Professional Documents
Culture Documents
حروب الردة
حروب الردة
المبحث الخامس
أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة
أولً :تحقيق شروط التمكين وأسبابه وآثار شرع ال وصفات
المجاهدين:
1-تحقيق شروط التمكين:
إن الستخلف في الرض والتمكين لدين ال وإبدال الخوف
أمنًا ،وعد من ال تعالى متى حقق المسلمون شروطه ،ولقد أشار
القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين ولوازم الستمرار
عِمُلوان آَمُنوا ِمْنُكْم َو َ ل اّلذي َعَد ا ُ فيه ،قال تعالىَ+ :و َ
ف اّلذي َ
ن خَل َ سَت ْ
ض َكَما ا ْخِلَفّنهْم ِفي الَْر ِ سَت ْت َلَي ْ
حا ِصال َ ال ّ
ضى َلُهْم ن َلُهْم ِديَنُهُم اّلذي اْرَت َ ِمن َقْبِلِهْم َوَلُيَمّكن ّ
ن ِبي شِرُكو َ خْوِفِهْم َأْمًنا َيْعُبُدوَنِني ل ُي ْ َوَلُيَبّدلّنهم ّمن َبْعِد َ
سُقو َ
ن ك ُهُم اْلَفا ِ ك َفُأوَلِئ َ
شْيًئا َوَمن َكَفَر َبْعَد َذِل َ َوَأِقيُموا َ
ن"حُمو َ ل َلَعّلكْم ُتْر َ طيُعوا الّرسو َ صلَة َوآُتوا الّزكاَة َوَأ ِ ال ّ
،[ 56ولقد أشارت اليات الكريمة إلى شروط التمكين ] ،النور55 :
وهي :اليمان بكل معانيه وبجميع أركانه ،وممارسة العمل الصالح
بكل أنواعه ،والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر ،وتحقيق
العبودية الشاملة ،ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه.
وأما لوازم التمكين فهي :إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة
،(1وقد تحققت هذه الشروط واللوازم كلها في عهد ( × الرسول
الصديق والخلفاء الراشدين من بعده ،وكان للصديق الفضل بعد ال
في تذكير المة بهذه الشروط ،ولذلك رفض طلب العراب في وضع
الزكاة عنهم ،وأصر على بعث جيش أسامة ،والتزم بالشرع كاملً،
ولم يتنازل عن صغيرة ول كبيرة ،قال عبد ال بن مسعود :لقد قمنا
ن علينا بأبي بكر؛ × بعد رسول ال مقاًما كدنا نهلك فيه لول أن َم ّ
أجمعنا على أن ل نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نأكل قرى
عربية ونعبد ال حتى يأتينا اليقين ،فعزم ال بأبي بكر على قتالهم،
).فوال ما رضي منهم إل بالخطة المخزية أو الحرب المجلية ) 2
2-الخذ بأسباب التمكين:
طْعُتم ّمن ُقّوة َوِمن ّربا ِ
ط سَت َ عّدوا َلُهْم ّما ا ْ قال تعالىَ+ :وَأ ِ
لا ِ
ل سِبي ِ
يٍء ِفي َ
ش ْ
ل َيْعَلُمُهْم َوَما ُتْنِفُقوا ِمن َ
ن ِمن ُدوِنِهْم ل َتْعَلُموَنُهُم ا ُ خِري َعُدّوكْم َوآ َ ل َو َعُدّو ا ِ ن ِبِه َ ل ُتْرِهُبو َ خْي ِ
اْل َ
ن" ]النفال [،6 :وقد لحظت أن الصديق ظَلُمو َف ِإَلْيُكْم َوَأْنُتْم ل ُت ْ
ُيَو ّ
ش الجيوش وعقد اللوية كان إعداده شاملً؛ معنويًا وماديًا ،ف ي ج ّ
واختار القادة لحروب الردة ،وراسل المرتدين ،وحرض الصحابة على
قتالهم وجمع السلح والخيل والبل وجهز الغزاة ،وحارب البدع والجهل
والهوى ،وكحم الشريعة وأخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع ،وأخذ
بمبدأ التفرغ ،وساهم في إحياء مبدأ التخصص؛ فخالد لقيادة الجيوش،
() 1 .فقه التمكين في القرآن الكريم للصلبي :ص 157
() 2 /2.الكامل في التاريخ21 :
223
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وزيد بن ثابت لجمع القرآن ،وأبو برزة السلمي للمراسلت الحربية
وهكذا ،واهتم بالجانب المني والعلمي وغير ذلك من السباب.
3-آثار تحكيم الشرع:
تظهر آثار تحكيم شرع ال في عصر الصديق في تمكين ال
للصحابة ،فقد حرصوا على إقامة شعائر ال على أنفسهم وأهليهم،
وأخلصوا ل في تحاكمهم إلى شرعه ،فال -سبحانه وتعالى -قواهم
وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين ،ورزقهم المن والستقرار ،قال
ك َلُهُمظْلٍم ُأوَلِئ َ
سوا ِإيَماَنُهْم ِب ُ ن آَمُنوا َوَلْم َيْلِب ُ تعالى+ :اّلذي َ
ن" ]النعام82 : ن َوُهم ّمْهَتُدو َ ]،الْم ُ
وتحققت فيهم سنة ال في نصرته لمن ينصره؛ لن ال ضمن لمن
استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته ،قال تعالى:
عِزيٌز
ي َ ل َلَقِو ّنا َ صُرُه ِإ ّل َمن َين ُ نا ُ صَر ّ ن ِإن َ+ وَلَين ُ اّلذي َ
صلَة َوآَتُوا الّزكاَة َوَأَمُروا ض َأَقاُموا ال ّ ّمّكّناهْم ِفي الَْر ِ
عاِقَبُة الُموِر" ]الحج40 : ل َ ن اْلُمْنَكِر َو ِ عِ ف َوَنَهْوا َ ِ ،باْلَمْعُرو ِ
41].
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت مجموعة على
»… )ه (1دى ال إل منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف .وقد انتشرت الفضائل وانحسرت الرذائل
في
.عهد الصديق
4-صفات جيل التمكين:
عن ِديِنِه ن آَمُنوا َمن ّيْرَتّد ِمْنُكْم َ قال تعالىَ+ :يا َأّيها اّلذي َ
عَلى حّبونُه َأِذّلة َ حّبهْم َوُي ِ ل ِبَقْوٍم ُي ِ
ف َيْأِتي ا ُ سْو َ َف َ
لا ِ
ل سِبي ِن ِفي َ جاِهُدو َ ن ُي َ عَلى اْلَكاِفِري َ عّزة َ ن َأ ِاْلُمْؤِمِني َ
شاُء َوا ُ
ل ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ لا ِ ضُ ك َف ْ ن َلْوَمَة لِئٍم َذِل َخاُفو َ َول َي َ
عِليٌم" ]المائدة ،[ 54 :هذه الصفات المذكورة في هذه الية سٌع َ َوا ِ
وجيوشه من الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق
الصحابة الذين قاتلوا المرتدين ،فقد مدحهم ال بأكمل الصفات
وأعلى الميزات ) ،(2فهذه الصفات:
حّبونُه":حّبهْم َوُي ِ أُ+ -ي ِ
مذهب السلف في المحبة المسندة له سبحانه وتعالى أنها ثابتة
له تعالى بل كيف ول تأويل ،ول مشاركة للمخلوق في شيء من
خصائصها (3 ).لقد أحب المولى -عز وجل -ذلك الجيل لما بذلوه من
ضا تقربًا إلى أجل دينهم ،وبما تطوعوا به بما لم يفرض عليهم فر ً
ال وحبًا لرسوله واتخاذهم المندوبات والمستحبات كأنها فروض
واجبة التنفيذ ) ،(4ولقد اتصف هذا الجيل بصفات الحسان والتقوى
والصبر التي ذكر المولى -عز وجل -بأنه يحبها ،قال تعالى+ :اّلذي َ
ن
() 1 /4.في ظلل القرآن270 :
() 2 /2.عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام534 :
() 3 /6.تفسير القاسمي253 :
() 4 .كيف نكتب التاريخ السلمي ،لمحمد قطب :ص 90
224
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ظ َواْلَعاِفي َ
ن ن اْلَغْي َ
ظِمي َ ضّراء َواْلَكا ِ سّراء َوال ّ ن ِفي ال ّ ُيْنِفُقو َ
ن" ]آل عمران ،[ 76 :وقال تعالى: سِني َ حِ ب اْلُم ْ ح ّل ُي ِن الّناس َوا ُ عَِ
ن" ]آل ب اْلُمّتقي َ ح ّ ل ُي ِنا َ ن َأْوَفى ِبَعْهِدِه َواّتقى َفِإ ّ َ+بَلى َم ْ
عمران ،[ 76 :ولقد أحب الصحابة المولى -عز وجل -حبّا عظيًما
فقدموا محابه على كل شيء ،وبغضوا ما أبغضه ،ووالوا ما واله
وعادوا من عاداه ،واتبعوا رسوله واقتفوا أثره .لقد أحب الصحابة
ربهم وخالقهم ورازقهم؛ لن النفوس مجبولة على حب من أحسن
إليها ،وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر ،وشرع فيسر ،وجعل
النسان في أحسن تقويم ،ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما
ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر ،لهذا كله
ولكثر منه أحب ذلك الجيل ربهم حبّا ل مثيل له ،فقدموا أنفسهم
وأهليهم وأموالهم في سبيل ال بل تردد أو منّة ،بل اعتبروا ذلك
تفضل من ال عليهم ،أن فتح لهم باب الجهاد والستشهاد في سبيله
).ويسر لهم أسبابه ،فقاموا بذلك الواجب خير قيام ) 1
عَلى عّزة َ ن َأ ِ
عَلى اْلُمْؤِمِني َ
ب -قوله تعالىَ+ :أِذّلة َ
ن":اْلَكاِفِري َ
فهذه صفات المؤمنين الكمل؛ أن يكون أحدهم متواضًعا لخيه
ووليه متعزًزا على خصمه وعدوه (2 ).ولذلك قام الصديق وجنوده
الكرام بمناصرة المسلمين وخرج بنفسه يقاتل المرتدين ،وسير أحد
عشر لواء لرفع الظلم عن المؤمنين وكسر شوكة المرتدين ،ولم
يقبل من المرتدين الذين عذبوا المستضعفين من مواطنيهم
المسلمين إل أن يأخذ بحقهم منهم فيفعل بهم كما فعلوا بهم،
حريصا على مراعاة أحوال وكذلك فعل قادة جيوشه ،وكان
الرعية في المجتمع ،فقد مر بنا كيف كان يعامل الجواري والعجائز
لقد سادت هذه الصفات في عصر الصديق ،وكبار السن
وتجسدت في حياة الناس.
ن َلْوَمَة لِئٍم":
خاُفو َل َول َي َ لا ِ سِبي ِ
ن ِفي َ
جاِهُدو َ
جُ+ -ي َ
وقد ظهرت صفة المجاهدة لعداء ال في عصر الصديق في
حربهم للمرتدين وكسرهم لشوكتهم ،ومن بعد في الفتوحات
السلمية التي سيأتي تفصيلها بإذن ال تعالى ،ولقد جاهد الصحابة
أعداءهم من أجل أن تكون كلمة ال هي العليا ,وتحقيق عبادة ال
وحده ،وإقامة حكم ال ونظام السلم في الرض ،ودفع عدوان
المرتدين ،ومنع الظلم بين الناس ،وبالجهاد في سبيل ال تحقق
إعزاز المسلمين وإذلل المرتدين ،ورجع الناس إلى دين ال،
أن تجعل من واستطاعت القيادة السلمية بزعامة الصديق
الجزيرة العربية قاعدة للنطلق لفتح العالم أجمع ،وأصبحت
الجزيرة هي النبع الصافي الذي يتدفق منه السلم ليصل إلى أصقاع
الرض ،بواسطة رجال عركتهم الحياة وأصبحوا من أهل الخبرات
المتعددة في مجالت التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع ال
).الشامل لسعاد بني النسان حيثما كان) 3
() 1 – 12.اليمان وأثره في الحياة للقرضاوي :ص 5
() 2 /6.تفسير القاسمي255 :
() 3 .فقه التمكين في القرآن الكريم :ص 491
225
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لقد كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعداد
ربانيًا للفتوحات السلمية ،حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات،
وتفجرت الطاقات ،واكتشفت قيادات ميدانية ،وتفنن القادة في
الساليب والخطط الحربية ،وبرزت مؤهلت الجندية الصادقة
المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل،
وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل ،ولذا كان
).الداء فائقا والتفاني عظيًما ) 1
لقد توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل ال ثم جهاد الصحابة
مع الصديق تحت راية السلم لول مرة في تاريخها بزوال الرؤوس
أو انتظامها ضمن المد السلمي ،وبسطت عاصمة السلم )المدينة(
هيمنتها على ربوع الجزيرة ،وأصبحت المة تسير بمبدأ واحد وبفكرة
واحدة ،فكان النتصار انتصاًرا للدعوة السلمية ولوحدة المة
بتضامنها وتغلبها على عوامل التفكك والعصبية ،كما كنت برهانا على
أن الدولة السلمية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف
).الزمات ) 2
وهكذا كان الصحابة يجاهدون في سبيل ال ول يخافون لومة
أحد واعتراضه ونقده؛ لصلبتهم في دينهم ولنهم يعملون لحقاق
).الحق وإبطال الباطل ) 3
شاُء":
ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ
لا ِ
ضُ
ك َف ْ
دَ+ -ذِل َ
الشارة إلى ما ذكر من حب ال إياهم وحبهم ل وذلتهم
للمؤمنين وعزتهم على الكافرين ،وجهادهم في سبيل ال وعدم
مبالتهم للوم اللوام ،فالمذكور كله فضل ال الذي فضل به أولياءه،
يؤتيه من يشاء؛ أي :ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده ،وال
واسع كثير الفواضل جل جلله ) ،(4عليم بمن هو أهلها ،فهو تعالى
).واسع الفضل ،عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرم منه ) 5
ثانيًا :وصف المجتمع في عصر الصديق:
حين ندرس المجتمع المسلم في صدر الخلفة الراشدة تتضح لنا
مجموعة من السمات منها:
1-أنه -في عمومه -مجتمع مسلم بكامل معنى السلم ،عميق
اليمان بال واليوم الخر ،مطبق لتعاليم السلم بجدية واضحة
والتزام ظاهر ،وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في
التاريخ ،فالدين بالنسبة له هو الحياة وليس شيئًا هامشيًا يفئ إليه
بين الحين والحين ،إنما هو حياة الناس وروحهم ليس فقط فيما
يؤدونه من شعائر تعبدية يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح،
وإنما من أخلقياتهم وتصوراتهم واهتماماتهم وقيمهم وروابطهم
الجتماعية ،وعلقات السرة وعلقات الجوار والبيع والشراء
والضرب في مناكب الرض والسعي وراء الرزاق ،وأمانة التعامل
() 1 ، 143.تاريخ صدر السلم للشجاع :ص 142
() 2 .تاريخ الدعوة السلمية ،د :جميل المصري :ص 256
() 3 /6.تفسير المنير233 :
() 4 /6.تفسير القاسمي258 :
() 5 /6.تفسير المنير233 :
226
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وكفالة القادرين لغير القادرين ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والرقابة على أعمال الحكام والولة ،ول يعني هذا بطبيعة الحال أن
كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف ،فهذا ل يتحقق في الحياة
× الدنيا ول في أي مجتمع من البشر .وقد كان في مجتمع الرسول
-كما ورد في كتاب ال -منافقون يتظاهرون بالسلم ،وهم في
دخيلة أنفسهم من العداء ،وكان فيه ضعاف اليمان والمعوقون
والمتثاقلون والمبطئون والخائنون ،ولكن هؤلء جميًعا لم يكن لهم
وزن في ذلك المجتمع ول قدرة على تحويل مجراه؛ لن التيار
الدافق هو تيار أولئك المؤمنين الصادقي اليمان ،المجاهدين في
).سبيل ال بأموالهم وأنفسهم ،الملتزمين بتعالم هذا الدين ) 1
2-أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستويات المعنى الحقيقي
)للمة( ،فليست المة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة
ووحدة الرض ووحدة المصالح ،فتلك هي الروابط التي تربط البشر
في الجاهلية ،فإن تكونت منهم أمة فهي أمة جاهلية ،أما المة
بمعناها الرباني ،فهي المة التي تربط بينها رابطة العقيدة بصرف
النظر عن اللغة والجنس واللون ومصالح الرض القريبة ،وهذه لم
تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في المة السلمية ،فالمة
السلمية هي التي حققت معنى المة أطول فترة من الزمن عرفتها
الرض ،أمة ل تقوم على عصبية الرض ول الجنس ول اللون ول
المصالح الرضية ،إنما هو رباط العقيدة يربط بين العربي والحبشي
والرومي والفارسي ،يربط بين البلد المفتوحة والمة الفاتحة على
أساس الخوة الكاملة في الدين ،ولئن كان معنى المة قد حققته
هذه المة أطول فترة عرفتها الرض فقد كانت فترة صدر السلم
أزهى فترة تحققت فيها معاني السلم كلها بما فيها معنى المة
) على نحو غير مسبوق2 ) .
3-أنه مجتمع أخلقي يقوم على قاعدة أخلقية واضحة مستمدة
من أوامر الدين وتوجيهاته ،وهي قاعدة ل تشمل علقات الجنسين
وحدها ،وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع فهو خال من
التبرج ومن فوضى الختلط ،وخال من كل ما يخدش الحياء من
فعل أو قول أو إشارة ،وخال من الفاحشة إل القليل الذي ل يخلو
منه مجتمع على الطلق ،ولكن القاعدة الخلقية أوسع بكثير من
علقات الجنسين؛ فهي تشمل السياسة والقتصاد والجتماع والفكر
والتعبير ،فالحكم قائم على أخلقيات السلم ,والعلقات القتصادية
من بيع وشراء وتبادل واستغلل للمال قائمة على أخلقيات السلم،
وعلقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والمانة والخلص
) والتعاون والحب ،ل غمز ول لمز ول نميمة ول قذف للعراض3 ).
4-أنه مجتمع جاد مشغول بمعالي المور ل بسفاسفها ،وليس
سا وصرامة ،ولكنه روح تبعث الهمة في الناس الجد بالضرورة عبو ً
وتحث على النشاط والعمل والحركة ،كما أن اهتمامات الناس هي
اهتمامات أعلى وأبعد من واقع الحس القريب ،وليست فيه سمات
() 1 .كيف نكتب التاريخ السلمي :ص 100
() 2 .نفس المصدر السابق :ص 101
(4 .كيف نكتب التاريخ السلمي :ص 3 (،2، 3، 102
227
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المجتمع الفارغة المترهلة التي تتسكع في البيوت وفي الطرقات
).تبحث عن وسيلة لقتل الوقت من شدة الفراغ ) 1
5-أنه مجتمع مجند للعمل في كل اتجاه ،فيه روح الجندية
واضحة ل في القتال في
سبيل ال فحسب ،وإن كان القتال في سبيل ال قد شغل حيًزا
كبيًرا من حياة هذا المجتمع ،ولكن في جميع التجاهات؛ فالكل
متأهب للعمل في اللحظة التي يطلب منه فيها العمل ،ومن ثم لم
يكن في حاجة لي تعبئة عسكرية ول مدنية ،فهو معبأ من تلقاء
نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدافعة لبذل النشاط في كل
).اتجاه ) 2
6-أنه مجتمع متعبد ،تلمس روح العبادة واضحة في تصرفاته،
ليس فقط في أداء الفرائض والتطوع بالنوافل ابتغاء مرضاة ال،
ولكن في أداء العمال جميًعا؛ فالعمل في حسه عبادة يؤديه بروح
العبادة ،الحاكم يسوس رعيته بروح العبادة ،والمعلم الذي يعلم
القرآن ويفقه الناس في الدين يعلم بروح العبادة ،والتاجر الذي
يراعي ال في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة ،والزوج يرعى
بيته بروح العبادة ،والزوجة ترعى بيتها بروح العبادة ،تحقيًقا لتوجيه
» (3).كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته « ×:رسول ال
هذه من أهم سمات عصر الصديق الذي هو بداية الخلفة
الراشدة ،وهذه السمات جعلته مجتمًعا مسلًما في أعلى آفاقه ،وهي
التي جعلت هذه الفترة هي الفترة الثالثة في تاريخ السلم ،كما أنها
هي التي ساعدت في نشر هذا الدين بالسرعة العجيبة التي انتشر
بها ،فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التاريخ كله،
ضا تمتد من المحيط غربا بحيث شملت في أقل من خمسين عاًما أر ً
إلى الهند شرقا ،وهي ظاهرة في ذاتها تستحق التسجيل والبراز،
وكذلك دخول الناس في السلم في البلد المفتوحة بل قهر ول
ضغط ،وقد كانت تلك السمات التي اشتمل عليها المجتمع المسلم
هي الرصيد الحقيقي لهذه الظاهرة ،فقد أحب الناس السلم لما
رأووه مطبًقا على هذه الصورة العجيبة الوضاءة ،فأحبوا أن يكونوا
).من بين معتنقيه ) 4
ثالثًا :سياسة الصديق في محاربة التدخل الجنبي:
أدت حركة الدولة السلمية الضاربة في الجزيرة العربية إلى
لجوء كثير من القبائل المجاورة لكل من الروم والفرس وأبوا
حتى × التسليم للدولة السلمية ،وما إن سمعوا بوفاة رسول ال
سعوا للتقرب من الدولتين ،واستغل الفرس والروم هذه القبائل
بالحض والتشجيع والدعم لتقف ضد الدولة السلمية ) ،(5فكانت
سياسة الصديق للتصدي لهذا الدعم الخارجي بأن أرسل حملة
فكانت تلك ×،أسامة بن زيد إلى الشام بعد وفاة رسول ال
الحملة بمثابة الضمان لعدم استرسال تلك القبائل على مهاجمة
ضا خالد بن سعيد بن العاص على الدولة السلمية ،وأرسل أبو بكر أي ً
1234
() .كيف نكتب التاريخ السلمي :ص 103
() 5 .دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة :ص 311
228
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
رأس جيش إلى الحمقتين من مشارف الشام ،وعمرو بن العاص
إلى تبوك ودومة الجندل ،وأرسل العلء بن الحضرمي إلى البحرين
ثم تابع المثنى بن حارثة الشيباني »،أي :ساحل الخليج العربي كله «
إلى جنوب العراق بعد القضاء على ردة البحرين ،واضطرت سجاح
التميمية -وقد كانت من نصارى العرب في العراق التي كانت تحت
سيطرة الفرس -أن ترتد عائدة إلى العراق لما رأت قوة المسلمين.
لقد كان المسلمون بقيادة أبي بكر على مستوى اليقظة
والمسئولية ،فحفظوا الحدود الشمالية بدقة ،فمن الشرق إلى
الغرب على طول الحدود الشمالية المتاخمة للفرس والروم نجد
العلء بن الحضرمي ،وخالد بن الوليد شمال نجد ،ثم عمرو بن
العاص في دومة الجندل ،وخالد بن سعيد على مشارف الشام،
).ناهيك عن جيش أسامة ) 1
كان الفرس يتربصون بالسلم الدوائر ،ولكنهم كمنوا كمون
الفعى ،وخاصة أنهم كانوا يرون المد السلمي يكتسح من أمامه كل
أقزام التاريخ ،ويزيح من وجهه جميع قوى الشر والطغيان ،وعندما
حانت الفرصة بارتداد بعض القبائل عن السلم ،وتوجهت قبيلة بكر
تعرض عليه إمارة البحرين × بن وائل إلى كسرى بعد وفاة الرسول
فلقى العرض قبول لديه ،وأرسل معهم المنذر بن النعمان على
رأس قوة مؤلفة من سبعة آلف فارس وراجل وعدد من الخيل
تقارب في أعدادها المائة لمساعدتهم في مواجهة المسلمين ،وهم
شرذمة ل يخشى خطرهم كما يقول الكلعي ) ،(2وكان مسيلمة
الكذاب تتطلع إليه العين من بلط فارس ) ،(3وقد ذكر الدكتور
محمد حسين هيكل :من أن سجاح لم تنحدر من شمالي العراق إلى
شبه الجزيرة يتبعها رهطها إل مدفوعة بتحريض الفرس وعمالهم في
).العراق ،كي يزيدوا الثورة في بلد العرب اشتعال ) 4
هذا عن دور الفرس ،أما دور الروم فقد كان أظهر وأخطر؛
ذلك لن موقف الروم من السلم ودولته كان أصلب وأعتى ،فهم
أمة ذات فكر وعقيدة وذات نظم وقوانين متقدمة ،ولهم من
عدد مدد ل يكاد ينقطع ،ومن الحلفاء والتباع دول ودول، العدد وال ُ
ولذا كانت العلقات بينهما في أعلى درجات سخونتها وتوترها منذ
فترات مبكرة ) ، (5وقد لجأ الروم ومنذ وقت مبكر بعد وصول كتب
إلى محاولة الصدام مع المسلمين ،فكان من جراء × رسول ال
ذلك غزوتا :مؤتة وتبوك اللتان أثبتتا لهم ماد ًيا أن الدولة السلمية
ليس من السهل ابتلعها أو شراء أصحابها ،كما أثبتتا للمسلمين
من جهة أخرى إخلص متنصرة العرب من قبائل الشام لبناء
دينهم من الروم ،وعلى الرغم من التفاقيات التي عقدها رسول
بنفسه إثر غزوة تبوك مع أمراء الشام من أتباع الروم × ،ال
فإن الروم كانوا ل يكفون عن مناوشة الدولة السلمية ومحاولة
متنبها لهذا قص أجنحتها ،وبالتالي القضاء عليها ،وكان الصديق
() 1 ، 175.حروب الردة :ص 174
() 2 / 318، 319).الكتفاء في تاريخ المصطفى والثلثة الخلفاء3 ) :
() 3السلم والحركات المضادة :ص ، 146للدكتور الخربوطلي.
() 4 .الردة ،غيداء خزنة كاتبي :ص ، 49مخطوطة نقل عن حركة الردة :ص 146
() 5 .حركة الردة للعتوم :ص 146
229