Professional Documents
Culture Documents
تفسير الشعراوي 013
تفسير الشعراوي 013
تفسير الشعراوي 013
قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا بِالّذِي َآمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ()76
إذن فقد أعلنوا الكفر بالقول وضموا إليه بالعمل وهو قتل الناقة ،ويقول الحقَ { :ف َعقَرُواْ النّا َقةَ
وَعَ َتوْاْ} ...
()1019 /
َفعَقَرُوا النّاقَ َة وَعَ َتوْا عَنْ َأمْرِ رَ ّب ِه ْم َوقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ ()77
()1020 /
والرجفة هي الهزة التي تحدث رجة في المهزوز .ويسميها القرآن مرة بالطاغية في قوله الحق{:
فََأمّا َثمُودُ فَأُهِْلكُواْ بِالطّاغِ َيةِ }[الحاقة]5 :
والتي أصبحوا من بعدها " جاثمين " ،وهو التعبير الدقيق الذي يدل على أن الواحد منهم إن كان
واقفا ظل على وقوفه ،وإن كان قاعدا ظل على قعوده ،وإن كان نائما ظل على نومه .أو كما
نقول " :إنسخطوا على هيئاتهم ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" فالجاثم " هو من لزم مكانه فلم يبرح أو لصق بالرض.
وبعد أن أخذهم بالرجفة يقول الحق { :فَ َتوَلّىا عَ ْنهُ ْم َوقَالَ يَا َقوْمِ} ...
()1021 /
صحِينَ ()79
حتُ َل ُك ْم وََلكِنْ لَا تُحِبّونَ النّا ِ
فَ َتوَلّى عَ ْنهُمْ َوقَالَ يَا َقوْمِ َلقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ رِسَاَلةَ رَبّي وَنَصَ ْ
فهل كان سيدنا صالح يخاطبهم وهم موتى؟ .نعم يخاطبهم إنصافا لنفسه وإبراء لذمته ،مثلما يقع
واحد في ورطة فيقول له صديقه :ل أملك لك شيئا الن :فقد نصحتك من قبل .أو أن شريرا قد
قتل ،فتقول له " :ياما نصحتك " .وأنت تتكلم لكي تعطي لنفسك براءة العذر " ،أو كما فعل صلى
ال عليه وسلم مع قتلى بدر وناداهم واحدا واحدا بعد أن ألقوا جثثهم في قليب بدر ،وقال صلى ال
عليه وسلم :يا أهل القليب ،يا فلن ،يا فلن ،يا فلن ،هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ،فإني قد
وجدت ما وعدني ربي حقا ،فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ،فقال الصحابة:
-أو تكلمهم يا رسول ال وقد جيّفوا .قال :وال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم ل يستطيعون
أن يجيبوني ".
وكأن سيدنا صالح قال ذلك ليتذكروا كيف أبلغهم رسالت ال ومنهجه ونصح لهم وتحنن عليهم أن
يلتزموا بمنهج ال ،لكنهم لم يستمعوا للنصح .ولم يحبوا الناصحين؛ لن الناصح يريد أن يُخرج
المنصوح عما ألفه من الشر ،وعندما ينصحه أحد يغضب عليه.
وبعد أن انتهى من قصة ثمود مع نبيهم يقول سبحانه { :وَلُوطا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ.} ...
()1022 /
وكما قال الحقَ { :لقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا } وقال { :وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا } { ،وَإِلَىا َثمُودَ َأخَاهُمْ
صَالِحا } فهو هنا يأتي باسم " لوط " منصوبا لنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالت.
وما هو زمان الِرسال؟ إن قوله الحق { :إِذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ } يفيد أن زمن القول كان وقت الِرسال.
وهي الِشارة القرآنية ذات الدللة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبّلغ
الرسالة ل يتوانى لحظة في أداء المهمة ،فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله { :يَا َقوْمِ } .والسلوب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يريد أن يبين لك أنه بمجرد أن يقال له " :بلغ " فهو يبلغ الرسالة على الفور ،وكأن الرسالة جاءت
ساعة التبليغ فل فاصل بينهما { .وَلُوطا ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ } [العراف]80 :
وكلمة " قومه " تعني أنه منهم ،ولماذا لم يقل " :أخاهم لوطا "؟ وهذه لها معنى يفيد أن السابقين
من الرسل كانوا من بيئة القوام الذين أرسلوا إليهم؛ فعاد كان " هود " من بيئتهم و " ثمود " كان
صالح من بيئتهم وإذا كان الحق لم يقل " أخاهم لوطا " فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه،
وهذه تنبهنا إلى أن لوطا لم يكن من هذا المكان ،لن لوطا وإبراهيم عليهما السلم كانا من مدينة
بعيدة ،وجاء إلى هذا المكان فرارا من الضطهاد هو وإبراهيم عليهما السلم ،وهذا يبين لنا أن
لوطا طارئ على هذا المكان ،ولم يكن أخاهم المقيم معهم في البيئة نفسها .ولكنهم " قومه " لنه
عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضا ،وعرفوا بعضا من صفاته ،وأنسوا به.
أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن ،فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق ،ولم
يقل لهم لوط :إن ربي نهاكم عن هذه العملية القذرة وهي إتيان الرجال .بل أراد أن يستفهم منهم
استفهاما قد يردعهم عن العملية ويقبحها.
وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع ،واستفهام إنكار ،فلم يقل لهم :إن ربنا يقول لكم
امتنعوا عن هذا الفعل ،بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة ،واستنكار فطري...{ .أَتَأْتُونَ
شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف]80 :
ا ْلفَاحِ َ
وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالً إنكاريّا ليحرجهم ،لن العقل الفطري يأبى هذه العملية{ :
حدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ }.
أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ
أي أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لنها عملية مستقذرة؛ لن الرجل إنما يأتي الرجل في محل
القذارة ،لكنهم فعلوها ،وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السويّة .ولكنها
عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة.
وكلمة " فاحشة " تعطينا معنى التزيد في القبح؛ فهي ليست قبحا فقط ،بل تَزَيّ ٌد وإيغال وتعمق في
القبح ومبالغة فيه؛ لن الفاحشة تكون أيضا إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لنه لم يعقد
عليها ،ولم يتخذها زوجا ،وعندما يتزوجها تصير حِلّ له ،لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد في
الفحش.
وإذا كان هذا المر محرما في النثى التي ليست حللً له ويعد فاحشة ،فالرجل غير مخلوق لمثل
شةَ مَا
هذا الفعل ول يمكن أن يصير حللً ،يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركّب...} .أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ
سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ { [العراف]80 :
وقلنا من قبل :إن " من " قد تأتي مرة زائدة ،ويمكنك أن تقول إنها زائدة في كلم النسان ،لكن
من العيب أن تقول ذلك في كلم ربنا .وقوله } :مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ {.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي ما سبقكم أحد من العالمين ،و " أحد " هي الفاعل ،وجاءت " من " لتوضح لنا أنه لم يأت بها
أحد ابتداءً ،مثلما قلنا قديما ،حين تأتي لواحد لتقول له " :ما عندي مال " .فأنت قد نفيت أن يكون
عندك مال يعتد به .وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال ،وقوله الحق...} :مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا
حدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ {[ .العراف]80 :
مِنْ أَ َ
يعني أنه لم يسبقكم أي أحد من بداية ما يقال له أحد ،وسبحانه يريد بذلك أن ينفيها أكثر ،و " من "
التي في قوله } :مّن ا ْلعَاَلمِينَ { هي تبعيضية أي ما سبقكم بها أحد " من بعض " العالمين .فما هذا
المر؟ لقد سماها فاحشة ،وهي تزيد في القبح ووصفة لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها
مسألة فظيعة للغاية.
لننا حين نبحث هذه المسألة بحثا عقليا نجد أن النسان مخلوق كخليفة في الرض وعليه استبقاء
نوعه؛ لن كل فرد له عمر محدود ،ويخلف الناس بعضهم بعضا ،ولبد من بقاء النوع ،وقد
ضمن ال للنسان القوات التي تبقيه ،وحلل له الزواج وسيلة لبقاء النوع ،ومهمة الخلفة تفرض
أن يخلف بعضنا بعضا.
وكل خليفة يحتاج إلى اقتيات وإلى إنجاب .و " القتيات " خلقه ال في الرض التي قدر فيها
أقواتها.
والنوع البشري جعل منه سبحانه الذكر والنثى ومنهما يأتي النجاب الخلفي؛ فهو محمول أولً
في ظهر أبيه نطفة ،ثم في أمه جنينا ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الثنان حتى يبلغ رشده.
وهذه خمس مراحل ،وكل مرحلة منها شاقة ،فحمل الم في الطفل تسعة شهور هو أمر شاق؛ لن
الِنسان منا إن حمل شيئا طوال النهار سيصاب بالتعب ،لكن الم تحمل الجنين تسعة أشهر ،وأراد
ال أن يكون الحمل انسيابيا بمعنى أن الجنين في نشأته الولى ل يبلغ وزنه إل أقل القليل ،ثم
يكبر بهدوء وبطء لمدة تسعة شهور حتى يكتمل نموه.
وهذا الجنين كان صغيرا في بدء تكوينه ،ثم صار وزنه غالبا ثلثة كيلو جرام في يوم ولدته،
وبين بدء تكوينه إلى لحظة ميلده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجيا ،وبشكل
انسيابي ،فهو ل يزيد في الوزن كل ساعة ،بل ينمو في كل جزء من المليون من الثانية بمقدار
يناسب هذا الجزء من الثانية ،وهذا يعني أن الجنين ينمو انسيابيا بما يناسب الزمن.
نلحظ ذلك أيضا في أثناء التدريب على رياضة حمل الثقال أنهم ل يدربون اللعب الناشئ على
حمل مائة كيلو جرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرين كيلو جراما في البداية ،ثم يزاد
الحمل تباعا بما ل يجعل حامل الثقال في عنت ،ويسمون ذلك :انسياب التدريب؛ لن حمل هذه
الثقال يحتاج إلى تعود ،ولهذا ل يتم تدريبه على حمل الثقال فجأة ،بل بانسياب بحيث ل يدرك
الزمن مع الحركة ،كذلك النمو ،فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه ،وسأقدر جدلً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنك ظللت تنظر إليه دائما ،فهو ل يكبر في نظرك أبدا؛ لنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك،
لكنك لو غبت شهرا عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه ،وهذا النمو الزائد قد تجمع في الزمن
الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك.
ومن لطف ال -إذن -في الحمل أن الجنين ينمو انسيابيا ،ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء
الحمل إلى آخر يوم فيه ،وترى الم الحامل ،وهي تسير بوهن وتبطئ في حركتها ،ثم يأتي الميلد
مصحوبا بمتاعب الولدة وآلمها ،وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه وأبيه ،ويأخذ سنوات
إلى أن يبلغ الرشد .ونعلم أن أطول الجناس طفولة هو النسان ،ولذلك نجد الب الذي يريد
النجاب يتحمل مع الم متاعب التربية ،وقد قرن ال هذا المر بشهوة ،وهي أعنف شهوة تأتي
من الِنسان ،وبعد ميلد الطفل نجد المرأة تقول :لن أحمل مرة أخرى ،ولكنها تحمل بعد ذلك.
إذن كأن الشهوة هي الطُعم الموضوع في المصيدة ليأتي بالصيد وهو الِنجاب؛ لذلك قرن الحق
الِنجاب بالشهوة لنقبل عليها ،وبعد أن نقبل عليها ،ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربي
الولد .فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الِنجاب والمتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون،
لنك ستأخذ اللذة بدون الِنجاب ،وإذا تعطل الِنجاب تعطلت خلفة الرض ،والشيء الخر أن
الرجل في الجماع يلعب دور الفاعل ،وفي الشذوذ وهو العملية المضادة التي فعلها قوم لوط ينقلب
حدٍ
حشَةَ مَا سَ َبقَكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ
الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلً } .وَلُوطا ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَا ِ
مّن ا ْلعَاَلمِينَ { [العراف]80 :
والفاحشة هي العملية الجنسية الشاذة ،ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم
شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ { يعرفون ما فعلوا.
بالفطرة ،فساعة يقول } :أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ
وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم ،فقد جاء بعدها بالقول
ش ْه َوةً{ ...
الواضح } :إِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ
()1023 /
ش ْه َوةً مِنْ دُونِ النّسَاءِ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ ُمسْ ِرفُونَ ()81
إِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ
والِسراف هو تجاوز الحد ،وال قد جعل للشهوة لديك مصرفا طبيعيا منجبا ،وحيث تأخذ أكثر من
ذلك تكون قد تجاوزت الحد ،ولقد جعل ال للرجل امرأة من جنس البشر وجعلها وعاء للِنجاب،
وتعطيك الشهوة وتعطيها أنت الشهوة ،وتعطيك الِنجاب ،وتشتركان من بعد ذلك في رعاية
الولد .وأي خروج عما حدده ال يكون الدافع إليه هو الشهوة فحسب لكي ينبغي أن يكون الدافع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى هذه العملية مع النثى هو الشهوة والنجاب معا؛ لبقاء النوع ،ولذلك وصف الحق فعل قوم
لوطَ ...{ :بلْ أَنْ ُتمْ َقوْمٌ مّسْ ِرفُونَ } .ويأتي الحق سبحانه بما أجابوا به عن سؤال سيدنا لوطَ { :ومَا
جوَابَ َق ْومِهِ} ...
كَانَ َ
()1024 /
طهّرُونَ ()82
جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّا أَنْ قَالُوا أَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ قَرْيَ ِت ُكمْ إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ
َومَا كَانَ َ
وبذلك تمادى هؤلء القوم رافضين أن يقبح أحد لهم الشذوذ؛ لذلك قالوا { :أَخْ ِرجُوهُمْ مّن
قَرْيَ ِتكُمْ.} ...
وما هي الحجة التي من أجلها إخراج لوط والذين آمنوا معه من القرية؟ {...أَخْ ِرجُوهُمْ مّن قَرْيَ ِت ُكمْ
طهّرُونَ } [العراف]82 :
إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ
فهل التطهر عيب! ل ،لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها ،ويرفضون الخروج منها ،لذلك كرهوا
التطهر .والمثال على ذلك حين نجد شابا يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره ،لكنه
وجدهم يشربون الخمور ،فنصحهم بالبتعاد عنه ،ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة
الخوض في أعراض الناس ،لكن جماعة الصدقاء كرهت وجوده بينهم لنه لم يألف الفساد
فيقولون :لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف ،وكأن هذه الصفات صارت سُبة في نظر
أصحاب المزاج المنحرف ،مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة ،وإن خرج إلى النظافة
يموت.
ويقول الحق بعد ذلك { :فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ} ...
()1025 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على أن أهل البيت آمنوا بما قاله لوط وكذلك التباع أيضا { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ
ا ْلغَابِرِينَ }.
إذن كان مع لوط أيضا بعض من أهله وبعض من التباع ،وكانوا من المتطهرين ،والتطهر هو
أن يترفع النسان عن الرجس والسوء .ولذلك نجد سيدنا شعيبا حين ينصح وقومه {:فََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ
وَا ْلمِيزَانَ وَلَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ َأشْيَاءَ ُهمْ[} ...العراف]85 :
ويتعجب القوم سائلين شعيباَ {:أصَلَاو ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ أَن نّتْ ُركَ مَا َيعْ ُبدُ ءابَاؤُنَآ[} ...هود]87 :
إنهم يتعجبون من أن الصلة تنهى عن ذلك ،لقد أعمى ضللهم بصيرتهم ،فلم يعرفوا أن الصلة
تنهى عن كل شيء .وكذلك فعل بعض من الكافرين حين اتهموا سيدنا رسول ال بأنه مجنون{:
َوقَالُواْ ياأَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َلمَجْنُونٌ }[الحجر]6 :
ومن قولهم يتأكد غباء تفكيرهم ،فماداموا قد قالوا { :نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ } فمن الذي نزل هذا الذكر؟،
والذكر هو القرآن ،والذي نزله هو ال -سبحانه وتعالى -فكيف يعترفون بالقرآن كذكر ،ثم
يتهمون الرسول بأنه " مجنون "؟ ،لنهم ماداموا قد قالوا عن القرآن إنه ذكر ،وإنه قد نزل عليه،
ولم يأت به من عنده ،فكيف يكون مجنونا؟ إنهم هم الكاذبون ،وقولهم يؤكد أن فكرهم نازل هابط.
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق يقول سبحانه { :فَأَنجَيْنَا ُه وَأَهَْلهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ
كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ } [العراف]83 :
إن إمرأة سيدنا لوط لم تدخل في النجاء لنها من الغابرين ،و " غبر " تأتي لمعان متعددة ،فهي
تعني إقامة ومكثا بالمكان ،أو تعني أي شيء مضى ،كما يقال :هذا الشيء غبرت أيامه؛ أي
مضت أيامه ،ولسائل أن يقول :كيف تأتي الكلمة الواحدة للمعنى ونقيضه؟ فغبر تعني بقي ،وغبر
أيضا تعني مضى وانتهى .نقول :إن المعنى ملتق هنا في هذه الية ،فمادام الحق ينجيه من العذاب
الذي نزل على قوم لوط في القرية فنجد زوجته لم تخرج معه ،بل بقيت في المكان الذي نزل فيه
العذاب ،وبقيت في الماضي ،وهكذا يكون المعنى ملتقيا .فإن قلت مع الباقين الذين آتاهم العذاب
فهذا صحيح .وإن قلت إنها صارت تاريخا مضى فهذا صحيح أيضاِ { :إلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ
ا ْلغَابِرِينَ }.
ونحن ل ندخل في تفاصل لماذا كانت امراته من الغابرين؛ لن البعض تكلم في حقها بما ل يقال،
وكأن ال يدلس على نبي من أنبيائه ،ل ،نحن ل نأخذ إل ما قاله الحق بأنها كانت مخالفة لمنهجه
وغير مؤمنة به.
ونلحظ أيضا أن الحق تحدث عن امرأة نوح وامرأة لوط في مسألة الكفر؛ فقال {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ َفخَانَتَا ُهمَا} ...
لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ وَامْرََأتَ لُوطٍ كَانَتَا َت ْ
[التحريم]10 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا { وتساءل البعض عن معنى
ودقق النظر في كلمة } تَ ْ
الخيانة وهل المقصود بها الزنا؟ .ونقول :ربنا ل يدلس على نبي له ،لكن أن تؤمن الزوجة أو
تكفر ،فهذه مسألة اختيارية .وكأن ال سبحانه يوضح لنا أن الرسول مع أنه رسول من ال إل أنه
ل يستطيع أن يفرض إيمانا على امرأته؛ فالمسألة هي حرية العتقاد .وانظر إلى التعبير القرآني:
ح وَامْرََأتَ لُوطٍ {.
} ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ
حتَ عَ ْبدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
إياك أن تظن أن أيّا منهما متكبرة على زوجها؛ لن الحق يقول } :كَانَتَا َت ْ
حتَ عَبْدَيْنِ { لكن الِيمان
{ أي أن إمرة وقوامة الرجل مؤكدة عليها ،يشير إلى ذلك قوله } :كَانَتَا َت ْ
هو مسالة اختيار ،وهذا الختيار متروك لكل إنسان ،وأكد الحق ذلك في مسألة ابن سيدنا نوح{:
إِنّهُ لَ ْيسَ مِنْ أَهِْلكَ }[هود]46 :
وحاول البعض أن يلصق تهمة الزنا بامرأة نوح وامرأة لوط ،وهم في ذلك يجانبون الصدق ،إنه
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ
محض افتراء ،وقد نبهنا الحق إلى ذلك فقال عن امرأة نوح وامرأة لوط {:كَانَتَا َت ْ
عِبَادِنَا }[ التحريم]10 :
ولنفهم أن الختيار في العقيدة هو الذي جعلهما من الكافرين ،وأن الرسولين نوحا ولوطا لم
يستطيعا إدخال اليمان في قلبي الزوجتين؛ حتى يتأكد لدينا أن العقيدة ل يقدر عليها إل الِنسان
عوْنَ ِإذْ قَاَلتْ
نفسه ،ولذلك ضرب سبحانه لنا مثلً آخرَ {:وضَرَبَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرََأتَ فِرْ َ
عمَلِ ِه وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[التحريم:
ن وَ َ
عوْ َ
َربّ ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي ا ْلجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن فِرْ َ
]11
فهذه زوجة فرعون المتجبر؛ الذي " ادّعى اللوهية " ،لكنه ل يقدر أن يمنع امرأته من أن تؤمن
بال ،وهكذا نجد نبيّا ل يقدر أن يقنع امرأته بالِيمان ،ونجد مدّعي اللوهية عاجزا عن أن يجعل
امرأته كافرة مثله ،وهذا يدل على أن العقيدة أمر اختياري محمي بكل أنواع الحماية؛ حتى ل
يختار الِنسان دينه إل على أساس من اقتناعه ل على أساس قهره.
عمْرَانَ[} ...التحريم]12 :
وضرب ال مثلً آخرَ {:ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ
ونلحظ أن الحق لم يأت بأسماء زوجتي نوح ولوط ،وكذلك لم يأت باسم امرأة فرعون ،لكنه
أورد لنا اسم مريم واسم والدها .فلماذا كان الِبهام أولً؟ لنعلم أنه من الجائز جدّا أن يحصل مثل
هذا المر لي امرأة ،فقد تكون تحت جبار وكافر ،وتكون هي مؤمنة ،وقد تكون تحت عبد مؤمن
ول يلمس الِيمان قلبها } .فَأَنجَيْنَا ُه وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَ َتهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ {[ .العراف]83 :
فكلمة " أنجيناه " تشير إلى أن عذابا سيقع في المكان الذي فيه قوم لوط ،ولنه سبحانه شاء أن
يعذب جماعة ول يعذب جماعة أخرى ،فلبد أن يدفع الجماعة التي كتب لها النجاة إلى الخروج.
طهّرُونَ }
وهذا الخروج أراده لهم من يكرهونهم ،فقد قالواَ... {:أخْرِجُوهُمْ مّن قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ
[العراف]82 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن ربنا هو الذي أخرجهم ،والِخراج كان من العذاب الذي نزل بهؤلء المجرمين؛ إنه كان
لِنجاء لوط وأهله مما نزل بهؤلء الفجرة.
ويأتي العذاب من الحق } :وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ مّطَرا فَانْظُرْ{ ...
()1026 /
وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ َمطَرًا فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ ()84
فهل كان ذلك المطر مثل المطر الذي ينزل عادة؟ ل ،بل هو مطر من نوع آخر .فسبحانه يقول{:
س ّومَةً عِندَ رَ ّبكَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ }[الذاريات]34-33 :
سلَ عَلَ ْيهِمْ حِجَا َرةً مّن طِينٍ * مّ َ
لِنُرْ ِ
يقول الحق :إنه سبعذبهم بالمطر ،فلننتبه أنه ليس المطر التقليدي ،بل إنه يعذبهم ويستأصلهم بنوع
آخر من المطر.
وقوله " :انظر " أي فاعتبر يا من تسمع هذا النص ،وهذه القصة تبين وتوضح أن ال ل يدع
المجرمين يصادمون دعوة ال على لسان رسله دون عقاب.
شعَيْبا} ...
ويقول سبحانه { :وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَا ُهمْ ُ
()1027 /
شعَيْبًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَاءَ ْت ُكمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَ ّبكُمْ فََأ ْوفُوا
وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ
حهَا ذَِل ُكمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ
ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ وَلَا تَ ْبخَسُوا النّاسَ أَشْيَا َءهُ ْم وَلَا ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْلَا ِ
كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()85
و " مدين " هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء واستقر في هذا المكان ،فهو علم على شخصه،
وعلم على المكان الذي أقام فيه وسمي المكان باسمه ،فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة
اسمه .إذن فـ " مدين " اسم عََلمٌ على ابن إبراهيم ،وأطلق على المكان الذي استقر فيه من طور
شعَيْبا }.
سيناء إلى الفرات ،وأطلق على القبيلة { :وَإِلَىا َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ
الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر " أخ " ليبين لك؛ أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى؛
لنهم إخوة له ومأنوس بهم ،وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شيء ،وكان مدين قد تزوج من رقبة
ابنة سيدنا لوط ،وحين تكاثر الثنان صاروا قبيلة ،ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يبلغها كل رسول { :يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ }.
والعبادة هي الطاعة للمر والطاعة للنهي ،وأنت ل تطيع أمر آمر ول نهي ناه إل إذا كان أعلى
منك ،لنه إن كان مساويا لك ،فبعد أن يقول لك " :افعل كذا " ستسأله أنت :لماذا؟ ،وبعد أن ينهاك
عن شيء ستسأله أيضا :لماذا؟ .لكن الب حينما يقول لطفله :أنت ل تفعل الشيء الفلني ،فالبن
ل يناقش؛ لنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه ،وحين يكبر الطفل فهو يناقش؛ لن
شعَيْبا قَالَ يَا َقوْمِ
ذاتيته تتكون ،ويريد أن يعرف المر الذي سيقدم عليه { .وَإِلَىا َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ
اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ ِإلَـاهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَآءَ ْتكُمْ بَيّ َنةٌ مّن رّ ّبكُمْ[ } ...العراف]85 :
ومادام قد قال لهم { :اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ } فهو رسول قادم ومرسل من ال ،ول بد
أن تكون معجزة يثبتها ،إل أن شعيبا لم يأت لنا بالمعجزة ،إنما جاء بالبينةَ { .قدْ جَآءَ ْتكُمْ بَيّنَةٌ مّن
رّ ّبكُمْ فََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ[ } ...العراف]85 :
لن كل المعاصي والكفر تدفع إلى الخلل في الكيل والميزان ،وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه
فلبد أن الخلل في الكيل والميزان كان هو المر الشائع فيهم .فيأتي ليعالج المر الشائع .وهم
كانوا يبخسون الكيل والميزان.
ويظن الناس في ظاهر المر أنها عملية سهلة ،وأن القبح فيها قليل ،والختلس فيها هين يسير،
فحين يبخس في الميزان ولو بجزء قليل ،إنما يأخذ لنفسه في آخر المر جزءا كبيرا .وأنت ساعة
تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك في من يشتري .وستذهب أنت بعد ذلك لتشتري من أناس
كثيرين سيفعلون مثلما فعلت ،فإذا ما وفيت الكيل والميزان ،فأنت تفعل ما هو في مصلحتك ،لنك
تنشر العدل السلوكي بين الناس بادئا بنفسك ،ومصالحك كلها مع الخرين.
إنك حين تبيع أي سلعة ولو كانت بلحا وتنقص في الميزان ،وستحقق لنفسك ربحا ليس فيه حق،
وإن كنت تكيل قمحا لتبيعه وأنقصت الكيل ،فأنت تأخذ ما ليس لك ،والقمح والبلح هما بعض من
مقومات حياتك؛ لنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن ،وعند من يكيل ،فإن أنقصت الميزان أو
الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك ،وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاما.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حبا واحترا ًم للمر العلى ،وكذلك ليخافوا من جبروته
سبحانه .وبعد ذلك ضرورة يكون المر بالوفاء بالكيل والميزان ،والزجر عن أن يبخسوا الناس
حهَا { ،
أشياءهم ،ثم النهي والتحذير من الِفساد في الرض } َولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ
والِصلح الذي يطلبه ال منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه
جميل.
مثال ذلك الهواء وهو العنصر الول في الحياة المسخرة لك؛ يصرّفه سبحانه حتى ل يفسد.
والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب؛ إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء ،ثم القوت الذي
يخرجه لك من الرض .والمواشي التي تأخذ منها اللبن ،والوبار ،والصواف ،والجلود ،كل ذلك
سخره ال لك ،وهذا إصلح في الرض ،لكن هل هذه كل المقومات الساسية؟ ل؛ لنه إن وجدت
كل هذه المقومات الساسية ثم وجد الغصب ،والسرقة ،والرشوة ،والختلس ،فسيفسد كل شيء،
ول يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سويا إل الدين؛ لنه كمنهج يمنع الِفساد في الرضَ } .قدْ
ن َولَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ أَشْيَا َءهُ ْم َولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَرْضِ
ل وَا ْلمِيزَا َ
جَآءَ ْتكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّ ّب ُكمْ فََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْي َ
حهَا[ { ...العراف]85 :
َبعْدَ ِإصْلَ ِ
إذن فهذه الشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي المر بها ،ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو أل
نبخس الناس أشياءهم وأل نفسد في الرض بعد إصلحها ،كل ذلك يجمع المنهج .أوامر ونواهي،
وقد يبدو في ظاهر المر أنها مسائل تقيد حرية النسان ،فنقول :ل تنظر إلى نفسك أيها الِنسان
وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع ،فأنت ل تملك من مصالحك إل أمرا واحدا ،وهذا المر الذي
تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الشياء عندك ،ولكن المور الخرى التي تحتاج إليها هي بيد
غيرك ،فإن أنت وفيت الكيل والميزان.
فذلك خير لك؛ فالذي يقيس لك القماش ل يغشك ،والذي يزن لك ما ليس عندك ل يغشك ،والذي
يكيل لك الذي ليس عندك ل يغشك ،إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك ،وجميع الناس
منهيون أن يفعلوا ذلك معك ،وبذلك تكون أن الكاسب.
وإذا جئت إلى قوله تعالى } :وَلَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ َأشْيَاءَ ُهمْ { ،فأنت مأمور أل تبخس الناس
أشياءهم ،وكل الناس مأمورون أل يبخسوك شيئا ،وإذا أفسدت في الرض بعد إصلحها فالناس
مأمورون أيضا أل يفسدوا هذه الرض وبذلك تكون احظ منهم في كل شيء .ولذلك يجب على
كل مكلف حين يستقبل تكليفا قد يكون شاقا على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه :إياك
أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك ،ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه :إياك أن تنظر إلى
التكليف لك :لتنظر إلى محارم غيرك ،فقد أمر غيرك أل ننظر محارمك ،وفي هذا عزة لك .وإذا
أمرك التكليف أل تضع يدك في جيب غيرك وتسرق ،فقد أمر كل الناس أل يضعوا أيديهم في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جيوبك ليسرقوك ،وبهذا نعيش في أمان.
وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول :مالي وتعبي وعرقي؛ لن
المال مال ال ،وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إل توجيه الحركة ،والحركة تكون بطاقة مخلوقة ل،
والعقل الذي خطط مخلوق ل ،والنفعال الذي انفعل لك في الرض من خلق ال ،ولكن الحق
احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة .فإياك أن تقول :أنه يأخذ مني،
لماذا؟ لن عالم الغيار باد وظاهر أمامك ،وكم رأيت من قوي ضعف ،ومن غني افتقر ،فإذا كان
سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقويه ،فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك ،وفي ذلك تأمين
حياتك؛ لنك تعيش في مجتمع فل تأس على نفسك إن مرت بك الغيار لن مجتمعك اليماني لن
ضعَافا خَافُواْ
يتركك ،أنت أو أولدك ،ويقول الحق {:وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ
عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء]9 :
فإن أردت أن تطمئن على أولدك الصغار بعد موتك فانظر لليتام في مجتمعك وكن أبا لهم،
وحين تصير أنت أبا لهم ،وهذا أب لهم ،وذلك أب لهم ،سيشعر اليتيم أنه فقد أبا واحدا ،لكنه يحيا
في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين آباء ،فل يحزن ،وكذلك لن تخاف على أولدك إن
صاروا أيتاما بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك؛ لنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم.
ولكنك تحزن عندما ترى يتيما مضيعا في مجتمع ل يقوم على شأنه وتقول لنفسك :أنا إن مت
سيضيع أبنائي هكذا.
وهكذا تكون تكاليف اليمان هي تأمينا للحياة .ومثال ذلك حين نقول للمرأة :تحجبي ،ول تبدي
زينتك لغير محارمك ،قد تظن المرأة في ظاهر المر أننا ضيقنا على حريتها ،لنها تنسى أن
المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة ،لنها حين تتزوج صغيرة ،ثم يصل عمرها فوق الربعين ويتغير
شكلها من متاعب الحمل وتربية البناء ،ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه
وتصرفه عن زوجته ،وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها ،وغير الراغب فيها .فالشرع قد
أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة؛ ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها .فإن
منعها وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة؛ كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة.
إذن فإيفاء الكيل ،وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الفساد في الرض بعد إصلحها خير
للجميع في الدنيا ،بالضافة إلى خير الخرة ،ولذلك يذيل الحق الية الكريمة بقوله...} :ذاِلكُمْ خَيْرٌ
ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ {[ .العراف]85 :
و " ذلكم " إشارة إلى ما سبق من المر بعبادة ال فل إله غيره وإلى المر باستيفاء الكيل
والميزان ،وأل نبخس الناس أشياءهم ،وأل نفسد في الرض بعد إصلحها ،ووضع الحق ذلك في
إطار } إِن كُن ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ { على الرغم من أن الخير سيأتي أيضا لغير المؤمن ،وهكذا تكون كلمة "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خير " تشمل خيرا في الدنيا ،وخيرا في الخرة للمؤمن فقط .أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا
فقط ،ول خير له في الخرة ،فإن كنتم مؤمنين فسيضاعف الخير لكم ليصير خيرا دائما في الدنيا
والخرة.
ل صِرَاطٍ تُوعِدُونَ{ ...
ويقول الحق بعد ذلكَ } :ولَ َتقْعُدُواْ ِب ُك ّ
()1028 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعلم أن كل ردع ،وكل توجيه يهدف إلى أمرين اثنين :ترغيب وترهيب ،وعلى سبيل المثال نجد
المدرس يقول للتلميذ :من يجتهد فسنعطيه جائزة ،وهذا ترغيب ،ويضيف الستاذ للتلميذ :ومن
يقصر في دروسه فسنفصله من المدرسة؛ وهذا ترهيب .وما دام الناس صالحين لعمل الخير
ولعمل الشر بحكم الختيار المخلوق فيهم ل فل بد من مواجهتهم بالمرين بالترغيب في الخير
والترهيب من الشر.
والحق هنا يقول في الترغيب { :وَا ْذكُرُواْ ِإذْ كُنْتُمْ قَلِيلً َفكَثّ َركُمْ }.
وكأنه يطالبهم بأن يكونوا أصحاب ذوق وأدب ،فنحن نعلم أن مدين تزوج وأنجب عددا من الذرية
وكانوا قلة في العدد فكثرهم حتى صاروا قبيلة ،وكانوا ضعافا فقواهم ،وكانوا فقراء فأغناهم ،فمن
صنع فيكم ولكم كل هذه المسائل أل يصح أن تطيعوا أوامره .كان عليكم أن تطيعوا أوامره .وهذا
ترغيب وتحنين.
ونعلم أن شعيبا هو خامس نبي جاء بعد نوح ،وهود ،وصالح ،ولوط .لذلك يذكرهم الحق بما
حدث لمن كذبوا النبياء الربعة السابقين .وقد يكون قوم نوح معذورين لنهم كانوا البداية ،فلم
يسبقهم من أخذ بالعذاب لتكذيب رسلهم ،ثم صارت من بعد ذلك قاعدة هي أن من يكذب الرسل
خذْنَا بِذَن ِبهِ[} ...العنكبوت]40 :
يلقى العذاب ،مصداقا لقوله الحقَ {:فكُلّ أَ َ
فإذا كان شعيب ينذرهم بأن ينظروا كيف كان عاقبة المفسدين ممن سبقوهم فهذا تذكير بمن
أغرقهم ومن أخذتهم الصيحة ،ومن كفأ وقلب ودمر ديارهم ،ومن جاء لهم بمطر من سجيل ،فإن
لم يعرفوا واجبهم نحو ال الذي أنعم عليهم بأن كانوا قليلً فكثرهم ،فعليهم أن يخافوا عاقبة
المفسدين .إذن فقد جمع لهم بين الترغيب والترهيب.
ويقول الحق بعد ذلك { :وَإِن كَانَ طَآ ِئفَةٌ مّنكُمْ آمَنُواْ} ...
()1029 /
وهذا القول يوضح لنا أن طائفة آمنت ،وطائفة لم تؤمن ،ثم جاء المر للطائفتين ،فأمر المؤمنين
بالصبر تأنيس لهم ،وأمر الكافرين بالصبر تهديد لهم.
وهذه دقة القرآن في الداء وعظمة البيان والبلغة .إذن ،فكلمة :فاصبروا نفعت في التعبير عن
المر بالصبر للذين آمنوا ،ونفعت في كشف المصير الذي ينتظر الذين لم يؤمنوا ،فصبر الكافرين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مآله وعاقبته ،إما أن يخجلوا من أنفسهم فيؤمنوا ،وإما أن يجدوا العذاب ،وصبر المؤمنين يقودهم
إلى الجنة ،وأن الذي يحكم هو ال وهو خير الحاكمين؛ لن المحكوم عليهم بالنسبة له سواء ،فل
أحد منهم له أفضلية على أحد ،ول أحد منهم قريبه ،وإل قرابة القربى والزلفى إليه ،وسبحانه هو
العادل بمطلق العدل ،ول يظلم أحدا.
ويقول الحق بعد ذلك { :قَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ} ...
()1030 /
علمنا من قبل أن المل هم السادة ،والعيان الذين يملون العيون هيبة ،ويملون القلوب هيبة،
ويملون الماكن تحيزا .وقد استكبر المل من قوم شعيب عن اليمان به ،طغوا وهددوه بأن
يخرجوه من أرضهم .وقالوا مثلما قال من سبقوهم .فقد نادى بعض من قوم لوط بأن يخرجوا
جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ َأخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ
لوطا ومن آمن معه من قريتهم .قال تعالىَ {:فمَا كَانَ َ
طهّرُونَ }[النمل]56 :
مّن قَرْيَ ِتكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَ َ
وكلمة " قرية " تأخذ في حياتنا وضعا غير وضعها الحقيقي ،فالقرية الن هي الموقع القل من
المدينة الصغيرة .لكنها كانت قديما البلد الذي توجد فيه كل متطلبات الحياة ،بدليل أنهم كانوا
يقولوا عن مكة " أم القرى " .وقد وضع شعيبا ومن آمن معه بين أمرين :إما أن يخرجوهم حتى
ل يفسدوا من لم يؤمن فيؤمن ،وإما أن يعودوا إلى الملة.
وهنا " لفتة لفظية " أحب أن تنتبهوا إليها في قولهَ { :أوْ لَ َتعُودُنّ فِي مِلّتِنَا } لن العود يقتضي
وجودا سابقا خرج عنه ،ونريد أن نعود إلى الصل ،فهل كان شعيب والذين آمنوا معه على ملتهم
ثم آمنوا والمطلوب منه أنهم يعودون؟
علينا أن ننتبه إلى أن الخطاب هنا يضم شعيبا والذين معه .وقد يصدق أمر العودة إلى الملة
القديمة على الذين مع شعيب ،ولكنها ل تصدق على شعيب لنه نبي مرسل ،وهنا ننتبه أيضا إلى
أن الذي يتكلم هنا هم المل من قوم مدين ،ووضعوا شعيبا والذين آمنوا معه أمام اختيارين :إما
العودة إلى الملة ،وإمّا الخروج ،ونسوا أن الحق قد يشاء تقسيما آخر غير هذين القسمين .فقد
يوجد ويريد سبحانه أمرا ثالثا ل يخرج فيه شعيب والذين آمنوا معه ،وأيضا ل يعودون إلى ملة
الكفر ،كأن تأتي كارثة تمنع ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد عزل المل من قوم شعيب أنفسهم عن المقادير العليا ،لن ال قد يشاء غير هذين المرين ،فقد
يمنعكم أمر فوق طاقتكم أن ُتخْرِجوا؛ شعيبا ومن آمن معه؛ بأن يصيبكم ضعف ل تستطيعون معه
أن تخرجوهم ،أو أن يسلط ال عليكم أمرا يفنيكم وينجي شعيبا والذين آمنوا معه .إذن أنت أيها
الِنسان الحادث ،العاجز ل تفتئت ول تفتري وتختلق على القوة العليا في أنك تخير بين أمرين قد
يكون ل أمر ثالث ل تعلمه ،ويأتي الرد على لسان مَن آمنوا مع شعيب { :قَالَ َأوََلوْ كُنّا كَارِهِينَ }
[العراف]88 :
لقد سأل شعيب والذين معه :أيمكن أن يتم قهر أحد على أن يترك الِيمان إلى الكفر ،كأن الكافرين
قد تناسوا أن التكليف مطمور في الختيار ،فالِنسان يختار بين سبيل الِيمان وسبيل الكفر.
ويتتابع القول من شعيب والذين آمنوا معهَ { :قدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ َكذِبا} ...
()1031 /
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلّ ِتكُمْ َبعْدَ إِذْ َنجّانَا اللّهُ مِ ْنهَا َومَا َيكُونُ لَنَا أَنْ َنعُودَ فِيهَا ِإلّا أَنْ
ق وَأَ ْنتَ
حّشيْءٍ عِ ْلمًا عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِالْ َ
سعَ رَبّنَا ُكلّ َ
يَشَاءَ اللّهُ رَبّنَا وَ ِ
خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ ()89
وقولهم { :قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبا إِنْ عُدْنَا فِي مِلّ ِتكُمْ } أي أنهم يعلمون أن العودة إلى مثل هذه
الملة لون من الكذب المتعمد على ال .لن الكذب أن تقول كلما غير واقع ،وتعلن قضية غير
حقيقية ثم قلت على مقتضى علمك فهذا مطلق كذب .لكن إن كنت عارفا بالحقيقة ثم قلت غيرها
فهذا افتراء واختلق وكذب .والذين آمنوا مع شعيب عليه السلم يعلمون أن الملة القديمة ملة
باطلة ،وهم قد شهدوا مع شعيب حلوة الِيمان بال؛ لذلك رفضوا الكذب المتعمد على ال.
ويقولون بعد ذلكَ { :بعْدَ ِإذْ نَجّانَا اللّهُ مِ ْنهَا َومَا َيكُونُ لَنَآ أَن ّنعُودَ فِيهَآ ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ} ...
[العراف]89 :
قد عرفوا أن التكليف اختيار وهم قد اختاروا الِيمان ،وأقروا وأكدوا إيمانهم بأنه سبحانه له طلقة
القدرة ،فقالواِ { :إلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ } .فمشيئته سبحانه فوق كل مشيئة .ألم يقل رسول ال صلى ال
ب واحدٍ يصرفُه حيث
عليه وسلم " :إن قلوب بني آدم كلّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقَ ْل ٍ
شاء ".
لصْنَامَ[} ...إبراهيم:
وألم يقل سيدنا إبراهيم وهو أبو النبياء والرسل {:وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن ّنعْبُدَ ا َ
]35
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لم يقل :واجنبنا .بل قالها واضحة ودعا ربّه أن يبعده وينأى به وببنيه أن يعبدوا الصنام ،لنه
يعلم طلقة قدرته سبحانه .إذن فمن آمنوا مع شعيب احترموا طلقة القدرة في الحق؛ لذلك قالوا:
{ َومَا َيكُونُ لَنَآ أَن ّنعُودَ فِيهَآ ِإلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ رَبّنَا[ } ...العراف]89 :
ولكن ال ل يشاء لمعصوم أن يعود ،وسبحانه يهدي من آمن بهداية الدللة ويمده بالمزيد من
هداية المعونة إلى الطريق المستقيم.
شيْءٍ عِلْما عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
ويتابع أهل اليمان مع شعيب...{ .وَسِعَ رَبّنَا ُكلّ َ
َق ْومِنَا بِا ْلحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ } [العراف]89 :
جاء قولهم { :عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا } لن خصومهم من المل بقوتهم وبجبروتهم قالوا لهم :انتم بين
أمرين اثنين :إما أن تخرجوا من القرية ،وإما أن تعودوا في ملتنا .وأعلن المؤمنون برسولهم
شعيب :أن العود في الملة ل يكون إل بالختيار وقد اخترنا أل نعود .إذن فليس أمامهم إل
الخراج بالجبار؛ لذلك توكل المؤمنون على ال ليتولهم ،ويمنع عنهم تسلط هؤلء الكافرين.
ق وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ } [العراف]89 :
حّ{ عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِالْ َ
وساعة نسمع كلمة " افتح " أو " فتَح " أو " فَتْح " نفهم أن هناك شيئا مغلقا أو مشكلً ،فإن كان من
المُحسّات يكون الشيء مغلقا والفتح يكون بإزالة الغلق وهي القفال ،وإن كان في المعنويات
فيكون الفتح هو إزالة الشكال ،والفتح الحسي له نظير في القرآن ،وحين نقرأ سورة يوسف نجد
قوله الحق:
عهُمْ وَجَدُواْ ِبضَاعَ َتهُمْ ُر ّدتْ إِلَ ْيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَ ْبغِي هَـا ِذهِ ِبضَاعَتُنَا ُر ّدتْ
{ وََلمّا فَتَحُواْ مَتَا َ
إِلَيْنَا[} ...يوسف]65 :
عهُمْ { تعني أن المتاع الذي معهم كان مغلقا واحتاج إلى فتح حسي ليجدوا
وكلمة } وََلمّا فَتَحُواْ مَتَا َ
بضاعتهم كما هي .وأيضا يقول الحق سبحانه وتعالى {:وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْاْ رَ ّبهُمْ إِلَى اّلجَنّةِ ُزمَرا
حتْ أَ ْبوَا ُبهَا[} ...الزمر]73 :
حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ
ومادام هناك أبواب تفتح فهذا فتح حسي ،وقد يكون الفتح فتح علم مثلما نقول :ربنا فتح علينا
حدّثُو َنهُم ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَآجّوكُم ِبهِ عِنْدَ رَ ّبكُمْ[} ...البقرة:
باليمان والعلم ،ويقول الحق {:أَتُ َ
]76
فما دام ربنا قد علمهم من الكتاب الكثير فهذا فتح علمي .ويكون الفتح بسوق الخير والمداد به.
سكَ َلهَا[} ...فاطر]2 :
حمَةٍ فَلَ ُممْ ِ
والمثال على ذلك قوله الحق {:مّا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّ ْ
سمَآءِ
وكذلك قوله سبحانه {:وَلَوْ أَنّ َأ ْهلَ ا ْلقُرَىا آمَنُو ْا وَا ّتقَواْ َلفَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ
وَالَرْضِ[} ...العراف]96 :
والبركات من السماء كالمطر وهو يأتي من أعلى ،وهو سبب فيما يأتي من السفل أي من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرض.
والفتح أيضا بمعنى إزالة إشكال في قضية بين خصمين ،ففي اليمن حتى الن ،يسمون القاضي
الذي يحكم في قضايا الناس " الفاتح " لنه يزيل الشكالت بين الناس .وقد يكون " الفتح " بمعنى
" النصر " ،مثل قوله الحقَ {:وكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ[} ...البقرة]89 :
لقد كانوا ينتظرون النبي صلى ال عليه وسلم لينتصروا به على الذين كفروا ،ومن الفتح أيضا
الفصل في المر من قوله الحق هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
ق وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ[ { ...العراف.]89 :
وَبَيْنَ َقوْمِنَا بِا ْلحَ ّ
وهذا القول هو دعاء للحق :احكم يا رب بيننا وبين قومنا بالحق بنصر الِيمان وهزيمة الكفر،
وأنت خير الفاتحين فليس لك هوى ضد أحد أو مع أحدٍ من مخلوقاتك.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ{ ...
()1032 /
وهنا يقول المل من قوم مدين لمن آمنوا ولمن كان لديهم الستعداد والتهيؤ للِِيمان محذرين لهم
من اتباع شعيب حتى ل يظل المل والكبراء وحدهم في الضلل:
وساعة نرى " اللم " في " لئن " نعلم أن هنا قَسَما دلّت عليه هذه " اللم " .وهنا أيضا " إن "
الشرطية ،والقسم يحتاج إلى جواب ،والشرط يحتاج كذلك إلى جواب ،فإذا اجتمع شرط وقسم
اكتفينا بالِتيان بجواب المتقدم والسابق منهما ،مثل قولنا " :وال إن فعلت كذا ليكونن كذا " { :لَئِنِ
شعَيْبا إِ ّنكُمْ إِذا لّخَاسِرُونَ }.
اتّ َبعْتُمْ ُ
وماذا سيخسرون؟ سيخسرون لنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون
الميزان ،والقوي يأخذ من الضعيف؛ فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من
تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج .وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف.
()1033 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والرجفة هي الهزّة العنيفة التي ترج الِنسان رجّا غير اختياري ،وصاروا بها جاثمين أي قاعدين
على ركبهم؛ ول حراك بهم؛ ميتين ،وفي هيئة الذلة .وهذا يدل على أن كل منهم ساعة ُأخِذ تذكر
كل ما فعله من كفر وعصيان ،وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول ،وأخذ يوبخ نفسه
ويندم على ما فعل ،ولم تأخذه البهة والستكبار ،لن هناك لحظة تمر على الِنسان ل يقدر فيها
أن يكذب على نفسه ،ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن
ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه ل يجده .ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها
التي يؤمن فيها الفاجر ،لكن هل ينفع إيمانه؟ طبعا ل .في هذه الحالة ل ينفع نفسا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل.
شعَيْبا كَأَن} ...
ويتابع سبحانه وصف ما حدث لهم إثر الرجفة { :الّذِينَ كَذّبُواْ ُ
()1034 /
وغنى بالمكان :أقام به؛ فحين صاروا جاثمين وخلت منهم الديار ،كأنهم لم تكن لهم إقامة إذ
شعَيْبا إِ ّنكُمْ إِذا
استؤصلوا وأهلكوا إهلكا كامل ،وإذا كان هؤلء المكذبون قد قالوا { :لَئِنِ اتّ َبعْتُمْ ُ
شعَيْبا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ }.
لّخَاسِرُونَ } فيكون مآلهم هو ذكره ربنا بقوله { :الّذِينَ كَذّبُواْ ُ
ويتتابع قوله الحق عن سيدنا شعيب { :فَ َتوَلّىا عَ ْنهُ ْم َوقَالَ يا َقوْمِ} ...
()1035 /
و " تولى عنهم " أي تركهم وسار بعيدا عنهم ،وحدثهم متخيلً إياهم { َلقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ ِرسَالَتِ رَبّي
حتُ َلكُمْ } ،فكأن المنظر العاطفي النساني حين رأى كيف أصبحوا ،وتعطف عليهم وأسى
وَ َنصَ ْ
من أجلهم ،لكن يرد هذا التعاطف متسائل متعجبا { َفكَ ْيفَ آسَىا عَلَىا َقوْمٍ كَافِرِينَ }؟ إنهم نوع
من الناس ل يحزن عليهم المؤمن .فما بالنا بنبي ورسول؟ إنه يحدث نفسه وكأنه يقول :ما
قصرت في مهمتي ،بل أبلغتكم رسالتي التي تلقيتها من ال ،والرسالت إذا جمعت فالمقصود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منها أو رسالته ورسالة الرسل السابقين في المور التي لم يحدث فيها نسخ ول تغيير ،أو رسالته
أي في كل أمر بلغ به؛ لنه كان كلما نزل عليه حكم يبلغه لهم .أو أن لكل خير رسالة ،ولكل شر
رسالة ،وقد أبلغهم كل ما وصله من ال ،ولم يقتصر على البلغ بل أضاف عليه النصح ،والنصح
غير البلغ ،فالبلغ أن تقول ما وصلك وينتهي المر ،و " النصح " هو اللحاح عليهم في أن
يثوبوا إلى رشدهم وأن يتبعوا نهج ال.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :ومَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} ...
()1036 /
َومَا أَ ْرسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا َأخَذْنَا َأهَْلهَا بِالْبَأْسَا ِء وَالضّرّاءِ َلعَّلهُمْ َيضّرّعُونَ ()94
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يروح للمسبب ،ولذلك يأخذ سبحانه أية قرية ل تصدق الرسل بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون
وذلك رحمة بهم.
ستْ قُلُو ُبهُمْ[} ...النعام]43 :
ويقول {:وَلَـاكِن َق َ
فهل يتركهم ال في السراء والضراء دائما؟ ل ،فهو سبحانه يجيئهم ويبتليهم بالبأساء والضراء
ليلفتهم إليه ،فإذا لم يلتفتوا إلى ال ،فسبحانه يبدل مكان السيئة الحسنة ،لذلك يقول { :ثُمّ َبدّلْنَا َمكَانَ
السّيّ َئةِ} ...
()1037 /
عفَوْا َوقَالُوا قَدْ مَسّ آَبَاءَنَا الضّرّاءُ وَالسّرّاءُ فََأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَ ًة وَ ُهمْ لَا
حسَنَةَ حَتّى َ
ثُمّ َبدّلْنَا َمكَانَ السّيّ َئةِ الْ َ
شعُرُونَ ()95
يَ ْ
ويعطي سبحانه بعد ذلك لهم الرزق ،والعافية ،والغنى؛ لن الحق إذا أراد أن يأخذ جبارا أخذ
عزيز مقتدر فهو يمهله ،ويرخي له العِنان ليتجبر -كفرعون -من أجل أن يأخذه بغتة ،كأنه
يسقط من أعلى ،فيعليه من أجل أن ينزل به -كما يقولون -على جذور رقبتهُ { :ثمّ بَدّلْنَا َمكَانَ
عفَوْاْ }.
حسَنَةَ حَتّىا َ
السّيّ َئةِ الْ َ
ل وقوة أي أنه ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلّ وكان القصد
عفَوْا) أي كثروا عددا وما ً
(َ
منها أن يلفتهم إليه ،فلم يلتفتوا ،فيمدهم ويعطي لهم العافية وما يسرّهم ،ثم يصيبهم بالعذاب بغتة{ .
عفَوْ ْا ّوقَالُواْ قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآ ُء وَالسّرّآءُ فََأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَ ًة وَ ُهمْ
حسَنَةَ حَتّىا َ
ثُمّ َبدّلْنَا َمكَانَ السّيّ َئةِ الْ َ
شعُرُونَ } [العراف]95 :
لَ َي ْ
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلفة الِنسان في الرض ،وأنه أمده بكل ما
تقوم به حياته ،وأمده بالقيم بواسطة مناهج السماء ،وأنزل المنهج مبينا ما أحل ،وما حرم بعد أن
كانوا يحلون ما حرم ال ،ويحرمون ما أحل ال ،فبيّن لهم الحق أن الذي خلق الخلق عالم بما
يصلحهم فأحله ،وعالم بما يفسدهم فحرّمه ،فليس لكم أن تقترحوا على ال حللً ،ول حراما،
ولكن بعض المشككين في منهج ال قالوا -ومازالوا يقولون :-إذا كان ال قد أحل شيئا وحرم
شيئا فلماذا خلق ما حرم؟ ونقول :لقد خلق سبحانه كل شيء لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب
والكسوة ،فبعض الشياء يكون مخلوقاَ لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك؛ فالبترول مثلً مخلوق
لمهمة أن يوجد طاقة ،لذلك ل نشربه.
والخنزير مخلوق لحكمة ل نعلمها نحن ،وإنما يعلمها من خلق ،لنه من الجائز أن يكون أداة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للتقاط الميكروبات التي تنشأ من عفن الشياء التي يستعملها الناس في حياتهم ،إذن فكل شيء
مخلوق لحكمة ،فل تخرج أنت حكمة الشياء من غير مراد خالقها؛ لن صانع الصنعة هو الذي
يحدد الشيء الذي يوجد وينشئ القوة لها .ونحن نعلم -مثلً -أن أنواع الوقود كثيرة ،فهناك "
البنزين " النقي جدا ويرقمونه برقم ( )1وهو مخصص للطائرة ،ووقود السيارة وهو " البنزين "
رقم ( .)2فإذا استخدمنا وقود ماكينة وآلة بدل ماكينة أخرى أفسدناها .كذلك خلق ال النسان
وسخر له كل المخلوقات وأوضح :هذا يصلح لك مباشرة ،وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير
مباشرة فدعه في مكانه.
وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنة ،ومواقف النار ،ومواقف أصحاب العراف
الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؛ وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظريا ،وإنما
هو واقع كوني أيضا .ففرق بين الشيء يقال نظرا ،والشيء يقع واقعا ،فقص علينا قصص النبياء
حين أرسلهم إلى أقوامهم ،فمن كذب بالرسل أخذه ال أخذ عزيز مقتدر بواقع يشهده الجميع؛ فذكر
نوحا مع قومه ،وذكر عادا وأخاهم هودا ،وذكر ثمود وأخاهم صالحا ،ومدين وأخاهم شعيبا ،وقوم
لوط وسيدنا لوطا.
وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة ،وما حدث للكافرين بالعطب والذلل ،ويوضح الحق سبحانه
وتعالى :أنني آخذ الناس بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ،لن النسان مخلوق أفاض ال عليه
من صفات جلله ،ومن صفات جماله الشيء الكثير ،فال قوي ،وأعطى النسان من قوته .وال
غني وأعطى النسان من غناه ،وال حكيم وأعطى النسان من حكمته ،وال عليم وأعطى النسان
من علمه.
وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم في ال ،فانظر ما علمه لكل خلق ال .ومع ذلك
فعلمهم ناقص .ويريدون إلى العلم الذاتي في الحق سبحانه وتعالى ،وربما غر النسان بالسباب
وهي تستجيب له ،فهو يحرث ويبذر ويروي ،وإذا بالرض تعطيه أكلها .وهو يصنع الشيء
فيستجيب له .كل ذلك قد يغريه بأن الشياء استجابت لذاتيته فيذكره ال :أن أذكر من ذللها لك{.
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق]7-6 :
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
كَلّ إِ ّ
وساعة ما يجد الِنسان أن كل السباب مواتية له فعليه أن يذكر ال .إن الِنسان بمجرد إرادة أن
يقوم من مكانه فهو يقوم .وبمجرد إرادة أن يصفع أحدا فهو يصفعه؛ لن البعاض التي في
الِنسان خاضعة لمراده ،فإذا كانت أبعاضك خاضعة لمراداتك أنت ،وأنت مخلوق ،فكيف ل يكون
الكون كله مرادا للحق بالِرادة؟ فإذا استغنى الِنسان بالسباب ،فالحق يلفته إليه .فالقادر الذي كان
بفتوته يفعل .سلب ال منه القدرة بالمرض؛ فيمد يده ليساعده إنسان على القيام والذي اعتز بشيء
يذله ال بأشياء .لماذا؟ حتى يلفته إلى المسبّب ،فل يُفتن بالسباب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى في كونه عجائب ،ونجد العالم وقد تقدم الن تقدما فضائيّا واسعا،
واستطاع الِنسان أن يكتشف من أسرار كون ال ما شاء ،ولكن الحق يصنع لهم أحيانا أشياء
تدلهم على أنهم ل يزالون عاجزين .فبعد أن تكتمل لهم صناعة اللت المتقدمة يكتشفون خطأ
واحدا يفسد اللة ويحطمها ،وتهب زوبعة أو إعصار يدمر كل شيء ،أو يشتعل حريق هائل .فهل
يريد ال بكونه فسادا وقد خلقه بالصلح؟ ل ،إنه يريد أن يلفتنا إلى أل نغتر بما أوتينا من أسباب.
فالذين عملوا " الرادار " لكي يبين لهم الحدث قبل أن يقع ،يفاجئهم ربنا -أحيانا -بأشياء تعطل
عمل " الرادار " ،فيعرفون أنهم مازالوا ناقصي علم.
إذن فالخذ بالبأساء ،والخذ بالضراء ،سنة كونية الِنسان فاهما وعالما أنه خليفة في الرض ل.
وفساد الِنسان أن يعلم أنه أصيل في الكون ،فلو كنت أصيلً في الكون فحافظ على نفسك في
الكون ول تفارقه بالموت.
وإن كنت أصيلً في الكون فذلل الكون لمراداتك .ولن تستطيع؛ لن هناك طبائع في الكون تتمرد
عليك ،ول تقدر عليها أبدا.
وترى أكثر من مفاعل ذري ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا؟! ليدل على طلقة القدرة وأن يد ال
فوق أيديهم ،إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء ،وبالشيء الذي نقول إنه شر إنما هو طلب اعتدال
للِنسان الخليفة ،حتى إذا اغتر يرده ال سبحانه وتعالى من السباب إلى المسبّب .وحين يأخذ ال
قوما بالبأساء التي تصيب الِنسان في غير ذاته :مال يضيع ،ولد يفقد ،بيت يهدم ،أو يأخذهم
بالضراء وهي الشياء التي تصيب الِنسان في ذاته ،فلذلك ليسلب منهم أبهة الكبرياء ،فل يجدون
ملجأ إل أن يخضعوا لرب الرض والسماء ،ولكي يتضرعوا إلى ال ،ومعنى التضرع -كما
ج ِد وينفع فيهم هذا ،وقالوا :ل ،إن البأساء والضراء مجرد سنن
عرفنا -إظهار الذلة ل .وإذا لم يُ ْ
كونية ،وقد تأتي للناس في أي زمان أو مكان .نقول لهم :صحيح البأساء والضراء سنن كونية من
مكوّن أعلى من الكون ،فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم
شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ
ال بالنعماء ،فهو القائل {:فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
أُوتُواْ َأخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }[النعام]44 :
فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاما يناسب جرمهم ،ولو أنه
أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما
سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة.
وقديما قلنا تعبيرا ريفيّا هو :إن الِنسان إن أراد أن يوقع بآخر ل يوقعه من على حصيرة ،إنما
يوقعه من مكان عال .وربنا يعطي للمنكرين الكثير ويمدهم في طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز
مقتدر .وقد دلت وقائع الحياة على هذا ،ورأينا أكثر من ظالم وجبار في الرض والحق يملي له
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في العلو ويمد له في هذه السباب ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر ،ولو بواسطة حارسهُ } .ثمّ بَدّلْنَا
خذْنَا ُهمْ َبغْتَ ًة وَهُمْ لَ
عفَوْ ْا ّوقَالُواْ قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآ ُء وَالسّرّآءُ فَأَ َ
حسَنَةَ حَتّىا َ
َمكَانَ السّيّئَةِ الْ َ
شعُرُونَ { [العراف]95 :
يَ ْ
وقد يضبط الِنسان أشياء ُتعْلمه بواقع الشر في مستقبله .مثلها مثل " الرادار " الذي يكشف لنا أي
شعُرُونَ { أي ليس عندهم حساب
خطر في الفق قبل أن يأتي ،وحين يقول سبحانه } :وَهُ ْم لَ يَ ْ
ول مقاييس تدلهم على أن شرّا يحيق بهم.
وأنت لو نظرت إلى هذه المسألة لوجدت الِنسان بعقله وفكره الذي لم يسلك فيه طريق ال بل
سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج ال ،وبينما ل يلتفت النسان إلى مجيء الكارثة ،ويتساءل:
لماذا تجري هذه الحيوانات؟! إنه في هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات؛ لن الحيوان من واقع
الحداث في بلد تحدث فيه الزلزل يكون أول خارج من منطقة الزلزال ،إنّ ال قد سلبه هذه
المعرفة حتى تتمكن منه الضربة ،إننا نجد الحمار يجري ليغادر مكان الزلزال ،بينما يظل الِنسان
واقفا حتى يحيق ويحيط به الخطر ،فأي إحساس وأي استشعار عند الحيوان؟ إنه استشعار
غريزي خلقه ربه فيه؛ لنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمة الغرائز.
وما دام الحق قد نبه الِنسان بالبأساء فلم يلتفت ،وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج؛ لذلك يأتي له
الحق ويمد له بالطغيان.
لكن أهل الِيمان أمرهم يختلف ،فيقول سبحانه } :وََلوْ أَنّ َأ ْهلَ ا ْلقُرَى{ ...
()1038 /
أي أنهم لو آمنوا بالموجود العلى ،واتقوا باتباع منهجه أمرا باتباع أمرا ونهيًا تسلم آلتهم ،لن
الصانع من البشر حتى يصنع آلة من اللت ،يحدد ويبيّن الغاية من اللة قبل أن يبتكرها ،ويصمم
لها أسلوب استخدام معين ،وقانون صيانة خاصا لتؤدي مهمتها ،فما بالنا بمن خلق الِنسان ،إذن
فالبشر إذا تركوا رب الِنسان يضع منهج صيانة الِنسان لعاش هذا الِنسان في كل خير،
وسبحانه وتعالى أوضح أنهم إن اتقوا ،تأت لهم بركات من السماء والرض ،فإن أردتها بركات
مادية تجدها في المطر الذي ينزل من أعلى ،وبركات من الرض مثل النبات ،وكذلك كنوزها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي تستنبط منها الكماليات المرادة في الحياة.
وما معنى البركة؟ .البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه خمسون
جنيها ونجده يعيش هو وأولده في رضا وسعادة ،ودون ضيق ،فنتساءل :كيف يعيش؟ ويجيبك:
إنها البركة .وللبركة تفسير كوني لن الناس دائما -كما قلنا سابقا -ينظرون في وارداتهم إلى
رزق الِيجاب ،ويغفلون رزق السلب .رزق الِيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلف الجنيهات
ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم ،ورزق السلب يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف
كثيرة ،كأن يمنحك العافية فل تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علج.
سمَآ ِء وَالَ ْرضِ } أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى القليل الكثير في
إذن فقوله { :بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ
الرزق الحلل ،ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا ،ولذلك سمى المال الذي نخرجه عن
المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة مع أن الزكاة في ظاهرها نقص ،فحين تملك مائة جنيه
وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه يكون قد نقص مالك في الظاهر .وإن أقرضت أحدا بالربا
مائة جنيه فأنت تأخذها منه مائة وعشرة ،لكن الحق سمى النقص في الولى نماء وزكاة ،وسمى
الزيادة في الثانية محقا وسحتا ،وسبحانه قابض باسط { .وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلقُرَىا آمَنُواْ وَا ّتقَواْ َلفَتَحْنَا
خذْنَاهُمْ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ } [العراف]96 :
ض وَلَـاكِن كَذّبُواْ فَأَ َ
سمَآ ِء وَالَرْ ِ
عَلَ ْيهِمْ بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ
إذن فلو أخذ الِنسان قانون صيانته من خالقه لستقامت له كل المور ،لكن الِنسان قد ل يفعل
ذلك .ويقول الحق { :وَلَـاكِن كَذّبُواْ فََأخَذْنَا ُهمْ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }.
وهكذا نعلم أن الخذ ليس عملية جبروت من الخالق ،وإنما هي عدالة منه سبحانه؛ لن الحق لو
لم يؤاخذ المفسدين ،فماذا يقول غير المفسدين؟ .سيقول الواحد منهم :مادمنا قد استوينا والمفسدين،
وحالة المفسدين تسير على ما يرام ،إذن فلفسد أنا أيضا .وذلك يغري غير المفسد بأن يفسد،
ويعطي لنفسه راحتها وشهوتها ،لكن حين يأخذ ال المفسدين بما كانوا يكسبون ،يعلم غير المفسد
أن سوء المصير للمفسد واضح ،فيحفظ نفسه من الزلل.
كان القياس أنه يقول سبحانه :بما كانوا يكتسبون ،لن مسألة الحرام تتطلب انفعالت شتى،
وضربنا المثل من قبل بأن إنسانا يجلس مع زوجته ،وينظر إلى جمالها ويمل عينيه منها ،لكن إن
جلس مع أجنبية وأراد أن يغازلها ليتمتع بحسنها ،فهو يناور ويتحايل ،وتتضارب ملكاته بين
انفعالت شتى ،وهو يختلف في ذلك عن صاحب الحلل الذي تتناسق ملكاته وهو يستمتع بما أحل
له ال ،ولكنْ هؤلء المفسدين تدربوا على الفساد فصار دربة تقرب من الملكة فقال فيهم الحق:
إنهم يكسبون الفساد ،ول يجدون في ارتكابه عنتا.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :أفََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َيهُمْ} ...
()1039 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َأفََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَى أَنْ يَأْتِ َيهُمْ بَ ْأسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَا ِئمُونَ (َ )97أوََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَى أَنْ يَأْتِ َيهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى
وَهُمْ يَ ْلعَبُونَ ()98
ونلحظ وجود ذ " همزة استفهام " و " فاء تعقيب " في قولهَ { :أفََأمِنَ } وهذا يعني أن هناك
معطوفا ومعطوفا عليه ،ثم دخل عليهما الستفهام ،أي أنهم فعلوا وصنعوا من الكفر والعصيان
فأخذناهم بغتة ،أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا وعذابنا بياتا أو ضحى كما صنع بمن
كان قبلهم من المم السابقة؟ هم إذن لم يتذكروا ما حدث للمم السابقة من العذاب والدمار.
ويوضح الحق أن الذين كذبوا من أهل القرى ،هل استطاعوا تأمين أنفسهم فل يأتيهم العذاب بغتة
كما أتى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب؟ والبأس هو الشدة التي يؤاخذ بها
الحق سبحانه المم حين يعزفون عن منهجه .وما الذي جعلهم يأمنون على أنفسهم أن تنزل بهم
أهوال كالتي نزلت بمن سبقهم من المم.
وحين يتكلم الحق عن الحداث فهو يتكلم عما يتطلبه الحداث من زمان ومكان؛ لن كل حدث
لبد له من زمن ولبد له من مكان ،ول يوجد حدث بل زمان ول مكان ،والمكان هنا هو القرى
التي يعيش فيها أهلها ،والزمان هو ما سوف يأتي فيه البأس ،وهو قد يأتي لهم وهم نائمون ،أو
يأتي لهم ضحى وهم يلعبون ،وهذه تعابير إلهية ،والِنسان إذا ما كان في مواجهة الشمس فالدنيا
تكون بالنسبة له نهارا .والمقابل له يكون الليل .وقد يجيء البأس على أهل قرية نهارا ،أو ليلً في
أي وقت من دورة الزمن ،ونعلم أن كل لحظة من اللحظات للشمس تكون لمكان ما في الرض
شروقا ،وتكون لمكان آخر غروبا ،وفي كل لحظة من اللحظات يبدأ يوم ويبدأ ليل ،إذن أنت ل
تأمن يا صاحب النهار أن يأتي البأس ليلً أو نهارا ،وأنت يا صاحب الليل ل تأمن أن يكون البأس
نهارا أو ليلً.
خذْنَاهُمْ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[ العراف:
وأهل القرى هم الذين قال ال فيهم... {:وَلَـاكِن كَذّبُواْ فَأَ َ
]96
وماداموا قد كذبوا فمعنى ذلك أنهم لم يؤمنوا برسول مبلغ عن ال ،وتبعا لذلك لم يؤمنوا بمنهج
يحدد قانون حركتهم بـ " افعل " و " ل تفعل ".
إذن فنهارهم هو حركة غير مجدية ،وغير نافعة ،بل هي لعب في الحياة الدنيا ،وليلهم نوم وفقد
للحركة ،أو عبث ومجون وانحراف ،وكل من يسير على غير منهج ال يقضي ليله نائما أو لهيًا
عاصيّا ،ونهاره لعبا؛ لن عمله مهما عظم ،ليس له مقابل في الخرة من الجزاء الحسن.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :أفََأمِنُواْ َمكْرَ اللّهِ} ...
()1040 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َأفََأمِنُوا َمكْرَ اللّهِ فَلَا يَ ْأمَنُ َمكْرَ اللّهِ إِلّا ا ْل َقوْمُ ا ْلخَاسِرُونَ ()99
و " المن " هو الطمئنان إلى قضية ل تثير مخاوف ول متاعب ،ويقال :فلن " آمن "؛ أي ل
يوجد ما يكدر حياته .والحق يقولَ { :أفََأمِنُواْ َمكْرَ اللّهِ } ونحن نسمع بعض الكلمات حين ينسبها
ال لنفسه نستعظمها ،ونقول :وهل يمكر ربنا؟ لننا ننظر إلى المكر كعملية ل تليق ..وهنا نقول:
انتبه إلى أن القرآن قد قالَ {:ولَ يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بَِأهْلِهِ[} ...فاطر]43 :
إذن ففيه مكر خير ،ولذلك قال الحق... {:وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران]54 :
والمكر أصله اللتفاف .وحين نذهب إلى حديقة أو غابة نجد الشجر ملتف الغصان وكأنه مجدول
بحيث ل تستطيع أن تنسب ورقة في أعلى إلى غصن معين؛ لن الغصان ملفوفة بعضها على
بعض ،وكذلك نرى هذا اللتفاف في النباتات المتسلقة ونجد أغصانها مجدولة كالحبل.
إذن فالمكر مؤداه أن تلف المسائل ،فل تجعلها واضحة .ولكي تتمكن من خصمك فأنت تبيت له
أمرا ل يفطن إليه ،وإذا كان الِنسان من البشر حين يبيت لخيه شرّا ،ويفتنه فتنا يُعمي عليه وجه
الحق وليس عند الِنسان العلم الواسع القوي الذي يمكر به على كل من أمامه من خصوم لنهم
سيمكرون له أيضا.
وإذا كان هناك مكر وتبييت ل يكتشفه أحد فهو مكر وتبييت ال لهل الشر ،وهذا هو مكر الخير؛
لن ال يحمي الوجود من الشر وأهله بإهلكهمَ { .أفََأمِنُواْ َمكْرَ اللّهِ فَلَ يَ ْأمَنُ َمكْرَ اللّهِ ِإلّ ا ْل َقوْمُ
الْخَاسِرُونَ } [العراف]99 :
وهناك من يسأل :هل أمن النبياء مكر ال؟ نقول نعم .لقد آمنوا مكر ال باصطفائهم للرسالة،
وهناك من يسأل :كيف إذن ل يأمن مكر ال إل القوم الخاسرون؟!
نقول :لقد جاء في منهج الرسل جميعا أن الذي يأمن مكر ال هو الخاسر؛ لن ال هو القادر ،وهو
الذي أنزل المنهج ليختار الِنسان به كسب الدنيا والخرة إن عمل به ،وإن لم يعمل به يخسر
طمأنينة الِيمان في الدنيا وإن كسب فيها مال أو جاها أو علما ،ويخسر الخرة أيضا.
ن الَ ْرضَ} ...
ويتابع سبحانهَ { :أوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُو َ
()1041 /
َأوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْدِ أَهِْلهَا أَنْ َلوْ َنشَاءُ َأصَبْنَا ُهمْ بِذُنُو ِبهِ ْم وَنَطْ َبعُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ
س َمعُونَ ()100
لَا يَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن الَ ْرضَ مِن َبعْدِ أَهِْلهَآ }
و { َيهْدِ } أي يبين للذين يرثون الرض طريق الخير ،ومعنى { يَرِثُو َ
أن الرض كانت مملوكة لسواهم ،وهم جاءوا عقبهم .وحين يستقرئ الِنسان الوجود الحضاري
في الكون يجد أن كل حضارة جاءت على أنقاض حضارة ،وما في يدك وملكك جاء على أنقاض
ملك غيرك ،والذي يأتي على أنقاض الغير يسمى إرثا ،ومادمتم قد رأيتم أنكم ورثتم عن غيركم
كان يجب أن يظل في بالكم أن غيركم سيرثكم.
إذن فالمسألة ُدوَلٌ ،ويجب أل يغتر الِنسان بموقع أو منصب ،ونحن نرى في حياتنا من يحتل
منصبا كبيرا ،ثم يُقال ويعزل عن منصبه ،أو يحال إلى التقاعد ويأتي آخر من بعده .ولذلك يقال:
لو دامت لغيرك ما وصلت إليك .فإن كنت صاحب مكانة وقد أحسنت الدخول إلى وضعك وإلى
جاهك ،وإلى منصبك؛ فيجب أن تفطن وتتذكر الخروج قبل الدخول إلى هذا المنصب حتى ل يعز
عليك فراقه يوما.
واحذر أن تحسن الدخول في أمر قبل أن تحاول أن تحسن الخروج منه.
واستمع إلى قول الشاعر في هذا المعنى:إن المير هو الذي يُمسي أميرا يوم عزلهْ إن زال سلطان
ن الَ ْرضَ }.
الِمارة لم يزل سلطانُ فضِلهْوحين يقول الحقَ { :أوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُو َ
نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول ،فلم يقل :أو لم يهد الذين ،بل قال:
{ َي ْهدِ لِلّذِينَ } ،فما الحكمة في ذلك؟ .نعرف أن " الهداية " هي الدللة على الطريق الموصل
للغاية ،وقد تعود فائدته عليك ،أي أنك قد َهدَيْت غيرك لصالحك .وقد تكون الهداية وهي الدللة
على فعل الخير لمر يعود على الذي َهدَى وعلى ال َمهْ ِديّ معا ،لكن إذا كانت الهداية ل تعود إل
لك أنت ،ول تعود على مَن هداك ،أتشك في هدايته لك؟ ل ،إن من حقك أن تشك في الهداية إذا
كان هذا المر يعود على من َهدَى ،أو يعود أمرها على الثنين؛ ففي ذلك شبهة لمصلحة ،لكن إذا
كان المر ل يعود على من َيهْدِي ويعود كله لمن ُيهْدَي فليس في ذلك أدنى شك.
ولذلك يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي:
" ...يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد
ذلك في ملكي شيئا ،يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل
واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ،يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في
صعيد واحد فسألوني ِ فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إل كما ينقص ال َمخْيط
خلَ البحر ".
إذا أُدْ ِ
إذن فحين يهديهم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذي يعود عليه سبحانه من صفات بهذا العمل؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد خلقكم بصفات الكمال فيه ،فلن ينشئ خلقه لكم صفة من صفات الكمال زائدة على ما هو له،
وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى ال َمهْ ِديّ .وبذلك يتأكد قولهَ } :يهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الَرْضَ { ما
ن الَ ْرضَ مِن َبعْدِ َأهِْلهَآ أَن ّلوْ نَشَآءُ َأصَبْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَنَطْبَعُ
هو مصلحتهمَ } .أوَلَمْ َي ْهدِ لِلّذِينَ يَرِثُو َ
س َمعُونَ { [العراف]100 :
عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َفهُ ْم لَ يَ ْ
والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئة يقولّ } :لوْ نَشَآءُ { ويحدد أسباب المشيئة وهو قوله:
} َأصَبْنَا ُهمْ بِذُنُو ِبهِمْ { ،وهكذا نعلم أن المشيئة ليست مشيئة ربنا فقط ل ،بل هي أيضا مشيئة العباد
جمِيعا[} ...الرعد]31 :
الذين ميزهم بالختيار ،وسبحانه يقول {:أَن ّلوْ يَشَآءُ اللّهُ َل َهدَى النّاسَ َ
وما الذي يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعا؟ .ل أحد يمنع الخالق ،ولكنه سبحانه خلق
خلقا مهديين بطبيعتهم ،ل قدرة لهم على المعصية وهم الملئكة ،وجعل سائر أجناس الرض
مسخرة مسبحة ،وذلك يثبت صفة القدرة ،فل يستطيع أحد أن يخرج عن مراد ال ،ولكن هذا ل
يعطي صفة المحبوبية للمشرع العلى ،ثم إنه -سبحانه -خلق خلقا لهم اختيار في أن يطيعوا
وأن يعصوا.
فالمخلوق الذي اختصه سبحانه بقدرة الختيار في أن يؤمن وأن يكفر ،وأن يطيع وأن يعصي ،ثم
آمن يكون إيمانه دليل على إثبات صفات المحبوبية للِله.
إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة ،والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع العلى،
س َمعُونَ
ويتابع سبحانه في الية نفسها } :أَن ّلوْ َنشَآءُ َأصَبْنَا ُهمْ بِذُنُو ِبهِ ْم وَ َنطْبَعُ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَ َي ْ
{[ .العراف]100 :
ونلحظ أن الحق لم يقل أنه لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمة منه ،بل جعل العقاب بالذنوب
التي يختارونها هم ،وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للختيار .وسبق أن تكلمنا في أول
سورة البقرة .عن كلمة " الطبع "؛ وهو الختم {:خَتَمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ[} ...البقرة]7 :
لن القلوب وعاء اليقين الِيماني؛ فحين يمل إنسان وعاء اليقين الكفر ،فهذا يعني أنه عشق الكفر
وجعله عقيدة عنده؛ لذلك يساعده ال على مراده ،وكأنه يقول له :أنا سأكون على مرادك ،ولذلك
أطبع على قلبك فل يخرج ما فيه من الكفر ،ول يدخل فيه ما خرج منه من الِيمان الفطري الذي
خلق ال الناس عليه .لنك أنت قد سَبّقت ووضعت في قلبك قضية يقينية على غير إيمان؛ لن
أصول الِيمان أن تُخْرِج ما في قلبك من أي اعتقاد ،ثم تستقبل الِيمان بال ،ولكنك تستقبل الكفر
وترجحه على الِيمان.
إن ال سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه :قلب يؤمن ،وقلب ل يؤمن ،بل جعل قلبا
واحدا ،والقلب الواحد حيز ،والحيز -كما قلنا -ل تداخل للمحيّز فيه؛ فحين نأتي بزجاجة فارغة
ونقول :إنها " فارغة " فالذي يدل على كذب هذه الكلمة أننا حين نضع فيها المياه تخرج منها
فقاقيع الهواء ،وخروج فقاقيع الهواء هو الذي يسمح بدخول المياه فيها؛ لن الزجاجة ليست
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فارغة ،بل يخيل لنا ذلك؛ لن الهواء غير مرئي لنا.
ولو كانت الزجاجة مفرغة من الهواء دون إعداد دقيق قي صناعتها لتلك المهمة لكان من الحتمي
أن تنكسر .والقلب كذلك له حيز إن دخل فيه الِيمان بال ل يسع الكفر ،وإن دخل فيه الكفر -
والعياذ بال ل يسع الِيمان ،والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب ،ثم يدرس هذه ويدرس
تلك ،وما يراه مفيدا لحياته ولخرته يسمح له بالدخول .أما أن تناقش قضية الِيمان بيقين قلبي
بالكفر فهذه عملية ل تؤدي إلى نتيجةَ } .أوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الَ ْرضَ مِن َبعْدِ أَهِْلهَآ أَن ّلوْ َنشَآءُ
س َمعُونَ { [العراف]100 :
علَىا قُلُو ِبهِمْ َفهُ ْم لَ يَ ْ
َأصَبْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَنَطْبَعُ َ
أي أو لم يتبيّن للذين يُستخلفون في الرض من بعد إهلك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصي
والكفر فسار هؤلء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من
س َمعُونَ { أي السماع المؤدي إلى العتبار والتعاظ
العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقولهَ } :فهُ ْم لَ يَ ْ
فكأنهم لم يسمعوا.
ويقول الحق بعد ذلك } :تِ ْلكَ ا ْلقُرَىا َن ُقصّ{ ...
()1042 /
هذا هو المراد في سرد القصص بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم الذي أوضحه الحق في
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ[} ...هود:
موضع آخر من القرآن فقالَ {:وكُـلّ ّنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
]120
فإذا ما حدث لك من أمتك وقومك شيء من العناد والِصرار والمكابرة فاعلم أنك لست بدعا من
الرسل؛ لن كل رسول قد قابلته هذه الموجة الِلحادية من القوم الذين خاطبهم .وإذا كان رسول
يأخذ حظه من البلء بقدر ما في رسالته من العلو فلبد أن تأخذ أنت ابتلءات تساوي ابتلءات
الرسل جميعا { .تِ ْلكَ ا ْلقُرَىا َنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنبَآ ِئهَا وََلقَدْ جَآءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ
ِبمَا كَذّبُواْ مِن قَ ْبلُ كَذَِلكَ يَطْ َبعُ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِ ا ْلكَافِرِينَ } [العراف]101 :
والطبع -كما قلنا -هو الختم؛ لن قلوبهم ممتلئة بالضلل؛ لذلك يعلنون التكذيب للرسول .وقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طبع ال على قلوبهم ل قهرا منه ،ولكن لستبطان الكفر وإخفائه في قلوبهم.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :ومَا وَجَدْنَا لَكْثَرِهِم مّنْ} ...
()1043 /
سقِينَ ()102
جدْنَا َأكْثَرَ ُهمْ َلفَا ِ
ن وَ َ
عهْ ٍد وَإِ ْ
َومَا َوجَدْنَا لَِأكْثَرِ ِهمْ مِنْ َ
وهؤلء الذين كذبوا الرسل ،وردوا منهج ال الذي أرسله على ألسنة رسله .كانت لهم عهود
كثيرة .فما وفوا بعهد منها ،مثال ذلك :العهد الجامع لكل الخلق ،وهو العهد الذي أخذه ال على
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا }
ذرية آدم من صلبه حين مسح ال على ظهر آدم ،وأخرج ذريته وقال {:أََل ْ
[العراف]172 :
وقد يقف العقل في أخذ مثل هذا العهد على الذرية الموجودة في آدم؛ لذلك نقول :إذا قال ال فقد
عقِلْنا ذلك أو لم نعقله ،إنك لو نظرت إلى " آحاد البشر " ،أي إلى الفراد الموجودين ،تجد
صدق َ
ن الِنسان وجد من حيوان منوي حي انتقل
نفسك وغيرك يجد نفسه نسلً لبائكم ،وهذا يدل على أ ّ
إلى بويضة حيّة من أمه فنشأ هذا النسان .ولو طرأ على الحيوان المنوي موت ،أو طرأ على
البويضة موت امتنع الِنسال.
إذن فكل إنسان منا جزء من حياة أبيه ،وأبوه جزء من حياة والده ،ووالده جزء من حياة أبيه ،وإن
سلسلت ذلك فسنصل لدم ،فكل واحد من ذرية آدم إلى أن تقوم الساعة فيه جزئ حي من آدم.
ومادام فيه جزئ حي من آدم فقد شهد الخلق الول ،ولذلك حين يسألهم ال سؤال التقرير ويقول:
ستُ بِرَ ّبكُمْ }؟ فيقولون { :بَلَىا }.
{ أََل ْ
وضربنا المثل لنقرب وقلنا إن الذرة الشائعة في شيء ،تشيع في أضعاف الشيء ،وسبق أن قلنا:
إننا إذا جئنا بمادة حمراء -مثلً -في حجم سنتيمتر مكعب ،ثم أذبناها في قارورة ،وبذلك يصبح
كل جزء في القارورة فيه جزء من المادة الملونة ،وإن أخذت القارورة وألقيتها في برميل واسع،
هنا تصير كل قطرة من البرميل فيها جزيء من المادة الحمراء ،وإن أخذت ماء البرميل وألقيته
في البحر فكل ذرة في البحر الواسع يصير فيها جزيء من المادة الملونة ،وهكذا يقرب من ذهن
كل منا أن في كل إنسان جزيئا من آدم ،وقد شهد هذا الجزئ العهد الول .ولقائل أن يسأل :كيف
يخاطب ال الذر الذي كان موجودا في ظهر آدم؟ .نقول :كما خاطب الرض وخاطب السماء،
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا
سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
فهو القائلُ {:ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
طَآ ِئعِينَ }[فصلت]11 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فعدم إدراكنا لكيفية الخطاب بين رب ومربوب ،ل يقدح في أن هذه المسألة لها أصل ولها
وجود.
وهذا بالنسبة للعهد الول ،وبعده العهد الثاني الذي أخذه ال على رسله ،مصداقا لقوله الحق {:وَإِذْ
ح ْكمَةٍ ُثمّ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِهِ
ب وَ ِ
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَا ٍ
أَ َ
ش َهدُواْ وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ
خذْتُمْ عَلَىا ذاِلكُمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُ ْم وَأَ َ
الشّا ِهدِينَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1044 /
ن َومَلَئِهِ فَظََلمُوا ِبهَا فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمفْسِدِينَ (
عوْ َ
ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َب ْعدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْ َ
)103
وبعد أن تكلم الحق عن نوح وهو وصالح ولوط وشعيب وما دار بينهم وبين أقوامهم ،وكيف أهلك
سبحانه المكذبين وأنجى المؤمنين ،أراد أن يأتي بتاريخ رسول من أولى العزم من الرسل ،أي من
الذين تعرضوا في رسالتهم لشياء ل يتحملها إل جَلْد قوي .وأظن أنكم تعلمون أن علج موسى
لليهود أخذ قسطا وافرا في القرآن ،بل إن قصة موسى مع قومه هي أطول قصص القرآن؛ لن
انحرافاتهم ونزواتهم وتمردهم على أنبيائهم كانت كثيرة ،وكان أنبياؤهم كثيرون لذلك فهم
يفتخرون بأنهم كثيرو النبياء ،وقالوا :نحن أكثر المم أنبياء .وقلنا لهم :إن كثرة أنبيائكم تدل على
تأصل دائكم؛ لن الطباء ل يكثرون إل حين يصبح علج المريض أمرا شاقا .إذن فكثرة
أنبيائكم ،دليل على أن رسولً واحدا ل يكفيهم ،بل لبد من أنبياء كثيرين.
وقوله الحقُ { :ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْدِهِم مّوسَىا }.
وكلمة " بعث " -كما نفهمها -توحي وتشير إلى أنه سبحانه قد أرسل موسى رسولً إلى
فرعون ،واختيرت كلمة " بعث " للرسالت لن البعث يقتضي أن شيئا كان موجودا ثم انطمر ثم
بعثه الحق من جديد ،والِيمان يتمثل في عهد الفطرة الول الذي كان من آدم؛ لن ال خلقه بيديه
خلقا مباشرا وكلفه تكليفا مباشرا ،فنقل آدم الصورة للذرية ،وهذه الصورة الصلية هي التي تضم
حقائق الِيمان التي كانت لدم ،وحين يبعث ال رسولً جديدا ،فهو ل ينشئ عقيدة جديدة ،بل
يحيي ما كان موجودا وانطمر ،وحين يطم الفساد يبعث ال الرسول ،فكأن الحق سبحانه وتعالى
حينما كلف آدم التكليف الول طلب منه أن ينقل هذا التكليف إلى ذريته ،ولو أن الِنسان أخذ
تكاليف الدين كما أخذ مقومات الحياة ممن سبقه لظل الِيمان مسألة رتيبة في البشر.
إننا نأخذ الشياء التي أورثها لنا أجدادنا وتنفعنا في أمور الدنيا نحتفظ بها ونحرص عليها ،فلماذا
لم نأخذ الدين منهم؟ لن الدين يحجر على حرية الحركة ويضعها في إطارها الصحيح .والِنسان
يريد أن ينفلت من تقييد حرية الحركة ،وحين يقول ربنا مرة إنه " :أرسل " الرسل ،ومرة أخرى
إنه قد بعثهم ،فهذا يدل على أنه لم يجيء بشيء جديد ،ولكنه جاء بشيء كان المفروض أن يظل
فيكم كما ظلت فيكم الشياء التي ورّثها لكم أسلفكم وتنتفعون بها؛ مثال ذلك :نحن ننتفع برغيف
الخبز وننتفع بخياطة الِبرة فلماذا انتفعنا بهذه الشياء المادية ونسينا الشياء المنهجية؟ لن
الشياء المادية قد تعين الِنسان على شهواته ،أما قيم الدين فهي تحارب الشهوات { .ثُمّ َبعَثْنَا مِن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن َومَلَئِهِ[ } ...العراف]103 :
عوْ َ
َبعْدِهِم مّوسَىا بِآيَاتِنَآ إِلَىا فِرْ َ
واليات -كما نعلم -جمع آية ،وهي المر العجيب الذي يقف العقل عنده مشدوها.
وتُطلق اليات ثلث إطلقات؛ فهي تطلق على اليات القرآنية لنها عجيبة أسلوبيّا معبرة عن كل
كمال يوجد في الوجود إلى أن تقوم الساعة ،وكل قارئ لها يأخذ منها على قدر ذهنه وقدر فهمه.
واليات الكونية موجودة في خلق الرض والسماء وغير ذلك ،وكذلك تطلق اليات على
المعجزات الدالة على صدق النبياء .والبعث يقتضي مبعوثا وهو موسى ،ويقتضي باعثا وهو
ال ،ومبعوثا إليهم .وهم قوم فرعون ،ومبعوثا به وهو المنهج.
واليات التي بعث ال بها موسى هي أدلة صدق النبوة ،وهي أيضا الكلمات المعبرة عن المنهج
ليشاهدها ويسمع لها فرعون وملؤه ،والمل -كما عرفنا من قبل -هم القوم الذين يملون العيون
هيبة ،فل يقال للناس الذين ل يلتفت إليهم أحد إنهم مل ،أو هم الناس الذين يملون صدور
المجالس ،أي الشراف والسادة .ولماذا حدد الحق هنا أن موسى قد بعث لفرعون وملئه فقط؟ لن
الباقين من أتباعهم تكون هدايتهم سهلة إن اهتدى الكبار ،والغالب والعادة أن الذي يقف أمام منهج
الخير هم المنتفعون بالشر ،وهم القادة أو من حولهم ،ول يرغبون في منهج الخير لنه يصادم
أغراضهم ،وأهواءهم ،ولذلك يحاربونه ،أما بقية العامة فهم المغلوبون على أمرهم ،وساعة يرون
أن واحدا قد جاء ووقف في وجه الذين عضوهم بمظالمهم وعضوهم بطغيانهم ،تصبح قلوبهم مع
ن َومَلَئِهِ[ { ...العراف]103 :
عوْ َ
هذا المنقذ! } ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْدِهِم مّوسَىا بِآيَاتِنَآ إِلَىا فِرْ َ
وإن كانت اليات هي الكلمات المؤدية للمنهج الموجودة في التوراة ،أو كانت اليات هي
المعجزات التي تدل على صدق موسى فقد كان ذلك يقتضي إيمانهم .ونعلم أن القرآن قد عدد
اليات المعجزات التي أرسلها الحق مع موسى {:وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ[} ...الِسراء:
]101
ومن هذه اليات العصا ،واليد يدخلها في الجيب أو تحت جناحه وإبطه وتخرج بيضاء من غير
سوء أو علة ،وأخذ آل فرعون بالسنين ،وكلمة " سنين " تأتي للجدب الشديد الذي يستمر لفترة من
الزمن بحيث يلفت الناس إلى حدثٍ في زمان ،ولذلك نقول :كانت سنة عصيبة؛ لن السنة عضة
من الحداث ،تهدم ترف الحياة ،ثم تأتي لهم بما يهدم مقومات الحياة ،وأولها الطعام والشراب
فيصيبهم بنقص الثمرات ،وهو الجدب والقحط ،وسمي الجدب سنة ،وجمعه سنين ،لنه شيء
يؤرخ به ،فماذا كان استقبال فرعون وملئه لليات التي مع موسى عليه السلم؟ يقول الحق} :
فَظََلمُواْ ِبهَا {.
وهل كانت اليات أداة للظلم أو ظلموا بسببها لنهم رفضوها كمنهج حياتي؟ .لقد ظلموا بها لنهم
رفضوا اتباع المنهج الحق ،وظلوا على فسادهم ،والمفسدون -كما نعلم -هم الذين يعمدون إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصالح في ذاته فيفسدونه ،برغم أن المطلوب من الِنسان أن يستقبل الوجود استقبال من يرى أن
هناك أشياء فوق اختياراته ومراداته ،وأشياء باختياره ومراداته ،فإذا نظر الِنسان في الشياء
التي بها مقومات الحياة ،مما ل يدخل في اختياره يجدها على منتهى الستقامة.
إننا نجد الِنسان ل يتحكم في حركة الشمس أو حركة القمر ،أو النجوم أو الريح أو المطر ،فهذه
الكائنات مستقيمة كما يريدها ال ،ول يأتي الفساد إل في المر الذي للِنسان مدخل فيه ،والناس
ش َكوْا
ل تشكو من أزمة هواء -على سبيل المثال -لنه ل دخل في حركة الهواء لحد ،لكنهم َ
من أزمة طعام لن للبشر فيه دخلً ،ونجد شكواهم من أزمة المياه أقل؛ لن مدخل الِنسان على
الماء قليل.
إنه سبحانه وتعالى يجعل المر الذي يدير حركتك الوقودية لك فيه بعض من الدخل ،فيجعل من
جسمك -على سبيل المثال -مخزنا للدهون ليعطيك لحظة الجوع ما كنزته فيه من طاقة .ومن
العجيب أن الدهون هذه هي مادة واحدة وساعة نحتاج إلى التغذية منها تتحول المادة الواحدة إلى
المواد الخرى التي نحتاج إليها.
تحتاج مثل إلى زلل ،فيتحول الدهن إلى زلل ،تحتاج إلى كربون ،يعطي لك الدهن الكربون،
تحتاج إلى فوسفور يعطيك فوسفورا ،تحتاج إلى مغنسيوم يعطيك الدهن المغنسيوم ،وهكذا فإذا كنا
نصبر على الطعام بقدر المخزون في أجسامنا ،ونصبر على الماء أيضا بقدر المخزون في هذه
الجساد ،فنحن ل نصبر على الهواء لن التنفس شهيق وزفير ،ولو أن إنسانا ملك الهواء يعطيك
إياه لحظة الرضا ،ويمنعه عنك لحظة الغضب ،لمت قبل أن يرضى عنك ،لكن إياه منع عنك
الماء فترة فقد يحن قلب عدوك أو يأتي لك أحد بالماء أو قد تسعى أنت بحيلة ما لتصل إليه.
إذن فالمر الذي ل دخل للِِنسان فيه نجد على منتهى الستقامة ،ول يأتي الفساد إل من المر
ن َومَلَئِهِ َفظََلمُواْ ِبهَا فَا ْنظُرْ
عوْ َ
الذي للِنسان فيه دخلُ } .ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِم مّوسَىا بِآيَاتِنَآ إِلَىا فِرْ َ
كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمفْسِدِينَ { [العراف]103 :
أي أن آخر المر سيعاقب ال المفسدين.
وأراد سبحانه أن يَ ْذكُر سلسلة القصة ل من بدء سلسلتها ،بل يبدأ من نهايتها ،فسبحانه ل يدرس
لنا التاريخ ،ولكن يضع أمامنا العظة ،وللقطة التي يريدها في هذا السياق ،ولذلك لم يتكلم سبحانه
في هذه السورة عن ميلد موسى وكيف أوحى لمه أن تلقيه في البحر ،ولم ترد حادث ذهابه إلى
مدين ومقابلته لسيدنا شعيب ،لكنه هنا يتكلم سبحانه عن مهمة سيدنا موسى مع فرعون.
عوْنُ{ ...
ويقول سبحانهَ } :وقَالَ مُوسَىا يافِرْ َ
()1045 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوْنُ إِنّي َرسُولٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()104
َوقَالَ مُوسَى يَا فِرْ َ
ويشرح لنا القرآن أمر بلغ موسى لفرعون وقومه بان ال واحد أحد وهو رب العالمين ،وكان
قوم فرعون يعتقدون بوجود إله للسماء وآخر للرض ،لذلك يبلغهم موسى بأن الِله واحد {:قَالَ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَآ إِن كُن ُتمْ مّوقِنِينَ }[الشعراء]24 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
َربّ ال ّ
ونجد موسى يعدد كلمة الربوبية في آيات أخرى؛ ليأتي بالمظهر الذي دُسّت فيه دسيسة الربوبية
لفرعون ،وكانوا يعتقدون أن للسماء إلها ،وللرض إلها آخر ،فقال موسى :إنني أتكلم عن الِله
الواحد الذي هو رب السماء والرض معا فل إله إل ال وحده .وكانوا يعتقدون أن للشرق إلها،
وللغرب إلها ،فأبلغهم موسى بأنه إله واحد ،وكانوا يعتقدون أن للحياء ألها وربا ،وللموات إلها
وربا ،فقال لهم موسى {:قَالَ رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آبَآ ِئكُمُ الَوّلِينَ }[الشعراء]26 :
ويبلغ هنا موسى فرعونَ وقومَه...{ :إِنّي رَسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف]104 :
وما دام موسى رسول من رب العالمين ،فهو ل يقول إل الحق ،لذلك يتابع الحق على لسان
علَى أَنْ لّ َأقُولَ} ...
حقِيقٌ َ
موسىَ { :
()1046 /
فأي هذه المور هو الذي يحتاج إلى بينة ،هل البلغ بأنه رسول من رب العالمين؟ إن هذا القول
يدلنا على أن موسى اختلف مع فرعون أولً في أن موسى رسول ،وأن للعالمين ربا واحدا ،وأنه
ل يبلغ إل بالحق ،هذه -إذن -ثلث قضايا خلفية بين موسى وفرعون ،ولكن فرعون لم
يختلف مع موسى إل في قضية واحدة هي :هل هو رسول بلغ عن ال بالقول الحق؟ فماذا طلب
منه؟ طلب الدليل على أنه رسول من رب العالمين .وهذا يوضح أن فرعون يعلم أن العالم له رب
أعلى.
كذلك فإن فرعون لم يقف مع موسى في مسألة أن للعالمين ربّا ،وأن هذا الرب ل يستطيع كل
إنسان أن يفهم مراده منه فلبد أن يرسل رسولً ،بل وقف فرعون في مسألة :هل موسى رسول
مبلغ عن ال أول؟
سلْ
حقّ قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِبَيّ َنةٍ مّن رّ ّبكُمْ فَأَرْ ِ
ن لّ َأقُولَ عَلَى اللّهِ ِإلّ الْ َ
حقِيقٌ عَلَى أَ ْ
ولذلك يقول موسىَ { :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َمعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [العراف]105 :
كأن مهمة موسى عند فرعون أن يخلص بني إسرائيل .ونعرف أن قصة بني إسرائيل ناشئة من
أيام نبي ال يعقوب وابنه يوسف حين كاد الخوة لخيهم يوسف ،وتشاوروا في أمر قتله أو
طرحه أرضا أو إلقائه في غيابة الجب ،لقد جاء الحق بقصة بني إسرائيل على مراحل لنتدرج
بالنفعال معها .فمراحل النفعال النفسي أمام من تكره تأخذ صورتين اثنتين :صورة تدل على
تصعيد الرحمة في قلبك ،وصورة تدل على تصعيد الشر في قلبك ،مثال ذلك :لنفترض أن لك
خصما وصنع فيك مكيدة ،وتحكي أنت لِخوانك ما فعله هذا الخصم ،وكيف أنك تريد النتقام منه
فتقول :أريد أن انتقم منه بضربه صفعتين ،ثم تصعد الشر فتقول :أنا أريد أن أقتله بالرصاص،
هذا شأن الشرير ،أما الخيّر فيقول :أنا ل أريد أن أقتله أو أصفعه أو أشتمه وأسبّه فهذا تصعيد في
الخير .إذن .يختلف تصعيد النتقام أو السماح حسب طاقة الخير أو الشر التي في النفس .وهكذا
عصْبَةٌ} ...
حبّ إِلَىا أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ ُ
ف وَأَخُوهُ أَ َ
س ُ
نجد إخوة يوسف وهو يكيدون له ،فقالوا {:لَيُو ُ
[يوسف]8 :
هم يعترفون أنهم قوة وعصبة ،ويحسدون يوسف وأخاه على محبة الب لهما ،ويعترضون على
ذلك ،ويظهرون البينة على أن يوسف وأخاه أحب إلى الب منهم ،وذكر القرآن هذه البينة لنعرف
أهميتها ،حتى ل يغفل أحد عنها .لقد كان قلب نبي ال يعقوب مع يوسف وأخيه لصغرهما
وضعفهما ،بينما بقية أبنائه كبار أقوياء أشداء؛ لن ال سبحانه وتعالى وضع في قلب البوة
والمومة من الرحمة على قدر ضعف الوليد الصغير .فالصغير هو من يحتاج إلى رعاية وعناية،
ويكون قلب الم والب مع البن المريض أو الغائب.
ولذلك حينما سئلت امرأة حكيمة :من أحب بنيك إليك؟ قالت :الصغير حتى يكبر ،والغائب حتى
يعود ،والمريض حتى يشفى.
عصْبَةٌ { .هو بينة ضدهم .وكان المنطق يقتضى أن يعرفوا أنهم
إذن فقول إخوة يوسف } :وَنَحْنُ ُ
ما داموا عصبة فل بد أن يكون قلب أبيهم مع يوسف وأخيه فكلهما كان صغيرا ويحتاج إلى
رعاية ،وبطبيعة تكوين أبناء يعقوب كأسباط وذريّة أنبياء ،نجدهم يصعدون الخير ل الشر ،فقد
بدأوا بإعلن رغبة القتل ،ثم استبدلوا بها الطرح أرضا بأن يلقوه في أرض بعيدة نائية ليستريحوا
منه ويخلو لهم وجه أبيهم ،ثم استبدلوا بها إلقاءه في غياهب الجب؛ بدأوا بالقتل في لحظة عنفوان
الغضب ثم تنازلوا عن القتل بالطرح أرضا ،أي أن يتركوه في مكان يكون فيه عرضة لن يضل،
ثم تنازلوا عن ذلك واكتفوا بإلقائه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة ،فهل كانوا يريدون أن
يضروه ،أو كانوا يفكرون في نجاته؟ .إذن فهذا تصعيد للخير.
وتوالت الحداث مع سيدنا يوسف واستقر معه بنو إسرائيل في مصر وكثرت أعدادهم .وعندما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نستقرئ التاريخ ،نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن ملوك مصر ،خص بعضهم باسم
فرعون ،وخص بعضهم باسم ملك ،فهناك فرعون وهناك ملك.
لوْتَادِ }[الفجر]10 :
عوْنَ ذِى ا َ
فإذا ما نظرت إلى القديم نجد أن الحق يقولَ {:وفِرْ َ
هكذا نجد الحق يسمى حاكم مصر " فرعون " وفي أيام سيدنا موسى أيضا يسميه الحق فرعون.
لكن في أيام يوسف عليه السلم لم يسمه فرعون ،بل سمّاه ملكاَ {:وقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ} ...
[يوسف]50 :
وبعد أن اكتشف العالم الفرنسي شامبليون -حجر رشيد -عرفنا أن الفترة التي دخل فيها سيدنا
يوسف مصر ،لم يكن الفراعنة هم الذين يحكمون مصر ،بل كان الحكام هم ملوك الهكسوس
الرعاة ،وطمر القرآن هذه الحقيقة التاريخية حين سمى حكام مصر قبل يوسف فراعين ،وفي
الفترة التي جاء فيها سيدنا يوسف سماهم " الملوك " ،وهؤلء هم من أغاروا على مصر
وحكموها وساعدهم بنو إسرائيل وخدموهم ،وقاموا على مصالحهم ،وبعد أن طرد المصريون
الهكسوس التفت الفراعنة بالشّر إلى من أعان الهكسوس؛ فبدأوا في استذلل بني إسرائيل
لمساعدتهم الهكسوس إبّان حكمهم مصر .وأراد ال أن يخلصهم بواسطة موسى عليه السلم،
عوْنُ إِنّي َرسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ *
ولذلك يقول الحق على لسان موسىَ {:وقَالَ مُوسَىا يافِرْ َ
سلْ َم ِعيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ }
ن لّ َأقُولَ عَلَى اللّهِ ِإلّ ا ْلحَقّ َقدْ جِئْ ُت ُكمْ بِبَيّنَةٍ مّن رّ ّب ُكمْ فَأَرْ ِ
حقِيقٌ عَلَى أَ ْ
َ
[العراف]105-104 :
وكأن موسى يريد أن يخلص بني إسرائيل ،أما مسألة اللوهية وربوبية فرعون فقد جاءت
عرضا.
ويقول فرعون } :قَالَ إِن كُنتَ جِ ْئتَ بِآيَةٍ{ ...
()1047 /
قَالَ إِنْ كُ ْنتَ جِ ْئتَ بِآَيَةٍ فَ ْأتِ ِبهَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ ()106
وهكذا يواجه فرعون موسى سائلً إياه أن يُظهر الية إن كان من الصادقين ،إذن ففرعون يعتقد
أن ل آيات تثبت صدق الرسول بدليل أنه قال له :هاتها إن كنت من الصادقين.
عصَاهُ فَإِذاَ} ...
ويكشف موسى عليه السلم الية { :فَأَ ْلقَىا َ
()1048 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مُبِينٌ ()107
فَأَ ْلقَى َ
وهذا اللقاء كان له سابق تجربة أخرى حينما خرج مع أهله من مدين ورأى نارا وبعد ذلك قال
ستُ نَارا[} ...طه]10 :
لهله {:ا ْمكُثُواْ إِنّي آ َن ْ
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي
ثم سمع خطاباَ {:ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ
وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[طه]18-17 :
وحين يقال لهَ { :ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا } ،كان يكفي أن يقول في الجواب :عصاي ،ول
داعي أن يقول " :هي " ول داعي أن يشرح ويقول :إنه يتوكأ عليها وأن له فيها مآرب أخرى؛
لن الحق لم يسأله ماذا تفعل بعصاك ،إذن فجواب موسى قد جاوز في الخطاب قدر المطلوب،
ويظن البعض أنه كان من الواجب أن يعطي الجواب على قدر السؤال .لكن من يقول ذلك ينسى
عصَايَ أَ َت َوكّأُ
أنه ل يوجد من يزهد في النس بخطاب ال .وحين قال موسى عليه السلمِ {:هيَ َ
عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي[} ...طه]18 :
ولقد شعر موسى عليه السلم واستدرك هيبة المخاطب فكان تهافته على الخطاب حبّا لنسه في
ال ،لكنه حين شعر أنه قارب أن يتجاوز قال { :وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا } كان من الممكن أن
يقول استعمالت كثيرة للعصا .إذن فللعصا أكثر من إلقاء ،إلقاء الدربة والتمرين على لقاء فرعون
سعَىا }[طه]20-19 :
حين أمره الحق {:قَالَ أَ ْل ِقهَا يامُوسَىا * فَأَ ْلقَاهَا فَِإذَا ِهيَ حَيّةٌ تَ ْ
خفْ سَ ُنعِيدُهَا سِيَر َتهَا الُولَىا }[طه]21 :
فماذا حدث؟ قال له ال {:قَالَ خُذْهَا وَلَ َت َ
فساعة خاف ،دل على أن ما حدث للعصا ليس من قبيل السحر؛ لن الساحر حين يلقي عصاه أو
حبله يرى ذلك عصا أو حبلً ،بينما يرى ذلك غيرُه حية ،ولذلك يقول الحق عن السحرة {:سَحَرُواْ
أَعْيُنَ النّاسِ[} ...العراف]116 :
وهذا يدل على أن حقيقة الشيء في السحر تظل كما هي في نظر الساحر ،لكن موسى أوجس في
نفسه خيفة ،فهذا يدل على أن العصا انتقلت من طبيعتها الخشبية وصارت حية.
وكان من الممكن أن تورق العصا وتخضر على الرغم من أنها كانت غصنا يابسا .ولو حدث ذلك
فسيكون معجزة أيضا ،ولكن نقلها ال نقلتين :نقلها من الجمادية ،وتعدى بها مرحلة النباتية إلى
مرحلة الحيوانية.
وكأن الحق العليم أزلً يرد على من أراد اللغط في مسألة إلقاء العصا ،وقد ظن بعض الجاهلين
أن ذلك تكرار في الكلم في قصة واحدة .ولم يلحظوا أن جهة الِلقاء للعصا كانت منفكة ،ففي
القرآن ثلثة إلقاءات للعصا :إلقاء التدريب حينما اصطفى ال موسى رسولً وأعلمه بذلك في
طور سيناء {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ فَاعْبُدْنِي[} ...طه]14 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عصَايَ[} ...طه]18-17 :
وبعد ذلك قال لهَ {:ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ
وإلقاء التدريب على المهمة هدفه طمأنة موسى ،حتى إذا ما باشرها أمام فرعون باشرها وهو
على يقين أن العصا ستستجيب له فتنقلب حية بمجرد إلقائها ،ولو أن ال قال له خبرا " إذا ذهبت
إلى فرعون فألق العصا فستنقلب حية " ،فقد ل يطمئن قلبه إلى هذا المر.
فأراد ال أن يدربه عليها تدريبا واقعيّا ،ليعلم أن العصا ستستجيب له حين يلقيها فتنقلب حية،
وكان ذلك أول إلقاء لها ،أما الِلقاء الثاني فكان ساعة أن جاء لفرعون للِعلم بمهمته أنه رسول
رب العالمين ،وإعلمه بالبينة ،وهو ما نحن بصدده الن في هذه الية التي نتكلم بخواطرنا
الِيمانية فيها.
ثم هناك إلقاء ثالث وهو إلقاء التحدي للسحرة ،ولن لكل إلقاء موقعا فل تقل أبدا :أن ذلك تكرار.
وإنما هو تأسيس لتعدد المواقف والملبسات ،فلكل موقف ما يتطلبه ،فل تغني لقطة هنا عن لقطة
عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ { [العراف]107 :
هناك } .فَأَ ْلقَىا َ
ومرّة يقول عن العصا } :كَأَ ّنهَا جَآنّ {.
ويقول المشككون في كلم ال من المستشرقين :كيف يقول مرة إنها ثعبان مبين .ثم مرة أخرى
سعَىا { ،ومرة ثالثة يقول } :كَأَ ّنهَا جَآنّ { .ونقول :إن هناك فارقا بين
يقول } :فَِإذَا ِهيَ حَيّةٌ تَ ْ
مختلفات تتناقض ،ومختلفات تتكامل ،فهي ثعبان مرة ،وهي حية مرة ثانية ،وهي جان؛ لن
الثعبان هو الطويل الخفيف الحركة ،والحية هي الكتلة المخيفة بشكلها وهي متجمعة ،والجان هو
الحية المرعبة الشكل .فكأنها تمثلت في كل مرة بمثال يرعب من يراه ،وكل مرة لها شكل؛ فهي
مرة ثعبان ،ومرة حية ،وثالثة جان ،أو تكون ثعبانا عند من يخيفه الثعبان ،وتكون حية عند من
تخيفه الحية ،وتكون جانا عند من يخيفه الجان ،ولذلك تجد أن إشاعة الِبهام هو عين البيان
للمبهم.
ومثال ذلك إبهام الحق لمر الموت ،فل يحكمه سن ،ول يحكمه سبب ،ول يحكمه زمان ،وفي هذا
إبهام لزمانه وإبهام لسببه مما يجعله بيانا شائعا تستقبله بأي سبب في أي زمان أو في أي مكان،
وهكذا يأتي الِبهام هنا لكي يعطينا الصور المتكاملة ،وقال بعض المستشرقين :إن المسلمين
يستقبلون القرآن بالرهبة وبالنبهار .ول يحركون عقولهم لكي يروا المتناقضات فيه ،لكن غير
المسلم إن قرأ القرآن يتبين فيه أشياء مختلفة كثيرة ،قالوا بالنص " :أنتم تعلمون بقضايا اللغة أن
التشبيه إنما يأتي لتُلْحِق مجهولً بمعلوم " ،فيقال :أنت تعرف فلنا ،فتقول :ل وال ل أعرفه.
فيقول لك :هو شكل فلن؛ في الطول ،وفي العرض ،وفي الشكل ،إذن فقد ألحق مجهولً بمعلوم
ل بمجهول ،إن هذا ل يعطي صورة مثلما تكلم القرآن عن
ليُوضحه .فكيف يلحق القرآن مجهو ً
جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ ُرءُوسُ الشّيَاطِينِ }
صلِ الْ َ
شجرة الزقوم فقال {:إِ ّنهَا شَجَ َرةٌ تَخْرُجُ فِي َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الصافات]65-64 :
فكيف توجد شجرة في الجحيم ،إنها أشياء متناقضة؛ لن الشجرة فيها خضرة ،وتحتاج إلى ري،
ومائية ،والجحيم نار وجفاف ،ثم إن الشيطان غير معلوم الصورة للبشر ،وشجرة الزقوم غير
ل بمجهول.
معلومة لنها ستأتي في الخرة ،فكيف ُيشَبّه ال مجهو ً
واستخدم المستشرقون ذلك كدليل على أن المسلمين يأخذون القرآن بانبهار ول يبحثون فيه ،ونرد
عليهم :أنتم ل تعلمون لغة العرب كملكة ،بل عرفتموها صناعة ،ولم تتفهموا حقيقة أن القرآن جاء
على لغة العرب .وقد تخيلت لغة العرب أشياء رأت فيها البشاعة والقبح؛ كأن قالوا " :ومسنونة
زرق كأنياب أغوال " ،والغول كائن غير موجود ،لكنهم تخيلوا الغول المخيف وأن له أنيابا...
إلخ.
إذن التشبيه قد يكون للمر المُتَخَيّل في أذهان الناس ،والصل في التشبيه أن يلحق مجهولً ليُعلم،
وشجرة الزقوم ل نعرفها ،ورءوس الشياطين لم نرها ،وهكذا ألحق ال مجهولً بمجهول ،ولماذا
لم يأت بها في صورة معلومة؟ .لنه -سبحانه -يريد أن يشيع البيان ،ويعمم الفائدة ويرببها؛
لن الِخافة تتطلب مخيفا ،والمخيف يختلف باختلف الرائين ،فقد يوجد شيء يخيفك ،ولكنه ل
يخيف غيرك ،وقد تستقبح أنت شيئا ،ولكن غيرك ل يستقبحه ،ولذلك ضربنا -سابقا -مثلً.
وقلنا :لو أننا أحضرنا من كبار رسامي الكاريكاتور في العالم ،وقلنا لهم :ارسموا لنا صورة
الشيطان تخيلوا الشيطان وارسموه ،أيتفقون على شكل واحد فيه؟ ل؛ لن كل رسام سيرسم من
وحي ما يخيفه هو.
ولقد قال ال في صورة :شجرة الزقوم } طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ {؛ ليتخيل كل سامع ما
يخيفه من صورة الشيطان ،فتكون الفائدة عامة من التخويف من تلك الشجرة .لكنه لو قالها
بصورة واحدة لخاف قوما ولم يخف الخرين .ومثال ذلك أمر عصا موسى ،فهي مرة ثعبان،
ومرة جان ،ومرة حية ،وكلها صور لشيء واحد مخيف ،ويقول الحق هنا في سورة العراف} :
عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ {.
فَأَ ْلقَىا َ
وقوله } :فَإِذَا ِهيَ { يوضح الفجائية التي أذهلت فرعون ،فقد تحولت العصا إلى ثعبان ضخم في
لمح البصر بمجرد إلقائها ،ومن فوائد تدريب سيدنا موسى على إلقاء العصا في طور سيناء أن
موسى لن تأخذه المفاجأة حين يلقيها أمام فرعون ،بل ستأخذ المفاجأة فرعون .كأن التدريب أولً
لِقناع موسى وضمان عدم خوفه في لحظة التنفيذ ،وقد خاف منها موسى لحظة التدريب؛ لن
العصا صارت ثعبانا وحيّة حقيقية ،ولو كانت من نوع السحر لظلت عصا في عين الساحر ول
يخاف منها ،إذن خوفه منها إبّان التدريب دليل على أنها انقلبت حقيقة ،ول تخيلً ،وتلك هي
مخالفة المعجزة للسحر ،فالمعجزة حقيقة والسحر تخييل ،وهذا هو الذي سيجعل السحرة يخرون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ { [العراف]107 :
ساجدين لنهم قد ذهلوا مما حدث } .فَأَ ْلقَىا َ
و " مبين " أي بيّن ،وواضحة ملمحه المخيفة التي ل تخفى على أحد ،ويقدم موسى عليه السلم
الية الثانية ،فيقول } :وَنَ َزعَ َي َدهُ فَإِذَا{ ...
()1049 /
وهذه آية معجزة أخرى .وقوله " :ونزع " تعني إخراج اليد بعسر ،كأن هناك شيئا يقاوم إخراج
اليد؛ لنه لو كان إخراج اليد سهلً ،لما قال الحق { :وَنَ َزعَ َي َدهُ } لنّ النزع يدل على أن شيئا
يقاوم ،ومثال ذلك قوله الحقُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ
تَشَآءُ[} ...آل عمران]26 :
لن نزع الملك ليس مسألة سهلة؛ ففي الغالب يحاول صاحب الملك التشبث بملكه ،لكن الحق
ينزعه من هذا الملك .كذلك قوله { :وَنَ َزعَ يَ َدهُ } ،وهذا يدل على أن يده لها وضع ،ونزع يده
وإخراجها بشدة له وضع آخر ،كأنها كانت في مكان حريص عليها .إذن ففيه لقطة بينت الِدخال،
خلْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ َتخْرُجْ
ولقطة بينت النزع ،وهما عمليتان اثنتان .وقال سبحانه في آية ثانية {:وَأَ ْد ِ
بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ[} ...النمل]12 :
و " الجيب " هو مكان دخول الرأس من الثوب ،وإن كنا نسمي " الجيب " في أيامنا مطلق شيء
نجعله وعاء لما نحب ،وكان الصل أن الِنسان حين يريد أن يحتفظ بشيء ،يضعه في مكان
أمامه وتحت يده ،ثم صنع الناس الجيوب في الملبس ،فسميت الجيوب جيوبا لهذا.
حكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً ُأخْرَىا }
ضمُمْ َي َدكَ إِلَىا جَنَا ِ
والحق قال في موضع آخر {:وَا ْ
[طه]22 :
إذن ففيه إدخال وإخراج ،وكل آية جاءت بلقطة من اللقطات؛ فآية أوضحت دخول اليد في الجيب،
وأخرى أوضحت ضم اليد إلى الجناح ،وثالثة أوضحت نزع اليد ،وهذه لقطات متعددة ،تكوّن كلها
الصورة الكاملة؛ لنفهم أن القصص في القرآن غير مكرّر ،فالتكرير قد يكون في الجملة .لكن كل
تكرير له لقطة تأسيسية ،وحين نستعرضه نتبين أركان القصة كاملة .فكل هذه اللقطات تجمّع لنا
القصة .وقلنا قبل ذلك :إن الصراع بين فرعون وموسى ل ينشأ إل عن عداوة ،وحتى يحتدم
الصراع لبد أن تكون العداوة متبادلة ،فلو كان واحد عدوّا والثاني ل يشعر بالعداوة فلن يكون
لديه لدد خصومة ،وقد يتسامح مع خصمه ويأخذ أمر الخلف هينا ويسامحه وتنفض المسألة .لكن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي يجعل العداوة تستعر ،ويشتد ويعلو لهيبها أن تكون متبادلة .وتأتي لنا لقطة في القرآن تثبت
لنا العداوة من فرعون لموسى ،ولقطة أخرى تثبت العداوة من موسى لفرعون ،فالحق يقول{:
خ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ[} ...طه]39 :
يَأْ ُ
عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ عَ ُدوّا َوحَزَنا[} ...القصص:
طهُ آلُ فِرْ َ
هذه تثبت العداوة من فرعون لموسى {:فَالْ َتقَ َ
]8
وهذه تثبت لن موسى عدوّ لهم .وكلتا اللقطتين يُكمل بعضها بعضا لتعطينا الصورة كاملة.
والحق هنا يقول { :وَنَزَعَ يَ َدهُ فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَآءُ لِلنّاظِرِينَ } [العراف]108 :
ونعرف أن موسى كان أسمر اللون ،لذلك يكون البياض في يده مخالفا لبقية لون بشرته ،ويده
صارت بيضاء بحيث يراها الناس يلفتهم ضوؤها ويجذب أنظارهم ،وهي ليست بيضاء ذلك
البياض الذي يأتي في سُمرة نتيجة البرص ،ل؛ لن الحق قال في آية أخرىَ {:تخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ
غَيْرِ سُوءٍ[} ...طه]22 :
وكل لقطة كما ترى تأتي لتؤكد وتكمل الصورة .إذن فقوله { :بَ ْيضَآءُ لِلنّاظِرِينَ } يدل على أن
ضوءها لمع وضئ ،يلفت نظر الناس جميعا إليها ،ول يكون ذلك إل إذا كان لها بريق ولمعان
وسطوع ،وقوله { :بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } يؤكد أن هذا البياض ليس مرضا.
ويتابع الحق سبحانه { :قَالَ ا ْلمَلُ مِن َقوْمِ} ...
()1050 /
عرفنا أن المل هم القوم الذين يتصدرون المجالس ،ويملونها أو الذين يملون العيون هيبة،
والقلوب مهابة وهم هنا المقربون من فرعون .وكأنهم يملكون فكرة وعلما عن السحر .وفي سورة
حوْلَهُ إِنّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }[الشعراء]34 :
الشعراء جاء القول الحق {:قَالَ لِ ْلمَلِ َ
إذن فهذه رواية جاءت بالقول من المل ،والية الخرى جاءت بالقول على لسان فرعون ،وليس
في هذا أدنى تناقض ،ومن الجائز أن يقول فرعون :إنه ساحر ،وأيضا أن يقول المل :إنه ساحر.
وتتوارد الخواطر في أمر معلوم متفق عليه .وقد حدث مثل هذا في القرآن حينما نزلت آيات في
خلق الِِنسان وتطوره بأن كان علقة فمضغة إلخ فقال كاتب الوحي بصوت مسموع ... {:فَتَبَا َركَ
اللّهُ أَحْسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون]14 :
عن أنس رضي ال عنه قال :قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه :وافقت ربي في أربع :نزلت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خَلقْنَا الِنْسَانَ مِن سُلَلَةٍ مّن طِينٍ } الية قلت أنا :فتبارك ال أحسن الخالقين
هذه الية { :وََلقَدْ َ
حسَنُ الْخَاِلقِينَ }.
فنزلت { :فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ
" وعن زيد بن ثابت النصاري قال :أملى عليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية { :وََلقَدْ
خََلقْنَا الِنْسَانَ مِن سُلََلةٍ مّن طِينٍ } إلى قوله ...{ :خَلْقا آخَرَ } فقال معاذ { :فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ
الْخَاِلقِينَ } فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال له معاذ :مِمّ تضحك يا رسول ال؟ فقال:
" بها ختمت فتبارك ال أحسن الخالقين ".
لقد جاءت الخواطر في الحالة المهيجة لحاسيس الِيمان لحظة نزول الوحي بمراحل خلق
الِنسان.
فما الذي يمنع من توارد الخواطر فيجيء الخاطر عند فرعون وعند المل فيقول ويقولون؟ أو
يكون فرعون قد قالها وعلى عادة التباع والذناب إذا قال سيدهم شيئا كرروه { .قَالَ ا ْلمَلُ مِن
عوْنَ إِنّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [العراف]109 :
َقوْمِ فِرْ َ
ولم يصفوا فعل سيدنا موسى بأنه ساحر فقط بل بالغوا في ذلك وقالوا :إنه ساحر عليم .وأضافوا
ما جاء على ألسنتهم بالقرآن في هذه السورة.
()1051 /
إنها نكبة جاءت لفرعون الذي يدعي اللوهية ،ونكبة لمن حوله من هؤلء الذين يوافقونه ،فكيف
يواجهها حتى يظل في هيئته وهيبته؛ قال عن موسى :إنه ساحر ،لكي يصرف الناس الذين رأوا
معجزات موسى عن الِيمان والقتناع به ،وأنه رسول رب العالمين ،وبعد ذلك يهيج فرعون
ضكُمْ
جكُمْ مّنْ أَ ْر ِ
وطنيتهم ويهيج ويثير غيرتهم ويحرك انتماءهم إلى مكانهم فقال { :يُرِيدُ أَن ُيخْرِ َ
َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ }.
اتهموا موسى عليه السلم بأنه يريد أن يخرج الناس بسحره من أرضهم ،وهذا القول من فرعون
ومن معه له هدف هو تهييج الناس وإثارتهم؛ لن فرعون اقنع الناس أنه إله .وها هي ذي
اللوهية تكاد تنهدم في لحظة ،فقال عن موسى إنه ساحر ،وبين قوم لهم إلف بالسحر ،وقوله:
{ َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ } على لسان المل من قوم فرعون تدل على أن القائل للعبارة أدنى من المقول
لهم ،فالمفروض أن فرعون هو صاحب المر على الجميع ،ومجيء القولَ { :فمَاذَا تَ ْأمُرُونَ } يدل
على أن الذي يأمر في مسائل مثل هذه هو فرعون ،وهذا يشعر بأن فرعون قد أدرك أن مكانته قد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انحطت وأنه نزل عن كبريائه وغطرسته .أو أن يكون ذلك من فرعون تطييبا لقلوب من حوله،
وأنه ل يقطع أمرا إل بالمشورة ،فكيف تشاور الناس يا فرعون وأنت قد غرست في الناس أنك
إله؟ وهل يشاور الِله مألوها؟ .إن قولك هذا يحمل الخيبة فيك لنك تدعي اللوهية ثم تريد أن
تستعين بأمر المألوه.
ويقول الحق سبحانه { :قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} ...
()1052 /
()1053 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولن المستشرقين يريدون أن يشككونا في القرآن قالوا :ولماذا قال في سورة الشعراء { :يَأْتُوكَ
ِب ُكلّ سَحّارٍ عَلِيمٍ } .وكان هؤلء المستشرقين يريدون أن يفرقوا بين { سَاحِرٍ عَلِيمٍ } و { سَحّارٍ
عَلِيمٍ }؛ ولنهم ل يعرفون اللغة لم يلتفتوا إلى أن " سحّار " تفيد المبالغة من جهتين .فكلمة " ساحر
" تعني أنه يعمل بالسحر ،و " سحّار " تعني أنه يبالغ في إتقان السحر ،والمبالغات دائما تأتي
لضخامة الحدث ،أو تأتي لتكرر الحدث .فـ " سحّار " تعني أن سحره قوي جدّا ،أو يسحر في
كل حالة ،فمن ناحية التكرار هو قادر على السحر ،ومن ناحية الضخامة هو قادر أيضا .ومادام
القائلون متعددين ..فواحد يقول :ساحر ،وآخر يقول :سحّار وهكذا .والقرآن يغطي كل اللقطات{.
سلْ فِي ا ْلمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }[العراف]112-111 :
ج ْه وَأَخَا ُه وَأَرْ ِ
قَالُواْ أَرْ ِ
و " حاشرين " تعني مَن يحشر لك السحرة ويجمعهم ل بإرادتهم ولكن بقوة فرعون وبطش جنده.
عوْنَ} ...
ويقول الحق سبحانه { :وَجَآءَ السّحَ َرةُ فِرْ َ
()1054 /
عوْنَ قَالُوا إِنّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنّا نَحْنُ ا ْلغَالِبِينَ ()113
وَجَاءَ السّحَ َرةُ فِرْ َ
عوْنَ } يدل على بطش المر ،أي أنه ساعة قال الكلمة هُرع الجند
وقوله { :وَجَآءَ السّحَ َرةُ فِرْ َ
بسرعة ليجمعوا السحرة .وقد ولغ بعض المستشرقين في هذه اللقطة أيضا فتساءلوا :ولماذا جاء
لجْرا[} ...الشعراء]41 :
بقول مختلف في سورة أخرى حين قال {:إِنّ لَنَا َ
لقد جاء بها بهمزة الستفهام ،وفي سورة العراف جاء من غير همزة الستفهام ،وهذه آية
قرآنية ،وتلك آية قرآنية .وأصحاب هذا القول يتناسون أن كل ساحر من سحرة فرعون قد انفعل
انفعالً أدى به مطلوبه؛ فالذي يستفهم من فرعون قال " :أإن " ،والشجاع قال لفرعون { :أَإِنّ لَنَا
نل
لَجْرا } .وفي القضية الستفهامية ل يتحتم الجر لنه من الجائز أن يرد الفرعون قائل :أ ْ
أجر لكم ،ولكن في القضية الخبرية " إن لنا لجرا " اي أن بعض السحرة قد حكموا بضرورة
وجود الجر ،وقد غطى القرآن هذا الستفهام ،وهذا الخبر.
وتأتي إجابة فرعون على طلب السحرة للجر { :قَالَ َنعَمْ وَإِ ّنكُمْ َلمِنَ} ...
()1055 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قَالَ َن َع ْم وَإِ ّنكُمْ َلمِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ ()114
و " نعم " حرف جواب قائمة مقام جملة هي :لكم أجر ،وأضاف أيضا { :وَإِ ّنكُمْ َلمِنَ ا ْلمُقَرّبِينَ }.
وهذا دليل على أنه ينافقهم أو يبالغ في مجاملتهم؛ لنه يحتاج إليهم أشد الحاجة .وهكذا نجد ألوهية
فرعون قد خارت أمام المألوهين السحرة .وقولهَ { :لمِنَ ا ْلمُقَرّبِينَ } هذه تدل على فساد الحكم؛
لنه مادام حاكما فعليه أن يكون كل المحكومين بالنسبة إليه سواء .لكن إذا ما كان هناك مقربون
فالدائرة الولى منهم تنهب على قدر قربها ،والدائرة الثانية تنهب أيضا ،وكذلك الثالثة والرابعة
فتجد كل الدوائر تمارس فسادها مادام الناس مصنفين عند الحاكم.
ولذلك كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم إذا ما جلس الصحابة يستمعون إليه كان يسوّي الناس
جميعا في نظره حتى يظن كل إنسان أنه أولى بنظر رسول ال ،ول يدنى أحدا أو يقربه من
مجلسه إل من شهد له الجميع بأنه مقرب..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قَالُواْ يامُوسَىا} ...
()1056 /
ونلحظ أنهم لم يؤكدوا لموسى رغبتهم في أن يلقي هو أول عصاه .ولكنهم أكدوا رغبتهم في أن
يكونوا هم أول الملقين .فجاءوا بضمير الفصل وهو (نحن) الذي يفيد التأكيد.
ونعلم أن مَن يعقّب ويكون عمله تاليا لمن سبقه ،فإن فعله هو الذي سيترتب عليه الحكم .ولبد أن
يكون قوي الحجة .هم يريدون أم يكونوا هم المعقبين ،وأن موسى الذي يبدأ ،لكن عزتهم تفرض
ي وَِإمّآ أَن ّنكُونَ
عليهم أن يبدأوا هم أولً؛ لذلك جاءوا بالعبارة التي تحمل المعنيينِ { :إمّآ أَن تُ ْل ِق َ
نَحْنُ ا ْلمُلْقِينَ } [العراف]115 :
فعلم موسى أنهم حريصون ،على أن يبدأوا هم بالِلقاء فأتوا بكلمة (نحن) .وفكر موسى أن من
صالحه أن يلقوا هم أولً؛ لن عصاه ستلقف وتبتلع ما يلقون؛ لذلك يأتي قوله سبحانه { :قَالَ َأ ْلقَوْاْ
فََلمّآ أَ ْل ُقوْاْ سَحَرُواْ} ...
()1057 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عظِيمٍ ()116
س وَاسْتَرْهَبُو ُه ْم وَجَاءُوا ِبسِحْرٍ َ
قَالَ أَ ْلقُوا فََلمّا أَ ْل َقوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّا ِ
هم -إذن -سحروا أعين الناس ،والسحر -كما نعلم -لطف حيلة يأتي بأعجوبة تشبه المعجزة.
وكأنها تخرق القانون ،وهو غير الحيلة التي يقوم بها الحواة؛ لن الحواة يقومون بخفة حركة،
وخفة يد ،ليعموا المر على الناس .لكن " السحر " شيء آخر ،ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى
خلق كل جنس بقانون؛ خلق الِنس بقانون ،وخلق الجن بقانون ،وخلق الملئكة بقانونهاَ {:ومَا َيعْلَمُ
جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ[} ...المدثر]31 :
وكل قانون له خصائصه ومميزاته التي تناسب عنصر تكوينه ،فالِنسان -مثلً -لنه مخلوق
من الطين له من الكثافة ما يمنعه من التسلل من خلل جدار؛ لنك لو كنت تجلس وهناك تفاحة
وراء الجدار الذي تجلس بجواره فلن يتعدى ريحها ول طعمها إلى فمك؛ لن الجدار يحول بينك
وبين ذلك ،لكن لو كانت هناك جذوة من نار بجانب الجدار الذي تستند عليه لكان من الممكن أن
يتعدى أثرها لك؛ لن النار إشعاعات تنفذ من الشياء ،ولن الجن مخلوق من نار ،لذلك نجد له
هذه الخاصية {.إِنّهُ يَرَا ُكمْ ُه َو َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْيثُ لَ تَ َروْ َنهُمْ[} ...العراف]27 :
فإذا كان الجن له قانون والِنس له قانون ،فهل القانون هو الذي يسيطر؟ ل ،بل رب القانون هو
الذي يسيطر لنه جل وعل فوق القانون .فيأتي ال للِنس و ُيعَلّم واحدا منهم بعضا من أسرار
كونه ليستذل الجن لخدمته ،برغم ما للجن من خفة حركة ،فسبحانه يوضح :ل تظن أيها الجن أنك
قد أخذت خصوصيتك من العنصر الذي يكونك لن هناك القادر العلى وهو المعنصر لك
ولغيرك ،بدليل أن الِنسان وهو من عنصر آخر يتحكم فيك بعد أن علمه ال بعضا من أسرار
كونه .ولننتبه دائما أن العلم بأسرار تسخير الجن هو من ابتلءات الحق للخلق؛ لنه سبحانه
وتعالى يقولَ {:ومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ َأحَدٍ حَتّىا َيقُولَ إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَلَ َت ْكفُرْ[} ...البقرة]102 :
فكأن هاروت وماروت وهما يعلّمان الِنسان كيف يمارس السحر ،ينصحان الِنسان الذي يرغب
في أن يتعلم السحر أولً ،ويوضحان له أنهما فتنة أي ابتلء واختبار ويقولن له { :فَلَ َت ْكفُرْ } ،
مما يدل على أن كل من يتعلم السحر؛ إن قال لك :إني سأستعمله في الخير فهو كاذب؛ لنه يقول
ذلك ساعة صفاء نفسه تجاه الخلق ،لكن ماذا إن غافله إنسان من أي ناحية وغلبه على بعض أمره
وهو يملك بعضا من أسرار السحر؟ هل يقدر على نفسه؟ لقد قال إنه أمين وقت التحمل ،لكن هل
يظل أمينا وقت الداء؟ إن من يتعلم السحر قد يستخدمه في النتقام من غيره ،وبذلك يضيع تكافؤ
الفرص ،ونعلم أن تكافؤ الفرص هو الذي يحمي الناس ،ويعطي بعضهم المن من بعض ،ويُلزم
كل إنسان حدّه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا أخذ إنسان سلحا ليس عند غيره فقد يستخدمه ضد من ل يملك مثله ،والِنسي الذي يأخذ
سلح استخدام الجن إنما يأخذ سلحا ل يملكه أخوه الِنسي ،وبذلك يكون قد أخذ فرصة أقوى من
غيره وفي هذا ابتلء؛ لن الِنسان قد ينجح فيه وقد يخفق فل يظفر بما يطلبه ،وقوله سبحانه} :
ضمَنون وقت
فَلَ َت ْكفُرْ { يدل على أنهما علما طبائع البشر في أنهم حين يأخذون فرصة أعلى قد ُي ْ
ضمَنون يوم تعكير نفوسهم {.فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ ِبهِ بَيْنَ ا ْلمَرْءِ
صفاء نفوسهم ،ولكنهم ل ُي ْ
وَ َزوْجِ ِه َومَا هُم ِبضَآرّينَ ِبهِ مِنْ َأحَدٍ ِإلّ بِإِذْنِ اللّهِ[} ...البقرة]102 :
ما دام الحق هو الذي أعطاهم هذه القدرة فهو سبحانه القادر على أن يسلبها منهم ،مثلما يمنح ال
سبحانه وتعالى القدرة لِنسان ليكون غنيّا وقادرا على شراء سلح ناري ،وأن يتدرب على إطلق
النار ،فهذا الرجل ساعة يغضب قد يتصور أن يحل خلفه مع غيره أو ينهي غضبه مع أي إنسان
آخر بإطلق الرصاص عليه .لكن لو لم يكن معه " مسدس " فقد ينتهي غضبه بكلمة طيبة
حدٍ حَتّىا
يسمعها ،إذن فساعة ما يمنع ال أمرا فهو يريد أن يرحم؛ لذلك يقولَ } :ومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ
َيقُولَ إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَلَ َت ْكفُرْ {.
وفي هذا تحذير لمن يتعلم مثل هذا المر ،ويريد سبحانه أن يحمي خلقه من هذه المسألة ،فلو أنك
تتبعت هؤلء لستذلوك واستنزفوك ،ويتركك ال لهم لنك اعتقدت فيهم ،أما إن قلت " اللهم إنك
قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر ،ولكنك احتفظت لنفسك بإذن الضر ،فإني أعوذ بما
احتفظت به مما أقدرت عليه ،بحق قولكَ } :ومَا هُم ِبضَآرّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ِإلّ بِِإذْنِ اللّهِ { ،ويكفي
أن نعلم أنه سبحانه قد قالَ } :ومَا هُم ِبضَآرّينَ بِهِ مِنْ َأحَدٍ ِإلّ بِإِذْنِ اللّهِ { .هنا لن يمكنهم ال منك،
إنما إن استجبت وسرت معهم ،فهم يستنزفونك ،وأراد ال أن يفضح هذه العملية فقال على ألسنة
السحرة الذين استدعاهم فرعون {:أَإِنّ لَنَا لَجْرا[} ...الشعراء{ 41 :
وكأنهم يعترفون بالنقص فيهم ،فعلى الرغم من ادعائهم القدرة على فعل المعجزات إل أنهم
عاجزون عن الكسب الذي يوفي حاجاتهم؛ لذلك طلبوا الجر من فرعون ،وهذا حال الذين
يشتغلون بالسحر والشعوذة .هم يدعون القدرة ويعانون الفاقة والعوز .هكذا حكم الحق بضيق
رزق من يعمل بالسحر ،ويفضحهم الحق دائما ،وللعاقل أن يقول :ماداموا َيدّعُون الفلح فليفلحوا
في إصلح أحوالهم .ومادام الساحر يدعي أنه يعرف أماكن الكنوز المخبوءة فلماذا ل يعرف
كنوزا في الرض التي ليست مملوكة لحد ويأخذها لنفسه؟ هذا إن افترضنا أن الساحر أمين
للغاية ول يريد أن يأخذ من خزائن الناس.
ولذلك تجد كل العاملين بالسحر والشعوذة يموتون فقراء ،بشعي الهيئة؛ مصابين في الذرية؛ لن
الكائن منهم استغل فرصة ل توجد لكل واحدٍ من جنسه البشري ،وذلك للِضرار بالناس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رَهَقا }[الجن]6 :
وهنا يقرر الحق أنهم سيعيشون في إرهاق وتعب .ولذلك يتحدد موقفنا من السحر بأننا ل ننكره
مثلما ينكره آخرون .فقد قال بعض من العلماء :إن السحرة جاءوا بعصيّ وضعوا فيها زئبقا،
وعند وجود الزئبق تحت أشعة الشمس تعطي له حرارة فتتلوى العصى ،لكن نحن ل ننكر
السحر ،كما ل ننكر الجن لنه ل يفوتنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن عفريتا من
الجن تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلة فأمكنني ال تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى
سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه
حدٍ مّن َبعْدِي { ".
غفِرْ لِي وَ َهبْ لِي مُلْكا لّ يَن َبغِي لَ َ
الصلة والسلمَ } :ربّ ا ْ
فمادام الحق قد قال :إنه خلق خلقا ل تدركهم بإحساسك ،فنحن نقر بما أبلغنا به الحق؛ لن وجود
الشيء أمر وإدراك وجوده أمر آخر ،وكل مخلوق له قانونه ،فالعفريت من الجن قال لسيدنا
سليمان عن عرش بلقيس {:أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ[} ...النمل]39 :
وكأن الجن يطلب زمنا ما ،فقد يجلس سليمان في مقامه معهم ساعة أو ساعتين أو ثلثا ،لكن الذي
عنده علم من الكتاب يقول {:أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ[} ...النمل]40 :
ولبد أن يكون طرفه قد ارتد في أقل من ثانية بعد أن قال ذلك ،ولهذا نجد القرآن يورد ما حدث
على الفور فيقول } :فََلمّا رَآهُ مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ {.
مما يدل على أن ال قد خلق الجناس ،وخلق لكل جنس قانونا ،وقد يكون هناك قانون أقوى من
قانون آخر ،لكن صاحب القانون مخلوق لذلك ل يحتفظ به؛ لن خالق القانون يبطله ،ويسلط أدنى
سحَرُواْ أَعْيُنَ النّاسِ {.
على من هو أعلى منه .ولندقق في التعبير القرآنيَ } :
ونحن أمام أشياء هي العصى والحبال .وجمع من البشر ينظر .ونفهم من قوله الحق } :سَحَرُواْ
صبّ على الرائي له ،لكن المرئي يظل على حالته ،فالعصى هي هي،
أَعْيُنَ النّاسِ { أن السحر يَ ْن َ
والحبال هي هي ،والذي يتغير هو رؤية الرائي .ولذلك قال سبحانه في آية ثانية... {:يُخَ ّيلُ إِلَ ْيهِ
سعَىا }[طه]66 :
سحْرِهِمْ أَ ّنهَا َت ْ
مِن ِ
إذن فالسحر ل يقلب الحقيقة ،بل تظل الحقيقة هي هي ويراها الساحر على طبيعتها .لكن الناس
هي التي ترى الحقيقة مختلفة .إذن فالسحرة قد قاموا بعملهم وهو } :سَحَرُواْ أَعْيُنَ النّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ {.
واسترهبوهم أي أدخلوا الرهبة في نفوس الناس من هذه العملية ،وظن السحرة أن موسى سيخاف
مثل بقية الناس المسحورين ،ونسوا أن موسى لن ينخدع بسحرهم؛ لنه باصطفاء ال له وتأييده
بالمعجزة صار منفذا لقانون الذي أرسله فجعل عصاه حية ،وصاحب القانون هو الذي يتحكم.
وهم قد جاءوا بسحر عظيم ،وهو أمر منطقي؛ لن العملية هي مباراة كبرى يترتب عليها هدم
ألوهية فرعون أو بقاء ألوهيته ،لذلك ل بد أن بأتوا يآخر وأعظم ما عندهم من السحر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق } :وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا{ ...
()1058 /
ولماذا احتاجت هذه المسألة إلى وحي جديد خصوصا أنه قد سبق أن تم تدريب موسى على إلقاء
العصا؟ .ونقول :فيه فرق بين التعليم للعداد لما يكون ،والتنفيذ ساعة يكون ،فساعة يأتي أمر
التنفيذ يجيء الحق بأمر جديد ،فربما يكون قد دخل على بشرية موسى شيء من السحر العظيم،
والسترهاب ،هذا ونعلم أن قصة موسى عليه السلم فيها عجائب كثيرة .فقد كان فرعون يقتل
الذكران ،ويستحي النساء ،وأراد ربنا أل يُقتل موسى فقال سبحانه {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ
خ ْفتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ[} ...القصص]7 :
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
أَ ْر ِ
خفْتِ عَلَيْهِ } يدل على أن العملية المخوفة لم تأت بعد ،بل ستأتي
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
وقوله سبحانه { :أَ ْر ِ
لحقّا .وهات أيّة امرأة وقل لها :إن كنت خائفة على ابنك من أمر ما فارميه في البحر .من
المؤكد أنها لن تصدقك ،بل ستسخر منك؛ لنها ستتساءل :كيف أنجيه من موت مظنون إلى موت
محقق؟ .وهذا هو المر الطبيعي ،لكن نحن هنا أمام وارد من ال إلى خلق ال ،ووارد ال ل
يصادمه شك .إذن فالخاطر والِلهام إذا جاء من ال ل يزاحمهما شيء قط .ول يطلب الِنسان
ل لن نفسه قد اطمأنت إليه؛ لذلك ألقت أم موسى برضيعها في البحر.
عليه دلي ً
ويقدّر ال أنها أم فيقول {:وَلَ تَخَافِي َولَ تَحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْيكِ[} ...القصص]7 :
ولن يرده إليها فقط ،بل سيوكل إليه أمرا جللً... {.وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص]7 :
وكأن الحق سبحانه يوضح لم موسى أن ابنها لن يعيش من أجلها فقط ،بل إن له مهمة أخرى في
الحياة فسيكون رسولً من ال .فإذا لم تكن السماء ستحافظ عليه لجل خاطر الم وعواطفها ،فإن
السماء ستحفظه لن له مهمة أساسية { وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } .ونلحظ أن الحق هنا لم يأت
بسيرة التابوت لكنه في آية ثانية يقول {:إِذْ َأ ْوحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ
حلِ }[طه]39-38 :
فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
ولم يقل في هذه اليةَ { :ولَ تَخَافِي َولَ َتحْزَنِي }؛ لنه أوضح لها ما سوف يحدث من إلقاء اليم
خ ْفتِ عَلَيْهِ } .هو إعداد للحدث قبل أن يجيء ،وفي هذه
له بالساحل .وقوله في الولى { :فَإِذَا ِ
اليةِ { :إذْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا } ...إلخ تجد اللقطات سريعة متتابعة لتعبر عن التصرف
ك َوجَاعِلُوهُ مِنَ
لحظة الخطر .لكن في الية الولىَ { :ولَ تَخَافِي وَلَ َتحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلمُرْسَلِينَ } نجد البطء والهدوء والرتابة؛ لنها تحكي عن الِعداد .لما يكون.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يعطي كل جنس قانونا ،وكل قانون يجب أن يُحترم في نطاقه ،لن
تكافؤ الفرص بين الجناس هو الذي يريده ال .وحينما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا هذه
المسألة أوضح أن على المؤمن أن ينظر إلى المعطيات من وراء التكاليف ،وفي آية الدّيْن -على
سبيل المثال -نجد الحق يوصي المقترض " المدين " -وهو الضعيف -أن يكتب الدّيْن ،ويعطي
بذلك إقرارا للدائن وهو القوي القادر فيقول سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نسبة واقعية ،فإذا قلت مثلً " محمد مجتهد " فهذه نسبة كلمية ،لكن أيوجد واحد في الواقع اسمه
محمد وموثوق في اجتهاده؟ .إن كان المر كذلك فقد وافقت النسبة الكلمية النسبة الواقعية،
ويكون الكلم هو الصدق ،أما الكذب فهو أن تقول " محمد مجتهد " ول يوجد إنسان اسمه محمد،
وإن كان موجودا فهو غير مجتهد ،ويكون الكلم كذبا لن النسبة الكلمية خالفت النسبة الواقعية،
وحين يكذب أحد فهو يقلب المسألة ونسمى ذلك كذبا ،وشدة الكذب تسمى إفكا.
أو الكذب أل يكون هناك تطابق ،وإن لم تكن تعلم ،والِفك أن تتعمد الكذب ،وهذا أيضا افتراء} .
عصَاكَ فَإِذَا ِهيَ تَ ْل َقفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ {.
أَنْ أَ ْلقِ َ
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :فَِإذَا { وهي تعبر عن الفجائية حيث ابتلعت عصا موسى -بعد
أن صارت حية -ما أتى السحرة وجاءوا به من الكذب والِفك وسحروا به أعين الناس.
طلَ{ ...
ق وَ َب َ
ويقول سبحانه بعد ذلكَ } :ف َوقَعَ ا ْلحَ ّ
()1059 /
وقولهَ { :ف َوقَعَ ا ْلحَقّ } أي صار الحق النظري واقعا ملموسا؛ لن هناك فارقا بين كلم نظريّا
وكلم يؤيده الواقع ،والوقوع عادة يكون من أعلى بحيث يراه ويعرفه كل من يراه.
وقوله سبحانهَ { :ف َوقَعَ ا ْلحَقّ } أي ثبت الحق ،فبعد أن كان كلما خبريّا يصح أن يصدّق ويصح
طلَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }.
ق وَبَ َ
حّأن ُيكَذب .صار بصدقه واقعاَ { .ف َوقَعَ الْ َ
والذي بطل هو ما كانوا يعملون من السحر .إن الحق جعل الصدق موسى واقعا مشهودا .وبذلك
غُلب السحرة.
ك وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }
ويقول الحقَ { :فغُلِبُواْ هُنَاِل َ
()1060 /
ولم يغلب السحرة فقط ،بل غلب أيضا فرعون وجماعته ،وعاش كل من هو ضد موسى في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صغَار ،صغار للمستدعِي وصغار للمستدعَى .لذلك ذيل الحق الية بقوله { :وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }
َ
أي أذلء.
جدِينَ }
ويقول الحق بعد ذلك { :وَأُ ْل ِقيَ السّحَ َرةُ سَا ِ
()1061 /
ولم يقل الحق :وسجد السحرة ،ولكنه قال " :ألقى " مما يدل على أن خرورهم للسجود ليس
برأيهم ،لكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم ،كأن شيئا آخر ألقاهم ساجدين ،وهو النبهار
بالحق .فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر ،ثم يفاجأ مجموع السحرة أن موسى حين ألقى
عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحرا ،وحينما ألقوا عصيهم وحبالهم التي
جاءوا بها من كل المدائن ،قيل إنها حُملت على سبعين بعيرا وشاهدوا كيف أن العصا التي
صارت حية أو ثعبانا لقفت كل هذا وابتلعته! وحجم العصا هو حجم العصا مهما طالت ،وهكذا
تيقن أن هذا ل يمكن أن يكون من فعل ساحر ،وانظر إلى الستجابة منهم لمّا رأوا { :قَالُواْ آمَنّا
بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
()1062 /
وهل هم سجدوا بعد الِيمان؟ أم آمنوا بعد السجود؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود،
ولكن كان المر يقتضي أل يسجد أحد إل لنه آمن ،لكن نحن نعرف أن الِيمان عمل قلبي،
والسجود عمل عضلي وسلوك عملي ،فكل منهم آمن بقلبه فسجد.
وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم؛ فيقولوا :آمنا برب العالمين؛ لذلك نحن ل
نرتب السجود على إيمان ،بل نرتب السجود مع القول بالِيمان وبإعلن الِيمان؛ لن إعلن
الِيمان شيء ،والِيمان شيء آخر ،فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلن الِيمان،
وكأن الناس سألوهم :ما الذي جرى لكم؟ فقالوا { :آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }.
إذن فمن يحاول أن يستدرك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الِيمان يعني وجود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الِيمان أولً ،والسحرة قد آمنوا فسجدوا ،فاستغرب منهم الناس هذا السجود ،وهنا قال السحرة :ل
تستغربوا ول تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين { .آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف]121 :
وقيل في بعض التفاسير :إن فرعون قال :أنا رب العالمين .لكن السحرة لم يتركوا قوله هذا
فأعلنوا أن رب العالمين هوَ { :ربّ مُوسَىا وَهَارُونَ } .وقال فرعون :لقد ربيت أنا موسى،
فقالوا :لكنك لم ترب هارون.
ولذلك أوضح الحق هنا أن رب العالمين هوَ { :ربّ مُوسَىا وَهَارُونَ }
()1063 /
ولن السحرة أعلنوها واضحة بالِيمان برب العالمين رب موسى وهارون ،وكان لبد أن يغضب
عوْنُ آمَن ُتمْ بِهِ} ...
فرعون ،فيأتي القرآن بما جاء على لسانه { :قَالَ فِرْ َ
()1064 /
س ْوفَ
عوْنُ َآمَنْتُمْ بِهِ قَ ْبلَ أَنْ آَذَنَ َلكُمْ إِنّ هَذَا َل َمكْرٌ َمكَرْ ُتمُوهُ فِي ا ْلمَدِي َنةِ لِ ُتخْرِجُوا مِ ْنهَا أَهَْلهَا فَ َ
قَالَ فِرْ َ
َتعَْلمُونَ ()123
وكأن فرعون مازال يحاول تأكيد سلطانه ،ونعلم أن بني إسرائيل اختلطوا بالناس في مصر،
ومنهم من تعلم السحر .ولذلك اتهم فرعون السحرة بأنهم قد اتفقوا مع موسى على هذه المسألة.
لقد كان فرعون في مأزق ويريد أن يخرج منه؛ لن الناس جميعا قد شاهدوا المسألة ،وهو ل
يريدهم أن يتشككوا في ألوهيته ،فينهدم الصرح الذي أقامه على الكاذيب؛ لذلك قال السحرة :إن
هذا لمكر مكرتموه في المدينة ..أي أنكم اتفقتم مع موسى ،وسيأتي ويقول :اتهاما لموسى {:إِنّهُ
َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ[} ...طه]71 :
طعَنّ أَ ْيدِ َيكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ
لقَ ّ
ونتيجة لهذا المكر المتوهم بين بني إسرائيل وموسى يتوعدهم فرعونُ { :
لفٍ} ...
مّنْ خِ َ
()1065 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َمعِينَ ()124
طعَنّ أَ ْيدِ َيكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ مِنْ خِلَافٍ ُثمّ لَُأصَلّبَ ّنكُمْ َأ ْ
لَُأقَ ّ
والوعيد -كما نراه -قاسٍ وفظيع ،فتقطيع اليدي والرجل ثم الصلب كلها أمور تخيف ،فماذا
يكون الرد ممن يتلقون هذا الوعيد ،وقد خالطت بشاشة الِيمان قلوبهم؟ إنهم يقولون { :قَالُواْ إِنّآ
إِلَىا} ...
()1066 /
إنك قد عجلت لنا الخير لننا سنكون في جوار ربنا ،فأنت بطيشك وحماقتك قد أسديت لنا معروفا
وخيرا من حيث ل تدري .ويزيدون في تقريع فرعون بما يجيء في القرآن على ألسنتهمَ { :ومَا
تَنقِمُ مِنّآ ِإلّ أَنْ آمَنّا} ...
()1067 /
ما الذي تكرهه منا لن " تنقم " تعني تكره ،وقولهم لفرعون :أليس الذي تكرهه منا أنّا آمنا بآيات
ربنا لما جاءتنا؟ وهل الِيمان بآيات الِله حين تجيء مما يُكره؟!! ويسمون ذلك في اللغة تأكيد
المدح بما يشبه الذم؛ كأن يقول إنسان :ماذا تكره فيّ؟ أصدقي؟ أمانتي؟ أجودي؟ أعلمي؟
كأنه يعدد أشياء يعرف كل الناس واقعا أنها ل تُكره ،لكن الخطأ في مقاييس من يكره الصواب،
فهي أمور ل تستحق أن تُكره أو تعاب أو تُذَم .لقد تيقنوا أن لقاء ال على الِيمان هو الخير وكلهم
يفضل جوار ال على جوار فرعون .وهذا الذي يعتبره فرعون عقابا إنما يثبت خيبته حتى في
توقع العقوبة؛ لنه لو لم يهددهم بهذه الميتة فهم سيموتون ليرجعوا إلى ال ،وهذا أمر مقطوع به،
طعَنّ أَيْدِ َي ُكمْ
لقَ ّ
وكل مخلوق مصيره أن ينقلب إلى ال ،وكأنهم أبطلوا وعيد فرعون حين قال لهمُ {:
ج َمعِينَ }[العراف]124 :
لصَلّبَ ّنكُمْ َأ ْ
لفٍ ثُ ّم ُ
وَأَرْجَُلكُمْ مّنْ خِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يتجهون إلى ربهم وخالقهم فيقولون { :رَبّنَآ َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرا وَتَ َوفّنَا مُسِْلمِينَ }.
و " الفراغ " أن ينصب شيء على شيء ليغمره ،وكانهم يقولون :أعطنا يا رب كل الصبر ،وهم
يحتاجون إلى الصبر لن فرعون قد توعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم .ولذلك قال بعض العارفين
بال :عجبي لسحرة فرعون كانوا أول النهار كفرة سحرة وكانوا آخر النهار شهداء بررة.
ويقول سبحانهَ { :وقَالَ ا ْلمَلُ مِن َقوْمِ فِرْعَونَ} ...
()1068 /
وهكذا نعرف أن المقربين من فرعون هم أول من خافوا على سلطانهم ،ويدل هذا القول أيضا
على أن فرعون لم يتعرض لموسى بأي أذى؛ لنه مازال يعيش في رهبة اليقين وصولة الحق
مما جعله متوجسا وخائفا من موسى؛ لن فرعون أول من يعلم أن مسألة ألوهيته كذب كلها،
ويعلم جيدا أن موسى على حق ،لكن إعلن انهزامه أمام الجمع ليس أمرا سهلً على النفس
البشرية ،وسأل المل من قوم فرعون الذين اهتز أمامهم سلطانه ومكانته ،قالوا :لفرعون :أتترك
موسى وقومه ليفسدوا في الرض؟ .أو فيما يبدو أن موسى وهارون تركا المكان بعد أن انتهيا
من أمر السحرة ،ولم يقبض عليهما فرعون؛ لذلك تساءل المل من قوم فرعونَ { :وقَالَ ا ْلمَلُ مِن
ك وَآِلهَ َتكَ } [العراف]127 :
َقوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىا َو َق ْومَهُ لِ ُيفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ وَيَذَ َر َ
و " يذرك " أي يدعك ويتركك ،وكان فرعون يعتقد أن هناك آلهة علويين وآلهة سفليين ،وهو رب
العالم السفلي كله .لذلك قالوا { :وَيَذَ َركَ وَآِلهَ َتكَ } .وهناك قراءة أخرى " ويذرك إلهتك أي
عبادتك " .أي يتركك أنت ويترك عبادتك .ويقول فرعون { :قَالَ سَ ُنقَ ّتلُ أَبْنَآءَهُ ْم وَنَسْ َتحْيِـي
نِسَآ َءهُمْ }.
وحتى تلك اللحظة لم يتعرض فرعون لموسى ،ول يزال خوفه من موسى يمنعه من القتراب أو
الدنو أو التصال به ولو بكلمة ،إنه يأخذ الحذر من أن يقدم على شيء ضد موسى ،فيفاجئه
موسى مفاجأة ثانية .ويقال إن الثعبان الذي ظهر ساعة ألقى موسى عصاه فتح شدقيه واتجه إلى
فرعون ،فقال :كف عني وأومن بما جئت به .وهو أمر محتمل؛ لن فرعون حتى هذه اللحظة لم
يجرؤ على القتراب من موسى ،وجاء بخبر قتل البناء وسبيْ النساء ولم يأت بسيرة موسى.
{...سَ ُنقَ ّتلُ أَبْنَآءَ ُه ْم وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُ ْم وَإِنّا َف ْو َقهُمْ قَاهِرُونَ } [العراف]127 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقوي حين يملك القدرة على الضعيف ل يشد الخناق عليه شدّا ليفتك به؛ لنه يعرف ضعفه،
ويستطيع أن يناله في أي وقت ،لكن لو كان الخصم أمامك قويّا فأنت ترهبه بالقوة حتى يخضع
لك .وهنا يقول فرعون { :وَإِنّا َف ْو َقهُمْ قَاهِرُونَ }.
إن فرعون يؤكد لقومه أنهم مسيطرون وغالبون ،ولن يستطيع قوم موسى أن يفلتوا منهم .ويؤكد
فرعون :سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم؛ لن البناء هم العدة ،والنساء عادة شأنهن مبني على
الحجاب ،وعلى الستر ،وفي إبقاء المرأة وقتل الرجل إذلل للرجال؛ لن التعب سيكون من نصيب
النساء .ولذلك كان العرب حين يغيرون على عدو ،يصحبون نساءهم لتزيد الحمية ول يخور ول
يجبن واحد وتراه زوجه أو أخته أو ابنته وهو على هذا الحال ،وكذلك كان العرب يخافون
النهزام حتى ل يمسك العدو نساءهم ويأخذهن سبايا.
وهنا يؤكد فرعون إصراره على إذلل قوم موسى بأن يعيد قتل البناء ،وأن يستحيي النساء،
وكان الفرعون يفعل مثل ذلك المر من قبل ،والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانوا يساعدون
ملوك الهكسوس ،وبعد أن طرد الفراعنة الهكسوس ،اتجهوا إلى إيذاء بني إسرائيل الذين كانوا في
صف الهكسوس ،ومن بقي من بني إسرائيل تعرض لتقتيل البناء ،لكن الحق أنقذ موسى حين
أوحى لمه أن تلقيه في اليم ليربيه فرعون .وها هو ذا فرعون يعيد الكرة مرة أخرى بالمر
بتقتيل البناء وسبي النساء.
ويقول الحق بعد ذلك { :قَالَ مُوسَىا ِلقَ ْومِهِ} ...
()1069 /
قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ اسْ َتعِينُوا بِاللّ ِه وَاصْبِرُوا إِنّ الْأَ ْرضَ لِلّهِ يُورِ ُثهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَا ْلعَاقِبَةُ
لِ ْلمُ ّتقِينَ ()128
ويقرر موسى الحقيقة الواضحة وهي أن الرض ليست لفرعون ،والعاقبة ل تكون إلّ للمتقين.
وكأنه بهذا القول يريد أن يردهم إلى حكم التاريخ حيث تكون العاقبة دائما للمتقين ،فإن قال
لفرعون :وإنا فوقهم قاهرون ،مستعلون غالبون مسلطون مسيطرون ،فإن موسى يرد على ذلك:
أنا أستعين بمن هو أقوى منك .إن موسى عليه السلم يأمر بأن يستعينوا بال ،ويصبروا على ما
ينالهم من بطش فرعون وظلمه.
ولن قوم موسى كانوا من المستضعفين ،فإن ال وعدهم أن يؤمّنهم في الرض ويمكن لهم فيها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا إخبار من ال وإخبار ال حقائق .ولكن ماذا كان موقف قوم موسى منه بعد هذا النصر
العظيم لموسى ،والنصر لهم؟ .نجد الحق سبحانه يقول { :قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَ ْبلِ} ...
()1070 /
لقد قالوا لموسى :من قبل أن تأتينا أوذينا بأن قتلوا البناء واستحيوا النساء ،وبعد أن جئت ها نحن
أولء نتلقى الِيذاء .كأن مجيئك لم يصنع لنا شيئا .إذن هم نظروا للبتلءات التي يجريها ال
على خلقه ،ولم ينظروا إلى المنة والمنحة والعطاء وإلى آلء النتصار ،وإلى أن فرعون قد حشد
كل السحرة ،وبعد ذلك هزمهم موسى ،وكان يجب أن يكون تنبيها لهم لقدر عطاءات ال ،هم
يحسبون أيام البلء ،ولم يحسبوا أيام الرخاء.
وقوله { :فَيَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } يدل على أنهم سوف يخونون العهود ،ويفعلون الشياء التي ل
تتناسب مع هذه المقدمات .وفي الِسلم نجد عمرو بن عبيد وقد دخل على المنصور قبل أن يكون
أميرا للمؤمنين ،وكان أمامه رغيف أو رغيفان ،فقال :التمسوا رغيفا لبن عبيد .فرد عليه العامل:
ل نجد .فلما ولي الخلفة وعاش في ثراء الملك ونعمته دخل عليه ابن عبيد وقال :لقد صدق معكم
الحق يا أمير المؤمنين في قوله...{ :عَسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُ ْم وَيَسْ َتخِْل َفكُمْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرَ
كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } [العراف]129 :
وقد قال موسى لقومه بعد أن عايروه بعدم قدرته على رد العذاب عنهم .وهكذا استقبل قوم موسى
أول هزيمة لفرعون أمام موسى ،وقالوا له :أوذينا من قبل أن تأتينا ،ومن بعد ما جئتنا ،أي
بالتذبيح ،واستحياء النساء ،وقتل البناء ،فكأن مجيئك لم يفدنا شيئا لننا مقيمون على العذاب الذي
كنا نُسامه .فل حاجة لنا بك ،ول ضرورة في أن تكون موجودا؛ بدليل أن الذي حدث بعدك هو
الذي حدث قبلك.
ولم يلتفتوا إلى أن الِيذاء من قبل ومن بعد ل ينشأ إل من عدو ،فكأن موسى يرد عليهم بأن
أسباب الِيذاء ستنتهي ،وأن ال سيهلك عدوكم الذي آذاكم من قبل ويؤذيكم من بعد .ولن يقتصر
المر على هذه النعمة؛ بل يزيدكم بأن يستخلفكم في الرض ،ويعطيكم ملكهم ويعطيكم أرضهم.
وكأن هنا أمرين :المر الول سلبي :وهو إهلك العدو ،والمر الثاني إيجابي :وهو استخلفكم
في الرض وهذا أمر لكم ،ووعد من ال بأن تكون لكم السيادة والملك وعليكم أن تنتبهوا إلى أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعمة ال عليكم بإهلك عدوكم ،وباستخلفكم في الرض لن تترك هكذا ،بل أنا رقيب عليكم أنظر
ماذا تفعلون ،هل تستقبلون هذه النعم بالشكر وزيادة الِيمان واليقين والرتباط بال ،أو تكفرون
بهذه النعمة؟
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى { عَسَىا } فهي كلمة -كما يقول علماء اللغة
-تدل على الرجاء ،ومعنى الرجاء أن ما بعدها يكون مرجو الحصول .وهناك فرق بين التمني
ل أو يكون في الحصول عليه عسر ،ولكنك تريد -
وبين الرجاء .فالتمني أن تتطلب أمرا مستحي ً
فقط -بالتمني إشعار حبك له ،فأنت إذا قلت :ليت الشباب يعود ،فهذا أمر ل يكون ،ولكنك تعلن
حبك لمرحلة الشباب.
وقصارى ما يعطيه أن يعلمنا أنك تحب هذا المتمنّي .لكن هل يتحقق أو ل يتحقق ..فهذه ليست
واردة.
لكن " الرجاء " شيء محبوب يوشك أن يقع .وهكذا نعرف أن الرجاء أقوى من التمني .وأداة
التمني " ليت " وأداة الرجاء " عسى " .وحين يكون بعد " عسى " ما يُ ْرجَى فلذلك مراحل تتفاوت
بقوة أسباب الرجاء في الوقوع .فأنا مثلً إذا قلت :عسى أن أكرمك فهذا أمر يعود إليّ أنا ،لنّ
إكرامي لك يقتضي بقائي ،وعدم تغير نفسي من ناحيتك ،فمن الجائز أن تتغير نفسي قبل أن
أكرمك ول يقع إكرامي لك .هذا هو الرجاء من صاحب الغيار ،ومادمت صاحب أغيار فقد ل
أقدر على الِكرام ،أو أقدر ولكني لم أعد أحب هذا المر فقد انصرفت نفسي عنه ،وهذا يفسد
الرجاء ويقلل المل في حصوله .فإذا قلت لِنسان :عسى ال أن يكرمك فلن وهو مساويه ،فهذا
أمر مستبعد قليلً؛ لن من يقول ذلك ل يملك أن يقوم فلن بإِكرام المساوي له ،لنه صاحب
أغيار.
لكن إذا قلت :عسى ال أن يكرمك فهذه أقوى ،لن ربنا ل يعجزه شيء عن إكرام إنسان .وهل
يقبل ال أن يجيب رجاءك؟ هذه مسألة تحتاج إلى وقفة ،فسبحانه من ناحية القوة له مطلق القدرة
عسَىا رَ ّبكُمْ { فقد
فل شيء يعطله أو يستعصي أو يتأبى عليه .فإذا ما قال الحق عن نفسهَ } :
انتهت المسألة وتقرر الوعد وتحقق ،وهذا ما يقال عنه رجاء محقق .إذن مراحل الرجاء هي:
عسى أن أكرمك ،وعسى أن يكرمك زيد ،وعسى ال أن يكرمك ،وأقوى ألوان الرجاء أن بعد
ع ُد ّوكُمْ[ { ...العراف]129 :
عسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ َ
الحق بالِكرام أو بالرحمةَ } .
والكلم كما نراه هو من موسى ،ول يقدر على هذه المسألة إل ال ،فما موقع هذا من تحقيق
الرجاء؟ .نعلم أن موسى رسول أرسله ال لهداية الخلق ،وأرسله مؤيدا بالمعجزة ،فإذا كان
عسَىا رَ ّبكُمْ أَن
الرسول المؤيد بالمعجزة قد أمره ال أن يبلغهم ذلك ،فيكون الرجاء منه مقبولًَ } :
ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُمْ {.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومرة تكون إزالة الشيء الضار نعمة بمفردها ،أما أن يهلك ال عدوي ويعطيني الحق مكانة
عدوي العالية فهذه نعمة إيجاب ،تكون بعد نعمة سلب .ومثل هذا ما سوف يحدث يوم القيامة؛ لن
خلَ ا ْلجَنّةَ َفقَدْ فَازَ[} ...آل عمران]185 :
الحق يقولَ {:فمَن ُزحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَُأدْ ِ
ومجرد الزحزحة عن النار فضل ونعمة ،فما بالك بمن زُحزح عن النار وأدخل الجنة؟ .لقد نال
نعمتين .وهنا يقول الحق سبحانه } :عَسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُمْ { .وتلك وحدها نعمة تليها نعمة
أخرى هي } :وَيَسْتَخِْل َفكُمْ فِي الَ ْرضِ {.
لكن ثمن هذه النعم هو أن ينظر ماذا تعملون؟ .هل ستشكرون هذه النعم وتكونون عبادا صالحين،
أو تجحدونها وتكفرونها؟ فالِنسان ظلوم كفار.
وكلمة " ينظر " إذا جاءت على الِنسان ُفهِم المراد منها أي يراك بناظره .وإذا أُسندت ل فالمر
مختلف ،فتعالى ال أن تكون له حدقة عين مثل عيوننا .لكنه سبحانه ل يجهل شيئا لينظره؛ لنه
هو -سبحانه -عالمه قبل أن يقع .ونعلم أن هناك فارقا بين الحكم على المخلوق بعلم الخالق،
وبين الحكم على المخلوق بعمل المخلوق.
مثال ذلك نجد الستاذ في مادة ما يعرف مستويات الطلب الذين يدرسون على يديه .وعميد الكلية
يقول له :ما رأيك؟ فيقول فلن تلميذ يستحق النجاح بتقدير مرتفع والثاني لبد أن يرسب .الستاذ
يقول هذا الحكم بناء عن علمه بحال كل طالب .لكن إذا أرسب الستاذ طالبا بناء على تقديره دون
امتحان فالطالب الذي رسب قد يقول لستاذه :أنت شططت في الحكم؛ ولو مكنتني من المتحان
لنجحت .وحين يقرر العميد امتحان الطالب ،ويؤدي المتحان بالفعل ،ولكنه يرسب .هنا يتأكد
للعميد أن الحكم برسوب طالب قد عرفه الستاذ أولً ثم تل ذلك إخفاق الطالب في المتحان.
إن ال سبحانه حين يقول } :فَيَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ { .هو سبحانه ل ينظرها ليعلمها -حاشا ال -
فهو عالمها ،ولكنه ل يريد أن يحكم بعلمه على خلقه .ولكن يريد أن يحكم على خلقه بفعل خلقه،
ل بكل من يهدي ومن يضل .ولذلك خلق الجنة وخلق النار لتسع كل منهما كل
وسبحانه عالم أز ً
الخلق ،ولم يخلق أماكن في الجنة على قدر من سوف يدخلونها فقط ،وكذلك لم يخلق أماكن في
النار ل تسع فقط أهل النار ،بل يمكنها أن تسع كل الخق ،ولم يحكم بعلمه في هذه المسألة ،بل
يترك الحكم الخير لواقع الشياء مادام هناك اختيار للِنسان ،فعلى فرض أنكم جميعا آمنتم فلكم
كلكم أماكن في الجنة .وعلى فرض أنكم -والعياذ بال -كفرتم فلكم أماكن في النار ،وسبحانه لن
ينشئ شيئا جديدا ،بل أعد كل شيء وانتهى المر.
وحين يأتي أهل الجنة ليدخلوا الجنة ،وأهل النار ليدخلوا النار سوف يكون لهل الجنة مقاعد
أخرى كانت مخصصة لمن دخلوا النار .ويعلن لهل الجنة :أورثتموها وخذوها أنتم {:وَنُودُواْ أَن
تِ ْلكُمُ ا ْلجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا[} ...العراف]43 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهي ميراث من الذين كانت معدة لهم ولم يقوموا بالعمل المؤهل لمتلكها .فإياك أن تفهم أن
نظر ال إلى خلقه ليعلم منه شيئا .ل .أنّه العليم أزلً.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُر ُه وَرُسَُلهُ بِا ْلغَ ْيبِ[} ...الحديد]25 :
وسبحانه يعلم أزلً ويتحقق بسلوك الناس علمهم بأفعالهم واقعا ،وعلم الواقع هو الذي يكون حجة
على الخلق .وهنا في الية التي نحن بصددها ثلثة أشياء :أن يهلك سبحانه عدوكم ،وأن يستخلفكم
في الرض ،فينظر كيف تعملون .ونحقق فيما تحقق منهما.
خذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِينَ{ ...
وجاء سبحانه في مقدمة الِهلك ،فقال } :وََلقَدْ أَ َ
()1071 /
وهكذا نرى أن الِهلك لم يحدث دفعة واحدة ،بل على مراحل لعلهم إذا أصابتهم شدة يضرعون
إلى ال.
نحن نعلم أن السنة هي العام ..أي من مدة إلى نهاية مدة مثلها ،لكنها تطلق -أيضا -على
الجدب والقحط .ولذلك يقول الرسول صلى ال عليه وسلم في دعائه على قومه:
" اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "
أي أن ينزل بهم سبحانه بعضا من الجدب ليتأدبوا قليلً.
ويقال " :أسنت القوم " أي أصابهم قحط وجدب .إذن فالسنة المراد منها هنا القحط والجدب.
ولماذا سماها سنة؟ لن نعم ال متوالية كثيرة ،وابتلءاته لخلقه بالشرّ قليلة في الكون ،وسبحانه
ينعم عليهم مدة طويلة ثم يبتليهم في لحظة ،فإذا ما ابتلهم في وقت يؤرخ به ،ويقال حدث البتلء
سنة كذا ,فيقال :سنة الجراد ،سنة حريق القاهرة ،وهكذا نجد الناس تؤرخ بالحداث المفجعة؛ لن
الحداث السارة عادة تكون أكثر من الحداث السيئة .ولذلك قلنا إن الذي يعد أيام البلء عليه أن
يقارنها بأيام الرخاء ،وعلى الواحد منا أن ينظر إلى أيام السنة التي عاشها ،إن جاء له يوم بلء
حزن نقل له :وكم مرة عشت ونعمت بالرخاء؟ ونجد أن أيام الرخاء هي أكثر من أيام البلء:
ن وَ َنقْصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ }.
{ وََلقَدْ َأخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِي َ
وعرفنا أن السنين -كما قلنا -تعني الجدب والقحط ،أما قوله سبحانه { :وَنَ ْقصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ }
فهو يدل على أن بعضا من الثمار كان موجودا ،أو كان الجدب والقحط في البادية ،أما " نقص
الثمرات " فكان في الحضر ،ويقال :إن النخلة الواحدة في الحضر كانت ل تطرح في السنة إل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بلحة واحدة .ولماذا هذه البلحة؟ لن أسباب رحمته سبحانه يجب أن تبقى في خلقه ،ولو أن النخل
كله لم يطرح ول بلحة واحدة ل نقطع نسل النخيل؛ لذلك يُبقي ال أسباب رحمته لنا.
إننا نرى في واقعنا مهما حاولوا أن يستزرعوا فواكهه بدون بذور بواسطة التقدم العلمي
المعاصر ،نجد ثمرة وقد شذت وفيها بذرة ،لماذا؟ يقال لنا لستبقاء النوع ،فلو خرجت كل الثمار
بل بذور ثم أكلناها جميعها فكيف نزرع محصولً جديدا؟ ولذلك قلنا من قبل إن الحق سبحانه
وتعالى من رحمته بالخلق في استبقائه للنعم ومقومات الحياة لم يجعل الثمار حلوة تستساغ إل بعد
أن تَنْضج بذرتها ،فأنت حين تفتح البطيخة إن كان بذرها أبيض تجد طعمها ل يستساغ وترميها.
لكن حين يسودّ بذرها ويكون صالحا لن تعيد زراعته ،هنا تكون ثمرة البطيخة ناضجة وحلوة
الطعم .وبذلك يوضح لك الحق أن الثمار لن تصير مقبولة ومستساغة إل بعد أن تنضج بذرتها
لتكون صالحة لستنباتها من جديد ،وفي هذا استبقاء للرحمة ،وحتى مع العاصين نجده سبحانه
يستبقي الرحمة معهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1072 /
حسَنَةُ قَالُوا لَنَا َه ِذ ِه وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّ َئةٌ يَطّيّرُوا ِبمُوسَى َومَنْ َمعَهُ أَلَا إِ ّنمَا طَائِرُهُمْ عِ ْندَ
فَإِذَا جَاءَ ْتهُمُ الْ َ
اللّ ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ ()131
والحسنة إذا أطلقت فهي المر الذي يأتي من ورائه الخير .ولكن الحسنة مرة تكون لك ،ومرة
تُطْلَب منك ،فالحسنة التي لك في ذاتك أولً أن تكون في عافية وسلم ،ثم الحسنة في مقومات
الذات ومقومات الحياة ،وهي في النبات ،والحيوان ،والخصب والثروة .والحسنة المطلوبة منك
هي أيضا لك .فسبحانه يطلب منك عمل شيء يورّثك في الخرة حسنة ،ولذلك يقول سبحانه {:مَن
حسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا[} ...النعام]160 :
جَآءَ بِالْ َ
وهذه هي الحسنة التي تعطي الِنسان خيرا فيما بعد .إذن فالحسنة التي في ذاتك من عافية
وسلمة أو في مقومات الذات من ثمرات وحيوانات وخصب وأعشاب وثراء فكلها موقوتة بزمن
موقوت هو الدنيا .والحسنة الثانية غير محدودة لن زمنها غير محدود .فأي الحسنات أرجح
وأفضل بالنسبة للِنسان؟ .إنها حسنة الخرة.
وقوله الحق { :فَِإذَا جَآءَ ْتهُمُ ا ْلحَسَ َنةُ } أي جاء لهم قدر من الخصب والثمار وغير ذلك من الرزق
يقولون " :لنا هذه " أي أننا نستحقها؛ فواحد يقول :أنا أستحقها لنني رتبت لها وأتقنت الزراعة
ىعِلْمٍ عِندِي[} ...القصص]78 :
عَل ٰ
والحصاد مثلما قال قارون {:إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ َ
وأجرى عليه الحق التجربة ،فمادام يدعي أنه جاء بالمال على علم من عنده فليجعل العلم الذي
عنده يحافظ له على المال أو يحافظ له على ذاته .وهم قالوا عن الحسنات التي يهبها ال لهم" :
قالوا لنا هذه " أي نستحقها ،لننا قدمنا مقدمات تعطينا هذه النتائج .وجرت العادة قديما بأن يفيض
النيل كل سنة يغمر الرض ،ثم يبذرون الحب وينتظرون الثمار .فإن جاءت لهم سيئة مثل أخذهم
ال لهم بالسنين ينسبون ذلك لموسى...{ .وَإِن ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ َيطّيّرُواْ ِبمُوسَىا َومَن ّمعَهُ أَل إِ ّنمَا
طَائِرُ ُهمْ عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [ العراف]131 :
فإذا ما جاءتهم سيئة يطّيّرون أي يتشاءمون لن الطيرة هي التشاؤم ،وضده التفاؤل ،ويقال" :
فلن طائره نحس " ،و " فلن طائره يمن وسعد " .وقديما حينما كانوا يريدون طلب مسألة ما،
يأتون بطير ويضعه صاحب المسألة على يده ويزجره ويثيره ،فإن طار يمينا فهذا فأل حسن ،وإن
طار يسارا فهذا فأل سيئ ،والحق هنا يوضح :ل تظلموا موسى ،لن شؤمكم أو حظكم السيئ
ليس من موسى؛ لن موسى ل يملك في كون ال شيئا ،وإنما المالك للكون هو رب موسى .وكأن
الحق يريدهم أيضا أل يفتنوا في موسى إن صنع شيئا يأتي لهم بخير ،وهنا يقول لهم ل تتطيروا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بموسى ،لن طائركم من عند ال.
ولن أحداث الحياة صنفان :حدث لك فيه مدخل ،مثل التلميذ الذي لم يذاكر ويرسب ،أو إنسان ل
يحسن قيادة سيارته فقادها فعطبت به أو أصاب أحدا إصابة خطيرة ،وهنا ل غريم لهذا الِنسان،
بل هو غريم نفسه.
وهناك شيء يقع عليك ،واسمه حدث قهري ،فالِنسان في الحداث بين أمرين اثنين :إما مصيبة
دخلت عليه من ذات نفسه لتقصيره في شيء .وإمّا أحداث قدرية تنزل بالِنسان ونقول إنها من
عند ال لحكمة ل يعرفها الِنسان؛ لن الِنسان ينظر إلى سطحيات الشياء ،وإلى عاجل المر
فيها ،ولكنه ل ينظر إلى عاقبة المر .ولهذا تحدث له بعض من الحداث ليس له فيها مدخل.
مثال ذلك :أن يكون للِنسان ابن نجيب وذكي وترتيبه دائما من العشرة الوئل ،ثم جاء في ليلة
المتحان أو في يوم المتحان وأصابه صداع جعله ل يعرف كيف يجيب عن أسئلة المتحان
ورسب ،وهذه مصيبة ليس له مدخل فيها.
وعادة ما يحزن الناس من مثل هذه المصائب لكن المؤمن يقول :إن الولد لم يقصر ،وهذا أمر
جاء من ال ،وسبحانه منزه عن العبث ،بل حكيم ولبد أن له حكمة في مثل هذه المور .وبعد
مدة تتبين الحكمة ،فلو كان الولد قد نجح لصابته عين الحسود .وحدث له ما يكره ،فكأن ال
يصنع له تميمة يحميه بها من الحسد .وقديما حين كانوا يصنعون للطفل الجميل " فاسوخة " ،ول
يهتمون بنظافته ول بملبسه ،لماذا؟ يقال حتى ل تتجه إليه عين العائن الحاسد.
وأقول :وما الذي يدرك أن ال سبحانه وتعالى صنع الحادث الطارئ ليرد عنه العين ،ويُسكت
الناس عنه؟ وما الذي يدريك أن ال أراد له أن يرسب هذا العام لنه لم يكن يستطيع الحصول
على المجموع الذي يدخله الكلية التي يريدها ،ثم يستذكر في العام التالي وتكون المذاكرة سهلة
بالنسبة له ،ونقول له :احمد ربك على أنك لم تنجح في العام السابق وأن ال أراد بك خيرا ..لتبذل
جهدا وتنجح وتنال المجموع الذي أردته لنفسك.
إذن فالمقادير التي تجري على الناس بدون دخل لهم فيها ،فلله فيها حكمة ،وهنا يقال } :طَائِرُ ُهمْ
عِندَ اللّهِ { ،أما إن كان للِِنسان دخل فيما يجري له فيقال :طائرك من عندك أنت وشؤمك من
نفسك وعصيانك } .فَِإذَا جَآءَ ْتهُمُ ا ْلحَسَ َنةُ قَالُواْ لَنَا هَـا ِذهِ وَإِن ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ َيطّيّرُواْ ِبمُوسَىا َومَن
ّمعَهُ أَل إِ ّنمَا طَائِ ُرهُمْ عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [العراف]131 :
ألم يتطير اليهود في المدينة برسول ال صلى ال عليه وسلم حينما قالوا :قلت المطار وارتفعت
السعار من شؤم مجيء هذا الرجل ،ولم يتفهموا حكم ال .لقد كانوا سادة في الجزيرة؛ لنهم أهل
علم بالكتاب وسيطروا على حركة السوق التجارية ،وتعاملوا في الربا وتجارة السلح وكان
عندهم الحصون ،والسلحة ،وأراد ال أن يشغلهم بأخذ شيء من أسبابهم ويهد كيانهم ليلفتهم إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنهم خرجوا عن المنهج إلى أن هناك رسولً قد جاء بعودة إلى المنهج.
وقوله الحق } :وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { يفيد أن هناك قلة تعلم .فما موقف هذه القلة ،ولماذا لم
يرفضوا موقف الكثرة؟ .كان موقفهم هو الصمت خوفا من الطغيان؛ لن الطاغية أجبرهم وقهرهم
وجعلهم يسكتون ول يعترضون على باطل ،ونرى في حياتنا كثيرا من الناس يعلمون الزور
ويعلمون الطغيان ولكنهم ل يتكلمون.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وقَالُواْ َم ْهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آ َيةٍ{ ...
()1073 /
َوقَالُوا َم ْهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا ِبهَا َفمَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ ()132
أي وقال قوم فرعون لموسى عليه السلم :أي شيء تأتينا به من المعجزات لتصرفنا عما نحن
فلن نؤمن لك ،وسموا ما جاء به موسى " آية " استهزاء منهم وسخرية .وكل هذه مقدمات تبرز
الِهلك الذي قال ال فيه {:عَسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُمْ[} ...العراف]129 :
وأعلنوا أن ما جاء به موسى هو سحر على الرغم من أنهم رأوا السحرة الذين برعوا في السحر
جمِعوا
وعرفوا طرائقه وبذّوا فيه سواهم قد خروا ساجدين وآمنوا ،كيف يحدث هذا والسحرة كلهم ُ
إلى وقت معلوم؟ وشهد كل الناس التجربة الواقعية التي ابتلعت فيها عصا موسى كل سحر
السحرة فآمنوا وسجدوا ،فكيف يتأتى لمن ل يعرفون السحر أن يتهموا موسى بالسحر؟ وكيف
يظنون أن ما يأتي به من آيات ال هو لون من السحر؟ .إنهم يقولون كلمة " مهما " وهي تدل
على استمرارية العناد في نفوسهم مثلما يقول واحد لخر :لقد صممت على أل أقبل كلمك،
فيكرر الرجل :انتظر لتسمع حجتي الثانية فقد تقنعك ،فيقول :مهما تأتني من حجج فلن أسمع لك،
وهذا يعني استمرارية العناد والجحود والتمرد ويقدمون حيثيات هذا الجحود فيقولونَ { :وقَالُواْ
سحَرَنَا ِبهَا َفمَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ } [العراف]132 :
َم ْهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آ َيةٍ لّتَ ْ
وإذا كانوا يظنون أن آيات ال التي مع موسى من السحر ،فهل للمسحور إرادة مع الساحر؟ .لو
كانت المسألة سحرا لسحركم وانتهى المر .وقلنا قديما في الرد على الذين قالوا :إن محمدا يسحر
ليؤمنوا به ،قلنا إذا كان هو قد سحر الناس ليؤمنوا به ،فلماذا لم يسحركم لتؤمنوا وتنفض المسألة؟
إن بقاءكم على العناد دليل على أنه ل يملك شيئا من أمر السحر.
وأنت ساعة تسمع كلمة " مهما " تعرف أن هناك شرطا ،وله جواب ،ويقول العلماء :إن أصلها "
مه " أي ُكفّ عن أن تأتينا بأية آية فلن نصدقك .وهذا يعني أن هناك إصرار وعنادا على عدم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الِيمان.
سلْنَا عَلَ ْيهِمُ الطّوفَانَ وَالْجَرَادَ} ...
ويبين الحق عقابه لهم على ذلك { :فَأَرْ َ
()1074 /
وكلمة " الطوفان " يراد بها طغيان ماء ،والماء -كما نعلم -هو سبب الحياة ،وقد يجعله ال سببا
للدمار حتى ل تفهم أن المسائل بذاتيتها ،بل بتوجيهات القادر عليها ،وعندما ننظر إلى الطوفان
الذي أغرق من قبل قوم نوح ،ولم ينج أحد إل من ركب مع نوح في السفينة؛ وهنا مع قوم موسى
ل توجد سفينة ،لن ال يريد أن يؤكد لهم العقاب على طغيانهم .وإذا كان الطوفان قد أصاب آل
فرعون ومعهم بنو إسرائيل لدرجة أن الواحد منهم كانت المياه تبلغ التراقي فيبقى واقفا لنه لو
جلس يموت ،ويظل هكذا ،وأمطرت عليهم السماء سبعة أيام ،ل يعرفون فيها الليل من النهار
ويرون أمامهم بيوت بني إسرائيل ل تلمسها المياه ،وهذه معجزة واضحة ،لقد عمّ الطوفان وأراد
الحق أن ينجي بني إسرائيل منه دون حيلة منهم حتى ل يقال آية كونية جاءت على هيئة طوفان
وانتهت المسألة ،لكن الطوفان جاء لبيوتهم ولم يلمس بني إسرائيل.
وقال الرواة :إن الطوفان دخل على فرعون حتى صرخ واستنجد بموسى ،وقال له :كف عنا هذا
ونؤمن بما جئت به ،ودعا موسى ربه فكف عنهم الطوفان .لكنهم عادوا إلى الكفر.
وجعل ال من آياته لمحات ،وإشارات ،بدأت بالطوفان ،وحين يوضح ربنا :أنا عذبت بالطوفان
قوم نوح ،وقوم فرعون ،فهو يعطينا ملمح تشعرنا بصدق القضية ،فيهبط السيل في أي بلد ويهدم
الديار ويغرق الزرع والحيوانات ،لنرى صورة كونية ،وكذلك الجراد يرسله ال على فترات
فيهبط في أي وقت من الوقات ،ونقيم الحملت لمكافحته ،وهذا دليل على صدق الشياء التي
حكى ال عنها ،فلو لم يوجد جراد ول طوفان لكنا عرضة أل نصدق .وابتلهم ال بالقمل كذلك.
{ وَا ْل ُق ّملَ } هو غير ال َقمْل .فال َقمْل هو الفة التي تصيب الِنسان في بدنه وثيابه وتنشأ من قذارة
الثياب ،أما ال ُقمّل فقيل هو السوس الذي يصيب الحبوب ،ومفردها ُقمّلَة ،وقيل هو ما نسميه
بالقراد ،وقيل هو الحشرات التي تهلك النبات والحرث ،وحين نراه نفزع ونبحث عن تخليص
الزرع منه باليد والمبيدات ،وكل ذلك من تنبيهات الحق للخلق ،وهي مجرد تنبيه وإرشاد وَل ْفتٌ
لللتفات إلى الحق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضفَا ِدعَ } ،وعندما يضع أي إنسان منهم يده في شيء يجد فيها
وكذلك يرسل ال عليهم { وال ّ
الضفادع؛ فإناء الطعام يرفع عنه الغطاء فترى فيه الضفادع ،والمياه التي يشربها يجد فيها
الضفادع!! وإن فتح فمه تدخل ضفدعة في الفم!! .فهي آية ومعجزة ،وكذلك { والدّمَ } ،فكان كل
شيء ينقلب لهم دما.
ويقال :إن امرأة من قوم فرعون أرادت أن تشرب ماء ،فذهبت إلى امرأة من بني إسرائيل وقالت
لها :خذي الماء في فمك ومُجيه في فمي ،كأنها تريد أن تحتال على ربنا وتأخذ مياها من غير دم،
فينتقل من فم السرائيلية وهو ماء ،فإذا ما دخل فم المرأة التي هي من قوم فرعون صار دما.
()1075 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هم إذن بعد أن استكبروا وكانوا قوما مجرمين ،وتوالت عليهم الحداث ،والرجز هو المور
المفزعة وما نزل بهم من العذاب ،وهنا ذهبوا إلى موسى ليسألوه أن يدعو ال ليكشف ويرفع
عنهم ما نزل بهم من العقاب .إذن فهم آمنوا بأن موسى مرسل من رب ،وهم قد فهموا أن الرجز
الذي عاشوا فيه لن يرتفع إل من ذلك الرب .وهذا ينقض ربوبية إلههم فرعون ،لنه لو كانت
ربوبية فرعون في عقيدتهم لذهبوا إليه ولم يذهبوا إلى عدوهم موسى ليسألوه أن يدعو لهم ال.
ومن هنا نأخذ أكثر من قضية عقدية هي أولً :أن ألوهية فرعون باطلة ،وثانيا :أن موسى مقبولْ
الدعاء عند ربه ،وثالثا :أنه إن لم يكشف ربه هذا العذاب فسيستمر هذا العذاب ،وكل هذه مقدمات
ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ لَ ُن ْؤمِنَنّ
عهِدَ عِن َدكَ لَئِن كَ َ
تعطي الِيمان بال ...{ .قَالُواْ يامُوسَىا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ
ك وَلَنُرْسِلَنّ َم َعكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } [العراف]134 :
َل َ
أي ادع ربّك بما أعطاك ال من العهد أن ينصرك لنك رسوله المؤيّد بمعجزاته وهو لن يتخلى
عنك .ادع ال أن يرفع عنا العذاب وال لئن رفعت وكشفت عنا ما نحن فيه من العذاب لنؤمنن بك
ولنصدقن ما جئت به ولنرسلن ونطلقن معك بني إسرائيل ،وقد كانوا يستخدمونهم في أحط وأرذل
العمال ،ولكنهم في كل مرة بعد أن يكشف الحق عنهم العذاب يعودون إلى نقض العهد بدليل
شفْنَا عَ ْنهُمُ الرّجْزَ} ...
قوله سبحانه عنهم { :فَلَماّ كَ َ
()1076 /
شفْنَا عَ ْنهُمُ
فكأن لهم مع كل آية نقضا للعهد ،وانظر الفرق بين العبارتين :بين قوله الحق { :فَلَماّ كَ َ
عهِدَ عِن َدكَ لَئِن
جلٍ هُم بَاِلغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } وبين قوله السابق { :ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ
الرّجْزَ إِلَىا أَ َ
ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ } ،فمن إذن يكتشف الرجز؟ إن الكشف هنا منسوب إلى ال ،وكل كشف
كَ َ
جلٍ هُم بَاِلغُوهُ ِإذَا ُهمْ يَنكُثُونَ }.
للرجز له مدة يعرفها الحق ،فهو القائل { :إلَىا َأ َ
والنكث هو نقض العهد.
ويتابع سبحانه { :فَانْ َتقَمْنَا مِ ْنهُمْ} ...
()1077 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فَانْ َتقَمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ فِي الْيَمّ بِأَ ّن ُهمْ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا َوكَانُوا عَ ْنهَا غَافِلِينَ ()136
ويوضح هنا سبحانه أنه مادام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم ،وفي مقومات حياتهم ،وفي معكرات
صفوهم لم يبق إل أن يهلكوا؛ لنه ل فائدة منهم؛ لذلك جاء المر بإغراقهم ،ل عن جبروت قدرة،
بل عن عدالة تقدير؛ لنهم كذبوا باليات وأقاموا على كفرهم .ويلحظ هنا أن أهم ما في القضية
وهو الِغراق قد ذكر على هيئة الِيجاز ،وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل،
فالحق سبحانه يقول {:وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنْ أَسْرِ ِبعِبَادِي إِ ّنكُم مّتّ َبعُونَ }[الشعراء]52 :
ولم يأت الحق هنا بتفاصيل قصة الِغراق؛ لن كل آية في القرآن تعالج موقفا ،وتعالج لقطة من
اللقطات؛ لن القصة تأتي بإجمال في موضع وبإطناب في موضع آخر ،وهنا يأتي موقف
الِغراق بإجمال { :فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ }.
وكلمة { فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ } لها قصة طويلة معروفة ومعروضة عرضا آخر في سورة أخرى ،فحين
خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر خرج وراءهم فرعون ،وحين رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا
بمنطق الحداث { :إِنّا َلمُدْ َركُونَ } .مدركون من فرعون وقومه لن أمامهم البحر وليس عندهم
وسيلة لركوب البحر .لكن موسى المرسل من ال علم أن ال لن يخذله؛ لنه يريد أن يتم نعمة
الهداية على يديه ،كان موسى عليه السلم ممتلئا باليقين والثقة لذلك قال بملء فيه {:كَلّ إِنّ َم ِعيَ
رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء]62 :
هو يقول " :كل " أي لن يدركوكم ل بأسبابه ،بل أسباب من أرسله بدليل أنه جاء بحيثيتها معها
وقال { :إِنّ َم ِعيَ رَبّي سَ َي ْهدِينِ } .لقد تكلم بمنطق المؤمن الذي أوى إلى ركن شديد ،وأن المسائل
ل يمكن أن تنتهي عند هذا الوضع؛ لنه لم يؤد المهمة بكاملها ،لذلك قال " :كل " يملء فيه ،مع
أن السباب مقطوع بها .فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم ،وأتبع ذلك بقوله { :إِنّ َم ِعيَ رَبّي
سَ َيهْدِينِ } بالحفظ والنصرة ..أي أن السباب التي سبق أن أرسلها معي ال فوق نطاق أسباب
البشر ،فالعصا سبق أن نصره ال بها على السحرة ،وهي العصا نفسها التي أوحى له سبحانه
باستعمالها في هذه الحالة العصيبة قائلً له {:اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َبحْرَ[} ...الشعراء]63 :
ونعرف أن البحر وعاء للماء ،وأول قانون للماء هو السيولة التي تعينه على الستطراق ،ولو لم
يكن الماء سائلً ،وبه جمود وغلظة لصار قطعا غير متساوية ،ولكن الذي يعينه على الستطراق
هو حالة السيولة ،ولذلك حين نريد أن نضبط دقة استواء أي سطح نلجأ إلى ميزان الماء.
وقال الحق سبحانه لموسى عليه السلم {:اضْرِب ّب َعصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء]63 :
وحين ضرب موسى بعصاه البحر امتنع عن الماء قانون السيولة وفقد قانون الستطراق ،ويصور
طوْدِ ا ْلعَظِيمِ }.
ال هذا المر لنا تصويرا دقيقا فيقولَ { :فكَانَ ُكلّ فِ ْرقٍ كَال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي صار كل جزء منه كالطود وهو الجبل ،ونجد في الجبل الصلبة ،وهكذا فقد الماء السيولة
وصار كل فرق كالجبل الواقف ،ول يقدر على ذلك إل الخالق ،لن السيولة والستطراق سنة
كونية ،والذي خلق هذه السنة الكونية هو الذي يستطيع أن يبطلها .وحين سار موسى وقومه في
اليابس ،وقطع الجميع الطريق الموجود في البحر سار خلفهم فرعون وجنوده وأراد موسى أن
يضرب البحر بعصاه ليعود إلى السيولة وإلى الستطراق حتى ل يتبعه فرعون وجنوده ،وهذا
تفكير بشري أيضا ،ويأتي لموسى أمر من ال {:وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ رَهْوا[} ...الدخان]24 :
أي اترك البحر ساكنا على هيئته التي هو عليها ليدخله فرعون وقومه ،إنه سبحانه ل يريد للماء
أن يعود إلى السيولة والستطراق حتى يُغري الطريق اليابس فرعون وقومه فيأتوا وراءكم
ليلحقوا بكم ،فإذا ما دخلوا واستوعبهم اليابس؛ أعدنا سيولة الماء واستطراقه فيغرقون؛ ليثبت الحق
أنه ينجي ويهلك بالشيء الواحد ،وكل ذلك يجمله الحق هنا في قوله } :فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ فِي
الْيَمّ { .و " اليم " هو المكان الذي يوجد به مياه عميقة ،ويطلق مرة على المالح ،ومرة على
خفْتِ
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
العذب ،فمثلً في قصة أم موسى ،يقول الحق {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ[} ...القصص]7 :
وكان المقصود باليم هناك النيل ،لكن المقصود به هنا في سورة العراف هو البحر .ويأتي سبب
الِغراق في قوله } :بِأَ ّن ُهمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا َوكَانُواْ عَ ْنهَا غَافِلِينَ {.
كيف إذن يعذبهم ويغرقهم نتيجة الغفلة ،ونعلم أن الغفلة ليس لها حساب؟ بدليل أن الصائم قد يغفل
ويأكل ويصح صيامه .ويقال إن ربنا أعطى له وجبة تغذيه بالطعام وحسب له الصيام لنه غافل.
لكن هنا يختلف أمر الغفلة؛ فالمراد بـ " غافلين " هنا أنهم قد كانوا قد كذبوا بآيات ال ثم
أعرضوا إعراضا ل يكون إل عن غافل عن ال وعن منهجه ،ولو أنهم كانوا عبادا مستحضرين
لمنهج ال لما صح أن يغفلوا ،وهذا القول يحقق ما سبق ان قاله سبحانه {:عَسَىا رَ ّب ُكمْ أَن ُيهِْلكَ
عَ ُد ّوكُمْ[} ...العراف]129 :
ثم يأتي بعد ذلك القول الذي يحقق ما سبق أن قاله سبحانه {:وَيَسْتَخِْل َفكُمْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرَ كَ ْيفَ
َت ْعمَلُونَ }[العراف]129 :
ويقول الحق تأكيدا لذلك } :وََأوْرَثْنَا ا ْل َقوْمَ الّذِينَ{ ...
()1078 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ض َو َمغَارِ َبهَا الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ
ض َعفُونَ مَشَا ِرقَ الْأَ ْر ِ
وََأوْرَثْنَا ا ْل َقوْمَ الّذِينَ كَانُوا يُسْ َت ْ
ن َو َق ْومُهُ َومَا كَانُوا َيعْرِشُونَ (
عوْ ُ
علَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ِبمَا صَبَرُوا وَ َدمّرْنَا مَا كَانَ َيصْنَعُ فِرْ َ
حسْنَى َ
الْ ُ
)137
أي صارت مصر والشام تحت إمرة بني إسرائيل ،وهي الرض التي باركها ال ،بالخصب،
وبالنماء ،بالزروع ،بالثمار ،بالحيوانات ،وبكل شيء من مقومات الحياة ،وترف الحياة { :وَ َت ّمتْ
كَِلمَةُ رَ ّبكَ ا ْلحُسْنَىا عَلَىا بَنِي إِسْرَآئِيلَ ِبمَا صَبَرُواْ }.
{ وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ } أي استمرت عليهم الكلمة وتم وعد ال الصادق بالتمكين لبني إسرائيل في
الرض ونصره إياهم على عدوهم ،واكتملت النعمة؛ لن ال أهلك عدوهم وأورثهم الرض،
خِلفَكُمْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرَ كَ ْيفَ
وتحققت كلمته سبحانه التي جاءت على لسان موسى... {:وَيَسْتَ ْ
َت ْعمَلُونَ }[العراف]129 :
ق الَ ْرضِ
ض َعفُونَ مَشَا ِر َ
هكذا تمت كلمة ال بقوله سبحانه { :وََأوْرَثْنَا ا ْلقَوْمَ الّذِينَ كَانُواْ يُسْ َت ْ
َو َمغَارِبَهَا } [العراف]137 :
ق الَ ْرضِ َو َمغَارِ َبهَا } تقال بالنسبيات؛ فليس هناك مكان اسمه مشرق وآخر
ونعلم أن كلمة { مَشَا ِر َ
اسمه مغرب ،لكن هذه اتجاهات نسبية؛ فيقال هذا مشرق بالنسبة لمكان ما ،وكذلك يقال له "
مغرب " بالنسبة لمكان آخر .وحين ينتقل الِنسان إلى مكان آخر يوجد مشرق آخر ومغرب آخر.
وعلى سبيل المثال نجد من يسكن في الهند واليابان يعلمون أن منطقة الشرق الوسط بالنسبة لهم
مغرب ،ومن يسكنون أوروبا يعرفون أن الشرق الوسط بالنسبة لهم مشرق.
وقلنا من قبل :إن الحق حين جاء " بالمشرق والمغرب " بصيغة الجمع كما هنا فذلك إنما يدل
على أن لكل مكان مشرقا ،ولكل مكان مغربا؛ فإذا غربت الشمس في مكان فهي تشرق في مكان
آخر .وفي رمضان نجد الشمس تغرب في القاهرة قبل السكندرية بدقائق.
ونعلم أن سبب هذه الدورة إنما هو ليبقى ذكر ال بكل مطلوبات ال في كل أوقات ال ،مثال ذلك
حين نصلى نحن صلة الفجر نجد أناسا يصلون في اللحظة نفسها صلة الظهر ،ونجد آخرين
يصلون صلة العصر ،وقوما غيرهم يصلون صلة المغرب ،وغيرهم يصلي صلة العشاء.
وبذلك تحقق إرادة ال في أن هناك عبادة في كل وقت وفي كل لحظة ،فحين يؤذن مسلم قائلً "
ال أكبر " لينادي لصلة الفجر ،هناك مسلم آخر يقول " :ال أكبر " مناديّا لصلة الظهر أو
العصر أو المغرب أو العشاء ،وهذا هو الختلف في المطالع أراد به سبحانه أن يظل اسمه
مذكورا على كل لسان في كل مكان لتعلو " ال أكبر ،ال أكبر " في كل مكان.
وأنت إذا حسبت الزمن بأقل من الثانية تجد أن كون ال ل يخلو من " ل إله إل ال " أبدا { :وَ َت ّمتْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كَِلمَةُ رَ ّبكَ ا ْلحُسْنَىا } .ونعلم أن كلمة " الحسنى " وصف للمؤنث ،و " كلمة " مؤنثة ،والكلمة هي
جعََل ُهمُ ا ْلوَارِثِينَ }
جعََل ُهمْ أَ ِئمّ ًة وَنَ ْ
ض ِعفُواْ فِي الَ ْرضِ وَنَ ْ
قوله الحق {:وَنُرِيدُ أَن ّنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ
[القصص]5 :
لقد قال الحق القصة بإيجاز ،وهذه هي التي قالها ربنا وهي كلمة " الحسنى " لنه سبحانه لم يعط
لهم نعمة معاصرة لنعمة العدو ،بل نعمة على أنقاض العدو ،فهي نعمة تضم إهلك عدوهم ،ثم
علَىا بَنِي
أعطاهم بعد ذلك أن جعلهم أئمة وهداة وورثهم الرض { :وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ الْحُسْنَىا َ
إِسْرَآئِيلَ ِبمَا صَبَرُواْ }.
وهم بالفعل قد صبروا على الِيذاء الذي نالوه وذكره سبحانه من قبل حين قالَ {:يسُومُو َنكُمْ سُوءَ
ا ْلعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآ َءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ[} ...البقرة]49 :
عوْنُ َوقَ ْومُ ُه َومَا كَانُواْ َيعْرِشُونَ
وجاء عقاب ال لقوم فرعون ...} :وَ َدمّرْنَا مَا كَانَ َيصْنَعُ فِرْ َ
{ [العراف]137 :
والتدمير هو أن تدرك شيئا وتخربه ،وقد ظل ما فعله ال بقوم فرعون باقيّا في الثار التي تدلك
على عظمة ما فعلوا ،وتجد العلماء في كل يوم يكتشفون تحت الرض آثارا كثيرة .ومن العجيب
أن كل كشوف الثار تكون تحت الرض ،ول يوجد كشف أثري جاء من فوق الرض أبدا.
وكلمة " دمرنا " تدل على أن الشياء المدمرة كانت عالية الرتفاع ثم جاءت عوامل التعرية
لتغطيها ،ويبقى ال شواهد منها لتعطينا نوع ما عمّروا؛ كالهرام مثلً .وكل يوم نكتشف آثارا
جديدة موجودة تحت الرض مثلما اكتشفنا مدينة طيبة في وادي الملوك ،وكانت مغطاة بالتراب
بفعل عوامل التعرية التي تنقل الرمال من مكان إلى مكان .وأنت إن غبت عن بيتك شهرا ومع
أنك تغلق البواب والشبابيك قبل السفر؛ ثم تعود فتجد التراب يغطي جميع المنزل والثاث؛ كل
ذلك بفعل عوامل التعرية التي تنفذ من أدق الفتحات ،ولذلك لو نظرت إلى القرى القديمة قبل أن
تنشأ عمليات الرصف التي تثبت الرض نجد طرقات القرية التي تقود إلى البيوت ترتفع مع
الزمن شيئا فشيئا وكل بيت تنزل به قليلً ،وكل فترة يردمون أرضية البيوت لتعلو ،وكل ذلك من
عوامل التعرية التي تزيد من ارتفاع أرضية الشوارع .وكل آثار الدنيا ل تكتشف إل بالتنقيب،
إذن فكلمة " دمرنا " لها سند .والحق يقول عن أبنية فرعونَ {:وفِرْعَوْنَ ذِى الَوْتَادِ }[الفجر]10 :
ونجد الهرم مثلً كشاهد على قوة البناء ،وإلى الن لم يكتشف أحد كيف تم بناء الهرم .وكيف
تتماسك صخوره دون مادة كالسمنت مثلً ،بل يقال :إن بناء الهرم قد تم بأسلوب تفريغ الهواء،
ول أحد يعرف كيف نقل المصريون الصخرة التي على قمة الهرم .إذن فقد كانوا على علم واسع.
وإذا ما نظرنا إلى هذا العلم عمارة وآثارا وتحنيطا لجثث القدماء ،إذا نظرت إلى كل هذا وعلمت
أن القائمين به كانوا من الكهنة المنسوبين للدين ،لتأكدنا أن أسرار هذه المسائل كلها كانت عند
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رجال الدين ،وأصل الدين من السماء ،وإن كان قد حُرّف .وهذا يؤكد لنا أن الحق هو الذي هدى
ق الَ ْرضِ
ض َعفُونَ مَشَا ِر َ
الناس من أول الخلق إلى واسع العلم } .وََأوْرَثْنَا ا ْلقَوْمَ الّذِينَ كَانُواْ يُسْ َت ْ
علَىا بَنِي ِإسْرَآئِيلَ ِبمَا صَبَرُواْ وَ َدمّرْنَا مَا
َو َمغَارِبَهَا الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ الْحُسْنَىا َ
عوْنُ َوقَ ْومُ ُه َومَا كَانُواْ َيعْرِشُونَ { [العراف]137 :
كَانَ َيصْنَعُ فِرْ َ
و " يعرشون " أي يقيمون جنات معروشات ،وقلنا من قبل :إن الزروع مرة تكون على سطح
الرض وليس لها ساق ومرة يكون لها ساق ،وثالثة يكون لها ساق لينة فيصنعون له عريشة أو
كما نسميه نحن التكعيبة لتحمله وتحمل ثمرهُ.
وبعد ذلك يقول الحق } :وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ{ ...
()1079 /
لقد قالوا ذلك وهم مازالوا مغمورين في نعم ال إنجاء من عدو ،واستخلفا في الرض ،ومع ذلك
بمجرد أن طلعوا إلى البر ورأوا جماعة يعبدون صنما طالبوا موسى أن يجعل لهم صنما يعبدونه.
لقد حسدوا من يجهلون قيمة الِيمان ويعكفون على عبادة الصنام ،ويعكف تعني أن يقيم إقامة
لزمة ،ومنه العتكاف في المسجد ،أي النقطاع عن حركة الحياة خارج المسجد إلى عبادة ال
ج َعلْ لّنَآ إِلَـاها َكمَا َلهُمْ آِلهَةٌ[ } ...العراف:
في بيتهَ { .ي ْع ُكفُونَ عَلَىا َأصْنَامٍ ّلهُمْ قَالُواْ يامُوسَىا ا ْ
]138
وهذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء ،كأن الِله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ
عليهم من النعم الكثير ،وهذه أول خيبة ،وهم يريدون أن يكون الِله مجعولً برغم أن الِله
بكمالته وطلقة قدرته جاعل ،ولكن عقيلتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها
الِيمان .وقالوا :اجعل لنا إلها! وأرادوا أن ينحت لهم الصنام ،وقد يقول واحد منهم :رأس الِله
ج َعلْ لّنَآ
ل صغّرها بعض الشيء ،وأنفه غير مستقيمة فلنعدلها بالِزميل ،وقولهم { :ا ْ
كبيرة قلي ً
إِلَـاها } .وهذا ما يجعلنا نفهم أن عقولهم لم تستوعب حقيقة الِيمان؛ لذلك يقول لهم موسى:
جهَلُونَ }.
{ إِ ّن ُكمْ َقوْمٌ تَ ْ
ولم يقل لهم " :ل تعلمون " بل قال " :تجهلون " لن هناك فارقا بين عدم العلم بالشيء ،وبين
الجهل بالشيء ،فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خاليا من أي قضية ،أما " الجهل " فهو يعني
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن تعلم مناقضا للقضية ،إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية .أما الذي ل يعلم
فليس في باله قضية ،وحين تأتي له القضية يقتنع بها ،ول يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل
المي مثلً الذي ل يعلم ،لن ذهنه خال من قضية ،أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من
الرسول إلى عمليتين عقليتين :الولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل ،والثانية أن يعطي
له القضية الجديدة ،إن الذي يخرج ما في نفسه من قضية الجهل ،والثانية أن يعطي له القضية
الجديدة ،إن الذي يرهق العالم هم الجهلء ل الميون ،لن المي حين تعطي له المعلومة فليس
عنده ما يناقضها .لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع.
ويقول سبحانه بعد ذلك { :إِنّ هَـاؤُلءِ مُتَبّرٌ} ...
()1080 /
و { مُتَبّرٌ } أي هالك ومدمر ،وهنا يوضح لهم موسى أن هؤلء الجماعة التي تعبد الصنام؛ وهم
وأصنامهم هالكون ،وما يعملون هو باطل لن قضايا الكون إن أردتم أن تعرفوا حقيقتها ،فلبد لها
من ثبوث ،والحق ثابت ل يتغير أبدا لن له واقعا يُستقرأ ،ومثال ذلك إذا حصلت حادثة بالفعل
أمامنا جميعا ،ثم طلب من كل واحد على انفراد أن يقول ما رآه فلن نختلف في الوصف لننا
نستوحي واقعا ،لكن إن كانت القضية غير واقعية فكل واحد سيقولها بشكل مختلف ،ولذلك نجد
من لباقة القضاء أن القاضي يحاور الشهود محاورات ليتبيّن ما يثبتون عليه وما يتضاربون فيه.
وإن كان الشهود يستوحون حقيقة واقعية ،فلن يختلفوا في روايتهم ،ولكنهم يختلفون حين ل يتأكد
أحدهم من الواقعة أو أن تكون غير حقيقية.
والمثل العربي يقول " :إن كنت كذوبا فكن ذكورا " أي إن كذبت -والعياذ بال -وقلت قولً غير
صادق فعليك أن تتذكر كذبتك ،وأنت لن تتذكرها لنها أمر متخيّل وليس أمرا ثابتا .وقد يجوز أن
يأخذ غير الواقع زهوة ولمعانا فنقول :إياك أن تغتر بهذه الزهوة لن الحق سبحانه وتعالى يقول{:
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ
أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
جفَآءً وََأمّا مَا
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
لمْثَالَ }[الرعد]17 :
يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا َ
لقد شبه سبحانه الباطل بالزبد وهو ما يعلو السائل أو الماء من الرغوة والقش والمخلفات التي
تعوم على سطح المياه إنه يتلشى ويذهب ،أما ما ينفع الناس فيبقى .ونحن نختبر المعادن لنعرف
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هل هي مغشوشة أو ل ..ونعرضها على النار ،فيطفوا ما فيها من مادة غير أصيلة وما فيها من
شوائب ،ويبقى في القاع المعدن الصيل.
طلٌ مّا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }
وهنا يقول الحق على لسان موسى { :إِنّ هَـاؤُلءِ مُتَبّرٌ مّا هُمْ فِي ِه وَبَا ِ
[العراف]139 :
والحداث إما فعل أو قول ،والقول :عملية اللسان ،والفعل :لبقية الجوارح ،وكل الحداث ناشئة
عن قول أو عن فعل ،والقول والفعل معا هما " عمل " .ولذلك يقول الحقِ {:لمَ َتقُولُونَ مَا لَ
َت ْفعَلُونَ }[الصف]2 :
إذن فالعمل يشمل القول ،ويشمل الفعل.
طلٌ مّا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } إن الصنام التي كانوا يصنعونها ويعبدونها ،كانت تقوم
وقوله الحق { :وَبَا ِ
على أقوال وأفعال ،كأن يقولوا :يا هبلٍ ،يا لت ،يا عزّى ،ويناجون هذه الصنام ويطلبون منها
أن تحقق لهم بعضا من العمال وكانوا يقفون أمامها صاغرين أذلء ،إذن فقد صدر منهم قول
وفعل يضمهما معا العمل.
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلم { :قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِيكُمْ} ...
()1081 /
قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِيكُمْ إَِلهًا وَ ُهوَ َفضَّلكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ()140
()1082 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيقَتّلُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ ِنسَا َءكُ ْم َوفِي ذَِل ُكمْ
وَإِذْ أَ ْنجَيْنَاكُمْ مِنْ َآلِ فِرْ َ
بَلَاءٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ عَظِيمٌ ()141
وإذا سمعت " إذ " فافهم ان معناها ظرف زمان يريد الحق أن نتذكر ما حدث فيه ،و " إذ " يعني
جيدا ول يغيب عن بالكم حين أنجاكم ال من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وأفظعه وأشده.
ويقول بعدها مبينا ومفسرا ذلك العذابُ { :يقَتّلُونَ أَبْنَآ َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ }.
ونلحظ أنه لم يأت بالعطف هنا ،فلم يقل :يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون
نساءكم .مما يدل على أنه جاء بقمة سوء العذاب؛ لن الحتقار ،والتسخير هما جزء من العذاب.
لكن قمة العذاب هي تقتيل البناء ،واستحياء النساء.
عوْنَ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيذَبّحُونَ
وفي آية ثانية يقول سبحانه {:وَإِذْ َنجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ
أَبْنَآ َءكُمْ[} ...البقرة]49 :
عوْنَ
أي أنهم تعرضوا للتقتيل ،وتعرضوا للتذبيح ،وفي آية ثالثة يقولِ {:إذْ أَنجَا ُكمْ مّنْ آلِ فِرْ َ
يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ وَ ُيذَبّحُونَ أَبْنَآ َء ُكمْ[} ...إبراهيم]6 :
لقد جاء بـ " الواو " هنا للعطف .لن المتكلم هنا مختلف ،فقد يكون المتكلم ال ،وسبحانه يمتن
بقمة النعم .لكن { :وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِلقَ ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُواْ } ،فموسى يمتن بكل النعم التي ساقها ال
إلى بني إسرائيل صغيرة وكبيرة.
عظِيمٌ }.
ويذيل الحق الية الكريمةَ { :وفِي ذاِلكُمْ بَلءٌ مّن رّ ّبكُمْ َ
هو بلء شديد الِيلم والوقع لفراق من يقتل أو يذبح ،وبلء آخر في الهم والحزن على من
يستبقي من النساء لستباحة أعراضهن وامتهانهن في الخدمة.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :ووَاعَدْنَا مُوسَىا} ...
()1083 /
َووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَ ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ فَ َتمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْ َبعِينَ لَيْلَ ًة َوقَالَ مُوسَى لَِأخِيهِ هَارُونَ
ح وَلَا تَتّبِعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ ()142
اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي وََأصْلِ ْ
وعلمنا من قبل في مسألة العداد أن هناك أسلوبين :السلوب الول إجمالي ،والثاني تفصيلي؛
فمرة يتفق التفصيل مع الِجمال ،وبذلك ل توجد شبهة أو إشكال ،وسبحانه في سورة البقرة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدْنَا مُوسَىا أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً[} ...البقرة]51 :
يقول {:وَإِ ْذ وَا َ
جاء بها هناك بالِجمال .لكنه شاء هنا في سورة العراف أل يأتي بها مرة واحدة مجملة .بل
فصلها بثلثين ليلة ثم أتمّها الحق بعشر أخر لمهمة سنعرفها فيما بعد ،ليكون الميقات قد تم أربعين
ليلة ،وإذا جاء العدد مجملً مرة ،ومفصلً مرة ،واتفق الِجمال مع التفصيل فل إشكال .لكن إذا
حمَل التفصيل على الِجمال ،لن المفصّل يمكن أن يتداخل
اختلف الِجمال عن التفصيل فعادة يُ ْ
ليصير إلى الِجمال.
وضربنا من قبل المثل في خلق السماء والرض في ستة أيام ،وكل آيات الخلق تأتي بخبر الستة
أيام وهي مجملة .لكنه شاء سبحانه في موضع آخر بالقرآن أن يقولُ {:قلْ أَإِ ّن ُكمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي
سيَ مِن َف ْو ِقهَا
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
ن وَتَ ْ
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْ ِ
خََل َ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت]10-9 :
وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
وظاهر المر هنا أن المهمة قد اكتمل أمرها وخلقها في ستة أيام ،لكنه قال جل وعل بعدهاُ {:ثمّ
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ *
سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ[} ..فصلت]12-11 :
َفقَضَاهُنّ سَبْعَ َ
وهنا في موقف أيام خلق الدنيا نجد إجمالً وتفصيلً ،والتفصيل يصل في ظاهر المر بأيام الخلق
إلى ثمانية ،والِجمال يحكي أنها ستة أيام فقط.
فهل هي ستة أيام أم ثمانية أيام؟ نقول :إنها ستة أيام لننا نستطيع أن ندخل المفصل بعضه في
بعضه ،فإذا قلت :سافرت من مصر إلى طنطا في ساعتين ،وإلى الِسكندرية في ثلث ساعات،
فمعنى هذا القول أن الساعتين دخلتا في الثلث الساعات { :وَوَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلَثِينَ لَيْلَ ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا
ِبعَشْرٍ }.
والوعد هو أن ال وعد موسى بعد أن تحدث عملية إنجاء بني إسرائيل أنه -سبحانه -سينزل
عليه كتابا يجمع فيه كل المنهج المراد من خلق ال لتسير حركة حياتهم عليه ،لكن ما إن ذهب
موسى لميقات ربه حتى عبدوا العجل ،في مدة الثلثين يوما ولم يشأ ال أن يرسل موسى بعد
الثلثين يوما بل أتمها بعشر آخر حتى ل يعود موسى ويرى ما فعله قومه؛ لنه بعد أن عاد
أمسك برأس أخيه يعنفه ويشتد عليه ويأخذ بلحيته يجره إليه إذ كيف سمح لبني إسرائيل أن يعبدوا
خذْ بِلِحْيَتِي َولَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ
العجل .وفي ذلك يقول الحق على لسان هارون {:قَالَ يَبْ َنؤُ ّم لَ تَأْ ُ
ل وَلَمْ تَ ْر ُقبْ َقوْلِي }
أَن َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِي َ
[طه]94 :
فكأن العشرة أيام زادوا عن الثلثين يوما ليعطيك الصورة الخيرة الموجودة في سورة البقرة.
وهنا يقول الحق في سورة العرافَ } :وقَالَ مُوسَىا لَخِيهِ هَارُونَ اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي وََأصْلِحْ َولَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سدِينَ { [العراف]142 :
تَتّبِعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْ ِ
و " اخلفني " أي كن خليفة لي فيهم إلى أن أرجع وذلك فيما هو مختص بموسى من الرسالة
فاستخلف موسى لهارون ليس تكليفا لهارون بامتداد إرسال ال لموسى وهارون ،فأسلوب تقديم
موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون {:إِنّا َرسُولَ
رَ ّبكَ[} ...طه]47 :
ل منهما رسول ،وقول الحقَ } :وقَالَ مُوسَىا لَخِيهِ هَارُونَ { فيه التحنن ،أي أنني لي بك
لن ك ّ
صلة قبل أن تكون شريكا لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي ،ومن حقي عليك أن تسمع
كلمي وتخلفني .فالخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية
الخوة والمشاركة في الرسالة .وأكد موسى عليه السلم بكلمة " قومي " أنهم أعزاء عليه ،ول
يريد بهم إل الخير الذي يريده لنفسه ،فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم ،وإذا نهاكم نهيّا
فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه.
وقيل كان موسى عليه السلم قد قام بإعداد نفسه للقاء ربه ،ولبد أن يكون الِعداد بطهر وبتطهير
وبتزكية النفس بصيام ،فصام ثلثين يوما ،وبعد ذلك أنكر رائحة فمه ،فأخذ سواكا وتسوك به
ليذهب رائحة فمه ،فأوضح الحق سبحانه له :أما علمت يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب
عندي من ريح المسك .وما دمت قد أزلت الخلوف وأنا أريد أن تقبل عليّ بريح المسك فزد عشرة
أيام؛ حتى تأتي كذلك .وقال بعض العلماء :إن تفصيل الربعين إلى ثلثين وإلى عشرة ،لن
الثلثين يوما هي اليام التي عبد فيها القوم بعد موسى العجل ،فكان ولبد أن تكون هناك فترة من
الفترات؛ حتى يميز ال الخبيث من الطيبَ } .وقَالَ مُوسَىا لَخِيهِ هَارُونَ اخُْلفْنِي فِي َقوْمِي
سدِينَ { [العراف]142 :
وََأصْلِحْ َولَ تَتّبِعْ سَبِيلَ ا ْلمُفْ ِ
وهنا أمر ونهى " أصلح " هي أمر ،و " ل تتبع " هي نهي ،ونعرف أن كل تكاليف الحق سبحانه
وتعالى محصورة في " افعل كذا " ،و " ل تفعل كذا " ،ول يقول الحق للمكلّفين " :افعلوا كذا "
إل إذا كانوا صالحين للفعل ولعدم الفعل ،وإن قال لهم " :ل تفعلوا " فلبد أن يكونوا صالحين
للفعل ولعدم الفعل ،ولذلك أوضحنا من قبل ان ال ركز كل التكاليف في مسألة آدم وحواء في
الجنة فقالَ } :وكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا { ،وكان هذا هو المر .وقالَ } :ولَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ
ح َولَ تَتّ ِبعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ {.
الشّجَ َرةَ { ،وهذا نهي } :وََأصْلِ ْ
وكلمة " أصلح " تستلزم أن يبقى الصالح على صلحه فل يفسده ،وإن شاء ال يزيد فيه صلحا
فليفعل.
وقولهَ } :ولَ تَتّ ِبعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ { لنه قول موجه لنبي وهو هارون ،ل يتأتى منه الِفساد ،ولكنّ
موسى أعلمه أنه ستقوم فتنة بعد قليل ،فكأن موسى قد ألهم أنه سيحدث إفساد ،فقصارى ما يطلبه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من أخيه هارون ألّ يتبع سبيل المفسدين ،ولذلك سيقول هارون بعد ذلك مبررا تركه بني إسرائيل
على عبادة العجل بعد أن بذل غاية جهده في منعهم وإنذارهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إل
أن يقتلوه... {.إِنّي خَشِيتُ أَن َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وََلمْ تَ ْر ُقبْ َقوْلِي }[طه]94 :
ويقول الحق بعد ذلك } :وََلمّا جَآءَ مُوسَىا{ ...
()1084 /
وََلمّا جَاءَ مُوسَى ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ قَالَ َربّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَ ْيكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وََلكِنِ ا ْنظُرْ إِلَى الْجَ َبلِ
ص ِعقًا فََلمّا َأفَاقَ قَالَ
جعََلهُ َدكّا وَخَرّ مُوسَى َ
س ْوفَ تَرَانِي فََلمّا تَجَلّى رَبّهُ ِللْجَ َبلِ َ
فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ
سُ ْبحَا َنكَ تُ ْبتُ ِإلَ ْيكَ وَأَنَا َأوّلُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()143
والميقات هو الوقت الذي يعد لعمل من العمال .ونسميه وقت العمل .وغلب على أشياء في
الِسلم ،كمواقيت الحج .ونحن نعلم أن كل عمل وحدث يتطلب أمرين ُيظْرَف فيهما ،أي يكونان
ظرفا له؛ فلبد له من مكان يحدث فيه ،ومن زمان يحدث فيه كذلك ،واسمهما ظرف الزمان،
وظرف المكان .إل أن ظرف الزمان غير قار أي غير ثابت؛ فقد يأتي الصبح ويذهب ويأتي
بعده ،الظهر ،والعصر والمغرب والعشاء .لكن ظرف المكان قار وثابت.
والمواقيت -إذن -إما أن يتحكم فيها الزمان ،وإما أن يتحكم فيها المكان ،وإما أن يتحكم فيها
المكان والزمان معا .فإذا أخذنا المواقيت على أنها زمن كل فعل نجد فريضة " الصوم " لها زمن
محدد وهو رمضان .فالذي يتحكم في الصوم هو الزمن ،فيكون ويحدث في أي مكان .وكذلك
صيام عرفة يتحكم فيه أيضا الزمان لنه صيام يوم عرفة ،ومن يجلس في أي مكان يصوم يوم
عرفة ولكنه غير مطلوب من الحاج .ولكن الوقوف بعرفة يتحكم فيه المكان والزمان معا.
والِحرام بالحج أو العمرة يتحكم فيه المكان وهو ما يسمى بالميقات المكاني ولكل أهل جهة
ل وهم محرمون .فمرة يتحكم الزمان ،ومرة
ميقاتهم المكاني الذي يطلب منهم ألّ يمروا عليه إ ّ
يتحكم المكان ،وثالثة يتحكمان معا.
وجاء موسى لميقاتنا المضروب له بعد أربعين ليلة.
وهل جاء موسى للميقات أو جاء في الميقات؟ لقد جاء في الميقات ،واللم تأتي بمعنى " عند ".
شمْسِ
لةَ ِلدُلُوكِ ال ّ
ونعلم أن " اللم " تأتي بمعنى " عند " كثيرا في القرآن ،مثل قولهَ {:أقِمِ الصّ َ
سقِ الّ ْيلِ[} ...الِسراء]78 :
إِلَىا غَ َ
أي أقم الصلة عند دلوك الشمس أي عند زوالها عن وسط وكبد السماء إلى غسق الليل .ومن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدلوك إلى الغسق نجد صلة الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء ،وهذه أربعة
فروض ،وبقي الفرض الخامس وهو الفجر ،وقال فيه الحقَ ... {:وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ
شهُودا }[الِسراء]78 :
مَ ْ
ولماذا بدأ بدلوك الشمس؟ وهل النهار يبدأ بالظهر أو يبدأ بالصبح؟ .إن السراء والمعراج كانا
ليلً ،ورسول ال جاء صباحا إلى مكة ،وقد فرضت الصلة في المعراج ،فكانت أول فريضة هي
الظهر ،وكأن الحق يعني خذ الغاية وخذ البداية ،وكانت البداية هي صلة الظهر والعصر
شهُودا }.
والمغرب والعشاء وبقي الفجر ،وجاء فيهَ { :وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ مَ ْ
ثم يخص ال رسوله بالتهجد وهو قيام الليل إنه فرض على رسول ال دون غيره ،فإنه بالنسبة
حمُودا }[الِسراء:
لسائر المة تطوعَ {.ومِنَ الّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً ّلكَ عَسَىا أَن يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ مَقَاما مّ ْ
]79
ومن يتشبه برسول ال فله الثواب الجزيل والجر العظيم ولكن هذا المر مرجعه إلى اختيار
المسلم { :وََلمّا جَآءَ مُوسَىا ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ }.
وهذه المسألة تحتاج إلى بحث ،وقوله سبحانهَ } :وكَلّمَهُ رَبّهُ { هو قول يدل على أن كلما حصل
من ال لموسى فكيف يحدث ذلك وسبحانه قد قال في مسألة الكلم بالنسبة للبشر كلما عاماَ {:ومَا
حيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} ...
سلَ رَسُولً فَيُو ِ
كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإلّ َوحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
[الشورى]51 :
وفي هذا نفي أن يكلم ال البشر .إل بالوسائل الثلث :الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل
رسولً ،والوحي بالنسبة للنبياء يكون بإلقاء المعنى في قلب النبي دفعة ،مع العلم اليقيني بأن ذلك
من ال عز وجل ،وقد يراد بالوحي الِلهامات؛ مثل الوحي إلى أم موسى ،والوحي إلى
الحواريين ،وكذلك إلى الملئكة ،وقد يراد بالوحي :التسخير؛ كالوحي للرض ،والنحل.
سلَ رَسُولً { هو
وبعد ذلكَ } ..أوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ { أي أن يسمع كلما ول يرى متكلماَ } ،أوْ يُرْ ِ
جبريل عليه السلم .والقرآن لم ينزل إل بطريقة واحدة ،بواسطة نزول جبريل على سيدنا رسول
ال صلى ال عليه وسلم .فما نزل القرآن بالِلهام ،وما نزل القرآن من وراء حجاب بل نزل
بواسطة رسول من ال وهو جبريل وله علمات.
وهنا في كلم موسى نقول إن الكلم وقع فيه من وراء حجاب وهنا نمسك عن الخوض فيما وراء
ذلك لنه غيب لم يكشف لنا عنه ونترك المر فيه ال.
وقد سبق أن قلنا :إن صفات ال ل يوجد مثلها في البشر .فليس وجود الِنسان كوجود ال ،وليس
غنى الِنسان كغنى ال ،وكذلك لن يكون أبدا كلمك ككلم ال ،لن كل شيء يخص ال إنما
شيْءٌ { .وقد بين الحق سبحانه وتعالى أن كلمه لموسى تميز
نأخذه في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمِي[} ...العراف]144 :
طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِ ِرسَالَتِي وَ ِبكَ َ
لموسى ،ولذلك يقول الحق {:إِنّي اصْ َ
ويجب أن نأخذ كل وصف يوجد في البشر ،ويوجد مثله .في وصف ال مثل " استوى " ،و "
شيْءٌ { } .وََلمّا جَآءَ مُوسَىا
جلس " و " وجه " ،و " يد " نأخذ كل ذلك في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ قَالَ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ[ { ...العراف]143 :
وحينما خص ال موسى بميزة أن تكلم إليه ،حصل من موسى استشراق اصطفائي ،وكأنه قال
لنفسه :مادام قد كلمني فقد أقدر أن أراه؛ لن استطابة النس تمد للنفس سبل المل في المتداد في
الشياء مثلما قال موسى من قبل ردا على سؤال الَ {:ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه]17 :
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا
كان الجواب يكفي أن يقول " :عصا " لكنه قال {:قَالَ ِهيَ َ
غَ َنمِي[} ...طه]18 :
قال ذلك على الرغم من أن الحق لم يسأله :ما تفعل بها؟ وأراد بالكلم أن يطيل النس بربه،
وكأنه عرف أنه من غير اللئق أن يكون الجواب مجرد كلمة ردا على سؤال.
ول المثل العلى -نجد الِنسان منا حين يرى طفلً صغيرا فهو يداعبه ويطيل الكلم معه إيناسا
له .وحين وجد موسى أن ال يكلمه استشرفت نفسه أن يراه } :وََلمّا جَآءَ مُوسَىا ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ
رَبّهُ قَالَ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ ِإلَ ْيكَ {.
لم يقل موسى :أرني ذاتك .بل قال } :أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ { كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه ل
يمكن أن يرى ال ،لكن إن أراه ال ،فهذا أمر بمشيئة الحق ,وقدم موسى الطلب معلقا بمشيئة ال
وإرادته؛ لنه يعلم أنه غير معد لستقبال رؤية ال؛ لن تكوينه ل يقوى على ذلك ،وحتى في
الوحي والكلم لم يكلم ربنا الناس مباشرة ،بل لبد أن يصطفى من الملئكة رسلً ،ثم تكون
مرحلة ثانية أن يصطفى من البشر رسلً ،ويبلغ الرسل الناس كلم ال؛ لن الصفات الكمالية
العليا الخالقة ل يمكن أن يستوعبها المخلوق.
ضربنا المثل من قبل -ول المثل العلى -بصناعات البشر ،وأن الِنسان حين ينام ليلً ،قد
يستيقظ لي شيء ،فإذا كانت الدنيا ظلما قد يحطم الشياء التي هي أقل منه أو تحطمه الشياء
التي هي أكثر صلبه منه؛ وإن اصطدم بشيء صغير فقد يكسره ،وإن اصطدم بدولب أو حائط
فقد ينكسر الِنسان .ولذلك ترك الِنسان في البيت شيئا من النور الضئيل؛ ليستفيد من سكون الليل
وظلمته ،فيضع ما نسميه " الوناسة " قوة شمعتين أو خمس شمعات ،ول يقدر أن يركبها على قوة
التيار الموجود في المنزل؛ لنها تفسد فورا ،لذلك يأتي لها بمحول يأخذ من القوي ويعطي
الضعيف.
إذن إذا كانت صناعة البشر نجد فيها الضعيف الذي ل يأخذ من القوي إل بواسطة ،فمن باب
أولى أنه ل يمكن أن يتلقى خلق ال عن ال إل بواسطة .وكانت الواسطة من البشر اصطفاء ومن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الملئكة اصطفاء ،فليس كل ذلك صالحا لهذه المسألة ،فمصطفى من الملئكة يعطي مصطفى من
البشر.
وبعد ذلك يعطي المصطفى من البشر للبشر .كذلك الرؤية وسيظهر ذلك لنا حينما يعطي ال
الدليل على أنه خلقكم ل على هيئة أن تروه الن ،ولكن حين تبرزون في الخرة وتعدون إعدادا
آخر ،فمن الممكن أن تنالوا شرف رؤيتهُ } :وجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ {.
ول يستوي الناس في ذلك؛ لن المؤمن هو من ينال شرف النظر إلى ال ،أما الكافر فهو محجوب
عن رؤية الحق .يقول تعالى في شأن الكفار } :كَلّ إِ ّن ُهمْ عَن رّ ّبهِمْ َي ْومَئِذٍ ّل َمحْجُوبُونَ { فل يستوي
المؤمن والكافر في هذه الحالة ،فمادام الكافر محجوبا فالمؤمن غير محجوب ويرى ربّه .وقال
موسىَ } :ربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ {.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القوى منه لم يقو .وبعد ذلك أراد ال أن يلفتنا لفتة تصاعدية .ويبين لنا أن موسى قد صعق
جعَلَهُ َدكّا وَخَرّ موسَىا
لرؤية المتجلّى عليه فكيف لو رأى المتجلّي؟!! } فََلمّا َتجَلّىا رَبّهُ لِ ْلجَ َبلِ َ
صعِقا { .ويقال :خر الشيء إذا سقط من أعلى إلى أسفل ،ويقول الحق في آية قرآنية {:وَظَنّ
َ
دَاوُودُ أَ ّنمَا فَتَنّاهُ فَاسْ َت ْغفَرَ رَبّ ُه َوخَرّ رَاكِعا[} ...ص]24 :
صعِقا { ،وصعقه تُطلق ويراد بها الوفاة ،ولكن هنا صعقة
والحق يخبرنا هنا } :وَخَرّ موسَىا َ
صعِقَ مَن فِي
أخرى تعبر عن الِغماءة الطويلة .وصعقة الوفاة يقول فيها الحق سبحانهَ ... {:ف َ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ ثُمّ ُنفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَِإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر]68 :
ال ّ
إذن النفخة الولى لصعق وموت الجميع ،ثم تأتي النفخة الثانية للبعث .وهنا يقول الحق } :فََلمّآ
َأفَاقَ قَالَ سُ ْبحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْيكَ {.
وهذا يدل على أن الصعقة ليست هي الصعقة المميتة ،وأفاق سيدنا موسى من الصعقة ،وانتبه إلى
أنه لم يكن من اللئق أن يطلب الرؤية المباشرة ل .وكما نقول " :فلن فاق لنفسه " وهنا " أفاق "
موسى على حاجتبن اثنتين ،أفاق من الغشية التي حصلت له من الصعقة ،وكأنّه تساءل :لماذا
انصعقت؟ لقد انصعق لنه سأل ربنا ما ليس له به علم } :فََلمّآ َأفَاقَ قَالَ سُبْحَا َنكَ { ،وساعة تسمع
كلمة " سبحانك " اعرف أنّه يراد بها التنزيه ل من الحدث الذي نحن بصدده وهو رؤيته -تعالى
-أي تنزيها لك يا رب أن يراك مخلوقك؛ لن الرؤية قدرة بصر على مرئي ،ومعنى " :رأيت
الشيء " أي أن عين البشر قد قدرت على الشيء ،ولو أننا نحن المخلوقين رأينا ال بقانون
الضوء ،فهذا يعني أن أبصارنا تقدر على ربنا وهذا ل يمكن أبدا؛ لن المقدور ل ينقلب قادرا،
ك وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ { [العراف:
والقادر ل ينقلب مقدورا ...} .فََلمّآ َأفَاقَ قَالَ سُ ْبحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْي َ
]143
وتوبة موسى هنا من أنه سأل ال ما ليس له به علم ،ولنه لم يقف عند التجليات المخالفة لنواميس
الكون ،وأنّ ربنا فقد أعطاه بدون أن يسأل ،لقد كلمه ال ،فلماذا يُصعد المسألة ويطلب الرؤية؟
ولماذا لم يترك المور للفيوضات التي يعطيها ال له ويتنعم بفيض جود ل ببذل مجهود؟.
ويقرر موسى ويقول } :وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { ،أي بأنّ ذاتك -سبحانك -ل يقدر مخلوق أن
يراها ويدركها .لقد شعر موسى ببعض من انكسار الخاطر لنه طمح إلى ما يفوق استطاعته
ك وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { وكأنه قد فهم ما أوضحه الحق له :ل تلتفت إلى ما
وقال } :سُبْحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْي َ
منعتك ،ولكن انظر إلى ما أعطيتك } :قَالَ يامُوسَىا إِنّي{ ...
()1085 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ك َوكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ (
طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِ ِرسَالَاتِي وَ ِبكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْ ُت َ
قَالَ يَا مُوسَى إِنّي اصْ َ
)144
طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ } تعبير فيه دقة الداء لنه لو
والصطفاء هو استخلص الصفوة ،وقوله { :اصْ َ
قال اصطفيتك فقط ،ولم يقل على الناس ،فقد يُفهم الصطفاء على الملئكة أيضا .ولكن الصطفاء
لمِي } .ولقائل
طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالَتِي وَ ِبكَ َ
صَهنا محدد في دائرة الصطفاء البشري { :إِنّي ا ْ
طفَىا ءَادَمَ
صَأن يقول :إن الحق اصطفى غيره أيضا من الرسل ،والحق هو القائل {:إِنّ اللّهَ ا ْ
وَنُوحا[} ...آل عمران]33 :
ونقول :هناك فرق بين اصطفاء رسالة منفردة ،وبين اصطفاء في رسالة ومعها شيء زائد،
وأضرب هذا المثل -ول المثل العلى -فإذا جئت كمدرس لتلميذ وأعطيت واحدا منهم هدية
عبارة عن قلم كمكافأة ،ثم أعطيت الثاني قلما وزجاجة حبر ،أنت بذلك اصطفيت التلميذ الول
بهدية القلم ،واصطفيت الخر باجتماع قلم وزجاجة حبر في هدية واحدة .والصطفاء هنا لموسى
طفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ
صَبالرسالة كما اصطفى غيره من الرسل بالضافة إلى شرف الكلم { :ا ْ
لمِي }.
بِرِسَالَتِي وَ ِبكَ َ
وعرفنا من قبل أن " رسالتي " هي في مجموعها رسالة واحدة ،ولكن الرسالة مع سيدنا رسول
ال صلى ال عليه وسلم استمرت جزئياتها ثلثا وعشرين سنة في النزول ،فكأن كل نجم رسالة،
أو كل باب من أبواب الخير رسالة ،فهي رسالت متعددة ،أو أن رسالته جمعت رسالت
ك َوكُنْ مّنَ
طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالَتِي وَ ِبكَلَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْ ُت َ
السابقين { :قَالَ يامُوسَىا إِنّي اصْ َ
الشّاكِرِينَ } [العراف]144 :
أي ل تنظر إلى ما منعتك ،بل اذكر أني اصطفيتك وكلمتك وعليك أن تشكر لي هذا .ولذلك يجب
على الِنسان المؤمن حين يتلقى قضاء ال فيه أن ينظر دائما إلى ما بقي له من النعم .ل إلى ما
سلب عنه من النعم .ولذلك نجد المؤمن المتفاءل ينظر إلى الكوب الذي نصفه مملوء بالماء فيقول:
ل منهما
الحمد ل نصف الكوب ملن .أما المتشائم فيقول :إن نصف الكوب فارغ ،وبرغم أن كُ ّ
يقرر الحقيقة إل أن المؤمن المتفائل نظر إلى ما بقي من نعم ال.
إننا نجد ابن جعفر حين ذهب للخليفة الموي في دمشق وجرحت رجله في أثناء السير من المدينة
إلى دمشق ،ولم تكن هناك عناية طبية فتقيحت ،وحين أحضروا له الطباء وقرروا قطع رجله،
قال بعض الحاضرين :التمسوا له مرقدا أي دواء تخدير يجعله ل يحس باللم ،فقال :ل ،فإني ل
أريد أن أغفل عن ربي لحظة عين ،فلما قطعوها أخذوها ليدفنوها ،فقال هاتوها .فأحضروها له
وأمسك بها وقال :اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو فقد عافيت في أعضاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه نظرة المؤمن الذي ل ينظر إلى ما أُخذ منه بل ينظر إلى ما بقي له .وكذلك كان توجيه الحق
لموسى عليه السلم ،فقد أوضح له :ل تنظر إلى أني منعتك الرؤية ،ل ،بل انظر الصطفاء
وشرف الكلمة إلى الخالق واشكر ذلك.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :وكَتَبْنَا لَهُ فِي الَ ْلوَاحِ} ...
()1086 /
والكتْب هو الرقم بقلم على ما يكتب عليه من ورق أو جلد أو عظم أو أي شيء ،وعندما يقول
ربناَ { :وكَتَبْنَا } فال لم يزاول الكتابة بنفسه ،ولكن أرسله من الملئكة يكتبون بأمر من الحق وهو
القائل {:إِنّا نَحْنُ ُنحْيِي ا ْل َموْتَىا وَ َنكْ ُتبُ مَاَ قَ ّدمُواْ[} ...يس]12 :
وكتابة الرسل من الملئكة لعمالنا هي بالمر من ال ،ومرة ينسب المر إلى العلى ،أو ينسب
ظ ًة وَ َتفْصِيلً }.
شيْءٍ ّموْعِ َ
إلى المباشر أو إلى الواسطةَ { :وكَتَبْنَا َلهُ فِي الَ ْلوَاحِ مِن ُكلّ َ
ونحن نعرف اللواح ،وكنا نكتب عليها قديما .وللكتابة على اللواح سبب ،فقديما كانوا يكتبون
على أي شيء مبسوط ،وتبين لنا الثار أن هناك كتبا مكتوبة على جلود الحيوانات ،مثلً نجد
قدماء المصريين قد كتبوا على الحجار ،مثل حجر رشيد الذي أتاح لنا معرفة تاريخهم .وكان
العرب يكتبون على القحف المأخوذ من النخل ،وكذلك كتبوا على عظام الذبائح ،أخذوا منها قطعة
العظم المبسوطة مثل عظم اللوح وكتبوا عليها ،وكانت هذه الوسيلة مشهورة جدّا لديهم ،وصار
شيْءٍ[ } ...العراف]145 :
كل مكتوب يسمونه لوحاَ { .وكَتَبْنَا لَهُ فِي الَ ْلوَاحِ مِن ُكلّ َ
شيْءٍ } يعني :من كل شيء تتطلبه خلفة الِنسان في الرض في الوقت
وقوله سبحانه { :مِن ُكلّ َ
المناسب له؛ فالرسل تأتي بعقيدة ،لكن قد يأتي تشريع مناسب للفترة الزمنية التي جاء فيها
الرسول ،ويضيف ال لرسول آخر يأتي من بعده ،إلى أن جاء محمد صلى ال عليه وسلم بالمنهج
المكتمل إلى قيام الساعة.
لقد أوضح سبحانه أنه كتب في اللواح الموعظة والتفصيل لمنهج الحياة ،والموعظة تعني ألّ
تنشئ حكما للسامع ،بل تعظه بتنفيذ ما عُلِم له من قبل ،ولذلك يقال :واعظ وهو الذي ل يُنشئ
مسائل جديدة .بل يعرف أن المستمع يعلم أركان الدين ويعظه بما يعلم.
خذْهَا ِب ُق ّوةٍ } أي أن الكلم لم يأت مجملً ،بل يأتي
شيْءٍ فَ ُ
وقوله الحق سبحانه { :وَتَ ْفصِيلً ّل ُكلّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالتفصيل ،ويأمر الحق موسى أن يقبل على الموعظة والتفصيلت التي في اللواح بقوة .ولماذا
جاء المر هنا بأن يأخذها بقوة؟ لن الِنسان حين يؤمر أمرا قد يكون المر مخالفا لرتابة ما
ألف ،وحين يُنهي نهيا قد يكون هذا النهي مخالفا لرتابة ما ألف .وبذلك ينزع هذا النهي أو ذلك
المر الِنسان مما ألف ،ويأخذه ويخرجه عما اعتاد.
إن الِنسان في هذه الحالة يحتاج إلى قوة نفس تتغلب على الشهوة الرتيبة التي تخلقها العادة،
ولذلك فمن يريد أن يقبل على منهج ال فعليه أن يعرف أن المنهج سوف يخرجه مما ألف ،ولبد
أن يقبل على المنهج بقوة وعزم ليواجه إلف النفس ،لن إلف النفس قد يقول للِنسان :ل تفعل،
والمنهج يقول له " :افعل " وعلى المؤمن -إذن -أن يأخذ التكاليف بقوة ،لن شهوات النفس
تحقق متع الدنيا الزائلة ،والمنهج يعطي متعة طويلة الجل.
إن الشهوة قد تحقق للِنسان لذة على مقدار قدرته واستعداده ،لكن التكليف يعطي للمؤمن نفعا
يتناسب مع طلقة قدرة ال في النفع .إذن لبد أن تشحن نفسك بما يعطيه ال لك من المنهج،
وإياك ساعة أن ترى المنهج مطالبا لك ببعض من الجهد أن تقول :إن تلك أمور صعبة لنك لست
وحدك في المنهج ،بل معك غيرك .فإذا قال لك :ل تسرق ،إياك أن تقول :أيحدد المنهج حريتي؟
ل ،ل تنظر إلى أن حظر وتحريم السرقة هو تحديد لحريتك بل هو صيانة لك من أن يعتدي عليك
آخرون؛ فقد قال المنهج للناس كلهم ل تسرقوا منه وأنت الكاسب في هذه الحالة .ويتابع الحق بيان
ما في اللواح من قيم فيقول سبحانه } :وَ ْأمُرْ َق ْو َمكَ يَ ْأخُذُواْ بَِأحْسَ ِنهَا {.
" أحسن " تفيد أن هناك مرتبة أقل منها وهي " حسن "؛ فأمرهم الحق أن يتركوا الحسن ويأخذوا
بالحسن ،ونعلم أن الِنسان من الغيار ،إذا ما أصابته مصيبة من أحد يعتبره غريما له ،فإذا ما
كان للِنسان غريم تحركت نوازع نفسه إلى عقابه بمثل ما أصابه به .وهذا ما يبيحه ال في
القصاص ،ولكن ال يطلب من المؤمن إن قدر على نفسه أن يعفو ،إذن فالعقوبة بالقصاص أو
بغيره مادامت مشروعة من ال بمثل ما عوقبت فهذه مرتبة الحسن ،لكن إذا تركت نوازع نفسك
وعفوت فهذه مرتبة " الحسن " ،وجاءت هذه الترقيات لن الحق سبحانه وتعالى خلق في
الِنسان عواطف وغرائز ،وللعواطف والغرائز مهمة في حركة الحياة ،ولكن العواطف ل يمكن
أن يسيطر عليها الِنسان ،ولذلك ل يقنن ال للعاطفة ولكنه سبحانه يقنن للغرائز .كيف؟.
نحن نعلم أن " حب الطعام " غريزة ،ولكن يجب أل يصل حب الطعام إلى مرتبة النهم والشره.
وأيضا " بقاء النوع " أو المتعة الجنسية أوجدها الحق من أجل بقاء النوع .لكن ل يصح أن تتحول
إلى درجة الشرود والوقوع في أعراض الناس وانتهاك حرماتهم ،وحب الستطلع غريزة،
والذين اكتشفوا الكشوف العلمية جاءت أعمالهم من حب استطلعهم على أسرار الوجود .لكن ل
يصح ول ينبغي أن يصل حب الستطلع إلى التجسس الستذللي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن للِنسان غرائز يعليها الشرع؛ أمّا الحب فهو مسألة عاطفية .فالمشرع ،يقول لك :أحبب من
شئت وأبغض من شئت ،ولكن ل تظلم من أبغضته ول تظلم الناس لحساب من أحببت.
ولنا في رسول ال أسوة حسنة حين قال:
" ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ".
فقال عمر :كيف؟.
وكررها رسول ال فعلم عمر -رضي ال عنه -بفطرته أن ذلك أمر تكليفي.
وعرف أن الحب المراد هو الحب العقلي .فيقول المؤمن لنفسه :من أنا لول رسول ال صلى ال
عليه وسلم؟ .وكل مؤمن يحب رسول ال حبّا عقليّا ،وقد يتسامى إلى أن يصير حبّا عاطفيّا.
والِنسان منا -كما قلنا سابقا -يحب الدواء بعقله ل بعاطفته لنه مُرّ ،ولكنه يغضب إن اختفى
الدواء من السواق ويفرح بمن يأتي له به.
إذن التكليف يتطلب الحب العقلي .ومن أخبار سيدنا عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -عندما
مرّ أمامه قاتل أخيه زيد بن الخطاب فقال له عمر :ازو نفسك عني فأنا ل أحبك ،فرد الرجل بكل
جرأة إيمانية :أو عدم حبك لي يمنعني حقّا من حقوقي؟ .قال عمر :ل ،قال الرجل :إنما يبكي على
الحب النساء.
خذُواْ بَِأحْسَ ِنهَا { فمثلً ،حين ُيقْ َتلُ إنسان فلولي الدم أن يقتص ،لكن الحق
والحق يقول هنا } :يَأْ ُ
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ[} ...البقرة:
ع ِفيَ لَهُ مِنْ َأخِيهِ َ
يحنن قلب ولي الدم على القاتل فيقولَ {:فمَنْ ُ
]178
وحين يسمى الحق القاتل أخا فهو يهدئ من صراع العواطف ويخفف من رغبة النتقام .ويقول
لمُورِ }[الشورى]43 :
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ
سبحانه أيضا {:وََلمَن صَبَ َر وَ َ
ونجده سبحانه يؤكد أن مثل هذا المر من " عزم المور " لنه أمر يتطلب الصبر والمغفرة.
ومادام المؤمن قد استطاع أن يصبر وأن يغفر لغريم له ،أفل يصبر إذا نزلت مصيبة عليه بدون
غريم كمرض مفاجئ أو افتقاد حبيب؟ .من إذن غريمك في المرض؟ وممن تغضب ،وعلى من
تهيج وإلى أين انفعالك؟ ولذلك يقول لك الحق سبحانه } :وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ { أي مما ل
لمُورِ { .ونلحظ أن الحق هنا لم يؤكد "
غريم لك فيه ،ويوضح لك سبحانه } :إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ
باللم " لكنه أكد الخرى " باللم "؛ لن لك غريما يهيجك ساعة أن تراه ،وفي الية التي نحن
حسَ ِنهَا {.
خذُواْ بِأَ ْ
بصدد خواطرنا عنها يقول الحق لسيدنا موسى } :وَ ْأمُرْ َقوْ َمكَ يَأْ ُ
يعني إذا وجدت لهم ذريعة ووسيلة وسببا إلى شيء ويوجد ما هو أحسن فأمرهم أن يأخذوا
بالحسن ،لماذا؟؛ لن الِنسان إذا روّض نفسه وذللها وعودها على الحسن يكون قد فهم عن ال.
ونفرض أن واحدا أساء إليك ويمكنك أن تسيء إليه ،فعليك أن تراعي في ردك للِساءة أن تكون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بقدرها مصداقا لقوله الحق سبحانهَ {:فعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ ِبهِ[} ...النحل]126 :
ولكن منَ منا يتصف بالدقة في الموازين النفسية حتى يستطيع أن يعرف المثلية بالهوى؟ فإن كان
هناك من صفعك وتريد أن ترد الصفعة ،فمن أين لك أن تقدر حجم اللم الذي في صفعتك له؟ .ل
يمكن لك أن تحدد هذا القدر من اللم؛ لن هذه مسألة تتناسب مع القوة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سقِينَ {.
ويذيل الحق الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله } :سَُأوْرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَا ِ
ودار الفاسقين هي النار ،وكأن الحق هنا يقول :سأريكم النار ،ونعلم أن كل البشر سيمرون عليها
ويرونها ،ولكن المؤمنين سيعبرونها ويردون عليها ويدخلون الجنة .ولقائل أن يقول :ولماذا تأتي
سيرة النار هنا؟ ونقول :جاءت سيرة النار ليرهب ويخيف النفس ويحملها على أن تبتعد عن كل
ما أمر يقرب إلى النار .والقول هنا أيضا لبني إسرائيل الذين نصرهم الحق على قوم فرعون
وأخذوا منهم الكنوز والمقام الكريم .وكأن الحق يقول لهم :إن كنتم تحبون أن يكون مآلكم مثل مآل
قوم فرعون فافعلوا مثلهم ،وإن كنتم ل تريدون هذا المآل فالتزموا منهج الحق.
سقِينَ { معناه حملهم على ما في اللواح من عظة ،وعلى أن
إذن فقوله الحق } :سَُأوْرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَا ِ
سقِينَ { هي المدائن التي دمرّت
يأخذوه بقوة ،وعلى أن يتبعة أحسن ما أنزل على ال .أو } دَارَ ا ْلفَا ِ
وخربت بتمرد وكفر وعصيان أهلها وفسقهم لتعتبروا فل تفسقوا مثل فسقهم فينكل ال بكم مثل
نكاله بهم ،وأنتم تمرون عليها في الغدو والرواح.
ويقول الحق بعد ذلك } :سََأصْ ِرفُ عَنْ آيَاتِي{ ...
()1087 /
واليات جمع آية وهي المر العجيب ،وتطلق ثلث إطلقات ،فإما أن تكون آية كونية مثل قوله
لوْلِي الَلْبَابِ } ،وإما أن
ل وَال ّنهَا ِر ليَاتٍ ُ
لفِ الّ ْي ِ
ت وَالَ ْرضِ وَاخْتِ َ
سمَاوَا ِ
تعالى { :إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ
تكون آية دللة على صدق الرسول في البلغ ،وإما أن تكون آية قرآنية فيها حكم من أحكام ال،
حقّ[ } ...العراف:
وهنا يقول الحق { :سََأصْ ِرفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَ َتكَبّرُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
]146
إذن يوضح سبحانه هنا أنه سيصرف الذين يتكبرون في الرض بغير الحق عن أن ينظروا نظر
اعتبار في آيات الكون ،أو أن الذين يتكبرون في الرض بغير الحق سيبطل كيدهم في أن يتجهوا
للحق بالهدم؛ لن الواحد من هؤلء ساعة يرى آية من آيات ال سينظر إليها على أنها سحر ،أو
شعوذة ،أو أن يقول عنها إنها ضمن أساطير الولين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن وجه الصرف أن يسلط الحق عليه من الكبر ما يجعله غير قادر على وزن الية بالميزان
الصحيح لها ،والمتكبر هو من ظن أن غيره أدنى منه وأقل منزلة ،ومقومات الكبر قد تكون قوة،
لكن ألم يرَ المتكبر قويّا قد ضعف؟ وقد يكون الثراء من مقومات التكبر ،لكن ألم يرَ المتكبر غنيّا
قد افتقر؟ أو يكون المتكبر صاحب جاه ،ألم يرَ ذا جاه صار ذليلً؟.
إذن فمن يتكبر ،عليه أن يتكبر بشيء ذاتي ل ُيسْلَب منه أبدا .فإذا ما أردت أن تطبق هذا على
البشر فلن تجد واحدا يستحق أن يكون متكبرا أبدا؛ لنه ل يوجد في الِنسان خاصية ذاتية فيه
تلزمه ول تفارقه أبدا ،بل كلها موهوبة ،ومن الغيار التي تحدث وقد تزول .فكلها من ال
وليست أمورا ذاتية؛ لن القوة فيك إن كانت ذاتية فحافظ عليها ،ولن تستطيع .وإن كان الثراء
ذاتيّا فحافظ على غناك أبدا ،ولن تستطيع .وإن كانت العزة ذاتية فحافظ على عزتك أبدا ولن
تستطيع .إذن فمقومات الكبرياء في البشر غير ذاتية.
وقوله سبحانه { :يَ َتكَبّرُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ } يفيد أن هناك كبرياء بحق لمن يملك في ذاته
كل عناصر القوة والثراء والجاه والعزة ،ولذلك فالكبرياء ل وحده .واعلموا أن كل متكبر في
الرض ل يخطر ال بباله؛ لنه لو خطر ال بكماله وجلله في باله لتضاءل؛ لن ال يخطر فقط
ببال المتواضعين من الناس ،ولذلك نضرب هذا المثل :إننا نجد من حولنا إنسانا هو الرئيس
العلى ،وهناك رئيس لطائفة ومرؤوس لخر ،وهناك مرؤوس فقط .والرئيس المرؤوس ل
يستطيع أن يجلس مع المرؤوسين له بتكبر ويضع ساقا على ساق ويعطي أوامر؛ لنه قد يلتفت
فيجد رئيسه وقد دخل عليه .فلو فعل الرئيس المرؤوس ذلك لضحك منه المرؤوسون له.
فكذلك الناس الذين ل يستحضرون ال في بالهم نجدهم مثار سخرية ،لكن الذين يستحضرون ال
الذي له الكبرياء في السموات والرض ل يتكبرون أبدا.
إنه سبحانه يصرف عن المتكبرين النظر في اليات الكونية فل يعتبرون ،ويصرف عنهم تصديق
اليات الدالة على نبوة النبياء ،ويصرف عنهم القدرة على تصديق أحكام القرآن ،ويطبع على
قلوبهم ،فما بداخل هذه القلوب من الكفر ل يخرج ،وما في خارج هذه القلوب من الِيمان ل
يدخل .وهم برغم حركتهم في الحياة إل أن الحق يعجزهم عن رؤية آياته في الكون } .وَإِن يَ َروْاْ
ل وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ ا ْلغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً...
ُكلّ آيَ ٍة لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لَ يَتّخِذُوهُ سَبِي ً
{ [العراف]146 :
وحين يرى أهل الكبر الية الكونية أو الية الِعجازية أو آيات الحكام فهم ل يؤمنون بها ،وحين
يرون سبيل الرشد ل يتخذونه سبيلً؛ لن سبيل الرشد يضغط على شهوات النفس وهواها ،فينهى
عن السيئات وهم ل يقدرون على كبح جماح شهواتهم لنها تمكنت منهم ،ولكن سبيل الغي يطلق
العِنان لشهوات النفس ،ول يكون كذلك إل إذا غفل عن معطيات الِيمان الذي يحرمه من شيء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليعطيه أشياء أثمن ،وهكذا تكون نظرة أهل الكبر سطحية .ونلحظ أن كلمة السبيل تأتي مرة
خذُوهُ سَبِيلً { ،ومرة تأتي مؤنثة ،فالحق يقولُ } :قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي {.
كمذكر كقوله؛ } لَ يَتّ ِ
وهنا يقول الحق عن الذين يتبعون سبيل الغي من أهل الكبر } :ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا َوكَانُواْ
عَ ْنهَا غَافِلِينَ { .وقديما قلنا إن الغفلة ل توجب الجزاء عليها؛ لن الغافل ساهٍ وناس ،ولكن هؤلء
صدفوا عن المر صدوفا عقليّا مقصودا ،لدرجة أنهم ل يعيرون اليمان أي التفات.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَالّذِينَ كَذّبُواْ{ ...
()1088 /
وقد جاء لفظ اليات هنا أكثر من مرة ،فقد قال الحق { :وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آ َي ٍة لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا } .ويقول
أيضا { :ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا } .ويقول سبحانه { :وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا }.
إذن فالمسألة كلها مناطها في اليات الكونية للستدلل على من أوجدها ،والِعجازية للستدلل
على صدق مَنْ أرسل من الرسل ،والقرآنية لخذ منهج ال لتقويم واستواء حركة الِنسان.
عمَاُلهُمْ[ } ...العراف]147 :
طتْ أَ ْ
{ وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَِلقَآءِ الخِ َرةِ حَبِ َ
ويقال :حبط الشيء أي انتفخ وورم من علة أو مرض .أي أنهم في ظاهر المر يبدو لهم أنهم
عملوا أعمال حسنة ولكنها في الواقع أعمال باطلة وفاسدة ،وقد يوجد من عمل عملً حسنا نافعا
للناس ،ولكن ليس في باله أنه بفعل ذلك إرضاء ل ،بل للشهرة لينتشر ذكره ويذيع صِيتُه ويثني
الناس عليه ،أو للجاه والمركز والنفوذ .ولذلك حين " سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم :من
الشهيد؟ .قال:
" من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال ".
لن الرجل قد يقاتل حمية ،أو ليعرف الناس مثلً أنه شجاع .إذن فهناك من يعمل عملً ليفتخر به.
ويقال مثلً :إن الكفار هم من اكتشفوا الميكروب وصعدوا إلى الفضاء .ونقول :نعم لقد أخذوا
التقدير من الناس لن الناس كانت في بالهم ،ولن يأخذوا التقدير من ال لنهم عملوا أعمالهم
وليس في بالهم ال .والِنسان يأخذ أجره ممن عمل له ،وال سبحانه وتعالى لن يضيع أجر
أعمالهم الحسنة ،بل أعطى لهم أجورهم في الدنيا ،لكن حرث الخرة ليس لهم {.مَن كَانَ يُرِيدُ
حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا[} ...الشورى]20 :
فمن زرع وأحسن اختيار البذور ،واختيار التربة وروى بنظام يأتي له الزرع بالثمر لنه أخذ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالسباب ،وهذا اسمه عطاء الربوبية وهو عطاء عام لكن مَن خلق ال ،مؤمنا كان أو كافرا،
عاصيّا أو طائعا ،لكن عطاء اللوهية يكون في اتباع المنهج بـ " افعل ول تفعل " وهذا خاص
بالمؤمنين ،فإذا ما أحسنوا استعمال أسباب الحياة في السنن الكونية .يأخذون حظهم منها،
والكافرون أيضا يأخذون حظهم منها ،إذا أحسنوا الخذ بالسباب؛ ويكون ذلك بتخليد الذكرى
وإقامة التماثيل لهم .وأخذ المكافآت والجوائز وحفلت التكريم .أما جزاء الخرة فيأخذه من عمل
لرب الخرة ،أما من لم يفعلوا من أجل لقاء ال فهو سبحانه يقول في حقهمَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا
جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان]23 :
ع َملٍ َف َ
عمِلُواْ مِنْ َ
َ
ظمْآنُ مَآءً[} ...النور]39 :
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
وكذلك يقول {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
فالكافرون مثلهم مثل الظمآن الذي يسير في صحراء ويخيل له أن أمامه ماء ،ويمشي ويمشي فل
يجد ماء.
أما غير الظمآن فل يهمه إن كان هناك ماء أو ل يوجد ماء ،فالظمآن ساعة يرى السراب يمني
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ لَمْ
حسَبُهُ ال ّ
نفسه بأن المياه قادمة وأنه سيحصل عليها {.كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ
ج ْدهُ شَيْئا[} ...النور]39 :
يَ ِ
جدَ اللّهَ عِن َدهُ { .إنه يفاجأ بأن الِله الذي كان ل
وليس المهم أنه لم يجده شيئا ،بل يفاجأَ } :ووَ َ
يصدق بأنه موجود يجده أمامه يوم القيامة فيوفيه حسابه ويجزيه على عمله القبيح .إذن فإن عمل
الِنسان عملً فلينتظر الجر ممن عمل له ،وإن عمل الِنسان عملً وليس في باله ال فعليه ألّ
يتوقع الجر منه ،وعلى الرغم من ذلك يعطي ال لهؤلء الجر في قانون نواميس الحياة الكونية؛
عمَاُلهُمْ َهلْ
طتْ أَ ْ
لن من يحسن عملً يأخذ جزاءه عنه } .وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَِلقَآءِ الخِ َرةِ حَبِ َ
يُجْ َزوْنَ ِإلّ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [العراف]147 :
هم إذن كذبوا بآيات ال ،وكذبوا باليوم الخر ،ولم يعملوا وفق منهج الِيمان ،فلهم جزاء وعقاب
من الحق الذي أنزل هذا المنهج ،ولكنّهم أعرضوا عنه وكذبوه.
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ
ضلّ َ
ن َ
عمَالً * الّذِي َ
ولذلك يقول سبحانهُ {:قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ
حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف]104-103 :
حسَبُونَ أَ ّن ُهمْ يُ ْ
يَ ْ
خذَ َقوْمُ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَاتّ َ
()1089 /
خوَارٌ أَلَمْ يَ َروْا أَنّهُ لَا ُيكَّل ُمهُمْ وَلَا َي ْهدِيهِمْ سَبِيلًا
سدًا لَهُ ُ
وَاتّخَذَ َقوْمُ مُوسَى مِنْ َب ْع ِدهِ مِنْ حُلِ ّيهِمْ عِجْلًا جَ َ
خذُوهُ َوكَانُوا ظَاِلمِينَ ()148
اتّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله { :مِن َبعْ ِدهِ } أي من بعد ذهابه لميقات ربه بعد أن قال لهارون { :اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي }.
بعد ذلك اتخذ قوم موسى من حليهم عجلً جسدا له خُوار ،ونعرف أن الحلي هو ما يُتَزين به من
الذهب ،والجواهر والشياء الثمينة ،وسيد هذه الحلي هو الذهب دائما ،ونعلم أن الصائغ الماهر
يشكل الذهب كما يريد ،وإن انكسر يسهل إصلحه ،كما أن كسر الذهب بطيء ،ولذلك يقال :إن
الذهب كالِنسان الطيب ،كسره بطيء ،واجباره سهل.
وساعة نسمع كلمة " زينة " قد يدخل فيها الماس والزمرد ،والياقوت ،لكن الذهب سيد هذه الحلي.
ونعلم أن العالم مهما ارتقى ،فلن يكون هناك رصيد لمواله إل الذهب ،ولذلك لم يأت سبحانه
بالياقوت ،أو بالجواهر ،أو بالماس .ولذلك إذا أطلقت كلمة " الحلي " فالمراد بها الذهب.
وهذه الزينة هي التي صنع منها موسى السامري تمثال العجل ،وبطبيعة الحال أخذ الحلي الذهبية
لن الماس والجواهر ل يمكن صهرها .لكن من أين جاء قوم موسى بالحلي وقد كانوا
مستضعفين ،ومستذلين؟ لقد احتالوا على أهل مصر وأخذوا منهم الحلي كسلفة سيردونها من بعد
ذلك .ثم جاء رحيلهم فأخذوا الحلي معهم!
وغرق قوم فرعون وبقيت الحلي مع قوم موسى ،وصنع موسى السامري من ذهب هذه الحلي
حجّم ،أي له
عجلً ،والعجل هو الذكر من ولد البقر ،وساعة تسمع قوله { :عِجْلً جَسَدا } أي أنه مُ َ
حجم واضح .وأخذ أهل التفسير من كلمة " جسدا " أن ذلك العجل هو بدن ل روح له ،مثلما
نقول " :فلن هذا مجرد جثة " .أي كأنه جثة بل روح.
خوَارٌ } ،هذا القول يدل على أن جسدية العجل لم تكن لها حياة؛
جسَدا لّهُ ُ
عجْلً َ
وقوله الحقِ { :
لنه لو كان جسدا فيه روح لما احتاج إلى أن يقول عجلً جسدا له خوار ،ولكتفي بالقول بأنه
خوَارٌ } دليل على أن الجسدية في العجل ل تعطي له الحياة .وجاء
عجل .لكن قوله سبحانه { :لّهُ ُ
خوَارٌ } والخُوار هو صوت البقر .وقد صنعه من الذهب وكأنه يريد أن
بالوصف في قوله { :لّهُ ُ
يتميز عن اللهة التي كانت من الحجار ،وحاول أن يجعله إلها نفيسا ،فصنعه -كما نعرف -
من الحلي المسروقة ،وصنعه بطريقة أن هذا العجل الجسد إذا ما استقبل من دبره هبة الهواء؛
صنعت وأحدثت في جوفه صوتا يشبه صوت وخوار البقر الذي يخرج من فمه ،وهذه المسألة
نراها في الناي وهو أنبوبة من القصب مما يسمى الغاب البلدي وتصنع به ثقوب ،ويعزف عليه
العازف ليخرج منه النغمة التي يريدها.
وحين صنع موسى السامري العجل بهذه الحيلة ،حدث هذا الصوت مشابها لخوار البقر.
وقصة هذا العجل تأتي في سورة طه بوضوح وسنتعرض لها حين نتعرض بخواطرنا الِيمانية
خوَارٌ أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ ُه لَ ُيكَّل ُمهُ ْم َولَ َي ْهدِيهِمْ سَبِيلً اتّخَذُوهُ
لسورة طه بإذن ال...} :عِجْلً جَسَدا لّهُ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ { [العراف]148 :
ولماذا اختار السامري العجل؟ لنهم حين خروجهم من مصر ،رأوا قدماء المصريين وهم يعبدون
العجل لمزية فيه ،فقد كانوا يرون فيه مظهر قوة ،كما عبد الخرون الشمس حين رأوا فيها مظهر
قوة ،وكذلك من عبدوا القمر ،والنجوم .وقدماء المصريين عبدوا العجل لن فيضان النيل كان
يغمر الرض بالمياه ،وكانوا يستخدمون العجل .حين يريدون حرث الرض .وكان أَيّدًا ،أي قويّا
وشديدا في حرث الرض وهذا مظهر من مظاهر القوة ،ولكن كيف اتخذ قوم موسى من بعده
عجلً يعبدونه بعد أن أتم عليهم ال المنة العظيمة حين أنجاهم وأغرق فرعون وآله؟ .وهنا أوضح
لنا ال أنه جاوز ببني إسرائيل البحر ومروا على قوم يعبدون الصنام؛ فقالوا لموسى عليه السلم:
اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
خذُوهُ َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ
ويأتي القول من الحق ...} :أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ ُه لَ ُيكَّل ُمهُ ْم َولَ َي ْهدِيهِمْ سَبِيلً اتّ َ
{ [العراف]148 :
وهذه قضية تهدم كل عبادة دون عبادة ال؛ لن العبد لبد أن يتلقى من المعبود أوامر ،وأن يكون
عند المعبود منهج يريد من العبد أن ينفذه ،وأن يأتي المنهج بواسطة رسل يبلغون رسالت ال
وكلم ال للبشر .أما الذين يعبدون الشمس -مثلً -فنسألهم :لماذا تعبدونها؟ وما المنهج الذي
أرسلته الشمس لكم؟ .إن العبادة هي طاعة العابد للمعبود في " افعل " و " ل تفعل " فهل قالت لكم
الشمس " افعلوا " و " ل تفعلوا "؟ ل؛ لنه ل توجد واسطة كلمية تقول لكم المنهج ،وكيف يوجد
-إذن -معبود بدون منهج للعابد؟ وهل قالت :إن من يعبدني سأشرق عليه ،وأعطيه الضوء
والحرارة ،ومن ل يعبدني فلن أعطيه شيئا من ذلك؟ لم تقل الشمس ذلك فهي تعطي من آمن بها
ومن كفر ،ولم ترسل خبرا عن الخرة وقيام القيامة.
وهكذا يبطل أمامنا كل عبادة لغير ال من ناحية أن العبادة تقتضي أمرا ونهيا ،في " افعل " و " ل
تفعل " ولم يقل معبود من هؤلء ما الذي نطيعه وما الذي نعصاه .والصل في المعبود أنه يهدي
العابد السبيل الموصل إلى خيره في الدنيا وفي الخرة .لذلك يقول الحق } :أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ ُه لَ ُيكَّل ُمهُمْ
وَلَ َيهْدِي ِهمْ سَبِيلً اتّخَذُو ُه َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ { .و } َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ { لنهم أعطوا حقّا لمن ليس له
عظِيمٌ {.
الحق ،والحق سبحانه أعلى قمة في الحق ،ولذلك قال عن الشرك به } :إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ َ
سقِطَ فِي أَ ْيدِيهِمْ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وََلمّا ُ
()1090 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا يوضح لنا أن عبادة العجل بين قوم موسى صار لها جمهور .لكن الناس الذين امتلكوا قدرا
من البصيرة ،أو بقية إيمان قالوا :هذه الحكاية سخيفة ،وما كان لنا أن نفعلها وندموا على ما كان،
سقِط في يده ،وهذه من الدللت الطبيعية الفطرية التي ل تختلف فيها أمة عن أمة ،بل هي
ويقالُ :
في كل الجناس ،وفي كل لغة تشير إلى أن الِنسان إذا ما فعل فعل وحدث له عكس ما يفعل
يعض على النامل ندما وغمّا ،وهذه من الدللت الفطرية الباقية لنا من اللتقاء الطبعي في
المخاطبات ،في كل الجناس .ويعض الِنسان النامل لنه عمل شيئا ما كان يصح أن يعمله ،فإذا
كان الشيء عظيما فهو ل يكتفي بالنملة بل يمسك يده كلها ويعضها .والحق يقول { :وَ َيوْمَ َي َعضّ
الظّاِلمُ عَلَىا َيدَيْهِ }.
و " سُقط في أيديهم " أي جاءت أنيابهم على أيديهم ،كأن الندم بلغ أشده ،إن ذلك حدث من التائبين
الذين أبصروا بعيونهم ورأوا أن ذلك باطل وخسران .أي قالوا :لئن لم يتداركنا ال برحمته
ومغفرته لنكونن من الهالكين ،وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى ال عز وجل.
جعَ مُوسَىا} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :وََلمّا رَ َ
()1091 /
سمَا خََلفْ ُتمُونِي مِنْ َبعْدِي أَعَجِلْ ُتمْ َأمْرَ رَ ّبكُ ْم وَأَ ْلقَى
سفًا قَالَ بِئْ َ
غضْبَانَ أَ ِ
وََلمّا َرجَعَ مُوسَى إِلَى َق ْومِهِ َ
ش ِمتْ ِبيَ
ضعَفُونِي َوكَادُوا َيقْتُلُونَنِي فَلَا ُت ْ
خذَ بِرَأْسِ َأخِيهِ َيجُ ّرهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْلقَوْمَ اسْ َت ْ
ح وَأَ َ
الْأَ ْلوَا َ
جعَلْنِي مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ ()150
الْأَعْدَا َء وَلَا تَ ْ
وكون موسى يعود إلى قومه حالة كونه غضبان أسِفا ،يدلنا على أنه علم الخبر بحكاية العجل.
والغضب والسف عملية نفسية فيها حزن وسموها " :المواجيد النفسية " ،أي الشيء الذي يجده
الِنسان في نفسه ،وقد يعبر عن هذه المواجيد بانفعالت نزوعية ،ولذلك تجد فارقا بين من يحزن
ويكبت في نفسه ،وبين من يغضب ،فمن يغضب تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويستمر هياجه،
وتبرق عيناه بالشر وتندفع يداه ،وهذا اسمه :غضبان .وصار موسى إلى الحالتين الثنتين؛ وقدّم
الغضب لنه رسول له منهجه .ول يكفي في مثل هذا المر الحزن فقط ،بل لبد أن يكون هناك
الغضب نتيجة هياج الجوارح.
وقديما قلنا :إن كل تصور شعوري له ثلث مراحل :المرحلة الولى .مرحلة إدراكية ،ثم مرحلة
وجدانية في النفس ،ثم مرحلة نزوعيه بالحركة ،وضربنا المثل لذلك بالوردة .فمن يرى الوردة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهذا إدراك ،وله أن يعجب بها ويسر من شكلها ويطمئن لها ويرتاح ،وهذا وجدان .لكن من يمد
يده ليقطفها فهذا نزوع حركي .والتشريع للِدراك أو للوجدان لكنه قنن للسلوك .إل في غض
البصر عما حرم ال وذلك رعاية لحرمة العراض.
والسف عند موسى لن يظهر للمخالفين للمنهج .بل يظهر الغضب وهو عملية نزوعية ،ونلحظ
بكلمة أَسِف .وهي مبالغة .فهناك فرق بين َأسِف وآسف ،آسف خفيفة قليلً ،لكن أسِف صيغة
عجِلْتُمْ
سمَا خََلفْ ُتمُونِي مِن َبعْدِي أَ َ
مبالغة ،مما يدل على أن الحزن قد اشتد عليه وتمكن منه { .قَالَ بِئْ َ
َأمْرَ رَ ّبكُمْ[ } ...العراف]150 :
عجِلْتُمْ َأمْرَ رَ ّبكُمْ } أي استبطأتموني ،وهذا نتيجة لذهاب موسى لثلثين ليلة
وقوله سبحانه { :أَ َ
وأتممها بعشر ،فتساءل موسى :هل ظننتم أنني لن آتي؟ أو أنني أبطأت عليكم؟ وهل كنتم تعتقدون
وتؤمنون من أجلي أو من أجل إله قادر؟ .ولذلك قال سيدنا أبو بكر رضي ال عنه :عندما انتقل
رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الرفيق العلى:
" من كان يعبد محمدّا فإن محمدّا قد مات ،ومن كان يعبد ال فإن ال حي ل يموت " .وهنا يقول
سيدنا موسى :افترضوا أنكم عجلتم المر واستبطأتموني أو خفتم أن أكون قد مت .فهل كنتم
تعبدونني أو تعبدون ربنا.
عجِلْتُمْ َأمْرَ رَ ّبكُ ْم وَأَ ْلقَى الَ ْلوَاحَ } ،ونعلم أن اللواح فيها المنهج ،وقدر موسى على أخيه:
{ أَ َ
{ وََأخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُ ّرهُ إِلَ ْيهِ } وهذا " النزوع الغضبي " الذي جعله يأخذ برأس أخيه ،كأن
ضعَفُونِي َوكَادُواْ
الخوة هنا ل نفع لها ،فماذا كان رد الخ هارون:؟ {...قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْلقَوْمَ اسْ َت ْ
جعَلْنِي مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } { العراف]150 :
عدَآ َء َولَ تَ ْ
ش ِمتْ ِبيَ الَ ْ
َيقْتُلُونَنِي فَلَ تُ ْ
نلحظ أنه قال " :ابن أم " ولم يقل " :ابن أب " لن أبا موسى وهارون طُوي اسمه في تاريخ
النبوات ولم يظهر عنه أي خبر ،والعلم جاءنا عن أمه لنها هي التي قابلت المشقات في أمر
حياته ،لذلك جاء لنا بالقدر المشترك البارز في حياتهما ،ولن المومة مستقر الرحام؛ لذلك أنت
تجد أخوة من الم ،وأخوة من الب فقط ،وأخوة من الب والم ،والخوة من الب والم أمرهم
معروف.
لكن نجد في أخوة الم حنانا ظاهرا ،ويقل الحنان بين الخوة من الب .وجاء الحق هنا بالقدر
المشترك بينهما -موسى وهارون -وهو أخوة الم ،وله وجود مستحضر في تاريخهم .أما الب
عمران فنحن ل نعرف عنه شيئا ،وكل اليات التي جاءت عن موسى متعلقة بأمه ،لذلك نجد أخاه
ضعَفُونِي َوكَادُواْ َيقْتُلُونَنِي {.
هارون يكلمه بالسلوب الذي يحننه } :قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْلقَوْمَ اسْ َت ْ
ومادام قد قالَ } :وكَادُواْ َيقْتُلُونَنِي { فهذا دليل على أنه وقف منهم موقف المعارض والمقاوم الذي
ي الَعْدَآءَ
ش ِمتْ ِب َ
أدى ما عليه إلى درجة أنهم فكروا في قتله ،ويتابع الحق بلسان هارون } :فَلَ تُ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنِي مَعَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ {.
وَلَ َت ْ
والشماتة هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم ،والعداء هم القوم الذين اتخذوا العجل ،وقد
وصفهم بالعداء كدليل على أنه وقف منهم موقف العداوة ،وأن موقف الخلف بين موسى
وهارون سيفرحهم ،وقوله } :وََأخَذَ بِرَ ْأسِ أَخِيهِ { ..إجمال للرأس في عمومها ،وفي آية أخرى
خذْ بِِلحْيَتِي َولَ بِرَأْسِي {.
يقول } :لَ تَأْ ُ
ولقد صنع موسى ذلك ليسمع العذر من هارون؛ لنه يعلم أن هارون رسول مثله ،وأراد أن
يسمعنا ويسمع الدنيا حجة أخيه حين أوضح أنه لم يقصر .قال :إن القوم استغضعفوني لني
وحدي وكادوا يقتلونني ،مما يدل على أنه قاومهم مقاومة وصلت وانتهت إلى آخر مجهودات
الطاقة في الحياة؛ حتى أنهم كادوا يقتلونه ،إذن فهو لم يوافقهم على شيء ،ولكنه قاوم على قدر
جعَلْنِي مَعَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ {.
الطاقة البشرية ،لذلك يذيل الحق الية بقوله سبحانه } :وَلَ َت ْ
ن بي أنني كنت
وكأنه يقول :لموسى إنك أن آخذتني هذه المؤاخذة في حالة غضبك ،ربما ظُ ّ
معهم ،أو سلكت مسلكهم في اتخاذ العجل وعبادته .وأراد الحق سبحانه أن يبين لنا موقف موسى
وموقف أخيه؛ فموقف موسى ظهر حين غضب على أخيه وابن أمه ،وموقف هارون الذي بيّن
العلة في أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه ،ول يمكن أن يطلب منه فوق هذا ،وحينما قال
هارون ذلك تنبه موسى إلى أمرين:
المر الول :أنه كيف يلقي اللواح وفيها المنهج؟ والمر الثاني :أنه كيف يأخذ أخاه هذه الخذة
قبل أن يتبين وجه الحق منه؟
غفِرْ لِي{ ...
ويقول الحق على لسانه بعد ذلك } :قَالَ َربّ ا ْ
()1092 /
حمِينَ ()151
ك وَأَ ْنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
حمَ ِت َ
غفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَ ْدخِلْنَا فِي َر ْ
قَالَ َربّ ا ْ
قال يا رب اغفر لي إن كان قد بدر مني شيء يخالف منطق الصواب والحق .واغفر لخي
هارون ما صنع ،فقد كان يجب عليه أن يأخذ في قتال من عبدوا العجل حتى يمنعهم أو ينالوا منه
ولو مادون القتل جرحا أو خدشا أو ..أو ..إلخ.
حمِينَ } [العراف:
حمَ ِتكَ وَأَنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
ويطلب موسى لنفسه ولخيه الرحمة { :وَأَدْخِلْنَا فِي َر ْ
]151
حمِينَ } أو { خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } ،أو { خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ } ،أو { َأحْسَنُ
وحين تسمع { أَ ْرحَمُ الرّا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الْخَاِلقِينَ } ،وكل جمع هو وصف ل ،وإنه بهذا أيضا يدعو خلقه إلى التخلق بهذا الخلق،
ويوصف به خلقه .فاعلم أن ال لم يحرمهم من وصفهم بهذه الصفات لن لهم فيها عمل وإن كان
محدودا يتناسب مع قدرتهم ومخلوقيتهم وعبوديتهم ،فضل على أنها عطاء ومنحة منه -سبحانه
-أما صفات ال فهي صفات ل محدودة ول متناهية جلل وكمال وجمال فسبحانه { لَيْسَ َكمِثْلِهِ
حمِينَ } فهذا يعني أنه سبحانه لم يمنع الرحمة من خلقه
شيْءٌ } ،فإذا كان خلق ال هو { أَ ْرحَمُ الرّا ِ
َ
على خلقه؛ فمن رحم أخاه سُميّ رحيما ،وراحما ،ولكن ال أرحم الراحمين؛ لن الرحمة من كل
إنسان ضمان لمظهرية الغضب في هذا الحد ،يقال " :رحمت فلنا " أي من غضبك عليه
ن عقوبتك على قدر قوتك ،لكن ال حين يريد أن يأخذ واحدا بذنب فقوته ل نهاية
وعقوبتك ،وإ ّ
لها ،وكذلك رحمته أيضا ل نهاية لها.
ويقول الحق بعد ذلك { :إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ} ...
()1093 /
جلَ } قد نجد من يتساءل :هل اتخذوه مذبوحا يأكلونه؟ أو يثير الرض أو
حين يقال { :اتّخَذُواْ ا ْل ِع ْ
يسقي الحرث ويدير السواقي؟ لن العجل موجود لهذه المهام ،لكنهم لم يأخذوا العجل لتلك المهام،
بل إنهم قد اتخذوا العجل إلها ومعبودا ،أما اتخاذه فيما خُِلقَ له فل غبار عليه ،وهو هنا محذوف
ومتروك لفطنة السامع؛ فإذا اتخذنا العجل فيما خُلِقَ له العجل ل ينالنا غضب من ال ،أما الذين
ضبٌ
غ َ
سينالهم غضب ال فهم من اتخذوا العجل في غير ما خُِلقَ له ،إنهم اتخذوه إلها { :سَيَنَاُلهُمْ َ
مّن رّ ّبهِ ْم وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا }.
وقوله { :سَيَنَاُل ُهمْ } يدل على أن أوان الغضب والذلة لم يأت بعد ،وسيحدث في المستقبل ،ومستقبل
غضَبٌ
الدنيا هو الخرة ،ولكن الحق هنا يقول :إن الذلة ستحدث في الدنيا ،فكيف يكون { سَيَنَاُلهُمْ َ
سكُمْ ذَِل ُكمْ خَيْرٌ
} مع أنهم تابوا؟ ويوضح سبحانه لنا ذلك في قوله { :فَتُوبُواْ إِلَىا بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُ َ
ّلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ }.
فبعضهم تاب إلى بارئه وقتل نفسه فلماذا إذن الغضب؟
ويوضح الحق لنا أن الذي ينالهم من الغضب هو ما ألجأهم إلى أن يقال لهم " :اقتلوا أنفسكم " ،
ضبٌ } أي قبل أن يتوبوا ،وقتل النفس هو منتهى الذلة
غ َ
وهكذا نفهم أن قوله تعالى { :سَيَنَاُلهُمْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضبٌ مّن رّ ّبهِ ْم وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل ُمفْتَرِينَ }
غ َ
ومنتهى الهانة ...{ .سَيَنَاُلهُمْ َ
[العراف]152 :
أي أن هذا المر ليس بخاصية لهم ،فكل مفتر يتجاوز حده فوق ما شرعه ال لبد أن يناله هذا
الجزاء؛ لن ربنا حين يقول لنا ما حدث في تاريخهم؛ وحين يسرد لنا هذه القصة فإنه يريد من
وراء ذلك -سبحانه -أن يعتبر السامع للقصة في نفسه .واعتبار السامع للقصة في نفسه ل
يتأتى إل بأن يقول له ال تنبيها وتحذيراَ { :وكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل ُمفْتَرِينَ } أي احذر أن تكون مثل
هؤلء فينالك ما نالهم ،وهو سبحانه ينبه كل لينتفع من هذه العبرة وهذه اللقطة فإنّ التاريخ
مسرود لخذ العبرة ،والعظة ليتعظ بها السامع.
عمِلُواْ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :وَالّذِينَ َ
()1094 /
عمِلُوا السّيّئَاتِ ُثمّ تَابُوا مِنْ َبعْدِهَا َو َآمَنُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ َبعْدِهَا َل َغفُورٌ َرحِيمٌ ()153
وَالّذِينَ َ
وهذا ما حدث ،فبعد أن اتخذوا العجل ،وقال لهم :اقتلوا أنفسكم توبة إلى بارئكم ،ثم تابوا إلى ال
وآمنوا بما جاءهم ،غفر ال لهم .وإذا كان الحق قد قص علينا مظهرية جباريته فإنه أيضاً لم يشأ
أن يدعنا في مظهرية الجبارية ،وأراد أن يدخلنا في حنان الرحمانية .لذلك يقول هنا { :وَالّذِينَ
عمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن َب ْعدِهَا وَآمَنُواْ إِنّ رَ ّبكَ مِن َبعْ ِدهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ } [ العراف]153 :
َ
وقوله { :ثُمّ تَابُواْ } أي ندموا على ما فعلوا وأصروا وعزموا على ألّ يعودوا ،ونعلم من قبل أن
التوبة لها مظهريات ثلثة؛ أولً :لها مظهرية التشريع ،ولها مظهرية الفعل من التائب ثانيا ،ولها
قبولية ال للتوبة من التائب ثالثا .ومشروعية التوبة نفسها فيها مطلق الرحمة ،ولو لم يكن ربنا قد
شرع التوبة سيستشري شره في السيئة فهذه رحمة بالمذنب ،وبالمجتمع الذي يعيش فيه المذنب.
بعد ذلك يتوب العبد ،ثم يكون هنا مظهرية أخرى للحق ،وهو أن يقبل توبته.
التوبة -إذن -لها تشريع من ال ،وذلك رحمة ،وفعل من العبد بأن يتوب ،وذلك هو الستجابة،
وقبول من ال ،وذلك هو قمة العطاء والرحمة منه سبحانه.
عمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن َب ْعدِهَا وَآمَنُواْ[ } ...العراف]153 :
وقوله الحق { :وَالّذِينَ َ
إنّ هذا القول يدل على أن عمل السيئة يخدش الِيمان ،فيأمر سبحانه عبده :جدّد إيمانك،
واستحضر ربك استحضارا استقباليّا؛ لن عملك السيئة يدل على أنك قد غفلت عن الحق في أمره
ونهيه ،وحين تتوب فأنت تجدد إيمانك وتجد ربك غفورا رحيما { :إِنّ رَ ّبكَ مِن َبعْ ِدهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
}.
إن ذنب العبد يكون فيما خالف منهج ربه في " افعل " و " ل تفعل " ،ومادام العبد قد استغفر ال
وتاب فسبحانه يقبل التوبة .ويوضح :إذا كنت أنا غفورا رحيما ،فإياكم يا خلقي أن ُت َذكّروا مذنبا
بذنبه بعد أن يتوب؛ لن صاحب الشأن غفر ،فإياك أن تقول للسارق التائب " :يا سارق " ،وإياك
أن تقول للزاني التائب " :يا زاني " ،وإياك أن تقول للمرتشي التائب " :يا مرتشي " لن المذنب
مادام قد جدّد توبته وآمن ،وغفر ال له ،فل تكن أنت طفيليّا وتبرز له الذنب من جديد.
س َكتَ عَن مّوسَى} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :وَلَماّ َ
()1095 /
وهل للغضب سكوت؟ هل للغضب مشاعر حتى يسكت؟ نعم؛ لن الغضب هيجان النفس لتعمل
عملً نزوعيّا أمام من أذنب ،فكأن الغضب يلح عليه ،ويقول للغاضب :اضرب ،اشتم ،اقتل .كأن
صوّر في صورة شخص له قدرة إصدار الوامر ،فشبّه ال الغضب بصورة
الغضب قد مُثّل و ُ
إنسان يلح على موسى في أن يفعل كذا ،ويفعل كذا ،فلما قال ال ذلك كأن الغضب قد سكت عنه.
أو هو كما قال إخواننا العلماء :من القلب في اللغة ،أي أنه يقلب المسألة ،اتكالً على أن فطنة
السامع سترد كل شيء إلى أصله؛ كما نسمع في اللغة :خرق الثوبُ المسمارَ ،نفهم من هذا القول
أن المسمار هو الذي قام بخرق الثوب؛ لننا لن نتخيل أنّ الثوب يخرق مسمارا .ويسمى ذلك "
القلب " أي أن يأتي بمسألة مقلوبة تفهمها فطنة السامع .أو أن المسمار مستقر في مكانه ،والثوب
هو الذي طرأ عليه فانخرق ،فيكون سبب الخرق من الثوب ،فكأن الفاعلية الحقيقية من الثوب:
ضبُ }.
س َكتَ عَن مّوسَى ا ْل َغ َ
{ وَلَماّ َ
خذَ
ضبُ أَ َ
س َكتَ عَن مّوسَى ا ْل َغ َ
أو تكون كلمة (سكت) كناية عن أن الغضب زال وانتهى { .وَلَماّ َ
ح َمةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّب ِهمْ يَرْهَبُونَ } [العراف]154 :
سخَ ِتهَا هُدًى وَرَ ْ
الَ ْلوَاحَ َوفِي نُ ْ
وأول عمل قام به موسى ساعة أن كان غضبان أسفا أنه ألقى اللواح ،وأول ما ذهب الغضب عنه
وزايله أخذ اللواح ،وهذا أمر منطقي ،فالغضب جعله يلقي اللواح ،ويأخذ برأس أخيه ،ثم فهم ما
فعله أخوه واعتذر به فقبل عذره ،وطلب من ال أن يغفر له ،وأن يغفر لخيه وانتهى الغضب
حمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ }
وكانت اللواح ملقاة فأخذها ثانيةَ ...{ .وفِي نُسْخَ ِتهَا هُدًى وَرَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[العراف]154 :
النسخة من الكتاب مأخوذة من الشيء المنسوخ أي المنقول من مكان إلى مكان ،ويقال :نسخت
الكتاب الفلني من الكتاب الفلني .أي أن هناك كتابا مخطوطا ثم نقلناه بالطباعة أو بالكتابة إلى
نسخة أو عدد من النسخ ،أي أخذته من الصل إلى الصورة ،واسمه منسوخ ،وكلمة نُسخة على
وزن " ُفعْلَة " وتأتي بمعنى مفعولة ،فنسخة تعني منسوخة ،وفي القرآن مثل هذا كثير .والحق
ط َعمْهُ فَإِنّهُ مِنّي ِإلّ
سبحانه وتعالى قال {:إِنّ اللّهَ مُبْتَلِي ُكمْ بِ َنهَرٍ َفمَن شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَن لّمْ َي ْ
مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْرفَةً بِيَ ِدهِ[} ...البقرة]249 :
و " غُرْفة " أي مغروفة ،وهي القليل من المياه في اليد لتبل الريق فقط ،والغرفة أيضا تكون في
البيوت؛ لنها مكان متقطع من مكان آخر ولها جدران تحددها .واسمها غرفة لنها مغروفة من
حمَةٌ }.
المكان في حيز مخصوص .وهنا يقول الحق سبحانهَ { :وفِي ُنسْخَ ِتهَا ُهدًى وَرَ ْ
و " هدى " المقصود بها المنهج الموصل للغاية في " افعل " و " ل تفعل ".
إنّه يوصل للغاية وهي ثواب الخرة .إذن فالهدى والرحمة شيء واحد له طرفان ،فالهدى هو
حمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّب ِهمْ
المنهج الذي إن اتبعته تصل إلى الرحمة ،ولذلك يقول الحق } :هُدًى وَرَ ْ
يَرْهَبُونَ {.
وهكذا نجد المنهج هدى ورحمة ،فمن يسمع كلم ال ويتبعه يهتدي ويرحمه ربنا؛ لنه جعل ال
في باله ,وخاف من صفات الجبارية في الحق ،ولهذا لبد أن يستحضر الِنسان أو المؤمن رهبته
لربه وخوفه منه -سبحانه -ليكون المنهج هدى ورحمة له .ويكون من الذين يرهبون ربهم.
وساعة ترى المفعول تقدم في مثل قوله سبحانه هنا ...} :لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ { [العراف:
]154
نفهم أن هذا هو ما يسمى في اللغة " اختصاص " وقَصْر مثلما قال الحق في فاتحة الكتاب } :إِيّاكَ
َنعْبُدُ {.
وما الفرق بين } إِيّاكَ َنعْبُدُ { و " نعبدك "؟ إن قلنا " :نعبدك " فهو قول ل يمنع من العطف عليه،
فقد نعبدك ونعبد الشركاء معك؛ لكن قولنا } :إِيّاكَ َنعْبُدُ { أي خصصناك بالعبادة وقصرناها عليك
سبحانك فل تتعدى إلى غيرك.
إذن حين تقدم المفعول فهذا هو عمل الختصاص .ومثال ذلك في حياتنا حين نقول " :أكرمتك " ،
ول مانع أن نقول بعدها " وأكرمت زيدا وأكرمت عمرا " .لكن إن قلت :إياك أكرمت ،فهذا يعني
أني لم أكرم إل إياك .وهنا يقول الحق } :لّلّذِينَ ُهمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ { .ولقائل أن يقول :أل يمكن أن
يدعي أحد الرهبة ظاهرا وأنه ممتثل لمر ال رياء أو سمعة حتى يقول الناس :إن فلنا حسن
الِسلم ،ويأخذون في الثناء عليه؟ ولكن هنا نجد التخصيص الذي يدل على أن العبد ل يرهب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أحدا غير ال ،وأن الرهبة خالصة ل ،وليست رياء ،ول سمعة ،ول لقصد الثناء.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ{ ...
()1096 /
وكلمة " اختار " تدل على أن العمل الِختياري يُرجح العقل فيه فعلً على عدم فعل أو على فعل
آخر ،وإل فل يكون في المر اختيار؛ لن " اختار " تعني طلب الخير والخيار ،وكان في مكنتك
أن تأخذ غيره ،وهذا ل يتأتى إل في المور الختيارية التي هي مناط التكليف ،مثال ذلك :اللسان
خاضع لِرادة صاحبه الختيارية التي هي مناط التكليف ،مثال ذلك :اللسان خاضع لِرادة صاحبه
فخضع للمؤمن حين قال :ل إله إل ال ،وخضع للملحد حين قال -لعنه ال :-ل وجود ل ،ولم
يعص اللسان في هذه ،ول في تلك .والذي رجح أمرا على أمر هو ترجيح الِِيمان عند المؤمن في
أن يقول :ل إله إل ال ،وترجيح الِلحاد عند الملحد في أن يقول ما يناقض ذلك .والحق هنا
يقول { :وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ رَجُلً }.
ل مثل قولنا" :
والذين درسوا اللغة يقولون :إن هناك حدثا .وأنّ هناك موجدا للحدث نسميه فاع ً
كتب زيد الدرس " أي أن زيدا هو الذي أدى الكتابة ،ونسمي " الدرس " الذي وقعت عليه الكتابة
مفعولً به ،ومرة يكون هناك ما نسميه " مفعولً له " أو " مفعولً لجله " مثل قول البن :قمت
لوالدي إجللً ،فالذي قام هو البن ،والِجلل كان سببا في إِيقاع الفعل فنسميه " مفعول لجله ":
صمْت يوم كذا " ونسميه " مفعولً فيه " ،وهو أن الفعل ،وقع في هذا الزمن .فمرة يقع
ونقولُ " :
الحدث على شيء فيكون مفعولً به ،ومرة يقع لجل كذا فيكون مفعولً لجله ،ومرة يقع في يوم
كذا؛ العصر أو الظهر فيكون مفعولً فيه ،ومرة يكون مفعولً معه " مثل قولنا :سرت والنيل :أي
أن الِنسان سار بجانب النيل وكلما مشى وجد النيل في جانبه.
وهنا يقول الحق { :وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ َرجُلً ّلمِيقَاتِنَا[ } ...العراف]155 :
ولن اختيار موسى للسبعين كان وقع من القوم؛ فيكون المفعول قد جاء من هؤلء القوم ،ويسمى
" مفعولً منه "؛ لنه لم يخترهم كلهم ،إنما اختار منهم سبعين رجلً لميقاته مع ال سبحانه.
وقالوا في علة السبعين إن من اتبعوا موسى كانوا أسباطا ،فأخذ من كل سبط عددا من الرجال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليكون كل السباط ممثلين في الميقات ،وكلمة " ميقات " مرت قبل ذلك حن قال ال {:وََلمّا جَآءَ
مُوسَىا ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ[} ...العراف]143 :
وهل الميقات هذا هو الميقات الول؟ ل؛ لن الميقات الول كان لكلم موسى مع ال ،والميقات
خذَ ْتهُمُ
الثاني هو للعتذار عن عبدة العجل { .وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ َرجُلً ّلمِيقَاتِنَا فََلمّا أَ َ
جفَةُ قَالَ َربّ َلوْ شِ ْئتَ أَهَْلكْ َت ُهمْ.
الرّ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]155
هذا القول يعني :أنك يا رب قد جعلت الختبار لنك خلقتهم مختارين؛ فيصح أن يطيعوا ويصح
أن يعصوا .وال سبحانه هو من يُضل ويهدي؛ لنه مادام قد جعل الِنسان مختارا فقد جعل فيه
القدرة على الضلل ،والقدرة على الهدى.
وقد بيّن سبحانه من يشاء هدايته ،ومن يشاء إضلله فقال... {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شفَآءٌ
حمْنَا { وهذا جلب مصلحة ،والقرآن يقول {:وَنُنَزّلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
قال بعد ذلك } :وَارْ َ
حمَةٌ[} ...الِسراء]82 :
وَرَ ْ
لن الداء يقع أولً ،وحين تذهب لمنهج القرآن يشفيك من هذا الداء ،والرحمة ألّ يجيء لك داء
حمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
بالمرة .فإذا أخذت القرآن لك نصيرا فلن يأتي لك الداء أبدا...} .فَاغْفِرْ لَنَا وَارْ َ
ا ْلغَافِرِينَ { [العراف]155 :
ومثلها مثل قول الحق سبحانه } :خَيْرُ الرّا ِزقِينَ { ،و } خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ { ،و } خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ
{ و } خَيْرُ ا ْلغَافِرِينَ { هنا؛ لن المغفرة قد تكون من الِنسان للِنسان ،ولكنا نعرف أن مغفرة
الرب فوق مغفرة الخلق؛ لن الغافر من البشر قد يغفر رياء ،وقد يغفر سمعة ،قد يغفر لنه خاف
بطش المقابل .لكنه سبحانه ل يخاف من أحد ،وهو خير الغافرين من غير مقابل.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَاكْ ُتبْ لَنَا{ ...
()1097 /
حمَتِي
وَاكْتُبْ لَنَا فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الَْآخِ َرةِ إِنّا ُهدْنَا إِلَ ْيكَ قَالَ عَذَابِي ُأصِيبُ بِهِ مَنْ َأشَا ُء وَرَ ْ
شيْءٍ َفسََأكْتُ ُبهَا لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ وَيُؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَالّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا ُي ْؤمِنُونَ ()156
س َعتْ ُكلّ َ
وَ ِ
حمْنَا }.
غفِرْ لَنَا وَارْ َ
ونلحظ أن هذه الية تضم طلبات جديدة لسيدنا موسى من ربّه بعد قوله { :فَا ْ
ونرى أن خير الغافرين تعود لقول موسى -عليه السلم { :-فَاغْفِرْ لَنَا } أما الحسنة في قوله{ :
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـا ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َنةً } فإنها تعود على طلب الرحمة { :وَاكْ ُتبْ لَنَا فِي هَـا ِذهِ الدّنْيَا
حسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ }.
َ
هو إذن يطلب الحسنة في الدنيا وكذلك في الخرة ،والحسنة لها معنى " لغوي " ،ومعنى "
شرعي " أما المعنى اللغوي فكل ما يستحسنه الِنسان يُسمى حسنة ،ولكن الحسنة الشرعية هي ما
حسنه الشرع ،فالشرع رقيب على كل فعل من أفعالنا وتصرفاتنا ،فالحسنة ليست ما يستحسنه
الِنسان؛ لن الِنسان قد يستحسن المعصية ،وهذا استحسان بشري بعيد عن المنهج ،أما
الستحسان الشرعي فهو في تنفيذ المنهج بـ " افعل " و " ل تفعل ".
والحسنة المعتبرة في عرف المكلفين من ال هي الحسنة الشرعية؛ لن الِنسان قد يستحسن شيئا
وهو غير شرعي لنه ينظر إلى عاجلية النفع فيه ،ول ينظر إلى آجلية النفع ،ول ينظر إلى كمية
النافع .والنفع -كما نعلم -في الدنيا على قدر تصورك في النفع ،أما النفع في الخرة فل يعلم
قدره إل علّم الغيوب -سبحانه -إذن فقوله { :وَاكْ ُتبْ لَنَا فِي هَـا ِذهِ الدّنْيَا حَسَنَةً } يكون المراد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بها الحسنة الشرعية في الدنيا عملً ،وفي الخرة جزاءً.
ونلحظ أن موسى أراد بالحسنة الولى ما يعم الحسنة الشرعية والحسنة اللغوية؛ فهو دعاء بالعافية
والنعم الجلية الطيّبة؟ ،وكل خير الدنيا في ضوء منهج ال .والحق سبحانه وتعالى يقولُ {:قلْ هِي
لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا خَاِلصَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ[} ...العراف]32 :
إذن فالحسنة الخالصة هي في يوم القيامة ،ولكن هناك من ينتفع بها في الدنيا؛ فالجماد منتفع
برحمة ال ،والنبات برحمة ال ،والحيوان منتفع برحمة ال ،والكافر منتفع برحمة ال .كل ذلك
في الدنيا ،وهي الرحمة التي وسعت كل شيء ،لكن مسالة الخرة كجزاء على الِحسان فهو جزاء
خاص بالمؤمنين.
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلم { :إِنّا هُدْنَـآ إِلَ ْيكَ }.
و " هاد " أي رجع ،و " هدنا إليك " أي رجعنا إليك ،وهذا كلم موسى عن نفسه وعن أخيه ،وعن
القوم الذين عبدوا العجل ثم تابوا ،وما دمنا قد رجعنا إليك يا ربي فأنت أكرم من أن تردنا خائبين.
شيْءٍ َفسََأكْتُ ُبهَا ِللّذِينَ
س َعتْ ُكلّ َ
حمَتِي وَ ِ
عذَابِي ُأصِيبُ ِبهِ مَنْ أَشَآ ُء وَرَ ْ
ويرد الحق سبحانه...{ :قَالَ َ
ن وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَـا َة وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا ُي ْؤمِنُونَ } [العراف]156 :
يَ ّتقُو َ
عذَابِي ُأصِيبُ ِبهِ مَنْ أَشَآءُ } أي ل يوجد من يدفعني ويرشدني في توجيه العذاب
وقوله الحقَ { :
لحد؛ فحين يذنب عبد ذنبا أنا أعذبه أو أغفر له؛ لذلك ل يقولن عبد لمذنب إن ال لبد أن يعذبه؛
شيْءٍ.
س َعتْ ُكلّ َ
حمَتِي وَ ِ
عذَابِي ُأصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَ ْ
لنه سبحانه هو القائلَ { :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1098 /
الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِبيّ الُْأ ّميّ الّذِي َيجِدُونَهُ َمكْتُوبًا عِنْ َدهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالْإِنْجِيلِ يَ ْأمُرُ ُهمْ
ث وَ َيضَعُ عَ ْنهُمْ ِإصْرَ ُهمْ
حلّ َل ُهمُ الطّيّبَاتِ وَ ُيحَرّمُ عَلَ ْيهِمُ الْخَبَا ِئ َ
ف وَيَ ْنهَاهُمْ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَ ُي ِ
بِا ْل َمعْرُو ِ
وَالْأَغْلَالَ الّتِي كَا َنتْ عَلَ ْيهِمْ فَالّذِينَ َآمَنُوا ِب ِه وَعَزّرُوهُ وَ َنصَرُوهُ وَاتّ َبعُوا النّورَ الّذِي أُنْ ِزلَ َمعَهُ أُولَ ِئكَ
هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ ()157
فهذه تسع صفات لسيدنا رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وهي أن ال أوحى إليه كتابًا مختصا
به وهو القرآن ،وأنه صاحب المعجزات ،أنه بلّغ ونبأ بأفضل وأتم العقائد والعبادات والخلق -
وهو -عليه الصلة والسلم -المي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إلى معلم ،فهو
-عليه السلم -باقٍ على الحالة التي ولد عليها ،وقد ذكره ربّه -جل وعل -باسمه وصفاته
ونعوته عند اليهود والنصارى في التوارة والِنجيل وقد كتمها الكافرون منهم أو أساءوا تأويلها،
كما وصفه ربه بأنه يأمرهم بالمعروف ويكلفهم بفعل ما تدعوا إليه الطبائع المستقيمة والفطر
السليمة؛ لن في ذلك النجاح في الدنيا والفلح في الخرة ،وأنه -صلى ال عليه وسلم -
يزجرهم وينهاهم عن كل منكر مستهجن تستقبحه الجبلة القويمة ،والخلقة السوية ،ويحل لهم ما
حرم عليهم من الطيبات التي منعوا منها وحظرها ال عليهم جزاء طغيانهم وضللهم ،ويحرم
عليهم كل ضار وخبيث :كأكل الميتة والمال الحرام من الربا والرشوة والغش ،ويخفف عنهم ما
شق عليهم وثقل من التكاليف التي كانت في شريعة موسى -عليه السلم -كقطع العضاء
الخاطئة وتحريم الغنائم عليهم ووجوب إحراقها ،وكذلك يخفف ال ويحط عنهم المواثيق الشديدة
التي فرضت عليهم عقابا لهم على فسوقهم وظلمهم.
علَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُ ْم وَ ِبصَدّ ِهمْ عَن سَبِيلِ
يقول -جل شأنه {:-فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا َ
عذَابا
طلِ وَأَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ َ
اللّهِ كَثِيرا * وَأَخْ ِذهِمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
أَلِيما }[النساء]161-160 :
وهكذا أعلم ال الرسل السابقين على سيدنا رسول ال أن يبلغوا أقوامهم بمجيء محمد صلى ال
عليه وسلم ،وأن يؤمن القوام التي يشهدون ويعاصرون رسالته صلى ال عليه وسلم ،صحيح أن
رسول ال لم يكن معاصرا لحد من الرسل ،ولكن البشارة به قد جاءت بها أنبياؤهم وسجلت في
الكتب المنزلة عليهم ،وكل رسول سبق سيدنا محمدا صلوات ال وسلمه عليه ،قد أمره ال أن
يبلغ الذين أرسل إليهم أن يتبعوا الرسول محمدا ويؤمنوا به ول يتمسكوا بسلطة زمنية ويخافوا أن
تنزع منهم .ومادام الرسول صلى ال عليه وسلم قد جاء ومعه معجزة وبينة فلبد أن يؤمنوا به{.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ[} ...آل عمران]81 :
إذن فقد صنع ال سبحانه وتعالى خميرة إيمانية حتى ل يتعارض اتباع الديان .ول يفهم أصحاب
دين موجود أن دينا آخر جاء لينسخه ويأخذ منه السلطة الزمنية؛ لن رسالة الِيمان موصولة
وتحدث القضية للناس بامتداد الزمان .فكل الرسل يحرصون على أن تكون الحياة آمنة سعيدة
تتساند فيها المواهب ول تتعاند فيها الحركات.
وقد طلب الحق من الرسل ذلك وأخذ عليهم العهد وبعد ذلك أكده فقال:
} أََأقْرَرْ ُتمْ { واستوحى منهم الكلم الذي يؤيد هذا المنهج .ولذلك ل يصح لتابع نبي أن يصادم
رسالة جديدة مؤيدة بمعجزة ومؤيدة بمنهج يضمن للِنسان الحياة وسلمتها وسعادتها.
ولم يكتف الحق بأن يجعل الِيمان برسالة رسول ال صلى ال عليه ونسلم مجرد خبر ،بل وضع
لمحمد وحده سمة في الكتب التي سبقته ،ووصفه لهم مشخصا ،وحين يصفه مشخصا فهذا أوضح
من الخبر عنه بكلم .ولذلك قال عبدال بن سلم عندما سأله عمر رضي ال عنه عن رسول ال
صلى ال عليه وسلم فقال :أنا أعلم به منّي يا بني .قال :وَِلمَ؟ قال :لني لست أشك في محمد أنه
نبيّ ،فأما ولدي فلعل والدته قد خانت ،فقبّل عمر رأسه .ولذلك يقول الحق سبحانهَ } :يعْ ِرفُونَهُ َكمَا
َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَهُمُ {.
ول شك أن الِنسان يعرف ابنه معرفة دقيقة .ورسول ال صلى ال عليه وسلم كانت له سمات
خاصة وهي التي تثبت شخصيته صلى ال عليه وسلم المادية ،وليس المر في رحلة الِسراء
والمعراج مجرد كلم ،بل إنه حينما سئل عن هذه الرحلة قال " :رأيت موسى وإذا رجل ضَ ْربٌ،
جلٌ كأنه من رجال شنوءة ،ورأيت عيسى فإذا رَبعة أحمر كأنه خرج من ديماس -الحمّام -وأنا
رَ َ
أشبه ولد إبراهيم به ".
وكذلك أعطى ال في التوراة والِنجيل ل الخبر عن محمد صلى ال عليه وسلم فقط ،بل أعطي
تفاصيل صورته بحيث تتشخص لهم ،فل يلتبس به عند مجيئه مع التشخيص شريك ،فبقول
سبحانهَ } :يعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآ َءهُمُ { .ولكن فريقا منهم كتموا الحق ليحتفظوا بالسلطة
الزمنية ،لنهم كانوا يظنون أنه حين يأتي دين جديد سيأخذ منهم هذه السلطة الزمنية ويقود المم
والشعوب .لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل رسل السماء إلى الرض متعاونين ل
حمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ
متعاندين ،ينصر بعضهم بعضا .كما جاء في سورة الفتح {:مّ َ
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ تَرَاهُمْ ُركّعا سُجّدا يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ
عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ
شطَْأهُ فَآزَ َرهُ فَاسْ َتغْلَظَ
مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَِلكَ مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة َومَثَُلهُمْ فِي الِنجِيلِ كَزَ ْرعٍ َأخْرَجَ َ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِ ْنهُم
جبُ الزّرّاعَ لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْل ُكفّا َر وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
فَاسْ َتوَىا عَلَىا سُوقِهِ ُيعْ ِ
عظِيما }[الفتح]29 :
ّمغْفِ َر ًة وَأَجْرا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد جاء الحق بصورة المؤمنين برسالة رسول ال صلى ال في التوراة والِنجيل ،لن الدين
الِسلمي الذي نزل على محمد لن يأتي دين بعده؛ لذلك جاء بسيرة رسول ال وصفاته وصفات
أتباعه في التوراة والِنجيل ،وفي هذا الدين ما تفتقده اليهودية التي انجرفت إلى مادية صرفة
وتركت الروحانيات؛ لذلك تأتي سيرة أتباع محمد في التوراة } :سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِه ِهمْ مّنْ أَثَرِ
السّجُودِ {.
حين أسرف اليهود في المادية أراد ال أن يأتي برسول يجنح ويميل إلى الروحانية وهو سيدنا
عيسى بن مريم عليه السلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المانعة ،ولذلك يقول الحق بعد ذلكُ } :قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ{ ...
()1099 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحاول هذا الملك أن يدير حوارا سفسطائيّا مضلل ليفحم ويسكت إبراهيم -عليه السلم -فقال{:
أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ[} ...البقرة]258 :
وذلك بأن يأمر بقتل انسان ثم يعفو عنه ،وهو بذلك ل يميته بل يحييه في منطق السفسطائيين .لكن
هل المر بالقتل هو الموت؟ .طبعا ل؛ لن هناك فارقا بين الموت والقتل ،فقد يقتل إنسان إنسانا
آخر ،لكنه ل يمكن أن يميته؛ لن الموت يأتي بدون هدم بنيته بشيء؛ برصاصة أو بحجر أو
بقنبلة .ول أحد قادر على أن يميت احدا إذا رغب في أن يميته ،فالموت هو الحادث بدون سبب،
لكن أن يقتل إنسان إنسانا آخر فهذا ممكن ،ولذلك يقول الحق سبحانه عن نفسه { :يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ
فَآمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غير رجل .وفي هذا تخطٍ للسباب ،ولذلك قال الحق سبحانه:
} ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ { .ونعلم أن كل شيء ل يكون إل بكلمة منه سبحانه ،ولكن بكلمة لها أسباب ،أو
بكلمة ل أسباب لها .والكلمات هي أيضا اليات التي فيها منهج الحكام ،ولذلك يأتي قوله الحق{:
ط َومَآ
ق وَ َي ْعقُوبَ وَالَسْبَا ِ
ل وَإِسْحَا َ
سمَاعِي َ
قُولُواْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَآ أُن ِزلَ إِلَىا إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
حدٍ مّ ْنهُ ْم وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ }
أُو ِتيَ مُوسَىا وَعِيسَىا َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِن رّ ّبهِمْ لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ
[البقرة]136 :
ويروي لنا الثر أن سيدنا موسى عليه السلم قال لربه:
" أني أجد في اللواح أمة يؤمنون بالكتاب الول وبالكتاب الخر ويقاتلون فصول الضللة حتى
يقاتلوا العور الكذاب ،فاجعلهم أمتي قال :تلك أمة أحمد ".
وقول موسى آمنوا بالكتاب الخر ،هو الذي يدل عليه قول الحق سبحانه {:قُولُواْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ
ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ[} ...البقرة]136 :
سمَاعِيلَ وَِإسْحَا َ
أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَآ أُن ِزلَ إِلَىا إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
ويذيل الحق الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله:
} وَاتّ ِبعُوهُ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ { .و " لعل " رجاء وطلب .ونعلم أن كل طلب يتعلق بأحد أمرين :إما
طلب لمحال لكنك تطلبه لتدل بذلك على أنك تحبه ،وهو لون من التمني مثل قول من قال :ليت
الشباب يعود يوما ،إنه يعلم أن الشباب ل يعود لكنه يقول ذلك ليشعرك بأنه يحب الشباب .أو
كقول إنسان :ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح ،وهذا طلب لمحال ،إل أنه يريد أن
يشعرك بأن هذا أمر يحبه ،إمّا طلب ممكن التحقيق .وهو ما يسمى بالرجاء .وله مراحل :فأنت
حين ترجو لِنسان كذا ،تقول :لعل فلنا يعطيك كذا ،والِدخال في باب الرجاء أن تقول :لعلي
أعطيك؛ لن الرجاء منك أنت ،وأنت الذي تقوله ،ومع ذلك قد ل تستطيع تحقيقه ،والقوى أن
تقول :لعل ال يعطيك .أما ال يعطيك .ولكنها من كلمك أنت فقد يستجيب ال لك وقد ل
يستجيب ،أما إذا قال ال :لعلكم ،فهذا أرجي الرجاءات ،ولبد أن يتحقق.
وحينما يتكلم الحق عن قوم موسى ،يتكلم عنهم بعرض قصصهم ،وفضائحهم للعهد بعد نعم ال
الواسعة الكثيرة عليهم ،وأوضح لنا :إياكم أن تأخذوا هذا الحكم عاما؛ لن الحكم لو كان عاما ،لما
وُجد من أمة موسى من يؤمن بمحمد .ولذلك قلنا قديما إن هناك ما يسمى " صيانة الحتمال ".
ومثال على ذلك نجد من اليهود من آمنوا برسالة رسول ال مثل مخريق الذي قال فيه رسول ال
-صلى ال عليه وسلم " :-مخريق خير يهود " .وعبدال بن سلم إن بعض اليهود كانوا
مشغولين بقضية الِيمان ،ولذلك ل تأخذ المسألة كحكم عام؛ لن من قوم موسى من يصفهم الحق
بالقول الكريمَ } :ومِن َقوْمِ مُوسَىا ُأمّةٌ{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1100 /
وحين يسمع قوم موسى هذا القول سيقولون في أنفسهم أنه يعلم ما في صدورنا من تفكير في
الِيمان برسالة صلى ال عليه وسلم .ولكن لو عمّم الحكم فمن يفكر في الِيمان بمحمد يقول :لماذا
يصدر حكما ضدي وأنا أفكر في الِيمان؟ لكن الحق " صان الحتمال " وأوضح لكل واحد من
هؤلء الذين يفكرون في الِيمان بمحمد صلى ال عليه وسلم أن يتجه إلى إعلن الِيمان فقال:
ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ } [العراف]159 :
حّ{ َومِن َقوْمِ مُوسَىا ُأمّةٌ َي ْهدُونَ بِالْ َ
أي يدلون الناس على الحق ويدعونهم إلى طريق الخير ،وبهذا الحق يعدلون في حكمهم بين الناس
ول يجورون.
طعْنَا ُهمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ} ...
ويقول الحق بعد ذلكَ { :وقَ ّ
()1101 /
وحين يقول الحق " قطعناهم " فهذه عودة لقوم موسى ،ونعرف أن القرآن ل يخصص كأي كتاب
فصلً لموسى وآخر لعيسى وثالثا لمحمد ،ل ،بل يجعل من المنهج الِيماني عجينة واحدة في
الدعوة ،فيأتي بقضية عيسى ،ثم يدخل في الدعوة قضية موسى وغيره وهكذا ،ثم يرجع إلى
القضية الصلية كي يستغل انفعالت النفس بعد أي قصة من القصص.
وهنا يعود الحق سبحانه لقوم موسى مرة أخرى .فبعد أن أنصفهم وبيّن أن فيهم أمة يهدون بالحق
طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ أَسْبَاطا ُأمَما } .والمقصود هنا بنو إسرائيل ،ومعنى "
وبه يعدلون .يقولَ { :و َق ّ
قطعت الشيء " أن الشيء كان له تمام وجودي مع بعضه ،ثم قطعته وفصلت بعضه عن بعض،
وجعلته قطعا وأجزاء .فهم كلهم بنو إسرائيل ،ولكن الحق يوضح أنه قطعهم وجعلهم " أسباطا " ،
و " السبط " هو ولد والولد ،وهم هنا أولد سيدنا يعقوب وكانوا اثني عشر ولدا ،وحكت سورة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وَا ْل َقمَرَ رَأَيْ ُتهُمْ لِي سَاجِدِينَ }[يوسف:
شمْ َ
حدَ عَشَرَ َك ْوكَبا وَال ّ
يوسف وقالت... {:ياأَبتِ إِنّي رَأَ ْيتُ أَ َ
]4
وحين تعد وتحصي ستجد أحد عشر كوكبا مرئية ،وتضم إليها الشمس والقمر والرائي ،فيصير
العدد أربعة عشر واترك الشمس والقمر لنهما يرمزان إلى يعقوب وزوجه ،وخذ الحد عشر
كوكبا ،وأضف الرائي وهو يوسف فيكون العدد اثنى عشر .وهؤلء هم الثنى عشر سبطا ،فقد
أنجب سيدنا يعقوب اثنى عشر ابنا من أمهات مختلفة ،وعرفنا من قبل أن المهات حين تتعدد
فالميول الهوائية بين البناء قد تتعاند .ولذلك تنبأ سيدنا يعقوب وقال لسيدنا يوسف {:لَ َت ْقصُصْ
خوَ ِتكَ فَ َيكِيدُواْ َلكَ كَيْدا[} ...يوسف]5 :
ُرؤْيَاكَ عَلَىا إِ ْ
طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ
هذا أول دليل على أنهم مختلفون ،وهو سبب من أسباب وحيثية التقطيعَ { :و َق ّ
أَسْبَاطا }.
حقّا[} ...يوسف]100 :
جعََلهَا رَبّي َ
وفي سورة يوسف نقرأ {:هَـاذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِن قَ ْبلُ قَدْ َ
حجَرَ
سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َ
وهنا يقول الحق سبحانه { :وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا ِإذِ اسْتَ ْ
ستْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ عَيْنا[ } ...العراف]160 :
فَانبَجَ َ
إنهم ل يريدون حتى مجرد الشتراك في الماء تحسبا للختلف فيما بينهم ،فجعل الحق لكل سبط
منهم عينا يشرب منها ليعالج ما فيهم من داءات الغيرة والحقد على بعضهم البعض؛ لن الحق
طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ َأسْبَاطا ُأمَما }.
قال عنهمَ { :وقَ ّ
وهنا وقفة لغوية فقط ،والسباط في أولد يعقوب وإسحاق يقابلون القبائل في أولد إسماعيل،
وأولد إسماعيل " العرب " يسمونهم قبائل ،وهؤلء يسمونهم " أسباطا " ،ونعرف أن لفظ " اثنتي
" يدل على أنهم إناث ،و " عشرة " أيضا إناث ،لننا نقول " :جاءني رجلن اثنان " و " امرأتان
اثنتان "؛ أي اثنان للذكور ،واثنتان للِناث ،وكلمة " اثنتي عشرة " عدد مركب وتمييزه يكون دائما
حدَ عَشَرَ َك ْوكَبا }.
مفردا ،ولذلك يقول الحق { :أَ َ
إذن " اثنتا عشرة " يدل على أنه مؤنث .لكن المذكور هنا " سبط " وسبط مذكر ،ولنا أن نعرف
أنه إذا جمع صار مؤنثا لنهم يقولون " :كل جمع مؤنث " وأيضا فالمراد بالسباط القبائل،
ومفردها قبيلة وهي مؤنثة ،وقطعهم أي كانت لهم -من قبل -وحدة تجمعهم ،فأراد الحق أن
يلفتنا إلى أنهم من شيء واحد ،فجاء بكلمة " أسباط " مكان قبيلة ،وقبيلة مفردة مؤنثة ،ويقال" :
اثنتا عشرة قبيلة " ،ول يقال اثنتا عشرة قبائل ،فوضع أسباطا ،موضع قبيلة لن كل قبيلة تضم
طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ َأسْبَاطا ُأمَما[ { ...العراف]160 :
أسباطا لذا جاء التمييز مذكراَ } ...وقَ ّ
أي جعلنا كل سبط أمة بخصوصها .والواقع الكوني أثبت أنهم كذلك؛ لنك ل تجد لهم -فيما
مضى -تجمعا قوميّا وهو ما يسمونه " الوطن القومي لليهود " برغم أن الدول الظالمة القوية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أعانوهم وأقاموا لهم وطنّا على أرض فلسطين ،ومع ذلك نجد في كل بلد طائفة منهم تعيش
معزولة عن الشعوب التي تحيا في رحابها ،وكأنهم ل يريدون أن يذوبوا في الشعوب ،ففي باريس
-مثلً -تجد " حي اليهود " ،وفي لندن المسألة نفسها ،وفي كل مدينة كبيرة تتكرر هذه الحكاية،
فهم يعيشون فيها بطقوسهم وبشكلهم وبأكلهم ،وبعاداتهم معزولين عن الشعوب ،وكأنهم ينفذون قدر
عشْ َرةَ أَسْبَاطا ُأمَما {.
طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ َ
ال فيهمَ } :وقَ ّ
وقطعهم ربنا في الرض أي أنه نشرهم في البلد ،ولم يجعل لهم وطنا مستقلً ،ولذلك ستقرأ في
سكُنُواْ الَرْضَ.{ ...
سورة الِسراء إن شاء الَ } :وقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ
أي أنه سبحانه قال لهم بعد سيدنا موسى :اسكنوا الرض وحين تقول لنا يا رب " :اسكن " فأنت
تحدد مكانا من الرض .كأن يسكن الِنسان في الِسكندرية أو القاهرة أو الردن أو سوريا ،لكن
سكُنُواْ الَ ْرضَ { فهذا يعني أن انساحوا فيها فل تجمع لكم.
أن يصدر الحكم بأن } ا ْ
ويقول الحق } :فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا {.
أي أنه حين يجيء وعد الخرة تكون ضربة قاضية عليكم -أيها اليهود -لن عدوكم لن يتتبعكم
في كل أمة من المم ،ويبعث جيشا يحاربكم في كل مكان تعيش فيه طائفة منكم ،لكن إذا جاء
وعد الخرة يأتي بهم الحق لفيفا ويتجمعون .في هذا الوطن القومي الذين يفرحون به ،ونقول لهم:
ل تفرحوا فهذا هو التجمع الذي قال ال عنه } :جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا { لتكون الضربة موجهة لكم في
مكان واحد تستأصلكم وتقضي عليكم.
سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْرِب
ويأتي الحق بعد ذلك بخبر المعجزات } :وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا إِذِ اسْتَ ْ
ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولما كان الهواء غير مملوك وهو مشاع؛ لذلك لم توجد فيه هذه العملية .إنما الطعام يُمكن أن
يُملك ،والماء يُمكن أن يُملك ،فقال سبحانه مرة " استطعم " ،وقال هنا " استسقى " ،ولم يوجد "
استهوى " لطلب الهواء ،لكن وجد في القرآن " استهوى " بمعنى طلب أن تكون على هواه{:
اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ[} ...النعام]71 :
أي طلبت الشياطين أن يكون هواه ومراده تبعا لما يريدون ل لما يريده ال.
سقَىا مُوسَىا ِل َق ْومِهِ { .وفي سورة
وقصة الستسقاء وردت من قبل في سورة البقرة } :وَإِذِ اسْ َت ْ
العراف التي نحن بصدد خواطرنا عنها هم الذين طلبوا الستسقاء .فهل هناك تعارض؟ .طبعا
ل؛ لن قوم موسى طلبوا السقيا من موسى ،فطلب لهم السقيا من ربه .فهل هذا تكرار؟ ل؛ لنه
سبحانه تكلم عن الواسطة ،وبعد ذلك تكلم عن الصل ،وهو سبحانه الواهب للماء؛ فقال هنا " :إذ
سقَىا مُوسَىا ِل َقوْمِهِ {.
استسقاه قومه " ،وفي سورة البقرة قال } :وَِإذِ اسْ َت ْ
وهذا ترتيب طبيعي .أقول ذلك لنعرف الفارق بين العبارتين حتى نؤكد أنه ل خلف ول تكرار؛
لن المستسقي هنا القوم ،والمستسقي لهم هنا هو موسى والمستسقي منه هو ال -جلت قدرته-
وهذا أمر طبيعي.
سقَىا مُوسَىا ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْرِب ّب َعصَاكَ
والحق سبحانه يقول في سورة البقرة {:وَإِذِ اسْتَ ْ
حجَرَ[} ...البقرة]60 :
الْ َ
ونجد الوحي نزل إلى موسى بقولهَ } :فقُلْنَا اضْرِب {؛ وهنا في سورة العراف نجد الحق يقول} :
سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ[ { ...العراف]160 :
وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا إِذِ اسْتَ ْ
ولنا أن نعرف أَنّ } َفقُلْنَا { تساوي " أوحينا " تماما ،لن المقصود بالقول هنا ليس من مناطات
تكليم ال لموسى ،بل مناط هذه القضية غير المناط في قوله الحقَ } :وكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا َتكْلِيما {.
فليس كل وحي لموسى جاء بكلم مباشر من ال ،بل سبحانه كلمه مرة واحدة كتشريف له ،ثم
أوحي له من بعد ذلك كغيره من الرسل.
عشْ َرةَ عَيْنا[ { ...العراف]160 :
ستْ مِنْهُ اثْنَتَا َ
وقوله الحق } :أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ فَان َبجَ َ
هذا القول يدلنا على الِعجاز المطلق ،فمرة أمر الحق موسى أن يضرب الماء بالعصا } فَانفَلَقَ
طوْدِ ا ْلعَظِيمِ { ،ومرة يأمره هنا أن يضرب الحجر فينحبس منه الماء ،وهكذا
َفكَانَ ُكلّ فِ ْرقٍ كَال ّ
نرى طلقة قدرة ال في أن يعطي ويمنع بالشيء الواحد ،ولم يكن ذلك إل بالسباب التي في يد
ال يحركها كيف يشاء .ولذلك رأينا أمر ال حين ضرب موسى البحر بعصاه ،فصار كل فرق
كالطود ،أي كالجبل ،وامتنعت السيولة ،ولما خرج موسى وقومه إلى البر بعد أن عبر البحر أراد
أن يضرب البحر ليعود ثانية إلى سيرته الولى من السيولة ،فأوحى له ال } :وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ رَهْوا
{.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي تركه كما هو عليه؛ لن ال يريد أن يغتر فرعون وقومه بأن يروا اليابس طريقا موجودا بين
الماء ،فيحاولوا النفاذ منه وراء موسى وقومه ،وما أن دخل فرعون وقومه خلف موسى حتى عاد
الماء إلى سيولته فغرق فرعون وقومه .وهكذا أنجى ال وأغرق بالشيء الواحد ،وكذلك في أمر
العصا؛ إنها حين ضربت الماء فلقته فصار كل فرق كالطود والجبل الشامخ ،ثم ضرب موسى بها
الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء ،وهكذا نرى قدرة من بيده القدرة والسباب} .
عشْ َرةَ عَيْنا[ { ...العراف]160 :
ستْ مِنْهُ اثْنَتَا َ
اضْرِب ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ فَان َبجَ َ
وهنا تعبير " انبجست " ،وهناك تعبير " انفجرت " ،ونعلم أن النبجاس يحدث أولً ثم يتبعه
النفجار ثانيا ،فالنبجاس أن يأتي الماء قطرة قطرة ،ثم يأتي النفجار وتتدفق المياه الكثيرة ،فكان
موسى عليه السلم أول ما يضرب الضربة تأتي وتجيء المياه قليلة ثم تنفجر بعد ذلك .إذن فقد
تكلم الحق عن المراحل التي أعقبت الضربة في لقطات متعددة لمظهر واحد؛ له أولية وله آخرية.
وحين تكلم أمير الشعراء عن عطاء ال وقدرته قال:
سبحانك اللهم خير معلم علمت بالقلم القرون الولىأرسلت بالتوراة موسى مرشدا وابن البتول
فعلّم الِنجيلثم جاء لسيدنا محمد وقال:
وفجرت ينبوع البيان محمدا فسقى وناول التنزيلوهنا توفيق رائع في العبارة حين قال " :فسقى
ستْ مِنْهُ اثْنَتَا
جَالحديث " ،فالحديث سقيا أما القرآن فمناولة من ال لخلقه .والحق يقول } :فَانبَ َ
عَشْ َرةَ عَيْنا {.
إن الضربة واحدة من عصا واحدة ،وكان المفترض أن تحدث هذه الضربة عينا واحدة تنبع منها
المياه ،لكن الحق أرادها اثنتي عشرة عينا وعلم كل أناس مشربهم؛ لذلك كان لبد أن يكون المكان
متسعا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كان الواحد من البشر حين يوزع جماعة من كتل صغيرة ،ل يعجز أن يضعهم في عشرين خيمة
مثل ،فهل يعجز ربنا عن ذلك؟ طبعا ل .وإذا كان الحق قد ضمن لنا في الرض الرزق حتى ل
نجوع ،ول نعرى ،ول تحرقنا الشمس ،ونجد ماء .إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلء .فقال :ل
ن وَالسّ ْلوَىا
علَ ْيهِمُ ا ْلمَ ّ
تحرقنا الشمس ،ونجد ماء .إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلء .فقال } :وَأَنْزَلْنَا َ
كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ[ { ...العراف]160 :
ساعة تأتي كلمة " أنزلنا " نعرف أنها مسألة جاءت من علو ،ول يُفترض أن يكون مكانها عاليّا،
لكن هي مسألة جاءت من أعلى من قدرتك ،أي من فوق أسبابك إنها بقدرة العلى.
و " المنّ " مادة بيضاء اللون حلوة الطعم مثل قطرات الزئبق .يجدونه على الشجر .ول يزال هذا
الشجر موجودا إلى الن في العراق ،يهزونه صباحا فيتساقط ما على الورق من قطرات متجمدة
لونها أبيض ،فيأخذونه على ملءة بيضاء واسمه عندهم المنْ -أيضا -وهو طعم القشدة
وليونتها ،وحلة العسل.
و " السلوى " هو طير من رتبة الدجاجيات يستوطن أوروبا وحوض البحر المتوسط واحدته "
سَلواة " وهو " السّماني " ويسميه أهل السواحل " السّمان " وهو يأتي مهاجرا ولم يربه أحد ،وفي
ن وَالسّ ْلوَىا كُلُواْ
هذا إنزال من ال لنه رزق من فوق قدرة العباد وأسبابهم } .وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَ ّ
مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ[ { ...العراف]160 :
وهناك مصانع تصنع المن في أشكال مختلفة وأنواع من الحلوى جميلة ،ومن زار العراق ذاقه أو
أحضره لهله .والسلوى -كما قلنا -هو طائر " السمان " الموجود في بيئة أخرى يغريه ربنا
بالطقس الدافئ فيأتي إلينا لنأخذه ،وهذه الطيور جاءت طالبة استمرار الحياة ،ويبعثها ربنا لتصير
لنا طعاما ليدلل على أنه حين يريد الماء ،وكما ظلّلهم بالغمام ،وبذلك صارت حاجاتهم قدريّة ليس
لهم فيها أسباب وجاءت لهم بالهناء.
فقالوا :ومن يدرينا أن الرزق الذي يأتينا من المن والسلوى سيستمر ،ثم كيف لنا أن نصبر على
طعام واحد؟ إنهم قالوا لنبيهم سيدنا موسى ما حكاه القرآن بقوله {:وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىا لَن ّنصْبِرَ
سهَا
طعَا ٍم وَاحِدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ الَ ْرضُ مِن َبقِْلهَا َوقِثّآ ِئهَا َوفُو ِمهَا وَعَ َد ِ
عَلَىا َ
وَ َبصَِلهَا[} ...البقرة]61 :
وهنا قال الحق :اذهبوا إلى أي ِمصْ ٍر من المصار والمدن تجدوا ما تريدون } :اهْبِطُواْ ِمصْرا
فَإِنّ َلكُمْ مّا سَأَلْتُمْ { .لقد أعطاهم الحق الرزق بدون السببية ،إنه منه مباشرة ،فكان من الواجب أن
تشكروا من أراحكم ،وجعل لكم الرزق ميسرا .لكنهم لم يشكروا ال ،بل تمردوا ،ولذلك ذيل الحق
س ُهمْ يَظِْلمُونَ { .نعم فهم ظلموا بعدم شكر النعمة.
الية بقولهَ } :ومَا ظََلمُونَا وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ
سكُنُواْ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِذْ قِيلَ َل ُهمُ ا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1102 /
سكُنُوا هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَ َة َوكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْ ُت ْم َوقُولُوا حِطّ ٌة وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َن ْغفِرْ َل ُكمْ
وَإِذْ قِيلَ َلهُمُ ا ْ
خطِيئَا ِتكُمْ سَنَزِيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ ()161
َ
وهذه القصة مذكورة أيضا في سورة البقرة ،ونعرف أن قوله سبحانه { :وَإِذْ قِيلَ َلهُمُ } ،ولم يذكر
الحق من القائل؛ لن طبيعة المر في السباط أنه سبحانه جعل لكل سبط منهم عينا يشرب منها،
وكل سبط له نقيب ،وهذا دليل على أنهم ل يأتلفون؛ فل يكون القول من واحد إلى الجميع ،بل
يصدر القول من المشرع العلى وهو الحق إلى الرسول ،والرسول يقول للنقباء ،والنقباء يقولون
للناس.
وبعد أن تلقى موسى القول أبلغه للنقباء ،والنقباء قالوه للسباط ،وفي آية أخرى قال الحق { :وَإِذْ
قُلْنَا } .وهذا القول الول وضعنا أمام لقطة توضح أن المصدر الصيل في القول هو ال ،ولنهم
أسباط ولكل سبط مشرب؛ لذلك يوضح هنا أنه أوحى لموسى .وساعة ما تسمع " وإذ " فاعلم أن
المراد اذكر حين قيل لهم اسكنوا هذه القرية ،لقد قيل إن هذه القرية هي بيت المقدس أو أريحا،
لكنهم قالوا :لن ندخلها أبدا لن فيها قوما جبارين وأضافوا... {:فَاذْ َهبْ أَنتَ وَرَ ّبكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ }[المائدة]24 :
والحق ل يبين لنا القرية في هذه الية؛ لن هذا أمر غير مهم ،بل جاء بالمسألة المهمة التي لها
سكُنُواْ هَـا ِذهِ ا ْلقَرْيَ َة َوكُلُواْ مِ ْنهَا }.
وزنها وخطرها وهي تنفيذ المر على أي مكان يكون { :ا ْ
ويوضح الحق :أنا تكفلت بكم فيها كما تكفلت بكم في التيه من تظليل غمام ،وتفجير ماء غماما،
ن وسلوى .وحين أقول لكم ادخلوا القرية واسكنوها فلن أتخلى عنكم{ :
وتفجير ماء من صخر ،ومَ ّ
حطّ ٌة وَا ْدخُلُواْ
َوكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ } .وقديما كان لكل قرية باب؛ لذلك يتابع سبحانهَ { :وقُولُواْ ِ
سجّدا }.
الْبَابَ ُ
والحطة تعني الدعاء بأن يقولوا :يا رب حط عنا ذنوبنا فنحن قد استجبنا لمرك وجئنا إلى القرية
التي أمرتنا أن نسكنها ،وكان عليهم أن يدخلوها ساجدين؛ لن ال قد أنجاهم من التيه بعد أن أنعم
عليهم ورفّههم فيه .وإذا ما فعلوا ذلك سيكون لهم الثواب وهوّ ...{ :ن ْغفِرْ َلكُمْ خَطِيئَا ِت ُكمْ سَنَزِيدُ
حسِنِينَ } [العراف]161 :
ا ْلمُ ْ
وسبحانه يغفر مرة ثم يكتب حسنة ،أي سلب مضرة ،وجلب منفعة ،لكن هناك في سورة البقرة قد
جاء النص التالي {:وَإِذْ قُلْنَا ا ْدخُلُواْ هَـا ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ رَغَدا وَا ْدخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا
حطّةٌ ّن ْغفِرْ َلكُمْ خَطَايَا ُك ْم وَسَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ }[البقرة]58 :
َوقُولُواْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالكيان العام واحد ونجد خلفا في اللفاظ واللقطات عن الية التي وردت في سورة العراف.
أول خلف { وَإِذْ قُلْنَا } ،و { وَإِذْ قِيلَ } ،وشاء الحق ذلك ليأتي لنا بلقطة مختلفة كنا أوضحنا من
سكُنُواْ } ،
قبل .ففي آية سورة البقرة يقول سبحانه { :ادْخُلُواْ } وفي آية سورة العراف يقول { :ا ْ
ونعلم أن الدخول يكون لغاية وهي السكن أي ادخلوا لتسكنوا ،وأوضح ذلك بقوله في سورة
سكُنُواْ } ليبين أن دخولهم ليس للمرور بل للِقامة.
العراف { :ا ْ
وأراد سبحانه أن يعطيهم الغاية النهائية؛ لنه ل يسكن أحد في القرية إل إذا دخلها.
وهكذا نرى أن كلمات القرآن ل تأتي لتكرار ،بل للتأسيس وللِتيان بمعنى جديد يوضح ويبين
ويشرح .ويقول الحق هنا في سورة العرافَ } :وكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ { .وفي آية سورة البقرة
يقولَ } :فكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْ ُتمْ رَغَدا {.
وحين أمرهم ال بالدخول وكانوا جوعى أمرهم الحق أن يأكلوا ،على الفور والتوّ بتوسع ،لذلك
أتى بكلمة " رغدا " لن حاجتهم إلى الطعام شديدة وملحة ،لكنه بعد أن أمرهم بالسكن أوضح لهم
أن يأكلوا؛ لن السكن يحقق الستقرار ويتيح للِنسان أن يأكل براحة وتأن .وقال الحق هنا في
سورة العرافَ } :وقُولُواْ حِطّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا { .أي أنه قدم قولهم " حطة " على السجود،
حطّةٌ[} ...البقرة]58 :
وفي آية سورة البقرة قدم السجود فقال {:وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا َوقُولُواْ ِ
جاء الحق بهذا الختلف لنه علم أن انفعالت السامعين تختلف ساعة الدخول ،فهناك من ينفعل
للقول ،فيقول أول دخوله ما أمر به من طلب الحطة وغفران الذنب من ال ،وهناك آخر ينفعل
للفعل فيسجد من فور الدخول تنفيذا لمر ال .وأيضا قال الحق هنا في سورة العرافّ ...} :ن ْغفِرْ
َلكُمْ خَطِيئَا ِتكُمْ سَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ { [العراف]161 :
وفي سورة البقرة يقولّ } :ن ْغفِرْ َلكُمْ خَطَايَا ُك ْم وَسَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ {.
ونعلم أن صيغة الجمع تختلف؛ فهناك " جمع تكسير " وجمع تأنيث ،ففي جمع التكسير نغير من
ترتيب حروف الكلمة ،مثل قولنا " قفل " فنقول في جمعها " أقفال " .أما في جمع التأنيث فنحن
نزيد على الكلمة ألفا وتاء بعد حذف ما قد يوجد في المفرد من علمة تأنيث ،مثل قولنا " فاطمة "
،و " فاطمات " ،و " أكلة " ،و " أكلت " وهذا جمع مؤنث سالم ،أي ترتيب حروفه لم يتغير،
وجمع المؤنث السالم يدل على القلة .لكن جمع التكسير يدل على الكثرة فجاء -سبحانه -بجمع
المؤنث السالم الذي يدل على القلة وبجمع التكسير الذي يدل على الكثرة لختلف درجات ونسب
الخطايا؛ لن المخاطبين غير متساوين في الخطايا ،فهناك من ارتكب أخطاء كثيرة ،وهناك من
أخطأ قليلً .والختلف حدث أيضا في عجز اليتين ،فقال في سورة البقرة } :وَسَنَزِيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ {
وجاء عجز سورة العراف بدون " واو " فقال } :سَنَزِيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ {.
وقد عودنا ودعانا الحق إلى أن نقول :اغفر لنا وأنت خير الغافرين ،وارحمنا وأنت خير
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الراحمين ،واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة .وهنا يوضح سبحانه :أنا لن أكتفي بأن أغفر لكم وأن
أرفع عنكم الخطايا .لكني سأزيدكم حسنا ،وفي هذا سلب للضرر وجلب للنفع .كأن ال حينما قال:
" خطاياكم " بجمع التكسير الذي ينبئ ويدل على كثرة الذنوب والخطايا و " خطيآتكم " التي تدل
حسِنِينَ { هل يغفر
على القلة انشغلوا وتساءلوا :وماذا بعد الغفران يا رب فقيل؟ لهم } :سَنَزِيدُ ا ْلمُ ْ
لنا فقط ،أو أنه سيجازينا بالحسنات أيضا؟ وكانت إجابة ال أنه سيغفر لهم ويزيدهم ويمدهم
بالحسنات .وقد عقدنا هذه المقارنة المفصلة بين آية سورة البقرة وآية سورة العراف لنعرف أن
اليات ل تتصادم مع بعضها البعض ،بل تتكامل مصداقا لقول الحق... {:وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ
اللّهِ َلوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء]82 :
ويقول الحق بعد ذلك } :فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُواْ{ ...
()1103 /
هذه الية تدل على أنهم افترقوا فرقتين؛ لن الحق سبحانه مادام قد قال { :مِ ْنهُمْ } فهذا يعني أن
بعضهم قالوا وفعلوا المطلوب ،وبعضهم ظلموا وبدلوا القول ،فقد أمرهم الحق أن يقولوا " :حطة "
وطلب منهم أن يدخلوا سجدا .والتغيير منهم جاء في القول؛ لن القول قد يكون بين الِنسان وبين
نفسه بحيث ل يسمعه سواه .لكن الفعل مرئي مما يدل على أن بعضهم يرائي بعضا ،ففي القول
أرادوا أن يهذروا ويتكلموا بما ل ينبغي ول يليق ،فبدلً من أن يقولوا " :حطة " قالوا " :حنطة "
استهزاءً بالكلمة.
وهكذا نرى أن التبديل جاء في القول ،لكن الفعل لم يأت فيه كلم ،وإن قال بعضهم :إن التبديل
أيضا حدث من بعضهم في الفعل .فبدلً من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مقعداتهم،
كنوع من التعالي ،لكن الحق لم يذكر شيئا من ذلك؛ لن سلوكهم في الفعل قد يكون السبب فيه أن
بعضهم ل قدرة له على الفعل { .فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُواْ مِ ْنهُمْ َقوْلً غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ[ } ...العراف:
]162
وكأن الحق يذكرنا بما فعله معهم من رعايتهم في أثناء التيه وكيف ظلل عليهم الغمام وأنزل
عليهم المن والسلوى ،واستسقى لهم موسى فجاءت المياه .لكن غريزة التبديل والتمرد لم تغادرهم.
سمَآءِ }.
وما داموا قد بدّلوا في كلمات ال ،فعليهم أن ينالوا العقاب { :فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ ِرجْزا مّنَ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ }
وهناك آية ثانية في سورة البقرة يقول فيها الحق {:فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظََلمُواْ ِرجْزا مّنَ ال ّ
[البقرة .]59 :والفارق بين " الِنزال " وبين " الِرسال " أن الِنزال يكون مرة واحدة .أما
سمَآءِ مَآءً
الِرسال فهو مسترسل ومتواصل .ولذلك يقول الحق سبحانه في المطر { :وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ
طهُورا } .لن المطر ل ينزل طوال الوقت من السماء .لكن في الِرسال استمرار ،اللهم إل بعضا
َ
من تأثير الهواء .ولذلك يقول الحق { :وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ } .فالذي يحتاج إلى استمرارية في
الفعل يقول فيه الحق " :أرسل " بدليل أن ال حينما أراد أن يجيء بالطوفان ليغرق المكذبين
بموسى قال {:فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الطّوفَانَ[} ...العراف]133 :
وعندما أراد أن يرغب عادا قوم سيدنا هود في الستغفار والتوبة والرجوع عما كانوا عليه من
سمَآءَ عَلَ ْيكُمْ مّدْرَارا[} ...هود:
سلِ ال ّ
الكفر والثام قال لهم {:وَيا َقوْمِ اسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّب ُكمْ ثُمّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْ ِ
]52
إذن فالِرسال يعني التواصل ،أما الِنزال فهو لمرة واحدة ،وأراد الحق سبحانه من قصة بني
إسرائيل أن يأتي لنا بلقطة فجاء بكلمة " أنزلنا " ،ولقطة أخرى جاء فيها بـ " أرسلنا "؛ لن
العقوبة تختلف باختلف المذنبين ،والمذنبون مقولون بالتشكيك ،فهذا له ذنب صغير ،وآخر ذنبه
أكبر ،وكل إنسان يأخذ العذاب على قدر ذنبه؛ فمن أذنب ذنبا صغيرا أنزل ال عليه عقابا على
قدر ذنبه.
ومن تمادى أرسل ال عليه عذابا يستمر على قدر ذنوبه الكبيرة.
سمَآءِ ِبمَا كَانُواْ يَظِْلمُونَ { [العراف]162 :
سلْنَا عَلَ ْيهِمْ ِرجْزا مّنَ ال ّ
وهنا يقول الحق...} :فَأَرْ َ
و " رجزا " أي عذابا ،وهناك رِجْز ،و ُرجْز ،والرّجز يُولد من الرّجز؛ وينشأ مثل قوله الحق} :
وَالرّجْزَ فَا ْهجُرْ { .أي اهجر الرّجز ..أي المآثم والمعاصي والذنوب لتسلم من الرّجز ..أي من
العذاب .وهنا يبين الحق أنهم تلقوا العذاب بسبب ظلمهم ،وهناك في الية الخرى قالِ } :بمَا كَانُواْ
سقُونَ {.
َيفْ ُ
والفسق يسبق الظلم؛ لن الِنسان ل يمكن أن يظلم نفسه بمخالفة منهج إل إذا فسق أولً ،ولذلك
جاء الحق بالمسبّب وجاء السبب ،وهكذا نتأكد أن كل كلمة في القرآن جاءت لمعنى أساسي تؤديه
ول تكرار إل لمجموع القصة في ذاتها ،أما لقطات القصة هنا ،ولقطات القصة هناك فأمور
جاءت تأسيسا في كل شيء لتعطي معاني ولقطات جديدة.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ{ ...
()1104 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَاسْأَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْرِ ِإذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ ِإذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ
سقُونَ ()163
شُرّعًا وَ َيوْمَ لَا َيسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَ َذِلكَ نَبْلُوهُمْ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
هنا سؤال عن القرية التي كانت حاضرة البحر ،ونعلم أن القرية الولى التي دخلوها هي " بيت
المقدس " ولم تكن على البحر ،والقرية التي كانت على البحر هي " أيلة " أو " مدين " أو " طبرية
" ،المهم أنها كانت " حاضرة البحر " أي قريبة من البحر ومشرفة عليه؛ لننا نقول فلن حضر،
أي كان بعيدا فاقترب .فمثل الِسكندرية يمكن أن نسميها حاضرة البحر.
وقوله " :واسألهم " والسؤال هنا موجه إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليوجه السؤال إلى أهل
الكتاب ،ويطلب منهم أن ينظروا في كتبهم ليعرفوا أن ما يقوله هو وحي من ال إليه؛ لنهم
يعلمون أنه صلى ال عليه وسلم لم يجلس إلى معلم ،ولم يقرأ في كتاب ،وإنما علّمه من أرسله،
إنّه صلى ال عليه وسلم ل يريد أن َيعْلَم منهم ،بل يريد أن ُيعِْلمَهم أنه يعلم ،وهم يعلمون أنه ل
مصدر له كعلم سائر البشر؛ ل جلس على معلم ول قرأ في كتاب ولذلك تجد " ماكُنّات " القرآن
أي قوله الحق " :ما كنت " و " ماكنت " و " ما كنت " و " ما كنت " مثل قولهَ {:ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ
لمْرَ[} ...القصص]44 :
ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
ومثل قوله تعالىَ {:ومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا[} ...القصص]45 :
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْكفُلُ مَرْيَمَ َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ
ومثل قوله تعالىَ ... {:ومَا كُنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
صمُونَ }[آل عمران]44 :
يَخْ َت ِ
إذن فأنت يا رسول ال لم تكن معهم لتقول ما حدث وحصل لهم ،بل إن ذلك موجود عندهم في
كتبهم ،إذن فالذي علمك هو من أرسلك .كذلك هنا مصداقا لقوله تعالىَ {:ومَا كُنتَ تَ ْتلُواْ مِن قَبِْلهِ
خطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العنكبوت]48 :
مِن كِتَابٍ َولَ تَ ُ
وفي هذا القول أمر من ال سبحانه وتعالى أن يخبرهم أنه سبحانه قد علمه وأعلمه بما ل
يستطيعون إنكاره ليتيقنوا أن ال يعلمه ليؤمنوا به { .وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ
الْبَحْرِ[ } ...العراف]163 :
وكلمة " واسألهم " تحل لنا إشكالت كثيرة ،مثال ذلك حديث الِسراء ،وأن رسول ال صلى ال
عليه وسلم صلى بالنبياء بصلة إبراهيم.
فعن أبي هريرة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لقد رأيتني في الحجر
وقريش تسألني عن مسراي ،فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا مثله قط،
فرفعه ال إليّ أنظر إليه ،ما سألوني عن شيء إل أنبأتهم به ،وقد رأيتني في جماعة من النبياء،
وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة ،وإذا عيسى قائم يصلي أقرب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي ،وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبها به صاحبكم -
يعني نفسه -فحانت الصلة فأممتهم فلما فرغت قال قائل :يا محمد هذا مالك خازن جهنم فالتفت
إليه فبدأني بالسلم ".
وتأتي آية في القرآن تقول {:وَسْ َئلْ مَنْ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُلِنَآ[} ...الزخرف]45 :
والمر لرسول ال عليه الصلة والسلم أن يسأل رسل ال من قبله ،ومتى يسألهم؟ لبد أن توجد
فرصة ليلتقوا فيسأل .إذن حين يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم إنه التقى بالنبياء وكلمهم
وصلى بهم فالخبر مصدق لنه أدى أمر ال } :وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْر {.
والسؤال هنا سؤال للتقرير والتقريع والتوبيخ :وما قصة القرية التي كانت حاضرة البحر؟
لقد قلنا إن حاضرة البحر أي القريبة من البحر ،ونفهم أن ما تتعرض له الية من سؤالهم يشير
إلى أنّ للبحر فيه مدخلً؛ لن المسألة متعلقة بالحيتان والسمك والصيد؛ لذلك لبد أن تكون بلدة
ن لَ تَأْتِيهِمْ
ساحليةِ...} .إذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ شُرّعا وَ َيوْ َم لَ يَسْبِتُو َ
سقُونَ { [العراف]163 :
كَذَِلكَ نَبْلُوهُم ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
وحيتان جمع حوت ،مثلما يجمعون " نُونا " -وهو الحوت أيضا -على " نينان "؛ وهو صنف
من السماك .لقد حرم ال عليهم العمل في يوم معين لينقطعوا فيه للعبادة وهو يوم " السبت " ،
ومازالت عندهم بعض هذه العادات ،حتى إن واحدا منهم زار أمريكا ورفض أن يركب سيارة يوم
السبت لنه يوم عطلة ،ورفض كذلك أن يعمل حتى جاء اليوم التالي .وشاء الحق سبحانه أن
يؤدبهم حينما ارتكبوا أشياء مخالفة للمنهج ،وسلب منهم وقتا للعمل وقال {:فَ ِبظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ
حَ ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ[} ...النساء]160 :
وفي هذه مُثُل وعِبَر لي منحرف ،ولكل منحرف نقول :إياك أن تظن أنك بانحرافك عن منهج ال
ستأخذ أشياء من وراء ربنا وتسرقها ،ل؛ لن ربنا قادر أن يبتيله بعقاب يفوق ما أخذ آلف
المرات ،فالمرتشي مثلً يفتح له ال أبوابا من المراض ومن العلل ومن المصائب فيضيع عليه
كل شيء أخذه.
إذن فقد استحل بنو إسرائيل أشياء محرمة ،فابتلهم ال بأن يحرمهم من أشياء كانت حللً لهم.
وهكذا نرى أن ما وقع عليهم من عقاب كان بظلمهم لنفسهم؛ لنهم انشغلوا بالدنيا وبالمادة ،فحرم
عليهم العمل في يوم السبت ،وهؤلء الذين كانوا يقيمون قريبا من حاضرة البحر يبتليهم ال البلء
العظيم ،ويرون السمك في المياه وهو يرفع زعانفه كشراع المركب ،وتطل عليهم أشرعة الحيتان
وهم في بيوتهم ،وهذا ابتلء من ربهم لهم وعقاب؛ لنهم ممنوعون من صيده ،ويرون هذا السمك
أمامهم في يوم السبت ،لكن في بقية اليام التي يباح فيها العمل ،كيوم الحد والثنين والثلثاء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن لَ تَأْتِيهِمْ َكذَِلكَ
والربعاء والخميس والجمعة ل تظهر لهم ول سمكة واحدة } :وَ َيوْ َم لَ يَسْبِتُو َ
سقُونَ {.
نَبْلُوهُم ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
وهنا قالوا :ما دام ربنا قد حرم علينا أن نصطاد يوم السبت فعلينا أن نحتال .وصنعوا كيسا من
السلك المضفر والذي نسميه " الجوبية " وهم أول من صنعوا هذه الجوبية بشكل خاص ،ويدخل
السمك فيها ول يستطيع الخروج منها ،فيأتي السمك يوم السبت في الجوبية ويستخرجونه يوم
الحد .وفي هذا اعتداء .أو يصنعون حوضا له مدخل وليس له مخرج وفي هذا مكر .وتمكر لهم
السماء بحيلة أشد .لقد أراد ال ابتلءهم لنهم فسقوا عن المنهج .وخرجوا عن الطاعة ،واستحلوا
أشياء حرمهما ال؛ لذلك يحرم ال عليهم أشياء أحلها لغيرهم.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِذَا قَاَلتْ ُأمّةٌ مّ ْنهُمْ ِلمَ{ ...
()1105 /
وحينما تجد أن طائفة قالت قولً ،فلبد أن هناك أناسا قيل لهم هذا القول .إذن ففيه " قوم واعظون
" ،و " قوم موعوظون " ،و " قوم مستنكرون وعظ الواعظين " .وهكذا صاروا ثلث فرق:
الذين قالوا وعظا لهم :لماذا ل تلتزمون بمنهج ال؟ هؤلء هم المؤمنون حقّا .وقالوا ذلك لنهم
رأوا من يخالف منهج ال .والذين لموا الواعظين هم الصلحاء من أهل القرية الذين يئسوا من
صلح حال المخالفين للمنهج.
وحين ندقق في الية { :وَِإذَا قَاَلتْ ُأمّةٌ مّ ْنهُمْ ِلمَ َتعِظُونَ َقوْما اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ[ } ...العراف]164 :
نعلم أن القائلين هم من الذين لم يعتدوا ،ولم يعظوا وقالوا هذا التساؤل لمن وعظوا؛ لنهم رأوا
الوعظ مع الخارجين على منهج ال ل ينفع .كما قال ال لرسوله صلى ال عليه وسلمَ { :لعَّلكَ
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }.
بَاخِعٌ ّنفْ َ
هنا يسأل الحق رسوله :ولماذا تُحزن نفسك وتعمل على إزهاق روحك .وهنا قال بعض بني
إسرائيل :لم تعظون هؤلء المغالين في الكفر ،لماذا ترهقون أنفسكم معهم ،إنهم يعملون من أجل
أن يعذبهم ال .وماذا قال الواعظون؟ { :قَالُواْ َمعْذِ َرةً إِلَىا رَ ّب ُك ْم وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ }.
وما هي المعذرة إلى ال؟ .يقال " :عذرك فلن إذا كنت قد فعلت فعلً كان في ظاهره أنه ذنب ثم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بينت العذر في فعله ،كأن تقول :لقد جعلتني انتظرك طويلً وتأخرت في ميعادك معي .انت تقول
ذلك لصديق لك لنه أتى بعمل مخالف وهو التأخر في ميعادٍ ضربه لك .فيرد عليك :تعطلت مني
السيارة ولم أجد وسيلة مواصلت ،وهذا عذر .إذن فمعنى " العذر " هو إبداء سبب لمر خالف
ن الَعْرَابِ[} ...التوبة:
مراد الغير .ولذلك يقال :أعذر من أنذر ،والحق يقولَ {:وجَآءَ ا ْل ُمعَذّرُونَ مِ َ
]90
ونعلم أيضا أن هناك ُمعْذِرا .وال ُمعَذّر هو من يأتي بعذر كاذب ،وال ُمعْذِر هو من يأتي بعذر
صادق .وقال الواعظون :نحن نعظهم ،وأنتم حكمتم بأن العظة ل تنفع معهم لنهم اختاروا أن
يهلكهم ال ويعذبهم ولكنا لم نيأس ،وعلى فرض أننا يئسنا من فعلهم ،فعلى القل قد قدمنا لربنا
المعذرة في أننا عملنا على قدر طاقتنا.
وكلمة " وَعْظ " تقتضي أن نقول فيها :إن هناك فارقا بين بلغ الحكم ،والوعظ بالحكم؛ فالوعظ
أن تكرر لموعوظ ما يعلمه لكنه ل يفعله .كأن تقول لِنسان :قم إلى الصلة ،هو يعلم أن الصلة
مطلوبة لكنه ل يقوم بأدائها.
إذن فالوعظ معناه تذكير الغافل عن حكم ،ومن كلمة الوعظ نشأت الوعّاظ .وهم من يقولون للناس
الحكام التي يعرفونها ،ليعملوا بها ،فالوعاظ إذن ل يأتون بحكم جديد.
وبعض العلماء قال :إن قول الحق { :لِمَ َت ِعظُونَ َقوْما اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ } ليس مرادا به الفئة التي لم
تفعل الذنب ولم تعظ ،إنما يراد به الفئة الموعوظة ،كأن الموعوظين قالوا :إن ربنا سيعذبنا فلماذا
توعظوننا؟ .ونقول :ل؛ لن عجز الية ينافي هذا .فالحق يقولَ { :معْذِ َرةً إِلَىا رَ ّبكُ ْم وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ
}.
ومجيء " لعلهم " يؤكد أن هذا خبر عن الغير ل أنّه من الموعوظين.
ويقول الحق بعد ذلك { :فَلَماّ نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ} ...
()1106 /
فََلمّا نَسُوا مَا ُذكّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الّذِينَ يَ ْن َهوْنَ عَنِ السّوءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظََلمُوا ِبعَذَابٍ بَئِيسٍ ِبمَا كَانُوا
سقُونَ ()165
َيفْ ُ
ويخبرنا الحق هنا أن الموعوظين حينما نسوا ما وعظهم به بعض المؤمنين أهلكهم ال بالعذاب
الشديد جزاءً لخروجهم وفسوقهم عن المنهج وأنجى ال الفرقة الواعظة .وماذا عن الفرقة الثالثة
التي لم تنضم إلى الواعظين أو الموعوظين؟ الذين قالواِ { :لمَ َتعِظُونَ َقوْما اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ } إن قولهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا لون من الوعظ؛ فساعة يخوفونهم بأن ربنا مهلك أو معذب من يخرج على منهجه ،فهو وعظ
من طرف آخر.
وقوله الحق { :فَلَماّ َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ } يدل على أنه قد وعظهم غيرهم وذكروهم .ويعذب الحق
هؤلء الذين ضربوا عرض الحائط بمنهجه ولم يسمعوا مَن وعظوهم ،وخرجوا على تعاليمه
فظلموا أنفسهم واستحقوا العذاب الشديد؛ فالمسألة ليست تعنتا من ال؛ لنهم السبب في هذا ،إما
بفسق ،وإمّا بظلم للنفس.
ويقول الحق بعد ذلك { :فَلَماّ عَ َتوْاْ عَن مّا ُنهُواْ عَنْهُ} ...
()1107 /
فََلمّا عَ َتوْا عَنْ مَا ُنهُوا عَنْهُ قُلْنَا َل ُهمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ ()166
وأخذهم بعذاب يدل على أنه لم يزهق حياتهم ويميتهم؛ لن العذاب هو إيلم من يتألم ،والموت
ليس عذابا لنه ينهي الِحساس باللم ،ولنتعرف على الفارق بين الموت والعذاب حين نقرأ قصة
الهدهد مع سيدنا سليمان ،يقول سيدنا سليمان حين تنبه لغياب الهدهد عندما وجد مكانه خاليا{:
مَاِليَ لَ أَرَى ا ْل ُهدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ * لُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا َأ ْو لَاْذْ َبحَنّهُ[} ...النمل]21-20 :
هكذا نرى الفارق بين العذاب وبين الموت .وهنا يقول الحق { :فَلَماّ عَ َتوْاْ عَن مّا ُنهُواْ عَ ْنهُ } و "
عتوا " تعني أبْوا وعصوْا واستكبروا فحق عليهم عذاب ال الذي أوضحه قول الحق { :كُونُواْ
قِرَ َدةً خَاسِئِينَ }.
لن " العتو " كبرياء وإباء؛ فيعاقبهم ال بأن جعلهم كأخس الحيوانات فصيرهم أشباه القرود ،كل
منهم مفضوح السوءة ،يسخر الناس منهم ويستهزئون بهم .فهل انقلبوا قردة؟ .نعم؛ لنك حين
تأمر إنسانا بفعلَ ..ألَ ُتقَدّر قبل المر له بالفعل أنه صالح أن يفعل وأل يفعل؟ .وحين يقول ال{ :
كُونُواْ قِرَ َدةً } فهل في مكنتهم أن يصنعوا من أنفسهم قردة؟ .ونقول :إن هذا اسمه " أمر تسخيري
" أي اصبحوا وصُيرّوا قردة .وقد رأوهم على هذه الهيئة من وعظوهم ،وهي هنا مقولة " خبر "
نصدقه بتوثيق من قاله ،وكان هذا الخبر واقعا لمن شاهده.
ولذلك نجد المعجزات التي حدثت لسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم غير القرآن الذي وصلنا
ككتاب منهج ومعجزة وسيظل كذلك إلى قيام الساعة ،لكن ألم ينبع الماء من بين أصابعه صلى ال
عليه وسلم؟ لقد حدث ذلك وغيره من المعجزات وشاهده أصحابه صلى ال عليه وسلم ،وأخبرونا
بالخبر ،وكان ذلك آية تُثبّت يقينهم وإيمانهم .وتثبت لنا خبرا ،فإن اتسع لها ذهنك فأهلً وسهلً،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإن لم يتسع لها فل توقف إيمانك؛ لنها آية لم تأت من أجلك أنت ،وكل معجزة كونية حدثت
لرسول ال فالمراد بها من شاهدها ،ووصلتك أنت كخبر ،إن وثقت بالخبر صدقته ،وإن لم تثق به
ووقفت عنده فلن ينقص إيمانك .غير أنه يجب على من وصل إليه الخبر بطريق مقطوع به ،أن
يصدق ويذعن.
وقد أخبر الحق هنا بالمر بقوله { :كُونُواْ قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } بأنه أوقع عليهم عذابا بأن جعلهم قردة
خاسئين ،فهذا عقاب للذين عتوا عمّا نهوا عنه .والذين وعظوهم أو عاصروهم هم من شاهدوا
وقوع العذاب.
وهل الممسوخ يظل ممسوخا؟ .إن الممسوخ قردا أو خنزيرا ،يظل فترة كذلك ليراه من رآه
ظالما ،ثم بعد ذلك يموت وينتهي.
ويقول الحق بعد ذلك { :وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ} ...
()1108 /
ب وَإِنّهُ
وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ َيسُو ُمهُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ إِنّ رَ ّبكَ لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَا ِ
َل َغفُورٌ رَحِيمٌ ()167
وتَأَذّن نجد مادتها من الهمزة والذال والنون ،فمنه ُأذُن ،ومنها َأذَان ،وكلها يراد بها الِعلم،
والوسيلة للِعلم هي الذن والسمع ،حتى الذي سنُعلمه بواسطة الكتابة نقول له ليسمع .ثم يكتب
ويقرأ ،وما قرأ إل بعد أن سمع؛ لنه لن يعرف القراءة إل بعد أن يسمع أسماء الحروف " ألف
" " ،باء " إلخ ،ثم تهجاها .إذن فل أحد يقرأ إل بعد أن يسمع ،وهكذا يكون السمع هو الصل في
حقّتْ }[النشقاق]2-1 :
شقّتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا َو ُ
سمَآءُ ان َ
المعلومات ،ونقول في القرآن {:إِذَا ال ّ
وأذنت لربها ..أي سمعت لربها ،فبمجرد أن قال لها " :انشقي " امتثلت وانشقت { .وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ
لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ مَن يَسُو ُمهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ إِنّ رَ ّبكَ لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَابِ وَإِنّهُ َلغَفُورٌ رّحِيمٌْ }
[العراف]167 :
والكلم هنا بالنسبة لبني إسرائيل ،ويبين لنا سبحانه أنهم مع كونهم مختارين في أن يفعلوا " ،فإن
مواقفهم الِيمانية ستظل متقلبة مترددة ،ولن يهدأ لهم حال في نشر الفساد وإشاعته ،ولذلك يسلط
ال عليهم من يسومهم سوء العذاب ولماذا؟.
لنهم منسوبون لدين ،وال ل يسوم العذاب للكافر به وللملحد ،لنه بكفره وإلحاده خرج عن هذه
الدائرة ،إذ لم يبعث ال له رسول .ولكن المنسوب ل ديانة ،والمنسوب ل رسالة ،والمنسوب ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كتابا؛ إذا فسد مع كون الناس ويعلمون عنه أنه تابع لنبي ،وأن له كتابا ،حينئذ يكون أسوة سيئة
في الفساد للناس ،فإذا ما سلط ال عليهم العذاب فإنما يسلط عليهم ل لجل الفساد فقط ،ولكن لنه
فساد لمن هو منسوب إلى ال .وعرفنا أن مادة أذن كلها مناط الِعلم ،وحينما تكلم ال عن خلقنا
لفْئِ َدةَ} ...
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
قال {:وَاللّهُ َأخْرَ َ
[النحل]78 :
إنّ الحق -سبحانه -يسمي العرب المعاصرين لرسول ال أميين ،أي ليس عندهم شيء من
أسباب العلم ،وسبحانه خلق لنا وسائل العلم .بأن جعل لنا السمع والبصار والفئدة ،وهي وسائل
العلم التي تبدأ بالسمع ثم بالبصار ثم الفئدة .ومن العجيب أنه رتبها في أداء وظيفتها؛ لن
الِنسان منا إذا كان له وليد -كما قلنا سابقا -ثم جاء أحد بعد ميلده ووضع أصبعه أمام عينه
فإنه ل يطرف؛ لنه عينه لم تؤد بعد مهمة الرؤية ،وعيون الوليد ل تؤدي مهمة الرؤية إل بعد
مدة من ثلثة أيام إلى عشرة ،ولكنك إذا جئت في أذنه وصرخت انفعل.
إن هذا دليل على أن أذنه أدت مهمتها من فور ولدته ،بينما عينه ل تؤدي مهمة الرؤية إل بعد
مدة ،فأولً يأتي السمع ،ثم يأتي البصر ،ومن السمع والبصر تتكون المعلومات ،فتنشأ عند الِنسان
معلومات عقلية ،ويقولون للطفل مثلً :إياك أن تقبل على هذه النار حتى ل تحرقك ،فل يصدق،
ومنظر النار يجذبه فيلمسها ،فتلسعه مرة واحدة ،وبعد أن لستعه النار مرة واحدة ،لم يعد في
حاجة إلى أن يتكرر له القول :بأن النار محرقة.
فقد تكونت عنده معلومة عقلية .فأولً يأتي السمع ،ثم البصار ،ثم تأتي الفئدة .ولذلك قال
شكُرُونَ { .تشكرون له سبحانه أن أمدكم بوسائل العلم ليخرجكم مِن أميتكم.
سبحانهَ } :لعَّلكُمْ تَ ْ
وهناك لفتة إعجازية أخرى؛ فحين تكلم الحق عن وسائل العلم ،تكلم عن السمع بالِفراد ،وعن
البصار بالجمع .مع أن هذه آلة ،وهذه آلة؛ فقال( :السمع والبصار) ولم يقل السمع والبصر ،ولم
يقل السماع والبصار؛ لن السمع هي اللة التي تلتقط الصوات ،وليس لها سد من طبيعتها ،أما
العين فليست كذلك ،ففي طبيعة تكوينها حجاب لتغمض .وإذا أنت أصدرت صوتا من فمك يسمعه
الكل ،وعلى هذا فمناط السمع واحد ،لكن في أي منظر من المناظر قد تكون لديك رغبة في أن
تراه ،فتفتح عينيك ،وإن لم تكن بك رغبة للرؤية فأنت تغمضهما.
إذن فالبصار تتعدد مرائيها ،أما السمع فواحد ول اختيار لك في أن تسمع أو ل تسمع .أما البصر
فلك اختيار في أن ترى أو ل ترى ،وهذه المور رتبها لنا الحق في القرآن قبل أن ينشأ علم
وظائف العضاء ،ورتبها سبحانه فأفرد في السمع ،وجمع في البصر مع أنهما في مهمة واحدة،
سؤُولً }
سمْ َع وَالْ َبصَرَ وَالْ ُفؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ كَانَ عَنْهُ مَ ْ
إل آية واحدة جاءت في القرآن... {:إِنّ ال ّ
[الِسراء]36 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال الحق ذلك لن المسئولية هنا هي الفردية الذاتية ،وكل واحد مسئول عن سمعه وبصره
وفؤاده ،وليس مسئولً عن أسماع وأبصار وأفئدة الناس .ونرى مادة السمع قد تقدمت ،وبعدها
س ِمعْنَا} ...
جاءت مادة البصر إل في آية واحدة أيضا ،تتحدث عن يوم القيامة {:رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ
[السجدة]12 :
هنا قدّم الحق مادة البصار على مادة السمع؛ لن هول القيامة ساعة يأتي سنرى تغيرا في الكون
قبل أن نسمع شيئا } .وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْي ِهمْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَن َيسُومُهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ إِنّ
ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌْ { [العراف]167 :
رَ ّبكَ لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَا ِ
وتأذّن أي أَعْلم ال إعلما مؤكدا بأنكم يا بني إسرائيل ستظلون على انحراف دائم ،ولذلك سيسلط
ال عليكم من يسومكم سوء العذاب ،إما من جهة إيمانية ،مثلما فعل رسول ال صلى ال عليه
وسلم في بني النضير وبني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر ،وإما أن يسلط عليهم حاكما
ظالما غير متدين ،مصداقا لقوله الحقَ {:وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا[} ...النعام]129 :
وكذلك مثلما حدث من بختنصر ،وهتلر .إذن } وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ { أي أعلم ربك إعلما مؤكدا؛ لن
البشر قد ُيعْلمون بشيء ،ولكن قدرتهم ليست مضمونة لكي يعملوا ما أعلموا به ،فإذا أعلمت أنت
بشيء فأنت قد ل تملك أدوات التنفيذ ،أمّا ال -سبحانه -فهو المالك لدوات التنفيذ ،والعلم
منه مؤكد ،ولذلك ُيعْلم بالشيء ،أما غيره فالظروف المحيطة به قد ل تساعده على أن ينفذ.
مثال ذلك :صحابة رسول ال الول وهم مستضعفون ولم يستطيعوا أن يحموا أنفسهم من اضطهاد
المشركين والكافرين ،وصار كل واحد يبحث لنفسه عن مكان يأمن فيه؛ منهم من يذهب إلى
الحبشة أو يذهب إلى قوي يحتمي به ،فينزل ال في هذه الظروف العصيبة آية قرآنية لرسول ال
جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر]45 :
يقول فيها {:سَ ُيهْ َزمُ الْ َ
وتساءل البعض كيف يُهزمون ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا .فعندما نزلت هذه الية قال
سيدنا عمر :أي جمع يُهزم ،قال عمر :فلما كان يوم بدر رأيت رسول ال -صلى ال عليه وسلم
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ { ،فعرفت تأويلها يومئذ .إن ال
-يثب في الدروع وهو يقول } :سَ ُيهْزَمُ الْ َ
علَمَ بالنصر .وهو قادر على إنفاذ ما أعْلَم به على وفق ما أعَلم؛ لنه ل يوجد إله
سبحانه وتعالى أَ ْ
آخر يصادمه .إذن } وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ { يعني أعلم إعلما مؤكدا ،وحيثية العلم المؤكد أنه ل توجد
قوة أخرى تمنع قدرته ول تنقض حكمه } .وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ...
{ بالعراف]167 :
أي يبعث ال عليهم من يسومهم سوء العذاب .وهناك بنص القرآن مبعوث ،وال يخلي بينه
وبينهم ،فل يمنعهم ال منه ،إنما يسلط ال عليهم العذاب باختيار الظالم .مثلما قال الحق {:أَلَمْ تَرَ
أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّهُمْ أَزّا }[مريم]83 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أنه -سبحانه -أرسلهم لهذه المهمة وخلّى بينهم وبين الذين يستمعون إليهم } :وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ
لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ {.
وكلمة } إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ { تفيد أن هذا العنصر ،المشاكس من اليهود سيبقى في الكون كخميرة
(عكننة) إلى أن تقوم الساعة ،لماذا؟!
هم يقومون بمهمة الشر في الوجود ،ولول أن هذا الشر موجود في الوجود ،ويعضّ الناس
بمساوئه وإفساداته ،لم يكن من الناس من يتهافت على الحق وعلى الخير .فالشر -إذن -جاء
ليعضّ الناس بآلمه وإفساده ليتجه الناس إلى الخير ،ولذلك تجد أقوى انفعالت تعتمل في صدور
المسلمين وأقوى نزوع حركي إلى الِسلم حين يجدون مَن يضطهد قضية الِسلم.
إنَ مهمة الشر في الوجود أنه يجمع عناصر الخير في الوجود ومهمة الباطل في الوجود أنه يحفز
عناصر الحق ويحضهم على محاربة الشر ومناهضته؛ لن الباطل حين يعم ،ويتضايق منه
الناس ،ترفع يدها وتقول :يا ناس افعلوا الخير .ولو لم يحدث ذلك فلن تجد من يقبل على الخير
بحمية وحرارة } .وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْي ِهمْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَن َيسُومُهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كان عمر الدنيا مليون سنة ،فكل يوم يمر سينقص من عمر الدنيا.
وحين يقول الحق سبحانه بعد سرعة العقاب } وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌْ { قد نجد من يسأل كيف والحديث
هنا عن العقاب؟ ونقول :إنه سبحانه الذي يتكلم .وهو القادر ،فإذا قال :أنه لسريع العقاب ،فهذا
يعني أنه يسرع بعقاب المفسدين والظالمين؛ لنه غفور رحيم بالمظلومين الذين يُظلمون ،إذن
فسرعة عقاب الظّلمَة رحمة منه بالمظلومين .أو أن ال كما قال " سريع العقاب " فإنه -سبحانه
-يأتي بالمقابل لكي يشجع كل إنسان على الدخول في رحمته.
طعْنَا ُهمْ فِي الَرْضِ{ ...
ويقول سبحانه بعد ذلكَ } :وقَ ّ
()1109 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعذبهم ،وأظن حوادث هتلر الخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة ،وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح
سكُنُو ْا الَ ْرضَ[} ...الِسراء]104 :
قوله الحقَ {:وقُلْنَا مِن َب ْع ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ
لقد قلنا :إن السكن في الرض هو أن يتبعثروا فيها؛ لنه -سبحانه -لم يحدد لهم مكانا يقيمون
فيه ،فإذا جاء وعد الخرة ينتقم ال منهم بضربة واحدة ،ويأتي الحق بهم لفيفا تمهيدا للضربة
طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما مّ ْنهُمُ الصّاِلحُونَ َومِ ْنهُمْ دُونَ ذاِلكَ }.
القاصمةَ { :وقَ ّ
وهناك فريق منهم جاء إلى المدينة المنورة ووسعتهم المدينة وصاروا أهل العلم وأهل الكتاب،
وأهل الثراء وأهل المال ،وأهل بنايةٍ للحصون ،وحين هاجر رسول ال صلى ال عليه وسلم عقد
معهم معاهدة .فالذي دخل منهم في الِيمان استحق معاملة المؤمنين ،فلهم ما لهم وعليهم وما
ق وَبِهِ َي ْعدِلُونَ }[العراف]159 :
حّعليهم ،والحق قد قالَ {:ومِن َقوْمِ مُوسَىا ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ
وقلنا إن هذه تسمى صيانة الحتمال لمن يفكرون في الِيمان برسول ال صلى ال عليه وسلم:
ن َومِ ْنهُمْ دُونَ ذاِلكَ } .و " دون " أي غير ،فالمقابل
طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما مّ ْنهُمُ الصّالِحُو َ
{ َوقَ ّ
للصالحين هم المفسدون .أو منهم الصالحون في القمة ،ومنهم من هم أقل صلحا .فهناك أناس
يأخذون الحسن ،وأناس يأخذون الحسن فقط.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فليست النعمة دليل الِكرام ،ول سلب النعمة دليل الِهانة .ولكن الِكرام ينشأ حين تستقبل النعمة
بشكر ،وتستقبل النقمة بصبر .إذن مجيء النعمة في ذاتها ليس إل اختبارا .وكذلك إن قَدَر ال
عليك رزقك وضيقه عليك ،فهذا ليس للِهانة ولكنه للختبار أيضا.
سكِينِ *
طعَامِ ا ْلمِ ْ
ويوضح الحق جل وعل {:كَلّ بَل لّ ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَ َتحَآضّونَ عَلَىا َ
جمّا }[الفجر]20-17 :
وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلً ّلمّا * وَ ُتحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ
أنتم ل تطعمون في مالكم يتيما ول تحضون على طعام مسكين .فكيف يكون المال نعمة؟ إنه نقمة
جعُونَ { .ول المثل العلى،
ت وَالسّيّئَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
عليكم .وهنا يقول الحق } :وَبََلوْنَاهُمْ بِا ْلحَسَنَا ِ
نقول :إن فلنا أتعبني ،لقد قلبته على الجنبين ،ل الشدة نفعت فيه ،ول اللين نفع فيه ،ول سخائي
عليه نفع فيه ،ول ضنى عليه نفع فيه ،وقد اختبر ال بني إسرائيل فلم يعودوا إلى الطاعة مما يدل
على أن هذا طبع تأصل فيهم.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :فخََلفَ مِن َب ْعدِهِمْ خَ ْلفٌ{ ...
()1110 /
خذُونَ عَ َرضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَ ُي ْغفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْ ِت ِهمْ
فَخََلفَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ خَ ْلفٌ وَرِثُوا ا ْلكِتَابَ يَأْ ُ
ق وَدَرَسُوا مَا فِيهِ
حّعَ َرضٌ مِثْلُهُ يَ ْأخُذُوهُ أَلَمْ ُي ْؤخَذْ عَلَ ْي ِهمْ مِيثَاقُ ا ْلكِتَابِ أَنْ لَا َيقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلّا الْ َ
وَالدّارُ الَْآخِ َرةُ خَيْرٌ لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ ()169
خلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك ،ويقال :فلن خليفة فلن ،ومن قبل قرأنا أن
والخَلَف أو ال َ
سيدنا موسى قال لسيدنا هارون {:اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي[} ...العراف]142 :
أي كن خليفة لي ،إل أنك حين تسمع " خَ ْلفُ " بسكون اللم ،فاعلم أنه في الفساد ،وإن سمعتها "
خََلفٌ " بفتح اللم فاعلم أنه في الخير ،ولذلك حين تدعو لواحد تقول :اللهم اجعله خير خَلَف لخير
سلف .وهنا يقول الحق { :فَخََلفَ مِن َبعْدِ ِهمْ خَ ْلفٌ } .والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون
والمفسدون ،والشاعر يقول:ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خَ ْلفٍ كجلد الجربالشاعر هنا
يبكي موت الكرماء وأهل السماحة ،فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحاب كرمهم
وسماحتهم؛ فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم؛ لن هذا الجوار كان نعمة أيضا .وحين
يجاور رجل ضُيّق وقُدِر عليه رزقه رجلً طيبا عنده نعمة ،فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب.
والشاعر هنا قال " :وبقيت في خَ ْلفٍ كجلد الجرب " أي أن جلده قريب ولصق لكنه جلد أجرب.
وعرفنا قصة " أبودلف " وكان رجلً كريما في بغداد .يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعطيه .وطرأ طارئ على جار فقير له ،وأراد أن يبيع داره ،فعرض الدار للبيع ،وسألوه عن
الثمن الذي يرتضيه ،فقال :داري بمائة دينار .لكن جواري لبي دلف بألف دينار ،فبلغ هذا الكلم
أبا دلف فقال :إن رجلً قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق أل يفرّط فيه .قالوا له:
فليبق جارا لنا وليأخذ ما يريد من مال.
ف وَرِثُواْ ا ْلكِتَابَ } .والكتاب هو التوراة ،والخَلْف أخذوه ميراثا ،والشيء ل
{ َفخََلفَ مِن َبعْدِهِمْ خَ ْل ٌ
يكون ميراثا إل إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للحق ،ولكن لنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في
الكتاب؟ لقد ورثوه .وبُلّغ إليهمُ وعرفوا ما فيه { .يَ ْأخُذُونَ عَ َرضَ هَـاذَا الَدْنَىا وَيَقُولُونَ سَ ُي ْغفَرُ
خذُوهُ[ } ...العراف]169 :
لَنَا وَإِن يَأْ ِتهِمْ عَ َرضٌ مّثْلُهُ يَأْ ُ
ل يكونوا أصحاب منهج خير ،لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب -التوراة -
أي ل حجة لهم في أ ّ
من المواثيق ،والحلل ،والحرام ،وافعل كذا ول تفعل كذا؛ لم يلتفتوا لكل هذا؛ لنهم قالوا لنفسهم:
إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الخرة ،وهم يريدون النعيم القريب ،فمنهم من قبل الرشوة
واستغلل النفوذ .وبذلك أخذوا عَ َرضَ الحياة الدنى وهو عرض الدنيا .ولم يأخذوا إدارة الدنيا
بمنهج ال ،والدنيا فيها جواهر أو أعراض ،والجوهر هو الشيء الذاتي ،فالِنسان بشحمه ولحمه "
جوهر " أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض ،قصيرا أو طويلً ،صحيحا أو مريضا،
وغنيّا أو فقيرا فهذا عرض.
إذن فالعراض هي ما توجد وتزول ،والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من
بقاء ،وكما يقول علماء المنطق :الجوهر ما قام بنفسه ،والعَرَض ما قام بغيره.
وهم قد أخذوا العرض من الحياة الدنيا ،وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام ،وأن يغشوا
ويستحلوا الرشوة .ونعلم أن الِنسان -حتى المؤمن -قد تحدث منه معصية ول يمنع ربنا هذا؛
لن المشرع العلى حين يشرع عقوبة لجريمة ،فهذا إذْنٌ بأنها قد تحدث ،وحين يقول الحق{:
طعُواْ أَ ْيدِ َي ُهمَا[} ...المائدة]38 :
وَالسّارِقُ وَالسّا ِرقَةُ فَاقْ َ
ن معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أَنْ يسرق مثلً ،ولم يترك الحق هذا الجرم بدون
إّ
عقوبة .وإن رأينا مسلما يسرق ،نقل له هذا فعل مُجَرّم من الِسلم ،وله عقوبة ،والمُجْرَم ل يمكن
أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدّين ،بل هو منسوب للدين فقط ،وعندما يرتكب مسلم ذنبا أو
معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته ،وكذلك لو ألحّت عليه معصيته فيعود
إليها ،ثم تاب ،المهم أنه في كل مرة ل يصر على الفعل ،ثم يقول :سوف أتوب .وهم كانوا
يصرون على المعصية ويقولون :سبغفر ال لنا ،بل إنهم لم يفكروا في التوبة ،ووجدنا منهم من
يقولَ {:نحْنُ أَبْنَاءُ اللّ ِه وَأَحِبّا ُؤهُ[} ...المائدة]18 :
ويأتي الردُ {:قلْ فَلِمَ ُيعَذّ ُبكُم ِبذُنُو ِبكُم َبلْ أَنتُمْ َبشَرٌ ِممّنْ خََلقَ[} ...المائدة]18 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن هم يأخذون عرض هذا الدنى ،ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف َي ْغفِر
لهم .وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر؛ لن هناك فرقا بين أن
تفعل الشيء وتقول هو معصية .لكن أن يرتكب الِنسان المعصية ويقول :ليست بمعصية ،فهذا
انتقال من العصيان إلى الكفر ،ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله ،نقول له :اقْ َبلْ أن تكون
عاصيّا ول تدخل نفسك في الكفر؛ لنك إن حللت ما حرم ال يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ
بال ،أما إن قلت :هو حرام ولكن ظروفي صعبة ول أقدر على نفسي فقد يغفر ال لك .لكن قوم
موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون :سيغفر ال لنا:
خذُوهُ {.
ويقول الحق } :وَإِن يَأْ ِتهِمْ عَ َرضٌ مّثُْلهُ يَأْ ُ
وهم بعد ذلك تركوا العلى وأخذوا عرض الحياة الدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي
تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة .لذلك ينبههم الحق سبحانه } :أَلَمْ ُيؤْخَذْ عَلَ ْي ِهمْ مّيثَاقُ
ا ْلكِتَابِ أَن لّ ِيقُولُواْ عَلَى اللّهِ ِإلّ ا ْلحَقّ[ { ...العراف]169 :
ق أل يقولوا على ال إل الحق ،لكن هل
لقد ورثوا الكتاب ،وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهدٌ موث ٌ
يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق؟ .طبعا ل ،هم إذن تجاهلوا ما في هذا الكتاب ،رغم أنهم
قد درسوا ما فيه مصداقا لقوله الحق } :وَدَ َرسُواْ مَا فِيهِ {
وكلمة " دَرَسَ " تدل على تكرار العمل ،فيقال " :فلن درس الفقه " أي تعلمه تعلما متواصلً
ليصير الفقه عنده ملكة.
وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة ،هنا ل يصبح الفقه عنده ملكة .وحتى نفهم الفرق بين "
العلم " و " الملكة " ،نقول :إن العلم هو تلقي المعلومات ،أما من درس المعلومات وطبقها
وصارت عنده المسألة آلية ،فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة.
إذا التقى صائم -مثل -بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فورا؛ لنه علم كل صغيرة
وكبيرة في الفقه .لكن إن تسأل تلميذا مبتدئا في الزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه
ليعثر على الجابة؛ لن الفقه لم يصبح لديه ملكه .والملكة في المعنويات هي مقابل اللية في
الماديات التي تحتاج إلى دُرْبة ،فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين
ل يفعل ذلك إل عن دُرْبة .إنه قد تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب.
إذن فقوله } :وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ { اي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم .ونحن أخذنا
" درس العلم " من مسألة حسية هي " درس القمح " ،ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس
القمح ،حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه ،ويقطع لنا العيدان ،وهذه
العملية تسمى " درس القمح ".
إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألّ يقولوا على ال إل الحق ،لنهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة ،لكنهم أخذوا العرض الدنى.
وكان لبد أن يأتي بمقابل العرض الدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الدار الخرة هو الثواب
الدائم ولذلك يقول الحق ...} :وَالدّارُ الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ { [العراف]169 :
وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير ،وأن تتركوه
إن كان يعطي الكثير من الشر ،وزنوا المسألة بعقولكم ،وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم
ستعرفون أن عمل الخير راجح.
سكُونَ بِا ْلكِتَابِ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَالّذِينَ ُيمَ ّ
()1111 /
إنّ الكثير من بني إسرائيل ورثوا الكتاب ،وأخذوا العرض الدنى ،ولم يزنوا المور بعقولهم؛
لذلك لم يتمسكوا بالكتاب ،وتركوه ،وساروا على هواهم؛ كأنهم غير مقيدين بمنهج افعل كذَا ول
تفعل كذَا ،ويقابلهم بعض الذين يتمسكون بالكتاب الذي ورثوه ،ول يقولوا على ال إل الحق.
ومادة الميم والسين والكاف تدل على الرتباط الوثيق؛ فالذي يجعل النسان متصلً بالشيء هو
سكَ " ،و " أمسك " ،وتقول " استمسك " ،و " تماسك " ،
سكَ " وتقولَ " :م ّ
ماسكه ،وتقول " :م َ
وكلها مادة واحدة .وقوله الحق " :يمسّكون " مبالغة في المسك ،كُل قطع وقطّع ،ولكن قطّع أبلغ.
و(مسّك) يعني أن الماسك تمكن مما يمسك ،و(استمسك) أي طلب ،و(تماسك) أي أنّ هناك تفاعلً
بين الثنين؛ بين الماسك والممسوك .ومن رحمة ربنا أنه ل يطلب منا أن نمسك الكتاب .بل
يطلب أن نستمسك بالكتاب ،ولذلك يوضح لك الحق سبحانه وتعالى :إن أنت ملت إلى القرب مني
والزلفىإليّ ،فاترك الباقي عنك فالمعونة منّي أنا ،ولذلك يدلنا على أن من ينفذ منهج القرآن ل
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَىا لَ انفِصَامَ َلهَا } وهنا يستخدم الحق سبحانه كلمة
يلقى الهوان أبدا { َفقَدِ اسْ َتمْ َ
(استمسك) ل كلمة مسَك ،فمن وجه نيته في أن يفعل يعطيه ال المعونة ،ولذلك يقول سبحانه في
الحديث القدسي:
" أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه إذا ذكرني ،فإن ذكرني في نفسه ،ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني
في مل ،ذكرته في مل خير منه ،وإن تقرب إليّ بشبر ،تقربت إليه ذراعا ،وإن تقرب إليّ ذراعا،
تقربت إليه باعا ،وإن أتاني يمشي ،أتيته هرولة" .
فأنت بإيمانك بال تعزز نفسك وتقويها بمعونه ال لك .فإن أردت أن يذكرك ال فاذكر ال؛ فإن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذكرته في نفسك يذكرك في نفسه ،وإن ذكرته في مل يذكرك في مل خير منه ،وإن تقربت إليه
شبرا تقرب إليك ذراعا ،فماذا تريد أكثر من ذلك ،خاصة أنك لن تضيف إليه شيئا ،إذن فالموقف
في يدك ،فإذا أردت أن يكون ال معك فسر في طريقه تأت لك المعونة فورا .وهكذا يكون
الموقف معك وينتقل إليك ،وذلك بإيمانك بال وإقبالك على حب الرتباط به.
ولذلك قلنا من قبل :إن النسان إذا أراد أن يلقى عظيما من عظماء الدنيا وفي يده مصلحة من
مصالح الِنسان فهو يكتب طلبا ،فإما أن يوافق هذا العظيم وإما ألّ يوافق ،وحين يوافق هذا
العظيم يحدد الزمان ويحدد المكان ،ويسألك مدير مكتبه عن الموضوعات التي ستتكلم فيها ،وحين
تقابله وينتهي الوقت ،فهو يقف من كرسيه لينهي المقابلة ،هذا هو العظيم من البشر ،لكن ماذا عن
العظيم العظم العلى الذي تلتقي به في الِيمان؟ أنت تلقى ال في أي وقت ،وفي أي مكان،
وتقول له ما تريد ،وأنت الذي تنهي المقابلة ،أل يكفي كل ذلك لتستمسك بالِيمان؟.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في ظاهر المر قطعا لبعض الوقت عن حركة عملك ،وإن كان كل فرض يأخذ مثلً نصف
ساعة ،فالِنسان يقتطع من وقته ساعتين ونصف الساعة كل يوم في أداء الصلة .والوقت عزيز
عند الِنسان .ففي الصلة بذل لبعض الوقت الذي يستطيع أن يكسب الِنسان فيه مالً ،وفيها أيضا
الصوم عن الكل والشرب ومباشرة الزوجات ،ففيها كل مقومات أركان الِسلم ،لذا فهي ل تسقط
لةَ[ { ...العراف]170 :
ب وََأقَامُواْ الصّ َ
سكُونَ بِا ْلكِتَا ِ
أبدا } .وَالّذِينَ ُي َم ّ
إذن الستمساك واضح هنا جدا ،وأداء الصلة تعبير عن اللتزام بالستمساك بمنهج الِيمان.
ولذلك نسمع من يقول :حين ذهبنا إلى مكة والمدينة عشنا الصفاء النفسي والِشراق الروحي،
وعشنا مع التجلّي والنور الذي يغمر العماق .وأقول لمن يقول ذلك :إن ربنا هنا هو ربنا هناك،
فقط أنت هناك التزمت ،وساعة كنت تسمع الذان كنت تجري وتسعى إلى الصلة ،وإذا صنعت
هنا مثلما صنعت هناك فسترى التجليات نفسها .إذن إن صرت على ولء دائم مع الحق سبحانه
وتعالى فالحق لن يضيع أجرك كاحد المصلحين .لنه القائل } :إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمصْلِحِينَ {.
وهذه قضية عامة ،والحق سبحانه وتعالى ل يضيع أجر المصلح .وقوله } :إِنّا لَ ُنضِيعُ َأجْرَ
لةَ { دليل على أن أي إصلح في المجتمع
سكُونَ بِا ْلكِتَابِ وََأقَامُواْ الصّ َ
ا ْل ُمصْلِحِينَ { بعد قولهُ } :يمَ ّ
يعتمد على من يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلة؛ لن المجتمع ل يصلح إل إذا استدمت أنت
صلتك بمن خلقك وخلق المجتمع ،وأنزل لك المنهج القويم .ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِذ نَ َتقْنَا
الْجَ َبلَ{ ...
()1112 /
والجبل معروف أنه من الحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر
أو أكثر ،والحق يقول عن الجبال { :وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } ول يقال أرساها إل إذا كان وجد شيء له
ثقل ،فأنت ل تقول " :أرسيت الورقة على المكتب " ،ولكنك تقول " :أرسيت لوح الزجاج
علىالمكتب ليحميه " ،وأنت بذلك ترسي شيئا له وزن وثقل.
وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الرض أوتادا ،والوَتِد -كما نعلم -ممسوك من الموتود
والمثبت فيه ،بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه " تخشينة " لتلصقه وتربطه بما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يثبت فيه ،وهنا يقول الحق { :وَإِذ نَ َتقْنَا الْجَ َبلَ } " نتقنا " أي قلعنا ،وهناك قول آخر {:وَ َر َفعْنَا
َف ْو َقهُمُ الطّورَ ِبمِيثَا ِقهِ ْم َوقُلْنَا َلهُمُ ا ْدخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا َوقُلْنَا َلهُ ْم لَ َتعْدُواْ فِي السّ ْبتِ[} ...النساء:
]154
وقال الحق أيضا {:وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ[} ...البقرة]63 :
وهنا اختلف بين " نتق " و " رفع "؛ لن الجبل راسٍ في الرض ،وممسوك كالوتد؛ لذلك يحتاج
قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلع من الرض ،ثم يأتي من بعد ذلك الرفع ،و " نتقا " تعني
نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه ،وقد رفعه ال ليجعل منه ظلة عليهم ،أي أن هناكَ
ثلث عمليات :نتق أي نزع وخلع ،ثم رفع ،ثم جعله سبحانه ظلة لهم ،وهذا يحتاج إلى اتجاه في
المرفوع إلى جهة ما .والحق يقول " :وإذ " أي اذكر إذ نتقنا الجبل ،أي نزعناه وخلعناه من
الرض ،ول ننزعه ونخلعه من الرض إل لمهمة أخرى أي نجعله ظلة ،وكان تظليل الغمام
رحمة لهم من قبل ،وصار الجبل ظلة " عذاب "؛ لن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا
له :إن أحكام هذه التوراة شديدة .وللِنسان أن يتساءل :لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي
جاءت لمصلحة البشر؟ .وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه
ظلّ ٌة وَظَنّواْ أَنّ ُه وَاقِعٌ ِبهِمْ }.
قد يقع فوقهم { كَأَنّهُ ُ
لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه اليسر ،على الرغم من أن السجود يقتضي تساوي
وضع الجبهة على الرض ،ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب اليسر لن السابقين لهم رأوا
الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل ،وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل،
وبقيت هذه المسألة لزمة فيهم ،وصاروا ل يسجدون إل على حاجبهم اليسر ،بسبب حكاية الجبل
الذي نتقه ال وقلعه فصار فوقهم { .وَظَنّواْ أَنّ ُه وَاقِعٌ ِب ِهمْ }.
والظن هو رجحان قضية ،وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين ،مثل
قوله الحق { :الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُم مّلَاقُواْ رَ ّبهِمْ }
وحين بقيت الحالة هذه ،وخافوا من الجبل أن يقع عليهم ،ولن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو
التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه؛ لذلك قال لهم الحق.{ :
..خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { [العراف]171 :
و " خذوا " فعل أمر ،والمر يقتضي آمرا ،ولبد له من شيء يأمر به .وكلمة " القوة " هذه هي
الطاقة الفاعلة ،والصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة؛ لن الكون الذي تراه مسخرا
ليس له رأي في أن يفعل أو ل يفعل ،بل هو فاعل دائما إذا أمُر ،وكما قلنا من قبل :لم تغضب
الشمس على الناس وقالت :لن أطلع هذا اليوم ،وكذلك لم يمتنع الهواء ،وأيضا ل يرفض الحمار
مثلً أن يحمل الروث ،أو أن ينظفه صاحبه ويأتي له بـ " البرذعة " ليجعله ركوبة متميزة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شمْسُ
الحمار إذن ل يعصي هنا ول يعصي هناك ،والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة {.لَ ال ّ
ك ال َقمَ َر وَلَ الّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس]40 :
يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ
وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظرا لنه مقهور وليس له تكليف ،والمحكوم بالغريزة الكونية
صالح للحياة عن المحكوم بالختيار الفعلي ،ومع هذا الختيار فالنسان له أشياء تفعل فعلها فيه
ول َيدْرِي عنها شيئا مع أن بها قوام حياته ،فل أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له :دق ،والرئة
كذلك وحركة التنفس ،والحركة الدودية في المعاء ،والحالب ،ويرغب النسان في دخول دورة
المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول ،كل هذه مسائل رتيبة ل اختيار للنسان فيها أبدا ،والمور
المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار ،كأن يأكل النسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل
حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول النسان أن يطردها بالسعال ،هذا اسمه " غريزة " أي أمر
غير محكوم بالفعل الختياري.
وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو ل يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه .أما
النسان فقد يأكل بعد أن يشبع ،وحين يقول له مُضيفه -على سبيل المثال :-أنت لم تذق هذا
اللون من اللحم ،فيأكل .ولهذا نجد أن المراض في النسان أكثر من المراض في الحيوان؛ لن
اختيار النسان يمتد إلى مجالت متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه.
ونعرف جميعا هذا المثال للفارق بين النسان والحيوان ،نجد النسان يغلي النعناع ويشربه،
ويطبخ الملوخية ليأكلها ،وقد فعل ذلك لنه اختبر الثنين ،فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية ،رغم
تشابه أوراقهما .لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار ،وهات النجيل الناشف وضع
الثنين أمام الجاموسة أو الحمار ،ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان
نبات النعناع الخضر الرطب ،وهما يفعلن ذلك بالغريزة ،فالمحكوم بالغريزة له نظام ،ولو كان
الحيوان مختارا لرْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها.
وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة ،وهذه القوانين موجودة في الكون
لتخدمنا نحن بني البشر .فالكهرباء مثلً كانت موجودة قبل أن ننتفع بها ،لكن بعد ذلك انتفعنا بها،
وكذلك الجاذبية ،كانت موجودة في الكون منذ الزل ،لكنا لم ننتبه لها ،وحين اكتشفناها زادت
قدراتنا على الستفادة منها ،وهكذا نرى أن النسان واحد من هذا الكون ،إل أنه يتميز بأن له جهة
اختيار في بعض المور ،وله جهة قهر في البعض الخر ،فهو يشارك الكون في القهر ،ويتميز
عن بقية المخلوقات -عدا الجن -بالختيار في أمور أخرى .ونجد على سبيل المثال أن النسان
الذي يعاني قلبه من ضعف ما ،عندما يصعد هذا النسان سلما ينهج ويتتابع َنفَسه من العياء
وكثرة الحركة ،لنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي
الوكسجين الذي يساعد على الصعود.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ل يقربها،
ومثال آخر ،نجد الذكر في الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها ،فإن وجدها حام ً
والحيوان في هذا المر مختلف عن النسان؛ لن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية
الجنسية بين الذكر والنثى لحفظ النوع ،ومادامت النثى قد حملت ،فالذكر ل يقربها ،فاختلف
النسان عن الحيوان في هذا المر؛ فلذة النسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان؛ لنها في
الحيوان ترضخ للغريزة فحسب ،أما في النسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للختيار الذي
منحه ال للنسان.
ومن رحمة ال -إذن -أن يكون النسان مقهورا في بعض الشياء ومختارا في أشياء أخرى،
بـ " افعل " و " ل تفعل " حتى يختار بين البديلت.
خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُقوّة {
وهنا يقول الحقُ } :
أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد .وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح
معنى القوة .وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي ،فصرنا نرى الطاقة التي
تعطي القوة .وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية ،القانون الول والثاني والثالث ،واكتشف أن
كل جسم يظل على ما هو عليه ،فإن كان ساكنا يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه .وإن
كان الجسم متحركا فهو ل يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك .وسمّى العلماء هذا
طلُ عن الحركة إل أن يحركه محرك،
التأثير بالقصور الذاتي .أو التعطل ،أي أن الساكن ُيعَ ّ
طلُ عن السكون إل أن يوقفه موقف ،فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن
والمتحرك ُيعَ ّ
والسيارة تسير ،فإنك تظل ساكنا ،إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك
بشيء.
وفي السواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض اللعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها
مفرش لمع وأملس ،ثم يضع عليها أطباقا وأكوابا ،ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من
تحت الكواب حتى ل تتحرك بحركة المفرش.
وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة ،وقلنا :إنّ العطالة تعني أن
الساكن يتعطل عن الحركة ،والمتحرك يتعطل عن السكون ،وهذه هي القضية المادية في الكون
التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ .ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد
أنها تدور في الفضاء بالوقود ،رغم أن حجمها ل يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات ،والحقيقة أنها
تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود ،وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ
إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني ،وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف .ونرى ذلك في التجربة
اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم
يوجد حاجز يصدها ،وهي تقع بعد مسافة معينة؛ لن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتوقف ،أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء؛ لذلك ل تتوقف سفينة الفضاء ،لنها تسير
بقانون القصور الذاتي أو العطالة.
وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي.
والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن ،وهو القانون القائل:
إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في التجاه ،وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من
خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للمام.
وهكذا نرى قول الحق } :خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ { في الواقع المادي والواقع القيمي .وانظر إلى
غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض المور ول يتحركون عنها ول يجاوزونها ،فالواحد منهم
ل يصلي ،ول يزكي ،ول يقول كلمة معروف ،وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن
طاعة ال .ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة .أو يزني أو يسرق أو يرتشي .وهو
هنا يحتاج إلى قوة لتصده عن مثل هذه الحركة .ولذلك نقول :إن النسان في أفعاله الختيارية
يحتاج إلى أمرين :الول إن كان ساكنا عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير ،وإن
كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه ،وهذا هو ما يقدمه المنهج اليماني في " افعل " ،و
" ل تفعل " .فمن يتراخى عن الصلة وسكن عنها نقول له صلّ .ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه
ل يمكن أن يقف إل إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه ،إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج
بـ " افعل " ليحرك الساكن ،و " ل تفعل " ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون
والحركة في ضوء المنهج.
ولنعرف أن ال سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون ،فقد
اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات ،وليس اكتشاف الكافرين
للقوانين في الكون مدعاة للكسل والعتماد عليهم ،بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي
يُسير أمور الحياة ،ولنعلم أنه ل شيء ينشىء فينا فطرة جديدة؛ لن البشر من قديم مفطورون
على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعا ،فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا
وجود إله واحد .بل إن الفلسفة حينما بحثوا وارء المادة تأكد لهم ذلك ،وأغلب الفلسفة كانوا غير
مؤمنين ،وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق العظم؛ لن النسان ل يبحث عن شيء
ل يظن وجوده .ولنهم جميعا يعلمون أن النسان طرأ على كون ،وهذا الكون مقام بهندسة
حكيمة ،ومخلوق بقوة ل تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها ،إذن لبد لهذا الكون من
الخالق.
لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم ،إل أن الناس يتهافتون على
قانون المادة لنها تحقق لهم خيرا أو تدفع عنهم شرا ،فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يضرهم ،ولذلك احتاج النسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له
السعادة العاجلة في الدنيا والجلة في الخرة ،أما قوانين المادة في الرض فتركها ال لنشاط
العقل ،حتى الذين ل يؤمنون بال يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها ،ويتهربون من قوانين
القيم لنها تحد من شهوات النفس ،وتتعب بمشقة التكليف ،فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يقول
خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { [العراف]171 :
فيهاُ ...} :
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي من قانون المادة ما يقرب لنا قوانين القيم في الفعل ورد
الفعل ،لنفهم أن كل حركة للشر قد تحبها النفس لنها تحقق لها شهوة من شهواتها ،لكن يجب أل
يغيب عن ذهنك أيها النسان أن لكل فعل رد فعل مساويا له في الحركة ومضادا له في التجاه،
فإن كنت ترتاح في هذا العمل وتحبه وتشتهيه فتذكر جيدا رد الفعل الذي يأتيك بالعقاب عليه،
وكذلك مشقات التكليف ،حين تفعل الطاعة تكون صعبة عليك ولكن يجب أن تذكر رد الفعل فيها
وهو الراحة وحسن الثواب ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَا ِبمَآ أَسَْلفْتُمْ فِي
الَيّامِ ا ْلخَالِيَةِ }[الحاقة]24 :
وفي هذا القول فعل ورد فعل ،الفعل هو العمل الصالح في اليام التي مضت ،ورد الفعل هو
الطعام والشراب الهنيء في الخرة .ولمن اغتر واعتز بنفسه وجبروته وقوته يقول له الحق{:
ل وَلْيَ ْبكُواْ كَثِيرا[} ...التوبة]82 :
حكُواْ قَلِي ً
فَلْ َيضْ َ
وهكذا نجد البكاء الكثيف الشديد الكثير نتيجة للضحك القليل.
ويأتي النسان من هؤلء يوم القيامة ليقال لهُ {:ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان]49 :
إن كنت قد فهمت أنك عزيز كريم فأسأت إلى الناس فلسوف تتلقى العقاب .ولذلك يقول لنا الحق
عن المنهج } :وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { .وإياكم أن تطرأ عليكم الغفلة من هذه الناحية ،فالذي
يتعب الناس في مناهج ال أنهم يغفلون عنها؛ لن الطاعة تكلفهم مشقة وبعض عناء ،والمعاصي
تكسبهم لذة وشهوة ،فأوضح الحق :اذكروا جيدا الفعل ورد الفعل في هذه القيم.
ونعلم أن ال ّذكْر يحتاج إلى أشياء كثيرة جدا ،فالواعظ مثلً يذكرهم دائما ،وقلنا إن " الوعظ " هو
نوع من إعادة التذكير بالعلم بالحكم ،فأنا أعظ من عَِلمَ الحكم؛ لني أريد أن يفعله ،فبعد أن
علمه الموعوظ علما فقط يريد منه الوَاعظ أن ينفذه عمليا .فكلنا نعلم أن الصلة ركن ،وأن الحج
ركن ،والزكاة ركن من أركان السلم ،وكلنا جاءنا العلم بذلك ،لكن منا من يكسل في تطبيق هذا
العلم .ونظل ندق على دماغه بالتذكير والوعظ ،وهذا من خيرية أمته صلى ال عليه وسلم {:كُنْتُمْ
جتْ لِلنّاسِ[} ...آل عمران]110 :
خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ[} ...آل عمران]110 :
ولماذا هذا التذكير؟ .يجيب الحق {:تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
المر بالمعروف عظة قولية ،والنهي عن المنكر عظة قولية ،ويعددها الرسول صلى ال عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسلم لبقاء التذكير ،وليأخذ كل مسلم منهج ال بقوة ،فيقول في الحديث:
" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف
اليمان ".
إذن فقد نقل الرسول المسألة من المر وهو القول والنهي وهو قول أيضا إلى أن نباشرها فعلً،
فإن لم يستطع النسان منا تغيير المنكر بلسانه أو بيده فلينكره بقلبه ،ونجد القرآن قد جاء بها أمرا
ونهيا ،والرسول جاء بها فعلً ،لن هناك فرقا بين المعلومة التي تدخل الذهن ،وحمل النفس على
مطلوب المعلومة .ولذلك نحن ندرس الدين في مدارسنا ،وندرس فيها أيضا الجبر والهندسة،
والكيمياء والطبيعة ،والمتعب ليس تدريس الدين ،بل الذي يتعب الناس هو حمل النفس على
مطلوب الدين .لكن التلميذ حين يتعلم الجبر والهندسة أو الكيمياء ،فهذه علوم تعطي النسان خير
الدنيا فيذهب لها ،لكن مسألة الدين مسألة قيم؛ لذلك ل يكفي أن نعلم الدين بل لبد أن تنفذ ذلك
العلم ،وتنفيذ هذه المسألة يكون بالتطبيق في سلوك من أسوة حسنة وقدوة طيبة.
وهب أن الذي يُعلم الدين يدرسه معلومة ويدخلها في نفوس التلميذ ،ثم ل يجدون من أثر هذه
المعلومة نضحا على سلوك مَن علّمها ،ماذا يكون الموقف؟ .هنا تضعف ثقة التلميذ في أستاذة،
وتضعف ثقته في الدين؛ لنه لم ير من الدين إل كلما يقال ،بدليل أن من يقولونه ل ينفذونه ،وفي
هذا فشل في تعليم منهج الدين ،والخطأ إذن أن الناس يظنون أن منهج الدين يقف عند تعليم
المعلومات الدينية ،ل.
إن تعليم الدين يقتضي تنفيذ ما فيه من معلومات ،عكس العلوم الخرى التي تعطي المعلومة فقط.
وإن أراد النسان أن ينتفع بها في حياته انتفع ،وإن لم يرد فهو حر في ذلك.
إذن فالتذكير مرة يكون بالمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر ،ومرة يكون بالفعل " ،من رأى
منكم منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه " وماذا يعني التغيير باللسان؟ .يعني أن النسان
إن كان عنده حسن تأد واستعداد للعظة ومعرفة أدب النصح فله أن يقبل على تناول العظة .وليس
كل إنسان صالحا لن ينصح؛ لن المنصوح يخالف المنهج ،والناصح يقف أمامه حتى ل يخالف
المنهج ،إنه يخرجه عما ألف وأحب ،لذلك يجب أن يتلطف الناصح في النصح.
ومثال ذلك نجد الطبيب حين يذهب إليه المريض يصف له الدواء ،والدواء قديما كان كله مرّا.
وكانت الناس تأخذ الدواء بصعوبة ،ويمسك الكبار الطفال ليعطوهم الدواء .وحين ارتقت صناعة
الدواء ،قام الصيادلة بتغليف جرعة الدواء بغلف يحجب المرارة .ليتلطفوا مع مريض الجسم ،فما
بالنا بمريض القيم؟ .إنه يحتاج إلى المسألة نفسها .لذلك لبد أن نجعل النصح خفيفا ،ول نجمع
على المنصوح بين أن نخرجه عما ألف وما يكره من الساليب ،ولذلك قلنا :إن النصح ثقيل ،لنك
حين تنصح إنسانا فمعنى ذلك أنك افترضت أنك أفضل سلوكا منه ،وهو أقل منك في ذلك ،وهذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو أول مطب ،وينظر لك المنصوح على أنك تفهم أحسن منه .ولهذا قالوا في الثر :النصح ثقيل
فل ترسله جبل ،ول تجعله جدلً .وقيل أيضا :الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان .هكذا يكون
التذكير ،وإن لم تستطع أن تمنع بالفعل فامنع بالقول؛ لن التغيير باليد يحتاج إلى سلطة المغيّر
على المغيّر ،وهذا ل يأتي إل بأن يكون للمغير مقدمة وسابقة مع المغيّر يثبت فيها المغيّر أنه
يحب مصلحة المغيّر .وقد يكون ذلك واردا من غير أن تقول .كأن تكون أباه أو أمه ،والب والم
يقومان برعاية البن ،وتلبية احتياجاته طعاما ومشربا ومسكنا ومصروفا .وكل منهما هو المتولي
لمصالح البن .وإذا كان الناصح ليس له هذه الصلة بالمنصوح ،فعليه أن يتلطف له أولً بما
يحب .فحين يطلب منك أمرا تقوم بإجابته إلى طلبه ،وتنبهه بعد ذلك إلى ما تريد أن تنصحه إنك
قد قدمت له شيئا من المعروف فيتحمل منك النصح.
ومثال آخر :افرض أن ابنك قد طلب منك أن تحضر له ساعة ،وبعد ذلك قالت لك أمه :إنه لم
يستذكر دروسه حتى الن .ثم تأتي له بالساعة وتقول له :يا ولد أنت أردت مني ساعة وأحضرتها
لك ،وتناولها له وتقول :إن أمك قالت لي إنك غير مهتم بدروسك ،ولو تذكرت قولها لما أحضرت
لك الساعة.
وقد توجه له توبيخا فيضحك لنك قد حننت قلبه ،وبينت له أنك تحبه فيقبل النصح ،حتى ولو
صفعته قد يقبل لنه يعلم أنك تحب مصلحته .إذن للتذكير ألوان متعددة :عظة بالقول ،وتغيير
بالفعل وإنكار بالقلب.
} وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { والصل في التقوى أن تتقي شيئا بشيء؛ تتقي مؤلما بجعل وقاية
ع ّدتْ
بينك وبينه ،وهي تأتي كما علمنا في المتقابلت؛ فالحق سبحانه يقول {:وَا ّتقُواْ النّارَ الّتِي أُ ِ
لِ ْلكَافِرِينَ }[آل عمران]131 :
وهو سبحانه وتعالى يقول... {:وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[البقرة[ ]189 :آل عمران]130 :
ونجد من يتساءل :كيف يقول " :اتقوا ال " " ،واتقوا النار "؟
نقول :نعم؛ لن اتقوا ال تعني اتقوا غضب ال عليكم ،واتقوا عذاب ال لكم بأن تجعلوا بينكم وبين
عقابه وقاية ،ولبد أن تجعل بينك وبين النار وقاية؛ لن الحق سبحانه وتعالىَ كما علمنا لَه صفات
جلل وصفات جمال ،وصفات الجمال هي التي تسعد النسان ككونه -سبحانه " -غفورا " ،و
" رحيما " " ،باسطا " ،وكما أن ل صفات جمال تعطيك الرغبة والقبال عليه -سبحانه -فله
صفات جلل تعطيك الرهبة ،فهو -جل شأنه -جبار منتقم .فاتق ال حتى تحجب عن نفسك
متعلقات صفات الجلل التي منها جبار منتقم.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِذْ أَخَذَ رَ ّبكَ مِن{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1113 /
شهِدْنَا
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُوا بَلَى َ
سهِمْ َألَ ْ
شهَ َدهُمْ عَلَى أَ ْنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِنْ بَنِي َآدَمَ مِنْ ُ
أَنْ َتقُولُوا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ()172
وإذ تنصرف إلى الزمن ،أي اذكر وقت أن أخذ ال من بني آدم ،والخذ هو ال ،والمأخوذ منه
بنو آدم ،والشيء المأخوذ هو ذريتهم ،هذه هي العناصر .ولنتأمل ذلك بدقة ،إن الرب هنا هو
الخذ ،وبنو آدم مأخوذ منهم ،والمأخوذ هو الذرية .وبنو آدم هم أولد آدم من لدنه إلى أن تقوم
الساعة ،وهنا اتحد المأخوذ والمأخوذ منه ،ولبد أن نرى تصريفا في هذا النص؛ لنه يشترط أن
يكون المأخوذ منه كلً ،والمأخوذ بعضه.
والمثال :إن أنا أخذتُ منك شيئا ،فالمأخوذ منه هو الكل ،والمأخوذ بنفسه هوالبعض .لكننا هنا نجد
المأخوذ هو عين المأخوذ منه ،وأزال سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا الشكال في هذه
الية فقال صلى ال عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي ال عنه:
" لما خلق ال أدم مسح ظهره ،فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ،وجعل بين
عيني كل إنسان منهم وميضا من نور ثم عرضهم على آدم ،فقال :أيْ َربّ .من هؤلء؟ قال:
هؤلء ذريتك .فرأى رجلً منهم .فأعجبه وميض ما بين عينيه .فقال :أي رب .من هذا؟ قال :هذا
رجل من آخر المم من ذريتك ،يقال له داود ،فقال :رب كم جعلت عمره؟ قال :ستين سنة .قال:
عمُر آدم جاءه ملك الموت .فقال :أو لم يَبْقَ من
أي رب زده من عمري أربعين سنة ،فلما قُضي ُ
عمُري أربعون سنة؟ قال :أو لم تعطها ابنك داود؟ قال :فجحد آدمُ فجحدتُ ذُريته ،ونسي فنسيت
ُ
ذريته .وخطئ آدم فخطئت ذريته "
إذن ذرية آدم أُخذت من ظهر آدم .وعرفنا من قبل أنّ كُلً منا قبلَ أن تحملَ به أمّه كان ذَ ّرةً في
ظهر أبيه ،وأبوه كان ذرّة في ظهر أبيه حتى آدم .وهكذا نجد أنّ كل واحد مأخوذ من ظهره
ذرية ،هناك أناس يؤخذون -كذرية -ول يؤخذ منهم ،مثًل من فرض عليهم ال أن يكون الواحد
منهم عقيما ،وكذلك آخرُ جيل تقومُ عليه الساعة ،ولن ينجبوا .وآدم مأخوذ منه لنه أول الخلق،
وهو غير مأخوذ من أحد .وما بين الب آدم وآخر ولد؛ مأخوذ ومأخوذ منه .وبذلك يكون كل
واحد مأخوذ ومأخوذ منه ،وهكذا يستقيم المعنى.
والمأخوذ منه آدم ثم كل ولد من أول أولد آدم إلى الجيل الخير الذي سينقطع عن النسل.
وأوضح النبي صلى ال عليه وسلم :أن ربنا سبحانه وتعالى مسح بيده على ظهر آدم وأخرج منه
الذرية ،وقال لهم :ألست بربكم؟ قالوا :بلى .وبهذا عَلمْنا أنّ كل ذرّة من الذرات قد أُخذت مما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قبلها ،وأُخذ منها ما بعدها؛ وكلها مأخوذ ومأخوذ منه ،اللهم إل القوسين؛ القوس الول :آدم لنه
مأخوذ منه وليس مأخوذا من شيء ،والقوس الثاني :آخر ولد من أولده مأخوذ وليس مأخوذا منه؛
لن النسان منا وُجد من حيوان أبيه المنويّ.
ولو أن الحيوانَ المَنَويّ أصابه موت لما أنجب الب .ومن وُلد من حيوان مَ َن ِويّ لب ،هذا الب
مأخَوذ من حيوان مَ َن ِويّ حيّ من الجد أيضا ،وسلسلها إلى آدم؛ ستجد أن كل واحد منا فيه جزيء
حيّ من لدن آدم لن يدركه موت أبدا.
َ
ظهُورِهِمْ[ { ...العراف]172 :
لذلك يقول ربنا } :وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ
ول تقل إن الكل سيكون في ظهره؛ لن المأخوذ منه هو الساس الموجود في ظهره ،ومادام كل
شيء يتكاثر فهو قد وجد من أقل شيءٍ ونعلم أن القل يوجد فيه الكثر مطمورا .وقد أخذ ربنا من
ستُ بِرَ ّبكُمْ {؟.
ظهور بني آدم الذرية وخاطب الذرية بقوله تعالى } :أَلَ ْ
وهنا قد يقول قائل :أكان لهذه الذرية القدرة على النطق؛ إنها ذرية تنتظر التكوين الخر؛ لتتحد
مثلً بـ " البويضة " في رحم الم؟ فنرد عليه ونقول :لماذا تظن أن مخاطبة ربنا لهم أم ُر صعب؟
إن الواحد من البشر يستطيع أن يتَعلّم عَشْ َر لغاتٍ ،ويتزوجَ من أربع سيدات ،وكل سيدة ينجب
منها ذرية ،ويقعد يوما عند سيدة وذريتها ويعلمهَا اللغة النجليزية مثل ،ويجلس مع الخرى
ويعلمها اللغة اللمانية ،ويعلم الثالثة وأولدها اللغة العربية وهكذا ،بل يستطيع أن يتفاهم حتى
بالشارة معَ من ل يعرف لغته ،وإذا كان النسانُ يستطيع أن يعدد وسائل الداء ،ألَ يقدر أن
يعدد وسائل الداء لمخلوقاته؟ إنه قادر على أن يعدد ويخاطب ،ألم يقل الحق تبارك وتعالى
للجبال {:ياجِبَالُ َأوّبِي َمعَهُ[} ...سبأ]10 :
كيف إذن ل يتسع أفق النسان لن يدرك أن ال قادر على أن يخاطب أيّاّ من مخلوقاته؟ .إنه قادر
سخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ
على أن يخاطب كل مخلوق له بلغة ل يفهمها الخر .وهو القائل سبحانه {:وَ َ
الْجِبَالَ ُيسَبّحْنَ[} ...النبياء]79 :
ونعلم أن القرآن الكريم كذلك أن الجبال تسبح أيضا من غير داود ،شأنها شأن المخلوقات جميعها
ح ُهمْ...
حمْ ِد ِه وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ
شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ بِ َ
مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى {:وَإِن مّن َ
}[السراء]44 :
وحتى ذرات يد الكافر تسبح ،وإن كان تسبيحها ل يوافق إرادته.
وقول الحق سبحانه } :وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ا ْلجِبَالَ يُسَبّحْنَ {
يبين لنا أن الجبال كانت تردد تسبيح داوود وتلوته للزبور ،ول يقتصر أمر الحق إلى الجبال بل
إلى كل مخلوق ،فنحن -على سبيل المثال -نقرأ في القرآن الكريم أن ربنا اوحى إلى النحل أن
اتخذي من الجبال بيوتا من الشجر ومما يعرشون .إذن فلله مع خلقه أدوات خطاب؛ لنه هو الذي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلق الكون والمخلوقات ،وله سبحانه خطاب بألفاظ ،وخطاب إشارات ،وخطاب بإلهام ،وخطاب
بوحي ،فإذا قرأنا أن الحق تبارك وتعالى قال لذرية آدم :ألست بربكم؟ فهذا يعني أنه قالها لهم
باللغة التي يفهمونها ،لنه هو سبحانه الذي قال للسماء والرض:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تنظم الليل والنهار؛ لما قسمنا اليوم إلى ساعات ،ولول أن حركة الفلك مصنوعة بدقة متناهية؛
لما استطعنا أن َنعُدّها مقياسا للزمن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المؤكد أننا سنختلف في التصور وإن اتحدنا في التعقل.
ونقول للفلسفة :أنتم أولى الناس بأن ترهفوا آذانكم لمجيء رسول يحل لكم لغز هذا الكون ،واسم
القوة التي وراء هذا الكون ،ومطلوب هذه القوة منا.
والحق سبحانه وتعالى يهدينا إلى هذا عبر الرسل ،ويقول هنا } :وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن
شهِدْنَآ[ { ...العراف]172 :
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أَلَ ْ
ش َهدَهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
ُ
وهذه شهادة الفطرة ،ونحن نرى أن الفطرة تكون موجودة في الطفل المولود الذي يبحث بفمه عن
ثدي أمه حتى ولو كانت نائمة ويمسك الثدي ليرضع بالفطرة وبالغريزة ،وهذه الفطرة هي التي
تصون النسان منا في حاجات كثيرة ،وفي رد فعل النعكاسي؛ مثال ذلك حين تقرب أصبعك من
عين طفل ،فيغمض عينيه دون أن يعلمه أحد ذلك.
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ
سهِمْ أَلَ ْ
شهَ َدهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ
وقد أشهدنا الحق على وحدانيته ونحن في عالم الذر } :وَأَ ْ
شهِدْنَآ {
بَلَىا َ
ويقال " أشهدته " أي جعلته شاهدا ،والشهادة على النفس َلوْنٌ من القرار ،والقرار سيد الدلة؛
لنك حين تُشهد إنسانا على غيره؛ فقد يغيّر الشاهد شهادته ،ولكن المر هنا أن الخلق شهدوا على
أنفسهم وأخذ ال عليهم عهد الفطرة خشية أن يقولوا يوم القيامة } :إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ {
فحين يأتي يوم الحساب ،ل داعي أو يقولَن أحد إنني كنت غافلً.
ويتابع المولى سبحانه :وتعالى قولهَ } :أوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا{ ...
()1114 /
َأوْ َتقُولُوا إِ ّنمَا أَشْ َركَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَ ْبلُ َوكُنّا ذُرّيّةً مِنْ َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُبْطِلُونَ ()173
كأن الحق يريد أن يقطع عليهم حجة مخالفتهم لمنهج ال ،فينبه إلى عهد الفطرة والطبيعة والسجية
المطمورة في كل إنسان؛ حيث شهد كل كائن بأنه إلهٌ واحدٌ أحَدٌ ،ويذكرنا سبحانه بهذا العهد
الفطري قبل أن توجد أغيار الشهوات فينا.
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا } وهل كان أحد من الذر وهو في علم ال وإرادته وقدرته يجرؤ على أن
{ أََل ْ
يقول :ل لست ربي؟ .طبعا هذا مستحيل ،وأجاب كل الذر بالفطرة " بلى " .وهي تحمل نفي
حكَمِ ا ْلحَا ِكمِينَ }[التين]8 :
النفي ،ونفي النفي إثبات مثل قوله الحق {:أَلَيْسَ اللّهُ بَِأ ْ
و " أليس " للستفهام عن النفي؛ ولذالك يقال لنا :حين تسمع " أليس " عليك أن تقول " بلى "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبذلك تنفي النفي أي أثبتّ أنه ل يوجد أحكم الحاكمين غيره سبحانه ،وهنا يقول الحق " :ألست
بربكم "؟ وجاءت الجابة :بلى شهدنا .ولماذا كل ذلك؟ قال الحق ذلك ليؤكد لكل الخلق أنهم
بالفطرة مؤمنون بأن ال هو الرب ،والذي جعلهم يغفلون عن هذه الفطرة تحرّك شهواتهم في
نطاق الختيار ،ومع وجود الشهوات في نطاق الختيار إن سألتهم من خلقهم؟ يقولون :ال ،ومادام
س وَا ْلقَمَرَ
شمْ َ
سخّرَ ال ّ
ت وَالَ ْرضَ وَ َ
سمَاوَا ِ
خلَقَ ال ّ
هو الذي خلقهم فهو ربهم {.وَلَئِن سََألْ َتهُمْ مّنْ َ
لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...العنكبوت]61 :
وجاء الحق بقصة هذه الشهادة حتى ل يقولَنّ أحدُ { :إِ ّنمَآ َأشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْبلُ }
وبذلك نعلم أن أعذار العاصين وأعذار الكافرين التي يتعللون ويعتذرون بها تنحصر في أمرين
اثنين :الغفلة عن عهد الذر ،وتقليد الباء.
وما الغفلة؟ وما التقليد؟ .الغفلة قد ل يسبقها كفر أو معصية ،ويقلدها الناس الذين يأتون من بعد
ذلك .والمثال الواضح أن سيدنا آدم عليه السلم قد أبلغ أولده المنهج السوي المستقيم لكنهم غفلوا
عنه ولم يعد من اللئق أن يقول واحد منهم إن أباه قد أشرك .ولكن جاء هذا المر من الغفلة ،ثم
جاء إشراك الباء في المرحلة الثانية؛ لن كل واحد لو قلد أباه في الشراك؛ لنتهى الشرك إلى
آدم ،وآدم لم يكن مشركا ،لكن الغفلة عن منهج ال المستقيم حدثت من بعض بني آدم ،وكانت هذه
الغفلة نتيجة توهم أن هناك تكاليف شاقةً يتطلبها المنهج ،فذهب بعض من أبناء آدم إلى ما يحبون
وتناسوا هذا المنهج ولم يعد في بؤرة شعورهم؛ لن النسان إنما ينفذ دائما الموجود في بؤرة
شعوره .أما الشيء الذي سيكلفه مَشقّة فهو يحاول أن يتناساه ويغفل عنه ،هكذا كانت أول مرحلة
من مراحل النفصال عن منهج ال وهي الغفلة في آبائهم .وهنا يضاف عاملن اثنان :عامل
الغفلة ،وعامل السوة في أهله وآبائه .ولم تكن القضايا اليمانية في بؤرة الشعور ،ولذلك يقال:
الغالب أل ينسى أحد ما له ولكنه ينسى ما عليه؛ لن النسان يحفظ ما له عند غيره في بؤرة
الشعور ،ويُخرج النسان ما عليه بعيدا عن بؤرة الشعور.
ولن البعض قد يتصور أن في التكليف الِيماني مشقة ،لذلك فهو يحاول أن يبعد عنه وينساه،
وكذلك يحاول هذا البعض أن ينأى بنفسه عن هذه التكاليف.
ونأخذ المثل من حياتنا :قد نجد إنسانا مَدِينا لمحل بقالة أو لنجاّرٍ وليس عنده مال يعطيه له ،لذلك
يحاول أن يبتعد عن محل هذا البقال ،أو أن يسير بعيدا عن أعين النجار .وهكذا يكون افتعال
الغفلة في ظاهره هو أمرا مَنْجِيا من مشقات التكاليف ،لكن البشر في ميثاق الذر قالوا } :بَلَىا
شهِدْنَآ {
َ
خذَ ذلك العهدُ عليهم ،وأُقرّوا به واستشهد الحقّ بهم ،على أنفسهم حتى ل يقولوا يوم القيامه }
وقد أُ ِ
إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ { لنه ل يصح أن نغفل عن هذا العهد أبدا ،ولكنّ الحقّ تبارك وتعالى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيَ[} ...طه]115 :
عهِدْنَآ إِلَىا ءَا َدمَ مِن قَ ْبلُ فَنَ ِ
ع َرفَ أنّنا بشرٌ ،وقال في أبينا آدم {:وََلقَدْ َ
ومادام آدم قد نسي ،فنسيانه يقع عليه حيث بيّن وأوضح لنا السلم أن المم السابقة على السلم
تؤخذ بالنسيان ،وجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم بخبر واضح :فقال عليه الصلة والسلم:
" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
ن ألّ يجيءَ الحكمُ على بال
والخطأ معلوم ،كأن يقصدَ النسانُ شيئا ويحدث غيرهُ ،والنسيا ُ
النسان .وال ُمكْ َرهُ هو من يقهره من هُو أقْوى منه بفقدان حياته أو بتهديد حريته وتقييدها ما لم
يفعل ما يؤمر به ،وفي الحالت الثلث يرفع التكليف عن المسلم .وذكر الرسول صلى ال عليه
وسلم أن ال أكرم المة المحمدية بصفة خاصة برفع ما ينساه المسلم .وهذا دليل على أن من
عاشوا قبل بعثة رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا يؤاخذون به .وإذا سلسلنا من قبل رسول ال
صلى ال عليه وسلم نصل إلى سيدنا آدم الذي خُلق بيد ال المباشرة ،بينما نحن أبناء آدم
مخلوقون بالقانون؛ أن يوجد رجل وتوجد امرأة وتوجد علقة زوجية فيأتي النسل.
وقد كلف ال آدم في الجنة التي أعدها له ليتلقى التدريب على عمارة الرض بأمر ونهي؛ فقال له
سبحانه وتعالىَ {:وكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا َولَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ[} ...البقرة]35 :
إذن فقصارى كل تكليف هو أمر في " افعل " ،ونهي في " ل تفعل؛ ،وقد نسي آدم التكليف في
المر الواحد البسيط وهو المخلوق بيد ال والمكلف منه بأمر واحد أن يأكل حيث يشاء ويمتنع عن
الكل من الشجرة ،وإن لم يتذكر آدم ذلك ،فما الذي يتذكره؟ وما كان يصح أن ينسى لنه مخلوق
بيد ال المباشرة ومكلف من ال مباشرة ،والتكليف وإن كان بأمرين؛ لكن ظاهر العبء فيه على
أمر واحد؛ الكل من حيث شاءا هو أمر لمصلحة آدم ،و " ل تقرب " هو تكليف واحد.
-ولذلك قال الحق في آية أخرى... {:وَعَصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا }[طه]121 :
وهو عصيان لنه نسيان لمر واحد ،ما كان يصح أن ينساه .لعدم تعدده ويقول الحق تبارك
ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ
وتعالىَ } :أوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
{ [العراف]173 :
جاء هذا القول لينبهنا إلى أن الغفلة ل يجب أن تكون أسوة لن التكاليف شاقة ،والنسان قد يسهو
عنها فيورث هذا السهو إلى الجيال اللحقة فيقول البناءَ } :أوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْبلُ
َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َب ْعدِهِمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُبْطِلُونَ {.
وهذا يعني أن إيمانهم هو إيمان المقلد ،رغم أن الحق قد أرسل لهم البلغ ،وإذا كان الباء مبطلين
للبلغ بالمنهج فل يصح للبناء أن يغفلوا عن صحيح اليمان.
صلُ{ ...
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وكَذاِلكَ ُن َف ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1115 /
جعُونَ ()174
ت وََلعَّلهُمْ يَرْ ِ
صلُ الْآَيَا ِ
َوكَذَِلكَ ُنفَ ّ
واليات التي فصلها الحق هنا هي العهود الخاصة ،ورفع الجبل ليأخذوا التوارة بقوة ،وكذلك
العهد العام الذي اشترك فيه كل الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة ،وجاء سبحانه بكل ذلك
ليؤكد لهم أن قضية اليمان عقيدةً يجب أن تكون في بؤرة الشعور ،فمن غفل فليتذكر ،ومن قلد
آباه في شيء مخالف للمنهج القويم ،فليرجع عن هذا التقليد؛ لن التكاليف اليمانية تكاليف ذاتية،
وسبحانه ل يكلفك وأنت في حاجة إلى أبيك ،أو إلى أمك .لكنه يكلفك من بعد البلوغ؛ لنك بعد
البلوغ تستقل بذاتيتك استقلل كامل مثل والدك ،ومادمت مكتمل الرجولة كوالدك وصالحا
للنجاب فل ولية إيمانية لبيك عليك أبدا ،فل تقل إنني أقلد أبي ولو كان على غير المنهج
السليم؛ لن مثل هذا القول يمكن أن يكون مقبولً لو كان التكليف للنسان وهو في دور الطفولة،
حيث الب يسعى لطعام أبنائه ورعايتهم ،لكن التكليف ل يأتي للنسان إل بعد البلوغ ،ومعنى
بعد البلوغ :أنك صالح لنجاب مثلك ورعاية نفسك.
ولذلك يطلب الحق سبحانه وتعالى من الباء أن يدربوا أبناءهم ويعودوهم على مطلوبات التكليف
قبل مجيء أوان تكليف ال ،ويقول النبي عليه الصلة والسلم:
" مروا أولدكم بالصلة وهم أبناء سبع سنين ،واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر سنين
وفرقوا بينهم في المضاجع ..إلخ "
الب إذن يأم ُر ويُعاقب قبل أوان التكليف ليتدرب البناء عليه ويصير دربة سهلة ل يتعب منها
جعُونَ }.
ت وََلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
صلُ اليَا ِ
النسَان بعد البلوغَ { .وكَذاِلكَ ُنفَ ّ
أي أن على الغافل أن يرجع عن غفلته فيتذكر ،وأن يرجع المقلد لبائه عن التقليد ،ويقتنع اقتناعا،
مصداقا لقوله الحق {:لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ شَيْئا[} ...لقمان]33 :
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك { :وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ} ...
()1116 /
وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ الّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِ ْنهَا فَأَتْ َبعَهُ الشّيْطَانُ َفكَانَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ ()175
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولنهم قالوا { :إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ } ،فال سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خبر هؤلء
فيقول { :وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ الّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِ ْنهَا }.
والنبأ هو الخبر المهم وله جدوى اعتبارية ويمكن أن ننتفع به وليس مطلق خبر .ولذلك يقول
سبحانه وتعالى عن اليوم الخر {:عَمّ يَ َتسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ }[النبأ]2-1 :
كما يقول { وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ الّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } ،كأن هذا النبأ كان مشهورا جدا ،ويقال :إنه قد
قيل في " ابن بعوراء " أو أمية بن أبي الصلت ،أو عامر الراهب ،أو هو واحد من هؤلء ،والمهم
ليس اسمه ،المهم أنّ إنسانا آتاه ال آياته ثم انسلخ من اليات ،فبدلً من أن ينتفع بها صيانة لنفسه،
وتقربا إلى ربه { فَانْسَلَخَ مِ ْنهَا } واتبع هواه ومال إلى الشيطان.
وكلمة " انسلخ " دليل على أن اليات محيطة بالنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت
معصية لينسلخ النسان منها؛ لن الصل في السلخ إزاحة جلد الشاة عنها ،فكأن ربنا يوضح أنه
سبحانه وتعالى أعطى النسان اليات فانسلخ منها ،وهذا يعني أن اليات تحيط بالنسان كما يحيط
الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للنسان؛ لن هذا الكيان العام فيه شرايين ،وأوردة ،ولحم،
وشحم ،وعظام .وجعل ال التكاليف اليمانية صيانة للنسان ،ولذلك سمي الخارج عن منهج ال "
فاسقا " مثله مثل الرطبة من البلح ،فبعد أن تضرب الشمس البلحة يتبخر منها بعض من الماء،
فتنكمش ثمرة البلحة داخل قشرتها وتظهر الرطبة من القشرة ،ولذلك سمي الخارج عن المنهج "
فاسقا " من فسوق الرطبة عن قشرتها ،وال عز وجل يقول هنا { :ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } .وكان يجب أل
يغفل عنها ،لن التيان نعمة جاءت ليحافظ النسان عليها ،لكن النسان انسلخ من اليات.
ونعرف جميعا ثوب الثعبان وهو على شكل الثعبان تماما ،ويغير الثعبان جلده كل فترة ،ول ينخلع
من الجلد القديم إل بعد أن يكون الجلد الذي تحته قد نضج ،وصلح لتحمل الطقس والجو ،وكذلك
حين يندلق سائل ساخن على جلد النسان ،تلحظ تورم المنطقة المصابة وتكون بعض المياه فيها،
وله أفرغ النسان هذه المياه تصاب هذه المنطقة بالتهاب ،أما إذا تركها فهي تحمي المنطقة
المصابة إلى أن يتربى الجلد تحتها وتجف وتنفصل عن الجسم ،وكذلك نعلم أن الشاة -مثلً -ل
تسلخ نفسها .بل نحن نسلخها ،والحق سبحانه وتعالى يقول {:وَآ َيةٌ ّلهُمُ الّ ْيلُ َنسْلَخُ مِنْهُ ال ّنهَارَ} ...
[يس]37 :
فكأن الليل كان مجلدا ومغلفا بالنهار ،والليل أسود ،والنهار فيه الضوء ،ونعلم أن اللون السود
ليس من ألوان الطيف ،وكذلك اللون البيض ليس من ألوان الطيف؛ لن ألوان الطيف :الحمر،
البرتقالي ،الصفر ،الخضر ،الزرق ،النيلي ،البنفسجي ،واللون السود يأخذ ألوان الطيف
ويجعلها غير مرئية ،لنك ل ترى الشياء إل إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك ،واللون السود
يمتص كل الشعة التي تأتي عليه فل يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلما.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والبيض هو مزيج من ألوان متعددة إن مزجتها مع بعضها يمكنك أن تصنع منها اللون البيض،
وهكذا نعلم أن البيض مثله مثل السود تماما ،فالسود يمتص الشعة فل يخرج منه شعاع
لعينيك ،والبيض يرد الشعة ول يخرج منه شعاع لعينيك .وقوله الحق } :نَسْلَخُ مِنْهُ ال ّنهَارَ { كأن
سواد الليل جاء يغلف بياض النهار.
وإذا انسلخ من آتاه خبر اليمان عن المنهج يقول الشيطان :إنه يصلح لن يتبعني ،وكأن الشيطان
حين يجد واحدا فيه أمل ،فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما أتاه ال من الكتاب الحامل
للمنهج ،ويزكي الشيطان في نفس هذا النسان مسألة الخروج عن منهج ربنا.
وقلنا من قبل :إن المعاصي تأتي مرة من شهوة النفس ،ومرة من تزيين الشيطان وأوضحنا
الفارق ،وقلنا :إن الشيطان ل يجرؤ عليك إل إن أوضحت للشيطان سلوكك أن له أملً فيك ،لكن
إن اهتديت وأصلحت من حالك فالشيطان يوسوس للنسان في الطاعة ويحاول أن يكرهه فيها،
والشيطان ل يذهب -مثل -إلى الخمارة ،بل يقعد عند الصراط المستقيم ليرى جماعة الناس
التي تتجه إلى الخير ،أما الخرون فنفوسهم جاهزة له .إذن فالشيطان ساعة يرى واحدا بدأ في
الغفلة عن اليات فهو يلحقه مخافة أن تستهويه اليات ثانية ،ولذلك لبد لنا أن نفرق بين الدافع
إلى المعصية هل هو من النفس أم من نزغ الشيطان ،فإن جاءت المعصية وحدثتك نفسك بأن
تفعلها ثم عزت عليك تلك المعصية لي ظرف طارئ ثم ألححت عليها ذاتها مرة ثانية ،فاعلم أنها
شهوة نفسك .لكن إن عزت عليك ثم فكرت في معصية ثانية فهذا من نزغ الشيطان؛ لن الشيطان
ل يريدك عاصيا بمعصية مخصوصة ،بل يريدك بعيدا عن المنهج فقط ،لكن النفس تريد معصية
بعينها وتقف عندها ،فإن رأيت معصية وقفت عندها نفسك ،فاعلم أنها من نفسك ،وإن امتنعت
عليك معصية وتركتها ،ثم فكرت في معصية ثانية .فهذا نزغ من الشيطان -ويقول الحق...} :
فَأَتْ َبعَهُ الشّ ْيطَانُ َفكَانَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ { [العراف]175 :
الغاوي وال َغ ِويّ هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلل ،ونعلم أن الهدى هو الطريق
الموصل للغاية ،ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء .وهو الذي
يُسمى " الغاوي " ،ومادام من الغاوين عن منهج ال فالفساد ينشأ منه لنه فسد في نفسه ويفْسد
غيره.
ويقول الحق بعد ذلك } :وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وَلَـاكِنّهُ{ ...
()1117 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ
ح ِملْ َ
ض وَاتّبَعَ َهوَاهُ َفمَثَلُهُ َكمَثَلِ ا ْلكَ ْلبِ إِنْ َت ْ
وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وََلكِنّهُ أَخَْلدَ إِلَى الْأَ ْر ِ
صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ ()176
صصِ ا ْلقَ َ
تَتْ ُركْهُ يَ ْل َهثْ ذَِلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَا ْق ُ
وهنا أمران اثنان ،الرفعة :وهو العلو والتسامي ،ويأتي بعدها المر الثاني وهو الخلد إلى
الرض أي إلى التسفل ،والفعلن منسوبان لفاعلين مختلفين.
{ وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ } ،والفعل رفع هنا مسند ل .ولكنه اختار أن يخلد في الرض .وجاء المر
كذلك لن الرفعة من المعقول أن تنسب ل .لكن التسفل ل يصح أن يُنسب ل ،وكان كل فعل هو
بأمر صاحب الكون .وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج ،وحين يقول الحق تبارك وتعالى
{ وََلوْ شِئْنَا } أي أنها مشيئتنا .فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة ،لكن هذا المر ينقض
الختيار ،والحق يريد أن يُبقَي للنسان الختيار ،فإن اختار الصواب فأهل به وجزاؤه الجنة ،وإن
أراد الضلل فلسوف يَلْقى العذاب الحق ،ولمزيد من العتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة
حمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِن
جدَا عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَ ْ
العبد الصالح مع موسى عليه السلمَ {:فوَ َ
لّدُنّا عِلْما * قَالَ َلهُ مُوسَىا َهلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَىا أَن ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُشْدا }[الكهف]66-65 :
ورغم أن موسى رسول من عند ال إل أنه لم يتأبّ على أن عبدا من عباد ال تقرب إلى ال
فاتبعه موسى ليقول لهَ { :هلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَىا أَن ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُشْدا }.
وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه ال العلم .وجاء القرآن بهذه القصة
ليعلمنا أدب التعلم.
ي صَبْرا * َوكَ ْيفَ َتصْبِرُ
وماذا قال العبد الصالح؟ لقد عذر موسى وقال {:قَالَ إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َمعِ َ
عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف]68-67 :
أي أنك يا موسى لن تصبر ل لنقص فيك ،بل لنك سترى أمورا ل تعرف أخبارها .لكن سيدنا
موسى قال له ل { :سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّ ُه صَابِرا } وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن
يعصي له أمرا ،واشترط العبد الصالح أل يسأله سيدنا موسى عن شيء إل أن يحدثه العبد
الصالح .وكان كل ذلك مجرد كلم نظري ،فيه أخذ ورد ،وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما.
بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح ،لم يصبر سيدنا موسى بل قالَ... {:لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا
ِإمْرا }[الكهف]71 :
وهكذا أثبتت التجربة العملية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح ،وحين ذكره العبد
الصالح بما وعد به من أل يسأل ،تراجع موسى ،وتكرر السؤال ،وتكرر التذكير .إلى أن أوضح
العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق { :وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا }
لماذا؟ .لن مشيئة ال مشيئة مطلقة ،يفعل ما يريده ،ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للختيار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جزاءً ،لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف ،لنها سنة ال ،ولن تجد لسنة ال تبديلً.
وسنة ال أن من عمل عملً طيبا يثيبه ال عليه .ومن عمل سوءا يعاقبه ،ومشيئته سبحانه مطلقة،
ول راد لمشيئته ول معقب لحكمه.
وبمقضى مشيئة ال فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله ،وله سبحانه مطلق الرادة فهو
عزيز ،وحكيم في كل فعل } .وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وَلَـاكِنّهُ أَخَْلدَ إِلَى الَ ْرضِ وَاتّبَعَ َهوَاهُ...
{ [العراف]176 :
و } َأخْلَدَ ِإلَى الَ ْرضِ { ،أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية ،رغم أن الحق هدى النسان وبين له
طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو ،والحق يقولُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ} ...
[النعام]151 :
ونخطئ حين نفهم أن " تعالوا " بمعنى " أقبلوا " فقط وهذا فهم ناقص ،إنها دعوة للقبول وإلى
العلو ،لنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى ل نلزم منهج الرض السفلى .بل نرتقي ونأخذ منهج
ال الذي يضمن لنا العلو .وكأنه سبحانه يقول :تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من ال العلي
العلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع ال ،لن في هذا
ض وَاتّبَعَ َهوَاهُ َفمَثَُلهُ
تسفل ونزول إلى الحضيض } .وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وَلَـاكِنّهُ َأخْلَدَ إِلَى الَرْ ِ
ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ[ { ...العراف]176 :
َكمَ َثلِ ا ْلكَ ْلبِ إِن َت ْ
ويقال " :حملت على الكلب " ،فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره ،فهذا
تفسير لقوله " :تحمل عليه " ،أي أنك تحمل عليه طردا أو زجرا؛ لذلك يلهث ،وأن تركت الكلب
بدوح حمل عليه طردا أو زجرا فهو يلهث ،لن طبيعته أنه لهث دائما ،وهذه الخاصية في الكلب
وحده ،حيث يتنفس دائما بسرعة مع إخراج لسانه.
ونعلم أن الحيوانات ل تلهث إل أن فزعت فتجري ،لتفوت من اللم أو من العذاب الذي يترصدها
من كائن آخر ،وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة ،فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من
غذاء إلى كل الجسم ،ولبد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء .ونلحظ أن الكائن
الحي حين يجلس برتابة فهو ل يلحظ تنفسه ،لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة
الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب " الوكسجين " من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة
الجديدة ،فيحاول أن يتنفس أكثر .ول تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إل إذا كانت جائعة أو
متعبة أو مهاجمة ،لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها ،جائعا أو شبعان ،عطشان أو غير عطشان،
مزجورا أو غير مزجور ،إنه يلهث دائما .ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللهث؟؛ لن الذي يظهر
بهذه الصورة تجده مكروها دائما؛ لنه متبع لهواه ،وتتحكم فيه شهواته .وحين تتحقق له شهوة
الن ،يتساءل هل سيفعل مثلها غدا؟ وتتملك الشهوة كل وقته ،لذلك يعيش في كرب مستمر ،لنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم ،ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمنا أو غير آمن،
جائعا أو غير جائع ،عطشان أو غير عطشان.
ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ تَتْ ُركْهُ يَ ْلهَث ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا
}َ ...فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ ا ْلكَ ْلبِ إِن تَ ْ
صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ { [العراف]176 :
صصِ ا ْل َق َ
فَا ْق ُ
هكذا يكون مصير من كذّب باليات.
صصَ { يوضح لنا أن ال ل يريد أن يعلمنا تاريخا ،لكنه يعلمنا كيف
وقول الحق } :فَا ْقصُصِ ا ْل َق َ
نأخذ العبرة من التاريخ ،بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة،
لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر ،ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة
واحدة .ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل ،ومن قصص المبطلين مع المحقين،
ومن قصص المعاندين مع الرسل؛ لن القصة أمر واقعي ،والتقنين للمناهج أمر لفظي ،فيريد
سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع؛ لن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة
وسخونة فل يظل المنهج مجرد كلم نظري معزول عن الواقع.
وهكذا بَيّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الية ،أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى
بعض خلقه ،فمنهم من يأخذ منهج ال بالستيعاب أولً ،وتوظيف ما علم ثانيا ،وبذلك يرتفع من
منطق الرض إلى منطق السماء .ومن يعطيه ال ذلك المنهج ،ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه
إلى السماء ،ليهبط إلى مستوى الرض .وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لنفسهم ،ويضعون نظم
الحياة على وفق هواهم ،وعلى وفق نظمهم ،ويتركون منهج ال الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم
قانون صيانتهم.
وهذا كلم نظري له واقع في ابن " باعوراء " ،هذا الذي آتاه ال العلم ،ولكنه أخلد في الرض
ولم يتبع ما علم ،فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحقَ } :فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ
ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ تَتْ ُركْهُ يَ ْلهَث ذِّلكَ[ { ...العراف]176 :
ا ْلكَ ْلبِ إِن تَ ْ
ومن يريد أن يرفعه ال إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الرض نجد الحق سبحانه
وتعالى يمثل حاله بحال الكلب ،مع الفارق بين الثنين؛ لن الكلب يلهث غريزة .فهو غير مذموم
حين يلهث وهو مطرود ،ويلهث غير مطرود فهذه غريزة فيه ،ول يذم على هذه ول على تلك،
لكن النسان الذي فطره ال على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان
يصح له أن يفعل ذلك ول ينبغي أن تقولوا :وما ذنب الكلب في أنه يلهث ،ويضرب به المثل في
الكفر؟ لن الكلب يفعلها غريزة ،وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء ،أما النسان الذي ارتفع بكفره
وميزه ال بأن يختار بين البديلت ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى ،ومثل هذا السلوك
في الكلب محمود فيه لن طبيعته هكذا ،وإياك أن تقول :لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هي؟
والحق -سبحانه -هو القائل عن اليهود:
والفرق أنك إذا قلت في فلن إنه يشبه حاتما في الكرم ،فقد تكون أول من يخبر عنه ،ولك أن
تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان؛ فهذا مَثَل ،كأن تقول :مَثَل حاتم في الكرم ،أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مَثل عنترةَ في الشجاعة .والمَثَل في الذكاء إياس ،لن كل واحد منهم مشهور بصفة ،ولذلك لما
مدح الشاعر الخليفة قال فيه :إقدام عمرو (في شجاعته) في سماحة حاتم (أي الطائي) في حلم
أحنف (الحنف بن قيس وكان مشهورا بالحلم عند العرب) وفي ذكاء إياس .وقال رجل من القوم:
كيف ُتشَبّ ُه الميرَ بصعاليك العرب؟ إن المير فوق من ذكرت جميعا.
ما عمرو بالنسبة للمير؟!
وما حاتم بالنسبة للمير؟!
فقال الشاعر:
وشبهه المدّاح في الباس والندى بمن لو رآه كان أصغر خادمففي جيشه خمسون ألفا كعنتر وفي
خُزنه أُلف ألف كحاتمأي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة .فما كان منه إل أن أسعفته ذاكرته
وبديهيته؛ فقال:
ل تنكروا ضربي له من دونه مثلً شرودا في الندى والباسفال قد ضرب القل لنوره مثل من
المشكاة والنبراسوكأن الشاعر يقول :أنا ضربت بهم المَثل لنهم أصبحوا المثل المشهور والمثال
ل تتغير.
ل مشهورا في
وأنت تقدر في المثل ،فقد تقول :فلن حاتم ،وحاتم انقضى عمره ،لكنه قد صار مث ً
التاريخ ،أو تقول " :فلن عنتر " ،أو " فلن إياس " ،وفي ذلك يرتقي التشبيه ،بأن صار المشبّه
به مشهورا معلوما متواردا على اللسنة وكل واحد يشبه به.
و ُيعَرفون المَثَل بأنه :قول شبّه مورده بمضربه ،أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولً،
ومثال ذلك :حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها " عصام " لتخطب له أمّ إياس؛
فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها ،فقال :اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف ،فذهبت الخاطبة
وخلّت أم الفتاة بينها وبينها ،وقالت لها :يا هذه ،هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فل
تستري عنها شيئا أرادت النظر إليه ،من وجه وخلق ،وناطقيها فيما استنطقتك به .ثم أرسلت إلى
خباء ،ونظرتها كلها وفحصتها فحصا شاملً .فلما عادت إلى من أرسلها ،وكان ينتظرها في شوق
وكأنه على أحر من الجمر ،قال لها " :ما وراءكِ يا عصامُ؟ " قالت " :أبدي المخض عن الزّبد "
أي أن الرحلة جاءت بفائدة.
وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولً ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعا؛ وبعد أن يعود إليهم
ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته ،فهم يقولون له " :ما وراءَك يا عصام؟ " ،ولو كان رجلً ،لن
المثال ل تغير .وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه " :أبدي المخض عن الزبد ".
فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال " :أبدي المخض عن الزبد ".
والحق تبارك وتعالى يقول {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]26
وكانوا قد قالوا :كيف يضرب ال المثل ببعوضة؛ وقال سبحانه {:لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ
لَهُ[} ...الحج]73 :
لقد فهموا قوله " :فما فوقها " أنها أكبر منها ،والمراد غير ذلك؛ لنه سبحانه ضرب المثل بالقل؛
لذلك قال " :فما فوقها " من باب فما فوقها في الحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه ،وهو
الضآلة .وحتى تفهم ذلك نسمع أحيانا :فلن مريض .ويراد السامع وفلن فوقه في المرض .ونجد
" فوقه " هنا ل تعني المرض القل ،بل المرض الكثر شدة...} :ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا
صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ { [العراف]176 :
صصِ ا ْل َق َ
فَا ْق ُ
والكلم موجه لليهود :أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها،
ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد ،ووصفته بسمات وعلمات ،بحيث إذا رآه النسان
يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة ،ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابنا له ،لنه
مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله ،وعرضه .وكنتم تستفتحون به على العرب .لكنكم امتنعتم
عن التصديق باليات ،وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به .وصار مثلكم كمثل الرجل الذي
آتاه ال اليات فانسلخ منها } .ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا {
وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا باليات الكونية التي يراها البصر؛ السماء والرض
والشمس ،واليات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلغه عن ال ،وكذلك آيات القرآن
التي تحمل منهج ال.
صصِ ا ْل َقصَصَ َلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ { وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث
} فَا ْق ُ
وما كان ،وأنت لن تحكي المر التافه ،بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة؛ تنتفع بها
حركة المجتمع.
ويذيل الحق الية بقوله تعالىَ } :لعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ { ،ونعلم أن القرآن قد جاء فيه المر بالتفكر
والتذكر والتدبر.
والتفكر -كما نعرف -هو عمل العقل في المقارنات بين البديلت المتنوعة لِيُرَجّح بدلً على
بديل فتُعقلَ به القضايا.
والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره ،حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة.
أما التدبر فهو أيضا بحث عقلي .فل تنظر إلى واجهة الشياء ،بل إلى كلية الشياء من جميع
جهاتها بواجهة وجوانب وخلف ،وما ينتج عنها .وعلى سبيل المثال يقال :انظر خلف العبارة،
لتجد المعنى الخفي فيما يقال .والمثال في قول الحق {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا
َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة]26 :
وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى " فما فوقها " ل يعني العلى منها في القوة ،بل العلى منها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الضعف الذي أنكروه .لذلك ل يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط ،بل
لما خلف اللفظ ،ومعطياته.
صصِ ا ْل َقصَصَ َلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ { أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج؛ لعلهم يؤمنون ,وهذه
} فَا ْق ُ
فائدة القصص.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك } :سَآءَ مَثَلً ا ْل َقوْمُ الّذِينَ{ ...
()1118 /
والحق قال فيهم من قبل :إنهم كذبوا بآياتنا ،وضرب لهم المثل بابن باعوراء وكان مشهورا في
أيامهم ،لكنهم فاقوا ابن باعوراء لنه كان فردا وهم جماعة؛ لذلك ل تقل إن في المسألة تكرارا؛
لن المثل من قبل ما كان على فرد واحد ،أوتي آيات ال فانسلخ منها ،ولكنهم كانوا جماعة .لذلك
فانسلخهم عن المنهج يجعل موقفهم أشد سوءا { .سَآءَ مَثَلً ا ْل َقوْمُ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا }
و " ساء " أي قَبُح ،وحين نقول :ساء فلن؛ أي قبح أمره ،ولكن أي أمر من أموره هو القبيح؟
فنقول :ساء صحةً أي صار مريضا أو ساء حالً أي صار فقيرا ،أو ساء خلقا أي صار شرسا،
وأنت حين تقول :ساء ،فهذا السوء عام له جوانب متعددة ،ويقتضي المر التمييز.
و " ساء مثلً " أي ساء من جهة المثل ،والمثل في ذاته ل يسوء؛ لن ال تعالى يضرب المثل لنا.
والمثل إنما يجيء ليبين ويشرح ويوضح ،والمعنى هنا :ساء مثلً حال القوم .أو القوم أنفسهم هم
الذين ساءوا .لنهم حين كذبوا باليات ظلموا أنفسهم ،فالتكذيب منهم لم يعرقل منهج ال في
الرض ،ولم يعرقلوا بالتكذيب شيئا في كون ال تعالى ،فالكون بنظامه ونسقه يسير بإرادته
سبحانه وآيات الكون سائرة .إذن كان تكذيبهم بآيات لن يضير أبدا في أي شيء .والخيبة إنما تقع
عليهم .وإن كان التكذيب في اليات المعجزات فقد بقي ذكر المعجزات إلى الن .وهم الذين
خابوا ،وإن كانوا قد كذبوا بآيات المنهج فهم أيضا الذين خسروا ولم يصب اليات العجازية أو
القرآنية أي شيء .وهم قد ظلموا أنفسهم ومثلهم في ذلك مثل المريض الذي لم يسمع كلم الطبيب
فإنه يسيء إلى نفسه ولن يضر الطبيب شيء ،وال سبحانه قد أعطانا المنهج لتستقيم به حركة
الحياة ،فمن يأخذه ينفع نفسه ،ومن ل يأخذه لن يضر ال شيئا.
هم إذن ظلموا أنفسهم ،ومن يظلم نفسه كان هو أول عدو لها ولن يضر ال شيئا ،ول الرسول،
سهُمْ كَانُواْ يَظِْلمُونَ } [العراف]177 :
ول المجتمع...{ .وَأَنفُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين تجد معمولً تقدم على عامله -قاعدة نحوية -فعلم أن هناك ما يسمى بالقصر في علم
البلغة ،وقد نقول " :يظلمون أنفسهم " ويصح أن تعطف قائلً :ويظلمون الناس .ولكن حين
نقول :أنفسهم يظلمون ،فمعنى ذلك أنه ل يتعدى ظلمهم أنفسهم ،ويكون الكلم فيه قصر
وتخصيص ،مثلما نقول " :ل المر من قبل ومن بعد " ،أي أن المر ل يتعدى إلى غيره أبدا.
ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك { :مَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ} ...
()1119 /
مَنْ َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَنْ ُيضِْللْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ()178
وهذه الية هي الوحيدة التي جاء فيها سبحانه وتعالى { :ا ْل ُمهْتَدِي } -بالياء -بينما جاء المولى
سبحانه وتعالى بكلمة " المهتد " -من غير ياء -في آيات متعددة عدا هذه الية:
واقرأ قوله تعالىَ {:ومَن َي ْهدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِ[} ...السراء]97 :
سقُونَ }[الحديد]26 :
ويقول الحقَ ... {:فمِ ْنهُمْ ّمهْتَ ٍد َوكَثِيرٌ مّ ْنهُمْ فَا ِ
وكذلك تأتي الكلمة بدون " ياء " في قوله سبحانه... {:مَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَ ِد َومَن ُيضِْللْ فَلَن تَجِدَ
لَ ُه وَلِيّا مّرْشِدا }[الكهف]17 :
والمعركة الخاصة بقضية الهداية والضلل قائمة من قديم ،ول تزال أيضا ذيول هذه المعركة
موجودة إلى الن ،وأوضحنا هذه القضية من قبل ولكننا نكررها للتأكيد ولتستقر في الذهان ،لن
هناك دائما من يقول :إذا كان ال هو الهادي والمضل ،فلماذا يعذبني إن ضللت؟ .وشاع هذا
السؤال وأخذه المستشرقون والفلسفة ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة .ونقول
لكل مجادل :لماذا قصرت العتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا ل تذكر
الثواب إن أحسنت وآمنت؟ .إن اقتصارك على الولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي
جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر .ول يقول ذلك إل المسرفون على
أنفسهم.
وضرَبْنا من قَ ْبلُ أمثلةً كثيرة .لنفرق في هذه المسائل بين المختلفين؛ لن الجهة عندهم منفكة ,وهم
قد ناقشوا مسألة " خلق أفعال العباد " وتساءلوا :مَنْ خلق هذه الفعال؟ هل خلقها ال أم أن العبد
يخلق أفعاله؟.
ونسأل :ما هو الفعل؟ .إنه توجيه طاقة لحداث حدث؛ فطاقة اليد أنها تعمل أيّ عمل تريده منها؛
قد تضرب بها إنسانا أو تحمل بها إنسانا واقعا على الرض ،أو تربت بها على اليتيم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن ففي اليد طاقة تصلح لن تفعل الخير وتفعل الشر ،وأنت لحظة أن تضرب إنسانا؛ فأي عضلة
تحركها حين ترتفع اليد لتضرب؟ .إنك بمجرد رغبتك في أن تضرب؛ تضرب؛ عكس النسان
اللي حين يرفع شيئا ،فله أجزاء وأزرار تعمل .وكلها آلت.
وأنت حين تربت على كتف يتيم ،ما هي العضاء والجهزة التي تحركها لتعمل هذا العمل؟ .إذن
فال هو الذي خلق فيك النفعال للفعل .فإن نظرت إلى ذلك ،فكل فعل من ال ،ولكن توجيه
الجارحة إلى الفعل هو محل التكليف.
إذن فأنت تحاسب لنك فعلت ،ل لنك خلقت؛ لن خالق الفعال هو ال سبحانه وتعالى ،وأنت
تفعل بمجرد الرادة والختيار ،مثل اللسان فيه طاقة مخلوقة لبيان ما في النفس؛ إن أردت أن
تقول بها " ل إله إل ال " صلحت ،وصلحت كذلك عند الملحد أن يقول -والعياذ بال -ل يوجد
إله .واللسان لم يعص في هذه ول في تلك.
إذن فالذي خلق قدرة الجارحة على الفعل هو ال .وأنت توجه الجارحة ،إذن فكل الفعال مخلوقة
ل ،لكن توجيه الطاقة للفعل بالميل والختيار إنما يكون من العبد .والحق سبحانه وتعالى يهدي
الجميع بالمنهج ،ومن يقبل عليه بنيّة اليمان ،يعينه على ذلك ،ولذلك ل يصح أن نختلف في
مسألة مثل هذه ،وأن نسأل من خلق الفعال ،بل علينا أن نحدد الفعال وكيف توجد ،وما دور
النسان فيها؛ لننا نعلم أن ال قد يسلب طاقة الفعل على الحداث ،مثل من يريد أن يؤذي إنسانا
بيده لكنه يصاب بشلل فل يقدر أن يرفع يده .ولو كان هو الذي يخلق لرفع يده وآذى بها من
أراد ،لكنه ل يخلق الطاقة الصانعة للفعل.
وعلى ذلك تكون الهدايةُ نوعين :هداية دللة ،وهي للجميع؛ للمؤمن والكافر؛ لن الحق لم يدل
المؤمن فقط ،بل يدل المؤمن والكافر على اليمان به ،فمن ُيقْبل على اليمان به؛ فإن الحق تبارك
وتعالى يجد فيه أهلً للمعونة .فيأخذ بيده ،ويعينه ،ويجعل اليمان خفيفا على قلبه ،ويعطي له
طاقة لفعل الخير ،ويشرح له صدره وييسر له آمره :وسبحانه القائل {:وَا ّتقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ
اللّهُ[} ...البقرة]282 :
ويقول سبحانه وتعالىَ ...} :ومَن ُيضِْللْ فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ الْخَاسِرُونَ { [العراف]178 :
فإذا كان ال قد عمّم حكما ثم خصّصه ،فالتخصيص هو الذي يحكم التعميم.
ويقول ربنا عز وجل :إن من شاء هدايته فهو سبحانه وتعالى يعطيه الهداية ،ومن شاء له الضلل
زاده ضللً ،وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي وهذه معونة من ال ،والكافر ل يهتدي وكذلك
الظالم ،والفاسق؛ لنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لختياره ،وهكذا يمنع سبحانه وتعالى عنهم
هداية المعونة .ونقرأ في القرآن الكريم ما يوضح هذه المسألة ،فهو سبحانه يقول {:وََأمّا َثمُودُ
َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْتَحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا[} ...فصلت]17 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والهداية التي كانت لقوم ثمود إنما هي هداية الدللة ،وليست هداية المعونة.
ويقول سبحانه {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ْقوَاهُمْ }[محمد]17 :
أي أنه سبحانه قد زاد من اختاروا الهداية ،بالمعونة وجعل بينهم وبين النار وقاية ،والحق سبحانه
ك لَ َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ[} ...القصص]56 :
وتعالى يقول لرسوله {:إِ ّن َ
أي أنك يا محمد لن تعين أحدا على الطاعة لن هذا أمر يملكه ربك.
ويقول سبحانه لرسوله... {:وَإِ ّنكَ لَ َت ْهدِي إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى]52 :
أي أنك يا محمد تهدي هدايةَ الدّللة بالمنهج الذي أنزله ال إليك.
إذن إذا رأيت فعلً أو حدثا مُثبتا لواحد ومنفياّ عنه ..فاعلم أن الجهة منفكة ،والكلم هنا لحكيم
عليم .ولماذا يقول الحق سبحانه } :مَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَن ُيضِْللْ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
{ [العراف]178 :
لن الحق سبحانه وتعالى حين ينصرف عن معونة عبده ،فعلى العبد أن يواجه حركة الحياة وحده
بدون مدد من خالقه .ويعيش وحالته كرب ،سواء كان في يسر مادي أو في عسر .هذا إن اعتبر
أن الدنيا هي كل شيء ،فإذا أضيف إلى ذلك غفلته عن أن الدنيا معبر للخرة ،فالخسارة تكون
كبيرة حقا.
جهَنّمَ كَثِيرا{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وََلقَدْ ذَرَأْنَا لِ َ
()1120 /
ن وَالْإِنْسِ َل ُهمْ قُلُوبٌ لَا َيفْ َقهُونَ ِبهَا وََلهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُ ْبصِرُونَ ِبهَا وََلهُمْ
جهَنّمَ كَثِيرًا مِنَ ا ْلجِ ّ
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ
ضلّ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ ()179
س َمعُونَ ِبهَا أُولَ ِئكَ كَالْأَ ْنعَامِ َبلْ ُهمْ َأ َ
َآذَانٌ لَا يَ ْ
وذرأ ،بمعنى بث ونشر ،وقد قال الحق سبحانه وتعالى في أول سورة النساء { :وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا ِرجَالً
كَثِيرا وَنِسَآءً }
كما يقول الحق أيضاَ { :يذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ }
ن وَالِنْسِ[ } ...العراف:
جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ ا ْلجِ ّ
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى { :وََلقَدْ ذَرَأْنَا لِ َ
]179
ونعرف أن في الكون أشياء عابدة بطبيعتها وهي كل ما عدا النس والجن؛ لن كل منهما في
سلك الختيار ،وهم من يقول عنهم ربنا في سورة الرحمن { :سَ َنفْرُغُ َلكُمْ أَيّهَ ال ّثقَلَنِ }
وذرأنا معناها بثثنا ونشرنا وكثّرنا ،وكلمة كثير ل تعني أن المقابل قليل ،فقد يكون الشيء كثيرا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سجُدُ َلهُ مَن فِي
ومقابله أيضا كثير ،والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ
ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآبّ[} ...الحج]18 :
س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ
شمْ ُ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ
ال ّ
إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد ل سبحانه وتسبحه ،ولكن المر انقسم عند
حقّ عَلَيْهِ ا ْلعَذَابُ} ...
س َوكَثِيرٌ َ
النسان فقط ،حيث يقول الحق في ذات اليةَ {:وكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
[الحج]18 :
أي هناك كثير يسجدون ويخضعون ل .ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب.
ن وَالِنْسِ }
جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ ا ْلجِ ّ
وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول { :وََلقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ
فقد يثور في الذهان سؤال هو:
هل أنت خالقهم يا رب لجهنم ،ماذا تستطيعون إذن؟ ول شيء في قدرتهم مادمت قد خلقتهم لذلك؟
ونقول :ل .ولنلفت النظار إلى أن في اللغة ما يسمى " لم العاقبة " ،وهو ما يؤول إليه المر
بصورة تختلف عنا كنت تقصده وتريده؛ لن القصد في الخلق هو العبادة مصداقا لقوله الحق
ن وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْ ُبدُونِ }[الذاريات]56 :
تبارك وتعالىَ {:ومَا خََلقْتُ ا ْلجِ ّ
ومعنى العبادة طاعة المر ،والكف عن المنهي عنه ،والمأمور صالح أن يفعل وأل يفعل ،فالعبادة
-إذن -تستدعي وجود طائع ووجود عاصٍ ،وأضرب هذا المثل ول المثل العلى ومنزه
سبحانه وتعالى :يأتي لك من يروي لمحة من سيرة إنسان ويقول لك :لماذا يقف منك هذا الموقف
العدائي ،أليس هو الذي أخذته معك لتوظفه؟ فترد عليه " :زرعته ليقلعني " .هل كان وقت مجيئك
به كنت تريده أن يقلعك؟ ل .ولكن النتيجة والنهاية صارت هكذا.
والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة أو النار ،لكنه عز وجل خلقهم ليعبدوه ،فمنهم من
آمن وأصلح فدخل الجنة ،ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه " لم العاقبة " ،أي ما صار
خفْتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ
إليه غير مرادك منه ،ومثال ذلك حينما قال ال سبحانه لم موسى {:فَإِذَا ِ
عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ
ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ * فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ
وَلَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
عَ ُدوّا} ...
[القصص]8-7 :
ك لَ َتقْتُلُوهُ
هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا؟ ل ،لن زوجة فرعون قالت {:قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََل َ
عَسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا[} ...القصص]9 :
فقد كانت علة اللتقاط -إذن -هي أن يكون قرة عين ،لكنه صار عدوا في النهاية ،وهذا اسمه
-كما قلت -لم العاقبة.
وهكذا ل تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والنس النار ،في قوله الحق } :وََلقَدْ ذَرَأْنَا
جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ الْجِنّ وَالِنْسِ {
لِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن علة الخلق في الصل هي العبادة ،والعبادة تقتضي طائعا وعاصيا ،فالذي يطيع يدخل الجنة،
والذي يعصي يدخل النار ،ول المثل العلى ،أذكركم بالمثل الذي ضربته من قبل حين يسأل
وزير التعليم مدير إحدى المدارس أو عميد كلية ما عن حال الدراسة والطلبة فيقول العميد أو
المدير :إننا نعلم جيدا من هم أهل للرسوب ومن هم أهل للنجاح وإن شئت أقول لك عليهم
وأحددهم .لم يقل العميد أو المدير لنه يتحكم في إجابات الطلبة ،ولكنه علم من تصرفاتهم ما
جهَنّمَ
يؤولون إليه ،والعلم صفة انكشاف ل صفة تأثير .وعلى ذلك فإن قوله تعالى } :وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ
كَثِيرا مّنَ الْجِنّ وَالِنْسِ {
يعني أننا نشرنا وبثثنا لجهنم كثيرا من الجن والنس ،وهم من يعرضون عن منهجنا ،ثم يأتي
بالحيثيات لذلك وهي أولَ } :ل ُهمْ قُلُوبٌ لّ َي ْفقَهُونَ ِبهَا[ { ...العراف]179 :
ن لّ يُ ْبصِرُونَ ِبهَا[ { ...العراف]179 :
وثانيا } :وََلهُمْ أَعْيُ ٌ
س َمعُونَ ِبهَآ { [العراف]179 :
ن لّ يَ ْ
وثالثا } :وََلهُمْ آذَا ٌ
ولقائل أن يقول :إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث ل تفقه فما ذنبهم هم؟ .ومادامت عيونهم مخلوقة
بحيث ل ترى فما ذنبهم؟ وكذلك مادامت الذان مخلوقة بحيث ل تسمع فلماذا يعاقبون؟ .ونقول:
ل ،لم يخلقهم ال للعذاب ،لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم ،وصارت عقولهم ل تفكر
في شيء غيره وتخطط للحصول على الشهوة ،وكذلك العيون ل ترى إل ما يستهويها ،وكذلك
الذان .وكل منهم يرى غير مراد الرؤية ،ويسمع غير مراد السمع.
والفرق بين فقه القلب ورؤية العين وسماع الذان ..أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها
الدراكات .ونعلم أن الدراكات تأتي بواسطة الحواس الخمس ،فنحن نعرف أن الحرير ناعم
باللمس ،ونعرف أن المسك رائحته طيبة بالشم ،ونعلم أن العسل حلو الطعم بالذوق.
إذن لكل وسيلة إدراك ،وهي من المحسَات ،وبعد أن تتكون المحسَات يمتلك النسان خميرة علمية
في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلما بها.
وكلنا يعرف أن النار محرقة؛ لن النسان أول ما يلمس النار تلسعه ،فيعرف أن النار محرقة،
ويتحول الدراك إلى إحساس ثم إلى معنى .إذن فالمعلومات وسائلها إلى النفس النسانية وملكاتها
الحواس الظاهرة ،وهناك حواس أخرى غير ظاهرة مثل قياس وزن الشياء بالحمل .وقد انتبه
العلماء لذلك واكتشفوا حاسة اسمها حاسة العضل؛ لنك حين تحمل شيئا قد تجهد العضلة أكثر إن
كان الحمل ثقيلً.
وحينما ترى واحدا من قريب وواحدا من بعيد ،فهذه اسمها حاسة البعد ،وكذلك حاسة البين وهي
التي تميز بها سمُك القماش مثلً.
كل الحواس -إذن -تربي المعاني عند النسان وحين تربي المعاني في النفس النسانية تتكون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القضايا التي تستقر في القلب.
جكُم مّن ُبطُونِ
ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال تعالى {:وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل]78 :
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ َت ْ
سمْ َع وَالَبْصَا َر وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ
ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
ب لّ َيفْ َقهُونَ ِبهَا {
ونعود إلى قول الحق تبارك وتعالىَ } :لهُمْ قُلُو ٌ
والفقه هو الفهم ويصير الفهم قضية مرجحة انتهى إليها القتناع من المرائي والمحسّات ،لكنّ
هؤلء الكافرين ل يرون بأعينهم إلى هواهم ،وكذلك ل تسمع آذانهم إل ما يروق لهم ،فل
يستمعون إلى الهدى ،ول يلتفتون إلى اليات التي يستدلون بها على الخالق فتعيش قلوبهم بل فقه،
فهم إذن لهم قلوب وأعين وآذان بدليل أنهم فقهوا بها وسمعوا بها ورأوا بها الشياء التي تروق
لنحرافهم.
ضلّ ُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ
ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلء فيقولُ } :أوْلَـا ِئكَ كَالَنْعَامِ َبلْ هُمْ َأ َ
{
وهنا وقفة لثارة سؤال هو :ما ذنب النعام التي تُشبه بها الكفار؟ إن النعام غير مكلفة وليس لي
منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات ال أو آذان تسمع بها آيات ال .هي فقط ترى المْرعَى فتذهب
إليه ،وترى الذئب فتفر منه ،وتتعود على أصوات تتحرك بها ،وكافة الحيوانات تحيا بآلية
الغريزة ،ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها ال
فيه ،ل بعقله.
والنسان منا ل يبتعد عن الضرر إل حين يجربه ويجد فيه ضررا .لكن الحيوان يبتعد عن الضر
من غير تجربة بل بالغريزة ،لن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلت،
وفطره ال على غريزة تُسَيّر ُه إلى مقومات صالحة ،ومثال ذلك :أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما،
ويعطي ال له لونا يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه.
ومثال آخر :نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع النسان ،ولبد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه
النسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي
في النسان ،حيث تصير في بعض الحيان غاية في ذاتها ،بجانب أنها وسيلة للنسل .ولذلك نجد
كثيرا من ظواهر الحياة المتعلقة بالنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى{:
سوْ َءةَ َأخِيهِ[} ...المائدة]31 :
حثُ فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَ ْيفَ ُيوَارِي َ
فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَ ْب َ
إذن فالغراب َمهْ ِديّ بغريزته إلى كل متطلباته ،ولذلك نجد من يقول :كيف نشبه الضال بالنعام؟
نقول :إن الضال يختلف عن النعام في أنه يملك الختيار وقد رفع فوق النعام ،لكنه وضع نفسه
موضع النعام حين لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل.
وبذلك صار أضل من النعام ،وكلمة " أضل " تبين لنا أن النعام ليست ضالة ،لنها محكومة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالغريزة ل اختيار لها في شيء .لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والنس ،ل يعرفون
شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ
ربهم ،بينما النعام ،والجمادات والنباتات تعرف ربها لن الحق يقول {:وَإِن مّن َ
ح ُهمْ[} ...السراء]44 :
حمْ ِدهِ وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ تَسْبِي َ
بِ َ
إذن فالنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده .وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالىُ {:كلّ قَدْ عَلِمَ
حهُ[} ...النور]41 :
صَلَتَ ُه وَتَسْبِي َ
وعلى ذلك فكل الجماد -إذن -بعلم صلته وتسبيحه.
ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بال حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط
إلى غايات وأهداف سامية .والعارف بال من هؤلء الصالحين يستقبل الحسن منه في العبادة
بالضحك ،أما الحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله " بالتكشير " ،وقال واحد منهم لخر :أتشتاق
إلى ربك؟ فرد عليه :ل.
تساءل الخر :كيف تقول ذلك؟.
ضلّ ُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ
قال له :نعم .إنما ُيشْتَاقٌ إلى غائبُ ...} .أوْلَـا ِئكَ كَالَ ْنعَامِ َبلْ هُمْ َأ َ
{ [العراف]179 :
ول تظنن أن الضلل لعدم وجود منهج ،أو لعدم مُ َذكّر ،أو لعدم وجود مُنْذ ٍر أو مُ َبشّر .بل هي
غفلة منهم ،فالمور واضحة أمامهم ،لكنهم يهملونها و َيغُفلون عنها.
حسْنَىا{ ...
سمَآءُ الْ ُ
ويقول الحق بعد ذلك } :وَللّ ِه الَ ْ
()1121 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءُ ا ْلحُسْنَىا فَادْعُوهُ ِبهَا }
اتسعت { .وَللّهِ الَ ْ
والحسنى ..تأنيث لكلمة " الحسن " اسم تفضيل ،وهي السماء الحسنى في صلحية اللوهية لها،
وصلحيتها لللوهية .وحين تقول عنه سبحانه :إنه " رحيم " ،فهذا أمر أحسن عندي وعندك
لنني أنظر إلى رحمته لي ،وأنت تنظر إلى رحمته لك .وحين تقول " :غفار " فأنت وأنا وكل من
يسمعها تعود عليه.
وحين تقول " :قهّار " وأنت مذنب ستخاف ،وهي صفة حسنى بالنسبة للله؛ لن الله لبد أن
تكون له صفات جمال وصفاتُ جلل ،فصفات الجمال لمن أطاع ،وصفات الجلل لمن عصى.
ولذلك ل تأخذ النعم بمدلولها عندك ،بل خذ النعم بمرادات ال تعالى فيها.
وساعة يتكلم الحق سبحانه وتعالى قائل {:سَ َنفْ ُرغُ َلكُمْ أَيّهَ ال ّثقَلَنِ*فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ*يا َمعْشَرَ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ فَانفُذُواْ لَ تَنفُذُونَ ِإلّ
طعْ ُتمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ َأقْطَارِ ال ّ
الْجِنّ وَالِنسِ إِنِ اسْتَ َ
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ*فَبَِأيّ آلءِ
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
بِسُ ْلطَانٍ*فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ*يُرْ َ
رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن]36-31 :
فهل إرسال الشواظ من النار والنحاس نعمة يقول بعدها { :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }؟
نقول :نعم ،هي نعمة كبيرة ،لنه سبحانه وتعالى ينبهنا قبل أن توجد النار ،أن النار قوية ،ويعطي
لك نعمة العظة والعتبار .وعظته وتنبيهه -إذن -قبل أن توجد النار نعمة كبرى ،وأيضا هي
نعمة بالنسبة للمقابل ،فحين يطيعه المؤمنون في الدنيا ويلزمون أنفسهم بمنهج ال ،فلهم ثواب حق
اللتزام ،والمقابل لهم الذين لم يلتزموا وأخذوا الخروج عن المنهج غاية ،يتوعدهم سبحانه
سمَآءُ الْحُسْنَىا فَادْعُوهُ ِبهَا }
بالعقاب ،وهذه نعمة كبرى { .وَللّ ِه الَ ْ
والحق سبحانه وتعالى عرفنا اسمه بالبلغ منه ،لننا قد نعرف مسماه من القوى القادرة وهي التي
تعرف بالعقل ،لكن العقل ل يقدر أن يعرف السم .وسبق أن قلت :لنفترض أن أناسا يجلسون في
حجرة ثم طرق الباب .هنا يجمع الكل على أن طارقا بالباب ،لكن حين دخلوا في التصور
اختلفوا ،فواحد يقول :إن الطارق رجل ،فيرد الخر :ل إنها امرأة لن نقرتها خفيفة ،ويقول ثالث:
هذه النقرة على الباب تأتي من أعله وهي دليل على أن الطارق ضخم ،وهو نذير لنه يطرق
بشدة ،ويختلف تصور كل الحضور عن الطارق ،ول أحد يعرف اسمه.
إذن حين تريد أن تعرف من الطارق ،فأنت تسأله من أنت؟ فيقول لك " اسمه ".
إذن فإن السم ل يدرك بالعقل .ومن خلق الخلق كله قوي ،قادر ،حكيم ،عليم ،لن عملية الخلق
تقتضي كل هذا .أما اسم ال .فهذه مسألة ل يعرفها العقل وتحتاج إلى توقيف .إذن فأسماء ال
تبارك وتعالى توقيفية ،فحين يقول لنا :هذه أسمائي فإننا ندعوه بها ،وما لم يقل لنا عليه ل دعوة
لنا به ،ولذلك يقول تعالى } :فَادْعُوهُ ِبهَا {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا أنت نقلت هذا إلى غيره .فأنت تدعو بالسماء الحسنى سواه ،مثلً كذاب اليمامة مسيلمة سمى
نفسه الرحمان ،وبذلك ألحد في اسم ال حيث نقل أحد أسماء ربنا إلى ذاته ،ومثله فعل غيره ،ألم
يسموا " اللت " من ال؟ .ألم يسموا " العزّى " من العزيز؟ .ألم يسموا " مناة " من المنان؟ .كل
هؤلء ألحدوا في أسماء ال التي ل ندعو غيره بها ،ولذلك ورد عنه صلى ال عليه وسلم قوله في
ي قضاؤك
دعآئه " :اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك ،عدل ف ّ
أسألك بكل اسم هو لك ،سميت به نفسك ،أو أنزلته في كتابك ،أو علمته أحدا من خلقك ،أو
استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلء همي وذهاب
حزني وغمي "
إذن فهذه السماء وضعها ربنا لنفسه ،لنها ل تعرف بالعقل .أما إذا نظرت إلى الوصاف
المبدعة للخلق فأنت تتعرف على هذه الوصاف؛ لنه تعالى خلق الكون بحكمة وتدبير وقدرة.
وأضرب هذا المثل -ول المثل العلى -نحن نؤسس مصانع كثيرة وكبيرة لتصنع المصابيح،
فنصنع زجاجا ونفرغه من الهواء ،ونضع داخله أسلكا تتحمل ذبذبة الكهرباء ،وبعد استخدام هذه
المصابيح لفترة تفسد ،بينما الشمس تضيء الكون كل هذا العمر ،من بدء الخلق ،ول تحتاج منا
إلى قطعة غيار.
وحين نقول هو " :حكيم " ،نقولها ونرى أثر ذلك في حركة الكواكب التي تسير منسجمة ،وكل
كوكب يدور في فلكه ول يصطدم بآخر ،وهذا دليل على أن الكواكب قد خلقت بحكمة.
حسْنَىا فَادْعُوهُ
سمَآءُ الْ ُ
وينبهنا الحق سبحانه وتعالى أن ندعوه بالسماء الحسنى في قوله } :وَللّ ِه الَ ْ
عدْم.
عدَم ،وأمد من ُ
ِبهَا { لنه يريد من خلقه دائما أن يذكروه؛ لنه هو الرب الذي خلق من َ
وصان الخلق بقيوميتة ،وحين تأتي لك حاجة وجب عليك أن تذكر أسماء ال الحسنى وتنادي ال
بها ،وحين تريد أن تتقرب إلى ال ل تناديه إل بالسم الذي وضعه لنفسه وهو " ال " ،لن هذا
هو اسم علم على واجب الوجود ،وأسماء ال الحسنى كلها صفات وصلت إلى مرتبة السماء،
وهناك أسماء تدل على مجموع الصفات.
ول المثل العلى :أنت تقول " :زيد " فيعرف السامع أن هذا اسم علم على شخص اسمه زيد ،ثم
له صفات أخرى ،كأن يكون تاجرا ،أو عالما متفقها في العلم ،أو مهندسا .لكن السم العلم هو زيد
وهو الذي ل يشترك معه أحد من معارفك فيه وهو زيد ،لكن الصفات الخرى قد يشترك معه
فيها غيره.
والسماء ل نوعان ،اسم يدل على ذات ال ،الذات المجردة عن أي شيء وهو ال ،ولكن هناك
صفات ل مثل الرحمن والرحيم والملك والقدوس والسلم والمؤمن والمهيمن ،وهذه صفات ارتقت
في السمو والعلو لنه ل أعلى منها ،حتى أصبحت إذا أطلقت إطلق الكمال العلى ل تنصرف
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إل ل .فصارت أسماء.
قد نقول فلن غني ،وفلن كريم ،وفلن حكيم ،لكن الغنى على إطلقه هو ل تعالى.
والسماء الحسنى ناشئة من صفات مبالغة في العلو فيها ،لنه سبحانه الكمل فيها وهي في
الصل صفات لها متعلقات فعلية ،وهذه نوعان اثنان :نوع يطلق على ال منها اسم ومقابله ،ونوع
يطلق عليه السم ول يطلق عليه المقابل ،ونأتي بصفة شبيهة بالشتقاق ،فنقول " :غني " ،
ونقول " :مغني " فهو غني في صفة ذاته قبل أن يوجد من يُغنيه ،ومغني وجدت بعد وجود من
يُغنيه من عباده ،وسبحانه حي في ذاته ،ومحيي لغيره ،والحياء صفة فعل في الغير .ولبد لها
من مقابل ،فنقول :محيي ومميت .ولم نقل حي ومقابله ،الغير .إذن فالسم الذي ترى له مقابلً هو
صفات الفعل ،أما صفات الذات فهي التي ل يوجد لها المقابل .ويلحدون في أسماء ال أي يُميلونها
إلى غير ال وينقلها الواحد منهم لغير ال أو يأتي باسِم للغير ويطلقه على ال ،أو يطلق اسما ليس
له معنى أو ل يُفهَم منه أي معنى على ال .إذن " اللحاد " يأتي في ثلثة أشياء :إما أن ينقل أحد
أسماء ال إلى غير ال ،أو يأتي باسم للغير ويطلقه على ال ،أو يطلق اسما ل من غير أن يكون
سمَآ ِئهِ سَ ُيجْ َزوْنَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ {
قد أنزله ال توقيفيا } .وَذَرُواْ الّذِينَ ُيلْحِدُونَ فِي أَ ْ
ونعلم أن " العمل " هو اسم للحدث من أي جارحة؛ فنطق اللسان عمل ،وشم النف عمل ،ونعلم
أن هناك ما يسمى بـ[قول وفعل] ،والفعل عمل الجوارح ما عدا اللسان؛ والقول عمل اللسان،
والثنان يطلق عليهما عمل ،ولذلك يقول الحق :تبارك وتعالى في سورة الصف:
()1122 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق وَبِهِ َي ْعدِلُونَ ()181
َو ِممّنْ خََلقْنَا ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِا ْلحَ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن صارت بلد مسلمة غارقة في الفسق فقد يكون فيها واحد يجمع كل هذه الصفات الكريمة
الهادية إلى الحق لتبقى شريعة ال مصونة بالسلوكيين التابعين لمنهج ال.
إذن فالحق سبحانه وتعالى ترك للفساد أن يصنع الشر ،ولسائل أن يسأل :ما لزوم هذا الشر في
كون خلقه ال على هيئة محكمة؟ نقول! لول أن الناس يضارون بالشر؛ لما تنبهوا إلى حلوة
الخير ،ولو أن النسان لم يصب من أصحاب الباطل بسوء؛ ما تحمس للحق أحدٌ ،ول عرف
الناسُ ضرورة أن يتأصل الحق في الوجود ،فللشر -إذن -رسالته في الوجود .وهو أن يهيج
إلى الخير ،فكما ذرأ ال لجهنم كثيرا من الجن والنس؛ أوضح سبحانه وتعالى في قولهَ } :و ِممّنْ
ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ { في الحكم ،عدلً في القمة؛ وهو أل يشركوا بال شيئا،لن
حّخََلقْنَآ ُأمّةٌ َي ْهدُونَ بِالْ َ
أول مخالفة لقضية العدل هي مخالفة الشرك وهو ظلم عظيم ،فالشرك والعياذ بال ينقل المر من
مستحقه إلى غير مستحقه ،وكذلك تحريم ما أحل ال ،أو حل ما حرم ال ،وكل ذلك ظلم ،وكذلك
عدم حفظ التوازن في الحقوق بين الناس ،فإن لم يحصن العدل بحفظ الحقوق بين الناس من حاكم
وولي ومسلط؛ سنجد كل إنسان وهو يضن بجهده في الحياة يكتفي بأن يصنع على قدر حاجته
بحيث ل يترك للظالم أن يأخذ منه شيئا ،فل يتحرك في الحياة إل حركة محدودة ،ول يعمل إل
بقدر ما يكفيه فقط ،فإذا ما حدث ذلك؛ فلن يجد الضعاف الذين ل يقدرون على الحركة النتاجية
أي فائض ليعيشوا به.
إذن أراد ال أن يضمن بالعدل عَرَق وتعب كل واحد .فأوضح له أن ما تكسبه من حل هو ملك
لكَ .لكِنْ ل حق فيه ،وأنت لك الباقي ،حتى يجد الضعيف الذي ل يقدر على حركة الحياة من
يقيته ،ولذلك يحذرك المنهج اليماني بقوله :إياك أن تستكثر أن تدفع للضعيف ،لن ُقوّتَك التي
استعملتها في تحصيل هذا المال إنما هي عرض ل يدوم لك ،فإن أخذنا منك وأنت قويّ قادر على
الحركة ،سنأخذ لك حينما تكون عاجزا ل تقدر على الحركة ،وذلك هو التأمين والعدالة.
وبالنسبة للمة في تلك الية } َو ِممّنْ خََلقْنَآ ُأمّةٌ َي ْهدُونَ بِا ْلحَقّ وَبِهِ َيعْدِلُونَ {
فقد جاء في الثار أن المراد بالمة في هذه الية المة المحمدية ،قال قتادة :بلغني " أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم كان يقول :إذا قرأ هذه الية :هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها "
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون "
ويخاطب النبي صلى ال عليه وسلم صحابته بقوله :هذه لكم ،أي في أمتكم ويؤكد ذلك قول ال
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ[} ...آل
سبحانه وتعالى {:كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ
عمران]110 :
وكلمة " للناس " هنا تفيد أن ال لم يجعل خيرية المة المحمدية وهي أمة الجابة للمؤمنين فقط،
ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ {
حّخَلقْنَآ ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ
بل جعل خيريتها للناس جميعا؛ مؤمنهم وكافرهمَ } .و ِممّنْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وذكر " أمة " لن خصال الخير ل يمكن أن تجتمع في إنسان واحد ،بل كل واحد يأخذ لمسة من
خير ،هذا فيه ذكاء ،وذاك فيه شجاعة ،وذاك عنده مال ،وذلك له خلق .فكأن المة المحمدية قد
وجد في أفرادها ما يجمع المواهب الصالحة للخلفة في الرض.
ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم ،لن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول
سبحانه } :وَالّذِينَ كَذّبُواْ{ ...
()1123 /
وهؤلء هم المقابلون للذين خلقهم ال أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ،واليات جمع آية ،وقلنا :إن
اليات التي في الكون ثلث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي
الطراف بتلك الدقة العظيمة ،وذلك الحْكام المتقن ،آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس
والقمر ،وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلغ عن ال ،وآيات قرآنية
تحمل منهج ال .والذين كذبوا بآيات ال الكونية ولم يعتبروا بها ،ولم يستنبطوا منها وجود إله
قوي قادر حكيم ،وكذبوا اليات المعجزات لصدق النبوة ،وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا
بها ،ولم يتمسكوا بها؛ هؤلء يلقون الحكم من ال فلن يدخلهم الحق النار فقط ،بل لهم عذاب أقرب
من ذلك في الدنيا ،لن المسألة لو أجلت كلها للخرة لستشرى بغي الظالم الذي ل يؤمن بالحياة
الخرة ،لكن من يؤمن بالخرة هو من سيحيا بأدب اليمان في الكون ،وتكون حركته جميلة
متوافقة مع المنهج .عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لبد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون
أثناء الحياة الدنيا ،وسبحانه وتعالى القائل {:وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ عَذَابا دُونَ ذَِلكَ[} ...الطور]47 :
أي أن لهم عذابا قبل الخرة.
ث لَ َيعَْلمُونَ
ج ُهمْ مّنْ حَ ْي ُ
ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا { :وَالّذِينَ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْ َتدْرِ ُ
}
وحين تقول :أنا استدرجت فلنا ،فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل ،مثل وكيل
النيابة حين يحقق مع المجرم ،ويحاصره بالسئلة من هنا ،ومن هناك ،إلى أن يقر ويعترف ،وهذا
هو الستدراج .و " الستدراج " من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية " السلّم " وهو وسيلة للنتقال
من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على النسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى
الدور الخامس مثل في عمارة ما ،ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفق الحركة العادية للنفس ،وهناك من يجعل علو الدرجة مثلً اثنى عشر سنتيمترا بحيث يستطيع
كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس ،وهذا يعني أننا نستدرج العلو
لنصل إليه أو ننزل منه.
وقد خصوا في الخرة الجنة بالدرجات العليا ،والنار بالدرجات السفلى.
ث لَ َيعَْلمُونَ } [العراف]182 :
جهُمْ مّنْ حَ ْي ُ
وهنا يقول الحق { :وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْ ِر ُ
أي نأخذهم درجة درجة ،ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه ،كما قال سبحانه من قبل{:
حَتّىا ِإذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ َأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَةً[} ...النعام]44 :
لن ال حين يريد أن يعاقب واحداَ على قدر جرمه في حق أخيه النسان في الدنيا يأخذه من أول
علِ {.فََلمّا نَسُواْ مَا
جرم؛ لن الخذة في هذه الحالة ستكون لينة ،لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من َ
شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً[} ...النعام]44 :
ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
وهكذا يكونُ الخذ أخذ عزيز مقتدر.
وحينَ يستدرج البشرُ ،فإن الطرف المستدرج له أيضا ذكاء ،ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ
منصوب له ،لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت.
ث لَ َيعَْلمُونَ }؛ لن البشر يعلمون طرق
جهُمْ } هي قوله { :مّنْ حَ ْي ُ
والعلة في قوله { :سَنَسْتَدْ ِر ُ
استدراج بعضهم لبعض.
ويقول الحق بعد ذلك { :وَُأمْلِي َلهُمْ إِنّ} ...
()1124 /
والملء هو المهال وهو التأخير ،أي أنه ل يأخذهم مرة واحدة ،فساعة يقوم الفاسد بالكثير من
الشر في المجتمع ،نجد أهل الخير وهم يزيدون من فعل الخيرات ،ونسمع دائما من يقول :لو لم
يكن هناك إيمان لكل الناسُ بعضهم بعضا ،فاليمان يُعطي السوة واليقين .والملء للظالم الكافر
ليس إهمالً له من المولى تعالى ،بلَ هو إمهال فقط ،ثم يأخذه ال أخذ عزيز مقتدر ،وهنا يوضح
الحق :إذا كنت سأستدرج وسأملي فاعلم أن كيدي متين .والكيد هو المكر ،والمكر أخذهم من
حيث ل يشعرون وهو عملية خفية تسوء الممكور به.
وهو تدبير خفي حتى ل يملك الممكور به ملكات الدفع .وإذا كان البشر يمكرون ويدبرون تدبيرا
يخفى على بعضهم ،فماذا حين يدبر ال للكافرين مكيدة أو مكرا؛ أيستطيع واحد أن يكشف من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك شيئا؟ .طبعا لن يستطيع أحد ذلك .هذا هو معنى { إِنّ كَ ْيدِي مَتِينٌ }؛ ومتين أي قوي ،والمتانة
مأخوذة من المتن وهو الظهر ،ونعرف أن الظهر مُكوّنٌ من عمود فقري وفقرات عظيمة ،تحيط
بها عضلت .فلو كان العمود الفقري من عظم فقط لكان أي حمل عليه يكسره .فشاءت تجلياتُ
رَبنا عز وجل واقتضت رحمتُه وقدرتُه أن يحاط هذا العظام بعضلتين كبيرتين ،وهما ما نسميه
في عرف الجزارين " الفلتو " لحماية الظهر وتقويته ووقايته.
وإذا نظرنا إلى كلمة " متين " ،نجد " المتن " هو الشيء العمودي في الشياء ،وفي العلم مثلً
ندرس الفقه وندرس النحو ،ويقال :هذا هو المتن في الفقه ،أي الكلم الموجز الذي يختزل العلم
في كلمات محددة ،والذكي هو من يستوعبه .وغالبا مع المتن الموجز شرحا للمتن ،ثم حاشية
للمتن.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :أوَلَمْ يَ َتفَكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبهِمْ} ...
()1125 /
َأوَلَمْ يَ َت َفكّرُوا مَا ِبصَاحِ ِبهِمْ مِنْ جِنّةٍ إِنْ ُهوَ ِإلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ()184
وهنا يُنَبّه الحقّ سبحانه وتعالى كلّ الخلق أن يتفكروا في أمر الرسول المبلغ الذي ينقلُ عن القوة
العليا مرادَها من الخلق .وأول ما يستحق التفكير فيه أن نعرف هل هذا النسان الذي يقول عنه
رسول صادق أو غير صادق؟ ولقد ثبت صدق رسول ال صلى ال عليه وسلم من قبل نزول
الرسالة عليه ،وجاءت الرسالة لتأخذ بيد الخلق إلى اليمان بال .لكنهم ل يريدون أن يسمعوا،
ليوجدوا لنفسهم مبررات بالنكوص عن المنهج ،فقال بعضهم اتهاما للرسول :إنه مجنون ،مثلما
قال بعضهم من قبل :إنه ساحر ،وكاهن ،وقالوا :شاعر ،ويرد ربنا على كل تلك القاويل.
ونتساءل :من هو المجنون؟.
نعلم أن المجنون هو من فقد التوازن الفكري في الختيار بين البدائل ،وحين يأخذ منه هذه القدرة
على التوازن الفكري ،يصبح غير أهل للتكليف؛ لن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا ول تفعل
كذا ،والمجنون ل يملك القدرة على هذا الترجيح.
والحق سبحانه وتعالى لم يكلف النسان إل حين يبلغ ويعقل؛ لنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة
عن أهله وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلحظ الطفل وهو صغير يختار له والدهُ أو والدتُه الملبس
والطعام ،وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقا يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لنه قد
صارت له ذاتية ،والذاتية -كما نعلم -توجد في النبات وفي الحيوان والنسان وذلك بمجرد أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يصير الفرد منها قادرا على إنجاب مثله ،سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو النسان.
أما إن كان النسان قد صارت له ذاتية في النجاب والنسل ،وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في
التفكير؛ فهنا يسقط عنه التكليف؛ لنه مكره بفقدان العقل.
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ ،والمجنون والمكره بمن هو أقوى منه ،وهذه
عدالة الجزاء من الحق ،وهكذا نجد أن التكليف ل يلزم إل من بلغ جسمه ونضج عقله ،وبهذا
يحرس رَبّنا الكون ِبقَيّومِيّتِه.
وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلت ،فكيف يقولون ذلك على سيدنا
محمد عليه الصلة والسلم وهو قد عاش بينهم ،ولم يكن قط فاقدا لميزان الختيار بين البديلت،
بل كانوا يعتبرونه الصادق المين ،وكانوا يحفظون عنده كل غالٍ نفيس لهم حتى وهم كافرون
به .وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم.
لقد قالوا ذلك على محمد ظلما له ،وب َغوْغَائِيّة ،وكل واحد يلقى اتهاما ليس له من الواقع نصيب؛
ظكُمْ ِبوَاحِ َدةٍ أَن َتقُومُواْ ِللّهِ
لذلك قال الحقَ تبارَك وتعالى لصحاب هذه التهاماتُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَعِ ُ
مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ[} ...سبأ]46 :
أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا :هل محمد عاقل أم مجنون؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته
أنّ محمدّا هو أكثر الناس أمانة ،وكان الجميع يسمونه المين ،حتى قبل أن يتصل به الوحي،
وليس من المعقول أن يضره الوحي ،أو أن يفقد بالوحي توازنه الخلقي ،لذلك قال الحق سبحانه
وتعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1126 /
وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى اليمان العلى ،ينتقل الجدل إلى
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }
التفكير ومسئوليتهَ { :أوَلَمْ يَ ْنظُرُواْ فِي مََلكُوتِ ال ّ
والتفكير هو إعمال العقل حتى ل يقولَنّ أحد :إن رسول ال مجنون ،لن مجرد النظر في الكون
يجعل النسان رائيا للسماء مرفوعة بل عمد ،والرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق.
ت وَالَ ْرضِ }
سمَاوَا ِ
{ َأوََلمْ يَنْظُرُواْ فِي مََلكُوتِ ال ّ
إذن فوقَنا سماء ،وهناك ما فوق السماء ،وتحتنا الرض ،وفيها ما تحت الرض ،وهناك بين
السسموات والرض .وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه " مُلْك " أما الخفي عنك الذي ل تقدر أن
تصل إليه بمعادلت تستخرج منها النتائج فاسمه " ملكوت ".
ت وَالَرْضِ[} ...النعام:
سمَاوَا ِ
ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيمَ {:وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
]75
فكلمة " ملكوت " معناها مبالغة في الملك ،مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة ،ورحموت أي الرحمة
سمَاوَاتِ
الشديدة ،وكلها صيغة " فعلوت " وهي صيغة المبالغةَ { .أوَلَمْ يَ ْنظُرُواْ فِي مََلكُوتِ ال ّ
شيْءٍ }
ض َومَا خََلقَ اللّهُ مِن َ
وَالَرْ ِ
ونحن نرى السماء والرض بوضوح ،ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والرض فقط ،بل
هناك أشياء دقيقة جدا ،بلغت من اللطف أنها ل تدرك بالنظر ،ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا
للخلق .وأنت قد ترى ساعة " بيج بن " الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم،
لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم ،وننبهر ونعجب بدقة
عمله وصنعته .فما بالنا بالخالق العظم الذي يعظم خلقه من السماوات والرض لنها فوق
إدراكات البشر ،وخلق أيضا مخلوقات دقيقة لطيفة ل تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر،
كالميكروب ،أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها ،حتى
الكائن الذي ل معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى
ليأكل ويمل معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دما.
إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السماوات والرض فقط ،لذلك يقول الحقَ { :ومَا خََلقَ اللّهُ
شيْ ٍء وَأَنْ عَسَى أَن َيكُونَ قَدِ اقْتَ َربَ َأجَُلهُمْ فَبَِأيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ }
مِن َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي من أول شيء يقال له شيء ،صار محكوما عليه وجوديا ،بأنك إن نظرت إليه ستجد الجهزة
التي نعطي له الحياة ،وتعينه ،حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن ،ول يقوى
عليها صاحب العقل .مثال ذلك :نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلزل هو الحمير التي نتهمها
بالغباء.
وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار ،سنجد اليمان
بضرورة وجود خالق حكيم .وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السموات
والرض وما خلق ال من كائنات قد ل تراها العين المجردة ،كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم
فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم.
إننا نعلم أن النسان جنس ،وأن له نوعين :نوع ذكورة ،ونوع أنوثة ،وبينهما جنس مشتبه نسميه
الخنثى ،والجناس لها أفراد متعددة .وكل واحد له خلق ،وكل واحد له موهبة ،وكل واحد له
مهمة .وساعة يطلب منا الحق :إياك أن تستصغر شيئا منك ضد فيرك ،وإياك أن تستكثر شيئا
منك لغيرك ،ويجب عليك أن تجعل كلمة " شيء " هذه هي المقياس ،ولذلك يقول لك الشرع :إنك
حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها ،بل قل هي ليست بشيء ذي بال .وإن ه ّم واحد بعمل سيئة فل
يقل :وماذا ستفعل لي سيئة واحدة؟ مستصغرا شأن هذه السيئة .وهذا نقول له :ل ،لن كلمة "
شيء " يجب أن تحكم الكون .إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحدا مثلً ضئيل التكوين ،ول
بسطة له في جسمه ،لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة ،وقد تجد إنسانا آخر متين التكوين وليست
عنده أية موهبة؛ لن ال قد يعطي الضئيل فكرا عميقا ،أو حيلة كبيرة ،أو موهبة خاصة في أي
شيء .فل تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان ،بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي
حدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ {
عنك في نفسك } .وَأَنْ عَسَى أَن َيكُونَ قَدِ اقْتَ َربَ َأجَُلهُمْ فَبَِأيّ َ
ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الجل؟ وللجابة عن التساؤل أقول :إنها هامة جدا؛ لننا مادمنا
أفرادا أي جنسين أو ثلثة أجناس ،وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الرض ،فعلينا أن نعلم أن الخليفة
في الرض جاء ليخلف من سبقوه ،وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة ،أو سنتين أو
خمسين عاما؛ لن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق -تبارك وتعالى -نفسه
ول يعلمه أحد؛ لن غاية المتساوي لبد أن تكون متساوية ،وعلى سبيل المثال :إن سألنا طلبة
كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا :لنيل إجازة الليسانس ،وسنجد منهم الطويل،
والقصير ،والبيض ،والسود ،والذكي والغبي ،والقوي والضعيف ،وهم ل يتفقون إل على دراسة
الحقوق ،وكذلك ل نتساوى جميعا كبشر إل أمام الموت ،فهناك من يموت وهو في بطن أمه ،ومن
يموت وهو طفل ،ومن يموت وهو فتى .وإن كنا نختلف فيما بقي بعد ذلك ،والمؤمن أو الكافر
يرى هذه الحداث أمامه ول يستطيع أن يقول :ل لن أموت.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت ،لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلً من أن تعاقب،
فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت ل تعرف متى يجيء الجل ،وإبهام الجل من ال لنا إشاعة
للجل ،والبهام هو أوضح أنواع البيان ،فحين يريد ربنا أن يوضح أمرا توضيحيا كاملً فهو
يبهمه.
ومثال ذلك :لو جعل ال للموت سنّا ،لصار المر محددا بل أمل .لكنه سبحانه لم يجعل للموت
سنّا أو سببا ،وأشاعة في كل زمن ،والنسان عرضة لن يستقبل الموت في أي لحظة ،ونزل
الموت ل يتوقف على سبب ،فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب ،ومادام النسان يستقبل الموت
في أي وقت ،فعلى العاصي أل يستقبل الموت وهو على عصيان ل.
وإياك أن تقول :كيف مات فلن وهو غير مريض؟؛ لن هناك العديد من السباب للموت ،واعلم
أن الموت بدون أسباب هو السبب ،فالنسان الذي نفقده بالموت ،مات لن أجله قد انتهى ،والحق
هنا يوضح :أيها الكافرون أل تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان،
ومن مات وعمره ثلث سنوات ،ومن مات وهو ظالم ،ومن مات وهو مظلوم ،ولو لم تكن هناك
حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة؟ .وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إل شهرا؟ لبد أن تعرفوا أن
هناك غاية تنتظركم ،غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم ،وآجال إجماعية تتمثل في يوم
القيامة.
وفي قوله تعالى } :فَبَِأيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ {
يوضح الحق تبارك وتعالى :إنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من العجاز
ومن البداع ،ويجمع كل أنواع الكمالت ،فماذا يريدون أكثر من ذلك؟
وهل في اتباعهم للهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك .وكان
يجب عليهم أن يتأدبوا مع ال ومع الرسول.
ولذلك يقول سبحانه وتعالى } :مَن ُيضِْللِ اللّهُ{ ...
()1127 /
وقد كرر الحق هذا كثيرا ،لن الشياء التي قد يقف العقل فيها ،أو تأخذه مذاهب الحياة منها،
ويكررها ال ،ليجعلها في بؤرة الهتمام دائما ،لعل هذا التكرار يصادف وعيا من السامع .وانظر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى الحق وهو يعدد نعمه في سورة الرحمن فيقول بعد كل نعمة { :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
إنه يكرر ذكر النعم ليستقر المر في ذهن السامع { .مَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَ هَا ِديَ لَهُ }
وسبحانه ل يرغم واحدا على أن يهتدي ،فإن اهتدى فلنفسه ،وإن لم يهتد فليشرب مرارة الضلل.
وكلنا نعرف أن الطبيب يكتب أسلوب العلج للمريض ،ليتم الشفاء بإذن من ال ،الدواء إذن وسيلة
إلى العافية ،فإن رفض المريض تناول الدواء فهل في ذلك إساءة للطبيب؟ ل .وكذلك منهج ال{ .
مَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَ هَا ِديَ لَهُ }
لكن هل يريد ال الضلل لحد ،ل ،بل سبحانه دعا الناس جميعا بهداية الدللة ،فمن اهتدى زاده
بهداية المعونة ،ومن ضل فليذهب إلى الكفر كما شاء .ولذلك يقول لنا الشرع :إياك أن تشرك بال
شيئا في أي عمل؛ لن ربنا يقول لنا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول ال صلى ال عليه
وسلم عن ربه فيقول :قال ال تبارك وتعالى " :أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملً
أشرك فيه غيري تركته وشركه "
ومعنى الشركة في عرف البشر ،أن مجموعة من الناس عرفوا أن عمل كل منهم ومال كل منهم،
وموهبة كل منهم ،ل تكفي لقامة مشروع ما ،لذلك يكونون شركة لنتاج معين ،فهل هناك ما
ينقص ربنا ليستكمله من آخر؟ حاشا ل .بل إن مجرد توهم العبد بأن هناك شريكا يجعل ال
رافضا لعبادة العبد المشرك .لذلك يقول في الحديث القدسي " :أنا أغنى الشركاء عن الشرك من
عمل عملً أشرك فيه غيري تركته وشركه " .ومادام ربنا قد تنازل عن رعايته له فليتلق المتاعب
من حيث ل يدري.
ومن قوله تعالى { :مَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَ هَا ِديَ لَهُ }
نتبين أنه حين يحكم ال بضلل إنسان أو بهداية آخر فلن يستطيع البشر أن يعدّل على ال ،ليجعل
شيئا من ضلل هو هدى ،أو شيئا من هدى هو ضلل.
كما يتضح من تلك الية الكريمة أن من في قلوبهم مرض يزيدهم ال مرضا ويتركهم في طغيانهم
يعمهون ،والعمه هو فقدان القلب للبصيرة ،والعمى هو فقدان العين للبصر.
ويقل الحق -تبارك وتعالى -بعد ذلك { :يَسَْألُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ} ...
()1128 /
عةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَا ُيجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَا ِإلّا ُهوَ َثقَُلتْ فِي
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّا َ
ح ِفيّ عَ ْنهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ اللّ ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلّا َبغْ َتةً يَسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ
ال ّ
النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ ()187
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمسئول هو رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والسائل إما هم اليهود الذين سألوه عن الساعة،
وعن الروح ،وعن ذي القرنين ،فكان الجواب منه مطابقا لما عندهم في التوارة لنهم ظنوا أن
الكلم الذي يقوله محمد إنما يأتي منه جزافا بدون ضابط وليس من رب يُنْزلُه .فلما أجاب بما
عندهم في التوراة ،علموا أنه ل يقول الكلم من عنده ،ولذلك سألوه أيضا عن أهل الكهف وما
حدث لهم ،وكانوا جماعة في الزمن الماضي ،واتفقوا معه على كل شيء حدث لهل الكهف إل
على الزمن فنزل القرآن يحدد هذا الزمن بقوله سبحانه {:وَلَبِثُواْ فِي َك ْه ِفهِمْ ثَلثَ مِاْ َئةٍ سِنِينَ
وَازْدَادُواْ ِتسْعا }[الكهف]25 :
فقال اليهود :الثلثمائة سنة نعرفها ،أما التسعة فل نعرفها ،وما علموا أن الحق سبحانه وتعالى
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ
ع ّدةَ ال ّ
يؤرخ لتاريخ الكون بأدق حسابات الكون لن ربنا هو القائل {:إِنّ ِ
شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ[} ...التوبة]36 :
َ
إذن التوقيتات كلها حسب التوقيت العربي ،ونعلم أن الذين يريدون أن يحكموا التاريخ حكما دقيقا
فهم يؤرخون له بالهلل ،والمثال أن كل عَالَم البحار تكون الحسابات المائية فيها كلها بالهلل،
لنه أدق ،وأيضا فالهلل آية تعلمنا متى يبدأ الشهر ،ول نعرف من الشمس متى يبدأ الشهر؛ لن
الشمس دللة يومية تدل على النهار والليل ،بينما القمر دللة شهرية ،ومجموع الثنى عشر هو
الدللة السنوية .لكنهم لم يفطنوا إلى هذه ،وأخذوا على الثلثمائة سنة بالحساب الشمسي ،وأضاف
الحق { :وَازْدَادُواْ تِسْعا } لنك إن حسبت الثلثمائة سنة الشمسية بحساب السنة القمرية تزداد تسع
سنين.
ومادة السؤال في القرآن ظاهرة صحية في اليمان؛ لن اليمان إنما جاء ليحكم حركة الحياة بـ "
افعل " و " ل تفعل " ،وساعة يقول الشرع :افعل ،ففي ظاهر هذا الفعل مشقة ،وساعة يقول :ل
تفعل ففي ظاهر هذا الطلب أنه سهل ومرغوب ،والمنع عنه يناقض شهوات النفس .وللتأكد من أن
السئلة ظاهره صحية من المؤمنين نجد أسئلة كثيرة موجهة لرسول ال من أمته ،حكاها القرآن
بصور متعددة ،ورد السؤال مرة بفعل مضارع مثل قوله { :ويَسْأَلُو َنكَ }؛ ومرة ورد بصورة فعل
ماض " وإذا سألك " .وكثيرا ما جاء السؤال بهيئة المضارع { َيسْأَلُو َنكَ } ،لن المضارع يكون
للحال وللستقبال.
وجاءت السئلة بالقرآن في صيغة المضارع خمس عشرة مرة ،وجاءت بصيغة الماضي مرة
واحدة .وإن نظرت إلى الخمس عشرة مرة تجد كل مرة مِنْها جاءت لتبين حكما .وإذا نظرنا إلى
ن الَهِلّةِ ُقلْ
مادة الفعل " يسأل " في القرآن وبترتيب المصحف ،نجد القرآن يقول {:يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ
ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ[} ...البقرة]189 :
لقْرَبِينَ} ...
ن وَا َ
ويقول سبحانه {:يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْنفِقُونَ ُقلْ مَآ أَ ْن َفقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَالِدَيْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[البقرة]215 :
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن
ويقول الحق تبارك وتعالىَ {:يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
سجِدِ الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ َأهْلِهِ مِنْهُ َأكْبَرُ عِندَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ} ...
سَبِيلِ اللّهِ َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ
[البقرة]217 :
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ َومَنَافِعُ لِلنّاسِ[} ...البقرة:
ويقول سبحانه وتعالىَ {:يسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ
]219
ومرة أخرى يقول في ذات الية السابقة } :وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ{ ...
ويقول سبحانه وتعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْرٌ[} ...البقرة]220 :
ويقول عز وجل {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ َأذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي ا ْل َمحِيضِ[} ...البقرة:
]222
حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ {
حلّ َلهُمْ ُقلْ ُأ ِ
ويقول الحق تبارك وتعالى } :يَسْأَلُو َنكَ مَاذَآ أُ ِ
وبعد ذلك في سورة العراف يقول } :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ
رَبّي[ { ...العراف]187 :
حفِيّ عَ ْنهَا[ { ...العراف]187 :
وأيضا يقول سبحانهَ } :يسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ
ل الَنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ[} ...النفال]1 :
ن الَ ْنفَالِ ُق ِ
ثم يقول الحق {:يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ
ويقول الحق تبارك وتعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي[} ...السراء]85 :
ويقول المولى سبحانه {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ ُقلْ سَأَتْلُواْ عَلَ ْيكُم مّنْهُ ِذكْرا }[الكهف]83 :
س ُفهَا رَبّي َنسْفا }[طه]105 :
ويقول الحق {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ َف ُقلْ يَن ِ
ويختم هذه السئلة بقوله {:يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُ ْرسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ِذكْرَاهَا }[النازعات:
]43-42
تلك هي خمس عشرة آية جاء فيها الحق بقوله } َيسْأَلُو َنكَ { ،وآية واحدة يقول فيها الحق تبارك
ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ[} ...البقرة]186 :
وتعالى {:وَِإذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ
واليات الخمس عشرة التي جاء فيها الحق بصيغة المضارع } َيسْأَلُو َنكَ { نجد كل جواب فيها
مُصدرا بـ " قل " وهو أمر للرسول :قل كذا ،قل كذا ،ولكن في الية الواحدة التي جاء فيها الفعل
ع َوةَ الدّاعِ { ،لن
الماضي } وَإِذَا سَأََلكَ { ،لم يقل :فقل إني قريب ،بل قال } :فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }
ال يعلم حب محمد لمته ،وحرصه عليهم ولذلك يقولَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
[الشعراء]3 :
حدِيثِ أَسَفا }[الكهف]6 :
سكَ عَلَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا الْ َ
خعٌ ّنفْ َ
ويقول سبحانه {:فََلعَّلكَ بَا ِ
ولذلك حين علم الحق علم وقوع :أن رسول ال مهتم بأمر أمته ومشغول بها وحريص على أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يشملها ال بمغفرته ورحمته وأل يسؤوه فيها ،أخبره المولى عز وجل بأنه سوف يرضيه في أمته.
وقد ورد في الحديث ما يؤيد ذلك ،فقد روى عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما " أن
النبي صلى ال عليه وسلم تل قول ال عز وجل في إبراهيم صلى ال عليه وسلم } َربّ إِ ّنهُنّ
غفُورٌ رّحِيمٌ {
عصَانِي فَإِ ّنكَ َ
َأضْلَلْنَ كَثِيرا مّنَ النّاسِ َفمَن تَ ِبعَنِي فَإِنّهُ مِنّي َومَنْ َ
ك وَإِن َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ
وقول عيسى صلى ال عليه وسلم } :إِن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ
حكِيمُ { فرفع يديه فقال :أمتي أمتي وبكى فقال ال عز وجل :يا جبريل اذهب إلى محمد وربك
الْ َ
أعلم َفسَلْهُ ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فأخبره رسول ال صلى ال عليه وسلم بما قال وهو أعلم ،فقال
ال تعالى :يا جبريل اذهب إلى محمد إنا سنرضيك في أمتك ول نسوؤك "
وتأكيدا لعلم الحق تبارك وتعالى من حرص رسوله على أمته ،أراد أن يكرم هذه المة من نوع
ما كرّم به الرسول ،فجاء الخطاب في آية الدعاء بدون " قل " {.وَِإذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي
قَرِيبٌ[} ...البقرة]186 :
وأراد ال أن يبين لمحمد ولمته أن ال يعلم ل بما تسألونه فقط ،بل يعلم ما سوف تسألونه عنه.
لذلك نجد أربع عشرة آية تأتي فيها } َيسْأَلُو َنكَ { وتكون الجابة " قل " ،والية الخامسة عشرة
جاء فيها } َيسْأَلُو َنكَ { وكانت الجابة " فقل " لتدل على " الفاء " على أن السؤال لم يقع بعد ،فكأن
الفاء دلت على شرط مقدر هو :إن سألوك فقل ينسفها ربي نسفا ،وهنا يقول الحق سبحانه} :
عةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ َثقَُلتْ فِي
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّا َ
حفِيّ عَ ْنهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ
ض لَ تَأْتِيكُمْ ِإلّ َبغْتَةً َيسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
س لَ َيعَْلمُونَ { [العراف]187 :
َأكْثَرَ النّا ِ
و " يجٌليها " أي يُظهرها ،وهناك ما يسمى " الجلوة " وما يسمى " الخلوة " ،و " الجلوة " أن
يظهر النسان للناس ،و " الخلوة " أن يختلي عن الناس ،و " ل يجليها " أي ل يظهرها ،و "
لوقتها " ترى أنها مسبوقة باللم ،ويسمونها في اللغة العربية " لم التوقيت " ،مثلما يقول الحق
شمْسِ[} ...السراء]78 :
لةَ لِدُلُوكِ ال ّ
سبحانهَ {:أ ِقمِ الصّ َ
وهي بمعنى " عند " ،ومعنى دلوك الشمس ،أنها تتجاوز نصف السماء ،وتميل إلى المغرب قليلً.
وقوله } :لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ { أي ل يُبَيّنُها عند وقتها إل هو سبحانه وتعالىَ } .ثقُلَتْ فِي
ض لَ تَأْتِيكُمْ ِإلّ َبغْتَةً {
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله؛ لن الكتلة إن تساوت مع الطاقة
فهي ل تثقل على الحمل.
أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الرض؛ فيكون الشيء ثقيلً ،وقد يكون هذا الثقل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أمْرا ماديا ،كما يحمل النسان -مثلً -على ظهره أردبا من القمح فيقدر على حمله ،لكنه إن
زاده إلى أردب ونصف ،فالحمل يكون ثقيلً على ظهره لن طاقته ل تتحمل مثل هذا الوزن "
ت وَالَرْضِ {
سمَاوَا ِ
فينخ " بهَ } .ثقَُلتْ فِي ال ّ
والثقل ل يكون ماديا فقط ،بل هو فكري وعقلي أيضا ،مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل هندسي
أو تمرين في مادة الجبر ،فالطالب يشعر أحيانا أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره ،وصعب
الحل في بعض الحيان.
وقد يكون المر ثقيلً على النفس في ملكاتها ،مثل الهم جاثم على الصدر وثقيل عليه ،وهو أقسى
أنواع الثقل ،ولذلك فالشاعر القديم يقول:
ليس بحمل ما أطاق الظهر ما الحمل إل ما وعاه الصدرإذن هناك ثلثة أثقال :ثقل مادي ،وثقل
فكري ،وثقل نفسي.
سمَاوَاتِ { ،ونحن نعلم أن السموات فيها الملئكة .ونعلم أن الملئكة أيضا ل
و } َثقَُلتْ فِي ال ّ
تعرف ميعاد الساعة ،ول يحاول معرفتها إل النسان بشهوة الفكر ،أما الملئكة فهي ليست مكلفة
لنها ل اختيار لها ،وبعضها يخدم البشر ،وهم الملئكة الذين سجدوا لدم وهم الموكلون
بمصالحه ،وبحياته ،وقد رضخوا لمر الحق بأن هناك سيدا جديدا للكون .فكونوا جميعا مسخرين
في خدمته ،وهم الملئكة الحفظة الكرام الكاتبون ،ولهم إلف بالخلق ،إلف كاره للعاصي ،وإلف
محب للطائع .ومن يسير على منهج ال من البشر يفرحون به .وإن وقع من الطائع زلة ،يأسون
له ويتمنون أل تقع منه زلة أخرى .ومن يسير ضد منهج ال يغضبون منه ،والنبي صلى ال عليه
وسلم يقول فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي ال عنه " :ما من يوم يصبح العياد فيه إل ملكان
ينزلن فيقول أحدهما :اللهم أعط منفقا خلفا ،ويقول الخر اللهم أعط ممسكا تلفا "
ونعلم أن المنفق سيأخذ ثواب إنفاقه ،أما الممسك فإن تلف ماله وصبر عليه فهو أيضا ينال ثوابا
عليه .وهكذا تدعو لنا الملئكة.
و " ثقلت " هنا تعني أن ميعاد الساعة ل يعرفه إل ربنا ،فل يعرف ذلك الميعاد من هم في
السموات وكذلك من هم في الرض ،وكل من على الرض خائف مما سوف يحدث لحظة قيام
الساعة ،وخصوصا أن المصطفى صلى ال عليه وسلم ،يعطي لها صورة توضح قوله الحق } :لَ
تَأْتِيكُمْ ِإلّ َبغْتَةً {
ويخبرنا الرسول صلى ال عليه وسلم بالحالة التي تأتي عليها فيقول " :إن الساعة تهيج بالناس
والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق والرجل يخفض
ميزانه ويرفعه "
ومثل هذه التوقعات تخيف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ لَ تَأْتِي ُكمْ ِإلّ َبغْتَةً {
وقوله الحقَ } :ثقَُلتْ فِي ال ّ
أي أن الواقع في هذا اليوم يكون فوق احتمال البشر وهو يأتي بغتة ،أي يجيء من غير استعداد
حفِيّ عَ ْنهَا {
نفسي لستقباله .ويتابع سبحانه } :يَسَْألُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ
وحفيَ من الحفاوة ،والحفيّ هو المُلِحّ في طلب الشياء ،مثل التلميذ الذي يتوقف عند درس ل
يفهمه ،فيسأل هذا ،وذاك إلى أن يجد إجابة.
والحفى بالسؤال عن أمر يحاول أن يصل إليه ،والحفى أيضا عالم بما يسأل عنه ،وسبب العلم أنه
ألحّ في السؤال عليها.
والمور التي يعالجها النسان إما أن يعالجها وهو مستقر في مكانه كالمور الفكرية أو العضلية
الموقوتهَ بمكان ،وقد يكون أمرا بعيدا عن مكانه ويريد أن يعالجه ،فيقطع المسافة إلى المكان
الثاني لتحقيق هذه المهمة ،إنما يمشي ويسعى على رجليه ،و " يدوب " النعل الذي يضعه في
قدميه من المشي فيقال عنه إنه " :حافي ".
ولذلك يقال :حفي فلن إلى أن وصل للشيء الفلني ،أي سار مرات كثيرة وقطع عدة مسافات،
ح ِفيّ عَ ْنهَا { أي
مزقت نعله حتى جعلته يمشي حافيا .وهنا يقول الحق على ألسنة القوم } :كَأَ ّنكَ َ
أنك ُمعْنى بها ،ودائب السؤال عنها ،وعارف لها.
ع ْل ُمهَا عِندَ اللّهِ {
وتأتي الجابة من الحقُ } :قلْ إِ ّنمَا ِ
وفي ذات الية سبق أن قال } :عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي {
والربوبية متعلقها الخلق ،والرعاية بالقيومية لمصالح البشر ،والوهية متعلقها العبادة وتطبيق
المنهج ،وجاء الحق في هذه الية ،مرة بالربوبية ،ومرة باللوهية .والولى هي علة الثانية ،فأنت
أخذت ال معبودا ،وأطعته لنه خلقك ووضع لك المنهج ،ول يذخر وسعا بربوبيته أن يقدم للعبد
الصالح كل شيء ويمنحه البركة ،وكذلك يعطي الكافر إن أخذ بالسباب ولكن دون بركة وبغير
ثواب في الدنيا أو الخرة ،لذلك هو الله الحق الذي نتبع منهجهُ } .قلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ اللّهِ
س لَ َيعَْلمُونَ {
وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
وأكثر الناس الذين يسألون عن موعد الساعة ل يعلمون أن ربنا قد أخفاها ،وسبحانه هو القائل{:
سعَىا }[طه]15 :
خفِيهَا لِتُجْزَىا ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا تَ ْ
عةَ آتِ َيةٌ َأكَادُ ُأ ْ
إِنّ السّا َ
هم إذن ل يعلمون أن علمها عند ال.
ويقول سبحانه وتعالى } :قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي َنفْعا{ ...
()1129 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُقلْ لَا َأمِْلكُ لِ َنفْسِي َن ْفعًا وَلَا ضَرّا إِلّا مَا شَاءَ اللّ ُه وََلوْ كُ ْنتُ أَعَْلمُ ا ْلغَ ْيبَ لَاسْ َتكْثَ ْرتُ مِنَ الْخَيْ ِر َومَا
مَسّ ِنيَ السّوءُ إِنْ أَنَا إِلّا َنذِي ٌر وَبَشِيرٌ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ ()188
ويقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسوله :أنتم تسألونني عن الساعة ،وأنا بشر ،ومتلقّ فقط،
والرسال بالمنهج يأتي من ال وأنا أبلغه ،ول علم لي بموعد قيام الساعة ،ول أملك لنفسي ل
ضرا ول نفعا ،أي ل أملك أن أدفع الضر عني أو أجذب النفع لنفسي ،ولكن حين يسوق ال النفع
أو يمنع الضر ،فالنسان يملك ما يعطيه ال ،والعاقل حين يملك ،يقول :إن هذا ملك عَرَضي ،ل
آمن أن ينزع مني .لذلك قال لنا الحق تبارك وتعالىُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآءُ
شيْءٍ قَدِيرٌ }[آل
علَىا ُكلّ َ
وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن تَشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن َتشَآءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ إِ ّنكَ َ
عمران]26 :
ل ضَرّا ِإلّ مَا شَآءَ اللّهُ }
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى { :قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي َنفْعا وَ َ
أيْ أنّ أحدا ل يملك شيئا إل ما شاء ال أن يملكه ،ورسول ال من البشر .ويضيف { :وََلوْ كُنتُ
أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ لَسْ َتكْثَ ْرتُ مِنَ ا ْلخَيْ ِر َومَا َمسّ ِنيَ السّوءُ[ } ...العراف]188 :
ومحمد صلى ال عليه وسلم لو كان يعلم الغيب لستكثر من الخير ،فقد حارب ،وانتصر ،وحارب
وانهزم ،وتاجر فربح ،ويسير عليه ما يسير على البشر ،ومرة يدبر المر الذي لم يكن فيه منهج
من السماء ،فمرة يصيب ومرة يخطىء .فيصحح له ال؛ لذلك يأتي القول على لسانه بأمر من
ال :لو كنت أعلم الغيب لما وقعت في كل هذه المسائل ،وكان أهل رسول ال من قريش قد قالوا:
إننا أقاربك ،فقل لنا على موعد الساعة .حتى نستعد لملقاتها.
ويتابع المولى سبحانه قولهَ { :ومَا مَسّ ِنيَ السّوءُ إِنْ أَنَاْ ِإلّ نَذِي ٌر وَبَشِيرٌ ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }
وساعة ترى " إن " فهي مرة تكون شرطية مثل " :إن ذاكرت تنجح " ،ومرة تكون للنفي وتجد
بعدها اسما ،والمعنى :ما أنا إل نذير وبشير لقوم يؤمنون .والكلم موجه إلى المؤمنين لنهم هم
الذين ينتفعون بالنذارة وبالبشارة ،وما يُنذروا به ل يفعلوه ،وما يبشروا به يفعلوه.
سكُنَ إِلَ ْيهَا} ...
جهَا لِيَ ْ
ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ
ح َد ٍة وَ َ
س وَا ِ
ويقول الحق بعد ذلكُ { :هوَ الّذِي خََل َقكُمْ مّن ّنفْ ٍ
()1130 /
خفِيفًا
حمْلًا َ
حمََلتْ َ
سكُنَ إِلَ ْيهَا فََلمّا َتغَشّاهَا َ
جهَا لِ َي ْ
ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ
س وَاحِ َد ٍة َو َ
ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ
عوَا اللّهَ رَ ّب ُهمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ ()189
َفمَ ّرتْ ِبهِ فََلمّا أَ ْثقََلتْ دَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَا }
ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ
ح َدةٍ } المقصود بها آدم ،وقول الحق { :وَ َ
س وَا ِ
وقوله تعالى { :خََل َقكُمْ مّن ّنفْ ٍ
المقصود بها حواء ،ونلحظ في الداء في هذه الية أن الضمير عائد إلى مؤنثُ { .هوَ الّذِي خََل َقكُمْ
جهَا }
ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ
مّن ّنفْسٍ وَاحِ َد ٍة وَ َ
سكُنَ إِلَ ْيهَا }
ثم جاء بالتذكير في قوله { :لِ َي ْ
سكُنَ } .فكأن الكلم في النفس معنىّ به جنس بني آدم
إذن فصل الذكورة عن النوثة جاء عند { لِ َي ْ
وهو الذي نسميه " النسان " ومنه ذكورة ومنه أنوثة ،ولذلك فسبحانه حينما يتكلم عن الذكورة
سكُنَ إِلَ ْيهَا }.
كذكورة ،والنوثة كأنوثة ،يأتي بضمير المذكر ،أو بضمير المؤنث ،وقوله { :لِ َي ْ
لنه يريد أن يوضح أن المرأة جُعلَت للرجل سكنا ،ل يقال :إنها له سكن إل إذا كان هو متحركا،
كأن الحركة والكدح في الحياة للرجل ،ثم يستريح مع المرأة ويسكن إليها بالحنان ،بالعطف،
بالرقة .أما إن لم تكن سكنا فهو يخرج من البيت لن ذلك أفضل له .وقول الحق تبارك وتعالى{ :
جهَا }.
ج َعلَ مِ ْنهَا َز ْو َ
وَ َ
يذكرنا بما عرفناه من قبل من أن ال خلق آدم من الطين ومن الصلصال ثم نفخ فيه ربّنا الروحَ،
أما حواء فقد ذكرها في هذه المسألة ،وأوضح :أنا جعلت منها زوجها ،و " منها " أي أنها قطعة
منه ،وقيل :إنها خلقت من ضلع أعوج ،ومن يرجع هذا الرأي يقول لك :لن ال يريد أن يجعل
السكن ارتباطا عضويا ،فالمرأة بعض من الرجل ،ونعرف أن الواحد منا يحب ابنه لنه بعض
منه .وعلى ذلك فهذا القول جاء لتقديم اللفة .وهناك من يقول :إن حواء خلقت مثل آدم فلماذا جاء
ذكر آدم ولم يأت بذكر حواء؟
ونقول :إن آدم أعطى الصورة في خلق النسان من طين ،لن آدم هو الرسول وهو المسجود له.
ونعلم أن المرأة دائما مبنية على الستر .ومثال ذلك نجد الفلح في مصر ل يقول :زوجتي ،بل
يقول " :الجماعة " أو " الولد " أو يقول " :أهلي " ول يذكر اسم الزوجة أبدا.
ج َعلَ مِ ْنهَا } ،فإن كانت مخلوقة من الضلع فـ " مِنْ " تبعيضية ،وإن كانت
والحق يقول هنا { :وَ َ
مخلوقة مثل آدم تكون " مِنْ " بيانية ،أي من جنسها ،مثلها مثلما يقول ربناُ {:هوَ الّذِي َب َعثَ فِي
لمّيّينَ َرسُولً مّ ْنهُمْ[} ...الجمعة.]2 :
اُ
أي الرسول من جنسنا البشري ليكون إلف المبلغ عن ال ،والمبلغ عن ال واحدا منا ونكون
مستأنسين به ،ولذلك قلنا :إن اختيار ال للرسول صلى ال عليه وسلم من البشر فيه رد على من
أرادوا أن يكون الرسول من جنس آخر غير البشر ،فقال الحق على ألسنتهمَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن
ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }
[السراء.]94 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ مَلَكا
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
ويأتي الرد عليهم {:قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ
رّسُولً }[السراء.]95 :
ثم لو كان الرسول من جنس الملئكة فكيف كانوا يرونه على حقيقته؟ كان ل بد أن يخلقه ال على
هيئة النسان.
خفِيفا {
حمْلً َ
حمََلتْ َ
ويتابع سبحانه } :فَلَماّ َتغَشّاهَا َ
و } َتغَشّاهَا { تعبير مهذب عن عملية الجماع في الوظيفة الجنسية بين الزوج والزوجة ،والغشاء
هو الغطاء ،وجعل ال الجماع من أجل التناسل ليبث منهما رجالً كثيرا ونساء.
والمعنى هنا أنها حملت الجنين لفترة وهي ل تدري أنها حامل ،لن نموّ الجنين بطىء بطىء ل
عوَا اللّهَ رَ ّب ُهمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحا لّ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ
تشعر الم بهَ } .فمَ ّرتْ بِهِ فََلمّآ أَ ْثقََلتْ دّ َ
{ [العراف.]189 :
ومرت به ،مقصود بها أنها تتحرك حركة حياتها قياما وقعودا إلى أن تثقل وتشعر بالحمل في
شهوره الخيرة.
وهنا عرف الزوج أن هناك حمل ورفع الثنان أيديهما بالدعاء ل عز وجل أن يكون الولد صالحا
جهَا
ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ
س وَاحِ َدةٍ وَ َ
بالتكوين البدني وصالحا للقيام بقيم المنهجُ } .هوَ الّذِي خََل َقكُمْ مّن ّنفْ ٍ
سكُنَ إِلَ ْيهَا { [العراف.]189 :
لِيَ ْ
أي أن الذكورة قد انفصلت عن النوثة ،وصار الذكر يسكن عند النثى.
وهكذا كان المر الخاص بآدم ،ثم جاء الكلم للذرية ،وخصوصا أن حواء كانت تحمل بذكر
وأنثى ،وآدم وحواء وأولدهما هم أصل التواجد البشري وأصل التوالد.
والقرآن قد يتكلم في موضوعات تبدو متباعدة .لكنها تضم قيما ذات نسق فريد ،فنجد الحق يتكلم
في أمر ثم يتكلم في آخر ،مثل قولهُ {:هوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ
ن وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ
ف وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَا ٍ
وَجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ َوفَرِحُواْ ِبهَا جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَاصِ ٌ
أُحِيطَ ِبهِمْ[} ...يونس.]22 :
ولم يأت بسيرة البر هنا ،بل تكلم بالبر والبحر ثم انتقل إلى الحديث عن مجيء الموت ،وأيضا
انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالىَ {:و َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَيْهِ ِإحْسَانا[} ...الحقاف.]15 :
حمُْلهُ
ضعَتْهُ كُرْها وَ َ
حمَلَ ْتهُ ُأمّهُ كُرْها وَ َو َ
هنا يوصي الحق النسان بوالديه ،بالب وبالم ،ثم يتابعَ {:
شهْرا[} ...الحقاف.]15 :
َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
ولم تأت سيرة الرجل بل كل الحيثيات للم.
جعَلَ لَهُ شُ َركَآءَ.{ ...
ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك } :فََلمّآ آتَا ُهمَا صَالِحا َ
()1131 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمّا يُشْ ِركُونَ ()190
جعَلَا لَهُ شُ َركَاءَ فِيمَا آَتَا ُهمَا فَ َتعَالَى اللّهُ َ
فََلمّا آَتَا ُهمَا صَاِلحًا َ
صيّ " وهو جد من أجداده صلى ال عليه وسلم ،فقد طلب "
ويروى أن هذه الية قد نزلت في " ٌق َ
ُقصَيّ " من ال أن يعطي له الذرية الصالحة ،فلما أعطاه ربنا الذرية الصالحة سماها بأسماء
العبيد ،فلم يقل :عبدال أو عبدالرحمن ،بل قال :عبدمناف ،عبدالدار ،عبدالعزى .وجعل ل شركاء
جعَلَ لَهُ شُ َركَآءَ فِيمَآ آتَا ُهمَا }؛ ليدلنا على أن النسان في
في التسمية ،ولهذا جاء قول الحقَ { :
أضعف أحواله ،أي حينما يكون ضعيفا عن استقبال الحداث ،يخطر بباله ربنا؛ لنه يحب أن
يسلم نفسه لمن يعطي له ما يريده ،وبعد أن ينال مطلبه ينسى ،ولذلك يقول الحق {:وَإِذَا مَسّ
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ ِإلَىا ضُرّ
الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ
مّسّهُ[} ...يونس.]12 :
إذن فائدة الضر أنه يجعلنا نلجأ إلى ربنا ،ولذلك نجد النسان أحسن ما يكون ذكرا ل وتسبيحا ل
حينما يكون في الشدة وفي المرض ،ولذلك لو قدر المريض نعمة ال عليه في مرضه وشدته ،ل
أقول :إنه قد يحب أن يستطيل مدة المرض والشدة .ل ،بل عليه فقط أل يضجر وأن يلجأ إلى ربه
ويدعوه .وقد علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك حينما قال " :اللهم إليك أشكو ضعف
قوتي ،وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين .أنت رب المستضعفين ،وأنت ربي .إلى
من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوّ مّلكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فل أبالي،
ولكن عافيتك هي أوسع لي .أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا
والخرة من أن تنزل بي غضبك ،أو يحل عليّ سخطك ،لك العتبى حتى ترضى ول حول ول
قول إل بك ".
والنسان ساعة يوجد في المرض عليه أن يعرف النعمة فيه ،فهو في كل حركة من حركاته يذكر
ال ،وكما تخمد فيه طاقات الندفاعات الشهوانية ،يمتلىء بإيجابيات علوية ،ولذلك نجد الحديث
القدسي يقول فيه ربنا سبحانه وتعالى:
" يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ،قال :وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال :أما علمت أن عبدي
فلنا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني،
قال :يا رب .كيف أطعمك ،وأنت رب العالمين؟ قال :أما علمت أنه استطعمك عبدي فلن ،فلم
تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني ،قال :يا
رب .كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال :استسقاك عبدي فلن فلم تسقه ،أما إنك لو سقيته
لوجدت ذلك عندي ".
إذن ماذا عن حال مريض يستشعر أن ربه عنده ،ويكون في المرض مع المنعم ،وفي الصحة مع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمّا ُيشْ ِركُونَ } [العراف:
جعَلَ َلهُ شُ َركَآءَ فِيمَآ آتَا ُهمَا فَ َتعَالَى اللّهُ َ
النعمة { .فََلمّآ آتَا ُهمَا صَالِحا َ
.]190
ومعنى هذا أن ربنا تبارك وتعالى ينزه نفسه عما يقول فيه المبطلون ويشركون معه ما يزعمون
من آلهة .ولذلك يقول سبحانه وتعالى { :أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ يَخُْلقُ} ...
()1132 /
أيشركون في عبادة ال من ل يخلقون شيئا ،وهم أنفسهم مخلوقون ل ،إن من أشركوا بال
الصنام فعلوا ذلك بالوهم وتنازلوا عن العقل ،وكان الواجب أن يكونوا عقلء فل يتخذون من
الصنام آلهة { .أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ يَخُْلقُ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }
ولذلك فإن هناك آية أخرى تفضح زعمهم يقول فيها الحق تبارك وتعالى {:إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن
خُلقُواْ ذُبَابا وَلَوِ اجْ َت َمعُواْ َلهُ[} ...الحج.]73 :
دُونِ اللّهِ لَن يَ ْ
ونعلم أن البشر في المعامل قد عرفوا العجز عن خلق خلية واحدة وهي التي ل ترى بالعين
المجردة ،ولذلك أوضح الحق أن المسألة ليست أمر خلق ،بل إن الذباب لو وقع على طعام إنسان
وأخذ على جناحه أو في خرطومه شيئا ،لن يستطيع أحد أن يسترد المأخوذ منه ،فقد ضعف
الطالب والمطلوب.
والخلق -كما نعلم -أول مرتبة من مراتب القدرة ،فإذا كانت الصنام التي اتخذها هؤلء شركاء
ل تخلق شيئا بإقرارهم هم ،فكيف يعبدونها؟ إنها ل تخلق شيئا بدليل أنها ل تتناسل .بل إذا أراد
العابدون أن يزيدوا صنما صنعه العابدون بأنفسهم .ونلحظ أن الحق جاء هنا بالقول { :أَ ُيشْ ِركُونَ }
بصيغة تعجب ،والتعجب ينشأ عن إنكار ما به الستفهام ،أي تعجب منكرا على وفق الطباع
العادية ،مثلما يقول لنا {:كَ ْيفَ َتكْفُرُونَ بِاللّهِ[} ...البقرة.]28 :
أي قولوا لنا ما الطريقة التي بها تكفرون بال وتسترون وجوده ،مع هذه اليات البينات
الواضحات؟ فكأن ذلك أمْر عجب يدعو أهل الحق للدهشة والستغراب والنكار الشديد ،وحينما
يتكلم الحق بإنكار شيء لنه أمر عجيب ،يوجه الكلم مرة إليهم ،ومرة أخرى يوجهه إلى غيرهم،
مثل قوله هنا { :أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ َيخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ يُخَْلقُونَ }
والكلم للمؤمنين لنه يريد أن يعطي لقطتين في الية ،اللقطة الولى :أن ينكر ما فعله هؤلء،
وأن يزيد القوم الذين لم يفعلوا ثقة في نفوسهم ،وفرحة بمواقفهم اليمانية ،حيث لم يكونوا مثل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هؤلء { أَ ُيشْ ِركُونَ مَا لَ َيخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }.
وفي الية الكريمة وقفة لفظية في السلوب العربي نفسه قد تثير عند البعض إشكال ،في قوله
تعالى { :مَا لَ يَخُْلقُ شَيْئا } .و " ما " تعني الذي لم يخلق شيئا ،و " يخلق " هنا للمفرد ،وسبحانه
وتعالى جعل للمفرد هنا عمل الجمع فقال { :أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ يَخُْلقُ شَيْئا }.
وأقول :إن الذي يقف هذه الوقفة ،ويلحظ هذا الملحظ إنسان سطحي الثقافة بالعربية ،لنه ل يعلم
أن " ما " و " من " و " الـ " تطلق على المفرد والمفردة ،وعلى المثنى والمثناة ،وعلى جمع
الذكور وجمع الناث ،فتقول :جاءني من أكرمته ،وجاءتني من أكرمتها ،وجاءني من أكرمتهما،
وجاءت من أكرمتهما ،وجاء من أكرمتهم وجاء من أكرمتهن.
وكذلك " ما " .إذن فقول الحق } :مَا لَ يَخُْلقُ { في ظاهرها مفرد ،ولكن اللفظ يطلق على المفرد
والجماعة؛ لذلك جاء في المر الثاني وراعى الجماعة ،إذن " يخلق " للمفرد ،و " هم يخلقون "
للجمع لن قوله " :ما " صالح للجميع أي للمفرد وللمثنى وللجمع وللمذكر وللمؤنث.
ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالىَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ} ...
[محمد.]16 :
وسبحانه قال هناَ } :ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ { ،ولم يقل " :حتى إذا خرج من عندك " بل قال} :
َومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ { أي أنه جاء بالجماعة ،فإذا رأيت ذلك في " ما " و " من
" و " الـ " فاعلم أن هذه اللفاظ يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى والمثناة وجمع الذكور
خلُقُ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ {.
وجمع الناث } .أَ ُيشْ ِركُونَ مَا لَ يَ ْ
وهنا في هذه الية وقفة لغوية أخرى في قوله " :هم " وهي ل تطلق إل على جماعة العقلء،
فكيف يطلق على الصنام " هم " وليست من العقلء؟ وأقول :إن الحق سبحانه وتعالى لما علم
أنهم يعتقدون أنها تضر ،وأنها تنفع ،فقد تكلم معهم على وفق ما يعتقدون ،لكي يرتقي معهم في
رد النكار لكل ما يستحق النكار .فأول مرحلة عرفهم أن الصنام ل تخلق ،وثاني مرحلة عرفهم
أنهم هم أنفسهم مخلوقون والصنام ل تقدر على نصرهم ،إذن فهم معطلون من كل ناحية؛ لنهم
ل يخلقون .وهذا أول عجز ،ومن ناحية أخرى أنهم يُخْلَون وهذا عجز آخر ،لكن بعد هذا العجز
الول والعجز الثاني فهل هم قادرون على نصر غيرهم؟ ها هو ذا سبحانه يترقى في الحوار
معهم ترقية أخرى فيقولَ } :ولَ يَسْتَطِيعُونَ َلهُمْ َنصْرا{ ...
()1133 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فل أحد من الصنام قادر على أن ينصر نفسه أو يضمن نصر غيره.
وهكذا نجد الترقي في الحوار على أربع مراحل ،أولَ :ل يخلقون ،ثانيا :هم يُخلَقون ،ثالثا :ل
ينصرونكم ،ورابعا :ول ينصرون أنفسهم .ثم تأتي المرحلة الخامسة في قوله الحق { :وَإِن
تَدْعُوهُمْ إِلَى ا ْلهُدَىا لَ يَتّ ِبعُوكُمْ} ...
()1134 /
وعلى ذلك فهي خمس مراحل -إذن ،-أكررها لتستقر في الذهن ،أولها أنه من الجائز أنه ل
يَخلُق ،ومن الجائز أن يكون مخلوقا ،ومن الجائز أنه ل يقدر أن ينتصر لغيره لنه ضعيف ،ول
ينتصر لنفسه لنه أضعف ،ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم
فل يقبل منك.
وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون :يا هبل ،يا لت ،يا عزى .وإن لم
يصبهم أمر سكتوا عن نداء الصنام؛ لذلك يقول لهم ال من خلل الوحي لرسوله صلى ال عليه
عوْ ُتمُوهُمْ أَمْ أَنْ ُت ْم صَامِتُونَ }
سوَآءٌ عَلَ ْيكُمْ َأدَ َ
وسلم { :وَإِن تَدْعُو ُهمْ إِلَى ا ْلهُدَىا لَ يَتّ ِبعُوكُمْ َ
[العراف.]193 :
أي إن دعوتكم لهم ل تفيد في أي أمر تماما كصمتكم.
صمَتّم "؛
عوْ ُتمُوهُمْ } فلم يقل " :أدعوتموهم أم َ
سوَآءٌ عَلَ ْيكُمْ َأدَ َ
ونلحظ أن السلوب هنا مختلف { َ
لن الفعل يقتضي الحدوث ،ولنا أن نعرف أنهم كانوا ل يفزعون إلى آلهتهم إل عند الحداث
الجسام .أما بقية الوقت فقد كانوا ل يكلمونهم أبدا؛ لذلك جاءت " صامتون " لزمة ،لنها اسم،
والسم يقتضي الثبوت والستمرار ،أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد.
والحق هنا يبلغ المشركين :سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا ،فعدم الستجابة متحقق فيهم
وواقع منهم ،وعدم النصر لنفسهم ولغيرهم متحقق منهم.
ثم يتكلم الحق عن قضية أخرى فيقول { :إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ} ...
()1135 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ فَادْعُو ُهمْ فَلْيَسْ َتجِيبُوا َلكُمْ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ()194
و { َتدْعُونَ } لها معنيان ،المعنى الول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم ،والمعنى الثاني
هو أن يقال " :تدعونه " أي تطلب منه شيئا .والمعنيان يجيئان في هذه الية { :إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ
مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُل ُكمْ فَادْعُوهُمْ }.
وعنْدَما يسمع النسان كلمة " عباد " يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي ،فكيف تكون الصنام
عبادا؟ وأقول :نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ ،أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتعقيده ،فالبناء مأخوذ
من التذلل والخضوع ،ألم يقل موسى لفرعون:؟{ وَتِ ْلكَ ِن ْعمَةٌ َتمُّنهَا عََليّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ }
[الشعراء.]22 :
أي أذللتهم .وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الصنام عبادا أمثالهم في أنهم يُذلون؛
لن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الصنام قد وقعت وتكسرت رقابها ،فيهرع المشركون
ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه اللهة!! إذن فأنتم أيها المشركون؛ لنكم مخلوقون بال قد تملكون قدرة،
وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم ،أما الصنام فليست لها أدنى قدرة إن
جاءها من يحطمها ،أو يكسرها ،أو يقبلها ،فهي أضعف منكم .وبذلك تكون كلمة { عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ }
لونا من الترقي.
وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم ،فالعبد من الحياء حينما يأتي شيء يستذله ،قد يستطيع أن يدفع
عن نفسه بعض الشيء إل إن كان الشيء قويا فوق طاقته .فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم
أي مذللون ومسخرون ول يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم .وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة
وأخذت معنى عباد على معناها الطلقي ،فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد.
لكن هناك مذلل ومسخر فيما ل اختيار له فيه ،وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضا،
والفرق بين الثنين أن الكافر فيما له اختيار؛ إما أن يؤمن وإما أن ل يؤمن ويختار الكفر ،بل إن
النسان المؤمن له الختيار في أن يطيع أو يعصي .ولكن هناك أشياء أخرى تجري على النسان
ل اختيار له فيها ،كأن يمرض ول يقدر أن يقول :ل لن أمرض ،أو قد يأتيه الموت فل يقدر أن
يقول :لن أموت .وقد يهلك ماله أو تحترق داره فل يستطيع دفع القدر ،وكل هذه أمور قهرية
يكون النسان فيها مذللً مسخرا ،والكافر والمؤمن في هذه المور سواء.
والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج ال فيما له فيه اختيار ،وهذه فائدة اليمان ،وبذلك يخرج المؤمن
عن الختيار المخلوق ل ،إلى مراد ال منه في الحكم ،ويستوي بكل شيء مسخر ل ،ولذلك نقول
للذين يكفرون :كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الختيار عن اليمان بال.
وقد جعلها ال لكم بقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َ ...فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف]29 :
وما دام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم ال ،إذن فللواحد منكم أيها الكافرون
رياضة على التمرد ،فلماذا ل تقول للمرض لن أستسلم لك .ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك ،لنه
إنما يكفر بما له حق ممنوح من ال في منطقة الختيار ،أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون} .
إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ فَادْعُو ُهمْ فَلْيَسْ َتجِيبُواْ َلكُمْ { [العراف]194 :
وقول الحق تبارك وتعالى } :فَادْعُو ُهمْ { أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب ،وهم لن يستجيبوا
لكم؛ لنهم ل يقدرون أبدا .وفي هذا القول لون من التحدي } فَلْ َيسْتَجِيبُواْ َلكُمْ { لكنهم لن يستجيبوا،
فليست لهم قدرة لن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون ،لن طاقتهم وطبيعتهم
ل تقدر أن تستجيب.
وبعد أن قال الحق عن الصنام :إنهم عباد أمثالكم ،أراد أن ينزلهم منزلة أدنى من البشر فقال} :
جلٌ َيمْشُونَ ِبهَآ{ ...
أََلهُمْ أَ ْر ُ
()1136 /
س َمعُونَ ِبهَا
جلٌ َيمْشُونَ ِبهَا أَمْ َل ُهمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ ِبهَا َأمْ َلهُمْ أَعْيُنٌ يُ ْبصِرُونَ ِبهَا َأمْ َلهُمْ آَذَانٌ َي ْ
أََلهُمْ أَ ْر ُ
ُقلِ ادْعُوا شُ َركَا َء ُكمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ()195
وينبه الحق تبارك وتعالى كل مشرك ،وكأنه يقول له :أنت لك رجل تمشي بها ،ولك يد قد تبطش
بها ،ولك أذن تسمع ،ولك عين تبصر ،فهل للصنام حواس مثل هذه؟ .ل ،ليست لهم ،إذن،
فالصنام أقل منك ،فكيف تجعل القل إلها للكبر؟ إن هذا هو جوهر الخيبة.
س َمعُونَ } و { يُ ْبصِرُونَ } جاءت لن المشركين صوروا التمثال وله
وقولهَ { :يمْشُونَ ِبهَآ } ،و { يَ ْ
رجلن وله اذنان وله عينان ويضعون في مكان كل عين خرزة لتكون مثل حدقة العين ،وحين
ينظر إنسان منهم إلى التمثال يخيل إليه أن التمثال ينظر إليه .ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى{:
ك وَهُ ْم لَ يُ ْبصِرُونَ }[العراف.]198 :
...يَنظُرُونَ إِلَ ْي َ
جلٌ َي ْمشُونَ ِبهَآ َأمْ َلهُمْ أَيْدٍ يَ ْبطِشُونَ ِبهَآ أَمْ َلهُمْ أَعْيُنٌ يُ ْبصِرُونَ ِبهَآ أَمْ َلهُمْ
وفي قوله تعالىَ { :أَلهُمْ أَ ْر ُ
س َمعُونَ ِبهَا[ } ...العراف.]195 :
آذَانٌ يَ ْ
حين يعرض الحق مثل هذه المور بأسلوب الستفهام .فإنما يريد أن يحقق المسائل عن أقوى
طريق ،لن الستفهام ل بد له من إجابة .والكلم من ال عند الكافر يحتمل الصدق ويحتمل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكذب .وإجابة الكافر ستكون قطعا بعدم استطاعة الصنام المشي أو اللمس أو الرؤية أو السماع؛
لذلك أراد الحق أل يكون الحكم من جهته .بل الحكم من جهة المشركين ،وفي هذا إقرار منهم.
ك صَدْ َركَ }[النشراح.]1 :
ولذلك يقول الحق مخاطبا الرسول صلى ال عليه وسلم {.أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ
أما كان يستطيع سبحانه وتعالى أن يقول :شرحنا لك صدرك؟ كان يستطيع ذلك .ولكنه يأتي
جلٌ َيمْشُونَ
بالستفهام الذي يكون جوابه :بلى لقد شرحت لي صدري .وينبه قوله تعالى { :أََلهُمْ أَ ْر ُ
س َمعُونَ ِبهَا} ...
ِبهَآ أَمْ َل ُهمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ ِبهَآ َأمْ َلهُمْ أَعْيُنٌ يُ ْبصِرُونَ ِبهَآ َأمْ َلهُمْ آذَانٌ َي ْ
إلى مقارنة الصنام بالبشر .فالبشر لهم أرجل وأ ْيدٍ وأعين وآذان ،وكل من هذه الجوارح لها عمل
تؤديه ،وهكذا يتأكد للمشركين أنهم أعلى مرتبة من أصنامهم .فكيف يجوز في عرف العقل أن
يكون العلى مرتبة مربوبا للدنى مرتبة؟ إن ذلك لون من الحمقُ ...{ .قلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ُثمّ
كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ }
ورسول ال جاء بهذا القول ليدحض إيمانهم بهذه الصنام التي اتخذوها آلهة وليسفه أحلمهم فيها،
وبذلك أعلن العداوة ضدهم -العابدين ،والمعبودين -وصارت خصومة واقعة ،وسألهم أن يدعوا
الشركاء ليكيدوا لرسول ال بالذى أو التعب أو منع النصر الذي جاء للسلم ،إن كانت عندكم أو
عندهم قدرة على ضر أو نفع { ُقلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ }.
ويتحداهم صلى ال عليه وسلم أن يكيدوا هم وآلهتهم ،والكيد هو التدبير الخفي المحكم .وانظروا
ما سوف يحدث ،ولن يصيب رسول ال بإذن ربه أدنى ضر.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول ال أشياء ،ليثبت بها أشياء ،وقد قالوا :إن
واحدا قد سحر النبي ،ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل ،فكيف ينسحر النبي؟ ونقول :ومن
الذي قال :إنه سحر؟.
إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر ،وأين وضع الشيء الذي عليه السحر ،ليبين لهم أن كيدهم
حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند ال {.وَإِذْ َي ْمكُرُ ِبكَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ َأوْ َيقْتُلُوكَ َأوْ
يُخْ ِرجُوكَ[} ...النفال.]30 :
وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول ال وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل،
فأوضح ربنا :أنتم بيتم ،ولكن مكركم يبور أمام أعينكم .وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا
مصادمته في دعوته .ول بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته ،ول بتبييت الجن -
وهم أكثر قدرة على التصرف -يستطيعون مواجهة دعوته .وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا
على الرسول ،ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم ،إذن فل بد أن ييأسوا ،ولذلك
تحداهم وقالُ ...} :قلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ُثمّ كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ { [العراف.]195 :
وأنظره يعني أخره ،والقول هنا :ل تؤخروا كيدكم مع شركائكم ،بل نفذوا الكيد بسرعة ،وقد أمر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقول ذلك لن الرسول صلى ال عليه وسلم إنما آوى إلى
ركن شديد؛ لذلك يقول رسول ال بأمر الحق } :إِنّ وَلِيّـيَ اللّهُ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ{ ...
()1137 /
ن وَلِ ّييَ اللّهُ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ وَ ُهوَ يَ َتوَلّى الصّالِحِينَ ()196
إِ ّ
وما دام الوليّ هو ال ،فالرسول صلى ال عليه وسلم ل يبالي بهم ،و " الولي " هو الذي يليك،
وأنت ل تجعل أحدا يليك إل أقربهم إلى نفسك ،وإلى قلبك ،ول يكون أقربهم إلى نفسك وإلى قلبك،
إل إذا آنست منه نفعا فوق نفعك ،وقوة فوق قوتك ،وعلما فوق علمك ،وقول الرسول بأمره
ن وَلِيّـيَ اللّهُ} ...
سبحانه وتعالى { :إِ ّ
أي أنه ناصري على أي كيد يحاول معسكر الشرك أن يصنعه أو يبيته لي .فال هو ولي الرسول
أي ناصره ،والقريب منه بصفات الكمال والجلل التي تخصه سبحانه وتعالى ،وعندما يكون
لمؤمن خصلة ضعف فهو يذهب لمن عنده خصلة قوة ،ولذلك قلنا في قصة موسى عليه السلم
حين التفت قومه ووجدوا قوم فرعون فقالوا { :إِنّا َلمُدْ َركُونَ }
أي أن جيش فرعون سيدركهم ،لن البحر أمامهم والعدو وراءهم .وليس أمامهم فسحة أمامية
للهرب ول منفذ لهم إل أن يصمدوا أمام جيش فرعون وهم بل قوة ولم يكذبهم موسى عليه السلم
في قولهم .بل قال لهم يطمئنهم {:كَلّ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء.]62 :
وهنا خرجت المسألة عن أسباب البشر وانتهت إلى الركن الشديد الذي يأوي إليه الرسل .ول يقول
هذا القول إل وهو واثق تمام الثقة من نصرة ال ،وسبق أن رويت لكم حكاية المرأة الوروبية
التي أسلمت لنها كانت تقرأ سيرة الرسول صلى ال عليه وسلم كبطل من أبطال العالم ،صنع
أكبر انقلب في تاريخ البشرية ،ولما مرت في تاريخه صلى ال عليه وسلم ،قرأت أن صحابته
كانوا يحرسونه من خصومه وأعدائه ،إلى أن فوجئوا في يوم ما بأن قال لهم رسول ال صلى ال
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ[ " } ...المائدة.]67 :
عليه وسلم " :اذهبوا عني .فإن ال أنزل عليّ { :وَاللّهُ َي ْع ِ
واستوقفت هذه الواقعة هذه المرأة فقالت :إن هذا الرجل إن أراد أن يكذب على الناس جميعا ما
كذب على نفسه ،ول يمكن أن يُسلم نفسه لعدائه بدون حراسة إل إذا كان واثقا من أن ال أنزل
عليه هذا ،وأنه قادر أن يعصمه ،وإل دخلَ بنفسه في تجربة .والباحثة من هذه الواقعة قد أخذت
لفتة العبرة .وفي مثل هذا يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم{:
ُ ...قلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ }[العراف.]195 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكأنه صلى ال عليه وسلم يستدعيهم إلى التحدي بالمعركة بالمكر والتبييت ،وأل يتأخروا عن
ب وَ ُهوَ يَ َتوَلّى
ن وَلِيّـيَ اللّهُ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَا َ
ذلك وهو واثق من أن ال عز وجل ينصره { .إِ ّ
الصّالِحِينَ } [العراف]196 :
وأنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله الكتاب المبين ليبلغه للخلق ،ول يمكن أن يسلمه إلى عدو
يمنعه من تمام البلغ عن ال.
ن وَلِيّـيَ اللّهُ
لقد أنزل الحق الكتاب على رسوله ليبلغه إلى الكافة ول يمكن أن يتخلى عنه } .إِ ّ
ب وَ ُهوَ يَ َتوَلّى الصّاِلحِينَ {
الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَا َ
وقوله } :وَ ُهوَ يَ َتوَلّى الصّاِلحِينَ { أي أنه ل يجعل الولية خصوصية للرسول صلى ال عليه
وسلم ،بل يقول لكل واحد من أتباعه :كن صالحا في أي وقت ،أمام أي عدو ،ستجد ال وهو
يتولك بالنصر ،وساعة يعمم ال الحكم؛ فهو ينشر الطمأنينة اليمانية في قلوب أتباعه صلى ال
عليه وسلم .وكل من يحمل من أمر دعوته صلى ال عليه وسلم شيئا ما سوف يكون له هذا
التأييد ،وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغا عنه المنهج ،وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة
الكون؛ لن ال قد جعل النسان خليفة ليصلح في الكون ،وأول مراتب الصلح أن يبقى الصالح
على صلحه ،أو أن يزيده صلحا إن أمكن.
ويقول سبحانه بعد ذلك } :وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ{ ...
()1138 /
لن الذي ل يستطيع نصرك .يجوز أن يكون ضنينا بنصرتك؛ لن حبه لك حب رياء ،أو لنه
يرغب في أن يحتفظ بما ينصرك به لنفسه ،أما حين يكون غير قادر على نصرتك؛ لنه ل يملك
أدوات النصر ،فهذا يبين عجز وقصور من اتخذته وليا ،وهكذا كان حال المشركين .وفي يوم
الفتح جاء المسلمون بالمعاول وكُسرت الصنام ،ولم يقاوم صنم واحد .بل تكسرت كلها جميعا.
س َمعُواْ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :وَإِن تَدْعُو ُهمْ إِلَى ا ْلهُدَىا لَ يَ ْ
()1139 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ك وَهُمْ لَا يُ ْبصِرُونَ ()198
س َمعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَ ْي َ
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى لَا يَ ْ
وبطبيعة الحال لو أن أحدا دعا هذه الصنام إلى الهداية فلن تهتدي الصنام لنها من الجماد الذي
ل تصلح معه دعوة أو فهم .رغم أن الصنم منها له عيون كالتي تراها حاليا في معابد الهندوس أو
البوذيين ،حين يضعون للتماثيل في مكان حدقة العين خرزا ملونا يشبه العين ،وتوجه الحدقة
بميلها وكأنه ينظر إليك وهو ل يرى شيئا.
خذِ ا ْل َع ْفوَ وَ ْأمُرْ
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك مخاطبا نبيه صلى ال عليه وسلمُ { :
بِا ْلعُ ْرفِ} ...
()1140 /
خذِ ا ْل َعفْ َو وَ ْأمُرْ بِا ْلعُ ْرفِ وَأَعْ ِرضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ()199
ُ
فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له ،فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك ،فل تتعال عليه أو تتعالم
حتى ل تقوم معركة بينكما ،بل تواضع أنت ،ليزيدك ال رفعة وعزة.
وكأن ال سبحانه وتعالى يؤكد لك :أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلله .ودائما أضرب
هذا المثل -ول المثل العلى -أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابنا لك قد أساء إلى أخيه فيتجه
قلبك وحنانك إلى المظلوم .ونحن عيال ربنا ،فإن ظلم واحدٌ آخرَ ،فالظالم بظلمه يجعل ال في
جانب المظلوم ،ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سببا في رعاية ال لنا فنفعل معه
مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له :إن فلنا اغتابك بالمس .ونادى سيدنا حسن
البصري الخادم وقال له :جاءنا طبق من باكورة الرطب .اذهب به إلى فلن -وحدد للخادم اسم
من اغتابه -وتعجب الخادم :كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك؟ فقال :أفل أحسن إلى من
جعل ال بجانبي ،قل له " :يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك ،وهو أهداك
ف وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِينَ {
رطبه " } .خُذِ ا ْل َع ْفوَ وَ ْأمُرْ بِا ْلعُ ْر ِ
وتتناول الية الكريمة المر بالعرف:
والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه ،وتطمئن إليه النفوس ،ويوافق شرع ال ،ونسميه
العرف؛ لن الكل يتعارف عليه ،ول أحد يستحيي منه ،لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض
ألوان السلوك :هذا ما جرى به العرف .وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر
مصدرا من مصادر الحكام الشرعية.
وخير مثال على ذلك :أننا نجد الشاب ل يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها ،لن هذا
أمر متعارف عليه ول حياء منه ،بينما نجد المجتمع المسلم يستحي أن يوجد بين أفراده إنسان
يزني ،والغاية من الزنا الستمتاع ،والغاية من طلب يد الفتاة هو الستمتاع ،لكْن هناك فارق كبير
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بين متعة يحرمها ال عز وجل ،ومتعة يٌحلّها ال تعالى.
وفي نهاية الية يقول ال تعالى...} :وَأَعْرِضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِينَ {
وكيف يكون العراض عن الجاهلين؟ .يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي ل يعلم ،لن من ل
يعلم هو المي ،أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع .ونلحظ أن المشكلت ل تأتي من
الميين الذي ل يعلمون ،فالمي من هؤلء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة؛
لنه ل يملك بديلً لها ،أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك
القضية ،والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة.
والحق هنا يوضح :أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها ،وأنت حين
تعرض عن الجاهل ،يجب أل تماريه ،أي ل تجادله؛ لن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة؛
لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتابا واحدا ،وقرأ في كتب النحراف
عن الدين المئات ،أقول له :كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن
تكون عادلً ومنصفا فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها.
وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثا منطقيا يصحح لك عقيدتك ،فعليك أن تخْرِج كل القتناعات
المسبقة من قلبك ووجدانك .وتدرس المرين بعيدا عن قلبك ،ثم أدخل إلى قلبك المر الذي ترتاح
إليه ،لكن ل تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك .والحق سبحانه وتعالى
ج ْوفِهِ[} ...الحزاب.]4 :
جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ
ج َعلَ اللّهُ لِ َر ُ
يقول {:مّا َ
فأنت لك قلب واحد ،إما أن يمتلئ باليمان واليقين وإما بغير ذلك .والقلب حيز واحد فل تشغله
أنت بباطل ،حين تبحث قضية الحق ،بل أخرج الباطل من قلبك أولً ،واجعل الباطل والحق
خارجه ،وابحث بعقلك ،والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله.
وفي بيان معنى هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال :لما أنزل ال عز
وجلّ على نبيه صلى ال عليه وسلم " :خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما هذا يا جبريل؟ قال :إن ال أمرك أن تعفو عمن ظلمك،
وتعطي من حرمك ،وتصل من قطعك ".
وسبحانه -إذن -يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية؛ لنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه ،فما
بالك بالمصاب في قيمه ،أل يحتاج إلى معونتك؟.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ{ ...
()1141 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمِيعٌ عَلِيمٌ ()200
وَِإمّا يَنْزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ
و " نزغ " تساوي كلمة " نخس " أي أمسك بشيء ووضع طَ َرفَه في جسد من بجانبه أو من أمامَه.
ويتضح من معنى " نخس " أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس.
وعملية النخس ل يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض ،أما كلمة " مس " فقد
يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الخر منهما بسرعة ،لكن أحدهما ل يدرك نعومة
الخر ،أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللمس والملموس .ومعارك الحرب كلها تدور في
هذا النطاق ،فحين يكون العدو بعيدا يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيل يصيبه بالنبال أو
السهام ،ويحاول هو أن يصيب خصمه بالنبال أو السهام .وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل
طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم .وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية
دون قدرة تلك القوات على الرد ،لنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ بعيدة المدى .ونجد
طعْ ُتمْ مّن ُق ّوةٍ[} ...النفال.]60 :
الشارة في قول الحق تبارك وتعالى {:وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ
وأوضح سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم معنى القوة فيما رواهُ عنه عقبة ابن عامر قال:
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول وهو على المنبر " :إل أن القوة الرمي " .لن الرمي
ُي َمكّن قذيفتك من عدوك ،وأنت بعيد عنه فل يقدر أن يصيبك بما يرميه.
وقديما كانت الجيوش تزحف ،فيُلقى الخصوم عليها النبال والسهام ،وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر
من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الخر .وإذا حمى وطيس
المعركة تتلقى السيوف .إذن كلها من النخس ،والمس ،واللمس.
وحينما خاطب الرسول صلى ال عليه وسلم ربه قائلً " :يا رب كيف بالغضب؟ " أي كيف يكون
سمِيعٌ عَلِيمٌ }
علج الغضب؟ نزل قول الحق { :وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ
[العراف.]200 :
وقد يستفهم قائل فيقول :أينزغ الشيطان الرسول؟ .وأقول :إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل " :وإذ
نزغك الشيطان " ،ولكنه قال " :وإما ينزغنك " أي إن حدث ذلك ،وهو قول يفيد الشك -ثم لماذا
يحرم ال رسوله صلى ال عليه وسلم من لذة مجابهة الشيطان؟ .ونعم عن ابن مسعود أنه قال:
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" ما منكم من أحد إل وقد وكل به قرينه من الجن ،وقرينه من الملئكة .قالوا :وإياك؟ قال :وإياي
إل أن ال أعانني عليه فأسلم فل يأمرني إل بخير ".
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى { :وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ.} ...
والستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت ل تطلب العون ول تلجأ ول تستجير إل بمن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر.
ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة ،وقدرة التغلغل ،ووسائل التسلل الكثير؛ لذلك فينبغي أل
تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه ،ولكنك تستعيذ بخالق النس والجن وجميع المخلوقات ،وهو القادر
على أن يعطل فاعلية الشيطان .وسبحانه سميع عليم ،والسمع له متعلق ،والعلم له متعلق ،فحين
تستحضر معنى الستعاذة وأنت مشحون باليمان وتلجأ إلى من خلقك .وخلق ذلك الشيطان؛ عندئذ
ل بد أن يهرب الشيطان من طريقك لنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة
على خالقه ،وسبحانه سميع لقولك " :أعوذ بال " ،عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة.
وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عليه الصلة والسلم ،وقال } :وَإِماّ
يَنَزَغَ ّنكَ {
أي أن الشيطان بعيد ،وهو يحاول مجرد النزغ ،فماذا عن أمة رسول ال صلى ال عليه وسلم
سهُمْ طَا ِئفٌ.{ ...
إزاء هذا؟ .هنا يقول الحق تبارك وتعالى } -:إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ ِإذَا مَ ّ
()1142 /
سهُمْ طَا ِئفٌ مِنَ الشّ ْيطَانِ تَ َذكّرُوا فَإِذَا هُمْ مُ ْبصِرُونَ ()201
إِنّ الّذِينَ ا ّتقَوْا ِإذَا مَ ّ
ومن رحمة ال تعالى بأمة محمد صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إذا مسّهم " ولم يقل " :لمسَهم ".
لنهم من الذين اتقوا ،أي وضعوا بينهم بين صفات جلل ال وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده
سهُمْ طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ تَ َذكّرُواْ }.
ولذلك يقول { :إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ إِذَا مَ ّ
والطائف هو الخيال الذي يطوف بالنسان ليلً ،وبما أن الشيطان ل يرى ،لذلك نصوره على أنه
خيال ،فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم ،وتذكروا منهج
ال الذي يصادم شهواتهم ،وتذكروا أن عين ال تراهم ول تغفل عنهم ،وأن محارم ال واضحة
وبينة ،وسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن
بشير " :الحلل بيّن والحرامُ بيّن وبينهما مشَبهات ل يعلمها كثير من النّاس ،فمن اتّقى الشبهات
استبرأ لدينه وعرضه ،ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ،أل وإن
لكل ملك حمى ،أل إن حمى ال في أرضه محارمه ،أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله أل وهي القلب ".
وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم ،هنا تزول عنهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم.
خوَا ُنهُمْ َيمُدّو َنهُمْ فِي ا ْل َغيّ.} ...
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك { :وَِإ ْ
()1143 /
خوَا ُنهُمْ َيمُدّو َنهُمْ فِي ا ْل َغيّ ثُمّ لَا ُيقْصِرُونَ ()202
وَإِ ْ
ونحن حين نتتبّع كلمة " يمدونهم " في القرآن ،نجدها مرة " يمدونهم " ومرة يمددكم كما جاء في
قول الحق تبارك وتعالى {:وَ ُيمْدِ ْد ُكمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ[} ...نوح.]12 :
ونعلم أن الشياطين لن تترك المؤمنين في حالهم ،بل تظل في محاولة الغواية ،وتحاول الشياطين
غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين؛ لن العاصي إنما يعاون الشيطان
باتباعه شهوات نفسه ،ول يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك ،بل يحاول العاصي أو الشيطان
غواية المؤمنين و " أقصر " من مادة " قصر " ،أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها.
وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين.
فالشيطان -كما جاء في القرآن -يعترف بموقفه من ملحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف.]16 :
ل ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ
المعاصيَ ... {.
والشيطان يعلم أن من ل يتقي ال ل يحتاج إلى تزيين أو غواية؛ لنه يرغب ويميل للمعاصي
والعياذ بال؛ لذلك ل يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيرا.
ويقول الحق بعد ذلك { :وَإِذَا لَمْ تَأْ ِتهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ} ...
()1144 /
وَإِذَا َلمْ تَأْ ِتهِمْ بِآَ َيةٍ قَالُوا َلوْلَا اجْتَبَيْ َتهَا ُقلْ إِ ّنمَا أَتّبِعُ مَا يُوحَى إَِليّ مِنْ رَبّي َهذَا َبصَائِرُ مِنْ رَ ّبكُمْ
حمَةٌ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ ()203
وَهُدًى وَرَ ْ
وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة " آيات " ،واليات -كما أوضحنا -إما آيات كونية
وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل ،وإما آيات الحكام.
وال سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة " :آية " ل " آيات " ،والكون أمامهم ملئ بآياته ،والمنهج
المنزل على الرسول عليه الصلة والسلم واضح ،ول ينقص إل أن تأتي الية المعجزة -من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجهة نظرهم -وينبه الحق هؤلء بقوله تبارك وتعالى في سورة السراء {:وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ
فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ فَأَبَىا َأكْثَرُ النّاسِ ِإلّ ُكفُورا * َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا
سقِطَ
ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
ال ّ
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ َبشَرا
تَ ْرقَىا فِي ال ّ
رّسُولً }[السراء.]93 - 89 :
إذن فالياتُ المعجزاتُ التي طلبوها ،ل يأتي بها الرسول من عنده ،واليات التي ينزل بها المنهج
أيضا ليست من عنده ،بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم .وكانوا يتهمونه صلى ال عليه وسلم أنه
يفتري القرآن .لذلك طلبوا منه صلى ال عليه وسلم المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات
القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها؛ وقالوا للرسول
صلى ال عليه وسلم { :قَالُواْ َل ْولَ اجْتَبَيْ َتهَا ُقلْ إِ ّنمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىا إَِليّ مِن رّبّي }
يأمره هنا ربه أن يقولُ { :قلْ إِ ّنمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىا إَِليّ مِن رّبّي }
أي أن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم مكلف أن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح المين
جبريل عليه السلم من آيات القرآن الحاملة للمنهج اللهي ،وهذا المنهج في حد ذاته معجزة
حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }
متجددة العطاء ،لذلك يضيف...{ :هَـاذَا َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُ ْم وَهُدًى وَ َر ْ
[العراف.]203 :
ففي القرآن الكريم بصائرُ وهدىً رحمةُ ،والبصائر جمع بصيرة ،من البصار ،إذا امتل القلب
بنور اليقين اليماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق ،ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية
صاحب بصيرة ،أما البصر فهو مهمة العين في المور الحسية ،لكنْ هناك أمور معنوية ل تكشفها
إل البصيرة ،والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك المور المعنوية ،ول يمتلك القلب
البصيرة إل حين يكونُ مشحونا باليقين اليماني.
والقرآن الكريم بصائر؛ لنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد المور المعنوية وقد
صارت مُبصَ َرةً ،وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين.
وهذا القرآن المجيد بصائرُ وهدى ،أي يدل النسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق ال
المستقيم ،وهو رحمةٌ أيضا لمن ل يملك إشراقات القلب التي تهدي لليمان ول يملك قوة أخذ
الدليل الذي يوصله إلى الهداية ،إذن فهو رحمة لكل الناس ،وهدى لمن يسأل عن الدليل ،وبصائر
لمن تيقين أصول اليمان مشهديا.
وكما قلنا من قبل :إنّ ال قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية ،ومن هذه المور الغيبية أن له جنةً وأن
له نارا ،وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلغ عن ربهم ،وعلموا أن ذلك من ال ،وصار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم ،فإذا جاءَ يوم القيامة ورأوا الصراط مضروبا عن متن
جهنم مطابقا لما صدقوه وصار عين يقين ،وإذا ما دخل بعضهم النار -والعياذ بال -تكفيرا
لذنوب ارتكبوها ،فهذا حق يقين .وضربت المثل من قبل -ول المثل العلى -كان الجغرافيون
يحدثوننا ونحن طلب عن خريطة الوليات المتحدة ،ويقولون :إن عاصمتها " واشنطن " ،
والميناء الكبير فيها اسمه " نيويورك " ،وفي " نيويورك " توجد ناطحات السحاب وهي مبان
ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر،
وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا ،وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك
من الطائرة ،صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين .وعند هبوط الطائرة في مطار
واشنطن صارت الرؤية حق يقين.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى لنا اليمان ببعض من الغيب في قوله تعالى {:أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ *
علْمَ الْ َيقِينِ *
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ ِ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ثُمّ كَلّ َ
حَتّىا زُرْ ُتمُ ا ْل َمقَابِرَ * كَلّ َ
جحِيمَ * ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }[التكاثر.]7 - 1 :
لَتَ َروُنّ الْ َ
أورد سبحانه هناك " علم اليقين " " وعين اليقين " ،وأما " حق اليقين " فقد جاء في قوله {:فََأمّآ إِن
صحَابِ الْ َيمِينِ * فَسَلَمٌ ّلكَ
كَانَ مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ * فَ َروْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَ ّنتُ َنعِيمٍ * وََأمّا إِن كَانَ مِنْ َأ ْ
جحِيمٍ *
حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ َ
مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّا إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ
إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ }[الواقعة.]95 - 88 :
والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة ..فهناك من صدق ال في الخبر عن
الغيب كعين يقين ،وهناك من صدق قول ال حق اليقين ،ولذلك فإننا نجد المام عليا -كرم ال
وجهه -يقول " :لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا ".
وفي الحوار التي الذي دار بين حضرة النبي صلى ال عليه وسلم ،والصحابي الجليل الحارث بن
مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من اليمان:
" فقد روى الحارث بن مالك النصاري :أنه مرّ برسول ال صلى ال عليه وسلم فقال له :كيف
أصبحت يا حارث؟ قال :أصبحت مؤمنا حقّا ،قال " :انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة
فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا ،فأسهرت ليلي وأظلمت نهاري ،وكأني أنظر إلى
عرش ربي بارزا ،وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ،وكأني أنظر إلى أهل النار
يتضارغون فيها .فقال يا حارث عرفت فالزم ثلثا ".
هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صلى ال عليه وسلم قد صار حق يقين،
وامتلك البصيرة التي رأى بها كلّ ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} وَإِذَا لَمْ تَأْ ِت ِهمْ بِآيَةٍ قَالُواْ َل ْولَ اجْتَبَيْ َتهَا ُقلْ إِ ّنمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىا إَِليّ مِن رّبّي هَـاذَا َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُمْ
حمَةً ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العراف.]203 :
وَهُدًى وَرَ ْ
وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لصحاب المنزلة والدرجات العالية ،وهدى لصحاب الستدلل
ورحمةً للجميع.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك } :وَِإذَا قُرِىءَ ا ْلقُرْآنُ فَاسْ َت ِمعُواْ.{ ...
()1145 /
حمُونَ ()204
وَإِذَا قُ ِرئَ ا ْلقُرْآَنُ فَاسْ َت ِمعُوا َل ُه وَأَ ْنصِتُوا َلعَّلكُمْ تُرْ َ
وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا وهدى
ورحمة ،أل يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن؟ ..أل تجذبك هذه الحيثيات الثلث لن تعطي له
أذنك وأل تنصرف عنه؟.
إذن ل بد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلث؛ البصائر ،والهدى ،والرحمة ،وهو حقيق
وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ.
ولنلحظ أن ال تعالى قال { :فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ } ولم يقل " اسمعوا " ،لن الستماع فيه تعمد أن تسمع،
أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك ،وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد ل تنتبه ،ومن الرحمة
المحمدية يقول حضرة النبي صلى ال عليه وسلم ناهيا عن التسمع لسرار الغير تجسسا عليهم
بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رضي ال عنه حيث قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " ل تحاسدوا ول تباغضوا ،ول تجسّسُوا ول تحسّسوا ول تناجشوا وكونوا
عباد ال إخوانا ".
وفي هذا تحذير من هذه المور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس { .وَإِذَا
حمُونَ } [العراف.]204 :
قُرِىءَ ا ْلقُرْءَانُ فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ
والنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الستماع ،فاستمع وأنصت بنية
العبادة ،لن ال هو الذي يتكلم ،وليس من المعقول والتأدب مع ال أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت
عن كلمه ،وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق :ونبهنا إلى ما فيه الخير حيث يقول:
حسْبُنَا اللّهُ وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ } ،فإني سمعت
" عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالىَ { :
س ُهمْ سُوءٌ }.
ضلٍ لّمْ َيمْسَ ْ
ال عقبها يقول { :فَا ْنقَلَبُواْ بِ ِن ْعمَةٍ مّنَ اللّ ِه َو َف ْ
وعجبت لمن اغتم ،ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى { :لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ سُبْحَا َنكَ إِنّي كُنتُ مِنَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الظّاِلمِينَ } فإني سمعت ال عقبها يقول { :فَاسْتَجَبْنَا لَ ُه وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَ ّم َوكَذاِلكَ نُنجِـي
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }.
وعجبت لمن مُكر به ،ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى { :وَُأفَ ّوضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ َبصِيرٌ
بِا ْلعِبَادِ } .فإني سمعت ال عقبها يقول { -:فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَـرُواْ }.
وعجبت لمن طلب الدنيا ولم َيفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى { :مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ } .فإني
سمعت ال عقبها يقول { -:فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن جَنّ ِتكَ }.
حسْن الدب الذي يجب أن نستقبل به
ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو ُ
العبر التي تعود بالفائدة علينا.
ووقف العلماء حول النصات سماعا للقرآن؛ أيكون النصات إذا قرئ القرآن مطلقا في أي حال
من الحوال ،أو حين يُقرأ في الصلة ،أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة؟
وقد اختلفوا في ذلك ،فبعضهم قال :إن المقصود هو النصات للقرآن حين يُقرأ في الصلة،
والسبب في ذلك أن الوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم في
الصلة ،يعيدون بعده كل جملة قرآها فإذا قال :بسم ال الرحمن الرحيم؛ قالوا :بسم ال الرحمن
الرحيم ،وإذا قال " :الحمد ل رب العالمين " ،قالوا " :الحمد ل رب العالمين " فينبههم ال عز
وجل إلى أن يتركوا رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة.
وقال آخرون من العلماء :النصات للقرآن الكريم يكون في الصلة ،وفي خطبة الجمعة أو
العيدين ،لنها تشتمل على آيات من القرآن ،ولكن اشتمالها على اليات أقل مما يقوله الخطيب،
ونبه البعض إلى أن النصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عليه الصلة والسلم " :إذا قلت
لصاحبك والمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت ".
إذن النصات للخطبة جاء بدليل من السنة.
وهناك قول بأن الستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الوضاع حين يُقرأ؛ ففي هذا احترامٌ
ومهابةٌ لكلم ال عز وجل ،وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولنا سيدي " أبي عبدال
الحسين " ،فيقول:
إذا قُرئ القرآن سوا ٌء إن كنت في صلة أو كنت في خطبة ،أو كنت حرّا فأنصت؛ لن الحق
سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلم ،فميزه بأشياءَ ،إذا قُرئ ننصت له ،وإذا
مسّ المصحف ل بد أن يكون على " وضوء " حتى ل يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب
من الكتب ،وهذا يربي المهابة فل تمسك المصحف إل وأنت متوضئ ،فإذا علمنا أولدنا ،نقول
للواحد منهم :ل تقرب المصحف إل وأنت متوضئ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد.
وأيضا في " الكتابة " شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الملئي؛ حتى يكون للقرآن قداسة خاصة ،فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلمه ليس ككل
حمُونَ { [العراف.]204 :
كلم } .وَإِذَا قُرِىءَ ا ْلقُرْءَانُ فَاسْ َت ِمعُواْ َل ُه وَأَنصِتُواْ َلعَّل ُكمْ تُرْ َ
وبعض العلماء قال :ليس المطلوب مجرد الستماع بالذان ،بل المقصود بالستماع هنا هو أن
نستجيب لمطالبه ،أل تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض " :ال يسمع دعاك "؟ إنك تقولها
وأنت تعلم أن ال سامعك ،ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء ،إذن
فالستماع للقرآن يقتضي الستجابة لمطلوبات القرآن .لماذا؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن
حمُونَ {.
الرحيمَ } .لعَّلكُمْ تُرْ َ
ونعلم أن " لعل " " وعسى " حين تقال يقصد بها الرجاء ،و " ليت " تعني التمني وهو مستحيل ول
يُ َت َوقّع ،ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا ،لكننا نعلم أنه مستحيل ،مثلما قال الشاعر
العجوز:
أل ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيبإنه يعلم يقينا أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل
على أن الشباب فترة محبوبة .ومثل قول الشاعر:ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح فما
أرضى لكم كَلِمولن تدنو الكواكب.
إذن ساعة تسمع " عسى " أو " لعل " يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لن يحدث ،وإذا كان رجاء
من ال ،فهو رجاء من كريم ل بد له من واقع.
ويقول الحق بعد ذلك:
سمِع الغير
والذكر مرور الشيء ،إن كان بالبال ،فهو ذكر في النفس ،وإن كان باللسان ول يُ ْ
سمِعك أنت فهذا ذكر السر ،وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر مقبول ،وجهر غير مقبول،
ويُ ْ
والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذّكرُ إلى إزعاج والعياذ بال ،ولذلك يقول الحق تبارك
ك وَلَ ُتخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذاِلكَ سَبِيلً }[السراء.]110 :
جهَرْ ِبصَلَ ِت َ
وتعالىَ ... {:ولَ تَ ْ
ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الية؛ تنبها يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر ال في هذا المجال
فل يجهرون ول يرفعون أصواتهم به لدرجة الزعاج ،لني أقول لكل واحد منهم :إن ربك لم
يطلب منك حتى الجهر ،إنما طلب دون الجهر ،وأقول ذلك خاصة لهؤلء الذين يفسدون نعمة ال
ج َعلَ َل ُكمُ
حمَتِهِ َ
على خلقه؛ فيصيحون ليل ويمنعونهم من رحمة ال ليل التي قال عنهاَ {:ومِن رّ ْ
شكُرُونَ }[القصص.]73 :
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ
ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
الْلّ ْي َ
فل تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لن الدعوة إلى ال ليست صياحا على المنابر ،إل إذا كنتم
تصنعون لنفسكم دعاية إعلمية على مساجد ال وعلى منابر ال .وهذا أمر مرفوض وغير
سكَ َتضَرّعا وَخِيفَةً { والحق تبارك وتعالى يقول مرة {:ياأَ ّيهَا
مقبول شرعا } .وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ
الّذِينَ آمَنُواْ ا ْذكُرُواْ اللّهَ ِذكْرا كَثِيرا }[الحزاب.]41 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومرة يقول } :وَا ْذكُر رّ ّبكَ {
وقوله " :اذكر ال " يستشعر سماعها التكاليف؛ لن ال هو المعبود ،والمعبود هو المطاع في
الوامر والنواهي.
أما قوله " :اذكر ربك " فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض
نعمه ما ل يعد ول يحصى .فاذكر ربك؛ لنك إن لم تعشقه تكليفا ،فأنت قد عشقته لنه ممدك
بالنعم ،وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعا بالنعم.
وأضرب لك هذا المثل -ول المثل العلى وهو منزه عن التشبيه -وأنت لك أولد ،وتعطي لهم
مصروفا ،وحين تعطي لهم المصروف كل شهر ،تجدهم ل يحرصون على أن يروك إل كل
شهر ،لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك ،فإن كنت نائما يدخل ابنك
لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة ،فما بالك وأنت بكل
وجودك عبد لحسان ربك؟ وما دمت عبد الحسان فاذكر من يحسن إليك ،اذكر ربك دائما.
واذكره على حالين :الول تضرعا .أي بذلة ،لنك قد تذكر واحدا بكبرياء ،إنما ال الخالق
المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية ،واذكر ربك " خيفة " أي خائفا
متضرعا؛ لنك كلما ذللت له يعزك ،ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد ،والناس
ينفرون ممن يستعبدهم؛ لن عبودية النسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير
العبد للسيد ،ولكن عبوديتك ل تعطي خير ال لك .ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صلى ال
ل ْقصَى الّذِي
ج ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ
عليه وسلم فيقول {:سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
سمِيعُ ال َبصِيرُ }[السراء.]1 :
حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
بَا َركْنَا َ
وقد أخذ الرسول صلى ال عليه وسلم منزلة كبرى بحادث السراء ،وكان الحديث عنها بامتنان
من ال على عبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم.
والشاعر المؤمن يقول:حسب نفسي عزَا بأني عبد يحتفي بي بل مواعيد ربهو في قدسه العز
ولكن أنا ألقي متى وأين أحبوأنت أيها العبد المؤمن تلقى ال متى أردت ،وإذا أسلمت زمامك
لليمان؛ فالزمام في يدك .يكفي أن تنوي الصلة وتقول :ال أكبر فتكون في حضرته سبحانه
سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان .وفي منتهى العزة لك {.وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي
جهْرِ مِنَ ا ْل َق ْولِ[} ...العراف.]205 :
سكَ َتضَرّعا َوخِيفَةً وَدُونَ الْ َ
َنفْ ِ
ولم يقل هنا رب العالمين :بل ربك أنت يا محمد ،وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس ،فهذا
العطاء الذي جاء بمحمد رسولً ،نعمةٌ ومن ٌة من ال على المؤمنين برسالته ،وبعد ذلك ينسب لكل
سكَ { أي أنه سبحانه لم
مسلم العطاء الذي جاء لمحمد .وقوله تعالى لرسوله } :وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ
يجعل دليل عنايته بك مقصورا على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لنك قد ل ترى شيئا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الكون أو ل تسمع شيئا في الكون؛ لن الكون منفصل عنك ،إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد
سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات.]21 :
اليات كلها تذكرك بخالقكَ {،وفِي أَنفُ ِ
فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك ،جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لن نفسك ل
تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها ،وبنوازعها ،ولهذا كان التضرع إلى ال والخيفة منه لهما
مجال هنا؛ لنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك ،وستجد الكثير من اليات ،وهي آيات أكبر
منك ،لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا ،وتخاف أل تؤدي حقه لديك.
جهْرِ مِنَ ا ْلقَ ْولِ بِا ْلغُ ُدوّ
سكَ َتضَرّعا وَخِيفَ ًة وَدُونَ الْ َ
ونعود إلى قول ال تعالى } :وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ
وَالصَالِ { والذكر حَ َدثٌ ،والح َدثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان .والغدو والصال زمنان
يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار ،والصال هو من العصر للمغرب ،مثلما نقول " شمس
الصيل ".
وهذه الية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا ،فالحق تبارك وتعالى يقول {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ
ا ْذكُرُواْ اللّهَ ِذكْرا كَثِيرا * وَسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً وََأصِيلً }[الحزاب.]42 - 41 :
وكما يقول عز وجل {:إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا َومُبَشّرا وَنَذِيرا * لّ ُت ْؤمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُوِل ِه وَ ُتعَزّرُوهُ
وَ ُتوَقّرُو ُه وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }[الفتح.]9 - 8 :
و " الصيل " هنا مشترك ،ومقابل الصيل يطلق الحق عليه مرة بكرة ،وأخرى يطلق عليه:
شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ
الغدو ،وسبحانه القائل {:اللّهُ نُورُ ال ّ
جةُ كَأَ ّنهَا َك ْوكَبٌ دُ ّريّ يُوقَدُ مِن شَجَ َرةٍ مّبَا َركَةٍ زَيْتُونَ ٍة لّ شَ ْرقِيّ ٍة َولَ غَرْبِيّةٍ َيكَادُ زَيْ ُتهَا
زُجَاجَةٍ الزّجَا َ
لمْثَالَ لِلنّاسِ
سهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآ ُء وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
ُيضِيءُ وَلَوْ َلمْ َتمْسَ ْ
سمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُدوّ
شيْءٍ عَلَ ِيمٌ * فِي بُيُوتٍ َأذِنَ اللّهُ أَن تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
وَالصَالِ }[النور.]36 - 35 :
إنك ساعة أن تقرأ " في بيوت " تعرف أن هنا حدثا؛ لن قوله " :في بيوت " شبه جملة " في
معنى الظرف ،وإذا استقرأت ما قبلها ،لم تجد لها مُ َتعَلّقا .والحظ إذن أن ما قبلها هو } نّورٌ عَلَىا
سمُهُ { فأنت حين تذهب إلى المسجد لتلقى ال،
نُورٍ { } فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
فذلك نور ،وتصلى له فذلك نور ،وتخرج من هذا النور بنور يهبط عليك في بيته ،وكل هذا نور
على نور ،فمن أراد أن يتعرض لنفحات نور ال عز وجل؛ فليكثر من الذهاب إلى بيوت ال،
وللمساجد مهابة النور لنها مكان الصلة ،ونعلم أن الصلة هي الخلوة التي بين العبد وربه ،وكان
رسول ال إذا حز به أمر قام إلى الصلة .وأنت إذا ما اتبعت حضرة النبي صلى ال عليه وسلم
وتصلي ركعتين ل فلن حز بك أمر وعزت عليك مسألة وكانت فوق أسبابك ثم ذهبت بها إلى ال
سمُهُ ُيسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِا ْل ُغ ُدوّ
فلن يخرجك ال إل راضيا } .فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْرفَ َع وَ ُي ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَالصَالِ {.
والغدو والصال أو البكرة والصيل كما عرفنا هي أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل.
ولماذا أزمنة أول النهار وأزمنة أو الليل؟
لن هذه الزمنة هي التي يطلب فيها الذكر .فقبل أن تخرج للعمل في أول النهار أنت تحتاج
لشحنة من العزيمة تقابل بها العمل من أجل مطالب الحياة ،وفي نهاية النهار أنت تحتاج أن تركن
إلى ربك ليزيح عنك متاعب هذا اليوم ،لذلك إياك أن تشغلك الحياة عن واهب الحياة ،ولك أن
تذكر ربنا وأنت تعيش مع كل عمل تؤديه وتقوم به وأن تقابل كل نتيجة للعمل بكلمة( :الحمد ل)
وعندما ترى أي جميل من الوهاب سبحانه وتعالى يجب عليك أن تقول " :ما شاء ال " وعندما
ترى أي شيء يعجبك تقول( :سبحان ال).
ولذلك حينما دعا ال خلقه المؤمنين به إلى الصلة قال {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُو ِديَ لِلصّلَاةِ مِن
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة.]9 :
ج ُمعَةِ فَا ْ
َيوْمِ ا ْل ُ
وهذا التكليف في صلة الجمعة المفروضة كصلة للجماعة ،والجماعة مطلوبة فيها ،ومن
الضروري أن نتواجد فيها كجمع؛ لن الجماعة مشروطة فيها فل تصح بدون الجماعة.
لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ
ونعرف أن الصلة إنما هي ذكر لربنا ،فماذا بعدها؟{ فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ
ضلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[الجمعة.]10 :
وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
أي إياك أن يشغلك انتشارك في الرض وابتغاؤك من فضل ال ،والخذ بأسباب الدنيا عن واجبك
سكَ َتضَرّعا وَخِيفَةً.{ ...
نحو ال ،بل عليك أن تذكره سبحانه وتعالى } :وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ
()1146 /
أي ل تكن من الغافلين عن مطلوبات ال بالحدود التي بينها ال عز وجل؛ لن الغفلة معناها
انشغال البال بغير خالقك ،وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك ل تغفل عن مطلوباته في
الغدو والصال وفي كل وقت ،سواء كنت في الصلوات الخمس ،أو كنت تضرب الرض في أي
معنى من المعاني ،وتأس أيها المؤمن بالملئكة الذين يسبحون الليل والنهار ل يفترون ،فإذا كان
الملئكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية ،ول يأكلون ول يتناسلون،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وليس لهم شهوة بطن ول شهوة فرج ،وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية ،مع ذلك يجب
عليك أن تتأسى بهم؛ لنهم هم الذين ل يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ل يستكبرون
عن عبادته ،ويسبحونه؛ وله يسجدون ،لذلك يقول الحق بعد ذلك { :إِنّ الّذِينَ عِندَ رَ ّبكَ} ...
()1147 /
جدُونَ ()206
إِنّ الّذِينَ عِنْدَ رَ ّبكَ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَ ُه وَلَهُ يَسْ ُ
وإذا كنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لما من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء ،فلماذا
خص هؤلء بالعندية؟.
إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان؛ لن المكان مُحَيّز ،وربنا عز وجل ل يتحيز في
مكان ،والعندية هنا عندية الفضل ،وعندية الرحمة ،وعندية الملك ،وعندية العناية .أو إن كل خلق
ل جعل لهم أسبابا ومسبّبات ،ولكن خلقا من خلقه يسبحونه بذاته ،وليس لهم عمل آخر ،ويعرفون
بالملئكة العالين ،ل الملئكة المدبرات أمرا أو الحفظة .ولذلك قلنا سابقا :إن الحق سبحانه وتعالى
حينما أمر الملئكة بالسجود لدم ،وامتنع إبليس ،قال لهَ {:أسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص:
.]75
و { ا ْلعَالِينَ } هم الذين لم يشملهم أمر السجود ،فهم ملئكة موجودون ول عمل لهم إل تسبيح
الذات العلية ول يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئا .وهم غير الملئكة المسخرين لخدمتنا؛ فالذين
عند ربنا هم الملئكة المُهيّمون الذين ل يعرفون شيئا إل الذات اللهية وتسبيح الذات وعملهم
سجُدُونَ }
يحدده ال هنا { :لَ يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَ ِت ِه وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَ ْ
واختلف العلماء في كيفية سجود الملئكة ،أهو الخضوع؟ أهو الصلة؟ أهو السجود الذي نعرفه
نحن؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع ل عز وجل وقت الصلة .لنه نزول
بأشرف شيء في النسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الرض خضوعا ل عز وجل.
ولذلك علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب ال فيها
مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقية ونسجد لها سجدة تسمى التلوة ،ويكون ذلك عند
تلوتها أو سماعها من القارئ ،وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة
وجعلوا عندها علمة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطا .وحين قام العلماء ببيان
المواضع التي تطلب فيها هذه السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة " العراف " التي
نتناولها بخواطرنا الن ،وانتهت بسجدة " العلق " {:اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ الّذِي خََلقَ }[العلق.]1 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبينهما سجدات ،وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في
هذه السورة .فمن حسبها خمس عشرة سجدة ،عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة
الحج الولى -المتفق عليها -وبعض العلماء قال :إنها أربع عشرة سجدة؛ لنه لم يحسب سجدة
الحج الثانية.
وهب أنك أردت أن تسجد ل شكرا في أي وقت ،وعند أي آية فاسجد ل سجدة الشكر ،وهي
سجدة واحدة كسجدة التلوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّه ،أو زوال نقمة ول تكون إل
خارج الصلة.
والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير ،ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلة ،والمفترض أن تقول" :
سبحان ربي العلى " ،إل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم علمنا ما نقوله في السجود للتلوة،
وروي عن ابن عباس قال:
" كنت عند النبي صلى ال عليه وسلم فأتاه رجل فقال :إنّي رأيتُ البارحَة -فيما يرى النائم كأنّي
ططْ
أصلي إلى أصل شجرة ،فقرأت السجدةَ فسجدت الشجرةُ لسجودي فسمعتها تقول :اللهم اح ُ
جعْلها لي عندكَ ُذخْراَ .قال ابنُ عباس :فرأيت النبي صلى
عني بها وِزْرا ،واكتُب لي بهاَ أَجْرا ،وا ْ
ال عليه وسلم قرأ السجدة فسجد ،فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قولِ
الشجرة ".
وبذلك تختم سورة العراف ،والتسمية للسورة في ذاتها متناسبة؛ لن " العراف " هو المكان
العالي البارز الذي يجلس عليه القوم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لينظروا إلى أهل الجنة
وينظروا إلى أهل النار ،وهكذا تكون العراف مكانا يزيد في الرتفاع ،وهي مأخوذة من " عرف
الفرس " ،وعرف الفرس أعلى شيء فيه ،والنفال أيضا هي الزيادة؛ ولذلك فإن التسمية متناسبة
سواء بالنسبة لسورة العراف أو النفال ،وأيضا يوجد التناسب في المعنويات ،وهذا التناسب
سهُمْ
نلحظه عندما نقرأ قول الحق تبارك وتعالى في أواخر سورة العراف {:إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ ِإذَا مَ ّ
طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ َت َذكّرُواْ فَِإذَا هُم مّ ْبصِرُونَ }[العراف.]201 :
ن الَنْفَالِ ُقلِ الَنفَالُ للّ ِه وَالرّسُولِ
ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى في أول سورة النفال {:يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ
فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِنكُمْ[} ...النفال.]1 :
لن من مهام الشيطان أن يفرق بين المؤمنين بوسوسته لهم ،فإذا ما تذكروا ال وما أعده لهل
اليمان؛ فهم يبصرون الحقيقة الولى التي ترتفع على كل شيء وهي اليمان بال ،وهذا اليمان
إنما يتطلب تصفية القلوب من كل ما يكدرها حتى تكون خالصة نقية.
()1148 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْأَ ْنفَالِ ُقلِ الْأَ ْنفَالُ لِلّ ِه وَالرّسُولِ فَا ّتقُوا اللّ َه وََأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْ ِن ُك ْم وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ
إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()1
يقول الحق سبحانه وتعالى مفتتحا سورة النفالَ { :يسْأَلُو َنكَ عَنِ الَنْفَالِ ُقلِ الَنفَالُ للّ ِه وَالرّسُولِ
فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِنكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ }
السؤال يقتضي سائلً :وهم صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ويقتضي مسئولً هو الرسول
عليه الصلة والسلم ،ويقتضي مسئولً عنه وهو موضوع السؤال المطروح.
والمسئول عنه قد يوجد بذاته ،مثلما نسأل صديقنا :ماذا أكلت اليوم؟ هذا السؤال فيه تحديد لمنطقة
الجواب ،والجواب عنه أيضا يحدد المنطقة.
وموضوع السؤال في قول ال تعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َمحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي
طهُرْنَ }[البقرة.]222 :
ض َولَ َتقْرَبُوهُنّ حَتّىا يَ ْ
ا ْلمَحِي ِ
يدل عليه الجواب ،فهم لم يسألوا عن أسباب المحيض ،أو لماذا ينقطع عن الحامل أو من بلغت
الكبر ،لكن كان موضوع السؤال الذي هو واضح من إجابة الحق تبارك وتعالى :أيجوز أن يباشر
الرجل المرأة أثناء المحيض أو ل؟
وسؤال آخر سألوه للرسول صلى ال عليه وسلم عن اليتامى ،ويحدد الجواب موضوع السؤال:
خوَا ُنكُمْ وَاللّهُ َيعْلَمُ
يقول ال تعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّل ُهمْ خَيْرٌ وَإِنْ ُتخَاِلطُوهُمْ فَإِ ْ
حكِيمٌ }[ البقرة.]220 :
ح وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ
لنهم كانوا يتخوفون من مخالطة اليتامى في الموال ومن مؤاكلتهم ،وغير ذلك من ألوان التعامل،
ورعا وبعدا عن الشبهات وجاءت الجابة لتحدد موضوع السؤال:
ومرة يأتي السؤال وفيه تحديد مناط الجابة لنها عامة مثل قوله الحق تبارك وتعالى {:يَسْأَلُو َنكَ
س وَالْحَجّ }[البقرة.]189 :
ن الَهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ
عَ ِ
هم سألوا محمدا صلى ال عليه وسلم :لماذا يبدأ الهلل صغيرا ولماذا يكبر ،ثم لماذا يختفي في
المحاق؟ .وهذا سؤال في الفلك .ولم يجبهم الرسول صلى ال عليه وسلم إل في الحدود التي
س وَالْحَجّ }.
يستفيدون منها وهي القيمة النفعية العملية ،وجاءت الجابةُ { :قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ
لننا ورغم وجودنا في هذا القرن العشرين إل أن البعض من الناس ما زال يكذب الحقيقة العلمية
التي ثبتت بما ل يدع مجالً لي شك .ونقول للعامة :إن الهلل يشبه قلمة الظفر ثم يكبر ليستدير
ثم يختفي قليلً .وفي هذا يقول الشاعر:وغاية ضوء قمير كنت آمله مثل القلمة قد قدت عن
الظفرولو قال لهم :إن الهلل يظهر حين تتوسط الرض بين الشمس والقمر ثم يبدأ في الكتمال
تباعا ،لما استطاعت عقولهم أن تستوعب هذه المسألة ،فجاء لهم بالحكمة المباشرة النفعية التي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تدركها عقولهم تماما ،ثم ارتقت العقول بالعلم ووصلنا إلى دراسة حركة الفلك التي توضح كل
التفاصيل الفلكية.
شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ
وهناك سؤال يجيء في أمر محدد ،مثل قول الحق {:يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
جدِ ا ْلحَرَا ِم وَِإخْرَاجُ أَهِْلهِ مِنْهُ َأكْبَرُ عِندَ اللّهِ }
فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَن سَبِيلِ اللّ ِه َو ُكفْرٌ ِب ِه وَا ْلمَسْ ِ
[البقرة.]217 :
وهكذا عرفنا أن موضوع السؤال هو عن حكم القتال في الشهر الحرام ،ل طلب تحديد الشهر
الحرم بالذات.
ن الَ ْنفَالِ { والنفالُ جمعُ َنفَل (بفتح الحرف الول
ويقول الحق تبارك وتعالى هنا } :يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ
والثاني) ،مثل كلمة سَبَب وأسباب ،والمراد بالنَفل هنا الغنيمة؛ لنها من فضل ال تعالى وهي من
خصائص سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم وقد اختصت بها هذه المة دون المم السابقة ،والنفْل
بالسكون الزيادة ،ومنه صلة النافلة؛ لنها زيادة عن الفريضة الواجبة ،وفي هذا المعنى يقول ربنا
عز وجل في آية ثانيةَ } :ومِنَ الْلّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً ّلكَ {.
ونافلة تعني أمرا زائدا غير مفروض ،ولذلك نقول :إن النفل هو العبادة الزائدة ،وشرطها أن
تكون من جنس ما فُرض عليك؛ لن النسان ل يعبد ربه حسب هواه الشخصي ،بل يعبد ربه بأي
لون من ألوان العبادة التي شرعها ال ،وإذا أراد زيادة فيها فلتكن من جنس ما فرض ال ،حتى ل
يبتدع العبد عبادات ليست مشروعة .ولذلك قال الحق تبارك وتعالى لرسوله محمد صلى ال عليه
حمُودا }[السراء.]79 :
عسَىا أَن يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَاما مّ ْ
وسلمَ {:ومِنَ الْلّ ْيلِ فَ َت َهجّدْ ِبهِ نَافِلَةً ّلكَ َ
النفل إذن هو أمر تعبدي زائد عن الصل.
وحينما ابتلى ال سيدنا إبراهيم عليه السلم بأن يذبح ولده إسماعيل ،جاءه البتلء ل بوحي
صريح ،ولكن برؤيا منامية وهو ابتلء شاق ،فلم يكن البتلء -مثل -أن يذبح إنسان آخر
سيدنا إسماعيل ،ثم يصبر سيدنا إبراهيم على فقده ،ل بل هو الذي يقوم بذبح ولده إسماعيل.
وهكذا كان البتلء كبيرا ،خصوصا أنه لم يأت إل في آخر العمر .وكانت هذه المسألة من
الملبسات القاسية على النفس .ولذلك أوضح ربنا عز وجل أن سيدنا إبراهيم كان أمة ،أي
اجتمعت فيه صفات اليمان اللزمة لمة كاملة {.وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }[البقرة:
.]124
ولنر رحموت النبوة في سلوك سيدنا إبراهيم عليه السلم حين جاء لينفذ أمر الرؤيا بذبح البن
لن رؤيا النبياء وحي؛ لذلك لم يشأ أن يأخذ ولده أخذا دون أن يطلعه على الحقيقة؛ لنه لو فعل
ذلك سيعرض ولده لحظة لها جس عقوق لبيه ،وقد يقول البن :أي رجل هذا الذي يذبح ابنه؟.
وأراد سيدنا إبراهيم أن يشاركه ابنه كذلك في الثواب ،وأن يكون البن خاضعا لمر الحق تبارك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىا }[الصافات.]102 :
وتعالى كأبيه فقال له {:يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي َأذْبَ ُ
وهكذا أوضح سيدنا إبراهيم عليه السلم البتلء الذي جاءه كرؤيا في المنام فماذا يقول البن
جدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات:
إجابة على سؤال أبيه؟{ قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ سَتَ ِ
.]102
أي أن إسماعيل عليه السلم أسلم زمامه لمر الحق تبارك وتعالى ،ويواصل المولى سبحانه
وتعالى وصف ابتلء سيدنا إبراهيم بذبح البن فيقول تبارك وتعالى:
{ فََلمّا َأسَْلمَا وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا َكذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ }
[الصافات.]105 - 103 :
فبعد أن رضي كل من سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل وسلما أمرهما ل تعالى وامتثل للمر
بالقضاء ،رفع ال برحمته هذا القضاء؛ لذلك يصف الحق تبارك وتعالى هذا البلء وتكرمه بالفداء
عظِيمٍ }[الصافات.]107 - 106 :
فيقول {:إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ َ
وتعلمنا هذه الواقعة أيها المسلم أنك إذا ما جاء لك قضاء من ال ،إياك أن تجزع ،إياك أن تسخط،
إياك أن تغضب ،إياك أن تتمرد؛ لنك بذلك تطيل أمد القضاء عليك ،ولكن سلم لقضاء ال فيُرفع
هذا القضاء؛ لن القضاء ل يُرفَع حتى يُرْضى به .وهكذا لم يكن جزاء الصبر على القضاء لسيدنا
إبراهيم عليه السلم افتداء إسماعيل بذبح عظيم فقط ،بل وزيادة على ذلك يسوق له المولى
سحَاقَ نَبِيّا مّنَ الصّالِحِينَ }[الصافات.]112 :
البشرى بمزيد من العطاء فيقول {:وَبَشّرْنَاهُ بِإِ ْ
أي أنه لم يرزقه بولد ثانٍ فقط ،بل بولدٍ يكون نبيا وصالحا .وتأتي زيادة أخرى في العطاء الرباني
جعَلْنَا
ق وَ َي ْعقُوبَ نَافِلَ ًة َوكُلّ َ
لسيدنا إبراهيم عليه السلم فيقول سبحانه وتعالىَ {:ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَا َ
صَالِحِينَ }[النبياء.]72 :
هكذا يتجلى عطاء المولى سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلم فل يعطيه الولد الذي يحفظ
ذكره فقط ،بل يعطيه الولد الذي يحفظ أمانة الدعوة أيضا ،وكل ذلك نافلة من ال ،أي عطاء كريم
زائد وفضل كبير لبي النبياء.
إذن النفل هو المر الزائد عن الصل .ومثال ذلك ما خص ال به رسوله محمدا صلى ال عليه
وسلم ،فقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من النبياء قبلي ،نصرت بالرعب مسيرة شهر ،وجعلت لي
الرض مسجدا وطهورا ،فأيما رجل من أمتي أدركتْه الصلة فليصل ،وأحلت لي الغنائم ،ولم
تحل لحد قبلي ،وأعطيت الشفاعة ،وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ،وبعثت إلى الناس عامة ".
إذن تشريع ال للغنائم في السلم أمر زائد عن الصل؛ لن الغنائم لم تحل لحد من النبياء قبل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رسولنا صلى ال عليه وسلم.
وهناك نفل ،وهناك غنيمة ،وهناك فيء ،وهناك قبض.
وسنوجز معنى كل منها:
الغنيمة :هي ما يأخذه المسلمون من العداء المهزومين ،وتقسم فيما بينهم بنسب معينة ،فللرجل
المقاتل سهم واحد ،وللفارس سهمان ،وهذا على سبيل المثال فقط وتقسيمها حسب تشريع ال عز
وجل ،وسبق بيان النفَل والنفْل بفتح الوسط وسكونه ،والفيء هو كل مال صار للمسلمين من غير
حرب ول قهر " -والقبَض " بتحريك الوسط بمعنى المقبوض وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن
تقسم.
لكن إذا جاء ولي المر وبين للمقاتلين مشجعا لهم على حركة الحرب مثلما فعل رسول ال صلى
ال عليه وسلم وقال:
" من قتل كافرا فله سلبه ".
فلذلك أمر زائد في حصته في الغنيمة.
وقد يبعث القائد سريةً ويشجعها على خوض الصعاب فيقول لفراد تلك السرية :لكم نصف ما
غنمتم ،أو الربع أو الخمس ،فهذا يعني أن من حقهم أن يأخذوا النسبة التي حددها لهم القائد كأمر
زائد ،ثم تقسم الغنائم من بعد ذلك ،وساعة يأخذ المقاتلون السلب والمتاع ،والعتاد والموال من
السرى ،فهذه تسمى غنائم ،أما حين ُتجْمع الغنائم عند ولي المر فيصير اسمها القبَض وقد سبق
بيانه.
وفي يوم بدر حدثت واقعة يرويها الصحابي الجليل سعد بن مالك رضي ال عنه قائلً:
" قلت يا رسول ال :قد شفاني ال اليوم من المشركين ،فهب لي هذا السيف ،قال عليه الصلة
والسلم " :إن هذا السيف ل لك ،ول لي ،فضعه " ،قال :فوضعته ،ثم رجعت ،فقلت :عسى أن
يعطي هذا السيف من ل يبلي بلئي ،قال :فإذا رسول ال يدعوني من ورائي .قال الصحابي :قد
أنزل ال في شيئا؟ .قال رسول ال صلى ال عليه وسلم كنت سألتني السيف ،وليس هو لي ،وأنه
ل الَنفَالُ للّهِ
ن الَ ْنفَالِ ُق ِ
قد وُهِب لي ،فهو لك " ،قال :وأنزل ال هذه اليةَ } :يسْأَلُو َنكَ عَ ِ
وَالرّسُولِ { [النفال]1 :
أي أن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يكن ليحكم في أمر السيف إل بعد أن ينزل حكم ال عز
وجل .ونعلم جميعا أن النبي صلى ال عليه وسلم ذهب إلى غزوة بدر ولم يكن يقصد القتال ،بل
كان الخروج للعير التي تحمل بضائع قريش القادمة من الشام ،وليس معها إل بعد أربعون رجلً
يحرسونها ،ولذلك خرج المسلمون وكان عددهم ثلثمائة وثلثة عشر رجلً وليس معهم عدة أو
عتاد ،بل لم يكن لديهم إل فرسان اثنان لنهم لم يخرجوا لقتال ،بل خرجوا للعير بغية أن يعوضوا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنفسهم شيئا مما سُلبوه في مكة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :إن أبا سفيان سلك طريق
الساحل .أي سار في طريق بعيد عن المسلمين ولم يأت من جهة الرسول والذين معه ،واستنفرت
قريش كل رجالها ليحموا العير ،وصار المر بين أن يرجع المؤمنون دون حرب ،وإما أن
يواجهوا النفير ،وهو التعداد الكثير ،وكانوا ألفا ومعهم العُدّة والعتاد ،فأراد رسول ال صلى ال
عليه وسلم أن يشجع الفتيان على الحرب فقال لهم " :من قتل كافرا فله سلبه " ،أي أنه خصّهم
بأمر زائد عن سهمهم في الغنيمة .فلما علم الكبار من الصحابة والشيوخ ،قالوا :يا رسول ال هم
قاتلوا وقتلوا ،لكن نحن كنا عند الرايات ،يفيئون إلينا إن وقعت عليهم هزيمة فل بد أن نتشارك،
وحدث لغط وخلف ،فحسم ال سبحانه وتعالى هذا اللغط بأن أنزل قوله تعالى } :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ
الَنْفَالِ ُقلِ الَنفَالُ للّ ِه وَالرّسُولِ فَا ّتقُواْ اللّهَ {.
فبين سبحانه أن الحكم في قسمة الغنائم بين الجميع ل وللرسول وإياكم أن تخرجوا عن أمر ال
فيها ،واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية .فل تنازعوا ول تختلفوا } وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِن ُكمْ {.
إن كان قد حصل بين الطرفين ،الشبان والشيوخ الكبار قليل من الخلف فأصلحوا ذات بينكم.
وساعة تسمع } وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِنكُمْ { قد تسأل :ما هو البين؟ الجواب " البين " هو ما بين شيئين،
فحين يجلس صف من الناس بجانب بعضهم البعض ،فما بين كل منهم هو ما يُسمى " البين " ،
وقد يكون الذي يفصلنا عن بعض " بين مودة " أو بين جفوة ،إذن فالبين له صورة وله هيئة ،فإن
كانت الصورة التي بينكم وبين بعضكم فيها شيء من الجفوة فأصلحوا السبب الذي من أجله وُجدَ
" البين " حتى ل يكون بينكم جفوة ونزاع.
ثم يقول تبارك وتعالى } :وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ { [النفال.]1 :
وقلنا إن أمر الطاعة معناه المتثال ،والطاعة ليست للمر فقط بل للنهي أيضا ،لن المر طلب
فعل ،والنهي طلب عدم فعل ،وكلهما طلب .وحينما يقول الحق } :وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ {.
تفهم هذا القول على ضوء ما عرفناه من قبل وهو أن مسألة الطاعة أخذت في القرآن صورا
ثلثا ،الصورة الولى :يقول الحق تبارك وتعالى } :وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ { وفيها يكرر المطاع
وهو ال والرسول ،ولكنه يفرد المر بالطاعة.
ومرة ثانية يقول المولى عز وجل {:وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ }[المائدة.]92 :
أي أنه سبحانه يكرر المطاع ،ويكرر المر بالطاعة.
ومرة ثالثة يقول سبحانه وتعالى } :وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ { .لن منهج ال فيه أمور ذكرها ال عز
وجل ،وذكرها رسول ال صلى ال عليه وسلم وتواردت السنة مع النص القرآني ،فنحن نطيع ال
والرسول في المر الصادر من ال .وهناك بعض من التكاليف جاءت إجمالية ،والجمال ل بد له
لةَ كَا َنتْ عَلَى
لةَ إِنّ الصّ َ
من تفصيل ،مثل الصلة وفيها قال الحق تبارك وتعالى {:فََأقِيمُواْ الصّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابا ّم ْوقُوتا }[النساء.]103 :
إذن فال عز وجل أمر بالصلة إجمالً وقدّم الرسول صلى ال عليه وسلم لهذا الجمال تفسيرا
وتطبيقا فهي خمس صلوات ،ركعتان للصبح ،وأربع ركعات للظهر ،وأربع ركعات للعصر،
وثلث ركعات للمغرب ،وأربع ركعات للعشاء ،وحدد الرسول عليه الصلة والسلم الصلوات
التي نجهر فيها بقراءة الفاتحة وبضع آيات من القرآن ،وحدد الصلوات التي ل نجهر فيها
بالتلوة.
إذن فحين يقول الحق تبارك وتعالى } َأطِيعُواْ اللّهَ { ،أي أطيعوه في مجمل الحكم ،وحين يقول} :
وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ { أي أطيعوه في تفصيل الحكم ،وإذا ما قالَ } :أطِيعُواْ اللّ َه وَالرّسُولَ { فهذا
يعني أن الحق قد أمر وأن الرسول قد بلغ ،والمراد واحد ،وإذا لم يكن ل أمر ،وقال الرسول شيئا
فالحق يقول } :وََأطِيعُواْ الرّسُولَ { ،وسبحانه قد أعطى رسوله تفويضا بقوله:
()1149 /
إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُ ْم وَإِذَا تُلِ َيتْ عَلَ ْي ِهمْ آَيَاُتهُ زَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَ ّبهِمْ
يَ َت َوكّلُونَ ( )2الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ ()3
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصفات أنه :إذا تليت عليهم آيات ال زادتهم إيمانا ،ثالثة الصفات :أنهم على ربهم يتوكلون،
ورابعة الصفات :أنهم يقيمون الصلة ،وخامسة الصفات :أنهم ينفقون مما رزقهم ال.
والصفة الولى للمؤمنين هي { :إِذَا ُذكِرَ اللّهُ وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ } [النفال.]2 :
والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة ،واضطراب في القلب ،وحينما أراد الشعراء أن
يعطوا صورة بهذا الحساس ،نجد شاعرا منهم يقول:كأن القلب ليلة قيل يغدي بليلي العامرية أو
يراحقطاط غرها شرك تجا ذبه وقد علق الجناحفالشاعرُ يصور حالة قلبه حين سمع بنبأ سفر
حبيبته ،كأنه صار مثل حمامة تحاولُ أن تخلّص نفسها من شبكة أو َمصْيدة وقعت فيها ،إنها
تجاذب المصيدة حتى تخرج ،وهي ترجف في مثل هذا الموقف ،هكذا حال القلب لحظة فراق
المحبوبة عند الشاعر.
وإذا كان ذكر ال عز وجل يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل ،أل يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ }[الرعد.]28 :
طمَئِنّ قُلُو ُبهُمْ ِب ِذكْرِ اللّهِ َألَ ِب ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ
وتعالى:؟{ الّذِينَ آمَنُو ْا وَتَ ْ
في الحقيقة ل يوجد تعارض بين القولين؛ لن ذكر ال تعالى يأتي بأحوال متعددة ،فإن كان
النسان مسرفا على نفسه ،فهو يرجف حين يذكر ال الذي خالف منهجه .وإن كان النسان
يراعي حق ال في كل عمل قَدْر الستطاعة ،فل بد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر ال؛ لنه اتبع منهج
ال ما استطاع إلى ذلك سبيل.
إذن فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مَهاب ِة وسطوة صفات الجلل .والطمئنان إنما يجيء من
إشراقات وحنان صفات الجمال .ولذلك تجمعها آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى {:اللّهُ نَ ّزلَ
شوْنَ رَ ّبهُمْ ُثمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ َوقُلُو ُبهُمْ
شعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ َيخْ َ
حدِيثِ كِتَابا مّتَشَابِها مّثَا ِنيَ َتقْ َ
حسَنَ الْ َ
أَ ْ
إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ }[الزمر.]23 :
فالجلود تقشعر خوفا ووجَلً ومهابة من ال عز وجل ،ثم تلين اطمئنانا وطمعا في حنان المنّان
سبحانه وتعالى ،لن رّبنا قال {:نَبّىءْ عِبَادِي أَنّي أَنَا ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }[الحجر.]49 :
إذن فل يقولن أحد إن هناك تعارضا بين الوجل والطمئنان ،فكلها من ذكر ال بالحوال المتعددة
للنسان ،فإذا ما وجل النسان فهو يتجه إلى فعل الخير فيطمئن مصداقا لقول الحق تبارك
حسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ ذاِلكَ ِذكْرَىا لِلذّاكِرِينَ }[هود.]114 :
وتعالى {:إِنّ الْ َ
وهل يزيد اليمان أو ينقص؟
اختلف العلماء في هذا المر .ونحن عندما ننظر إلى قول الحق نجده يؤكد زيادة اليمان ،وحينما
نسأل ما اليمان؟ وما السلم؟ ....إلخ نجد الجواب في توضيح الرسول صلى ال عليه وسلم
ورده على السائل في الحديث التي والذي يرويه الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رضي ال
عنه حيث قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول ال :ما اليمان؟
قال :أن تؤمن بال وملئكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الخر ،قال يا رسول ال :ما
السلم؟ قال :السلم أن تعبد ال ول تشرك به شيئا وتقيم الصلة المكتوبة وتؤدي الزكاة
المفروضة وتصوم رمضان .قال يا رسول ال :ما الحسان؟ قال :أن تعبد ال كأنك تراه فإنك إن
ل تراه فإنه يراك .قال :يا رسول ال :متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن
سأحدثك عن أشراطها ،إذا ولدت المة ربها فذلك من أشراطها ،وإذا كانت العراة الحفاة رءوس
الناس فذاك من أشراطها ،وإذا تطاول رعاءُ ال َبهْم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس ل
يعلمهن إل ال .ثم تل صلى ال عليه وسلم :إن ال عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في
الرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن ال عليم خبير ،ثم
أدبر الرجل فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :ردوا عليّ الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا،
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم ".
وجبريل عليه السلم حين جاء يسأل ليعلم بعضا من صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم قال
له الرسول عليه السلم عن اليمان " :أن تؤمن بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر " ،وفي
رواية أخرى ذكر القضاء والقدر خيره وشره.
وهذه كلها أمور غيبية ،ول يقال في المر المحسّ إيمان ،فل يقول واحد :أنا مؤمن أنى أتحرك
على الرض؛ لن هذا أمر حسيّ .واليمان ل يكون إلّ بالمور الغيبية وأولها أن تؤمن بإله واحد
ل تدركه البصار وهو غيب ،وبملئكته وهي غيب ،وصدقنا وجودها لنه أبلغنا بذلك الوجود.
وكذلك أن نؤمن بالكتب المنزلة على الرسل .وبالرسل ،وصحيح أن الكتاب أمر حسيّ والرسول
كذلك له وجود حسيّ ،لكن لم نشاهد الوحي وهو ينزل الكتاب على الرسول .إذن فهو أمر غيبي،
وكذلك اليمان باليوم الخر أمر غيبي أيضا ،واليمان بالقضاء والقدر وهو ما غابت عنا حكمته،
وكلها إذن أمور غيبية.
هذا اليمان في القمة ،لكن هناك إيمان آخر يجيء لننا نعلم أن التشريعات لم تأت مرة واحدة ،بل
كانت تأتي على مراحل ،فتشريع ينزل أولً بأن نؤمن أنه من ال .إذن فالذي يزيد وينقص من
اليمان هو اليمان بالتكليفات ،وأنها صادرة من ال عز وجل ،وكلما كانت تنزل آية بتشريع جديد
كانت تزيد المؤمنين إيمانا ،فعندما نزل المر بالصلة آمنوا بإقامتها واستجابوا ونفذوا ،ثم جاء
الصوم فامتثلوا للمر به ،ثم يجيء المر بالزكاة فتكون الطاعة والتنفيذ ،وطبعا هناك فرق بين أن
تؤمن بالشيء ،وأن تفعل الشيء.
فاليمان شيء ،وفعله شيء؛ لن السلم هو النقياد الظاهري للمنهج ،وتطبيق كل ما يجيء به
السلم هو إيمان مستمر متزايد؛ لننا آمنا بأن ما يجيء من المنهج هو من ال .إذن فالذي يزيد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو توابع اليمان من التكليفات والمتثال لهذه التكليفات ،مثال ذلك :كلنا نعرف قول الحق {:وَللّهِ
عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ ِإلَيْهِ سَبِيلً }[آل عمران.]97 :
لكن هناك أناس يتمسكون بحرفية قوله الحقَ {:ومَن َكفَرَ فَإِنّ ال غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران:
.]97
والذين يتمسكون بحرفية القول الحق لم يتساءلوا :كفر بماذا؟ هل كفر لنه لم يحج؟ ل ،إن كفره
في هذه المسألة ل يكون إل بأن ينكر أن الحج ركن من أركان السلم ،فالمطلوب منا إيمانيا أن
نقر بالحج كركن من أركان السلم في حدود الستطاعة ،فإن فعله النسان كان قد نفذ الحكم ،أما
إن لم يفعله فقد يكون ذلك في حدود عدم الستطاعة.
ويذيل الحق تبارك وتعالى هذه الية الكريمة التي نحن بصددها بقوله } :وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ {.
ومُتَعلّق الجار والمجرور دائما يكون متأخرا ،بينما هنا يتقدم الجار والمجرور؛ لذلك ففي السلوب
حصر وقصر ،مثلما نقول " :لزيد المال " أي أن المال ليس لغيره ،وقول الحق } :وَعَلَىا رَ ّبهِمْ
يَ َت َوكّلُونَ { أي ل يتوكلون على غيره ،بل قصروا توكلهم على ال سبحانه وتعالى ،والتوكل :أن
تؤمن بأن لك وكيلً يقوم لك بمهام أمورك ،بدليل أن الشيء الذي ل تقوى عليه تقول بصدده" :
وكلت فلنا ينجزه لي على خير وجه " وحتى تختار الذي توكله ويكون مناسبا لداء تلك المهمة
فأنت تعلن باطمئنان :أنك قد وكلت فلنا.
إذن معنى } وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ { أي أنهم يكلون أمورهم على من ائتمنوه على مصالحهم ،وهو
الحق سبحانه وتعالى القادر العظيم الذي خلق الكون ،وخلق فيه أسبابا تؤدي إلى مسبّبات السباب
مقدمة ،والمسبّبات هي النتيجة .وبعد ذلك ترك أمورا ليس فيها أسباب ،إل أن نلحظ دائما المسبب
وهو ال تعالى ،فكل أمر يعز عليك في أسبابه؛ إياك أن تيأس من أنه ل يحدث ،بل قل :تلك هي
قضية السباب ،أما أنا فلي رب خلق السباب .وهو القادر فوق كل السباب ،وفي حياتنا اليومية
نلحظ أن الناس يخلطون بين عمل الجوارح ،وعمل القلوب ،ويظن إنسان ما أنه متوكل ول يأخذ
بالسباب ويركن إلى الكسل ويقول :أنا متوكل على ال ،وهذا نقول له :ل ،إن هذا منك تواكلٌ
وليس توكلً؛ لن التوكل ليس عمل جوارح ،التوكل عمل قلوب.
والمؤمن الذي يستقبل منهج ال بالفهم يجد السباب التي يجب أن يأخذها ،وسبحانه وتعالى هو
المسبب العلى ،واليمان يؤكد أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل ،فعلى الجوارح أن تحرث
الرض ،وأن تختار البذرة الطيبة ،وتنثرها في الرض ،ثم ترويها ،وتتعهدها ،وهذه العمليات
اسمها السباب ،ثم ل تركن إلى السباب فقط ،بل عليك أن تقول :إن فوق كل السباب هناك
المس ّببُ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن ينقل التوكل إلى الجوارح .نقول له :أنت تواكلت ،أي نقلت عمل القلب إلى الجوارح .ومن
يقول ذلك إنما يكذب على نفسه وعلى الناس .لنه تكاسل عن الخذ بالسباب وادّعى أنه متوكل
على ال .ولو كان الواحد من هؤلء صادقا في توكله على ال لخذ بالسباب .وعادة فإني دائما
أقول لمن يدّعي التوكل مع الكسل :لماذا ل تترك الطعام يأتي إلى فمك ،لماذا تمد إليه يديك؟ .إن
من يكسل إنما يكذب في التوكل ،فل أحد مثلً يترك قطعة اللحم تقفز من طبق الطعام إلى فمه،
لكنه يأخذها بيده .ويمضغها بأسنانه ،ويبلعها بعد المضغ ،ولو كان صادقا في أن التوكل هو أل
تعمل جوارحه لما فعل شيئا من ذلك ،لكنه يكذب ويتواكل فيما يتعبه ويشغل جوارحه فيما يريحه،
ول يستعملها في المور التي تتعبه .وقول الحق تبارك وتعالى } :وَعَلَىا رَ ّب ِهمْ يَ َت َوكّلُونَ {.
هذا القول يعني أنهم يؤمنون بأن السباب من خلق ال .وحين يأخذ المؤمن بالسباب فهو يؤمن
أنه لجىء إلى ال ومعتمد عليه ،لكن إن عزت عليه السباب فهو يعلم أن له ربا ،ولذلك قال} :
وَعَلَىا رَ ّب ِهمْ { ،والرب هو الخالق من عَدَم ،والممد من عُدْم ،وما دام قد خلقك وأمدك من عُدْم
قبل أن يكلفك ،فهل من المعقول أن يظلمك؟ طبعا ل .لكن عليك أن تفطن أنه لك جوارح،
فاستعملْ الجوارح فيما خلقت من أجله.
وتأتي الية التالية لتوضح عمل الجوارح ،وهي تحمل الصفتين الرابعة والخامسة من صفات
ل َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُنفِقُونَ { [النفال.]3 :
المؤمنين } :الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّ َ
والقيام والقعود والقراءة والتسبيح والتكبير في الصلة عمل جوارح ،وكذلك الزكاة هي عمل ناتج
من عمل سبق ،فحتى تخرج الزكاة ل بد أن تبذل الجهد وتأخذ بالسباب لتنتج ما يعولك أنت
ودائرتك القريبة من زوجة وأبناء ثم أقارب ،ومن بعد ذلك يفيض من المال ما تستقطع منه
حقّهُ َي ْومَ
الزكاة ،وهذه بطبيعة الحال غير زكاة الزروع التي ُتخْرَج في يوم الحصاد {.وَآتُواْ َ
حصَا ِدهِ }[النعام.]141 :
َ
ودائما ما نجد الصلة والزكاة وهما مقترنتان ببعضهما ،ول تجد آية فيها ذكر للصلة إل وفيها
ذكر للزكاة أيضا؛ لن الصلة تعني ترك أمورك الحياتية التي تسعى فيها لدنيا السباب ،وتذهب
إلى الحق سبحانه وتعالى وتقف بين يديه ،أي أنك قد اقتطعت جزءا من الزمن الذي كنت تقضيه
في حركة حياتك لتقف فيه أمام ربك خالق السباب.
والزكاة تعني أنك تقتطع جزءا من مالك ،ولذلك قلنا :إن الصلة فيها زكاة وزيادة ،فأنت تخرج
مقدار اثنين ونصف في المائة مما يتبقى معك من مال يبلغ نصابا ويكون زائدا عن الحاجة
الصلية ،لكنك بالصلة تضحي ببعض الوقت الذي تقضيه في العمل الذي يأتي لك بأصل المال،
إذن ففي الصلة زكاة وأكثر .وأنت في الزكاة تتنازل عن بعض المال ،لكنك في الصلة تتنازل
عن الوقت الذي هو محل العمل ،وهو الذي تنتج فيه الرزق ،والرزق وعاء الزكاة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويذيل الحق سبحانه وتعالى هذه الية قائلً:
} َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { ونعلم أن الرزق كما ذكر العلماء هو كل شيء ينتفع به النسان ،وحتى
اللص الذي يسرق وينتفع بسرقته يعد هذا بالنسبة له رزقا لكنه رزق غير طيب وله عقاب في
الدنيا إن تم ضبطه ،ولن يفلت من عقاب ال الحاكم العادل في الدنيا والخرة ،وهو بطبيعة الحال
غير الرزق الحلل الذي يأتي من عمل مشروع ،والمؤمن الحق هو من ينفق من هذا الرزق
الحلل؛ سواء لمتطلبات حياته أو رعاية المجتمع اليماني.
وبعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالىُ } :أوْلـائِكَ ُهمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ{ ...
()1150 /
و " أولئك " تشير إلى من أنعم ال عليهم بالصفات الخمس السابق ذكرها ،وهؤلء هم من وجلت
قلوبهم من ذكر ال ،وزادتهم اليات في إيمانهم ،وعلى ربهم يتوكلون ويقيمون الصلة ويؤتون
حقّا }.
الزكاة ،هؤلء هم المؤمنون حقا { ُأوْلـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ
ولنعلم أن الحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير ول تذهب به الغيار ،ويخضع له كل الناس لنه
يتعلق بمصالح حياتهم .وإن جاء الباطل ليزحزح الحق ،نجد الحق ثابتا ل يتزحزح لنه قوي.
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا
ولنقرأ قول الحق تبارك وتعالى {:أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
طلَ
ق وَالْبَا ِ
حّرّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
لمْثَالَ }[الرعد:
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَرْضِ كَذاِلكَ َيضْرِبُ اللّ ُه ا َ
فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ ُ
.]17
وحين ينزل المطر من السماء ،يأخذ من مائة كل وادٍ من الوديان على قدر اتساعه وعمقه،
ويمتلىء ،ترى الرغاوي وهي الزبد تطفو فوق السيْل ،وهي عبارة عن هؤلء سببه وجود
الشوائب من قش وغيره ،وهذا مثل نراه في حياتنا ،ونجد الرض والناس وكل المخلوقات تنتفع
بالمياه ،لكنها ل تنتفع بالزبد أو الرغاوي .ثم ينتقل الحق في ذات الية من ضرب المثل بالماء،
إلى ضرب المثل بالنار فيقولَ {:ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ }
[الرعد.]17 :
وأنت حين ترى قطعة الحديد وهي تتحول إلى السيولة بالنصهار في النار ،تجد شررا يتطاير
منها ،ويطفو فوق سطح الحديد المصهور ،وهو ما يسمى بـ " خبث الحديد " وتتم إزالة هذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخبث ليبقى الحديد صافيا لتصنع منه السيوف أو الخناجر وغيرها ،وهذه الحالة تحدث في الذهب
حين يصهره الصائغ ليزيل عنه أية شوائب ويعيد تشكيله ليكون حليا.
وزبد الماء وزبد الحديد وزبد الذهب يتجمع على الجوانب ويبقى الماء صافيا ،وكذلك الحديد
طلَ }[الرعد.]17 :
ق وَالْبَا ِ
حّوالذهب ،ولهذا يقول الحق {:كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
أي أن الحق يبقى صافيا ثابتا ،أما الباطل فيعلو ليتجمع على الجوانب ليذهب بغير فائدة.
سفْلَىا
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ َكفَرُواْ ال ّ
ويوضح الحق علو كلمته سبحانه وتعالى في آية أخرى فيقول {:وَ َ
َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا }[التوبة.]40 :
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى جاء بالجعل لكلمة الكافرين ،أما كلمته سبحانه وتعالى فلها العلو
الثابت.
والحق هنا يبين أن المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات الخمس هم مؤمنون حق اليمان فيقول
حقّا }.
عز وجلُ { :أوْلـا ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ
ومعنى هذا أن هناك مؤمنين ليسوا على درجة عالية من اليمان ،أي أن هناك منازل ودرجات
لليمان متفاوتة ،ولكل قدر من الصفات منزلة وعطاء مناسب.
ونحن نرى البشر حينما يخصهم واحد بوده يفيضون عليه من خيراتهم ،فنجد غير العالم يأخذ
ممن يودهم من العلماء بعض العلم ،والضعيف الذي يعطي وده لقوي ،يعينه القوي ببعضٍ من
قوته ،والفقير الذي يعطي وده لغني ،يعطيه الغني بعضا من المال ،والرعن يأخذ ممن يودهم من
العقلء قدرا من التعقل للمور.
إذن أهل المودة والقرب والتقوى يفاض عليهم من المولى وهم ممن اختصهم ال بالعطاءات،
فالذي وجدت فيه هذه الصفات ،ومؤمن حقا تكون له درجات عند ربه تناسب حظه من الحق
وحظه من الصفاء ،ولنعرف أن السير في درب الحق يعطي الكثير .والمثال الذي نقدمه على ذلك
أننا نجد من يصلي الوقات الخمسة في مواعيدها ،وهذا هو المطلوب العام ،إذا ما صلى ضعف
ذلك بالليل ،أو واظب على الصلة في الجماعة ويلزم نفسه بمنهج ال ،سوف يأخذ حظا من
الصفاء لم يكن موجودا عنده من قبل ذلك ،وسيجد في قلبه إشراقات وتجليات ،وتسير أمور حياته
بسهولة ويسر.
وقد يكون النسان من هؤلء -على سبيل المثال -خارجا من البيت وسألته زوجته :ماذا نطبخ
اليوم؟ ويجيبها :لنقض هذا اليوم بما تبقى عندنا من المس .وعندما يعود قد يفاجأ بأن شقيقه قد
قدم من الريف ،وأحضر له هدية من البط ،والقشدة والفطائر .فتسأله زوجته :أكنت تعلم بمجيء
أخيك؟ فيقول :لم أكن أعلم ،وهذا مجرد مثال ،لكن عطاءات الصفاء تكون أكثر من ذلك ماديا
ومعنويا ،ومن يستمر في العبادة ويزيد عليها ويؤدي كل ذلك بحقه ،سيزيد عطاء ال له؛ لن ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل يمل عطاء أهل الصفاء أبدا .ومن يجرب مثل هذه العبادة ويزيدها سيجد عطاء ال وهو يزيد.
ودائما أضرب هذا المثل ول المثل العلى وهو منزه سبحانه وتعالى عن التشبيه لنفترض أن
إنسانا أراد أن يسافر من القاهرة إلى السكندرية ،وسأل إنسانا آخر ،فقال له :إن ذهبت من
الطريق الفلني ستجد استراحة طيبة ،عكس الطريق الفلني.
ويتبع المسافر نصائح من أرشده ،فيجده صادقا ،فيرتاح من بعد ذلك لرأيه ،وكذلك أهل الصفاء،
هم أهل العطاء ،وعلى قدر صفائهم يكون هذا العطاء .والذي يشجع الناس الذين يبالغون في التعبد
هو هذا الشراق ،وهناك من يصف الواحد منهم بأنه مجذوب وإن من يطلق على المتعبد الزاهد
هذا الوصف يرى المنزلة العالية وهي تشد هذا المتعبد إليها ،وهو من جهة أخرى ينظر هذا
الزاهد إلى من يتعثرون في طلب الدنيا ،ويصفهم بينه وبين نفسه بأنهم من " الغلبة " ويدعو لهم.
وأقول لمن يرى واحدا من هؤلء :ل شأن لك بأي إنسان من هؤلء وإياك أن تتعرض لهم
واتركهم في حالهم ،ما دام الواحد منهم ل يسألك شيئاّ } .لهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَ ّبهِمْ {.
والدرجات عند البشر هي ارتقاءات يسعى إليها ،فما بالنا بالدرجات التي عند الرب؟ وما دام ال
سبحانه وتعالى قد وعدهم بالدرجات العالية عنده فقد ضمنوا المغفرة؛ لن الواحد منهم سيطهر
بالمغفرة ،وجاء الحق بعطاء الدرجات قبل المغفرة لنه سبحانه خلق الخلق ويعرف أنهم أهل
أغيار ،ويعلم أن هناك من أسرفوا على أنفسهم ،ويحاولون فعل الخيرات لنهم يؤمنون بأن
الحسنات يذهبن السيئات ،وسبحانه علمنا أن معالم الدين تأخذ حظها من المسرفين على أنفسهم،
لن من لم يسرف على نفسه تجده يطيع ال طاعة هادئة رتيبة فليس وراءه ما يلهب ظهره.
أما من عملوا السيئات فإن هذه السيئات تقض مضاجعهم .والمسرف على نفسه لحظة السراف
يظن أنه أخذ من ال شيئا واحدا من خلف منهجه ،فيوضح له ربنا :إياك أن تظن أن هناك من
يخدع ال .فأنت ستعمل كثيرا وبشوق لخدمة منهج ال ،ونجد المسرف على نفسه لحظة الفاقة
والتوبة ،وهو يندفع إلى فعل الخيرات .مصداقا لقول الرسول صلى ال عليه وسلم " :إن ال تعالى
ليؤيد الدين بالرجل الفاجر " .لن فجر الفاجر يتجسد أمامه ويريه سوء المصير ،فيندفع إلى فعل
الخيرات ليمحو السيئات ،أما من لم يخطىء فنجده هادىء القلب ،مطمئن النفس ،ل يلهب ظهره
شيء.
} ّل ُهمْ دَ َرجَاتٌ عِندَ رَ ّبهِمْ َومَ ْغفِ َرةٌ وَرِ ْزقٌ كَرِيمٌ { [النفال.]4 :
وهل هذا الرزق ناشىء من كريم؟ الجواب ل؛ لن الكرم تعدى من الكريم الصيل ،إلى أن صار
الرزق نفسه كريما ،وكأن هذا الرزق يتعشق صاحبه؛ لن ربنا ساعة يعطي إنسانا نعمةً ،ثم
يستعملها العبد في الطاعة ،تحس النعمة أنها مسرورة بالذهاب إلى هذا النسان لنه استعملها في
طاعة وفيما يرضى ال عز وجل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولك أن تعرف أن الرزق أعلم بمكانك منك بمكانه .فل أحد يعرف عنوان الرزق الذي قدره ال
له ،لكن الرزق يعرف عنوان صاحبه ،ويبحث عنه في كل مكان إلى أن يجده .هكذا نفهم أن
الكرم يتعدى إلى الرزق نفسه فيصبح الرزق كريما.
وجاء كل هذا الحديث بمناسبة الخلف على الغنائم والنفال ،وفصل ربنا بالحكم وبين وأوضح أن
النفال ل والرسول ولم يعد لحد كلم بعد كلم ال ،وهذه الحادثة في النفال حدثت في الخروج
إلى الحرب ،فحين أراد الرسول صلى ال عليه وسلم أن يخرج للحرب ،كان هناك فريق منهم
كاره لهذا الخروج ثم رضي به .لكن حالهم اختلف في الغنائم فطالب بعضهم بأكثر مما يستحق؛
جكَ رَ ّبكَ مِن بَيْ ِتكَ{ ...
لذلك يقول المولى سبحانه وتعالىَ } :كمَآ أَخْ َر َ
()1151 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا