028

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 316

‫الموسوعة الفقهية ‪ /‬الجزء الثامن والعشرون‬

‫صنْجة *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّنج لغةً ‪ :‬شيء يتّخذ من صفر يضرب أحدهما على الخر ‪ ،‬وآلة بأوتار يضرب‬ ‫‪1‬‬

‫بها‪ ،‬ويقال لما يجعل في إطار الدّفّ من النّحاس المدوّر صغارا صنوج ‪ -‬أيضا ‪. -‬‬
‫ن المراد بها عندهم ‪ :‬قطع معدنيّة ذات أثقال‬
‫ويؤخذ من استعمالت الفقهاء للفظ الصّنجة أ ّ‬
‫محدودة مختلفة المقادير يوزن بها ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ينبغي للبائع أن يتّخذ ما يزن به من قطع من الحديد أو نحوه ممّا ل يتآكل ‪ ،‬وتعيّر‬ ‫‪2‬‬

‫على الصّنج الطّيّارة ‪ ،‬ول يتّخذها من الحجارة ‪ ،‬لنّها تنتحت إذا قرع بعضها بعضا‬
‫فتنقص ‪ ،‬فإذا دعت الحاجة إلى اتّخاذها من الحجارة لقصور يده عن اتّخاذها من الحديد أو‬
‫نحوه أمره المحتسب بتجليدها ‪ ،‬ث ّم يختمها المحتسب بعد العيار ‪ ،‬ويجدّد المحتسب النّظر‬
‫فيها بعد كلّ حين ‪ ،‬لئلّ يتّخذ البائع مثلها من الخشب ‪.‬‬
‫قال أبو يعلى ‪ :‬وممّا يتأكّد على المحتسب المنع من التّطفيف والبخس في المكاييل‬
‫والموازين والصّنجات ‪ ،‬وليكن الدب عليه أظهر وأكثر ‪ ،‬ويجوز له إذا استراب بموازين‬
‫السّوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها ‪.‬‬
‫ولو كان له على ما عايره منها طابع معروف بين العامّة ل يتعاملون إلّ به كان أحوط‬
‫وأسلم ‪ ،‬فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع بطابعه توجّه النكار عليهم إن كان مبخوسا‬
‫من وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬مخالفته في العدول عن مطبوعه ‪ ،‬وإنكاره من الحقوق السّلطانيّة ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬البخس والتّطفيف في الحقوق ‪ ،‬وإنكاره من الحقوق الشّرعيّة ‪.‬‬
‫وإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليما من بخس ونقص توجّه النكار بحقّ‬
‫السّلطنة وحدها لجل المخالفة ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ر ‪ ( :‬مقادير ) ‪.‬‬
‫هذا عن الصّنجة بمعنى ما يوزن به ‪.‬‬
‫أمّا الصّنج بمعنى ما يتّخذ من صفر يضرب أحدهما على الخر ‪ ،‬أو اللة بأوتار يضرب بها‬
‫أو ما يجعل في إطار الدّفّ من النّحاس المدوّر فتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬معازف ) ‪.‬‬

‫صوْت *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬كلم‬

‫صُورة *‬
‫انظر ‪ :‬تصوير‬

‫صُوف *‬
‫انظر ‪ :‬شعر وصوف ووبر‬

‫صوْم *‬
‫ُ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّوم في اللّغة ‪ :‬المساك مطلقا عن الطّعام والشّراب والكلم والنّكاح والسّير ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ن ُأكَلّمَ الْ َي ْومَ‬


‫صوْما فَلَ ْ‬
‫ن َ‬
‫حمَ ِ‬
‫ت لِل ّر ْ‬
‫قال تعالى ‪ -‬حكايةً عن مريم عليها السلم ‪ { : -‬إِنّي نَذَرْ ُ‬
‫إِنسِيّا } ‪.‬‬
‫والصّوم ‪ :‬مصدر صام يصوم صوما وصياما ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬هو المساك عن المفطر على وجه مخصوص ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬المساك ‪:‬‬
‫‪ -‬المساك لغةً ‪ :‬هو حبس الشّيء والعتصام به ‪ ،‬وأخذه وقبضه ‪ ،‬والمساك عن الكلم‬ ‫‪2‬‬

‫هو ‪ :‬السّكوت ‪ ،‬والمساك ‪ :‬البخل ‪.‬‬


‫ن وهو بذلك أعمّ من الصّوم ‪.‬‬
‫سكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ } أمر بحبسه ّ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَ َأ ْم ِ‬
‫ب ‪ -‬الكفّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الكفّ عن الشّيء لغةً ‪ :‬تركه ‪ ،‬وإذا ذكر المتعلّق من الطّعام والشّراب كان مساويا‬ ‫‪3‬‬

‫للصّوم ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الصّمت ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّمت وكذا السّكوت لغةً ‪ :‬المساك عن النّطق ‪ ،‬وهما أخصّ من الصّوم لغةً ‪ ،‬ل‬ ‫‪4‬‬

‫ن بينهما وبينه تباينا ‪.‬‬


‫شرعا ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمعت المّة على أنّ صوم شهر رمضان فرض ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫والدّليل على الفرضيّة الكتاب والسّنّة والجماع ‪.‬‬


‫ن مِن‬
‫ن آمَنُواْ كُتِبَ عَلَ ْي ُكمُ الصّيَامُ َكمَا كُتِبَ عَلَى الّذِي َ‬
‫أمّا الكتاب ‪ :‬فقوله تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫قَبْ ِل ُكمْ َلعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ } وقوله { كُتِبَ عَلَ ْي ُكمُ } ‪ :‬أي فرض ‪.‬‬
‫ص ْمهُ } ‪.‬‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫شهِ َد مِنكُمُ ال ّ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬فمَن َ‬
‫وأمّا السّنّة ‪ :‬فحديث ابن عمر رضي ال تعالى عنهما قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ن محمّدا رسول اللّه ‪،‬‬
‫وسلم ‪ » :‬بني السلم على خمس ‪ :‬شهادة أن ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬وأ ّ‬
‫وإقام الصّلة ‪ ،‬وإيتاء الزّكاة ‪ ،‬والحجّ ‪ ،‬وصوم رمضان « ‪.‬‬
‫كما انعقد الجماع على فرضيّة صوم شهر رمضان ‪ ،‬ل يجحدها إلّ كافر ‪.‬‬
‫فضل الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬وردت في فضل الصّوم أحاديث كثيرة ‪ ،‬نذكر منها ما يلي ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬من‬


‫أ ‪ -‬عن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه عن النّب ّ‬
‫صام رمضان إيمانا واحتسابا ‪ ،‬غفر له ما تقدّم من ذنبه ‪ ،‬ومن قام ليلة القدر إيمانا‬
‫واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه « ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وعن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ » :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يبشّر‬
‫أصحابه بقدوم رمضان ‪ ،‬يقول ‪ :‬قد جاءكم شهر رمضان ‪ ،‬شهر مبارك ‪ ،‬كتب اللّه عليكم‬
‫صيامه ‪ ،‬تفتح فيه أبواب الجنّة ‪ ،‬وتغلق فيه أبواب الجحيم ‪ ،‬وتغلّ فيه الشّياطين ‪ ،‬فيه ليلة‬
‫خير من ألف شهر « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إنّ في‬
‫ج ‪ -‬وعن سهل بن سعد رضي ال عنه عن النّب ّ‬
‫الجنّة بابا ‪ ،‬يقال له ‪ :‬الرّيّان ‪ ،‬يدخل منه الصّائمون يوم القيامة ‪ ،‬ل يدخل منه أحد‬
‫غيرهم ‪ ،‬يقال ‪ :‬أين الصّائمون ؟ فيقومون ‪ ،‬ل يدخل منه أحد غيرهم ‪ ،‬فإذا دخلوا أغلق ‪،‬‬
‫فلم يدخل منه أحد « ‪.‬‬
‫د ‪ -‬وعن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬رغم‬
‫أنف رجل دخل عليه رمضان ثمّ انسلخ قبل أن يغفر له « ‪.‬‬
‫حكمة الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬تتجلّى حكمة الصّوم فيما يلي ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫أ ‪ -‬أنّ الصّوم وسيلة إلى شكر النّعمة ‪ ،‬إذ هو كفّ النّفس عن الكل والشّرب والجماع ‪،‬‬
‫وإنّها من أجلّ النّعم وأعلها ‪ ،‬والمتناع عنها زمانا معتبرا يعرّف قدرها ‪ ،‬إذ النّعم‬
‫مجهولة‪ ،‬فإذا فقدت عرفت ‪ ،‬فيحمله ذلك على قضاء حقّها بالشّكر ‪ ،‬وشكر النّعم فرض‬
‫ب سبحانه وتعالى بقوله في آية الصّيام ‪ { :‬وَ َلعَّل ُكمْ‬
‫عقلً وشرعا‪ ،‬وإليه أشار الرّ ّ‬
‫شكُرُونَ } ‪.‬‬
‫َت ْ‬
‫ب ‪ -‬أ نّ ال صّوم و سيلة إلى التّقوى ‪ ،‬لنّه إذا انقادت ن فس للمتناع عن الحلل طمعا في‬
‫مرضاة اللّه تعالى ‪ ،‬وخوفا معن أليعم عقابعه ‪ ،‬فأولى أن تنقاد للمتناع ععن الحرام ‪ ،‬فكان‬
‫ال صّوم سببا لتّقاء محارم اللّه تعالى ‪ ،‬وإنّه فرض ‪ ،‬وإل يه وق عت الشارة بقوله تعالى في‬
‫آخر آية الصّوم { َلعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ } ‪.‬‬
‫ن في الصّوم قهر الطّبع وكسر الشّهوة ‪ ،‬لنّ النّفس إذا شبعت تمنّت الشّهوات ‪ ،‬وإذا‬
‫ج‪-‬أّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬يا معشر الشّباب ‪ :‬من‬
‫جاعت امتنعت عمّا تهوى ‪ ،‬ولذا قال النّب ّ‬
‫استطاع منكم الباءة فليتزوّج ‪ ،‬فإنّه أغ ضّ للبصر ‪ ،‬وأحصن للفرج ‪ ،‬ومن لم يستطع فعليه‬
‫بالصّوم ‪ ،‬فإنّه له وجاء « فكان الصّوم ذريع ًة إلى المتناع عن المعاصي ‪.‬‬
‫ن ال صّوم موجب للرّحمة والعطف على المساكين ‪ ،‬فإ نّ ال صّائم إذا ذاق ألم الجوع في‬
‫د‪-‬أّ‬
‫بعض الوقات ‪ ،‬ذكر من هذا حاله في جميع الوقات ‪ ،‬فتسارع إليه ال ّرقّة عليه ‪ ،‬والرّحمة‬
‫به ‪ ،‬بالحسان إليه ‪ ،‬فينال بذلك ما عند اللّه تعالى من حسن الجزاء ‪.‬‬
‫هع ‪ -‬في الصّوم موافقة الفقراء ‪ ،‬بتحمّل ما يتحمّلون أحيانا ‪ ،‬وفي ذلك رفع حاله عند اللّه‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫و ‪ -‬في الصّوم قهر للشّيطان ‪ ،‬فإنّ وسيلته إلى الضلل والغواء ‪ :‬الشّهوات ‪ ،‬وإنّما‬
‫تقوى الشّهوات بالكل والشّرب ‪ ،‬ولذلك جاء في حديث صفيّة رضي ال عنها قوله ‪ -‬عليه‬
‫ن الشّيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدّم ‪ ،‬فضيّقوا مجاريه‬
‫الصلة والسلم ‪ » : -‬إ ّ‬
‫بالجوع « ‪.‬‬
‫أنواع الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬ينقسم الصّوم إلى صوم عين ‪ ،‬وصوم دين ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫وصوم العين ‪ :‬ماله وقت معيّن ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬إمّا بتعيين اللّه تعالى ‪ ،‬كصوم رمضان ‪ ،‬وصوم التّطوّع خارج رمضان ‪ ،‬لنّ خارج‬
‫رمضان متعيّن للنّفل شرعا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإمّا بتعيين العبد ‪ ،‬كالصّوم المنذور به في وقت بعينه ‪.‬‬
‫وأمّا صوم الدّين ‪ ،‬فما ليس له وقت معيّن ‪ ،‬كصوم قضاء رمضان ‪ ،‬وصوم كفّارة القتل‬
‫والظّهار واليمين والفطار في رمضان ‪ ،‬وصوم متعة الحجّ ‪ ،‬وصوم فدية الحلق ‪ ،‬وصوم‬
‫جزاء الصّيد ‪ ،‬وصوم النّذر المطلق عن الوقت ‪ ،‬وصوم اليمين ‪ ،‬بأن قال ‪ :‬واللّه لصومنّ‬
‫شهرا ‪.‬‬
‫الصّوم المفروض ‪:‬‬
‫ينقسم الصّوم المفروض من العين والدّين ‪ ،‬إلى قسمين ‪:‬‬
‫منه ما هو متتابع ‪ ،‬ومنه ما هو غير متتابع ‪ ،‬بل صاحبه بالخيار ‪ :‬إن شاء تابع ‪ ،‬وإن‬
‫شاء فرّق ‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬ما يجب فيه التّتابع ‪ ،‬ويشمل ما يلي ‪:‬‬
‫شهِ َد مِنكُمُ‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬صوم رمضان ‪ ،‬فقد أمر اللّه تعالى بصوم الشّهر بقوله سبحانه ‪َ { :‬فمَن َ‬ ‫‪9‬‬

‫ص ْمهُ } والشّهر متتابع ‪ ،‬لتتابع أيّامه ‪ ،‬فيكون صومه متتابعا ضرورةً ‪.‬‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫ال ّ‬
‫ب ‪ -‬صوم كفّارة القتل الخطأ ‪ ،‬وصوم كفّارة الظّهار ‪ ،‬والصّوم المنذور به في وقت بعينه ‪،‬‬
‫وصوم كفّارة الجماع في نهار رمضان ‪.‬‬
‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬تتابع ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ما ل يجب فيه التّتابع ‪ ،‬ويشمل ما يلي ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬قضاء رمضان ‪ ،‬فمذهب الجمهور عدم اشتراط التّتابع فيه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫{ َفعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ ُأخَرَ } فإنّه ذكر الصّوم مطلقا عن التّتابع ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬وابن عبّاس ‪ ،‬وأبو سعيد ‪ ،‬وعائشة ‪،‬‬
‫ويروى عن جماعة من الصّحابة ‪ ،‬منهم ‪ :‬عل ّ‬
‫رضي ال تعالى عنهم أنّهم قالوا ‪ :‬إن شاء تابع ‪ ،‬وإن شاء فرّق ‪.‬‬
‫ولو كان التّتابع شرطا ‪ ،‬لما احتمل الخفاء على هؤلء الصّحابة ‪ ،‬ولما احتمل مخالفتهم‬
‫إيّاه‪ .‬ومذهب الجمهور هو ‪ :‬ندب التّتابع أو استحبابه للمسارعة إلى إسقاط الفرض ‪.‬‬
‫وروي عن مجاهد أنّه يشترط تتابعه لنّ القضاء يكون على حسب الداء ‪ ،‬والداء وجب‬
‫متتابعا ‪ ،‬فكذا القضاء ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الصّوم في كفّارة اليمين ‪ ،‬وفي تتابعه خلف ‪ ،‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬تتابع ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬صوم المتعة في الحجّ ‪ ،‬وصوم كفّارة الحلق ‪ ،‬وصوم جزاء الصّيد ‪ ،‬وصوم النّذر‬
‫المطلق ‪ ،‬وصوم اليمين المطلقة ‪.‬‬
‫حجّ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ‬
‫قال اللّه ‪ -‬عزّ وجلّ ‪ -‬في صوم المتعة ‪َ { :‬فمَن َتمَتّ َع بِا ْل ُعمْرَةِ إِلَى ا ْل َ‬
‫حجّ َوسَ ْب َعةٍ } ‪.‬‬
‫ا ْلهَ ْديِ َفمَن ّلمْ َيجِدْ فَصِيَامُ ثَل َث ِة أَيّامٍ فِي ا ْل َ‬
‫ن مِنكُم مّرِيضا‬
‫ي َمحِّلهُ َفمَن كَا َ‬
‫سكُمْ حَتّى يَ ْبلُ َغ ا ْلهَدْ ُ‬
‫وقال في كفّارة الحلق ‪َ { :‬ولَ َتحْ ِلقُواْ ُرؤُو َ‬
‫سهِ َففِدْ َيةٌ مّن صِيَامٍ َأوْ صَدَ َق ٍة َأوْ ُنسُكٍ } ‪.‬‬
‫َأوْ ِبهِ أَذًى مّن ّر ْأ ِ‬
‫ق وَبَالَ َأمْرِهِ } ‪.‬‬
‫ك صِيَاما لّيَذُو َ‬
‫وقال في جزاء الصّيد ‪ { :‬أَو عَ ْدلُ ذَلِ َ‬
‫فذكر الصّوم في هذه اليات مطلقا عن شرط التّتابع ‪.‬‬
‫وكذا ‪ :‬النّاذر ‪ ،‬والحالف في النّذر المطلق ‪ ،‬واليمين المطلقة ‪ ،‬ذكر الصّوم فيها مطلقا عن‬
‫شرط التّتابع ‪.‬‬
‫وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬نذر ‪ ،‬وأيمان ) ‪.‬‬
‫الصّوم المختلف في وجوبه ‪ ،‬ويشمل ما يلي ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬وهو قضاء ما أفسده من صوم النّفل ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ قضاء نفل الصّوم إذا أفسده واجب ‪ ،‬واستدلّ له‬ ‫‪11‬‬

‫الحنفيّة ‪ :‬بحديث عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ » :‬كنت أنا وحفصة صائمتين ‪،‬‬
‫فعرض لنا طعام اشتهيناه ‪ ،‬فأكلنا منه ‪ .‬فجاء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فبدرتني إليه‬
‫حفصة ‪ -‬وكانت ابنة أبيها ‪ -‬فقالت يا رسول اللّه ‪ :‬إنّا كنّا صائمتين فعرض لنا طعام‬
‫اشتهيناه فأكلنا منه قال ‪ :‬اقضيا يوما آخر مكانه « ‪.‬‬
‫ن عمر رضي ال تعالى عنه خرج يوما على أصحابه ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنّي أصبحت‬
‫وروي أ ّ‬
‫صائما ‪ ،‬فمرّت بي جارية لي ‪ ،‬فوقعت عليها ‪ ،‬فما ترون ؟ فقال عليّ ‪ :‬أصبت حللً ‪،‬‬
‫وتقضي يوما مكانه ‪ ،‬كما قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬قال عمر ‪ :‬أنت أحسنهم‬
‫فتيا ‪.‬‬
‫ولنّ ما أتى به قربةً ‪ ،‬فيجب صيانته وحفظه عن البطلن ‪ ،‬وقضاؤه عند الفساد ‪ ،‬لقوله‬
‫عمَا َل ُكمْ } ول يمكن ذلك إلّ بإتيان الباقي ‪ ،‬فيجب إتمامه وقضاؤه عند‬
‫تعالى ‪ { :‬وَل تُ ْبطِلُوا أَ ْ‬
‫ج والعمرة المتطوّعين ‪.‬‬
‫الفساد ضرورةً ‪ ،‬فصار كالح ّ‬
‫والحنفيّة ل يختلفون في وجوب القضاء إذا فسد صوم النّافلة عن قصد ‪ ،‬أو غير قصد بأن‬
‫عرض الحيض للصّائمة المتطوّعة ‪.‬‬
‫وإنّما اختلفوا في الفساد نفسه ‪ ،‬هل يباح أو ل ؟ فظاهر الرّواية ‪ ،‬أنّه ل يباح إلّ بعذر ‪،‬‬
‫وهذه الرّواية الصّحيحة ‪.‬‬
‫وفي رواية أخرى ‪ ،‬هي رواية المنتقى ‪ :‬يباح بل عذر ‪ ،‬واستوجهها الكمال إذ قال ‪:‬‬
‫واعتقادي أنّ رواية المنتقى أوجه لكن قيّدت بشرط أن يكون من نيّته القضاء ‪.‬‬
‫واختلفوا ‪ -‬على ظاهر الرّواية ‪ -‬هل الضّيافة عذر أو ل ؟ ‪.‬‬
‫قال في الدّرّ ‪ :‬والضّيافة عذر ‪ ،‬إن كان صاحبها ممّن ل يرضى بمجرّد حضوره ‪ ،‬ويتأذّى‬
‫بترك الفطار ‪ ،‬فيفطر ‪ ،‬وإلّ ل ‪ ،‬هذا هو الصّحيح من المذهب ‪ ،‬حتّى لو حلف عليه رجل‬
‫بالطّلق الثّلث ‪ ،‬أفطر ولو كان صومه قضا ًء ‪ ،‬ول يحنّثه على المعتمد ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن كان صاحب الطّعام يرضى بمجرّد حضوره ‪ ،‬وإن لم يأكل ‪ ،‬ل يباح له الفطر ‪.‬‬
‫وإن كان يتأذّى بذلك يفطر ‪.‬‬
‫وهذا إذا كان قبل الزّوال ‪ ،‬أمّا بعده فل ‪ ،‬إلّ لحد أبويه إلى العصر ‪ ،‬ل بعده ‪.‬‬
‫والمالكيّة أوجبوا القضاء بالفطر العمد الحرام ‪ ،‬احترازا عن الفطر نسيانا أو إكراها ‪ ،‬أو‬
‫بسبب الحيض والنّفاس ‪ ،‬أو خوف مرض أو زيادته ‪ ،‬أو شدّة جوع أو عطش ‪ ،‬حتّى لو‬
‫أفطر لحلف شخص عليه بطلق باتّ ‪ ،‬فل يجوز الفطر ‪ ،‬وإن أفطر قضى ‪.‬‬
‫واستثنوا ما إذا كان لفطره وجه ‪:‬‬
‫كأن حلف بطلقها ‪ ،‬ويخشى أن ل يتركها إن حنث ‪ ،‬فيجوز الفطر ول قضاء ‪.‬‬
‫أو أن يأمره أبوه أو أمّه بالفطر ‪ ،‬حنانا وإشفاقا عليه من إدامة الصّوم ‪ ،‬فيجوز له الفطر ‪،‬‬
‫ول قضاء عليه ‪.‬‬
‫أو يأمره أستاذه أو مربّيه بالفطار ‪ ،‬وإن لم يحلف الوالدان أو الشّيخ ‪.‬‬
‫‪ -‬والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬ل يوجبون إتمام نافلة الصّوم ‪ ،‬ول يوجبون قضاءها إن‬ ‫‪12‬‬

‫فسدت‪ ،‬وذلك لقول عائشة رضي ال تعالى عنها ‪ » :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬أهدي إلينا حيس‬
‫فقال‪ :‬أرنيه فلقد أصبحت صائما ‪ .‬فأكل « وزاد النّسائيّ ‪ » :‬إنّما مثل صوم المتطوّع مثل‬
‫الرّجل يخرج من ماله الصّدقة ‪ ،‬فإن شاء أمضاها ‪ ،‬وإن شاء حبسها « ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم دخل عليها ‪،‬‬
‫ولحديث أمّ هانئ رضي ال تعالى عنها أ ّ‬
‫فدعا بشراب فشرب ‪ ،‬ثمّ ناولها فشربت ‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬أما إنّي كنت صائمةً ‪،‬‬
‫فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الصّائم المتطوّع أمين نفسه ‪ ،‬إن شاء صام ‪،‬‬
‫وإن شاء أفطر « وفي رواية ‪ » :‬أمير نفسه « ‪.‬‬
‫ولحديث أبي سعيد الخدريّ رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬صنعت لرسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم طعاما ‪ ،‬فأتاني هو وأصحابه ‪ ،‬فلمّا وضع الطّعام قال رجل من القوم ‪ :‬إنّي صائم ‪،‬‬
‫فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬دعاكم أخوكم ‪ ،‬وتكلّف لكم ‪ .‬ثمّ قال له ‪ :‬أفطر ‪،‬‬
‫وصم مكانه يوما إن شئت « ‪.‬‬
‫ولنّ القضاء يتبع المقضيّ عنه ‪ ،‬فإذا لم يكن واجبا ‪ ،‬لم يكن القضاء واجبا ‪ ،‬بل يستحبّ ‪.‬‬
‫ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ من شرع في نافلة صوم لم يلزمه التمام ‪ ،‬لكن يستحبّ ‪،‬‬
‫ول كراهة ول قضاء في قطع صوم التّطوّع مع العذر ‪.‬‬
‫عمَا َل ُكمْ } ‪.‬‬
‫أمّا مع عدم العذر فيكره ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَل تُ ْبطِلُوا أَ ْ‬
‫ومن العذر أن يع ّز على من ضيّفه امتناعه من الكل ‪.‬‬
‫وإذا أفطر فإنّه ل يثاب على ما مضى إن أفطر بغير عذر ‪ ،‬وإلّ أثيب ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪17‬‬ ‫الثّاني ‪ :‬صوم العتكاف ‪ ،‬وفيه خلف ‪ ،‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬اعتكاف ج ‪ 5‬ف‬
‫صوم التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو ‪:‬‬ ‫‪13‬‬

‫أ ‪ -‬صوم يوم عاشوراء ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬صوم يوم عرفة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬صوم يوم الثنين والخميس من كلّ أسبوع ‪.‬‬
‫د ‪ -‬صيام ثلثة أيّام من كلّ شهر ‪ ،‬وهي اليّام البيض ‪.‬‬
‫هع‪ -‬صيام ستّة أيّام من شوّال ‪.‬‬
‫و‪ -‬صوم شهر شعبان ‪.‬‬
‫ز‪ -‬صوم شهر المحرّم ‪.‬‬
‫ح‪ -‬صوم شهر رجب ‪.‬‬
‫ط‪ -‬صيام ما ثبت طلبه والوعد عليه في السّنّة الشّريفة ‪.‬‬
‫وتفصيل أحكام هذا الصّوم في مصطلح ‪ ( :‬صوم التّطوّع ) ‪.‬‬
‫الصّوم المكروه ‪ ،‬ويشمل ما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إفراد يوم الجمعة بالصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬نصّ على كراهته الجمهور ‪ ،‬وقد ورد فيه حديث عن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه‬ ‫‪14‬‬

‫‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ » : -‬ل تصوموا يوم الجمعة ‪ ،‬إلّ وقبله‬
‫ن يوم الجمعة يوم عيد ‪ ،‬فل تجعلوا يوم عيدكم‬
‫يوم ‪ ،‬أو بعده يوم « ‪ ،‬وفي رواية ‪ » :‬إ ّ‬
‫يوم صيامكم ‪ ،‬إ ّل أن تصوموا قبله أو بعده « ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪» :‬‬
‫وورد في حديث ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬أ ّ‬
‫ل تصوموا يوم الجمعة وحده « ‪.‬‬
‫وذكر في الخانيّة أنّه ل بأس بصوم يوم الجمعة عند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬لما روي عن ابن‬
‫ن المراد ‪ -‬بل‬
‫عبّاس رضي ال تعالى عنهما أنّه كان يصومه ول يفطر ‪ ،‬وظاهر هذا أ ّ‬
‫بأس‪ -‬الستحباب ‪ ،‬وقد صرّح الحصكفيّ بندب صومه ‪ ،‬ولو منفردا ‪.‬‬
‫وكذا الدّردير صرّح بندب صومه وحده فقط ‪ ،‬ل قبله ول بعده وهو المذهب عند المالكيّة ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬فإن ضمّ إليه آخر فل خلف في ندبه ‪.‬‬
‫وقال الطّحطاويّ ‪ :‬ثبت في السّنّة طلب صومه‪ ،‬والنّهي عنه ‪ ،‬والخير منهما ‪ :‬النّهي ‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف ‪ :‬جاء حديث في كراهة صومه ‪ ،‬إلّ أن يصوم قبله أو بعده ‪ ،‬فكان‬
‫الحتياط في أن يضمّ إليه يوما آخر ‪.‬‬
‫قال الشّوكانيّ ‪ :‬فمطلق النّهي عن صومه مقيّد بالفراد ‪.‬‬
‫وتنتفي الكراهة بضمّ يوم آخر إليه ‪ ،‬لحديث جويرية بنت الحارث رضي ال عنها ‪ » :‬أنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة ‪ ،‬وهي صائمة ‪ ،‬فقال ‪ :‬أصمت أمس ؟‬
‫قالت ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬تريدين أن تصومي غدا ؟ قالت ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬فأفطري « ‪.‬‬
‫ب – صوم يوم السّبت وحده خصوصا ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو متّفق على كراهته ‪ ،‬وقد ورد فيه حديث عبد اللّه بن بسر ‪ ،‬عن أخته ‪ ،‬واسمها‬ ‫‪15‬‬

‫صمّاء رضي ال تعالى عنهما أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ل تصوموا‬
‫ال ّ‬
‫يوم السّبت إلّ فيما افترض عليكم ‪ ،‬فإن لم يجد أحدكم إلّ لحاء عنبة أو عود شجرة‬
‫فليمضغه « ووجه الكراهة أنّه يوم تعظّمه اليهود ‪ ،‬ففي إفراده بالصّوم تشبّه بهم ‪ ،‬إلّ أن‬
‫يوافق صومه بخصوصه يوما اعتاد صومه ‪ ،‬كيوم عرفة أو عاشوراء ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬صوم يوم الحد بخصوصه ‪:‬‬
‫ن تعمّد صوم يوم الحد بخصوصه مكروه ‪ ،‬إلّ إذا وافق‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أ ّ‬ ‫‪16‬‬

‫يوما كان يصومه ‪ ،‬واستظهر ابن عابدين أنّ صوم السّبت والحد معا ليس فيه تشبّه‬
‫باليهود والنّصارى ‪ ،‬لنّه لم تتّفق طائفة منهم على تعظيمهما ‪ ،‬كما لو صام الحد مع‬
‫الثنين‪ ،‬فإنّه تزول الكراهة ‪ ،‬ويستظهر من نصّ الحنابلة أنّه يكره صيام كلّ عيد لليهود‬
‫والنّصارى أو يوم يفردونه بالتّعظيم إلّ أن يوافق عادةً للصّائم ‪.‬‬
‫د ‪ -‬إفراد يوم النّيروز بالصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬يكره إفراد يوم النّيروز ‪ ،‬ويوم المهرجان بالصّوم ‪ ،‬وذلك لنّهما يومان يعظّمهما‬ ‫‪17‬‬

‫الكفّار ‪ ،‬وهما عيدان للفرس ‪ ،‬فيكون تخصيصهما بالصّوم ‪ -‬دون غيرهما ‪ -‬موافقةً لهم‬
‫في تعظيمهما ‪ ،‬فكره ‪ ،‬كيوم السّبت ‪.‬‬
‫ص ابن عابدين على أنّ‬
‫وعلى قياس هذا كلّ عيد للكفّار ‪ ،‬أو يوم يفردونه بالتّعظيم ون ّ‬
‫الصّائم إذا قصد بصومه التّشبّه ‪ ،‬كانت الكراهة تحريم ّيةً ‪.‬‬
‫هع – صوم الوصال ‪:‬‬
‫– ذهب جمهور الفقهاء – الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول – إلى كراهة‬ ‫‪18‬‬

‫ل ‪ ،‬حتّى يتّصل صوم الغد بالمس ‪ ،‬فل‬


‫صوم الوصال ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن ل يفطر بعد الغروب أص ً‬
‫يفطر بين يومين ‪ ،‬وفسّره بعض الحنفيّة بأن يصوم السّنة ول يفطر في اليّام المنهيّة ‪.‬‬
‫وإنّما كره ‪ ،‬لما روي عن ابن عمر – رضي ال تعالى عنهما – قال ‪ » :‬واصل رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم في رمضان ‪ ،‬فواصل النّاس ‪ ..‬فنهاهم ‪ ،‬قيل له ‪ :‬إنّك تواصل ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫إنّي لست مثلكم ‪ ،‬إنّي أطعم وأسقى « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫والنّهي وقع رفقا ورحمةً ‪ ،‬ولهذا واصل النّب ّ‬
‫وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها ‪ ،‬وكذا بمجرّد الشّرب لنتفاء الوصال ‪.‬‬
‫ول يكره الوصال إلى السّحر عند الحنابلة ‪ ،‬لحديث أبي سعيد ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬مرفوعا‬
‫‪ » :‬فأيّكم إذا أراد أن يواصل ‪ ،‬فليواصل حتّى السّحر « ولكنّه ترك س ّنةً ‪ ،‬وهي ‪ :‬تعجيل‬
‫الفطر ‪ ،‬فترك ذلك أولى محافظةً على السّنّة ‪.‬‬
‫ن الوصال مكروه كراهة تحريم ‪ ،‬وهو‬
‫وعند الشّافعيّة قولن ‪ :‬الوّل وهو الصّحيح ‪ :‬بأ ّ‬
‫ص الشّافعيّ رحمه ال ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬يكره كراهة تنزيه ‪.‬‬
‫ظاهر ن ّ‬
‫و ‪ -‬صوم الدّهر ‪ -‬صوم العمر ‪: -‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪ -‬على وجه‬ ‫‪19‬‬

‫العموم إلى كراهة صوم الدّهر ‪ ،‬وعلّلت الكراهة بأنّه يضعف الصّائم عن الفرائص‬
‫والواجبات والكسب الّذي ل بدّ منه ‪ ،‬أو بأنّه يصير الصّوم طبعا له ‪ ،‬ومبنى العبادة على‬
‫مخالفة العادة‪ .‬واستدلّ للكراهة ‪ ،‬بحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ‪ -‬رضي ال تعالى‬
‫عنهما ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل صام من صام البد « ‪.‬‬
‫وفي حديث أبي قتادة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬قال عمر ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬كيف بمن‬
‫يصوم الدّهر كلّه ؟ قال ‪ :‬ل صام ول أفطر ‪ ،‬أو لم يصم ولم يفطر « أي ‪ :‬لم يحصّل أجر‬
‫الصّوم لمخالفته ‪ ،‬ولم يفطر لنّه أمسك ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬هو مسنون ‪.‬‬
‫وقال الغزال ّ‬
‫وقال الكثرون من الشّافعيّة ‪ :‬إن خاف منه ضررا ‪ ،‬أو فوّت به حقّا كره ‪ ،‬وإلّ فل ‪.‬‬
‫والمراد بصوم الدّهر عند الشّافعيّة ‪ :‬سرد الصّوم في جميع اليّام إ ّل اليّام الّتي ل يصحّ‬
‫صومها وهي ‪ :‬العيدان وأيّام التّشريق ‪.‬‬
‫الصّوم المحرّم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الجمهور إلى تحريم صوم اليّام التّالية ‪:‬‬ ‫‪20‬‬

‫أ ‪ -‬صوم يوم عيد الفطر ‪ ،‬ويوم عيد الضحى ‪ ،‬وأيّام التّشريق ‪ ،‬وهي ‪ :‬ثلثة أيّام بعد يوم‬
‫النّحر ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه‬
‫وذلك لنّ هذه اليّام منع صومها لحديث أبي سعيد ‪ -‬رضي ال عنه ‪ » : -‬أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم نهى عن صيام يومين ‪ :‬يوم الفطر ‪ ،‬ويوم النّحر « ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وحديث نبيشة الهذل ّ‬
‫وسلم‪ » :‬أيّام التّشريق أيّام أكل وشرب ‪ ،‬وذكر اللّه ‪ -‬ع ّز وجلّ ‪. « -‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى جواز الصّوم فيها مع الكراهة التّحريميّة ‪ ،‬لما في صومها من العراض‬
‫عن ضيافة اللّه تعالى ‪ ،‬فالكراهة ليست لذات اليوم ‪ ،‬بل لمعنىً خارج مجاور ‪ ،‬كالبيع عند‬
‫ح ‪ ،‬ويفطر وجوبا تحاميا عن المعصية ‪،‬‬
‫الذان يوم الجمعة ‪ ،‬حتّى لو نذر صومها ص ّ‬
‫ويقضيها إسقاطا للواجب ‪ ،‬ولو صامها خرج عن العهدة ‪ ،‬مع الحرمة ‪.‬‬
‫وصرّح الحنابلة بأنّ صومها ل يصحّ فرضا ول نفلً ‪ ،‬وفي رواية عن أحمد أنّه يصومها‬
‫عن الفرض ‪.‬‬
‫واستثنى المالكيّة والحنابلة في رواية ‪ :‬صوم أيّام التّشريق عن دم المتعة والقران ‪ ،‬ونقل‬
‫المرداويّ أنّها المذهب ‪ ،‬لقول ابن عمر وعائشة ‪ -‬رضي ال تعالى عنهم ‪ -‬لم يرخّص‬
‫في أيّام التّشريق أن يصمن إلّ لمن لم يجد الهدي ‪.‬‬
‫وهذا هو القديم عند الشّافعيّة ‪ ،‬والصحّ الّذي اختاره النّوويّ ما في الجديد وهو ‪ :‬عدم‬
‫صحّة الصّوم فيها مطلقا ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬ببطلنه ‪ ،‬لنّه لم‬
‫قال الغزاليّ ‪ :‬وأمّا صوم يوم النّحر ‪ ،‬فقطع الشّافع ّ‬
‫يظهر انصراف النّهي عن عينه ووصفه ‪ ،‬ولم يرتض قولهم ‪ :‬إنّه نهى عنه ‪ ،‬لما فيه من‬
‫ترك إجابة الدّعوة بالكل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ويحرم صيام الحائض والنّفساء ‪ ،‬وصيام من يخاف على نفسه الهلك بصومه ‪.‬‬
‫ثبوت هلل شهر رمضان ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب صوم رمضان بإكمال شعبان ثلثين يوما اتّفاقا ‪ ،‬أو رؤية الهلل ليلة الثّلثين ‪،‬‬ ‫‪21‬‬

‫وفي ثبوت الرّؤية خلف بين الفقهاء ينظر في مصطلح ‪ ( :‬رؤية ف ‪ ، 2‬ورمضان ف ‪.) 2‬‬
‫صوم من رأى الهلل وحده ‪:‬‬
‫‪ -‬من رأى هلل رمضان وحده ‪ ،‬وردّت شهادته ‪ ،‬لزمه الصّوم وجوبا ‪ ،‬عند جمهور‬ ‫‪22‬‬

‫الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬وهو مشهور مذهب أحمد ‪ ،‬وذلك ‪ :‬للية‬
‫ص ْمهُ } ‪.‬‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫شهِدَ مِن ُكمُ ال ّ‬
‫الكريمة‪ ،‬وهي قوله تعالى ‪َ { :‬فمَن َ‬
‫ولحديث ‪ » :‬صوموا لرؤيته « ‪.‬‬
‫وحديث ‪ » :‬الصّوم يوم تصومون ‪ ،‬والفطر يوم تفطرون « ‪.‬‬
‫ولنّه تيقّن أنّه من رمضان ‪ ،‬فلزمه صومه ‪ ،‬كما لو حكم به الحاكم ‪.‬‬
‫وروي عن أحمد ‪ :‬أنّه ل يصوم إلّ في جماعة من النّاس ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يصوم ندبا احتياطا ‪ ،‬كما ذكره الكاسانيّ ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن أفطر فعليه القضاء ‪ ،‬وإذا اعتقد عدم وجوب الصّوم عليه كغيره لجهله‬
‫فقولن عندهم في وجوب الكفّارة ‪ ،‬لنّه ليس بعد العيان بيان ‪ ،‬أو عدم وجوب الكفّارة ‪،‬‬
‫بسبب عدم وجوب الصّوم على غيره ‪.‬‬
‫‪ -‬وإن رأى هلل شوّال وحده ‪ ،‬لم يفطر عند الجمهور ‪ ،‬خوف التّهمة وسدّا للذّريعة ‪،‬‬ ‫‪23‬‬

‫وقيل ‪ :‬يفطر إن خفي له ذلك ‪ ،‬وقال أشهب ‪ :‬ينوي الفطر بقلبه ‪ ،‬وعلى المذهب ‪ -‬وقول‬
‫الجمهور الّذين منهم المالكيّة ‪ -‬إن أفطر فليس عليه شيء فيما بينه وبين اللّه تعالى ‪ ،‬فإن‬
‫ص عليه الحنفيّة ‪ ،‬لشبهة الرّدّ ‪.‬‬
‫عثر عليه عوقب إن اتّهم ‪ ،‬ول كفّارة ‪ ،‬كما ن ّ‬
‫وقال الشّافعيّ ‪ :‬له أن يفطر ‪ ،‬لنّه تيقّن من شوّال ‪ ،‬فجاز له الكل كما لو قامت بيّنة لكن‬
‫يفطر سرّا ‪ ،‬بحيث ل يراه أحد ‪ ،‬لنّه إذا أظهر الفطر عرّض نفسه للتّهمة ‪ ،‬وعقوبة‬
‫السّلطان ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬لو أفطر من رأى الهلل وحده في الوقتين ‪ :‬رمضان وشوّال قضى ول‬
‫كفّارة عليه ‪ ،‬لنّه بردّ شهادته في رمضان ‪ ،‬صار مكذّبا شرعا ‪ ،‬ولو كان فطره قبل ما ردّ‬
‫ن ما رآه يحتمل أن‬
‫القاضي شهادته ل كفّارة عليه في الصّحيح الرّاجح ‪ ،‬لقيام الشّبهة ‪ ،‬ل ّ‬
‫يكون خيالً ‪ ،‬ل هل ًل ‪ -‬كما يقول الحصكفيّ ‪. -‬‬
‫وقيل ‪ :‬تجب الكفّارة فيهما ‪ -‬أي في الفطر وفي رمضان ‪ -‬وذلك للظّاهر بين النّاس في‬
‫الفطر ‪ ،‬وللحقيقة الّتي عنده في رمضان ‪.‬‬
‫ركن الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬ركن الصّوم باتّفاق الفقهاء هو ‪ :‬المساك عن المفطرات ‪ ،‬وذلك من طلوع الفجر‬ ‫‪24‬‬

‫الصّادق ‪ ،‬حتّى غروب الشّمس ‪.‬‬


‫ن ا ْلخَ ْيطِ ا َلسْوَدِ ِمنَ‬
‫ط الَبْيَضُ مِ َ‬
‫ن َل ُكمُ ا ْلخَيْ ُ‬
‫ودليله قوله تعالى ‪َ { :‬وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتّى يَتَبَيّ َ‬
‫ا ْلفَجْ ِر ُثمّ أَ ِتمّواْ الصّيَامَ إِلَى الّل ْيلِ } ‪.‬‬
‫والمراد من النّصّ ‪ :‬بياض النّهار وظلمة اللّيل ‪ ،‬ل حقيقة الخيطين ‪ ،‬فقد أباح اللّه تعالى‬
‫هذه الجملة من المفطرات ليالي الصّيام ‪ ،‬ثمّ أمر بالمساك عنهنّ في النّهار ‪ ،‬فد ّل على أنّ‬
‫حقيقة الصّوم وقوامه هو ذلك المساك ‪.‬‬
‫شروط وجوب الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬شروط وجوب الصّوم ‪ ،‬أي ‪ :‬اشتغال ال ّذمّة بالواجب ‪ -‬كما يقول الكاسانيّ ‪ -‬هي‬ ‫‪25‬‬

‫شروط افتراضه والخطاب به ‪ .‬وهي ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬السلم ‪ ،‬وهو شرط عامّ للخطاب بفروع الشّريعة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬العقل ‪ ،‬إذ ل فائدة من توجّه الخطاب بدونه ‪ ،‬فل يجب الصّوم على مجنون إ ّل إذا أثم‬
‫بزوال عقله ‪ ،‬في شراب أو غيره ‪ ،‬ويلزمه قضاؤه بعد الفاقة ‪.‬‬
‫وعبّر الحنفيّة بالفاقة بدلً من العقل ‪ ،‬أي الفاقة من الجنون والغماء أو النّوم ‪ ،‬وهي‬
‫اليقظة ‪.‬‬
‫ن الغرض من التّكليف هو المتثال ‪ ،‬وذلك بالدراك‬
‫ج ‪ -‬البلوغ ‪ ،‬ول تكليف إلّ به ‪ ،‬ل ّ‬
‫والقدرة على الفعل ‪ -‬كما هو معلوم في الصول ‪ -‬والصّبا والطّفولة عجز ‪.‬‬
‫ونصّ الفقهاء على أنّه يؤمر به الصّبيّ لسبع ‪ -‬كالصّلة ‪ -‬إن أطاقه ‪ ،‬ويضرب على تركه‬
‫لعشر ‪.‬‬
‫والحنابلة قالوا ‪ :‬يجب على وليّه أمره بالصّوم إذا أطاقه ‪ ،‬وضربه حينئذ إذا تركه ليعتاده ‪،‬‬
‫كالصّلة ‪ ،‬إ ّل أنّ الصّوم أشقّ ‪ ،‬فاعتبرت له الطّاقة ‪ ،‬لنّه قد يطيق الصّلة من ل يطيق‬
‫الصّوم ‪.‬‬
‫د ‪ -‬العلم بالوجوب ‪ ،‬فمن أسلم في دار الحرب ‪ ،‬يحصل له العلم الموجب ‪ ،‬بإخبار رجلين‬
‫عدلين ‪ ،‬أو رجل مستور وامرأتين مستورتين ‪ ،‬أو واحد عدل ‪ ،‬ومن كان مقيما في دار‬
‫السلم ‪ ،‬يحصل له العلم بنشأته في دار السلم ‪ ،‬ول عذر له بالجهل ‪.‬‬
‫شروط وجوب أدائه ‪:‬‬
‫‪ -‬شروط وجوب الداء الّذي هو تفريغ ذمّة المكلّف عن الواجب في وقته المعيّن له‬ ‫‪26‬‬

‫هي‪:‬‬
‫سفَرٍ َفعِدّةٌ‬
‫ن مَرِيضا َأوْ عَلَى َ‬
‫صحّة والسّلمة من المرض ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ومَن كَا َ‬
‫أ ‪ -‬ال ّ‬
‫مّنْ أَيّامٍ ُأخَرَ } ‪.‬‬
‫صحّة والقامة ‪ ،‬فشرطان في وجوب‬
‫ب ‪ -‬القامة ‪ ،‬للية نفسها ‪ .‬قال ابن جزيّ ‪ :‬وأمّا ال ّ‬
‫ن وجوب الصّوم يسقط عن المريض‬
‫الصّيام ‪ ،‬ل في صحّته ‪ ،‬ول في وجوب القضاء ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ح صومهما إن صاما ‪.‬‬
‫والمسافر ‪ ،‬ويجب عليهما القضاء ‪ ،‬إن أفطرا إجماعا ‪ ،‬ويص ّ‬
‫ج ‪ -‬خل ّو المرأة من الحيض والنّفاس ‪ ،‬لنّ الحائض والنّفساء ليستا أهلً للصّوم ‪ ،‬ولحديث‬
‫عائشة رضي ال تعالى عنها لمّا سألتها معاذة ‪ » :‬ما بال الحائض ‪ ،‬تقضي الصّوم ول‬
‫تقضي الصّلة ؟ فقالت ‪ :‬أحروريّة أنت ؟ قلت ‪ :‬لست بحروريّة ‪ ،‬ولكنّي أسأل ‪ ،‬قالت ‪ :‬كان‬
‫يصيبنا ذلك ‪ ،‬فنؤمر بقضاء الصّوم ‪ ،‬ول نؤمر بقضاء الصّلة « ‪.‬‬
‫فالمر بالقضاء فرع وجوب الداء ‪.‬‬
‫والجماع منعقد على منعهما من الصّوم ‪ ،‬وعلى وجوب القضاء عليهما ‪.‬‬
‫شروط صحّة الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬شروط صحّة الصّوم هي ‪:‬‬ ‫‪27‬‬

‫صحّة ‪ ،‬كالكمال‬
‫أ ‪ -‬الطّهارة من الحيض والنّفاس ‪ ،‬وقد عدّها بعض الفقهاء من شروط ال ّ‬
‫من الحنفيّة ‪ ،‬وابن جزيّ من المالكيّة ‪.‬‬
‫صحّة معا ‪.‬‬
‫وعدّها بعضهم من شروط وجوب الداء ‪ ،‬وشروط ال ّ‬
‫ب ‪ -‬خلوّه عمّا يفسد الصّوم بطروّه عليه كالجماع ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬النّيّة ‪ .‬وذلك لنّ صوم رمضان عبادة ‪ ،‬فل يجوز إلّ بالنّيّة ‪ ،‬كسائر العبادات ‪.‬‬
‫ولحديث ‪ » :‬إنّما العمال بالنّيّات « ‪.‬‬
‫والمساك قد يكون للعادة ‪ ،‬أو لعدم الشتهاء ‪ ،‬أو للمرض ‪ ،‬أو للرّياضة ‪ ،‬فل يتعيّن إلّ‬
‫بالنّيّة ‪ ،‬كالقيام إلى الصّلة والحجّ ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬ل يصحّ الصّوم إلّ بنيّة ‪ ،‬ومحلّها القلب ‪ ،‬ول يشترط النّطق بها ‪ ،‬بل خلف‬
‫‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ :‬التّلفّظ بها سنّة ‪.‬‬
‫صفة ال ّنيّة ‪:‬‬
‫صفة النّيّة ‪ ،‬أن تكون جازمةً ‪ ،‬معيّنةً ‪ ،‬مبيّت ًة ‪ ،‬مجدّدةً ‪ ،‬على ما يلي ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬الجزم ‪ ،‬فقد اشترط في نيّة الصّوم ‪ ،‬قطعا للتّردّد ‪ ،‬حتّى لو نوى ليلة الشّكّ ‪،‬‬ ‫‪28‬‬

‫صيام غد ‪ ،‬إن كان من رمضان لم يجزه ‪ ،‬ول يصير صائما لعدم الجزم ‪ ،‬فصار كما إذا‬
‫نوى أنّه إن وجد غدا ًء غدا يفطر ‪ ،‬وإن لم يجد يصوم ‪.‬‬
‫ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إن قال ‪ :‬إن كان غدا من رمضان فهو فرضي ‪ ،‬وإلّ فهو‬
‫ح صومه ‪ ،‬إن ظهر أنّه من رمضان ‪ ،‬لعدم جزمه بالنّيّة ‪.‬‬
‫نفل ‪ ،‬أو فأنا مفطر ‪ ،‬لم يص ّ‬
‫وإن قال ذلك ليلة الثّلثين من رمضان ‪ ،‬صحّ صومه إن بان منه ‪ ،‬لنّه مبنيّ على أصل لم‬
‫يثبت زواله ‪ ،‬ول يقدح تردّده ‪ ،‬لنّه حكم صومه مع الجزم ‪ .‬بخلف ما إذا قاله ليلة‬
‫الثّلثين من شعبان ‪ ،‬لنّه ل أصل معه يبني عليه ‪ ،‬بل الصل بقاء شعبان ‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬التّعيين ‪ ،‬والجمهور من الفقهاء ذهبوا إلى أنّه ل ب ّد من تعيين النّيّة في صوم‬ ‫‪29‬‬

‫رمضان ‪ ،‬وصوم الفرض والواجب ‪ ،‬ول يكفي تعيين مطلق الصّوم ‪ ،‬ول تعيين صوم معيّن‬
‫غير رمضان ‪.‬‬
‫وكمال النّيّة ‪ -‬كما قال النّوويّ ‪ : -‬أن ينوي صوم غد ‪ ،‬عن أداء فرض رمضان هذه السّنة‬
‫للّه تعالى ‪.‬‬
‫وإنّما اشترط التّعيين في ذلك ‪ ،‬لنّ الصّوم عبادة مضافة إلى وقت ‪ ،‬فيجب التّعيين في‬
‫ن التّعيين مقصود في نفسه ‪ ،‬فيجزئ التّعيين عن نيّة‬
‫نيّتها‪ ،‬كالصّلوات الخمس ‪ ،‬ول ّ‬
‫الفريضة في الفرض ‪ ،‬والوجوب في الواجب ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة في التّعيين إلى تقسيم الصّيام إلى قسمين ‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬ل يشترط فيه التّعيين ‪ ،‬وهو ‪ :‬أداء رمضان ‪ ،‬والنّذر المعيّن زمانه ‪ ،‬وكذا‬
‫ح بمطلق نيّة الصّوم ‪ ،‬من غير تعيين ‪.‬‬
‫النّفل ‪ ،‬فإنّه يص ّ‬
‫وذلك لنّ رمضان معيار ‪ -‬كما يقول الصوليّون ‪ -‬وهو مضيق ‪ ،‬ل يسع غيره من جنسه‬
‫وهو الصّوم ‪ ،‬فلم يشرع فيه صوم آخر ‪ ،‬فكان متعيّنا للفرض ‪ ،‬والمتعيّن ل يحتاج إلى‬
‫تعيين ‪ ،‬والنّذر المعيّن معتبر بإيجاب اللّه تعالى ‪ ،‬فيصاب كلّ منهما بمطلق النّيّة ‪،‬‬
‫وبأصلها‪ ،‬وبنيّة نفل ‪ ،‬لعدم المزاحم كما يقول الحصكفيّ ‪.‬‬
‫وك ّل يوم معيّن للنّفل ‪ -‬كما سيأتي ‪ -‬ما عدا رمضان ‪ ،‬واليّام المحرّم صومها ‪ ،‬وما يعيّنه‬
‫المكلّف بنفسه ‪ ،‬فكلّ ذلك متعيّن ‪ ،‬ول يحتاج إلى التّعيين ‪.‬‬
‫والقسم الثّاني ‪ :‬يشترط فيه التّعيين ‪ ،‬وهو ‪ :‬قضاء رمضان ‪ ،‬وقضاء ما أفسده من النّفل ‪،‬‬
‫وصوم الكفّارات بأنواعها ‪ ،‬والنّذر المطلق عن التّقييد بزمان ‪ ،‬سواء أكان معلّقا بشرط ‪ ،‬أم‬
‫كان مطلقا ‪ ،‬لنّه ليس له وقت معيّن ‪ ،‬فلم يتّأد إلّ بنيّة مخصوصة ‪ ،‬قطعا للمزاحمة ‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ -‬التّبييت ‪ :‬وهو شرط في صوم الفرض عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‬ ‫‪30‬‬

‫والتّبييت ‪ :‬إيقاع النّيّة في اللّيل ‪ ،‬ما بين غروب الشّمس إلى طلوع الفجر ‪ ،‬فلو قارن‬
‫ح ‪ ،‬كما هو قضيّة التّبييت ‪.‬‬
‫ك ‪ ،‬لم يص ّ‬
‫الغروب أو الفجر أو ش ّ‬
‫ن الصل في النّيّة‬
‫وفي قول للمالكيّة ‪ ،‬يصحّ لو قارنت الفجر ‪ ،‬كما في تكبيرة الحرام ‪ ،‬ل ّ‬
‫المقارنة للمنويّ ‪.‬‬
‫ويجوز أن تقدّم من أوّل اللّيل ‪ ،‬ول تجوز قبل اللّيل ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫وذلك لحديث ابن عمر ‪ ،‬عن حفصة رضي ال تعالى عنهم عن النّب ّ‬
‫أنّه قال ‪ » :‬من لم يجمع الصّيام قبل الفجر ‪ ،‬فل صيام له « ‪.‬‬
‫ولنّ صوم القضاء والكفّارات ‪ ،‬ل ب ّد لها من تبييت النّيّة ‪ ،‬فكذا كلّ صوم فرض معيّن ‪.‬‬
‫ول تجزئ بعد الفجر ويجزئ مع طلوع الفجر إن اتّفق ذلك ‪ ،‬وإن روى ابن عبد الحكم أنّها‬
‫ن الصل كونها مقارنةً للفجر ‪ ،‬ورخّص‬
‫ل تجزئ مع الفجر ‪ ،‬وكلم القرافيّ وآخرين يفيد أ ّ‬
‫تقدّمها عليه للمشقّة في مقارنتها له ‪.‬‬
‫والصّحيح عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّه ل يشترط في التّبييت النّصف الخر من اللّيل ‪،‬‬
‫لطلقه في الحديث ‪ ،‬ولنّ تخصيص النّيّة بالنّصف الخير يفضي إلى تفويت الصّوم ‪ ،‬لنّه‬
‫وقت النّوم ‪ ،‬وكثير من النّاس ل ينتبه فيه ‪ ،‬ول يذكر الصّوم ‪ ،‬والشّارع إنّما رخّص في‬
‫تقديم النّيّة على ابتدائه ‪ ،‬لحرج اعتبارها عنده ‪ ،‬فل يخصّها بمحلّ ل تندفع المشقّة‬
‫ن تخصيصها بالنّصف الخير تحكّم من غير دليل ‪ ،‬بل تقرّب النّيّة من‬
‫بتخصيصها به ‪ ،‬ول ّ‬
‫العبادة ‪ ،‬لمّا تعذّر اقترانها بها ‪.‬‬
‫والصّحيح أيضا ‪ :‬أنّه ل يض ّر الكل والجماع بعد النّيّة ما دام في اللّيل ‪ ،‬لنّه لم يلتبس‬
‫بالعبادة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يضرّ فتحتاج إلى تجديدها ‪ ،‬تحرّزا عن تخلّل المناقض بينها وبين‬
‫العبادة ‪ ،‬لمّا تعذّر اقترانها بها ‪.‬‬
‫والصّحيح أيضا ‪ :‬أنّه ل يجب التّجديد لها إذا نام بعدها ‪ ،‬ثمّ تنبّه قبل الفجر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يجب ‪،‬‬
‫تقريبا للنّيّة من العبادة بقدر الوسع ‪.‬‬
‫والحنفيّة لم يشترطوا التّبييت في رمضان ‪ .‬ولمّا لم يشترطوا تبييت النّيّة في ليل رمضان ‪،‬‬
‫أجازوا النّيّة بعد الفجر دفعا للحرج أيضا ‪ ،‬حتّى الضّحوة الكبرى ‪ ،‬فينوي قبلها ليكون‬
‫الكثر منويّا ‪ ،‬فيكون له حكم الكلّ ‪ ،‬حتّى لو نوى بعد ذلك ل يجوز ‪ ،‬لخلوّ الكثر عن‬
‫النّيّة ‪ ،‬تغليبا للكثر ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬وهو من وقت طلوع الفجر إلى غروب‬
‫والضّحوة الكبرى ‪ :‬نصف النّهار الشّرع ّ‬
‫الشّمس‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ ،‬منهم الموصليّ ‪ :‬والفضل الصّوم بنيّة معيّنة مبيّتة للخروج عن‬
‫الخلف ‪ .‬ودليل الحنفيّة على ما ذهبوا إليه ‪ ،‬من صحّة النّيّة حتّى الضّحوة الكبرى ‪ ،‬وعدم‬
‫شرطيّة التّبييت ‪ :‬حديث ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما ‪ » :‬أنّ النّاس أصبحوا يوم‬
‫الشّكّ ‪ ،‬فقدم أعرابيّ ‪ ،‬وشهد برؤية الهلل ‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أتشهد أن ل إله‬
‫إلّ اللّه ‪ ،‬وأنّي رسول اللّه ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬اللّه أكبر ‪ ،‬يكفي‬
‫المسلمين أحدهم ‪ ،‬فصام وأمر بالصّيام ‪ ،‬وأمر مناديا فنادى ‪ :‬أل من أكل فل يأكل بقيّة‬
‫يومه ‪ ،‬ومن لم يأكل فليصم « ‪.‬‬
‫فقد أمر بالصّوم ‪ ،‬وأنّه يقتضي القدرة على الصّوم الشّرعيّ ‪ ،‬ولو شرطت النّيّة من اللّيل‬
‫لما كان قادرا عليه ‪ ،‬فد ّل على عدم اشتراطها ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أرسل غداة‬
‫واستدلّوا أيضا ‪ ،‬بما ورد في الحديث ‪ » :‬أ ّ‬
‫عاشوراء إلى قرى النصار ‪ :‬من أصبح مفطرا فليتمّ بقيّة يومه ‪ ،‬ومن أصبح صائما‬
‫فليصم« ‪ .‬وكان صوم عاشوراء واجبا ‪ ،‬ثمّ نسخ بفرض رمضان ‪.‬‬
‫واشترط الحنفيّة تبييت النّيّة في صوم الكفّارات والنّذور المطلقة وقضاء رمضان ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا النّفل فيجوز صومه عند الجمهور ‪ -‬خلفا للمالكيّة ‪ -‬بنيّة قبل الزّوال ‪ ،‬لحديث‬ ‫‪31‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم ذات يوم ‪،‬‬


‫ي النّب ّ‬
‫عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ » :‬دخل عل ّ‬
‫فقال‪ :‬هل عندكم شيء ؟ ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬ل فقال ‪ :‬فإنّي إذن صائم « ‪.‬‬
‫ولنّ النّفل أخفّ من الفرض ‪ ،‬والدّليل عليه ‪ :‬أنّه يجوز ترك القيام في النّفل مع القدرة ‪،‬‬
‫ول يجوز في الفرض ‪.‬‬
‫وعند بعض الشّافعيّة يجوز بنيّة بعد الزّوال ‪ ،‬والمذهب في القديم والجديد ‪ :‬ل يجوز ‪ ،‬لنّ‬
‫النّيّة لم تصحب معظم العبادة ‪.‬‬
‫ومذهب المالكيّة ‪ :‬أنّه يشترط في صحّة الصّوم مطلقا ‪ ،‬فرضا أو نفلً ‪ ،‬نيّة مبيّتة ‪ ،‬وذلك‬
‫لطلق الحديث المتقدّم ‪ » :‬من لم يجمع الصّيام من اللّيل ‪ ،‬فل صيام له « ‪.‬‬
‫ومذهعب الحنابلة جواز النّيّة فعي النّفعل ‪ ،‬قبعل الزّوال وبعده ‪ ،‬واسعتدلّوا بحديعث عائشعة ‪،‬‬
‫وحديث صوم يوم عاشوراء ‪ ،‬وأنّه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة رضي ال عنهم وأنّه لم‬
‫ينقل عن أحد من ال صّحابة ما يخالفه صريحا ‪ ،‬والنّيّة وجدت في جزء من النّهار ‪ ،‬فأشبه‬
‫وجودها قبل الزّوال بلحظه ‪.‬‬
‫ويشترط لجواز نيّة النّفل في النّهار عند الحنابلة ‪ :‬أن ل يكون فعل ما يفطره قبل النّيّة ‪،‬‬
‫فإن فعل فل يجزئه الصّوم ‪ ،‬قال البهوتيّ ‪ :‬بغير خلف نعلمه ‪ ،‬قاله في الشّرح ‪ ،‬لكن خالف‬
‫فيه أبو زيد الشّافعيّ ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة وجهان في اعتبار الثّواب ‪ :‬من أوّل النّهار ‪ ،‬أم من وقت النّيّة ؟ أصحّهما‬
‫عند الكثرين ‪ :‬أنّه صائم من أوّل النّهار ‪ ،‬كما إذا أدرك المام في الرّكوع ‪ ،‬يكون مدركا‬
‫لثواب جميع الرّكعة ‪ ،‬فعلى هذا يشترط جميع شروط الصّوم من أوّل النّهار ‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا ‪ :‬تجديد النّيّة ‪ :‬ذهب الجمهور إلى تجديد النّيّة في كلّ يوم من رمضان ‪ ،‬من‬ ‫‪32‬‬

‫اللّيل أو قبل الزّوال ‪ -‬على الخلف السّابق ‪ -‬وذلك ‪ :‬لكي يتميّز المساك عبادةً ‪ ،‬عن‬
‫المساك عاد ًة أو حميةً ‪.‬‬
‫ولنّ كلّ يوم عبادة مستقلّة ‪ ،‬ل يرتبط بعضه ببعض ‪ ،‬ول يفسد بفساد بعض ‪ ،‬ويتخلّلها ما‬
‫ينافيها ‪ ،‬وهو اللّيالي الّتي يحلّ فيها ما يحرّم في النّهار ‪ ،‬فأشبهت القضاء ‪ ،‬بخلف الحجّ‬
‫وركعات الصّلة ‪.‬‬
‫وذهب زفر ومالك ‪ -‬وهو رواية عن أحمد ‪ -‬أنّه تكفي نيّة واحدة عن الشّهر كلّه في أوّله ‪،‬‬
‫كالصّلة ‪ .‬وكذلك في كلّ صوم متتابع ‪ ،‬ككفّارة الصّوم والظّهار ‪ ،‬ما لم يقطعه أو يكن على‬
‫حاله يجوز له الفطر فيها ‪ ،‬فيلزمه استئناف النّيّة ‪ ،‬وذلك لرتباط بعضها ببعض ‪ ،‬وعدم‬
‫جواز التّفريق ‪ ،‬فكفت نيّة واحدة ‪ ،‬وإن كانت ل تبطل ببطلن بعضها ‪ ،‬كالصّلة ‪.‬‬
‫ح صيام الباقي بتلك النّيّة ‪ ،‬كما جزم به‬
‫فعلى ذلك لو أفطر يوما لعذر أو غيره ‪ ،‬لم يص ّ‬
‫بعضهم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يصحّ ‪ ،‬وقدّمه بعضهم ‪.‬‬
‫ويقاس على ذلك النّذر المعيّن ومع ذلك ‪ ،‬فقد قال ابن عبد الحكم ‪ -‬من المالكيّة ‪ : -‬ل بدّ‬
‫في الصّوم الواجب المتتابع من النّيّة كلّ يوم ‪ ،‬نظرا إلى أنّه كالعبادات المتعدّدة ‪ ،‬من حيث‬
‫عدم فساد ما مضى منه بفساد ما بعده ‪.‬‬
‫ن المساك متردّد بين العادة‬
‫بل روي عن زفر أنّ المقيم الصّحيح ‪ ،‬ل يحتاج إلى نيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي وجه أتى به وقع عنه ‪.‬‬
‫والعبادة ‪ ،‬فكان متردّدا بأصله متعيّنا بوصفه ‪ ،‬فعلى أ ّ‬
‫استمرار ال ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اشترط الفقهاء الدّوام على النّيّة ‪ ،‬فلو نوى الصّيام من اللّيل ثمّ رجع عن نيّته قبل‬ ‫‪33‬‬

‫طلوع الفجر ل يصير صائما ‪.‬‬


‫قال الطّحطاويّ ‪ :‬ويشترط الدّوام عليها ‪.‬‬
‫فلو نوى من اللّيل ‪ ،‬ثمّ رجع عن نيّته قبل طلوع الفجر ‪ ،‬صحّ رجوعه ول يصير صائما ‪،‬‬
‫ولو أفطر ل شيء عليه إلّ القضاء ‪ ،‬بانقطاع النّيّة بالرّجوع ‪ ،‬فل كفّارة عليه في رمضان ‪،‬‬
‫لشبهة خلف من اشترط التّبييت ‪ ،‬إلّ إذا جدّد النّيّة ‪ ،‬بأن ينوي الصّوم في وقت النّيّة ‪،‬‬
‫ن الولى غير معتبرة ‪ ،‬بسبب الرّجوع عنها ‪.‬‬
‫تحصيلً لها ‪ ،‬ل ّ‬
‫ول تبطل النّيّة بقوله ‪ :‬أصوم غدا إن شاء اللّه ‪ ،‬لنّه بمعنى الستعانة ‪ ،‬وطلب التّوفيق‬
‫والتّيسير ‪ .‬والمشيئة إنّما تبطل اللّفظ ‪ ،‬والنّيّة فعل القلب ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬وكذا سائر العبادات ‪ ،‬ل تبطل بذكر المشيئة في نيّتها ‪.‬‬
‫ول تبطل النّيّة بأكله أو شربه أو جماعه بعدها عند جمهور الفقهاء ‪،‬وحكي عن أبي إسحاق‬
‫بطلنها ‪ ،‬ولو رجع عن نيّته قبل طلوع الفجر صحّ رجوعه ‪.‬‬
‫ولو نوى الفطار في أثناء النّهار فمذهب الحنفيّة والشّافعيّة أنّه ل يفطر ‪ ،‬كما لو نوى‬
‫ل ‪ ،‬ول يضرّ نهارا ‪.‬‬
‫التّكلّم في صلته ولم يتكلّم ‪ ،‬قال البيجوريّ ‪ :‬ويضرّ رفض النّيّة لي ً‬
‫وقال المالكيّة والحنابلة ‪ :‬يفطر ‪ ،‬لنّه قطع نيّة الصّوم بنيّة الفطار ‪ ،‬فكأنّه لم يأت بها‬
‫ابتداءً‪.‬‬
‫الغماء والجنون والسّكر بعد ال ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء فيما إذا نوى الصّيام من اللّيل ‪ ،‬ثمّ طرأ عليه إغماء أو جنون أو سكر‪،‬‬ ‫‪34‬‬

‫فإن لم يفق إلّ بعد غروب الشّمس ‪ ،‬فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم صحّة‬
‫ن الصّوم هو المساك مع النّيّة ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬قال اللّه‬
‫صومه ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ :‬كلّ عمل ابن آدم له إلّ الصّوم ‪ ،‬فإنّه لي وأنا أجزي به ‪ ،‬يدع شهوته وطعامه من أجلي‬
‫« فأضاف ترك الطّعام والشّراب إليه ‪ ،‬فإذا كان مغمىً عليه فل يضاف المساك إليه ‪ ،‬فلم‬
‫يجزئه ‪.‬‬
‫ن نيّته قد صحّت ‪ ،‬وزوال الستشعار بعد ذلك ل يمنع‬
‫وذهب الحنفيّة إلى صحّة صومه ‪ ،‬ل ّ‬
‫صحّة الصّوم ‪ ،‬كالنّوم ‪.‬‬
‫أمّا إذا أفاق أثناء النّهار ‪ ،‬فذهب الحنفيّة إلى تجديد النّيّة إذا أفاق قبل الزّوال ‪ ،‬وذهب‬
‫المالكيّة إلى عدم صحّة صومه ‪ ،‬وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أفاق في أيّ جزء‬
‫ح صومه ‪ ،‬سواء أكان في أوّله أم في آخره ‪.‬‬
‫من النّهار ص ّ‬
‫وفرّق الشّافعيّة بين الجنون والغماء ‪ ،‬فالمذهب ‪ :‬أنّه لو جنّ في أثناء النّهار بطل‬
‫صومه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو كالغماء ‪.‬‬
‫وأمّا الرّدّة بعد نيّة الصّوم فتبطل الصّوم بل خلف ‪.‬‬
‫سنن الصّوم ومستحبّاته ‪:‬‬
‫‪ -‬سنن الصّوم ومستحبّاته كثيرة ‪ ،‬أهمّها ‪:‬‬ ‫‪35‬‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬


‫أ ‪ -‬السّحور ‪ ،‬وقد ورد فيه حديث أنس رضي ال تعالى عنه أ ّ‬
‫ن في السّحور بركةً « ‪.‬‬
‫قال ‪ » :‬تسحّروا فإ ّ‬
‫ب ‪ -‬تأخير السّحور ‪ ،‬وتعجيل الفطر ‪ ،‬وممّا ورد فيه حديث سهل بن سعد رضي ال عنه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ل يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر « ‪.‬‬
‫أنّ النّب ّ‬
‫وحديث زيد بن ثابت ‪ -‬رضي ال عنه ‪ » : -‬تسحّرنا مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم ثمّ قام‬
‫إلى الصّلة ‪ .‬قلت ‪ :‬كم كان بين الذان والسّحور ؟ قال ‪ :‬قدر خمسين آي ًة « ‪.‬‬
‫ج – ويستحبّ أن يكون الفطار على رطبات ‪ ،‬فإن لم تكن فعلى تمرات ‪ ،‬وفي هذا ورد‬
‫حديث أنس رضي ال تعالى عنه قال ‪ » :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يفطر قبل أن‬
‫يصلّي على رطبات ‪ ،‬فإن لم تكن رطبات فتميرات ‪ ،‬فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من‬
‫ماء « ‪.‬‬
‫وورد فيه حديث عن سلمان بن عامر الضّبّيّ رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ‪ ،‬فإنّه بركة ‪ ،‬فمن لم يجد فليفطر على‬
‫ماء‪ ،‬فإنّه طهور « ‪.‬‬
‫د ‪ -‬ويستحبّ أن يدعو عند الفطار ‪ ،‬فقد ورد عن عبد اللّه بن عمرو رضي ال تعالى‬
‫عنهما مرفوعا ‪ » :‬إنّ للصّائم دعو ًة ل تر ّد « ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان إذا أفطر‬
‫وفي الحديث عن ابن عمر رضي ال عنهما أ ّ‬
‫قال‪ » :‬ذهب الظّمأ ‪ ،‬وابتلّت العروق ‪ ،‬وثبت الجر إن شاء اللّه تعالى « ‪.‬‬
‫وهناك فضائل من خصائص شهر رمضان كالتّراويح ‪ ،‬والكثار من الصّدقات ‪ ،‬والعتكاف ‪،‬‬
‫وغيرها تنظر في مصطلحاتها ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن أهمّ ما ينبغي أن يترفّع عنه الصّائم ويحذره ‪ :‬ما يحبط صومه من المعاصي‬ ‫‪36‬‬

‫الظّاهرة والباطنة ‪ ،‬فيصون لسانه عن اللّغو والهذيان والكذب ‪ ،‬والغيبة والنّميمة ‪،‬‬
‫والفحش والجفاء ‪ ،‬والخصومة والمراء ‪ ،‬ويكفّ جوارحه عن جميع الشّهوات والمحرّمات ‪،‬‬
‫ويشتغل بالعبادة ‪ ،‬وذكر اللّه ‪ ،‬وتلوة القرآن وهذا كما يقول الغزاليّ ‪ :‬هو س ّر الصّوم ‪.‬‬
‫وفي الصّحيح من حديث أبي هريرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬قال اللّه تعالى ‪ :‬كلّ عمل ابن آدم له إلّ الصّيام ‪ ،‬فإنّه لي وأنا أجزي به ‪،‬‬
‫والصّيام جنّة ‪ ،‬وإذا كان يوم صوم أحدكم ‪ ،‬فل يرفث ول يصخب ‪ ،‬فإن سابّه أحد أو قاتله ‪،‬‬
‫ي صلى ال‬
‫فليقل ‪ :‬إنّي امرؤ صائم « ‪ ،‬وفي حديث أبي هريرة رضي ال تعالى عنه أنّ النّب ّ‬
‫عليه وسلم قال ‪ » :‬الصّيام جنّة ‪ ،‬ما لم يخرقها بكذب أو غيبة « ‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من‬
‫لم يدع قول الزّور ‪ ،‬والعمل به ‪ ،‬فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه « ‪.‬‬
‫مفسدات الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬يفسد الصّوم ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬كلّما انتفى شرط من شروطه ‪ ،‬أو اختلّ أحد أركانه ‪،‬‬ ‫‪37‬‬

‫كالرّدّة ‪ ،‬وكطروء الحيض والنّفاس ‪ ،‬وكلّ ما ينافيه من أكل وشرب ونحوهما ‪ ،‬ودخول‬
‫شيء من خارج البدن إلى جوف الصّائم ‪.‬‬
‫‪ -‬ويشترط في فساد الصّوم بما يدخل إلى الجوف ما يلي ‪:‬‬ ‫‪38‬‬

‫أ ‪ -‬أن يكون الدّاخل إلى الجوف ‪ ،‬من المنافذ الواسعة ‪ -‬كما قيّده بذلك المالكيّة ‪-‬‬
‫والمفتوحة ‪ -‬كما قال الشّافعيّة ‪ -‬أي ‪ :‬المخارق الطّبيعيّة الصليّة في الجسم ‪ ،‬والّتي تعتبر‬
‫موصّلةً للمادّة من الخارج إلى الدّاخل ‪ ،‬كالفم والنف والذن ‪.‬‬
‫وقد استدلّ لذلك ‪ ،‬بالتّفاق على أنّ من اغتسل في ماء ‪ ،‬فوجد برده في باطنه ل يفطر ‪،‬‬
‫ومن طلى بطنه بدهن ل يضرّ ‪ ،‬لنّ وصوله إلى الجوف بتشرّب ‪.‬‬
‫ولم يشترط الحنابلة ذلك ‪ ،‬بل اكتفوا بتحقّق وصوله إلى الحلق والجوف ‪ ،‬والدّماغ جوف ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون الدّاخل إلى الجوف ممّا يمكن الحتراز عنه ‪ ،‬كدخول المطر والثّلج بنفسه‬
‫حلق الصّائم إذا لم يبتلعه بصنعه ‪ ،‬فإن لم يمكن الحتراز عنه ‪ -‬كالذّباب يطير إلى الحلق ‪،‬‬
‫وغبار الطّريق ‪ -‬لم يفطر إجماعا ‪.‬‬
‫وهذا استحسان ‪ ،‬والقياس ‪ :‬الفساد ‪ ،‬لوصول المفطر إلى جوفه ‪.‬‬
‫وجه الستحسان ‪ ،‬أنّه ل يستطاع الحتراز عنه ‪ ،‬فأشبه الدّخان ‪.‬‬
‫والجوف هو ‪ :‬الباطن ‪ ،‬سواء أكان ممّا يحيل الغذاء والدّواء ‪ ،‬أي يغيّرهما كالبطن‬
‫والمعاء‪ ،‬أم كان ممّا يحيل الدّواء فقط كباطن الرّأس أو الذن ‪ ،‬أم كان ممّا ل يحيل شيئا‬
‫كباطن الحلق‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬جعلوا الحلق كالجوف ‪ ،‬في بطلن الصّوم بوصول الواصل إليه ‪ ،‬وقال المام‬
‫‪ :‬إذا جاوز الشّيء الحلقوم أفطر ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وعلى الوجهين جميعا ‪ :‬باطن الدّماغ والمعاء والمثانة ممّا يفطر الوصول إليه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬والجمهور على أنّه ل يشترط أن يكون الدّاخل إلى الجوف مغذّيا ‪ ،‬فيفسد الصّوم‬
‫بالدّاخل إلى الجوف ‪ ،‬ممّا يغذّي أو ل يغذّي ‪ ،‬كابتلع التّراب ونحوه ‪ ،‬وإن فرّق بينهما‬
‫بعض المالكيّة ‪ ،‬قال ابن رشد ‪ :‬وتحصيل مذهب مالك ‪ ،‬أنّه يجب المساك عمّا يصل إلى‬
‫الحلق ‪ ،‬من أيّ المنافذ وصل ‪ ،‬مغذّيا كان أو غير مغذّ ‪.‬‬
‫د ‪ -‬وشرط كون الصّائم قاصدا ذاكرا لصومه ‪ ،‬أمّا لو كان ناسيا أنّه صائم ‪ ،‬فل يفسد‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫صومه عند الجمهور ‪ ،‬وذلك لحديث أبي هريرة رضي ال عنه عن النّب ّ‬
‫وسلم قال ‪ » :‬من نسي وهو صائم ‪ ،‬فأكل أو شرب ‪ ،‬فليتمّ صومه ‪ ،‬فإنّما أطعمه اللّه‬
‫وسقاه« ‪.‬‬
‫ويستوي في ذلك الفرض والنّفل لعموم الدلّة ‪.‬‬
‫ن من نسي في رمضان ‪ ،‬فأكل أو شرب ‪ ،‬عليه‬
‫وخالف مالك في صوم رمضان فذهب إلى أ ّ‬
‫القضاء ‪ ،‬أمّا لو نسي في غير رمضان ‪ ،‬فأكل أو شرب ‪ ،‬فإنّه يتمّ صومه ‪ ،‬ول قضاء‬
‫عليه‪ .‬هع – وشرط الحنفيّة والمالكيّة استقرار المادّة في الجوف ‪ ،‬وعلّلوه بأنّ الحصاة –‬
‫ل ما وتنقص الجوع ‪.‬‬
‫مثلً – تشغل المعدة شغ ً‬
‫ولم يشترط الشّافعيّة والحنابلة استقرار المادّة في الجوف إذا كان باختياره ‪.‬‬
‫وعلى قول الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬لو لم تستق ّر المادّة ‪ ،‬بأن خرجت من الجوف لساعتها ل‬
‫يفسد الصّوم ‪ ،‬كما لو أصابته سهام فاخترقت بطنه ونفذت من ظهره ‪ ،‬ولو بقي النّصل في‬
‫جوفه فسد صومه ‪ ،‬ولو كان ذلك بفعله يفسد صومه ‪ ،‬قال الغزاليّ ‪ :‬ولو كان بعض‬
‫السّكّين خارجا ‪.‬‬
‫و ‪ -‬وشرط الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة ‪ ،‬أن يكون الصّائم مختارا فيما يتناوله ‪،‬‬
‫ب الدّواء في حلقه مكرها ‪ ،‬لم يفسد‬
‫من طعام أو شراب أو دواء ‪ ،‬فلو أوجر الماء ‪ ،‬أو ص ّ‬
‫صومه عندهم ‪ ،‬لنّه لم يفعل ولم يقصد ‪.‬‬
‫ولو أكره على الفطار ‪ ،‬فأكل أو شرب ‪ ،‬فللشّافعيّة قولن مشهوران في الفطر وعدمه ‪.‬‬
‫ن الحكم الّذي ينبني على اختياره ساقط ‪،‬‬
‫أصحّهما ‪ :‬عدم الفطر ‪ ،‬وعلّلوا عدم الفطار بأ ّ‬
‫لعدم وجود الختيار ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة ‪ :‬أنّه ل يفسد صومه قولً واحدا ‪ ،‬وهو كاليجار ‪ ،‬وذلك لحديث ‪ » :‬إنّ‬
‫اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه « ‪ .‬فإنّه عامّ ‪.‬‬
‫ن الكراه على الفطار يفسد الصّوم ‪ ،‬ويستوجب القضاء ‪،‬‬
‫ومذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫وذلك لنّ المراد من حديث ‪ » :‬إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان ‪ ،‬وما استكرهوا‬
‫عليه « رفع الحكم ‪ ،‬لتصحيح الكلم اقتضا ًء ‪ ،‬والمقتضي ل عموم له ‪ ،‬والثم مراد‬
‫ح إرادة الحكم الخر ‪ -‬وهو الدّنيويّ ‪ -‬بالفساد ‪.‬‬
‫إجماعا ‪ ،‬فل تص ّ‬
‫ما يفسد الصّوم ‪ ،‬ويوجب القضاء ‪:‬‬
‫‪ -‬وذلك يرجع إلى الخلل بأركانه وشروطه ‪ ،‬ويمكن حصره فيما يلي ‪:‬‬ ‫‪39‬‬

‫أ ‪ -‬تناول ما ل يؤكل في العادة ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬قضاء الوطر قاصرا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬شئون المعالجة والمداواة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّقصير في حفظ الصّوم والجهل بأحكامه ‪.‬‬
‫هع‪ -‬الفطار بسبب العوارض ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬تناول ما ل يؤكل عادةً ‪:‬‬
‫‪ -‬تناول ما ل يؤكل عاد ًة كالتّراب والحصى ‪ ،‬والدّقيق غير المخلوط ‪ -‬على الصّحيح ‪-‬‬ ‫‪40‬‬

‫والحبوب النّيئة ‪ ،‬كالقمح والشّعير والحمّص والعدس ‪ ،‬والثّمار الفجّة الّتي ل تؤكل قبل‬
‫النّضج ‪ ،‬كالسّفرجل والجوز ‪ ،‬وكذا تناول ملح كثير دفع ًة واحدةً يوجب القضاء دون‬
‫الكفّارة‪ ،‬أمّا إذا أكله على دفعات ‪ ،‬بتناول دفعة قليلة ‪ ،‬في كلّ مرّة ‪ ،‬فيجب القضاء والكفّارة‬
‫عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫أمّا في أكل نواة أو قطن أو ورق ‪ ،‬أو ابتلع حصاة ‪ ،‬أو حديد أو ذهب أو فضّة ‪ ،‬وكذا‬
‫شرب ما ل يشرب من السّوائل كالبترول فالقضاء دون كفّارة لقصور الجناية بسبب‬
‫الستقذار والعيافة ومنافاة الطّبع ‪ ،‬فانعدم معنى الفطر ‪ ،‬وهو بإيصال ما فيه نفع البدن إلى‬
‫ن هذه المذكورات ليست غذائ ّيةً ‪،‬‬
‫الجوف ‪ ،‬سواء أكان ممّا يتغذّى به أم يتداوى به ‪ .‬ول ّ‬
‫ول في معنى الغذاء ‪ -‬كما يقول الطّحاويّ ‪ -‬ولتحقّق الفطار في الصّورة ‪ ،‬وهو البتلع ‪.‬‬
‫قال ابن عبّاس رضي ال عنهما ‪ :‬الفطر ممّا دخل ‪.‬‬
‫وقال الزّيلعيّ ‪ :‬كلّ ما ل يتغذّى به ‪ ،‬ول يتداوى به عادةً ‪ ،‬ل يوجب الكفّارة ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬قضاء الوطر أو الشّهوة على وجه القصور ‪:‬‬
‫وذلك في الصّور التية ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬تعمّد إنزال المنيّ بل جماع ‪ ،‬وذلك كالستمناء بالكفّ أو بالتّبطين والتّفخيذ ‪ ،‬أو‬ ‫‪41‬‬

‫باللّمس والتّقبيل ونحوهما فإنّه يوجب القضاء دون الكفّارة عند جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬وعند المالكيّة يوجب القضاء والكفّارة معا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬النزال بوطء ميّتة أو بهيمة ‪ ،‬أو صغيرة ل تشتهى ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو يفسد الصّوم ‪ ،‬لنّ فيه قضاء إحدى الشّهوتين ‪ ،‬وأنّه ينافي الصّوم ‪ ،‬ول يوجب‬ ‫‪42‬‬

‫الكفّارة ‪ ،‬لتمكّن النّقصان في قضاء الشّهوة ‪ ،‬فليس بجماع خلفا للحنابلة ‪ ،‬فإنّه ل فرق‬
‫عندهم بين كون الموطوءة كبيرةً أو صغير ًة ‪ ،‬ول بين العمد والسّهو ‪ ،‬ول بين الجهل‬
‫ي‪.‬‬
‫والخطأ ‪ ،‬وفي كلّ ذلك القضاء والكفّارة ‪ ،‬لطلق حديث العراب ّ‬
‫والمالكيّة يوجبون في ذلك الكفّارة ‪ ،‬لتعمّد إخراج المنيّ ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المساحقة بين المرأتين إذا أنزلت ‪:‬‬
‫‪ -‬عمل المرأتين ‪ ،‬كعمل الرّجال ‪ ،‬جماع فيما دون الفرج ‪ ،‬ول قضاء على واحدة‬ ‫‪43‬‬

‫منهما‪ ،‬إ ّل إذا أنزلت ‪ ،‬ول كفّارة مع النزال ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة وهو وجه عند الحنابلة ‪،‬‬
‫ح قياسه على الجماع ‪.‬‬
‫ص في الكفّارة ‪ ،‬ول يص ّ‬
‫وعلّله الحنابلة بأنّه ‪ ،‬ل ن ّ‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬وأصحّ الوجهين أنّهما ل كفّارة عليهما ‪ ،‬لنّ ذلك ليس بمنصوص عليه ‪،‬‬
‫ول في معنى المنصوص عليه ‪ ،‬فيبقى على الصل ‪.‬‬
‫د ‪ -‬النزال بالفكر والنّظر ‪:‬‬
‫‪ -‬إنزال المنيّ بالنّظر أو الفكر ‪ ،‬فيه التّفصيل التي ‪:‬‬ ‫‪44‬‬
‫ل منهم أنّ النزال بالفكر ‪ -‬وإن طال ‪ -‬وبالنّظر بشهوة ‪،‬‬
‫مذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلّ قلي ً‬
‫ولو إلى فرج المرأة مرارا ‪ ،‬ل يفسد الصّوم ‪ ،‬وإن علم أنّه ينزل به ‪ ،‬لنّه إنزال من غير‬
‫مباشرة ‪ ،‬فأشبه الحتلم ‪.‬‬
‫قال القليوبيّ ‪ :‬النّظر والفكر المحرّك للشّهوة ‪ ،‬كالقبلة ‪ ،‬فيحرم وإن لم يفطر به ‪.‬‬
‫ومذهب المالكيّة أنّه إن أمنى بمجرّد الفكر أو النّظر ‪ ،‬من غير استدامة لهما ‪ ،‬يفسد صومه‬
‫ويجب القضاء دون الكفّارة ‪ .‬وإن استدامهما حتّى أنزل فإن كانت عادته النزال بهما عند‬
‫الستدامة ‪ ،‬فالكفّارة قطعا ‪ ،‬وإن كانت عادته عدم النزال بهما عند الستدامة ‪ ،‬فخالف‬
‫عادته وأمنى ‪ ،‬فقولن في لزوم الكفّارة ‪ ،‬واختار اللّخميّ عدم اللّزوم ‪.‬‬
‫ولو أمنى في أداء رمضان بتعمّد نظرة واحدة يفسد صومه ويجب القضاء ‪ ،‬وفي وجوب‬
‫الكفّارة وعدمه تأويلن ‪ ،‬محلّهما إذا كانت عادته النزال بمجرّد النّظر ‪ ،‬وإلّ فل كفّارة‬
‫اتّفاقا‪.‬‬
‫وقال الذرعيّ من الشّافعيّة ‪ ،‬وتبعه شيخ القليوبيّ ‪ ،‬والرّمليّ ‪ :‬يفطر إذا علم النزال بالفكر‬
‫والنّظر ‪ ،‬وإن لم يكرّره ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة ‪ ،‬التّفرقة بين النّظر وبين الفكر ‪ ،‬ففي النّظر ‪ ،‬إذا أمنى يفسد الصّوم ‪ ،‬لنّه‬
‫أنزل بفعل يتلذّذ به ‪ ،‬ويمكن التّحرّز منه ‪ ،‬فأفسد الصّوم ‪ ،‬كالنزال باللّمس ‪ ،‬والفكر ل‬
‫يمكن التّحرّز منه ‪ ،‬بخلف النّظر ‪.‬‬
‫ص في الفطر به ‪ ،‬ول‬
‫ولو أمذى بتكرار النّظر ‪ ،‬فظاهر كلم أحمد ل يفطر به ‪ ،‬لنّه ل ن ّ‬
‫يمكن قياسه على إنزال المنيّ ‪ ،‬لمخالفته إيّاه في الحكام ‪ ،‬فيبقى على الصل ‪.‬‬
‫وإذا لم يكرّر النّظر ل يفطر ‪ ،‬سواء أمنى أو أمذى ‪ ،‬وهو المذهب ‪ ،‬لعدم إمكان التّحرّز ‪،‬‬
‫ي ل بالمذي ‪.‬‬
‫ونصّ أحمد ‪ :‬يفطر بالمن ّ‬
‫ن الفكر‬
‫أمّا الفكر ‪ ،‬فإنّ النزال به ل يفسد الصّوم ‪ .‬واختار ابن عقيل ‪ :‬الفساد به ‪ ،‬ل ّ‬
‫يدخل تحت الختيار ‪ ،‬لكن جمهورهم استدلّوا بحديث أبي هريرة رضي ال عنه ‪ » :‬إنّ‬
‫اللّه تجاوز لمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها ‪ ،‬ما لم تعمل به أو تكلّم « ‪.‬‬
‫ولنّه ل نصّ في الفطر به ول إجماع ‪ ،‬ول يمكن قياسه على المباشرة ول تكرار النّظر ‪،‬‬
‫لنّه دونهما في استدعاء الشّهوة ‪ ،‬وإفضائه إلى النزال ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬المعالجات ونحوها ‪ ،‬وهي أنواع أهمّها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الستعاط ‪:‬‬
‫ب في النف ‪ ،‬والستعاط‬
‫‪ -‬الستعاط ‪ :‬افتعال من السّعوط ‪ ،‬مثال رسول ‪ :‬دواء يص ّ‬ ‫‪45‬‬

‫والسعاط عند الفقهاء ‪ :‬إيصال الشّيء إلى الدّماغ من النف ‪.‬‬


‫وإنّما يفسد الستعاط الصّوم ‪ ،‬بشرط أن يصل الدّواء إلى الدّماغ ‪ ،‬والنف منفذ إلى‬
‫الجوف ‪ ،‬فلو لم يصل إلى الدّماغ لم يضرّ ‪ ،‬بأن لم يجاوز الخيشوم ‪ ،‬فلو وضع دواءً في‬
‫أنفه ليلً ‪ ،‬وهبط نهارا ‪ ،‬فل شيء عليه ‪.‬‬
‫ولو وضعه في النّهار ‪ ،‬ووصل إلى دماغه أفطر ‪ ،‬لنّه واصل إلى جوف الصّائم باختياره‬
‫فيفطّره كالواصل إلى الحلق ‪ ،‬والدّماغ جوف ‪ -‬كما قرّروا ‪ -‬والواصل إليه يغذّيه ‪،‬‬
‫فيفطّره‪ ،‬كجوف البدن ‪.‬‬
‫والواجب فيه القضاء ل الكفّارة ‪ ،‬هذا هو الصحّ ‪ ،‬لنّ الكفّارة موجب الفطار صورةً‬
‫ومعنىً‪ ،‬والصّورة هي البتلع ‪ ،‬وهي منعدمة ‪ ،‬والنّفع المجرّد عنها يوجب القضاء فقط ‪.‬‬
‫ص صبّ الدّواء ‪ ،‬بل لو استنشق الماء ‪ ،‬فوصل إلى دماغه أفطر عند‬
‫وهذا الحكم ل يخ ّ‬
‫الحنفيّة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬استعمال البخور ‪:‬‬
‫‪ -‬ويكون بإيصال الدّخان إلى الحلق ‪ ،‬فيفطر ‪ ،‬أمّا شمّ رائحة البخور ونحوه بل وصول‬ ‫‪46‬‬

‫دخانه إلى الحلق فل يفطر ولو جاءته الرّائحة واستنشقها ‪ ،‬لنّ الرّائحة ل جسم لها ‪.‬‬
‫فمن أدخل بصنعه دخانا حلقه ‪ ،‬بأيّة صورة كان الدخال ‪ ،‬فسد صومه ‪ ،‬سواء أكان دخان‬
‫عنبر أم عود أم غيرهما ‪ ،‬حتّى من تبخّر بعود ‪ ،‬فآواه إلى نفسه ‪ ،‬واشتمّ دخانه ‪ ،‬ذاكرا‬
‫لصومه ‪ ،‬أفطر ‪ ،‬لمكان التّحرّز من إدخال المفطر جوفه ودماغه ‪.‬‬
‫قال الشرنبللي ‪ :‬هذا ممّا يغفل عنه كثير من النّاس ‪ ،‬فلينبّه له ‪ ،‬ول يتوهّم أنّه كشمّ الورد‬
‫والمسك ‪ ،‬لوضوح الفرق بين هواء تطيّب بريح المسك وشبهه ‪ ،‬وبين جوهر دخان وصل‬
‫إلى جوفه بفعله‬
‫ج ‪ -‬بخار القدر ‪:‬‬
‫‪ -‬بخار القدر ‪ ،‬متى وصل للحلق باستنشاق أوجب القضاء ‪ ،‬لنّ دخان البخور وبخار‬ ‫‪47‬‬

‫القدر كلّ منهما جسم يتكيّف به الدّماغ ‪ ،‬ويتقوّى به ‪ ،‬أي تحصل له قوّة كالّتي تحصل من‬
‫الكل ‪ ،‬أمّا لو وصل واحد منهما للحلق بغير اختياره فل قضاء عليه ‪.‬‬
‫هذا بخلف دخان الحطب ‪ ،‬فإنّه ل قضاء في وصوله للحلق ‪ ،‬ولو تعمّد استنشاقه ‪ ،‬لنّه ل‬
‫يحصل للدّماغ به قوّة كالّتي تحصل له من الكل ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو فتح فاه عمدا حتّى دخل الغبار في جوفه ‪ ،‬لم يفطر على الصحّ ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة الفطار بابتلع غربلة الدّقيق وغبار الطّريق ‪ ،‬إن تعمّده ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّدخين ‪:‬‬
‫ن شرب الدّخان المعروف أثناء الصّوم يفسد الصّيام ‪ ،‬لنّه من‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪48‬‬

‫المفطرات ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪30‬‬ ‫فقرة‬ ‫‪10‬‬ ‫وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح ‪ ( :‬تبغ ‪ ،‬الموسوعة الفقهيّة‬
‫هع – التّقطير في الذن ‪:‬‬
‫– ذهب جمهور الفقهاء ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة إلى فساد الصّوم بتقطير الدّواء أو‬ ‫‪49‬‬

‫الدّهن أو الماء في الذن ‪.‬‬


‫فقال المالكيّة ‪ :‬يجب المساك عمّا يصل إلى الحلق ‪ ،‬ممّا ينماع أو ل ينماع ‪.‬‬
‫ن الواصل إلى الحلق مفطّر ولو لم يجاوزه ‪ ،‬إن وصل إليه ‪ ،‬ولو من أنف أو‬
‫والمذهب ‪ :‬أ ّ‬
‫أذن أو عين نهارا ‪.‬‬
‫وتوجيهه عندهم ‪ :‬أنّه واصل من أحد المنافذ الواسعة في البدن ‪ ،‬وهي ‪ :‬الفم والنف‬
‫ن كلّ ما وصل إلى المعدة من منفذ عال ‪ ،‬موجب للقضاء ‪ ،‬سواء أكان ذلك‬
‫والذن‪ ،‬وأ ّ‬
‫المنفذ واسعا أم ضيّقا ‪ .‬وأنّه ل تفرقة عندهم ‪ ،‬بين المائع وبين غيره في الواصل إلى‬
‫المعدة من الحلق ‪ .‬وقال النّوويّ ‪ :‬لو صبّ الماء أو غيره في أذنيه ‪ ،‬فوصل دماغه أفطر‬
‫على الصحّ عندنا ‪ ،‬ولم ير الغزاليّ الفطار بالتّقطير في الذنين ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬إذا قطّر في أذنه فوصل إلى دماغه فسد صومه ‪ ،‬لنّ الدّماغ أحد الجوفين ‪،‬‬
‫وقال البهوت ّ‬
‫فالواصل إليه يغذّيه ‪ ،‬فأفسد الصّوم ‪.‬‬
‫والحنفيّة قالوا ‪ :‬بفساد الصّوم بتقطير الدّواء والدّهن في الذن ‪ ،‬لنّ فيه صلحا لجزء من‬
‫البدن ‪ ،‬فوجد إفساد الصّوم معنىً ‪.‬‬
‫ي في الهداية ‪ -‬وهو الّذي‬
‫واختلف الحنفيّة في تقطير الماء في الذن ‪ :‬فاختار المرغينان ّ‬
‫صحّحه غيره ‪ -‬عدم الفطار به مطلقا ‪ ،‬دخل بنفسه أو أدخله ‪.‬‬
‫وفرّق قاضي خان ‪ ،‬بين الدخال قصدا فأفسد به الصّوم ‪ ،‬وبين الدّخول فلم يفسده به ‪،‬‬
‫وهذا الّذي صحّحوه ‪ ،‬لنّ الماء يض ّر الدّماغ ‪ ،‬فانعدم الفساد صور ًة ومعنىً ‪.‬‬
‫ب الدّهن ‪ ،‬وعلى عدمه بدخول الماء ‪ ،‬والختلف في‬
‫فالتّفاق عند الحنفيّة على الفطر بص ّ‬
‫التّصحيح في إدخاله ‪.‬‬
‫و ‪ -‬مداواة المّة والجائفة والجراح ‪:‬‬
‫‪ -‬المّة ‪ :‬جراحة في الرّأس ‪ ،‬والجائفة ‪ :‬جراحة في البطن ‪.‬‬ ‫‪50‬‬

‫والمراد بهذا ‪ -‬كما يقول الكاسانيّ ‪ -‬ما يصل إلى الجوف من غير المخارق الصليّة ‪.‬‬
‫فإذا داوى الصّائم المّة أو الجراح ‪ ،‬فمذهب الجمهور ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬فساد الصّوم ‪ ،‬إذا‬
‫وصل الدّواء إلى الجوف ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬لو داوى جرحه فوصل الدّواء إلى جوفه أو دماغه أفطر عندنا سواء أكان‬
‫الدّواء رطبا أم يابسا ‪.‬‬
‫وعلّله الحنابلة بأنّه أوصل إلى جوفه شيئا باختياره ‪ ،‬فأشبه ما لو أكل ‪.‬‬
‫قال المرداويّ ‪ :‬وهذا هو المذهب ‪ ،‬وعليه الصحاب ‪.‬‬
‫وعلّله الحنفيّة ‪ -‬مع نصّهم على عدم التّفرقة بين الدّواء الرّطب وبين الدّواء اليابس ‪ -‬بأنّ‬
‫بين جوف الرّأس وجوف المعدة منفذا أصليّا ‪ ،‬فمتى وصل إلى جوف الرّأس ‪ ،‬يصل إلى‬
‫جوف البطن ‪.‬‬
‫ك في وصول الدّواء إلى الجوف ‪ ،‬فعند الحنفيّة بعض التّفصيل والخلف ‪ :‬فإن كان‬
‫أمّا إذا ش ّ‬
‫الدّواء رطبا ‪ ،‬فعند أبي حنيفة الظّاهر هو الوصول ‪ ،‬لوجود المنفذ إلى الجوف ‪ ،‬وهو‬
‫السّبب‪ ،‬فيبنى الحكم على الظّاهر ‪ ،‬وهو الوصول عادةً ‪ ،‬وقال الصّاحبان ‪ :‬ل يفطر ‪ ،‬لعدم‬
‫العلم به ‪ ،‬فل يفطر بالشّكّ ‪ ،‬فهما يعتبران المخارق الصليّة ‪ ،‬لنّ الوصول إلى الجوف من‬
‫ك‪.‬‬
‫المخارق الصليّة متيقّن به ‪ ،‬ومن غيرها مشكوك به ‪ ،‬فل نحكم بالفساد مع الشّ ّ‬
‫وأمّا إذا كان الدّواء يابسا ‪ ،‬فل فطر اتّفاقا ‪ ،‬لنّه لم يصل إلى الجوف ول إلى الدّماغ ‪.‬‬
‫لكن قال البابرتيّ ‪ :‬وأكثر مشايخنا على أنّ العبرة بالوصول ‪ ،‬حتّى إذا علم أنّ الدّواء‬
‫اليابس وصل إلى جوفه ‪ ،‬فسد صومه ‪ ،‬وإن علم أنّ الرّطب لم يصل إلى جوفه ‪ ،‬لم يفسد‬
‫صومه عنده ‪ ،‬إلّ أنّه ذكر الرّطب واليابس بنا ًء على العادة ‪.‬‬
‫وإذا لم يعلم يقينا فسد عند أبي حنيفة ‪ ،‬نظرا إلى العادة ‪ ،‬ل عندهما ‪.‬‬
‫ومذهب المالكيّة عدم الفطار بمداواة الجراح ‪ ،‬وهو اختيار الشّيح تقيّ الدّين ‪.‬‬
‫قال المرداويّ ‪ :‬واختار الشّيخ تقيّ الدّين عدم الفطار بمداواة جائفة ومأمومة ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬أمّا دواء الجرح بما يصل إلى الجوف ‪ ،‬فل يفطر ‪.‬‬
‫قال ابن جز ّ‬
‫وقال الدّردير ‪ ،‬معلّلً عدم الفطار بوضع الدّهن على الجائفة ‪ ،‬والجرح الكائن في البطن‬
‫الواصل للجوف ‪ :‬لنّه ل يصل لمحلّ الطّعام والشّراب ‪ ،‬وإلّ لمات من ساعته ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬الحتقان ‪:‬‬
‫ب الدّواء أو إدخال نحوه في الدّبر ‪.‬‬
‫‪ -‬الحتقان ‪ :‬ص ّ‬ ‫‪51‬‬

‫وقد يكون بمائع أو بغيره ‪ :‬فالحتقان بالمائع من الماء ‪ -‬وهو الغالب ‪ -‬أو غير الماء ‪،‬‬
‫يفسد الصّوم ويوجب القضاء ‪ ،‬فيما ذهب إليه الجمهور ‪ ،‬وهو مشهور مذهب المالكيّة ‪،‬‬
‫ن غير‬
‫ومنصوص خليل ‪ ،‬وهو معلّل بأنّه يصل به الماء إلى الجوف من منفذ مفتوح ‪ ،‬وبأ ّ‬
‫المعتاد كالمعتاد في الواصل ‪ ،‬وبأنّه أبلغ وأولى بوجوب القضاء من الستعاط استدراكا‬
‫للفريضة الفاسدة ‪.‬‬
‫ول تجب الكفّارة ‪ ،‬لعدم استكمال الجناية على الصّوم صور ًة ومعنىً ‪ ،‬كما هو سبب‬
‫الكفّارة ‪ ،‬بل هو لوجود معنى الفطر ‪ ،‬وهو وصول ما فيه صلح البدن إلى الجوف ‪ ،‬دون‬
‫صورته ‪ ،‬وهو الوصول من الفم دون ما سواه ‪.‬‬
‫واستدلّ المرغينانيّ وغيره للفطار بالحتقان وغيره ‪ ،‬كالستعاط والفطار ‪ ،‬بحديث عائشة‬
‫رضي ال تعالى عنها ‪ :‬إنّما الفطار ممّا دخل ‪ ،‬وليس ممّا خرج ‪.‬‬
‫وقول ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما ‪ :‬الفطر ممّا دخل ‪ ،‬وليس ممّا يخرج ‪.‬‬
‫أمّا الحتقان بالجامد ‪ ،‬ففيه بعض الخلف ‪:‬‬
‫فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ ما يدخل إلى الجوف من الدّبر بالحقنة يفطر ‪ ،‬لنّه واصل‬
‫إلى الجوف باختياره ‪ ،‬فأشبه الكل ‪.‬‬
‫كذلك دخول طرف أصبع في المخرج حال الستنجاء يفطر ‪ ،‬قال النّوويّ ‪ :‬لو أدخل الرّجل‬
‫أصبعه أو غيرها دبره ‪ ،‬وبقي البعض خارجا ‪ ،‬بطل الصّوم ‪ ،‬باتّفاق أصحابنا ‪.‬‬
‫ن تغييب القطن ونحوه من الجوامد الجافّة ‪ ،‬يفسد الصّوم ‪ ،‬وعدم‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫ن عدم تمام الدّخول كعدم دخول شيء‬
‫التّغييب ل يفسده ‪ ،‬كما لو بقي طرفه خارجا ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالمرّة ‪ ،‬كإدخال الصبع غير المبلولة ‪ ،‬أمّا المبلولة بالماء والدّهن فيفسده ‪.‬‬
‫وخصّ المالكيّة الفطار وإبطال الصّوم ‪ ،‬بالحقنة المائعة نصّا ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬احترز " خليل " بالمائع عن الحقنة بالجامد ‪ ،‬فل قضاء فيها ‪ ،‬ول في فتائل عليها‬
‫دهن لخفّتها ‪.‬‬
‫وفي المدوّنة ‪ ،‬قال ابن القاسم ‪ :‬سئل مالك عن الفتائل تجعل للحقنة ؟ قال مالك ‪ :‬أرى ذلك‬
‫خفيفا ‪ ،‬ول أرى عليه فيه شيئا ‪ ،‬قال مالك ‪ :‬وإن احتقن بشيء يصل إلى جوفه ‪ ،‬فأرى‬
‫عليه القضاء ‪ ،‬قال ابن القاسم ‪ :‬ول كفّارة عليه ‪.‬‬
‫ويبدو مع ذلك تلخيصا ‪ ،‬أنّ للمالكيّة في الحقنة أربعة أقوال ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬وهو المشهور المنصوص عليه في مختصر خليل ‪ :‬الفطار بالحقنة المائعة ‪.‬‬
‫ن الحقنة تفطر مطلقا ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫ن ذلك ل يصل إلى المعدة ‪ ،‬ول موضع‬
‫الثّالث ‪ :‬أنّها ل تفطر ‪ ،‬واستحسنه اللّخميّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫يتصرّف منه ما يغذّي الجسم بحال ‪.‬‬
‫ن استعمال الحقنة مكروه ‪.‬‬
‫الرّابع ‪ :‬أ ّ‬
‫قال ابن حبيب ‪ :‬وكان من مضى من السّلف وأهل العلم يكرهون التّعالج بالحقن إلّ من‬
‫ضرورة غالبة ‪ ،‬ل توجد عن التّعالج بها مندوحة ‪ ،‬فلهذا استحبّ قضاء الصّوم باستعمالها‬
‫‪ .‬ح ‪ -‬الحقنة المتّخذة في مسالك البول ‪:‬‬
‫ويعبّر عن هذا الشّافعيّة بالتّقطير ‪ ،‬ول يسمّونه احتقانا وفيه هذا التّفصيل ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬التّقطير في الحليل ‪ ،‬أي الذّكر ‪:‬‬
‫‪ -‬في التّقطير أقوال ‪ :‬فذهب أبو حنيفة ومحمّد ومالك وأحمد ‪ ،‬وهو وجه عند الشّافعيّة‪،‬‬ ‫‪52‬‬

‫إلى أنّه ل يفطر ‪ ،‬سواء أوصل إلى المثانة أم لم يصل ‪ ،‬لنّه ليس بين باطن الذّكر وبين‬
‫الجوف منفذ ‪ ،‬وإنّما يم ّر البول رشحا ‪ ،‬فالّذي يتركه فيه ل يصل إلى الجوف ‪ ،‬فل يفطر ‪،‬‬
‫كالّذي يتركه في فيه ول يبتلعه ‪ ،‬وقال الموّاق ‪ :‬هو أخفّ من الحقنة ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬لو قطّر فيه ‪ ،‬أو غيّب فيه شيئا فوصل إلى المثانة لم يبطل صومه ‪.‬‬
‫وقال البهوت ّ‬
‫وللشّافعيّة ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬في المسألة أقوال ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬إذا قطّر فيه شيئا لم يصل إلى المثانة لم يفطر ‪ ،‬وهذا أصحّها ‪ ،‬لنّه ‪ -‬كما قال‬
‫المحلّيّ ‪ -‬في جوف غير محيل ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ل يفطر ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬إن جاوز الحشفة أفطر ‪ ،‬وإلّ ل ‪.‬‬
‫وذهب أبو يوسف إلى أنّه يفطر إذا وصل إلى المثانة ‪ ،‬أمّا ما دام في قصبة الذّكر فل‬
‫يفسد‪ .‬الثّاني ‪ :‬التّقطير في فرج المرأة ‪:‬‬
‫‪ -‬الصحّ عند الحنفيّة ‪ ،‬والمنصوص في مذهب المالكيّة ‪ ،‬والّذي يؤخذ من مذهب‬ ‫‪53‬‬

‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬الّذين نصّوا على الحليل فقط ‪ -‬هو فساد الصّوم به ‪ ،‬وعلّله الحنفيّة‬
‫بأنّه شبيه بالحقنة ‪.‬‬
‫ووجهه عند المالكيّة ‪ ،‬استجماع شرطين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنّه من المنفذ السّافل الواسع ‪ ،‬والخر ‪ :‬الحتقان بالمائع ‪.‬‬
‫ي على وجوب القضاء على المشهور ‪،‬‬
‫وقد نصّ الدّردير على الفطار به ‪ ،‬ونصّ الدّسوق ّ‬
‫ومقابله ما لبن حبيب من استحباب القضاء ‪ ،‬بسبب الحقنة من المائع الواصلة إلى‬
‫ن الحتقان بالجامد ل قضاء فيه‬
‫المعدة ‪ ،‬من الدّبر أو فرج المرأة ‪ ،‬كما نصّ الدّردير على أ ّ‬
‫‪ ،‬ول في الفتائل الّتي عليها دهن ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّقصير في حفظ الصّوم والجهل به ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬التّقصير ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬من صور التّقصير ما لو تسحّر أو جامع ‪ ،‬ظانّا عدم طلوع الفجر ‪ ،‬والحال أ نّ‬ ‫‪54‬‬

‫الفجر طالع ‪ ،‬فإنّه يفطر ويجب عليه القضاء دون الكفّارة ‪ ،‬وهذا مذهب الحنفيّة ‪ ،‬ومشهور‬
‫مذهعب المالكيّة ‪ ،‬والصعّحيح معن مذهعب الشّافعيّة ‪ ،‬وهعو المذهعب عنعد الحنابلة ‪ ،‬وذلك‬
‫لنع الصعل بقاء اللّيعل ‪ ،‬والجنايعة قاصعرة ‪ ،‬وهعي جنايعة عدم التّثبّت ‪ ،‬ل جنايعة‬
‫للشّبهعة‪ّ ،‬‬
‫الفطار ‪ ،‬لنّه لم يقصده ‪ ،‬ولهذا صرّحوا بعدم الثم عليه ‪.‬‬
‫ي الدّين ابن تيميّة ‪ -‬أنّه ل قضاء عليه ‪.‬‬
‫واختار الشّيخ تق ّ‬
‫وإذا لم يتبيّن له شيء ‪ ،‬ل يجب عليه القضاء في ظاهر الرّواية ‪ -‬عند الحنفيّة ‪ -‬وقيل ‪:‬‬
‫ن الشّمس لم تغرب ‪ ،‬عليه‬
‫يقضي احتياطا وكذلك الحكم إذا أفطر بظنّ الغروب ‪ ،‬والحال أ ّ‬
‫القضاء ول كفّارة عليه ‪ ،‬لنّ الصل بقاء النّهار ‪ ،‬وابن نجيم فرّع هذين الحكمين على‬
‫ك‪.‬‬
‫قاعدة‪ :‬اليقين ل يزول بالشّ ّ‬
‫ك في طلوع الفجر ‪ ،‬حرّم عليه الكل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يكره ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬من ش ّ‬
‫قال ابن جز ّ‬
‫ك في الغروب ‪،‬‬
‫فإن أكل فعليه القضاء وجوبا ‪ -‬على المشهور ‪ -‬وقيل ‪ :‬استحبابا ‪ ،‬وإن ش ّ‬
‫لم يأكل اتّفاقا ‪ ،‬فإن أكل فعليه القضاء والكفّارة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬القضاء فقط ‪ ،‬وقال الدّسوقيّ ‪:‬‬
‫المشهور عدمها ‪.‬‬
‫ك في الفجر ‪ ،‬دون صيام النّفل ‪،‬‬
‫ومن المالكيّة من خصّ القضاء بصيام الفرض في الشّ ّ‬
‫ومنهم من سوّى بينهما ‪.‬‬
‫وقيل عند الشّافعيّة ‪ :‬ل يفطر في صورتي الشّكّ في الغروب والفجر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يفطر في‬
‫الولى ‪ ،‬دون الثّانية ‪.‬‬
‫ن أنّه أفطر ‪ ،‬فأكل عامدا ‪ ،‬فإنّه ل تجب‬
‫ن أو اشتبه في الفطر ‪ ،‬كمن أكل ناسيا فظ ّ‬
‫ومن ظ ّ‬
‫عليه الكفّارة ‪ ،‬لقيام الشّبهة الشّرعيّة ‪.‬‬
‫والقضاء هو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة وهو الصحّ ‪.‬‬
‫ن به الفطر ‪ ،‬كالفصد والحجامة والكتحال واللّمس والتّقبيل بشهوة‬
‫أمّا لو فعل ما ل يظ ّ‬
‫ن أنّه أفطر بذلك ‪ ،‬فأكل عمدا ‪ ،‬فإنّه يقضي في تلك الصّور ويكفّر لنّه ظنّ‬
‫ونحو ذلك ‪ ،‬فظ ّ‬
‫في غير محلّه ‪.‬‬
‫فلو كان ظنّه في محلّه فل كفّارة ‪ ،‬كما لو أفتاه مفت ‪ -‬يعتمد على قوله ويؤخذ بفتواه في‬
‫البلد ‪ -‬بالفطار في الحجامة فأكل عامدا ‪ ،‬بعدما احتجم ل يكفّر ‪.‬‬
‫والمالكيّة قسّموا الظّنّ في الفطر إلى قسمين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تأويل قريب ‪ ،‬وهو الّذي يستند فيه المفطر إلى أمر موجود ‪ ،‬يعذر به شرعا ‪ ،‬فل‬
‫كفّارة عليه ‪ ،‬كما في هذه الصّور ‪:‬‬
‫ن لفساد صومه إباحة الفطر ‪ ،‬فأفطر ثانيا عامدا ‪ ،‬فل كفّارة عليه ‪.‬‬
‫لو أفطر ناسيا ‪ ،‬فظ ّ‬
‫ن الباحة ‪ ،‬فأفطر‬
‫أو لزمه الغسل ليلً لجنابة أو حيض ‪ ،‬ولم يغتسل إلّ بعد الفجر ‪ ،‬فظ ّ‬
‫عمدا‪.‬‬
‫ن بطلن صومه ‪ ،‬فأفطر ‪.‬‬
‫أو تسحّر قرب الفجر ‪ ،‬فظ ّ‬
‫أو قدم المسافر ليلً ‪ ،‬فظنّ أنّه ل يلزمه صوم صبيحة قدومه ‪ ،‬فأفطر مستندا إلى هذا‬
‫التّأويل‪ ،‬ل تلزمه الكفّارة ‪.‬‬
‫ن إباحة الفطر فبيّت الفطر ‪ ،‬فل كفّارة عليه ‪.‬‬
‫أو سافر دون مسافة القصر ‪ ،‬فظ ّ‬
‫أو رأى هلل شوّال نهارا ‪ ،‬يوم ثلثين من رمضان ‪ ،‬فاعتقد أنّه يوم عيد ‪ ،‬فأفطر ‪.‬‬
‫فهؤلء إذا ظنّوا إباحة الفطر فأفطروا ‪ ،‬فعليهم القضاء ول كفّارة عليهم ‪ ،‬وإن علموا‬
‫الحرمة ‪ ،‬أو شكّوا فيها فعليهم الكفّارة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تأويل بعيد ‪ ،‬وهو المستند فيه إلى أمر معدوم ‪ ،‬أو موجود لكنّه لم يعذر به شرعا ‪،‬‬
‫فل ينفعه ‪ ،‬وعرّفه البيّ بأنّه ‪ :‬ما لم يستند لموجود غالبا ‪ ،‬مثال ذلك ‪.‬‬
‫ن إباحة الفطر ‪،‬‬
‫من رأى هلل رمضان ‪ ،‬فشهد عند حاكم ‪ ،‬فردّ ولم يقبل لمانع ‪ ،‬فظ ّ‬
‫فأفطر‪ ،‬فعليه الكفّارة لبعد تأويله ‪.‬‬
‫وقال أشهب ‪ :‬ل كفّارة عليه لقرب تأويله لستناده لموجود ‪ ،‬وهو ر ّد الحاكم شهادته ‪.‬‬
‫والتّحقيق ‪ :‬أنّه استند لمعدوم ‪ ،‬وهو أنّ اليوم ليس من رمضان ‪ ،‬مع أنّه منه برؤية عينه ‪.‬‬
‫أو بيّت الفطر وأصبح مفطرا ‪ ،‬في يوم لحمّى تأتيه فيه عادةً ‪ ،‬ثمّ حمّ في ذلك اليوم ‪ ،‬وأولى‬
‫إن لم يحمّ ‪.‬‬
‫أو بيّتت الفطر امرأة لحيض اعتادته في يومها ‪ ،‬ثمّ حصل الحيض بعد فطرها ‪ ،‬وأولى إن‬
‫لم يحصل ‪.‬‬
‫أو أفطر لحجّامة فعلها بغيره ‪ ،‬أو فعلت به ‪ ،‬فظنّ الباحة ‪ ،‬فإنّه يكفّر ‪.‬‬
‫لكن قال الدّردير ‪ :‬المعتمد في هذا عدم الكفّارة ‪ ،‬لنّه من القريب ‪ ،‬لستناده لموجود ‪ ،‬وهو‬
‫قوله عليه الصلة والسلم ‪ » :‬أفطر الحاجم والمحجوم « ‪.‬‬
‫أو اغتاب شخصا في نهار رمضان ‪ ،‬فظنّ إباحة الفطر فأفطر ‪ ،‬فعليه الكفّارة ‪.‬‬
‫ن أنّه أفطر به ‪ ،‬ل كفّارة‬
‫ن من جامع عامدا ‪ ،‬بعد الكل ناسيا ‪ ،‬وظ ّ‬
‫ونصّ الشّافعيّة على أ ّ‬
‫عليه ‪ ،‬وإن كان الصحّ بطلن صومه بالجماع ‪ ،‬لنّه جامع وهو يعتقد أنّه غير صائم ‪ ،‬فلم‬
‫ن اللّيل وقت الجماع ‪،‬‬
‫يأثم به ‪ ،‬لذلك قيل ‪ :‬ل يبطل صومه ‪ ،‬وبطلنه مقيس على من ظ ّ‬
‫فبان خلفه ‪.‬‬
‫ن ل يبيح الوطء ‪.‬‬
‫ن هذا الظّ ّ‬
‫وعند القاضي أبي الطّيّب ‪ ،‬أنّه يحتمل أن تجب به الكفّارة ‪ ،‬ل ّ‬
‫وأمّا لو قال ‪ :‬علمت تحريمه ‪ ،‬وجهلت وجوب الكفّارة ‪ ،‬لزمته الكفّارة بل خلف ‪.‬‬
‫ونصّ الحنابلة على أنّه لو جامع في يوم رأى الهلل في ليلته ‪ ،‬وردّت شهادته لفسقه أو‬
‫غيره ‪ ،‬فعليه القضاء والكفّارة ‪ ،‬لنّه أفطر يوما من رمضان بجماع ‪ ،‬فلزمته كما لو قبلت‬
‫شهادته ‪.‬‬
‫وإذا لم يعلم برؤية الهلل إلّ بعد طلوع الفجر ‪ ،‬أو نسي النّيّة ‪ ،‬أو أكل عامدا ‪ ،‬ثمّ جامع‬
‫تجب عليه الكفّارة ‪ ،‬لهتكه حرمة الزّمن به ‪ ،‬ولنّها تجب على المستديم للوطء ‪ ،‬ول صوم‬
‫هناك ‪ ،‬فكذا هنا ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬الجهل ‪:‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬الجهل ‪ :‬عدم العلم بما من شأنه أن يعلم ‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫فالجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهو مشهور مذهب المالكيّة ‪ ،‬على إعذار حديث العهد‬
‫بالسلم ‪ ،‬إذا جهل الصّوم في رمضان ‪.‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬يعذر من أسلم بدار الحرب فلم يصم ‪ ،‬ولم يصلّ ‪ ،‬ولم يزكّ بجهله بالشّرائع ‪،‬‬
‫مدّة جهله ‪ ،‬لنّ الخطاب إنّما يلزم بالعلم به أو بدليله ‪ ،‬ولم يوجد ‪ ،‬إذ ل دليل عنده على‬
‫فرض الصّلة والصّوم ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو جهل تحريم الطّعام أو الوطء ‪ ،‬بأن كان قريب عهد بالسلم ‪ ،‬أو نشأ‬
‫بعيدا عن العلماء ‪ ،‬لم يفطر ‪ ،‬كما لو غلب عليه القيء ‪.‬‬
‫ن الجاهل بأحكام الصّيام ل كفّارة عليه ‪ ،‬وليس هو كالعامد ‪.‬‬
‫والمعتمد عند المالكيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫وقسّم الدّسوقيّ الجاهل إلى ثلثة ‪:‬‬
‫فجاهل حرمة الوطء ‪ ،‬وجاهل رمضان ‪ ،‬ل كفّارة عليهما ‪ ،‬وجاهل وجوب الكفّارة ‪ -‬مع‬
‫علمه بحرمة الفعل ‪ -‬تلزمه الكفّارة ‪.‬‬
‫وأطلق الحنابلة وجوب الكفّارة ‪ ،‬كما قرّر بعض من المالكيّة ‪ ،‬وصرّحوا بالتّسوية بين‬
‫العامد والجاهل والمكره والسّاهي والمخطئ ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬عوارض الفطار ‪:‬‬
‫‪ -‬المراد بالعوارض ‪ :‬ما يبيح عدم الصّوم ‪.‬‬ ‫‪55‬‬

‫وهي ‪ :‬المرض ‪ ،‬والسّفر ‪ ،‬والحمل ‪ ،‬والرّضاع ‪ ،‬والهرم ‪ ،‬وإرهاق الجوع والعطش ‪،‬‬
‫والكراه ‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬المرض ‪:‬‬
‫صحّة من علّة ‪.‬‬
‫‪ -‬المرض هو ‪ :‬كلّ ما خرج به النسان عن حدّ ال ّ‬ ‫‪56‬‬

‫قال ابن قدامة ‪ :‬أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة ‪.‬‬
‫ن أَيّامٍ ُأخَرَ } ‪.‬‬
‫سفَرٍ َفعِدّةٌ مّ ْ‬
‫والصل فيه قول اللّه تعالى ‪َ { :‬ومَن كَانَ َمرِيضا َأ ْو عَلَى َ‬
‫وعن سلمة بن الكوع رضي ال تعالى عنه قال ‪ » :‬لمّا نزلت هذه الية ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ‬
‫سكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ‪ ،‬يفطر ويفتدي ‪ ،‬حتّى أنزلت الية الّتي‬
‫طعَامُ ِم ْ‬
‫ُيطِيقُو َنهُ فِدْ َيةٌ َ‬
‫س وَبَيّنَاتٍ مّنَ‬
‫شهْرُ َرمَضَانَ الّ ِذيَ أُن ِزلَ فِي ِه ا ْلقُرْآنُ هُدىً لّلنّا ِ‬
‫بعدها يعني قوله تعالى ‪َ { :‬‬
‫ن أَيّامٍ‬
‫سفَرٍ َفعِدّةٌ مّ ْ‬
‫ص ْمهُ َومَن كَانَ َمرِيضا َأوْ عَلَى َ‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫شهِدَ مِن ُكمُ ال ّ‬
‫ا ْلهُدَى وَالْفُ ْرقَانِ َفمَن َ‬
‫ُأخَرَ } فنسختها « ‪.‬‬
‫فالمريض الّذي يخاف زيادة مرضه بالصّوم أو إبطاء البرء أو فساد عضو ‪ ،‬له أن يفطر ‪،‬‬
‫بل يسنّ فطره ‪ ،‬ويكره إتمامه ‪ ،‬لنّه قد يفضي إلى الهلك ‪ ،‬فيجب الحتراز عنه ‪.‬‬
‫ثمّ إنّ شدّة المرض تجيز الفطر للمريض ‪.‬‬
‫أمّا الصّحيح إذا خاف الشّدّة أو التّعب ‪ ،‬فإنّه ل يجوز له الفطر ‪ ،‬إذا حصل له بالصّوم مجرّد‬
‫شدّة تعب ‪ ،‬هذا هو المشهور عند المالكيّة ‪ ،‬وإن قيل بجواز فطره ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إذا خاف الصّحيح المرض بغلبة الظّنّ فله الفطر ‪ ،‬فإن خافه بمجرّد الوهم ‪،‬‬
‫فليس له الفطر ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إذا خاف حصول أصل المرض بصومه ‪ ،‬فإنّه ل يجوز له الفطر ‪ -‬على‬
‫المشهور ‪ -‬إذ لعلّه ل ينزل به المرض إذا صام ‪ .‬وقيل ‪ :‬يجوز له الفطر ‪.‬‬
‫فإن خاف كلّ من المريض والصّحيح الهلك على نفسه بصومه ‪ ،‬وجب الفطر ‪.‬‬
‫وكذا لو خاف أذىً شديدا ‪ ،‬كتعطيل منفعة ‪ ،‬من سمع أو بصر أو غيرهما ‪ ،‬لنّ حفظ النّفس‬
‫والمنافع واجب ‪ ،‬وهذا بخلف الجهد الشّديد ‪ ،‬فإنّه يبيح الفطر للمريض ‪ ،‬قيل ‪ :‬والصّحيح‬
‫أيضا ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّ المريض ‪ -‬وإن تعدّى بفعل ما أمرضه ‪ -‬يباح له ترك الصّوم ‪ ،‬إذا‬
‫وجد به ضررا شديدا ‪ ،‬لكنّهم شرطوا لجواز فطره نيّة التّرخّص ‪ -‬كما قال الرّمليّ واعتمده‬
‫‪ -‬وفرّقوا بين المرض المطبق ‪ ،‬وبين المرض المتقطّع ‪ :‬فإن كان المرض مطبقا ‪ ،‬فله ترك‬
‫النّيّة في اللّيل ‪.‬‬
‫وإن كان يح ّم وينقطع ‪ ،‬نظر ‪ :‬فإن كان محموما وقت الشّروع في الصّوم ‪ ،‬فله ترك النّيّة ‪،‬‬
‫وإلّ فعليه أن ينوي من اللّيل ‪ ،‬فإن احتاج إلى الفطار أفطر ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬ثمّ إن‬
‫ومثل ذلك الحصّاد والبنّاء والحارس ‪ -‬ولو متبرّعا ‪ -‬فتجب عليهم النّيّة لي ً‬
‫لحقتهم مشقّة أفطروا ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬ول يشترط أن ينتهي إلى حالة ل يمكنه فيها الصّوم ‪ ،‬بل قال أصحابنا ‪ :‬شرط‬
‫إباحة الفطر أن يلحقه بالصّوم مشقّة يشقّ احتمالها ‪ ،‬وأمّا المرض اليسير الّذي ل يلحق به‬
‫مشقّة ظاهره فلم يجز له الفطر ‪ ،‬بل خلف عندنا ‪ ،‬خلفا لهل الظّاهر ‪.‬‬
‫وخوف الضّرر هو المعتبر عند الحنابلة ‪ ،‬أمّا خوف التّلف بسبب الصّوم فإنّه يجعل الصّوم‬
‫مكروها ‪ ،‬وجزم جماعة بحرمته ‪ ،‬ول خلف في الجزاء ‪ ،‬لصدوره من أهله في محلّه ‪،‬‬
‫كما لو أتمّ المسافر ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ولو تحمّل المريض الضّرر ‪ ،‬وصام معه ‪ ،‬فقد فعل مكروها ‪ ،‬لما يتضمّنه من‬
‫الضرار بنفسه ‪ ،‬وتركه تخفيفا من اللّه وقبول رخصته ‪ ،‬لكن يصحّ صومه ويجزئه ‪ ،‬لنّه‬
‫عزيمة أبيح تركها رخصةً ‪ ،‬فإذا تحمّله أجزأه ‪ ،‬لصدوره من أهله في محلّه ‪ ،‬كما أتمّ‬
‫المسافر ‪ ،‬وكالمريض الّذي يباح له ترك الجمعة ‪ ،‬إذا حضرها ‪.‬‬
‫قال في المبدع ‪ :‬فلو خاف تلفا بصومه ‪ ،‬كره ‪ ،‬وجزم جماعة بأنّه يحرم ‪ .‬ولم يذكروا خلفا‬
‫في الجزاء ‪.‬‬
‫ولخصّ ابن جزيّ من المالكيّة أحوال المريض بالنّسبة إلى الصّوم ‪ ،‬وقال ‪ :‬للمريض‬
‫أحوال‪ :‬الولى ‪ :‬أن ل يقدر على الصّوم أو يخاف الهلك من المرض أو الضّعف إن صام ‪،‬‬
‫فالفطر عليه واجب ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬مستحبّ ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬أن يقدر على الصّوم بمشقّة ‪ ،‬فالفطر له جائز ‪ ،‬وقال ابن العرب ّ‬
‫الثّالثة ‪ :‬أن يقدر بمشقّة ‪ ،‬ويخاف زيادة المرض ‪ ،‬ففي وجوب فطره قولن ‪.‬‬
‫الرّابعة ‪ :‬أن ل يشقّ عليه ‪ ،‬ول يخاف زيادة المرض ‪ ،‬فل يفطر عند الجمهور ‪ ،‬خلفا‬
‫لبن سيرين ‪.‬‬
‫ونصّ الشّافعيّة على أنّه إذا أصبح الصّحيح صائما ‪ ،‬ثمّ مرض ‪ ،‬جاز له الفطر بل خلف ‪،‬‬
‫لنّه أبيح له الفطر للضّرورة ‪ ،‬والضّرورة موجودة ‪ ،‬فجاز له الفطر ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬السّفر ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في السّفر المرخّص في الفطر ما يلي ‪:‬‬ ‫‪57‬‬

‫أ ‪ -‬أن يكون السّفر طويلً ممّا تقصر فيه الصّلة قال ابن رشد ‪ :‬وأمّا المعنى المعقول من‬
‫إجازة الفطر في السّفر فهو المشقّة ‪ ،‬ولمّا كانت ل توجد في كلّ سفر ‪ ،‬وجب أن يجوز‬
‫الفطر في السّفر الّذي فيه المشقّة ‪ ،‬ولمّا كان الصّحابة كأنّهم مجمعون على الحدّ في ذلك ‪،‬‬
‫وجب أن يقاس ذلك على الحدّ في تقصير الصّلة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن ل يعزم المسافر القامة خلل سفره مدّة أربعة أيّام بلياليها عند المالكيّة‬
‫والشّافعيّة‪ ،‬وأكثر من أربعة أيّام عند الحنابلة ‪ ،‬وهي نصف شهر أو خمسة عشر يوما عند‬
‫الحنفيّة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن ل يكون سفره في معصية ‪ ،‬بل في غرض صحيح عند الجمهور ‪ ،‬وذلك ‪ :‬لنّ‬
‫الفطر رخصة وتخفيف ‪ ،‬فل يستحقّها عاص بسفره ‪ ،‬بأن كان مبنى سفره على المعصية ‪،‬‬
‫ل‪.‬‬
‫كما لو سافر لقطع طريق مث ً‬
‫والحنفيّة يجيزون الفطر للمسافر ‪ ،‬ولو كان عاصيا بسفره ‪ ،‬عملً بإطلق النّصوص‬
‫ن نفس السّفر ليس بمعصية ‪ ،‬وإنّما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره ‪،‬‬
‫المرخّصة ‪ ،‬ول ّ‬
‫والرّخصة تتعلّق بالسّفر ل بالمعصية ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن يجاوز المدينة وما يتّصل بها ‪ ،‬والبناءات والفنية والخبية ‪.‬‬
‫وذهب عامّة الصّحابة والفقهاء ‪ ،‬إلى أنّ من أدرك هلل رمضان وهو مقيم ‪ ،‬ثمّ سافر ‪،‬‬
‫جاز له الفطر ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى جعل مطلق السّفر سبب الرّخصة ‪ ،‬بقوله ‪َ { :‬ومَن كَانَ‬
‫سفَرٍ َفعِدّ ٌة مّنْ أَيّامٍ ُأخَرَ } ‪ ،‬ولما ثبت من » أنّ رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫مَرِيضا َأوْ عَلَى َ‬
‫وسلم خرج في غزوة الفتح في رمضان مسافرًا ‪ ،‬وأفطر « ‪.‬‬
‫ولنّ السّفر إنّما كان سبب الرّخصة لمكان المشقّة ‪.‬‬
‫وحكى النّوويّ عن أبي مخلد التّابعيّ أنّه ل يسافر ‪ ،‬فإن سافر لزمه الصّوم وحرّم الفطر‬
‫وعن سويد بن غفلة التّابعيّ ‪ :‬أنّه يلزمه الصّوم بقيّة الشّهر ‪ ،‬ول يمتنع السّفر ‪ ،‬واستدلّ‬
‫ص ْمهُ } ‪.‬‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫شهِ َد مِنكُمُ ال ّ‬
‫لهما بقوله تعالى ‪َ { :‬فمَن َ‬
‫ي وابن عبّاس ‪ -‬رضي ال تعالى عنهم ‪ -‬أنّه إذا أهلّ في المصر ‪،‬‬
‫حكى الكاسانيّ عن عل ّ‬
‫ثمّ سافر ‪ ،‬ل يجوز له أن يفطر ‪.‬‬
‫ص ْمهُ } ‪.‬‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫شهِدَ مِن ُكمُ ال ّ‬
‫واستدلّ لهم بقوله تعالى ‪َ { :‬فمَن َ‬
‫ولنّه لمّا استهلّ في الحضر لزمه صوم القامة ‪ ،‬وهو صوم الشّهر حتما ‪ ،‬فهو بالسّفر‬
‫يريد إسقاطه عن نفسه فل يملك ذلك ‪ ،‬كاليوم الّذي سافر فيه ‪ ،‬فإنّه ل يجوز له أن يفطر‬
‫‪ -‬وفي وقت جواز الفطر للمسافر ثلث أحوال ‪:‬‬ ‫‪58‬‬ ‫فيه ‪.‬‬
‫الولى ‪ :‬أن يبدأ السّفر قبل الفجر ‪ ،‬أو يطلع الفجر وهو مسافر ‪ ،‬وينوي الفطر ‪ ،‬فيجوز له‬
‫ي ‪ -‬لنّه متّصف بالسّفر ‪ ،‬عند وجود سبب الوجوب ‪.‬‬
‫الفطر إجماعا ‪ -‬كما قال ابن جز ّ‬
‫الثّانية ‪ :‬أن يبدأ السّفر بعد الفجر ‪ ،‬بأن يطلع الفجر وهو مقيم ببلده ‪ ،‬ثمّ يسافر بعد طلوع‬
‫الفجر ‪ ،‬أو خلل النّهار ‪ ،‬فإنّه ل يحلّ له الفطر بإنشاء السّفر بعدما أصبح صائما ‪ ،‬ويجب‬
‫عليه إتمام ذلك اليوم ‪ ،‬وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو الصّحيح من مذهب الشّافعيّة ‪،‬‬
‫ورواية عن أحمد ‪ .‬وذلك تغليبا لحكم الحضر ‪.‬‬
‫ومع ذلك ل كفّارة عليه في إفطاره عند الحنفيّة ‪ ،‬وفي المشهور من مذهب المالكيّة ‪ ،‬خلفا‬
‫لبن كنانة ‪ ،‬وذلك للشّبهة في آخر الوقت ‪ .‬ولنّه لمّا سافر بعد الفجر صار من أهل الفطر ‪،‬‬
‫فسقطت عنه الكفّارة ‪.‬‬
‫والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه يحرم عليه الفطر حتّى لو أفطر بالجماع لزمته الكفّارة ‪.‬‬
‫والمذهب عند الحنابلة وهو أصحّ الرّوايتين عن أحمد ‪ ،‬وهو ما ذهب إليه المزنيّ وغيره‬
‫من الشّافعيّة ‪ :‬أنّ من نوى الصّوم في الحضر ‪ ،‬ثمّ سافر في أثناء اليوم ‪ ،‬طوعا أو كرها ‪،‬‬
‫فله الفطر بعد خروجه ومفارقته بيوت قريته العامرة ‪ ،‬وخروجه من بين بنيانها ‪ ،‬واستدلّوا‬
‫بما يلي ‪:‬‬
‫ن أَيّا ٍم أُخَرَ } ‪.‬‬
‫سفَرٍ َفعِدّةٌ مّ ْ‬
‫ن مَرِيضا َأوْ عَلَى َ‬
‫ظاهر قوله تعالى ‪َ { :‬ومَن كَا َ‬
‫وحديث جابر ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ » -‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم خرج إلى‬
‫مكّة عام الفتح فصام حتّى بلغ كراع الغميم ‪ ،‬وصام النّاس معه ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إنّ النّاس قد‬
‫شقّ عليهم الصّيام ‪ ،‬وإنّ النّاس ينظرون فيما فعلت ‪ ،‬فدعا بقدح من ماء بعد العصر ‪،‬‬
‫فشرب ‪ -‬والنّاس ينظرون إليه ‪ -‬فأفطر بعضهم ‪ ،‬وصام بعضهم ‪ ،‬فبلغه أنّ ناسا صاموا ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬أولئك العصاة « ‪.‬‬
‫وحديث ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما قال ‪ » :‬خرج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫عام الفتح إلى مكّة ‪ ،‬في شهر رمضان ‪ ،‬فصام حتّى م ّر بغدير في الطّريق ‪ ،‬وذلك في نحر‬
‫الظّهيرة ‪ .‬قال ‪ :‬فعطش النّاس ‪ ،‬وجعلوا يمدّون أعناقهم ‪ ،‬وتتوق أنفسهم إليه ‪ .‬قال ‪ :‬فدعا‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بقدح فيه ماء ‪ ،‬فأمسكه على يده ‪ ،‬حتّى رآه النّاس ‪ ،‬ثمّ‬
‫شرب ‪ ،‬فشرب النّاس « ‪.‬‬
‫ن السّفر مبيح للفطر ‪ ،‬فإباحته في أثناء النّهار كالمرض الطّارئ ولو كان بفعله ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫وقال الّذين أباحوه من الشّافعيّة ‪ :‬إنّه تغليب لحكم السّفر ‪.‬‬
‫ن الفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى‬
‫وقد نصّ الحنابلة ‪ ،‬المؤيّدون لهذا الرّأي على أ ّ‬
‫صومه إتمام صوم ذلك اليوم ‪ ،‬خروجا من خلف من لم يبح له الفطر ‪ ،‬وهو قول أكثر‬
‫العلماء ‪ ،‬تغليبا لحكم الحضر ‪ ،‬كالصّلة ‪.‬‬
‫الثّالثة ‪ :‬أن يفطر قبل مغادرة بلده ‪.‬‬
‫وقد منع من ذلك الجمهور ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّ رخصة السّفر ل تتحقّق بدونه ‪ ،‬كما ل تبقى‬
‫شهِدَ مِن ُكمُ‬
‫بدونه‪ ،‬ولمّا يتحقّق السّفر بعد ‪ ،‬بل هو مقيم وشاهد ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪َ { :‬فمَن َ‬
‫ص ْمهُ } ول يوصف بكونه مسافرا حتّى يخرج من البلد ‪ ،‬ومهما كان في البلد فله‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫ال ّ‬
‫أحكام الحاضرين ‪ ،‬ولذلك ل يقصر الصّلة ‪.‬‬
‫والجمهور الّذين قالوا بعدم جواز الفطار في هذه الصّورة ‪ ،‬اختلفوا فيما إذا أكل ‪ ،‬هل عليه‬
‫كفّارة ؟ فقال مالك ‪ :‬ل ‪ .‬وقال أشهب ‪ :‬هو متأوّل وقال غيرهما ‪ :‬يكفّر ‪.‬‬
‫وقال ابن جزيّ ‪ :‬فإن أفطر قبل الخروج ‪ ،‬ففي وجوب الكفّارة عليه ثلثة أقوال ‪ :‬يفرّق في‬
‫الثّالث بين أن يسافر فتسقط ‪ ،‬أو ل ‪ ،‬فتجب ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬وأصبح‬
‫‪ -‬ويتّصل بهذه المسائل في إفطار المسافر ‪ :‬ما لو نوى في سفره الصّوم لي ً‬ ‫‪59‬‬

‫صائما ‪ ،‬من غير أن ينقض عزيمته قبل الفجر ‪ ،‬ل يحلّ فطره في ذلك اليوم عند الحنفيّة‬
‫والمالكيّة ‪ ،‬وهو وجه محتمل عند الشّافعيّة ‪ ،‬ولو أفطر ل كفّارة عليه للشّبهة ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬وكذا ل كفّارة عليه بالولى ‪ ،‬لو نوى نهارا ‪.‬‬
‫وقال ابن جزيّ ‪ :‬من كان في سفر ‪ ،‬فأصبح على نيّة الصّوم ‪ ،‬لم يجز له الفطر إلّ بعذر ‪،‬‬
‫كالتّغذّي للقاء العدوّ ‪ ،‬وأجازه مطرّف من غير عذر ‪ ،‬وعلى المشهور ‪ :‬إن أفطر ‪ ،‬ففي‬
‫وجوب الكفّارة ثلثة أقوال ‪ :‬يفرّق في الثّالث بين أن يفطر بجماع فتجب ‪ ،‬أو بغيره فل‬
‫تجب‪.‬‬
‫لكن الّذي في شروح خليل ‪ ،‬وفي حاشية الدّسوقيّ ‪ :‬أنّه إذا بيّت نيّة الصّوم في السّفر‬
‫وأصبح صائما فيه ثمّ أفطر ‪ ،‬لزمته الكفّارة سواء أفطر متأ ّو ًل أم ل ‪ .‬فسأل سحنون ابن‬
‫القاسم ‪ ،‬عن الفرق بين من بيّت الصّوم في الحضر ثمّ أفطر بعد أن سافر بعد الفجر من‬
‫غير أن ينويه فل كفّارة عليه ‪ ،‬وبين من نوى الصّوم في السّفر ثمّ أفطر فعليه الكفّارة ؟‬
‫فقال ‪ :‬لنّ الحاضر من أهل الصّوم ‪ ،‬فسافر فصار من أهل الفطر ‪ ،‬فسقطت عنه الكفّارة ‪،‬‬
‫والمسافر مخيّر فيهما ‪ ،‬فاختار الصّوم وترك الرّخصة ‪ ،‬فصار من أهل الصّيام ‪ ،‬فعليه ما‬
‫عليهم من الكفّارة ‪.‬‬
‫والشّافعيّة في المذهب ‪ ،‬والحنابلة قالوا ‪ :‬لو أصبح صائما في السّفر ‪ ،‬ثمّ أراد الفطر ‪ ،‬جاز‬
‫ن العذر قائم ‪ -‬وهو السّفر ‪ -‬أو لدوام العذر ‪ -‬كما يقول المحلّيّ ‪.‬‬
‫من غير عذر ‪ ،‬ل ّ‬
‫وممّا استدلّوا به حديث ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما ‪ ... » :‬فصام حتّى م ّر بغدير في‬
‫الطّريق « ‪.‬‬
‫وحديث جابر ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ ... » -‬فصام حتّى بلغ كراع الغميم « ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬وهذا نصّ صريح ‪ ،‬ل يعرج على ما خالفه ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬وفيه احتمال لمام الحرمين ‪ ،‬وصاحب المهذّب ‪ :‬أنّه ل يجوز ‪ ،‬لنّه دخل في‬
‫فرض المقيم ‪ ،‬فل يجوز له التّرخّص برخصة المسافر ‪ ،‬كما لو دخل في الصّلة بنيّة‬
‫التمام‪ ،‬ثمّ أراد أن يقصر ‪ ،‬وإذا قلنا بالمذهب ‪ ،‬ففي كراهة الفطر وجهان ‪ ،‬وأصحّهما أنّه‬
‫ل يلزمه ذلك ‪ ،‬للحديث الصّحيح ‪ ،‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فعل ذلك ‪.‬‬
‫ن من أبيح له‬
‫وزاد الحنابلة أنّ له الفطر بما شاء ‪ ،‬من جماع وغيره ‪ ،‬كأكل وشرب ‪ ،‬ل ّ‬
‫الكل أبيح له الجماع ‪ ،‬كمن لم ينو ‪ ،‬ول كفّارة عليه بالوطء ‪ ،‬لحصول الفطر بالنّيّة قبل‬
‫الجماع ‪ ،‬فيقع الجماع بعده ‪.‬‬
‫صحّة الصّوم في السّفر ‪:‬‬
‫ن الصّوم في السّفر جائز‬
‫‪ -‬ذهب الئمّة الربعة ‪ ،‬وجماهير الصّحابة والتّابعين إلى أ ّ‬ ‫‪60‬‬

‫صحيح منعقد ‪ ،‬وإذا صام وقع صيامه وأجزأه ‪.‬‬


‫وروي عن ابن عبّاس وابن عمر وأبي هريرة رضي ال عنهم أنّه غير صحيح ‪ ،‬ويجب‬
‫القضاء على المسافر إن صام في سفر ‪ .‬وروي القول بكراهته ‪.‬‬
‫والجمهور من الصّحابة والسّلف ‪ ،‬والئمّة الربعة ‪ ،‬الّذين ذهبوا إلى صحّة الصّوم في‬
‫السّفر‪ ،‬اختلفوا بعد ذلك في أيّهما أفضل ‪ ،‬الصّوم أم الفطر ‪ ،‬أو هما متساويان ؟‬
‫ن الصّوم أفضل ‪ ،‬إذا لم‬
‫فمذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهو وجه عند الحنابلة ‪ ،‬أ ّ‬
‫يجهده الصّوم ولم يضعفه ‪ ،‬وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه مندوب ‪.‬‬
‫قال الغزاليّ ‪ :‬والصّوم أحبّ من الفطر في السّفر ‪ ،‬لتبرئة ال ّذمّة ‪ ،‬إلّ إذا كان يتضرّر به ‪.‬‬
‫ي الضّرر بضرر ل يوجب الفطر ‪.‬‬
‫وقيّد القليوب ّ‬
‫ن آمَنُواْ كُتِبَ عَلَ ْي ُكمُ الصّيَامُ } إلى قوله {‬
‫واستدلّوا لذلك بقوله تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫وَلِ ُت ْكمِلُواْ ا ْلعِدّةَ } ‪ .‬فقد دلّت اليات على أنّ الصّوم عزيمة والفطار رخصة ‪ ،‬ول شكّ في أنّ‬
‫العزيمة أفضل ‪ ،‬كما تقرّر في الصول ‪ ،‬قال ابن رشد ‪ :‬ما كان رخصةً ‪ ،‬فالفضل ترك‬
‫الرّخصة ‪ .‬وبحديث أبي الدّرداء المتقدّم قال ‪ » :‬خرجنا مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫في شهر رمضان ‪ ،‬في ح ّر شديد ‪ ...‬ما فينا صائم إلّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫وعبد اللّه بن رواحة « ‪.‬‬
‫وقيّد الحدّاديّ ‪ ،‬صاحب الجوهرة من الحنفيّة ‪ ،‬أفضليّة الصّوم ‪ -‬أيضا ‪ -‬بما إذا لم تكن‬
‫عامّة رفقته مفطرين ‪ ،‬ول مشتركين في النّفقة ‪ ،‬فإن كانوا كذلك ‪ ،‬فالفضل فطره موافقةً‬
‫للجماعة ‪.‬‬
‫ب له الفطر‬
‫ومذهب الحنابلة ‪ ،‬أنّ الفطر في السّفر أفضل ‪ ،‬بل قال الخرقيّ ‪ :‬والمسافر يستح ّ‬
‫قال المرداويّ ‪ :‬وهذا هو المذهب ‪.‬‬
‫ن له الفطر ‪ .‬ويكره صومه ‪ ،‬ولو لم يجد مش ّقةً ‪.‬‬
‫وفي القناع ‪ :‬والمسافر سفر قصر يس ّ‬
‫وعليه الصحاب ‪ ،‬ونصّ عليه ‪ ،‬سواء وجد مش ّقةً أو ل ‪ ،‬وهذا مذهب ابن عمر وابن‬
‫ي‪.‬‬
‫ي والوزاع ّ‬
‫عبّاس رضي ال عنهم وسعيد والشّعب ّ‬
‫واستدلّ هؤلء بحديث جابر رضي ال تعالى عنه ‪ » :‬ليس من الب ّر الصّوم في السّفر «‬
‫وزاد في رواية ‪ » :‬عليكم برخصة اللّه الّذي رخّص لكم فاقبلوها « ‪.‬‬
‫قال المجد ‪ :‬وعندي ل يكره لمن قوي ‪ ،‬واختاره الج ّريّ ‪.‬‬
‫قال النّوويّ والكمال بن الهمام ‪ :‬إنّ الحاديث الّتي تدلّ على أفضليّة الفطر ‪ ،‬محمولة على‬
‫من يتضرّر بالصّوم ‪ ،‬وفي بعضها التّصريح بذلك ‪ ،‬ول ب ّد من هذا التّأويل ‪ ،‬ليجمح بين‬
‫الحاديث ‪ ،‬وذلك أولى من إهمال بعضها ‪ ،‬أو ادّعاء النّسخ ‪ ،‬من غير دليل قاطع ‪.‬‬
‫والّذين سوّوا بين الصّوم وبين الفطر ‪ ،‬استدلّوا بحديث عائشة رضي ال عنها ‪ » :‬أنّ‬
‫ي ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أأصوم‬
‫حمزة بن عمرو السلميّ رضي ال تعالى عنه قال للنّب ّ‬
‫في السّفر ؟ ‪ -‬وكان كثير الصّيام – فقال ‪ :‬إن شئت فصم ‪ ،‬وإن شئت فأفطر « ‪.‬‬
‫انقطاع رخصة السّفر ‪:‬‬
‫‪ -‬تسقط رخصة السّفر بأمرين اتّفاقا ‪:‬‬ ‫‪61‬‬

‫الوّل ‪ :‬إذا عاد المسافر إلى بلده ‪ ،‬ودخل وطنه ‪ ،‬وهو محلّ إقامته ‪ ،‬ولو كان دخوله بشيء‬
‫نسيه ‪ ،‬يجب عليه الصّوم ‪ ،‬كما لو قدم ليلً ‪ ،‬أو قدم قبل نصف النّهار عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫أمّا لو قدم نهارا ‪ ،‬ولم ينو الصّوم ليلً ‪ ،‬أو قدم بعد نصف النّهار ‪ -‬عند الحنفيّة ‪ ،‬ولم يكن‬
‫نوى الصّوم قبلً ‪ -‬فإنّه يمسك بقيّة النّهار ‪ ،‬على خلف وتفصيل في وجوب إمساكه ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬إذا نوى المسافر القامة مطلقا ‪ ،‬أو مدّة القامة الّتي تقدّمت في شروط جواز فطر‬
‫المسافر في مكان واحد ‪ ،‬وكان المكان صالحا للقامة ‪ ،‬ل كالسّفينة والمفازة ودار الحرب ‪،‬‬
‫فإنّه يصير مقيما بذلك ‪ ،‬فيتمّ الصّلة ‪ ،‬ويصوم ول يفطر في رمضان ‪ ،‬لنقطاع حكم السّفر‬
‫‪ .‬وصرّحوا بأنّه يحرم عليه الفطر ‪ -‬على الصّحيح ‪ -‬لزوال العذر ‪ ،‬وفي قول يجوز له‬
‫الفطر‪ ،‬اعتبارا بأوّل اليوم ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬إنّ السّفر ل يبيح قصرا ول فطرا إلّ بالنّيّة والفعل ‪ ،‬بخلف القامة ‪ ،‬فإنّها‬
‫قال ابن جز ّ‬
‫توجب الصّوم والتمام بالنّيّة دون الفعل ‪.‬‬
‫وإذا لم ينو القامة لكنّه أقام لقضاء حاجة له ‪ ،‬بل نيّة إقامة ‪ ،‬ول يدري متى تنقضي ‪ ،‬أو‬
‫كان يتوقّع انقضاءها في كلّ وقت ‪ ،‬فإنّه يجوز له أن يفطر ‪ ،‬كما يقصر الصّلة ‪.‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬ولو بقي على ذلك سنين ‪.‬‬
‫ن أنّها ل تنقضي إلّ فوق أربعة أيّام عند الجمهور ‪ ،‬أو خمسة عشر يوما عند‬
‫فإن ظ ّ‬
‫الحنفيّة‪ ،‬فإنّه يعتبر مقيما ‪ ،‬فل يفطر ول يقصر ‪ ،‬إلّ إذا كان الفرض قتالً ‪ -‬كما قال‬
‫الغزاليّ‪ -‬فإنّه يترخّص على أظهر القولين ‪ ،‬أو دخل المسلمون أرض الحرب أو حاصروا‬
‫حصنا فيها ‪ ،‬أو كانت المحاصرة للمصر على سطح البحر ‪ ،‬فإنّ لسطح البحر حكم دار‬
‫الحرب ‪.‬‬
‫ودليل هذا ‪ » :‬أنّه ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصّلة «‬
‫ويلحظ أنّ الفطر كالقصر الّذي نصّوا عليه في صلة المسافر ‪ ،‬من حيث التّرخّص ‪ ،‬فإنّ‬
‫المسافر له سائر رخص السّفر ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الحمل والرّضاع ‪:‬‬
‫‪ -‬الفقهاء متّفقون على أنّ الحامل والمرضع لهما أن تفطرا في رمضان ‪ ،‬بشرط أن‬ ‫‪62‬‬

‫تخافا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته ‪ ،‬أو الضّرر أو الهلك ‪ ،‬فالولد من‬
‫الحامل بمنزلة عضو منها ‪ ،‬فالشفاق عليه من ذلك كالشفاق منه على بعض أعضائها ‪.‬‬
‫قال الدّردير ‪ :‬ويجب ‪ -‬يعني الفطر ‪ -‬إن خافتا هلكا أو شديد أذىً ‪ ،‬ويجوز إن خافتا عليه‬
‫المرض أو زيادته ‪.‬‬
‫ونصّ الحنابلة على كراهة صومهما ‪ ،‬كالمريض ‪.‬‬
‫ن أَيّامٍ ُأخَرَ } وليس‬
‫سفَرٍ َفعِدّةٌ مّ ْ‬
‫ودليل ترخيص الفطر لهما ‪َ { :‬ومَن كَانَ َمرِيضا َأ ْو عَلَى َ‬
‫المراد من المرض صورته ‪ ،‬أو عين المرض ‪ ،‬فإنّ المريض الّذي ل يضرّه الصّوم ليس له‬
‫أن يفطر ‪ ،‬فكان ذكر المرض كنايةً عن أمر يض ّر الصّوم معه ‪ ،‬وهو معنى المرض ‪ ،‬وقد‬
‫وجد هاهنا ‪ ،‬فيدخلن تحت رخصة الفطار ‪.‬‬
‫ن الحمل مرض حقيقةً ‪ ،‬والرّضاع في حكم المرض ‪ ،‬وليس مرضا‬
‫وصرّح المالكيّة بأ ّ‬
‫حقيقةً‪ .‬وكذلك ‪ ،‬من أدلّة ترخيص الفطر لهما ‪ ،‬حديث أنس بن مالك الكعبيّ رضي ال‬
‫ن اللّه وضع عن المسافر‬
‫تعالى عنه أنّ رسول اللّه ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قال ‪ » :‬إ ّ‬
‫الصّوم وشطر الصّلة ‪ ،‬وعن الحامل أو المرضع الصّوم أو الصّيام « وفي لفظ بعضهم ‪» :‬‬
‫عن الحبلى والمرضع « ‪.‬‬
‫ى وسواء أكانت‬
‫ص القليوبيّ ‪ -‬كلّ حمل ‪ ،‬ولو من زن ً‬
‫وإطلق لفظ الحامل يتناول ‪ -‬كما ن ّ‬
‫المرضع أمّا للرّضيع ‪ ،‬أم كانت مستأجرةً لرضاع غير ولدها ‪ ،‬في رمضان أو قبله ‪ ،‬فإنّ‬
‫فطرها جائز ‪ ،‬على الظّاهر عند الحنفيّة ‪ ،‬وعلى المعتمد عند الشّافعيّة ‪ ،‬بل لو كانت‬
‫متبرّع ًة ولو مع وجود غيرها ‪ ،‬أو من زنىً ‪ ،‬جاز لها الفطر مع الفدية ‪.‬‬
‫وقال بعض الحنفيّة ‪ ،‬كابن الكمال والبهنسيّ ‪ :‬تقيّد المرضع بما إذا تعيّنت للرضاع ‪،‬‬
‫كالظّئر بالعقد ‪ ،‬والمّ بأن لم يأخذ ثدي غيرها ‪ ،‬أو كان الب معسرا ‪ ،‬لنّه حينئذ واجب‬
‫ن الرضاع واجب على المّ ديان ًة مطلقا وإن لم تتعيّن‬
‫عليها ‪ ،‬لكن ظاهر الرّواية خلفه ‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪ ،‬وقضا ًء إذا كان الب معسرا ‪ ،‬أو كان الولد ل يرضع من غيرها ‪.‬‬
‫وأمّا الظّئر فلنّه واجب عليها بالعقد ‪ ،‬ولو كان العقد في رمضان ‪ ،‬خلفا لمن قيّد الحلّ‬
‫بالجارة قبل رمضان ‪.‬‬
‫كما قال بعض الشّافعيّة كالغزاليّ ‪ :‬يقيّد فطر المرضع ‪ ،‬بما إذا لم تكن مستأجرةً لرضاع‬
‫غير ولدها ‪ ،‬أو لم تكن متبرّع ًة ‪ ،‬لكن المعتمد المصحّح عندهم خلفه ‪ ،‬قياسا على السّفر‬
‫فإنّه يستوي في جواز الفطار به من سافر لغرض نفسه ‪ ،‬وغرض غيره ‪ ،‬بأجرة وغيرها‬
‫‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬الشّيخوخة والهرم ‪:‬‬
‫‪ -‬وتشمل الشّيخوخة والهرم ما يلي ‪:‬‬ ‫‪63‬‬

‫الشّيخ الفاني ‪ ،‬وهو الّذي فنيت قوّته ‪ ،‬أو أشرف على الفناء ‪ ،‬وأصبح كلّ يوم في نقص‬
‫إلى أن يموت ‪.‬‬
‫المريض الّذي ل يرجى برؤه ‪ ،‬وتحقّق اليأس من صحّته ‪.‬‬
‫العجوز ‪ ،‬وهي المرأة المسنّة ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬المريض الّذي ل يرجى برؤه في حكم الكبير ‪.‬‬
‫وقيّد الحنفيّة عجز الشّيخوخة والهرم ‪ ،‬بأن يكون مستمرّا ‪ ،‬فلو لم يقدرا على الصّوم لشدّة‬
‫ل ‪ ،‬كان لهما أن يفطرا ‪ ،‬ويقضياه في الشّتاء ‪.‬‬
‫الحرّ مث ً‬
‫ول خلف بين الفقهاء في أنّه ل يلزمهما الصّوم ‪ ،‬ونقل ابن المنذر الجماع عليه ‪ ،‬وأنّ‬
‫لهما أن يفطرا ‪ ،‬إذا كان الصّوم يجهدهما ويشقّ عليهما مش ّقةً شديدةً ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬إنّ الشّيخ والعجوز العاجزين عن الصّوم ‪ ،‬يجوز لهما الفطر إجماعا ‪ ،‬ول‬
‫قال ابن جز ّ‬
‫قضاء عليهما ‪.‬‬
‫والصل في شرعيّة إفطار من ذكر ‪:‬‬
‫سكِينٍ } فقد قيل في بعض وجوه‬
‫ن ُيطِيقُو َنهُ فِدْ َي ٌة طَعَامُ ِم ْ‬
‫أ ‪ -‬قوله تعالى ‪ { :‬وَعَلَى الّذِي َ‬
‫التّأويل ‪ :‬إنّ ( ل ) مضمرة في الية ‪ ،‬والمعنى ‪ :‬وعلى الّذين ل يطيقونه ‪.‬‬
‫وقال ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما ‪ :‬الية ليست بمنسوخة ‪ ،‬وهي للشّيخ الكبير ‪،‬‬
‫والمرأة الكبيرة ‪ ،‬ل يستطيعان أن يصوما ‪ ،‬فيطعمان مكان كلّ يوم مسكينا ‪.‬‬
‫والية في محلّ الستدلل ‪ ،‬حتّى على القول بنسخها ‪ ،‬لنّها إن وردت في الشّيخ الفاني‬
‫‪ -‬كما ذهب إليه بعض السّلف ‪ -‬فظاهر ‪ ،‬وإن وردت للتّخيير فكذلك ‪ ،‬لنّ النّسخ إنّما يثبت‬
‫في حقّ القادر على الصّوم ‪ ،‬فبقي الشّيخ الفاني على حاله كما كان ‪.‬‬
‫جعَلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي الدّينِ ِمنْ‬
‫ب ‪ -‬والعمومات القاضية برفع الحرج ‪ ،‬كقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫حَرَجٍ } ‪.‬‬
‫وموجب الفطار بسبب الشّيخوخة عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو الظهر عند الشّافعيّة ‪،‬‬
‫وهو قول عند المالكيّة ‪ :‬وجوب الفدية ‪ ،‬ويأتي تفصيله ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬إرهاق الجوع والعطش ‪:‬‬
‫‪ -‬من أرهقه جوع مفرط ‪ ،‬أو عطش شديد ‪ ،‬فإنّه يفطر ويقضي ‪.‬‬ ‫‪64‬‬

‫وقيّده الحنفيّة بأمرين ‪:‬‬


‫الوّل ‪ :‬أن يخاف على نفسه الهلك ‪ ،‬بغلبة الظّنّ ‪ ،‬ل بمجرّد الوهم ‪ ،‬أو يخاف نقصان‬
‫العقل‪ ،‬أو ذهاب بعض الحواسّ ‪ ،‬كالحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما الهلك أو على‬
‫أولدهما ‪.‬‬
‫قال المالكيّة ‪ :‬فإن خاف على نفسه حرّم عليه الصّيام ‪ ،‬وذلك لنّ حفظ النّفس والمنافع‬
‫واجب ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن ل يكون ذلك بإتعاب نفسه ‪ ،‬إذ لو كان به تلزمه الكفّارة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ل ‪.‬‬
‫ن الخوف على النّفس في معنى المرض ‪.‬‬
‫وألحقه بعض الفقهاء بالمريض ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫ي ‪ :‬ومثل المرض غلبة جوع وعطش ‪ ،‬ل نحو صداع ‪ ،‬ووجع أذن وسنّ‬
‫وقال القليوب ّ‬
‫خفيفة‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬ثمّ إن احتاج إلى‬
‫ومثّلوا له بأرباب المهن الشّاقّة ‪ ،‬لكن قالوا ‪ :‬عليه أن ينوي الصّيام لي ً‬
‫الفطار ‪ ،‬ولحقته مشقّة ‪ ،‬أفطر ‪.‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬المحترف المحتاج إلى نفقته كالخبّاز والحصّاد ‪ ،‬إذا علم أنّه لو اشتغل بحرفته‬
‫يلحقه ضرر مبيح للفطر ‪ ،‬يحرم عليه الفطر قبل أن تلحقه مشقّة ‪.‬‬
‫ي من الحنابلة ‪ :‬من صنعته شاقّة ‪ ،‬فإن خاف بالصّوم تلفا ‪ ،‬أفطر‬
‫وقال أبو بكر الج ّر ّ‬
‫وقضى ‪ ،‬إن ضرّه ترك الصّنعة ‪ ،‬فإن لم يضرّه تركها أثم بالفطر وبتركها ‪ ،‬وإن لم ينتف‬
‫الضّرر بتركها ‪ ،‬فل إثم عليه بالفطر للعذر ‪.‬‬
‫‪ -‬وألحقوا بإرهاق الجوع والعطش خوف الضّعف عن لقاء العدوّ المتوقّع أو المتيقّن‬ ‫‪65‬‬

‫ن القتال بسبب وجوده بمقابلة‬


‫كأن كان محيطا ‪ :‬فالغازي إذا كان يعلم يقينا أو بغلبة الظّ ّ‬
‫العدوّ ‪ ،‬ويخاف الضّعف عن القتال بالصّوم ‪ ،‬وليس مسافرا ‪ ،‬له الفطر قبل الحرب ‪.‬‬
‫ن في القتال يحتاج إلى تقديم‬
‫قال في الهنديّة ‪ :‬فإن لم يتّفق القتال فل كفّارة عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫الفطار‪ ،‬ليتقوّى ول كذلك المرض ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬ومن قاتل عدوّا ‪ ،‬أو أحاط العدوّ ببلده ‪ ،‬والصّوم يضعفه عن القتال ‪ ،‬ساغ‬
‫وقال البهوت ّ‬
‫له الفطر بدون سفر نصّا ‪ ،‬لدعاء الحاجة إليه ‪.‬‬
‫ول خلف بين الفقهاء ‪ ،‬في أنّ المرهق ومن في حكمه ‪ ،‬يفطر ‪ ،‬ويقضي ‪ -‬كما ذكرنا ‪-‬‬
‫وإنّما الخلف بينهم فيما إذا أفطر المرهق ‪ ،‬فهل يمسك بقيّة يومه ‪ ،‬أم يجوز له الكل ؟‬
‫سادسا ‪ :‬الكراه ‪:‬‬
‫‪ -‬الكراه ‪ :‬حمل النسان غيره ‪ ،‬على فعل أو ترك ما ل يرضاه بالوعيد ‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫ن من أكره على الفطر فأفطر قضى ‪.‬‬


‫ومذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬أ ّ‬
‫قالوا ‪ :‬إذا أكره الصّائم بالقتل على الفطر ‪ ،‬بتناول الطّعام في شهر رمضان ‪ ،‬وهو صحيح‬
‫مقيم ‪ ،‬فمرخّص له به ‪ ،‬والصّوم أفضل ‪ ،‬حتّى لو امتنع من الفطار حتّى قتل ‪ ،‬يثاب‬
‫عليه ‪ ،‬لنّ الوجوب ثابت حالة الكراه ‪ ،‬وأثر الرّخصة في الكراه هو سقوط المأثم‬
‫بالتّرك ‪ ،‬ل في سقوط الوجوب ‪ ،‬بل بقي الوجوب ثابتا ‪ ،‬والتّرك حراما ‪ ،‬وإذا كان الوجوب‬
‫ق اللّه تعالى قائما ‪ ،‬فهو بالمتناع بذل نفسه لقامة حقّ اللّه‬
‫ثابتا ‪ ،‬والتّرك حراما ‪ ،‬كان ح ّ‬
‫تعالى ‪ ،‬طلبا لمرضاته ‪ ،‬فكان مجاهدا في دينه ‪ ،‬فيثاب عليه ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬حينئذ مبيح‬
‫وأمّا إذا كان المكره مريضا أو مسافرا ‪ ،‬فالكراه ‪ -‬كما يقول الكاسان ّ‬
‫مطلق‪ ،‬في حقّ كلّ منهما ‪ ،‬بل موجب ‪ ،‬والفضل هو الفطار ‪ ،‬بل يجب عليه ذلك ‪ ،‬ول‬
‫يسعه أن ل يفطر ‪ ،‬حتّى لو امتنع من ذلك ‪ ،‬فقتل ‪ ،‬يأثم ‪ .‬ووجه الفرق ‪ :‬أنّ في الصّحيح‬
‫المقيم كان الوجوب ثابتا قبل الكراه من غير رخصة التّرك أصلً ‪ ،‬فإذا جاء الكراه ‪ -‬وهو‬
‫سبب من أسباب الرّخصة ‪ -‬كان أثره في إثبات رخصة التّرك ‪ ،‬ل في إسقاط الوجوب ‪.‬‬
‫وأمّا في المريض والمسافر ‪ ،‬فالوجوب مع رخصة التّرك ‪ ،‬كان ثابتا قبل الكراه ‪ ،‬فل ب ّد أن‬
‫يكون للكراه أثر آخر لم يكن ثابتا قبله ‪ ،‬وليس ذلك إلّ إسقاط الوجوب رأسا ‪ ،‬وإثبات‬
‫الباحة المطلقة ‪ ،‬فنزل منزلة الكراه على أكل الميتة ‪ ،‬وهناك يباح له الكل ‪ ،‬بل يجب‬
‫عليه‪ ،‬فكذا هنا ‪.‬‬
‫وفرّق الشّافعيّة بين الكراه على الكل أو الشّرب ‪ ،‬وبين الكراه على الوطء ‪ :‬فقالوا في‬
‫الكراه على الكل ‪ :‬لو أكره حتّى أكل أو شرب لم يفطر ‪ ،‬كما لو أوجر في حلقه مكرها ‪،‬‬
‫لنّ الحكم الّذي ينبني على اختياره ساقط لعدم وجود الختيار ‪.‬‬
‫أمّا لو أكره على الوطء زنىً ‪ ،‬فإنّه ل يباح بالكراه ‪ ،‬فيفطر به ‪ ،‬بخلف وطء زوجته ‪.‬‬
‫ي الطلق ‪ ،‬ووجّهه بأنّ عدم الفطار ‪ ،‬لشبهة الكراه ‪ ،‬على الوطء ‪،‬‬
‫واعتمد العزيز ّ‬
‫والحرمة من جهة الوطء ‪ ،‬فعلى هذا يكون الكراه على الفطار مطلقا بالوطء والكل‬
‫والشّرب ‪ ،‬إذا فعله المكره ل يفطر به ‪ ،‬ول يجب عليه القضاء إ ّل في الكراه على الفطار‬
‫بالزّنى ‪ ،‬فإنّ فيه وجها بالفطار والقضاء عندهم ‪.‬‬
‫وهذا الطلق عند الشّافعيّة ‪ ،‬هو مذهب الحنابلة أيضا ‪ :‬فلو أكره على الفعل ‪ ،‬أو فعل به‬
‫ما أكره عليه ‪ ،‬بأن صبّ في حلقه ‪ ،‬مكرها أو نائما ‪ ،‬كما لو أوجر المغمى عليه معالجةً ‪،‬‬
‫ل يفطر ‪ ،‬ول يجب عليه القضاء ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬وما استكرهوا عليه « ‪.‬‬
‫ملحقات بالعوارض ‪:‬‬
‫‪ -‬يمكن إلحاق ما يلي ‪ ،‬من العذار ‪ ،‬بالعوارض الّتي ذكرها الفقهاء ‪ ،‬وأقرّوها‬ ‫‪67‬‬

‫وأفردوا لها أحكاما كلّما عرضت في الصّوم ‪ ،‬كالحيض والنّفاس والغماء والجنون والسّكر‬
‫والنّوم والرّدّة والغفلة ‪.‬‬
‫وأحكامهما تنظر في مصطلحاتها ‪.‬‬
‫ما يفسد الصّوم ويوجب القضاء والكفّارة ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الجماع عمدا ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ جماع الصّائم في نهار رمضان عامدا مختارا بأن يلتقي‬ ‫‪68‬‬

‫الختانان وتغيب الحشفة في أحد السّبيلين مفطر يوجب القضاء والكفّارة ‪ ،‬أنزل أو لم ينزل ‪.‬‬
‫ن الخلل انجبر بالكفّارة ‪.‬‬
‫وفي قول ثان للشّافعيّة ل يجب القضاء ‪ ،‬ل ّ‬
‫وفي قول ثالث لهم ‪ :‬إن كفّر بالصّوم دخل فيه القضاء ‪ ،‬وإلّ فل يدخل فيجب القضاء ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬إذا جامع في نهار رمضان ‪ -‬بل عذر ‪ -‬آدميّا أو غيره حيّا أو ميّتا أنزل أم‬
‫ل أو مخطئا ‪ ،‬مختارا أو مكرها ‪،‬‬
‫ل فعليه القضاء والكفّارة ‪ ،‬عامدا كان أو ساهيا ‪ ،‬أو جاه ً‬
‫ي صلى‬
‫وهذا لحديث أبي هريرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ » :‬بينما نحن جلوس عند النّب ّ‬
‫ال عليه وسلم إذ جاءه رجل ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬هلكت ‪ ،‬قال ‪ :‬ما لك ؟ قال ‪ :‬وقعت‬
‫على امرأتي وأنا صائم ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم هل تجد رقب ًة تعتقها ؟ قال ‪:‬‬
‫ل ‪ .‬قال ‪ :‬فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬فهل تجد إطعام ستّين‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ‪ ،‬أتي النّبيّ‬
‫مسكينا ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬فمكث النّب ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم بعرَقٍ فيها تمر ‪ ،‬قال ‪ :‬أين السّائل ؟ فقال ‪ :‬أنا ‪ ،‬قال ‪ :‬خذ هذا‬
‫فتصدّق به ‪ ،‬فقال الرّجل ‪ :‬على أفقر منّي يا رسول اللّه ‪ ،‬فواللّه ما بين لبتيها ‪ -‬يريد‬
‫ي صلى ال عليه وسلم حتّى بدت‬
‫الحرّتين ‪ -‬أهل بيت أفقر من أهل بيتي ‪ ،‬فضحك النّب ّ‬
‫أنيابه ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬أطعمه أهلك « ‪.‬‬
‫ول خلف في فساد صوم المرأة بالجماع لنّه نوع من المفطرات ‪ ،‬فاستوى فيه الرّجل‬
‫والمرأة ‪ .‬وإنّما الخلف في وجوب الكفّارة عليها ‪:‬‬
‫فمذهب أبي حنيفة ومالك وقول للشّافعيّ ‪ ،‬ورواية عن أحمد وهي المذهب عند الحنابلة ‪،‬‬
‫وجوب الكفّارة عليها أيضا ‪ ،‬لنّها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها كالرّجل ‪.‬‬
‫ن السّبب في ذلك هو جناية الفساد ‪ ،‬ل نفس الوقاع ‪،‬‬
‫وعلّل الحنفيّة وجوبها عليها ‪ ،‬بأ ّ‬
‫وقد شاركته فيها ‪ ،‬وقد استويا في الجناية ‪ ،‬والبيان في حقّ الرّجل بيان في حقّ المرأة ‪،‬‬
‫فقد وجد فساد صوم رمضان بإفطار كامل حرام محض متعمّد ‪ ،‬فتجب الكفّارة عليها بدللة‬
‫ن الكفّارة عبادة أو عقوبة ‪ ،‬ول يجري فيها التّحمّل ‪.‬‬
‫النّصّ‪ ،‬ول يتحمّل الرّجل عنها ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن النّبيّ‬
‫وفي قول للشّافعيّ وهو الصحّ ‪ ،‬ورواية أخرى عن أحمد ‪ :‬أنّه ل كفّارة عليها ‪ ،‬ل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبةً ‪ ،‬ولم يأمر المرأة بشيء ‪ ،‬مع‬
‫ن الجماع فعله ‪ ،‬وإنّما هي محلّ الفعل ‪.‬‬
‫علمه بوجود ذلك منها ‪ .‬ول ّ‬
‫وفي قول للشّافعيّة ‪ :‬تجب ‪ ،‬ويتحمّلها الرّجل ‪.‬‬
‫وروي عن أحمد ‪ :‬أنّ الزّوج تلزمه كفّارة واحدة عنهما ‪ ،‬وضعّفها بعض الحنابلة بأنّ‬
‫الصل عدم التّداخل ‪.‬‬
‫وقال ابن عقيل من الحنابلة ‪ :‬إن أكرهت المرأة على الجماع في نهار رمضان حتّى مكّنت‬
‫الرّجل منها لزمتها الكفّارة ‪ ،‬وإن غصبت أو أتيت نائمةً فل كفّارة عليها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الكل والشّرب عمدا ‪:‬‬
‫‪ -‬ممّا يوجب القضاء والكفّارة ‪ ،‬عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬الكل والشّرب ‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫فإذا أكل الصّائم ‪ ،‬في أداء رمضان أو شرب غذا ًء أو دواءً ‪ ،‬طائعا عامدا ‪ ،‬بغير خطأ ول‬
‫إكراه ول نسيان ‪ ،‬أفطر وعليه الكفّارة ‪.‬‬
‫وضابطه عند الحنفيّة ‪ :‬وصول ما فيه صلح بدنه لجوفه ‪ ،‬بأن يكون ممّا يؤكل عادةً على‬
‫قصد التّغذّي أو التّداوي أو التّلذّذ ‪ ،‬أو ممّا يميل إليه الطّبع ‪ ،‬وتنقضي به شهوة البطن ‪،‬‬
‫وإن لم يكن فيه صلح البدن ‪ ،‬بل ضرره ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬وأن ل يكون مكرها ‪ ،‬وأن ل يطرأ‬
‫وشرطوا أيضا لوجوب الكفّارة ‪ :‬أن ينوي الصّوم لي ً‬
‫عذر شرعيّ ل صنع له فيه ‪ ،‬كمرض وحيض ‪.‬‬
‫صةً ‪ ،‬عمدا قصدا لنتهاك حرمة الصّوم ‪،‬‬
‫وشرط المالكيّة ‪ :‬أن يكون إفساد صوم رمضان خا ّ‬
‫من غير سبب مبيح للفطر ‪.‬‬
‫وتجب الكفّارة في شرب الدّخان عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬فإنّه ربّما أضرّ البدن ‪ ،‬لكن تميل‬
‫إليه بعض الطّباع ‪ ،‬وتنقضي به شهوة البطن ‪ ،‬يضاف إلى ذلك أنّه مفتر وحرام ‪ ،‬لحديث‬
‫أ ّم سلمة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ » :‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن كلّ‬
‫مسكر ومفتر « ‪.‬‬
‫ودليل وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب عمدا ‪ ،‬ما ورد في الصّحيح عن أبي هريرة‬
‫رضي ال تعالى عنه ‪ » :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أمر رجلً أفطر في رمضان ‪،‬‬
‫أن يعتق رقب ًة أو يصوم شهرين متتابعين ‪ ،‬أو يطعم ستّين مسكينا « فإنّه علّق الكفّارة‬
‫بالفطار ‪ ،‬وهي وإن كانت واقعة حال ل عموم لها ‪ ،‬لكنّها علّقت بالفطار ‪ ،‬ل باعتبار‬
‫خصوص الفطار ولفظ الرّاوي عامّ ‪ ،‬فاعتبر ‪ ،‬كقوله ‪ » :‬قضى بالشّفعة للجار « ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة والحنابلة عدم وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب عمدا في نهار‬
‫ن النّصّ ‪ -‬وهو حديث العرابيّ الّذي وقع على امرأته في رمضان‬
‫رمضان أداءً ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫‪ -‬ورد في الجماع ‪ ،‬وما عداه ليس في معناه ‪.‬‬
‫ولنّه ل نصّ في إيجاب الكفّارة بهذا ‪ ،‬ول إجماع ‪.‬‬
‫ول يصحّ قياسه على الجماع ‪ ،‬لنّ الحاجة إلى الزّجر عنه أمسّ ‪ ،‬والحكمة في التّعدّي به‬
‫آكد ‪ ،‬ولهذا يجب به الحدّ إذا كان محرّما ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬رفع ال ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬وممّا يوجب الكفّارة عند المالكيّة ‪ ،‬ما لو تعمّد رفع النّيّة نهارًا ‪ ،‬كأن يقول وهو صائم‬ ‫‪70‬‬

‫‪ :‬رفعت نيّة صومي ‪ ،‬أو يقول رفعت نيّتي ‪.‬‬


‫وأولى من ذلك ‪ ،‬رفع النّيّة في اللّيل ‪ ،‬كأن يكون غير ناو للصّوم ‪ ،‬لنّه رفعها في محلّها‬
‫فلم تقع النّيّة في محلّها ‪.‬‬
‫وكذلك تجب الكفّارة عند المالكيّة بالصباح بنيّة الفطر ‪ ،‬ولو نوى الصّيام بعده ‪ ،‬على‬
‫ي‪.‬‬
‫الصحّ كما يقول ابن جز ّ‬
‫أمّا إن علّق الفطر على شيء ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إن وجدت طعاما أكلت فلم يجده ‪ ،‬أو وجده ولم‬
‫يفطر فل قضاء عليه ‪.‬‬
‫أمّا عند الحنابلة ‪ -‬وفي وجه عند الشّافعيّة ‪ -‬فإنّه يجب القضاء بترك النّيّة دون الكفّارة ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة ‪ ،‬وفي الوجه الخر عند الشّافعيّة ‪ :‬ل يجب القضاء ‪.‬‬
‫ما ل يفسد الصّوم ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬الكل والشّرب في حال النّسيان ‪:‬‬
‫ن الكل والشّرب في حال النّسيان ل يفسد‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬ ‫‪71‬‬

‫الصّوم فرضا أو نفلً ‪ ،‬خلفا للمالكيّة ‪ ،‬كما تقدّم في ف ‪.38/‬‬


‫ثانيا ‪ :‬الجماع في حال النّسيان ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب ‪ ،‬والحسن البصريّ ومجاهد وإسحاق وأبو ثور‬ ‫‪72‬‬

‫ن الجماع في حال النّسيان ل يفطّر قياسا على الكل والشّرب ناسيا ‪.‬‬
‫وابن المنذر إلى أ ّ‬
‫ن من جامع ناسيا فسد‬
‫وذهب المالكيّة في المشهور ‪ -‬وهو ظاهر مذهب الحنابلة ‪ -‬إلى أ ّ‬
‫صومه ‪ ،‬وعليه القضاء فقط عند المالكيّة ‪ ،‬والقضاء والكفّارة عند الحنابلة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬دخول الغبار ونحوه حلق الصّائم ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا دخل حلق الصّائم غبار أو ذباب أو دخان بنفسه ‪ ،‬بل صنعه ‪ ،‬ولو كان الصّائم‬ ‫‪73‬‬

‫ذاكرا لصومه ‪ ،‬لم يفطر إجماعا ‪ -‬كما قال ابن جزيّ ‪ -‬لعدم قدرته على المتناع عنه ‪ ،‬ول‬
‫يمكن الحتراز منه ‪.‬‬
‫ل نحو القطرة أو القطرتين فإنّه ل يفسد صومه ‪ ،‬لنّ‬
‫وكذلك إذا دخل الدّمع حلقه وكان قلي ً‬
‫التّحرّز منه غير ممكن ‪.‬‬
‫وإن كان كثيرا حتّى وجد ملوحته في جميع فمه وابتلعه فسد صومه ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬الدّهان ‪:‬‬
‫‪ -‬لو دهن الصّائم رأسه ‪ ،‬أو شاربه ل يضرّه ذلك ‪ ،‬وكذا لو اختضب بحنّاء ‪ ،‬فوجد‬ ‫‪74‬‬

‫الطّعم في حلقه لم يفسد صومه ‪ ،‬ول يجب عليه القضاء ‪ ،‬إذ ل عبرة بما يكون من‬
‫المسامّ ‪ ،‬وهذا قول الجمهور ‪.‬‬
‫ن المعروف من المذهب وجوب القضاء ‪.‬‬
‫لكن صرّح الدّردير من المالكيّة ‪ ،‬بأ ّ‬
‫خامسا ‪ :‬الحتلم ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا نام الصّائم فاحتلم ل يفسد صومه ‪ ،‬بل يتمّه إجماعا ‪ ،‬إذا لم يفعل شيئا يحرم عليه‬ ‫‪75‬‬

‫ويجب عليه الغتسال ‪.‬‬


‫وفي الحديث عن أبي سعيد رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ » :‬ثلث ل يفطرن الصّائم ‪ :‬الحجامة والقيء والحتلم « ‪.‬‬
‫ومن أجنب ليلً ‪ ،‬ثمّ أصبح صائما ‪ ،‬فصومه صحيح ‪ ،‬ول قضاء عليه عند الجمهور ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬وإن بقي جنبا كلّ اليوم ‪ ،‬وذلك لحديث ‪ :‬عائشة وأمّ سلمة رضي ال تعالى‬
‫عنهما قالتا ‪ » :‬نشهد على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إن كان ليصبح جنبا ‪ ،‬من‬
‫غير احتلم ثمّ يغتسل ‪ ،‬ثمّ يصوم « ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬وإليه ذهب الجمهور ‪ ،‬وجزم النّوويّ بأنّه استق ّر الجماع على ذلك ‪ ،‬وقال‬
‫قال الشّوكان ّ‬
‫ابن دقيق العيد ‪ :‬إنّه صار إجماعا أو كالجماع ‪.‬‬
‫وقد أخرج الشّيخان عن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه أنّه صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫» من أصبح جنبا فل صوم له « وحمل على النّسخ أو الرشاد إلى الفضل ‪ ،‬وهو ‪ :‬أنّه‬
‫يستحبّ أن يغتسل قبل الفجر ‪ ،‬ليكون على طهارة من أوّل الصّوم ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬البلل في الفم ‪:‬‬
‫‪ -‬ممّا ل يفسد الصّوم البلل الّذي يبقى في الفم بعد المضمضة ‪ ،‬إذا ابتلعه الصّائم مع‬ ‫‪76‬‬

‫الرّيق ‪ ،‬بشرط أن يبصق بعد مجّ الماء ‪ ،‬لختلط الماء بالبصاق ‪ ،‬فل يخرج بمجرّد المجّ ‪،‬‬
‫ول تشترط المبالغة في البصق ‪ ،‬لنّ الباقي بعده مجرّد بلل ورطوبة ‪ ،‬ل يمكن التّحرّز عنه‬
‫‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬ابتلع ما بين السنان ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬ل يفسد ول يفطر ‪ ،‬لنّه تبع لريقه ‪ ،‬ولنّه ل‬
‫‪ -‬ابتلع ما بين السنان ‪ ،‬إذا كان قلي ً‬ ‫‪77‬‬

‫يمكن الحتراز عنه ‪ ،‬بخلف الكثير فإنّه ل يبقى بين السنان ‪ ،‬والحتراز عنه ممكن ‪.‬‬
‫والقليل ‪ :‬هو ما دون الحمّصة ‪ ،‬ولو كان قدرها أفطر ‪.‬‬
‫ن الفم‬
‫ومذهب زفر ‪ ،‬وهو قول للشّافعيّة ‪ :‬فساد الصّوم مطلقا ‪ ،‬بابتلع القليل والكثير ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي ‪ -‬ولو أكل القليل‬
‫له حكم الظّاهر ‪ ،‬ولهذا ل يفسد صومه بالمضمضة ‪ -‬كما قال المرغينان ّ‬
‫من خارج فمه أفطر ‪ ،‬فكذا إذا أكل من فمه ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة قول آخر بعدم الفطار به مطلقا ‪.‬‬
‫وشرط الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لعدم الفطار بابتلع ما بين السنان شرطين ‪:‬‬
‫أوّلهما ‪ :‬أن ل يقصد ابتلعه ‪.‬‬
‫والخر ‪ :‬أن يعجز عن تمييزه ومجّه ‪ ،‬لنّه معذور فيه غير مفرّط ‪ ،‬فإن قدر عليهما أفطر ‪،‬‬
‫ولو كان دون الحمّصة ‪ ،‬لنّه ل مشقّة في لفظه ‪ ،‬والتّحرّز عنه ممكن ‪.‬‬
‫ومذهب المالكيّة ‪ :‬عدم الفطار بما سبق إلى جوفه من بين أسنانه ‪ ،‬ولو عمدا ‪ ،‬لنّه أخذه‬
‫في وقت يجوز له أخذه فيه ‪ -‬كما يقول الدّسوقيّ ‪ -‬وقيل ‪ :‬ل يفطر ‪ ،‬إلّ إن تعمّد بلعه‬
‫فيفطر ‪ ،‬أمّا لو سبق إلى جوفه فل يفطر ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬دم اللّثة والبصاق ‪:‬‬
‫‪ -‬لو دميت لثته ‪ ،‬فدخل ريقه حلقه مخلوطا بالدّم ‪ ،‬ولم يصل إلى جوفه ‪ ،‬ل يفطر عند‬ ‫‪78‬‬

‫الحنفيّة ‪ ،‬وإن كان الدّم غالبا على الرّيق ‪ ،‬لنّه ل يمكن الحتراز منه ‪ ،‬فصار بمنزلة ما‬
‫بين أسنانه أو ما يبقى من أثر المضمضة ‪ ،‬أمّا لو وصل إلى جوفه ‪ ،‬فإن غلب الدّم فسد‬
‫صومه‪ ،‬وعليه القضاء ول كفّارة ‪ ،‬وإن غلب البصاق فل شيء عليه ‪ ،‬وإن تساويا ‪،‬‬
‫فالقياس أن ل يفسد وفي الستحسان يفسد احتياطا ‪.‬‬
‫ولو خرج البصاق على شفتيه ثمّ ابتلعه ‪ ،‬فسد صومه ‪ ،‬وفي الخانيّة ‪ :‬ترطّبت شفتاه‬
‫ببزاقه‪ ،‬عند الكلم ونحوه ‪ ،‬فابتلعه ‪ ،‬ل يفسد صومه ‪ ،‬وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬الفطار بابتلع الرّيق المختلط بالدّم ‪ ،‬لتغيّر الرّيق ‪ ،‬والدّم‬
‫نجس ل يجوز ابتلعه وإذا لم يتحقّق أنّه بلع شيئا نجسا ل يفطر ‪ ،‬إذ ل فطر ببلع ريقه‬
‫الّذي لم تخالطه النّجاسة ‪.‬‬
‫تاسعا ‪ :‬ابتلع النّخامة ‪:‬‬
‫‪ -‬النّخامة هي ‪ :‬النّخاعة ‪ ،‬وهي ما يخرجه النسان من حلقه ‪ ،‬من مخرج الخاء‬ ‫‪79‬‬

‫المعجمة ‪.‬‬
‫قال الفيّوميّ ‪ :‬هكذا قيّده ابن الثير ‪ ،‬وهكذا قال المطرّزيّ ‪ ،‬وزاد ‪ :‬ما يخرج من الخيشوم‬
‫عند التّنحنح ‪.‬‬
‫ومذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمعتمد عند المالكيّة ‪ :‬أنّ النّخامة سواء أكانت مخاطا نازلً من‬
‫الرّأس ‪ ،‬أم بلغما صاعدا من الباطن ‪ ،‬بالسّعال أو التّنحنح ‪ -‬ما لم يفحش البلغم ‪ -‬ل يفطر‬
‫ن البلغم ل يفطر مطلقا ‪ ،‬ولو وصل إلى طرف اللّسان ‪،‬‬
‫مطلقا ‪ .‬وفي نصوص المالكيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫لمشقّته ‪ ،‬خلفا لخليل ‪ ،‬الّذي رأى الفساد ‪ ،‬فيما إذا أمكن طرحه ‪ ،‬بأن جاوز الحلق ‪ ،‬ثمّ‬
‫ن عليه القضاء ‪.‬‬
‫أرجعه وابتلعه ‪ ،‬وأ ّ‬
‫وفي رواية عن أحمد أنّ ابتلع النّخامة ل يفطر ‪ ،‬لنّه معتاد في الفم غير واصل من خارج‪،‬‬
‫فأشبه الرّيق ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة هذا التّفصيل ‪:‬‬
‫إن اقتلع النّخامة من الباطن ‪ ،‬ولفظها فل بأس بذلك في الصحّ ‪ ،‬لنّ الحاجة إليه ممّا‬
‫يتكرّر‪ ،‬وفي قول ‪ :‬يفطر بها كالستقاءة ‪.‬‬
‫ولو صعدت بنفسها ‪ ،‬أو بسعاله ‪ ،‬ولفظها لم يفطر جزما ‪.‬‬
‫ولو ابتلعها بعد وصولها إلى ظاهر الفم ‪ ،‬أفطر جزما ‪.‬‬
‫وإذا حصلت في ظاهر الفم ‪ ،‬يجب قطع مجراها إلى الحلق ‪ ،‬ومجّها ‪ ،‬فإن تركها مع القدرة‬
‫على ذلك ‪ ،‬فوصلت إلى الجوف ‪ ،‬أفطر في الصحّ ‪ ،‬لتقصيره ‪ ،‬وفي قول ‪ :‬ل يفطر ‪ ،‬لنّه‬
‫لم يفعل شيئا ‪ ،‬وإنّما أمسك عن الفعل ‪.‬‬
‫ولو ابتلعها بعد وصولها إلى ظاهر الفم ‪ ،‬أفطر جزما ‪.‬‬
‫ونصّ الحنابلة على أنّه يحرم على الصّائم بلع نخامة ‪ ،‬إذا حصلت في فمه ‪ ،‬ويفطر بها إذا‬
‫بلعها ‪ ،‬سواء أكانت في جوفه أم صدره ‪ ،‬بعد أن تصل إلى فمه ‪ ،‬لنّها من غير الفم ‪،‬‬
‫فأشبه القيء ‪ ،‬ولنّه أمكن التّحرّز منها فأشبه الدّم ‪.‬‬
‫من أجل هذا الخلف ‪ ،‬نبّه ابن الشّحنة على أنّه ينبغي إلقاء النّخامة ‪ ،‬حتّى ل يفسد صومه‬
‫على قول المام الشّافعيّ ‪ ،‬وليكون صومه صحيحا بالتّفاق لقدرته على مجّها ‪.‬‬
‫عاشرا ‪ :‬القيء ‪:‬‬
‫‪ -‬يفرّق بين ما إذا خرج القيء بنفسه ‪ ،‬وبين الستقاءة ‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫وعبّر الفقهاء عن الوّل ‪ ،‬بما ‪ :‬إذا ذرعه القيء ‪ ،‬أي غلب القيء الصّائم ‪.‬‬
‫فإذا غلب القيء ‪ ،‬فل خلف بين الفقهاء في عدم الفطار به ‪ ،‬ق ّل القيء أم كثر ‪ ،‬بأن مل‬
‫الفم ‪ ،‬وهذا لحديث أبي هريرة رضي ال تعالى عنه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه‬
‫قال‪ » :‬من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ‪ ،‬ومن استقاء عمدا فليقض « ‪.‬‬
‫أمّا لو عاد القيء بنفسه ‪ ،‬في هذه الحال ‪ ،‬بغير صنع الصّائم ‪ ،‬ولو كان ملء الفم ‪ ،‬مع‬
‫تذكّر الصّائم للصّوم ‪ ،‬فل يفسد صومه ‪ ،‬عند محمّد ‪ -‬من الحنفيّة ‪ -‬وهو الصّحيح‬
‫عندهم ‪ ،‬لعدم وجود الصّنع منه ‪ ،‬ولنّه لم توجد صورة الفطر ‪ ،‬وهي البتلع ‪ ،‬وكذا معناه‬
‫‪ ،‬لنّه ل يتغذّى به عاد ًة ‪ ،‬بل النّفس تعافه ‪.‬‬
‫وعند أبي يوسف ‪ :‬يفسد صومه ‪ ،‬لنّه خارج ‪ ،‬حتّى انتقضت به الطّهارة ‪ ،‬وقد دخل ‪.‬‬
‫وإن أعاده ‪ ،‬أو عاد قدر حمّصة منه فأكثر ‪ ،‬فسد صومه باتّفاق الحنفيّة ‪ ،‬لوجود الدخال‬
‫بعد الخروج ‪ ،‬فتتحقّق صورة الفطر ول كفّارة فيه ‪.‬‬
‫وإن كان أقلّ من ملء الفم ‪ ،‬فعاد ‪ ،‬لم يفسد صومه ‪ ،‬لنّه غير خارج ‪ ،‬ول صنع له في‬
‫الدخال ‪.‬‬
‫وإن أعاده فكذلك عند أبي يوسف لعدم الخروج ‪ ،‬وعند محمّد يفسد صومه ‪ ،‬لوجود الصّنع‬
‫منه في الدخال ‪.‬‬
‫ومذهب المالكيّة ‪ :‬أنّ المفطر في القيء هو رجوعه ‪ ،‬سواء أكان القيء لعلّة أو امتلء‬
‫معدة‪ ،‬ق ّل أو كثر ‪ ،‬تغيّر أو ل ‪ ،‬رجع عمدا أو سهوا ‪ ،‬فإنّه مفطر وعليه القضاء ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة ‪ :‬أنّه لو عاد القيء بنفسه ‪ ،‬ل يفطر لنّه كالمكره ‪ ،‬ولو أعاده أفطر ‪ ،‬كما‬
‫لو أعاد بعد انفصاله عن الفم ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الستقاءة ‪ ،‬وهي ‪ :‬استخراج ما في الجوف عمدا ‪ ،‬أو هي ‪ :‬تكلّف القيء فإنّها‬ ‫‪81‬‬

‫مفسدة للصّوم موجبة للقضاء عند جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬مع‬
‫اختلفهم في الكفّارة ‪.‬‬
‫وروي عند الحنابلة ‪ ،‬أنّه ل يفطر بالستقاءة إلّ بملء الفم ‪ ،‬قال ابن عقيل ‪ :‬ول وجه لهذه‬
‫الرّواية عندي ‪.‬‬
‫وللحنفيّة تفصيل في الستقاءة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬فإن كانت عمدا ‪ ،‬والصّائم متذكّر لصومه ‪ ،‬غير ناس ‪ ،‬والقيء ملء فمه ‪ ،‬فعليه‬
‫القضاء للحديث المذكور ‪ ،‬والقياس متروك به ‪ ،‬ول كفّارة فيه لعدم صورة الفطر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإن كان أق ّل من ملء الفم ‪ ،‬فكذلك عند محمّد ‪ ،‬يفسد صومه ‪ ،‬لطلق الحديث ‪ ،‬وهو‬
‫ظاهر الرّواية ‪.‬‬
‫وعند أبي يوسف ل يفسد ‪ ،‬لعدم الخروج حكما ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وهو الصّحيح ‪ ،‬ثمّ إن عاد بنفسه‬
‫لم يفسد عنده ‪ ،‬لعدم سبق الخروج ‪ ،‬وإن أعاده فعنه ‪ :‬أنّه ل يفسد لعدم الخروج ‪ ،‬وهي‬
‫أصحّ الرّوايتين عنه ‪.‬‬
‫ونصّ الحنفيّة على أنّ هذا كلّه إذا كان القيء طعاما ‪ ،‬أو مرّةً فإن كان الخارج بلغما ‪ ،‬فغير‬
‫مفسد للصّوم ‪ ،‬عند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬خلفا لبي يوسف ‪.‬‬
‫حادي عشر ‪ :‬طلوع الفجر في حالة الكل أو الجماع ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه إذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فليلفظه ‪ ،‬ويصحّ‬ ‫‪82‬‬

‫صومه ‪ .‬فإن ابتلعه أفطر ‪ ،‬وكذا الحكم عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة فيمن أكل أو شرب‬
‫ناسيا ث ّم تذكّر الصّوم ‪ ،‬صحّ صومه إن بادر إلى لفظه ‪ .‬وإن سبق شيء إلى جوفه بغير‬
‫اختياره ‪ ،‬فل يفطر عند الحنابلة ‪ ،‬وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فقالوا ‪ :‬إذا وصل شيء من ذلك إلى جوفه ‪ -‬ولو غلبه ‪ -‬أفطر ‪.‬‬
‫وإذا نزع ‪ ،‬وقطع الجماع عند طلوع الفجر في الحال فمذهب الحنفيّة والشّافعيّة ‪ -‬وأحد‬
‫قولين للمالكيّة ‪ -‬ل يفسد صومه ‪ ،‬وقيّده القليوبيّ بأن ل يقصد اللّذّة بالنّزع ‪ ،‬وإلّ بطل‬
‫صومه ‪ ،‬حتّى لو أمنى بعد النّزع ‪ ،‬ل شيء عليه ‪ ،‬وصومه صحيح ‪ ،‬لنّه كالحتلم ‪ ،‬كما‬
‫يقول الحنفيّة ‪ ،‬ولتولّده من مباشرة مباحة ‪ ،‬كما يقول الشّافعيّة ‪.‬‬
‫ومشهور مذهب المالكيّة ‪ :‬أنّه لو نزع عند طلوع الفجر ‪ ،‬وأمنى حال الطّلوع ‪ -‬ل قبله ول‬
‫بعده ‪ -‬فل قضاء ‪ ،‬لنّ الّذي بعده من النّهار والّذي قبله من اللّيل ‪ ،‬والنّزع ليس وطئا ‪.‬‬
‫والقول الخر للمالكيّة هو وجوب القضاء ‪.‬‬
‫وسبب هذا الختلف عند المالكيّة هو أنّه ‪ :‬هل يعدّ النّزع جماعا ‪ ،‬أو ل يعدّ جماعا ؟‬
‫ولهذا قالوا ‪ :‬من طلع عليه الفجر – وهو يجامع – فعليه القضاء ‪ ،‬وقيل ‪ :‬والكفّارة ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة ‪ :‬أنّ النّزع جماع ‪ ،‬فمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع في الحال ‪ ،‬مع‬
‫أوّل طلوع الفجر ‪ ،‬فعليه القضاء والكفّارة ‪ ،‬لنّه يلتذّ بالنّزع ‪ ،‬كما يلت ّذ باليلج ‪ ،‬كما لو‬
‫استدام بعد طلوع الفجر ‪.‬‬
‫ولو مكث بعد طلوع الفجر مجامعا ‪ ،‬بطل صومه ‪ ،‬ولو لم يعلم بطلوعه ‪.‬‬
‫وفي وجوب الكفّارة في المكث والبقاء ‪ ،‬في هذه الحال ‪ ،‬خلف ‪ :‬فظاهر الرّواية ‪ ،‬في‬
‫مذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمذهب عند الشّافعيّة عدم وجوب الكفّارة ‪ ،‬لنّها تجب بإفساد الصّوم ‪،‬‬
‫والصّوم منتف حال الجماع فاستحال إفساده ‪ ،‬فلم تجب الكفّارة ‪.‬‬
‫أو كما قال النّوويّ ‪ :‬لنّ مكثه مسبوق ببطلن الصّوم ‪.‬‬
‫وروي عن أبي يوسف وجوب الكفّارة ‪.‬‬
‫مكروهات الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬يكره للصّائم بوجه عامّ ‪ -‬مع الخلف ‪ -‬ما يلي ‪:‬‬ ‫‪83‬‬

‫أ ‪ -‬ذوق شيء بل عذر ‪ ،‬لما فيه من تعريض الصّوم للفساد ‪ ،‬ولو كان الصّوم نفلً ‪ ،‬على‬
‫المذهب عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّه يحرم إبطال النّفل بعد الشّروع فيه ‪ ،‬وظاهر إطلق الكراهة يفيد‬
‫أنّها تحريميّة ‪.‬‬
‫ومن العذر مضغ الطّعام للولد ‪ ،‬إذا لم تجد المّ منه بدّا ‪ ،‬فل بأس به ‪ ،‬ويكره إذا كان لها‬
‫منه ب ّد ‪.‬‬
‫وليس من العذر ‪ ،‬ذوق اللّبن والعسل لمعرفة الجيّد منه والرّديء عند الشّراء ‪ ،‬فيكره ذلك‬
‫‪ .‬وكذا ذوق الطّعام ‪ ،‬لينظر اعتداله ‪ ،‬ولو كان لصانع الطّعام ‪.‬‬
‫ي أن يجتنب ذوق الطّعام ‪ ،‬فإن فعل فل بأس به ‪،‬‬
‫لكن نقل عن المام أحمد قوله ‪ :‬أحبّ إل ّ‬
‫بل قال بعض الحنابلة ‪ :‬إنّ المنصوص عنه ‪ :‬أنّه ل بأس به لحاجة ومصلحة ‪ ،‬واختاره ابن‬
‫عقيل وغيره وإلّ كره ‪.‬‬
‫وإن وجد طعم المذوق في حلقه أفطر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ويكره مضغ العلك ‪ ،‬الّذي ل يتحلّل منه أجزاءً ‪ ،‬فل يصل منه شيء إلى الجوف ‪.‬‬
‫ل أم امرأةً ‪ ،‬قال عليّ رضي ال تعالى‬
‫ووجه الكراهة ‪ :‬اتّهامه بالفطر ‪ ،‬سواء أكان رج ً‬
‫عنه‪ :‬إيّاك وما يسبق إلى العقول إنكاره ‪ ،‬وإن كان عندك اعتذاره ‪.‬‬
‫أمّا ما يتحلّل منه أجزاء ‪ ،‬فيحرم مضغه ‪ ،‬ولو لم يبتلع ريقه ‪ ،‬إقامةً للمظنّة مقام المئنّة ‪،‬‬
‫ك في الوصول لم يفطر ‪.‬‬
‫فإن تفتّت فوصل شيء منه إلى جوفه عمدا أفطر ‪ ،‬وإن ش ّ‬
‫ج ‪ -‬تكره القبلة إن لم يأمن على نفسه وقوع مفسد من النزال أو الجماع ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪17/‬‬ ‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬تقبيل ف‬
‫د ‪ -‬ويرى جمهور الفقهاء أنّ المباشرة والمعانقة ودواعي الوطء ‪ -‬كاللّمس وتكرار‬
‫النّظر‪ -‬حكمها حكم القبلة فيما تقدّم ‪.‬‬
‫وخصّ الحنفيّة المباشرة الفاحشة ‪ ،‬بالكراهة التّحريميّة ‪ ،‬وهي ‪ -‬عندهم ‪ -‬أن يتعانقا ‪،‬‬
‫ن الصّحيح أنّها تكره ‪ ،‬وإن أمن على‬
‫وهما متجرّدان ‪ ،‬ويمسّ فرجه فرجها ‪ .‬ونصّوا على أ ّ‬
‫نفسه النزال والجماع ‪.‬‬
‫ونقل الطّحاويّ وابن عابدين عدم الخلف في كراهتها ‪ ،‬وكذلك القبلة الفاحشة ‪ ،‬وهي ‪ :‬أن‬
‫يمصّ شفتها ‪ ،‬فيكره على الطلق ‪.‬‬
‫هع – الحجامة ‪ ،‬وهي أيضا ممّا يكره للصّائم – في الجملة – وهي استخراج الدّم المحقن‬
‫من الجسم ‪ ،‬مصّا أو شرطا ‪.‬‬
‫ومذهب الجمهور أنّها ل تفطّر الحاجم ول المحجوم ‪ ،‬ولكنّهم كرهوها بوجه عامّ ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬ل بأس بها ‪ ،‬إن أمن الصّائم على نفسه الضّعف ‪ ،‬أمّا إذا خاف الضّعف ‪،‬‬
‫فإنّها تكره ‪ ،‬وشرط شيخ السلم الكراهة ‪ ،‬إذا كانت تورث ضعفا يحتاج معه إلى الفطر ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ المريض والصّحيح ‪ ،‬إذا علمت سلمتهما بالحجامة أو ظنّت ‪ ،‬جازت‬
‫ك تكره‬
‫ن عدم السّلمة لهما حرّمت لهما ‪ ،‬وفي حالة الشّ ّ‬
‫الحجامة لهما ‪ ،‬وإن علم أو ظ ّ‬
‫للمريض ‪ ،‬وتجوز للصّحيح ‪.‬‬
‫ن محلّ المنع إذا لم يخش بتأخيرها عليل هلكا أو شديد أذىً ‪ ،‬وإلّ وجب فعلها‬
‫قالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫وإن أدّت للفطر ‪ ،‬ول كفّارة عليه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يستحبّ الحتراز من الحجامة ‪ ،‬من الحاجم والمحجوم ‪ ،‬لنّها تضعفه ‪.‬‬
‫قال الشّافعيّ في المّ ‪ :‬لو ترك رجل الحجامة صائما للتّوقّي ‪ ،‬كان أحبّ إليّ ‪ ،‬ولو احتجم لم‬
‫أره يفطره ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬أنّ المحجوم قد يضعف فتلحقه مشقّة ‪ ،‬فيعجز عن الصّوم‬
‫ونقل النّوويّ عن الخطّاب ّ‬
‫فيفطر بسببها ‪ ،‬والحاجم قد يصل إلى جوفه شيء من الدّم ‪.‬‬
‫ودليل عدم الفطار بالحجامة ‪ ،‬حديث ‪ :‬ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما ‪ » :‬أنّ النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم احتجم وهو محرم ‪ ،‬واحتجم وهو صائم « ‪.‬‬
‫ي أنّه قال لنس بن مالك ‪ » :‬أكنتم تكرهون‬
‫ودليل كراهة الحجامة حديث ثابت البنان ّ‬
‫الحجامة للصّائم على عهد النّبيّ صلى ال عليه وسلم ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬إلّ من أجل الضّعف « ‪.‬‬
‫وقالوا أيضا ‪ :‬إنّه دم خارج من البدن ‪ ،‬فأشبه الفصد ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة أنّ الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم ‪ ،‬لحديث رافع بن خديج رضي ال‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬أفطر الحاجم والمحجوم « ‪.‬‬
‫ن النّب ّ‬
‫عنه أ ّ‬
‫قال المرداويّ ‪ :‬ول نعلم أحدا من الصحاب ‪ ،‬فرّق ‪ -‬في الفطر وعدمه ‪ -‬بين الحاجم‬
‫والمحجوم ‪.‬‬
‫ن الحجامة مكروهة في حقّ من كان يضعف بها ‪،‬‬
‫ي ‪ :‬يجمع بين الحاديث ‪ ،‬بأ ّ‬
‫قال الشّوكان ّ‬
‫ق من كان‬
‫وتزداد الكراهة إذا كان الضّعف يبلغ إلى ح ّد يكون سببا للفطار ‪ ،‬ول تكره في ح ّ‬
‫ل يضعف بها ‪ ،‬وعلى كلّ حال تجنّب الحجامة للصّائم أولى ‪.‬‬
‫ق ‪ ،‬وكلّ ما‬
‫أمّا الفصد ‪ ،‬فقد نصّ الحنفيّة على كراهته ‪ ،‬كالحجامة ‪ ،‬وكراهة كلّ عمل شا ّ‬
‫يظنّ أنّه يضعف عن الصّوم ‪ ،‬وكذلك صرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّ الفصادة كالحجامة ‪.‬‬
‫غير أنّ الحنابلة الّذين قالوا ‪ ،‬بالفطر في الحجامة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ل فطر بفصد وشرط ‪ ،‬ول‬
‫ص فيه ‪ ،‬والقياس ل يقتضيه ‪.‬‬
‫بإخراج دمه برعاف ‪ ،‬لنّه ل ن ّ‬
‫وفي قول لهم ‪ -‬اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ‪ -‬إفطار المفصود دون الفاصد ‪ ،‬كما اختار إفطار‬
‫الصّائم ‪ ،‬بإخراج دمه ‪ ،‬برعاف وغيره ‪.‬‬
‫و ‪ -‬وتكره المبالغة في المضمضة والستنشاق في الصّوم ‪.‬‬
‫ففي المضمضة ‪ :‬بإيصال الماء إلى رأس الحلق ‪ ،‬وفي الستنشاق ‪ :‬بإيصاله إلى فوق‬
‫المارن ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال له ‪ » :‬بالغ‬
‫وذلك لحديث لقيط بن صبرة رضي ال عنه أنّ النّب ّ‬
‫في الستنشاق إلّ أن تكون صائما « ‪ ،‬وذلك خشية فساد صومه ‪.‬‬
‫ومن المكروهات الّتي عدّدها المالكيّة ‪ :‬فضول القول والعمل ‪ ،‬وإدخال كلّ رطب له طعم‬
‫‪ -‬في فمه ‪ -‬وإن مجّه ‪ ،‬والكثار من النّوم في النّهار ‪.‬‬
‫ما ل يكره في الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يكره للصّائم ‪ -‬في الجملة ‪ -‬ما يلي ‪ ،‬مع الخلف في بعضها ‪:‬‬ ‫‪84‬‬
‫أ ‪ -‬الكتحال غير مكروه عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬بل أجازوه ‪ ،‬ونصّوا على أنّه ل يفطر به‬
‫ن العين ليست بجوف ‪ ،‬ول منفذ منها‬
‫الصّائم ولو وجد طعمه في حلقه ‪ ،‬قال النّوويّ ‪ :‬ل ّ‬
‫إلى الحلق ‪.‬‬
‫واحتجّوا بحديث عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ » :‬اكتحل رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم وهو صائم « ‪ ،‬وحديث أنس رضي ال تعالى عنه قال ‪ » :‬جاء رجل إلى النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم فقال ‪ :‬اشتكت عيني ‪ ،‬أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال ‪ :‬نعم « ‪.‬‬
‫وتردّد المالكيّة في الكتحال ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن كان ل يتحلّل منه شيء لم يفطر ‪ ،‬وإن تحلّل منه‬
‫شيء أفطر ‪ .‬وقال أبو مصعب ‪ :‬ل يفطر ‪ .‬ومنعه ابن القاسم مطلقا ‪.‬‬
‫ك كره ‪،‬‬
‫وقال أبو الحسن ‪ :‬إن تحقّق أنّه يصل إلى حلقه ‪ ،‬لم يكن له أن يفعله ‪ ،‬وإن ش ّ‬
‫ولْيَ َتمَادَ ‪ -‬أي يستمرّ في صومه ‪ -‬وعليه القضاء ‪ ،‬فإن علم أنّه ل يصل ‪ ،‬فل شيء عليه ‪.‬‬
‫وقال مالك في المدوّنة ‪ :‬إذا دخل حلقه ‪ ،‬وعلم أنّه قد وصل الكحل إلى حلقه ‪ ،‬فعليه القضاء‬
‫ل وهبوطه‬
‫ول كفّارة عليه ‪ .‬وإن تحقّق عدم وصوله للحلق ل شيء عليه ‪ ،‬كاكتحاله لي ً‬
‫نهارا للحلق ‪ ،‬ل شيء عليه في شيء من ذلك ‪.‬‬
‫وهذا أيضا مذهب الحنابلة ‪ ،‬فقد قالوا ‪ :‬إذا اكتحل بما يصل إلى حلقه ويتحقّق الوصول إليه‬
‫فسد صومه ‪ ،‬وهذا الصّحيح من المذهب ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أمر بالثمد المروّح عند النّوم ‪ ،‬وقال ‪ :‬ليتّقه‬
‫واستدلّوا بأنّ النّب ّ‬
‫الصّائم « ولنّ العين منفذ ‪ ،‬لكنّه غير معتاد ‪ ،‬وكالواصل من النف ‪.‬‬
‫ي الدّين أنّه ل يفطر بذلك ‪.‬‬
‫واختار الشّيخ تق ّ‬
‫ب ‪ -‬التّقطير في العين ‪ ،‬ودهن الجفان ‪ ،‬أو وضع دواء مع الدّهن في العين ل يفسد‬
‫الصّوم‪ ،‬لنّه ل ينافيه وإن وجد طعمه في حلقه ‪ ،‬وهو الصحّ عند الحنفيّة ‪ ،‬والظّاهر من‬
‫كلم الشّافعيّة أنّهم يوافقون الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن التّقطير في العين مفسد للصّوم إذا وصل إلى الحلق ‪ ،‬لنّ‬
‫وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫العين منفذ وإن لم يكن معتادا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬دهن الشّارب ونحوه ‪ ،‬كالرّأس والبطن ‪ ،‬ل يفطر بذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ولو‬
‫وصل إلى جوفه بشرب المسامّ ‪ ،‬لنّه لم يصل من منفذ مفتوح ‪ ،‬ولنّه ليس فيه شيء‬
‫ينافي الصّوم ‪ ،‬ولنّه ‪ -‬كما يقول المرغينانيّ ‪ : -‬نوع ارتفاق ‪ ،‬وليس من محظورات‬
‫الصّوم ‪ .‬لكن المالكيّة قالوا ‪ :‬من دهن رأسه نهارا ‪ ،‬ووجد طعمه في حلقه ‪ ،‬أو وضع حنّاء‬
‫في رأسه نهارا ‪ ،‬فاستطعمها في حلقه ‪ ،‬فالمعروف في المذهب وجوب القضاء وإن قال‬
‫الدّردير ‪ :‬ل قضاء عليه ‪ ،‬والقاعدة عندهم ‪ :‬وصول مائع للحلق ‪ ،‬ولو كان من غير الفم ‪،‬‬
‫مع أنّهم قالوا‪ :‬ل قضاء في دهن جائفة ‪ ،‬وهي ‪ :‬الجرح النّافذ للجوف ‪ ،‬لنّه ل يدخل مدخل‬
‫الطّعام ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الستياك ‪ ،‬ل يرى الفقهاء بالستياك بالعود اليابس أوّل النّهار بأسا ‪ ،‬ول يكره عند‬
‫الحنفيّة والمالكيّة بعد الزّوال ‪ ،‬وهو وجه عند الشّافعيّة في النّفل ‪ ،‬ليكون أبعد من الرّياء ‪،‬‬
‫ورواية عند الحنابلة آخر النّهار ‪ .‬بل صرّح الوّلون بسنّيّته آخر النّهار وأوّله ‪ ،‬وذلك‬
‫لحديث عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من‬
‫خير خصال الصّائم السّواك « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ما ل‬
‫ولقول عامر بن ربيعة رضي ال تعالى عنه ‪ » :‬رأيت النّب ّ‬
‫أحصي ‪ ،‬يتسوّك وهو صائم « ‪.‬‬
‫وقد أطلقت هذه الحاديث السّواك ‪ ،‬فيسنّ ولو كان رطبا ‪ ،‬أو مبلولً بالماء ‪ ،‬خلفا لبي‬
‫يوسف في رواية كراهة الرّطب ‪ ،‬ولحمد في رواية كراهة المبلول بالماء ‪ ،‬لحتمال أن‬
‫يتحلّل منه أجزاء إلى حلقه ‪ ،‬فيفطّره ‪ ،‬وروي عن أحمد أنّه ل يكره ‪.‬‬
‫وشرط المالكيّة لجوازه أن ل يتحلّل منه شيء ‪ ،‬فإن تحلّل منه شيء كره ‪ ،‬وإن وصل إلى‬
‫الحلق أفطر ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى سنّيّة ترك السّواك بعد الزّوال ‪ ،‬وإذا استاك فل فرق بين الرّطب‬
‫واليابس ‪ ،‬بشرط أن يحترز عن ابتلع شيء منه أو من رطوبته ‪.‬‬
‫واستحبّ أحمد ترك السّواك بالعشيّ ‪ ،‬وقال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫» خلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك الذفر « لتلك الرّائحة ل يعجبني للصّائم‬
‫أن يستاك بالعشيّ ‪.‬‬
‫وعنه روايتان في الستياك بالعود الرّطب ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬الكراهة ‪ -‬كما تقدّم ‪ -‬والخرى ‪ :‬أنّه ل يكره ‪ ،‬قال ابن قدامة ‪ :‬ولم ير أهل العلم‬
‫بالسّواك أوّل النّهار بأسا ‪ ،‬إذا كان العود يابسا ‪.‬‬
‫هع – المضمضة والستنشاق في غير الوضوء والغسل ل يكره ذلك ول يفطر ‪.‬‬
‫ع فيعه تغريرا‬
‫وقيّده المالكيّعة بمعا إذا كان لعطعش ونحوه ‪ ،‬وكرهوه لغيعر موجعب ‪ ،‬لن ّ‬
‫ومخاطرةً‪ ،‬وذلك لحتمال سبق شيء من الماء إلى الحلق ‪ ،‬فيفسد الصّوم حينئذ ‪.‬‬
‫وفي الحديث عن عمر رضي ال تعالى عنه ‪ » :‬أنّه سأل النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن‬
‫القبلة للصّائم ؟ فقال ‪ :‬أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم ؟ قلت ‪ :‬ل بأس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فمه « ‪.‬‬
‫ولنّ الفم في حكم الظّاهر ‪ ،‬ل يبطل الصّوم بالواصل إليه كالنف والعين ‪.‬‬
‫ومع ذلك ‪ ،‬فقد قال ابن قدامة ‪ :‬إنّ المضمضة ‪ ،‬إن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه‬
‫ونحوه ‪ ،‬فحكمه حكم المضمضة للطّهارة ‪ ،‬وإن كان عابثا ‪ ،‬أو مضمض من أجل العطش‬
‫كره ‪.‬‬
‫ب الماء على رأسه من الحرّ والعطش ‪ ،‬لما روي عن بعض أصحاب رسول‬
‫ول بأس أن يص ّ‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬لقد رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالعرج ‪،‬‬
‫يصبّ الماء على رأسه وهو صائم ‪ ،‬من العطش ‪ ،‬أو من الحرّ « ‪.‬‬
‫وكذا التّلفّف بثوب مبتلّ للتّبرّد ودفع الحرّ على المفتى به ‪ -‬عند الحنفيّة ‪ -‬لهذا الحديث ‪،‬‬
‫ولنّ بهذه عونا له على العبادة ‪ ،‬ودفعا للضّجر والضّيق ‪.‬‬
‫وكرهها أبو حنيفة ‪ ،‬لما فيها من إظهار الضّجر في إقامة العبادة ‪.‬‬
‫و ‪ -‬اغتسال الصّائم ‪ ،‬فل يكره ‪ ،‬ول بأس به حتّى للتّبرّد ‪ ،‬عند الحنفيّة وذلك لما روي عن‬
‫عائشة وأمّ سلمة رضي ال تعالى عنهما قالتا ‪ » :‬نشهد على رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم إن كان ليصبح جنبا ‪ ،‬من غير احتلم ‪ ،‬ثمّ يغتسل ثمّ يصوم « ‪.‬‬
‫وعن ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما أنّه دخل الحمّام وهو صائم هو وأصحاب له في‬
‫شهر رمضان ‪.‬‬
‫وأمّا الغوص في الماء ‪ ،‬إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه ‪ ،‬فل بأس به ‪ ،‬وكرهه بعض‬
‫الفقهاء حال السراف والتّجاوز أو العبث ‪ ،‬خوف فساد الصّوم ‪.‬‬
‫الثار المترتّبة على الفطار ‪:‬‬
‫‪ -‬حصر الفقهاء الثار المترتّبة على الفطار في أمور ‪ ،‬منها ‪ :‬القضاء ‪ ،‬والكفّارة‬ ‫‪85‬‬

‫الكبرى ‪ ،‬والكفّارة الصّغرى ‪ -‬وهذه هي الفدية ‪ -‬والمساك بقيّة النّهار ‪ ،‬وقطع التّتابع ‪،‬‬
‫والعقوبة ‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬القضاء ‪:‬‬
‫‪ -‬من أفطر أيّاما من رمضان ‪ -‬كالمريض والمسافر ‪ -‬قضى بعدّة ما فاته ‪ ،‬لنّ القضاء‬ ‫‪86‬‬

‫ن أَيّامٍ‬
‫سفَرٍ َفعِدّةٌ مّ ْ‬
‫ن مَرِيضا َأوْ عَلَى َ‬
‫يجب أن يكون بعدّة ما فاته ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ومَن كَا َ‬
‫ُأخَرَ } ‪.‬‬
‫ومن فاته صوم رمضان كلّه ‪ ،‬قضى الشّهر كلّه ‪ ،‬سواء ابتدأه من أوّل الشّهر أو من‬
‫أثنائه ‪ ،‬كأعداد الصّلوات الفائتة ‪.‬‬
‫قال البيّ ‪ :‬القضاء لما فات من رمضان بالعدد ‪ :‬فمن أفطر رمضان كلّه ‪ ،‬وكان ثلثين ‪،‬‬
‫وقضاه في شهر بالهلل ‪ ،‬وكان تسعةً وعشرين يوما ‪ ،‬صام يوما آخر ‪ .‬وإن فاته صوم‬
‫رمضان وهو تسعة وعشرون يوما ‪ ،‬وقضاه في شهر ‪ -‬وكان ثلثين يوما ‪ -‬فل يلزمه‬
‫ن أَيّامٍ ُأخَرَ } ‪.‬‬
‫صوم اليوم الخير ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬فعِدّةٌ مّ ْ‬
‫وقال ابن وهب ‪ :‬إن صام بالهلل ‪ ،‬كفاه ما صامه ‪ ،‬ولو كان تسعةً وعشرين ‪ ،‬ورمضان‬
‫ثلثين ‪.‬‬
‫وكذا قال القاضي من الحنابلة ‪ :‬إن قضى شهرا هلليّا أجزأه ‪ ،‬سواء كان تامّا أو ناقصا‬
‫ي‪.‬‬
‫وإن لم يقض شهرا ‪ ،‬صام ثلثين يوما ‪ .‬وهو ظاهر كلم الخرق ّ‬
‫قال المجد ‪ :‬وهو ظاهر كلم المام أحمد وقال ‪ :‬هو أشهر ‪.‬‬
‫ويجوز أن يقضي يوم شتاء عن يوم صيف ‪ ،‬ويجوز عكسه ‪ ،‬بأن يقضي يوم صيف عن‬
‫يوم شتاء ‪ ،‬وهذا لعموم الية المذكورة وإطلقها ‪.‬‬
‫وقضاء رمضان يكون على التّراخي ‪ .‬لكن الجمهور قيّدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه ‪ ،‬بأن‬
‫يهلّ رمضان آخر ‪ ،‬لقول عائشة رضي ال تعالى عنها ‪ » :‬كان يكون عليّ الصّوم من‬
‫رمضان‪ ،‬فما أستطيع أن أقضيه إلّ في شعبان ‪ ،‬لمكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم « ‪ .‬كما‬
‫ل يؤخّر الصّلة الولى إلى الثّانية ‪.‬‬
‫ول يجوز عند الجمهور تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر ‪ ،‬من غير عذر يأثم به ‪،‬‬
‫لحديث عائشة هذا ‪ ،‬فإن أخّر فعليه الفدية ‪ :‬إطعام مسكين لكلّ يوم ‪ ،‬لما روي عن ابن‬
‫عبّاس وابن عمر وأبي هريرة رضي ال عنهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتّى أدركه‬
‫رمضان آخر ‪ :‬عليه القضاء وإطعام مسكين لكلّ يوم ‪ ،‬وهذه الفدية للتّأخير ‪ ،‬أمّا فدية‬
‫المرضع ونحوها فلفضيلة الوقت ‪ ،‬وفدية الهرم لصل الصّوم ‪ ،‬ويجوز الطعام قبل القضاء‬
‫ومعه وبعده ‪.‬‬
‫ومذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو وجه محتمل عند الحنابلة ‪ :‬إطلق التّراخي بل قيد ‪ ،‬فلو جاء‬
‫رمضان آخر ‪ ،‬ولم يقض الفائت ‪ ،‬قدّم صوم الداء على القضاء ‪ ،‬حتّى لو نوى الصّوم عن‬
‫القضاء لم يقع إلّ عن الداء ‪ ،‬ول فدية عليه بالتّأخير إليه ‪ ،‬لطلق النّصّ ‪ ،‬وظاهر قوله‬
‫ن أَيّامٍ ُأخَرَ } ‪.‬‬
‫تعالى ‪َ { :‬فعِدّةٌ مّ ْ‬
‫وعند غير الحنفيّة يحرم التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان ‪ ،‬ول يصحّ تطوّعه بالصّوم قبل‬
‫قضاء ما عليه من رمضان ‪ ،‬بل يبدأ بالفرض حتّى يقضيه ‪ ،‬وإن كان عليه نذر صامه بعد‬
‫ن الصّوم عبادة متكرّرة ‪ ،‬فلم يجز تأخير الولى عن الثّانية ‪ ،‬كالصّلوات‬
‫الفرض ‪ ،‬ل ّ‬
‫المفروضة ‪.‬‬
‫مسائل تتعلّق بالقضاء ‪:‬‬
‫الولى ‪:‬‬
‫‪ -‬إن أخّر قضاء رمضان ‪ -‬وكذا النّذر والكفّارة ‪ -‬لعذر ‪ ،‬بأن استمرّ مرضه أو سفره‬ ‫‪87‬‬

‫المباح إلى موته ‪ ،‬ولم يتمكّن من القضاء ‪ ،‬فل شيء عليه ‪ ،‬ول تدارك للغائب بالفدية ول‬
‫بالقضاء ‪ ،‬لعدم تقصيره ‪ ،‬ول إثم به ‪ ،‬لنّه فرض لم يتمكّن منه إلى الموت ‪ ،‬فسقط حكمه ‪،‬‬
‫كالحجّ ‪ ،‬ولنّه يجوز تأخير رمضان بهذا العذر أداءً ‪ ،‬فتأخير القضاء أولى ‪ ،‬كما يقول‬
‫النّوويّ ‪.‬‬
‫وسواء استمرّ العذر إلى الموت ‪ ،‬أم حصل الموت في رمضان ‪ ،‬ولو بعد زوال العذر كما‬
‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪.‬‬
‫وقال أبو الخطّاب ‪ :‬يحتمل أن يجب الصّوم عنه أو التّكفير‬
‫الثّانية ‪:‬‬
‫‪ -‬لو أفطر بعذر واتّصل العذر بالموت فقد اتّفق الفقهاء على أنّه ل يصام عنه ول كفّارة‬ ‫‪88‬‬

‫فيه ‪ ،‬لنّه فرض لم يتمكّن من فعله إلى الموت فسقط حكمه ‪ ،‬كالحجّ ‪.‬‬
‫أمّا إذا زال العذر وتمكّن من القضاء ‪ ،‬ولم يقض حتّى مات ففيه تفصيل ‪:‬‬
‫ح والجديد‬
‫فذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المذهب ‪ ،‬وهو الص ّ‬
‫عند الشّافعيّة ‪ -‬إلى أنّه ل يصام عنه ‪ ،‬لنّ الصّوم واجب بأصل الشّرع ل يقضى عنه ‪،‬‬
‫لنّه ل تدخله النّيابة في الحياة فكذلك بعد الممات كالصّلة ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في القديم ‪ ،‬وهو المختار عند النّوويّ ‪ ،‬وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة‬
‫إلى أنّه يجوز لوليّه أن يصوم عنه ‪ ،‬زاد الشّافعيّة ‪ :‬ويصحّ ذلك ‪ ،‬ويجزئه عن الطعام ‪،‬‬
‫وتبرأ به ذمّة الميّت ول يلزم الوليّ الصّوم بل هو إلى خيرته ‪ ،‬لحديث عائشة رضي ال‬
‫عنها عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من مات وعليه صيام صام عنه وليّه « ‪.‬‬
‫أمّا في وجوب الفدية فقد اختلفوا فيه على النّحو التّالي ‪:‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬لو أخّر قضاء رمضان بغير عذر ‪ ،‬ثمّ مات قبل رمضان آخر أو بعده ‪ ،‬ولم‬
‫صحّة من المرض وزوال‬
‫يقض لزمه اليصاء بكفّارة ما أفطره بقدر القامة من السّفر وال ّ‬
‫العذر ‪ ،‬ول يجب اليصاء بكفّارة ما أفطره على من مات قبل زوال العذر ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ -‬في الجديد ‪ -‬إلى أنّه يجب في تركته لك ّل يوم مدّ من طعام ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة في المذهب إلى الطعام عنه لكلّ يوم مسكينا ‪.‬‬
‫والظّاهر من مذهب المالكيّة ‪ :‬وجوب م ّد عن كلّ يوم أفطره إذا فرّط ‪ ،‬بأن كان صحيحا‬
‫مقيما خاليا من العذار ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الكفّارة الكبرى ‪:‬‬
‫ي الّذي واقع زوجته في نهار رمضان ‪.‬‬
‫‪ -‬ثبتت الكفّارة الكبرى بالنّصّ في حديث العراب ّ‬ ‫‪89‬‬

‫ول خلف بين الفقهاء في وجوبها بإفساد الصّوم بالوقاع في الجملة ‪ ،‬وإنّما الخلف في‬
‫وجوبها بإفساده بالطّعام والشّراب ‪ :‬فتجب ‪ -‬في الجملة أيضا ‪ -‬بإفساد صوم رمضان‬
‫صةً ‪ ،‬طائعا متعمّدا غير مضط ّر ‪ ،‬قاصدا انتهاك حرمة الصّوم ‪ ،‬من غير سبب مبيح‬
‫خا ّ‬
‫للفطر ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬ولم يكن مكرها ‪ ،‬ولم يطرأ مسقط ‪ ،‬كمرض‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إنّما يكفّر إذا نوى الصّيام لي ً‬
‫وحيض ‪.‬‬
‫فل كفّارة في الفطار في غير رمضان ‪ ،‬ول كفّارة على النّاسي والمكره ‪ -‬عند الجمهور ‪-‬‬
‫ول على النّفساء والحائض والمجنون ‪ ،‬ول على المريض والمسافر ‪ ،‬ول على المرهق‬
‫بالجوع والعطش ‪ ،‬ول على الحامل ‪ ،‬لعذرهم ‪.‬‬
‫ول على المرت ّد ‪ ،‬لنّه هتك حرمة السلم ‪ ،‬ل حرمة الصّيام خصوصا ‪.‬‬
‫فتجب بالجماع عمدا‪ ،‬ل ناسيا ‪ -‬خلفا لحمد وابن الماجشون من المالكيّة ‪ -‬وتجب بالكل‬
‫ي وأحمد ‪ ،‬وتقدّمت موجبات أخرى مختلف فيها ‪ ،‬كالصباح‬
‫والشّرب عمدا ‪ ،‬خلفا للشّافع ّ‬
‫بنيّة الفطر ‪ ،‬ورفض النّيّة نهارا والستقاء العامد ‪ ،‬وابتلع ما ل يغذّي عمدا ‪.‬‬
‫أمّا خصال الكفّارة فهي ‪ :‬العتق والصّيام والطعام ‪ ،‬وهذا بالتّفاق بين الفقهاء ‪ ،‬لحديث أبي‬
‫هريرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ » :‬بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم إذ‬
‫جاءه رجل ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬هلكت ‪ ،‬قال ‪ :‬ما لك ؟ قال ‪ :‬وقعت على امرأتي وأنا‬
‫صائم ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم هل تجد رقبةً تعتقها ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬قال ‪ :‬فهل‬
‫تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬قال ‪ :‬فهل تجد إطعام ستّين مسكينا ؟ قال ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ‪ ،‬أتي النّب ّ‬
‫ل ‪ ،‬قال ‪ :‬فمكث النّب ّ‬
‫وسلم بعَرَقٍ فيها تمر ‪ ،‬قال ‪ :‬أين السّائل ؟ فقال ‪ :‬أنا ‪ ،‬قال ‪ :‬خذ هذا فتصدّق به ‪ ،‬فقال‬
‫الرّجل ‪ :‬على أفقر منّي يا رسول اللّه ‪ ،‬فواللّه ما بين لبتيها ‪ -‬يريد الحرّتين ‪ -‬أهل بيت‬
‫ي صلى ال عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬أطعمه‬
‫أفقر من أهل بيتي ‪ ،‬فضحك النّب ّ‬
‫أهلك « ‪.‬‬
‫قال ابن تيميّة الجدّ في تعليقه على هذا الحديث ‪ :‬وفيه دللة قويّة على التّرتيب ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فكفّارته ككفّارة الظّهار ‪ ،‬لكنّها ثابتة بالكتاب ‪ ،‬وأمّا هذه فبالسّنّة ‪.‬‬
‫وقال الشّوكانيّ ‪ :‬ظاهر الحديث أنّ الكفّارة بالخصال الثّلث على التّرتيب ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه إلى أمر آخر ‪،‬‬
‫ي ‪ :‬لنّ النّب ّ‬
‫قال ابن العرب ّ‬
‫وليس هذا شأن التّخيير ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬إنّ ترتيب الثّاني على الوّل ‪ ،‬والثّالث على الثّاني ‪ ،‬بالفاء يدلّ على عدم‬
‫وقال البيضاو ّ‬
‫التّخيير ‪ ،‬مع كونها في معرض البيان وجواب السّؤال ‪ ،‬فنزل منزلة الشّرط وإلى القول‬
‫بالتّرتيب ذهب الجمهور ‪ .‬وأنّها ككفّارة الظّهار ‪ :‬فيعتق أ ّولً ‪ ،‬فإن لم يجد صام شهرين‬
‫متتابعين ‪ ،‬فإن لم يستطع أطعم ستّين مسكينا ‪ ،‬لهذا الحديث ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الكفّارة الصّغرى ‪:‬‬
‫‪ -‬الكفّارة الصّغرى ‪ :‬هي الفدية ‪ ،‬وتقدّم أنّها م ّد من طعام لمسكين إذا كان من الب ّر ‪ ،‬أو‬ ‫‪90‬‬

‫نصف صاع إذا كان من غيره ‪ ،‬وذلك عن ك ّل يوم ‪ ،‬وهي عند الحنفيّة كالفطرة قدرا ‪،‬‬
‫وتكفي فيها الباحة ‪ ،‬ول يشترط التّمليك هنا ‪ ،‬بخلف الفطرة ‪.‬‬
‫وتجب على من أخّر قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر ‪ ،‬وعلى الحامل والمرضع‬
‫والشّيخ الهرم ‪.‬‬
‫وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬فدية ) ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬المساك لحرمة شهر رمضان ‪:‬‬
‫‪ -‬من لوازم الفطار في رمضان ‪ :‬المساك لحرمة الشّهر ‪ ،‬قال النّوويّ ‪ :‬وهو من‬ ‫‪91‬‬

‫خواصّ رمضان ‪ ،‬كالكفّارة ‪ ،‬فل إمساك على متعدّ بالفطر ‪ ،‬وفي نذر أو قضاء وفيه خلف‬
‫وتفصيل وتفريع في المذاهب الفقهيّة ‪:‬‬
‫فالحنفيّة وضعوا أصلين لهذا المساك ‪:‬‬
‫أوّلهما ‪ :‬أنّ كلّ من صار في آخر النّهار بصفة ‪ ،‬لو كان في أوّل النّهار عليها للزمه‬
‫الصّوم‪ ،‬فعليه المساك ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬كلّ من وجب عليه الصّوم ‪ ،‬لوجود سبب الوجوب والهليّة ‪ ،‬ثمّ تعذّر عليه‬
‫ك مفطرا ‪ ،‬ث ّم تبيّن أنّه من رمضان ‪ ،‬أو‬
‫المضيّ‪ ،‬بأن أفطر متعمّدا ‪ ،‬أو أصبح يوم الشّ ّ‬
‫ن أنّ الفجر لم يطلع ‪ ،‬ث ّم تبيّن طلوعه ‪ ،‬فإنّه يجب عليه المساك تشبّها على‬
‫تسحّر على ظ ّ‬
‫الصحّ ‪ ،‬لنّ الفطر قبيح ‪ ،‬وترك القبيح واجب شرعا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يستحبّ ‪.‬‬
‫وأجمع الحنفيّة على أنّه ل يجب على الحائض والنّفساء والمريض والمسافر هذا المساك ‪.‬‬
‫ك ثمّ تبيّن أنّه من‬
‫وأجمعوا على وجوبه على من أفطر عمدا ‪ ،‬أو خطأً ‪ ،‬أو أفطر يوم الشّ ّ‬
‫رمضان ‪ ،‬وكذا على مسافر أقام ‪ ،‬وحائض ونفساء طهرتا ‪ ،‬ومجنون أفاق ‪ ،‬ومريض صحّ‪،‬‬
‫ي بلغ ‪ ،‬وكافر أسلم ‪.‬‬
‫ومفطر ولو مكرها أو خطأً ‪ ،‬وصب ّ‬
‫وقال ابن جزيّ من المالكيّة ‪ :‬وأمّا إمساك بقيّة اليوم ‪ ،‬فيؤمر به من أفطر في رمضان‬
‫صةً ‪ ،‬عمدا أو نسيانا ‪ ،‬ل من أفطر لعذر مبيح ثمّ زال العذر مع العلم برمضان ‪ ،‬فإنّه ل‬
‫خا ّ‬
‫يندب له المساك ‪ ،‬كمن اضطرّ للفطر في رمضان ‪ ،‬من شدّة جوع أو عطش فأفطر ‪،‬‬
‫وكحائض ونفساء طهرتا نهارا ‪ ،‬ومريض صحّ نهارا ‪ ،‬ومرضع مات ولدها ‪ ،‬ومسافر‬
‫قدم ‪ ،‬ومجنون أفاق ‪ ،‬وصبيّ بلغ نهارا ‪ ،‬فل يندب المساك منهم ‪.‬‬
‫وقيّد العلم برمضان ‪ ،‬احتراز عمّن أفطر ناسيا ‪ ،‬وعمّن أفطر يوم الشّكّ ث ّم ثبت أنّه من‬
‫رمضان ‪ ،‬فإنّه يجب المساك ‪ ،‬كصبيّ بيّت الصّوم ‪ ،‬واستمرّ صائما حتّى بلغ ‪ ،‬فإنّه يجب‬
‫عليه المساك ‪ ،‬لنعقاد صومه له نافل ًة ‪ ،‬أو أفطر ناسيا قبل بلوغه فيجب عليه بعد‬
‫المساك‪ ،‬وإن لم يجب القضاء على الصّبيّ في هاتين الصّورتين ‪.‬‬
‫ن من أكره على الفطر ‪ ،‬فإنّه يجب عليه المساك ‪ ،‬بعد زوال الكراه‬
‫ونصّوا كذلك على أ ّ‬
‫قالوا ‪ :‬لنّ فعله قبل زوال العذر ‪ ،‬ل يتّصف بإباحة ول غيرها ‪.‬‬
‫ونصّوا على أنّه يندب إمساك بقيّة اليوم لمن أسلم ‪ ،‬لتظهر عليه علمة السلم بسرعة ‪،‬‬
‫ولم يجب ‪ ،‬تأليفا له للسلم ‪ ،‬كما ندب قضاؤه ‪ ،‬ولم يجب لذلك ‪.‬‬
‫ن المساك تشبّها من خواصّ رمضان ‪ ،‬كالكفّارة ‪ ،‬وأنّ من‬
‫والشّافعيّة بعد أن نصّوا على أ ّ‬
‫أمسك تشبّها ليس في صوم وضعوا هذه القاعدة ‪ ،‬وهي ‪ :‬أنّ المساك يجب على كلّ متعدّ‬
‫بالفطر في رمضان ‪ ،‬سواء أكل أو ارتدّ أو نوى الخروج من الصّوم ‪ -‬وقلنا إنّه يخرج‬
‫بذلك‪ -‬كما يجب على من نسي النّيّة من اللّيل ‪ ،‬وهو غير واجب على من أبيح له الفطر‬
‫إباحةً حقيق ّيةً ‪ ،‬كالمسافر إذا قدم ‪ ،‬والمريض إذا برئ بقيّة النّهار ‪.‬‬
‫ونظروا بعد ذلك في هذه الحوال ‪:‬‬
‫المريض والمسافر ‪ ،‬اللّذان يباح لهما الفطر ‪ ،‬لهما ثلثة أحوال ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬أن يصبحا صائمين ‪ ،‬ويدوما كذلك إلى زوال العذر ‪ ،‬فالمذهب لزوم إتمام الصّوم ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬أن يزول العذر بعد ما أفطر ‪ ،‬فل يجب المساك ‪ ،‬لكن يستحبّ لحرمة الوقت ‪ -‬كما‬
‫ل يتعرّضا للتّهمة وعقوبة السّلطان ‪ ،‬ولهما الجماع بعد‬
‫يقول المحلّيّ ‪ -‬فإن أكل أخفياه ‪ ،‬لئ ّ‬
‫زوال العذر ‪ ،‬إذا لم تكن المرأة صائمةً ‪ ،‬بأن كانت صغير ًة ‪ ،‬أو طهرت من الحيض ذلك‬
‫اليوم ‪.‬‬
‫الثّالثة ‪ :‬أن يصبحا غير ناويين ‪ ،‬ويزول العذر قبل أن يأكل ‪ ،‬ففي المذهب قولن ‪:‬‬
‫ن من أصبح تاركا للنّيّة فقد أصبح مفطرا ‪ ،‬فكان كما لو‬
‫ل يلزمهما المساك في المذهب ‪ ،‬ل ّ‬
‫أكل وقيل ‪ :‬يلزمهما المساك حرم ًة لليوم ‪.‬‬
‫وإذا أصبح يوم الشّكّ مفطرا غير صائم ‪ ،‬ث ّم ثبت أنّه من رمضان ‪ ،‬فقضاؤه واجب ‪ ،‬ويجب‬
‫إمساكه على الظهر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ل يلزمه ‪ ،‬لعذره ‪.‬‬
‫أمّا لو بان أنّه من رمضان قبل الكل ‪ :‬فقد حكى المتولّي في لزوم المساك القولين ‪ ،‬وجزم‬
‫الماورديّ وجماعة بلزومه ‪.‬‬
‫قال القليوبيّ وهو المعتمد ‪.‬‬
‫وإذا بلغ صبيّ مفطرا أو أفاق مجنون ‪ ،‬أو أسلم كافر أثناء يوم من رمضان ففيه أوجه ‪:‬‬
‫أصحّها أنّه ل يلزمهم إمساك بقيّة النّهار لنّه يلزمهم قضاؤه ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬أنّه يلزمهم ‪ ،‬بناءً‬
‫على لزوم القضاء ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬يلزم الكافر دونهما ‪ ،‬لتقصيره ‪.‬‬
‫والرّابع ‪ :‬يلزم الكافر والصّبيّ لتقصيرهما ‪ ،‬أو لنّهما مأموران على الجملة ‪ -‬كما يقول‬
‫الغزاليّ ‪ -‬دون المجنون ‪.‬‬
‫قال المحلّيّ ‪ :‬لو بلغ الصّبيّ بالنّهار صائما ‪ ،‬بأن نوى ليلً ‪ ،‬وجب عليه إتمامه بل قضاء ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬يستحبّ إتمامه ‪ ،‬ويلزمه القضاء ‪ ،‬لنّه لم ينو الفرض ‪.‬‬
‫والحائض والنّفساء إذا طهرتا في أثناء النّهار ‪ ،‬فالمذهب أنّه ل يلزمهما المساك ‪ ،‬ونقل‬
‫المام التّفاق عليه ‪.‬‬
‫وفي مذهب الحنابلة هذه القاعدة بفروعها ‪:‬‬
‫من صار في أثناء يوم من رمضان أهلً للوجوب لزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه لحرمة‬
‫الوقت ‪ ،‬ولقيام البيّنة فيه بالرّؤية ‪ ،‬ولدراكه جزءا من وقته كالصّلة ‪.‬‬
‫وكذا كلّ من أفطر والصّوم يجب عليه ‪ ،‬فإنّه يلزمه المساك والقضاء ‪ ،‬كالفطر لغير عذر ‪،‬‬
‫ن الشّمس قد غابت ولم تغب ‪،‬‬
‫ن أنّ الفجر لم يطلع وكان قد طلع ‪ ،‬أو يظنّ أ ّ‬
‫ومن أفطر يظ ّ‬
‫أو النّاسي للنّيّة ‪ ،‬فكلّهم يلزمهم المساك ‪ ،‬قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم بينهم فيه اختلفا ‪ .‬أو‬
‫تعمّدت مكلّفة الفطر ‪ ،‬ثمّ حاضت أو نفست ‪ ،‬أو تعمّد الفطر مقيم ثمّ سافر ‪ ،‬فكلّهم يلزمهم‬
‫المساك والقضاء ‪ ،‬لما سبق ‪.‬‬
‫فأمّا من يباح له الفطر في أوّل النّهار ظاهرا وباطنا كالحائض والنّفساء والمسافر والصّبيّ‬
‫والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النّهار ‪ ،‬فطهرت الحائض‬
‫ي ‪ ،‬وأفاق المجنون ‪ ،‬وأسلم الكافر ‪ ،‬وصحّ‬
‫والنّفساء‪ ،‬وأقام المسافر ‪ ،‬وبلغ الصّب ّ‬
‫المريض ‪ ،‬ففيهم روايتان ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬يلزمهم المساك بقيّة اليوم ‪ ،‬لنّه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصّيام ‪ ،‬فإذا‬
‫طرأ بعد الفجر أوجب المساك ‪ ،‬كقيام البيّنة بالرّؤية ‪.‬‬
‫واقتصر على موجب هذه الرّواية البهوتيّ ‪ ،‬في كشّافه وروضه ‪.‬‬
‫والخرى ‪ :‬ل يلزمهم المساك ‪ ،‬لنّه روي عن ابن مسعود رضي ال تعالى عنه أنّه قال ‪:‬‬
‫من أكل أوّل النّهار ‪ ،‬فليأكل آخره ‪.‬‬
‫ولنّه أبيح له الفطر أوّل النّهار ظاهرا وباطنا ‪ ،‬فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر‬
‫النّهار ‪ ،‬كما لو دام العذر ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬فإذا جامع أحد هؤلء ‪ ،‬بعد زوال عذره ‪ ،‬انبنى على الرّوايتين ‪ ،‬في‬
‫وجوب المساك ‪:‬‬
‫‪ -‬فإن قلنا ‪ :‬يلزمه المساك ‪ ،‬فحكمه حكم من قامت البيّنة بالرّؤية في حقّه إذا جامع ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬وإن قلنا ‪ :‬ل يلزمه المساك ‪ ،‬فل شيء عليه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وقد روي عن جابر بن يزيد ‪ :‬أنّه قدم من سفره فوجد امرأته قد طهرت من حيض ‪،‬‬
‫فأصابها ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬العقوبة ‪:‬‬
‫‪ -‬يراد بالعقوبة هنا ‪ :‬الجزاء المترتّب على من أفطر عمدا في رمضان من غير عذر ‪،‬‬ ‫‪92‬‬

‫فهي من لوازم الفطار وموجباته ‪.‬‬


‫وفي عقوبة المفطر العامد ‪ ،‬من غير عذر ‪ ،‬خلف وتفصيل ‪:‬‬
‫فمذهب الحنفيّة أنّ تارك الصّوم كتارك الصّلة ‪ ،‬إذا كان عمدا كسلً ‪ ،‬فإنّه يحبس حتّى‬
‫يصوم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يضرب في حبسه ‪ ،‬ول يقتل إلّ إذا جحد الصّوم أو الصّلة ‪ ،‬أو استخفّ‬
‫بأحدهما ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين عن الشرنبللي ‪ ،‬أنّه لو تعمّد من ل عذر له الكل جهارا يقتل ‪ ،‬لنّه‬
‫مستهزئ بالدّين ‪ ،‬أو منكر لما ثبت منه بالضّرورة ‪ ،‬ول خلف في حلّ قتله ‪ ،‬والمر به ‪.‬‬
‫وأطلق ابن جزيّ من المالكيّة في العقوبة قوله ‪ :‬هي للمنتهك لصوم رمضان ‪.‬‬
‫وقال خليل ‪ :‬أدّب المفطر عمدا ‪.‬‬
‫ن من أفطر في أداء رمضان عمدا اختيارا بل تأويل قريب ‪ ،‬يؤدّب‬
‫وكتب عليه الشّرّاح ‪ :‬أ ّ‬
‫بما يراه الحاكم ‪ :‬من ضرب أو سجن أو بهما معا ‪ ،‬ثمّ إن كان فطره بما يوجب الحدّ ‪،‬‬
‫كزنىً وشرب خمر ‪ ،‬ح ّد مع الدب ‪ ،‬وقدّم الدب ‪.‬‬
‫وإن كان فطره يوجب رجما ‪ ،‬قدّم الدب ‪ ،‬واستظهر المسناويّ سقوط الدب بالرّجم ‪ ،‬لتيان‬
‫القتل على الجميع ‪.‬‬
‫ومفهومه ‪ :‬أنّه إن كان الحدّ جلدا ‪ ،‬فإنّه يقدّم على الدب ‪ -‬كما قال الدّسوقيّ ‪ -‬فإن جاء‬
‫المفطر عمدا ‪ ،‬قبل الطّلع عليه ‪ ،‬حال كونه تائبا ‪ ،‬قبل الظّهور عليه ‪ ،‬فل يؤدّب ‪.‬‬
‫والشّافعيّة نصّوا ‪ -‬بتفصيل ‪ -‬على أنّ من ترك صوم رمضان ‪ ،‬غير جاحد ‪ ،‬من غير عذر‬
‫ي ‪ ،‬ولكن ل أصوم حبس ‪ ،‬ومنع من الطّعام‬
‫كمرض وسفر ‪ ،‬كأن قال ‪ :‬الصّوم واجب عل ّ‬
‫والشّراب نهارا ‪ ،‬ليحصل له صورة الصّوم بذلك ‪.‬‬
‫ن وجوب صوم رمضان معلوم من أدلّة الدّين‬
‫قالوا ‪ :‬وأمّا من جحد وجوبه فهو كافر ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالضّرورة ‪ :‬أي علما صار كالضّروريّ في عدم خفائه على أحد ‪ ،‬وكونه ظاهرا بين‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬قطع التّتابع ‪:‬‬
‫‪ -‬التّتابع هو ‪ :‬الموالة بين أيّام الصّيام ‪ ،‬بحيث ل يفطر فيها ول يصوم عن غير‬ ‫‪93‬‬

‫الكفّارة ‪.‬‬
‫تتأثّر مدّة الصّوم الّتي يشترط فيها التّتابع نصّا ‪ ،‬بالفطر المتعمّد ‪ ،‬وهي ‪ -‬بعدّ الكاسانيّ ‪-‬‬
‫‪ :‬صوم رمضان ‪ ،‬وصوم كفّارة القتل ‪ ،‬وكفّارة الظّهار ‪ ،‬والفطار العامد في رمضان ‪،‬‬
‫وصوم كفّارة اليمين ‪ -‬عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫صوم المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من اشتبهت عليه الشّهور ل يسقط عنه صوم رمضان ‪،‬‬ ‫‪94‬‬

‫بل يجب لبقاء التّكليف وتوجّه الخطاب ‪.‬‬


‫فإذا أخبره الثّقات بدخول شهر الصّوم عن مشاهدة أو علم وجب عليه العمل بخبرهم ‪ ،‬وإن‬
‫أخبروه عن اجتهاد منهم فل يجب عليه العمل بذلك ‪ ،‬بل يجتهد بنفسه في معرفة الشّهر بما‬
‫يغلب على ظنّه ‪ ،‬ويصوم مع النّيّة ول يقلّد مجتهدا مثله ‪.‬‬
‫فإن صام المحبوس المشتبه عليه بغير تح ّر ول اجتهاد ووافق الوقت لم يجزئه ‪ ،‬وتلزمه‬
‫إعادة الصّوم لتقصيره وتركه الجتهاد الواجب باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬وإن اجتهد وصام فل يخلو‬
‫المر من خمسة أحوال ‪:‬‬
‫الحال الولى ‪ :‬استمرار الشكال وعدم انكشافه له ‪ ،‬بحيث ل يعلم أنّ صومه صادف‬
‫رمضان أو تقدّم أو تأخّر ‪ ،‬فهذا يجزئه صومه ول إعادة عليه في قول الحنفيّة والشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪ ،‬والمعتمد عند المالكيّة ‪ ،‬لنّه بذل وسعه ول يكلّف بغير ذلك ‪ ،‬كما لو صلّى في‬
‫يوم الغيم بالجتهاد ‪ ،‬وقال ابن القاسم من المالكيّة ‪ :‬ل يجزيه الصّوم ‪ ،‬لحتمال وقوعه قبل‬
‫وقت رمضان ‪.‬‬
‫الحال الثّانية ‪ :‬أن يوافق صوم المحبوس شهر رمضان فيجزيه ذلك عند جمهور الفقهاء ‪،‬‬
‫قياسا على من اجتهد في القبلة ‪ ،‬ووافقها ‪ ،‬وقال بعض المالكيّة ‪ :‬ل يجزيه لقيامه على‬
‫الشّكّ ‪ ،‬لكن المعتمد الوّل ‪.‬‬
‫الحال الثّالثة ‪ :‬إذا وافق صوم المحبوس ما بعد رمضان فيجزيه عند جماهير الفقهاء ‪ ،‬إلّ‬
‫بعض المالكيّة كما تقدّم آنفا ‪ ،‬واختلف القائلون بالجزاء ‪ :‬هل يكون صومه أداءً أو‬
‫قضاءً ؟ وجهان ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إن وافق بعض صومه أيّاما يحرم صومها كالعيدين والتّشريق‬
‫يقضيها ‪ .‬الحال الرّابعة ‪ :‬وهي وجهان ‪:‬‬
‫الوجه الوّل ‪ :‬إذا وافق صومه ما قبل رمضان وتبيّن له ذلك ولمّا يأت رمضان لزمه صومه‬
‫إذا جاء بل خلف ‪ ،‬لتمكّنه منه في وقته ‪.‬‬
‫الوجه الثّاني ‪ :‬إذا وافق صومه ما قبل رمضان ولم يتبيّن له ذلك إلّ بعد انقضائه ففي‬
‫إجزائه قولن ‪:‬‬
‫القول الوّل ‪ :‬ل يجزيه عن رمضان بل يجب عليه قضاؤه ‪ ،‬وهذا مذهب المالكيّة‬
‫والحنابلة ‪ ،‬والمعتمد عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫القول الثّاني ‪ :‬يجزئه عن رمضان ‪ ،‬كما لو اشتبه على الحجّاج يوم عرفة فوقفوا قبله ‪،‬‬
‫وهو قول بعض الشّافعيّة ‪.‬‬
‫الحال الخامسة ‪ :‬أن يوافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض ‪ ،‬فما وافق رمضان‬
‫أو بعده أجزأه ‪ ،‬وما وافق قبله لم يجزئه ‪ ،‬ويراعى في ذلك أقوال الفقهاء المتقدّمة ‪.‬‬
‫والمحبوس إذا صام تطوّعا أو نذرا فوافق رمضان لم يسقط عنه صومه في تلك السّنة ‪،‬‬
‫لنعدام نيّة صوم الفريضة ‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إنّ ذلك يجزيه ويسقط عنه الصّوم في تلك السّنة ‪ ،‬لنّ شهر رمضان ظرف‬
‫ل يسع غير صوم فريضة رمضان ‪ ،‬فل يزاحمها التّطوّع والنّذر ‪.‬‬
‫صوم المحبوس إذا اشتبه عليه نهار رمضان بليله ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم يعرف السير أو المحبوس في رمضان النّهار من اللّيل ‪ ،‬واستمرّت عليه‬ ‫‪95‬‬

‫الظّلمة ‪ ،‬فقد قال النّوويّ ‪ :‬هذه مسألة مهمّة قلّ من ذكرها ‪ ،‬وفيها ثلثة أوجه للصّواب ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬يصوم ويقضي لنّه عذر نادر ‪.‬‬
‫ن الجزم بالنّيّة ل يتحقّق مع جهالة الوقت ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ل يصوم ‪ ،‬ل ّ‬
‫الثّالث ‪ :‬يتحرّى ويصوم ول يقضي إذا لم يظهر خطؤه فيما بعد ‪ ،‬وهذا هو الرّاجح ‪.‬‬
‫ونقل النّوويّ وجوب القضاء على المحبوس الصّائم بالجتهاد إذا صادف صومه اللّيل ثمّ‬
‫ن اللّيل ليس وقتا‬
‫عرف ذلك فيما بعد ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّ هذا ليس موضع خلف بين العلماء ‪ ،‬ل ّ‬
‫للصّوم كيوم العيد ‪.‬‬

‫صوْمُ التّطوّع *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّوم لغةً ‪ :‬مطلق المساك ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬إمساك عن المفطرات حقيقةً أو حكما في وقت مخصوص من شخص‬


‫مخصوص مع النّيّة ‪.‬‬
‫والتّطوّع اصطلحا ‪ :‬التّقرّب إلى اللّه تعالى بما ليس بفرض من العبادات ‪.‬‬
‫وصوم التّطوّع ‪ :‬التّقرّب إلى اللّه تعالى بما ليس بفرض من الصّوم ‪.‬‬
‫فضل صوم التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ -‬ورد في فضل صوم التّطوّع أحاديث كثيرة ‪ ،‬منها ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ن في الجنّة بابا‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إ ّ‬
‫حديث سهل رضي ال تعالى عنه عن النّب ّ‬
‫يقال له ‪ :‬الرّيّان ‪ ،‬يدخل منه الصّائمون يوم القيامة ‪ ،‬ل يدخل منه أحد غيرهم ‪ .‬فيقال ‪:‬‬
‫أين الصّائمون ؟ فيقومون ‪ ،‬ل يدخل منه أحد غيرهم ‪ .‬فإذا دخلوا أغلق ‪ ،‬فلم يدخل منه‬
‫أحد «‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬من صام يوما في سبيل اللّه‬
‫ومنها ما روي عن النّب ّ‬
‫باعد اللّه تعالى وجهه عن النّار سبعين خريفا « ‪.‬‬
‫أنواع صوم التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ -‬قسّم الحنفيّة صوم التّطوّع إلى مسنون ‪ ،‬ومندوب ‪ ،‬ونفل ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫فالمسنون ‪ :‬عاشوراء مع تاسوعاء ‪.‬‬


‫والمندوب ‪ :‬صوم ثلثة أيّام من كلّ شهر ‪ ،‬وصوم يوم الثنين والخميس ‪ ،‬وصوم ستّ من‬
‫شوّال ‪ ،‬وكلّ صوم ثبت طلبه والوعد عليه ‪ :‬كصوم داود عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ونحوه ‪.‬‬
‫والنّفل ‪ :‬ما سوى ذلك ممّا لم تثبت كراهته ‪.‬‬
‫وقسّم المالكيّة ‪ -‬أيضا ‪ -‬صوم التّطوّع إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫سنّة ‪ ،‬ومستحبّ ‪ ،‬ونافلة ‪.‬‬
‫فالسّنّة ‪ :‬صيام يوم عاشوراء ‪.‬‬
‫والمستحبّ ‪ :‬صيام الشهر الحرم ‪ ،‬وشعبان ‪ ،‬والعشر الول من ذي الحجّة ‪ ،‬ويوم عرفة ‪،‬‬
‫وستّة أيّام من شوّال ‪ ،‬وثلثة أيّام من كلّ شهر ‪ ،‬ويوم الثنين والخميس ‪.‬‬
‫والنّافلة ‪ :‬كلّ صوم لغير وقت ول سبب ‪ ،‬في غير اليّام الّتي يجب صومها أو يمنع ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬صوم التّطوّع والصّوم المسنون بمرتبة واحدة ‪.‬‬
‫أحكام ال ّنيّة في صوم التّطوّع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬وقت ال ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى أنّه ل يشترط تبييت النّيّة‬ ‫‪4‬‬

‫ي رسول اللّه‬
‫في صوم التّطوّع ‪ ،‬لحديث عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ » :‬دخل عل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ذات يوم فقال ‪ :‬هل عندكم شيء ؟ فقلنا ‪:‬ل ‪ ،‬فقال ‪ :‬فإنّي إذا صائم‬
‫« وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط في نيّة صوم التّطوّع التّبييت كالفرض ‪.‬‬
‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من لم يبيّت الصّيام من اللّيل فل صيام له « فل تكفي‬
‫ن النّيّة ‪ :‬القصد ‪ ،‬وقصد الماضي محال عقلً ‪.‬‬
‫النّيّة بعد الفجر ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ -5‬واختلف جمهور الفقهاء في آخر وقت نيّة التّطوّع ‪:‬‬
‫فذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أنّ آخر وقت نيّة صوم التّطوّع الضّحوة الكبرى ‪ .‬والمراد بها ‪ :‬نصف‬
‫ي ‪ ،‬والنّهار الشّرعيّ ‪ :‬من استطارة الضّوء في أفق المشرق إلى غروب‬
‫النّهار الشّرع ّ‬
‫الشّمس ‪ ،‬ونصّوا على أنّه ل ب ّد من وقوع النّيّة قبل الضّحوة الكبرى ‪ ،‬فل تجزئ النّيّة عند‬
‫ي‪.‬‬
‫الضّحوة الكبرى اعتبارا لكثر اليوم كما قال الحصكف ّ‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّ آخر وقت نيّة صوم التّطوّع قبل الزّوال ‪ ،‬واختصّ بما قبل الزّوال‬
‫ن النّبيّ ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قال لعائشة يوما ‪ :‬هل عندكم شيء ؟‬
‫لما روي ‪ »:‬أ ّ‬
‫قالت‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬فإنّي إذن صائم « ‪ .‬إذ الغداء اسم لما يؤكل قبل الزّوال ‪ ،‬والعشاء اسم لما‬
‫يؤكل بعده ‪ ،‬ولنّه مضبوط بيّن ‪ ،‬ولدراك معظم النّهار به كما في ركعة المسبوق ‪.‬‬
‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬وهذا جرى على الغالب ممّن يريد صوم النّفل وإلّ فلو نوى قبل‬
‫ح صومه ‪.‬‬
‫الزّوال ‪ -‬وقد مضى معظم النّهار ‪ -‬ص ّ‬
‫وذهب الحنابلة ‪ -‬والشّافعيّة في قول مرجوح ‪ -‬إلى امتداد وقت النّيّة إلى ما بعد الزّوال ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬إنّه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة ‪ ،‬ولم ينقل عن أحد من الصّحابة ‪ -‬رضي ال‬
‫عنهم ‪ -‬ما يخالفه صريحا ‪ ،‬ولنّ النّيّة وجدت في جزء النّهار ‪ ،‬فأشبه وجودها قبل الزّوال‬
‫بلحظة ‪.‬‬
‫ويشترط لصحّة نيّة النّفل في النّهار ‪ :‬أن ل يكون فعل ما يفطره قبل النّيّة ‪ ،‬فإن فعل فل‬
‫يجزئه الصّوم حينئذ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعيين ال ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه ل يشترط في نيّة صوم التّطوّع التّعيين ‪ ،‬فيصحّ صوم التّطوّع‬ ‫‪6‬‬

‫بمطلق النّيّة ‪ ،‬وقال النّوويّ ‪ :‬وينبغي أن يشترط التّعيين في الصّوم المرتّب ‪ ،‬كصوم‬
‫عرفة ‪ ،‬وعاشوراء ‪ ،‬واليّام البيض ‪ ،‬والسّتّة من شوّال ‪ ،‬ونحوها ‪ ،‬كما يشترط ذلك في‬
‫الرّواتب من نوافل الصّلة ‪.‬‬
‫ن الصّوم في‬
‫والمعتمد عند الشّافعيّة خلف ما صرّح به النّوويّ ‪ ،‬قال المحلّيّ ‪ :‬ويجاب بأ ّ‬
‫اليّام المذكورة منصرف إليها ‪ ،‬بل لو نوى به غيرها حصلت أيضا ‪ -‬كتحيّة المسجد ‪ -‬لنّ‬
‫صحّة ‪ ،‬وإن‬
‫المقصود وجود الصّوم فيها ‪ ،‬قال القليوبيّ ‪ :‬هذا الجواب معتمد من حيث ال ّ‬
‫كان التّعيين أولى مطلقا ‪.‬‬
‫ما يستحبّ صيامه من اليّام ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬صوم يوم وإفطار يوم ‪:‬‬
‫‪ -‬من صيام التّطوّع صوم يوم وإفطار يوم ‪ ،‬وهو أفضل صيام التّطوّع ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى‬ ‫‪7‬‬

‫ال عليه وسلم ‪ » :‬أحبّ الصّلة إلى اللّه صلة داود عليه السلم ‪ ،‬وأحبّ الصّيام إلى اللّه‬
‫صيام داود ‪ :‬وكان ينام نصف اللّيل ‪ ،‬ويقوم ثلثه ‪ ،‬وينام سدسه ‪ ،‬ويصوم يوما ويفطر‬
‫يوما« ‪.‬‬
‫ولقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم لعبد اللّه بن عمرو رضي ال عنهما ‪ » :‬صم يوما‬
‫وأفطر يوما ‪ ،‬فذلك صيام داود عليه السلم ‪ ،‬وهو أفضل الصّيام ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إنّي أطيق أفضل‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل أفضل من ذلك « ‪.‬‬
‫من ذلك‪ .‬فقال النّب ّ‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬لكنّه مشروط بأن ل يضعف البدن حتّى يعجز عمّا هو أفضل من الصّيام ‪،‬‬
‫كالقيام بحقوق اللّه تعالى وحقوق عباده اللزمة ‪ ،‬وإلّ فتركه أفضل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬صوم عاشوراء وتاسوعاء ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على سنّيّة صوم عاشوراء وتاسوعاء ‪ -‬وهما ‪ :‬اليوم العاشر ‪ ،‬والتّاسع‬ ‫‪8‬‬

‫من المحرّم ‪ -‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم في صوم عاشوراء ‪ » :‬أحتسب على اللّه‬
‫أن يكفّر السّنة الّتي قبله « ‪.‬‬
‫ولحديث معاوية رضي ال عنه قال ‪ :‬سمعت النّبيّ صلى ال عليه وسلم يقول ‪ » :‬هذا يوم‬
‫عاشوراء ‪ ،‬ولم يكتب اللّه عليكم صيامه ‪ ،‬وأنا صائم ‪ ،‬فمن شاء فليصم ‪ ،‬ومن شاء‬
‫فليفطر« ‪.‬‬
‫ن التّاسع « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬لئن بقيت إلى قابل لصوم ّ‬
‫وقول النّب ّ‬
‫وقد كان صوم يوم عاشوراء فرضا في السلم ‪ ،‬ث ّم نسخت فرضيّته بصوم رمضان ‪ ،‬فخيّر‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم المسلمين في صومه ‪ ،‬وهو اختيار كثيرين واختيار الشّيخ تقيّ‬
‫الدّين من الحنابلة ‪ ،‬وهو الّذي قاله الصوليّون ‪.‬‬
‫وصوم يوم عاشوراء ‪ -‬كما سبق في الحديث الشّريف ‪ -‬يكفّر ذنوب سنة ماضية ‪ .‬والمراد‬
‫بالذّنوب ‪ :‬الصّغائر ‪ ،‬قال الدّسوقيّ ‪ :‬فإن لم يكن صغائر ‪ ،‬حتّت من كبائر سنة ‪ ،‬وذلك‬
‫التّحتيت موكول لفضل اللّه ‪ ،‬فإن لم يكن كبائر رفع له درجات ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬قال النّوويّ في شرح مسلم عن العلماء ‪ :‬المراد كفّارة الصّغائر ‪ ،‬فإن لم‬
‫وقال البهوت ّ‬
‫تكن له صغائر رجي التّخفيف من الكبائر ‪ ،‬فإن لم تكن له كبائر رفع له درجات ‪.‬‬
‫وصرّح الحنفيّة ‪ :‬بكراهة صوم يوم عاشوراء منفردا عن التّاسع ‪ ،‬أو عن الحادي عشر ‪.‬‬
‫كما صرّح الحنابلة ‪ :‬بأنّه ل يكره إفراد عاشوراء بالصّوم ‪ ،‬وهذا ما يفهم من مذهب‬
‫المالكيّة‪.‬‬
‫قال الحطّاب ‪ :‬قال الشّيخ زرّوق في شرح القرطبيّة ‪ :‬واستحبّ بعض العلماء صوم يوم قبله‬
‫ويوم بعده ‪ ،‬وهذا الّذي ذكره عن بعض العلماء غريب لم أقف عليه ‪.‬‬
‫وذكر العلماء في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجها ‪:‬‬
‫ن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر ‪ ،‬وهو مرويّ عن ابن‬
‫أحدها ‪ :‬أ ّ‬
‫عبّاس رضي ال عنهما فقد روي عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪» :‬‬
‫صوموا يوم عاشوراء ‪ ،‬وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما أو بعده يوما « ‪.‬‬
‫ن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم ‪ ،‬كما نهى أن يصوم يوم الجمعة وحده ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫الثّالث ‪ :‬الحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلل ووقوع الغلط ‪ ،‬فيكون التّاسع في‬
‫العدد هو العاشر في نفس المر ‪.‬‬
‫واستحبّ الحنفيّة والشّافعيّة صوم الحادي عشر ‪ ،‬إن لم يصم التّاسع ‪.‬‬
‫ص الشّافعيّ في المّ والملء على استحباب صوم الثّلثة ‪.‬‬
‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬بل ن ّ‬
‫ج ‪ -‬صوم يوم عرفة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاجّ ‪ -‬وهو ‪ :‬اليوم التّاسع من ذي‬ ‫‪9‬‬

‫الحجّة ‪ -‬وصومه يكفّر سنتين ‪ :‬سن ًة ماضيةً ‪ ،‬وسنةً مستقبلةً ‪ ،‬روى أبو قتادة رضي ال‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬صيام يوم عرفة ‪ ،‬أحتسب على اللّه أن‬
‫تعالى عنه أنّ النّب ّ‬
‫يكفّر السّنة الّتي قبله ‪ ،‬والسّنة الّتي بعده « ‪.‬‬
‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬وهو أفضل اليّام لحديث مسلم ‪ » :‬ما من يوم أكثر من أن يعتق‬
‫اللّه فيه عبدا من النّار من يوم عرفة « ‪.‬‬
‫ج ‪ ،‬ولو‬
‫وذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى عدم استحبابه للحا ّ‬
‫كان قويّا ‪ ،‬وصومه مكروه له عند المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وخلف الولى عند الشّافعيّة ‪ ،‬لما‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫روت أمّ الفضل بنت الحارث رضي ال عنهما ‪ » :‬أنّها أرسلت إلى النّب ّ‬
‫وسلم بقدح لبن ‪ ،‬وهو واقف على بعيره بعرفة ‪ ،‬فشرب « ‪.‬‬
‫وعن ابن عمر رضي ال عنهما ‪ » :‬أنّه حجّ مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم ثمّ أبي بكر ‪،‬‬
‫ثمّ عمر ‪ ،‬ثمّ عثمان ‪ ،‬فلم يصمه أحد منهم « ‪ ،‬لنّه يضعفه عن الوقوف والدّعاء ‪ ،‬فكان‬
‫تركه أفضل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬لنّهم أضياف اللّه وزوّاره ‪.‬‬
‫ج لم‬
‫ن صومه لحا ّ‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬ويسنّ فطره للمسافر والمريض مطلقا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يس ّ‬
‫ل ‪ ،‬لفقد العلّة ‪.‬‬
‫يصل عرفة إلّ لي ً‬
‫وذهب الحنفيّة إلى استحبابه للحاجّ ‪ -‬أيضا ‪ -‬إذا لم يضعفه عن الوقوف بعرفات ول يخلّ‬
‫بالدّعوات ‪ ،‬فلو أضعفه كره له الصّوم ‪.‬‬
‫د ‪ -‬صوم الثّمانية من ذي الحجّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على استحباب صوم اليّام الثّمانية الّتي من أوّل ذي الحجّة قبل يوم‬ ‫‪10‬‬

‫عرفة ‪ ،‬لحديث ابن عبّاس ‪ :‬رضي ال تعالى عنهما مرفوعا ‪ » :‬ما من أيّام العمل الصّالح‬
‫فيها أحبّ إلى اللّه من هذه اليّام ‪ -‬يعني أيّام العشر ‪ -‬قالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ول الجهاد في‬
‫سبيل اللّه ؟ قال ‪ :‬ول الجهاد في سبيل اللّه ‪ ،‬إلّ رجل خرج بنفسه وماله ‪ ،‬فلم يرجع من‬
‫ذلك بشيء « ‪.‬‬
‫قال الحنابلة ‪ :‬وآكده ‪ :‬الثّامن ‪ ،‬وهو يوم التّروية ‪.‬‬
‫ن صوم يوم التّروية يكفّر سنةً ماضيةً ‪.‬‬
‫وصرّح المالكيّة ‪ :‬بأ ّ‬
‫ج أيضا ‪.‬‬
‫وصرّح المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ :‬بأنّه يسنّ صوم هذه اليّام للحا ّ‬
‫واستثنى المالكيّة من ذلك صيام يوم التّروية للحاجّ ‪.‬‬
‫ج أن يصوم بمنىً وعرفة تطوّعا ‪.‬‬
‫قال في المتيطيّة ‪ :‬ويكره للحا ّ‬
‫ى يعني في يوم التّروية ‪ ،‬يسمّى عند المغاربة ‪ :‬يوم منىً ‪.‬‬
‫قال الحطّاب ‪ :‬بمن ً‬
‫هع – صوم ستّة أيّام من شوّال ‪:‬‬
‫– ذهب جمهور الفقهاء – المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ومتأخّرو الحنفيّة – إلى أنّه‬ ‫‪11‬‬

‫يسنّ صوم ستّة أيّام من شوّال بعد صوم رمضان ‪ ،‬لما روى أبو أيّوب رضي ال تعالى عنه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من صام رمضان ‪ ،‬ثمّ أتبعه ستّا من شوّال ‪ ،‬كان‬
‫قال ‪ :‬قال النّب ّ‬
‫كصيام الدّهر « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬صيام شهر‬
‫وعن ثوبان رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال النّب ّ‬
‫رمضان بعشرة أشهر وستّة أيّام بعدهنّ بشهرين ‪ ،‬فذلك تمام سنة « يعني ‪ :‬أنّ الحسنة‬
‫بعشرة أمثالها ‪ :‬الشّهر بعشرة أشهر ‪ ،‬واليّام السّتّة بستّين يوما ‪ ،‬فذلك سنة كاملة ‪.‬‬
‫ن صوم ستّة أيّام من شوّال ‪ -‬بعد رمضان ‪ -‬يعدل صيام‬
‫وصرّح الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ :‬بأ ّ‬
‫ن الحسنة بعشرة أمثالها ‪.‬‬
‫سنة فرضا ‪ ،‬وإلّ فل يختصّ ذلك برمضان وستّة من شوّال ‪ ،‬ل ّ‬
‫ونقل عن أبي حنيفة ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬كراهة صوم ستّة من شوّال ‪ ،‬متفرّقا كان أو‬
‫متتابعا ‪.‬‬
‫وعن أبي يوسف ‪ :‬كراهته متتابعا ‪ ،‬ل متفرّقا ‪ .‬لكن عامّة المتأخّرين من الحنفيّة لم يروا‬
‫به بأسا ‪.‬‬
‫ل عن صاحب الهداية في كتابه التّجنيس ‪ :‬والمختار أنّه ل بأس به ‪،‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ ،‬نق ً‬
‫لنّ الكراهة إنّما كانت لنّه ل يؤمن من أن يعدّ ذلك من رمضان ‪ ،‬فيكون تشبّها‬
‫ي محلّ الكراهة ‪ :‬أن يصوم يوم‬
‫بالنّصارى ‪ ،‬والن زال ذلك المعنى ‪ ،‬واعتبر الكاسان ّ‬
‫الفطر ‪ ،‬ويصوم بعده خمسة أيّام ‪ ،‬فأمّا إذا أفطر يوم العيد ثمّ صام بعده ستّة أيّام فليس‬
‫بمكروه ‪ ،‬بل هو مستحبّ وسنّة ‪.‬‬
‫وكره المالكيّة صومها لمقتدىً به ‪ ،‬ولمن خيف عليه اعتقاد وجوبها ‪ ،‬إن صامها متّصلةً‬
‫برمضان متتابعةً وأظهرها ‪ ،‬أو كان يعتقد سنّيّة اتّصالها ‪ ،‬فإن انتفت هذه القيود استحبّ‬
‫صيامها ‪.‬‬
‫قال الحطّاب ‪ :‬قال في المقدّمات ‪ :‬كره مالك ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬ذلك مخافة أن يلحق‬
‫برمضان ما ليس منه من أهل الجهالة والجفاء ‪ ،‬وأمّا الرّجل في خاصّة نفسه فل يكره له‬
‫صيامها ‪.‬‬
‫وصرّح الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ :‬بأنّه ل تحصل الفضيلة بصيام السّتّة في غير شوّال ‪ ،‬وتفوت‬
‫بفواته ‪ ،‬لظاهر الخبار ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة ‪ :‬استحباب صومها لكلّ أحد ‪ ،‬سواء أصام رمضان أم ل ‪ ،‬كمن أفطر‬
‫لمرض أو صبا أو كفر أو غير ذلك ‪ ،‬قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬وهو الظّاهر ‪ ،‬كما جرى‬
‫عليه بعض المتأخّرين ‪ ،‬وإن كانت عبارة كثيرين ‪ :‬يستحبّ لمن صام رمضان أن يتبعه‬
‫بستّ من شوّال كلفظ الحديث ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬ل يستحبّ صيامها إلّ لمن صام رمضان ‪.‬‬
‫‪ -‬كما ذهب الشّافعيّة وبعض الحنابلة إلى أفضليّة تتابعها عقب العيد مبادرةً إلى العبادة‪،‬‬ ‫‪12‬‬

‫ولما في التّأخير من الفات ‪.‬‬


‫ولم يفرّق الحنابلة بين التّتابع والتّفريق في الفضليّة ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة تستحبّ السّتّة متفرّقةً ‪ :‬كلّ أسبوع يومان ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فذهبوا إلى كراهة صومها متّصلةً برمضان متتابعةً ‪ ،‬ونصّوا على حصول‬
‫الفضيلة ولو صامها في غير شوّال ‪ ،‬بل استحبّوا صيامها في عشر ذي الحجّة ‪ ،‬ذلك أنّ‬
‫محلّ تعيينها في الحديث في شوّال على التّخفيف في حقّ المكلّف ‪ ،‬لعتياده الصّيام ‪ ،‬ل‬
‫لتخصيص حكمها بذلك ‪.‬‬
‫قال العدويّ ‪ :‬إنّما قال الشّارع ‪ " :‬من شوّال " للتّخفيف باعتبار الصّوم ‪ ،‬ل تخصيص‬
‫حكمها بذلك الوقت ‪ ،‬فل جرم إن فعلها في عشر ذي الحجّة مع ما روي في فضل الصّيام‬
‫فيه أحسن‪ ،‬لحصول المقصود مع حيازة فضل اليّام المذكورة ‪ .‬بل فعلها في ذي القعدة‬
‫ن كلّ ما بعد زمنه كثر ثوابه لشدّة المشقّة ‪.‬‬
‫حسن أيضا ‪ ،‬والحاصل ‪ :‬أ ّ‬
‫و ‪ -‬صوم ثلثة أيّام من كلّ شهر ‪:‬‬
‫ن صوم ثلثة أيّام من كلّ شهر ‪ ،‬وذهب الجمهور منهم‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه يس ّ‬ ‫‪13‬‬

‫‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى استحباب كونها اليّام البيض ‪ -‬وهي الثّالث عشر‬
‫ي ‪ -‬سمّيت بذلك لتكامل ضوء الهلل وشدّة‬
‫والرّابع عشر والخامس عشر من كلّ شهر عرب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال له ‪ » :‬يا‬
‫البياض فيها ‪ ،‬لما روى أبو ذ ّر رضي ال عنه أنّ النّب ّ‬
‫أبا ذرّ ‪ ،‬إذا صمت من الشّهر ثلثة أيّام ‪ ،‬فصم ثلث عشرة ‪ ،‬وأربع عشرة ‪ ،‬وخمس‬
‫عشرة « ‪.‬‬
‫قال الشّافعيّة ‪ :‬والحوط صوم الثّاني عشر معها ‪ -‬أيضا ‪ -‬للخروج من خلف من قال ‪:‬‬
‫إنّه أوّل الثّلثة ‪ ،‬ويستثنى ثالث عشر ذي الحجّة فل يجوز صومه لكونه من أيّام التّشريق ‪.‬‬
‫فيبدّل بالسّادس عشر منه كما قال القليوبيّ ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى كراهة صوم اليّام البيض ‪ ،‬فرارا من التّحديد ‪ ،‬ومخافة اعتقاد وجوبها‬
‫صةً‬
‫‪ .‬ومح ّل الكراهة ‪ :‬إذا قصد صومها بعينها ‪ ،‬واعتقد أنّ الثّواب ل يحصل إلّ بصومها خا ّ‬
‫‪ .‬وأمّا إذا قصد صيامها من حيث إنّها ثلثة أيّام من الشّهر فل كراهة ‪.‬‬
‫قال الموّاق ‪ :‬نقلً عن ابن رشد ‪ :‬إنّما كره مالك صومها لسرعة أخذ النّاس بقوله ‪ ،‬فيظنّ‬
‫ن مالكا كان يصومها ‪ ،‬وحضّ مالك ‪ -‬أيضا ‪ -‬الرّشيد على‬
‫الجاهل وجوبها ‪ .‬وقد روي أ ّ‬
‫صيامها ‪.‬‬
‫وصوم ثلثة أيّام من كلّ شهر كصوم الدّهر ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬أنّه يحصل بصيامها أجر صيام الدّهر‬
‫بتضعيف الجر ‪ :‬الحسنة بعشرة أمثالها ‪.‬‬
‫لحديث قتادة بن ملحان رضي ال عنه ‪ » :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يأمرنا أن‬
‫ن كهيئة‬
‫نصوم البيض ‪ :‬ثلث عشرة ‪ ،‬وأربع عشرة ‪ ،‬وخمس عشرة ‪ .‬قال ‪ :‬قال ‪ :‬وه ّ‬
‫الدّهر « أي كصيام الدّهر ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬صوم الثنين والخميس من كلّ أسبوع ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على استحباب صوم يوم الثنين والخميس من كلّ أسبوع ‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم كان‬


‫لما روى أسامة بن زيد رضي ال تعالى عنهما ‪ » :‬أنّ النّب ّ‬
‫يصوم يوم الثنين والخميس ‪ .‬فسئل عن ذلك ؟ فقال ‪ :‬إنّ أعمال العباد تعرض يوم الثنين‬
‫ب أن يعرض عملي وأنا صائم « ‪ ،‬ولما ورد من حديث أبي قتادة رضي‬
‫والخميس ‪ ،‬وأح ّ‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم سئل عن صوم الثنين فقال ‪ :‬فيه ولدت ‪،‬‬
‫ال عنه ‪ » :‬أ ّ‬
‫ي«‪.‬‬
‫وفيه أنزل عل ّ‬
‫ح ‪ -‬صوم الشهر الحرم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬إلى استحباب صوم الشهر‬ ‫‪15‬‬

‫الحرم ‪.‬‬
‫ن أفضل الشهر الحرم ‪ :‬المحرّم ‪ ،‬ثمّ رجب ‪ ،‬ثمّ باقيها ‪ :‬ذو‬
‫وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بأ ّ‬
‫القعدة وذو الحجّة ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أفضل الصّلة بعد الصّلة المكتوبة‬
‫والصل في ذلك قول النّب ّ‬
‫الصّلة في جوف اللّيل ‪ ،‬وأفضل الصّيام بعد شهر رمضان صيام شهر اللّه المحرّم « ‪.‬‬
‫ومذهب الحنفيّة ‪ :‬أنّه من المستحبّ أن يصوم الخميس والجمعة والسّبت من كلّ شهر من‬
‫الشهر الحرم ‪.‬‬
‫ن صوم شهر المحرّم فقط من الشهر الحرم ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّه يس ّ‬
‫وذكر بعضهم استحباب صوم الشهر الحرم ‪ ،‬لكن الكثر لم يذكروا استحبابه ‪ ،‬بل نصّوا‬
‫على كراهة إفراد رجب بالصّوم ‪ ،‬لما روى ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما ‪ » :‬أنّ النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم نهى عن صيام رجب « ‪.‬‬
‫ولنّ فيه إحياءً لشعار الجاهليّة بتعظيمه ‪ .‬وتزول الكراهة بفطره فيه ولو يوما ‪ ،‬أو بصومه‬
‫شهرا آخر من السّنة وإن لم يل رجبا ‪.‬‬
‫ط ‪ -‬صوم شهر شعبان ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬إلى استحباب صوم شهر‬ ‫‪16‬‬

‫شعبان ‪ ،‬لما روت عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ » :‬ما رأيت رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان « ‪.‬‬
‫وعنها قالت ‪ » :‬كان أحبّ الشّهور إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يصومه‬
‫شعبان ‪ ،‬بل كان يصله برمضان « ‪.‬‬
‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬ورد في مسلم ‪ » :‬كان صلى ال عليه وسلم يصوم شعبان كلّه ‪:‬‬
‫كان يصوم شعبان إلّ قليلً « ‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬اللّفظ الثّاني مفسّر للوّل ‪ ،‬فالمراد بكلّه غالبه ‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ » :‬ما رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم استكمل‬
‫صيام شهر قطّ إلّ رمضان « ‪.‬‬
‫ن وجوبه ‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬وإنّما لم يستكمل ذلك لئلّ يظ ّ‬
‫وذهب الحنابلة إلى عدم استحباب صوم شعبان ‪ ،‬وذلك في قول الكثر ‪ ،‬واستحبّه صاحب‬
‫الرشاد ‪.‬‬
‫ى ‪ -‬صوم يوم الجمعة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل بأس عند الحنفيّة بصوم يوم الجمعة بانفراده ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ومحمّد ويندب‬ ‫‪17‬‬

‫عند المالكيّة ‪ ،‬لما روي عن ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما أنّه كان يصومه ول يفطر ‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف ‪ :‬جاء حديث في كراهته إ ّل أن يصوم قبله وبعده ‪ ،‬فكان الحتياط أن يضمّ‬
‫إليه يوما آخر ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪ :‬ثبت بالسّنّة طلبه والنّهي عنه ‪ ،‬والخر منهما النّهي ‪،‬‬
‫لنّ فيه وظائف ‪ ،‬فلعلّه إذا صام ضعف عن فعلها ‪.‬‬
‫ي صلى ال‬
‫ومحلّ النّهي عند المالكيّة هو مخافة فرضيّته ‪ ،‬وقد انتفت هذه العلّة بوفاة النّب ّ‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة إفراد يوم الجمعة بالصّوم ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬ل يصم أحدكم‬
‫يوم الجمعة ‪ ،‬إلّ أن يصوم قبله أو بعده « وليتقوّى بفطره على الوظائف المطلوبة فيه ‪،‬‬
‫أو لئلّ يبالغ في تعظيمه كاليهود في السّبت ‪ ،‬ولئلّ يعتقد وجوبه ‪ ،‬ولنّه يوم عيد وطعام ‪.‬‬
‫حكم الشّروع في صوم التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى لزوم صوم التّطوّع بالشّروع فيه ‪ ،‬وأنّه يجب على الصّائم‬ ‫‪18‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إذا دعي‬


‫المتطوّع إتمامه إذا بدأ فيه ‪ ،‬لما ورد أنّ النّب ّ‬
‫أحدكم فليجب ‪ ،‬فإن كان صائما فليصلّ ‪ ،‬وإن كان مفطرا فليطعم « قوله ‪ :‬فليصلّ ‪ :‬أي‬
‫فليدع ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬ثبت هذا عنه عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ولو كان الفطر جائزا لكان الفضل‬
‫الفطر ‪ ،‬لجابة الدّعوة الّتي هي السّنّة ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم لزوم صوم التّطوّع بالشّروع فيه ‪ ،‬ول يجب على الصّائم‬
‫تطوّعا إتمامه إذا بدأ فيه ‪ ،‬وله قطعه في أيّ وقت شاء ‪ ،‬لما روت عائشة رضي ال تعالى‬
‫عنها قالت ‪ » :‬قلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬أهدي لنا حيس ‪ ،‬فقال ‪ :‬أرنيه ‪ ،‬فلقد أصبحت صائما‬
‫فأكل « وزاد النّسائيّ ‪ » :‬إنّما مثل صوم التّطوّع مثل الرّجل يخرج من ماله الصّدقة ‪ ،‬فإن‬
‫شاء أمضاها ‪ ،‬وإن شاء حبسها « ‪.‬‬
‫ولقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الصّائم المتطوّع أمين نفسه ‪ ،‬إن شاء صام ‪ ،‬وإن‬
‫شاء أفطر « ‪.‬‬
‫إفساد صوم التّطوّع وما يترتّب عليه ‪:‬‬
‫‪ -‬صرّح المالكيّة بحرمة إفساد صوم التّطوّع لغير عذر ‪ ،‬وهو ما يفهم من كلم الحنفيّة‪،‬‬ ‫‪19‬‬

‫حيث جاء في الفتاوى الهنديّة ما نصّه ‪ :‬ذكر الرّازيّ عن أصحابنا أنّ الفطار بغير عذر في‬
‫صوم التّطوّع ل يح ّل ‪ ،‬هكذا في الكافي ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة قطعه بل عذر ‪ ،‬واستحباب إتمامه لظاهر قوله تعالى ‪:‬‬
‫عمَا َلكُمْ } ‪ ،‬وللخروج من خلف من أوجب إتمامه ‪.‬‬
‫{ وَل تُ ْبطِلُوا أَ ْ‬
‫ومن العذار الّتي ذكرها الحنفيّة والمالكيّة لجواز الفطر ‪ :‬الحلف على الصّائم بطلق امرأته‬
‫ص الحنفيّة على ندب الفطر دفعا لتأذّي أخيه‬
‫إن لم يفطر ‪ ،‬فحينئذ يجوز له الفطر ‪ ،‬بل ن ّ‬
‫المسلم ‪ .‬لكن الحنفيّة قيّدوا جواز الفطر إلى ما قبل نصف النّهار أمّا بعده فل يجوز ‪.‬‬
‫وكذلك من العذار عند الحنفيّة ‪ :‬الضّيافة للضّيف والمضيف إن كان صاحبها ممّن ل‬
‫يرضى بمجرّد الحضور ‪ ،‬وكان الصّائم يتأذّى بترك الفطار ‪ ،‬شريطة أن يثق بنفسه‬
‫بالقضاء ‪ ،‬وقيّد المالكيّة جواز الفطر بالحلف بالطّلق بتعلّق قلب الحالف بمن حلف‬
‫بطلقها ‪ ،‬بحيث يخشى أن ل يتركها إن حنث ‪ ،‬فحينئذ يجوز للمحلوف عليه الفطر ‪ ،‬ول‬
‫قضاء عليه أيضا ‪.‬‬
‫ومن العذار ‪ -‬أيضا ‪ : -‬أمر أحد أبويه له بالفطر ‪ .‬وقيّد الحنفيّة جواز الفطار بما إذا كان‬
‫أمر الوالدين إلى العصر ل بعده ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪ :‬ولعلّ وجهها أنّ قرب وقت الفطار‬
‫يرفع ضرر النتظار ‪.‬‬
‫وألحق المالكيّة بالبوين ‪ :‬الشّيخ في السّفر ‪ ،‬الّذي أخذ على نفسه العهد أن ل يخالفه ‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ومثله عندهم ‪ :‬شيخ العلم الشّرع ّ‬
‫وصرّح الشّافعيّة باستحباب قطع صوم التّطوّع إن كان هناك عذر ‪ ،‬كمساعدة ضيف في‬
‫الكل إذا عزّ عليه امتناع مضيفه منه ‪ ،‬أو عكسه ‪ .‬أمّا إذا لم يع ّز على أحدهما امتناع‬
‫الخر عن ذلك فالفضل عدم خروجه منه ‪.‬‬
‫‪ -‬واختلف الفقهاء في حكم قضاء صوم التّطوّع عند إفساده ‪:‬‬ ‫‪20‬‬

‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب قضاء صوم التّطوّع عند إفساده ‪.‬‬
‫لما روت عائشة رضي ال تعالى عنها أنّها قالت ‪ » :‬كنت أنا وحفصة صائمتين ‪ ،‬فعرض‬
‫لنا طعام اشتهيناه ‪ ،‬فأكلنا منه ‪ ،‬فجاء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة‬
‫‪ -‬وكانت ابنة أبيها ‪ -‬فقالت ‪ :‬يا رسول اللّه إنّا كنّا صائمتين ‪ ،‬فعرض لنا طعام اشتهيناه‬
‫فأكلنا منه ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقضيا يوما آخر مكانه « ‪.‬‬
‫ولنّ ما أتى به قربةً ‪ ،‬فيجب صيانته وحفظه عن البطلن ‪ ،‬وقضاؤه عند الفساد لقوله‬
‫عمَا َلكُمْ } ‪ ،‬ول يمكن ذلك إلّ بإتيان الباقي ‪ ،‬فيجب إتمامه ‪ ،‬وقضاؤه‬
‫تعالى ‪ { :‬وَلَا تُ ْبطِلُوا أَ ْ‬
‫عند الفساد ضرورةً ‪ ،‬فصار كالحجّ والعمرة التّطوّعين ‪.‬‬
‫ومذهب الحنفيّة ‪ :‬وجوب القضاء عند الفساد مطلقا ‪ ،‬أي ‪ :‬سواء أفسد عن قصد ‪ -‬وهذا‬
‫ل خلف فيه ‪ -‬أو غير قصد ‪ ،‬بأن عرض الحيض للصّائمة المتطوّعة وذلك في أصحّ‬
‫الرّوايتين ‪ ،‬واستثنوا من ذلك ‪ :‬صوم العيدين وأيّام التّشريق ‪ ،‬فل تلزم بالشّروع ‪ ،‬ل أداءً‬
‫ول قضاءً ‪ ،‬إذا أفسد ‪ ،‬لرتكابه النّهي بصيامها ‪ ،‬فل تجب صيانته ‪ ،‬بل يجب إبطاله ‪،‬‬
‫ووجوب القضاء ينبني على وجوب الصّيانة ‪ ،‬فلم يجب قضا ًء ‪ ،‬كما لم يجب أدا ًء ‪.‬‬
‫وخصّ المالكيّة وجوب القضاء بالفطر العمد الحرام ‪ ،‬وذلك كمن شرع في صوم التّطوّع ‪،‬‬
‫ثمّ أفطر من غير ضرورة ول عذر ‪ ،‬قال الحطّاب ‪ :‬احترز بالعمد من النّسيان والكراه ‪،‬‬
‫وبالحرام عمّن أفطر لشدّة الجوع والعطش والح ّر الّذي يخاف منه تجدّد مرض أو زيادته ‪،‬‬
‫وكذلك عمّن أفطر لمر والديه وشيخه ‪ ،‬وعدّوا السّفر الّذي يطرأ عليه من الفطر العمد ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه ل يجب القضاء على من أفسد صوم التّطوّع ‪ ،‬لنّ‬
‫القضاء يتبع المقضيّ عنه ‪ ،‬فإذا لم يكن واجبا ‪ ،‬لم يكن القضاء واجبا ‪ ،‬لكن يندب له‬
‫القضاء ‪ ،‬سواء أفسد صوم التّطوّع بعذر أم بغير عذر ‪ ،‬خروجا من خلف من أوجب‬
‫قضاءه ‪.‬‬
‫ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا أفطر الصّائم تطوّعا لم يثب على ما مضى ‪ ،‬إن خرج‬
‫منه بغير عذر ‪ ،‬ويثاب عليه إن خرج بعذر ‪.‬‬
‫الذن في صوم التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه ليس للمرأة أن تصوم تطوّعا إلّ بإذن زوجها ‪ ،‬لقول النّبيّ‬ ‫‪21‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل تصم المرأة وبعلها شاهد ‪ ،‬إلّ بإذنه « ‪ ،‬ولنّ حقّ الزّوج‬
‫فرض‪ ،‬فل يجوز تركه لنفل ‪.‬‬
‫ولو صامت المرأة بغير إذن زوجها صحّ مع الحرمة عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬والكراهة‬
‫التّحريميّة عند الحنفيّة ‪ ،‬إلّ أنّ الشّافعيّة خصّوا الحرمة بما يتكرّر صومه ‪ ،‬أمّا ما ل يتكرّر‬
‫صومه كعرفة وعاشوراء وستّة من شوّال فلها صومها بغير إذنه ‪ ،‬إلّ إن منعها ‪.‬‬
‫ول تحتاج المرأة إلى إذن الزّوج إذا كان غائبا ‪ ،‬لمفهوم الحديث ولزوال معنى النّهي ‪.‬‬
‫قال الشّافعيّة ‪ :‬وعلمها برضاه كإذنه ‪.‬‬
‫ج أو عمرة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وإذا كان‬
‫ومثل الغائب عند الحنفيّة ‪ :‬المريض ‪ ،‬والصّائم والمحرم بح ّ‬
‫الزّوج مريضا أو صائما أو محرما لم يكن له منع الزّوجة من ذلك ‪ ،‬ولها أن تصوم وإن‬
‫نهاها ‪.‬‬
‫وصرّح الحنفيّة والمالكيّة بأنّه ل يصوم الجير تطوّعا إلّ بإذن المستأجر ‪ ،‬إن كان صومه‬
‫يض ّر به في الخدمة ‪ ،‬وإن كان ل يضرّه فله أن يصوم بغير إذنه ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا صامت الزّوجة تطوّعا بغير إذن زوجها فله أن يفطّرها ‪ ،‬وخصّ المالكيّة جواز‬ ‫‪22‬‬

‫تفطيرها بالجماع فقط ‪ ،‬أمّا بالكل والشّرب فليس له ذلك ‪ ،‬لنّ احتياجه إليها الموجب‬
‫لتفطيرها إنّما هو من جهة الوطء ‪.‬‬
‫التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في حكم التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان ‪:‬‬ ‫‪23‬‬

‫فذهب الحنفيّة إلى جواز التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان من غير كراهة ‪ ،‬لكون القضاء‬
‫ل يجب على الفور ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪ :‬ولو كان الوجوب على الفور لكره ‪ ،‬لنّه يكون‬
‫تأخيرا للواجب عن وقته الضّيّق ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى الجواز مع الكراهة ‪ ،‬لما يلزم من تأخير الواجب ‪ ،‬قال‬
‫الدّسوقيّ ‪ :‬يكره التّطوّع بالصّوم لمن عليه صوم واجب ‪ ،‬كالمنذور والقضاء والكفّارة ‪.‬‬
‫سواء كان صوم التّطوّع الّذي قدّمه على الصّوم الواجب غير مؤكّد ‪ ،‬أو كان مؤكّدا ‪،‬‬
‫كعاشوراء وتاسع ذي الحجّة على الرّاجح ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى حرمة التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان ‪ ،‬وعدم صحّة التّطوّع حينئذ‬
‫ولو اتّسع الوقت للقضاء ‪ ،‬ول ب ّد من أن يبدأ بالفرض حتّى يقضيه ‪ ،‬وإن كان عليه نذر‬
‫ي صلى ال‬
‫صامه بعد الفرض أيضا ‪ ،‬لما روى أبو هريرة رضي ال تعالى عنه أنّ النّب ّ‬
‫عليه وسلم قال ‪ » :‬من صام تطوّعا وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنّه ل يتقبّل منه‬
‫حتّى يصومه « ‪ ،‬وقياسا على الحجّ في عدم جواز أن يحجّ عن غيره أو تطوّعا قبل حجّ‬
‫الفريضة ومسألة انقلب الصّوم الواجب إلى تطوّع ‪ ،‬والنّيابة في صوم التّطوّع سبق‬
‫)‬ ‫‪27‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪19‬‬ ‫تفصيلها في مصطلح ‪ ( :‬تطوّع ف‬
‫صوْمَعة *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬معابد‬

‫صوْمُ النّذر *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬نذر‬

‫صِيَاغَة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّياغة لغةً ‪ :‬من صاغ الرّجل الذّهب يصوغه صوغا وصياغةً جعله حليّا فهو صائغ‬ ‫‪1‬‬

‫وصوّاغ ‪ ،‬وعمله الصّياغة ‪.‬‬


‫واصطلحا ‪ :‬ل يخرج استعمال الفقهاء لهذا المصطلح عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬صياغة الذّهب والفضّة وغيرهما حليّا من الحرف المشروعة في الجملة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ي المتّخذة من الذّهب للرّجال ‪.‬‬


‫وإنّما يحرم منها صياغة الحليّ المحرّمة ‪ ،‬كالحل ّ‬
‫والصل أنّه ل يجوز احتراف عمل محرّم بذاته كالتّجار بالخمر ‪ ،‬واحتراف الكهانة ‪ ،‬أو ما‬
‫يؤدّي إلى الحرام أو يكون فيه إعانة على الحرام كالكتابة في الرّبا ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬واحتراف ‪ ،‬وإجارة ) ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ‪ ( :‬حل ّ‬
‫كما يحرم الستئجار على صياغته للرّجال أمّا بيعه فهو جائز ‪ ،‬لنّ عينها تملك إجماعا ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد اتّفق الفقهاء على ر ّد شهادة صاحب الحرفة المحرّمة الّتي يكثر فيها الرّبا كالصّائغ‬ ‫‪3‬‬

‫ي إذا لم يتوقّيا الرّبا ‪.‬‬


‫والصّيرف ّ‬
‫انظر مصطلح ‪ ( :‬حرفة ) ‪.‬‬
‫ويتعلّق بالصّياغة جملة من الحكام ‪:‬‬
‫‪ -‬منها ‪ :‬ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم اعتبار الصّياغة في بيع الذّهب بالذّهب والفضّة‬ ‫‪4‬‬

‫بالفضّة ‪ ،‬فيشترط في جواز بيعها التّماثل في وزن المصوغ فيجب أن يساوي المصوغ غير‬
‫المصوغ في الوزن ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ‪ ( :‬صرف ) ‪.‬‬
‫ي الذّهب والفضّة بجميع أنواعها ‪ ،‬ويحرم على الرّجل‬
‫‪ -5‬ومنها ‪ :‬يحلّ للمرأة اتّخاذ حل ّ‬
‫الحليّ من الذّهب والفضّة إلّ التّختّم من الفضّة بمقدار مثقال ‪.‬‬
‫ينظر مصطلح ‪ ( :‬حليّ ) ‪.‬‬
‫ي المستعمل استعمالً محرّما‬
‫‪ -6‬ومنها ‪ :‬اتّفق الفقهاء على وجوب الزّكاة في مصوغ الحل ّ‬
‫كحليّ الرّجل ‪ ،‬واختلفوا في زكاة ما تتّخذه المرأة ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬حليّ ‪ ،‬وزكاة ) ‪.‬‬
‫‪ -7‬ومنها ‪ :‬أنّ تراب دكاكين الصّاغة وهو ما يتخلّف عن الصّياغة من رماد ول يدرى ما‬
‫فيه من ذهب أو فضّة ‪ ،‬ل يجوز بيعه إلّ بالفلوس أو بعوض من غير الفلوس ‪ ،‬ول يجوز‬
‫بيعه بذهب أو بفضّة ‪ ،‬لنّه ل يخلو من ذهب أو فضّة فيؤدّي بيعه بهما إلى الرّبا لعدم العلم‬
‫بالتّماثل ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬تراب الصّاغة ) ‪.‬‬
‫ن حرفة الصّياغة‬
‫‪ -8‬ومنها ‪ :‬يجب على المحتسب أن يحتسب على الصّاغة في عملهم ‪ ،‬ل ّ‬
‫ممّا يكثر فيها التّدليس والغشّ ‪ ،‬وذلك في المور التّالية ‪:‬‬
‫ي المصوغة بغير جنسها ليحلّ فيها التّفاضل ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬أن يبيعوا الحل ّ‬
‫ش إن وجد ‪.‬‬
‫ي المصوغة من غ ّ‬
‫ب ‪ -‬أن يبيّن للمشتري مقدار ما في الحل ّ‬
‫ي فل يسبكه إلّ بحضرة صاحبه بعد تحقيق وزنه ‪ ،‬فإن‬
‫ج ‪ -‬إذا أراد صياغة شيء من الحل ّ‬
‫فرغ من سبكه أعاد الوزن وإن احتاج إلى لحام فإنّه يزنه قبل إدخاله فيه ول يركّب شيئا‬
‫من الفصوص والجواهر على الخواتم والحليّ إلّ بعد وزنه بحضرة صاحبها ‪.‬‬

‫صيَال *‬
‫ِ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّيال في اللّغة ‪ :‬مصدر صال يصول ‪ ،‬إذا قدم بجراءة وقوّة ‪ ،‬وهو ‪ :‬الستطالة‬ ‫‪1‬‬

‫والوثوب والستعلء على الغير ‪.‬‬


‫ويقال ‪ :‬صاوله مصاول ًة ‪ ،‬وصيالً ‪ ،‬وصيال ًة ‪ ،‬أي ‪ :‬غالبه ونافسه في الصّول ‪ ،‬وصال‬
‫عليه أي ‪ :‬سطا عليه ليقهره ‪ ،‬والصّائل ‪ :‬الظّالم ‪ ،‬والصّئول ‪ :‬الشّديد الصّول ‪ ،‬والصّولة ‪:‬‬
‫السّطوة في الحرب وغيرها ‪ ،‬وصؤل البعير ‪ :‬إذا صار يقتل النّاس ويعدو عليهم ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬الصّيال الستطالة والوثوب على الغير بغير حقّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬البغاة ‪:‬‬
‫‪ -‬البغي ‪ :‬الظّلم والعتداء ومجاوزة الحدّ ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والبغاة هم ‪ :‬قوم من المسلمين ‪ ،‬خالفوا المام الحقّ بخروج عليه وترك النقياد له ‪ ،‬أو‬
‫منع حقّ توجّه عليهم ‪ ،‬بشرط شوكة لهم ‪ ،‬وتأويل ل يقطع بفساده ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬المحارب ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو ‪ :‬قاطع الطّريق لمنع سلوك ‪ ،‬أو أخذ مال مسلم أو غيره ‪ ،‬على وجه يتعذّر معه‬ ‫‪3‬‬

‫الغوث والصّائل أعمّ منه ‪ ،‬لنّه يشمل الحيوان وغيره ‪.‬‬


‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّيال حرام ‪ ،‬لنّه اعتداء على الغير ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ولَ َتعْتَدُواْ إِنّ الّل َه لَ ُيحِبّ‬ ‫‪4‬‬

‫ا ْل ُمعْتَدِينَ } ‪.‬‬
‫وقول الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬كلّ المسلم على المسلم حرام ‪ :‬دمه ‪ ،‬وماله ‪،‬‬
‫وعرضه « ‪.‬‬
‫دفع الصّائل على النّفس وما دونها ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في حكم دفع الصّائل على النّفس وما دونها ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫فذهب الحنفيّة ‪ -‬وهو الصحّ عند المالكيّة ‪ -‬إلى وجوب دفع الصّائل على النّفس وما‬
‫دونها‪ ،‬ول فرق بين أن يكون الصّائل كافرا أو مسلما ‪ ،‬عاقلً أو مجنونا ‪ ،‬بالغا أو صغيرا ‪،‬‬
‫معصوم الدّم أو غير معصوم الدّم ‪ ،‬آدميّا أو غيره ‪.‬‬
‫واستدلّ أصحاب هذا الرّأي بقوله تعالى ‪َ { :‬و َل تُ ْلقُواْ ِبأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهْلُ َكةِ } ‪.‬‬
‫فالستسلم للصّائل إلقاء بالنّفس للتّهلكة ‪ ،‬لذا كان الدّفاع عنها واجبا ‪.‬‬
‫ولقوله تعالى ‪ { :‬وَقَاتِلُو ُه ْم حَتّى لَ َتكُونَ فِتْ َنةٌ } ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من قتل دون دمه فهو شهيد « ‪.‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين ‪ -‬يريد قتله ‪ -‬فقد‬
‫وجب دمه « ‪.‬‬
‫ولنّه ك ما يحرم على الم صول عل يه ق تل نف سه ‪ ،‬يحرم عل يه إبا حة قتل ها ‪ ،‬ولنّه قدر على‬
‫إحياء نفسه ‪ ،‬فوجب عليه فعل ذلك ‪ ،‬كالمضطرّ لكل الميتة ونحوها ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن كان الصّائل كافرا ‪ ،‬والمصول عليه مسلما وجب الدّفاع سواء‬
‫كان هذا الكافر معصوما أو غير معصوم ‪ ،‬إذ غير المعصوم ل حرمة له ‪ ،‬والمعصوم بطلت‬
‫ن الستسلم للكافر ذلّ في الدّين ‪ ،‬وفي حكمه كلّ مهدور الدّم من‬
‫حرمته بصياله ‪ ،‬ول ّ‬
‫المسلمين ‪ ،‬كالزّاني المحصن ‪ ،‬ومن تحتّم قتله في قطع الطّريق ونحو ذلك من الجنايات ‪.‬‬
‫كما يجب دفع البهيمة الصّائلة ‪ ،‬لنّها تذبح لستبقاء الدميّ ‪ ،‬فل وجه للستسلم لها ‪،‬‬
‫مثلها ما لو سقطت جرّة ونحوها على إنسان ولم تندفع عنه إلّ بكسرها ‪.‬‬
‫أمّا إن كان الصّائل مسلما غير مهدور الدّم فل يجب دفعه في الظهر ‪ ،‬بل يجوز الستسلم‬
‫له ‪ ،‬سواء كان الصّائل صبيّا أو مجنونا ‪ ،‬وسواء أمكن دفعه بغير قتله أو لم يمكن ‪ ،‬بل قال‬
‫ن الستسلم له لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬كن كابن آدم « ‪ -‬يعني‬
‫بعضهم ‪ :‬يس ّ‬
‫هابيل‪ -‬ولما ورد عن الحنف بن قيس قال ‪ :‬خرجت بسلحي ليالي الفتنة ‪ ،‬فاستقبلني أبو‬
‫بكرة فقال‪ :‬أين تريد ؟ قلت ‪ :‬أريد نصرة ابن عمّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلهما من أهل‬
‫النّار ‪ .‬قيل ‪ :‬فهذا القاتل ‪ ،‬فما بال المقتول ؟ قال ‪ :‬إنّه أراد قتل صاحبه « ‪.‬‬
‫ولنّ عثمان رضي ال عنه ترك القتال مع إمكانه ‪ ،‬ومع علمه بأنّهم يريدون نفسه ‪ ،‬ومنع‬
‫حرّاسه من الدّفاع عنه – وكانوا أربعمائة يوم الدّار – وقال ‪ :‬من ألقى سلحه فهو حرّ ‪،‬‬
‫واشتهر ذلك في الصّحابة رضي ال عنهم فلم ينكر عليه أحد ‪.‬‬
‫ومقابل الظهر ‪ -‬عند الشّافعيّة ‪ -‬أنّه يجب دفع الصّائل مطلقا ‪ ،‬أي سواء كان كافرا أو‬
‫ي ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ولَ تُ ْلقُواْ‬
‫مسلما ‪ ،‬معصوم الدّم أو غير معصوم الدّم ‪ ،‬آدميّا أو غير آدم ّ‬
‫بِأَيْدِي ُكمْ إِلَى ال ّتهُْل َكةِ } ‪.‬‬
‫وفي قول ثالث عندهم ‪ :‬أنّه إن كان الصّائل مجنونا أو صبيّا فل يجوز الستسلم لهما ‪،‬‬
‫لنّهما ل إثم عليهما كالبهيمة ‪.‬‬
‫واستثنى القائلون بالجواز من الشّافعيّة مسائل منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬لو كان المصول عليه عالما توحّد في عصره ‪ ،‬أو خليفةً تفرّد ‪ ،‬بحيث يترتّب على قتله‬
‫ضرر عظيم ‪ ،‬لعدم من يقوم مقامه ‪ ،‬فيجب دفع الصّائل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لو أراد الصّائل قطع عضو المصول عليه فيجب دفعه لنتفاء علّة الشّهادة ‪.‬‬
‫ي رحمه ال ‪ :‬ويجب الدّفع عن عضو عند ظنّ السّلمة ‪ ،‬وعن نفس ظنّ بقتلها‬
‫قال الذرع ّ‬
‫مفاسد في الحريم والمال والولد ‪.‬‬
‫ن المصول عليه إن أمكنه دفع الصّائل بغير قتله وجب عليه‬
‫ج ‪ -‬قال القاضي حسين ‪ :‬إ ّ‬
‫دفعه وإلّ فل ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى وجوب دفع الصّائل عن النّفس في غير وقت الفتنة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪{ :‬‬
‫َولَ تُ ْلقُواْ بِأَيْدِي ُكمْ إِلَى ال ّتهُْل َكةِ } ‪.‬‬
‫ولنّه كما يحرم عليه قتل نفسه يحرم عليه إباحة قتلها ‪.‬‬
‫أمّا في زمن الفتنة ‪ ،‬فل يلزمه الدّفاع عن نفسه ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬فإن‬
‫خشيت أن يبهرك شعاع السّيف ‪ ،‬فألق ثوبك على وجهك « ‪.‬‬
‫ولنّ عثمان رضي ال عنه ترك القتال على من بغى عليه مع القدرة عليه ‪ ،‬ومنع غيره‬
‫قتالهم ‪ ،‬وصبر على ذلك ‪ .‬ولو لم يجز لنكر الصّحابة عليه ذلك ‪.‬‬
‫قتل الصّائل وضمانه ‪:‬‬
‫‪ -‬إن قتل المصول عليه الصّائل دفاعا عن نفسه ونحوها فل ضمان عليه ‪ -‬عند‬ ‫‪6‬‬

‫الجمهور‪ -‬بقصاص ول دية ول كفّارة ول قيمة ‪ ،‬ول إثم عليه ‪ ،‬لنّه مأمور بذلك ‪.‬‬
‫أمّا إذا تمكّن الصّائل من قتل المصول عليه فيجب عليه القصاص ‪.‬‬
‫ن المصول عليه يضمن‬
‫وخالف الحنفيّة جمهور الفقهاء في ضمان الصّائل ‪ ،‬فذهبوا إلى أ ّ‬
‫البهيمة الصّائلة عليه إذا كانت لغيره ‪ ،‬لنّه أتلف مال غيره لحياء نفسه ‪ ،‬كالمضط ّر إلى‬
‫طعام غيره إذا أكله ‪.‬‬
‫ي والمجنون ‪ ،‬فيضمنهما إذا‬
‫ومثل البهيمة عندهم غير المكلّف من الدميّين ‪ ،‬كالصّب ّ‬
‫قتلهما ‪ ،‬لنّهما ل يملكان إباحة أنفسهما ‪ ،‬ولذلك لو ارتدّا لم يقتل ‪.‬‬
‫ق قاتل الصّبيّ أو المجنون الصّائلين الدّية ل القصاص ‪ ،‬لوجود المبيح ‪،‬‬
‫لكن الواجب في ح ّ‬
‫ق قاتل البهيمة فهو القيمة ‪.‬‬
‫وهو دفع الشّرّ عن نفسه ‪ ،‬وأمّا الواجب في ح ّ‬
‫‪ -7‬ويدفع الصّائل بالخفّ فالخفّ إن أمكن ‪ ،‬فإن أمكن دفعه بكلم أو استغاثة بالنّاس حرّم‬
‫الضّرب ‪ ،‬أو أمكن دفعه بضرب بيد حرّم بسوط ‪ ،‬أو بسوط حرّم بعصا ‪ ،‬أو أمكن دفعه‬
‫ن ذلك جوّز للضّرورة ‪ ،‬ول ضرورة في الثقل مع إمكان‬
‫بقطع عضو حرّم دفعه بقتل ‪ ،‬ل ّ‬
‫تحصيل المقصود بالخفّ ‪.‬‬
‫وعليه فلو اندفع شرّه بشيء آخر ‪ ،‬كأن وقع في ماء أو نار ‪ ،‬أو انكسرت رجله ‪ ،‬أو حال‬
‫بينهما جدار أو خندق أو غير ذلك لم يكن له ضربه ‪ ،‬وإن ضربه ضربةً عطّلته لم يكن له‬
‫أن يثني عليه ‪ ،‬لنّه كفى شرّه ولنّ الزّائد على ما يحصل به الدّفع ل حاجة إليه ‪ ،‬فلم يكن‬
‫له فعله ‪.‬‬
‫والمعتبر في ذلك هو غلبة ظنّ المصول عليه ‪ ،‬فل يكفي توهّم الصّيال ‪ ،‬أو الشّكّ فيه ‪ ،‬فإن‬
‫خالف التّرتيب المذكور ‪ ،‬وعدل إلى رتبة ‪ -‬مع إمكان دفعه بما دونها ‪ -‬ضمن ‪ ،‬فإن ولّى‬
‫الصّائل هاربا فاتّبعه المصول عليه ‪ ،‬وقتله ضمن بقصاص أو دية ‪ ،‬وكذا إن ضربه فقطع‬
‫يمينه ثمّ ولّى هاربا فضربه ثانيةً وقطع رجله مثلً فالرّجل مضمونة بقصاص أو دية ‪ ،‬فإن‬
‫مات الصّائل من سراية القطعين فعلى المصول عليه نصف الدّية ‪ ،‬لنّه مات من فعل مأذون‬
‫فيه وفعل آخر غير مأذون فيه ‪.‬‬
‫واستثنى الفقهاء من ذلك صورا منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬لو كان الصّائل يندفع بالسّوط أو العصا ونحوهما ‪ ،‬والمصول عليه ل يجد إلّ السّيف‬
‫فله الضّرب به ‪ ،‬لنّه ل يمكنه الدّفع إلّ به ‪ ،‬وليس بمقصّر في ترك استصحاب السّوط‬
‫ونحوه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لو التحم القتال بينهما ‪ ،‬واشتدّ المر عن الضّبط فله الدّفاع عن نفسه بما لديه ‪ ،‬دون‬
‫مراعاة التّرتيب المذكور ‪.‬‬
‫ن المصول عليه أنّ الصّائل ل يندفع إلّ بالقتل فله أن يقتله دون مراعاة التّرتيب‬
‫ج ‪ -‬إذا ظ ّ‬
‫المذكور ‪ ،‬وكذا إن خاف أن يبدره بالقتل إن لم يسبق هو به فله ضربه بما يقتله ‪ ،‬أو يقطع‬
‫طرفه ‪ .‬ويصدّق المصول عليه في عدم إمكان التّخلّص بدون ما دفع به ‪ ،‬لعسر إقامة البيّنة‬
‫على ذلك ‪.‬‬
‫د ‪ -‬إذا كان الصّائل مهدر الدّم ‪ -‬كمرتدّ وحربيّ وزان محصن ‪ -‬فل تجب مراعاة التّرتيب‬
‫في حقّه بل له العدول إلى قتله ‪ ،‬لعدم حرمته ‪.‬‬
‫الهرب من الصّائل ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في وجوب الهرب من الصّائل ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫فذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬من الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الشّافعيّة ‪ ،‬ووجه عند‬
‫الحنابلة ‪ -‬إلى أنّه إن أمكن المصول عليه أن يهرب أو يلتجئ إلى حصن أو جماعة أو‬
‫حاكم وجب عليه ذلك ‪ ،‬ولم يجز له القتال ‪ ،‬لنّه مأمور بتخليص نفسه بالهون فالهون ‪،‬‬
‫وليس له أن يعدل إلى الشدّ مع إمكان السهل ولنّه أمكنه الدّفاع عن نفسه دون إضرار‬
‫غيره فلزمه ذلك ‪.‬‬
‫واشترط المالكيّة والشّافعيّة لوجوب الهرب أن يكون بل مشقّة ‪ ،‬فإن كان بمشقّة فل يجب ‪.‬‬
‫وزاد الشّافعيّة أن يكون الصّائل معصوم الدّم ‪ ،‬فلو صال عليه مرتدّ أو حربيّ لم يجب‬
‫الهرب ونحوه ‪ ،‬بل يحرم عليه ‪.‬‬
‫فإن لم يهرب ‪ -‬حيث وجب الهرب ‪ -‬فقاتل وقتل الصّائل ‪ ،‬لزمه القصاص ‪ ،‬في قول‬
‫للشّافعيّة ‪ ،‬وهو الوجه ‪ ،‬ولزمته الدّية في القول الخر لهم أيضا ‪.‬‬
‫وأمّا في الوجه الثّاني عند الشّافعيّة والحنابلة فهو عدم وجوب الهرب عليه ‪ ،‬لنّ إقامته في‬
‫ذلك الموضع جائزة ‪ ،‬فل يكلّف النصراف ‪.‬‬
‫ن المصول عليه إن تيقّن النّجاة بالهرب وجب عليه ‪ ،‬وإلّ‬
‫وفي قول ثالث عند الشّافعيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫فل يجب ‪.‬‬
‫الدّفاع عن نفس الغير ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يختلف قول الحنفيّة والمالكيّة في الدّفاع عن نفس الغير وما دونها من الطراف إذا‬ ‫‪9‬‬

‫صال عليها صائل عن قولهم في الدّفاع عن النّفس إذا كان المصول عليه معصوم الدّم ‪،‬‬
‫بأن يكون من المسلمين أو من أهل ال ّذمّة ‪ ،‬وأن يكون مظلوما ‪.‬‬
‫واستدلّوا في وجوب الدّفاع عن نفس الغير وأطرافه بنفس الدلّة الّتي استدلّوا بها في‬
‫المسألة السّابقة ‪.‬‬
‫ن الدّفاع عن نفس الغير ‪ -‬إذا كان آدميّا محترما ‪ -‬حكمه كحكم‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أ ّ‬
‫دفاعه عن نفسه ‪ ،‬فيجب حيث يجب ‪ ،‬وينتفي حيث ينتفي ‪ ،‬إذ ل يزيد حقّ غيره على حقّ‬
‫نفسه ‪ ،‬ومحلّ الوجوب ‪ -‬عندهم ‪ -‬إذا أمن الهلك على نفسه ‪ ،‬إذ ل يلزمه أن يجعل روحه‬
‫بدلً عن روح غيره ‪ ،‬إ ّل إذا كان ذلك في قتال الحربيّين والمرتدّين فل يسقط الوجوب‬
‫بالخوف الظّاهر‪ ،‬وهذا أصحّ الطّرق عندهم ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة قولن آخران في هذه المسألة ‪:‬‬
‫ن له اليثار بحقّ‬
‫أوّلهما ‪ :‬يجب الدّفاع عن نفس غيره وما دونها من الطراف قطعا ‪ ،‬ل ّ‬
‫نفسه دون غيره ‪ ،‬ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من أُذلّ عنده مؤمن فلم ينصره ‪ -‬وهو‬
‫قادر على أن ينصره ‪ -‬أذلّه اللّه ع ّز وجلّ على رءوس الخلئق يوم القيامة « ‪.‬‬
‫صةً في‬
‫ن شهر السّلح يحرّك الفتن ‪ ،‬وخا ّ‬
‫ثانيهما ‪ :‬ل يجوز الدّفاع عن نفس الغير ‪ ،‬ل ّ‬
‫مجال نصرة الخرين ‪ ،‬وليس الدّفاع عن الغير من شأن آحاد النّاس ‪ ،‬وإنّما هو وظيفة‬
‫المام وولة المور ‪.‬‬
‫ويجري هذا الخلف في المذهب بالنّسبة لحاد النّاس ‪ ،‬أمّا المام وغيره ‪ -‬من الولة ‪-‬‬
‫فيجب عليهم دفع الصّائل على نفس الغير اتّفاقا ‪.‬‬
‫أمّا عند الحنابلة فيجب الدّفاع عن نفس غيره وما دونها من الطراف في غير فتنة ‪ ،‬ومع‬
‫ظنّ سلمة الدّافع والمدفوع عنه ‪ ،‬وإلّ حرّم الدّفاع ‪.‬‬
‫دفع الصّائل عن العرض ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أنّه يجب على الرّجل دفع الصّائل على بضع أهله أو غير أهله ‪،‬‬ ‫‪10‬‬

‫لنّه ل سبيل إلى إباحته ‪ ،‬ومثل الزّنا بالبضع في الحكم مقدّماته في وجوب الدّفع حتّى لو‬
‫أدّى إلى قتل الصّائل فل ضمان عليه ‪ .‬بل إن قتل الدّافع بسبب ذلك فهو شهيد ‪ ،‬لقوله صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ » :‬من قتل دون أهله فهو شهيد « ‪.‬‬
‫ولما في ذلك من حقّه وحقّ اللّه تعالى ‪ -‬وهو منع الفاحشة ‪ -‬ولقوله صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ » :‬انصر أخاك ظالما أو مظلوما « ‪.‬‬
‫إلّ أنّ الشّافعيّة شرطوا لوجوب الدّفاع عن عرضه وعرض غيره ‪ :‬أن ل يخاف الدّافع على‬
‫نفسه ‪ ،‬أو عضو من أعضائه ‪ ،‬أو على منفعة من منافع أعضائه ‪.‬‬
‫أمّا المرأة المصول عليها من أجل الزّنا بها ‪ ،‬فيجب عليها أن تدفع عن نفسها إن أمكنها‬
‫ن التّمكين منها محرّم ‪ ،‬وفي ترك الدّفع نوع تمكين ‪ ،‬فإذا قتلت الصّائل ‪ -‬ولم يكن‬
‫ذلك‪ ،‬ل ّ‬
‫يندفع إلّ بالقتل ‪ -‬فل تضمنه بقصاص ول دية ‪ ،‬لما روى أنّ رجلً أضاف ناسا من هذيل ‪،‬‬
‫فأراد امرأةً على نفسها ‪ ،‬فرمته بحجر فقتلته ‪ ،‬فقال عمر رضي ال عنه ‪ :‬واللّه ل يودى‬
‫أبدا ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من قتل دون عرضه فهو شهيد « ‪.‬‬
‫وفي المغني ‪ :‬لو رأى رجلً يزني بامرأته ‪ -‬أو بامرأة غيره ‪ -‬وهو محصن فصاح به ‪،‬‬
‫ولم يهرب ولم يمتنع عن الزّنا حلّ له قتله ‪ ،‬فإن قتله فل قصاص عليه ول دية ‪ ،‬لما روى‬
‫أنّ عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬بينما هو يتغدّى يوما إذ أقبل رجل يعدو ومعه سيف مجرّد‬
‫ملطّخ بالدّم ‪ ،‬فجاء حتّى قعد مع عمر ‪ ،‬فجعل يأكل وأقبل جماعة من النّاس ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا‬
‫أمير المؤمنين ‪ :‬إنّ هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر ‪ :‬ما يقول هؤلء ؟ قال ‪ :‬إنّه‬
‫ضرب فخذي امرأته بالسّيف ‪ ،‬فإن كان بينهما أحد فقد قتله فقال لهم عمر ‪ :‬ما يقول ؟‬
‫قالوا ‪ :‬ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته فأصاب وسط الرّجل فقطعه باثنين فقال عمر ‪ :‬إن‬
‫عادوا فعد ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا قتل رجلً ‪ ،‬وادّعى أنّه وجده مع امرأته ‪ ،‬فأنكر وليّ المقتول فالقول قول الوليّ‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫لما روي عن عليّ رضي ال عنه أنّه سئل عن رجل دخل بيته ‪ ،‬فإذا مع امرأته رجل ‪،‬‬
‫ن الصل عدم ما‬
‫فقتلها وقتله ‪ ،‬قال عليّ ‪ :‬إن جاء بأربعة شهداء ‪ ،‬وإلّ فليعط برمّته ‪ ،‬ول ّ‬
‫يدّعيه ‪ ،‬فل يسقط حكم القتل بمجرّد الدّعوى ‪.‬‬
‫إلّ أنّ الفقهاء اختلفوا في البيّنة ‪:‬‬
‫ن سعد بن عبادة رضي‬
‫ي السّابق ‪ ،‬ولما ورد أ ّ‬
‫فقال الجمهور ‪ :‬إنّها أربعة شهداء ‪ ،‬لخبر عل ّ‬
‫ل أأمهله حتّى آتي بأربعة‬
‫ال عنه قال ‪ » :‬يا رسول ‪ ،‬أرأيت إن وجدت مع امرأتي رج ً‬
‫شهداء؟ فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬نعم « الحديث ‪.‬‬
‫ن البيّنة تشهد على وجود الرّجل على‬
‫وفي رواية عند الحنابلة أنّه يكفي شاهدان ‪ ،‬ل ّ‬
‫المرأة‪ ،‬وليس على الزّنا ‪.‬‬
‫وكذا لو قتل رجلً في داره ‪ ،‬وادّعى أنّه قد هجم على منزله ‪ ،‬فأنكر وليّ المقتول ‪ ،‬قال‬
‫الحنفيّة ‪ :‬إن لم تكن له بيّنة ‪ ،‬ولم يكن المقتول معروفا بالشّ ّر والسّرقة ‪ ،‬قتل صاحب الدّار‬
‫ص من القاتل في القياس ‪ ،‬وتجب‬
‫قصاصا ‪ ،‬وإن كان المقتول معروفا بالشّرّ والسّرقة لم يقت ّ‬
‫الدّية في ماله لورثة المقتول في الستحسان ‪ ،‬لنّ دللة الحال أورثت شبهةً في القصاص‬
‫ل المال ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن لم تكن له بيّنة يقتصّ منه ‪ ،‬ول يصدّق في دعواه ‪ ،‬إلّ إذا كان بموضع‬
‫ليس يحضره أحد من النّاس ‪ ،‬فيقبل قوله بيمينه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لم يقبل قوله إلّ ببيّنة ‪ ،‬ويكفي في البيّنة قولها ‪ :‬دخل داره شاهرا‬
‫السّلح ‪ ،‬ول يكفي قولها ‪ :‬دخل بسلح من غير شهر ‪ ،‬إلّ إن كان معروفا بالفساد أو بينه‬
‫وبين القتيل عداوة فيكفي ذلك للقرينة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬لم يقبل قوله إلّ ببيّنة ‪ ،‬وإ ّل فعليه القصاص ‪ ،‬سواء كان المقتول يعرف‬
‫ل إلى هذا‬
‫بفساد أو سرقة أو لم يعرف بذلك ‪ ،‬فإن شهدت البيّنة ‪ :‬أنّهم رأوا هذا مقب ً‬
‫بالسّلح المشهور فضربه هذا ‪ ،‬فقد هدر دمه ‪ ،‬وإن شهدوا أنّهم رأوه داخلً داره ‪ ،‬ولم‬
‫يذكروا سلحا ‪ ،‬أو ذكروا سلحا غير مشهور لم يسقط القصاص بذلك ‪ ،‬لنّه قد يدخل‬
‫لحاجة ‪ ،‬ومجرّد الدّخول ل يوجب إهدار دمه ‪.‬‬
‫وإن تجارح رجلن ‪ ،‬وادّعى كلّ منهما قائلً ‪ :‬إنّي جرحته دفعا عن نفسي ‪ ،‬حلف كلّ منهما‬
‫ن كلّ واحد منهما مدّع على الخر‬
‫على إبطال دعوى صاحبه ‪ ،‬وعليه ضمان ما جرحه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ما ينكره ‪ ،‬والصل عدمه ‪.‬‬
‫والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬قصاص ‪ ،‬شهادة ) ‪.‬‬
‫دفع الصّائل على المال ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ -‬وهو الصحّ عند المالكيّة ‪ -‬إلى وجوب دفع الصّائل على المال وإن‬ ‫‪12‬‬

‫ل لم يبلغ نصابا ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬قاتل دون مالك « ‪.‬‬
‫كان قلي ً‬
‫واسم المال يقع على القليل كما يقع على الكثير ‪ .‬فإذا لم يتمكّن من دفع الصّائل على ماله‬
‫إلّ بالقتل فل شيء عليه ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من قتل دون ماله فهو شهيد‬
‫«‪ .‬ولم يفرّقوا بين ماله ومال غيره ‪ .‬فقد ذكر في الخانيّة ‪ :‬أنّه لو رأى رجلً يسرق ماله‬
‫ل يثقب حائطه ‪ ،‬أو حائط غيره ‪ ،‬وهو معروف بالسّرقة‬
‫فصاح به ولم يهرب ‪ ،‬أو رأى رج ً‬
‫فصاح به ولم يهرب حلّ له قتله ‪ ،‬ول قصاص عليه ‪.‬‬
‫إلّ أنّ المالكيّة اشترطوا للوجوب أن يترتّب على أخذه هلك ‪ ،‬أو شدّة أذىً ‪ ،‬وإلّ فل يجب‬
‫الدّفع اتّفاقا ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ل يجب الدّفع عن المال ‪ ،‬لنّه يجوز إباحته للغير ‪ ،‬إ ّل إذا كان ذا‬
‫روح أو تعلّق به حقّ الغير كرهن وإجارة فيجب الدّفاع عنه ‪ ،‬قال المام الغزاليّ ‪ :‬وكذا إن‬
‫كان ما ًل محجورا عليه ‪ ،‬أو وقفا أو مالً مودعا ‪ ،‬فيجب على من هو بيده الدّفاع عنه ‪،‬‬
‫وهذا كلّه إذا لم يخش على نفس ‪ ،‬أو على بُضْع ‪ ،‬وعليه فإذا رأى شخصا يتلف حيوان‬
‫نفسه إتلفا محرّما وجب عليه الدّفاع عنه ‪ ،‬من باب المر بالمعروف والنّهي عن المنكر ‪.‬‬
‫كما ذهبوا إلى أنّه إذا قتل الصّائل على المال فل ضمان عليه بقصاص ول دية ول كفّارة‬
‫ول قيمة ‪ ،‬لنّه مأمور بالدلّة السّابقة بالقتال والقتل ‪ ،‬وبين المر بالقتال والضّمان منافاة ‪،‬‬
‫قال تعالى ‪َ { :‬فمَنِ اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ فَاعْتَدُو ْا عَلَ ْيهِ ِبمِ ْث ِل مَا اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ } ‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬انصر أخاك ظالما أو مظلوما « ‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ » :‬من قتل دون ماله فهو شهيد « ‪.‬‬
‫ويستثنى عندهم من جواز الدّفاع عن المال صورتان ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬لو قصد مضط ّر طعام غيره ‪ ،‬فل يجوز لمالكه دفعه عنه ‪ ،‬إن لم يكن مضطرّا‬
‫مثله ‪ ،‬فإن قتل المالك الصّائل المضطرّ إلى الطّعام وجب عليه القصاص ‪.‬‬
‫والخرى ‪ :‬إذا كان الصّائل مكرها على إتلف مال غيره ‪ ،‬فل يجوز دفعه عنه ‪ ،‬بل يلزم‬
‫المالك أن يقي روحه بماله ‪ ،‬كما يتناول المضط ّر طعامه ‪ ،‬ولكلّ منهما دفع المكره ‪.‬‬
‫قال الذرعيّ ‪ :‬وهذا في آحاد النّاس ‪ ،‬أمّا المام ونوّابه فيجب عليهم الدّفاع عن أموال‬
‫رعاياهم ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّه ‪ :‬ل يلزمه الدّفاع عن ماله على الصّحيح ‪ ،‬ول مال غيره ‪ ،‬ول‬
‫حفظه من الضّياع والهلك ‪ ،‬لنّه يجوز بذله لمن أراده منه ظلما ‪ ،‬وترك القتال على ماله‬
‫أفضل من القتال عليه ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يجب عليه الدّفاع عن ماله ‪.‬‬
‫أمّا دفع النسان عن مال غيره فيجوز ما لم يفض إلى الجناية على نفس الطّالب ‪ ،‬أو شيء‬
‫من أعضائه ‪.‬‬
‫ن سلمة الدّافع والصّائل ‪،‬‬
‫وقال جماعة من الحنابلة ‪ :‬يلزمه الدّفاع عن مال الغير مع ظ ّ‬
‫وإلّ حرّم الدّفاع ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ويجب عليه معونة غيره في الدّفاع عن ماله مع ظنّ السّلمة ‪ ،‬لقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬انصر أخاك ظالما أو مظلوما « ‪ ،‬ولنّه لول التّعاون لذهبت أموال النّاس‬
‫ن قطّاع الطّريق إذا انفردوا بأخذ مال إنسان ‪ -‬ولم يعنه غيره ‪ -‬فإنّهم يأخذون‬
‫وأنفسهم‪ ،‬ل ّ‬
‫أموال الكلّ ‪ ،‬واحدا واحدا ‪.‬‬
‫صَيْد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ي أي ‪ :‬فعل الصطياد ‪،‬‬
‫‪ -‬الصّيد ‪ :‬لغةً مصدر صاد يصيد ‪ ،‬ويطلق على المعنى المصدر ّ‬ ‫‪1‬‬

‫كما يطلق على المصيد ‪ ،‬يقال ‪ :‬صيد المير ‪ ،‬وصيد كثير ‪ ،‬ويراد به المصيد ‪ ،‬كما يقال ‪:‬‬
‫هذا خلق اللّه أي مخلوقه سبحانه وتعالى ‪.‬‬
‫والصّيد هنا بمعنى المصيد ‪ :‬يقول اللّه تعالى ‪َ { :‬ل َتقْتُلُو ْا الصّيْدَ َوأَن ُتمْ حُ ُرمٌ } ‪.‬‬
‫ي على الطلق الثّانعي ‪ -‬أي المصعيد ‪ -‬بأنّه اسعم لمعا‬
‫وفعي الصعطلح ‪ :‬عرّفعه الكاسعان ّ‬
‫يتوحّش ويمتنع ‪ ،‬ول يمكن أخذه إلّ بحيلة ‪ ،‬إمّا لطيرانه أو لعدوه ‪.‬‬
‫ي والمصيد ‪ -‬فقال ‪ :‬الصّيد بالمعنى‬
‫وعرّفه البهوتيّ بالطلقين ‪ -‬المعنى المصدر ّ‬
‫المصدريّ‪ :‬اقتناص حيوان متوحّش طبعا غير مملوك ول مقدور عليه ‪.‬‬
‫أمّا بالمعنى الثّاني ‪ -‬أي المصيد ‪ -‬فعرّفه بقوله ‪ :‬الصّيد حيوان مقتنص حلل متوحّش‬
‫طبعا‪ ،‬غير مملوك ول مقدور عليه فخرج الحرام كالذّئب ‪ ،‬والنسيّ كالبل ولو توحّشت ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الذّبح ‪:‬‬
‫‪ -‬الذّبح في اللّغة ‪ :‬الشّقّ ‪ ،‬وفي الصطلح ‪ :‬هو القطع في الحلق ‪ ،‬وهو ما بين اللّبّة‬ ‫‪2‬‬

‫واللّحيين من العنق ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬النّحر ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني النّحر في اللّغة ‪ :‬الطّعن في لبّة الحيوان ‪ ،‬لنّها مسامتة لعلى صدره ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫يقال‪ :‬نحر البعير ينحره نحرا ‪.‬‬


‫وفي الصطلح ‪ :‬يطلق النّحر على هذا المعنى اللّغويّ ‪ ،‬ومن ذلك قول الفقهاء ‪ :‬يستحبّ‬
‫في البل النّحر ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬نحر ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬العقر ‪:‬‬
‫‪ -‬العَقر بفتح العين لغةً ‪ :‬ضرب قوائم البعير ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫واستعمله الفقهاء بمعنى ‪ :‬الصابة القاتلة للحيوان في أيّ موضع كانت من بدنه ‪ ،‬إذا كان‬
‫غير مقدور عليه ‪ ،‬سواء أكانت بالسّهم أم بجوارح السّباع والطّير ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬عقر ) ‪.‬‬
‫أقسام الصّيد ‪:‬‬
‫ي‪.‬‬
‫‪ -‬الصّيد نوعان ‪ :‬ب ّريّ وبحر ّ‬ ‫‪5‬‬

‫فالصّيد الب ّريّ ‪ :‬ما يكون توالده في البرّ ‪ ،‬ول عبرة بالمكان الّذي يعيش فيه ‪.‬‬
‫ن التّوالد‬
‫ي ‪ :‬فهو ما يكون توالده في الماء ‪ ،‬ولو كان مثواه في البرّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫أمّا الصّيد البحر ّ‬
‫أصل ‪ ،‬والكينونة بعده عارض ‪.‬‬
‫فكلب الماء والضّفدع ‪ ،‬ومثله السّرطان والتّمساح والسّلحفاة بحريّ يحلّ اصطياده للمحرم ‪،‬‬
‫لقوله تعالى ‪ُ { :‬أحِ ّل َلكُمْ صَيْ ُد الْ َبحْرِ } ‪.‬‬
‫وأمّا الب ّريّ ‪ :‬فحرام عليه إلّ ما يستثنى منه ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪13‬‬ ‫ر ‪ ( :‬حرم فقرة ‪:‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل في الصّيد الباحة ‪ ،‬إلّ لمحرم أو في الحرم ‪ ،‬يدلّ عليها الكتاب والسّنّة‬ ‫‪6‬‬

‫والجماع ‪ ،‬والمعقول ‪.‬‬


‫أمّا الكتاب فآيات ‪ ،‬منها قوله تعالى ‪ُ { :‬أحِ ّل َلكُمْ صَيْ ُد الْ َبحْ ِر َوطَعَا ُمهُ مَتَاعا ّلكُمْ وَلِلسّيّارَةِ‬
‫َوحُ ّرمَ عَلَ ْي ُكمْ صَيْ ُد الْبَرّ مَا ُدمْ ُتمْ حُرُما } ‪.‬‬
‫صطَادُواْ } ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وإِذَا حَلَلْ ُتمْ فَا ْ‬
‫وأمّا السّنّة فأحاديث ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫ي بن حاتم رضي ال عنه قال ‪ :‬قلت يا رسول اللّه ‪ :‬إنّا قوم نتصيّد بهذه الكلب ‪،‬‬
‫حديث عد ّ‬
‫ف ما يحلّ ل نا من ها ؟ فقال ‪ » :‬إذا أر سلت كل بك المعلّ مة وذكرت ا سم اللّه ف كل ممّا أم سكن‬
‫عليعك ‪ ،‬إلّ أن يأكعل الكلب فل تأكعل ‪ ،‬فإنّي أخاف أن يكون إنّمعا أمسعك على نفسعه ‪ ،‬وإن‬
‫خالطها كلب من غيرها فل تأكل « ‪.‬‬
‫وحديث أبي ثعلبة الخشنيّ رضي ال عنه أنّه سأل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن‬
‫الصّيد بالقوس ‪ ،‬والكلب المعلّم ‪ ،‬والكلب غير المعلّم ‪ :‬فقال له رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ » :‬ما صدت بقوسك فاذكر اسم اللّه ث ّم كل ‪ ،‬وما صدت بكلبك المعلّم فاذكر اسم اللّه‬
‫ثمّ كل ‪ ،‬وما صدت بكلبك الّذي ليس معلّما فأدركت ذكاته فكل « ‪.‬‬
‫ن النّاس كانوا يمارسون الصّيد في عهد الرّسول صلى ال عليه وسلم‬
‫وأمّا الجماع فبيانه أ ّ‬
‫وعهود أصحابه وتابعيهم من غير نكير ‪.‬‬
‫وأمّا المعقول ‪ :‬فهو أنّ الصّيد نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك ‪ ،‬وفيه استيفاء‬
‫المكلّف وتمكينه من إقامة التّكاليف ‪ ،‬فكان مباحا بمنزلة الحتطاب ‪.‬‬
‫وبهذا تتبيّن حكمة مشروعيّته ‪.‬‬
‫ن الصل في الصّيد الباحة ‪ ،‬فل يحكم بأنّه خلف الولى أو مكروه أو حرام‬
‫‪ -7‬وإذا علم أ ّ‬
‫أو مندوب أو واجب إلّ في صور خاصّة بأدلّة خاصّة نذكرها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬يكون الصّيد خلف الولى إذا حدث ليلً ‪ ،‬صرّح بذلك الحنفيّة ‪ ،‬وصرّح الحنابلة‬ ‫‪8‬‬

‫بخلفه ففي المغني ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬ل بأس بصيد اللّيل ‪.‬‬
‫‪ -9‬ب ‪ -‬ويكره الصّيد إذا كان الغرض منه التّلهّي والعبث ‪.‬‬
‫لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل تتّخذوا شيئا فيه الرّوح غرضا « ‪ .‬أي هدفًا ‪.‬‬
‫وذكر بعض الفقهاء صورا أخرى للكراهة ‪ ،‬فقد ذكر الحنفيّة أنّ تعليم البازي بالصّيود الحيّة‬
‫مكروه ‪ ،‬لما في ذلك من تعذيب الحيوان ‪.‬‬
‫أمّا ما ذكره بعض الحنفيّة من كراهة حرفة الصطياد عموما ‪ ،‬فقد ردّه الحصكفيّ وابن‬
‫ن التّحقيق إباحة اتّخاذه حرفةً ‪ ،‬لنّه نوع من الكتساب ‪ ،‬وكلّ أنواع‬
‫عابدين ‪ :‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫الكسب في الباحة سواء على المذهب الصّحيح ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬وهذا إذا لم يكن الكسب بالرّبا والعقود الفاسدة ‪ ،‬ولم يكن بطريق‬
‫محظور‪ ،‬فل يذ ّم بعضها ‪ ،‬وإن كان بعضها أفضل من بعض ‪.‬‬
‫وذكر الحنابلة أنّه يكره الصطياد في صور منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون بشيء نجس ‪ ،‬كالعذرة ‪ ،‬والميتة لما يتضمّنه من أكل المصيد للنّجاسة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ويكره أن يكون ببنات وردان ‪ ،‬لنّ مأواها الحشوش ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ويكره أن يكون بالضّفادع ‪ ،‬للنّهي عن قتلها ‪.‬‬
‫د ‪ -‬ويكره أن يكون بالخراطيم ‪ ،‬وكلّ شيء فيه الرّوح ‪ ،‬لما فيه من تعذيب الحيوان ‪.‬‬
‫‪ -‬ويحرم الصّيد في صور ‪ ،‬منها ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫أ ‪ -‬أن يكون الصّائد محرما بحجّ أو عمرة ‪.‬‬


‫والصّيد برّيّا ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬وحُ ّرمَ عَلَ ْيكُ ْم صَيْدُ الْبَ ّر مَا ُدمْ ُتمْ حُرُما } وهذا باتّفاق الفقهاء‬
‫‪.‬‬
‫َمع‬
‫ب ‪ -‬أن يكون الصعّيد حرميّا ‪ ،‬سعواء أكان الصعّائد محرما أم حللً ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬أوَل ْ‬
‫يَ َروْا أَنّا جَعَلْنَا حَ َرمًا آمِنا } الية ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عل يه و سلم في صفة مكّة ‪ » :‬ول ينفّر صيدها « ‪ ،‬وهذا باتّفاق الفقهاء‬
‫أيضا ‪.‬‬
‫ص جناح أو نحوهما ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن يكون على الصّيد أثر الملك ‪ ،‬كخضب أو ق ّ‬
‫وقد ذكر هذه المسألة الشّافعيّة نصّا ‪ ،‬ويفهم ذلك من كلم سائر الفقهاء ‪ ،‬لنّه في هذه‬
‫الحالة مملوك لشخص آخر ‪ .‬ويشترط في الصّيد أن ل يكون مملوكا ‪.‬‬
‫وذكر المالكيّة صورةً أخرى يحرم فيها الصّيد ‪ ،‬وهي ‪ :‬خلوّه عن نيّة مشروعة ‪ ،‬كأن يصاد‬
‫المأكول أو غيره ل بنيّة الذّكاة ‪ ،‬بل بل نيّة شيء ‪ ،‬أو بنيّة حبسه ‪ ،‬أو الفرجة عليه ‪.‬‬
‫ي عن الحطّاب ما يفيد جواز اصطياد الصّيد بنيّة الفرجة عليه حيث ل‬
‫لكن نقل الدّسوق ّ‬
‫تعذيب وأنّ بعضهم أخذوا الجواز من حديث ‪ » :‬يا أبا عمير ما فعل النّغير « ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد لخّص الدّردير الحكم التّكليفيّ للصّيد عند المالكيّة فقال ‪ :‬كره للّهو ‪ ،‬وجاز‬
‫لتوسعة على نفسه وعياله غير معتادة ‪ ،‬وندب لتوسعة معتادة أو س ّد خلّة غير واجبة ‪ ،‬أو‬
‫كفّ وجه عن سؤال ‪ ،‬أو صدقة ‪ ،‬ووجب لسدّ خلّة واجبة ‪ ،‬فتعتريه الحكام الخمسة ‪.‬‬
‫أركان الصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬أركان الصّيد ثلثة ‪ :‬صائد ومصيد وآلة ‪ ،‬ولكلّ ركن من هذه الركان شروط بيانها‬ ‫‪11‬‬

‫فيما يلي ‪:‬‬


‫أوّلً ‪ :‬ما يشترط في الصّائد ‪:‬‬
‫يشترط في الصّائد لصحّة الصّيد الشّروط التية ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬مميّزا ‪ ،‬وهذا عند جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة‬
‫‪ -‬الشّرط الوّل ‪ :‬أن يكون عاق ً‬ ‫‪12‬‬

‫والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو قول عند الشّافعيّة ‪. -‬‬


‫ي غير العاقل ليس أهلً للتّذكية عندهم ‪ ،‬فل يكون أهلً للصطياد ‪ ،‬ولنّ‬
‫وذلك لنّ الصّب ّ‬
‫الصّيد يحتاج إلى القصد والتّسمية ‪ ،‬وهما ل يصحّان ممّن ل يعقل ‪ ،‬كما علّله الحنفيّة‬
‫والحنابلة ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فل يجوز صيد المجنون ‪ ،‬والصّبيّ غير المميّز ‪ ،‬كما ل تجوز ذبيحتهما عند‬
‫ي ‪ -‬ولو غير مميّز ‪،‬‬
‫جمهور الفقهاء ‪ ،‬خلفا للشّافعيّة ‪ ،‬فإنّهم صرّحوا بأنّ ذبح وصيد صب ّ‬
‫ن لهم قصدا وإراد ًة في الجملة ‪،‬‬
‫وكذا المجنون والسّكران ‪ -‬حلل في الظهر عندهم ‪ ،‬ل ّ‬
‫ص عليه في المّ ‪ ،‬وفي قول آخر عند‬
‫لكن مع الكراهة ‪ ،‬لنّهم قد يخطئون الذّبح ‪ ،‬كما ن ّ‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬ل يحلّ صيدهم ول ذبحهم ‪ ،‬لفساد قصدهم ‪.‬‬
‫قال الشّربينيّ ‪ :‬ومحلّ الخلف في المجنون والسّكران ‪ ،‬إذا لم يكن لهما تمييز أصلً ‪ ،‬فإن‬
‫كان لهما أدنى تمييز حلّ قطعا ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪21‬‬ ‫ولتفصيل هذا الموضوع ينظر مصطلح ‪ ( :‬ذبائح ف‬
‫‪ -‬الشّرط الثّاني ‪ :‬أن يكون حللً ‪ ،‬فإن كان محرما بحجّ أو عمرة لم يؤكل ما صاده ‪،‬‬ ‫‪13‬‬

‫بل يكون ميت ًة كما سيأتي بيانه ‪.‬‬


‫‪ -‬الشّرط الثّالث ‪ :‬أن يكون مسلما أو كتابيّا ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪،‬‬ ‫‪14‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل يحلّ ما صاده الكتابيّ وإن حلّ ما ذبحه ‪ ،‬وفرّقوا بين الذّبح والصّيد ‪ :‬بأنّ‬
‫الصّيد رخصة ‪ ،‬والكافر ولو كتابيّا ليس من أهلها ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬يعتبر ‪ -‬هذا الشّرط ‪ -‬من حين الرسال إلى حين الصابة ‪،‬‬
‫وهناك قول آخر للمالكيّة أنّه يشترط وقت الرسال فقط كما تقدّم ‪.‬‬
‫ن غير المسلم‬
‫وعلى ذلك فل يحلّ صيد المشرك أو المرت ّد ‪ ،‬ووجه اشتراط هذا الشّرط هو أ ّ‬
‫ل يخلص ذكر اسم اللّه ‪ ،‬ووجه حلّ صيد وذبائح أهل الكتاب هو قوله تعالى ‪َ { :‬وطَعَامُ‬
‫حلّ ّلكُمْ } ‪.‬‬
‫الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ ِ‬
‫والمقصود بالكتابيّ ‪ :‬اليهوديّ والنّصرانيّ ‪ ،‬ذمّيّا كان أو حربيّا ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪23‬‬ ‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬ذبائح ف‬
‫‪ -‬الشّرط الرّابع ‪ :‬يشترط في الصّائد أن يسمّي اللّه تعالى عند الرسال أو الرّمي ‪ ،‬وذلك‬ ‫‪15‬‬

‫عند جمهور الفقهاء ‪ :‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪.‬‬


‫ثمّ إنّ الحنفيّة ‪ :‬قالوا ‪ :‬تشترط التّسمية عند الرسال ولو حكما ‪ ،‬فالشّرط عندهم عدم تركها‬
‫عمدا ‪ ،‬فلو نسي التّسمية ولم يتعمّد التّرك جاز ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يشترط إذا ذكر وقدر ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬إن ترك التّسمية عمدا أو سهوا لم يبح ‪ ،‬قال ابن قدامة ‪ :‬هذا تحقيق‬
‫المذهب‪ ،‬وهو قول الشّعبيّ وأبي ثور ‪.‬‬
‫وعن أحمد أنّ التّسمية تشترط على إرسال الكلب ‪ ،‬ول يلزم ذلك في إرسال السّهم إليه‬
‫حقيقةً ‪ ،‬وليس له اختيار فهو بمنزلة السّكّين ‪ ،‬بخلف الحيوان فإنّه يفعل باختياره ‪.‬‬
‫ن عند إرسال السّهم أو الجارحة ‪ ،‬فلو تركها‬
‫أمّا الشّافعيّة فل تشترط عندهم التّسمية بل تس ّ‬
‫عمدا أو سهوا حلّ ‪ ،‬لكنّهم قالوا ‪ :‬يكره تعمّد تركها ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪32‬‬ ‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬ذبائح ف‬
‫)‪.‬‬ ‫‪19‬‬ ‫وينظر مصطلح ‪ ( :‬تسمية ف‬
‫‪ -‬الشّرط الخامس ‪ :‬أن ل يهلّ الصّائد لغير اللّه تعالى ‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫وهذا الشّرط متّفق عليه عند جميع المذاهب ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا أُ ِه ّل ِبهِ ِلغَيْ ِر الّلهِ } ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪35‬‬ ‫وينظر مصطلح ‪ ( :‬ذبائح ف‬
‫‪ -‬الشّرط السّادس ‪ :‬أن يرسل اللة بحيث ينسب إليه الصّيد ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬يكون إرسال الجارحة من يد الصّائد أو يد غلمه ‪ ،‬قال الصّاويّ ‪ :‬المراد‬
‫باليد ‪ :‬حقيقتها ‪ ،‬ومثلها إرسالها من حزامه أو من تحت قدمه ‪ ،‬ل القدرة عليه أو الملك‬
‫فقط ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّه تكفي نيّة المر وتسميته ‪ ،‬وإسلمه ‪.‬‬
‫وقد فرّع الفقهاء على ذلك مسائل منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬لو أطارت الرّيح السّهم فقتلت صيدا أو نصب سكّينا بل قصد فاحتكّ به صيد فقتله لم‬
‫يحلّ ‪ ،‬صرّح بذلك الشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لو استرسلت جارحة بنفسها ‪ ،‬ولم يغرها أحد في أثناء السترسال إغراءً يزيد من‬
‫سرعتها حرم ما قتلته من الصّيد ‪ ،‬لعدم تحقّق الرسال ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬لو استرسلت جارحة بنفسها وأغراها من هو أهل للصّيد إغراءً يزيد من سرعتها لم‬
‫يحلّ ما قتلته عند المالكيّة ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة لعدم الرسال من يد الصّائد عند‬
‫المالكيّة ‪ ،‬وأمّا الشّافعيّة فعلّلوا الحرمة بأنّه اجتمع فيه السترسال المانع والغراء المبيح ‪،‬‬
‫ي الخطيب ‪.‬‬
‫فغلب جانب المنع ‪ ،‬كما يقول الشّربين ّ‬
‫أمّا الحنفيّة والحنابلة ‪ -‬وفي مقابل الصحّ عند الشّافعيّة ‪ -‬فقالوا بالحلّ إن اقترن بالغراء‬
‫التّسمية لظهور أثر الغراء بزيادة العدو ‪ ،‬ولنّ الغراء أثّر في عدوه ‪ ،‬فأشبه ما لو‬
‫أرسله‪ ،‬كما يقول الرّحيبانيّ ‪.‬‬
‫د ‪ -‬لو أرسل الجارحة وهو أهل للصّيد ‪ ،‬فأغراها من ل يحلّ صيده لم يحرم ما قتلته ‪ ،‬لنّ‬
‫الرسال السّابق على الغراء أقوى منه ‪ ،‬فل ينقطع حكم الرسال بالغراء ‪ ،‬كما صرّح به‬
‫الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫هع – لو أرسل الجارحة من ليس أهلً للصّيد ‪ ،‬فأغراها من هو أهل له لم يؤكل ما قتلته ‪،‬‬
‫لنّ العتبار بالرسال الّذي هو أقوى من الغراء ‪.‬‬
‫و ‪ -‬لو انفلتت الجارحة من يد صاحبها غير مسترسلة ‪ ،‬فأغراها من هو أهل للصّيد حلّ ما‬
‫قتلته لنّ الغراء ليس مسبوقا بما هو أقوى منه ‪ ،‬صرّح بذلك الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن الصطياد ل ينسب‬
‫واختلف فيه المالكيّة ‪ :‬فقال مالك أ ّولً بالح ّل ‪ ،‬ثمّ عدل إلى الحرمة ‪ ،‬ل ّ‬
‫إليه إلّ إذا أرسل الجارحة من يده ‪ ،‬وهذا هو الّذي جزم به خليل والدّردير ‪ ،‬وإن كان القول‬
‫ي وأيّده البنانيّ ‪ ،‬وهو المتّفق مع‬
‫بالحلّ قد أخذ به ابن القاسم واختاره غير واحد كاللّخم ّ‬
‫سائر المذاهب ‪.‬‬
‫ل له‬
‫ز ‪ -‬لو أرسل الجارحة من هو أهل للصّيد ‪ ،‬فوقفت في ذهابها ‪ ،‬فأغراها من ليس أه ً‬
‫حرم ما قتلته ‪ ،‬لرتفاع حكم الرسال بالوقوف ‪ ،‬صرّح بذلك الحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط السّابع ‪ :‬قصد ما يباح صيده ‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫يشترط في الصّائد أن يقصد بإرساله صيد ما يباح صيده ‪ ،‬فلو أرسل سهما أو جارحةً على‬
‫إنسان أو حيوان مستأنس ‪ ،‬أو حجر فأصابت صيدا لم يحلّ ‪.‬‬
‫ثمّ اختلفت عبارات الفقهاء في تطبيق هذا الشّرط ‪ ،‬وفي الفروع الّتي ذكروها ‪:‬‬
‫فقال الحنفيّة ‪ :‬إذا سمع الصّائد حسّ ما ل يحلّ صيده من إنسان أو غيره ‪ ،‬كفرس وشاة‬
‫وطير مستأنس وخنزير أهليّ ‪ ،‬فأطلق سهما فأصاب ما يحلّ صيده ‪ ،‬لم يحلّ لنّ الفعل ليس‬
‫باصطياد ‪.‬‬
‫س أسد فرمى إليه أو أرسل كلبه ‪ ،‬فإذا هو صيد حلل الكل حلّ ‪ ،‬لنّه‬
‫بخلف ما إذا سمع ح ّ‬
‫أراد صيد ما يحلّ اصطياده ‪ ،‬كما إذا رمى إلى صيد فأصاب غيره ‪.‬‬
‫لنّ الحنفيّة يجيزون صيد ما ل يؤكل لحمه لمنفعة جلده ‪ ،‬أو شعره أو ريشه ‪ ،‬أو لدفع‬
‫شرّه‪ ،‬كما سيأتي في شروط المصيد ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين عن الزّيلعيّ قوله ‪ :‬ل يح ّل الصّيد إلّ بوجهين ‪:‬‬
‫أن يرميه وهو يريد الصّيد ‪.‬‬
‫وأن يكون الّذي أراده ‪ ،‬وسمع حسّه ‪ ،‬ورمى إليه صيدا ‪ ،‬سواء أكان ممّا يؤكل أم ل ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يشترط علم الصّائد حين إرسال الجارح على المصيد أنّه من المباح ‪،‬‬
‫كالغزال والحمار الوحشيّ ‪ ،‬وإن لم يعلم نوعه ‪ ،‬بأن اعتقد أنّه مباح ‪ ،‬لكن تردّد ‪ :‬هل هو‬
‫حمار وحشيّ أو ظبي ؟ فإنّه يؤكل ‪.‬‬
‫وكذا إن تعدّد مصيده ونوى الجميع ‪.‬‬
‫ي قبل‬
‫وإن لم ينو الجميع فما نواه يؤكل إن صاده أ ّولً قبل غيره ‪ ،‬فإن صاد غير المنو ّ‬
‫المنويّ لم يؤكل واحد منهما إلّ بذكاة ‪ ،‬أمّا المنويّ فلتشاغله ابتداءً بغير المنويّ عنه ‪،‬‬
‫وأمّا غير المنويّ فلعدم نيّة اصطياده ‪.‬‬
‫فإن لم يكن له نيّة في واحد ‪ ،‬ول في الجمع ‪ ،‬لم يؤكل شيء ‪ ،‬كما نقله الصّاويّ عن‬
‫الجهوريّ ‪.‬‬
‫ك أو توهّم ‪ -‬في حرمته ‪ ،‬كخنزير فإذا هو حلل‬
‫ول يؤكل المصيد إن تردّد ‪ -‬بأن ظنّ أو ش ّ‬
‫كظبي ‪ ،‬لعدم الجزم بالنّيّة ‪.‬‬
‫ونقل الصّاويّ عن جدّ الجهوريّ أنّه لو نوى واحدا بعينه لم يؤكل إلّ هو إن عرف ‪ ،‬وإن‬
‫نوى واحدا ل بعينه لم يؤكل إلّ الوّل ‪ ،‬ولو شكّ في أوّليّته لم يؤكل شيء ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو أرسل سهما مثلً لختبار قدرته ‪ ،‬أو إلى غرض ‪ ،‬فاعترضه صيد فقتله‬
‫حرم في الصحّ المنصوص ‪ ،‬لنّه لم يقصد صيدا معيّنا ‪.‬‬
‫وفي القول الثّاني عندهم ‪ :‬ل يحرم ‪ ،‬نظرا إلى قصد الفعل ‪ ،‬دون مورده ‪.‬‬
‫وإذا أرسله على ما ل يؤكل ‪ ،‬كخنزير ‪ ،‬فأصاب صيدا ‪ ،‬فإنّه ل يؤكل على الصحّ كذلك ‪،‬‬
‫وكذا لو أرسل الكلب حيث ل صيد ‪ ،‬فاعترضه صيد ‪ ،‬فقتله لم يحلّ ‪ ،‬وذلك لعدم قصد‬
‫الصطياد حين الرسال ‪.‬‬
‫أمّا إذا رمى صيدا ظنّه حجرا ‪ ،‬أو حيوانا ل يؤكل ‪ ،‬فأصاب صيدا حلّ ‪ ،‬وكذا إذا رمى سرب‬
‫ظباء ‪ ،‬ونحوها من الوحوش ‪ ،‬فأصاب واحدةً من ذلك السّرب حلّت ‪ ،‬أمّا في الولى ‪ ،‬فلنّه‬
‫قتله بفعله ‪ ،‬ول اعتبار بظنّه ‪ ،‬وأمّا في الثّانية ‪ ،‬فلنّه قصد السّرب ‪ ،‬وهذه الواحدة منه ‪.‬‬
‫وإن قصد واحدةً من السّرب ‪ ،‬فأصاب غيرها منه حلّت في الصحّ المنصوص ‪ ،‬سواء أكان‬
‫هذا الغير على سمت الولى أم ل ‪ ،‬لوجود قصد الصّيد ‪.‬‬
‫ومقابل الصحّ ‪ :‬المنع ‪ ،‬نظرا إلى أنّها غير المقصودة ‪.‬‬
‫ولو قصد ‪ ،‬وأخطأ في الظّنّ والصابة معا ‪ ،‬كمن رمى صيدا ظنّه حجرا ‪ ،‬أو خنزيرا ظنّه‬
‫صيدا فأصاب صيدا غيره حرم ‪ ،‬لنّه قصد محرّما ‪ ،‬فل يستفيد الحلّ ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬إن أرسل كلبه أو سهمه إلى هدف فقتل صيدا ‪ ،‬أو أرسله يريد الصّيد ول‬
‫يرى صيداص ‪ ،‬أو قصد إنسانا أو حجرا ‪ ،‬أو رمى عبثا غير قاصد صيدا ‪ ،‬أو رمى حجرًا‬
‫ك فيه أو غلب على ظنّه أنّه ليس بصيد ‪ ،‬أو ظنّه آدميّا أو بهيمةً فأصاب‬
‫يظنّه صيدا ‪ ،‬أو ش ّ‬
‫صيدا لم يحلّ في جميع هذه الصّور ‪ ،‬لنّ قصد الصّيد شرط ‪ ،‬ولم يوجد ‪.‬‬
‫ولو رمى صيدا فأصاب غيره ‪ ،‬أو رمى صيدا فقتل جماع ًة حلّ الجميع ‪ ،‬لنّه أرسله على‬
‫صيد فح ّل ما صاده ‪.‬‬
‫وكذا إذا أرسل سهمه على صيد فأعانته الرّيح فقتله ‪ ،‬ولولها ما وصل السّهم حلّ ‪ ،‬لنّه‬
‫قتله بسهمه ورميه ‪ ،‬أشبه ما لو وقع سهمه على حجر فردّه على الصّيد فقتله ‪ .‬ولنّ‬
‫الرسال له حكم الحلّ ‪ ،‬والرّيح ل يمكن الحتراز عنها ‪ ،‬فسقط اعتبارها ‪.‬‬
‫والجارح بمنزلة السّهم ‪ ،‬فلو أرسله على صيد فأصاب غيره ‪ ،‬أو على صيد فصاد عددا حلّ‬
‫الجميع ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الثّامن ‪ :‬أن يكون الصّائد بصيرا ‪ ،‬وهذا الشّرط ذكره الشّافعيّة ‪ ،‬حيث نصّوا‬ ‫‪19‬‬

‫على أنّه يحرم صيد العمى برمي سهم أو إرسال كلب وغيره من الجوارح في الصحّ ‪،‬‬
‫لعدم صحّة قصده ‪ ،‬فأشبه استرسال الكلب بنفسه ‪.‬‬
‫ومقابل الصحّ ‪ :‬يحلّ صيده ‪ ،‬كذبحه ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬ومح ّل الخلف ما إذا دلّه بصير على الصّيد فأرسل ‪ ،‬أمّا إذا لم يدلّه أحد فل‬
‫قال الرّمل ّ‬
‫يحلّ قطعا ‪ ،‬نعم لو أحسّ البصير بصيد في ظلمة ‪ ،‬أو من وراء شجرة أو نحوهما فرماه‬
‫ن هذا مبصر بالقوّة ‪ ،‬فل يعدّ عرفا رميه عبثا ‪.‬‬
‫حلّ بالجماع ‪ ،‬فكأنّ وجهه أ ّ‬
‫ثانيا ‪ :‬ما يشترط في المصيد ‪:‬‬
‫يشترط في المصيد الشّروط التّالية ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرط الوّل ‪ :‬يشترط في المصيد أن يكون حيوانا مأكول اللّحم أي جائز الكل ‪ ،‬وهذا‬ ‫‪20‬‬

‫عند جميع الفقهاء إذا كان الصّيد لجل الكل ‪.‬‬


‫أمّا مطلق الصّيد فاختلفوا فيه ‪:‬‬
‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم اشتراط أن يكون الصّيد مأكول اللّحم ‪ ،‬بل يجوز عندهم‬
‫صيد ما يؤكل لحمه وما ل يؤكل لحمه لمنفعة جلده أو شعره أو ريشه ‪ ،‬أو لدفع شرّه ‪،‬‬
‫وكلّ مشروع ‪.‬‬
‫ي من المالكيّة ‪ :‬الصطياد المتعلّق بنحو خنزير من كلّ محرّم يجوز بنيّة‬
‫ويقول البيّ الزهر ّ‬
‫قتله ‪ ،‬ول يعدّ من العبث ‪ ،‬وأمّا بنيّة الفرجة عليه فل يجوز ‪.‬‬
‫كما يجوز ذكاة ما ل يؤكل لحمه من الحيوان كخيل وبغل وحمار إن أيس منه ‪.‬‬
‫أمّا الشّافعيّة والحنابلة فل يجيزون صيد أو ذكاة غير مأكول اللّحم ‪ ،‬ولهذا ذكروا في‬
‫تعريفهم الصّيد بمعنى المصيد ‪ :‬بأنّه حيوان مقتنص حلل متوحّش طبعا غير مملوك ول‬
‫مقدور عليه ‪.‬‬
‫وأجاز المالكيّة ذبح غير مأكول اللّحم للراحة ل للتّطهير ‪.‬‬
‫ولم يجز الشّافعيّة ‪ ،‬قتل أو ذبح غير مأكول اللّحم حتّى للراحة ‪ ،‬فصيده يعتبر ميتة عندهم‬
‫‪ -‬الشّرط الثّاني ‪ :‬أن يكون المصيد حيوانًا متوحّشا ممتنعا عن الدميّ بقوائمه أو‬ ‫‪21‬‬ ‫‪.‬‬
‫بجناحيه ‪ ،‬والمراد بالتّوحّش ‪ :‬التّوحّش بأصل الخلقة والطّبيعة ‪ ،‬أي ‪ :‬ل يمكن أخذه إلّ‬
‫بحيلة ‪.‬‬
‫فخرج بالممتنع ‪ :‬مثل الدّجاج والبطّ ‪ ،‬لنّهما ل يقدران على الفرار من جهتهما ‪،‬‬
‫وبالمتوحّش ‪ :‬مثل الحمام ‪ ،‬وبقوله طبعا ‪ :‬ما يتوحّش من الهليّات ‪ ،‬فإنّها ل تحلّ‬
‫بالصطياد وتحلّ بذكاة الضّرورة بشروطها ‪.‬‬
‫ودخل فيه مثل الظّبي ‪ ،‬لنّه حيوان متوحّش في أصل الطّبيعة ‪ ،‬ل يمكن أخذه إ ّل بحيلة ‪،‬‬
‫وإن ألف بعد الصطياد ‪.‬‬
‫وكون المصيد حيوانا متوحّشا ممتنعا بالطّبع محلّ اتّفاق بين الفقهاء في الجملة ‪ ،‬وإن كانوا‬
‫مختلفين في بعض الفروع ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إذا ندّ بعير أو شرد بقر أو غنم ‪ ،‬بحيث ل يقدر صاحبه على ذكاته في الحلق واللّبّة ‪،‬‬
‫ألحق بالصّيد ‪ -‬أي الحيوان المتوحّش الممتنع ‪ -‬وكذلك ما وقع منها في قليب أو بئر فلم‬
‫يقدر على إخراجه ول تذكيته ‪ ،‬وكذا ما صال على صاحبه فلم يتمكّن من ذبحه ‪ ،‬كلّ ذلك‬
‫ي موضع قدر‬
‫حكمه حكم الصّيد يح ّل بالعقر والجرح بسهم أو نحوه ممّا يسيل به دمه في أ ّ‬
‫عليه ‪ ،‬وهذا عند جمهور الفقهاء ‪ - :‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬وروى ذلك عن عليّ‬
‫وابن مسعود وابن عمر وابن عبّاس ‪ ،‬وعائشة رضي ال عنهم وبه قال مسروق والسود‬
‫والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق والشّعبيّ والحكم وحمّاد والثّوريّ ‪ ،‬واستدلّوا بما روى‬
‫رافع بن خديج رضي ال عنه قال ‪ » :‬كنّا مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم بذي الحليفة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم في‬
‫فأصاب النّاس جوع ‪ ،‬فأصابوا إبلً وغنما ‪ ،‬قال ‪ :‬وكان النّب ّ‬
‫أخريات القوم ‪ ،‬فعجّلوا وذبحوا ونصبوا القدور ‪ ،‬فأمر النّبيّ صلى ال عليه وسلم بالقدور‬
‫فأكفئت ‪ ،‬ثمّ قسّم ‪ ،‬فعدل عشر ًة من الغنم ببعير ‪ ،‬فن ّد منها بعير فطلبوه ‪ ،‬فأعياهم ‪ ،‬وكان‬
‫ن لهذه البهائم أوابد‬
‫في القوم خيل يسيرة فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه اللّه ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬إ ّ‬
‫كأوابد الوحش ‪ ،‬فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا « وفي لفظ ‪ » :‬فما ندّ عليكم فاصنعوا‬
‫به هكذا « ‪.‬‬
‫ولنّ الوحشيّ إذا قدر عليه وجبت تذكيته في الحلق واللّبّة ‪ ،‬فكذلك الهليّ إذا توحّش يعتبر‬
‫بحاله ‪.‬‬
‫ولم يفرّق الحنفيّة فيما إذا ن ّد البعير أو البقر في المدينة أو في الصّحراء لنّهما يدفعان عن‬
‫أنفسهما ‪ ،‬فل يقدر عليهما ‪.‬‬
‫وأمّا الشّاة فقال الحنفيّة ‪ :‬إن ندّت في الصّحراء ‪ ،‬فذكاتها العقر ‪ -‬أي أنّها كالصّيد ‪ -‬لنّه‬
‫ل يقدر عليها ‪ ،‬وإن ندّت في المصر لم يجز عقرها ‪ ،‬لنّه يمكن أخذها ‪ ،‬وذبحها مقدور‬
‫عليه ‪ ،‬فل تلحق بالصّيد ‪.‬‬
‫ن جميع الحيوانات المتأنّسة إذا ندّت فإنّها ل تؤكل بالعقر ‪،‬‬
‫أمّا المالكيّة فالمشهور عندهم أ ّ‬
‫لنّ الصل أن يكون المصيد وحشيّا ‪ ،‬ومقابله ما لبن حبيب ‪ :‬أنّه إن ندّ غير البقر لم يؤكل‬
‫بالعقر ‪ ،‬وإن ن ّد البقر جاز أكله بالعقر ‪ ،‬لنّ البقر لها أصل في التّوحّش ترجع إليه ‪،‬‬
‫لشبهها ببقر الوحش ‪.‬‬
‫وإذا تردّى حيوان بسبب إدخال رأسه بكوّة ‪ -‬أعمّ من كونه وحشيّا أو غير وحشيّ ‪ -‬فل‬
‫يؤكل بالعقر ‪ ،‬أي بالطّعن بحربة مثلً في غير محلّ الذّكاة ‪ ،‬ول بدّ من ذكاته بالذّبح أو‬
‫النّحر إن كان ممّا ينحر ‪ ،‬وهذا في المشهور عند المالكيّة ‪.‬‬
‫وقال ابن حبيب ‪ :‬يؤكل بالعقر الحيوان المتردّي المعجوز عن ذكاته مطلقا ‪ ،‬بقرا كان أو‬
‫غيره صيان ًة للموال ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا تأنّس وحشيّ الصل ‪ ،‬كالظّبي مثلً ‪ ،‬أو قدر على المتوحّش بطريقة أخرى ‪ ،‬كأن‬
‫ل ‪ ،‬ل يؤكل بالعقر ‪ ،‬وإنّما بالتّذكية ‪ ،‬لنّه صار مقدورا عليه ‪.‬‬
‫وقع في حباله أو شبك مث ً‬
‫أمّا إذا تأنّس المتوحّش ‪ ،‬ثمّ ندّ وتوحّش مرّةً أخرى ‪ ،‬فأصبح غير مقدور عليه ‪ ،‬فيؤكل‬
‫بالصطياد ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬من رمى صيدا فأثخنه حتّى صار ل يقدر على الفرار ‪ ،‬ثمّ رماه آخر فقتله لم يؤكل ‪،‬‬
‫لنّه صار مقدورا عليه ‪.‬‬
‫وأضاف الحنابلة ‪ :‬أنّه إن كان القاتل أصاب مذبحه حلّ ‪ ،‬لنّه صادف محلّ الذّبح ‪ ،‬وليس‬
‫عليه إلّ أرش ذبحه ‪ ،‬كما لو ذبح شاةً لغيره ‪ ،‬بخلف ما إذا كان أصاب غير مذبحه فإنّه ل‬
‫يحلّ لنّه لمّا أثبته صار مقدورا عليه ل يحلّ إلّ بالذّبح ‪.‬‬
‫وهذا كلّه إذا لم تكن حياة الصّيد حياة مذبوح ‪ ،‬بل كانت حياةً مستقرّةً ‪ ،‬وإلّ ففيه تفصيل‬
‫يأتي ذكره ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الثّالث ‪ :‬أن ل يكون صيد الحرم ‪ :‬فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم في الحرم‬ ‫‪22‬‬

‫ي ‪ -‬أي ما يكون توالده وتناسله في البرّ ‪ -‬سواء أكان مأكول اللّحم أم‬
‫صيد الحيوان الب ّر ّ‬
‫غير مأكول اللّحم ‪.‬‬
‫ن اللّه حرّم مكّة ‪ ،‬فلم تحلّ‬
‫أمّا حرمة صيد الحرم المكّيّ فلقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إ ّ‬
‫لحد قبلي ول تحلّ لحد بعدي ‪ ،‬إنّما حلّت لي ساعةً من نهار ‪ ،‬ل يختلى خلها ‪ ،‬ول يعضد‬
‫شجرها ول ينفّر صيدها « ‪.‬‬
‫وحرمة صيد الحرم تشمل المحرم والحلل ‪ ،‬كما تشمل إيذاء الصّيد وتنفيره والمساعدة على‬
‫ي وجه من الوجوه ‪ ،‬مثل الدّللة عليه ‪ ،‬أو الشارة إليه أو المر بقتله ‪.‬‬
‫الصّيد بأ ّ‬
‫)‪.‬‬ ‫‪30‬‬ ‫أمّا صيد الحرم المدنيّ ففيه خلف وتفصيل ‪ ،‬ينظر في مصطلح ‪ ( :‬حرم ف‬
‫‪ -‬الشّرط الرّابع ‪ :‬أن ل يدرك الصّيد حيّا حياةً مستقرّةً بعد الصابة ‪ ،‬وذلك بأن يذهب‬ ‫‪23‬‬

‫الصّائد ‪ ،‬أو تأتي به الجارحة فيجده ميّتا ‪ ،‬أو في حركة مذبوح ‪ ،‬أو يكون بحيث لو ذهب‬
‫إليه لوجده كذلك ‪ ،‬ففي الحالة الولى ‪ :‬وهي وجوده ميّتا يح ّل باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬وفي الحالة‬
‫الثّانية وهي ‪ :‬وجوده في حياة غير مستقرّة إذا ذبحه حلّ ‪ ،‬وكذا إذا لم يذبحه ومات ‪ ،‬لنّ‬
‫سكّين عليه ‪.‬‬
‫الذّكاة في مثل هذا ل تفيد شيئا ‪ ،‬إلّ أنّه يستحبّ إمرار ال ّ‬
‫أمّا إذا وجد الصّائد الصّيد حيّا حياةً مستقرّةً بعد الصابة ‪ ،‬أو كان بحيث لو ذهب إليه‬
‫ن ذكاته تحوّلت من‬
‫لوجده كذلك ولم يذبحه مع تمكّنه من ذلك ‪ ،‬فمات لم يحلّ أكله ‪ ،‬ل ّ‬
‫الجرح إلى الذّبح ‪ ،‬فإذا لم يذبح كان ميتةً ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ما ردّ عليك‬
‫كلبك المكلّب ‪ ،‬وذكرت اسم اللّه عليه ‪ ،‬وأدركت ذكاته فذكّه ‪ ،‬وإن لم تدرك ذكاته فل تأكل ‪،‬‬
‫وما ردّت عليك يدك ‪ ،‬وذكرت اسم اللّه وأدركت ذكاته فذكّه ‪ ،‬وإن لم تدرك ذكاته فكله « ‪.‬‬
‫وكذا إذا جاء الصّائد وليس معه آلة الذّبح ‪ ،‬أو تراخى في اتّباع الصّيد ‪ ،‬ثمّ وجده ميّتا ‪ ،‬أو‬
‫جعل اللة مع غلمه ‪ ،‬وكان شأنه أن يسبق الغلم فسبقه ‪ ،‬وأدرك الصّيد حيّا ‪ ،‬ولم يأت‬
‫الغلم إلّ بعد موت الصّيد ‪ ،‬أو وضع اللة في خرجه أو نحوه ممّا يستدعي طول زمن في‬
‫إخراجها منه ‪ ،‬فأدركه حيّا فلم يتمّ إخراج اللة إلّ بعد موت الصّيد أو تشبّثت اللة في الغمد‬
‫وكان ضيّقا ‪ ،‬أو سقطت منه ‪ ،‬أو ضاعت فمات الصّيد حرم أكله في هذه الصّور ‪ ،‬وكذا كلّ‬
‫صورة ل يتمكّن فيها من ذبح الصّيد بتقصير منه ‪.‬‬
‫سكّين فمات قبل إمكان ذبحه ‪ ،‬أو‬
‫أمّا إذا تعذّر ذبحه بدون تقصير من صائده ‪ :‬كأن سلّ ال ّ‬
‫امتنع بقوّته ‪ ،‬ومات قبل القدرة عليه واشتغل الصّائد بطلب المذبح ‪ ،‬أو وقع الصّيد منكّسا‬
‫سكّين في الغمد لعارض‬
‫فاحتاج إلى قلبه فقلبه ‪ ،‬أو اشتغل بتوجيهه إلى القبلة ‪ ،‬أو تشبّثت ال ّ‬
‫ولم يكن ضيّقا ‪ ،‬أو حال بين الصّيد وصائده سبع فمات الصّيد المصاب حلّ أكله لعدم‬
‫تقصيره‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو مشى الصّائد على هيئته ولم يأته عدوا فوجده ميّتا بسبب الصابة حلّ‬
‫على أصحّ القولين ‪ ،‬وفي القول الثّاني ‪ :‬يشترط العدو إلى الصّيد عند إصابته ‪ ،‬لنّه هو‬
‫المعتاد في هذه الحالة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ -‬في أصحّ الرّوايتين عن أحمد ‪ -‬إذا أدرك الصّائد الصّيد وفيه حياة‬
‫مستقرّة‪ ،‬ولم يجد ما يذبح به ‪ ،‬وكانت معه جارحة ‪ ،‬وجب أن يرسلها عليه حتّى تقتله‬
‫فيحلّ أكله ‪ ،‬وفي الرّواية الخرى عن أحمد ‪ :‬أنّه ل يحلّ مطلقا ‪ ،‬وقال القاضي ‪ :‬يحلّ إذا‬
‫مات من غير ذبح ول إرسال جارحة عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الخامس ‪ :‬أن ل يغيب عن الصّائد مدّةً طويل ًة وهو قاعد عن طلبه ‪ ،‬فإن‬ ‫‪24‬‬

‫توارى الصّيد عنه ‪ ،‬وقعد عن طلبه لم يؤكل أمّا إذا لم يتوار ‪ ،‬أو توارى ولم يقعد عن طلبه‬
‫أكل ‪ ،‬وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪ ،‬في الجملة ‪ ،‬وإن اختلفت عباراتهم وآراؤهم في بعض‬
‫الفروع ‪.‬‬
‫والغرض من اشتراط هذا الشّرط هو حصول التّيقّن أو الظّنّ ‪ ،‬أي العتقاد الرّاجح ‪ ،‬بأنّ ما‬
‫وجده قبل الغياب ‪ ،‬أو بعده مع استمرار الطّلب هو صيده ‪ ،‬وما أرسله من السّهم أو الكلب‬
‫أو نحوهما من اللة هو الّذي أصابه وأماته دون غيره ‪.‬‬
‫فإن شكّ في صيده ‪ ،‬هل هو أو غيره ؟ أو شكّ في اللة الّتي أرسلها هل هي قتلته ؟ أو‬
‫غيرها فل يؤكل ‪.‬‬
‫وقد فرّع الفقهاء على هذا الشّرط فروعا ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬إذا غاب الصّيد بعد إرسال السّهم أو الكلب عليه ‪ ،‬ث ّم وجده ميّتا وفيه جرح آخر‬ ‫‪25‬‬

‫غير سهمه ‪ ،‬لم يؤكل باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬لنّه مشكوك فيه هل قتل بسهمه أو بسهم آخر ‪،‬‬
‫ل أتى النّبيّ صلى ال‬
‫وقد ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ‪ » :‬أنّ رج ً‬
‫عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول اللّه أفتني في قوسي ‪ ،‬قال ‪ :‬ما ر ّد عليك سهمك فكل ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫وإن تغيّب عليّ ؟ قال ‪ :‬وإن تغيّب عليك ‪ ،‬ما لم تجد فيه أثر سهم غير سهمك « ‪.‬‬
‫– ب – إن أرسل سهما أو كلبا إلى الصّيد وغاب عنه ‪ ،‬فقعد عن طلبه غير متحامل على‬ ‫‪26‬‬

‫المشي ‪ ،‬ثمّ وجده ميّتا ل يح ّل ما لم يعلم جرحه بسهمه يقينا ‪ ،‬كما صرّح به الحنفيّة ‪.‬‬
‫ص الشّافعيّة على أنّه لو غاب‬
‫ولم يذكر المالكيّة والشّافعيّة قيد القعود عن الطّلب ‪ ،‬فقد ن ّ‬
‫عنه الكلب والصّيد قبل أن يجرحه الكلب ‪ ،‬ثمّ وجده ميّتا حرّم على الصّحيح ‪ ،‬لحتمال موته‬
‫بسبب آخر ‪ ،‬وكذلك إن جرحه الكلب ‪ ،‬أو أصابه بسهم وغاب ‪ ،‬ثمّ وجده ميّتا حرّم في‬
‫ي ‪ :‬لو فات عنه الصّيد ثمّ وجده‬
‫ي ‪ :‬وهو المذهب المعتمد ‪ ،‬قال ابن جز ّ‬
‫الظهر ‪ ،‬قال الرّمل ّ‬
‫غدا منفوذ المقاتل لم يؤكل في المشهور ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يؤكل ‪ ،‬وقيل يكره ‪.‬‬
‫والصل في ذلك قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬لعلّ هوامّ الرض قتلته « ‪.‬‬
‫أمّا الحنابلة فقد ن صّوا على أ نّ من رمى صيدا ‪ ،‬ولو ليلً ‪ ،‬فجرحه ولو جرحا غير موح ‪،‬‬
‫فغاب عن عينه ‪ ،‬ث مّ وجده ميّتا ‪ ،‬بعد موته الّذي رماه فيه وسهمه فقط فيه ‪ ،‬أو أثر ال سّهم‬
‫ول أثر به غيره حلّ ذلك لحديث عمرو بن شعيب السّابق ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬وهذا هو المشهور عن أحمد ‪.‬‬
‫ل لم يأكله ‪ ،‬وعن أحمد ما يدلّ على أنّه إن‬
‫وعنه إن غاب نهارا فل بأس ‪ ،‬وإن غاب لي ً‬
‫غاب مدّةً طويل ًة لم يبح ‪ ،‬وإن كانت يسير ًة أبيح له ‪ ،‬لنّه قيل له ‪ :‬إن غاب يوما ؟ قال ‪:‬‬
‫يوم كثير ‪.‬‬
‫ووجه ذلك قول ابن عبّاس رضي ال عنهما إذا رميت فأقعصت فكل ‪ ،‬وإن رميت فوجدت‬
‫فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل ‪ ،‬وإن بات عنك ليل ًة فل تأكل ‪ ،‬فإنّك ل تدري ما حدث‬
‫فيه بعد ذلك ‪.‬‬
‫تحديد مدّة الغياب ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة ‪ -‬في المشهور عندهم ‪ -‬إلى عدم اشتراط مدّة معيّنة لغياب‬ ‫‪27‬‬

‫الصّيد ليحرم بعد ذلك ‪ ،‬حتّى إنّه لو وجده بعد ثلثة أيّام بشرط الطّلب عند الحنفيّة ‪ ،‬ومطلقا‬
‫عند الحنابلة قبل أن ينتن حلّ ‪ ،‬وذلك لما روى عديّ بن حاتم رضي ال عنه عن النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬وإن رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلّ‬
‫أثر سهمك فكل « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬إذا رميت الصّيد‬
‫وعن أبي ثعلبة رضي ال عنه عن النّب ّ‬
‫فأدركته بعد ثلث وسهمك فيه فكله ‪ ،‬ما لم ينتن « ‪.‬‬
‫ول نّ جرحه بسهمه سبب إباحته ‪ ،‬وقد وجد يقينا ‪ ،‬والمعارض له مشكوك فيه ‪ ،‬فل نزول‬
‫ك‪.‬‬
‫عن اليقين بالشّ ّ‬
‫لكن يشترط في أكله أن ل يكون قد قعد عن طلبه عند الحنفيّة ‪ ،‬وذلك توفيقا بين هذين‬
‫الحديثين وبين قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬لعلّ هوامّ الرض قتلته « فيحمل هذا على ما‬
‫إذا قعد عن طلبه ‪ ،‬والوّل على ما إذا لم يقعد ‪.‬‬
‫ولنّه يحتمل أن يموت بسبب آخر فيعتبر فيما يمكن التّحرّز عنه ‪ ،‬لنّ الموهوم في‬
‫الحرمات كالمتحقّق ‪ ،‬وسقط اعتباره فيما ل يمكن التّحرّز عنه للضّرورة ‪ ،‬لنّ اعتباره فيه‬
‫ن الصطياد يكون في الصّحراء بين الشجار عادةً ‪،‬‬
‫يؤدّي إلى سدّ باب الصطياد ‪ ،‬وهذا ل ّ‬
‫ول يمكنه أن يقتله في موضعه من غير انتقال ‪ ،‬وتوار عن عينه غالبا ‪ ،‬فيعذر ‪ -‬ما لم‬
‫يقعد عن طلبه‪ -‬للضّرورة لعدم إمكان التّحرّز عنه ‪ ،‬ول يعذر فيما إذا قعد عن طلبه ‪ ،‬لنّ‬
‫الحتراز عن مثله ممكن فل ضرورة إليه فيحرم ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فالمشهور عندهم التّحديد بأقلّ من يوم حيث قالوا ‪ :‬لو مات منه صيد ثمّ‬
‫وجده غدا منفوذ المقاتل لم يؤكل في المشهور ‪.‬‬
‫والشّافعيّة ‪ :‬يقولون بالحرمة بمجرّد الغياب ‪ ،‬ولم يحدّدوا له مدّ ًة معيّنةً ‪ ،‬فالصّحيح عندهم‬
‫‪ :‬أنّه لو غاب عنه الكلب والصّيد قبل أن يجرحه ث ّم وجده ميّتا حرّم ‪ ،‬وكذلك إن جرحه‬
‫الكلب ‪ ،‬أو أصابه سهم ثمّ وجده ميّتا يحرم في الظهر لحتمال موته بسبب آخر ‪ ،‬والتّحريم‬
‫يحتاط له ‪.‬‬
‫‪ -‬ج لو رمى صيدا فوقع في ماء ‪ ،‬أو على سطح أو جبل ثمّ تردّى منه إلى الرض حرّم‬ ‫‪28‬‬

‫{‬ ‫حمُ ا ْلخِنْزِيرِ } إلى قوله تعالى ‪:‬‬


‫‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬حُ ّرمَتْ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَيْ َتةُ وَالْ ّدمُ وَ َل ْ‬
‫وَا ْلمُتَرَدّ َيةُ } ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم لعديّ رضي ال عنه ‪ » :‬إذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه ‪،‬‬
‫فإن وجدته قد قتل فكل ‪ ،‬إلّ أن تجده قد وقع في ماء ‪ ،‬فإنّك ل تدري ‪ :‬الماء قتله أو سهمك‬
‫« وهذا عند جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫ول فرق في هذا الحكم بين ما إذا كانت الجراحة موحيةً أو غير موحية عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو‬
‫المشهور عند الحنابلة ‪ ،‬قال ابن قدامة ‪ :‬وهذا ظاهر قول ابن مسعود رضي ال عنه‬
‫وعطاء وربيعة وإسحاق ‪ ،‬وأكثر أصحابنا المتأخّرين يقولون ‪ :‬إن كانت الجراحة موحيةً‬
‫كأن ذبحه أو أبان حشوته لم يض ّر وقوعه في الماء ‪ ،‬ول تردّيه ‪ ،‬لنّ هذا صار في حكم‬
‫الميّت بالذّبح‪ ،‬فل يؤثّر فيه ما أصابه ‪.‬‬
‫ولو وقع الصّيد في الماء على وجه ل يقتله ‪ :‬مثل أن يكون رأسه خارجا من الماء ‪ ،‬أو‬
‫يكون من طير الماء الّذي ل يقتله الماء ‪ ،‬أو كان التّردّي ل يقتل مثل ذلك الحيوان فل‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬وإن وجدته غريقا في الماء فل‬
‫ن النّب ّ‬
‫خلف في إباحته ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل أو معينا على‬
‫تأكل «‪ ،‬ولنّ الوقوع في الماء والتّردّي إنّما حرّم خشية أن يكون قات ً‬
‫القتل ‪ ،‬وهذا منتف فيما ذكرناه ‪.‬‬
‫وكذلك إذا وقع على الرض ابتداءً ‪ ،‬بعد أن رماه بسهم فمات حلّ ‪ ،‬لنّه ل يمكن التّحرّز‬
‫عنه‪ ،‬فسقط اعتباره كي ل ينسدّ باب الصطياد ‪ ،‬بخلف ما إذا أمكن التّحرّز عنه ‪ ،‬لنّ‬
‫اعتباره ل يؤدّي إلى سدّ بابه ‪ ،‬ول يؤدّي إلى الحرج ‪ ،‬فأمكن ترجيح المحرّم عند التّعارض‬
‫على ما هو الصل في الشّرع ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وإذا أدرك الصّيد حيّا غير منفوذ مقتل لم يؤكل إلّ بذكاة إن قدر عليه ‪ ،‬كما قدّمنا ‪.‬‬
‫وهذا باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫حكم جزء المصيد ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا رمى صيدا فأبان منه عضوا ‪ ،‬وبقي الصّيد حيّا حيا ًة مستقرّةً يحرم العضو المبان‬ ‫‪29‬‬

‫بل خلف بين الفقهاء لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ما قطع من البهيمة وهي حيّة فما‬
‫قطع منها فهو ميتة « ‪.‬‬
‫أمّا المقطوع منه ‪ ،‬وهو الحيوان الحيّ ‪ ،‬فل بدّ فيه من ذكاة ‪ ،‬وإلّ يحرم ‪ -‬أيضا ‪ -‬باتّفاق‪.‬‬
‫وإذا رماه فقطع رأسه ‪ ،‬أو قدّه نصفين أو أثلثا ‪ -‬والكثر ممّا يلي العجز ‪ -‬حلّ كلّه ‪ ،‬لنّ‬
‫المبان منه حيّ صورةً ل حكما ‪ ،‬إذ ل يتوهّم سلمته وبقاؤه حيّا بعد هذه الجراحة ‪ ،‬فوقع‬
‫ل أو فخذا ‪ ،‬أو نحوها ولم تبق فيه‬
‫ذكاةً في الحال فح ّل كلّه ‪ .‬أمّا إذا قطع منه يدا أو رج ً‬
‫حياة مستقرّة ففيه التّفصيل التي ‪:‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬إذا قطع يدا أو رجلً أو فخذا أو ثلثه ممّا يلي القوائم أو أق ّل من نصف الرّأس‬
‫يحرم المبان منه ‪ ،‬لنّه يتوهّم بقاء الحياة في الباقي ‪.‬‬
‫ولو ضرب صيدا فقطع يده أو رجله ولم ينفصل ‪ ،‬ثمّ مات ‪ ،‬إن كان يتوهّم التئامه واندماله‬
‫حلّ أكله ‪ ،‬لنّه بمنزلة سائر أجزائه ‪ ،‬وإن كان ل يتوهّم ‪ ،‬بأن بقي متعلّقا بجلد حلّ ما سواه‬
‫دونه ‪ ،‬لوجود البانة معنىً ‪ ،‬والعبرة للمعاني ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إذا كان المقطوع النّصف فأكثر جاز أكل الجميع ‪ ،‬ولو قطع الجارح دون‬
‫النّصف كيد أو رجل فهو ميتة ‪ ،‬ويؤكل ما سواه ‪ ،‬إلّ أن يحصل بالقطع إنفاذ مقتل كالرّأس‬
‫فليس بميتة فيؤكل كالباقي ‪.‬‬
‫وصرّح الشّافعيّة ‪ :‬بأنّه لو أبان من الصّيد عضوا كيده بجرح مذفّف ‪ -‬أي مسرع للقتل ‪-‬‬
‫فمات حلّ العضو والبدن كلّه ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة في المسألة روايتان ‪ :‬أشهرهما عن أحمد إباحتهما ‪.‬‬
‫ي ميتة « ‪ .‬إذا‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ما قطعت من الح ّ‬
‫قال أحمد ‪ :‬إنّما حديث النّب ّ‬
‫قطعت وهي حيّة تمشي وتذهب ‪ ،‬أمّا إذا كانت البينونة والموت جميعا ‪ ،‬أو بعده بقليل إذا‬
‫كان في علج الموت فل بأس به أل ترى الّذي يذبح ربّما مكث ساعةً ‪ ،‬وربّما مشى حتّى‬
‫يموت ‪.‬‬
‫ل بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ما أبين من‬
‫والرّواية الثّانية ‪ :‬ل يباح ما بان منه ‪ ،‬عم ً‬
‫حيّ فهو ميّت « ‪.‬‬
‫ولنّ هذه البينونة ل تمنع بقاء الحيوان في العادة فلم يبح أكل البائن ‪.‬‬
‫وهذه الشّروط كلّها إنّما تشترط في المصيد الب ّريّ ‪ ،‬إذا عقرته الجوارح أو السّلح أو أنفذت‬
‫مقاتله ‪ ،‬فإن أدركه حيّا غير منفوذ المقاتل ذكّي ‪ ،‬ويشترط في ذلك ما يشترط في الذّبح ‪،‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪39‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪16‬‬ ‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬ذبائح ف‬
‫‪ -‬أمّا المصيد البحريّ فل تشترط فيه هذه الشّروط ‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫ويجوز عند جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة ‪ -‬صيد وأكل‬
‫حلّ َل ُكمْ صَيْ ُد الْ َبحْرِ‬
‫جميع حيوانات البحر سواء أكانت سمكا أم غيره ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ُ { :‬أ ِ‬
‫َوطَعَا ُمهُ } أي مصيده ومطعومه ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته « ‪.‬‬
‫و في قول ع ند الشّافعيّة ‪ :‬ل يحلّ ما ل يس على صورة ال سّمك المشهورة ‪ ،‬و في قول آ خر‬
‫عندهم ‪ :‬إن أكل مثله في الب ّر كالبقر والغنم حلّ ‪ ،‬وإلّ فل ‪.‬‬
‫لكن الشّافعيّة والحنابلة استثنوا من الحلّ ‪ :‬الضّفدع ‪ ،‬والتّمساح ‪ ،‬والحيّة ‪ ،‬وذلك لنهيه‬
‫صلى ال عليه وسلم عن قتل الضّفدع ولستخباث النّاس التّمساح ‪ ،‬ولكله النّاس ‪،‬‬
‫سمّيّة في الحيّة ‪.‬‬
‫ولل ّ‬
‫أمّا الحنفيّة فقالوا ‪ :‬ل يؤكل مائيّ إلّ السّمك غير طاف ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَ ُيحَ ّرمُ عَلَ ْي ِهمُ‬
‫ا ْلخَبَآئِثَ } وما سوى السّمك خبيث ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أحلّت لنا ميتتان‬
‫ودمان ‪ ،‬أمّا الميتتان فالسّمك والجراد ‪ ،‬وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال « ‪.‬‬
‫وأمّا الطّافي فيكره أكله لقول جابر رضي ال عنه ‪ :‬أنّه عليه الصلة والسلم قال ‪ » :‬ما‬
‫نضب عنه الماء فكلوا ‪ ،‬وما طفا فل تأكلوا « ‪.‬‬
‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬أطعمة ف ‪ 6‬ج ‪. ) 5‬‬
‫شروط آلة الصّيد ‪:‬‬
‫آلة الصّيد نوعان ‪ :‬أداة جامدة ‪ ،‬أو حيوان ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬الداة الجامدة ‪:‬‬
‫سكّين ‪ ،‬ومنها ما ينطلق من‬
‫‪ -‬الداة الجامدة ‪ :‬منها ماله حدّ يصلح للقطع ‪ ،‬كالسّيف وال ّ‬ ‫‪31‬‬

‫آلة أخرى وله رأس محدّد يصلح للخزق كالسّهم ‪ ،‬ومنها ماله رأس محدّد ل ينطلق من آلة‬
‫أخرى كالحديدة المثبّتة في رأس العصا ‪ ،‬أو العصا الّتي بري رأسها حتّى صار محدّدا يمكن‬
‫القتل به طعنا ‪.‬‬
‫وهذه الدوات ونحوها يجوز الصطياد بها إذا قتلت الصّيد بحدّها ‪ ،‬أو رأسها وحصل الجرح‬
‫بالمصيد بل خلف ‪.‬‬
‫أمّا اللت الّتي ل تصلح للقتل بحدّها ‪ ،‬ول برأسها المحدّد ‪ ،‬وإنّما تقتل بالثّقل كالحجر الّذي‬
‫لم يرقّق ‪ ،‬أو العمود والعصا غير محدّدة الرّأس ‪ ،‬أو المعراض بعرضه ونحوها ‪ ،‬فل يجوز‬
‫ي من التّذكية ‪ ،‬وإلّ ل يحلّ أكله ‪.‬‬
‫بها الصطياد ‪ ،‬وإذا استعملت فل بدّ في المرم ّ‬
‫ي بها‬
‫وكذلك جميع اللت المحدّدة إذا استعملت وأصابت بعرضها غير المحدّد ل يحلّ المرم ّ‬
‫إلّ بالتّذكية ‪.‬‬
‫ويمكن أن تختصر شروط اللة فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرط الوّل ‪ :‬أن تكون اللة محدّدةً تجرح وتؤثّر في اللّحم بالقطع أو الخزق ‪ ،‬وإلّ‬ ‫‪32‬‬

‫ل يحلّ بغير الذّبح ‪.‬‬


‫ح الصطياد بكلّ آلة حادّة ‪ ،‬سواء أكانت‬
‫ول يشترط فيها أن تكون من الحديد ‪ ،‬فيص ّ‬
‫حديدةً ‪ ،‬أم خشبةً حادّةً ‪ ،‬أم حجارةً مرقّقة الرّأس ‪ ،‬أم نحوها تنفذ داخل الجسم ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الثّاني ‪ :‬أن تصيب الصّيد بحدّها فتجرحه ‪ ،‬ويتيقّن كون الموت بالجرح ‪ ،‬وإلّ‬ ‫‪33‬‬

‫ن ما يقتل بعرض اللة ‪ ،‬أو بثقله يعتبر موقوذةً ‪.‬‬


‫ل يحلّ أكله ‪ ،‬ل ّ‬
‫وقد قال اللّه تعالى ‪ { :‬حُ ّرمَتْ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَيْ َتةُ } إلى قوله سبحانه ‪ { :‬وَا ْل َموْقُوذَةُ } ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّي أرمي‬
‫ولما روي أنّ عديّ بن حاتم رضي ال عنه قال للنّب ّ‬
‫الصّيد بالمعراض فأصيب ‪ ،‬فقال ‪ » :‬إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه‬
‫فل تأكله « ‪ .‬وفي لفظ له قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إذا رميت‬
‫فسمّيت فخزقت فكل ‪ ،‬فإن لم يتخزّق فل تأكل ‪ ،‬ول تأكل من المعراض إلّ ما ذكّيت ‪ ،‬ول‬
‫تأكل من البندقة إلّ ما ذكّيت « ‪.‬‬
‫ولما ورد ‪ » :‬أنّه عليه الصلة والسلم نهى عن الخذف ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّها ل تصيد صيدا ول‬
‫تنكأ عدوّا ‪ ،‬ولكنّها تكسر السّنّ وتفقأ العين « ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الثّالث ‪ :‬اشترط الحنفيّة أن يصيب الرّمي الصّيد مباشر ًة ‪ ،‬ول يعدل عن جهته‪،‬‬ ‫‪34‬‬

‫فإذا ردّ السّهم ريح إلى ورائه ‪ ،‬أو يمنةً أو يسرةً ‪ ،‬فأصاب صيدا ل يحلّ ‪ ،‬وكذا لو ردّه‬
‫حائط أو شجرة ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة والحنابلة في إعانة الرّيح للسّهم ‪ :‬لو قتل الصّيد بإعانة الرّيح للسّهم لم‬
‫يحرم‪.‬‬
‫وزاد الحنابلة ‪ :‬أنّه لو ردّ السّهم حجر أو غيره على الصّيد فقتله لم يحرم ‪ ،‬لعسر الحتراز‬
‫عنه ‪.‬‬
‫مسائل وفروع في اللة الجامدة ‪:‬‬
‫تعرّض الفقهاء في شروط اللة الجامدة لمسائل بيّنوا أحكامها ‪ ،‬ومن أهمّ هذه المسائل ما‬
‫يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصطياد بالشّبكة والحبولة ‪:‬‬
‫‪ -‬لو نصب شبكةً أو أحبولةً ‪ ،‬وسمّى ‪ ،‬فوقع فيها صيد ومات مجروحا لم يحلّ إذا لم‬ ‫‪35‬‬

‫تكن بها آلة جارحة ‪ ،‬ولو كان بها آلة جارحة كمنجل ‪ ،‬أو نصب سكاكين ‪ ،‬وسمّى حلّ ‪،‬‬
‫كما لو رماه بها ‪ ،‬صرّح به الحنفيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وأضاف الحنابلة ‪ :‬أنّه يحلّ ‪ ،‬ولو بعد موت ناصبه أو ردّته ‪ ،‬اعتبارا بوقت النّصب ‪ ،‬لنّه‬
‫كالرّمي ‪.‬‬
‫ن النّصب جرى مجرى المباشرة في الضّمان ‪ ،‬فكذا في الباحة لقوله صلى‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬ل ّ‬
‫ال عليه وسلم ‪ » :‬كل ما ردّت إليك يدك « ‪ .‬ولنّه قتل الصّيد بما له حدّ جرت العادة‬
‫بالصّيد به ‪ ،‬أشبه ما لو رماه ‪.‬‬
‫أمّا إذا لم يجرحه ما نصبه من مناجل أو سكاكين ‪ -‬كالمنخنقة بالحبولة ‪ -‬فل يباح الصّيد‬
‫لعدم الجرح ‪ ،‬وقد قال اللّه تعالى في المحرّمات ‪ { :‬وَا ْلمُ ْنخَ ِن َقةُ وَا ْل َموْقُوذَةُ وَا ْلمُتَرَدّ َيةُ‬
‫حةُ َومَا َأكَ َل السّبُعُ ِإلّ مَا َذكّيْ ُتمْ } ‪.‬‬
‫وَال ّنطِي َ‬
‫وعند المالكيّة كما جاء في المدوّنة ‪ :‬قلت ‪ :‬أرأيت إذا قتلت الحبالت من الصّيد ‪ ،‬أيؤكل أم‬
‫ل؟ قال مالك ‪ :‬ل يؤكل إلّ ما أدركت ذكاته من ذلك ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت لمالك ‪ :‬فإن كانت في‬
‫الحبالت حديدة فأنفذت الحديدة مقاتل الصّيد ؟ قال ‪ :‬قال مالك ‪ :‬ل يؤكل إلّ ما أدركت‬
‫ذكاته‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الصطياد بالبندق ‪:‬‬
‫‪ -‬يطلق البندق على معان ‪ ،‬منها ‪ :‬ما يؤكل ‪ ،‬ومنها ‪ :‬ما يصنع من طينة مدوّرة أو‬ ‫‪36‬‬

‫رصاصة يرمى بها الصّيد ‪ .‬والواحدة ‪ :‬بندقة ‪ ،‬والجمع ‪ :‬بنادق ‪.‬‬


‫والمراد به هنا ‪ :‬ما يرمى به الصّيد ‪.‬‬
‫ن ما قتل ببندقة الطّين الثّقيلة ل يحلّ‬
‫أمّا ما يصنع من الطّين ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على أ ّ‬
‫أكله‪ ،‬لنّها تقتل بالثّقل ل بالحدّ ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين نقلً عن قاضي خان ‪ :‬ل يحلّ صيد البندقة ‪ ،‬والحجر والمعراض والعصا‬
‫وما أشبه ذلك وإن جرح ‪ ،‬لنّه ل يخزق إلّ أن يكون شيء من ذلك قد حدّده وطوّله ‪،‬‬
‫كالسّهم ‪ ،‬وأمكن أن يرمي به ‪ ،‬فإن كان كذلك وخزقه بحدّه حلّ أكله ‪ ،‬فأمّا الجرح الّذي‬
‫يدقّ في الباطن ول يخزق في الظّاهر ل يحلّ ‪ ،‬لنّه ل يحصل به إنهار الدّم ‪ ،‬ومثقّل الحديد‬
‫وغير الحديد سواء ‪ ،‬إن خزق حلّ وإلّ فل ‪.‬‬
‫ض ويكسر ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ل يحلّ ما صيد ببندق الطّين لنّه ل يجرح ‪ ،‬وإنّما ير ّ‬
‫وقال النّوويّ في المنهاج ‪ :‬فلو قتله بمثقّل ‪ ،‬أو ثقل محدّد ‪ ،‬كبندقة وسوط ‪ ،‬حرم أي الكل‬
‫منه ‪.‬‬
‫وقال البجيرميّ ‪ :‬وأفتى ابن عبد السّلم بحرمة الرّمي بالبندق ‪ ،‬وبه صرّح في الذّخائر ‪،‬‬
‫ولكن أفتى النّوويّ بجوازه ‪ ،‬أي الرّمي بالبندق ‪ ،‬وقيّده بعضهم بما إذا كان الصّيد ل يموت‬
‫فيه غالبا ‪ ،‬كالوزّ ‪ ،‬فإن مات كالعصافير فيحرم ‪ ،‬فلو أصابته البندقة فذبحته بقوّتها ‪ ،‬أو‬
‫قطعت رقبته حرم ‪ ،‬وهذا التّفصيل هو المعتمد ‪.‬‬
‫ومثله ما ذكره الشّربينيّ الخطيب ‪ ،‬وعبارته ‪ :‬فإن كان يموت منه غالبا ‪ ،‬كالعصافير‬
‫وصغار الوحش حرم ‪ ،‬كما قاله في شرح مسلم ‪ ،‬فإن احتمل واحتمل ينبغي أن يحرّم ‪.‬‬
‫وفي كشّاف القناع ‪ :‬ول ب ّد من جرحه ‪ ،‬أي الصّيد بالمحدّد ‪ ،‬فإن قتله بثقله لم يبح ‪،‬‬
‫كشبكة‪ ،‬وفخّ ‪ ،‬وبندقة ‪ ،‬وعصا ‪ ،‬وحجر ل ح ّد له ‪ ،‬قال البهوتيّ ‪ :‬ولو شدخه أو حرّقه أو‬
‫قطع حلقومه ومريئه ‪.‬‬
‫وهذا كلّه في البندق المصنوع من الطّين أو الرّصاص من غير نار ‪ ،‬أمّا ما صنع من الحديد‬
‫ويرمي بالنّار ‪ ،‬فاختلف الفقهاء في ذلك ‪:‬‬
‫فصرّح الحنفيّة والشّافعيّة بالحرمة ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪ :‬ول يخفى أنّ الجرح بالرّصاص إنّما‬
‫هو بالحراق والثّقل بواسطة اندفاعه العنيف ‪ ،‬إذ ليس له حدّ ‪ ،‬وبه أفتى ابن نجيم ‪ ،‬ويقول‬
‫الزّيلعيّ ‪ :‬الجرح ل بدّ منه ‪ ،‬والبندقة ل تجرح ‪.‬‬
‫وقال البجيرميّ ‪ :‬أمّا ما يصنع من الحديد ويرمي بالنّار فحرام مطلقا ‪ ،‬ما لم يكن الرّامي‬
‫حاذقا ‪ ،‬وقصد جناحه لزمانه ‪ ،‬وأصابه ‪.‬‬
‫ي بحرمة الصطياد بالبندقة فيما يموت بها كالعصافير ‪ ،‬سواء أكان الصطياد‬
‫وقال القليوب ّ‬
‫بالبندقة بواسطة نار أم ل ‪.‬‬
‫وصرّح الدّردير من المالكيّة بالجواز حيث قال ‪ :‬وأمّا الرّصاص فيؤكل به لنّه أقوى من‬
‫السّلح ‪ ،‬كذا اعتمده بعضهم ‪.‬‬
‫ص للمتقدّمين ‪،‬‬
‫ثمّ فصّل الدّسوقيّ فقال ‪ :‬الحاصل أنّ الصّيد ببندق الرّصاص لم يوجد فيه ن ّ‬
‫لحدوث الرّمي به بحدوث البارود في وسط المائة الثّامنة ‪.‬‬
‫واختلف فيه المتأخّرون ‪ ،‬فمنهم من قال بالمنع ‪ ،‬قياسا على بندق الطّين ‪ ،‬ومنهم من قال‬
‫بالجواز ‪ ،‬لما فيه من النهار والجهاز بسرعة الّذي شرعت الذّكاة لجله ‪ ،‬وقياسه على‬
‫بندق الطّين فاسد لوجود الفارق ‪ ،‬وهو وجود الخزق والنّفوذ في الرّصاص تحقيقا ‪ ،‬وعدم‬
‫ض والكسر ‪.‬‬
‫ذلك في بندق الطّين ‪ ،‬وإنّما شأنه الرّ ّ‬
‫ج ‪ -‬الصطياد بالسّهم المسموم ‪:‬‬
‫سمّ أعان‬
‫ن أنّ ال ّ‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى عدم جواز الصطياد بالسّهم المسموم إذا تيقّن أو ظ ّ‬ ‫‪37‬‬

‫على قتل الصّيد أو احتمل ذلك ‪ ،‬لنّه اجتمع في قتله مبيح ومحرّم ‪ ،‬فغلب المحرّم ‪ ،‬كما لو‬
‫اجتمع سهم مجوسيّ ومسلم في قتل الحيوان ‪ .‬فإن لم يحتمل ذلك فل يحرّم ‪.‬‬
‫وفصّل المالكيّة في المسألة فقالوا ‪ :‬ما مات بسهم مسموم ولم ينفذ مقتله ول أدركت ذكاته‬
‫طرح ‪ ،‬فإن أنفذ السّهم مقاتله قبل أن يسري السّمّ فيه لم يحرّم أكله ‪ ،‬إلّ أنّه يكره ‪ ،‬خوفا‬
‫سمّ ‪ ،‬قال الموّاق نقلً عن الباجيّ ‪ :‬فإن أنفذ مقاتله فقد ذهبت علّة الخوف من أن‬
‫من أذى ال ّ‬
‫سمّ ‪ ،‬وبقيت علّة الخوف من أكله ‪ ،‬فإن كانت من السّموم الّتي يؤمن على‬
‫يعين على قتله ال ّ‬
‫أكلها كالبقلة فقد ارتفعت العلّتان ‪ ،‬وجاز أكله على قول ابن القاسم ‪.‬‬
‫وإذا رمى بسهم مسموم ولم ينفذ مقاتله ‪ ،‬وأدركت ذكاته ‪ ،‬قال ابن رشد في سماع ابن‬
‫القاسم ‪ :‬ل يؤكل ‪ ،‬ونحوه حكى ابن حبيب ‪ ،‬وقال سحنون ‪ :‬إنّه يؤكل ‪ ،‬واستظهره ابن‬
‫رشد‪ ،‬لنّه قد ذكي وحياته فيه مجتمعة قبل أن ينفذ مقاتله ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الحيوان ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز الصطياد بالحيوان المعلّم وهو ما يسمّى بالجوارح ‪ ،‬من الكلب والسّباع‬ ‫‪38‬‬

‫والطّيور ممّا له ناب أو مخلب ‪ ،‬ويستوي في ذلك الكلب المعلّم والفهد والنّمر والسد‬
‫والبازي وسائر الجوارح المعلّمة ‪ ،‬كالشّاهين والباشق والعقاب والصّقر ونحوها ‪.‬‬
‫فالقاعدة ‪ :‬أنّ كلّ ما يقبل التّعليم وعلّم يجوز الصطياد به في الجملة وسيأتي ما يستثنى‬
‫من ذلك عند بعض الفقهاء ‪.‬‬
‫ول يشترط في الحيوان أن يكون ممّا يؤكل لحمه عند عامّة الفقهاء ‪ ،‬كما ل يشترط أن‬
‫يكون طاهرا عند بعضهم ‪ ،‬كما سيأتي تفصيله ‪.‬‬
‫جوَارِحِ ُمكَلّبِينَ‬
‫حلّ َل ُكمُ الطّيّبَاتُ َومَا عَّلمْتُم مّنَ ا ْل َ‬
‫والصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى ‪ُ { :‬أ ِ‬
‫سمَ الّل ِه عَلَ ْيهِ } ‪.‬‬
‫ن عَلَ ْي ُكمْ وَاذْكُرُواْ ا ْ‬
‫ُتعَّلمُو َنهُنّ ِممّا عَّل َمكُ ُم الّلهُ َفكُلُواْ ِممّا َأ ْمسَكْ َ‬
‫واسعتثنى الفقهاء معن ذلك الخنزيعر ‪ ،‬فل يحلّ الصعطياد بعه ‪ ،‬لنّه ل يجوز النتفاع بعه ‪.‬‬
‫واسعتثنى الحنابلة كذلك الكلب السعود ‪ ،‬والبهيعم السعود ‪ ،‬وهعو معا ل بياض فيعه ‪ ،‬أو كان‬
‫أسود بين عينيه نكتتان ‪ ،‬قال البهوتيّ ‪ :‬وهو الصّحيح ‪.‬‬
‫ووجه الستثناء ‪ :‬ما ورد في حديث جابر رضي ال عنه مرفوعا ‪ » :‬عليكم بالسود‬
‫البهيم ذي الطّفيتين فإنّه شيطان « قالوا ‪ :‬فيحرم صيده ‪ ،‬لنّه صلى ال عليه وسلم أمر‬
‫بقتله ‪.‬‬
‫واستثنى أبو يوسف من الجوارح السد والدّبّ ‪ ،‬لنّهما ل يعملن لغيرهما ‪ ،‬أمّا السد فلعلوّ‬
‫همّته ‪ ،‬وأمّا الدّبّ فلخساسته ‪ ،‬ولنّهما ل يتعلّمان عاد ًة ‪.‬‬
‫وألحق بعض الحنفيّة الحدأة بهما لخساستها ‪.‬‬
‫واستثنى ابن جزيّ من المالكيّة النّمس ‪ ،‬فل يؤكل ما قتل ‪ ،‬لنّه ل يقبل التّعليم ‪ ،‬والمعتمد‬
‫ن المدار على كونه علّم بالفعل ‪ ،‬ولو في نوع ما ل يقبل التّعليم ‪ ،‬كأسد ونمر‬
‫عندهم ‪ :‬أ ّ‬
‫ونمس ‪ ،‬كما قال العدويّ ‪.‬‬
‫ويشترط في الحيوان الشّروط التّالية ‪:‬‬
‫{‬ ‫‪ -‬الشّرط الوّل ‪ :‬يشترط فيه أن يكون معلّما ‪ ،‬وهذا باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪39‬‬

‫جوَارِحِ } ‪.‬‬
‫عّلمْتُم مّنَ ا ْل َ‬
‫َومَا َ‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم لبي ثعلبة رضي ال عنه ‪ » :‬ما صدت بكلبك المعلّم فذكرت‬
‫اسم اللّه فكل ‪ ،‬وما صدت بكلبك غير معلّم فأدركت ذكاته فكل « ‪.‬‬
‫وذ هب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى أنّه يشترط في الكلب المعلّم‬
‫أنّه إذا أرسل أطاع وإذا زجر انزجر ‪.‬‬
‫وأضاف الشّافعيّة والحنابلة شرطا آخر وهو ‪ :‬أنّه إذا أمسك لم يأكل ‪ ،‬وذلك لقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬إلّ أن يأكل الكلب فل تأكل ‪ ،‬فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسك على نفسه « ‪.‬‬
‫ويشترط هذا في جارحة الطّير ‪ -‬أيضا ‪ -‬عند الشّافعيّة في الظهر ‪ ،‬قياسا على جارحة‬
‫السّباع ‪ ،‬ول يشترط هذا الشّرط في جارحة الطّير عند الحنابلة ‪ ،‬وهو مقابل الظهر عند‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬لنّها ل تحتمل الضّرب لتتعلّم ترك الكل ‪ ،‬بخلف الكلب ونحوه ‪ ،‬ولقول ابن‬
‫عبّاس رضي ال عنهما ‪ :‬إذا أكل الكلب فل تأكل ‪ ،‬وإن أكل الصّقر فكل ‪.‬‬
‫وإن شرب الكلب ونحوه دم الصّيد ولم يأكل منه لم يحرّم ‪ ،‬كما صرّح به الشّافعيّة‬
‫والحنابلة‪.‬‬
‫وأضاف الشّافعيّة ‪ :‬أنّه يشترط تكرّر هذه المور المعتبرة في التّعليم بحيث يظنّ تأدّب‬
‫الجارحة ‪ ،‬ول ينضبط ذلك بعدد ‪ ،‬بل الرّجوع في ذلك إلى أهل الخبرة بالجوارح ‪.‬‬
‫ولو ظهر بما ذكر من الشّروط كونه معلّما ‪ ،‬ثمّ أكل من لحم صيد لم يحلّ ذلك الصّيد في‬
‫الظهر عندهم ‪ ،‬فيشترط تعليم جديد ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل يعتبر تكرار ترك الكل ‪ ،‬بل يحصل التّعليم بترك الكل مرّةً ‪ ،‬لنّه تعلّم‬
‫صنعةً أشبه سائر الصّنائع ‪ ،‬فإن أكل بعد تعليمه لم يحرّم ما تقدّم من صيده ‪ ،‬لعموم الية‬
‫والخبار ‪ ،‬ولم يبح ما أكل منه ‪ ،‬ولم يخرج بالكل عن كونه معلّما ‪ ،‬فيباح ما صاده بعد‬
‫الّذي أكل منه ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة عصيان المعلّم مرّةً ل يخرجه عن كونه معلّما ‪ ،‬كما ل يكون معلّما بطاعته‬
‫مرّ ًة ‪ ،‬بل العرف في ذلك كاف ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬إنّ شرط النزجار غير معتبر في البازي ‪ ،‬لنّه ل ينزجر بالزّجر بل رجّح‬
‫وقال الدّسوق ّ‬
‫بعضهم عدم اعتبار النزجار مطلقا ‪ ،‬لنّ الجارح ل يرجع بعد استيلئه ‪.‬‬
‫وقال الصّاحبان من الحنفيّة ‪ :‬إنّ التّعليم في الكلب ونحوه يكون بترك الكل ثلث مرّات ‪،‬‬
‫وفي البازي ونحوه من الطّيور بالرّجوع إذا دعي ‪ ،‬قال الزّيلعيّ ‪ :‬روي ذلك عن ابن عبّاس‬
‫رضي ال عنهما ‪.‬‬
‫ن تعلّمه يعرف بتكرار التّجارب والمتحان ‪.‬‬
‫وإنّما شرط ترك الكل ثلث مرّات ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعند أبي حنيفة ل يثبت التّعلّم ما لم يغلب على ظنّه أن قد تعلّم ‪ ،‬ول يقدّر بشيء ‪ ،‬لنّ‬
‫ص ل بالجتهاد ‪ .‬ول نصّ هنا ‪ ،‬فيفوّض إلى رأي المبتلى به ‪ ،‬كما هو‬
‫المقادير تعرف بالنّ ّ‬
‫دأبه ‪ ،‬ولنّ مدّة التّعلّم تختلف بالحذاقة والبلدة ‪ ،‬فل يمكن معرفتها ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬ظاهر الملتقى ترجيح عدم التّقدير ‪.‬‬
‫أمّا شرب الجارح دم المصيد فل يضرّ عند الجميع ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الثّاني ‪ :‬أن يجرح الحيوان الصّيد في أيّ موضع من بدنه ‪ ،‬وهذا عند المالكيّة‬ ‫‪40‬‬

‫والحنابلة ‪ ،‬وهو ظاهر الرّواية والمفتى به عند الحنفيّة ‪ ،‬ومقابل الظهر عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫ض بل جرح لم يبح ‪ ،‬كالمعراض إذا قتل بعرضه أو ثقله ‪،‬‬
‫فلو قتله الجارح بصدم ‪ ،‬أو ع ّ‬
‫وكذا لو أرسل الكلب فأصاب الصّيد وكسر عنقه ولم يجرحه ‪ ،‬أو جثم على صدره وخنقه ‪.‬‬
‫جوَارِحِ } ولنّ‬
‫عّلمْتُم مّنَ ا ْل َ‬
‫ووجه اشتراط هذا الشّرط ‪ ،‬أي الجرح ‪ ،‬هو قوله تعالى ‪َ {:‬ومَا َ‬
‫المقصود إخراج الدّم المسفوح ‪ ،‬وهو يخرج بالجرح عادةً ‪ ،‬ول يتخلّف عنه إلّ نادرا ‪،‬‬
‫فأقيم الجرح مقامه ‪ ،‬كما في الذّكاة الختياريّة والرّمي بالسّهم ‪ ،‬ولنّه إذا لم يجرحه صار‬
‫موقوذةً‪ ،‬وهي محرّمة بال ّنصّ ‪ ،‬كما علّله الزّيلعيّ وابن قدامة ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة في الظهر عندهم ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ورواية عن أبي حنيفة ‪ ،‬وقول‬
‫أشهب من المالكيّة ‪ :‬ل يشترط في الحيوان أن يجرح الصّيد ‪ ،‬فلو تحاملت الجارحة على‬
‫صيد فقتلته بثقلها ‪ ،‬أو مات بصدمتها ‪ ،‬أو بعضّها ‪ ،‬أو بقوّة إمساكها من غير عقر حلّ ‪،‬‬
‫سكْنَ عَلَ ْيكُمْ } ولنّه يعسر تعليمه أن ل يقتل إلّ‬
‫وذلك لعموم قوله تعالى ‪َ { :‬فكُلُواْ ِممّا َأ ْم َ‬
‫بجرح ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الثّالث ‪ :‬أن يكون الحيوان مرسلً من قبل مسلم أو كتابيّ مقرونا بالتّسمية ‪،‬‬ ‫‪41‬‬

‫فلو انبعث من تلقاء نفسه ‪ ،‬أو انفلت من يد صاحبه ‪ ،‬أو ترك التّسمية عند الرسال فأخذ‬
‫صيدا وقتله لم يؤكل ‪ ،‬وذلك في الجملة ‪.‬‬
‫وقد مرّ تفصيل هذا الشّرط في شروط الصّائد ‪.‬‬
‫‪ -‬الشّرط الرّابع ‪ :‬أن ل يشتغل الحيوان بعمل آخر بعد الرسال ‪ ،‬وذلك ليكون الصطياد‬ ‫‪42‬‬

‫منسوبا للرسال ‪ ،‬وهذا الشّرط منصوص عليه عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪:‬‬
‫لو أكل خبزا بعد الرسال أو بال لم يؤكل ‪ ،‬ولو عدل عن الصّيد يمن ًة أو يسر ًة ‪ ،‬أو تشاغل‬
‫في غير طلب الصّيد ‪ ،‬وفتر عن سننه ‪ ،‬ث ّم اتّبعه فأخذه ‪ ،‬لم يؤكل إلّ بإرسال مستأنف ‪ ،‬أو‬
‫أن يزجره صاحبه ويسمّي فيما يحتمل الزّجر فينزجر ‪ ،‬بخلف ما إذا كمن واستخفى ‪ ،‬كما‬
‫يكمن الفهد على وجه الحيلة ‪ ،‬ل للستراحة ‪ ،‬فل يحتاج إلى إرسال مستأنف ‪.‬‬
‫وقريب منه ما ذكره المالكيّة ‪ ،‬حيث قالوا في شروط الجارح ‪ :‬أن ل يرجع عن الصّيد ‪ ،‬فإن‬
‫رجع بالكلّيّة لم يؤكل ‪ ،‬وكذلك لو اشتغل بصيد آخر ‪ ،‬أو بأكله ‪.‬‬
‫وفصّل الموّاق في المسألة فقال ‪ :‬من أرسل كلبه أو بازه على صيد فطلبه ساع ًة ‪ ،‬ثمّ رجع‬
‫عن الطّلب ‪ ،‬ثمّ عاد فقتله ‪ ،‬فإن كان كالطّالب له يمينا وشمالً ‪ ،‬وهو على طلبه فهو على‬
‫إرساله الوّل ‪ ،‬وإن وقف لجل الجيفة أو شمّ كلبا أو سقط البازي عجزا عنه ‪ ،‬ثمّ رأياه‬
‫فاصطاده ‪ ،‬فل يؤكل إلّ بإرسال مستأنف ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو أرسل كلبا على صيد فعدل إلى غيره ‪ ،‬ولو إلى جهة غير الرسال‬
‫فأصابه ومات ح ّل ‪ ،‬لنّه يعسر تكليفه ترك العدول ‪.‬‬
‫استئجار الكلب للصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز استئجار الكلب للصّيد عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الصحّ ‪،‬‬ ‫‪43‬‬

‫ص عليه أحمد ‪.‬‬


‫والحنابلة فيما ن ّ‬
‫وعلّله الحنفيّة بأنّ المنفعة المطلوبة منه غير مقدورة الستيفاء ‪ ،‬إذ ل يمكن إجبار الكلب‬
‫على الصّيد ‪ ،‬فلم تكن المنفعة الّتي هي معقود عليها مقدورة الستيفاء في حقّ المستأجر ‪.‬‬
‫وعلّله الشّافعيّة بأنّه ل قيمة لعين الكلب ‪ ،‬فكذا لمنفعته ‪.‬‬
‫ن الكلب حيوان محرّم بيعه لخبثه ‪ ،‬فحرّمت إجارته ‪ ،‬ولنّ إباحة النتفاع‬
‫وعلّله الحنابلة بأ ّ‬
‫ن منفعته ل تضمن في الغصب ‪ ،‬فلم يجز أخذ العوض‬
‫به لم تبح بيعه فكذلك إجارته ‪ ،‬ول ّ‬
‫عنها في الجارة ‪.‬‬
‫حكم مَعَضّ الكلب وأثر فمه في الصّيد ‪:‬‬
‫ن معضّ الكلب نجس ‪.‬‬
‫‪ -‬صرّح الشّافعيّة ‪ -‬وهو رواية عند الحنابلة ‪ -‬بأ ّ‬ ‫‪44‬‬

‫والصحّ عند الشّافعيّة أنّه ل يعفى عنه كولوغه ‪ .‬والثّاني ‪ :‬يعفى عنه للحاجة ‪.‬‬
‫ض سبعا بماء وتراب في‬
‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬والصحّ على الوّل أنّه يكفي غسل المع ّ‬
‫ن ‪ ،‬كغيره ‪ ،‬وأنّه ل يجب أن يقوّر المعضّ ويطرح ‪ ،‬لنّه لم يرد ‪.‬‬
‫إحداه ّ‬
‫والثّاني ‪ :‬يجب ذلك ‪ ،‬ول يكفي الغسل ‪ ،‬لنّ الموضع تشرّب لعابه ‪ ،‬فل يتخلّله الماء ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬يجب غسل أثر فم الكلب ‪ ،‬لنّه قد ثبت نجاسته ‪ ،‬فيجب غسل ما أصابه‬
‫كبوله ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة ‪ -‬وهو رواية أخرى عند الحنابلة ‪ -‬إلى طهارة معضّ الكلب ‪ ،‬وعدم وجوب‬
‫غسله ‪ .‬قال ابن جزيّ ‪ :‬موضع ناب الكلب يؤكل ‪ ،‬لنّه طاهر في المذهب ‪.‬‬
‫ن اللّه ورسوله أمرا‬
‫وعلّل ابن قدامة عدم وجوب غسل المعضّ بناءً على هذه الرّواية بأ ّ‬
‫بأكله ‪ ،‬ولم يأمرا بغسله ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة فلم نجد لهم نصّا في المسألة ‪ .‬لكن المفتى به عندهم ‪ :‬أنّ الكلب ليس نجس‬
‫ي ‪ ،‬كما قال ابن‬
‫العين ‪ ،‬وإنّما نجاسته بنجاسة لحمه ودمه ‪ ،‬ول يظهر حكمها وهو ح ّ‬
‫عابدين ‪.‬‬
‫الشتراك في الصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬الشتراك إمّا أن يكون في الصّائدين ‪ :‬بأن يجتمع اثنان أو أكثر في الرّمي ‪ ،‬أو إرسال‬ ‫‪45‬‬

‫الجارح على الصّيد ‪ ،‬أو يكون في آلة الصّيد ‪ :‬بأن يصطاد المصيد بسهم وبندقة مثلً‪ ،‬أو‬
‫بكلبين أو نحوهما ‪ ،‬وبيان كلتا الصّورتين فيما يلي ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬اشتراك الصّائدين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اشتراك من هو أهل للصّيد مع من ليس أهلً له ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اشترك في الصّيد من يحلّ صيده كمسلم ونصرانيّ مع من‬ ‫‪46‬‬

‫ل بقاعدة تغليب‬
‫ن الصّيد حرام ل يؤكل ‪ ،‬وذلك عم ً‬
‫ي أو وثنيّ فإ ّ‬
‫ل يحلّ صيده ‪ ،‬كمجوس ّ‬
‫جانب الحرمة على جانب الحلّ ‪.‬‬
‫ي مسلما ‪ ،‬كأن رميا صيدا أو أرسل عليه جارحا يحرم الصّيد ‪،‬‬
‫وعلى ذلك فلو شارك مجوس ّ‬
‫لنّه اجتمع في قتله مبيح ومحرّم ‪ ،‬فغلّبنا التّحريم ‪ ،‬كالمتولّد بين ما يؤكل وما ل يؤكل ‪،‬‬
‫لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ما اجتمع الحلل والحرام إلّ وقد غلب الحرام الحلل « ‪.‬‬
‫ولنّ الحرام واجب التّرك والحلل جائز التّرك ‪ ،‬فكان الحتياط في التّرك ‪.‬‬
‫وهذا إذا مات الصّيد بسهميهما أو بكلبيهما ‪ ،‬ول يختلف الحكم في هذه الحالة إذا وقع‬
‫سهماهما فيه دفعةً واحدةً ‪ ،‬أو وقع سهم أحدهما قبل الخر ‪.‬‬
‫أمّا إذا أرسل كلبين أو سهمين على صيد فسبقت آلة المسلم فقتلته أو أنهته إلى حركة‬
‫مذبوح ‪ ،‬ثمّ أصاب كلب المجوسيّ أو سهمه حلّ ‪ ،‬ول يقدح ما وجد من المجوسيّ ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬وإن كان الجرح الثّاني ‪ -‬أي من المجوسيّ ‪ -‬موحيا ‪ -‬أيضا ‪ -‬لنّ الباحة‬
‫حصلت بالوّل ‪ ،‬فلم يؤثّر فيه الثّاني ‪.‬‬
‫وإذا ردّه كلب المجوسيّ على كلب المسلم فقتله حلّ كذلك ‪ ،‬كما صرّح به الحنفيّة‬
‫والحنابلة ‪ ،‬وإذا رمى المجوسيّ سهمه فر ّد السّهم الصّيد فأصابه سهم المسلم فقتله فإنّه‬
‫ن المسلم انفرد بقتله ‪ ،‬لكن الحنفيّة وصفوا الحلّ في صورة ر ّد كلب المجوسيّ‬
‫يحلّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالكراهة ‪.‬‬
‫أمّا إذا سبقت آلة المجوسيّ فقتلته ‪ ،‬أو أنهته إلى حركة مذبوح ‪ ،‬أو لم يسبق واحد منهما‬
‫وجرحاه معا ‪ ،‬وحصل الهلك بهما ‪ ،‬أو جهل ذلك ‪ ،‬أو جرحاه مرتّبا ولكن لم يذفّف أحدهما‬
‫فهلك بهما حرّم الصّيد تغليبا للتّحريم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬اشتراك من هو أهل للصّيد مع مثله ‪:‬‬
‫‪ -‬إن اشترك في الرّمي أو الصابة من هو أهل للصّيد مع مثله ‪ ،‬كمسلمين أو نصرانيّين‬ ‫‪47‬‬

‫أو مسلم ونصرانيّ ‪ ،‬فله صور ‪:‬‬


‫الولى ‪ :‬إن رميا معا وأصاباه وقتله كان الصّيد حللً ‪ ،‬كما لو اشتركا في ذبحه ‪ ،‬ويكون‬
‫الصّيد بينهما نصفين باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬إن جرحاه معا ‪ ،‬وأزمناه ‪ ،‬ولم يكن جرح أحدهما مذفّفا ‪ ،‬ث ّم مات الصّيد بسبب‬
‫جرح الثنين ‪ ،‬حلّ ويكون بينهما ‪.‬‬
‫الثّالثة ‪ :‬إن كان جرح أحدهما موحيا ‪ -‬مذفّفا ‪ ، -‬والخر غير موح ‪ ،‬ول يثبته مثله ‪،‬‬
‫فالصّيد لصاحب الجرح الموحي ‪ ،‬لنفراده بذلك ‪.‬‬
‫الرّابعة ‪ :‬إذا رميا وأصابا متعاقبين ‪ ،‬فذفّف الثّاني ‪ ،‬أو أزمن دون الوّل منهما ‪ ،‬بأن لم‬
‫ن جرحه هو المؤثّر في امتناعه أو‬
‫يوجد منه تذفيف ول إزمان ح ّل ‪ ،‬والصّيد للثّاني ‪ ،‬ل ّ‬
‫قتله‪ ،‬ول شيء له على الوّل بجرحه ‪ ،‬لنّه كان مباحا حينئذ ‪ ،‬وهذه الصّور متّفق عليها‬
‫في الجملة ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬إذا رميا متعاقبين ‪ ،‬فأثخنه الوّل ‪ ،‬ثمّ رماه الثّاني وقتله يحرم ‪ ،‬ويضمن الثّاني‬
‫للوّل قيمته غير ما نقصته جراحة الوّل ‪ ،‬أمّا الحرمة فلنّه لمّا أثخنه الوّل فقد خرج من‬
‫حيّز المتناع ‪ ،‬وصار مقدورا على ذكاته الختياريّة ‪ ،‬ولم يذكّ ‪ ،‬وصار الثّاني قاتلً له ‪،‬‬
‫فيحرم ‪.‬‬
‫وهذا إذا كان بحال يسلم من الجرح الوّل ‪ ،‬لنّ موته يضاف إلى الثّاني ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان حيّا حياة مذبوح فيح ّل والملك للوّل ‪ ،‬لنّ موته ل يضاف إلى الرّمي الثّاني ‪،‬‬
‫فل اعتبار بوجوده ‪.‬‬
‫وأمّا ضمان الثّاني للوّل في حالة الحرمة ‪ ،‬فلنّه أتلف صيدا مملوكا للغير ‪ ،‬لنّه ملكه‬
‫بالثخان ‪ ،‬فيلزمه قيمة ما أتلف ‪.‬‬
‫وصرّح الشّافعيّة بأنّه إن أزمن الوّل ‪ ،‬ثمّ ذفّف الثّاني بقطع حلقوم ومريء فهو حلل ‪،‬‬
‫وإن ذفّف ل بقطعهما ‪ ،‬أو لم يذفّف أصلً ‪ ،‬ومات بالجرحين فحرام ‪ ،‬أمّا الوّل فلنّ‬
‫المقدور عليه ل يحلّ إ ّل بذبحه ‪ ،‬وأمّا الثّاني فلجتماع المبيح والمحرّم ‪ ،‬كما إذا اشترك فيه‬
‫ي ‪ ،‬وفي كلتا الصّورتين يضمنه الثّاني للوّل ‪ ،‬لنّه أفسد ملكه ‪.‬‬
‫مسلم ومجوس ّ‬
‫والعتبار في التّرتيب والمعيّة بالصابة عند الشّافعيّة ‪ -‬وهو المفهوم من كلم الحنابلة‬
‫وقول زفر من الحنفيّة ‪ -‬ل بابتداء الرّمي ‪ ،‬كما أنّ العتبار في كونه مقدورا عليه أو غير‬
‫مقدور عليه بحالة الصابة ‪ ،‬فلو رمى غير مقدور عليه ‪ ،‬أو أرسل عليه الكلب فأصابه‬
‫وهو مقدور عليه ‪ ،‬لم يحلّ إلّ بإصابته في المذبح ‪ ،‬وإن رماه وهو مقدور عليه فأصابه‬
‫وهو غير مقدور عليه حلّ مطلقا عندهم ‪.‬‬
‫ق الحلّ والضّمان وقت الرّمي ‪ ،‬لنّ الرّمي إلى‬
‫ن المعتبر في ح ّ‬
‫وقال الحنفيّة ‪ -‬عدا زفر ‪ -‬إ ّ‬
‫صيد مباح ‪ ،‬فل ينعقد سببا لوجوب الضّمان ‪ ،‬ول ينقلب بعد ذلك موجبا ‪ ،‬والحلّ يحصل‬
‫بفعله وهو الرّمي والرسال ‪ ،‬فيعتبر وقته ‪ ،‬أمّا في حقّ الملك فيعتبر وقت الثخان ‪ ،‬لنّ به‬
‫يثبت الملك ‪ ،‬وعلى ذلك يحلّ الصّيد ويكون ملكا للوّل عند جمهور الحنفيّة في الصّور‬
‫التّالية ‪:‬‬
‫إن رمياه معا فأصابه أحدهما قبل الخر فأثخنه ‪ ،‬ثمّ أصابه الخر ومات ‪.‬‬
‫رماه أحدهما أ ّولً ‪ ،‬ثمّ رماه الثّاني قبل أن يصيبه الوّل ‪ ،‬أو بعدما أصابه قبل أن يثخنه ‪،‬‬
‫فأصابه الوّل وأثخنه ‪.‬‬
‫رميا معا فأثخنه الوّل ثمّ أصابه الثّاني فقتله ‪.‬‬
‫ففي هذه الصّور يحلّ الصّيد ويكون ملكا للوّل ‪ ،‬أمّا الحلّ فلنّ وقت الرّمي لم يكن الصّيد‬
‫ن الثخان بفعل الوّل ‪.‬‬
‫مقدورا عليه ‪ ،‬وأمّا الملك فل ّ‬
‫وقال زفر ‪ -‬وهو مقتضى كلم الشّافعيّة والحنابلة ‪ : -‬ل يحلّ أكله لنّ الصّيد حالة إصابة‬
‫الثّاني غير ممتنع ‪ ،‬فل يحلّ بذكاة الضطرار ‪ ،‬فصار كما إذا رماه الثّاني بعد ما أثخنه‬
‫‪ -‬وهناك صور أخرى ذكرها بعض الفقهاء ‪ ،‬منها ‪:‬‬ ‫‪48‬‬ ‫الوّل‪.‬‬
‫قال الشّافعيّة ‪ :‬لو جهل كون التّذفيف أو الزمان منهما أو من أحدهما كان لهما ‪ ،‬لعدم‬
‫ن أن يستحلّ كلّ منهما من صاحبه تورّعا من مظنّة الشّبهة ‪.‬‬
‫التّرجيح ‪ ،‬ويس ّ‬
‫ونظيره ما قاله الحنابلة مع اختلف العبارة ‪ ،‬قال البهوتيّ ‪ :‬إن أصاب أحدهما بعد صاحبه‬
‫ن الصل بقاء‬
‫فوجداه ميّتا ‪ ،‬ولم يعلم هل صار بالجرح الوّل ممتنعا أو ل ؟ حلّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن تخصيص أحدهما به ترجيح بل مرجّح ‪.‬‬
‫امتناعه‪ ،‬ويكون ملكه بينهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫ذكر الحنابلة أنّه إن قال كلّ منهما ‪ :‬أنا أثبته ‪ ،‬ثمّ قتلته أنت ولم يكن التّذفيف والزمان‬
‫معلومين حرم ‪ ،‬لقرار ك ّل منهما بتحريمه ‪ ،‬ويتحالفان لجل الضّمان ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الشتراك في آلة الصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا اشترك في الصّيد آلتان أو سببان يباح بأحدهما الصّيد ‪،‬‬ ‫‪49‬‬

‫ويحرّم بالخر ‪ ،‬يحرّم الصّيد ‪ ،‬فالصل أنّه إذا اجتمع الحلّ والحرمة يغلب جانب الحرمة ‪،‬‬
‫ل بقوله ‪ » :‬ما اجتمع الحلل والحرام إلّ وقد غلب الحرام الحلل « أو احتياطا ‪ ،‬كما‬
‫عم ً‬
‫قال الفقهاء ‪.‬‬
‫فلو وجد المسلم أو الكتابيّ مع كلبه كلبا آخر جهل ‪ ،‬هل سمّي عليه أم ل ؟ وهل استرسل‬
‫بنفسه أم أرسله شخص ؟ وهل مرسله من أهل الصّيد أم ل ؟ لم يبح ‪ ،‬سواء علم أنّ‬
‫ن المجهول هو الّذي قتله ‪ ،‬لقوله صلى ال‬
‫الكلبين قتله معا ‪ ،‬أو لم يعلم القاتل ‪ ،‬أو علم أ ّ‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬إن وجدت مع كلبك أو كلبك كلبا غيره فخشيت أن يكون أخذه معه ‪ ،‬وقد‬
‫قتله فل تأكل ‪ ،‬فإنّما ذكرت اسم اللّه على كلبك ‪ ،‬ولم تذكره على غيره « ‪.‬‬
‫ولتغليب الحظر على الباحة ‪.‬‬
‫الثر المترتّب على الصّيد ‪:‬‬
‫ن الصطياد إذا تمّ بالشّروط الّتي قدّمناها يكون سببا لتملّك الصّائد‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪50‬‬

‫للمصيد ‪ ،‬وذلك بوضع اليد عليه أو بجرح مذفّف ‪ ،‬أو بإزمان وكسر جناح ‪ ،‬بحيث يعجز‬
‫عن الطّيران والعدو جميعا ‪ ،‬إن كان ممّا يمتنع بهما ‪ ،‬وإلّ فبإبطال ما يمتنع به ‪ ،‬أو‬
‫بوقوعه في شبكة نصبها للصّيد ‪ ،‬أو بإلجائه إلى مضيق ل يفلت منه ‪ ،‬كإدخال صيد ب ّريّ‬
‫إلى بيت ‪ ،‬أو اضطرار سمكة إلى بركة صغيرة أو حوض صغير ونحو ذلك ‪ ،‬وهذا في‬
‫الجملة ‪ ،‬وبيان ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬وضع اليد على الصّيد ‪:‬‬
‫ن المصيد غير الحرميّ يملكه الصّائد بضبطه بيده ‪ ،‬كما عبّر به‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪51‬‬

‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬أو بالستيلء الحقيقيّ ‪ ،‬كما هو تعبير الحنفيّة ‪ ،‬وذلك إذا لم يكن عليه‬
‫أثر ملك لخر ‪ ،‬كخضب أو قصّ جناح أو قرط ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪.‬‬
‫ول يشترط في وضع اليد أن يقصد تملّكه ‪ ،‬حتّى لو أخذه لينظر إليه ملكه ‪ ،‬لنّه مباح ‪،‬‬
‫فيملك بوضع اليد عليه ‪ ،‬كسائر المباحات ‪ ،‬ول يملك بمجرّد الرّؤية ‪ ،‬وقد عبّر عنه المالكيّة‬
‫بلفظ ‪ " :‬المبادر " ‪ ،‬حيث قالوا ‪ :‬وملك الصّيد المبادر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الجرح المذفّف ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا جرح الصّائد جرحا مذفّفا بإرسال سهم ‪ ،‬أو كلب أو نحوهما‬ ‫‪52‬‬

‫يملكه ولو لم يضع يده عليه حقيقةً ‪ ،‬لنّه يعتبر استيل ًء حكميّا ‪ ،‬لكن يشترط في هذه الحالة‬
‫أن يقصد الصّائد بفعله الصطياد ‪ ،‬فلو أرسل سهما أو جارحةً لهوا ‪ ،‬أو على حيوان‬
‫ل فأصاب صيدا وذفّفه لم يحلّ ‪ ،‬ول يملك ‪.‬‬
‫مستأنس مث ً‬
‫ج ‪ -‬الجرح المثخن ‪:‬‬
‫‪ -‬والمراد به الجرح الّذي يثبت الصّيد ويبطل امتناعه وإن لم يكن مسرعا لقتله ‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫فإذا أثخن صيدا ‪ ،‬أو كسر جناح الطّير ‪ ،‬أو رجل الظّبي مثلً ‪ ،‬بحيث يعجز عن الطّيران أو‬
‫العدو يملكه ‪ ،‬فإذا تحامل الصّيد بعد إثباته ‪ ،‬ومشى غير ممتنع فأخذه غير مثخنه لزمه‬
‫ردّه‪.‬‬
‫د ‪ -‬نصب الحبالة أو الشّبكة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا نصب حبالةً أو شبكةً للصّيد فتعلّق بها صيد ملكه باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬لنّه استيلء‬ ‫‪54‬‬

‫ي ‪ ،‬ولنّه أثبته بآلته ‪ ،‬فأشبه ما أثبته بسهمه ‪.‬‬


‫حكم ّ‬
‫فإن لم تمسكه الشّبكة ‪ ،‬بل انفلت منها في الحال أو بعد حين لم يملكه ‪ ،‬لنّه لم يثبته ‪ ،‬وإن‬
‫كان يمشي بالشّبكة على وجه ل يقدر على المتناع به فهو لصاحب الشّبكة ‪ ،‬وإلّ بأن لم‬
‫يزل على امتناعه فلمن أخذه ‪.‬‬
‫ن مجرّد نصب الشّبكة أو‬
‫وقيّد الشّافعيّة والحنابلة التّملّك في هذه الحالة بقصد الصطياد ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الحبالة ل يكفي ‪ ،‬حتّى يقصد نصبها للصّيد ‪.‬‬
‫وفرّق الحنفيّة بين ما كان موضوعا للصطياد كالشّبكة ‪ ،‬وبين ما لم يكن موضوعا‬
‫ل ‪ ،‬فلم يشترطوا في الوّل القصد واشترطوه في الثّاني ‪ ،‬قال ابن‬
‫للصطياد كالفسطاط مث ً‬
‫ن من نصب شبكةً‬
‫عابدين ‪ :‬الستيلء الحكميّ باستعمال ما هو موضوع للصطياد ‪ ،‬حتّى إ ّ‬
‫فتعلّق بها صيد ملكه ‪ ،‬قصد بها الصطياد أو ل ‪ ،‬فلو نصبها لتجفيفها ل يملكه ‪ ،‬وإن نصب‬
‫فسطاطا ‪ ،‬إن قصد الصّيد يملكه ‪ ،‬وإلّ فل ‪ ،‬لنّه غير موضوع للصّيد ‪.‬‬
‫هع – إلجاء الصّيد إلى مضيق ل يفلت منه ‪:‬‬
‫– إذا ألجأ الصّائد المصيد إلى مضيق ل يقدر على النفلت منه ‪ ،‬كبيت سدّت منافذه ‪،‬‬ ‫‪55‬‬

‫أو أدخل السّمكة حوضا صغيرا فسد منفذه ‪ ،‬بحيث يمكنه تناول ما فيه باليد دون حاجة إلى‬
‫شبكة أو سهم ملكه ‪ ،‬لحصول الستيلء عليه ‪ ،‬وإن كان الحوض كبيرا ل يمكنه أن يتناول‬
‫ما فيه إلّ بجهد وتعب ‪ ،‬أو إلقاء شبكة في الماء لم يملكه به ‪.‬‬
‫لكن الشّافعيّة قالوا ‪ :‬هو أولى به من غيره ‪ ،‬فل يصيده غيره إ ّل بإذنه ‪.‬‬
‫و ‪ -‬وقوع الصّيد في ملك غير الصّائد ‪:‬‬
‫‪ -‬لو رمى طائرا على شجرة في دار قوم فطرحه في دارهم ‪ ،‬أو طرد الصّيد لدار قوم ‪،‬‬ ‫‪56‬‬

‫فأخذوه فيه فإنّه ملك للرّامي والطّارد ‪ ،‬دون مالكي الدّار ‪ ،‬كما صرّح به المالكيّة‬
‫والحنابلة ‪ ،‬بخلف ما لو رمى صيدا فأصابه ‪ ،‬وبقي على امتناعه حتّى دخل دار إنسان‬
‫ن الوّل لم يملكه ‪ ،‬لكونه ممتنعا ‪ ،‬فملكه الثّاني بأخذه ‪.‬‬
‫فأخذه ‪ ،‬فهو لمن أخذه ل ّ‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يملك الصّيد بوقوعه في شبكة نصبها للصّيد ‪ ،‬طرده إليها طارد أم ل ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن اشترك في الصّيد طارد مع ذي حبالة وقصد الطّارد إيقاعه فيها ‪،‬‬
‫ولولهما لم يقع الصّيد في الحبالة ‪ ،‬فعلى حسب فعليهما ‪ ،‬أي نصب الحبالة وطرد الطّارد ‪،‬‬
‫فإذا كانت أجرة الطّارد درهمين وأجرة الحبالة درهما ‪ ،‬كان للطّارد الثّلثان ‪ ،‬ولصاحب‬
‫الحبالة الثّلث ‪.‬‬
‫وإن لم يقصد الطّارد إيقاع الصّيد في الحبالة ‪ ،‬وأيس من الصّيد فوقع فيها ‪ ،‬يملكه ربّ‬
‫الحبالة ول شيء للطّارد ‪ ،‬وإن كان الطّارد على تحقّق من أخذه بغير الحبالة ‪ ،‬فقدّر اللّه‬
‫ص ًة ‪ ،‬ول شيء عليه لصاحب‬
‫أنّه وقع فيها ‪ -‬بقصده أو بغير قصده ‪ -‬فهو للطّارد خا ّ‬
‫الحبالة ‪ .‬قال الدّسوقيّ ‪ :‬نعم إذا قصد الطّارد إيقاعه فيها لجل إراحة نفسه من التّعب ‪،‬‬
‫لزمه أجرة الحبالة لصاحبها ‪.‬‬
‫فروع في تملّك الصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬الوّل ‪ :‬السّفينة إذا وثبت فيها سمكة فوقعت في حجر إنسان فهي له ‪ ،‬دون صاحب‬ ‫‪57‬‬

‫السّفينة ‪ ،‬لنّ حوزه أخصّ بالسّمكة من حوز صاحب السّفينة ‪ ،‬لنّ حوز السّفينة شمل هذا‬
‫ص مقدّم على العمّ ‪.‬‬
‫الرّجل وغيره ‪ ،‬وحوز هذا الرّجل ل يتعدّاه ‪ .‬والخ ّ‬
‫ن السّفينة ملكه ‪ ،‬ويده عليها ‪ ،‬فما حصل من‬
‫وإذا وقعت في السّفينة فهي لصاحبها ‪ ،‬ل ّ‬
‫المباح فيها كان أحقّ به ‪.‬‬
‫وأضاف الحنابلة ‪ :‬أنّه إن كانت السّمكة وثبت بفعل إنسان بقصد الصّيد ‪ ،‬كالصّائد الّذي‬
‫يجعل في السّفينة ضوءا باللّيل ويدقّ بشيء كالجرس ليثب السّمك في السّفينة فهذا‬
‫للصّائد ‪ ،‬دون من وقع في حجره ‪ ،‬لنّه أثبتها بذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬الثّاني ‪ :‬إذا أمسك الصّائد الصّيد ‪ ،‬وثبتت يده عليه لم يزل ملكه عنه بانفلته عند‬ ‫‪58‬‬

‫الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬كما لو شردت فرسه أو ندّ بعيره ‪ ،‬قال‬
‫الشّافعيّة‪ :‬سواء أكان يدور في البلد أم التحق بالوحوش في البرّيّة ‪.‬‬
‫وكذا ل يزول ملكه بإرسال المالك له في الصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة ‪،‬‬
‫كما لو أرسل بعيره ‪ ،‬لنّ رفع اليد عنه ل يقتضي زوال الملك عنه ‪.‬‬
‫وفي القول الثّاني عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو محتمل عند الحنابلة ‪ :‬يزول ملكه عن المرسل ‪،‬‬
‫فيجوز اصطياده ‪ ،‬وذلك لنّ الصل الباحة ‪ ،‬والرسال يردّه إلى أصله ‪.‬‬
‫والثّالث عند الشّافعيّة أنّه ‪ :‬إن قصد بإرساله التّقرّب إلى اللّه تعالى زال ملكه ‪ ،‬وإلّ فل‬
‫يزول ملكه بالرسال ‪.‬‬
‫ن الصّيد ل يخرج عن ملك صاحبه بالرسال أو العتاق ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬هذا يحتمل معنيين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أنّه ل يخرج عن ملكه قبل أن يأخذه أحد ‪ ،‬فإن أخذه أحد بعد الباحة ملكه ‪ ،‬كما‬
‫تفيده عبارة مختارات النّوازل ‪ :‬سيّب دابّته فأخذها آخر وأصلحها فل سبيل للمالك عليها إن‬
‫قال عند تسييبها ‪ :‬هي لمن أخذها ‪.‬‬
‫ح مطلقا ‪ ،‬أو إلّ لقوم‬
‫ن التّمليك لمجهول ل يص ّ‬
‫الثّاني ‪ :‬أنّه ل يخرج عن ملكه مطلقا ‪ ،‬ل ّ‬
‫معلومين ‪ ،‬وتكون فائدة الباحة حلّ النتفاع به مع بقائه على ملك المالك ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فعندهم كما يقول الحطّاب ‪ :‬إن ن ّد صيد من صاحبه وصاده غيره ففيه طريقان ‪:‬‬
‫إن صيد قبل توحّشه ‪ ،‬وبعد تأنّسه فهو للوّل اتّفاقا ‪ ،‬وإن صاده بعد توحّشه فقال مالك‬
‫وابن القاسم ‪ :‬هو للثّاني ‪ ،‬وإن ملكه بشراء فهل يكون كالوّل أم ل ؟ قال ابن الموّاز ‪ :‬هو‬
‫كالوّل‪ ،‬وقال ابن الكاتب ‪ :‬هو للوّل على كلّ حال ‪.‬‬
‫‪ -‬الثّالث ‪ :‬من أحرم وفي حيازته صيد ‪ ،‬فللفقهاء فيه التّفصيل التّالي ‪:‬‬ ‫‪59‬‬

‫ذهب الحنفيّة إلى أنّ من دخل الحرم أو أحرم في حلّ ‪ ،‬وفي يده الحقيقيّة صيد وجب‬
‫إطلقه‪ ،‬أو إرساله للحلّ وديعةً على وجه غير مضيّع له ‪ ،‬لنّ تضييع الدّابّة حرام ‪.‬‬
‫ول يخرج الصّيد عن ملكه بهذا الرسال ‪ ،‬فله إمساكه في الحلّ ‪ ،‬وله أخذه من إنسان أخذه‬
‫منه ‪ ،‬لنّه لم يخرج عن ملكه ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يرسل المحرم الصّيد وجوبا إذا كان مملوكا له قبل الحرام ‪ ،‬وكان في قفص‬
‫أو نحوه ‪ ،‬بيده ‪ ،‬أو بيد رفقته الّذين معه ‪ ،‬فإن لم يرسله وتلف ضمنه ‪ ،‬وإذا أرسله زال‬
‫ملكه عنه حالً ومآلً ‪ ،‬فلو أخذه أحد قبل لحوقه بالوحش أو بعده فقد ملكه ‪ ،‬وليس لصاحبه‬
‫الصليّ أخذه منه ‪.‬‬
‫ول يجب إرساله إن كان الصّيد حال إحرامه ببيته ‪ ،‬وإن أحرم من بيته وفيه صيد ففيه‬
‫تأويلن ‪ :‬والمعتمد عدم وجوب الرسال ‪ ،‬وعدم زوال الملكيّة ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إن كان في ملكه صيد فأحرم زال ملكه عنه ‪ ،‬ولزمه إرساله ‪ ،‬لنّه ل يراد‬
‫للدّوام ‪ ،‬فتحرم استدامته ‪ ،‬فلو لم يرسله حتّى تحلّل لزمه إرساله ‪ -‬أيضا ‪ -‬إذ ل يرتفع‬
‫اللّزوم بالتّعدّي ‪ ،‬ومن أخذه ولو قبل إرساله وليس محرما ملكه ‪ ،‬لنّه بعد لزوم الرسال‬
‫صار مباحا ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬إذا أحرم وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه ‪ ،‬ول يده الحكميّة ‪ ،‬مثل أن‬
‫يكون في بلده ‪ ،‬أو في يد نائب له في غير مكانه ‪ ،‬ولكن يلزمه إزالة يده المشاهدة ‪ ،‬فإذا‬
‫كان في قبضته أو خيمته أو رحله أو قفص معه أو مربوطا بحبل معه لزمه إرساله ‪ ،‬وإذا‬
‫أرسله لم يزل ملكه عنه ‪ ،‬فمن أخذه ردّه عليه إذا حلّ ‪ .‬ومن قتله ضمنه له ‪ ،‬لنّ ملكه‬
‫كان عليه ‪ ،‬وإزالة يده ل تزيل الملك بدليل الغصب والعاريّة ‪.‬‬
‫دخول مالك الصّيد الحرم ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يختلف عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة حكم الصّيد من حيث لزوم الرسال والملكيّة‬ ‫‪60‬‬

‫وغيرهما لمن دخل الحرم بغير إحرام عن حكمه بالنّسبة للمحرم ‪ ،‬فما قالوه هناك نصّوا‬
‫عليه هنا أيضا ‪.‬‬
‫أمّا الشّافعيّة فقالوا ‪ :‬إنّ دخول مالك الصّيد الحرم من غير إحرام ل يزول به ملك الصّيد ‪،‬‬
‫ن صيد الحلّ إذا ملكه إنسان ل يصير صيد حرم ‪.‬‬
‫ول يجب عليه إرساله ‪ ،‬ل ّ‬
‫ضمان الصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬تعرّض الفقهاء لبيان حكم ضمان الصّيد في صور منها ‪:‬‬ ‫‪61‬‬

‫الولى ‪ :‬ضمان صيد الحرم ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم على المحرم والحلل‬
‫التّعرّض لصيد في الحرم بالقتل والجرح واليذاء والستيلء عليه ‪ ،‬وكذا التّنفير والمساعدة‬
‫في اصطياده بأيّ وجه من الوجوه ‪ ،‬كالدّللة والشارة والمر ونحوها ‪.‬‬
‫كما اتّفقوا على ضمان قتله وإصابته عمدا أو خطأ على المحرم والحلل ‪ ،‬ويكون الضّمان‬
‫فيما له مثل من النّعم بالمثل ‪ ،‬أو تقويمه بنقد يشتري به طعاما يتصدّق به على مساكين‬
‫الحرم ‪ ،‬أو ما يعدل ذلك من الصّيام ‪.‬‬
‫أمّا فيما ل مثل له فقيمته بتقويم رجلين عدلين يتصدّق بها على المساكين ‪ ،‬كما ورد في‬
‫ن آمَنُواْ َل َتقْتُلُو ْا الصّيْدَ َوأَن ُتمْ حُ ُرمٌ َومَن قَتَ َل ُه مِنكُم مّ َت َعمّدا َفجَزَاء‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫طعَامُ َمسَاكِينَ أَو‬
‫حكُمُ ِب ِه َذوَا عَ ْد ٍل مّنكُمْ هَدْيا بَالِ َغ الْ َكعْ َبةِ َأوْ َكفّارَةٌ َ‬
‫مّ ْثلُ مَا قَ َتلَ ِمنَ ال ّن َعمِ َي ْ‬
‫عَ ْدلُ َذلِكَ صِيَاما } ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪164‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪160‬‬ ‫وينظر تفصيله في مصطلح ‪ ( :‬إحرام ف‬
‫الثّانية ‪ :‬ضمان صيد الحلّ إذا أراد أن يدخل به الحرم ‪ ،‬فمن ملك صيدا في الحلّ ‪ ،‬وأراد أن‬
‫يدخل به الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله عند جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة‬
‫والحنابلة ‪ -‬كما قدّمناه ‪ ،‬فإن لم يرسله وتلف فعليه ضمانه ‪ ،‬لنّه تلف تحت اليد المعتدية ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو أدخل الحلل معه صيدا إلى الحرم ل يضمنه ‪ ،‬لنّه صيد حلّ ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪13‬‬ ‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬حرم‬

‫صِيغَة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّيغة في اللّغة من الصّوغ مصدر صاغ الشّيء يصوغه صوغا وصياغةً ‪ ،‬وصغته‬ ‫‪1‬‬

‫أصوغه صياغ ًة وصيغةً ‪ ،‬وهذا شيء حسن الصّيغة ‪ ،‬أي حسن العمل ‪.‬‬
‫وصيغة المر كذا وكذا ‪ ،‬أي هيئته الّتي بني عليها ‪.‬‬
‫وصيغة الكلمة ‪ :‬هيئتها الحاصلة من ترتيب حروفها وحركاتها ‪ ،‬والجمع ‪ :‬صيغ ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫اختلفت صيغ الكلم ‪ :‬أي تراكيبه وعباراته ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬لم نعرف للفقهاء تعريفا جامعا للصّيغة يشمل صيغ العقود والتّصرّفات‬
‫والعبادات وغيرها ‪ ،‬لكنّه يفهم من التّعريف اللّغويّ ومن كلم بعض الفقهاء أنّ الصّيغة هي‬
‫اللفاظ والعبارات الّتي تعرب عن إرادة المتكلّم ونوع تصرّفه ‪ ،‬يقول ابن القيّم ‪ :‬إنّ اللّه‬
‫تعالى وضع اللفاظ بين عباده تعريفا ودللةً على ما في نفوسهم ‪ ،‬فإذا أراد أحدهم من‬
‫الخر شيئا عرّفه بمراده وما في نفسه بلفظه ‪ ،‬ورتّب على تلك الرادات والمقاصد أحكامها‬
‫بواسطة اللفاظ ولم يرتّب تلك الحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دللة فعل أو‬
‫قول‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العبارة ‪:‬‬
‫‪ -‬في اللّغة ‪ :‬عبّر عمّا في نفسه ‪ :‬أعرب وبيّن ‪ ،‬والسم العبرة والعبارة ‪ ،‬وعبّر عن‬ ‫‪2‬‬

‫فلن تكلّم عنه ‪ ،‬واللّسان يعبّر عمّا في الضّمير أي يبيّنه ‪ ،‬وهو حسن العبارة أي البيان ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء للفظ " عبارة " عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬اللّفظ ‪:‬‬
‫‪ -‬في اللّغة ‪ :‬اللّفظ أن ترمي بشيء كان في فيك ‪ ،‬ولفظ بالشّيء يلفظ ‪ :‬تكلّم ‪ ،‬وفي‬ ‫‪3‬‬

‫ب عَتِيدٌ } ‪.‬‬
‫التّنزيل العزيز ‪ { :‬مَا َي ْلفِظُ مِن َق ْولٍ إِل لَدَ ْيهِ رَقِي ٌ‬
‫ولفظ بقول حسن ‪ :‬تكلّم به ‪ ،‬وتلفّظ به كذلك ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّيغة ‪ :‬ركن في كلّ اللتزامات باعتبارها سببا في إنشائها باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ما يتعلّق بالصّيغة من أحكام ‪:‬‬


‫تنوّع الصّيغة بتنوّع اللتزامات ‪:‬‬
‫‪ -‬لمّا كانت ال صّيغة هي الدّالّة على نوع اللتزام الّذي ينشئه المتكلّم فإنّها تختلف تبعا‬ ‫‪5‬‬

‫لختلف اللتزامات ‪ ،‬وبيان ذلك فيما يلي ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬بعض اللتزامات تتقيّد بصيغة خاصّة ل يجوز العدول عنها ومن أمثلة ذلك الشّهادة عند‬
‫جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪10‬‬ ‫انظر مصطلح ‪ ( :‬إثبات‬
‫مصطلح ‪ ( :‬شهادة ) ‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا صيغ اليمان ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ‪ ( :‬أيمان ) ‪ ،‬ومصطلح ‪ ( :‬لعان ) ‪.‬‬
‫ومن ذلك صيغة عقد النّكاح عند الشّافعيّة والحنابلة إذ ل ب ّد في اليجاب والقبول من لفظ‬
‫النكاح أو التّزويج ‪.‬‬
‫ول يشترط ذلك عند الحنفيّة والمالكيّة وزاد الشّافعيّة في العقود الّتي تتقيّد بصيغة معيّنة‬
‫ص بصيغة إلّ شيئين ‪ :‬النّكاح والسّلم ‪.‬‬
‫السّلم ‪ ،‬فقالوا ليس لنا عقد يخت ّ‬
‫انظر مصطلح ‪ :‬زواج ( نكاح ‪ ،‬وسلم ) ‪.‬‬
‫‪ -6‬ب ‪ -‬هناك التزامات ل تتقيّد بصيغة معيّنة بل تصحّ بكلّ لفظ يدلّ على المقصود كالبيع‬
‫والعارة ‪.‬‬
‫ويتّفق الفقهاء في الجملة على أنّ العقود ‪ -‬غير عقدي النّكاح والسّلم ‪ -‬ل يشترط فيها‬
‫صيغة معيّنة ‪ ،‬بل كلّ لفظ يؤدّي إلى المقصود يت ّم به العقد ‪.‬‬
‫فالصّيغة الّتي تؤدّي إلى تسليم الملك بعوض بيع ‪ ،‬وبدون العوض هبة أو عطيّة أو صدقة ‪،‬‬
‫والصّيغة الّتي تؤدّي إلى التّمكين من المنفعة بعوض إجارة ‪ ،‬وبدون العوض إعارة أو وقف‬
‫أو عمرى ‪ ،‬والصّيغة الّتي تؤدّي إلى التزام الدّين ضمان ‪ ،‬والّتي تؤدّي إلى نقله حوالة ‪،‬‬
‫والّتي تؤدّي إلى التّنازل عنه إبراء وهكذا ‪.‬‬
‫ومن نصوص الفقهاء الدّالّة على ذلك ما يأتي ‪:‬‬
‫جاء في فتح القدير في باب البيع ‪ :‬لو قال البائع ‪ :‬رضيت بكذا ‪ ،‬أو أعطيتك بكذا ‪ ،‬أو خذه‬
‫بكذا ‪ ،‬فهو في معنى قوله ‪ :‬بعت واشتريت ‪ ،‬لنّه يؤدّي معناه ‪ ،‬والمعنى هو المعتبر في‬
‫هذه العقود ‪ ،‬وكذا لو قال ‪ :‬وهبتك أو وهبت لك هذه الدّار بثوبك هذا فرضي فهو بيع‬
‫بالجماع ‪ .‬وفي الحطّاب ‪ :‬ليس لليجاب والقبول لفظ معيّن ‪ ،‬وكلّ لفظ أو إشارة فهم منها‬
‫اليجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود ‪.‬‬
‫وفي نهاية المحتاج ‪ :‬ليس لنا عقد يختصّ بصيغة واحدة إلّ النّكاح والسّلم ‪.‬‬
‫وفي كشّاف القناع ‪ :‬الصّيغة القوليّة في البيع غير منحصرة في لفظ بعينه كبعت واشتريت‬
‫بل هي كلّ ما أدّى معنى البيع ‪ ،‬لنّ الشّارع لم يخصّه بصيغة معيّنة فتناول كلّ ما أدّى‬
‫معناه‪.‬‬
‫دللة الصّيغة على الزّمن وأثر ذلك في العقد ‪:‬‬
‫ن العقد ينعقد بصيغة الماضي ‪ ،‬من غير توقّف على نيّة ‪ ،‬لنّ‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫صيغة الماضي جعلت إيجاباص للحال في عرف أهل اللّغة والشّرع ‪ ،‬والعرف قاض على‬
‫الوضع ‪.‬‬
‫لكن الفقهاء اختلفوا في انعقاد العقد بالصّيغة الدّالّة على الحال أو الستقبال ‪ ،‬ولذلك اختلفوا‬
‫ن صيغة المضارع تحتمل الحال والستقبال ‪:‬‬
‫في انعقاد العقد بصيغة المضارع ‪ ،‬ل ّ‬
‫فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى صحّة انعقاد العقد بصيغة المضارع لكن مع الرّجوع إلى‬
‫النّيّة ‪ ،‬يقول الكاسانيّ ‪ :‬وأمّا صيغة الحال فهي أن يقول البائع للمشتري ‪ :‬أبيع منك هذا‬
‫الشّيء بكذا ونوى اليجاب ‪ ،‬فقال المشتري ‪ :‬اشتريت ‪ ،‬أو قال البائع ‪ :‬أبيعه منك بكذا ‪،‬‬
‫وقال المشتري‪ :‬أشتريه ونويا اليجاب فإنّ الرّكن يتمّ وينعقد العقد ‪ ،‬وإنّما اعتبرنا النّيّة هنا‬
‫وإن كانت صيغة أفعل للحال هو الصّحيح ‪ ،‬لنّه غلب استعمالها للستقبال ‪ ،‬إمّا حقيقةً أو‬
‫مجازا فوقعت الحاجة إلى التّعيين بالنّيّة ‪.‬‬
‫وقريب من هذا مذهب المالكيّة ‪ ،‬ففي الحطّاب ‪ :‬إن أتى بصيغة المضارع فكلمه محتمل‬
‫فيحلف على ما أراده ‪.‬‬
‫ول ينعقد بصيغة المضارع عند الحنابلة ‪ ،‬لنّه يعتبر وعدا ‪.‬‬
‫وأمّا صيغة المر فعند المالكيّة وهو الظهر عند الشّافعيّة ينعقد العقد بصيغة المر لدللة‬
‫" بعني " على الرّضا ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة فل ينعقد العقد بصيغة المر عندهم لنّ هذه الصّيغة للستقبال ‪ ،‬وهي مساومة‬
‫حقيقيّة فل تكون إيجابا وقبولً حقيقةً ‪ ،‬بل هي طلب اليجاب والقبول فل بدّ لليجاب‬
‫والقبول من لفظ آخر يدلّ عليهما ‪.‬‬
‫ويوضّح ابن قدامة مذهب الحنابلة فيقول ‪ :‬إن تقدّم اليجاب بلفظ الطّلب فقال بعني ثوبك‬
‫فقال ‪ :‬بعتك ‪ ،‬ففيه روايتان ‪ :‬إحداهما يصحّ ‪ ،‬والثّانية ل يصحّ ‪.‬‬
‫هذا في الجملة وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬عقد ) ‪.‬‬
‫الصّريح والكناية في الصّيغة ‪:‬‬
‫‪ -‬من الصّيغ ما هو صريح في الدّللة على المراد فل يحتاج إلى نيّة أو قرينة ‪ ،‬لنّ‬ ‫‪8‬‬

‫المعنى مكشوف عند السّامع كما يقول الكاسانيّ ‪.‬‬


‫ومنها ما هو كناية ‪ ،‬أي ‪ :‬أنّه ل يدلّ على المراد إلّ بالنّيّة أو القرينة ‪ ،‬لنّه كما يقول‬
‫الشّبراملّسي ‪ :‬يحتمل المراد وغيره ‪ ،‬فيحتاج في العتداد به لنيّة المراد لخفائه ‪.‬‬
‫واستعمال الكناية عند الفقهاء يأتي في الطّلق والعتق واليمان والنّذور وهذا ‪ -‬باتّفاق ‪-‬‬
‫ولكنّهم اختلفوا في انعقاد ما عدا ذلك من اللتزامات بالكنايات ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ‪ ( :‬عقد ) ‪.‬‬
‫شروط الصّيغة ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬أن تكون صادرةً ممّن هو أهل للتّصرّف فل تصحّ تصرّفات المجنون والصّبيّ غير‬ ‫‪9‬‬

‫المميّز ‪ ،‬وهذا في الجملة بالنّسبة لعقود المعاوضات كالبيع والجارة ‪.‬‬


‫ويزاد بالنّسبة للتّبرّعات أن يكون أهلً للتّبرّع ‪ .‬وهذا في الجملة كذلك ‪ ،‬إذ من الفقهاء من‬
‫ي المميّز كالحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪.‬‬
‫أجاز وصيّة السّفيه والصّب ّ‬
‫ي وينظر تفصيل ذلك في أبوابه‬
‫ي والفضول ّ‬
‫وفي ذلك تفصيل من حيث تصرّف الوكيل والول ّ‬
‫ي المميّز ويصحّ‬
‫ويصحّ من الصّبيّ الذّكر والدّعاء ‪ ،‬فقد أجاز جمهور الفقهاء أذان الصّب ّ‬
‫إيمانه عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يقصد المتكلّم بالصّيغة لفظها مع المعنى المستعمل فيه اللّفظ إذ الجهل بمعنى اللّفظ‬
‫مسقط لحكمه ‪ ،‬ففي قواعد الحكام ‪ :‬إذا نطق العجميّ بكلمة كفر أو إيمان أو طلق أو‬
‫إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشيء من ذلك ‪ ،‬لنّه لم يلتزم مقتضاه ‪،‬‬
‫ي بما يد ّل على هذه المعاني بلفظ أعجميّ ل يعرف‬
‫ولم يقصد إليه ‪ ،‬وكذلك إذا نطق العرب ّ‬
‫ن الرادة ل تتوجّه إلّ إلى معلوم أو‬
‫معناه فإنّه ل يؤاخذ بشيء من ذلك ‪ ،‬لنّه لم يرده فإ ّ‬
‫ي بنطق شيء من هذا الكلم مع معرفته بمعانيه نفذ ذلك منه ‪.‬‬
‫مظنون ‪ ،‬وإن قصد العرب ّ‬
‫ولو سبق لسانه بطلق أو يمين دون قصد فهو لغ ‪ ،‬ول يحنث بذلك لعدم قصده ‪.‬‬
‫وذلك عند جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة يقع طلقه وينعقد يمينه ‪ ،‬إذ القصد بالنّسبة لليمين والطّلق ليس بشرط‬
‫عندهم فالنّاسي والعامد والمخطئ والذّاهل في ذلك سواء ‪.‬‬
‫واليمين اللّغو ل شيء فيها عند الفقهاء جميعا مع اختلفهم في المراد باللّغو ‪.‬‬
‫وهذا في اليمين باللّه خلفا لليمين بالطّلق والعتاق فإنّه ل لغو فيها فيقع يمينه ‪.‬‬
‫أمّا لو قصد اللّفظ دون المعنى كالهازل واللعب كمن خاطب زوجته بطلق هاز ًل أو لعبا‬
‫ن طلقه يقع ‪ ،‬وكذلك ينعقد يمينه ونكاحه ورجعته وعتقه ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه‬
‫فإ ّ‬
‫ن جدّ وهزلهنّ ج ّد ‪ :‬النّكاح والطّلق والرّجعة « ‪.‬‬
‫وسلم ‪ » :‬ثلث جدّه ّ‬
‫وفي رواية أخرى ‪ » :‬النّكاح والطّلق والعتاق « ‪.‬‬
‫وقال عمر بن الخطّاب رضي ال تعالى عنه ‪ :‬أربع جائزة في كلّ حال ‪ :‬العتق والطّلق‬
‫والنّكاح والنّذر ‪.‬‬
‫وهذا باتّفاق في الجملة ‪ ،‬وذلك أنّ الهازل أتى بالقول غير ملتزم لحكمه ‪ ،‬وترتيب الحكام‬
‫على السباب إنّما هي للشّارع ل للعاقد ‪ ،‬فإذا أتى بالسّبب لزمه حكمه شاء أم أبى ‪ ،‬لنّ‬
‫ذلك ل يقف على اختياره ‪ ،‬وذلك إنّ الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه ‪،‬‬
‫ن اللّعب والهزل في حقوق‬
‫وقصد اللّفظ المتضمّن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلزمهما ‪ ،‬ثمّ إ ّ‬
‫اللّه تعالى غير جائز ‪ ،‬فيكون ج ّد القول وهزله سوا ًء ‪ ،‬بخلف جانب العباد ‪.‬‬
‫أمّا عقود الهازل كالبيع ونحوه فل تصحّ عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وهي صحيحة عند‬
‫الشّافعيّة في الصحّ ولم نعثر للمالكيّة على رأي في عقود الهازل غير ما ذكر في النّكاح‬
‫والطّلق والعتاق ‪.‬‬
‫وهذا في الجملة ‪ ،‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬عقد ‪ -‬هزل ) ‪.‬‬
‫أمّا السّكران ‪ :‬فإن كان سكره بسبب محظور بأن شرب الخمر أو النّبيذ طوعا حتّى سكر‬
‫وزال عقله فطلقه واقع عند عامّة علماء الحنفيّة ‪ ،‬قال الكاسانيّ ‪ :‬وكذلك عند عامّة‬
‫ق مَرّتَانِ } إلى قوله تعالى ‪ { :‬فَإِن طَّل َقهَا َفلَ‬
‫الصّحابة وذلك لعموم قوله تعالى ‪ { :‬الطّلَ ُ‬
‫ى تَن ِكحَ َز ْوجًا غَيْرَهُ } ‪ ،‬من غير فصل بين السّكران وغيره إلّ من خصّ‬
‫حلّ َل ُه مِن َبعْدُ حَ ّت َ‬
‫َت ِ‬
‫بدليل‪ ،‬ولنّ عقله زال بسبب هو معصية فينزل كأنّ عقله قائم ‪ ،‬عقوبةً عليه وزجرا له عن‬
‫ارتكاب المعصية ‪.‬‬
‫وذكر ابن نجيم في الشباه أنّ السّكران من محرّم كالصّاحي إلّ في ثلث ‪ :‬الرّدّة والقرار‬
‫بالحدود الخالصة والشهاد على نفسه ‪.‬‬
‫والقول بصحّة تصرّفات السّكران إذا كان قد أدخل السّكر على نفسه هو المذهب عند‬
‫الشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وفي قول عند الشّافعيّة ل يصحّ شيء من تصرّفاته ‪ ،‬وهو قول الطّحاويّ والكرخيّ من‬
‫ح ما له فعلى هذا يصحّ‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬والقول الثّالث عند الشّافعيّة أنّه يصحّ ما عليه ول يص ّ‬
‫بيعه وهبته ول يصحّ اتّهابه وتصحّ ردّته دون إسلمه ‪.‬‬
‫وعن المام أحمد أنّه فيما يستقلّ به مثل عتقه وقتله وغيرهما كالصّاحي ‪ ،‬وفيما ل يستقلّ‬
‫به مثل بيعه ونكاحه ومعاوضته كالمجنون ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فإنّهم يميّزون بين من عنده نوع تمييز ومن زال عقله فأصبح كالمجنون ‪ ،‬فمن‬
‫زال عقله ل يؤاخذ بشيء أصلً ‪ ،‬أمّا من عنده وقوع تمييز فقد قال ابن نافع ‪ :‬يجوز عليه‬
‫كلّ ما فعل من بيع وغيره وتلزمه الجنايات والعتق والطّلق والحدود ‪ ،‬ول يلزمه القرار‬
‫والعقود ‪ ،‬وهو مذهب مالك ‪ ،‬وعامّة أصحابه ‪.‬‬
‫أمّا من زال عقله بسبب يعذر فيه كمن شرب البنج أو الدّواء الّذي يسكر وزال عقله فل يقع‬
‫طلقه ول تصحّ تصرّفاته لنّه يقاس على المجنون الّذي رفع عنه القلم ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬عقد ‪ -‬سكر ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن تصدر الصّيغة عن اختيار ‪ ،‬فلو كان مكرها فعند الحنفيّة ما ل يحتمل الفسخ ‪ ،‬وهو‬
‫الطّلق ‪ ،‬والعتاق ‪ ،‬والرّجعة ‪ ،‬والنّكاح ‪ ،‬واليمين ‪ ،‬والنّذر ‪ ،‬والظّهار ‪ ،‬واليلء ‪،‬‬
‫والتّدبير ‪ ،‬والعفو عن القصاص ‪ ،‬فهذه التّصرّفات جائزة مع الكراه لعمومات النّصوص ‪،‬‬
‫وإطلقها يقتضي شرعيّة هذه التّصرّفات من غير تخصيص وتقييد ‪.‬‬
‫أمّا التّصرّفات الّتي تحتمل الفسخ كالبيع والهبة والجارة ونحوها فالكراه يوجب فساد هذه‬
‫التّصرّفات ‪ ،‬وعند زفر يوجب توقّفها على الجازة ‪.‬‬
‫ويحكم بإسلم الكافر إذا أكره على السلم ‪ ،‬ول يحكم بكفر المسلم إذا أكره على إجراء‬
‫ن قلبه كان مطمئنّا باليمان ‪.‬‬
‫كلمة الكفر فأجرى وأخبر أ ّ‬
‫وعند المالكيّة ل يلزم المكره ما أكره عليه من التّصرّفات القوليّة كالطّلق والنّكاح والعتق‬
‫والقرار واليمين وكذا سائر العقود كالبيع والجارة والهبة ونحو ذلك ‪.‬‬
‫وأمّا الكراه على كلمة الكفر فل يجوز القدام على ذلك إلّ خشية القتل ‪.‬‬
‫والحكم عند الشّافعيّة والحنابلة كالحكم عند المالكيّة في عدم صحّة التّصرّفات القوليّة مع‬
‫ل بحديث ‪ » :‬رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه « ‪.‬‬
‫الكراه عم ً‬
‫وحديث ‪ » :‬ل طلق ول عتاق في إغلق « ‪.‬‬
‫إلّ أنّ الحنابلة استثنوا النّكاح فيصحّ مع الكراه ‪.‬‬
‫ما يقوم مقام الصّيغة ‪:‬‬
‫‪ -‬حين تطلق الصّيغة فالمراد بها عند الفقهاء ‪ :‬اللفاظ والعبارات الدّالّة على التّصرّف ‪،‬‬ ‫‪10‬‬

‫ذلك أنّ القول هو الصل في التّعبير عمّا يريده النسان ‪ ،‬إذ هو من أوضح الدّللت على ما‬
‫في النّفوس ‪.‬‬
‫ويقوم مقام الصّيغة في التّعبير عن المراد الكتابة أو الشارة ‪.‬‬
‫وبيان ذلك إجمالً فيما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الكتابة ‪:‬‬
‫‪ -‬الكتابة تقوم مقام اللّفظ في التّصرّفات ويتّفق الفقهاء على صحّة العقود وانعقادها‬ ‫‪11‬‬

‫بالكتابة ‪ ،‬والكتابة الّتي تقوم مقام اللّفظ هي ‪ :‬الكتابة المستبينة المرسومة كالكتابة على‬
‫الصّحيفة أو الحائط أو الرض ‪ ،‬أمّا الكتابة الّتي ل تقرأ كالكتابة على الماء أو الهواء فل‬
‫ينعقد بها أي تصرّف ‪.‬‬
‫وإنّما تصحّ التّصرّفات بالكتابة المستبينة لنّ القلم أحد اللّسانين كما يقول الفقهاء فنزلت‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بتبليغ الرّسالة وكان في حقّ‬
‫الكتابة منزلة اللّفظ ‪ ،‬وقد أمر النّب ّ‬
‫البعض بالقول وفي حقّ آخرين بالكتابة إلى ملوك الطراف ‪.‬‬
‫واعتبر الشّافعيّة الكتابة من باب الكناية فتنعقد بها العقود مع النّيّة ‪.‬‬
‫واستثنى جمهور الفقهاء من صحّة التّصرّفات بالكتابة عقد النّكاح فل ينعقد بالكتابة عند‬
‫ن النّكاح يفسخ مطلقا ‪ -‬قبل الدّخول‬
‫المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬بل إنّ المالكيّة يقولون إ ّ‬
‫وبعده ‪ -‬وإن طال ‪ ،‬كما لو اختلّ ركن كما لو زوّجت المرأة نفسها بل وليّ أو لم تقع‬
‫الصّيغة بقول بل بكتابة أو إشارة أو بقول غير معتبر شرعا ‪.‬‬
‫ن النّكاح ينعقد عندهم بالكتابة كسائر العقود ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة فإ ّ‬
‫وأجاز المالكيّة والحنابلة النّكاح بالكتابة من الخرس فينعقد نكاحه بالكتابة للضّرورة ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬تعبير ‪ ،‬وخرس ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشارة ‪:‬‬
‫‪ -‬ممّا يقوم مقام الصّيغة في التّصرّفات الشارة ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫قال الزّركشيّ ‪ :‬إشارة الخرس في العقود والحلول والدّعاوى والقارير وغيرها كعبارة‬
‫النّاطق ‪ ،‬قال المام عنه في " الساليب " وكان السّبب فيه أنّ الشارة فيها بيان ‪ ،‬ولكن‬
‫الشّارع تعبّد النّاطقين بالعبارة ‪ ،‬فإذا عجز الخرس بخرسه عن العبارة أقامت الشّريعة‬
‫إشارته مقام عبارته ‪.‬‬
‫ويوضّحه أنّ النّاطق لو أشار بعقد أو فسخ لم يعتدّ به فإذا خرس اعتدّ به فد ّل على أنّ‬
‫المعنى المعتبر في قيام الشارة مقام العبارة الضّرورة ‪ ،‬وأنّه أتى بأقصى ما يقدر عليه في‬
‫البيان ‪.‬‬
‫هذا مع اختلف الفقهاء في اشتراط قبول الشارة من الخرس العاجز عن الكتابة ‪ ،‬كما‬
‫اختلفوا في إشارة غير الخرس وهل تقبل كنطقه أم ل ؟ ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في بحث ( إشارة – ف ‪. ) 5‬‬
‫ج ‪ -‬الفعل ‪:‬‬
‫‪ -‬قد يقوم الفعل مقام الصّيغة في بعض التّصرّفات ‪ ،‬ومن أه ّم ما ورد في ذلك عند‬ ‫‪13‬‬

‫الفقهاء التّعاطي في العقود فأجاز جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ -‬البيع‬
‫بالتّعاطي وهو قول للشّافعيّة ‪ ،‬كما أجاز جمهور الفقهاء القالة والجارة بالتّعاطي ‪.‬‬
‫وقد سبق تفصيل ذلك في بحث ‪ ( :‬تعاطي ‪ -‬ف ‪) . 3‬‬
‫أثر العرف في دللة الصّيغة على المقصود ‪:‬‬
‫‪ -‬للعرف أثر في دللة الصّيغة على المراد ‪ ،‬ومراعاة حمل الصّيغة على العرف له أثر‬ ‫‪14‬‬

‫ص فيها والّتي بنيت أساسا على العراف الّتي كانت سائدةً‬


‫في الحكام الجتهاديّة الّتي ل ن ّ‬
‫‪ .‬يقول ابن القيّم ‪ :‬ممّا تتغيّر به الفتوى لتغيّر العرف والعادة مثل ‪ :‬موجبات اليمان‬
‫والقرار والنّذور وغيرها ‪ ،‬فمن ذلك أنّ الحالف إذا حلف ‪ :‬ل ركبت دا ّبةً ‪ ،‬وكان في بلد‬
‫صةً اختصّت يمينه به ‪ ،‬ول يحنث بركوب الفرس ول الجمل‬
‫عرفهم في لفظ الدّابّة الحمار خا ّ‬
‫صةً حملت يمينه عليها دون الحمار ‪ ،‬وكذلك‬
‫‪ ،‬وإن كان عرفهم في لفظ الدّابّة الفرس خا ّ‬
‫ص من الدّوابّ كالمراء ومن جرى مجراهم‬
‫إن كان الحالف ممّن عادته ركوب نوع خا ّ‬
‫حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدّوابّ ‪ ،‬ويفتى كلّ بلد بحسب عرف أهله ‪ ،‬ويفتى‬
‫كلّ أحد بحسب عادته ‪ ،‬وكذلك إذا حلف ل أكلت رأسا في بلد عادتهم أكل رؤوس الضّأن‬
‫صةً ‪ ،‬لم يحنث بأكل رؤوس الطّير والسّمك ونحوها ‪.‬‬
‫خا ّ‬
‫وإذا أقرّ الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير لم يقبل تفسيره بالدّرهم والرّغيف ونحوه‬
‫ممّا يتموّل ‪ ،‬فإن أق ّر به فقير يعدّ عنده الدّرهم والرّغيف كثيرا قبل منه ‪.‬‬
‫ل في كتابه قواعد الحكام في مصالح النام تحت‬
‫وقد عقد العزّ بن عبد السّلم فصلً كام ً‬
‫عنوان ‪ " :‬فصل في تنزيل دللة العادات وقرائن الحوال منزلة صريح القوال في تخصيص‬
‫العموم وتقييد المطلق وغيرها " ‪ ،‬وأورد في ذلك ثلثا وعشرين مسألةً ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين عن فتاوى العلمة قاسم ‪ :‬التّحقيق أنّ لفظ الواقف والموصي والحالف‬
‫والنّاذر ‪ ،‬وكلّ عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته الّتي يتكلّم بها ‪ ،‬وافقت لغة العرب‬
‫ولغة الشّارع أو ل ‪.‬‬
‫ي في المستصفى ‪ ... " :‬وعلى الجملة فعادة النّاس تؤثّر في تعريف مرادهم‬
‫ويقول الغزال ّ‬
‫من ألفاظهم " ‪.‬‬
‫ي في فروقه ‪.‬‬
‫ونظيره عند المالكيّة ما أورده القراف ّ‬
‫أثر الصّيغة ‪:‬‬
‫‪ -‬أثر الصّيغة ‪ :‬هو ما يترتّب عليها من أحكام ‪ ،‬وهو المقصد الصليّ للصّيغة ‪ ،‬إذ‬ ‫‪15‬‬

‫المراد من الصّيغة التّعبير عمّا يلتزم به النسان من ارتباط مع الغير ‪ ،‬كصيغ العقود من‬
‫بيع وإجارة وصلح ونكاح وغير ذلك ‪ ،‬أو ارتباط مع اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬والتّقرّب إليه‬
‫كالنّذر والذّكر ‪ ،‬أو التّعبير عمّا هو في ال ّذمّة ‪ ،‬أو لدى الغير من حقوق كالقرارات ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالصّيغة متى استوفت شرائطها ترتّب عليها ما تضمّنته ‪ ،‬ففي البيع مثلً يثبت‬
‫الملك للمشتري في المبيع وللبائع الثّمن للحالّ مع وجوب تسليم البدلين ‪.‬‬
‫وفي الجارة يثبت الملك في المنفعة للمستأجر وفي الجرة المسمّاة للجر ‪.‬‬
‫وفي الهبة يثبت الملك للموهوب له في الموهوب من غير عوض ‪.‬‬
‫وفي النّكاح يثبت حلّ الستمتاع لكلّ من الزّوجين بالخر وحلّ النّظر والمسّ وغير ذلك ‪،‬‬
‫ويجب المهر ‪ ،‬كما يجب في النّذور واليمان الوفاء والبرّ ‪ ..‬وهكذا ‪.‬‬
‫والصّيغة الّتي تصدر من النسان متى استوفت شرائطها كانت هي الساس الّذي يعتمد عليه‬
‫القاضي في صدور الحكام ‪ ،‬ولو كان الواقع خلف ذلك ‪ ،‬ومن ذلك حديث عويمر العجلنيّ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫لمّا وضعت امرأته الّتي لوعنت ‪ ،‬ولدا يشبه الّذي رميت به ‪ ،‬قال النّب ّ‬
‫وسلم‪ » :‬لول اليمان لكان لي ولها شأن « يعني لول ما قضى اللّه من ألّ يحكم على أحد‬
‫ي صلى ال عليه وسلم لشريك ول‬
‫إلّ باعتراف على نفسه أو بيّنة ‪ ،‬ولم يعرض النّب ّ‬
‫ن أحدهما كاذب ث ّم علم بعد أنّ الزّوج هو الصّادق ‪.‬‬
‫للمرأة ‪ ،‬وأنفذ الحكم وهو يعلم أ ّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم سمع خصومةً بباب حجرته فخرج‬
‫وفي حديث أمّ سلمة ‪ » :‬أ ّ‬
‫إليهم فقال ‪ :‬إنّما أنا بشر وإنّه يأتيني الخصم فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ‪،‬‬
‫فأحسب أنّه صادق فأقضي له بذلك ‪ ،‬فمن قضيت له بحقّ مسلم فإنّما هي قطعة من النّار‬
‫فليأخذها أو ليتركها « ‪.‬‬
‫ن الحكم بين النّاس يقع على ما يسمع من‬
‫قال الشّافعيّ لمّا تكلّم على الحديث ‪ :‬في الحديث أ ّ‬
‫الخصمين بما لفظوا به ‪ ،‬وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك ‪ ،‬وأنّه ل يقضي‬
‫على أحد بغير ما لفظ به ‪ ،‬فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب اللّه وسنّة نبيّه ‪ ،‬مثل هذا قضاؤه‬
‫صلى ال عليه وسلم لعبد بن زمعة بابن الوليدة ‪ ،‬فلمّا رأى الشّبه بيّنا بعتبة قال ‪» :‬‬
‫احتجبي منه يا سودة « ‪.‬‬
‫وقال ابن فرحون ‪ :‬الحاكم إنّما يحكم بما ظهر وهو الّذي تعبّد به ‪ ،‬ول ينقل الباطن عند من‬
‫علمه عمّا هو عليه من التّحليل والتّحريم ‪ ،‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إنّما‬
‫أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ ‪ ،‬ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له‬
‫ق أخيه شيئًا فل يأخذه ‪ ،‬فإنّما أقطع له قطع ًة من‬
‫على نحو ما أسمع فمن قضيت له من ح ّ‬
‫النّار « ‪.‬‬
‫قال ابن فرحون ‪ :‬وهذا إجماع من أهل العلم في الموال ‪ ،‬واختلفوا في انعقاد النّكاح أو حلّ‬
‫ي وجمهور أهل‬
‫عقده بظاهر ما يقضي به الحاكم وهو خلف الباطن ‪ ،‬فذهب مالك والشّافع ّ‬
‫العلم إلى أنّ الموال والفروج في ذلك سواء ‪ ،‬لنّها حقوق كلّها تدخل تحت قوله صلى ال‬
‫ق أخيه فل يأخذه « ‪ .‬فل يحلّ منها القضاء‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬فمن قضيت له بشيء من ح ّ‬
‫الظّاهر ما هو حرام في الباطن ‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف وأبو حنيفة ‪ ،‬وكثير من فقهاء المالكيّة على ما حكى عنهم ابن عبد البرّ ‪:‬‬
‫صةً ‪ ،‬فلو أنّ رجلين تعمّدا الشّهادة بالزّور على رجل أنّه طلّق‬
‫إنّما ذلك في الموال خا ّ‬
‫امرأته فقبل القاضي شهادتهما لظاهر عدالتهما ‪ ،‬وهما قد تعمّدا الكذب أو غلطا ففرّق‬
‫القاضي بشهادتهما بين الرّجل وامرأته ‪ ،‬ثمّ اعتدّت المرأة فإنّه جائز لحد الشّاهدين أن‬
‫يتزوّج لنّها لمّا حلّت للزواج بالحكم الظّاهر ‪ ،‬فالظّاهر ‪ ،‬وغيره سواء ‪ ،‬واحتجّوا بحكم‬
‫اللّعان وقالوا ‪ :‬معلوم أنّ الزّوجة إنّما وصلت إلى فراق زوجها باللّعان الكاذب ونقل ابن‬
‫ي ما يشبه هذا التّفصيل ‪.‬‬
‫حجر في فتح الباري عن الطّحاو ّ‬
‫وقد قسّم ابن القيّم اللفاظ بالنّسبة إلى مقاصد المتكلّمين ونيّاتهم وإراداتهم لمعانيها ثلثة‬
‫أقسام ‪.‬‬
‫القسم الوّل ‪:‬‬
‫‪ -‬أن تظهر مطابقة القصد للّفظ ‪ ،‬وللظّهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد‬ ‫‪16‬‬

‫المتكلّم بحسب الكلم في نفسه ‪ ،‬وما يقترن به من القرائن الحاليّة واللّفظيّة وحال المتكلّم‬
‫به وغير ذلك ‪.‬‬
‫القسم الثّاني ‪:‬‬
‫ن المتكلّم لم يرد معناه ‪ ،‬وقد ينتهي هذا الظّهور إلى حدّ اليقين بحيث ل‬
‫‪ -‬ما يظهر بأ ّ‬ ‫‪17‬‬

‫يشكّ السّامع فيه ‪ ،‬هذا القسم نوعان ‪:‬‬


‫أحدهما ‪ :‬ألّ يكون مريدا لمقتضاه ‪ ،‬ول لغيره وذلك كالمكره ‪ ،‬والنّائم ‪ ،‬والمجنون ‪ ،‬ومن‬
‫اشتدّ به الغضب ‪ ،‬والسّكران ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن يكون مريدا لمعنىً يخالفه وذلك كالمعرّض والمورّي والملغز والمتأوّل ‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلّم له ‪ ،‬ويحتمل إرادة غيره ول دللة على‬ ‫‪18‬‬

‫واحد من المرين ‪ ،‬واللّفظ دالّ على المعنى الموضوع له ‪ ،‬وقد أتى به اختيارا ‪.‬‬
‫ثمّ بيّن ابن القيّم ما يحمل على ظاهره من هذه القسام ‪ ،‬وما ل يحمل على ظاهره ‪ ،‬وما‬
‫يحمل على غير ظاهره فقال ‪ :‬إذا ظهر قصد المتكلّم لمعنى الكلم ‪ ،‬أو لم يظهر قصد يخالف‬
‫ق ل ينازع فيه عالم ‪ ،‬وقد ذكر الشّافعيّ على‬
‫كلمه وجب حمل كلمه على ظاهره ‪ ،‬وهذا ح ّ‬
‫ذلك أدّلةً كثير ًة ‪ ،‬وإذا عرف هذا فالواجب حمل كلم اللّه تعالى ‪ ،‬ورسوله وحمل كلم‬
‫المكلّف على ظاهره الّذي هو ظاهره ‪ ،‬وهو الّذي يقصد من اللّفظ عند التّخاطب ول يتمّ‬
‫التّفهيم والفهم إلّ بذلك ‪ ،‬ومدّعي غير ذلك على المتكلّم القاصد للبيان والتّفهيم كاذب عليه ‪.‬‬
‫قال ابن القيّم ‪ :‬وإنّما النّزاع في الحمل على الظّاهر حكما بعد ظهور مراد المتكلّم والفاعل‬
‫بخلف ما أظهره ‪ ،‬فهذا هو الّذي وقع فيه النّزاع وهو ‪ :‬هل العتبار بظواهر اللفاظ‬
‫والعقود وإن ظهرت المقاصد والنّيّات بخلفها ؟ أم للقصود والنّيّات تأثير يوجب اللتفات‬
‫إليها ومراعاة جانبها ؟‬
‫ن القصود في العقود معتبرة ‪ ،‬وأنّها تؤثّر في‬
‫وقد تظاهرت أدلّة الشّرع وقواعده على أ ّ‬
‫صحّة العقد وفساده ‪ ،‬وفي حلّه ‪ ،‬وحرمته ‪ ،‬بل أبلغ من ذلك ‪ ،‬وهي ‪ :‬أنّها تؤثّر في الفعل‬
‫الّذي ليس بعقد تحليلً وتحريما فيصير حللً تار ًة وحراما تارةً أخرى باختلف النّيّة ‪،‬‬
‫والقصد ‪ ،‬كما يصير صحيحا تارةً ‪ ،‬وفاسدا تارةً باختلفها ‪ ،‬وهذا كالرّجل يشتري الجارية‬
‫ينوي أن تكون لموكّله فتحرم على المشتري ‪ ،‬وينوي أنّها له فتحلّ له ‪.‬‬
‫ثمّ بعد أن يوضّح ابن القيّم أنّ العبرة في العقود القصد دون اللّفظ المجرّد يقول ‪ :‬وهذه‬
‫القوال إنّما تفيد الحكام إذا قصد المتكلّم بها ما جعلت له ‪ ،‬وإذا لم يقصد بها ما يناقض‬
‫صحّة ‪،‬‬
‫معناها ‪ ،‬وهذا فيما بينه وبين اللّه تعالى ‪ ،‬فأمّا في الظّاهر فالمر محمول على ال ّ‬
‫ل على أنّه قصد‬
‫وإلّ لما تمّ عقد ول تصرّف فإذا قال ‪ :‬بعت أو تزوّجت كان هذا اللّفظ دلي ً‬
‫معناه المقصود به وجعله الشّارع بمنزلة القاصد إن كان هازلً ‪ ،‬وباللّفظ والمعنى جميعا‬
‫يتمّ الحكم‪ ،‬فكلّ منهما جزء السّبب وهما مجموعه ‪ ،‬وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى ‪،‬‬
‫واللّفظ دليل ‪ ،‬ولهذا يصار إلى غيره عند تعذّره ‪ ،‬وهذا شأن عامّة أنواع الكلم ‪.‬‬

‫ضَأْن *‬
‫انظر ‪ :‬غنم‬

‫ضَائِع *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّائع في اللّغة ‪ :‬من ضاع الشّيء يضيع ضَيْعا وضِيعا وضَياعا وضياعا ‪ -‬بكسر‬ ‫‪1‬‬

‫الضّاد وفتحها فيهما ‪ -‬إذا فقد وهلك وتلف وصار مهملً ‪.‬‬
‫والضّيعة ‪ :‬العقار والجمع ضياع وضيع ‪.‬‬
‫وخصّ أهل اللّغة لفظ " ضائع " بغير الحيوان كالعيال والمال ‪ ،‬يقال ‪ :‬أضاع الرّجل عياله‬
‫وماله ‪ ،‬وضيّعهم إضاعةً فهو مضِيّع ومضَيّع بكسر الضّاد وفتحها ‪.‬‬
‫والمعنى الصطلحيّ ل يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الضّالّة ‪:‬‬
‫‪ -‬في اللّغة ‪ :‬الضّالّة الحيوان الضّائع وعرّف الفقهاء الضّالّة بأنّها ‪ :‬نعم وجد بغير حرز‬ ‫‪2‬‬

‫محترم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬اللّقطة ‪:‬‬
‫‪ -‬اللّقطة ‪ :‬المال الضّائع من ربّه يلتقطه غيره أو الشّيء الّذي يجده المرء ملقىً فيأخذه‬ ‫‪3‬‬

‫أمانةً ‪.‬‬
‫ن الوّل يعرف مالكه ‪ ،‬أمّا الثّاني فل ‪ ،‬كما أنّ‬
‫والفرق بين المال الملقوط والمال الضّائع ‪ :‬أ ّ‬
‫اللّقطة يخصّ إطلقها بالمال أو الختصاص المحترم ‪ ،‬أمّا الضّائع فيطلق على الموال‬
‫والشخاص ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫يتعلّق بالضّائع جملة من الحكام الفقهيّة ومنها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ضياع المال بعد وجوب الزّكاة ‪:‬‬
‫‪ -‬من وجبت عليه الزّكاة فلم يخرجها حتّى ضاع المال فعند جمهور الفقهاء إن كان‬ ‫‪4‬‬

‫ضياعه بتفريطه أو فرّط في الخراج بعد التّمكّن وجبت عليه الزّكاة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪139‬‬ ‫وللتّفصيل ينظر ‪ ( :‬زكاة ف‬
‫ب ‪ -‬ما يجمع في بيت الضّوائع ‪:‬‬
‫‪ -‬من أقسام بيت المال بيت الضّوائع ‪ ،‬وتجمع فيه الموال الضّائعة ونحوها من لقطة ل‬ ‫‪5‬‬

‫يعرف صاحبها أو مسروق ل يعلم صاحبه ‪ ،‬فتحفظ محرزةً لصحابها ‪ ،‬فإن حصل اليأس‬
‫من معرفتهم صرف في وجهه ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪10‬‬ ‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬بيت المال ف‬
‫ج ‪ -‬ضمان المال الضّائع ‪:‬‬
‫‪ -‬اعتبر الفقهاء إضاعة المال صور ًة من صور التلف الموجب للضّمان في كثير من‬ ‫‪6‬‬

‫أوجه المعاملت ‪ :‬كالعاريّة الوديعة والرّهن واللّقطة مع اختلف بينهم في التّفصيل ‪ ،‬وذلك‬
‫لنّ إضاعة المال نوع من الهمال المفضي إلى ضياع الحقوق على أصحابها ‪.‬‬
‫‪ ،‬وضمان ‪ ،‬ولقطة‬ ‫‪15‬‬ ‫وإعارة ف‬ ‫‪53‬‬ ‫و‬ ‫‪28‬‬ ‫وللتّفصيل انظر المصطلحات التّالية ‪ ( :‬إتلف ف‬
‫)‪.‬‬

‫ضالّة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّالّة في اللّغة من ضلّ الشّيء ‪ :‬خفي وغاب ‪ ،‬وأضللت الشّيء ‪ -‬باللف ‪ -‬إذا‬ ‫‪1‬‬

‫ضاع منك ‪ ،‬فلم تعرف موضعه ‪ :‬كالدّابّة والنّاقة وما أشبههما ‪ ،‬فإن أخطأت موضع الشّيء‬
‫الثّابت كالدّار قلت ‪ :‬ضللته وضلّلته ‪ ،‬ول تقل ‪ :‬أضللته باللف ‪.‬‬
‫والضّالّة بالتّاء ‪ :‬الحيوان الضّائع ‪ ،‬يطلق على الذّكر والنثى ‪ ،‬والثنين والجمع ‪ ،‬وتجمع‬
‫على ضوالّ ‪ ،‬مثل ‪ :‬دابّة ودوابّ ‪ ،‬ويقال لغير الحيوان ‪ :‬ضائع ‪ ،‬ولقطة ‪ ،‬والضّالّ بدون‬
‫التّاء ‪ :‬النسان ‪.‬‬
‫وقد تطلق الضّالّة على المعاني ‪ ،‬ومنه حديث ‪ » :‬الكلمة الحكمة ضالّة المؤمن « أي ل‬
‫يزال يتطلّبها كما يتطلّب الرّجل ضالّته ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء للفظ الضّالّة عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫ففي الختيار ‪ :‬الضّالّة ‪ :‬الدّابّة تض ّل الطّريق إلى مربطها ‪ ،‬وفي كشّاف القناع ‪ :‬الضّالّة ‪:‬‬
‫ص ًة ‪ ،‬وفي الموّاق بهامش الحطّاب ‪ :‬الضّالّة ‪ :‬نعم وجد بغير حرز محترما ‪.‬‬
‫اسم حيوان خا ّ‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫اللّقطة ‪:‬‬
‫‪ -‬في اللّغة ‪ :‬يقال ‪ :‬لقطت الشّيء لقطا من باب قتل ‪ :‬أخذته ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫واللّقطة شرعا ‪ -‬كما عرّفها بعض الفقهاء ‪ : -‬ما يوجد مطروحا على الرض ممّا سوى‬
‫ي‪.‬‬
‫الحيوان من الموال ل حافظ له ‪ ،‬وهذا هو تعريف الموصل ّ‬
‫ومثله تعريف ابن عرفة من المالكيّة ‪ ،‬قال ‪ :‬اللّقطة ‪ :‬مال وجد بغير حرز محترما ‪ ،‬ليس‬
‫حيوانا ناطقا ول نعما ‪.‬‬
‫أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيطلقون لفظ اللّقطة على الحيوان وغير الحيوان ‪.‬‬
‫ن اللّقطة تطلق على‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فإنّ بعض الفقهاء يفرّق بين اللّقطة والضّالّة ‪ :‬باعتبار أ ّ‬
‫غير الحيوان ‪ ،‬والضّالّة تطلق على الحيوان ‪ ،‬وبعضهم يطلق لفظ اللّقطة على الجميع ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّوالّ الّتي تمتنع من صغار السّباع لقوّتها وكبر جثّتها ‪ -‬كالبل والبقر والخيل‬ ‫‪3‬‬

‫والبغال ‪ -‬أو تمتنع لسرعة عدوها كالظّباء أو تمتنع لطيرانها ‪ ،‬هذه الضّوالّ إن كانت في‬
‫الصّحراء فإنّه يحرم أخذها للتّملّك ‪ ،‬وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وذلك لحديث زيد بن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم عن ضالّة البل‬
‫خالد الجهنيّ رضي ال تعالى عنه ‪ » :‬سئل النّب ّ‬
‫فقال‪ :‬مالك ولها ‪ ،‬دعها ‪ ،‬فإنّ معها حذاءها وسقاءها ‪ ،‬ترد الماء وتأكل الشّجر حتّى يجدها‬
‫ربّها « ‪.‬‬
‫ي المر أخذها على وجه الحفظ لربّها ‪ ،‬ل على أنّها لقطة ‪ ،‬فإنّ عمر‬
‫إلّ أنّه يجوز لول ّ‬
‫رضي ال تعالى عنه حمى موضعا يقال له ‪ :‬النّقيع لخيل المجاهدين والضّوالّ ‪ ،‬ولنّ للمام‬
‫نظرا في حفظ مال الغائب ‪ ،‬وفي أخذ الضّوالّ حفظ لها عن الهلك ‪ ،‬ول يلزم المام تعريفها‬
‫‪ ،‬لنّ عمر رضي ال تعالى عنه لم يكن يعرّف الضّوالّ ‪ ،‬ومن كانت له ضالّة فإنّه يجيء‬
‫إلى موضع الضّوالّ ‪ ،‬فإذا عرف ضالّته أقام البيّنة وأخذها ‪ ،‬لكن قال السّبكيّ من الشّافعيّة ‪:‬‬
‫ي المر ‪ ،‬بل جزم الذرعيّ بتركها عند‬
‫إن لم يخش على الضّالّة الضّياع فل يتعرّض لها ول ّ‬
‫اكتفائها بالرّعي والمن عليها ‪.‬‬
‫كما أجاز الشّافعيّة في الصحّ لغير وليّ المر أخذها للحفظ لربّها إذا خشى عليها من أخذ‬
‫خائن ‪ ،‬فإذا أمن عليها امتنع أخذها قطعا ‪ ،‬فإذا أخذها ضمنها لربّها ‪ ،‬ول يبرأ إلّ بردّها‬
‫للحاكم ‪ ،‬لكن هذا إذا لم يعرف صاحبها ‪ ،‬وإلّ جاز له أخذها ‪ ،‬وتكون أمانةً في يده ‪.‬‬
‫أمّا زمن النّهب والفساد فيجوز التقاطها للتّملّك في الصّحراء وغيرها ‪.‬‬
‫ويضمن كذلك ‪ -‬عند الحنابلة ‪ -‬من أخذ ما حرّم التقاطه من الضّوالّ إن تلف أو نقص ‪،‬‬
‫لعدم إذن الشّارع فيه ‪ ،‬فإن كتمه عن ربّه ثمّ ثبت بإقرار أو بيّنة فتلف فعليه قيمته مرّتين‬
‫لربّه نصّا ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬وفي الضّالّة المكتومة غرامتها ومثلها معها « وهذا حكم رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم فل يردّ ‪.‬‬
‫ويزول الضّمان بر ّد الضّالّة إلى ربّها إن وجده ‪ ،‬أو دفعها إلى المام إن لم يجد ربّها ‪ ،‬أو‬
‫ردّها إلى مكانها إن أمره المام بذلك ‪.‬‬
‫هذا بالنّسبة للضّوالّ الّتي بالصّحراء والممتنعة من صغار السّباع ‪ ،‬أمّا إن وجدت بقرية ‪:‬‬
‫ن في العمران يضيع بامتداد اليد الخائنة‬
‫ح يجوز التقاطها للتّملّك ‪ ،‬ل ّ‬
‫فعند الشّافعيّة في الص ّ‬
‫إليه ‪ ،‬بخلف المفازة فإنّ طروقها ل يعمّ ‪ ،‬ومقابل الصحّ ‪ :‬المنع لطلق الحديث ‪ ،‬ولم‬
‫يفرّق الحنابلة في الحكم بين الصّحراء وغيرها ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الضّوالّ الّتي ل تمتنع من صغار السّباع ‪ -‬كالشّاة والفصيل ‪ -‬فإنّه يجوز‬ ‫‪4‬‬

‫التقاطها ‪ ،‬سواء كانت في الصّحراء أو في العمران ‪ ،‬وذلك صونا لها عن الخونة‬


‫والسّباع ‪ ،‬وذلك عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬قال ابن قدامة ‪ :‬إذا وجد الشّاة بمصر أو بمهلكة‬
‫فإنّه يباح أخذها والتقاطها ‪ ،‬هذا الصّحيح من مذهب أحمد ‪ ،‬وقول أكثر أهل العلم ‪ ،‬قال ابن‬
‫عبد البرّ ‪ :‬أجمعوا على أنّ ضالّة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها ‪ ،‬وكذلك الحكم‬
‫في كلّ ما ل يمتنع من صغار السّباع ‪ ،‬كفصلن البل وعجول البقر وأفلء الخيل ‪ ،‬والدّجاج‬
‫والو ّز ونحوها يجوز التقاطه ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم لمّا سئل عن الشّاة ‪» :‬‬
‫خذها فإنّما هي لك ‪ ،‬أو لخيك أو للذّئب « ولنّه يخشى عليه التّلف والضّياع فأشبه لقطة‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫غير الحيوان ‪ ،‬ول فرق بين أن يجدها في مصر أو مهلكة ‪ ،‬ل ّ‬
‫قال ‪ » :‬خذها « ولم يفرّق ولم يستفصل ‪ ،‬ولو افترق الحال لسأل واستفصل ‪ ،‬ولنّها لقطة‬
‫فاستوى فيها المصر والصّحراء ‪ ،‬كسائر اللّقطات ‪.‬‬
‫وروي عن المام أحمد رواية أخرى ‪ :‬أنّه ل يجوز لغير المام التقاطها ‪ ،‬وقال اللّيث بن‬
‫ن جواز الخذ‬
‫ب أن يقربها إلّ أن يحرزها لصاحبها لنّه حيوان أشبه البل ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫سعد‪ :‬ل أح ّ‬
‫مقيّد عند الحنابلة بما إذا أمن نفسه على اللّقطة ‪ ،‬وقوي على تعريفها ‪ ،‬أمّا من لم يأمن‬
‫نفسه عليها فل يجوز له أخذها ‪.‬‬
‫ويتخيّر أخذ هذا النّوع بين ثلث خصال ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يحفظه لربّه ‪ ،‬ويعرّفه وينفق عليه مدّة التّعريف ‪ ،‬ويتملّكه بعد التّعريف إن لم يجد‬
‫ربّه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يبيعه ويحفظ الثّمن لربّه ‪ ،‬ثمّ يعرّف الضّالّة الّتي باعها ‪ ،‬ويتملّك الثّمن إن لم يجد‬
‫ب الضّالّة ‪.‬‬
‫ر ّ‬
‫ج ‪ -‬أن يأكله ويغرم قيمته إن ظهر مالكه ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬هي لك أو لخيك أو للذّئب « ‪.‬‬
‫لكن التّخيير بين هذه الخصال إنّما هو بالنّسبة للضّوالّ الّتي أخذت من الصّحراء ‪ ،‬فإن‬
‫أخذت من العمران فالتّخيير بين الخصلتين الوليين ‪ ،‬أي ‪ :‬الحفظ أو البيع ‪ ،‬وليس له الكل‬
‫في الظهر ‪.‬‬
‫ومقابل الظهر ‪ :‬له الكل وهذا عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫‪ -5‬وذهب الحنفيّة إلى أنّه يندب التقاط البهيمة الضّالّة للحفظ لربّها ‪ ،‬لنّها لقطة يتوهّم‬
‫ضياعها ‪ ،‬فيستحبّ أخذها وتعريفها صيانةً لموال النّاس ‪ ،‬كالشّاة ‪ ،‬وأمّا قول النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم في ضالّة البل ‪ » :‬مالك ولها ‪ ،‬معها سقاؤها وحذاؤها ‪ ،‬ترد الماء وتأكل‬
‫الشّجر حتّى يلقاها ربّها « فقد قال السّرخسيّ في المبسوط ‪ :‬إنّ ذلك كان إذ ذاك لغلبة أهل‬
‫الصّلح والمانة ل تصل إليها يد خائنة ‪ ،‬فإذا تركها وجدها ‪ ،‬وأمّا في زماننا فل يأمن‬
‫وصول يد خائنة إليها بعده ‪ ،‬ففي أخذها إحياؤها وحفظها على صاحبها فهو أولى ‪ ،‬فإن‬
‫غلب على ظنّه ضياعها وجب التقاطها ‪ ،‬وهذا حقّ ‪ ،‬للقطع بأنّ مقصود الشّارع وصولها‬
‫إلى ربّها وأنّ ذلك طريق الوصول ‪ ،‬لنّ الزّمان إذا تغيّر وصار طريق التّلف تغيّر الحكم بل‬
‫شكّ‪ ،‬وهو اللتقاط للحفظ ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال‬
‫ويؤيّد هذا ما روي عن عياض بن حمار رضي ال عنه أنّ النّب ّ‬
‫في اللّقطة ‪ » :‬فإن وجد صاحبها فليردّها عليه ‪ ،‬وإ ّل فهو مال اللّه عزّ وجلّ يؤتيه من‬
‫يشاء« ‪.‬‬
‫ولم يفرّق الحنفيّة بين الشّاة وغيرها في الحكم ‪ ،‬كما أنّهم لم يفرّقوا بين الصّحراء‬
‫والعمران‪.‬‬
‫‪ -6‬وللمالكيّة تفصيل يختلف عن المذاهب الخرى ‪ ،‬وذلك على النّحو التّالي ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬الضّالّة إذا كانت في الصّحراء ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ضالّة البل في الصّحراء ل يجوز أخذها ‪ ،‬ولو كانت في موضع يخاف عليها من‬
‫ن معها‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬دعها فإ ّ‬
‫السّباع أو الجوع أو العطش ‪ ،‬لحديث النّب ّ‬
‫حذاءها وسقاءها ‪ ،‬ترد الماء وتأكل الشّجر « فإن تعدّى وأخذها فإنّه يعرّفها سن ًة ثمّ يتركها‬
‫بمحلّها ‪ ،‬لكن إذا خاف عليها من خائن وجب التقاطها وتعريفها ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ضالّة البقر في الصّحراء إذا كان ل يخشى عليها من السّباع أو الجوع أو العطش أو‬
‫السّارق فإنّها تترك ‪ ،‬ول يجوز أخذها ‪.‬‬
‫وإن كان يخشى عليها من السّارق فقط وجب التقاطها ‪ ،‬وإن كان يخشى عليها من السّباع‬
‫أو الجوع أو العطش فإنّه يأخذها ‪ ،‬فإن أمكن سوقها للعمران وجب سوقها ‪ ،‬وإن لم يمكن‬
‫سوقها للعمران جاز له ذبحها وأكلها ‪ ،‬ول ضمان عليه ‪.‬‬
‫فالبل والبقر عند خوف السّارق سيّان في وجوب اللتقاط ‪ ،‬أمّا عند الخوف من الجوع أو‬
‫ن البل تترك ‪ ،‬والبقر يجوز أكلها بالصّحراء إن تعذّر سوقها للعمران ‪.‬‬
‫السّباع فإ ّ‬
‫ج ‪ -‬الشّاة يجوز أخذها وأكلها بالصّحراء إذا لم يتيسّر حملها أو سوقها للعمران على‬
‫المعتمد ‪ ،‬وقيل بجواز أكلها في الصّحراء ولو من تيسّر سوقها للعمران ‪ ،‬وهو ظاهر‬
‫المدوّنة ‪.‬‬
‫وإن أتى بها ح ّيةً للعمران وجب تعريفها لنّها صارت كاللّقطة ‪ ،‬ولو ذبحها في الصّحراء‬
‫ولم يأكلها حتّى دخل العمران فل يجوز له أكلها إ ّل إذا لم يعرف ربّها ‪ ،‬ولم يتيسّر بيعها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الضّالّة إذا كانت في العمران ‪:‬‬
‫إذا كانت الضّالّة في العمران فإنّه يجب التقاطها عند خوف الخائن ‪ ،‬دون تفريق بين إبل‬
‫وخيل وبقر وغير ذلك ‪.‬‬
‫هذا وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬لقطة )‬

‫ضَبّ *‬
‫انظر ‪ :‬أطعمة‬

‫ضبّة *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬آنية‬

‫ضَبْع *‬
‫انظر ‪ :‬أطعمة‬
‫ضُحَى *‬
‫انظر ‪ :‬صلة الضّحى‬

‫ضَحِك *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّحك في اللّغة ‪ :‬مصدر ‪ :‬ضحِك بكسر الحاء ‪ ،‬والضّحك ‪ :‬انبساط الوجه ‪ ،‬وبدوّ‬ ‫‪1‬‬

‫السنان من السّرور ‪ ،‬والتّبسّم مبادئ الضّحك ‪ ،‬ويستعمل في السّرور المجرّد ‪ ،‬نحو قوله‬
‫ح َكةٌ ّمسْتَ ْبشِرَةٌ } ‪ ،‬واستعمل للتّعجّب المجرّد ‪.‬‬
‫سفِرَةٌ ‪ ،‬ضَا ِ‬
‫تعالى ‪ُ { :‬وجُوهٌ َي ْومَئِذٍ ّم ْ‬
‫ول يخرج التّعريف الصطلحيّ عن التّعريف اللّغويّ ‪ ،‬وقد حدّه بعض الفقهاء ‪ :‬بأنّه ما‬
‫يكون مسموعا له ل لجيرانه ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬القهقهة ‪:‬‬
‫‪ -‬في اللّغة ‪ :‬قهقه ‪ :‬أي رجّع في ضحكه ‪ ،‬أو اشتدّ ضحكه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وحدّه الجرجانيّ ‪ :‬بما يكون مسموعا له ولجيرانه ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬التّبسّم ‪:‬‬
‫‪ -‬هو ‪ :‬ما عرى عن الصّوت ‪ ،‬وهو مبادئ الضّحك ‪ ،‬وتبدو فيه السنان فقط ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬


‫‪ -‬الضّحك إمّا أن يكون تبسّما أو قهقهةً ‪ ،‬والصل فيه ‪ :‬أنّه إن كان تبسّما جاز باتّفاق‬ ‫‪4‬‬

‫العلماء ‪ ،‬بل كان من فعله صلى ال عليه وسلم وقد حثّ عليه صلى ال عليه وسلم فقد‬
‫ورد من حديث عبد اللّه بن الحارث رضي ال عنه أنّه قال ‪ » :‬ما كان ضحك رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم إلّ تبسّما « ‪.‬‬
‫وقال الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬تبسّمك في وجه أخيك لك صدقة « ‪.‬‬
‫وأمّا الضّحك قهقهةً فقد كرهه الفقهاء ونهوا عن كثرته ‪ ،‬فقد قال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ن كثرة الضّحك تميت القلب « ‪.‬‬
‫» ل تكثروا الضّحك ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ي ‪ :‬ضحك المؤمن من غفلته يعني غفلته عن أمر الخرة ‪ ،‬ولول غفلته لما‬
‫وقال ثابت البنان ّ‬
‫ضحك ‪.‬‬
‫الضّحك داخل الصّلة ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّحك بصوت ‪ ،‬يفسد الصّلة عند جمهور الفقهاء إن ظهر حرفان فأكثر ‪ ،‬أو حرف‬ ‫‪5‬‬

‫مفهم من المصلّي ‪ ،‬فالبطلن فيها من جهة الكلم المشتملة عليه ‪ ،‬والكلم في الصّلة‬
‫مبطل لها ‪.‬‬
‫والمقابل للصحّ عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّها ل تبطل بذلك مطلقا ‪ ،‬لكونه ل يسمّى في اللّغة كلما ‪،‬‬
‫ول يتبيّن منه حرف محقّق ‪ ،‬فكان شبيها بالصّوت الغفل ‪.‬‬
‫أمّا الضّحك بغير صوت وهو التّبسّم ‪ ،‬فل تفسد الصّلة به عند جمهور الفقهاء لنّه لم‬
‫يحدث فيها كلم ‪ ،‬ولما روي عن جابر رضي ال عنه قال ‪ » :‬بينما كنّا نصلّي مع رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم في غزوة بدر إذ تبسّم في صلته ‪ ،‬فلمّا قضى الصّلة قلنا ‪ :‬يا‬
‫رسول اللّه رأيناك تبسّمت ‪ .‬قال ‪ :‬م ّر بي ميكائيل وعلى جناحه أثر غبار وهو راجع من‬
‫طلب القوم ‪ ،‬فضحك إليّ ‪ ،‬فتبسّمت إليه « ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬من المالكيّة الضّحك إلى وجهين ‪ :‬بغير صوت ‪ ،‬وهو التّبسّم ‪،‬‬
‫وقد قسّم القفهس ّ‬
‫وبصوت ‪ ،‬وهو المراد بقول الرّسالة ‪ :‬ومن ضحك في الصّلة أعادها ولم يعد الوضوء ‪.‬‬
‫وقال أصبغ كذلك ‪ :‬ل شيء عليه في التّبسّم ‪ ،‬إلّ الفاحش منه شبيه بالضّحك ‪ ،‬فأحبّ إليّ‬
‫أن يعيد في عمده ‪ ،‬ويسجد في سهوه ‪.‬‬

‫ضرَاب الفَحْل *‬
‫ِ‬
‫انظر ‪ :‬عسب الفحل‬

‫ضرَار *‬
‫ِ‬
‫انظر ‪ :‬ضرر‬

‫ضرْب *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬يطلق الضّرب لغةً ‪ :‬على معان منها ‪ :‬الصابة باليد ‪ ،‬أو السّوط ‪ ،‬أو بغيرهما ‪ ،‬يقال ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ضربه بيده أو بالسّوط يضربه ضربا ‪ :‬عله به ‪ ،‬والسّير في الرض ابتغاء الرّزق ‪ ،‬أو‬
‫الغزو في سبيل اللّه ‪ ،‬وصياغة النّقود ‪ ،‬وطبعها ‪ ،‬وتضعيف أحد العددين بالخر ‪ ،‬ومعان‬
‫ف‪.‬‬
‫أخرى ‪ ،‬منها ضرب الدّ ّ‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ للضّرب عن هذه المعاني اللّغويّة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّأديب ‪:‬‬
‫‪ -‬التّأديب مصدر أدّبه تأديبا ‪ :‬إذا عاقبه على إساءته بالضّرب ‪ ،‬أو بغيره ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ب ‪ -‬التّعزير ‪:‬‬
‫ي في كلّ معصية ليس فيها‬
‫‪ -‬التّعزير ‪ :‬عقوبة غير مقدّرة شرعا تجب حقّا للّه أو لدم ّ‬ ‫‪3‬‬

‫حدّ ول كفّارة غالبا ‪.‬‬


‫ج ‪ -‬القتل ‪:‬‬
‫‪ -‬القتل إزهاق الرّوح بالضّرب أو بغيره‬ ‫‪4‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬


‫‪ -‬تختلف أحكام الضّرب باختلف المعاني الّتي يطلق عليها ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫فالضّرب بالسّوط أو اليد ‪ ،‬أو بغيرهما ‪ :‬يختلف باختلف سببه ‪ ،‬وتعتريه الحكام التّالية ‪:‬‬
‫فتارةً يكون حراما ‪ ،‬كضرب البريء ‪ ،‬وتارةً يكون واجبا ‪ ،‬كضرب شارب المسكر ‪،‬‬
‫والزّاني غير المحصن لقامة الحدّ عليهما ‪ ،‬وضرب القاذف بطلب المقذوف ‪ ،‬باتّفاق‬
‫الفقهاء ‪ ،‬وبدون طلبه ‪ -‬أيضا ‪ -‬عند بعضهم ‪ ،‬وضرب ابن عشر سنين لترك الصّلة ‪،‬‬
‫ونحوها ‪ .‬وتارةً يكون جائزا كضرب الزّوج زوجته لحقّه ‪ ،‬كالنّشوز وغيره ‪ ،‬وضرب المعلّم‬
‫الصّبيّ للتّعليم ‪ ،‬وضرب السّلطان من ارتكب محظورا ل ح ّد فيه ‪ ،‬ول كفّارة ‪ ،‬على خلف‬
‫بين الفقهاء في الوجوب والجواز ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪ ،‬تأديب ف ‪ ، 8‬تعزير ف‬ ‫‪31‬‬ ‫والتّفصيل ‪ :‬في مصطلحات ‪ ( :‬حدود ف‬
‫أداة الضّرب ‪:‬‬
‫ن الضّرب في الحدود يكون بالسّوط إلّ ح ّد الشّرب ‪ ،‬فقد‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫اختلفوا فيه ‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أنّه يضرب بالسّوط ‪ ،‬كما يضرب أيضا بالنّعال واليدي ‪،‬‬
‫وأطراف الثّياب ‪ ،‬واستدلّوا بما ورد من حديث أبي هريرة قال ‪ » :‬أتي النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم بسكران فأمر بضربه ‪ ،‬فمنّا من يضربه بيده ‪ ،‬ومنّا من يضربه بنعله ‪ ،‬ومنّا من‬
‫يضربه بثوبه « ‪.‬‬
‫وذهب آخرون إلى أنّه يتعيّن السّوط ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يفهم من إطلق الجلد الضّرب بالسّوط ‪،‬‬
‫ولنّه صلى ال عليه وسلم جلد في الخمر ‪.‬‬
‫كما أمر اللّه بجلد الزّاني ‪ ،‬فكان بالسّوط مثله والخلفاء الرّاشدون ضربوا بالسّوط فكان ذلك‬
‫إجماعا ‪.‬‬
‫ي في التّأديب‬
‫أمّا الضّرب للتّعزير ‪ ،‬أو التّأديب فيكون بالسّوط ‪ ،‬واليد ‪ ،‬وأمّا ضرب الصّب ّ‬
‫ي الضّرب بسوط ونحوه وإنّما يضرب بيد ‪ ،‬ول يجاوز ثلثا ‪ ،‬وكذا المعلّم‬
‫فليس للول ّ‬
‫والوصيّ لقوله صلى ال عليه وسلم لمرداس المعلّم ‪ » :‬إيّاك أن تضرب فوق الثّلث ‪ ،‬فإنّك‬
‫ص اللّه منك « ‪.‬‬
‫إن ضربت فوق ثلث اقت ّ‬
‫‪ ،‬وتأديب ف ‪. ) 8‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪ ،‬وتعزير ف‬ ‫‪31‬‬ ‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬شرب ‪ ،‬وحدود ف‬
‫صفة سوط الضّرب ‪:‬‬
‫‪ -‬يكون سوط الضّرب في الحدود والتّعازير وسطا بين قضيب ‪ ،‬وعصا ‪ ،‬ورطب ‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫ويابس‪ ،‬لما روي ‪ » :‬أنّ رجلً اعترف على نفسه بالزّنا في عهد رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم فدعا له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال ‪ :‬فوق‬
‫هذا ‪ ،‬فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال ‪ :‬دون هذا ‪ ،‬فأتي بسوط قد ركب به ولن ‪،‬‬
‫فأمر به رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فجلد « ‪.‬‬
‫ن المقصود تأديبه ‪ ،‬ل‬
‫وكذلك الضّرب يكون وسطا ل شديدا فيقتل ‪ ،‬ول ضعيفا فل يردع ‪ ،‬ل ّ‬
‫قتله ‪.‬‬
‫كيفيّة الضّرب ‪:‬‬
‫‪ -‬يفرّق الضّرب على العضاء ‪ ،‬فل يجمع على عضو واحد ‪ ،‬ويتّقي المقاتل ‪ ،‬كالوجه ‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫والرّأس ‪ ،‬والنّحر ‪ ،‬والفرج ‪.‬‬


‫وأشدّ الضّرب في الحدود ‪ :‬ضرب الزّاني ‪ ،‬ثمّ ضرب ح ّد القذف ‪ ،‬ثمّ ضرب حدّ الشّرب ‪ ،‬ثمّ‬
‫ضرب التّعزير وإلى هذا ذهب الحنابلة ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬أشدّ الضّرب ‪ :‬ضرب التّعزير ‪ ،‬لنّه خفّف عددا فل يخفّف وصفا ‪ ،‬ثمّ ضرب‬
‫حدّ الزّنى لثبوته بالكتاب ‪ ،‬ثمّ حدّ الشّرب لثبوته بإجماع الصّحابة ‪ ،‬ثمّ ضرب حدّ القذف‬
‫لضعف سببه لحتمال صدق القاذف ‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬كلّها واحد لنّ اللّه تعالى شأنه أمر بجلد الزّاني ‪ ،‬والقاذف أمرا واحدا ‪،‬‬
‫والمقصود منها واحد ‪ ،‬وهو الزّجر فيجب تساويها في الصّفة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪ ،‬وتعزير ف‬ ‫‪31‬‬ ‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬حدود ف‬
‫ضرب الزّوجة ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب في ضرب الزّوجة للنّشوز أو لغيره ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫أن يكون الضّرب غير مبرّح ‪ ،‬ول مدم ‪ ،‬وأن يتوقّى الوجه ‪ ،‬والماكن المخيفة ‪ ،‬ول‬
‫ق اللّه عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬كترك‬
‫يضربها إلّ لما يتعلّق بحقّه كالنّشوز ‪ ،‬فل يضربها لح ّ‬
‫الصّلة ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬نشوز ) ‪.‬‬
‫ضرب الدّراهم ‪:‬‬
‫‪ -‬ضرب الدّراهم من المصالح العامّة المنوطة بالمام فليس للفراد ضربها ‪ ،‬لما يترتّب‬ ‫‪10‬‬

‫على ذلك من مخاطر الغشّ ‪ ،‬ومنع المام أحمد من الضّرب بغير إذن المام ‪ ،‬لما في ذلك‬
‫من الفتيات عليه ‪.‬‬
‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬دراهم ف ‪. ) 7‬‬
‫ضرب ال ّدفّ ‪:‬‬
‫ف لعرس وختان وعيد ممّا هو سبب لظهار الفرح ‪ ،‬لحديث عائشة‬
‫‪ -‬يجوز ضرب الدّ ّ‬ ‫‪11‬‬

‫رضي ال عنها قالت ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أعلنوا هذا النّكاح ‪،‬‬
‫واجعلوه في المساجد ‪ ،‬واضربوا عليه الدّفوف « ‪.‬‬
‫ي اللّه صلى‬
‫وعن عائشة رضي ال عنها ‪ » :‬أنّها زفّت امرأةً إلى رجل من النصار فقال نب ّ‬
‫ن النصار يعجبهم اللّهو « ‪.‬‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬يا عائشة ما كان معكم لهو ؟ فإ ّ‬
‫وحديث ‪ » :‬فصل ما بين الحلل والحرام الدّفّ ‪ ،‬والصّوت « ‪.‬‬
‫ن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيّام منىً ‪:‬‬
‫وعن عائشة رضي ال عنها ‪ » :‬أ ّ‬
‫تدفّفان وتضربان ‪ ،‬والنّبيّ صلى ال عليه وسلم متغشّ بثوبه ‪ ،‬فانتهرهما أبو بكر ‪ ،‬فكشف‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن وجهه ‪ ،‬فقال ‪ :‬دعهما يا أبا بكر ‪ ،‬فإنّها أيّام عيد « ‪.‬‬
‫والتّفصيل في ‪ ( :‬لهو ‪ ،‬وليمة ‪ ،‬عرس ) ‪.‬‬

‫ضرَر *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّرر ‪ :‬اسم من الضّرّ ‪ ،‬وقد أطلق على كلّ نقص يدخل العيان ‪ ،‬والضّ ّر ‪ -‬بفتح‬ ‫‪1‬‬

‫الضّاد ‪ -‬لغةً ‪ :‬ض ّد النّفع ‪ ،‬وهو النّقصان ‪ ،‬يقال ‪ :‬ضرّه يضرّه إذا فعل به مكروها وأضرّ‬
‫به‪ ،‬يتعدّى بنفسه ثلثيّا وبالباء رباعيّا ‪.‬‬
‫ضمّ ‪ ،‬وما كان ضدّ‬
‫ضرّ بال ّ‬
‫ي ‪ :‬كلّ ما كان سوء حال وفقر وشدّة في بدن فهو ُ‬
‫قال الزهر ّ‬
‫النّفع فهو بفتحها ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء للفظ الضّرر عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التلف ‪:‬‬
‫‪ -‬التلف في اللّغة ‪ :‬الفناء يقال ‪ :‬تلف المال يتلف إذا هلك ‪ ،‬وأتلفه ‪ :‬أفناه ‪ ،‬وهو في‬ ‫‪2‬‬

‫اصطلح الفقهاء ‪ :‬إخراج الشّيء من أن يكون منتفعا به منفعةً مطلوب ًة منه عاد ًة ‪.‬‬
‫فهو في اللّغة ل يطلق إلّ على ما أصابه العدم ‪ ،‬فإذا تعطّل الشّيء ولم يمكن النتفاع به‬
‫عاد ًة كان تالفا لدى الفقهاء دون اللّغويّين ‪ ،‬وعلى هذا فالتلف نوع من الضّرر وبينهما‬
‫عموم وخصوص وجهيّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬العتداء ‪:‬‬
‫‪ -‬العتداء في اللّغة وفي الصطلح ‪ :‬الظّلم وتجاوز الحدّ يقال ‪ :‬اعتدى عليه إذا ظلمه ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ق‪.‬‬
‫واعتدى على حقّه أي جاوز إليه بغير ح ّ‬
‫وعلى هذا فالعتداء نوع من أنواع الضّرر وفرع عنه ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل تحريم سائر أنواع الضّرر إلّ بدليل ‪ ،‬وتزداد حرمته كلّما زادت شدّته ‪ ،‬وقد‬ ‫‪4‬‬

‫شهدت على ذلك النّصوص الشّرعيّة الكثيرة منها ‪:‬‬


‫قوله تعالى ‪َ { :‬ل تُضَآ ّر وَالِدَةٌ ِبوَلَ ِدهَا َو َل َموْلُودٌ ّل ُه ِبوَلَدِهِ } ‪.‬‬
‫ن ضِرَارًا لّ َتعْتَدُواْ } ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬و َل ُت ْمسِكُوهُ ّ‬
‫وقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل ضرر ول ضرار « ‪ ،‬وهذا الحديث يشمل كلّ‬
‫ن النّكرة في سياق النّفي تعمّ ‪ ،‬وفيه حذف أصله ل لحوق أو إلحاق ‪ ،‬أو ل‬
‫أنواع الضّرر ل ّ‬
‫فعل ضرر أو ضرار بأحد في ديننا ‪ :‬أي ل يجوز شرعا إلّ لموجب خاصّ ‪.‬‬
‫أمّا إدخال الضّرر على أحد يستحقّه لكونه تعدّى حدود اللّه فيعاقب بقدر جريمته ‪ ،‬أو لكونه‬
‫ظلم نفسه وغيره فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل فهذا غير مراد بالحديث قطعا ‪.‬‬
‫كما أنّ الضّرر يباح استثناءً في أحوال أخرى ‪ ،‬ضبطتها بعض القواعد الفقهيّة من أمثال‬
‫ف " وما‬
‫قاعدة " الضّرورات تبيح المحظورات " ‪ ،‬وقاعدة " الضّرر الشدّ يزال بالضّرر الخ ّ‬
‫إلى ذلك من القواعد الّتي يأتي ذكرها ‪.‬‬
‫القواعد الفقهيّة الضّابطة لحكام الضّرر ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد عنى الفقهاء كثيرا بدراسة موضوع الضّرر ومعالجة آثاره ‪ ،‬وذلك لما له من‬ ‫‪5‬‬

‫أهمّيّة بالغة في استقرار العلقات بين النّاس ‪ ،‬وقعّدوا لذلك مجموعةً من القواعد الفقهيّة‬
‫الكلّيّة تضبطه ‪ ،‬وتوضّح معالمه العامّة وتنظّم آثاره ‪ ،‬وأهمّ هذه القواعد هي ‪:‬‬
‫الضّرر يزال ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل ضرر ول ضرار « ويبتنى‬
‫‪ -‬أصل هذه القاعدة قول النّب ّ‬ ‫‪6‬‬

‫على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه فمن ذلك الرّدّ بالعيب ‪ ،‬وجميع أنواع الخيارات ‪،‬‬
‫والحجر بسائر أنواعه ‪ ،‬والشّفعة ‪ ،‬وما إلى ذلك ‪.‬‬
‫ويتعلّق بهذه القاعدة قواعد ‪:‬‬
‫‪ -‬الولى ‪ :‬الضّرورات تبيح المحظورات ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫ومن ثمّ جاز أكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللّقمة بالخمر ‪.‬‬
‫وزاد الشّافعيّة على هذه القاعدة ‪ " :‬بشرط عدم نقصانها عنها " ‪.‬‬
‫‪ -8‬الثّانية ‪ :‬ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها ‪:‬‬
‫ومن فروعها ‪ :‬المضطرّ ل يأكل من الميتة إلّ قدر سدّ الرّمق ‪ ،‬والطّعام في دار الحرب‬
‫يؤخذ على سبيل الحاجة ‪ ،‬لنّه إنّما أبيح للضّرورة ‪ ،‬قال في الكنز ‪ :‬وينتفع فيها بعلف‬
‫وطعام وحطب وسلح ودهن بل قسمة ‪ ،‬وبعد الخروج منها ل ينتفع بها وما فضل ر ّد إلى‬
‫الغنيمة‪ .‬وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬ضرورة ) ‪.‬‬
‫الضّرر ل يزال بمثله ‪:‬‬
‫ن الضّرر مهما كان واجب الزالة ‪،‬‬
‫‪ -9‬هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر يزال " بمعنى أ ّ‬
‫فإزالته إمّا بل ضرر أصلً أو بضرر أخفّ منه ‪ ،‬كما هو مقتضى قاعدة " الضّرر الشدّ يزال‬
‫بالخفّ " وأمّا إزالة الضّرر بضرر مثله أو أشدّ فل يجوز ‪ ،‬وهذا غير جائز عقلً ‪ -‬أيضا ‪-‬‬
‫لنّ السّعي في إزالته بمثله عبث ‪.‬‬
‫ن هذا إزالة‬
‫ومن فروع هذه القاعدة ما لو أكره على قتل المسلم بالقتل مثلً ل يجوز ل ّ‬
‫الضّرر بضرر مثله ‪ ،‬بخلف أكل ماله فإنّه إزالة الضّرر بما هو أخفّ ‪.‬‬
‫ومنها لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ‪ ،‬أو أدخل البقر رأسه في قدر ‪ ،‬أو أودع فصيلً فكبر في‬
‫بيت المودع ولم يمكن إخراجه إلّ بهدم الجدار ‪ ،‬أو كسر القدر ‪ ،‬أو ذبح الدّجاجة ‪ ،‬يضمن‬
‫ن الضّرر الشدّ يزال بالخفّ ‪.‬‬
‫صاحب الكثر قيمة القلّ ‪ ،‬لنّ الصل أ ّ‬
‫يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ ‪:‬‬
‫‪ -‬هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر ل يزال بمثله " أي ل يزال الضّرر بالضّرر إلّ إذا‬ ‫‪10‬‬

‫كان أحدهما عامّا والخر خاصّا ‪ ،‬فيتحمّل حينئذ الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ ‪.‬‬
‫وهذه قاعدة مهمّة من قواعد الشّرع مبنيّة على المقاصد الشّرعيّة في مصالح العباد‬
‫ي نقلً عن الغزاليّ ‪ :‬إنّ‬
‫استخرجها المجتهدون من الجماع ومعقول النّصوص ‪ ،‬قال التاس ّ‬
‫الشّرع إنّما جاء ليحفظ على النّاس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم ‪ ،‬فك ّل ما‬
‫يكون بعكس هذا فهو مضرّة يجب إزالتها ما أمكن وإلّ فتأييدا لمقاصد الشّرع يدفع في هذا‬
‫السّبيل الضّرر العمّ بالضّرر الخصّ ‪.‬‬
‫إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفّهما ‪:‬‬
‫‪ -‬هذه القاعدة وقاعدة " الضّرر الشدّ يزال بالخفّ " وقاعدة " يختار أهون الشّرّين "‬ ‫‪11‬‬

‫متّحدات والمسمّى واحد وإن اختلف التّعبير وما يتفرّع عليها يتفرّع على أختيها ‪.‬‬
‫ق بطن الميتة لخراج الولد إذا كانت ترجى حياته ‪.‬‬
‫ومن فروعها جواز ش ّ‬
‫استعمال الحقّ بالنّظر إلى ما يؤوّل إليه من أضرار ‪:‬‬
‫‪ -‬يقول الشّاطبيّ ‪ :‬جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أن ل يلزم عنه إضرار الغير ‪.‬‬


‫والثّاني ‪ :‬أن يلزم عنه ذلك ‪ ،‬وهذا ضربان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يقصد الجالب أو الدّافع ذلك الضرار كالمرخّص في سلعته قصدا لطلب‬
‫معاشه ‪ ،‬وصحبه قصد الضرار بالغير ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن ل يقصد إضرارا بأحد ‪ ،‬وهو قسمان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يكون الضرار عامّا كتلقّي السّلع وبيع الحاضر للبادي والمتناع عن بيع داره‬
‫أو فدّانه ‪ ،‬وقد اضطرّ إليه النّاس لمسجد جامع أو غيره ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن يكون خاصّا وهو نوعان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يلحق الجالب أو الدّافع بمنعه من ذلك ضرر ‪ ،‬فهو محتاج إلى فعله ‪ ،‬كالدّافع‬
‫عن نفسه مظلمةً يعلم أنّها تقع بغيره ‪ ،‬أو يسبق إلى شراء طعام ‪ ،‬أو ما يحتاج إليه ‪ ،‬أو‬
‫إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالما أنّه إذا حازه تضرّر غيره بعدمه ‪ ،‬ولو أخذ من‬
‫يده تضرّر ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن ل يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلثة أنواع ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيّا ‪ ،‬أعني القطع العادي كحفر البئر خلف الدّار في‬
‫الظّلم ‪ ،‬بحيث يقع الدّاخل فيه ‪ ،‬وشبه ذلك ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع ل يؤدّي غالبا إلى وقوع‬
‫أحد فيه ‪ ،‬وأكل الغذية الّتي غالبا ل تض ّر أحدا وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا ل نادرا وهو على وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يكون غالبا كبيع السّلح من أهل الحرب ‪ ،‬والعنب من الخمّار ‪ ،‬وما يغشّ به‬
‫ممّن شأنه الغشّ ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن يكون كثيرا ل غالبا كمسائل بيوع الجال ‪.‬‬
‫فهذه ثمانية أقسام ‪.‬‬
‫ق بحيث ل يلزم عنه مضرّة ‪:‬‬
‫القسم الوّل ‪ :‬استعمال الح ّ‬
‫ق إذا لم يلزم عنه مضرّة بالغير ‪ ،‬حكمه أنّه باق على أصله من الذن ول‬
‫استعمال الح ّ‬
‫إشكال فيه ول حاجة إلى الستدلل عليه لثبوت الدّليل على الذن ابتداءً ‪.‬‬
‫ق بقصد الضرار بالغير ‪:‬‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬استعمال الح ّ‬
‫ل إشكال في منع القصد إلى الضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدّليل على أنّه ‪ » :‬ل‬
‫ضرر ول ضرار في السلم « ‪.‬‬
‫ي حيث يقول ‪ :‬أن ل يحبّ لخيه إ ّل ما‬
‫والضّابط الكلّيّ في استعمال الحقّ هو ما ذكره الغزال ّ‬
‫يحبّ لنفسه ‪ ،‬فكلّ ما لو عومل به شقّ عليه وثقل على قلبه فينبغي أن ل يعامل به غيره ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫وجاء في معين الحكّام في شرح حديث » ل ضرر ول ضرار « فنهى النّب ّ‬
‫وسلم أن يتعمّد أحدهما الضرار بصاحبه وعن أن يقصدا ذلك جميعا ‪.‬‬
‫ق‪:‬‬
‫وفيما يلي نذكر بعض الفروع الفقهيّة تطبيقا لهذا النّوع من استعمال الح ّ‬
‫الضرار في الوصيّة ‪:‬‬
‫ي من حديث ابن عبّاس رضي ال عنهما مرفوعا ‪ » :‬الضرار في‬
‫‪ -‬روى الدّارقطن ّ‬ ‫‪13‬‬

‫الوصيّة من الكبائر « ‪.‬‬


‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إنّ‬
‫وورد من حديث أبي هريرة رضي ال عنه أ ّ‬
‫الرّجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه ستّين سن ًة ثمّ يحضرهما الموت فيضارّان في الوصيّة‬
‫ي أبو هريرة ‪ { :‬مِن‬
‫فتجب لهما النّار « قال شهر بن حوشب ‪ -‬راوي الحديث ‪ -‬ثمّ قرأ عل ّ‬
‫ك ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ } ‪.‬‬
‫ن غَ ْيرَ مُضَآرّ } إلى قوله ‪ { :‬وَذَلِ َ‬
‫َبعْدِ وَصِ ّيةٍ يُوصَى ِبهَا َأوْ دَيْ ٍ‬
‫والضرار في الوصيّة تار ًة يكون بأن يخصّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الّذي فرضه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إنّ اللّه‬
‫اللّه له فيتضرّر بقيّة الورثة بتخصيصه ‪ ،‬ولهذا قال النّب ّ‬
‫ق حقّه فل وصيّة لوارث « ‪.‬‬
‫قد أعطى كلّ ذي ح ّ‬
‫وتارةً بأن يوصي لجنبيّ بزيادة على الثّلث فينقص حقوق الورثة ‪ ،‬ولهذا قال النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ » :‬الثّلث ‪ ،‬والثّلث كثير « ومتى أوصى لوارث أو لجنبيّ بزيادة على الثّلث‬
‫لم ينفذ ما أوصى به إلّ بإجازة الورثة ‪.‬‬
‫وللفقهاء خلف وتفصيل في ردّ وصيّة الموصي إذا قصد بوصيّته المضارّة ينظر في‬
‫مصطلح‪ ( :‬وصيّة ) ‪.‬‬
‫الضرار بالرّجعة ‪:‬‬
‫‪ -‬من طلّق زوجته ثمّ راجعها وكان قصده بالرّجعة المضارّة فإنّه آثم بذلك ‪ ،‬وقد نهى‬ ‫‪14‬‬

‫ضرَارا لّ َتعْتَدُواْ َومَن َيفْ َعلْ‬


‫سكُوهُنّ ِ‬
‫اللّه سبحانه وتعالى عن هذا التّصرّف بقوله ‪َ { :‬ولَ ُت ْم ِ‬
‫سهُ } ‪.‬‬
‫ذَلِكَ َفقَدْ ظَ َلمَ َن ْف َ‬
‫يقول الطّبريّ في تفسير هذه الية ‪ :‬ول تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارّ ًة لهنّ‬
‫ن بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع‬
‫ن ‪ ،‬أو لتأخذوا منه ّ‬
‫ن مدّة انقضاء عدده ّ‬
‫لتطوّلوا عليه ّ‬
‫ن ضرارا واعتدا ًء ‪.‬‬
‫منكم لمضارّتكم إيّاهنّ ‪ ،‬بإمساككم إيّاهنّ ومراجعتكموه ّ‬
‫ن اللّه سبحانه وتعالى نهى الزواج أن يمسكوا زوجاتهم بقصد إضرارهنّ‬
‫وبهذا تبيّن أ ّ‬
‫ن ‪ ،‬والنّهي يفيد التّحريم فتكون الرّجعة محرّمةً في هذه‬
‫بتطويل العدّة ‪ ،‬أو أخذ بعض ماله ّ‬
‫الحالة ‪.‬‬
‫وللفقهاء تفصيل وخلف في حكم الرّجعيّة في هذه الحالة ينظر في مصطلح ‪:‬‬
‫( رجعة ف ‪. )4‬‬
‫‪ -‬ومن صور الضرار ‪ :‬اليلء ‪ ،‬وغيبة الزّوج ‪ ،‬والحبس ‪ ،‬فيفرّق بين الزّوجين دفعا‬ ‫‪15‬‬

‫للضّرر ‪ ،‬بشروطه على تفصيل وخلف فيه ‪.‬‬


‫وانظر مصطلح ‪ ( :‬إيلء ‪ ،‬وطلق ‪ ،‬وفسخ ‪ ،‬وغيبة ‪ ،‬ومفقود ) ‪.‬‬
‫الضرار في الرّضاع ‪:‬‬
‫‪ -‬إن رغبت المّ في إرضاع ولدها أجيبت وجوبا سواء كانت مطلّقةً أم في عصمة الب‬ ‫‪16‬‬

‫على قول جمهور الفقهاء ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ل تُضَآ ّر وَالِدَةٌ ِبوَلَ ِدهَا } والمنع من إرضاع‬
‫ولدها مضارّة لها ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن كانت المّ في حبال الزّوج فله منعها من إرضاع ولدها إلّ أن ل يمكن ارتضاعه‬
‫من غيرها ‪ ،‬ولكن إنّما يجوز له ذلك إذا كان قصد الزّوج به توفير الزّوجة للستمتاع ‪ ،‬ل‬
‫مجرّد إدخال الضّرر عليها ‪ ،‬ويلزم الب إجابة طلب المطلّقة في إرضاع ولدها ما لم تطلب‬
‫زياد ًة على أجرة مثلها ‪ ،‬أمّا إن طلبت زيادةً على أجرة مثلها زيادةً كبير ًة ‪ ،‬ووجد الب من‬
‫يرضعه بأجرة المثل لم يلزم الب إجابتها إلى ما طلبت ‪ ،‬لنّها تقصد المضارّة ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬رضاع ) ‪.‬‬
‫الضرار في البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬من أمثلة الضّرر في البيوع بيع الرّجل على بيع أخيه ‪ ،‬والسّوم والشّراء على شراء‬ ‫‪17‬‬

‫أخيه ‪ ،‬والنّجش وتلقّي الجلب أو الرّكبان ‪ ،‬وبيع الحاضر للبادي ‪ ،‬وبيع المضطرّ ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪132‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪100‬‬ ‫وينظر أحكام هذه البيوع في ( بيع منهيّ عنه ‪ :‬ف‬
‫‪ -‬وممّا يندرج في القسم الثّاني حسب تقسيمات الشّاطبيّ ‪:‬‬ ‫‪18‬‬
‫استعمال صاحب الحقّ حقّه لتحقيق مصلحة مشروعة له على وجه يتضرّر منه غيره ‪.‬‬
‫يقول الشّاطبيّ ‪ :‬لكن يبقى النّظر في العمل الّذي اجتمع فيه قصد نفع النّفس ‪ ،‬وقصد إضرار‬
‫الغير هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه ‪ ،‬أم يبقى على حكمه الصليّ من الذن ويكون‬
‫عليه إثم ما قصد ؟ هذا ممّا يتصوّر فيه الخلف على الجملة ‪ ،‬وهو جار في مسألة الصّلة‬
‫في الدّار المغصوبة مع ذلك فيحتمل الجتهاد فيه ‪.‬‬
‫وهو أنّه إمّا أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلب تلك المصلحة ‪،‬‬
‫أو درء تلك المفسدة جعل له ما أراد أو ل ‪ ،‬فإن كان كذلك فل إشكال في منعه منه ‪ ،‬لنّه لم‬
‫يقصد غير الضرار ‪ ،‬وإن لم يكن محيص عن تلك الجهة الّتي يستض ّر منها الغير ‪ ،‬فحقّ‬
‫الجالب أو الدّافع مقدّم وهو ممنوع من قصد الضرار ‪ ،‬ول يقال ‪ :‬إنّ هذا تكليف بما ل‬
‫يطاق ‪ ،‬فإنّه إنّما كلّف بنفي قصد الضرار وهو داخل تحت الكسب ل بنفي الضرار بعينه ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن فروع هذا النّوع ما ذكره التّسوّليّ ‪ ،‬فيمن أراد أن يحفر بئرا في ملكه ويضرّ‬ ‫‪19‬‬

‫بجدار جاره ‪ ،‬وأمّا إن وجد عنه مندوح ًة ولم يتضرّر بترك حفره فل يمكّن من حفره‬
‫لتمحّض إضراره بجاره حينئذ ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة ومتأخّري الحنفيّة قريب من مذهب المالكيّة في هذا الصّدد ‪ ،‬إذ هم يقيّدون‬
‫حقّ المالك في التّصرّف بملكه بما يمنع الضرار الفاحش عن جاره فقد جاء في المغني ‪:‬‬
‫ليس للجار التّصرّف في ملكه تصرّفا يضرّ بجاره ‪ ،‬نحو أن يبني فيه حمّاما بين الدّور ‪ ،‬أو‬
‫يفتح خبّازا بين العطّارين ‪.‬‬
‫والزّيلعيّ من الحنفيّة يقرّر هذا المعنى ويقول ‪ :‬إنّ للنسان أن يتصرّف في ملكه ما شاء‬
‫من التّصرّفات ما لم يض ّر بغيره ضررا ظاهرا ‪ ،‬ولو أراد بناء تنّور في داره للخبز الدّائم ‪،‬‬
‫كما يكون في الدّكاكين ‪ ،‬أو رحا للطّحن ‪ ،‬أو مدقّات للقصّارين لم يجز ‪ ،‬لنّ ذلك يضرّ‬
‫بالجيران ضررا ظاهرا فاحشا ل يمكن التّحرّز منه ‪ ،‬والقياس أنّه يجوز لنّه تصرّف في‬
‫ملكه ‪ ،‬وترك ذلك استحسانا لجل المصلحة ‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪ :‬لحوق الضّرر بجالب المصلحة أو دافع المفسدة عند منعه من‬
‫استعمال حقّه ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ل يخلو أن يلزم من منعه الضرار به بحيث ل ينجبر أوّلً ‪ ،‬فإن لزم قدّم حقّه‬ ‫‪20‬‬

‫على الطلق ‪.‬‬


‫ومن فروع هذا النّوع ما ذكره ابن قدامة من أنّه إذا اشتدّت المخمصة في سنة المجاعة‬
‫وأصابت خلقا كثيرا ‪ ،‬وكان عند بعض النّاس قدر كفايته وكفاية عياله ‪ ،‬لم يلزمه بذله‬
‫ن ذلك يفضي إلى وقوع الضّرر به ول يدفعه عنهم ‪،‬‬
‫للمضطرّين ‪ ،‬وليس لهم أخذه منه ل ّ‬
‫وكذلك إن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة ‪ ،‬لم يلزمه بذل ما معه‬
‫ن البذل في هذه الحالة يفضي إلى هلك نفسه وهلك عياله فلم يلزمه ‪ ،‬كما‬
‫للمضطرّين‪ ،‬ل ّ‬
‫لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه ‪ ،‬ولنّ في بذله إلقا ًء بيده إلى التّهلكة ‪ ،‬وقد نهى اللّه‬
‫عن ذلك ‪.‬‬
‫أمّا إذا أمكن انجبار الضرار ورفعه جملةً فاعتبار الضّرر العامّ أولى فيمنع الجالب أو الدّافع‬
‫ن المصالح العامّة مقدّمة على المصالح الخاصّة بدليل النّهي عن تلقّي السّلع‬
‫ممّا ه ّم به ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعن بيع الحاضر للبادي ‪ ،‬واتّفاق السّلف على تضمين الصّنّاع مع أنّ الصل فيهم المانة ‪،‬‬
‫وقد زادوا في مسجد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من غيره ممّا رضي أهله وما ل ‪،‬‬
‫وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث ل يلحق الخصوص‬
‫مضرّة ‪ -‬ل تنجبر ‪ -‬وهو مفاد قاعدة " يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ " ‪.‬‬
‫القسم الرّابع ‪ :‬دفع الضّرر بالتّمكين من المعصية ‪:‬‬
‫‪ -‬فمن ذلك الرّشوة على دفع الظّلم إذا لم يقدر على دفعه إلّ بذلك ‪ ،‬وإعطاء المال‬ ‫‪21‬‬

‫للمحاربين وللكفّار في فداء السرى ‪ ،‬ولمانعي الحاجّ حتّى يؤدّوا خراجا ‪ ،‬ك ّل ذلك انتفاع‬
‫أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ‪ ،‬ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد ‪ ،‬مع أنّه تعرّض لموت‬
‫الكافر على الكفر ‪ ،‬أو قتل الكافر المسلم ‪ ،‬بل قال عليه الصلة والسلم ‪ » :‬والّذي نفسي‬
‫بيده لوددت أنّي أقتل في سبيل اللّه ثمّ أحيا ثمّ أقتل « ولزم ذلك دخول قاتله النّار ‪ ،‬وقول‬
‫أحد ابني آدم ‪ { :‬إِنّي أُرِيدُ أَن تَبُو َء بِإِ ْثمِي َوإِ ْثمِكَ } ‪.‬‬
‫ن ذلك كلّه‬
‫بل العقوبات كلّها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫ن جانب الجالب‬
‫إلغاء لجانب المفسدة لنّها غير مقصودة للشّارع في شرع هذه الحكام ‪ ،‬ول ّ‬
‫والدّافع أولى ‪.‬‬
‫القسم الخامس ‪ :‬التّصرّف المفضي إلى المفسدة قطعا ‪:‬‬
‫‪ -‬المفروض في هذا الوجه أنّه ل يلحق الجالب للمصلحة أو الدّافع للمفسدة ضرر ‪،‬‬ ‫‪22‬‬

‫ولكنّ أداءه إلى المفسدة قطعيّ عادةً فله نظران ‪:‬‬


‫نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد ‪ ،‬فهذا من‬
‫هذه الجهة جائز ل محظور فيه ‪.‬‬
‫ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرّة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره‬
‫بتركه ‪ ،‬فإنّه من هذا الوجه مظنّة لقصد الضرار ‪ ،‬لنّه في فعله إمّا فاعل لمباح صرف ل‬
‫يتعلّق بفعله مقصد ضروريّ ول حاجيّ ول تكميليّ فل قصد للشّارع في إيقاعه من حيث‬
‫يوقع ‪ ،‬وإمّا فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرّة مع إمكان فعله على وجه ل يلحق‬
‫فيه مضرّة وليس للشّارع قصد في وقوعه على الوجه الّذي يلحق به الضّرر دون الخر ‪.‬‬
‫وعلى كل التّقديرين فتوخّيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرّة ل بدّ فيه من أحد‬
‫أمرين ‪ :‬إمّا تقصير في النّظر المأمور به وذلك ممنوع ‪ ،‬وإمّا قصد إلى نفس الضرار وهو‬
‫ممنوع ‪ -‬أيضا ‪ -‬فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل ‪ ،‬لكن إذا فعله يعدّ متعدّيا بفعله‬
‫ويضمن ضمان المتعدّي على الجملة ‪.‬‬
‫القسم السّادس ‪ :‬التّصرّف المفضي إلى المفسدة نادرا ‪:‬‬
‫‪ -‬المفروض في هذا الوجه أنّ الجالب أو الدّافع ل يقصد الضرار بأحد إلّ أنّه يلزم عن‬ ‫‪23‬‬

‫ن المصلحة إذا كانت غالبةً فل‬


‫فعله مضرّة بالغير نادرا ‪ ،‬هو على أصله من الذن ‪ ،‬ل ّ‬
‫اعتبار بالنّدور في انخرامها ‪ ،‬إذ ل توجد في العادة مصلحة عريّة عن المفسدة جمل ًة ‪ ،‬إلّ‬
‫أنّ الشّارع إنّما اعتبر في مجاري الشّرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراءً‬
‫للشّرعيّات مجرى العاديّات في الوجود ‪ ،‬ول يعدّ ‪ -‬هنا ‪ -‬قصد القاصد إلى جلب المصلحة‬
‫أو دفع المفسدة ‪ -‬مع معرفته بندور المضرّة عن ذلك ‪ -‬تقصيرا في النّظر ول قصدا إلى‬
‫ن ضوابط‬
‫وقوع الضّرر ‪ ،‬فالعمل إذن باق على أصل المشروعيّة ‪ ،‬والدّليل على ذلك أ ّ‬
‫المشرّعات هكذا وجدناها ‪ :‬كالقضاء والشّهادة في الدّماء والموال والفروج مع إمكان‬
‫الكذب والوهم والغلط ‪ ،‬وكذلك إعمال الخبر الواحد والقيسة الجزئيّة في التّكاليف مع إمكان‬
‫إخلفها والخطأ فيها من وجوه ‪ ،‬لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة ‪.‬‬
‫القسم السّابع ‪ :‬التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة ظنّا ‪:‬‬
‫ن أداؤه إلى المفسدة فيحتمل‬
‫‪ -‬قد يكون التّصرّف وسيل ًة موضوعةً للمباح إلّ أنّه يظ ّ‬ ‫‪24‬‬

‫ن الصل الباحة والذن فظاهر ‪ ،‬وأمّا أنّ الضّرر والمفسدة تلحق ظنّا فهل‬
‫الخلف ‪ ،‬أمّا أ ّ‬
‫ن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم ل ‪ ،‬لجواز تخلّفهما وإن كان‬
‫يجري الظّ ّ‬
‫ن هو الرجح ‪ ،‬ول يلتفت إلى أصل الذن والباحة لمور ‪:‬‬
‫التّخلّف نادرا ؟ لكن اعتبار الظّ ّ‬
‫ن الظّنّ في أبواب العمليّات جار مجرى العلم فالظّاهر جريانه هنا ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬أ ّ‬
‫ن الّلهِ فَ َيسُبّواْ الّلهَ عَدْوا ِبغَيْرِ‬
‫ن مِن دُو ِ‬
‫ن يَدْعُو َ‬
‫والثّاني ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬ولَ َتسُبّواْ الّذِي َ‬
‫ب غيظا وحم ّيةً للّه وإهان ًة للهتهم‬
‫ب آلهة المشركين مع كون السّ ّ‬
‫عِ ْلمٍ } فحرّم اللّه تعالى س ّ‬
‫‪ ،‬لكونه ذريعةً إلى سبّهم للّه تعالى وكانت مصلحة ترك مسبّته تعالى أرجح من مصلحة‬
‫سبّنا للهتهم ‪ ،‬وهذا كالتّنبيه بل كالتّصريح على المنع من الجائز لئلّ يكون سببا في فعل ما‬
‫ل يجوز ‪.‬‬
‫القسم الثّامن ‪ :‬التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة كثيرا ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان أداء التّصرّف إلى المفسدة كثيرا ل غالبا ول نادرا ‪ ،‬فهو موضع نظر‬ ‫‪25‬‬

‫والتباس واختلف الفقهاء في حكمه ‪:‬‬


‫ن الصل فيه الحمل على الصل من صحّة الذن ‪ ،‬لنّ العلم والظّنّ‬
‫فيرى فريق من الفقهاء أ ّ‬
‫بوقوع المفسدة منتفيان ‪ ،‬إذ ليس ‪ -‬هنا ‪ -‬إلّ احتمال مجرّد بين الوقوع وعدمه ول قرينة‬
‫ترجّح أحد الجانبين على الخر ‪ ،‬واحتمال القصد للمفسدة ‪ ،‬والضرار ل يقوم مقام نفس‬
‫القصد ول يقتضيه ‪.‬‬
‫ن القصد ل ينضبط في نفسه لنّه‬
‫وذهب الفريق الخر إلى المنع من مثل هذا التّصرّف ‪ ،‬ل ّ‬
‫من المور الباطنة لكن له مجال ‪ -‬هنا ‪ -‬وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنّة ذلك ‪،‬‬
‫فكما اعتبرت المظنّة وإن صحّ التّخلّف ‪ ،‬كذلك نعتبر الكثرة لنّها مجال القصد ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬سدّ الذّرائع ) ‪.‬‬
‫دفع الضّرر بترك الواجب ‪:‬‬
‫‪ -‬المعهود في الشّريعة دفع الضّرر بترك الواجب إذا تعيّن طريقا لدفع الضّرر كالفطر‬ ‫‪26‬‬

‫في رمضان ‪ ،‬وترك ركعتين من الصّلة لدفع ضرورة السّفر ‪ ،‬وكذلك يستعمل المحرّم لدفع‬
‫الضّرر كأكل الميتة لدفع ضرر التّلف ‪ ،‬وتساغ الغصّة بشرب الخمر كذلك ‪ ،‬وذلك كلّه لتعيّن‬
‫الواجب أو المحرّم طريقا لدفع الضّرر ‪.‬‬
‫أمّا إذا أمكن تحصيل الواجب ‪ ،‬أو ترك المحرّم مع دفع الضّرر بطريق آخر من المندوبات‬
‫أو المكروهات فل يتعيّن ترك الواجب ول فعل المحرّم ‪ ،‬ولذلك ل يترك الغسل بالماء ‪ ،‬ول‬
‫القيام في الصّلة ول السّجود لدفع الضّرر واللم والمرض ‪ ،‬إلّ لتعيّنه طريقا لدفع ذلك‬
‫الضّرر ‪ ،‬وهذا كلّه قياس مطّرد ‪.‬‬
‫وجوب دفع الضّرر ‪:‬‬
‫ي ‪ :‬يجب قطع الصّلة لغاثة ملهوف وغريق وحريق ويقول ابن عابدين‪:‬‬
‫‪ -‬قال الحصكف ّ‬ ‫‪27‬‬

‫المصلّي متى سمع أحدا يستغيث وإن لم يقصده بالنّداء ‪ ،‬أو كان أجنبيّا وإن لم يعلم ما حلّ‬
‫به ‪ ،‬أو علم وكان له قدرة على إغاثته قطع الصّلة فرضا كانت أو غيره ‪.‬‬
‫وفي الجملة يجب إغاثة المضطرّ بإنقاذه من ك ّل ما يعرّضه للهلك من غرق أو حرق ‪ ،‬فإن‬
‫كان قادرا على ذلك دون غيره وجبت العانة عليه وجوبا عينيّا ‪ ،‬وإن كان ثمّ غيره كان‬
‫ذلك واجبا كفائيّا على القادرين ‪ ،‬فإن قام به أحد سقط عن الباقين وإلّ أثموا جميعا ‪.‬‬
‫وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪ ،‬وإنّما اختلفوا في تضمين من امتنع عن دفع الضّرر عن‬
‫ن كلّ من رأى إنسانا في مهلكة فلم‬
‫المضطرّ مع قدرته على ذلك ‪ ،‬فيرى أكثر الفقهاء أ ّ‬
‫ينجّه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه ‪ ،‬وقد أساء ‪ ،‬لنّه لم يهلكه ‪ ،‬ولم يكن سببا‬
‫في هلكه كما لو لم يعلم بحاله ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة إلى أنّ الممتنع مع القدرة يلزمه الضّمان ‪ ،‬لنّه لم‬
‫ينجّه من الهلك مع إمكانه ‪ ،‬فيضمنه كما لو منعه الطّعام والشّراب ‪.‬‬
‫والتّفصيل في ‪ ( :‬ضمان ) ‪.‬‬
‫الحجر لدفع الضّرر ‪:‬‬
‫‪ -‬يحجر على بعض النّاس الّذين تكون مضرّتهم عا ّم ًة ‪ ،‬كالطّبيب الجاهل ‪ ،‬والمفتي‬ ‫‪28‬‬

‫ن الطّبيب الجاهل يسقي النّاس في أمراضهم دوا ًء مخالفا‬


‫الماجن ‪ ،‬والمكاري المفلس ‪ ،‬ل ّ‬
‫يفسد أبدانهم لعدم علمه ‪ ،‬ومثله المفتي الماجن وهو الّذي يعلّم الحيل الباطلة ‪ ،‬كتعليم‬
‫المرأة الرّدّة لتبين من زوجها ‪ ،‬أو لتسقط عنها الزّكاة ‪ ،‬ثمّ تسلم ‪ ،‬وكالّذي يفتي عن جهل ‪،‬‬
‫وكذا المكاري المفلس ‪ ،‬لنّه يأخذ الكراء أ ّولً ليشتري بها الجمال والظّهر ويدفعه إلى بعض‬
‫ن كلّ واحد من هؤلء مض ّر بالعامّة ‪ ،‬الطّبيب الجاهل يهلك أبدانهم ‪،‬‬
‫ديونه مثلً ‪ ،‬فإ ّ‬
‫والمفتي الماجن يفسد عليهم أديانهم ‪ ،‬والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيحجر على‬
‫هؤلء ‪ ،‬لكن المراد من الحجر المنع من إجراء العمل ل منع التّصرّفات القوليّة ‪ ،‬والمنع‬
‫في هذه الحالة من باب المر بالمعروف والنّهي عن المنكر ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪22‬‬ ‫( ر ‪ :‬حجر ف‬
‫التّفريق لضرر عدم التّفاق ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الظهر والحنابلة في قول إلى أنّ الزّوج إذا أعسر بالنّفقة‬ ‫‪29‬‬

‫فالزّوجة بالخيار إن شاءت صبرت وأنفقت على نفسها من مالها أو ممّا اقترضته ‪ ،‬وإن‬
‫شاءت رفعت أمرها إلى القاضي وطلبت فسخ نكاحها ‪.‬‬
‫ي وأبي هريرة ‪ ،‬وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وعمر‬
‫وروي نحو ذلك عن عمر وعل ّ‬
‫بن عبد العزيز وربيعة وحمّاد ويحيى القطّان وعبد الرّحمن بن مهديّ وإسحاق وأبو عبيد‬
‫وأبو ثور ‪.‬‬
‫ن من أعسر بنفقة امرأته لم يفرّق بينهما ‪،‬‬
‫ويرى الحنفيّة وعطاء والزّهريّ وابن شبرمة أ ّ‬
‫ويقال لها ‪ :‬استديني ‪.‬‬
‫ولمعرفة أحكام الفرقة بسبب ضرر فقد الزّوج أو غيبته ( ر ‪ :‬مفقود ‪ ،‬غيبة ‪ ،‬وفسخ ‪،‬‬
‫وطلق ) ‪.‬‬

‫ضرّة *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬قسم بين الزّوجات‬

‫ضرْس *‬
‫ِ‬
‫انظر ‪ :‬سنّ‬

‫ضرُورَة *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّرورة في اللّغة ‪ :‬اسم من الضطرار ‪ ،‬والضطرار ‪ :‬الحتياج الشّديد ‪ .‬تقول ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫حملتني الضّرورة على كذا وكذا ‪ ،‬وقد اضطرّ فلن إلى كذا وكذا ‪.‬‬
‫وعرّفها الجرجانيّ ‪ :‬بأنّها النّازل ممّا ل مدفع له ‪.‬‬
‫وهي عند الفقهاء ‪ :‬بلوغ النسان حدّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب ‪ ،‬كالمضطرّ‬
‫للكل واللّبس بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات ‪ ،‬أو تلف منه عضو ‪ ،‬وهذا يبيح تناول‬
‫المحرّم‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الحاجة ‪:‬‬
‫‪ -‬الحاجة في اللّغة ‪ :‬تطلق على الفتقار ‪ ،‬وعلى ما يفتقر إليه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬هي ‪ -‬كما عرّفها الشّاطبيّ ‪ -‬ما يفتقر إليه من حيث التّوسعة ‪ ،‬ورفع الضّيق‬
‫المؤدّي ‪ -‬في الغالب ‪ -‬إلى الحرج والمشقّة اللحقة بفوت المطلوب ‪ ،‬فإذا لم تراع دخل‬
‫على المكلّفين ‪ -‬على الجملة ‪ -‬الحرج والمشقّة ‪.‬‬
‫قال الزّركشيّ وغيره ‪ :‬والحاجة كالجائع الّذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك ‪ ،‬غير أنّه يكون‬
‫في جهد ومشقّة وهذا ل يبيح المحرّم ‪.‬‬
‫والفرق بين الحاجة والضّرورة ‪ ،‬أنّ الحاجة وإن كانت حالة جهد ومشقّة فهي دون‬
‫الضّرورة ‪ ،‬ومرتبتها أدنى منها ول يتأتّى بفقدها الهلك ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الحرج ‪:‬‬
‫‪ -‬الحرج في اللّغة ‪ :‬بمعنى الضّيق ‪ ،‬ويطلق عند الفقهاء على كلّ ما تسبّب في الضّيق ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫سواء أكان واقعا على البدن أم على النّفس أم عليهما معا ‪.‬‬
‫والصّلة بين الضّرورة والحرج أنّ الضّرورة هي أعلى أنواع الحرج الموجبة للتّخفيف ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬العذر ‪:‬‬
‫ص‪.‬‬
‫‪ -‬العذر نوعان ‪ :‬عامّ ‪ ،‬وخا ّ‬ ‫‪4‬‬

‫والعذر العامّ ‪ :‬هو الّذي يتعرّض له الشّخص غالبا في بعض الحوال كفقد الماء للمسافر ‪،‬‬
‫فيسقط قضاء الصّلة ‪ ،‬وقد يكون نادرا ‪ ،‬وهو إمّا أن يدوم كالحدث الدّائم والستحاضة‬
‫والسّلس ونحوه ‪ ،‬فيسقط القضاء أيضا ‪ ،‬أمّا النّادر الّذي ل يدوم ول بدل معه كفقد‬
‫الطّهورين ونحوه ‪ ،‬فيوجب القضاء عند بعض الفقهاء ‪.‬‬
‫ص ‪ :‬فهو ما يطرأ للنسان أحيانا ‪ ،‬كالنشغال بأمر ما عن أداء الصّلة ‪،‬‬
‫وأمّا العذر الخا ّ‬
‫فهذا يوجب القضاء ‪.‬‬
‫ن العذر نوع من المشقّة المخفّفة للحكام الشّرعيّة ‪،‬‬
‫والصّلة بين الضّرورة وبين العذر أ ّ‬
‫وهو أعمّ من الضّرورة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الجائحة ‪:‬‬
‫‪ -5‬الجائحة في اللّغة ‪ :‬الشّدّة ‪ ،‬تجتاح المال من سنةً أو فتنة وهي مأخوذة من الجوح‬
‫بمعنى الستئصال والهلك ‪ ،‬يقال ‪ :‬جاحتهم الجائحة واجتاحتهم ‪ ،‬وجاح اللّه ماله وأجاحه‬
‫بمعنىً ‪ :‬أي أهلكه بالجائحة ‪.‬‬
‫والجائحة قد تكون سببا للضّرورة ‪.‬‬
‫هع – الكراه ‪:‬‬
‫– الكراه لغةً ‪ :‬حمل الغير على شيء ل يرضاه ‪ ،‬يقال ‪ :‬أكرهت فلنا إكراها ‪ :‬حملته‬ ‫‪6‬‬

‫على ما ل يحبّه ويرضاه ‪.‬‬


‫وعرّفه البزدويّ بأنّه ‪ :‬حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه‬
‫ويصير الغير خائفا به ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬إكراه ف ‪. ) 1‬‬
‫وقد يؤدّي الكراه إلى الضّرورة كالكراه الملجئ ‪.‬‬
‫الدلّة الشّرعيّة على اعتبار الضّرورة في الحكام ‪:‬‬
‫‪ -‬الحكام الشّرعيّة نوعان ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫ص ببعض المكلّفين من حيث هم مكلّفون دون بعض ‪،‬‬


‫أحكام كلّيّة شرعت ابتدا ًء ‪ ،‬ول تخت ّ‬
‫ول ببعض الحوال دون بعض ‪.‬‬
‫ي يقتضي المنع مع القتصار على مواضع‬
‫وأحكام شرعت لعذر شاقّ استثناءً من أصل كلّ ّ‬
‫الحاجة فيه ‪.‬‬
‫وقد ورد في الكتاب والسّنّة ما يدلّ على مشروعيّة العمل بالحكام الستثنائيّة بمقتضى‬
‫الضّرورة ‪ ،‬وتأيّد ذلك بمبدأي اليسر وانتفاء الحرج اللّذين هما صفتان أساسيّتان في دين‬
‫السلم وشريعته ‪.‬‬
‫أمّا القرآن الكريم ففيه عدّة آيات تدلّ على مشروعيّة العمل بمقتضى الضّرورة واعتبارها‬
‫في الحكام ‪:‬‬
‫منها قوله تعالى ‪ { :‬إِ ّنمَا حَ ّرمَ عَلَ ْيكُ ُم ا ْلمَيْ َتةَ وَال ّدمَ وَ َلحْ َم ا ْلخِنزِي ِر َومَا أُ ِهلّ ِب ِه ِلغَيْ ِر الّلهِ َفمَنِ‬
‫غفُورٌ ّرحِيمٌ } ‪.‬‬
‫ضطُرّ غَ ْيرَ بَاغٍ َو َل عَادٍ فَل إِ ْثمَ عَلَ ْي ِه إِنّ الّل َه َ‬
‫ا ْ‬
‫ص َل َلكُم مّا حَ ّرمَ عَلَ ْي ُكمْ ِإلّ‬
‫علَ ْيهِ وَقَدْ فَ ّ‬
‫سمُ الّلهِ َ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا َل ُكمْ َألّ تَ ْأكُلُواْ ِممّا ُذكِ َر ا ْ‬
‫ضطُ ِررْ ُتمْ إِلَ ْيهِ } ‪.‬‬
‫مَا ا ْ‬
‫فهاتان اليتان ‪ ،‬وغيرهما تبيّن تحريم تناول مطعومات معيّنة كالميتة ونحوها ‪ ،‬كما أنّها‬
‫تتضمّن استثناء حالة الضّرورة حفاظا على النّفس من الهلك ‪ ،‬والستثناء من التّحريم‬
‫‪ -‬كما قال البزدويّ ‪ -‬إباحة ‪ ،‬إذ الكلم صار عبار ًة عمّا وراء المستثنى ‪ ،‬وقد كان مباحا‬
‫قبل التّحريم ‪ ،‬فيبقى على ما كان في حالة الضّرورة ‪.‬‬
‫وأمّا الحاديث فكثيرة منها ‪:‬‬
‫ما رواه أحمد عن أبي واقد اللّيثيّ أنّهم قالوا ‪ » :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّا بأرض تصيبنا بها‬
‫المخمصة فمتى يحلّ لنا الميتة ؟ قال ‪ :‬إذا لم تصطبحوا ‪ ،‬ولم تغتبقوا ‪ ،‬ولم تحتفئوا ‪،‬‬
‫فشأنكم بها « ‪.‬‬
‫وعن جابر بن سمرة ‪ » :‬أنّ أهل بيت كانوا بالحرّة محتاجين قال ‪ :‬فماتت عندهم ناقة لهم‬
‫أو لغيرهم ‪ ،‬فرخّص لهم النّبيّ صلى ال عليه وسلم في أكلها ‪ ،‬قال ‪ :‬فعصمتهم بقيّة‬
‫شتائهم أو سنتهم « ‪.‬‬
‫وقد دلّ الحديثان على أنّه يجوز للمضط ّر أن يتناول من الميتة ما يكفيه ‪.‬‬
‫شروط تحقّق الضّرورة ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط للخذ بمقتضى الضّرورة ما يلي ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫أ ‪ -‬أن تكون الضّرورة قائم ًة ل منتظر ًة ‪ ،‬وتظهر هذه القاعدة في الفروع الفقهيّة المبنيّة‬
‫على الرّخص منها ‪:‬‬
‫يشترط الفقهاء لتحقّق الكراه خوف المكره إيقاع ما هدّد به في الحال بغلبة ظنّه ‪ ،‬وبناءً‬
‫على هذا الشّرط فقول المكره " لقتلنك غدا " ليس بإكراه ‪.‬‬
‫قال الشّيخ عميرة ‪ :‬لو كانت الحاجة غير ناجزة فهل يجوز الخذ لما عساه يطرأ ؟ الظّاهر‬
‫ل‪ ،‬كاقتناء الكلب لما عساه يكون من الزّرع ونحوه ‪.‬‬
‫يقول الشّاطبيّ ‪ :‬الصّواب الوقوف مع أصل العزيمة ‪ ،‬إلّ في المشقّة المخلّة الفادحة فإنّ‬
‫الصّبر أولى ‪ ،‬ما لم يؤدّ ذلك إلى دخل في عقل النسان أو دينه ‪ ،‬وحقيقة ذلك أن ل يقدر‬
‫ن المشقّة الفادحة‬
‫على الصّبر ‪ ،‬لنّه ل يؤمر بالصّبر إلّ من يطيقه ‪ ،‬فأنت ترى بالستقراء أ ّ‬
‫ن التّوهّم غير صادق في كثير من الحوال‬
‫ل يلحق بها توهّمها ‪ ،‬بل حكمها أخفّ بناءً على أ ّ‬
‫فإذا ‪ :‬ليست المشقّة بحقيقيّة ‪ ،‬والمشقّة الحقيقيّة هي العلّة الموضوعة للرّخصة فإذا لم‬
‫توجد كان الحكم غير لزم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أ ّل يكون لدفع الضّرورة وسيلة أخرى إلّ مخالفة الوامر والنّواهي الشّرعيّة قال أبو‬
‫ص َل َلكُم مّا حَ ّر َم عَلَ ْي ُكمْ ِإلّ مَا‬
‫بكر الجصّاص عند تفسيره لقول اللّه تعالى ‪ { :‬وَقَدْ فَ ّ‬
‫ضطُرِرْ ُتمْ إِلَ ْيهِ } ‪ :‬معنى الضّرورة ‪ -‬هنا ‪ : -‬هو خوف الضّرر على نفسه أو بعض‬
‫ا ْ‬
‫أعضائه بتركه الكل وقد انطوى تحته معنيان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يحصل في موضع ل يجد غير الميتة ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن يكون غيرها موجودا ‪ ،‬ولكنّه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو‬
‫تلف بعض أعضائه ‪ ،‬وكل المعنيين مراد بالية عندنا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬يجب على المضطرّ مراعاة قدر الضّرورة ‪ ،‬لنّ ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها ‪،‬‬
‫ن المضطرّ ل يأكل من الميتة إلّ قدر سدّ‬
‫وتفريعا على هذا الصل قرّر جمهور الفقهاء أ ّ‬
‫الرّمق ‪.‬‬
‫د ‪ -‬يجب على المضطرّ أن يراعي عند دفع الضّرورة مبدأ درء الفسد فالفسد ‪ ،‬والرذل‬
‫فالرذل ‪ ،‬فمن أكره على قتل مسلم بحيث لو امتنع منه قتل يلزمه أن يدرأ مفسدة القتل‬
‫بالصّبر على القتل ‪ ،‬لنّ صبره على القتل أقلّ مفسدةً من إقدامه عليه ‪ ،‬وإن قدر على دفع‬
‫المكروه بسبب من السباب لزمه ذلك ‪ ،‬لقدرته على درء المفسدة ‪ ،‬وإنّما قدّم درء القتل‬
‫بالصّبر ‪ ،‬لجماع العلماء على تحريم القتل ‪ ،‬واختلفهم في الستسلم للقتل فوجب تقديم‬
‫درء المفسدة المجمع على وجوب درئها على درء المفسدة المختلف في وجوب درئها ‪.‬‬
‫هع – ألّ يقدم المضط ّر على فعل ل يحتمل الرّخصة بحال ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬الكراه على المعاصي أنواع ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫نوع يرخّص له فعله ويثاب على تركه ‪ ،‬كإجراء كلمة الكفر ‪ ،‬وشتم النّب ّ‬
‫وسلم وترك الصّلة ‪ ،‬وكلّ ما يثبت بالكتاب ‪.‬‬
‫ونوع يحرم فعله ويأثم بإتيانه كالزّنى وقتل مسلم ‪ ،‬أو قطع عضوه ‪ ،‬أو ضربه ضربا‬
‫متلفا ‪ ،‬أو شتمه أو أذيّته ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في أقسام الرّخصة والحكام المتعلّقة بها ( ر ‪ :‬مصطلح ‪ :‬رخصة ) ‪.‬‬
‫حالت الضّرورة ‪:‬‬
‫ن أهمّ حالت الضّرورة عبارة عن ‪:‬‬
‫‪ -‬بتتبّع عبارات الفقهاء والمفسّرين يتبيّن أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫أ ‪ -‬الضطرار إلى تناول المحرّم من طعام أو شراب ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬الضطرار إلى النّظر واللّمس للتّداوي ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الضطرار إلى إتلف نفس أو فعل فاحشة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الضطرار إلى أخذ مال الغير وإتلفه ‪.‬‬
‫هع‪ -‬الضطرار إلى قول الباطل ‪.‬‬
‫الحالة الولى ‪ :‬الضطرار إلى تناول المحرّم من طعام أو شراب ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطرّ ‪ ،‬للدلّة السّابقة ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫إلّ أنّهم اختلفوا في المقصود بإباحة الميتة ‪ ،‬ومقدار ما يأكله المضط ّر من الميتة ونحوها ‪،‬‬
‫وتفصيل المحرّمات الّتي تبيحها الضّرورة وترتيبها عند التّعدّد ‪ ،‬وأثر الضّرورة في رفع‬
‫حرمة الميتة ونحوها ‪ ،‬وفيما يلي تفصيل هذه المسائل الخلفيّة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الميتة ‪:‬‬
‫إذا كان للمضطرّ أكل الميتة ونحوها في حالة الضطرار ‪ ،‬سواء كان هذا الضطرار بجوع‬
‫أو عطش في مخمصة ‪ ،‬أو بإكراه من ظالم ‪ ،‬فهل يجب عليه تناولها أم يجوز له المتناع‬
‫من الكل حتّى يموت ؟ ‪.‬‬
‫ذهب الحنفيّة – في ظاهر الرّواية – والمالكيّة والشّافعيّة – في أحد الوجهين – والحنابلة‬
‫‪ -‬على الصّحيح من المذهب – إلى أنّ المضط ّر يجب عليه أكل الميتة ‪.‬‬
‫ن الّذي يخاف الهلك من الجوع والعطش إذا وجد ميتةً أو لحم خنزير أو دما فلم‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫ن ذلك يسعه كان آثما ‪ ،‬قال اللّه سبحانه وتعالى ‪:‬‬
‫يأكل ولم يشرب حتّى مات وهو يعلم أ ّ‬
‫ك أنّ الّذي يترك تناول الميتة ونحوها حتّى يموت‬
‫{ َو َل تُ ْلقُواْ ِبأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهْلُ َكةِ } ‪ ،‬ول ش ّ‬
‫ن الكفّ عن التّناول فعل منسوب إلى النسان ‪،‬‬
‫ل لنفسه ملقيا بها إلى التّهلكة ‪ ،‬ل ّ‬
‫يعتبر قات ً‬
‫ولنّه قادر على إحياء نفسه بما أحلّه اللّه له ‪ ،‬فلزمه كما لو كان معه طعام حلل ‪.‬‬
‫ن المضطرّ‬
‫وقال كلّ من الحنابلة والشّافعيّة ‪ -‬في وجه ‪ -‬وأبو يوسف ‪ -‬في رواية عنه ‪ -‬إ ّ‬
‫يباح له أكل الميتة ‪ ،‬ول يلزمه ‪ ،‬فلو امتنع عن التّناول في حالة الضّرورة ومات ‪ .‬فل إثم‬
‫ول حرج عليه ‪ ،‬لما روي عن عبد اللّه بن حذافة السّهميّ صاحب رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أنّ طاغية الرّوم حبسه في بيع ‪ ،‬وجعل معه خمرا ممزوجا بماء ولحم خنزير‬
‫مشويّ ثلثة أيّام ‪ ،‬فلم يأكل ولم يشرب ‪ ،‬حتّى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا‬
‫موته‪ ،‬فأخرجوه فقال ‪ :‬قد كان اللّه أحلّه لي لنّي مضط ّر ولكن لم أكن لشمّتك بدين السلم‬
‫‪.‬‬
‫ولنّ إباحة الكل رخصة فل تجب عليه ‪ ،‬كسائر الرّخص ‪ ،‬ولنّ له غرضا في اجتناب‬
‫النّجاسة والخذ بالعزيمة وربّما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق ‪ ،‬الحلل في الصل من‬
‫هذه الوجوه ‪.‬‬
‫مقدار ما يأكله المضطرّ من الميتة ونحوها ‪:‬‬
‫اتّفق الفقهاء على أنّ المضطرّ يباح له أكل ما يسدّ الرّمق ويأمن معه الموت ‪ ،‬كما اتّفقوا‬
‫على أنّه يحرم ما زاد على الشّبع ‪ ،‬واختلفوا في الشّبع ‪:‬‬
‫فذهب الحنفيّة والشّافعيّة ‪ -‬في الظهر عندهم ‪ -‬والحنابلة ‪ -‬في أظهر الرّوايتين ‪ -‬وابن‬
‫الماجشون ‪ ،‬وابن حبيب من المالكيّة ‪ :‬إلى أنّ المضط ّر ل يأكل من الميتة إلّ قدر سدّ‬
‫ضطُرّ غَ ْيرَ بَاغٍ َو َل عَادٍ فَل إِ ْثمَ عَلَ ْيهِ } دلّت‬
‫نا ْ‬
‫الرّمق‪ ،‬ول يباح له الشّبع ‪ ،‬لنّ آية ‪َ { :‬فمَ ِ‬
‫على تحريم الميتة ‪ ،‬واستثنت ما اضطرّ إليه ‪ ،‬فإذا اندفعت الضّرورة لم يحلّ له الكل‬
‫ن بعد سدّ رمقه كحاله قبل أن يضط ّر ‪ ،‬وثمّ لم يبح له الكل كذا هاهنا ‪.‬‬
‫للية ‪ ،‬يحقّقه أ ّ‬
‫وقال المالكيّة على المعتمد عندهم ‪ ،‬والشّافعيّة في قول ‪ ،‬والحنابلة في الرّواية الثّانية ‪ :‬إنّ‬
‫ل نزل الحرّة‬
‫المضطرّ يباح له الشّبع لطلق الية ‪ ،‬ولما روى جابر بن سمرة ‪ » :‬أنّ رج ً‬
‫فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته ‪ :‬اسلخها حتّى نقدّد شحمها ولحمها ونأكله ‪ ،‬فقال ‪ :‬حتّى‬
‫أسأل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فسأله فقال ‪ :‬هل عندك غنىً يغنيك ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬فكلوها « ولم يفرّق ‪.‬‬
‫ن الضّرورة ترفع التّحريم فيعود‬
‫ولنّ ما جاز سدّ الرّمق منه جاز الشّبع منه كالمباح ‪ ،‬ول ّ‬
‫مباحا ‪ ،‬ومقدار الضّرورة إنّما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتّى يجد ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬يحتمل أن يفرّق بين ما إذا كانت الضّرورة مستمرّةً وبين ما إذا كانت‬
‫مرجوّة الزّوال ‪ ،‬فما كانت مستمرّةً كحالة العرابيّ الّذي سأل رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم جاز الشّبع ‪ ،‬لنّه إذا اقتصر على سدّ الرّمق عادت الضّرورة إليه عن قرب ‪ ،‬ول‬
‫يتمكّن من البعد مخافة الضّرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه ‪ ،‬وربّما أدّى ذلك إلى‬
‫تلفه ‪ ،‬بخلف الّتي ليست مستمرّةً فإنّه يرجو الغنى عنها بما يحلّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ذبح الحيوان غير المأكول للضّرورة ‪:‬‬
‫كلّ حيوان حيّ من الحيوانات الّتي ل تؤكل يحلّ للمضطرّ قتله بذبح أو بغير ذبح ‪ ،‬للتّوصّل‬
‫إلى أكله ‪.‬‬
‫قال الجصّاص عند تفسيره ليات الضّرورة ‪ :‬ذكر اللّه تعالى الضّرورة في هذه اليات ‪،‬‬
‫وأطلق الباحة في بعضها ‪ ،‬لوجود الضّرورة من غير شرط ول صفة ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪:‬‬
‫ضطُرِرْ ُتمْ إِلَ ْيهِ } فاقتضى ذلك وجود الباحة بوجود‬
‫ص َل َلكُم مّا حَ ّر َم عَلَ ْي ُكمْ ِإلّ مَا ا ْ‬
‫{ وَقَدْ فَ ّ‬
‫الضّرورة في كلّ حال وجدت الضّرورة فيها ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تناول ما حرّم من غير الحيوان ‪:‬‬
‫تناول ما حرّم من غير الحيوان نوعان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬ما حرّم لكونه يقتل النسان إذا تناوله كالسّموم ‪ ،‬فإنّه ل تبيحه الضّرورة ‪ ،‬لنّ‬
‫تناوله استعجال للموت ‪ ،‬وقتل للنّفس ‪ ،‬وهو من أكبر الكبائر ‪.‬‬
‫والخر ‪ :‬ما حرّم لنجاسته ويمثّل له الفقهاء بالتّرياق المشتمل على خمر ولحوم حيّات ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬سمّ ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬شرب الخمر لضرورة العطش والغصص ‪:‬‬
‫ص بها عند جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫يجوز للمضطرّ شرب الخمر إن لم يجد غيرها لساغة لقمة غ ّ‬
‫ويرى ابن عرفة من المالكيّة أنّ ضرورة الغصص تدرأ الحدّ ول تمنع الحرمة ‪.‬‬
‫ن من‬
‫وأمّا شرب الخمر لدفع العطش فعند الحنفيّة والشّافعيّة على القول المقابل للصحّ أ ّ‬
‫خاف على نفسه من العطش يباح له أن يشرب الخمر كما يباح للمضطرّ تناول الميتة‬
‫والخنزير وقيّد الحنفيّة جواز شرب الخمر لضرورة العطش بقولهم ‪ :‬إن كانت الخمر تردّ‬
‫ذلك العطش ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬على الصحّ عندهم ‪ -‬إلى تحريم شرب الخمر لدفع العطش ‪.‬‬
‫هع – تناول المضطرّ لحم إنسان ‪:‬‬
‫اتّفق الفقهاء على أنّ المضط ّر إن لم يجد إلّ آدميّا حيّا محقون الدّم لم يبح له قتله ‪ ،‬ول‬
‫إتلف عضو منه ‪ ،‬مسلما كان أو كافرا ‪ ،‬لنّه مثله ‪ ،‬فل يجوز أن يبقي نفسه بإتلفه ‪.‬‬
‫واختلفوا فيما إذا وجد آدميّا معصوما ميّتا ‪ ،‬فأجاز بعض الحنفيّة والشّافعيّة على أصحّ‬
‫الطّريقين وأشهرهما أكله ‪ ،‬لنّ حرمة الحيّ أعظم ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة ‪ -‬في وجه ‪ -‬أنّ المضط ّر ليس له أكل ابن آدم ولو‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬كسر عظم الميّت ككسره حيّا « ‪.‬‬
‫مات لقول النّب ّ‬
‫ي الميّت فل يجوز أن يأكل منه إلّ ما يسدّ الرّمق‬
‫قال الماورديّ ‪ :‬فإن جوّزنا الكل من الدم ّ‬
‫بل خلف ‪ ،‬حفظا للحرمتين ‪.‬‬
‫ن الضّرورة تندفع بذلك ‪ ،‬وفي طبخه‬
‫قال ‪ :‬وليس للمضطرّ طبخه وشيّه ‪ ،‬بل يأكله نيئا ‪ ،‬ل ّ‬
‫هتك لحرمته ‪ ،‬فل يجوز القدام عليه ‪ ،‬بخلف سائر الميّتات ‪ ،‬فإنّ للمضطرّ أكلها نيئةً‬
‫ومطبوخةً ‪.‬‬
‫ترتيب المحرّمات ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا وجد المضطرّ ميت ًة ‪ -‬ونحوها ‪ -‬من محظورات الطعمة والشربة ووجد طعاما أو‬ ‫‪11‬‬

‫شرابا للغير فأيّهما يأخذه ؟‬


‫ذهب أكثر الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب والحنابلة ‪ ،‬وسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم إلى‬
‫ن إباحة الميتة بالنّصّ ‪،‬‬
‫أنّه ليس للمضط ّر تناول طعام الغير ‪ ،‬وإنّما له أكل الميتة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن حقوق اللّه تعالى مبنيّة على المسامحة‬
‫وإباحة مال الغير بالجتهاد ‪ ،‬والنّصّ أقوى ‪ ،‬ول ّ‬
‫ق اللّه ل‬
‫ق الدميّ تلزمه غرامته وح ّ‬
‫شحّ والتّضييق ‪ ،‬ولنّ ح ّ‬
‫وحقوق الدميّ مبنيّة على ال ّ‬
‫عوض له ‪.‬‬
‫ن من وجد طعام الغير ل تباح‬
‫وقال بعض الحنفيّة والشّافعيّة في قول وعبد اللّه بن دينار ‪ :‬إ ّ‬
‫له الميتة ‪ ،‬لنّه قادر على الطّعام الحلل ‪ ،‬فلم يجز له أكل الميتة ‪ ،‬كما لو بذله له صاحبه ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فيرون تقديم طعام الغير على الميتة ندبا إن لم يخف القطع أو الضّرب أو الذى‬
‫وإلّ قدّم الميتة ‪.‬‬
‫وروى أصبغ عن ابن القاسم أنّه قال ‪ :‬يشرب المضطرّ الدّم ول يشرب الخمر ‪ ،‬ويأكل‬
‫الميتة ول يقرب ضوالّ البل ‪ -‬وقاله ابن وهب ‪ -‬ويشرب البول ول يشرب الخمر ‪ ،‬لنّ‬
‫الخمر يلزم فيها الحدّ فهي أغلظ ‪.‬‬
‫والمضطرّ إذا كان ُمحْرِما ووجد ميت ًة وصيدا حيّا صاده محرم أو أعان على صيده ‪ ،‬فإنّه‬
‫يقدّم الميتة على الصّيد الحيّ الّذي صاده المحرم أو أعان عليه ‪ ،‬بهذا يقول الحنفيّة على‬
‫المعتمد والمالكيّة والشّافعيّة في المذهب ‪ ،‬والحنابلة ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة في قول وبعض الحنفيّة والشّعبيّ ‪ :‬إنّه يأكل الصّيد ويفديه ‪ ،‬لنّ الضّرورة‬
‫تبيحه ‪ ،‬ومع القدرة عليه ل تح ّل الميتة لغناه عنها ‪.‬‬
‫أثر الضّرورة في رفع حرمة الميتة ونحوها ‪:‬‬
‫‪ -‬قال شارح أصول البزدويّ ‪ :‬اختلف العلماء في حكم أكل الميتة ونحوها في حال‬ ‫‪12‬‬

‫الضّرورة ‪ ،‬فهل تصير مباح ًة ‪ ،‬أو تبقى على الحرمة ويرتفع الثم ؟‬
‫فذهب بعضهم ‪ :‬إلى أنّها ل تحلّ لكن يرخّص في الفعل إبقاءً للمهجة كما في الكراه على‬
‫ي‪.‬‬
‫الكفر ‪ ،‬وهو رواية عن أبي يوسف وأحد قولي الشّافع ّ‬
‫ن الحرمة ترتفع في هذه الحالة ‪.‬‬
‫وذهب أكثر أصحابنا ‪ -‬الحنفيّة ‪ -‬إلى أ ّ‬
‫ثمّ ذكر للخلف فائدتين ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬إذا صبر حتّى مات ل يكون آثما على الوّل بخلفه على الخر ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬إذا حلف ل يأكل حراما فتناولها في حال الضّرورة يحنث على الوّل ول يحنث على‬
‫الثّاني ‪.‬‬
‫ي)‪.‬‬
‫وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬رخصة ‪ ،‬والملحق الصول ّ‬
‫تناول المضطرّ الميتة في سفر المعصية ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة على المذهب والحنابلة والمالكيّة في قول إلى أنّه ليس للمضطرّ في‬ ‫‪13‬‬

‫ضطُرّ غَ ْيرَ بَاغٍ َولَ‬


‫نا ْ‬
‫سفر المعصية الكل من الميتة كقاطع الطّريق لقول اللّه تعالى ‪َ { :‬فمَ ِ‬
‫عَادٍ فَل إِ ْثمَ عَلَ ْيهِ } ‪.‬‬
‫قال مجاهد ‪ :‬غير باغ على المسلمين ول عاد عليهم ‪ ،‬وقال سعيد بن جبير ‪ :‬إذا خرج يقطع‬
‫الطّريق فل رخصة له ‪ ،‬فإن تاب وأقلع عن معصيته حلّ له الكل ‪.‬‬
‫ويرى الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬في المشهور ‪ -‬والشّافعيّة ‪ -‬في قول ‪ -‬أنّه يترخّص بأكل‬
‫الميتة للعاصي بسفره ‪.‬‬
‫وللعلماء خلف وتفصيل حول استباحة العاصي بسفره ‪.‬‬
‫رخص السّفر ينظر في ‪ ( :‬سفر ) ‪.‬‬
‫الحالة الثّانية ‪ :‬الضطرار إلى النّظر واللّمس للتّداوي ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز كشف العورة والنّظر إليها لضرورة التّداوي ‪.‬‬ ‫‪14‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬يباح للطّبيب النّظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدن المرأة الجنبيّة من‬
‫العورة وغيرها فإنّه موضع حاجة ‪.‬‬
‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬وأمّا عند الحاجة فالنّظر واللّمس مباحان لفصد وحجّامة وعلج‬
‫ولو في فرج للحاجة الملجئة إلى ذلك ‪ ،‬ولنّ في التّحريم حينئذ حرجا ‪ ،‬فللرّجل مداواة‬
‫المرأة وعكسه وليكن ذلك بحضرة محرم أو زوج أو امرأة ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في شروط جواز معالجة الطّبيب امرأةً أجنب ّيةً ينظر ‪ ( :‬عورة ) ‪.‬‬
‫الضطرار إلى العلج بالنّجس والمحرّم ‪:‬‬
‫ذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة ‪ -‬في وجه ‪ -‬إلى عدم جواز التّداوي بالمحرّم والنّجس‬
‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم « ‪.‬‬
‫ويرى الحنفيّة جواز الستشفاء بالحرام عند تيقّن حصول الشّفاء فيه ‪ ،‬كتناول الميتة عند‬
‫المخمصة ‪ ،‬والخمر عند العطش وإساغة اللّقمة ‪ ،‬ول يجيزون الستشفاء بالحرام الّذي ل‬
‫يتيقّن حصول الشّفاء به ‪.‬‬
‫ويشترط الحنفيّة لجواز التّداوي بالمحرّم تيقّن حصول الشّفاء فيه وعدم وجود دواء غيره ‪.‬‬
‫وأجاز الشّافعيّة ‪ -‬على المذهب ‪ -‬التّداوي بالنّجاسات غير الخمر ‪ ،‬سواء فيه جميع‬
‫النّجاسات غير المسكر ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في شروط التّداوي بالمحرّم والنّجس وحكم التّداوي به لتعجيل الشّفاء ‪:‬‬
‫( ر ‪ :‬تداوي ) ‪.‬‬
‫الحالة الثّالثة ‪ :‬الضطرار إلى إتلف النّفس أو ارتكاب الفاحشة ‪:‬‬
‫‪ -‬القتل تحت تأثير الكراه ‪ :‬وتحته صورتان ‪:‬‬ ‫‪16‬‬

‫الولى ‪ :‬الضطرار إلى قتل نفسه ‪ ،‬كما تقدّم ‪ ،‬ويأتي في الدّفاع عن النّفس ‪ ،‬والخرى ‪:‬‬
‫الضطرار إلى قتل غيره وبيانه فيما يلي ‪:‬‬
‫ن من أكره على قتل غيره أنّه ل يجوز له القدام على قتله ‪ ،‬ول انتهاك‬
‫أجمع العلماء على أ ّ‬
‫حرمته بجلد أو غيره ‪ ،‬ويصبر على البلء الّذي نزل به ‪ ،‬ول يح ّل له أن يفدي نفسه بغيره‪،‬‬
‫ويسأل اللّه العافية في الدّنيا والخرة ‪.‬‬
‫قال الصّاويّ المالكيّ ‪ :‬لو قال لك ظالم ‪ :‬إن لم تقتل فلنا أو تقطعه قتلتك ‪ ،‬فل يجوز ذلك‬
‫ويجب على من قيل له ذلك أن يرضى بقتل نفسه ويصبر ‪.‬‬
‫وللفقهاء خلف وتفصيل فيمن يجب عليه القصاص عند وقوع القتل ‪ ،‬أو قطع العضو تحت‬
‫تأثير الكراه ينظر في ‪ ( :‬إكراه ‪ ،‬وقصاص ) ‪.‬‬
‫القتل لضرورة الدّفاع ‪:‬‬
‫إذا صال صائل على إنسان جاز له الدّفع ‪ ،‬وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء وإنّما اختلفوا في‬
‫وجوب الدّفع عن النّفس على المصول عليه ‪.‬‬
‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬في أصحّ القولين ‪ -‬والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬في إحدى‬
‫الرّوايتين‪ -‬إلى أنّه يجب على المصول عليه أن يدافع عن نفسه ‪ ،‬إلّ أنّ الشّافعيّة قيّدوا‬
‫وجوب دفع الصّائل بما إذا كان الصّائل كافرا أو بهيمةً ‪.‬‬
‫ن المصول عليه ل يجب‬
‫ويرى المالكيّة ‪ -‬في قول ‪ -‬والحنابلة ‪ -‬في الرّواية الثّانية ‪ -‬أ ّ‬
‫عليه دفع الصّائل ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬صيال ) ‪.‬‬
‫الزّنى تحت تأثير الكراه ‪:‬‬
‫يرى جمهور الفقهاء ‪ :‬أنّ الزّنى ل يباح ول يرخّص للرّجل بالكراه وإن كان تامّا ‪ ،‬ولو‬
‫فعل يأثم ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬إكراه وزنىً ) ‪.‬‬
‫الحالة الرّابعة ‪ :‬الضطرار إلى أخذ مال الغير وإتلفه ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا اضط ّر إنسان ولم يجد إلّ طعاما لغيره نظر ‪ :‬فإن كان صاحبه مضطرّا إليه فهو‬ ‫‪17‬‬

‫أحقّ به ‪ ،‬ولم يجز لحد أخذه منه ‪ ،‬لنّه ساواه في الضّرورة وانفرد بالملك ‪ ،‬فأشبه غير‬
‫ق ‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫حال الضّرورة ‪ ،‬وإن أخذه منه فمات لزمه ضمانه ‪ ،‬لنّه قتله بغير ح ّ‬
‫ي معصوم فلزمه‬
‫صاحبه مضطرّا إليه لزمه بذله للمضطرّ ‪ ،‬لنّه يتعلّق به إحياء نفس آدم ّ‬
‫بذلك ‪ ،‬كما يلزمه بذل منافعه وإنجاؤه من الغرق والحريق ‪ ،‬لنّ المتناع عن بذله إعانة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من أعان على قتل مؤمن‬
‫على قتل المضطرّ ‪ ،‬وقد قال النّب ّ‬
‫بشطر كلمة لقي اللّه ع ّز وجلّ مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه « ‪.‬‬
‫فإن لم يبذل فللمضطرّ أخذه منه ‪ ،‬لنّه مستحقّ له دون مالكه ‪ ،‬فجاز له أخذه كغير ماله ‪،‬‬
‫فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه ‪ ،‬فإن قتل المضط ّر فهو شهيد وعلى قاتله‬
‫ضمانه ‪ ،‬وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر ‪ ،‬لنّه ظالم بقتاله فأشبه الصّائل ‪ ،‬إلّ أن‬
‫يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه ‪ ،‬لمكان الوصول إليه دونها ‪.‬‬
‫وللفقهاء خلف وتفصيل في أثر الضطرار في إبطال حقّ الغير ينظر في ‪ ( :‬إتلف ‪،‬‬
‫وضمان ) ‪.‬‬
‫إتلف مال الغير لضرورة إنقاذ السّفينة ‪:‬‬
‫إذا أشرفت السّفينة على الغرق جاز إلقاء بعض أمتعتها في البحر ‪ ،‬ويجب اللقاء رجاء‬
‫نجاة الرّاكبين إذا خيف الهلك ‪ ،‬ويجب إلقاء ما ل روح فيه ‪ ،‬لتخليص ذي الرّوح ‪ ،‬ول‬
‫يجوز إلقاء الدّوابّ إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان ‪ ،‬وإذا مسّت الحاجة إلى إلقاء الدّوابّ‬
‫ألقيت لنقاذ الدميّين ‪ ،‬والعبيد في ذلك كالحرار ‪ ،‬ول سبيل لطرح الدميّ بحال ذكرا كان‬
‫أو أنثى‪ ،‬حرّا أو عبدا ‪ ،‬مسلما أو كافرا ‪.‬‬
‫إتلف مال الغير تحت تأثير الكراه ‪:‬‬
‫من أكره على إتلف مال مسلم بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن‬
‫يفعل ذلك ‪.‬‬
‫وللفقهاء خلف وتفصيل فيمن يجب عليه الضّمان في هذه الحالة ينظر في ‪ ( :‬إكراه ‪،‬‬
‫وضمان ) ‪.‬‬
‫الحالة الخامسة ‪ :‬الضطرار إلى قول الباطل ‪:‬‬
‫النّطق بالكفر تحت تأثير الكراه ‪:‬‬
‫‪ -‬من أكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل ل إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنّ‬ ‫‪18‬‬

‫باليمان ‪ ،‬ول تبين منه زوجته ‪ ،‬ول يحكم عليه بحكم الكفر ‪ ،‬وإن صبر حتّى قتل كان‬
‫شهيدا ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪ ،‬وإكراه ف‬ ‫‪13‬‬ ‫وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬رخصة ف‬
‫الضطرار إلى الكذب ‪:‬‬
‫يحلّ الكذب في أمور ثبتت بالسّنّة ‪ ،‬ففي حديث أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أنّها سمعت‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وهو يقول ‪ » :‬ليس الكذّاب الّذي يصلح بين النّاس ‪،‬‬
‫ويقول خيرا وينمي خيرا « ‪.‬‬
‫قال ابن شهاب ‪ -‬أحد رواة هذا الحديث ‪ : -‬ولم أسمع يرخّص في شيء ممّا يقول النّاس‬
‫كذب إلّ في ثلث ‪ :‬الحرب والصلح بين النّاس ‪ ،‬وحديث الرّجل امرأته وحديث المرأة‬
‫زوجها ‪.‬‬
‫قال العزّ بن عبد السّلم ‪ :‬والتّحقيق أنّ الكذب يصير مأذونا فيه ويثاب على المصلحة الّتي‬
‫تضمّنها على قدر رتبة تلك المصلحة من الوجوب في حفظ الموال والبضاع والرواح ‪.‬‬
‫الضطرار إلى التّقيّة ‪:‬‬
‫ق‪.‬‬
‫تجوز التّقيّة عند الضطرار إليها دفعا لتلف النّفس بغير وجه ح ّ‬
‫قال السّرخسيّ ‪ :‬ل بأس باستعمال التّقيّة وإنّه يرخّص له في ترك ما هو فرض عند خوف‬
‫التّلف على نفسه ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في مشروعيّة العمل بالتّقيّة ‪ ( :‬ر ‪ :‬تقيّة فقرة ‪. ) 5‬‬
‫القواعد الفقهيّة النّاظمة لحكام الضّرورة ‪:‬‬
‫‪ -‬وضع الفقهاء مجموعةً من القواعد الفقهيّة لضبط أحكام الضّرورة ‪ ،‬وتوضيح‬ ‫‪19‬‬

‫معالمها العامّة وتنظيم آثارها ‪ ،‬وأهمّ هذه القواعد هي ‪:‬‬


‫المشقّة تجلب التّيسير ‪:‬‬
‫الصل في هذه القاعدة قوله تعالى ‪ { :‬يُرِي ُد الّلهُ ِب ُكمُ الْ ُيسْ َر َولَ يُرِي ُد ِب ُكمُ ا ْلعُسْرَ } ‪.‬‬
‫جعَلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي الدّينِ ِمنْ حَرَجٍ } ويتخرّج على هذه القاعدة جميع‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫رخص الشّرع وتخفيفاته ‪.‬‬
‫ص عليه وإن كان فيه مشقّة وعمّت به البلوى ‪.‬‬
‫هذا وقد خرج عن هذه القاعدة ما ن ّ‬
‫قال ابن نجيم ‪ :‬المشقّة والحرج إنّما يعتبران في موضع ل نصّ فيه ‪ ،‬وأمّا مع النّصّ‬
‫بخلفه فل ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في أحكام هذه السباب وضوابط المشقّة المؤثّرة في التّخفيف ‪ ( :‬ر ‪ :‬تيسير ‪،‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪41‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪32‬‬ ‫فقرة‬
‫إذا ضاق المر اتّسع ‪:‬‬
‫هذه القاعدة مستخرجة من القاعدة الّتي قبلها وبينهما تقارب في المآل ‪ ،‬ومعناها أنّه إذا‬
‫ظهرت مشقّة في أمر يرخّص فيه ويوسّع ‪.‬‬
‫ومن فروع هذه القاعدة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬شهادة النّساء والصّبيان في الحمّامات والمواضع الّتي ل يحضرها الرّجال دفعا لحرج‬
‫ضياع الحقوق ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬قبول شهادة القابلة على الولدة ضرورة حفظ الولد ونسبه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إباحة خروج المتوفّى عنها زوجها من بيتها أيّام عدّتها إذا اضطرّت للكتساب ‪.‬‬
‫الضّرورات تبيح المحظورات ‪:‬‬
‫ضطُرِرْ ُتمْ إِلَ ْيهِ } ‪.‬‬
‫ص وهو قوله تعالى ‪ِ { :‬إلّ مَا ا ْ‬
‫قاعدة أصوليّة مأخوذة من النّ ّ‬
‫ن الممنوع شرعا يباح‬
‫والضطرار ‪ :‬الحاجة الشّديدة ‪ ،‬والمحظور المنه يّ عن فعله ‪ ،‬يعني أ ّ‬
‫عند الضّرورة ‪.‬‬
‫ل بقاعدة " الضّرر يزال " ومن فروعها ‪:‬‬
‫وهذه القاعدة تتعلّق أص ً‬
‫جواز أكل الميتة عند المخمصة ونحو ذلك ‪.‬‬
‫الضّرورات تقدّر بقدرها ‪:‬‬
‫معنى هذه القاعدة ‪ :‬أنّ كلّ فعل أو ترك جوّز للضّرورة فالتّجويز على قدرها ول يتجاوز‬
‫عنها ‪.‬‬
‫ومن فروعها ‪ :‬أنّ الكفّار حال الحرب إذا تترّسوا بأطفال المسلمين فل بأس بالرّمي عليهم‬
‫لضرورة إقامة فرض الجهاد ‪ ،‬لكنّهم يقصدون الكفّار دون الطفال ‪ ،‬وللفقهاء خلف‬
‫وتفصيل في وجوب الدّية والكفّارة ‪ ( :‬ر ‪ :‬ديات وكفّارات ) ‪.‬‬
‫ما جاز لعذر بطل بزواله ‪:‬‬
‫هذه القاعدة مكمّلة للقاعدة السّابقة ‪ ،‬فالقاعدة المتقدّمة يعمل بها أثناء قيام الضّرورة ‪،‬‬
‫وهذه القاعدة تبيّن ما يجب فعله بعد زوال حال الضّرورة ‪ ،‬ومعناها أنّ ما جاز فعله بسبب‬
‫عذر من العذار ‪ ،‬أو عارض طارئ من العوارض فإنّه تزول مشروعيّته بزوال حال‬
‫ن جوازه لمّا كان بسبب العذر فهو خلف عن الصل المتعذّر ‪ ،‬فإذا زال العذر أمكن‬
‫العذر ‪ ،‬ل ّ‬
‫العمل بالصل ‪ ،‬فلو جاز العمل بالخلف ‪ -‬أيضا ‪ -‬للزم الجمع بين الخلف والصل فل يجوز‬
‫كما ل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لهذه العلّة ‪.‬‬
‫الضطرار ل يبطل حقّ الغير ‪:‬‬
‫الضطرار وإن كان في بعض المواضع يقتضي تغيير الحكم من الحرمة إلى الباحة كأكل‬
‫الميتة ‪ ،‬وفي بعضها التّرخيص في فعله مع بقائه على الحرمة ‪ -‬ككلمة الكفر ‪ -‬إلّ أنّه‬
‫على ك ّل حال ل يبطل حقّ الغير ‪ ،‬وإلّ لكان من قبيل إزالة الضّرر بالضّرر وهذا غير جائز ‪.‬‬
‫ويتفرّع عن هذه القاعدة أنّه لو اضط ّر إنسان بسبب الجوع فأكل طعام آخر يضمن قيمته في‬
‫القيميّات ومثله في المثليّات ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬إتلف وضمان ) ‪.‬‬

‫ضرُوريّات *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّروريّات ‪ :‬جمع ضروريّ ‪ ،‬والضّروريّات عند الصوليّين هي ‪ :‬المور الّتي ل بدّ‬ ‫‪1‬‬

‫منها في قيام مصالح الدّين والدّنيا ‪ ،‬بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدّنيا على استقامة ‪،‬‬
‫بل على فساد وتهارج ‪ ،‬وفوت حياة ‪ ،‬وفي الخرى فوت النّجاة والنّعيم ‪ ،‬والرّجوع‬
‫بالخسران المبين وهي ‪ :‬حفظ الدّين ‪ ،‬والنّفس ‪ ،‬والعقل ‪ ،‬والنّسب ‪ ،‬والمال ‪ ،‬وهذا التّرتيب‬
‫بين الضّروريّات من العالي إلى النّازل هو ما جرى عليه في مسلّم الثّبوت وشرحه ‪ ،‬وهو‬
‫ي في المستصفى مع استبدال لفظ النّسل بلفظ النّسب ‪.‬‬
‫‪ -‬أيضا ‪ -‬ما جرى عليه الغزال ّ‬
‫ورتّبها الشّاطبيّ ترتيبا آخر فقال ‪ :‬مجموع الضّروريّات خمسة وهي ‪ :‬حفظ الدّين ‪،‬‬
‫والنّفس‪ ،‬والنّسل ‪ ،‬والمال ‪ ،‬والعقل ‪ ،‬فأخّر العقل عن النّسل والمال ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الحاجيّات ‪:‬‬
‫ي لغةً ‪ :‬مأخوذ من معنى الحاجة وهي ‪ :‬الحتياج ‪ ،‬وتطلق على ما يفتقر إليه ‪.‬‬
‫‪ -‬الحاج ّ‬ ‫‪2‬‬

‫وهي عند الصوليّين ‪ :‬ما يفتقر إليها من حيث التّوسعة ‪ ،‬ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب‬
‫إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المطلوب ‪ ،‬فإذا لم تراع دخل على المكلّفين ‪ -‬على‬
‫الجملة ‪ -‬الحرج والمشقّة ولكنّه ل يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقّع في المصالح العامّة ‪.‬‬
‫والفرق بين الضّروريّات والحاجيّات أنّ الحاجيّات تأتي في المرتبة الثّانية بعد الضّروريّات ‪،‬‬
‫فهي ل تصل إلى حدّ الضّرورة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّحسينيّات ‪:‬‬
‫‪ -‬التّحسينيّات لغةً ‪ :‬مأخوذة من مادّة الحسن ‪ ،‬والحسن لغةً ‪ :‬الجمال ‪ ،‬أو هو ضدّ‬ ‫‪3‬‬

‫القبح‪ ،‬والتّحسين ‪ :‬التّزيين ‪.‬‬


‫وفي اصطلح الصوليّين ‪ :‬هي الخذ بما يليق من محاسن العادات ‪ ،‬وتجنّب الحوال‬
‫المدنّسات الّتي تأنفها العقول الرّاجحات ‪ ،‬ويجمع ذلك قسم مكارم الخلق ‪.‬‬
‫أو هي ‪ :‬ما ل تدعو إليها ضرورة ول حاجة ‪ ،‬ولكن تقع موقع التّحسين والتّيسير ‪ ،‬ورعاية‬
‫أحسن المناهج في العادات والمعاملت ‪.‬‬
‫وعلى ذلك تكون التّحسينيّات أدنى رتب ًة من الحاجيّات ‪ ،‬فهي المرتبة الثّالثة بعد الضّروريّات‬
‫والحاجيّات ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المصالح المرسلة ‪:‬‬
‫‪ -‬في اللّغة ‪ :‬صلح الشّيء صلوحا وصلحا ‪ ،‬خلف فسد ‪ ،‬وفي المر مصلحة ‪ ،‬أي ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫خير ‪ ،‬والجمع ‪ :‬المصالح ‪.‬‬


‫والمصالح المرسلة عند الصوليّين ‪ :‬ما ل يشهد لها أصل من الشّارع ل بالعتبار ول‬
‫باللغاء ‪.‬‬
‫وهي أعمّ من الضّروريّات ‪ ،‬لنّها تشمل الضّروريّات والحاجيّات والتّحسينيّات ‪.‬‬
‫الحكام الجماليّة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬المحافظة على الضّروريّات ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّروريّات من المور الّتي قصد الشّارع المحافظة عليها ‪ ،‬لنّها ل ب ّد منها في قيام‬ ‫‪5‬‬

‫مصالح الدّين والدّنيا ‪.‬‬


‫قال الشّاطبيّ ‪ :‬والحفاظ عليها يكون بأمرين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬ما يقيم أركانها ويثبّت قواعدها ‪ ،‬وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬ما يدرأ عنها الختلل الواقع أو المتوقّع فيها ‪ ،‬وذلك عبارة عن مراعاتها من‬
‫جانب العدم ‪.‬‬
‫فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدّين من جانب الوجود ‪ ،‬كاليمان والنّطق بالشّهادتين ‪،‬‬
‫والصّلة ‪ ،‬والزّكاة ‪ ،‬والصّيام ‪ ،‬والحجّ ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫والعادات راجعة إلى حفظ النّفس والعقل من جانب الوجود ‪ -‬أيضا ‪ -‬كتناول المأكولت ‪،‬‬
‫والمشروبات ‪ ،‬والملبوسات ‪ ،‬والمسكونات ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫والمعاملت راجعة إلى حفظ النّسل والمال من جانب الوجود ‪ ،‬وإلى حفظ النّفس والعقل‬
‫‪ -‬أيضا ‪ -‬لكن بواسطة العادات ‪.‬‬
‫والجنايات ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم ‪.‬‬
‫وقد سبقت المثلة للعبادات والعادات ‪.‬‬
‫وأمّا المعاملت ‪ :‬فما كان راجعا إلى مصلحة النسان مع غيره كانتقال الملك بعوض أو‬
‫بغير عوض ‪ ،‬بالعقد على الرّقاب أو المنافع أو البضاع ‪.‬‬
‫والجنايات ما كان عائدا على ما تقدّم بالبطال ‪ ،‬فشرع فيها ما يدرأ ذلك البطال ويتلفى‬
‫تلك المصالح كالقصاص والدّيات للنّفس ‪ ،‬والحدّ للعقل والنّسل ‪ ،‬والقطع والتّضمين للمال ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬رتبة الضّروريّات ‪:‬‬
‫ي المصلحة باعتبار قوّتها في ذاتها‬
‫‪ -‬الضّروريّات أقوى مراتب المصلحة فقد قسّم الغزال ّ‬ ‫‪6‬‬

‫إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬رتبة الضّروريّات ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬رتبة الحاجيّات ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬رتبة التّحسينيّات ‪.‬‬
‫ثمّ قال ‪ :‬والمقصود بالمصلحة ‪ :‬المحافظة على مقصود الشّرع ‪ ،‬ومقصود الشّرع من‬
‫الخلق خمسة ‪ :‬وهو أن يحفظ عليهم دينهم ‪ ،‬ونفسهم ‪ ،‬وعقلهم ‪ ،‬ونسلهم ‪ ،‬ومالهم ‪.‬‬
‫هذه الصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضّروريّات فهي أقوى المراتب في المصالح ‪.‬‬
‫ويلي الضّروريّات في الرّتبة الحاجيّات ثمّ التّحسينيّات ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الحتجاج بالضّروريّات ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّروريّات أقوى مراتب المصلحة ‪ ،‬وفي الحتجاج بها خلف بين الصوليّين ‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫ي ‪ :‬يجوز أن يؤدّي إليها اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد لها أصل معيّن ‪ ،‬ومثال‬
‫فقال الغزال ّ‬
‫ن الكفّار إذا تترّسوا بجماعة من أسارى المسلمين ‪ ،‬فلو كففنا عنهم لصدمونا ‪،‬‬
‫ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫وغلبوا على دار السلم ‪ ،‬وقتلوا كافّة المسلمين ‪ ،‬ولو رمينا التّرس لقتلنا مسلما معصوما‬
‫لم يذنب ذنبا ‪ ،‬وهذا ل عهد به في الشّريعة ‪ ،‬ولو كففنا لسلّطنا الكفّار على جميع المسلمين‬
‫فيقتلونهم ثمّ يقتلون السارى أيضا ‪.‬‬
‫ي إنّما يعتبرها بشروط ثلثة قال ‪ :‬وانقدح اعتبارها باعتبار ثلثة أوصاف ‪:‬‬
‫لكن الغزال ّ‬
‫أن تكون ضرور ّي ًة قطع ّيةً كلّ ّيةً ‪.‬‬
‫ن اللّه تعالى إنّما بعث الرّسل لتحصيل مصالح العباد عملً‬
‫وهي حجّة عند المام مالك ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن أنّها مطلوبة للشّرع ‪.‬‬
‫بالستقراء ‪ ،‬فمهما وجدنا مصلحةً غلب على الظّ ّ‬
‫وينظر تفصيل ذلك ‪ ( :‬في الملحق الصوليّ ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الضّروريّات أصل لما سواها من المقاصد ‪:‬‬
‫‪ -‬المقاصد الضّروريّة في الشّريعة أصل للحاجيّة والتّحسينيّة ‪ ،‬فلو فرض اختلل‬ ‫‪8‬‬

‫ي بإطلق لختلّ الحاجيّ والتّحسينيّ بإطلق ‪ ،‬ول يلزم من اختلل الحاجيّ‬


‫الضّرور ّ‬
‫ي اختلل الضّروريّ بإطلق ‪ -‬ومع ذلك فقد يلزم من اختلل الحاجيّ بإطلق‬
‫والتّحسين ّ‬
‫ي هو المطلوب‬
‫ي بوجه من الوجوه ‪ -‬فالحاجيّ يخدم الضّروريّ ‪ ،‬والضّرور ّ‬
‫اختلل الضّرور ّ‬
‫لنّه الصل ‪.‬‬
‫وبيان ذلك أنّ مصالح الدّين والدّنيا مبنيّة على المحافظة على المور الخمسة المعروفة ‪،‬‬
‫فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدّنيويّ مبنيّا عليها حتّى إذا انخرمت لم يبق للدّنيا وجود ‪ -‬أي‬
‫ص بالمكلّفين والتّكليف ‪. -‬‬
‫ما هو خا ّ‬
‫وكذلك المور الخرويّة ل قيام لها إلّ بذلك ‪ ،‬فلو عدم الدّين عدم ترتّب الجزاء المرتجى ‪،‬‬
‫ولو عدم المكلّف لعدم من يتديّن ‪ ،‬ولو عدم العقل لرتفع التّديّن ‪ ،‬ولو عدم النّسل لم يكن‬
‫في العادة بقاء ‪ ،‬ولو عدم المال لم يبق عيش ‪ ،‬فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء ‪ ،‬وهذا كلّه‬
‫معلوم ل يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدّنيا وأنّها زاد للخرة ‪.‬‬
‫هع – اختلل الضّروريّ يلزم منه اختلل الحاجيّ والتّحسينيّ ‪:‬‬
‫ي وأنّهما مبنيّان عليه باعتبارهما وصفين‬
‫ي والتّحسين ّ‬
‫ي أصل للحاج ّ‬
‫ن الضّرور ّ‬
‫– إذا ثبت أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫ن الصل إذا اختلّ اختلّ‬


‫من أوصافه ‪ ،‬أو فرعين من فروعه ‪ ،‬لزم من اختلله اختللهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫الفرع من باب أولى ‪.‬‬
‫فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشّريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر ‪ ،‬ولو ارتفع أصل‬
‫القصاص لم يكن اعتبار المماثلة فيه ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫وفي الموضوع تفصيلت تنظر ‪ ( :‬في الملحق الصوليّ ‪) .‬‬

‫ضِفْدع *‬
‫انظر ‪ :‬أطعمة‬
‫ضَفَائِر *‬
‫انظر ‪ :‬شعر ‪ ،‬غسل‬

‫ضِلع *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّلع ‪ -‬بفتح اللم وسكونها ‪ -‬لغتان بمعنى ‪ :‬محنيّة الجنب ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وهي مؤنّثة وجمعها ‪ :‬أضلع وأضالع وأضلع وضلوع وهي عظام الجنبين ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالضّلع ‪:‬‬
‫الجناية على الضّلع ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه ل قصاص في كسر العظام ‪ -‬بما فيها الضّلع ‪ -‬لما روي عن‬ ‫‪2‬‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬ل قصاص في العظم « ‪.‬‬
‫ولعدم الوثوق بالمماثلة لنّه ل يعلم موضعه ‪ ،‬فل يؤمن فيه التّعدّي ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪31‬‬ ‫( ر ‪ :‬جناية على ما دون النّفس ف‬
‫ثمّ اختلفوا في موجب كسر الضّلع ‪:‬‬
‫ن كسر‬
‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬في الصّحيح ‪ -‬وأحمد ‪ -‬في رواية ‪ -‬إلى أ ّ‬
‫الضّلع ليس فيه شيء مقدّر ‪ ،‬وإنّما تجب فيه حكومة العدل ‪ ،‬لنّه كسر عظم في غير‬
‫الرّأس والوجه ‪ ،‬فلم يجب فيه أرش مقدّر ‪ ،‬ككسر عظم السّاق ‪.‬‬
‫وقد قيّد المام مالك وجوب حكومة العدل في كسر الضّلع إذا برأ على عثل وإذا برأ على‬
‫غير عَثَل فل شيء فيه ‪.‬‬
‫ويرى الحنابلة ‪ -‬على المذهب ‪ -‬والشّافعيّة في أحد قولين ‪ -‬وهو المذهب القديم عندهم‬
‫كما قال السّيوطيّ ‪ -‬أنّه يجب في كسر الضّلع جمل ‪ ،‬لما روى أسلم مولى عمر رضي ال‬
‫عنه عن عمر أنّه قضى في التّرقوة بجمل وفي الضّلع بجمل ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في كيفيّة تقدير حكومة العدل وشروطها ينظر ‪ ( :‬حكومة عدل وجناية على ما‬
‫دون النّفس ) ‪.‬‬
‫ضمَار *‬
‫ِ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬تطلق كلمة " الضّمار " في لغة العرب على ‪ :‬كلّ شيء لست منه على ثقة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫قال الجوهريّ ‪ :‬الضّمار ما ل يرجى من الدّين والوعد ‪ ،‬وكلّ ما ل تكون منه على ثقة ‪.‬‬
‫كذلك يطلق الضّمار في اللّغة على ‪ :‬خلف العيان ‪ ،‬وعلى ‪ :‬النّسيئة أيضا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أصل‬
‫ق‪.‬‬
‫الضّمار ما حبس عن صاحبه ظلما بغير ح ّ‬
‫وحكى المطرّزيّ أنّ أصله من الضمار ‪ ،‬وهو التّغيّب والختفاء ‪ ،‬ومنه أضمر في قلبه‬
‫شيئا‪ .‬أمّا الضّمار من المال ‪ :‬فهو الغائب الّذي ل يرجى عوده ‪ ،‬فإذا رجي فليس بضمار ‪.‬‬
‫‪ -‬واصطلحا يطلق الفقهاء " المال الضّمار " على المال الّذي ل يتمكّن صاحبه من‬ ‫‪2‬‬

‫استنمائه ‪ ،‬لزوال يده عنه ‪ ،‬وانقطاع أمله في عوده إليه ‪.‬‬


‫وعلى هذا عرّفه صاحب " المحيط " من الحنفيّة بقوله ‪ :‬هو كلّ ما بقي أصله في ملكه ‪،‬‬
‫ولكن زال عن يده زوالً ل يرجى عوده في الغالب ‪.‬‬
‫وقال الكاسانيّ ‪ :‬هو كلّ مال غير مقدور النتفاع به مع قيام أصل الملك ‪.‬‬
‫وفي مجمع النهر ‪ :‬هو ‪ :‬مال زائل عن اليد ‪ ،‬غير مرجوّ الوصول غالبا ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد ذكر الفقهاء للمال الضّمار صورا عديد ًة أهمّها ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫أ ‪ -‬المال المغصوب إذا لم يكن لصاحبه على الغاصب بيّنة ‪ ،‬فإن كانت له عليه بيّنة فليس‬
‫بضمار ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬المال المفقود ‪ ،‬كبعير مفقود ‪ ،‬إذ هو كالهالك ‪ ،‬لعدم قدرته عليه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المال السّاقط في البحر ‪ ،‬لنّه في حكم العدم ‪.‬‬
‫د ‪ -‬المال المدفون في برّيّة أو صحراء إذا نسي صاحبه مكانه ‪ ،‬ثمّ تذكّره بعد زمان ‪.‬‬
‫هع – المال الّذي أخذه السّلطان مصادرةً ظلما ‪ ،‬ثمّ وصل إليه بعد سنين ‪.‬‬
‫و – الدّ ين المجحود الّذي جحده المد ين سنين علني ًة إذا لم ي كن عل يه بيّ نة ‪ ،‬ث مّ صارت له‬
‫بيّنة بعد سنين ‪ ،‬بأن أق ّر الجاحد عند قوم به ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬المال الّذي ذهب به العد ّو إلى دار الحرب ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬المال المودع عند من ل يعرفه إذا نسي شخصه سنين ‪ ،‬ثمّ تذكّره ‪.‬‬
‫ن المال الضّمار قد يكون عينا‬
‫‪ -‬ويلحظ بالتّأمّل في هذه الصّور الّتي ذكرها الفقهاء أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫يئس صاحبها من الوصول إليها ‪ ،‬وقد يكون دينا ل يرجى لجحود المدين وعدم البيّنة ‪.‬‬
‫يشهد لذلك في الدّيون ما روى ابن أبي شيبة في مصنّفه وأبو عبيد في الموال وابن‬
‫زنجويه عن عمرو بن ميمون قال ‪ :‬أخذ الوليد بن عبد الملك مال رجل من أهل الرّقّة يقال‬
‫له أبو عائشة ‪ ،‬عشرين ألفا ‪ ،‬فألقاها في بيت المال ‪ ،‬فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز أتاه‬
‫ولده ‪ ،‬فرفعوا مظلمتهم إليه ‪ ،‬فكتب إلى ميمون أن ادفعوا إليهم أموالهم ‪ ،‬وخذوا زكاة‬
‫عامهم هذا ‪ ،‬فإنّه لول أنّه كان مالً ضمارا أخذنا منه زكاة ما مضى ‪.‬‬
‫ي أنّه قال ‪ :‬إذا حضر الوقت الّذي يؤدّي الرّجل فيه زكاته أدّى‬
‫وما روي عن الحسن البصر ّ‬
‫عن كلّ مال وعن كلّ دين ‪ ،‬إلّ ما كان منه ضمارا ل يرجوه ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الدّين ‪:‬‬
‫‪ -‬هو ‪ :‬كلّ ما ثبت في ال ّذمّة من مال بسبب يقتضي ثبوته ‪ ( .‬ر ‪ :‬دين ) ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ب ‪ -‬العين ‪:‬‬
‫‪ -‬هي ‪ :‬الشّيء المعيّن المشخّص ‪ ،‬كبيت وسيّارة ‪ ،‬وحصان ‪ ،‬وكرسيّ ‪ ،‬وصبرة حنطة ‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫وصبرة دراهم حاضرتين ‪ ( .‬ر ‪ :‬دين ) ‪.‬‬


‫ج ‪ -‬الملك ‪:‬‬
‫‪ -‬الملك ‪ :‬هو حكم شرعيّ مقدّر في العين أو المنفعة ‪ ،‬ويقتضي تمكّن من يضاف إليه‬ ‫‪7‬‬

‫من انتفاعه بالمملوك ‪ ،‬والعوض عنه من حيث هو كذلك ‪ ( .‬ر ‪ :‬ملكيّة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّوى ‪:‬‬
‫‪ -‬التّوى معناه ‪ :‬الهلك ‪ ،‬والمال التّاوي ‪ :‬هو الذّاهب الّذي ل يرجى ‪ ( .‬ر ‪ :‬توًى ) ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫هع ‪ -‬الجحود ‪:‬‬


‫‪ -‬الجحود ‪ :‬هو نفي ما في القلب ثباته ‪ ،‬وإثبات ما في القلب نفيه ‪ ،‬وليس بمرادف‬ ‫‪9‬‬

‫للنّفي من كلّ وجه ‪ ( .‬ر ‪ :‬إنكار ) ‪.‬‬


‫و ‪ -‬البيّنة ‪:‬‬
‫‪ -‬البيّنة ‪ :‬هي اسم لكلّ ما يبيّن الحقّ ويظهره ‪ .‬فك ّل ما يقع البيان به ‪ ،‬ويرتفع‬ ‫‪10‬‬

‫الشكال بوجوده فهو بيّنة ‪ ( .‬ر ‪ :‬شهادة وإثبات ) ‪.‬‬


‫ز ‪ -‬الغصب ‪:‬‬
‫ق الغير عدوانا ‪ ( .‬ر ‪ :‬غصب ) ‪.‬‬
‫‪ -‬الغصب هو الستيلء على ح ّ‬ ‫‪11‬‬

‫حكم المال الضّمار ‪:‬‬


‫‪ -‬لقد اختلف الفقهاء في حكم المال الضّمار من حيث وجوب الزّكاة فيه إذا وصل إلى يد‬ ‫‪12‬‬

‫مالكه بعد إياسه من الحصول عليه ‪ ،‬وذلك على ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫القول الوّل ‪:‬‬
‫ي ‪ -‬في الجديد ‪ -‬وأحمد ‪ -‬في رواية عنه ‪ -‬والثّوريّ وزفر وأبو عبيد‬
‫‪ -‬ذهب الشّافع ّ‬ ‫‪13‬‬

‫القاسم بن سلم ‪ -‬وهو المعتمد عند الحنابلة ‪ -‬إلى أنّه ل زكاة فيه وهو ضمار ‪ ،‬وإنّما‬
‫تجب فيه الزّكاة للسّنين الماضية إذا وصلت إليه يده ‪.‬‬
‫واستدلّوا على ذلك ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬بقول الصّحابة ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬حيث روى أبو عبيد في كتابه ‪ -‬الموال ‪-‬‬
‫بسنده عن عليّ رضي ال عنه في الدّين المظنون أنّه قال ‪ :‬إن كان صادقا فليزكّه إذا قبضه‬
‫لما مضى ‪ ،‬وروي ‪ -‬أيضا ‪ -‬بسنده عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه قال ‪ :‬إذا لم ترج‬
‫أخذه فل تزكّه حتّى تأخذه ‪ ،‬فإذا أخذته فزكّ عنه ما عليه ‪.‬‬
‫ن السّبب ‪ -‬وهو الملك ‪ -‬قد تحقّق ‪ ،‬وفوات اليد غير مخلّ بالوجوب كمال ابن‬
‫ثانيا ‪ :‬بأ ّ‬
‫ن وجوب الزّكاة يعتمد الملك دون اليد ‪ ،‬بدليل ‪ :‬ابن السّبيل ‪،‬‬
‫السّبيل ‪ ،‬قال الكاسانيّ ‪ :‬ل ّ‬
‫فإنّه تجب الزّكاة في ماله وإن كانت يده فائت ًة ‪ ،‬لقيام ملكه ‪.‬‬
‫فثبت أنّ الزّكاة وظيفة الملك ‪ ،‬والملك موجود ‪ ،‬فتجب الزّكاة فيه ‪ ،‬إلّ أنّه ل يخاطب بالداء‬
‫للحال ‪ ،‬لعجزه عن الداء لبعد يده عنه ‪ ،‬وهذا ل ينفي الوجوب كما في ‪ :‬ابن السّبيل ‪.‬‬
‫ن هذا المال ‪ -‬وإن كان صاحبه غير راج له ول طامع فيه ‪ -‬فإنّه‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬وذلك ل ّ‬
‫ماله وملك يمينه ‪ ،‬فمتى ثبّته على غريمه بالبيّنة أو يسر بعد إعدام ‪ ،‬كان حقّه جديدا‬
‫عليه ‪ ،‬فإن أخطأه ذلك في الدّنيا فهو له في الخرة ‪ ،‬وكذلك إن وجده بعد الضّياع كان له‬
‫دون النّاس ‪ ،‬فل أرى ملكه زال عنه على حال ‪ ،‬ولو كان زال عنه لم يكن أولى به من‬
‫غيره عند الوجدان ‪ ،‬فكيف يسقط حقّ اللّه عنه في هذا المال ‪ ،‬وملكه لم يزل عنه ؟ ‪ ،‬أم‬
‫كيف يكون أحقّ به إن كان غير مالك له ؟ ‪.‬‬
‫القول الثّاني ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب أبو حنيفة ‪ ،‬وصاحباه أبو يوسف ومحمّد ‪ ،‬وأحمد ‪ -‬في رواية عنه ‪-‬‬ ‫‪14‬‬

‫والشّافعيّ ‪ -‬في القديم ‪ -‬واللّيث ‪ ،‬وأبو ثور ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وقتادة ‪ :‬إلى أنّه ل تجب الزّكاة‬
‫في المال الضّمار ‪ ،‬ويستقبل مالكه حولً مستأنفا من يوم قبضه ‪ ،‬ونقله ابن حبيب عن‬
‫المام مالك ‪.‬‬
‫واستدلّوا على ذلك ‪:‬‬
‫ي رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬ل‬
‫أ ّولً ‪ :‬بقول الصّحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬حيث روي عن عل ّ‬
‫زكاة في مال الضّمار ‪.‬‬
‫ن من شروط وجوب الزّكاة في المال ‪ :‬الملك التّا ّم ‪ ،‬وهو غير متحقّق فيه ‪ ،‬إذ هو‬
‫ثانيا ‪ :‬بأ ّ‬
‫مملوك رقب ًة ل يدا ‪ ،‬فقد خرج عن يده ‪ ،‬وتصرّفه فلم تجب عليه زكاته ‪ ،‬كالمال الّذي في يد‬
‫مكاتبه ‪.‬‬
‫ن المال الضّمار غير منتفع به في حقّ المالك ‪ ،‬لعدم وصول يده إليه ‪ ،‬والمال إذا‬
‫ثالثا ‪ :‬وبأ ّ‬
‫لم يكن مقدور النتفاع به في حقّ المالك ل يكون المالك به غنيّا ‪ ،‬ول زكاة على غير الغنيّ‬
‫للحديث ‪.‬‬
‫ن السّبب في وجوب الزّكاة هو المال النّامي ‪ ،‬ول نماء إلّ بالقدرة على‬
‫رابعا ‪ :‬ول ّ‬
‫ن النّماء شرط‬
‫التّصرّف‪ ،‬ول قدرة عليه في الضّمار ‪ ،‬فل زكاة ‪ ،‬قال العينيّ ‪ :‬وذلك ل ّ‬
‫لوجوب الزّكاة ‪ ،‬وقد يكون النّماء تحقيقا كما في عروض التّجارة ‪ ،‬أو تقديرا كما في‬
‫النّقدين ‪ ،‬والمال الّذي ل يرجى عوده ل يتصوّر تحقّق الستنماء فيه ‪ ،‬فل يقدّر الستنماء‬
‫‪ -‬أيضا ‪. -‬‬
‫ن من ملك‬
‫ن السّبب هو المال النّامي تحقيقا أو تقديرا بالتّفاق ‪ ،‬للتّفاق على أ ّ‬
‫خامسا ‪ :‬ول ّ‬
‫من الجواهر النّفيسة ما تساوي آلفا من الدّنانير ولم ينو فيها التّجارة ‪ ،‬ل تجب فيها‬
‫الزّكاة‪ .‬وولية إثبات حقيقة التّجارة باليد ‪ ،‬فإذا فاتت انتفى تصوّر الستنماء تحقيقا ‪،‬‬
‫ن الشّيء إنّما يقدّر تقديرا إذا تصوّر تحقيقا ‪ ،‬وعلى هذا انتفى في النّقدين‬
‫فانتفى تقديرا‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ -‬أيضا ‪ -‬لنتفاء نمائهما التّقديريّ بانتفاء تصوّر التّحقيقيّ بانتفاء اليد ‪ ،‬فصار بانتفائهما‬
‫كالتّاوي ‪ ،‬فلذلك لم تجب صدقة الفطر عن البق ‪ ،‬وإنّما جاز عتقه عن الكفّارة ‪ ،‬لنّ‬
‫الكفّارة تعتمد مجرّد الملك ‪ ،‬وبالباق والكتابة ل ينتقص الملك أصلً ‪ ،‬بخلف مال ابن‬
‫السّبيل لثبوت التّقديريّ فيه ‪ ،‬لمكان التّحقيقيّ إذا وجد نائبا ‪.‬‬
‫القول الثّالث ‪:‬‬
‫ي والحسن البصريّ إلى أنّ على مالكه أن‬
‫‪ -‬ذهب مالك ‪ -‬في المشهور عنه ‪ -‬والوزاع ّ‬ ‫‪15‬‬

‫يزكّيه لسنة واحدة إذا قبضه ‪.‬‬


‫واستدلّوا على ذلك ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬بما روى مالك في الموطّأ ‪ ،‬وأبو عبيد في الموال ‪ ،‬وابن أبي شيبة في مصنّفه أنّ‬
‫عمر بن عبد العزيز كتب في مال قبضه بعض الولة ظلما ‪ ،‬يأمره بردّه إلى أهله ‪ ،‬وتؤخذ‬
‫زكاته لما مضى من السّنين ‪ ،‬ثمّ عقّب بعد ذلك بكتاب أن ل يؤخذ منه إلّ زكاة واحدة ‪ ،‬فإنّه‬
‫كان ضمارا ‪.‬‬
‫قال الباجيّ ‪ :‬قوله أ ّولً أن يؤخذ منه الزّكاة لما مضى من السّنين ‪ :‬أنّه لمّا كان في ملكه ‪،‬‬
‫ولم يزل عنه ‪ ،‬كان ذلك شبهةً عنده في أخذ الزّكاة منه لسائر العوام ‪ ،‬ثمّ نظر بعد ذلك ‪:‬‬
‫فرأى أنّ الزّكاة تجب في العين ‪ ،‬بأن يتمكّن من تنميته ‪ ،‬ول يكون في يد غيره ‪ ،‬وهذا مال‬
‫قد زال عن يده إلى يد غيره ‪ ،‬ومنع هذا عن تنميته ‪ ،‬فلم تجب عليه غير زكاة واحدة ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬قال القاضي عبد الوهّاب ‪ :‬ودليلنا على أنّ عليه زكاة سنة واحدة ‪ :‬أنّه حصل في يده‬
‫في طرف الحول عين نصاب ‪ ،‬فوجب عليه الزّكاة ‪ ،‬ول يراعى تضاعيف الحول ‪ ،‬بدليل أنّه‬
‫لو كان معه في أوّل الحول نصاب ‪ ،‬فاشترى به سلعةً ثمّ باعها في آخر الحول بنصاب‬
‫لزمته الزّكاة ‪ ،‬لكونها عينا طرفي الحول من غير مراعاة لوسطه ‪.‬‬

‫صِيَام *‬
‫انظر ‪ :‬صوم‬

‫ضمانة *‬
‫انظر ‪ :‬كفالة‬

‫ضَمَان *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬يطلق الضّمان في اللّغة على معان ‪:‬‬ ‫‪1‬‬
‫أ ‪ -‬منها اللتزام ‪ ،‬تقول ‪ :‬ضمنت المال ‪ ،‬إذا التزمته ‪ ،‬ويتعدّى بالتّضعيف ‪ ،‬فتقول ‪:‬‬
‫ضمّنته المال ‪ ،‬إذا ألزمته إيّاه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ومنها ‪ :‬الكفالة ‪ ،‬تقول ‪ :‬ضمّنته الشّيء ضمانا ‪ ،‬فهو ضامن وضمين ‪ ،‬إذا كفله ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ومنها التّغريم ‪ ،‬تقول ‪ :‬ضمّنته الشّيء تضمينا ‪ ،‬إذا غرّمته ‪ ،‬فالتزمه أمّا في اصطلح‬
‫الفقهاء فيطلق على المعاني التّالية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬يطلق على كفالة النّفس وكفالة المال عند جمهور الفقهاء من غير الحنفيّة ‪ ،‬وعنونوا‬
‫للكفالة بالضّمان ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ويطلق على غرامة المتلفات والغصوب والتّعييبات والتّغييرات الطّارئة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬كما يطلق على ضمان المال ‪ ،‬والتزامه بعقد وبغير عقد ‪.‬‬
‫ق أو بحقّ على العموم ‪.‬‬
‫د ‪ -‬كما يطلق على وضع اليد على المال ‪ ،‬بغير ح ّ‬
‫هع – كما يطلق على ما يجب بإلزام الشّارع ‪ ،‬بسبب العتداءات ‪ :‬كالدّيات ضمانا‬
‫للنفس ‪ ،‬والروش ضمانا لما دونها ‪ ،‬وكضمان قيمة صيد الحرم ‪ ،‬وكفّارة اليمين ‪،‬‬
‫وكفّارة الظّهار ‪ ،‬وكفّارة الفطار عمدا في رمضان ‪.‬‬
‫وقد وضعت له تعاريف شتّى ‪ ،‬تتناول هذه الطلقات في الجملة ‪ ،‬أو تتناول بعضها ‪ ،‬منها‬
‫‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أنّه ‪ :‬عبارة عن ر ّد مثل الهالك ‪ ،‬إن كان مثليّا ‪ ،‬أو قيمته إن كان قيميّا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وأنّه ‪ :‬عبارة عن غرامة التّالف ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وبالمعنى الشّامل للكفالة ‪ -‬كما يقول القليوبيّ ‪ : -‬إنّه التزام دين أو إحضار عين أو‬
‫بدن ‪.‬‬
‫د ‪ -‬وفي مجلّة الحكام العدليّة أنّه إعطاء مثل الشّيء إن كان من المثليّات وقيمته إن كان‬
‫من القيميّات ‪.‬‬
‫هع ‪ -‬وعند المالكيّة ‪ :‬شغل ذمّة أخرى بالحقّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اللتزام ‪:‬‬
‫‪ -‬اللتزام في اللّغة ‪ :‬الثّبوت والدّوام ‪ ،‬وفي الصطلح الفقهيّ ‪ :‬إلزام المرء نفسه ما لم‬ ‫‪2‬‬

‫يكن لزما لها ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬العقد ‪:‬‬
‫‪ -‬العقد ‪ :‬ارتباط أجزاء التّصرّف الشّرعيّ ‪ ،‬باليجاب والقبول ‪ ،‬وفي المجلّة ‪ :‬ارتباط‬ ‫‪3‬‬

‫اليجاب بالقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محلّه ‪ ،‬فإذا قلت ‪ :‬زوّجت ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫ي ‪ ،‬وهو ‪ :‬ملك المتعة ‪.‬‬
‫قبلت ‪ ،‬وجد معنىً شرعيّ ‪ ،‬وهو النّكاح ‪ ،‬يترتّب عليه حكم شرع ّ‬
‫ج ‪ -‬العهدة ‪:‬‬
‫‪ -‬العهدة في اللّغة ‪ :‬وثيقة المتبايعين ‪ ،‬لنّه يرجع إليها عند اللتباس ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وهي كتاب الشّراء ‪ ،‬أو هي الدّرك أي ضمان الثّمن للمشتري إن استحقّ المبيع أو وجد فيه‬
‫عيب ‪.‬‬
‫وفي الصطلح تطلق عند جمهور الفقهاء على هذين المعنيين ‪ :‬الوثيقة والدّرك ‪.‬‬
‫وعرّفها المالكيّة بأنّها ‪ :‬تعلّق ضمان المبيع بالبائع أي كون المبيع في ضمان البائع بعد‬
‫العقد ‪ ،‬ممّا يصيبه في مدّة خاصّة ‪.‬‬
‫والضّمان أعمّ ‪ ،‬والعهدة أخصّ ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّصرّف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّصرّف هو التّقليب ‪ ،‬تقول ‪ :‬صرّفته في المر تصريفا فتصرّف ‪ ،‬أي قلّبته فتقلّب ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫وفي الصطلح يفهم من كلم الفقهاء ‪ :‬أنّه ما يصدر من الشّخص من قول أو فعل ‪ ،‬ويرتّب‬
‫عليه الشّارع حكما ‪ ،‬كالعقد والطّلق والبراء والتلف ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬تصرّف ف ‪. ) 1‬‬
‫وهو بهذا المعنى أعمّ من الضّمان ‪.‬‬
‫مشروعيّة الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬شرع الضّمان ‪ ،‬حفظا للحقوق ‪ ،‬ورعايةً للعهود ‪ ،‬وجبرا للضرار ‪ ،‬وزجرا للجناة ‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫وحدّا للعتداء ‪ ،‬في نصوص كثيرة من القرآن الكريم ‪ ،‬والسّنّة النّبويّة ‪ ،‬وذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫ح ْملُ َبعِيرٍ َوأَنَ ْا ِبهِ زَعِيمٌ } أي‬
‫أ ‪ -‬فيما يتّصل بمعنى الكفالة ‪ ،‬بقوله تعالى ‪ { :‬وَ ِلمَن جَاء ِب ِه ِ‬
‫كفيل ضامن ‪ ،‬فقد ضمن يوسف عليه السلم لمن جاء بصواع الملك ‪ -‬وهو إناؤه الّذي كان‬
‫يشرب به ‪ -‬قدر ما يحمله البعير من الطّعام ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وفيما يتّصل بالتلفات الماليّة ونحوها ‪ ،‬بحديث ‪ :‬أنس رضي ال تعالى عنه قال ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم طعاما في‬
‫ي صلى ال عليه وسلم إلى النّب ّ‬
‫» أهدت بعض أزواج النّب ّ‬
‫قصعة ‪ ،‬فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫طعام بطعام ‪ ،‬وإناء بإناء « ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وفيما يتّصل بضمان وضع اليد ‪ :‬حديث سمرة بن جندب رضي ال تعالى عنه قال ‪:‬‬
‫قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « أي ضمانه ‪.‬‬
‫ن عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ‬
‫د ‪ -‬وفيما يتّصل بالجنايات ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬ونحوها قوله تعالى ‪َ { :‬وإِ ْ‬
‫ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُم ِبهِ } ‪.‬‬
‫هع – وفيما يتّصل بجنايات البهائم ‪ :‬حديث البراء بن عازب ‪ » :‬أنّه كانت له ناقة ضارية‬
‫فدخلت حائطا فأفسدت فيه ‪ ،‬فقضى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط‬
‫ن ما أصابت الماشية باللّيل‬
‫بالنّهار على أهلها ‪ ،‬وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ‪ ،‬وأ ّ‬
‫فهو على أهلها « ‪.‬‬
‫وحديث النّعمان بن بشير قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من أوقف دا ّبةً في‬
‫سبيل من سبل المسلمين ‪ ،‬أو في سوق من أسواقهم ‪ ،‬فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن « ‪.‬‬
‫ن الصل فيها الحظر ‪،‬‬
‫ن الدّماء والموال مصونة في الشّرع ‪ ،‬وأ ّ‬
‫وقد أجمع الفقهاء على أ ّ‬
‫وأنّه ل يحلّ دم المسلم ول يحلّ ماله إلّ بحقّ ‪.‬‬
‫ما يتحقّق به الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يتحقّق الضّمان إلّ إذا تحقّقت هذه المور ‪ :‬التّعدّي ‪ ،‬والضّرر ‪ ،‬والفضاء ‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫أ ّولً ‪ :‬التّعدّي ‪:‬‬


‫‪ -‬التّعدّي في اللّغة ‪ :‬التّجاوز ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫وفي الصطلح هو ‪ :‬مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه شرعا أو عرفا أو عادةً ‪.‬‬
‫وضابط التّعدّي هو ‪ :‬مخالفة ما حدّه الشّرع أو العرف ‪.‬‬
‫ومن القواعد المقرّرة في هذا الموضوع ‪ :‬أنّ كلّ ما ورد به الشّرع مطلقا ‪ ،‬ول ضابط له‬
‫فيه ‪ ،‬ول في اللّغة ‪ ،‬يرجع فيه إلى العرف ‪.‬‬
‫وذلك مثل ‪ :‬الحرز في السّرقة ‪ ،‬والحياء في الموات ‪ ،‬والستيلء في الغصب ‪ ،‬وكذلك‬
‫التّعدّي في الضّمان ‪ ،‬فإذا كان التّعدّي مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه ‪ ،‬رجع في ضابطه‬
‫إلى عرف النّاس فيما يعدّونه مجاوزةً وتعدّيا ‪ ،‬سواء أكان عرفا عامّا أم خاصّا ‪.‬‬
‫ويشمل التّعدّي ‪ :‬المجاوزة والتّقصير ‪ ،‬والهمال ‪ ،‬وقلّة الحتراز ‪ ،‬كما يشتمل العمد‬
‫والخطأ‪ .‬ثانيا ‪ :‬الضّرر ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّرر في اللّغة ‪ :‬نقص يدخل على العيان ‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬إلحاق مفسدة بالغير ‪ ،‬وهذا يشمل التلف والفساد وغيرهما ‪.‬‬
‫والضّرر قد يكون بالقول ‪ ،‬كرجوع الشّاهدين عن شهادتهما ‪ ،‬بعد القضاء وقبض المدّعي‬
‫المال ‪ ،‬فل يفسخ الحكم ‪ ،‬ويضمنان ما أتلفاه على المشهود عليه ‪ ،‬سواء أكان دينا أم‬
‫عينا‪ .‬وقد ينشأ الضّرر عن الفعل كتمزيق الثّياب ‪ ،‬وقطع الشجار ‪ ،‬وحرق الحصائد ‪.‬‬
‫والضّرر قد يكون بالقول والفعل كما سبق ‪ ،‬وقد يكون بالتّرك ‪ ،‬ومثاله ‪ :‬امرأة تصرع‬
‫أحيانا فتحتاج إلى حفظها ‪ ،‬فإن لم يحفظها الزّوج حتّى ألقت نفسها في النّار عند الصّرع ‪،‬‬
‫فعليه ضمانها ‪.‬‬
‫ودابّة غصبت فتبعها ولدها ‪ ،‬فأكله الذّئب يضمنه الغاصب ‪ ،‬مع أنّه لم يباشر فيه فعلً ‪.‬‬
‫وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬ضرر ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الفضاء ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني الفضاء في اللّغة ‪ :‬الوصول يقال ‪ :‬أفضيت إلى الشّيء ‪ :‬وصلت إليه ‪ .‬ول‬ ‫‪10‬‬

‫يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬


‫ويشترط لعتبار الفضاء في الضّمان ما يلي ‪:‬‬
‫أن ل يوجد للضّرر أو التلف سبب آخر غيره ‪ ،‬سواء أكان هو مباشر ًة أم تسبيبا ‪.‬‬
‫وأن ل يتخلّل بين السّبب وبين الضّرر ‪ ،‬فعل فاعل مختار ‪ ،‬وإلّ أضيف الضّمان إليه ‪ ،‬ل‬
‫إلى السّبب ‪ ،‬وذلك لمباشرته ‪.‬‬
‫تعدّد محدثي الضّرر ‪:‬‬
‫إذا اعتدى جمع من الشخاص ‪ ،‬وأحدثوا ضررا ‪ :‬فإمّا أن يكون اعتداؤهم من نوع واحد ‪،‬‬
‫بأن يكونوا جميعا متسبّبين أو مباشرين ‪ ،‬وإمّا أن يختلف بأن يكون بعضهم مباشرا ‪،‬‬
‫والخر متسبّبا ‪ ،‬فهاتان حالن ‪:‬‬
‫الحال الولى ‪:‬‬
‫‪ -‬أن يكونوا جميعا مباشرين أو متسبّبين ‪ :‬فإمّا أن يتّحد عملهم في النّوع ‪ ،‬أو يختلف‪.‬‬ ‫‪11‬‬
‫أ ‪ -‬ففي الصّورة الولى ‪ ،‬أي إذا كانوا جميعا مباشرين أو متسبّبين واتّحد عملهم نوعا ‪،‬‬
‫كان الضّمان عليهم بالسّويّة ‪ ،‬كما لو تعمّد جماعة إطلق النّار على شخص واحد ‪ ،‬ولم‬
‫تعلم إصابة واحد منهم ‪ ،‬يقتصّ منهم جميعا ‪ ،‬وهذا محمل قول سيّدنا عمر رضي ال تعالى‬
‫عنه " لو اشترك في قتله أهل صنعاء ‪ ،‬لقتلتهم جميعا " ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإذا كانوا جميعا مباشرين أو متسبّبين ‪ ،‬واتّحد عملهم نوعا ‪ ،‬لكن اختلف عملهم قوّةً‬
‫وضعفا ‪ ،‬كما لو حفر شخص حفرةً في الطّريق ‪ ،‬وجاء آخر فوسّع رأسها ‪ ،‬أو حفر الوّل‬
‫حفرةً وعمّق الخر أسفلها ‪ ،‬فتردّى في الحفرة حيوان أو إنسان ‪ ،‬فالقياس عند الحنفيّة هو‬
‫العتداد بالسّبب القويّ ‪ ،‬لنّه كالعلّة ‪ ،‬عند اجتماعها مع السّبب ‪ ،‬وهذا رأي المام محمّد‬
‫منهم ‪.‬‬
‫والستحسان عندهم ‪ ،‬هو العتداد بالسباب الّتي أدّت إلى الضّرر جميعا ‪ ،‬قلّت أو كثرت ‪،‬‬
‫وتوزيع الضّمان عليها بحسب القوّة والضّعف ‪ ،‬فيجب الضّمان أثلثا ‪ ،‬وهو رأي أبي حنيفة‬
‫وأبي يوسف وآخرين من الحنابلة ‪ ،‬وإن لم يميّزوا بين القوّة والضّعف ‪ ،‬واعتبروا‬
‫سكّين فيها ‪.‬‬
‫الشتراك وربّما رجّح بعضهم السّبب الوّل ‪ ،‬كحافر الحفرة وناصب ال ّ‬
‫الحال الثّانية ‪:‬‬
‫‪ -‬أن يكون المعتدون مختلفين ‪ ،‬بعضهم مباشر ‪ ،‬وبعضهم متسبّب ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫والصل ‪ -‬عندئذ ‪ -‬تقديم المباشر على المتسبّب في التّضمين وذلك للقاعدة العامّة‬
‫المعروفة عند جميع الفقهاء ‪ :‬إذا اجتمع المباشر والمتسبّب ‪ ،‬يضاف الحكم إلى المباشر ‪.‬‬
‫ومن أمثلة هذه القاعدة ما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬لو حفر شخص حفر ًة في الطّريق ‪ ،‬فألقى آخر نفسه ‪ ،‬أو ألقى غيره فيها عمدا ‪ ،‬ل‬
‫يضمن الحافر ‪ ،‬بل الملقي وحده ‪ ،‬لنّه المباشر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لو دلّ سارقا على مال إنسان ‪ ،‬فسرقه ‪ ،‬ل ضمان على الدّالّ ‪.‬‬
‫‪ -‬ويستثنى من قاعدة تقديم المباشرة على التّسبيب صور ‪ ،‬يقدّم فيها السّبب على العلّة‬ ‫‪13‬‬

‫المباشرة ‪ ،‬وذلك إذا تعذّرت إضافة الحكم إلى المباشر بالكلّيّة فيضاف الحكم ‪ -‬وهو‬
‫الضّمان هنا ‪ -‬إلى المتسبّب وحده ‪ ،‬كما إذا دفع رجل إلى صبيّ سكّينا ليمسكه له ‪ ،‬فسقط‬
‫ن السّبب هنا في معنى العلّة ‪.‬‬
‫من يده ‪ ،‬فجرحه ‪ ،‬ضمن الدّافع ‪ ،‬ل ّ‬
‫تتابع الضرار ‪:‬‬
‫ن المتعدّي المتسبّب يضمن‬
‫‪ -‬إذا ترتّبت على السّبب الواحد أضرار متعدّدة ‪ ،‬فالحكم أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫جميع الضرار المترتّبة على تسبّبه ‪ ،‬ما دام أثر تسبّبه باقيا لم ينقطع ‪ ،‬فإن انقطع بتسبّب‬
‫آخر لم يضمن ‪.‬‬
‫فمن صور ذلك عند الحنفيّة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬سقط حائط إنسان على حائط إنسان آخر ‪ ،‬وسقط الحائط الثّاني على رجل فقتله ‪ :‬كان‬
‫ضمان الحائط الثّاني والقتيل على صاحب الحائط الوّل لنّ تسبّب حائطه لم ينقطع ‪.‬‬
‫ن التّفريغ ليس‬
‫فإن عثر إنسان بأنقاض الحائط الثّاني ‪ ،‬فانكسر ‪ ،‬لم يضمن الوّل ‪ ،‬ل ّ‬
‫عليه ‪ ،‬ول يضمن صاحب الحائط الثّاني إلّ إذا علم بسقوط حائطه ‪ ،‬ولم ينقل ترابه في مدّة‬
‫تسع النّقل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لو أشهد على حائطه بالميل ‪ ،‬فلم ينقضه صاحبه حتّى سقط ‪ ،‬فقتل إنسانا ‪ ،‬وعثر‬
‫بالنقاض شخص فعطب ‪ ،‬وعطب آخر بالقتيل ‪ ،‬كان ضمان القتيل الوّل وعطب الثّاني على‬
‫ن الحائط وأنقاضه مطلوبان منه ‪ ،‬أمّا التّلف الحاصل بالقتيل الوّل‪،‬‬
‫صاحب الحائط الوّل ‪ ،‬ل ّ‬
‫فليس عليه ‪ ،‬لنّ نقله ليس مطلوبا منه ‪ ،‬بل هو لولياء القتيل ‪.‬‬
‫إثبات السّببيّة ‪:‬‬
‫ن المعتدى عليه الّذي وقع عليه الضّرر ‪ ،‬أو وليّه إن قتل‪،‬‬
‫‪ -‬الصل في الشّريعة ‪ ،‬هو أ ّ‬ ‫‪15‬‬

‫هو المكلّف بإثبات الضّرر ‪ ،‬وإثبات تعدّي من ألحق به الضّرر ‪ ،‬وأنّ تعدّيه كان هو السّبب‬
‫في الضّرر ‪.‬‬
‫وذلك لحديث ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ » :‬لو يعطى النّاس بدعواهم ‪ ،‬لدّعى رجال أموال قوم ودماءهم ‪ ،‬لكن البيّنة على المدّعي‬
‫‪ ،‬واليمين على من أنكر « ‪.‬‬
‫وتثبت السّببيّة بإقرار المعتدي ‪ ،‬كما تثبت بالبيّنة إذا أنكر وتثبت بالقرائن ‪ ،‬وبيمين المدّعي‬
‫وشاهد ‪ -‬على الجملة ‪ -‬ونحوها من طرق الثبات ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬إثبات ) ‪.‬‬
‫شروط الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬يمكن تقسيم شروط الضّمان إلى قسمين ‪:‬‬ ‫‪16‬‬

‫شروط ضمان الجناية على النّفس ‪ ،‬وشروط ضمان الجناية على المال ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬شروط ضمان الجناية على النّفس ‪ :‬الجناية على النّفس إن كانت عمدا وكان الجاني‬
‫مكلّفا يجب فيها القصاص ‪ ،‬فإن كان الجاني غير مكلّف ‪ ،‬أو كانت الجناية خطأً وجبت فيها‬
‫الدّية ‪.‬‬
‫وينظر التّفصيل في ‪ ( :‬ديات ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬شروط ضمان الجناية على المال ‪ :‬تتلخّص هذه الشّروط في أن يكون العتداء ‪،‬‬
‫واقعا على مال متقوّم ‪ ،‬مملوك ‪ ،‬محترم ‪ ،‬كما يشترط أن يكون الضّرر الحادث دائما ‪ -‬فلو‬
‫ن الحيوان لم تضمن المكسورة ‪ ، -‬وأن يكون المعتدي من أهل الوجوب ‪ ،‬فل‬
‫نبتت س ّ‬
‫تضمن البهيمة ‪ ،‬ول مالكها إذا أتلفت مال إنسان وهي مسيّبة ‪ ،‬لنّه جبار ‪.‬‬
‫ول يشترط كون الجاني على المال مكلّفا ‪ ،‬فيضمن الصّبيّ ما أتلفه من مال على الخرين ‪،‬‬
‫ن الضطرار ل يبطل حقّ الغير ‪.‬‬
‫ول عدم اضطراره ‪ ،‬والمضطرّ في المخمصة ضامن ‪ ،‬ل ّ‬
‫أسباب الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬من أسباب الضّمان عند الشّافعيّة والحنابلة ما يلي ‪:‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪ -‬العقد ‪ ،‬كالمبيع والثّمن المعيّن قبل القبض والسّلم في عقد البيع ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬اليد ‪ ،‬مؤتمنةً كانت كالوديعة والشّركة إذا حصل التّعدّي ‪ ،‬أو غير مؤتمنة كالغصب‬ ‫‪2‬‬

‫والشّراء فاسدا ‪.‬‬


‫ج ‪ -‬التلف ‪ ،‬نفسا أو مالً ‪.‬‬
‫وزاد الشّافعيّة ‪ :‬الحيلولة ‪ ،‬كما لو نقل المغصوب إلى بلد آخر وأبعده ‪ ،‬فللمالك المطالبة‬
‫بالقيمة في الحال ‪ ،‬للحيلولة قطعا ‪ ،‬فإذا ردّه ردّها ‪.‬‬
‫وجعل المالكيّة أسباب الضّمان ثلثةً ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬التلف مباشرةً ‪ ،‬كإحراق الثّوب ‪.‬‬
‫وثانيها ‪ :‬التّسبّب للتلف ‪ ،‬كحفر بئر في موضع لم يؤذن فيه ممّا شأنه في العادة أن‬
‫يفضي غالبا للتلف ‪.‬‬
‫وثالثها ‪ :‬وضع اليد غير المؤتمنة ‪ ،‬فيندرج فيها يد الغاصب ‪ ،‬والبائع يضمن المبيع الّذي‬
‫يتعلّق به حقّ توفية قبل القبض ‪.‬‬
‫الفرق بين ضمان العقد وضمان التلف ‪:‬‬
‫‪ -‬ضمان العقد ‪ :‬هو تعويض مفسدة ماليّة مقترنة بعقد ‪.‬‬ ‫‪18‬‬
‫وضمان التلف ‪ :‬هو تعويض مفسدة ماليّة لم تقترن بعقد ‪.‬‬
‫وبينهما فروق تبدو فيما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬من حيث الهليّة ‪ ،‬ففي العقود ‪ :‬الهليّة شرط لصحّة التّصرّفات الشّرعيّة ‪ ،‬والهليّة ‪-‬‬
‫هنا ‪ -‬هي ‪ :‬أهليّة أداءً ‪ ،‬وهي ‪ :‬صلحية الشّخص لممارسة التّصرّفات الشّرعيّة الّتي‬
‫يتوقّف اعتبارها على العقل ‪ ،‬لنّها منوطة بالدراك والعقل ‪ ،‬فإذا لم يتحقّقا ل يعتدّ بها ‪.‬‬
‫أمّا التلفات الماليّة ‪ ،‬والغرامات والمؤن والصّلت الّتي تشبه المؤن ‪ ،‬فالهليّة المجتزأ بها‬
‫هي أهليّة الوجوب فقط ‪ ،‬وهي صلحيته لثبوت الحقوق له وعليه ‪ ،‬فحكم الصّغير غير‬
‫المميّز فيها كحكم الكبير ‪ ،‬لنّ الغرض من الوجوب ‪ -‬وهو الضّمان ونحوه ‪ -‬ل يختلف فيه‬
‫حيّ عن آخر ‪ ،‬وأداء الصّغير يحتمل النّيابة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬من حيث التّعويض ‪ ،‬ففي ضمان العقد ‪ ،‬ل يقوم التّعويض على اعتبار المماثلة‬
‫ويكون التّعويض بنا ًء على ما تراضيا عليه ‪.‬‬
‫ن التّعويض فيها يقوم على اعتبار المماثلة ‪ ،‬إذ المقصود فيها دفع‬
‫أمّا التلفات الماليّة فإ ّ‬
‫الضّرر ‪ ،‬وإزالة المفسدة ‪ ،‬والضّرر محظور ‪ ،‬فتعتبر فيه المماثلة ‪ ،‬وذلك بعموم النّصّ‬
‫الكريم ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪َ { :‬وجَزَاء سَيّ َئ ٍة سَيّ َئةٌ مّثُْلهَا } ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬من حيث الوصاف والعوارض الذّاتيّة ‪ ،‬فقد فرّق الفقهاء في ضمانها في العقود وفي‬
‫التلفات ‪ ،‬وقرّر الحنفيّة أنّ الوصاف ل تضمن بالعقد ‪ ،‬وتضمن بالغصب ‪ ،‬وذلك لنّ‬
‫الغصب قبض ‪ ،‬والوصاف تضمن بالفعل ‪ ،‬وهو القبض ‪ ،‬أمّا العقد فيرد على العيان ‪ ،‬ل‬
‫على الوصاف ‪ ،‬والغصب ‪ -‬وكذا التلف ‪ -‬فعل يحلّ بالذّات بجميع أجزائها ‪ ،‬فكانت‬
‫مضمونةً ‪.‬‬
‫محلّ الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬محلّ الضّمان هو ‪ :‬ما يجب فيه الضّمان ‪ ،‬سواء أكان الضّمان ناشئا عن عقد ‪ ،‬أم‬ ‫‪19‬‬

‫كان ناشئا عن إتلف ويد ‪ ،‬قال ابن رشد ‪ :‬فهو كلّ مال أتلفت عينه ‪ ،‬أو تلفت عند الغاصب‬
‫عينه ‪ ،‬بأمر من السّماء ‪ ،‬أو سلّطت اليد عليه وتملّك ‪.‬‬
‫وقال ابن القيّم ‪ :‬مح ّل الضّمان هو ما كان يقبل المعاوضة ‪.‬‬
‫ويمكن التّوسّع في محلّ الضّمان ‪ ،‬بحيث يشمل جميع المضمونات ‪ ،‬بأن يقسّم الفعل‬
‫الضّارّ ‪ ،‬باعتبار محلّه ‪ ،‬إلى قسمين ‪ :‬فعل ضا ّر واقع على النسان ‪ ،‬وفعل ضارّ واقع على‬
‫ما سواه من الموال ‪ ،‬كالحيوان والشياء ‪.‬‬
‫وقد اعتبر بعض الفقهاء العتداء على المال والحيوان ضربا من الجنايات ‪ ،‬فقال الكاسانيّ‬
‫‪ :‬الجناية في الصل نوعان ‪ :‬جناية على البهائم والجمادات وجناية على الدميّ ‪ ،‬فهذه‬
‫ي مضمون بالجناية عليه ‪ ،‬في النّفس ‪ ،‬أو الطراف ‪.‬‬
‫محالّ الضّمان ‪ ،‬فالدم ّ‬
‫وأمّا الموال فتقسم إلى ‪ :‬أعيان ‪ ،‬ومنافع ‪ ،‬وزوائد ‪ ،‬ونواقص ‪ ،‬وأوصاف ‪.‬‬
‫ونبحثها فيما يلي ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬العيان ‪:‬‬
‫‪ -‬وهي نوعان ‪ :‬أمانات ‪ ،‬ومضمونات ‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫ص ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ { :‬إِنّ‬


‫فالمانات ‪ :‬يجب تسليمها بذاتها ‪ ،‬وأداؤها فور طلبها ‪ ،‬بالنّ ّ‬
‫الّلهَ يَ ْأ ُم ُركُمْ أَن تُؤدّواْ ا َلمَانَاتِ إِلَى أَهْ ِلهَا } ‪ ،‬وتضمن حال التّعدّي ‪ ،‬وإلّ فل ضمان فيها ‪،‬‬
‫ومن التّعدّي الموت عن تجهيل لها ‪ ،‬إلّ ما استثني ‪.‬‬
‫والمضمونات ‪ ،‬تضمن بالتلف ‪ ،‬وبالتّلف ولو كان سماويّا ‪.‬‬
‫والعيان المضمونة نوعان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬العيان المضمونة بنفسها ‪ ،‬وهي الّتي يجب بهلكها ضمان المثل أو القيمة ‪،‬‬
‫كالمغصوب ‪ ،‬والمبيع بيعا فاسدا ‪ ،‬والمهر في يد الزّوج ‪ ،‬وبدل الخلع ‪ -‬إذا كان عينا‬
‫معيّنةً‪ -‬وبدل الصّلح عن دم العمد ‪ ،‬إذا كان عينا ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬العيان المضمونة بغيرها ‪ ،‬وهي الّتي يجب بهلكها الثّمن أو الدّين ‪ ،‬كالمبيع إذا‬
‫هلك قبل القبض ‪ ،‬سقط الثّمن ‪ ،‬والرّهن إذا هلك سقط الدّين ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬العيان المضمونة ‪ ،‬إمّا أن تكون مضمونةً بسبب العدوان ‪ ،‬كالمغصوبات ‪،‬‬
‫وإمّا أن تكون مضمونةً بسبب قبض بغير عدوان ‪ ،‬بل بإذن المالك على وجه انتقال تملّكه‬
‫إليه ‪ ،‬بشراء ‪ ،‬أو هبة ‪ ،‬أو وصيّة ‪ ،‬أو قرض ‪ ،‬فهو ضامن ‪ -‬أيضا ‪ -‬سواء أكان البيع‬
‫صحيحا ‪ ،‬أم كان فاسدا ‪.‬‬
‫وكذلك المر عند الحنابلة فقد عرّفوا العيان المضمونة ‪ ،‬بأنّها الّتي يجب ضمانها بالتّلف‬
‫والتلف ‪ ،‬سواء أكان حصولها بيد الضّامن بفعل مباح ‪ ،‬كالعاريّة ‪ ،‬أو محظور‬
‫كالمغصوب‪ ،‬والمقبوض بعقد فاسد ‪ ،‬ونحوهما ‪.‬‬
‫وعدّ السّيوطيّ المضمونات ‪ ،‬وأوصلها إلى ستّة عشر ‪ ،‬وبيّن حكم كلّ ‪ ،‬ومنها ‪ :‬الغصب ‪،‬‬
‫والتلف ‪ ،‬واللّقطة ‪ ،‬والقرض ‪ ،‬والعاريّة ‪ ،‬والمقبوض بسوم ‪...‬‬
‫‪ -‬وهل تشمل العيان المضمونة العقارات ؟‬ ‫‪21‬‬

‫ن العقار‬
‫مذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬ومحمّد من الحنفيّة ‪ ،‬أ ّ‬
‫يضمن بالتّعدّي ‪ ،‬وذلك بغصبه ‪ ،‬وغصبه متصوّر ‪ ،‬لنّ الغصب هو ‪ :‬إثبات اليد على مال‬
‫الغير بغير إذن مالكه ‪ ،‬أو هو ‪ :‬الستيلء على حقّ الغير عدوانا ‪ ،‬أو إزالة يد المالك عن‬
‫ماله – كما يقول محمّد من الحنفيّة – والفعل في المال ليس بشرط ‪ ،‬وهذا يتحقّق في العقار‬
‫والمنقول ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فيمن استولى على أرض غيره ‪ » :‬من ظلم قيد شبر‬
‫وقد قال النّب ّ‬
‫من الرض ‪ ،‬طوّقه من سبع أرضين « ‪.‬‬
‫ومذهب أبي حنيفة ‪ :‬أنّ الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال ‪ ،‬ولهذا عرّفه في‬
‫الكنز بأنّه إزالة اليد المحقّة ‪ ،‬بإثبات اليد المبطلة ‪ ،‬وهذا ل يوجد في العقار ‪ ،‬ولنّه ل‬
‫يحتمل النّقل والتّحويل ‪ ،‬فلم يوجد التلف حقيقةً ول تقديرا ‪.‬‬
‫فلو غصب دارا فانهدم البناء ‪ ،‬أو جاء سيل فذهب بالبناء والشجار ‪ ،‬أو غلب الماء على‬
‫الرض فبقيت تحت الماء فعليه الضّمان عند الجمهور ‪ ،‬ول ضمان عليه عند أبي حنيفة‬
‫وأبي يوسف ‪.‬‬
‫ولو غصب عقارا ‪ ،‬فجاء آخر فأتلفه ‪ ،‬فالضّمان على المتلف ‪ ،‬عند أبي حنيفة وأبي‬
‫يوسف‪ ،‬وعند الجمهور يخيّر المالك بين تضمين الغاصب أو المتلف ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬لو أتلفه بفعله أو بسكناه ‪ ،‬يضمنه ‪ ،‬لنّه إتلف ‪ ،‬والعقار يضمن به ‪ ،‬كما إذا نقل‬
‫ترابه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬المنافع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المنافع أموال متقوّمة في ذاتها فتضمن بالتلف ‪ ،‬كما‬ ‫‪22‬‬

‫تضمن العيان ‪ ،‬وذلك ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬لنّها الغرض الظهر من جميع الموال ‪.‬‬
‫ن الشّارع أجاز أن تكون مهرا في النّكاح ‪ ،‬في قصّة موسى وشعيب ‪ -‬عليهما‬
‫ب ‪ -‬ول ّ‬
‫ص بقوله تعالى ‪ { :‬أَن تَبْ َتغُواْ بِ َأ ْموَا ِلكُم } ‪.‬‬
‫السلم ‪ -‬مع اشتراط كون المهر فيه مالً بالنّ ّ‬
‫ن المال اسم لما هو مخلوق لقامة مصالحنا به ‪ ،‬أو هو ‪ -‬كما يقول الشّاطبيّ ‪-‬‬
‫ج ‪ -‬ول ّ‬
‫ما يقع عليه الملك ‪ ،‬ويستب ّد به المالك ‪ ،‬والمنافع منّا أو من غيرنا بهذه الصّفة ‪ ،‬وإنّما‬
‫ن أعظم النّاس‬
‫تعرف ماليّة الشّيء بالتّموّل والنّاس يعتادون تموّل المنافع بالتّجارة فيها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫تجارةً الباعة ‪ ،‬ورأس مالهم المنفعة ‪.‬‬
‫ن المنفعة ‪ -‬كما قال ع ّز الدّين بن عبد السّلم ‪ -‬مباحة متقوّمة ‪ ،‬فتجبر في العقود‬
‫د ‪ -‬ول ّ‬
‫ن الشّرع قد‬
‫الفاسدة والصّحيحة ‪ ،‬وبالفوات تحت اليدي المبطلة ‪ ،‬والتّفويت بالنتفاع ‪ ،‬ل ّ‬
‫قوّمها ‪ ،‬ونزّلها منزلة الموال ‪ ،‬فل فرق بين جبرها بالعقود وبين جبرها بالتّفويت‬
‫والتلف‪.‬‬
‫ن المنافع ل تضمن بالغصب ‪ ،‬سواء استوفاها أم عطّلها أم استغلّها ‪،‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫ول تضمن إلّ بالعقد ‪ ،‬وذلك ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬لنّها ليست بمال متقوّم ‪ ،‬ول يمكن ادّخارها لوقت الحاجة ‪ ،‬لنّها ل تبقى وقتين ‪،‬‬
‫ولكنّها أعراض كلّما تخرج من حيّز العدم إلى حيّز الوجود تتلشى فل يتصوّر فيها التّموّل ‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول السّرخسيّ ‪ :‬المنافع ل تضمن بإتلف بغير عقد ول شبهة ‪.‬‬
‫ن المنفعة إنّما ورد تقويمها في الشّرع ‪ -‬مع أنّها ليست ذات قيمة في نفسها ‪-‬‬
‫ب ‪ -‬ول ّ‬
‫بعقد الجارة ‪ ،‬استثناءً على خلف القياس ‪ ،‬للحاجة لورود العقد عليها ‪ ،‬وما ثبت على‬
‫خلف القياس يقتصر فيه على مورد ال ّنصّ ‪.‬‬
‫والمالكيّة يضمّنون الغاصب إذا غصب لغرض المنفعة بالتّعدّي ‪ ،‬كما لو غصب دا ّبةً أو دارا‬
‫للرّكوب والسّكنى فقط ‪ ،‬فيضمنها بالستعمال ‪ ،‬ولو كان استعماله يسيرا ‪.‬‬
‫ول يضمن الذّات في هذه الحال لو تلفت بسماويّ ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الزّوائد ‪:‬‬
‫‪ -‬وتتمثّل في زوائد المغصوب ونمائه ‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫أ ‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها مضمونة ضمان الغصب ‪ ،‬لنّها مال المغصوب منه ‪،‬‬
‫وقد حصلت في يد الغاصب بالغصب ‪ ،‬فيضمنها بالتّلف كالصل الّذي تولّدت منه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وعند الحنفيّة أنّ زوائد المغصوب ‪ -‬سواء أكانت متّصلةً كالسّمن ‪ ،‬أم منفصلةً كاللّبن‬
‫والولد ‪ ،‬وثمرة البستان ‪ ،‬وصوف الغنم ‪ -‬أمانة في يد الغاصب ‪ ،‬ل تضمن إلّ بالتّعدّي‬
‫عليها ‪ ،‬بالكل أو التلف ‪ ،‬أو بالمنع بعد طلب المالك ‪ .‬وذلك لنّ الغصب إزالة يد المالك ‪،‬‬
‫بإثبات اليد عليه ‪ ،‬وذلك ل يتحقّق في الزّوائد ‪ ،‬لنّها لم تكن في يد المالك ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وللمالكيّة هذا التّفصيل ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬ما كان متولّدا من الصل وعلى خلقته ‪ ،‬كالولد ‪ ،‬فهو مردود مع الصل ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬وما كان متولّدا من الصل ‪ ،‬على غير خلقته مثل الثّمر ولبن الماشية ففيه قولن ‪:‬‬
‫أحدهما أنّه للغاصب ‪ ،‬والخر أنّه يلزمه ردّه قائما ‪ ،‬وقيمته تالفا ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬وما كان غير متولّد ‪ ،‬ففيه خمسة أقوال ‪:‬‬
‫‪ -‬قيل ‪ :‬يردّ الزّوائد مطلقا ‪ ،‬لتعدّيه ‪ ،‬من غير تفصيل ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬وقيل ‪ :‬ل يردّها مطلقا من غير تفصيل ‪ ،‬لنّها في مقابلة الضّمان الّذي عليه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬وقيل ‪ :‬ير ّد قيمة منافع الصول والعقار ‪ ،‬لنّه مأمون ول يتحقّق الضّمان فيه ‪ ،‬ول‬ ‫‪3‬‬

‫ير ّد قيمة منافع الحيوان وشبهه ممّا يتحقّق فيه الضّمان ‪.‬‬
‫‪ -‬وقيل ‪ :‬يردّها إن انتفع بها ‪ ،‬ول يردّها إن عطّلها ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ص ًة ‪ ،‬ول يردّها إن غصب المنافع والرّقاب ‪.‬‬


‫‪ -5‬وقيل ‪ :‬يردّها إن غصب المنافع خا ّ‬
‫رابعا ‪ :‬النّواقص ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يختلف الفقهاء في ضمان نقص الموال بسبب الغصب ‪ ،‬أو الفعل الضّا ّر ‪ ،‬أو‬ ‫‪24‬‬

‫ن ضمان الغصب‬
‫التلف أو نحوها ‪ ،‬سواء أكان ذلك النّقص عمدا أم خطأً أم تقصيرا ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ -‬كما يقول الكاسانيّ ‪ -‬ضمان جبر الفائت ‪ ،‬فيتقدّر بقدر الفوات ‪.‬‬
‫فمن نقص في يده شيء فعليه ضمان النّقصان ‪ ،‬وفيه تفصيل في المذاهب الفقهيّة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬مذهب الحنفيّة أنّ النّقص إمّا أن يكون يسيرا ‪ ،‬وإمّا أن يكون فاحشا ‪.‬‬
‫والصّحيح عندهم ‪ -‬كما قال الزّيلعيّ ‪ -‬أنّ اليسير ما ل يفوت به شيء من المنفعة ‪ ،‬بل‬
‫يدخل فيه نقصان في المنفعة ‪ ،‬كالخرق في الثّوب ‪.‬‬
‫والفاحش ‪ :‬ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة ‪ ،‬ويبقى بعض العين وبعض المنفعة ‪.‬‬
‫وقيل اليسير ‪ :‬ما لم يبلغ ربع القيمة ‪ ،‬والفاحش ما يساوي ربع القيمة فصاعدا ‪ ،‬وبهذا‬
‫‪./‬‬ ‫‪900‬‬ ‫أخذت المجلّة في المادّة ‪/‬‬
‫ففي النّقصان اليسير ليس للمالك إلّ أخذ عين المغصوب ‪ ،‬لنّ العين قائمة من كلّ وجه ‪،‬‬
‫ويضمن الغاصب النّقصان ‪.‬‬
‫وفي النّقص الفاحش ‪ ،‬يخيّر المالك بين أخذ العين ‪ ،‬وتضمين الغاصب النّقصان ‪ ،‬وبين ترك‬
‫العين للغاصب وتضمينه قيمة العين ‪.‬‬
‫فلو ذبح حيوانا لغيره مأكول اللّحم ‪ ،‬أو قطع يده ‪ ،‬كان ذلك إتلفا من بعض الوجوه ‪،‬‬
‫ونقصا فاحشا ‪ ،‬فيخيّر فيه المغصوب منه ‪ ،‬ولو كان غير مأكول اللّحم ‪ ،‬ضمن الغاصب‬
‫الجميع ‪ ،‬لنّه استهلك مطلق من كلّ وجه ‪ ،‬وإتلف لجميع المنفعة ‪.‬‬
‫ولو غصب العقار ‪ ،‬فانهدم أو نقص بسكناه ‪ ،‬ضمنه ‪ ،‬لنّه إتلف بفعله ‪ ،‬والعقار يضمن‬
‫بالتلف ‪ ،‬ول يشترط لضمان التلف أن يكون بيده ‪.‬‬
‫وهذا بخلف ما لو هلك العقار ‪ ،‬بعد أن غصبه وهو في يده فإنّه ل يضمنه ‪ ،‬لنّه لم‬
‫يتصرّف فيه بشيء ‪ ،‬فل يجب الضّمان عند الشّيخين ‪ ،‬لنّه غاصب للمنفعة ‪ ،‬وليست مالً ‪،‬‬
‫ولنّه منع المالك عن النتفاع ول يضمن عينه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ومذهب المالكيّة في النّقص ‪ ،‬أنّه إمّا أن يكون من قبل الخالق ‪ ،‬أو من قبل المخلوق‬
‫‪ .‬فإن كان من قبل الخالق ‪ ،‬فليس للمغصوب منه إلّ أن يأخذه ناقصا ‪ -‬كما يقول ابن جنّيّ‬
‫‪ -‬أو يضمن الغاصب قيمة المغصوب يوم الغصب ‪.‬‬
‫ن له أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ ّ‬
‫وإن كان من قبل المخلوق وبجنايته فالمغصوب منه مخيّر ‪:‬‬
‫‪ -‬بين أن يضمّنه القيمة يوم الغصب ‪ ،‬ويتركه للغاصب ‪ ،‬وبين أن يأخذه ويأخذ قيمة‬ ‫‪1‬‬

‫النّقص ‪ ،‬يوم الجناية عند ابن القاسم ‪ ،‬أو يوم الغصب ‪ ،‬عند سحنون ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند أشهب وابن الموّاز ‪ :‬هو مخيّر بين أن يضمّنه القيمة ‪ ،‬وبين أن يأخذه ناقصا ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ول شيء له في الجناية ‪ ،‬كالّذي يصاب بأمر من السّماء ‪.‬‬


‫ولهم تفصيل في ضمان البناء أو الغرس في العقار ‪ ،‬نذكره في أحكام الضّمان الخاصّة ‪ ،‬إن‬
‫شاء اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ومذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّ كلّ عين مغصوبة ‪ ،‬على الغاصب ضمان نقصها ‪ ،‬إذا‬
‫كان نقصا مستقرّا تنقص به القيمة ‪ ،‬سواء كان باستعماله ‪ ،‬أم كان بغير استعماله ‪،‬‬
‫كمرض الحيوان ‪ ،‬وكثوب تخرّق ‪ ،‬وإناء تكسّر ‪ ،‬وطعام سوّس ‪ ،‬وبناء تخرّب ‪ ،‬ونحوه‬
‫فإنّه يردّها ‪ ،‬وللمالك على الغاصب أرش النّقص ‪ -‬مع أجرة المثل ‪ ،‬كما قال القليوبيّ ‪-‬‬
‫لنّه نقص حصل في يد الغاصب ‪ ،‬فوجب ضمانه ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬الوصاف وضمانها ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا نقصت السّلعة ‪ ،‬عند الغاصب ‪ ،‬بسبب فوات وصف ‪ ،‬فإمّا أن يكون ذلك بسبب‬ ‫‪25‬‬

‫هبوط السعار في السّوق ‪ ،‬وإمّا أن يكون بسبب فوات وصف مرغوب فيه ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬فإن كان النّقص بسبب هبوط السعار في السواق ‪ ،‬فليس على الغاصب أو المتعدّي‬
‫ن المضمون نقصان المغصوب ‪ ،‬ونقصان السّعر ليس‬
‫ضمان نقص القيمة اتّفاقا ‪ ،‬ل ّ‬
‫بنقصان المغصوب ‪ ،‬بل لفتور يحدثه اللّه في قلوب العباد ‪ ،‬ل صنع للعبد فيه ‪ ،‬فل يكون‬
‫ق للمغصوب منه في القيمة‬
‫‪ ، /‬ولنّه ل ح ّ‬ ‫‪900‬‬ ‫مضمونا وهذا ما أخذت به المجلّة ‪ /‬المادّة ‪:‬‬
‫ن الغاصب إنّما‬
‫‪ ،‬مع بقاء العين ‪ ،‬وإنّما حقّه في العين ‪ ،‬وهي باقية ‪ ،‬كما كانت ‪ ،‬ول ّ‬
‫يضمن ما غصب ‪ ،‬والقيمة ل تدخل في الغصب ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإن كان النّقص بسبب فوات وصف مرغوب فيه ‪ ،‬فهو مضمون باتّفاق الفقهاء كما‬
‫لو سقط عضو الحيوان المغصوب ‪ ،‬وهو في يد الغاصب بآفة سماويّة ‪ ،‬أو حدث له عند‬
‫الغاصب عرج أو شلل أو عمىً ‪ ،‬ونحو ذلك فإنّ المالك يأخذ المغصوب ‪ ،‬ويضمن الغاصب‬
‫النّقصان ‪ ،‬لفوات جزء من البدن ‪ ،‬أو فوات صفة مرغوب فيها ‪ ،‬ولنّه دخلت جميع أجزائه‬
‫في ضمانه بالغصب ‪ ،‬فما تعذّر ردّ عينه ‪ ،‬يجب ر ّد قيمته ‪.‬‬
‫وطريق معرفة النّقصان أن يقوّم صحيحا ‪ ،‬ويقوّم وبه العيب ‪ ،‬فيجب قدر ما بينهما ‪.‬‬
‫تصنيف العقود من حيث الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬يمكن تصنيف العقود من حيث الضّمان إلى أربعة أقسام ‪:‬‬ ‫‪26‬‬

‫أ ّولً ‪ :‬فهناك عقد شرع للضّمان ‪ ،‬أو هو الضّمان بذاته ‪ ،‬وهو ‪ :‬الكفالة ‪ -‬كما يسمّيها‬
‫الحنفيّة ‪ -‬وهي ‪ -‬أيضا ‪ -‬الضّمان كما يسمّيها الجمهور ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬وهناك عقود لم تشرع للضّمان ‪ ،‬بل شرعت للملك والرّبح ونحوهما ‪ ،‬لكن الضّمان‬
‫يترتّب عليها باعتباره أثرا لزما لحكامها ‪ ،‬وتسمّى ‪ :‬عقود ضمان ‪ ،‬ويكون المال‬
‫ي سبب هلك ‪ ،‬كعقد البيع ‪ ،‬والقسمة ‪ ،‬والصّلح‬
‫المقبوض فيها مضمونا على القابض ‪ ،‬بأ ّ‬
‫عن مال بمال‪ ،‬والمخارجة ‪ ،‬والقرض ‪ ،‬وكعقد الزّواج ‪ ،‬والمخالعة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬وهناك عقود يتجلّى فيها طابع الحفظ والمانة ‪ ،‬والرّبح في بعض الحيان ‪ ،‬وتسمّى‬
‫عقود أمانة ‪ ،‬ويكون المال المقبوض فيها أمانةً في يد القابض ‪ ،‬ل يضمنه إلّ إذا تلف‬
‫بسبب تقصيره في حفظه ‪ ،‬كعقد اليداع ‪ ،‬والعاريّة ‪ ،‬والشّركة بأنواعها ‪ ،‬والوكالة ‪،‬‬
‫والوصاية ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬وهناك عقود ذات وجهين ‪ ،‬تنشئ الضّمان من وجه ‪ ،‬والمانة من وجه ‪ ،‬وتسمّى‬
‫لهذا ‪ :‬عقود مزدوجة الثر ‪ ،‬كعقد الجارة ‪ ،‬والرّهن والصّلح عن مال بمنفعة ‪.‬‬
‫‪ -‬ومناط التّمييز ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬بين عقود الضّمان ‪ ،‬وبين عقود المانة ‪ ،‬يدور مع‬ ‫‪27‬‬

‫المعاوضة ‪ :‬فكلّما كان في العقد معاوضة ‪ ،‬كان عقد ضمان ‪ ،‬وكلّما كان القصد من العقد‬
‫غير المعاوضة ‪ ،‬كالحفظ ونحوه ‪ ،‬كان العقد عقد أمانة ‪.‬‬
‫ي من الحنفيّة ‪ ،‬في تعليل كون يد أحد‬
‫ويستند هذا الضّابط المميّز ‪ ،‬إلى قول المرغينان ّ‬
‫الشّركاء في مال الشّركة ‪ ،‬يد أمانة ‪ :‬لنّه قبض المال بإذن المالك ‪ ،‬ل على وجه البدل‬
‫والوثيقة ‪ ،‬فصار كالوديعة ‪.‬‬
‫ن القبض الّذي يستوجب الضّمان ‪ ،‬هو ‪ :‬ما كان بغير إذن المالك ‪،‬‬
‫وهذا يشير إلى أ ّ‬
‫كالمغصوب ‪ ،‬وما كان بسبيل المبادلة ‪ ،‬أي المعاوضة ‪ ،‬أو ما كان بسبيل التّوثيق ‪ ،‬كالرّهن‬
‫والكفالة ‪.‬‬
‫والرّهن ‪ -‬في الواقع ‪ -‬يؤوّل إلى المعاوضة ‪ ،‬لنّه توثيق للبدل ‪ ،‬وكذا الكفالة ‪ ،‬فكان‬
‫المعوّل عليه في ضمان العقود ‪ ،‬هو المبادلة ‪ ،‬وفي غير العقود ‪ ،‬هو عدم الذن ‪ ،‬وما‬
‫المبادلة إلّ المعاوضة ‪ ،‬فهي منشأ التّمييز ‪ ،‬بين عقود الضّمان ‪ ،‬وبين عقود الحفظ‬
‫والمانة‪.‬‬
‫وبيان الضّمان في هذه العقود فيما يلي ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الضّمان في العقود الّتي شرعت للضّمان ‪:‬‬
‫الضّمان في عقد الكفالة ‪:‬‬
‫ح الضّمان ‪ -‬أو الكفالة باستجماع شروطها ‪ -‬لزم الضّامن أداء ما ضمنه ‪،‬‬
‫‪ -‬إذا ص ّ‬ ‫‪28‬‬

‫وكان للمضمون له ‪ -‬الدّائن ‪ -‬مطالبته ‪ ،‬ول يعلم فيه خلف ‪ ،‬وهو فائدة الضّمان ثمّ ‪:‬‬
‫إذا كانت الكفالة بأمر المدين ‪ ،‬وهو المكفول عنه ‪ ،‬رجع عليه الكفيل بما أدّى عنه بالتّفاق‬
‫‪ -‬على ما يقول ابن جزيّ ‪ -‬في الجملة ‪.‬‬
‫أمّا إذا كانت الكفالة بغير إذن المكفول عنه ‪ ،‬ففي الرّجوع خلف ‪:‬‬
‫فمذهب الحنفيّة عدم الرّجوع ‪ ،‬إذ اعتبر متبرّعا في هذه الحال ‪.‬‬
‫والمالكيّة قرّروا الرّجوع في هذه الحال إن ثبت دفع الكفيل ببيّنة ‪ ،‬أو بإقرار صاحب الحقّ ‪،‬‬
‫وعلّلوه بسقوط الدّين بذلك ‪.‬‬
‫والشّافعيّة فصّلوا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إن أذن المكفول عنه ‪ ،‬في الضّمان والداء فأدّى الكفيل ‪،‬‬
‫رجع‪ .‬وإن انتفى إذنه فيهما فل رجوع ‪.‬‬
‫وإن أذن في الضّمان فقط ‪ ،‬ولم يأذن في الداء ‪ ،‬رجع في الصحّ ‪ ،‬لنّه أذن في سبب‬
‫الغرم‪.‬‬
‫وإن أذن في الداء فقط ‪ ،‬من غير ضمان ‪ ،‬ل يرجع في الصحّ ‪ ،‬لنّ الغرم في الضّمان ‪،‬‬
‫ولم يأذن فيه ‪.‬‬
‫واعتبر الحنابلة نيّة الرّجوع عند قضاء الدّين عن المكفول عنه ‪ ،‬فقرّروا أنّه ‪ :‬إن قضى‬
‫الضّامن الدّين متبرّعا ‪ ،‬ل يرجع ‪ ،‬سواء أضمنه بإذنه أم بغير إذنه ‪ ،‬لنّه متطوّع بذلك ‪.‬‬
‫وإن قضاه ناويا الرّجوع ‪ ،‬يرجع لنّه قضاه مبرئا من دين واجب ‪ ،‬فكان له الرّجوع ‪.‬‬
‫ل عن قصد الرّجوع وعدمه ‪ ،‬ل يرجع ‪ ،‬لعدم قصد الرّجوع ‪ ،‬سواء أكان‬
‫ولو قضاه ذاه ً‬
‫الضّمان أو الداء بإذن المضمون عنه ‪ ،‬أم بغير إذن ‪.‬‬
‫ولهم تفصيل رباعيّ في نيّة الرّجوع يقرب من تفصيل الشّافعيّة ‪.‬‬
‫يراجع فيه مصطلح ‪ ( :‬كفالة ) ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا مات الكفيل قبل حلول أجل الدّين ‪ ،‬ففي حلول الدّين ومطالبة الورثة به خلف‬ ‫‪29‬‬

‫ينظر في مصطلح ‪ ( :‬كفالة ) ‪.‬‬


‫ضمان الدّرك ‪:‬‬
‫‪ -‬قصر الحنفيّة ضمان الدّرك ‪ ،‬على ضمان الثّمن عند استحقاق المبيع ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هو‬ ‫‪30‬‬

‫الرّجوع بالثّمن عند استحقاق المبيع ‪.‬‬


‫والدّرك هو ‪ :‬المطالبة والتّبعة والمؤاخذة ‪.‬‬
‫ويقال له ‪ :‬ضمان العهدة عند الشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وعرّفوه بأنّه ‪ :‬ضمان الثّمن للمشتري ‪ ،‬إن ظهر المبيع مستحقّا أو معيبا أو ناقصا ‪ ،‬بعد‬
‫قبض الثّمن وضمان الدّرك صحيح عند جماهير الفقهاء وذلك ‪. :‬‬
‫ن المضمون هو الماليّة عند تعذّر الرّ ّد ‪ ،‬والمضمون ‪ -‬كما يقول العدويّ ‪ -‬في‬
‫أ‪-‬لّ‬
‫ق الثّمن ‪ ،‬وهو جائز بل نزاع ‪.‬‬
‫المعيب قيمة العيب ‪ ،‬وفي المستح ّ‬
‫ن الضّمان هنا ‪ ،‬كفالة ‪ ،‬والكفالة للتزام المطالبة ‪ ،‬والتزام الفعال يصحّ مضافا‬
‫ب ‪ -‬ول ّ‬
‫إلى المآل ‪ ،‬كما في التزام الصّوم والصّلة بالنّذر ‪.‬‬
‫ن الحاجة تدعو إلى الوثيقة ‪ ،‬وهي ثلثة ‪:‬‬
‫ج ‪ -‬وقال الحنابلة في تعليل جوازه ‪ :‬ل ّ‬
‫ق ‪ ،‬والثّانية ممنوعة ‪ ،‬لنّه يلزم‬
‫الشّهادة والرّهن والضّمان ‪ ،‬فالولى ل يستوفي منها الح ّ‬
‫حبس الرّهن إلى أن يؤدّى ‪ ،‬وهو غير معلوم ‪ ،‬فيؤدّي إلى حبسه أبدا ‪ ،‬فلم يبق غير‬
‫الضّمان ‪.‬‬
‫د ‪ -‬وقالوا ‪ :‬ولنّه لو لم يصحّ لمتنعت المعاملت مع من لم يعرف ‪ ،‬وفيه ضرر عظيم ‪،‬‬
‫رافع لصل الحكمة ‪ ،‬الّتي شرع من أجلها البيع ‪.‬‬
‫ونصّ الحنفيّة على أنّ شرط ضمان الدّرك ثبوت الثّمن على البائع بالقضاء ‪ ،‬فلو استحقّ‬
‫المبيع قبل القضاء على البائع بالثّمن ‪ ،‬ل يؤخذ ضامن الدّرك ‪ ،‬إذ بمجرّد الستحقاق ل‬
‫ينتقض البيع على الظّاهر ‪ ،‬إذ يعتبر البيع موقوفا عند أبي حنيفة ‪ ،‬ولهذا لو أجاز المستحقّ‬
‫البيع قبل الفسخ جاز ولو بعد قبضه ‪ ،‬وهو الصّحيح ‪ ،‬فما لم يقض بالثّمن على البائع ل‬
‫يجب ردّ الثّمن على الصيل ‪ ،‬فل يجب على الكفيل ‪.‬‬
‫ون صّ الشّافعيّة على أنّه ل ي صحّ ق بل ق بض الثّ من ‪ ،‬لنّه إنّ ما يض من ما د خل في ضمان‬
‫البائع‪ ،‬وقيل ‪ :‬يصحّ قبل قبضه ‪ ،‬لنّه قد تدعو الحاجة إليه ‪ ،‬بأن ل يسلّم الثّمن إلّ بعده ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬العقود الّتي لم تشرع للضّمان ويترتّب عليها الضّمان ‪:‬‬
‫الضّمان في عقد البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ ،‬إلى أنّ المبيع في البيع الصّحيح ‪ ،‬في ضمان البائع ‪ ،‬حتّى‬ ‫‪31‬‬

‫يقبضه المشتري ‪ ،‬مع رواية تفرقة الحنابلة بين المكيلت ‪ ،‬والموزونات ‪ ،‬ونحوها ‪ ،‬وبين‬
‫غيرها ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ الضّمان ينتقل إلى المشتري ‪ -‬كما يقول ابن جزيّ ‪ -‬بنفس العقد ‪،‬‬
‫إلّ في مواضع منها ‪ :‬ما بيع على الخيار ‪ ،‬وما بيع من الثّمار قبل كمال طيبه ‪.‬‬
‫وأهمّ ما يستوجب الضّمان في عقد البيع ‪ :‬هلك المبيع ‪ ،‬وهلك الثّمن ‪ ،‬واستحقاق‬
‫المبيع ‪ ،‬وظهور عيب قديم فيه ‪.‬‬
‫ويلحق به ‪ :‬ضمان المقبوض على سوم الشّراء ‪ ،‬وضمان المقبوض على سوم النّظر ‪،‬‬
‫وضمان الدّرك ‪.‬‬
‫وبيان ذلك ما يلي ‪:‬‬
‫هلك المبيع ‪:‬‬
‫‪ -‬يفرّق في الحكم فيه ‪ ،‬تبعا لحوال هلكه ‪ :‬هلك كلّه ‪ ،‬وهلك بعضه ‪ ،‬وهلك نمائه ‪،‬‬ ‫‪32‬‬

‫وهلكه في البيع الصّحيح ‪ ،‬والفاسد ‪ ،‬والباطل ‪ ،‬وهلكه وهو في يد البائع ‪ ،‬أو في يد‬
‫المشتري ‪.‬‬
‫ومصطلح ‪ :‬هلك ) ‪.‬‬ ‫‪59‬‬ ‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬بيع ف‬
‫هلك نماء المبيع ‪:‬‬
‫ي ‪ -‬إلّ إذا‬
‫‪ -‬الصل المقرّر عند الحنفيّة أنّ زوائد المبيع مبيعة ‪ -‬كما يقول الكاسان ّ‬ ‫‪33‬‬

‫كانت منفصلةً غير متولّدة من الصل ‪ ،‬كغلّة المباني والعقارات ‪ ،‬فإنّها إمّا أن تحدث في‬
‫المبيع قبل قبضه أو بعده ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬فقبل القبض ‪ ،‬إذا أتلف البائع الزّيادة يضمنها ‪ ،‬فتسقط حصّتها من الثّمن عن‬
‫المشتري‪ ،‬كما لو أتلف جزءا من المبيع ‪ ،‬وكما لو أتلفها أجنبيّ ‪.‬‬
‫وإذا هلكت بآفة سماويّة ‪ ،‬كما لو هلك الثّمر ‪ ،‬فل تضمن ‪ ،‬لنّها كالوصاف ‪ ،‬ل يقابلها‬
‫شيء من الثّمن ‪ ،‬وإنّها وإن كانت مبيعةً ‪ ،‬لكنّها مبيعة تبعا ل قصدا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أمّا لو هلكت بعد أن قبضها المشتري ‪ ،‬أو أتلفها هو ‪ ،‬فهي غير مضمونة بقبضه ‪،‬‬
‫ولها حصّتها من الثّمن ‪ ،‬فيقسم الثّمن على قيمة الصل يوم العقد وعلى قيمة الزّيادة يوم‬
‫القبض ‪.‬‬
‫ولو أتلفها أجنبيّ ‪ ،‬ضمنها بل خلف ‪ ،‬لكن المشتري بالخيار ‪ :‬إن شاء فسخ العقد ‪،‬‬
‫ويرجع البائع على الجاني بضمان الجناية ‪ ،‬وإن شاء اختار البيع ‪ ،‬واتّبع الجاني‬
‫بالضّمان ‪ ،‬وعليه جميع الثّمن كما لو أتلف الصل ‪.‬‬
‫الضّمان في البيع الباطل ‪:‬‬
‫‪ -‬جمهور الفقهاء ل يفرّقون في قواعدهم العامّة بين البيع الباطل ‪ ،‬والبيع الفاسد‬ ‫‪34‬‬

‫والحنفيّة هم الّذين فرّقوا بينهما ‪.‬‬


‫ل ‪ ،‬ول حكم لهذا البيع ‪ ،‬لنّ الحكم للموجود ‪ ،‬ول وجود‬
‫والبيع الباطل ل يثبت الملك أص ً‬
‫لهذا البيع إلّ من حيث الصّورة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪11‬‬ ‫والبيع الباطل ف‬ ‫‪27‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪26‬‬ ‫وفي ضمانه تفصيل ينظر في ‪ ( :‬بطلن ف‬
‫ضمان البيع الفاسد ‪:‬‬
‫صحّة فهو فاسد كأن كان في المبيع جهالة ‪ ،‬كبيع شاة‬
‫‪ -‬كلّ بيع فاته شرط من شروط ال ّ‬ ‫‪35‬‬

‫من قطيع ‪ ،‬أو غرر كبيع بقرة على أنّها تحلب كذا في اليوم ‪ ،‬أو كان منهيّا عنه ‪ ،‬كبيع‬
‫الطّعام قبل قبضه ‪ ،‬وبيع العينة ‪.‬‬
‫ومع التّفاق على وجوب فسخه ‪ ،‬وخبث الرّبح النّاشئ عنه ‪ ،‬فقد اختلف في ضمان المبيع‬
‫فيه بعد قبضه ‪ ،‬وملكه ‪:‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه وإن كان ل يملك بالقبض ‪ ،‬ول ينفذ التّصرّف فيه ببيع ول‬
‫هبة ‪ ،‬لكنّه يضمن ضمان الغصب ‪ ،‬وعليه مؤنة ردّه كالمغصوب ‪ ،‬وإن نقص ضمن‬
‫نقصانه‪ ،‬وزوائده مضمونة ‪ ،‬وفي تعيّبه أرش النّقص ‪ ،‬وفي تلفه وإتلفه الضّمان ‪.‬‬
‫وعلّله ابن قدامة بأنّه مضمون بعقد فاسد ‪ ،‬فلم يملكه ‪ ،‬كالميتة ‪ ،‬فكان مضمونا في‬
‫جملته ‪ ،‬فأجزاؤه مضمونة أيضا ‪.‬‬
‫ومذهب الحنفيّة أنّ البيع الفاسد يفيد الملك إذا اتّصل به القبض ‪ ،‬ولم يكن فيه خيار شرط‬
‫لحديث بريرة المعروف ‪ ،‬ولصدور العقد من أهله ووقوعه في محلّه ‪ ،‬لكنّه ملك خبيث حرام‬
‫لمكان النّهي ‪ ،‬وهذا هو الصّحيح ‪ ،‬المختار عندهم ‪.‬‬
‫ويكون مضمونا في يد المشتري ‪ ،‬ويلزمه مثله إن كان مثليّا ‪ ،‬وقيمته إن كان قيميّا ‪ ،‬بعد‬
‫هلكه أو تعذّر ردّه ‪.‬‬
‫ومذهب المالكيّة أنّ المشتري إذا قبض المبيع في البيع الفاسد ‪ ،‬دخل في ضمانه ‪ ،‬لنّه لم‬
‫يقبضه على جهة المانة ‪ ،‬وإنّما قبضه على جهة التّمليك ‪ ،‬بحسب زعمه ‪ ،‬وإن لم ينتقل‬
‫إليه الملك بحسب المر نفسه ‪.‬‬
‫ي على أنّ ملك الفاسد ل ينتقل إلى المشتري بقبضه ‪ ،‬بل ل ب ّد من فواته ‪ -‬سواء‬
‫ونصّ الب ّ‬
‫أنقد الثّمن أم ل ‪ -‬قال ابن الحاجب ‪ :‬ل ينتقل الملك فيه إلّ بالقبض والفوات ‪.‬‬
‫والفوات ‪ -‬كما يقول ابن جزيّ ‪ -‬يكون بخمسة أشياء ‪ ،‬ذكر منها تغيّر الذّات والتّعيّب‬
‫وتعلّق حقّ الخرين ‪. ...‬‬
‫‪ -‬وفي وقت تقدير قيمة المبيع بيعا فاسدا خلف بين الفقهاء ‪:‬‬ ‫‪36‬‬

‫فعند جمهور الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬تجب القيمة يوم القبض ‪ ،‬وذلك لنّ به يدخل في ضمانه ‪،‬‬
‫ل من يوم العقد ‪ ،‬لنّ ما يضمن يوم العقد هو العقد الصّحيح ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة وهو وجه عند الشّافعيّة وقول محمّد من الحنفيّة ‪ :‬أنّه تعتبر قيمته يوم‬
‫ن بهما يتقرّر الضّمان كما يقول محمّد ‪.‬‬
‫التلف أو الهلك ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعلّله الحنابلة بأنّه قبضه بإذن مالكه فأشبه العاريّة وهي مضمونة عندهم ‪.‬‬
‫والمذهب عند الشّافعيّة اعتبار أقصى القيمة ‪ ،‬في المتقوّم ‪ ،‬من وقت القبض إلى وقت‬
‫التّلف‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬أيضا ‪ -‬وجه ذكره الحنابلة في الغصب ‪ ،‬وهو هاهنا كذلك ‪ ،‬كما يقول المقدسيّ ‪.‬‬
‫‪ -‬ولو نقص المبيع بيعا فاسدا ‪ ،‬وهو في يد المشتري ‪ ،‬فالتّفاق على أنّ النّقص‬ ‫‪37‬‬

‫مضمون عليه ‪ ،‬وذلك ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬للتّعيّب ‪.‬‬
‫ن جملة المبيع مضمونة ‪ ،‬فتكون أجزاؤها مضمونةً أيضا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ول ّ‬
‫‪ -‬ولو زاد المبيع بيعا فاسدا بعد قبضه ‪ ،‬زياد ًة منفصلةً كالولد والثّمرة ‪ ،‬أو متّصلةً‬ ‫‪38‬‬

‫كالسّمن ‪ ،‬فهو مضمون على المشتري ‪ -‬كزوائد المغصوب ‪ -‬كما قال النّوويّ ‪.‬‬
‫وعدم ضمان الزّيادة هو ‪ -‬أيضا ‪ -‬وجه شا ّذ عند الشّافعيّة ‪ ،‬ذكره النّوويّ ‪.‬‬
‫والحنابلة قالوا ‪ :‬إذا تلفت العين بعد الزّيادة ‪ ،‬أسقطت الزّيادة من القيمة ‪ ،‬وضمنها بما بقي‬
‫من القيمة حين التّلف ‪.‬‬
‫وذكر المقدسيّ فيه احتمالين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أحدهما ‪ :‬الضّمان ‪ ،‬لنّها زيادة في عين مضمونة ‪ ،‬فأشبهت الزّيادة في المغصوب ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬والخر ‪ :‬عدم الضّمان ‪ ،‬لنّه دخل على أن ل يكون في مقابلة الزّيادة عوض ‪ ،‬فعلى‬
‫هذا تكون الزّيادة أمانةً في يده ‪ :‬إن هلكت بتفريطه أو عدوانه ‪ ،‬ضمنها ‪ ،‬وإلّ فل ‪.‬‬
‫والحنفيّة قرّروا أنّ الزّيادة أربعة أنواع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الزّيادة المنفصلة المتولّدة من الصل ‪ ،‬كالولد ‪ ،‬فهذه يضمنها بالستهلك ل بالهلك ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الزّيادة المنفصلة غير المتولّدة من الصل ‪ ،‬كالكسب ‪ ،‬ل تضمن بالستهلك ‪ ،‬عند‬
‫المام ‪ ،‬وعند صاحبيه تضمن بالستهلك ‪ ،‬ل بالهلك ‪ ،‬كالمنفصلة المتولّدة ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬الزّيادة المتّصلة المتولّدة من الصل ‪ ،‬كالسّمن ‪ ،‬يضمنها بالستهلك ل بالهلك ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الزّيادة المتّصلة غير المتولّدة من الصل ‪ ،‬كالصّبغ والخياطة ‪ - ،‬فإنّها ملك‬
‫المشتري ‪ ،‬وهلكها أو استهلكها من حسابه ‪ -‬وإنّما الخلف في هذه من حيث الفسخ ‪:‬‬
‫فعند المام يمتنع الفسخ فيها ‪ ،‬وتلزم المشتري قيمتها ‪.‬‬
‫وعندهما ‪ :‬ينقضها البائع ‪ ،‬ويستردّ المبيع ‪.‬‬
‫وما سواها ل يمنع الفسخ ‪.‬‬
‫ولو هلك المبيع فقط ‪ ،‬دون الزّيادة المنفصلة ‪ ،‬فللبائع أخذ الزّيادة ‪ ،‬وأخذ قيمة المبيع يوم‬
‫القبض ‪.‬‬
‫ولو هلك المبيع فقط ‪ ،‬دون الزّيادة المنفصلة ‪ ،‬غير المتولّدة ‪ ،‬كالكسب ‪ ،‬فللبائع أخذها مع‬
‫تضمين المبيع ‪ ،‬لكن ل تطيب له ‪ ،‬ويتصدّق بها ‪.‬‬
‫ن ضمانه‬
‫‪ -‬إذا استغلّ المشتري المبيع بيعا فاسدا ‪ ،‬بعد أن قبضه ‪ ،‬ل يردّ غلّته ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪39‬‬

‫منه‪ ،‬و " الخراج بالضّمان " ‪.‬‬


‫والخراج هو ‪ :‬الغلّة الحاصلة من المبيع ‪ ،‬كأجرة الدّابّة ‪ ،‬وكلّ ما خرج من شيء فهو‬
‫خراجه ‪ ،‬فخراج الشّجر ثمره ‪ ،‬وخراج الحيوان درّه ونسله ‪.‬‬
‫وإذا أنفق عليه ل يرجع على بائعه بنفقته ‪ ،‬لنّ من له الغلّة عليه النّفقة ‪ ،‬فإن لم يكن له‬
‫غلّة ‪ ،‬فله الرّجوع بالنّفقة ‪.‬‬
‫وإذا أحدث فيه ‪ ،‬ما له عين قائمة ‪ ،‬كبناء وصبغ ‪ ،‬رجع بذلك على البائع ‪ ،‬مع كون الغلّة‬
‫له‪ ،‬كسكناه ولبسه ‪.‬‬
‫والزّيادة المنفصلة ‪ ،‬غير المتولّدة من الصل ‪ ،‬كالكسب ‪ ،‬ل تضمن بالستهلك عند أبي‬
‫حنيفة ‪ ،‬فهو كمذهب المالكيّة ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬الخراج بالضّمان « ‪.‬‬
‫وعند الصّاحبين تضمن بالستهلك ل بالهلك ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ غلت المبيع بيعا فاسدا مضمونة على كلّ حال ‪ ،‬كمنافع‬
‫المغصوب ‪.‬‬
‫ونصّ الشّافعيّة على أنّه تلزمه أجرة المثل ‪ ،‬للمدّة الّتي كان في يده ‪ ،‬وذلك للمنفعة ‪ ،‬وإن‬
‫لم يستوفها ‪ ،‬وكذلك نصّوا على أنّه متى حكم بأنّه غاصب للدّار أو لبعضها ضمن الجرة ‪.‬‬
‫ن أجرة مثل المبيع بيعا فاسدا مدّة بقائه في يده تجب على المشتري‬
‫ونصّ المقدسيّ على أ ّ‬
‫وعليه ردّها ‪.‬‬
‫ضمان المقبوض على سوم الشّراء ‪:‬‬
‫‪ -‬المقبوض على سوم الشّراء ‪ :‬هو أن يقبض المساوم المبيع ‪ ،‬بعد معرفة الثّمن ‪،‬‬ ‫‪40‬‬

‫وبعد الشّراء ‪ ،‬فيقول للبائع ‪ :‬هاته ‪ ،‬فإن رضيته اشتريته ‪.‬‬


‫ول بدّ فيه عند الحنفيّة من توافر شرطين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون الثّمن مس ّمىً في العقد ‪ ،‬من البائع أو المشتري ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وأن يكون القبض بقصد الشّراء ‪ ،‬ل لمجرّد النّظر ‪.‬‬
‫ويضمنه القابض في هذه الحال ‪ ،‬إذا هلك في يده ‪ ،‬بالقيمة بالغةً ما بلغت يوم القبض ‪ ،‬كما‬
‫في البيع الفاسد ‪ ،‬خلفا للطّرسوسيّ الّذي ذهب إلى أنّه ينبغي أن ل يزاد بها على‬
‫المسمّى ‪ ،‬كما في الجارة الفاسدة ‪.‬‬
‫أمّا لو استهلكه فيجب فيه الثّمن ل القيمة ‪ ،‬لنّه بالستهلك يعتبر راضيا بإمضاء العقد‬
‫بثمنه‪.‬‬
‫ي من الشّافعيّة ‪ :‬المأخوذ بالسّوم مضمون كلّه إن أخذه لشراء كلّه ‪ ،‬وإلّ فقدر‬
‫وقال القليوب ّ‬
‫ما يريد شراءه ‪.‬‬
‫وفي كشّاف القناع ‪ :‬المقبوض على وجه السّوم مضمون إذا تلف مطلقا ‪ ،‬لنّه مقبوض‬
‫على وجه البدل والعوض ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا المقبوض على سوم النّظر ‪ ،‬فهو أن يقول المساوم ‪ :‬هاته حتّى أنظر إليه ‪ ،‬أو‬ ‫‪41‬‬

‫حتّى أريه غيري ‪ ،‬ول يقول ‪ :‬فإن رضيته أخذته فهذا غير مضمون مطلقا بل هو أمانة ‪،‬‬
‫ذكر الثّمن أو ل ‪ ،‬ويضمن بالستهلك ‪.‬‬
‫والفرق بينهما ‪ -‬كما حرّره ابن عابدين ‪: -‬‬
‫أ ‪ -‬أنّ المقبوض على سوم الشّراء ل ب ّد فيه من ذكر الثّمن ‪ ،‬أمّا الخر فل يذكر فيه ثمن ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وأنّه ل بدّ أن يقول المشتري ‪ :‬إن رضيته أخذته ‪ .‬فلو قال ‪ :‬حتّى أراه لم يكن‬
‫مقبوضا على سوم الشّراء ‪ ،‬وإن صرّح البائع بالثّمن ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة إن أخذ إنسان شيئا بإذن ربّه ليريه الخذ أهله فإن رضوه أخذه وإلّ ردّه من‬
‫غير مساومة ول قطع ثمن فل يضمنه إذا تلف بغير تفريط ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد القسمة ‪:‬‬
‫‪ -‬تشتمل القسمة على الفراز والمبادلة ‪.‬‬ ‫‪42‬‬

‫والفراز ‪ :‬أخذ الشّريك عين حقّه ‪ ،‬وهو ظاهر في المثليّات ‪.‬‬


‫والمبادلة ‪ :‬أخذه عوض حقّه ‪ ،‬وهو ظاهر في غير المثليّات ‪.‬‬
‫ولوجود وصف المبادلة فيها ‪ ،‬كانت عقد ضمان ‪.‬‬
‫ويد كلّ شريك على المشترك قبل القسمة ‪ ،‬يد أمانة ‪ ،‬وبعدها يد ضمان ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬يخوّله حقّ التّصرّف المطلق‬
‫وإذا قبض كلّ شريك نصيبه بعد القسمة ‪ ،‬ملكه ملكا مستق ً‬
‫فيه ‪ ،‬وإذا هلك في يده هلك من ضمانه هو فقط ‪.‬‬
‫( انظر ‪ :‬قسمة ) ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد الصّلح عن المال بمال ‪:‬‬
‫‪ -‬يعتبر هذا النّوع من الصّلح بمثابة البيع ‪ ،‬لنّه مبادلة كالبيع ‪ ،‬ولهذا قال الكاسانيّ ‪:‬‬ ‫‪43‬‬

‫الصل أنّ كلّ ما يجوز بيعه وشراؤه ‪ ،‬يجوز الصّلح عليه وما ل فل ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬ال صّلح على غ ير المدّ عى ‪ -‬به ‪ -‬ب يع ‪ ،‬فتشترط ف يه شروط الب يع والب يع‬
‫أبرز عقود الضّمان ‪ ،‬فكذلك الصّلح عن المال بمال ‪.‬‬
‫فإذا قبض المصالح عليه ‪ ،‬وهو بدل الصّلح ‪ ،‬وهلك في يد المصالح ‪ ،‬هلك من ضمانه ‪،‬‬
‫كما لو هلك المبيع بعد قبضه في عقد البيع ‪ ،‬في يد المشتري ‪.‬‬
‫( انظر ‪ :‬صلح ) ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد التّخارج ‪:‬‬
‫‪ -‬التّخارج ‪ :‬اصطلح الورثة على إخراج بعضهم من التّركة ‪ ،‬بشيء معلوم ‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫ويعتبر بمثابة تنازل أحد الورثة عن نصيبه من التّركة ‪ ،‬في مقابل ما يتسلّمه من المال ‪،‬‬
‫عقارا كان أو عروضا أو نقودا ‪ ،‬فيمكن اعتباره بيعا ‪ ،‬فإذا قبض المخرج من التّركة بدل‬
‫المخارجة أخذ حكم المبيع بعد قبضه ‪ ،‬تملّكا وتصرّفا واستحقاقا ‪ ،‬فإذا هلك هلك من حسابه‬
‫الخاصّ ‪ ،‬كالمبيع إذا هلك في يد المشتري بعد قبضه ‪ ،‬وهذا لنّه أمكن اعتباره بيعا ‪ ،‬فكان‬
‫مضمونا كضمان المبيع ‪.‬‬
‫( انظر ‪ :‬تخارج ) ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد القرض ‪:‬‬
‫‪ -‬يشبه القرض العاريّة في البتداء ‪ ،‬لما فيه من الصّلة ‪ ،‬والمعاوضة في النتهاء ‪،‬‬ ‫‪45‬‬

‫لوجود ر ّد المثل ‪ ،‬لكنّه ليس بتبرّع محض ‪ ،‬لمكان العوض ‪ ،‬وليس جاريا على حقيقة‬
‫المعاوضات ‪ ،‬بدليل الرّجوع فيه ما دام باقيا ‪.‬‬
‫ويملك القرض بالقبض ‪ ،‬كالموهوب ‪ -‬عند الجمهور ‪ -‬لنّه ل يتمّ التّبرّع إلّ بالقبض ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ ،‬وفي قول للشّافعيّة ‪ ،‬بالتّصرّف والعقد ‪.‬‬
‫فإذا قبضه المقترض ‪ ،‬ضمنه ‪ ،‬كلّما هلك ‪ ،‬بآفة أو تعدّ منه أو من غيره ‪ ،‬كالمبيع‬
‫والموهوب بعد القبض ‪ ،‬لنّ قبضه قبض ضمان ‪ ،‬ل قبض حفظ وأمانة كقبض العاريّة ‪.‬‬
‫ن المقبوض بقرض فاسد كالمقبوض ‪ ،‬ببيع فاسد ‪ ،‬سواء ‪ ،‬فإذا‬
‫ص الحنفيّة على أ ّ‬
‫‪ -‬ون ّ‬ ‫‪46‬‬

‫هلك ضمنه المقترض فيحرم النتفاع به ‪ ،‬لكن يصحّ بيعه ‪ ،‬لثبوت الملك ‪ ،‬وإن كان البيع ل‬
‫ن الفاسد يجب فسخه ‪ ،‬والبيع مانع من الفسخ ‪ ،‬فل يحلّ ‪ ،‬كما ل تحلّ سائر‬
‫يحلّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫التّصرّفات المانعة من الفسخ ‪.‬‬
‫والقرض الفاسد يملك بقبضه ‪ ،‬ويضمن بمثله أو قيمته ‪ ،‬كبيع فسد ‪.‬‬
‫ولو أقرض صبيّا ‪ ،‬فهلك القرض في يده ‪ ،‬ل يضمن بالتّفاق ‪ ،‬عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّه سلّطه‬
‫عليه ‪.‬‬
‫أمّا لو استهلكه الصّبيّ ‪ ،‬فالحكم كذلك عند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬وعند أبي يوسف يضمن‬
‫بالتّعمّد والستهلك ‪ .‬قال في الخانيّة ‪ :‬وهو الصّحيح ‪.‬‬
‫وهذا إذا كان الصّبيّ غير مأذون له بالبيع فإن كان مأذونا له بالبيع ‪ ،‬كان كالبائع ‪ ،‬يضمن‬
‫القرض ‪ ،‬بالهلك والستهلك ‪.‬‬
‫( انظر ‪ :‬قرض ) ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد الزّواج ‪:‬‬
‫‪ -‬ل بدّ من المهر في عقد الزّواج ‪ ،‬فيجري فيه الضّمان ‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫فإن كان المهر دينا ‪ ،‬ثبت في ال ّذمّة ‪.‬‬


‫وإن كان عينا معيّنةً ‪ ،‬فإنّ الزّوجة تملكها بمجرّد العقد ‪ ،‬ويجب على الزّوج أن يسلّمها‬
‫العين‪ ،‬ولو لم تتسلّمها بقيت في ضمان الزّوج ما دامت في يده ‪ ،‬عينا مضمونةً بنفسها ‪،‬‬
‫ن المضمون‬
‫لنّها غير مقابلة بمال ‪ ،‬فإذا هلكت قبل تسليمها إلى الزّوجة ‪ :‬فالحنفيّة يرون أ ّ‬
‫في هذه الحال ‪ ،‬هو قيمة العين أو مثلها ‪ ،‬كسائر العيان المضمونة بنفسها ‪ ،‬كالمغصوب ‪،‬‬
‫والمبيع بيعا فاسدا ‪ ،‬وبدل الصّلح عن دم ‪ ،‬والمقبوض على سوم الشّراء ‪ .‬ول يبطل‬
‫الزّواج بهلك بدل المهر ‪.‬‬
‫والمنصوص عند الشّافعيّة ‪ ،‬أنّه لو أصدق عينا ‪ ،‬فهي من ضمانه قبل قبضها ‪ ،‬ضمان‬
‫عقد‪ ،‬ل ضمان يد ‪ ،‬ولو تلفت في يده أو أتلفها هو ‪ ،‬وجب لها مهر مثلها ‪ ،‬لنفساخ عقد‬
‫الصّداق بالتّلف ‪.‬‬
‫( انظر ‪ :‬مهر ) ‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك الخلع ‪ ،‬ويجري فيه الضّمان ‪ ،‬فلو خالعته على عين معيّنة ‪ ،‬وهلكت العين قبل‬ ‫‪48‬‬

‫الدّفع إلى الزّوج ‪ :‬فمذهب الحنفيّة ‪ :‬أنّ عليها مثلها أو قيمتها ‪.‬‬
‫قال الحصكفيّ ‪ :‬ولو هلك بدله ‪ -‬يعني بدل الخلع ‪ -‬في يدها ‪ ،‬قبل الدّفع ‪ ،‬أو استحقّ ‪،‬‬
‫فعليها قيمته لو البدل قيميّا ‪ ،‬ومثله لو مثليّا ‪ ،‬لنّ الخلع ل يقبل الفسخ ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة أنّ عليها مهر مثلها ‪.‬‬
‫( انظر ‪ :‬خلع ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الضّمان في عقود المانة ‪:‬‬
‫ضمان الوديعة ‪:‬‬
‫‪ -‬تعتبر الوديعة من عقود المانة ‪ ،‬وهي أمانة في يد المودع ‪ -‬أو الوديع ‪ -‬فهو أمين‬ ‫‪49‬‬

‫ي ‪ ،‬إلّ أن يحدث التّلف بتعدّيه أو‬


‫غير ضامن لما يصيب الوديعة ‪ ،‬من تلف جزئيّ أو كلّ ّ‬
‫تقصيره أو إهماله ‪.‬‬
‫وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء ‪ ،‬ويشهد له ما روي عن عبد اللّه بن عمرو رضي ال‬
‫عنهما عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ليس على المستعير غير المغلّ ضمان ‪ ،‬ول‬
‫على المستودع غير المغلّ ضمان « ‪.‬‬
‫والمغلّ هو ‪ :‬الخائن ‪ ،‬في المغنم وغيره ‪.‬‬
‫وما روي ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬من‬
‫أودع وديعةً فل ضمان عليه « ‪.‬‬
‫و من أ سباب الضّمان في الودي عة التّعدّي أو التّق صير أو الهمال ‪ ،‬وين ظر تف صيل ذلك في‬
‫مصطلح ‪ ( :‬وديعة ) ‪.‬‬
‫ضمان العاريّة ‪:‬‬
‫ص ابن رشد ‪-‬‬
‫‪ -‬مشهور مذهب الشّافعيّ ‪ ،‬ومذهب أحمد ‪ ،‬وأحد قولي مالك ‪ -‬كما ن ّ‬ ‫‪50‬‬

‫وقول أشهب من المالكيّة ‪ ،‬أنّ العاريّة مضمونة ‪ ،‬سواء أتلفت بآفة سماويّة ‪ ،‬أم تلفت بفعل‬
‫المستعير ‪ ،‬بتقصير أو بغير تقصير وهو مرويّ عن ابن عبّاس وأبي هريرة ‪ ،‬وإليه ذهب‬
‫عطاء وإسحاق ‪ ،‬واستدلّوا ‪ :‬بحديث جابر بن عبد اللّه رضي ال عنهما ‪ » :‬أنّ النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم استعار من صفوان بن أميّة أدرعا ‪ ،‬يوم حنين ‪ ،‬فقال ‪ :‬أغصبا يا‬
‫محمّد ؟ قال ‪ :‬بل عاريّة مضمونة « وفي رواية ‪ » :‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬أعاريّة مؤدّاة ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬نعم عاريّة مؤدّاة « ‪.‬‬
‫وحديث الحسن عن سمرة رضي ال عنه ‪ ،‬عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪:‬‬
‫» على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « ‪.‬‬
‫ولنّه أخذ ملك غيره ‪ ،‬لنفع نفسه ‪ ،‬منفردا بنفعه ‪ ،‬من غير استحقاق ول إذن ‪ ،‬فكان‬
‫مضمونا ‪ ،‬كالغاصب ‪ ،‬والمأخوذ على وجه السّوم ‪.‬‬
‫ومذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول ضعيف عند الشّافعيّة أنّ العاريّة أمانة عند المستعير ‪ ،‬فل‬
‫تضمن إذا هلكت من غير تعدّ ول تقصير وذلك لحديث ‪ » :‬ليس على المستعير غير المغلّ‬
‫ضمان « ‪.‬‬
‫ول نّ عقد العاريّة تمليك أو إباحة للمنفعة ‪ ،‬ول تعرّض فيه للعين ‪ ،‬وليس في قبضها تعدّ ‪،‬‬
‫لنّه مأذون فيه ‪ ،‬فانتفى سبب وجوب الضّمان ‪.‬‬
‫وإنّما يتغيّر حال العاريّة من المانة إلى الضّمان ‪ ،‬بما يتغيّر به حال الوديعة ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى تضمين المستعير ما يغاب عليه من العاريّة ‪ ،‬وهو ‪ :‬ما يمكن إخفاؤه‬
‫ي والكتب ‪ ،‬إلّ أن تقوم البيّنة على هلكها أو ضياعها بل سبب منه فل‬
‫كالثّياب والحل ّ‬
‫يضمن حينئذ ‪ ،‬خلفا لشهب القائل ‪ :‬إنّ ضمان العواريّ ضمان عداء ‪ ،‬ل ينتفي بإقامة‬
‫البيّنة كما ذهبوا إلى عدم تضمينه ما ل يغاب عليه ‪ ،‬كالحيوان والعقار ‪ ،‬فل يضمنه‬
‫المستعير ‪ ،‬ولو شرط عليه المعير الضّمان ‪ ،‬ولو كان لمر خافه ‪ ،‬من طريق مخوف أو‬
‫ي‪.‬‬
‫لصوص على المعتمد كما قرّره الدّسوق ّ‬
‫أمّا لو شرط المستعير نفي الضّمان عن نفسه ‪ ،‬فيما يغاب عليه ‪ ،‬فلهم فيه قولن ‪:‬‬
‫ن الشّرط يزيده تهمةً ‪ ،‬ولنّه من إسقاط‬
‫أحدهما ‪ :‬أنّه ل عبرة بالشّروط ‪ ،‬ويضمن ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحقّ قبل وجوبه ‪ ،‬فل يعتبر ‪.‬‬
‫الخر ‪ :‬أنّه يعتبر الشّرط ‪ ،‬ول يضمن ‪ ،‬لنّه معروف من وجهين ‪ :‬فالعاريّة معروف ‪،‬‬
‫ن المؤمنين عند شروطهم كما جاء في الحديث ‪:‬‬
‫وإسقاط الضّمان معروف آخر ‪ ،‬ول ّ‬
‫» المسلمون عند شروطهم « ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪17‬‬ ‫وفي كيفيّة ضمان العاريّة ووقته تفصيل ينظر في ‪ ( :‬إعارة ف‬
‫الضّمان في الشّركة ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّركة قسمان ‪ -‬كما يقول الحنابلة ‪ -‬شركة أملك وشركة عقد ‪.‬‬ ‫‪51‬‬

‫ق صاحبه ‪ ،‬فل يجوز له التّصرّف‬


‫فالولى يعتبر فيها كلّ من الشّركاء ‪ ،‬كأنّه أجنبيّ في ح ّ‬
‫فيه بغير إذنه ‪ ،‬فإن فعل ضمن ‪.‬‬
‫ن يد أحد الشّركاء في مال الشّركة ‪ ،‬يد‬
‫والثّانية شركة أموال ‪ ،‬والفقهاء متّفقون على أ ّ‬
‫أمانة‪ ،‬وذلك لنّه قبضه بإذن صاحبه ‪ ،‬ل على وجه المبادلة ‪ ،‬كالمقبوض على سوم‬
‫الشّراء‪ ،‬ول على وجه الوثيقة كالرّهن ‪.‬‬
‫فإن قصّر في شيء أو تعدّى ‪ ،‬فهو ضامن ‪.‬‬
‫وكذلك كلّ ما كان إتلفا للمال ‪ ،‬أو كان تمليكا للمال بغير عوض ‪ ،‬لنّ الشّركة ‪ -‬كما يقول‬
‫الحصكفيّ ‪ -‬وضعت للسترباح وتوابعه ‪ ،‬وما ليس كذلك ل ينتظمه عقدها ‪ ،‬فيكون‬
‫مضمونا‪.‬‬
‫وكذا إذا مات مجهلً نصيب صاحبه ‪ ،‬إذا كان مال الشّركة ديونا على النّاس ‪ ،‬فإنّه يضمن ‪،‬‬
‫كما يضمن لو مات مجهلً عين مال الشّركة الّذي في يده ‪ ،‬وكذا بقيّة المانات ‪ ،‬إلّ إذا كان‬
‫يعلم أنّ وارثه يعلم ذلك ‪ ،‬فل يضمن ‪.‬‬
‫ولو هلك شيء من أموال الشّركة في يده من غير تع ّد ول تفريط ‪ ،‬ل يضمنه لنّه أمين ‪.‬‬
‫ن المال هو‬
‫أمّا لو هلك مال الشّريكين ‪ ،‬أو مال أحدهما قبل التّصرّف فتبطل الشّركة ‪ ،‬ل ّ‬
‫المعقود عليه فيها ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد المضاربة ‪:‬‬
‫‪ -‬يعتبر المضارب أمينا في مال المضاربة وأعيانها ‪ ،‬لنّه متصرّف فيه بإذن مالكه ‪،‬‬ ‫‪52‬‬

‫ص بنفع‬
‫ص بنفعه ‪ ،‬فكان أمينا ‪ ،‬كالوكيل ‪ ،‬وفارق المستعير ‪ ،‬لنّه يخت ّ‬
‫على وجه ل يخت ّ‬
‫العاريّة ‪.‬‬
‫ب المال ‪ ،‬فيصبح عندئذ غاصبا ‪.‬‬
‫وهذا ما لم يخالف ما قيّده به ر ّ‬
‫ومع اختلف الفقهاء في جواز تقييد المضارب ببعض القيود ‪ ،‬لنّه مفيد ‪ ،‬كما يقول‬
‫الكاسانيّ ‪ ،‬وفي عدم الجواز لما فيه من التّحجير الخارج عن سنّة القراض كما يقول‬
‫الدّردير‪ ،‬كالتّجار بالدّين ‪ ،‬واليداع ‪ ،‬لكن هناك قيودا ‪ ،‬ل تجوز له مخالفتها ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫ب المال ‪ ،‬وهذا لما فيه من الخطر ‪ ،‬والتّعريض للتّلف ‪ ،‬فلو‬
‫أ ‪ -‬السّفر إذا لم يأذن به ر ّ‬
‫سافر بالمال بغير إذنه ‪ ،‬ضمنه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا قيّده بأن ل يسافر ببحر ‪ ،‬أو يبتاع سلعةً عيّنها له ‪ ،‬فخالفه ‪ ،‬ضمن ‪.‬‬
‫ن الشّيء ل‬
‫ج ‪ -‬وإذا دفع مال المضاربة قراضا ‪ -‬أي ضارب فيه ‪ -‬بغير إذن ‪ ،‬ضمن ل ّ‬
‫يتضمّن مثله إلّ بالتّنصيص عليه ‪ ،‬أو التّفويض إليه ‪.‬‬
‫ضمان المضارب في غير المخالفات العقديّة ‪:‬‬
‫‪ -‬المضارب وإن كان أمينا ‪ ،‬لكنّه يضمن ‪ -‬في غير المخالفات العقديّة ‪ -‬فيما يلي ‪:‬‬ ‫‪53‬‬

‫أ ‪ -‬إذا باع بأق ّل من ثمن المثل ‪ ،‬أو اشترى بأكثر منه ‪ ،‬ممّا ل يتغابن فيه النّاس ‪ ،‬ضمن ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا تصدّق بشيء من مال القراض ‪ ،‬أو أنفق من مال المضاربة في الحضر ‪ ،‬على‬
‫ن النّفقة جزاء الحتباس ‪ ،‬فإذا كان في مصره ل يكون‬
‫نفسه أو على من يموّله ‪ ،‬ضمن ‪ ،‬ل ّ‬
‫محتبسا ‪.‬‬
‫أمّا لو أنفق في السّفر ‪ ،‬ففيه خلف وأوجه وشروط في انتفاء ضمانه ‪.‬‬
‫تنظر في مصطلح ‪ ( :‬مضاربة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إذا هلك مال المضاربة في يده ‪ ،‬بسبب تعدّيه أو تقصيره أو تفريطه ‪ ،‬فإنّه يضمنه ‪،‬‬
‫وإلّ فالخسران والضّياع على ربّ المال ‪ ،‬دون العامل ‪ ،‬لنّه أمين ‪ ،‬كالوديع ‪.‬‬
‫ولو هلك في يده من غير تفريط ‪ ،‬ل يضمنه ‪ ،‬لنّه متصرّف فيه بإذن مالكه ‪ ،‬على وجه ل‬
‫يختصّ بنفعه ‪.‬‬
‫د ‪ -‬إذا أتلف العامل مال القراض ‪ -‬المضاربة ‪ -‬ضمنه ‪ ،‬ووجب عليه بدله ‪ ،‬لكن يرتفع‬
‫القراض ‪ ،‬لنّه وإن وجب عليه بدله ‪ ،‬لكن ل يدخل في ملك المالك إلّ بالقبض ‪ ،‬فيحتاج إلى‬
‫استئناف القراض ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد الوكالة ‪:‬‬
‫‪ -‬الوكيل أمين وذلك لنّه نائب عن الموكّل ‪ ،‬في اليد والتّصرّف ‪ ،‬فكانت يده كيده ‪،‬‬ ‫‪54‬‬

‫والهلك في يده كالهلك في يد المالك ‪ ،‬كالوديع ‪.‬‬


‫ولنّ الوكالة عقد إنفاق ومعونة ‪ ،‬والضّمان مناف لذلك ‪.‬‬
‫وعلى هذا ل يضمن الوكيل ما تلف في يده بل تعدّ ‪ ،‬وإن تعدّى ضمن ‪ ،‬وك ّل ما يتعدّى فيه‬
‫الوكيل مضمون ‪ ،‬عند من يرى أنّه تعدّى ‪ -‬كما يذكر ابن رشد ‪. -‬‬
‫‪ -‬الوكيل بالشّراء يتقيّد شراؤه بمثل القيمة وغبن يسير ‪ -‬وهو ما يدخل تحت تقويم‬ ‫‪55‬‬

‫المقوّمين ‪ -‬إذا لم يكن سعره معروفا ‪ ،‬فإن كان سعره معروفا ‪ ،‬ل ينفذ على الموكّل وإن‬
‫قلّت الزّيادة ‪ " ،‬فيضمنها الوكيل " وهذا لنّ التّهمة في الكثر متحقّقة ‪ ،‬فلعلّه اشتراه لنفسه‬
‫فإذا لم يوافقه ألحقه بغيره ‪.‬‬
‫والوكيل بالبيع ‪ ،‬إذا كانت الوكالة مطلقةً ‪ ،‬ل يجوز بيعه ‪ ،‬إلّ بمثل القيمة ‪ ،‬عند الصّاحبين‬
‫ومالك والشّافعيّ ول يجوز بيعه بنقصان ل يتغابن النّاس في مثله ‪ ،‬ول بأقلّ ممّا قدّره له‬
‫الموكّل ‪ ،‬فلو باع كذلك كان ضامنا ‪ ،‬ويتقيّد مطلق الوكالة بالمتعارف ‪.‬‬
‫وممّا يضمنه الوكيل قبض الدّين ‪ ،‬وهو وكيل بالخصومة ‪.‬‬
‫ن الخصومة غير القبض حقيقةً ‪ ،‬وهي لظهار‬
‫والوكيل بالخصومة ل يملك القبض ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحقّ‪.‬‬
‫ن كلّ ما يعتدي‬
‫ويعتبر قبض الوكيل بالخصومة للدّين تعدّيا ‪ ،‬فيضمنه إن هلك في يده ‪ ،‬ل ّ‬
‫فيه الوكيل ‪ ،‬يضمنه عند من يرى أنّه تعدّى ‪ ،‬وهذا عند جمهور الفقهاء وهو المفتى به‬
‫عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ -‬وهناك أحكام تتعلّق بالضّمان في عقد الوكالة منها ‪:‬‬ ‫‪56‬‬

‫‪ -‬إذا اشترى الوكيل شيئا ‪ ،‬وأخّر تسليم الثّمن لغير عذر ‪ ،‬فهلك في يده ‪ ،‬فهو ضامن‬ ‫‪1‬‬

‫له‪ ،‬لنّه مفرّط في إمساكه ‪.‬‬


‫‪ -‬إذا قبض ثمن المبيع ‪ ،‬فهو أمانة في يده ‪ ،‬فإن طلبه الموكّل ‪ ،‬فأخّر ردّه مع إمكانه‬ ‫‪2‬‬

‫فتلف ‪ ،‬ضمنه ‪.‬‬


‫‪ -‬إذا دفع الوكيل دينا عن الموكّل ‪ ،‬ولم يشهد ‪ ،‬فأنكر الّذي له الدّين القبض ‪ ،‬ضمن‬ ‫‪3‬‬

‫الوكيل لتفريطه بعدم الشهاد ‪.‬‬


‫وقيّده الحنفيّة بأن يكون الموكّل قال له ‪ :‬ل تدفع إلّ بشهود ‪ ،‬فدفع بغير شهود ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا سلّم الوكيل المبيع قبل قبض ثمنه ‪ ،‬ضمن قيمته للموكّل ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وكذا إذا وكّله بشراء شيء ‪ ،‬أو قبض مبيع ‪ ،‬فإنّه ل يسلّم الثّمن حتّى يتسلّم المبيع ‪.‬‬
‫فلو سلّم الثّمن قبل تسلّم المبيع ‪ ،‬وهلك المبيع قبل تسلّمه ضمنه للموكّل ‪ ،‬إلّ بعذر ‪.‬‬
‫‪ -‬للوكيل بالشّراء نسيئةً أن يحبس المبيع لستيفاء الثّمن ‪ ،‬عند الحنفيّة ثمّ ‪:‬‬ ‫‪57‬‬

‫أ ‪ -‬إن هلك قبل الحبس ‪ ،‬يهلك على الموكّل ‪ ،‬ول يضمن الوكيل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإن هلك بعد الحبس ففيه تفصيل ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬يهلك بالثّمن ‪ ،‬هلك المبيع ‪ ،‬ويسقط الثّمن عن الموكّل في قول أبي حنيفة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ويهلك بأقلّ من قيمته ومن الثّمن ‪ ،‬عند أبي يوسف ‪ ،‬حتّى لو كان الثّمن أكثر من‬
‫قيمته رجع الوكيل بذلك الفضل على موكّله ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وقال ‪ :‬زفر يهلك على الوكيل هلك المغصوب ‪ ،‬لنّ الوكيل عنده ل يملك الحبس من‬
‫الموكّل ‪ ،‬فيصير غاصبا بالحبس ‪.‬‬
‫واشترط الشّافعيّة على الوكيل إذا باع إلى أجل ‪ ،‬أن يشهد ‪ ،‬وإلّ ضمن ‪ .‬وتردّدت النّقول ‪،‬‬
‫في أنّ عدم الشهاد ‪ ،‬شرط صحّة أو شرط للضّمان ‪.‬‬
‫ونقل الجمل أنّه إن سكت الموكّل عن الشهاد ‪ ،‬أو قال ‪ :‬بع وأشهد ‪ ،‬ففي الصّورتين يصحّ‬
‫البيع ‪ ،‬ولكن يجب على الوكيل الضّمان ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ( وكالة ) ‪.‬‬
‫ضمان الوصيّ في عقد الوصاية ‪ -‬أو اليصاء ‪: -‬‬
‫‪ -‬اليصاء ‪ :‬تفويض الشّخص التّصرّف في ماله ‪ ،‬ومصالح أطفاله ‪ ،‬إلى غيره ‪ ،‬بعد‬ ‫‪58‬‬

‫موته ‪.‬‬
‫ويعتبر الوصيّ نائبا عن الموصي ‪ ،‬وتصرّفاته نافذة ‪ ،‬ويده على مال المتوفّى يد أمانة ‪ ،‬فل‬
‫يضمن ما تلف من المال بدون تعدّ أو تقصير ‪ ،‬ويضمن في الحوال التّالية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إذا باع أو اشترى بغبن فاحش ‪ ،‬وهو ‪ :‬الّذي ل يدخل تحت تقويم المتقوّمين ‪ ،‬لنّ‬
‫وليته للنّظر ‪ ،‬ول نظر في الغبن الفاحش ‪.‬‬
‫ي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد الدراك ‪ ،‬قبل ظهور رشده ‪ ،‬لنّه دفعه‬
‫ب ‪ -‬كما يضمن الوص ّ‬
‫إلى من ليس له دفعه إليه ‪ ،‬وهذا مذهب الصّاحبين ‪.‬‬
‫ن له ولية الدّفع‬
‫وقال المام ‪ :‬بعدم الضّمان ‪ ،‬إذا دفعه إليه بعد خمس وعشرين سنةً ‪ ،‬ل ّ‬
‫إليه حينئذ ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ليس للوليّ التّجار في مال اليتيم لنفسه ‪ ،‬فإن فعل ‪ :‬فعند أبي حنيفة ومحمّد يضمن‬
‫رأس المال ‪ ،‬ويتصدّق بالرّبح ‪.‬‬
‫وعند أبي يوسف يسلّم له الرّبح ‪ ،‬ول يتصدّق بشيء ‪.‬‬
‫الضّمان في عقد الهبة ‪:‬‬
‫‪ -‬لمّا كانت الهبة عقد تبرّع ‪ ،‬فقد ذهب الفقهاء إلى أنّ قبض الهبة هو قبض أمانة ‪،‬‬ ‫‪59‬‬

‫ي ‪ -‬ل سبيل إلى الرّجوع في‬


‫فإذا هلكت أو استهلكت لم تضمن ‪ ،‬لنّه ‪ -‬كما يقول الكاسان ّ‬
‫الهالك ‪ ،‬ول سبيل إلى الرّجوع في قيمته ‪ ،‬لنّها ليست بموهوبة لنعدام ورود العقد عليها ‪.‬‬
‫وتضمن عند الحنفيّة في هاتين الحالين فقط ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬حال ما إذا طلب الواهب ردّها ‪ -‬لمر ما ‪ -‬وحكم القاضي بوجوب الرّدّ ‪ ،‬وامتنع‬
‫ن قبض الهبة قبض‬
‫الموهوب له من الرّدّ ‪ ،‬ثمّ هلكت بعد ذلك ‪ ،‬فإنّه يضمنها حينئذ ‪ ،‬ل ّ‬
‫أمانة‪ ،‬والمانة تضمن بالمنع والجحد بالطّلب ‪ ،‬لوجود التّعدّي منه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬حال ما إذا وهبه مشاعا قابلً للقسمة كالرض الكبيرة ‪ ،‬والدّار الكبيرة ‪ ،‬فإنّها هبة‬
‫صحيحة عند الجمهور ‪ ،‬لنّها عقد تمليك ‪ ،‬والمحلّ قابل له ‪ ،‬فأشبهت البيع لكنّها فاسدة‬
‫ن القبض شرط في الهبة ‪ ،‬وهو غير ممكن في المشاع ‪ ،‬ول ينفذ تصرّف‬
‫عند الحنفيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الموهوب له فيها ‪ ،‬وتكون مضمونةً عليه ‪ ،‬وينفذ تصرّف الواهب فيها ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬العقود المزدوجة الثر ‪:‬‬
‫ضمان الجارة ‪:‬‬
‫ن المنفعة ضربان ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كانت الجارة ‪ :‬تمليك المنفعة بعوض ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪60‬‬

‫أ ‪ -‬فقد تكون المنفعة بمجرّدها هي المعقود عليها ‪ ،‬وتتحدّد بالمدّة ‪ ،‬كإجارة الدّور‬
‫للسّكنى ‪ ،‬والحوانيت للتّجارة ‪ ،‬والسّيّارات للنّقل ‪ ،‬والواني للستعمال ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وقد تكون المنفعة المعقود عليها عملً معلوما يؤدّيه العامل ‪ ،‬كبناء الدّار ‪ ،‬وخياطة‬
‫الثّوب ‪ ،‬وإصلح الجهزة الليّة ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬فإذا كانت المنفعة المعقود عليها ‪ ،‬وهي مجرّد السّكنى أو الرّكوب ‪ ،‬أو نحوهما ‪،‬‬
‫يفرّق في الضّمان ‪ ،‬بين العين المأجورة ‪ ،‬وبين المنفعة المعقود عليها ‪:‬‬
‫ل ‪ -‬أمانةً في يد المستأجر ‪ ،‬حتّى‬
‫أ ‪ -‬فتعتبر الدّار المأجورة ‪ ،‬والسّيّارة المستأجرة ‪ -‬مث ً‬
‫لو خربت الدّار ‪ ،‬أو عطبت السّيّارة ‪ ،‬وهي في يده ‪ ،‬بغير تفريط ول تقصير ‪ ،‬ل ضمان‬
‫عليه ‪ ،‬لنّ قبض الجارة ‪ -‬كما يقول الكاسانيّ ‪ -‬قبض مأذون فيه ‪ ،‬فل يكون مضمونا ‪،‬‬
‫كقبض الوديعة والعاريّة ‪ ،‬سواء أكانت الجارة صحيح ًة أم فاسدةً ‪.‬‬
‫ن يد المستأجر على العين المأجورة يد أمانة كذلك ‪ ،‬بعد انتهاء عقد‬
‫ونصّ الشّافعيّة على أ ّ‬
‫الجارة ‪ ،‬إذا لم يستعملها ‪ ،‬في الصحّ ‪ ،‬استصحابا لما كان ‪ ،‬كالمودع ‪ ،‬وفي قول ثان ‪ :‬يد‬
‫ضمان ‪.‬‬
‫قال السّبكيّ ‪ :‬فإن تلفت عقب انقضاء المدّة ‪ ،‬قبل التّمكّن من الرّ ّد على المالك ‪ ،‬أو‬
‫إعلمه ‪ ،‬فل ضمان جزما ‪ ،‬أمّا إذا استعملها فإنّه يضمنها قطعا ‪.‬‬
‫فلو شرط المؤجّر على المستأجر ضمان العين المأجورة ‪ ،‬فهو شرط فاسد ‪ ،‬لنّه ينافي‬
‫مقتضى العقد ‪ ،‬وفي فساد الجارة فيه وجهان ‪ ،‬بنا ًء على الشّروط الفاسدة في البيع ‪.‬‬
‫وصرّح الحنفيّة بأنّ اشتراط الضّمان على المين باطل ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬ما ل يجب ضمانه ‪ ،‬ل يصيّره الشّرط مضمونا ‪ ،‬وما يجب ضمانه ‪ ،‬ل‬
‫ينتفي ضمانه بشرط نفيه ‪.‬‬
‫وروي عن أحمد ما يدلّ على نفي الضّمان بشرطه ‪ ،‬ووجوبه بشرطه ‪ ،‬استدلّ بحديث ‪:‬‬
‫» المسلمون على شروطهم « ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أمّا المنفعة المعقود عليها ‪ ،‬وهي ‪ :‬السّكنى أو الرّكوب ‪ ،‬فهي مضمونة ‪ ،‬بضمان‬
‫بدلها على المستأجر ‪ ،‬بمجرّد تمكّنه من استيفائها ‪ ،‬إذا كانت الجارة صحيحةً ‪ ،‬بل‬
‫‪ /‬من‬ ‫‪470‬‬ ‫خلف ‪ ،‬سواء انتفع بها المستأجر أم لم ينتفع ‪ ،‬وهذا ما نصّت عليه المادّة ‪/‬‬
‫المجلّة ‪ ،‬وفيها ‪ :‬تلزم الجرة في الجارة الصّحيحة ‪ -‬أيضا ‪ -‬بالقتدار على استيفاء‬
‫ل ‪ :‬لو استأجر أحد دارا بإجارة صحيحة ‪ ،‬فبعد قبضها يلزمه إعطاء الجرة ‪،‬‬
‫المنفعة ‪ ،‬مث ً‬
‫وإن لم يسكنها ‪.‬‬
‫أمّا إذا كانت الجارة فاسد ًة فقد اختلف في الضّمان الواجب فيها ‪ :‬فمذهب الجمهور ‪ ،‬وزفر‬
‫من الحنفيّة ‪ ،‬وهو رواية عن المام أحمد ‪ -‬أشار إليها ابن رجب ‪ -‬أنّها كالصّحيحة ‪ ،‬وأنّه‬
‫ن المنافع متقوّمة ‪ ،‬فتجب القيمة بالغةً ما‬
‫يجب في الضّمان أجر المثل ‪ ،‬بالغا ما بلغ ‪ ،‬ل ّ‬
‫بلغت ‪ ،‬والجارة بيع المنافع ‪ ،‬فتعتبر ببيع العيان ‪ ،‬وفي بيع العيان إذا فسد البيع تعتبر‬
‫القيمة ‪ ،‬بالغةً ما بلغت ‪ ،‬فكذا بيع المنافع ‪.‬‬
‫والحنفيّة عدا زفر ‪ ،‬وهو الرّاوية الثّانية عن المام أحمد ‪ ،‬يرون التّفرقة بين الصّحيحة‬
‫والفاسدة ‪ :‬ففي الصّحيحة ‪ :‬يضمن الجرة المتّفق عليها ‪ ،‬مهما بلغت ‪.‬‬
‫أمّا في الفاسدة ‪ ،‬فضمان الجرة منوط باستيفاء المنفعة ‪ ،‬ول تجب الجرة إلّ بالنتفاع ‪،‬‬
‫ن المنافع ل تضمن في‬
‫ويقول ابن رجب في توجيه هذه الرّواية ‪ :‬ولعلّها راجعة إلى أ ّ‬
‫الغصب ونحوه ‪ ،‬إلّ بالنتفاع ‪ ،‬وهو الشبه ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا إذا كانت المنفعة المعقود عليها هي إنجاز عمل من العمال ‪ ،‬كالبناء والخياطة‬ ‫‪61‬‬

‫ونحوهما ‪ ،‬فإنّ الضّمان يختلف بحسب صفة العامل ‪ ،‬وهو الجير في اصطلحهم لنّه إمّا‬
‫أن يكون أجيرا خاصّا ‪ ،‬أو مشتركا أي عامّا ‪.‬‬
‫والجير الخاصّ هو الّذي يتقبّل العمل من واحد ‪ ،‬أو يعمل لواحد مدّةً معلومةً ‪ ،‬ويستحقّ‬
‫الجر بالوقت دون العمل ‪.‬‬
‫ق الجر حتّى يعمل ‪،‬‬
‫والجير المشترك ‪ ،‬هو الّذي يتقبّل العمل من غير واحد ‪ ،‬ول يستح ّ‬
‫والضّابط ‪ :‬أنّ ‪ :‬كلّ من ينتهي عمله بانتهاء مدّة معلومة فهو أجير واحد ‪ -‬أي خاصّ ‪-‬‬
‫وك ّل من ل ينتهي عمله بانتهاء مدّة مقدّرة ‪ ،‬فهو أجير مشترك ‪.‬‬
‫وفي ضمان ك ّل منهما تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬إجارة ) ‪.‬‬
‫ضمان الرّهن ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في ضمان الرّهن ‪ ،‬إذا هلكت العين المرهونة عند المرتهن ‪ ،‬بعد‬ ‫‪62‬‬

‫قبضها وبعد تحقّق شروط الرّهن ‪:‬‬


‫فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الرّهن أمانة في يد المرتهن ‪ ،‬ل يلزمه ضمانه ‪ ،‬إ ّل إذا‬
‫تعدّى فيه ‪ ،‬أو امتنع من ردّه بعد طلبه منه أو بعد البراءة من الدّين ‪ ،‬ول يسقط بشيء من‬
‫ي عن سعيد بن‬
‫الدّين بهلكه ‪ -‬أي الرّهن ‪ -‬من غير تعدّ ‪ ،‬وذلك ‪ :‬لما روى الزّهر ّ‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ل يغلق الرّهن من صاحبه الّذي رهنه‬
‫المسيّب‪ ،‬أ ّ‬
‫‪ ،‬له غنمه ‪ ،‬وعليه غرمه « ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّ الرّهن إذا قبضه المرتهن ‪ ،‬كانت ماليّته مضمونةً ‪ ،‬أمّا عينه فأمانة ‪،‬‬
‫وذلك ‪ :‬لما روي عن عطاء أنّه حدّث ‪ » :‬أنّ رجلً رهن فرسا ‪ ،‬فنفق في يده ‪ ،‬فقال رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم للمرتهن ‪ :‬ذهب حقّك « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬الرّهن بما فيه « ومعناه ‪ :‬أنّه‬
‫ولحديث عطاء عن النّب ّ‬
‫مضمون بالدّين الّذي وضع في مقابله ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى ضمان الرّهن بشروط ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون الرّهن في يد المرتهن ‪ ،‬ل في يد غيره ‪ ،‬كالعدل ‪.‬‬
‫ي والسّلح والكتب‬
‫ب ‪ -‬أن يكون الرّهن ممّا يغاب عليه ‪ ،‬أي يمكن إخفاؤه ‪ ،‬كالحل ّ‬
‫والثّياب‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن ل تقوم بيّنة على هلكه أو تلفه بغير سببه ‪ ،‬كالحريق الغالب ‪ ،‬وغارات العداء ‪،‬‬
‫ومصادرة البغاة ‪ ،‬فإذا وجدت هذه الشّروط ‪ ،‬ضمن المرتهن ‪ ،‬ولو شرط في عقد الرّهن‬
‫ن هذا إسقاط للشّيء قبل وجوبه ‪ ،‬والتّهمة موجودة ‪ ،‬خلفا‬
‫البراءة وعدم ضمانه ‪ ،‬ل ّ‬
‫لشهب ‪ ،‬القائل بعدم الضّمان عند الشّرط ‪.‬‬
‫‪ -‬وفي اعتبار قيمة الرّهن المضمون ‪ ،‬بعض الخلف والتّفصيل ‪:‬‬ ‫‪63‬‬

‫ص الحنفيّة ‪ ،‬على أنّ قيمة المرهون إذا هلك ‪ ،‬تعتبر يوم القبض ‪ ،‬لنّه يومئذ دخل في‬
‫فن ّ‬
‫ضمانه ‪ ،‬وفيه يثبت الستيفاء يدا ‪ ،‬ثمّ يتقرّر بالهلك ‪.‬‬
‫أمّا إذا استهلكه المرتهن أو أجنبيّ ‪ ،‬فتعتبر قيمته يوم الستهلك ‪ ،‬لوروده على العين‬
‫المودعة ‪ ،‬وتكون القيمة رهنا عنده ‪.‬‬
‫وللمالكيّة ‪ -‬في اعتبار قيمة الرّهن التّالف ‪ -‬ثلثة أقوال ‪ ،‬كلّها مرويّة عن ابن القاسم ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬يوم التّلف ‪ ،‬لنّ عين الرّهن كانت قائمةً ‪ ،‬فلمّا تلفت قامت قيمتها مقامها ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬يوم القبض ‪ ،‬لنّه كشاهد ‪ ،‬وضع خطّه ومات ‪ ،‬فيعتبر خطّه ‪ ،‬وتعتبر عدالته يوم‬
‫كتبه ‪.‬‬
‫ن النّاس إنّما يرهنون ما يساوي‬
‫ي ‪ :‬وهو أقرب ‪ ،‬ل ّ‬
‫الثّالث ‪ :‬يوم عقد الرّهن ‪ ،‬قال الباج ّ‬
‫الدّين المرهون فيه غالبا ‪.‬‬
‫ضمان الرّهن الموضوع على يد العدل ‪:‬‬
‫‪ -‬يصحّ وضع الرّهن عند عدل ثالث ‪ ،‬غير الرّاهن والمرتهن ‪ ،‬ويتمّ ويلزم بقبض‬ ‫‪64‬‬

‫ن يده كيد المرتهن ‪.‬‬


‫العدل‪ ،‬ل ّ‬
‫ق المرتهن به‬
‫ول يأخذه أحدهما منه ‪ ،‬لنّه تعلّق حقّ الرّاهن في الحفظ بيده ‪ ،‬وتعلّق ح ّ‬
‫استيفاءً ‪ ،‬فل يملك أحدهما إبطال حقّ الخر ‪.‬‬
‫ق العين ‪،‬‬
‫ولو دفع الرّهن إلى أحدهما ضمن ‪ ،‬لتعلّق حقّهما به ‪ ،‬لنّه مودع الرّاهن في ح ّ‬
‫ومودع المرتهن في حقّ الماليّة ‪ ،‬وكلهما أجنبيّ عن صاحبه ‪ ،‬والمودع يضمن بالدّفع إلى‬
‫الجنبيّ ‪.‬‬
‫ولو هلك الرّهن في يد العدل ‪:‬‬
‫ن يده في حقّ الماليّة يد المرتهن ‪ ،‬وهي‬
‫فعند الحنفيّة يهلك من ضمان المرتهن ‪ ،‬ل ّ‬
‫المضمونة ‪ ،‬فإذا هلك ‪ ،‬هلك في ضمان المرتهن ‪.‬‬
‫ومذهب مالك ‪ :‬أنّه إذا هلك في يد المين ‪ ،‬هلك من ضمان الرّاهن ‪.‬‬
‫ن المين إذا دفع الرّهن إلى الرّاهن أو المرتهن بغير إذن وتلف ‪:‬‬
‫ونصّ المالكيّة ‪ :‬على أ ّ‬
‫فإن سلّمه إلى الرّاهن ‪ ،‬ضمن قيمته للمرتهن ‪ ،‬أو ضمن له الدّين المرهون هو فيه ‪،‬‬
‫فيضمن أقلّهما ‪.‬‬
‫وإن سلّمه إلى المرتهن ‪ ،‬ضمن قيمة الرّهن للرّاهن ‪.‬‬
‫الضّمان في الصّلح عن مال بمنفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا وقع الصّلح عن مال بمنفعة ‪ ،‬كسكنى دار ‪ ،‬وركوب سيّارة ‪ ،‬مدّ ًة معلومةً ‪ ،‬اعتبر‬ ‫‪65‬‬

‫هذا الصّلح بمثابة عقد إجارة ‪ ،‬وعبارة التّنوير ‪ :‬وكإجارة إن وقع عن مال بمنفعة ‪.‬‬
‫كما لو كان لشخص على آخر ألف دينار ‪ ،‬فصالحه المدين على سكنى داره ‪ ،‬أو على‬
‫زراعة أرضه ‪ ،‬أو ركوب سيّارته ‪ ،‬مدّةً معلومةً ‪ ،‬جاز هذا الصّلح ‪.‬‬
‫وتثبت لهذا النّوع من الصّلح شروط الجارة ‪ ،‬منها التّوقيت ‪ -‬إن احتيج إليه ‪ -‬وتثبت فيه‬
‫أحكامها ‪ -‬كما يقول النّوويّ ‪ -‬ومن أهمّها ‪ :‬اعتبار العين المتصالح على منفعتها ‪ ،‬كالدّار‬
‫والسّيّارة ‪ ،‬أمانةً في يد المصالح ‪ ،‬أمّا المنفعة ذاتها فإنّها مضمونة على المصالح ‪ ،‬بمجرّد‬
‫تسلّم العين ‪ ،‬فإذا مضت مدّة الصّلح المتّفق عليها ‪ ،‬اعتبر المصالح مستوفيا لبدل الصّلح‬
‫حكما ‪ ،‬سواء استوفى المنفعة فعلً أو عطّلها ‪ ،‬كما تقرّر في العين المستأجرة في يد‬
‫المستأجر في الجارة ‪.‬‬
‫يد المانة ويد الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬المشهور تقسيم اليد إلى قسمين ‪ :‬يد أمانة ‪ ،‬ويد ضمان ‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫ويد المانة ‪ :‬حيازة الشّيء أو المال ‪ ،‬نياب ًة ل تملّكا ‪ ،‬كيد الوديع ‪ ،‬والمستعير ‪،‬‬
‫والمستأجر‪ ،‬والشّريك ‪ ،‬والمضارب وناظر الوقف ‪ ،‬والوصيّ ‪.‬‬
‫ويد الضّمان ‪ :‬حيازة المال للتّملّك أو لمصلحة الحائز ‪ ،‬كيد المشتري والقابض على سوم‬
‫الشّراء ‪ ،‬والمرتهن ‪ ،‬والغاصب والمالك ‪ ،‬والمقترض ‪.‬‬
‫وحكم يد المانة ‪ ،‬أنّ واضع اليد أمانةً ‪ ،‬ل يضمن ما هو تحت يده ‪ ،‬إلّ بالتّعدّي أو‬
‫التّقصير‪ ،‬كالوديع فإنّه إذا أودع الوديعة عند من ل يودع مثلها عند مثله يضمنها ‪.‬‬
‫ن واضع اليد على المال ‪ ،‬على وجه التّملّك أو النتفاع به لمصلحة‬
‫وحكم يد الضّمان ‪ ،‬أ ّ‬
‫نفسه ‪ ،‬يضمنه في كلّ حال ‪ ،‬حتّى لو هلك بآفة سماويّة ‪ ،‬أو عجز عن ردّه إلى صاحبه ‪،‬‬
‫كما يضمنه بالتّلف والتلف ‪.‬‬
‫فالمالك ضامن لما يملكه وهو تحت يده ‪ ،‬فإذا انتقلت اليد إلى غيره بعقد البيع ‪ ،‬أو بإذنه ‪،‬‬
‫كالمقبوض على سوم الشّراء ‪ ،‬أو بغير إذنه كالمغصوب ‪ ،‬فالضّمان في ذلك على ذي اليد ‪.‬‬
‫ولو انتقلت اليد إلى غيره ‪ ،‬بعقد وديعة أو عاريّة ‪ ،‬فالضّمان ‪ -‬أيضا ‪ -‬على المالك ‪.‬‬
‫أهمّ الحكام والفوارق بين هاتين اليدين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تأثير السّبب السّماويّ ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا هلك الشّيء بسبب ل دخل للحائز فيه ول لغيره ‪ ،‬انتفى الضّمان في يد المانة ‪ ،‬ل‬ ‫‪67‬‬

‫في يد الضّمان ‪ ،‬فلو هلكت العاريّة في يد المستعير بسبب الحرّ أو البرد ‪ ،‬ل يضمن‬
‫ن يده يد أمانة ‪.‬‬
‫المستعير ‪ ،‬ل ّ‬
‫بخلف يد البائع قبل تسليم المبيع إلى المشتري ‪ ،‬فإنّه ل ينتفي الضّمان بهلكه بذلك ‪ ،‬بل‬
‫يفسخ العقد ‪ ،‬ويسقط الثّمن ‪ ،‬لعدم الفائدة من بقائه ‪ ،‬لعجز البائع عن تسليم المبيع كلّما‬
‫طالب بالثّمن ‪ ،‬فامتنعت المطالبة ‪ ،‬وارتفع العقد كأن لم يكن ‪.‬‬
‫والمذهب عند مالك ‪ ،‬انتقال الضّمان إلى المشتري بنفس العقد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تغيّر صفة وضع اليد ‪:‬‬
‫‪ -‬تتغيّر صفة يد المين وتصبح يد ضمان بالتّعدّي ‪ ،‬فإذا تلف الشّيء بعد ذلك ضمنه ‪،‬‬ ‫‪68‬‬

‫مهما كان سبب التّلف ‪ ،‬ولو سماويّا ‪.‬‬


‫أ ‪ -‬ففي الجارة ‪ ،‬يعتبر الجير المشترك أمينا ‪ -‬عند أبي حنيفة ‪ -‬والمتاع في يده أمانة ‪،‬‬
‫ل يضمن إن هلك بغير عمله ‪ ،‬إلّ إن قصّر في حفظه ‪ ،‬كالوديع إذا قصّر في حفظ الوديعة ‪،‬‬
‫أو تعمّد التلف ‪ ،‬أو تلف المتاع بفعله ‪ ،‬كتمزّق الثّوب من دقّه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وفي الوديعة ‪ ،‬يضمن إذا ترك الحفظ الملتزم ‪ ،‬كأن رأى إنسانا يسرق الوديعة ‪،‬‬
‫فتركه وهو قادر على المنع ‪ ،‬أو خالف في كيفيّة الحفظ ‪ ،‬أو أودعها من ليس في عياله ‪،‬‬
‫أو عند من ل تودع عند مثله ‪ ،‬أو سافر بها ‪ ،‬أو جحدها كما تقدّم ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ‪ ( :‬وديعة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وفي العاريّة ‪ ،‬وهي أمانة عند الجمهور ‪ ،‬ما عدا الحنابلة ‪ ،‬ل تضمن إن هلكت‬
‫بالنتفاع المعتاد ‪ ،‬وتضمن بالتّعدّي ‪ ،‬كأن يدلّ عليها سارقا أو يتلفها أو يمنعها من المعير‬
‫بعد الطّلب ‪ ،‬على تفصيل بين ما يغاب وما ل يغاب عند المالكيّة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الموت عن تجهيل ‪:‬‬
‫ن وارثه ل يعلم‬
‫‪ -‬معنى التّجهيل ‪ :‬أن ل يبيّن حال المانة الّتي عنده ‪ ،‬وهو يعلم أ ّ‬ ‫‪69‬‬

‫ل حال الوديعة الّتي عنده ‪ ،‬ووارثه ل‬


‫حالها‪ ،‬كذلك فسّرها ابن نجيم ‪ ،‬فالوديع إذا مات مجه ً‬
‫يعلم حالها ‪ ،‬يضمنها بذلك ‪.‬‬
‫ومعنى ضمانها ‪ -‬كما يقول ابن نجيم ‪ -‬صيرورتها دينا في تركته ‪.‬‬
‫وكذلك ناظر الوقف ‪ ،‬إذا مات مجهلً لحال بدل الوقف ‪ ،‬فإنّه يضمنه ‪.‬‬
‫وكذا كلّ شيء أصله أمانة يصير دينا في التّركة بالموت عن تجهيل ‪.‬‬
‫ن ترك اليصاء في الوديعة يستوجب الضّمان ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إذا مرض‬
‫ونصّ الشّافعيّة على أ ّ‬
‫المودع مرضا مخوفا ‪ ،‬أو حبس ليقتل لزمه أن يوصي ‪ ،‬فإن سكت عن ذلك لزمه‬
‫ن الوارث يعتمد ظاهر العين ‪ ،‬ول ب ّد في الوصيّة من‬
‫الضّمان ‪ ،‬لنّه عرّضها للفوات ‪ ،‬ل ّ‬
‫بيان الوديعة ‪ ،‬حتّى لو قال ‪ :‬عندي لفلن ثوب ‪ ،‬ولم يوجد في تركته ‪ ،‬ضمن لعدم بيانه ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬تجهيل ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الشّرط ‪:‬‬
‫‪ -‬ل أثر للشّرط في صفة اليد المؤتمنة عند الكثرين ‪.‬‬ ‫‪70‬‬

‫قال البغداديّ ‪ :‬اشتراط الضّمان على المستعير باطل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬تصير مضمونةً ‪.‬‬
‫وقال التّمرتاشيّ ‪ :‬واشتراط الضّمان على المين باطل ‪ ،‬به يفتى ‪ ،‬فلو شرط المؤجّر على‬
‫المستأجر ضمان العين المؤجّرة ‪ ،‬فالشّرط فاسد ‪.‬‬
‫ولو شرط المودع على الوديع ضمان الوديعة فالشّرط باطل ‪ ،‬ول ضمان لو تلفت وكذا‬
‫الحكم في سائر المانات ‪.‬‬
‫وعلّله المالكيّة ‪ ،‬بأنّه لما فيه من إخراجها عن حقيقتها الشّرعيّة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬لنّه شرط ينافي مقتضى العقد ‪ ،‬ولو قال الوديع ‪ :‬أنا ضامن لها لم يضمن‬
‫ما تلف بغير تعدّ ول تقصير ‪ ،‬لنّ ضمان المانات غير صحيح ‪.‬‬
‫ن شرط المانة في العاريّة ‪ -‬وهي مضمونة عند الشّافعيّة إذا هلكت‬
‫ونصّ القليوبيّ على أ ّ‬
‫بغير الستعمال ‪ -‬هو شرط مفسد على المعتمد ‪ ،‬وشرط أن ل ضمان فيها فاسد ل مفسد ‪.‬‬
‫ن مقتضى العقد‬
‫وجاء في نصوص الحنابلة ‪ :‬كلّ ما كان أمانةً ل يصير مضمونا بشرطه ‪ ،‬ل ّ‬
‫كونه أمانةً ‪ ،‬فإذا شرط ضمانه ‪ ،‬فقد التزم ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه ‪ ،‬فلم يلزمه ‪،‬‬
‫كما لو اشترط ضمان الوديعة ‪ ،‬أو ضمان مال في يد مالكه ‪.‬‬
‫ن مقتضى العقد الضّمان ‪ ،‬فإذا شرط نفي‬
‫وما كان مضمونا ل ينتفي ضمانه بشرطه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ضمانه ل ينتفي مع وجود سببه ‪ ،‬كما لو اشترط نفي ضمان ما يتعدّى فيه ‪.‬‬
‫وعن أحمد أنّه ذكر له ذلك ‪ ،‬فقال ‪ " :‬المؤمنون على شروطهم " ‪ ،‬وهذا يد ّل على نفي‬
‫الضّمان بشرطه ‪ ،‬والوّل ظاهر المذهب ‪ ،‬لما ذكرناه ‪.‬‬
‫القواعد الفقهيّة في الضّمان ‪:‬‬
‫القواعد في الضّمان كثيرة ‪ ،‬نشير إلى أهمّها ‪ ،‬باختصار في التّعريف بها ‪ ،‬والتّمثيل لها ‪،‬‬
‫كلّما دعت الحاجة ‪ ،‬مرتّب ًة بحسب أوائل حروفها ‪:‬‬
‫القاعدة الولى ‪:‬‬
‫الجر والضّمان ل يجتمعان ‪:‬‬
‫‪ -‬الجر هو ‪ :‬بدل المنفعة ‪ .‬والضّمان ‪ -‬هنا ‪ -‬هو ‪ :‬اللتزام بقيمة العين المنتفع بها ‪،‬‬ ‫‪71‬‬

‫هلكت أو لم تهلك ‪ ،‬وهذه القاعدة من قواعد الحنفيّة ‪ ،‬المتّصلة برأيهم في عدم ضمان‬
‫منافع المغصوب ‪ ،‬خلفا للجمهور ‪.‬‬
‫فلو استأجر دا ّبةً أو سيّارةً ‪ ،‬لحمل شيء معيّن ‪ ،‬فحمّلها شيئا آخر أو أثقل منه بخلف‬
‫جنسه ‪ ،‬كأن حمل مكان القطن حديدا فتلفت ‪ ،‬ضمن قيمتها ‪ ،‬ول أجر عليه ‪ ،‬لنّها هلكت‬
‫بغير المأذون فيه ‪.‬‬
‫وكذا لو استأجرها ‪ ،‬ليركبها إلى مكان معيّن ‪ ،‬فذهب بها إلى مكان آخر فهلكت ‪ ،‬ضمن‬
‫ن الجر والضّمان ل يجتمعان ‪ ،‬عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫قيمتها ‪ ،‬ول أجر عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫لكن القاعدة مشروطة عندهم ‪ ،‬بعدم استقرار الجر في ذمّة الضّامن ‪ ،‬كما لو استوفى‬
‫ل ‪ ،‬ثمّ تجاوز فصار غاصبا ‪ ،‬وضمن ‪ ،‬يلزمه أجر ما سمّى‬
‫منفعة الدّابّة ‪ -‬مثلً ‪ -‬فع ً‬
‫عندهم ‪ ،‬إذا سلمت الدّابّة ولم تهلك ‪.‬‬
‫ن المنافع متقوّمة كالعيان ‪ ،‬فإذا‬
‫والجمهور يوجبون الجر كلّما كان للمغصوب أجر ‪ ،‬ل ّ‬
‫تلفت أو أتلفها فقد أتلف متقوّما ‪ ،‬فوجب ضمانه كالعيان وإذا ذهب بعض أجزاء المغصوب‬
‫في مدّة الغصب ‪ ،‬وجب مع الجرة أرش نقصه لنفراد كلّ بإيجاب ‪.‬‬
‫وللمالكيّة أقوال ‪ :‬وافقوا في بعض ها الحنفيّة ‪ ،‬و في بعض ها الجمهور وانفردوا بتف صيل في‬
‫بعضها ‪.‬‬
‫القاعدة الثّانية ‪:‬‬
‫إذا اجتمع المباشر والمتسبّب يضاف الحكم إلى المباشر ‪.‬‬
‫‪ -‬المباشر للفعل ‪ :‬هو الفاعل له بالذّات ‪ ،‬والمتسبّب هو المفضي والموصّل إلى وقوعه‪،‬‬ ‫‪72‬‬

‫ويتخلّل بين فعله وبين الثر المترتّب عليه فعل فاعل مختار ‪ ،‬والمباشر يحصل الثر بفعله‬
‫من غير تخلّل فعل فاعل مختار ‪.‬‬
‫وإنّما قدّم المباشر لنّه أقرب لضافة الحكم إليه من المتسبّب ‪ ،‬قال خليل ‪ :‬وقدّم عليه‬
‫ي المر ‪ ،‬فألقى شخص‬
‫المردي فلو حفر رجل بئرا في الطّريق العامّ ‪ ،‬بغير إذن من ول ّ‬
‫حيوان غيره في تلك البئر ‪ ،‬ضمن الّذي ألقى الحيوان ‪ ،‬لنّه العلّة المؤثّرة ‪ ،‬دون حافر‬
‫ن التّلف لم يحصل بفعله ‪.‬‬
‫البئر‪ ،‬ل ّ‬
‫ولو وقع الحيوان فيه بغير فعل أحد ‪ ،‬ضمن الحافر ‪ ،‬لتسبّبه بتعدّيه بالحفر بغير إذن ‪.‬‬
‫وكذلك لو دلّ سارقا على متاع ‪ ،‬فسرقه المدلول ‪ ،‬ضمن السّارق ل الدّالّ ‪.‬‬
‫ي سكّينا ‪ ،‬فوجأ به نفسه ‪ ،‬ل يضمن الدّافع ‪ ،‬لتخلّل فعل فاعل مختار ‪.‬‬
‫ولذا لو دفع إلى صب ّ‬
‫سكّين على رجل الصّبيّ فجرحها ضمن الدّافع ‪.‬‬
‫ولو وقع ال ّ‬
‫القاعدة الثّالثة ‪:‬‬
‫الضطرار ل يبطل حقّ الغير ‪.‬‬
‫ي كالكراه ‪،‬‬
‫‪ -‬تطّرد هذه القاعدة سواء أكان الضطرار فطريّا كالجوع ‪ ،‬أم غير فطر ّ‬ ‫‪73‬‬

‫فإنّه يسقط الثم ‪ ،‬وعقوبة التّجاوز ‪ ،‬أمّا حقّ الخرين فل يتأثّر بالضطرار ‪ ،‬ويبقى المال‬
‫مضمونا بالمثل إن كان مثليّا ‪ ،‬والقيمة إن كان قيميّا ‪.‬‬
‫فلو اضطرّ في مخمصة إلى أكل طعام غيره ‪ ،‬جاز له أكله ‪ ،‬وضمن قيمته ‪ ،‬لعدم إذن‬
‫المالك‪ ،‬وإنّما الّذي وجد هو إذن الشّرع الّذي أسقط العقوبة فقط ‪.‬‬
‫القاعدة الرّابعة ‪:‬‬
‫المر بالتّصرّف في ملك الغير باطل ‪.‬‬
‫‪ -‬المر ‪ :‬هو طلب الفعل جزما ‪ ،‬فإذا أمر شخص غيره بأخذ مال شخص آخر أو بإتلفه‬ ‫‪74‬‬

‫عليه فل عبرة بهذا المر ‪ ،‬ويضمن الفاعل ‪.‬‬


‫وهذه القاعدة مقيّدة ‪ :‬بأن يكون المأمور عاقلً بالغا ‪ ،‬فإذا كان صغيرا ‪ ،‬كان الضّمان على‬
‫المر ‪.‬‬
‫وأن ل يكون المر ذا ولية وسلطان على المأمور ‪.‬‬
‫فلو كان المر هو السّلطان أو الوالد ‪ ،‬كان الضّمان عليهما ‪.‬‬
‫القاعدة الخامسة ‪:‬‬
‫جناية العجماء جبار ‪.‬‬
‫‪ -‬هذه القاعدة مقتبسة من حديث شريف عن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه أنّ رسول‬ ‫‪75‬‬

‫اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬العجماء جرحها جبار « ‪.‬‬


‫والعجماء ‪ :‬البهيمة ‪ ،‬لنّها ل تفصح ‪ ،‬ومعنى جبار ‪ :‬أنّه هدر وباطل ‪.‬‬
‫والمراد أنّها إذا كانت مسيّبةً حيث تسيّب الحيوانات ‪ ،‬ول يد عليها ‪ ،‬أمّا لو كان معها راكب‬
‫فيضمن ‪ ،‬فلو اصطادت هرّته طائرا لغيره لم يضمن ‪.‬‬
‫وفي المسألة تفصيل وخلف يأتي في ضمان جناية الحيوان ‪.‬‬
‫القاعدة السّادسة ‪:‬‬
‫الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان ‪.‬‬
‫‪ -‬يعني إذا ترتّب على الفعل الجائز المباح شرعا ‪ ،‬ضرر للخرين ‪ ،‬ل يضمن الضّرر ‪.‬‬ ‫‪76‬‬

‫فلو حفر حفرةً في ملكه ‪ ،‬أو في الطّريق ‪ ،‬بإذن الحاكم ‪ ،‬فتردّى فيها حيوان أو إنسان ‪ ،‬ل‬
‫يضمن الحافر شيئا ‪.‬‬
‫وهذا مقيّد بشرطين ‪:‬‬
‫ل ‪ -‬راكب السّيّارة وقائد الدّابّة‬
‫‪ -‬أن ل يكون المباح مقيّدا بشرط السّلمة ‪ ،‬فيضمن ‪ -‬مث ً‬ ‫‪1‬‬

‫أو راكبها في الطّريق ‪.‬‬


‫‪ -‬أن ل يكون في المباح إتلف الخرين وإلّ كان مضمونا ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ن أكله لجلها جائز ‪ ،‬بل واجب ‪.‬‬


‫فيضمن ما يتلفه من مال غيره للمخمصة ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫القاعدة السّابعة ‪:‬‬
‫الخراج بالضّمان ‪.‬‬
‫‪ -‬الخراج ‪ :‬هو غلّة الشّيء ومنفعته ‪ ،‬إذا كانت منفصلةً عنه ‪ ،‬غير متولّدة منه ‪.‬‬ ‫‪77‬‬

‫كسكنى الدّار ‪ ،‬وأجرة الدّابّة ‪.‬‬


‫ي عن الضّرر الما ّديّ ‪.‬‬
‫والضّمان ‪ :‬هو التّعويض المال ّ‬
‫والمعنى ‪ :‬أنّ منافع الشّيء يستحقّها من يلزمه ضمانه لو هلك ‪ ،‬فتكون المنفعة في مقابل‬
‫تحمّل خسارة هلكه ‪ ،‬فما لم يدخل في ضمانه ل يستحقّ منافعه وقد » نهى رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن « ‪.‬‬
‫القاعدة الثّامنة ‪:‬‬
‫الغرم بالغنم ‪.‬‬
‫ن التّكلّفات والغرامات الّتي تترتّب على الشّيء ‪ ،‬تجب على من‬
‫‪ -‬هذه القاعدة معناها أ ّ‬ ‫‪78‬‬

‫استفاد منه وانتفع به ‪ ،‬مثال ذلك ‪:‬‬


‫‪ -‬نفقة ردّ العاريّة على المستعير ‪ ،‬لنّه هو الّذي انتفع بها ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ونفقة ر ّد الوديعة على المودع ‪ ،‬لنّه هو الّذي استفاد من حفظها ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬وأجرة كتابة عقد الملكيّة على المشتري ‪ ،‬لنّها توثيق لنتقال الملكيّة إليه ‪ ،‬وهو‬ ‫‪3‬‬

‫المستفيد من ذلك ‪.‬‬


‫القاعدة التّاسعة ‪:‬‬
‫ل يجوز لحد أخذ مال أحد بل سبب شرعيّ ‪.‬‬
‫‪ -‬هذه القاعدة مأخوذة من حديث ‪ » :‬على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه « ‪.‬‬ ‫‪79‬‬

‫فيحرم أخذ أموال الخرين بالباطل كالغصب والسّرقة ونحوهما ‪.‬‬


‫أحكام الضّمان ‪:‬‬
‫أحكام الضّمان ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬تقسّم إلى هذه القسام ‪:‬‬
‫‪ -‬ضمان الدّماء ‪ -‬النفس والجراح ‪. -‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ضمان العقود ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬ضمان الفعال الضّارّة بالموال ‪ ،‬كالتلفات ‪ ،‬والغصوب ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وحيث تقدّم القول في ضمان العقود في أنواع الضّمان ومحلّه ‪ ،‬فنقصر القول على ضمان‬
‫الدّماء ‪ ،‬وضمان الفعال الضّارّة بالموال ‪.‬‬
‫ضمان الدّماء ‪ -‬النفس والجراح ‪: -‬‬
‫‪ -‬ضمان الدّماء أو النفس هو ‪ :‬الجزاء المترتّب على الضّرر الواقع على النّفس فما‬ ‫‪80‬‬

‫دونها ‪.‬‬
‫ويشمل القصاص والحدود ‪ ،‬وهي مقدّرة ‪ ،‬كما يشمل التّعزير و حكومة العدل وهي غير‬
‫مقدّرة من جهة الشّارع ‪.‬‬
‫ويقسّم الضّمان ‪ -‬بحسب الجناية ‪ -‬إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ضمان الجناية على النّفس ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ضمان الجناية على ما دون النّفس ‪ ،‬من الطراف والجراح ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ضمان الجناية على الجنين ‪ ،‬وهي ‪ :‬الجهاض ‪.‬‬
‫وبيان ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬ضمان الجناية على النّفس ‪:‬‬
‫يتمثّل فيما يلي ‪ ،‬باعتبار أنواعها ‪:‬‬
‫القتل العمد ‪:‬‬
‫‪ -‬القتل العمد ‪ ،‬إذا تحقّقت شروطه ‪ ،‬فضمانه بالقصاص ‪.‬‬ ‫‪81‬‬

‫( ر ‪ :‬مصطلح ‪ :‬قتل ‪ ،‬قصاص ) ‪.‬‬


‫وأوجب الشّافعيّة وآخرون الكفّارة فيه أيضا ‪.‬‬
‫فإن امتنع القصاص ‪ ،‬أو تعذّر أو صالح عنه ‪ ،‬كان الضّمان بالدّية أو بما صولح عنه ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬مصطلح ‪ :‬ديات ) ‪.‬‬
‫ويوجب المالكيّة حينئذ التّعزير ‪ ،‬كما يوجبون في القتل غيلةً ‪ -‬القتل على وجه المخادعة‬
‫والحيلة ‪ -‬قتل القاتل تعزيرا ‪ ،‬إن عفا عنه أولياء المقتول ‪.‬‬
‫كما يحرم القاتل من ميراث المقتول ووصيّته ‪.‬‬
‫القتل الشّبيه بالعمد ‪:‬‬
‫‪ -‬هو ‪ :‬القتل بما ل يقتل في الغالب ‪ -‬عند الجمهور ‪ -‬وبالمثقلت كذلك ‪ -‬عند أبي‬ ‫‪82‬‬

‫حنيفة ‪ ،‬من غير الحديد والمعدن ‪ -‬وإن كان المالكيّة يرون هذا من العمد ‪.‬‬
‫وهو مضمون بالدّية المغلّظة في الحديث ‪ » :‬أل وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد ‪ ،‬ما كان‬
‫بالسّوط والعصا ‪ ،‬مائة من البل ‪ ،‬أربعون في بطونها أولدها « ‪.‬‬
‫القتل الخطأ ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو مضمون بالدّية على العاقلة اتّفاقا بال ّنصّ الكريم ‪ ،‬وفيه كذلك الكفّارة والحرمان‬ ‫‪83‬‬

‫ص‪.‬‬
‫من الرث والوصيّة وهذا لعموم النّ ّ‬
‫والضّمان كذلك في القتل الشّبيه بالخطأ في اصطلح الحنفيّة ‪ ،‬ويتمثّل بانقلب النّائم على‬
‫شخص فيقتله ‪ ،‬أو انقلب المّ على رضيعها فيموت بذلك ‪.‬‬
‫القتل بسبب ‪:‬‬
‫‪ -‬قال به الحنفيّة ‪ ،‬ويتمثّل بما لو حفر حفرةً في الطّريق ‪ ،‬فتردّى فيها إنسان فمات ‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫وهو مضمون بالدّية فقط ‪ ،‬عندهم ‪ ،‬فل كفّارة فيه ‪ ،‬ول حرمان ‪ ،‬لنعدام القتل فيه حقيقةً ‪،‬‬
‫وإنّما أوجبوا الدّية صونا للدّماء عن الهدر ‪.‬‬
‫والجمهور من الفقهاء ‪ ،‬يلحقون هذا النّوع من القتل بالخطأ في أحكامه ‪ ،‬دي ًة ‪ ،‬وكفّارةً ‪،‬‬
‫وحرمانا ‪ ،‬لنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ر ‪ :‬مصطلح ‪ ( :‬قتل وديات وجناية ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ضمان الجناية على ما دون النّفس ‪:‬‬
‫وتتحقّق في الطراف ‪ ،‬والجراح في غير الرّأس ‪ ،‬وفي الشّجاج ‪.‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬أمّا الطراف ‪ :‬فحدّدت عقوبتها بالقصاص بالنّصّ ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ { :‬وكَتَبْنَا‬ ‫‪85‬‬

‫ن وَالسّنّ بِالسّنّ } ‪.‬‬


‫ن بِالُذُ ِ‬
‫ف وَالُذُ َ‬
‫س بِال ّنفْسِ وَا ْلعَيْنَ بِا ْلعَيْنِ وَالَنفَ بِالَن ِ‬
‫ن النّفْ َ‬
‫عَلَ ْي ِهمْ فِيهَا أَ ّ‬
‫وزاد مالك على ذلك التّعزير بالتّأديب ‪ ،‬ليتناهى النّاس ‪.‬‬
‫فإذا امتنع القصاص ‪ ،‬بسبب العفو أو الصّلح أو لتعذّر المماثلة ‪ ،‬كان الضّمان بالدّية‬
‫والرش‪ ،‬وهو ‪ :‬اسم للواجب من المال فيما دون النّفس ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬جناية على ما دون النّفس ) ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬وأمّا الجراح ‪ :‬فخاصّة بما كان في غير الرّأس ‪ ،‬فإذا كانت جائفةً ‪ ،‬أي بالغة‬ ‫‪86‬‬

‫الجوف ‪ ،‬فل قصاص فيها اتّفاقا ‪ ،‬خشية الموت ‪.‬‬


‫وإذا كانت غير جائفة ‪ ،‬ففيها القصاص عند جمهور الفقهاء في الجملة خلفا للحنفيّة الّذين‬
‫منعوا القصاص فيها مطلقا لتعذّر المماثلة ‪.‬‬
‫فإن امتنع القصاص في الجراح ‪ ،‬وجبت الدّية ‪ :‬ففي الجائفة يجب ثلث الدّية ‪ ،‬لحديث ‪:‬‬
‫» في الجائفة ثلث العقل « ‪.‬‬
‫وفي غير الجائفة حكومة عدل ‪ ،‬وفسّرت بأنّها أجرة الطّبيب وثمن الدوية ‪.‬‬
‫وللتّفصيل راجع مصطلح ‪ ( :‬جراح ‪ ،‬وحكومة عدل ) ‪.‬‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬وأمّا الشّجاج ‪ :‬وهي ما يكون من الجراح في الوجه والرّأس فإن تعذّر القصاص‬ ‫‪87‬‬

‫فيها ‪ :‬ففيه الرش مقدّرا ‪ ،‬كما في الموضحة ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬قضى رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم في الموضحة ‪ ،‬خمس من البل « ‪.‬‬
‫وقد يكون غير مقدّر ‪ ،‬فتجب الحكومة ‪.‬‬
‫ومذهب الجمهور ‪ :‬أنّ ما دون الموضحة ‪ ،‬ليس فيه أرش مقدّر ‪ ،‬لما روي ‪ » :‬أنّ النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء « ‪ .‬فتجب فيه الحكومة ‪.‬‬
‫ومذهب أحمد أنّه ورد التّقدير في أرش الموضحة ‪ ،‬وفيما دونها ‪ ،‬كما ورد فيما فوقها‬
‫فيعمل به ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ر ‪ :‬مصطلح ‪ ( :‬شجاج ‪ ،‬ديات ‪ ،‬حكومة عدل ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ضمان الجناية على الجنين ‪:‬‬
‫‪ -‬وهي الجهاض ‪ ،‬فإذا سقط الجنين ميّتا بشروطه ‪ ،‬فضمانه بالغرّة اتّفاقا ‪ ،‬لحديث‬ ‫‪88‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قضى في جنين امرأة‬


‫أبي هريرة رضي ال تعالى عنه ‪ » :‬أنّ النّب ّ‬
‫من بني لحيان ‪ ،‬بغرّة عبد أو أمة « ‪.‬‬
‫وتجب عند الجمهور في مال العاقلة خلفا للمالكيّة والحنابلة الّذين أوجبوها في مال الجاني‬
‫‪ .‬ول كفّارة فيها عند الحنفيّة ‪ ،‬وإنّما تندب ‪ ،‬وأوجبها الشّافعيّة والحنابلة لنّ الجنين آدميّ‬
‫معصوم ‪ ،‬وإذا لم توجد الرّقبة ‪ ،‬انتقلت العقوبة إلى بدلها مالً ‪ ،‬وهو ‪ :‬نصف عشر دية‬
‫الرّجل ‪ ،‬وعشر دية المرأة ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬جنين ‪ ،‬غرّة ) ‪.‬‬
‫ضمان الفعال الضّارّة بالموال ‪:‬‬
‫‪ -‬تتمثّل الفعال الضّارّة بالموال في التلفات الماليّة ‪ ،‬والغصوب ‪ ،‬ونحوها ‪.‬‬ ‫‪89‬‬

‫ولضمان هذا النّوع من الفعال الضّارّة ‪ ،‬أحكام عامّة ‪ ،‬وأحكام خاصّة ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬الحكام العامّة في ضمان الفعال الضّارّة بالموال ‪:‬‬
‫‪ -‬تقوم فكرة هذا النّوع من الضّمان ‪ -‬خلفا لما تقدّم في ضمان الفعال الضّارّة بالنفس‬ ‫‪90‬‬

‫‪ -‬على مبدأ جبر الضّرر الما ّديّ الحائق بالخرين ‪ ،‬أمّا في تلك فهو قائم على مبدأ زجر‬
‫الجناة ‪ ،‬وردع غيرهم ‪.‬‬
‫والتّعبير بالضّمان عن جبر الضّرر وإزالته ‪ ،‬هو التّعبير الشّائع في الفقه السلميّ ‪ ،‬وعبّر‬
‫بعض الفقهاء من المتأخّرين بالتّعويض ‪ ،‬كما فعل ابن عابدين ‪.‬‬
‫وتوسّع الفقهاء في هذا النّوع في أنواع الضّمان وتفصيل أحكامه ‪ ،‬حتّى أفرده البغداديّ‬
‫بالتّصنيف في كتابه ‪ :‬مجمع الضّمانات ‪.‬‬
‫ومن أهمّ قواعد الضّمان قاعدة ‪ :‬الضّرر يزال ‪.‬‬
‫وإزالة الضّرر الواقع على الموال يتحقّق بالتّعويض الّذي يجبر فيه الضّرر ‪.‬‬
‫وقد عرّف الفقهاء الضّمان بهذا المعنى ‪ ،‬بأنّه ‪ :‬ر ّد مثل الهالك أو قيمته ‪.‬‬
‫وعرّفه الشّوكانيّ بأنّه ‪ :‬عبارة عن غرامة التّالف ‪.‬‬
‫وكل التّعريفين يستهدف إزالة الضّرر ‪ ،‬وإصلح الخلل الّذي طرأ على المضرور ‪ ،‬وإعادة‬
‫حالته الماليّة إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضّرر ‪.‬‬
‫طريقة التّضمين ‪:‬‬
‫‪ -‬القاعدة العامّة في تضمين الماليّات هي ‪ :‬مراعاة المثليّة التّامّة بين الضّرر ‪ ،‬وبين‬ ‫‪91‬‬

‫ص " يشير إلى‬


‫العوض ‪ ،‬كلّما أمكن ‪ ،‬قال السّرخسيّ ‪ " :‬ضمان العدوان مقدّر بالمثل بالنّ ّ‬
‫ن عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُم ِبهِ } ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪َ { :‬وإِ ْ‬
‫ي المعتدى فيه نفسه ‪،‬‬
‫والمثل وإن كان به يتحقّق العدل ‪ ،‬لكن الصل أن يردّ الشّيء المال ّ‬
‫كلّما أمكن ‪ ،‬ما دام قائما موجودا ‪ ،‬لم يدخله عيب ينقص من منفعته ‪ ،‬وهذا الحديث‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬على‬
‫الحسن‪ ،‬عن سمرة رضي ال تعالى عنهما عن النّب ّ‬
‫اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « ‪.‬‬
‫ي في الغصب ‪ ،‬الّذي هو أوّل صور الضّرر وأهمّها ‪.‬‬
‫بل هذا هو الموجب الصل ّ‬
‫فإذا تعذّر ر ّد الشّيء بعينه ‪ ،‬لهلكه أو استهلكه أو فقده ‪ ،‬وجب حينئذ ر ّد مثله ‪ ،‬إن كان‬
‫مثليّا ‪ ،‬أو قيمته إن كان قيميّا ‪.‬‬
‫والمثليّ هو ‪ :‬ما له مثل في السواق ‪ ،‬أو نظير ‪ ،‬بغير تفاوت يعتدّ به ‪ ،‬كالمكيلت ‪،‬‬
‫والموزونات ‪ ،‬والمذروعات ‪ ،‬والعدديّات المتقاربة ‪.‬‬
‫ي هو ‪ :‬ما ليس له مثل في السواق ‪ ،‬أو هو ما تتفاوت أفراده ‪ ،‬كالكتب‬
‫والقيم ّ‬
‫المخطوطة ‪ ،‬والثّياب المفصّلة المخيطة لشخاص بأعيانهم ‪.‬‬
‫والمثل أعدل في دفع الضّرر ‪ ،‬لما فيه من اجتماع الجنس والماليّة ‪.‬‬
‫والقيمة تقوم مقام المثل ‪ ،‬في المعنى والعتبار الماليّ ‪.‬‬
‫وقت تقدير التّضمين ‪:‬‬
‫‪ -‬تناول الفقهاء هذه المسألة ‪ ،‬في المغصوب ‪ -‬على التّخصيص ‪ -‬إذا كان مثليّا ‪ ،‬وفقد‬ ‫‪92‬‬

‫من السّوق ‪ ،‬وقد اختلفت أنظارهم فيها على الوجه التّالي ‪:‬‬
‫ذهب أبو يوسف ‪ :‬إلى اعتبار القيمة يوم الغصب ‪ ،‬لنّه لمّا انقطع من السّوق التحق بما ل‬
‫ي تعتبر قيمته كذلك‬
‫مثل له ‪ ،‬فتعتبر قيمته يوم انعقاد السّبب ‪ ،‬وهو الغصب ‪ ،‬كما أنّ القيم ّ‬
‫يوم الغصب ‪.‬‬
‫وذهب محمّد ‪ :‬إلى اعتبار القيمة يوم النقطاع ‪ ،‬لنّ الواجب هو المثل في ال ّذمّة وإنّما ينتقل‬
‫إلى القيمة بالنقطاع ‪ ،‬فتعتبر قيمته يوم النقطاع ‪.‬‬
‫ن الواجب هو المثل ‪ ،‬ول ينتقل إلى‬
‫ومذهب أبي حنيفة ‪ :‬اعتبار القيمة يوم القضاء ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن للمغصوب منه أن ينتظر حتّى يوجد المثل ‪ ،‬بل إنّما ينتقل‬
‫القيمة بمجرّد النقطاع ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالقضاء ‪ ،‬فتعتبر القيمة يوم القضاء ‪.‬‬
‫أمّا القيميّ إذا تلف ‪ ،‬فتجب قيمته يوم الغصب اتّفاقا ‪.‬‬
‫أمّا في الستهلك ‪ :‬فكذلك عند المام وعندهما يوم الستهلك ‪.‬‬
‫ومذهب المالكيّة ‪ :‬أنّ ضمان القيمة يعتبر يوم الغصب والستيلء على المغصوب سواء‬
‫أكان عقارا ‪ ،‬أم غيره ‪ ،‬ل يوم حصول المفوّت ‪ ،‬ول يوم الرّ ّد ‪ ،‬وسواء أكان التّلف‬
‫بسماويّ أم بجناية غيره عليه ‪.‬‬
‫وفي التلف والستهلك ‪ -‬في غير المثليّات ‪ -‬كالعروض والحيوان ‪ ،‬تعتبر يوم الستهلك‬
‫والتلف ‪.‬‬
‫ي إذا تعذّر وجوده ‪ ،‬في بلده وحواليه تعتبر أقصى قيمة ‪،‬‬
‫والصحّ عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّ المثل ّ‬
‫من وقت الغصب إلى تعذّر المثل ‪ ،‬وفي قول إلى التّلف ‪ ،‬وفي قول إلى المطالبة ‪.‬‬
‫وإذا كان المثل مفقودا عند التّلف ‪ ،‬فالصحّ وجوب أكثر القيم من وقت الغصب إلى التّلف ‪،‬‬
‫ل إلى وقت الفقد ‪.‬‬
‫وأمّا المتقوّم فيضمن في الغصب بأقصى قيمة من الغصب إلى التّلف ‪.‬‬
‫وأمّا التلف بل غصب ‪ ،‬فتعتبر قيمته يوم التّلف ‪ ،‬لنّه لم يدخل في ضمانه قبل ذلك ‪،‬‬
‫وتعتبر في موضع التلف ‪ ،‬إلّ إذا كان المكان ل يصلح لذلك كالمفازة ‪ ،‬فتعتبر القيمة في‬
‫أقرب البلد ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة ‪ :‬أنّه يجب ردّ قيمة المغصوب ‪ ،‬إن لم يكن مثليّا ‪ ،‬يوم تلفه في بلد غصبه‬
‫من نقده ‪ ،‬لنّ ذلك زمن الضّمان وموضع الضّمان ومنصرف اللّفظ عند الطلق –‬
‫ي إن لم تختلف قيمة التّالف ‪ ،‬من حين الغصب إلى حين الرّدّ ‪.‬‬
‫كالدّينار‪ -‬كما يقول البهوت ّ‬
‫فإن اختلفت لمعنىً في التّالف من كبر وصغر وسمن وهزال ‪ -‬ونحوها ‪ -‬ممّا يزيد في‬
‫القيمة وينقص منها ‪ ،‬فالواجب ر ّد أكثر ما تكون عليه القيمة من حين الغصب إلى حين‬
‫الرّدّ‪ ،‬لنّها مغصوبة في الحال الّتي زادت فيها ‪ ،‬والزّيادة مضمونة لمالكها ‪.‬‬
‫وإن كان المغصوب مثليّا يجب ر ّد مثله ‪ ،‬فإن فقد المثل ‪ ،‬فتجب القيمة يوم انقطاع المثل ‪،‬‬
‫لنّ القيمة وجبت في ال ّذمّة حين انقطاع المثل ‪ ،‬فاعتبرت القيمة حينئذ ‪ ،‬كتلف المتقوّم ‪.‬‬
‫ن الواجب هو المثل ‪ ،‬إلى حين قبض‬
‫وقال القاضي ‪ :‬تجب قيمته يوم قبض البدل ‪ ،‬ل ّ‬
‫البدل ‪ ،‬بدليل أنّه لو وجد المثل بعد فقده ‪ ،‬لكان الواجب هو المثل دون القيمة ‪ ،‬لنّه‬
‫الصل ‪ ،‬قدر عليه قبل أداء البدل ‪ ،‬فأشبه القدرة على الماء بعد التّيمّم ‪.‬‬
‫تقادم الحقّ في التّضمين ‪:‬‬
‫ي زمن طويل ‪ ،‬على حقّ أو عين في ذمّة‬
‫‪ -‬التّقادم ‪ -‬أو مرور الزّمان ‪ -‬هو ‪ :‬مض ّ‬ ‫‪93‬‬

‫إنسان ‪ ،‬لغيره دون مطالبة بهما ‪ ،‬مع قدرته عليها ‪.‬‬


‫والشّريعة ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬اعتبرت التّقادم مانعا من سماع الدّعوى ‪ ،‬في الملك وفي الحقّ ‪،‬‬
‫ق‪.‬‬
‫مع بقائهما على حالهما السّابقة ‪ ،‬ولم تعتبره مكسبا لملكيّة أو قاطعا لح ّ‬
‫فيقول الحصكفيّ ‪ :‬القضاء مظهر ل مثبت ‪ ،‬ويتخصّص بزمان ومكان وخصومة حتّى لو‬
‫أمر السّلطان بعدم سماع الدّعوى ‪ ،‬بعد خمس عشرة سنةً ‪ ،‬فسمعها القاضي ‪ ،‬لم ينفذ ‪.‬‬
‫ن الحقّ ل يسقط بتقادم الزّمان ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين عن الشباه وغيرها ‪ ،‬أ ّ‬
‫فبناءً على هذا يقال ‪ :‬إذا لم يرفع الشّخص المضرور دعوى ‪ ،‬يطالب فيها بالضّمان أو‬
‫التّعويض عن الضّرر ‪ ،‬ممّن ألحقه به ‪ ،‬مدّة خمسة عشر عاما ‪ ،‬سقط حقّه ‪ ،‬قضاءً فقط ل‬
‫ديانةً ‪ ،‬في إقامة الدّعوى من جديد ‪ ،‬إلّ إذا كان المضرور غائبا ‪ ،‬أو كان مجنونا أو صبيّا‬
‫ي ‪ ،‬أو كان المدّعى عليه حاكما جائرا ‪ ،‬أو كان ثابت العسار خلل هذه‬
‫وليس له ول ّ‬
‫المدّة ‪ ،‬ثمّ أيسر بعدها ‪ ،‬فإنّه يبقى حقّه في إقامة الدّعوى قائما ‪ ،‬مهما طال الزّمن بسبب‬
‫العذر ‪ ،‬الّذي ينفي شبهة التّزوير ‪.‬‬
‫ي خمسة عشر عاما أو‬
‫وكذلك إذا أمر السّلطان العادل نفسه بسماع هذه الدّعوى ‪ ،‬بعد مض ّ‬
‫سمعها بنفسه ‪ -‬كما يقول ابن عابدين ‪ -‬حفظا لحقّ المضرور ‪ ،‬إذا لم يظهر منه ما يدلّ‬
‫على التّزوير ‪.‬‬
‫وكذلك إذا أق ّر الخصم بحقّ المضرور في الضّمان ‪ ،‬والتّعويض عن الضّرر ‪ ،‬بعد مضيّ هذه‬
‫ق بإقراره وهذا كما جاء في كتب‬
‫المدّة ‪ ،‬فإنّه يتلشى بذلك مضيّ الزّمن ويسقط لظهور الح ّ‬
‫الحنفيّة ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الحكام الخاصّة في ضمان الفعال الضّارّة بالموال ‪:‬‬
‫‪ -‬قد ذكرنا أنّ القاعدة في الضّمان ‪ ،‬هي ر ّد العين أصلً ‪ ،‬وإذا تعذّر ر ّد العين ‪ ،‬وجب‬ ‫‪94‬‬

‫الضّمان بردّ المثل في المثليّات ‪ ،‬ودفع القيمة في القيميّات ‪.‬‬


‫ونذكر ‪ -‬هنا ‪ -‬التّضمين في أحوال خاصّة مستثناة من الصل ‪ ،‬إذ يحكم فيها بالتّعويض‬
‫ي أحيانا ‪ ،‬وبالتّخيير بينه وبين ضمان المثل في أحيان أخرى ‪ ،‬وهي ‪ :‬قطع الشّجر ‪،‬‬
‫المال ّ‬
‫وهدم المباني ‪ ،‬والبناء على الرض المغصوبة ‪ ،‬أو الغرس فيها ‪ ،‬وقلع عين الحيوان ‪،‬‬
‫وتفصيل القول فيها كما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬قطع الشّجر ‪:‬‬
‫‪ -‬لو قطع شخص لخر ‪ ،‬شجر حديقته ‪ ،‬ضمن قيمة الشّجر ‪ ،‬لنّه ليس بمثليّ ‪.‬‬ ‫‪95‬‬

‫وطريق معرفته ‪ :‬أن تقوّم الحديقة مع الشّجر القائم ‪ ،‬وتقوّم بدونه فالفضل هو قيمته ‪،‬‬
‫فالمالك مخيّر بين أن يضمّنه تلك القيمة ‪ ،‬ويدفع له الشجار المقطوعة ‪ ،‬وبين أن‬
‫يمسكها ‪ ،‬ويضمّنه نقصان تلك القيمة ‪.‬‬
‫ولو كانت قيمة الشجار مقطوعةً وغير مقطوعة سواء ‪ ،‬برئ ‪.‬‬
‫ولو أتلف شجر ًة من ضيعة ‪ ،‬ولم يتلف به شيء ‪ ،‬قيل ‪ :‬تجب قيمة الشّجرة المقطوعة ‪،‬‬
‫وقيل تجب قيمتها نابتةً ‪ ،‬ولو أتلف شجرةً ‪ ،‬قوّمت مغروسةً وقوّمت مقطوع ًة ‪ ،‬ويغرم ما‬
‫بينهما ‪.‬‬
‫ولو أتلف ثمارها ‪ ،‬أو نفضها لمّا نوّرت ‪ ،‬حتّى تناثر نورها ‪ ،‬قوّمت الشّجرة مع ذلك ‪،‬‬
‫وقوّمت بدونها فيغرم ما بينهما ‪ ،‬وكذا الزّرع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬هدم المباني ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا هدم إنسان بناءً أو جدارا لغيره ‪ ،‬يجب عليه بناء مثله ‪ ،‬وهذا عند أبي حنيفة‬ ‫‪96‬‬

‫والشّافعيّ ‪ ،‬فإن تعذّرت المماثلة رجع إلى القيمة ‪ ،‬لحديث أبي هريرة رضي ال تعالى عنه‬
‫قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬كان رجل في بني إسرائيل يقال له ‪:‬‬
‫جريج ‪ ،‬يصلّي ‪ ،‬فجاءته أمّه فدعته ‪ ،‬فأبى أن يجيبها ‪ ،‬فقال ‪ :‬أجيبها أو أصلّي ؟ ثمّ أتته‬
‫فقالت ‪ :‬اللّه ّم ل تمته حتّى تريه وجوه المومسات ‪ ،‬وكان جريج في صومعته فقالت امرأة ‪:‬‬
‫لفتننّ جريجا ‪ ،‬فتعرّضت له ‪ ،‬فكلّمته ‪ ،‬فأبى ‪ .‬فأتت راعيا فأمكنته من نفسها ‪ .‬فولدت‬
‫غلما ‪ ،‬فقالت ‪ :‬هو من جريج ‪ .‬فأتوه كسروا صومعته وأنزلوه وسبّوه ‪ ،‬فتوضّأ وصلّى ‪،‬‬
‫ثمّ أتى الغلم فقال ‪ :‬من أبوك يا غلم ؟ قال ‪ :‬الرّاعي ‪ .‬قالوا ‪ :‬نبني صومعتك من ذهب ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬ل‪ ،‬إ ّل من طين « ‪.‬‬
‫ن الحائط والبناء من القيميّات ‪ ،‬فتضمن بالقيمة ‪.‬‬
‫والصل ‪ :‬أ ّ‬
‫ي الحنفيّ أنّه لو هدم جدار غيره ‪ ،‬تقوّم داره مع جدرانها ‪ ،‬وتقوّم بدون هذا‬
‫وقد نقل الرّمل ّ‬
‫الجدار فيضمن فضل ما بينهما ‪.‬‬
‫وفي القنية عن محمّد بن الفضل ‪ :‬إذا هدم حائطا متّخذا من خشب أو عتيقا متّخذا من‬
‫رهص ‪ -‬طين ‪ -‬يضمن قيمته ‪ ،‬وإن كان حديثا يؤمر بإعادته كما كان ‪.‬‬
‫وقال ابن نجيم ‪ :‬من هدم حائط غيره فإنّه يضمن نقصانها ‪ -‬أي قيمتها مبن ّي ًة ‪ -‬ول يؤمر‬
‫بعمارتها ‪ ،‬إلّ في حائط المسجد ‪ ،‬كما في كراهة الخانيّة ‪.‬‬
‫لكن المذهب ‪ ،‬ما قاله العلمة قاسم في شرحه للنّقاية ‪ :‬وإذا هدم الرّجل حائط جاره فللجار‬
‫الخيار ‪ :‬إن شاء ضمّنه قيمة الحائط ‪ ،‬والنّقض للضّامن ‪ ،‬وإن شاء أخذ النّقض ‪ ،‬وضمّنه‬
‫ن الحائط قائم من وجه ‪ ،‬وهالك من وجه ‪ ،‬فإن شاء مال إلى جهة القيام ‪،‬‬
‫النّقصان ‪ ،‬ل ّ‬
‫وضمّنه النّقصان ‪ ،‬وإن شاء مال إلى جهة الهلك وضمّنه قيمة الحائط ‪ ،‬وليس له أن‬
‫ن الحائط ليس من ذوات المثال ‪.‬‬
‫يجبره على البناء ‪ ،‬كما كان ‪ ،‬ل ّ‬
‫وطريق تقويم النّقصان ‪ :‬أن تقوّم الدّار مع حيطانها ‪ ،‬وتقوّم بدون هذا الحائط فيضمن‬
‫فضل ما بينهما ‪.‬‬
‫والضّمان في هذه الحال مقيّد بما إذا لم يكن الهدم للضّرورة ‪ ،‬كمنع سريان الحريق ‪ ،‬بإذن‬
‫الحاكم ‪ ،‬فإن كان كذلك فل ضمان ‪ ،‬وإن لم يكن بإذن الحاكم ‪ ،‬ضمن الهادم قيمتها معرّضةً‬
‫للحريق ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬البناء على الرض المغصوبة أو الغرس فيها ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا غرس شخص شجرا ‪ ،‬أو أقام بناءً على أرض غصبها ‪ ،‬فمذهب جمهور الفقهاء‪،‬‬ ‫‪97‬‬

‫وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة أنّه يؤمر بقلع الشّجر ‪ ،‬وهدم البناء ‪ ،‬وتفريغ الرض من‬
‫كلّ ما أنشأ فيها ‪ ،‬وإعادتها كما كانت ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم فيه خلفا وذلك ‪ :‬لحديث عروة بن الزّبير أ ّ‬
‫عليه وسلم قال ‪ » :‬من أحيا أرضا ميّتةً فهي له ‪ ،‬وليس لعرق ظالم حقّ « ‪ ،‬قال ‪ :‬فلقد‬
‫أخبرني الّذي حدّثني هذا الحديث ‪ » :‬أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ل في أرض الخر ‪ ،‬فقضى لصاحب الرض بأرضه وأمر صاحب‬
‫وسلم غرس أحدهما نخ ً‬
‫النّخل أن يخرج نخله منها ‪ ،‬قال ‪ :‬فلقد رأيتها ‪ ،‬وإنّها لتضرب أصولها بالفؤوس ‪ ،‬وإنّها‬
‫لنخل عمّ « أي طويلة ‪.‬‬
‫ولنّه شغل ملك غيره ‪ ،‬فيؤمر بتفريغه ‪ ،‬دفعا للظّلم ‪ ،‬وردّا للحقّ إلى مستحقّه ‪.‬‬
‫قال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬عليه أرش نقصها إن كان ‪ ،‬وتسويتها ‪ ،‬لنّه ضرر حصل بفعله ‪،‬‬
‫مع أجرة المثل إلى وقت التّسليم ‪.‬‬
‫وقال القليوبيّ ‪ :‬وللغاصب قلعهما قهرا على المالك ‪ ،‬ول يلزمه إجابة المالك لو طلب البقاء‬
‫بالجر ‪ ،‬أو التّملّك بالقيمة ‪ ،‬وللمالك قلعهما جبرا على الغاصب ‪ ،‬بل أرش لعدم احترامهما‬
‫عليه ‪.‬‬
‫والمالكيّة خيّروا المالك بين قلع الشّجر وهدم البناء ‪ ،‬وبين تركهما ‪ ،‬على أن يعطى المالك‬
‫الغاصب ‪ ،‬قيمة أنقاض الشّجر والبناء ‪ ،‬مقلوعا ‪ ،‬بعد طرح أجرة النّقض والقلع ‪ ،‬لكنّهم‬
‫قيّدوا قلع الزّرع بما إذا لم يفت ‪ ،‬أي لم يمض وقت ما تراد الرض له فله عندئذ أخذه‬
‫بقيمته مقلوعا مطروحا منه أجرة القلع ‪ .‬فإن فات الوقت ‪ ،‬بقي الزّرع للزّارع ‪ ،‬ولزمه‬
‫الكراء إلى انتهائه ‪.‬‬
‫ونصّ على مثل هذا الحنفيّة ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬غرس ‪ -‬غصب ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬قلع عين الحيوان ‪:‬‬
‫‪ -‬الحيوان وإن كان من الموال ‪ ،‬وينبغي أن تطبّق في إتلفه ‪ -‬كلّيّا أو جزئيّا ‪-‬‬ ‫‪98‬‬

‫القواعد العامّة ‪ ،‬إ ّل أنّه ورد في السّمع تضمين ربع قيمته ‪ ،‬بقلع عينه ‪ ،‬ففي الحديث ‪:‬‬
‫» قضى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في عين الدّابّة ربع ثمنها « ‪.‬‬
‫وروي ذلك عن عمر وشريح رضي ال تعالى عنهما ‪ ،‬وكتب عمر إلى شريح ‪ ،‬لمّا كتب‬
‫إليه يسأله عن عين الدّابّة ‪ :‬إنّا كنّا ننزلها منزلة الدميّ ‪ ،‬إلّ أنّه أجمع رأينا أنّ قيمتها ربع‬
‫الثّمن ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬هذا إجماع يقدّم على القياس ‪.‬‬
‫وهذا ممّا جعل الحنفيّة ‪ -‬وهو رواية عند الحنابلة عن أحمد ‪ -‬يعدلون عن القياس ‪،‬‬
‫بالنّظر إلى ضمان العين فقط ‪.‬‬
‫فعملوا بالحديث ‪ ،‬وتركوا فيه القياس ‪ ،‬لكنّهم خصّوه بالحيوان الّذي يقصد للّحم ‪ ،‬كما يقصد‬
‫للرّكوب والحمل والزّينة أيضا ‪ ،‬كما في عين الفرس والبغل والحمار ‪ ،‬وكذا في عين البقرة‬
‫والجزور ‪.‬‬
‫أمّا غيره ‪ ،‬كشاة القصّاب المعدّة للذّبح ‪ ،‬ممّا يقصد منه اللّحم فقط ‪ ،‬فيعتبر ما نقصت‬
‫قيمته‪ .‬وطرد المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة القياس ‪ ،‬فضمّنوا ما يتلف من سائر أجزاء‬
‫الحيوان ‪ ،‬بما ينقص من قيمته ‪ ،‬بفقد عينه وغيرها ‪ ،‬بالغا ما بلغ النّقص بل تفرقة بين‬
‫أنواع الحيوان‪.‬‬
‫قال المحلّيّ ‪ :‬ويضمن ما تلف أو أتلف من أجزائه بما نقص من قيمته ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬ول يجب في عين البقرة والفرس إلّ أرش النّقص ‪.‬‬
‫وقال الغزال ّ‬
‫وعلّل ذلك ابن قدامة ‪ :‬بأنّه ضمان مال من غير جناية ‪ ،‬فكان الواجب ما نقص ‪ ،‬كالثّوب ‪،‬‬
‫ولنّه لو فات الجميع لوجبت قيمته ‪ ،‬فإذا فات منه شيء ‪ ،‬وجب قدره من القيمة ‪ ،‬كغير‬
‫الحيوان ‪.‬‬
‫ضمان الشّخص الضّرر النّاشئ عن فعل غيره وما يلتحق به ‪:‬‬
‫ن الشّخص مسئول عن ضمان الضّرر الّذي ينشأ عن فعله ل عن فعل غيره‬
‫‪ -‬الصل أ ّ‬ ‫‪99‬‬

‫لكن الفقهاء استثنوا من هذا الصل ضمان أفعال القصّر الخاضعين لرقابته ‪ ،‬وضمان أفعال‬
‫تابعيه ‪ :‬كالخدم والعمّال وكالموظّفين ‪ ،‬وضمان ما يفسده الحيوان ‪ ،‬وضمان الضّرر الحادث‬
‫بسبب سقوط البنية ‪ ،‬وضمان التّلف الحادث بالشياء الخرى ‪ ،‬وتفصيله فيما يلي ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬ضمان النسان لفعال الشخاص الخاضعين لرقابته ‪:‬‬
‫‪ -‬ويتمثّل هذا النّوع من الضّمان ‪ ،‬في الفعال الضّارّة ‪ ،‬الصّادرة من الصّغار القصّر ‪،‬‬ ‫‪100‬‬

‫ي ‪ ،‬والتّلميذ حينما يكونون في المدرسة ‪ ،‬تحت رقابة‬


‫الّذين هم في ولية الب والوص ّ‬
‫النّاظر والمعلّم ‪ ،‬أو في رعاية أيّ رقيب عليهم وهم صغار ‪ ،‬ومثلهم المجانين والمعاتيه ‪.‬‬
‫ولمّا كان الصل المقرّر في الشّريعة ‪ ،‬كما تقدّم آنفا ‪ ،‬هو ضمان النسان لفعاله كلّها ‪،‬‬
‫دون تحمّل غيره عنه لشيء من تبعاتها ‪ ،‬مهما كان من المر ‪.‬‬
‫فقد طرد الفقهاء قاعدة تضمين الصّغار ‪ ،‬وأوجبوا عليهم الضّمان في مالهم ‪ ،‬ولم يوجبوا‬
‫على أوليائهم والوصياء عليهم ضمان ما أتلفوه ‪ ،‬إ ّل في أحوال مستثناة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إذا كان إتلف الصّغار للمال ‪ ،‬ناشئا من تقصير الولياء ونحوهم ‪ ،‬في حفظهم ‪ ،‬كما لو‬
‫سكّين من يده عليه أو على شخص آخر ‪ ،‬أو عثر‬
‫ي سكّينا ليمسكه له ‪ ،‬فوقع ال ّ‬
‫دفع إلى صب ّ‬
‫به ‪ ،‬فإنّ الدّافع يضمن ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا كان بسبب إغراء الباء والوصياء الصّغار بإتلف المال ‪ ،‬كما لو أمر الب ابنه‬
‫بإتلف مال أو إيقاد نار ‪ ،‬فأوقدها ‪ ،‬وتعدّت النّار إلى أرض جاره ‪ ،‬فأتلفت شيئا ‪ ،‬يضمن‬
‫ن المر صحّ ‪ ،‬فانتقل الفعل إليه ‪ ،‬كما لو باشره الب ‪.‬‬
‫الب ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي ‪ ،‬ثمّ رجع على آمره ‪.‬‬
‫فلو أمر أجنبيّ صبيّا بإتلف مال آخر ‪ ،‬ضمن الصّب ّ‬
‫ج ‪ -‬إذا كان بسبب تسليطهم على المال ‪ ،‬كما لو أودع صبيّا وديعةً بل إذن وليّه فأتلفها ‪،‬‬
‫لم يضمن الصّبيّ ‪ ،‬وكذا إذا أتلف ما أعير له ‪ ،‬وما اقترضه وما بيع منه بل إذن ‪ ،‬للتّسليط‬
‫من مالكها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ضمان الشّخص لفعال التّابعين له ‪:‬‬
‫‪ -‬ويتمثّل هذا في الخادم في المنزل ‪ ،‬والطّاهي في المطعم ‪ ،‬والمستخدم في المحلّ ‪،‬‬ ‫‪101‬‬

‫والعامل في المصنع ‪ ،‬والموظّف في الحكومة ‪ ،‬وفي سائق السّيّارة لمالكها كلّ في دائرة‬
‫عمله ‪.‬‬
‫والعلقة هنا عقديّة ‪ ،‬وفيما تقدّم من الرّقابة على عديمي التّمييز ‪ :‬هي ‪ :‬دينيّة أو أدبيّة ‪.‬‬
‫والفقهاء بحثوا هذا في باب الجارة ‪ ،‬في أحكام الجير الخاصّ ‪ ،‬وفي تلميذ الجير‬
‫ق أجره‬
‫ل مؤقّتا بالتّخصيص ‪ ،‬ويستح ّ‬
‫المشترك عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو الّذي يعمل لواحد عم ً‬
‫بتسليم نفسه في المدّة ‪ ،‬وإن لم يعمل ‪.‬‬
‫والمعقود عليه هو منفعته ‪ ،‬ول يضمن ما هلك في يده بغير صنعه ‪ ،‬لنّ العين أمانة في‬
‫يده‪ ،‬لنّه قبض بإذنه ‪ ،‬ول يضمن ما هلك من عمله المأذون فيه ‪ ،‬لنّ المنافع متى صارت‬
‫مملوكةً للمستأجر ‪ ،‬فإذا أمره بالتّصرّف في ملكه ‪ ،‬صحّ ‪ ،‬ويصير نائبا منابه ‪ ،‬فيصير فعله‬
‫منقو ًل إليه ‪ ،‬كأنّه فعله بنفسه ‪ ،‬فلهذا ل يضمنه وإنّما الضّمان في ذلك على مخدومه ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬إجارة ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ضمان الشّخص فعل الحيوان ‪:‬‬
‫هناك نوعان من الحيوان ‪:‬‬
‫أحدهما الحيوان العاديّ ‪ ،‬والخر الحيوان الخطر ‪ ،‬وفي تضمين جناية كلّ منهما ‪ ،‬خلف‬
‫بين الفقهاء ‪ ،‬ونوضّحه فيما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ضمان جناية الحيوان العاديّ غير الخطر ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في ضمان ما يتلفه الحيوان العاديّ ‪ ،‬غير الخطر ‪:‬‬ ‫‪102‬‬

‫فذهب جمهورهم إلى ضمان ما تفسده الدّابّة من الزّرع والشّجر ‪ ،‬إذا وقع في اللّيل ‪ ،‬وكانت‬
‫وحدها إذا لم تكن يد لحد عليها ‪.‬‬
‫وأمّا إذا وقع ذلك في النّهار ‪ ،‬ولم تكن يد لحد عليها ‪ -‬أي الدّابّة ‪ -‬فل ضمان فيه ‪.‬‬
‫واستدلّوا بحديث البراء بن عازب رضي ال تعالى عنه ‪ » :‬أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت‬
‫حائطا ‪ ،‬فأفسدت فيه ‪ ،‬فقضى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار‬
‫ن حفظ الماشية باللّيل على أهلها ‪ ،‬وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهوعلى‬
‫على أهلها ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي ‪ ،‬وحفظها‬
‫أهلها « قال ابن قدامة ‪ :‬ول ّ‬
‫ليلً ‪ ،‬وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا دون اللّيل ‪ ،‬فإذا ذهبت ليلً كان التّفريط من أهلها ‪،‬‬
‫بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ ‪.‬‬
‫وإن أتلفت نهارا ‪ ،‬كان التّفريط من أهل الزّرع ‪ ،‬فكان عليهم ‪ ،‬وقد فرّق النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم بينهما ‪ ،‬وقضى على كلّ إنسان بالحفظ في وقت عادته ‪.‬‬
‫وقال ‪ -‬أيضا ‪ : -‬قال بعض أصحابنا ‪ :‬إنّما يضمن مالكها ما أتلفته ليلً ‪ ،‬إذا فرّط بإرسالها‬
‫ل أو نهارا أو لم يضمّها باللّيل ‪ ،‬أو ضمّها بحيث يمكنها الخروج ‪ ،‬أمّا لو ضمّها فأخرجها‬
‫لي ً‬
‫غيره بغير إذنه ‪ ،‬أو فتح عليها بابها ‪ ،‬فالضّمان على مخرجها ‪ ،‬أو فاتح بابها ‪ ،‬لنّه‬
‫المتلف‪.‬‬
‫وقيّد المالكيّة عدم ضمان التلف نهارا بشرطين ‪:‬‬
‫أوّلهما ‪ :‬أن ل يكون معها راع ‪.‬‬
‫والخر ‪ :‬أن تسرح بعيدا عن المزارع ‪ ،‬وإ ّل فعلى الرّاعي الضّمان ‪.‬‬
‫ل كان‬
‫وإن أتلفت البهيمة غير الزّرع والشّجر من النفس والموال ‪ ،‬لم يضمنه مالكها ‪ ،‬لي ً‬
‫أو نهارا ‪ ،‬ما لم تكن يده عليها ‪ ،‬واستدلّوا بحديث أبي هريرة رضي ال تعالى عنه أنّ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬العجماء جبار « ويروى » العجماء جرحها جبار‬
‫« ومعنى جبار ‪ :‬هدر ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬بما إذا لم يقصّر في حفظها ‪ ،‬ولم يكن من فعل من‬
‫وقيّد المالكيّة ‪ ،‬عدم ضمان ذلك لي ً‬
‫معها ‪ ،‬ففي المدوّنة ‪ :‬من قاد قطارا فهو ضامن لما وطئ البعير ‪ ،‬في أوّل القطار أو‬
‫ل بيدها أو رجلها ‪ ،‬لم يضمن القائد إلّ أن يكون ذلك من شيء فعله‬
‫آخره ‪ ،‬وإن نفحت رج ً‬
‫بها ‪ .‬وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحيوان إذا أتلف مالً أو نفسا ‪ ،‬فل ضمان على صاحبه‬
‫مطلقا ‪ ،‬سواء أوقع ذلك في ليل أم في نهار ‪.‬‬
‫وذلك لحديث ‪ » :‬العجماء جبار « المتقدّم آنفا ‪.‬‬
‫لكن قيّدها محمّد بن الحسن ‪ ،‬بالمنفلتة المسيّبة حيث تسيّب النعام ‪ ،‬كما هو الشّأن في‬
‫البراري ‪ ،‬فهذه الّتي جرحها هدر وهذا ما ذكره الطّحاويّ فقد فرّق بين ما إذا كان معها‬
‫حافظ فيضمن ‪ ،‬وبين ما إذا لم يكن معها حافظ ‪ ،‬فل يضمن ‪ ،‬وروى في ذلك آثارا ‪.‬‬
‫ولنّه ل صنع له في نفارها وانفلتها ‪ ،‬ول يمكنه الحتراز عن فعلها ‪ ،‬فالمتولّد منه ل‬
‫يكون مضمونا ‪.‬‬
‫وأثار المالكيّة ‪ -‬هنا ‪ -‬مسألة ما لو كان الحيوان ممّا ل يمكن الحتراز منه ‪ ،‬ول حراسته‬
‫كحمام ‪ ،‬ونحل ‪ ،‬ودجاج يطير ‪.‬‬
‫فذهب ابن حبيب ‪ -‬وهو رواية مطرّف عن مالك ‪ -‬إلى أنّه يمنع أربابها من اتّخاذه ‪ ،‬إن‬
‫آذى النّاس ‪.‬‬
‫وذهب ابن القاسم وابن كنانة وأصبغ إلى أنّهم ل يمنعون من اتّخاذه ‪ ،‬ول ضمان عليهم‬
‫فيما أتلفته من الزّرع ‪ ،‬وعلى أرباب الزّرع والشّجر حفظها ‪.‬‬
‫وصوّب ابن عرفة الوّل ‪ ،‬لمكان استغناء ربّها عنها ‪ ،‬وضرورة النّاس للزّرع والشّجر ‪.‬‬
‫ويؤيّده ‪ -‬كما قال الدّسوقيّ ‪ -‬قاعدة ارتكاب ‪ ،‬أخفّ الضّررين عند التّقابل ‪ ،‬لكن قال ‪:‬‬
‫ولكن المعتمد ‪ -‬كما قال شيخنا ‪ -‬قول ابن قاسم ‪.‬‬
‫والتّجاهان كذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫شروط ضمان جناية الحيوان ‪:‬‬
‫بدا ممّا تقدّم اتّفاق الفقهاء على تضمين جناية الحيوان ‪ ،‬كلّما كان معها راكب أو حافظ ‪ ،‬أو‬
‫ذو يد ‪ ،‬ول ب ّد حينئذ من توفّر شروط الضّمان العامّة المتقدّمة ‪ :‬من الضّرر والتّعدّي‬
‫والفضاء ‪.‬‬
‫‪ -‬فالضّرر يستوي فيه الواقع على النّفوس أو الموال ‪ ،‬وصرّح العينيّ بأنّ حديث ‪» :‬‬ ‫‪103‬‬

‫العجماء جبار « المتقدّم ‪ ،‬محتمل لن تكون الجناية على البدان أو الموال ‪ ،‬وذكر أنّ‬
‫الوّل أقرب إلى الحقيقة ‪ ،‬لما ورد في الصّحيحين بلفظ ‪ » :‬العجماء جرحها جبار « ‪.‬‬
‫‪ -‬والتّعدّي بمجاوزة ذي اليد في استعمال الدّابّة ‪ ،‬فحيث استعملها في حدود حقّه ‪ ،‬في‬ ‫‪104‬‬

‫ملكه ‪ ،‬أو المحلّ المعدّ للدّوا بّ أو أدخلها ملك غيره بإذنه ‪ ،‬فأتلفت نفسا أو ما ًل ‪ ،‬ل ضمان‬
‫عل يه إذ ل ضمان مع الذن بخلف ما لو كان ذلك بغ ير إذن المالك أو أوقف ها في محلّ لم‬
‫يعدّ لوقوف الحيوانات ‪ ،‬أو في طر يق الم سلمين ‪ ،‬فإنّه يكون ضامنا ل ما تتل فه حينئذ إذ كلّ‬
‫ل لم يؤذن له فيه ضمن ما تولّد منه ‪.‬‬
‫من فعل فع ً‬
‫والصل في هذا حديث النّعمان بن بشير رضي ال تعالى عنهما قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ » :‬من أوقف دا ّبةً في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم ‪،‬‬
‫فأوطأت بيد أو رجل ‪ ،‬فهو ضامن « ‪.‬‬
‫‪ /‬على أنّه ‪ " :‬ل يضمن صاحب الدّابّة الّتي أضرّت بيدها أو‬ ‫‪930‬‬ ‫ونصّت المجلّة في المادّة ‪/‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪931/‬‬ ‫ذيلها أو رجلها ‪ ،‬حال كونها في ملكه ‪ ،‬راكبا كان أو لم يكن " ‪ ،‬كما نصّت المادّة‬
‫على أنّه ‪ " :‬إذا أدخل أحد دابّته في ملك غيره بإذنه ‪ ،‬ل يضمن جنايتها ‪ ،‬في الصّور الّتي‬
‫ذكرت في المادّة آنفا حيث إنّها تعدّ كالكائنة في ملكه ‪ ،‬وإن كان أدخلها بدون إذن صاحبه‬
‫يضمن ضرر تلك الدّابّة وخسارها على كلّ حال ‪.‬‬
‫‪ /‬على أنّه ‪ " :‬إذا ربط شخصان دابّتيهما في مح ّل لهما حقّ‬ ‫‪939‬‬ ‫كما نصّت في المادّة ‪/‬‬
‫الرّبط فيه ‪ ،‬فأتلفت إحدى الدّابّتين الخرى ‪ ،‬ل يلزم الضّمان " ‪.‬‬
‫وفي النّصوص ‪ :‬لو أوقفها على باب المسجد العظم ‪ ،‬أو مسجد آخر ‪ ،‬يضمن إلّ إذا جعل‬
‫المام للمسلمين موضعا يوقفون دوابّهم فل يضمن ‪.‬‬
‫ولو ربط دابّته في مكان ‪ ،‬ثمّ ربط آخر فيه دابّته ‪ ،‬فعضّت إحداهما الخرى ‪ ،‬ل ضمان لو‬
‫كان لهما في المربط ولية الرّبط ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬نقلً عن القاضي ‪ ،‬بأنّ الرّبط جناية ‪ ،‬فما تولّد منه ضمنه ‪.‬‬
‫وعلّله الرّمل ّ‬
‫‪ -‬وأمّا الفضاء ‪ ،‬وهو وصول الضّرر مباشرةً أو تسبّبا ‪ ،‬فإنّ فعل الحيوان ل يوصف‬ ‫‪105‬‬

‫بمباشرة أو تسبيب ‪ ،‬لنّه ليس ممّا يصحّ إضافة الحكم إليه ‪ ،‬وإنّما يوصف بذلك صاحبه ‪،‬‬
‫فتطبّق القاعدة العامّة ‪ :‬أنّ المباشر ضامن وإن لم يتعدّ ‪ ،‬والمتسبّب ل يضمن إلّ بالتّعدّي ‪.‬‬
‫ويعتبر ذو اليد على الحيوان ‪ ،‬وصاحبه مباشرا إذا كان راكبا في ملكه أو في ملك غيره ‪،‬‬
‫ولو بإذنه أو في طريق العامّة ‪ ،‬فيضمن ما يحدثه بتلفه ‪ ،‬وإن لم يتعدّ ‪.‬‬
‫فراكب الدّابّة يضمن ما وطئته برجلها ‪ ،‬أو يدها ‪ -‬كما يقول الكاسانيّ ‪ -‬أي ومات لوجود‬
‫ن ثقل الرّاكب على الدّابّة ‪ ،‬والدّابّة‬
‫الخطأ في هذا القتل ‪ ،‬وحصوله على سبيل المباشرة ل ّ‬
‫آلة له ‪ ،‬فكان القتل الحاصل بثقلها مضافا إلى الرّاكب ‪ ،‬والرّديف والرّاكب سواء ‪ ،‬وعليهما‬
‫ن ثقلهما على الدّابّة ‪ ،‬والدّابّة آلة لهما ‪،‬‬
‫الكفّارة ‪ ،‬ويحرمان من الميراث والوصيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫فكانا قاتلين على طريق المباشرة ‪.‬‬
‫ولو كدمت أو صدمت ‪ ،‬فهو ضامن ‪ ،‬ول كفّارة ول حرمان ‪ ،‬لنّه قتل بسبب ‪.‬‬
‫ولو أصابت ومعها سائق وقائد ‪ ،‬فل كفّارة ول حرمان ‪ ،‬لنّه قتل تسبيبا ل مباشرةً ‪،‬‬
‫بخلف الرّاكب والرّديف ‪.‬‬
‫وهذا خلف ما في مجمع النهر ‪ ،‬حيث نصّ على أنّ الرّاكب في ملكه ل يضمن شيئا ‪ ،‬لنّه‬
‫غير متعدّ ‪ ،‬بخلف ما إذا كان في طريق العامّة ‪ ،‬فيضمن للتّعدّي ‪.‬‬
‫ومثال ما لو أتلفت شيئا بتسبيب صاحبها ‪ :‬ما لو أوقفها في ملك غيره ‪ ،‬فجالت في‬
‫رباطها‪ ،‬حيث طال الرّسن فأتلفت شيئا ‪ ،‬ضمن ‪ ،‬لنّه ممسكها في أيّ موضع ذهبت ‪ ،‬ما‬
‫دامت في موضع رباطها ‪.‬‬
‫فقد وجد شرط الضّمان بالتّسبيب بالتّعدّي ‪ ،‬وهو الرّبط في ملك غيره ‪.‬‬
‫ومثال اجتماع المباشرة والتّسبيب ‪ ،‬حيث تقدّم المباشرة ‪ ،‬ما لو ربط بعيرا إلى قطار ‪،‬‬
‫والقائد ل يعلم ‪ ،‬فوطئ البعير المربوط إنسانا ‪ ،‬فقتله ‪ ،‬فعلى عاقلة القائد الدّية ‪ ،‬لعدم‬
‫صيانة القطار عن ربط غيره ‪ ،‬فكان متعدّيا ‪ -‬مقصّرا ‪ -‬لكن يرجع على عاقلة الرّابط ‪،‬‬
‫لنّه هو الّذي أوقعه في هذه العهدة ‪.‬‬
‫وإنّما لم يجب الضّمان عليه ابتداءً ‪ ،‬وكلّ منهما متسبّب ‪ ،‬لنّ الرّبط ‪ ،‬من القود ‪ ،‬بمنزلة‬
‫التّسبيب من المباشرة ‪ ،‬لتّصال التّلف بالقود دون الرّبط ‪.‬‬
‫ومثال ما إذا لم يكن مباشرا ول متسبّبا ‪ ،‬حيث ل يضمن ‪ ،‬ما إذا قتل سنّوره حمامةً فإنّه ل‬
‫يضمن ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬العجماء جرحها جبار « المتقدّم آنفا ‪.‬‬
‫ل أونهارا ضمن مالكها إن عهد‬
‫والصحّ عند الشّافعيّة أنّ الهرّة إن أتلفت طيرا أو طعاما لي ً‬
‫ذلك منها ‪ ،‬وإلّ فل يضمن في الصحّ ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن مشمولت الفضاء ‪ :‬التّعمّد ‪ ،‬كما لو ألقى هرّ ًة على حمامة أو دجاجة ‪ ،‬فأكلتها‬ ‫‪106‬‬

‫ضمن لو أخذتها برميه وإلقائه ‪ ،‬ل لو بعده ‪.‬‬


‫ويضمن بإشلء كلبه ‪ ،‬لنّه بإغرائه يصير آلةً لعقره ‪ ،‬فكأنّه ضربه بسيفه ‪.‬‬
‫ومن مشمولته التّسبّب بعدم الحتراز ‪ :‬فالصل ‪ :‬أنّ المرور بطريق المسلمين مباح ‪،‬‬
‫بشرط السّلمة ‪ ،‬فيما يمكن الحتراز منه ‪ ،‬ل فيما ل يمكن الحتراز منه ‪ ،‬فلو أوقف دابّته‬
‫ن بإمكانه الحتراز من اليقاف ‪ ،‬وإن لم يمكن الحتراز من‬
‫في الطّريق ضمن ما نفحته ‪ ،‬ل ّ‬
‫النّفحة ‪ ،‬فصار متعدّيا باليقاف وشغل الطّريق به ‪.‬‬
‫بخلف ما لو أصابت بيدها أو رجلها حصاةً ‪ ،‬أو أثارت غبارا ‪ ،‬ففقأت الحصاة عين‬
‫إنسان ‪ ،‬أو أفسد الغبار ثوب إنسان فإنّه ل يضمن لنّه ل يمكن الحتراز منه ‪ ،‬لنّ سير‬
‫الدّوابّ ل يخلو عنه ‪.‬‬
‫وللحنابلة والشّافعيّة تفصيل وخلف في الطّريق الواسع ‪.‬‬
‫‪ " /‬ليس لحد حقّ توقيف دابّته أو ربطها في الطّريق العامّ"‪.‬‬ ‫‪934‬‬ ‫وجاء في المجلّة المادّة ‪/‬‬
‫ومن مشمولته التّسبّب بالتّقصير ‪ ،‬ومن الفروع ‪ :‬ما لو رأى دابّته تأكل حنطةً غيره ‪ ،‬فلم‬
‫يمنعها ‪ ،‬حتّى أكلتها ‪ ،‬فالصّحيح أنّه يضمن ‪.‬‬
‫وبهذا أخذت المجلّة ‪ ،‬حيث نصّت على أنّه " لو استهلك حيوان مال أحد ‪ ،‬ورآه صاحبه ‪،‬‬
‫‪./‬‬ ‫‪929‬‬ ‫فلم يمنعه يضمن " ‪ .‬المادّة ‪/‬‬
‫‪ -‬والضّامن لجناية الحيوان ‪ ،‬لم يقيّد في النّصوص الفقهيّة ‪ ،‬بكونه مالكا أو غيره ‪،‬‬ ‫‪107‬‬

‫بل هو ذو اليد ‪ ،‬القابض على زمامه ‪ ،‬القائم على تصريفه ‪ ،‬ولو لم يكن مالكا ‪ ،‬ولو لم‬
‫يحلّ له النتفاع به ‪ ،‬ويشمل هذا السّائس والخادم ‪.‬‬
‫ن الضّمان يجب في مال الّذي هو معها ‪ ،‬سواء كان مالكا أو مستأجرا أو‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬إ ّ‬
‫مستعيرا ‪ ،‬أو غاصبا أو مودعا ‪ ،‬أو وكيلً أو غيره ‪.‬‬
‫ويقول الشّرقاويّ في جناية الدّابّة ‪ :‬ل تتعلّق برقبتها ‪ ،‬بل بذي اليد عليها ‪.‬‬
‫‪ -‬ولو تعدّد واضعو اليد على الحيوان ‪ ،‬فالضّمان ‪ -‬فيما يبدو من النّصوص ‪ -‬على‬ ‫‪108‬‬

‫القوى يدا ‪ ،‬والكثر قدرةً على التّصرّف ‪ ،‬وعند الستواء يكون الضّمان عليهما ‪.‬‬
‫قال الكاسانيّ ‪ :‬وإن كان أحدهما سائقا ‪ ،‬والخر قائدا ‪ ،‬فالضّمان عليهما لنّهما اشتركا في‬
‫التّسبيب ‪ ،‬فيشتركان في الضّمان ‪ ،‬وكذلك إذا كان أحدهما سائقا والخر راكبا أو كان‬
‫أحدهما قائدا والخر راكبا ‪ ،‬فالضّمان عليهما ‪ ،‬لوجود سبب الضّمان من كلّ واحد منهما ‪،‬‬
‫إلّ أنّ الكفّارة تجب على الرّاكب وحده ‪ ،‬فيما لو وطئت دابّته إنسانا فقتلته ‪ ،‬لوجود القتل‬
‫ي صحّح عدم تضمين السّائق ‪ ،‬لنّ الضافة إلى‬
‫منه وحده مباشرةً ‪ ،‬وإن كان الحصكف ّ‬
‫المباشر أولى ‪ ،‬لكن السّبب ‪ -‬هنا ‪ -‬ممّا يعمل بانفراده ‪ ،‬فيشتركان كما حقّقه ونقله ابن‬
‫عابدين ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬فإن كان على الدّابّة راكبان ‪ ،‬فالضّمان على الوّل منهما ‪ ،‬لنّه المتصرّف‬
‫فيها ‪ ،‬القادر على كفّها ‪ ،‬إلّ أن يكون الوّل منهما صغيرا أو مريضا أو نحوهما ‪ ،‬ويكون‬
‫الثّاني المتولّي لتدبيرها ‪ ،‬فيكون الضّمان عليه ‪.‬‬
‫وإن كان مع الدّابّة قائد وسائق ‪ ،‬فالضّمان عليهما ‪ ،‬لنّ كلّ واحد منهما لو انفرد ضمن ‪،‬‬
‫فإذا اجتمعا ضمنا ‪ ،‬وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ‪ ،‬ففيه وجهان ‪:‬‬
‫ن الضّمان عليهما جميعا ‪ ،‬لذلك ‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أ ّ‬
‫والخر ‪ :‬أنّه على الرّاكب ‪ ،‬لنّه أقوى يدا وتصرّفا ‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون على القائد لنّه ل حكم للرّاكب على القائد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ضمان جناية الحيوان الخطر ‪:‬‬
‫‪ -‬ويتمثّل في الكبش النّطوح ‪ ،‬والجمل العضوض ‪ ،‬والفرس الكدوم ‪ ،‬والكلب العقور ‪،‬‬ ‫‪109‬‬

‫كما يتمثّل في الحشرات المؤذية ‪ ،‬والحيّة والعقرب ‪ ،‬والحيوانات الوحشيّة المفترسة ‪،‬‬
‫وسباع البهائم ‪ ،‬كالسد والذّئب ‪ ،‬وسباع الطّير كالحدأة والغراب ‪ ،‬وفيها مذاهب للفقهاء ‪:‬‬
‫مذهب الحنفيّة هو ضمان ما يتلفه الحيوان الخطر ‪ ،‬من مال أو نفس إذا وجد من مالكه‬
‫إشلء أو إغراء أو إرسال ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ‪ ،‬الّذي أوجب الضّمان في هذا كلّه ‪،‬‬
‫احتياطا لموال النّاس خلفا لبي حنيفة ‪ ،‬والّذي أفتوا به هو ‪ :‬الضّمان بعد الشلء كالحائط‬
‫المائل ‪ ،‬في النّفس والمال كما في الغراء ‪.‬‬
‫وعلّل الضّمان بالشلء ‪ ،‬بأنّه بالغراء ‪ .‬يصير الكلب آلةً لعقره ‪ ،‬فكأنّه ضربه بحدّ سيفه ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬وهو ‪ :‬إذا اتّخذ الكلب العقور ‪ ،‬بقصد قتل إنسان‬
‫وفي مذهب مالك تفصيل ذكره الدّسوق ّ‬
‫معيّن وقتله فالقود ‪ ،‬أنذر عن اتّخاذه أو ل ‪.‬‬
‫وإن قتل غير المعيّن فالدّية ‪ ،‬وكذلك إن اتّخذه لقتل غير المعيّن ‪ ،‬وقتل شخصا فالدّية ‪ ،‬أنذر‬
‫أم ل ‪.‬‬
‫وإن اتّخذه لوجه جائز فالدّية إن تقدّم له إنذار قبل القتل ‪ ،‬وإلّ فل شيء عليه ‪.‬‬
‫وإن اتّخذه ل لوجه جائز ضمن ما أتلف ‪ ،‬تقدّم له فيه إنذار أم ل ‪ ،‬حيث عرف أنّه عقور ‪،‬‬
‫وإلّ لم يضمن ‪ ،‬لنّ فعله حينئذ كفعل العجماء ‪.‬‬
‫ن الحيوان الخطر ينبغي أن يربط ويكفّ شرّه ‪ ،‬كالكلب العقور ‪،‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫وكالسّنّور إذا عهد منه إتلف الطّير أو الطّعام ‪ ،‬فإذا أطلق الكلب العقور أو السّنّور ‪ ،‬فعقر‬
‫إنسانا ‪ ،‬أو أتلف طعاما أو ثوبا ‪ ،‬ليلً أو نهارا ‪ ،‬ضمن ما أتلفه ‪ ،‬لنّه مفرّط باقتنائه‬
‫وإطلقه إلّ إذا دخل داره إنسان بغير إذنه ‪ ،‬فعقره ‪ ،‬فل ضمان عليه ‪ ،‬لنّه متعدّ بالدّخول ‪،‬‬
‫متسبّب بعدم الستئذان لعقر الكلب له ‪ ،‬فإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه ‪ ،‬لنّه تسبّب إلى‬
‫إتلفه ‪.‬‬
‫وكذلك إذا اقتنى سنّورا ‪ ،‬يأكل أفراخ النّاس ‪ ،‬ضمن ما أتلفه كالكلب العقور ‪ ،‬وهذا ‪ -‬هو‬
‫الصحّ ‪ -‬عند الشّافعيّة ‪ ،‬كلّما عهد ذلك منه ليلً أو نهارا ‪ ،‬قال المحلّيّ ‪ :‬لنّ هذه الهرّة‬
‫ينبغي أن تربط ويكفّ شرّها ‪.‬‬
‫أمّا ما يتلفه الكلب العقور لغير العقر ‪ ،‬كما لو ولغ في إناء ‪ ،‬أو بال ‪ ،‬فل يضمن ‪ ،‬لنّ هذا‬
‫ص به الكلب العقور ‪.‬‬
‫ل يخت ّ‬
‫رابعا ‪ :‬ضمان سقوط المباني ‪:‬‬
‫‪ -‬بحث الفقهاء موضوع سقوط المباني وضمانها بعنوان ‪ :‬الحائط المائل ‪.‬‬ ‫‪110‬‬

‫ويتناول القول في ضمان الحائط ‪ ،‬ما يلحق به ‪ ،‬من الشّرفات والمصاعد والميازيب‬
‫والجنحة ‪ ،‬إذا شيّدت مطّلةً على ملك الخرين أو الطّريق العامّ وما يتّصل بها من أحكام ‪.‬‬
‫وقد ميّز الفقهاء ‪ ،‬بين ما إذا كان البناء ‪ ،‬أو الحائط أو نحوه ‪ ،‬مبنيّا من الصل متداعيا ذا‬
‫ل ‪ ،‬وبين ما إذا كان الخلل طارئا ‪ ،‬فهما حالتان ‪:‬‬
‫خلل ‪ ،‬أو مائ ً‬
‫الحالة الولى ‪ :‬الخلل الصليّ في البناء ‪:‬‬
‫ل إلى الطّريق العامّ أو‬
‫‪ -‬هو الخلل الموجود في البناء ‪ ،‬منذ النشاء ‪ ،‬كأن أنشئ مائ ً‬ ‫‪111‬‬

‫أشرع الجناح أو الميزاب أو الشّرفة ‪ ،‬بغير إذن ‪ ،‬أو أشرعه في غير ملكه ‪.‬‬
‫قال الحنفيّة والمالكيّة إن سقط البناء في هذه الحال ‪ ،‬فأتلف إنسانا أو حيوانا أو ما ًل ‪ ،‬كان‬
‫ذلك مضمونا على صاحبه ‪ ،‬مطلقا من غير تفصيل ‪ ،‬ومن غير إشهاد ول طلب ‪ ،‬لنّ في‬
‫البناء تعدّيا ظاهرا ثابتا منذ البتداء وذلك بشغل هواء الطّريق بالبناء ‪ ،‬وهواء الطّريق‬
‫كأصل الطّريق حقّ المارّة ‪ ،‬فمن أحدث فيه شيئا ‪ ،‬كان متعدّيا ضامنا ‪.‬‬
‫ن النتفاع‬
‫والشّافعيّة ل يفرّقون في الضّمان ‪ ،‬بين أن يأذن المام في الشراع أو ل ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالشّارع مشروط بسلمة العاقبة ‪ ،‬بأن ل يضرّ بالمارّة ‪ ،‬وما تولّد منه مضمون ‪ ،‬وإن كان‬
‫إشراعا جائزا ‪.‬‬
‫لكن ما تولّد من الجناح ‪ ،‬في درب منسدّ ‪ ،‬بغير إذن أهله ‪ ،‬مضمون ‪ ،‬وبإذنهم ل ضمان‬
‫فيه‪.‬‬
‫ل إلى الطّريق ‪ ،‬أو إلى ملك غيره ‪ ،‬فتلف به‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬وإذا بنى في ملكه حائطا مائ ً‬
‫شيء أو سقط على شيء فأتلفه ضمنه ‪ ،‬لنّه متعدّ بذلك ‪ ،‬فإنّه ليس له النتفاع بالبناء في‬
‫هواء ملك غيره ‪ ،‬أو هواء مشترك ‪ ،‬ولنّه يعرّضه للوقوع على غيره في غير ملكه ‪،‬‬
‫ل يصيد به ‪.‬‬
‫فأشبه ما لو نصب فيه منج ً‬
‫الحالة الثّانية ‪ :‬الخلل الطّارئ ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا أنشئ البناء مستقيما ثمّ مال ‪ ،‬أو سليما ثمّ تشقّق ووقع ‪ ،‬وحدث بسبب وقوعه‬ ‫‪112‬‬

‫تلف ‪ ،‬فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة ‪ -‬استحسانا ‪ -‬والمالكيّة ‪ ،‬وهو المختار عند‬
‫الحنابلة ‪ ،‬والمرويّ عن عليّ رضي ال عنه وشريح والنّخعيّ والشّعبيّ وغيرهم من‬
‫التّابعين إلى أنّه يضمن ما تلف به ‪ ،‬من نفس أو حيوان أو مال ‪ ،‬إذا طولب صاحبه‬
‫بالنّقض ‪ ،‬وأشهد عليه ‪ ،‬ومضت مدّة يقدر على النّقض خللها ‪ ،‬ولم يفعل ‪.‬‬
‫وهذا قول عند الشّافعيّة ‪ ،‬فقد قالوا ‪ :‬إن أمكنه هدمه أو إصلحه ‪ ،‬ضمن ‪ ،‬لتقصيره بترك‬
‫النّقض والصلح ‪.‬‬
‫والقياس عند الحنفيّة عدم الضّمان ‪ ،‬لنّه لم يوجد من المالك صُنْ ٌع هو تعدّ ‪ ،‬لنّ البناء كان‬
‫في ملكه مستقيما ‪ ،‬والميلن وشغل الهواء ليس من فعله ‪ ،‬فل يضمن ‪ ،‬كما إذا لم يشهد‬
‫عليه ‪ ،‬ولما قالوه في هذه المسألة ‪ :‬ومن قتله الحجر ‪ ،‬بغير فعل البشر ‪ ،‬فهو بالجماع‬
‫هدر ‪.‬‬
‫ن الحائط لمّا‬
‫ووجه الستحسان ‪ :‬ما روي عن الئمّة من الصّحابة والتّابعين المذكورين ‪ ،‬وأ ّ‬
‫مال فقد شغل هواء الطّريق بملكه ‪ ،‬ورفعه بقدرة صاحبه ‪ ،‬فإذا تقدّم إليه وطولب بتفريغه‬
‫لزمه ذلك ‪ ،‬فإذا امتنع مع تمكّنه صار متعدّيا ‪.‬‬
‫ولنّه لو لم يضمن يمتنع من الهدم ‪ ،‬فينقطع المارّة خوفا على أنفسهم ‪ ،‬فيتضرّرون به ‪،‬‬
‫ص يتحمّل لدفع العامّ ‪.‬‬
‫ودفع الضّرر العامّ من الواجب ‪ ،‬وكم من ضرر خا ّ‬
‫ن المطالبة‬
‫ن الشّرط هو التّقدّم ‪ ،‬دون الشهاد ‪ ،‬ل ّ‬
‫ص الحنفيّة على أ ّ‬
‫ومع ذلك فقد ن ّ‬
‫تتحقّق ‪ ،‬وينعدم به معنى العذر في حقّه ‪ ،‬وهو الجهل بميل الحائط ‪.‬‬
‫أمّا الشهاد فللتّمكّن من إثباته عند النكار ‪ ،‬فكان من باب الحتياط ‪.‬‬
‫والمالكيّة يشترطون الشهاد مع النذار ‪ ،‬فإذا انتفى النذار والشهاد فل ضمان ‪ ،‬إلّ أن‬
‫يعترف بذلك مع تفريطه فيضمن ‪ ،‬كما أنّ الشهاد المعتبر عندهم يكون عند الحاكم ‪ ،‬أو‬
‫جماعة المسلمين ولو مع إمكان الشهاد عند الحاكم ‪.‬‬
‫‪ -‬وشروط التّقدّم أو النذار هي ‪ :‬ومعنى التّقدّم ‪ :‬طلب النّقض ممّن يملكه ‪ ،‬وذلك بأن‬ ‫‪113‬‬

‫يقول المتقدّم ‪ :‬إنّ حائطك هذا مخوف ‪ ،‬أو يقول ‪ :‬مائل فانقضه أو اهدمه ‪ ،‬حتّى ل يسقط‬
‫ول يتلف شيئا ‪ ،‬ولو قال ‪ :‬ينبغي أن تهدمه ‪ ،‬فذلك مشورة ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون التّقدّم ممّن له حقّ مصلحة في الطّلب ‪.‬‬
‫ل إلى‬
‫وفرّقوا في هذا ‪ :‬بين ما إذا كان الحائط مائلً إلى الطّريق العامّ ‪ ،‬وبين ما إذا كان مائ ً‬
‫ملك إنسان ‪.‬‬
‫ففي الصّورة الولى ‪ :‬يصحّ التّقدّم من كلّ مكلّف ‪ ،‬مسلم أو غيره ‪ ،‬وليس للمتقدّم ول‬
‫ق العامّة ‪ ،‬وتصرّفه‬
‫للقاضي حقّ إبراء صاحب الحائط ‪ ،‬ول تأخيره بعد المطالبة ‪ ،‬لنّه ح ّ‬
‫في حقّ العامّة نافذ ‪ -‬كما يقول الحصكفيّ نقلً عن الذّخيرة ‪ -‬فيما ينفعهم ‪ ،‬ل فيما يضرّهم‬
‫ح التّقدّم إلّ من المالك الّذي شغل الحائط هواء ملكه ‪ ،‬كما‬
‫‪ .‬وفي الصّورة الثّانية ‪ :‬ل يص ّ‬
‫أنّ له حقّ البراء والتّأخير ‪.‬‬
‫ل إلى الطّريق الخاصّ ‪ ،‬يلزم‬
‫‪ /‬على أنّه لو كان الحائط مائ ً‬ ‫‪928‬‬ ‫بل نصّت المجلّة في المادّة ‪/‬‬
‫أن يكون الّذي تقدّم ممّن له حقّ المرور في ذلك الطّريق ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون الطّلب قبل السّقوط بمدّة يقدر على النّقض خللها ‪ ،‬لنّ مدّة التّمكّن من‬
‫إحضار الجراء مستثناة في الشّرع ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن يكون التّقدّم بعد ميل الحائط ‪ ،‬فلو طلب قبل الميل لم يصحّ ‪ ،‬لعدم التّعدّي ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن يكون التّقدّم إلى من يملك النّقض ‪ ،‬كالمالك ووليّ الصّغير ‪ ،‬ووصيّه ووصيّ‬
‫المجنون ‪ ،‬والرّاهن ‪ ،‬وكذا الواقف والقيّم على الوقف وأحد الشّركاء ‪ ،‬بخلف المرتهن‬
‫والمستأجر والمودع ‪ ،‬لنّهم ليست لهم قدرة على التّصرّف ‪ ،‬فل يفيد طلب النّقض منهم ‪،‬‬
‫ول يعتبر فيهم النذار كما قال الدّردير ‪ ،‬ولهذا ل يضمنون ما تلف من سقوطه ‪ ،‬بل قال‬
‫الحصكفيّ ‪ :‬ل ضمان أصلً على ساكن ول مالك ‪.‬‬
‫ومحلّ هذه الشّروط ‪ -‬كما قال الدّسوقيّ ‪ :‬إذا كان منكرا للميلن ‪ ،‬أمّا إذا كان مقرّا به فل‬
‫يشترط ذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب الشّافعيّة إلى عدم الضّمان مطلقا بسقوط البناء ‪ ،‬إذا مال بعد بنائه مستقيما‬ ‫‪114‬‬

‫ولو تقدّم إليه ‪ ،‬وأشهد عليه ‪.‬‬


‫قال النّوويّ ‪ :‬إن لم يتمكّن من هدمه وإصلحه ‪ ،‬فل ضمان قطعا ‪ ،‬وكذا إن تمكّن على‬
‫الصحّ ‪ .‬ول فرق بين أن يطالبه الوالي أو غيره بالنّقض ‪ ،‬وبين أن ل يطالب ‪ ،‬وهذا هو‬
‫القياس ‪ ،‬كما تقدّم ‪ ،‬ووجهه ‪ :‬أنّه بنى في ملكه ‪ ،‬والهلك حصل بغير فعله ‪ ،‬وأنّ الميل‬
‫نفسه لم يحصل بفعله ‪ ،‬وأنّ ما كان أوّله غير مضمون ‪ ،‬ل ينقلب مضمونا بتغيير الحال ‪.‬‬
‫وذهب بعض الحنابلة ‪ ،‬وهو قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وإسحاق ‪ ،‬إلى أنّه يضمن ما تلف‬
‫به وإن لم يطالب بالنّقض ‪ ،‬وذلك لنّه متعدّ بتركه مائلً ‪ ،‬فضمن ما تلف به ‪ ،‬كما لو بناه‬
‫ل إلى ذلك ابتداءً ‪ ،‬ولنّه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف ‪ ،‬ولو لم يكن ذلك‬
‫مائ ً‬
‫ل إلى ملكه ‪.‬‬
‫موجبا للضّمان لم يضمن بالمطالبة ‪ ،‬كما لو لم يكن مائلً ‪ ،‬أو كان مائ ً‬
‫لكن نصّ أحمد ‪ ،‬هو عدم الضّمان ‪ -‬كما يقول ابن قدامة ‪ -‬أمّا لو طولب بالنّقض ‪ ،‬فقد‬
‫توقّف فيه أحمد ‪ ،‬وذهب بعض الصحاب إلى الضّمان فيه ‪.‬‬
‫أمّا الضّمان الواجب بسقوط البنية ‪ ،‬عند القائلين به ‪ ،‬فهو ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أنّ ما تلف به من النّفوس ‪ ،‬ففيه الدّية على عاقلة مالك البناء ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وما تلف به من الموال فعلى مالك البناء ‪ ،‬لنّ العاقلة ل تعقل المال ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ول تجب على المالك الكفّارة ‪ -‬عند الحنفيّة ‪ -‬ول يحرم من الميراث والوصيّة ‪ ،‬لنّه‬
‫قتل بسبب ‪ ،‬وذلك لعدم القتل مباشرةً ‪ ،‬وإنّما ألحق بالمباشر في الضّمان ‪ ،‬صيانةً للدّم عن‬
‫الهدر ‪ ،‬على خلف الصل ‪ ،‬فبقي في الكفّارة وحرمان الميراث على الصل ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة والجمهور ‪ :‬هو ملحق بالخطأ في أحكامه ‪ ،‬إذ ل قتل بسبب عندهم ‪ ،‬ففيه‬
‫الكفّارة ‪ ،‬وفيه الحرمان من الميراث والوصيّة ‪ ،‬لنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬ضمان التّلف بالشياء ‪:‬‬
‫‪ -‬أكثر ما يعرض التّلف بالشياء ‪ ،‬بسبب إلقائها في الطّرقات والشّوارع ‪ ،‬أو بسبب‬ ‫‪115‬‬

‫وضعها في غير مواضعها المخصّصة لها ‪.‬‬


‫ويمكن تقسيم الشياء إلى خطرة ‪ ،‬وغير خطرة ‪ ،‬أي عاديّة ‪.‬‬
‫القسم الوّل ‪ :‬ضمان التّلف الحاصل بالشياء العاديّة غير الخطرة ‪:‬‬
‫‪ -‬ير ّد الفقهاء مسائل التّلف الحاصل بالشياء العاديّة ‪ ،‬غير الخطرة ‪ ،‬إلى هذه القواعد‬ ‫‪116‬‬

‫والصول ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬كلّ موضع يجوز للواضع أن يضع فيه أشياءه ل يضمن ما يترتّب على وضعها فيه‬
‫ن الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان ‪.‬‬
‫من ضرر ‪ ،‬ل ّ‬
‫الثّاني ‪ :‬كلّ موضع ل يجوز له أن يضع فيه أشياءه يضمن ما ينشأ عن وضعها فيه من‬
‫أضرار ‪ ،‬ما دامت في ذلك الموضع ‪ ،‬فإن زالت عنه لم يضمن ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬كلّ من فعل فعلً لم يؤذن له فيه ‪ ،‬ضمن ما تولّد عنه من ضرر ‪.‬‬
‫الرّابع ‪ :‬أنّ المرور في طريق المسلمين مباح ‪ ،‬بشرط السّلمة فيما يمكن الحتراز عنه ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬أنّ المتسبّب ضامن إذا كان متعدّيا ‪ ،‬وإلّ ل يضمن ‪ ،‬والمباشر ضامن مطلقا ‪.‬‬
‫ومن الفروع الّتي انبثقت منها هذه الصول ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬من وضع جرّةً أو شيئا في طريق ل يملكه فتلف به شيء ضمن ‪ ،‬ولو زال ذلك الشّيء‬
‫الموضوع أ ّولً إلى موضع آخر ‪ -‬غير الطّريق ‪ -‬فتلف به شيء ‪ ،‬برئ واضعه ولم‬
‫يضمن‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لو قعد في الطّريق ليبيع ‪ ،‬فتلف بقعدته شيء ‪ :‬فإن كان قعد بإذن المام ل يضمنه ‪،‬‬
‫وإن كان بغير إذنه يضمنه وللحنابلة قولن في الضّمان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ولو وضع جرّةً على حائط ‪ ،‬فأهوت بها الرّيح ‪ ،‬وتلف بوقوعها شيء ‪ ،‬لم يضمن ‪،‬‬
‫إذ انقطع أثر فعله بوضعه ‪ ،‬وهو غير متعدّ في هذا الوضع بأن وضعت الجرّة وضعا مأمونا‬
‫‪ ،‬فل يضاف إليه التّلف ‪.‬‬
‫د ‪ -‬لو حمل في الطّريق شيئا على دابّته أو سيّارته ‪ ،‬فسقط المحمول على شيء فأتلفه أو‬
‫اصطدم بشيء فكسره ‪ ،‬ضمن الحامل ‪ ،‬لنّ الحمل في الطّريق مباح بشرط السّلمة ‪ ،‬ولنّه‬
‫أثر فعله ‪.‬‬
‫ولو عثر أحد بالحمل ضمن ‪ ،‬لنّه هو الواضع ‪ ،‬فلم ينقطع أثر فعله ‪.‬‬
‫هع – لو ألقى في الطّريق قشرا ‪ ،‬فزلقت به دابّة ‪ ،‬ضمن ‪ ،‬لنّه غير مأذون فيه ‪ ،‬وهو‬
‫الصّحيح عند الشّافعيّة ‪ ،‬ومقابل الصّحيح عندهم ‪ :‬أنّه غير مضمون ‪ ،‬لجريان العادة‬
‫بالمسامحة في طرح ما ذكر ‪.‬‬
‫ش في الطّريق ما ًء ‪ ،‬فتلفت به دابّة ‪ ،‬ضمن ‪ ،‬وقال القليوبيّ ‪ :‬إنّه غير مضمون‬
‫وكذا لو ر ّ‬
‫إذا كان لمصلحة عامّة ‪ ،‬ولم يجاوز العادة ‪ ،‬وإلّ فهو مضمون على الرّاشّ ‪ ،‬لنّه المباشر ‪.‬‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬ضمان التّلف بالشياء الخطرة ‪:‬‬
‫»‬ ‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ -‬روى أبو موسى الشعريّ رضي ال تعالى عنه عن النّب ّ‬ ‫‪117‬‬

‫إذا م ّر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ‪ ،‬ومعه نبل ‪ ،‬فليمسك على نصالها ‪ -‬أو قال ‪:‬‬
‫فليقبض بكفّه ‪ -‬أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء « ‪.‬‬
‫وفي الفروع ‪ :‬لو انفلتت فأس من يد قصّاب ‪ ،‬كان يكسر العظم ‪ ،‬فأتلف عضو إنسان ‪،‬‬
‫يضمن ‪ ،‬وهو خطأ ‪.‬‬
‫ول تعليل للضّمان في هذه المسألة إلّ التّقصير في رعاية هذه اللة الحادّة ‪ ،‬وعدم الحتراز‬
‫أثناء الستعمال ‪ ،‬فاستدلّ بوقوع الضّرر على التّعدّي ‪ ،‬وأقيم مقامه ‪.‬‬
‫ن ذا اليد على الشياء الخطرة يضمن من الضرار المترتّبة عليها ما كان‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫بفعله ‪ ،‬ول يضمن ما كان بغير فعله ‪ .‬ومن نصوصهم ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬لو خرج البارود من البندقيّة بفعله ‪ ،‬فأصاب آدميّا أو مالً ضمن ‪ ،‬قياسا على ما لو‬
‫طارت شرارة من ضرب الحدّاد ‪ ،‬فأصابت ثوب مارّ في الطّريق ‪ ،‬ضمن الحدّاد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ولو هبّت الرّيح فحملت نارا ‪ ،‬وألقتها على البندقيّة ‪ ،‬فخرج البارود ‪ ،‬ل ضمان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ولو وقع الزّند المتّصل بالبندقيّة المجرّبة ‪ ،‬الّتي تستعمل في زماننا ‪ ،‬على البارود‬
‫بنفسه ‪ ،‬فخرجت رصاصتها ‪ ،‬أو ما بجوفها ‪ ،‬فأتلف مالً أو آدميّا ‪ ،‬فإنّه ل ضمان ‪.‬‬
‫ضمان الصطدام ‪:‬‬
‫تناول الفقهاء حوادث الصطدام ‪ ،‬وميّزوا بين اصطدام النسان والحيوان ‪ ،‬وبين اصطدام‬
‫الشياء كالسّفن ونحوها ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬اصطدام النسان ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان خطأً وماتا منه ضمنت عاقلة كلّ فارس‬ ‫‪118‬‬

‫دية الخر إذا وقعا على القفا ‪ ،‬وإذا وقعا على وجوههما يهدر دمهما ‪.‬‬
‫ولو كانا عامدين فعلى عاقلة كلّ نصف الدّية ‪ ،‬ولو وقع أحدهما على وجهه هدر دمه فقط ‪.‬‬
‫ل فانقطع الحبل ‪ ،‬فسقطا على القفا وماتا هدر دمهما ‪ ،‬لموت كلّ‬
‫وإذا تجاذب رجلن حب ً‬
‫بقوّة نفسه ‪ ،‬فإن وقعا على الوجه وجب دية كلّ واحد منهما على الخر ‪ ،‬لموته بقوّة‬
‫ل فماتا معا ‪ ،‬فل قصاص‬
‫صاحبه ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬إن تصادم مكلّفان عمدا ‪ ،‬أو تجاذبا حب ً‬
‫ول دية وإن مات أحدهما فقط فالقود ‪.‬‬
‫وإن تصادما خطأً فماتا ‪ ،‬فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الخر ‪ ،‬وإن مات أحدهما فديته‬
‫على من بقي منها ‪.‬‬
‫وإن كان التّجاذب لمصلحة فل قصاص ول دية ‪ ،‬كما يقع بين صنّاع الحبال فإذا تجاذب‬
‫ل لصلحه فماتا أو أحدهما فهو هدر ‪.‬‬
‫صانعان حب ً‬
‫ولو تصادم الصّبيّان فماتا ‪ ،‬فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الخر ‪ ،‬سواء حصل التّصادم‬
‫ن فعل الصّبيان عمدا حكمه كالخطأ ‪.‬‬
‫أو التّجاذب بقصد أو بغير قصد ‪ ،‬ل ّ‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّه إذا اصطدم شخصان ‪ -‬راكبان أو ماشيان ‪ ،‬أو راكب وماش‬
‫طويل‪ -‬بل قصد ‪ ،‬فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية مخفّفة ‪ ،‬لنّ كلّ واحد منهما هلك‬
‫بفعله‪ ،‬وفعل صاحبه ‪ ،‬فيهدر النّصف ‪ ،‬ولنّه خطأ محض ‪ ،‬ول فرق بين أن يقعا منكبّين أو‬
‫مستلقيين ‪ ،‬أو أحدهما منكبّا والخر مستلقيا ‪.‬‬
‫ن كلّ واحد‬
‫وإن قصدا الصطدام فنصف الدّية مغلّظةً على عاقلة كلّ منهما لورثة الخر ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن القتل حينئذ شبه عمد فتكون الدّية‬
‫منهما هلك بفعله وفعل صاحبه ‪ ،‬فيهدر النّصف ‪ ،‬ول ّ‬
‫مغلّظةً ‪ ،‬ول قصاص إذا مات أحدهما دون الخر ‪ ،‬لنّ الغالب أنّ الصطدام ل يفضي إلى‬
‫الموت ‪.‬‬
‫والصّحيح أنّ على كلّ منهما في تركته كفّارتين ‪ :‬إحداهما لقتل نفسه ‪ ،‬والخرى لقتل‬
‫ن الكفّارة ل تتجزّأ ‪.‬‬
‫صاحبه ‪ ،‬لشتراكهما في إهلك نفسين ‪ ،‬بناءً على أ ّ‬
‫وفي تركة كلّ منهما نصف قيمة دية الخر ‪ ،‬لشتراكهما في التلف ‪ ،‬مع هدر فعل كلّ‬
‫ق نفسه ‪.‬‬
‫منهما في ح ّ‬
‫ولو تجاذبا حبلً فانقطع وسقطا وماتا ‪ ،‬فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية الخر ‪ ،‬سواء‬
‫أسقطا منكبّين أم مستلقيين ‪ ،‬أم أحدهما منكبّا والخر مستلقيا ‪ ،‬وإن قطعه غيرهما فديتهما‬
‫على عاقلته ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان ‪ ،‬فعلى كلّ واحد من المصطدمين ضمان ما‬
‫تلف من الخر من نفس أو دابّة أو مال ‪ ،‬سواء كانا مقبلين أم مدبرين ‪ ،‬لنّ كلّ واحد‬
‫منهما مات من صدمة صاحبه وإنّما هو قربها إلى محلّ الجناية ‪ ،‬فلزم الخر ضمانها كما‬
‫ن قيمة الدّابّتين إن تساوتا تقاصّا وسقطتا ‪ ،‬وإن كانت‬
‫لو كانت واقفةً إذا ثبت هذا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫إحداهما أكثر من الخرى فلصاحبها الزّيادة ‪ ،‬وإن ماتت إحدى الدّابّتين فعلى الخر قيمتها ‪،‬‬
‫وإن نقصت فعليه نقصها ‪.‬‬
‫فإن كان أحدهما يسير بين يدي الخر ‪ ،‬فأدركه الثّاني فصدمه فماتت الدّابّتان ‪ ،‬أو إحداهما‬
‫فالضّمان على اللحق ‪ ،‬لنّه الصّادم والخر مصدوم ‪ ،‬فهو بمنزلة الواقف ‪.‬‬
‫ص أحمد على هذا‬
‫وإن كان أحدهما يسير والخر واقفا ‪ ،‬فعلى السّائر قيمة دابّة الواقف ‪ ،‬ن ّ‬
‫لنّ السّائر هو الصّادم المتلف ‪ ،‬فكان الضّمان عليه وإن مات هو أو دابّته فهو هدر ‪ ،‬لنّه‬
‫أتلف نفسه ودابّته ‪ ،‬وإن انحرف الواقف فصادفت الصّدمة انحرافه فهما كالسّائرين ‪ ،‬لنّ‬
‫التّلف حصل من فعلهما ‪ ،‬وإن كان الواقف متعدّيا بوقوفه ‪ ،‬مثل أن يقف في طريق ضيّق‬
‫فالضّمان عليه دون السّائر ‪ ،‬لنّ التّلف حصل بتعدّيه فكان الضّمان عليه ‪ ،‬كما لو وضع‬
‫حجرا في الطّريق ‪ ،‬أو جلس في طريق ضيّق فعثر به إنسان ‪.‬‬
‫وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا ‪ ،‬فعلى عاقلة ك ّل واحد منهما دية الخر ‪ ،‬روي هذا عن‬
‫ي رضي ال عنه والخلف ‪ -‬هاهنا ‪ -‬في الضّمان كالخلف فيما إذا اصطدم الفارسان ‪،‬‬
‫عل ّ‬
‫ق ‪ ،‬لكون الضّمان على‬
‫إلّ أنّه ل تقاصّ ‪ -‬هاهنا ‪ -‬في الضّمان ‪ ،‬لنّه على غير من له الح ّ‬
‫ق مثل أن تكون العاقلة‬
‫عاقلة كلّ واحد منهما ‪ ،‬وإن اتّفق أن يكون الضّمان على من له الح ّ‬
‫هي الوارثة ‪ ،‬أو يكون الضّمان على المتصادمين تقاصّا ‪ ،‬ول يجب القصاص سواء كان‬
‫ن الصّدمة ل تقتل غالبا ‪ ،‬فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد‬
‫اصطدامهما عمدا أو خطأً ‪ ،‬ل ّ‬
‫الخطأ ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬اصطدام الشياء ‪:‬‬
‫السّفن والسّيّارات ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الفقهاء ‪ :‬إذا كان الصطدام بسبب قاهر أو مفاجئ ‪ ،‬كهبوب الرّيح أو العواصف‪،‬‬ ‫‪119‬‬

‫فل ضمان على أحد ‪.‬‬


‫وإذا كان الصطدام بسبب تفريط أحد ربّاني السّفينتين ‪ -‬أو قائدي السّيّارتين ‪ -‬كان‬
‫الضّمان عليه وحده ‪.‬‬
‫ومعيار التّفريط ‪ -‬كما يقول ابن قدامة ‪ -‬أن يكون الرّبّان ‪ -‬وكذلك القائد ‪ -‬قادرا على‬
‫ضبط سفينته ‪ -‬أو سيّارته ‪ -‬أو ردّها عن الخرى ‪ ،‬فلم يفعل ‪ ،‬أو أمكنه أن يعدلها إلى‬
‫ناحية أخرى فلم يفعل ‪ ،‬أو لم يكمل آلتها من الحبال والرّجال وغيرها ‪.‬‬
‫وإذا كانت إحدى السّفينتين واقفةً ‪ ،‬والخرى سائرةً ‪ ،‬فل شيء على الواقفة ‪ ،‬وعلى‬
‫السّائرة ضمان الواقفة ‪ ،‬إن كان القيّم مفرّطا ‪.‬‬
‫وإذا كانتا ماشيتين متساويتين ‪ ،‬بأن كانتا في بحر أو ماء راكد ‪ ،‬ضمن المفرّط سفينة‬
‫الخر‪ ،‬بما فيها من مال أو نفس ‪.‬‬
‫أمّا إذا كانتا غير متساويتين ‪ ،‬بأن كانت إحداهما منحدر ًة ‪ ،‬والخرى صاعد ًة فعلى المنحدر‬
‫ضمان الصّاعدة ‪ ،‬لنّها تنحدر عليها من علوّ ‪ ،‬فيكون ذلك سببا في غرقها ‪ ،‬فتنزل‬
‫المنحدرة منزلة السّائرة ‪ ،‬والصّاعدة منزلة الواقفة ‪ ،‬إلّ أن يكون التّفريط من المصعد‬
‫فيكون‪ ،‬الضّمان عليه ‪ ،‬لنّه المفرّط ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة في اصطدام السّفن ‪ :‬السّفينتان كالدّابّتين ‪ ،‬والملحان كالرّاكبين إن كانتا‬
‫لهما‪.‬‬
‫وأطلق ابن جزيّ قوله ‪ :‬إذا اصطدم مركبان في جريهما ‪ ،‬فانكسر أحدهما أو كلهما ‪ ،‬فل‬
‫ضمان في ذلك ‪.‬‬
‫انتفاء الضّمان ‪:‬‬
‫ينتفي الضّمان ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬بأسباب كثيرة ‪ ،‬من أهمّها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬دفع الصّائل ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في دفع الصّائل ‪ ،‬لنتفاء الثم وانتفاء الضّمان ‪ -‬بوجه عامّ ‪ -‬ما يلي ‪:‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪ -‬أن يكون الصّول حالً ‪ ،‬والصّائل شاهرا سلحه أو سيفه ‪ ،‬ويخاف منه الهلك ‪ ،‬بحيث‬ ‫‪1‬‬

‫ل يمكن المصول عليه ‪ ،‬أن يلجأ إلى السّلطة ليدفعه عنه ‪.‬‬
‫‪ -‬أن يسبقه إنذار وإعلم للصّائل ‪ ،‬إذا كان ممّن يفهم الخطاب كالدميّ ‪ ،‬وذلك بأن‬ ‫‪2‬‬

‫يناشده اللّه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ناشدتك اللّه إلّ ما خلّيت سبيلي ‪ ،‬ثلث مرّات ‪ ،‬أو يعظه ‪ ،‬أو يزجره‬
‫لعلّه ينكفّ ‪ ،‬فأمّا غيره ‪ ،‬كالصّبيّ والمجنون ‪ -‬وفي حكمهما البهيمة ‪ -‬فإنّ إنذارهم غير‬
‫ن النذار‬
‫مفيد ‪ ،‬وهذا ما لم يعاجل بالقتال ‪ ،‬وإلّ فل إنذار ‪ ،‬قال الخرشيّ ‪ :‬والظّاهر أ ّ‬
‫مستحبّ ‪ ،‬وهو الّذي قاله الدّردير ‪ :‬بعد النذار ندبا ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬ويجب تقديم النذار ‪ ،‬في كلّ دفع ‪ ،‬إلّ في مسألة النّظر إلى حرم النسان‬
‫وقال الغزال ّ‬
‫من كوّة ‪.‬‬
‫‪ -‬كما يشترط أن يكون الدّفع على سبيل التّدرّج ‪ :‬فما أمكن دفعه بالقول ل يدفع بالضّرب‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫وما أمكن دفعه بالضّرب ل يدفع بالقتل ‪ ،‬وذلك تطبيقا للقواعد الفقهيّة المقرّرة في نحو‬
‫هذا ‪ ،‬كقاعدة الضّرر الشدّ يزال بالضّرر الخفّ ‪.‬‬
‫‪ -‬وشرط المالكيّة أن ل يقدر المصول عليه على الهروب ‪ ،‬من غير مضرّة تحصل له ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫فإن كان يقدر على ذلك بل مضرّة ول مشقّة تلحقه ‪ ،‬لم يجز له قتل الصّائل ‪ ،‬بل ول‬
‫جرحه‪ ،‬ويجب هربه منه ارتكابا لخفّ الضّررين ‪.‬‬
‫الضّمان في دفع الصّائل ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الجمهور إلى أنّه إن أدّى دفع الصّائل إلى قتله ‪ ،‬فل شيء على الدّافع ‪.‬‬ ‫‪121‬‬

‫وللتّفصيل ر ‪ :‬مصطلح ‪ ( :‬صيال ) ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬حال الضّرورة ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّرورة ‪ :‬نازلة ل مدفع لها ‪ ،‬أو كما يقول أهل الصول ‪ :‬نازلة ل مدفع لها إلّ‬ ‫‪122‬‬

‫بارتكاب محظور يباح فعله لجلها ‪.‬‬


‫ومن النّصوص الواردة في أحوال الضّرورة ‪:‬‬
‫‪ -‬حريق وقع في محلّة ‪ ،‬فهدم رجل دار غيره ‪ ،‬بغير أمر صاحبه ‪ ،‬وبغير إذن من‬ ‫‪1‬‬

‫السّلطان ‪ ،‬حتّى ينقطع عن داره ‪ ،‬ضمن ولم يأثم ‪.‬‬


‫ي ‪ :‬وفيه دليل على أنّه لو كان بأمر السّلطان ل يضمن ‪ ،‬ووجهه ‪ :‬أنّ له وليةً‬
‫قال الرّمل ّ‬
‫ح أمره لدفع الضّرر العامّ ‪ .‬وبه صرّح في الخانيّة ‪.‬‬
‫عا ّمةً ‪ ،‬يص ّ‬
‫‪ -‬يجوز أكل الميتة كما يجوز أكل مال الغير مع ضمان البدل إذا اضطرّ ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ‪ ،‬ينظر إلى أكثرهما قيمةً ‪ ،‬فيضمن صاحب الكثر قيمة القلّ ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬إذا مضت مدّة الجارة ‪ ،‬والزّرع بقل ‪ ،‬لم يحصد بعد ‪ ،‬فإنّه يترك بالقضاء أو الرّضى ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫ن له نهايةً ‪.‬‬
‫بأجر المثل إلى إدراكه رعايةً للجانبين ‪ ،‬ل ّ‬
‫ج ‪ -‬حال تنفيذ المر ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لنتفاء الضّمان عن المأمور وثبوته على المر ‪ ،‬ما يلي ‪:‬‬ ‫‪123‬‬

‫‪ -‬أن يكون المأمور به جائز الفعل ‪ ،‬فلو لم يكن جائزا فعله ضمن الفاعل ل المر ‪ ،‬فلو‬ ‫‪1‬‬

‫أمر غيره بتخريق ثوب ثالث ضمن المخرّق ل المر ‪.‬‬


‫‪ -‬أن تكون للمر ولية على المأمور ‪ ،‬فإن لم تكن له ولية عليه ‪ ،‬وأمره بأخذ مال‬ ‫‪2‬‬

‫غيره فأخذه ‪ ،‬ضمن الخذ ل المر ‪ ،‬لعدم الولية عليه أصلً ‪ ،‬فلم يصحّ المر ‪ ،‬وفي كلّ‬
‫موضع لم يصحّ المر كان الضّمان على المأمور ‪ ،‬ولم يضمن المر ‪.‬‬
‫ح المر بالشّرطين السّابقين ‪ ،‬وقع الضّمان على المر ‪ ،‬وانتفى عن المأمور ولو‬
‫وإذا ص ّ‬
‫كان مباشرا ‪ ،‬لنّه معذور لوجوب طاعته لمن هو في وليته ‪ ،‬كالولد إذا أمره أبوه ‪،‬‬
‫والموظّف إذا أمره رئيسه ‪.‬‬
‫قال الحصكفيّ ‪ :‬المر ل ضمان عليه بالمر ‪ ،‬إلّ إذا كان المر سلطانا أو أبا أو سيّدا ‪ ،‬أو‬
‫كان المأمور صبيّا أو عبدا ‪.‬‬
‫وكذا إذا كان مجنونا ‪ ،‬أو كان أجيرا للمر ‪.‬‬
‫د ‪ -‬حال تنفيذ إذن المالك وغيره ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل أنّه ل يجوز لحد أن يتصرّف في ملك الغير بل إذنه ‪ ،‬فإن أذن وترتّب على‬ ‫‪124‬‬

‫الفعل المأذون به ضرر انتفى الضّمان ‪ ،‬لكن ذلك مشروط ‪ :‬بأن يكون الشّيء المأذون‬
‫بإتلفه مملوكا للذن ‪ ،‬أو له ولية عليه ‪.‬‬
‫وأن يكون الذن بحيث يملك هو التّصرّف فيه ‪ ،‬وإتلفه ‪ ،‬لكونه مباحا له ‪.‬‬
‫وعبّر المالكيّة عن ذلك بأن يكون الذن معتبرا شرعا ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬ممّن يعتبر إذنه ‪ ،‬فلو انتفى الذن أصلً ‪ ،‬كما لو استخدم سيّارة غيره بغير‬
‫إذنه ‪ ،‬أو قاد دابّته ‪ ،‬أو ساقها ‪ ،‬أو حمل عليها شيئا ‪ ،‬أو ركبها فعطبت ‪ ،‬فهو ضامن ‪.‬‬
‫أو انتفى الملك ‪ -‬كما لو أذن شخص لخر بفعل ترتّب عليه إتلف ملك غيره ‪ -‬ضمن‬
‫المأذون له ‪ ،‬لنّه ل يجوز التّصرّف في مال غيره بل إذنه ول وليته ‪.‬‬
‫ولو أذن الخر بإتلف ماله ‪ ،‬فأتلفه فل ضمان ‪ ،‬كما لو قال له ‪ :‬أحرق ثوبي ففعل ‪ ،‬فل‬
‫يغرم ‪ ،‬إلّ الوديعة إذا أذن له بإتلفها يضمنها ‪ ،‬للتزامه حفظها ‪ ،‬ولو داوى الطّبيب صبيّا‬
‫ي نفسه ‪ ،‬فمات أو عطب ‪ ،‬ضمن الطّبيب ‪ ،‬ولو كان الطّبيب عالما ‪ ،‬ولو لم‬
‫بإذن من الصّب ّ‬
‫يقصّر ‪ ،‬ولو أصاب وجه العلم والصّنعة لنّ إذن الصّبيّ غير معتبر شرعا ‪.‬‬
‫وكذا لو أذن الرّشيد لطبيب في قتله ففعل ‪ ،‬لنّ هذا الذن غير معتبر شرعا ‪ ،‬وهذا عند‬
‫المالكيّة ‪.‬‬
‫ن الباحة ل تجري في النّفس ‪ ،‬لنّ‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬لو قال له اقتلني فقتله ‪ ،‬ضمن ديته ‪ ،‬ل ّ‬
‫النسان ل يملك إتلف نفسه ‪ ،‬لنّه محرّم شرعا ‪ ،‬لكن يسقط القصاص ‪ ،‬لشبهة الذن ‪،‬‬
‫كما يقول الحصكفيّ ‪ ،‬وهو قول للشّافعيّة ‪.‬‬
‫وفي قول للحنفيّة ‪ :‬ل تجب الدّية أيضا ‪ ،‬وهو قول سحنون من المالكيّة ‪ ،‬وهو الظهر عند‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬فهو هدر للذن ‪ ،‬وفي قول ابن قاسم ‪ :‬يقتل ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ‪.‬‬
‫هع – حال تنفيذ أمر الحاكم أو إذنه ‪:‬‬
‫– إذا ترتّب على تنفيذ أمر الحاكم ‪ ،‬أو إذنه بالفعل ضرر ‪ ،‬ففيه خلف وتفصيل ‪.‬‬ ‫‪125‬‬

‫فلو حفر حفرةً في طريق المسلمين العامّ ‪ ،‬أو في مكان عامّ لهم ‪ ،‬كالسّوق والمنتدى‬
‫والمحتطب والمقبرة ‪ ،‬أو أنشأ بنا ًء ‪ ،‬أو شقّ ترع ًة ‪ ،‬أو نصب خيم ًة ‪ ،‬فعطب بها رجل ‪ ،‬أو‬
‫تلف بها إنسان ‪ ،‬فديته على عاقلة الحافر ‪ ،‬وإن تلف بها حيوان ‪ ،‬فضمانه في ماله ‪ ،‬لنّ‬
‫ق العامّة ل خلف في ذلك ‪.‬‬
‫ذلك تعدّ وتجاوز ‪ ،‬وهو محظور في الشّرع صيان ًة لح ّ‬
‫فإن كان ذلك بإذن الحاكم أو أمره أو أمر نائبه ‪ :‬فذهب الحنفيّة إلى أنّه ل يضمن ‪ ،‬لنّه‬
‫ن للمام وليةً عا ّمةً على الطّريق ‪ ،‬إذ ناب عن العامّة ‪ ،‬فكان كمن‬
‫غير متعدّ حينئذ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫فعله في ملكه ‪.‬‬
‫ي أو غيره ضمن الحافر‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬لو حفر بئرا في طريق المسلمين فتلف فيها آدم ّ‬
‫لتسبّبه في تلفه ‪ ،‬أذن السّلطان أو لم يأذن ويمنع من ذلك البناء ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو حفر بطريق ضيّق يضرّ المارّة فهو مضمون وإن أذن فيه المام ‪ ،‬إذ‬
‫ليس له الذن فيما يض ّر ‪ ،‬ولو حفر في طريق ل يضرّ المارّة وأذن فيه المام فل ضمان ‪،‬‬
‫سواء حفر لمصلحة نفسه أو لمصلحة المسلمين ‪ ،‬وإن لم يأذن فإن حفر لمصلحته فقط‬
‫فالضّمان فيه ‪ ،‬أو لمصلحة عامّة فل ضمان في الظهر لجوازه ‪ ،‬ومقابل الظهر ‪ :‬فيه‬
‫الضّمان ‪ ،‬لنّ الجواز مشروط بسلمة العاقبة ‪.‬‬
‫وفصّل الحنابلة ناظرين إلى الطّريق ‪ :‬فإن كان الطّريق ضيّقا ‪ ،‬فعليه ضمان من هلك به ‪،‬‬
‫لنّه متعدّ ‪ ،‬سواء أذن المام أو لم يأذن ‪ ،‬فإنّه ليس للمام الذن فيما يضرّ بالمسلمين ‪،‬‬
‫ولو فعل ذلك المام ‪ ،‬يضمن ما تلف به ‪ ،‬التّعدية ‪.‬‬
‫وإن كان الطّريق واسعا ‪ ،‬فحفر في مكان يضرّ بالمسلمين ‪ ،‬فعليه الضّمان كذلك ‪.‬‬
‫وإن حفر في مكان ل ضرر فيه ‪ ،‬نظرنا ‪ :‬فإن حفر لنفسه ‪ ،‬ضمن ما تلف بها ‪ ،‬سواء‬
‫حفرها بإذن المام ‪ ،‬أو بغير إذنه وإن حفرها لنفع المسلمين ‪ -‬كما لو حفرها لينزل فيها‬
‫ماء المطر ‪ ،‬أو لتشرب منه المارّة ‪ -‬فل يضمن ‪ ،‬إذا كان بإذن المام ‪ ،‬وإن كان بغير‬
‫إذنه‪ ،‬ففيه روايتان ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬أنّه ل يضمن ‪.‬‬
‫والخرى ‪ :‬أنّه يضمن ‪ ،‬لنّه افتات على المام ‪.‬‬
‫الضّمان في الزّكاة ‪:‬‬
‫في ضمان زكاة المال ‪ ،‬إذا هلك النّصاب حالتان ‪:‬‬
‫الحالة الولى ‪:‬‬
‫‪ -‬لو هلك المال بعد تمام الحول ‪ ،‬والتّمكّن من الداء ‪:‬‬ ‫‪126‬‬

‫فذهب الجمهور ‪ ،‬إلى أنّ الزّكاة تضمن بالتّأخير ‪ ،‬وعليه الفتوى عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن وجوب‬
‫وذهب بعض الحنفيّة كأبي بكر الرّازيّ ‪ ،‬إلى عدم الضّمان في هذه الحال ‪ ،‬ل ّ‬
‫الزّكاة على التّراخي ‪ ،‬وذلك لطلق المر بالزّكاة ‪ ،‬ومطلق المر ل يقتضي الفور ‪ ،‬فيجوز‬
‫للمكلّف تأخيره ‪ ،‬كما يقول الكمال ‪.‬‬
‫الحالة الثّانية ‪:‬‬
‫‪ -‬لو أتلف المالك المال بعد الحول ‪ ،‬قبل التّمكّن من إخراج الزّكاة ‪ ،‬فإنّها مضمونة عند‬ ‫‪127‬‬

‫الجمهور أيضا ‪ ،‬وهو الّذي أطلقه النّوويّ ‪ ،‬وأحد قولين عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّها كما قال‬
‫ي الحول ‪ ،‬وعلّله الحنفيّة بوجود التّعدّي منه ‪.‬‬
‫البهوتيّ استقرّت بمض ّ‬
‫والقول الخر عند الحنفيّة ‪ :‬أنّه ل يضمن ‪.‬‬
‫ن أنّه مصرفها ‪ ،‬فبان غير ذلك ففي الجزاء‬
‫‪ -‬لو دفع المزكّي زكاته بتح ّر ‪ ،‬إلى من ظ ّ‬ ‫‪128‬‬

‫أو عدمه أي الضّمان خلف ينظر في ‪ ( :‬زكاة ) ‪.‬‬


‫الضّمان في الحجّ عن الغير ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ ،‬إلى جواز الستئجار على الحجّ ‪ ،‬وفي تضمين من يحجّ عن‬ ‫‪129‬‬

‫غيره التّفصيل التّالي ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬إذا أفسد الحاجّ عن غيره حجّه متعمّدا ‪ ،‬بأن بدا له فرجع من بعض الطّريق أو جامع‬
‫قبل الوقوف ‪ ،‬فإنّه يغرم ما أنفق على نفسه من المال ‪ ،‬لفساده الحجّ ‪ ،‬ويعيده من مال‬
‫نفسه عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ ‪ :‬إذا جامع الجير فسد حجّه ‪ ،‬وانقلب له ‪ ،‬فتلزمه الكفّارة ‪ ،‬والمضيّ في‬
‫فاسده ‪ ،‬هذا هو المشهور ‪.‬‬
‫وصرّح الجمل بأنّه ل شيء له على المستأجر ‪ ،‬لنّه لم ينتفع بما فعله ‪ ،‬وأنّه مقصّر ‪.‬‬
‫ن الحجّة لم تجزئ عن المستنيب ‪ ،‬لتفريطه‬
‫وقال المقدسيّ ‪ :‬ويردّ ما أخذ من المال ‪ ،‬ل ّ‬
‫وجنابته ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا أحصر الحاجّ عن غيره ‪ ،‬فله التّحلّل وفي دم الحصار خلف ‪:‬‬
‫فعند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬وهو أحد وجهين عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة ‪ :‬أنّه على‬
‫المر ‪ ،‬لنّه للتّخلّص من مشقّة السّفر ‪ ،‬فهو كنفقة الرّجوع ولوقوع النّسك له ‪ ،‬مع عدم‬
‫إساءة الجير ‪.‬‬
‫وعند أبي يوسف ‪ ،‬وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة أنّه في ضمان‬
‫الجير ‪ ،‬كما لو أفسده ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إذا فاته الحجّ ‪ ،‬بغير تقصير منه بنوم ‪ ،‬أو تأخّر عن القافلة ‪ ،‬أو غيرهما ‪ ،‬من غير‬
‫إحصار ‪ ،‬بل بآفة سماويّة ‪ ،‬ل يضمن عند الحنفيّة النّفقة ‪ ،‬لنّه فاته بغير صنعه ‪ ،‬وعليه‬
‫ن الحجّة وجبت عليه بالشّروع ‪ ،‬فلزمه قضاؤها ‪.‬‬
‫الحجّ من قابل ‪ ،‬ل ّ‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬ول شيء للجير في المذهب ‪.‬‬
‫دم القران والتّمتّع ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه دم القران والتّمتّع في الحجّ عن الغير ‪:‬‬ ‫‪130‬‬

‫ج ‪ -‬أي المأمور بالحجّ عن غيره ‪ -‬إن أذن له‬


‫قال الحنفيّة ‪ :‬دم القران والتّمتّع على الحا ّ‬
‫المر بالقران والتّمتّع ‪ ،‬وإلّ فيصير مخالفا ‪ ،‬فيضمن النّفقة ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة تفصيل وتفرقة بين ما إذا كانت الجارة على ال ّذمّة أو العين ‪ ،‬وكان قد أمره‬
‫بالحجّ ‪ ،‬فقرن أو تمتّع ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬دم التّمتّع والقران على المستنيب ‪ ،‬إن أذن له فيهما ‪ ،‬وإن لم يؤذن فعليه ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬قران وتمتّع ) ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا ما يلزم من الدّماء بفعل المحظورات فعلى الحاجّ وهو المأمور لنّه لم يؤذن له‬ ‫‪131‬‬

‫في الجناية ‪ ،‬فكان موجبها عليه ‪ ،‬كما لو لم يكن نائبا ‪.‬‬


‫وك ّل ما لزمه بمخالفته ‪ ،‬فضمانه منه كما يقول البهوتيّ ‪.‬‬
‫الضّمان في الضحيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬لو مضت أيّام الضحيّة ‪ ،‬ولم يذبح أو ذبح شخص أضحيّة غيره بغير إذنه ‪ ،‬ففي‬ ‫‪132‬‬

‫ذلك تفصيل ينظر في ( أضحيّة ) ‪.‬‬


‫ضمان صيد الحرم ‪:‬‬
‫‪ -‬نهى الشّارع عن صيد المحرم ‪ ،‬بحجّ أو عمرة ‪ ،‬حيوانا برّيّا ‪ ،‬إذا كان مأكول اللّحم‬ ‫‪133‬‬

‫‪ -‬عند الجمهور ‪ -‬من طير أو دابّة ‪ ،‬سواء أصيد من حرم أم من غيره ‪ ،‬وذلك بقوله‬
‫تعالى‪َ { :‬وحُ ّرمَ عَلَ ْي ُكمْ صَيْ ُد الْبَرّ مَا ُدمْ ُتمْ حُرُما } ‪.‬‬
‫وأطلق المالكيّة عدم جواز قتل شيء من صيد الب ّر ‪ ،‬ما أكل لحمه وما لم يؤكل ‪ ،‬لكنّهم‬
‫أجازوا ‪ -‬كالجمهور ‪ -‬قتل الحيوانات المضرّة ‪ :‬كالسد ‪ ،‬والذّئب ‪ ،‬والحيّة ‪ ،‬والفأرة ‪،‬‬
‫والعقرب ‪ ،‬والكلب العقور ‪ ،‬بل استحبّ الحنابلة قتلها ‪ ،‬ول يقتل ضبّ ول خنزير ول قرد ‪،‬‬
‫إلّ أن يخاف من عاديته ‪.‬‬
‫وأوجب الشّارع في الصّيد المنهيّ عنه بالحرم وبالنّسبة للمحرم ضمان مثل الحيوان المصيد‬
‫من النعام ‪ ،‬فيذبحه في الحرم ويتصدّق به ‪ ،‬أو ضمان قيمته من الطّعام ‪ -‬إن لم يكن له‬
‫مثل ‪ -‬فيتصدّق بالقيمة ‪ ،‬أو صيام يوم عن طعام كلّ مسكين ‪ ،‬وهو المدّ عند الشّافعيّة ‪،‬‬
‫ونصف الصّاع من البرّ ‪ ،‬أو الصّاع من الشّعير عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن ال ّنعَمِ } ‪ ...‬الية ‪.‬‬
‫وهذا التّخيير في الجزاء ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬فجَزَاء مّ ْث ُل مَا قَ َتلَ مِ َ‬
‫ضمان الطّبيب ونحوه ‪:‬‬
‫‪ -‬مثل الطّبيب ‪ :‬الحجّام ‪ ،‬والختّان ‪ ،‬والبيطار ‪ ،‬وفي ضمانهم خلف ‪:‬‬ ‫‪134‬‬

‫يقول الحنفيّة ‪ :‬في الطّبيب إذا أجرى جراحةً لشخص فمات ‪ ،‬إذا كان الشّقّ بإذن ‪ ،‬وكان‬
‫معتادا ‪ ،‬ولم يكن فاحشا خارج الرّسم ‪ ،‬ل يضمن ‪.‬‬
‫ن اشتراط الضّمان على المين‬
‫وقالوا ‪ :‬لو قال الطّبيب ‪ :‬أنا ضامن إن مات ل يضمن ديته ل ّ‬
‫ن هذا الشّرط غير مقدور عليه ‪ ،‬كما هو شرط المكفول به ‪.‬‬
‫باطل ‪ ،‬أو ل ّ‬
‫وقال ابن نجيم ‪ :‬قطع الحجّام لحما من عينه ‪ ،‬وكان غير حاذق ‪ ،‬فعميت ‪ ،‬فعليه نصفا‬
‫الدّية‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬في الطّبيب والبيطار والحجّام ‪ ،‬يختن الصّبيّ ‪ ،‬ويقلع الضّرس ‪ ،‬فيموت‬
‫صاحبه ل ضمان على هؤلء ‪ ،‬لنّه ممّا فيه التّعزير ‪ ،‬وهذا إذا لم يخطئ في فعله ‪ ،‬فإن‬
‫أخطأ فالدّية على عاقلته ‪.‬‬
‫وينظر ‪ :‬فإن كان عارفا فل يعاقب على خطئه ‪ ،‬وإن كان غير عارف ‪ ،‬وغرّ من نفسه ‪،‬‬
‫فيؤدّب بالضّرب والسّجن ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬الطّبيب إذا جهل أو قصّر ضمن ‪ ،‬والضّمان على‬
‫ي‪.‬‬
‫العاقلة‪ ،‬وكذا إذا داوى بل إذن ‪ ،‬أو بل إذن معتبر ‪ ،‬كالصّب ّ‬
‫وقال الشّافعيّ ‪ :‬في الحجّام والختّان ونحوهما ‪ :‬إن كان فعل ما يفعله مثله ‪ ،‬ممّا فيه‬
‫الصّلح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصّناعة ‪ ،‬فل ضمان عليه ‪ ،‬وله أجره ‪.‬‬
‫وإن كان فعل ما ل يفعله مثله ‪ ،‬كان ضامنا ‪ ،‬ول أجر له في الصحّ ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة في الختان تفصيل بين الوليّ وغيره ‪ :‬فمن ختنه في سنّ ل يحتمله ‪ ،‬لزمه‬
‫القصاص ‪ ،‬إلّ الوالد ‪ ،‬وإن احتمله ‪ ،‬وختنه وليّ ختان ‪ ،‬فل ضمان عليه في الصحّ ‪.‬‬
‫ضمان المعزّر ‪:‬‬
‫ن المام مأمور بالتّعزير‪،‬‬
‫‪ -‬قال الحنفيّة ‪ :‬من عزّره المام فهلك ‪ ،‬فدمه هدر ‪ ،‬وذلك ل ّ‬ ‫‪135‬‬

‫وفعل المأمور ل يتقيّد بشرط السّلمة في التّعزير الواجب ‪ ،‬وقيّده جمهور المالكيّة بأن يظنّ‬
‫المام سلمته ‪ ،‬وإلّ ضمن ‪ ،‬وكذلك الشّافعيّة يرون التّعزير مقيّدا بسلمة العاقبة ‪.‬‬
‫ن سلمة‬
‫ومعنى هذا ‪ :‬أنّ التّعزير إذا أفضى إلى التّلف ل يضمن عند الجمهور بشرط ظ ّ‬
‫العاقبة ‪ ،‬لنّه مأذون فيه ‪ ،‬فل يضمن ‪ ،‬كالحدود ‪ ،‬وهذا ما لم يسرف ‪ ،‬كما نصّ عليه‬
‫الحنابلة بأن يجاوز المعتاد ‪ ،‬أو ما يحصل به المقصود ‪ ،‬أو يضرب من ل عقل له من صبيّ‬
‫أو مجنون أو معتوه ‪ ،‬فإنّه يضمن حينئذ ‪ ،‬لنّه غير مأذون بذلك شرعا ‪.‬‬
‫وللتّفصيل يراجع مصطلح ‪ ( :‬تعزير ) ‪.‬‬
‫ضمان المؤدّب والمعلّم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى منع التّأديب والتّعليم بقصد التلف وترتّب المسئوليّة على ذلك ‪،‬‬ ‫‪136‬‬

‫واختلفوا في حكم الهلك من التّأديب المعتاد ‪ ،‬وفي ضمانه تفصيل ينظر في مصطلحي ‪:‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪ ،‬وتعليم ف‬ ‫‪11‬‬ ‫( تأديب ف‬
‫ضمان قطّاع الطّريق ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في تضمين قطّاع الطّريق ما أخذوه من الموال أثناء الحرابة ‪ ،‬وذلك‬ ‫‪137‬‬

‫بعد إقامة الحدّ عليهم فذهب جمهور الفقهاء إلى تضمينهم ‪ ،‬وفي ذلك تفصيل ينظر في‬
‫)‪.‬‬ ‫‪22‬‬ ‫( حرابة ف‬
‫ضمان البغاة ‪:‬‬
‫ن العادل إذا أصاب من أهل البغي ‪ ،‬من دم أو جراحة ‪ ،‬أو مال‬
‫‪ -‬ل خلف في أ ّ‬ ‫‪138‬‬

‫استهلكه أنّه ل ضمان عليه ‪ ،‬وذلك في حال الحرب وحال الخروج ‪ ،‬لنّه ضرورة ‪ ،‬ولنّا‬
‫مأمورون بقتالهم ‪ ،‬فل نضمن ما تولّد منه ‪.‬‬
‫أمّا إذا أصاب الباغي من أهل العدل شيئا من نفس أو مال فمذهب الجمهور ‪ -‬وهو الرّاجح‬
‫عند الشّافعيّة ‪ -‬أنّه موضوع ‪ ،‬ول ضمان فيه ‪.‬‬
‫وفي قول للشّافعيّة ‪ :‬أنّه مضمون ‪ ،‬يقول الرّمليّ من الشّافعيّة ‪ :‬لو أتلفوا علينا نفسا أو‬
‫ي بأنّهما‬
‫مالً ضمنوه ‪ ،‬وعلّق عليه الشّبراملّسي بقوله ‪ :‬أي بغير القصاص ‪ ،‬وعلّله الشّربين ّ‬
‫فرقتان من المسلمين ‪ ،‬محقّة ومبطلة ‪ ،‬فل يستويان في سقوط الغرم ‪ ،‬كقطّاع الطّريق ‪،‬‬
‫لشبهة تأويلها ‪.‬‬
‫واستدلّ الجمهور بما روي عن الزّهريّ ‪ ،‬أنّه قال ‪ :‬وقعت الفتنة ‪ ،‬وأصحاب رسول اللّه‬
‫ن كلّ دم استحلّ بتأويل القرآن فهو‬
‫صلى ال عليه وسلم متوافرون ‪ ،‬فاتّفقوا على أ ّ‬
‫موضوع‪ ،‬وكلّ مال استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع ‪.‬‬
‫قال الكاسانيّ ‪ :‬ومثله ل يكذب ‪ ،‬فوقع الجماع من الصّحابة ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬على‬
‫ذلك‪ ،‬وهو حجّة قاطعة ‪.‬‬
‫ولنّ الولية من الجانبين منقطعة ‪ ،‬لوجود المنعة ‪ ،‬فلم يكن وجوب الضّمان مفيدا لتعذّر‬
‫الستيفاء ‪ ،‬فلم يجب ‪.‬‬
‫ولنّ تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم من الرّجوع إلى الطّاعة فسقط ‪ ،‬كأهل الحرب ‪ ،‬أو كأهل‬
‫العدل ‪.‬‬
‫هذا الحكم في حال الحرب ‪ ،‬أمّا في غير حال الحرب ‪ ،‬فمضمون ‪.‬‬
‫ضمان السّارق للمسروق ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ المسروق إن كان قائما فإنّه يجب ردّه إلى من سرق‬ ‫‪139‬‬

‫منه ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪24‬‬ ‫ج‬ ‫‪80‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪79‬‬ ‫فإن تلف ففي ضمانه تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬سرقة ف‬
‫ضمان إتلف آلت اللّهو ‪:‬‬
‫‪ -‬آلة اللّهو ‪ :‬كالمزمار ‪ ،‬والدّفّ ‪ ،‬والبربط ‪ ،‬والطّبل ‪ ،‬والطّنبور ‪ ،‬وفي ضمانها بعض‬ ‫‪140‬‬

‫الخلف ‪:‬‬
‫فمذهب الجمهور ‪ ،‬والصّاحبين من الحنفيّة ‪ ،‬أنّها ل تضمن بالتلف وذلك ‪ :‬لنّها ليست‬
‫محترمةً ‪ ،‬ل يجوز بيعها ول تملّكها ‪ ،‬ولنّها محرّمة الستعمال ‪ ،‬ول حرمة لصنعتها ‪.‬‬
‫ومذهب أبي حنيفة أنّه يضمن بكسرها قيمتها خشبا منحوتا صالحا لغير اللّهو ل مثلها ‪،‬‬
‫ف يضمن قيمته دفّا يوضع فيه القطن ‪ ،‬وفي البربط يضمن قيمته قصعة ثريد ‪.‬‬
‫ففي الدّ ّ‬
‫ويصحّ بيعها ‪ ،‬لنّها أموال متقوّمة لصلحيّتها بالنتفاع بها في غير اللّهو ‪ ،‬فلم تناف‬
‫الضّمان ‪ ،‬كالمة المغنّية ‪ ،‬بخلف الخمر فإنّها حرام لعينها ‪ ،‬والفتوى على مذهب‬
‫الصّاحبين‪ ،‬أنّه ل يضمنها ‪ ،‬ول يصحّ بيعها ‪.‬‬
‫ف الّذي يباح ضربه في العرس ‪ ،‬فمضمون اتّفاقا ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬وأمّا طبل الغزاة والصّيّادين والدّ ّ‬
‫كالمة المغنّية ‪ ،‬والكبش النّطوح ‪ ،‬والحمامة الطّيّارة ‪ ،‬والدّيك المقاتل ‪.‬‬
‫حيث تجب قيمتها غير صالحة لهذا المر ‪.‬‬
‫وذكر ابن عابدين ‪ ،‬أنّ هذا الختلف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه إنّما هو ‪ :‬في الضّمان ‪،‬‬
‫دون إباحة إتلف المعازف ‪ ،‬وفيما يصلح لعمل آخر ‪ ،‬وإلّ لم يضمن شيئا اتّفاقا ‪ ،‬وفيما إذا‬
‫فعل بغير إذن المام ‪ ،‬وإلّ لم يضمن اتّفاقا ‪.‬‬
‫وفي غير عود المغنّي وخابية الخمّار ‪ ،‬لنّه لو لم يكسرها لعاد لفعله القبيح ‪ ،‬وفيما إذا كان‬
‫ي ضمن اتّفاقا قيمته بالغا ما بلغ ‪ ،‬وكذا لو كسر صليبه ‪ ،‬لنّه مال متقوّم‬
‫لمسلم ‪ ،‬فلو لذمّ ّ‬
‫في حقّه ‪.‬‬
‫ضمان ما يترتّب على ترك الفعل ‪:‬‬
‫ل من‬
‫‪ -‬لمال المسلم حرمة كما لنفسه ‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في تضمين من يترك فع ً‬ ‫‪141‬‬

‫شأنه إنقاذ مال المسلم من الضّياع ‪ ،‬أو نفسه من الهلك ‪.‬‬


‫)‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪12‬‬ ‫ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح ترك ( ف‬
‫ترك الشّهادة والرّجوع عنها ‪:‬‬
‫ن من يترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪142‬‬

‫شهَادَةَ َومَن َيكْ ُت ْمهَا‬


‫ضياع الحقّ الّذي طلبت من أجله آثم ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬و َل َتكْ ُتمُواْ ال ّ‬
‫فَإِ ّنهُ آ ِثمٌ قَلْ ُبهُ } ‪.‬‬
‫ن من ترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع‬
‫ونصّ المالكيّة على أ ّ‬
‫الحقّ يضمن ‪.‬‬
‫وفي الرّجوع عن الشّهادة بعد أدائها وضمان ما يترتّب على ذلك تفصيل ينظر في مصطلح‬
‫)‪.‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪ ( :‬رجوع ف‬
‫قطع الوثائق ‪:‬‬
‫‪ -‬نصّ المالكيّة على أنّه إذا قطع وثيقةً ‪ ،‬فضاع ما فيها من الحقوق ‪ ،‬فهو ضامن ‪،‬‬ ‫‪143‬‬

‫ق ‪ ،‬سواء أفعل ذلك عمدا أم خطأً ‪ ،‬لنّ العمد أو الخطأ في‬


‫لتسبّبه في التلف وضياع الح ّ‬
‫ي ‪ -‬وكذا إذا أمسك الوثيقة بمال ‪ ،‬أو عفو عن دم ‪.‬‬
‫أموال النّاس سواء ‪ -‬كما يقول الدّسوق ّ‬
‫ولو قتل شاهدي الحقّ ‪ ،‬أو قتل أحدهما وهو ل يثبت إلّ بشهادتهما ‪ ،‬فالظهر أنّه يغرم‬
‫ق ‪ ،‬وجميع المال وفي قتله تردّد ‪.‬‬
‫جميع الح ّ‬
‫تضمين السّعاة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا سعى لدى السّلطان لدفع أذاه عنه ‪ ،‬ول يرتفع أذاه إلّ بذلك ‪ ،‬أو سعى بمن يباشر‬ ‫‪144‬‬

‫الفسق ول يمتنع بنهيه فل ضمان في ذلك ‪ ،‬عند الحنفيّة ‪.‬‬


‫وإذا سعى لدى السّلطان ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّ فلنا وجد كنزا ‪ ،‬فغرّمه السّلطان ‪ ،‬فظهر كذبه ‪،‬‬
‫ضمن‪ ،‬إلّ إن كان السّلطان عدلً ‪ ،‬أو قد يغرم أو ل يغرم ‪ ،‬لكن الفتوى اليوم ‪ -‬كما نقل ابن‬
‫عابدين عن المنح ‪ -‬بوجوب الضّمان على السّاعي مطلقا ‪.‬‬
‫والسّعاية الموجبة للضّمان ‪ :‬أن يتكلّم بكذب يكون سببا لخذ المال من شخص ‪ ،‬أو كان‬
‫صادقا لكن ل يكون قصده إقامة الحسبة كما لو قال ‪ :‬وجد مالً وقد وجد المال ‪ ،‬فهذا‬
‫يوجب الضّمان ‪ ،‬إذ الظّاهر أنّ السّلطان يأخذ منه المال بهذا السّبب ‪.‬‬
‫ولو كان السّلطان يغرم ألبتّة بمثل هذه السّعاية ‪ ،‬ضمن ‪.‬‬
‫ق ‪ -‬عند محمّد ‪ -‬زجرا للسّاعي ‪ ،‬وبه يفتى ويعزّر ولو مات‬
‫وكذا يضمن لو سعى بغير ح ّ‬
‫السّاعي فللمسعى به أن يأخذ قدر الخسران من تركته ‪ ،‬وهو الصّحيح ‪ ،‬وذلك دفعا للفساد‬
‫ن السّعي سبب محض لهلك المال ‪ ،‬والسّلطان‬
‫وزجرا للسّاعي ‪ ،‬وإن كان غير مباشر ‪ ،‬فإ ّ‬
‫يغرّمه اختيارا ل طبعا ‪.‬‬
‫ي عن القنية ‪ :‬شكا عند الوالي بغير حقّ ‪ ،‬فضرب المشكوّ عليه ‪ ،‬فكسر سنّه أو‬
‫ونقل الرّمل ّ‬
‫يده ‪ ،‬يضمن الشّاكي أرشه ‪ ،‬كالمال ‪.‬‬
‫وتعرّض المالكيّة لمسألة الشّاكي للحاكم ممّن ظلمه ‪ ،‬كالغاصب وقالوا ‪ :‬إذا شكاه إلى حاكم‬
‫ظالم ‪ ،‬مع وجود حاكم منصف ‪ ،‬فغرّمه الحاكم زائدا عمّا يلزمه شرعا ‪ ،‬بأن تجاوز الحدّ‬
‫الشّرعيّ ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يغرم ‪.‬‬
‫وفي فتوى ‪ :‬أنّه يضمن الشّاكي جميع ما غرّمه السّلطان الظّالم للمشكوّ ‪.‬‬
‫وفي قول ثالث ‪ :‬أنّه ل يضمن الشّاكي شيئا مطلقا ‪ ،‬وإن ظلم في شكواه ‪ ،‬وإن أثم وأدّب ‪.‬‬
‫ي المر ‪ ،‬فللغارم تغريم‬
‫ونصّ الحنابلة على أنّه لو غرم إنسان ‪ ،‬بسبب كذب عليه عند ول ّ‬
‫الكاذب عليه لتسبّبه في ظلمه ‪ ،‬وله الرّجوع على الخذ منه ‪ ،‬لنّه المباشر ‪.‬‬
‫إلقاء المتاع من السّفينة ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الحنفيّة ‪ :‬إذا أشرفت سفينة على الغرق ‪ ،‬فألقى بعضهم حنطة غيره في البحر‪،‬‬ ‫‪145‬‬

‫حتّى خفّت السّفينة ‪ ،‬يضمن قيمتها في تلك الحال ‪ ،‬أي مشرفةً على الغرق ‪ ،‬ول شيء على‬
‫الغائب الّذي له مال فيها ‪ ،‬ولم يأذن باللقاء ‪ ،‬فلو أذن باللقاء ‪ ،‬بأن قال ‪ :‬إذا تحقّقت هذه‬
‫الحال فألقوا ‪ ،‬اعتبر إذنه ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إذا خشى على النفس ‪ ،‬فاتّفقوا على إلقاء المتعة فالغرم بعدد الرّءوس إذا قصد‬
‫ص ًة ‪ -‬كما يقول ابن عابدين ‪ -‬لنّها لحفظ النفس ‪ ،‬وهذا اختيار الحصكفيّ‬
‫حفظ النفس خا ّ‬
‫وهو أحد أقوال ثلثة ‪ ،‬ثانيها ‪ :‬أنّه على الملك مطلقا ‪ ،‬ثالثها عكسه ‪.‬‬
‫ولو خشى على المتعة فقط ‪ -‬بأن كانت في موضع ل تغرق فيه النفس ‪ -‬فهي على قدر‬
‫الموال ‪ ،‬وإذا خشى عليهما ‪ ،‬فهي على قدرهما ‪ ،‬فمن كان غائبا ‪ ،‬وأذن باللقاء ‪ ،‬اعتبر‬
‫ماله ‪ ،‬ل نفسه ‪.‬‬
‫ومن كان حاضرًا بماله اعتبر ماله ونفسه فقط ‪.‬‬
‫ومن كان بنفسه فقط اعتبر نفسه ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إذا خيف على السّفينة الغرق ‪ ،‬جاز طرح ما فيها من المتاع ‪ ،‬أذن أربابه‬
‫أو لم يأذنوا ‪ ،‬إذا رجا بذلك نجاته ‪ ،‬وكان المطروح بينهم على قدر أموالهم ‪ ،‬ول غرم على‬
‫من طرحه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إذا أشرفت سفينة فيها متاع وركاب على غرق ‪ ،‬وخيف هلك الرّكاب ‪،‬‬
‫جاز إلقاء بعض المتاع في البحر ‪ ،‬لسلمة البعض الخر ‪ :‬أي لرجائها ‪ ،‬وقال البلقينيّ ‪:‬‬
‫بشرط إذن المالك ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ ‪ :‬ويجب لرجاء نجاة الرّاكب ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ -‬أيضا ‪ -‬ويجب إلقاؤه ‪ -‬وإن لم يأذن مالكه ‪ -‬إذا خيف الهلك لسلمة حيوان‬
‫محترم ‪ ،‬بخلف غير المحترم ‪ ،‬كحربيّ ومرت ّد ‪.‬‬
‫ويجب إلقاء حيوان ‪ ،‬ولو محترما ‪ ،‬لسلمة آدميّ محترم ‪ ،‬إن لم يمكن دفع الغرق بغير‬
‫إلقائه ‪.‬‬
‫وقال الذرعيّ ‪ :‬ينبغي أن يراعي في اللقاء تقديم الخسّ فالخسّ قيمةً من المتاع إن‬
‫أمكن‪ ،‬حفظا للمال ما أمكن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وهذا إذا كان الملقي غير المالك ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬يجب إلقاء ما ل روح فيه لتخليص ذي روح ‪ ،‬وإلقاء الدّوابّ لبقاء الدميّين ‪.‬‬
‫وإذا اندفع الغرق بطرح بعض المتاع اقتصر عليه ‪.‬‬
‫قال النّوويّ في منهاجه ‪ :‬فإن طرح مال غيره بل إذن ضمنه ‪ ،‬وإلّ فل ‪ ،‬كأكل المضطرّ‬
‫طعام غيره بغير إذنه ‪.‬‬
‫ي ضمانه ‪ ،‬أو على أنّي ضامن ضمن ‪ ،‬ولو اقتصر على ‪:‬‬
‫قالوا ‪ :‬ولو قال ‪ :‬ألق متاعك عل ّ‬
‫ألق ‪ ،‬فل ‪ ،‬على المذهب ‪ -‬لعدم اللتزام ‪. -‬‬
‫والحنابلة قالوا بهذه الفروع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إذا ألقى بعض الرّكبان متاعه ‪ ،‬لتخفّ السّفينة وتسلم من الغرق ‪ ،‬لم يضمّنه أحد ‪ ،‬لنّه‬
‫أتلف متاع نفسه باختياره ‪ ،‬لصلحه وصلح غيره ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإن ألقى متاع غيره بغير أمره ‪ ،‬ضمنه وحده ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وإن قال لغيره ‪ :‬ألق متاعك فقبل منه ‪ ،‬لم يضمنه له ‪ ،‬لنّه لم يلتزم ضمانه ‪.‬‬
‫وعليع قيمتعه ‪ ،‬لزمعه ضمانعه ‪ ،‬لنّه أتلف ماله‬
‫ّ‬ ‫د ‪ -‬وإن قال ‪ :‬ألق وأنعا ضامعن له ‪ ،‬أو ‪:‬‬
‫بعوض لمصلحته ‪ ،‬فوجب له العوض على ما التزمه ‪.‬‬
‫هع – وإن قال ‪ :‬ألقه وعليّ وعلى ركبان السّفينة ضمانه ‪ ،‬فألقاه ‪ ،‬ففيه وجهان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬يلزمه ضمانه وحده ‪ ،‬لنّه التزم ضمانه جميعه ‪ ،‬فلزمه ما التزمه ‪ ،‬وقال‬
‫القاضي‪ :‬إن كان ضمان اشتراك ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬نحن نضمن لك أو على ك ّل واحد منّا‬
‫ضمان قسطه لم يلزمه إ ّل ما يخصّه من الضّمان لنّه لم يضمن إ ّل حصّته ‪ ،‬وإنّما أخبر عن‬
‫الباقين بالضّمان ‪ ،‬فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان ‪.‬‬
‫وإن التزم ضمان الجميع ‪ ،‬وأخبر عن كلّ واحد منهم بمثل ذلك ‪ ،‬لزمه ضمان الكلّ ‪.‬‬
‫منع المالك عن ملكه حتّى يهلك ‪:‬‬
‫‪ -‬مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬في مسألة منع المالك عن ملكه حتّى يهلك ‪ ،‬وإزالة يده‬ ‫‪146‬‬

‫عنه ‪ ،‬هو عدم الضّمان ‪.‬‬


‫قال الحنفيّة ‪ :‬لو منع المالك عن أمواله حتّى هلكت ‪ ،‬يأثم ‪ ،‬ول يضمن ‪.‬‬
‫ن الهلك لم يحصل بنفس فعله ‪ ،‬كما‬
‫نقل هذا ابن عابدين عن ابن نجيم في البحر ‪ ،‬وعلّله بأ ّ‬
‫ن الطّيران بفعل العصفور ‪ ،‬ل بنفس‬
‫لو فتح القفص فطار العصفور ‪ ،‬فإنّه ل يضمن ‪ ،‬ل ّ‬
‫فتح الباب ‪.‬‬
‫والمنصوص في مسألة فتح القفص ‪ ،‬أنّه قول أبي حنيفة ‪ ،‬وفي قول محمّد يضمن ‪ ،‬وبه‬
‫صفّار ‪.‬‬
‫كان يفتي أبو القاسم ال ّ‬
‫واستدلّ بهذه المسألة صاحب البحر ‪ ،‬على أنّه ل يلزم من الثم الضّمان ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إن حبس المالك عن الماشية ل ضمان فيه ‪ ،‬وكذا لو منع مالك زرع أو‬
‫دابّة من السّقي ‪ ،‬فهلك ل ضمان في ذلك ‪.‬‬
‫ويبدو أنّ مذهب المالكيّة في مسألة منع المالك ‪ ،‬هو الضّمان ‪ ،‬للتّسبّب في التلف ‪.‬‬
‫وهو أيضا مذهب الحنابلة ‪ ،‬إذ علّلوا الضّمان بأنّه لتسبّبه بتعدّيه ‪.‬‬
‫ومن فروعهم في ذلك ‪ :‬أنّه لو أزال يد إنسان عن حيوان فهرب يضمنه ‪ ،‬لتسبّبه في فواته‪،‬‬
‫أو أزال يده الحافظة لمتاعه حتّى نهبه النّاس ‪ ،‬أو أفسدته النّار ‪ ،‬أو الماء ‪ ،‬يضمنه ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬لربّ المال تضمين فاتح الباب لتسبّبه في الضاعة ‪ ،‬والقرار على الخذ لمباشرته‬
‫ب المال الخذ لم يرجع على أحد ‪ ،‬وإن ضمّن الفاتح رجع على الخذ ‪.‬‬
‫‪ .‬فإن ضمّن ر ّ‬
‫تضمين المجتهد والمفتي ‪:‬‬
‫‪ -‬قال المالكيّة ‪ :‬ل شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ‪.‬‬ ‫‪147‬‬
‫أمّا غير المجتهد ‪ ،‬فيضمن إن نصّبه السّلطان أو نائبه للفتوى ‪ ،‬لنّها كوظيفة عمل قصّر‬
‫فيها ‪.‬‬
‫وإن لم يكن منتصبا للفتوى ‪ ،‬وهو مقلّد ‪ ،‬ففي ضمانه قولن ‪ ،‬مبنيّان على الخلف في‬
‫الغرور القوليّ ‪ :‬هل يوجب الضّمان ‪ ،‬أو ل ؟ والمشهور عدم الضّمان ‪.‬‬
‫ي – أنّه إن قصّر في مراجعة النّقول ‪ ،‬ضمن ‪ ،‬وإلّ فل ‪ ،‬ولو‬
‫والظّاهر – كما نقل الدّسوق ّ‬
‫ن المشهور عدم الضّمان بالغرور القوليّ ‪.‬‬
‫صادف خطؤه ‪ ،‬لنّه فعل مقدوره ‪ ،‬ول ّ‬
‫ونصّ السّيوطيّ على أنّه ‪ :‬لو أفتى المفتي إنسانا بإتلف ‪ ،‬ثمّ تبيّن خطؤه كان الضّمان على‬
‫المفتي ‪.‬‬
‫تفويت منافع النسان وتعطيلها ‪:‬‬
‫‪ -‬تعطيل المنفعة ‪ :‬إمساكها بدون استعمال ‪ ،‬أمّا استيفاؤها فيكون باستعمالها ‪،‬‬ ‫‪148‬‬

‫والتّفويت تعطيل ‪ ،‬ويفرّق جمهور الفقهاء بين استيفاء منافع النسان ‪ ،‬وبين تفويتها ‪،‬‬
‫بوجه عامّ في تفصيل ‪:‬‬
‫ص المالكيّة على أنّ تعطيل منافع النسان وتفويتها ‪ ،‬ل ضمان فيه ‪ ،‬كما لو حبس امرأةً‬
‫فن ّ‬
‫حتّى منعها من التّزوّج ‪ ،‬أو الحمل من زوجها ‪ ،‬أو حبس الح ّر حتّى فاته عمل من تجارة‬
‫ونحوها ‪ ،‬ل شيء عليه ‪.‬‬
‫أمّا لو استوفى المنفعة ‪ ،‬كما لو وطئ البضع أو استخدم الح ّر فإنّه يضمن ذلك ‪ ،‬فعليه في‬
‫وطء الحرّة صداق مثلها ‪ ،‬ولو كانت ثيّبا ‪ ،‬وعليه في وطء المة ما نقصها ‪ ،‬ونصّ‬
‫الشّافعيّة على أنّ منفعة البضع ل تضمن إلّ بالتّفويت بالوطء ‪ ،‬وتضمن بمهر المثل ‪ ،‬ول‬
‫ن اليد ل تثبت عليها ‪ ،‬إذ اليد في بضع المرأة لها ‪ ،‬وكذا منفعة بدن الحرّ‬
‫تضمن بفوات ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل تضمن إلّ بتفويت في الصحّ ‪ ،‬كأن قهره على عمل ‪.‬‬
‫وفي قول ثان لهم ‪ :‬تضمن بالفوات أيضا ‪ ،‬لنّها لتقوّيها في عقد الجارة الفاسدة تشبه‬
‫منفعة المال ‪.‬‬
‫ودليل القول الوّل ‪ :‬أنّ الح ّر ل يدخل تحت اليد ‪ ،‬فمنفعته تفوت تحت يده ‪.‬‬
‫ونصّ الحنابلة على أنّ الح ّر ل يضمن بالغصب ‪ ،‬ويضمن بالتلف ‪ ،‬فلو أخذ حرّا فحبسه ‪،‬‬
‫فمات عنده لم يضمنه ‪ ،‬لنّه ليس بمال ‪.‬‬
‫وإن استعمله مكرها ‪ ،‬لزمه أجر مثله ‪ ،‬لنّه استوفى منافعه ‪ ،‬وهي متقوّمة ‪ ،‬فلزمه‬
‫ضمانها‪ ،‬ولو حبسه مدّ ًة لمثلها أجر ‪ ،‬ففيه وجهان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنّه يلزمه أجر تلك المدّة ‪ ،‬لنّه فوّت منفعته ‪ ،‬وهي مال فيجوز أخذ العوض‬
‫عنها‪ .‬والثّاني ‪ :‬ل يلزمه لنّها تابعة لما ل يصحّ غصبه ‪.‬‬
‫ولو منعه العمل من غير حبس ‪ ،‬لم يضمن منافعه وجها واحدا ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة فل يقولون بالضّمان بتفويت منافع النسان ‪ ،‬لنّه ل يدخل تحت اليد ‪ ،‬فليس‬
‫بمال ‪ ،‬فل تضمن منافع بدنه ‪.‬‬

‫ضَمَان ال ّدرَك *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الدّرك ‪ :‬بفتحتين ‪ ،‬وسكون الرّاء لغةً ‪ ،‬اسم من أدركت الرّجل أي لحقته ‪ ،‬وقد جاء‬ ‫‪1‬‬

‫عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أنّه كان يتعوّذ من جهد البلء ودرك الشّقاء « أي من‬
‫لحاق الشّقاء ‪.‬‬
‫قال الجوهريّ ‪ :‬الدّرك التّبعة ‪ ،‬قال أبو سعيد المتولّي ‪ :‬سمّي ضمان الدّرك للتزامه الغرامة‬
‫عند إدراك المستحقّ عين ماله ويستعمل الفقهاء كذلك هذا اللّفظ بمعنى التّبعة أي المطالبة‬
‫والمؤاخذة ‪.‬‬
‫فقد عرّف الحنفيّة ضمان الدّرك ‪ :‬بأنّه التزام تسليم الثّمن عند استحقاق المبيع ‪.‬‬
‫وعرّفه الشّافعيّة بأنّه ‪ :‬هو أن يضمن شخص لحد العاقدين ما بذله للخر إن خرج مقابله‬
‫مستحقّا أو معيبا أو ناقصا لنقص الصّنجة ‪ ،‬سواء أكان الثّمن معيّنا أم في ال ّذمّة ‪.‬‬
‫ول يخرج تعريف الفقهاء الخرين لضمان الدّرك عمّا قاله الحنفيّة والشّافعيّة في تعريفه ‪.‬‬
‫ويعبّر عنه الحنابلة بضمان العهدة ‪ ،‬كما يعبّر عنه الحنفيّة في الغالب بالكفالة بالدّرك ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العهدة ‪:‬‬
‫‪ -‬العهدة ‪ :‬هي ضمان الثّمن للمشتري إن استحقّ المبيع أو وجد فيه عيب ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫ك القديم ‪ ،‬وقد تطلق على العقد‬
‫ن العهدة قد تطلق على الصّ ّ‬
‫والعهدة أعمّ من الدّرك ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعلى حقوقه ‪ ،‬وعلى الدّرك وعلى الخيار ‪ ،‬بخلف الدّرك فإنّه يستعمل في ضمان‬
‫الستحقاق عرفا ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ضمان الدّرك جائز عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬ومنع بعض الشّافعيّة ضمان الدّرك لكونه‬ ‫‪3‬‬

‫ضمان ما لم يجب ‪.‬‬


‫ألفاظ ضمان الدّرك ‪:‬‬
‫‪ -‬من ألفاظ هذا الضّمان عند جمهور الفقهاء أن يقول الضّامن ‪ :‬ضمنت عهدته أو ثمنه‬ ‫‪4‬‬

‫أو دركه ‪ ،‬أو يقول للمشتري ‪ :‬ضمنت خلصك منه ‪.‬‬


‫ن العهدة صارت في العرف عبار ًة عن الدّرك وضمان الثّمن ‪ ،‬والكلم‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬إ ّ‬
‫المطلق يحمل على السماء العرفيّة دون اللّغويّة ‪.‬‬
‫ويرى الحنفيّة أنّ ضمان العهدة باطل لشتباه المراد بها ‪ ،‬لطلقها على الصّكّ وعلى‬
‫العقد ‪ ،‬وعلى حقوقه وعلى الدّرك ‪ ،‬فبطل للجهالة ‪ ،‬بخلف ضمان الدّرك ‪ ،‬قال ابن نجيم ‪:‬‬
‫ول يقال ينبغي أن يصرف إلى ما يجوز الضّمان به وهو الدّرك تصحيحا لتصرّف الضّامن‬
‫لنّا نقول ‪ :‬فراغ ال ّذمّة أصل فل يثبت الشّغل بالشّكّ والحتمال ‪.‬‬
‫كما أنّ ضمان الخلص باطل عند أبي حنيفة ‪ ،‬لنّه يفسّره بتخليص المبيع ل محالة ول‬
‫ق ل يمكّنه منه ‪ ،‬ولو ضمن تخليص المبيع أو ر ّد الثّمن‬
‫ن المستح ّ‬
‫قدرة للضّامن عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ق ‪ ،‬أو ردّه إن لم يجز ‪ ،‬فالخلف‬
‫جاز ‪ ،‬لمكان الوفاء به وهو تسليمه إن أجاز المستح ّ‬
‫راجع إلى التّفسير ‪.‬‬
‫ويرى الجمهور ومنهم أبو يوسف ومحمّد أنّ ضمان الخلص بمنزلة ضمان الدّرك ‪،‬‬
‫وفسّروا ضمان الخلص بتخليص المبيع إن قدر عليه ور ّد الثّمن إن لم يقدر عليه وهو‬
‫ضمان الدّرك في المعنى ‪ ،‬فالخلف لفظيّ فقط ‪.‬‬
‫ق من يده يخلّصه‬
‫أمّا ضمان خلص المبيع بمعنى أن يشترط المشتري أنّ المبيع إن استح ّ‬
‫ويسلّمه بأيّ طريق يقدر عليه فهذا باطل ‪ ،‬لنّه شرط ل يقدر على الوفاء به إذ المستحقّ‬
‫ربّما ل يساعده عليه ‪.‬‬
‫متعلّق ضمان الدّرك ‪:‬‬
‫ن متعلّق ضمان الدّرك هو عين الثّمن أو المبيع إن بقي وسهل ردّه ‪،‬‬
‫‪ -‬يقول الشّافعيّة ‪ :‬إ ّ‬ ‫‪5‬‬

‫وبدله أي قيمته إن عسر ردّه ‪ ،‬ومثل المثليّ وقيمة المتقوّم إن تلف ‪ ،‬وتعلّقه بالبدل أظهر ‪.‬‬
‫ويرى الحنابلة أنّ متعلّق ضمان الدّرك ‪ -‬ضمان العهدة ‪ -‬هو الثّمن أو جزء منه ‪ ،‬سواء‬
‫كان الضّمان عن البائع للمشتري أو عن المشتري للبائع ‪ ،‬حيث يقولون ‪ :‬ويصحّ ضمان‬
‫عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع ‪ ،‬فضمانه عن المشتري ‪ :‬هو أن‬
‫يضمن الثّمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ‪ ،‬وإن ظهر فيه عيب أو استحقّ رجع بذلك على‬
‫الضّامن ‪ ،‬وضمانه عن البائع للمشتري ‪ :‬هو أن يضمن عن البائع الثّمن متى خرج المبيع‬
‫مستحقّا أو ر ّد بعيب أو أرش العيب ‪ ،‬فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثّمن أو‬
‫جزء منه ‪.‬‬
‫ن متعلّق ضمان الدّرك عندهم هو الثّمن‬
‫ويؤخذ من عبارات فقهاء الحنفيّة والمالكيّة أ ّ‬
‫أيضا ‪ ،‬إلّ أنّه يختلف مذهب الحنابلة عن مذهب الحنفيّة والمالكيّة في أنّ الحنابلة يعتبرون‬
‫ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن المشتري للبائع من قبيل ضمان الدّرك ‪ -‬ضمان العهدة ‪-‬‬
‫ص ضمان الدّرك عند الحنفيّة والمالكيّة بالكفالة بأداء ثمن المبيع إلى المشتري‬
‫في حين يخت ّ‬
‫وتسليمه إليه إن استحقّ المبيع وضبط من يده ‪ ،‬أمّا ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن‬
‫المشتري للبائع فهو يتحقّق ضمن الكفالة بالمال بشروطها ‪.‬‬
‫شروط صحّة ضمان الدّرك ‪:‬‬
‫‪ -‬من شروط صحّة ضمان الدّرك أن يكون المضمون دينا صحيحا ‪ ،‬والدّين الصّحيح ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫هو ما ل يسقط إلّ بالداء أو البراء ‪ ،‬فل يصحّ بغيره كبدل الكتابة فإنّه يسقط بالتّعجيز ‪.‬‬
‫ويشترط الشّافعيّة لصحّة ضمان الدّرك قبض الثّمن ‪ ،‬فل يصحّ ضمان الدّرك عندهم قبل‬
‫قبض الثّمن ‪ ،‬لنّ الضّامن إنّما يضمن ما دخل في يد البائع ‪ ،‬ول يدخل الثّمن في ضمانه إلّ‬
‫بقبضه ‪.‬‬
‫حكم ضمان الدّرك في حالتي الطلق والتّقييد ‪:‬‬
‫ص بما إذا خرج الثّمن المعيّن مستحقّا إذ هو‬
‫‪ -‬إذا أطلق ضمان الدّرك أو العهدة اخت ّ‬ ‫‪7‬‬

‫المتبادر ‪ ،‬ل ما خرج فاسدا بغير الستحقاق ‪ ،‬فلو انفسخ البيع بما سوى الستحقاق مثل‬
‫الرّ ّد بالعيب أو بخيار الشّرط أو بخيار الرّؤية ل يؤاخذ به الضّامن ‪ ،‬لنّ ذلك ليس من‬
‫الدّرك‪.‬‬
‫أمّا إذا قيّده بغير استحقاق المبيع كخوف المشتري فساد البيع بدعوى البائع صغرا أو‬
‫ك المشتري في كمال الصّنجة الّتي تسلّم‬
‫إكراها‪ ،‬أو خاف أحدهما كون العوض معيبا ‪ ،‬أو ش ّ‬
‫بها المبيع ‪ ،‬أو شكّ البائع في جودة جنس الثّمن فضمن الضّامن ذلك صريحا صحّ ضمانه‬
‫كضمان العهدة ‪.‬‬
‫وتجدر الشارة إلى أ نّ الكف يل بالدّرك يض من المكفول به ف قط ‪ ،‬ول يض من مع المكفول به‬
‫ضرر التّغرير لنّه ليس للكفيل كفالة بذلك ‪.‬‬
‫ما يترتّب على ضمان الدّرك ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬حقّ المشتري في الرّجوع بالثّمن ‪:‬‬
‫ق المشتري في الرّجوع بالثّمن عند استحقاق المبيع ‪،‬‬
‫‪ -‬يترتّب على ضمان الدّرك ح ّ‬ ‫‪8‬‬

‫ويحقّ له مطالبة الضّامن والصيل به ‪.‬‬


‫إلّ أنّ الفقهاء اختلفوا في وقت مطالبة الضّامن بالثّمن ‪:‬‬
‫ذهب الجمهور ومنهم أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ مجرّد القضاء بالستحقاق يكفي‬
‫لمؤاخذة ضامن الدّرك والرّجوع بالثّمن عليه ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّه ل يؤاخذ ضامن الدّرك إن استحقّ المبيع ما لم يقض بالثّمن على‬
‫البائع ‪ ،‬لنّ البيع ل ينتقض بمجرّد الستحقاق ‪ ،‬ولهذا لو أجاز المستحقّ البيع قبل الفسخ‬
‫جاز ولو بعد قبضه وهو الصّحيح ‪ ،‬فما لم يقض بالثّمن على البائع ل يجب ر ّد الثّمن على‬
‫الصيل فل يجب على الكفيل ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ الضّامن يغرم الثّمن حين الدّرك في غيبة البائع وعدمه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬منع دعوى التّملّك والشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬ضمان الدّرك للمشتري عند البيع تسليم من الضّامن بأنّ المبيع ملك البائع فيكون مانعا‬ ‫‪9‬‬

‫ن هذا الضّمان لو كان مشروطا في البيع فتمامه بقبول‬


‫لدعوى التّملّك والشّفعة بعد ذلك ‪ ،‬ل ّ‬
‫الضّامن فكأنّه هو الموجب له ثمّ بالدّعوى يسعى في نقض ما ت ّم من جهته ‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫مشروطا فالمراد به إحكام البيع وترغيب المشتري في البتياع ‪ ،‬إذ ل يرغب فيه دون‬
‫الضّمان فنزل التّرغيب منزلة القرار بملك البائع ‪ ،‬فل تصحّ دعوى الضّامن الملكيّة لنفسه‬
‫بعد ذلك للتّناقض ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّه إن ضمن الشّفيع العهدة للمشتري لم تسقط شفعته ‪ ،‬لنّ‬
‫هذا سبب سبق وجوب الشّفعة فلم تسقط به الشّفعة كالذن في البيع والعفو عن الشّفعة قبل‬
‫تمام البيع ‪.‬‬
‫الرّهن بالدّرك ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّهن بالدّرك هو ‪ :‬أن يبيع شيئا ويسلّمه إلى المشتري فيخاف المشتري أن يستحقّه‬ ‫‪10‬‬

‫أحد ‪ ،‬فيأخذ من البائع رهنا بالثّمن لو استحقّه أحد ‪ ،‬والرّهن بالدّرك باطل ‪ ،‬حتّى إنّ‬
‫المرتهن ل يملك حبس الرّهن إن قبضه قبل الوجوب استحقّ المبيع أو ل ‪ ،‬لنّ الرّهن جعل‬
‫مشروعا لجل الستيفاء ول استيفاء قبل الوجوب ‪.‬‬
‫ونقل ابن قدامة الجماع على عدم جوازه ‪ ،‬لنّه يؤدّي إلى أن يبقى الرّهن مرهونا أبدا ‪.‬‬

‫ضِيافة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّيافة في اللّغة ‪ :‬مصدر ضاف ‪ ،‬يقال ‪ :‬ضاف الرّجل يضيفه ضيفا ‪ ،‬وضيافةً ‪ :‬مال‬ ‫‪1‬‬

‫إليه ونزل به ضيفا وضيافةً ‪ ،‬وأضافه إليه أنزله عليه ضيفا ‪ ،‬وضياف ًة ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬هي اسم لكرام الضّيف ‪ -‬وهو النّازل بغيره لطلب الكرام ‪ -‬والحسان‬
‫إليه ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬القراء ‪:‬‬
‫‪ -‬القراء من قرى الضّيف قراءً وقرىً ‪ :‬أضافه إليه وأطعمه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ب ‪ -‬الخفر ‪:‬‬
‫‪ -‬يقال ‪ :‬خفر بالعهد يخفر إذا وفّى به ‪ ،‬وخفرت الرّجل حميته وأجرته من طالبه ‪ ،‬وخفر‬ ‫‪3‬‬

‫بالرّجل إذا غدر به ‪.‬‬


‫ج ‪ -‬الجارة ‪:‬‬
‫‪ -‬الجارة من أجار الرّجل إجارةً ‪ :‬إذا أمّنه وخفر به ‪ ،‬وعليه ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬


‫‪ -‬تعتبر الضّيافة من مكارم الخلق ‪ ،‬وسنّة الخليل عليه الصلة والسلم والنبياء بعده ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫وقد رغّب فيها السلم ‪ ،‬وعدّها من أمارات صدق اليمان ‪.‬‬


‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬من كان يؤمن باللّه واليوم الخر‬
‫فقد ورد عن النّب ّ‬
‫فليكرم ضيفه « ‪ ،‬وعنه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل خير فيمن ل يضيف « ‪ ،‬وقال عليه‬
‫السلم ‪ » :‬الضّيافة ثلثة أيّام وجائزته يوم وليلة ‪ ،‬ول يحلّ لمسلم أن يقيم عند أخيه حتّى‬
‫يؤثّمه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رسول اللّه وكيف يؤثّمه ؟ قال ‪ :‬يقيم عنده ل شيء له يقريه به « ‪.‬‬
‫وهي حقّ من حقوق المسلم على أخيه المسلم ‪ ،‬وقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى‬
‫أنّ الضّيافة سنّة ‪ ،‬ومدّتها ثلثة أيّام ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد ‪.‬‬
‫والرّواية الخرى عن أحمد ‪ -‬وهي المذهب ‪ -‬أنّها واجبة ‪ ،‬ومدّتها يوم ليلة ‪ ،‬والكمال‬
‫ثلثة أيّام ‪ .‬وبهذا يقول اللّيث بن سعد ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة وجوب الضّيافة في حالة المجتاز الّذي ليس عنده ما يبلّغه ويخاف الهلك ‪.‬‬
‫والضّيافة على أهل القرى والحضر ‪ ،‬إلّ ما جاء عن المام مالك والمام أحمد في رواية أنّه‬
‫ليس على أهل الحضر ضيافة ‪ ،‬وقال سحنون ‪ :‬الضّيافة على أهل القرى ‪ ،‬وأمّا أهل الحضر‬
‫ن المسافر إذا قدم الحضر وجد نزلً ‪ -‬وهو الفندق ‪ -‬فيتأكّد النّدب إليها ول يتعيّن على‬
‫فإ ّ‬
‫أهل الحضر تعيّنها على أهل القرى لمعان ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنّ ذلك يتكرّر على أهل الحضر ‪ ،‬فلو التزم أهل الحضر الضّيافة لما خلوا منها ‪،‬‬
‫وأهل القرى يندر ذلك عندهم فل تلحقهم مشقّة ‪.‬‬
‫ثانيها ‪ :‬أنّ المسافر يجد في الحضر المسكن والطّعام ‪ ،‬فل تلحقه المشقّة لعدم الضّيافة ‪،‬‬
‫وحكم القرى الكبار الّتي توجد فيها الفنادق والمطاعم للشّراء ويكثر ترداد النّاس عليها حكم‬
‫الحضر ‪ ،‬وهذا فيمن ل يعرفه النسان ‪ ،‬وأمّا من يعرفه معرفة مودّة أو بينه وبينه قرابة أو‬
‫صلة ومكارمة ‪ ،‬فحكمه في الحضر وغيره سواء ‪.‬‬
‫آداب الضّيافة ‪:‬‬
‫آداب المضيف ‪:‬‬
‫‪ -‬يستحبّ للمضيف إيناس الضّيف بالحديث الطّيّب والقصص الّتي تليق بالحال ‪ ،‬لنّ من‬ ‫‪6‬‬

‫تمام الكرام طلقة الوجه وطيب الحديث عند الخروج والدّخول ليحصل له النبساط ‪ ،‬ول‬
‫يتكلّف ما ل يطيق لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أنا وأتقياء أمّتي برآء من التّكلّف « ‪.‬‬
‫وأن يقول للضّيف أحيانا ‪ " :‬كل " من غير إلحاح ‪ ،‬وألّ يكثر السّكوت عند الضّيف ‪ ،‬وأن ل‬
‫يغيب عنه ‪ ،‬ول ينهر خادمه بحضرته ‪ ،‬وأن يخدمه بنفسه ‪ ،‬وألّ يجلسه مع من يتأذّى‬
‫بجلوسه أو ل يليق له الجلوس معه ‪ ،‬وأن يأذن له بالخروج إذا استأذنه وأن يخرج معه‬
‫إلى باب الدّار تتميما لكرامه وأن يأخذ بركاب ضيفه إذا أراد الرّكوب ‪.‬‬
‫آداب الضّيف ‪:‬‬
‫‪ -‬من آداب الضّيف أن يجلس حيث يُجلس ‪ ،‬وأن يرضى بما يقدّم إليه ‪ ،‬وألّ يقوم إلّ‬ ‫‪7‬‬

‫بإذن المضيف ‪ ،‬وأن يدعو للمضيف بدعاء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بأن يقول ‪:‬‬
‫» أفطر عندكم الصّائمون ‪ ،‬وأكل طعامكم البرار ‪ ،‬وصلّت عليكم الملئكة « ‪.‬‬
‫مقام الضّيف عند المضيف ‪:‬‬
‫‪ -‬من نزل ضيفا فل يزيد مقامه عند المضيف على ثلثة أيّام ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه‬ ‫‪8‬‬

‫وسلم ‪ » :‬الضّيافة ثلثة أيّام ‪ ،‬فما زاد فصدقة « لئلّ يتبرّم به ويضط ّر لخراجه ‪ ،‬إلّ إن‬
‫ب المنزل بالمقام عنده عن خلوص قلب فله المقام ‪.‬‬
‫ألحّ عليه ر ّ‬
‫أكل طعام الضّيافة ‪:‬‬
‫‪ -‬يأكل المضيف ممّا قدّم له بل لفظ اكتفاءً بالقرينة ‪ ،‬إلّ إذا كان المضيف ينتظر غيره‬ ‫‪9‬‬

‫من الضّيوف ‪ ،‬فل يجوز حينئذ الكل إلّ بإذن المضيف ‪ ،‬ول يأكل من الطّعام إلّ بالمقدار‬
‫الّذي يقتضيه العرف ‪ ،‬ما لم يعلم رضا المضيف ‪ ،‬ول يتصرّف به إلّ بأكل ‪ ،‬لنّه المأذون‬
‫ن المدار على طيب نفس‬
‫ل ‪ ،‬ول هرّةً ‪ ،‬وله أخذ ما يعلم رضاه ‪ ،‬ل ّ‬
‫له فيه ‪ ،‬فل يطعم سائ ً‬
‫المالك ‪ ،‬فإذا دلّت القرينة على ذلك حلّ ‪.‬‬
‫وتختلف قرائن الرّضى في ذلك باختلف الموال ‪ ،‬ومقاديرها ‪.‬‬
‫وصرّح الشّافعيّة ‪ :‬أنّ الضّيف ل يضمن ما قدّم له من طعام إن تلف بل تعدّ منه ‪ ،‬كما ل‬
‫يضمن إناءه وحصيرا يجلس عليه ونحوه ‪ ،‬سواء قبل الكل ‪ ،‬أو بعده ‪ ،‬ول يلزمه دفع هرّة‬
‫عنه ‪ ،‬ويضمن إنا ًء حمله بغير إذن ‪.‬‬
‫اشتراط الضّيافة في عقد الجزية ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز بل يستحبّ عند الشّافعيّة ‪ :‬أن يشترط المام على أهل ال ّذمّة ضيافة من يم ّر بهم‬ ‫‪10‬‬

‫من المسلمين زائدا على أق ّل الجزية إذا صولحوا في بلدهم ‪ ،‬ويجعل الضّيافة على الغنيّ‬
‫والمتوسّط ‪ ،‬ل الفقير ‪ ،‬ويذكر وجوبا في العقد ‪ :‬عدد الضّيفان ‪ ،‬وعدد أيّام الضّيافة ‪ ،‬وقدر‬
‫القامة فيهم ‪ ،‬وجنس الطّعام ‪ ،‬والدم ‪ ،‬وقدرهما ‪ ،‬وعلف الدّوابّ إن كانوا فرسانا ‪ ،‬ومنزل‬
‫الضّيوف من كنيسه ‪ ،‬وفاضل مسكن ‪ ،‬ول يزيد مقامهم على ثلثة أيّام ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم صالح أهل أيلة على ثلثمائة دينار ‪،‬‬
‫والصل في ذلك ‪ » :‬أ ّ‬
‫وعلى ضيافة من يم ّر بهم من المسلمين « ‪.‬‬
‫فإن لم يشترطها عليهم لم تجب عليهم ‪ ،‬لنّه أداء مال ‪ ،‬فلم يجب بغير رضاهم ‪.‬‬

‫طاعة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّاعة في اللّغة ‪ :‬النقياد والموافقة ‪ ،‬يقال ‪ :‬أطاعه إطاعةً أي ‪ :‬انقاد له ‪ ،‬والسم‬ ‫‪1‬‬

‫طاعة ‪ ،‬وأنا طوع يدك ‪ :‬أي منقاد لك ‪.‬‬


‫ن الجواب ل يكون إلّ عن قول ‪،‬‬
‫قال الفيّوميّ ‪ :‬قالوا ‪ :‬ول تكون الطّاعة إلّ عن أمر ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫يقال ‪ :‬أمره فأطاع ‪.‬‬
‫وطوّعت له نفسه ‪ :‬رخّصت وسهّلت ‪.‬‬
‫واتّفقت تعاريف الفقهاء للطّاعة من حيث المعنى ‪ ،‬وإن اختلفت من حيث اللّفظ ‪.‬‬
‫فعرّف الجرجانيّ والكفويّ وصاحب دستور العلماء الطّاعة بأنّها ‪ :‬موافقة المر طوعا ‪.‬‬
‫قال الكفويّ ‪ :‬هي فعل المأمورات ولو ندبا ‪ ،‬وترك المنهيّات ولو كراهةً ‪.‬‬
‫وقال الشّرقاويّ ‪ :‬الطّاعة امتثال المر والنّهي ‪.‬‬
‫وقال ابن حجر ‪ :‬الطّاعة هي التيان بالمأمور به والنتهاء عن المنهيّ عنه ‪ ،‬والعصيان‬
‫بخلفه ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين تعريف شيخ السلم زكريّا للطّاعة ‪ ،‬وهو ‪ :‬فعل ما يثاب عليه ‪ ،‬توقّف‬
‫على نيّة أو ل عرف من يفعله لجله أو ل ‪ .‬قال ‪ :‬وقواعد مذهبنا ل تأباه ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العبادة ‪:‬‬
‫‪ -‬العبادة في اللّغة ‪ :‬النقياد والخضوع والطّاعة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ك َنعْبُدُ } ‪ :‬أي نطيع الطّاعة الّتي يخضع معها ‪ ،‬ومعنى‬


‫قال ال ّزجّاج في قوله تعالى ‪ { :‬إِيّا َ‬
‫العبادة في اللّغة ‪ :‬الطّاعة مع الخضوع ‪ ،‬ومنه طريق معبّد إذا كان مذّللً ‪.‬‬
‫قال ابن النباريّ ‪ :‬فلن عابد وهو الخاضع لربّه المستسلم المنقاد لمره ‪.‬‬
‫س اعْبُدُواْ رَ ّب ُكمُ } أي ‪ :‬أطيعوا ربّكم ‪.‬‬
‫وقوله ع ّز وجلّ ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّا ُ‬
‫وتعبّد الرّجل ‪ :‬تنسّك ‪.‬‬
‫والعبادة اصطلحا ‪ ،‬قال صاحب التّعريفات ‪ :‬هي فعل المكلّف على خلف هوى نفسه تعظيما‬
‫لربّه ‪.‬‬
‫ل عن شيخ السلم زكريّا ‪ :‬العبادة ما يثاب على فعله ويتوقّف على‬
‫وقال ابن عابدين نق ً‬
‫نيّة‪ .‬فالطّاعة أعمّ من العبادة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬القربة ‪:‬‬
‫‪ -‬عرّف صاحب الكلّيّات القربة بأنّها ‪ :‬ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى بواسطة غالبا قال ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫وقد تطلق ويراد بها ‪ :‬ما يتقرّب به بالذّات ‪.‬‬


‫ل عن شيخ السلم زكريّا في التّفريق بين القربة والعبادة والطّاعة ‪:‬‬
‫قال ابن عابدين نق ً‬
‫القربة ‪ :‬فعل ما يثاب عليه بعد معرفة من يتقرّب إليه به ‪ ،‬وإن لم يتوقّف على نيّة ‪،‬‬
‫والعبادة ‪ :‬ما يثاب على فعله ويتوقّف على نيّة ‪ ،‬والطّاعة ‪ :‬فعل ما يثاب عليه توقّف على‬
‫نيّة أو ل ‪ ،‬عرف من يفعله لجله أو ل ‪ ،‬فنحو الصّلوات الخمس ‪ ،‬والصّوم والزّكاة‬
‫والحجّ‪ ،‬من كلّ ما يتوقّف على النّيّة قربة وطاعة وعبادة وقراءة القرآن ‪ ،‬والوقف‬
‫والعتق ‪ ،‬والصّدقة ونحوها ممّا ل يتوقّف على نيّة ‪ ،‬قربة وطاعة ل عبادة ‪.‬‬
‫والنّظر المؤدّي إلى معرفة اللّه تعالى طاعة ل قربة ول عبادة ‪.‬‬
‫فالطّاعة أعمّ من القربة والعبادة ‪ ،‬والقربة أعمّ من العبادة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المعصية ‪:‬‬
‫‪ -‬المعصية في اللّغة ‪ :‬خلف الطّاعة ‪ ،‬يقال عصى العبد ربّه ‪ :‬إذا خالف أمره ‪ ،‬وعصى‬ ‫‪4‬‬

‫فلن أميره يعصيه عصيّا وعصيانا ومعصيةً ‪ :‬إذا لم يطعه ‪.‬‬


‫والمعصية اصطلحا ‪ :‬هي مخالفة المر قصدا فالمعصية ض ّد الطّاعة ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالطّاعة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬طاعة اللّه عزّ وجلّ ‪:‬‬
‫‪ -‬طاعة اللّه ع ّز جلّ فرض على كلّ مكلّف ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫عمَا َل ُكمْ } ‪.‬‬


‫ن آمَنُوا َأطِيعُوا الّل َه َوَأطِيعُوا ال ّرسُولَ وَلَا تُ ْبطِلُوا أَ ْ‬
‫قال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫حقع الباري ‪ -‬جلّ ثناؤه ‪ -‬على معن أبدععه أن يكون أمره عليعه نافذا ‪ ،‬وطاعتعه له‬
‫ّ‬ ‫ومعن‬
‫لزمةً ‪.‬‬
‫قال الطّبريّ في تأويل قوله تعالى ‪ { :‬ا ّتخَذُواْ َأحْبَارَ ُهمْ وَ ُرهْبَا َن ُهمْ أَرْبَابا مّن دُونِ الّلهِ‬
‫عمّا‬
‫ح ابْنَ مَرْ َي َم َومَا ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ إِلَعها وَاحِدا ّل إِلَعهَ ِإلّ ُهوَ سُ ْبحَا َن ُه َ‬
‫وَا ْل َمسِي َ‬
‫ُيشْ ِركُونَ } ‪ :‬يعني وما أمر هؤلء اليهود والنّصارى ‪ -‬الّذين اتّخذوا الحبار والرّهبان‬
‫والمسيح أربابا ‪ -‬إلّ أن يعبدوا معبودا واحدا ‪ ،‬وأن ل يطيعوا إلّ ربّا واحدا ‪ ،‬دون أرباب‬
‫شتّى ‪ ،‬وهو اللّه الّذي له عبادة كلّ شيء وطاعة كلّ خلق ‪ ،‬المستحقّ على جميع خلقه‬
‫الدّينونة له بالوحدانيّة والرّبوبيّة ل إله إلّ هو ‪ :‬ول تنبغي اللوهيّة إلّ لواحد ‪ ،‬وهو الّذي‬
‫أمر الخلق بعبادته ولزمت جميع العباد طاعته سبحانه عمّا يشركون ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كيفيّة اتّخاذ اليهود والنّصارى الحبار والرّهبان أربابا‬
‫وقد بيّن النّب ّ‬
‫ي بن حاتم ‪ » :‬أنّه سمع رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫من دون اللّه ‪ ،‬وذلك فيما روي عن عد ّ‬
‫وسلم يقرأ في سورة براءة ‪ { :‬ا ّتخَذُواْ َأحْبَارَ ُهمْ وَ ُرهْبَا َن ُهمْ أَرْبَابا مّن دُونِ الّلهِ } قال ‪ :‬أما‬
‫إنّهم لم يكونوا يعبدونهم ‪ ،‬ولكن كانوا إذا أحلّوا لهم شيئًا استحلّوه ‪ ،‬وإذا حرّموا عليهم‬
‫شيئًا حرّموه « ‪.‬‬
‫قال ابن عبّاس ‪ :‬لم يأمروهم أن يسجدوا لهم ‪ ،‬ولكن أمروهم بمعصية اللّه فأطاعوهم ‪،‬‬
‫فسمّاهم اللّه بذلك أربابا ‪ ،‬وقال الحسن ‪ :‬اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا في الطّاعة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬طاعة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا وجب اليمان برسول اللّه صلى ال عليه وسلم وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته‬ ‫‪6‬‬

‫لنّ ذلك ممّا أتى به ‪ ،‬وقد تضافرت الدلّة وتواترت على وجوب طاعة الرّسول صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫س َمعُونَ }‬
‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأطِيعُواْ الّلهَ َو َرسُو َلهُ َولَ َتوَّلوْا عَ ْنهُ َوأَن ُتمْ َت ْ‬
‫حمُونَ } ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪َ { :‬وَأطِيعُواْ الّل َه وَال ّرسُولَ َلعَّلكُمْ ُت ْر َ‬
‫وقال تعالى ‪َ { :‬وإِن ُتطِيعُوهُ َتهْتَدُوا } ‪.‬‬
‫ع الّلهَ } فجعل اللّه تعالى طاعة رسوله طاعته ‪،‬‬
‫ن ُيطِعِ ال ّرسُولَ َفقَدْ َأطَا َ‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬مّ ْ‬
‫وقرن طاعته بطاعته ‪.‬‬
‫قال القاضي عياض ‪ :‬قال المفسّرون والئمّة ‪ :‬طاعة الرّسول التزام سنّته والتّسليم لما جاء‬
‫به ‪ ،‬وما أرسل اللّه من رسول إلّ فرض طاعته على من أرسله إليهم ‪ ،‬وقد حكى اللّه عن‬
‫طعْنَا‬
‫طعْنَا الّل َه َوأَ َ‬
‫ن يَا لَيْتَنَا َأ َ‬
‫ب ُوجُو ُههُمْ فِي النّارِ َيقُولُو َ‬
‫الكفّار في دركات جهنّم ‪َ { :‬ي ْومَ ُتقَلّ ُ‬
‫ال ّرسُول } فتمنّوا طاعته حيث ل ينفعهم التّمنّي ‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه أنّه سمع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫» من أطاعني فقد أطاع اللّه ‪ ،‬ومن عصاني فقد عصى اللّه « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ‪ ،‬وإذا أمرتكم بشيء‬
‫وقال النّب ّ‬
‫فأتوا منه ما استطعتم « ‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إنّما مثلي ومثل ما بعثني اللّه به ‪ ،‬كمثل رجل أتى قوما‬
‫فقال‪ :‬يا قوم ‪ ،‬إنّي رأيت الجيش بعيني ‪ ،‬وإنّي أنا النّذير العريان فالنّجاء ‪ ،‬فأطاعه طائفة‬
‫من قومه فأدلجوا ‪ ،‬فانطلقوا على مهلهم فنجوا ‪ ،‬وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ‪،‬‬
‫فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ‪ ،‬فذلك مثل من أطاعني فاتّبع ما جئت به ‪ ،‬ومثل من‬
‫ق«‪.‬‬
‫عصاني وكذّب بما جئت به من الح ّ‬
‫شجَ َر بَيْ َنهُ ْم ُثمّ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬
‫ن حَ ّتىَ ُي َ‬
‫ك لَ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫ل وَرَبّ َ‬
‫قال الجصّاص ‪ :‬في قوله تعالى ‪ { :‬فَ َ‬
‫سهِمْ حَرَجا ّممّا قَضَيْتَ وَ ُيسَّلمُواْ َتسْلِيما } دللة على أنّ من ر ّد شيئا من‬
‫لَ َيجِدُواْ فِي أَن ُف ِ‬
‫أوامر اللّه تعالى أو أوامر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فهو خارج من السلم ‪ ،‬سواء‬
‫ردّه من جهة الشّكّ فيه أو من جهة ترك القبول والمتناع من التّسليم ‪ ،‬وذلك يوجب صحّة‬
‫ما ذهب إليه الصّحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزّكاة ‪ ،‬وقتلهم وسبي ذراريّهم‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من‬
‫ن من لم يسلّم للنّب ّ‬
‫‪ ،‬لنّ اللّه تعالى حكم بأ ّ‬
‫أهل اليمان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬طاعة أولي المر ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع العلماء على وجوب طاعة أولي المر من المراء والحكّام ‪ ،‬وقد نقل النّوويّ عن‬ ‫‪7‬‬

‫القاضي عياض وغيره هذا الجماع ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأطِيعُواْ الّلهَ َوَأطِيعُواْ‬
‫ال ّرسُولَ َوُأوْلِي ا َلمْ ِر مِنكُمْ } ‪.‬‬
‫ن المقصود بأولي المر في الية ‪ :‬المراء وأهل‬
‫وقد ذهب جمهور الفقهاء والمفسّرين إلى أ ّ‬
‫ن المقصود بأولي المر في الية هم العلماء ‪ ،‬قال الطّبريّ ‪:‬‬
‫السّلطة والحكم ‪ ،‬وهناك قول بأ ّ‬
‫وأولى القوال في ذلك بالصّواب قول من قال ‪ :‬هم المراء والولة ‪ ،‬لصحّة الخبار عن‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالمر بطاعة الئمّة والولة فيما كان طاعةً للّه وللمسلمين‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬سيليكم‬
‫مصلحةً ‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي ال عنه أنّ النّب ّ‬
‫بعدي ولة ‪ ،‬فيليكم البرّ ببرّه والفاجر بفجوره ‪ ،‬فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق‬
‫الحقّ‪ ،‬وصلّوا وراءهم ‪ ،‬فإن أحسنوا فلكم ولهم ‪ ،‬وإن أساءوا فلكم وعليهم « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬السّمع والطّاعة‬
‫وعن ابن عمر رضي ال عنهما عن النّب ّ‬
‫على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ‪ ،‬ما لم يؤمر بمعصية ‪ ،‬فإذا أمر بمعصية فل سمع ول‬
‫طاعة « ‪.‬‬
‫وعن ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من‬
‫رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ‪ ،‬فإنّه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلّ مات‬
‫ميتةً جاهل ّيةً « ‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪» :‬‬
‫عليك السّمع والطّاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك ‪ ،‬وأثرة عليك « ‪.‬‬
‫ق وتكرهه النّفوس وغيره‬
‫قال النّوويّ قال العلماء ‪ :‬معناه تجب طاعة ولة المور فيما يش ّ‬
‫ممّا ليس بمعصية ‪.‬‬
‫وهذه الحاديث في الحثّ على السّمع والطّاعة في جميع الحوال وسببها اجتماع كلمة‬
‫ي ‪ :‬إذا قام‬
‫المسلمين ‪ ،‬فإنّ الخلف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم ‪ ،‬قال الماورد ّ‬
‫ق اللّه تعالى فيما لهم وعليهم ‪ ،‬ووجب عليهم حقّان ‪:‬‬
‫المام بحقوق المّة فقد أدّى ح ّ‬
‫الطّاعة والنّصرة ما لم يتغيّر حاله ‪.‬‬
‫طاعة العلماء ‪:‬‬
‫ن آمَنُواْ َأطِيعُواْ الّل َه َوَأطِيعُواْ ال ّرسُولَ‬
‫‪ -‬طاعة العلماء واجبة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬ ‫‪8‬‬

‫َوُأوْلِي ا َلمْرِ مِن ُكمْ } حيث ذهب جابر بن عبد اللّه ‪ ،‬وابن عبّاس رضي ال عنهم ‪ -‬في‬
‫رواية ‪ -‬ومجاهد وعطاء والحسن البصريّ وأبو العالية إلى أنّ المقصود بأولي المر في‬
‫الية هم العلماء والفقهاء ‪ ،‬وهو قول لحمد ‪ ،‬واختاره المام مالك ‪ ،‬وبه قال ابن القيّم ‪.‬‬
‫قال مطرّف وابن مسلمة ‪ :‬سمعنا مالكا يقول ‪ :‬هم العلماء ‪.‬‬
‫ص الكتاب ‪.‬‬
‫وقال ابن القيّم ‪ :‬طاعة الفقهاء أفرض على النّاس من طاعة المّهات والباء بن ّ‬
‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأطِيعُواْ الّلهَ َوَأطِيعُواْ ال ّرسُو َل َوأُوْلِي ا َلمْرِ مِن ُكمْ فَإِن‬
‫ك خَيْرٌ‬
‫تَنَا َزعْ ُتمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّو ُه إِلَى الّل ِه وَال ّرسُولِ إِن كُن ُتمْ ُت ْؤمِنُونَ بِالّلهِ وَالْ َي ْومِ الخِ ِر ذَلِ َ‬
‫ن تَ ْأوِيلً } ‪.‬‬
‫حسَ ُ‬
‫َوأَ ْ‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬أمر اللّه تعالى بردّ المتنازع فيه إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى ال عليه‬
‫وسلم وليس لغير العلماء معرفة كيفيّة الرّ ّد إلى الكتاب والسّنّة ‪ ،‬ويد ّل هذا على صحّة كون‬
‫سؤال العلماء واجبا ‪ ،‬وامتثال فتواهم لزما ‪.‬‬
‫وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنّ المقصود بأولي المر هم المراء والعلماء جميعا ‪ ،‬وبه‬
‫أخذ الجصّاص وابن العربيّ وابن كثير وابن تيميّة ‪.‬‬
‫قال الجصّاص ‪ :‬وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولي المر وهم أمراء‬
‫السّرايا والعلماء ‪ ،‬وقال ابن العربيّ ‪ :‬والصّحيح عندي أنّهم المراء والعلماء جميعا ‪ ،‬أمّا‬
‫ن أصل المر منهم والحكم إليهم ‪ ،‬وأمّا العلماء فلنّ سؤالهم واجب متعيّن على‬
‫المراء فل ّ‬
‫الخلق ‪ ،‬وجوابهم لزم ‪ ،‬وامتثال فتواهم واجب ‪ ،‬قال ابن كثير ‪ :‬والظّاهر ‪ -‬واللّه أعلم ‪-‬‬
‫أنّها عامّة في كلّ أولي المر من المراء والعلماء ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ ‪ :‬قال العلماء ‪ :‬المراد بأولي المر من أوجب اللّه طاعته من الولة والمراء ‪،‬‬
‫هذا قول جماهير السّلف والخلف من المفسّرين والفقهاء وغيرهم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هم العلماء ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬العلماء والمراء ‪.‬‬
‫هع – طاعة الوالدين ‪:‬‬
‫ك َألّ‬
‫– طاعة الوالدين والحسان إليهما فرض على الولد ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وَقَضَى رَبّ َ‬ ‫‪9‬‬

‫ل َتقُل ّل ُهمَا أُفّ‬


‫ك ا ْلكِبَرَ َأحَدُ ُهمَا َأوْ كِلَ ُهمَا فَ َ‬
‫ن عِندَ َ‬
‫ن ِإحْسَانا ِإمّا يَبُْلغَ ّ‬
‫َتعْبُدُواْ ِإ ّل إِيّاهُ وَبِا ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫ح ْم ُهمَا‬
‫ب ا ْر َ‬
‫ح َمةِ وَقُل رّ ّ‬
‫ح ال ّذلّ مِنَ ال ّر ْ‬
‫َولَ تَ ْنهَ ْر ُهمَا وَقُل ّل ُهمَا َق ْولً كَرِيما ‪ ،‬وَاخْفِضْ َل ُهمَا جَنَا َ‬
‫صغِيرا } ‪.‬‬
‫َكمَا رَبّيَانِي َ‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬أمر اللّه سبحانه بعبادته وتوحيده وجعل ب ّر الوالدين مقرونا بذلك كما قرن‬
‫ن ِإحْسَانا } ‪.‬‬
‫ك َألّ َتعْبُدُواْ ِإ ّل إِيّاهُ وَبِا ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫شكرهما بشكره فقال ‪ { :‬وَقَضَى رَبّ َ‬
‫ك إِلَيّ ا ْلمَصِي ُر } ‪.‬‬
‫شكُرْ لِي وَ ِلوَالِدَيْ َ‬
‫وقال ‪ { :‬أَنِ ا ْ‬
‫وقال الجصّاص ‪ :‬وقضى ربّك معناه ‪ :‬أمر ربّك ‪ ،‬وأمر بالوالدين إحسانا ‪ ،‬وقيل معناه ‪:‬‬
‫وأوصى بالوالدين إحسانا ‪ ،‬والمعنى واحد ‪ ،‬لنّ الوصيّة أمر ‪ ،‬وقد أوصى اللّه تعالى ببرّ‬
‫ن ِبوَالِدَ ْيهِ‬
‫الوالدين والحسان إليهما في غير موضع من كتابه وقال ‪َ { :‬ووَصّيْنَا النسَا َ‬
‫ِإحْسَانا } ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬ل يجوز أن يكون معنى قضى هاهنا إلّ أمر ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ّ‬
‫وعن أبي بكرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أل‬
‫أنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا ‪ :‬بلى يا رسول اللّه ‪ ،‬قال ‪ :‬الشراك باللّه وعقوق الوالدين « ‪.‬‬
‫ح َمةِ } ‪:‬‬
‫ح ال ّذلّ مِنَ ال ّر ْ‬
‫خفِضْ َل ُهمَا جَنَا َ‬
‫وقال هشام بن عروة عن أبيه في قوله تعالى ‪ { :‬وَا ْ‬
‫ل تمنعهما شيئا يريدانه ‪.‬‬
‫وحقّ الطّاعة للوالدين ليس مقصورا على الوالدين المسلمين ‪ ،‬بل هو مكفول ‪ -‬أيضا ‪-‬‬
‫ي ا ْلمَصِيرُ ‪،‬‬
‫ن اشْكُ ْر لِي وَ ِلوَالِدَيْكَ إِلَ ّ‬
‫للوالدين المشركين ‪ ،‬قال الجصّاص في قوله تعالى ‪ { :‬أَ ِ‬
‫طعْ ُهمَا وَصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا‬
‫ك عَلى أَن ُتشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ ِب ِه عِ ْلمٌ فَل ُت ِ‬
‫َوإِن جَاهَدَا َ‬
‫َمعْرُوفا} أمر بمصاحبة الوالدين المشركين بالمعروف مع النّهي عن طاعتهما في الشّرك ‪،‬‬
‫لنّه ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق ‪.‬‬
‫ك بِي‬
‫ك لِ ُتشْرِ َ‬
‫حسْنا َوإِن جَاهَدَا َ‬
‫وقال ابن حجر في قوله تعالى ‪َ { :‬ووَصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ُ‬
‫ط ْع ُهمَا } اقتضت الية الوصيّة بالوالدين والمر بطاعتهما ولو كانا‬
‫مَا لَيْسَ َلكَ ِب ِه عِ ْلمٌ فَل ُت ِ‬
‫كافرين ‪ ،‬إلّ إذا أمرا بالشّرك فتجب معصيتهما في ذلك ‪.‬‬
‫و ‪ -‬طاعة الزّوج ‪:‬‬
‫‪ -‬طاعة الزّوج واجبة على الزّوجة ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫ض ُهمْ عَلَى َبعْضٍ وَ ِبمَا أَن َفقُواْ‬


‫ض َل الّلهُ َبعْ َ‬
‫ن عَلَى ال ّنسَاء ِبمَا فَ ّ‬
‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬ال ّرجَالُ َقوّامُو َ‬
‫مِنْ َأ ْموَا ِل ِهمْ } ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬قيام الرّجال على النّساء هو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها ‪ ،‬وإمساكها في بيتها‬
‫ومنعها من البروز ‪ -‬أي الخروج ‪ ، -‬وأنّ عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصيةً ‪.‬‬
‫وعن أنس ‪ » :‬أنّ رجلً انطلق غازيا وأوصى امرأته ‪ :‬أن ل تنزل من فوق البيت ‪ ،‬وكان‬
‫والدها في أسفل البيت ‪ ،‬فاشتكى أبوها ‪ ،‬فأرسلت إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫تخبره وتستأمره فأرسل إليها ‪ :‬اتّقي اللّه وأطيعي زوجك ثمّ إنّ والدها توفّي فأرسلت إليه‬
‫صلى ال عليه وسلم تستأمره ‪ ،‬فأرسل إليها مثل ذلك ‪ ،‬وخرج رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ن اللّه قد غفر لك بطواعيتك لزوجك « ‪.‬‬
‫وسلم وأرسل إليها ‪ :‬إ ّ‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬طاعة الزّوج واجبة ‪.‬‬
‫قال أح مد في امرأة ل ها زوج وأ مّ مري ضة ‪ :‬طا عة زوج ها أو جب علي ها من أمّ ها ‪ ،‬إلّ أن‬
‫يأذن لها ‪.‬‬
‫حدود الطّاعة ‪:‬‬
‫‪ -‬طاعة اللّه تعالى وطاعة الرّسول صلى ال عليه وسلم ليس لها حدود ‪ ،‬فيجب على‬ ‫‪11‬‬

‫المسلم طاعتهما مطلقا في ك ّل ما أمرا به ونهيا عنه فقد أمر اللّه تعالى بطاعته وطاعة‬
‫ن آمَنُواْ َأطِيعُواْ الّل َه َوَأطِيعُواْ‬
‫رسوله من غير تقييد بقيد فقال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أصحابه على ذلك ‪ ،‬فعن عبادة بن الصّامت‬
‫ال ّرسُولَ } وقد بايع النّب ّ‬
‫رضي ال تعالى عنه قال ‪ » :‬بايعنا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على السّمع والطّاعة‬
‫في العسر واليسر والمنشط والمكره « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إذا نهيتكم‬
‫وعن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه عن النّب ّ‬
‫عن شيء فاجتنبوه ‪ ،‬وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم « ‪.‬‬
‫ن وجوب‬
‫أمّا طاعة المخلوقين ‪ -‬ممّن تجب طاعتهم ‪ -‬كالوالدين والزّوج وولة المر ‪ ،‬فإ ّ‬
‫طاعتهم مقيّد بأن ل يكون في معصية ‪ ،‬إذ ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق ‪.‬‬
‫ك عَلى أَن ُتشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ ِب ِه عِ ْلمٌ فَل‬
‫قال تعالى في الوالدين ‪َ { :‬وإِن جَاهَدَا َ‬
‫طعْ ُهمَا }‪ .‬وفي طاعة الزّوج روت صفيّة عن عائشة رضي ال تعالى عنهما قالت ‪ » :‬إنّ‬
‫ُت ِ‬
‫امرأةً من النصار زوّجت ابنتها ‪ ،‬فتمعّط شعر رأسها ‪ ،‬فجاءت إلى النّبيّ صلى ال عليه‬
‫ن زوجها أمرني أن أصل في شعرها فقال ‪ :‬ل ‪ ،‬إنّه قد لعن‬
‫وسلم فذكرت ذلك له ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إ ّ‬
‫الموصلت « قال ابن حجر ‪ :‬لو دعاها الزّوج إلى معصية فعليها أن تمتنع ‪ ،‬فإن أدّبها على‬
‫ذلك كان الثم عليه ‪.‬‬
‫وفي طاعة ولة المر روى عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما عن النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪ » :‬السّمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية ‪،‬‬
‫فإذا أمر بمعصية فل سمع ول طاعة « ‪.‬‬
‫الخروج على الطّاعة ‪:‬‬
‫‪ -‬سبق أنّ حكم الطّاعة هو الوجوب بمختلف أحوالها ‪ ،‬ومن ثمّ يترتّب على الخروج‬ ‫‪12‬‬

‫على الطّاعة الثم والمعصية والعقاب قال تعالى محذّرا عن مخالفة أمره ‪ { :‬فَلْ َيحْذَ ِر الّذِينَ‬
‫ب أَلِيمٌ } ‪.‬‬
‫عنْ َأمْرِ ِه أَن تُصِي َب ُهمْ فِتْ َنةٌ َأوْ يُصِي َب ُهمْ عَذَا ٌ‬
‫ُيخَا ِلفُونَ َ‬
‫ن المر على الوجوب ‪ ،‬ووجهها ‪ :‬أنّ اللّه‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬احتجّ الفقهاء بهذه الية على أ ّ‬
‫تبارك وتعالى قد حذّر من مخالفة أمره وتوعّد بالعقاب عليها بقوله ‪ { :‬أَن تُصِي َب ُهمْ فِتْ َنةٌ َأوْ‬
‫يُصِي َب ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فتحرم مخالفته ‪ ،‬ويجب امتثال أمره ‪.‬‬
‫وفي مخالفة أمر الرّسول صلى ال عليه وسلم الثم والعقاب ‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي ال‬
‫تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّ من‬
‫أبى ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ومن يأبى ؟ قال ‪ :‬من أطاعني دخل الجنّة ومن عصاني فقد أبى‬
‫« ‪ .‬وعقوق الوالدين من الكبائر لحديث أبي بكرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أل أنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا ‪ :‬بلى يا رسول اللّه ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ثلث ‪ :‬الشراك باللّه ‪ ،‬وعقوق الوالدين ‪ ،‬وكان متّكئا فجلس فقال ‪ :‬أل وقول الزّور ‪،‬‬
‫وشهادة الزّور ‪ :‬أل وقول الزّور وشهادة الزّور ‪ ،‬فما زال يقولها حتّى قلت ‪ :‬ل يسكت « ‪.‬‬
‫ق لوالديه ‪ ،‬والمدمن على‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ثلثة ل يدخلون الجنّة ‪ :‬العا ّ‬
‫الخمر ‪ ،‬والمنّان بما أعطى « ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪15‬‬ ‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬ب ّر الوالدين ف‬
‫وفي مخالفة أمر الزّوج والخروج على طاعته الثم العظيم ‪ ،‬لما روى جابر رضي ال عنه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ثلثة ل يقبل اللّه لهم صلةً ‪ ،‬ول ترفع لهم إلى‬
‫أنّ النّب ّ‬
‫السّماء حسنة ‪ :‬العبد البق حتّى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم ‪ ،‬والمرأة السّاخط‬
‫عليها زوجها حتّى يرضى ‪ ،‬والسّكران حتّى يصحو « ‪.‬‬
‫وفي مخالفة المير والخروج على طاعته حديث ابن عبّاس رضي ال عنهما السّابق ‪ ،‬في‬
‫طاعة أولي المر ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬بغاة ف ‪. ) 4‬‬

‫طاعون *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن منظور ‪ :‬الطّاعون لغةً ‪ :‬المرض العامّ والوباء الّذي يفسد له الهواء فتفسد له‬ ‫‪1‬‬

‫المزجة والبدان ‪.‬‬


‫ي سببه مكروب يصيب الفئران ‪ ،‬وتنقله‬
‫وفي المعجم الوسيط ‪ :‬الطّاعون داء ورميّ وبائ ّ‬
‫البراغيث إلى فئران أخرى وإلى النسان ‪.‬‬
‫وفي الصطلح قال النّوويّ ‪ :‬الطّاعون قروح تخرج في الجسد فتكون في الباط أو المرافق‬
‫أو اليدي أو الصابع وسائر البدن ‪ ،‬ويكون معه ورم وألم شديد ‪ ،‬وتخرج تلك القروح مع‬
‫لهيب ويسودّ ما حواليه أو يخض ّر أو يحم ّر حمرةً بنفسج ّيةً كدر ًة ويحصل معه خفقان القلب‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫والقيء ‪ ،‬وفي أثر عن عائشة رضي ال عنها أنّها قالت للنّب ّ‬
‫» الطّعن قد عرفناه فما الطّاعون ؟ قال ‪ :‬غدّة كغدّة البعير يخرج في المراق والبط « ‪.‬‬
‫قال ابن قيّم الجوزيّة – بعد أن بيّن الصّلة بين الوباء والطّاعون – هذه القروح والورام‬
‫والجراحات ‪ ،‬هي آثار الطّاعون ‪ ،‬وليست نفسه ولكن الطبّاء لمّا لم تدرك منه إلّ الثر‬
‫الظّاهر جعلوه نفس الطّاعون ‪.‬‬
‫والطّاعون يعبّر به عن ثلثة أمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬هذا الثر الظّاهر ‪ ،‬وهو الّذي ذكره الطبّاء ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬الموت الحادث عنه ‪ ،‬وهو المراد بالحديث الصّحيح في قوله ‪ » :‬الطّاعون شهادة‬
‫لكلّ مسلم « ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬السّبب الفاعل لهذا الدّاء ‪ ،‬وقد ورد في الحديث الصّحيح ‪ » :‬أنّه بقيّة رجز أرسل‬
‫على بني إسرائيل « ‪.‬‬
‫وورد فيه ‪ » :‬أنّه وخز أعدائكم من الجنّ « ‪.‬‬
‫ي«‪.‬‬
‫وجاء ‪ » :‬أنّه دعوة نب ّ‬
‫القنوت لصرف الطّاعون ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى الحنفيّة والشّافعيّة على المعتمد استحباب القنوت في الصّلة لصرف الطّاعون‬ ‫‪2‬‬

‫باعتباره من أشدّ النّوازل ‪.‬‬


‫وذهب الحنابلة وبعض الشّافعيّة إلى عدم مشروعيّة القنوت لرفع الطّاعون ‪ ،‬لوقوعه في‬
‫زمن عمر رضي ال عنه ولم يقنتوا له ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة باستحباب الصّلة لدفع الطّاعون ‪ ،‬لنّه عقوبة من أجل الزّنا ‪ ،‬وإن كان‬
‫شهادةً لغيرهم ‪.‬‬
‫وفي الصّلوات الّتي يقنت فيها للنّوازل وفي السرار أو الجهر به ‪ ،‬تفصيل ينظر في ‪:‬‬
‫( قنوت ) ‪.‬‬
‫القدوم على بلد الطّاعون والخروج منه ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور العلماء منع القدوم على بلد الطّاعون ومنع الخروج منه فرارا من ذلك ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الطّاعون آية الرّجز ابتلى اللّه عزّ وجلّ به أناسا من‬
‫عباده ‪ ،‬فإذا سمعتم به فل تدخلوا عليه ‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تفرّوا منه « ‪.‬‬
‫ل سأل سعد بن أبي وقّاص رضي ال عنه‬
‫وأخرج مسلم من حديث عامر بن سعد أنّ رج ً‬
‫عن الطّاعون ‪ ،‬فقال أسامة بن زيد رضي ال عنهما أنا أخبرك عنه ‪ ،‬قال رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ » :‬هو عذاب أو رجز أرسله اللّه على طائفة من بني إسرائيل أو ناس‬
‫كانوا قبلكم ‪ ،‬فإذا سمعتم به بأرض فل تدخلوها عليه ‪ ،‬وإذا دخلها عليكم فل تخرجوا منها‬
‫فرارا « وأخرج أحمد من حديث عائشة رضي ال عنها مرفوعا ‪ » :‬قلت ‪ :‬يا رسول اللّه‬
‫فما الطّاعون ؟ قال ‪ :‬غدّة كغدّة البل ‪ ،‬المقيم فيها كالشّهيد ‪ ،‬والفارّ منها كالفارّ من الزّحف‬
‫«‪.‬‬
‫– قال ابن القيّم ‪ :‬وفي المنع من الدّخول إلى الرض الّتي قد وقع بها الطّاعون عدّة حكم‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫إحداها ‪ :‬تجنّب السباب المؤذية ‪ ،‬والبعد منها ‪.‬‬


‫الثّانية ‪ :‬الخذ بالعافية الّتي هي مادّة المعاش والمعاد ‪.‬‬
‫الثّالثة ‪ :‬أن ل يستنشقوا الهواء الّذي قد عفن وفسد فيصيبهم المرض ‪.‬‬
‫الرّابعة ‪ :‬أن ل يجاوروا المرضى الّذين قد مرضوا بذلك ‪ ،‬فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس‬
‫أمراضهم ‪.‬‬
‫ن الطّيرة على من‬
‫الخامسة ‪ :‬حميّة النّفوس عن الطّيرة والعدوى ‪ ،‬فإنّها تتأثّر بهما ‪ ،‬فإ ّ‬
‫تطيّر بها ‪ ،‬وبالجملة ففي النّهي عن الدّخول في أرضه المر بالحذر والحميّة ‪ ،‬والنّهي عن‬
‫التّعرّض لسباب التّلف ‪ ،‬وفي النّهي عن الفرار منه المر بالتّوكّل والتّسليم والتّفويض ‪،‬‬
‫فالوّل ‪ :‬تأديب وتعليم ‪ ،‬والثّاني تفويض وتسليم ‪.‬‬
‫وفي الصّحيح ‪ :‬أنّ عمر بن الخطّاب رضي ال عنه خرج إلى الشّام ‪ ،‬حتّى إذا كان بسرغ‬
‫لقيه أبو عبيدة بن الجرّاح رضي ال عنه وأصحابه ‪ ،‬فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بالشّام‬
‫فقال لبن عبّاس رضي ال عنهما ‪ :‬ادع لي المهاجرين الوّلين ‪ ،‬قال ‪ :‬فدعوتهم ‪،‬‬
‫فاستشارهم وأخبرهم أنّ الوباء قد وقع بالشّام ‪ ،‬فاختلفوا ‪ ،‬فقال له بعضهم ‪ :‬خرجت لمر ‪،‬‬
‫فل نرى أن ترجع عنه ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬معك بقيّة النّاس وأصحاب رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم فل نرى أن تقدّمهم على هذا الوباء ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬ارتفعوا عنّي ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ادع‬
‫لي النصار ‪ ،‬فدعوتهم له فاستشارهم ‪ ،‬فسلكوا سبيل المهاجرين ‪ ،‬واختلفوا كاختلفهم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬ارتفعوا عنّي ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ادع لي من هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ‪،‬‬
‫فدعوتهم له ‪ ،‬فلم يختلف عليه منهم رجلن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نرى أن ترجع بالنّاس ول تقدّمهم‬
‫على هذا الوباء ‪ ،‬فأذّن عمر في النّاس ‪ :‬إنّي مصبح على ظهر ‪ ،‬فأصبحوا عليه ‪ ،‬فقال أبو‬
‫عبيدة بن الجرّاح ‪ :‬يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر اللّه ؟ قال ‪ :‬لو غيرك قالها يا أبا عبيدة‬
‫‪ ،‬نعم نفرّ من قدر اللّه تعالى إلى قدر اللّه تعالى ‪ ،‬أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له‬
‫عدوتان ‪ ،‬إحداها خصبة ‪ ،‬والخرى جدبة ألست إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر اللّه تعالى‬
‫‪ ،‬وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر اللّه تعالى ؟ قال ‪ :‬فجاء عبد الرّحمن بن عوف وكان‬
‫ن عندي في هذا علما ‪ ،‬سمعت رسول اللّه صلى ال‬
‫متغيّبا في بعض حاجاته ‪ ،‬فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫عليه وسلم يقول ‪ » :‬إذا كان بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فرارا منه ‪ ،‬وإذا سمعتم به‬
‫بأرض فل تقدموا عليه « ‪.‬‬
‫‪ -5‬وقد ذكر العلماء في النّهي عن الخروج من البلد الّتي وقع بها الطّاعون حكما ‪:‬‬
‫ن الطّاعون في الغالب يكون عامّا في البلد الّذي يقع به فإذا وقع فالظّاهر مداخلة‬
‫منها ‪ :‬أ ّ‬
‫ن المفسدة إذا تعيّنت ‪ -‬حتّى ل يقع النفكاك عنها ‪-‬‬
‫سببه لمن بها ‪ ،‬فل يفيده الفرار ‪ ،‬ل ّ‬
‫كان الفرار عبثا فل يليق بالعاقل ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنّ النّاس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه ‪ -‬بالمرض المذكور أو‬
‫بغيره ‪ -‬ضائع المصلحة لفقد من يتعهّده حيّا وميّتا ‪.‬‬
‫وأيضا فلو شرع الخروج فخرج القوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضّعفاء ‪ ،‬وقد قالوا ‪ :‬إنّ‬
‫حكمة الوعيد في الفرار من الزّحف ما فيه من كسر قلب من لم يفرّ وإدخال الرّعب عليه‬
‫بخذلنه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬حمل النّفوس على الثّقة باللّه ‪ ،‬والتّوكّل عليه ‪ ،‬والصّبر على أقضيته والرّضا بها ‪.‬‬
‫ونقل النّوويّ عن القاضي قوله ‪ :‬ومنهم من جوّز القدوم عليه ‪ -‬أي على بلد الطّاعون ‪-‬‬
‫والخروج منه فرارا ‪ ،‬قال القاضي ‪ :‬وروي هذا عن عمر بن الخطّاب رضي ال عنه ‪ ،‬وأنّه‬
‫ندم على رجوعه من سرغ ‪ ،‬وعن أبي موسى الشعريّ ومسروق والسود بن هلل أنّهم‬
‫فرّوا من الطّاعون ‪ ،‬وقال عمرو بن العاص ‪ :‬فرّوا عن هذا الرّجز في الشّعاب والودية‬
‫ورءوس الجبال فقال معاذ ‪ :‬بل هو شهادة ورحمة ‪ ،‬ويتأوّل هؤلء النّهي على أنّه لم ينه‬
‫عن الدّخول عليه والخروج منه ‪ ،‬مخافة أن يصيبه غير المقدّر ‪ ،‬لكن مخافة الفتنة على‬
‫النّاس ‪ ،‬لئلّ يظنّوا أنّ هلك القادم إنّما حصل بقدومه ‪ ،‬وسلمة الفا ّر إنّما كانت بفراره ‪،‬‬
‫وقالوا ‪ :‬وهو من نحو النّهي عن الطّيرة والقرب من المجذوم ‪ ،‬وقد جاء عن ابن مسعود‬
‫قال ‪ :‬الطّاعون فتنة على المقيم والفا ّر ‪ ،‬أمّا الفا ّر فيقول ‪ :‬فررت فنجوت ‪ ،‬وأمّا المقيم‬
‫فيقول ‪ :‬أقمت فمتّ ‪ ،‬وإنّما ف ّر من لم يأت أجله ‪ ،‬وأقام من حضر أجله ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬والصّحيح ما قدّمناه من النّهي عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الحاديث‬
‫الصّحيحة ‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬وهو قريب المعنى من قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل تتمنّوا لقاء العدوّ ‪،‬‬
‫واسألوا اللّه العافية ‪ ،‬فإذا لقيتموهم فاصبروا « ‪.‬‬
‫هذا واتّفق العلماء على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار ‪ ،‬ودليله صريح الحاديث‬
‫‪.‬‬
‫أجر الصّبر على الطّاعون ‪:‬‬
‫‪ -‬جاء في بعض الحاديث استواء شهيد الطّاعون وشهيد المعركة فقد أخرج أحمد بسند‬ ‫‪6‬‬

‫حسن عن عتبة بن عبد السّلميّ رفعه ‪ » :‬يأتي الشّهداء والمتوفّون بالطّاعون ‪ ،‬فيقول‬
‫أصحاب الطّاعون ‪ :‬نحن الشّهداء ‪ ،‬فيقال ‪ :‬انظروا فإن كانت جراحهم كجراح الشّهداء‬
‫تسيل دما وريحها كريح المسك فهم شهداء ‪ ،‬فيجدونهم كذلك « ‪.‬‬
‫ي من حديث عائشة رضي ال عنها ‪ » :‬أنّها سألت رسول اللّه صلى ال‬
‫وأخرج البخار ّ‬
‫ي اللّه أنّه كان عذابا يبعثه اللّه على من يشاء فجعله‬
‫عليه وسلم عن الطّاعون ‪ ،‬فأخبرها نب ّ‬
‫اللّه رحمةً للمؤمنين فليس من عبد يقع الطّاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنّه لن يصيبه‬
‫إلّ ما كتبه اللّه له إلّ كان له مثل أجر الشّهيد « ‪.‬‬
‫ويفهم من سياق هذا الحديث أنّ حصول أجر الشّهادة لمن يموت بالطّاعون مقيّد بما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يمكث صابرا غير منزعج بالمكان الّذي يقع به الطّاعون فل يخرج فرارا منه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يعلم أنّه لن يصيبه إ ّل ما كتب اللّه له ‪.‬‬
‫فلو مكث وهو قلق أو نادم على عدم الخروج ظانّا أنّه لو خرج لما وقع به أصلً ورأسا ‪،‬‬
‫وأنّه بإقامته يقع به ‪ ،‬فهذا ل يحصل له أجر الشّهيد ولو مات بالطّاعون ‪ ،‬هذا الّذي يقتضيه‬
‫مفهوم هذا الحديث ‪ ،‬كما اقتضى منطوقه أنّه من اتّصف بالصّفات المذكورة يحصل له أجر‬
‫الشّهيد وإن لم يمت بالطّاعون ‪.‬‬
‫والمراد بشهادة الميّت بالطّاعون أنّه يكون له في الخرة ثواب الشّهيد ‪ ،‬وأمّا في الدّنيا‬
‫فيغسّل ويصلّى عليه ‪.‬‬
‫قال القاضي البيضاويّ ‪ :‬من مات بالطّاعون ‪ ،‬أو بوجع البطن ملحق بمن قتل في سبيل اللّه‬
‫لمشاركته إيّاه في بعض ما يناله من الكرامة بسبب ما كابده ‪ ،‬ل في جملة الحكام‬
‫والفضائل‪.‬‬

‫طَالبُ العِلم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّالب ‪ :‬اسم فاعل من الطّلب ‪ ،‬والطّلب لغةً ‪ :‬محاولة وجدان الشّيء وأخذه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والعلم لغةً ‪ :‬نقيض الجهل ‪ ،‬والمعرفة ‪ ،‬واليقين ‪.‬‬


‫واصطلحا ‪ :‬هو معرفة الشّيء على ما هو به ‪.‬‬
‫وقال صاحب التّعريفات ‪ :‬هو العتقاد الجازم المطابق للواقع ‪.‬‬
‫وقال الحكماء ‪ :‬هو حصول صورة الشّيء في العقل ‪.‬‬
‫فضل طالب العلم ‪:‬‬
‫‪ -‬لطالب العلم فضل كبير وميزة خاصّة عند اللّه تعالى والملئكة والخلئق ‪ ،‬وقد وردت‬ ‫‪2‬‬

‫الدلّة المستفيضة بذلك ‪.‬‬


‫فعن أبي الدّرداء رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫» من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك اللّه له طريقا إلى الجنّة ‪ ،‬وإنّ الملئكة لتضع‬
‫أجنحتها لطالب العلم ‪ ،‬وإنّ العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الرض حتّى‬
‫الحيتان في الماء ‪ ،‬وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ‪ ،‬وإنّ العلماء‬
‫ورثة النبياء ‪ ،‬إنّ النبياء لم يورّثوا دينارا ول درهما وإنّما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظّ‬
‫وافر« ‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫» الدّنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّ ذكر اللّه وما واله أو عالما ومتعلّما « ‪.‬‬
‫وعن أنس رضي ال تعالى عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من خرج‬
‫في طلب العلم فهو في سبيل اللّه حتّى يرجع « ‪.‬‬
‫آداب طالب العلم ‪:‬‬
‫‪ -‬لطالب العلم آداب كثيرة نذكر منها ما يلي ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫أ ‪ -‬ينبغي لطالب العلم أن يطهّر قلبه من الدناس ‪ ،‬ليصلح لقبول العلم وحفظه واستثماره ‪.‬‬
‫قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أل وإنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد‬
‫كلّه ‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلّه أل وهي القلب « ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ينبغي لطالب العلم أن يقطع العلئق الشّاغلة عن كمال الجتهاد في التّحصيل ويرضى‬
‫باليسير من القوت ‪ ،‬ويصبر على ضيق العيش ‪ ،‬وأن يتواضع للعلم والمعلّم ‪ ،‬فبتواضعه‬
‫ينال العلم ‪ ،‬قال الشّافعيّ ‪ :‬ل يطلب أحد هذا العلم بالملك وع ّز النّفس فيفلح ‪ ،‬ولكن من‬
‫طلبه بذ ّل النّفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن ينقاد لمعلّمه ويشاوره في أموره ويأتمر بأمره ‪ ،‬وينبغي أن ينظر لمعلّمه بعين‬
‫الحترام ‪ ،‬ويعتقد كمال أهليّته ورجحانه على أكثر طبقته فهو أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ‬
‫ما سمعه منه في ذهنه ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن يتحرّى رضا المعلّم وإن خالف رأي نفسه ‪ ،‬ول يغتاب عنده ‪ ،‬ول يفشي له سرّا ‪،‬‬
‫وأن ير ّد غيبته إذا سمعها ‪ ،‬فإن عجز فارق ذلك المجلس ‪ ،‬وألّ يدخل عليه بغير إذن ‪ ،‬وأن‬
‫يدخل كامل الهليّة فارغ القلب من الشّواغل متطهّرا متنظّفا ‪ ،‬ويسلّم على الحاضرين كلّهم ‪،‬‬
‫ويخصّ المعلّم بزيادة إكرام ‪.‬‬
‫هع – أن يجلس حيث انتهى به المجلس إذا حضر إلى الدّرس ‪ ،‬ول يتخطّى رقاب النّاس إلّ‬
‫أن يصرّح له الشّيخ أو الحاضرون بالتّقدّم ‪ ،‬ول يجلس وسط الحلقة إلّ لضرورة ‪ ،‬ول بين‬
‫ل بل‬
‫صاحبين إلّ برضاهما ‪ ،‬وأن يحرص على القرب من الشّيخ ليفهم كلمه فهما كام ً‬
‫مشقّة ‪.‬‬
‫و ‪ -‬أن يتأدّب مع رفقته وحاضري الدّرس ‪ ،‬ول يرفع صوته رفعا بليغا من غير حاجة ‪،‬‬
‫ول يضحك ول يكثر الكلم بل حاجة ‪ ،‬ول يعبث بيده ول غيرها ‪ ،‬ول يلتفت بل حاجة ‪ ،‬ول‬
‫يسبق الشّيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال إلّ أن يعلم من حال الشّيخ إيثار ذلك ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬ينبغي أن يكون حريصا على التّعلّم مواظبا عليه في جميع أوقاته ‪ ،‬ول يضيّع من‬
‫أوقاته شيئا في غير العلم إلّ بقدر الضّرورة والحاجة ‪ ،‬وأن تكون همّته عاليةً فل يرضى‬
‫باليسير مع إمكان الكثير ‪ ،‬وأن ل يسوّف في اشتغاله ‪ ،‬ول يؤخّر تحصيل فائدة ‪ ،‬لكن ل‬
‫يحمّل نفسه ما ل تطيق مخافة الملل ‪ ،‬وهذا يختلف باختلف النّاس ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬أن يعتني بتصحيح درسه الّذي يتعلّمه تصحيحا متقنا على الشّيخ ‪ ،‬ثمّ يحفظ حفظا‬
‫محكما ‪ ،‬ويبدأ درسه بالحمد للّه والصّلة على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم والدّعاء‬
‫للعلماء ومشايخه ‪ ،‬ويداوم على تكرار محفوظاته ‪.‬‬
‫وسيأتي تفصيل آداب المعلّم والمتعلّم في ‪ ( :‬طلب العلم ) ‪.‬‬
‫استحقاق طالب العلم للزّكاة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على جواز إعطاء الزّكاة لطالب العلم ‪ ،‬وقد صرّح بذلك الحنفيّة‬ ‫‪4‬‬

‫والشّافعيّة‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وهو ما يفهم من مذهب المالكيّة ‪ ،‬إذ أنّهم يجوّزون إعطاء الزّكاة‬
‫للصّحيح القادر على الكسب ‪ ،‬ولو كان تركه التّكسّب اختيارا على المشهور ‪.‬‬
‫وذهب بعض الحنفيّة إلى جواز أخذ طالب العلم الزّكاة ولو كان غنيّا إذا فرّغ نفسه لفادة‬
‫العلم واستفادته ‪ ،‬لعجزه عن الكسب ‪.‬‬
‫نقل ابن عابدين عن المبسوط قوله ‪ :‬ل يجوز دفع الزّكاة إلى من يملك نصابا إلّ إلى طالب‬
‫العلم ‪ ،‬والغازي ‪ ،‬ومنقطع الحجّ ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬والوجه تقييده بالفقير ويكون طلب العلم مرخّصا لجواز سؤاله من الزّكاة‬
‫وغيرها وإن كان قادرا على الكسب إذ بدونه ل يحلّ له السّؤال ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه تحلّ لطالب العلم الزّكاة إذا لم يمكن الجمع بين طلب العلم‬
‫والتّكسّب بحيث لو أقبل على الكسب لنقطع عن التّحصيل ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬ولو قدر على كسب يليق بحاله إلّ أنّه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشّرعيّة‬
‫بحيث لو أقبل على الكسب لنقطع من التّحصيل حلّت له الزّكاة ‪ ،‬لنّ تحصيل العلم فرض‬
‫كفاية ‪ ،‬وأمّا من ل يتأتّى منه التّحصيل ل تح ّل له الزّكاة إذا قدر على الكسب وإن كان مقيما‬
‫بالمدرسة ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬وإن لم يكن لزما له ‪-‬‬
‫ي ‪ :‬وإن تفرّغ قادرا على التّكسّب للعلم الشّرع ّ‬
‫وقال البهوت ّ‬
‫وتعذّر الجمع بين العلم والتّكسّب أعطى من الزّكاة لحاجته ‪.‬‬
‫وسئل ابن تيميّة عمّن ليس معه ما يشتري به كتبا يشتغل فيها ‪ ،‬فقال ‪ :‬يجوز أخذه من‬
‫الزّكاة ما يحتاج إليه من كتب العلم الّتي ل بدّ لمصلحة دينه ودنياه منها ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬ولعلّ ذلك غير خارج عن الصناف ‪ ،‬لنّ ذلك من جملة ما يحتاجه طالب‬
‫العلم فهو كنفقته ‪.‬‬
‫وخصّ الفقهاء جواز إعطاء الزّكاة لطالب العلم الشّرعيّ فقط ‪.‬‬
‫وصرّح الحنفيّة بجواز نقل الزّكاة من بلد إلى بلد آخر لطالب العلم ‪.‬‬
‫وأمّا حقّه في طلب النّفقة عليه لطلب العلم فيراجع في مصطلح ‪ ( :‬نفقة ) ‪.‬‬

‫طَاوُوس *‬
‫انظر ‪ :‬أطعمة‬

‫طِبّ *‬
‫انظر ‪ :‬تطبيب‬

‫طحَال *‬
‫ِ‬
‫انظر ‪ :‬أطعمة ‪ ،‬جنايات‬

‫طرّار *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّرّار ‪ :‬فعّال من ط ّر ‪ ،‬يقال ‪ :‬ط ّر الثّوب يط ّر طرّا أي شقّه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬هو الّذي يط ّر الهميان أو الجيب أو الصّرّة ويقطعها ويسلّ ما فيه على‬
‫غفلة من صاحبه ‪.‬‬
‫قال الفيّوميّ ‪ :‬الطّرّار وهو الّذي يقطع النّفقات ويأخذها على غفلة من أهلها ‪ ،‬والهميان‬
‫صرّة هي‬
‫صرّة ‪ ،‬قال ابن الهمام ‪ :‬ال ّ‬
‫كيس تجعل فيه النّفقة ويشدّ على الوسط ‪ ،‬ومثله ال ّ‬
‫الهميان ‪ ،‬والمراد منها هنا الموضع المشدود فيه دراهم من الكمّ ‪.‬‬
‫ن الطّرّار هو ‪ :‬الّذي يسرق من جيب الرّجل أو كمّه أو‬
‫ونقل ابن قدامة عن المام أحمد أ ّ‬
‫صفنه ‪ -‬يعني الخريطة يكون فيها المتاع والزّاد ‪. -‬‬
‫ل أي أسرع نزعه ‪ ،‬وال ّنشّال كثير‬
‫وقريب من معنى الطّرّار ال ّنشّال ‪ ،‬من نشل الشّيء نش ً‬
‫النّشل والخفيف اليد من اللّصوص السّارق على غرّة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬السّارق ‪.‬‬
‫– السّارق ‪ :‬فاعل من السّرقة ‪ ،‬وهي ‪ :‬أخذ مال الغير خفيةً من حرز مثله بل شبهة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ن الطّرّار يسرق من جيب النسان أو كمّه أو نحو ذلك بصفة‬


‫والسّارق أعمّ من الطّرّار ‪ ،‬ل ّ‬
‫مخصوصة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬النّبّاش ‪:‬‬
‫– النّبّاش ‪ :‬مبالغة من النّبش أي الكشف ‪ ،‬يقال ‪ :‬نبش القبر أي كشفه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬هو الّذي يسرق أكفان الموتى بعد الدّفن ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫ن الطّرّار يعتبر سارقا تقطع يده إذا‬
‫‪ -‬ذهب الصوليّون والجمهور من الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫توافرت فيه سائر شروط القطع ‪.‬‬


‫ن الطّرّار تقطع يده لنّه وإن كان‬
‫لكنّهم اختلفوا في تعليل الحكم فيه فذكر الصوليّون أ ّ‬
‫مختصّا باسم آخر غير السّارق إلّ أنّ فيه زيادة معنى السّرقة ‪ ،‬فهو مبالغ في السّرقة‬
‫بزيادة حذق منه في فعله فيلزمه القطع ‪ ،‬قال النّسفيّ في شرح المنار ‪ :‬إنّ آية السّرقة ‪:‬‬
‫طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا } ظاهرة في كلّ سارق لم يعرف باسم آخر ‪ ،‬خفية‬
‫{ وَالسّا ِرقُ وَالسّا ِر َقةُ فَا ْق َ‬
‫في حقّ الطّرّار والنّبّاش ‪ ،‬لختصاصهما باسم آخر يعرفان به ‪ ،‬وتغاير السماء يدلّ على‬
‫تغاير المسمّيات فالصل أنّ كلّ اسم له مس ّمىً على حدة ‪ ،‬فاشتبه المران ‪ :‬اختصاصهما‬
‫باسم آخر لنقصان في معنى السّرقة ‪ ،‬أو لزيادة فيها ‪ ،‬فتأمّلنا فوجدنا الختصاص في‬
‫الطّرّار للزّيادة فقلنا ‪ :‬إنّه داخل تحت آية السّرقة ‪ ،‬وفي النّبّاش للنّقصان فقلنا ‪ :‬إنّه غير‬
‫داخل فيها‪ .‬أمّا الفقهاء فيعلّلون القطع في الطّرّار بأنّه سارق من الحرز ‪ ،‬لنّ كلّ شيء‬
‫سرق بحضرة صاحبه يقطع سارقه ‪ ،‬لنّ صاحبه حرز له ولو كان في فلة قال النّفراويّ ‪:‬‬
‫المراد بصاحبه الحافظ له سواء أكان مالكا أم غيره ‪.‬‬
‫‪ -5‬وقد فصّل الحنفيّة في حكم الطّرّار فقالوا ‪ :‬إن كان الطّ ّر بالقطع ‪ ،‬والدّراهم مصرورة‬
‫على ظاهر الكمّ لم يقطع ‪ ،‬لنّ الحرز هو الكمّ ‪ ،‬والدّراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكمّ ‪،‬‬
‫فلم يوجد الخذ من الحرز ‪ ،‬وإن كانت الدّراهم مصرورةً في داخل الكمّ يقطع ‪ ،‬لنّها تقع‬
‫بعد قطع الصّرّة في داخل الكمّ فكان الطّ ّر أخذا من الحرز وهو الكمّ ‪.‬‬
‫وإن كان الطّرّ بحلّ الرّباط ‪ ،‬فإن كان بحال لو حلّ الرّباط تقع الدّراهم على ظاهر الكمّ ‪ ،‬بأن‬
‫كانت العقدة مشدودةً من داخل الكمّ ل يقطع ‪ ،‬لنّه أخذها من غير حرز ‪ ،‬وإن كان إذا حلّ‬
‫الرّباط تقع الدّراهم في داخل الكمّ وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكمّ للخذ يقطع ‪ ،‬لوجود‬
‫الخذ من الحرز ‪.‬‬
‫وعن أبي يوسف أنّه قال ‪ :‬أستحسن أن أقطعه في الحوال كلّها ‪ ،‬لنّ المال محرز بصاحبه‬
‫والكمّ تبع له ‪.‬‬
‫وذكر ابن قدامة عن أحمد روايةً أخرى أنّ الّذي يأخذ من جيب الرّجل وكمّه ل قطع عليه ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل الموضوع في بحث ‪ ( :‬سرقة ) ‪.‬‬

‫طرْد *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ي يقال ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّرد في اللّغة مصدر ‪ ،‬وهو البعاد ‪ ،‬والطّرد بالتّحريك السم كما قال الفيّوم ّ‬ ‫‪1‬‬

‫فلن أطرده السّلطان إذ أمر بإخراجه عن بلده ‪.‬‬


‫قال ابن منظور ‪ :‬أطرده السّلطان وطرده أخرجه عن بلده ‪ ،‬وطردت الرّجل إذا نحّيته ‪،‬‬
‫وأطرد الرّجل جعله طريدا ونفاه ‪ ،‬واطّرد الشّيء ‪ :‬تبع بعضه بعضا وجرى ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن هذا المعنى ‪.‬‬
‫وهو أيضا مصطلح أصوليّ ويذكره الصوليّون في مباحث الحدّ والعلّة ‪ ،‬فالطّرد في الحدّ‬
‫معناه ‪ :‬كلّما وجد الح ّد وجد المحدود ‪ ،‬فبالطّراد يصير الح ّد مانعا عن دخول غير‬
‫المحدود ‪ ،‬فل يدخل فيه شيء ليس من أفراد المحدود ‪.‬‬
‫والطّرد في العلّة معناه ‪ :‬أن تكون كلّما وجدت العلّة وجد الحكم ‪ ،‬ويراجع تمامه في الملحق‬
‫الصوليّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العكس ‪:‬‬
‫‪ -‬العكس في اللّغة ‪ :‬ر ّد أوّل الشّيء على آخره ‪ ،‬يقال ‪ :‬عكست عليه أمره ‪ ،‬رددته‬ ‫‪2‬‬

‫عليه‪ ،‬وعكسته عن أمره منعته ‪ ،‬وكلم معكوس ‪ :‬مقلوب غير مستقيم في التّرتيب أو في‬
‫المعنى ‪.‬‬
‫والعكس اصطلحا ‪ :‬هو ترتّب عدم الشّيء على عدم غيره ‪.‬‬
‫وهو في مباحث العلّة ‪ :‬انتفاء الحكم عند انتقاء العلّة ‪.‬‬
‫فالعكس ض ّد الطّرد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬النّقض ‪:‬‬
‫‪ -‬النّقض في اللّغة ‪ :‬إفساد ما أبرم من عقد أو بناء أو عهد ‪ ،‬ويأتي بمعنى الهدم ‪ ،‬يقال‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫نقض البناء أي هدمه ‪.‬‬


‫والنّقض اصطلحا ‪ :‬أن يوجد الوصف المدّعى علّيّته ويتخلّف الحكم عنه ‪ ،‬ومثاله قولنا ‪:‬‬
‫ح ‪ ،‬لنّ الصّوم عبارة عن إمساك النّهار‬
‫من لم يبيّت النّيّة تعرّى أوّل صومه عنها فل يص ّ‬
‫جميعه مع النّيّة ‪ ،‬فيجعل العراء عن النّيّة في أوّل الصّوم علّة بطلنها ‪ ،‬فيقول الخصم ‪ :‬ما‬
‫ذكرت منقوض بصوم التّطوّع فإنّه يصحّ من غير تبييت ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الدّوران ‪:‬‬
‫‪ -‬الدّوران لغةً ‪ :‬مأخوذ من دار الشّيء يدور دورا ودورانا بمعنى طاف ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬أن يوجد الحكم عند وجود الوصف وينعدم عند عدمه ‪.‬‬
‫فذلك الوصف يسمّى مدارا ‪ ،‬والحكم دائرا ‪ ،‬وسمّى بعضهم الدّوران بالدّوران الوجوديّ‬
‫ن هذا‬
‫ي أو الدّوران المطلق ‪ ،‬وأمّا إذا كان بحيث يوجد الحكم عند وجود الوصف فإ ّ‬
‫والعدم ّ‬
‫ي أو الطّرد ‪ ،‬وإذا كان بحيث ينعدم الحكم عند عدم الوصف فهذا‬
‫يسمّى بالدّوران الوجود ّ‬
‫يطلق عليه الدّوران العدميّ أو العكس ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬اشترط بعض الصوليّين لصحّة العلّة في القياس أن تكون مطّرد ًة أي ‪ :‬كلّما وجدت‬ ‫‪5‬‬

‫العلّة وجد الحكم دون أن يعارضها نقض وإلّ بطلت العلّة ‪.‬‬
‫قال الزّركشيّ في البحر عند سرده لشروط العلّة ‪:‬‬
‫السّادس ‪ :‬أن تكون مطّرد ًة أي كلّما وجدت وجد الحكم لتسلم من النّقص والكسر ‪.‬‬
‫وقال العضد في شرحه لمختصر المنتهى ‪ :‬قد يعدّ من شروط العلّة أن تكون مطّرد ًة أي كلّما‬
‫وجدت وجد الحكم ‪ ،‬وعدمه يسمّى نقضا ‪ ،‬وهو أن يوجد الوصف الّذي يدّعى أنّه علّة في‬
‫محلّ ما مع عدم الحكم فيه وتخلّفه عنها ‪.‬‬
‫‪ -6‬واختلف الصوليّون في كون الطّرد مفيدا للعلّيّة ‪ -‬أي اعتباره مسلكا من مسالكها ‪-‬‬
‫جةً مستدلّين بفعل الصّحابة رضي‬
‫فذهب أكثر الصوليّين إلى أنّه ل يفيد العلّيّة ول يكون ح ّ‬
‫ال تعالى عنهم حيث إنّهم متى ما عدموا الدّليل من الكتاب والسّنّة استندوا في أقيستهم إلى‬
‫إجماعهم على المسألة وفقا للمصالح الّتي جاءت بها الشّريعة السلميّة ‪ ،‬ولم نجدهم بحال‬
‫يحتكمون بطرد ل يناسب الحكم ول يثير شبها ولم يلتفتوا إليه في شيء ‪ ،‬وقد دلّنا ذلك‬
‫على أنّهم أدركوا أنّ الطّرد ل يستند إلى دليل سمعيّ قاطع ‪ ،‬بل الظّاهر أنّهم كانوا يأبونه‬
‫ول يرونه ‪ ،‬وممّا ل شكّ فيه أنّهم لو وجدوا في الطّرد مناطا لحكام اللّه لما أهملوه‬
‫وعطّلوه ‪ .‬وذهب جماعة من الصوليّين إلى أنّه مفيد للعلّيّة ويحتجّ به فيها ‪ ،‬وجهتهم في‬
‫ذلك أنّ وجود الحكم مع الوصف في جميع الصّور ما عدا صورة النّزاع ممّا يغلب على‬
‫الظّنّ أن يكون الوصف عّل ًة ‪ ،‬لنّ فرض المسألة أنّه لم يوجد للحكم علّة غيره ‪ ،‬فلو لم‬
‫يجعل هذا الوصف عّلةً للحكم لخل الحكم عن العلّة فيخلو عن المصلحة ‪ ،‬وهذا خلف ما‬
‫ثبت بالستقراء من أنّ كلّ حكم ل يخلو عن مصلحة ‪ ،‬وحيث ثبتت علّيّته في غير المتنازع‬
‫فيه ‪ ،‬ثبتت العلّيّة في المتنازع فيه كذلك إلحاقا بالكثير الغالب فيكون الظّنّ مفيدا للعلّيّة وهو‬
‫المدّعى ‪.‬‬
‫وسيأتي تفصيل ذلك في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫طرَف *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّرَف ‪ -‬بفتحتين ‪ -‬لغةً ‪ :‬جزء من الشّيء وجانبه ونهايته ‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫وبتتبّع عبارات الفقهاء يتبيّن أنّهم يطلقون الطّرف على ك ّل عضو له حدّ ينتهي إليه ‪.‬‬
‫فالطراف هي النّهايات في البدن كاليدين ‪ ،‬والرّجلين ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬أعضاء ف ‪. ) 2‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العضو ‪:‬‬
‫‪ -‬العضو في اللّغة ‪ :‬هو كلّ عظم وافر بلحمه سواء ‪ :‬أكان من إنسان ‪ ،‬أم حيوان ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والفقهاء يطلقون العضو على الجزء المتميّز عن غيره من بدن إنسان أو حيوان كاللّسان ‪،‬‬
‫والنف ‪ ،‬والصبع ‪.‬‬
‫فالعضو أعمّ من الطّرف ‪ ،‬إذ كلّ طرف عضو وليس كلّ عضو طرفا ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬أعضاء ف ‪) 1‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالطّرف ‪:‬‬
‫الجناية على الطّرف ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء ‪ -‬من المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬والحنفيّة في القول‬ ‫‪3‬‬

‫ن كلّ شخصين يجري بينهما القصاص في النّفس يجري‬


‫المقابل للمشهور ‪ ،‬وإسحاق ‪ : -‬أ ّ‬
‫بينهما القصاص في الطراف السّليمة ‪ :‬كالرّجلين ‪ ،‬والرّجل والمرأة ‪ ،‬والحرّين ‪ ،‬والعبدين‬
‫ي إلى أنّه ل قصاص بين طرفي ذكر وأنثى ‪ ،‬وحرّ‬
‫‪ .‬وذهب الحنفيّة في المشهور ‪ ،‬والثّور ّ‬
‫وعبد ‪ ،‬أو في طرفي عبدين في القطع والقتل ونحوهما ‪ ،‬لنعدام المماثلة في الطراف ‪،‬‬
‫لنّها يسلك بها مسلك الموال فيثبت التّفاوت بينهما في القيمة ‪.‬‬
‫ول يجب القصاص في الطراف إلّ بما يوجب القود في النّفس وهو العمد المحض فل قود‬
‫في شبه العمد ول في الخطأ ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في شروط جريان القصاص في الطراف ‪ ( :‬ر ‪ :‬جناية على ما دون النّفس ) ‪.‬‬
‫أمّا إذا وجد ما يمنع القصاص فتجب الدّية ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد اتّفق الفقهاء في الجملة على قواعد محدّدة في وجوب القصاص وتوزيعها على‬ ‫‪4‬‬

‫الطراف على النّحو التّالي ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬من أتلف ما في النسان منه شيء واحد ففيه دية كاملة ‪ ،‬ومن أتلف ما في النسان‬
‫من شيئين ففيهما الدّية ‪ ،‬وفي أحدهما نصفها ‪ ،‬ومن أتلف ما في النسان منه أربعة أشياء‬
‫كأجفان العينين ففيها الدّية ‪ ،‬وفي كلّ واحد منها ربع الدّية ‪.‬‬
‫ومن أتلف ما في النسان منه عشرة أشياء كأصابع اليدين ففي جميعها الدّية الكاملة وفي‬
‫كلّ واحد منها عشر الدّية ‪.‬‬
‫وفي كلّ مفصل من الصابع ممّا فيه مفصلن نصف عشر الدّية ‪ ،‬وممّا فيه ثلثة مفاصل‬
‫ثلث عشر الدّية ‪ :‬أي ينقسم عشر الدّية على المفاصل ‪ ،‬كانقسام دية اليد على الصابع ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪34‬‬ ‫( ر ‪ :‬ديات فقرة‬
‫ب ‪ -‬الدّية تتعدّد بتعدّد الجناية وإتلف الطراف إذا لم تفض إلى الموت ‪ ،‬فإن قطع يديه‬
‫ي عليه ‪ -‬تجب ديتان ‪.‬‬
‫ورجليه معا ‪ -‬ولم يمت المجن ّ‬
‫أمّا إذا أفضت الجناية إلى الموت فتتداخل ديات الطراف في دية النّفس فل تجب إلّ دية‬
‫واحدة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪ ،‬وتداخل ف‬ ‫‪70‬‬ ‫( ر ‪ :‬ديات ف‬
‫بيع أطراف الدميّ ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على حرمة بيع الدميّ الح ّر وبطلنه ‪ ،‬قال ابن المنذر ‪ :‬وأجمعوا على‬ ‫‪5‬‬

‫ن الحرّ ل يجوز بيعه ول يصحّ ‪ ،‬لنّ‬


‫أنّ بيع الح ّر باطل ‪ ،‬وقال ابن هبيرة ‪ :‬اتّفقوا على أ ّ‬
‫المعقود عليه يجب أن يكون ما ًل ‪ ،‬والمال اسم لما هو مخلوق لقامة مصالحنا ممّا هو‬
‫غيرنا ‪ ،‬فالدميّ خلق مالكا للمال ‪ ،‬وبين كونه ما ًل وبين كونه مالكا للمال منافاة ‪ ،‬وإليه‬
‫جمِيعا } ‪.‬‬
‫ض َ‬
‫أشار اللّه تعالى في قوله ‪ُ { :‬هوَ الّذِي خَلَقَ َلكُم مّا فِي الَرْ ِ‬
‫قال السّرخسيّ ‪ :‬ثمّ لجزاء الدميّ من الحكم ما لعينه ‪.‬‬
‫ن أطراف الدميّ ليست بمال من حيث الصل ‪ ،‬ول يصحّ أن تكون‬
‫فالفقهاء متّفقون على أ ّ‬
‫محلً للبيع ‪.‬‬
‫ولم يختلف الفقهاء في حرمة بيع أجزاء الدميّ ‪ ،‬إلّ في لبن المرأة إذا حلب ‪ ،‬فأجاز‬
‫بعضهم بيعه ‪ ،‬ومنعه الحنفيّة والمالكيّة وجماعة من الحنابلة والشّافعيّة في وجه ‪ ،‬قال‬
‫ي والدميّ‬
‫الكاسانيّ في تعليل ما ذهب إليه الحنفيّة ومن معهم ‪ :‬إنّ اللّبن جزء من الدم ّ‬
‫بجميع أجزائه محترم ومكرّم ‪ ،‬وليس من الكرامة والحترام ابتذاله بالبيع والشّراء ‪.‬‬
‫النتفاع بأطراف الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى الحنفيّة عدم جواز النتفاع بأطراف الميّت ‪ ،‬وأجازوا التّداوي بأطراف ما سوى‬ ‫‪6‬‬

‫الخنزير والدميّ من الحيوانات مطلقا ‪.‬‬


‫أمّا الشّافعيّة ففي مذهبهم بعض السّعة في النتفاع بأجزاء الدميّ وأطرافه إذا كان ميّتا ‪،‬‬
‫فأجازوا للمضط ّر أكل لحمة ‪ ،‬قال النّوويّ ‪ :‬إذا لم يجد المضطرّ إلّ ميّتا معصوما ففيه‬
‫طريقان ‪:‬‬
‫ي ‪ -‬والجمهور ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬فيه‬
‫أصحّهما وأشهرهما ‪ :‬يجوز ‪ ،‬وبه قطع المصنّف ‪ -‬الشّيراز ّ‬
‫وجهان حكاهما البغويّ ‪:‬‬
‫الصّحيح الجواز ‪ ،‬لنّ حرمة الحيّ آكد ‪ ،‬والطّريق الثّاني ‪ :‬ل لوجوب صيانته ‪ ،‬قال النّوويّ‬
‫عن هذا الوجه ‪ :‬ليس بشيء ‪.‬‬

‫طريق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّريق في اللّغة ‪ :‬السّبيل ‪ ،‬يذكّر ويؤنّث ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫طرِيقا فِي الْ َبحْ ِر يَبَسا } ‪ ،‬ويقال ‪ :‬الطّريق العظم كما‬


‫ضرِبْ َل ُهمْ َ‬
‫بالتّذكير جاء القرآن ‪ { :‬فَا ْ‬
‫يقال ‪ :‬كما يقال الطّريق العظمى ‪.‬‬
‫وفي الصلح ‪ :‬ل يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪ ،‬ويطلق على النّافذ ‪ ،‬وغير النّافذ ‪ ،‬والواسع‬
‫والضّيّق ‪ ،‬والعامّ ‪ ،‬والخاصّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الشّارع ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني الشّارع ‪ :‬الطّريق ‪ ،‬قال ابن الرّفعة من الشّافعيّة ‪ :‬بين الطّريق والشّارع‬ ‫‪2‬‬

‫عموم وخصوص مطلق ‪ ،‬فالطّريق عامّ في الصّحاري ‪ ،‬والبنيان ‪ ،‬والنّافذ وغير النّافذ ‪ ،‬أمّا‬
‫الشّارع فهو خاصّ في البنيان النّافذ ‪.‬‬
‫سكّة ‪:‬‬
‫ب ‪ -‬ال ّ‬
‫سكّة ‪ :‬هي الطّريق المصطفّة من النّخيل ‪.‬‬
‫– ال ّ‬ ‫‪3‬‬

‫سكّة ‪.‬‬
‫والطّريق أعمّ من ال ّ‬
‫ج ‪ -‬الزّقاق ‪:‬‬
‫سكّة ‪ ،‬ويكون نافذا وغير نافذ والطّريق أعمّ من الزّقاق ‪.‬‬
‫– الزّقاق ‪ :‬طريق ضيّق دون ال ّ‬ ‫‪4‬‬

‫د ‪ -‬الدّرب ‪:‬‬
‫سكّة الواسع ‪ ،‬وأصل الدّرب ‪ :‬الطّريق الضّيّق في الجبل ‪ ،‬ويطلق على‬
‫‪ -‬الدّرب ‪ :‬باب ال ّ‬ ‫‪5‬‬

‫المدخل الضّيّق ‪.‬‬


‫هع – الفناء ‪:‬‬
‫– الفناء في اللّغة ‪ :‬سعة أمام البيت ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ما امتدّ من جوانبه ‪ ،‬ويطلقه فقهاء المالكيّة‬ ‫‪6‬‬

‫على ما فضل من حاجة المارّة من طريق نافذ ‪.‬‬


‫الحكام المتعلّقة بالطّريق ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّريق قد يكون عامّا ‪ ،‬وقد يكون خاصّا ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫فالطّريق العامّ ‪ :‬ما يسلكه قوم غير محصورين ‪ ،‬أو ما جعل طريقا عند إحياء البلد ‪ ،‬أو‬
‫قبله‪ ،‬أو وقفه مالك الرض ليكون طريقا ‪ ،‬ولو بغير إحياء ‪.‬‬
‫وإن وجد سبيل يسلكه النّاس عا ّمةً ‪ ،‬اعتمد فيه الظّاهر واعتبر طريقاص عامّا ‪ ،‬ول يبحث‬
‫عن أصله ‪.‬‬
‫أمّا بنيات الطّريق ‪ -‬وهي الممرّات الخفيّة الّتي يعرفها الخواصّ ‪ -‬فل تكون بذلك طريقا ‪.‬‬
‫قدر مساحة الطّريق ‪:‬‬
‫‪ -‬إن كانت الطّريق من أرض مملوكة يسبّلها مالكها فتقدير مساحة الطّريق إلى اختياره ‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫والفضل توسيعه ‪ ،‬وعند الحياء ‪ :‬إلى ما اتّفق عليه المحيون ‪ ،‬فإن تنازعوا جعل سبعة‬
‫ي إذا تشاجروا في الطّريق‬
‫أذرع ‪ ،‬لحديث أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ » :‬قضى النّب ّ‬
‫الميتاء بسبعة أذرع « ‪ ،‬ورواه مسلم بلفظ ‪ » :‬إذا اختلفتم في الطّريق جعل عرضه سبعة‬
‫أذرع « ‪.‬‬
‫ي تبعا للذرعيّ ‪ :‬تابع‬
‫ونازع في هذا التّحديد جمع من متأخّري الشّافعيّة ‪ ،‬قال الزّركش ّ‬
‫النّوويّ في هذا التّحديد إفتاء ابن الصّلح ‪ ،‬ومذهب الشّافعيّ ‪ :‬اعتبار قدر الحاجة في قدر‬
‫ن ذلك كان عرف‬
‫الطّريق ‪ ،‬زاد عن سبعة أذرع أو نقص عنها ‪ ،‬والحديث محمول عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي من الشّافعيّة ‪.‬‬
‫أهل المدينة ‪ ،‬وصرّح بذلك الماورديّ والرّويان ّ‬
‫وإن زاد على سبعة أذرع ‪ ،‬أو عن قدر الحاجة لم يغيّر ‪ ،‬لنّ الطّرق والفنية كالحباس‬
‫للمسلمين ‪ ،‬فل يجوز لحد أن يستولي على شيء منها ‪ ،‬أو يقتطع من طريق المسلمين‬
‫شيئا وإن كان الطّريق واسعا ‪ ،‬ل يتضرّر المارّة بالجزء المقتطع منه ‪ ،‬لما روي عن الحكم‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬من أخذ من طريق المسلمين ‪،‬‬
‫ي أنّ النّب ّ‬
‫بن الحارث السّلم ّ‬
‫شبرا طوّقه اللّه يوم القيامة من سبع أرضين « ‪ ،‬ويهدم إن استولى شخص أو اقتطع من‬
‫الطّريق وأدخله في بنائه وفي قول للمالكيّة ‪ :‬أنّه ل يهدم عليه ما اقتطع منها إذا كان ممّا ل‬
‫يتضرّر به المارّة ‪ ،‬ول يضيّق على المارّة لسعته ‪.‬‬
‫النتفاع بالطّريق النّافذة ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّريق النّافذة ويعبّر عنها " بالشّارع " من المرافق العامّة ‪ ،‬وللجميع النتفاع بها بما‬ ‫‪9‬‬

‫ل يضرّ الخرين باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬ومنفعتها الصليّة ‪ :‬المرور فيها ‪ ،‬لنّها وضعت لذلك ‪،‬‬
‫فيباح لهم النتفاع بما وضع له ‪ ،‬وهو المرور بل خلف ‪ ،‬وكذلك يباح للجميع النتفاع بغير‬
‫المرور ممّا ل يضرّ المارّة ‪ ،‬كالجلوس في الطّريق الواسعة لنتظار رفيق أو سؤال إن لم‬
‫يضرّ المارّة ‪ ،‬وإن لم يأذن المام بذلك لتّفاق النّاس في سائر الزمان والعصار على‬
‫ذلك ‪ ،‬وهذا أيضا مح ّل اتّفاق بين الفقهاء ‪ ،‬فإن ضرّ المارّة أو ضيّق عليهم لم يجز لخبر ‪:‬‬
‫» ل ضرر ول ضرار « ‪.‬‬
‫ويجوز عند الحنفيّة والشّافعيّة الجلوس في الطّريق النّافذة للمعاملة كالبيع والصّناعة ونحو‬
‫ذلك ‪ ،‬وإن طال عهده ولم يأذن المام ‪ ،‬كما ل يحتاج في الحياء إلى إذنه ‪ ،‬لتّفاق النّاس‬
‫عليه في جميع العصار ‪.‬‬
‫ول يزعج عن الموضع الّذي سبق إليه للمعاملة ‪ ،‬وإن طال مقامه فيه ‪ ،‬لخبر ‪ » :‬من سبق‬
‫إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له « ‪ ،‬ولنّه أحد المرتفقين ‪ ،‬وقد ثبت له باليد فصار أحقّ‬
‫من غيره فيه ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة والحنابلة ‪ :‬يشترط أ ّل يطول الجلوس أو البيع ‪ ،‬فإن طال أخرج عنه ‪ ،‬لنّه‬
‫يصير كالمتملّك إن طال الجلوس للمعاملة ‪ ،‬وينفرد بنفع يساويه فيه غيره ‪.‬‬
‫وأضاف المالكيّة أنّه ل يجوز الجلوس في الطّريق العامّ لستراحة ونحوها كالحديث ‪ ،‬ويمنع‬
‫من ذلك ‪.‬‬
‫وصرّح الشّافعيّة بجواز الجلوس في الطّريق العامّ للستراحة ‪ ،‬لحديث المر بإعطاء‬
‫الطّريق حقّه ‪ ،‬من ‪ :‬غضّ للبصر ‪ ،‬وكفّ للذى ‪ ،‬ور ّد للسّلم ‪ ،‬وأمر بمعروف ‪ ،‬ونهي عن‬
‫منكر ‪ ،‬ما لم يضرّ المارّة ‪ ،‬ولم يضيّق عليهم ‪ ،‬وإلّ كره ‪.‬‬
‫إذن المام في الرتفاق بالطّريق ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يشترط في جواز الجلوس للمعاملة في الطّريق النّافذة إذن المام ‪ ،‬ول يجوز له ول‬ ‫‪10‬‬

‫لحد من الولة أخذ عوض ممّن يرتفق بالجلوس فيه للمعاملة ‪ ،‬ول أن يبيع جزءا من‬
‫الطّريق بل خلف ‪ ،‬وإن فضل الجزء المباع عن حاجة الطّروق ‪ ،‬لنّ البيع يستدعي تقدّم‬
‫ن الطّرق كالحباس‬
‫الملك ‪ ،‬وهو منتف ‪ ،‬ولو جاز ذلك لجاز بيع الموات ول قائل به ‪ ،‬ول ّ‬
‫للمسلمين ‪ ،‬فليس لحد أن يتصرّف فيها تصرّفا يغيّر وضعها ‪.‬‬
‫وللمام أن يقطع بقعةً من الطّريق العامّ لمن يجلس فيها للمعاملة ارتفاقا ‪ ،‬ل تمليكا ‪ ،‬إن لم‬
‫ن له نظرا واجتهادا في الضّرر وغيره ‪ ،‬ول يملك المقطوع له البقعة ‪،‬‬
‫يض ّر المسلمين ‪ ،‬ل ّ‬
‫إنّما يكون أحقّ بالجلوس فيها كالسّابق إليها ‪.‬‬
‫التّزاحم في الرتفاق ‪:‬‬
‫‪ -‬للجالس في الطّريق العا ّم للمعاملة تظليل موضع جلوسه بما ل ثبات له من حصير ‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫أو عباءة ‪ ،‬أو ثوب ‪ ،‬لجريان العادة بذلك ‪ ،‬وليس لغيره أن يزاحمه في محلّ جلوسه بحيث‬
‫يضرّه ‪ ،‬ويضيّق عليه عند الكيل والوزن والخذ والعطاء ‪ ،‬ول أن يزاحمه في موضع‬
‫أمتعته وموقف معامليه ‪ ،‬وله أن يمنع الوقوف بقربه إن كان الوقوف يمنع رؤية بضاعته ‪،‬‬
‫أو وصول القاصدين إليه ‪ ،‬لنّ ذلك كلّه من تمام النتفاع بموضع اختصاصه ‪ ،‬وليس له‬
‫ص به من المرافق‬
‫المنع من الجلوس بقربه لبيع مثل بضاعته ‪ ،‬إن لم يزاحمه فيما يخت ّ‬
‫ق به من‬
‫المذكورة‪ .‬ومن سبق إلى الجلوس في موضع من الطّريق النّافذ للمعاملة فهو أح ّ‬
‫غيره ‪ ،‬كما سبق ‪ ،‬وإن سبق اثنان ‪ ،‬وتنازعا فيه ولم يسعهما معا أقرع بينهما ‪ ،‬لنتفاء‬
‫المرجّح ‪.‬‬
‫ترك صاحب الختصاص موضعا اختصّ به ‪:‬‬
‫‪ -‬إن ترك الجالس موضع اختصاصه ‪ ،‬وانتقل إلى غيره أو ترك الحرفة الّتي كان‬ ‫‪12‬‬

‫يزاولها فيه بطل حقّه فيه ‪ ،‬سواء أأقطعه المام له ‪ ،‬أم سبق إليه بل إقطاع من المام ‪.‬‬
‫وإن فارقه ليعود إليه لم يبطل حقّه إلّ أن يطول غيابه عنه ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬من قام من‬
‫ق به « فإن طال غيابه عنه بحيث ينقطع معاملوه عنه‬
‫مجلسه‪ ،‬ثمّ رجع إليه فهو أح ّ‬
‫ويألفون غيره يبطل حقّه فيه ‪ ،‬ولو كان فارقه لعذر أو ترك متاعه فيه أو كان بإقطاع المام‬
‫له إلى هذا ذهب الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬إن نقل متاعه عن موضع اختصاصه ‪ ،‬بطل حقّه فيه ‪ ،‬وإن ترك متاعه‬
‫فيه‪ ،‬أو أجلس شخصا فيه ليحفظ له المكان ‪ ،‬لم يجز لغيره إزالة متاعه ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن قام لقضاء الحاجة أو وضوء لم يبطل حقّه ‪.‬‬
‫وكل المذهبين ‪ -‬المالكيّة والحنابلة ‪ -‬ل يجيز إطالة الجلوس في الطّريق العامّ للمعاملة ‪،‬‬
‫ص بنفع يساويه فيه غيره ‪ ،‬وحدّد المالكيّة‬
‫فإن أطال أزيل عنه ‪ ،‬لنّه يصير كالمتملّك ‪ ،‬يخت ّ‬
‫طول المقام بيوم كامل ‪.‬‬
‫وإن جلس لستراحة ‪ ،‬أو حديث ‪ ،‬ونحو ذلك بطل حقّه فيه بمفارقته ‪ ،‬بل خلف ‪.‬‬
‫النتفاع في الطّريق بغير المرور ‪ ،‬والجلوس للمعاملة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى حرمة التّصرّف في الطّريق النّافذة ويعبّر عنه " بالشّارع " بما يضرّ‬ ‫‪13‬‬

‫ق لعامّة المسلمين ‪ ،‬فليس لحد أن يضارّهم في حقّهم ‪،‬‬


‫المارّة في مرورهم ‪ ،‬لنّ الح ّ‬
‫ويمتنع عند جمهور الفقهاء بناء دكّة ‪ -‬وهي الّتي تبنى للجلوس عليها ونحوها ‪ -‬في‬
‫الطّريق النّافدة وغرس شجرة فيها وإن اتّسع الطّريق ‪ ،‬وأذن المام ‪ ،‬وانتفى الضّرر ‪،‬‬
‫وبنيت للمصلحة العامّة لمنعهما الطّروق في محلّهما ‪ ،‬ولنّه بناء في غير ملكه بغير إذنه ‪،‬‬
‫وقد يؤذي المارّة فيما بعد ‪ ،‬ويضيّق عليهم ‪ ،‬ويعثر به العاثر ‪ ،‬فلم يجز ‪ ،‬ولنّه إذا طال‬
‫الزّمن أشبه موضعهما الملك الخاصّة ‪ ،‬وانقطع استحقاق الطّروق ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬يجوز بناء دكّة ‪ ،‬وغرس أشجار في الطّريق النّافذة كإخراج الميازيب ‪،‬‬
‫والجنحة ‪ ،‬إن لم يضرّ المارّة ‪ ،‬ولم يمنع من المرور فيها ‪ ،‬فإن ضرّ المارّة أو منع لم يجز‬
‫إحداثها ‪ ،‬ولكلّ من العامّة من أهل الخصومة منعه من إحداثها ابتدا ًء ‪ ،‬ومطالبته بنقضه‬
‫بعد البناء ‪ ،‬سواء أض ّر أم لم يض ّر ‪ ،‬لنّ كلّ واحد منهم صاحب حقّ بالمرور بنفسه‬
‫ق النّقض كما في الملك المشترك ‪.‬‬
‫وبدوابّه ‪ ،‬فكان له ح ّ‬
‫هذا إذا بناها لنفسه وبغير إذن المام ‪ ،‬فإن بناها لمصلحة المسلمين أو بإذن المام ‪ ،‬وإن‬
‫بناها لنفسه لم ينقض ‪ ،‬إن لم يضرّ المارّة ‪.‬‬
‫وإن كان يض ّر العامّة ل يجوز إحداثه ‪ ،‬أذن المام أم لم يأذن ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ » :‬ل ضرر ول ضرار « ‪.‬‬
‫الرتفاق في هواء الطّريق النّافذة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذ هب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز للعامّة النتفاع في هواء الطّر يق النّافذة بإخراج‬ ‫‪14‬‬

‫جناح إلي ها أو رو شن أو ساباط ‪ ،‬و هو سقيفة على حائط ين ويمرّ الطّر يق بينه ما ‪ ،‬ون حو‬
‫ذلك كالميزاب ‪ ،‬إن رفعهعا بحيعث يم ّر تحتعه الماشعي منتصعبا ‪ ،‬معن غيعر احتياج إلى طأطأة‬
‫رأ سه ‪ ،‬وعلى رأ سه الحمولة المعتادة ‪ ،‬ولم ي س ّد الضّوء عن الطّر يق ‪ ،‬وإن كان الطّر يق‬
‫ممرّا للقوافعل يرفعع الميزاب والجناح ونحوهعا بحيعث يم ّر تحتهعا المحمعل على البعيعر ‪،‬‬
‫والمظلّة فوق المحمل ‪ ،‬فإن أخلّ بشيء من ذلك هدمه الحاكم ‪ ،‬ولكلّ المطالبة بإزالته ‪ ،‬لنّه‬
‫إزالة للمنكر وال صل في جواز إخراج الجناح إلى الطّر يق النّا فذ ما صحّ من أنّه صلى ال‬
‫» ن صب بيده الشّري فة ميزابا في دار عمّه العبّاس إلى الطّر يق ‪ ،‬وكان‬ ‫عل يه و سلم ‪:‬‬
‫شارعا إلى م سجده « وق يس عل يه الجناح ونحوه ‪ ،‬ولطباق النّاس على ف عل ذلك من غ ير‬
‫إنكار ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ ،‬لكلّ من أ هل الخ صومة من العامّة من عه من إحداث ذلك ابتدا ًء ‪ ،‬ومطالب ته‬
‫بنقضه بعد البناء ض ّر أم لم يض ّر ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل يجوز إخراج شيعء ممّا ذكعر إلى طريعق نافذة أذن المام ‪ ،‬أو لم يأذن ‪،‬‬
‫ضرّ المارّة أو لم يض ّر وقالوا ‪ :‬لنّه بناء في غ ير مل كه ‪ ،‬بغ ير إذن مال كه ‪ ،‬فلم ي جز كبناء‬
‫الدّكّة ‪ ،‬أو بنائه في درب غيعر نافعذ بغيعر إذن أهله ‪ ،‬ويفارق المرور في الطّر يق ‪ ،‬فإنّهعا‬
‫جعلت لذلك ول مضرّة فيعه ‪ ،‬والجلوس لنّعه ل يدوم ول يمكعن التّحرّز منعه ‪ ،‬ول يخلو‬
‫الخراج إلى الطّر يق العا مّ عن مضرّة ‪ ،‬فإنّه يظلم الطّر يق ب سدّ الضّوء ع نه ‪ ،‬وربّ ما سقط‬
‫على المارّة ‪ ،‬أو سقط م نه ش يء ‪ ،‬و قد تعلو الرض بمرور الزّ من في صدم رءوس النّاس ‪،‬‬
‫ب بالحمال ‪ ،‬وما يفضي إلى الضّرر في ثاني الحال يجب المنع منه في‬
‫ويمنع مرور الدّوا ّ‬
‫ابتدائه ‪ ،‬كما لو أراد بناء حائط مائل إلى الطّريق يخشى وقوعه على من يم ّر فيها ‪.‬‬
‫وقال ا بن عق يل من الحنابلة يجوز ذلك بإذن المام ‪ ،‬أو نائ به ‪ ،‬إن لم ي كن في ذلك ضرر ‪،‬‬
‫لنّ المام ‪ ،‬نائب عن المسلمين ‪ -‬وفي حكمه نوّابه ‪ -‬وإذنه كإذن المسلمين ‪.‬‬
‫ن ع مر ر ضي ال ع نه ‪ :‬اجتاز على دار العبّاس ر ضي ال عنه ما و قد ن صب‬
‫ول ما ورد أ ّ‬
‫ميزابا إلى الطّريق فقلعه ‪ ،‬فقال العبّاس ‪ :‬تقلعه وقد نصبه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫بيده ؟ فقال ‪ :‬واللّه ل تنصبه إلّ على ظهري ‪ ،‬فانحنى حتّى صعد على ظهره فنصبه ‪ ،‬ولنّ‬
‫العادة جارية به ‪.‬‬
‫ما تولّد من إخراج الميزاب ونحوه إلى الطّريق النّافذ ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ :‬إنّ ما تولّد من إخراج ميزاب ونحوه ‪ :‬كالجناح والسّاباط‬ ‫‪15‬‬

‫إلى الطّريق النّافذ من تلف مال ‪ ،‬أو موت نفس فمضمون وإن جاز إخراجه ‪ ،‬وأذن المام‬
‫ولم يضرّ المارّة ‪ ،‬وتناهى في الحتياط ‪ ،‬وحدث ما لم يتوقّع ‪ ،‬كصاعقة ‪ ،‬أو ريح شديدة ‪،‬‬
‫لنّ الرتفاق بالطّريق العامّ مشروط بسلمة العاقبة ‪ ،‬وما لم تسلم عاقبته فليس بمأذون‬
‫فيه‪ ،‬ويجب به الضّمان ‪ ،‬وكذا إن وضع ترابا في الطّريق لتطيين سطح منزله ‪ ،‬فز ّل به‬
‫إنسان فمات ‪ ،‬أو بهيمة فتلفت يضمن ‪ ،‬لنّه تسبّب في تلفه ‪ ،‬فتجب دية الخطأ على‬
‫عاقلته ‪ ،‬وقيمة الدّابّة في ماله ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬هذا إذا لم يأذن المام ‪ ،‬فإن أذن المام بإخراج الميزاب ونحوه إلى الطّريق‬
‫العامّ فل ضمان ‪ ،‬لنّه غير متعدّ في إخراج الجناح حينئذ ‪ ،‬لنّ للمام وليةً على الطّريق‬
‫لنّه نائب عن العامّة ‪ ،‬فكان المخرج كمن فعله في ملكه ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ل يضمن شيئا أذن المام أو لم يأذن ‪ ،‬جاء في مواهب الجليل ‪ :‬قال مالك في‬
‫جناح خارج إلى الطّريق فسقط على رجل فمات ‪ .‬قال مالك ‪ :‬ل شيء على من بناه ‪.‬‬
‫ما يجب في الضّمان عند القائلين به ‪:‬‬
‫‪ -‬إن كان بعض الجناح في الجدار ‪ ،‬وبعضه خارجا إلى الطّريق فسقط الخارج وحده‬ ‫‪16‬‬

‫‪ -‬كلّه ‪ ،‬أو بعضه ‪ -‬فأتلف شيئا فعلى المخرج ضمان ما تلف به من نفس ‪ ،‬أو مال ‪ ،‬لنّه‬
‫ص ًة ‪ ،‬سواء كان المخرج مالكه أو مستعيرا أو مستأجرا أو‬
‫تلف بما هو مضمون عليه خا ّ‬
‫غاصبا ‪ ،‬وإن سقط ما في الدّاخل والخارج ‪ ،‬وتلف به إنسان ‪ ،‬أو مال فعلى صاحب‬
‫الجدار ‪ ،‬نصف الدّية ‪ ،‬إن كان التّالف إنسانا ‪ ،‬ونصف قيمة المتلف إن كان ما ًل ‪ ،‬لنّ‬
‫التّلف حصل بسقوط ما في داخل الجدار من الجناح ‪ ،‬وهو غير مضمون لنّه في ملكه ‪،‬‬
‫والمشروع إلى الطّريق العامّ ‪ ،‬وهو مضمون ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬يضمن ك ّل الدّية أو القيمة في الحالين ‪ ،‬لنّه تلف بما أخرجه إلى الطّريق‬
‫فضمن ‪ ،‬كما لو بنى حائطا مائلً إلى الطّريق فأتلف شيئا ‪ ،‬ولنّه إخراج يضمن به بعضه‬
‫فيضمن كلّه ‪.‬‬
‫سقوط جدار مائل إلى طريق نافذ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا بنى في ملكه جدارا مائلً إلى الطّريق النّافذة فسقط فيه فتلف‬ ‫‪17‬‬

‫به شيء ضمن ‪ ،‬لنّه متعدّ في ذلك ‪ ،‬وإن بناه في ملكه مستويا فسقط بغير استهدام ول‬
‫ميل‪ ،‬فأتلف شيئا فل ضمان عليه بل خلف ‪ ،‬لنّه لم يتعدّ في بنائه ‪ ،‬ول حصل منه تفريط‬
‫بإبقائه ‪ ،‬وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطّريق ‪ ،‬فإن لم يمكنه نقضه وإصلحه فل ضمان‬
‫عليه ‪ ،‬لنّه لم يتعدّ ببنائه ‪ ،‬ول فرّط في تركه وإصلحه ‪ ،‬لعجزه عنه ‪ ،‬فأشبه كما لو سقط‬
‫من غير ميل ‪.‬‬
‫وإن أمكنه نقضه وإصلحه ‪ ،‬فلم يفعل فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة وأحمد إلى الضّمان‬
‫بشرط أن يطالب واحد أو أكثر من أهل المصلحة في الخصومة بالنّقض ‪ ،‬ويشهد على ذلك‬
‫عند حاكم أو جمع من المسلمين ‪ ،‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬يضمن لتقصيره وإن لم يطالب ولم‬
‫يشهد ‪.‬‬
‫إلقاء شيء في الطّريق العامّ ‪:‬‬
‫‪ -‬لو ألقى قمامات ‪ ،‬أو قشور بطّيخ ورمّان وموز بطريق نافذ فمضمون ‪ ،‬ما لم يتعمّد‬ ‫‪18‬‬

‫ش في الطّريق ماءً فزلق به إنسان ‪ ،‬أو بهيمة ‪،‬‬


‫الما ّر المشي عليها قصدا ‪ ،‬وكذا إن ر ّ‬
‫فتلف يضمن ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬مصطلح ‪ :‬ضمان )‬
‫إحداث بئر في طريق نافذ ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز لحد أن يحفر بئرا في الطّريق النّافذ لنفسه ‪ ،‬سواء جعلها لماء المطر ‪ ،‬أو‬ ‫‪19‬‬

‫ن الطّريق ملك للمسلمين كلّهم ‪ ،‬فل يجوز أن‬


‫استخراج ماء ينتفع به ‪ ،‬وإن لم يضرّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫يحدث فيها شيء بغير إذنهم ‪ ،‬وإذن كلّهم غير متصوّر ‪ ،‬وإن حفرها وترتّب على حفرها‬
‫ضرر ففي ضمانه تفصيل بين ما إذا كان بإذن المام أو بغير إذنه وبين ما إذا كان الحفر‬
‫لمصلحة الحافر أو لمصلحة المسلمين ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬مصطلح ‪ :‬ضمان ) ‪.‬‬
‫ضمان الضّرر الحادث من مرور البهائم في الطّريق العامّ ‪:‬‬
‫‪ -‬المرور في الطّريق النّافذ حقّ لجميع النّاس ‪ ،‬لنّه وضع لذلك ‪ ،‬ومباح لهم بدوابّهم ‪،‬‬ ‫‪20‬‬

‫بشرط السّلمة فيما يمكن الحتراز عنه ‪ ،‬فإن ترتّب على ذلك ضرر ففي ضمانه تفصيل‬
‫ينظر في مصطلح ‪ ( :‬ضمان ) ‪.‬‬
‫الطّريق غير النّافذ ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّريق غير النّافذ ملك لهله ‪ ،‬فل يجوز لغير أهله التّصرّف فيه إلّ برضاهم ‪ ،‬وإن‬ ‫‪21‬‬

‫لم يض ّر ‪ ،‬لنّه ملكهم ‪ ،‬فأشبه الدّور ‪.‬‬


‫وأهله من لهم حقّ المرور فيه إلى ملكهم من دار ‪ ،‬أو بئر ‪ ،‬أو فرن ‪ ،‬أو حانوت ‪ ،‬ل من‬
‫لصق جداره الدّرب من غير نفوذ باب فيه ‪ ،‬لنّ هؤلء هم المستحقّون الرتفاق فيه ‪.‬‬
‫ويستحقّ كلّ واحد من أهل الطّريق غير النّافذ الرتفاق بما بين رأس الدّرب وباب داره ‪،‬‬
‫لنّ ذلك هو محلّ تردّده ‪ ،‬ومروره ‪ ،‬وما عداه هو فيه كالجنبيّ من الطّريق ‪ ،‬وفي قول‬
‫للشّافعيّة ‪ :‬لك ّل من أهل الدّرب غير النّافذ الرتفاق بكلّ الطّريق ‪ ،‬لنّهم ربّما يحتاجون إلى‬
‫التّردّد والنتفاع به كلّه ‪ ،‬للقاء القمامات فيه عند الدخال والخراج ‪.‬‬
‫أمّا البناء فيه وإخراج روشن ‪ ،‬أو جناح ‪ ،‬أو ساباط ‪ ،‬فل يجوز لحد منهم ‪ ،‬إلّ برضا‬
‫الباقين ‪ ،‬كسائر الملك المشتركة ‪ ،‬لنّه بناء في هواء قوم معيّنين فل يجوز بغير رضاهم‬
‫‪ .‬وفي قول للشّافعيّة ‪ :‬يجوز لبعض أهل الدّرب إخراج ما ذكر إلى الطّريق المسدود بغير‬
‫ن لكلّ واحد منهم النتفاع بقراره فيجوز النتفاع بهوائه ‪ ،‬وهو‬
‫رضا الباقين إن لم يض ّر ‪ ،‬ل ّ‬
‫قول عند المالكيّة ‪.‬‬
‫قال الزّرقانيّ ‪ :‬وهو المشهور ‪ ،‬والوّل ضعيف ‪.‬‬

‫طعَام *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬أطعمة ‪ ،‬أكل‬

‫طعْم *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الطّعم ‪ -‬بالفتح ‪ -‬ما يؤدّيه الذّوق ‪ ،‬فيقال ‪ :‬طعمه حلو أو حامض ‪ ،‬وتغيّر طعمه إذا‬ ‫‪1‬‬

‫ي‪.‬‬
‫خرج عن وصفه الخلق ّ‬
‫والطّعم أيضا ما يشتهى من الطّعام يقال ‪ :‬ليس له طعم وما فلن بذي طعم إذا كان غثّا ‪.‬‬
‫وقال الفيّوميّ في معنى قول الفقهاء ‪ " :‬الطّعم علّة الرّبا " كونه ممّا يطعم أي ممّا يساغ‬
‫جامدا كان أو مائعا ‪.‬‬
‫ضمّ ‪ -‬الطّعام ‪.‬‬
‫والطّعم ‪ -‬بال ّ‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫الذّوق ‪:‬‬
‫‪ -‬الذّوق ‪ :‬إدراك طعم الشّيء باللّسان يقال ‪ :‬ذقت الطّعام أذوقه ذوقا وذوقانا وذواقا‬ ‫‪2‬‬

‫ومذاقا إذا عرفته بتلك الواسطة ‪.‬‬


‫فالذّوق ملبسة يحسّ بها الطّعم ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالطّعم ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تغيّر طعم الماء ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الماء الّذي غيّرت النّجاسة طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من‬ ‫‪3‬‬

‫واحد من هذه الصّفات أنّه ل يجوز به الوضوء ول الطّهور ‪.‬‬


‫كما ل خلف بين الفقهاء في جواز الوضوء بما خالطه طاهر لم يغيّره ‪ ،‬إلّ ما حكي عن أمّ‬
‫هانئ في ماء بلّ فيه خبز ل يتوضّأ به ‪.‬‬
‫ثمّ اختلفوا في الوضوء بماء خالطه طاهر يمكن التّحرّز منه فغيّر إحدى صفاته ‪ :‬طعمه أو‬
‫لونه أو ريحه ‪.‬‬
‫فذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة على المذهب ‪ :‬إلى أنّ الماء المتغيّر طعما أو لونا‬
‫أو ريحا بمخالط طاهر يستغنى عنه الماء تغيّرا يمنعه الطلق ل تحصل به الطّهارة ‪.‬‬
‫ويرى الحنفيّة وأحمد في رواية جواز التّوضّؤ بالماء الّذي ألقى فيه الحمّص أو الباقلء‬
‫فتغيّر لونه وطعمه ولكن لم تذهب رقّته ‪ ،‬ولو طبخ فيه الحمّص أو الباقلء وريح الباقلء‬
‫يوجد فيه ل يجوز به التّوضّؤ ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في المسائل المتعلّقة بالموضوع ( ر ‪ :‬مياه ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬اعتبار الطّعم عّلةً لتحريم الرّبا ‪:‬‬
‫‪ -‬العيان المنصوص على تحريم الرّبا فيها ستّة ‪ :‬الذّهب والفضّة والبرّ والشّعير والتّمر‬ ‫‪4‬‬

‫والملح ‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في علّة الرّبا فيما عدا الثمان هل هي الطّعم أو غير ذلك ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪68‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪64‬‬ ‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬ربا ف‬

‫طِفْل *‬
‫انظر ‪ :‬صغر‬

‫ط َفيْليّ *‬
‫ُ‬
‫انظر ‪ :‬تطفّل‬

‫طِلء *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني الطّلء ‪ -‬بكسر الطّاء وبالمدّ ‪ -‬في اللّغة ‪ :‬الشّراب المطبوخ من عصير‬ ‫‪1‬‬

‫العنب ‪ ،‬وهو الرّبّ كما قاله ابن الثير ‪ ،‬وأصله القطران الخاثر الّذي تطلى به البل وفي‬
‫الصطلح ‪ :‬الطّلء ‪ :‬هو العصير يطبخ بالنّار أو الشّمس حتّى يذهب أقلّ من ثلثيه ‪ ،‬ويصير‬
‫مسكرا ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬ما طبخ من ماء العنب حتّى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكرا ‪ .‬قال التّمرتاشيّ ‪:‬‬
‫وهو الصّواب ‪.‬‬
‫ويسمّى الطّلء أيضا بالمثلّث ‪ ،‬يقول الزّيلعيّ ‪ :‬المثلّث ما طبخ من ماء العنب حتّى يذهب‬
‫ثلثاه ‪ ،‬ويبقى الثّلث ‪.‬‬
‫وقال الحصكفيّ نقلً عن الشّرنبلليّة ‪ :‬وسمّي بالطّلء لقول عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ : -‬ما‬
‫أشبه هذا بطلء البعير ‪ ،‬وهو القطران الّذي يطلى به البعير الجربان ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الخمر ‪:‬‬
‫‪ -‬الخمر ‪ :‬هي النّيء من ماء العنب إذا غلى واشتدّ عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬وزاد أبو‬ ‫‪2‬‬

‫حنيفة ‪ :‬وقذفا بالزّبد ‪ ،‬وتطلق الخمر أيضا عند الجمهور على كلّ ما يسكر ولو من غير‬
‫ماء العنب ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الباذق والمنصّف ‪:‬‬
‫‪ -‬الباذق ‪ :‬هو المطبوخ أدنى طبخةً من ماء العنب حتّى ذهب أقلّ من ثلثيه ‪ ،‬سواء أكان‬ ‫‪3‬‬

‫ل أم كثيرا بعد أن لم يصل ثلثيه ‪.‬‬


‫الذّاهب قلي ً‬
‫والمنصّف منه ما ذهب نصفه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬نقيع الزّبيب ‪:‬‬
‫‪ -‬نقيع الزّبيب ‪ :‬هو النّيء من ماء الزّبيب ‪ ،‬بأن يترك الزّبيب في الماء من غير طبخ‬ ‫‪4‬‬

‫حتّى تخرج حلوته إلى الماء ‪ ،‬ثمّ يشت ّد ويغلي ‪.‬‬


‫سكّر ‪:‬‬
‫د ‪ -‬ال ّ‬
‫سكّر ‪ :‬هو النّيء من ماء الرّطب إذا اشتدّ وقذف بالزّبد ‪ ،‬قال الزّيلعيّ ‪ :‬هو مشتقّ‬
‫‪ -‬ال ّ‬ ‫‪5‬‬

‫من سكرت الرّيح إذا سكنت ‪.‬‬


‫وهناك أنواع أخرى من الشربة المأخوذة من العنب والتّمر وغيرهما لها أسماء أخرى‬
‫مختلفة ‪ ،‬ينظر تفصيلها في مصطلح ‪ ( :‬أشربة ) ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة ‪ -‬إلى أنّ‬ ‫‪6‬‬

‫الشربة المسكرة كلّها حرام ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬كلّ ما أسكر كثيره فقليله حرام من أيّ نوع كان‬
‫لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬كلّ مسكر خمر وكلّ خمر حرام « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ‬
‫وعن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ » :‬سئل النّب ّ‬
‫العسل ‪ ،‬وكان أهل اليمن يشربونه ‪ ،‬فقال ‪ :‬كلّ شراب أسكر فهو حرام « ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ما أسكر كثيره‬
‫وعن ابن عمر رضي ال عنهما أ ّ‬
‫فقليله حرام « ‪.‬‬
‫وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الطّلء بالتّفسير الثّاني ‪ ،‬وهو ما طبخ من ماء العنب‬
‫حتّى ذ هب ثلثاه وإذا ك ثر م نه أ سكر و هو الم سمّى بالمثلّث حلل ‪ ،‬ول يحرم م نه إلّ القدح‬
‫الخير الّذي يحصل به السكار ‪ ،‬أمّا ما ذهب أقلّ من ثلثيه فحرام بالجماع ‪.‬‬
‫‪ -7‬ومحلّ حلّ المثلّث عندهما للتّداوي واستمراء الطّعام والتّقوّي على الطّاعة ‪.‬‬
‫قال الكاسانيّ ‪ :‬في المثلّث ‪ :‬ل خلف في أنّه ما دام حلوا ل يسكر يحلّ شربه ‪ ،‬وأمّا المعتّق‬
‫المسكر فيحلّ شربه للتّداوي واستمراء الطّعام والتّقوّي على الطّاعة عند أبي حنيفة وأبي‬
‫يوسف وأجمعوا على أنّه ل يحلّ شربه للّهو والطّرب ‪ ،‬لكن الفتوى عند الحنفيّة على ما‬
‫ذهب إليه محمّد ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬من الحرمة ‪ ،‬وذلك لغلبة الفساد في زماننا ‪ ،‬كما حرّره ابن‬
‫عابدين والزّيلعيّ ‪.‬‬
‫وهذا موافق لما ذهب إليه جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل الشربة وأنواعها في مصطلح ‪ ( :‬أشربة ) ‪.‬‬

‫الموسوعة الفقهية ‪ /‬نهاية الجزء الثامن والعشرين‬


‫******‬

You might also like