‬
‫إن أبا بكر كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله؛ لنه فهم بإيمانه‬
‫الذي فاق إيمانهم جميًعا أن الزكاة ل تنفصل عن الشهادتين‪ ،‬فمن‬
‫أقر ل بالوحدانية ل بد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله‪ ،‬الذي‬
‫ل وأن ل إله إل ال بغير زكاة ل وزن لها في حياة‬ ‫هو مال ال أص ً‬
‫عا‬
‫عا عن أدائها تماًما كما يشرع دفا ً‬ ‫الشعوب‪ ،‬وأن السيف يشرع دفا ً‬
‫عن ل إله إل ال‪ ،‬تماًما هذه كتلك‪ .‬هذا هو السلم وغير هذا ليس‬
‫من السلم‪ (4 ).‬فقد توعد ال أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب‬
‫ض اْلِكَتا ِ‬
‫ب‬ ‫ن ِبَبْع ِ‬ ‫ويكفرون ببعض‪ ،‬قال تعالى‪َ+ :‬أَفُتْؤِمُنو َ‬
‫خْز ٌ‬
‫ي‬ ‫ك ِمْنُكْم ِإل ِ‬ ‫ل َذِل َ‬
‫جَزاُء َمن َيْفَع ُ‬‫ض َفَما َ‬ ‫ن ِبَبْع ٍ‬ ‫َوَتْكُفُرو َ‬
‫شّد اْلَعَذا ِ‬
‫ب‬ ‫حَياِة الّدْنَيا َوَيْوَم اْلِقَياَمِة ُيَرّدون ِإَلى َأ َ‬
‫ِفي اْل َ‬
‫ن" ]البقرة‪85 :‬‬ ‫عّما َتْعَمُلو َ‬‫ل َ‬ ‫ل ِبَغاِف ٍ‬
‫‪َ ].‬وَما ا ُ‬
‫الذي ل هوادة فيه ول مساومة فيه ول ‪ ‬كان موقف أبي بكر‬
‫تنازل موقًفا ملهًما من ال‪ ،‬يرجع الفضل الكبر ‪-‬بعد ال تعالى‪ -‬في‬
‫سلمة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته‪ ،‬وقد أقر الجميع‬
‫وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية‬
‫ف النبياء والرسل في‬ ‫ومحاولة نقض عرى السلم عروة عروة‪ ،‬موق َ‬
‫عصورهم‪ ،‬وهذه خلفة النبوة التي أدى أبو بكر حقها‪ ،‬واستحق بها‬
‫ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث ال‬
‫‪ ).‬الرض وأهلها ) ‪5‬‬
‫سا‪ :‬خطة الصديق لحماية المدينة‪:‬‬ ‫خام ً‬
‫انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت‬
‫عزم الصديق وحزمه وقد خرجت بأمرين‪:‬‬
‫‪ 1-‬أن قضية منع الزكاة ل تقبل المفاوضة‪ ،‬وأن حكم السلم‬
‫فيها واضح‪ ،‬ولذلك ل أمل في تنازل خليفة المسلمين عن‬
‫عزمه ورأيه‪ ،‬وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه‬
‫بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل‪.‬‬
‫(‪1‬‬
‫‪ ( .‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ :‬ص ‪87‬‬
‫(‪2‬‬
‫‪ ( .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪165‬‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ( /5.‬البدء والتاريخ للمقدسي‪153 :‬‬
‫(‪4‬‬
‫‪ ( .‬حياة أبي بكر‪ ،‬محمود شلبي‪ :‬ص ‪123‬‬
‫(‪5‬‬
‫‪ (2 .‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪ ( . ( 280‬المرتضى للنداوي‪ :‬ص ‪72‬‬
‫‪154‬‬
‫أنه ل بد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين ‪-‬كما يظنون‪-‬‬
‫وقلة عددهم لهجوم كاسح على المدينة يسقط الحكم‬
‫‪ ).‬السلمي فيها ويقضى على هذا الدين ) ‪1‬‬
‫قرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر‪ ،‬ورأى فيها‬
‫الخسة وتفرس فيها اللؤم‪ ،‬فقال لصحابه‪ :‬إن الرض كافرة وقد رأى‬
‫ل تؤتون أم نهاًرا! وأدناهم منكم‬ ‫وفدهم منكم قلة‪ ،‬وإنكم ل تدرون ألي ً‬
‫على بريد‪ ،‬وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم‪ ،‬وقد أبينا‬
‫عليهم ونبذنا إليهم عهدهم فاستعدوا وأعدوا) ‪ .(2‬ووضع الصديق خطته‬
‫على‬
‫الوجه التالي‪:‬‬
‫أ‪ -‬ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتى يكونوا على‬
‫أكمل استعداد للدفاع‪.‬‬
‫ب‪ -‬نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون‬
‫حولها‪ ،‬حتى يدفعوا أي غارة قادمة‪.‬‬
‫ج‪ -‬عين على الحرس أمراءهم‪ :‬علي بن أبي طالب‪ ،‬والزبير بن‬
‫العوام‪،‬‬
‫وطلحة بن عبيد ال‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪،‬‬
‫‪ ).‬وعبد ال بن مسعود رضي ال عنهم ) ‪3‬‬
‫إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت ‪ ‬د‪ -‬وبعث أبو بكر‬
‫على السلم من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم‬
‫بجهاد أهل الردة فاستجابوا له حتى امتلت المدينة بهم‪ ،‬وكانت‬
‫معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق) ‪ ،(4‬ومما‬
‫يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن‬
‫جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم‬
‫الظهر والخيل‪ ،‬وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لعانة‬
‫‪ ).‬المسلمين‪ ،‬فوزعها أبو بكر في الناس ) ‪5‬‬
‫ه‪ -‬ومن ابتعد عن المرتدين وأبطأ خطره حاربه بالكتب يبعث بها‬
‫إلى الولة المسلمين في أقاليمهم‪ ،‬كما كان رسول ال يفعل‪،‬‬
‫يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين ويأمر الناس للقيام معهم في‬
‫هذا المر‪ ،‬ومن أمثلة ذلك رسالته لهل اليمن حيث المرتدة من‬
‫أما بعد‪ ،‬فأعينوا البناء على « ‪ :‬جنود السود العنسي التي قال فيها‬
‫من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز‪ ،‬وجدوا معه؛ فإني قد‬
‫‪ (6‬وقد أثمرت هذه الرسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس (‪ ».‬وليته‬
‫بزعامة فيروز يعاونهم إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على‬
‫العصاة المارقين حتى رد ال كيدهم إلى نحورهم‪ ،‬وعادت اليمن‬
‫‪ ).‬بالتدرج إلى جادة الحق ) ‪7‬‬
‫‪12‬‬
‫(‬
‫‪ 4‬تاريخ الطبري‪34 . 4/64 ( . 64/ ( :‬‬
‫تاريخ الطبري‪4( :‬‬
‫(‬
‫‪ (2 .‬الثابتون على السلم أيام فتنة الردة‪ ،‬د‪ :‬مهدي رزق ال‪ :‬ص ‪5 ), ( 21‬‬
‫(‬
‫‪ ( 6 .‬الثابتون ) على السلم أيام فتنة الردة‪ ،‬د‪ :‬مهدي رزق ال‪ :‬ص ‪21‬‬
‫‪ (4 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪ ( 7 /5. ( 174‬البدء والتاريخ للمقدسي‪157 :‬‬
‫‪155‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫و‪ -‬وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس‬
‫وذبيان فإنه لم ير بّدا من محاربتهم على الرغم من الظروف‬
‫فكان أن آوي ‪ ×،‬القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول ال‬
‫الذراري والعيال إلى الحصون والشعاب محافظة عليهم من غدر‬
‫المرتدين) ‪ ،(1‬واستعد للنزال بنفسه ورجاله‪.‬‬
‫سا‪ :‬فشل أهل الردة في غزو المدينة‪:‬‬ ‫ساد ً‬
‫بعد ثلثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد‬
‫سي‬‫حَ‬‫ل وخلفوا بعضهم بذي ُ‬ ‫وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينَة لي ً‬
‫ليكونوا لهم ردًءا‪ ،‬وانتبه حرس النقاب لذلك‪ ،‬وأرسلوا للصديق‬
‫ن الزموا أماكنكم ففعلوا‪ ،‬وخرج في أهل‬ ‫بالخبر‪ ،‬فأرسل إليهم أ ِ‬
‫المسجد على النواضح إليهم‪ ،‬فانفش العدو فأتبعهم المسلمون على‬
‫سى فخرج عليهم الردء بأنحاء ) ‪ (2‬قد نفخوها‬ ‫حَ‬‫إبلهم‪ ،‬حتى بلغوا ذا ُ‬
‫وجعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها ) ‪ (3‬بأرجلهم في وجوه البل فتدهده‬
‫كل نحي فى طوله ) ‪ ،(4‬فنفرت إبل المسلمين وهم عليها –ول تنفر‬
‫البل من شيء نفارها من النحاء‪ -‬فعاجت بهم ما يملكونها حتى‬
‫صب‪ (5 ).‬وقال عبد ال‬ ‫صرع مسلم ولم ي ُ‬ ‫دخلت بهم المدينة فلم ي ُ‬
‫الليثي‪ :‬وكانت بنو عبد مناة من المرتدة –وهم بنو ذبيان‪ -‬في ذلك‬
‫المر بذي القصة وبذي حسى‪:‬‬
‫أطعنا رسول ال ما كان‬
‫بيننا‬
‫فيا لعباد ال ما لبي بكر‬
‫أيورثها بكرا إذا مات‬
‫بعده‬
‫وتلك لعمر ال قاصمة الظهر‬
‫فهل رددتم وفدنا بزمانه وهل خشيتم حس راغية البكر‬
‫وإن التي ساُلوكُم‬
‫فمنعتُم‬
‫)‪(6‬‬
‫فظن القوم بالمسلمين الوهن‪ ،‬وبعثوا إلى أهل ذي القصة‬
‫بالخبر‪ ،‬فقدموا عليهم اعتماًدا في الذين أخبرهم وهم ل يشعرون‬
‫لمر ال ‪-‬عز وجل‪ -‬الذي أراده وأحب أن يبلغه فيهم‪ ،‬فبات أبو بكر‬
‫ى الناس‪ ،‬ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي‪،‬‬ ‫ليلته يتهيأ فعب ّ‬
‫وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد ال بن مقرن‪،‬‬
‫وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب‪ ،‬فما طلع الفجر إل وهم‬
‫سا حتى‬‫سا ول ح ً‬
‫والعدو في صعيد واحد‪ ،‬فما سمعوا للمسلمين هم ً‬
‫وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم‪ ،‬فما ذر قرن الشمس‬
‫حتى ولوهم الدبار‪ ،‬وغلبوهم على عامة ظهرهم‪ ،‬وقتل حبال –أخو‬
‫طليحة السدي‪ -‬وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة ‪-‬وكان أول‬
‫الفتح – ووضع بها النعمان بن ُمَقرن في عدد‪ ،‬ورجع إلى المدينة‬
‫فذل بها المشركون‪ ،‬فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من‬
‫المسلمين فقتلوهم كل قتلة‪ ،‬وفعل من وراءهم فعلهم‪ ،‬وعز‬
‫(‪1‬‬
‫‪ 174‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ( ‪23 ( .‬‬
‫ب‪َ .‬ر ِالنحاء‪ :‬هي الق ( ‪6‬‬
‫(‬
‫( أي‪ :‬دفعوها‪.‬‬
‫(‪4‬‬
‫‪56 . 4/65‬‬
‫تاريخ الطبري‪ ) 2 ( :‬أي‪ :‬في حبله‪( .‬‬
‫(‬
‫‪ (5 /4.‬نفس المصدر السابق‪ ( /4. (4), ( 66 :‬تاريخ الطبري‪65 :‬‬
‫‪156‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫المسلمون بوقعة أبي بكر‪ ،‬وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل‬
‫‪ ).‬قتلة‪ ،‬وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة ) ‪1‬‬
‫وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي‪:‬‬
‫غداة سعي أبو بكر إليهم كما يسعى لموتته جلل‬
‫) أراح على نواهقها عليا ومج لهن مهجته حبال ) ‪2‬‬
‫على أن ينتقم للمسلمين الشهداء‪ ،‬وأن ‪ ‬وصمم الصديق‬
‫يؤدب هؤلء الحاقدين‪ ،‬ونفذ قسمه وازداد المسلمون في بقية‬
‫ل وضعًفا وهواًنا‪ ،‬وبدأت‬ ‫القبائل ثباًتا على دينهم‪ ،‬وازداد المشركون ذ ً‬
‫صدقات القبائل تفد على المدينة فطرقت المدينة صدقات نفر‪:‬‬
‫صفوان ثم الزبرقان‪ ،‬ثم عدي‪ ،‬صفوان في أول الليل والثاني في‬
‫وسطه‪ ،‬والثالث ) ‪ (3‬في آخره‪ ،‬وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال‬
‫زكاة ستة أحياء من العرب‪ ،‬وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة‬
‫وإذا بالقادم ‪ »،‬بل بشير « ‪ :‬فيقول أبو بكر » نذير « ‪ :‬الزكاة قال الناس‬
‫يحمل معه صدقات قومه فيقول الناس لبي بكر‪ :‬طالما بشرتنا‬
‫بالخير ) ‪ ،(4‬وخلل هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء وشيًئا‬
‫من الثراء‪ ،‬عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافًرا‪ ،‬وصنع كل ما كان‬
‫الرسول قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق ) ‪ ،(5‬فاستخلفه أبو‬
‫بكر على المدينة وقال له ولجنده‪ :‬أريحوا وأريحوا ظهركم ) ‪ ،(6‬ثم‬
‫خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على النقاب‬
‫على ذلك الظهر‪ ،‬فقال له المسلمون‪ :‬ننشدك ال يا خليفة رسول‬
‫ال أن تُعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام‪ ،‬ومقامك‬
‫ل فإن أصيب أمرت آخر فقال‪ :‬ل وال ل‬ ‫أشد على العدو‪ ،‬فابعث رج ً‬
‫‪ ).‬أفعل‪ ،‬ولواسينكم بنفسي ) ‪7‬‬
‫لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى‬
‫صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه‪ ،‬فالقائد في فهم‬
‫المسلمين قدوة في أعماله‪ ،‬فكان من آثاره هذه السياسة الصديقية‬
‫أن تقوى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق‬
‫الوامر الصادرة إليهم من القيادة ) ‪ ،(8‬لقد خرج الصديق في تعبيته‬
‫إلى ذي حس وذي القصة‪ ,‬والنعمان‬
‫وعبد ال وسويد على ما كانوا عليه‪ ،‬حتى نزل على أهل الّربذة‬
‫بالبرق فهزم ال الحارث‬
‫وعوًفا وأخذ الحطيئة أسيًرا‪ ،‬فطارت عبس وبنو بكر‪ ،‬وأقام أبو بكر‬
‫على البرق أياما وقد غلب بنو ذبيان على البلد‪ .‬وقال‪ :‬حرام على‬
‫غلب أهل‬ ‫ذبيان أن يتملكوا هذه البلد إذ غنمناها ال وأجلها‪ ،‬فما ُ‬
‫الردة ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه‪ ،‬وسامح الناس‬
‫جاءت بنو ثعلبة‪ ،‬وهي كانت منازلهم لينزلوها فمنعوا منها فأتوه في‬
‫المدينة فقالوا‪:‬‬
‫‪21‬‬
‫(‬
‫‪ ( 3 /4.‬نفس ال )مصدر السابق‪66 :‬‬
‫‪ 4‬تاريخ الطبري‪45 . 4/67 ( . 66/ ( :‬‬
‫نفس المصدر السابق‪2 ( :‬‬
‫(‬
‫‪ 75‬الصديق أول الخلفاء للشرقاوي‪ :‬ص ( ‪67 . 4/37 ( .‬‬
‫تاريخ الطبري‪4 ( :‬‬
‫(‬
‫‪ (6 .‬حركة الردة‪ ،‬العتوم‪ :‬ص ‪ ( 8 /4. ( 319‬نفس المصدر السابق‪67 :‬‬
‫‪157‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫علم نمنع من نزول بلدنا؟! فقال‪ :‬كذبتم‪ ،‬ليست لكم ببلد ولكنها‬
‫‪َ )،‬موهبى ونَقذى ) ‪1‬‬
‫ولم يُعتبهم ) ‪ ،(2‬وحمى البرق لخيول المسلمين‪ ،‬وأرعى سائر بلد‬
‫الربذة الناس على بني ثعلبة‪ ،‬ثم حماها كلها لصدقات المسلمين‬
‫لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات‪ ،‬وقال في يوم البرق‬
‫زياد بن حنظلة‪:‬‬
‫ويوم بالبارق قد شهدنا على ذبيان يلتهب التهابا‬
‫ف ) ‪ (3‬مع الصديق إذ ترك العتابا ) ‪4‬‬ ‫سو ٍ‬ ‫) أتيناهم بداهية َن ُ‬
‫وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب‬
‫بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا‪ ،‬وما اضطربت أمور‬
‫المسلمين منذ زمن إل لنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه وباًبا‬
‫لجلب المغانم ودرء المغارم‪ ،‬وإيثار للعافية والكتفاء بالكلمات تزجي‬
‫من وراء أجهزة العلم أو من غرف العمليات‪ ،‬بعيًدا عن المشاركة‬
‫‪ ).‬مشاركة حقيقة في قضايا المة المختلفة ) ‪5‬‬
‫للجهاد ثلث مرات متتالية يعتبر تضحية ‪ ‬إن خروج الصديق‬
‫كبيرة وفدائية عالية‪ ،‬فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة‬
‫ويبعث قائًدا على الجيش فلم يقبل؛ بل قال‪ :‬ل وال ل أفعل‬
‫ولواسينكم بنفسي‪ .‬وهذا يدل على تواضعه الجم واهتمامه الكبير‬
‫بمصلحة المة‪ ،‬وتجرده من حظ النفس‪ ،‬وقد أصبح بذلك قدوة‬
‫صالحة لغيره‪ ،‬فل شك أن خروجه للجهاد ثلث مرات متتاليات وهو‬
‫الشيخ الذي بلغ الستين من عمره‪ ،‬قد أعطى بقية الصحابة دفعات‬
‫‪ ).‬قوية من النشاط والحيوية ) ‪6‬‬
‫وقد جاء في إحدى هذه الروايات أن ضرار بن الزور حينما أخبر‬
‫أبا بكر الصديق بخبر تجمع طليحة السدي قال‪ :‬فما رأيت أحًدا‬
‫‪-‬ليس رسول ال – أمل بحرب شعواء من أبي بكر‪ ،‬فجعلنا نخبره‬
‫‪ ).‬ولكأنما نخبر بما له ول عليه ) ‪7‬‬
‫وهذا وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ‬
‫والثقة التامة بوعد ال تعالى لوليائه بالنصر على العداء والتمكين‬
‫في الرض‪ ،‬فأبو بكر لم يَُفق الصحابة بكبير عمل‪ ،‬وإنما فاقهم‬
‫‪ ).‬بحيازة الدرجات العلى من اليقين‪ ،‬رضي ال عنهم أجمعين ) ‪8‬‬
‫وقد روى أنه لما قيل له‪ :‬لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها‬
‫وبالبحار لغاضها‪ ،‬وما نراك ضعفت‪ .‬فقال‪ :‬ما دخل قلبي رعب بعد‬
‫لما رأى حزني قال‪ :‬ل عليك يا أبا بكر‪ ،‬فإن × ليلة الغار‪ ،‬فإن النبي‬
‫(‪1‬‬
‫( النقذ‪ :‬ما استنقذ من العداء‪.‬‬
‫(‪2‬‬
‫‪34‬أ‬
‫ي‪ :‬شاقة‪( .‬‬
‫‪2‬‬
‫)‬
‫أي‪ :‬لم ُيِقل عثرتهم‪( .‬‬
‫(‬
‫‪ ( /4.‬أي‪ :‬ترك إقالة العثرات؛ تاريخ الطبري‪67 :‬‬
‫(‪5‬‬
‫‪ ( .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪321‬‬
‫(‪6‬‬
‫‪78 . 9/48 ،‬‬
‫التاريخ السلمي للحميدي‪6( :‬‬
‫(‬
‫‪ ( /9.‬التاريخ السلمي للحميدي‪48 :‬‬
‫‪158‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫مع الشجاعة الطبيعية ‪ ‬ال قد تكفل لهذا المر بالتمام) ‪ ،(1‬فكان له‬
‫شجاعة دينية وقوة يقينية في ال عز وجل وثقة بأن ال ينصره‬
‫والمؤمنين‪ ،‬وهذه الشجاعة ل تحصل إل لمن كان قوى القلب‪ ،‬وتزيد‬
‫بزيادة اليمان وتنقص بنقص ذلك‪ ،‬فقد كان الصديق أقوى قلبًا من‬
‫‪ ).‬جميع الصحابة ل يقاربه في ذلك أحد منهم ) ‪2‬‬
‫***‬
‫(‪1‬‬
‫نب( وأب يو‪ .‬بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة‪ :‬ص ‪ ، 69‬وليس هذا بلفظ‬
‫(‪2‬‬
‫‪ ( .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪70‬‬
‫‪159‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫المبحث الثالث‬
‫الهجوم الشامل على المرتدين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين‪ ،‬فكان‬
‫للثابتين دور في مواجهة أقوامهم‪ ،‬فوقف بعض الثابتين في وجه‬
‫أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من‬
‫نقض ما يؤمنون به‪ ،‬وكانت الخطوة الولى بالكلمة‪ ،‬ولم تكن الكلمة‬
‫في يوم من اليام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها؛ لنها تستتبع‬
‫مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة‪ ،‬وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى‬
‫الذبح من أجل الشهادة للكلمة التي قالها؛ ففي كل قبيلة حصلت‬
‫فيها ردة كانت هناك بعض المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق‬
‫وتغذت به وعاشت عليه‪ ،‬هي التي رأت باطل ما يفعل كل قوم‪،‬‬
‫ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير الذي‬
‫ينتظرهم‪ ،‬فما كان من قومهم إل أن وقفوا في وجوههم ساخرين‬
‫مستهزئين‪ ،‬ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم؛ بل وقتلهم في‬
‫بعض الحيان‪ ،‬ونجح بعضهم بالكلمة كعدي بن حاتم مع قومه‪،‬‬
‫والجارود مع أهل البحرين ) ‪ ،(1‬وستري تفاصيل ذلك بإذن ال‪.‬‬
‫وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحولوا إلى‬
‫تجمعات مسلمة ثابتة على إسلمها‪ ،‬واتخذت لها المواقف المناسبة‬
‫ضد أقوامهم المرتدين‪ ،‬وكثير من المواقف بدأت بالكلمة ثم انتهت‬
‫إلى العمل‪ ،‬كما حصل لمن ثبت من بني سليم؛ فقد حذرهم قومهم‬
‫فانقسموا إلى قسمين ثابت ومرتد‪ ،‬فتجمع الثابتون وصاروا يجالدون‬
‫قومهم المرتدين‪ ،‬وقام البناء في اليمن سًرا بتدبير قتل السود‬
‫العنسي –كما سيأتي تفصيله‪ -‬بعد أن كان موقفهم سلبيّا في بطش‬
‫السود العنسي‪ ،‬ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس‬
‫الكندي ينصح الشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة‪ ،‬ودخل بينهما‬
‫حوار طويل وتحد متبادل‪ ،‬وهكذا صارت بعض المواقف سببًا في‬
‫إرجاع قومهم عن الردة‪ ،‬أو في تسهيل مهمة جيوش الدولة‬
‫‪ ).‬السلمية القادمة للقضاء على الردة ) ‪2‬‬
‫لقد اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على ال‬
‫تعالى‪ ،‬ثم على ركائز قوية من القبائل والزعماء والفراد الذين انبثوا‬
‫في جميع أنحاء الجزيرة وثبتوا على إسلمهم‪ ،‬وقاموا بأدوار هامة‬
‫ورئيسية في القضاء على فتنة الردة‪ .‬ولقد أخطأ بعض الكتاب عندما‬
‫تناول فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم الدقة أو عدم‬
‫‪ ).‬الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية ) ‪3‬‬
‫إن من الحقائق الساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة‬
‫لكل الناس كشمولها الجغرافي؛ بل إن هناك قادة وقبائل وأفراًدا‬
‫(‪1‬‬
‫‪ ( ، 314.‬دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة للشجاع‪ :‬ص ‪313‬‬
‫(‪2‬‬
‫ا(ل نندفلسس يا لفميص ادلرر ادلة‪ .‬س ابق‪ :‬ص ‪ , 314‬ولقد اعتمد الشجاع على كتاب الكلعي‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ( .‬الثابتون على السلم أيام فتنة الردة‪ :‬ص ‪4‬‬
‫‪160‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وجماعات‪ ،‬وأفراًدا تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي‬
‫ظهرت فيها الردة) ‪ ،(1‬ولقد قام الدكتور مهدي رزق ال أحمد بدراسة‬
‫عميقة وأجاب عن سؤال طرحه وهو‪ :‬هل كانت الردة في عهد‬
‫شاملة لكل القبائل العربية والفراد والزعماء ‪ ‬الخليفة أبي بكر‬
‫الذين كانوا مسلمين‪ ،‬أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل‬
‫وبعض الزعماء وبعض الفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟ وبعد‬
‫ت إليها‬ ‫البحث قال‪ :‬إن أول حقيقة تستخلص من المصادر التي أشر ُ‬
‫سابًقا‪ :‬هي أنني لم أجد ما يدل على أن القبائل والزعماء والفراد‬
‫قد ارتدوا جميًعا عن السلم كما ذكر أولئك النفر الذين جعلناهم‬
‫مثال) ‪ ،(2‬بل وجدت أن الدولة السلمية اعتمدت على قاعدة صلبة‬
‫من الجماعات والقبائل والفراد الذين ثبتوا على السلم‪ ،‬وانبثوا في‬
‫جميع أنحاء الجزيرة‪ ،‬وكانوا سنًدا قويًا للسلم ودولته في قمع حركة‬
‫‪ ).‬المرتدين منهم ) ‪3‬‬
‫أولً‪ :‬المواجهة الرسمية من الدولة‪:‬‬
‫‪ 1-‬وسيلة الحباط من الداخل‪:‬‬
‫قد استعمل هذه الوسيلة‪ ،‬فقام بمراسلة × كان رسول ال‬
‫وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على السلم‪،‬‬
‫على نفس ‪ ‬وليشكل بهم جماعة تحارب الردة‪ ،‬وسار الصديق‬
‫المنهج‪ ،‬وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر‬
‫المرتدين‪ ،‬وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها‪،‬‬
‫واستطاع أن يتصل بالثابتين على السلم وجعل منهم رصيًدا‬
‫للجيوش المنظمة؛ فقد كان يعد المة لمواجهة منظمة مع المرتدين‬
‫بعد عودة جيش أسامة؛ فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين‬
‫على السلم ليحقق بعض الهداف؛ ككسب الوقت حتى يرجع جيش‬
‫ل ال‬
‫؛) باليمن وغيرها ) ‪ × 4‬أسامة‪ ،‬فكتب إلى من كتب إليهم رسو ُ‬
‫ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى السلم‪ ،‬وطلب من الثابتين‬
‫التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره‪ ،‬وكان هذا الترتيب‬
‫بداية للخطة العسكرية القادمة ) ‪ ,(5‬وقد حالف التوفيق بعض الثابتين‬
‫بالوصول إلى المدينة ومعهم صدقاتهم؛ مثل عدي بن حاتم الطائي‪،‬‬
‫) والزبرقان بن بدر التميمي‪6 ).‬‬
‫وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي‬
‫وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلد السراة ونجران‪ ،‬وقد حققت‬
‫هذه الوسيلة بعض النتائج‪ ،‬منها‪:‬‬
‫(‪1‬‬
‫‪ ( .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪19‬‬
‫(‪2‬‬
‫ا ‪(9‬ل ‪2‬ال س ‪1‬تلرمييخ االلعا سيما –ساليج اللهلديوةل‪:‬ة االلدعورلبي ة ةا للعلردبكيتةو‪ ،‬را لعدبودل ةال‬
‫املنععبام سي ماة جعدل‪ :‬ي إ صب را ‪6‬ه ‪4‬ي ‪1‬م‪ .‬احلتا سري ن‪ :‬خ ‪3‬تا ‪4‬ر‪.‬ي خج ا وللدة وتلةر يال خي‬
‫عةرب يفة‪ ،‬ي العسصيرد ال عبخدل فاالءع ا زليرزا شسادليمن‪ ،:‬محمد السيد الوكيل‪ :‬ص ؛‪1 2‬ص ‪2‬‬
‫ممحح‪.‬مم ا ددل بخعرلليفغا ي ءا ل شبل‪:‬ا ركاسش صت ا دنوين‪ ،:‬مصح م ‪9‬د ‪5‬ال ‪.1‬خ ضظارهير ب ة ا كل‪:‬‬
‫ردة ص ف ‪1‬ي ‪. 2‬ا لعمجصترم ا عل اصلدي سلق‪،‬م يش بايلرو ألح‪ ،‬مد ‪ . 101 .‬الصديق أبو بكر‪ ،‬لمحمد‬
‫حسين هيكل‪ :‬ص ‪100، 173‬‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ( .‬الثابتون على السلم أيام فتنة الردة‪ :‬ص ‪19‬‬
‫(‪4‬‬
‫‪ 319 ،‬دراسات في عهد النبوة للشجاع‪ :‬ص ( ‪( 56 . 2‬‬
‫‪ ( - 12.‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪ ، 319‬نقل عن الكلعي‪ ،‬تاريخ الردة‪ :‬ص ‪10‬‬
‫‪161‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫أ‪ -‬نجحت خطة الصديق في تحقيق حملت التوعية والدعاية‬
‫والتعضيد للمسلمين والتخذيل لقوى المرتدين؛ تمهيًدا لتخاذ الوسيلة‬
‫الخرى حينما تتوافر لها المكانات‪ ،‬وهي أداة الجيوش المنظمة‪.‬‬
‫ب‪ -‬أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على‬
‫السلم ليكونوا قواًدا في حركة الفتوح السلمية فيما بعد؛ كعدي بن‬
‫حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق‪.‬‬
‫ج‪ -‬تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها‬
‫لهم الصديق لتنضم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة‪.‬‬
‫د‪ -‬القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة‪ ،‬مثلما‬
‫حصل في جنوب الجزيرة العربية‪.‬‬
‫‪ 2-‬إرسال الجيوش المنظمة‪:‬‬
‫لما وصل جيش أسامة بعد شهرين ‪-‬وقيل أربعين يوًما‪ -‬من‬
‫مسيرهم واستراحوا‪ ،‬خرج أبو بكر الصديق بالصحابة ‪-‬رضي ال‬
‫عنهم‪ -‬إلى ذي القصة‪ ،‬وهي على مرحلة من المدينة؛ وذلك لقتال‬
‫المرتدين والمتمردين‪ ،‬فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على‬
‫القيادة‪ ،‬وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور المة‪ ،‬وألحوا عليه‬
‫بذلك‪ .‬ومما ُروي في هذا الموضوع ما قالته عائشة‪ :‬خرج أبي شاهًرا‬
‫سيفه راكبًا راحلته إلى وادي ذي القصة‪ ،‬فجاء علي بن أبي طالب‬
‫فأخذ بزمام راحلته‪ ،‬فقال‪ :‬إلى أين يا خليفة رسول ال؟ أقول ‪‬‬
‫شْم سيفك ول تفجعنا بنفسك‪ × ،‬لك ما قال رسول ال‬ ‫يوم أحد‪ِ (1 ) :‬‬
‫) فو ال لئن أصبنا بك ل يكون للسلم بعدك نظام أبًدا‪ ،‬فرجع‪2 ) .‬‬
‫وقد قسم أبو بكر الجيش السلمي إلى أحد عشر لواء وجعل على‬
‫كل لواء أميًرا ) ‪ ,(3‬وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من‬
‫المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم‪:‬‬
‫‪ 1-‬جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد‪ ،‬ثم إلى تميم‪ ،‬ثم إلى‬
‫اليمامة‪.‬‬
‫‪ 2-‬جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة‪ ،‬ثم‬
‫إلى عمان والمهرة‪ ،‬فحضرموت فاليمن‪.‬‬
‫حبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة‪ ،‬ثم‬ ‫شَر ْ‬‫‪ 3-‬جيش ُ‬
‫حضرموت‪.‬‬
‫طَريْفة بن حاجر إلى بني سليم من هوازن‪.‬‬ ‫‪ 4-‬جيش ُ‬
‫‪ 5-‬جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة‪.‬‬
‫‪ 6-‬جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام‪.‬‬
‫‪ 7-‬جيش العلء بن الحضرمي إلى البحرين‪.‬‬
‫‪ 8-‬جيش حذيفة بن محصن الغلفائي إلى عمان‪.‬‬
‫(‪1‬‬
‫شم سيفك وارجع « ‪ :‬ل‪.‬ه لبي بكر لما أراد أن يبارز ابنه عبد الرحمن » إل( ي ى قمصكادن قكو‬
‫(‪2‬‬
‫‪ ( /6.‬البداية والنهاية‪319 :‬‬
‫(‪3‬‬
‫‪ ( /9.‬التاريخ السلمي‪49 :‬‬
‫‪162‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ 9-‬جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة‪.‬‬
‫صنعاء ثم « ‪ 10-‬جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن‬
‫‪ ».‬حضرموت‬
‫‪ 11- ).‬جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن) ‪1‬‬
‫صة( مركز انطلق أو قاعدة تحرك‬ ‫وهكذا اتخذت قرية )ذي الَق ّ‬
‫للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاة‬
‫عليها‪ .‬وتنبئ خطة الصديق ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬عن عبقرية فذة وخبرة‬
‫جغرافية دقيقة‪ (2 ) .‬ومن خلل تقسيم اللوية وتحديد المواقع يتضح‬
‫كان جغرافيًا دقيًقا خبيًرا بالتضاريس والتجمعات ‪ ‬أن الصديق‬
‫البشرية وخطوط مواصلت جزيرة العرب‪ ،‬فكأن الجزيرة العربية‬
‫حا نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث‬ ‫صورت مجسًما واض ً‬
‫وسائل التقنية‪ ،‬فمن يتمعن تسيير الجيوش ووجهة كل منها‬
‫واجتماعها بعد تفرقها وتفرقها لتجتمع ثانية‪ ،‬يرى تغطية سليمة رائعة‬
‫صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة مع دقة في التصال مع هذه‬
‫الجيوش‪ ،‬فأبو بكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم‬
‫دقائق أمورها وتحركاتها وما حققت‪ ،‬وما عليها في غد من واجبات‪.‬‬
‫والمراسلت دقيقة وسريعة تنقل أخبار الجبهات إلى مقر القيادة في‬
‫المدينة حيث الصديق‪ ،‬وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها‪،‬‬
‫وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقر القيادة‪:‬‬
‫أبو خيثمة النجاري النصاري‪ ،‬وسلمة بن سلمة‪ ،‬وأبو برزة السلمي‪،‬‬
‫‪ ).‬وسلمة بن وقش) ‪3‬‬
‫وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة‪ ،‬وهي أحد إنجازات‬
‫الدولة الهامة؛ إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارات القيادة وبراعة‬
‫التنظيم فضل عن الخبرة في القتال؛ صهرتها العمال العسكرية في‬
‫حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن‬
‫فقد كان الجهاز العسكري لدى الصديق متفوًقا على كل ‪ ×،‬النبي‬
‫القوى العسكرية في الجزيرة) ‪ ،(4‬وكان القائد العام لهذه الجيوش‬
‫سيف ال المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في‬
‫حروب الردة والفتوحات السلمية‪ .‬كان هذا التوزيع للجيوش وفق‬
‫خطة استراتيجية هامة‪ ،‬مفادها أن المرتدين ل زالوا متفرقين‪ ،‬كل‬
‫في بلده‪ ،‬ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل‬
‫الكبيرة المتباعدة في الماكن أولً؛ لن الوقت لم يكن كافيًا للقيام‬
‫ض على ارتدادهم إل ما يقرب من ثلثة‬ ‫بعمل كهذا؛ حيث لم يم ِ‬
‫شهور‪ ،‬وثانيًا لنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم‬
‫باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعا في شهور معدودة‪ ،‬ولذلك أراد‬
‫الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم‬
‫(‪1‬‬
‫‪ .4 .‬دراسات في عصر النبوة‪ :‬ص ‪ ( / 321‬تاريخ الطبري‪86 :‬‬
‫‪ () 2 .‬دراسات في عهد النبوة والخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪321‬‬
‫‪ () 3 ، 227.‬في التاريخ السلمي‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪226‬‬
‫‪ () 4 .‬من دولة عمر إلى دولة عبد الملك‪ ،‬إبراهيم بيضون‪ :‬ص ‪28‬‬
‫‪163‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم) ‪ ،(1‬فعاجلهم قبل استفحال‬
‫فتنتهم‪ ،‬ولم يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم ويمدون ألسنتهم‬
‫يلذعون بها الجسم السلمي‪ ،‬وبذلك طبق الحكمة القائلة‪:‬‬
‫ب الفعى‬
‫ن َذن َ‬
‫ل تقطع ْ‬
‫وترسلها‬
‫) الذنب ) ‪2‬‬
‫فقد أدرك حجم الحدث وأبعاده ومدى خطورته‪ ،‬وعلم أنه إن لم‬
‫يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق‬
‫الخضر واليابس‪ ،‬كما قال الول‪:‬‬
‫) أرى تحت الرماد وميض نار ) ‪3‬‬
‫ياسي الماهر والعسكري المحنك الذي يقدر المور‪  ،‬فقد كا ا نل س‬
‫ويضع لها الخطط المباشرة‪.‬‬
‫انطلقت اللوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلم التوحيد‪،‬‬
‫مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت‬
‫معاني اليمان‪ ،‬ومن حناجر لم تلهج إل بذكر ال تعالى‪ ،‬فاستجاب‬
‫ال ‪-‬جل وعل‪ -‬هذه الدعوات النقية‪ ،‬فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم‬
‫كلمته‪ ،‬وحمى بهم دينه‪ ،‬حتى دانت جزيرة العرب للسلم في شهور‬
‫‪ ).‬معدودة) ‪4‬‬
‫هذا وقد كتب أبو بكر الصديق كتابًا واحًدا إلى قبائل العرب من‬
‫المرتدين والمتمردين فدعاهم للعودة إلى السلم وتطبيقه كامل كما‬
‫جاء من عند ال تعالى‪ ،‬ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا‬
‫على ما هم عليه في الدنيا والخرة‪ ،‬وكان قويًا في إنذارهم‪ ،‬وهذا هو‬
‫المناسب لشدة انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم‪ ،‬فكان‬
‫ل بد من إنذار شديد يتبعه عمل جرئ قوي لزالة الطغيان الذي‬
‫عشش في أفكار زعماء تلك القبائل‪ ،‬والعصبية العمياء التي‬
‫‪ ).‬سيطرت على أفكار أتباعهم ) ‪5‬‬
‫‪ 3-‬نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه‬
‫للقادة‪:‬‬
‫بعد التنظيم الدقيق‪ ،‬وحسن العداد للجيوش السلمية التي عقد‬
‫لها الصديق اللوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها‬
‫وتدلي بدلوها؛ فقد حرر الصديق كتابًا عاًما ذا مضمون محدد سعى‬
‫إلى نشره على أوسع نطاق ممكن في أوساط من ثبتوا على‬
‫السلم ومن ارتدوا عنه جميًعا قبل تسيير قواته لمحاربة الردة‪،‬‬
‫وبعث رجال إلى محل القبائل‪ ،‬وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجتمع‪،‬‬
‫وناشد من يصله مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه‪ ،‬وحدد‬
‫الجمهور المخاطب به بأنه‪ :‬العامة والخاصة‪ ،‬من أقام على إسلمه‬
‫‪ () 9‬التاريخ السلمي‪ ( 312 ( . 51/ 1 :‬حركة الردة‪ ،‬للعتوم‪ :‬ص ‪ () 313 23 . 2‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪( .‬‬
‫‪45 . 9/51‬‬
‫( التاريخ السلمي‪4 :‬‬
‫‪ () /9.‬نفس المصدر السابق‪55 :‬‬
‫‪164‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫أو رجع عنه‪ (1 ) .‬وهذا نص الكتاب الذي بعثه الصديق‪:‬‬
‫إلى × بسم ال الرحمن الرحيم‪ :‬من أبي بكر خليفة رسول ال‬
‫من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة‪ ،‬أقام على إسلمه أو رجع عنه‪:‬‬
‫سلم على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضللة والعمى‪،‬‬
‫فإني أحمد إليكم ال الذي ل إله إل هو‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال‬
‫وحده ل شريك له وأن محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬نقر بما جاء به ونكفر‬
‫من أبى ونجاهده‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإن ال تعالى أرسل محمًدا بالحق من‬
‫جا منيًرا؛‬‫عنده إلى خلقه بشيًرا ونذيًرا وداعيًا إلى ال بإذنه وسرا ً‬
‫لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين‪ ،‬فهدى ال بالحق من‬
‫بإذنه) ‪ (2‬من أدبر عنه‪ ،‬حتى صار إلى × أجاب إليه وضرب رسول ال‬
‫ل رسوَله‬ ‫عا وكرًها‪ ،‬ثم توفى ا ُ‬ ‫وقد نفذ لمر ال × السلم طو ً‬
‫ونصح لمته وقضى الذي عليه‪ ،‬وكان ال قد بين له ذلك ولهل‬
‫ن"‬‫السلم في الكتاب الذي أنزل‪ ،‬قال‪ِ+ :‬إّنك َمّيت َوِإّنهم ّمّيتو َ‬
‫خَل ْ‬
‫ت‬ ‫ل َقْد َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫حّمد ِإل َر ُ‬ ‫]الزمر‪ ،[ 30 :‬وقال للمؤمنين‪َ+ :‬وَما ُم َ‬
‫عَقاِبُكْم‬‫عَلى َأ ْ‬‫ل اْنَقَلْبُتْم َ‬
‫ل َأَفِإن ّمات َأْو ُقِت َ‬ ‫ِمن َقْبِلِه الّرس ُ‬
‫جِزي ا ُ‬
‫ل‬ ‫سَي ْ‬
‫شْيًئا َو َ‬ ‫ل َ‬ ‫عِقَبْيِه َفَلن ّيضّر ا َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ب َ‬
‫َوَمن َيْنَقِل ْ‬
‫ن" ]آل عمران‪ ،[ 144 :‬فمن كان إنما يعبد محمًدا فإن محمًدا‬ ‫شاكِري َ‬ ‫ال ّ‬
‫قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد ال وحده ل شريك له فإن ال له‬
‫بالمرصاد‪ ،‬ول تأخذه سنة ول نوم‪ ،‬حافظ لمره منتقم من عدوه‬
‫بحزبه‪.‬‬
‫وإني أوصيكم بتقوى ال وحظكم ونصيبكم من ال‪ ،‬وما جاءكم به‬
‫وأن تهتدوا بهداه وأن تعتصموا بدين ال‪ ،‬فإن كل من لم × ‪ ،‬نبيكم‬
‫يهده ال ضال‪ ،‬وكل من لم يعافه ممُبتلى‪ ،‬وكل من لم يعنه ال‬
‫مخذول‪ ،‬فمن هداه ال كان مهت ي دًا‪ ،‬ومن أضله كان ضالً‪ ،‬قال ال‬
‫جَد َلُه َوِلّيا‬ ‫ل َفَلن َت ِ‬‫ضِل ْ‬
‫ل َفُهَو اْلُمْهَتِد َوَمن ُي ْ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬من َيْهِد ا ُ‬
‫شًدا" ]الكهف‪ [ 7 ،1 :‬ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به‪ ،‬ولم‬ ‫ّمْر ِ‬
‫يقبل منه في الخرة صرف ول عدل‪ .‬وقد بلغني رجوع من رجع منكم‬
‫عن دينه بعد أن أقر بالسلم وعمل به اغترارًا بال وجهالة بأمره‬
‫جُدوا‬ ‫سُ‬ ‫وإجابة للشيطان‪ ،‬قال ال تعالى‪َ+ :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَملَِئكَِة ا ْ‬
‫ن َأْمِر َرّبه‬ ‫عْ‬ ‫ق َ‬‫سَ‬ ‫ن َفَف َ‬‫جّ‬‫ن اْل ِ‬
‫ن ِم َ‬ ‫س َكا َ‬
‫جُدوا ِإل ِإْبِلي َ‬ ‫سَ‬ ‫لَدَم َف َ‬
‫عُدّو ِبْئ َ‬
‫س‬ ‫َأَفَتّتخُذوَنُه َوُذّرّيتُه َأْوِلَياَء ِمن ُدوِني َوُهْم َلُكْم َ‬
‫ن َلُكْم‬‫طا َ‬ ‫شْي َ‬‫ن ال ّ‬ ‫ن َبَدلً" ]الكهف‪ ،[ 50 :‬وقال تعالى‪+ :‬إ ّ‬ ‫ظالِمي َ‬ ‫ِلل ّ‬
‫حا ِ‬
‫ب‬ ‫صَ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫حْزَبُه ِلَيكُوُنوا ِم ْ‬ ‫عو ِ‬ ‫عُدّوا ِإّنما َيْد ُ‬
‫عُدّو َفاّتخُذوُه َ‬ ‫َ‬
‫سعيِر" ]فاطر‪6 :‬‬ ‫‪ ].‬ال ّ‬
‫وإني بعثت إليكم فلنًا في جيش من المهاجرين والنصار‬
‫والتابعين بإحسان‪ ،‬وأمرته أل يقاتل أحًدا ول يقتله حتى يدعوه إلى‬
‫حا قبل منه‬ ‫داعية ال‪ ،‬فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صال ً‬
‫وأعانه عليه‪ ،‬ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم ل يبقى على‬
‫أحد منهم قدر عليه‪ ،‬وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة‪ ،‬وأن يسبي‬
‫النساء والذراري ول يقبل من أحد إل السلم‪ ،‬فمن تبعه فهو خير له‬
‫ومن تركه فلن يعجز ال‪ .‬وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل‬
‫‪ () 1 .‬الدور السياسي للصفوة في صدر السلم‪ ،‬السيد عمر‪ :‬ص ‪262‬‬
‫‪ () 2‬بإذن ال تعالى‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫مجمع لكم والداعية الذان‪ :‬فإذا أذن المسلمين فأّذنوا كفوا عنهم‪،‬‬
‫وإن لم يؤذنوا عاجلوهم‪ ،‬وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم‪ ،‬فإن أبوا‬
‫‪ ).‬عاجلوهم‪ ،‬وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم ) ‪1‬‬
‫ونلحظ من خطاب أبي بكر أنه كان يدور حول‬
‫محورين‪:‬‬
‫أ‪ -‬بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة إلى السلم‪.‬‬
‫‪ ).‬ب‪ -‬بيان عاقبة الصرار على الردة ) ‪2‬‬
‫وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي‪:‬‬
‫أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع ·‬
‫دعوة ال‪.‬‬
‫بيان أن ال بعث محدما بالحق‪ ،‬فمن أقر كان مؤمنًا‪ ،‬ومن ·‬
‫أنكر كان كافرًا يجاهد ويقاتل‪.‬‬
‫بيان أن محمًدا بشر قد حق عليه قول ال‪ِ+ :‬إّنك َمّيت" ·‬
‫وإنما يعبد ال الحي الباقي × وأن المؤمن ل يعبد محمًدا‬
‫‪ ).‬الذي ل يموت أبًدا‪ ،‬ولذلك ل عذر لمرتد ) ‪3‬‬
‫إن الرجوع عن السلم جهل بالحقيقة واستجابة لمر ·‬
‫الشيطان‪ ،‬وهذا يعني أن يتخذ العدو صديًقا‪ ،‬وهو ظلم عظيم‬
‫للنفس السوية؛ إذ يقودها صاحبها بذلك إلى النار عن‬
‫طواعية‪.‬‬
‫إن الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون ·‬
‫والنصار وتابعوهم‪ ،‬هم الذين ينهضون لقتال المرتدين غيرة‬
‫ظا عليه من أن يهان‪.‬‬ ‫منهم على دينهم وحفا ً‬
‫إن من رجع إلى السلم‪ ،‬وأقّر بضلله‪ ،‬وكف عن قتال ·‬
‫المسلمين‪ ،‬وعمل من العمال ما يتطلبه دين ال‪ ،‬فهو من‬
‫مجتمع المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم‪.‬‬
‫إن من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين ويثبت على ·‬
‫ردته‪ ،‬إنما هو محارب ل بد من شن الغارة عليه‪ ،‬تقتله أو‬
‫تحرقه‪ ،‬وتسبي نساءه وذراريه‪ ،‬ولن يعجز ال بأية حال؛ لنه‬
‫أنى ذهب في ملكه‪.‬‬
‫إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة المسلمين ·‬
‫) أن يعلن فيهم الذان وإل فالمعالجة بالقتال هي البديل‪4 ) .‬‬
‫‪ () 1 /4، 71.‬تاريخ الطبري‪70 :‬‬
‫‪ () 2 .‬الدور السياسي للصفوة في صدر السلم‪ :‬ص ‪262‬‬
‫‪ () 3 .‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪290‬‬
‫‪ () 4 ، 177.‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪176‬‬
‫‪166‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وحتى ل يترك الخليفة المر للقادة والجند بغير انضباط كتب‬
‫للقواد جميًعا كتابًا واحًدا يدعوهم فيه إلى اللتزام بمضمون‬
‫كتابه السابق‪ ،‬هذا نصه‪:‬‬
‫لفلن حين بعثه فيمن × هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول ال‬
‫بعثه لقتال من رجع عن السلم‪ ،‬وعهد إليه أن يتقي ال ما استطاع‬
‫في أمره كله‪ ،‬سره وعلنيته‪ ،‬وأمره بالجد في أمر ال ومجاهدة من‬
‫تولى عنه ورجع عن السلم إلى أماني الشيطان‪ ،‬بعد أن يعذر إليهم‬
‫فيدعوهم بداعية السلم‪ ،‬فإن أجابوه أمسك عنهم‪ ،‬وإن لم يجيبوه‬
‫ن غارته عليهم حتى يقروا له‪ ،‬ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم‪،‬‬ ‫شّ‬
‫فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم‪ ،‬ل وينظرهم ول يرد المسلمين‬
‫عن قتال عدوهم‪ ،‬فمن أجاب إلى أمر ال ‪-‬عز وجل‪ -‬وأقر له قبل‬
‫ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف‪ ،‬وإنما يتقبل من كفر بال على‬
‫القرار بما جاء من عند ال‪ ،‬فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل‪،‬‬
‫جب داعية ال قتل‬ ‫وكان ال حسيبه بعد فيما استسر به‪ ،‬ومن لم ي ُِ‬
‫غمه‪ ،‬ل يقبل من أحد شيئًا أعطاه إل‬ ‫وقوتل حيث كان وحيث بلغ مرا َ‬
‫السلم‪ ،‬فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله‪ ،‬فإن‬
‫أظهره ال عليه قتل منهم كل قتلة بالسلح والنيران‪ ،‬ثم قسم ما‬
‫أفاء ال عليهم إل الخمس فإنه يبلغناه‪ ،‬وأن يمنع أصحابه العجلة‬
‫والفساد وأل يدخل فيهم حشًوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم ل يكونوا‬
‫عيونًا‪ ,‬لئل يؤتى المسلمين من قبلهم‪ ،‬وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق‬
‫بهم في السير والمنزل ويتفقدهم‪ ،‬ول يعجل بعضهم عن بعض‪،‬‬
‫‪ ).‬ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول ) ‪1‬‬
‫وفي العهد الذي ألزم به قواده يظهر حرص الصحابة على إلزام‬
‫أمرائه في حرب الردة بتعليمات أساسية مكتوبة موحدة نصت‬
‫بوضوح ل يحتمل اللبس على حظر القتال قبل الدعوة إلى السلم‪،‬‬
‫والمساك عن قتال من يجيب‪ ،‬والحرص على إصلحهم‪ ،‬وحظر‬
‫مواصلة القتال بعد أن يقروا بالسلم والتحول عند هذه النقطة من‬
‫القتال إلى تعليمهم أصول السلم وتبصيرهم بما لهم من حقوق وما‬
‫عليهم من واجبات‪ ،‬وحظر المهادنة أو رد الجيش عن محاربة‬
‫المرتدين ما لم يفيئوا إلى أمر ال‪.‬‬
‫والتزم الجيش السلمي في التنفيذ مبدأ الدعوة قبل القتال‬
‫والمساك عن القتال بمجرد إجابة الدعوة؛ باعتبار أن الغاية الوحيدة‬
‫سا لتحقيق أقصى‬ ‫هي عودة المرتدين إلى الذي خرجوا منه وتلم ً‬
‫درجة من التوافق في صفوف القوات السلمية التي نيط بها القضاء‬
‫على ظاهرة الردة‪.‬‬
‫أمضى الصديق هذا العهد مع أمراء الجيوش السلمية‪ ،‬يطلب‬
‫من الجيش أن يكون سلوكه ذاته خير دعوة للمهمة المستندة إليه‪،‬‬
‫‪ ).‬وأن يتطابق تماًما مع هدف واحد هو الدفاع عن السلم ) ‪2‬‬
‫علمه فن القيادة‪ ،‬ونجاح × برسول ال ‪ ‬إن اقتداء أبي بكر‬
‫القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديته‪ .‬ولقد كان أبو‬
‫صا في ولئه لرسول ال‬ ‫بكر نعم الجندي في جيش المسلمين‪ ،‬مخل ً‬
‫‪ (2 .‬الدور السياسي للصفوة‪ :‬ص ‪ () 12 / 71، 72. ( 263‬تاريخ الطبري‪4 :‬‬
‫‪167‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫يطبق ما يقوله بحذافيره‪ ،‬مضحيًا في سبيله‪ ،‬لم يفر عنه في ‪×،‬‬
‫معركة قط‪ .‬ونستطيع أن ندرك دقة آرائه القيادية وبعد مرماها من‬
‫وصاياه لقواده وخططه العامة التي رسمها لهم أثناء تحركهم لضرب‬
‫) قوات العدو‪1 ).‬‬
‫لقد كانت أول وصية أوصاهم بها تتركز على النقاط التالية‪:‬‬
‫أن يلزموا أنفسهم تقوى ال عز وجل ومراقبته في السر ·‬
‫والعلن‪ ،‬وهذا عين الصواب في هذه السياسة الرشيدة؛ لن‬
‫القائد إذا ألزم نفسه تقوى ال ‪-‬عز وجل‪ -‬كان معه‪ِ+ :‬إ ّ‬
‫ن‬
‫سُنون" ]النحل‪:‬‬ ‫حِ‬‫ن ُهم ّم ْ‬ ‫ن اّتقْوا َواّلذي َ‬‫ل َمَع اّلذي َ‬ ‫ا َ‬
‫‪128].‬‬
‫الجد والجتهاد وإخلص النية ل سبحانه وتلك أخلق ·‬
‫جاَهُدوا ِفيَنا َلَنْهِدَيّنهْم‬
‫ن َ‬
‫المنصورين الفائزين ) ‪َ+ (2‬واّلذي َ‬
‫ن" ]العنكبوت‪69 :‬‬ ‫سِني َ‬
‫حِ‬‫ل َلَمَع اْلُم ْ‬
‫نا َ‬ ‫سُبَلَنا َوِإ ّ‬
‫‪ُ ].‬‬
‫أن ل يقبل من المرتدين إل السلم أو القتل؛ إذ ل مهادنة ·‬
‫في أمر العقيدة‪.‬‬
‫تقسيم الغنائم بين الجند مع الحتفاظ بحق بيت المال ·‬
‫منها‪ ،‬وهو خمسها‪.‬‬
‫أن ل يتعجلوا في التصرف حيال القضايا التي تواجههم ·‬
‫حتى ل تأتي حلولهم فجة‪.‬‬
‫أن يحذروا من أن يدخل بينهم غريب ليس منهم‪ ،‬كيل ·‬
‫سا عليهم‪.‬‬ ‫يكون جاسو ً‬
‫أن يرفقوا بجندهم ويتفقدوهم في المسير والنزول‪ ،‬وأن ·‬
‫ل ينفرط بعضهم عن بعض‪.‬‬
‫‪ ).‬وأن يستوصوا بهؤلء الجند خيًرا في الصحبة ) ‪· 3‬‬
‫ويمكنا من خلل الدراسة أن نستخلص الخطة العامة بعد أن عقد‬
‫الصديق اللوية لقادة الجيوش‪ ،‬والتي تتخلص في النقاط التية‪:‬‬
‫أ‪ -‬ضمنت الخطة إحكام التعاون بين هذه الجيوش جميعها‪ ،‬بحيث‬
‫ل تعمل كأنها منفصلة تحت قيادة مستقلة‪ ،‬وإنما هي رغم تباعد‬
‫المكان جهاز واحد‪ ،‬وقد تتلقى ‪-‬أو يلتقي بعضها ببعض‪ -‬لتفترق‪ ،‬ثم‬
‫تفترق لتلتقي‪ ،‬كان ذلك والخليفة بالمدينة يدبر حركة القتال‬
‫ومعاركه‪.‬‬
‫ب‪ -‬احتفظ الصديق بقوة تحمي المدينة –عاصمة الخلفة‪-‬‬
‫واحتفظ بعدد من كبار الصحابة ليستشيرهم وليشاركوه في توجيه‬
‫‪ () 1 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪179‬‬
‫‪ () 2 ، 292.‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪291 :‬‬
‫‪ () 3 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪179‬‬
‫‪168‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫سياسة الدولة‪.‬‬
‫شا من المسلمين داخل المناطق‬ ‫ج‪ -‬أدرك الصديق أن هناك جيو ً‬
‫التي شملتها حركة العصيان والردة‪ ،‬وقد حرص على هؤلء‬
‫المسلمين من أن يتعرضوا لنقمة المشركين‪ ،‬ولذلك فإنه أمر قادته‬
‫باستنفار من يمرون بهم من أهل القوة من المسلمين من جهة‪،‬‬
‫وبضرورة تخلف بعضهم لمنع بلدهم وحمايتها من جهة أخرى‪.‬‬
‫د‪ -‬طبق الخليفة مبدأ الحرب خدعة مع المرتدين‪ ،‬حتى أظهر أن‬
‫الجيوش تنوي شيئًا‪ ،‬وهي في حقيقة المر كانت تستهدف شيئًا آخر؛‬
‫زيادة في الحيطة والحذر من اكتشاف خطته) ‪ ،(1‬وهكذا تظهر الحنكة‬
‫السياسية والتجربة العملية والعلم الراسخ والفتح الرباني في قيادة‬
‫الصديق‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬القضاء على فتنة السود العنسي وطليحة السدي ومقتل‬
‫مالك بن نويرة‪:‬‬
‫‪ 1-‬القضاء على السود العنسي‪ ،‬وردة اليمن الثانية‪:‬‬
‫اسمه‪ :‬عبهلة بن كعب ويكنى بذي الخمار؛ لنه كان دائما معتًما‬
‫متخمًرا بخمار ) ‪ ,(2‬ويعرف بالسود العنسي لسوداد في وجهه‪،‬‬
‫وتكمن قوة السود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته‪ ،‬واستخدم‬
‫الكهانة والسحر والخطابة البليغة‪ ،‬فقد كان كاهنًا مشعوًذا يُِري قومه‬
‫العاجيب‪ ،‬ويسبي قلوب من سمع منطقه‪ ،‬واستخدم الموال للتأثير‬
‫‪ ).‬على الناس ) ‪3‬‬
‫‪ ×:‬أ‪ -‬السود العنسي في عهد الرسول‬
‫بعد مقدمه من حجة × وما أن انتشر خبر مرض رسول ال‬
‫الوداع حتى ادعى السود العنسي النبوة‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه أطلق على‬
‫نفسه )رحمان اليمن( كما تسمى مسيلمة )رحمان اليمامة() ‪ ،(4‬وأنه‬
‫كان يدعي النبوة ول ينكر نبوة محمد عليه الصلة والسلم‪ ،‬وكان‬
‫– ) يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحي وهما‪ :‬سحيق وشقيق ‪-‬أو شريق) ‪5‬‬
‫وكان قبل أن يظهر مخفيًا أمره يجمع حوله من يراه مناسبًا حتى‬
‫» عنس « )ف ‪7‬ا(جأ الناس بظهوره ) ‪ (6‬وكان أول من تبعه‪ :‬أبناء قبيلته وهم فتبعه العوام منهم ) ‪ ،(8‬وبعض »‬
‫مذحج « ‪ ،‬ثم كاتب زعماء قبيلة‬
‫زعمائهم من طالبي الزعامة‪ ،‬وقد عمل على إثارة العصبية القبلية؛‬
‫وقد راسله ‪ »،‬مذحج « وهي بطن من بطون قبيلة » عنس « لنه من‬
‫بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون‪ ،‬فطلبوا‬
‫منه أن يأتيهم في بلدهم‪ ،‬فجاءهم فاتبعوه لكونهم لم يسلموا رغبة‪،‬‬
‫‪6‬ا ‪1‬لبعاد السياسية لمفهوم المن في السلم‪ ،‬مصطفى محمود منجود‪ :‬ص )‪. 1 (9‬‬
‫‪ () 2 /2.‬الكامل في التاريخ‪17 :‬‬
‫‪ () 3 .‬عصر الخلفة الراشدة للعمري‪ :‬ص ‪364‬‬
‫‪ () 4 .‬اليمن في صدر السلم للشجاع‪ :‬ص ‪256‬‬
‫‪ () 5 /5.‬البدء والتاريخ‪154 :‬‬
‫‪ () 6 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪257‬‬
‫‪ () 7 /1.‬فتوح البلدان للبلذري‪125 :‬‬
‫‪ () 8 ، 152.‬تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪151‬‬
‫‪169‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫سليَة « » أود « و » زبيد « وتبعه أناس من‬ ‫حكم بني سعد « و » َم ْ‬
‫ثم أقام بنجران بعض الوقت‪ ،‬وقوي أمره بعد أن انضم ‪ »،‬العشيرة‬
‫إليه عمرو بن معديكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي‪،‬‬
‫وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من‬
‫نجران‪ ،‬واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست مئة‬
‫‪ »(1).‬عنس « أو سبع مئة فارس معظمهم من بني الحارث بن كعب و‬
‫وكان ‪ »،‬شهر بن باذان الفارسي « فتقابل مع أهل صنعاء وعليهم‬
‫‪ »،‬شعوب « قد أسلم مع أبيه في منطقة خارج صنعاء تسمى منطقة‬
‫وانهزم أهل صنعاء أمام » شهر بن باذان « فتقاتلوا قتال شديًدا فقتل‬
‫بعد خمسة » غمدان « السود العنسي‪ ،‬فغلب عليها ونزل قصر‬
‫‪ ).‬وعشرين يوًما من ظهوره ) ‪2‬‬
‫وكان له مواقف بشعة في تعذيب المتمسكين بالسلم‪ ،‬فقد أخذ‬
‫أحد المسلمين ويسمى النعمان فقطعه عضًوا عضًوا ) ‪ ،(3‬ولهذا تعامل‬
‫‪ ).‬معه المسلمين الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتقية ) ‪4‬‬
‫أما بقية المسلمين خارج نطاق سيطرته فقد حاولوا التجمع‬
‫وإعادة النتظام إلى صفوفهم‪ ،‬فكان فروة بن مسيك المرادي قد‬
‫‪ ،(5‬وانضم إليه من انضم من ( » الحسية « انحاز إلى مكان يسمى‬
‫بخبر السود العنسي‪ ،‬فكان × المسلمين‪ ،‬وكتب إلى رسول ال‬
‫بذلك‪ ،‬وانحاز كل من أبي موسى الشعري‪ × ،‬أول من أبلغ الرسول‬
‫‪ » (6).‬السكاسك والسكون « ومعاذ بن جبل إلى حضرموت في جواء‬
‫ل ال‬‫الثابتين على السلم لمواجهة ردة × وقد راسل رسو ُ‬
‫السود‪ ،‬وأمرهم بالسعي للقضاء عليه إما مصادمة أو غيلة‪ ،‬ووجه‬
‫بأن يتكاتفوا » همدان « و » حمير « كتبه ورسله إلى بعض زعماء‬
‫فأرسل ‪ »،‬السود العنسي « ‪ (7‬ضد ( » البناء « ويتوحدوا ويساعدوا‬
‫شيش الديلمي وداذويه « إلى » وبر بن يخنس «‬ ‫جَ‬‫فيروز الديلمي و ُ‬
‫» ذي الكلع وذي ظليم « إلى » جرير البجلي « وبعث ‪ »،‬الصطخري‬
‫ذي زود وذي « إلى » القرع بن عبد ال الحميري « الحميريين‪ ،‬وبعث‬
‫الهمدانيين‪ ،‬وكذلك كتب إلى أهل نجران من العراب » مران‬
‫» الحارث بن عبد ال الجهني « وساكني الرض من غيرهم) ‪ ،(8‬وبعث‬
‫‪ )،‬وهو في اليمن ) ‪ × 9‬إلى اليمن قبيل وفاته‪ ،‬فبلغته وفاة الرسول‬
‫ولم تبين المصادر إلى أين بعث‪ ،‬إل أنه من الممكن أنه بعث إلى‬
‫يأمره فيه بأن × لنه تلقى كتابًا من رسول ال ؛» معاذ بن جبل «‬
‫‪ )،‬للقضاء عليه ) ‪ » 10‬السود العنسي « يبعث الرجال لمجاولة ومصاولة‬
‫كتابًا من » الطاهر بن أبي هالة « و » أبو موسى الشعري « كما تلقى‬
‫‪ () 1 ، 152.‬تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪151‬‬
‫‪ () 2 / 229.‬البدء والتاريخ‪5 :‬‬
‫‪ () 3 /5.‬ابن سعد في الطبقات‪535 :‬‬
‫‪ () 4 .‬اليمن في صدر السلم‪ ،‬للشجاع‪ :‬ص ‪258‬‬
‫‪ () 5 /1.‬الحسية‪ :‬موضع باليمن‪ ،‬انظر‪ :‬ياقوت‪ :‬المعجم‪112 :‬‬
‫‪ () 6 /49، 50.‬تاريخ الطبري‪4 :‬‬
‫‪ () 7 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪271‬‬
‫‪ () 8 /4.‬تاريخ الطبري‪52 :‬‬
‫‪ () 910 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ () . 271‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪272‬‬
‫‪170‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫بالغيلة أو المصادمة ) ‪ ،(1‬وكان لهذا » السود « رسول ال ليواجهوا‬
‫أثر كبير‪ ،‬فقد تماسك من بعث إليهم × العمل من جانب الرسول‬
‫في حياته وبعد موته‪ ،‬فلم يعهد عنهم أنهم ارتدوا أو تزلزلوا‪ ،‬فقد‬
‫إلى البناء باذلين لهم العون » همدان « وزعماء » حمير « كتب زعماء‬
‫في مكان واحد » نجران « والمساعدة‪ ،‬وفي الوقت نفسه تجمع أهل‬
‫وحينئذ أيقن هذا ‪ »،‬السود العنسي « للتصدي لي حركة من جانب‬
‫‪ ).‬أنه إلى هلك ) ‪2‬‬
‫وبين » الحميريين « و » الهمدانيين « وظلت المكاتبات تتوالى بين‬
‫وبعض الزعماء اليمنيين‪ ،‬ومن المحتمل أن بعض » معاذ بن جبل «‬
‫لنه كان له ؛» فروة ابن مسيك « وبين » البناء « المكاتبات تمت بين‬
‫دور في قتل السود العنسي ) ‪ ،(3‬ولكن كان أول من اعترض على‬
‫‪ ».‬عامر بن شهر الهمداني « هو » العنسي «‬
‫السود « وهكذا تجمعت كل قوى السلم في اليمن للقضاء على‬
‫ويظهر أنهم كانوا مجمعين على أن يقوموا بمقتله‪ »، ،‬العنسي‬
‫لعلمهم أنه بمجرد أن يقتل لن يبقى لتباعه أي كيان فيسهل التخلص‬
‫بأن ل يقوموا بأي » البناء « منهم حينئذ‪ ،‬ولهذا وافقوا على خطة‬
‫شيء حتى يبرموا المر من داخلهم‪.‬‬
‫قيس بن « فيروز وداذويه أن يتفقا مع » البناء « واستطاع‬
‫وكان قائد جند العنسي‪ -‬للتخلص من ‪ » -‬مكشوح المرادي‬
‫لنه كان على خلف معه‪ ،‬ويخشى أن يتغير ؛» السود العنسي «‬
‫آزاد « » السود العنسي « عليه ) ‪ ، (4‬وقد ضموا إلى صفهم زوجة‬
‫والتي كانت زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز » الفارسية‬
‫الفارسي‪ ،‬فقد اغتصبها كذاب اليمن بعد أن قتل زوجها‪ ،‬فهبت‬
‫لنقاذ دينها من براثن وحوش الجاهلية بكل عزم وتصميم‪ ،‬فدبرت‬
‫‪ (5‬مع المسلمين المناوئين للسود خطة اغتيال هذا الطاغية المتأّله ( ‪ ،‬ومهدت لهم السبيل لقتله على فراش نومه )‬
‫‪ ، (6‬وحينما قتل‬
‫ألقى برأسه بين أصحابه فانتابهم الرهبة وعمهم » السود «‬
‫‪ ).‬الخوف‪ ،‬ففروا هاربين ) ‪7‬‬
‫من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي × وأتى الخبر النب ّ‬
‫ي‬
‫قتل العنسي البارحة‪ ،‬قتله رجل مبارك من أهل بيت « ‪ :‬ليبشرنا فقال‬
‫‪ » (8).‬فيروز « ‪ :‬قيل‪ :‬ومن هو؟ قال » مباركين‬
‫وقد فصل خطة اغتيال السود العنسي الدكتور صلح الخالدي‬
‫صور من جهاد الصحابة… عمليات جهادية خاصة تنفذها « ‪ :‬في كتابه‬
‫مشتركا بين » صنعاء « ‪ .(9‬وظل أمر ( » مجموعة خاصة من الصحابة‬
‫إلى أن جاء معاذ بن جبل إلى » فيروز وداذويه وقيس بن مكشوح «‬
‫‪ () 1 /4.‬تاريخ الطبري‪51 :‬‬
‫‪ (7 -‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 2 . ( 272‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ () . 345 . 2 (67،3) 272‬حركة الردة‬
‫للعتوم‪ :‬ص ‪309‬‬
‫‪ () 6 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪273‬‬
‫‪ () 7 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪273‬‬
‫‪ () 8 /4.‬تاريخ الطبري‪55 :‬‬
‫‪ () 9 ، 228.‬صور من جهاد الصحابة للخالدي‪ :‬ص ‪211‬‬
‫‪171‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫صنعاء‪ ،‬فارتضوا أن يكون هو المير عليهم‪ ،‬ولكنه لم يمكث إل ثلثة‬
‫)‪ ×.(1‬أيام بهم حتى بلغهم خبر وفاة رسول ال‬
‫قد خرجت من صنعاء فوصلت إلى » العنسي « وكانت تفاصيل مقتل‬
‫الصديق بعد أن خرج جيش أسامة‪ ،‬وكان هذا أول فتح أتى أبا بكر‬
‫‪ ).‬وهو في المدينة ) ‪2‬‬
‫ن أبو بكر‬
‫واليًا على صنعاء » فيروز الديلمي « ب‪ -‬وعي ّ‬
‫سا؛ لنه كان ممن مال السود‬ ‫ل أبو بكر قي ً‬
‫وكتب إليه بذلك‪ ،‬ولم يو ّ‬
‫صا ‪-‬عصبية لمذجح أو رغبة في الزعامة‪ -‬وكان‬ ‫العنسي وتابعه مخل ً‬
‫مبدأ أبي بكر عدم الستعانة بمن ارتد ) ‪ ،(3‬وجعل كل من داذويه‬
‫وجشيش وقيس بن مكشوح مساعدين لفيروز‪ ،‬فتغيرت نفس قيس‬
‫بن مكشوح المرادي فعمل على قتل زعماء البناء الثلثة‪ ،‬وقد تمكن‬
‫» فيروز « سواء بنفسه أو بإيعاز منه – فتنبه لذلك ‪ » -‬داذويه « من قتل‬
‫‪ ،(4‬فما كان من قيس إل أن أثارها ( » خولن « فهرب إلى أخواله في‬
‫مدعيًا » البناء « عصبية جنسية فحاول جمع زعماء بعض القبائل ضد‬
‫أنهم متحكمون فيهم‪ ،‬وأنه يرى قتل رؤسائهم وإجلء بقيتهم‪ ،‬ولكن‬
‫أولئك الزعماء وقفوا على الحياد فلم ينحازوا إليه ول إلى البناء‪،‬‬
‫وقالوا له‪ :‬أنت صاحبهم وهم أصحابك‪ ،‬فلما يئس منهم عاد فكاتب‬
‫سواء الذين بقوا متذبذبين بين صنعاء » السود العنسي « فلول‬
‫ونجران أو ممن انحاز إلى لحج‪ ،‬فطلب منهم اللتقاء بهم ليكونوا‬
‫فلم يشعر أهل صنعاء إل ‪ »،‬البناء « جميًعا على أمر واحد وهو نفي‬
‫» البناء « على تجميع » قيس « وهم محاطون بتلك الفلول‪ ،‬ثم حرص‬
‫‪ ).‬تمهيًدا لنفيهم ) ‪5‬‬
‫وعندما وصل فيروز الديلمي إلى خولن كتب من هناك إلى أبي‬
‫بكر يخبره بما حصل من قيس‪ ،‬فما كان منه إل أن كتب إلى الزعماء‬
‫وكانت صيغة الكتاب واضحة ‪ ×،‬الذين كتب إليهم رسول ال‬
‫أعينوا البناء على من ناوأهم وحوطوهم‪ ،‬واسمعوا « ‪ :‬صريحة وهي‬
‫جّدوا معه فإني قد وليته‬
‫‪ » (6).‬من فيروز‪ ،‬و ِ‬
‫كان الصديق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلزمين‪:‬‬
‫أنه جعله خطة حربية حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج ·‬
‫إلى الشام‪ ،‬وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنى له مواجهة أعنف‬
‫موجات الردة في اليمامة والبحرين وعمان وتميم‪ ،‬وهي أشد وأعنف‬
‫من موجات الردة في اليمن التي اكتفى بمعالجة بعضها بالرسائل‬
‫والرسل‪.‬‬
‫وأما الهدف الخر فهو إعطاء الفرصة لمن ثبت على السلم ·‬
‫لكي يبرهن على صدق إسلمه‪ ،‬ولكي يزداد ثباتًا واستمساكًا بدينه ما‬
‫‪ () 1 /4.‬تاريخ الطبري‪56 :‬‬
‫‪ () 2 /1.‬البلذري‪ ،‬فتوح البلدان‪127 :‬‬
‫‪ () 3 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪275‬‬
‫‪ () 4 /4.‬تاريخ الطبري‪140 :‬‬
‫‪4 .‬؛ اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ () 5 / 264‬تاريخ الطبري‪140 :‬‬
‫‪ () 6 /4.‬تاريخ الطبري‪140 :‬‬
‫‪172‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫دام هو صاحب المسئولية والمتحمل لمانة إقرار السلم فيمن‬
‫حوله‪ ،‬خاصة أن من راسلهم أبو بكر كانوا هم الذين راسلهم رسول‬
‫طلب منهم ) ‪ .(1‬وقام فيروز × ال‬ ‫من قبل‪ ،‬وقد ثبتوا وقاموا بما ُ‬
‫بالتصال ببعض القبائل يستمدهم ويستنصرهم‪ ،‬وعلى رأس هؤلء‬
‫ثم أرسل إلى قبيلة ‪ »،‬بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة «‬
‫للغرض نفسه‪ .‬وكان أبو بكر قد أرسل إلى الطاهر بن أبي » عك «‬
‫هالة ) ‪ ،(2‬وإلى مسروق العكي ‪-‬وكانا بين عك والشعريين‪ -‬أن يمدا‬
‫البناء بالمعونة‪ ،‬فخرج كل من جهته وعملوا جميًعا للحيلولة دون‬
‫تنفيذ مخطط قيس وهو طرد البناء وإخراجهم من اليمن‪ ،‬فأنقذوهم‬
‫ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميًعا فاصطدموا به حتى اضطر إلى‬
‫ترك صنعاء‪ ،‬وعاد إلى ما كان عليه أصحاب السود العنسي وهو‬
‫التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج‪ ،‬إل أنه انضم إلى عمرو بن‬
‫معديكرب الزبيدي‪ .‬وبهذا عادت صنعاء للمرة الثانية إلى الهدوء‬
‫‪ ).‬والستقرار عن طريق الرسل والكتب ) ‪3‬‬
‫ج‪ -‬واستمر الصديق يتابع سياسة الحباط من الداخل‪ ،‬وهي ما‬
‫ركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت « ‪ :‬يعبر عنها المؤرخون بقولهم‬
‫‪ » (4).‬على السلم‬
‫تم القضاء عليها بدون مجهود يذكر من » تهامة اليمن « ففي ردة‬
‫» مسروق « قبل الخليفة‪ ،‬فقد تولها المسلمون من أبناء تهامة مثل‬
‫العكي الذي قاتل المرتدين بقومه من عك‪ ،‬وكان على رأس من‬
‫الذي كان واليًا » الطاهر بن أبي هالة « قضى على ردة تهامة‬
‫)‪ » (5‬عك والشعريين « على جزء من تهامة‪ ،‬وهي موطن × للرسول‬
‫ليجمع حوله » تهامة « أن يقيم في » عكاشة بن ثور « ثم أمر أبو بكر‬
‫أهلها حتى يأتيه أمره ) ‪ ،(6‬وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن‬
‫ن ثبت على السلم‬ ‫ن قومه َم ْ‬
‫عبد ال ) ‪ ،(7‬وأمره أن يستنفر ِم ْ‬
‫ويقاتل بهم من ارتد عن السلم‪ ،‬وأن يأتي خثعم فيقاتل من ارتد‬
‫فلم يقم له أحد إل ‪ ،‬منهم‪ ،‬فخرج جرير وفعل ما أمره به الصديق‬
‫‪ ).‬نفر يسير فقتلهم وتتبعهم ) ‪8‬‬
‫بنجران قد تابعوا السود » بني الحارث بن كعب « وكان بعض‬
‫بقوا مترددين فخرج إليهم × العنسي‪ ،‬وبعد وفاة رسول ال‬
‫وهو يزعم مقاتلتهم فدعاهم إلى السلم فأسلموا » مسروق العكي «‬
‫من غير قتال‪ ،‬فأقام فيهم ليعمل على استتباب المور فلم يأته‬
‫‪ ).‬إل وقد ضبط نجران ) ‪ » 9‬المهاجر بن أبي أمية «‬
‫وقد نجحت سياسة الحباط من الداخل‪ ،‬وتوجه الصديق بإرسال‬
‫الجيوش بعد عودة جيش أسامة‪.‬‬
‫د‪ -‬جيش عكرمة‪:‬‬
‫‪ () 1 .‬اليمن في صدر السلم‪:‬ص ‪275‬‬
‫‪ () 4‬تاريخ الطبري‪34 . 4/142 ( . 144/ 2 :‬‬
‫( نفس المصدر السابق‪2 :‬‬
‫( ‪567 . 277 ،‬‬
‫( اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪5،4‬‬
‫)( البجلي‪ :‬يكنى أبو عمر‪ ،‬أسلم في السنة العاشرة من الهجرة‪.‬‬
‫‪ () 8 .‬الثابتون على السلم في أيام فتنة الردة‪ :‬ص ‪42‬‬
‫‪ () 9 .‬تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪156‬‬
‫‪173‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫بعد أن شارك في القضاء على ردة أهل عمان‪ ،‬توجه نحو مهرة‬
‫حسب أمر أبي بكر‪ ،‬وكان معه سبع مئة فارس ) ‪ ،(1‬فوق ما جمع‬
‫حوله من قبائل عمان‪ ،‬وحينما دخل مهرة وجدها مقسمة بين‬
‫زعيمين متناحرين‪ :‬أحدهما يسمى شخريت ويتمركز في السهل‬
‫الساحلي‪ ،‬وهو أقل الجمعين عدًدا وعدة‪ ،‬والخر يسمى المصبح‬
‫ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين‪ ،‬فدعاهما عكرمة‬
‫إلى السلم فاستجاب صاحب السهل الساحلي وأما الخر فقد اغتر‬
‫فلحقته الهزيمة‪ » ،‬شخريت « بجموعه فأبى‪ ،‬فصادمه عكرمة ومعه‬
‫وقتل ومعه الكثير من أصحابه‪ ،‬ثم أقام عكرمة فيهم يجمعهم ويقيم‬
‫شئونهم حتى جمعهم على الذي يجب‪ ،‬حيث بايعوا على السلم‬
‫وآمنوا واستقروا ) ‪ ،(2‬وكان قد تلقى كتابًا من أبي بكر يأمره بالجتماع‬
‫ليتوجها معا إلى كندة‪ » ،‬صنعاء « مع المهاجر بن أبي أمية القادم من‬
‫فخرج من مهرة حتى نزل أبين وبقي هناك ينتظر المهاجر‪ ،‬وعمل‬
‫وحمير وتثبيتهم على السلم ) ‪ ،(3‬وكان » النخع « وهو هناك على جمع‬
‫لوصول عكرمة إلى أبين أثر على بقية فلول السود العنسي وعلى‬
‫رأسهم قيس بن المكشوح وعمر بن معد يكرب‪ ،‬فبعد هروب قيس‬
‫عمر بن معد « من صنعاء بقي متردًدا بينها وبين نجران‪ ،‬وكان‬
‫قد انضوى إلى فلول العنسي التي أطلق عليها الفلول » يكرب‬
‫اللحجية؛ لن وجهتهم كانت إلى لحج‪ ،‬فلما جاء عكرمة انضم قيس‬
‫إلى عمرو وقد اجتمعا للقتال ولكن ما لبث أن نشب الخلف بينهما‬
‫فتعايرا ففارق كل واحد الخر‪ ،‬فلما جاء المهاجر بن أبي أمية أسرع‬
‫عمرو لتسليم نفسه ولحقه قيس فأوثقهما المهاجر وبعث بهم إلى‬
‫أبي بكر‪ ،‬وبعد أن عاتبهما اعتذر كل واحد منهما عن فعله فأطلقهما‬
‫‪ ).‬ورجعا بعد أن تابا وأصلحا ) ‪4‬‬
‫وهكذا كان لقدوم عكرمة من المشرق دور في القضاء على‬
‫فلول المرتدين الموجودين في لحج سواء بالمواجهة من هذا الجيش‬
‫القادم‪ ،‬بينما هم يواجهون جيشا آخر في الشمال‬
‫‪ ).‬بقيادة المهاجر ) ‪5‬‬
‫ه‪ -‬جيش المهاجر بن أبي أمية للقضاء على ردة حضرموت‬
‫وكندة‪:‬‬
‫كان آخر من خرج من المدينة من الجيوش الحد عشر جيش‬
‫المهاجر بن أبي أمية وكان معه سرية من المهاجرين والنصار‪ ،‬فمر‬
‫‪ »-‬عتاب ابن أسيد « أخو – » خالد بن أسيد « على مكة فانضم إليه‬
‫أمير مكة‪ ،‬ومر على الطائف فلحقه عبد الرحمن بن أبي العاص ومن‬
‫بنجران ضمه إليه‪ » ،‬بجرير بن عبد ال البجلي « معه‪ ،‬ولما التقى‬
‫وضم عكاشة بن ثور الذي جمع بعض أهل تهامة‪ ،‬ثم دخل في‬
‫الذي كان في أطراف بلد » فروة بن مسيك المرادي « جموعه‬
‫مذحج‪ ،‬ومر على بني الحارث بن كعب بنجران فوجد عليهم مسروق‬
‫‪ () 1 .‬تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪177‬‬
‫‪ () 2 .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪155‬‬
‫‪ () 3 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪281‬‬
‫‪ () 4 /5، 535.‬الطبقات لبن سعد‪534 :‬‬
‫‪ () 5 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪282‬‬
‫‪174‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ ).‬العكي فضمه إليه ) ‪1‬‬
‫وفي نجران قسم جيشه إلى فرقتين‪ :‬فرقة تولت القضاء على‬
‫المتناثرة بين نجران وصنعاء‪ ،‬وكان المهاجر » السود العنسي « فلول‬
‫عبد « نفسه على هذه الفرقة‪ ،‬أما الفرقة الخرى فكان عليها أخوه‬
‫وكانت مهمتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقية المرتدين ‪) »،‬ا ‪2‬ل(له ‪.‬‬
‫وحينما استقر المهاجر في صنعاء كتب إلى أبي بكر بما قام به‬
‫وبما استقر عليه وبقي ينتظر الرد منه‪ ،‬وفي الوقت نفسه كتب معاذ‬
‫ما ‪ ×، -‬بن جبل وبقية عمال اليمن الذين كانوا على عهد رسول ال‬
‫عدا زياد بن لبيد‪ -‬إلى أبي بكر يستأذنونه بالعودة إلى المدينة‪،‬‬
‫فجاءت كتب أبي بكر مطلقة حق الختيار لمعاذ ومن معه من‬
‫العمال بالبقاء أو العودة‪ ،‬والستخلف على عمل كل من رجع‬
‫فرجعوا جميًعا ) ‪ ،(3‬وأما المهاجر فقد تلقى المر بالتوجه لملقاة‬
‫عكرمة وأن يسيرا مًعا إلى حضرموت لمعاونة زياد بن لبيد وإقراره‬
‫على ما هو عليه‪ ،‬وأمره أن يأذن لمن معه من الذين قاتلوا بين مكة‬
‫‪ ).‬واليمن في العودة إل أن يؤثر قوم الجهاد ) ‪4‬‬
‫كان زياد بن لبيد النصاري واليًا لرسول ال على كندة‬
‫على ذلك‪ ،‬وكان حازًما شديًدا وكان ‪ ‬بحضرموت‪ ،‬وأقره الصديق‬
‫لحزمه وشدته سبب كبير في أن يتمرد عليه حارثة بن سراقة‪،‬‬
‫وخلصة ذلك ‪-‬كما يذكر الكلعي‪ -‬أن زياًدا أعطى من ضمن الصدقة‬
‫ناقة معينة لفتى من كندة على سبيل الخطأ‪ ،‬فلما أراد صاحبها‬
‫استبدالها بأخرى لم يقبل منه ذلك زياد‪ ،‬فاستنجد الفتى بزعيم لهم‬
‫هو حارثة بن سراقة‪ ،‬وعندما طلب ابن سراقة من زياد استبدال‬
‫الناقة أصر زياد على موقفه‪ ،‬فغضب ابن سراقة وأطلق الناقة عنوة‪،‬‬
‫فوقعت الفتنة بين أنصار زياد وأنصار ابن سراقة‪ ،‬ودارت الحرب‬
‫وانهزم ابن سراقة وقتل ملوك كندة الربعة وأسر زياد عدًدا من‬
‫جماعة ابن سراقة‪ ،‬واستنجد السرى وهم في طريقهم إلى المدينة‬
‫بالشعث بن قيس فنجدهم حمية وعبية‪ ،‬واتسعت رقعتها وتكاثر جمع‬
‫الشعث وحصروا المسلمين ) ‪ ،(5‬فأرسل زياد إلى المهاجر وعكرمة‬
‫يستعجلهما النجدة وكانا قد التقيا بمأرب‪ ،‬فما كان من المهاجر إل أن‬
‫إلى الجيش وأخذ أسرع الناس ‪-‬وغالبا من الفرسان– » عكرمة « ترك‬
‫ليكونا بجانب زياد‪ ،‬وقد استطاع أن يفك الحصار عنه فهربت كندة‬
‫إلى حصن من حصونها يسمى النجير‪ ،‬وكان لهذا الحصن ثلث طرق‬
‫ل رابع لها‪ ،‬فنزل زياد على إحداها والمهاجر على الثانية وبقيت‬
‫الثالثة تحت تصرف كندة‪ ،‬حتى قدم عكرمة فنزل عليها فحاصروهم‬
‫الطلئع إلى قبائل كندة » المهاجر « من جميع الجهات‪ ،‬ثم بعث‬
‫والمتفرقة في السهل والجبل يدعوهم إلى السلم ومن أبي قاتلوه‪،‬‬
‫‪ () 1 - 58.‬تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪54‬‬
‫‪ () 2 .‬طبقات فقهاء اليمن‪ :‬ص ‪36‬‬
‫‪ () 3 .‬طبقات فقهاء اليمن‪ :‬ص ‪36‬‬
‫‪ () 4 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪283‬‬
‫‪ ،2 .‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪ () 5 / 66‬الكامل في التاريخ‪49 :‬‬
‫‪175‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ ).‬ولم يبق إل في الحصن المحاصر ) ‪1‬‬
‫وكان جيشا زياد والمهاجر يزيدان على خمسة آلف رجل من‬
‫المهاجرين والنصار وغيرهم من القبائل‪ ،‬وقد عمل على التضييق‬
‫على من في الحصن حتى ضجوا بالشكوى إلى زعمائهم متبرمين‬
‫من الجوع‪ ،‬وفضلوا الموت بالسيف بدل من ذلك‪ ،‬فاتفق زعماؤهم‬
‫على أن يقوم الشعث بن قيس بطلب المان والنزول على حكم‬
‫المسلمين ) ‪ ،(2‬وبعد أن فوض الشعث من قومه لمفاوضة المسلمين‬
‫لم يوفق؛ لن الروايات تضافرت على أنه لم يطلب المان لجميع‬
‫من في الحصن‪ ،‬أو أنه لم يصر على ذلك ولم يطلبه إل لعدد تراوح‬
‫حسب الروايات بين السبعة والعشرة وكان الشرط هو فتح أبواب‬
‫في » كندة « وكان من جراء ذلك أن قتل من ‪ »،‬النجير « حصن‬
‫‪ ).‬الحصن سبعمائة قتيل‪ ،‬فأشبه موقفهم موقف يهود بني قريظة ) ‪3‬‬
‫وتم القضاء على ردة كندة وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه‬
‫ضا‬
‫السبايا والخماس‪ ،‬وبرفقتهم الشعث بن قيس الذي صار مبغ ً‬
‫إلى قومه ول سيما نساؤهم لنهم عدوه سبب ذلتهم؛ ولنه عندما‬
‫صالح المسلمين كان أول ما بدأ به اسمه‪ ،‬فكانت نساء قومه‬
‫عرف النار‪ ،‬ومعناه بلغتهم‪ :‬الغادر ) ‪ ،(4‬ولما قدم الشعث‬ ‫يسمينه ُ‬
‫على أبي بكر قال‪ :‬ماذا تراني أصنع بك فإنك قد فعلت ما علمت؟!‬
‫ي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت‬ ‫ن عل ّ‬ ‫قال‪ :‬تم ّ‬
‫وأسلمت‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬قد فعلت فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة‪،‬‬
‫) فكان بالمدينة حتى فتح العراق‪5 ) .‬‬
‫وفي رواية جاء فيها‪ :‬فلما خشي أن يقع به قال‪ :‬أوتحتسب ف ّ‬
‫ي‬
‫خير فتطلق إساري وتقيلني عثرتي وتقبل إسلمي‪ ،‬وتفعل بي مثل‬
‫ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي ‪-‬وقد كان خطب أم فروة بنت‬
‫خرها إلى أن يقدم × أبي قحافة مقدمه على رسول ال‬ ‫فزوجه‪ ،‬وأ ّ‬
‫وفعل الشعث ما فعل فخشي أل ترد ‪ ×،‬الثانية فمات رسول ال‬
‫عليه‪ -‬تجدني خير أهل بلدي لدين ال! فتجافى له عن دمه وقبل‬
‫منه ورد عليه أهله وقال‪ :‬انطلق فليبلغني عنك خير‪ ،‬وخلي عن‬
‫‪ ).‬القوم‪ ،‬فذهبوا وقسم أبو بكر في الناس الخمس ) ‪6‬‬
‫و‪ -‬دروس وعبر وفوائد‪:‬‬
‫المرأة بين الهدم والبناء‪:‬‬
‫في حروب الردة باليمن تظهر صورتان مختلفتان للنساء‪ :‬صورة‬
‫المرأة الطاهرة العفيفة التي تقف مع السلم وتحارب الرذيلة‪،‬‬
‫وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين النس والجن‪ ،‬فهذه‬
‫‪ () 1 /4.‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ ، 284‬تاريخ الطبري‪152 :‬‬
‫‪ () 2 /3.‬تاريخ الطبري‪152 :‬‬
‫‪ () 3 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ 286‬تاريخ الردة‪ :‬ص ‪167‬‬
‫‪ () 4 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪107‬‬
‫‪ () 5 /4.‬تاريخ الطبري‪155 :‬‬
‫‪ () 6 /4.‬تاريخ الطبري‪155 :‬‬
‫‪176‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫الفارسية زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز الفارسي؛ تقف » آزاد «‬
‫مع الصف السلمي بكل عزم وتصميم‪ ،‬وتدبر مع المسلمين خطة‬
‫محكمة لغتيال السود العنسي كذاب اليمن‪ ،‬فالمسلم في كل عصر‬
‫يكبر في )آزاد( المسلمة غيرتها على دينها‪ ،‬وينظر باستهجان إلى ما‬
‫جه قلم الدكتور محمد حسين هيكل عندما تحدث عن موقف آزاد‬ ‫َم ّ‬
‫من كذاب اليمن‪ ،‬وحاول أن يرجع ما قامت به المرأة المسلمة آزاد‬
‫ولما « ‪ :‬الفارسية إلى عصبية شهوانية‪ ،‬وذلك في قوله عن السود‬
‫استغلظ أمره وأثخن في الرض استخف بقيس وبفيروز وجعل يرى‬
‫في الخيرين وفي سائر الفرس من تنطوي أضلعهم على المكر به‪،‬‬
‫وعرفت زوجته الفارسية ذلك منه‪ ،‬فثار في عروقها دم قومها‪،‬‬
‫وتحركت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح قاتل زوجها‬
‫الشاب الفارسي الذي كانت تحبه من أعماق قلبها‪ ،‬ولقد استطاعت‬
‫بسجيتها النسوية أن تخفي ذلك عنه وأن تسخو في البذل له من‬
‫)‪ ». (1‬أنوثتها سخاء جعله يركن إليها ويطمع في وفائها‬
‫إنه أسلوب فيه َلْمز بالفارسية المؤمنة آزاد‪ ،‬وكأنه يتهمها بالغدر‬
‫لفارسيتها بالسود العربي‪ ،‬ويأخذ عليها هذا الصنيع الذي كانت تظهر‬
‫له فيه ما ل تخفي‪ ،‬إنه توجيه لحدث في غير محله‪ ،‬وهذه المرأة‬
‫جها المسلم وتزوجها غصبًا‪ ،‬وهي‬ ‫الصالحة المسلمة قتل السود زو َ‬
‫وال ما خلق ال شخصا « ‪ :‬التي وصفت السود الكذاب بقولها‬
‫ي منه‪ ،‬ما يقوم ل على حق ول ينتهي عن محرم‬ ‫‪ (2‬وهي (‪ ».‬أبغض إل ّ‬
‫التي جعلها ال تعالى سببا لهلك الطاغية السود العنسي‪ ،‬فلول ال‬
‫‪ )،‬ثم جهودها الميمونة ما استطاع فيروز وأصحابه قتل السود ) ‪3‬‬
‫فالذي حركها لذلك العمل العظيم الذي فيه حتفها وموتها هو حبها‬
‫لدينها وعقيدتها وإسلمها‪ ،‬وبغضها للسود العنسي الكذاب الذي أراد‬
‫أن يقضي على السلم في اليمن‪ ،‬فهذه صورة مشرقة مضيئة لما‬
‫قامت به المرأة المسلمة في اليمن من الجهاد من أجل دينها‪.‬‬
‫أما الصورة الكالحة المظلمة التي قامت به بعض بنات اليمن من‬
‫يهود أو من لف لفهن في حضرموت‪ ،‬فقد طرن فرحا بموت رسول‬
‫فأقمن الليالي الحمراء مع المجان والفساق يشجعن على × ال‬
‫الرذيلة ويزرين بالفضيلة‪ ،‬فقد رقص الشيطان فيها معهن وأتباعه‬
‫طربًا لنكوص الناس على السلم والدعوة إلى التمرد عليه وحرب‬
‫ت تلك البغايا إلى الجاهلية وما فيها من المنكرات‪،‬‬ ‫أهله ) ‪ ،(4‬لقد حن ّ‬
‫وانجذبن إليها انجذاب الذباب إلى أكوام من القذار‪ ،‬فقد تعودن على‬
‫الفاحشة في حياتهن الجاهلية‪ ،‬فلما جاء السلم حجزتهن نظافته‬
‫عنها‪ ،‬فشعرن وكأنهن بسجن ضيق يكدن يختنقن فيه‪ ،‬ولذا ما إن‬
‫حتى أظهرن الشماتة فخضبن أيديهن بالحناء‪ ،‬وقمن × سمعن بموته‬
‫يضربن بالدفوف ويغنين فرحتهن؛ فقد تحقق لهن ما كن يتمنينه على‬
‫السلطة الجديدة‪ ،‬وكان معظمهن من علية القوم هناك وبعضهن‬
‫يهوديات‪ ،‬وقد كان لكل الطرفين ‪-‬أشراف القوم من العرب واليهود‪-‬‬
‫مصلحة في النتقاض على مبادئ السلم والنقضاض على كيانه‪.‬‬
‫‪ () 1 .‬الصديق أبو بكر‪ :‬ص ‪79‬‬
‫‪ () 2 /2.‬الكامل في التاريخ‪310 :‬‬
‫‪ () 3 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪308‬‬
‫‪ () 4 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪119‬‬
‫‪177‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫لقد عرفت هذه الحركة في التاريخ بحركة البغايا وكن نيفا وعشرين‬
‫بغيّا متفرقات في قرى حضرموت‪ ،‬وأشهرهن هر بنت يامن اليهودية‬
‫ويذكر التاريخ ‪ ».‬أزنى من هر « ‪ :‬التي ضرب المثل بها في الزنا‪ ،‬فقيل‬
‫أن الفساق كانوا يتناوبونها لهذا الغرض في الجاهلية‪ ،‬ولكن هؤلء‬
‫‪ )،‬السواقط لم يتركن وشأنهن يفسدن في المجتمع كما يحلو لهن ) ‪1‬‬
‫فقد وصل الخبر إلى الصديق‪ ،‬وأرسل رجل من أهل اليمن إليه‬
‫هذه البيات‪:‬‬
‫ي مرام‬
‫نأ ّ‬
‫أبلغ أبا بكر إذا ما جئته أن البغايا ُرْم َ‬
‫أظهرن من موت النبي‬
‫شماتة‬
‫) وخضبن أيديهن بالُعلّم ) ‪2‬‬
‫) فاقطع هديت أكّفهن بصارم غمام ) ‪3‬‬
‫إلى عامله هناك المهاجر بن أبي أمية كتابًا في ‪ ‬فكتب أبو بكر‬
‫سْر إليهن « ‪ :‬منتهى الحزم والصرامة جاء فيه‬ ‫فإذا جاءك كتابي هذا َف ِ‬
‫بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهن‪ ،‬فإن دفعك عنهن دافع‪ ،‬فأعذر إليه‬
‫باتخاذ الحجة عليه‪ ،‬وأعلمه عظيم ما دخل فيه من الثم والعدوان‪،‬‬
‫فإن رجع فاقبل منه وإن أبى فنابذه على سواء‪ ،‬إن ال ل يهدي كيد‬
‫فلما قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله ورجله وسار إليهن‪ …». ،‬الخائنين‬
‫فحال بينه وبينهن رجال من كندة وحضرموت فأعذر إليهم‪ ،‬فأبوا إل‬
‫قتاله‪ ،‬ثم رجع عنه عامتهم‪ ،‬فقاتلهم فهزمهم وأخذ النسوة فقطع‬
‫أيديهن فمات عامتهن وهاجر بعضهن إلى الكوفة‪ (4 ) .‬لقد نلن‬
‫جزاءهن في محكمة السلم العادلة؛ إذ أخذهن عامل أبي بكر على‬
‫تلك البلد وطبق عليهن‬
‫‪ ).‬حد الحرابة) ‪5‬‬
‫ونقلت الخبار للخليفة في امرأتين من بلد حضرموت تغنتا بهجاء‬
‫والمسلمين‪ ،‬وكان قد عاقبهما المهاجر بن أبي أمية × رسول ال‬
‫ض أبو بكر‪ ،‬وعدها‬ ‫والي تلك البلد بقطع يديهما ونزع ثنيتيهما‪ ،‬فلم ير َ‬
‫عقوبة خفيفة في حق هاتين المجرمتين‪ ،‬وقد وجه إليه كتابًا بهذا‬
‫الخصوص قال فيه بحق الناعقة بشتم صاحب الرسالة‪ :‬بلغني الذي‬
‫فلول ‪ ×،‬سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمة رسول ال‬
‫ما قد سبقتني فيها لمرتك بقتلها؛ لن حد النبياء ليس يشبه الحدود‪،‬‬
‫)ف ‪(6‬من تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر‪ .‬وقال في الخرى‪ :‬بلغني أنك قطعت يد‬
‫امرأة في أن تغنت بهجاء‬
‫المسلمين ونزعت ثنيتها‪ ،‬فإن كانت ممن تدعي السلم فأدب‬
‫وتقدمة دون المثلة‪ ،‬وإن كانت ذمية لعمري لما صفحت عنه من‬
‫الشرك أعظم‪ ،‬ولو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروها‬
‫فاقبل الدعة وإياك والمثلة في الناس؛ فإنها مأثم ومنفرة إل في‬
‫‪ ).‬قصاص ) ‪7‬‬
‫‪ () 119‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪23 ( . 1‬‬
‫( العلم‪ :‬الحناء‪2 .‬‬
‫‪ () 3‬عيون الخبار‪45 . 184 ( . 133/ :‬‬
‫( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪4‬‬
‫‪ () .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪119‬‬
‫‪ (2 /4.‬تاريخ الطبري‪67 (، 157 :‬‬
‫‪178‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫من خطباء اليمان‪:‬‬
‫كان بعض أهل اليمن لهم مواقف عظيمة في الثبات على الحق‬
‫والدعوة إلى السلم وتحذير قومهم من خطورة الردة‪ ،‬ومن هؤلء كان‬
‫أحد ملوك اليمن الذي كان قد أسلم » مران بن ذي عمير الهمداني «‬
‫ممن أسلم من أهل اليمن‪ ،‬فلما ارتد الناس هناك وتكلم سفهاؤهم بما ل‬
‫يليق وقف فيهم خ با طي ًوقال لهم‪ :‬يا معشر همدان إنكم لم تقاتلوا‬
‫م يقاتلكم فأصبتم بذلك الحظ ولبستم به العافية‪ ،‬ولم × رسول ال ول‬
‫يعمكم بلعنة تفضح أوائلكم وتقطع دابرهم‪ ،‬وقد سبقكم قوم إلى‬
‫السلم وسبقتم قماو‪ ،‬فإن تمسكتم لحقتم من سبقكم وإن أضعتموه‬
‫لحقكم من سبقتموه‪ ،‬فأجابوا إلى ما أحب‪ ،‬وأنشد أبياتا رثى فيها النبي‬
‫يقول فيها‪× :‬‬
‫إن حزني على الرسول‬
‫طويل‬
‫ذاك مني على الرسول قليل‬
‫) بكت الرض والسماء عليه وبكاء خديمه جبريل ) ‪1‬‬
‫له ‪ ×،‬وقام عبد ال بن مالك الرحبي وكان من أصحاب النبي‬
‫هجرة وفضل في دينه فاجتمع إليه همدان فقال‪ :‬يا معشر همدان‬
‫إنكم لم تعبدوا محمًدا إنما عبدتم رب محمد وهو الحي الذي ل‬
‫يموت‪ ،‬غير أنكم أطعتم رسوله بطاعة ال‪ ،‬واعلموا أنه استنقذكم‬
‫من النار‪ ،‬ولم يكن ال ليجمع أصحابه على ضللة‪ ،‬وذكر له خطبة‬
‫طويلة يقول فيها‪:‬‬
‫ل رب‬‫لعمري لئن مات النبي محمد لما مات يا ابن الَقي ِ‬
‫محمد‬
‫) دعاه إليه ربّه فأجابه منجد ) ‪3‬‬
‫ووقف شرحبيل بن السمط وابنه في بني معاوية من كندة‬
‫عندما أطبقوا كلهم على منع الصدقة وقال لبني معاوية‪ :‬إنه لقبيح‬
‫بالحرار التنقل‪ ،‬إن الكرام ليلزمون الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا إلى‬
‫أوضح منها مخافة العار‪ ،‬فكيف النتقال من المر الحسن الجميل‬
‫والحق إلى الباطل القبيح؟ اللهم إنا ل نمالئ قومنا على ذلك‪ .‬وانتقل‬
‫ت القوم‬‫ونزل معه زيد ومعهما امرؤ القيس بن عابس وقال له‪ :‬بَي ّ‬
‫فإن أقواًما من السكاسك والسكون قد انضموا إليهم وكذلك شذاذ‬
‫من حضرموت‪ ،‬فإن لم تفعل خشينا أن تتفرق الناس عنا إليهم‪،‬‬
‫فأجابهم إلى تبييت القوم فاجتمعوا وطوقوهم في محاجرهم‬
‫سا حول نيرانهم فأكبوا على بني عمرو وبني معاوية‬ ‫فوجدوهم جلو ً‬
‫وفيهم العدد والشوكة من خمسة أوجه فأصابوا الملوك الربعة من‬
‫كندة وأختهم العمّردة وقتلوا فأكثروا‪ ،‬وهرب من أطاق الهرب وعاد‬
‫زياد بن لبيد بالموال والسبي) ‪ ،(4‬فهذه بعض النماذج من أهل اليمان‬
‫‪ ،6 .‬رقم‪ () 1 / 8400 :‬الصابة في تمييز الصحابة‪223 :‬‬
‫‪ () 2‬غوري‪ :‬نسبة إلى الغور‪ ،‬وهي أرض تهامة ما بين البحر والحجاز‪.‬‬
‫‪ () 3‬ديوان الردة للعتوم‪ :‬ص ‪ 81‬؛ منجد‪ :‬نسبة إلى نجد هي الرض المرتفعة‪.‬‬
‫‪ () 4 /2.‬الكامل في التاريخ‪84 :‬‬
‫‪179‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫الذين كانت لهم مواقف تدل على عمق إيمانهم وشدة انتمائهم إلى‬
‫السلم فكانوا من خطباء اليمان‪.‬‬
‫كرامات الولياء‪:‬‬
‫عندما تمكن السود العنسي باليمن وتنبأ بالنبوة بعث إلى أبي‬
‫مسلم الخولني فلما جاء قال له‪ :‬أتشهد أني رسول ال؟ قال‪ :‬ما‬
‫أسمع‪ .‬قال‪ :‬أتشهد أن محمًدا رسول ال؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فردد ذلك‬
‫عليه‪ ،‬وفي كله يقول مثل قوله الول قال‪ :‬فأمر به فألقي في نار‬
‫عظيمة فلم تضره‪ ،‬فقيل له‪ :‬انفه عنك وإل أفسد عليك من اتبعك‪،‬‬
‫واستخلف ‪ ×،‬قال‪ :‬فأمر بالرحيل فأتى المدينة وقد قبض رسول ال‬
‫أبو بكر فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد‪ ،‬ودخل المسجد فقام‬
‫يصلي إلى سارية‪ ،‬وبصر به عمر بن الخطاب فقام إليه فقال‪ :‬ممن‬
‫الرجل؟ قال‪ :‬من أهل اليمن‪ ،‬قال‪ :‬ما فعل الرجل الذي أحرقه‬
‫الكذاب بالنار؟ قال‪ :‬ذاك عبد ال بن ثوب‪ ،‬قال‪ :‬أنشدك ال أنت‬
‫هو؟ قال‪ :‬اللهم نعم‪ .‬فأعتنقه عمر وبكى‪ ،‬ثم ذهب به فأجلسه فيما‬
‫بينه وبين أبي بكر وقال‪ :‬الحمد ل الذي لم يمتني حتى أراني في‬
‫) أمة محمد من فعل به ما فعل بإبراهيم خليل ال‪1 ).‬‬
‫فهذه كرامة لهذا العبد الصالح الذي التزم بحدود ال وأحب في‬
‫ال وأبغض في ال وتوكل على ال في كل شيء‪ ،‬وبذلك وفقه‬
‫ال في القول والعمل ورزقه المن والطمأنينة وأجرى ال على‬
‫خْو ٌ‬
‫ف‬ ‫لل َ‬ ‫ن َأْوِلَياَء ا ِ‬
‫يديه هذه الكرامة‪ ،‬قال تعالى‪َ+ :‬أل ِإ ّ‬
‫حَزُنو َ‬
‫ن‬ ‫عَلْيِهْم َول ُهْم َي ْ‬‫ن‪َ ‬‬ ‫ن آَمُنوا َوَكاُنوا َيّتقو َ‬ ‫َلُهُم ‪ ‬اّلذي َ‬
‫ل ِلَكِلَما ِ‬
‫ت‬ ‫خَرِة ل َتْبِدي َ‬‫حَياِة الّدْنَيا َوِفي ال َِ‬
‫شَرى ِفي اْل َ‬‫اْلُب ْ‬
‫ظيُم" ]يونس‪62 :‬‬ ‫ك ُهَو اْلَفْوُز اْلَع ِ‬‫ل َذِل َ‬
‫‪ - 64].‬ا ِ‬
‫العفو عند الصديق‪:‬‬
‫كان لبي بكر بُْعد نظر وبصيرة نافذة ونظر بعواقب المور‪،‬‬
‫ولذلك كان يستعمل الحزم في محله والعفو عندما تقتضي إليه‬
‫صا على جمع شتات القبائل تحت راية السلم‪،‬‬ ‫الحاجة‪ ،‬فقد كان حري ً‬
‫فكان من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد‬
‫رجوعهم إلى الحق‪ ،‬فإنه لما استخضع قبائل اليمن المرتدة وأراهم‬
‫سطوة دولة المسلمين وقوة شكيمتهم ومضاء عزيمتهم‪ ،‬واعترفت‬
‫القبائل بما أنكرت واستكانت لحكم السلم‪ ،‬وأطاعوا خليفة رسول‬
‫ال رأى أبو بكر أنه من تأليف القلوب ترك استعمال القوة مع‬
‫زعماء هذه القبائل‪ ،‬بل اللين هنا والرفق أوفق‪ ،‬فرفع العقوبة عنهم‬
‫وألن القول لهم ووظف نفوذهم في قبائلهم لصالح السلم‬
‫والمسلمين ) ‪ ،(2‬فعفا عن زلتهم وأحسن إليهم‪ ،‬فقد فعل ذلك مع‬
‫قيس بن يغوث المرادي وعمرو بن معد يكرب‪ ،‬فقد كانا من صناديد‬
‫العرب وفرسانهم وأكثرهم شجاعة‪ ،‬فعز على أبي بكر أن يخسرهما‬
‫وحرص على أن يستخلصهما للسلم ويستنقذهما من التردد بين‬
‫السلم والردة‪ ،‬فقد قال أبو بكر لعمرو‪ :‬أما تخزى أنك كل يوم‬
‫مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك ال‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬ل‬
‫‪ 6247 /4.‬؛ الستيعاب‪ () 1 /6، 1758 :‬أسد الغابة‪304 :‬‬
‫‪ () 2 .‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪256‬‬
‫‪180‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫جرم لفعلن ولن أعود‪ .‬فأطلقه الصديق ولم يرتد عمرو بعدها قط‬
‫بل أسلم وحسن إسلمه ونصره ال‪ ،‬وأصبح له بلء عظيم في‬
‫الفتوحات‪ .‬وندم قيس على ما فعل‪ ،‬فعفا عنه الصديق‪ ،‬وكان للعفو‬
‫عن هذين البطلين من أبطال عرب اليمن آثاره العميقة والعريضة‪،‬‬
‫فقد تألف به الصديق قلوب أقوام قد عادوا إلى السلم بعد الردة‬
‫خوًفا أو طمًعا‪ .‬وعفا عن الشعث بن قيس‪ ،‬وبذلك أسر الصديق‬
‫قلوبهم وامتلك أفئدتهم‪ ،‬فكانوا في مستقبل اليام نصًرا للسلم‬
‫‪ ).‬وقوة للمسلمين وأصبحت لهم يد عظيمة في هذا المجال ) ‪1‬‬
‫وصية الصديق لعكرمة ومحاسبته لمعاذ‪:‬‬
‫حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة ‪ ‬كان أبو بكر‬
‫جل عكرمة فوافته بنو حنيفة فنكبوه‪،‬‬ ‫وأتبعه شرحبيل بن حسنة ع ّ‬
‫فكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره‪ ،‬فكتب إليه أبو بكر‪:‬‬
‫ك ول تراني على حالها‪ ،‬ل ترجع فتوهن‬ ‫يا ابن أم عكرمة ل أرين ّ‬
‫الناس‪ ،‬امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما‬
‫ض أنت ثم تسير وتسيّر جندك‬ ‫أهل عمان ومهرة‪ ،‬وإن شغل فام ِ‬
‫تستبرئون ممن مررتم به‪ ،‬حتى تلتقوا أنتم والمهاجر ابن أبي أمية‬
‫‪ ).‬باليمن وحضرموت ) ‪2‬‬
‫ونلحظ أن الصديق حينما وجه الجيوش لقتال المرتدين وجه إلى‬
‫مسيلمة الكذاب جيشين أحدهما بقيادة عكرمة بن أبي جهل والثاني‬
‫بقيادة شرحبيل بن حسنة‪ ،‬وهذا دليل على خبرة أبي بكر الدقيقة‬
‫بدرجات القوة عند العداء ومقدار مقدرتهم على الصمود‪ ،‬وحينما‬
‫تعجل عكرمة لحرب مسيلمة فنكب هو وجيشه أرسل إليه أبو بكر‬
‫» ل أرينك ول تراني على حالها ل ترجع فتوهن الناس « ‪ :‬يقول له‬
‫وهذا أيضا من خبرة أبي بكر الحربية فإن الروح المعنوية لها أثر كبير‬
‫في نتائج المعارك‪ ،‬فإذا قدم هؤلء المنهزمون فقابلوا الجيش‬
‫المتوجه لقتال العداء‪ ,‬فإن نفوس أفراد الجيش سيكون فيها شيء‬
‫صا فيما إذا روى لهم المنهزمون شيئًا عن‬ ‫التخوف والضعف‪ ،‬خصو ً‬
‫ضخامة جيش العداء وقوته ) ‪ ،(3‬وقد كان البعد الحربي عند الصديق‬
‫حا باهًرا‪،‬‬‫واضحا فأرسل عكرمة وجيشه إلى مناطق أخرى وحقق نجا ً‬
‫فارتفعت معنويته وجيشه‪.‬‬
‫وعندما رجع معاذ من اليمن إلى المدينة واستقبله الصديق وكان‬
‫من عاداته مراقبة عماله ومحاسبتهم بعد فراغهم‪ ،‬قال الصديق‬
‫لمعاذ‪ :‬ارفع حسابك‪ ،‬فقال‪ :‬أحسابان‪ :‬حساب ال وحساب منكم؟‬
‫‪ ).‬وال ل ألي لكم عمل أبًدا ) ‪4‬‬
‫توحيد اليمن ووضوح السلم عند أهله وطاعتهم‬
‫للخليفة‪:‬‬
‫وبعد انتهاء حروب الردة تجمعت اليمن تحت قيادة مركزية‬
‫عاصمتها المدينة المنورة‪ ،‬وقسم اليمن إلى أقسام إدارية ل وحدات‬
‫قبلية‪ ،‬فقد قسم إلى ثلثة أقسام إدارية‪ :‬صنعاء والجند وحضرموت‪،‬‬
‫‪ () 1 .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪256‬‬
‫‪ ،2 /6.‬البداية والنهاية‪ () 2 / 334 :‬الكامل في التاريخ‪34 :‬‬
‫‪ () 3 /9.‬التاريخ السلمي للحميدي‪83 :‬‬
‫‪ () 4 /1.‬عيون الخبار‪125 :‬‬
‫‪181‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫سا في الزعامة أو في التولية‪ ،‬ولم تعد‬ ‫ولم تعد العصبية القبلية أسا ً‬
‫القبيلة سوى وحدة عسكرية ل سياسية‪ ،‬وأصبحت المقاييس‬
‫)ال ‪(1‬معتبرة هي المقاييس اليمانية؛ التقوى والخلص والعمل الصالح ‪.‬‬
‫وتخلصت اليمن من بقايا الشرك ومن جميع مظاهره ‪-‬شرك في‬
‫العتقاد أو شرك في القول أو شرك في الفعل‪ -‬تركًا أو إتيانًا‪،‬‬
‫وأدركوا أن النبوة أرفع من أن يدعيها مدع عابث ويتخذها وسيلة إلى‬
‫غرضه ورغبته‪ (2 ).‬وأيقنوا أن اليمان ل يلتقي مع المطامع‪ ،‬وأن‬
‫السلم ل يتفق مع الجاهلية‪ ،‬عرفوا ذلك بالدماء واللم والحسرات‪،‬‬
‫فقتل من كل الطرفين الكثير وتعلم منهم الكثير ) ‪ ،(3‬ورجع من كان‬
‫قد ارتد إلى السلم يرجو التكفير عما بدر ) ‪ ،(4‬وأذن لهم بالجهاد في‬
‫وقد برزت قيادات يمنية إسلمية ‪ ،‬عصر الخليفة عمر بن الخطاب‬
‫في الفتوحات قد تربت وانصهرت في أحداث الردة‪ ،‬وكانوا من‬
‫الثابتين على السلم؛ كجرير ابن عبد ال البجلي‪ ،‬وذي الكلع‬
‫الحميري‪ ،‬ومسعود بن العكي‪ ،‬وجرير بن عبد ال الحميري وغيرهم‪،‬‬
‫وكان لهذه القيادات أدوار بارزة في الفتوحات السلمية وفي‬
‫عمران مدن جديدة في الكوفة وفي البصرة والعراق والفسطاط‬
‫ضا شخصيات يمنية عينت في اليمن وغير اليمن‬ ‫بمصر‪ ،‬وبرزت أي ً‬
‫قضاة وولة مثل‪ :‬حشك عبد الحميد‪ ،‬وسعيد بن عبد ال العرج‪،‬‬
‫‪ ).‬وشرحبيل بن السمط الكندي‪ ،‬وغيرهم ) ‪5‬‬
‫والتحم أهل اليمن بالدولة السلمية وبقيادتها سواء التي عليهم‬
‫في المدينة‪ ،‬ولهذه حينما دعاهم » الخليفة « مباشرة أو القيادة العامة‬
‫الخليفة للجهاد سارعوا طواعية ورغبة في الجهاد كما سيأتي تفصيله‬
‫بإذن ال تعالى‪ .‬لقد تربوا في أحداث الردة تربية كافية‬
‫جعلتهم موصولين بالقيادة واثقين بها‪ ،‬ولذا ساد الهدوء والستقرار‬
‫‪ ).‬وأصبحوا خير مدد للسلم والمسلمين ) ‪6‬‬
‫‪ 2-‬القضاء على فتنة طليحة السدي‪:‬‬
‫طليحة السدي هو المتنبئ الثالث من المتنبئة الذين ظهروا في‬
‫بالحياة‪ ،‬وطليحة هذا هو طليحة بن × السلم أواخر عهد رسول ال‬
‫خويلد بن نوفل بن نضلة السدي‪ ،‬ولقد قدم مع وفد قومه أسد على‬
‫في عام الوفود سنة تسع للهجرة فسلموا عليه‪ × ،‬رسول ال‬
‫وقالوا له ممتنين‪ :‬جئناك نشهد أن ل إله إل ال وأنك عبده ورسوله‬
‫ولم تبعث إلينا ونحن لمن وراءنا‪ ،‬فأنزل ال ‪-‬عز وجل‪ -‬قوله‪:‬‬
‫سلَمُكْم َب ِ‬
‫ل‬ ‫ي ِإ ْ‬
‫عَل ّ‬
‫سَلُموا ُقل ل َتُمّنوا َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ك َأ ْ‬
‫عَلْي َ‬‫‪َ+‬يُمّنون َ‬
‫ن"‬‫صاِدِقي َ‬
‫ن ِإن ُكْنُتْم َ‬‫ن َهَداُكْم ِلِليَما ِ‬‫عَلْيُكْم َأ ْ‬
‫ن َ‬
‫ل َيُم ّ‬
‫ا ُ‬
‫]الحجرات‪ ،[ 17 :‬ولما عادوا ارتد طليحة وتنبأ) ‪ ،(7‬وعسكر في سميراء‬
‫‪ () 1 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪290‬‬
‫‪ () 2 .‬الخلفة الراشدة والخلفاء الراشدون‪ ،‬يوسف علي‪ :‬ص ‪39‬‬
‫‪ () 3 .‬ظاهرة الردة‪ ،‬محمد بريغش‪ :‬ص ‪159‬‬
‫‪ () 4 .‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪289‬‬
‫‪6 . 291 ، ( 5‬‬
‫‪7‬‬
‫( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪5‬‬
‫‪ (2‬حروب الردة‪ ،‬لمحمد أحمد باشميل‪ () /3. ( :‬صأ ‪9‬سد ‪. 7‬الغابة‪95 :‬‬
‫‪182‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وأول ما « واتبعه العوام واستكشف أمره ‪ »،‬منطقة في بلدهم «‬
‫صدر عنه وكان سببًا لضلل الناس أنه كان مع بعض قومه في سفر‬
‫اسم « فأعوزهم الماء وغلب العطش على الناس فقال‪ :‬اركبوا أعلل‬
‫واضربوا أميال تجدوا بللً‪ .‬ففعلوا فوجدوا الماء‪ ،‬فكان ذلك » فرسه‬
‫‪ » (1).‬سبب وقوع العراب في الفتنة‬
‫ومن خزعبلته أنه رفع السجود من الصلة‪ ،‬وكان يزعم أن‬
‫الوحي يأتيه من السماء‪ ،‬ومن أسجاعه التي ادعى أنه يوحى له بها‬
‫والحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قلبكم بأعوام « ‪ :‬قوله‬
‫‪ (2‬وغرته نفسه واشتد أمره وقوت ( » ليبلغن ملكنا العراق والشام‬
‫ضرار بن الزور السدي لمقاتلته لما × شوكته‪ ،‬فبعث رسول ال‬
‫ل؛ وذلك لتعاظم قوته‬ ‫سمع من أمره‪ ،‬ولكن ضرار لم يكن له به ِقب َ‬
‫مع الزمن‪ ،‬ول سيما بعد أن آمن به الحليفان‪:‬‬
‫) أسد وغطفان‪3 ).‬‬
‫وتقول عنه دائرة المعارف السلمية‪ :‬ويروي عنه أنه كان يرتجل‬
‫الشعر ويخطب عفو الساعة في ميدان القتال‪ ...‬ويبدو أنه كان مثال حقا للزعيم القبلي الجاهلي‪ .‬وقد اجتمعت فيه‬
‫صفات العراف‬
‫والشاعر والخطيب والمقاتل‪ (4 ).‬ويشم من هذا النص رائحة المدح‬
‫المبطن لطليحة من قبل هذه الموسوعة الشهيرة‪ ،‬فهو في نظرها‬
‫الزعيم القبلي المثال‪ ،‬يرتجل الشعر والخطابة‪ ،‬وهما أهم ما كان‬
‫يحرص عليه العربي آنذاك‪ ،‬ول يستغرب هذا التجاه من هذه‬
‫الموسوعة التي جعلت من اللمز في السلم ديدنها‪ ،‬سواء أعرفت‬
‫أن طليحة عاد فأسلم وحسن إسلمه أم لم تعرف‪.‬‬
‫وتوفي رسول ال ولم يحسم أمر طليحة ) ‪ (5‬وتولى الخلفة‬
‫وعقد اللوية للجيوش والمراء للقضاء على المرتدين‪ ، ،‬الصديق‬
‫شا بقيادة خالد بن‬ ‫وكان من ضمنهم طليحة‪ ،‬ووجه إليه الصديق جي ً‬
‫الوليد‪.‬‬
‫روى المام أحمد‪ … :‬أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد‬
‫على قتال أهل الردة قال‪ :‬سمعت رسول ال يقول‪ :‬نِْعم عبد ال‬
‫وأخو العشيرة خالد بن الوليد‪ ،‬سيف من سيوف ال‪ ،‬سله ال على‬
‫‪ ،(6‬ولما توجه خالد من ذي القصة وفارقه (» الكفار والمنافقين‬
‫الصديق‪ ،‬واعده أن سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من المراء‪،‬‬
‫وأظهروا ذلك ليرعبوا العراب‪ ،‬وأمره أن يذهب أول إلى طليحة‬
‫السدي‪ ،‬ثم يذهب بعده إلى بني تميم‪ ،‬وكان طليحة بن خويلد في‬
‫قومه بني أسد وفي غطفان‪ ،‬وانضم إليهم بنو عبس وذبيان‪ ،‬وبعث‬
‫جديلة والغوث من طيء يستدعيهم إليه‪ ،‬فبعثوا أقواًما منهم‬ ‫إلى بني َ‬
‫بين أيديهم ليلحقوهم على أثرهم سريًعا‪ .‬وكان الصديق قد بعث‬
‫عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد وقال له‪ :‬أدرك قومك ل يلحقوا‬
‫‪12‬‬
‫‪ () 6‬البداية والنهاية‪34 . 3/95 ( . 323/ :‬‬
‫( أسد الغابة‪4 :‬‬
‫‪ .‬طليحة(‪ ،‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪ () « 78‬دائرة المعارف السلمية مادة‬
‫‪ () 5 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪78‬‬
‫‪ ،1‬وقال الشيخ أحمد شاكر‪ :‬إسناده صحيح‪ () 6 / .‬مسند أحمد‪173 :‬‬
‫‪183‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫بطليحة فيكون دمارهم‪ ،‬فذهب عدي إلى قومه بني طيء فأمرهم‬
‫أن يبايعوا الصديق ) ‪ ،(1‬وأن يراجعوا أمر ال فقالوا‪ :‬ل نبايع أبا‬
‫صيل ) ‪ (2‬أبدا ‪-‬يعنون أبا بكر‬ ‫فقال‪ :‬وال ليأتينكم جيشه فل ‪ -‬الَف ِ‬
‫يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنه أبو الفحل الكبر‪ ،‬ولم يزل عدي‬
‫يفتل لهم في الذروة والغارب حتى لنوا‪ ،‬وجاء خالد في الجنود‬
‫وعلى مقدمة النصار الذين معه‪ :‬ثابت بن قيس بن شماس‪ ،‬وبعث‬
‫بين يديه ثابت بن أقرم وعكاشة بن محصن طليعة‪ ،‬فتلقاهما حيال‬
‫‪-‬ابن أخي طليحة‪ -‬فقتله‪ ،‬فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخوه سلمة‪،‬‬
‫فلما وجدوا ثابتًا وعكاشة تبارزوا وحمل طليحة على عكاشة فقتله‬
‫وقتل سلمة ثابت بن أقرم‪ ،‬وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين‪،‬‬
‫فشق ذلك على المسلمين‪ ،‬ومال خالد إلى بني طيء فخرج إليه‬
‫عدي بن حاتم فقال‪ :‬أنظرني ثلثة‪ ،‬فإنهم يخشون إن تابعوك أن‬
‫يقتل طليحة من سار إليه منهم‪ ،‬وهذا أحب إليك من أن يعجلهم إلى‬
‫النار‪ ،‬فلما كان بعد ثلث جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع‬
‫الحق‪ ،‬فانضافوا إلى جيش خالد‪ ،‬وقصد خالد بني جديلة فقال له‪ :‬يا‬
‫) خالد أجلني أياًما حتى آتيهم فلعل ال أن ينقذهم كما أنقذ الغوث ) ‪3‬‬
‫فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى تابعوه فجاء بإسلمهم ولحق‬
‫بالمسلمين منهم ألف راكب‪ ،‬فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة‬
‫‪  (4).‬على قومه‬
‫خة والقضاء على بني أسد‪:‬‬‫أ‪ -‬معركة ُبَزا َ‬
‫ي جيشه هنالك‪ ،‬والتقى‬ ‫عب ّ‬‫ثم سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى و َ‬
‫ووفقت أحياء كثيرة من » بزاخة « ‪ :‬مع طليحة السدي بمكان يقال له‬
‫العراب ينظرون على من تكون الدائرة‪ ،‬وجاء طليحة فيمن معه من‬
‫قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم‪ ،‬وقد حضر معه عيينة بن‬
‫حصن في سبعمائة من قومه بنى فزارة واصطف الناس وجلس‬
‫طليحة ملتًفا في كساء له يتنبأ لهم ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم‪،‬‬
‫وجعل عيينة يقاتل حتى إذا ضجر من القتال جاء إلى طليحة وهو‬
‫ملتف في كسائه وقال له‪ :‬أجاءك جبريل؟ فيقول‪ :‬ل‪ ،‬فيرجع فيقاتل‪.‬‬
‫ثم يرجع فيقول له مثل ذلك ويرد عليه مثل ذلك‪ ،‬فلما كان في‬
‫الثالثة قال له‪ :‬هل جاءك جبريل؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فما قال لك؟ قال‪:‬‬
‫قال لي‪ :‬إن لك رحا كرحاه وحديثًا ل تنساه‪ ،‬قال‪ :‬يقول عيينة‪ :‬أظن‬
‫أنه قد علم ال سيكون لك حديث ل تنساه‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا بني فزارة‬
‫انصرفوا وانهزَم وانهزم الناس عن طليحة‪ ،‬فلما جاءه المسلمون‬
‫ركب على فرس كان قد أعدها له وأركب امرأته النوار على بعير له‪،‬‬
‫ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه‪ ،‬وقد قتل ال طائفة ممن كان‬
‫‪ ).‬معه ) ‪5‬‬
‫وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر‬
‫‪ 1‬ا)ل( ت سلرتمييب‪ :‬وت صه ذيب كتاب البداية والنهاية‪ ،‬خلفة أبي بكر‪ ،‬د‪ :‬محمد بن صامل ‪101.‬‬
‫‪ () 2‬الفصيل‪ :‬ولد الناقة‪.‬‬
‫‪ () 3 .‬البداية والنهاية‪ :‬تهذيب محمد السلمي‪ :‬ص ‪102‬‬
‫‪ () 4 /6.‬البداية والنهاية‪322 :‬‬
‫‪ () 5 /2.‬البداية والنهاية‪322 :‬‬
‫‪184‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫طليحة ومن كان في صفه وقام بنصره فكتب إليه‪ :‬ليزدك ما أنعم ال‬
‫به را خ يًواتق ال في أمرك‪ ،‬فإن ال مع الذين اتقوا والذين هم‬
‫ي أمرك ول تلن ول تظفر بأحد من المشركين قتل من‬ ‫جف ّ‬
‫محسنون‪.‬د ِ‬
‫صَعد عنها ويصوب‬ ‫المسلمين إل نكلت به‪ ،‬فأقام خالد ببزاخة شهر ي ُ‬
‫ويرجع إليها في طلب الذي وصاه الصديق‪ ،‬فجعل يتردد في طلب هؤلء‬
‫را ش هيًأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين‬
‫ارتدوا‪ ،‬فمنهم من حرقه بالنار ومنهم من رضخه بالحجارة‪ ،‬ومنهم من‬
‫رمى به من شواهق الجبال‪ ،‬كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من‬
‫‪ ).‬مرتدة العرب ) ‪1‬‬
‫ب‪ -‬وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم‪:‬‬
‫لما قدم وفد بزاخة –أسد وغطفان‪ -‬على أبي بكر يسألونه الصلح‬
‫خيرهم أبو بكر بين حرب مجلية أو خطة مخزية‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا خليفة‬
‫رسول ال‪ ،‬أما الحرب المجلية فقد عرفناها فما الخطة المخزية؟‬
‫قال‪ :‬تؤخذ منكم الحلقة والكَُراع وتتركون أقواًما تتبعون أذناب البل‬
‫حتى يُِري ال خليفة نبيه والمؤمنين أمًرا يعذرونكم به‪ ،‬وتودون ما‬
‫أصبتم منا ول نودي ما أصبنا منكم‪ ،‬وتشهدون أن قتلنا في الجنة‬
‫وأن قتلكم في النار‪ ،،‬وتدون قتلنا ول ندى قتلكم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أما‬
‫قولك تدون قتلنا فإن قتلنا قتلوا على أمر ال ل ديات لهم‪ ،‬فامتنع‬
‫‪ ).‬عمر‪ ،‬وقال عمر في الثاني‪ :‬نعم ما رأيت) ‪2‬‬
‫ج‪ -‬قصة أم ِزمل‪:‬‬
‫كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الضلل من أصحاب طليحة من‬
‫بني غطفان إلى امرأة يقال لها‪ :‬أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة‬
‫ظَفر ) ‪ (3‬وكانت من سيدات العرب كأمها أم قرفة ‪ ،‬وكان يضرب بأمها المثل في الشرف‬ ‫)ف ‪(4‬ي مكان يسمى َ‬
‫لكثرة أولدها وعزة قبيلتها‬
‫وبيتها‪ ،‬فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد فهاجوا لذلك‪ ،‬وناشب‬
‫شا‬
‫إليهم آخرون من بني سليم وطيء وهوازن وأسد فصاروا جي ً‬
‫كثيًفا‪ ،‬وتفحل أمر هذه المرأة فلما سمع بهم خالد ابن الوليد سار‬
‫إليهم واقتتلوا قتال شديًدا وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يقال‬
‫وذلك لعزها‪ ،‬فهزمهم خالد » من نخسه فله مائة من البل « ‪ :‬له‬
‫‪ ).‬وعقر جملها وقتلها‪ ،‬وبعث بالفتح إلى الصديق ) ‪5‬‬
‫د‪ -‬دروس وعبر وفوائد‪:‬‬
‫ثقة الصديق بال‪ ،‬وخبرته الحربية‪:‬‬
‫قول الصديق لعدي بن حاتم‪ :‬أدرك قومك ل يلحقوا بطليحة‬
‫وثقته بنصر ‪ ‬فيكون دمارهم‪ .‬فيه مثال على قوة يقين أبي بكر‬
‫ال‪ ،‬فقد حكم على نتيجة المعركة مع طيء قبل الدخول فيها‪ ،‬وفي‬
‫أمر أبي بكر خالًدا ‪-‬رضي ال عنهما‪ -‬بأن يبدأ بحرب قبيلة طيء مع‬
‫‪ () 1 /2.‬نفس المصدر السابق‪233 :‬‬
‫‪ () 2 /2.‬البداية والنهاية‪233 :‬‬
‫‪ () 3‬ظفر‪ :‬اسم موضع قرب الحوأب في طريق البصرة إلى المدينة‪.‬‬
‫‪ () 4 /6.‬البداية والنهاية‪323 :‬‬
‫‪ () 5 /6.‬نفس المصدر السابق‪323 :‬‬
‫‪185‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫أنها أبعد من تجمع طليحة خطة حربية ناجحة‪ ،‬وذلك ليحول دون‬
‫انضمام طيء إلى طليحة‪ ،‬وليضطر من انضم إليها منهم إلى التخلي‬
‫عنه للدفاع عن قبيلتهم‪ ،‬ثم في إظهار أبي بكر أنه خارج جهة خيبر‬
‫ليلقي خالًدا ببلد طيء تخطيط حربي بارع وذلك لرهاب تلك القبيلة‬
‫والقبائل المجاورة‪ ،‬وتظهر براعة الصديق في اختيار الرجال أن‬
‫اختار لهذه المهمة التي لها ما بعدها أبا سليمان خالد بن الوليد الذي‬
‫) لم تنتكس له راية‪1 ) .‬‬
‫وفي خطاب الصديق لخالد بعد انتهاء معركة بزاخة فوائد منها‪:‬‬
‫الدعاء لخالد الذي يفهم منه الثناء عليه بإحسان‪ ،‬كما يتضمن أمره‬
‫بتقوى ال وذلك فيه العصمة من الوقوع في الزلل واتباع الهوى‪،‬‬
‫كما أمره بالجد والحزم مع العداء؛ لنهم ما زالوا في فورة‬
‫وبصيرته ‪ ‬طغيانهم‪ ،‬وهذا موقف قوى يدل على حزم الصديق‬
‫النافذة‪ ،‬فهناك قبائل ل تزال متحيرة ومترددة بين الحق والباطل‪،‬‬
‫والهدى والضلل‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬واليمان والكفر‪ ،‬بحاجة إلى تأديب‬
‫وردع حتى يزول طغيانهم‪ ،‬فالموقف من أبي بكر يقتضي أعلى‬
‫درجات القوة والحزم والسرعة‪ ،‬فكانت منه القوة في محل القوة‪،‬‬
‫كما كان منه اللين في محل اللين‪.‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫ووضع الندى في موضع‬
‫السيف للندى‬
‫) موضع الندى) ‪2‬‬
‫وفي موقف الصديق في عدم قبول استسلم هؤلء المحاربين‬
‫وعدم قبول الصلح إل بحرب مجلية أو خطة مخزية إظهار عزة‬
‫السلم وهيبة دولته‪ ،‬فكانت شروطه في الصلح قوية وكان من‬
‫أشدها عليهم مصادرة أسلحتهم وخيولهم‪ ،‬وكان هذا الشرط مؤقتًا‬
‫بظهور صدق توبتهم وخضوعهم لدولة السلم‪ ،‬وقد كان ل بد منه‬
‫لضمان عدم عودتهم إلى التمرد‬
‫‪ ).‬مرة أخرى ) ‪3‬‬
‫نصح عدي بن حاتم لقومه والحرب النفسية التي شنها‬
‫عليهم‪:‬‬
‫قدم عدي على قومه طئ فدعاهم للرجوع للسلم فقالوا‪ :‬ل‬
‫نبايع أبا الفصيل أبًدا ) ‪ ،(4‬فقال‪ :‬لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم‬
‫ولتكننه بالفحل الكبر فشأنكم به‪ ،‬فقالوا له‪ :‬فاستقبل الجيش‬
‫فنهنهه ) ‪ (5‬عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا‪ ،‬فإنا إن خالفنا‬
‫طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم‪ ،‬فاستقبل عدي خالًدا وهو‬
‫بالسنح فقال‪ :‬يا خالد أمسك عني ثلثًا يجتمع لك خمسمائة مقاتل‬
‫تضرب بهم عدوك‪ ،‬وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار وتتشاغل‬
‫‪ () 1 /9 – 63.‬التاريخ السلمي للحميدي‪60 :‬‬
‫‪ () 2 /9، 65.‬نفس المصدر السابق‪64 :‬‬
‫‪ () 3 /9.‬نفس المصدر السابق‪66 :‬‬
‫والبكر والفصيل‪ :‬اسمان لولد الناقة‪ ()  4، .‬يريدون بذلك أبا بكر‬
‫‪ () 5‬أي‪ :‬ادفعه وكفه‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫بهم‪ ،‬ففعل‪ ،‬فعاد عدي بإسلمهم إلى خالد‪ (1 ).‬فهذا موقف استطاع‬
‫فيه عدي أن يقنع قبيلته بفرعيها بني الغوث وبني جديلة بالتخلي عن‬
‫معسكر طليحة والنضمام إلى جيش خالد بن الوليد‪ ،‬وهذا تحول‬
‫مهم في تقرير نتائج معركة بزاخة الحاسمة‪ ،‬فهذا موقف عظيم‬
‫إلى جانب موقفه الول حينما قدم على الصديق ‪ ‬يسجل لعدي‬
‫بصدقات قومه‪ ،‬وكان المسلمون بأمس الحاجة إلى المال آنذاك‪،‬‬
‫ولقد كان إسلمه من أول يوم إسلم رجل العلم والفهم‪ ،‬فكان عن‬
‫قناعة واختيار‪ ،‬وكان واثًقا من انتصار السلم والمسلمين في‬
‫يوم إسلمه‪ ،‬فكان ليمانه القوي × النهاية‪ ،‬كما بشره بذلك النبي‬
‫أثر في إقناع قومه في العدول عما توجهوا إليه من مناصرة أعداء‬
‫السلم‪ ،‬ولم تكن قناعتهم إلى حد الحياد والنتظار حتى يروا لمن‬
‫تكون الدائرة‪ ،‬بل انضم منهم ألف وخمسمائة إلى جيش المسلمين‪،‬‬
‫مما يدل على مبلغ أثره فيهم‪ (2 ).‬وجاء في رواية‪ :‬أن قومه طلبوا من‬
‫سا لن بني أسد حلفاؤهم‪ ،‬فقال لهم خالد‪ :‬وال‬‫خالد بأن يقاتلوا قي ً‬
‫ما قيس بأوهن الشوكتين‪ ،‬اصمدوا إلى أي القبيلتين أحببتم‪ ،‬فقال‬
‫عدي‪ :‬لو ترك هذا الدين أسرتي الدنى فالدنى من قومي لجاهدتهم‬
‫عليه‪ ،‬فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لحلفهم! ل لعمر ال ل أفعل‪.‬‬
‫فقال له خالد‪ :‬إن جهاد الفريقين جميًعا جهاد‪ ،‬ل نخالف رأي‬
‫ض إلى أحد الفريقين وامض بهم إلى القوم الذين هم‬ ‫أصحابك‪ ،‬ام ِ‬
‫) لقتالهم أنشط‪3 ).‬‬
‫وفي إنكار عدي على قومه دليل على قوة إيمانه وغزارة علمه؛‬
‫حيث والى أولياء ال وإن كانوا بعيدين عنه في النسب‪ ،‬وتبرأ من‬
‫أعداء ال وإن كانوا من أقاربه‪ (4 ).‬كما تظهر خبرة خالد بن الوليد‬
‫الحربية حينما أمر عديًا بأن ل يخالف قومه في تمنعهن في مواجهة‬
‫حلفائهم بني أسد‪ ،‬وأن يوجههم إلى الوجه الجهادي الذي يكونون فيه‬
‫‪ ).‬أنشط على القتال ) ‪5‬‬
‫لقد كان الدور الذي قام به عدي في دعوة قبيلته إلى النضمام‬
‫إلى جيش المسلمين عظيًما‪ ،‬فكان دخول طئ في جيش خالد أول‬
‫وهن أصيب به العداء؛ لن قبيلة طئ من أقوى قبائل جزيرة العرب‪،‬‬
‫وممن كانت القبائل تحسب لها حسابًا وتنظر إليها باعتبارها على‬
‫درجة من القوة بحيث كانت مرهوبة الجانب عزيزة في بلدها‪،‬‬
‫تتقرب إليها جاراتها بالتحالف معها‪ .‬لقد التقى الجمعان بعد أن دب‬
‫الوهن في نفوس العداء‪ ،‬فكتب ال النصر لجيش المسلمين‪،‬‬
‫فسرعان ما طفقوا يقتلون ويأسرون حتى أبادوا جميع أعدائهم‬
‫وهرب قائدهم طليحة على فرسه‪ ،‬ولم يسلم منهم إل من استسلم‬
‫أو هرب‪ ،‬وبعد هذه الوقعة انتشر الضعف في نفوس المرتدين من‬
‫قبائل الجزيرة فأصبح الجيش السلمي ل يجد عناء في هزيمة من‬
‫‪ ).‬تجمع منهم في أماكن أخرى ) ‪6‬‬
‫‪ () 9‬التاريخ السلمي‪23 . 9/61 ( . 57/ 1 :‬‬
‫( المصدر السابق‪2 :‬‬
‫‪ (5 /9.‬التاريخ السلمي‪ () 4 /4. (4), ( 61 :‬تاريخ الطبري‪5 75 :‬‬
‫‪ .9 /2، 144.‬الحرب النفسية من منظور إسلمي‪ ،‬د‪ :‬أحمد نوفل‪ () 6 / 143 :‬التاريخ ا )لسلمي‪61( :‬‬
‫‪187‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫أسباب هزيمة طليحة بن خويلد السدي‪:‬‬
‫كانت هناك مجموعة من السباب ساهمت في هزيمة طليحة‬
‫السدي‪ ،‬منها‪:‬‬
‫إن المسلمين كانوا يقاتلون مدفوعين بعقيدة راسخة ويقين‬
‫بنصر ال وحب في الشهادة‪ ،‬فكان حب الموت في سبيل ال‬
‫حا معنوًيا فتا ًكا‪ ،‬فكان خالد يرسل للمرتدين هذه الكلمات‬ ‫تعالى سل ً‬
‫القلئل‪ :‬لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة‪ (1 ).‬ولقد‬
‫عرف العدو نفسه من خلل تعامله مع قوات المسلمين في‬
‫المعارك التي خاضوها معه صدقهم في تنفيذ هذا المبدأ‪ ،‬فقد سأل‬
‫طليحة السدي قومه لما انهزموا في موقعة بزاخة مع جيش خالد‬
‫فقال رجل »؟ ويلكم ما يهزمكم « ‪ :‬بشيء كبير من الحنق والتعجب‬
‫إل وهو يحب أن يموت قبله » منا « منهم‪ :‬أنا أخبركم‪ ،‬إنه ليس رجل‬
‫‪ ).‬صاحبه‪ ،‬وإنا نلقي أقوا ًما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه ) ‪2‬‬
‫كان لنضمام طئ أثره في تقوية المسلمين وإضعاف أعدائهم‪،‬‬
‫كما كان مقتل الصحابيين عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم قد زاد‬
‫من غيظ المسلمين ودفعهم إلى قتال أعدائهم‪ ،‬كما كان لتورية أبي‬
‫بكر الصديق تأثير على طئ في عدم التعاون مع حلفائها وبقائها في‬
‫مواضعها الصلية‪ ،‬وأما التورية المشار إليها فإن الصديق أوهم الناس‬
‫أنه متوجه إلى خيبر بدل من الجهة الصلية التي حددت للجيش‪ ،‬كما‬
‫سا كما أرادت شجعها على‬ ‫كان لفساح المجال لطئ كي تقاتل قي ً‬
‫الستقلل في الحرب؛ إذ لو أصر خالد على أن يقاتلوا حلفاءهم من‬
‫)بن ‪(3‬ي أسد كما أراد عدي بن حاتم لقصرت طئ في حربها أيما تقصير ‪ ،‬وغير ذلك من السباب‪.‬‬
‫من نتائج معركة بزاخة‪:‬‬
‫القضاء على قوة أحد الدعياء القوياء وعودة فريق كبير من‬
‫العرب إلى حظيرة السلم‪ ،‬فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة‬
‫يقولون‪ :‬ندخل فيما خرجنا منه‪ ،‬فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل‬
‫بزاخة من أسد وغطفان وطئ قبلهم‪ ،‬وأعطوه بأيديهم على السلم‪،‬‬
‫ولم يقبل أحد من أسد ول غطفان ول هوازن ول سليم ول طيء إل‬
‫أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل السلم في حال‬
‫ردتهم‪ ،،‬فأتوه بهم… فمثل خالد ابن الوليد بالذين عدوا على السلم‬
‫فأحرقهم بالنيران‪ ،‬ورضخهم بالحجارة ورمى بهم في الجبال‬
‫ونكسهم في البار‪ ،‬وخرقهم بالنبال‪ ،‬وبعث بقرة بن هيبرة والسارى‪،‬‬
‫وكتب إلى أبي بكر‪ :‬إن بني عامرة أقبلت بعد إعراض ودخلت في‬
‫السلم بعد تربص‪ ،‬وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئًا‬
‫حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين فقتلتهم كل قتلة وبعثت إليك‬
‫‪ () 1 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪289‬‬
‫‪ ،2 .‬نقل عن حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪ () 2 / 289‬تاريخ الخمسين للديار بكري‪207 :‬‬
‫‪ ، 97‬نقل عن حروب الردة‪ :‬أحمد ‪ () 3 ،‬س عي خادل‪ :‬د بن الوليد‪ ،‬شيت خطاب‪ :‬ص ‪ . 96‬ص ‪124‬‬
‫‪188‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫) بقرة وأصحابه‪1 ).‬‬
‫وكان عيينة بن حصن من بين السرى فأمر خالد بشد وثاقه‬
‫تنكيل به‪ ،‬وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه إزراء عليه وإرهابًا‬
‫لسواه‪ ،‬فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة‬
‫أي عدو ال‪ : « ،‬مستهزئين‪ ،‬وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين‬
‫فيقول‪ :‬وال ما كنت آمنت قط‪ .‬وجيء به »!! ارتددت عن السلم‬
‫إلى خليفة رسول ال ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها‪ ،‬وأمر‬
‫حا واعتذر عما كان منه‬ ‫بفك يديه ثم استتابه‪ ،‬فأعلن عيينة توبة نصو ً‬
‫‪ ).‬وأسلم وحسن إسلمه ) ‪2‬‬
‫ومضى طليحة حتى نزل كلب) ‪ (3‬على النقع فأسلم‪ ،‬ولم يزل‬
‫مقيًما في كلب حتى مات أبو بكر‪ .‬وكان إسلمه هنالك حين بلغه أن‬
‫أسًدا وغطفان وعامًرا قد أسلموا‪ ،‬ثم خرج نحو مكة معتمرا في‬
‫إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة فقيل لبي بكر‪ :‬هذا طليحة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما أصنع به‪ ،‬خلوا عنه فقد هداه ال للسلم‪ (4 ) .‬وقد جاء عند‬
‫ضا وذهب إلى‬ ‫ابن كثير‪ :‬وأما طليحة فإنه راجع السلم بعد ذلك أي ً‬
‫مكة معتمًرا أيام الصديق‪ ،‬واستحيا أن يواجهه مدة حياته‪ ،‬وقد منع‬
‫الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحتياط لمر المة؛ لن من كان له‬
‫سوابق في الضلل والكيد للمسلمين ل يؤمن أن يكون رجوعه من‬
‫من الئمة الذين ‪ ‬باب الستسلم لقوة المسلمين‪ ،‬فأبو بكر‬
‫يرسمون للناس خط سيرهم‪ ،‬ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم‪،‬‬
‫فهو لذلك يأخذ بمبدأ الحتياط لما فيه صالح المة وإن كان في ذلك‬
‫وضع من شأن بعض الفراد‪ (5 ).‬وهذا درس عظيم تتعلمه المة في‬
‫عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في اللحاد ثم ظهر منهم‬
‫العود إلى اللتزام بالدين‪.‬‬
‫إن وضع الثقة الكاملة بهؤلء وإسناد العمال القيادية لهم قد جر‬
‫على المة أحيانًا ويلت كثيرة‪ ،‬وأوصلها إلى مآزق خطيرة‪ ،‬على أن‬
‫أخذ الحذر من مثل هؤلء ل يعني اتهامهم في دينهم ول نزع الثقة‬
‫منهم بالكلية‪ ،‬وهذا معلم من سياسة الصديق في التعامل مع أمثال‬
‫‪ ).‬هؤلء ) ‪6‬‬
‫هذا وقد حسن إسلم طليحة وأتى إلى عمر للبيعة حين استخلف‬
‫وقال له عمر‪ :‬أنت قاتل عكاشة وثابت ) ‪ ،(7‬وال ل أحبك أبدا‪ ،‬فقال‬
‫يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما تهتم من رجلين أكرمهما ال بيدي ولم يهن ّ‬
‫ي‬
‫بأيديهما! فبايعه عمر ثم قال له‪ :‬يا خدع ما بقي من كهانتك؟ قال‪:‬‬
‫نفخة أو نفختان بالكير‪ ،‬ثم رجع إلى دار قومه فأقام بها حتى خرج‬
‫حا ولم يغمض ) ‪ (9‬عليه فيه وقال‬ ‫إلى العراق) ‪ ،(8‬وقد كان إسلمه صحي ً‬
‫‪ () 4‬تاريخ الطبري‪23 . 87 ( . 82/ 1 :‬‬
‫ص ( الصديق أول الخلفاء‪2 :‬‬
‫‪45 . 9/95‬‬
‫( التاريخ السلمي‪ () ) 4 :‬أي‪ :‬نزل في قبيلة كلب‪.‬‬
‫‪ () /9.‬التاريخ السلمي‪76 :‬‬
‫‪ () 6 /9.‬نفس المصدر السابق‪76 :‬‬
‫‪ () 7‬عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم رضي ال عنهما‪.‬‬
‫‪ ،9 /4.‬تاريخ الطبري‪ () 8 / 81 :‬التاريخ السلمي‪59 :‬‬
‫‪ () 9‬يطعن فيه‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫يعتذر ويذكر ما كان منه‪:‬‬
‫ندمت على ما كان من قتل‬
‫ثابت‬
‫وعكاشة الغنمي ثم ابن معبد‬
‫وأعظم من هاتين عندي‬
‫مصيبة‬
‫رجوعي عن السلم فعل‬
‫التعمد‬
‫جّمة طريًدا وِقْدًما كنت غير مطّرد‬‫وتركي بلدي والحوادث َ‬
‫فهل يقبل الصديق أنى‬
‫مراجع‬
‫ط بما أحدثت من حد ٍ‬
‫ث‬ ‫ومع ٍ‬
‫يدي‬
‫وأني من بعد الضللة شاهد شهادة حق لست فيها بملحد‬
‫) بأن إله الناس ربي وأنني ذليل وأن الدين دين محمد ) ‪1‬‬
‫ه‪ -‬قصة الفجاءة‪:‬‬
‫واسمه إياس بن عبد ال بن عبد ياليل بن عمير بن خفاف من‬
‫بني سليم‪ ،‬قاله ابن إسحاق‪ .‬وقد كان الصديق حرق الفجاءة بالبقيع‬
‫في المدينة‪ ،‬وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم‪ ،‬وسأل منه أن‬
‫شا‪ ،‬فلما سار‬‫شا يقاتل به أهل الردة فجهز معه جي ً‬ ‫يجهز معه جي ً‬
‫جعل ل يمر بمسلم ول مرتد إل قتله وأخذ ماله‪ ،‬فلما سمع الصديق‬
‫شا فرده‪،‬‬
‫بعث وراءه جي ً‬
‫فلما أمكنه ال منه بعث به إلى البقيع‪ ،‬فجمعت يداه إلى قفاه‬
‫‪ ،(3‬وكان الذي ألقى القبض ( ) وألقي في النار فحرقه وهو مقموط) ‪2‬‬
‫عليه طريفة بن حاجز‪ ،‬وهذا يظهر لنا دور مسلمي سليم في محاربة‬
‫‪ ).‬المفسدين في الرض والمرتدين ) ‪4‬‬
‫وهذه العقوبة بسبب غدر الفجاءة‪ ،‬أو لنه قد يكون ارتكب في‬
‫‪ ).‬ضحاياه من المسلمين جريمة الحراق مرة أو مرات ) ‪5‬‬
‫و‪ -‬ما قاله حسان فيمن قال ل نطيع أبا الفصيل‬
‫)يعنون أبا بكر(‪:‬‬
‫ما البكر إل كالفصيل وقد‬
‫ترى‬
‫أن الفصيل عليه ليس بعار‬
‫ج الحجيج لبيته ركبان مكة معشر النصار‬ ‫إنا وما ح ّ‬
‫) نَْفري جماجمكم بكل مهنّد اليسار ) ‪7‬‬
‫) حتى تُكَنّوه بفحل هنيدة ) ‪ (8‬يحمي الطروقة بازل هّدار ) ‪9‬‬
‫‪ () 1 .‬ديوان الردة للعتوم‪ :‬ص ‪86‬‬
‫‪) 2‬وا(ل نأها يي‪ :‬ة‪ :‬شدت يداه ورجله كهيئة المهاد للطفل‪ (2 ) .‬ترتيب وتهذيب البداية ‪ 106‬ص ‪3 .‬‬
‫‪ 27 4‬ص )( الثابتون على السلم‪5 . 185 ( . :‬‬
‫‪6‬‬
‫ص ( حركة الردة للعتوم‪4 :‬‬
‫)( القدار‪ :‬الجزار‪.‬‬
‫‪ 7‬ا)(ل يال سمابرا‪:‬د جئ‪:‬م اعل يظو ساره رو‪،‬ه وو ا هليج زموفرا‪.‬صل الجزور وما عليها من اللحم‪ ،‬جمع بدء‪.‬‬
‫‪190‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ 3-‬سجاح وبنو تميم ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي‪:‬‬
‫كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة؛ منهم من ارتد ومنع‬
‫الزكاة‪ ،‬ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق‪ ،‬ومنهم من‬
‫توقف لينظر في أمره‪ ،‬فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث‬
‫بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب‪،‬‬
‫وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم‪ ،‬وقد عزموا‬
‫على غزو أبي بكر الصديق‪ ،‬فلما مرت ببلد بني تميم دعتهم إلى‬
‫أمرها فاستجاب لها عامتهم‪ ،‬وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة‬
‫التميمي وعطارد بن حاجب وجماعة من سادات أمراء بني تميم‪،‬‬
‫وتخلف آخرون منهم عنها‪ ،‬ثم اصطلحوا على أن ل حرب بينهم‪ ،‬إل‬
‫أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عزمها وحرضها على بني‬
‫يربوع‪ ،‬ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا‪ :‬بمن نبدأ؟ فقالت‬
‫لهم فيما تسجعه‪ :‬أعدوا الركاب‪ ،‬واستعدوا للنهاب‪ ،‬ثم أغيروا على‬
‫الرباب ) ‪ (1‬فليس دونها حجاب‪ .‬ثم استطاع بنو تميم إقناعهم بقصد‬
‫اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب فهابه قومها‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫إنه قد استفحل أمره وعظم‪ ،‬فقالت لهم فيما تقوله‪ :‬عليكم باليمامة‬
‫دفوا دفيف الحمامة‪ ،‬فإنها غزوة صرامة ل تلحقكم بعدها ملمة‪،‬‬
‫فعملوا لحرب مسيلمة فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلده‪،‬‬
‫وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال‪ ،‬وقد ساعده عكرمة بن أبي‬
‫جهل بجنود المسلمين وهم نازلون ببعض بلده ينتظرون قدوم خالد‪،‬‬
‫فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الرض الذي كان‬
‫لقريش لو عدلت‪ ،‬فقد رده ال عليك فحباك به‪ ،‬وراسلها ليجتمع بها‬
‫في طائفة من قومه‪ ،‬فركب إليها في أربعين من قومه‪ ،‬وجاء إليها‬
‫فاجتمعا في خيمة‪ ،‬فلما خل بها وعرض عليها ما عرض من نصف‬
‫الرض وقبلت ذلك‪ ،‬قال مسيلمة‪ :‬سمع ال لمن سمع‪ ،‬وأطعمه‬
‫بالخير إذا طمع‪ ،‬ول يزال أمره في كل ما يسر مجتمع‪ ،‬ثم قال لها‪:‬‬
‫هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫صَدَقك؟‬
‫وأقامت عنده ثلثة أيام ثم رجعت إلى قومها‪ ،‬فقالوا‪ :‬أ َْ‬
‫فقالت‪ :‬لم يصدقني شيئًا‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير‬
‫ي مؤذنك فبعثته‬ ‫صَداًقا‪ ،‬فقال‪ :‬أرسلي إل ّ‬
‫صَداق‪ ،‬فبعثت إليه تسأله َ‬
‫َ‬
‫إليه وهو شيث بن ربعي الرياحي‪ ،‬فقال‪ :‬ناد في قومك أن مسيلمة‬
‫ل ال قد وضع عنكم صلتين مما أتاكم به محمد‬ ‫بن حبيب رسو َ‬
‫)يعني صلة الفجر وصلة العشاء الخرة( فكان هذا صداقها عليه‪ ،‬ثم‬
‫انثنت سجاح راجعة إلى بلدها‪ ،‬وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض‬
‫اليمامة فكرت راجعة إلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف‬
‫خراج أرضه‪ ،‬فأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية فأجلهم‬
‫) منها عام الجماعة‪2 ).‬‬
‫كان مالك قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة‪ ،‬فلما‬
‫اتصلت بمسيلمة ثم ترحلت إلى بلدها ندم مالك بن نويرة على ما‬
‫‪ )،‬كان من أمره وتلوم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له‪ :‬البطاح ) ‪3‬‬
‫‪91 . 137‬‬
‫( ديوان الردة للعتوم‪ :‬ص ‪ () ) 8‬هنيدة‪ :‬اسم لمئة ناقة من البل‪8 .‬‬
‫‪23 . 6/326‬‬
‫( البداية والنهاية‪ () ) 2 :‬الرباب‪ :‬فرع من بني تميم‪.‬‬
‫‪ () /6.‬البطاح‪ :‬ماء من ديار بني أسد بأرض نجد‪ (2 ) .‬البداية والنهاية‪327 :‬‬
‫‪191‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫فقصده خالد بجنوده وتأخرت عنه النصار وقالوا‪ :‬إنا قد قضينا ما‬
‫أمرنا به الصديق‪ ،‬فقال لهم خالد‪ :‬إن هذا أمر ل بد من فعله وفرصة‬
‫ي ترد‬‫ل بد من انتهازها‪ ،‬وإنه لم يأتني فيها كتاب وأنا المير وإل ّ‬
‫الخبار‪ ،‬ولست بالذي أجبركم على المسير وأنا قاصد البطاح‪ ،‬فسار‬
‫يومين ثم لحقه رسول النصار يطلبون منه النتظار فلحقوا به‪ ،‬فلما‬
‫وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة بث خالد السرايا في البطاح‬
‫يدعون الناس‪ ،‬فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة‪ ،‬وبذلوا‬
‫الزكوات إل ما كان من مالك بن نويرة‪ ،‬فإنه متحير في أمره متنح‬
‫عن الناس‪ ،‬فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه‪ ،‬واختلفت‬
‫السرية فيهم فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي النصاري أنهم أقاموا‬
‫الصلة‪ ،‬وقالوا آخرون‪ :‬إنهم لم يؤذنوا ول صلوا‪ ،‬فيقال‪ :‬إن السارى‬
‫باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد‪ ،‬فنادى منادي خالد‪ :‬أن أدفئوا‬
‫أسراكم‪ ،‬فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار بن الزور‬
‫مالك بن نويرة‪ ،‬فلما سمع خالد الواعية خرج وقد فرغوا منهم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إذا أراد ال أمًرا أصابه‪ ،‬ويقال‪ :‬بل استدعى خالد مالك بن‬
‫نويرة فأنّبه على ما صدر منه من متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة‬
‫وقال‪ :‬ألم تعلم أنها قرينة الصلة؟ فقال مالك‪ :‬إن صاحبكم كان‬
‫يزعم ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه‪،‬‬
‫فضربت عنقه‪ .‬وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاول في‬
‫ذلك‪ ،‬حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق وتكلم عمر مع أبي‬
‫قتادة في خالد وقال للصديق‪ :‬اعزله فإن في سيفه رهًقا‪ ،‬فقال أبو‬
‫بكر‪ :‬ل أشيم سيًفا سله ال على الكفار‪ .‬وجاء متمم بن نويرة‬
‫فجعل يشكو إلى الصديق خالًدا وعمر يساعده وينشد الصديق ما‬
‫‪ ).‬قال في أخيه من المراثي‪ ،‬فوداه الصديق من عنده ) ‪1‬‬
‫دروس وعبر وفوائد‪:‬‬
‫أ‪ -‬من ثبت على السلم من بني تميم‪:‬‬
‫لم يرتد عن السلم كل قبائل أو كل أفراد أو كل رؤساء بني‬
‫تميم‪ ،‬كما حاول أن يصور ذلك بعض من المؤرخين المحدثين‪،‬‬
‫والحقيقة أنه لقوة إسلم وثبات بعض بطون وأفراد ورؤساء بني‬
‫تميم‪ ،‬فقد استطاع مالك بن نويرة إقناع سجاح التميمية بقتالهم قبل‬
‫قتالها أبا بكر الصديق‪ ،‬وعندما واجهت مسلمي تميم تلقت على‬
‫أيديهم هزيمة نكراء فعدلت بعدها عن الذهاب إلى المدينة‪ ،‬وتوجهت‬
‫إلى اليمامة‪ ،‬وقد تضافرت الروايات التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة‬
‫التي ذكرناها ) ‪ ،(2‬بل إن التدقيق في الروايات يبين أن من ثبت على‬
‫السلم من بني تميم كان أكثر من المترددين والمرتدين‪ ،‬وتعكس‬
‫بعض الروايات دور قبيلة الرباب بصفة خاصة في الوقوف في وجه‬
‫المرتدين‪ ،‬ولذلك استحقت من سجاح وجماعتها الحرب‪.‬‬
‫وتشير بعض الروايات إلى المواجهة العظيمة التي وقعت بين‬
‫الرباب وسجاح وانتهت أخيًرا بالصلح عندما فشلت سجاح في‬
‫إخضاع مسلمي تميم‪ ،‬وإلى ندم قيس بن عاصم على متابعة‬
‫المرتدين‪ ،‬وسوقه صدقات قومه إلى المدينة وكانت الدائرة على‬
‫‪12‬‬
‫‪ (1 .‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪( 44‬‬
‫‪192‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ ).‬سجاح وجماعتها ) ‪1‬‬
‫ب‪-‬خالد ومقتل مالك بن نويرة‪:‬‬
‫اختلفت الراء في مقتل مالك بن نويرة اختلًفا كثيًرا‪ :‬أقتل‬
‫مظلوًما أم مستحًقا؛ أي أكافًرا قتل أم مسلًما؟ وقام الدكتور على‬
‫وتعرض الشيخ » حركة الردة « العتوم بتحقيق هذه المسألة في كتابه‬
‫نقد علمي لكتاب السلم « محمد الطاهر بن عاشور في كتابه‬
‫لهذه القضية ) ‪ ،(2‬وقام الشيخ محمد زاهد الكوثري » وأصول الحكم‬
‫بالدفاع عن خالد في كتابه )مقالت الكوثري( ) ‪ ،(3‬وغير ذلك من‬
‫الباحثين‪ ،‬واخترت من بين من بحث هذا الموضوع ما ذهب إليه‬
‫الدكتور على العتوم؛ لنه حقق المسألة تحقيًقا علميًا متميًزا‪ ،‬واهتم‬
‫بأحداث الردة اهتماًما لم أجده ‪-‬على حسب اطلعي‪ -‬عند أحد من‬
‫الباحثين المعاصرين‪ ،‬وخرج بنتيجة أوافقه عليها‪ :‬أن الذي أردى مالكا‬
‫كبره وتردده؛ فقد بقي للجاهلية في نفسه نصيب وإل لما ماطل هذه‬
‫وفي ‪ ×،‬المماطلة في التبعية للقائم بأمر السلم بعد رسول ال‬
‫تأدية حق بيت مال المسلمين المتمثل بالزكاة‪ .‬وفي تصوري أن‬
‫الرجل كان يحرص على زعامته ويناكف ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬بعض‬
‫أقربائه من زعماء بني تميم الذين وضعوا عصا الطاعة للدولة‬
‫السلمية‪ ،‬وأدوا ما عليهم لها من واجبات‪ ،‬وقد كانت أفعاله وأقواله‬
‫على السواء تؤيد هذا التصور‪ ،‬فارتداده ووقوفه بجانب سجاح‬
‫وتفريقه إبل الصدقة على قومه‪ ،‬بل ومنعهم من أدائها لبي بكر‬
‫وعدم إصاخته لنصائح أقربائه المسلمين في تمرده‪ ،‬كل ذلك يدينه‬
‫ويجعل منه رجل أقرب إلى الكفر منه إلى السلم‪.‬‬
‫ولو لم يكن مما يحتج به على مالك إل منعه للزكاة لكفى ذلك‬
‫غا لدانته‪ ،‬وهذا المنع مؤكد عند القدمين؛ فقد جاء في‬ ‫مسو ً‬
‫لبن سلم قوله‪ :‬والمجمع عليه‪ :‬أن خالًدا » طبقات فحول الشعراء «‬
‫حاوره وراّده‪ ،‬وإن مالكا سمح بالصلة والتوى بالزكاة‪ (4 ) .‬جاء في‬
‫قوله عن المرتدين‪ :‬كان في ضمن » شرح النووي لصحيح مسلم «‬
‫هؤلء من يسمح بالزكاة ول يمنعها إل أن رؤساءهم صدوهم عن‬
‫ذلك‪ ،‬وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع‪ ،‬فإنهم قد جمعوا‬
‫فمنعهم مالك بن نويرة ‪ ‬صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوها إلى أبي بكر‬
‫‪ ).‬من ذلك وفّرقها ) ‪5‬‬
‫ج‪ -‬زواج خالد بأم تميم‪:‬‬
‫أم تميم هي ليلى بنت سنان المنهال زوج مالك بن نويرة‪ ،‬وهذا‬
‫الزواج حدث حوله جدل كثير‪ ،‬واتهم من لهم أغراض خالدًا بعدة تهم ل‬
‫تصح ول تثبت أمام البحث العلمي النزيه‪.‬‬
‫وخلصة القصة‪ :‬فهناك من اتهم خالًدا بأنه تزوج أم تميم فور‬
‫‪ (2 .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪1 ( 48‬‬
‫‪ () 2 .‬نقد علمي لكتاب السلم وأصول الحكم‪ :‬ص ‪33‬‬
‫‪ () 3 .‬مقالت الكوثري‪ :‬ص ‪ ، 312‬نقل عن )الخلفاء الراشدون( للذهبي‪ :‬ص ‪36‬‬
‫‪ () 4 .‬طبقات فحول الشعراء‪ ،‬تحقيق محمود شاكر‪ :‬ص ‪172‬‬
‫‪ () 5 /1.‬شرح النووي على صحيح مسلم‪203 :‬‬
‫‪193‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وقوعها في يده لعدم صبره على جمالها ولهواه السابق فيها‪ ،‬وبذلك‬
‫حا‪ ،‬فهذا القول مستحدث ل يعتد‬ ‫يكون زواجه منها –حاشا ل – سفا ً‬
‫به ) ‪(1‬؛ إذ خلت المصادر القديمة من الشارة إليه‪ ،‬بل هي على خلفه‬
‫في نصوصها الصريحة‪ ،‬يذكر الماوردي أن الذي جعل خالد يقوم على‬
‫قتل مالك هو منعه للصدقة التي استحل بها دمه‪ ،‬وبذلك فسد عقد‬
‫المناكحة بينه وبين أم تميم ) ‪ ،(2‬وحكم نساء المرتدين إذا لحقن بدار‬
‫) الحرب أن يسبين ول يقتلن‪ ،‬كما يشير إلى ذلك المام السرخسي‪3 ).‬‬
‫فلما صارت أم تميم في السبي اصطفاها خالد لنفسه‪ ،‬فلما حلت‬
‫) بنى بها‪4 ) .‬‬
‫ويعلق الشيخ أحمد شاكر على هذه المسألة بقوله‪ :‬إن خالًدا‬
‫أخذها هي وابنها ملك يمين بوصفها سبية؛ إذ أن السبية ل عدة عليها‪،‬‬
‫وإنما يحرم حرمة قطعية أن يقربها مالكها إن كانت حامل قبل أن‬
‫تضع حملها‪ ،‬وإن كانت غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة ثم دخل‬
‫بها‪ ،‬وهو عمل مشروع جائز ل مغمز فيه ول مطعن إل أن أعداءه‬
‫والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم فانتهزوها‪ ،‬وذهبوا‬
‫)ي ‪ (5‬زعمون أن مالك بن نويرة مسلم وأن خالًدا قتله من أجل امرأته‪ .‬وقد اتهم خالد بأنه في زواجه هذا خالف‬
‫تقاليد العرب‪ ،‬فقد قال‬
‫ك بن نويرة وبنى بامرأته في ميدان القتال على‬ ‫العقاد‪ :‬قتل خالد مال َ‬
‫غير ما تألفه العرب في جاهلية وإسلم‪ ،‬وعلى غير ما يألفه‬
‫المسلمون وتأمر به الشريعة‪ (6 ).‬فهذا القول بعيد عن الصحة؛ فقد‬
‫كان يحصل كثيًرا في حياة العرب قبل السلم إثر حروبهم‬
‫وانتصاراتهم على أعدائهم أن يتزوجوا من السبايا‪ ،‬وكانوا يفخرون‬
‫بذلك‪ ،‬ولذلك كثر فيهم أولد السبايا‪ ،‬وهذا حاتم الطائي يقول‪:‬‬
‫وماأنكحونا طائعين بناتهم ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا‬
‫وكائن ترى فينا من ابن سبية إذا لقي البطال يطعنهم‬
‫شزرا‬
‫) ويأخذ رايات الطعان بكفه حمرا) ‪7‬‬
‫حا وسلك إليه‬ ‫وأما من الناحية الشرعية فقد أتى خالد أمًرا مبا ً‬
‫سبيل مشروعة أتاه من هو أفضل منه‪ ،‬فإذا كان قد أخذ عليه زواجه‬
‫تزوج بجويرية بنت × إبان الحرب أو في أعقابها‪ ،‬فإن رسول ال‬
‫الحارث المصطلقية إثر غزوة المريسيع‪ ،‬وقد كانت في سبايا بني‬
‫المصطلق فقضى عنها كتابتها وتزوجها‪ ،‬وكان بها طابع يمن وبركة‬
‫على قومها؛ إذ أعتق لهذا الزواج مائة رجل من أسراهم لنهم‬
‫‪) 1‬كت(ا بمها )قال سيه ا فل ا جلنلرها لخ االلبدا(ك‪ .‬ستاني أكرم‪ :‬ففي نفس الليلة تزوجها خالد‪ :‬ص ‪198‬‬
‫‪ () 2 .‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ، 47‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪229‬‬
‫‪ ، 10 .‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪ () 3 / 229‬المبسوط‪111 :‬‬
‫‪ () 4 /6.‬البداية والنهاية‪326 :‬‬
‫‪ () 230‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪67 . 70 ( . 5‬‬
‫( عبقرية الصديق‪ :‬ص ‪2‬‬
‫‪ (4 /2- 295.‬سيرة ابن هشام‪ () /7. ( 290 :‬العقد الفريد لبن عبد ربه‪123 :‬‬
‫‪194‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وكان من آثاره المباركة كذلك إسلم ‪ ×،‬أصبحوا أصهاًرا لرسول ال‬
‫أبيها الحارث بن ضرار‪ (1 ).‬كما أنه عليه الصلة والسلم تزوج بصفية‬
‫بنت حيي بن أخطب إثر غزوة خيبر وبنى بها في خيبر أو ببعض‬
‫السوة الحسنة فقد توارى × الطريق ) ‪ ،(2‬وإذا كان رسول ال‬
‫) العتاب وانقطع الملم‪3 ) .‬‬
‫ودفاع الدكتور محمد حسين هيكل عن خالد اتبع فيه منهجية غير‬
‫مقبولة؛ لنه ينبغي لنا أن ل نغض الطرف عن مخالفات خالد على‬
‫حساب السلم‪ ،‬فخالد وغيره محكوم بالشرع الذي يعلو ول يعلى‬
‫عليه‪ ،‬وإن تنزيه الشخاص ل يساوي تشويه المنهج بأية حال‪ ،‬فقد‬
‫قال الدكتور هيكل‪ :‬وما التزوج من امرأة على خلف تقاليد العرب‬
‫بل ما الدخول بها قبل أن يتم تطهيرها إذا وقع ذلك من فاتح غزا‬
‫فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه!! إن‬
‫التزمت في تطبيق التشريع ل ينبغي أن يتناول النوابغ العظماء من‬
‫) أمثال خالد‪ ،‬وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر‪4 ) .‬‬
‫ورد الشيخ أحمد شاكر بهذا الخصوص فقال‪ :‬لشد ما أخشى أن‬
‫يكون المؤلف تأثر بما قرأ من أخبار نابليون وغيره من ملوك أوربا في‬
‫مباذلهم وإسفافهم‪ ،‬وبما كتب الكاتبون من الفرنج في العتذار عنهم‬
‫لتخفيف آثامهم بما كان لهم من عظمة وبما أسدوا إلى أممهم من فتوح‬
‫وأياد‪ ،‬حتى يظن بالمسلمين الولين أنهم أمثال هؤلء فيقول‪ :‬إن التزمت‬
‫في تطبيق التشريع ل يجب أن يتناول النوابغ العظماء من أمثال خالد‪،‬‬
‫‪ ).‬وهذا قول يهدم كل دين وخلق ) ‪5‬‬
‫د‪ -‬دعم الصديق للقيادة الميدانية‪:‬‬
‫كان بعض رجال من جيش خالد قد شهدوا أن القوم أذنوا حين‬
‫سمعوا أذان المسلمين‪ ،‬وأنهم بذلك قد حقنوا دماءهم‪ ،‬وأن قتلهم ل‬
‫فأكبر القوم وزاد ذلك عنده أنه ‪ ،‬يحل‪ ،‬ومن أولئك القوم أبو قتادة‬
‫رأى خالد بن الوليد قد تزوج امرأة مالك بن نويرة ففارق أبو قتادة‬
‫خالًدا‪ ،‬وقدم على أبي بكر ليشكو إليه خالًدا فيما خالف فيه‪ ،‬فرأى‬
‫أبو بكر أن فراق أبي قتادة لخالد خطأ ل ينبغي أن يرخص فيه له ول‬
‫لغيره؛ لنه يكون سببًا للفشل والجيش في أرض العدو‪ ،‬فاشتد على‬
‫أبي قتادة ورده إلى خالد‪ ،‬ولم يرض منه إل أن يعود فينخرط تحت‬
‫لوائه ) ‪ ،(6‬وعمل أبي بكر من أحكم السياسات الحربية‪.‬‬
‫وقد قام الصديق بالتحقيق في مقتل ابن نويرة وانتهى إلى براءة‬
‫ساحة خالد من تهمة قتل مالك بن نويرة ) ‪ ،(7‬وأبو بكر في هذا الشأن‬
‫أكثر اطلعا على حقائق المور‪ ،‬وأبعد نظًرا في تصريفها من بقية‬
‫الصحابة؛ لنه الخليفة وإليه تصل الخبار‪ ،‬كما أنه أرجح إيمانًا منهم‪،‬‬
‫وهو في معاملته لخالد يحتذي على سنن رسول ال؛ إذ أنه عليه‬
‫الصلة والسلم لم يعزل خالًدا عما وله في الوقت الذي كان يقع‬
‫‪12‬‬
‫‪ () 2‬سيرة ابن هشام‪3 . 237 ( . 239/ :‬‬
‫‪4‬‬
‫( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪6‬‬
‫‪ () 140‬الصديق أبو بكر‪ :‬ص ‪5 . 232 ( .‬‬
‫‪6‬‬
‫( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪2‬‬
‫‪ () .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪231‬‬
‫‪ () 7‬صا لخلفة والخلفاء الراشدون للبهنساوي‪ :‬ص ‪ . 112‬الخلفاء الراشدون للنجار‪85. :‬‬
‫‪195‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫ل تؤذوا خالدا؛ « ‪ :‬منه ما قد ل يرتاح له‪ ،‬وكان يعذره إذ يعتذر‪ ،‬ويقول‬
‫‪ » (1).‬فإنه سيف من سيوف ال صبه ال على الكفار‬
‫إن من كمال الصديق توليته لخالد واستعانته به؛ لنه كان شديًدا‬
‫ليعتدل به أمره ويخلط الشدة باللين‪ ،‬فإن مجرد اللين يفسده‬
‫ومجرد الشدة تفسده‪ ،‬فكان يقوم باستشارة عمر وباستنابة خالد‪،‬‬
‫ولهذا اشتد في ‪ ×،‬وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول ال‬
‫قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره‪ ،‬فجعل ال فيه من‬
‫الشدة ما لم يكن فيه قبل ذلك‪ ،‬وأما عمر فكان شديدا في نفسه‬
‫فكان من كماله –في خلفته‪ -‬استعانته باللين ليعتدل أمره؛ فكان‬
‫يستعين بأبي عبيدة بن الجراح‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وأبي عبيد‬
‫الثقفي‪ ،‬والنعمان بن مقرن‪ ،‬وسعيد بن عامر‪ ،‬وأمثال هؤلء من أهل‬
‫الصلح والزهد الذين هم أعظم زهًدا وعبادة من خالد بن الوليد‬
‫وأمثاله‪ ،‬وقد جعل ال في عمر من الرأفة –بعد الخلفة‪ -‬ما لم يكن‬
‫‪ ).‬فيه قبل ذلك تكميل له حتى صار أمير المؤمنين ) ‪2‬‬
‫سا عن ذلك فقال‬ ‫كان أبو بكر …« ‪ :‬وقد ذكر ابن تيمية كلًما نفي ً‬
‫ما زال يستعمل خالًدا في حرب أهل الردة × خليفة رسول ال‬
‫وفي فتوح العراق والشام‪ ،‬وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل‪ ،‬وقد‬
‫ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها بل عاتبه‬
‫عليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه‪ ،‬وأن غيره لم يكن‬
‫يقوم مقامه؛ لن المتولي الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين‬
‫فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة‪ ،‬وإذا كان خلقه يميل‬
‫إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل المر‪،‬‬
‫يؤثر استنابة خالد‪ ،‬وكان عمر بن ‪ ‬ولهذا كان أبو بكر الصديق‬
‫لن ؛‪ ‬يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح ‪ ‬الخطاب‬
‫خالًدا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان لينًا كأبي بكر‪،‬‬
‫وكان الصلح لكل منهما أن يولي من وله ليكون أمره معتدلً‪،‬‬
‫ويكون بذلك من خلفاء رسول ال الذي هو معتدل ) ‪ ،(3‬وحتى قال‬
‫‪ » (4).‬أنا نبي الرحمة‪ ،‬أنا نبي الملحمة « ‪ ×:‬النبي‬
‫‪ 4-‬ردة أهل عمان والبحرين‪:‬‬
‫أ‪ -‬ردة أهل عمان‪:‬‬
‫كان أهل عمان قد استجابوا لدعوة السلم‪ ،‬وبعث إليهم رسول‬
‫نبغ فيهم رجل يقال له‪ × :‬عمرو بن العاص‪ ،‬ثم بعد وفاته × ال‬
‫لقيط بن مالك الزدي‪ ،‬وكان يسامي في الجاهلية » ذو التاج «‬
‫الجلندي ملك عمان ) ‪ ،(5‬فادعى النبوة وتابعه الجهلة من أهل عمان‪،‬‬
‫جَلنْدي ) ‪ (6‬وألجأهما إلى‬ ‫فتغلب عليها‪ ،‬وعليها جيفر وعباد ابنا ال ُ‬
‫أطرافها من نواحي الجبال والبحر فبعث جيفر إلى الصديق فأخبره‬
‫الخبر واستجاشه‪ ،‬وبعث إليه الصديق بأميرين وهما‪ :‬حذيفة بن‬
‫محصن الغلفاني من حمير وعرفجة إلى مهرة‪ ،‬وأمرهما أن يجتمعا‬
‫ويتفقا ويبدآ بعمان وحذيفة هو المير‪ ،‬فإذا ساروا إلى بلد مهرة‬
‫‪ () 1 /7.‬فتح الباري‪101 :‬‬
‫‪ () 2 ، 194.‬أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة‪ :‬ص ‪193‬‬
‫‪ () 28‬الفتاوى‪ ( 4/395 ( . 144 / 3 :‬مسند أحمد‪ () /6. 45 . 407 – 404 - 3 :‬البداية والنهاية‪334 :‬‬
‫‪ () 6 /6.‬البداية والنهاية‪334 :‬‬
‫‪196‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫فعرفجة المير‪ ،‬وأرسل عكرمة بن أبي جهل مدًدا لهم وكتب‬
‫الصديق إلى عرفجة وحذيفة أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ‬
‫من السير إلى عمان أو المقام بها‪ ،‬فساروا فلما اقتربا من عمان‬
‫راسلوا جيفًرا وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش‪ ،‬فخرج في جموعه‬
‫فعسكر بمكان يقال له‪ :‬دبار وهي مصر تلك البلد وسوقها العظمى‪،‬‬
‫وجعل الذراري والموال وراء ظهورهم ليكون أقوى لحربهم‪ ،‬واجتمع‬
‫جيفر وعباد بمكان يقال له صحار‪ ،‬فعسكروا فيه وبعثا إلى أمراء‬
‫الصديق فقدموا على المسلمين‪ ،‬فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتال شديًدا وابتلي المسلمون وكادوا أن يولوا‪ ،‬فم ّ‬
‫ن‬
‫ال بكرمه ولطفه‬
‫أن بعث إليهم مدًدا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس‬
‫في جماعة من المراء‪ ،‬فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر‪ ،‬فوّلى‬
‫المشركون مدبرين وركب المسلمون ظهورهم‪ ،‬فقتلوا منهم عشرة‬
‫آلف مقاتل وسبوا الذراري وأخذوا الموال والسوق بحذافيرها‪،‬‬
‫وبعثوا بالخمس إلى الصديق مع أحد المراء وهو عرفجة ) ‪ ،(1‬وكان‬
‫السبب في هذا النصر العظيم وقوف الجماعة السلمية في عمان‬
‫مع أميرها جيفر وأخيه عباد ضد ذي التاج لقيط بن مالك الزدي‪،‬‬
‫واعتصامها بالماكن الحصينة‪ ،‬حتى أدركتها جيوش المسلمين‪ ،‬كما‬
‫كان لمواقف بني جذيد وبني ناجية وبني عبد القيس في ثبوتهم على‬
‫السلم ودخولهم في المعركة في الوقت المناسب أثر في نصر‬
‫‪ ).‬المسلمين ) ‪2‬‬
‫ب‪ -‬ردة أهل اليمن‪:‬‬
‫العلء بن الحضرمي × أسلم أهل البحرين بعدما أرسل النبي‬
‫إلى ملكها وحاكمها المنذر بن ساوي العبدي‪ ،‬وقد أسلم هو وقومه‬
‫وأقام فيهم السلم والعدل‪ ،‬وقد كان رد المنذر بن ساوي‪ :‬قد‬
‫نظرت في هذا المر الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الخرة‪،‬‬
‫ونظرت في دينكم فوجدته للخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين‬
‫فيه أمنية الحياة وراحة الموت‪ ،‬ولقد عجبت أمس ممن يقبله‪،‬‬
‫‪ ).‬وعجبت اليوم ممن يرده‪ ،‬وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم) ‪3‬‬
‫وتوفي المنذر بعده بمدة قصيرة ارتد × فلما توفي رسول ال‬
‫‪ ).‬أهل البحرين وملكوا عليهم المنذر بن النعمان الغرور ) ‪4‬‬
‫أين هي أرض البحرين؟‬
‫أرض البحرين هي شقة ضيقة من الرض تتشاطئ مع هجر خليج‬
‫العرب‪ ،‬وتمتد من القطيف إلى عمان والصحراء في بعض أنحائها‪،‬‬
‫تكاد تتصل بماء الخليج وهي تتصل باليمامة في جزئها العلى ل‬
‫يفصل بينهما إل سلسلة من التلل يهون لنخفاضها اجتيازها ) ‪ .(5‬فهي‬
‫إذا تشمل إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة‬
‫‪ () 1 /6.‬البداية والنهاية‪335 :‬‬
‫‪ () 2 ، 60.‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪59‬‬
‫‪ () 3 /1.‬التراتيب الدارية‪19 :‬‬
‫‪ () 4 .‬حروب الردة‪ ،‬أحمد سعيد‪ :‬ص ‪146‬‬
‫‪ (4 .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪5 (), ( 147‬‬
‫‪197‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ ).‬العربية السعودية عدا الكويت) ‪1‬‬
‫هذا وقد كان لمن ثبت على السلم في البحرين دور كبير في‬
‫إخماد هذه الفتنة‪ ،‬وكان للجارود بن المعلى دور متميز‪ ،‬فقد صحب‬
‫وتفقه في الدين‪ ،‬ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى × رسول ال‬
‫‪ ×،‬السلم فأجابوه كلهم‪ ،‬فلم يلبث إل يسيًرا حتى مات النبي‬
‫فقالت عبد القيس‪ :‬لو كان محمًدا نبيا لما مات‪ ،‬وارتدوا‪ ،‬وبلغه ذلك‬
‫فبعث فيهم فجمعهم‪ ،‬ثم قام فخطبهم‪ .‬فقال‪ :‬يا معشر عبد القيس‬
‫إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ول تجيبوني إن لم‬
‫تعلموا‪ .‬قالوا‪ :‬سل عما بدا لك‪ .‬قال‪ :‬تعلمون أنه كان ل أنبياء فيما‬
‫مضى؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬تعلمونه أو ترون؟ قالوا‪ :‬ل بل نعلمه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫مات كما ماتوا‪ .‬وأنا × فما فعلوا؟ قالوا‪ :‬ماتوا‪ ،‬قال‪ :‬فإن محمًدا‬
‫أشهد أن ل إله إل ال وأن محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬قالوا‪ :‬ونحن نشهد‬
‫أن ل إله إل ال وأن محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬وأنك سيدنا وأفضلنا‪،‬‬
‫فقد ‪ ،‬وثبتوا على إسلمهم‪ .‬فهذا موقف يذكر للجارود بن المعلى‬
‫ثبت ال به قومه عبد القيس فثبتوا على إسلمهم‪ ،‬وقد ألهمه ال‬
‫تعالى بضرب المثل بالنبياء السابقين عليهم السلم‪ ،‬حيث كان‬
‫فاقتنع قومه وزال عنهم ‪ ×،‬نهايتهم الموت‪ ،‬فكذلك رسول ال‬
‫الشك‪ ،‬وهذا مما يبين مزية التفقه في الدين وأثر ذلك في توجيه‬
‫‪ ).‬العتقاد والسلوك‪ ،‬وخاصة عند حدوث الفتن ) ‪2‬‬
‫جواثا( على السلم‪ ،‬وكانت أول قرية أقامت‬ ‫وقد بقيت بلدة ) ُ‬
‫الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس‪،‬‬
‫وقد حاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم القوات وجاعوا‬
‫عا شديًدا حتى فرج ال عنهم‪ ،‬وقد قال رجل منهم يقال له‬ ‫جو ً‬
‫عبد ال بن حذف‪ ،‬أحد بني بكر بن كلب وقد اشتد الجوع‪:‬‬
‫أل أبلغ أبا بكر رسول ًوفتيان المدينة أجمعينا‬
‫فهل لكُم إلى قوم كرام قعود في جواثا محصرينا‬
‫كأن دماءهم في كل فج شعاع الشمس يُْعشي‬
‫الناظرينا‬
‫) توكلنا على الرحمن إنا وجدنا النصر للمتوكلينا ) ‪3‬‬
‫فهذا موقف يذكر في الثبات على الحق لهؤلء المسلمين الذين‬
‫حصرهم العداء في )جواثا( حتى كادوا يهلكون من الجوع‪ ،‬وفي البيات‬
‫المذكورة في الرواية التي قالها عبد ال بن حذف دليل على عمق‬
‫‪ ).‬إيمان هؤلء المحصورين وقوة توكلهم على ال تعالى وثقتهم بنصره ) ‪4‬‬
‫بعث الصديق بجيش إلى البحرين بقيادة العلء بن الحضرمي‪،‬‬
‫فلما دنا من البحرين انضم إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير من‬
‫‪1‬‬
‫‪ () 2 /9.‬نفس ال )مصدر السا (بق‪ :‬ص ‪ . 147‬التاريخ السلمي‪97 :‬‬
‫‪ () 3 /6.‬البداية والنهاية‪332 :‬‬
‫‪ () 4 /9.‬التاريخ السلمي للحميدي‪98 :‬‬
‫‪198‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫قومه بني سحيم‪ ،‬واستنهض المسلمين في تلك النحاء‪ ،‬وأمد‬
‫الجارود بن المعلى العلَء برجال من قومه فاجتمع إليه جيش كبير‬
‫قاتل به المرتدين ونصر ال به المؤمنين‪ ،‬وكان ممن آزر العلء لقمع‬
‫فتنة البحرين قيس بن عاصم المنقري وعقيق بن المنذر والمثنى بن‬
‫‪ ).‬حارثة الشيباني ) ‪1‬‬
‫كرامة للعلء بن الحضرمي‪:‬‬
‫كان العلء من سادات الصحابة العلماء الُعبّاد مجابي الدعوة‪،‬‬
‫اتفق له في هذه الغزوة أنه نزل منزل ) ‪ ،(2‬فلم يستقر الناس على‬
‫الرض حتى نفرت البل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم‬
‫وشرابهم‪ ،‬وبقوا على الرض ليس معهم شيء سوى ثيابهم وذلك ليل ولم يقدروا منها على بعير واحد‪ ،‬فركب‬
‫الناس من الهم والغم ما ل‬
‫يحد ول يوصف‪ ،‬وجعل بعضهم يوصي إلى بعض‪ ،‬فنادى العلء فاجتمع‬
‫الناس إليه‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الناس ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل‬
‫ال؟ ألستم أنصار ال؟ قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فأبشروا فو ال ل يخذل‬
‫ال من كان في مثل حالكم‪ ،‬ونودي لصلة الصبح حين طلع الفجر‬
‫فصلي الناس‪ ،‬فلما قضي الصلة جثا على ركبتيه وجثا الناس ونصب‬
‫في الدعاء ورفع يديه‪ ،‬وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وجعل‬
‫الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد أخرى‪ ،‬وهو يجتهد‬
‫في الدعاء ويكرره‪ ،‬فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق ال إلى جانبهم‬
‫غديًرا عظيًما من الماء القراح‪ ،‬فمشى ومشى الناس إليه فشربوا‬
‫واغتسلوا‪ ،‬فما تعالى النهار حتى أقبلت البل من كل فج بما عليها‪،‬‬
‫سْلكا‪ ،‬فسقوا البل علل بعد نَهل ) ‪3‬‬‫‪ )،‬لم يفقد الناس من أمتعتهم ِ‬
‫‪ ).‬فكان هذا مما عاين الناس من آيات ال بهذه السرية ) ‪4‬‬
‫هزيمة المرتدين‪:‬‬
‫ثم لما اقترب من جيوش المرتدة –وقد حشدوا وجمعوا خلًقا‬
‫عظيًما‪ -‬نزل ونزلوا وباتوا مجاورين في المنازل‪ ،‬فبينما المسلمون‬
‫في الليل إذ سمع العلء أصواتا عالية في جيش المرتدين‪ ،‬فقال‪ :‬من‬
‫رجل يكشف لنا خبر هؤلء؟ فقام عبد ال بن حذف فدخل فيهم‬
‫سكارى ل يعقلون من الشراب فرجع إليه فأخبره‪ ،‬فركب‬ ‫فوجدهم ُ‬
‫العلء من فورهم والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتل عظيًما‬
‫وقل من هرب منهم‪ ،‬واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم‬
‫وأثقالهم‪ ،‬فكانت غنيمة عظيمة جسيمة‪ ،‬وكان الحطم بن ضبيعة أخو‬
‫شا حين اقتحم‬ ‫بني قيس ابن ثعلبة من سادات القوم نائًما فقام ده ً‬
‫المسلمون عليهم‪ ،‬فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول‪ :‬من‬
‫يصلح لي ركابي؟ فجاء رجل من المسلمين في الليل فقال‪ :‬أنا‬
‫أصلحها لك ارفع رجلك فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه‪،‬‬
‫ي فقال‪ :‬ل أفعل‪ ،‬فوقع صريًعا‪ ،‬وكلما مر به أحد‬ ‫فقال‪ :‬أجهز عل ّ‬
‫يسأله أن يقتله فيأبى‪ ،‬حتى مر به قيس بن عاصم فقال له‪ :‬أنا‬
‫‪ () 1 .‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪63‬‬
‫‪ ،4‬حدد منزله بالدهناء وهي صحراء رملية بين ‪ 2 /‬ن)(ج دف ويا لطحبقسااء ت‪ .‬ابن سعد‪363 :‬‬
‫‪ () 3‬العلل‪ :‬الشربة الثانية‪ ،‬والنهل‪ :‬شرب البل أول ما ترد الماء‪.‬‬
‫‪ () 4 /6.‬البداية والنهاية‪333 :‬‬
‫‪199‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫الحطم فاقتلني فقتله‪ ،‬فلما وجد رجله مقطوعة ندم على قتله‪،‬‬
‫وقال‪ :‬واسوأتاه لو أعلم ما به لم أحركه‪ ،‬ثم ركب المسلمون في‬
‫آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق‪ ،‬وذهب من فر منه أو‬
‫أكثر إلى دارين ) ‪ ،(1‬ركبوا إليها السفن‪ ،‬ثم شرع العلء بن الحضرمي‬
‫في قسمة الغنيمة ونفل النفال‪ ،‬ولما فرغ من ذلك قال للمسلمين‪:‬‬
‫اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من العداء‪ ،‬فأجابوا إلى ذلك‬
‫سريًعا‪ ،‬فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن‪ ،‬فرأى‬
‫أن الشقة بعيدة ل يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء ال‪،‬‬
‫فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول‪ :‬يا أرحم الراحمين‪ ،‬يا حكيم يا كريم‪،‬‬
‫يا أحد يا صمد‪ ،‬يا حي يا قيوم‪ ،‬يا ذا الجلل والكرام‪ ،‬ل إله إل أنت يا‬
‫ربنا‪ (2 ).‬وأمر الجيوش أن يقولوا ذلك ويقتحموا‪ ،‬ففعلوا ذلك فأجاز‬
‫بهم الخليج بإذن ال على مثل رملة دمثة فوقها ماء ل يغمر أخفاف‬
‫البل‪ ،‬ول يصل إلى ركب الخيل‪ ،‬ومسيرته بالسفن يوم وليلة فقطعه‬
‫إلى الجانب الخر فعاد إلى موضعه الول وذلك كله في يوم‪ ،‬ولم‬
‫يترك من العدو مخبًرا‪ ،‬وساق الذراري والنعام والموال‪ ،‬ولم يفقد‬
‫المسلمون في البحر شيئًا إل عليقة فرس لرجل من المسلمين‪،‬‬
‫ومع هذا رجع العلء بها ثم قسم غنائم المسلمين فيهم فأصاب‬
‫الفارس ستة آلف والراجل ألفين مع كثرة الجيشين‪ ،‬وكتب إلى‬
‫الصديق فأعلمه بذلك‪ ،‬فبعث الصديق يشكره على ما صنع‪ ،‬وقد قال‬
‫رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر‪:‬‬
‫) ألم تر أن ال ذلل بحره ) ‪3‬‬
‫) دعونا إلى شق البحار فجاءنا الوائل ) ‪4‬‬
‫وكان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رأوها من‬
‫أمر العلء وما أجرى ال على يديه من الكرامات‪ ،‬رجل من أهل‬
‫هجر راهب فأسلم حينئذ‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما دعاك إلى السلم؟ فقال‪:‬‬
‫خشيت إن لم أفعل أن يمسخني ال لما شاهدت من اليات‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقد سمعت في الهواء وقت السحر دعاء‪ .‬قالوا‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬اللهم‬
‫أنت الرحمن الرحيم‪ ،‬ل إله غيرك‪ ،‬والبديع ليس قبلك شيء‪ ،‬والدائم‬
‫غير الغافل‪ ،‬والذي ل يموت‪ ،‬وخالق ما يرى وما ل يرى‪ ،‬وكل يوم‬
‫أنت في شأن‪ ،‬وعلمت اللهم كل شيء علًما‪ .‬قال‪ :‬فعلمت أن القوم‬
‫لم يعانوا بالملئكة إل وهم على أمر ال‪ ،‬فحسن إسلمه وكان‬
‫‪ ).‬الصحابة يسمعون منه ) ‪5‬‬
‫وبعد هزيمة المرتدين رجع العلء بن الحضرمي إلى البحرين‬
‫‪ )،‬وضرب السلم بجرانه‪ ،‬وعز السلم وأهله وذل الشرك وأهله ) ‪6‬‬
‫ولول تدخل بعض العناصر الجنبية لصالح المرتدين ما تجرأ المرتدون‬
‫‪ () 1‬دارين‪ :‬بكسر الراء هي فرضة بالبحرين‪.‬‬
‫‪() 2 /6.‬البداية والنهاية‪121 :‬‬
‫‪ () 3‬الجلئل‪ :‬العظائم‪.‬‬
‫‪ (4 /6.‬البداية والنهاية‪45 (), ( 334 :‬‬
‫‪ .6 /9.‬التاريخ السلمي‪ () 6 )33/ 05 :‬البداية )والنهاية‪4 :‬‬
‫‪200‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫على الموقف في وجه المسلمين مدة طويلة؛ إذ أن الفرس قد‬
‫أمدوا المرتدين بتسعة آلف من المقاتلين‪ ،‬وكان عدد المرتدين من‬
‫العرب ثلثة آلف وعدد المسلمين أربعة آلف ) ‪ (1‬وكان للمثنى بن‬
‫حارثة دور كبير في إخماد فتنة البحرين والوقوف بقواته بجانب‬
‫العلء بن الحضرمي‪ ،‬وقد سار بجنوده من البحرين شمال ووضع يده‬
‫على القطيف وهجر حتى بلغ مصب دجلة‪ ،‬وقضى في سيره هذا‬
‫على قوات الفرس وعمالهم ممن أعانوا المرتدين بالبحرين‪ ،‬وأنه‬
‫انضم إلى العلء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين على رأس من‬
‫بقي على السلم من أهل هذه النواحي‪ ،‬ومنه تابع مسيره مع‬
‫الساحل شمال حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا‬
‫النهرين‪ ،‬فتحدث إليهم وتعاهد معهم‪ ،‬وعندما سأل الخليفة الصديق‬
‫عن المثنى قال له قيس بن عاصم المنقري‪ :‬هذا رجل غير خامل‬
‫الذكر ول مجهول النسب‪ ،‬ول ذليل العماد‪ ،‬هذا المثنى بن حارثة‬
‫) الشيباني‪2 ) .‬‬
‫أمره إلى المثنى بن حارثة أن يتابع دعوته ‪ ‬وقد أصدر الصديق‬
‫للعرب في العراق إلى الحق‪ ،‬وقد اعتبر أن ما قام به المثنى من‬
‫قبل ما هو إل الخطوة الولى في تحرير العراق‪ ،‬وأما الخطوة‬
‫الحاسمة فهي توجيه خالد بن الوليد ليتولى قيادة الجيوش السلمية‬
‫‪ ).‬هناك ) ‪3‬‬
‫يغتنم الفرص ويستنفد الطاقات‪  ،‬لقد كان أبو بكر الصديق‬
‫ويستحث الهمم ليصل من العمال المقدمة إلى أعلى النتائج‪ ،‬وكان‬
‫خر الطاقات الكامنة في الرجال ويوجهها لسحق الطغيان الذي‬ ‫يس ّ‬
‫‪ ).‬عشش في رؤوس زعماء الكفر والطغيان ) ‪4‬‬
‫***‬
‫‪ () 1 .‬فتوح ابن أعثم‪ :‬ص ‪47‬‬
‫‪4‬فتوح البلدان للبلذري‪ :‬ص ‪ ، 242‬نقل عن )أبو بكر الصديق( لخالد جاسم‪ :‬ص )‪. 2 (4‬‬
‫‪ () 3‬أبو بكر الصديق‪ :‬ص ‪ ، 44‬خالد الجنابي‪ ،‬نزار الحديثي‪.‬‬
‫‪ () 4 /9.‬التاريخ السلمي‪98 :‬‬
‫‪201‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫المبحث الرابع‬
‫مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة‬
‫أولً‪ :‬التعريف به ومقدمة عنه‪:‬‬
‫هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي أبو شامة‪ ،‬متنبئ‬
‫ولد ونشأ ‪ ».‬أكذب من مسيلمة « ‪ :‬من المعمرين وفي المثال‬
‫باليمامة في القرية المسماة اليوم بالجبلية بقرب العيينة بوادي‬
‫حنيفة في نجد‪ ،‬وتلقب في الجاهلية بالرحمن وعرف برحمان‬
‫اليمامة‪ (1 ) .‬وأخذ يطوف في ديار العرب والعجم يتعلم الساليب‬
‫التي يستطيع بها استغفال الناس واستجرارهم لجانبه‪ ،‬كجبل السدنة‬
‫والحّواء وأصحاب الرجز والخط ومذاهب الكهان والعياف والسحرة‬
‫وأصحاب الجن الذين يزعمون أن له تابعات إلى غيرها من‬
‫الخزعبلت‪ ،‬ومن هذه الشعوذات أنه كان يصل جناح الطائر‬
‫المقصوص في الظاهر ويدخل البيضة‬
‫) في القارورة‪2 ) .‬‬
‫وكان مسيلمة يدعي النبوة ورسول ال بمكة‪ ،‬وكان يبعث بأناس‬
‫إليها ليسمعوا القرآن ويقرؤوه على مسامعه‪ ،‬فينسج على منواله أو‬
‫يسمعه هو نفسه للناس زاعًما أنه كلمه ) ‪ ،(3‬وفي العام التاسع‬
‫للهجرة الذي عم فيه السلم ربوع الجزيرة العربية أقبل وفد بني‬
‫يعلنون إسلمهم‪ ،‬وكان مسيلمة معهم‪ × .‬حنيفة على مدينة الرسول‬
‫فقد ذكر ابن إسحاق‪ :‬إن مسيلمة كان ضمن المجموعة التي قابلت‬
‫ومن وفد بنى حنيفة جاءوا به يسترونه بالثياب‪ ،‬فلما ‪ ×،‬الرسول‬
‫عسيب من سعف النخل فقال × قابله كلمه‪ ،‬وكان مع رسول ال‬
‫له‪،‬‬
‫)‪ ».(4‬لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه « ‪ ×:‬رسول ال‬
‫ويبدو أنه سأله الشركة في النبوة أو الخلفة من بعده‪.‬‬
‫وفي رواية‪ :‬إن مسيلمة لم يكن في الوفد الذي قابل رسول ال‬
‫العطيات أخرج له × لنه تخلف يحرس رحال القوم‪ ،‬فلما قسم ؛×‬
‫وذلك ‪ »،‬إنه ليس بشركم مكاًنا « ‪ :‬نصيبًا مثل أنصبائهم‪ ،‬وقال لهم‬
‫) لقيامه على حراسة متاعهم‪5 ) .‬‬
‫صا مريبًا مما‬‫وفي الرواية الولى يبدو مسيلمة الكذاب شخ ً‬
‫استدعى ستره بهذه الثياب‪ ،‬وكأنه يخفي في نفسه وتقاطيع وجهه‬
‫ليس « ‪ ×:‬شيئًا مدخولً‪ ،‬وقد كان الرجل كذلك في حياته وفي قوله‬
‫ل تعني أنه خيرهم بل قد تعني أنهم أشرار وليس هو بأكثر » بشركم‬
‫شّرا منهم بل هو شرير مثلهم‪ ،‬والحقيقة التي كشفتها اليام أن بني‬
‫حنيفة كان جلهم أشرار‪ ،‬وكان هو الذي يتولى كبر هذا الشر فيهم‪.‬‬
‫‪ () 1 /2.‬حروب الردة وبناء الدولة‪ ،‬أحمد سعيد‪ :‬ص ‪ . 123‬الزركلي‪125 :‬‬
‫‪ () 2 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪71‬‬
‫‪ 5 .‬للمقدسي‪ ،‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪ () 3 / 71‬البدء والتاريخ‪160 :‬‬
‫‪ () 4 /2، 577.‬السيرة النبوية‪576 :‬‬
‫‪ () 5 /2.‬السيرة النبوية‪577 :‬‬
‫‪202‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ 1-‬رجوع وفد بني حنيفة‪:‬‬
‫ولما رجع وفد بني حنيفة إلى اليمامة حيث ديارهم ادعى‬
‫فيها اعتماًدا على قوله × مسيلمة النبوة‪ ،‬وأعلن شركته لرسول ال‬
‫وطفق يتنبأ لقومه ويسجع ويحلل ويحرم ‪ »،‬إنه ليس بشركم « ‪×:‬‬
‫كما يشتهي‪ ،‬فكان مما زعم أنه قرآن يأتيه‪ :‬لقد أنعم ال على‬
‫الحبلى‪ ،‬أخرج منها نسمة تسعى‪ ،‬من بين صفاق وحشى) ‪ ,(1‬فمنهم‬
‫من يموت ويدس إلى الثرى‪ ،‬ومنهم من يبقى إلى أجل مسمى‪،‬‬
‫‪ ).‬وال يعلم السر وأخفى ) ‪2‬‬
‫ومما قاله مسيلمة‪ :‬يا ضفدع بنت ضفدعين‪ ،‬نقي ما تنقين‪،‬‬
‫أعلك في الماء وأسفلك في الطين‪ ،‬ل الشارب تمنعين‪ ،‬ول الماء‬
‫تكدرين‪ (3 ) .‬وقد حاول مسيلمة الكذاب أن يسرق أساليب القرآن مع‬
‫إحالة معانيه بحيث تخرج شوهاء ممسوخة‪ ،‬مثل قوله‪ :‬فسبحان ال‬
‫إذا جاء الحياة كيف تحيون؟ وإلى ملك السماء ترقون‪ ،‬فلو أنها حبة‬
‫‪ 4‬خ(ردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور‪ ،‬ولكثر الناس فيها ثبور‪ ( .‬لقد كان هذا الهراء غير خاف على أحد‬
‫بمن فيهم هم أنفسهم‬
‫قبل غيرهم‪ .‬وقد ذكر ابن كثير أن عمرو بن العاص –قبل إسلمه‪-‬‬
‫قابل مسيلمة الكذاب فسأله هذا ماذا أنزل على محمد من القرآن؟‬
‫فقال له عمرو‪ :‬إن ال أنزل عليه سورة العصر‪ ،‬فقال مسيلمة‪ :‬وقد‬
‫ي مثلها‪ ،‬وهو قوله‪ :‬يا وبر يا وبر‪ ،‬إنما أنت أذنان وصدر‪،‬‬ ‫أنزل ال عل ّ‬
‫وسائر حفر نقر‪ (5 ) .‬فقال له عمرو بن العاص‪ :‬وال إنك تعلم أني‬
‫أعلم أنك تكذب‪ (6 ) .‬وعلق ابن كثير ‪-‬رحمه ال‪ -‬على قول عمرو هذا‬
‫من قرآن مسيلمة المزعوم‪ :‬فأراد مسيلمة أن يركب من هذا‬
‫الهذيان ما يعارض به القرآن فلم يرج ذلك على عابد الوثان في‬
‫‪ ).‬ذلك الزمان ) ‪7‬‬
‫وقال أبو بكر الباقلني ‪-‬رحمه ال‪ :-‬فأما كلم مسيلمة الكذاب‬
‫وما زعم أنه قرآن فهو أخس من أن ننشغل به وأسخف من أن نفكر‬
‫فيه‪ ،‬وإنما نقلنا منه طرًفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر‪ ،‬فإنه على‬
‫) سخافته قد أضل‪ ،‬وعلى ركاكته قد أزل وميدان الجهل واسع‪8 ) .‬‬
‫والجواب عنه‪ 2- × :‬كتاب مسيلمة إلى رسول ال‬
‫بمرض × وفي العام العاشر للهجرة عندما أصيب رسول ال‬
‫يزعم لنفسه × موته‪ ،‬تجرأ الخبيث فكتب رسالة إلى رسول ال‬
‫فيها الشركة معه في النبوة كتبها له عمرو بن الجارود الحنفي‪،‬‬
‫وبعثها إليه مع عبادة بن الحارث الحنفي المعروف بابن النواحة هذا‬
‫نصها‪ :‬من مسيلمة رسول ال )كذب( إلى محمد رسول ال‪ :‬أما‬
‫شا ل ينصفون‪ .‬نصها‪  :‬برسالة كتبها له أبي بن‬ ‫)ب ‪9‬ع(د‪ ،‬فإن لنا نصف الرض ولقريش نصفها ولكن قري ً‬
‫كعب × فرد عليه رسول ال‬
‫‪ () 1 .‬حركة الردة للعتوم‪73 :‬‬
‫‪ () 2 /5.‬البدء والتاريخ للمقدسي‪162 :‬‬
‫‪ () 3 /4.‬تاريخ الطبري‪102 :‬‬
‫‪ () 4 .‬حركة الردة للعتوم‪271 :‬‬
‫‪ ،4‬ط الحلبي‪ () 5 / .‬تفسير ابن كثير‪547 :‬‬
‫‪ () 4‬تفسير ابن كثير‪78 . 4/547 / 6 :‬‬
‫( المصدر السابق‪ ، ) 2 :‬ط الحلبي‪547 .‬‬
‫‪ (4 / 386.‬تاريخ الطبري‪ () 9 . ( 3 :‬إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق سيد صقر‪ :‬ص ‪156‬‬
‫‪203‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‪ ،‬من محمد النبي إلى مسيلمة الكذاب‪« .‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فإن الرض ل يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‪،‬‬
‫‪ (1‬وكان مسيلمة قد بعث برسالة إلى (‪ ».‬والسلم على من اتبع الهدى‬
‫مع رجلين أحدهما ابن النواحة المذكور‪ ،‬فلما اطلع عليها × الرسول‬
‫قال لهما‪ :‬وماذا تقولن أنتما؟ فقال‪ :‬نقول كما قال‪ × ،‬رسول ال‬
‫) أما وال لول أن الرسل ل تقتل لضربت أعناقكم‪ ×: 2 ) .‬فقال‬
‫‪ 3-‬موقف حبيب بن زيد النصاري حامل رسالة رسول ال‬
‫إلى مسيلمة‪:‬‬
‫حمل حبيب بن زيد النصاري ابن أم عمارة نسيبة بنت كعب‬
‫إلى مسيلمة × المازنية ‪-‬رضي ال عنهما‪ -‬رسالة رسول ال‬
‫الكذاب‪ ،‬فعندما سلمه الرسالة قال له مسيلمة الكذاب‪ :‬أتشهد أن‬
‫محمًدا رسول ال‪ ،‬فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول له‪ :‬أو تشهد أني رسول‬
‫ال؟ فيقول‪ :‬أنا أصم ل أسمع‪ ،‬ففعل ذلك مراًرا وكان في كل مرة‬
‫ل يجيبه فيها حبيب إلى طلبه يقتطع من جسمه عضًوا ويبقي عضو‬
‫) بين يديه‪  3 ).‬حبيب محتسبًا صابًرا إلى أن قطعه إربًا إربا فاستشهد‬
‫كيف كانت سيرته‪ ،‬فل يقتل الرسل ولو × ولننظر إلى رسول ال‬
‫كانوا من قبل أعدائه اللداء الكفار‪ ،‬وحتى ولو كفروا أمامه وما دام‬
‫لهم هذه الحصانة‪ .‬أما مسيلمة فيتعامى عن العهود والمواثيق فيقتل‬
‫ف‪ .‬إنه الفارق بين‬‫السفراء ل قتل عاديّا بل قتل تشويه وتمثيل وتش ٍ‬
‫السلم الذي يحترم الكلمة ويحترم النسان ويخاصم بشرف‬
‫ورجولة‪ ،‬وبين الجاهلية التي ل تعرف إل الفساد في الرض وتحكيم‬
‫) الهوى‪4 ).‬‬
‫‪ 4-‬الّرجال بن عنفوة الحنفي‪:‬‬
‫استفحل أمر مسيلمة الكذاب في بني حنيفة‪ ،‬ويبدو أنهم كانوا‬
‫على استعداد للتجاوب مع زيفه وخداعه‪ ،‬وافتتن به الرجال بن‬
‫وأسلم وقرأ القرآن وحفظ بعض × عنفوة الذي هاجر إلى النبي‬
‫إلى مسيلمة ليخذل عنه التباع‪ × ،‬سوره‪ ،‬كان قد بعثه رسول ال‬
‫وليوضح جلية المر للناس في هذه الفتنة الغاشية‪ ،‬فما كان منه‬
‫عندما وصل إليه إل أن انقلب على وجهه وأخذ يشهد لمسيلمة أمام‬
‫الناس أن رسول ال أشركه معه في النبوة‪ ،‬فكان هذا الشقي أشد‬
‫‪ ).‬فتنة على الناس من مسيلمة نفسه ) ‪5‬‬
‫في حياته إلى سوء منقلب الرجال‪ ،‬فقد × وقد ألمح رسول ال‬
‫في رهط معنا الرجال × قال‪ :‬جلست مع النبي ‪ ‬روى أبو هريرة‬
‫إن فيكم لرجل ضرسه في النار أعظم « ‪ :‬بن عنفوة فقال‬
‫فهلك القوم وبقيت أنا والرجال فكنت متخوًفا لها‪ ،‬حتى ‪ ».‬من أحد‬
‫خرج الرجال مع مسيلمة‪ ،‬فشهد له بالنبوة‪ ،‬فكانت فتنة الرجال‬
‫‪ ).‬أعظم من فتنة مسيلمة ) ‪6‬‬
‫‪ () 1 /3.‬نفس المصدر السابق‪387 :‬‬
‫‪ () 2 /3.‬نفس المصدر السابق‪386 :‬‬
‫‪ () 1049‬أسد الغابة‪ ،‬رقم الترجمة‪45 . 74 ( . 3 :‬‬
‫( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪2‬‬
‫‪ (4 /6.‬تاريخ الطبري‪ () 6 . ( 106 :‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪75‬‬
‫‪204‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫ثانيًا‪ :‬الثابتون على السلم من بني حنيفة‪:‬‬
‫طغت أخبار ردة مسيلمة الكذاب باليمامة على غيرها من أخبار‬
‫ثبات جماعات من المسلمين الصادقين باليمامة بصفة عامة‪ ،‬وفي‬
‫بني حنيفة قوم مسيلمة بصفة خاصة ولم يتعرض كثير من الكتاب‬
‫المحدثين لذكر المسلمين الذين تمسكوا بإسلمهم في فتنة مسيلمة‬
‫ووقفوا في وجهه‪ ،‬وساندوا جيوش الخلفة للقضاء على فتنته‪ .‬وقد‬
‫وجدت ) ‪ (1‬روايات معتبرة تلقي الضوء على هذه الحقيقة التي غابت‬
‫‪ ).‬عن الكثيرين ) ‪2‬‬
‫يذكر ابن أعثم أن ممن ثبت على السلم في اليمامة ثمامة بن‬
‫أثال) ‪ (3‬الذي كان من مشاهير بني حنيفة‪ ،‬ولذا اجتمعت إليه عندما‬
‫علموا بمسير خالد إليهم؛ لنه كان واحًدا من أكابرهم‪ ،‬وكان ذا عقل‬
‫وفهم ورأي‪ ،‬وكان مخالًفا لمسيلمة على ما هو عليه من الردة‪ ،‬وكان‬
‫ويحكم يا بني حنيفة‪ ،‬اسمعوا قولي …« ‪ :‬مما قاله لمن تابع مسيلمة‬
‫كان نبيًا مرسل × تهتدوا وأطيعوا أمري ترشدوا‪ ،‬واعلموا أن محمًدا‬
‫ل شك في نبوته‪ ،‬ومسيلمة رجل كذاب ل تغتروا بكلمه وكذبه‪،‬‬
‫وآلى عن ربه إذ × فإنكم قد سمعتم القرآن الذي أتى به محمد‬
‫ل اْلَعِزيِز اْلَعِليِم ‪ ‬يقول‪+ :‬حم‬ ‫نا ِ‬ ‫ب ِم َ‬ ‫غاِفِر ‪َ ‬تنِزي ُ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬ ‫َ‬
‫ل ل ِإَلَه ِإل ُهَو‬
‫طْو ِ‬‫ب ِذي ال ّ‬ ‫شِديِد اْلِعَقا ِ‬
‫ب َ‬‫ل الّتْو ِ‬‫الّذنب َوَقاِب ِ‬
‫صيُر" ]غافر‪1 :‬‬ ‫‪ [3‬فأين هذا الكلم من كلم مسيلمة ‪ِ -‬إَلْيِه اْلَم ِ‬
‫الكذاب؟ فانظروا في أموركم ول يذهبن هذا عنكم‪ ،‬أل وإني خارج‬
‫إلى خالد بن الوليد في ليلتي هذه طالبًا منه المان على نفسي‬
‫نحن « ‪ :‬ومالي وأهلي وولدي‪ ،‬وكان جواب من هدي إليه من قومه‬
‫ثم خرج ثمامة بن أثال ‪ ».‬معك يا أبا عامر‪ ،‬فكن من ذلك على علم‬
‫في جوف الليل في نفر من بني حنيفة حتى لحق بخالد بن الوليد‪،‬‬
‫واستأذن إليه فأمنه وأمن أصحابه‪ (4 ) .‬وجاء في رواية الكلعي قوله‬
‫ول بعده‪ ،‬وتذكر طرًفا من قرآن × لهم‪ :‬بأن ل نبي مع محمد‬
‫مسيلمة للتدليل على سخفه‪ (5 ).‬وتروى شعرا ينسب إلى ثمامة منه‬
‫قوله‪:‬‬
‫مسيلمة ارجع ول تمحك فإنك في المر لم تشرك‬
‫) كذبت على ال في وحيه فكان هواك هوى النوك ) ‪6‬‬
‫ومناك قومك أن يمنعوك وإن يأتهم خالد تُترك‬
‫للدكتور مهدي رزق ال‪ » .‬الثابتون على السلم « ‪ () 1‬وجدتها في كتاب‬
‫‪ () 2‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪51‬‬
‫‪ 3‬إ)( سولقمعه ‪.‬ف ي السر في زمن النبي لما كان مشركًا‪ ،‬فعفا عنه رسول ال وحسن‬
‫‪ () 4 .‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪52‬‬
‫‪ (5 .‬الكلعي‪ ،‬حروب الردة‪ :‬ص ‪56 (، 117‬‬
‫‪205‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫فما لك من مصعد في‬
‫السماء‬
‫) ول لك في الرض مسلك ) ‪1‬‬
‫وقد جاء في رواية‪ :‬دور ثمامة في حرب مسيلمة‪ ،‬ومساعدة‬
‫عكرمة بن أبي جهل له‬
‫‪ ).‬في هذه المهمة ) ‪2‬‬
‫وقد ساهم ثمامة بن أثال في مساعدة العلء بن الخضرمي في‬
‫حربه للمرتدين بالبحرين‪ ،‬وكان معه مسلمو بني حنيفة من بني‬
‫سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفة‪ ،‬وكان ثمامة من أهل‬
‫‪ ).‬البلء في قتال المرتدين مع العلء بن الحضرمي ) ‪3‬‬
‫وممن ثبت على السلم في اليمامة معمر بن كلب الرماني؛ فقد‬
‫وعظ مسيلمة وبنى حنيفة الذين تابعوه ونهاهم عن الردة‪ ،‬وكان جاًرا‬
‫لثمامة بن أثال وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد‪ ،‬ومن سادات‬
‫اليمامة الذين كانوا يكتمون إسلمهم‪ :‬ابن عمرو اليشكري الذي كان من‬
‫أصدقاء الرجال بن عنفوة‪ ،‬وقال شرعا فشا في اليمامة وأنشده الناس‪،‬‬
‫ومن هذا الشعر قوله‪:‬‬
‫جال على الهدى أمثالي‬ ‫إن ديني دين النبي وفي القو م ِر َ‬
‫أهلك القوم محكم بن طفيل ورجال ليسوا لنا برجال‬
‫ي على فطرة ال حنيفا فإنني ل أبالي‬ ‫إن تكن ميتَت ِ‬
‫فبلغ ذلك مسيلمة ومحكًما وأشراف أهل اليمامة فطلبوه‪ ،‬ولكنه‬
‫فاتهم ولحق بخالد بن الوليد‪ ،‬وأخبره بحال أهل اليمامة ودله على‬
‫عوراتهم ) ‪ .(4‬وممن ثبت على السلم في اليمامة أيضا‪ :‬عامر بن‬
‫‪ ).‬مسلمة ورهطه ) ‪5‬‬
‫ولقد أكرم أبو بكر الثابتين على السلم من بني حنيفة‪،‬‬
‫وذلك في أشخاص ذوي قرابتهم‪ ،‬ومن ذلك تبعيته لمطرف بن‬
‫النعمان بن مسلمة ابن أخي كل‬
‫من ثمامة بن أثال وعامر بن مسلمة الذين كان لهما ثبات في‬
‫فتنة الردة‪ ،‬عينه‬
‫‪ ).‬وال ًيا على اليمامة ) ‪6‬‬
‫ثالثًا‪ :‬تحرك خالد بن الوليد بجيشه إلى مسيلمة الكذاب‬
‫باليمامة‪:‬‬
‫قد أمر خالًدا إذا فرغ من أسد وغطفان ومالك ‪ ‬كان أبو بكر‬
‫)ب ‪ (7‬ن نويرة أن يقصد اليمامة وأكد عليه في ذلك‪ ،‬قال شريك الفزاري ‪ :‬كنت ممن حضر بزاخة فجئت أبا بكر‬
‫فأمرني بالمسير إلى خالد‬
‫‪ () 1 .‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪53‬‬
‫‪ () 6‬البداية والنهاية‪34 . 54 ( . 361/ 2 :‬‬
‫( الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪2‬‬
‫‪ 106‬للكلعي‪ () - .‬حروب الردة‪ ،‬ص ‪104‬‬
‫‪ () 57‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪67 . 58 ( . 5‬‬
‫( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪5‬‬
‫)( شريك بن عبدة‪ :‬صحابي قام بالمراسلة الحربية بين الصديق وخالد‪.‬‬
‫‪206‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وكتب معي إليه‪ :‬أما بعد‪ ،‬فقد جاءني في كتابك مع رسولك تذكر ما‬
‫أظفرك ال بأهل بزاخة وما فعلت بأسد وغطفان وأنك سائر إلى‬
‫اليمامة‪ ،‬وذلك عهدي إليك‪ ،‬فاتق ال وحده ل شريك له‪ ،‬وعليك‬
‫بالرفق بمن معك من المسلمين‪ ،‬كن لهم كالوالد‪ ،‬وإياك يا خالد بن‬
‫الوليد ونخوة بني المغيرة؛ فإني قد عصيت فيك من لم أعصه في‬
‫شيء قط‪ ،‬فانظر إلى بني حنيفة إذا لقيتهم إن شاء ال فإنك لم‬
‫تلق قوًما يشبهون بني حنيفة كلهم عليك ولهم بلد واسعة‪ ،‬فإذا‬
‫قدمت فباشر المر بنفسك واجعل على ميمنتك رجل وعلى ميسرتك‬
‫رجل ) ‪ ،(1‬واجعل على خيلك رجلً‪ ،‬واستشر من معك من الكابر من‬
‫من المهاجرين والنصار‪ ،‬واعرف لهم فضلهم‪ × ،‬أصحاب رسول ال‬
‫فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم فالقهم ‪-‬إن شاء ال‪ -‬وقد‬
‫أعددت للمور أقرانها‪ ،‬فالسهم للسهم والرمح للرمح والسيف‬
‫للسيف وأحمل أسيرهم على السيف ) ‪ ،(2‬وهول فيهم القتل واحرقهم‬
‫بالنار‪،‬‬
‫وإياك أن تخالف أمري والسلم عليك‪ (3 ) .‬فلما انتهى الكتاب إلى‬
‫خالد وقرأه قال‪:‬‬
‫‪ ).‬سمًعا وطاعة) ‪4‬‬
‫سار خالد إلى قتال بني حنيفة باليمامة وعبى معه المسلمين‪،‬‬
‫وكان على النصار ثابت بن قيس بن شماس‪ ،‬فسار ل يمر بأحد من‬
‫المرتدين إل نكل به‪ ،‬وسير الصديق جيشا كثيًفا مجهًزا بأحدث سلح‬
‫ليحمي ظهر خالد حتى ل يوقع به أحد من خلفه‪ ،‬وكان خالد في‬
‫طريقه إلى اليمامة قد لقي أحياء من العراب قد ارتدت‪ ،‬فغزاها‬
‫وردها إلى السلم‪ ،‬ولقي مؤخرة جيش سجاح ففتك به ونكبه‪ ،‬ثم‬
‫‪ ).‬زحف إلى اليمامة ) ‪5‬‬
‫) ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له‪ :‬عقرباء ) ‪6‬‬
‫في طرف اليمامة‪ ،‬وندب الناس وحثهم على لقاء خالد‪ ،‬فأتاه أهل‬
‫اليمامة وجعل على مجنبتي جيشه‪ :‬المحكم بن الطفيل‪ ،‬والرجال بن‬
‫‪ ».‬شاهد زور « عنفوة‬
‫والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل فتقدم وقد جعل على مقدمة‬
‫الجيش شرحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا‬
‫‪ ).‬حذيفة بن عتبة بن ربيعة ) ‪7‬‬
‫أ‪ -‬مجاعة بن مرارة الحنفي يقع في أسر المسلمين‪:‬‬
‫سا‬
‫مرت مقدمة جيش خالد بنحو من أربعين وقيل ستين فار ً‬
‫عليهم مجاعة بين مرارة الحنفي‪ ،‬وكان قد ذهب لخذ ثأر له في بني‬
‫تميم وبني عامر‪ ،‬وفي طريق عودته إلى قومه أسرهم المسلمون‪،‬‬
‫‪23 . 78 ، ( 1‬‬
‫( حروب الردة‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪2‬‬
‫‪ . 349 .‬حروب الردة‪ ،‬أبو خليل‪ :‬ص ‪ () ، 79‬مجموعة الوثائق السياسية‪ :‬ص ‪348‬‬
‫‪ () 4 .‬حروب الردة‪ ،‬د‪ .‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪79‬‬
‫‪ () 5 .‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪105‬‬
‫‪ () 6 .‬حروب الردة‪ ،‬د‪ .‬شوفي أبو خليل‪ :‬ص ‪80‬‬
‫‪ () 7 .‬حروب الردة‪ ،‬د‪ /‬شوفي أبو خليل‪ :‬ص ‪80‬‬
‫‪207‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫فلما جيء بهم إلى خالد قال لهم‪ :‬ماذا تقولون يا بني حنيفة؟ قالوا‪:‬‬
‫نقول منا نبي ومنكم نبي فقتلهم ) ‪ ،(1‬وفي رواية‪ :‬سألهم خالد‪ :‬متى‬
‫شعرتم بنا؟ قالوا‪ :‬ما شعرنا بك‪ ،‬إنما خرجنا لنثأر فيمن حولنا من‬
‫بني عامر وتميم‪ .‬فلم يصدقهم خالد بل حسبهم جواسيس عليه‬
‫لمسيلمة الكذاب‪ ،‬فأمر بقتلهم جميًعا فقالوا له‪ :‬إن ترد بأهل اليمامة‬
‫غًدا شًرا أو خيًرا فاستبق هذا وأشار إلى رئيسهم مجاعة‪ ،‬فاستبقى‬
‫‪ ).‬مجاعة وقتل الخرين ) ‪2‬‬
‫عا‪ ،‬فكان‬‫وكان مجاعة بن مرارة سيًدا في بني حنيفة شريًفا مطا ً‬
‫خالد كلما نزل منزل واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه‪ ،‬فقال‬
‫له ذات يوم‪ :‬أخبرني عن صاحبك –يعني مسيلمة‪ -‬ما الذي يقرأكم؟‬
‫هل تحفظ منه شيئا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فذكر له شيئًا من رجزه‪ ،‬فقال خالد‬
‫وضرب بإحدى يديه على الخرى وقال‪ :‬يا معشر المسلمين‪ ،‬اسمعوا‬
‫إلى عدو ال كيف يعارض القرآن‪ ،‬ثم قال‪ :‬ويحك يا مجاعة‪ ،‬أراك‬
‫رجل سيًدا عاقل اسمع إلى كتاب ال عز وجل‪ ،‬ثم انظر كيف‬
‫سَم َرّبك الْعَلى"‪،‬‬
‫سّبح ا ْ‬
‫عارضه عدو ال‪ ،‬فقرأ عليه خالد‪َ + :‬‬
‫فقال مجاعة‪ :‬أما إن رجل من أهل البحرين كان يكتب‪ ،‬أدناه مسيلمة‬
‫وقربه حتى لم يكن يعد له في القرب عنده أحد‪ ،‬فكان يخرج إلينا‬
‫فيقول‪ :‬ويحكم يا أهل اليمامة‪ ،‬صاحبكم وال كذاب وما أظنكم‬
‫تتهموني عليه‪ ،‬إنكم لترون منزلتي عنده وحالي‪ ،‬ووال يكذبكم‬
‫وبايعكم على الباطل‪ ،‬قال خالد‪ :‬فما فعل ذلك البحراني؟ قال‪ :‬هرب‬
‫منه‪ ،‬كان ل يزال يقول هذا القول حتى بلغه‪ ،‬فخافه على نفسه‬
‫فهرب فلحق بالبحرين‪ ،‬قال خالد‪ :‬هات‪ ،‬زدنا من كذب الخبيث‪ ،‬فقال‬
‫مجاعة بعض رجز مسيلمة‪ ،‬فقال خالد‪ :‬وهذا كان عندكم حًقا وكنتم‬
‫تصدقونه؟ قال مجاعة‪ :‬لو لم يكن عندنا حق لما لقيتك غًدا أكثر من‬
‫عشرة آلف سيف يضاربونك فيه حتى يموت العجل‪ ،‬قال خالد‪ :‬إًذا‬
‫يكفيناكم ال ويعز دينه‪ ،‬ففي سبيله يقاتلون ودينه يريدون‪ (3 ) .‬فهذا‬
‫رد يدل على عظمة إيمان خالد وثقته بال‪ ،‬فقد كان إيمانه بال‬
‫وثقته المطلقة في نصر ال لدينه هما اللذين فجرا في شخصيته‬
‫كنوز المواهب الحربية وفنون المهارات القيادية‪ ،‬لقد قاتل يوم بزاخة‬
‫بسيفين حتى قطعهما‪ ،‬فقد كان يمل اليمان قلبه ويعتز بال وحده‪،‬‬
‫وكان ذلك كفيل بإسقاط هيبة عدوه من نفسه وغرس هيبته في قلب‬
‫عدوه‪ ،‬وذلك أول الطريق لحراز النصر الحاسم عليه وإلحاق‬
‫‪ ).‬الهزيمة الساحقة به ) ‪4‬‬
‫ب‪ -‬شن الحرب النفسية قبل المعركة‪:‬‬
‫وضع خالد بن الوليد خطته على أساس استخدام الحرب النفسية‬
‫ثم تحكيم السيف‪ ،‬فبعث زياد بن لبيد وكان صديًقا لمحكم بن طفيل‬
‫سيد أهل اليمامة بقصد أن يكسبه إلى‬
‫جانبه‪ ،‬فقال خالد لزياد‪ :‬لو لقيت إلى محكم شيئا تكسره به‪ ،‬فكتب‬
‫زياد إليهأبياتا من‬
‫‪ () 1 /6.‬البداية والنهاية‪328 :‬‬
‫‪ ،4 .‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪ () 2 / 105‬تاريخ الطبري‪106 :‬‬
‫‪ () 3 .‬حروب الردة‪ :‬ص ‪82‬‬
‫‪ () 4 ، 219.‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪218‬‬
‫‪208‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫الشعر جاء فيها‪:‬‬
‫ويل اليمامة ويل ل فراق له إن جالت الخيل فيها بالقنا‬
‫الصادي‬
‫وال ل تنثني عنكم أعنتها حتى تكونوا كأهل الحجر أو‬
‫عاد‬
‫واتجه خالد كذلك إلى عمير بن صالح اليشكري وكان قد أسلم‬
‫وكتم إسلمه على قومه‪ ،‬وكان قوي العقيدة راسخ اليمان‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫تقدم إلى قومك‪ ،‬فأتاهم وقال‪ :‬أظلكم خالد في المهاجرين والنصار‪،‬‬
‫إني رأيت قوًما إن غالبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر‪ ،‬وإن غلبتموهم‬
‫بالعدد غلبوكم بالمدد‪ ،‬ولستم والقوم سواء‪ .‬السلم مقبل والشرك‬
‫مدبر‪ ،‬وصاحبهم نبي وصاحبكم كذاب‪ ،‬ومعهم السرور ومعكم‬
‫الغرور‪ ،‬فالن والسيف في غمده والنبل في جفيره‪ ،‬قبل أن يسل‬
‫) السيف ويرمى بالسهم‪1 ).‬‬
‫ثم باشر خالد المهمة مع ثمامة بن أثال الحنفي‪ ،‬فمشى إلى‬
‫إنه ل « ‪ :‬قومه يدعوهم إلى الستسلم‪ ،‬ويحطم عندهم روح القتال‬
‫ل نبي بعده ول نبي مرسل × يجتمع نبيان بأمر واحد‪ ،‬إن محمًدا‬
‫معه‪ ،‬لقد بعث إليكم )يقصد أبا بكر( معه سيوف كثيرة‪ ،‬فانظروا في‬
‫ل يستخف ‪ ‬أمركم‪ (2 ) .‬واهتم خالد بتدبير الخطط المحكمة‪ ،‬وكان‬
‫بعدوه‪ ،‬وكان في ميدان المعركة على أهبة وحذر دائمين مخافة أن‬
‫بأنه‪ :‬كان ل ‪ ‬يفجأه عدوه بغارة غادرة والتفاف مكر‪ ،‬وقد وصف‬
‫) ينام ول يبيت إل على تعبية‪ ،‬ول يخفى عليه من أمر عدوه شيء‪3 ) .‬‬
‫وفي محاربته لمسيلمة ‪-‬قبل معركة عقرباء‪ -‬جعل طليعته مكنف بن‬
‫زيد الخيل وأخاه حريثًا لجمع المعلومات اللزمة للمعركة‪ ،‬وقد حان‬
‫ترتيب أمور جيشه فالموقف شديد الخطورة‪ ،‬ول بد من أخذ‬
‫الترتيبات اللزمة؛ فقد كان حامل الراية في هذه المعركة عبد ال‬
‫بن حفص بن غانم‪ ،‬ومن ثم تحولت إلى سالم ) ‪ (4‬مولى أبي حذيفة‪.‬‬
‫ومعلوم أن الناس براياتهم كما قالت العرب فإذا زالت زالوا‪ ،‬وقد‬
‫قدم خالد في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة‪ ،‬وقسم الجيش‬
‫سا؛ على المقدمة خالد المخزومي‪ ،‬وعلى الميمنة أبو حذيفة‪،‬‬ ‫أخما ً‬
‫وعلى الميسرة شجاع‪ ،‬وفي القلب زيد ابن الخطاب‪ ،‬وجعل أسامة‬
‫بن زيد على الخيالة ووضع الظعن في المؤخرة وفيها الخيام‬
‫والنساء) ‪ ،(5‬وهذا الترتيب الخير قبل المعركة‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬المعركة الفاصلة‪:‬‬
‫ولما تواجه الجيشان قال مسيلمة لتباعه وقومه قبيل المعركة‬
‫الفاصلة‪ :‬اليوم يوم الغيرة‪ ،‬اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات‬
‫‪ ).‬وينكحن غير حطيات‪ ،‬فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم ) ‪6‬‬
‫‪ () 1 ، 145.‬الحرب النفسية‪ ،‬أحمد نوفل‪ :‬ص ‪144‬‬
‫‪ .2‬فن إدارة المعركة‪ ،‬محمد فرج‪3 / :‬ال ‪1‬حرب النفسية‪ ،‬د‪ :‬أحمد نوفل‪- 140. 2 (8) 145 :‬‬
‫‪ () 3 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪199‬‬
‫‪56 . 200 ، ( 4‬‬
‫( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪3‬‬
‫‪ () /6.‬البداية والنهاية‪328 :‬‬
‫‪209‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫لمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على ‪ ‬وتقدم خالد با‬
‫اليمامة فضرب به عسكره‪ ،‬واصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة‬
‫وانهزمت العراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد‪ ،‬وهموا‬
‫بقتل أم تميم حتى أجارها مجاعة‪ ،‬وقال‪ :‬نعمت الحرة هذه‪ ،‬وقد قتل‬
‫ا جلّرل بن عنفوة لعنه ال في هذه الجولة قتله زيد بن الخطاب‪ ،‬ثم‬
‫تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس‪ :‬لبئس ما عودتم‬
‫أقرانكم ونادوا من كل جانب‪ :‬أخلصنا يا خالد‪ ،‬فخلصت ثلة من‬
‫المهاجرين والنصار وحمى وقاتلت بنو حنيفة قتا ل ًلم يعهد مثله‪ ،‬وجعلت‬
‫الصحابة يتواصون بينهم ويقولون‪ :‬يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر‬
‫اليوم‪ ،‬وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الرض إلى أنصاف ساقيه وهو‬
‫حامل لواء النصار بعدما تحنط وتكفن‪ ،‬فلم يزل ثاتبا حتى قتل هناك‪.‬‬
‫وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة‪ :‬أتخشى أن تؤتى من قبلك؟‬
‫فقال‪ :‬بئس حامل القرآن أناذ اإ‪ .‬وقال زيد بن الخطاب‪ :‬أيها الناس‬
‫عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدمًا‪ .‬وقال‪ :‬وال ل‬
‫‪ .‬أتكلم حتى يهزمهم ال أو ألقى ال فأكلمه بحجتي‪ ،‬فقتل شهيًدا‬
‫وقال أبو حذيفة‪ :‬يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال‪ ،‬وحمل فيهم حتى‬
‫وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لقتال ‪ ، ‬أبعدهم‪ ،‬وأصيب‬
‫مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله‪ ،‬ثم رجع ثم وقف بين‬
‫الصفين ودعا البراز‪ ،‬وقال‪ :‬أنا ابن الوليد العود‪ ،‬أنا ابن عامر وزيد‪ ،‬ثم‬
‫نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ‪ :‬يا محمداه‪ ،‬وجعل ل يبرز‬
‫له أحد إل قتله ول يدنو منه شيء إل أكله‪ ،‬وقد ميز خالد المهاجرين من‬
‫النصار من العراب‪ ،‬وكل بنى أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف‬
‫الناس من أين يؤتون‪ ،‬وصبر الصحابة في هذه المواطن صبرًا لم يعهد‬
‫مثله‪ ،‬ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح ال عليهم وولى‬
‫الكفار الدبار واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في‬
‫رقابهم حيث شاءوا‪ ،‬حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت‪ ،‬وقد أشار عليهم‬
‫محكم اليمامة ‪-‬وهو محكم بن الطفيل لعنه ال‪ -‬بدخولها فدخلوها وفيها‬
‫عدو ال مسيلمة لعنه ال‪ ،‬وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن‬
‫الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله‪ ،‬وأغلقت بنو حنيفة‬
‫) الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة‪1 ).‬‬
‫سا‪ :‬بطولت نادرة‪.‬‬ ‫خام ً‬
‫‪ 1-‬قال البراء بن مالك‪:‬‬
‫يا معشر المسلمين‪ ،‬ألقوني عليهم في الحديقة‪ ،‬فاحتملوه فوق‬
‫الجحف ) ‪ ،(2‬ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم‪ ،‬فلم يزل يقاتلهم‬
‫دون بابها حتى فتحه‪ ،‬ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي‬
‫فتحه البراء‪ ،‬وفتح الذين دخلوا البواب الخرى وحوصر المرتدون‬
‫) وأدركوا أنها القاضية‪ ،‬وأن الحق جاء وزهق باطلهم‪3 ).‬‬
‫‪ 2-‬مصرع مسيلمة الكذاب‪:‬‬
‫وخلص المسلمون إلى مسيلمة لعنه ال‪ ،‬وإذا هو واقف في ثلمة‬
‫‪ () 6‬البداية والنهاية‪23 ( . 329/ 1 :‬‬
‫( الجحف‪ :‬المراد بها التروس‪2 .‬‬
‫‪ () .‬حروب الردة‪ ،‬لشوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪92‬‬
‫‪210‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫جدار كأنه جمل أورق‪ ،‬وهو يريد يتساند ل يعقل من الغيظ‪ ،‬وكان إذا‬
‫اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه‪ ،‬فتقدم إليه وحشي‬
‫بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه‪،‬‬
‫وخرجت من الجانب الخر وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة‬
‫فضربه بالسيف فسقط‪ ،‬فنادت امرأة من القصر‪ :‬وا أمير الوضاءة‬
‫قتله العبد السود‪ ،‬فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة‬
‫قبراي ًمن عشرة آلف مقاتل‪ ،‬وقيل‪ :‬إحدى وعشرون ألًفا‪ ،‬وقتل من‬
‫المسلمين ستمائة وقيل‪ :‬خمسمائة فال أعلم‪ ،‬وفيهم من سادات‬
‫الصحابة وأعيان الناس من يذكر بعد‪ ،‬وخرج خالد وتبعه مجاعة بن‬
‫مرارة يرسف في قيوده‪ ،‬فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة‪ ،‬فلما‬
‫مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد‪ :‬أهذا هو؟ قال‪ :‬ل وال هذا خير‬
‫منه‪ ،‬هذا الرجال بن عنفوة‪ ،‬ثم مروا برجل أصفر أخنس فقال‪ :‬هذا‬
‫صاحبكم‪ ،‬فقال خالد‪ :‬قبحكم ال على اتباعكم هذا‪ ،‬ثم بعث خالد‬
‫) الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي‪1 ).‬‬
‫‪ 3-‬أبو عقيل‪ :‬عبد الرحمن بن عبد ال البلوي النصاري‬
‫الوسي‪:‬‬
‫كان أبو عقيل من أول من جرح يوم اليمامة‪ُ ،‬رمي بسهم‬
‫فوقع بين منكبيه وفؤاده فجرح في غير مقتل‪ ،‬فأخرج السهم‬
‫ووهن شقه اليسر‪ ،‬فأخذ إلى معسكر المسلمين‪ ،‬فلما حمي‬
‫القتال وتراجع المسلمون إلى رحالهم ومعسكرهم‪ ،‬وأبو عقيل‬
‫واهن من جرحه‪ ،‬سمع معن بن عدي يصيح‪ :‬يا للنصار‪ ،‬ال ال‬
‫والكرة على عدوكم‪ .‬وتقدم معن القوم ونهض أبو عقيل يريد‬
‫قومه‪ ،‬فقال له بعض المسلمين‪ :‬يا أبا عقيل ما فيك قتال‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قد نوه المنادي باسمي‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنما يقول يا للنصار ل يعني‬
‫الجرحى‪ ،‬فقال أبو عقيل‪ :‬فأنا من النصار وأنا أجيب ولو حبًوا‪،‬‬
‫فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجردا‪ ،‬ثم جعل ينادي‪:‬‬
‫عا وتقدموا بروح معنوية‬ ‫يا للنصار كثرة كيوم حنين‪ ,‬فاجتمعوا جمي ً‬
‫عالية يطلبون الشهادة أو النصر حتى أقحموا عدوهم الحديقة‪،‬‬
‫وفي هذا الهجوم قطعت يد أبي عقيل من المنكب‪ ،‬ووجدت به‬
‫حا كلها قد خلصت إلى مقتل‪ ،‬ومر ابن عمر بأبي‬ ‫أربعة عشر جر ً‬
‫عقيل وهو صريع بآخر رمق فقال‪ :‬يا أبا عقيل‪ ،‬فقال‪ :‬لبيك بلسان‬
‫ثقيل‪ ،‬ثم قال‪ :‬لمن الدبرة فقال ابن عمر‪ :‬أبشر‪ ،‬قد قتل عدو‬
‫ال‪ ،‬فرفع أبو عقيل إصبعه إلى السماء بحمد ال‪ ،‬قال عنه عمر‬
‫رحمه ال‪ ،‬ما زال ينال الشهادة ويطلبها‪ ،‬وإنه لمن خير ‪ :‬‬
‫) أصحاب نبينا‪2 ) .‬‬
‫‪ 4-‬نسيبة بنت كعب المازنية النصارية‪:‬‬
‫خرجت في جيوش خالد الذاهبة لليمامة وباشرت القتال بنفسها‪،‬‬
‫وأقسمت أن ل تضع السلح حتى يُْقتل دجال بني حنيفة‪ ،‬وبرت‬
‫بفضل ال بقسمها وقتل مسيلمة ورجعت إلى المدينة وبها اثنا عشر‬
‫حا ما بين طعنة برمح وضربة بسيف‪ ،‬وكلها أوسمة شرف لهذه‬ ‫جر ً‬
‫‪ () 1 /6.‬البداية والنهاية‪330 :‬‬
‫‪ ، 94 /2.‬شوقي أبو خليل‪ ،‬نقل عن الكتفاء‪ () 2 ، 13 :‬حروب الردة‪ :‬ص ‪93‬‬
‫‪211‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫الصحابية المجاهدة التي ضربت لبنات جنسها مثل رائًعا في الدفاع‬
‫عن الدين والعقيدة‪ ،‬ولو أدى ذلك لن تتحمل ما ل يتحمله في العادة‬
‫مثيلتها من ربات الخدور‪ (1 ).‬وقد قام خالد بن الوليد بعد هذه‬
‫المعركة برعايتها‪ ،‬فقد قالت نسيبة ‪-‬رضي ال عنها‪ :-‬فلما انقطعت‬
‫الحرب ورجعت إلى منزلي جاءني خالد بن الوليد بطبيب فداواني‬
‫بالزيت المغلي‪ ،‬وكان وال أشد علي من القطع‪ ،‬وكان خالد كثير‬
‫التعهد لي‪ ،‬حسن الصحبة لنا‪ ،‬يعرف لنا حقنا ويحفظ فينا وصية نبينا‬
‫‪× (2).‬‬
‫سا‪ :‬من شهداء معركة اليمامة‪.‬‬ ‫ساد ً‬
‫‪ 1-‬ثابت بن قيس بن شماس الذي أجاز الصديق وصيته بعد‬
‫موته‪:‬‬
‫بشره × هو أبو محمد‪ ،‬خطيب النصار‪ ،‬وقد ثبت أن رسول ال‬
‫بالشهادة‪ ،‬وقتل يوم اليمامة شهيًدا‪ ،‬وكانت راية النصار يومئذ بيده‪،‬‬
‫وقد رأى رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه فقال‪ :‬إني‬
‫عا‬
‫لما قتلت بالمس مر بي رجل من المسلمين فانتزع مني در ً‬
‫نفيسة‪ ،‬ومنزله في أقصى العسكر وعند خبائه فرس يستن في‬
‫ت خالًدا‬ ‫طوله‪ ،‬وقد كفأ على الدرع بُْرَمة وفوق البرمة رحل‪ ،‬فأ ِ‬
‫فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها‪ ،‬وإذا قدمت المدينة على خليفة‬
‫رسول ال )يعني أبا بكر( فقل له‪ :‬إن على من الدين كذا وكذا‬
‫وفلن من رقيقي عتيق‪ ،‬وإياك أن تقول‪ :‬هذا حلم فتضيعه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فأتى خالًدا فوجهه إلى الدرع فوجدها كما ذكره‪ ،‬وقدم على أبي بكر‬
‫فأخبره‪ ،‬فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته‪ ،‬فل يعلم أحد جازت وصيته‬
‫‪ ).‬بعد موته إل ثابت بن قيس بن شماس ) ‪3‬‬
‫‪  -2:‬زيد بن الخطاب‬
‫هو أخو عمر بن الخطاب لبيه وكان أكبر من عمر‪ ،‬أسلم قديًما‬
‫بينه وبين معن بن × وشهد بدًرا وما بعدها‪ ,‬قد آخى رسول ال‬
‫عدي النصاري وقد قتل جميًعا باليمامة‪ ،‬وقد كانت راية المهاجرين‬
‫يومئذ بيده فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت‪ ،‬فأخذها سالم‬
‫مولى أبي حذيفة وقد قتل زيد يومئذ الرجال بن عنفوة الذي كانت‬
‫فتنته على بني حنيفة أشد من فتنة مسيلمة فكان مصرعه على يد‬
‫والذي قتل زيد رجل يقال له أبو مريم الحنفي‪ ،‬وقد أسلم ‪ ،‬زيد‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وقال لعمر‪ :‬يا أمير المؤمنين إن ال أكرم زيًدا بيدي ولم‬
‫يهني على يده‪ ،‬وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب‪ :‬رحم‬
‫ال أخي زيد سبقني إلى الحسنيين؛ أسلم قبلي واستشهد قبلي‪.‬‬
‫وقال لمتمم بن نويرة حين جعل يرثي أخاه مالكًا بالشعار‪ :‬لو كنت‬
‫أحسن الشعر لقلت كما قلت‪ ،‬فقال له متمم‪ :‬لو أن أخي ذهب على‬
‫ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه‪ ،‬فقال له‪ :‬ما عزاني أحد مثل ما‬
‫صبا إل ذكرتني زيًدا‬ ‫عزيتني به‪ ،‬ومع هذا كان عمر يقول‪ :‬ما هبت ال ّ‬
‫‪ (2‬النصار في العصر الراشدي‪ :‬ص ( ‪9 .‬ح ‪1‬ركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪ () /6. 23 . 1 (0) 309‬البداية والنهاية‪:‬‬
‫‪339‬‬
‫‪212‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ (1).‬‬
‫‪ 3-‬معن بن عدي البلوي‪:‬‬
‫شهد العقبة وبدًرا وأحًدا والخندق وسائر المشاهد‪ ،‬وكان قد آخى‬
‫بينه وبين زيد بن الخطاب فقتل جميًعا يوم اليمامة × رسول ال‬
‫رضي ال عنهما‪ .‬وكان لمعن بن عدي موقف متميز عند وفاة‬
‫حين مات‪ × ،‬فعندما بكى الناس على رسول ال ‪ ×،‬رسول ال‬
‫وقالوا‪ :‬وال وددنا أنّا متنا قبله ونخشى أن نفتتن بعده‪ ،‬فقال معن‬
‫بن عدي‪ :‬لكني وال ما أحب أن أموت قبله‪ ،‬لصدقه ميتًا كما‬
‫) صدقته حيًا‪2 ) .‬‬
‫‪ 4-‬عبد ال بن سهيل بن عمرو‪:‬‬
‫أسلم قدي ًما وهاجر ثم استضعف بمكة‪ ،‬فلما كان يوم بدر‬
‫خرج معهم‪ ،‬فلما تواجهوا فر إلى المسلمين فشهدها معهم‪ ،‬وقتل‬
‫يوم اليمامة‪ ،‬فلما حج أبو بكر عزى أباه فيه‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬بلغني‬
‫‪ ».‬يشفع الشهيد لسبعين من أهله « ‪ :‬قال × )أ ‪(3‬ن رسول ال موقف ‪ ‬فأرجو أن يبدأ بي ) ‪ ، (4‬وقد كان‬
‫لسهيل بن عمرو‬
‫فقد ه ّم أكثر أهل مكة ‪ ×،‬عظيم بمكة حين توفي رسول ال‬
‫بالرجوع عن السلم‪ ،‬وأرادوا ذلك حتى خافهم والي مكة عتاب‬
‫بن أسيد‪ ،‬فتوارى‪ ،‬فقام سهيل بن عمرو فحمد ال وأثنى عليه‪،‬‬
‫وقال‪ :‬إن ذلك لم يزد السلم إل قوة‪ × ،‬ثم ذكر وفاة رسول ال‬
‫فمن رابنا ضربنا عنقه‪ ،‬فتراجع الناس وكفوا عما هموا به‪ ،‬فظهر‬
‫في قوله × عتاب بن أسيد‪ .‬فهذا المقام الذي أراد رسول ال‬
‫لعمر بن الخطاب ‪-‬يعني حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في‬
‫» إنه عسى أن يقوم مقاًما ل تذمّنه « ‪5 -:‬ا(لساري يوم بدر ( ‪.‬‬
‫‪ 5-‬أبو دجانة سماك بن خرشة‪:‬‬
‫بينه وبين × كانت عليه يوم بدر عصابة حمراء‪ ،‬قيل‪ :‬آخى النبي‬
‫وبايعه على × عتبة بن غزوان‪ .‬وثبت أبو دجانة يوم أحد مع النبي‬
‫ل يومئذ‪ .‬وقال زيد‬ ‫الموت‪ ،‬وهو ممن اشترك في قتل مسيلمة وُقت ِ‬
‫بن أسلم‪ُ :‬دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل‪ ،‬فقيل‬
‫له‪ :‬ما لوجهك يتهلل؟ فقال‪ :‬ما لي من عملي شيء أوثق عندي من‬
‫اثنتين‪ :‬كنت ل أتكلم فيما ل يعنيني‪ ،‬والخرى فكان قلبي للمسلمين‬
‫) سليًما‪6 ) .‬‬
‫وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين‪ ،‬فقد رمى‬
‫بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رجله فقاتل وهو مكسور الرجل‬
‫‪ () 1 /6.‬البداية والنهاية‪240 :‬‬
‫‪ () 2 / 343، 344.‬نفس المصدر السابق‪6 :‬‬
‫‪ () 3 .‬سنن أبي داود‪ ،‬في الجهاد‪ ،‬باب الشهيد يشفع‪ ،‬رقم‪2522 :‬‬
‫‪ () 4 .‬تاريخ الذهبي‪ ،‬الخلفاء الراشدون‪ :‬ص ‪61‬‬
‫‪ () 5 .‬ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ ،‬خلفة أبي بكر‪ :‬ص ‪82‬‬
‫‪ () 6 .‬عهد الخلفاء الراشدين للذهبي‪ :‬ص ‪70‬‬
‫‪213‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ ).‬حتى قتل ) ‪1‬‬
‫‪ 6-‬عبّاد بن بشر‪:‬‬
‫سا وأربعين سنة‪ ،‬وهو الذي‬‫من فضلء الصحابة‪ ،‬عاش خم ً‬
‫أضاءت عصاه ليلة حين انقلب إلى منزله‪ ،‬وكان قد سمر عند‬
‫‪ (2‬أسلم عباد على يد مصعب بن عمير وكان فيمن قتل ( ‪ ×.‬النبي‬
‫على صدقات مزينة × كعب بن الشرف ) ‪ ، (3‬واستعمله النبي‬
‫وبني سليم وعلى حرسه بتبوك‪ .‬وأبلى يوم اليمامة بلء حسنًا‬
‫وكان من الشجعان‪ ،‬وعن عائشة قالت‪ :‬ثلثة من النصار لم يكن‬
‫ل كلهم من بني عبد الشهل‪ :‬سعد بن معاذ‪،‬‬ ‫أحد يعتد عليهم فض ً‬
‫جد رسول‬ ‫وأسيد بن حضير‪ ،‬وعباد بن بشر‪ .‬وعن عائشة قالت‪ :‬ته ّ‬
‫يا « ‪ :‬في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال × ال‬
‫)‪ ».(4‬اللهم ارحم عباًدا « ‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال »؟ عائشة‪ ،‬هذا صوت عباد‬
‫وقد استشهد باليمامة‪.‬‬
‫ويحدثنا أبو سعيد الخدري عنه حيث قال‪ :‬سمعته يقول حين‬
‫فرغنا من بزاخة‪ :‬يا أبا سعيد‪ ،‬رأيت الليلة كأن السماء فرجت لي ثم‬
‫) أطبقت علي فهي إن شاء ال الشهادة‪ ،‬قلت‪ :‬خيًرا وال رأيت‪5 ).‬‬
‫وقد كان له يوم اليمامة مواقف مشهودة‪ ،‬فقد وقف على نشز‬
‫مرتفع من الرض‪ ،‬ثم صاح بأعلى صوته‪ :‬أنا عباد بن بشر‪ ،‬يا للنصار‬
‫ي‪ ،‬فأقبلوا إليه جميًعا وأجابوه‪ :‬لبيك لبيك‪ ،‬ثم‬
‫ي أل إل ّ‬
‫يا للنصار‪ ،‬أل إل ّ‬
‫حطم جفن سيفه فألقاه وحطمت النصار جفون سيوفهم‪ ،‬ثم قال‬
‫جملة صادقة‪ :‬اتبعوني‪ ،‬فخرج حتى ساقوا بني حنيفة منهزمين حتى‬
‫انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم‪ (6 ).‬ولما تمكن المسلمون من‬
‫اقتحام باب الحديقة‪ ،‬ألقى درعه على بابها‪ ،‬ثم دخل بالسيف صلتا‬
‫يجالدهم حتى قتل شهيًدا باليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة‪ ،‬ولم‬
‫‪ (7‬وقد (‪ .‬يعرف إل بعلمة في جسده لكثرة ما فيه من الجراح‬
‫اشتهرت مواقف عباد بن بشر في اليمامة حتى أصبحت مضرب‬
‫المثل‪ (8 ).‬وبقيت بنو حنيفة تذكر عباد بن بشر‪ ،‬فإذا رأت الجراح‬
‫) بالرجل منهم تقول‪ :‬هذا ضرب مجرب القوم عباد بن بشر‪9 ).‬‬
‫لقد كان للنصار مواقف عظيمة وإقدام منقطع النظير في‬
‫صا باليمامة‪ ،‬وقد شهد للنصار بالقدام والصبر‬ ‫حروب الردة وخصو ً‬
‫في ذلك اليوم مجاعة بن مرارة الحنفي عند الخليفة أبو بكر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا خليفة رسول ال‪ :‬لم أَر قط أصبر لوقع السيوف ول أصدق كرة‬
‫من النصار؛ فلقد رأيتني وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى‬
‫بني حنيفة‪ ،‬وإني لنظر إلى النصار وهم صرعى‪ ،‬فبكى أبو بكر حتى‬
‫‪ () 1 .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪71‬‬
‫‪ () 2 .‬البخاري‪ ،‬مناقب النصار‪ ،‬رقم‪3805 :‬‬
‫‪ () 3 .‬البخاري في المغازي‪ ،‬رقم‪4037 :‬‬
‫‪ () 4 .‬البخاري معلقا رقم‪2655 :‬‬
‫‪ () 5 /2.‬الطبقات لبن سعد‪234 :‬‬
‫‪ () 6 /1.‬غزوات ابن حبيش‪121 :‬‬
‫‪ () 7 /3.‬الكتفاء للكلعي‪53 :‬‬
‫‪ () 8 .‬النصار في العهد الراشدي‪ :‬ص ‪186‬‬
‫‪ () 9 /3.‬الكتفاء للكلعي‪53 :‬‬
‫‪214‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫ل حليته‪1 ) .‬‬
‫)بّ‬
‫‪ 7-‬الطفيل بن عمرو الدوسي الزدي‪:‬‬
‫استشهد باليمامة‪ ،‬وكان شريًفا شاعًرا لبيبًا‪ ،‬وقد رأى الرؤيا قبل‬
‫استشهاده حيث قال‪ :‬خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كأن رأسي‬
‫حلق وخرج من فمي طائر‪ ،‬وكأن امرأة أدخلتني فرجها فأولتها‪ :‬حلق‬
‫رأسي قطعه‪ ،‬وأما الطائر فروحي‪ ،‬وأما المرأة فالرض أدفن فيها‪،‬‬
‫فاستشهد يوم اليمامة‪ (2 ).‬وقد استشهد كثير من المهاجرين والنصار‬
‫في هذه المعركة الفاصلة‪.‬‬
‫وكانت المدينة على الرغم من فرحها بانتصار المسلمين على‬
‫المرتدين ما زالت تبكي شهداءها؛ ففي حرب اليمامة وحدها قتل‬
‫من المسلمين مائتان وألف‪ ،‬منهم عدد من كبار الصحابة وفيهم أكثر‬
‫حفاظ القرآن؛ نحو أربعين من القراء‪ ،‬وعصرت الحزان قلب‬
‫المدينة‪ ،‬وغمرت الدموع ابتسامات الفرح بالنصر‪ ،‬وضاقت الصدور‪،‬‬
‫وثقلت المحنة على‬
‫القلوب بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النفوس‪ ،‬وقوى من‬
‫إيمانهم‪ ،‬وغرس الثقة‬
‫‪ ).‬في أعماقهم) ‪3‬‬
‫سابًعا‪ :‬خدعة مجاعة وزواج خالد من ابنته ورسائل بينه وبين‬
‫الصديق‪:‬‬
‫أ‪ -‬خدعة مجاعة‪:‬‬
‫‪ ‬بعد انتصار جيش المسلمين في حديقة الموت‪ ،‬بعث خالد‬
‫الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي‪ ،‬ثم‬
‫عزم على غزو الحصون‪ ،‬ولم يكن بقي فيها إل النساء والصبيان‬
‫والشيوخ الكبار‪ ،‬فخدعه مجاعة فقال‪ :‬إنها ملى رجال مقاتلة فهلم‬
‫فصالحني عنها‪ ،‬فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد‬
‫كلوا من كثرة الحروب والقتال‪ ،‬فقال‪ :‬دعني حتى أذهب إليهم‬
‫ليوافقوني على الصلح‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب‪ ،‬فسار إليهم مجاعة فأمر‬
‫النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون‪ ،‬فنظر خالد‬
‫فإذا الشرفات ممتلئة من رؤوس الناس فظنهم كما قال مجاعة‪،‬‬
‫فانتظر الصلح ودعاهم خالد إلى السلم فأسلموا عن آخرهم ورجعوا‬
‫إلى الحق‪ ،‬ورّد عليهم خالد بعض ما كان من السبي وساق الباقين‬
‫إلى الصديق‪ ،‬وقد تسرى علي بن أبي طالب بجارية منهم وهي أم‬
‫‪ ).‬ابنه محمد الذي يقال له‪ :‬محمد ابن الحنفية ) ‪4‬‬
‫وكانت وقعة اليمامة في سنة إحدى وعشرة‪ ،‬وقال الواقدي‬
‫وآخرون‪ :‬كانت في سنة‬
‫ثنتي عشرة‪ ،‬والجمع بينهما أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة‬
‫‪ () 1 /3.‬نفس المصدر السابق‪65 :‬‬
‫‪ (2‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ( ‪1 ، 63.‬ع ‪1‬هد الخلفاء الراشدين للذهبي‪ :‬ص ‪ (4 . 34 . 2 (7) 62‬ترتيب‬
‫وتهذيب البداية والنهاية‪ ،‬خلفة أبي بكر‪ :‬ص ‪(، 115‬‬
‫‪215‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫والفراغ منها في سنة‬
‫‪ ).‬ثنتي عشرة ) ‪1‬‬
‫ب‪ -‬زواجه بابنة مجاعة والرسائل بينه وبين الصديق‪:‬‬
‫طلب خالد بن الوليد من مجاعة بعدما تم الصلح أن يزوجه‬
‫بابنته‪ ،‬فقال له مجاعة‪ :‬مهلً‪ ،‬إنك قاطع ظهرك وظهري معك عند‬
‫‪ (2‬صاحبك‪ .‬فقال خالد‪ :‬أيها الرجل زوجني ابنتك‪ ،‬فزوجه مجاعة ابنته ( ‪.‬‬
‫وكان الصديق قد أرسل سلمة بن وقش إلى خالد إن أظفره ال‬
‫أن يقتل من جرت عليه الموسى ) ‪ (3‬من بني حنيفة‪ ،‬فوجده قد‬
‫‪ ).‬صالحهم وأتم خالد عقده معهم ووفى لهم ) ‪4‬‬
‫وكان الصديق يستروح الخبر من اليمامة‪ ،‬وينتظر رسول خالد‪،‬‬
‫فخرج يوًما بالعشي ومعه نفر من المهاجرين والنصار إلى ظهر‬
‫الحرة فلقي أبا خيثمة النجاري قد أرسله خالد‪ ،‬فلما رآه أبو بكر قال‬
‫له‪ :‬ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال‪ :‬خير يا خليفة رسول ال‪ ،‬قد فتح‬
‫ال علينا اليمامة وهذا كتاب خالد‪ ،‬فسجد الصديق شكًرا ل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫أخبرني عن الوقعة كيف كانت؟ فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع‬
‫خالد وكيف صف أصحابه ومن استشهد من الصحابة‪ ،‬وقال أبو‬
‫خيثمة‪ :‬يا خليفة رسول ال‪ :‬أتينا من قبل العراب‪ ،‬انهزموا بنا‬
‫‪ ).‬وعودونا ما لم نكن نحسن ) ‪5‬‬
‫ولما علم الصديق بزواج خالد كتب إليه‪ :‬يا ابن أم خالد إنك لفارغ‬
‫تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم‬
‫يجف بعد‪ ،‬ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك عن قومه وقد أمكن‬
‫ال منهم‪ (6 ).‬وإزاء هذا التعنيف الذي وصل إلى خالد من الخليفة‬
‫بسبب مصالحته لمجاعة وزواجه بابنته بعث خالد إليه كتابًا جوابيًا مع‬
‫عا يتسم بوضوح الحجة‬ ‫أبي برزة السلمي يدافع فيه عن موقفه دفا ً‬
‫وقوة المنطق ) ‪ ،(7‬يقول فيه‪ :‬أما بعد‪ ،‬فلعمري ما تزوجت النساء‬
‫حتى تم لي السرور وقرت بي الدار‪ ,‬وما تزوجت إل إلى أمري لو‬
‫عملت إليه من المدينة خاطبًا لم أبل‪ ،‬دع أني استثرت خطبتي إليه‬
‫من تحت قدمي‪ ،‬فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو لدنيا أعتبتك‪،‬‬
‫وأما حسن عزائي عن قتلى المسلمين فو ال لو كان الحزن يبقى‬
‫حيّا أو يرد ميتًا لبقي حزني الحي ورد الميت‪ ،‬ولقد اقتحمت حتى‬
‫أيست من الحياة وأيقنت بالموت‪ ،‬وأما خديعة مجاعة إياي عن رأيي‬
‫فإني لم أخطئ رأيي يومي ولم يكن لي علم بالغيب‪ ،‬وقد صنع ال‬
‫) للمسلمين خيًرا‪ :‬أورثهم الرض والعاقبة للمتقين‪8 ).‬‬
‫رق بعض الرقة وقام رهط ‪ ‬فلما قدم الكتاب على أبي بكر‬
‫‪12‬‬
‫‪ () .‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪110‬‬
‫‪ () 3‬أي‪ :‬بلغ الحلم‪.‬‬
‫‪ () 4 /2.‬الكامل‪38 :‬‬
‫‪ () 5 .‬حروب الردة‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪97‬‬
‫‪ () 6 /2.‬حروب الردة‪ :‬ص ‪ ، 97‬نقل عن الكتفاء‪14 :‬‬
‫‪ () 7 .‬حرب الردة للعتوم‪ :‬ص ‪233‬‬
‫‪ () 8 /2.‬حروب الردة‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪ ، 98‬نقل عن الكتفاء‪15 :‬‬
‫‪216‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫من قريش فيهم أبو برزة السلمي فعذروا خالًدا وقال أبو برزة‪ :‬يا‬
‫خليفة رسول ال ما يوصف خالد بجبن ول خيانة‪ ،‬ولقد أقحم في‬
‫طلب الشهادة حتى أعذر وصبر حتى ظفر‪ ،‬وما صالح القوم إل على‬
‫رضاه‪ ،‬وما أخطأ رأيه بصلح القوم إذ هو ل يرى النساء في الحصون‬
‫إل رجالً‪ .‬فقال أبو بكر‪ :‬صدقت لكلمك‪ ،‬هذا أولي بعذر خالد من‬
‫) كتابه إلي‪1 ).‬‬
‫ونلحظ في رسالة خالد إلى أبي بكر بعض النقاط التي دافع بها‬
‫عن نفسه والتي تمثلت بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1-‬إنه لم يتزوج إل بعد أن كسب النصر واطمأن به المقام‪.‬‬
‫‪ 2-‬إنه أصهر إلى رجل من زعماء قومه وأشرافهم‪.‬‬
‫‪ 3-‬إنه لم يتكلف أدنى مشقة في هذا الصهار‪.‬‬
‫‪ 4-‬إن هذا الزواج ليس فيه مخالفة دينية أو دنيوية‪.‬‬
‫‪ 5-‬إن المتناع بسبب الحزن على قتلى المسلمين تصرف غير‬
‫مجد؛ لن الحزن ل يُبْقي حيًا ول يرد ميتًا‪.‬‬
‫‪ 6-‬إنه لم يكن يقدم على الجهاد أي أمر آخر‪ ،‬ولقد أبلى فيه بلء‬
‫لم يعد ‪-‬بسببه‪ -‬بينه وبين الموت أي حاجز‪.‬‬
‫‪ 7-‬إنه في مصالحته لمجاعة لم يأل جهًدا في تحقيق الخير‬
‫للمسلمين‪ ،‬وإذا كان مجاعة لم ينقل له الصورة عن قومه‬
‫على حقيقتها‪ ،‬فعذره أنه إنسان ل يدري من أمر الغيب شيئًا‪،‬‬
‫وعلى ذلك فالعاقبة كانت في صالح المسلمين؛ إذ استولوا‬
‫على أرض بني حنيفة ومن ثم فاءت بقيتهم إلى السلم دون‬
‫قتال‪ .‬وعلى هذا فإن الزواج ببنت مجاعة كان أمًرا طبيعيًا ل‬
‫حا أنه كان ناشئا عن إعجابه‬ ‫على خالد فيه بأس‪ ،‬وليس صحي ً‬
‫بمجاعة لغيرته على قومه‪ ،‬ولذا‪ :‬أحب أن يصهر إليه ويوثق‬
‫الصلة بينه وبينه‪ ,‬وطاب له أن يعزز صلة الدين بصلة البيت‬
‫والنسب) ‪ (2‬كما يقول العقاد ذلك؛ لن خالًدا لم يكن ليقدم‬
‫على رابطة الدين أو يجمع إليها في التعامل مع الناس‬
‫‪ ).‬رابطة أخرى ) ‪3‬‬
‫أما أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل في العتذار لخالد فإنه‬
‫مرفوض؛ لنه يتنافى مع أحكام السلم‪ ،‬فقد قال هيكل‪ :‬ومن تكون‬
‫بنت مجاعة في أعياد النصر التي يجب أن تقام لخالد؟! إنها لن تزيد‬
‫على قربان يطرح على قدمي هذا العبقري الفاتح الذي روى أرض‬
‫‪ ).‬اليمامة بالدماء لعلها تطهر من رجسها ) ‪4‬‬
‫فهذه الكلمات تصور خالًدا الصحابي الكريم وكأنه أخيل أو هكتور‬
‫أو أغاممنون من قادة حرب طروادة الوثنيين‪ ،‬الذين ل يحارب الواحد‬
‫منهم إل إذا أشير إليه بالبنان أو أمطر بالقبلت والتوسلت؛ لنه ل‬
‫يحارب إل للزعامة والوجاهة‪ ،‬أو كأنه أحد أصنام العرب الذين تسفح‬
‫‪ () 1 .‬حروب الردة‪ :‬ص ‪98‬‬
‫‪ .‬ص ‪ »: 92‬العبقريات السلمية « ‪ () 2‬عبقرية خالد‬
‫‪ (3 .‬الصديق أبو بكر‪ :‬ص ‪ () 34 . ( 157‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪235‬‬
‫‪217‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫على جنباتهم دماء القرابين تقربًا وتذللً‪ ،‬أو كأنه إله النيل الذي كان‬
‫يعتقد المصريون أنه لن يفيض عليهم بالخير إل إذا قذفوا في بحره‬
‫أجمل بنات مصر‪ ،‬فحاشا أبا سليمان ثم حاشاه من قبل ومن بعد‬
‫من مثل هذه الروح وتلك النفسية‪ ،‬فخالد مؤمن موحد ل يحارب إل‬
‫لعلء كلمة ال ل يبغي عليها جزاء ول شكوًرا من أحد من خلق‬
‫ال‪ ،‬ومرفوض أيضا ما ذهب إليه الجنرال أكرم في تعليله لما وقع‬
‫فيه خالد من ملمات من جراء قصص زواجه في حروب الردة‪ ،‬إذ‬
‫يعيدها إلى لياقته البدنية‪ :‬التي سببت له كثيًرا من المشاكل بين‬
‫حسناوات شبه الجزيرة العربية ) ‪ (1‬على حد زعمه‪ ،‬وكأن خالد تحول‬
‫إلى زير نساء أو )دون جوان(‪ ،‬وهو الذي لم يكن يهوي شيئًا هواه‬
‫الجهاد في سبيل ال‪ ،‬ولكنها التوجيهات الباطلة التي تفسر المور‬
‫) بعيًدا عن طبيعة الظروف ومعطيات المبادئ وشواهد الخبار‪2 ).‬‬
‫كان يقاتل عن دين‪ ،‬ويحتسب الجر عند ال تعالى‪  ،‬إن خالًدا‬
‫وكان يقتحم المعامع بنفسه‪ ،‬وقد وصف بأنه له أناة القطة ووثوب‬
‫السد) ‪ ،(3‬وما كان يوًما بالذي يؤثر نفسه عن جنده؛ بل كانوا يجدونه‬
‫أمامهم في كل معترك؛ ففي معركة بزاخة‪ :‬ضّرس في القتال فجعل‬
‫يقحم فرسه ويقولون له‪ :‬ال ال! فإنك أمير القوم ول ينبغي لك‬
‫أن تقدم‪ ،‬فيقول‪ :‬وال إني لعرف ما تقولون‪ ،‬ولكن ما رأيتني أصبر‬
‫‪ ).‬وأخاف هزيمة المسلمين ) ‪4‬‬
‫وفي معركة اليمامة لما اشتد القتال ولم يزد بني حنيفة ما قتل‬
‫منهم إل عنًفا وضراوة‪ ،‬برز حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى‬
‫المبارزة ونادى الناس بشعارهم يومئذ وكان‪ :‬يا محمداه‪ ،‬فجعل ل‬
‫يبرز له أحد إل قتله ول شيء إل أكله ) ‪ ،(5‬فقد كان يرغب في النصر‬
‫ويتحرى الشهادة‪ ،‬ولنترك لخالد يصف لنا جولة من المصارعة بينه‬
‫وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت قال‪ :‬ولقد رأيتني في‬
‫الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس‪ ،‬فوقعنا عن‬
‫فرسينا‪ ،‬ثم تعانقنا بالرض‪ ،‬فأجؤه بخنجر في سيفي وجعل يجؤني‬
‫حا أثبته به‬ ‫بمعول في سيفه‪ ،‬فجرحني سبع جراحات‪ ،‬وقد جرحته جر ً‬
‫فاسترخى في يدي وما بي حركة من الجراح‪ ،‬وقد نزفت من الدم إل‬
‫أنه سبقني بالجل فالحمد ل على ذلك‪ (6 ) .‬وقد شهد خالد لبني‬
‫حنيفة على قوتهم وشدة بأسهم فقال‪ :‬شهدت عشرين زحًفا فلم أر‬
‫قوًما أصبر لوقع السيوف ول أضرب بها ول أثبت أقداًما من بني‬
‫جنيفة يوم اليمامة… وما بي حركة من الجراح‪ ،‬ولقد أقحمت حتى‬
‫‪ ).‬أيست من الحياة وتيقنت الموت ) ‪7‬‬
‫ثامنًا‪ :‬محاولة قتل خالد بن الوليد وقدوم وفد بني حنيفة‬
‫‪ :‬للصديق‬
‫‪ () 1 .‬سيف ال خالد بن الوليد‪ ،‬ترجمة العميد الركن صبحي الجابي‪ :‬ص ‪20‬‬
‫‪ () 2 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪236‬‬
‫‪ () 3 /2.‬تاريخ اليعقوبي‪108 :‬‬
‫‪ () 4 .‬خالد بن الوليد‪ ،‬صادق عرجون‪ :‬ص ‪744‬‬
‫‪ () 5 /6.‬البداية والنهاية‪329 :‬‬
‫‪ (4 .‬خالد بن الوليد‪ ،‬صادق عرجون‪ :‬ص ‪67 (، 180‬‬
‫‪218‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫‪ 1-‬محاولة قتل خالد بن الوليد‪:‬‬
‫على الرغم من وضوح باطل الجاهلية وزيفه فإنها ل تتخلى عنه‬
‫بسهولة لنه به ديمومة حياتها‪ ،‬ولذا ما إن تواجه بالحقيقة حتى تأخذ‬
‫في الدفاع عن نفسها بشراسة ول تلقي سيف القتال من يدها إل‬
‫بعد أن يسقط بالقوة ) ‪ ،(1‬وبعد ذلك تحاول الغدر ما استطاعت إلى‬
‫ذلك سبيل؛ فهذا سلمة بن عمير الحنفي يدلل بفعله على صحة ما‬
‫ذهبت إليه‪ ،‬فقد حاول اغتيال خالد بن الوليد بعد الصلح الذي أجراه‬
‫خالد مع بني حنيفة بشكل عام‪ ،‬إل أنه من حقده الناقع للمسلمين‬
‫فقد دبر خطة اغتيال خالد بن الوليد كجزء من سياسته في رفض‬
‫التصالح معهم‪ ،‬ولما قبض عليه أول مرة وعاهد بني حنيفة أل يعود‬
‫مثلها نكث بعده‪ ،‬إذ أفلت ليل من وثاقه الذي أوثقوه به مخافة غدره‪،‬‬
‫فعمد إلى عسكر خالد فصاح به الحرس وفزعت بنو حنيفة فاتبعوه‬
‫فشد عليهم بالسيف ‪ »،‬الحدائق « فأدركوه في بعض الحوائط‬
‫عروق « فاكتنفوه بالحجارة‪ ،‬وأجال السيف على حلقة فقطع أوداجه‬
‫فسقط في بئر فمات) ‪ ،(2‬فهذا مثال على عناد الجاهلية في ‪ »،‬رقبته‬
‫‪ ).‬الدفاع عن باطلها ) ‪3‬‬
‫‪ 2-‬قدوم وفد بني حنيفة على الصديق‪:‬‬
‫ولما قدمت وفود بني حنيفة على الصديق قال لهم‪ :‬أسمعونا شيئًا‬
‫من قرآن مسيلمة فقالوا‪ :‬أو تعفينا يا خليفة رسول ال؟ فقال‪ :‬ل بد‬
‫من ذلك‪ ،‬فقالوا‪ :‬كان يقول‪ :‬يا ضفدع بنت الضفدعين‪ ،‬نقي لكم‬
‫تنقين‪ ،‬ل الماء تكدرين ول الشارب تمنعين‪ ،‬رأسك في الماء وَذنَبك‬
‫في الطين‪ .‬وكان يقول‪ :‬والمبذرات زرعًا‪ ،‬والحاصدات حصًدا‪،‬‬
‫والذاريات قمحًا‪ ،‬والطاحنات طحنًا‪ ،‬والخابزات خبًزا‪ ،‬والثاردات ثرًدا‪،‬‬
‫واللقمات لقمًا‪ ،‬إهالة وس ن ماً‪ .‬ويقول‪ :‬لقد فضلتم على أهل الوبر وما‬
‫) سب ‪(4‬قكم أهل المدر‪ ،‬ريفكم فامنعوه والمعتر فآووه‪ ،‬والناعي فواسوه‪ .‬وذكروا أشياء من هذه الخرافات التي‬
‫يأنف من قولها الصبيان وهم‬
‫يلعبون‪ ،‬فيقال‪ :‬إن الصديق قال لهم‪ :‬ويحكم أين كان يذهب بعقولكم؟‬
‫إن هذا الكلم لم يخرج من إل ) ‪ (5‬ول بر‪.‬‬
‫× وبلغه أن رسول ال ×‪ ،‬وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبه بالنبي‬
‫بصق في بئر فغزر ماؤه‪ ،‬فبصق في بئر فغاض ماؤه بالكلية‪ ،‬وفي أخرى‬
‫فصار ماؤه أجا جا وتوضأ فسقي بوضوئه نخل ًفيبست وهلكت‪ ،‬وأتى‬
‫بولدان يبرك عليهم‪ ،‬فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه ومنهم‬
‫من لثغ لسانه‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما‬
‫) فعمي‪6 ).‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة‬
‫أولً‪ :‬تحقيق شروط التمكين وأسبابه وآثار شرع ال وصفات‬
‫المجاهدين‪:‬‬
‫‪ 1-‬تحقيق شروط التمكين‪:‬‬
‫إن الستخلف في الرض والتمكين لدين ال وإبدال الخوف‬
‫أمنًا‪ ،‬وعد من ال تعالى متى حقق المسلمون شروطه‪ ،‬ولقد أشار‬
‫القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين ولوازم الستمرار‬
‫عِمُلوا‬‫ن آَمُنوا ِمْنُكْم َو َ‬ ‫ل اّلذي َ‬‫عَد ا ُ‬ ‫فيه‪ ،‬قال تعالى‪َ+ :‬و َ‬
‫ف اّلذي َ‬
‫ن‬ ‫خَل َ‬ ‫سَت ْ‬
‫ض َكَما ا ْ‬‫خِلَفّنهْم ِفي الَْر ِ‬ ‫سَت ْ‬‫ت َلَي ْ‬
‫حا ِ‬‫صال َ‬ ‫ال ّ‬
‫ضى َلُهْم‬ ‫ن َلُهْم ِديَنُهُم اّلذي اْرَت َ‬ ‫ِمن َقْبِلِهْم َوَلُيَمّكن ّ‬
‫ن ِبي‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫خْوِفِهْم َأْمًنا َيْعُبُدوَنِني ل ُي ْ‬ ‫َوَلُيَبّدلّنهم ّمن َبْعِد َ‬
‫سُقو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم اْلَفا ِ‬ ‫ك َفُأوَلِئ َ‬
‫شْيًئا َوَمن َكَفَر َبْعَد َذِل َ‬ ‫َوَأِقيُموا ‪َ ‬‬
‫ن"‬‫حُمو َ‬ ‫ل َلَعّلكْم ُتْر َ‬ ‫طيُعوا الّرسو َ‬ ‫صلَة َوآُتوا الّزكاَة َوَأ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫‪ ،[ 56‬ولقد أشارت اليات الكريمة إلى شروط التمكين ‪] ،‬النور‪55 :‬‬
‫وهي‪ :‬اليمان بكل معانيه وبجميع أركانه‪ ،‬وممارسة العمل الصالح‬
‫بكل أنواعه‪ ،‬والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر‪ ،‬وتحقيق‬
‫العبودية الشاملة‪ ،‬ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه‪.‬‬
‫وأما لوازم التمكين فهي‪ :‬إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة‬
‫‪ ،(1‬وقد تحققت هذه الشروط واللوازم كلها في عهد ( × الرسول‬
‫الصديق والخلفاء الراشدين من بعده‪ ،‬وكان للصديق الفضل بعد ال‬
‫في تذكير المة بهذه الشروط‪ ،‬ولذلك رفض طلب العراب في وضع‬
‫الزكاة عنهم‪ ،‬وأصر على بعث جيش أسامة‪ ،‬والتزم بالشرع كاملً‪،‬‬
‫ولم يتنازل عن صغيرة ول كبيرة‪ ،‬قال عبد ال بن مسعود‪ :‬لقد قمنا‬
‫ن علينا بأبي بكر؛ × بعد رسول ال‬ ‫مقاًما كدنا نهلك فيه لول أن َم ّ‬
‫أجمعنا على أن ل نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نأكل قرى‬
‫عربية ونعبد ال حتى يأتينا اليقين‪ ،‬فعزم ال بأبي بكر على قتالهم‪،‬‬
‫‪ ).‬فوال ما رضي منهم إل بالخطة المخزية أو الحرب المجلية ) ‪2‬‬
‫‪ 2-‬الخذ بأسباب التمكين‪:‬‬
‫طْعُتم ّمن ُقّوة َوِمن ّربا ِ‬
‫ط‬ ‫سَت َ‬ ‫عّدوا َلُهْم ّما ا ْ‬ ‫قال تعالى‪َ+ :‬وَأ ِ‬
‫لا ِ‬
‫ل‬ ‫سِبي ِ‬
‫يٍء ِفي َ‬
‫ش ْ‬
‫ل َيْعَلُمُهْم َوَما ُتْنِفُقوا ِمن َ‬
‫ن ِمن ُدوِنِهْم ل َتْعَلُموَنُهُم ا ُ‬ ‫خِري َ‬‫عُدّوكْم َوآ َ‬ ‫ل َو َ‬‫عُدّو ا ِ‬ ‫ن ِبِه َ‬ ‫ل ُتْرِهُبو َ‬ ‫خْي ِ‬
‫اْل َ‬
‫ن" ]النفال‪ [،6 :‬وقد لحظت أن الصديق‬ ‫ظَلُمو َ‬‫ف ِإَلْيُكْم َوَأْنُتْم ل ُت ْ‬
‫ُيَو ّ‬
‫ش الجيوش وعقد اللوية ‪‬‬ ‫كان إعداده شاملً؛ معنويًا وماديًا‪ ،‬ف ي ج ّ‬
‫واختار القادة لحروب الردة‪ ،‬وراسل المرتدين‪ ،‬وحرض الصحابة على‬
‫قتالهم وجمع السلح والخيل والبل وجهز الغزاة‪ ،‬وحارب البدع والجهل‬
‫والهوى‪ ،‬وكحم الشريعة وأخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع‪ ،‬وأخذ‬
‫بمبدأ التفرغ‪ ،‬وساهم في إحياء مبدأ التخصص؛ فخالد لقيادة الجيوش‪،‬‬
‫‪ () 1 .‬فقه التمكين في القرآن الكريم للصلبي‪ :‬ص ‪157‬‬
‫‪ () 2 /2.‬الكامل في التاريخ‪21 :‬‬
‫‪223‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وزيد بن ثابت لجمع القرآن‪ ،‬وأبو برزة السلمي للمراسلت الحربية‬
‫وهكذا‪ ،‬واهتم بالجانب المني والعلمي وغير ذلك من السباب‪.‬‬
‫‪ 3-‬آثار تحكيم الشرع‪:‬‬
‫تظهر آثار تحكيم شرع ال في عصر الصديق في تمكين ال‬
‫للصحابة‪ ،‬فقد حرصوا على إقامة شعائر ال على أنفسهم وأهليهم‪،‬‬
‫وأخلصوا ل في تحاكمهم إلى شرعه‪ ،‬فال ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬قواهم‬
‫وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين‪ ،‬ورزقهم المن والستقرار‪ ،‬قال‬
‫ك َلُهُم‬‫ظْلٍم ُأوَلِئ َ‬
‫سوا ِإيَماَنُهْم ِب ُ‬ ‫ن آَمُنوا َوَلْم َيْلِب ُ‬ ‫تعالى‪+ :‬اّلذي َ‬
‫ن" ]النعام‪82 :‬‬ ‫ن َوُهم ّمْهَتُدو َ‬ ‫‪ ]،‬الْم ُ‬
‫وتحققت فيهم سنة ال في نصرته لمن ينصره؛ لن ال ضمن لمن‬
‫استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫عِزيٌز‬
‫ي َ‬ ‫ل َلَقِو ّ‬‫نا َ‬ ‫صُرُه ِإ ّ‬‫ل َمن َين ُ‬ ‫نا ُ‬ ‫صَر ّ‬ ‫ن ِإن ‪َ+ ‬وَلَين ُ‬ ‫اّلذي َ‬
‫صلَة َوآَتُوا الّزكاَة َوَأَمُروا‬ ‫ض َأَقاُموا ال ّ‬ ‫ّمّكّناهْم ِفي الَْر ِ‬
‫عاِقَبُة الُموِر" ]الحج‪40 :‬‬ ‫ل َ‬ ‫ن اْلُمْنَكِر َو ِ‬ ‫عِ‬ ‫ف َوَنَهْوا َ‬ ‫‪ِ ،‬باْلَمْعُرو ِ‬
‫‪41].‬‬
‫وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت مجموعة على‬
‫»… )ه ‪(1‬دى ال إل منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف ‪ .‬وقد انتشرت الفضائل وانحسرت الرذائل‬
‫في‬
‫‪ .‬عهد الصديق‬
‫‪ 4-‬صفات جيل التمكين‪:‬‬
‫عن ِديِنِه‬ ‫ن آَمُنوا َمن ّيْرَتّد ِمْنُكْم َ‬ ‫قال تعالى‪َ+ :‬يا َأّيها اّلذي َ‬
‫عَلى‬ ‫حّبونُه َأِذّلة َ‬ ‫حّبهْم َوُي ِ‬ ‫ل ِبَقْوٍم ُي ِ‬
‫ف َيْأِتي ا ُ‬ ‫سْو َ‬ ‫َف َ‬
‫لا ِ‬
‫ل‬ ‫سِبي ِ‬‫ن ِفي َ‬ ‫جاِهُدو َ‬ ‫ن ُي َ‬ ‫عَلى اْلَكاِفِري َ‬ ‫عّزة َ‬ ‫ن َأ ِ‬‫اْلُمْؤِمِني َ‬
‫شاُء َوا ُ‬
‫ل‬ ‫ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ‬ ‫لا ِ‬ ‫ضُ‬ ‫ك َف ْ‬ ‫ن َلْوَمَة لِئٍم َذِل َ‬‫خاُفو َ‬ ‫َول َي َ‬
‫عِليٌم" ]المائدة‪ ،[ 54 :‬هذه الصفات المذكورة في هذه الية‬ ‫سٌع َ‬ ‫َوا ِ‬
‫وجيوشه من ‪ ‬الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق‬
‫الصحابة الذين قاتلوا المرتدين‪ ،‬فقد مدحهم ال بأكمل الصفات‬
‫وأعلى الميزات ) ‪ ،(2‬فهذه الصفات‪:‬‬
‫حّبونُه"‪:‬‬‫حّبهْم َوُي ِ‬ ‫أ‪ُ+ -‬ي ِ‬
‫مذهب السلف في المحبة المسندة له سبحانه وتعالى أنها ثابتة‬
‫له تعالى بل كيف ول تأويل‪ ،‬ول مشاركة للمخلوق في شيء من‬
‫خصائصها‪ (3 ).‬لقد أحب المولى ‪-‬عز وجل‪ -‬ذلك الجيل لما بذلوه من‬
‫ضا تقربًا إلى‬ ‫أجل دينهم‪ ،‬وبما تطوعوا به بما لم يفرض عليهم فر ً‬
‫ال وحبًا لرسوله واتخاذهم المندوبات والمستحبات كأنها فروض‬
‫واجبة التنفيذ ) ‪ ،(4‬ولقد اتصف هذا الجيل بصفات الحسان والتقوى‬
‫والصبر التي ذكر المولى ‪-‬عز وجل‪ -‬بأنه يحبها‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬اّلذي َ‬
‫ن‬
‫‪ () 1 /4.‬في ظلل القرآن‪270 :‬‬
‫‪ () 2 /2.‬عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام‪534 :‬‬
‫‪ () 3 /6.‬تفسير القاسمي‪253 :‬‬
‫‪ () 4 .‬كيف نكتب التاريخ السلمي‪ ،‬لمحمد قطب‪ :‬ص ‪90‬‬
‫‪224‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫ظ َواْلَعاِفي َ‬
‫ن‬ ‫ن اْلَغْي َ‬
‫ظِمي َ‬ ‫ضّراء َواْلَكا ِ‬ ‫سّراء َوال ّ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫ُيْنِفُقو َ‬
‫ن" ]آل عمران‪ ،[ 76 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫سِني َ‬ ‫حِ‬ ‫ب اْلُم ْ‬ ‫ح ّ‬‫ل ُي ِ‬‫ن الّناس َوا ُ‬ ‫عِ‬‫َ‬
‫ن" ]آل‬ ‫ب اْلُمّتقي َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬‫نا َ‬ ‫ن َأْوَفى ِبَعْهِدِه َواّتقى َفِإ ّ‬ ‫‪َ+‬بَلى َم ْ‬
‫عمران‪ ،[ 76 :‬ولقد أحب الصحابة المولى ‪-‬عز وجل‪ -‬حبّا عظيًما‬
‫فقدموا محابه على كل شيء‪ ،‬وبغضوا ما أبغضه‪ ،‬ووالوا ما واله‬
‫وعادوا من عاداه‪ ،‬واتبعوا رسوله واقتفوا أثره‪ .‬لقد أحب الصحابة‬
‫ربهم وخالقهم ورازقهم؛ لن النفوس مجبولة على حب من أحسن‬
‫إليها‪ ،‬وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر‪ ،‬وشرع فيسر‪ ،‬وجعل‬
‫النسان في أحسن تقويم‪ ،‬ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما‬
‫ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ ،‬لهذا كله‬
‫ولكثر منه أحب ذلك الجيل ربهم حبّا ل مثيل له‪ ،‬فقدموا أنفسهم‬
‫وأهليهم وأموالهم في سبيل ال بل تردد أو منّة‪ ،‬بل اعتبروا ذلك‬
‫تفضل من ال عليهم‪ ،‬أن فتح لهم باب الجهاد والستشهاد في سبيله‬
‫‪ ).‬ويسر لهم أسبابه‪ ،‬فقاموا بذلك الواجب خير قيام ) ‪1‬‬
‫عَلى‬ ‫عّزة َ‬ ‫ن َأ ِ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ب‪ -‬قوله تعالى‪َ+ :‬أِذّلة َ‬
‫ن"‪:‬‬‫اْلَكاِفِري َ‬
‫فهذه صفات المؤمنين الكمل؛ أن يكون أحدهم متواضًعا لخيه‬
‫ووليه متعزًزا على خصمه وعدوه‪ (2 ).‬ولذلك قام الصديق وجنوده‬
‫الكرام بمناصرة المسلمين وخرج بنفسه يقاتل المرتدين‪ ،‬وسير أحد‬
‫عشر لواء لرفع الظلم عن المؤمنين وكسر شوكة المرتدين‪ ،‬ولم‬
‫يقبل من المرتدين الذين عذبوا المستضعفين من مواطنيهم‬
‫المسلمين إل أن يأخذ بحقهم منهم فيفعل بهم كما فعلوا بهم‪،‬‬
‫حريصا على مراعاة أحوال ‪ ‬وكذلك فعل قادة جيوشه‪ ،‬وكان‬
‫الرعية في المجتمع‪ ،‬فقد مر بنا كيف كان يعامل الجواري والعجائز‬
‫لقد سادت هذه الصفات في عصر الصديق ‪ ،‬وكبار السن‬
‫وتجسدت في حياة الناس‪.‬‬
‫ن َلْوَمَة لِئٍم"‪:‬‬
‫خاُفو َ‬‫ل َول َي َ‬ ‫لا ِ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬
‫جاِهُدو َ‬
‫ج‪ُ+ -‬ي َ‬
‫وقد ظهرت صفة المجاهدة لعداء ال في عصر الصديق في‬
‫حربهم للمرتدين وكسرهم لشوكتهم‪ ،‬ومن بعد في الفتوحات‬
‫السلمية التي سيأتي تفصيلها بإذن ال تعالى‪ ،‬ولقد جاهد الصحابة‬
‫أعداءهم من أجل أن تكون كلمة ال هي العليا‪ ,‬وتحقيق عبادة ال‬
‫وحده‪ ،‬وإقامة حكم ال ونظام السلم في الرض‪ ،‬ودفع عدوان‬
‫المرتدين‪ ،‬ومنع الظلم بين الناس‪ ،‬وبالجهاد في سبيل ال تحقق‬
‫إعزاز المسلمين وإذلل المرتدين‪ ،‬ورجع الناس إلى دين ال‪،‬‬
‫أن تجعل من ‪ ‬واستطاعت القيادة السلمية بزعامة الصديق‬
‫الجزيرة العربية قاعدة للنطلق لفتح العالم أجمع‪ ،‬وأصبحت‬
‫الجزيرة هي النبع الصافي الذي يتدفق منه السلم ليصل إلى أصقاع‬
‫الرض‪ ،‬بواسطة رجال عركتهم الحياة وأصبحوا من أهل الخبرات‬
‫المتعددة في مجالت التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع ال‬
‫‪ ).‬الشامل لسعاد بني النسان حيثما كان) ‪3‬‬
‫‪ () 1 – 12.‬اليمان وأثره في الحياة للقرضاوي‪ :‬ص ‪5‬‬
‫‪ () 2 /6.‬تفسير القاسمي‪255 :‬‬
‫‪ () 3 .‬فقه التمكين في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪491‬‬
‫‪225‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫لقد كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعداد‬
‫ربانيًا للفتوحات السلمية‪ ،‬حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات‪،‬‬
‫وتفجرت الطاقات‪ ،‬واكتشفت قيادات ميدانية‪ ،‬وتفنن القادة في‬
‫الساليب والخطط الحربية‪ ،‬وبرزت مؤهلت الجندية الصادقة‬
‫المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل‪،‬‬
‫وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل‪ ،‬ولذا كان‬
‫‪ ).‬الداء فائقا والتفاني عظيًما ) ‪1‬‬
‫لقد توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل ال ثم جهاد الصحابة‬
‫مع الصديق تحت راية السلم لول مرة في تاريخها بزوال الرؤوس‬
‫أو انتظامها ضمن المد السلمي‪ ،‬وبسطت عاصمة السلم )المدينة(‬
‫هيمنتها على ربوع الجزيرة‪ ،‬وأصبحت المة تسير بمبدأ واحد وبفكرة‬
‫واحدة‪ ،‬فكان النتصار انتصاًرا للدعوة السلمية ولوحدة المة‬
‫بتضامنها وتغلبها على عوامل التفكك والعصبية‪ ،‬كما كنت برهانا على‬
‫أن الدولة السلمية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف‬
‫‪ ).‬الزمات ) ‪2‬‬
‫وهكذا كان الصحابة يجاهدون في سبيل ال ول يخافون لومة‬
‫أحد واعتراضه ونقده؛ لصلبتهم في دينهم ولنهم يعملون لحقاق‬
‫‪ ).‬الحق وإبطال الباطل ) ‪3‬‬
‫شاُء"‪:‬‬
‫ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ‬
‫لا ِ‬
‫ضُ‬
‫ك َف ْ‬
‫د‪َ+ -‬ذِل َ‬
‫الشارة إلى ما ذكر من حب ال إياهم وحبهم ل وذلتهم‬
‫للمؤمنين وعزتهم على الكافرين‪ ،‬وجهادهم في سبيل ال وعدم‬
‫مبالتهم للوم اللوام‪ ،‬فالمذكور كله فضل ال الذي فضل به أولياءه‪،‬‬
‫يؤتيه من يشاء؛ أي‪ :‬ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده‪ ،‬وال‬
‫واسع كثير الفواضل جل جلله ) ‪ ،(4‬عليم بمن هو أهلها‪ ،‬فهو تعالى‬
‫‪ ).‬واسع الفضل‪ ،‬عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرم منه ) ‪5‬‬
‫ثانيًا‪ :‬وصف المجتمع في عصر الصديق‪:‬‬
‫حين ندرس المجتمع المسلم في صدر الخلفة الراشدة تتضح لنا‬
‫مجموعة من السمات منها‪:‬‬
‫‪ 1-‬أنه ‪-‬في عمومه‪ -‬مجتمع مسلم بكامل معنى السلم‪ ،‬عميق‬
‫اليمان بال واليوم الخر‪ ،‬مطبق لتعاليم السلم بجدية واضحة‬
‫والتزام ظاهر‪ ،‬وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في‬
‫التاريخ‪ ،‬فالدين بالنسبة له هو الحياة وليس شيئًا هامشيًا يفئ إليه‬
‫بين الحين والحين‪ ،‬إنما هو حياة الناس وروحهم ليس فقط فيما‬
‫يؤدونه من شعائر تعبدية يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح‪،‬‬
‫وإنما من أخلقياتهم وتصوراتهم واهتماماتهم وقيمهم وروابطهم‬
‫الجتماعية‪ ،‬وعلقات السرة وعلقات الجوار والبيع والشراء‬
‫والضرب في مناكب الرض والسعي وراء الرزاق‪ ،‬وأمانة التعامل‬
‫‪ () 1 ، 143.‬تاريخ صدر السلم للشجاع‪ :‬ص ‪142‬‬
‫‪ () 2 .‬تاريخ الدعوة السلمية‪ ،‬د‪ :‬جميل المصري‪ :‬ص ‪256‬‬
‫‪ () 3 /6.‬تفسير المنير‪233 :‬‬
‫‪ () 4 /6.‬تفسير القاسمي‪258 :‬‬
‫‪ () 5 /6.‬تفسير المنير‪233 :‬‬
‫‪226‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫وكفالة القادرين لغير القادرين‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫والرقابة على أعمال الحكام والولة‪ ،‬ول يعني هذا بطبيعة الحال أن‬
‫كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف‪ ،‬فهذا ل يتحقق في الحياة‬
‫× الدنيا ول في أي مجتمع من البشر‪ .‬وقد كان في مجتمع الرسول‬
‫‪-‬كما ورد في كتاب ال‪ -‬منافقون يتظاهرون بالسلم‪ ،‬وهم في‬
‫دخيلة أنفسهم من العداء‪ ،‬وكان فيه ضعاف اليمان والمعوقون‬
‫والمتثاقلون والمبطئون والخائنون‪ ،‬ولكن هؤلء جميًعا لم يكن لهم‬
‫وزن في ذلك المجتمع ول قدرة على تحويل مجراه؛ لن التيار‬
‫الدافق هو تيار أولئك المؤمنين الصادقي اليمان‪ ،‬المجاهدين في‬
‫‪ ).‬سبيل ال بأموالهم وأنفسهم‪ ،‬الملتزمين بتعالم هذا الدين ) ‪1‬‬
‫‪ 2-‬أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستويات المعنى الحقيقي‬
‫)للمة(‪ ،‬فليست المة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة‬
‫ووحدة الرض ووحدة المصالح‪ ،‬فتلك هي الروابط التي تربط البشر‬
‫في الجاهلية‪ ،‬فإن تكونت منهم أمة فهي أمة جاهلية‪ ،‬أما المة‬
‫بمعناها الرباني‪ ،‬فهي المة التي تربط بينها رابطة العقيدة بصرف‬
‫النظر عن اللغة والجنس واللون ومصالح الرض القريبة‪ ،‬وهذه لم‬
‫تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في المة السلمية‪ ،‬فالمة‬
‫السلمية هي التي حققت معنى المة أطول فترة من الزمن عرفتها‬
‫الرض‪ ،‬أمة ل تقوم على عصبية الرض ول الجنس ول اللون ول‬
‫المصالح الرضية‪ ،‬إنما هو رباط العقيدة يربط بين العربي والحبشي‬
‫والرومي والفارسي‪ ،‬يربط بين البلد المفتوحة والمة الفاتحة على‬
‫أساس الخوة الكاملة في الدين‪ ،‬ولئن كان معنى المة قد حققته‬
‫هذه المة أطول فترة عرفتها الرض فقد كانت فترة صدر السلم‬
‫أزهى فترة تحققت فيها معاني السلم كلها بما فيها معنى المة‬
‫) على نحو غير مسبوق‪2 ) .‬‬
‫‪ 3-‬أنه مجتمع أخلقي يقوم على قاعدة أخلقية واضحة مستمدة‬
‫من أوامر الدين وتوجيهاته‪ ،‬وهي قاعدة ل تشمل علقات الجنسين‬
‫وحدها‪ ،‬وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع فهو خال من‬
‫التبرج ومن فوضى الختلط‪ ،‬وخال من كل ما يخدش الحياء من‬
‫فعل أو قول أو إشارة‪ ،‬وخال من الفاحشة إل القليل الذي ل يخلو‬
‫منه مجتمع على الطلق‪ ،‬ولكن القاعدة الخلقية أوسع بكثير من‬
‫علقات الجنسين؛ فهي تشمل السياسة والقتصاد والجتماع والفكر‬
‫والتعبير‪ ،‬فالحكم قائم على أخلقيات السلم‪ ,‬والعلقات القتصادية‬
‫من بيع وشراء وتبادل واستغلل للمال قائمة على أخلقيات السلم‪،‬‬
‫وعلقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والمانة والخلص‬
‫) والتعاون والحب‪ ،‬ل غمز ول لمز ول نميمة ول قذف للعراض‪3 ).‬‬
‫‪ 4-‬أنه مجتمع جاد مشغول بمعالي المور ل بسفاسفها‪ ،‬وليس‬
‫سا وصرامة‪ ،‬ولكنه روح تبعث الهمة في الناس‬ ‫الجد بالضرورة عبو ً‬
‫وتحث على النشاط والعمل والحركة‪ ،‬كما أن اهتمامات الناس هي‬
‫اهتمامات أعلى وأبعد من واقع الحس القريب‪ ،‬وليست فيه سمات‬
‫‪ () 1 .‬كيف نكتب التاريخ السلمي‪ :‬ص ‪100‬‬
‫‪ () 2 .‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪101‬‬
‫‪ (4 .‬كيف نكتب التاريخ السلمي‪ :‬ص ‪3 (،2، 3، 102‬‬
‫‪227‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫المجتمع الفارغة المترهلة التي تتسكع في البيوت وفي الطرقات‬
‫‪ ).‬تبحث عن وسيلة لقتل الوقت من شدة الفراغ ) ‪1‬‬
‫‪ 5-‬أنه مجتمع مجند للعمل في كل اتجاه‪ ،‬فيه روح الجندية‬
‫واضحة ل في القتال في‬
‫سبيل ال فحسب‪ ،‬وإن كان القتال في سبيل ال قد شغل حيًزا‬
‫كبيًرا من حياة هذا المجتمع‪ ،‬ولكن في جميع التجاهات؛ فالكل‬
‫متأهب للعمل في اللحظة التي يطلب منه فيها العمل‪ ،‬ومن ثم لم‬
‫يكن في حاجة لي تعبئة عسكرية ول مدنية‪ ،‬فهو معبأ من تلقاء‬
‫نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدافعة لبذل النشاط في كل‬
‫‪ ).‬اتجاه ) ‪2‬‬
‫‪ 6-‬أنه مجتمع متعبد‪ ،‬تلمس روح العبادة واضحة في تصرفاته‪،‬‬
‫ليس فقط في أداء الفرائض والتطوع بالنوافل ابتغاء مرضاة ال‪،‬‬
‫ولكن في أداء العمال جميًعا؛ فالعمل في حسه عبادة يؤديه بروح‬
‫العبادة‪ ،‬الحاكم يسوس رعيته بروح العبادة‪ ،‬والمعلم الذي يعلم‬
‫القرآن ويفقه الناس في الدين يعلم بروح العبادة‪ ،‬والتاجر الذي‬
‫يراعي ال في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة‪ ،‬والزوج يرعى‬
‫بيته بروح العبادة‪ ،‬والزوجة ترعى بيتها بروح العبادة‪ ،‬تحقيًقا لتوجيه‬
‫‪ » (3).‬كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته « ‪ ×:‬رسول ال‬
‫هذه من أهم سمات عصر الصديق الذي هو بداية الخلفة‬
‫الراشدة‪ ،‬وهذه السمات جعلته مجتمًعا مسلًما في أعلى آفاقه‪ ،‬وهي‬
‫التي جعلت هذه الفترة هي الفترة الثالثة في تاريخ السلم‪ ،‬كما أنها‬
‫هي التي ساعدت في نشر هذا الدين بالسرعة العجيبة التي انتشر‬
‫بها‪ ،‬فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التاريخ كله‪،‬‬
‫ضا تمتد من المحيط غربا‬ ‫بحيث شملت في أقل من خمسين عاًما أر ً‬
‫إلى الهند شرقا‪ ،‬وهي ظاهرة في ذاتها تستحق التسجيل والبراز‪،‬‬
‫وكذلك دخول الناس في السلم في البلد المفتوحة بل قهر ول‬
‫ضغط‪ ،‬وقد كانت تلك السمات التي اشتمل عليها المجتمع المسلم‬
‫هي الرصيد الحقيقي لهذه الظاهرة‪ ،‬فقد أحب الناس السلم لما‬
‫رأووه مطبًقا على هذه الصورة العجيبة الوضاءة‪ ،‬فأحبوا أن يكونوا‬
‫‪ ).‬من بين معتنقيه ) ‪4‬‬
‫ثالثًا‪ :‬سياسة الصديق في محاربة التدخل الجنبي‪:‬‬
‫أدت حركة الدولة السلمية الضاربة في الجزيرة العربية إلى‬
‫لجوء كثير من القبائل المجاورة لكل من الروم والفرس وأبوا‬
‫حتى × التسليم للدولة السلمية‪ ،‬وما إن سمعوا بوفاة رسول ال‬
‫سعوا للتقرب من الدولتين‪ ،‬واستغل الفرس والروم هذه القبائل‬
‫بالحض والتشجيع والدعم لتقف ضد الدولة السلمية ) ‪ ،(5‬فكانت‬
‫سياسة الصديق للتصدي لهذا الدعم الخارجي بأن أرسل حملة‬
‫فكانت تلك ‪ ×،‬أسامة بن زيد إلى الشام بعد وفاة رسول ال‬
‫الحملة بمثابة الضمان لعدم استرسال تلك القبائل على مهاجمة‬
‫ضا خالد بن سعيد بن العاص على‬ ‫الدولة السلمية‪ ،‬وأرسل أبو بكر أي ً‬
‫‪1234‬‬
‫‪ () .‬كيف نكتب التاريخ السلمي‪ :‬ص ‪103‬‬
‫‪ () 5 .‬دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪311‬‬
‫‪228‬‬
‫شخصيته وعصره ‪ ‬أبو بكر الصديق‬
‫رأس جيش إلى الحمقتين من مشارف الشام‪ ،‬وعمرو بن العاص‬
‫إلى تبوك ودومة الجندل‪ ،‬وأرسل العلء بن الحضرمي إلى البحرين‬
‫ثم تابع المثنى بن حارثة الشيباني ‪ »،‬أي‪ :‬ساحل الخليج العربي كله «‬
‫إلى جنوب العراق بعد القضاء على ردة البحرين‪ ،‬واضطرت سجاح‬
‫التميمية ‪-‬وقد كانت من نصارى العرب في العراق التي كانت تحت‬
‫سيطرة الفرس‪ -‬أن ترتد عائدة إلى العراق لما رأت قوة المسلمين‪.‬‬
‫لقد كان المسلمون بقيادة أبي بكر على مستوى اليقظة‬
‫والمسئولية‪ ،‬فحفظوا الحدود الشمالية بدقة‪ ،‬فمن الشرق إلى‬
‫الغرب على طول الحدود الشمالية المتاخمة للفرس والروم نجد‬
‫العلء بن الحضرمي‪ ،‬وخالد بن الوليد شمال نجد‪ ،‬ثم عمرو بن‬
‫العاص في دومة الجندل‪ ،‬وخالد بن سعيد على مشارف الشام‪،‬‬
‫‪ ).‬ناهيك عن جيش أسامة ) ‪1‬‬
‫كان الفرس يتربصون بالسلم الدوائر‪ ،‬ولكنهم كمنوا كمون‬
‫الفعى‪ ،‬وخاصة أنهم كانوا يرون المد السلمي يكتسح من أمامه كل‬
‫أقزام التاريخ‪ ،‬ويزيح من وجهه جميع قوى الشر والطغيان‪ ،‬وعندما‬
‫حانت الفرصة بارتداد بعض القبائل عن السلم‪ ،‬وتوجهت قبيلة بكر‬
‫تعرض عليه إمارة البحرين × بن وائل إلى كسرى بعد وفاة الرسول‬
‫فلقى العرض قبول لديه‪ ،‬وأرسل معهم المنذر بن النعمان على‬
‫رأس قوة مؤلفة من سبعة آلف فارس وراجل وعدد من الخيل‬
‫تقارب في أعدادها المائة لمساعدتهم في مواجهة المسلمين‪ ،‬وهم‬
‫شرذمة ل يخشى خطرهم كما يقول الكلعي ) ‪ ،(2‬وكان مسيلمة‬
‫الكذاب تتطلع إليه العين من بلط فارس ) ‪ ،(3‬وقد ذكر الدكتور‬
‫محمد حسين هيكل‪ :‬من أن سجاح لم تنحدر من شمالي العراق إلى‬
‫شبه الجزيرة يتبعها رهطها إل مدفوعة بتحريض الفرس وعمالهم في‬
‫‪ ).‬العراق‪ ،‬كي يزيدوا الثورة في بلد العرب اشتعال ) ‪4‬‬
‫هذا عن دور الفرس‪ ،‬أما دور الروم فقد كان أظهر وأخطر؛‬
‫ذلك لن موقف الروم من السلم ودولته كان أصلب وأعتى‪ ،‬فهم‬
‫أمة ذات فكر وعقيدة وذات نظم وقوانين متقدمة‪ ،‬ولهم من‬
‫عدد مدد ل يكاد ينقطع‪ ،‬ومن الحلفاء والتباع دول ودول‪،‬‬ ‫العدد وال ُ‬
‫ولذا كانت العلقات بينهما في أعلى درجات سخونتها وتوترها منذ‬
‫فترات مبكرة ) ‪ ، (5‬وقد لجأ الروم ومنذ وقت مبكر بعد وصول كتب‬
‫إلى محاولة الصدام مع المسلمين‪ ،‬فكان من جراء × رسول ال‬
‫ذلك غزوتا‪ :‬مؤتة وتبوك اللتان أثبتتا لهم ماد ًيا أن الدولة السلمية‬
‫ليس من السهل ابتلعها أو شراء أصحابها‪ ،‬كما أثبتتا للمسلمين‬
‫من جهة أخرى إخلص متنصرة العرب من قبائل الشام لبناء‬
‫دينهم من الروم‪ ،‬وعلى الرغم من التفاقيات التي عقدها رسول‬
‫بنفسه إثر غزوة تبوك مع أمراء الشام من أتباع الروم‪ × ،‬ال‬
‫فإن الروم كانوا ل يكفون عن مناوشة الدولة السلمية ومحاولة‬
‫متنبها لهذا ‪ ‬قص أجنحتها‪ ،‬وبالتالي القضاء عليها‪ ،‬وكان الصديق‬
‫‪ () 1 ، 175.‬حروب الردة‪ :‬ص ‪174‬‬
‫‪ () 2 / 318، 319).‬الكتفاء في تاريخ المصطفى والثلثة الخلفاء‪3 ) :‬‬
‫‪ () 3‬السلم والحركات المضادة‪ :‬ص ‪ ، 146‬للدكتور الخربوطلي‪.‬‬
‫‪ () 4 .‬الردة‪ ،‬غيداء خزنة كاتبي‪ :‬ص ‪ ، 49‬مخطوطة نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪146‬‬
‫‪ () 5 .‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪146‬‬
‫‪229‬‬

You might also like