Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 440

 

‫الكاتب‪ :‬أحمد فال ولد الدين‬


‫عنوان الكتاب‪ :‬الحدَ قي‬

‫خط الغالف‪ :‬الف ّنان سمري قويعة‬


‫تنضيد داخيل‪ :‬سعيد البقاعي‬
‫تصميم الغالف‪ :‬الشاعر مح ّمد النبهان‬

‫ر‪.‬د‪.‬م‪.‬ك‪978-9938-992-77-9 :‬‬
‫الطبعة األوىل‪2018 :‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة للنارش©‬

‫مسكيلياىن للنرش والتوزيع‬


‫‪ 15‬نهج أنقلرتا تونس‪ -‬تونس العاصمة‬
‫الهاتف‪ )+216(21512226 :‬أو ‪)+216(93794788‬‬
‫اإلمييل‪masciliana_editions@yahoo.com :‬‬
‫إلى توأم الروح‪:‬‬

‫محمد ولد الحسن‪ ،‬ومحمد المختار ولد الخليل‬


‫وفاء ً ومحبة ً‬
‫الدوحة‪1438 ،‬هـ‬

‫ال هتدأ األصوات داخل غرفة األخبار بقناة «العروبة»‪ .‬فاللهجات‬


‫منسق‪ .‬يقف شاب تونيس قصري‬ ‫تتهامس متحاور ًة بشكل غنائي ّ‬
‫ُ‬ ‫العربية‬
‫القامة رافعا يديه‪:‬‬
‫خوي‪ ،‬أمورك ا ْمري ْغ َلة؟‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وصل! يع ْي ْ‬
‫شك‬ ‫‪ْ --‬‬
‫وصل‬
‫فيجيبه مغريب بصوت خشن مؤرشا إىل األعىل بإهباميه من وراء‬
‫مكتبه‪:‬‬
‫خوي‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪- -‬واخا‪ ،‬واخا‪،‬‬
‫ويف طرف الغرفة املؤدي إىل االستديو الرئييس تركض فتاة لبنانية‬
‫غضبى‪:‬‬‫قائلة بلهجة ْ‬
‫ُّومزبوط! الزم يرجع للمراسل علشان يعيد‬ ‫ْ‬ ‫‪َ - -‬ه ْيدَ التقرير َمن‬
‫ترتيبو‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بورقة‪:‬‬ ‫ويف وسط الغرفة‪ ،‬يقفز منتج أخبار سوداين ما ًّدا يدَ ه‬
‫الزعيمي‬
‫نْ‬ ‫زول‪ ،‬اكتب يل اخلرب دا رسيعا‪ ،‬قبل ظهور‬ ‫‪- -‬عليك اهلل يا ْ‬
‫بمؤمترمها الصحفي‪.‬‬
‫وال يكاد ينهي عبارته حتى يكون صحفي جزائري قد تلقف‬
‫الورق َة املرقومة باإلنكليزية ليبدأ حترير اخلرب‪ .‬وراء الصحفي اجلزائري‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫مراسلي يف‬
‫نْ‬ ‫يتحدث شاب قطري من قسم التبادل اإلخباري هاتفيا مع‬
‫وقت واحد؛ أحدمها من نريويب واآلخر من واشنطن‪ ،‬حاث ًا إيامها عىل‬
‫تقريريام خالل أقل من ساعة‪ ،‬أي قبل نرشة الظهرية‪:‬‬
‫هْ‬ ‫وصول‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ال! فيه وقت وايدْ قبل النرشة!‬
‫كان ذلك التنوع واحلركية أول ما شد انتباه حممد القروي حلظة‬
‫دخوله غرفة األخبار‪.‬‬
‫وقف يف طرف الغرفة بقامته املربوعة وشعره الناعم‪ ،‬وأنفه احلائر‬
‫بني أن يكون أفطس أو أقنى‪ .‬نظر إىل مرآة مثبتة يف طرف اجلدار متأمال‬
‫ٍ‬
‫دويلة‬ ‫جبهته الغماّ ء؛ فالشعر يكاد يغزو كل أطرافها املضغوطة كخريطة‬
‫ٍ‬
‫واقعة بني إمرباطوريتني متنافستني‪.‬‬ ‫ضعيفة‬
‫ز ّم شفتيه الغليظتني‪ ،‬مفكرا يف أهنام اإلرث الوحيد الذي تركته جدة‬
‫والده الزنجية يف عائلته‪ .‬فلوال أن كل أفراد عائلته يتميزون بشفاههم‬
‫أي منهم أن جدهتم زنجية؛ إذ كان القروي‬
‫اإلفريقية الغليظة ملا دار بخلد ّ‬
‫شديد البياض‪ ،‬سبط الشعر‪.‬‬
‫جال قليال يف الغرفة‪ ،‬لكن أحدا مل يلحظ وجوده‪َ ،‬ب ْل َه أن يتلقاه‬
‫بالتحاب‪ .‬التفت يمينا فرأى إحدى املذيعات جالسة كتمثال‪ ،‬وأمامها‬
‫رَّ‬
‫رجل يرتدي ثوبا ناصع البياض‪ ،‬ويقول بصوت مرتفع موجها نظره‬
‫إليها كأنه يتو ّعد‪:‬‬
‫أيت‪ ،‬سفن‪ ،‬سيكس‪ ،‬فايف‪ ،‬فور‪ ،‬ثري‪ ،‬تو‪ْ ،‬‬
‫ون‪ْ ..‬ك ُيو!‬ ‫‪- -‬ناي ْن‪ْ ،‬‬
‫نكزه قل ُبه انزعاجا من املنظر؛ مستغربا مل َ مل ْ ينطق الرجل األرقام‬
‫بالعربية‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫التفت يسارا فرأى فتاة فاغر ًة فاها‪ ،‬ناظر ًة إىل حاسوهبا‪ .‬اقرتب‬
‫منها مس ّل ًام بصوت خافت‪.‬‬
‫لكن سالمه ما زادها إال اهنامكا فيام بني يدهيا‪ .‬سلم من جديد بنربة‬
‫نصف التفاتة‪:‬‬
‫َ‬ ‫احتجاج‪ ،‬فالتفتت‬
‫‪- -‬أهلني!‬
‫ِ‬
‫سمحت‪ ،‬أين مكتب رئيس التحرير؟‬ ‫‪- -‬لو‬
‫قفزت بخفة‪ ،‬لتقوده إىل مكتب ّ‬
‫مطل عىل غرفة األخبار ال يبعد‬
‫أكثر من عرشة أمتار‪ .‬فلو كان رفع برصه قبل سؤاهلا لرآه‪.‬‬
‫شكر الفتاة التي مل تنتظر شكره وهي تويل مرسعة‪ ،‬فيام كان يؤنب‬
‫نفسه عىل سؤاهلا‪.‬‬
‫دخل عىل رئيس التحرير‪ ،‬فشعر أن درجة التكييف يف مكتبه أكثر‬
‫حدة منها يف غرفة األخبار‪.‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم‪.‬‬
‫‪- -‬أهال‪.‬‬
‫بدا رئيس التحرير قصري القامة جدا‪ .‬حتى إنه ّملا وقف من وراء‬
‫مكتبه ليحييه مل يالحظ كبري فرق بني قامته مندس ًا يف مقعده‪ ،‬وقامته‬
‫واقفا ما ًّدا يده للمصافحة‪.‬‬
‫دخل رئيس التحرير يف احلديث حاال‪.‬‬
‫‪- -‬كيفك يا أستاذ؟‬
‫وتابع دون انتظار جواب‪:‬‬
‫‪- -‬ستبدأ عملك‪ .‬لكن بدل أن تبدأ يف العمل مبارشة‪ ،‬البد أن متر‬

‫‪9‬‬
‫باألقسام الرئيسية أياما حتى تعرف طبيعة سري العمل‪.‬‬
‫كان رئيس التحرير يتحدث واقفا –أو شب َه واقف‪ -‬والقروي‬
‫رئيس التحرير قائال‪:‬‬
‫جالس‪ .‬فقاطع َ‬
‫‪- -‬كيف؟‬
‫‪- -‬يعني‪ ،‬ستعمل ثالثة أيام مع قسم الصحفيني حتى ترى طبيعة‬
‫التكليف من منتج النرشة‪،‬‬
‫َ‬ ‫تنسيقهم مع املنتجني‪ ،‬وكيف يتلقون‬
‫وكيف يكتبون األخبار والتقارير‪ .‬ثم تنتقل لقسم املقابالت‪،‬‬
‫فرتى كيف يتواصلون مع الضيوف واملراسلني لريتبوا ظهورهم‬
‫عىل الشاشة‪ .‬وأخريا‪ ،‬تنتقل إىل قسم التبادل اإلخباري لرتى‬
‫كيف حيجزون األقامر الصناعية للمراسلني والضيوف‪.‬‬
‫‪- -‬لكنني سأعمل مدققا لغويا‪ ،‬وما دخل سيبويه يف األقامر الصناعية؟‬
‫ابتسم رئيس التحرير ابتسامة ساخرة‪ ،‬مستثقال مزاح القروي‪.‬‬
‫فبدا وجهه طفوليا بعد ظهور أسنانه الصغرية الشبيهة بأسنان األطفال‪،‬‬
‫رغم كثافة الشعر املحيط بشفتيه‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫‪- -‬أعرف ذلك‪ ،‬لكنك بحاجة لفهم دورة العمل‪.‬‬
‫قاهلا رئيس التحرير بنربة موحية بأن احلديث انتهى‪ .‬وضع نظارتيه‬
‫عىل مكتبه ثم استدار خارجا وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬تفضل معي‪.‬‬
‫دخال املكتب املوايل‪ ،‬فإذا بسيدة أربعينية جالسة‪ .‬بادرها رئيس‬
‫التحرير‪:‬‬
‫‪- -‬ضعيه عىل وردية التعرف عىل العمل‪ ،‬ثالثا‪ ،‬ثالثا‪ ،‬ثالثا‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ثم ابتسم ابتسامة جافة كأن صاحبها يفكر يف أمر بعيد مما هو فيه‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬بالتوفيق يا أستاذ حممد‪.‬‬
‫وقف القروي أمام السيدة األربعينية‪ ،‬فال هي دعته للجلوس عىل‬
‫الكريس الوحيد‪ ،‬وال هو عرف هل عليه اجللوس أم ال‪ .‬ظلت تنظر‬
‫إىل حاسوهبا كأهنا أضاعت فيه أمرا‪ ،‬أو كأهنا تتعرف عىل ما فيه للمرة‬
‫األوىل‪.‬‬
‫صوبت إليه نظراهتا من فوق عدسات نظارتيها ‪-‬اللتني‬ ‫ثم ّ‬
‫تدحرجتا جِتاه أرنبة أنفها‪ -‬وقالت بلهجة لبنانية‪:‬‬
‫‪- -‬إ ْم َت بدَّ ك تبدأ يا محْ مد؟‬
‫‪- -‬يمكنني البدء غدا‪.‬‬
‫التفتت وقالت لرئيس التحرير هامسة‪:‬‬
‫‪َ - -‬ه ْيدا هو؟‬
‫ارتبك مفاجأ ًة من سؤاهلا حني الحظ سامع القروي للنجوى‪:‬‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬الشاب الذي حتدثنا عن علمه وثقافته‪ ...‬و‪..‬‬
‫لكن القروي فهم من سحابة التوتر التي ظللت وجه رئيس‬
‫التحرير أن احلديث كانت له مرا ٍم أخرى‪ .‬ازداد توتر رئيس التحرير‬
‫أصلع بدي ٌن من أمام املكتب‪ .‬ثم وقف قليال مرتددا يف‬
‫ُ‬ ‫مر ٌ‬
‫رجل‬ ‫عندما ّ‬
‫الدخول‪ ،‬وواصل امليش ومل يدخل‪ .‬وتبادل رئيس التحرير والسكرترية‬
‫نظرات زائغة‪.‬‬
‫رفعت السكرترية جفنيها قائلة‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫‪- -‬طيب‪ .‬عليك احلضور من الثامنة وحتى اخلامسة‪.‬‬
‫‪- -‬شكرا‪.‬‬
‫خرج من مكتبها املطل عىل غرفة األخبار‪ .‬التفت يمينا فرأى متثال‬
‫املذيعة قد نُفخت فيه الروح‪ ،‬إذ كانت هذه املرة تظهر عىل الشاشة‬
‫املعلقة يف طرف غرفة األخبار‪ ،‬وهي تتحدث عىل اهلواء بروح وحيوية‬
‫بعيدين عن الصورة التمثالية اجلامدة التي رآها عليها أول مرة‪.‬‬
‫ضحك يف نفسه قائال‪:‬‬
‫‪ - -‬كيف حييي اهلل املوتى!‬
‫التفت إىل االستديو الصغري الذي تذيع منه باحثا عن مدير‬
‫االستديو‪ ،‬صاحب األرقام اإلنكليزية‪ .‬رآه جالس ًا عىل كريس غري بعيد‬
‫نظر معل ٍم إىل متليذ‬
‫من املذيعة‪ ،‬وعىل أذن ْيه سامعات‪ .‬نظر إليه بحنق َ‬
‫متمرد‪ ،‬وقال يف نفسه‪:‬‬
‫انتزاع تلك األرقام‬
‫َ‬ ‫‪- -‬ينبغي أن يكون أول تدقيق لغوي هنا هو‬
‫فكي ذلك العريب‪ ،‬كيف حيدث هذا يف قناة‬
‫اإلنكليزية من بني ْ‬
‫عربية!‬
‫شق غرفة األخبار ليجد نفسه يف املمرات املتعرجة القائدة إىل‬
‫خمرج القناة‪ .‬كان ذهنه ضاجا بأسئلة عن أسباب اختيار مدير االستديو‬
‫نطق األرقام باإلنكليزية ما دام املخا َطب عربيا والقناة كذلك‪ .‬هل جيد‬
‫املخرج لذ ًة عندما ينطق األرقام بلغة أجنبية ال جيدها عندما ينطقها بلغة‬
‫أجداده؟!‬
‫كان يميش مرسعا يف املمرات‪ ،‬ومل ينتبه إال وهو مصطدم بسيدة‬

‫‪12‬‬
‫بدينة حتمل كيسا فيه وجبة من وجبات مكدونالدز‪ .‬تناثرت قطع‬
‫البطاطا املقلية‪ ،‬وانسكب الكوكاكوال عىل عباءهتا السوداء‪.‬‬
‫‪- -‬أوه‪ ،‬آسف‪ ،‬آسف‬
‫‪- -‬أنت ما تشوف؟ ما عندك عينني؟‬
‫تعود‬
‫مشكلته أنه يميش دائام برسعة كأنه يف سباق‪ .‬فهو من جمتمع ّ‬
‫يلتف يمينا متى‬
‫فياف منبسطة ال ازدحا َم هبا‪ ،‬يميش كيفام شاء؛ ُّ‬‫امليش يف ٍ‬
‫شاء‪ ،‬ويسارا أنّى أراد‪ ،‬حانيا رأسه لألسفل أو رافعا إياه‪.‬‬
‫مل يعرف كيف يترصف‪ .‬فالسيدة البدينة تبدو مثل لبؤة جائعة‬
‫اختُطف وحيدُ ها‪.‬‬
‫انحنى ليلتقط البطاطا املتناثرة‪ ،‬فنهرته‪:‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬دعها! هل تظنني سآكلها؟ هذه زبالة!‬
‫قال وهو يناوهلا قطعا من البطاطا مبتسام‪:‬‬
‫‪- -‬كانت زبالة عندما اشرتيتِها‪ .‬إن بني أمريكان الذين صنعوها‬
‫نك ُفو ْد»!‬
‫«ج ْ‬
‫يسموهنا باإلنكليزية َ‬
‫ْ‬
‫أمريكان»‬ ‫حدجته بنظرات غاضبة‪ ،‬واحتقرت حذلقته وقوله‪« :‬بني‬
‫جيودها جتويدا‪ .‬كام كرهت أكثر نطقه لكلمة «جنك فو ْد» بإنكليزية‬
‫كأنه ّ‬
‫وجهها الدائري الصغري‬
‫فصيحة كأنه أحد أبناء ويلز‪ .‬بادهلا النظر فرأى َ‬
‫املنغرس يف جسمها الضخم كأنه مغموس يف العرق‪ ،‬وعين ْيها الضيقتني‬
‫تكادان تنبجسان دموعا‪ .‬كانت شفتها السفىل ترتعد رعدة خفيفة‬
‫عرق كانت متجمعة عىل حافتها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حبيبات ٍ‬ ‫أسالت‬
‫ْ‬
‫استدارت وهي تقول هامسة‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫‪- -‬واهلل جمنون!‬
‫ظل واقفا ثواين‪ ،‬وبيده اليمنى قبضة من البطاطا املقلية‪ .‬ثم ظهر‬
‫له رئيس التحرير يف هناية املمر الضيق‪ ،‬فرمى البطاطا بشكل هستريي‬
‫حتى ال يراه‪.‬‬
‫ثم فكر كيف سينظر إليه رئيس التحرير بعد اليوم‪ ،‬وكيف أنه‬
‫لن يفرس وقوفه وسط املمر ويف يده البطاطا إال بأنه يأكل واقفا يف‬
‫املمرات!‬
‫حترك من مكانه متجها إىل خمرج القناة وذهنه ضاج بأسئلة منطقية‬
‫وأخرى سخيفة‪.‬‬
‫ما إن خرج من الباب حتى لسعته حرارة الشمس وكثافة الرطوبة‬
‫مذكر ًة إياه بأن الفصل فصل صيف حارق‪ ،‬رغم الربودة العالية داخل‬
‫مبنى القناة‪.‬‬
‫فكر يف أن احلياة كلها يف هذه املدينة التي يعيش فيها حياة مصطنعة؛‬
‫فكيف تكون غرفة األخبار بتلك الربودة يف جو كهذا؟!‬
‫ثم قاده تفكريه إىل الصورة غري احلقيقية التي قد ينظر هبا إليه رئيس‬
‫التحرير كآكل بطاطا يف ممرات واحدة من أهم قنوات العامل العريب‪،‬‬
‫وكيف أن السيدة صاحبة البطاطا أيضا أقنعتها احلياة االستهالكية بأكل‬
‫تلك الفضالت باعتبارها طعاما نافعا‪.‬‬
‫خرج يميش برسعة‪ ،‬متأمال يف أن احلياة املصطنعة يف هذه املدينة ما‬
‫هي إال صورة للحياة كلها‪.‬‬
‫وصل إىل موقف السيارات‪ ،‬وألقى نظرة عىل مواقف «سوق‬

‫‪14‬‬
‫واقف» املجاور‪ ،‬وذهنُه مشغول بالتفكري يف طبيعة ذلك التهامس بني‬
‫رئيس التحرير والسيدة األربعينية‪.‬‬
‫***‬
‫مرت أشهر كأهنا أعوام‪ ،‬واندمج القروي يف عمله اندماجا من نوع‬
‫خاص‪.‬‬
‫كان ذات يوم جيلس عىل مكتبه الواقع يف الطرف الشاميل من غرفة‬
‫األخبار‪ ،‬واضعا كفه اليرسى حتت ذقنه‪ ،‬بينام ترتاقص أصابعه عىل‬
‫حافة شفته العليا وهو يقرأ بتضايق خرب ًا كتبه أحد الصحفيني اجلالسني‬
‫عن يساره‪.‬‬
‫ِ‬
‫والنظر إىل الصحفي كاتب‬ ‫كان يراوح بني قراءة النص بانزعاج‬
‫رب حيسب‬
‫اخلرب بحنق‪ .‬ومما يزيد يف حنقه أن هذا الصحفي بالذات متك ٌ‬
‫نفسه صحفيا عظيام‪.‬‬
‫َ‬
‫كانت صيغة اخلرب كالتايل‪:‬‬
‫«علم مراسل العروبة يف غزة أن جنودا إرسائيليني يتواجدون‬
‫اآلن قرب منطقة الشجاعية داخل املدينة‪ ...‬وكان الناطق باسم كتائب‬
‫القسام قد قال إن اهلجوم اإلرسائييل األخري عىل غزة سيكون األخري»‪.‬‬
‫مل يستطع القروي الصرب‪ ،‬فقفز من فوق مقعده كأن نارا مستْه‪:‬‬
‫‪- -‬باهلل عليكم! أي صياغة هذه؟ ارمحونا!‬
‫التفت كل من يف الغرفة صوب الصوت‪ .‬فاألجواء كانت هادئة‬
‫متاما‪ ،‬غري أن الضجيج الذي كان يف رأس القروي فصله عن جوها‬
‫اهلادئ‪ ،‬فلم ينتبه الرتفاع نربته‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫حدجتْه كل العيون من أطراف الغرفة استغرابا‪ .‬فشعر باخلجل‬
‫ثواين‪ ،‬لكن َس ْورة الغضب رسعان ما عاودته؛ فقال بنربة أكثر هدوءا‪:‬‬
‫‪- -‬ومنذ متى كان اجلنود اإلرسائيليون «يتواجدون؟» إن التواجد‬
‫الو ْجد‪ ،‬والتواجد حال من أحوال املتصوفة‪ ،‬ال‬ ‫تفاعل من َ‬
‫ف من ترصفات جنود االحتالل‪ .‬ثم ما الذي يعنيه هذا‬ ‫ترص ٌ‬
‫ّ‬
‫رب –أو ع ّبده‪ -‬بقوله‪« :‬اهلجوم‬
‫الصحفي العظيم الذي حرر اخل َ‬
‫اإلرسائييل األخري عىل غزة سيكون األخري!» فهل اجتمع صاحبنا‬
‫بقائد جنود االحتالل ليقول له إن اهلجوم سيكون األخري إىل أبد‬
‫اآلبدين؟ أما يف لغة العرب عبارة مثل اهلجوم األحدث مثال؟‬
‫كانت كلامت القروي تصل إىل سمع الصحفي الذي حرر اخلرب‪.‬‬
‫كان الصحفي يعرف أن زمالءه دخلوا عىل برنامج نظام النرش‪ ،‬وعرفوا‬
‫أنه هو من كتب اخلرب بالتعرف عىل اسم املستخدم اخلاص به‪.‬‬
‫مل يتحدث الصحفي‪ ،‬وظل يداري غضبه خوفا من نقاش مع‬
‫تعود كل من يف الغرفة عىل أن‬
‫القروي يعلم مسبقا أنه سيخرسه‪ .‬فقد ّ‬
‫أي نقاش لغوي معه آيل مناقشه فيه للخرسان‪ .‬فالرجل يكاد حيفظ‬
‫معظم دواوين العرب وقواميسها وقوانني لغتها‪.‬‬
‫أشاح أحد معدّ ي النرشات بنظراته عن شاشة حاسوبه حماوال‬
‫تلطيف اجلو‪:‬‬
‫‪- -‬أما أنا فلم أسمع قط أن التواجد مصطلح صويف‪ ،‬وما دخل‬
‫التواجد يف الزهد؟‬
‫التفت إليه القروي‪ ،‬شارحا جذر كلمة «وجد» واختالفات‬
‫معانيها‪ .‬ويف هناية حديثه قال‪:‬‬

‫‪16‬‬
‫‪- -‬قال الشامخ بن رضار‪:‬‬
‫العين َعْب�رْ ًة‬
‫ُ‬ ‫فلما رشاه�ا فاض�ت‬
‫حز ٌاز من الوجد ِ‬
‫حام ُز‬ ‫ويف الصدر ّ‬
‫ْ‬
‫أنشد القروي البيت األخري بلغة فصيحة وصوت مو ّقع‪ ،‬كأنه‬
‫ُينهي به حديثه يف املوضوع‪ .‬فتضايق صحفي من قسم االقتصاد‬
‫ضعيف اللغة‪ ،‬كثريا ما ُيتعبه القروي كلام جاء ليصحح له تقريرا‪ ،‬فقال‬
‫بلهجة ساخرة‪:‬‬
‫‪«- -‬حامز» إيه يا أخي‪ ..‬إيه ده!؟ دي لغة عربية؟‬
‫خرج رئيس التحرير من مكتبه مصفق ًا احتجاجا عىل ارتفاع‬
‫الصوت‪.‬‬
‫عاد اهلدوء إىل غرفة األخبار‪ ،‬وعاد القروي فجلس عىل مقعده‬
‫ليجد خربا آخر أكثر استفزازا يلمع يف طرف حاسوبه ينتظر التدقيق‪.‬‬
‫اهنمك يف تدقيق األخبار التي تتوارد عىل الصفحة اخلاصة بالنرشة‬
‫التالية‪ ،‬فاملدقق ومنتج النرشة واملرشفون عىل األخبار هم وحدهم‬
‫املخولون التغيري يف أي خرب عىل هذه الصفحة‪ .‬ظل منهمكا يف التدقيق‬
‫ٍ‬
‫برتبيت خفيف عىل كتفه‪:‬‬ ‫إىل أن أحس‬
‫‪- -‬هال‪ ،‬كيفك؟‬
‫التفت فإذا بأحد زمالئه الصحفيني حيمل أوراقا تتضمن تقريرا‬
‫يريد تصحيحه قبل توجهه لغرفة املونتاج‪.‬‬
‫السمع‬
‫َ‬ ‫جلس الصحفي وبدأ قراءة تقريره‪ ،‬بينام أرهف القروي‬
‫متأهب ًا كأنه حمفظ قرآن‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ ....«- -‬ويرى مراقبون أن‪.»...‬‬
‫‪- -‬ال يا أخي‪ ،‬لن أتركك تستخدم هذه العبارة اخلادعة إال إذا أريتَني‬
‫مراقبا من حلم وشحم‪ .‬من هم هؤالء املراقبون الذين نسمع‬
‫عنهم عندكم وال نراهم يف دنيانا؟‬
‫ارتبك الصحفي وهو يرفع وجهه عن الورقة قائال‪:‬‬
‫‪- -‬هذا أسلوب صحفي دارج‪.‬‬
‫‪- -‬واألخطاء واحلامقات دارجة كذلك‪.‬‬
‫فقال بتلعثم دون رفع برصه‪:‬‬
‫‪- -‬طيب‪ ،‬ماذا أقول؟‬
‫‪- -‬ال تقل شيئا؛ احذفها‪.‬‬
‫أخرج الصحفي قلام من جيبه وخط خطا غليظا بانفعال عىل‬
‫الكلمة‪ ،‬وواصل القراءة‪ .‬أرهف القروي أذنَه احلادة كأنه شيخ‬
‫شنقيطي يف حمظرة‪:‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ذاك فاعل مرفوع‪.‬‬
‫‪- -‬متام‪.‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ذاك ظرف منصوب يا أخي‪.‬‬
‫‪- -‬متام‪.‬‬
‫ما إن أهنى الصحفي قراءة التقرير حتى كان ْير َف ُّض َع َرق ًا‪ .‬مللم‬
‫أوراقه شاكرا‪ ،‬ثم مشى متجها صوب غرفة املونتاج‪ ،‬ال يكاد ُيبصرِ أين‬
‫يضع قدمه من احلرج‪.‬‬
‫ترك القروي مكتبه ومشى خطوات للحديث مع صديقه بقسم‬

‫‪18‬‬
‫املقابالت مازن أمحد‪ .‬كان مازن منهمكا يف مكاملة هاتفية مع أحد‬
‫املسؤولني الروس حماوال إقناعه باحلديث يف إحدى النرشات للتعليق‬
‫عىل العالقات الروسية األمريكية‪.‬‬
‫وقف القروي جنب صديقه منتظرا هناية املكاملة‪ .‬وأثناء وقوفه‬
‫الحظ وجود ورقة عىل مكتب زميله مطبوعة وحتمل مخسة توقيعات‪.‬‬
‫اسرتق النظر إليها فإذا فيها‪:‬‬
‫املوضوع‪ :‬طلب حتويل املدقق اللغوي السيد حممد القروي‬
‫نظرا لرضورة سري العمل اإلخباري بانسياب‪ ،‬ولصعوبة العمل مع‬
‫السيد حممد القروي‪ ،‬فإننا –معرش الصحفيني املوقعني أسفله‪ -‬نلتمس‬
‫مقرين ‪-‬مع ذلك‪-‬‬
‫من اإلدارة املوقرة حتويل الزميل عن قسم التدقيق‪ّ .‬‬
‫بكفاءته ومهنيته وأخالقه احلسنة‪ .‬غري أن ضغط العمل اإلخباري ال‬
‫حيتمل املهاترات اللغوية وال التشدد املعريف للزميل املذكور‪.‬‬
‫شاكرين لإلدارة املوقرة حسن التفهم‪.‬‬
‫املوقعون‪.‬‬
‫يف ملحة‪ ،‬قرأ القروي الورق َة بنظرة واحدة كأنه صقر من صقور‬
‫الصحراء املوريتانية‪ .‬حاول أال يبدو عليه أي ارتباك بعد قراءهتا‪،‬‬
‫بينام كان زميله مازن منهمكا يف مراوغة السيايس الرويس عىل اهلاتف‬
‫إلقناعه باحلديث للقناة‪.‬‬
‫وضع مازن اهلاتف بقوة رافعا برصه وهو يقول بامتعاض‪:‬‬
‫‪- -‬ما رأيت أصعب من الروس! إيش هذا؟!‬
‫رد القروي حماوال إهيامه أن ال يشء يشغل ذهنه‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫‪- -‬الروس! ال تنس كالم املنظر السيايس الفرنيس دي توكفيل عنهم‬
‫شعبي يتجهان‬
‫نْ‬ ‫يف كتابه «الديمقراطية يف أمريكا»‪ .‬قال إن هناك‬
‫برسعة حلكم العامل‪ ،‬لكن وسيلة أحدمها احلرية‪ ،‬ووسيلة اآلخر‬
‫العبودية‪ .‬األمريكيون والروس‪.‬‬
‫انتبه مازن إىل أنه نيس إخفاء الورقة التي تركها أحد الزمالء عىل‬
‫مكتبه‪ ،‬فوقف فجأة قائال وهو يدسها حتت طرف مكتبه‪:‬‬
‫‪- -‬ما رأيك يف أن نرشب قهوة يف الكافيرتيا؟‬
‫‪- -‬ال مانع‪.‬‬
‫مشيا عدة أمتار إىل باب غرفة األخبار ليصعدا س ّلام خشبيا‪ ،‬قادمها‬
‫إىل الكافيرتيا اخلاصة بالقناة‪.‬‬
‫كان القروي يميش وراء صديقه منتظرا فتح موضوع الورقة‪ .‬فلام‬
‫التقت عيوهنام ‪-‬ومها يدخالن إىل الكافترييا‪ -‬قال مازن هبمس‪:‬‬
‫‪- -‬هل علمت أن بعض الزمالء قدموا عريضة مطالبني بتحويلك؟‬
‫أظهر القروي املفاجأة من اخلرب قائال بلهجة موريتانية‪:‬‬
‫‪ -‬حق اهلل؟‬
‫لكن حركة عينيه أكدت لزميله أنه اطلع عىل الورقة؛ فحاول إنقاذه‬
‫من احلرج‪:‬‬
‫‪- -‬ال هيم يا رجل‪ ،‬ربام قد يعجبك العمل يف قسمك اجلديد إذا‬
‫استجابت هلم اإلدارة‪.‬‬
‫كانا قد وصال إىل البائعة الفلبينية القصرية التي بادرهتام بابتسامة‬
‫قائلة بلغة إنكليزية حمشوة باللكنة الفلبينية‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫‪- -‬هل أستطيع مساعدتكام؟‬
‫تقدم مازن مبعد ًا يد صديقه ‪-‬كيال يدفع النقود‪ -‬قائال هلا باإلنكليزية‪:‬‬
‫وكأيس شاي‪.‬‬
‫ْ‬ ‫صحني فول‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬بىل‪،‬‬
‫ثم مد هلا ورقة مائة ريال قائال‪:‬‬
‫‪- -‬اتركي عندك البقية حتى آخذ منها اليوم أو غدا‪.‬‬
‫اجتها إىل وسط املقهى حيث الكرايس املتناثرة‪ ،‬والطاوالت الدائرية‬
‫املتوسطة احلجم‪ ،‬وجلسا‪ .‬شعر القروي بارتياح وهو يزيح معطفه‬
‫مالحظا أن درجات التكييف أقل برودة هنا منها يف غرفة األخبار‪.‬‬
‫فحركة الناس دخوال وخروجا‪ ،‬وأزيز أدوات إعداد القهوة والشاي‬
‫والطعام تضفي جوا دافئا عىل املكان‪ .‬مدّ جسمه ومال عىل الطاولة جهة‬
‫صديقه وقال هبمس‪:‬‬
‫‪- -‬بعث يل رئيس التحرير رسالة إلكرتونية طالبا اجتامعا‪.‬‬
‫كان القروي يتحدث فيام كان مازن ينظر إليه نظرة تعاطف‪ ،‬متأمال‬
‫جبهته الضيقة‪ ،‬وشفتيه الغليظتني وشعره الناعم‪ ،‬مفكرا كيف تآمرت‬
‫جمموعة من ضعاف الصحفيني عىل هذا البدوي املسكني‪ .‬كان مازن‬
‫مقتنعا بأن سبب رفع الشكوى ضد صديقه هو كونه ال سند له يف غرفة‬
‫األخبار‪ ،‬فلو أنه من إحدى الدول العربية الكبرية لكانت له عصابة‬
‫حتميه‪ ،‬وتدافع عنه‪ ،‬وتربز حماسنه وتسرت مثالبه‪.‬‬
‫كانت هذه األفكار تتزاحم يف ذهن مازن‪ ،‬بينام يواصل القروي‬
‫حديثه‪.‬‬
‫أخرج مازن سيجارا من جيبه‪ ،‬ثم قاطع صدي َقه وهو يلتفت جهة‬

‫‪21‬‬
‫مدخل الكافيرتيا‪:‬‬
‫‪- -‬شوف‪ ،‬مثلك ال خوف عليه‪ .‬فأنت هنا بعلمك وقدراتك‪ ،‬أما‬
‫هؤالء فكثري منهم هنا بالشللية والوساطات‪ .‬ولوال أنك بدوي‬
‫ِنز ٌق ال تستطيع التحكم يف انفعاالتك ملا وصل األمر إىل ما وصل‬
‫إليه‪.‬‬
‫تذكر القروي القرض املايل الضخم الذي أخذه من البنك قبل‬
‫شهر‪ .‬وتراءت له صورة والده الذي يعيش عىل أدوية شديدة الغالء‪،‬‬
‫فقال متظاهرا بالتج ُّلد‪:‬‬
‫‪- -‬عادي يا أخي‪ ،‬حتى لو أقالوين‪.‬‬
‫‪- -‬أنا أرى أن سبب كل هذا هو نائب رئيس التحرير‪.‬‬
‫بساما؟‬
‫‪- -‬تقصد ّ‬
‫‪- -‬نعم‪ .‬هو يغار من املميزين‪ ...‬ثم إنك ُو ّظ َ‬
‫فت رغم أنفه‪ .‬وهو‬
‫يعترب أي شخص مل يوظفه هو عدوا له‪.‬‬
‫‪- -‬عقلية إما أنك عبدي أو ضدي؟‬
‫‪- -‬إيه!‬
‫وتذكر القروي ذلك الرجل البدين األصلع الذي أطل عليه‬
‫بمكتب السكرترية يوم عمله األول‪ .‬واستعاد نظرات السكرترية‬
‫ورئيس التحرير‪.‬‬
‫والتفت رافعا برصه إىل مازن الغارق يف سحابة سجاره‪:‬‬
‫‪- -‬كيف تصفني بالبدوي النزق يا رجل؟ أنتم دائام حتملون البدو‬
‫كل يشء‪ .‬أال تعلم أن احللم واألناة أيضا من أخالق البادية؟ ثم‪،‬‬

‫‪22‬‬
‫هل املزارعون أهل حلم وأناة؟‬
‫وقهقه مازن قائال بلهجة أهل اخلليل‪:‬‬
‫‪- -‬اهلل خيرب شيطانك‪ ،‬يا ب ّييه!‬
‫وبدأ حديثهام ينحرف إىل اجلانب النظري أكثر من االنشغال هبموم‬
‫اللحظة‪ ،‬ومها يرقبان الداخلني واخلارجني من املقهى‪ .‬بعد دقائق‪،‬‬
‫جاءت الفتاة الفلبينية حاملة صحنني من الفول وكأسني من الشاي‪.‬‬
‫رفع إليها مازن وجهه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬شكرا‪ ،‬عزيزيت‪.‬‬
‫كان جيلس قبالة القروي مذيع ومذيعة يتحدثان‪ .‬ويبدو من‬
‫مالمح املذيعة أهنا ستظهر عىل الشاشة بعد قليل‪ .‬فطبقة املكياج الكثيفة‬
‫املندس يف أذهنا‪ ،‬يشيان بأهنا مستعدة‬
‫ُّ‬ ‫عىل وجهها‪ ،‬واملِ ْل ُ‬
‫قان البالستيكي‬
‫للظهور يف النرشة التالية‪.‬‬
‫جتلس فتاتان عن يسار املذيعة‪ ،‬إحدامها بدين ٌة متلفف ٌة يف عباءة‬
‫سوداء‪ ،‬واألخرى نحيفة ربعة القامة ترتدي بنطاال أزرق وقميصا‬
‫بالكاد يالمس طرف بنطاهلا‪.‬‬
‫انتبه القروي ‪-‬وهو يتأمل الفتاة البدينة‪ -‬إىل أهنا صاحبة البطاطا‬
‫التي اصطدم هبا يف املمر قبل أشهر‪ ،‬كام انتبه إىل أن جبينها ما زال يتفصد‬
‫عرقا‪ .‬أما الفتاة اجلالسة إىل جانبها فلم ُيعرها كبري اهتامم‪ .‬فرغم نوعية‬
‫متر‬
‫املالبس التي ترتدهيا للفت األنظار إليها فإهنا من النساء الالئي ّ‬
‫عليهن العني متدحرج ًة بحياد‪.‬‬
‫فال هي ممن تتأذى العني برؤيتها حتى تعلق بالذهن‪ ،‬وال باجلميلة‬

‫‪23‬‬
‫ِ‬
‫وابتهاج العيون‪.‬‬ ‫مجاال جيعل خريطة جسمها مدى رَلتداد النظر‬
‫أمر عليها القروي عينه رسيعا كأنه ينظر إىل شارع عام‪ ،‬ثم التفت‬
‫ّ‬
‫إىل مازن‪:‬‬
‫‪- -‬عيل الذهاب للحديث مع رئيس التحرير‪.‬‬
‫‪- -‬انتظر حتى تُنهي إفطارك‪.‬‬
‫قاهلا مازن‪ ،‬وهو يالحظ التوتر الذي حاول صديقه إخفاءه‪.‬‬
‫وقف القروي مستأذنا مازن ًا‪ ،‬هبط مع الدرج اخلشبي الذي أسلمه‬
‫إىل غرفة األخبار‪ .‬اجته يمينا إىل مكتب رئيس التحرير‪.‬‬
‫دخل فإذا برئيس التحرير وراء مكتبه الصغري‪ ،‬وأمامه كرسيان‬
‫جيلس عىل أحدمها رجل بدين شديد البياض‪.‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم‬
‫‪- -‬وعليكم السالم‪ ،‬هال‪ .‬تفضل!‬
‫جلس القروي متأمال الرجل اجلالس قبالته‪ .‬كان مكتنز األعضاء‬
‫مقديس اللهجة‪ .‬أما رئيس التحرير فكان غارقا يف كتابة‬
‫َّ‬ ‫ضخم البطن‬
‫رسالة إلكرتونية‪ ،‬ومع ذلك يرمي كلمة بني الفينة واألخرى إلشعارمها‬
‫بعدم االنشغال الكامل عنهام‪.‬‬
‫بعد هنيهات‪ ،‬أهنى رئيس التحرير كتابة رسالته‪ ،‬والتفت بحامس‬
‫ووجهه الطفويل اململوء شعرا يربق‪:‬‬
‫‪- -‬يا هال أستاذ حممد‪ ،‬كيفك؟‬
‫‪- -‬أهال بك‪.‬‬
‫عرف رئيس التحرير القروي عىل جليسه املقديس قائال‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪24‬‬
‫‪- -‬هذا األستاذ أمحد أبو صالح‪ ،‬مدير قسم الوثائقيات بالقناة‪.‬‬
‫ثم التفت إىل املقديس مؤرشا جهة القروي‪:‬‬
‫‪- -‬وهذا األستاذ حممد القروي‪ ،‬أحد أفضل املدققني عندنا‪.‬‬
‫أمال املقديس رأسه قائال بأدب‪:‬‬
‫‪- -‬يا أهال وسهال‬
‫‪- -‬أهال وسهال بكم‪ ،‬حيا اهلل أهل القدس‪.‬‬
‫‪- -‬وكيف عرفت أنني مقديس؟‬
‫‪- -‬أنا ال أسمع هلجة عربية إال م ّيزهتا‪.‬‬
‫‪- -‬ما شاء اهلل‪ .‬عندكم يف موريتانيا مقدسيون؟‬
‫‪- -‬أبدا‪ ،‬ولك ْن يل أصدقاء مقدسيون تعرفت عليهم ببالد شتى‪.‬‬
‫‪- -‬ما شاء اهلل!‬
‫قطع رئيس التحرير حديثهام قائال بنربة حازمة‪:‬‬
‫‪- -‬أستاذ حممد‪ ،‬إن السيد مسؤول امللفات الوثائقية كان يبحث منذ‬
‫فرتة عن كاتب قدير يكتب له نصا لفيلم وثائقي‪ .‬وكنت أخربته‬
‫عنك وعن قدراتك‪ ،‬وما إن ذكرت له اسمك حتى حتمس‬
‫للحديث معك هبذا اخلصوص‪.‬‬
‫ظهره مسند الكريس ليصبح أكثر‬
‫عدّ ل القروي جلسته حتى فارق ُ‬
‫اعتداال‪ ،‬وقال بتوتر‪:‬‬
‫‪- -‬طيب؟!‬
‫النص الحقا إىل‬
‫‪- -‬الفكرة‪ ،‬هي أن تتفرغ لكتابة النص‪ ،‬و ُيدفع ُّ‬
‫كاتب سيناريو ليمفصله ويعده للتمثيل‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫‪- -‬وما موضوع الفيلم؟‬
‫مد رئيس التحرير يده لينزع نظارتيه‪ ،‬فبدا شعر رأسه األشيب‬
‫كثيفا‪ ،‬ثم التفت إىل مسؤول الوثائقيات قائال‪:‬‬
‫‪- -‬تفضل يا أستاذ‪ ،‬فأنت أفضل من يرشح له الفكرة‪.‬‬
‫مال املقديس بجسمه الضخم جهة القروي –رغم حمدودية املسافة‬
‫بني كرسييهام‪ -‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬شوف يا أستاذ حممد‪ ،‬لقد قرأت كثريا من كتاباتك املنشورة يف‬
‫الصحف‪ ،‬واطلعت عىل روايتك التي كتبتها عن حياة البدو‬
‫الرحل يف موريتانيا‪ .‬كام سمعت الثناء عىل علمك من أستاذنا‬
‫قررت اإلقدام‬
‫ُ‬ ‫رئيس التحرير‪ .‬لذا أمتنى أن تدخل معي يف مغامرة‬
‫عليها‪.‬‬
‫كان القروي يستمع باهتامم‪ ،‬واضعا يده اليرسى عىل فيه إمعانا يف‬
‫اإلنصات‪.‬‬
‫فواصل املقديس حديثه‪:‬‬
‫‪- -‬املغامرة هي أننا قررنا إنتاج فيلم تارخيي‪ .‬وإلكامل املغامرة‪،‬‬
‫أحببت أن يكون كاتب النص وكاتب السيناريو من الشباب‬
‫اجلدد عىل الساحة‪ ،‬ال كتابا مسته َلكني‪.‬‬
‫شعر القروي بارتياح للفكرة‪ ،‬رغم مفاجأهتا‪ .‬فقد أعجبته الروح‬
‫املتفائلة الواثقة للمقديس‪ .‬فبادره وهو يفرك أصابع يديه‪:‬‬
‫‪- -‬أنا ال مانع لدي‪ ،‬لك َّن عندي رشطا واحدا‪.‬‬
‫‪- -‬تفضل‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪- -‬أال يتدخل يل أحد يف نمط الكتابة‪ .‬فأنا سأكتب كام حيلو يل‪.‬‬
‫قال املقديس بحامس‪:‬‬
‫‪- -‬أوه‪ ،‬طبعا‪ ..‬طبعا‪ ،‬فاحلرية رشط اإلبداع يا رجل‪.‬‬
‫‪- -‬لكن‪ ،‬ما موضوع الفيلم؟‬
‫‪- -‬نحن نريد إنتاج عدة أفالم تارخيية عن شخصيات مفصلية يف‬
‫تاريخ احلضارة اإلسالمية‪ .‬مثل اخلليل بن أمحد‪ ،‬واجلاحظ‪ ،‬وابن‬
‫تيمية والغزايل واملتنبي‪.‬‬
‫ما إن سمع القروي اسم اجلاحظ حتى قال بنربة مراهق يرى فريقه‬
‫املفضل يسجل هدفا‪:‬‬
‫‪- -‬هل يل أن أختار من هذه األسامء؟‬
‫‪- -‬جدا‪ .‬فأنا كنت أفكر يف أنك ربام تكتب عن اجلاحظ‪ ،‬فقد رأيت‬
‫يف سريتك الذاتية أنك كتبت عنه أطروحة ماجستري‪.‬‬
‫اسم اجلاحظ‪ ،‬وقال دون‬ ‫شعر القروي بحامس طفويل َ‬
‫حال سامعه َ‬
‫أدنى تفكري يف العواقب‪:‬‬
‫‪- -‬اتفقنا إذن‪.‬‬
‫حني سمع رئيس التحرير كلمة «اتفقنا» قفز من فوق كرسيه‬
‫فرتاءت جلليس ْيه قامته الضئيلة وهو يقول‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َج َذالً‪،‬‬
‫‪- -‬خالص‪ ،‬يمكنك ‪-‬يا أستاذ حممد‪ -‬التفرغ للمرشوع‪ .‬وسأبعث‬
‫اآلن رسالة للسكرترية كي تعفيك من الورديات‪ .‬وستداوم يف‬
‫مكتبك العادي بغرفة األخبار‪ ،‬لكنك تكتب للزمالء يف القسم‬
‫الوثائقي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫وجد القروي نفسه خارجا من مكتب رئيس التحرير مستغربا‬
‫كيف جرت األمور هبذه الرسعة‪ .‬وتناوشتْه أسئلة مثل‪ :‬كيف وافق عىل‬
‫هذه املغامرة؟ وما ضامن نجاحها؟ وكيف ينجح فيها وهو مل يكتب قط‬
‫نصا للتمثيل؟‬
‫ثم ألح عليه سؤال‪ :‬ماذا لو مل ينجح يف كتابة النص؟ هل سيقال‬
‫من عمله؟‬
‫دخل غرفة األخبار ومشى خطوات إىل قسم املقابالت‪ ،‬فلام رآه‬
‫مازن قادما وقف ليتلقاه‪ .‬وقفا يف طرف غرفة األخبار اجلنويب مما ييل‬
‫غرف املونتاج‪.‬‬
‫‪- -‬كيف كانت نتائج االجتامع؟‬
‫قال القروي متصنعا االبتسام ورباطة اجلأش‪:‬‬
‫‪- -‬يبدو أنني سأتفرغ لكتابة رواية تصلح نصا لفيلم تارخيي‪.‬‬
‫‪- -‬كيف‪ ،‬وما دخل قناة إخبارية يف األفالم التارخيية؟‬
‫‪- -‬سأكتبه لقسم الوثائقيات‪ .‬كأهنم سيجربون إنتاج أفالم تارخيية‪.‬‬
‫قال مازن بلؤم ونربة ساخرة‪:‬‬
‫‪- -‬جيد‪ ،‬ما داموا فاشلني يف إنتاج األخبار‪ ،‬فليجربوا األفالم‬
‫التارخيية!‬
‫‪- -‬وماذا يعنيني أنا من كل ذلك؟ املهم أين من اآلن سأكتب نصوصا‬
‫عربية عىل مزاجي خالية من عبارات األعاجم‪.‬‬
‫ضحك مازن ممُ ِ ًّرا يده عىل رأسه الكث‪ ،‬وتراءت ثناياه التي غزاها‬
‫التسوس واضحة وهو يقول‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫‪- -‬ما موضوع الفيلم؟‬
‫‪- -‬سيكون عن اجلاحظ‪ .‬لذلك لن ترد فيه عبارة «من جهة أخرى»‬
‫وال «شكرا لك حتى اللحظة!»‪.‬‬
‫‪- -‬اكتب يا عم! اكتب ما حيلو لك‪ ،‬ففي عامل اجلاحظ لن َي ْش َغ َ‬
‫ب‬
‫عليك أحد‪.‬‬
‫وقف رئيس قسم املقابالت يف طرف الغرفة مشريا ملازن كي يأيت‬
‫برسعة‪.‬‬
‫مد القروي يده إىل صديقه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أستأذن‪ ،‬فقد حتررت من وردياتكم ودواماتكم‪ ...‬ورؤساء‬
‫أقسامكم‪.‬‬
‫ضغط مازن عىل يده قائال بلهجته الفسطينية‪:‬‬
‫‪- -‬نيالك يا حبيبي!‬
‫سار القروي يف غرفة األخبار مرسعا دون أن يلتفت إىل أي جهة‬
‫حتى ال يشغله زميل بسؤال أو سالم‪ ،‬وهو يفكر يف طبيعة التحدي‬
‫الذي وافق عىل خوضه دون كبري تفكري‪.‬‬
‫وخالل دقائق‪ ،‬كان يف شقته بمنطقة السد‪ .‬رمى مفتاح سيارته‬
‫جانبا‪ ،‬وتوجه إىل املطبخ‪ .‬أعد كأسا من الشاي األخرض‪ ،‬ووضعه عىل‬
‫مكتبه‪ .‬ثم فتح حاسوبه ‪-‬وهو يتقد محاسا مشوبا بخوف‪ -‬وكتب‪:‬‬
‫***‬

‫‪29‬‬
‫البصرة‪170-168 ،‬هـ‬

‫هبت نسائم الصباح عىل السفينة اجلاثمة غري بعيد من البطيحة عىل‬
‫أطراف البرصة‪ .‬صدحت رنات العود املطربة‪ ،‬وانترشت روائح العنرب‬
‫اهلندي يف كل اجتاه‪ .‬لكن اخلليفة املهدي الذي جيلس يف صدر السفينة‬
‫ضيق الصدر‪.‬‬
‫بدا َ‬
‫التفت إىل وزيره وقال وهو يرفع حاجبيه‪ ،‬وكأنه ينفخ‪:‬‬
‫تتكاثف فيها‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬واهلل إين ألحار يف نفس اإلنسان! ملاذا تأيت حلظات‬
‫كل أسباب االنرشاح والسعادة‪ ،‬لكن النفس تنقبض لسبب‬
‫ال تدركه‪ .‬ألذلك عالق ٌة بحركات األفالك؟ أم بعامل األرواح‬
‫املتل ّف ِ‬
‫ف يف دياجري الغيب املستور؟‬
‫‪- -‬ما أرى ‪-‬يا أمري املؤمنني‪ -‬إال أن لألمر عالقة بحركة الكواكب‬
‫الدوار‪ .‬فاملرء جيد نفسه وقد ظفر بام ظل يطلبه‬
‫السبعة والفلك ّ‬
‫نفسه عن سعادته الغامرة به‪ .‬ثم ما إن تأيت‬
‫دهرا‪ ،‬وكان حيدث َ‬
‫ٍ‬
‫وريح‬ ‫حلظة قطف السعادة املرجوة حتى حيس بخواء جارف‪،‬‬
‫جتري يف زوايا روحه‪.‬‬
‫رسحا طر َفه جهة غيمة ْ‬
‫بدت يف السامء‪.‬‬ ‫تنفس املهدي الصعداء ُم ّ‬
‫التلفت إىل يسارها جهة‬
‫َ‬ ‫بدأت اجلارية اجلالسة عن يمينه تكثر‬

‫‪31‬‬
‫الشاطئ‪ ،‬حيث بدأ مجع من النظارة يتجمعون بعد سامع خرب قدوم‬
‫اخلليفة‪ ،‬بينام كان جنود يشقون احلشود حاملني رجال طويل القامة‪،‬‬
‫عظيم اهلامة‪ ،‬كث الشعر‪.‬‬
‫املهدي يقف ويقعد‪ ،‬فلام وصلوا صاح هبم‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫اقرتب اجلنود‪ ،‬وجعل‬
‫حل َّراقة‪.‬‬
‫‪- -‬امحلوا الزنديق إىل صدر ا َ‬
‫ضخم الكراديس‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أشقر‬
‫صاح جندي ُ‬
‫‪- -‬سمعا وطاعة يا موالي!‬
‫صعد جنديان عىل حافة السفينة ومد كل منهام يده واضعا إياها‬
‫حتت إبط الرجل الضخم ليجذباه‪ ،‬ثم دفعه ثالثة جنود من ساقيه فوقع‬
‫عىل أرض السفينة متأوه ًا‪ .‬حاول الرجل الضخم مجع شتات نفسه‬
‫وهم يرمونه يف مقدمة السفينة‪ .‬جعل يقلب رأسه الضخم‪ ،‬رافعا إياه‬
‫وهو يغمغم‪.‬‬
‫بدأت مجوع النظارة تتحاشد عىل حافة النهر بعد شيوع خرب أن‬
‫اخلليفة سيقتل شاعر البرصة بشار بن برد‪ .‬اشتد الزحام قرب السفينة‬
‫حتى كاد بعض الفضوليني يسقطون يف املاء‪ ،‬فوقفت جمموعة من اجلند‬
‫سدّ ا بينهم وبني حافة النهر‪.‬‬
‫وسط الزحام‪ ،‬كان ٌ‬
‫طفل يف عامه التاسع متشبثا بيد أمه‪ ،‬وعيناه‬
‫اجلاحظتان الواسعتان تدوران برسعة‪ ،‬متأملتني كل التفاصيل‪ .‬كانتا‬
‫خترتقان احلشود‪ ،‬وتعودان إىل هامته‪ ،‬وقلبه يكاد ين ُْزو من بني أضالعه‬
‫َف َرق ًا‪.‬‬
‫اشتد الزحام‪ ،‬ثم خ ّيم السكون انتظارا لكالم اخلليفة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫امتأل الطفل هيبة وهو يتأمل اخلليفة املهدي مرتبع ًا‪ ،‬والرشر يتطاير‬
‫من عينيه وهو ينظر شزرا إىل بشار بن برد قائال بتوعد‪:‬‬
‫‪- -‬أتؤ ّذ ُن يف غري وقت أذان‪ ،‬يا زنديق؟‬
‫حرك بشار يديه‪ ،‬وز ّم شفتيه وتسارعت حركات عينيه الضخمتني‬
‫اللتني خيرج منهام ما يشبه الدُّ َّم َل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫كر ودعو ٌة للخري ينادي هبا املؤمن متى‬ ‫ِ‬
‫‪- -‬سيدي‪ ،‬وما األذان إال ذ ٌ‬
‫شاء؟‬
‫صاح الوزير يعقوب بن داود‪ ،‬وهو يمدّ سوطا ناحية بشار‪:‬‬
‫شيح عنه بوجهك يا‬
‫‪- -‬كيف تتحدث بحرضة أمري املؤمنني وأنت ُم ٌ‬
‫سكران! يازنديق؟‬
‫وكان بشار ‪-‬ككثري من العميان‪ -‬إذا حتدث رفع رأسه الضخم‬
‫ٍ‬
‫سدر‬ ‫ناظرا جهة السامء‪ ،‬فيتدىل شعره الكثيف عىل كتفيه كشجرة‬
‫صحراوية تائهة‪.‬‬
‫‪- -‬عفوا يا سيدي‪ ،‬فأنا ال أبرص مكان اخلليفة للعاهة التي يب‪.‬‬
‫فقال اخلليفة دون أن ينظر ناحية بشار‪:‬‬
‫‪- -‬اجلدوه!‬
‫قفز اجلندي ذو الكراديس الضخمة وبيده سوط جلدي كأنه‬
‫بمنكبي الشاعر‪ ،‬وأسنداه إىل جانب السفينة‬
‫ْ‬ ‫ثعبان‪ .‬أمسك جنديان‬
‫وبدأت السياط احلامية تنهال عىل ظهر شاعر البرصة‪ .‬وكان كلام وقع‬
‫سوط عىل الظهر الضخم املكتنز حلام وشحام صاح‪:‬‬
‫‪َ - -‬ح ِّس!‪ ...‬آه!‪َ ....‬ح ِّس!‬

‫‪33‬‬
‫وقف الوزير وكأنه يوجه حديثه للحشود املتجمعة التي يوجد فيها‬
‫من َيطرب لشعر بشار ويغني به‪ ،‬ومن كان يفاخر به َ‬
‫أهل األمصار‪،‬‬
‫ومن حيقد عليه‪ ،‬فقال بصوت َج ْه َو ِر ٍّي‪:‬‬
‫«حس» بدل‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬انظروا يا أهل البرصة إىل زندقته؟ كيف يقول‬
‫االستغاثة باهلل‪ ،‬وبدل قول بسم اهلل‪.‬‬
‫سوطي‪:‬‬
‫نْ‬ ‫فقال بشار بصوت مرتفع منتهزا فسح َة ما بني وقع‬
‫‪- -‬ويلك! أطعا ٌم هو حتى أسمي اهلل عليه؟ إنام هي سياط حامية!‬
‫جف ريق الوزير حرج ًا‪ ،‬وتدارك عاممته احلريرية السوداء قبل‬ ‫ّ‬
‫سقوطها‪ ،‬فأمسكها‪ ،‬وقال خماطبا بشارا‪:‬‬
‫‪- -‬وملاذا ال تقول احلمد هلل أهيا الزنديق؟‬
‫حتامل بشار عىل جراحه عاض ًا عىل شفته السفىل‪ ،‬وصاح بصوت‬
‫فيه من األمل ما فيه من السخرية‪:‬‬
‫السياط نعم ٌة حتى أمحد اهلل عليها؟‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬وهل هذه‬
‫كانت عيون املتفرجني وآذاهنم تتلقف احلديث الدائر عىل ظهر‬
‫السفينة بكل دقائقه‪ .‬لكن الطفل ذا العينني اجلاحظتني كان يعيشه بكل‬
‫عرق ينبض يف جسمه األسمر النحيل‪.‬‬
‫مال ٌ‬
‫رجل يلبس ثوبا ُم َع ْص َفرا يقف َ‬
‫جنب الطفل‪ ،‬وقال لصديقه‪:‬‬
‫‪- -‬إن الشاعر أبا معاذ سيقيض حتت السياط! كيف يقتل اخلليف ُة عىل‬
‫رشب اخلمر؟‬
‫أريب مثلك رضبه إياه لرشبه اخلمر؟ وكم يف البرصة‬
‫‪- -‬هل يصدق ٌ‬
‫من حانة مل يسأل عنها؟‬

‫‪34‬‬
‫‪- -‬مل َ إذن؟‬
‫الوزير يعقوب إىل مسامع اخلليفة القصيد َة التي هجاه‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد أوصل‬
‫فيها باالنشغال بامللذات عن مهوم الناس‪ ،‬حني قال‪:‬‬
‫ضاعت خالفتُكم ‪-‬يا قو ُم‪ -‬فالتمسوا‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫والع�ود!‬ ‫ِ‬
‫الن�اي‬ ‫خليف� َة اهلل بــيـ�ن‬
‫وسمع الطفل كالم الرجلني‪ ،‬وحفظ البيت من أول سامع‬
‫كعادته‪ ،‬وكان قلبه خيفق بني أضالعه اهلزيلة التي تغطيها التامئم‬
‫والتعاويذ‪.‬‬
‫تضايق اخلليفة من األخذ والرد الذي وقع بني الوزير والشاعر‪،‬‬
‫احلراقة‬
‫فخيش أن تؤثر كلامت بشار يف بعض النفوس فأشار لقائد ّ‬
‫بالتحرك‪.‬‬
‫وابتعدت السفينة عن حافة النهر‪ ،‬وابتعد صدى األنّات املكتومة‬
‫للجثامن الضخم الذي ما زالت السياط اجللدية تنهشه‪ .‬وحتركت‬
‫ُ‬
‫الطفل ذو العينني‬ ‫اجلموع عن الشاطئ عائدة من حيث أتت‪ ،‬وأكثر‬
‫اجلاحظتني يف االلتفات وراءه‪ ،‬ويدُ ه اليرسى عىل قلبه‪.‬‬
‫كانت أمه تسحبه من يده مستحث ًة إياه عىل اإلرساع‪ ،‬فيام كان يشعر‬
‫وخدَ ِر يف ركبتيه النحيلتني‪.‬‬
‫برعدة َ‬
‫***‬
‫بات الطفل يتقلب يف فراشه‪ ،‬وحلافه األسود قد انحرس عن جسده‬
‫لكثرة اضطرابه يف مضجعه‪ .‬ذرا ُعه الطويلة الدقيقة ملتوية حتت خده‬
‫اليرسى‪ ،‬ويده اليمنى بني ركبتيه‪ .‬أما رأسه الصغري ذو الشعر األجعد‬
‫ٍ‬
‫فمنحن جتاه صدره‪ ،‬وهو يغط يف نوم عميق رغم تقلبه واضطرابه‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫طار قلب أمه َف َرق ًا وهي حتاول إيقاظه دون جدوى‪ .‬إذ تعودت‬
‫عىل وثوبه من النوم ‪-‬كأنه سرِ ْ ٌ‬
‫حان‪ -‬عند أول نداء‪ .‬أما هذا الصباح‬
‫فكأنام حتاول إيقاظ ميت!‬
‫‪- -‬قم يا عمرو‪ !..‬فقد انتصف النهار!‬
‫مل ينم الطفل البارحة إال بعد نوم البرصة كلها؛ فقد وقفت صورة‬
‫الرجل الضخم برصاخه املكبوت بينه وبني النوم‪ .‬كلام داعب النو ُم‬
‫جفونَه ّ‬
‫رن يف أذنيه صدى استغاثة الشاعر‪ ،‬أو شامتة أحد النظارة‪ ،‬أو‬
‫َش َخص أمامه اجلندي ذو الكراديس بسوطه املخيف‪.‬‬
‫متلمل يف فراشه متشبثا بلحافه‪ ،‬وفتح ع ْين ْيه فرأى أمه منتصب ًة فوق‬
‫رأسه‪ .‬جلس مستعيذا باهلل من الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫وخشيت عليك! قم يا ولدي واذهب إىل‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد ارتفع النهار‪،‬‬
‫اخلباز‪ ،‬فقد حان وقت ذهابك للكتاب‪ ،‬وأخشى عليك من عصا‬
‫معلمك‪ .‬جلس فاركا عينيه‪:‬‬
‫‪- -‬أخزاه اهلل وأخزى عصاه‪.‬‬
‫‪- -‬ال تقل ذلك يا ولدي‪ .‬أرسع!‬
‫رب‪ ،‬فاجتاز بجانبه ب ّغال ُي ّ‬
‫غني‬ ‫خرج الطفل ماشيا وسط الطريق املغ ِّ‬
‫ُ‬
‫البغال بسوطه إىل‬ ‫وعىل ظهر بغلته أعوا ٌد طوال حداد األطراف‪ .‬أومأ‬
‫الطفل ‪-‬دون أن يقطع غناءه‪ -‬ليبتعد حتى ال تؤذيه العيدان‪ ،‬فالتصق‬
‫مرت‬
‫ْ‬ ‫الطفل باحلائط‪ ،‬فاندس أنفه يف جلباب امرأة عطرة األثواب‬
‫مرسع ًة‪.‬‬
‫الفران‪ .‬كان‬ ‫ِ‬
‫العطر الغريب عىل أنفه وهو يدخل إىل ّ‬ ‫استنشق بقايا‬

‫‪36‬‬
‫اخلباز ُمل ّث ًام كعادته‪ ،‬ومنهمكا يف خمبزه املكتظ دائام‪ .‬يتزاحم أطفال احلي‬
‫فكل ُي ِد ُّل بسابق معرفة أو سالف‬
‫وغلامنه داخل املخبز فتكثف حرارته‪ٌ .‬‬
‫معروف ليقدمه عىل غريه‪.‬‬
‫ترتفع األيدي النحيلة يف اهلواء وسط دخان املخبز املتصاعد‪،‬‬
‫واألصوات املختلطة تنادي‪:‬‬
‫‪- -‬رغيفني باهلل عليك!‬
‫‪- -‬مخسة أرغفة‪ ،‬مواليت تستعجلني!‬
‫وقف الطفل مكتفيا بالنظر إىل اخلباز امللثم؛ فاخلباز يعرف بالضبط‬
‫كم رغيفا يريد‪ .‬إذ يكاد يعرف كم لقمة تقع يف جوف كل واحد من‬
‫سكان حي بني كنانة بالبرصة‪ .‬بعد حلظات‪ ،‬ناول الفتى ثالث َة أرغفة‬
‫اخلباز خياطب فتى من‬
‫َ‬ ‫ساخنة‪ .‬وبينام كان الفتى يضعها يف مخِ الته سمع‬
‫فتيان العطارين ذا ذؤابتني طويلتني قائال‪:‬‬
‫‪- -‬تعال يا شاعر‪ ،‬هل سمعت بام وقع لبشار بن برد أمس؟‬
‫ُ‬
‫السياط احلامية‬ ‫وشخصت‬
‫ْ‬ ‫ارتعد الفتى وهو يسمع اسم بشار‪،‬‬
‫والرصاخ واالستغاثات والشامتة أمام عينيه‪.‬‬
‫ظل الفتى ذو الذؤابتني يبتسم مداعبا ذؤابته اليمنى بيده‪ ،‬ناظرا‬
‫صوب إحدى اجلواري دون أن يويل كالم اخلباز اهتامما‪.‬‬
‫رفع اخلباز وجهه متأمال الزقاق الضيق ليتأكد من غياب رجال‬
‫ِ‬
‫احلسبة الذين يفرضون عليه التقنع كي ال يتساقط الشعر يف اخلبز أزال‬
‫قناعه ورماه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد قىض شاعر البرصة أمس حتت سياط اخلليفة‪ .‬مات شاعر‬

‫‪37‬‬
‫البرصة‪ ،‬لقد قتله الشعر‪ .‬وأنت أهيا الفتى تريد أن تصبح شاعرا‪.‬‬
‫اخلبز والعجن أفضل لك يا بني من شعر يقود للموت جلد ًا‪.‬‬
‫ثم ضج املخبز الدافئ بالضحكات‪.‬‬
‫ّ‬
‫استل الصبي نفسه من زحام املخبز‪ ،‬لتزدحم صور وأفكار كثرية‬
‫يف رأسه‪.‬‬
‫كان يفكر يف الشعر الذي حيفظ منه عرشات القصائد‪ ،‬متسائال‬
‫ما قيمة الشعر والعلم واجلاه إذا كان يقود ملهاوي الردى؟ تذكر قول‬
‫أمه‪ :‬لن تغني عنك هذه القصائد شيئا‪ ،‬وعرشون سمكة أكثر فائدة‬
‫من مائة قصيدة‪.‬‬
‫عاد الصبي إىل بيته‪ ،‬ومضغ رغيفه دون شهية‪ .‬مضغه كأنه سعف‬
‫ٍ‬
‫نخلة يابس‪ ،‬ثم أرسع إىل ال ُكتَّاب‪.‬‬
‫ما إن دخل الساحة الواسعة املؤدية إىل بيت معلمه حتى شاهد كلبا‬
‫ضامر البطن‪ ،‬يركض جهة ٍ‬
‫صبي واقف يمحو لوحه عند‬ ‫ِ‬
‫الشدق‬ ‫َه ِر َ‬
‫يت‬
‫َ‬
‫جذع شجرة‪.‬‬
‫الكلب عىل الطفل وأطبق أسنانه عىل طرف وجهه فسقط‬
‫ُ‬ ‫هجم‬
‫مغشيا عليه‪ .‬انحرس جانب وجهه عن عظم الفك األيرس والوجنة مما‬
‫ييل العني حتى الفك‪.‬‬
‫فاهنالت األلواح اخلشبية من‬
‫ْ‬ ‫تصارخ الصبية‪ ،‬وجاء املعلم يركض‪،‬‬
‫كل جانب عىل الكلب الذي ظل ينبح حتى حتول نباحه إىل أنني حتت‬
‫وقع األلواح والعيص ورصخات األطفال‪.‬‬
‫ظل عمرو واقفا يف مكانه ال يتحرك‪ ،‬وقلبه خيفق‪ ،‬مقارنا ‪-‬يف‬

‫‪38‬‬
‫دخيلة نفسه‪ -‬بني موت الكلب حتت ألواح أطفال الكُتاب‪ ،‬ووقع‬
‫السياط‪.‬‬
‫***‬
‫ال تكاد الشمس تخُ ِ‬
‫رج حاجبها مطل ًة عىل هنر سيحان بالبرصة‬
‫حتى تكتظ جنباتُه بالسماّ كني والصيادين والباعة والفضوليني‪ .‬كانت‬
‫جمموعة من املالحني تقرتب من حافة النهر وهي تغني أهازجيها بعد‬
‫وجوههم مرهق ًة بعد ساعات طويلة من الصيد‬
‫ُ‬ ‫بدت‬
‫ليلة اصطياد‪ْ .‬‬
‫والغناء‪ ،‬والقصص امللفقة واألحالم السخيفة‪.‬‬
‫اقرتب الزورق الصغري رويدا رويدا من حافة النهر حيث يقف‬
‫عمرو‪ .‬كان وجهه قد َب َق َل‪ ،‬فبدا أقرب إىل الفتوة منه إىل الطفولة‪ ،‬أو‬
‫هو واقف حائر ما بني صالبة الفتوة وغضاضة الطفولة كانت عيناه‬
‫تتأمالن حركات الزورق الصغري‪ ،‬وذهنه ‪-‬الذي ال يفرت عن املقارنة بني‬
‫الشبهبني احلياة واألهنار‪ .‬فاحلياة مغرية دائام؛‬
‫َ‬ ‫األشياء واألفكار‪ -‬يتأمل‬
‫مع جهل اإلنسان بام ختبئه أحشاؤها املعتمة‪ .‬فهي مكونة من موجات‬
‫تعلو باإلنسان لتغرقه يف األماين البيض‪ ،‬وموجات أخرى هتبط به إىل‬
‫قاع اليأس رامي ًة إياه يف متاهات التيه‪ .‬ما احلياة إال هنر هائج ال يدري‬
‫راكبه أين ستأخذه أمواجه الطامية! فهل سيعود املسافر ظافرا بالآللئ‬
‫واألماين الشهية‪ ،‬أم ستفرتسه أول موجة ليتحول جث ًة تافه ًة تضيق هبا‬
‫كل موجة فرتميها جلارهتا؟‬
‫ما كاد الزورق الصغري يالمس حافة النهر حتى صاح عمرو‬
‫وقد ُمه تكاد تنزلق يف النهر‪:‬‬
‫أتيت بام يكفي من سمك الش ّبوط؟‬
‫‪- -‬هل َ‬

‫‪39‬‬
‫‪- -‬قاتلك اهلل! واهلل ال أرى يومي هذا إال يوما ِ‬
‫نكد ًا‪ .‬ملاذا كان أول‬
‫من تلقاين أنت؟‬
‫صائر إليه! والنكد بني‬
‫ٌ‬ ‫جئت منه وما أنت‬
‫‪- -‬النكد ما أنت فيه وما َ‬
‫يفر النكد‬
‫يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شاملك؟ وهل ُّ‬
‫من النكد‪...‬؟‬
‫ضحك الصيادون رغم اإلرهاق البادي عىل وجوههم وهم‬
‫فأكب عىل احلمولة ينتقي منها انتقاء‬
‫ّ‬ ‫يتقافزون من الزورق‪ .‬أما الغالم‬
‫ِ‬
‫املاهر‪ .‬كانت ذراعه النحيلة تروح وجتيء داخل سالل السمك‪ .‬وكان‬
‫إذا انتقى سمكة تأ ّملها قليال ثم رماها وراءه لتستقر بمهارة داخل‬
‫جراب جلدي واسع م ٍ‬
‫ثبت عىل ظهره‪.‬‬ ‫ُ‬
‫عيني الفتى األسمر ال ختطئان هدفا وال يتوارى‬
‫وتذكر الصياد أن ْ‬
‫عنهام شارد‪ ،‬فبادر‪:‬‬
‫اسمع يا عمرو‪ ،‬ال تأخذ َّ‬
‫كل الشبوط‪ .‬خذ منه واترك لغريك‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫‪--‬‬
‫ٌ‬
‫منهمك يف شد أمتعة عىل ظهر محار أشهب‪ ،‬قائال‬ ‫التفت صياد آخر‬
‫بعربية فيها ن َف ٌس فاريس‪:‬‬
‫‪- -‬أنت تناديه عمرو؟ كل الناس هنا ينادونه اجلاحظ‪.‬‬
‫ثم التفت إىل الفتى وقال بالفارسية‪:‬‬
‫‪- -‬تُو اجلاحظ َه ْستى!‬
‫كان الفتى قد فرغ من اإلغارة عىل السمك بعد أن انتقى منه ما‬
‫ودسها يف يد الصياد وقال بابتسامة واثقة ساخرة‪:‬‬
‫شاء‪ ،‬فأخذ دراهم ّ‬
‫ألخف عىل اللسان وأسبق إىل الذهن‪ ،‬وإن‬
‫ّ‬ ‫اسم عمرو‬
‫‪- -‬واهلل إن َ‬

‫‪40‬‬
‫اجلاحظ لتبدأ بحرف ُم ْستَص َع ِ‬
‫ب النطق‪ ،‬فلامذا تستبدل الذي هو‬
‫أدنى بالذي هو خري؟‬
‫مبتسمي‪ ،‬وأدبر الفتى شاق ًا طري َقه بني زحام‬
‫نْ‬ ‫وترامق الصيادان‬
‫ّقي بقايا السمك املتناثرة‬
‫املارة والباعة‪ ،‬رافعا أسفل إزاره الداكن ليت َ‬
‫عىل األرض‪.‬‬
‫هنر سيحان وراءه‪ ،‬سالكا أزقة قادته إىل درب الطويل‪.‬‬
‫ترك َ‬
‫درب ال ّطويل ضاجا باحلركة‪ ،‬لكن ضجيج األفكار واخلواطر‬ ‫كان ُ‬
‫التي تكتظ هبا مججمة الفتى أعىل من أي ضجيج‪ ،‬حيفظ درب الطويل‬
‫عن ظهر قلب‪ ،‬بل يكاد يعرف كل أرسار هذا الدرب املرت ِع بالفضائل‬
‫والفضائح‪ ،‬بدا له الدرب يف هذه الساعة مكتظا باملارة عىل جانبيه أكثر‬
‫من املعتاد‪.‬‬
‫سلك الدرب الواسع فقاده إىل الساحة الفسيحة الواقعة عند‬
‫مدخل سوق البرصة الكبري‪ .‬جتاوز املسجد عن يساره قاصدا الباب‬
‫املقوس للسوق‪ .‬وقبل ُو ُل ِ‬
‫وجه سمع تلك اجلملة التي طاملا‬ ‫األمحر ّ‬
‫سمعها تنبعث من خيمة الوبر املرضوبة أمام خانقاه الصوفية قرب‬
‫مدخل السوق عىل اليمني‪:‬‬
‫الغرور!‬
‫ْ‬ ‫متاع‬
‫‪ُ --‬‬
‫كان الصوت اخلارج من اخليمة يمط كلمة الغرور مطا طويال‬
‫حتى تكاد نفس صاحبه تتقطع رغم خمارجه الفخمة وصوته القوي‬
‫مه ِدي عىل‬
‫احلاد‪ .‬ابتسم الفتى متذكرا كيف كان يرتاهن هو وصدي ُقه ْ‬
‫مط صاحب‬ ‫الركض من جانب املسجد ليصال باب السوق قبل هناية ّ‬
‫الصوت كلم َة الغرور‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ال حيب الفتى مكانا حبه سوق البرصة ودرب الوراقني‪ .‬فهنا‬
‫يروج كل يشء‪ .‬بدءا من العلم الذي تنوء به كواهل الوراقني الرائحني‬
‫الغادين‪ ،‬إىل الكذب الذي يرتدد عىل ألسنة الباعة وهم يقسمون عىل‬
‫أسعار بضائعهم‪ ،‬إىل وعود املدينني لدائنيهم‪.‬‬
‫ومن أسباب حب الفتى للسوق غرامه بتأمل التشابه الدفني بني‬
‫جانبي‬
‫ْ‬ ‫األشياء املختلفة ظاهريا عند الناس‪ .‬فالسقائف الرابطة ما بني‬
‫السوق تُظِ ُّل ُس َحن ًا خمتلفة‪ ،‬وأمشاجا وأخالطا ال جتتمع بمكان يف الدنيا‬
‫عيني الفتى تظالن تلتقطان أوجه التشابه بني‬
‫إال يف هذه املدينة‪ .‬غري أن ْ‬
‫الس َح ُن تعلو وهتبط يف دروب السوق‬
‫تلك السحن واألمشاج‪ .‬كانت ُّ‬
‫الضيقة أمامه‪ ،‬وأذناه ترشئبان تطلع ًا لسامع نبض احلياة‪ ،‬وتلتقطان‬
‫هلجات ولغات متباينة تضج هبا أروقة السوق املتعرجة‪.‬‬
‫كان يسمع اللسان الفاريس بم ّطاته احللوة‪ ،‬واللهج َة البدوية‬
‫الصقيلة وسط هلجات عربية ولكنات هجينة أخرى‪ ،‬وهو يضحك‬
‫يف نفسه قائال‪ :‬واهلل ما البرص ُة إال حسناء يتعاقب عليها األزواج فتلد‬
‫األمحر واألصفر واألسود‪ ...‬ومن رأى تداخل األهنار يف أطرافها‬
‫العرض‪.‬‬‫بغي مستباحة ِ‬ ‫ِ‬
‫وكثرة السفن الواردة عىل موانئها‪ ،‬خييل إليه أهنا ٌّ‬
‫سمع من يناديه‪:‬‬
‫‪- -‬اجلاحظ!‬
‫ال يركض حايف القدمني‪ ،‬مرتديا جب ًة‬
‫سه ً‬
‫التفت فرأى صديقه ْ‬
‫قذرةً‪ .‬فبادره قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما وارءك؟‬

‫‪42‬‬
‫غضن ًا خدَّ ه‪:‬‬
‫ابتسم سهل بن هارون العب ًا بجفنه األيرس‪ُ ،‬م ِّ‬
‫‪- -‬هل ترى تلك الفتاة؟ لقد حادثتُها فشتمتْني‪ ،‬ولوال أبوها الذي‬
‫فعلت ذلك!‬
‫ْ‬ ‫معها ملا‬
‫قال اجلاحظ والريق يكاد يتطاير من فيه‪:‬‬
‫افرتضت أهنا ما صدّ تْك إال لوجود أبيها‪ ،‬ومل ْ تفرتض أهنا‬
‫َ‬ ‫‪- -‬مل‬
‫برزت يف هذه‬
‫َ‬ ‫شتمتك لقذارة ُج ّبتك وخلق قميصك! واهلل لو‬
‫الستعاذت باهلل منك!‬
‫ْ‬ ‫جلنية يف ٍ‬
‫فالة‬ ‫الصورة ٍ‬

‫ما زاد سهل عىل التبسم وهو يعيد النظر جهة الفتاة‪ ،‬العب ًا بطرف‬
‫عاممته املسرتخي عىل صدره‪.‬‬
‫سهل مبتسمة‪ .‬فتسارعت دقات قلبه‪،‬‬‫ٍ‬ ‫دارت الفتاة والتفتت جهة‬
‫رافعا يده إىل صدره‪ ،‬وقبل أن يكمل إشارته هلا سمع صوتا يناديه من‬
‫خلفه‪:‬‬
‫‪ِ --‬‬
‫اتق اهلل يا سهل! ما هذا اللعب يف السوق وعىل رؤوس الناس؟‬
‫التفت سهل فرأى شابا يلبس جبة سوداء نظيفة‪ ،‬معتجرا عاممة‬
‫بيضاء ناصعة اللون‪ ،‬مرخيا طرفها بني كتفيه‪.‬‬
‫اقرتب الشاب‪ ،‬فلم يزد سهل عىل أن سلم عليه وهو يقول بارتباك‪:‬‬
‫‪- -‬كيف حالك يا عيل؟‬
‫رفع الشاب برصه عن األرض وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬أنا بخري‪ ،‬لوال أين رأيتك ت َُش ِّب ُ‬
‫ب بفتاة متيش وراء أبيها‪ .‬أال تعلم‬
‫أن هذا ال جيوز؟‬
‫كان الفتى –رغم حداثة سنه‪ -‬يتحدث بألفاظ فخمة‪ ،‬ووقار‬

‫‪43‬‬
‫الفت‪ .‬فشعر اجلاحظ باخلجل وأن الفتى يكربه سنا‪ ،‬مع أن وجهه‬
‫الطري وشاربه الذي مل ينبت ييش بأنه يف عمره‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يتشبث بجرابه اجللدي اململوء سمكا وهو يص ّعد‬
‫النظر يف الشاب‪ ،‬بينام صمت سهل بن هارون ُهنيهة‪ ،‬ثم قطع الصمت‬
‫واالرتباك‪:‬‬
‫‪- -‬جزيت خريا عىل النصيحة يا عيل‪ ،‬وأنا يف عجلة من أمري‪.‬‬
‫نظر اجلاحظ إىل الفتى نظرة متجهمة‪ ،‬ثم مد يده اليرسى وجذب‬
‫هبا صديقه سهل‪ ،‬أما يده اليمنى فظلت متشبثة بطرف اجلراب اجللدي‬
‫الذي عىل كاهله‪ .‬وانطلقا يمشيان وسط الزقاق الضيق املؤدي لسوق‬
‫الوراقني‪.‬‬
‫التفت اجلاحظ إىل سهل وقال‪:‬‬
‫‪- -‬من هذا الطفل‪/‬الكهل؟‬
‫‪- -‬هذا عيل بن املديني‪ .‬كان معي يف الكتاب‪ ،‬وكان ظريفا غري أنه‬
‫منذ أشهر يريد أن يصبح سفيان بن عيينة يف غداة واحدة‪.‬‬
‫وراق عىل يمني الزقاق‪ .‬ما إن دخال حتى‬
‫دلف الفتيان إىل أول ّ‬
‫وقف صاحبه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أهال! هل أتيت بش ّبوط؟‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬هو ذا‪.‬‬
‫أشار الوراق إىل أحد غلامنه فتقدم وأخذ السمك‪ .‬تقدم اجلاحظ‬
‫وسهل وجلسا يف طرف مجاعة من الرجال كانت جتلس ِ‬
‫عاصب ًة حول‬
‫أيب حممد الوراق‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫عاد الوراق إىل مكان جلوسه وسط الرجال املتحنكني بعامئمهم‪.‬‬
‫قميصه غري ٍ‬
‫منتبه للحديث‪ ،‬فلام رأى الشبوط‬ ‫ِ‬ ‫وكان ٌ‬
‫شيخ منشغل بفليْ‬
‫هي َّيأ للشواء نشط وانتبه‪ ،‬ورفع برصه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما أخبار الناس؟ وما الوارد من بغداد؟‬
‫فرد عليه الرجل اجلالس بجنبه‪:‬‬
‫‪- -‬لقد ُبويع يف بغداد هلارون الرشيد باخلالفة بعد وفاة اهلادي الذي‬
‫كان حبسه ليخلعه من والية العهد‪ .‬كام كان قد ح َبس حييى بن‬
‫َ‬
‫والفضل لقرهبام من هارون الرشيد‪.‬‬ ‫الربمكي‬
‫َّ‬ ‫خالد‬
‫حترك رجل آخر عميق احلدقتني وهو يمسح حليته وحيك أسفل‬
‫ذقنه‪:‬‬
‫ق�رب الش�عراء وأغ�دق عليه�م‬
‫س�معت أن حيي�ى الربمك�ي ّ‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫األعطيات‪ .‬وأن الرجل ربام أتى بقصيدة يمنحه عليها ألف دينار‬
‫عد ًا ونقد ًا‪.‬‬
‫قال الوراق‪ ،‬وهو ينظر للسمك وقد مسته النار‪:‬‬
‫‪- -‬آل برمك أرسة إدارة وسياسة‪ .‬كان جدهم برمك جموسيا من‬
‫كبار خدام بيوت النار بكابول‪ .‬وسمعت أن الرشيد وحييى أكثر‬
‫من أخوين‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يستمع إىل حديث القوم وهو جالس يف طرف املجلس‬
‫والغبار املتصاعد من وراء العتبة يلفح وجهه أحيانا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مما ييل الباب‪،‬‬
‫تلتقط أذناه املرهفتان كل مفردة يفوه هبا الرجال‪ .‬أما عيناه فتسافران بني‬
‫الوجوه‪ ،‬وسقف الدكان‪ ،‬والكتب والباعة واملارين يف الزقاق‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ومع زوغان برصه بني تلك التفاصيل‪ ،‬ما كانت تضيع صورة أو‬
‫فكرة دون أن هيضمها ويق ّلبها عىل وجوهها‪ .‬كان يضع يده اليرسى‬
‫حتت ذقنه وهو ينصت حلديث الوراق عن الربامكة‪:‬‬
‫‪- -‬حييى الربمكي هذا يرضب به املثل يف الكرم‪ .‬فإذا كان بينكم من‬
‫يقرض الشعر فليذهب إليه ليعو َد لنا باألمحر واألصفر‪ .‬فالربامك ُة‬
‫ال َي ُعدُّ ون ألف دينار شيئا‪.‬‬
‫قارن اجلاحظ بني الدوانيق التي يكسبها بعد ساعات من اجللوس‬
‫عىل النهر‪ ،‬وألوف الدنانري التي يقبضها شاعر يف ملح البرص‪ ،‬فخفق‬
‫قلبه‪ .‬ثم تذكر أمه التي تركها يف البيت واقفة بني العجز والفقر‪ ،‬مفكرا‬
‫كيف ستكون لو جاءها يف يوم واحد بألف دينار‪ ،‬وهي التي مل متلك يف‬
‫حياهتا عرشين دينارا‪.‬‬
‫ختيل نفسه ناظام قصائد طواال يف مدح حييى الربمكي وهارون‬
‫الرشيد‪ .‬لكنه ما لبث أن شعر بوخز بني أضالعه‪ .‬غاب عنه حديث‬
‫ٍ‬
‫ونظارة‬ ‫جل ْلد‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫شاعر يئن حتت ا َ‬ ‫الوراق‪ ،‬وذهب خياله إىل صورة‬
‫ٍ‬
‫وسياط تعلو وهتبط يف مقدمة سفينة‪.‬‬ ‫يصفقون‪،‬‬
‫رأسه وكأنه يطرد األفكار التي‬
‫هازا َ‬
‫أزال يرساه من حتت ذقنه ّ‬
‫غزته‪ ،‬متأمال الزقاق املكتظ باملارة‪.‬‬
‫***‬

‫‪46‬‬
‫الدوحة‪1438 ،‬هـ‬

‫دخل القروي إىل الكافيرتيا فاستقبلته رائحة البن املمزوجة‬


‫بروائح الطعام الطازج ودخان التبغ‪ .‬ملح الفتاة املضغوط َة يف بنطال‬
‫اجلينز جالسة يف الركن وحيدة‪ .‬كأهنا فكر ٌة مهملة‪ .‬كانت أول مرة يراها‬
‫دون صاحبة البطاطا البدينة‪.‬‬
‫أخذ قهوة كابتشينو وعاد إىل وسط الكافترييا وجلس مهموما‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ساعات لتفكريه يف إمكانية إنجاز النص الذي يكتبه‬ ‫مل ينم البارحة‬
‫عن اجلاحظ‪ .‬كان كلام كتب فقرات عاد وحماها‪ .‬ومما زاد يف مهه تلك‬
‫االبتسامة اللئيمة من أحد منتجي النرشات البارحة‪ ،‬إذ قال يف هناية‬
‫نقاش وكأنه يعنيه‪:‬‬
‫‪- -‬كتابة النصوص لألفالم ف ٌن اليتقنه املتمرسون!‬
‫تذكر تلك العبارة‪ ،‬وختيل نفسه فاشال يف املهمة‪ .‬خيل إليه أن طعم‬
‫مر‪ ،‬فأعاد الكوب إىل الطاولة بتضايق‪ .‬ثم جاءه صوهتا‪:‬‬ ‫القهوة ّ‬
‫‪- -‬أهال حممد‪ ،‬ممكن نتحدث؟‬
‫‪- -‬جدا‪ ،‬يا مرحبا‪.‬‬
‫أشارت إىل الكريس‪ ،‬فجلس إىل جانبها‪.‬‬
‫‪ - -‬كيف أهلنا يف شنقيط؟‬

‫‪47‬‬
‫فاجأته هلجتها‪ .‬إذ كان يظنها من دولة عربية مع ّينة لطريقة لبسها‪.‬‬
‫غري أن حياته يف اخلليج علمته أن اخلليجيني هم أكثر من يستخدم‬
‫عبارة الشناقطة‪ .‬فقال هلا وكأنه ينتزع نفسه من الكآبة التي كانت تُظلل‬
‫مزاجه‪:‬‬
‫‪- -‬متام‪ ،‬مدفونون يف بحر الرمال!‬
‫‪- -‬حرام عليك‪ ،‬كيف؟‬
‫‪- -‬تلك املنطقة كان يسميها بعض املؤرخني «بحر الرمال»‪ .‬أما‬
‫واملنكب الربزخي!‬
‫َ‬ ‫املؤرخون الشناقطة فيسموهنا البالد السائبة‪...‬‬
‫لفت انتباهها حتلله من العقد التي تعشعش يف أذهان معظم‬
‫زمالئها‪ُ .‬ع َقدُ املناطقية واهلويات املصنوعة صناع ًة من طرف املستعمر‪،‬‬
‫فاستزادته قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬أي املؤرخني يسميها بحر الرمال؟‬
‫‪- -‬وصفها ابن خلدون هبذا الوصف‪ ،‬أما ياقوت احلموي فقال يف‬
‫«معجم البلدان» عندما أراد احلديث عنا‪« :‬ومن السوس األدنى‬
‫بحر الرمل وليس‬
‫إىل السوس األقىص مسرية شهرين‪ ،‬وبعده ُ‬
‫وراء ذلك يشء يعرف»‪.‬‬
‫وبعد استظهاره للنص من ذاكرته‪ ،‬رفع عينيه يف السقف وقال‬
‫ُمت ِ‬
‫َظارفا‪:‬‬
‫عرف!‬
‫‪- -‬وأنا ‪-‬يا سيديت‪ -‬من ذلك العامل الذي ال ُي َ‬
‫رفعت هاتفها عن الطاولة وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬وماذا كان يسميها اجلاحظ؟‬

‫‪48‬‬
‫مت بمرشوعه الذي‬ ‫فاجأه السؤال‪ .‬ثم خطر له أهنا قد تكون ِ‬
‫عل ْ‬
‫يعمل عليه‪ .‬فرد باسام‪:‬‬
‫‪- -‬اجلاحظ مل يتحدث عن تلك األماكن‪ ،‬فهي هامشية وبعيدة‬
‫بالنسبة له‪.‬‬
‫‪- -‬كويس!‬
‫‪- -‬مل نتعارف‬
‫‪- -‬أنا حصة إبراهيم‬
‫‪- -‬من وين؟‬
‫‪- -‬من السعودية؟‬
‫وقع جواهبا وقع الصاعقة‪ .‬فالسعودية آخر البلدان التي كان يتوقع‬
‫أن تكون الفتاة منها‪ .‬دارى استغرابه برشفة من القهوة مل ْ‬
‫يذق هلا طعام‪:‬‬
‫‪- -‬من وين يف السعودية؟‬
‫‪- -‬من املنطقة الوسطى‪.‬‬
‫‪- -‬من أي مدهنا بالضبط؟‬
‫مل جتبه‪ .‬فشعر بخجل جيتاحه‪ ،‬ونظر جهة مدخل الكافترييا وقال‬
‫ُمغيرّ ا املوضوع‪:‬‬
‫‪- -‬يف أي األقسام تعملني؟‬
‫‪- -‬أعمل يف قسم أمن املعلومات‪ ،‬بالقسم التقني‪.‬‬
‫ِ‬
‫النفاثات يف ال ُع َقد؟‬ ‫ْ‬
‫‪-‬إذن‪ -‬من‬ ‫‪- -‬أوه‪ِ ،‬‬
‫أنت‬
‫قطبت جبينها خمفية ابتسامة فاترة‪ ،‬وهي تلعب هباتف نوكيا‬
‫املتواضع قائلة‪:‬‬

‫‪49‬‬
‫‪- -‬كيف يعني؟‬
‫رش النفاثات يف العقد» بأن داللتها‬
‫‪ُ - -‬يفرس بعضهم اآلية‪« :‬ومن ّ‬
‫احلالية تقع عىل العاملني يف أمن املعلومات‪ ،‬الذين تلعب‬
‫أصابعهم بأمن الناس وأخبارهم ومعلوماهتم‪ ،‬يعقدون العقد‬
‫اإللكرتونية وحيلوهنا‪.‬‬
‫‪- -‬واهلل هذا التفسري ذكي جدا‪.‬‬
‫مدت يدها إىل هاتفها ناظر ًة يف الرسائل الواردة‪ .‬فانسدل شعرها‬
‫الفاحم عىل اهلاتف‪ .‬فخطر له أن اللقطة يمكن أن تُرسم باحرتاف‪:‬‬
‫وشعر فاحم منسدل عىل أطراف طاولة‪ .‬ثم‬
‫ٌ‬ ‫لقى‪،‬‬
‫هاتف متواضع ُم ً‬
‫ٌ‬
‫خطر له مع ذلكأن الفتاة أبعد ما تكون عن اجلامل‪.‬‬
‫فوجهها طويل قليل اللحم‪ ،‬وعيناها عميقتان‪ ،‬وشفتاها محُ ِايدتان‪،‬‬
‫ُ‬
‫الضاغط له بأن ال‬ ‫ٍ‬
‫مربوعة أقرب للقرص‪ .‬وجسم ييش اجلينز‬ ‫مع قامة‬
‫يشء فيه يدعو لالهتامم أو ِّيل األعناق‪.‬‬
‫رفعت رأسها عن النظر إىل هاتفها‪ .‬فلم تكن تبحث عن يشء‬
‫معي‪ ،‬بل كانت فقدت روح االندفاع يف احلديث لكالمه عن اآلية‪.‬‬ ‫نّ‬
‫فهي ال تضيق بيشء ضيقها باملتدينني‪ .‬ثم محلقت فيه متأمل ًة شفتيه‬
‫الغليظتني وذقنه احلليق قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬ختصصك أدب؟‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ملاذا؟‬
‫‪- -‬من تعلقك باللغة العربية‪.‬‬
‫فاجأه حديثها‪ .‬فهو ال يذكر أن بينهام تعارفا سابقا جيعلها تعرف‬

‫‪50‬‬
‫عنه كل هذا‪ .‬فقبل قليل أشارت للجاحظ‪ ،‬واآلن تتحدث عن ولعه‬
‫بالعربية‪ .‬قال بتضايق وهو ينظر إىل هاتفها التعيس (نوكيا أبو املصباح)‪،‬‬
‫مستغربا استخدامها له مع َك َلف بنات عرصها بآخر موضة يف عامل‬
‫اهلواتف‪:‬‬
‫ِ‬
‫قرأت سرييت الذاتية؟‬ ‫‪- -‬هل‬
‫ارتبكت قليال‪ ،‬ألهنا مل تتوقع سؤاله‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬النفاثات يف العقد‪...‬‬
‫ووقفت‪ ،‬مستأذنة وسط صدمته‪.‬‬
‫اجتاحته موجة أسئلة مفكرا يف هذه الفتاة الغريبة‪ .‬وتساءل يف‬
‫نفسه‪ :‬هل يعقل أن تكون دخلت عىل حاسوبه واطلعت عىل ما يكتب‬
‫وعىل كل ملفاته؟ ثم تساءل عن انطباعاهتا عنه وهي تقرأ كل ذلك دون‬
‫علمه‪ .‬وسط صدمته‪ ،‬أخذت حقيبتها وابتعدت خطوات‪ ،‬ثم رجعت‬
‫ومالت عليه هامسة‪:‬‬
‫‪- -‬باهلل ال تقل ألحد ما قلته لك!‬
‫‪- -‬ال بأس‬
‫‪- -‬أمانة! باهلل أمانة‪ ...‬سأرشح لك الحقا‪.‬‬
‫ِ‬
‫املعقود‬ ‫هز رأسه موافقا‪ ،‬فيام كان أنفه قد اقتبس من رائحة البخور‬
‫ِ‬
‫الفائح من أرداهنا‪.‬‬ ‫بالعطر البارييس‬
‫قت بذاكرته قديام‪:‬‬ ‫أفاق عىل نفسه وهو يردد أبياتا ِ‬
‫عل ْ‬
‫عَ�دِّ ع�ن ذا‪ ،‬فف�ي اخللي�ج نس�ا ٌء‬
‫عط�ر‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫س�بيك منه� َّن‬ ‫فــاتـن�ات َي‬
‫ٌ‬

‫‪51‬‬
‫وارس�م‬ ‫َ‬
‫بأنف�ك ُ‬ ‫فانظ�ر‬
‫ْ‬ ‫خ�ادرات‪،‬‬
‫ٌ‬
‫يرس!‬ ‫ُ‬
‫والـخيال ُّ‬ ‫ص�ور الــحس�ن‪،‬‬
‫َ‬
‫أتبعها نظره وهي تنزل مع السلم‪ ،‬حيث تبادلت التحي َة مع أحد‬
‫الصحفيني الداخلني إىل باب الكافيرتيا‪ .‬لبث يف مكانه قليال حتى قدّ ر‬
‫أهنا جتاوزت غرفة األخبار إىل القسم التقني‪ ،‬فنزل مرسعا إىل مكتبه‪.‬‬
‫جلس وفتح حاسوبه‪ ،‬حماوال طر َد صورهتا من ذهنه‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫البصرة‪180-175 ،‬هـ‬

‫كان اجلاحظ مستلقيا عىل بطنه واضعا مرفق ْيه عىل األرض ويديه‬
‫حتت ذقنه‪ ،‬وهو يتأمل مدينة البرصة من ربوة عالية‪ .‬كان يستلقي داخل‬
‫ص من األخصاص التي يسكنها طالب اخلليل بن أمحد‪.‬‬ ‫ُخ ٍّ‬
‫تأمل البرصة متسائال‪ :‬هل القرب من املحاسن يعمي عنها؟ أم‬
‫البعد يوحي بمحاسن زائفة؟ وإال ما بالنا نكون داخل البرصة فال نرى‬
‫إال قصاب ًا يف ثوبه الوسخ‪ ،‬أو سائال أعور‪ ،‬أو كناسا هيوديا‪ ،‬فإذا خرجنا‬
‫منها رأيناها مكتملة املحاسن بأهنارها ودورها وأسواقها‪ ،‬كأهنا عروس‬
‫جُتىل لعاشق؟‬
‫إن القرب أكرب حاجز عن رؤية املحاسن‪ .‬وإال مل َ ال يعشق معظم‬
‫العشاق إال من ال يقدرون عىل القرب منه‪ ،‬وال يساكنهم؟ لذا يرون‬
‫حماسنه جمتمعة‪ ،‬كام نرى حماسن القمر وهو بعيد‪ ،‬ولعل أحدنا لو‬
‫طار إىل القمر ما رأى منه إال بقعة باهتة حتت قدميه‪ ،‬ولزالت دائريته‬
‫واؤه‪ .‬ثم إن احلسناء نراها مجيلة ما دامت بعيدة‪،‬‬
‫ور ُ‬‫وبريقه ومجاله ُ‬
‫فنرى مشيتها املرتنحة‪ ،‬ونسمع ن َغمها الساحر ونتأمل معاقد احلسن‬
‫البض‪ .‬فإذا التصق هبا عاشقها مل ير منها إال ما قرب من‬
‫يف جسمها ّ‬
‫عينيه فحسب!‬

‫‪53‬‬
‫جلس بتثاقل طاردا تلك األفكار عن ذهنه‪ .‬ذهب خياله بعيدا‬
‫مستعيدا ذكريات جميئه إىل هذا املكان رفقة أ ّمه قبل سنوات طويلة‪.‬‬
‫يذكر جيدا كيف جاء معها عىل عادة أهل البرصة رغم أنه كان شابا‬
‫يافعا‪.‬‬
‫تذكر يوم جاء معها إىل هذا املكان وكيف تقدم أمامها عندما‬
‫وصال فاعرتضهام شاب أمحر يلف عاممة أكرب من مججمته وسأهلام‪ :‬ما‬
‫حاجتكام؟‬
‫بادره اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬نريد رؤية اخلليل بن أمحد‪.‬‬
‫‪- -‬انتظراين هنيه ًة‪.‬‬
‫عاد الغالم بعد قليل طالبا منهام أن يتبعاه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وجه‬ ‫لف مخارها الذي كان مرختيا عىل جانب‬ ‫أحكمت املرأ ُة ّ‬
‫ْ‬
‫عة الشباب الباقية‪ .‬أمسكت بطرف مخارها‬‫طرزتْه الغضون رغم مي ِ‬
‫َْ‬
‫حدقتي عينيها‬
‫ْ‬ ‫وأمر ْت طر َفه لتسمح به حبات العرق املتجمعة حتت‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫وشفتها السفىل‪ ،‬ودخلت مرتبكة‪.‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم‬
‫‪- -‬وعليكم السالم ورمحة اهلل‬
‫ٍ‬
‫طنفسة‬ ‫كان اخلليل جالسا يف ركن الكوخ الواسع‪ ،‬مرتبعا عىل‬
‫خرضا َء نظيفة‪ ،‬وحوله نحو العرشة من طالبه‪ ،‬وبني يديه إناء زجاجي‬
‫مملوء برشاب الرمان‪.‬‬
‫وسادتي جلديتني فجلسا عليهام‪.‬‬
‫نْ‬ ‫قام أحد الطالب ورمى جتاههام‬

‫‪54‬‬
‫سمتَك‪.‬‬
‫علمك ويرى ْ‬‫‪- -‬هذا ولدي عمرو بن بحر‪ .‬جئتك به ليتعلم َ‬
‫فهو ال ّ‬
‫ينفك ينفق كل ما تقع عليه يده لرشاء الكتب‪ .‬وال ينفك‬
‫منذ صغره يسألني عام ال أقدر عىل فهمه‪.‬‬
‫كان اخلليل يستمع حلديث املرأة مطرق ًا ممسك ًا حليته البيضاء بيده‬
‫اليرسى‪ ،‬واضعا كفه اليمنى حتت مرفقه األيرس‪ .‬وكان طالبه حيدجون‬
‫املرأة بأبصارهم عجب ًا‪ ،‬وهي تتحدث وكأهنا تالعب ولدها وهو يف‬
‫عامه الرابع‪:‬‬
‫‪- -‬مل يكن كغريه من أترابه ولِداتِه منذ عقل‪ .‬كنت ال أرمي له كلمة‬
‫أسكتُه هبا عن أمر إال احتج عيل بام َي ْبهتُني‪ ،...‬كنا مرة يف السوق‬
‫فمر بائع عنب فطلب عنقودا منه فقلت له‪:‬‬ ‫وكان يف عامه الرابع‪ّ ،‬‬
‫مرا يف‬ ‫ِ‬
‫مر‪ .‬فقال‪ :‬هل ذقته؟ دعيني أجربه ألحكم‪ ،‬فقد يكون ّ‬ ‫إنه ّ‬
‫حلقك حلو ًا بني فك ّّي‪.‬‬
‫كانت املرأة تتحدث وكأهنا نسيت أهنا يف حرضة أعقل العرب‪ .‬بل‬
‫حتولت إىل أم تروي قصص طفلها إلحدى جاراهتا‪.‬‬
‫تزحزح اخلليل قليال فوق الطنفسة‪ ،‬رافعا وجهه األشيب‬
‫واالبتسامة ال تفارق حمياه‪ ،‬ثم التفت إىل الفتى‪:‬‬
‫صف يل ح َّبك للعلم يا بني‪.‬‬
‫‪ْ --‬‬
‫التفت الغالم إىل الطالب ا ُمل ْط ِرقني وقد سكنت أقال ُمهم ورفعوا‬
‫أبصارهم صو َبه‪ ،‬منصتني ملا يقول‪ .‬أعاد برصه إىل اخلليل وقال بلسان‬
‫ٍ‬
‫صاف‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫وصوت‬ ‫ٍ‬
‫منطلق‬
‫وحب الظمآن‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫والغائب ْأوبتَه‪،‬‬ ‫حب األم ولدَ ها‪،‬‬
‫‪- -‬نعم‪ .‬أحبه َّ‬
‫الصادي للامء الزالل‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫‪- -‬واهلل إنك لفصيح يا بني‪ ،‬ونحن إىل التعلم منك أحوج‪.‬‬
‫قاطعته أم عمرو قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬حبه للعلم عجيب‪ .‬فهو ينفق معظم ما جينيه من بيع السمك‬
‫لرشاء الكتب‪ ،‬ولقد جاء يوما وكنا ننتظره نكاد نقيض جوعا‪.‬‬
‫فوضع اجلراب عن ظهره فلام فتحته وجدته مملوءا كتبا‪ ،‬وكأنه‬
‫نيس فوضع الكتب مكان السمك‪...‬‬
‫ثم اندفعت أم عمرو تضحك بصوت عال‪ .‬شعر اجلاحظ بحرج‬
‫ضحك أمه بني يدي أعقل العرب‪ ،‬وظهر ذلك يف تعرق جبهته‪ ،‬التي‬
‫تكاد تكون املكان الوحيد الذي يفضح مشاعره كلام حاول إخفاءها‪.‬‬
‫ابتسم اخلليل خماطبا أحد أنجب تالميذه إبراهيم بن سيار الن ّظام‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫وأدرجه يف حلقتك‪.‬‬
‫ْ‬ ‫عمر ًا معك‬
‫‪- -‬قم يا إبراهيم وخذ ْ‬
‫حتفز الشاب األسمر النحيف ذو األنف األفطس للوقوف –وهو‬
‫قلمه ما بني طرف أذنه األعىل وصدغه‪ -‬ورحب باجلاحظ طالبا‬
‫يدس َ‬
‫ّ‬
‫منه صحبتَه إىل أحد األخصاص‪.‬‬
‫و َّدع الفتى أ َّمه ثم تبع النظام‪ ،‬سالكا طريقا متعرجا وسط‬
‫أخصاص متناثرة‪ .‬الحظ الفتى ‪-‬وهو يسري خلف شيخه اجلديد‪ -‬أن‬
‫اهل ْينم َة املنبعثة من األخصاص ترتفع كلام ابتعدا عن جملس اخلليل بن‬
‫أمحد‪ .‬بدأت أذنه الواعية تلقط أصواتا متناثرة خترج من هنا وهناك‪.‬‬
‫كان يسري خلف النظام وأمشاج األصوات تتسابق إىل أذنيه حتى‬
‫ال يكاد يستمع لصوت حتى يشغله آخر‪.‬‬
‫حلداء‪ ،‬وسمع ترتيال‬
‫سمع أصواتا تقرأ أشعارا قراءة قريبة من ا ُ‬

‫‪56‬‬
‫ُم ْش ِجي ًا ٍ‬
‫آلي من القرآن‪ .‬غري أنه ما كاد يستمتع بالقراءة املشجية حتى‬
‫ازدادت األصوات املنبعثة من األخصاص تداخال‪.‬‬
‫وصال بعد خطوات إىل خص واسع‪ ،‬فدخل النظام‪ ،‬وتريث‬
‫اجلاحظ ليسمع احلديث الدائر بني رجلني جيلسان حتت شجرية عند‬
‫مدخل اخلص‪:‬‬
‫‪- -‬انطقها كام ينطقها اهلذليون‪ ..‬ال تستطيع! قلت لك ال تستطيع!‬
‫‪- -‬واهلل إين ألستطيع‪.‬‬
‫‪- -‬إن لسانك أكثر التوا ًء من ن ّيتِك‪ .‬وإنك ألكثر عجم ًة من جدك‬
‫وجدتك!‬
‫جاء شاب جيري وبيده خيط رفيع‪ .‬وقف عند زجاجة ضخمة‬
‫مثبتة عىل األرض ثم اتكأ بقرهبا وبدأ يقيسها باخليط‪ .‬كانت عيناه ال‬
‫تكادان تفتحان لتقابلهام مع أشعة الشمس‪ ،‬لكنه ظل صابرا حتى عدّ‬
‫ووصل الرقم مخسة وعرشين‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يرقب ِ‬
‫اجلدّ البادي يف عني الرجل املنبطح عىل‬
‫األرض‪ ،‬واخليط الدقيق املرتجرج بني يديه‪ ،‬فكاد يضحك لوال حاجز‬
‫احلياء‪.‬‬
‫بحصرُ ٍ من جريد النخل‪،‬‬ ‫دلف إىل اخلص‪ .‬كانت أرضيته مفروشة ُ‬
‫والكتب والوسائد متناثرة يف أطرافه‪ .‬ارتبك قليال غري أن الن ّظام دعاه‬
‫للجلوس يف الركن املرتب من اخلص‪ ،‬حيث جيلس شاب ذو ذؤابتني‬
‫تتدليان عىل كتفيه‪ .‬تقدم النظام وخاطب اجلاحظ قائال‪ :‬هذا صديقي‬
‫احلسن بن هانئ أبو نواس‪ .‬ثم التفت لصديقه وقال‪:‬‬

‫‪57‬‬
‫‪- -‬هذا عمرو بن بحر‪ ،‬سيكون رشيكنا يف املسكن والدرس‪.‬‬
‫مدّ يده للفتى بارتباك حماوال تذكر املكان الذي رآه فيه ُ‬
‫قبل‪ .‬أين‬
‫رأى هاتني العينني العميقتني الناعستني‪ ..‬وتينك الذؤابتني املنسدلتني؟‬
‫كان يتأمل الوجه الدائري املشوب بحمرة‪ ،‬وكلام تأمله ازداد شعورا‬
‫بغرابته مع يقينه أنه رآه ُ‬
‫قبل‪.‬‬
‫خطر له أن املرء يرى بعض الوجوه أحيانا فيشعر بأهنا ناتئة عن‬
‫عقله وقلبه‪ ،‬فيقوده ذلك لسوء الظن هبا من أول نظرة‪ .‬وبعض الوجوه‬
‫متلك مفتاحا سحريا تتسلل به إىل قلب املرء دون استئذان‪.‬‬
‫كانت هذه األفكار تلعب بذهنه‪ ،‬بينام انشغل النظام بجمع بعض‬
‫الكراريس واندفع يرتبها‪ .‬جلس اجلاحظ جنب الشاب دون أن يتحدث‬
‫أحدمها لآلخر‪ .‬كان مندهشا من املكان اندهاش الداخل يف مكان‬
‫جمهول‪ ،‬وكان الشاب مستثقال حضور اجلاحظ استثقال صاحب البيت‬
‫لغريب تسور عليه فجأةً‪.‬‬
‫اقرتب النظام وبيده حزمة من الكراريس فجلس يمني اجلاحظ‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف معرفتك بالشعر وأيام العرب؟‬
‫حرضت جمالس األصمعي وأيب عبيدة أشهرا‪ .‬وإذا كان حضور‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫التحريش بني األعراب وكتابة أقواهلم معرفة بالعربية فقد‬
‫شهدت من ذلك ما يغني‪.‬‬
‫مل ُي ِع ْر إبراهيم النظام إجاب َة اجلاحظ كبري اهتامم‪ ،‬بل مل ينتبه ملا قاله؛‬
‫فقد اندهش وهو يتأمل وجهه الشائه كأنه يالحظ معامله للوهلة األوىل‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫عينان بنّيتان واسعتان جاحظتان خييل للناظر أهنام موشكتان عىل السقوط‬
‫لنتوئهام عن احلاجبني الكثني األ َغ َّم نْي‪ .‬وأنف أفطس متوسط احلجم‪،‬‬
‫ونتف من الشعر بدأت تغزو عارضيه عىل‬
‫ٌ‬ ‫حتته خدّ ان كأهنام ُح ِفرا حفر ًا‪.‬‬
‫غري هدى‪ .‬وأسنان متشاكسة تظهر وختتفي بني شفتني غليظتني‪.‬‬
‫أفاق النظام مالحظا انتباه اجلاحظ لتأمل ِخلقته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬لعلك جتد يف صحبة أيب نواس ما ُيعجب و ُيطرب‪ ،‬فهو شاعر‬
‫وفقيه ومتكلم‪.‬‬
‫نظر اجلاحظ بطرف عينه اليرسى إىل أيب نواس‪ ،‬فرآه متشاغال‬
‫بالنظر يف جملد ضخم‪ُ .‬خ ّيل إليه أنه ال يفهم منه شيئا‪ ،‬وإنام يتشاغل عن‬
‫الرتحيب به ِضيقا بحضوره‪.‬‬
‫تفرس أنه من أهل خوزستان‪ ،‬تلك املدينة التي ال يضيق بأحد‬
‫ضيقه بأهلها‪ .‬ثم ذهب خياله بعيدا متذكرا أنه رأى ت ْينك العينني‬
‫الفران القريب‬
‫الناعستني املليئتني باأللغاز‪ ،‬والذؤابتني املنسدلتني عند ّ‬
‫من منزل أهله‪.‬‬
‫ومع غرابة استقبال املضيف للجاحظ‪ ،‬فإنه شعر بسعادة غامرة‬
‫ورغبة يف حفظ وإتقان كل ما يمور به هذا املكان امليلء بالعلم والتجارب‪.‬‬
‫جعل ُيصعد عينيه وخيفضهام يف الكتب املصفوفة والكراريس املتناثرة‪،‬‬
‫مفكرا يف حجم اإلمتاع واألنس العظيمني اللذين ينتظرانه بني هذه‬
‫األخصاص املطلة عىل البرصة‪.‬‬
‫اقرتب النظام من اجلاحظ ليسأله‪:‬‬
‫‪- -‬أي الفنون تود أن تنشغل هبا هذه األيام؟‬

‫‪59‬‬
‫كان اجلاحظ قد بدأ يسرتيح للمكان‪ ،‬وكان الشعور بالغبطة‬
‫مستوليا عليه فأجاب طبقا خلاطره‪ ،‬ال للسؤال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف لرجل م ّن اهلل عليه بصحبة اخلليل أن يرتكه ويعود للعيش‬
‫يف حي بني كنانة؟‬
‫أفاق اجلاحظ من ذكرياته تلك وهو ما يزال جالسا يف مكانه ينظر‬
‫علو‪ .‬وقف متثاقال‪ ،‬ملقيا نظرة عىل الكتب املرصوصة يف‬
‫إىل البرصة من ّ‬
‫طرف اخلص‪ ،‬وخرج حلضور جملس اخلليل‪ ،‬مفكرا يف ذكرى أمه التي‬
‫توفيت منذ أشهر‪.‬‬
‫***‬
‫استيقظ كعادته قبيل الفجر بقليل‪ ،‬واستل نفسه من بني أجساد‬
‫زمالئه‪ .‬وضع رجل ْيه يف نعليه املهرتئتني ومشى خطوات متثاقلة‪ .‬كان‬
‫عازما عىل حضور درس مع أحد أئمة احلديث‪.‬‬
‫األخصاص املرتاصة وراءه‪ ،‬وكان هدوء الليل ينحرس عن‬
‫َ‬ ‫ترك‬
‫أطراف البرصة بتدرج‪ ،‬وأصوات نباح الكالب ختتلط بصياح الديكة‬
‫ونداءات املؤذنني‪ .‬دخل مسجد اإلمام إسامعيل بن علية‪ ،‬فوجدهم‬
‫فرغوا من صالة الصبح‪.‬‬
‫بدأ الطلبة يتزاحفون مقرتبني من ابن علية‪ .‬زحف هو من جهته‬
‫بعد أن صىل رسيعا‪ .‬حترك الشيخ من حمرابه ليجلس عند إحدى‬
‫ب الطالب حوله‪.‬‬
‫السواري و َع َص َ‬
‫تقارب أجساد الطالب‬
‫ُ‬ ‫رطب داخل املسجد‪ .‬وضاعف‬
‫اجلو ساخن ٌ‬
‫يف شكل دائري حول الشيخ من السخونة والرطوبة‪ .‬جلس اجلاحظ‬

‫‪60‬‬
‫مقابل الشيخ‪ ،‬فغشيتْه رائحة املالبس املتسخة واألجساد املتعرقة‪.‬‬
‫بدأ ابن علية ببيان رشف علم احلديث‪ ،‬مذكرا بأن رشف كل علم‬
‫نابع من رشف موضوعه‪ .‬كان يتحدث هبدوء وكأن بقية نعاس ما زالت‬
‫متواري ًة يف حباله الصوتية‪ ،‬رغم القراءة الندية التي قرأ هبا يف الصالة‬
‫قبل قليل‪.‬‬
‫بعد ساعة‪ ،‬اتضحت أوجه الطالب شيئا فشيئا‪ .‬إذ تكاد الشمس‬
‫خترج حاجبها من ك ُّوة املسجد‪ .‬فبدا وجه أنجب طالب ابن علية ‪-‬عيل‬
‫بن املديني‪ -‬شديدَ البياض‪ ،‬مفعام باحلياة‪ ،‬حتى لكأنه الوحيد الذي‬
‫بدت عاممته ‪-‬املكورة‬
‫املتورد‪ .‬كام ْ‬
‫ّ‬ ‫نام نوما هنيئا تفضحه صفح ُة وجهه‬
‫بأناقة حول شعره الفاحم‪ -‬وأن ُفه األقنى وشفتاه الدقيقتان أكثر وسامة‬
‫من ذي قبل‪.‬‬
‫كان اجلاحظ متلففا يف ثوب متخرق بال‪ .‬أطرافه مشققة ولونه ال‬
‫يكاد ُيتَبني‪ .‬وكان أفضل مالبسه طيلسانا أسود ما زال متامسكا يلقيه‬
‫عىل عاتقه‪.‬‬
‫عيل ب َن املديني قائال‪:‬‬
‫رفع الشيخ ابن علية عينيه وخاطب طال َبه َّ‬
‫‪- -‬حدثنا عن رشف علم احلديث!‬
‫كان ابن علية حيب أن يسمع حديث تلميذه املديني‪ .‬فحالوة‬
‫ألفاظه وقوة حجته ووسامته جتعل مثل ابن علية يفخر بأنه من طالبه‪.‬‬
‫تنحنح املديني وقال بصوت واضح‪:‬‬
‫‪- -‬إن رشف كل علم –كام قال الشيخ– نابع من رشف موضوعه‪.‬‬
‫فإذا كان بعض الناس مثال يبكّرون يف مثل هذه الساعة لدراسة‬

‫‪61‬‬
‫الكيمياء‪ ،‬واالنشغال باهليوىل واملنطق اليوناين‪ ،‬فنحن نشتغل‬
‫بكالم خري الربية‪.‬‬
‫ما إن نطق املديني كلمة «خري الربية» حتى صاح شيخ مضطجع‬
‫بني السواري بصوت مرتفع‪:‬‬
‫‪- -‬بأيب هو وأمي! ‪.‬‬
‫فالتفت ابن علية جهة الرجل املضطجع‪ ،‬فقال له املديني‪:‬‬
‫‪- -‬هذا صوت املتجنن رأس النعجة‪.‬‬
‫ثم واصل ابن املديني‪:‬‬
‫فقسم عاكف عىل علوم‬
‫ٌ‬ ‫‪- -‬إن أهل البرصة اليوم منقسمون إىل أقسام‪.‬‬
‫األوائل‪ ،‬ال يفرت عن ذكر أريسطو طاليس وأفالطون وإقليدس‪.‬‬
‫وقسم مستهرت بأخبار العرب وأيامها وأشعارها‪ ،‬وما قال الشاعر‬
‫يف بني فالن وما هجا به بني عالن‪.‬‬
‫فهم اجلاحظ يف كالم املديني غمزا فيه ويف شيخه اخلليل بن أمحد‬
‫هم بأن يتكلم لكنه تراجع‪ ،‬فواصل املديني‪:‬‬
‫وصديقه النظام‪ّ .‬‬
‫وقسم ال شغل له إال أيام موبذان‪ ،‬وما قال أردشري بن بابكان‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫‪--‬‬
‫وما فعل كرسى أنو رشوان‪ .‬وقوم آخرون وفقهم اهلل للعكوف‬
‫عىل سنة املصطفى أيام إدبار الناس عنها‪ ،‬ولعل هذه اجلامعة‬
‫املرحومة من أهل احلديث رأس ذلك‪ .‬جعلنا اهلل من املتمسكني‬
‫بسنة رسوله‪...‬‬
‫ثم جاءت الرصخة من جهة رأس النعجة أقوى هذه املرة‪:‬‬
‫‪- -‬بأيب هو وأمي! ‪ .‬تعيشون من بركاته‪ ،‬وتأكلون الفالوذج من‬

‫‪62‬‬
‫كالمه‪ ،‬ثم تكسلون عن الصالة عليه؟‬
‫سكت اجلميع‪ ،‬بينام كان اجلاحظ يواري ابتسامة‪ .‬لكن ابن علية‬
‫قال بصوت مغضب‪:‬‬
‫‪ -‬صىل اهلل عليه وعىل آله وصحبه وسلم‪ .‬جتن ْبنا يا هذا‪.‬‬
‫قفز شابان من احللقة ليخرجاه‪ ،‬فقام رأس النعجة وركض خارجا‬
‫من املسجد‪ ،‬مراوحا بني الغناء والتصفري‪.‬‬
‫واصل ابن علية حديثه‪ ،‬فيام كانت الشمس قد ارتفعت من جهة‬
‫بدت جبه ُة ابن علية الواسعة‬
‫الكوة فاتضحت األوجه أكثر فأكثر‪ .‬حيث ْ‬
‫وعليها أثر احلىص من الصالة‪.‬‬
‫وختم ابن علية حديثه فاحتا األسئلة ملن شاء‪.‬‬
‫حترك شاب يف طرف احللقة ومال بجسمه دون أن يرتك مكان‬
‫جلوسه‪:‬‬
‫‪- -‬يا شيخ‪ ،‬لقد كثرت علينا األحاديث‪ .‬فام ندري ما نرتك وما‬
‫ندع‪ .‬فلامذا ال نعمد إىل القرآن الكريم فنلزم ما فيه من أمر وهني‬
‫ونطرح ما عداه؟‬
‫يف هذه اللحظة‪ ،‬شخصت األبصار إىل ابن علية يف انتظار جوابه‪.‬‬
‫إذ شهد املسجد بعد صالة العرص أمس حديثا بني بعض طلبة العلم يف‬
‫هذا األمر‪ .‬ثم اتفقوا عىل أن يسأل أحدهم ابن علية‪.‬‬
‫مد ابن علية يرساه جهة كتفيه وخلع طيلسانا كان عليهام رغم‬
‫احلرارة والرطوبة‪ .‬ثم وضعه حتت ركبته اليرسى معتمدا عليه‪ ،‬وقال‬
‫بصوت مفع ٍم باجلدية واالحتشاد‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫أوتيت‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬روينا عن غري واحد من شيوخنا أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬أال إين‬
‫َ‬
‫القرآن ومثله معه»‪ .‬ثم إننا إذا عمدنا إىل القرآن وحده‪ ،‬لن يشفي‬
‫غليلنا يف أمور كثرية‪ .‬فكيف سنعرف مقدار الزكاة يف أموالنا؟‬
‫ومن لنا بمعرفة عدد ركعات الصالة وأوقاهتا؟ ثم من أين‬
‫سنعرف مناسك احلج؟ وأنى لنا بمعرفة رشوط صحة النكاح؟‬
‫كان ابن املديني منتبها أشد االنتباه لكالم شيخه‪ .‬غري أنه ما إن سمع‬
‫خاطره بعيدا‪ .‬فتذكر كيف حدثته أمه قبل أيام‬
‫ُ‬ ‫كلمة النكاح حتى رسح‬
‫عن نيتها تزوجيه من فتاة فاتنة‪ .‬وكيف وصفتها له ذلك الوصف الذي ما‬
‫كان يظن أنه يدور بخاطر أمه املنهمكة يف العبادة أبدا‪.‬‬
‫خفق قلبه وهو يتذكر قوهلا‪:‬‬
‫البدن‪ِ ،‬‬
‫لدن ُة القد‪ ،‬تتثنى يف مشيتها كأهنا‬ ‫ِ‬ ‫غض ُة‬
‫‪- -‬إهنا يا ولدي ّ‬
‫الغريب عن أهله‬ ‫مهه‪ ،‬وتُسيل‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫خوط بان‪ .‬واهلل إهنا لتنيس املهمو َم َّ‬
‫وأحبابه‪.‬‬
‫انتبه املديني‪ُ ،‬مؤنّب ًا َ‬
‫نفسه كيف رسح خاطره عن أحاديث رسول‬
‫اهلل‪ ،‬وبني سواري بيت اهلل‪ ،‬ليفكر يف حماسن فتاة ما زالت أجنبية عليه‪.‬‬
‫فاستغفر وحترك يف مكانه‪ ،‬مراوحا بني اجللوس عىل رجليه‪.‬‬
‫ثم انتبه إىل أن ابن علية قد أهنى اجلواب عىل السؤال‪ ،‬ودخل يف‬
‫احلديث عن جهود أهل األثر يف حفظ السنة‪:‬‬
‫َّ حَْ َ نْ‬
‫‪- -‬إن اهلل سبحانه وتعاىل قد تعهد بحفظ القرآن فقال‪﴿ :‬إِنا ن ُن ن َّزلَا‬
‫ّ ْ َ َّ هَ ُ حَ َ ُ َ‬
‫ون﴾‪ .‬ونحن نرى أن حفظ السنة من حفظ‬ ‫اذلِكر ِإَونا ل لاف ِظ‬
‫القرآن؛ إذ هبا ُي نّبي القرآن و ُيفهم‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫فربزت بوضوح أصوات قراءة‬
‫ْ‬ ‫ثم سكت ابن علية قليال وتنحنح‪،‬‬
‫األطفال يف أحد الكتاتيب القريبة‪ .‬فبادر اجلاحظ سائال‪:‬‬
‫‪- -‬لكن كيف نثبت أن القول الفالين من كالم النبي قطعا؟‬
‫‪- -‬نعرف ذلك بمعرفة الرجال الناقلني والتأكد من صدقهم وضبطهم‪.‬‬
‫‪- -‬لكن هذا ال يصح‪ .‬فلو كان الرجل املعروف بالصدق ال يكذب‪،‬‬
‫واألمني املعروف باألمانة عند الناس ال خيون‪ ،‬والثقة ال َينسى‪،‬‬
‫ُ‬
‫العيش يا شيخ‪ .‬فهذا أمر متعذر عقال‪.‬‬ ‫والويف ال يغدر لطاب‬
‫ُّ‬
‫بدا احلرج يف وجه ابن علية‪ ،‬وانتابته كحة خفيفة‪ ،‬بصق يف منديل‬
‫صويف ثم رده إىل جيبه قائال‪:‬‬
‫ميت يف‬
‫‪- -‬هذا القرآن حمفوظ‪ .‬فلو طارت كل املصاحف اآلن أو ُر ْ‬
‫البحر‪ ،‬الستطاع كل حي من أحياء املسلمني كتابته كامال من‬
‫صدور أطفاهلم‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫‪- -‬بىل!‬
‫‪- -‬وما دام اهلل قد تعهد بحفظه فهو حمفوظ‪ ،‬وحفظ السنة جزء‬
‫من حفظه ألهنا شارحة له‪ .‬ثم إن الثقة ممكنة عقال‪ ،‬والثقات‬
‫معروفون‪ ،‬وبراهني الوقائع تثبت ذلك‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يستمع بانتباه لكالم ابن علية‪ ،‬وكان املديني ينظر إىل‬
‫ردات فعله أكثر من نظره إىل شيخه‪ .‬فقال اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬لوال أن الثقات يكذبون يف آرائهم ملا تناقضت آراؤهم‪ ،‬فنحن‬
‫نرى الرجل من املعروفني بعلم احلديث يدعي أنه التقى فالنا‬
‫وهو مل يلقه‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪- -‬هذا يا ولدي ليس بثقة‪ ،‬وهو جمروح عندنا‪.‬‬
‫‪- -‬لو وجب علينا تصديق املحدث لظاهر عدالته لوجب علينا‬
‫تصديق مثله وإن خالف روايته وناقض خربه‪ ،‬ولو صدقنامها‬
‫لتناقضا ولو تناقضا لصدقنا الضدين‪ ،‬وهذا ال يصح عقال‪.‬‬
‫ثم اشتدت الكحة عىل ابن علية‪ ،‬ورفع عينيه الدامعتني وقال‬
‫للجاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬هذا ما نراه وما ننتحله يا ولدي‪ .‬فإن كنت من أصحاب األهواء‬
‫فاصحب غرينا‪.‬‬
‫وارتفعت غمغامت يف أطراف احللقة‪ ،‬قطعها صوت املديني‪:‬‬
‫‪- -‬إن أهل األهواء مولعون بالشغب عىل أهل السنة‪.‬‬
‫وشعر اجلاحظ باإلساءة‪ ،‬ثم تذكر ما قال له النظام من أن أهل‬
‫احلديث ال يؤاخذون بام يؤاخذ به أهل الفلسفة والكالم‪ .‬فأمسك ومل‬
‫يتكلم‪.‬‬
‫ساد اهلدوء هنيهات‪ ،‬ثم وضع ابن علية يديه عىل األرض ووقف‪.‬‬
‫فوقف بوقوفه كل احلضور وودعوه إىل باب املسجد‪.‬‬
‫عاد ابن املديني إىل مكان جلوس ابن علية وأسند ظهره للسارية‪.‬‬
‫غري أن نصف احلضور انرصف‪ ،‬ومل يبق معه إال فتية ثالثة رابعهم‬
‫اجلاحظ‪.‬‬
‫تنحنح املديني وكأنه حياول تقليد صوت شيخه دون قصد منه‪:‬‬
‫احلق حني قال إن السنة حمفوظة‪ ،‬فهذا مالك بن‬ ‫‪- -‬إن الشيخ مل يعدُ َّ‬
‫أنس ألف كتابا مجع فيه السنة من أفواه التابعني يف املدينة‪ .‬وقد‬

‫‪66‬‬
‫قيض اهلل رجاال ليتتبعوا األسانيد وينقدوها ليميزوا الصحيح‬
‫من السقيم‪.‬‬
‫وتوقف عن احلديث ليمسح حبيبات ٍ‬
‫عرق جتمعن حتت جانب‬
‫عاممته مما ييل صدغه‪ ،‬فبادره أحد الطالب ممن هم أكرب منه سنا‪:‬‬
‫‪- -‬مل َ قبل أهل احلديث الرواية عن أصحاب البدع؟ ومل َ ال تُقرص عىل‬
‫أهل األثر امللتزمني بالسنة؟‬
‫رد املديني يده إىل مستقرها فوق ركبته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال‪ .‬لقد قبل أهل احلديث أحاديث خمالفيهم ألنه ال يمتنع عقال‬
‫وطبع ًا وجود الصادقني بينهم‪ .‬فاخلُ ُلق خصلة معزولة عن الورع‪.‬‬
‫فقد جتد الرجل الذي ال بأس بدينه يرتخص يف الكذب‪ .‬وقد جتد‬
‫يتصون ويأنف من الكذب مروء ًة ال تأث ًام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرجل الذي ال دين له‬
‫‪- -‬ولكن‪ ،‬أال يستطيع صاحب البدعة الرتخص ووضع احلديث‬
‫حتى وإن كان خلقه متينا؟‬
‫ابتسم املديني‪ ،‬وهو يرى نفسه قد تصدر لإلفتاء و ّملا يصل العرشين‬
‫من العمر‪ ،‬فقال بغبطة‪:‬‬
‫‪- -‬إنا معارش أهل األثر ال نسعى إال ملعرفة الصحيح والسقيم من‬
‫األحاديث‪ ،‬وال يمتنع عقال وجود حديث عند بدعي ثقة وصل‬
‫إليه بطريق مل تتيرس لغريه‪.‬‬
‫كان اجلاحظ قد شعر بعدم جدوى النقاش‪ ،‬غري أنه قرر مواصلة‬
‫االستامع حتى يفهم املنطق الذي يقوم عليه مذهب القوم‪.‬‬
‫ثم سأل سائل يف صوته بحة رافعا صوته‪:‬‬

‫‪67‬‬
‫‪- -‬لعل ذلك ممكن يف مكة واملدينة حيث كان أصحاب رسول اهلل‪.‬‬
‫أما يف برصتنا هذه فام أرى يف هذ املبتدعة ‪-‬من معتزلة وخوارج‬
‫وروافض‪ -‬خريا‪.‬‬
‫التفت ابن املديني إىل الزقاق املحاذي للمسجد فالحظ ارتفاع‬
‫النهار‪ .‬فأعاد نظره إىل الطالب قائال‪:‬‬
‫‪- -‬لكن هنا أمرا ربام غاب عنك‪ .‬وهو أن البرصة كانت سكنا جلمع‬
‫من صحابة رسول اهلل مثل أنس بن مالك‪ ،‬وأيب موسى األشعري‪،‬‬
‫وعبد اهلل بن عباس الذي َتولىَّ إمارهتا لعيل بن أيب طالب‪.‬‬
‫كان املديني يتحدث منطلق ًا‪ ،‬وهو يرسد أسامء الصحابة الذين‬
‫نزلوا البرصة للزيارة أو السكن‪ .‬وكان إذا حتدث يف أسامء الصحابة‬
‫وتفاصيل حياهتم يستغرب سامعه كيف حفظ كل هذا العلم مع حداثة‬
‫سنه‪.‬‬
‫كان املديني يتحدث‪ ،‬والطالب شاخصو األبصار إليه‪ ،‬واهلدوء‬
‫خييم عىل جنبات املسجد املسقوف باآلجر وجريد النخل‪ .‬فجأة‪ ،‬حترك‬
‫باب املسجد‪ ،‬فالتفت أحد الطالب فرأى جارية هندية حتمل إناء كبريا‪.‬‬
‫أشار املديني إليه بالقيام إليها‪ .‬وقف الطالب إليها فناولته إناء‬
‫خزفيا مرتعا باللبن‪ .‬ثم قالت واحلياء يغلبها‪:‬‬
‫‪- -‬لقد بعثتني مواليت هبذا الرشاب‪.‬‬
‫عاد الطالب باإلناء‪ ،‬وعني اجلاحظ ال تكاد ترتفع عنه‪ .‬فقد كان‬
‫يشعر بجوع شديد‪.‬‬
‫وضع الطالب اإلناء بني يدي املديني‪ ،‬ثم قام إىل حجرة يف جانب‬

‫‪68‬‬
‫املسجد وأتى بإناء صغري‪ .‬أترع اإلناء اخلشبي الصغري من اللبن املخيض‬
‫وناول ابن املديني فاعتذر‪ ،‬فناول الطالب واحدا واحدا‪.‬‬
‫وصوت ازدراد اللبن يرتامى إىل‬
‫ُ‬ ‫واصل املديني حديثه هبدوء‪،‬‬
‫سمعه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد نزل بالبرصة كثري من الصحابة مثل عتبة بن غزوان‪ ،‬وعمران‬
‫بن حصني‪ ،‬وأيب برزة األسلمي‪ ،‬ومعقل بن يسار‪ ،‬وعبد الرمحن‬
‫الش ِّخ ْري‪ ،‬واحلكم‬
‫بن سمرة‪ ،‬وأيب زيد األنصاري‪ ،‬وعبد اهلل بن ِّ‬
‫ابني أيب العاص‪.‬‬
‫وعثامن ْ‬
‫كان اإلناء قد وصل إىل آخر الطالب جلوسا يف طرف احللقة‪،‬‬
‫فعب منه ثم وضعه عىل األرض‪ ،‬ومسح فمه بيده وقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫يدي‬
‫الناس تعلموا يف هذه املدينة عىل ْ‬
‫َ‬ ‫‪- -‬وال تنس أهيا الشيخ أن‬
‫احلسن البرصي الذي أدرك مخسامئة من الصحابة‪ ،‬وحممد بن‬
‫السختياين‪ ،‬وبهَ ْز بن حكيم القشريي‪ ،‬ويونس‬
‫سريين‪ ،‬وأيوب َّ‬
‫بن عبيد‪ ،‬وخالد بن مهران ّ‬
‫احلذاء‪ ،‬وعبد اهلل بن عون‪ ،‬وعاصم‬
‫بن سليامن األحول‪ ،‬وقتادة بن دعامة السدويس‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫هتللت أسارير املديني ثم استدرك عىل الطالب قائال‪:‬‬
‫‪- -‬هذا صحيح‪ .‬غري أننا نرى أن احلسن البرصي مد ِّلس‪.‬‬
‫فقاطعه الطالب وقد خف اجلفاف الذي كان باديا عىل حمياه قبل‬
‫الرشاب‪:‬‬
‫‪- -‬أعلم ذلك أهيا الشيخ‪ .‬ولك ّن يف تالميذه ثقاتا عدوال‪.‬‬
‫مل يتاملك اجلاحظ أن قال بصوت منخفض‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫‪- -‬إذا كان احلسن البرصي غري عدل‪ ،‬فكيف نثق يف العدالة معيارا‬
‫للرواية؟‬
‫قال املديني‪:‬‬
‫‪- -‬احلسن البرصي عدل ثقة‪ ،‬لكنه يدلس يف الرواية‪ .‬وهنا فرق دقيق‪.‬‬
‫وهم أن يرد بجملة مفحمة‪ ،‬ثم تذكر أن ابن‬ ‫وابتسم اجلاحظ‪ّ ،‬‬
‫املديني قد يغضب‪ ،‬وأن ال فائدة من حماورة هؤالء باحلجج املنطقية‪.‬‬
‫تثاءب ابن املديني وهو يبادل اجلاحظ النظرات‪ ،‬وسالت دمعة‬
‫عىل خده األيمن‪ ،‬مسحها بطرف أصبعه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬لعلنا نلقاكم يف صالة الظهرية‪.‬‬
‫وقف القوم واحدا تلو اآلخر‪ ،‬والتفت املديني إىل أحد الطالب‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أعد إىل اجلارة إناءها‪.‬‬
‫خرج اجلميع من باب املسجد‪ .‬وخرج اجلاحظ مفكرا يف طول‬
‫املسافة التي تفصله عن مدرسة اخلليل‪ .‬ثم توسط الطريق وهو يفكر‬
‫كيف سيجد ما يسد به رمقه‪ ،‬فأمعاؤه تكاد تتشقق جوعا‪.‬‬
‫***‬

‫‪70‬‬
‫الدوحة‪1438 ،‬هـ‬

‫ال يذكر كم جالسها بعد ذلك‪ ،‬وال كيف بدأ يشك يف تص ّيدها له‬
‫يف الكافيرتيا‪.‬‬
‫لكنه كان ال يلقي هلا باال بداية‪ ،‬فام هي من الفتيات الالئي تشعر‬
‫نحوهن بانجذاب من أول مرة‪ .‬بل كانت من ذلك النمط من النساء‬
‫َ‬
‫حبال غوايته‪ .‬تستطيع بعض النساء‬ ‫يرمي‬
‫َ‬ ‫كي‬
‫املحتاج لوقت طويل ْ‬
‫رمي الفؤاد بسهم من أول لقاء‪ ،‬أما بعضهن فال بد أن يسافر الرجل‬
‫يف عواملها كي ينجذب إليها بتدرج‪ .‬متاما مثل أمواج الشطآن‪ ..‬تزحف‬
‫َ‬
‫الغافل الواقف عىل ضفافها‪.‬‬ ‫بتدرج حتى تُغرق‬
‫لقد سافر يف عاملها أياما‪ ،‬وأبحر يف تالفيف شخصيتها أشهرا دون‬
‫أن يدري‪.‬‬
‫بدأت العالقة تتوطد‪ ،‬وشغاف القلوب تتامهى‪ .‬تواعدا عىل‬
‫الكورنيش‪ ،‬دون أن يمشيا معا‪.‬‬
‫بل يميش كل منهام عىل حافته‪ ،‬بحيث يراه اآلخر من بعيد‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬
‫ساعات‪ .‬عرف عنها‬ ‫يتحدثان عىل اهلاتف‪ .‬تستمر أحاديثهام أحيانا‬
‫كل يشء‪ ،‬عرف كيف ترك والدُ ها السعودية وقرر االستقرار يف قطر‪،‬‬
‫وكيف طلق أمها التي بقيت هناك‪ ،‬وكيف سافرت هي لدراسة أمن‬

‫‪71‬‬
‫املعلومات يف إحدى اجلامعات األمريكية‪.‬‬
‫مكنته مئات الساعات اهلاتفية‪ ،‬واللقاءات اخلاطفة يف كافيرتيا قناة‬
‫العروبة‪ ،‬من التعود عىل شخصيتها الغريبة‪.‬‬
‫حصة فتا ًة سعودية عادية‪.‬‬
‫فلم تكن ّ‬
‫فقد أورثها اجلو الديني املكثف يف منطقتها بالسعودية ضيقا شديدا‬
‫باملتدينني‪ ،‬وفهام خاصا لإلسالم‪ .‬فهي تسخر دائام من املتدينني‪ ،‬لكنها‬
‫ختشى من العني خشي ًة جنونية‪ .‬تدعو إىل الليربالية االجتامعية‪ ،‬لكنها‬
‫ِ‬
‫احلركات اإلسالمية السياسية‪ ،‬لكنها تُدافع‬ ‫ضد احلرية السياسية‪ .‬تنتقد‬
‫ٍ‬
‫بدوي يطلب ثأر أبيه!‬ ‫عن املدرسة الوهابية بعقلية‬
‫كلمتْه قبل أيام هاتفيا‪ ،‬قائل ًة دون مقدمات‪:‬‬
‫‪- -‬قل ما شاء اهلل ال قوة إال باهلل!‬
‫‪- -‬ليش؟‬
‫‪- -‬قل وبعدين أقل لك‪.‬‬
‫‪- -‬ما شاء اهلل ال قوة إال باهلل!‬
‫‪- -‬قبل يوم قلت يل إن سياريت مجيلة‪ ،‬ومن يومها وأنا أالحظ أين‬
‫أكاد أقع يف حادث سري عند كل منعرج‪.‬‬
‫ومع ذلك تعطي االنطباع بميلها إىل التفسري العقيل للدين مع‬
‫حمدودية ثقافتها‪ ،‬وتدعي أحيانا ميلها إىل يشء من التحرر السيايس‪ ،‬ثم‬
‫ما تلبث يف أول نقاش جا ّد أن تنفجر‪:‬‬
‫‪- -‬نحن العرب ال نصلح إال للحكم االستبدادي‪.‬‬
‫ومع مالبسها الالفتة وحرصها الدائم عىل ارتداء اجلينز وكشف‬

‫‪72‬‬
‫الرأس‪ ،‬فهي حمافظة اجتامعيا‪.‬‬
‫كانت غرابة شخصيتها أكرب ما يغريه فيها‪ ،‬ومن أشد ما يضايقها‬
‫من نفسها‪ .‬فهو يضيق بالفتاة الباهتة العادية التي ختلو حياهتا من أي‬
‫تعرجات أو نتوءات‪ .‬كان يقول ألصحابه‪:‬‬
‫‪- -‬أنا ال أريد أن أتزوج فتاة مثل جديت‪ .‬أريد فتاة تفاجئني طول‬
‫الطريق‪ ،‬حتى ولو كانت مفاجآت سلبية‪.‬‬
‫أما هي فكان أيضا مما جيذهبا إليه غرابة شخصيته‪ .‬حتب تعلقه‬
‫باللغة ومبالغته يف أمهيتها يف كل يشء‪ ،‬وكانت تتمتع بمراقبته وهو يكلم‬
‫العامل اآلسيويني بالفصحى‪ .‬فإذا تعلموا منه كلمة برقت عيناه بسعادة‬
‫طفل فقري حصل فجأة عىل لعبة‪ ،‬كان يعلمهم ويكتب هلم الكلامت عىل‬
‫وهيجيها هلم حتى يتأكد من صحة نطقهم هلا‪ ،‬وإذا عاد إىل‬ ‫ّ‬ ‫املناديل‪،‬‬
‫نفس املكان استخدم معهم نفس الكلامت التي علمهم إياها‪.‬‬
‫ومع أن رس انجذاب كل منهام لآلخر غرابة شخصيته‪ ،‬فإن كال‬
‫منهام يود لو غيرّ ذلك اجلانب من شخصيته‪.‬‬
‫واإلنسان ال ينتبه دائام ألقوى أسلحته التي يملك‪.‬‬
‫كان من أكثر ما جذهبا إليه تدينه املخالف للتدين الذي عرفتْه‪.‬‬
‫هجم ْت‬
‫َ‬ ‫فعندما رأته أول مرة مل تتوقع تدينه‪ ،‬لكنها مع طول الصحبة‬
‫منه عىل خصائص غريبة‪ .‬فقد اكتشفت استحالة التواصل معه ببعض‬
‫وكيد فهمت أنه يعتكف يف مسجد منعزل يف‬ ‫ٍ‬ ‫األمايس‪ .‬وبعد تتب ٍع‬
‫ضاحية من ضواحي الدوحة‪.‬‬
‫كام اكتشفت ولعه بصدقة الرس‪ ،‬وكلفه بمساعدة املعوزين‪ ،‬فكم‬
‫َ‬
‫العامل اآلسيويني حلظة‬ ‫ذهب إىل ُو َرش البناء يف منطقة الدفنة مرتصدا‬

‫‪73‬‬
‫ليدس مئات الرياالت يف جيوهبم‪ ،‬وكم‬
‫َّ‬ ‫انقالهبم من أعامهلم منهكني‬
‫وزع عليهم املرشوبات يف أيام الدوحة القائظة‪.‬‬
‫ومما زادها إعجابا بتدينه املختلف‪ ،‬ذلك اجلهد الذي يبذله يف إخفاء‬
‫صدقاته وعباداته حرصا عىل األجر‪ .‬كان هذا اجلانب من شخصيته‬
‫مناقضا ألنامط من التدين ألفتها يف أهل منطقتها ممن يتدثرون بعباءة‬
‫التدين‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬كانا جالسني يف الكافيرتيا‪ ،‬فضاع هاتفه‪ .‬طلب منها أن‬
‫تتصل عليه‪ ،‬فاتصلت‪ .‬رن اهلاتف فوجدته مرميا حتت الكريس‪ .‬أمسكته‬
‫«مطوعة‬
‫َّ‬ ‫لتناوله إياه فكانت املفاجأة أن رقمها خمزن يف هاتفه حتت اسم‪:‬‬
‫بريدة!»‪.‬‬
‫صاحت‪:‬‬
‫‪- -‬حرام عليك‪ ،‬مل َ تسميني مطوعة بريدة؟ هل تراين أشبه مطوعي‬
‫بريدة!‬
‫‪- -‬أرى أنك حنبلية يف مسالخ ليربالية! وق َبل ّية يف حلاف مواطنة‪.‬‬
‫‪- -‬كيف؟‬
‫تردد قليال‪ ،‬وهو يشيح بوجهه نحو مدخل الكافيرتيا مداريا‬
‫ابتسامة‪:‬‬
‫‪- -‬مطوعة بريدة اسم مجيل!‬
‫ابتسمت‪ ،‬وهي تشعر بألفة غريبة مع اسم تسمعه ألول مرة‪ .‬ثم‬
‫حركت كأس القهوة وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬لكنك تعرف أين ال أضيق بيشء ضيقي بمطاوعة بريدة!‬

‫‪74‬‬
‫ِ‬
‫أفكارك الدفينة كلها أفكار مطوع من‬ ‫‪- -‬تلك القرشة البادية‪ ،‬لكن‬
‫بريدة‪.‬‬
‫ظلت تنظر يف كوب القهوة‪ ،‬وهي تفكر يف مدى دقة ما قال‪.‬‬
‫حانت منه التفاتة إىل شاشة التلفاز املعلقة‪ ،‬فرأى خطأ نحويا فادحا‬
‫أسفل الشاشة‪ .‬وقف دون مقدمات وصاح بلهجته املوريتانية‪:‬‬
‫أعامركم!‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬اهلل ي َقصرّ ْ‬
‫انتشلها منظره من اجلو اجلاد الذي كانت فيه‪ ،‬فدارت ضحكة‬
‫وهي تراقبه‪ .‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪- -‬اجلس‪ ،‬ما عليك‪ .‬وال تنس أنك لست مدققا اآلن!‬
‫عادت حلظات الصمت‪ ،‬ثم قطعها هو بعد أن سكنت فورته قائال‪:‬‬
‫‪- -‬اللغة العربية يتيمة بني هذه اجلدران‪ ،‬وال هيتم هبا أحد‪ .‬أنا من‬
‫يبيت بمكان‬
‫أرسة تُعيل من قيمة اللغة‪ ،‬وكان جدي ال يرىض أن َ‬
‫ليس فيه نسخة من القاموس املحيط‪.‬‬
‫شعرت بملل وهي تسمعه يبدأ يف احلديث عن اللغة‪ ،‬لعلمها أنه‬
‫إذا فعل ينسى املكان والزمان وال يتوقف‪ .‬فقاطعته ساخرة‪:‬‬
‫‪- -‬أما أنا فكان جدي قاطع طريق!‬
‫انتبه إىل أنه قد يكون بالغ يف مدح أجداداه‪ ،‬وهو يتحدث مع بنت‬
‫من جمتمع يعيل من القيم القبلية وإن تنكرت هي لكل ذلك‪ ،‬فقال‬
‫بخجل‪:‬‬
‫‪- -‬ونصف سكان بلدي كانوا قطاع طرق أيضا‪.‬‬
‫قطعت احلديث قائلة بمكر أنثوي‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫‪- -‬تعجبني لغة املذيعة سلمى!‬
‫رمت العبارة‪ ،‬وحدجتْه بعينيها حتى تقرأ كل حركة يف جفنيه‪،‬‬
‫كمن َْت له متحفز ًة كأهنا هرة‬ ‫َّ‬
‫وكل دوران حلدقت ْيه‪ .‬رمت العبارة‪ ،‬ثم َ‬
‫تستعد للوثوب‪ .‬فقال بعفوية‪:‬‬
‫‪- -‬إي واهلل!‬
‫انتبه لوقوعه يف الفخ‪ ،‬والتفت‪ .‬رأى عينيها مرتعتني بالغرية‬
‫احلارقة‪ .‬قال –وكأنه طفل أمسكه أبوه يرسق من اجلريان‪ -‬قصدي أن‬
‫لغتها جيدة‪ ،‬لكنها ثقيلة الدم‪.‬‬
‫مل جتبه‪ ،‬وساد صمت لثوان‪ .‬ثم ظهر صديقه مازن قادما من مدخل‬
‫ملوحا بيده املقبوضة عىل سيجار‪.‬‬
‫الكافترييا‪ّ ،‬‬
‫قطع القروي الصمت وقال‪:‬‬
‫الوقت حان لنناقش املوضوع‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪- -‬أال تر ْين أن‬
‫فهمت ما يقصده‪ ،‬وتغافلت مقطب ًة جبينها‪:‬‬
‫‪- -‬أي موضوع؟‬
‫‪- -‬املوضوع الذي ناقشناه البارحة هاتفيا‪.‬‬
‫مل جتبه‪ ،‬وفكرت أن تصيح يف وجهه‪:‬‬
‫‪- -‬وهل مر عىل تعارفنا إال أشهر قالئل؟‬
‫غري أهنا دارت مشاعرها‪ ،‬والتفتت جهة موظفة الكافترييا متخيلة‬
‫صورة والدها يقول ألمها‪:‬‬
‫اهنبلت! كيف تتجرأ عىل التفكري يف هذا؟‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬البنت‬
‫هبم عىل وجهها وعينيها العسليتني‪.‬‬
‫الحظ سحابة غضب مشوب ّ‬

‫‪76‬‬
‫مرتع بالصمت‬
‫مل يتكلم‪ ،‬بل قرر انتظارها حتى تبدأ احلديث‪ .‬مر وقت ٌ‬
‫الثقيل‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪- -‬ال أرى أن الوقت مناسب للحديث مع أهيل يف هذا األمر‪.‬‬
‫وقفت دفع ًة واحدة‪ ،‬وأخذت حقيبتها اليدوية‪ ،‬وتوارت‪ .‬ركض‬
‫هو إىل مكتبه‪ ،‬وخيا ُله يبتعد شيئا فشيئا عن عاملها‪ ..‬وعن عامل اإلعالم‬
‫َ‬
‫ليغرق بعيدا‪ ...‬يف حواري البرصة‪.‬‬ ‫والصور املعارصة‬
‫***‬
‫غزت منخر ْيه رائح ٌة شهية‪ .‬فرأى الدجاج‬
‫ْ‬ ‫التفت اجلاحظ بعد أن‬
‫املشوي الشهي يسيل سمن ًا أمام دكان ّفران‪ .‬فازدادت سخونة البخار‬
‫احلار الذي يكاد يفتت أمعاءه‪ .‬ختيل موائد األثرياء وما فيها من ُمتع‬
‫و ُأنس وهبجة‪ ،‬وهو يدخل إىل باب اجلامع الكبري بالبرصة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مناظر‬ ‫أدار برصه يف اجلامع املكتظ‪ .‬رأى صاحلا اخلوزي –أشهر‬
‫عن عقائد املجوس يف البرصة‪ -‬قادم ًا من الباب اآلخر يتخطى الرقاب‬
‫بصعوبة وهو يف طريقه إىل منرب منصوب بني السواري‪ ،‬بعيدا عن‬
‫املحراب‪.‬‬
‫جلس اجلاحظ‪ ،‬ووقف شاب واضح اللهجة حلو خمارج احلروف‪،‬‬
‫أسمر السحنة‪ ،‬وبيده ورقة وقلم وقال‪:‬‬
‫أجل مشاخيكم‪ .‬هذا صالح‬‫‪- -‬يا أهل البرصة‪ ،‬هذان شيخان من ّ‬
‫اخلوزي‪ ،‬وأبو هذيل العالف سيتناظران وفق آداب املناظرة‬
‫واملباحثة‪ .‬صالح يناظر عن الثنوية‪ ،‬والعالف عن التوحيد‪ .‬فال‬
‫تنسوا أن احلق مقصدنا‪ ،‬وأن الرصاخ والصياح ليسا غلبة بل‬
‫شغبا وسوء أدب‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫ثم التفت الشاب إىل صالح وطلب منه الوقوف لبدء املناظرة‪.‬‬
‫وضع صالح يديه عىل األرض‪ ،‬ثم حتامل عليهام واقفا‪ .‬مشى‬
‫خطوات وارتقى املنرب بصعوبة ثم جلس‪ ،‬التفت يرسة فرأى جمموعة‬
‫من الشبان جالسني بزهيم املحتشم وعامئمهم املكورة فعرف أهنم من‬
‫تالميذ العالف‪ .‬والتفت يمن ًة فالحت له كوكبة من طالبه وحوارييه‬
‫أمر يرساه عىل طرف حليته الصهباء وقال‪:‬‬
‫جالسني حارسي الرؤوس‪ّ .‬‬
‫‪- -‬نحن نقول إن النور والظالم مها أصال اخلري والرش يف هذا العامل‪.‬‬
‫ونرى أن العامل مركّب من عرشة عنارص؛ مخسة منها عنارص خري‬
‫ونور‪ ،‬ومخسة منها عنارص رش وظلمة‪.‬‬
‫كان صالح يتحدث واهلدوء يغزو جنبات املسجد إال من رصير‬
‫كحة شاردة من صدر شيخ‬‫األقالم عىل القراطيس بأيدي الطالب‪ ،‬أو ٍ‬
‫مريض‪ .‬فنوافذ املسجد مغلق ٌة لتلبد السامء بالغيم وهبوب ريح الشامل‬
‫اآلتية برائحة سوق الغنم غري البعيد‪ ،‬مما زاد كثافة رائحة العرق الناشئ‬
‫من الزحام‪.‬‬
‫واصل صالح حديثه بمخارجه الواضحة‪ ،‬ولغته العربية الصقيلة‪:‬‬
‫يكون يف ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫‪- -‬إن اإلنسان مركّب من تلك األجناس عىل قدر ما‬
‫واحد من رجحان جنس اخلري عىل جنس الشرّ ّ ‪ .‬ثم إن اإلنسان‬
‫حاسة منها عنارص من‬ ‫كل ّ‬ ‫فإن يف ّ‬
‫حواس مخس‪ّ -‬‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬وإن كان ذا‬
‫نظرت األم مثال نظرة رمحة فتلك النّظرة‬
‫ْ‬ ‫األجناس اخلمسة‪ .‬فمتى‬
‫نسب بينها وبني الظلمة‪ ،‬ومتى نظر اإلنسان نظرة‬ ‫من النّور‪ ،‬وال َ‬
‫غضب إىل عدوه فتلك من الظلمة ال حمالة‪ ،‬وقس عىل هذا‪ .‬غري‬
‫أن ها هنا جز ًءا لطيفا ال بد من التنبيه عليه‪ .‬ف‪...‬‬

‫‪78‬‬
‫التفت صالح يمينه ملقيا ناظره إىل طرف املسجد فرأى رجال كبريا‬
‫ليفيل مالبسه القذرة‪ ،‬منشغال بإخراج‬
‫َ‬ ‫نحيفا يدس يد ْيه الشاحبتني‬
‫القمل ِ‬
‫وقتله‪.‬‬
‫امحرت وجنتاه‪ ،‬واستوىل عليه شعور بالرغبة يف إهناء احلديث‪ .‬إذ‬
‫ّ‬
‫كيف يتحدث إىل هؤالء عن مسائل من دقيق الكالم‪.‬‬
‫مستقرتي‬
‫نْ‬ ‫عيني أيب اهلذيل العالف العميقتني‬
‫ْ‬ ‫ثم التفت فرأى‬
‫رأت‬ ‫عليه ترتصدان كل كلمة يفوه هبا‪ ،‬فانبعث من جديد بعزيمة ٍ‬
‫شاة ْ‬
‫ذئب ًا‪:‬‬
‫‪- -‬فأنتم تُرصون عىل أن اهلل واحد‪ ،‬وال تنكرون من عقائدنا شيئا‬
‫إنكاركم للثنوية‪ .‬فام الدليل عىل أن اهلل واحد؟‬
‫واصل حديثه حاشدا كل األدلة عىل فكرة الثنوية وقيام العامل عىل‬
‫أصيل اخلري والرش املتنافرين‪ ،‬مستخدما كل ما أويت من جدل وبالغة‪.‬‬
‫ْ‬
‫ثم أشار له الشاب األسمر القائم عىل تنظيم املناظرة عاقدا أصبعني‪،‬‬
‫منبها إياه إىل أن عليه إهناء حديثه‪.‬‬
‫بعد هنيهات‪ ،‬التفت الشاب إىل العالف طالبا منه التقدم لصعود‬
‫املنرب‪.‬‬
‫وقف العالف دفعة واحدة كأنه يقفز‪ ،‬فجسمه النحيف املخروط‬
‫ومالبسه اخلفيفة البيضاء جتعل حركته رسيعة تشبه حركة الصبيان‪ ،‬مع‬
‫كونه جاوز األربعني‪ .‬تقدم إىل املنرب‪ُ ،‬مبسمال ومحُ وقال‪.‬‬
‫جلس عىل املنرب وأخرج من جيب جبته منديال مسح به أرنبة أنفه‬
‫القصري وجبهته‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫ٌ‬ ‫َ َ َ‬
‫بدأ العالف يتحدث‪ ،‬بادئا بقراءة اآلية‪﴿ :‬ل ْو كان فِي ِه َما آل َِهة إِل‬
‫ّهَ ُ َ َ‬
‫الل لف َس َدتَا﴾‪ .‬ثم طفق حيشد األدلة عىل استحالة قيام العامل إال عىل إله‬
‫واحد مدبر لطيف‪.‬‬
‫كان اجلاحظ جالسا وسط طالب أيب هذيل‪ ،‬وبني يديه كومة‬
‫كراريس ال يكاد يرفع برصه عنها إىل املتناظر ْين النشغاله بالكتابة‪ .‬أما‬
‫النَّ َّظام فكان جالسا عند ظهر شيخه أيب اهلذيل حتى إن ركبتيه تكادان‬
‫تالمسان املنرب‪ ،‬ثم جاء صوت العالف‪:‬‬
‫‪- -‬أما سؤالكم‪ :‬ملاذا نؤمن بأن اهلل واحد ال ثاين له‪ ،‬فألنه لو كان‬
‫معه إله قديم لوجب أن يكون مثله يف القدم‪ .‬وهذا يستلزم عقال‬
‫أن يكون قديام لنفسه‪ ،‬وذاك يعني أن يكون أيضا قديرا لنفسه‪،‬‬
‫وإذا كان اإلهلان قديرين لنفسيهام وجب أن يريد أحدمها إرادة‬
‫ويريد اآلخر أخرى‪ .‬وإذا وقع ذلك فاألمر ال خيرج عن ثالثة‬
‫احتامالت‪ :‬إما أن يقع ما يريده كل منهام‪ ،‬وهذا حمال لتضاد‬
‫أي منهام‪ ،‬وهذا حمال ألنه يستلزم‬ ‫إرادتيهام‪ ،‬وإما أال يقع مراد ٍ‬
‫ضعفهام معا‪ ،‬واإلله ال جيوز يف حقه الضعف‪ .‬أما االحتامل‬
‫الثالث فهو أن يقع مراد أحدمها وذلك يوجب أنه أقوى‪ ،‬وأن‬
‫والضعيف ال يكون قديام وال إهلا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اآلخر ضعيف‪،‬‬
‫كان العالف يتحدث‪ ،‬والنظام يدير عينيه ناظرا إىل احلضور‬
‫متفرسا مدى فهمهم وإدراكهم‪ ،‬فوقعت عينه عىل شاب ُم ْست َْوفِ ٍز‪،‬‬
‫ُيراوح بني اجللوس عىل ركبتيه والرت ّبع‪ ،‬فاغر ًا فاه‪ ،‬يتلقف كل كلمة‪،‬‬
‫صهيب احلماّ ل‪ ،‬واضعا يدَ ه حتت ذقنه‬
‫ٌ‬ ‫وكان عن يمني الشاب املشدوه‬
‫عابثا بأسنانه‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫أما تالميذ أيب اهلذيل املحيطون بالنظام فمرشئ ّبو األعناق‪،‬‬
‫يلتقطون كل كلمة ويالحظون كل حيلة من حيل املناظرات الرائجة‬
‫يف مساجد البرصة‪.‬‬
‫أما زمرة الطالب حارسي الرؤوس عن يمني اخلوزي‪ ،‬فكان‬
‫أحدهم يقلب جملدا ضخام كأنام يبحث عن يشء أضاعه‪ ،‬أما الباقون‬
‫فكانوا منصتني‪ ،‬وأبصارهم شاخصة‪.‬‬
‫أشار الشاب املنظم للمناظرة إىل اخلوزي بالعودة إىل املنرب‪ ،‬فلام‬
‫وقف وبدأ احلديث‪ ،‬صاح رجل من جهة الباب املؤدي إىل السوق‪:‬‬
‫‪- -‬أمه زاني ٌة من ال يؤمن باهلل واليوم اآلخر!‬
‫أشار الشاب بيده لصالح بالتوقف‪ ،‬ملتفتا جهة الباب سائال‬
‫بصوت ميلء باالحتجاج‪:‬‬
‫‪- -‬من صاحب الصوت املنكر؟‬
‫مز ِّمل يف ثوبه‪،‬‬
‫ومههامت‪ .‬وجاء صوت شيخ َّ‬
‫ٌ‬ ‫تصاعدت غمغامت‬
‫ٍ‬
‫مستلق عىل قفاه‪:‬‬
‫‪- -‬ذاك عبيد الكناس؛ وقد وىل هاربا‪.‬‬
‫هدأت األصوات‪ ،‬ثم أشار الشاب للخوزي بمواصلة احلديث‪.‬‬
‫مرت ساعات‪ ،‬ثم انتهت املناظرة بانقطاع اخلوزي‪ .‬واالنقطاع أن‬
‫خصمه بدليل عقيل ال يستطيع االنفكاك منه‪.‬‬
‫َ‬ ‫اخلصم‬
‫ُ‬ ‫ُي ِ‬
‫لز َم‬
‫بعد هناية املناظرة انفض اجلمع‪ ،‬فيام تصافح املتناظران وتقارب‬
‫طالهبام‪ ،‬وخرجوا مجيعا من املسجد متجهني صوب منزل اخلوزي‬
‫لتناول الطعام‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫وكانت هذه أفضل اللحظات التي ينتظرها اجلاحظ والنظام‬
‫برتقب‪ .‬فهي فرصتهام الوحيدة مللء بطن ْيهام طعاما‪.‬‬
‫***‬
‫األخصاص خطيا وأبواهبا مرشعة جه َة البرصة‪ .‬كان‬
‫ُ‬ ‫ترتاص‬
‫تعود اجللوس خالل األشهر املاضية عىل هذا الكثيب‬
‫اجلاحظ قد ّ‬
‫الصغري املجاور لألخصاص‪ .‬فهدوء الليل وظال ُمه يمآلن روحه رهبة‪.‬‬
‫كثريا ما جيلس هنا وحيدا بعد نوم رفاقه للخلو بنفسه ومعرفة‬
‫إنك لتنفق سحاب َة يومك متأمال يف نفوس‬
‫دخيلتها‪ ،‬فيخاطبها قائال‪َ :‬‬
‫الناس‪ ،‬فاصرب لتفهم نفسك التي بني جنبيك‪.‬‬
‫جيلس عىل الكثيب ينكت يف األرض بعود بيده‪ُ ،‬مستغربا كيف أنه‬
‫بسامتمٍ ن دخيلة نفسه غريبة عنه‪ .‬حتى إنه فكر مرة يف أن‬
‫أحيانا يفاجأ ِ‬
‫روحه لو جتسدت شخصا أمامه وحتادث معها ملا عرفها!‬
‫غرق يف التفكري يف معايب نفسه ومثالبها‪ ،‬متذكرا مواقف مرت به‬
‫اليوم‪ .‬رمى العود وهو يتذكر كيف مازحه أبو نواس بقوله‪:‬‬
‫ختيل لو أن اهلل َم َس َخ َّ‬
‫كل حسناوات الدنيا وصيرّ هن عىل شكلك‪،‬‬ ‫‪ْ --‬‬
‫كيف يطيب العيش بعد ذلك؟‬
‫الضحك جمامل ًة‪ ،‬لكن أبا نواس أحس بذلك‬
‫َ‬ ‫وتذكر كيف تك ّلف‬
‫فاعتذر له‪ .‬لكنه أنكر غضبه من املزاح‪ ،‬وهو يعلم يف دخيلة نفسه أنه‬
‫بحارة‬
‫طوحت به األفكار‪ ،‬وكان اجلو هادئا إال من أصوات ّ‬
‫غضب‪ّ .‬‬
‫سماّ ر عىل هنر غري بعيد‪ .‬ترتامى ضحكاهتم إىل مسمع ْيه أحيانا‪ ،‬وسط‬
‫رصير ريح الشامل العابثة بأبواب األخصاص‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫وقف من مكان جلوسه متذكرا أن اخلليل بن أمحد عادة ما خيصص‬
‫هذا الوقت للصالة‪ .‬وكيف أن صوت قراءته للقرآن يف هتجده من‬
‫أعذب ما حيرك كوامن نفسه‪.‬‬
‫نزل من فوق الربوة ناظر ًا جهة املدينة وهو يفكر يف أن اخلليل‬
‫لزهده وورعه اختار هذا املكان بحيث تصبح املدينة وكأهنا ّتوليه‬
‫ظهرها حتى ال يرى حماسنها‪.‬‬
‫وصل إىل اخلُص األول عىل يمينه لكنه مل يسمع قراءة اخلليل‪ ،‬مع‬
‫أن هذا وقت هتجده عادة‪ .‬ثم تذكر أنه مل يأت الليلة عىل خالف عادته‪.‬‬
‫ُ‬
‫اخلليل طال َبه أن يقيض بداية الليل يف بيته يف طرف البرصة‪،‬‬ ‫عود‬
‫فقد ّ‬
‫لكنه ما إن يصيل العشاء يف بيته حتى يأيت إىل هذه األخصاص‪ ،‬ويبدأ‬
‫تدريس طالبه النحو والرصف واملوسيقى والرياضيات واألنساب‪.‬‬
‫سمع صيحة منكرة‪.‬‬
‫التفت فلمح أحد الطالب قادما من جهة البرصة يركض‪ .‬ورأى‬
‫ّ‬
‫يستلذه طويال وهو يكرر‪:‬‬ ‫الن ّظام قادما يمسح عينيه من نوم مل‬
‫‪- -‬إيش؟‬
‫اقرتب الرجل فتسابق إليه اجلاحظ والنظام‪ ،‬بادره النظام قائال‬
‫بصوت ما زال مفعام بنربة نعاس‪:‬‬
‫‪- -‬ما اخلرب؟‬
‫‪- -‬لقد تويف شيخنا اخلليل!‬
‫مل تكد قوائم النظام حتمله فجثا عىل ركبتيه مرددا‪:‬‬
‫‪- -‬إنا هلل وإنا إليه راجعون!‬

‫‪83‬‬
‫بدأ مجع من الطالب يتململون يف أخصاصهم يستيقظون الواحد‬
‫تلو اآلخر الرتفاع األصوات‪ .‬جاء أحدهم يركض إىل النظام‪:‬‬
‫‪- -‬ما ذا حدث؟‬
‫‪- -‬لقد تويف شيخنا اخلليل!‬
‫‪- -‬حسبنا اهلل ونعم الوكيل‪.‬‬
‫ونم حتى ينبلج الصباح‪.‬‬
‫‪- -‬ارجع ْ‬
‫مشى النظام عائدا إىل خصه واجلاحظ يتبعه وامجا‪ ،‬وجدا أبا نواس‬
‫جالسا عند الباب‪ .‬دخال بصمت‪.‬‬
‫ترصف‬
‫َ‬ ‫جلس الثالثة كل منهم يف ركن من اخلص‪ .‬كل واحد ينتظر‬
‫اآلخر‪ .‬فلم يجُ مع أهل البرصة عىل حب رجل كام أمجعوا عىل حبهم‬
‫للخليل‪.‬‬
‫َ‬
‫املكان‪ ،‬وتنخنق صدور كل منهم بغصة‪ ،‬وتدور دموع‬ ‫يلف الظال ُم‬
‫يف العيون املتلففة يف الظالم‪ ،‬جيمع بني أخيتلهم يف تلك اللحظة صورة‬
‫اخلليل بن أمحد وهو يبتسم ويع ّلم‪.‬‬
‫بعد ارتفاع الشمس بقليل‪ ،‬جتمع الطالب واجتهوا جهة دار اخلليل‬
‫حلضور جنازته‪ .‬امتألت جوانب الدار بأصناف الطالب الذين مل‬
‫جيتمعوا قط خارج مكان الدرس قبل اليوم‪ ،‬تقدم نجل اخلليل مشريا‬
‫بيده للناس باهلدوء‪ ،‬ثم ارتقى صخر ًة جاثمة ما بني باب الدار وباب‬
‫احلائط وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أهيا الناس‪ ،‬إننا ننتظر أبا اهلذيل العالف للصالة عىل الشيخ‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك نذهب إىل املقربة‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫كان اجلاحظ يف طرف الناس مما ييل مدخل املنزل‪ .‬وكان اهلدوء‬
‫خييم عىل املكان إال من نشيج يتعاىل أحيانا من صدور بعض الطالب‪،‬‬
‫جياوبه نحيب نساء قادم من جهة الدار‪.‬‬
‫جلس بعض الطالب عىل األرض‪ ،‬ودخل بعضهم إىل غرفة‬
‫واسعة عند مدخل البيت يف انتظار قدوم العالف‪ .‬كان اجلاحظ‬
‫والنظام جالسني عىل األرض وظهرامها للدار‪ ،‬وحياوالن ختفيف احلزن‬
‫عنهام بالنظر إىل كل داخل إىل الدار من الشارع الصغري الذي يرشف‬
‫عليه املنزل‪.‬‬
‫التفت اجلاحظ دون أن ينظر إليه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد خلت البرصة من أعقل العرب‪.‬‬
‫رفع النظام وجهه وشفته السفىل الغليظة ترتعد قليال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد كان اخلليل آية يف الزهد‪ ،‬واهلل لقد رأيت اخللفاء يبعثون له‬
‫ملحني طالبني زيارته‪ ،‬فال يزيد عىل أن يقلب الورقة ويكتب عىل‬
‫ّ‬
‫ظهرها معتذرا‪.‬‬
‫دخل أبو اهلذيل العالف مقنع ًا يميش كأنه يقفز فقام الناس حميني‬
‫ومسلمني‪ .‬سلم عىل الطالب املجتمعني يف ردهة الدار‪ ،‬ثم أخذه ُ‬
‫نجل‬
‫َ‬
‫ليحدث النساء ويصربهن‪ .‬تراجع الطالب وواصل العالف‬ ‫اخلليل‬
‫التقدم مع نجل اخلليل يف الدهليز الداخل إىل الدار حتى اختفيا‪.‬‬
‫تقدم ابن اخلليل أمام العالف مشريا له بيده إىل ردهة واسعة وجد‬
‫فيها عدة نساء جمتمعات‪ ،‬وهلن خنني من البكاء‪.‬‬
‫وقف العالف‪ ،‬ومحد اهلل وأثنى عليه ثم بدأ احلديث‪ .‬لكنه ما إن‬

‫‪85‬‬
‫ٍ‬
‫شجن‬ ‫بدأ حتى تذكر شامئل صديقه فخاف أن ختنقه العربة فيثري مكامن‬
‫جاء ل ُيسيل عنها‪ ،‬متالك نفسه ورفع صوته‪:‬‬
‫‪- -‬أما بعد‪ ،‬فإن هذا الشيخ ِ‬
‫قدم إىل ما قدَّ م‪ .‬وأنتم تعلمون أنه ليس‬
‫يف هذه املدينة الواسعة رجل اتفق الناس عىل صالحه وحسن‬
‫سمته وشبه رسه بعالنيته منه‪ ،‬فنحن ال نستطيع أن نحدثكم عن‬
‫شامئله وعبادته فأنتم هبا أدرى‪ ،‬وهلا أرأى‪ .‬لكنا نذكركم بوعد اهلل‬
‫هم إال كيف يعلم‬
‫ملعلمي الناس العلم‪ ،‬وهذا الشيخ ما كان له ّ‬
‫مهد من علوم‪.‬‬
‫ويمهد هلم ما مل ُي ّ‬
‫ّ‬ ‫ذراري املسلمني العلم‬
‫واصل العالف حديثه‪ ،‬فهدأ اخلنني والبكاء الذي كان هاج يف‬
‫بداية حديثه‪ ،‬فهيبة أيب اهلذيل فرضت عىل النساء هدوءا وسكينة‪.‬‬
‫ثم دعا وانرصف‪.‬‬
‫ما كاد العالف يعود إىل الردهة الواسعة عند مدخل الدار حيث‬
‫جيتمع الطالب حتى جاء النعش حمموال عىل األعناق ليوضع‪.‬‬
‫وتصاف الناس للصالة عليه‪ ،‬فجأة خرجت فتاة‬
‫ّ‬ ‫وضع النعش‪،‬‬
‫من داخل الدار حارسة الرأس‪ ،‬باكية وألقت نفسها عىل النعش تق ّبله‪.‬‬
‫خرج نجل اخلليل راكضا وأمسك ذراعها وأعادها إىل البيت‪.‬‬
‫كان اجلاحظ واقفا يف الصف األمامي مما ييل النعش‪ ،‬مل يدر ما وقع‬
‫بالضبط‪ .‬كل يشء كان رسيعا وخاطفا‪.‬‬
‫لكنه وجد أثر ما وقع يف قلبه‪ ،‬إذ وجد قلبه مأخوذا بتأمل شعر‬
‫الفتاة الذهبي وجبينها الوضاء‪ ،‬وذلك اللغز املتجمع ما بني عين ْيها‬
‫وفمها‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ٍ‬
‫وسخط عىل نفسه وتضايق‪ .‬كيف أمكنه النظر‬ ‫شعر بحرج شديد‪،‬‬
‫بريبة إىل بنت شيخه حلظة وفاته؟‬
‫هل يمكن أن تكون كل هذه القساوة والبالدة واألنانية تعشش يف‬
‫قلبه دون أن يدري؟‬
‫كيف يمكن ملن تتلمذ عىل اخلليل ورأى خصاله أن ينظر إىل بناته‬
‫بريبة يف منزله وجثامنه مسجى والصالة عليه قائمة؟‬
‫شعر اجلاحظ بضيق شديد‪ .‬فجعل يراوح بني قدميه كأنه واقف‬
‫عىل مجر‪ ،‬يرفع رجله اليمنى ويضعها ثم يرفع اليرسى ويضعها‪.‬‬
‫كان يمسك طرف عاممته ويمسح هبا جبينه الذي بدأ يتفصد عرقا‪،‬‬
‫شعر كأن كل من يف الدار رأى نظراته للفتاة واطلع عىل اخلواطر التي‬
‫ظللت فؤا َده‪ ،‬تعجب مما رآه خسة يف نفسه ودناءة يف نحيزته! شعر أن‬
‫كل من يف املكان أبرص ما يف قلبه فرأى خواطره املذنبة وهو يشتهي بنت‬
‫اخلليل عىل نعش اخلليل!‬
‫فجأة‪ ،‬التفت إليه النظام وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬ما لك؟‬
‫‪- -‬ما يل؟ ال يشء! ال يشء!‬
‫‪- -‬آوه‪ ،‬ال بأس عليك‪ ،‬هلل ما أخذ وله ما أعطى فال تذهب نفسك‬
‫حرسات‪.‬‬
‫ازداد أمل اجلاحظ للمنزلة التي يضعه فيها رفيقه وهو ال يستحقها‪،‬‬
‫تسارعت دقات قلبه حزنا وأسفا عىل تلك اخلواطر‪ ،‬وأثناء ذلك تقدم‬
‫العالف وقال بصوت فصيح قوي‪:‬‬

‫‪87‬‬
‫‪- -‬اهلل أكرب‪.‬‬
‫كرب الناس خلفه وبدأت الصالة‪ ،‬فهدأ كل يشء‪ ،‬هدأت أصوات‬
‫النشيج واخلنني القادمة من داخل البيت‪ ،‬ومل يبق إال حلى الرجال‬
‫املصلني تتحرك بالدعاء والقراءة‪ ،‬يقطعها بني الفرتة وأختها صوت‬
‫العالف‪:‬‬
‫‪- -‬اهلل أكرب‪.‬‬
‫غالب اجلاحظ خواطره‪ ،‬فاطمأن قليال‪ ،‬لكنه ما إن بدأ قراءة‬
‫الفاحتة‪ ،‬حتى عادت صورة اجلبني الوضاح‪ ،‬والناصية املقطبة‪ ،‬والشعر‬
‫الذهبي‪ ،‬والبنان اخلضيب‪ ،‬مرتائي ًة من فوق النعش‪.‬‬
‫متتم رافعا برصه إىل السامء متوسال‪ ،‬وال َعربة تكاد ختنقه‪ .‬ثم جاء‬
‫صوت العالف وهو يقول هبدوء‪:‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم ورمحة اهلل!‬
‫حترك بعض املصلني من أماكنهم راكضني جهة النعش ليحملوه‪،‬‬
‫فأشار إليهم العالف بيده أن يبقوا يف أماكنهم‪ .‬ثم ا ْعتىل الصخرة‬
‫املوجودة وسط الفناء وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أهيا الناس! ها نحن اليوم نو ّدع شيخ أهل البرصة وقدوهتم‪.‬‬
‫ها نحن ندفن الزهد والورع والعلم‪ ،‬لقد أكل الناس الفالوذج‬
‫وكنزوا الذهب والفضة من علم صاحب هذا اجلثامن املسجى‪،‬‬
‫وهو يف أخصاصه التي تعرفون ال يربحها‪ .‬ها نحن اليوم نودع‬
‫أعقل العرب وأزهدها وأنقاها وال نزكيه عىل ربه‪ .‬لكننا شهداء‬
‫بام نعلم‪ ،‬ألسنة اخللق أقالم احلق‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ارتفعت صيحة يف الطرف‪ ،‬فأشار العالف بيده طالبا اهلدوء‪ ،‬ثم‬
‫عدل عاممته وواصل‪:‬‬
‫‪- -‬لقد علمتم كيف تويف اخلليل‪ .‬لقد جلس يفكر عرشين يوما‬
‫كيف يضع قواعد حسابية ال ِ‬
‫يظلم بعدها أحدٌ أحد ًا يف احلساب‪،‬‬
‫دكان من خداع الشاب ِ‬
‫الغ ْمر‬ ‫ٍ‬ ‫صاحب‬ ‫بائع أو‬
‫ُ‬ ‫وال يتمكن بعدها ٌ‬
‫أو الفتاة الغريرة‪.‬‬
‫رأسه بني‬
‫ما إن نطق بتلك العبارة حتى قفز قلب اجلاحظ‪ .‬فدس َ‬
‫ركبتيه حماوال التخلص من الصورة التي هجمت عىل خياله‪.‬‬
‫تابع العالف حديثه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬كان يسعى إىل أن يستوي الناس يف علوم احلساب فال يستطيع‬
‫تاجر مهام كان أن يظلم آخر‪ ،‬فنظم قواعد حسابي ًة جتعل كل ما‬
‫اخلاطر بوقوعه بني الناس من معامالت حمفوظا ومعلوما‬
‫ُ‬ ‫هيجس‬
‫بالعدد‪ ،‬ولشدة استغراقه يف األمر ظل يدور بني سواري املسجد‬
‫إىل أن اصطدم بسارية فشجت رأسه فسقط‪ ،‬ومل يتعاف منها إىل‬
‫أن تويف رمحه اهلل‪.‬‬
‫انطلقت حناجر املشيعني بالرتحم‪ ،‬والدعاء‪ ،‬فنزل العالف من‬
‫فوق الصخرة‪ ،‬وتبادر الناس إىل النعش حلمله إىل املقربة‪.‬‬
‫حاول اجلاحظ التقدم جهة النعش وسط الزحام‪ .‬غري أن رجال‬
‫قوي البنية‪ ،‬ناصع البياض‪ ،‬تفوح من أردانه رائحة املسك‪ ،‬ويرخي‬
‫عاممة بني كتفيه‪ ،‬قفز أمامه حتى أصبح ال يرى إال منكبيه العريضني‪،‬‬
‫فحرمه من التقدم قيد أنملة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫حاول اجلاحظ‪ ،‬تأمل وجه الرجل صاحب املنكبني العريضني‬
‫محه‪ ،‬ففوجئ بأنه عيل بن املديني‪.‬‬
‫الذي ز َ‬
‫وقف مكانه وهو يفكر مل َ تقاعس عن محل النعش عند أول زمحة؟‬
‫ومل َ خانتْه ساقاه حتى وجد نفسه متأخرا الصفوف التي خترج من املنزل؟‬
‫حدثته نفسه حلظة خروجه من باب الدار أن يلتفت وراءه‪ ،‬و ّبخ‬
‫نفسه وقفز خارج البيت دون أن يلتفت‪ ...‬لك ّن قلبه كان متلفتا‪.‬‬
‫َ‬
‫***‬
‫محال و ُم ٍ‬
‫كار عند مدخل سوق املربد‪ ،‬ويزعم كل منهام أنه‬ ‫يتدافع ٌ‬
‫جتر محال ثقيال من أمتعة اشرتهتا ًّتوا‪ .‬ينقطع‬
‫سبق اآلخر إىل املرأة التي ّ‬
‫هنيق محار بقرهبام‪ ،‬فريكض احلماّ ُل جهة‬ ‫َ‬
‫اآلذان ُ‬ ‫يصم‬
‫اجلدال بينهام بعد أن َّ‬
‫مجاعة من األعراب دخلت السوق حاالً‪.‬‬
‫روائح الغبار‬
‫ُ‬ ‫ضحى‪-‬‬
‫ً‬ ‫تتزاحم يف السوق ‪-‬الذي يكتظ عادة‬
‫املتصاعد املختلط بروث البهائم‪ ،‬مع أ ْيامن الباعة املغ ّلظة‪ ،‬وهلجات‬
‫األعراب ا ُملستطرفة‪ ،‬و َلكَنات اجلواري والغلامن اهلجينة‪.‬‬
‫بدأ النهار يرتفع‪ ،‬غري أن اجلاحظ والنظا َم ال يملاّ ن من سامع‬
‫أحاديث األعراب‪ ،‬السيام إن كان األصمعي والكسائي يحُ ّرشان بينهم‪.‬‬
‫فهذا األصمعي والكسائي جالسان وسط مجاعة من األعراب يف طرف‬
‫السوق‪.‬‬
‫جيلس األصمعي عىل األرض الداكنة ليس بينه وبينها حائل رغم‬
‫نظافة جبته السوداء‪ ،‬ويرتبع الكسائي عىل حصري وبني يديه حمربة ودواة‬
‫وقراطيس‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫جيلس قبالة الكسائي أعرايب أسمر البرشة أشعث الرأس‪ ،‬نحيف‬
‫األعضاء مشتمال يف َش ْم َل ٍة ال تكاد تواري نصف جسمه‪ .‬ال يستقر‬
‫األعرايب عىل حال‪ ،‬فتارة جيلس عىل قدميه‪ ،‬وتارة ينكت يف األرض‬
‫بعصاه وهو يتكلم دون رفع عينيه إىل خماطبه‪.‬‬
‫رفع الكسائي برصه إىل األعرايب وقال‪:‬‬
‫أذهب إىل بيتي»؟‬
‫َ‬ ‫لكي ْ‬
‫أن‬ ‫«أردت ْ‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬هل يستقيم كالم من يقول‪:‬‬
‫‪- -‬ما سمعت هذا الكالم قط‪.‬‬
‫التفت األصمعي إىل الكسائي قائال‪:‬‬
‫‪- -‬لكنا سمعنا من يروي قول القائل‪:‬‬
‫تطير ِبق ْربت�ي‬
‫َ‬ ‫أردت لك ْيما ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬
‫فترتكَه�ا َش�نّ ًا ب َب ْي�دا َء بل َق�عِ‪.‬‬
‫فقال الكسائي‪ ،‬دون أن يرفع برصه عن دفاتره‪:‬‬
‫‪- -‬هذا بيت ال ُيعرف قائله‪ ،‬ونحن ال نحتج بالبيت املجهول قائله‪.‬‬
‫كان النظام يراقب دون أن يتحدث‪ ،‬أما اجلاحظ فكان ال يرفع‬
‫عينه عن األعرايب وبيده كراريس يكتب فيها‪ .‬تنحنح اجلاحظ وقال‬
‫لألعرايب‪:‬‬
‫‪- -‬من أي العرب أنت؟‬
‫‪- -‬أنا إيادي‬
‫‪- -‬ما أظنك إال دخيل ًة فيهم وما أنت منهم يف يشء‪ ،‬فأنا أعرف‬
‫سحنَهم وأكاد أميز َن َع َم ُه ْم يف مراتع الكأل‪ ،‬فكيف بمن هو‬
‫منهم صليب ًة!‬

‫‪91‬‬
‫وثب األعرايب من مكانه واقفا رافعا عصاه جهة اجلاحظ‪ ،‬حتى‬
‫كراريس الكسائي التي بني يديه‪.‬‬
‫َ‬ ‫الغبار‬
‫ُ‬ ‫فرق‬
‫قهقه اجلاحظ وهو يشري بيده لألعرايب أن جيلس‪ُ ،‬مقسام له أنه‬
‫يامزحه‪ .‬احتدم احلديث بني اجلاحظ واألعرايب‪ ،‬بينام كان الكسائي ال‬
‫يكف عن التبسم يف وقار‪ ،‬متعجبا من شطط اجلاحظ ورسعة غضب‬
‫بائع ينادي عىل كومة‬
‫ومر ٌ‬‫األعرايب‪ .‬جلس األعرايب مع متنع متصنع‪ّ ،‬‬
‫من البقول‪:‬‬
‫‪- -‬قرع قرع! من يشرتي القرع؟‬
‫التفت األعرايب عاقدا بني عينيه‪ ،‬مشريا إىل القرع بعصاه‪:‬‬
‫‪- -‬وما القرع؟!‬
‫أجابه الكسائي وهو يشيح بنظره برسعة عن فتاة حسناء مرت‬
‫بقربه‪:‬‬
‫رضب من البقول يكثر يف احلوارض‪ .‬أال تعرفونه يف باديتكم؟‬
‫ٌ‬ ‫‪--‬‬
‫‪- -‬ال أعرفه‪.‬‬
‫كان األعرايب جييب عىل أسئلة األصمعي والكسائي‪ ،‬لكنه بدأ‬
‫يتلفت ويكثر القول إنه يريد اللحاق بأهله قبل انتصاف النهار‪ .‬أدخل‬
‫الكسائي يده يف كمه وأخرج درمها ومده إليه‪ .‬فالتقطه بيمينه دون أن‬
‫يمدها حتى ال تسقط عصاه املثبتة حتت إبطه‪ .‬أخذ الدرهم ووقف دون‬
‫أن ينبس‪.‬‬
‫التفت اجلاحظ إىل الكسائي قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أترى أنه مل يسمع قط بالقرع؟‬

‫‪92‬‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬ال ُأراه أبرصه قبل اآلن‪.‬‬
‫ابتسم اجلاحظ بسخرية‪:‬‬
‫‪- -‬ما أرى إال أن نصف حلمه نبت من القرع‪ ،‬وأكاد أقسم أن أمه‬
‫حنَّكتْه به‪ .‬لكنه ملا علم أنكم تفضلون الرواية عن األعرايب‬
‫ِ‬
‫املفرط يف التوحش عىل الرواية عن األعرايب الذي ينزل احلوارض‬
‫تظاهر بجهل البقول‪.‬‬
‫ابتسم األصمعي رافعا طرف ثوبه ليضع يده اليرسى عىل النظام‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪- -‬كنت أنا والنظام هذا يف سوق الوراقني بالبرصة فوقف علينا‬
‫مستبشع املنظر‪ ،‬و َط ِف َق يكلمنا بلهجة أعراب‬
‫َ‬ ‫أعرايب مخُ َش ِ‬
‫وشن‬
‫َ‬
‫الديك إال يو َمه ذاك‪.‬‬ ‫الدور وال‬
‫َ‬ ‫ربيعة فام شككنا أنه مل ير‬
‫وجلست وسألته عن عرشين حرفا وكتبتها عنه‪ ،‬وما هي إال‬
‫ُ‬
‫محاد الراوية‪.‬‬
‫ساعة حتى أطل علينا ّ‬
‫التقت‬
‫ْ‬ ‫فلام دخل محاد‪ ،‬الحظنا اضطراب األعرايب وجزعه‪ ،‬فلام‬
‫أعينُهام ناداه محاد‪:‬‬
‫‪- -‬أهال بأيب ُلب ْينى!‬
‫قاهلا محاد ّ‬
‫ومط النون كاملتغني والساخر‪ ،‬فوضع األعرايب عاممته‬
‫عىل فمه وهو يضحك وو ّىل مدبرا‪.‬‬
‫أمسك اجلاحظ حزمة الكراريس التي بيده ولفها لفا ثم دسها يف‬
‫كمه وهو يلتفت إىل األصمعي‪:‬‬
‫‪- -‬أنا ال أدري ملاذا أوقفتم االحتجاج بالشعر عند بشار بن برد؟‬

‫‪93‬‬
‫ومل َ قلتم إن أشعار املولدين ال حيتج هبا؟ مع أين ال أشك يف أن‬
‫صاحبنا أبا نواس فصيح فصاحة األعراب‪.‬‬
‫‪- -‬إن األمر ال يتعلق بالفصاحة‪ .‬فنحن ال نشك يف كون عرصة املربد‬
‫هذه مألى بالفصحاء من أهل البرصة وعرهبا القاطنني فيها‪ ،‬وأن‬
‫فيها من يتفنن يف القول‪ .‬لكننا ال نكتب إال لغة األعراب التي مل‬
‫تشبها الرطانات‪ ،‬فاألذن ل ّقاطة ملا تسمع‪ ،‬وما‬
‫ختتلط باهلُجنة ومل ُ‬
‫نضمن إذا أطال العريب ال ُق ُّح املكث يف احلرض أن يعلق بلسانه‬
‫فنقيس عىل كالمه‪ ،‬فيصبح اللحن مصدرا من مصادر‬ ‫َ‬ ‫حلن‬
‫القواعد التي نضعها‪.‬‬
‫كان األصمعي يتحدث فبدأ جلساؤه يقرتبون منه متحلقني‪ .‬كان‬
‫ثابت األعضاء أثناء احلديث‪ .‬وضع الكسائي يده عىل ركبة‬
‫حلو الكالم َ‬
‫األصمعي وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل إن عجائب األعراب ال تنقيض‪ ،‬كنا مرة عند اخلليل نتدارس‪،‬‬
‫فجاءنا أعرايب مشتمل بشملة وجلس إلينا‪ ،‬فسمع كالمنا عن‬
‫الفاعل واملفعول واجلار واملجرور والعامل واملعمول‪ ،‬فدهش‬
‫انفض الدرس دعوناه‬
‫لكالمنا وأظهر االستغراب والتفجع‪ .‬فلام ّ‬
‫لألكل معنا يف أحد األخصاص‪ ،‬فلام مأل بطنه من السكباج‬
‫والكباب اضطجع عىل قفاه وجعل هُي ْينِ ُم بكالم غري مسموع‪.‬‬
‫فاقرتب منه يونس بن حبيب وقال له‪:‬‬
‫‪- -‬ما الذي هتينم به؟‬
‫‪- -‬إنام هي أبيات قلتها يف يومي هذا‪ ،‬فام زال جملسكم وطنطناتكم‬
‫يف أذين‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫‪- -‬إيه أسمعنا‪ .‬وماذا قلت؟‬
‫فرفع األعرايب رجليه وجلس دفعة واحدة –كأنه أرنب يف فالة‪-‬‬
‫وقال بلكنة أعايل هتامة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ب�أرض ال ت َُش ُّ‬
‫�ب هب�ا‬ ‫إين ربِ ُ‬
‫ي�ت‬
‫املج�وس وال تُبن�ى هب�ا البِ َي ُ‬
‫�ع‬ ‫ِ‬ ‫ن�ار‬
‫ُ‬
‫واخلنزي�ر تربتَه�ا‬
‫ُ‬ ‫وال ي َط�ا الق�ر ُد‬
‫يم والرئ ُ‬
‫ْب�ال والض ُب ُع!‬ ‫الر ُ‬
‫لك�ن هبا ِّ‬
‫فضحكنا منه‪ ،‬وكانت قصته سلوانا لغاية اجلمعة‪.‬‬
‫ما إن أهنى الكسائي القصة حتى وقف نافضا ثوبه وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬لقد انتصف النهار‪.‬‬
‫مد اجلاحظ يده للكسائي وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ال يطيب احلديث يف املربد إال من اآلن‪ .‬فقد بدأ احلماّ لون‬
‫وزعا ُقها‪ ،‬وسيطيب‬ ‫وقل صخب العامة ُ‬ ‫والب ّغالون يف االنرصاف‪ّ ،‬‬
‫ْ‬
‫تعجل‪.‬‬ ‫احلديث فال‬
‫‪- -‬إن الصبية ينتظرون طعامهم وما ك ّل ُ‬
‫فت من يأيت به‪ ،‬فعيل‬
‫االنرصاف حاال‪.‬‬
‫ولف عاممته ونادى‬
‫ضم الكسائي دفاتره‪ ،‬وشدها بسري من جلود‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ُمكاري ًا‪.‬‬
‫اقرتب هيودي قصري القامة طويل األنف‪ ،‬جير محارا من أذنه‪.‬‬
‫فبارده الكسائي‪:‬‬
‫‪- -‬بكم تأخذين إىل حي بني أسد؟‬

‫‪95‬‬
‫‪- -‬عرشة دوانق‪.‬‬
‫‪- -‬قفز الكسائي عىل ظهر احلامر فيام اندفع املكاري جيذب محاره من‬
‫أذنه وهو يتمتم ويغمغم‪.‬‬
‫كان ظل اخلص قد بدأ يف االنحسار عن اجللساء‪ ،‬مع أن أشعة‬
‫الشمس خفيفة الوقع بسبب تلبد السامء وتغيمها يف الشتاء‪ ،‬لكن النظام‬
‫طفق حيبو جهة تكاثف الظل داعيا جلساءه إىل ذلك‪ ،‬أما األصمعي‬
‫فاتكأ عىل يمناه واضعا نعليه حتت مرفقه كالوسادة‪ ،‬وقال موجها كالمه‬
‫للنظام‪ ،‬ويف صوته نربة هتكم‪:‬‬
‫‪- -‬يا أبا إسحاق‪ ،‬سمعت أنك بدأت تناظر شيخك العالف‪ .‬فلم‬
‫هذا العقوق؟‬
‫فقال اجلاحظ وهو ينظر إىل بائع ُب ُق ٍ‬
‫ول يعرض بضاعته‪ ،‬ومعدته‬
‫تكاد تتقدد جوعا‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل إنه ألعق من هرة!‬
‫ابتسم النظام ابتسامة باردة ليداري غاممة الضيق التي الحت يف‬
‫جبينه األسمر وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬ال ليس عقوقا‪ .‬وإنام نختلف ونتفق ونتناظر وما يف األمر عقوق‪.‬‬
‫فقال له اجلاحظ‪ ،‬دون أن ينظر إليه‪:‬‬
‫‪- -‬لكنه درسك وعلمك‪.‬‬
‫‪- -‬هو كذلك‪ .‬لكن احلق أحب إيل منه‪.‬‬
‫جاء البائع فوضع ِقنْع ًا مليئا بالفواكه‪ .‬فأخرج األصمعي –الذي‬
‫الحظ أن اجلاحظ ال يرفع برصه عن البقول‪ -‬كيسا واشرتى موزا‪،‬‬

‫‪96‬‬
‫وناول جلساءه منه وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬سمعت أن اخلليفة بعث يطلب إحصاء من يف البرصة من العلامء‬
‫والطالب‪ .‬فهل األمر صحيح؟‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬لقد مر بنا العالّف يف مجع من تالميذه ومعهم دفاتر وأحصوا‬
‫كل من كان مع اخلليل‪ ،‬حتى انحدروا إىل أصحاب الكتاتيب‬
‫يسألوهنم عن أسامئهم‪ .‬ولقد وجدوا يف البرصة سبعامئة عامل‬
‫وأحد عرش ألف متعلم‪.‬‬
‫‪- -‬واهلل إن هارون الرشيد مجع ما بني سؤدد الرئاسة وجالل العلم‪.‬‬
‫اعتدل األصمعي يف جلسته وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬كان اخلليفة املهدي أيضا حمبا للعلم مقدرا للعلامء قبله‪.‬‬
‫وتقديره‬
‫َ‬ ‫شعر اجلاحظ بحرارة جتتاحه وهو يسمع ذكر املهدي‬
‫للعلم‪ ،‬ذهب خياله إىل صورة الرجل الضخم اجلثة األعمى وهو جيلد‬
‫وسط ضحكات اجلواري وزجمرة اجلند‪.‬‬
‫أمسك عن مضغ نصف موزة‪ ،‬ومسح طرف شفته بكمه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬إن املهدي قد قتل بشارا‪ ،‬وواهلل ما يفعل ذلك إال جاهل بحق‬
‫العلم والعلامء‪.‬‬
‫‪- -‬ال ال‪ ،‬لقد قتله لزندقته‪.‬‬
‫عدّ ل اجلاحظ جلسته‪ ،‬مطبقا ذراعيه أمام ركبتيه وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ال يقول هذا مثلك‪َ .‬أو تصدق أن املهدي قتل بشارا لزندقته؟‬
‫ومتى كانت الزندقة املحضة سببا للقتل يف دولة اإلسالم؟ أال‬
‫اخلوزي وأرضابهَ ام كانوا جيلسون يف‬
‫َّ‬ ‫تذكر أن بشارا وصاحلا‬

‫‪97‬‬
‫جملس اخلليل‪ .‬وكان بشار ينشد شعره فإذا انتقده منتقد يقول‪:‬‬
‫هذه قصيدة أحسن من بقرتكم وآل عمرانكم‪ .‬فال يزيد الناس‬
‫عىل أن يضحكوا؟‬
‫كان اجلاحظ يتحدث ويرتفع صوته متصاعدا دون أن يدري‪ ،‬كان‬
‫أشبه بخطيب عىل منرب منه بجليس خياطب جلساء وأصحابا‪ .‬بدأت‬
‫مطرقي‬
‫نْ‬ ‫يداه ترجتفان وجبهته تتعرق وهو يتحدث‪ .‬أما صاحباه فكانا‬
‫ينظران إليه‪:‬‬
‫وترتس‬
‫ٌ‬ ‫‪- -‬واهلل مل َيقتل خليفة قط عىل الزندقة‪ ،‬وإنام هي معاذير باردة‬
‫من لوم الناس للسلطان عىل أنه قتل رجال من املسلمني –أو من‬
‫غريهم‪ -‬عىل بيت من الشعر أو كلمة أو مقالة‪ ،‬وأنتم تعرفون أننا‬
‫نجتمع يف مسجد البرصة ونحرض املناظرة الطويلة بني من يقول‬
‫بالثنوية ومن يقول بالوحدانية‪ ،‬فام أنكر ذلك أحد من اخللفاء‪.‬‬
‫متلمل األصمعي‪ ،‬ثم اعتدل يف جلسته وهو يضع قرشة موز عىل‬
‫األرض قائال‪:‬‬
‫جالست املهدي وما رأيت منه إال إكباره للعلم وتقديره‬ ‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬
‫للعلامء‪ ،‬ولقد كان يأيت إيل ومعه غلامنه فيجالسني ويسألني عن‬
‫أيام العرب‪ ،‬ثم ال خيرج حتى هيديني املال الكثري‪.‬‬
‫ِ‬
‫الغضبان وقال‪:‬‬ ‫يتلم ُظ ت َل ُّم َظ‬
‫ز ّم اجلاحظ شفتيه َّ‬
‫‪- -‬ذاك فعله معك‪ ،‬لكن فعله مع بشار ما سمعت‪ .‬فام الذي جعله‬
‫يتحفك بالتحف والدنانري ويتحف بشارا بالسياط احلامية؟ إال‬
‫أنك الينْتَه وأسمعته ما يريد أم‪....‬‬
‫كان اجلاحظ يتحدث متخيال نفسه حتت السياط احلامية وابنة‬

‫‪98‬‬
‫اخلليل بن أمحد تنظر إليه‪ ،‬فشعر بحمية جتتاحه‪ ،‬فارتفع صوته وهو‬
‫يتحدث‪...‬‬
‫ثم أفاق منتبها إىل أنه أغلظ القول لشيخه األصمعي‪.‬‬
‫ساد صمت‪.‬‬
‫ثم نظر اجلاحظ إىل األصمعي فرآه ينظر إليه بتضايق‪ .‬حاول تدارك‬
‫األمر قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أنا ال أشك يف أنك كنت تنصحه يف خلواتك معه‪ ،‬لكني كذلك‬
‫ال أشك يف أنه مل يقتل بشارا إال بسبب سخريته منه وحتريش‬
‫العامة عليه‪.‬‬
‫‪- -‬دعنا من هذا‪.‬‬
‫قاهلا األصمعي وهو يشيح بوجهه عن اجلاحظ ليخاطب النظام‬
‫بقوله‪:‬‬
‫‪- -‬هل ترى أن اجلاحظ لو جالس املهدي أو أحد اخللفاء سينصحه‬
‫عىل رؤوس األشهاد؟‬
‫قال النظام وهو يلعب بحاجبيه‪:‬‬
‫‪- -‬ال واهلل! فصاحبي يكره الظلم قدر حبه لإلحسان‪ ،‬ويمقت‬
‫الظاملني كام حيب املحسنني‪ .‬وحينو عىل الضعاف لكنه عىل نفسه‬
‫حنوا‪.‬‬
‫أكثر ّ‬
‫ق ّطب اجلاحظ جبينَه ُمواريا ابتسام ًة فضحتها ابتسام ٌة ندّ ْت من‬
‫شفتيه‪.‬‬
‫عادت النفوس إىل أماكنها بعد االستفزاز واالستنفار‪ ،‬وج ّفت‬

‫‪99‬‬
‫حبيبات العرق التي جتمعت قبل قليل عىل جبني اجلاحظ يف هذا اليوم‬
‫الشايت‪ .‬فحرك عينيه مشريا بذراعه الطويلة إىل جنبات السوق التي‬
‫بدت شبه خالية‪:‬‬
‫نم ْل إىل دار صاحبنا سهل بن هارون‬‫‪- -‬لقد كاد السوق خيلو‪ ،‬ف ْل ِ‬
‫لنصيب عنده طعاما‪.‬‬
‫قال له النظام وهو يبصق عىل األرض‪:‬‬
‫‪- -‬أنت تعلم أنه ليس يف جنبات البرصة أبخل منه‪.‬‬
‫‪- -‬أعلم ذاك‪ ،‬ولذلك أعترب بخ َله إدام ًا لطعامه‪ ،‬فبخله به جيعله‬
‫قط أشهى‬‫ذقت طعاما ّ‬
‫سلس املرور يف بطني‪ ،‬فام ُ‬ ‫شهيا يف حلقي‪َ ،‬‬
‫من أطعمة البخالء‪ ،‬فأنا أنوي بأكله التنكيد عليهم فيسيغه ذلك‬
‫ِ‬
‫ويأدمه وهيضمه‪.‬‬
‫دوت ضحكات رفيق ْيه وهم يسريون وسط السوق جتاه البغال‬ ‫ّ‬
‫املربوطة عند بابه‪ .‬التفت النظام إىل اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫حدثت األصمعي بقصة سهل بن هارون مع رأس الديك؟‬
‫َ‬ ‫‪- -‬هال‬
‫ُ‬
‫اجلاحظ صور َة سهل بن هارون جالسا يف‬ ‫وقف ثالثتهم‪ ،‬واستعاد‬
‫ِ‬ ‫جملسه يف يوم ٍ‬
‫شات وقد دخل عليه خادمه ووضع الطعام عىل اخلوان‪،‬‬
‫سهل رأسه ورصخ‪:‬‬ ‫فرفع ٌ‬
‫‪- -‬أين رأس الديك!؟‬
‫فارتبك الغالم وقال‪:‬‬
‫‪- -‬رميتُه!‬
‫‪- -‬صحيح‪ ،‬رميتَه يف بطنك‪ ،‬أخزاك اهلل!‬

‫‪100‬‬
‫ثم تأمل ٌ‬
‫سهل وجو َه الرجال اجلالسني يف بيته‪ ،‬فخاف أن ينكروا‬
‫وجهه بطرف ثوبه وقال هبدوء‪:‬‬
‫عليه اهتام َمه برأس ديك‪ ،‬فمسح َ‬
‫‪- -‬إن الرأس أشهى األعضاء‪ ،‬وذلك الختالف الطعوم فيه‪« .‬فالرأس‬
‫وطعمهام يشء عىل‬ ‫فيه الدماغ‪ :‬فطعم الدماغ عىل ٍ‬
‫حدة؛ وفيه العينان‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وطعمها‬
‫ُ‬ ‫ومؤخر العني‬
‫ّ‬ ‫حدة؛ وفيه الشحمة التي بني أصل األذن‬
‫وأنعم من‬
‫ُ‬ ‫خاصة أطيب من ّ‬
‫املخ‬ ‫عىل حدة‪ .‬عىل أن هذه الشحمة ّ‬
‫وطعمه يشء عىل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اللسان‬ ‫السالء؛ ويف الرأس‬
‫الزبد وأدسم من ّ‬
‫وطعمهام يشء‬
‫ُ‬ ‫حدة‪ .‬وفيه اخليشوم والغرضوف الذي يف اخليشوم‪،‬‬
‫عىل حدة؛ وفيه حلم اخلدّ ين وطعمه يشء عىل حدة»‪.‬‬
‫فبارده أحد جلسائه‪ ،‬وقال وهو ينظر إىل اخلادم الواقف وهو‬
‫يرجتف‪:‬‬
‫تلم‬
‫‪- -‬ولكنك –يا اب َن هارون‪ -‬رجل من أهل احلكمة والعقل‪ ،‬فال ْ‬
‫املسكني عىل رأس ديك!‬
‫َ‬ ‫هذا‬
‫فانتفض‪ ،‬سهل‪ ،‬ورمى عاممته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬إن اهتاممي برأس الديك إنام مر ُّده إىل اهتاممي باحلكمة والعقل‪.‬‬
‫«فالرأس س ّيد البدن‪ ،‬وفيه الدماغ‪ ،‬وهو معدن العقل‪ ،‬ومنه‬
‫السامعة والذائقة؛ وإنام األنف واألذن بابان‪ .‬ولوال أن‬
‫تتفرق ّ‬
‫ّ‬
‫العقل يف الرأس ملا ذهب العقل من الرضبة تصيبه‪ ،‬ويف الرأس‬
‫احلواس اخلمس‪ .‬ولذلك قال األعرايب‪:‬‬
‫إذا احتملوا رأيس‪ ،‬ويف الرأس أكثري‬
‫و ُغ ِ‬
‫�ود َر عن�د امللتق�ى َث َّم س�ائري!»‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ما إن أهني اجلاحظ القصة حتى كان األصمعي يكاد يسقط‬
‫ِ‬
‫ضحكا‪ ،‬وكانت عينا النظام مرتعتان دموعا‪ .‬فرفع رأسه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬يشء عجيب!‬
‫أمسك اجلاحظ يد األصمعي وقال‪:‬‬
‫والبد أن أقص عليك قصة صاحب سهل‪ ،‬عبد الرمحن مع ابنه‪.‬‬
‫فقال األصمعي وكالمه يكاد ال يتضح ملغالبة الضحك‪:‬‬
‫‪- -‬وما هي يا أبا عثامن؟‬
‫اللحم‬
‫َ‬ ‫كان عبد الرمحن هذا –وهو من أبخل أصحابنا‪ -‬ال يأكل‬
‫إال مرة واحدة يف األسبوع‪ .‬وكان ال يدع ولده جيلس عىل ِ‬
‫اخل َوان إال بعد‬
‫وهنم الصبيان‪ ،‬وشرَ َ َه‬ ‫ٍ‬
‫تشرَ ُّ ط كثري‪ ،‬ثم يقول له إذا مدّ يدَ ه ليأكل‪« :‬إياك َ‬
‫وأخالق النوائح‪ .‬ودع عنك خبط امللاّ حني‪ ،‬وهنْ َش األعراب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الزراع‪،‬‬‫ُّ‬
‫وكل من بني يديك‪ ،‬فإنام ح ّظك الذي وقع وصار أقرب إليك‪ .‬واعلم‬ ‫ْ‬
‫–عد ْمتُك!‪ -‬أنه إذا كان يف الطعام يشء طريف ولقمة كريمة ومضغة‬ ‫ِ‬
‫ولست واحدا منهام‪.‬‬ ‫َ‬ ‫شه ّية‪ ،‬فإنام ذلك للشيخ ا ُملعظم والصبي املدلل‪،‬‬
‫وتدخل منازل وعهدك باللحم‬ ‫ُ‬ ‫الوالئم‪،‬‬ ‫وتيب‬ ‫ِ‬
‫الدعوات جُ‬ ‫فأنت قد تأيت‬
‫َ‬
‫قريب‪ ،‬وإخوانك أشدّ َق َرما إليه منك‪ .‬وأنا ‪-‬بعدُ ‪ -‬أكره لك املواال َة بني‬
‫اللحم! فإن اهلل ُيبغض َ‬
‫أهل البيت اللحمني‪ .‬وكان عمر يقول‪« :‬إياكم‬
‫وهذه املجازر‪ ،‬فإن هلا رضاوة كرضاوة اخلمر»‪ .‬وكان يقول‪« :‬مدم ُن‬
‫اللحم كمدمن اخلمر»‪ .‬وقال املسيح ‪-‬ورأى رجال يأكل اللحم‪« -‬حلم‬
‫نفسك األثرة وجماهد َة اهلوى‬
‫عو ْد َ‬
‫بني! ّ‬
‫أي َّ‬
‫أف هلذا عمال»‪ّ .‬‬
‫يأكل حلام‪ٍّ ،‬‬
‫خضم الرباذين‪ ،‬وال‬
‫َ‬ ‫هنش األفاعي‪ ،‬وال تخَ ْ‬
‫ضم‬ ‫َنهش َ‬
‫والشهوةَ‪ ،‬وال ت ْ‬

‫‪102‬‬
‫َ‬
‫األكل إدام َة النعاج‪ ،‬وال تلقم لقم اجلامل»‪.‬‬ ‫ت ُِدم‬
‫وتوقف اجلاحظ عن احلديث‪ ،‬فقال له األصمعي‪:‬‬
‫‪- -‬أخربوين أنك جتمع هذه األقاصيص وأرضابهَ ا يف كتاب عن‬
‫البخالء؟‬
‫وتبسم اجلاحظ‪ ،‬وجاء صوت النظام‪:‬‬
‫‪- -‬ستذهب إىل سهل وحدك‪ ،‬أما نحن فذاهبان يف طريق آخر‪.‬‬
‫وقرب اجلاحظ بغال‬
‫وتفرقوا وهم يقرتبون من باب سوق املربد‪ّ ،‬‬
‫ملوحا هلام بالوداع‪.‬‬ ‫كار ِسن ٍ‬
‫ْدي ّ‬ ‫ُمل ٍ‬
‫طلب املكاري من اجلاحظ أن يقفز عىل ظهر البغل‪ ،‬لكن اجلاحظ‬
‫مل يقفز‪.‬‬
‫ركب هبدوء –كام َيركب البدين‪ -‬خوفا من تشقق اإلزار الوحيد‬
‫الذي يملك‪ .‬رضب املكاري َ‬
‫البغل ليرسع‪ ،‬بينام بدأ ذه ُن اجلاحظ خيرج‬
‫جو السوق‪ ،‬لينرصف للتفكري يف متارض بنت اخلليل‪.‬‬
‫من ّ‬
‫***‬

‫‪103‬‬
‫الدوحة‪1438 ،‬هـ‬

‫القروي عىل مكتبه منشغال هبوايته املفضلة‪ .‬يضع نصا يف‬


‫ُّ‬ ‫جيلس‬
‫خانة ترمجة غوغل‪ ،‬ثم يقرتح ترمجة بديلة‪ .‬خطر له أن يمتحن غوغل‬
‫بنص للجاحظ ويرى مدى دقته‪ .‬اختار اجلملة التالية من «البيان‬
‫والتبيني»‪:‬‬
‫سمعت‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫البيان الذي‬ ‫«والدالل ُة الظاهر ُة عىل املعنى اخلفي‪ :‬هو‬
‫اهلل تبارك وتعاىل يمدحه ويدعو إليه وحيث عليه‪ .‬بذلك نطق القرآن‬
‫أصناف العجم»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫العرب وتفاضلت‬
‫ُ‬ ‫وتفاخرت‬
‫فجاءت الرتمجة‪:‬‬
‫‪«The significance of the phenomenon on the hidden‬‬
‫‪meaning: it is the statement I heard the Almighty God praises‬‬
‫‪and calling him and urges him. Thus, the Koran pronunciation‬‬
‫‪and boasted Arabs and Persians differentiated varieties».‬‬

‫ابتسم منهمكا يف تصحيح النص اإلنكليزي عىل غري عادته‪ .‬فهو‬


‫عادة يصحح ترمجة غوغل من اإلنكليزية إىل العربية‪ ،‬سعيا لصقل‬
‫الذائقة الغوغلية عربيا‪.‬‬
‫وبينام كان منهمكا يف التصحيح‪ ،‬جاءه مازن راكضا ومهس يف أذنه‪:‬‬
‫بسام رئيسا للتحرير؟‬
‫‪- -‬هل علمت بإمكانية تعيني ّ‬

‫‪105‬‬
‫‪- -‬مستحيل‪.‬‬
‫‪- -‬أنا جاد‪ ،‬لقد سمعت اخلرب من سكرترية رئيس التحرير‪.‬‬
‫التفت القروي نصف التفاتة دون رفع برصه عن الشاشة وقال‪:‬‬
‫العرب‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬باهلل‪ ،‬شوف ترمجة غوغل لكالم الـجاحظ‪ .‬لقد دمر‬
‫املعارصون ذائق َة غوغل املسكني‪.‬‬
‫شعر مازن ببعض امللل‪ ،‬لكنه مال جهة الشاشة وقال‪:‬‬
‫‪- -‬طريف؛ العجم هم الفرس فقط؟‬
‫اسم لغري العرب‪ ،‬لكن‬
‫‪- -‬تلك ليست أسوأ ما فيه‪ .‬فالعجم يف اللغة ٌ‬
‫خيصون هبا الفرس‪.‬‬‫العرب أحيانا ّ‬
‫‪- -‬صحيح‪ ،‬أهل اخلليج هنا يسمون ال ُفرس العجم‪.‬‬
‫ماشيي إىل خمرج خلفي يقود لفناء مفتوح‬
‫نْ‬ ‫وقفا وش ّقا غرفة األخبار‬
‫جيلس فيه بعض املدخنني‪ .‬أخرج مازن سيجارا كوبيا وأشعله قائال‪:‬‬
‫بسام رئيسا للتحرير‪.‬‬
‫سيعي ّ‬
‫نّ‬ ‫‪- -‬اخلرب مؤكد يا صديقي‪.‬‬
‫‪- -‬رئيس التحرير احلايل ممتاز بعقله التحريري وصياغاته اخلربية‪.‬‬
‫فلم يقال؟‬
‫وهو جيد يف إدارة الفريق َ‬
‫‪- -‬ال أدري‪ .‬سمعت أن نائبه تآمر عليه مع بعض املقربني منه حتى‬
‫وجدوا مستمسكات تدينه‪.‬‬
‫استند القروي عىل طرف اجلدار‪ ،‬وهو ينظر إىل املصابيح الكهربائية‬
‫يف طرف الشارع قرب سوق واقف‪ .‬تذكر أن من أسباب قدومه إىل هذه‬
‫البالد إيامنه بإخالص أهلها يف حب العرب وخدمة لغتهم‪ ،‬فقال بنربة‬
‫انزعاج‪:‬‬

‫‪106‬‬
‫‪- -‬ميزة رئيس التحرير أنه يملك وعيا حضاريا عميقا‪ .‬فهو يفهم‬
‫أن اللغة األم عامد النهضة‪ ،‬ولن تقوم هنضة إال عىل سيقان اللغة‬
‫املغموس يف بحار العجمة ‪-‬كام يقول ابن‬
‫ُ‬ ‫األم‪ .‬أما ذلك األصلع‬
‫خلدون‪ -‬فال أستطيع ختيله مسؤوال‪.‬‬
‫والتقم مازن سيجاره بنهم‪ ،‬وقال بلهجة فالّح من ضواحي رام‬
‫اهلل‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ما نعرف املصلحة وين يا صديقي!‬
‫وسمعا صوت منتج قادم يركض‪:‬‬
‫‪- -‬تعال يا مازن‪ ،‬النرشة قريبة!‬
‫ودخال إىل غرفة األخبار‪ .‬ركض مازن إىل قسم املقابالت‪ ،‬وجتاوز‬
‫القروي الغرفة إىل القسم التقني مرتصدا حصة إبراهيم‪ .‬دخل‪ ،‬فرأى‬
‫صديقتها البدينة فاغرة فاها محُ ملق ًة يف احلاسوب‪ ،‬وعن يمينها علبة‬
‫بالستيكية من مرشوبات مكدونالدز‪ .‬تردد يف سؤاهلا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪- -‬هال‪ ،‬باهلل حصة داومت اليوم؟‬
‫‪- -‬واهلل ما أدري!‬
‫ونطقت «ما» مفخم ًة بلكنة فارسية كأن صوهتا قاد ٌم من بئر سحيق‪.‬‬
‫وشعر بالندم عىل سؤاهلا‪ ،‬وقبل خروجه من القسم رأى حصة خارجة‬
‫من غرفة قريبة‪.‬‬
‫تلعثم كالمها‪.‬‬
‫وقفا يف طرف املمر الواسع مرتبكني لوقوفهام وكأهنام يضيقان‬
‫الطريق‪ .‬غري أن الرغبة يف احلديث كرست احلرج‪ .‬وقفا‪ ،‬دون أن‬

‫‪107‬‬
‫يكون يف ذهن أحدمها ما يريد قوله لآلخر‪ .‬املهم أن يقفا معا‪ ،‬متقابلني‬
‫ترتاقص أعينهام سعادة‪.‬‬
‫قال ساعيا لكرس احلرج‪:‬‬
‫‪- -‬كيف عملك اليوم؟‬
‫‪- -‬ممتاز‪.‬‬
‫والتفت وراءه فرأى صديقتها البدينة ترمقه بحنق‪ .‬فامل جهة‬
‫حصة‪:‬‬
‫َك تلك؟‬ ‫‪- -‬باهلل‪ ،‬مل ال تبيعني صديقت ِ‬
‫َ‬
‫‪- -‬كيف يعني؟‬
‫‪- -‬كان اجلاحظ يكره أهل مدينة خوزستان يف فارس ويقول‪ :‬من‬
‫خوزي ف ْليب ْعه!‬
‫ٌّ‬ ‫جار‬
‫كان له ٌ‬
‫تضاحكت‪ ،‬مستثقل ًة حديثه عن اجلاحظ وهي تنظر داخل حقيبتها‬
‫قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬ال بالعكس‪ ،‬ترى هي طيبة‪.‬‬
‫وأخرجت هاتف نوكيا القديم‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬عندي عمل‪...‬‬
‫‪- -‬دعينا نلتق يف الكافيرتيا إن وجدت وقتا‪.‬‬
‫‪- -‬إن شاء اهلل‪.‬‬
‫تعر َق جبهته وانعقا َد لسانه‬
‫وعادت إىل مكتبها‪ ،‬واستدار مستغربا ّ‬
‫شنقيطي حيدو إب َله‬
‫ٍ‬ ‫دندن بصوت‬‫عندما رآها بغتة‪ .‬عاد إىل مكتبه‪ ،‬وهو ي ِ‬
‫ُ‬
‫وقت املغيب‪:‬‬

‫‪108‬‬
‫أن أراه�ا ُفج�اء ًة‬
‫وم�ا ه�و إال ْ‬
‫ُفأبهْ َ َ‬
‫�ت‪ ،‬حت�ى م�ا أكا ُد ُأ ُ‬
‫بين!‬
‫وسمع صوت صحفي قادم من قسم االقتصاد‪:‬‬
‫‪- -‬إيه ده؟ عايزين هدوء يا ناس!‬
‫وأرص عىل ترديد البيت بصوت‬
‫ّ‬ ‫تصا َم َم عن احتجاج زميله‪،‬‬
‫ورد‪ ،‬وهو يبتستم‬ ‫ٍ‬
‫عال مرة أخرى‪ ،‬وهو جيلس إىل مكتبه‪ .‬فتح ملف ُو ْ‬
‫حب اجلاحظ لتامرض بنت اخلليل!‬
‫مستغربا أنه يتطلع إىل معرفة مصري ّ‬
‫***‬
‫يتموج‬
‫ّ‬ ‫تكاد الريح تصك باب الغرفة‪ ،‬غري أن الزعازع التي‬
‫هبا خاطر اجلاحظ كانت أقوى‪ .‬كيف ملثيل أن يعشق‪ ،‬وما قيمة تلك‬
‫درست إذا كان العقل يطيش عند مرور أول‬
‫ُ‬ ‫األطامر والكتب التي‬
‫ٍ‬
‫غزال أحوى؟‬
‫رمى وسادة كانت عن يمينه‪ ،‬ونزل من فوق الرسير املهرتئ‬
‫ليجلس عىل األرض‪ ،‬وضع يديه عىل رأسه فكادتا تغطيانه‪ .‬ثم بدأ‬
‫هيينم بأشعار يف احلنني والوجد‪.‬‬
‫استغرب كيف أن شعر الغزل قد يتحول عند العاشق إىل عقار‬
‫يلتهمه كاملجنون ليتخفف من زوابع روحه‪.‬‬
‫ِ‬
‫طف َق يذهب وجييء يف الغرفة مفكرا يف حاله‪ ،‬ها هو ذا بكل عقله‬
‫وعلمه وحيدا هيذي دون أن يملك عىل نفسه سلطانا! وكل ذلك بسبب‬
‫ٍ‬
‫وضاء ملحهام قبل سنني‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بنان خمضوب وجبني‬
‫كان عقله ال يتوقف متسائال‪ :‬إذا كان العقل ال يملك سلطانا عىل‬

‫‪109‬‬
‫أثق بكل تلك األطامر والفلسفات املرمية يف‬
‫القلب إىل هذا احلد‪ ،‬فلامذا ُ‬
‫ذلك الركن؟ مل َ أثق يف أن ما قاله واصل بن عطاء أو احلسن البرصي‬
‫أو أريسطو طاليس غري تابع مليوهلام البعيدة عن العقل؟ وما أدراين أن‬
‫العقل الذي تتحدث عنه الكتب ما هو إال خادم ذليل ط ّي ٌع للميول‬
‫واألهواء وزوابع الوجدان؟‬
‫ثم ابتسم ساخرا من نفسه‪ :‬وما الفرق بني العقل والقلب أصال؟‬
‫تح من ٍ‬
‫معني واحد ويتأثر بصاحبه وجاره‪.‬‬ ‫يم ُ‬
‫فكالها عضو ْ‬
‫كان وحيدا يف الغرفة املربعة الشكل اململوءة بالكتب والكراريس‪.‬‬
‫يوجد قرب الباب كرسيان خشبيان‪ .‬يأيت بعدمها الرسير املنحرف إىل‬
‫اليمني يف ركن الغرفة‪ .‬توجد منضدة خشبية ملبسة بقامش‪ ،‬فوقها قلم‬
‫وكتاب‪.‬‬
‫غري أن املنضدة أقرص قليال من الرسير‪ ،‬ولذلك فالكتابة عليها غري‬
‫مرحية عندما ينحني عليها وهو عىل رسيره‪.‬‬
‫أما املساحة الباقية فمفروشة بحصري من جريد النخل مغطى‬
‫تبي من كثرة الكتب والقراطيس املتناثرة‪.‬‬
‫بلحاف مهرتئ‪ ،‬ال يكاد لونه ُي نّ ُ‬
‫يف هناية الزاوية عن يسار الباب‪ُ ،‬وضعت طاولة ذات ثالث قوائم‬
‫عليها مواعني مبعثرة‪.‬‬
‫توجد نافذتان إحدامها مرشعة جهة اجلنوب واألخرى جهة‬
‫ُطمر من اخلارج‬
‫الشامل‪ .‬غري أن تلك املرشعة جهة اجلنوب تكاد ت َ‬
‫بالرمال الزاحفة التي أوشكت أن تغطي نصف جدار البيت‪ .‬لذلك‬
‫جيد اجلاحظ صعوبة يف فتحها أحيانا كثرية‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫انحنى ليستخرج من حتت رسيره إسطرالبا وضعه عىل األرض‪،‬‬
‫ونظر فيه ليعرف التوقيت بالضبط‪ ،‬فقد وعده النظام البارحة بأنه‬
‫سيزوره‪.‬‬
‫أعاد اإلسطرالب إىل مكانه‪ ،‬وهو يفكر يف حديث األعراب عن‬
‫معرفة األوقات باحلدس‪ ،‬مقارنا يف ذهنه بني فضائل احلدس الفطري‬
‫يف البادية‪ ،‬وفضائل الصناعة يف احلرض‪.‬‬
‫خرج من باب احلجرة ونظر يف جنبات احلائط املتعرج املحيط‬
‫بحجرته‪ ،‬متسائال يف نفسه هل حان موعد دفع إجيار السكن أم ال؟ ثم‬
‫فكر قليال يف مالك احلجرة ووعورة أخالقه‪ ،‬متذكرا كيف اضطر ليقول‬
‫له الشهر املايض‪ :‬كأنك تتعمد خمالفة احلديث‪« :‬رحم اهلل من باع سمحا‬
‫واشرتى سمحا»‪.‬‬
‫املؤجر يف جبته املتسخة وشعره الثائر رغم ملكه أكثر من‬
‫َ‬ ‫تذكّر‬
‫عرش دور يف البرصة‪ .‬ثم التفت جهة باب احلائط فرأى النظام قادما‪.‬‬
‫ما إن ملحه حتى تلقاه‪ ،‬فمع كوهنام ال يفرتقان إال أهنام ال يلتقيان‬
‫بعد فراق ساعة إال كان كل منهام أشد هلفة عىل اللقاء واحلديث‪.‬‬
‫بادر النظام قائال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف كانت ليلتك؟‬
‫‪- -‬ال تسأل!‬
‫قاهلا اجلاحظ وقد وضع قدمه داخل احلجرة‪ .‬تقدم خطوات ورمى‬
‫بجسمه عىل الرسير‪ ،‬فيام جلس النظام عىل الكريس‪.‬‬
‫دارت عينا النظام وهو يمسح أرنبة أنفه األفطس قائال‪:‬‬

‫‪111‬‬
‫‪- -‬ما بال ليلتك؟‬
‫جلس اجلاحظ واضعا كفيه بني ركبتيه ضاغطا عليهام –وهي‬
‫هتمم ألمر‪ -‬وهو يقول‪:‬‬
‫حركة يفعلها إذا ّ‬
‫‪- -‬ما زال خياهلا يسكن عقيل‪ .‬وقد عزمت عىل خطبتها من أهلها‪.‬‬
‫مدّ النظام يده وراء ظهره مصطنعا حكّة يف كتفيه حتى يداري‬
‫استغرابه‪ ،‬وقال بنربة غري مكرتث‪:‬‬
‫‪- -‬وهل تراك قادرا عىل النفقة والكسوة اآلن؟‬
‫‪- -‬ال واهلل‪ .‬لكن قدريت عىل اإلنفاق أقوى من قدريت عىل التحمل‪.‬‬
‫هم تظلل وجه صديقه‪ .‬وأحس يف‬ ‫التفت النظام فرأى غاممة ّ‬
‫جتاويف صوته حزن ًا عميقا وصبابة عذبة‪ .‬تأمل وجهه‪ ،‬ثم رسح عين ْيه‬
‫يف أطراف الغرفة متخيال قدوم معشوقته إىل هذا املكان املوحش‪ .‬رفع‬
‫وجهه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬يا أبا عثامن‪ ،‬أال ترى أنك يف عشقك لتلك الفتاة قد ظلمت‬
‫وتعجلت من وجوه ثالثة‪ .‬فأنت‪..‬‬
‫َ‬ ‫نفسك‬
‫وقبل اسرتسال النظام قاطعه اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬باهلل عليك جنبني تشقيق الكالم وتوزيعه إىل مقدمات‪،‬‬
‫وتقسيامت ونتائج‪..‬‬
‫ابتسم النظام قائال‪:‬‬
‫طعمه‪.‬‬
‫الناس َ‬
‫‪- -‬يشء عجييييب! البد أن تذوق شيئا مما تُذيق َ‬
‫عاد اجلاحظ بصوت جاد مرتع باهلم‪:‬‬
‫احتلت حتى رأيتها قبل أيام‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬

‫‪112‬‬
‫‪- -‬وهل حدثتها عن حبك هلا؟‬
‫‪- -‬نعم‪ .‬لقد أعلمتني جارية جارهتم أهنا ذاهبة لسوق العطارين‪،‬‬
‫فكمنت هلا هناك‪ .‬ثم تقدمت هلا وحدثتها عن مييل إليها‪.‬‬
‫ُ‬
‫برقت أسارير النظام كأنه طفل‪:‬‬
‫‪- -‬وماذا قالت؟‬
‫‪- -‬لقد ماشيتها من وسط سوق العطارين إىل هنايته‪ ،‬ثم عربت هلا‬
‫عن تعلقي بالزواج منها‪ ،‬لكنها مل تضع يف يدي شيئا‪.‬‬
‫قام النظام من مكانه ثائرا وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬أمل تقل يل مرة إن الرجل ال خيلو باملرأة فيسمعها من حديث احلب‬
‫واهلجر والقرب والبعد‪ ،‬ويقسم هلا ويفدّ هيا بأبيه وأمه ونفسه‪ ،‬إال‬
‫أجابته كائنة من كانت؟‬
‫‪- -‬بىل‪ ،‬لكني كنت عجال وكانت املرة األوىل التي أراها فيها وكنت‬
‫أخشى العيون‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يتحدث‪ ،‬ثم تذكر الفتاة وتصعيدها النظر فيه‪ ،‬فطاف‬
‫به خاطر حزن؛ فتصعيدها النظر يف وجهه وأطرافه لن يكون بداعي‬
‫اإلعجاب قطعا‪.‬‬
‫أحس النظام بانشغال ذهن صديقه فبادره‪:‬‬
‫‪- -‬لكني ال أرى أن أهلها سيقبلونك زوجا هلا‪ ،‬ثم ما الذي يدعوك‬
‫للتعلق هبا‪ ،‬فغريها كثري‪...‬‬
‫هنا وقف اجلاحظ كأنه كان ينتظر هذا السؤال‪.‬‬
‫بدأ يدور بني رسيره وكريس النظام وهو يقول‪:‬‬

‫‪113‬‬
‫نار تتوقد‪ ،‬وشعل ٌة تتوهج‪ .‬طينُتها حرةٌ‪ ،‬وعر ُقها‬
‫‪- -‬هي فتاة كأهنا ٌ‬
‫طيب‪ ،‬ومنشؤها حممود‪.‬‬
‫كريم‪ ،‬و َمغرسها ٌ‬
‫‪- -‬مقا ُم احلديث ليس طينتها هي وال حسنها‪ ،‬بل‪....‬‬
‫قاهلا النظام وهو يطرد ذباب ًة ّ‬
‫بكمه‪.‬‬
‫غري أن اجلاحظ كان ما زال ِ‬
‫مغمضا عينيه متخيال فتاته مواصال‬
‫حديثه‪:‬‬
‫‪- -‬ولقد ُغ ْ‬
‫ذيت بالنعمة وجرى يف أطرافها ماء احلياة‪ ...‬واهلل إهنا‬
‫لنهر من أهنار اخللود‪ ،‬ونفحة من نفحات اجلامل‪ ،‬وخاطر من‬
‫خواطر الرسور‪.‬‬
‫فتح اجلاحظ عينه فرأى النظام مبتسام فقال‪:‬‬
‫بالغت؟‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬مل َ تبتسم ومل َ ال تعني صاحبك؟ َأو حتسبني‬
‫‪- -‬واهلل ال أرى إعانتك إال أن تقلع عن هذا فام أرى القوم‬
‫سيزوجونك‪ .‬وما أرى إال أن تصرب حتى جتد لك جارية تترسى‬
‫هبا‪.‬‬
‫عاد اجلاحظ وجلس عىل رسيره‪ ،‬ثم تذكر أنه مل يعرض طعاما وال‬
‫رشابا عىل صاحبه‪ ،‬فقام إىل طاولة املواعني يف ركن الغرفة وأخذ من‬
‫فوقها مخِ ال ًة حمشو ًة باخلبز اليابس‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل لقد بدأت أخشى عىل نفيس يا أخي‪ .‬فلقد أصبح التفكري‬
‫فيها مستوليا عىل قلبي‪ ،‬فإذا قرأت كتابا ملحتها بني سطوره‪ ،‬وإذا‬
‫وجهت وجهي للصالة رأيتها معرتضة ما بيني وبني الكعبة‪.‬‬
‫ُ‬
‫كان يتحدث‪ ،‬وهو يفرغ ماء ساخنا عىل يشء من اخلرب اليابس يف‬

‫‪114‬‬
‫ذر عليه قليل ٍ‬
‫ملح ووضعه بينه وبني صديقه‪.‬‬ ‫صحن‪ .‬ثم ّ‬
‫مد النظام يده إىل اخلبز وهو يقول‪:‬‬
‫السلو عنها؟‬
‫َّ‬ ‫حاولت‬
‫َ‬ ‫‪- -‬هل‬
‫‪- -‬واهلل لقد حاولت‪ ،‬لكن حسنها ليس احلسن الذي تبقى معه‬
‫تصح معه سلوى‪ ،‬أو يثبت معه عزم‪.‬‬ ‫عقيدة‪ ،‬أو ُّ‬
‫‪- -‬يا أبا عثامن‪ ،‬أمجِ ْل يف العشق!‬
‫رأيت أحس َن النساء‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬واهلل ما رأيتُها قط إال ذكرت اجلنة‪ ،‬وال‬
‫بعدها إال ذكرت النار‪.‬‬
‫حبيبات طعام من فيه‪ ،‬فوضع يده‬
‫ُ‬ ‫تطايرت‬
‫ْ‬ ‫ضحك النظام حتى‬
‫عىل فمه وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ما أنصفتنا يا أبا عثامن! هلاّ ّ‬
‫تغزلت بتامرض بنت اخلليل‬
‫وجتنبت تشبيه حسناوات البرصة ٍ‬
‫بنار تلظى!‬
‫وقف اجلاحظ‪ ،‬وأتى بامء وصابون‪.‬‬
‫اقرتب النظام من باب احلجرة ومد يديه من فوق العتبة حتى صار‬
‫نصف جسمه خارجها‪ .‬فخرج اجلاحظ وجعل يصب له املاء عىل يديه‬
‫ليغسلهام‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬هل سمعت بام يحُ كى عن أيب نواس؟‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬سمعت‪.‬‬
‫توقف اجلاحظ عن صب املاء بعد أن غسل النظام يديه ونفضهام‬
‫يف اهلواء‪ ،‬ثم تناول النظا ُم اإلناء وبدأ يسكب املاء عىل يدي صديقه‪.‬‬
‫جلس اجلاحظ وطفق يفرك يديه بالصابون وقال‪:‬‬

‫‪115‬‬
‫‪- -‬سمعت أنه مستهرت هذه األيام بجارية من جواري عبود‪ .‬ولقد‬
‫قيل يل إنه أرسل هلا رسالة كتبها بدمه‪.‬‬
‫‪- -‬ال أشك يف ذلك‪ .‬فمع أنه كان متني الديانة حا ّد الفهم إال أنه‬
‫هتتّك‪.‬‬
‫‪- -‬قاتله اهلل ما أظرفه‪ ،‬وأنا ال أخشى عليه التهتك‪ ،‬فصاحب‬
‫ويقلع ويتوب‪ .‬إنام أخشى أال َيسلم قل ُبه‬
‫ُ‬ ‫التهتك واملجون ّ‬
‫يمل‬
‫من ُّ‬
‫الش َبه‪ .‬إذ سمعت أنه يكثر جمالسة بعض املانوية والديصانية‪،‬‬
‫وهو ضعيف يف اجلدل كام تعلم‪.‬‬
‫‪- -‬يشء عجيب! وماذا عند املانوية يغري غري طعامهم؟‬
‫وفهم اجلاحظ ما يرمي إليه صديقه‪ .‬وتذاكرا كيف كانا قبل‬
‫سنوات يذهبون ملعبد للامنوية خارج البرصة يناظروهنم‪ .‬ال رغبة يف‬
‫املناظرة بل حرصا عىل طعام يقدمونه بعد انقضائها‪ .‬تذكرا رهبان‬
‫املانوية يف مالبسهم البيضاء ورؤوسهم احلليقة‪ ،‬وكيف كانوا جيلسون‬
‫معهم الساعات الطوال يف انتظار حلظة وضع الطعام‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طيلسان أسود مهرتئ فوق‬ ‫قال اجلاحظ وهو يمد يده ألخذ‬
‫رسيره‪:‬‬
‫فلنذهب إىل دار مويس فقد اقرتب الزوال‪.‬‬
‫ْ‬ ‫‪--‬‬
‫نظر النظام إىل احلىص املجتمع عىل طيلسان اجلاحظ‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أيش هذا الغبار؟ ما أرى إال أنه من تلك النافذة فلم ال تسدها؟‬
‫نفض اجلاحظ الطيلسان نفضا قويا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما رأيت َّ‬
‫أقل فائدة من هذه النافذة‪ .‬إ ْذ ال يأيت منها إال احلىص‪ ،‬ثم‬

‫‪116‬‬
‫هي مرشعة جهة منزل ُم ٍ‬
‫كار يملك عرشين محارا‪ ،‬فال يأتيني منها‬
‫من األصوات إال هنيق احلمري‪ ،‬وال من اهلواء إال احلىص‪ .‬وحتى‬
‫ونظرت مل أر إال محارا ينهق‪ ،‬هذا إذا مل تدخل حصاة‬
‫ُ‬ ‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫إذا‬
‫يف عيني‪ ،‬واهلل لكأهنا نافذة مفتوحة عىل جهنم‪.‬‬
‫وما إن نطق «جهنم» حتى تذكر حديثه قبل قليل عن متارض‪،‬‬
‫وكيف أنه إذا رأى فتاة غريها ذكر النار‪ ،‬فبادر قائال‪:‬‬
‫‪- -‬هل ترى أن أطلب من شيخنا العالف أن خيطبها يل؟‬
‫عزمت‪ ،‬فال أرى باألمر بأسا‪ ،‬فهو شيخ جليل وهم‬
‫َ‬ ‫‪- -‬ما دمت قد‬
‫يقدرونه حق قدره‪ .‬ولعله يزكيك عندهم‪.‬‬
‫ما إن أهنى النظام اجلملة حتى ذهب خيال اجلاحظ بعيدا‪ ،‬فرأى‬
‫نفسه جالسا مع متارض يطارحها الغرام‪ ،‬حاكيا هلا معاناته خلطبتها‪،‬‬
‫قاصا عليها تثبيط النظام له‪ ،‬وكيف أنه حلبه هلا ذ ّلل كل صعب‪.‬‬
‫لعبت هذه األخيلة بذهنه وهو يحُ كم إغالق القفل عىل باب‬
‫حجرته‪ ،‬والنظام يقول له‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ال يراك أحد حتكم القفل حتى يظن أنك تغلق حجرتك عىل‬
‫كنوز‪ .‬وإهنا حلجرة لو دخلها لص لقعد يبكي عىل حظه العاثر‪.‬‬
‫سارا يف فناء احلائط متجهني جهة الباب واجلاحظ يقول‪:‬‬
‫‪- -‬وما أدراك أن اإلنسان ال ُيغلق بيتَه إال خوفا من رسقة متاعه؟ إن‬
‫نفوسنا‪ ،‬ونكره اطالع الغريب عىل ما بداخلها‪ .‬أال‬
‫بيوتنا ختتزن َ‬
‫مطلع عىل ما يف دواخل نفوسنا ونحن‬
‫ٌ‬ ‫ترى أننا نكره أن ي ّطلع‬
‫آمنون من رسقة ما يف سويداء قلوبنا؟‬

‫‪117‬‬
‫كان اجلاحظ يتحدث ومها يمشيان يف الزقاق املحاذي حلائط‬
‫احلجرة من جهتها اجلنوبية‪ .‬فالتفت فرأى محري جاره املكاري يف حظرية‬
‫واسعة‪ ،‬فقال للنظام‪:‬‬
‫ِ‬
‫والس َقط َّ‬
‫والرعاع؟ وما قيمة العلم‬ ‫‪- -‬إىل متى سنظل جري ًة للدمهاء َّ‬
‫والقراطيس إذا كان منزل النظام واجلاحظ ال يتميز عن محيد‬
‫املكاري وشمعون القصاب؟‬
‫ما زاد النظام عىل االبتسام‪ ،‬وهو يثبت قلنسوته عىل رأسه ويقول‪:‬‬
‫‪- -‬إن لكل ثمرة أوان ًا يا أبا عثامن‪ ،‬ثم إن العلم يراد لذاته ال لثمنه‪،‬‬
‫العنب يف فصل غري فصله فلن جيده‪ ،‬ومن حترى ليلة‬
‫َ‬ ‫ومن تعجل‬
‫القدر يف شعبان أعيتْه‪.‬‬
‫***‬
‫مخارها عىل الرسير املثبت يف زاوية احلجرة وقالت‬
‫متارض َ‬
‫ُ‬ ‫رمت‬
‫ْ‬
‫بِ َغنَج‪:‬‬
‫‪- -‬من اجلاحظ؟‬
‫كانت أمها منهمكة يف ترتيب سفرة الطعام يف الدهليز الضيق‬
‫املفتوح عىل احلجرة التي تقف فيها‪ ،‬فرفعت برصها وهي ال تزال جاثية‬
‫عىل ركبتيها‪:‬‬
‫‪- -‬قبل ذلك‪ ،‬هل كان احلماّ م اليوم نظيفا؟‬
‫‪- -‬لقد كان نظيفا رغم صعوبة ذلك يف أيام اخلميس لكثرة الناس‪.‬‬
‫وقد جلست فيه مع صاحبتي ساعة‪ .‬وأنا أفضله عىل آالف‬
‫احلاممات املنترشة يف البرصة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫أعادت األم برصها إىل ما بني يدهيا وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬أما اجلاحظ‪ ،‬فشاب يذكرون من علمه وأدبه وظرفه وفصاحته‪.‬‬
‫كانت متارض تتظاهر بأهنا مل تسمع باسم اجلاحظ‪ ،‬ب ْله أن تراه‪ ،‬بل‬
‫تريد إشعار أمها أهنا مل تسمع به إال بعدما حدثتها أمس أنه خطبها‪ ،‬ثم‬
‫قالت ألمها –وهي تتذكر حالوة حديثه عند خمرج سوق العطارين‪-‬‬
‫ومن أي العرب هو؟‬
‫أعادت األم برصها إىل الطعام املرصوص عىل السفرة وواصلت‬
‫ترتيبه قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أخربين أبو اهلذيل العالف أن اسمه عمرو بن بحر بن حمبوب‬
‫الفقيمي ِ‬
‫الكناين‪ .‬وتذكرت أين سمعت أباك ذكره مرة واصفا إياه‬
‫بحدة الذكاء‪.‬‬
‫كانت الفتاة قد خلعت مالبس خروجها وبرزت من احلجرة‬
‫حارسة الرأس إىل الدهليز النظيف‪ .‬ثم خاطبت أمها قائلة‪ ،‬وهي تلعب‬
‫بشعرها املنسدل عىل ِصدارها تغنجا‪:‬‬
‫‪- -‬ومن اخلاطب اآلخر؟‬
‫‪ - -‬عيل املديني‪ّ .‬مل ْ‬
‫حت يل أمه مرات وإن مل ترصح‪ .‬وهو من قد‬
‫ِ‬
‫سمعت عنه مجاال وأخالقا وعلام‪.‬‬
‫جلست متارض يف ركن الدهليز غري املفروش‪ ،‬مسندة ظهرها إىل‬
‫اجلدار‪ ،‬فيام كانت أمها جالسة وسطه عىل حصري نظيف عليه سفرة‬
‫فوقها أوان وفاكهة‪ .‬كانت األم تفكر يف أن سبب خطبة الرجلني هلا قد‬
‫ال يكون امليل إليها بل امليل إىل الزواج من ابنة اخلليل‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫واصلت الفتاة لعبها بأطراف ذوائبها وهي تقول‪:‬‬
‫‪- -‬وما ذا ترين يا أماه؟‬
‫كان قلب الفتاة خيفق انتظارا للجواب خمافة إرصارها عىل أحد‬
‫الرجلني وهي ّملا خترت بعدُ ‪.‬‬
‫‪- -‬األمر إليك يا ابنتي‪ ...‬ثم إن‪...‬‬
‫ولشدة انشغاهلا باخلاطر مل تسمع كالم أمها بوضوح‪ .‬فعادت‬
‫وسألتها‪:‬‬
‫‪- -‬ما رأيك يا أماه؟‬
‫‪- -‬األمر إليك يا بنية‪ .‬فأنت من ستصبحني أسرية يف بيت أحدمها‪،‬‬
‫فال أحد يتخري لك غري نفسك‪.‬‬
‫وقع جواب األم عىل قلبها وقعا طيبا‪ .‬ومع معرفتها بأن هذا رأي‬
‫أمها دائام إال أن كثافة اللحظة أنستها ذلك‪.‬‬
‫كانت الفتاة تعرف يف قرارة نفسها أهنا ليست مجيلة‪ ،‬فأنفها املتوسط‬
‫احلجم ترتبع عىل أرنبته شامة سوداء جتعلها ال ترتاح إذا ردد شخص‬
‫النظر إليها مرارا‪ ،‬لظنها أنه إنام ينظر إىل أنفها فقط‪ .‬ومع أهنا حتفظ كل‬
‫َ‬
‫ما قاله الشعراء يف التغزل باخلال يف الوجه‪ ،‬إال أهنا تتضايق من تلك‬
‫الناظر‬
‫َ‬ ‫الشامة كثريا‪ .‬فكأن تلك الشامة ال تضيف إليها مجاال‪ ،‬بل تُنبه‬
‫إىل أنفها حتى يتأمله وينتبه إىل دمامته‪ ،‬ويتشاغل به عام يف وجهها مما هو‬
‫أكثر اعتداال وأقرب إىل اجلامل‪.‬‬
‫أما وجهها فمتوسط احلجم ليس فيه مجال وال قبح‪ .‬واحد من‬
‫يدون عنها أي مالحظة‬
‫تلك الوجوه التي يمكن أن يراها املرء دون أن ّ‬

‫‪120‬‬
‫مادحة أو قادحة‪ .‬أو هو من الوجوه التي ال بد للمرء أن يراها مرارا‬
‫حتى ختزهنا ذاكرته‪ .‬أما إذا رآه مرات قليلة وحاول تذكره فسيتذكر‬
‫وجه شخص آخر‪ ،‬أو ال يتذكر أي تقاسيم واضحة‪.‬‬
‫فعيناها سوداوان لكنهام ضيقتان ضيقا غري مفرط‪ .‬وفوقهام حاجبان‬
‫متوسطان‪ ،‬ترتاقص حتتهام أهداب غري كثيفة وال خفيفة‪ .‬أما أسناهنا‬
‫فمف ّلجة‪ ،‬وإن كان هلا ما يمكن أن تتيه به فهو جسمها الطري وقوامها‬
‫املعتدل‪ ،‬دون أن يكون يف تفاصيل اجلسم ملن تأمله مجال يف عضو بذاته‪.‬‬
‫فهو جسم معتدل‪ ،‬مجيل يف كليته‪ ،‬لكنك ال تستطيع أن ختص عضوا منه‬
‫بأنه مجيل أو متصف بصفات اجلامل واالتساق واالعتدال‪.‬‬
‫غري أهنا تعرف مع ذلك أن كثريا من الرجال يميلون إليها‪.‬‬
‫فام زالت تذكر كيف قال هلا شاب يف سوق البرصة‪:‬‬
‫‪- -‬ليتني شام ٌة عىل أرنبة أنف!‬
‫قطبت جبينها من تلك العبارة‪ ،‬حياء من أمها التي‬
‫ْ‬ ‫ومع أهنا‬
‫كانت تسمع‪ ،‬فإهنا تذكرت كيف وقعت منها العبارة كام يقع املطر من‬
‫الصحراء العطشى‪ .‬فقد يتطاير غبار الصحراء حلظة هبوط املطر‪ ،‬لكنه‬
‫غبار لالحتفال واالستقبال والتلهف واالستزادة‪ ،‬ال غبار االحتجاج‬
‫واالنزعاج‪ .‬فالفتاة ال تنزعج أبدا من أي تغزل بجامهلا مهام كان وممّن‬
‫كان‪ .‬فأي ثورة تبدهيا إنام هي من قبيل االستزادة‪ ،‬وأي احتجاج تظهره‬
‫إنام هو رصخة لطلب مزيد من القول والثناء‪.‬‬
‫أفاقت متارض من أفكارها عىل صوت أمها‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪- -‬ما رأيك أنت يا بن ّيتي؟‬

‫‪121‬‬
‫ومع أهنا أنافت عىل العرشين وشخصيتها قوية‪ ،‬تلعثمت قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬ما ترينه يا أمي‪.‬‬
‫تري الرجلني وختتاري بينهام‪.‬‬
‫‪- -‬أنا أرى أن ْ‬
‫‪- -‬ذاك رأيك يا أماه؟‬
‫كانت أمها قد وقفت ومشت قليال يف الدهليز‪ ،‬وأخرجت رأسها‬
‫من بابه ونادت جارية رومية‪ ،‬فأقبلت ملبي ًة ّ‬
‫جتر حلافا خلفها‪.‬‬
‫عادت األم واقرتبت من بنتها وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬إن الرجال يا بنيتي هم كام قالت األعرابية الغابرة عثم ُة بنت‬
‫دريك ما ْ‬
‫الدخل»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫كالنخل‪ ،‬وما ُي‬ ‫َ‬
‫الفتيان‬ ‫ٍ‬
‫مطرود البجلية‪« :‬ترى‬
‫فالرجل يف حلظة إقباله عىل املرأة يخُ رج كل عذوبته وخيفي كل‬
‫قساوته‪ .‬فأنت ال ترين منه إال ما يعجبك‪ ،‬فهو لن ُيسمعك إال‬
‫كلمة غزل يطري هبا قلبك الغرير‪ ،‬وال تقع عينك عليه إال وهو‬
‫متجمل متعطر طيب النفس حسن املزاج‪.‬‬
‫كانت متارض تستمع بكل حواسها حلديث أمها رغم ضوضاء‬
‫ضحكات العبيد التي تصلها من بيت اخلدم القريب من مدخل الدار‪.‬‬
‫بادرت البنت قائلة‪:‬‬
‫كالنخل‪ ،‬وما يدريك ما ْ‬
‫الدخل»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫‪- -‬أنا أعرف امل َث َل‪« :‬ترى الفتيان‬
‫لكني ال أعرف قصته‪.‬‬
‫رمت متارض سؤاهلا وهي تعرف أن أمها ال تسعد بيشء سعادهتا‬
‫ْ‬
‫برواية القصص التي سمعتها من زوجها اخلليل بن أمحد‪ .‬فاندفعت‬
‫األم بحامسة وفخر وقالت‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫‪- -‬لقد حدثني أبوك بذلك‪.‬‬
‫‪ِ --‬‬
‫إيه!‬
‫ورأي يف قومها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪- -‬كانت عثم ُة بنت مطرود البجلية ذات عقل‬
‫وكانت هلا أخت ذات مجال يقال هلا خود‪ ،‬فجاء سبعة إخوة‬
‫حل َل ُل‬
‫من األزد خيطبوهنا إىل أبيها‪ ،‬وأتى الفتيان السبعة وعليهم ا ُ‬
‫اليامنية‪ ،‬ويركبون النجائب الفارهة‪ ،‬فقالوا‪ :‬نحن بنو مالك بن‬
‫النحيي‪ ،‬جئنا نخطب بنتك خودا‪ ،‬فانظر من ستزوج‬ ‫نْ‬ ‫غفيلة ذي‬
‫منا‪ .‬فدخل عليها أبوها وقال هلا‪ :‬ما ترين؟ فقالت له‪« :‬أنكحني‬
‫عىل قدري‪ ،‬وال تشطط يف مهري‪ ،‬فإن تخُ ْط ْئني أحال ُمهم‪ ،‬ال‬
‫ختطئني أجسامهم»‪.‬‬
‫نطقت األم هذه العبارة‪ ،‬ثم رفعت برصها إىل ابنتها لتنبيهها عىل‬
‫أغضت‬
‫ْ‬ ‫أمهية احتفاء الفتاة بعقل اخلاطب ال بجامله‪ ،‬فلام التقت عيوهنام‬
‫متارض حيا ًء‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪- -‬إيه!‬
‫وكانت األم إذا انشغلت برواية القصص ‪-‬التي روهتا عن اخلليل‪-‬‬
‫ال تكاد تفيق عىل يشء مما بني يدهيا‪ ،‬فوقفت وأخذت بيد بنتها ومتشت‬
‫هبا خطوات حتى خرجتا من الدهليز إىل غرفة اجللوس الكبرية‪ .‬ثم‬
‫واصلت حديثها‪:‬‬
‫ٍ‬
‫خود إىل الفتيان وسأل كل واحد أن يصف له نفسه‪،‬‬ ‫‪- -‬فخرج والدُ‬
‫وكانت مع الفتيان ربيب ٌة هلم كاهنة يقال هلا الشعثاء‪ .‬فاندفعت‬
‫تصف كل واحد منهم بأوصاف محيدة ومجل بليغة‪ ،‬غري أن الفتاة‬
‫دخلت عىل أختها عثمة وشاورهتا يف األمر‪ ،‬فقالت هلا أختها‬

‫‪123‬‬
‫َ‬
‫الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل»‪ .‬اسمعي‬ ‫عثمة‪« :‬ترى‬
‫وخريها ُيدفن‪ ،‬انكحي يف‬
‫َ‬ ‫مني يا ُأ َخ َّيتي‪« :‬إن رش الغريبة ُيعلن‪،‬‬
‫قومك وال تغررك األجسام»‪.‬‬
‫فلم تقبل خو ٌد نصيحة أختها لفتنتها بجامل شاب منهم اسمه‬
‫مدرك‪ .‬فبعثت إىل أبيها قائلة‪« :‬أنكحني شابا منهم يسمى مدركا»‪.‬‬
‫فأنكحها أبوها عىل مائة ناقة ورعاهتا‪ ،‬ومحلها زوجها مدرك‪.‬‬
‫فلم تلبث عنده إال قليال حتى غزهتم فوارس من بني مالك بن كنانة‪،‬‬
‫فاقتتلوا ساعة من هنار‪ ،‬ثم إن زوجها وإخوته وبني عامر هربوا وتركوها‬
‫بيت فيمن ُسبي‪.‬‬
‫فس ْ‬ ‫ُ‬
‫كانت األم تواصل حديثها‪ ،‬فيام انشغلت متارض بالتفكري يف تأويل‬
‫حديث أمها‪ ،‬وهي تتذكر وجه اجلاحظ ودمامته املفرطة مع حالوة‬
‫حديثه‪ ،‬فهل تعني أمها هبذا ترغيبها يف اجلاحظ؟‬
‫واصلت األم القصة قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬فلام سباها بنو مالك وساروا هبا جعلت خود تبكي بكاء مرا‪.‬‬
‫فقال هلا أحد الفرسان‪ :‬ما يبكيك؟ أعىل فراق زوجك؟ فقالت‬
‫له خود‪« :‬زوجي؟ ال واهلل! قبحه اهلل!»‪.‬‬
‫فقال هلا الفارس‪ :‬لقد كان مجيال‪ .‬فقالت له‪ :‬قبح اهلل مجاال ال نفع‬
‫معه‪ ،‬إنام أبكي عىل عصياين ألختي وغفلتي عن صدقها حني قالت‪:‬‬
‫«ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل»‪ ،‬وأخربهتم بخرب خطبتها‬
‫من أبيها وكيف اختارته جلامله‪ ،‬فقال هلا رجل منهم يكنى بأيب نواس‬
‫أفو َه مضطرب اخللق‪ :‬أترضني يب عىل أن أمنعك من‬ ‫وكان شابا دميام َ‬
‫ذئاب العرب؟‬

‫‪124‬‬
‫فقالت ألصحابه‪ :‬أكذلك هو؟ قالوا‪ :‬نعم إنه مع ما ترين ليمنع‬
‫احلليلة‪ ،‬وتتقيه القبيلة‪ .‬فقالت‪« :‬هذا وربيّ هو أمجل مجال‪ ،‬وأكمل كامل‪.‬‬
‫قد رضيت به‪ .‬فزوجوها منه»‪.‬‬
‫كانت متارض تستمع إىل حديث أمها باهتامم وهي تتذكر شكوى‬
‫صديقة هلا من رضب زوجها هلا‪ ،‬مع أهنا ما زالت حتتفظ بعدة رسائل‬
‫غرامية بعثها هلا قبل الزواج‪ .‬وكان وجه اجلاحظ وعيناه املارقتان‬
‫شواخص يف خياهلا‪ ،‬كام كانت تتذكر حديث‬
‫َ‬ ‫‪-‬اللتان تكادان تسقطان‪-‬‬
‫إحدى جاراهتا عن وسامة عيل املديني‪.‬‬
‫وقفت متارض من مكان جلوسها وعادت إىل الدهليز‪ ،‬وأخذت‬
‫ُف ْرنِي ًة وعضت منها عضة وعادت إىل أمها وهي متضغها هبدوء‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫‪- -‬وما ذا يغني لقاء أو لقاءان مع الرجل إذا كانت هذه هي احلال‬
‫يا أماه؟‬
‫تري الرجل ومل حتادثيه‪.‬‬
‫‪- -‬إن ذلك أفضل من أن ختتاري وأنت مل ْ‬
‫ولقد خطبني أبوك ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬من والدي وكان رجال أزديا من‬
‫عامن‪ ،‬جديد العهد بالبرصة‪ ،‬ومع ذلك جالسته يف بيتنا مرات‬
‫قبل الزواج‪.‬‬
‫ما زادت الفتاة عىل مواصلة مضغ قطعة من ال ُف ْرنِ ّية بتلذذ قائلة‪:‬‬
‫األمر ما ترين يا أماه‪ .‬دعي الرجلني يأتيان وأنا سأختار‪.‬‬
‫***‬

‫‪125‬‬
‫الدوحة‪1439 ،‬هـ‬

‫كان القروي مستلقيا عىل رسيره يف الظالم متأهبا للنوم يف وقت‬


‫مبكر عىل غري عادته‪ .‬غري أن كأس الشاي األخرض الذي رشبه‪،‬‬
‫والتفكري يف استشارة أمه يف الزواج‪ ،‬طردا النعاس من عينيه‪.‬‬
‫خطر له أن وقت طلب الزواج مل حي ْن بعد‪ ،‬وأن هذا تعجل صبياين‪،‬‬
‫ِ‬
‫العجولة بأن املجتمعات املحافظة متيل لتعجيل‬ ‫األمر لنفسه‬ ‫ثم علل‬
‫َ‬
‫الزواج‪ ،‬فليست حصة سويدي ًة وال هو دانيامركي!‬
‫كان عليه أن ُيقنع أمه وأباه‪ .‬فهو من قبيلة تعترب زواج أحد أبنائها‬
‫من قبيلة جماورة أمرا منكرا‪ ،‬فكيف إذا تزوج خارج البلد كله من امرأة‬
‫جمهولة النسب‪ .‬وكل القبائل التي ال يعرفها مشايخ قبيلته قبائل جمهولة‬
‫النسب‪.‬‬
‫قام من فوق رسيره وضغط زر الكهرباء‪ ،‬متذكرا حديث عمته مع‬
‫جارهتا وهو طفل جالس بينهام‪:‬‬
‫‪- -‬إن الرجل إذا سافر خارج البالد وتزوج من غريبة فكأنه مات‪،‬‬
‫اليأس احلاسم‪ ،‬أما الزواج‬ ‫َ‬ ‫بل إن موته أرحم ألهله ألنه يو ّلد‬
‫خارج البالد فيجعل قلب أهله معلقا بحياة ُم َتوهمَّ ة‪.‬‬
‫جلس عىل حافة رسيره ممسكا هاتفه‪ ،‬واتصل بأمه‪ .‬دخل يف‬

‫‪127‬‬
‫املوضوع وقل ُبه خيفق‪:‬‬
‫‪ - -‬أنا تعرفت عىل فتاة هنا من أهل هذه البالد وأستأذن يف الزواج‬
‫منها‪.‬‬
‫رمى العبارة‪ ،‬ثم انتظر اجلواب‪ .‬فخيل إليه أن اخلط انقطع‪ ،‬فلم‬
‫يسمع ألمه مهسا‪:‬‬
‫‪- -‬ألو‪ ،‬ألو‪...‬‬
‫لكنه مل يسمع صوتا‪ .‬انقطع االتصال‪ ،‬فأعاده من جديد‪.‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم‪.‬‬
‫‪- -‬وعليكم السالم يا ولدي‪.‬‬
‫شعر بارتباك شديد‪ ،‬فحاول أن يسأهلا أسئلة ممهدة للحديث‪ ،‬فلم‬
‫مس من جنون‪ ،‬فقال‪:‬‬‫يتذكر إال جارة هلم هبا ّ‬
‫‪- -‬كيف حال جارتكم زينب!‬
‫سمع ضحكة أمه‪:‬‬
‫‪- -‬بخري‪ ،‬ما الذي ذكرك هبا؟‬
‫‪- -‬أنا أتذكر كل األهل‪.‬‬
‫‪- -‬اهلل حيفظك يا ولدي‪.‬‬
‫‪- -‬طيب‪.‬‬
‫‪- -‬أيوه‬
‫‪- -‬أنا أريد رأيك‪ .‬فقد قررت أن أتزوج فتاة هنا‪ .‬وهي فتاة طيبة‬
‫وأهلها طيبون‪.‬‬
‫‪- -‬من أي الناس (القبائل)؟‬

‫‪128‬‬
‫‪- -‬هي من قبيلة عربية‬
‫‪- -‬ما اسمها؟‬
‫وبام أنه ال يعرف من أي القبائل هي فقد اخرتع هلا اسام له وقع‬
‫عريب‪:‬‬
‫‪- -‬من بني قحطان!‬
‫‪- -‬يا ولدي هؤالء ال نعرفهم! وما كنت أظنهم موجودين إال يف‬
‫الكتب!‬
‫‪- -‬ال ال‪ ،‬عايشني‪ ،‬عايشني يا أمي‪.‬‬
‫أنت تعرف رأيي وأين ما كنت أريدك أن تتزوج إال ببنات األكارم‬
‫‪َ --‬‬
‫من املجموعات التي نعرف‪.‬‬
‫‪- -‬أيوه‬
‫‪- -‬ولكني كنت عاهدت اهلل أال أمنعك وال أحدا من إخوتك من‬
‫االرتباط بأي امرأة‪ .‬اهلل ييرس لك اخلري يا ُبني‪.‬‬
‫انتابته موجة طاغية من السعادة‪ ،‬مل َيدر كيف ينهي املكاملة‪ .‬فقال‬
‫بتلعثم‪:‬‬
‫‪- -‬هذا ممتاز‪ ،‬طيب‪ .‬كلمي أيب‪.‬‬
‫‪- -‬إن شاء اهلل‪.‬‬
‫ما إن قطع االتصال حتى ّ‬
‫رن عىل حصة‪ .‬جاءه صوهتا حنونا‬
‫عطوفا‪ ،‬دافئا‪.‬‬
‫‪- -‬كيفك؟‬
‫‪- -‬محد هلل!‬

‫‪129‬‬
‫‪- -‬كيف حال مطوعة بريدة الليلة؟‬
‫‪- -‬واهلل طيبة!‬
‫‪- -‬وينك اآلن؟‬
‫‪- -‬أنا يف السيتي سنرت‪ ،‬أشرتي بعض األغراض‪.‬‬
‫‪- -‬صحيح‪ ،‬مركز املدينة حيث أنت!‬
‫بخ َفر ُ‬
‫مشوب بضحكة‪:‬‬ ‫فردت َ‬
‫‪- -‬كذاب!‬
‫كلمت أمي وقالت ال مانع‪ ،‬وستكلم أيب غدا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬اسمعي‪،‬‬
‫مل تعن كلامته هلا شيئا‪ .‬فهو مل خيربها بإمكانية رفض أهله‪ ،‬وما كانت‬
‫تتوقع الرفض ممكنا إال من أهلها هي‪ .‬فقالت‪:‬‬
‫‪- -‬طيب‪.‬‬
‫‪- -‬قلت لك ال مانع عند أمي‪.‬‬
‫كادت ترمي بكلمة‪ ،‬ثم أمسكت نفسها قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬طيب‪.‬‬
‫‪- -‬ومتى ستكلمني أهلك بشأن ِ‬
‫اخلطبة؟‬
‫‪- -‬قريبا إ شاء اهلل!‬
‫كانت حصة تتحدث من داخل متجر كارفور الواقع يف الطابق‬
‫األول من السيتي سنرت وسط الدوحة‪ .‬مدت يدها وأخذت سلة‪،‬‬
‫ومشت جهة اخلرضوات‪ .‬كانت تنتقي منها‪ ،‬لكن قلبها مشحون بسؤال‬
‫واحد‪ :‬كيف ستقنع أهلها بالزواج من شاب موريتاين؟ ما املدخل‬
‫بادي الرأي فكيف تراجعهم؟‬
‫للحديث؟ وإذا رفضوا َ‬

‫‪130‬‬
‫لكنها مل تنتبه حلجم انشغال عقلها هبذه األسئلة إال عندما الحظت‬
‫أهنا ظلت واقفة بعض الوقت عند صندوق الدفع‪ ،‬واملوظف ينادهيا‬
‫لتضع البضاعة دون أن تسمعه‪ .‬حينها‪ ،‬استيقظت من عاملها وبدأت‬
‫ترمي أكياس اخلرضوات بني يديه معتذرة‪.‬‬
‫وأفاقت عىل صوت البائع قائال‪:‬‬
‫ِ‬
‫ونسيت أيضا أن ِتزنيها عىل امليزان!‬ ‫‪--‬‬
‫قطعت االتصال‪ ،‬وهرولت عائدة إىل مكان وزن اخلرضوات‬
‫يرجف حيا ًء‪.‬‬
‫وقل ُبها ُ‬
‫ما إن انقطع االتصال معها حتى وقف القروي يف طرف غرفته‬
‫وأطل من النافذة املرشفة عىل شارع احلمداين –بمنطقة السد‪ -‬وهو‬
‫فرتاءت له «بقالة الفل ّبني»‪ ،‬ثم ملح‬
‫ْ‬ ‫يشعر بخفة وبِشرْ وراحة بال‪ .‬نظر‬
‫جمموعة من العامل اهلنود يقطعون الشارع وهم يضحكون داخلني إىل‬
‫مطعم مرصي لبيع الفول‪ .‬استعذب فكرة اختالط األمم ومتازجها‬
‫داخل الدوحة‪ ،‬ثم تذكر عامل البرصة واختالط األمم واللغات واألفكار‬
‫فيها حتى قبل عرص التواصل الرسيع هذا‪.‬‬
‫***‬
‫انتفض فوق رسيره فزعا‪ .‬وجلس يفرك عينيه‪ ،‬ونصفه األسفل‬
‫مغطى بلحاف مهرتئ‪ .‬متتم متثائب ًا‪:‬‬
‫‪- -‬اللهم ارمحها‪.‬‬
‫فهذه من املرات القليلة التي رأى فيها أمه يف النوم منذ وفاهتا قبل‬
‫سنني‪ .‬فمع كوهنا كانت له يف طفولته أبا وأما‪ ،‬إال أنه يؤنب نفسه عىل‬

‫‪131‬‬
‫أنه مل حيزن عليها من احلزن ما تستحقه‪.‬‬
‫أنزل رجله اليمنى من فوق الرسير‪ ،‬فانحرس اللحاف عن ساقه‬
‫الدقيقة‪ .‬نظر إليها وهو يفكر يف طبيعة اإلنسان وكيف ال يستطيع‬
‫التحكم يف مشاعره‪ .‬فهو يود أن يكون حزينا عىل أمه بمقدار‪ ،‬لكنه مل‬
‫حيزن عليها بذلك املقدار‪ .‬فهل يعني هذا أن الشعور معزول عن اإلرادة‬
‫كليا؟ وما عالقة هذا بموضوع املناظرة أمس يف املسجد حول اإلرادة‪،‬‬
‫األخرويي‪.‬‬
‫نْ‬ ‫ومدى سلطة املرء عليها وعالقة ذلك بالثواب والعقاب‬
‫وقف وهو يتمتم بحمد اهلل‪ ،‬ونظر من نافذة حجرته ليعرف‬
‫الوقت‪.‬‬
‫توضأ وصىل العرص‪ .‬وأخذ حزمة من الكراريس‪ ،‬ولبس جبة بني ًة‬
‫كور عىل رأسه عاممة صفراء متسخة‬
‫كانت معلقة عند رأس الرسير‪ّ ،‬‬
‫وخرج مرسعا‪.‬‬
‫املار من أمام حائط حجرته حيا صاخبا‪ .‬فالغبار‬ ‫كان الشارع ُّ‬
‫يتصاعد وسطه لكثرة البغال واحلمري واإلبل املارة فيه‪ .‬فهو قريب من‬
‫سوق البرصة الكبري‪ ،‬بل يكاد يكون من أهم الطرق املوصلة إىل السوق‪.‬‬
‫كان ذهنه ال يزال منشغال بمناظرة حرضها أمس يف مسجد البرصة‬
‫بني العالف وأحد أحبار النصارى‪ ،‬وكان ذهنه منشغال باحتجاج‬
‫النرصاين عىل العالف بأن عيسى ذو طبيعة الهوتية وناسوتية يف آن؛‬
‫بحجة أن القرآن يصفه بأنه كلمة اهلل‪ .‬فهو بذلك كالقرآن الذي هو كالم‬
‫اهلل‪ .‬كانت تفاصيل املناظرة حية يف ذهنه‪.‬‬
‫مشى حتى حاذى منزل جريانه النصارى‪ ،‬فرأى والدهم أمام بيته‬

‫‪132‬‬
‫ُيرسج فرسه وبيده مخِ الة‪ .‬فحياه من بعيد‪ّ .‬لوح الطبيب النرصاين من‬
‫بعيد وقال‪:‬‬
‫‪- -‬حياك اهلل‪.‬‬
‫لكن اجلاحظ مل يسمع ما قاله‪ ،‬فقد حالت بينهام جمموعة من الغلامن‬
‫الغبار‬
‫ُ‬ ‫إن انحرس‬‫مرتاكضني وراء سيدهم املرتبع عىل بغلة فارهة‪ ،‬ما ْ‬
‫الذي أثارته حوافر البغلة وأقدام الغلامن الراكضني وراءها‪ ،‬حتى كان‬
‫اجلاحظ قد وصل إىل طرف الشارع الذي يقود لساحة احلامم‪.‬‬
‫لف يمينا وهو يفكر يف مدى معرفة جاره النرصاين بتفاصيل ِدينه‬ ‫ّ‬
‫الذي يتبعه‪ .‬متسائال‪ :‬هل هو مقلد آلبائه فقط؟ أم هي العادة التي‬
‫املحرف؟ وهل هو معذور يف اآلخرة إذا‬
‫ّ‬ ‫جعلته يتشبث بذلك الدين‬
‫كان يوقن يف دخيلة نفسه بأن دينه هو الدين احلق؟ أم أن اجلاحد للحق‬
‫فقط هو اآلثم وغريه بريء أمام اهلل؟‬
‫كان ذهنه ال يزال مشحونا بتلك األفكار وهو خيلع حذاءه داخال‬
‫إىل مسجد زينب‪ ،‬بدا املسجد مكتظا بالشبان املنحنني عىل كتبهم‪،‬‬
‫واحللقات الدائرية حول كل سارية‪ .‬جتاوز السارية األوىل فرأى أحد‬
‫الشيوخ وحوله عصبة من الشباب املنشغلني بدراسة علوم األوائل؛ من‬
‫منطق وكيمياء وموسيقى‪ ،‬فهو يذكر أن ذلك الشيخ ذا العاممة احلمراء‬
‫ال يطيب له إال تدريس اهلندسة والرياضيات‪ ،‬وصل إىل السارية التي‬
‫اعتاد شيخه اجللوس عندها فلم جيده‪ ،‬لكن جمموعة من الطالب بادروا‬
‫إليه مرحبني‪ .‬ما كاد جيلس حتى قال له شاب كثيف اللحية‪:‬‬
‫‪- -‬لقد سافر الشيخ‪ ،‬وما أرى إال أن جتلس مكانه لنلتمس من‬
‫علمك ريثام يعود‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ثم دوت غمغامت الطالب مؤيدين كالم الشاب‪.‬‬
‫ابستم اجلاحظ‪ ،‬وهو يضع يده عىل منكب الشاب األسمر‪:‬‬
‫‪- -‬هذا مرتقى صعب‪ ،‬وما أراين أصلح للجلوس هنا للتعليم مكان‬
‫الشيخ‪.‬‬
‫ثم خيم الصمت‪ ،‬فسمع بوضوح صوت أحد الشيوخ اجلالسني‬
‫عند إحدى السواري يقول‪:‬‬
‫‪«- -‬القوة الغضبية والقوة الشهوية مها أصل هذا املنزع»‪.‬‬
‫التفت اجلاحظ نحو الصوت‪ ،‬فرتاءى له الشيخ محُ َ ْم ِلق ًا يف صحيفة‬
‫كبرية عليها رسوم ملونة‪ .‬ثم ملح شابا قصريا أبيض‪ ،‬جيلس عن يمني‬
‫الشيخ ويشري جهة اجلاحظ بأصبعه‪.‬‬
‫ثم وقف الشاب مقرتبا وقال ِ‬
‫خجال‪:‬‬
‫‪- -‬هل أنت أبو عثامن؟‬
‫‪- -‬بىل!‬
‫ما كاد الشاب يصدق‪ ،‬وانعقد لسانه وهو يشري إىل كومة من الورق‬
‫بيده‪:‬‬
‫كتبت يف «فخر السودان عىل‬
‫كنت اآلن أقرأ هذه القراطيس التي َ‬
‫‪ُ --‬‬
‫البيضان» وما أظن أحدا كتب يف هذا الشأن قبلك‪.‬‬
‫ونظر اجلاحظ بغبطة إىل األوراق املنسوخة من كتابه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬وهل أعجبك ما فيها؟‬
‫‪- -‬إي‪ ،‬باهلل‪.‬‬
‫ّ‬
‫وحك شحمة أذنه وقال‪:‬‬ ‫ثم رفع الشاب يده‬

‫‪134‬‬
‫‪- -‬عىل أن عندي بعض اإلشكال فيها‪.‬‬
‫فقال اجلاحظ بغبطة‪:‬‬
‫‪- -‬وما هو؟‬
‫مد الشاب يده بصفحة وقال للجاحظ اقرأ من هنا‪:‬‬
‫َ‬
‫األوراق اجللدية وبدأ يقرأ‪:‬‬ ‫أمسك‬
‫أعم‪،‬‬ ‫«والناس جممعون عىل أنّه ليس يف األرض أ ّم ٌة ّ‬
‫السخا ُء فيها ُّ‬ ‫ُ‬
‫قط إلاّ يف كريم‪.‬‬
‫الزنج‪ .‬وهاتان اخل ّلتان مل توجدا ّ‬‫وعليها أغلب من ّ‬
‫الرقص املو ّقع املوزون‪ ،‬والضرّ ب بال ّطبل عىل‬
‫وهي أطبع اخللق عىل ّ‬
‫اإليقاع املوزون‪ ،‬من غري تأديب وال تعليم‪ .‬وليس يف األرض أحسن‬
‫أخف عىل اللسان من لغتهم‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫ُح ُلوقا منهم‪ .‬وليس يف األرض لغة‬
‫يف األرض قوم أذرب ألسنة‪ ،‬وال ّ‬
‫أقل متطيطا منهم‪.‬‬
‫األرت والفأفا َء‬
‫َّ‬ ‫وليس يف األرض قوم إلاّ وأنت تُصيب فيهم‬
‫والعيي‪ ،‬ومن يف لسانه حبسة‪ ،‬غريهم‪ .‬والرجل منهم خيطب عند امللك‬
‫َّ‬
‫بالزنج من لدن طلوع ّ‬
‫الشمس إىل غروهبا‪ ،‬فال يستعني بالتفاتة وال‬ ‫ّ‬
‫بسكتة حتّى يفرغ من كالمه‪.‬‬
‫أعم منهم فيهام‪.‬‬
‫وقوة األرس ّ‬
‫وليس يف األرض أ ّمة يف شدّ ة األبدان ّ‬
‫الرجل لريفع احلجر ال ّثقيل الذي تعجز عنه اجلامعة من‬ ‫ّ‬
‫وإن ّ‬
‫األعراب وغريهم‪ .‬وهم شجعاء أشداء األبدان أسخياء‪ .‬وهذه هي‬
‫خصال الرشف‪.‬‬
‫الصدور وأمال للعيون‪ ،‬كام ّ‬
‫أن املسودة أهول يف‬ ‫ُ‬
‫أهول يف ّ‬ ‫وهم‬
‫للصدور من املب ّيضة‪ ،‬وكام ّ‬
‫أن الليل أهول من النهار‪.‬‬ ‫العيون وأمال ّ‬

‫‪135‬‬
‫والسواد أبدا أهول!‬
‫ّ‬
‫السود أحسن وأهبى‪ ،‬وجلودها‬
‫و ُد ْه ُم اخليل أهبى وأقوى‪ ،‬والبقر ّ‬
‫السود أثمن وأحسن وأقوى‪ .‬وسود ّ‬
‫الشاء‬ ‫أثمن وأنفع وأبقى‪ .‬واحلمر ّ‬
‫وكل جبل ّ‬
‫وكل حجر‬ ‫أدسم ألبانا وأكثر زبدا‪ ،‬والدّ بس أغزر من احلمر‪ّ .‬‬
‫إذا كان أسود كان أصلب صالبة وأشدّ يبوسة‪.‬‬
‫واألسد األسود ال يقوم له يشء‪.‬‬
‫أعم منفعة وال‬
‫وليس من التّمر يشء أحىل حالوة من األسود‪ ،‬وال ّ‬
‫أبقى عىل الدّ هر‪ .‬والنّخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود اجلذوع‪.‬‬
‫جل وعال‪َ ﴿ :‬وم ِْن‬‫السواد‪ .‬قال اهلل ّ‬
‫وأحسن اخلرضة ما ضارع ّ‬
‫ُ ْ َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ‬
‫تان﴾‪ .‬قال‬ ‫تان﴾‪ ،‬ثم قال ّملا وصفهام ّ‬
‫وشوق إليهام‪﴿ :‬مدهام ِ‬ ‫دون ِ ِهما جن ِ‬
‫الر ّي سوداوان‪.‬‬
‫ابن عباس‪ :‬خرضاوان من ّ‬
‫واحلجر األسود من اجلنّة‪.‬‬
‫والصقالبة من‬
‫ّ‬ ‫والروم‬ ‫فمن استنكر َ‬
‫لون السواد فام يف الفرنجة ّ‬
‫الرأس‬
‫والصهوبة‪ ،‬واحلمرة يف شعر ّ‬
‫ّ‬ ‫والر ّقة‬
‫الشعر ّ‬‫إفراط سبوطة ّ‬
‫وأسمج‪ .‬وال سوا َء من مل‬
‫ُ‬ ‫أقبح‬
‫واللحية‪ ،‬وبياض احلواجب واألشفار‪ُ ،‬‬
‫تُنضجه األرحا ُم وما جازت به حدَّ التامم»‪.‬‬
‫ثم رفع اجلاحظ برصه –وهو جيد لذة قراءة كالمه‪ -‬وقال للشاب‪:‬‬
‫‪- -‬وما وجه اإلشكال يف هذا؟‬
‫‪- -‬مل تقل لنا ما سبب السواد؟ وهل هو لعن ٌة من اهلل كام يقول اليهود؟‬
‫رميت إليه بقولك‪« :‬وال سوا َء من مل تُنضجه األرحا ُم‬
‫َ‬ ‫وما الذي‬
‫جازت به حدَّ التامم»‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وما‬

‫‪136‬‬
‫وقبل أن جييب اجلاحظ‪ ،‬الحظ أن كثريا من طالب احللقات بدأوا‬
‫يتجمعون لسامع حديثه‪ ،‬فقال‪ ،‬وقد خامره بعض الغرور‪:‬‬
‫تركت َ‬
‫بسط ذلك اتكاال عىل فطنة قارئ الكتاب‪ .‬فاهلل تعاىل‬ ‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬
‫مل جيعل السواد تشوهيا يف اخلَ ْلق‪ ،‬ولك ّن اختالف البالد وقوة‬
‫«واحلجة يف ذلك ّ‬
‫أن يف‬ ‫ّ‬ ‫الشمس هي التي فعلت ذلك بالناس‪.‬‬
‫احلرة‬
‫وكل من نزل ّ‬ ‫العرب قبائل سودا كبني سليم بن منصور‪ّ .‬‬
‫من غري بني سليم ك ّلهم سود‪ .‬وإنهّ م ليتخذون املامليك للرعي‬
‫الروم نسائهم‪،‬‬‫والسقاء‪ ،‬واملهنة واخلدمة‪ ،‬من األشبان ّيني ومن ّ‬
‫ّ‬
‫احلرة إىل ألوان بني سليم‪.‬‬
‫فام يتوالدون ثالثة أبطن حتّى تنقلهم ّ‬
‫احلرة ّ‬
‫أن ظباءها ونعامها‪ ،‬وهوا ّمها وذباهبا‬ ‫ولقد بلغ من أمر تلك ّ‬
‫وثعالبها وشاءها ومحريها‪ ،‬وخيلها‪ ،‬وطريها ك ّلها سود‪ّ .‬‬
‫والسواد‬
‫والبياض إنّام مها من قبل خلقة البلدة‪ ،‬وما طبع اهلل عليه املاء‬
‫حرها‪ .‬وليس‬ ‫الشمس وبعدها‪ ،‬وشدّ ة ّ‬ ‫والتبة‪ ،‬ومن قبل قرب ّ‬
‫رّ‬
‫ذلك من قبل مسخ وال عقوبة‪ ،‬وال تشويه وال تقصري‪.‬‬
‫التك‪ .‬ومن رأى إبلهم‬ ‫عىل ّ‬
‫أن بالد بني سليم جتري جمرى بالد رّ‬
‫تركي رآه شيئا واحدا‪ّ .‬‬
‫وكل يشء هلم‬ ‫ّ‬ ‫ودوابهّ م ّ‬
‫وكل يشء هلم‬
‫تركي املنظر‪.‬‬
‫ّ‬
‫الروم فال خيفى‬
‫ور ّبام رأى الغزاة دون العواصم أخالط غنم ّ‬
‫الروم»‪.‬‬
‫عليهم غنم ّ‬
‫كان الفتى ومن حوله يستمعون مذهولني بكل حواسهم للجاحظ‪،‬‬
‫ُمتعجبني من فصاحته وبدهيته وقوة منطقه‪ .‬فلام سكت بارده رجل من‬
‫طرف احللقة يشد عليه جبته حيا ًء‪:‬‬

‫‪137‬‬
‫‪- -‬وما ذا عن الروم؟‬
‫‪- -‬الروم إنام نقص َخ ْل ُقهم قليال النحرافهم شامال يف األرض‪ .‬وأنت‬
‫تعلم أن األرض عىل هيئة البيضة‪ ،‬فكأن األرحا َم مل تنضجهم لقلة‬
‫الشمس فجاء َخ ْل ُقهم ُمتهافِتا‪ ،‬وجلو ُدهم ضعيف ًة‪ .‬فكأن األرحام‬
‫كبري إنضاج!‪.‬‬
‫زادت عىل إنضاج السودان‪ ،‬ومل تُنضج الرو َم َ‬
‫ْ‬
‫ُ‬
‫اجلاحظ لون حمبوبته متارض‪ ،‬فاستعاد برشهتا املتسوطة بني‬ ‫وتذكر‬
‫البياض والسواد‪ .‬فنظر إىل األرض‪ ،‬ورفع وجهه‪ ،‬وقل ُبه خيفق‪:‬‬
‫‪- -‬لذلك ترون أحس َن الناس أجساما وأمج َلهم ألوانا أهل هذه‬
‫ننحرف شامال‬
‫ْ‬ ‫فلم‬
‫وسط األرض‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫البالد؛ وذلك لوقوع إقليمنا‬
‫وال جنوبا‪.‬‬
‫وسكت وهو يتذكر متارض‪ ،‬وكيف و ّدعها آخر مرة قرب سوق‬
‫العطارين‪ .‬فتمتم قائال‪:‬‬
‫عيل العودة ألمر مهم!‬
‫‪ّ --‬‬
‫ثم وقف‪ ،‬فوقف معه الطالب يش ّيعونه إىل الباب‪ ،‬ما كاد يضع‬
‫رجله يف نعله حتى شعر برضب خفيف عىل كتفه‪ ،‬فالتفت فإذا سهل‬
‫بن هارون‪.‬‬
‫ابتسم اجلاحظ فاحتا ذراعيه وعانق سهال قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما الذي جاء بك؟‬
‫‪- -‬جئت أستعري كتاب بطليموس من أحد الرتامجة الرسيان‪.‬‬
‫وسخ ًا إىل مكاهنا‪ ،‬ونفض‬
‫انشغل اجلاحظ بإعادة عاممته املصفرة َ‬
‫ٍ‬
‫طوبة وقعت عليها وهو يقول‪:‬‬ ‫طرف جبته األسفل من أثر‬

‫‪138‬‬
‫‪- -‬أمل نقرأ كتاب بطليموس منذ دهر مع ًا؟‬
‫‪- -‬بىل‪ ،‬وأنا أبتغيه ألنسخه للبيع‪ ،‬لكني مل أجد الرجل ولعيل أعود‬
‫وقتا آخر‪.‬‬
‫‪- -‬حسنا‪ ،‬ما رأيك يف أن تصحبني لدار مويس بن عمران فنتعشى‬
‫معه؟‬
‫‪- -‬ال بأس‪.‬‬
‫خرج الرجالن من باب احلائط الدائر عىل املسجد وبدآ يسريان يف‬
‫الشارع‪ ،‬كانت الضوضاء اآلتية من جهة السوق عالية‪ ،‬والشمس تكاد‬
‫تغيب وأذان املغرب يكاد ينطلق‪ ،‬ظال يسريان يف الشارع‪ ،‬وكان اجلو‬
‫باردا فجعل كل منهام يشد جبته عليه‪ ،‬بينام أخذ اجلاحظ عاممته وتقنّع‬
‫هبا‪.‬‬
‫فالتفت إليه سهل وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال أنصحك بالتقنع؛ فأنت عندما تتقنع بعاممتك ختفي حماسن‬
‫وجهك‪.‬‬
‫لكزه اجلاحظ بمنكبه‪:‬‬
‫‪- -‬تعني أين عندما أتقنع ُأبرز ما يف وجهي من دمامة؟‬
‫ثم قطع حديثهام صوت مؤذن قريب‪.‬‬
‫كانا قد حاذيا الزقاق الكبري املؤدي لساحة احلامم‪ ،‬فازدادت‬
‫الضوضاء تكاثفا باختالط أصوات املؤذنني مع صوت مطرقة يف طرف‬
‫السوق‪.‬‬
‫يتدافع الناس خارجني من سوق البرصة عائدين إىل بيوهتم‪،‬‬

‫‪139‬‬
‫أو متوجهني للمسجد اجلامع لصالة املغرب‪ .‬يكاد الشارع يضيق‬
‫بالكتل البرشية اآلخذة يف كل اجتاه‪ .‬فهؤالء قصابون حيملون سيوفهم‬
‫وآالهتم‪ ،‬وتفوح رائحة الشحم واللحم من مالبسهم‪ ،‬وهم منهمكون‬
‫يف أحاديثهم بعد يوم طويل من العمل‪ ،‬مروا من جهة سهل‪ ،‬فضم‬
‫طرف جبته حتى ال تالمس مالبسهم‪ .‬ثم دخل هو واجلاحظ إىل‬
‫املسجد للصالة‪.‬‬
‫بدأت الصالة يف املصىل الصغري املطل عىل الشارع‪ ،‬دخل الناس يف‬
‫صالهتم لكن اللوحة البادية أمام املصلني ال تكاد ترتك للمصيل مساحة‬
‫تأمل أو خشوع‪.‬‬
‫وتلك جمموعة من اجلواري يمشني مرسعات وعىل رأس إحداهن‬
‫كومة مالبس‪ ،‬وهن يتضاحكن ويتغامزن مع شاب يف طرف الشارع‪،‬‬
‫ثم مر بني الشاب والفتيات َكال ٌّب يركض ووراءه جمموعة من الكالب‬
‫حممال يقوده أعرايب ّ‬
‫رث الثياب‪.‬‬ ‫أفزعت مجال ّ‬
‫كانت الكتل البرشية تتحرك مبتعدة عن السوق لتتوارى يف الشارع‬
‫الواسع‪ ،‬فيام بدأ الليل يفغر فاه ليلتهم املدينة ومن فيها‪.‬‬
‫نفض اجلاحظ حذاءه وهو خيرج من باب املسجد وقال لسهل‪:‬‬
‫ُتبت هذه الصالة حسنات أم سيئات؟ وما الذي عقلنا منها‬
‫‪- -‬هل ك ْ‬
‫وحرضناه بقلوبنا؟‬
‫التفت سهل متنهدا وقال وهو ينفض حبيبات احلىص عن أرنبة‬
‫أنفه األقنى‪:‬‬
‫‪- -‬وما أدراك أهنا من أكثر الصلوات أجرا؟ فاألجر يتضاعف كلام‬
‫أجر املتعبد املنفرد يف خلوته‬ ‫تضاعفت الفتن والعوارض‪ّ ،‬‬
‫وإن َ‬

‫‪140‬‬
‫املنقطع عن العوارض ألقل عندي من أجر من يصيل وهو ّ‬
‫مطل‬
‫عىل سوق العطارين‪.‬‬
‫‪- -‬ثم إن الفرق بني السيئة واحلسنة دقيق ال يدركه العامة‪ ،‬فاحلسنة‬
‫قد تكون سيئة بحسب املقام والنية‪ ،‬والسيئة قد تصري حسنة‬
‫باملقام والنية‪.‬‬
‫ظال يتباحثان يف الفروق ما بني احلسنات والسيئات‪ ،‬وكل منهام‬
‫يستعرض قدرته عىل توليد األفكار وزحزحة الدارج منها بمنطق حا ّد‪.‬‬
‫واصال السري قاصد ْين منزل مويس بن عمران‪ ..‬ذلك املنزل الوحيد‬
‫اخلاويتي أبدا‪.‬‬
‫نْ‬ ‫الذي جيدان فيه عادة ما يشبع معدت ْيهام‬
‫***‬
‫مد اجلاحظ يده وقرع الباب بقوة‪.‬‬
‫خرج غالم صقلبي وفتح الباب‪ ،‬ثم دعامها للدخول وهو مطأطئ‬
‫الرأس‪.‬‬
‫كان مويس بن عمران مرتبعا يف جملسه الواسع الواقع باجلانب‬
‫األيمن من منزله الكبري‪ ،‬ومعه مجاعة فيهم النظام ومارسجويه‬
‫اجلنديسابوري وأبو نواس‪.‬‬
‫قام مويس من مكانه واستقبلهام كأنه يتدحرج‪ ،‬وهو يردد بلثغته‬
‫التي تبدل الراء غينا‪:‬‬
‫‪- -‬يا م ْغحب ًا وأهال!‬
‫مد اجلاحظ يده ملصافحته وهو يبتسم متذكر ًا كيف وصف أبو‬
‫نواس مويس ًا قبل أيام بأن مشيته تشبه مشية اإلوزة‪ .‬فجسمه القصري‬

‫‪141‬‬
‫املمتلئ‪ ،‬وساقاه األ ْفحج ِ‬
‫ان جيعالن مشيته متأرجحة متلكئة‪ ،‬ثم تذكر‬ ‫َ‬
‫‪-‬وهو يعانقه‪ -‬كيف اغتابه بأن اهلل ُييرس له الكلامت التي فيها الراء‬
‫كلام تكلم لتظهر لثغته أكثر‪ ،‬ولتزداد ظرافته يف أعني الناس‪.‬‬
‫جلس اجلاحظ عن يمني مويس‪ ،‬أما النظام فكان جيلس عن يسار‬
‫مويس‪ ،‬فيام يرتبع مقابلهم أبو نواس ومارسجويه الطبيب‪ ،‬الذي بدا‬
‫وجهه أكثر وضوحا من غريه لقربه من املصباح‪.‬‬
‫كان املجلس دائريا أنيقا مفروشا كله بالسجاد اخلراساين الفاخر‪،‬‬
‫واملساند البرصية األنيقة‪ .‬وكانت إحدى زواياه مملوءة كتبا‪ .‬شعر‬
‫اجلاحظ براحة وهو يستنشق رائحة الكتب اجللدية والورقية‪ .‬فجلس‬
‫غري بعيد منها ‪-‬عىل عادته‪ -‬وهو يتذكر سخرية سهل بن هارون منه‪:‬‬
‫‪- -‬سأقرتح عىل الفتاة التي ستتزوجها أن تصنع قارورة عطرها من‬
‫غبار الكتب!‬
‫التفت مويس بجسمه كامال إىل اجلاحظ وقال بنربة أرفع من نربته‬
‫العادية‪:‬‬
‫‪- -‬هل طلبك أمري املؤمنني هارون الرشيد يف من طلب أمس؟‬
‫حترك اجلاحظ يف مكانه ‪-‬العبا بجفنه األيمن‪ُ ،‬مرخي ًا شفته السفىل‪،‬‬
‫غضن ًا خده األيرس‪ -‬قائال‪:‬‬
‫ُم ِّ‬
‫‪- -‬لو طلبني ملا كنت جالسا بني هذه الوجوه‪ .‬فام أظن من جالس‬
‫اخللفاء يعود القهقرى ملجالسة الدمهاء واحلشوة ومن ال يعبأ اهلل‬
‫هبم!‬
‫مويس يف مكانه‪ ،‬ثم رفع يده وصك‬
‫ٌ‬ ‫دوى املجلس ضحكا‪ ،‬واهتز‬
‫ّ‬

‫‪142‬‬
‫هبا يد اجلاحظ طرب ًا‪ .‬أما أبو نواس فكان يداري ضحكه بسبب توايل‬
‫آت من‬‫راءات يف كالم مويس‪ ،‬بادر النظام –وكأن صوته الغليظ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ثالث‬
‫أعامق روحه‪ -‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد دعا َ‬
‫شيخنا أبا اهلذيل العالف يف مجاعة من املشيخة‪ .‬وطلب‬
‫إحصاء كل طالب العلم والعلامء يف البرصة‪.‬‬
‫غاب اجلاحظ عن احلديث منطويا عىل نفسه‪ ،‬وهو يفكر كيف أن‬
‫الرشيد لو دعاه فلربام تيرس أمر زواجه من متارض بنت اخلليل‪ ،‬ثم ختيل‬
‫نفسه بني يدي الرشيد وهو ُيظهر كل علمه ومهاراته‪ ،‬والرشيد يقول‬
‫له‪ :‬مل َ مل ْ خيربوين عنك قبل هذا؟‬
‫غري أن هذه األفكار ‪-‬التي داعبت خياله‪ -‬قطعتها عليه فكرة‬
‫أخرى‪ :‬ملاذا ما زال يشعر بالذنب لتعلقه هبا عند رؤيتها وهي تنوح عىل‬
‫يكتم حلظة رؤيته األوىل هلا عن كل أحد؟‬
‫أبيها قبل بضعة أعوام؟ ومل َ ُ‬
‫كانت عيناه تدوران برسعة الفتة‪ ،‬وهي اإلشارة التي يعرف هبا‬
‫أصدقاؤه انشغاله بأمر جلل‪ .‬فانتبه مويس وبادره‪:‬‬
‫طرت عنا‪ ،‬وبأي أرض نزلت؟‬
‫َ‬ ‫‪- -‬ما بالك يا أبا عثامن؟ أين‬
‫انتبه‪ ،‬فاعتدل يف جلسته شا ّد ًا أطراف جبته‪ ،‬وهو يقول بنربة غري‬
‫واثقة‪:‬‬
‫‪- -‬كنت أفكر يف مسألة منطقية!‬
‫واسع‬
‫ٌ‬ ‫دخل الغالم الصقلبي ونظره إىل األرض‪ ،‬وبيده جا ٌم‬
‫مزركش بصور الطواويس ووضعه وسط املجلس‪ ،‬فوقف أبو نواس‬
‫تفوح من أردانه رائحة عطور خمتلطة‪ .‬أخذ تفاحة وقضمها‪ ،‬ثم قال‬

‫‪143‬‬
‫وكالمه ال يكاد ُيفهم‪:‬‬
‫‪- -‬هل سيصلنا يشء من صلة أمري املؤمنني لطالب العلم والعلامء؟‬
‫بادره اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ومن أي الفريقني ترى نفسك يا ابن هانئ؟‬
‫أبعد أبو نواس بقية التفاحة عن فيه وهي تقطر ماء عىل شدقه قائال‬
‫بابتسامة فاترة‪:‬‬
‫‪- -‬وماذا ترى أنت يا أبا عثامن؟‬
‫‪- -‬ال أرى أنك مندرج يف طالب العلم وال يف العلامء‪ .‬فأنت شاعر‬
‫مفلق‪ ،‬ومنطيق مطرب‪ ،‬فأرى أن تلتمس طريقا حتى يعرف‬
‫اخلليفة مكانتك كأشعر أهل البرصة‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يتحدث‪ ،‬غري أن جوا من التوتر والنظرات املرتابة‬
‫فهم كالم اجلاحظ عىل أنه ٌ‬
‫حط من مكانته العلمية‪،‬‬ ‫خيم‪ .‬فأبو نواس َ‬
‫خاصة بعد املناظرة التي دارت بينهام قبل أيام يف أحد املساجد‪ ،‬وبحضور‬
‫النظام‪ .‬فكيف مل يرض أن ينظمه يف سلك العلامء وهو الذي يشهد كل‬
‫من عرفه بتبحره يف الفقه واللغة واملنطق والتاريخ‪ ،‬كان النظام يراوح‬
‫النظر بني وجه أيب نواس الذي تظلله سحابة انزعاج‪ ،‬ووجه اجلاحظ‬
‫الذي تغشاه موجة توتر حياول إخفاءها‪ ،‬والنظر إىل حم ّيا مويس الذي‬
‫ال حيب أن ُيؤذى أحد يف جملسه‪ .‬مد النظا ُم يدَ ه إىل كوز من ماء الورد‪،‬‬
‫وقطع حديث اجلاحظ بقوله‪:‬‬
‫‪- -‬أنت يا أبا نواس تستحق كل تلك الصفات جلمعك إياها كلها‪،‬‬
‫ثم إن الرجل الكامل يف أيامنا هذه ال يستحق صفة الكامل إال إذا‬

‫‪144‬‬
‫مجع صفات متباينة‪...‬‬
‫ومع سعي النظام لتطييب خاطر أيب نواس‪ ،‬فإن أبا نواس مل يرتح‬
‫لعبارة «الرجل الكامل» خمافة أن يؤوهلا بقية الرهط تأويال آخر‪ .‬فبادر‬
‫أبو نواس مخُ في ًا تضايقه ‪-‬حماوال استعجال األذهان قبل االنتباه لكلمة‬
‫«الرجل الكامل»‪ -‬قائال بتلعثم‪ ،‬موجها كالمه إىل مارسجويه‪:‬‬
‫ناظره‬ ‫سمعت أن أحد رهبانكم ناظر يف املسجد أمس و َق َ‬
‫طع ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫املسلم‪.‬‬
‫فقال مارسجويه‪:‬‬
‫‪- -‬سمعت ذلك‪ ،‬وما كنت حارضا‪.‬‬
‫نزع اجلاحظ عاممته‪ ،‬فظهر ُّ‬
‫ظل رأسه الدقيق عىل اجلدار أكرب من‬
‫حجمه وقال‪:‬‬
‫ألباب وطارت‬
‫ٌ‬ ‫سمعت أهنا كانت مناظرة مشهودة‪ ،‬حارت فيها‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫عامئم‪.‬‬
‫ابتسم النظام مبتعدا عن اجلدار‪ ،‬وأخذ وسادة وثناها لتكون له‬
‫ُم ْر َت َفق ًا وهو يستقبل وجه اجلاحظ‪.‬‬
‫فانطلق اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬لقد فكرت يف سبب انخداع كثري من العامة بالنصارى وتقديمهم‬
‫هلم عىل املجوس واليهود‪ ،‬وقد حدثت صديقنا مارسجويه بذلك‬
‫من قبل‪.‬‬
‫فالتفت مويس إىل اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬وما ذا وجدت يا أبا عثامن؟‬

‫‪145‬‬
‫‪- -‬وجدت أن املسلمني حينون عىل النصارى أكثر من اليهود‬
‫واملجوس ألسباب‪ .‬فاليهود كانوا جريان املسلمني يف يثرب‪.‬‬
‫ِ‬
‫وثبات‬ ‫وعداوة اجلريان كعداوة األقارب يف الشدة والتمكن‬
‫ُ‬
‫اإلنسان من يعرف‪ ،‬ويناقض من يشاكل‪،‬‬ ‫احلقد‪ .‬وإنام يعادي‬
‫وعىل قدر احلب والقرب يكون البغض والبعد‪.‬‬
‫التظارف إلثبات أنه‬
‫ُ‬ ‫عندها التفت أبو نواس إىل مارسجويه حماوال‬
‫مل يغضب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬وهبذا تكون دواعي البغض بينك وبني اجلاحظ كثرية يا‬
‫مارسجويه!‬
‫ابتسم اجلاحظ دون أن يستطيع إخفاء انزعاجه من قطع أيب نواس‬
‫حلديثه وواصل‪:‬‬
‫‪«- -‬ثم ملا رأى اليهو ُد جريانهَ م من األنصار قد استقبلوا املهاجرين‬
‫خري استقبال حسدهتم اليهو ُد عىل النعمة يف الدين واالجتامع بعد‬
‫االفرتاق والتواصل بعد التقاطع‪ ...‬فامألوا األعداء واحلسدة‪ ،‬ثم‬
‫جاوزا إىل الطعن وإدخال الشبه‪ ،‬إىل املناجزة واملنابذة والعداوة‪.‬‬
‫فجمع املسلمون كيدهم وبذلوا أنفسهم وأمواهلم يف إخراجهم‬
‫من ديارهم فطال ذلك واستفاض فيهم وظهر»‪.‬‬
‫كان النظام يستمع بانتباه وهو متكئ عىل وسادته‪ ،‬ممسكا وسط‬
‫جبته ال يكاد يتحرك‪ ،‬وال يزيد عىل التأمل وإغضاء نظراته املتأملة دوما‬
‫وترديد كلمته األثرية‪ :‬يشء عجيب!‪ .‬يمدها هبدوء ناظرا إىل األرض‪،‬‬
‫سعيدا باتساع علم تليمذه اجلاحظ‪.‬‬
‫واصل اجلاحظ حديثه‪:‬‬

‫‪146‬‬
‫البغض ومتكن ذلك‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الغيظ وتضاعف ذلك‬ ‫‪«- -‬ثم ترادف ذلك‬
‫احلقد»‪.‬‬
‫كان يتحدث بصوت مسموع‪ ،‬رغم ضوضاء تصادم األواين‬
‫وج َل َبة اخلدم يف بيت العامل وهم منكبون عىل جتهيز العشاء‪.‬‬
‫َ‬
‫أما مويس فكان يفكر يف سؤال يرميه أو نكتة يشارك هبا‪ .‬فقبض‬
‫بيده عىل يد اجلاحظ قائال‪:‬‬
‫‪- -‬سمعنا عن اليهود‪ ،‬فامذا عن النصارى وهم موضوع احلديث؟‬
‫التفت اجلاحظ إىل مويس‪ ،‬مغريا هلجته وضاغطا عىل خمارج‬
‫احلروف‪ ،‬مربزا مجال صوته وأناقة ألفاظه‪:‬‬
‫ومهاجره‪-‬‬
‫َ‬ ‫‪«- -‬كانت النصارى ‪-‬لبعد ديارهم من مبعث النبي ‪‬‬
‫ال يتكلفون طعن ًا‪ ،‬وال يثريون كيدا‪ ،‬وال جيمعون عىل حرب‪.‬‬
‫القلوب عىل اليهود‪ ،‬ول ّينها عىل‬
‫َ‬ ‫فكان هذا أول أسباب ما غلظ‬
‫النصارى‪ .‬ثم كان من أمر املهاجرين إىل احلبشة ما حببهم إىل‬
‫غلظت عىل أعدائهم‪،‬‬
‫ْ‬ ‫القلوب لقو ٍم‬
‫ُ‬ ‫النت‬
‫عوام املسلمني‪ .‬وكلام ْ‬
‫وبقدر ما نقص من بغض النصارى زاد يف بغض اليهود‪ .‬ومن‬
‫شأن الناس حب من اصطنع إليهم خريا»‪.‬‬
‫حترك مارسجويه‪ ،‬مائال بنصف جسمه إىل األمام‪ ،‬وقال بلهجة‬
‫واثقة‪:‬‬
‫وتكلفت الغائب‪،‬‬
‫َ‬ ‫أبعدت النجع َة‬
‫َ‬ ‫‪- -‬أال ترى يا أبا عثامن أنك‬
‫وأمهلت احلارض؟ مل َ غفلت عن أن القرآن ناطق بحب النصارى‪.‬‬
‫َ‬
‫اس َع َد َاوةً ّل ِّلَ ذ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َّ َّ‬
‫ِين‬ ‫الن ِ‬ ‫ج دن أش د‬ ‫واآلية من سورة األنعام تقول‪﴿ :‬ل ت ِ‬

‫‪147‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ‬
‫ِين َآم ُن وا ّالَ ذ َ‬
‫ِين‬ ‫ِين أ ْش َر ُك وا ۖ َولَ َت ج َد َّن أقْ َر َب ُه م َّم َو َّدةً ّل ِّلَ ذ َ‬
‫آم ن وا ال ي ه ود وال ذ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫قَ ال ُوا إنَّا نَ َص َ‬
‫ين﴾‪.‬‬‫سن ِ َ‬ ‫ى﴾ إىل قوله‪َ ﴿ :‬وذٰل ِك َج َز ُاء ال ُم ح ِ‬ ‫ار ٰ‬ ‫ِ‬
‫كان مارسجويه يتحدث‪ ،‬وكانت عيون جمالسيه ترمقه بانتباه‪ .‬فهو‬
‫منذ الصبا حيرض جمالس املعتزلة يف املسجد فأكسبته مهارة يف اجلدل‪.‬‬
‫فلام سكت مارسجويه‪ ،‬قال اجلاحظ وهو يوجه كالمه إليه‪:‬‬
‫‪- -‬صدقت‪ ،‬وما كنت ألغفل عن ذلك لكني أخرت ذكر اآلية‬
‫لبعض التدبري املنطقي‪ .‬فإن من أمتن أسباب ميل عوام املسلمني‬
‫لعقيدة النصارى تأويل هذه اآلية التي «غلطت فيها العامة حتى‬
‫واحتجت هبا‪ ،‬واستاملت‬
‫ْ‬ ‫نازعت اخلاصة‪ ،‬وحفظتها النصارى‬
‫والس ْفلة‪ .‬ويف نفس اآلية أعظم الدليل عىل أن‬
‫الرعاع ِّ‬
‫قلوب َّ‬
‫اهلل تعاىل مل يعن هؤالء النصارى وال أشباههم من امللكانية‬
‫واليعقوبية‪ ،‬وإنام عنى أمثال بحريا الراهب والرهبان الذين كان‬
‫خيدمهم سلامن الفاريس»‪.‬‬
‫دخل الغالم الصقلبي ناظرا إىل األرض‪ ،‬حامال سفرة نظيفة‪ .‬جثا‬
‫عىل ركبتيه ليبسطها فتباعد الرجال حتى ُبسطت وسط املجلس‪ .‬وقبل‬
‫أن ينرصف أشار إليه مويس بأن يحُ كم إغالق ستارة النافذة ألن بعض‬
‫الغبار بدأ يتسلل‪.‬‬
‫خرج الغالم وعاد حامال جفنة مملوءة ثريدا‪ ،‬ووراءه غالم هندي‬
‫حيمل قصعة وكوزا من املاء‪ .‬اقرتب اخلادم اهلندي من سهل بن هارون‬
‫ومد له قطعة صابون وبدأ يفرغ املاء عىل يد ْيه ‪.‬‬
‫يدي سهل حتت‬
‫نظر اجلاحظ إىل املاء القذر املنحدر بوضوح من ْ‬

‫‪148‬‬
‫ضوء املصباح‪ ،‬متسائال متى غسلهام بالصابون آخر مرة‪ .‬طرد الفكرة‬
‫عن ذهنه مواصال حديثه‪:‬‬
‫‪- -‬وإن من أسباب عطف املسلمني عىل النصارى «أنه جاء اإلسالم‬
‫وملوك العرب رجالن غساين وخلمي‪ ،‬ومها نرصانيان‪ .‬وقد‬
‫كانت العرب تدين هلام‪ ،‬وتؤدي اإلتاوة هلام‪ ،‬فكان تعظيم قلوهبم‬
‫هلام راجعا إىل تعظيم دينهام‪ .‬وكانت هتامة ‪-‬وإن كانت َل َقاح ًا ال‬
‫تدين الدين‪ ،‬وال تؤدي اإلتاوة‪ ،‬وال تدين للملوك‪ -‬ال متتنع من‬
‫تعظيم ما ع ّظم الناس‪ ،‬وتصغري ما صغروا‪ .‬ونرصانية النعامن‬
‫وملوك غسان مشهورة يف العرب‪ ،‬معروفة عند الناس»‪.‬‬
‫قال النظام‪ ،‬وهو يفرك يديه بالصابون بعد أن وصل إليه الغالم‬
‫اهلندي بقصعته الواسعة‪:‬‬
‫‪- -‬هلل أنت يا أبا عثامن‪ ،‬واهلل ما فكرت يف هذا األمر ُ‬
‫قبل‪.‬‬
‫شعر اجلاحظ بنشوة من تزكية النظام‪ ،‬وهو الرجل املعروف بحدة‬
‫الذهن‪ .‬فواصل حديثه‪ ،‬وأبو نواس يرقب حرك َة فك ْيه املنعكس َة عىل‬
‫اجلدار‪:‬‬
‫‪- -‬وقد كانت العرب تتجر إىل الشام‪ ،‬وينفذ رجاهلا إىل ملوك الروم‪،‬‬
‫وهلا رحلة يف الشتاء والصيف‪ ،‬يف جتارة مرة إىل اليمن‪ ،‬ومرة‬
‫ِق َبل الشام‪ ،‬ومصيفها بالطائف‪ ،‬فكانوا أصحاب نعمة‪ ،‬وذلك‬
‫مشهور مذكور يف القرآن وعند أهل املعرفة‪ .‬وقد كانت هتاجر إىل‬
‫احلبشة‪ ،‬وتأيت باب النجايش وافدة‪ ،‬فيحبوهم باجلزيل‪ ،‬ويعرف‬
‫هلم األقدار‪ .‬ثم إن قيرص والنجايش نرصانيان‪ ،‬فكان ذلك أيضا‬
‫تبع لألول يف تعظيم‬
‫واآلخر من الناس ٌ‬
‫ُ‬ ‫للنصارى دون اليهود‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫من عظم‪ ،‬وتصغري من صغر‪ ،‬ثم إن العرب كانت النرصانية فيها‬
‫فاشية‪ ،‬وعليها غالبة»‪.‬‬
‫حترك مويس من مكانه مقرتبا من ِ‬
‫اخلوان وقال‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫‪- -‬باسم اهلل!‬
‫تقارب الرجال حمدقني باجلفنة الواسعة املحشوة ثريدا مملوءا سمنا‪،‬‬
‫وبدأت األصوات ختفت بينام عال صوت القضم واللقم‪ .‬واختلطت‬
‫خمارج احلروف باصطكاك األرضاس‪ .‬حاول اجلاحظ مواصلة حديثه‬
‫فلم يستطع مقاومة غواية الثريد‪ ،‬فهو مل يأكل طعاما منذ أمس‪.‬‬
‫أراد مويس قطع الصمت الذي خيم ُفجاءةً‪ ،‬فقال وهو يمضغ‬
‫وخمارج حروفة خمتلطة‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ما كنت أظن قبلك يا أبا عثامن أن كثريا من العرب كانوا‬
‫نصارى‪.‬‬
‫أمسك اجلاحظ يده قبل وصول اللقمة إىل فيه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬إال مرض‪ .‬فلم تغلب عليها هيودية وال جموسية‪ ،‬ومل تفش فيها‬
‫النرصانية إال ما كان من قوم منهم نزلوا احلرية يسمون ِ‬
‫العباد‪،‬‬
‫فإهنم كانوا نصارى‪ ،‬وهم مغمورون مع ٍ‬
‫نبذ يسري يف بعض‬
‫مرض إال دي َن العرب‪ ،‬ثم اإلسالم‪.‬‬
‫القبائل‪ .‬ومل تعرف ُ‬
‫كان النظام ينظر من طرف خفي إىل اجلاحظ‪ ،‬ثم تذكر رقة حاله‬
‫ومعاناته وحاجته إىل أن يذوق ثريدا وحلام‪ ،‬فخاف ‪-‬إن ظل مويس‬
‫ٍ‬
‫مستح‪ ،‬فأخذ الكالم قائال‪:‬‬ ‫يسأله‪ -‬أن يحُ رم من بقية الطعام وهو‬
‫‪- -‬ثم إن النرصانية «غلبت عىل ملوك العرب وقبائلها‪ :‬عىل خلم‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫وغسان‪ ،‬واحلارث بن كعب بنجران‪ ،‬وقضاعة‪ ،‬وط ّيئ‪ ،‬يف قبائل‬
‫كثرية‪ ،‬وأحياء معروفة‪ .‬ثم ظهرت يف ربيعة فغلبت عىل تغلب‬
‫وعبد القيس وأفناء بكر‪ ،‬ثم يف آل ذي اجلدين خاصة‪.‬‬
‫وجاء اإلسالم وليست اليهودية بغالبة عىل قبيلة‪ ،‬إال ما كان‬
‫من ناس من اليامنية‪ ،‬ونبذ يسري من مجيع إياد وربيعة‪ .‬ومعظم‬
‫اليهودية إنام كانت بيثرب ومحري وتيامء ووادي القرى‪ ،‬يف ولد‬
‫هارون دون العرب»‪.‬‬
‫كان مارسجويه ال يزيد عىل حتريك رأسه مومئا باملوافقة‪ .‬أما‬
‫أبو نواس فكان مندفعا يف القضم‪ ،‬ثم تذكر أنه مل يتحدث منذ بداية‬
‫احلديث‪ ،‬وذاك قد يكون مثار تندّ ٍر عليه‪ .‬فقال لسهل بن هارون‪:‬‬
‫‪- -‬مالك ال تتحدث يا سهل؟‬
‫قال له سهل‪ ،‬والطعام يكاد يتطاير من فيه‪:‬‬
‫كنت قس بن ساعدة عىل منربه منذ‬
‫‪- -‬ما يل ال أحتدث؟ كأنك أنت َ‬
‫وضع هذا الطعام!‬
‫دوى الضحك يف أرجاء املجلس‪ ،‬ورفع اجلميع أيادهيم إىل‬
‫ّ‬
‫أفواههم اتقا ًء النفالت الطعام منها‪ .‬أما مويس بن عمران فالتفت إىل‬
‫سهل حماوال زيادة التحريش بينه وبني أيب نواس‪:‬‬
‫‪- -‬ال تظلم أبا نواس يا سهل‪ ،‬فام منعه من احلديث إال احلرص عىل‬
‫سامع الدرر التي كان ينثرها أبو عثامن‪.‬‬
‫فقال سهل وهو جيمع بأطراف أصابعه لقمة‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ما أسكته حب العلم‪ ،‬وإنام خشع لسفرة الطعام‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫حاول النظام إعادة احلديث إىل موضوعه بقوله‪:‬‬
‫«فعطف قلوب دمهاء العرب عىل النصارى –كام تقول يا أبا‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫عثامن‪ -‬إنام هو للملك الذي كان فيهم‪ ،‬والقرابة التي كانت هلم‪،‬‬
‫ثم رأت عوامنا أن فيهم ملكا قائام‪ ،‬وأن فيهم عربا كثرية‪ ،‬وأن ِ‬
‫بنات‬ ‫ُّ‬
‫الروم و َلدْ َن مللوك اإلسالم‪ ،‬وأن يف النصارى متكلمني وأطباء‬
‫ومنجمني‪ ،‬فصاروا بذلك عندهم عقالء وفالسفة وحكامء‪ ،‬ومل‬
‫يروا ذلك يف اليهود»‪.‬‬
‫قال اجلاحظ بني لقمتني‪:‬‬
‫‪- -‬فكأن الدمهاء ظنوا أنه إذا عال ُ‬
‫شأن قوم يف الدنيا اقرتب دينُهم من‬
‫احلق‪ .‬فجلعوا نظافة النرصاين من نظافة دينه‪ ،‬وقذارة اليهودي‬
‫من قذارة دينه‪ .‬فاليهودي ال يكون إال قصابا أو سباكا أو نخاسا‪،‬‬
‫فظنوا قذارته وحقارته من قذارة وحقارة دينه‪.‬‬
‫نفض مارسجويه يده من الطعام قائال وهو يتجشأ‪:‬‬
‫‪- -‬صدقت يا أبا عثامن‪.‬‬
‫قال النظام‪ ،‬وهو يشيح بوجهه ليتخلص من رائحة جتشؤ جليسه‪:‬‬
‫‪- -‬وهاهنا يشء آخر يف باب الديانات‪ .‬وذلك أن الناس خيُصون‬
‫َ‬
‫الرجل عاقال‬ ‫الدي َن بأخطاء وأغالط ال خيصون هبا غريه‪ .‬فرتى‬
‫حازما يزن األمور بميزان العقل‪ ،‬حتى إذا دخل يف باب الدين‬
‫صار كأنه جمنون هيذي‪.‬‬
‫اهتز اجلاحظ لفكرة النظام وأضاف‪:‬‬
‫وجدت ديانتَهم‬
‫َ‬ ‫‪- -‬هلل أنت يا أبا إسحاق! لذلك لن تنظر إىل قو ٍم إال‬

‫‪152‬‬
‫أدنى من عقوهلم‪ .‬فاليونان مع عقوهلم يعبدون الكواكب‪،‬‬
‫واهلنود مع حذقهم يف احلساب يعبدون البِدَ َدة‪ ،‬وكانت العرب‬
‫مع رجاحة عقوهلا تعبد األصنام‪.‬‬
‫عاد النظام وقال‪:‬‬
‫‪- -‬وهلذا انرصفت هذه الطائفة املباركة من املعتزلة إىل عرض أمور‬
‫الدين عىل العقل حتى تشكر اهلل عىل ما وهبه من قسطاس لتمييز‬
‫احلق من الباطل‪.‬‬
‫تباعد الرجال عن القصعة‪ ،‬ودخل الغالم الصقلبي ألخذ األواين‪،‬‬
‫وعاد الغالم اهلندي حامال الصابون وكوز املاء‪.‬‬
‫كان الغالم اهلندي يفرغ املاء عىل يدي النظام‪ ،‬فوقف اجلاحظ‬
‫واقرتب من النافذة وبصق خارجها‪ ،‬ثم التفت إىل مويس وقال‪:‬‬
‫اهبار ُ‬
‫الليل وحان وقت االنرصاف‪.‬‬ ‫‪- -‬لقد َّ‬
‫قال أبو نواس بسخرية‪:‬‬
‫‪- -‬مل العجلة يا أبا عثامن‪ ،‬لكأن جارية طيبة الدَّ ِّل َملذوذ َة احلديث‬
‫تنتظرك! إنام هو كوخك ِ‬
‫الوس ُخ وكراريسك املتطاير ُة وحلا ُفك‬
‫املغرب‪.‬‬
‫تساءل اجلاحظ يف نفسه هل وصل خرب عشقه لتامرض إىل أيب‬
‫نواس‪ ،‬ثم التفت إىل النظام فكانت نظراته خالية مل يقرأ فيها شيئا‪.‬‬
‫عادت إليه نفسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬من سمع حديثك يا أبا نواس يظن أنك ممُ َ ّك ٌن َّ‬
‫كل ليلة من ليايل‬
‫هذا الشتاء من الكافات الستة‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫ضحكوا مجيعا‪ ،‬لكن مويسا ضحك ضحكة متكلفة لعدم فهمه ملا‬
‫يشري إليه اجلاحظ‪ .‬فامل بجسمه املتقارب عىل اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫‪- -‬علمنا ما الكافات الست يا أبا عثامن!‬
‫أمسك يدَ مويس وجعل يعد له عىل أصابعه القصرية‪:‬‬
‫والكيس والكافور‬ ‫‪- -‬الكافات التي يحُ ارب هبا الشتاء هي‪ِ :‬‬
‫الك ُّن‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكأس ال ِّطالء والكساء‪ ...‬أما السادسة فاسأل عنها شيخنا النظام!‬
‫ُ‬
‫التفت مويس جهة النظام‪ ،‬فأغىض مبتسام متمتام هبدوء مشوبا‬
‫بحياء‪:‬‬
‫‪- -‬يشء عجيب! يشء عجيب!‬
‫حترك مويس يف مكانه ورضب كف اجلاحظ‪ ،‬مؤكدا له فهمه‬
‫للكاف السادسة‪ .‬أما النظام فكان ال يزيد عىل االبتسام والنظر إىل‬
‫األرض‪ ،‬بينام ينعكس ظل مججمته الكبرية عىل اجلدار‪.‬‬
‫كان اجلاحظ أول الواقفني‪ ،‬فقام املجلس بقيامه‪ ،‬وتقدم مويس إىل‬
‫باب بيته يتدحرج مرددا‪:‬‬
‫‪- -‬يا مغحب ًا يا مغحب ًا!‬
‫***‬
‫ال يكاد باب احلجرة ينفتح بعصف الرياح اجلنوبية البرصية حتى‬
‫تأيت زوبعة أخرى من زوابعها فتغلقه بقوة‪ ،‬لكن اجلاحظ ال يزال يغط‬
‫يف نوم عميق‪ ،‬لقد احتاط قبل نومه لكتبه حتى ال تعبث هبا الرياح‪.‬‬
‫فلف عليها الوطاء‪ ،‬ورمى بعضها فوق بعض واضعا عليها حلافا كبريا‬
‫ووسائد‪ ،‬ثم نام بعد ليلة طويلة من القراءة والكتابة‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫دخل النظام من باب احلائط ماشيا مرسعا وفتح الباب بقوة وهو‬
‫يقول بصوت ساخر‪:‬‬
‫‪- -‬ما بال العريس نائام؟ أهذه حال عريس؟‬
‫‪- -‬حترك اجلاحظ فوق رسيره كأنه يف حلم‪ ،‬ثم فتح عينيه فرأى‬
‫النظام واقفا عند طرف الرسير ضاحكا‪.‬‬
‫جلس دفعة واحدة‪ ،‬متذكرا بحامس ما عليه فعله اليوم‪ّ .‬‬
‫حك عينيه‬
‫بطرف يده وقال بتثاؤب‪:‬‬
‫‪- -‬علينا الذهاب للحامم‪.‬‬
‫رجع النظام القهقرى متجها إىل اللحاف الذي يغطي الكتب‪.‬‬
‫كشفه وجلس بني الكتب وقال وهو يمد يده ألحدها‪:‬‬
‫‪- -‬ما كنت أظنك ستنام البارحة أصال‪ ،‬وهل ينام العشاق يا أبا‬
‫عثامن؟‬
‫‪- -‬مل أنم! تنام عيني وال ينام قلبي يا أبا إسحاق!‬
‫‪- -‬أرسع! فعلينا الذهاب حلامم مسعود قبل نوبة النساء‪.‬‬
‫هنض اجلاحظ من فوق رسيره ثائر الشعر‪ ،‬مرتديا جبة ال يكاد‬
‫لوهنا يعرف من تراكم األوساخ عليها‪ .‬رفع النظام عينه عن الكتاب‬
‫الذي يتصفحه‪ ،‬وردد برصه يف قامة اجلاحظ فبدا له أكثر دمامة مما‬
‫عهده‪ .‬ثم فكر يف جدوى ذهابه للحامم‪ .‬لكنه دارى كل ذلك مصانعة‬
‫لصديقه وأعاد نظره إىل الكتاب‪ ،‬فأتاه صوت صديقه متمتام‪:‬‬
‫‪- -‬أصيل ركعتني‪ ،‬ثم ننطلق‪.‬‬
‫وضع النظام الكتاب الذي بيده جانبا‪ ،‬وخرج من احلجرة‪ ،‬ثم‬

‫‪155‬‬
‫تبعه اجلاحظ وجعل يحُ كم قفل بابه كعادته‪ .‬ابتسم النظام قائال بلهجة‬
‫ساخرة‪:‬‬
‫أحكم القفل يا أبا عثامن‪ ،‬ففي احلجرة أموال هارون الرشيد‬
‫ْ‬ ‫‪--‬‬
‫ونصف أموال بني برمك‪.‬‬
‫‪- -‬دعنا من هذا‪.‬‬
‫مشيا يف الفناء الواسع‪ ،‬ثم خرجا من باب احلائط‪ ،‬فالتهمهام‬
‫الشارع الضاج باحلركة املؤدي إىل طرف سوق البرصة‪.‬‬
‫يقع محام مسعود يف زقاق ضيق يقود إىل سوق البقول‪ ،‬وتتناثر‬
‫عىل أطراف الزقاق املبلط باحلجارة دكاكني البقالني املختلفة الغاصة‬
‫بأصناف احلبوب والفواكه واخلرضاوات املجلوبة من قرى سواد‬
‫العراق ومدن خراسان‪.‬‬
‫كان اجلاحظ والنظام يسريان وسط زحام الناس‪ ،‬فيام متتلئ‬
‫مناخريمها بروائح العنرب اهلندي وروائح الفواكه الطازجة واملتعفنة‪ .‬ظال‬
‫يسريان وسط الزحام‪ ،‬ثم سمع اجلاحظ صوت بقال يعنف عامله قائال‪:‬‬
‫وجع الرضس!‬
‫َ‬ ‫‪َ --‬‬
‫تعال يا‬
‫فرد عليه العامل بقوله‪:‬‬
‫‪- -‬أنا قادم يا مؤخر َة املبطون!‬
‫التفت اجلاحظ إىل النظام‪ ،‬وهو يرفع طرف إزاره حماوال جتنب‬
‫بعض القاذورات املرمية‪ ،‬وقال بنربة ضاحكة‪:‬‬
‫‪- -‬ال ينقيض عجبي من كون كالم الدمهاء أعلق باألذن والقلب من‬
‫الكالم الفصيح‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫‪- -‬وكيف ذاك؟‬
‫العاميي ما حييت‪ .‬وسأظل أذكر‬
‫نْ‬ ‫‪- -‬أنا مثال لن أنسى عبارة هذين‬
‫العبارة كام هي مهام تطاولت السنون وتقلبت األيام‪ .‬لكني لو‬
‫سمعت العالف يقول كالما مسبوكا ملا حفظته إال بجهد‪ ،‬وملا‬
‫وهتمم‪.‬‬
‫بقي يف ذهني إال باحتياط ّ‬
‫سحب النظام يده من يد صديقه وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬لعل السبب أن الفصاحة يف حقنا تكلف‪ ،‬أما اللحن فيأتينا عفوا‪،‬‬
‫والس ْفلة‪ ،‬يف هذا العامل ا ُملو َّلد‪.‬‬
‫وذلك ملالبستنا الدمهاء ِّ‬
‫كان الزقاق مليئا باحلركة‪ ،‬فأجساد البرش واحليوانات تتدافع‪،‬‬
‫بينام ختتلط أصوات البقالني املنادين عىل بضائعهم مع قرع احلوافر‬
‫عىل الطريق املبلط‪ .‬ومع أن النهار ملا يرتفع‪ ،‬فإن روائح الروث والغبار‬
‫وعرق األجساد تكاد تزكم األنوف‪.‬‬
‫اقرتبا من الباب اخلشبي الكبري‪ ،‬فرتاءى هلام مسعود‪ ،‬واقفا عىل‬
‫باب محامه ومعه غلامنه‪.‬‬
‫دخل اجلاحظ أوال‪ ،‬فلام رآه مسعود التفت إىل أحد الغلامن وقال‬
‫له‪:‬‬
‫‪- -‬ال تسمح لذلك املتسول بالدخول‪.‬‬
‫دوت ضحكة النظام‪ ،‬بينام كان اجلاحظ غري منتبه‪ ،‬غارقا يف التفكري‬
‫فيام ينتظره‪.‬‬
‫التفت النظام إىل صاحب احلامم وقال له‪:‬‬
‫‪- -‬لقد جنيت عىل صاحبي! إنه عريس وليس سائال‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ابتسم الرجل األصلع املمتلئ‪ ،‬واعتذر قائال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد هجم علينا أمس مجاعة من متسويل السوق‪ ،‬فرصت ال أرى‬
‫أحدا إال تذكرهتم‪.‬‬
‫حل َجر‪ .‬دخل اجلاحظ والنظام‪،‬‬
‫كان احلامم واسع املدخل كثري ا ُ‬
‫وتبعهام أربعة غلامن‪.‬‬
‫‪- -‬أبا إسحاق‪ ،‬هل سبق أحد من خلفاء املسلمني إىل ما فعله الرشيد‬
‫من بيعة البن ْيه –األمني واملأمون‪ -‬يف جوف الكعبة قبل أعوام؟‬
‫قاهلا اجلاحظ‪ ،‬وهو يتأوه من برودة املاء الذي أفرغه عليه عامل‬
‫زنجي بقوة‪.‬‬
‫كان النظام مستلقيا عىل مغسلة عن يمني صديقه وقد بدأ غالم‬
‫آخر يغطي جسمه بالصابون‪ .‬فقال وهو يمسح الصابون عن شفته‪:‬‬
‫‪- -‬ال أذكر أن أحدا فعلها قبله‪.‬‬
‫‪- -‬مع إرصار الرشيد –رمحه اهلل‪ -‬عىل أخذ العهود منهام داخل‬
‫الكعبة‪ ،‬وتعليق االتفاق يف جوف الكعبة عىل أن البيعة لألمني ثم‬
‫للمأمون من بعده‪ ،‬مل يعصمهام ذلك من النزاع عىل األمر عندما‬
‫جد اجلد‪.‬‬
‫‪- -‬إي واهلل‪ .‬وما جديد خربمها؟‬
‫‪- -‬سمعت أن جيوش املأمون دخلت األهواز‪ ،‬وما هي إال أيام حتى‬
‫تقتحم البرصة‪.‬‬
‫‪ - -‬هل سيظل املنصور بن املهدي ‪-‬أمري البرصة‪ -‬عىل وقوفه مع‬
‫األمني مع أن أمره يتناقص كل يوم؟‬

‫‪158‬‬
‫‪- -‬سمعت أنه أمر بتحصني املدينة استعدادا ألي طارئ أو اقتحام‬
‫من جيوش املأمون؟‬
‫ارختت يد العامل الزنجي عن الفرك وصب املاء‪ ،‬وهو يستمع‬
‫بانتباه ملا يدور بني الرجلني‪ ،‬فانتهره النظام‪:‬‬
‫ْ‬
‫وافرك يا هذا!‬ ‫صب‬ ‫ِ‬
‫ونجاح َبكر؟ ّ‬ ‫‪- -‬وما لك أنت يف هالك عمرو‬
‫ضحك العامل وقال بلكنة ما زال صاحبها يعاين من نطق بعض‬
‫احلروف العربية‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ما أعرف أيش! لكن أنا أحب حديسكم‪.‬‬
‫ضحك اجلاحظ وقال بتفاصح حتى ال يفهم العامل شيئا‪:‬‬
‫ٍ‬
‫رسادق‬ ‫‪- -‬وفيكم سماّ عون هلم‪ ...‬سمعت أن القوم غرزوا يف كل‬
‫سوقي م ُقدَّ َم شرُ َ ط‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ُأ ُذن ًا‪ ،‬وتخَ ِذوا من كل‬
‫كان النظام نصف جالس‪ ،‬رافعا ذراعه إىل األعىل فيام ينهمك‬
‫الغالم يف فرك إبطه‪ .‬فقال بصوت متقطع‪:‬‬
‫‪- -‬يشء عجيب‪.‬‬
‫مد كلمة عجيب فجاءت متقطعة بسبب الفرك الشديد‪ .‬ثم واصل‬
‫حديثه وعيناه نصف مغمضتني‪ ،‬وعىل أطرافهام رذاذ صابون متناثر‪:‬‬
‫‪- -‬ال عليك يا أبا عثامن‪ ،‬وماذا يعنيني أنا وأنت؟ نحن أصحاب‬
‫أحالس خيول وأرباب سيوف وكتبة‬ ‫ورق وحرب وكالم‪ ،‬ال ْ‬
‫دواوين‪ .‬فإذا دخل األمني البرصة أو دخلها املأمون فكالمها من‬
‫ضارين يف احلالني‪.‬‬
‫بم ّ‬‫هذه الشجرة العباسية الزكية‪ ،‬وما نحن ُ‬
‫اجتهد الغالم الزنجي حتى قلب اجلاحظ عىل ظهره‪ ،‬وأفرغ خليطا‬

‫‪159‬‬
‫من الصابون املعقود بني كتف ْيه‪ ،‬حتى غطت الرغوة أعضاءه الدقيقة ومل‬
‫يبق إال رأسه الصغري ُمسنَدا عىل طرف املغسلة‪ .‬فرفع رأسه ‪-‬حتى بدا‬
‫كفرخ يف عشه‪ -‬وهو يقول‪:‬‬
‫ذكرت بكبري‪ ،‬يا أبا إسحاق‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪- -‬وما الفرق بني ما‬
‫كان النظام يفكر يف هواية صاحبه يف الربط بني املتناقضات‬
‫والكشف عن العالقات بني ما يبدو متباعدا‪ .‬وقبل أن يستفرس منه‬
‫اندفع اجلاحظ وهو حيك طرف رأسه األنزع قائال‪:‬‬
‫‪ - -‬فأصحاب اخليول والنبال والسيوف ال يطيب هلم عيش وال‬
‫يقر هلم قرار إال بمعاونة أرباب الورق واملحابر واألقالم‪ ،‬فنحن‬
‫نندرج يف مجاعة اخلاصة وننتظم يف سلك ِ‬
‫العلية‪ ،‬وإن قعدت بنا‬
‫احلرفة‪ ،‬وجفانا الدهر‪ ،‬وسكنّا حيث تعلم!‬
‫‪- -‬لعله كذلك‪ .‬وأصحاب األقالم كثريا ما يكونون مقدمة للجيوش‪.‬‬
‫قاطع الغالم الزنجي النظام‪:‬‬
‫‪- -‬تعالوا إىل تلك احلجرة‪ ...‬واهلل وسخ كسري كسري!‬
‫غمز اجلاحظ النظام بعينه اليمنى قائال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد هجانا الزنجي!‬
‫‪- -‬ال تنس أهنم حسبوك سائال يا أبا عثامن‪ ،‬ومل يعرفوا حدَّ ما بني‬
‫العريس والسائل!‬
‫مشيا بتؤدة‪ ،‬مؤتزر ْين ُبأ ُز ٍر بيض ليجلسا يف حجرة التنشيف‪.‬‬
‫وكانت ابتسامة متارض ماثلة يف ذهن اجلاحظ عندما رآها آخر مرة ومها‬
‫خيرجان من السوق‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫جلس اجلاحظ عىل طرف ِم ْصطبة مربعة وسط احلجرة‪ ،‬وجلس‬
‫النظام عىل طرفها اآلخر‪ .‬ثم أدخل اجلاحظ يده يف مخِ الة ل ُيخرج‬
‫املالبس التي يدخرها ملقابلة متارض‪ ،‬بينام كان النظام جالسا عىل طرف‬
‫املصطبة يتأمل صديقه‪.‬‬
‫كان النظام ينظر إىل صديقه مفكرا هل سينجح يف الظفر بقلب‬
‫متارض أم ال‪ .‬فكّر يف ظرفه وعقله وعلمه وطيب معرشه‪ ،‬فام الذي يمنعه‬
‫من سحر تلك الفتاة الغريرة إذا ما استخرج هلا ما شاء من أسلحة‬
‫الغواية التي ما ينفك يستخرجها‪ ،‬وقادها بأالعيب احلديث وجودة‬
‫اخلاطر وطيب اللفظ وحسن املخارج واملداخل؟‬
‫وقف اجلاحظ يف زاوية من زوايا احلامم املعتمة‪ ،‬وأخرج مالبسه‬
‫من خمالة مغربة‪ .‬لبس قميصا أخرض مزركش الصدر‪ ،‬وإزارا سنديا‬
‫ملونا‪ ،‬ووضع فوق ذلك كله ُدراعة رمادية‪ .‬ثم وضع قلنسوته وعاممته‬
‫السوداء‪.‬‬
‫ثم درج إىل مرآة معلقة يف طرف الغرفة مما ييل شعاع الشمس‬
‫ونظر إىل نفسه‪ .‬وقف أمام املرآة لكنه مل ير نفسه‪ ،‬بل رآها‪ .‬رأى متارض‬
‫بنت اخلليل وهي ترتدي مالءة مزركشة‪ ،‬وذوائبها السود منسدلة عىل‬
‫كتفيها‪ ،‬وهي تبتسم مرحبة به‪.‬‬
‫ُصدم وهو ينظر يف املرآة مرة أخرى مفكرا يف أهنا أحيانا أدق بكثري‬
‫مما يظنه الناس‪ .‬وإال مل َ مل ْ ير وجهه يف املرآة اآلن وإنام رأى وجه متارض؟‬
‫هل يعني هذا أن املرآة تتغلغل إىل أعامق النفوس البرشية فتعكس ما‬
‫فيها؟ تعرف ما يف دواخلنا؟ أم إنه خداع العني‪ ،‬فاملرآة تعكس ما ترى‬
‫غري أن العني اإلنسانية ال ترى إال ما تريد رؤيته حتى ولو شخص‬

‫‪161‬‬
‫أمامها غريه؟‬
‫ترك املرآة وراءه وقال للنظام‪:‬‬
‫‪- -‬كيف ترى العريس اآلن؟‬
‫عواتق هذه املدينة إال عىل خطر‬
‫َ‬ ‫‪- -‬واهلل إنه البدر قد ّ‬
‫أطل! وما أرى‬
‫عظيم!‬
‫‪- -‬يقولون إن املؤمن مرآة أخيه‪ ،‬و َلتلك املرآ ُة املعلقة يف محام مسعود‬
‫أمس رمح ًا يب منك وأصدق!‬‫ّ‬
‫تقدم اجلاحظ ليدفع أجرة احلماّ م‪ ،‬وعاد النظام إىل زاوية احلجرة‬
‫لريتدي مالبسه‪.‬‬
‫وبعد ساعة‪ ،‬كان اجلاحظ يسري يف الشارع املؤدي إىل بيت متارض‪،‬‬
‫يتضوع من مالبسه‪ .‬لكنه مل يشعر إال وهو هيوي يف بركة آسنة‬
‫ّ‬ ‫والعطر‬
‫حلشوش‪ .‬خرج بصعوبة عائدا إىل بيته كسيفا تعيسا كأنه مل‬ ‫من مياه ا ُ‬
‫يدخل محاما قط‪.‬‬
‫***‬

‫‪162‬‬
‫الدوحة‪1439 ،‬هـ‬

‫كان الوقت قبل نرشة املساء الرئيسية‪ ،‬فبدت غرفة األخبار ضاجة‬
‫املوكّل به يف النرشة‪ .‬يركض‬
‫باحلركة‪ ،‬فالكل مندمج يف إنجاز اجلزء ّ‬
‫صحفي قصري القامة إىل غرفة املونتاج لتسجيل تقريره‪ ،‬ويركض منتج‬
‫أخبار فارع الطول لإلرشاف عىل َمنْت ََج ِة العناوين‪ .‬فعناوين هذه النرشة‬
‫من أكثر العناوين التي يمنحها منتجو النرشات وقتا كي يضبطوها‪،‬‬
‫متأكدين من وضوح عباراهتا وإرشاق كلامهتا‪.‬‬
‫كان القروي جالسا بمكتبه يف طرف الغرفة‪ ،‬فرأى رئيس التحرير‬
‫خيرج من مكتبه قصريا كأنه طفل وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬من هذا احلامر الذي عىل الشاشة!‬
‫التفت اجلميع فرأوا مراسال ُمطال من مكان فيه حريق‪ ،‬لكنه‬
‫يرتدي بدلة بيضاء أنيقة ويتحدث عن احلريق‪.‬‬
‫مشى رئيس التحرير كأنه يقفز‪ ،‬واقرتب من قسم املراسلني وقال‪:‬‬
‫أكلمه هاتفيا‪.‬‬
‫‪- -‬إذا أهنى حديثه فأعطنيه ْ‬
‫بعد ثوان‪ ،‬مد الشاب اجلالس بقسم املراسلني اهلاتف إىل رئيس‬
‫التحرير‪:‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم‪ ،‬رئيس التحرير معك‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫‪- -‬أهال ومرحبا‬
‫ملتحف بدل ًة‬
‫ٌ‬ ‫‪- -‬يا أخي باهلل كيف تطل من مكان حريق وأنت‬
‫بيضاء كأنك يف مهرجان ْ‬
‫كان لألفالم السينامئية؟‬
‫‪- -‬واهلل‪ ،‬أنا كنت‪ ،‬شوف‪...‬‬
‫عني املشاهد‪ .‬وإذا كان‬
‫‪- -‬واهلل أيش؟ هذا ال ينبغي‪ ،‬وهو جيرح َ‬
‫العرب قديام قالوا‪ :‬إن البالغة مطابق ُة املقال ملقتىض احلال‪ ،‬فإن‬
‫األمر كذلك يف البالغة البرصية‪ .‬هناك بالغة برصية وبالغة‬
‫لسانية‪.‬‬
‫َ‬
‫املراسل ورمى اهلاتف‪ ،‬وصاح بأعىل صوته وهو يقف‬ ‫ثم ودع‬
‫وسط غرفة األخبار‪:‬‬
‫بتفهم!‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬ناس ما‬
‫كان القروي يستمع بكل حواسه لرئيس التحرير‪ ،‬يكاد يطري‬
‫سعادة بترصفه خالفا لكل من يف غرفة األخبار‪ .‬فمعظم الصحفيني‬
‫يضيقون بجربوت رئيس التحرير‪ ،‬واهتاممه بالتفاصيل‪ ،‬وحرصه عىل‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وما يسميه الفصاحة البرصية‪.‬‬
‫مال القروي عىل كرسيه‪ ،‬وهو يشعر بسعادة غامرة‪ .‬انتزع نفسه‬
‫من عامل اجلاحظ إىل عامل رئيس التحرير‪ ،‬شاعرا بغبطة‪.‬‬
‫ثم وقف وتوجه إىل صديقه مازن بقسم املقابالت فرآه منهمكا يف‬
‫االتصاالت‪.‬‬
‫‪- -‬أيمكننا أن نرشب شايا يف املقهى؟‬
‫‪- -‬هال حبيبي حممد‪ ،‬ال أنا مشغول كثريا‪ .‬نحتسيه بعد هناية النرشة‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫عاد القروي ماشيا وسط غرفة األخبار‪ ،‬ملتفتا يمنة ويرسة متأمال‬
‫اهللع املستويل عىل اجلميع عداه‪.‬‬
‫ختيل نفسه كالنبي إبراهيم يميش وسط النار‪ ،‬لكن هلبها ال يمسه‪.‬‬
‫كل هؤالء يركضون ويلهثون عند كل نرشة‪ ،‬أما هو فيعيش ما بني‬
‫البرصة وبغداد قبل أكثر من ألف ومائتي عام‪ ،‬يكتبون كالما بالستيكيا‬
‫ميتا‪ ،‬مرتمجا أنتجته عقول حمرري رويرتز وغريها من وكاالت األنباء‬
‫الغربية‪ .‬أما هو فيكتب بلغة اجلاحظ والنظام والعالف‪ ...‬كام شاء‪.‬‬
‫جلس عىل مكتبه‪ ،‬ثم أدار شاشة التلفزة املثبتة يف طرف حاسوبه‬
‫ليشاهد النرشة‪ .‬جلس يتابع تقريرا ألحد املراسلني من شبه القارة‬
‫اهلندية‪.‬‬
‫كان التقرير ضعيفا ومهلهال‪ .‬فالصور تتقافز دون رابط منطقي‪.‬‬
‫والنص املكتوب ال عالقة بينه وبني تلك الصور‪ .‬ف ّك ر يف الوقوف وتقليد‬
‫رئيس التحرير‪ .‬ختيل نفسه واقفا وسط غرفة األخبار‪ ،‬ممسكا باهلاتف‬
‫متصال بامل راسل‪:‬‬
‫‪- -‬أيش هذا؟ ما هذا التقرير؟إن اللغة مهلهل ٌة ومنسوج ٌة باألخطاء‪،‬‬
‫كتبت النص قبل أن ترى‬ ‫َ‬ ‫رح َم بني الصور والنص‪ .‬هل‬ ‫وال ِ‬
‫الصور؟ إن الصور والنص ال بد أن يأخذ بعضهام برقاب بعض‪...‬‬
‫متاما كام قال اجلاحظ عن األلفاظ واملعاين!‬
‫ثم تذكر وجه حصة قبل أسابيع تسخر منه قائلة‪:‬‬
‫أنت تعيش داخل قوقعة لغوية!‬
‫‪َ --‬‬
‫وكيف رد عليها‪:‬‬

‫‪165‬‬
‫‪- -‬وأنت تعيشني يف رشاك عنكبويت ومصاب ٌة بوسواس إلكرتوين‪.‬‬
‫وكيف سخرت من كتبه التي يقرأ‪ ،‬ومن أبطاله الذين ماتوا قبل‬
‫مئات السنني‪ .‬ابتسم وهو يتذكر كيف رد عليها ساخرا‪:‬‬
‫‪- -‬إذا كان السلف الصالح عندي هم اجلاحظ والنظام وعمرو بن‬
‫عبيد‪ ،‬فسلفك أنت‪ :‬إدوارد سنودن وجوليان أسانج‪.‬‬
‫وتذكر كيف ضحكت‪ ،‬وأخرجت من شنطتها كتابا بعنوان‪The« :‬‬
‫‪.»Dark Net: Inside the Digital Underworld‬‬
‫انقطع حبل الذكرى إ ْذ سمع إشعارا برسالة نصية يف هاتفه‪.‬‬
‫«كلمت أهيل‪ ....‬األمر معقد جدا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كانت رسالة من حصة تقول‪:‬‬
‫وال بد من اللقيا لنتحدث‪ ..‬رضوري»‪.‬‬
‫***‬
‫انتبه اجلاحظ إىل أنه جتاوز َ‬
‫سوق الرآسني‪ .‬كيف جتاوز كل تلك‬
‫األزقة دون أن يالحظ ذلك؟ انرصف ذهنه متأمال يف أن حالة القلوب‬
‫هي التي تطيل املسافات أو تقصرّ ها حسب حالة اإلنسان‪ .‬ففي حلظات‬
‫انتظار ما حيبه اإلنسان ويتعجل احلصول عليه‪ ،‬تبدو الساعات كأهنا‬
‫ساعات سجني مقيد يميش وئيدا‪ ،‬ويف حلظات اهلناء يطري الوقت كأنه‬
‫حصان عريب مجوح‪.‬‬
‫ثم ِ‬
‫طف َق يفكر يف العالقة بني العقل والقلب‪ ،‬إذا كان العقل باملكانة‬
‫التي يضعه فيها املتكلمون فلامذا يغيب أحيانا يف حلظات تكاثف املشاعر؟‬
‫وإذا كانت املشاعر والعقل أخص خصائص اإلنسان‪ ،‬فلامذا تطرد‬
‫َ‬
‫العقل؟ مل َ يغيب العقل إذا حرض الشعور القوي؟‬ ‫املشاعر‬
‫ُ‬

‫‪166‬‬
‫اإلنسان عرق ًا شوقا إىل حمبوب؟‬
‫ُ‬ ‫ارفض‬
‫هل خيتفي سلطان العقل كلام َّ‬
‫ثم ملاذا يتعرق اجلسد إذا تسارعت دقات القلب‪ ،‬أو انشغل بأمر‪ ،‬وال‬
‫يتعرق اجلسم مهام فكر اإلنسان بعقله وأعمله يف القضايا الكربى؟‬
‫حلشوش‬ ‫شغلته األسئلة التي هجمت عليه عن احلذر من بِ َرك ا ُ‬
‫التي يف أطراف الشارع‪ ،‬ثم وجد نفسه عند باب متارض‪.‬‬
‫دق الباب‪ ،‬ثم ابتعد عنه قليال‪ ،‬وهو يشد عليه جبته ويعدل عاممته‬
‫السوداء و ُيمر يديه عىل جفنيه‪ ،‬وشفتيه‪.‬‬
‫فتح غالم الباب قائال‪:‬‬
‫‪- -‬من؟‬
‫‪- -‬اجلاحظ‪.‬‬
‫صك الغالم الباب بقوة‪ ،‬فقفز قلبه من مكانه‪ .‬تأ ّفف وهو ُيراوح‬
‫بني رجليه قائال يف نفسه‪ :‬ما هذه العجرفة! ليت الصك َة كانت بني‬
‫كتفيك أهيا الغالم األخرق!‬
‫ظل واقفا يراقب الشارع اخلايل إال من ُم ٍ‬
‫كار يرضب برذونا بطيئا‪،‬‬
‫وصبية يرتاكضون ويرتامون باحلجارة‪.‬‬
‫ْ‬
‫يستأذن‪.‬‬ ‫سمع الغال َم يقول ألهل املنزل‪ :‬اجلاحدْ‬
‫دق اجلاحظ الباب وقال بانزعاج‪:‬‬
‫حلدَ قي‪ ،‬إذا كنت عاجزا عن نطق الظاء‪ ،‬أعوذ‬
‫‪- -‬وحيك‪ ،‬قل هلم ا َ‬
‫باهلل من اجلحود!‬
‫ُ‬
‫اجلاحظ الغال َم من وراء الباب ينادي‪:‬‬ ‫وسمع‬
‫حل َلقي يستأذن!‬
‫‪- -‬ا َ‬

‫‪167‬‬
‫صاح اجلاحظ‪:‬‬
‫أخذ َك اهلل!‬
‫‪- -‬ردين إىل اجلحود‪َ ،‬‬
‫ثم أمسك نفسه عن أن يصيح‪:‬‬
‫‪- -‬احللقي وأنا ٍ‬
‫آت للخبطة؟ جتلعلني َح َلقيا خمنثا؟!‬ ‫ُّ‬
‫بعد هنيهات من التوتر عاد الغالم وفتح الباب بوجه ُم ْر َبدٍّ مشريا‬
‫له بالدخول‪.‬‬
‫دخل فنا ًء واسعا‪ ،‬ودلف الغالم أمامه‪ ،‬ثم تبعه وهو ال يكاد يبرص‬
‫معتم‪ ،‬وال يكاد ُيرى ما بداخله‪.‬‬
‫أين يضع قدمه‪ ،‬فاملنزل ٌ‬
‫قاده الغالم إىل حجرة وتركه‪.‬‬
‫اعتدل يف جلسته‪ ،‬وجعل يصور لنفسه حلظة دخول متارض عليه‪،‬‬
‫ثم فكر يف أسلحة الغواية التي يملكها من حديث أخاذ‪ ،‬ونكتة شاردة‪.‬‬
‫لكن انتظاره مل يطل‪ ،‬فرأى خياال قادما من دهليز البيت‪.‬‬
‫ثم دخلت‪.‬‬
‫رفع برصه ‪-‬وقد بدأت عيناه تريان األشياء بشكل أوضح داخل‬
‫البيت‪ -‬فإذا بوالدة متارض‪.‬‬
‫‪- -‬مرحبا بكم‪.‬‬
‫‪- -‬يا أهال وسهال‬
‫جلست أم متارض يف طرف احلجرة‪ .‬ثم دخل غالم حيمل صينية‬
‫عليها ماء وفواكه‪.‬‬
‫أشارت األم له بتناول يشء‪ ،‬فمد يده وأخذ كوزا من املاء وعب‬
‫منه عبتني‪ ،‬فقد أنساه التوتر ظمأ خفيفا أحس به قبل الدخول‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫بدأت األم تتحدث وهي تنظر إىل األرض‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل لقد انتظرناك يا أبا عثامن‪ ،‬لكننا حسبناك رضبت صفحا عن‬
‫األمر‪.‬‬
‫انغرزت كلامت األم سهام مسموما يف قلبه‪ ،‬وفقد فجأة كل قدرة‬
‫عىل الكالم‪ ،‬مل ينبس ببنت شفة‪.‬‬
‫رفعت أم متارض برصها ‪-‬عىل استحياء‪ -‬كأهنا تستحثه للحديث‪،‬‬
‫فرأت عينيه الواسعتني وقد سكنتا‪ ،‬أما رأسه الدقيق املدفون حتت‬
‫عاممته السوداء فكان ساكنا أيضا ال يتحرك‪.‬‬
‫مرت ٍ‬
‫ثوان ثقيلة صامتة‪.‬‬
‫بخدَ ٍر يف أطرافه وقال بصوت بذل‬
‫واستعاد قوته‪ ،‬وهو يشعر َ‬
‫كي ال تُسمع فيه رعدة‪:‬‬
‫طاقته ْ‬
‫‪ - -‬كيف يا أم متارض؟‬
‫‪- -‬واهلل لقد انتظرتك متارض لرتاك وتتحدث معك‪ ،‬فهي كام تعرف‬
‫مل ترك من قبل‪...‬‬
‫هنا كاد اجلاحظ يرصخ‪ :‬كيف مل ترين وقد التقينا وماشيتها من‬
‫سوق العطارين إىل باب منزلكم!‬
‫لكنه حتكم يف مشاعره وقال بصوت مشحون بالعجز والفضول‪:‬‬
‫‪- -‬ثم ماذا؟‬
‫‪- -‬كان أحد اخلُ ّطاب قد طلبها وألح يف طلبها‪ ،‬وأنت تعرف ضعف‬
‫الفتيات الغريرات أمام الكلمة اجلميلة يا أبا عثامن‪.‬‬
‫شعر بأن كل كلمة تفوه هبا األم تزيد آالمه وحرساته‪ ،‬فإذا كان ما‬

‫‪169‬‬
‫تريده متارض الكلم َة الغزلية اجلميلة ومطارحة الغرام فمن حيسن ذلك‬
‫غريه!‬
‫مد يده إىل الوراء قليال زاحفا جهة اجلدار ليستند إليه‪ ،‬ثم جاءه‬
‫صوهتا‪:‬‬
‫‪- -‬لقد وافقت الفتاة عىل الزواج من عيل بن املديني‪.‬‬
‫فتى يف سوق‬‫كل ما يذكره بعد ذلك أن خياله ازدحم بصورة ً‬
‫الوراقني ينهى عن النظر إىل فتاة متيش يف طرف السوق‪ ،‬وأن رجال‬
‫رشبا بحمرة زمحه يف الصالة عىل جنازة اخلليل بن أمحد‪ .‬كام‬
‫أبيض ُم َ‬
‫يتذكر صوت أم متارض وهي تقول له‪:‬‬
‫هون عليك يا أبا عثامن‪ ،‬فأنت زين فتيان البرصة‪.‬‬
‫‪ّ --‬‬
‫وجد نفسه مستلقيا يف مسجد صغري بأحد أحياء البرصة غري بعيد‬
‫من السوق الكبري‪ ،‬كان يف زاوية املسجد‪ ،‬وال يكاد ينزع عينيه عن‬
‫السقف املصنوع من جريد النخل والقش والطني‪ ،‬مفكرا هل خيرج من‬
‫املسجد أم ال؟ فإىل أين يذهب وما قيمة ما هو ذاهب إليه؟‬
‫هل يذهب إىل بيته البائس امليلء بالكتب والكراريس واألقالم‬
‫العامي ذي الرباذين واحلمري؟ أم يظل هنا؟ أم‬
‫ِّ‬ ‫واألوساخ؟ وجاره‬
‫خيرج من البرصة كلها هائام؟ ظل مضطجعا دون أن يشعر بحاجة إىل‬
‫طعام أو رشاب‪ ،‬حتى جاء املؤذن ورفع األذان وبدأ الناس يتكاثرون‬
‫يف املسجد الضيق‪.‬‬
‫جلس متثاقال‪ .‬ثم رأى أحد املصلني ال يكاد يرفع برصه عنه‪،‬‬
‫فتذكر أن كثريا من الطالب يعرفونه‪ ،‬وال يليق به أن يظل مستلقيا يف‬
‫مسجد كاملجنون‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫وقف متثاقال وخرج من باب املسجد الصغري ليتوضأ‪ .‬جلس‬
‫مستقبال القبلة وهو يسكب املاء عىل أعضائه مكررا بلسان متثاقل‪:‬‬
‫‪- -‬ال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫وقف املؤذن وأقام الصالة‪ ،‬لكنه هو مل يتعجل‪ ،‬بل ظل يستلذ‬
‫الوضوء ساكبا املاء عىل أعضائه؛ إ ْذ ُخيل إليه أن املاء يطفئ حرارة ما‬
‫به‪.‬بعد انتهائه من غسل رجله اليرسى‪ ،‬رفع برصه جهة باب املسجد‬
‫فرأى الناس ما زالوا يصلون‪.‬‬
‫مل يشعر بأي رغبة يف إدراك الصالة معهم‪ ،‬فام قيمة صالة اإلنسان‬
‫إذا كان مشغول القلب ُم ْلتاع الفؤاد؟ وإذا كان املؤمن منهي ًا عن الصالة‬
‫ٍ‬
‫خالء‪ ،‬أفال يكون العذر أبلغ‬ ‫يف حالة انشغال ذهنه بجو ٍع أو حاجة إىل‬
‫يف انشغال القلب بام هو أهم وأطم‪.‬‬
‫ثم خطر له أن العاشق الوهلان قد ال يكون خماطبا بالصالة أصال‬
‫ما دام ُمدَ لهَّ ًا عشق ًا‪ .‬وتذكر كيف حدثه شيخه عبد الوهاب بحديث‪« :‬ال‬
‫صالة بحرضة الطعام‪ ،‬وال هو يدافعه األخبثان»‪ .‬فاألصل الذي عليه‬
‫مناط احلكم انشغال القلب وعزوبه‪ ،‬وانشغال القلب بخواطر احلب‪،‬‬
‫وأمل ويأس‪ ،‬وصعود وهبوط‬ ‫ٍ‬ ‫وتردد خطراته ما بني وصل وهجر‪،‬‬
‫أشد من أي انشغال بأمر آخر‪.‬‬
‫انقضت الصالة وانرصف الناس من املسجد‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ظل جالسا حتى‬
‫وقف بتثاقل ودخل املسجد‪ .‬وما كاد يرفع يديه حذو أذنيه ليكبرّ‬
‫ظهرت أمامه‪ ،‬كانت تلبس ِم ْرط ًا من القطن‪ ،‬ويداها خمضوبتان بحناء‬
‫ْ‬ ‫حتى‬
‫قانئة‪ ،‬ذكّرتْه بالكف اخلضيب الذي رآه منها أول مرة‪ ،‬وغارت صورهتا‬
‫فظهر عيل بن املديني بقامته املعتدلة وعاممته البيضاء وألفاظه الفخمة‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫استعاذ باهلل وبدأ يصيل‪.‬‬
‫وانتبه إىل أنه أطال السجود عىل حصباء املسجد غري املفروش‪،‬‬
‫وأن ريح اجلنوب احلارة َتصرِ ّ يف أذنه آتية من النافذة‪ .‬مر وقت‪ ،‬لكنه ال‬
‫يذكر كم ركعة صىل‪ ،‬وال بم قرأ يف صالته‪ .‬أكمل ركعة ثم سلم‪.‬‬
‫شعر بأنه بدأ يستعيد بعض عافيته‪ ،‬فأقبل عىل نفسه موبخا هلا‪ ،‬أين‬
‫العقل والكالم واخلواطر الشاردة؟ وما أدراين أن اهلل ادخر يل أفضل‬
‫وأحسن وأعلق بالقلب من تلك الفتاة الغريرة؟‬
‫ما إن نطق كلمة الفتاة حتى أحس بقفزة بني ضلوعه‪ ،‬لكنه الحظ‬
‫أن عقله يفكر يف عرشات احلجج املقنعة بأهنا ال تصلح له وال يصلح‬
‫هلا‪ ،‬وأهنا ال تستحق كل هذا احلب‪ .‬تنفس الصعداء وهو يتأمل املساحة‬
‫املمتدة الواسعة الفاصلة بني رأسه وقلبه‪.‬‬
‫أيعقل أن تكون املسافة الفاصلة ما بني العقل والقلب هبذا‬
‫االتساع؟‬
‫فقلبه ال يكاد يذكر تلك الفتاة إال اضطرب‪ ،‬أما عقله فقد بدأ يرى‬
‫عيوب الزواج منها‪.‬‬
‫ثم تساءل ملن تكون الغلبة يف النهاية‪ :‬للعقل الذي يرضب ويطرح‬
‫وحيسب العواقب بتبرص‪ ،‬أم للقلب الذي حيس ويشعر ويسترشف‬
‫ويبرص ويضطرب ويرقص ويتكدر؟‬
‫وقف من مكانه مؤنبا نفسه عىل أنه مل يستطع إحصاء عدد ركعاته‪،‬‬
‫ثم وجد ابتسامة تتسلل ُخفي ًة إىل شفتيه وهو ُيتمتم بأبيات سمعها من‬
‫ف األمحر ينسبها لعروة بن حزام‪:‬‬ ‫َخ َل ٍ‬

‫‪172‬‬
‫ُأصّل�يّ فما أدري إذا م�ا ذكرتهُ ا‬
‫العرص أ ْم بثامن!‬
‫َ‬ ‫قضيت‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بخمس‬
‫خرج من باب املسجد الصغري ليسلم قدميه إىل الشارع وهو يوبخ‬
‫نفسه‪ :‬هل هناية مزامحة العلامء بالركب‪ ،‬ودراسة علم الكالم واملنطق‪،‬‬
‫وتصفح العلوم ومفاتشة األذكياء‪ ،‬أن يصبح املرء كمجنون بني عامر‬
‫وعروة بن حزام؟‬
‫أرسع يف الشارع عائدا إىل بيته‪ ،‬وهو يتأمل الغبار املتصاعد يف‬
‫الشارع الذي تثريه احلوافر واألقدام السائرة فيه‪.‬‬
‫وخطرت له–بغت ًة‪-‬خاطرة‪ :‬لعل أهل متارض سألوا عن نسبه‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولعل بعض احلسادقالوا هلم–زوارا‪ -‬ما يقوله أهل املربد من أنه مو ًىل‬
‫لبني كنانة‪ ،‬ال صليبة فيهم؟!‬
‫***‬
‫مرت أيام ثالثة مل ير فيها أحدا من أصدقائه‪ ،‬واألدهى أنه مل يقرأ‬
‫تعمد خالهلا أن يقيض هناره بمسجد مهجور‪،‬‬ ‫فيها كتابا واحدا‪ .‬فقد ّ‬
‫وأال يأيت حجرته إال وقت النوم‪ ،‬لكنه اآلن أصبح واثقا من أن عقله‬
‫انترص عىل قلبه‪ ،‬بل إنه عاهد نفسه أن يظل عقله قائدا لقلبه ما تبقى من‬
‫حياته‪.‬‬
‫ومع يقينه الظاهر بأنه نجح يف ذلك‪ ،‬إال أنه رأى أن يزور أصدقا َءه‬
‫املسجديني‪ .‬ثم سأل نفسه‪ ،‬مل اختار زيارة املسجديني –وهم مجاعة‬
‫من ظراف البخالء جيتمعون بمسجدهم ملدارسة وسائل االقتصاد يف‬
‫النفقة‪ -‬مع أنه مل يزرهم منذ أشهر‪ ،‬فهل جاء خاطر الذهاب إليهم ألن‬
‫تسل بعد‪ ،‬وأن قلبه ما زال يقود عقله؟ وإنام هي‬‫النفس موقنة بأهنا مل ُ‬

‫‪173‬‬
‫نفسه تبحث عام تستجم به لتتغافل عن األحزان ثم تعود؟‬
‫تزامحت تلك األسئلة يف ذهنه وهو خيرج من بيته‪ ،‬لكن هنيق محار‬
‫ومطارد َة ٍ‬
‫بغل آلخر أفزعتاه‪ ،‬فانشغل عن أسئلته باالنزعاج من سكنه‬
‫قرب هذا املكاري األهوج‪ ،‬وعادت األسئلة تطارده‪.‬‬
‫وصل إىل شارع ضيق كأنه منحدر‪ ،‬فالتفت يمينا فرأى بابا مواربا‪،‬‬
‫فتذكر كيف كان هو والنظام يلومان أبا نواس عىل دوام اإلتيان إىل هذه‬
‫احلانة للرشاب‪ ،‬ثم خطر له أن يعرج فيعب من الصهباء ع ّلها تذهب‬
‫بعض ما به‪ ،‬ثم تذكر أن الوقت بعد العرص بقليل‪ ،‬وأن احلانة ال تفتح‬
‫إال بعد املغيب‪.‬‬
‫توقف عن السري منزعجا مؤنبا نفسه‪ ،‬إذ كيف ختطر له هذه‬
‫اخلواطر أصال؟‬
‫فهل وصل به األمر أن يفكر يف معاطاة اخلمر املحرمة فرارا من‬
‫خيال فتاة غريرة؟‬
‫مشى بتثاقل حتى تراءى له املسجد الذي جيلس فيه أصحابه من‬
‫املسجديني‪.‬‬
‫قدم رجله اليمنى ودخل‪.‬‬
‫كانوا متحلقني قرب املحراب‪ ،‬وفيهم اجلالس واملتكئ واملستلقي‪،‬‬
‫وكانوا نحو العرشة ما بني شباب وكهول‪.‬‬
‫َ‬
‫اجلاحظ داخال من الباب حتى وقفوا الستقباله‪ ،‬ثم‬ ‫ما إن ملحوا‬
‫كهل منهم ‪-‬ذو شعر أصهب قائال‪:‬‬‫بادره ٌ‬
‫‪- -‬أين أنت يا أبا عثامن‪ ،‬وما هذا اهلجران؟‬

‫‪174‬‬
‫ٌ‬
‫وترحال‪ ،‬أهيا األصحاب‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫أشغال‬ ‫‪--‬‬
‫قاهلا اجلاحظ وهو هيم باجللوس يف طرف احللقة التي يتوسطها‬
‫تبي من تراكم األوساخ عليها‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫شيخ يرتدي جبة صوف ال َيكاد لوهنا ُي نّ‬
‫جلس اجلاحظ وسط احللقة‪ ،‬ونزع عاممته ليضعها حتت فخذه اليمنى‬
‫قائال بابتسام‪:‬‬
‫‪- -‬إيه!؟ ماذا كنتم فيه؟‬
‫يروح بثوبه عن أنفه حتى ال ختنقه‬
‫تر ّبع الشيخ األصهب ‪-‬وهو ّ‬
‫رائحة دخان القاممة املحروقة قرب املسجد‪ -‬وقال بنربة خمتنقة‪:‬‬
‫‪ - -‬كنا يف سرية األفاضل الصلحاء ممن سلف‪.‬‬
‫ُ‬
‫اجلاحظ ابتسامته وهو يضمر سعادة بأنه جاء يف وقت طاب‬ ‫ورأى‬
‫فيه املجلس واطمأن‪ ،‬فأراد استزادة الشيخ فقال مستثريا له‪:‬‬
‫شقيت بأصحاب زهدوين يف هذا‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬جئتكم اليوم لتخففوا عني‪ .‬فقد‬
‫الطريق‪ ،‬لذا فكرت يف من أحتدث إليه لعله ُيث ّبتني فلم أتذكر يف‬
‫هذه املدينة العامرة إال هذه العصبة املعصومة واجلامعة املباركة‪.‬‬
‫ّزر عاري الصدر يدَ ه ولكز اجلاحظ‪:‬‬ ‫مدّ ٌ‬
‫رجل مت ٌ‬
‫‪- -‬واهلل إنك يا أبا عثامن ال تريد إال مصانعتنا ومقاربتنا‪ ،‬ونحن نعلم‬
‫أنك لست من أهل هذا الفن‪ ،‬فأنت مرسف ّ‬
‫مبذر‪ ،‬وما تأتينا إال‬
‫لتحكي أمورنا عىل أصحابك وتكتبها يف صحائفك‪.‬‬
‫فنهره الشيخ األصهب‪:‬‬
‫‪- -‬دعه يا عبد اهلل‪ ،‬فهو مع من أحب‪ ،‬ونحن القوم ال يشقى بنا‬
‫جليس‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫فواصل اجلاحظ حديثه متصنعا اجلد ‪-‬وهو يشعر بسعادة غامرة‪،‬‬
‫شاعرا أن احلديث انتزعه انتزاعا مما كان فيه‪ -‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬أنتم واهلل أصحايب الذين تنتحلون االقتصاد يف النفقة‪ ،‬والتثمري‬
‫للامل‪ ،‬وقد أضحى هذا املذهب نادرا‪ ،‬وهو كالنسب الذي جيمع‬
‫التحاب‪ ،‬وكاحللف الذي جيمع عىل التنارص‪ ،‬وأنا‬
‫ّ‬ ‫بيننا عىل‬
‫صاحب صاحبكم سهل بن هارون‪.‬‬
‫فقاطعه الرجل العاري الصدر وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما آخر ما سمعتم يا أحبتنا مما ُيث ّبت عىل الطريق؟‬
‫ِ‬
‫البرشة أشعث‬ ‫ما كاد الرجل ينهي سؤاله‪ ،‬حتى اندفع شيخ آ َد ُم‬
‫الرأس‪ ،‬يرتدي كساء مخُ ّر َق األسفل‪:‬‬
‫‪- -‬لقد علمتم أن ماء بئرنا مالح أجاج‪ ،‬ال يقربه محار‪ ،‬وال تُسيغه‬
‫والنهر منا بعيد‪ ،‬ويف تك ّلف املاء العذب‬
‫ُ‬ ‫ناقة‪ ،‬وال يصلح به زرع‪،‬‬
‫علينا مؤونة كبرية‪.‬‬
‫فقاطعه الشيخ األصهب هازا رأسه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬نعلم ذلك يا أبا رقية‪ ،‬فام الذي ُفتح لك؟‬
‫فعدّ ل أبو رقية جلسته وهو يربم ُخ ْصل ًة من رأسه بأصابعه‪:‬‬
‫احلامر من ماء بئرنا فمرض‪ ،‬فرصنا نسقيه املا َء العذب‬
‫َ‬ ‫‪ - -‬فكنّا نسقي‬
‫صرِ ف ًا‪ ،‬وكنت أنا وأ ّم رقية نغتسل باملاء العذب خمافة أن يصيب‬
‫جلو َدنا منه مثل ما أصاب جوف احلامر‪ ،‬وكان ذلك املاء العذب‬
‫الصايف الذي نغتسل به يذهب باطال‪ ،‬وأنا أعلم أن ذلك الغسل‬
‫فسهرت ليل ًة أفكر‬
‫ُ‬ ‫عبادة‪ ،‬وحاشا للعبادة أن تؤدي إىل إرساف‪،‬‬

‫‪176‬‬
‫حتى انفتح يل باب من اإلصالح‪.‬‬
‫فصاح الشيخ األصهب صيحة اسرتواح وطرب‪:‬‬
‫آآآآآح يا قلبي! وماذا ُفتح لك يا أبا رقية؟‬
‫فضحك اجلاحظ نازعا عاممته من حتت رجله وجعل يفركها بيديه‬
‫طربا‪ ،‬ثم خاف إن حتدث أو سأل أن يقطع ذلك احلديث‪ ،‬فحبس‬
‫ضحكه وجعل ينظر إىل أيب رقية بتلهف‪ ،‬واصل أبو رقية حديثه ُم َق ّط َ‬
‫ب‬
‫الوجه‪:‬‬
‫فعمدت إىل ذلك املتوضأ الذي أغتسل فيه أنا وأم رقية‪ ،‬فجعلت‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫رجتُها‪ ،‬وم ّلستُها حتى صارت كأهنا‬
‫وصه ْ‬
‫ْ‬ ‫يف ناحية منه حفرة‪،‬‬
‫وصوبت إليها املسيل‪ .‬فنحن اآلن إذا اغتسلنا‬
‫ّ‬ ‫صخرة منقورة‪،‬‬
‫باملاء العذب صار إليها صافيا‪ ،‬مل خيالطه يشء‪ ،‬فنستخدم ذلك‬
‫تقزز له من ماء اجلنابة‪ ،‬وليس علينا‬
‫املاء لسقي احلامر‪ ،‬واحلامر ال ّ‬
‫حرج يف سقيه منه‪.‬‬
‫فمد اجلاحظ يده مستفرسا‪:‬‬
‫‪- -‬وما يدريك أن هذا جيوز؟ ومل َ تسقي ذلك املخلوق بامء اجلنابة؟‬
‫فالتفت أبو رقية غاضبا‪:‬‬
‫‪- -‬ومتى صار احلامر يميز بني ماء اجلنابة وماء زمزم؟‬
‫‪- -‬وما أدراك أن احلمري ال تتأذى من ذلك املاء وأهنا مل ترشبه إال‬
‫ترخص ًا خمافة اهلالك من شدة العطش‪ ،‬كام يرتخص أحدُ نا يف أكل‬
‫ّ‬
‫اجليفة وحلم اخلنزير؟‬
‫فقال أبو رقية بصوت منكر‪:‬‬

‫‪177‬‬
‫‪- -‬أوووووووه‪ ،‬ماذا؟ وهل حيس احلامر أصال بشعور أو يميز؟‬
‫عدل اجلاحظ جلسته‪ ،‬فبدل الرتبع ثنى ركبتيه وجلس عىل ساقيه‬
‫كام جيلس الناس يف حلقات العلم‪ .‬ثم تصنع الوقار واجلد وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ومن قال إن احلمري ال حتس وال تعشق وال تتعبد؟ ففي القرآن‪:‬‬
‫﴿ َولِلَّ ِه يَ ْس ُج ُد َما ِفي َّ‬
‫الس َما َو ِات َو َما ِفي أْالَ ْر ِض ِمن َدابَّ ٍة﴾‪ .‬ثم أمل‬
‫تسمع بقصة محار بشار بن برد الذي قتله احلب؟‬
‫كان الشيخ األصهب يستمع هبدوء ال خيلو من تصنع‪ ،‬فقال حا ّثا‬
‫َ‬
‫اجلاحظ‪ ،‬وهو يعرف أنه قد أوقع أبا رقية يف ما يريد‪:‬‬
‫‪- -‬وما قصة محار بشار؟ أيدك اهلل!‬
‫واصل اجلاحظ حديثه واضعا يديه عىل ركبتيه‪ُ ،‬متصنّع ًا الوقار‪:‬‬
‫‪- -‬قصته دليل عىل أن احلمري ال تشعر فقط‪ ،‬بل تعشق وتقرض الشعر‬
‫كذلك‪ ،‬فقد حدثني سهل بن هارون‪ ،‬قال أخربين أبو شبل عاصم‬
‫بن وهب الربمجي‪ ،‬قال حدثني حممد بن احلجاج قال‪ :‬جاءنا بشار‬
‫يوما فقلنا له مالك مغت ًام يا أبا معاذ؟ فقال مات محاري فرأيته يف‬
‫مت‪ ،‬أمل أكن أحسن إليك فقال‪ :‬لقد قتلني عشق‬
‫النوم فقلت له مل ّ‬
‫ُ‬
‫–واألتان أنثى احلمري‪ -‬وقد قلت يف ذلك شعرا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أتان‬
‫عن�د ب�اب األصبه�اين‬ ‫خ�ذ يب أتَان� ًا‬
‫ْ‬ ‫س�يدي‬
‫وبِــ�دَ ٍّل قــ�د ش�جاين‬ ‫ٍ‬
‫بـبـنـ�ان‬ ‫تـيـمــتـنـ�ي‬
‫ِ‬
‫الـحسان‬ ‫بــثــنــايـاها‬ ‫ت ّيمتْن�ي يـــ�و َم ُرحن�ا‬
‫َّ‬
‫س�ل جس�مي و َب�راين!‬ ‫ْـــ�ج و َد ٍ‬
‫الل‬ ‫ٍ‬ ‫وبـــ ُغـــن‬
‫مث�ل خ�دّ الش�ي ِ‬
‫فران!‬ ‫ٌ‬
‫�ـيــل‬ ‫أس‬‫ولـه�ا َخـ�دٌّ ِ‬
‫ْ‬

‫‪178‬‬
‫ضج املسجديون ضحكا‪ .‬فقال أبو رقية‪:‬‬
‫ّ‬
‫حرم ما فعلتُه بذلك احلامر‪ ،‬وال أن سنّة‬
‫‪- -‬واهلل ما علمت أن كتابا ّ‬
‫هنت عنه‪ ،‬وقد أسقطنا بتلك احليلة مؤونة كبرية عن النفس‬
‫واملال‪.‬‬
‫فضج القوم قائلني بإعجاب‪:‬‬
‫‪- -‬هذا واهلل توفيق اهلل ومنّه‪.‬‬
‫شعر اجلاحظ بخفة وسعادة وهو ال يكاد يتنفس ضحكا‪ ،‬وجعل‬
‫يفكر كيف حرم نفسه من جمالسة املسجديني أشهرا‪ ،‬ثم كيف جلس‬
‫األيام املاضية حمزونا ومل يدر بباله املرور عليهم‪.‬‬
‫فأقبل عليهم الشيخ ذو الصدر العاري وقال بنربة حمزونة‪ُ ،‬منكّس ًا‬
‫رأسه‪:‬‬
‫َ‬
‫‪- -‬هل شعرتم بموت املرأة الصاحلة مريم الصنّاع؟ فإهنا كانت‬
‫من ذوات االقتصاد‪ ،‬وصاحبة إصالح عظيم ومن أعالم هذا‬
‫الطريق؟‬
‫مغضنا ما بني عينيه كاملستفرس وقال‪:‬‬
‫فحثه اجلاحظ‪ّ ،‬‬
‫‪- -‬ال نعرفها واهلل‪ ،‬فهال حدثتنا عنها؟‬
‫‪- -‬مناقبها كثرية وحديثها طويل‪ ،‬ولكني أخربكم عن واحدة فيها‬
‫كفاية‪.‬‬
‫تقارب القوم‪ ،‬وشخصوا بأبصارهم‪ ،‬لعلمهم أن ذا الصدر العاري‬
‫إذا حتدث أتى باألوابد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫والفضة‪ ،‬وكستْها‬
‫ّ‬ ‫زوجت بني ًة هلا فح ّلتها الذهب‬
‫‪«- -‬رمحها اهلل! لقد ّ‬

‫‪179‬‬
‫الذهب والويش والقز واخلز ودقت هلا الطيب‪ ،‬وع ّظمت َ‬
‫أمرها‬ ‫َ‬
‫يف عني اخلت َِن‪ ،‬ورفعت من قدرها عند األمحاء‪ ،‬فقال هلا زوجها‪:‬‬
‫أنّى لك هذا يا مريم؟ قالت‪ :‬هو من عند اهلل‪ .‬فقال هلا‪ :‬دعيني‬
‫عنك‪ ،‬وهايت التفسري‪ ،‬فواهلل ما كنت ذات مال قديام‪ ،‬وال ورثتِه‬
‫حديثا‪ ،‬وما أنت بخائنة يف نفسك‪ ،‬وال يف مال بعلك‪ ،‬إال أن‬
‫تكوين قد وقعت عىل كنز‪ ،‬فقد أسقطت عني مؤونة عظيمة‪،‬‬
‫وكفيتني نائبة داهية»‪.‬‬
‫فقاطعه أبو رقية قائال بنربة إعجاب وحترس مع ن َفس مرتفع‪:‬‬
‫‪- -‬ال واهلل ما كانت صاحبة خيانة وال تبذير!‬
‫واصل ذو الصدر العاري حديثه‪:‬‬
‫زوجتُها‪ ،‬كنت أرفع من‬
‫‪ - -‬قالت‪« :‬اعلم أين منذ يوم ولدهتا إىل أن ّ‬
‫ٍ‬
‫دقيق كل َعجنة حفن ًة؛وكنّا ‪-‬كام تعلم‪ -‬نخبز يف كل يوم ّ‬
‫مرة‪،‬‬
‫فإذا اجتمع من ذلك مكّوكٌبعتُه‪ .‬فقال هلا زوجها‪ :‬ث ّبت اهلل رأيك‬
‫كنت له سكنا‪ ،‬وبارك ملن ج ِ‬
‫علت له‬ ‫وأرشدك‪ ،‬فقد أسعد اهلل من ِ‬
‫ُ‬
‫إلفا»‪.‬‬
‫انتفض شيخ يكنيه املسجديون «اإلبايض» وحل حبوته طربا‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل إين ألرجو أن يخُ رج اهلل من ولد هذه املرأة من يحُ يي هذا‬
‫عم اإلرساف وانترش اإلنفاق‪ ،‬وإن قومي –من‬
‫الطريق بعد أن ّ‬
‫للح ْجر عىل السفهاء واألخذ عىل‬
‫اخلوارج‪ -‬ألجدى هبم اخلروج َ‬
‫أيدي املرسفني من اخلروج عىل السالطني‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫مال اجلاحظ عىل الشيخ اإلبايض املعروف ببغضه للشيعة قائال‪:‬‬
‫تشيعت بعدي‪ ،‬فهل األمر كام قيل؟‬
‫َ‬ ‫‪- -‬قيل يل إنك‬
‫‪- -‬أنا أتشيع؟‬
‫‪- -‬هذا ما قيل يل!‬
‫‪- -‬لن أتشيع حتى يتشيع معاوية بن أيب سفيان!‬
‫‪- -‬وما الذي ب ّغضك يف الشيعة؟‬
‫قط إلاّ وهي‬‫الشني يف ّأول كلمة ّ‬
‫‪- -‬بغضني فيهم أين مل أجد ّ‬
‫وشح‪ ،‬وشامل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ورش‪ ،‬وشيطان‪ ،‬وشغب‪،‬‬
‫مسخوطة مثل‪ :‬شؤم‪ّ ،‬‬
‫وشك‪ ،‬وشوكة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وشجن‪ ،‬وشيب‪ ،‬وشني‪ ،‬ورشاسة‪ ،‬وشنج‪،‬‬
‫وشبث‪ ،‬ورشك‪ ،‬وشارب‪ ،‬وشطري‪ ،‬وشطور‪ ،‬وشعرة‪ ،‬وشانئ‪،‬‬
‫وشتم‪ ،‬وشنعة‪ ،‬وشناعة‪ ،‬وشأمة‪ ،‬وشوصة‪ ،‬وشرت‪.‬‬
‫دارى اجلاحظ ضحكة مكتومة وهو يستمع إىل اإلبايض يعدد‬
‫معائب الشني‪ ،‬ثم ظللته سحابة حزن وهو يستدعي صورة متارض‬
‫فظهرت عىل حمياه‬
‫ْ‬ ‫مغموسة يف احلناء والعطور‪ ،‬جملو ًة البن املديني‪،‬‬
‫سحابة غم وكآبة‪ ،‬ثم قال حماوال تدارك أصحابه قبل مالحظة ما به‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل إين لسعيد بلقياكم‪.‬‬
‫هنيق‬
‫دوى ُ‬ ‫ٍ‬
‫غمغامت جمامالت من أطراف احللقة بينام ّ‬
‫ُ‬ ‫وانطلقت‬
‫ٍ‬
‫محار خارج املسجد‪.‬‬
‫***‬
‫بدأت السفينة املثقل ُة باآلمال واألحالم تقرتب رويدا رويدا من‬
‫ٍ‬
‫وفؤاد أعياه‬ ‫الدموع‪،‬‬ ‫املرفأ‪ ،‬كانت اجلارية تتطلع إىل املرفأ بعني ّقرحتها‬
‫ُ‬

‫‪181‬‬
‫نحيب مل ينقطع منذ أعوام‪ ،‬كان سيدها ينظر إىل املرفأ نظرة املنترص إىل‬
‫ٌ‬
‫الغنائم‪.‬‬
‫يتموج به خاطر‬
‫كان قلبامها من عاملني خمتفلني رغم جتاورمها‪ ،‬فام ّ‬
‫الفتاة من خوف ويأس وضيق‪ ،‬ال يضاهيه إال ما يرقص به قلب سيدها‬
‫جوار املتضاد ْين يزيد حد َة كل‬
‫َ‬ ‫من سعادة وحتفز وتفاؤل‪ ،‬حتى كأن‬
‫منهام اندفاعا يف اجتاهه بدل أن ي ِ‬
‫عد َي أحدَ مها اآلخر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫النخاس مرآة صغرية من صندوق خشبي بني يديه‪ ،‬ثم بدأ‬
‫ُ‬ ‫استل‬
‫ينظر يف وجهه الطويل ذي األنف األقنى‪ُ ،‬معدّ ال من وضع قلنسوته‬
‫السوداء التائهة وسط صحراء رأسه األصلع‪ ،‬رمى مرآتَه الصغرية‬
‫داخل صندوقه الصغري‪ ،‬وهو يتطلع إىل تفاصيل احلياة التي بدأت تظهر‬
‫معاملها عىل مرفأ البرصة من بعيد‪.‬‬
‫التفتت اجلارية سائلة املرأ َة البدينة اجلالسة إىل جانبها وكأهنا‬
‫تتوسل‪:‬‬
‫‪- -‬هل أنت واثقة من أننا يف العراق!؟‬
‫مل جتبها املرأة‪ ،‬وحدجها سيدها بنظرة تأنيب‪.‬‬
‫مرت عليها سنون‪.‬‬
‫أما هي فاستيقظت داخلها ذكرى ّ‬
‫كانت جتلس منزوي ًة يف ركن حجرة يف بغداد ترتعد خوف ًا‪.‬‬
‫فمع كوهنا الوحيدة يف احلجرة‪ ،‬فإهنا مع ذلك جتلس يف زاويتها‬
‫ساعديا عىل فخذهيا‪ ،‬ضام ًة ركبت ْيها إىل صدرها حتى كأهنا‬
‫هْ‬ ‫ُمشبك ًة‬
‫مطوية طيا‪ ،‬فاإلنسان ينطوي عىل نفسه إذا شعر باخلوف‪ ،‬فتتقارب‬
‫أعضاؤه كأنه يريد حتجيم مساحته عندما يشعر بالتهديد‪ .‬تتقلص‬

‫‪182‬‬
‫املساحات التي حيتاجها جسده كأنه يريد أن يذوب خوفا مما هيدده‪ ،‬أما‬
‫إذا كان يف حلظة قوة فيتمدد جسمه‪ ،‬ويرتفع رأسه كأن املساحة التي حيتل‬
‫جسده ال تكفيه‪.‬‬
‫قفص‬
‫الصوت الوحيد الذي تسمعه صوت قلبها الذي يدق َ‬
‫اهلرب فور ًا‪ ،‬أو االنتحار حاال‪.‬‬
‫َ‬ ‫صدرها كأنه سجني قرر‬
‫مر وقت طويل واألصوات هادئة داخل املنزل الواسع‪ ،‬وال أحد‬
‫سمعت قرع نعاله ماشيا يف الدهليز الواسع‪.‬‬
‫ْ‬ ‫مستيقظ سواها‪ ،‬فجأة‪،‬‬
‫وقع كل خطوة من خطواته يقرع طبلة أذهنا قبل مالمسة‬ ‫يكاد ُ‬
‫رجله للممر املب ّل ِ‬
‫ط بالرخام واملؤدي إىل حجرهتا‪ ،‬رفعت رأسها فرأت‬
‫ظله حتت ضوء القمر ممتدا عىل البالط مما ييل الباب‪ ،‬دخل احلجر َة‬
‫يديا عىل ركبتها فيام أصبحت عجيزهتا اجلزء‬ ‫فأحكمت شد هْ‬
‫ْ‬ ‫هبدوء؛‬
‫الوحيد املالمس لألرض من جسمها املخروط‪.‬‬
‫دخل الرجل‪ ،‬ورائحة العطر تفوح من أردانه ثم قال بصوت‬
‫خافت‪ ،‬ميلء بالغضب املكبوت‪:‬‬
‫‪- -‬أين ِ‬
‫أنت؟ مل ال توقدين مصباحا؟‬
‫مل تزد الفتاة عىل أن قالت بصوت نحيل مرتعش‪:‬‬
‫‪- -‬أنا هنا يا سيدي‪ ...‬أنا‪..‬‬
‫ثم سكتت‪ .‬حتى كأن احلبل الواصل بني لساهنا وعقلها قد انقطع‬
‫هلعا‪ .‬فهي ال تعرف هل األفضل أن ت ِ‬
‫ُسم َعه صوتهَ ا فلعله يرق هلا‪ ،‬أم‬
‫األفضل الصمت حتى ال يكون صوهتا باعثا لغضبه وسببا لتذكر ما‬
‫اقرتفته‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫اجلدار بطرف يده اليمنى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل صوب الصوت متلمس ًا‬ ‫حترك‬
‫التي يلمع يف وسطها خاتم‪ ،‬حتى وصل إىل حافة الرسير الذي جتلس‬
‫عليه‪.‬‬
‫جلس عىل طرف الرسير وقال بصوت خافت مل تتوقعه‪:‬‬
‫‪- -‬ال ختايف‪.‬‬
‫خيل إليها أهنا سمعت‪« :‬ال ختايف» ثم شكت يف ذلك‪.‬‬
‫فخياهلا الذي يسبح يف عوامل واحتامالت ال حتىص ّ‬
‫كذب أذن ْيها‪،‬‬
‫فرفعت رأسها من بني ركبتيها وقالت بصوت أكثر ارتعاشا من ذي‬
‫ْ‬
‫قبل‪ ،‬وهي جتد طعم دموعها بني شفتيها‪:‬‬
‫‪- -‬ماذا؟ هل‪ ...‬ماذا يا سيدي؟‬
‫كانت ال تعرف ماذا ُأعد هلا‪ ،‬فلحظات انتظار العقاب عادة ما‬
‫تكون أفظع وأنكى من العقاب ذاته‪ ،‬ظلت تفكر منذ ساعات يف كل‬
‫االحتامالت‪ ،‬فهي تتذكر جيدا قصة صديقتها َغنَج‪ ،‬وما جرى هلا مع‬
‫سيدها قبل أشهر حني أقسم أن جيلدها بالسيور وهي عارية حتى يتقرش‬
‫جلدها‪.‬‬
‫تتذكر املنظر الذي ما زال يسكن خياهلا‪.‬‬
‫كانت صديقتها غنج قد عصت سيدها يف أمر تافه‪ ،‬فأقسم أن‬
‫يعاقبها‪ ،‬جاء باجلارية وصلبها عىل عمود قرب سلم املنزل‪ ،‬ثم جردها‬
‫من ثياهبا ليجلدها‪ ،‬فلام جردها من مالبسها إذا بجسمها غض طري‬
‫مكتنز شديد النعومة‪ ،‬فتحركت شهوته‪ .‬فأمرها أن تلبس مالبسها‬
‫وتتجمل‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫ثم عاد بعد قضاء وطره ونصبها عىل السلم‪ ،‬وجلدها بالسيور‬
‫حتى تقرش ذلك اجلسم الغض الذي نزا عليه قبل ساعات!‬
‫كانت تفكر يف كل ما رأته وسمعته من عقوبات للجواري واخلدم‬
‫داخل بيوتات بغداد‪ .‬فكيف بمن اقرتفت داهية بحجم الداهية التي‬
‫اقرتفتها هي؟‬
‫طافت هذه القصص بخياهلا يف ثوان قالئل‪ ،‬وهي ترفع حاجبيها‬
‫منتظرة جواب الرجل الذي كان يداري من أمواج الغضب مقدار‬
‫ما جيتاحها من محم اخلوف‪ ،‬لكنه ضغط عىل طرف شفته يف الظالم‬
‫الدامس وقال هبدوء ُمتَصنّعٍ‪:‬‬
‫قلت ال ختايف! فلن يمسك سوء!‬
‫‪ُ --‬‬
‫وقعت كلمته عىل قلبها وقع املطر عىل البلد ا َمل ْحل‪.‬‬
‫زعازع‬ ‫جوانح مزقتْها‬ ‫ٍ‬
‫ضياء َع َم َر‬ ‫حتول ظالم الغرفة الدامس إىل‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اخلوف‪ ،‬واجتاحتها براكني اجلزع أياما طواال‪.‬‬
‫شعرت بحاجة ملحة إىل الرصاخ فرحا هذه املرة‪ .‬لكن هل‬
‫ترصخ؟ ال‪ ،‬فلعل يف األمر مستورا مل يتبني بعدُ ‪ .‬وما أدراها؟ فقد يغري‬
‫سيدها رأيه يف ملحة عني؟‬
‫رتى تعابري وجهه‬
‫حاولت رفع حاجبيها من فوق ركبتيها قليال ل َ‬
‫يف الظالم‪ ،‬ثم خطر هلا أال تفعل فلعله يغري رأيه إذا رأى عينيها ولو من‬
‫وراء حجب الظالم الكثيف‪ ،‬فالعني رسول نافذ إىل القلب‪ ،‬وال نافذة‬
‫يف جسد اإلنسان تفضحه وتكشف بواطنه للناس مثل العني‪ ،‬ولعلها‬
‫إن رفعت عينيها –حتى من وراء الظالم‪ -‬يثور ثورة ويعود يف كالمه‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫ظل سيدها جالسا بقرهبا يف هدوء دون رفع برصه يف احلجرة‬
‫املظلمة‪ ،‬ثم مححم قليال‪ ،‬وقال بصوت خافت‪:‬‬
‫‪- -‬ستُباعني يف السوق بأي ثمن‪ ،‬وال أريد منك إال ثالثة أشياء‪ :‬ال‬
‫تذكري ألحد أبدا أنك كنت جاريتي‪ ،‬وال تعودي للعراق أبدا‬
‫حت بك األيا ُم‪ .‬وسمي نفسك باسم جديد ال يعرفه‬ ‫طو ْ‬
‫مهام َّ‬
‫أحد‪.‬‬
‫ثم وقف وخرج من احلجرة املظلمة مرسعا‪ ،‬مخُ لفا وراءه َر ّيا ٍ‬
‫عطر‬
‫ذكي‪.‬‬
‫شعرت بخفة مل تذقها منذ أيام‪ ،‬وانتاهبا أم ٌن ممزوج بخوف‪ ،‬فقد‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫عقاب ما كانت تدري طبيعته‪ ،‬فسيدُ ها‬ ‫أزيح عن كاهلها شبح انتظار‬
‫كان يمكن أن يعاقبها عىل جرمها بأي عقاب شاء‪ ،‬وال يستطيع أحد‬
‫منعه من ذلك‪.‬‬
‫قامت من مكاهنا وخطت خطوات جهة النافذة‪ ،‬أزاحت الستار‪،‬‬
‫فرتاءت هلا بغداد وادعة هادئة‪.‬‬
‫ضج خيالهُ ا بأسئلة متشابكة‪ :‬هل ستودع هذه املدينة التي مل تعرف‬
‫غريها منذ عقلت؟ هذه املدينة التي أتقنت فيها كل ما حتسنه اآلن؟ كل‬
‫ما تعرفه اآلن مما هو سبب سعادهتا وشقائها‪.‬‬
‫إن عالقتها ببغداد عالقة ملتبسة‪ ،‬فهي تكرهها وحتبها‪ ،‬فتعلقها هبا‬
‫يشبه تعلق اجلارية املغتصبة بوالد أطفاهلا‪ ،‬فهي تكرهه ألنه اغتصبها‪،‬‬
‫ومع ذلك حتبه ألنه الراعي الوحيد ألطفاهلا‪ ،‬تكرهه ألنه متسلط ومعتد‬
‫عىل جسدها‪ ،‬ومتيل إليه ألن فلذات كبدها حيبونه‪ .‬يسعدها ألنه يسعد‬
‫عيون أطفاهلا الربيئة‪ ،‬ويشقيها ألهنا كلام رأته تذكرت اإلكراه والعسف‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫تلك هي بغداد بالنسبة هلا‪ ،‬هنا فتحت عينيها عىل الدنيا‪ ،‬وهنا‬
‫تعلمت ما تعلمت‪.‬‬
‫كانت متسك بيمناها طرف الستارة بينام تركت طرفها اآلخر‬
‫يرفرف ليالمس جبينها وهي ترسل إىل بغداد نظرة وداع‪.‬‬
‫هبت ريح شاملية حامل ًة رائحة الرحيان العبقة‪ ،‬أرجعت الستارة‬
‫ْ‬
‫اتسعت حواسها للتمتع بالريح العطرة‬
‫ْ‬ ‫إىل مكاهنا وهي تستغرب كيف‬
‫رغم ضيق اللحظة وحرجها‪.‬‬
‫بدأت الليلة القمراء تنحرس عن املدينة الكبرية املليئة بتنهدات‬
‫ِ‬
‫املرتعة بدموع األفراح واألتراح‪ ،‬املأهولة بآالف األسياد‬ ‫األمل واللذة‪،‬‬
‫والعبيد‪ ،‬واألمراء والسجناء‪ ،‬والتجار واملتسولني‪ ،‬والن ُّّساك وال ُفتّاك‪.‬‬
‫أفاقت اجلارية من تذكر تلك الليلة البغدادية‪ ،‬والسفينة تصطدم‬
‫بحافة شاطئ البرصة الصاخب بالصيادين والتجار واألطفال والبغال‬
‫واحلمري‪ ،‬والسفن املحملة بالفواكه القادمة من مناطق خمتلفة‪.‬‬
‫كانت تشعر بكل سهام الدنيا تتكرس داخل سويداء ٍ‬
‫قلب ما كانت‬
‫ب األيا َم أبقت فيه مكانا للجروح أو مساحة لآلالم‪ ،‬كانت كلام‬ ‫حتس ُ‬
‫َ‬
‫تكشفت هلا تفاصيل احلياة عىل الشاطئ ازداد شعورها بعبثية احلياة‬
‫كأهنا يف حلم ال يستحق أي اهتامم‪ ،‬نعم‪ ،‬ما الذي يضريها أن تباع أو‬
‫تشرتى أو تسعد أو تفرح أو تَعشق أو تُعشق؟ ما دام كل هذا حلم نائم‬
‫وخيال َو ْسنان؟‬
‫لو كانت احلياة حقيقي ًة الستحق األمر اجلزع أو القلق‪ ،‬أو استحق‬
‫الفرح والسعادة‪ ،‬لكن كل هذا حلم من األحالم! فأين الساعات العذبة‬
‫والضحكات املجلجلة ومسح دموع السعادة من املآقي يف األمايس‬

‫‪187‬‬
‫البيض؟ وأين األمل واللذة والكره والبغض؟ وأين األوجه التي ضاق‬
‫اإلنسان طويال بقرهبا منه ثم تبخرت حتى أصبحت كأهنا حلم؟!‬
‫كان اإلرهاق النفيس قد وصل بالفتاة لتلك املرحلة التي جتعل‬
‫الذهن يتأرجح بني عاملني‪ :‬عاملٍ واقعي يتعامل معه عىل حقيقته‪ ،‬وعامل‬
‫خيايل منفصل عن الواقع‪ ،‬كانت حائرة بني وجودها بني ذينك العاملني‪،‬‬
‫كانت تفكر يف الرصاخ والضحك بصوت عال لتحتفل مع ركاب‬
‫السفينة بأهنا يف حلم‪ ،‬وال داعي للتهمم والتجهم‪ ،‬لكنها ما تلبث أن‬
‫تراجع ذاتهَ ا لتقول إن ما هي فيه واقع‪ ،‬فتهم بالبكاء والرصاخ حزنا‬
‫عىل ما فات وخوفا مما قد يأيت‪ ...‬لكنها ما تلبث أيضا أن تعود للمرحلة‬
‫الربزخية فتنكمش شفتاها بعد أن استوفزتا للرصاخ أو الضحك‪.‬‬
‫اسرتق إليها سيدُ ها نظرة ُمفعمة باملشاعر املتناقضة‪ .‬فك َّلام ص ّعد‬
‫الدامعتي دائام مع خريطة جسدها ترتاءى له ٌ‬
‫مدن من‬ ‫نْ‬ ‫عين ْيه احلمراو ْين‬
‫الذهب وقوافل من اجلواري والغلامن‪ ،‬ثم تغوص تلك املدن يف آالف‬
‫األخيلة فريى فيها نفسه أب ًا ألطفال قد انعتقوا من دمامته ودمامة آبائه‬
‫إىل أبد اآلبدين‪.‬‬
‫بني تلك اخلواطر‪ ،‬كان يتخيل عرشات التجار البرصيني يتنافسون‬
‫لرشاء فتاته‪ ،‬فام زالت كلامت النخاس الذي باعه إياها ّ‬
‫ترن يف أذنه كأهنا‬
‫هاتف ساموي يعد بالثراء األبدي‪:‬‬
‫وخمرت البحار واألهنار‪ ،‬وسلكت فِجاج‬‫ُ‬ ‫طوفت الدنيا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫«لقد‬
‫وحلبت‬
‫ُ‬ ‫وعارشت التجار والزهاد والنساك والفتاك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫األنجاد والوهاد‪،‬‬
‫وخرست‪ ،‬وسرُ رت وحزنت‪ ،‬لكني مل أشرت ومل‬ ‫ُ‬ ‫وربحت‬
‫ُ‬ ‫أشطر الدهر‪،‬‬
‫أبع أمجل من هذه الفتاة‪ ،‬قاتلها اهلل! لكأنهّ ا مصنوعة صناع ًة‪ ،‬أو لكأن‬
‫ْ‬

‫‪188‬‬
‫اخلالق استشار عشا َقها قبل خلقها»‪.‬‬
‫َ‬
‫كان النخاس اليهودي ينظر إىل جاريته‪ ،‬التي بدت له يف هذه‬
‫جردها التقلب الطويل بني ظهور‬
‫اللحظة أبعد ما تكون عن اجلامل‪ ،‬فقد ّ‬
‫اجلامل ومتون اخليل وبطون السفن من كثري من أسلحة الغواية التي‬
‫كانت سبب شقائها‪.‬‬
‫وكثريا ما يصبح سالح املرء سالحا بيد عدوه‪ ،‬وكثريا ما يضحى‬
‫اجلامل نقمة عىل حامله‪.‬‬
‫بدت عيناها اخلرضاوان الواسعتان بال بريق‪ ،‬أما شعرها الذهبي‬
‫فتحول إىل كومة من القش املهمل‪ ،‬أو كومة من األثواب البالية الداكنة‪،‬‬
‫رؤوس عشاقها فغابت‪،‬‬
‫َ‬ ‫أما حركاهتا اخلفيفة املوقعة التي كانت تلوي‬
‫واسرتخت أعضاؤها اسرتخاء املتعب املستسلم املقهور‪.‬‬
‫كان مجالهُ ا يف هذه اللحظة مجاال منكرسا مرحوم ًا‪ ،‬يثري الشفقة ال‬
‫اإلعجاب‪.‬‬
‫صيحات الناس عىل مرفأ البرصة لوهلة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أفكار النخاس‬
‫َ‬ ‫قطعت‬
‫اليهودي عن بضاعته‪ ،‬فهذه أول مرة يرى فيها مدينة البرصة‪ ،‬كان‬
‫ُّ‬ ‫ذهل‬
‫الوقت ُبعيد العرص بقليل‪ ،‬واملرفأ يضج باحلركة والنشاط‪.‬‬
‫تقافز املسافرون الذين أضناهم اجللوس يف السفينة‪ ،‬بينام ظل‬
‫النخاس جاثام يف مكانه متشبثا بيد فتاته يف انتظار سكون الزحام‪.‬‬
‫بدأ النخاس يقطع طريقه وسط زحام الناس‪ ،‬سحنات شتى وأوجه‬
‫خمتلفة الرتاكيب من هنود وصقالبة وزنج وعرب وروم‪ .‬يصيحون عىل‬
‫بضائعهم املختلفة‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫كانت رائحة البهارات والعطور والسمك الطازج وروث اخليول‬
‫واحلمري واإلبل ختتلط برائحة الغبار والفاكهة لتشكل رائحة كثيفة‬
‫غريبة‪ ،‬عرب التاجر من أمام بقال جالس أمام دكانه فصاح به‪:‬‬
‫‪- -‬أين اخلان؟‬
‫ْ‬
‫واصل السري عىل هذا الطريق الواسع إىل أن خترج من سوق‬ ‫‪--‬‬
‫َ‬
‫اخلان عىل يسارك‪.‬‬ ‫العطارين‪ ،‬ثم سرتى‬
‫نخالت يربط املسافرون‬
‫ٌ‬ ‫كان اخلان واسع الفناء تتوسط مدخله‬
‫مطاياهم يف جذوعها‪ .‬دخل التاجر فبادر ق ِّي ُم اخلان بتحيته والرتحاب‬
‫به‪.‬‬
‫‪- -‬ننوي املقام عندكم أياما ثالثة‪.‬‬
‫‪- -‬نزلتم أهال وحللتم سهال‪ ،‬خذ األمتعة وأدخلها يا غالم‪.‬‬
‫رومي يرتدي قميصا أمحر‪ ،‬معتجرا عاممة بيضاء‪ .‬أخذ‬
‫ٌ‬ ‫قفز غالم‬
‫الصندوقني اخلشبيني فوضع أحدمها عىل رأسه وأمسك اآلخر بيده‪ .‬ثم‬
‫وقف كأنه جذع شجرة خلف التاجر‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬وقف رجالن عىل باب اخلان وصاح أحدمها قائال‪« :‬لقد‬
‫لشيخ ِ‬
‫زم ٌن ال‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫لسان هذا املسكني فأعينوه بام تيرس‪ .‬فواهلل إنه‬ ‫قطع ٌ‬
‫خناق‬
‫لسان له منذ ثالثة أشهر»‪.‬‬
‫فمه واسعا كأنه يتثاءب‪،‬‬
‫التفتت الفتاة ناحية الصوت ففتح السائل َ‬
‫فإذا هو بدون لسان‪.‬‬
‫رمى ق ّي ُم اخلان املفتاح الصدئ الذي كان بيده‪ ،‬وخطا خطوتني‬
‫السائلي صائحا‪:‬‬
‫نْ‬ ‫جتاه‬

‫‪190‬‬
‫ُ‬
‫للسان ثور‪ .‬خدعتني من قبل فانخدعت لك‪،‬‬ ‫‪- -‬واهلل إن لسانك‬
‫وإن مل خترج ألوجعنك رضبا‪ ...‬يابن الفاعلة!‬
‫قيم اخلان وهو يغني وتبعه التاجر‬
‫توارى السائالن رسيعا‪ ،‬وقفز ُ‬
‫وفتاته صاعدين درج اخلان‪ ،‬ثم حترك الغالم الرومي بخطواته الوئيدة‬
‫متاميال بالصندوقني اخلشبيني ليلحق هبم‪.‬‬
‫***‬
‫كان ق ّيم اخلان ُمنحنيا عىل دفرت ضخم بني يديه يكتب فيه ويمحو‪،‬‬
‫فحانت منه التفاتة صوب السالمل فرأى فتا ًة أذهلتْه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫سمع وقع أقدا ٍم‬
‫كانت كلام نزلت درج ًة من درجات السلم ازدادت مجاال‪.‬‬
‫فكل درجة تفضح حركة من حركات أنوثتها الف ّياضة‪ ،‬كانت‬
‫يداها ترفعان طرف ثوهبا األمحر مما ييل ركبتيها حتى ال تعثر‪ ،‬وكان‬
‫شعرها الذهبي يقفز فوق كتفيها كلام نزلت درجة‪ ،‬وكان قرطان ذهبيان‬
‫مرتاقصي خيفقان كأهنام قلب عاشق‪.‬‬
‫نْ‬ ‫بطريف أذنيها‬
‫ْ‬ ‫يتشبثان‬
‫استغرب قيم اخلان كيف دخلت هذه دون أن يراها ومن أذن هلا‬
‫بالدخول‪ ،‬غري أن النخاس اليهودي الذي ظهر متدحرجا من ورائها‬
‫ويدُ ه اليرسى عىل صلعته قال له‪:‬‬
‫صف يل أين سوق النخاسني‪.‬‬
‫‪ْ --‬‬
‫نحى قيم اخلان دفرته الضخم إىل اليمني ووقف قائال‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪- -‬خترج من الباب ثم متيش يمينا‪ ،‬وتسأل عن سوق الرآسني‪ .‬وبعد‬
‫عبورك سوق الرآسني تسأل عن سوق النخاسني‪.‬‬
‫أمسك النخاس اليهودي بيد جاريته وخرجا من الباب‪ ،‬أما ق ّي ُم‬

‫‪191‬‬
‫اخلان فكان يفكر كيف مل ينتبه جلامل اجلارية عندما وقفت أمامه قبل‬
‫يومني‪ .‬ثم ابتسم وهو يفتح دفرته الضخم قائال لنفسه‪ :‬من أراد أن يرى‬
‫وقت قدومها من سفر‪ ،‬واهلل إن مجال‬
‫امرأة ليتزوجها فليشرتط رؤيتها َ‬
‫النساء خلدعة! فام هو إال ثياب وعطور‪.‬‬
‫دلف النخاس من الباب الرشقي لسوق النخاسني ومشى‬
‫بخطوات قلقة ونظرات زائغة‪ .‬كان يقبض بيمينه عىل معصم جاريته‬
‫األيرس‪ ،‬فيام يرسل يرساه بني الفينة واألخرى لتعديل القلنسوة السوداء‬
‫التائهة عىل رأسه األملس‪ ،‬مشى وسط زحام السوق‪ ،‬أخالط من غلامن‬
‫األحباش والصقالبة ُينادى عليهم‪.‬‬
‫كانت اجلارية متيش خافض ًة رأسها‪ُ ،‬مكبة عىل وجهها ال ترفع‬
‫برصها عن األرض‪ ،‬والنخاس يميش مرسعا ممسكا بيدها حتى غدت‬
‫كأهنا تقفز قفزا أو تتدحرج وراءه‪ ،‬كانت تتشبث بخامرها لتغطي جانبا‬
‫من وجهها كأهنا ال تريد أحدا أن يراها؛ بخالف نخاسها الذي يتمنى‬
‫لو رأهتا الدنيا كلها‪ ،‬جتاوز مكان عرض الغلامن قاصدا مكان عرض‬
‫اجلواري‪ ،‬ما إن وصل إليه حتى هنر جاريته طالبا منها إزاحة مخارها‬
‫الذي تدىل عىل وجهها فرتكته منسدال‪ ،‬حتى إن طرفه ال يتميز بيشء‬
‫عن شعرها املنسدل‪ ،‬فجأة ظهر رجل عاجي الوجه قصري القامة‬
‫عريض املنكبني قائال‪:‬‬
‫‪- -‬يا أهال وسهال‪ ...‬ما اسم اجلارية؟‬
‫‪- -‬اسمها علية‬
‫دار النخاس باجلارية واضع ًا كفه اليرسى حتت ذقنه‪ ،‬مداعبا طرف‬
‫حليته بسبابته موجها حديثه للفتاة‪:‬‬

‫‪192‬‬
‫‪- -‬أحتسنني الغناء يا علية؟‬
‫غمغمت اجلارية بجمل غري مفهومة رافعة حاجبيها مشيح ًة‬
‫بوجهها إىل األرض‪.‬‬
‫‪- -‬ال‪ ..‬ال‪ .‬إهنا من َج ْلب جديد من األندلس‪ ،‬وعهدها هبذه الديار‬
‫قريب‪ ،‬لكنها عاقلة وقابلة للتعليم‪ ،‬وهي عىل ما ترى حسنا‬
‫وهباء‪.‬‬
‫‪- -‬عجيب! عندما وقعت عيني عليها مل أشك يف أهنا ممن حيسن‬
‫الغناء والرضب بالعود‪ .‬بكم تبيعها؟‬
‫كان النخاسان يتفاوضان‪ ،‬وكانت اجلارية ترسل برصها يف أطراف‬
‫السوق كأهنا تبحث عن يشء‪ ،‬لكنها تنظر نظر املنكرس املسرتق اخلائف‪،‬‬
‫إذ ال تريد يف ذات الوقت لفت أي انتباه‪ ،‬كانت تنظر‪ ،‬ثم تتحاشى‬
‫نظرات الناس‪ ،‬وكان النخاسون يطوفون حوهلا ناظرين إليها لكنهم‬
‫أبعد ما يكونون اطالعا عىل ما يدور داخل رأسها من أفكار‪ ،‬آه! كيف‬
‫يمكن التحلل من هذا الذي يعدونه مجاال؟ فام هو بجامل! إذ لو كان‬
‫مجاال ملا جرعني الصاب والعلقم وال كنت حيث اآلن‪ ،‬يف سوق غريبة‬
‫بمدينة غريبة‪ .‬ما هذا اجلامل امللعون الذي ال يفارقها حلظة من العمر‪،‬‬
‫ليت اجلامل تاجا يضعه املرء عىل رأسه وقت ما شاء ليتزين به حلبيبه‪ ،‬ثم‬
‫ينزعه عن رأسه ويرميه متى طاردته العيون اجلائعة والذئاب املتطفلة‪.‬‬
‫ذهب خياهلا بعيدا ضاجا بصور متفاوتة الوضوح‪ ،‬كانت ترى‬
‫نفسها وسط مجع من صوحيباهتا‪ ،‬دخل فارس مقنع باحلديد وتأمل‬
‫مجيعهن ثم عمد إليها وأمسك بيمينها وجذهبا ووضعها عىل فرسه‬
‫وسط رصخاهتا ورصخات صديقاهتا‪ .‬ملاذا مل يأخذ إحدى صديقاهتا؟‬

‫‪193‬‬
‫كان وجه أنطوينت األمحر وعيناها الضيقتان ودمامتها البادية طريقها‬
‫إىل السعادة األبدية! ليتني أشرتى تلك الدمامة احللوة التي تصد الناس‬
‫هبذا الشعر املنسدل واجلسم البض اجلاذب ملآيس احلياة‪.‬‬
‫انتبه نخاس آخر كان منهمكا يف احلديث مع موالها فأقبل عليها‬
‫سائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما لك يا بنية؟‬
‫‪- -‬غمغت الفتاة ومل جتب ببنت شفة‪.‬‬
‫اندفع النخاس خماطبا سيدها‪ ،‬بعد أن بصق عن يمينه‪:‬‬
‫‪- -‬أنا ال أنكر مجاهلا لكنها شاردة الطرف كسيفة املنظر‪ ،‬وال يشء‬
‫أدعى للهم من اجلارية احلزينة‪ .‬فبعها يل بمئايت دينار‪.‬‬
‫‪- -‬قلت لك لن أبيعها بأقل من ألف‪.‬‬
‫كانت اجلارية حائرة الطرف تنظر عىل استيحاء يف جنبات السوق‪،‬‬
‫متسح دمعة بني الفينة واألخرى من فوق خدها املتورد‪ ،‬كانت تنظر‪ ،‬ثم‬
‫تتل ّف ُ‬
‫ف يف مالبسها أحيانا كأهنا تتسرت عن أحد املارة‪ ،‬ثم تبدو سارحة‬
‫أحيانا وبيدها عود تنكت به يف األرض‪ ،‬فجأة‪ ،‬وقعت رمي ٌة إىل جانبها‬
‫فالتفتت‪ ،‬فرأت جارية غري بعيد منها تريد أن تكلمها‪ ،‬أشارت هلا‪،‬‬
‫فاندفعت تتحدث إليها كأهنا تسأهلا عن أمر‪ ،‬غري أن سيد اجلارية هنرها‬
‫وسحبها فتوارت وسط الزحام‪.‬‬
‫كان السوق ضاجا باحلركة‪ ،‬فصفقات البيع والرشاء ال تتوقف‪،‬‬
‫وأحاديث اجلواري والغلامن وبكاؤهم وضحكاهتم متأل اآلذان‪ ،‬ربام‬
‫كانت علية هي الصامتة الوحيدة‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫انفرج جانب السوق الشاميل فدخل رجل طويل نحيف األطراف‬
‫ممتلئ الوسط راكبا عىل برذون وبني يديه غلامن يفسحون له الطريق‪،‬‬
‫وقف عدد من النخاسني ينادون‪ :‬أهال بعبود! تفضل‪.‬‬
‫نزل من فوق برذونه وبدأ يتمشى يف اجلانب املخصص للجواري‪،‬‬
‫كان كلام اقرتب هو وغلامنه من علية‪ ،‬حترزت وانكمشت داخل‬
‫مالبسها كي ال يراها‪ ،‬كانت حتكم قبضة يدهيا ومتسك أنفاسها حماولة‬
‫التضاؤل داخل مالبسها‪ ،‬متخيلة أن ذلك قد يعصم عني الناظر إليها‬
‫من االفتتان بمنظرها الذي يبهج كل الناس إال هي‪.‬‬
‫نظرت إليه متسائلة هل يا ترى سأخرج بعد هنيهات مع هذا‬
‫الرجل ال أدري إىل أين؟ وما العيب يف ذلك‪ ،‬ما قيمة أن أظل مع هذا‬
‫النخاس اجلشع ذي الفم األبخر؟‬
‫عدلت جلستها بينام كان عبود يقرتب من سيدها‪.‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم‪.‬‬
‫وقف النخاس اجلشع حتى كاد يعثر وهو يمسح فمه بظهر يده‬
‫قائال بصوت متأرجح بني الرتحيب والطمع‪:‬‬
‫‪- -‬وعليكم السالم ورمحة اهلل‪.‬‬
‫‪- -‬هل حتسن هذه الغناء والرضب عىل العود؟‬
‫علمت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬ال‪ ..‬لكنها‪ ...‬ال‪ ،‬غري أهنا حلوة َث ِق َف ٌة تتقن كل ما‬
‫‪- -‬وما ثمنها؟‬
‫‪- -‬ألف ومخسامئة دينار‪.‬‬
‫خترجت عىل يد إسحاق املوصيل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬هذا الثمن ال أعطيه يف جارية‬

‫‪195‬‬
‫‪- -‬إهنا حسنة هبية الطلعة حلوة احلديث و‪..‬‬
‫فقاطعه عبود‪:‬‬
‫‪- -‬ولكن‪..‬‬
‫‪- -‬ولكن ماذا؟ هي ال تعزف وال حتفظ الشعر‪ ...‬كأين سأنشئها نشأة‬
‫كاملة‪.‬‬
‫‪- -‬هل تبيعها بألف دينار؟‬
‫طال األخذ والرد‪ ،‬ثم قال اليهودي بتلكؤ‪:‬‬
‫‪- -‬نعم‪ .‬خذها‪.‬‬
‫يف ملحة برق‪ ،‬مال أحد الغلامن عىل النخاس وناوله رصة الدنانري‪.‬‬
‫كانت اجلارية ما زالت جالسة‪ ،‬وكأن احلديث الدائر ال يعنيها‪.‬‬
‫التفت إليها سيدها اجلديد وقال‪:‬‬
‫‪- -‬مالك؟ قفي وتعا ْيل‪.‬‬
‫عيني سيدها اجلديد‪.‬‬
‫نظرت يف ْ‬
‫حلظة واحدة تفصل بني عاملني ال متلك يف أي منهام شيئا‪.‬‬
‫كانت قبل هنيهة مملوكة لذلك التاجر اليهودي اجلشع ذي الفم‬
‫األبخر‪ ،‬يترصف فيها كيفام يشاء‪ ،‬ال ُيسأل إن رضهبا أو اغتصبها أو‬
‫باعها أو أهاهنا أو شتمها‪ ،‬لكنها عىل األقل قد عرفتْه‪ ،‬كانت تعرف نقاط‬
‫قوته وضعفه‪ ،‬وذاك يمنحها هامش ترصف داخل دائرة سيطرته املغلقة‪.‬‬
‫أما صاحب هاتني العينني العسليتني فام زال لغزا ال تعرف عنه‬
‫شيئا‪ .‬ال تعرف من أي النوافذ تتسلل إىل عامله‪ ،‬ومن أي الزوايا يمكن‬
‫اللعب بحدود دائرة سيطرته‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫نظرت إليه مرة أخرى‪ ،‬فرأت عينيه العسليتني وشعره الذهبي‬
‫املكتنز وبرشته الصافية‪.‬‬
‫‪- -‬قومي‪ ،‬وأبرشي فعبود يشهد له من يف هذه ال َع َرصات بحسن‬
‫املِ ْلكة!‬
‫تقدم إليها غالم رومي وأركبها عىل ظهر برذون واندفع هيملج هبا‬
‫وسط زحام الرائحني بعد يوم طويل من أيام سوق النخاسني‪ ،‬التفتت‬
‫اجلارية وهي خترج من الباب الشاميل عىل ظهر الربذون فرأت طرف‬
‫الشمس قد غرب‪ ،‬بينام طرفها اآلخر بازغ ممتقع اللون تلفه احلمرة‬
‫القانية‪.‬‬
‫التفتت يمينا فرأت جمموعة من اجلواري عائدات مع نخاسهن‬
‫بعد يوم كامل قضينه ُيعرضن عىل كل قادم دون فائدة‪ .‬ردت برصها‬
‫شعر سيدها الذهبي املكتنز وأطرافه النحيلة‬
‫احلسري ناظر ًة أمامها فرأت َ‬
‫َ‬
‫وبرشته الصافية‪ ،‬وغالما معتجرا عاممة‪ ،‬وبرذونا ُمرهقا يمضغ جلامه‬
‫من اجلوع‪.‬‬
‫مل يكن هناك فرق بينها وبني الربذون‪ ،‬فكالمها يركض ال يدري‬
‫إىل أين؟ بل لعل حاله أحسن من حاهلا‪ ،‬فقد مر ُ‬
‫قبل من هذه الناحية‪،‬‬
‫ويعرف الطريق الذي يركض فيه‪.‬‬
‫***‬
‫وقف املكاري صائحا عىل الباب‪:‬‬
‫دانقني عن صاحبك!‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬يا هذا‪ ،‬اخرج وادفع‬
‫حارس الرأس‪ ،‬ماشي ًا‬
‫َ‬ ‫خرج النظام راكضا‪ ،‬مرتدي ًا جبة داكنة‪،‬‬

‫‪197‬‬
‫كأنه يتدحرج‪ ،‬إذ كان جيري منحنيا قليال إىل األمام‪ ،‬بدا مقطب اجلبني‬
‫املكاري ذا الثوب األصفر ممسكا بتالبيب‬
‫َّ‬ ‫مغضبا‪ ،‬رفع رأسه فرأى‬
‫اجلاحظ بيده اليمنى وأذن محاره بيده اليرسى‪.‬‬
‫دانقي من جيبه‬
‫نْ‬ ‫ابتسم إبراهيم النظام وهو يرى اجلاحظ خيرج‬
‫ٍ‬
‫منحن ضحك ًا‪.‬‬ ‫ويدسهام يف يد املكاري وهو‬
‫ولىّ املكاري وهو ُيص ّفر بشدقيه‪ ،‬فبادر النظام قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما اخلطب؟‬
‫حاولت التحريش به‪ ،‬فقلت له إين ال أملك دانقا وإنك صديق‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫بخيل‪ ،‬ثم طلبت منه أن يرتك الكراء لوجه اهلل تعاىل‪ ،‬وذكرت له‬
‫أحاديث تر ّغب يف األجر عىل طريقة ال ُقصاص ألعرف ما عنده‪،‬‬
‫فكان منه ما ترى!‬
‫ضحك النظام وهو يفتح باب داره قائال‪:‬‬
‫بركت َمربك ًا طيبا مقابل صومعة‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد أزعجني نداؤه ألين كنت قد‬
‫احلَماَ م بحيث ال يراين‪ ،‬وكنت أرقب بعض عاداته ومذاهبه‬
‫وأدوهنا‪ ،‬حتىجاء الغالم وأخربين بنداء املكاري‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪- -‬قاتله اهلل! ما أشد نكارة صوته وأقل عقله‪ ،‬لذلك كثريا ما أقول‬
‫لك إين ما رأيت مكاريا عاقال قط‪ ،‬وال رأيت مكاريا يف قرية إال‬
‫شبيها بكل مكار آخر يف أي بلد كان‪ ،‬فالباعة واحلاملة والعجائز‬
‫واحلجامون واحلاكة والنساء كأنام ُولدوا يف عام واحد‪ ،‬وكأن‬
‫وص ّبت يف قالب واحد‪.‬‬‫عقوهلم ُقدرت بمقدار واحد ُ‬
‫كانا يتحادثان وقد جتاوزا فناء الدار‪ ،‬ثم بلغا البيت املتواري خلفها‪،‬‬

‫‪198‬‬
‫كان مويس بن عمران وبعض جتار املعتزلة قد اكرتوا هذا البيت ليضعوا‬
‫فيه ما شاءوا من احليوانات ويراقبوها ويتأملوها عن قرب بإرشاف‬
‫النظام‪ ،‬كان فناء واسعا مليئا باحليوانات املختلفة‪.‬‬
‫حلماَ م‪ ،‬رفع‬
‫تقدم النظام وفتح الباب هبدوء حماوال أن ال يزعج ا َ‬
‫اجلاحظ إزاره وهو يتجاوز العتبة‪ ،‬فوضع النظام سبابته طالبا منه‬
‫الصمت‪.‬‬
‫صعدا سلام طينيا هبدوء‪ ،‬حتى كأهنام ال يكادان يطآنه‪ ،‬ثم قادمها‬
‫السلم إىل غرفة دائرية صغرية عىل ظهر الدار فيها نافذة مطلة عىل باحة‬
‫البيت الواسعة املليئة بأصناف خمتلفة من احليوانات‪ ،‬كانت داخل البيت‬
‫كراريس ودواة وأقالم من القصب وكريس وحصري‪.‬‬
‫خلع اجلاحظ طيلسانه ورماه عىل احلصري‪ ،‬ثم جلس‪ ،‬تقدم إبراهيم‬
‫جهة النافذة وهو يقول بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪- -‬ما رأيت أغزل من احلامم!‬
‫مل يزد اجلاحظ عىل أن حرك رأسه‪ ،‬وهو يتأمل القراطيس املصفوفة‬
‫عىل احلصري‪ ،‬تناول قرطاسا فوجد فيه رسوما هليكل الفيل وتسمية‬
‫لكل عظم من عظامه مكتوبة مقابل العظم املرسوم‪ ،‬ثم تناول ورقة‬
‫أخرى فوجد فيها كالما يصف طبيعة احلامم وحماسنه ومساوئه‪ ،‬والفرق‬
‫بني احلامم املعد للزجل وغريه‪ ،‬وضع اجلاحظ الورقة ورفع رأسه خماطبا‬
‫النظام هبمس‪:‬‬
‫‪- -‬لو رآك أحد العامة لقال إنك تنوي التزوج بحاممة‪.‬‬
‫‪- -‬قاتلك اهلل! ملاذا؟‬

‫‪199‬‬
‫عامي عىل هذه الكراريس اململوءة حديثا عن حماسن‬ ‫ٌّ‬ ‫‪- -‬لو اطلع‬
‫احلامم وكيف أنه أغزل احليوانات‪ ،‬سيقول‪ :‬ما الذي يدفع رجال‬
‫من أهل الكالم والصناعة مثلك ملثل هذا إال إذا كان استخار ربه‬
‫وأمجع عىل أن ُيعرس بحاممة أو بومة أو قطاة‪.‬‬
‫‪- -‬إذا كان ذاك منطقهم‪ ،‬فسيتهمونك بنية الزواج من إحدى بنات‬
‫ُنف أبدا!‬ ‫ِ‬
‫الساكنات الك َ‬ ‫َ (((‬
‫وردان‬
‫ْ‬
‫ضحك اجلاحظ‪ ،‬فلكزه النظام ليخفض صوته‪ ،‬فرفع فيه عينيه‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪- -‬وما الذي دعاك إىل القول إن احلامم أغزل ما رأيت؟‬
‫وحسن مشيته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬لقد رأيت احلامم إذا أراد َق ْم َط أنثاه نفش ريشه‬
‫وتفنن يف لفت نظرها إليه بأحابيل من احلسن عجيبة‪ ،‬وتالوين‬
‫من احليل غريبة‪.‬‬
‫‪- -‬ثم له ميزة أخرى‪ ،‬أال ترى أنه يتزوج ويكون وفيا لزوجه عكس‬
‫الدجاج‪ ،‬فاحلامم قد يعيش عمره مع محامة واحدة ال يريد غريها‬
‫وال تريد غريه‪ ،‬أما الدجاجة فرتحب بكل ديك‪ ،‬والديك يقع‬
‫عىل كل دجاجة‪ ،‬بل من بالدة الديك أنه يقع عىل الديكة وال‬
‫يعرفها‪.‬‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬لقد كنت أنا ومجاعة من املتعلمني هنا نرقب ذلك‪ ،‬فالحظناه‪.‬‬
‫غري أننا الحظنا مرة أنه قد يقع من احلامم أن َي ْق ِمط غري زوجه‪.‬‬
‫‪- -‬نعم نعم‪ ،‬ال أنكر هذا‪ .‬لكن ما استقر عندي بعد طول مراقبة‬

‫((( بنات وردان‪ :‬الرصاصري‬

‫‪200‬‬
‫أن احلامم ذا الصوت اجلميل كالنوائح واملغنيات مما جيري عىل‬
‫رجلني أعف من غريها‪ ،‬ومع ذلك قد يفسق احلامم إذا احتاج‬
‫إىل غري محامته‪ ،‬لذلك رأيته أشبه باإلنسان يف هذا‪ ،‬ففي الناس‬
‫العفيف والعفيفة وفيهم غري ذلك‪.‬‬
‫التفت إليه النظام برسعة وهو يقول بصوت متعجب خافت‪ ،‬وقد‬
‫بدت قطريات عرق عىل جبينه‪:‬‬
‫أعف من‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬يشء عجيب! ما دامت النوائح واملغنيات من احلامم‬
‫غريهن فلم أصبحت النوائح واملغنيات من اإلنس أقل عفة من‬
‫غريهن؟‬
‫ما كاد النظام ينهي سؤاله حتى طار احلامم من احلائط‪.‬‬
‫فمد اجلاحظ رجليه وأسند ظهره إىل اجلدار‪ ،‬أما النظام فجلس‬
‫عىل قدميه مادا يديه أمامه‪.‬‬
‫متلمل اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫‪- -‬مشكلة ال َق ْينَة أهنا تنشأ بني العود والطنبور‪ ،‬وبني ا ُمل ّجان والفساق‪،‬‬
‫فعيشها مربوط بالتهتك وال تستقيم صناعتها ومهنتها دونه‪ ،‬فهي‬
‫والعفة ال يأخذان طريقا‪.‬‬
‫‪- -‬يشء عجيييب‪.‬‬
‫‪- -‬لذلك لعل من اآلفات التي قد تصيب الرجل الكريم أن يعشق‬
‫قينة‪ ،‬فالقينة جتمع من امللذات ما ال جيمعه غريها عىل وجه‬
‫األرض‪.‬‬
‫اعتدل النظام يف جلسته ومهس‪:‬‬

‫‪201‬‬
‫‪- -‬كيف ذاك يا أبا عثامن؟‬
‫‪- -‬إن املطعوم واملرشوب مثال ال يوصل إىل لذته إال بحاسة واحدة‪،‬‬
‫ذقت املسك بلسانك لعفتَه‪،‬‬
‫ولو خربته بحاسة غريها لعافتْه‪ .‬فلو َ‬
‫ألنه من حظ حاسة الشم‪ ،‬ولو وضعت كل لذيذ عىل أذنك ملا‬
‫وجدت له طعام‪.‬‬
‫‪- -‬وما وجه مجع القينة لكل مال ّذ الدنيا؟‬
‫‪- -‬ألن متعة القينة تدخل إليك عن طريق حواس أربع؛ فهي متتع‬
‫أذنك بالصوت املزلزل‪ ،‬وعينك بالدل الذي حيل عقدة العزم‪،‬‬
‫وملمسك باللمس الذي يقود إىل احلنني للباه‪ ،‬وشمك بالريح‬
‫َ‬
‫الطيبة‪ ،‬ثم يعضد القلب ذلك بالتخيل فتمتعك من أربع حواس‪.‬‬
‫‪ - -‬يشء عجييييب!‬
‫مع أن اجلاحظ هو الذي ما زال يتحدث‪ ،‬إال أنه خيل إليه أنه سمع‬
‫دقا خفيفا عىل طرف الباب‪ ،‬فبادر قائال‪:‬‬
‫‪- -‬كأن الباب طرق طرقة خفيفة‪.‬‬
‫فانتبه النظام من رشوده ومد جسمه جهة الباب وقال‪:‬‬
‫‪- -‬من؟‬
‫فجاء صوت اخلادم حادا متذبذبا كالعادة بني صوت املرأة‬
‫والرجل‪:‬‬
‫‪- -‬سيدي‪ ،‬هناك مجاعة من األصحاب يستأذنون‪.‬‬
‫‪- -‬أدخلهم يف املجلس وقل هلم إين قادم‪.‬‬
‫وقف النظام بقامته الفارعة‪ ،‬منحنيا لسقف الغرفة الواطئ حتى‬

‫‪202‬‬
‫أخرج رأسه من الباب وهو ال يزال منحنيا‪ ،‬ثم تبعه اجلاحظ‪.‬‬
‫نزال من الدرج هبدوء‪ ،‬ومها يرقبان عن يسارمها تالوين احليوانات‬
‫املستأنسة التي تروح وتغدو داخل احلديقة املصطنعة التي بناها النظام‬
‫وأصحابه قبل سنوات بتربعات مويس بن عمران وبعض أصحابه من‬
‫جتار املعتزلة‪ ،‬يوجد جملس واسع يف طرف احلديقة جيتمع فيه عشاق‬
‫احليوانات للحديث عنها‪ ،‬وعن نتائج مراقبتها بني الفينة واألخرى‪.‬‬
‫تقدم اخلادم وفتح الباب املؤدي إىل الردهة الداخلية للمنزل‪ ،‬وهو‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أعددت املجلس‪ ،‬والرجال فيه يا سيدي‪.‬‬
‫دخل النظام واجلاحظ إىل املجلس الواسع‪ ،‬فتقافز الرجال للسالم‬
‫عليهام‪ ،‬لكنه بادرهم قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أماكنَكم‪ ،‬أما سمعتم األثر‪ :‬من أحب أن يتمثل له الرجال قياما‬
‫فليتبوأ مقعده من النار؟‬
‫أعور العني وهو يعود ملكان جلوسه قائال‪:‬‬
‫أشقر ُ‬
‫ضحك شاب ُ‬
‫‪- -‬ومتى كان املعتزلة يستشهدون بأحاديث أيب يوسف ومالك بن‬
‫أنس؟‬
‫ز ّم اجلاحظ شفت ْيه متضايقا وهو يفكر يف أن الرجل يستكمل حوارا‬
‫ساخنا دار بينهام أمس باملسجد اجلامع فقال‪:‬‬
‫‪- -‬أهل العدل والتوحيد يأخذون باحلديث‪ ،‬لكنه أخذ صاحب‬
‫العقل‪ ،‬ال أخذ رأس النعجة وأرضابه من موسويس احلشوية‬
‫مثل ابن املديني‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫تالمح رجل جالس يف الركن مع آخر عندما ذكر اجلاحظ ابن‬
‫املديني‪ ،‬لكن اجلاحظ مل يالحظ إشارتيهام‪ ،‬دخل غالم إىل املجلس‬
‫املربع ذي الفرش املتواضعة‪ ،‬ووضع جاما مملوءا بعصري الليمون املحىل‬
‫بالسكر أمام كل واحد منهم‪ ،‬ثم توجه إىل النافذتني املرشعتني إلحكام‬
‫إغالقهام اتقاء للغبار املتسلل للغرفة‪ ،‬واملشبع برائحة رطوبة هنر دجلة‪.‬‬
‫عدل النظام جلسته –وهو يتوسط املجلس‪ -‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل لو علم إمام ح ّينا باجتامعكم عندي لطال تعجبه‪ .‬فقد‬
‫استوقفني أمس وأنا خارج من املسجد ليسألني عن سبب‬
‫اهتاممي بعادات احليوانات‪ ،‬ومل َ أرصف وقتا يف فهمها وفهم‬
‫ترصفاهتا؟‬
‫وقبل أن يكمل النظام كالمه قاطعه عبود من طرف املجلس وهو‬
‫يقول دون رفع برصه‪:‬‬
‫‪- -‬عليك سؤاله مل سمى اهلل تعاىل سورة باسم البقرة‪ ،‬وأخرى باسم‬
‫النملة‪ ،‬وثالثة باسم الفيل‪ ،‬ورابعة باسم النحل‪ ،‬وخامسة باسم‬
‫العنكبوت؟‬
‫«العنكبوت» وكأنه يرفع صوته بمدة الباء أكثر مما‬
‫ْ‬ ‫نطق عبود كلمة‬
‫ينبغي‪ ،‬أو كأنه حياول جعل صوته أغلظ من حقيقته‪ .‬فأجابه اجلاحظ‬
‫‪-‬ماسحا حبيبات حىص ظلت عالقة بأنفه منذ آخر صالة‪ -‬قائال دون‬
‫أن يلتفت إليه‪:‬‬
‫‪- -‬ال ال‪ ،‬إن حماججة هؤالء يف مثل هذا تدخل يف باب حماججة‬
‫صبي الكُتاب بقيمة التعلم‪.‬‬
‫ثم مدّ اجلاحظ ذراعه النحيل يف اهلواء وهو ينظر إليها‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪204‬‬
‫‪- -‬ملا كان صاحبكم هذا صغريا‪ ،‬كان يمد يده هكذا ويسأل معلمه‪:‬‬
‫مل إذا فكرت أن أمد يدي مددتهُ ا؟ مل تطاوعني؟ ومل إذا حاول‬
‫مفلوج مدّ ها مل تطاوعه؟ وأنا ال أشك يف أن اخلاطر الذي يأمر‬
‫ٌ‬
‫فلم‬
‫يدي أن متتد فتمتد هو نفس اخلاطر الذي يعرتي املفلوج‪َ ،‬‬
‫تستجيب يد السليم وال تستجيب يد املفلوج؟‬
‫فكان معلم الصبيان يقول يل‪ :‬قاتلك اهلل من صبي سؤول! واهلل‬
‫لن تلفح أبدا‪ ،‬مل َ تسأل عام ال ُيسأل عنه ومل َ تستغرب ما ال ُيستغرب؟!‬
‫ضحك القوم وحترك كل واحد منهم يف مكان جلوسه‪ ،‬فمنهم‬
‫من حتامل أكثر عىل إحدى الوسائد ُمغريا جلسته‪ ،‬ومنهم من مد عن َقه‬
‫مبدي ًا االهتامم‪ ،‬إال أن النظام ظل ساكنا‪ ،‬إذ كانت عيناه ذواتااألهداب‬
‫اخلفيفة ترمقان اجلاحظ وكأهنام قد سكنتا‪ ،‬وبدت عيناه الكبريتان فوق‬
‫أنفه األفطس وجبهته الواسعة وكأن احلياة قد فارقتهام لثباهتام ورشود‬
‫ذهنه‪ ،‬فلام ظ ّلل الصمت املجلس انتبه‪ ،‬وأزال يده من حتت ذقنه فيام‬
‫انشغلت يمناه باللعب باجلام الذي بني يديه‪.‬‬
‫فاستأنف اجلاحظ حديثه بعد أن رد يده اليمنى لينزع قلنسوته‬
‫البيضاء من فوق رأسه الصغري‪ ،‬وهو ُيميل رأسه حتى بدت عنقه‬
‫الدقيقة كأهنا منكرسة‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬إن العوام وأشباه العوام ال يندهشون إال من احلديث الغريب‪،‬‬
‫كامليش فوق املاء وأكل النار‪ ،‬أو أحاديث من ذلك اجلنس‪ ،‬أما إذا‬
‫توقف املتأمل سائال عن رس غروب الشمس املحرتقة‪ ،‬وانبالج‬
‫الفجر الوضاح‪ ،‬وتعاقب الليل والنهار‪ ،‬فيتهمونه باالندهاش مما‬
‫ال يدعو لالندهاش‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫قاطع عبود اجلاحظ‪ ،‬وهو يمرر يده اليرسى عىل ذقنه املصقول كأنه‬
‫الص ْفر القوية تقرقع لوزة بقي منها قليل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫جملوة‪ ،‬وأسنانه ُّ‬
‫مرآة ّ‬
‫‪- -‬كنت كلام سألت أعرابيا عن يشء من أرسار احليوان أظهر‬
‫التعجب من انشغايل بمثل هذه األمور‪ ،‬واستغرب كيف لرجل‬
‫مثيل‪....‬‬
‫ثم ارتبك عبود قليال‪ ،‬وامحرت وجنتاه‪ ،‬ثم اسرتق التفاتة فرأى‬
‫حاجبي الرجل اجلالس عن يمينه يلعبان‪ ،‬وشفتي اجلالس أمامه‬ ‫ْ‬
‫تتأرجحان قليال‪...‬‬
‫فابتلع احلرج وعاد حلديثه‪:‬‬
‫‪- -‬كيف ملثيل من طالب علم الكالم أن ينشغل بمثل هذه األمور‪.‬‬
‫عيني عبود ليشعره بأنه مل ينتبه ملا وقع‪،‬‬
‫تدخل النظام‪ ،‬وهو ينظر يف ْ‬
‫ومل يلحظ احلرج الذي بدا عليه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أما أنا فال تقع عيني عىل يشء إال كان أدعى للعجب من سالفه‪،‬‬
‫واهلل إين ألحار من ضحكات احلسناوات‪ ،‬وتلفتات الفتاة‬
‫احلسنة الدل والغنج‪ ،‬وأتعجب مل َ ينخلع القلب إذا رأى الوجه‬‫ِ‬
‫الصبوح‪ ،‬ومل َ ينبهر إذا رأى البدر الوضاح‪ .‬ومل َ يظل الرجل‬
‫حشى‪ ،‬والصولة‬ ‫الركني ذو العاممة املكورة‪ ،‬والرداء ا ُمل ّ‬
‫ُ‬ ‫الزميت‬
‫العاتية ماشيا يف طريق‪ ،‬فتظهر فتاة حسناء متلفف ًة يف مالبسها‬
‫ّ‬
‫وتبتل تلك‬ ‫فتنحل تلك العقدة‪ ،‬وينفتح ذلك احلاجب املق َّطب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫العني اجلامدة‪ ،‬وترتاقص تلك األهداب املتصلبة وينعقد ذلك‬
‫اجلوال؟ واهلل إين حلائر! ويكون ذلك الرجل ملكانته ختافه‬
‫اللسان ّ‬
‫الوحش‪ ،‬وتتحاشاه املارة‪ ،‬ويتقيه أشداء الرجال‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫ثم مال النظام إىل الوراء متنهدا خامتا حديثه بعبارته األثرية‪ ،‬يمدها‬
‫مدا طويال‪:‬‬
‫‪- -‬يشء عجيب!‬
‫كان اجلاحظ يستمع إليه وقد أمال رأسه إىل الوراء‪ ،‬ورفع رجله‬
‫اليرسى بتشبيك راحت ْيه عىل ركبته ورفعها قليال‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬لكنك لو سألت أحد هؤالء احلشوة من قادة الرعاع وهو يف‬
‫مسجده وبني طالبه ملا زادك عىل أن يقول‪ :‬ذاك تقدير اهلل‪ .‬ثم‬
‫الغامض وعثر عىل‬
‫َ‬ ‫الفكر واستخرج‬
‫َ‬ ‫يلتفت وكأنه قد أجال‬
‫املستور! لكني مل أعد أتعجب من احلشوة والنابتة‪.‬‬
‫بادره عبود قائال‪:‬‬
‫ومل ال تتعجب منهم يا أبا عثامن؟‬
‫العجب قد ذهب‪ ...‬وكيف التعجب واألمور‬
‫َ‬ ‫«أعجب من أن‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬أنا‬
‫كلها أصبحت عجبا؟ كنت أتعجب من كل فعل خارج عن‬
‫العقل أو العادة‪ ،‬فلام خرجت األفعال بأرسها من العقل والعادة‬
‫خرجت‬
‫ْ‬ ‫صارت بأرسها عجبا‪ ،‬فبدخوهلا كلها يف باب العجب‬
‫بأمجعها من باب العجب» عندي‪.‬‬
‫تنحنح النظام‪ ،‬ثم قال موجها كالمه لعبود‪ ،‬مستحرضا احلرج‬
‫األخري‪ ،‬حماوال إشعاره بأنه مل يالحظ شيئا‪:‬‬
‫‪- -‬هات يا عبود‪ ،‬ماذا عملت بعدنا؟ وماذا ُفتح عليك من أبواب‬
‫العلم؟‬
‫اعتدل عبود يف جلسته وهو يضم عليه أطراف جبته النظيفة‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪207‬‬
‫‪- -‬لقد أرسلت أحد خدامي إىل بعض الوراقني من أصحابنا فوجد‬
‫عرشة كتب من كتب األوائل‪ ،‬اثنان منها عن الفيل‪.‬‬
‫أنزل اجلاحظ رجله اليرسى واعتدل وهو يمد يده جهة النظام‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أبو إسحاق هذا صاحب الفيل‪ ،‬فهو ال يعجب من حيوان عجبه‬
‫منه‪ ،‬ولقد رأيته يوما وهو جيري وراءه يف الغياض شارد الذهن‬
‫حتى لكأنه عاشق وهلان‪.‬‬
‫توقف اجلاحظ عن احلديث قليال ويده اليمنى تدور يف كمه باحثا‬
‫عن ورقة‪ ،‬ثم استخرجها قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما دام حديثكم عن الفيل‪ ،‬فدعوين أحدثكم عن اجلرذ للمناسبة‬
‫بينهام‪.‬‬
‫انفجر اجلمع ضاحكني‪ ،‬فواصل اجلاحظ قائال‪:‬‬
‫‪- -‬نعم! فال تناسب أقوى من التنافر‪ ،‬فأنت إذا ذكرت العظيم‬
‫ذكرت الصغري للتباعد بينهام‪ ،‬ومن هذا الباب يصبح الكبري‬
‫يشري للصغري‪ ،‬واجلميل للقبيح‪ ،‬والدنيا إىل اآلخرة‪ ،‬فام عجائب‬
‫الفيل–كام تعلمون‪ -‬بأغزر من عجائب اجلرذ‪.‬‬
‫ثم قرب اجلاحظ الورقة ونظر إليها ثم ردها إىل جيبه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد رأيت عجبا‪ ،‬رأيت أن كل حيوان إذا ُخصيِ ض ُعف ونزلت‬
‫درجته عن طبقته من الذكران إال اجلرذ‪ ،‬فإنه إذا خيص استأسد‬
‫وخافه كل فحل من اجلرذان‪ ...‬ثم إين‪....‬‬
‫عيني النظام تدوران برسعة‪ ،‬وجبينه يتقطب‪،‬‬
‫انتبه اجلاحظ إىل أن ْ‬

‫‪208‬‬
‫تزور جانبا‪..‬‬
‫وعينه اليرسى ّ‬
‫ثم خ ّيم صمت مطبق‪.‬‬
‫فالتفت اجلاحظ فرأى حواجب تتقافز‪ ،‬وضحكات تنحبس‪،‬‬
‫وشفاها تتصنع الوقار وأطرافها ترتعد من أسفل‪.‬‬
‫أما عبود فازدادت محرة وجهه الصقيل‪ ،‬وجتمعت حبيبات عرق‬
‫عىل أرنبة أنفه األقنى‪ ،‬بينام انشغلت أصابعه باللعب بطرف عاممته‪.‬‬
‫اندفع اجلاحظ وجبينه يتفصد عرقا‪ ،‬بعد أن أحس باحلرج قائال‪:‬‬
‫‪- -‬وقبل حديثي عن اجلرذ وما اطلعت عليه من عجائب خلق اهلل‬
‫فيه‪ ،‬سأحدثكم بام شهدته من أمر الذباب مع القايض ابن سوار‪.‬‬
‫ضحك النظام‪ ،‬حماوال إعادة احلديث إىل وتريته قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ولن تعدم حجة لتقول إن الصلة بني الفيل والذباب أوثق‪،‬‬
‫واحلديث عنه بعده أنسب‪ ،‬كيف ولكل منها خرطوم‪...‬‬
‫ضحك عبود بصوت عال‪ ،‬حماوال إهيام جلسائه أنه مل ينتبه‪ ،‬وأن‬
‫نفسه قد صفت من أي حرج‪ .‬فالتفت إليه اجلاحظ مبتسام وعيناه‬
‫تلمعان وتكاد قهقهة تندّ من صدره‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هل حدثتكم بام شهدت من قاضينا عبد اهلل بن سوار والذبابة؟‬
‫انحنى عبود إىل األمام وقد برقت عيناه الناعستان بتصنع‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ِ --‬‬
‫إيه يا أبا عثامن!‬
‫تزحزح اجلاحظ يف مكان جلوسه وعاد إىل اعتدال جلسته‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬تعلمون أن أهل البرصة مل يروا حاكام ّ‬
‫قط وال ز ّميتا وال ركينا وال‬
‫ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط القايض‬ ‫َ‬ ‫وقورا‪،‬‬

‫‪209‬‬
‫عبد اهلل بن سوار‪ ،‬إذ كان يصليّ الغداة يف منزله‪ ،‬وهو قريب الدّ ار‬
‫من مسجده‪ ،‬فيأيت جملسه فيحتبي وال يتّكئ‪ ،‬فال يزال منتصبا وال‬
‫حيول رجال عن‬ ‫يتحرك له عضو‪ ،‬وال يلتفت‪ ،‬وال ّ‬
‫حيل حبوته وال ّ‬ ‫ّ‬
‫مبني‪ ،‬أو صخرة‬‫رجل‪ ،‬وال يعتمد عىل أحد ش ّقيه‪ ،‬حتّى كأنّه بناء ّ‬
‫منصوبة‪ ،‬أو وتد مغروس‪ ،‬ثم يظل عىل حاله ذلك ال يقوم إال إىل‬
‫صالة حتى ينادى لصالة املغرب‪.‬‬
‫أثناء حديث اجلاحظ دخل خادم ووضع خوانا مملوءا فواكه‪ ،‬ثم‬
‫جعل يناول كل واحد من اجللوس تفاحا أو عنبا‪ .‬ثم أمسك سفرجلة‬
‫ومدها للجاحظ‪ ،‬أخذها اجلاحظ بيرساه دون النظر إىل اخلادم وواصل‪:‬‬
‫‪- -‬وكنا نتعجب منه‪ ،‬فلم نره ق ّطقام مع طول تلك املدّ ة والوالية‬
‫مرة واحدة إىل الوضوء‪ ،‬وال احتاج إليه‪ ،‬وال رشب ماء وال غريه‬ ‫ّ‬
‫من الشرّ اب‪ ،‬كذلك كان شأنه يف طوال األيام ويف قصارها‪ ،‬ويف‬
‫حيرك يده‪ ،‬وال يشري برأسه‪،‬‬‫صيفها ويف شتائها‪ ،‬وكان مع ذلك ال ّ‬
‫وال يتكلم إال موجزا‪ ،‬فيبلغ بالكالم اليسري املعاين الكثرية‪.‬‬
‫ضحك النظام ومد يده جهة اجلاحظ وهو يتكلم ويكاد الريق‬
‫خيرج من فهمه ملغالبته الضحك قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ليته وهب إلمام ح ّينا من إجيازه‪ ،‬ومنحناه من حركاته ولعبه عىل‬
‫أعواد املنرب!‬
‫ابتسم اجلاحظ ويده اليرسى تلعب بالسفرجلة‪ ،‬وعيناه تلمعان‬
‫كعادته إذا حدث بحديث يطربه‪:‬‬
‫‪- -‬فبينا هو عىل حاله ذات يوم ‪-‬وقد دخلت أنا وسهل بن هارون‬
‫إىل جملسه ضمن العامة لنرقب حاله تلك‪ -‬وهو جالس للقضاء‬

‫‪210‬‬
‫فجعلت أغمز لسهل تلهف ًا‬
‫ُ‬ ‫إذ سقط عىل أنفه ذباب فأطال املكث‪،‬‬
‫ملا قد يقع إذا أطال الذباب املكث عىل أرنبة أنفه‪ .‬وبعد مكث‬
‫فتحولت إىل مؤق عينه‪ ،‬فرام‬‫ّ‬ ‫الذبابة دهرا عىل أنفه مل يتحرك‪،‬‬
‫عضها ونفاذ خرطومها‬ ‫الصرب يف سقوطها عىل مؤق عينيه‪ ،‬وعىل ّ‬
‫ّ‬
‫يغضن‬ ‫حيرك أرنبته‪ ،‬أو ّ‬
‫كام صرب عىل سقوطها عىل أنفه من غري أن ّ‬
‫يذب بإصبعه‪ .‬فلماّ طال ذلك عليه من الذباب وشغله‬ ‫وجهه‪ ،‬أو ّ‬
‫وأوجعه وأحرقه‪ ،‬وقصد إىل مكان ال حيتمل التّغافل‪ ،‬أطبق جفنه‬
‫األعىل عىل جفنه األسفل فلم ينهض‪ ،‬فدعاه ذلك إىل أن واىل بني‬
‫فتنحى الذباب ريثام سكن جفنه‪.‬‬
‫اإلطباق والفتح‪ّ ،‬‬
‫دوت ضحكة اجلميع‪ ،‬وجاء صوت عبود نحيال قائال‪:‬‬
‫وعيني أيب‬
‫ْ‬ ‫مسكني أنت يا ابن سوار! وقعت بني ذبابة متسلطة‬
‫ٌ‬ ‫‪--‬‬
‫عثامن‪ ،‬ثم ماذا؟‬
‫مرته األوىل فغمس خرطو َمه يف مكان‬‫ثم عاد إىل مؤقه بأشدّ من ّ‬‫‪ّ --‬‬
‫كان قد أوهاه قبل ذلك‪ ،‬فكان احتامله له أضعف‪ ،‬وعجزه عن‬
‫فحرك أجفانه وزاد يف شدّ ة احلركة ويف‬
‫الصرب يف الثانية أقوى‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫فتنحى عنه بقدر ما سكنت‬‫فتح العني‪ ،‬ويف تتابع الفتح واإلطباق‪ّ ،‬‬
‫يلح عليه حتى استفرغ صربه‬ ‫ثم عاد إىل موضعه‪ ،‬فام زال ّ‬‫حركته ّ‬
‫يذب عن عينيه بيده‪ ،‬ففعل‪.‬‬
‫وبلغ جمهوده‪ .‬فلم جيد بدّ ا من أن ّ‬
‫فلام حرك يده ذابا عن عينيه كدنا نخرج من جلودنا فرحا!‬
‫وكانت عيون القوم ترمقه‪ ،‬وأفواههم مفتوحة وعامئمهم مائلة من‬
‫هول احلادثة‪.‬‬
‫التفت اجلاحظ فرأى النظام يضع يده عىل بطنه من شدة الضحك‪،‬‬

‫‪211‬‬
‫وبقية القوم ما بني مبتسم وضاحك‪ ،‬وراكل برجله‪ ،‬فواصل حديثه‬
‫مائال برأسه باسام وهو يقول‪:‬‬
‫تنحى عنه الذباب بقدر ما ر ّد يده وسكنت حركته‪،‬‬
‫‪- -‬فلام فعل ذلك ّ‬
‫ذب عن وجهه بطرف كمه‪،‬‬ ‫ثم أجلأه إىل أن ّ‬
‫ثم عاد إىل موضعه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ثم أجلأه إىل أن تابع بني ذلك‪.‬‬
‫فلام رأيته يتابع الذب بكمه كدت أزغرد زغردة نساء اخلناقني‪،‬‬
‫وأهتف كام هيتف الرعاع عند مناطحة الكباش ومهارشة الديكة قرب‬
‫املسجد اجلامع!‬
‫قاطع عبود اجلاحظ قائال‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل إنك وسهل بن هارون لرش جليسني!‬
‫واصل اجلاحظ حديثه ويده اليرسى تلعب بالسفرجلة‪ ،‬ويده‬
‫اليمنى تذهب وتأيت بني ركبته اليمنى وقلنسوته وهو يقول‪:‬‬
‫أن فعله ك ّله مراقب ممن حرضه من أمنائه‬ ‫‪- -‬فلام علم القايض ّ‬
‫ألح من اخلنفساء‪ ،‬وأزهى من‬ ‫أن ّ‬
‫الذباب ّ‬ ‫وجلسائه قال‪ :‬أشهد ّ‬
‫عز‬
‫نفسه فأراد اهلل ّ‬
‫الغراب! وأستغفر اهلل! فام أكثر من أعجبتْه ُ‬
‫يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا! وقد علمت أين‬ ‫ّ‬
‫وجل أن ّ‬
‫عند الناس من أزمت الناس‪ ،‬فقد غلبني وفضحني أضعف‬
‫باب َشيْئا ً ال ي َ ْستَنْقِ ُذوهُ‬ ‫ْ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُّ‬
‫اذل ُ‬ ‫ثم تال قوله تعاىل‪ِ﴿ :‬إَون يسلبهم‬‫خلقه! ّ‬
‫َّ ُ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫مِنْ ُه َض ُعف الطال ِب والمطلوب﴾‪.‬‬
‫ُ‬

‫أهنى اجلاحظ القصة ثم أسند ظهره إىل اجلدار دون أن يضحك‪،‬‬


‫لكن وجهه اخلايل من أي ابتسامة يف مثل هذا الظرف يستحث العارفني‬
‫به عىل الضحك أكثر‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫أسند رأسه إىل احلائط وراءه‪ ،‬أما أصحابه فكانوا قد استنفدوا‬
‫قواهم ضحكا‪ ،‬فام بقي إال مسح اخلدود عن الدموع وعبارات التعجب‬
‫واالستزادة‪ .‬ثم جاء صوت النظام‪:‬‬
‫يشء عجيب!‬
‫***‬

‫‪213‬‬
‫الدوحة‪1439 ،‬هـ‬

‫جلس القروي ثالثة أيام كاملجنون حياول االتصال بحصة دون‬


‫نتيجة‪.‬‬
‫فهاتفها الوحيد مغلق‪ ،‬وال متلك أي تطبيق للم راسلة (مثل‬
‫اتساب أو التليغ را ْم) يمكن الت واصل معها عربه‪ ،‬لتحرزها الشديد‬
‫ْ‬ ‫ال و‬
‫ووس واسها اإللكرتوين الدائم من انتهاك خصوصيتها‪.‬‬
‫يتقلب يف جنبات غرفة األخبار كأهنا خاوية رغم ضجيجها الذي‬
‫ال ينقطع‪ ،‬حتى زميله يف قسم التدقيق اللغوي الحظ تغري سلوكه‬
‫فسأله‪:‬‬
‫‪- -‬ما قصتك؟ تبدو مهموما!‬
‫سهرت فقط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬أبدا‪،‬‬
‫لكن أي متأمل يعلم أن سلوكه تغري‪ ،‬حتى املظهر األنيق الذي‬
‫حيرص عليه عادة قد غاب‪ .‬يقف عادة أمام املرآة ليوازن ما بني األلوان‬
‫التي سريتدي‪ ،‬ويبالغ يف اختيار عطره‪ ،‬غاب كل ذلك‪.‬‬
‫عاد للمرة الثالثة إىل القسم التقني‪ ،‬ووقف عند مكتب صديقة‬
‫تشف قائلة‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫حصة البدينة سائال عنها‪ ،‬فلم تزد عىل أن حدجته بنظرة‬
‫‪- -‬ما أدري! اتصلت عىل املدير وطلبت إجازة أسبوع‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫انزعج من نطقها املفخم لـ «ما» وتركها وراء ظهره متأكدا أهنا‬
‫تستطيع مساعدته لو شاءت‪ ،‬لكن احلزن الطافح من قلبه حال دون‬
‫شعوره بالغضب‪ ،‬فالقلب يضيق أحيانا عن امتزاج املشاعر داخله‪.‬‬
‫عاد إىل مكتبه يف ركن غرفة األخبار وذهنه مزدحم باألسئلة‪ ،‬ما‬
‫قصة هذه الفتاة؟‬
‫ملاذا ظهرت حتى إذا أنشبت أظافرها يف سويداء القلب اختفت‬
‫كأهنا حلم‪.‬‬
‫إن املرأة ظاهرة متحولة‪.‬‬
‫رس فتنتها‪،‬‬
‫لذلك تصبح املفاجأة أقوى أسلحتها دائام‪ ،‬وهذا ّ‬
‫توزع الظالل‬
‫فأوقات التحول أمجل أوقات اليوم‪ ،‬فال يشء أمجل من ّ‬
‫وقت الغروب ووقت الرشوق‪ .‬وال حلظة أهبج للعيون والنفوس من‬
‫سويعات السحر وأنسام الغسق‪ ،‬وال يأرس اإلنسان يشء كاللحظات‬
‫التي تأيت قبيل املطر وبعده‪.‬‬
‫فعدم اليقني وغياب الرتابة هو طابع تلك اللحظات املتحولة‬
‫كلها‪ ،‬واملرأة كذلك خملوق ال يمكن التنبؤ بترصفاته‪ .‬وأي مرصد يف‬
‫الدنيا يستطيع التنبؤ بتقلبات مزاج امرأة؟‬
‫املرأة كائن متقلب بالفطرة‪ ،‬لكن ذلك التقلب هو رس قوته‬
‫وضعفه‪ ،‬ومجاله وتعاسته‪.‬‬
‫ثم تذكر القروي معنى آخر‪ ،‬وهو أن املتنبي كان يرى رأيه هذا‪،‬‬
‫وإال ملاذا مدح حلظات التأرجح والتحول‪.‬‬
‫شعر بخفة وحاجة إىل اإلنشاد بصوت مسموع عىل طريقة‬

‫‪216‬‬
‫الشناقطة يف باديتهم‪ ،‬فوقف عن كرسيه ووضع يديه عىل مكتبه‪ ،‬وبدأ‬
‫ينشد عىل طريقة البدو‪:‬‬
‫ِ‬
‫والقرب والنوى‬ ‫وبني الرضا والس ِ‬
‫خط‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ت ْق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫�رق!‬ ‫مـج�ال لـدم�ع الـمـقـل�ة ا ُمل رَ َ‬
‫وأحلى اهلوى ما َّ‬
‫ش�ك يف الوصل ر ُّبه‬
‫ويتقي!‬
‫ّ‬ ‫الده�ر يرجو‬‫َ‬ ‫ويف اهلج�ر‪ ،‬فهو‬
‫سكنت أيدي كل من يف غرفة األخبار عىل حواسيبهم‪ ،‬والتفتوا‬
‫ْ‬
‫جهة الصوت‪.‬‬
‫األرض بغت ًة عىل ظهر‬
‫َ‬ ‫بدا القروي كائنا عجيبا‪ ،‬ذا قرنني هبط‬
‫مذن ٍ‬
‫ّب شارد‪.‬‬
‫وجاء صوت صحفي من قسم الرياضة‪:‬‬
‫‪- -‬إيه ده! عاوزين هدوء عشان نشتغل يا ناس!‬
‫صوت سيدة كأهنا ترصخ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وس ِم َع بعده‬
‫ُ‬
‫‪- -‬نحن َوي ْن؟!‬
‫ثم وقف صحفي سوداين طويل القامة من قسم املقابالت وقال‪:‬‬
‫بالغت لكن‪ ...‬نحن ما ا ْفخلوة يا أخينا!‬
‫َ‬ ‫‪- -‬واهلل‬
‫ٍ‬
‫انزعاج واحتجاج‪....‬‬ ‫وعبارات‬
‫ُ‬ ‫ومهسات‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫متتامت‬
‫ٌ‬ ‫وانطلقت‬
‫وضحكات‪ ،‬قطعها رئيس التحرير خارجا من مكتبه كأنه يتدحرج‪،‬‬
‫ثم صفق بيديه‪.‬‬
‫عاد اهلدوء‪ ،‬فإذا الصوت الوحيد املسموع يف غرفة األخبار صوت‬
‫الشاشات املثبتة يف أطراف الغرفة الزرقاء املدورة‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫يف هذه اللحظة‪ ،‬انتبه القروي لوجود الفتاة البدينة صاحبة حصة‬
‫واقف ًة يف طرف غرفة األخبار تل َف ُحه بنظراتهِ ا‪ُ .‬خيل إليه أهنا تتشفى فيه‪،‬‬
‫ومصدر لإلزعاج والتسلية!‬‫ٍ‬ ‫وهو يتحول إىل كائن غريب‬
‫رجع إىل نفسه ِ‬
‫خجال‪ ،‬وارمتى عىل كرسيه وهو يشعر بأن جسمه‬
‫قد حتول إىل كتلة من العرق‪ .‬فتح ملف وورد‪ ،‬وجاهد نفسه لنسيان‬
‫احلرج الذي وقع فيه‪ ...‬ولنسيان خيال مطوعة بريدة‪ ،‬وكتب‪:‬‬
‫***‬
‫تفر من مالحقة‬ ‫كانت الشمس ترسع إىل املغيب كأهنا حسناء ُّ‬
‫األعني املتطلعة‪ .‬غاب حاج ُبها عن هذه املدينة التي تتخللها األهنار‪،‬‬
‫شعرها بأناملها الرخصة‪ .‬انعكست محرة املغيب يف‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ختليل احلسناء‬
‫فأضفت لونا ذهبيا عىل َجنَبات سوق الوراقني يف طرف‬
‫ْ‬ ‫األهنر املحيطة‪،‬‬
‫سوق البرصة الكبري‪.‬‬
‫ولف خيمهم وإغالق حوانيتهم‪.‬‬
‫بدأ الناس يف طي أمتعتهم ّ‬
‫يتدافع املارة والغلامن والدواب واملتسولون عند باب السوق ما‬
‫ٍ‬
‫متجه جهة ساحة احلامم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ومتعجل‬ ‫بني متجه إىل املسجد لصالة املغرب‪،‬‬
‫تاركا السوق مرسعا إىل أهله قبل حلول الظالم‪.‬‬
‫عمن حيملون‪ ،‬بأصوات األذان‪،‬‬
‫ختتلط أصوات املكارين الباحثني ّ‬
‫وجلبة أطفال الكُتاب‪ ،‬وهنيق احلمري‪ ،‬ووقع حوافر املطايا‪.‬‬
‫لكن اجلاحظ ما يزال جالسا يف زاوية دكان مويس بن عمران رغم‬
‫الظالم الذي بدأ حيول بينه وبني الكتاب الذي بني يديه‪ .‬فقد بدأ الظالم‬
‫يتكاثف خاصة داخل السوق‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫نفض مويس جراب ًا كان معلقا يف وسط الدكان ووضع فيه أرغفة‬
‫وبقوال‪ ،‬ثم قال للجاحظ وهو يناول جرا َبه للغالم الواقف إىل جنبه‪:‬‬
‫‪- -‬ال تنس أن اخلناقني كثروا يف البرصة منذ ُغ در بال وايل العادل فاحذر‪.‬‬
‫مل ينتبه يف حديث مويس إال لتتابع حرف الراء الذي يلثغه مويس‬
‫حول اجلملة يف سمعه إىل غمغامت‪ .‬رفع نظره عن الكتاب‪،‬‬‫غين ًا‪ ،‬مما ّ‬
‫فاقرتب منه مويس‪ ،‬ونع ُله السندي يقرع بالط الدكان‪:‬‬
‫‪- -‬يا أبا عثامن‪ ،‬لقد خرج الغلامن‪ ،‬وأنا خارج‪ ،‬فال تنس التحفظ‪،‬‬
‫واحذر اخلناقني إذا خرجت لقضاء حاجة‪.‬‬
‫األغمني اللذين ال‬
‫ّ‬ ‫أبعد اجلاحظ الكتاب عن وجهه‪ ،‬رافعا حاجبيه‬
‫يكادان يظهران يف الظالم املتكاثف‪:‬‬
‫‪- -‬اخلناقون هيجمون لسلب الذهب والفضة يا مويس‪ ،‬وما أظنهم‬
‫هيجمون لسلب أشعار العرب وعلوم األوائل‪ ،‬وترمجات الرسيان‬
‫املستغلقة‪.‬‬
‫‪- -‬أخشى أن يظنوك ُمورسا من مياسري أهل البرصة أقعد به عدُّ‬
‫الدراهم والدنانري عن ترك السوق ليال‪ ،‬فيقتحموا عليك الدكان‪.‬‬
‫سكت مويس قليال‪ ،‬ثم قال كأنه تذكر شيئا نسيه‪:‬‬
‫‪- -‬وما يدريك أهنم علموا بجائزة الدنانري األلف التي بعث هبا إليك‬
‫األمري بعد قراءته رسالتك األخرية؟‬
‫‪- -‬ال ال‪ ،‬وهل تظن خناقي البرصة وفتاكها ال يعرفون أن هذا دكان‬
‫وراق؟ يعرفون أهنم لو هجموا علينا لعادوا بأرسطو وأيب عبيدة‬
‫مك ّب نْلي‪ ،‬ال بالصفراء واحلمراء‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫قاهلا اجلاحظ وهو يتذكر بغبطة كيف كان يدفع الدوانق للوراقني‬
‫ليرتكوه يبيت يف دكاكينهم للمطالعة‪.‬‬
‫نظر مويس إىل املمر الضيق أمام دكانه‪ ،‬وقال بصوت فيه خوف‪:‬‬
‫‪- -‬حسبك! إن البالء موكّل باملنطق‪ .‬لقد بدأت الدروب تُظلم‪.‬‬
‫مشى مويس جهة الباب وحذاؤه السندي يقرقع‪ ،‬بينام كان غلامنه‬
‫ينتظرون يف هناية املمر مما ييل الساحة املؤدية إىل املسجد‪.‬‬
‫وضع اجلاحظ الكتاب جانبا‪ ،‬ووقف ليحكم إغالق الباب‪ .‬ثم‬
‫مد يرساه وخلع عاممته وجبته وبقي يف إزار أسود‪ ،‬بدا يف إزاره األسود‬
‫أنحف جسام من ذي قبل‪ ،‬إذ برز جسمه النحيل وصدره املحفور‬
‫وعنقه الدقيقة ورأسه الصغري يف هذه اللحظة كأهنا أصغر وأقرص من‬
‫ذي قبل‪ .‬عاد إىل زاويته وأبعد بعض الكتب عن أطراف احلصري وصىل‬
‫صالة املغرب‪ ،‬ثم قام عن احلصري‪ ،‬وأوقد قنديال‪ ،‬كان الدكان واسع‬
‫اجلوانب‪ ،‬وفيه دهليز يقود إىل حجرة النساخ‪.‬‬
‫عاد للجلوس يف ركنه املفضل عىل حصري ووسادة جلدية حمشوة‬
‫بالليف بني أطامر الكتب‪.‬‬
‫ويدون ما يراها‬
‫ّ‬ ‫جلس ساعات يقرأ يف كتاب «احليوان» ألرسطو‬
‫أخطاء وقع فيها املؤلف‪.‬‬
‫مرت ساعات‪ ،‬ويف غمرة انشغاله بالكتابة انطفأ القنديل‪ .‬أصبح‬
‫الظالم مطبقا‪ .‬انزعج‪ ،‬إذ كيف أخذته املطالعة لدرجة عدم مالحظته‬
‫اقرتاب انطفاء الفتيلة‪ ،‬وكيف سيوقد قنديال آخر‪ ،‬بدأ يتحرك داخل‬
‫الدكان باحثا عن جبته وعاممته‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫وقف وبدأ يتحرك ببطء باحثا بيديه يف الظالم املرتاكم عن جبته‬
‫وعاممته فوقعت يده عليهام‪ ،‬لبسهام‪ ،‬ثم لف الكراريس التي كان يكتب‬
‫فيها‪ ،‬واندفع خارجا من السوق‪.‬‬
‫متشى يف أزقة السوق احلالكة اخلالية من أي صوت‪ ،‬وبدأ ذهنه‬
‫يقارن بني حركة السوق وضوضائه يف النهار‪ ،‬ومواته املخيف بالليل‬
‫حتى ليخيل للواحد أنه لن ُينرش مرة أخرى‪ ،‬فها هو يمر من أمام دكان‬
‫محيد القصاب‪ ،‬فال يرى التزاحم والتصارخ واخليول والبغال واحلمري‬
‫وتساب العامة! ال يسمع إال نفسه تلهث وقدميه تقرعان أرضية السوق‬
‫َّ‬
‫فقف شعره! هل انكشفت حجب الغيب ملويس‬ ‫املب ّلطة‪ .‬سمع جلبة‪ّ ،‬‬
‫وسيهامجني خناقون اآلن؟‬
‫التفت فاختفى الصوت هنائيا!‬
‫وسمع ضحكات أطفال‪ ،‬كانوا يعربون السوق متسابقني فعاد إليه‬
‫قلبه‪.‬‬
‫وجد نفسه خارج السوق‪ ،‬مفكرا يف ما عليه فعله‪ .‬فال يوجد مكار‬
‫حيمله إىل بيته‪ ،‬وال يستطيع امليش طويال خوفا من اخلناقني‪ .‬كان يفكر‬
‫يف أصدقائه الذي يسكنون غري بعيد من سوق البرصة‪ ،‬وتذكر أن النظام‬
‫يبيت مع أمه بمنزهلا القريب‪ .‬دق الباب‪ ،‬فخرج له النظام متزرا بإزار‬
‫ملون وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬أبا عثامن؟ ماذا أتى بك يف هذه الساعة؟‬
‫‪- -‬كنت سأبيت يف دكان مويس إلكامل بعض القراءات‪ ،‬ثم بدا يل‬
‫أن أخرج بعد انطفاء القنديل‪.‬‬
‫‪- -‬يا مرحبا وأهال‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫دخال إىل الردهة الواسعة بني غرف املنزل‪ ،‬وتقدم النظام إىل غرفة‬
‫عىل اجلانب األيمن مناديا اجلاحظ أن يتبعه‪.‬‬
‫دخل النظام أوال‪ ،‬فيام تسمر اجلاحظ عند الباب‪.‬‬
‫أوقد النظام فتيلة‪ ،‬ثم نادى اجلاحظ فدخل وجلس عىل طرف‬
‫احلصري‪.‬‬
‫ووسادتي وفراشا‬
‫نْ‬ ‫خرج النظام ثم عاد بعد قليل حامال حلافا ناعام‬
‫داكن اللون مهدّ ب األطراف‪ .‬قال النظام وهو يرتب الفراش‪:‬‬
‫‪- -‬أليس من العجب أنك كنت سهران عىل كتاب «احليوان» ألرسطو‬
‫وأين كنت سهران أنقد كتابه اآلخر يف املنطق؟‬
‫‪- -‬عجيب!‬
‫‪- -‬لكني عانيت من الرتمجة التي عندي‪ .‬حتى كأن أرسطو –كام كان‬
‫يقول شيخنا اخلليل‪ -‬يريد ما ال يقول‪ ،‬أو يقول ما ال يريد‪.‬‬
‫‪- -‬الناسخون املاسخون والرتامجة اجلاهلون داء دوي!‬
‫‪- -‬إي وريب!‬
‫انتهى النظام من ترتيب فراش اجلاحظ فأشار إليه أن جيلس‪ ،‬بينام‬
‫عاد هو وجلس عىل طرف فراشه اململوء بالكتب والكراريس املتناثرة‪.‬‬
‫ثم سأل‪:‬‬
‫‪- -‬لقد ذهبت اليوم واشرتيت غالما سنديا بسبعة دنانري‪.‬‬
‫‪- -‬كيف؟ سبعة فقط؟‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬أما علمت أن أهل البرصة ال يشرتون رقيق السند هذه‬
‫األيام؟‬

‫‪222‬‬
‫‪- -‬كيف؟‬
‫‪- -‬أما علمت بقصة املهلبي مع غالمه السندي وامرأته؟‬
‫‪- -‬ال‪...‬ال‪ .‬لقد انشغلت األسبوع املايض بتدبري بعض األمور‬
‫وذهبت للبادية‪.‬‬
‫كان النظام يتحدث والقنديل بينه وبني اجلاحظ‪ ،‬مرددا النظر يف‬
‫ظل اجلاحظ املنعكس عىل اجلدار‪ ،‬مغالبا الضحك لبشاعة املنظر‪.‬‬
‫فقد بدت جبهة اجلاحظ الناتئة ورأسه الصغري وعنقه الدقيق بشكل‬
‫مضحك‪ ،‬إذ انسلت الرقبة وطالت مع دقتها فيام ازدادت مججمته صغرا‬
‫وأنفه تضاؤال‪ ،‬وجبهته نتوءا‪ .‬قال النظام‪:‬‬
‫‪- -‬تعرف أن الوايل عىل إيالة السند من آل املهلب بن أيب صفرة‪.‬‬
‫‪- -‬نعم‪.‬‬
‫‪- -‬ورد الربيد بخرب مستطري وقع له مع غالمه السندي‪ .‬إذ دخل‬
‫يوما –وهو من هو رشفا‪ -‬فوجد غالمه وامرأته يف حلاف واحد‪،‬‬
‫وكان قد شاع بني الناس أن امرأته علقت بغالمه لكنه مل يسمع‬
‫باخلرب‪ ،‬فلام رأى زوجته يف أحضان العبد‪ ،‬كاد عقله يذهب‪ .‬فقفز‬
‫عىل الغالم ونادى بحديدة فخصاه هبا‪.‬‬
‫‪- -‬ثم ماذا؟‬
‫واصل النظام حديثه وهو يصلح طرف فتيلة املصباح قائال‪:‬‬
‫‪- -‬فعاش معه الغالم زمنا حتى نيس املهلبي األمر‪ ،‬وكان للمهلبي‬
‫ولدان من أحسن ما يكون الولد‪ ،‬فدخل يوما فوجد الغالم قد‬
‫أوثقهام عىل حافة سقف البيت وجلس دوهنام‪ ،‬فلام رآه الرجل‬

‫‪223‬‬
‫توسل إليه أن يرسل الغالمني فام زاده عىل أن قال له‪ :‬إنه لن‬
‫يرسلهام إال إذا جلس وخصا نفسه أمامه حاال‪ ،‬أو قطع عضوه‬
‫منه قصاصا‪.‬‬
‫ثم طال احلديث بينهام‪ ،‬فلام علم املهلبي أن الغالم عازم عىل قتل‬
‫يت كبده جلس وقطع ذلك العضو منه بيده والغالم ينظر‪ .‬فلام فعل‬
‫فلذ ْ‬
‫فسأدف‬
‫ُّ‬ ‫فعلت بنفسك فذاك قصاص‪ ،‬وأما أنا‬
‫َ‬ ‫ذلك قال له غالمه‪ :‬أما ما‬
‫الغالمني زيادة عقوبة من عندي‪ ،‬ودفع الطفلني من الشاهق فامتا حاال‪.‬‬
‫‪- -‬وما ذا بعد؟‬
‫ثم ُأ ِخذ الغال ُم و ُعذب و ُقتل‪ .‬وهلذا بدأ الناس يزهدون يف غلامن‬
‫السند حتى سمعت أهنم بيعوا بخمسة دنانري‪.‬‬
‫‪- -‬ثم يلومونني أين ال أنوي التزوج من احلرائر؟‬
‫ابتسم النظام‪ ،‬متنفسا الصعداء قائال‪ ،‬وما زال يف نربته ن َفس حزين‬
‫من القصة التي كان يروهيا‪:‬‬
‫‪- -‬أوه! لكن هذا أمر ال يقاس عليه‪ ،‬فهي قصة واحدة يف ركن قيص‬
‫من أركان الدنيا‪.‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ال! أتثق بصالبة امرأة يف وجه اإلغراء باحلب؟‬
‫‪- -‬أعلم أهنن ضعيفات إذا سمعت آذاهنن احلب وكالم العشاق‪.‬‬
‫ابتسم اجلاحظ وهو يميل بمرفقه عىل وسادته‪:‬‬
‫والتحصن‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬اسمع مني‪ .‬ال توجد امرأة مهام بلغت من اجلاه‬
‫والتصون والعلو واجلامل‪ ،‬ثم تكون من رجل ‪-‬مهام بلغ َض َع ًة‬
‫ّ‬
‫وحقارةً‪ -‬بحيث يتحدث هلا عن كلفه هبا وحبه هلا‪ ،‬وكيف أهنا‬

‫‪224‬‬
‫أمجل نساء الدنيا ثم داوم عىل ذلك إال أجابته طال الزمن أم قرص‪.‬‬
‫ظل النظام يستمع واضعا كفه اليرسى حتت خده األيمن‪ .‬فواصل‬
‫اجلاحظ قائال‪:‬‬
‫‪- -‬إن للكلمة عىل قلب املرأة سلطانا ال يوصف‪ ،‬فلو انفرد خادم‬
‫بامرأة امللك وحدثها عن مجاهلا اخلالب والتفاتتها السخية‪ ،‬وعن‬
‫تنهده وسهره واحرتاقه يف حبها ثم بكى ألجابته طائعة‪.‬‬
‫كان ذهن النظام يسافر يف أثناء حديث صديقه مستعرضا صورا‬
‫ال تنتهي مما سمعه وشاهده‪ ،‬ومما افرتضه وخشيه‪ ،‬فظللت سحابة غم‬
‫وجهه األسمر الذي بدا حتت ضوء املصباح أكثر سمرة من ذي قبل‪،‬‬
‫فبادر سائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما العمل إذن؟ وطبيعة الدنيا ال تصح إال باالتصال بني الرجال‬
‫والنساء؟‬
‫‪- -‬العمل؟ العمل أال نتزوج! فقد أكرمنا اهلل هبذه األسواق التي‬
‫جُتلب إليها حسان الروم والسند واهلند واحلبشة والفرنجة لنختار‬
‫منها ما نشاء‪.‬‬
‫‪- -‬لكن الغرية عىل احلرة كالغرية عىل اجلارية سواء بسواء‪.‬‬
‫اعتدل اجلاحظ يف جلسته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬نعم هو ذاك‪ ،‬لك ْن هنا أمر آخر‪ ،‬فاجلارية اململوكة إذا علمت‬
‫باهتامم سيدها هبا بقيت له عادة‪ ،‬وال تطمح عينها لغريه لعلو‬
‫فعني طاحمة‪،‬‬
‫منزلته عىل منزلتها وحقارهتا عند نفسها‪ ،‬أما احلرة ٌ‬
‫ٌ‬
‫خفاق‪ ،‬وشهوة مشبوبة‪ .‬فهي ُمن َّشأة عىل املنع من اخللوة‬ ‫وقلب‬
‫ٌ‬

‫‪225‬‬
‫بالرجال فلذا يشتد ولعها هبم وشوقها إليهم‪ ،‬فهي يف هذا الباب‬
‫أكثر عرضة للفتنة من اجلارية‪ ،‬ثم إن اجلارية ملك يمينك‪ ،‬إن‬
‫الحظت عليها ما ال حتب بعتَها ونسيتَها‪ ،‬أما احلرة فلها ٌ‬
‫أهل‬
‫وقبيل‪ ،‬وإرعا ٌد وإبراق‪ ،‬فهي ُغ ٌّل مق ِّيد‪ ،‬و َدين ثقيل‪.‬‬
‫خرج النظام من باب الغرفة ودخل بيت اخلدم وصب ماء من‬
‫قارورة فخار‪ ،‬ثم عاد حامال كوزا مملوءا باملاء مده للجاحظ قائال‪:‬‬
‫‪- -‬إنك لعليم بمكنوناهتن!‬
‫وزين لترصفاهتن وأخالقهن‪ ،‬أال ترى أن‬ ‫عرفت ذلك من ْ‬‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬
‫احلرة املتعففة منهن تشبه األمري املخلوع من عرشه إذا زال مجالهُ ا؟‬
‫فكالمها جمرد من أمالكه التي كان هبا يصول‪ ،‬لذلك ال يكره‬
‫كرهه رؤية من كان يعرفه وهو وراء احلجاب‬ ‫املخلوع رؤية أحد َ‬
‫السامطي‪ .‬واحلرة تضيق بنظر الفتيان إذا‬
‫نْ‬ ‫واحلراس وواقفا بني‬
‫نقص مجالهُ ا‪ ،‬ألهنا فقدت خمالبها التي كانت هبا تصول‪ ،‬ونابهَ ا‬
‫التي كانت هبا تعض‪ .‬فإذا تدىل بطنها األهيف‪ ،‬أو انطفأت عيناها‬
‫جف ماء احلياة يف خدهيا األسيلني‪ ،‬كرهت أن‬ ‫النجالوان‪ ،‬أو ّ‬
‫يراها من كان يعرفها قبل ذلك‪ .‬فإذا كانت ال تريد اجلامل إال‬
‫هتتم بنظر الفتيان إليها عىل أي حال؟‬
‫لزوجها فلم ّ‬
‫‪- -‬يشء عجيب! لك َّن أحدَ نا يو ّد أن يكون حسن اهليئة‪ ،‬نظيف‬
‫امللبس‪َ ،‬‬
‫مجيل الطلعة‪ ،‬وحتى أنت يا أبا عثامن حتب ذلك‪ ،‬وليس‬
‫لألمر صلة بفسق أو فجور فيك!‬
‫رفع اجلاحظ حاجبيه وكأن مالحظة النظام فاجأته فقال‪:‬‬
‫‪- -‬إن الشعور سابق عىل العقل با أبا إسحاق‪ .‬وشعوري أهنن ال‬

‫‪226‬‬
‫يفعلن ذلك إال لتعلقهن بالفتيان‪ .‬ولذا قلت لك مرارا إن العاقل‬
‫ال حيتفل بالزواج وال هيش للعرس‪.‬‬
‫‪- -‬ملاذا يا أبا عثامن؟‬
‫‪- -‬هل يسعد األسري بوضع القيود يف يديه‪ ،‬وينظر إليهام كأهنام‬
‫معصامن ذهبيان؟ إن الطالق وحده ‪-‬أبا إسحاق!‪ -‬هو اجلدير‬
‫بالتخليد واحلفاوة‪.‬‬
‫مد النظام يده إىل فتيلة املصباح التي بدأ زيتها ينحرس‪ ،‬وهو يشعر‬
‫بيشء من الشفقة عىل صديقه‪ ،‬فقد تذكر متارض وحبه هلا‪ ،‬وكيف انتهت‬
‫مدور‪،‬‬
‫تلك الفتاة يف أحضان عيل بن املديني‪ .‬صب زيتا من جام صغري ّ‬
‫وهو يقول مبتسام ابتسامة واضحة حتت ضوء املصباح‪:‬‬
‫‪- -‬أما أنا يا أبا عثامن‪ ،‬فال أنظر إىل امرأة حرة مستورة مجيلة إال خفق‬
‫قلبي‪ ،‬ولن أترك الزواج من إحداهن جلواريك وغريتك‪.‬‬
‫‪- -‬أنا ال أنكر حترك النفس هلن والتعلق هبن‪ ،‬قاتلهن اهلل! فاهلل تعاىل‬
‫خلق املرأة إلسعاد الدنيا وإقالقها‪ ،‬فاملرأة اجلميلة إذا ملحتها‬
‫رمقت مخارها ساقطا وهي متيش اهلوينا‬‫َ‬ ‫فجأة داخلة إىل دكان‪ ،‬أو‬
‫مهك ومجعتْه‪ ،‬فهي تنفث البِرش واجلامل أنى‬ ‫وفرقت َّ‬
‫ْ‬ ‫أهبجتك‪،‬‬
‫سار‪ ،‬أو حتف ُة قادم‪ ،‬أو شفا ُء‬
‫رب ّ‬ ‫فواح‪ ،‬أو خ ٌ‬ ‫عطر ٌ‬‫حلت‪ ،‬كأهنا ٌ‬
‫اقرتب‪ ،‬وهبجة ملن ابتعد‪.‬‬
‫ْ‬ ‫مريض‪ ،‬لكنها كذلك ُغ ٌّل ملن‬
‫ٍ‬
‫متعب‪:‬‬ ‫انحنى النظام جهة املصباح وهو يقول بصوت‬
‫‪- -‬أما أنا فأسأل اهلل أن ييرس يل حرة متعففة كريمة‪ ،‬وأسأله أن ييرس‬
‫لك من حسناوات الروم والفرنجة والسند واهلند ما شئت من‬
‫اهبار الليل ‪-‬أبا عثامن‪ -‬فدعنا نأخذ غفوة قبل الصبح‪.‬‬
‫جوار‪ ،‬لقد ّ‬

‫‪227‬‬
‫انحنى اجلاحظ عىل جنبه األيمن‪ ،‬واستلقى النظام عىل فراشه غري‬
‫بعيد‪ .‬وبدأ االثنان يسمعان بوضوح أصوات نباح كالب متقطع من‬
‫بعيد‪ ،‬وهنيق محري بني الوهلة واألخرى‪.‬‬
‫جعل اجلاحظ يتقلب يف فراشه مفكرا يف لؤم احلرائر وطباعهن‪،‬‬
‫فلم يملك إال أن تراءت له صورة متارض‪.‬‬
‫تقلب يف فراشه‪ ،‬منزعجا بعد أن أحس بخفقة يف قلبه خالهَ ا ْ‬
‫ذوت‬
‫منذ حقبة‪ .‬متلمل يف فراشه بعض الوقت وهو جيهد لطرد خياهلا من‬
‫ذهنه‪.‬‬
‫***‬
‫وقف النظام بقامته الفارعة وبني يديه إناء كبري مملوء مخرا‪ ،‬وقد‬
‫كلف بعض صغار الطالب بس ْق ِي جمموعة من احليوانات زقاقا من‬
‫اخلمر لرياقب سلوكها‪ ،‬كان يميش بني احليوانات‪ ،‬فاقرتب منه طالب‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف نسقي العقرب؟‬
‫فقال دون أن يلتفت إليه‪:‬‬
‫‪- -‬لقد صنع شيخنا العالف محِ ْ َقنة كمحاقن املارستان خاصة‬
‫بالعقارب‪.‬‬
‫ويف طرف احلائط ال واسع‪ ،‬كان اجلاحظ جالسا حتت ظل يتحدث‬
‫عن آخر ما توصل إليه من نتائج‪ ،‬وحوله فتيان يعتجرون عامئم‬
‫وبأيدهيم أوراق‪:‬‬
‫‪- -‬إن للكلب حسا دقيقا باألوقات‪ ،‬فقد الحظت أنه ُي ميز يوم‬

‫‪228‬‬
‫اجلمعة عن غريه‪ .‬ففي يوم اجلمعة وحده يرمي القصابون ما‬
‫فضل عنهم‪ ،‬ويف هذا اليوم وحده خيرج إىل ذلك املكان وينتظر‬
‫حلظة إلقاء اللحم ليأكله‪.‬‬
‫كان الطالب يستمعون إليه ويكتبون‪ ،‬ثم واصل‪:‬‬
‫‪- -‬وقد راقبتُه أربعة أسابيع‪ ،‬ومل يشتبه عليه يوم اجلمعة مع أي يوم‬
‫آخر قط‪ ،‬مع أين أغلقت عليه وحبسته ألحجب عنه تعاقب الليل‬
‫والنهار‪ ،‬فلم خيطئ مرة واحدة‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬جاء اخلادم يركض‪:‬‬
‫‪- -‬هناك جندي عىل الباب‪.‬‬
‫خرج النظام برسعة‪ ،‬فبادره اجلندي‪:‬‬
‫‪- -‬أنا أسأل عن اجلاحظ‪ ...‬يريده األمري‪.‬‬
‫خشعت األصوات يف جنبات املنزل املخصص ملراقبة احليوانات‪،‬‬
‫فيام وقف اجلاحظ‪ ...‬وركبتاه ال تكادان حتمالنه‪.‬‬
‫رب متجهني‬
‫ركب خلف اجلندي عىل فرسه‪ ،‬وسارا يف الطريق املغ ّ‬
‫نفسه يف تفسري سلوك اجلندي وحماولة فهم‬
‫جهة دار أمري البرصة‪ .‬أجهد َ‬
‫جهة اجلند التي ينتمي إليها من مالبسه وطريقته يف احلديث‪ ،‬كان خيشى‬
‫أن يكون من جنود السجن‪ ،‬ثم خطر له أنه مل يرتكب ما يساق به إىل‬
‫السجن‪ ،‬واجلندي مهذب ومتأنق‪ ،‬فلعله ممن يرسلهم األمري إلحضار‬
‫من يكرمه‪.‬‬
‫كان الفرس اجلامح يركض يف الشوارع الضيقة املزدمحة‪ ،‬واجلاحظ‬
‫مشغول بمراجعة مسريته إلجياد سبب الستدعاء األمري له‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫وجد نفسه‪ ،‬يدخل ردهة واسعة‪ ،‬ثم يتلقاه غالم يقوده إىل جملس‬
‫عامر‪ ،‬ما إن وقف حتى وقف األمري من مكانه‪:‬‬
‫‪- -‬أهال وسهال بأيب عثامن!‬
‫كانت تلك العبارة كافية حلل كل عقد اخلوف التي تكاثفت عىل‬
‫قلبه خالل الساعة املاضية‪ ،‬جيلس نحو مخسة رجال بعامئمهم الطويلة‬
‫يتوسطهم أمري البرصة‪ ،‬فظهر اجلاحظ بينهم كأنه متسول‪ .‬فمالبسه‬
‫غبار ييش بأنه جلس طويال‬
‫قذرة‪ ،‬وغري متسقة‪ ،‬ويظهر عىل أط راف ثوبه ٌ‬
‫عىل أرض مغربة‪.‬‬
‫حترك األمري يف جملسه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أسعدنا حضورك يا أبا عثامن‪ ،‬ولقد متنينا رؤيتك بمجلسنا‬
‫منذ زمن‪ .‬قرأت كتابك عن الكتب‪ ،‬وواهلل إنه لرائق‪.‬‬
‫ُ‬
‫اجلاحظ حيا ًء‪ ،‬لكن األمري صفق بيديه‪ ،‬فجاء غالم يركض‪.‬‬ ‫أ ْغىض‬
‫‪- -‬إ َّيل بكتاب اجلاحظ عن الكتب‪.‬‬
‫ثم التفت إىل الرجل اجلالس عن يمينه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هل قرأته؟‬
‫أي مدح‬
‫كان الرجل اجلالس عن يمني اجلاحظ شاعرا‪ ،‬يرى أن َّ‬
‫للنثر انتقاص من الشعر‪ .‬فقال كاذبا‪:‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ما سمعت به‪.‬‬
‫ملحه اجلاحظ بحنق‪ ،‬ثم جاء صوت األمري وهو يقلب كتاب‬
‫اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬ما كتبت اإلنس وال اجلن كتابا عن الكتب أفضل من هذا‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫قال اجلاحظ بزهو‪:‬‬
‫‪- -‬عقالء اخلليقة ال حيصون‪ ،‬لكني كام قال األمري مل أطلع عىل كتاب‬
‫يف بابه‪.‬‬
‫بدأ األمري يتحدث عن بعض الفقرات التي تعجبه يف الكتاب فقرأ‬
‫بصوت مسموع‪:‬‬
‫يش ظرف ًا‪ ،‬إن َ‬
‫شئت كان أعيا‬ ‫‪«- -‬الكتاب وعا ٌء ملئ عل ًام و َظ ٌ‬
‫رف ُح َ‬
‫من باقل‪ ،‬وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل‪ ،‬وإن شئت‬
‫بكيت من مواعظه‪ ،‬ومن لك‬ ‫َ‬ ‫ضحكت من نوادره وإن شئت‬ ‫َ‬
‫بواعظ ُم ْل ٍه وبناسك فاتك وناطق أخرس‪ ...‬وما رأيت بستان ًا‬
‫ٍ‬
‫ردن‪ ،‬وروض ًة تُنقل يف ِحجر ينطق عن املوتى ويرتجم‬
‫حيمل يف ٍ‬
‫عن األحياء غريه‪ ،‬ومن لك بمؤنس ال ينام إال بنومك وال ينطق‬
‫إال بام هتوى‪ ،‬آمن من يف األرض وأكتم للرس من صاحب الرس‬
‫وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة!»‪.‬‬
‫وضع األمري الكتاب عن يمينه‪ ،‬فيام كان أحد الغلامن يضع حساء‬
‫ورغيفا ساخنا أمام كل واحد من اجلالسني‪ ،‬بدأ اجلاحظ يغالب ريقه‬
‫حتى ال يسيل‪ ،‬لكنه مل يستطع‪ .‬رفع كمه وتظاهر بحك أنفه حتى أفرغ‬
‫ريقه يف كمه‪ ،‬فهو مل يأكل طعاما مطبوخا منذ أسبوع‪.‬‬
‫قال األمري وهو يقلب الكتاب‪:‬‬
‫‪- -‬سمعت كثريا عن حبك للكتب‪..‬‬
‫‪- -‬أصلح اهلل األمري‪ ،‬كل ما سمعتموه صحيح‪ .‬فأنا «ال أعلم جار ًا‬
‫أخضع‪ ،‬وال‬
‫َ‬ ‫أطوع وال معلام‬
‫َ‬ ‫أنصف‪ ،‬وال رفيق ًا‬
‫َ‬ ‫أبر وال خليط ًا‬
‫َّ‬

‫‪231‬‬
‫صاحبا أظهر كفاية وال عناية‪ ،‬وال أقل إمالالً وإبرام ًا‪ ،‬وال أبعد‬
‫عن مراء وال أترك لشغب‪ ،‬وال أزهد يف جدال وال أكف عن‬
‫قتال؛ من كتاب‪ .‬وال أعم بيان ًا وال أحسن مؤاتاة وال أعجل‬
‫جمتنى‬
‫ً‬ ‫مكافأة‪ ،‬وال شجرة أطول عمر ًا وال أطيب ثمر ًا‪ ،‬وال أقرب‬
‫وال أرسع إدراك ًا وال أوجد يف كل إبان‪ ،‬من كتاب»‪.‬‬
‫كان مخستهم ينظرون إليه‪ ،‬متعجبني من ألفاظه الضخمة وذهنه‬
‫احلارض‪ ،‬لكنه كان يغالب ريقه حتى ال يسيل‪ ،‬فرائحة احلساء اململوء‬
‫بالبهارات تداهم أنفه‪ ،‬وهو يغالب نفسه حياء‪ .‬فال يعرف هل عليه أن‬
‫يأكل واألمري ما زال مقبال عليه‪ ،‬أم يمكنه أخذ ما يمنع به سيالن ريقه‪،‬‬
‫فهذه أول مرة يدخل فيها عىل أمري‪ .‬وقد سمع كثريا عن طرق املحادثة‬
‫واملؤاكلة مع األمراء‪.‬‬
‫ابتلع ريقه بمضض‪ ،‬ملتفتا إىل الشاعر اجلالس عن يمني األمري‪،‬‬
‫فالحظ أنه مل يلمس الرغيف وال احلساء‪.‬‬
‫مدّ يده إىل اخلبز املدهون بالزيت وأمسك طرف الرغيف‪ .‬ثم تركه‪.‬‬
‫انتبه األمري إىل ارتباكه‪ ،‬كام الحظ حياءه من البدء يف األكل فقال‪:‬‬
‫‪- -‬بسم اهلل!‬
‫وبدأ األمري برشف احلساء الساخن‪.‬‬
‫أمسك اجلاحظ اإلناء ورشف بصوت مسموع‪ ،‬ملح يف وجه‬
‫الشاعر انزعاجا منه‪.‬‬
‫التفت األمري إليه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬سمعت أنك بعت املنزل الوحيد الذي ورثته من الوالدة لتشرتي‬

‫‪232‬‬
‫به كتبا؟‬
‫‪ - -‬هو كذلك‪ .‬لكن شيخنا النظام باع كل ما يملكه يوما –وما هو‬
‫بكثري‪ -‬لرشاء أصباغ لرسم صورة األرض عىل صخرة‪.‬‬
‫‪- -‬سمعت أنه من عقالء اخلليقة‪.‬‬
‫‪ - -‬هو كذلك‪.‬‬
‫‪- -‬إيه يا أبا عثامن!‬
‫‪- -‬إن الكتب ‪-‬أهيا األمري‪ -‬هي آثار العقول الصحيحة وثمرة‬
‫َ‬
‫سلطان‬ ‫ُ‬
‫«سلطان النسيان‬ ‫األذهان اللطيفة‪ ،‬ولوال الكتب لغلب‬
‫مفزع إىل موضع استذكار‪ ،‬ولو مل يتم ذلك‬
‫ٌ‬ ‫الذكر‪ ،‬وملا كان للناس‬
‫حلُرمنا أكثر النفع»‪.‬‬
‫حترك الشاعر يف مكانه العبا بطرف عاممته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لكن العرب مل ختلد أيامها وأجمادها إال يف القصيد‪ ،‬أما النثر‬
‫فتكلف أعجمي أجلأت إليه العجمة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫قال اجلاحظ مفكرا يف أن الشاعر يسعى النتقاصه أمام األمري‪:‬‬
‫‪- -‬صدقت يف أن العرب مل ختلد أيامها إال يف الشعر‪ ،‬وال أحد‬
‫ينقص من قيمة الشعر‪ ،‬لكن االعرتاف بفضيلة الشعر ال يستلزم‬
‫االنتقاص من فضيلة النثر‪ .‬أما سبب صدود العرب عن النثر‬
‫فألهنم كانوا أمة أمية‪ ،‬ال تقرأ وال تكتب‪ .‬فلام جاء اإلسالم بالدين‬
‫تعلموا فكتبوا‪ ،‬وانتهت إليهم حماسن األمم وجتمعت فيهم‪ ،‬ومن‬
‫تلك املحاسن النثر‪ ،‬ثم أال ترى أن القرآن ليس بشعر!‬
‫واصل اجلاحظ حديثه‪ ،‬ناسيا احلسا َء الساخن الذي بني يديه‪ ،‬محي‬

‫‪233‬‬
‫الدم يف عروقه وهو ينظر بغيظ إىل نظرات الشاعر وصلفه وتكربه‪،‬‬
‫فواصل قائال‪:‬‬
‫‪- -‬وإذا كان املرء يطرب للبيت والبيتني فإن الكتاب صديق خفيف‬
‫«ال يبتدئك يف حال شغلك وال يف أوقات عدم نشاطك‪ ،‬وال‬
‫حيوجك إىل التجمل والتذمم‪ ،‬ومن لك بزائر إن شئت جعلت‬
‫زيارته ِغ ّب ًا وورده خمِ س ًا وإن شئت لزمك لزوم ظلك‪ ،‬ثم إن‬
‫الكتاب هو اجلليس الذي ال يطريك‪ ،‬والصديق الذي ال َيقليك‪،‬‬
‫والرفيق الذي ال يملك‪ ،‬واملستميح الذي ال يؤذيك‪ ،‬واجلار‬
‫الذي ال يستبطئك‪ ،‬والصاحب الذي ال يريد استخراج ما عندك‬
‫بامللق‪ ،‬وال يعاملك باملكر وال خيدعك بالنفاق»‪.‬‬
‫ابتسم األمري مفكرا يف أن اجلاحظ يتهم شاعره بالنفاق‪ ،‬منبهرا من‬
‫حالوة حديثه وفصاحة خمارجه‪ ،‬مع دمامته التي تزداد اتضاحا كلام امتد‬
‫املجلس‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫‪- -‬لكن الشعر يرفع صاحبه ملنادمة األمراء واخللفاء‪ ،‬وفيه احلكم‬
‫واملواعظ‪ ،‬وبه يسرتىض املحبوب‪.‬‬
‫نظرت فيه أطال‬
‫َ‬ ‫‪- -‬هو كذلك أهيا األمري‪« .‬والكتاب هو الذي إن‬
‫وجود بيانك‪ّ ،‬‬
‫وفخم‬ ‫إمتاعك‪ ،‬وشحذ طباعك‪ ،‬وبسط لسانك‪ّ ،‬‬
‫وعمر صدرك‪ ،‬وحباك تعظيم األقوام‪ ،‬ومنحك صداقة‬ ‫ألفاظك‪ّ ،‬‬
‫امللوك‪ ،‬يطيعك يف الليل طاعته بالنهار‪ ،‬ويف السفر طاعته يف‬
‫افتقرت إليه مل حي ّقرك‪ ،‬وإن قطعت‬
‫َ‬ ‫احلرض‪ ،‬وهو املعلم الذي إن‬
‫يدع طاعتك‪ ،‬وإن‬
‫زلت مل ْ‬‫عنه املادة مل يقطع عنك الفائدة وإن ُع َ‬
‫هبت عليك ريح أعدائك مل ينقلب عليك!»‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫تقافزت حواجب الرجلني اللذين كانا جالسني يف طرف املجلس‪،‬‬ ‫ْ‬
‫وظللت سحاب ُة خجل وجه الشاعر‪ ،‬وتشاغل األمري بغمس قطعة‬ ‫ْ‬
‫خبز يف احلساء الذي بني يديه‪ .‬فقد كان الشاعر صديقا ألمري البرصة‬
‫السابق‪ ،‬فلام ُعزل تنكر له والتحق بباب األمري اجلديد‪.‬‬
‫قال األمري ملتفتا إىل الرجل البدين اجلالس يف طرف املجلس‪،‬‬
‫حماوال تغيري املوضوع‪:‬‬
‫‪- -‬ما أخبار الناس يا هبلول!‬
‫حترك الرجل املعروف بقدرته عىل رسد القصص وتتبع تفاصيل‬
‫القصور يف بغداد قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ال حديث اآلن يف بغداد إال عن احلشوة وأصحاب احلديث‬
‫وكثرة أتباعهم‪.‬‬
‫قال اجلاحظ متهلال‪:‬‬
‫ألست هبلول بن قيس؟‬
‫‪َ --‬‬
‫فقال الرجل‪ ،‬هبدوء‪:‬‬
‫‪- -‬بىل!‬
‫‪- -‬لقد كنت أبحث عنك منذ زمن‪ ،‬فأنا كام تعلم رجل من أهل‬
‫صناعة الكالم‪ ،‬مولع بتوثيق األقاصيص‪ ،‬ولقد سمعت أنك‬
‫كنت حارضا عندما قىض هارون الرشيد عىل الربامكة‪.‬‬
‫ضحك األمري بصوت عال وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال يا أبا عثامن‪ ،‬البد أن يدفع لك ماال! فهو ال يمل من رسد تلك‬
‫القصة!‬

‫‪235‬‬
‫ضحك هبلول ضحكة بدون صوت‪ ،‬بل ظهرت عىل اهتزاز بطنه‬
‫الضخم‪.‬‬
‫فقال اجلاحظ‪:‬‬
‫إن ِ‬
‫أذ َن األمري سمعناها‪ ،‬فال بد يل من توثيق األمر‪.‬‬ ‫‪ْ --‬‬
‫أشار األمري بيده لبهلول‪ ،‬فاعتدل يف جلسته وبدأ يقص‪ .‬وكان‬
‫إذا حتدث عن نكبة الربامكة يعيشها بأحاسيسه‪ ،‬وكأهنا تتكشف أمامه‬
‫للمرة األوىل‪.‬‬
‫‪- -‬لقد حدثني بالقصة مرسور خادم أمري املؤمنني الرشيد وس ّيافه‪،‬‬
‫أياما بعد وقوعها سنة سبع وثامنني ومائة‪ ،‬ومرسور هو الذي قام‬
‫بقطع رأس جعفر الربمكي‪.‬‬
‫مال اجلاحظ بصدره إىل األمام واضعا يده حتت ذقنه منصتا بتطلع‬
‫شديد لسامع التفاصيل‪.‬‬
‫‪- -‬كان جعفر بن حييى بن خالد الربمكي رضيع الرشيد؛ إذ ولدا يف‬
‫يوم واحد ويف بيت واحد‪ ،‬وكان آل برمك من صنائع اخلالفة‬
‫ومن أعمدهتا‪ ،‬ومنذ توىل الرشيد اخلالفة أصبحوا يديرون‬
‫شؤون الدولة ال يغيب عنهم منها يشء‪.‬‬
‫فقاطعه األمري قائال‪:‬‬
‫سمعت أن الرشيد كان يطلب بعض املال فال جيده إال عن‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬
‫طريق الربامكة‪.‬‬
‫واصل هبلول رسد تفاصيل القصة التي ظلت حديث الناس‬
‫أعواما‪ ،‬وكان إذا حدث هبا ختيل املشهد كام هو ليلة الواقعة‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫كان آل برمك يف قصورهم ببغداد‪ ،‬يع ّينون حكام الواليات‬
‫ويديرون شؤون البالد مدلني بعالقتهم بالرشيد‪.‬‬
‫وكان الرشيد جالسا وسط قرصه ببغداد ينكت بقضيب يف‬
‫األرض‪ ،‬ال يزيد عىل أن يردد‪:‬‬
‫لذي احللم قبل اليوم ما تُقرع العصا‬
‫ُ‬
‫اإلنس�ان إال لـيـعلما!‬ ‫وم�ا ُع ّل�م‬
‫ثم وقف من مكانه ونادى غالمه مرسورا‪ ،‬فلباه راكضا‪.‬‬
‫‪- -‬اذهب إىل قرص جعفر وائتني برأسه!‬
‫جزم مرسور بأنه مل يفهم ما قال الرشيد‪ .‬فقال بتلعثم‪:‬‬
‫‪- -‬ماذا يا أمري املؤمنني؟!‬
‫‪- -‬قلت‪ :‬ائتني حاال برأس جعفر بن حييى بن خالد بن برمك!‬
‫ورمى العصا التي كانت بيده عىل األرض‪.‬‬
‫جتمد اجلندي يف مكانه‪ ،‬وعجز عن ختيل نفسه وهو يرضب رأس‬
‫جعفر بن حييى‪.‬‬
‫مل يتحرك‪.‬‬
‫دار الرشيد هبدوء ورفع برصه يف وجه مرسور قائال‪:‬‬
‫ناديت من يقطع رأسك أوال‪ ،‬ورأسه ثانيا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬إن مل تأتني به‬
‫استدار اجلندي‪ ،‬كاملخمور ومشى فرتدد صدى وقع حذاءيه‬
‫العسكريني يف الردهة الواسعة التي تتسلل إليها رياح باردة آتية من‬
‫جهة دجلة‪.‬‬
‫كان جعفر بن حييى جالسا يف قرصه وبني يديه مبخر ٌة وعن يساره‬

‫‪237‬‬
‫جارية تغني‪:‬‬
‫فت�ى س�يأيت‬ ‫ُّ‬
‫ف�كل ً‬ ‫فلا تب ُع�دْ‬
‫علي�ه املوت يط�رق أو يغادي!‬
‫تقع اللون ومل يتكلم‪.‬‬
‫وقف اجلندي ممُ ْ َ‬
‫رفع جعفر وجهه إليه‪ ،‬وقد خطر بباله أن أمرا خطريا حدث يف‬
‫اخلالفة‪:‬‬
‫‪- -‬ما ذا عندك يا مرسور؟‬
‫‪- -‬يا أبا الفضل!‪ ....‬لقد‪....‬‬
‫كان جعفر مستلقيا عىل وسادة ضخمة‪ ،‬فوقف وتقدم قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما األمر؟‬
‫‪- -‬لقد أمرين أمري املؤمنني أن آتيه برأسك!‬
‫تكلف جعفر ضحكة وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لعله يامزحك يا مرسور! عدْ إليه وقل له إنك فعلتها‪..‬‬
‫‪- -‬إنه ال يمزح يا أبا الفضل‪ ،‬فاكتب وصيتك إن كانت لك وصية‪.‬‬
‫وقف جعفر مصدوما مشدوها معلقا بني حياة رغدة ملذوذة‬
‫فكهة‪ ،‬وموت كالح ٍ‬
‫فاغر فاه سيفرتسه‪ ،‬ردد برصه يف القرص املنيف‪،‬‬
‫واجلواري احلسان‪ ،‬ثم ترامى إىل سمعه رصاخ لعب أطفاله من وراء‬
‫الستائر يف إحدى الغرف‪.‬‬
‫تذكر تغري سلوك الرشيد معه خالل األيام املاضية‪ ،‬وكيف ّقرعه إذ‬
‫دخل عليه فجأة دون استئذان كعادته‪:‬‬
‫‪- -‬أ ُي ُ‬
‫دخل علينا يف بيوتنا دون استئذان؟‬

‫‪238‬‬
‫وكيف اعتذر له مذكرا إياه بأنه هو الذي أذن له يف ذلك‪.‬‬
‫رفع برصه إىل مرسور متذكرا ساعات األنس والصفاء مع الرشيد‬
‫عىل شواطئ دجلة‪ ،‬وكيف كان مرسور خادما طيعا له‪.‬‬
‫أعاد النظر‪ ،‬فرأى دموع مرسور تتحدر‪ ،‬فقال له بصوت ُمتهدِّ ج‪:‬‬
‫‪- -‬لعل أمري املؤمنني يامزحنا ‪....‬‬
‫‪- -‬لقد كان مغضبا وهددين بالقتل إن مل آت‪ ...‬ب‪..‬‬
‫قفز جعفر‪ ،‬وقبل َ‬
‫رجل مرسور متوسال‪:‬‬
‫‪- -‬أتوسل إليك أن ترجع إليه‪ ،‬فلعله يمزح‪...‬‬
‫انتزع اخلادم قدمه من يدي الوزير‪ ،‬وألقى نظرة عىل اجلارية التي‬
‫كانت تغني‪ ،‬فرآها تركض خائفة لتختفي يف إحدى الغرف املجاورة‪.‬‬
‫مشى وسط ردهة واسعة بني جدران مزينة بالستائر املزركشة‪،‬‬
‫وأرضية مفروشة بالسجاد األمحر‪ ،‬فيام كانت رائحة البخور والعطور‬
‫واخلوف متأل املكان‪.‬‬
‫كان الرشيد واقفا حيث هو‪ ،‬والقضيب ال يفارق يده‪.‬‬
‫سمع وقع أقدام مرسور قادما‪ ....‬ثم رآه‪ .‬مشى من مكانه قائال‬
‫هبدوء‪:‬‬
‫‪- -‬أين رأسه؟‬
‫‪- -‬لقد طلب‪....‬‬
‫ثم وقع القضيب عىل رأس مرسور‪ ،‬وتردد صدى صوت الرشيد‪:‬‬
‫‪- -‬أقسم بقرابتي من املهدي‪ ،‬إن مل تأت به ألقطعن رأسك بيدي!‬
‫كان جعفر ساجدا يصيل‪ ،‬عندما عاد مرسور‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫سلم من صالته‪ ،‬وقال بصوت قادم من عامل األموات‪:‬‬
‫‪- -‬ما ذا قال؟‬
‫‪- -‬هو املوت يا أبا الفضل‪.‬‬
‫قام من فوق مصاله ومشى خطوات‪ ،‬وقال بصوت هادئ‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أوصيت يا مرسور‪ ،‬وهذا رأيس‪...‬‬
‫أخرج جعفر منديال وشده عىل عينيه ومدّ رقبته‪ ،‬كان ذهنه ضاجا‬
‫بآالف الصور واألخيلة واألسئلة واألماين واملخاوف‪.‬‬
‫ثم سمع صوت السيف خيرج من غمده‪ ...‬وتردد صوت وقعه يف‬
‫املكان‪.‬‬
‫وسمع الرشيد وقع أقدام مرسور قادما‪ ،‬ثم ملح رأس صديقه‬
‫ورضيعه جعفر‪ ،‬عض عىل شفتيه حماوال كبح دموع تتدافع للنزول‪،‬‬
‫ثم خطر له أن اخلادم مرسور قد ينقل ذلك للناس‪ .‬فعض عىل شفتيه‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬صدق األعرايب‪:‬‬
‫عليكم‬
‫ْ‬ ‫ُلك�م‬
‫ونبك�ي حين نقت ْ‬
‫ونـقـتـلك�م‪ ،‬كأن�ا ال نب�ايل!‬
‫ْ‬
‫رفع وجهه يف مرسور الذي كان يبكي بكاء مرا‪:‬‬
‫‪- -‬إن امللك عقيم ال رحم له يا مرسور! خذ ذلك الكتاب‪ ،‬ووجه إىل‬
‫األمصار بمصادرة واستصفاء أموال كل آل برمك‪ .‬لقد أرسلت‬
‫ابني برمك‪.‬‬
‫من قبض عىل حييى وخالد ْ‬
‫أهنى هبلول حديثه كعادته وهو ينظر إىل أمري البرصة قائال‪:‬‬

‫‪240‬‬
‫‪- -‬وهلل األمر من قبل ومن بعد‪.‬‬
‫فقال اجلاحظ‪ ،‬وذهنه مسكون بآالف األسئلة‪:‬‬
‫‪- -‬هذا هو ما تقتضيه جتارب األمم‪ ،‬فامللك شجر ٌة ال تنبت إال‬
‫بالدم‪.‬‬
‫بعد وقت‪ ،‬أشار األمري جللسائه باالنرصاف‪ ،‬وللجاحظ بالبقاء‪.‬‬
‫ثم جاء غالم حيمل رصة مملوءة دنانري ووضعها بني يدي اجلاحظ‪.‬‬
‫وجاء صوت األمري‪:‬‬
‫‪- -‬هذه صلتنا لك‪ ،‬مخسة آالف دينار ومعها غالم خيدمك‪.‬‬
‫مل يكد اجلاحظ يصدق ما يسمع‪ ،‬غري أن اخلَدَ ر الذي تركته قصة‬
‫الربامكة يف ركبتيه وقف حاجزا دون رسوره باملبلغ‪ ،‬فذهنه مملوء بصورة‬
‫املال والسلطان الذي كان يسبح فيه الربامكة‪ ،‬ثم تراءت له صورة بشار‬
‫بن برد حتت وقع السياط‪.‬‬
‫تزامحت يف ذهنه تلك األفكار وهو يرى نفسه جالسا يف بيت أمري‬
‫البرصة‪.‬‬
‫وقف من مكانه‪ ،‬وقلبه موزع بني رسور طا ٍغ هبذا املال الوفري الذي‬
‫ما كان حيلم به‪ ،‬وتلك الصور واألخيلة التي تطارده خوفا من االقرتاب‬
‫من السلطان حتى ال ينقلب عليه يوما‪.‬‬
‫بعد ساعة‪ ،‬كان اجلندي يوصل اجلاحظ وخادمه إىل منزله بحي‬
‫العالفني قرب محري وبغال محيد‪ .‬لكن رصة الدنانري التي ينوء هبا جيبه‬
‫تيش بأنه مل يعد ينتمي هلذا احلي البائس‪.‬‬
‫***‬

‫‪241‬‬
‫كان درب الوراقني بسوق البرصة غاصا كالعادة يف مثل هذه‬
‫الساعة من كل مجعة‪ ،‬إذ يخُ صص جتار الكتب واألوراق واجللود‬
‫القادمون من املدن األخرى عرص اجلمعة لعرض بضائعهم اجلديدة‪،‬‬
‫دخل اجلاحظ من جهة ساحة احلامم‪ ،‬فأحس باختالط روائح متنافرة‬
‫يف الدرب الضيق‪ .‬فرائحة اجللود املصبوغة‪ ،‬والكاغد السمرقندي‪،‬‬
‫وعرق األجساد املختلط بالعطور واألصباغ‪ ،‬شكلت مزجيا غريبا يف‬
‫أنفه رغم إلفه الطويل للمكان‪ .‬ومع نكارة مزيج الروائح يف أنفه‪ ،‬فقد‬
‫وعامئم الوراقني الغادين‬
‫َ‬ ‫شعر براحة غامرة وهو يرى أضاميم الكتب‪،‬‬
‫الرئحني‪.‬‬
‫سحر هذه الدكاكني الغاصة بالناس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فال يوجد مكان يسحره‬
‫وتلك الكتب املتناثرة‪ ،‬وهذا اجلو املكتوم قليال بروائح اجللد واحلرب‬
‫والكاغد‪.‬‬
‫فكر يف أن هذه أول مرة يدخل فيها السوق وجيبه مملو ٌء دنانري‪ ،‬ثم‬
‫تذكر أن هذه اجلبة الزرقاء والطيلسان والقميص الفاخر‪ ،‬مل تُر عليه قبل‬
‫اليوم يف درب الوراقني‪.‬‬
‫الحظ االنبساط والنشاط الذي خلفته هذه الفكرة يف رأسه‪ ،‬وهو‬
‫ينزوي يف زاوية ليفسح الطريق لرجل محُ دَ و َدب الظهر‪ ،‬أنّبته نفسه كيف‬
‫يسعد كل هذه السعادة وتزداد ثقته بنفسه بسبب قبضة من الدنانري‪،‬‬
‫فلم‬ ‫ِ ٍ‬
‫وخرق من القامش‪ .‬فإذا كانت قبضة الدنانري تعمل كل هذا العمل َ‬
‫مل ْ ينشغل بجمع املال ويرتك كتبه من أول يوم؟‬
‫ظل يسري وسط زحام الناس‪ ،‬وترتامى إىل سمعه املرهف عبارات‬
‫من الفارسية والرسيانية وكالم النبط‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫كتبي من‬
‫ما إن اقرتب من دكان سهل بن هارون حتى تراءى له ٌ‬
‫سمرقند وبني يديه حاوية كتب كبرية‪ .‬كان التاجر واقفا يف طرف‬
‫الدرب مما ييل باب دكان سهل‪ ،‬ويتجمع عليه عرشات من النظارة‬
‫يفتشون بضاعته‪.‬‬
‫وكان سهل واقفا عىل باب دكانه منزعجا‪ .‬فقد سبق أن حذر‬
‫التاجر من فتح حاويته أمام دكانه ألن ذلك حيجب مدخل دكانه عن‬
‫املشرتين‪ .‬غري أن التاجر ذهب إىل أهل احلسبة املسؤولني عن تنظيم‬
‫السوق ِ‬
‫فأذنوا له‪.‬‬
‫ظل سهل يرتدد أمام دكانه ذهابا وإيابا ال يكاد يستقر من شدة‬
‫الغضب‪.‬‬
‫اندس اجلاحظ وسط املتجمعني عىل التاجر السمرقندي لتصفح‬
‫الكتب‪ ،‬ناظرا بطرف خفي إىل سهل الذي مل يالحظ وجوده‪ ،‬ثم مشى‬
‫تاركا حاوية التاجر‪ ،‬وذهب إىل جهة الدرب األخرى ثم جاء إىل دكان‬
‫سهل متظاهرا بأنه قدم حاال‪.‬‬
‫َ‬
‫الدكان والتفت إىل سهل قائال‪:‬‬ ‫دخل‬
‫‪- -‬ما بال هذا التاجر يضيق عليك رزقك؟‬
‫فتقدم إليه سهل ووجهه يكاد ينفطر غضبا‪:‬‬
‫ٍ‬
‫مشرت طيلة هذا اليوم املنحوس‪.‬‬ ‫‪- -‬واهلل ما أدري! مل يدخل عيل‬
‫‪- -‬ياله من سمرقندي هلع! لكأن القائل عناه حني قال‪:‬‬
‫كأن بلاد اهلل وه�ي فس�يح ٌة‬
‫ِ‬
‫حابل!‬ ‫َّ�و ِع ِكف ُة‬ ‫ِ‬
‫عىل التاجر اهلل ْ‬

‫‪243‬‬
‫تآكلت أطراف األرض وانحرست البسيطة حتت قدميه حتى‬
‫ْ‬ ‫هل‬
‫مل يبق منها إال عتبة دكانك؟‬
‫رمى اجلاحظ العبارة‪ ،‬ثم استنفر كل طاقاته تلهفا ملا قد يأيت به‬
‫سهل‪ .‬وكان سهل يعلم أن اجلاحظ يسخر منه‪ ،‬لكنه كان منزعجا‬
‫مغضبا لدرجة أنه مل يضحك من حتريف اجلاحظ لبيت الشعر‪ .‬فأخرج‬
‫رأسه من باب دكانه والتفت إىل التاجر وقال بصوت منكر‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل‪ ،‬واهلل!‬
‫ِ‬
‫«واللـــــه» مط ًا شديدا‪ ،‬واضعا سبابته عىل أرنبة أنفه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مط كلمة‬
‫ثم سكت قليال‪ ،‬وخرج فجأة من باب الدكان وصاح‪:‬‬
‫ِ‬
‫غرائب‬ ‫رضب‬
‫َ‬ ‫‪- -‬واهلل! واهلل! لئن مل ترتك عتبة دكاين ألرضبنك‬
‫اإلبل‪ْ ،‬أو رضب هبرية جلاريتها يف سوق البرصة‪ ،‬أو رضب‬
‫ِ‬
‫البليد لتلميذه األبله‪ ،‬أو رضب احلجاج ألهل العراق!‬ ‫املعلم‬
‫ارتبك التاجر‪ ،‬وانحنى عىل بضاعته جيمعها وهو يقول بنربة‬
‫مشحونة خوفا واستسالما‪:‬‬
‫‪- -‬خريا يا أخي‪ .‬سأنرصف‪.‬‬
‫اهنمك التاجر يف لف أطراف حاويته‪ ،‬فيام كان اجلاحظ يضع طرف‬
‫طيلسانه األنيق عىل فيه خمفيا ضحكه‪.‬‬
‫عاد سهل إىل دكانه‪ ،‬فتلقاه اجلاحظ قائال‪:‬‬
‫‪- -‬قاتل اهلل أهل سمرقند إهنم قوم سوء!‬
‫جلسا عىل حصري أنيق مصنوع من جريد النخل‪ ،‬عىل أطرافه‬
‫طنافس أنيقة‪ ،‬فيام كانت أطامر الكتب املرتبة بإتقان حتيط هبام‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫َ‬
‫اجلاحظ يف حديثه‪ ،‬بل جلس‬ ‫كان سهل ال يزال مغضبا فلم يجُ ِ‬
‫ار‬
‫فارختت عاممتُه املهرتئة‪ ،‬فبدا شعر رأسه ملبدا متسخا كأنه مل‬
‫ْ‬ ‫إىل جانبه‪،‬‬
‫يغسل منذ شهر‪.‬‬
‫التفت سهل إىل صديقه وعيناه العميقتان تدوران متأملتني مالبسه‬
‫الفاخرة دون أن يتكلم‪.‬‬
‫عيني سهل بالنظر إىل مالبسه الفاخرة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الحظ اجلاحظ انشغال‬
‫حممرتني‪ ،‬نظر‬
‫ّ‬ ‫كانتا تدوران برسعة ومها نصف دامعتني ونصف‬
‫اجلاحظ إليه‪ ،‬فلام التقت عيوهنام أغىض سهل متشاغال بمناداة أحد‬
‫عامله‪ ،‬كان اجلاحظ يعرف املشاعر املختلطة يف نفس صديقه‪.‬‬
‫فهو نصف سعيد بام سمع قبل أيام من منح أمري البرصة ماال وافرا‬
‫له‪ ،‬لكنه يف ذات الوقت مستشيط الفؤاد حنقا ألن الوايل كان ينبغي أن‬
‫يعطيه هو أيضا‪.‬‬
‫فام جيتاحه ليس حسدا رصفا‪ ،‬وليس غبطة أيضا‪ .‬فهي مشاعر‬
‫خمتلطة فيها من الغبطة ومن احلسد ومن الغرية‪ ،‬ومن الرضا ومن‬
‫الغضب ومن اليأس‪.‬‬
‫جاء أحد الغلامن بحساء ساخن ومتر وزبيب‪ ،‬ثم بدآ يف احلديث عن‬
‫الكتب‪ ،‬غري أن كال منهام كان يعلم أن ما يتحدثان فيه ما هو إال مقدمات‬
‫ملا يريدان احلديث عنه‪ ،‬لذلك كان كل منهام يرمي الكالم عىل عواهنه‬
‫دون اكرتاث‪ ،‬فال يالحظ جليسه‪ ،‬ولو الحظ ملا اهتم ألن النفوس‬
‫مشغولة بالتفكري يف حديث آخر يو ّد كل منهام أن يبدأه صديقه قبله‪.‬‬
‫جعل اجلاحظ يرمي يف فيه مترة‪ ،‬ثم ُيتبعها بجرعة حساء وهو‬
‫يتحدث هبدوء‪ .‬فجأة‪ ،‬دخل عبود إىل الدكان‪ .‬كان عبود يلبس جبة‬

‫‪245‬‬
‫حريرية ملونة ويميش وراءه غالم‪ ،‬التفت عبود إىل اجلاحظ قائال‬
‫بصوت ساخر‪:‬‬
‫‪- -‬تب ْغد ْد َت يا أبا عثامن؟!‬
‫رمى سهل كتابا كان بيده ملتفتا بكل حواسه‪:‬‬
‫‪- -‬أال ترى مالبسه التي يتيه فيها كأنه طاووس من طواويس‬
‫خراسان؟‬
‫انفرجت أسارير اجلاحظ مالحظ ًا أن وجود عبود جعل حديثه مع‬
‫صديقه أسهل‪ ،‬مع أن العالقة بينه وبني سهل أمتن من عالقته بعبود‪،‬‬
‫لكن األنفس مهام تقاربت تظل هبا مساحات شائكة ال يدخلها الصديق‬
‫دون استئذان أو وسيط‪.‬‬
‫ابتسم اجلاحظ وهو يقول‪:‬‬
‫تركت حي العالّفني‪ ،‬وما‬
‫ُ‬ ‫زلت يف البرصة‪ ،‬وإن‬
‫‪- -‬مل أتبغد ْد‪ ،‬بل ما ُ‬
‫زلت أعرف مكان حمُ يد املكاري‪.‬‬
‫أزاح عبود عاممته وهو هيم باجللوس إىل جانب اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬دعك من هذا يا أبا عثامن‪ ،‬لكن قل يل كم كانت اجلائزة‪ .‬فقد‬
‫سمعت أهنا عرشة آالف دينار‪ ،‬وسمعت ثالثة آالف‪.‬‬
‫‪- -‬ا ُملق ّلل أصدق يا عبود‪.‬‬
‫وقف سهل وتناول كتابا من فوق الرف وصكه بيده لينفض عنه‬
‫الغبار وقال‪:‬‬
‫‪- -‬جزى اهلل عنك هذا الكتاب خريا يا أبا عثامن! ثالثة آالف‬
‫لكتابتك هذه الرسالة التي أستطيع كتابتها بني الظهر والعرص؟‬

‫‪246‬‬
‫رضب عبود فخذ اجلاحظ‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬حدثنا عن قصة جمالستك لألمري عندما دعاك؟‬
‫قبل أن جييب اجلاحظ‪ ،‬التفت خلسة لتأمل وجه صديقه سهل‪،‬‬
‫فرآه ُمستَن َفر ًا لسامع اخلرب يكاد خيرج من جلده‪ ،‬وأهداب عينيه الكثيفة‬
‫ترتاقص‪ ،‬فأراد أن يعبث به قليال فقال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف أصف للدمهاء جمالسة األمراء؟‬
‫لكن سهال كان يعرف صديقه‪ ،‬فقال له بنصف ابتسامة‪:‬‬
‫‪- -‬أمل تقل إنك مل تتبغدد؟‬
‫‪- -‬نعم يا ابن هارون‪ .‬لكن كيف يمكن وصف اخلمر للناسك‪ِ ،‬‬
‫ولذة‬ ‫َ‬
‫النرص للجبان القاعد؟ وكيف يمكنني وصف لذة املضاجعة‬
‫للحصور؟!‬
‫ثم ابتلع اجلاحظ لسانه خجال‪ ،‬فقد نيس أنه يتحدث إىل عبود‪،‬‬
‫الحظ سهل ذلك فقطع احلديث قائال‪:‬‬
‫وهات َ‬
‫املقال‪ ،‬يا أبا عثامن!‬ ‫ِ‬ ‫‪- -‬ال تطل الدَّ الل‬
‫تعود عىل حتمل مثيالهتا منذ مراهقته‪،‬‬
‫أحس عبود بطعنة يف قلبه ّ‬
‫فاعتدل يف جلسته ومال عىل اجلاحظ قائال هبمس‪ ،‬وصوت أسنانه‬
‫‪-‬وهو يقضم مترة‪ -‬خيفي بعض ما يقوله‪:‬‬
‫وجدت لك اجلارية التي تنسيك أيام احلرمان بني حي‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬
‫العالفني ودرب الطويل‪.‬‬
‫شم اجلاحظ رائحة مخر قوية من أنفاس صديقه‪ .‬فأجابه مشيحا‬
‫عنه بوجهه‪ ،‬متظاهرا بأخذ مترة من الصحن‪:‬‬

‫‪247‬‬
‫‪- -‬هذا أمر طيب‪.‬‬
‫لكن عبودا اقرتب منه أكثر‪ ،‬فازدادت حدة رائحة الصهباء وهو‬
‫هيمس‪:‬‬
‫‪- -‬لكنك إذا كنت تريدها ستعطيني كل ما أعطاك أمري البرصة‪.‬‬
‫كان سهل ينشغل ما بني الفينة وأختها بالنقاش مع أحد عامله‪.‬‬
‫فالتفت إليهام وقال‪:‬‬
‫فيم تتهامسان؟‬
‫‪َ --‬‬
‫‪- -‬عرضت عىل أيب عثامن رشاء جارية يل كالقمر‪.‬‬
‫اعتدل سهل يف جلسته ‪-‬وهو يطوي طرف احلصري ليزيل حجارة‬
‫صغرية جتمعت حتته‪ -‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أبو عثامن لن يشرتي جارية‪ ،‬بل سينتقي من بيوتات البرصة من‬
‫حتلو له‪.‬‬
‫فقال أبو عثامن برسعة بنربة غاضبة‪:‬‬
‫حرة‪.‬‬
‫‪- -‬ال واهلل‪ .‬أنا لن أتزوج ّ‬
‫‪- -‬ومل َ ؟‬
‫‪- -‬أنا رجل أعيش كام تعلمون عىل صناعة الكالم‪ ،‬فإذا تزوجت‬
‫حر ًة قيدتني بأخواهلا وأعاممها‪ ،‬ونكدت خاطري بالذهاب إىل‬
‫األعراس والوالئم‪ ،‬أما اجلارية فخادمتك متى أردت خادمة‪،‬‬
‫ومتعتك متى أردت متعة‪ .‬وإذا نكدت عليك عيشك رميتها بني‬
‫يدي أول نخاس هيودي تراه يف طريقك‪.‬‬
‫ضحك سهل فاهتز جسمه النحيل كامال‪ ،‬وهو يشد عليه طرف‬

‫‪248‬‬
‫جبته املتسخة وقال‪:‬‬
‫‪- -‬واحلرة تطلب من املال بحجم ما تزعم أهنا تك ّن من احلب‪ .‬واملال‬
‫‪-‬كام تعلمون‪ -‬معدو ٌد حارض‪ ،‬واحلب َدي ٌن ونسيئة‪.‬‬
‫التفت عبود باحثا بعينيه الناعستني عن غالمه فرآه أمام الباب‬
‫واقفا يتحدث مع أحد الغلامن‪ ،‬ثم ملح الشمس تدنو للغروب‪ ،‬وحركة‬
‫الناس تتكاثف يف الدرب خارجني من السوق‪.‬‬
‫التفت إىل اجلاحظ وقال هبمس‪:‬‬
‫‪- -‬ما رأيك أن تأيت معي لرتى اجلارية‪ ،‬وتسمع وتطرب‪.‬‬
‫بعد قليل‪ ،‬كان الرجالن يشقان الدرب الضيق وسط أمواج الناس‬
‫املرسعني العائدين إىل بيوهتم‪ ،‬بدأ الظالم يغزو جنبات السوق‪ ،‬وهبت‬
‫رياح شاملية باردة‪ ،‬ظهرت حدهتا يف تلفف بعض الراجلني يف مالبسهم‬
‫وتقنع بعضهم بعامئمهم‪ .‬وسط الرائحني‪ ،‬كانت عاممة اجلاحظ تعلو‬
‫وهتبط وهو راكب عىل ٍ‬
‫بغل أشهب‪ ،‬فيام يمسك غالم عبود بزمام فرس‬
‫ِ‬
‫وتصاعد الغبار‪ ،‬وهنيق احلمري ورغاء‬ ‫سيده ماشيا وسط الضوضاء‬
‫الشاء‪.‬‬
‫***‬

‫‪249‬‬
‫الدوحة‪ 1439 ،‬هـ‬

‫كان القروي جالسا يكتب يف طرف غرفة األخبار‪ّ .‬‬


‫رن هاتفه‪،‬‬
‫فرأى شاشته تقول‪« :‬مطوعة بريدة تتصل»‪.‬‬
‫قفز ممسكا اهلاتف‪:‬‬
‫‪- -‬علوو‬
‫‪- -‬تعرف كوستا الكورنيش؟‬
‫‪- -‬طبعا‪.‬‬
‫‪- -‬نلتقي هناك بعد ربع ساعة!‬
‫طار من مكانه‪ ،‬ومل يكتمل ربع الساعة حتى كان هناك‪ .‬بدت‬
‫حصة شاحب ًة ومنهكة‪ .‬كانت ترتدي عباءة حتتها قميص زهري اللون‪،‬‬
‫فيام كانت عباءهتا تنحرس بني الفينة واألخرى عن بنطال جينز أزرق‪.‬‬
‫‪- -‬خريا؟ تبدين مرهقة؟ ما األمر؟ ما الذي؟‬
‫أطراف أصابعها وأشارت هبام قائلة‪:‬‬
‫َ‬ ‫مجعت‬
‫ْ‬
‫‪- -‬حبة حبة!‬
‫رمت نظرة عىل مياه اخلليج اهلادئة‪ ،‬ثم‬
‫ْ‬ ‫جلسا يف ركن املقهى‪،‬‬
‫انشغلت بالنظر إىل عدة رجال يركضون ووراءهم أطفال عىل دراجاهتم‬
‫اهلوائية‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫بدت هادئة البال بعيدة من التوتر‪ ،‬مع أهنا املرة األوىل التي جيلسان‬
‫فيها معا يف مكان عام‪.‬‬
‫مرتع باألسئلة‬
‫ٌ‬ ‫كان القروي حياول إجلام فمه عن السؤال‪ ،‬فذهنه‬
‫احلائرة‪ ،‬ثم إن هدوءها استفزه أيضا‪.‬‬
‫هل هو هدوء اليأس أم هدوء الظفر؟ هل هو هدوء من شعر‬
‫بالراحة النقطاع األمل‪ ،‬أم هدوء الظفر ونيل املبتغى؟‬
‫مل يستطع الصرب‪ ،‬وال انتظار حديثها فقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما اخلرب؟ أين كنت؟ إن شاء اهلل صحتك طيبة!‬
‫أدخلت يدها يف حقيبتها الصغرية‪ ،‬وأخرجت هاتف آيفون جديدا‬
‫ثم ضبطته عىل نمط الطريان‪ ،‬ووضعته حتت فخذها‪ .‬خطر له أن‬
‫يامزحها قائال‪:‬‬
‫ِ‬
‫امتلكت آي فون؟ هل قررت أخريا العبور إىل عامل‬ ‫‪- -‬اهلل أكرب!‬
‫احلضارة!‬
‫لكن اللحظة كانت كثيفة عن ذلك املزاح‪ ،‬فابتلع كلامته‪ ،‬وسمعها‬
‫تقول‪:‬‬
‫‪- -‬القصة طويلة‪.‬‬
‫‪- -‬أيوه‪.‬‬
‫‪- -‬املهم‪ ،‬من اآلخر‪.‬‬
‫‪- -‬أيوه‪.‬‬
‫وكلمت والدي فغضب‪ .‬كان نصف غضبه عائدا‬ ‫ْ‬ ‫‪- -‬كلمت أمي‬
‫إىل أننا تعارفنا دون أن يعلم‪ ،‬والنصف اآلخر ألنه ال يريدين أن‬

‫‪252‬‬
‫أتزوج إال من الناس الذين يعرفهم‪.‬‬
‫‪- -‬طيب‬
‫‪- -‬املهم أين تعبت كثريا‪ ،‬ودخلت املستشفى‪ ،‬قلت هلم إين لن أتزوج‬
‫إال من أرضاه‪ ،‬أو لن أتزوج‪ .‬كانت قصة طويلة عريضة‪ ،‬ثم‬
‫جلست يف املستشفى ثالثة أيام‪.‬‬
‫ُ‬
‫شعر القروي بنياط قلبه تتقطع‪ ،‬رمحها وهي تتحدث‪ ،‬نظر‬
‫إىل وجهها الطفويل وعينيها الذاويتني العميقتني وختيلها طرحية يف‬
‫املستشفى واملمرضات من حوهلا‪ ....‬كل هذا بسببه هو‪ .‬شعر بأمل‬
‫عانت بسببه‪ ،‬لكنه طرب لفكرة‬
‫ْ‬ ‫مشوب بصبابة حلوة‪ ،‬آمله أن تكون‬
‫دخول فتاة املستشفى بسبب امليل إليه‪ .‬ثم خطر له كم هو حقري أن‬
‫جيتمع ذانك الشعوران يف قلبه‪ ،‬كيف يزهو بجراح اآلخرين‪ ،‬وكيف‬
‫يطرب لشقاء حمبوبته‪.‬‬
‫كانت قد توقفت عن الكالم منذ ثوان لكنه مل ينتبه‪ ،‬فقد غرق‬
‫يف أفكاره املتناقضة‪ ،‬رمى نظرة عىل مياه اخلليج اهلادئة وعىل فندق‬
‫الشرياتون‪ ،‬ثم قال بتلعثم‪:‬‬
‫‪- -‬وكيف انتهت القصة؟‬
‫مل جتبه‪ .‬فقد شعرت أنه متطلع للنتائج أكثر من تطلعه للوقوف‬
‫عىل معاناهتا خالل األيام املاضية‪ ،‬التفت إىل الطاولة التي بجانبها فرأى‬
‫سيدة ضخمة اجلثة جالسة مع رجل يكاد اهلزال يفنيه‪ ،‬وكانت املرأة‬
‫الضخمة ال تكف عن احلديث والضحك بصوت عال‪ ،‬أما الرجل فال‬
‫يرفع برصه عن هاتفه‪ .‬أشاحت بوجهها وهي تتساءل هل ستصبح يوما‬
‫من األيام يف هذه احلالة‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫‪253‬‬
‫وطلب والدي مهل ًة للتفكري‬
‫َ‬ ‫‪- -‬املهم‪ ،‬أين صممت عىل رأيي‪.‬‬
‫واستشارة أخي الكبري‪ ،‬املوجود بربيطانيا اآلن‪.‬‬
‫‪- -‬خريا إن شاء اهلل‪.‬‬
‫ردد برصه يف أطراف املقهى بعد إفاقته من الصدمة قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أو متأكد ٌة ِ‬
‫أنت أن املكان هنا مناسب؟‬ ‫َ‬
‫حتركت يف كرسيها وقالت بتنهد‪:‬‬
‫والسري عىل طريقتهم ومع‬
‫َ‬ ‫حاولت مداراهتم‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬ما هيمني يشء‪.‬‬
‫ذلك مل يقدروا ذلك‪ .‬اآلن ال أبايل‪.‬‬
‫ثم خطر له السؤال‪ :‬ماذا لو دخل أبوها أو أخوها ووجداه معها؟‬
‫كيف سيترصفان؟ ثم ختيل املقاعد تتطاير يف املقهى والرصاخ يرتفع‪،‬‬
‫واملعركة حامية بينه وبني والدها أو أخيها‪.‬‬
‫حاول ختفيف جو احلزن والتوتر املخيم‪:‬‬
‫ِ‬
‫عرفت أن خمابرات العامل ال تطاردك!‬ ‫‪- -‬مربوك اهلاتف الذكي‪ ،‬أخريا‬
‫‪- -‬ال ال‪ ،‬مل أضع عليه أي تطبيق من هذه التطبيقات‪.‬‬
‫‪- -‬اشرتيته للتربك مثال؟‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬هناك برامج آمنة من الـ «‪ »open source‬سأنزهلا‪ .‬هي برامج‬
‫مثل الربامج التي عندكم لكنها ليست تابعة للرشكات الكربى أو‬
‫احلكومات‪ ،‬فهي تطبيقات يصممها الناشطون املؤمنون باحلرية‬
‫واخلصوصية الفردية‪.‬‬
‫املريض من التجسس واملراقبة‪:‬‬
‫كان يستمع إليها مفكرا يف خوفها َ‬
‫‪- -‬واهلل إنك ِقي َق ٌة خطرية!‬

‫‪254‬‬
‫‪- -‬ماذا تقصد؟‬
‫ِ‬
‫ونوار ُدها!‬ ‫‪- -‬قيقة من «‪ ،»geeks‬وهم ع ّباد التكنولوجيا‬
‫‪- -‬وأيش النوار ْد؟‬
‫‪- -‬النوارد مجع نِ ْر ٍد «‪ »Nurd‬وهو الغارق يف بحور الكومبيوتر‪،‬‬
‫أو الكتب‪ .‬هؤالء الشبان والفتيات اجلالسون يف زوايا العامل‬
‫بنظاراهتم وبحوثهم يف التقنية‪ ،‬وقد ولوا ظهورهم ملباهج الدنيا‪.‬‬
‫ضحكت رافعة اآلي فون قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬أنا مطوعة بريدة وقيقة أيضا؟‬
‫أزهر قلبه عندما رآها تضحك بعد أسبوع من احلزن والتوتر‬
‫وانتظار املجهول‪ .‬وكانت ضحكتها تثري يف نفسه العميقة شجونا وعوامل‬
‫ُ‬
‫اهلالل بدرا‪ ،‬وترجع الطيور‬ ‫ال ضفاف هلا‪ .‬فعندما تضحك يستدير‬
‫القطبي بعد شتاءات من لفح‬
‫نْ‬ ‫املهاجرة إىل أوطاهنا‪ ،‬وتُرشق الشمس عىل‬
‫فواحا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الكون عطرا ّ‬ ‫ويتضوع‬
‫ّ‬ ‫الزمهرير‪ ..‬وتتفتق ورود‪،‬‬
‫مالت عىل الطاولة ورشفت َح ْس َو ًة من قهوهتا وقالت‪:‬‬
‫ُعرب كل يشء‪ ....‬نوارد!‬
‫‪- -‬أنت ت ِّ‬
‫‪- -‬إن األشياء تزداد حالوة إذا ُعربت‪ .‬أليست كلمة «نوارد» أحىل‬
‫من «نريدس» اإلنكليزية؟‬
‫‪- -‬لكنك تُدخل اللغة يف كل يشء بمبالغة أحيانا‪.‬‬
‫وقبل أن جييبها خطر له خاطر لكنه مل يستطع الترصيح هلا به‪ ،‬وهو‬
‫أنه أيضا ال يتذوق مجال املرأة إال بحاسة اللغة‪ ،‬يذكر جيدا أيام مراهقته‬
‫أنه كان إذا رأى فتاة مجيلة ال يعرف كيف حيكم عىل مجاهلا إال إذا ختيلها‬

‫‪255‬‬
‫لغويا‪ ،‬ثم حياكمها إىل خمزونه اللغوي للجامل‪ ،‬ثم يستطيع بعد ذلك‬
‫احلكم‪.‬‬
‫وكم كان أصحابه يضحكون عندما يقول هلم واصفا فتاة‪ٌ :‬‬
‫جبال‬
‫نحيات ومنعرجات‪ ...‬وسيول ووديان‪ ...‬عنرب وعود‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ووهاد‪ُ ...‬م‬
‫أماس وردية ندية‪ ،‬وصقيع دافئ‪.‬‬
‫طرد خواطره وقال هلا‪:‬‬
‫‪- -‬قلت لك إن أهيل وافقوا‪..‬‬
‫أخرجت جهاز حاسوب من حقيبتها وفتحته‪ ،‬ثم قالت بسخرية‪:‬‬
‫‪- -‬أهلك وافقوا؟‬
‫‪- -‬نعم!‬
‫‪- -‬ما شاء اهلل‪.‬‬
‫‪- -‬ما ذا تقصدين؟‬
‫‪- -‬هل سمعت قصة زواج السائل من بنت امللك؟‬
‫‪- -‬ما هي؟‬
‫‪- -‬كان ابن أحد السائلني يقول ألصدقائه إنه سيتزوج بنت امللك‪،‬‬
‫فسألوه كيف‪ .‬فقال إن مخسني باملائة من األمر تم‪ .‬فوالدي وأمي‬
‫وافقا وأنا موافق‪ ،‬ومل يبق إال أن توافق بنت امللك وأبوها وأمها‪.‬‬
‫ثم ضحكت‪ ...‬لكن القروي مل يضحك‪.‬‬
‫شعر بانزعاج‪ ،‬فانقطعت ضحكتها وهي تالحظ أن املزحة قد‬
‫حممر‪ ،‬وإذا جبهته الغامء‬
‫تكون أكرب مما ينبغي‪ ،‬نظرت إليه فإذا وجهه ّ‬
‫تزداد ضيقا‪ ،‬وأرنبة أنفه تكتنز امحرارا‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫نظرت إليه‪ ،‬فتحول يف عينها إىل أعرايب يطلب ثأرا قديام‪ ،‬فانتابتها‬
‫موجة ندم عىل املزاح الثقيل قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل ما قصدي‪....‬‬
‫‪- -‬يعني أنا الشحات ابن الشحات؟‬
‫‪- -‬ال ال‪ ،‬مو قصدي‪ .‬حاشاكم‪ ،‬بس قصدي أن ال ُعقد والتخلف يف‬
‫جمتمعنا أكثر‪ .‬فأنتم أكثر علام وانفتاحا من جمتمعنا‪.‬‬
‫وساد صمت‪ ،‬وكان يعلم أهنا مل تكن تعي ما قالته‪ ،‬كام كانت تعرف‬
‫فرمقت‬
‫ْ‬ ‫أنه لن يصدق ذلك االستدراك البارد‪ ،‬أرادت تلطيف اجلو‪،‬‬
‫السيدة الضخمة لتتأكد من أهنا ما زالت تتحدث بصوت مرتفع حتى‬
‫ال تسمع كالمها‪ ،‬ثم قالت وهي تشري حلاسوهبا‪:‬‬
‫‪- -‬هل الحظت شيئا يف جهازي هذا؟‬
‫وفهم هو أهنا هتدف لتغيري موضوع احلديث الستعادة الدفء‪ .‬نظر‬
‫إىل اجلهاز فالحظ وجود الصق مثبت عىل مكان الكامريا يف اجلهاز‪.‬‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬ما هذا الالصق؟‬
‫‪- -‬هذا لتغطية العدسة حتى يمنع اجلهاز من التصوير‪ .‬إن األجهزة‬
‫كلها مزودة بعدسات‪ ،‬وكل رشكة تستطيع تصويرك حتى ولو كان‬
‫اجلهاز مطفأ‪ .‬لذا‪ ،‬أنا أضع الالصق عىل مكان الكامريا‪ .‬ستقول‬
‫إين جمنونة باخلوف من األجهزة؟ وأن يب وسواس ًا إلكرتونيا؟‬
‫أنت ضحية ختصصك‪ .‬إن التخصص دائام يطارد صاحبه‪.‬‬ ‫‪ِ --‬‬

‫‪- -‬وأنت ما شاء اهلل‪ ،‬لست ضحية ختصصك!‬


‫ابتسم‪ ،‬ونظر جهة املياه الزرقاء اهلادئة‪ ،‬فرتاءى له املتحف اإلسالمي‬

‫‪257‬‬
‫من بعيد سابحا عىل صفحة اخلليج‪ ،‬ذكرى من زمن انقىض‪ .‬فقال متصنعا‬
‫احلكمة‪:‬‬
‫‪- -‬كلنا ضحية للتخصص وللاميض‪ ...‬وألشياء كثرية‪.‬‬
‫ومل جتب‪ ،‬بل تشاغلت بتنظيف حافة حاسوهبا‪ .‬تذكر كيف يستدعي‬
‫اهتاممها فقال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد رأيت أمس بمكتبة جرير كتابا بعنوان «احلرب اإللكرتونية»‪.‬‬
‫بارتلت‪ .‬هل قرأته؟‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬بجد‪ ،‬ذاك كتاب ممتاز‪ ،‬مؤلفه جامي‬
‫‪- -‬تصفحته عىل عجل‪ ،‬لكني لست مقتنعا باملبالغة يف اخلوف من‬
‫اإلنرتنت واالخرتاق اإللكرتوين‪.‬‬
‫رفعت برصها عن حاسوهبا‪ ،‬وقالت بجدية‪:‬‬
‫‪- -‬شوف‪ ،‬إن اإلنرتنت يظهر اجلانب األسود من البرش‪ ،‬انظر مثال إىل‬
‫التعليقات باألسامء املستعارة يف يوتيوب‪ ،‬وستلحظ ُبعدَ أصحاهبا‬
‫من اللباقة‪ ،‬واستعدا َدهم الكامل للقذف والسب وكل املوبقات‪،‬‬
‫ألن النت حيررنا من األقنعة االجتامعية املزيفة التي نرتدي‪.‬‬
‫‪- -‬طيب‪.‬‬
‫‪- -‬ولذا‪ ،‬فإن املخرتقني الذين يتسللون إىل األجهزة آمنون من‬
‫املالحقة‪ ،‬ويمكنهم أن يقوموا بأي يشء‪.‬‬
‫خطر له أنه إذا واصل احلديث معها فسيتحول املوضوع إىل نقاش‬
‫فلسفي‪ ،‬لعلها ال تفهمه أو ال تستسيغه‪ .‬فسكت قليال‪ ،‬ثم غلبته شهوة‬
‫التفلسف‪:‬‬
‫‪- -‬أختلف مع هذه النظرة التي عندك‪ ،‬مع أهنا نظرية للمتنبي وهو‬

‫‪258‬‬
‫شاعر أحبه‪ .‬فاملتنبي يقول‪:‬‬
‫والظلم من شيم النفوس فإن جتدْ‬
‫ُ‬
‫�م!‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ذا عـف�ة فـلـعـل�ة ال يظل ُ‬
‫رفعت وجهها فيه لرتيه االهتامم‪ ،‬فواصل‪:‬‬
‫‪- -‬الفكرة التي عندك مبنية عىل سوء الظن بالبرش‪ .‬أما أنا فمؤمن بأن‬
‫األصل يف البرش هو اخلريية‪ .‬وإال ملاذا يقوم أشياخك –سنودن‬
‫وأسانج‪ -‬بام يقومون به من دفاع عن خصوصيات الناس‬
‫وتضحية يف سبيلها؟‬
‫رفع برصه فجأة جهة الباب‪ ،‬فرأى رجال مخسينيا داخال من باب‬
‫ٍ‬
‫بدوية حادة‪ .‬فمد يده هامسا‪:‬‬ ‫املقهى حيدجه بنظرات‬
‫‪- -‬هل هذا أبوك؟‬
‫***‬

‫‪259‬‬
‫بغداد‪198 ،‬هـ‬

‫كان الشاب النحيف الوسيم يسري يف الظالم‪ ،‬فتتعثر قدمه بجثة‬


‫أحيانا‪ ،‬وتصطدم أحايني أخرى بفاكهة متعفنة أو بجسد متسول يغط‬
‫يف نوم عميق‪ ،‬أما أذناه فتتداخل فيهام أصوات ضحكات اللصوص‬
‫السكارى‪ ،‬وهنيق احلمري ونباح الكالب ومواء القطط‪ ،‬برصاخ استغاثة‬
‫بني الفينة واألخرى كلام هجم لص عىل أحد املارة‪.‬‬
‫ومع ذلك ظل يسري‪....‬‬
‫ِ‬
‫والرابط‬ ‫املار فوق هنر دجلة‪،‬‬
‫فالشارع الكبري املؤدي إىل اجلرس ّ‬
‫بني رشق بغداد وغرهبا‪ ،‬ميلء بأخالط الناس وأمشاجهم‪ .‬فالشارع‬
‫–رغم اعتكار الليل‪ -‬ميلء باللصوص والباعة واملومسات والعساكر‪،‬‬
‫واآلمرين باملعروف والناهني عن املنكر‪.‬‬
‫فمنذ اشتداد احلرب بني األمني وأخيه املأمون –بسبب خلع األمني‬
‫للمأمون من والية العهد ليرصفها إىل ابنه الصغري‪ -‬دخلت بغداد يف‬
‫فوىض عاتية‪ ،‬ففقدت حماسنها من هدوء وأمن ورواج يف األسواق‬
‫وحركة يف التجارة‪ ،‬حتى ليخيل للامر هبا ممن ال يعرفها أهنا مارستان‬
‫كبري‪ ،‬يطوف فيه املجانني مطلقني دون رادع‪.‬‬
‫اجلرس من جانبه الرشقي إىل الغريب‪ ،‬ليدخل حي‬
‫َ‬ ‫عرب الشاب‬

‫‪261‬‬
‫الكرخ‪ .‬فالتهمه زقاق ضيق قاده إىل دار قصرية تنغرز يف األرض انغرازا‬
‫ييش بأن ما بني منها يف األرض أكثر مما ش ّيد فوقها‪ ،‬وقف أمام الباب‪،‬‬
‫ثم دفعه فإذا هو حمكم اإلغالق‪.‬‬
‫يقرب أذنه منه‪ُ ،‬‬
‫فخيل إليه أنه سمع رنة‬ ‫دق الباب دقا خفيفا وهو ّ‬
‫ِ‬
‫عود‪ .‬بعد حلظات انتظار‪ُ ،‬فتح الباب فظهر غالم س ٌ‬
‫ندي وسأل بإدالل‪:‬‬
‫‪ْ --‬‬
‫أقول ل ْه م ْن؟‬
‫‪- -‬قل له‪ :‬حممد بن عبد امللك الزيات‪.‬‬
‫صك الغالم الباب‪.‬‬
‫التفت الشاب إىل الزقاق الضيق اخلايل‪ ،‬فرأى قناديل ترتاءى من‬
‫نوافذ البيوت املطلة عىل الشارع الساكن‪ ،‬بينام ما زالت أصداء صخب‬
‫الشارع ترتدد يف جوانحه‪ ،‬حتسس سيفه املتواري يف غمده حتت دراعته‬
‫الواسعة‪ ،‬فسمع صوت فرهود يرحب من وراء الباب‪.‬‬
‫فتح فرهود الباب‪ ،‬فرتاءى وجهه املدفون يف شعر حليته الكثيف‬
‫مع رأسه األصلع وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬يا مرحبا يا مرحبا!‬
‫تقدم فرهود وقاد اب َن الزيات إىل درج أنزهلام إىل حجرة واسعة‬
‫مضاءة إضاءة كبرية‪ .‬كانت احلجرة واسعة ومليئة بالشموع املعلقة عىل‬
‫أركاهنا األربعة‪ ،‬ويتوسطها قنديل كبري‪.‬‬
‫تعود اجللوس‪ ،‬هناك‬
‫أشار فرهود البن الزيات بتبوؤ مقعده حيث ّ‬
‫يف الركن األيمن عىل سجادة محراء تتناثر عليها نامرق‪.‬‬
‫جتلس ثالث قينات يف اجلانب اآلخر من احلجرة وبأيدهين أعواد‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫انحنى ابن الزيات مائال بمرفقه عىل الوسادة وهو ال يرفع عينه عن‬
‫اجلارية اجلالسة يف الوسط‪.‬‬
‫وقف فرهود يف الوسط ما بني ابن الزيات واجلواري‪ .‬ثم مال‬
‫برأسه ورفع كفه اليمنى ووضعها يف كفه اليرسى‪ ،‬وقال موجها حديثه‬
‫للوسطى من اجلواري‪:‬‬
‫ِ‬
‫وصاحبتيك‪ -‬أال تدخرن صوتا من‬ ‫قسم عليك ‪-‬أنت‬‫‪- -‬ظلوم‪ُ ،‬أ ِ‬
‫األصوات املطربة واألحلان املونقة عن ابن الزيات‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مرتعة طمع ًا‪:‬‬ ‫ثم انحنى برأسه أكثر ملتفتا عن يمينه‪ ،‬وقال بابتسامة‬
‫‪- -‬وأنا موق ٌن أن سيدنا ال يدخر عنكن شيئا‪..‬‬
‫متحمح معتذرا بانشغاله ببعض األمور وأدبر يتسلق الدرج‪ ،‬محُ ِدث ًا‬
‫قرقع ًة بحذائه عىل السلم‪ ،‬وذيل إزاره ينجر وراءه‪.‬‬
‫وتلف‬
‫ّ‬ ‫كانت الفتاة املتوسطة ترتدي قميصا ضيقا أمحر مزكشا‪،‬‬
‫مالءة عىل اجلزء األسفل من جسمها‪ ،‬لكن املالءة ال تغطي إال ركبتيها‬
‫ومكان جلستها‪ .‬أما ما فوق ذلك فيكاد يشف من حتت القميص‬
‫األمحر الضيق‪ ،‬أما ذوائبها الذهبية فمزينة بخيوط معقودة بني كل‬
‫ضفرية وأختها‪ ،‬تنعكس معاقدها حتت ضوء الشموع املدالّة يف أطراف‬
‫احلجرة‪.‬‬
‫رفعت القين ُة برصها إىل ابن الزيات فألفت وجهه كام عهدته خالل‬
‫األشهر املاضية‪ .‬عينان سوداوان واسعتان مرتعتان بربيق قوي يكاد‬
‫خيرتق اجلليس‪ ،‬فوقهام حاجبان قويان مقوسان‪ ،‬وجبهة واسعة وشعر‬
‫أسبط فاحم‪ .‬أما الفم‪ ،‬فذو شفتني رقيقتني ختفيان أسنانا صغرية‪،‬‬
‫ينتصب فوق ذلك أنف دقيق قصري‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫أما عاممته السوداء ودراعته الداكنة الواسعة‪ ،‬وسيفه الذي ال‬
‫يفارقه يف محائله‪ ،‬فتخلع عليه مهابة تنيس الناظر إليه أنه ّملا يتجاوز‬
‫اخلامسة والعرشين من العمر‪.‬‬
‫نظرت إليه قائلة بغنج متصنّع بحذق‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪- -‬أفديك بروحي! كيف أنت وكيف الناس؟ فأنا مل أخرج من هذا‬
‫الباب املوارب منذ التقينا‪.‬‬
‫‪- -‬أفديك بروحي‪ ...‬أنا بخري ما رأيتك‪.‬‬
‫كاملتي ال تتكحل فيهام‬
‫نْ‬ ‫مجعتي‬
‫نْ‬ ‫‪- -‬واهلل َ‬
‫إنك لظامل! كيف تتغ ّيب‬
‫عيناي بمرآك؟‬
‫‪- -‬الظلوم من كان ذلك اسمه! لقد تنبأ لك من سامك به‪ ،‬فقد فطرت‬
‫كبدي وأحرقت قلبي‪ ،‬ولقد جئت مرتني فلم أجدك‪.‬‬
‫ضحكت ظلوم ضحكة فاجرة حني علمت أنه جاء ومل جيدها مع‬
‫زعمها أهنا مل تربح البيت‪ ،‬فرفعت يدها اليمنى جهته وكأهنا تُكذب ما‬
‫يقول‪ ،‬ثم حتركت يف مكاهنا كأهنا تريد إشغال عاشقها باهتزاز جسمها‬
‫عن التفكري يف كذهبا عليه‪:‬‬
‫‪- -‬ليت قدمي ُقطعت حني خرجت قبل قدومك!‬
‫وتعض شفتها السفىل‪ ،‬ثم قالت‬
‫ّ‬ ‫قالتها وهي تغمز بعينها اليمنى‪،‬‬
‫بتثاقل ُم ْغ ٍر‪:‬‬
‫‪- -‬ماذا حتب أن تسمع اليوم‪ ،‬فديتُك!‬
‫‪- -‬كل ما تنطقني به فهو حتفة قادم وشفاء مريض وفكاك سجني‪،‬‬
‫وإن صوتك وأنت تتحدثني ليدخل جسمي فال يصل إىل عرق‬

‫‪264‬‬
‫هش له ّ‬
‫وبش‪ .‬فغني ما‬ ‫إال نبض به‪ ،‬وال يتغلغل إىل عصب إال ّ‬
‫شئت‪...‬‬
‫كان الشاب يتحدث بحرقة‪ ،‬وكانت ظلوم التي تكربه بعام جتاريه‪.‬‬
‫سمع قرع نعال عىل الدرج‪ ،‬فالتفت الكل‪ ،‬وإذا الغالم الزنجي‬
‫قادم وبيده جام مرتع نبيذا‪.‬‬
‫فالتفتت اجلارية اجلالسة عن يمني ظلوم إىل األخرى اجلالسة عن‬
‫يسارها وأشارت هلا إشارة‪ ،‬فوقفتا وصعدتا الدرج‪.‬‬
‫نزل الغالم الزنجي وهو يص ّفر‪ ،‬ووضع جام النبيذ عىل سفرة‬
‫خشبية بني ابن الزيات وظلوم‪ ،‬ثم خرج مرسعا دون أن يتكلم أو يرفع‬
‫برصه‪.‬‬
‫كان ابن الزيات متكئا فجلس‪ ،‬وأمسك الوسادة التي كانت حتت‬
‫مرفقه وزحف جهة القينة حتى صار عىل بعد ذراع منها واتكأ عىل‬
‫كم دراعته الواسعة املفتوحة من الوسط مالمسا لطرف‬
‫وسادته‪ ،‬فصار ّ‬
‫مالءهتا‪ .‬أما جام النبيذ فأصبح عىل بعد تناول اليد منه ومن املغنية‪.‬‬
‫بدأت ظلوم تالعب األوتار بأصابعها الرخصة‪ ،‬وهي هتينم‪ ،‬فمد‬
‫وعب منه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ابن الزيات يده إىل اجلام‬
‫ثم أغمض عينيه وجعل حيرك قدمه طربا لدى حركة كل وتر من‬
‫األوتار التي تئن حتت أصابع ظلوم‪.‬‬
‫فتذكرت شجو ًا قديام هلا يف أصفهان‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وتضاجرت‬
‫ْ‬ ‫تناوحت ظلوم‪،‬‬
‫شجوها الذي أضناها‪ ،‬وحبها‬ ‫قت العو َد‪ ،‬وحيث‬ ‫ِ‬
‫وحذ ْ‬ ‫حيث تربت‬
‫ُ‬
‫الذي انتزع قل َبها منها‪ ،‬فتسارع لعب أصابعها باألوتار‪ ،‬وتسارعت‬

‫‪265‬‬
‫دقات قلبها وهي تتذكر وجه فتاها يف مروج ًأصفهان حيث كانت‬
‫تغنيه‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ذوائ�ب‬ ‫ذات‬
‫َ‬ ‫و ُع ِّلقتُه�ا َغ َّ�را َء‬
‫حجم‬
‫ُ‬ ‫ومل َيب�دُ لألت�راب م�ن ثدهيا‬
‫�م ياليت أننا‬
‫�ن نرع�ى ال َب ْه َ‬ ‫صغري ْي ِ‬
‫إىل الي�وم مل ن ْكَب�رَ ْ ‪ ،‬ومل تَكرب ال َب ُ‬
‫هم!‬
‫الشدو بالبيتني حتى كاد قلب ابن الزيات ينزو من بني‬
‫َ‬ ‫ما إن أهنت‬
‫أضالعه‪ ،‬وكاد قلبها هي يطري شوقا إىل أصفهان‪.‬‬
‫فقد رددت عبارة «يا ليت أننا‪ »..‬ترديدا متأنيا مرتعا باألحزان‪،‬‬
‫وأفرغت يف تلك العبارة كل ما فاهتا من مؤ َّمل‪ ،‬وما عجزت عنه من‬
‫حترر من أيادي أسيادها‪ ،‬وما ضاع هلا من حب‪.‬‬
‫فهي تضمر فيها متنيات مثل‪ :‬يا ليت أنني مل أرسق يف طفولتي‬
‫من أهيل‪ ،‬ومل أحتول إىل جارية! ليت الدنيا أرحم مما هي عليه‪ ،‬وليت‬
‫املظلوم ينتصف من ظامله!‬
‫وقد تعلمت من صنعتها أهنا ال تُطرب جليسها إال إذا تذكرت‬
‫شجوها ومتثلته بني يدهيا كأهنا ختاطبه‪ ،‬فعند ذلك تطيب أوتارها‪،‬‬
‫ويسهل حل ُقها‪ ،‬وتنفرج خمارج نطقها‪ ،‬وحيلو النغم يف فيها‪.‬‬
‫الشدو حتى التفتت إىل ابن الزيات وقالت بتنهد‪:‬‬
‫َ‬ ‫ما إن أهنت‬
‫‪- -‬فديتك!‬
‫نظرت إىل عينيه فرأت بريقهام املتوهج قد انطفأ‪ ،‬ومها ممتقعتان‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫دموعا‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫مال الفتى أكثر عىل وسادته مبتعدا قليال‪ ،‬ثم أخذ طرف عاممته‬
‫ووضعه عىل عينيه وهو بني البكاء والضحك‪ ،‬متذكرا قصة حدثه هبا‬
‫صديقه قبل أيام عن هذين البيتني‪.‬‬
‫فقد كان مؤذن مكة املعروف بابن مليكة يؤذن‪ ،‬فسمع مغنيا يغني‬
‫من دار العاص بن وائل هبذين البيتني‪ .‬فطرب هلام طربا شديدا حتى‬
‫أراد أن يقول «حي عىل الصالة» فقال‪« :‬حي عىل ال َبهم»‪ ،‬وسمعه أهل‬
‫مكة فغدا يعتذر إليهم يف السوق‪.‬‬
‫فكر يف القصة وهو يقول‪ :‬كيف إذا سمعها املؤذن من هذه اجلارية‬
‫الرومية احلاذقة‪.‬‬
‫ظل مستلقيا عىل قفاه‪ ،‬يعب أحيانا من ّ‬
‫الدن‪ ،‬ويعب أحايني أخرى‬
‫من االقرتاب من اجلارية ومطارحتها آيات الغرام‪.‬‬
‫التفتت إليه مرة بعد صمت وقالت بدالل‪:‬‬
‫‪- -‬مل ال تشرتيني من سيدي؟‬
‫‪- -‬قاتله اهلل ما أجشعه‪ .‬لقد عرضت عليه لكنه يطلب ما ال أملك‪.‬‬
‫مالت عليه اجلارية واضعة يدها عىل طرف ركبته وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬كيف ال متلكه وأنت ابن عبد امللك‪ ،‬أشهر جتار الكرخ ببغداد؟‬
‫ثم ابتعدت عنه مرسلة إحدى ذوائبها‪ ،‬مداعبة إياها بيدها‪ ،‬وقالت‬
‫وهي تغمز بطرف عينها التي تزداد مجاال حتت ضوء املصباح‪:‬‬
‫‪- -‬أم أنني ال أساوي عندك إال درهيامت؟‬
‫ابتسم ابتسامة مفعمة بالشوق إىل مزيد من القرب وهو يقول‬
‫بصوت هامس‪:‬‬

‫‪267‬‬
‫‪- -‬ال تقويل هذا يا ظلوم‪ .‬فواهلل لنعم وسيلة إبليس ِ‬
‫أنت يف األرض!‬
‫ضحكت اجلارية‪ ،‬وقبل أن متيل عليه لتمسك طرف قميصه‪،‬‬
‫سمعت قرع نعال سيدها عىل الدرج‪.‬‬
‫فتظاهرت بالتحرج مبتعد ًة من ابن الزيات‪.‬‬
‫دخل فرهود مبتسام‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ساحمني يا ابن الزيات إن كنت عجلت عليكام‪ .‬لكن وقت النوم‬
‫الصباح يكاد ْيز ُقو‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وديك‬ ‫قد حان‪،‬‬
‫تراجعت الفتاة أكثر حتى كاد ظهرها يالمس قاعدة القنديل الكبري‬
‫املنصوب وسط احلجرة‪ ،‬أما ابن الزيات فجلس بتثاقل وهو يبحث يف‬
‫جيبه عن رصة دنانريه‪.‬‬
‫وقف وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬ال عليك يا فرهود‪ ،‬فقد انتصف الليل والطريق غري مأمون‬
‫هنب للشطار والعيارين‪.‬‬
‫وبغداد ٌ‬
‫ثم مال عىل السفرة اخلشبية وطرح رصة حمشوة دنانري وكأنه ال‬
‫يريد فرهود أن يراه‪ ،‬وهو يف ذات الوقت البد له من أن يراه‪.‬‬
‫فنظر فرهود إىل الرصة وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال تباعد بني الزيارات يا سيدي‪.‬‬
‫بطريف ُدراعته‪ ،‬وغمدُ سيفه يكاد‬
‫ْ‬ ‫صعد ابن الزيات الدرج ممسكا‬
‫يالمس طرف السلم‪ .‬ثم التفت إىل َظ ُلو ٍم قبل أن يتوارى‪ ،‬فلوحت له‬
‫بقبلة‪.‬‬
‫فتح فرهود الباب مودعا ابن الزيات‪ ،‬وقال بصوت فيه خوف‪:‬‬

‫‪268‬‬
‫‪- -‬احرتس يا حممد!‬
‫‪- -‬ال ختف يا فرهود‪ ،‬فسيفي بتار‪.‬‬
‫بدا الطريق مظلام وخاليا من الناس‪ ،‬فيام ترامت إىل سمع الفتى‬
‫ضحكات شبان من البيوت املطلة عىل الزقاق‪.‬‬
‫قاده الزقاق الضيق إىل الشاع الواسع املؤدي للجرس‪.‬‬
‫ظلت يمينه عىل مقبض سيفه حتى وصل إىل مدخل دار أبيه‬
‫الكبرية‪.‬‬
‫عرب اجلرس حتى انحدر إىل اجلانب الرشقي‪ ،‬وما إن اقرتب من‬
‫املنزل األمحر ‪-‬ذي الباب املستطيل الضخم‪ -‬حتى تلقاه أحد احلراس‬
‫مهروال‪:‬‬
‫‪- -‬سيدي‪ ،‬مل مل تأمرين آليت معك‪ ،‬فالطريق غري آمن‪.‬‬
‫أشار إليه ابن الزيات بيده قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ال عليك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مزين باألشجار‬ ‫الباب الواسع الذي أسلمه إىل فناء فسيح‬
‫َ‬ ‫دخل‬
‫عىل طرفيه‪ ،‬ثم وقف ملتفتا إىل احلارس وقال بصوت هادئ‪:‬‬
‫‪- -‬ال خترب أيب‪.‬‬
‫مل يزد احلارس عىل أن انحنى قليال برأسه متمتام‪:‬‬
‫‪- -‬أمرك يا موالي‪.‬‬
‫***‬

‫‪269‬‬
‫البصرة‪199 ،‬هـ‬

‫جل َمع‪ ،‬ففي‬


‫كان منزل عبود ضاجا باحلركة كالعادة يف مساءات ا ُ‬
‫اجلانب اخللفي للمنزل‪ ،‬ارتفعت ضوضاء مجاعة من الغلامن يف غرفة‬
‫يب فاخر ًة وحرصا وطنابري وعيدان موسيقى‪،‬‬
‫مربعة واسعة حاملني زرا َ‬
‫رمى غالم رومي زربي ًةمحراء عن كاهله وهو يقول لغالم قصري عن‬
‫يمينه‪:‬‬
‫‪- -‬ضع هذه مما ييل الزاوية حيث جيلس موالك‪ ،‬يا أصلع!‬
‫عجوز ُيرسج املصابيح يف الزاويا األربع للغرفة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫واندفع خادم‬
‫فيام أمسك آخر بطرف الزربية الفارسية املطرزة ل ُيحكم بسطها دون‬
‫انثناء‪ُ ،‬رتب املجلس بشكل مربع‪ ،‬ثم ُوضع رسير مرتفع يف جانبه فوق‬
‫السجادة احلمراء‪ ،‬ويف املقابل وضعت طنافس خرض مطرزة‪ ،‬ويف‬
‫الوسط بسطت احلرص املصنوعة من جريد النخل مغطاة بفرش ناعمة‪.‬‬
‫دخلت جاريتان إىل الغرفة ومها تتضاحكان بغنج‪ .‬كانتا تلبسان‬
‫مالبس ذات لون واحد جتمع بني الصفاقة والضيق‪ .‬فكل منهام تلبس‬
‫ْب يكاد ُيرى كامال‬
‫مالءة خرضاء مطرزة اجليب واألطراف‪ ،‬حتتها إت ٌ‬
‫من حتت املالءة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫سابغ إىل الكعب‪ ،‬مع‬ ‫وحتت ذلك إزار ملفوف مشدود الوسط‪،‬‬

‫‪271‬‬
‫فتحتني يف طرفيه من الركبة حتى الكعبني‪.‬‬
‫دخلت علية متيش وراءمها‪ ،‬غري أهنا مل تتزين كام تزينتا‪ .‬إذ كانت‬
‫متلففة يف قميص أمحر فوقه جبة واسعة‪ ،‬فيام تنسدل ذوائبها الطويلة‪،‬‬
‫التي تكاد ختفي قرط ْيها‪.‬‬
‫جلسن ثالثتهن‪ ،‬وكانت علية يف الطرف األبعد مما ييل الزاوية‪،‬‬
‫ثم وضعت كربى اجلواري عودها يف حجرها واندفعت تعزف‪،‬‬
‫أناملها الغليظة تذهب وتأيت عىل األوتار األربعة للعود متفننة يف رضبه‬
‫وتوقيعه‪ ،‬وكانت كلام أطابت النغم وأحكمت األوتار هدأت أصوات‬
‫الغلامن واخلدم‪ ،‬بل إن أصوات صبيان احلي الالعبني يف الشارع تبدأ‬
‫يف االنحسار‪.‬‬
‫بعد هنيهات‪ ،‬قبضت كربى اجلاريتني يدها عن عودها تاركة إياه‬
‫يف حجرها دون تغيري جلستها‪ ،‬ثم أشارت برأسها إىل اجلارية األخرى‬
‫فانطلق عودها يئن بعزف شجي‪.‬‬
‫كأن اجلارية األوىل كانت تفتح الطريق هلذا اللحن الشجي بالذات‪.‬‬
‫فاندفعت كربى اجلواري وقد رفعت يرساها عن العود‪ ،‬ووضعت‬
‫يدها عىل خدها وأنشدت بصوت مطرب ُم ْش ٍج‪:‬‬
‫ل�و أن م�ا تبتلين�ي الـحادث�ات ب�ه‬
‫ُيرم�ى عىل امل�اء مل ُيرشب م�ن الكدر!‬
‫يف هذه اللحظة دخل عبود ماشيا بتؤدة‪ ،‬مرتديا جب ًة حريرية واسعة‬
‫األكامم تفوح منها رائحة العنرب‪ ،‬ووراءه اجلاحظ متعثرا يف جبة قشيبة‪.‬‬
‫خفضت اجلارية صوهتا انتظارا جللوس سيدها وضيفه‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫جلس عبود عىل حافة الرسير مشريا للجاحظ باجللوس قربه عىل‬
‫طرفه الثاين‪ ،‬وما إن جلس عبود حتى مال عىل مرفقه األيمن ليستلقي‬
‫نصف استلقاء‪ ،‬فبادر غالم كان يتبعه وأمسك رجله لينزع خفه‪.‬‬
‫سحب عبود رجله برسعة من يد اخلادم قائال‪:‬‬
‫‪- -‬اخدم أبا عثامن أوال‪.‬‬
‫ثم تدحرج عبود قليال ليسند وسادته إىل اجلدار‪ ،‬أشار بيده دون أن‬
‫يتحدث إىل اجلاريتني لتستأنفا الغناء‪.‬‬
‫جلس اجلاحظ مرتبعا مسندا ظهره للجدار‪ ،‬ووضع عاممته عن‬
‫رأسه فبدا أصغر من ذي قبل‪.‬‬
‫كان جو الغرفة معت ًام قليال رغم املصابيح األربعة املنصوبة يف‬
‫أركاهنا‪ ،‬رفع اجلاحظ عينيه ليتأمل اجلواري حماوال معرفة تلك الفتاة‬
‫التي حدثه عنها عبود‪.‬‬
‫مل تدر عيناه طويال حتى جزم بأهنا تلك الفتاة التي يف الزاوية‪ .‬ذلك‬
‫الظبي العاطل من كل زينة‪ ،‬لكن زينته تسكنه‪ ،‬وال يستطيع منها فرارا‪.‬‬
‫لسعها بعينيه احلادتني‪ ،‬فالتقت عيوهنام ألول مرة‪.‬‬
‫نظرت إليه لكنها مل تبادله النظر بالنظر‪ ،‬فعيناه اللتان تكادان تقعان‬
‫ورأسه الدقيق وأذناه الصغريتان وقامته القصرية جعلته يف‬
‫ُ‬ ‫يف حجره‪،‬‬
‫عينها أشبه بدمية منه بإنسان‪.‬‬
‫نظرت إىل سيدها ثم أ ْغضت جفنيها وقد غشيتها موجة طرب‬
‫وهي تستمع للحن الشجي الذي ينبعث من يد صاحبتها‪.‬‬
‫مال اجلاحظ عىل عبود‪ ،‬ومهس يف أذنه‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫اعتدل عبود وأشار إىل علية أن جتلس قرب الرسير مما ييل اجلاحظ‪.‬‬
‫قامت ودارت من خلف اجلاريتني وجاءت كأهنا تتعثر فجلست‬
‫عن يمينه‪.‬‬
‫مال عليها‪:‬‬
‫‪- -‬ما اسمك؟‬
‫‪- -‬علية‬
‫رفع رأسه كأن نارا لسعته‪.‬‬
‫لقد تذكر رؤيا رآها قبل أيام‪.‬‬
‫رأى أنه نزل ضيفا عىل اخلليفة يف بغداد‪ ،‬وأنه كان يتسلل إىل حرمه‬
‫ليال ويبيت مع زوجة للخليفة تدعى عل ّية‪ ،‬وأن اخلليفة اطلع عليه من‬
‫نافذة وهو جالس مع علية فهرب‪ .‬فأرسل اخلليفة كل جنود اخلالفة‬
‫يبحثون عنه‪.‬‬
‫تفاجأت علية بالصدمة التي أصابته‪ ،‬فالتفتت جهة الباب فإذا‬
‫اخلادم األصلع قادم حيمل سكرج ًة فيها لوز‪ ،‬وجام ًا مملوءا من عصري‬
‫البطيخ‪ ،‬وأباريق نبيذ‪.‬‬
‫وضع األصلع السكرجة والنبيذ عىل خوان فوق الرسير‪ ،‬فيام‬
‫كان اجلاحظ يستعيد توازنه متذكرا كيف سخر من تلك الرؤيا قائال‬
‫لصديقه النظام‪:‬‬
‫‪- -‬أنا رجل من أهل االعتزال‪ ،‬واألحالم واملرائي ال يعبأ هبا إال‬
‫العوام ومن يف حكمهم‪.‬‬
‫استعاذ من الشيطان الرجيم‪ ،‬ومال عىل علية قائال هبمس‪:‬‬

‫‪274‬‬
‫‪- -‬أي حديقة مباركة أنبتتك؟‬
‫تلعثمت ثم قالت‪:‬‬
‫‪- -‬أنا من أصفهان‪.‬‬
‫‪- -‬تلك مدينة مجيلة‪ ،‬ال تنبت إال الزهر والشعر‪.‬‬
‫مل تكن تعرف أي يشء عن أصفهان‪ ،‬ومل ترها قط‪ ،‬لكنها شعرت‬
‫بسعادة حني الحظت فصاحة اجلاحظ واطالعه‪ ،‬وهي تقارن يف ذهنها‬
‫بينه وبني سيدها‪.‬‬
‫فغريت جمرى احلديث حتى ال يسأهلا سؤاال حمددا عن أصفهان‬
‫قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬وأنتم يا سيدي؟‬
‫‪- -‬أنا من علقم البرصة!‬
‫قاهلا وقد اختنق قليال من رائحة البخور املتصاعد بني يديه من‬
‫املبخرة املنصوبة خلفه‪.‬‬
‫وجدت نفسها تبتسم من إجابته وطريقته التي نطقها هبا‪ ،‬حيث‬
‫قاهلا وهو يغمض نصف عينيه متظارفا‪ ،‬ثم اختنق‪ ،‬فتحول يف عينها من‬
‫الدمامة املقيتة‪ ،‬إىل الدمامة املستظرفة‪.‬‬
‫ثم واصل قائال‪:‬‬
‫‪- -‬هذه املدينة ليست كأصفهان‪ ،‬فهيال تنبت من األشجار إال ما فيه‬
‫شوك‪ ،‬وال من النباتات إال املر‪ ،‬وال يربى فيها من الكالب إال‬
‫املكلوب‪ .‬أما نساؤها فيرضبن رجاهلن‪.‬‬
‫ابتسمت وهي تنظر إليه وقد مدّ يده ألخذ حلوى من فوق‬

‫‪275‬‬
‫اخلوان‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬إهنا تنبت الرياحني والنارنج والتفاح‪...‬‬
‫ال تدري كيف نطقت كلمة «التفاح» فهي أبعد ما تكون عن جو‬
‫التغزل‪ ،‬أحرى لرجل غريب دميم‪ ،‬لكنه مل هيملها لتغيرّ حديثها فقال‪:‬‬
‫‪- -‬هذه النباتات وإن نبتت هنا إال أهنا غريبة يف هذه الرتبة‪ ،‬فقد‬
‫ونبتت مكره ًة‪ .‬لذلك ستجدين طعم تفاح‬ ‫ْ‬ ‫انتُزعت من منبتها‬
‫أصفهان أذكى وأحىل من تفاح البرصة‪ .‬فكأنه هناك ينبت راضيا‪،‬‬
‫وهنا كارها‪ ،‬فينعكس ذلك يف الطعم‪.‬‬
‫انتبه إىل أنه تعود احلديث اجلاد‪ ،‬املحشو باملنطق حتى مع اجلواري‬
‫وعىل كؤوس النبيذ‪ ،‬فغري حديثه برسعة‪:‬‬
‫‪- -‬هل تتقنني الغناء؟‬
‫‪- -‬ال‪...‬‬
‫كانت اجلارية الكربى تواصل الغناء والعود يف حجرها‪ ،‬وكانت‬
‫تنظر بطرف عينيها باستغراب إىل اندماج علية يف احلديث مع هذا الرجل‬
‫الغريب‪ ،‬كانت تنظر إليهام حتت ضوء املصباح املثبت وراءمها‪ ،‬فيام يمر‬
‫خيط دخان من البخور بينهام كأنه يرسم حدودا بني اجلامل والدمامة‪.‬‬
‫ظلت اجلارية تتأمل باستغراب ابتسامات علية هلذا الرجل‬
‫الدميم الغريب‪ ،‬فمنذ وصوهلا إىل هذا البيت مل ترها قط هبذا االندماج‬
‫واالستئناس يف احلديث‪.‬‬
‫بعد ميض وقت‪ ،‬اعتدل اجلاحظ يف جلسته مائال إىل اجلدار قليال‪،‬‬
‫ويعب عليها من النبيذ املعتق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهو يمضغ حلوى‬

‫‪276‬‬
‫بدأ حيرك قدمه طربا وهو يستمع إىل اجلارية تغني صوتا بدويا‬
‫قديام‪ ،‬لكنها أخطأت يف أدائه‪ .‬اعتدل وقال هلا‪:‬‬
‫‪- -‬أول من غنى هذ الصوت هو مغني أهل مكة ال َغريض‪ ،‬لكنك‬
‫أخطأت يف توقيعه‪.‬‬
‫ثم جعل يرشح هلا ويعيده حتى أتقنته‪.‬‬
‫بدأ جبينه يتعرق رغم اجلو املعتدل يف اخلارج‪ .‬وجعل حيرك رأسه‬
‫طربا‪ .‬وكانت علية تنظر إليه من طرف خفي بعد سامعها ملالحظاته عىل‬
‫املغنية‪.‬‬
‫أما عبود فكان ال يتحدث يف مثل هذه الساعة عادة‪ .‬بل يرتك حل َقه‬
‫للنبيذ‪ ،‬وأذنَه للغناء‪ ،‬وبطنَه للحلوى‪ .‬ويظل حيدق يف السقف‪ ،‬فعادة ما‬
‫يبيت يف نفس املكان‪.‬‬
‫انطفأت فتيلة أحد املصابيح‪ ،‬فخفتت اإلضاءة يف الغرفة‪.‬‬
‫ترفض عرقا بعد‬
‫ُّ‬ ‫وضعت كربى اجلواري العود من يدها وهي‬
‫ساعات من الغناء‪.‬‬
‫أما اجلاحظ فامل عىل عبود متمت ًام‪.‬‬
‫وقف عبود بتثاقل بينام كان اجلاحظ يرتب قلنسوته وعاممته‪،‬‬
‫فانعكس ظل رأسه الصغري عىل اجلدار‪.‬‬
‫مشيا يف فناء البيت حتى وصال إىل باب الدار‪ .‬مشى عبود بتثاقل‬
‫فقد أفرغ يف بطنه أربعة أرطال من النبيذ املعتّق‪ ،‬وكثريا من احللوى‪.‬‬
‫أما اجلاحظ فكان يميش بخفة‪ ،‬فقد تعود أال يزيد عىل رطل واحد‬
‫من النبيذ‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫وصال عتبة الباب‪ ،‬فالتفت إىل عبود مودعا قائال‪:‬‬
‫ُغيل يف سعرها‪.‬‬
‫‪- -‬أريد الفتاة‪ ،‬لكن أمتنى أال ت َ‬
‫‪- -‬لن يكون إال ما تريد يا أبا عثامن‪.‬‬
‫وصك الباب شاعرا كأن خنجرا ُدفن يف صدره‪ .‬رمى‬ ‫ّ‬ ‫قاهلا‪،‬‬
‫بجسمه يف طرف الغرفة عاجزا ذاهال‪ .‬جلس متأمال علية مشدوها‬
‫ني‪ .‬لسعها‬ ‫ِ‬
‫بجامهلا األخاذ‪ ..‬عاجزا‪ .‬نظر إليها نظر األ ْد َرد إىل التفاح اجلَ ِّ‬
‫بعينني عسليتني مها نافذتاه املرشعتني دائام عىل الشقاء والعذاب‪ .‬أرسل‬
‫برصه مع داره الواسعة‪ ،‬فرأى اخلدم يقبلون ويدبرون‪ ،‬واألفرشة‬
‫ّات العود التي تعبث بنياط قلبه‪.‬‬ ‫املبثوثة واألطعمة املشتهاة‪ ،‬واستعاد رن ِ‬
‫أمر يدَ ه عىل خده الصقيل متسائال‪ :‬كيف كان طعم‬ ‫ازدادت حرسته‪َّ .‬‬
‫الدنيا لو ِ‬
‫سل َم من تلك العاهة؟‬
‫متوج ذهنه بآالف األسئلة الكثيفة املتزامحة‪ ،‬واخلواطر اجلارحة‪.‬‬
‫وتذكر تلك الواقعة التي حددت مسار ٍ‬
‫حياة ال يستطيع منها انفكاكا‪.‬‬
‫تذكر رجاال يرتدون مالبس داكنة يقودونه إىل بيت واسع‪...‬‬
‫اقرتب منه رجل أشقر قصري بيده سكاكني وأدوية‪ .‬ال يذكر ما حدث‬
‫خص ْوه‬
‫بعد ذلك‪ .‬كل ما يعرفه أن ذلك وقع بأرض الروم‪ ...‬وأهنم َ‬
‫وباعوه‪.‬‬
‫تنفس بعمق‪ ،‬ومسح دمعة شاردة عىل خده‪ ...‬وعزم عزيمة ال‬
‫سيخصص ما بقي من عمره للجهاد مرابطا قرب طرطوس‬ ‫ّ‬ ‫تُنقض‪.‬‬
‫ملجالدة الروم‪ .‬وقف متثاقال‪ ،‬متذكرا قول إمام حيه يف خطبة اجلمعة‪:‬‬
‫‪- -‬عجب ًا للنصارى‪ ،‬يدعون الرمح َة‪ ،‬وهم من س َّن سن َة خصاء بني‬
‫آدم‪ُّ ،‬‬
‫وكل خميص يف الدنيا فمن أرضهم جاء!‬

‫‪278‬‬
‫ترك اجلاحظ منزل عبود وراءه بينام كان الظالم خييم عىل األزقة‬
‫الضيقة املوحشة التي ال يصلها يف هذه الساعة إال نبحة كلب شاردة‪،‬‬
‫أو بكاء رضيع من بعيد‪ ،‬أو ُمواء قط‪.‬‬
‫فكّر يف علية مستعيدا صورة جسمها البض وشعرها املنسدل‬
‫وأنوثتها الف ّياضة‪ ،‬ثم خرجت تلك الصورة من ذهنه متأمال ليل البرصة‬
‫مظلم ميلء بتنهدات األمل‬
‫ٌ‬ ‫األسود سوا َد عيون بدويات سوق املربد‪ .‬ليل‬
‫واللذة‪ ،‬لكنها لذة ال يصل إليها الفقري‪ ،‬ليل ميلء بوسو ِ‬
‫سة اخلالخل يف‬ ‫ْ َ‬
‫املخادع العطرة‪ ،‬وتنهدات العبيد الكادحني يف األقبية والسباخ‪ ،‬وأنّات‬
‫الشكوى يف السجون‪ ،‬ورصخات اللذة يف املخادع‪ ،‬والضحكات‬
‫احلزينة للجواري املجلوبات من بالد بعيدة‪ ..‬غريبة‪.‬‬
‫طرد تلك األفكار عن ذهنه‪ ،‬لكنه مل يستطع طرد صورة ابتسام‬
‫وتاج اجلامل الذي ُيظلل كل حركة من حركاهتا السخية‪ ...‬وذلك‬
‫علية‪َ ،‬‬
‫اليشء الغامض الفاتن‪ ...‬ما بني فمها وعينيها‪.‬‬
‫***‬
‫يضج دكان سهل بعشاق الكتب يف مثل هذه الساعة من النهار‪،‬‬
‫ٍ‬
‫جلدي بني اللون‪ ،‬وعيناه تبحثان‬ ‫يرتبع اجلاحظ داخل الدكان عىل ٍ‬
‫فرو‬
‫بنه ٍم يف عناوين الكتب الكثرية املصفوفة بأناقة عىل رفوف الدكان‪.‬‬
‫وقف أحد املجاذيب بباب الدكان وقال بصوت واعظ‪:‬‬
‫‪- -‬متاع الغرور!‬
‫ثم جتاوز إىل الدكان املوايل‪.‬‬
‫رفع اجلاحظ وجههه عن الكتب منزعجا وقال لسهل‪:‬‬

‫‪279‬‬
‫‪- -‬من أين جاء هذا؟‬
‫‪- -‬هذا أحد أصحاب رأس النعجة‪ ،‬من ُد ّويرة الصوفية الواقعة‬
‫بطرف السوق‪.‬‬
‫‪- -‬أنا ال أرى الزهد املنقطع عن الدنيا ومال ِّذها إال رضبا من اجلبن‬
‫عن مقارعة خطوهبا‪ ،‬ونوعا من االفتتان بدين الربامهة‪.‬‬
‫وكنت منهمكا يف رشاء اجلواري‬
‫َ‬ ‫‪- -‬إذا مل تكن من العباد والزهاد‪،‬‬
‫واكرتاء الدور الواسعة‪ ،‬فاترك الناس لزهدهم وعبادهتم‪.‬‬
‫خطر للجاحظ أن يف تضاعيف حديث صاحبه نوعا من احلسد‪،‬‬
‫فدارى مشاعره وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال‪ ..‬ال‪ .‬ما عنيتُه أن الدين ال يأمر بالزهد كام يفعل هؤالء‪ ،‬فأنا ال‬
‫أعلم أحدا من أصحاب النبي بنى خيمة عىل باب السوق لصد‬
‫الناس عن أهوائهم وحاجاهتم التي تقوم هبا دنياهم‪ ،‬فقد كان‬
‫أصحاب حممد يتّجرون ويغزون ويعشقون ويتزوجون ويلعبون‪.‬‬
‫‪- -‬أعلم ذلك‪ .‬لكن أصحاب حممد كانوا يف زمن فيه أمثال أيب بكر‬
‫ٌ‬
‫زمان فيه أمثالك أنت‪.‬‬ ‫وعمر‪ ،‬وهذا‬
‫ابتسم اجلاحظ وهو يسحب كتابا أنيقا وقال‪:‬‬
‫ان البرصة و ُفت ِ‬
‫َّاكها دوين؟‬ ‫ٍ‬
‫مبالغة يف مجُ ّ ِ‬ ‫‪- -‬أما كان لك ُمت ََّس ُع‬
‫‪- -‬جمان البرصة وفتاكها ُمقرون بمجوهنم وفتكم‪ ،‬أما أنا وأنت‬
‫نحلة‪ ،‬كان شيوخها معروفني بالزهادة‬ ‫ٍ‬ ‫فشيوخ قو ٍم وجل ُة‬ ‫ُ‬
‫عت‬
‫والعبادة‪ .‬ففي سلفنا من املعتزلة عمرو بن عبيد الذي لو ُو ّز ْ‬
‫عبادتُه عىل أهل البرصة لكفتهم‪ .‬ويف سلفنا بشري الرحال واحلسن‬

‫‪280‬‬
‫البرصي‪ ،‬ومع ذلك أراك تنهى عن الزهادة والعبادة‪.‬‬
‫ثم التفت سهل ألحد غلامنه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬هات املاء البارد وكرسة خبز يا غالم‪.‬‬
‫ق ّلب اجلاحظ الكتاب األنيق التجليد وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال أشك يف أن هذا الكتاب من تأليف زنديق!‬
‫فرد عليه سهل ‪-‬وهو يتناول من خادمه طست ًا صينيا ُمزي َن‬
‫احلوايش‪ -‬قائال‪:‬‬
‫‪- -‬وكيف عرفت ذلك؟‬
‫‪- -‬إن عناية الزنادقة بكتبهم ال تضاهيها عناية‪ ،‬فال تكاد ترى كتابا‬
‫من كتبهم إال جملدا أحسن جتليد‪ ،‬خمطوطا بخط أنيق يف ورق‬
‫ناعم‪ ،‬كأنه عروس جُتىل لعاشق‪.‬‬
‫‪- -‬واهلل إن هذا لرشف هلم‪ ،‬فهو من عنايتهم بالعلم‪.‬‬
‫ظننت‪ ،‬بل إن إنفاق الزنادقة عىل كتبهم كإنفاق‬
‫َ‬ ‫‪- -‬ليت األمر كام‬
‫النصارى عىل ُكنُسهم وصوامعهم‪ ،‬وليس من العناية بالعلم يف‬
‫يشء‪.‬فلو كانت كتبهم مثل كتبنا وتبحث فيام ينفع الناس من‬
‫رياضيات وهندسة‪ ،‬أو علم وآداب‪ ،‬لكان داعي التأنق فيها‬
‫يدخل يف باب حب العلم‪.‬‬
‫يت بمسودات‬
‫سهل حديث اجلاحظ بمناداة أحد عامله ليأ َ‬ ‫قطع ٌ‬
‫الكتب التي نُسخت خالل األيام املاضية‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫كنت أخليتَها من الرياضيات واحلساب‬
‫‪- -‬وماذا يف كتب الزنادقة إذا َ‬
‫واآلداب وما ينفع الناس؟‬

‫‪281‬‬
‫يب األنيق‪،‬‬
‫كان اجلاحظ يتحدث وهو يقلب ورق الكتاب العنا ِّ‬
‫فوضعه جانبا ورفع وجهه إىل صديقه وقال‪:‬‬
‫أدخل يف باب الديانة‪ ،‬لذلك ال أرى اإلنفاق عىل‬ ‫ُ‬ ‫‪- -‬إن كتبهم‬
‫تزويقها إال كإنفاق املجويس عىل بيت النار‪ ،‬والنرصاين عىل‬
‫صليب الذهب‪ ،‬أو كإنفاق اهلنود عىل سدنة البِدَ َد ِة‪ .‬فكتبهم‬
‫دينية ال عالقة هلا بالدنيا‪ .‬فهم جيملوهنا لرتوج‪ ،‬لعلمهم بضعف‬
‫منطقها‪ ،‬وهتافت حججها‪ ،‬فيحاولون تعويض نقص ما يف بنيتها‬
‫بإكامل جلودها وحروفها ِ‬
‫وشياهتا‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يواصل حديثه وصوته الندي وخمارجه الفخمة تزداد‬
‫أناق ًة كلام تكشفت أمامه حجة أثناء حديثه‪ ،‬وكان سهل ينظر إليه بانتباه‪،‬‬
‫غري أن أحد النساخني وقف يف وجهه‪ ،‬وكاه ُله ينوء بعدة جملدات‪ ،‬ومل‬
‫يضعها عنه خيفة مقاطعة اجلاحظ‪ .‬توقف اجلاحظ عن احلديث فأشار‬
‫سهل للنَّساخ أن يضع الكتب عىل الطاولة ذات القوائم الثالث‪،‬‬
‫املنتصبة بينه وبني اجلاحظ‪ .‬وضع النَّساخ الكتب‪ ،‬غري أن يده الصغرية‬
‫اليمنى املتسخة من سواد املحربة تركت أثرا عىل طرف أحد الكتب‪،‬‬
‫فرفع فيه سهل وجهه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أمل أحذرك مرارا من هذا؟‬
‫ارتبك النساخ فتحولت صفرة وجهه الصافية وعيناه الصغريتان‬
‫الغائصتان يف وجهه املدور إىل محرة وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل لقد نفد الصابون الذي نُزيل به سواد احلرب البرصي كام نفد‬
‫األُشنان‪.‬‬
‫‪- -‬هذا احلرب متكن إزالته باملاء وال حيتاج لصابون‪ ،‬فال تُكثر املعاذير‪،‬‬

‫‪282‬‬
‫نضبت؟ أم ابتعلت األرض ماءها‬
‫ْ‬ ‫أم أن مياه أهنر البرصة قد‬
‫وجفت غدراهنا؟‬
‫كان اجلاحظ واضعا طرف عاممته السوداء عىل فمه وعيناه تدوران‬
‫بني صديقه والنساخ‪ ،‬وكانت أذناه الصغريتان ترشئبان اللتقاط كل‬
‫حرف من احلوار‪.‬‬
‫‪- -‬يا سيدي‪ ،‬لقد نفد الصابون‪ ،‬ونفد كل يشء ومل نأكل طعاما منذ‬
‫أمس و‪...‬‬
‫أدخلت موضوعا يف موضوع‪ ،‬وخرجت من االعتذار إىل‬‫َ‬ ‫‪- -‬ها قد‬
‫االستجداء‪ ،‬أم ستقول إنك تُنظف يديك من احلرب بالرغيف‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتغسل الدوا َة بالكباب والكاسوج؟‬
‫‪- -‬ال‪ ...‬يا سيدي‪ ،‬ما قصدته هو تذكريك فقط بأننا مل نأكل طعاما‬
‫منذ يومني‪.‬‬
‫التفت سهل إىل اجلاحظ فرآه متشاغال بالنظر يف أحد الكتب‬
‫ليومهه أنه منهمك يف تأمل الكتاب‪ ،‬حتى ال يشعر باحلرج أو يغري من‬
‫نربة احلوار‪( .‬وهي عادة عنده إذا كان شديد احلرص عىل سامع احلديث‬
‫اجلاري‪ ،‬وخياف إذا أظهر االنتباه أن يتحرج املتحدث فيقطع احلديث)‪.‬‬
‫لكن سهال كان يعرف صديقه ويعرف حيلته تلك‪ ،‬بل يعرف حرصه‬
‫عىل سامع معاذيره دون درامهه ودنانريه‪ ،‬لكي يقصها عند أول جملس‬
‫من جمالس األصحاب‪.‬‬
‫كان سهل قد غري ِجلستَه فأصبح جالسا عىل قدميه‪ ،‬ويداه‬
‫معتمدتان عىل ركبتيه تدوران وهو يكلم غالمه‪:‬‬
‫‪- -‬خذ هذا الدانق والفلس واشرت ثالثة أرغفة بينك وبني أصحابك‪،‬‬

‫‪283‬‬
‫وال تدخل أمرا يف أمر مرة أخرى‪ .‬قم فاشرت خبز ًا لتغسل به‬
‫الدواة واحلرب عن يديك!‬
‫الفران‪ ،‬بينام التفت‬
‫خرج النساخ من باب الدكان متجها صوب ّ‬
‫سهل فوجد عاممة اجلاحظ قد اسرتخت من الضحك‪.‬‬
‫‪- -‬وتضحك أنت!‬
‫‪- -‬أنت رجل غني‪ ،‬فلامذا التشديد عىل غلامنك يف النفقة يا سهل؟‬
‫غني ِأم َن الفقر!‬
‫‪ - -‬واهلل ليس أحد أفقر من ٍ‬
‫فهم اجلاحظ أن صديقه ال يريد االسرتسال يف احلديث اآلن‪ ،‬فام‬
‫دام قد رمى بتلك اجلملة التي يقوهلا عادة عند هناية احلديث‪ ،‬فذاك‬
‫يعني أن نفسه غري منرشحة لألخذ والرد يف موضوع النفقة والتدبري‪،‬‬
‫فأغىض برصه واندفع يق ّلب ورق املجلد الضخم الذي بيده‪ ،‬بينام كان‬
‫سهل يمسك بقلمه ِ‬
‫مراجعا كتبه املنسوخة حديثا‪.‬‬
‫دخل أحد املشرتين إىل الدكان‪ ،‬شاب ُغ ٌ‬
‫رانق‪ ،‬شديدُ األرس‪ ،‬فخم‬
‫الصوت‪ ،‬عليه سيام طلبة احلديث‪ .‬وقف ثم سأل‪:‬‬
‫‪- -‬هل عندكم يشء من كتب السنن؟‬
‫فالتفت إليه سهل مرحبا وقال‪:‬‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬تفضل وماذا تريد منها؟‬
‫‪- -‬هل عندك من كتب إسامعيل بن علية؟‬
‫مرر سهل يده حتت ذقنه وقال بصوت هادئ‪:‬‬
‫‪- -‬ذاك ليست عندي كتبه‪.‬‬
‫فوىل الشاب خارجا‪ ،‬ثم وقف والتفت وقال‪:‬‬

‫‪284‬‬
‫‪- -‬فهل عندك كتاب السنن لسعيد بن أيب عروبة؟‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬ذاك عندي‪.‬‬
‫وقف سهل وأخذ الكتاب وناوله إياه‪ ،‬أمسك الشاب الكتاب‬
‫ودسها يف يد سهل وخرج‪.‬‬
‫مقلبا صفحاته‪ ،‬ثم أخرج دراهم ّ‬
‫وقف اجلاحظ وبصق خارج الدكان حتى كادت بصقته تقع عىل‬
‫نظرت إليه الفتاة بتأفف وشتمتْه قائلة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫مخار فتاة يف الشارع‪.‬‬
‫‪- -‬أي ٍ‬
‫قرد يف صورة شيطان!‬
‫وصل صوت الفتاة إىل سهل وهو منهمك يف تصحيح كتاب بني‬
‫يديه‪ ،‬فقال بلهجة غنائية‪:‬‬
‫رب أعوذ بك من مهزات الشياطني»!‬
‫‪«- -‬وقل ِّ‬
‫عاد اجلاحظ ِ‬
‫خجال وجلس وهو يغري املوضوع سائال بنربة تطلع‪:‬‬
‫‪- -‬هل من أخبار عن أيب نواس؟‬
‫رفع سهل رأسه عن املجلد الذي بني يديه‪ ،‬تارك ًا طرفيه بني رجليه‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أخربين حممود الوراق‪ ،‬أنه ُقتل يف بغداد بعد خلع األمني وقتله‪.‬‬
‫شعر اجلاحظ بسخونة تتصاعد مع عروق رأسه وهو يذكر اخلرب‪:‬‬
‫‪- -‬هل عرفتم كيف قتل؟ وملاذا؟‬
‫‪- -‬أنت تعلم أنه كان مالزما لألمني املخلوع‪ ،‬وأنه كان شاعره‪،‬‬
‫حتى إن أنصار املأمون كانوا يعريون األمني بقرب أيب نواس‬
‫منه‪ ،‬فلام كثرت الفوىض يف بغداد وانترش السلب والنهب اضطر‬
‫لالختفاء‪ ،‬ثم انقطعت أخباره زمنا‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫‪- -‬لعل احلشوية قتلوه‪ .‬فقد اشتد بأسهم يف بغداد‪ ...‬وال أشك أن‬
‫أصحاب ابن املديني هم من قتله‪.‬‬
‫‪- -‬هل أقلع عن استهتاره باخلمر قبل موته؟‬
‫‪- -‬يموت املرء عىل ما عاش عليه‪.‬‬
‫‪- -‬كيف؟‬
‫‪- -‬حدثني حممود الوراق‪ ،‬أهنم سمعوا مرة أنه تاب وعزم عىل‬
‫دخول دار الصوفية‪ .‬فخرجوا من املسجد ودخلوا عليه ليهنئوه‪.‬‬
‫فلام علم أهنم قادمون إليه وضع بني يديه باطي ًة كبرية‪ ،‬وجعل ال‬
‫يدخل عليه أحد هينئه إال أمسك الباطية ورشب منها ثم أنشد‪:‬‬
‫نزع�ت‪ ،‬و ّمل�ا يعلم�وا وط�ري‬
‫ُ‬ ‫قال�وا‬
‫ِ‬
‫يف كل أغي�دَ س�اجي الط�رف م ّي ِ‬
‫�اس‬
‫تقاس�م ُه‬
‫الن�زوع وقلب�ي ق�د َ‬
‫ُ‬ ‫كي�ف‬
‫ِ‬
‫بالكاس!‬ ‫وق�رع الس� ِّن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حل�ظ العيون‪،‬‬
‫فخجل جلة الشيوخ الذين جاءوا لتهنئته وانرصفوا ومل يعودوا‬
‫ملثلها إىل أن سمعوا بمقتله يف الفوىض‪.‬‬
‫يصاعد إىل دماغه مفكرا يف أن العالقة‬‫شعر اجلاحظ ببخار ّ‬
‫بالسلطان كثريا ما تأيت بقتل أو سحل يف النهاية‪ ،‬والبعد من السلطان‬
‫يقود إىل العوز والفقر املدقع‪.‬‬
‫انشغل ذهنه بتذكر جمالسته األخرية ألمري البرصة‪ ،‬وذلك املال‬
‫الذي مكنه من اكرتاء بيت مجيل واسع‪ ،‬ورشاء فتاة حسناء ستزف له‬
‫هذا املساء‪ ،‬ثم شبك يديه وجعلهام بني ركبتيه‪ ،‬وقال لسهل حماوال طرد‬
‫تلك األفكار بصوت كأنه تنهدٌ ‪:‬‬

‫‪286‬‬
‫‪- -‬سمعت أن األمور بدأت تستقر منذ دخول املأمون‪ ،‬فاحلشوة‬
‫واملطوعة بدأ هياجهم خيبو‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والعامة‬
‫‪- -‬مل ترك املأمون بغداد هذه السنوات الست؟ فاملخلوع قتل عام‬
‫ثامين وتسعني ومائة‪ ،‬لكن املأمون ظل بخراسان تاركا مدينة‬
‫أجداده للرعاع!‬
‫التفت سهل قائال بحامس‪:‬‬
‫‪- -‬املأمون رجل ملة وأمة وعلم‪ ،‬فهو يفهم أن القوة واملنعة والسياسة‬
‫يف فارس ال يف بغداد‪ ،‬حيث يرتاءى منزل اخلليفة مع منازل‬
‫األعراب!‬
‫شعر اجلاحظ بضيق‪ ،‬فاعتدل قائال بحدة‪:‬‬
‫‪- -‬وهل األعراب إال فوارس وصناع دول؟‬
‫َ‬
‫اجلاحظ بعينيه‬ ‫وضع سهل عاممته فبدا ثائر الشعر‪ ،‬ثم حدج‬
‫احلادتي‪:‬‬
‫نْ‬
‫‪- -‬البد أن تعرف فرق ما بني م َلكة الشجاعة و َم َلكة احلرب‪ ،‬وبني‬
‫القدرة عىل اهلدم واملقدرة عىل البناء‪ .‬فإذا كان العريب فارسا‬
‫‪-‬وهذا ما ال ينفيه أحد ألن معظم قادة اجليوش عرب‪ -‬فإنه ال‬
‫يعرف السياسة وال التدبري‪ ،‬وأهل فارس أصحاب رأي وفكر‬
‫وسياسة وتدبري‪ ،‬ثم إن أ ّم املأمون منهم‪ ،‬فام العيب يف جلوس‬
‫الرجل بني أخواله؟‬
‫‪- -‬مل أقل إن يف ذلك عيبا‪ .‬لكني تعجبت من إمهاله لبغداد وهي دار‬
‫اخلالفة‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫‪- -‬عاقبهم ملنارصهتم املخلوع‪ ،‬وتقريبهم له ألن أمه قرشية‪.‬‬
‫تؤول كل أمر تأويال شعوبيا‪ ،‬وهل بغداد إال‬
‫‪- -‬أنت يا أبا هارون ّ‬
‫فارس العراق؟ فام فيها من الفرس أكثر مما يف فارس!‬
‫ُقر بفضائل العجم لتعصبك للعرب‪ ،‬وال‬
‫‪- -‬وأنت يا أبا عثامن ال ت ّ‬
‫عليك‪ ،‬فاملأمون خليفة من أهل العلم‪ ،‬وهو ممن حيب هذه اجلامعة‬
‫املباركة من املعتزلة‪ .‬وقد سمعت أنه بدأ يقرهبم من جملسه‪.‬‬
‫عج ذهن اجلاحظ بصور خمتلطة فيها البيوت الفاخرة‪ ،‬واجلواري‬
‫ّ‬
‫احلسان‪ ،‬والرجال األشداء‪ ،‬والسحل والسجن واجللد‪ ...‬مع طيف‬
‫من صورة اجلارية علية‪ .‬فخفق قلبه وهو يفكر فيها‪.‬‬
‫لكن ما مل يدُ ر بخلده أن ذلك العامل كان أقرب إليه مما يظن‪.‬‬
‫***‬
‫مل تشعر علي ُة بشعور األمان الذي يسكنها هذا املساء منذ سنوات‪.‬‬
‫كانت جالسة وسط هبو الدار عىل سجادة خراسانية فاخرة‪ ،‬واجلاحظ‬
‫ٍ‬
‫مستلق قرهبا يكتب كتابا‪ ،‬رفعت عينيها الواسعتني فالحت هلا العصافري‬
‫تزقزق خارج املنزل‪ ،‬واألفق تلبده غيوم تشارف اإلمطار‪.‬‬
‫طريف مالءهتا‪ -‬ناظر ًة إىل اجلاحظ‬
‫ْ‬ ‫أعادت عينيها ‪-‬وهي تشدّ‬
‫يمر عىل رشائه هلا إال وقت قصري‪،‬‬
‫منهمكا يف الكتابة‪ .‬استغربت أنه مل ّ‬
‫لكنها تشعر معه بأمان مل تشعر به منذ زمن طويل‪.‬‬
‫كانت تتأمله‪ ،‬فشعر بعين ْيها خترتقانه‪ ،‬فانتبه‪ ،‬التفت إليها فقرأ يف‬
‫عينيها حنانا ووهل ًا وحزنا واستعداد ًا للحديث‪ .‬أعاد عينيه إىل كتابه‬
‫سائالً‪ ،‬وكأنه ال هيتم باجلواب‪:‬‬

‫‪288‬‬
‫‪- -‬فيم تفكرين يا علية؟‬
‫‪- -‬أفكر فيك!‬
‫المست جوانب من روحه مل تُلمس قط‪.‬‬
‫ْ‬ ‫رمى القلم‪ ،‬وكأن كلامهتا‬
‫فقال هلا بصوت هادئ‪:‬‬
‫‪- -‬وما وجه تفكريك ّيف؟‬
‫‪- -‬أنا يا أبا عثامن‪...‬‬
‫ثم انحدر دمعها‪ ،‬فسكتت‪.‬‬
‫تستدعي‬
‫َ‬ ‫معضلة الرجل مع املرأة أهنا تظل ضعيف ًة أمامه إىل أن‬
‫وتنهار سدو ٌد ومتّحي‬
‫َ‬ ‫ذلك املاء السحري من مآقيها‪ ،‬فتسقط جدران‬
‫حدود‪.‬‬
‫الدمع حتى تفرض‬
‫َ‬ ‫فالرجل يعرض أحيانا عن املرأة‪ ،‬وما إن تُسبل‬
‫االهتامم‪ .‬وأقدر األقوياء عىل هزيمة خصمه من تظهر قوتُه يف اللحظة‬
‫اخلصم ضعيفا‪ .‬وسالح املرأة السحري ينبجس يف حلظات‬ ‫ُ‬ ‫التي يظنه فيها‬
‫ضعفها‪ ،‬وهي حلظة يكون فيها اخلصم مسرتخيا ومسرتحيا وبال سالح‪.‬‬
‫دمع امرأة قط منذ فجر التاريخ!‬
‫لذلك مل هُيزم ُ‬
‫قفز من مكانه وجلس إىل جنبها ممسكا يدها‪:‬‬
‫‪- -‬ال تبكي يا علية‪ ،‬ال تبكي يا‪...‬‬
‫كان مرتددا يف نطق تلك الكلمة‪.‬‬
‫فقد سمع كثريا من أصحابه يتحدثون عن أن آفة اجلارية أن تفهم‬
‫عشق سيدها هلا‪ ،‬وهو يعلم أنه عاشق وهلان‪ ...‬لكنه يتجلد‪.‬‬
‫مىض وقت وهو ممسك بيدها دون أن يتلكام‪ ،‬لكنه فوجئ بشفته‬

‫‪289‬‬
‫السفىل ترتعد‪ .‬أرسل يدها برسعة متظاهرا بأنه سيبصق‪ .‬مشى إىل باب‬
‫فسمعت صوته حياول أن يبصق‪.‬‬
‫ْ‬ ‫البيت‪،‬‬
‫شعر ٍ‬
‫بعرق خفيف يتجمع عىل ناصيته‪ ،‬وهو يسائل نفسه مندهشا‪:‬‬
‫هل فعال عشقت هذه اجلارية؟‬
‫قاهلا وهو يتذكر آالف اخلواطر التي مرت به‪ ،‬وآالف املرات التي‬
‫عزم فيها أال يتعلق بامرأة قط بعد متارض‪ .‬وال يدري كيف تذكر يف هذه‬
‫اللحظة نقاشه قبل أيام مع أصحاب احلديث عن قدرة اإلنسان عىل‬
‫خلق أفعاله‪.‬‬
‫فهو مؤمن بأن اإلنسان خملوق خمتار يصنع ما يشاء بإرادته دون‬
‫تدخل للمشيئة اإلهلية‪ .‬فهو يملك بني جوانحه مساحة حرة يقرر فيها‬
‫ما يشاء‪ .‬ثم فكر كيف يمكنه أن حيتج هبذه احلجة بعد اآلن إذا كان ال‬
‫يريد أن يعشق هذه اجلارية‪ ،‬لكن قلبه خيفق وجبينه يتفصد‪ ...‬وشفته‬
‫السفىل ترتعد عندما رآها تبكي‪.‬‬
‫عاد وقد استجمع قواه‪ ،‬جلس إىل جانبها فالتقت عيوهنام‪ ،‬تبارقت‬
‫العيون األربع‪ ...‬ولن يستطيع أي منهام إخفاء أن يف تلك العيون وهلا‬
‫وحبا وتوترا وأخيلة وأسئلة‪.‬‬
‫ثرى وطني‪.‬‬
‫التقت عينان من در وعسجد‪ ،‬وعينان من ً‬
‫دارت عيناه برسعة‪ ،‬فكثر ماؤمها فجأ ًة وتسارعت حركات أهداهبام‪.‬‬
‫وحتركت عيناها اللتان ج ّفتا‪ ،‬وإن كانت وجنتاها النديتان حتبسان دمعا‬
‫فح قبل قليل‪.‬‬
‫ُس َ‬
‫تساءل يف نفسه هل هي دموع صادقة؟ أم دموع جارية تتقن فن‬
‫اللعب بالقلوب؟‬

‫‪290‬‬
‫فدموع البرش ال ختتلف عن أحاديثهم يف يشء‪ .‬فمعظمها كذب‬
‫وتصنع‪ ،‬بعضها جمامالت‪ ...‬ونادرا ما يتدفق الدمع خارجا من معني‬
‫القلب‪.‬‬
‫هم بالوقوف فجذبت طرف‬
‫عانقها بحرارة دون أن يتلكم‪ ،‬ثم ّ‬
‫كمه‪:‬‬
‫‪- -‬أمتنى أن تبعث نفيسا إىل السوق ليأيت بعود يا أبا عثامن ألسمعك‬
‫ما مل تسمع قط‪.‬‬
‫جلس دفعة واحدة حمدقا فيها وهو يقول بصوت مرتع باملفاجأة‪:‬‬
‫‪- -‬هل حتسنني الغناء؟‬
‫فقالت بغنج مشوب بلهجة متوعدة‪:‬‬
‫‪- -‬أحسن منه ما ال حيسنه الغريض وال معبد وال زرياب‪.‬‬
‫فقال هلا وهو يفكر يف دمعها الذي جف فجأة‪:‬‬
‫‪- -‬ومن ع ّلمك الغناء؟‬
‫أشاحت بنظراهتا عنه متصنعة التشاغل بإزالة بقعة عن السجادة‪:‬‬
‫‪- -‬تعلمته وأنا صغرية يف أصفهان‪.‬‬
‫‪- -‬لكن إتقان الصنعة حيتاج ِمران ًا ومعلمني حذاقا!‬
‫‪- -‬ال أحد يف أصفهان إال يتقن الغناء‪ .‬ثم‪..‬‬
‫وتذكرت عدم معرفتها بأصفهان‪ ،‬فهي مل تزرها قط‪ ،‬فخافته أن‬
‫يسأهلا سؤاال حمددا‪ ،‬ففاجأته سائلة‪:‬‬
‫‪- -‬هل زرت أصفهان؟‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬وجالست شعراءها وكتاهبا ودخلت بيوت الغناء فيها‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫‪- -‬سآتيك بحساء فاليوم بارد‪.‬‬
‫كان جالسا وظهره إىل اجلدار متأمال شعرها املنسدل ومالءهتا‬
‫الداكنة‪ ،‬متسائال هل لدهيا رس ختبئه داخل ذلك الصدر الفتان‪ ،‬وقفت‪،‬‬
‫العطر أرنب َة أنفه‪ ،‬وهي تدندن‬
‫ُ‬ ‫ومرت من أمامه متعمدة أن يالمس ثوبهُ ا‬
‫بأبيات أيب قطيفة يف شوقه إىل املدينة املنورة‪:‬‬
‫أال لي�ت ش�عري ه�ل تغّي�رّ بعدنا‬
‫وحارضه‬
‫ُ‬ ‫العقي�ق‬
‫ُ‬ ‫ُقب�ا ٌء‪ ،‬وهل زال‬
‫ٍ‬
‫حمم�د‬ ‫ح�ت بطح�ا َء ِ‬
‫قبر‬ ‫وه�ل ِبر ْ‬
‫ُباك�ره‬
‫غ�ر م�ن قري�ش ت ُ‬ ‫ُ‬
‫أراه�ط ٌّ‬
‫مشت يف البهو ٍّ‬
‫بتأن ودخلت املطبخ وهي تغني األبيات بلحن‬
‫املوقع بإتقان من بني أصوات قرع‬
‫شجي‪ ،‬فرتامى إىل سمعه صوتهُ ا ّ‬
‫األواين بعضها ببعض‪.‬‬
‫وقف من مكانه متّجها إىل غرفة كتبه وهو ممزق الوجدان‪.‬‬
‫فال يدري هل يطري سعادة هبذا اجلامل اآلرس والصوت الشجي‬
‫وإحكام صنعة الغناء؟ أم ينقبض خوفا من أن يكون وراء هذه اجلارية‬
‫رش مستطري مل تفصح عنه؟‬
‫جلس عىل طرف رسيره ومد يده بتثاقل وأمسك كتابا ليقرأه‪.‬‬
‫الرياح الباردة القادمة من مدخل الدار مع صوهتا الشجي مرة‬
‫ُ‬ ‫وه ّب ْت‬
‫أخرى وهي تدندن‪:‬‬
‫وصف�و م�وديت‬
‫ُ‬ ‫هل�م منته�ى حب�ي‬
‫ْ‬
‫سائره!‬
‫وحمض اهلوى مني‪ ،‬وللناس ُ‬
‫ُ‬
‫***‬

‫‪292‬‬
‫الدوحة‪1439 ،‬هـ‬

‫قفز رئيس التحرير إىل قسم اإلنتاج‪ ،‬حيث جيلس املنتجون الذين‬
‫ين ّفذون النرشات عىل اهلواء‪ .‬جاء يركض الهثا‪:‬‬
‫‪- -‬هل تأكد اخلرب؟‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ما زلنا ننتظر‪.‬‬
‫وقف منتج قصري ضخم البطن ومد يده إىل األعىل‪:‬‬
‫‪- -‬انظر إىل الشاشة‪ ،‬إن البي يب يس بثته‪ ،‬يمكننا أن ننقله عنهم‪...‬‬
‫حدجه رئيس التحرير بنظرة تأنيب‪:‬‬
‫‪- -‬كيف ننقل عن البي يب يس خربا يف العامل العريب‪ ...‬هذا ملعبنا نحن‪،‬‬
‫يقع!‬
‫وما مل نؤكده نحن فلن يتأكد‪ ...‬واخلرب الذي ال نبثه نحن مل ْ‬
‫وظهر عىل شاشة البي يب يس بعد قليل تنويه باالعتذار‪ ،‬عن نرش‬
‫خرب وفاة زعيم دولة عربية‪ ،‬فصفق منتج النرشة الرئييس الذي ظل‬
‫يتقلب عىل مجر احلرية بني اخلوف من الوقوع يف نرش خرب كاذب‪ ،‬أو‬
‫فوات خرب هبذه األمهية‪.‬‬
‫وظهر باألمحر أسفل الشاشة خرب يقول‪:‬‬
‫«طبيب امللك اخلاص‪ :‬ال زال امللك يرقد يف املستشفى وصحته‬
‫تتحسن»‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫أحس الكل باالرتياح‪ ،‬وجاء صوت القروي‪:‬‬
‫‪- -‬خطأ!‬
‫ٌ‬
‫أعناق من‬ ‫رجع رئيس التحرير مهروال‪ ،‬من مكتبه‪ ،‬وامتدت‬
‫مكتب اإلنتاج مستفرسة‪ .‬فقال القروي وهو يدس يده يف جيب‬
‫بنطاله‪:‬‬
‫‪- -‬هناك فرق بني «ال زال» و«ما زال»‪ ،‬فاألوىل للدعاء يف األغلب‪.‬‬
‫كقول الشاعر‪:‬‬
‫م�ي على البِلا‬‫دار ٍّ‬
‫اس�لمي ي�ا َ‬
‫أال ي�ا ْ‬
‫ِ‬
‫لا بِ َج ْرعائ�ك ال َق ُ‬
‫ط�ر!‬ ‫و«الزال» ُمن َْه ًّ‬
‫فاألمثل أن «ال زال» للدعاء‪.‬‬
‫دو ْت غمغامت مفاجئة يف أطراف غرفة األخبار‪ ،‬وعاد االطمئنان‬‫ّ‬
‫ملنتجي النرشة‪ ،‬وتدخل رئيس التحرير قائال وشفتاه تنفرجان عن أسنانه‬
‫الطفولية‪:‬‬
‫‪- -‬يا حممد‪ ،‬خوفتنا‪ ،‬وكالمك صح‪ .‬غريوها إىل «ما زال»‪.‬‬
‫ونظر القروي نظرة استفسار لزميله املدقق اجلالس بجانبه‪ ،‬فنزع‬
‫نظاراته الكثيفة ومال عليه‪:‬‬
‫‪- -‬هم كانوا متوتّرين‪ ،‬فظنوا أنك تنبه عىل صياغة خاطئة يف اخلرب‬
‫تعطي معنى مغايرا ملا أرادوه‪.‬‬
‫وتذكر القروي أن ال ناقة له وال مجل يف التدقيق‪ .‬وبدل أن جيلس‬
‫ليواصل الكتابة‪ ،‬رن هاتفه وكانت أمه عىل الطرف اآلخر‪.‬‬
‫‪- -‬ال أسمعك جيدا‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫وصعد السلم إىل الكافترييا‪ ،‬بحثا عن جو أهدأ‪ .‬فأصبح الصوت‬
‫أوضح‪.‬‬
‫‪- -‬أبوك اشتد مرضه!‬
‫‪- -‬كيف؟ ما باله؟‬
‫‪- -‬أنت ولده الكبري‪ ،‬وكان حيلم بأن يراك تتزوج من إحدى بنات‬
‫عمه ممن ترفع الرأس‪ ...‬يكون أهلها خؤولة ألبنائك‪ .‬لكنك‪....‬‬
‫وشعر بدوار يف رأسه‪ ،‬وتسارع يف نبضات قلبه‪ ،‬ومتاسك‪:‬‬
‫‪- -‬طيب‪ ...‬ماذا أفعل؟‬
‫نظره مع‬
‫مرسحا َ‬ ‫وانقطع االتصال‪ .‬وجلس عىل أحد الكرايس ّ‬
‫النافذة املطلة عىل الشارع‪ .‬فرأى طوابري السيارات أبدي ًة ال هناية هلا‪.‬‬
‫وملح عماّ ال آسيويني يرتاكضون إلدراك باص يتوقف غري بعيد منهم‪.‬‬
‫ثم ملح طرف القمر يطل من ناحية الكورنيش هزيال حزينا‪ ،‬ملبدا بغيمة‬
‫تائهة‪.‬‬
‫شعر بعبثية كل ما هو فيه‪ ،‬وحتولت املذيعة املطلة من الشاشة‬
‫ِ‬
‫املغروزة يف طرف الكافترييا إىل طفلة عابثة يف عينيه‪ .‬فام قيمة هذا العامل‬
‫الكاذب الذي نرتاكض فيه كاملجانني؟‬
‫مل يعرف هل يكلم والده اآلن‪ ،‬أم يكلم أمه لتوصل إليه رسالة‪،‬‬
‫فالعادات متنعه من فتح قصة الزواج مع أبيه‪.‬‬
‫وال يدري كيف خطر له أن يكلم حصة ليخربها اخلرب ويسمع‬
‫رأهيا‪ .‬وأمسك هاتفه واتصل‪.‬‬
‫‪- -‬أيوه‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫‪- -‬كيف احلال؟‬
‫‪- -‬ال تكلمني مرة ثانية!‬
‫‪- -‬إيش؟‬
‫‪- -‬ما تكلمني مرة ثانية لو سمحت‪ ....‬مفهوم؟‬
‫وسمع صوت وقوع هاتفه عىل الرخام األبيض بني رجليه‪.‬‬
‫وختيل نفسه وقد عاد إىل موريتانيا‪ ،‬جاء ليال إىل مضارب قبيلته‪،‬‬
‫حيث تكفي إشارة منه لنيل ود أمجل فتاة أنجبتها القبيلة‪ .‬فهو الفتى‬
‫املتعلم ابن احلسب والنسب‪ ،‬وليس يف قبيلته فتاة متعلمة أو جاهلة إال‬
‫وتتمناه‪.‬‬
‫لكنه عندما ختيل نفسه مع فتاة غريها‪ ،‬وجد قلبه ال يطاوعه‪.‬‬
‫هي فقط التي يريد‪ ،‬بابتسامتها احلائرة‪ ،‬وجنوهنا األبدي‪ ،‬وقصصها‬
‫وأحابيلها‪ ،‬وهاتفها القديم‪ ،‬ووسواسها اإللكرتوين‪.‬‬
‫ال يتخيل نفسه مع فتاة غريها‪ .‬ال يتخيل احلياة مع أي فتاة أخرى‬
‫إال حياة َمواتا باهتة ال روح فيها‪ ،‬حياة ال حركية للزمن فيها‪.‬‬
‫ما الذي أغضبها؟ ماذا فعل حتى يغضبها وتطلب منها قطع حبل‬
‫الود أبدا؟‬
‫مشى خطوات إىل البائعة الفليبينية‪ ،‬وطلب قنينة من املاء وعاد‬
‫وجلس وسط القاعة‪.‬‬
‫ما الذي أغضب تلك احلمقاء يا ترى؟‬
‫وبدأ حماسبة نفسه‪ :‬ما الذي دفع يب إىل كل هذا؟‬
‫ثم فكر يف غباء أحد أصدقائه حني قال له يوما‪:‬‬

‫‪296‬‬
‫‪- -‬ال سعادة إال لعاشق‪.‬‬
‫عمق له الفكرة بأن العاشق ال تراه إال‬‫ثم تذكر غباءه هو‪ ،‬وكيف ّ‬
‫َ‬
‫مرشق الوجه كأنام الدنيا بني يديه‪.‬‬ ‫ضاحك السن‪،‬‬
‫ثم خطر له أن أتعس الناس هم العشاق‪ ،‬وذلك ألهنم يظنون‬
‫السعادة يف قرب املحبوب‪ ،‬ويغفلون عن أن جمرد وجود املحبوب بداية‬
‫العذاب‪ ،‬ألن مفتاح سعادة اإلنسان حينها يصبح بيد شخص آخر‪،‬‬
‫يغلق قل َبك وقت ما شاء ويفتح لك أبواب الرسور متى شاء‪.‬‬
‫ودخل أحد الصحفيني ورمى التحية‪:‬‬
‫‪- -‬كيفك يا حممد؟‬
‫‪- -‬بخري‪.‬‬
‫وعاد إىل األسئلة احلارقة‪ .‬كيف رمى فجأة ‪-‬يف غفلة من عقله‪-‬‬
‫بمفاتيح قلبه إىل تلك الفتاة لتعبث به كيف شاءت؟ تفتح له أبواب‬
‫السعادة‪ ،‬فتنفرج أسارير وجهه وتطيب عرشته للناس‪ .‬وما إن تقرر‬
‫إغالق قلبه حتى تتحول احلياة يف عينيه موكبا عبثيا ال معنى له‪ٌ ...‬‬
‫عامل‬ ‫َ‬
‫يرتاكضون إىل باص‪ ،‬وطابور من السيارات ال ينتهي‪ ،‬وقمر كئيب‪،‬‬
‫وأشباح برشية تتقافز عىل شاشة مثبتة يف طرف حجرة باردة‪.‬‬
‫قام من فوق مقعده‪ ،‬فسمع إشعارا برسالة نصية يف هاتفه‪.‬‬
‫ملحها‪ ،‬فوجدها من حصة‪ .‬مل تزد عىل سطر‪:‬‬
‫روح تزوج زينب بنت األمني»‪.‬‬
‫«كذبت عيل‪ْ ،‬‬
‫وشعر بكيانه هيتز‪.‬‬
‫كيف عرفت تلك الشيطانة هذا االسم‪ ،‬ومن أخربها به؟!‬

‫‪297‬‬
‫ويف غمرة املفاجأة راح يستعرض احتامالت وصول االسم لتلك‬
‫الشيطانة‪ .‬ثم تذكر‪.‬‬
‫كيف أمسكت هاتفه للحظة‪ ،‬وتذكر قوهلا له مرة إهنا تستطيع‬
‫الدخول إىل أي هاتف شاءت‪.‬‬
‫وتراءت له ضحكتها املستفزة قائلة‪:‬‬
‫‪- -‬النفاثات يف العقد!‬
‫وختيل روحه عارية أمامها‪ ،‬تقرأ خلجات قلبه كلها‪ ،‬متأمل ًة كل‬
‫صوره يف املايض واحلارض‪ ،‬وكل حاالته نائام ومستيقظا‪.‬‬
‫وتذكر وجه زينب بنت األمني‪ ،‬وضحكتها الدائمة وبراءهتا‪ ،‬وكوهنا‬
‫ال تكاد تتهجى احلروف‪ ،‬فكيف بالسطو عىل أخص اخلصوصيات‪.‬‬
‫ٍ‬
‫سجني هارب كُبل‬ ‫وانتابه شعور بالعجز‪ .‬شعور ٍ‬
‫طائر يف قفص‪ ،‬أو‬
‫فجأ ًة بأغالله من جديد‪ ،‬تراخى عىل كرسيه‪ ،‬وشبك ساعديه ووضعهام‬
‫عىل الطاولة ورمى رأسه بينهام‪ .‬ثم جاءه صوت مازن‪:‬‬
‫‪- -‬هال حممد كيفك؟‬
‫ورفع وجهه من بني ذراعيه بتثاقل‪ ،‬حماوال مداراة أكوام اهلموم‬
‫التي حيمل فوق كتفيه‪:‬‬
‫‪- -‬بخري‪.‬‬
‫وغمزه مازن بطرف سيجاره ممازحا‪:‬‬
‫‪- -‬مالك يا أخي؟‬
‫‪- -‬أحدثك الحقا‪.‬‬
‫ونظرات‬
‫ُ‬ ‫ومشى بتثاقل كأنه يقتلع رجليه من األرض اقتالعا‪،‬‬

‫‪298‬‬
‫مازن املتسائلة تُشيعه حتى توارى وراء باب الكافترييا‪.‬‬
‫نزل من السلم وهو يطرد من ذهنه عبار ًة قرأها قديام لنيتشه‪،‬‬
‫قلب الرجل مكمنا للقسوة‪،‬‬ ‫واستيقظت من ذاكرته فجأة‪« :‬إذا كان ُ‬
‫ْ‬
‫فقلب املرأة مكم ٌن للرش»!‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫البصرة‪ 200 ،‬هـ‬

‫مر يومان كامالن عىل اجلاحظ مل يرتك خالهلام بيته حتى إىل املسجد‪،‬‬
‫ّ‬
‫سقطت كل مهوم الدنيا عىل هامته‪ ،‬ومما زاد يف مهه أن علية مل تستطع‬
‫التخفيف عنه‪ ،‬بل زادت مهه مهوما‪.‬‬
‫نزل عن رسيره وأخذ كتابا عن اخليل عند العرب‪ ،‬وعاد إىل الرسير‬
‫ليقرأه‪ ،‬استلقى عىل قفاه واضعا الكتاب اجللدي عىل صدره‪ ،‬وبدأ يقرأ‪.‬‬
‫قرأ صفحات ثم الحظ أنه مل يفهم كلمة‪ .‬كأن موضوع الكتاب‬
‫عن السفر إىل بغداد وجاريته علية‪ ،‬وتاريخ الرصاع بني املأمون وأخيه‬
‫األمني الذي ُقتل قبل سنني‪ ،‬وحقيقة ابن الزيات‪.‬‬
‫الكتاب منزعجا مفكرا يف خداع عقولنا لنا حتى مع الكتب‪.‬‬
‫َ‬ ‫وضع‬
‫فهل الكتب ال تعطينا إال ما يف أذهاننا أصال؟ وإال كيف قرأ صفحات‬
‫ال يذكر منها إال أنه سيدخل بغداد وينادى باسمه عند باب أثرى أثرياء‬
‫بغداد ابن الزيات‪ ،‬مع أن الصفحات تتحدث عن اخليل!‬
‫جلس ُم ِنزال رجله من فوق الرسير‪ ،‬متسائال‪ :‬هل يعني هذا أنني‬
‫ال أجد يف الكتب إال ما كان مطمورا يف ذهني قبل قراءهتا؟ فال أجد‬
‫فيها إال ما أريد أن أجده فيها؟ وهل هلذا عالقة بقول حكيم اليونان إن‬
‫العلم ما هو إال تذكر‪ ،‬واجلهل ليس إال نسيانا؟ فحتى هذه الكتب التي‬

‫‪301‬‬
‫أفنيت العمر يف مجعها ومعارشهتا ال تعطيني ماهيتها‪ ،‬فال متنحني إال ما‬
‫ُ‬
‫كان مطمورا يف دهاليز نفيس‪.‬‬
‫قام من فوق رسيره ملقي ًا نظرة عىل علية التي بدت قمرا وهي ما‬
‫بني اليقظة والنوم‪ .‬نظر إليها وهو يفكر هل يف العراق جارية أحسن‬
‫منها‪ ،‬لكن ذهنه ذهب إىل الرسالة التي أتته أمس وغريت عامله‪.‬‬
‫إذ كان جالسا وسط حلقة املسجد يناظر بعض أصحابه يف الفلسفة‪،‬‬
‫كان هو يدافع عن األدلة عىل وجود اهلل وإمكان النبوءة‪ ،‬وكان أحد‬
‫أصدقائه حيشد األدلة عىل استحالة النبوءة عقال‪ ،‬فدخل عليهم فجأة‬
‫جندي‪.‬‬
‫وقف اجلندي قرب السارية يف مالبسه السوداء‪ ،‬وعاممته ا ُملق ّب ِبة‪،‬‬
‫وذراعاه املفتولتان تغطيهام جلو ٌد واقية‪.‬‬
‫انحبست األنفاس انتظارا ملا يقوله‪ .‬قال اجلندي الذي يبدو عليه‬
‫اإلرهاق‪:‬‬
‫‪- -‬أين أبو عثامن عمرو ب ُن ٍ‬
‫بحر اجلاحظ؟‬
‫ما إن أهنى اجلندي كلمته حتى التفت الناس بعضهم إىل بعض‪،‬‬
‫خوفا من أن تكون يف األمر وشاية عند سلطان‪ ،‬أعاد اجلندي سؤاله‬
‫بحزم مغريا صيغته‪:‬‬
‫‪- -‬أيكم اجلاحظ؟‬
‫ِ‬
‫ببنت‬ ‫فالتفت اجلالسون هذه املرة إىل اجلاحظ دون أن ينبسوا‬
‫شفة‪ ،‬أما اجلاحظ فمرت بذهنه آالف االحتامالت يف ثوان‪ ،‬فكّر يف أن‬
‫اجلندي ربام يدعوه ملنادمة السلطان بعد أن سمع أو قرأ أحد كتبه‪ ،‬أو‬

‫‪302‬‬
‫لعله جاء بعد أن وشى به أحد طالب احلديث متهام إياه باالستخفاف‬
‫باحلديث واملبالغة يف مكانة العقل‪ ،‬وسط تلك االحتامالت واألخيلة‬
‫حس آه‪....‬‬
‫حس آه‪ّ ،‬‬
‫سمع رصخات بشار بن برد‪ّ :‬‬
‫رفع يده قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أنا اجلاحظ‪.‬‬
‫عرف بنفسه عن شجاعة‬ ‫ثم تقلصت شفتاه رعبا‪ ،‬فال يدري هل ّ‬
‫أو خوف‪ .‬فكثريا ما ُأ ّو ْ‬
‫لت ترصفات نابعة من الشجاعة عىل أهنا جبن‪،‬‬
‫وأخرى نابعة من اخلوف عىل أهنا شجاعة‪.‬‬
‫فعندما يقفز اإلنسان من ٍ‬
‫عل ليقتل نفسه‪ ،‬أمل يملك قدرا من‬
‫الشجاعة مكّنه من القيام بتلك اخلطوة املهولة؟ ومع ذلك‪ ،‬أليس اجلبن‬
‫عن مواجهة أعباء احلياة الدافع وراء تلك اخلطوة الرهيبة؟‬
‫ضج خياله بتلك األسئلة حتى يف هذه اللحظة‪ ،‬فذهنه ال يتوقف‬
‫عن املقارنات‪ .‬أثناء ذلك‪ ،‬تقدم اجلندي وناوله كتابا‪.‬‬
‫أيفتحه هنا بني رفاقه‪ ،‬أم ينتظر حتى خيرج‬
‫ُ‬ ‫تناول الكتاب حمتارا‪.‬‬
‫فلعل فيه ما يستحق الكتامن‪ ،‬التفت إىل جلسائه‪ ،‬فرأى الوجوه وامجة‪،‬‬
‫صت‪ ،‬وبعض العيون تغيض إىل األرض خمافة الشامتة‪،‬‬ ‫والشفاه قد تق ّل ْ‬
‫وتلهف وأسئلة حمبوسة تكاد تفر من عقال شفاهها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وأخرى فيها بريق‬
‫أما اجلندي‪ ،‬فلم ينتظر‪ ،‬وو ّىل ماشيا‪ ،‬خارجا من باب املسجد‪.‬‬
‫التفت أحد اجللساء إليه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما دام الرسول قد و ّىل‪ ،‬فاألمر أمر خري‪.‬‬
‫ابتسم اجلاحظ‪ ،‬وهو يرفع يرساه إىل وجهه خلس ًة ليمسح حبيبات‬

‫‪303‬‬
‫عرق جتمعن عىل جبهته‪ ،‬متمنيا أال يكون جلساؤه الحظوا وجودها‪.‬‬
‫ثم التفت إليهم متصنعا االبتسامة‪ ،‬ملمحا إىل آخر فكرة كان خصمه‬
‫يدافع عنها فقال‪:‬‬
‫‪- -‬وما الفرق عند احلكامء بني رسول البِرش ونذير األرس؟ فأحوال‬
‫هذا العامل قائمة عىل الوهم!‬
‫رست ضحك ٌة متفاوتة مفعمة بالتوتر واالنتظار‪ .‬أمسك اجلاحظ‬
‫الكتاب بيرساه وبدأ حيل اخليط اجللدي الذي يطوقه بيمناه‪.‬‬
‫لكن اضطراب إهبامه كان كاشفا عماّ انتابه بوضوح‪.‬‬
‫كانت الرسالة من بغداد تطالبه باحلضور حاال‪.‬‬
‫***‬

‫‪304‬‬
‫بغداد‪ ،‬ما بين ‪ 200‬و‪ 208‬هـ‬

‫الورد يف بغداد ضاج ًا بحركة الزبائن من مقيمني‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬


‫خان‬ ‫كان‬
‫ومغادرين يف ساعات الصباح األوىل‪ ،‬فوقوعه قرب باب الطاق جيعله‬
‫اخلان املفضل للتجار واملتصوفة واملتسولني الذين ال خيلو منهم مدخله‪.‬‬
‫خرج اجلاحظ من غرفته بعد أن اغتسل وتطيب‪ ،‬فسمع تاجرا‬
‫أجش الصوت يصيح بغلامنه‪:‬‬
‫‪- -‬الصباح رباح! أرسعوا‪.‬‬
‫مر عىل مرشف اخلان ودس دراهم يف يديه‪ ،‬ثم خرج إىل الشارع‪.‬‬
‫أصوات خمتلطة؛ حناجر الباعة املنادين عىل بضائعهم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اخرتقت سم َعه‬
‫ومماكسة بني مشرت وبائع‪ ،‬وضحكات جوار جالسات قرب عتبة دكان‪.‬‬
‫جتاوز اجلواري مفكرا يف غرابة أصوات املدن الكبرية التي مل‬
‫يألفها املرء متسائال‪ :‬هل كان يسمع نفس األصوات يف البرصة لكن‬
‫األلفة حالت دون مالحظتها؟ أم أن املدن التي ال نعرفها تتلقانا بتجهم‬
‫وتوجس؟‬
‫نظر إىل الورقة التي بيده مراجعا عنوان املكان الذي يقصده‪ ،‬أرجع‬
‫الورقة إىل جيبه وهو يستنشق رائحة قوية خيتلط فيها عبري العطور بنكهة‬
‫البهارات والسمك املجفف‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫سمع صوتا آتيا من أعىل يقول‪:‬‬
‫نذير الشؤم!‬
‫‪- -‬هو واهلل ُ‬
‫رفع برصه فرأى سيدة بخامر أسود تتحدث إىل جارهتا من رشفة‬
‫منزهلا‪ ،‬وبيدها قطة شائهة اخلَلق‪ .‬شعر بانزعاج وتطيرّ وهو يفكر يف‬
‫أن أول كلمة يسمعها يف طريقه إىل منزل ابن الزيات هي كلمة «نذير‬
‫ضار وال نافع إال اهلل‪ .‬ثم‬
‫الشؤم»‪ .‬لكنه مل يلبث أن راجع نفسه أن ال ّ‬
‫عاتب نفسه‪ :‬إذا كان أهل العدل والتوحيد يتطريون فامذا تركنا للعامة‬
‫والدمهاء؟‬
‫طرد التطري من ذهنه متذكرا صورة علية واقفة تودعه‪ ...‬حائرة بني‬
‫البكاء والوداع‪ ..‬متأرجحة بني عالمَني‪.‬‬
‫صورهتا ‪-‬وهي واقفة أمام منزله ملوحة بيدها‪ -‬تكاد ختتنق‬
‫بعربهتا‪ .‬غري أن ما جعلها ال تغيب عن ذهنه ليس شوقه إليها فحسب‪،‬‬
‫بل ذلك الرس الغامض الذي ختفيه‪ ،‬وذلك اخلوف الذي يستبد به كلام‬
‫فكر يف ذلك األمر الذي ختفيه‪.‬‬
‫مل حتك له القصة كاملة‪ ،‬فلو حكتها له السرتاح‪ .‬أعطته أنصاف‬
‫حقائق وأنصاف مجل‪ ،‬وأنصاف خالصات‪.‬‬
‫وأنصاف احلقائق أخطر من غياب احلقائق بالكلية‪ .‬كام أن الغياب‬
‫الكامل للحديث أكثر إفهاما وإفصاحا من احلديث املتقطع امللتوي‪.‬‬
‫ألح سمع‬
‫فهم منها قبل سفره حزنا وخوفا عليه وعليها‪ .‬وعندما ّ‬
‫منها كلامت‪« :‬بغداد‪ ،...‬كنت جارية‪ ،...‬وال أستطيع‪ ،...‬وهو املوت‪.»...‬‬
‫تذكر ما قاله لصديقه النظام من أن األدب وإحكام الصنعة الذي‬

‫‪306‬‬
‫عندها ال يكون إال جلارية خليفة أو أخد من حاشية اخلليفة‪.‬‬
‫كانت هذه األفكار تتقافز يف ذهنه وهو يقف أمام احلارس قائال‪:‬‬
‫‪- -‬قل له‪ :‬عمرو بن بحر بالباب‪.‬‬
‫بعد قليل عاد احلارس ليقوده إىل غرفة واسعة مؤثثة بفرش‬
‫الصوف أحسن ما يكون األثاث‪ .‬جلس متأمال الغرفة‪ ،‬وهو يقارن‬
‫بني هذا األثاث وأثاث بيت أمري البرصة‪ ،‬مالحظا تواضع جملس األمري‬
‫مقارنة هبذه الغرفة‪.‬‬
‫رفع نظره متأمال السقف املزين بالفسيفساء الدقيقة التي متيل‬
‫ألواهنا وزركشاهتا إىل األخرض والذهبي‪ .‬ثم ردده يف زواياها فرأى‬
‫فهودا ذهبية كأن احلياة تدب فيها‪ ،‬وعىل مقربة منها طاولة دائرية قصرية‬
‫القوائم عليها كتب وقراطيس وأقالم‪.‬‬
‫ثم سمع صوتا قادما يف الردهة‪.‬‬
‫دخل ابن الزيات مرتديا مالبسه متشحا سيفه وهو يقول بضحكة‬
‫واسعة‪:‬‬
‫‪- -‬أخريا رأيناك!‬
‫وقف اجلاحظ مرتبكا حتى كاد يعثر وهو يقول‪:‬‬
‫رشفكم اهلل!‬
‫‪ّ --‬‬
‫تعانقا ثم أشار ابن الزيات إىل ركن الزاوية‪:‬‬
‫‪- -‬تفضل‪ ،‬تفضل‪.‬‬
‫كان قلب اجلاحظ ممزقا بني السعادة واخلشية‪ ،‬وبني الطمع يف‬
‫السالمة والطمع يف املغنم‪ .‬فكان ينظر إىل االبتسامة الواسعة عىل حميا‬

‫‪307‬‬
‫الزيات‪ ،‬فريجح أنه ما أتى به إال ليقتبس من علمه وأدبه‪ .‬لكنه ما يلبث‬
‫أن يراجع نفسه متذكرا أنصاف اجلمل التي قالتها له علية وهي ترتعد‪.‬‬
‫انتشله ابن الزيات من تلك األفكار قائال‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل إن كتبك أشهى من الراح بأيدي املالح يا أبا عثامن‪.‬‬
‫‪- -‬شكر اهلل لكم‪.‬‬
‫قاهلا وشعور باألمان جيتاحه بتدرج‪ ،‬طاردا عنه صورة علية‪.‬‬
‫دخل غالمان حيمالن صينية كبرية عليها أوان خمتلفة مغطاة بقامش‬
‫من احلرير‪ .‬وضعاها ثم انرصفا‪.‬‬
‫دخل غالم آخر وأزاح الغطاء فظهرت مائدة ملونة ال تكاد ختلو‬
‫من صنف من أصناف الطعام‪.‬‬
‫بذل اجلاحظ جهده حتى ال ينشغل بالنظر إىل ِخوان الطعام عن‬
‫عيني جليسه‪ .‬بادره ابن الزيات قائال‪:‬‬
‫النظر يف ْ‬
‫‪- -‬تفضل يا أبا عثامن‪ ،‬ثم قل يل كيف أنت وكيف حال البرصة؟‬
‫وكيف رأيت بغداد؟‬
‫اقرتب اجلاحظ من اخلوان وقد اطمأن به املجلس‪ ،‬فابتسم نصف‬
‫ابتسامة وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل يا أبا جعفر‪ ،‬إن البرصة بخري‪ ،‬وإهنا ألحسن مدن الدنيا‪.‬‬
‫‪- -‬وما الذي جيعلها أحسن مدن الدنيا؟‬
‫‪- -‬إن البرصة عامل صغري ينطوي يف تالفيفه العامل األكرب‪ .‬ففي أي مدن هذا‬
‫العامل جتد النسطوري واملانوي والعامي والشيعي والصويف واألعرايب‬
‫واخلراساين والبنوي والزنجي يف صعيد واحد إال يف البرصة؟‬

‫‪308‬‬
‫‪- -‬صحيح!‬
‫قاهلا ابن الزيات ومل يزد عليها‪ ،‬وكأنه حيث اجلاحظ عىل مواصلة‬
‫حديثه‪.‬‬
‫‪- -‬فأنت إذا رست يف شارع واحد من شوارع البرصة سرتى عابد‬
‫َ‬
‫ومؤذن املسلمني‪،‬‬ ‫وماسح الصليب النرصاين‪،‬‬
‫َ‬ ‫البِدَ َدة اهلندي‪،‬‬
‫واملجويس واملانوي‪ .‬وال أحسب مدينة من مدن العامل غري البرصة‬
‫حتوي ذلك كله‪.‬‬
‫مد ابن الزيات يده لقطعة من البطيخ ثم قطعها بأناقة وناوهلا‬
‫للجاحظ وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬لكن بغداد تكاد تساوهيا يف ذلك‪ .‬ولوال الفتنة التي خربتها خالل‬
‫أنافت عليها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫األعوام املاضية لكانت‬
‫‪- -‬إن للبرصة ما ليس لغريها من املدن‪ ،‬فالسعر فيها أرخص‪ ،‬فهو‬
‫عىل النصف من سعر بالد الشام وغريها‪ ،‬فلو أردت مثال أن تبني‬
‫دارا يف الكوفة أو بغداد أو الشام لكلفك بناؤها مائة ألف درهم‪.‬‬
‫‪- -‬سمعت ذلك‪.‬‬
‫‪- -‬أما لو ابتنيتها يف البرصة فلن تكلفك إال نصف ذلك‪.‬‬
‫‪- -‬وما سبب ذلك؟‬
‫واجلص وأجذاع الشجر‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬ألن الدار إنام تُبنى باآلجر والطني‬
‫واحلديد واخلشب والصناع‪ .‬وكل هذا بسعر النصف بالبرصة‬
‫لكثرة سكاهنا مع وفرة الدرهم والدينار‪.‬‬
‫‪- -‬صحيح‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫‪ - -‬ثم إن خراج البرصة وحدها يساوي أضعاف خراج مدن العراق‬
‫جمتمعة‪ .‬فعدد السفن التي تدخل البرصة وال تبيت هبا يف اليوم‬
‫الواحد ألفا سفينة‪.‬‬
‫‪- -‬ومع هذا يفاخركم الكوفيون؟‬
‫‪- -‬ثم إن للبرصة ميزة أخرى يا أبا حممد‪ ،‬وأنت أدرى‪..‬‬
‫‪- -‬ما هي؟‬
‫‪- -‬إن خراج البرصة من أكثر اخلراج‪ .‬فخراج العراق كله مائة ألف‬
‫ألف‪ ،‬واثنا عرش ألف ألف‪ .‬وخراج البرصة وحدها من ذلك هو‬
‫ستون ألف ألف!‬
‫رفع ابن الزيات رأسه مبتسام وقال وكأنه يتنهد‪:‬‬
‫‪- -‬آه! أراك اشتقت إىل البرصة وأنت ما تركتها إال أمس!‬
‫ضحك اجلاحظ‪ ،‬ثم عدل جلسته‪ ،‬فبادره ابن الزيات قائال‪:‬‬
‫‪- -‬هل تدري مل دعوتك يا أبا عثامن؟‬
‫‪- -‬دعومتوين لكرمكم وحبكم العلم واألدب‪.‬‬
‫قرأت كتابك عن حيل اللصوص‪ ،‬وكنت أضحك طول‬ ‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬
‫مسا من جنون‪ ،‬كام قرأت‬ ‫الليل فيظن اجلواري والغلامن أن يب ًّ‬
‫لك ُنتَف ًا متفرقة أخرى‪ ،‬فرأيت أدبا مشوبا بعقل‪ ،‬وختيال ممزوجا‬
‫بظرافة ما رأيت مثلها عند الكتاب وال الشعراء‪.‬‬
‫شعر اجلاحظ كأن جبال أزيح عن كاهله‪ ،‬فمدّ يديه ألخذ سفرجلة‬
‫من فوق الصينية وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما ذاك إال من أدبكم وطيب منبتكم‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫رفع إليه ابن الزيات وجهه‪ ،‬فالحظ للمرة األوىل درجة دمامته‬
‫وهو يتأمل رأسه الدقيق ورقبته القصرية‪ ،‬فبادره قائال‪:‬‬
‫‪- -‬سأشرتط عليك يا أبا عثامن‪.‬‬
‫‪- -‬اشرتط ما بدا لك يا أبا جعفر‪.‬‬
‫‪- -‬أشرتط أن حتادثني كام حتادث أقرب أصدقائك إليك‪ ،‬وأال‬
‫تستعمل الكُنى إال استعامل الصديق هلا‪.‬‬
‫‪- -‬لك ذلك‪.‬‬
‫ثم قال ابن الزيات وكأنه تذكر أمرا نسيه‪:‬‬
‫‪- -‬دعوتك يا أبا عثامن ألقتبس من علمك وأدبك‪ .‬فأنا رجل ُولدت‬
‫يف بيت تاجر‪ ،‬إال أن قلبي قلب شاعر‪ ،‬فتجارة والدي هذه ال‬
‫يعنيني منها إال ما أقيض به حاجايت وأشرتي به كتبي‪.‬‬
‫‪- -‬متعك اهلل بمباهج احلياة‪.‬‬
‫‪- -‬لقد أمرت الغلامن بتجهيز مسكنك‪ ،‬كام أمرهتم بالسهر عىل‬
‫خدمتك‪ .‬وسيأتيك أحدهم غدا لنلتقي يف بيت احلكمة‪.‬‬
‫مال ابن الزيات جهة الباب وصفق بيديه‪ ،‬فأقبل أربعة غلامن‬
‫يتسابقون‪ ،‬أشار ألحدهم برفع املائدة وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬لقد بدأ أمري املؤمنني املأمون يف إحياء «بيت احلكمة» الذي أسسه‬
‫آباؤه وقد مأله برتامجة لسبع لغات‪ ،‬هي‪ :‬الرسيانية واهلندية‬
‫والعربية واليونانية والقبطية والفارسية واحلبشية‪.‬‬
‫شعر اجلاحظ بغرية دفعته إىل التساؤل‪ ،‬وهو ّ‬
‫حيك رقبته‪:‬‬
‫‪- -‬وهل أجرى عليهم أجورا؟‬

‫‪311‬‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬مخسامئة دينار يف الشهر للمرتجم‪.‬‬
‫ثم استعجل حتى يعرف طبيعة ما خيبئ له الرجل‪:‬‬
‫‪- -‬لكنني يا أبا جعفر ال أعرف من اللغات إال ُنتَف ًا من الفارسية‬
‫قليلة‪ ،‬وهي ليست لغة علم ومل ُيكتب هبا يشء ذو بال‪.‬‬
‫فهم ابن الزيات استفسار صاحبه‪ ،‬فقال مبتمسا‪:‬‬
‫‪- -‬لكني ما أتيت بك للرتمجة‪ .‬بل ألقتبس من علمك وأعينك عىل‬
‫التفرغ للتأليف‪.‬‬
‫ما إن سمع اجلاحظ العبارة حتى شعر بسعادة غامرة جتتاحه‪ ،‬شعر‬
‫برعدة يف ركبتيه ال تنتابه إال عند اخلوف الشديد أو السعادة الفائضة‪.‬‬
‫فهل وجد أخريا ما كان حيلم به طيلة حياته؟ هل وجد رجال ثريا يتوىل‬
‫عنه شؤون الدنيا ليتفرغ تفرغا تاما للتأليف دون حاجة إىل التفكري يف‬
‫املعاش؟‬
‫لكن ابن الزيات مل يمهله؛ فقال وقد تذكر ما حدثه به املأمون‬
‫البارحة‪.‬‬
‫‪- -‬كيف صاحبكم سهل بن هارون؟‬
‫وقع السؤال وقعا غري مريح‪ ،‬إذ خطر ببال اجلاحظ أن ابن الزيات‬
‫قد يسأل عنه ليرشكه معه يف املهامت التي سيكلفه هبا؛ فقال‪:‬‬
‫‪- -‬هو بخري‪ ،‬وما زال شديد التعصب عىل العرب‪ ،‬يكاد قلبه حيرتق‬
‫غيظا عليهم وحبا للفرس‪.‬‬
‫ابتسم ابن الزيات ‪-‬وهو يريد أن يقف ليأخذ كراسة من فوق‬
‫الطاولة املستديرة‪ -‬ثم قال وهو يقلب الكراسة‪:‬‬

‫‪312‬‬
‫‪- -‬لقد اطلعت عىل رسالته هذه يف ذم العرب‪ ،‬وواهلل إهنا لظريفة‬
‫وحمشوة أدبا و َظ ْرفا‪.‬‬
‫‪- -‬ال شك أنه رجل من أهل البالغة والرتسل‪ ،‬لكن ذم العرب‬
‫وتتبع عوراهتم ليس من شيم األكارم‪ ،‬وهو مع ذلك صديق‬
‫ودود‪ ،‬ولقد كنت معه يوم كتب هذه األوراق التي بيدك‪.‬‬
‫ثم روى اجلاحظ كيف كانوا مع املسجديني وجرت مناظرة حامية‬
‫بني من يتعصب للعرب ومن يتعصب للفرس‪ ،‬إذ كان سهل بن هارون‬
‫وأبو نواس يتعصبان للفرس‪ ،‬فيام كان اجلاحظ يدافع عن العرب‪.‬‬
‫ثم ابتسم اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫‪- -‬وبعد انقضاء املناظرة يف املسجد عاد سهل إىل بيته وكتب هذه‬
‫الوريقات يف ذم العرب‪ ،‬غري أن الناس مل تلهج يف ذلك اليوم إال‬
‫بأبيات أيب نواس يف ذم الشعراء العرب ووقوفهم عىل األطالل‪.‬‬
‫‪ - -‬ماذا قال؟ قاتله اهلل ما أظرفه!‬
‫تربع اجلاحظ وقال بصوت فخم وخمارج واضحة‪:‬‬
‫ِ‬
‫الش�ق ّي على رب�ع يس�ائله‬ ‫ع�اج‬
‫َ‬
‫أس�أل ع�ن خمَ ّ�ار ِة البل�دِ‬
‫ُ‬ ‫ج�ت‬
‫و ُع ُ‬
‫َ‬
‫يبكي على طلل الثاوين من أس�د‬
‫درك ق�ل يل‪ :‬م�ن بنو أس�د؟‬ ‫در ّ‬ ‫ال ّ‬
‫قي�س ولفهما؟‬
‫متي�م و َم�ن ٌ‬
‫و َم�ن ٌ‬
‫لي�س األعاريب عن�د اهلل من أحد‬
‫حجر ًا‬
‫عين�ي من بكى َ‬
‫ْ‬ ‫ال ُي ْرقئ اهلل‬
‫يصبو إىل َوت َِد!‬ ‫وال ش َفى َو ْجدَ من ْ‬

‫‪313‬‬
‫دوت ضحكة الزيات ورضب رجله طربا عىل األرض وقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ - -‬وأبو نواس مع ذلك عريب يامين النسب‪ ،‬ولعل ال َّظ ْرف هو ما‬
‫محله عىل هذا القول فال هتتم يا أبا عثامن‪ ،‬فالعرب هام ُة الناس‪،‬‬
‫الغرة من ال َفرس‪ ،‬والقالدة من احلسناء‪ ،‬و َمق َبض‬‫ِ‬ ‫وموضع‬
‫ُ‬
‫السيف‪ .‬فال يرضهم شتم وال يزيدهم ثناء‪.‬‬
‫ثم وقف الزيات كأنه تذكر أمرا نسيه‪ ،‬فصفق بيديه‪ ،‬فدخل غالم‬
‫رومي شديد البياض ومال عليه فهمس يف أذنه‪.‬‬
‫خرج الغالم مرسعا‪ ،‬والتفت ابن الزيات إىل اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أبا عثامن‪ ،‬هنأ اهلل منزلك فواهلل إين بقدومك لسعيد‪ ،‬واحلديث ذو‬
‫شجون‪ ،‬ولعيل أراك الليلة إنشاء اهلل‪.‬‬
‫عاد الغالم وبيده رصة‪ ،‬أخذها ابن الزيات ووضعها بني يدي‬
‫اجلاحظ‪ ،‬وقال وقد جتمع الدم يف وجهه‪:‬‬
‫‪- -‬هذه مخسة آالف دينار صلة لك يا أبا عثامن‪ ،‬فتقبلها مني‪ ،‬وأمتنى‬
‫أن تأيت بأهلك إىل بغداد فهم أهلنا‪.‬‬
‫تزاحم شعور السعادة واخلجل والغبطة يف نفس اجلاحظ‪ ،‬فقال‬
‫بتلعثم‪:‬‬
‫‪- -‬أحسن اهلل إليك‪ ،‬وجازاك‪.‬‬
‫وقفا من مكاهنام فيام اقرتب غالم يقود بغلة ليأخذ اجلاحظ إىل‬
‫مكان إقامته اجلديد‪.‬‬
‫***‬

‫‪314‬‬
‫الدوحة‪ 1439 ،‬هـ‬

‫البهيج الذي كان حيس به‬


‫َ‬ ‫التوتر‬
‫َ‬ ‫تغري جو غرفة األخبار‪ ،‬وفقدت‬
‫ساريا يف أطرافها‪ .‬فمنذ هجرتْه حصة أصبحت املمرات الضيقة للقناة‬
‫موحشة‪ ،‬وحتول الزمالء الذين يرتاكضون فيها إىل أشباح بال وجوه وال‬
‫وس َحن ًا بال مالمح‪ ،‬ووجوها بال‬
‫أسامء؛ صاروا ُك َتلاً برشية بال هويات‪ُ ،‬‬
‫تقاسيم‪.‬‬
‫غدا تراكضهم األبدي ملالحقة األخبار عبث أطفال‪ ،‬وبات ال‬
‫يستطيع فهم الطاقة التي تدفع املنتجني ملطاردة األخبار؛ فهل يف الدنيا‬
‫خرب يستحق كل هذه اجلدية وذاك التشمري؟‬
‫أصبحت ساعاته موزع ًة بني التثاؤب عىل كرسيه‪ ،‬واالنشغال‬
‫عل ذلك يساعد يف حتريك كُتل‬‫هبوايته يف تصحيح أخطاء ترمجة غوغل َّ‬
‫الزمن اجلاثمة عىل كتفيه‪ .‬أصبح الزمن باهتا خاليا من احلركة‪.‬‬
‫تثاءب وهو يردد بيت العريب القديم‪:‬‬
‫عجبت لس�عي الده�ر بيني وبينها‬
‫ُ‬
‫الدهر!‬
‫ُ‬ ‫فلام انقىض ما بيننا‪ :‬س�ك َن‬
‫أمهل امللف املوجود عىل سطح حاسوبه بعنوان «اجلاحظ»‪ ،‬ومل‬
‫يكتب منه حرفا منذ بدأت مشكلته مع حصة؛ فام قيمة االنشغال‬
‫بالكتابة عن كاتب ب ٍي شائه ِ‬
‫اخللقة كان يعيش قبل ‪ 1200‬عام؟‬ ‫صرْ‬

‫‪315‬‬
‫حتاشى الذهاب للكافترييا رغم تفكريه الدائم فيها‪ ،‬وصار يكلف‬
‫صديقه مازنا بإعطائه املعلومات كاملة عن جوها‪ .‬فام إن ينزل مازن‬
‫حتى يتلقاه عند هناية السلم اخلشبي كأنه طفل كبري‪:‬‬
‫‪- -‬هل رأيتَها جالسة هناك؟ مع من تتحدث؟ هل صاحبتها البدينة‬
‫سلمت عليك؟‬
‫ْ‬ ‫معها؟ هل‬
‫ينصت إنصات الرهبان ألجوبة مازن‪ .‬وينتهز صديقه الفرص َة‬
‫الصطناع بعض القصص املزعجة‪ ،‬ثم ينفجر ضاحكا‪:‬‬
‫‪- -‬أمزح معك يا أخي‪ ،‬أنت تصدق كل يشء!‬
‫ويرد القروي يدَ ه إىل جبهته الغامء ليلمسها قائال بارتباك‪:‬‬
‫‪- -‬بدون مزح‪ ،‬اهلل خيليك!‬
‫يرفع مازن عينيه إىل سقف غرفة األخبار‪ ،‬ثم يعيدمها لوجه صديقه‬
‫متأمال شفتيه الغليظتني‪:‬‬
‫‪- -‬يا أخي عندي فكرة‪ ،‬ما أدراك أهنا تتمنى لقياك كام تتمنى لقياها؟‬
‫ملاذا ال تذهب وتكلمها؟ هي اآلن يف الكافترييا‪.‬‬
‫معاىف‬
‫ً‬ ‫‪- -‬أخشى من غوائل العادات اخلليجية‪ .‬فلو كان املجتمع‬
‫يف وعيه‪ ،‬حس َن الظ ِّن بالناس لفعلت‪ ،‬فالعالقات بني اجلنسني‬
‫ليست طبيعية هنا‪ ،‬وأخشى أن تنزعج فتشكو مني‪.‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ما أظن‪ ،‬هي حتبك يف النهاية‪.‬‬
‫تذكر القروي قصة سمعها عن أحد أبناء قريته ممن ِ‬
‫عمل يف سلك‬
‫الرشطة بإحدى دول اخلليج قبل عرشين سنة‪ .‬كان حيرس مفوضية‬
‫للرشطة‪ ،‬ويف الصباح دخل الضابط املسؤول ليجد منشورات معارضة‬

‫‪316‬‬
‫للسلطة عند مدخل املفوضية‪ ،‬فغضب وطلب إحضار احلريس املناوب‪،‬‬
‫فجاءه الشاب املوريتاين‪ .‬فصاح به‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أصبحت املفوضية غارقة باملنشورات‪ ،‬هل كنت نائام؟‬
‫فرد الشاب بكل برودة‪:‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬كنت مستيقظا ورأيت من يوزعها‪.‬‬
‫‪- -‬كيف؟‬
‫‪- -‬لكنها كانت امرأة‪ .‬وضعتها أمام عيني ومل أحرك ساكنا‪.‬‬
‫‪- -‬مل؟‬
‫‪- -‬خفت إن أمسكتها أو تعرضت هلا أن تُس ّفروين غدا وتضعوا عىل‬
‫جوازي ختام يقول‪« :‬طرد من البالد بتهمة املغازلة!»‪.‬‬
‫أفاق من تذكر القصة وهو يقول ملازن‪:‬‬
‫‪- -‬أخشى أن حتملها الغرية عىل ترصف ما‪.‬‬
‫فامل عليه مازن قائال بنربة غنائية‪:‬‬
‫‪«- -‬فالعذارى قلوهبن هوا ُء»‪ ،‬كام قال شوقي‪ .‬هي حتبك يف النهاية‪.‬‬
‫اذهب وكلمها‪ ،‬وأستأذن منك فعندي نرشة بعد قليل‪.‬‬
‫مشى مازن إىل قسم املقابالت‪ ،‬فيام ظل القروي واقفا عند مدخل‬
‫غرفة األخبار حائرا‪ ،‬معلقا بني اخلوف والرجاء‪ .‬بني العودة إىل كرسيه‪،‬‬
‫وبني تسلق السلم املؤدي إىل الكافيرتيا حيث جتلس معشوقته‪.‬‬
‫نظر إىل السلم اخلشبي املؤدي إىل الكافيرتيا كأنه دهليز سحري‬
‫يقود إىل الفراديس‪.‬‬
‫ثم فكر يف تقلب مزاجها‪ ،‬وصعوبة التنبؤ بترصفاهتا يف أوقات‬

‫‪317‬‬
‫الرخاء والرضا‪ ،‬فكيف بأوقات الغضب‪ ،‬وبني ألسنة هليب الغرية‪ ،‬وما‬
‫إن بدأ يتذكر مزاجها املتقلب حتى ازداد تعلقا هبا وشوقا لرؤيتها‪ ،‬كأنه‬
‫يتذكر املحاسن التي جتذبه إليها‪.‬‬
‫وأحس باندفاع شديد للحديث معها‪ ،‬وباستهتار بكل احلواجز‬
‫والعوائد والعواقب‪ ،‬ووجد نفسه يضع رجله عىل السلم ليسلمه إىل‬
‫مدخل الكافيرتيا‪ .‬فرتاءت له جالسة يف طرفها وهاتف نوكيا األزرق‬
‫القديم عىل الطاولة أمامها‪ .‬كانت وحيدة‪ ،‬ونظرت إليه كأهنا كانت عىل‬
‫موعد معه دون أن تتكلم‪.‬‬
‫ودون أن يفكر مشى إليها‪.‬‬
‫مل ترفع برصها عن هاتفها‪.‬‬
‫‪- -‬كيفك؟‬
‫‪- -‬احلمد هلل‪.‬‬
‫وجلس عىل الكريس املقابل‪ ،‬كأنه يمسك بحافة جبل شاهق‪،‬‬
‫متأرجحا بني اهلاوية والوصول للقمة‪ ،‬ورفعت برصها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬كل ما أريده ِ‬
‫منك أن ترتكيني أرشح لك قص َة تلك الفتاة‪...‬‬
‫زينت بنت األمني‪.‬‬
‫ورفعت إليه برصها دون أن تنبس‪ ،‬وامتأل خياهلا بصورة تلك‬
‫الفتاة ذات االبتسامة اآلرسة‪ ،‬واملالبس امللونة‪ ،‬واحلناء القانية‪.‬‬
‫وقرأ يف عينيها أمل ًا وصبابة‪ ،‬وإذنا باحلديث‪...‬‬
‫فانطلق يتحدث بكل حواسه كأنه حمام بارع يدافع عن أعدل‬
‫قضية يف العامل‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫وازدمحت الكافيرتيا بالداخلني واخلارجني‪ ،‬لكنه كان غائبا عن‬
‫ذلك الزحام متاما‪ .‬يتحدث كأنه خيطب يف الدنيا‪ ،‬والدنيا كلها منصتة‬
‫حلديثه‪ ،‬وما الباقي من الدنيا إذا كان احلبيب يستمع إليك بكل حواسه‪.‬‬
‫واسرتخت حصة يف مقعدها‪ ،‬وارختت يدها عن اهلاتف‪ ،‬وأصبحت‬
‫أكثر قدرة عىل النظر يف عينيه‪ .‬ومل يمر وقت طويل حتى كانا يضحكان‬
‫ويتحدثان‪ ،‬وخطر له أن ال يشء يشبه معارك األطفال كمعارك املحبني‪،‬‬
‫تبلغ ذروة البطش والعنف ألتفه األسباب‪ ،‬وتنحل وختتفي ألتفهها‬
‫كذلك‪.‬‬
‫ودخل مازن من باب الكافيرتيا‪ ،‬فرأى صاحبه مندجما يف احلديث‪،‬‬
‫وفتاتُه ترقبه بكل حواسها بابتسامة عريضة‪.‬‬
‫أخذ قهوة وعاد من باب الكافيرتيا‪ ،‬وهو يلعب بطرف سيجاره‬
‫قائال يف نفسه‪:‬‬
‫‪- -‬إن أغبى شخص من هيتم بمعارك املتحابني‪.‬‬
‫***‬

‫‪319‬‬
‫بغداد‪ 208 ،‬و‪ 2018‬هـ‬

‫كانت شخوص الداخلني واخلارجني تنعكس عىل صفحة الربكة‬


‫املائية املستطيلة وسط «بيت احلكمة»‪ ،‬فاملمرات األربعة املحيطة بالربكة‬
‫ال ختلو من العلامء والكتاب الغادين والرائحني‪.‬‬
‫عىل أطراف الربكة‪ ،‬تنتصب شجريات الربتقال املصفوفة بعناية‪،‬‬
‫َ‬
‫الداخل‪.‬‬ ‫مما جيعل رائحته الطرية املمتزجة بالرحيان والغبار تتلقى‬
‫يف كل زاوية من زوايا الربكة‪ ،‬جيلس أربعة رجال بأيدهم كتب‬
‫وأقالم وقراطيس‪ ،‬كان أحدهم يقرأ نصا بلغة غريبة وبصوت عال‪،‬‬
‫فيام يندفع اآلخر يف كتابة ذلك النص باللغة العربية‪ ،‬أما اآلخران‬
‫فرياجعان ما يكتبه الثاين‪.‬‬
‫أثناء ذلك‪ ،‬يتنقل غالم سندي وبيده جام من الفخار يصب منه ماء‬
‫الورد املثلج لكل حلقة من تلك احللقات‪.‬‬
‫كان معظم الداخلني إىل الدار يتجهون إىل ديوان أمني بيت احلكمة‬
‫الذي عينه املأمون قبل أيام‪ .‬أمام ديوانه‪ ،‬يقف شيخ أ ْد َر ُد ُيراوح بني‬
‫احلديث باليونانية والرسيانية والعربية بزهو‪ ،‬فيام يتجاوزه اجلاحظ‬
‫مشمرا جبته‪ ،‬مشغوال برتتيب عاممته‪.‬‬
‫كان اجلاحظ عادة ال يتجاوز أول حجرة عن يمني الداخل حيث‬

‫‪321‬‬
‫تقع مكتبة ضخمة حتتوي آالف الكتب‪ ،‬فقد ظل طوال األشهر الستة‬
‫املاضية يقيض فيها سحابة هناره‪ ،‬غري أن تعيني املأمون لصديقه سهل بن‬
‫هارون غيرّ برنامج هذا اليوم‪ .‬فقد عني املأمون سه ً‬
‫ال أمينا ملكتبة أتت‬
‫من جزيرة قربص‪.‬‬
‫دخل اجلاحظ فرتاءى له سهل جالسا عىل كريس يف حجرة واسعة‬
‫حتيط به الكتب من كل جانب‪ ،‬كام جيلس أربعة رجال عن يمينه وأربعة‬
‫عن يساره منكبني عىل كتبهم ودفاترهم‪.‬‬
‫بدا ٌ‬
‫سهل يف قلنسوته احلمراء املحددة الرأس‪ ،‬وعاممته امللفوفة‬
‫فوقها‪ ،‬ودراعته البيضاء شخصا خمتلفا يف عني اجلاحظ‪.‬‬
‫إذ كانت آخر مرة رآه فيها يف دكانه بالبرصة‪ ،‬بني غلامنه وسط‬
‫ضوضاء سوق الوراقني‪.‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم ورمحة اهلل!‬
‫وقف سهل من مكانه فاحتا ذراعيه‪:‬‬
‫‪- -‬وعليكم السالم‪ ،‬حيا اهلل أبا عثامن!‬
‫تعانقا‪ ،‬غري أن رائحة غبار الكتب حبست أنفاس اجلاحظ‪ ،‬فأحلت‬
‫عليه كحة حاول مداراهتا قائال بنفس متقطع‪:‬‬
‫‪- -‬بارك اهلل لك يف القرب من أمري املؤمنني‪.‬‬
‫‪- -‬يا أهال وسهال‪ ،‬وبارك لك يف القرب من ابن الزيات‪.‬‬
‫تساءل يف نفسه هل يقصد ٌ‬
‫سهل التعايل عليه بتلك املقارنة أم هي‬
‫جمرد هتنئة؟ لكن سهال قطع عليه فكره‪:‬‬
‫‪- -‬يا غالم‪ ،‬تعال بامء الورد والفواكه وما تيرس‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫نظر اجلاحظ بطرف عينه جهة الباب حيث يقف الغالم‪ ،‬ثم قال‬
‫بسخرية‪:‬‬
‫‪- -‬أما اآلن فيمكنك أن تض ّيف الناس بكرم األعراب‪ ،‬ألن املال‬
‫ليس من خزائنك بل من خزائن قوم آخرين‪.‬‬
‫‪- -‬ال يشء ألذ من اإلنفاق عىل الناس من جيب غري جيبك‪ ،‬وهذا‬
‫هو رس كرم األمراء!‬
‫دخل الغالم ووضع صينية مملوءة فواكه‪ ،‬يتوسطها جام مملوء بامء‬
‫الورد املثلج‪ .‬مد سهل يده املغربة إىل كأس من ماء الورد ورشف منه‬
‫صفري ًا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف مقامك مع ابن الزيات يا أبا عثامن؟‬
‫‪- -‬واهلل لنعم املقام‪.‬‬
‫‪- -‬هل أنساك أيام حي العالفني وجماورة محيد الب ّغال‪ ،‬و ُمصا َقب َة‬
‫الدمهاء؟‬
‫‪- -‬أعوذ باهلل‪ ،‬ال أعادها اهلل من أيام‪.‬‬
‫غضن خدَّ ه ويغمز‪:‬‬
‫ضحك سهل‪ ،‬لكن اجلاحظ مل هيمله وهو ُي ّ‬
‫درب الوراقني‪ ،‬واستالف‬
‫َ‬ ‫‪- -‬وهل أنستك جمالس ُة أمري املؤمنني‬
‫اخلبز من الفران الذي قرب بيتك؟‬
‫‪- -‬ال واهلل! فام فيه أنا وأنت اآلن ما هو إال نتيجة لتلك األيام وذلك‬
‫اجلوع والصرب‪ .‬فلوال اختفاء احلبة يف بطن األرض ما كان الثمر‪،‬‬
‫ولوال غوص الغواص يف جلج البحار ما عاد بالدرر‪.‬‬
‫الحـظ اجلاحظ أن بعض مساعدي سهل توقـفوا عن أعامهلم‬

‫‪323‬‬
‫وانشغلوا باالستامع حلديثه مع صديقه؛ فقال بنربة اعتذارية‪:‬‬
‫‪- -‬كأين شغلتكم عام كنتم فيه؟‬
‫‪- -‬ال عليك‪ ،‬فهذه احلجرات الثالث هبا مئات الكتب التي جاء هبا‬
‫أمري املؤمنني من قربص‪ ،‬فقد اشرتط عىل حاكمها أال يقبل منه‬
‫صلحا إال إذا أرسل إليه ما يف بالده من كتب‪ ،‬وهؤالء الرجال‬
‫يقومون بتصنيفها وفهرستها‪.‬‬
‫‪- -‬لكنها بلغة الروم‪.‬‬
‫فقال سهل وهو يشري بيده نحو الباب‪ ،‬وجبينُه يتفصد عرقا‪ ،‬فيام‬
‫تظهر حبيبات غبار عىل أهداب عينيه‪:‬‬
‫‪- -‬بعد انتهاء تصنيفها وفهرستها سنحوهلا إىل أولئك احلمقى‬
‫ليرتمجوها‪.‬‬
‫‪- -‬سمعت أنكم جُترون عىل املرتجم مخسامئة دينار؟‬
‫‪- -‬هذا للمرتجم الشادي‪ .‬أما املرتجم املتمكن فقد يصل ألف دينار‪.‬‬
‫‪- -‬لقد اطلعت عىل ترمجة كتاب «املِ ِج ْسطِي» لبطليموس فرأيت ِعي ًا‬
‫وهتاويم وختاليط مع صعوبة يف العبارات‪.‬‬
‫‪- -‬تلك ترمجة احلجاج بن مطر‪ ،‬ومع ذلك ها هو يف تلك احلجرة‬
‫يميش كأنه طاووس!‬
‫ابتسم اجلاحظ ممُ ِر ًا طرف عاممته ملسح العرق عن وجهه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أطلعني ابن الزيات عىل وريقات من كتاب الصوت‪ ،‬الذي‬
‫يرتمجه له حنني بن إسحاق‪ .‬ومل تعجبني الرتمجة أيضا‪.‬‬
‫وقف سهل من فوق كرسيه ملتفتا إىل مساعديه وقال‪:‬‬

‫‪324‬‬
‫‪- -‬واصلوا النسخ والتصنيف‪ ،‬وأنا سأخرج قليال‪.‬‬
‫قاما من مكاهنام‪ ،‬والتفت اجلاحظ فلمح قطع ًة جلدية فيها كتابة‬
‫عربية‪ ،‬عرف من نمط اخلط أهنا قديمة‪ .‬مد إليها يده‪:‬‬
‫‪- -‬ما هذه يا أبا هارون؟‬
‫‪- -‬ذلك خط عبد املطلب بن هاشم‪ ،‬جد النبي‪.‬‬
‫رفع اجلاحظ اجللد برفق كام ُيرفع الطفل الوليد‪ ،‬ثم بدأ يقرأ‬
‫بصوت هامس‪« :‬هذا حق عبد املطلب بن هاشم من أهل مكة عىل لبيد‬
‫احلمريي من أهل صنعاء‪ ،‬عليه ألف درهم فض ًة كي ً‬
‫ال باحلديدة‪ ،‬ومتى‬
‫دعاه هبا أجابه؛ شهد اهلل وامللكان»‪.‬‬
‫ثم رفع برصه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬كأنه خط النساء‪.‬‬
‫كان سهل قد وصل إىل باب احلجرة‪ ،‬فوضع اجلاحظ اجللد برفق‬
‫وتبعه إىل الباب‪ .‬فقال سهل وهو يعدل وضع عاممته‪:‬‬
‫‪- -‬لقد نهُ ب الكثري من الكتب واخلزائن أيام انفراد املخلوع ابن زبيدة‬
‫بحكم بغداد‪ .‬لذلك قرر أمري املؤمنني حفظ كل الكتب النادرة يف‬
‫خزانة حتى ال تضيع‪.‬‬
‫مشيا عىل حافة الربكة املائية‪ ،‬فرتاءت هلام عىل الطرف اآلخر مجاعة‬
‫من الرتامجة فيهم حنني بن إسحاق واحلجاج بن مطر‪ ،‬وقف سهل يف‬
‫الزاوية وقال لصديقه بصوت هامس‪:‬‬
‫‪- -‬لقد سمعت أمري املؤمنني يذكرك‪ ،‬فلقد قرأ بعض رسائلك‬
‫وأعجبه ما فيها‪ ،‬فلعله يطلبك لتأديب ولده أو لتكون نديمه‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫فوجئ باخلرب‪ ،‬لكنه بذل جهده حتى ال يظهر درجة املفاجأة أمام‬
‫صاحبه‪ ،‬فام دام صاحبه قد نال حظوة عند املأمون فمن الطبيعي أن ينال‬
‫هو ذات احلظوة‪ ،‬لكن سهال بادره قبل أن يتكلم‪:‬‬
‫‪- -‬قد تصبح يا أبا عثامن من خاصة أمري املؤمنني!‬
‫ما إن نطق سهل العبارة‪ ،‬حتى شخصت صور كثرية متناقضة يف‬
‫ذهن اجلاحظ‪ .‬رأى سياطا حامية تقع عىل ظهر بشار بن برد‪ ،‬كام رأى‬
‫رؤوس الربامكة تتطاير بسيف هارون الرشيد‪.‬‬
‫الحظ سهل ارتباك صاحبه‪ ،‬فبادره قائال‪:‬‬
‫‪- -‬ما بك يا أبا عثامن؟‬
‫رد اجلاحظ وهو يشعر برعدة يف ركبتيه‪ ،‬ال يدري أهي من سعادة‬
‫أم من خوف‪:‬‬
‫‪- -‬ال يشء‪ ،‬لقد فاجأتني بخرب أمري املؤمنني‪.‬‬
‫وبعد نطقه لكلمة املفاجأة تنبه لتناقض املشاعر التي أراد اإلحياء هبا‬
‫لصاحبه‪ ،‬فبادره ليرصف ذهنه عن التفكري‪:‬‬
‫‪- -‬أنا خادم أمري املؤمنني‪ ،‬وخاتم يف يديه‪ .‬هو يأمر وأنا أطيع‪.‬‬
‫انتبه سهل إىل ارتباك صديقه‪ ،‬ففكر يف أنه ربام خطر له أال يذهب‬
‫إىل املأمون إال عن طريق ويل نعمته ابن الزيات‪ ،‬وإال فإن ابن الزيات‬
‫قد يغضب منه‪ ،‬فمع أن ابن الزيات ال يتوىل منصبا إال أن عالقة والده‬
‫التاجر الثري باملأمون تسمح له بأن يقرتح عليه ما شاء‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬خيم الصمت‪ ،‬وظال واقفني هنيهات دون كالم‪ .‬وانقطع‬
‫الصمت حني جاء أحد مساعدي سهل يركض عىل طرف الربكة‬

‫‪326‬‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬سيدي‪ ،‬لقد أهنينا القائمة «ألف»‪ ،‬فهل نبدأ يف القائمة «باء»؟‬
‫أشار سهل باملوافقة دون أن يتحدث‪.‬‬
‫ثم التفت إىل اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لعيل أزورك الليلة يف بيتك إن شاء اهلل لنكمل احلديث‪.‬‬
‫مشى سهل عىل حافة الربكة عائدا إىل ديوانه‪ ،‬وسار اجلاحظ يف‬
‫االجتاه اآلخر متجها إىل املكتبة‪.‬‬
‫***‬
‫اقرتب ثالثتهم من مدخل بغداد وقت الغروب‪.‬‬
‫عيني علية أشبه بسجن ضخم وهي تدخل‬ ‫بدت املدينة املدورة يف ْ‬
‫َ‬
‫البغل الذي تركبه استعجاال‬ ‫من أحد أبواهبا الواسعة‪ ،‬حيث نفيس‬
‫لدخول بغداد التي متثل يف ذهنه شيئا أشبه بالسحر‪ .‬حرك رأسه أفقيا‪:‬‬
‫‪- -‬هذي هي بغداد؟‬
‫مل جتبه علية‪ ،‬فقد كانت ممزق َة القلب ملتاعة الفؤاد خوفا‪ ،‬لكن‬
‫الرجل اآلخر ‪-‬ابن أخت اجلاحظ‪ -‬الذي يقود البغل التفت إليه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬وصلنا وهذه هي بغداد‪.‬‬
‫ألقت علية نظرة عىل احلراس الواقفني عند مدخل باب بغداد‪،‬‬
‫فتلقتها رائحة السوق املختلطة‪ ،‬وأصوات الناس خارجني من السوق‪،‬‬
‫وأذان املغرب يرتدد يف آفاق مدينة عرفتها جيدا‪ ،‬وأنكرهتا‪.‬‬
‫احلي يرقص‬
‫كانت عيناها الواسعتان تتأمالن كل زاوية‪ ،‬وقلبها ّ‬
‫بني أضالعها كجنني حانت والدته‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫عربت من فوق اجلرس‪ ،‬فتذكرت املواكب التي كانت تسري وراءها‬
‫إذا ركبت‪ ،‬واحلراس الذين كانوا يمشون خلفها مهطعني رؤوسهم‪.‬‬
‫ثم شخصت صورته يف ذهنها‪ ،‬تذكرت آخر مرة دخل عليها يف‬
‫تلك الغرفة فجرا قبل سنوات‪ ،‬وخامته الذي يلمع يف يده‪ ،‬وكلمته‪ :‬ال‬
‫ختايف‪.‬‬
‫كانت علية جالسة وهي تستعيد يف اندهاش حلظة دخوهلا البارحة‬
‫بغداد‪ ،‬فيام خرج اجلاحظ من غرفة كتبه فلمحها غارقة يف أفكارها‪،‬‬
‫ألقى نظرة عىل احلديقة اخلرضاء البادية من نافذة منزله‪ ،‬ثم التفت إليها‬
‫وهو ينشف يديه بمديل‪:‬‬
‫وجدت بغداد؟ وهل أعجبك املنزل يا علية؟‬‫ِ‬ ‫‪- -‬كيف‬
‫مل تسمع سؤاله‪ ،‬فام زالت غري مصدقة أن اجلرأة واتتها لتدخل‬
‫بغداد‪.‬‬
‫‪- -‬مالك يا علية؟‬
‫انتبهت‪ ،‬فانتفضت وقالت‪:‬‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ال يشء‪.‬‬
‫مسا من جنون!‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬تبدين مشدوهة كأن بك ّ‬
‫‪- -‬ال‪ ،...‬أريد‪...‬أريد أن أحدثك حديثا مهام‪.‬‬
‫رمى اجلاحظ املنديل مقرتبا منها‪.‬‬
‫وقفت برسعة‪ ،‬مشرية إليه أن يتحدثا داخل إحدى الغرف حتى ال‬
‫يسمعهام اخلادم نفيس أو أحد العامل‪.‬‬
‫مشيا يف الردهة الواسعة‪ ،‬وتواريا داخل إحدى الغرف‪ ،‬ثم أحكم‬

‫‪328‬‬
‫اجلاحظ إغالق الباب وراءمها فتحوال إىل شبحني يف ظالم الغرفة‪.‬‬
‫قالت بنربة مفعمة باخلوف واالرتباك‪ ،‬وهي جتلس عىل أريكة‪:‬‬
‫‪- -‬أريد أن أقص عليك القصة كاملة‪ .‬أنا كنت جارية ألمري املؤمنني‬
‫املأمون عندما كان وليا للعهد‪ ،‬تربيت يف قرص هارون الرشيد‪،‬‬
‫وكنت من اجلواري اللوايت أرشف عىل تربيتهن وتعليمهن الغناء‬
‫عىل أيدي أمهر املغنني‪.‬‬
‫مع توقع اجلاحظ ألمر شبيه هبذا‪ ،‬إال أن أنفاسه توقفت فجأة‪ ،‬ثم‬
‫قال بصوت فيه من الضعف ما فيه من االستطالع‪:‬‬
‫‪- -‬ثم ماذا؟‬
‫‪- -‬والدي ملك إفرنجي اسمه ُغو ْد ْفري‪ ،‬يف بالد بعيدة شامل‬
‫األندلس‪ ،‬تربيت مع املأمون واألمني ومع زبيدة وهارون‪ ،‬ويف‬
‫سن اخلامسة عرشة عشقت شابا اسمه حممد حامد من خدام‬
‫فتمنعت عليه‪...‬‬
‫ُ‬ ‫القرص‪ .‬ثم طلبني املأمون‬
‫مد اجلاحظ يده يف عتمة الغرفة يريد شيئا يستند إليه فرارا من‬
‫احلمم احلارقة التي خترج من فم جاريته‪ ،‬وخياله اخلصب يضج بصورة‬
‫والد علية امللك‪ ،‬ومربيها امللك‪ ...‬وعشيقها امللك‪ .‬مل ينبس‪ ،‬بل ظل‬
‫فاغرا فاه منصتا‪:‬‬
‫‪- -‬ظل املأمون حياول أن أميل إليه أشهرا‪ ،‬لكني كنت جمنونة بذلك‬
‫بست يف كنيف ميلء‬
‫فح ُ‬‫الفتى‪ .‬فلام أيقن أين ال أطيعه أمر يب ُ‬
‫بالقاذورات‪...‬‬
‫‪- -‬كيف؟‬

‫‪329‬‬
‫حبست يف الكنيف شهرا كامال ما مسني فيه ماء وال صابون‪ .‬كان‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫كنيفا معتام ال أرى فيه النور‪ ،‬وال أكلم أحدا‪ ،‬بل يأيت خبز وملح‬
‫مرة يف اليوم‪ .‬ويف أحد األيام أمر بإخراجي وإصالح هيئتي‪ ،‬ثم‬
‫سألني فلم أجبه‪ .‬بل إين جتارست وسألته عن الفتى الذي كنت‬
‫أتعشقه‪ ،‬فأخربين أنه أرسله للجهاد يف أرض الروم و ُقتل‪.‬‬
‫‪- -‬ثم ماذا؟‬
‫‪- -‬ثم‪ ....‬ثم‪....‬‬
‫كان التوتر قد بلغ مداه باجلاحظ‪ ،‬فركبتاه ال تكادان تستقران من‬
‫الرعدة‪ ،‬ووجهه يميل إىل الصفرة يف جو الغرفة املعتم‪ .‬قال كأنه يتوسل‪:‬‬
‫‪- -‬ثم ماذا؟‬
‫‪- -‬مل أشعر بيشء إال ويدي عىل خد املأمون‪ ...‬لطمتُه!‬
‫قالتها ثم انفجرت باكية‪ ،‬مرمتية عىل األريكة‪.‬‬
‫ْ‬
‫أيييششش؟‬ ‫‪--‬‬
‫دوت رصخة اجلاحظ يف جنبات املنزل الفسيح‪ ،‬فاختلطت مع‬ ‫ْ‬
‫فحيح احتكاك الستائر التي تعبث هبا الرياح القادمة من جهة احلديقة‪.‬‬
‫بدا االثنان يف تلك الغرفة املعتمة أشبه بسجينني تسلام فجأة خرب‬
‫احلكم باإلعدام‪.‬‬
‫ساد صمت ثقيل‪.‬‬
‫كان يقطعه صوت بكائها املكتوم‪ ،‬وصهيل فرس ٍ‬
‫آت من بعيد‪.‬‬
‫انطلق خياهلام يف اجتاهني خمتلفني‪.‬‬
‫خط�رت للجاح�ظ آالف اخلواط�ر اجل�ادة والس�خيفة‪ ،‬واملرحي�ة‬

‫‪330‬‬
‫واملخيف�ة‪ .‬رأى نفس�ه ذاهب�ا ليجد من يوص�ل اخلبر إىل املأمون‪ ،‬حتى‬
‫يربئ ذمته‪ ،‬فلو فعل فلربام أكربه املأمون لذلك‪ ،‬وغفر له متلكه جلاريته‪،‬‬
‫ومن يدري فقد خيلع عليه‪ ،‬أو يعينه يف والية أو منصب‪ ،‬ثم ختيل نفس�ه‬
‫يف عامل ال علية فيه‪...‬‬
‫فوجد قلبه يكاد يسيل دما‪ ،‬رأى نفسه تعيسا يسري يف شوارع بغداد‬
‫يسأل عنها العجائز اجلالسات عىل عتبات بيوهتن‪ ،‬والركبان اخلارجني‬
‫من بغداد‪ ،‬وربابنة السفن الواردة من كل طريق‪...‬‬
‫رأى نفسه يطارد احلامم الزاجل ظانا أن بني خمالبه خربا عنها‪.‬‬
‫كيف يعيش دون هذه الفتاة التي جعلت قلبه خيفق يف اليوم ألف‬
‫خفقة‪ ،‬هذه الفتاة التي جعلت ضحكه عميقا لذيذا‪ ،‬وطعامه سائغا‬
‫مريئا‪ ،‬وصباحاته وردي ًة مجيلة حممل ًة بعبري الفراديس‪.‬‬
‫كيف يستطيع التمتع بإمساك القلم واالندفاع يف الكتابة إذا خال‬
‫املكان من علية‪ ،‬وترددت الرياح يف جنبات منزل ال يسمع فيه تلك‬
‫النغمة‪ ،‬ويرى فيه ذلك الوجه العتيق؟‬
‫فبدت له أضعف من‬
‫ْ‬ ‫ثم استيقظ فجأة عىل نظراهتا احلادة تنهشه‪،‬‬
‫ذي قبل‪ ،‬وأمجل من ذي قبل‪.‬‬
‫كانت جالسة ال يكاد يالمس األرض منها إال عجيزهتا‪ ،‬ذراعاها‬
‫تطوقان ركبتيها‪ ،‬وشعرها منسدل عىل وجهها‪ ،‬والدموع تسيل عىل‬
‫أطراف وجهها‪ ،‬وبني تلك الدموع نظرات فاتنة خترتق فؤاده‪.‬‬
‫بدت أمجل من ذي قبل‪.‬‬
‫ردد نظره احلائر إليها‪ ،‬فرآها طفلة غريرة‪ ،‬ضعيفة متوسلة‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫وقف ليخرج‪ ،‬لكنه مل يكن يعرف وجهته وال ماذا يريد‪ .‬فهو يعرف‬
‫ما خيشى و َمن خيشى أكثر مما يعرف أي أمر آخر‪.‬‬
‫عاد وجلس إىل جانبها‪.‬‬
‫متتمت قائلة‪:‬‬
‫اسم سامين به اجلندي الذي بعثه‬ ‫‪- -‬ثم إن علية ليس اسمي‪ .‬فهو ٌ‬
‫املأمون وباعني يف سوق النخاسني‪ ...‬أنا‪ ...‬أنا َع ِريب!‬
‫قفز اجلاحظ وفتح الباب خوفا من أن يكون أحد قد سمع‬
‫حديثهام‪ ،‬فام يف البرصة وبغداد أحد إال سمع الناس يتهامسون قبل‬
‫سنوات طويلة بقصة عريب اجلارية‪.‬‬
‫تذكر اجلاحظ كيف حكى له أبو نواس قصتها‪ ،‬وكيف كانوا‬
‫يتندرون بالقصة‪ ،‬زاعمني أن اجلارية ال حتب هذا القدر من احلب‪ ،‬وأن‬
‫القصة خمتلقة‪.‬‬
‫أما اآلن فها هو ذا واقف يف غرفة معتمة مع عريب جارية‬
‫املأمون‪ ...‬وسط مدينة بغداد‪ .‬مسح العرق عن جبينه وهو يفتح الباب‬
‫متذكرا حلام رآه قبل فرتة‪ ،‬جلس يف الردهة الواسعة وهو ينادي خادمه‬
‫نفيس‪.‬‬
‫أجابه نفيس من جهة باب اخلدم‪ .‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬إ ّيل بامء بارد‪.‬‬
‫***‬
‫مع كثرة احلراس الداخلني واخلارجني من باب القرص‪ ،‬فإن‬
‫الصمت خييم عىل املكان‪ .‬فلعل الصوت الوحيد الذي يصل اآلذان‬

‫‪332‬‬
‫صوت حركة الباب الطويل املقوس الذي فتحه حارسان تكاد ِح ُ‬
‫لق‬
‫احلديد تغطي كل موضع من جسدهيام‪.‬‬
‫عن يمني الباب الذي انفتح جيلس مجع من الرجال وقد لبسوا‬
‫أهبى حللهم واعتجروا عامئمهم‪ ،‬شاخصني بأبصارهم جهة الباب‪.‬‬
‫خرج إليهم رجل متوسط القامة‪ ،‬يميش بشكل آيل ُمباعدا بني‬
‫قرع البالط بقوة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫خطواته وكأنه يتعمد َ‬
‫‪- -‬عمرو بن بحر اجلاحظ‪ ،‬ثاممة بن أرشس‪ ،‬سهل بن هارون‪ ،‬أبا‬
‫العتاهية‪ ،‬تفضلوا‪.‬‬
‫وقفوا مجيعا‪ ،‬ووقف اجلاحظ وهو ينفي بطرف إصبعه القذى عن‬
‫عين ْيه وأنفه‪ ،‬إذ كان الوحيد الذي سيدخل عىل اخلليفة املأمون أول مرة‪.‬‬
‫كانت نوازع اخلوف والرهبة والرغبة تعصف بجوانحه‪ ،‬وكان‬
‫القادر عىل توليد آالف األخيلة واالحتامالت يف حلظة‬
‫ُ‬ ‫ذهنه احلا ّد‬
‫واحدة يضج بخواطر الطمع واخلوف‪ ،‬والرغبة والرهبة‪ ،‬ويسافر يف‬
‫شطآن غريبة من األمل والتشاؤم تتوسطها صورة جاريته علية‪.‬‬
‫دخلوا بانحناء ُمطرقني من الباب الواسع‪ ،‬بينام عاد احلارسان آليا‬
‫فسمعت له حركة خفيفة خمتلطة بصوت‬
‫ل ُيحكام إغالق الباب الضخم‪ُ ،‬‬
‫قرع نعال احلراس‪.‬‬
‫متلكه شعور الرهبة وهو يرفع عينيه يف املجلس الواسع املفروش‬
‫امللون‪ ،‬والطنافس اخلُرض‪ ،‬والتصاوير املعلقة عىل اجلدران‪،‬‬
‫بالصوف ّ‬
‫والنحوتات الذهبية عىل شكل حيوانات مفرتسة منصوبة يف أطرافه‬
‫عىل طاوالت‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫أخذ كل منهم جملسه‪ ،‬فيام انرصفت عني اجلاحظ متأملة الكريس‬
‫املذهب الضخم وسط املجلس‪.‬‬
‫إن جلسوا يف املجلس حتى شعروا باطمئنان‪ ،‬فاخلليفة مل يدخل‬‫ما ْ‬
‫جملسه بعد‪ .‬التفت كل منهم متأمال صاحبه يف جو املجلس املعتم قليال‪،‬‬
‫إذ إن الضوء القادم من أطراف اجلدران وأعايل السقوف يضفي عىل‬
‫املكان جوا باهتا يشبه وقت الغروب‪ ،‬رغم أن الوقت عرص‪.‬‬
‫لكز سهل اجلاحظ بطرف منكبه ومال عليه‪:‬‬
‫‪- -‬هذا يومك يا أبا عثامن لتُخرج كل ما عندك ألمري املؤمنني!‬
‫كان اجلاحظ مشدو َه اخلاطر ُم َشت َّت النفس‪ّ ،‬‬
‫يرن يف أذنه قوهلا‪« :‬إذا‬
‫فهمت أنه علم باألمر‪ ،‬صارحه بكل يشء‪ ....‬فهو حليم‪.»...‬‬ ‫َ‬
‫كان قلبه يقفز بني ضلوعه قفزا ال يعرف أهو ِم َن السعادة أم من‬
‫اخلوف؟ يفكر أحيانا يف املواضيع التي سيناقشها مع املأمون مستعرضا‬
‫فيها علمه وأدبه‪ ،‬وأحيانا يتذكر بطش امللوك وكون اإلنسان كلام اقرتب‬
‫منهم اقرتب من السعادة والشقاء معا‪.‬‬
‫وغالبا ال تأيت السعادة إال يف تضاعيف الشقاء‪.‬‬
‫قطع عليه ثاممة تفكريه قائال‪:‬‬
‫حل ْشوة تكاد متلك البرصة يا أبا عثامن‪ ،‬وأن أتباع عيل‬
‫‪- -‬سمعت أن ا ُ‬
‫بن املديني هناك أكثر من أتباع الشيطان‪ ،‬هل هذا صحيح؟‬
‫فدوت صيحة قادمة من جهة باب داخيل‪:‬‬
‫مال اجلاحظ ليجيبه‪ّ ،‬‬
‫‪- -‬أمري املؤمنني عبد اهلل بن هارون املأمون!‬
‫تقافز اجلمع واقفني‪ ،‬فدخل املأمون ماشيا هبدوء ثم قال‪:‬‬

‫‪334‬‬
‫‪- -‬السالم عليكم ورمحة اهلل‬
‫اندفع كل منهم مسلام ومق ّبال يده‪ ،‬ثم مشى خطوات وجلس عىل‬
‫الكريس‪ ،‬فيام عاد كل واحد منهم إىل كرسيه يف طرف املجلس‪.‬‬
‫رفع اجلاحظ عينيه متأمال املأمون للمرة األوىل‪.‬‬
‫نظر إىل جبته الناصعة البياض‪ ،‬ومن حتتها قميص أخرض‪ ،‬وفوق‬
‫ذلك عاممة سوداء‪ .‬بدت له حليته املائلة للحمرة اخلاصية الوحيدة التي‬
‫ورثها من أ ّمه الفارسية‪ .‬أما عيناه السوداوان الواسعتان وأنفه احلاد‬
‫وشفتاه فتشبه ما ُوصف له عن والده هارون الرشيد‪.‬‬
‫مسح املأمون طرف أنفه احلاد كأنه رأس سهم‪ ،‬وحدج اجلاحظ‬
‫بنظرة قائال‪:‬‬
‫‪- -‬أهال وسهال بك يا أبا عثامن‪.‬‬
‫قاهلا املأمون وهو يستغرب دمامة اجلاحظ‪ ،‬فرغم أنه سمع عنها‬
‫كثريا‪ ،‬ووصفت له غري ما مرة‪ ،‬فإنه مل يتوقعها هبذه الدرجة‪.‬‬
‫شعر اجلاحظ براحة وخفة وهو يقول بصوت فخم مجيل واضح‬
‫التجاويف‪:‬‬
‫وسهل له‪.‬‬
‫‪- -‬حفظ اهلل أمري املؤمنني وح ّياه ّ‬
‫كان سهل بن هارون واجلاحظ أقرب اجلالسني إىل اخلليفة يسارا‪،‬‬
‫أما ثاممة وأبو العتاهية فجلسا عىل اليمني جهة متثال الكرة األرضية‬
‫املنصوب فوق الطاولة املسامتة لكريس املأمون‪.‬‬
‫دخل غالم ووضع فواكه وحساء بني يدي كل واحد‪ ،‬فيام تنحنح‬
‫املأمون وقال‪:‬‬

‫‪335‬‬
‫سهرت البارحة أفكر يف مسألة القضاء والقدَ ر‪ ،‬وكان معي‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لقد‬
‫حييى بن أكثم فتناقشنا طويال ومل نتفق عىل رأي‪ ،‬وسلك ٌ‬
‫كل منا‬
‫طريقا‪.‬‬
‫وأمر نظره رسيعا عىل وجوه رفاقه‪ ،‬ثم‬
‫حترك ثاممة من فوق كرسيه‪ّ ،‬‬
‫توجه إىل املأمون وقال مبتسام‪:‬‬
‫‪- -‬أنا أبني ألمري املؤمنني القضاء والقدر يف مجلتني‪ ،‬وأزيد مجلة ثالثة‬
‫للضعيف‪.‬‬
‫ابتسم املأمون مائال من فوق كرسيه‪ ،‬قائال بلهجة مستطلعة ساخرة‪:‬‬
‫‪- -‬ومن الضعيف أهيا النمريي؟‬
‫‪- -‬الضعيف قايض القضاة حييى بن أكثم!‬
‫ترددت يف املجلس ضحكات موزونة ومزموم ٌة بوقار املجلس‪ .‬ثم‬
‫واصل ثاممة‪:‬‬
‫‪- -‬إن أفعال العباد يستحيل أن خترج عن ثالثة أوجه‪ ،‬فهي إما أن‬
‫تكون كلها من تقدير اهلل وال دخل للعباد فيها‪ ،‬فهم بذلك ال‬
‫يستحقون عليها ثوابا وال عقابا وال مدحا وال ذما‪ ،‬وإما أن تكون‬
‫األفعال منهم ومن اهلل‪ ،‬فيجب املدح والذم هلام معا‪ ،‬أو تكون‬
‫األفعال من العباد وحدهم وبمشيئتهم وإرادهتم وحدهم‪ ،‬فلهم‬
‫املدح والثواب‪ ،‬وعليهم الذم والعقاب‪.‬‬
‫نزع املأمون كفه من حتت ذقنه‪ ،‬ونظر إىل السقف املزركش املرتفع‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬صدقت يا ابن أرشس!‬

‫‪336‬‬
‫كان أبو العتاهية جالسا بجانب ثاممة‪ ،‬فرفع برصه إىل املأمون‪:‬‬
‫‪- -‬أنا أستطيع أن أقطع لك ثاممة‪ ،‬وأرد حجته هذه يا أمري املؤمنني‪.‬‬
‫التفت ثاممة فاغرا فاه إىل أيب العتاهية‪ ،‬فجاء صوت املأمون‪:‬‬
‫‪- -‬دعك يف شعرك وقوافيك يا أبا العتاهية‪ ،‬فأنا أخشى عليك منه‪.‬‬
‫فقال أبو العتاهية‪:‬‬
‫‪- -‬دعني أسأ ْله يا أمري املؤمنني يف القضاء والقدر وسأقطعه لك‪.‬‬
‫‪- -‬تفضل!‬
‫كان أبو العتاهية قصري القامة‪ ،‬جيلس عىل كريس مرتفع‪ ،‬فبدت‬
‫رجاله ال تكادان تالمسان األرض‪ .‬كام كانت عاممته مكورة تكويرا‬
‫كبريا‪ ،‬فبدت صورته مثرية للسخرية وهو يرفع يده يف اهلواء سائال‬
‫ثاممة‪:‬‬
‫‪- -‬من حرك يدي هذه؟‬
‫طرف شفته السفىل‪:‬‬
‫َ‬ ‫فقال ثاممة بلهجة ساخرة‪ ،‬م ِ‬
‫رخيا‬ ‫ُ‬
‫‪- -‬حركها من أ ُّمه زانية!‬
‫فانتفض أبو العتاهية وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لقد شتمني يا أمري املؤمنني!‬
‫فقال ثاممة وهو حيبس ضحكة‪:‬‬
‫‪- -‬لقد ترك مذهبه يا أمري املؤمنني‪ .‬فلو كان يؤمن حقا باجلرب‪ ،‬ملا‬
‫غضب منها‪ ،‬فالعبد ال فعل له وال حيرك وال يسكن‪ ،‬وبذا مل‬
‫أشتمه ما دام يؤمن بمذهبه‪.‬‬
‫سكت أبو العتاهية ووجهه حممر‪ ،‬فبادر املأمون قائال‪:‬‬

‫‪337‬‬
‫‪- -‬أمل أقل لك؟‬
‫التفت أبو العتاهية إىل ثاممة وقال بابتسامة مصطنعة وصوت‬
‫خافت‪:‬‬
‫‪- -‬أما كانت لك مندوح ٌة عن الس َفه؟‬
‫‪- -‬إن خري اجلواب ما مجع بني احلجة واالنتقام‪.‬‬
‫أثناء ذلك‪ُ ،‬سمع قرع نعال احلاجب قادما مباعدا بني رجليه‪.‬‬
‫اقرتب من املأمون وحدثه بحديث خافت‪ ،‬ثم انرصف‪.‬‬
‫رفع املأمون عينيه وقال‪:‬‬
‫املنجم ببناء مرصد ْين أحدمها يف‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬كنا قد كلفنا سندَ ب َن عيل‬
‫العباسية هنا ببغداد‪ ،‬واآلخر يف جبل قاسيون بدمشق‪ .‬وقد‬
‫أخربين هذا أهنام اكتمال‪.‬‬
‫فجاء صوت اجلميع‪:‬‬
‫‪- -‬محدا هلل يا أمري املؤمنني‪.‬‬
‫كان اجلاحظ يرتقب فرصة للحديث‪ ،‬فاملأمون مل يسأله‪ ،‬وهو غري‬
‫مطمئن أن يبدأ احلديث دون سؤال من املأمون حتى ال خيالف ما تسميه‬
‫احلاشية هنا «اآليني»‪ ،‬أي العادات املعمول هبا يف البالط‪.‬‬
‫وبعد تردد قرر أن يتحدث يف موضوع املراصد وأمهيتها‪ ،‬لكن‬
‫سهل بن هارون سبقه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬يا أمري املؤمنني إن املراصد وعلم الفلك يدخالن يف باب العبادة‬
‫والدين وهم الصيقان بكل يشء‪ ،‬ولعل من بركات هذه اللغة‬
‫العربية أن حروفها ثامنية وعرشون عىل عدد منازل القمر‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫شعر اجلاحظ بغيظ‪ ،‬إذ إن سهل بن هارون ال يشتهر بيشء اشتهاره‬
‫فلم ينافح عن العربية اآلن؟ لكن ابن‬
‫بانتقاص العرب وميله للفرس‪َ ،‬‬
‫هارون واصل حديثه‪:‬‬
‫‪ - -‬وغاية ما تبلغ الكلمة من الكلامت العربية يف الزيادات سبعة‬
‫أحرف‪ ،‬وتلك عىل عدد النجوم السبعة‪.‬‬
‫برقت عينا املأمون استعذابا‪ ،‬فواصل سهل بحامس‪:‬‬
‫‪- -‬ثم إن حروف الزوائد اثنا عرش حرفا عىل عدد الربوج االثني‬
‫عرش‪ ،‬ومن احلروف ما يدغم مع الم التعريف‪ ،‬وهي أربعة عرش‬
‫حرفا مثل منازل القمر املسترتة حتت األرض‪ ،‬وأربعة عرش حرفا‬
‫ظاهرا ال تدغم مثل بقية املنازل الظاهرة‪ ،‬ثم إن اهلل تعاىل جعل‬
‫اإلعراب يف العربية ثالث حركات هي الرفع والنصب واخلفض‪،‬‬
‫ألن احلركات الطبيعية ثالث حركات حركة من الوسط كحركة‬
‫النار‪ ،‬وحركة إىل الوسط كحركة األرض‪ ،‬وحركة عىل الوسط‬
‫كحركة الفلك‪.‬‬
‫كان الكل ينظرون إىل سهل بإنصات وتأمل فيام يقوله‪ .‬غري أن‬
‫اجلاحظ مل يسمع ما قاله النشغاله بالتفكري فيام عليه أن يقوله ل ُيبهر‬
‫ويثبت استحقاقه هذا املجلس وهذا املقام‪ .‬لكن حرصه عىل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫املأمون‬
‫عدم خمالفة اآليني جعله ال يتجرأ عىل فتح موضوع بنفسه‪ ،‬بل قرر أن‬
‫ينتظر حتى يسأله املأمون أو تع ّن فرصة مقنعة للحديث‪.‬‬
‫بدأ جو املجلس يميل للربودة‪ ،‬فقد بدأت الشمس تتوارى خلف‬
‫جدران هذه املدينة املدورة التي يشقها هنر دجلة‪ ،‬كام اختفت األنوار‬
‫التي كانت تدخل من الفتحات العلوية يف السقف‪ ،‬فازدادت العتمة‬

‫‪339‬‬
‫داخل املجلس وانخفضت احلرارة‪ .‬دخل خادم وأوقد قناديل جعلت‬
‫املجلس أكثر إضاءة‪.‬‬
‫فاتضحت الوجوه أكثر‪ ،‬وظهرت األلوان الدقيقة لفراش الصوف‬
‫والزرايب املرمية وسط املجلس‪.‬‬
‫التفت املأمون إىل اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫صفت يل باجلودة قبل‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬لقد قرأت بعض كتبك يا أبا عثامن‪ ،‬ولقد ُو‬
‫رب أربى عىل اخلَرب‪ ،‬ووجدهتا‬
‫أن أقرأها‪ ،‬وعندما قرأهتا وجدت اخلُ َ‬
‫تستحق ثناء أكثر مما سمعت‪.‬‬
‫تلعثم اجلاحظ ‪-‬عىل غري عادته‪ -‬وهو يسمع إطراء كتبه من أقوى‬
‫رجل عىل ظهر األرض‪ .‬رفع عينيه‪ ،‬وحركات أجفانه الغليظة تتسارع‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هذا من كرم نحيزتكم وطيب أرومتكم يا أمري املؤمنني!‬
‫ابتسم املأمون وهو يتذكر فقرة من آخر ما قرأ للجاحظ فقال‪:‬‬
‫‪- -‬غري أنك يا أبا عثامن شديد عىل العامة‪ ،‬وا ُمل ُ‬
‫لك ‪-‬كام تعلم‪ -‬إنام‬
‫يستقر عىل أكتافها‪ ،‬والسوق إنام يروج بسواعدها‪.‬‬
‫كان املأمون يتحدث‪ ،‬فيام انرصفت أبصار ثاممة وأبو العتاهية‬
‫مرتقبي رده‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫نْ‬ ‫وسهل إىل اجلاحظ‪،‬‬
‫‪- -‬إن ما لقيتْه العامة من اهلل أشد يا أمري املؤمنني‪ .‬فاهلل تعاىل جعل‬
‫ْ ُ‬ ‫ْ ُ اَّ اَ أْ َ ْ‬
‫عقوهلا حتت عقول األنعام حني قال‪﴿ :‬إِن ه ْم إِل كلن َع ِام ۖ بَل ه ْم‬
‫َ ُّ‬
‫أ َض ل َس ب ِيل﴾‪.‬‬
‫‪- -‬وكيف ذاك؟‬

‫‪340‬‬
‫وجوارح وآالت للخاصة‪ ،‬فهي تبتذهلا للمهن‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬إن العامة سواعدُ‬
‫وتدبر هلا األمور وتغزو هبا العدو وتسد هبا الثغور‪ ،‬فاخلاصة مثل‬
‫روح اإلنسان وعقله‪ ،‬والعامة مثل يده وبقية جوارحه‪ .‬فكام أن‬
‫اجلوارح ال تعرف ما تنطوي عليه النفس من فكر وروية وتأمل‪،‬‬
‫فكذلك الدمهاء ال يفهمون شأن اخلاصة وتدبريها‪ .‬ولذا‪،‬‬
‫قائم عىل حسن تدبري اخلاصة‪ ،‬ومتام طاعة العامة‪.‬‬
‫فصالح العامل ٌ‬
‫وطاعة العامة ناجتة عن حسن سياسة اخلاصة‪.‬‬
‫أنصت املأمون بتأمل‪ ،‬وأعجبه تشبيه اخلاصة بالعقل والروح‪ ،‬فام‬
‫زاد عىل تشجيع اجلاحظ عىل مواصلة احلديث‪:‬‬
‫‪ِ --‬‬
‫إيه‪ ،‬أبا عثامن!‬
‫الحظ سهل استعذاب املأمون حلديث اجلاحظ‪ ،‬فقال بخبث نية‪:‬‬
‫‪- -‬لكن بعض العامة يف بغداد ‪-‬ممن يسمون ا ُمل َّط ِّوعة‪ -‬يشغبون‬
‫أحيانا؛ فهل ذلك ناتج عن نقص يف التدبري؟‬
‫انتبه اجلاحظ ملحاولة صديقه اإليقاع به فتدارك‪:‬‬
‫‪- -‬ومع أن تدبري العامة للخاصة كتدبري العقل للجوارح فإن العامة‬
‫قد يعرض هلا املرض كام حيدث للجوارح‪ .‬فقد تُصاب اليد‬
‫بالفالج‪ ،‬ويصاب اللسان باخلرس‪ ،‬فال يقدر العقل عىل توجيه‬
‫اجلوارح وتسديدها خللل ٍ‬
‫ذايت يف اجلوارح ال يف العقل املدبر‪،‬‬
‫وكذلك الشأن يف الدمهاء‪ ،‬فقد يكون األمري مدبرا حسن التدبري‬
‫لكن العامة تنتقض خللل فيها‪.‬‬
‫كان اجلاحظ إذا حتدث تنثال عليه األفكار والتشبيهات متزامح ًة يف‬

‫‪341‬‬
‫ذهنه‪ .‬وكان يعرب عن تلك األفكار بلسان ٍ‬
‫ذرب ّ‬
‫أخاذ‪ ،‬وصوت فصيح‬
‫وخمارج ندية تُطرب وتُعجب‪.‬‬
‫فابتسم املأمون وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ماذا لقيت العامة منك ومن ثاممة بن أرشس!‬
‫ثم جاء صوت قرع نعال احلاجب مباعدا بني خطواته‪ .‬اقرتب من‬
‫املأمون ومهس‪.‬‬
‫فوقف املأمون وقال‪:‬‬
‫‪- -‬حان موعد صالة املغرب‪.‬‬
‫نزل من فوق الكريس‪ ،‬فقام اجلمع مودعا ومسلام‪ ،‬فيام سمعت‬
‫قعقعة الباب الواسع وقد أمسك احلارسان بطرفيه إشعارا بأن موعد‬
‫اخلروج قد حان‪.‬‬
‫***‬
‫وقف اجلاحظ يف طرف غرفة كتبه ال يعرف ما يفعل‪ ،‬حائرا أي‬
‫قرار سيتخذ‪ .‬كان يبغض حلظات االنتظار ألهنا حيا ٌة مؤجلة معلقة‬
‫ٌ‬
‫برزخ بني‬ ‫بلحظة مل تتكشف قسامهتا بعد‪ .‬إذ خيطر له أن أوقات االنتظار‬
‫املايض واملستقبل واحلارض‪ .‬فال هي تنتمي للحارض ألن صاحبها معلق‬
‫يف انتظار ما سيسفر عنه املستقبل‪ ،‬غري راض باللحظة احلارضة‪ .‬وال‬
‫هي جزء من املستقبل‪ ،‬فاملنتظِر يقف يف احلارض بقدمني متأرجحتني‪،‬‬
‫ونفس مرشئبة ملستقبل ّملا يتشكف ما ختبئه أحشاؤه‪.‬‬
‫ألقى نظرة عىل مكتبته العامرة بتأفف‪ ،‬فاقدا الشهية يف القراءة‬
‫والكتابة‪ .‬فامذا تغني عنه يف النهاية؟‬

‫‪342‬‬
‫خطر له خاطر‪.‬‬
‫سيطلب لقاء املأمون وخيربه بأن جاريته عريب يف بيته‪ ،‬فسياط‬
‫ٍ‬
‫جارية رومية أهون من بطش اخللفاء‪.‬‬ ‫االشتياق إىل‬
‫شعر براحة غامرة جتتاحه‪ ،‬فبدا يف قميصه الواسع وقلنسوته‬
‫الالصقة عىل رأسه دون عاممة مسكينا وضعيفا‪.‬‬
‫سمع صوت نفيس قادما يف الردهة‪ ،‬حانيا رأسه ينادي‪:‬‬
‫‪- -‬موالي‪ ،‬رسول أمري املؤمنني بالباب‪.‬‬
‫بعد وقت قصري‪ ،‬كان اجلاحظ يدخل إىل جملس املأمون يف إحدى‬
‫حجرات أحد قصوره يف طرف بغداد‪.‬‬
‫مل يفق عىل الطريق الذي قطع‪ ،‬فقد ظل طول الطريق يقدر كل‬
‫يشء‪ .‬هل وشى أحد الناس به وأخربه بوجود عريب يف بيته؟ كيف‬
‫ذلك‪ ،‬وال أحد يعرف عنها شيئا وحتى هو نفسه مل يكتشف رسها إال‬
‫قبل أيام؟‬
‫مل ينتظر عىل الباب كالعادة‪ ،‬بل جاء احلاجب صاحب اخلطوات‬
‫الواسعة وأدخله‪.‬‬
‫فتح عينيه متأمال أطراف املجلس فوقعت عينه عىل سهل بن‬
‫هارون وثاممة بن أرشس‪ ،‬ومجاعة أخرى من أصحابه من املعتزلة‪ ،‬شعر‬
‫بطمأنينة وهو يكاد يعثر يف جبته األنيقة قائال بنفس متقطع‪:‬‬
‫‪- -‬السالم عىل أصحابنا ورمحة اهلل!‬
‫كان املأمون يف حجرة صغرية متوارية غري بعيدة من املجلس‪.‬‬
‫حيث يستمع إىل آخر تقرير من واليه عىل بغداد إبراهيم بن إسحاق‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫كانا جيلسان وبينهام مصباح وأوراق كثرية‪.‬‬
‫فمنذ أشهر وإبراهيم يرفع التقارير حمذرا من تنامي نفوذ علامء‬
‫احلديث يف العراق كلها ويف بغداد خاصة‪ ،‬وأصبح املأمون مقتنعا بأهنم‬
‫يف طريقهم إىل زعزعة دولته‪.‬‬
‫املوقعة‪ ،‬ووقف عىل باب احلجرة‬
‫جاء احلاجب ماشيا بطريقته ّ‬
‫ومهس‪:‬‬
‫‪- -‬القوم يف املجلس يا أمري املؤمنني‪.‬‬
‫مشى املأمون خطوات‪ ،‬ثم دخل املجلس مسلام‪.‬‬
‫ضج املجلس الواسع‪:‬‬
‫‪- -‬وعىل أمري املؤمنني السالم ورمحة اهلل‪.‬‬
‫جلس املأمون عىل سجادة محراء فوق رسير بطرف املجلس‪ .‬ش ّبك‬
‫بني أصابعه ومال عىل وسادة ضخمة وقال‪:‬‬
‫وح ْش ِوية يعيثون فسادا يف بغداد‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫‪- -‬قد علمتم أن ا ُمل ّط ِّو َع َة من نابتة َ‬
‫فبعض أتباعهم يملكون السالح ويتولون أمورهم يف أحيائهم‬
‫من قضاء وفصل بني اخلصوم‪ ،‬وأخذ عىل أيدي اللصوص‪،‬‬
‫فمنذ أيام املخلوع صارت له مقوة ومنعة‪ ،‬حتى إن الشيخ من‬
‫شيوخهم اآلن إذا حتدث يف مسجد يتحلق عليه آالف الطغام‪.‬‬
‫ولقد مررت قبل أيام بأحد شوارع بغداد فرأيت خلقا ال حيىص‬
‫قيل يل إهنم متحلقون عىل أمحد بن حنبل‪.‬‬
‫كان املأمون يتحدث‪ ،‬وذهن اجلاحظ يقفز بني آالف االحتامالت؛‬
‫آخرها أن املأمون اصطفاه من بني كثريين ليكون من حلقة مستشاريه‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫ثم تذكر أن هذا االختيار وهذا القرب قد يرضه أكثر إذا تكشف خرب‬
‫اجلارية‪ .‬ثم أفاق من أفكاره عىل أصوات احتكاك األواين الفاخرة‪،‬‬
‫وتوزيع احللوى واألرشبة يف أطراف املجلس‪ ،‬رفع عينيه فرأى املأمون‬
‫ساكتا رافعا عينيه إىل السقف‪ ،‬ثم واصل‪:‬‬
‫‪- -‬فامذا ترون؟‬
‫تنحنح ثاممة بن أرشس وقال‪:‬‬
‫خطر عظيم عىل اخلالفة‪ ،‬فقد عمروا املساجدَ‬
‫ٌ‬ ‫حل ْشوة‬
‫‪- -‬إن علامء ا ُ‬
‫َ‬
‫واألسواق‪ ،‬وهلم سلطان عىل قلوب الدمهاء ال يدانيه سلطان‪.‬‬
‫مسح املأمون حليته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما سبب إقبال العامة عليهم‪ ،‬وإعراضهم عن هذه اجلامعة من‬
‫املعتزلة؟‬
‫‪- -‬السبب املشاكلة بينهم وبني الدمهاء‪ ،‬فحديثهم قريب املأخذ؛‬
‫َار‬ ‫ٍ‬
‫وسباك أكدر‪ ،‬وكل فران أبخر‪ ،‬وكل ُمك ٍ‬ ‫محال أثغر‪،‬‬
‫يعقله كل ّ‬
‫بليد الطبع‪ ،‬وكل أعرايب متقرش اجللد‪ .‬فال حيتاج إىل غوص عىل‬
‫املعاين وال إىل إدامة فكر وال روية‪ .‬إنام هي أحاديث وأوامر ونواه‬
‫وأقاصيص‪ ،‬ال حدود فيها وال تقسيم‪.‬‬
‫‪- -‬وماذا ترى يا ابن هارون؟‬
‫‪- -‬لقد افتتن كثري من العامة بدعوة النصارى يف بغداد‪ ،‬فهم كام‬
‫تعلم يدعون إىل ديانتهم يف املساجد باملناظرات‪ ،‬وقد استاملوا‬
‫عقول كثري من عوام املسلمني‪ .‬وسبب ذلك هو احلُشوة وعلامء‬
‫احلديث‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫‪- -‬كيف ذلك؟‬
‫‪- -‬ألن النصارى أصبحوا أهل جدل وتفكري بسبب قراءهتم لكتبنا‪،‬‬
‫فيأتون ويل ّبسون عىل العامي بأسئلة‪ ،‬فيلجأ العامي ألصحاب‬
‫احلديث مستفتيا فال جييبونه بيشء النعدام صلتهم باملعقوالت‪،‬‬
‫فيظن العامي أن ذلك الضعف اآليت من احلشوي ضعف يف ذات‬
‫الدين‪.‬‬
‫وما رأيك يا أبا عثامن؟‬
‫‪- -‬إذا أذن أمري املؤمنني‪ ،‬خذوا مثال قصة «كالم اهلل»‪ .‬لقد ل ّبس‬
‫النصارى عىل كثري من العوام بكون عيسى كلمة اهلل كام ورد يف‬
‫التنزيل‪ .‬ثم قالوا هلم إن عيسى ما دام كلمة اهلل فهو كالقرآن الكريم‪،‬‬
‫فإذا كان القرآن كالم اهلل وعيسى كلمة اهلل فهام معا قديامن‪ ،‬ألن‬
‫صفة اهلل قديمة وهي القرآن (كالم اهلل) وعيسى كذلك قديم ألنه‬
‫كلمة اهلل‪ .‬ثم يبنون هلم عىل ذلك أنه ابن اهلل ِلقدَ مه‪ ،‬كام أن القرآن‬
‫قديم ألنه صادر عن اهلل‪ ،‬تعاىل اهلل عام يقولون ُعلوا كبريا‪.‬‬
‫‪- -‬وماذا يمنع علامء احلشوية من تعلم اجلدل حتى يناضلوا عن‬
‫حججهم؟‬
‫تنحنح اجلاحظ وهو يطرد عن ذهنه فكرة خطرت له‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬يمنعهم من ذلك أن ديانتهم قائمة عىل نبذ اجلدل كله‪ ،‬واعتبار‬
‫احلجج والرباهني مضلة وطارئة عىل امللة‪ ،‬لذلك ال جيوز عندهم‬
‫التوغل يف املعقوالت‪ ،‬ألنه نظر عقيل حادث‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫صار لبعضهم عقل بقراءة بعض كتب هذه اجلامعة‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫‪- -‬أنا أعلم رأهيم ووقوفهم عند ظاهر اآلثار‪ .‬لكن ما حيريين هو أهنم‬
‫مل يتفطنوا لألمر‪.‬‬
‫قاهلا املأمون ثم سكت‪ ،‬فلم ينبس أحد يف املجلس‪ ،‬بل ظلت‬
‫األبصار شاخصة إليه‪ .‬ازدرد ريقه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل لقد حريين أمرهم‪ ،‬فهم يدّ عون االقتداء هبدي السلف وما‬
‫وجدت هلم سلفا‪ .‬فقد تأملت مذاهب امللة اآلن فوجدهتا ترجع‬
‫إىل أربعة مذاهب‪ .‬فاخلوارج ال سند هلم وال سلف ألن مذهبهم‬
‫حدث أيام عيل بن أيب طالب فخ ّطأهم وقاتلهم‪ ،‬فهم بذلك‬
‫طارئون عىل امللة ال يوثق بدينهم‪ ،‬وأما الروافض فظهر مذهبهم‬
‫بعد انقضاء الصدر األول‪ ،‬فلم يرد عن أي من الصحابة أن‬
‫جيل واضح‪ ،‬بل اجتهادات وتأويالت‪ ،‬وال‬‫النص عىل إمامة عيل ّ‬
‫ورد ذلك يف كون األئمة اثني عرش إماما‪ .‬وإن زعموا أن سلامن‬
‫الفاريس وعامر بن يارس كانا سلفا هلم ّ‬
‫كذهبم الواقع؛ فكالمها‬
‫كان واليا لعمر بن اخلطاب‪.‬‬
‫اعتدل املأمون يف جلسته‪ ،‬وردد برصه يف أطراف املجلس ثم واصل‪:‬‬
‫‪- -‬وا ُملجربة ‪-‬القائلون بكون كل يشء بقدر اهلل‪ -‬فظهروا أيام بني‬
‫أمية ويف ظل ملوك بني مروان‪ ،‬فهو قول حادث ال سند له‪ ،‬أما‬
‫هؤالء احلشوية الذين مألوا شوارع بغداد فال سلف هلم البتة وهم‬
‫أهلج الناس بكلمة السلف‪ ،‬بل هم قوم تعلقوا بأذيال النصوص‪،‬‬
‫وأمهلوا العقل‪ ،‬وذاك ما جيمعهم‪ ،‬والقسم الرابع من أقسام امللة‬
‫هو هذه اجلامعة املباركة‪ ،‬فهي أصح األمة سندا وأوثقها سلفا‪.‬‬
‫ألهنا تروي عن عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء عن حممد بن‬

‫‪347‬‬
‫عيل بن أيب طالب‪ .‬وهذا سند ظاهر جيل ومتواتر‪.‬‬
‫سكت املأمون‪ ،‬ثم رفع عينيه يف السقف وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما التدبري الذي ترونه مع علامء احلشوة؟‬
‫كان الوايل إبراهيم بن إسحاق جالسا يف طرف املجلس‪ ،‬وكانت له‬
‫صلة بثاممة بن أرشس‪ .‬فنظر إليه بطرف عينه‪ ،‬فقال ثاممة‪:‬‬
‫‪- -‬أرى يا أمري املؤمنني أن متتحن علامء احلشوة فردا فردا حتى يعلنوا‬
‫خضوعهم لك‪ .‬فالعامة إنام هم تبع وصدى‪ ،‬ال غري‪.‬‬
‫‪- -‬كيف ذاك؟‬
‫‪- -‬أرى أن متتحنهم يف خلق القرآن‪ ،‬فهم قد جعلوا املوقف منه ميزة‬
‫العامل املتصدر بينهم‪ ،‬فهم ال يقبلون أن يقولوا إنه خملوق يف سياق‬
‫الزمن‪ .‬بل يرونه كالما قديام ذاتيا هلل عز وجل وهذا حمال كام ترون‪،‬‬
‫ً َ َ‬
‫َّ َ َ ّ َ‬ ‫َ َْ‬
‫ان آيَ ٍة﴾؟‬ ‫فكيف يكون كذلك وقد قال اهلل تعاىل ﴿ِإَوذا ب دل ن ا آي ة م ك‬
‫كان ثاممة بن أرشس يتحدث‪ ،‬وكان أقوى املعتزلة حجة‪ ،‬حتى‬
‫إنه أتقن لعلم الكالم واحلجج املنطقية من النجم الصاعد أمحد بن أيب‬
‫ُدؤاد‪ ،‬كان ثاممة منشغال بحشد احلجة‪ ،‬فدخل احلاجب طالبا اإلذن‬
‫لقايض القضاة حييى بن أكثم‪.‬‬
‫دخل حييى يرفل يف أثواب القضاة‪ ،‬فناداه املأمون وأجلسه بقربه‪.‬‬
‫وملا أهنى ثامم ُة حديثه طلب املأمون رأي حييى‪ ،‬فالتفت يمنة ويرسة‪،‬‬
‫وشد عليه طرف جبته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أنا أرى يا أمري املؤمنني أن تؤجل هذا األمر‪ .‬فإن محلت العامة‬
‫عىل ما تكره فإنني أخشى أن تنفر َن ْفر ًة ال تعلم عاقبتها‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫قال ثاممة بسخرية‪:‬‬
‫‪- -‬العامة؟ ومن ذا الذي يقيم وزنا للدمهاء؟ واهلل يا أمري املؤمنني لو‬
‫طيلسان أسود وبيده عصا لساق لك منها‬ ‫ٌ‬ ‫بعثت رجال عىل عاتقه‬
‫َ‬
‫عرشة آالف ناعق!‬
‫مد القايض يده مستأذنا‪:‬‬
‫‪- -‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬ما دام رجال من أمثال يزيد بن هارون يف العراق‪،‬‬
‫فال أرى امتحان أحد‪ ،‬أو محل العامة عىل أمر تكرهه‪ ،‬وهذا رأيي‬
‫من باب السياسة ال من باب الديانة‪ .‬فأهل خراسان من الفرس‬
‫ال يطيقون اإلساءة للحشوية وعلامئهم‪ ،‬مثل ابن حنبل وابن‬
‫املديني ويزيد بن هارون‪.‬‬
‫كان املأمون ينظر إىل القايض بجبته الفخمة وحليته الكثة وبطنه‬
‫املدور‪ ،‬وهو يتذكر كالما سمعه من أبيه هارون الرشيد عن أن صالح‬
‫امللك يف سكون العامة‪ ،‬وخرابه يف نفورها‪.‬‬
‫مل يعط املأمون أي إشارة عام أضمره‪ ،‬بل أشار بطرف يده فدخل‬
‫مجاعة من اخلدم ليقودوا من يف املجلس إىل غرفة العشاء‪.‬‬
‫وقف اجلميع وكل منهم يتفقد عاممته‪ ،‬ويشد عليه طرف جبته‪،‬‬
‫ومال اجلاحظ عىل سهل بن هارون هامسا‪:‬‬
‫‪- -‬زرين غدا يف البيت ألستشريك يف أمر مهم‪.‬‬
‫مل يفق اجلاحظ يف هناية العشاء إال عىل صوت املأمون‪:‬‬
‫‪- -‬ابق يا أبا عثامن‪ ،‬أريد أن أحتدث معك يف أمر‪.‬‬
‫ال يذكر ماذا حدث قبل ذلك‪ ،‬فال يدري هل امتنع عن تناول الطعام‬

‫‪349‬‬
‫من األطباق التي كانت بني يديه‪ ،‬أم أنه أكل أكال ّمل ًا كأكل الصبيان وهو‬
‫ال يعقل‪ .‬وال يدري هل حتدث عن جاريته بني يدي املأمون وحدجه‬
‫اجلميع فاغرين أفواههم مستغربني جرأته‪ ،‬أم أنه ظل ساكتا وامجا‪.‬‬‫ُ‬
‫لكنه ال يشك يف صوت املأمون‪:‬‬
‫ابق يا أبا عثامن‪ ،‬أريد أن أحدثك يف أمر‪.‬‬
‫‪َ --‬‬
‫كانت الغرفة خالية‪ ،‬ال ضوء فيها بعد انفضاض املجلس‪ .‬قال‬
‫املأمون وهو ينظر إىل األرض عىل غري عادته‪:‬‬
‫علمت من عيوننا أن جاريتنا َعريب يف منزلكم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫كانت تلك العبارة آخر ما أفاق عليه‪.‬‬
‫كلام يذكره بعد ذلك صور ومشاعر خمتلطة‪ ،‬تتخللها ضحكتها‬
‫آت من مدائن بعيدة‪ .‬تراءت له يف ِمرطها األبيض‬
‫املوقعة كأهنا صوت ٍ‬
‫ّ‬
‫واحلراس يسوقوهنا‬
‫ُ‬ ‫الناصع‪ ،‬وشعرها الذهبي املنسدل عىل كتفيها‬
‫لتحبس يف كنيف‪.‬‬
‫خطر له كيف يملك املأمون احلق يف سؤاله عن جاريته حتى ولو‬
‫كان خليفة؟ من منحه حق التجرؤ عىل حرمه؟ والسؤال عمن يعيش‬
‫يف مخَ ادعه؟‬
‫سوغ موقفه‪ ،‬وال كيف قص عىل املأمون قصة‬ ‫ال يعرف كيف ّ‬
‫يرفض‬
‫وصول اجلارية إليه يف البرصة‪ .‬كل ما يذكره أنه خرج من الباب ُّ‬
‫عرقا‪ ،‬واملأمون يقول باسام‪:‬‬
‫‪- -‬لقد وهبناها لك يا أبا عثامن!‬
‫***‬

‫‪350‬‬
‫الدوحة‪ 1440 ،‬هـ‬

‫انقضت أيا ٌم ثالثة ال حديث فيها داخل القناة إال عن ترقية نائب‬
‫(بسام) إىل منصب رئيس التحرير‪ .‬انقسم الصحفيون‬ ‫رئيس التحرير ّ‬
‫ما بني معجب شديد اإلعجاب به‪ ،‬وحمتقر شديد االحتقار له ولكل‬
‫ما يقوله‪.‬‬
‫دخل القروي فرآه يرتأس اجتامع التحرير الصباحي‪.‬‬
‫كان االجتامع يعقد وسط غرفة األخبار‪ ،‬ويتوزع الصحفيون ما‬
‫بني جالس عىل مقعد‪ ،‬وواقف مستند إىل طاولة‪.‬‬
‫يتوسطهم رئيس التحرير اجلديد بجسمه الضخم وقامته القصرية‪،‬‬
‫وصلعته الواسعة‪ّ ،‬‬
‫حك صلعته وقال بلهجة كثيفة‪:‬‬
‫بصو حزرتكم‪ ،‬من اآلن فصاعدا نريد بعض النرشات اخلفيفة أن‬‫‪ٌّ - -‬‬
‫تكون باللهجة‪.‬‬
‫قاطعه صحفي مغريب‪:‬‬
‫‪- -‬بأي هلجة‪ ..‬اجلزائرية مثال؟‬
‫‪ - -‬أو‪ ،‬يعني‪ ...‬ال أقول باللهجة‪ ،‬فذاك يستلزم اختيار هلجة معينة‬
‫ونحن قناة عربية‪ .‬أقصد أن تكون النرشة ملحونة وليست‬
‫فصحى‪ ،‬حتى يشعر الناس بقرب املحطة منهم‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫َو َج َم اجلميع‪.‬‬
‫ومل ُيسمع غري صوت مذيعة قادم من جهة االستديو الرئييس تقرأ‬
‫نرشة التاسعة صباحا‪.‬‬
‫كان القروي غري مصدق ملا يسمعه‪ .‬مل يتكلم بل ظل وامجا يلعب‬
‫نفسه حتى يتأكد من جدية احلديث‪.‬‬
‫بأطراف أصابعه‪ ،‬المجا َ‬
‫قال صحفي تونيس‪:‬‬
‫ومتزيق لوجدان‬
‫ٌ‬ ‫‪- -‬هذا نزول للقاع‪ ،‬ووقوع يف شرِ اك العامية‪،‬‬
‫العرب‪.‬‬
‫وكأن كلامت الصحفي فتحت األفواه املغلقة‪ ،‬فقال آخر‪:‬‬
‫‪- -‬إذا جعلنا إحدى نرشاتنا باللهجة فسنفقد التعابري الفنية‪،‬‬
‫فالفصحى لغة متطورة مليئة بكل مصطلح نحتاجه‪ ،‬أما اللهجات‬
‫دت يف املعاين‪ ،‬وتو ّغ َ‬
‫لت يف‬ ‫ففقرية بائسة ال تسعفك باللفظ كلام ب ُع َ‬
‫مضايق املصطلحات‪.‬‬
‫مرر رئيس التحرير يده عىل هامته الضخمة وقال بنفس متقطع‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪- -‬فاهم فاهم يا ر ّي ْس‪ .‬لكن هناك حمطات ببعض الدول تتحدث‬
‫بيشء أقرب إىل اللهجة وهلا مشاهدوها‪ ،‬ثم إن اللغة ليست كل‬
‫يشء‪ ،‬املهم املادة البرصية‪ ،...‬وإنام التلفزيون صورة‪.‬‬
‫كان القروي مستندا عىل طرف مكتبه‪ ،‬فشعر ببخار يتصاعد إىل‬
‫دماغه‪ ،‬وفورة غضب‪ .‬خطا خطوة وجلس عىل أقرب كريس لرئيس‬
‫التحرير وقال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف تقول إن اللغة ليست كل يشء؟ بل هي كل يشء‪ .‬فالكون‬

‫‪352‬‬
‫إنام خرج من العدم بكلمة واحدة هي «ك ْن»‪ .‬وهذه األمة الفاخرة‬
‫‪-‬التي جيمعنا االنتامء هلا‪ -‬إنام ُولدت من كلمة واحدة يف غار‬
‫حراء‪« :‬اقرأ»‪ .‬إن الوجود البرشي ال ماهية له خارج أسوار اللغة‪.‬‬
‫فغر رئيس التحرير فاه‪ .‬ومل يعرف كيف يرد‪ ،‬فهو رجل عركته‬
‫غرف األخبار غري أن خربته ال تتجاوز اجلانب التقني‪ ،‬وفنيات بناء‬
‫ُ‬
‫النرشات‪ ،‬وترتيب األخبار ومالحقتها‪ ،‬لكن تكوينه الثقايف ضعيف‪،‬‬
‫فال هو يستطيع اإلبانة عن حجة‪ ،‬وال الدفاع عنها بمنطق‪.‬‬
‫غمغم قائال‪:‬‬
‫‪- -‬الزم تفهم حرضتك أن التلفزيون صورة أوالً‪...‬‬
‫قاطعه القروي‪:‬‬
‫‪- -‬وكلمة أيضا! والكلمة كل يشء‪ .‬فبالكلامت نحب‪ ،‬وهبا نعرب عن‬
‫لواعج العشق‪ .‬ومنها نغضب وهبا نصادق ونحارب‪ .‬وبالكلامت‬
‫يتعبد النساك داخل املساجد واملحاريب والكنائس والصوامع‪.‬‬
‫وهبا نهُ دهد أطفالنا قبل النوم‪ ،‬وبالكلمة وحدها نرتىض املحبوب‬
‫املشاعر املختلجة يف صدورنا‪،‬‬
‫َ‬ ‫الغاضب‪ .‬وبالكلامت نصف‬
‫ونداعب البدر الضحوك يف سامئنا‪ ،‬وهبا نصف الغابات واألزهار‬
‫واألمطار‪ ،‬واألمايس املاتعة والصباحات الوضاءة‪ .‬فعالقتنا‬
‫بالكون كله إنام هي عرب الكلامت يا سيدي‪ ...‬رئيس التحرير!‬
‫والتفت اجلميع إىل رئيس التحرير منتظرين رده‪ .‬فبدا يف أعينهم‬
‫سمينا قصريا أصلع‪ ،‬طف ً‬
‫ال يف عامه الثالث‪ ...‬يبحث عن كلامت‪.‬‬
‫ورفع هامته وأجال برصه يف وجه القروي‪ ،‬فبدا له جادا ُمغضبا‬

‫‪353‬‬
‫قوي احلجة‪ .‬وتساءل يف نفسه‪ :‬بأي حيلة سأروض هذا اجلمل اهلائج‪.‬‬
‫ثم تصنع االبتسامة‪:‬‬
‫‪- -‬دعونا َنر أجندة األخبار اليوم‪ ،‬وسنتحدث يف هذه اجلزئية الحقا‪.‬‬
‫وأحس القروي بغضب يكاد خينقه‪ .‬فهو يغار عىل اللغة العربية كام‬
‫يغار البدوي عىل زوجته احلسناء‪ ،‬وختيل نفسه جالسا مستمعا لنرشات‬
‫باللهجة عىل قناة العروبة‪ .‬تلك القناة التي يؤمن إيامنا عميقا بأهنا‬
‫ِ‬
‫وتوحيد اهتاممات اإلنسان العريب‪.‬‬ ‫سامهت يف النهوض بالفصحى‪،‬‬
‫اعتذر لينرصف قبل هناية اجتامع التحرير‪ .‬ثم ختيل ردة فعل‬
‫اجلاحظ إذا ُأخبرِ بأن بعض العرب يميل إىل اللهجات املرتعة باللحن‬
‫أكثر من ميله للغة مرض! أحس برغبة عارمة يف غسل سليقته بعد هذا‬
‫النقاش‪ .‬ووجد نفسه يتذكر كالما للجاحظ‪ ،‬فقرر طباعته عىل ورقة‬
‫وتعليقه عىل طرف مكتبه حتى يقرأه كل من يف غرفة األخبار‪.‬‬
‫وقبل انتهاء االجتامع‪ ،‬قذفت الطابعة ورقة تلقفها القروي‬
‫وألصقها عىل طرف مكتبه‪ ،‬وكان مكتوبا فيها‪:‬‬
‫تنق من‬ ‫َ‬
‫اجلهال والن َّْوكى والسخفا َء شهرا فقط‪ ،‬مل َ‬ ‫جالست‬
‫َ‬ ‫«ولو‬
‫وخبال معانيهم بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا‪،‬‬‫ِ‬ ‫أوضار كالمهم‪،‬‬
‫ُ‬
‫واإلنسان بالتعلم‬ ‫أرسع إىل الناس‪ ،‬وأشدُّ التحاما بالطبائع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ألن الفساد‬
‫ِ‬
‫االختالف إىل العلامء ومدارسة الكتب جيو ُد ل ُفظه‬ ‫والتكلف‪ ،‬وبِ ِ‬
‫طول‬
‫وحيس ُن أد ُبه‪ .‬وهو ال حيتاج يف اجلهل إىل أكثر من ترك التعلم‪ ،‬ويف فساد‬
‫البيان إىل أكثر من ترك التخري»‪.‬‬
‫وز َع منشورا سياسيا يف دولة بوليسية‪.‬‬
‫ومتلكه شعور مناضل ّ‬

‫‪354‬‬
‫وأمسك قلام وخط حتت عبارة «ويف فساد البيان إىل أكثر من ترك‬
‫التخيرُّ »‪.‬‬
‫وحانت منه التفاتة فلمح رئيس التحرير يرمقه بحنق من زجاج‬
‫مكتبه‪ ،‬فرمى بجسمه عىل كريس مكتبه غري مكرتث‪ ،‬وبدأ يكتب‪:‬‬
‫***‬

‫‪355‬‬
‫بغداد‪ ،‬ما بين ‪ ،219‬و‪ 235‬هـ‬

‫تعود اجلاحظ عىل جلسات‬ ‫مر السنوات وتالحق األيام‪ّ ،‬‬ ‫عىل ّ‬
‫املساء يف رشفة من رشفات منزله الواسع يف بغداد‪ ،‬بدأ يتعلق بالعزلة‬
‫مع كتبه وجاريته‪ ،‬أكثر من تعلقه بمجالسة األمراء واخللفاء والوجهاء‪.‬‬
‫حصل من اهلبات ‪-‬التي تتالت عليه بعد كتابته كتبا للمأمون وابن‬
‫فقد ّ‬
‫الزيات وغريمها‪ -‬ماالً عريضا مع شهرة ط َّبقت اآلفاق‪.‬‬
‫جلس يكتب مدير ًا ظهره لسحر بغداد وما تضطرب به من‬
‫أحداث‪ ،‬مستمتعا برصير أقالمه عىل الورق‪ ،‬ورنات عود جاريته‬
‫علية‪ .‬ومع وقوع أحداث جسام يف السنوات املاضية؛ كوفاة املأمون‪،‬‬
‫وامتحانه لرجال احلديث بخلق القرآن‪ ،‬فإنه ظل منكفئا ال هيمه إال‬
‫الكتابة والقراءة‪ .‬فقد أحس بأن العمر يتقدم وهو مل حيقق حلمه الذي‬
‫بدأ يكرب بني جنبيه‪.‬‬
‫ِ‬
‫مستعج ٌل حتى ولو مل يعرف وجهته القادمة‪.‬‬ ‫أصبح يشعر دائام بأنه‬
‫يعب من الدنيا‬
‫هل اإلحساس بتقدم العمر يدفع اإلنسان للركض كي ّ‬
‫قبل أن تخُ طف من بني يديه‪ ،‬أو ُي ّ‬
‫ستل منها؟‬
‫ال يدري‪ ،‬لكنه أصبح يستيقظ وينام عىل حلم إكامل كتب جديدة‬
‫جتمع ثقافة العرب‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫دول وتغريت أحوال خالل السنوات املتطاولة‪ ،‬لكن ذلك‬ ‫تقلبت ٌ‬
‫كله شجعه عىل العزلة بني كتبه‪ .‬يستمع إىل رصير قلمه عىل الورق‪ ،‬ثم‬
‫الدوي الذي يأتيه من خلف األبواب عن كتبه ورسائله‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يستلذ‬
‫خرج من غرفة كتبه ووقف يف الرشفة ممتعا عينيه بالنظر إىل هنر‬
‫دجلة البادي يف األفق‪ ،‬وكانت علية جالسة يف طرفها‪ ،‬وبيدها عو ٌد‬
‫تستعد للغناء كام تفعل عادة كل مجعة‪.‬‬
‫شدت وترا من األوتار وقالت بتدلل‪:‬‬
‫‪- -‬أال مت َ ّل من الكتب والكتابة؟‬
‫مل جيبها‪ ،‬فقد كان ذهنه مشغوال بام سمعه أمس من قصص البالط‬
‫واحلرب الدائرة بني املقربني من اخلليفة‪ ،‬وكانت عينه قد استقرت عىل‬
‫حراقة مليئة باجلنود يعربون دجلة‪.‬‬
‫ثم التفت إليها بكامل جسمه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬تعا ْيل‪.‬‬
‫وضعت العود من حجرها واقرتبت منه‪ ،‬فمدّ يده يف األفق مشريا‬
‫إىل مدينة بغداد الساحرة املرتامية وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هل ترين هذه املدينة؟‬
‫‪- -‬بىل!‬
‫قالتها بتنهد‪ ،‬وهي تفكر يف عالقتها املتناقضة هبذه املدينة الغافية‬
‫يف مثل هذه الساعة‪ .‬مل هيملها لتفكر يف طبيعة عالقتها ببغداد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫مبني‪ ،‬أو‬
‫قلم ٌ‬‫‪- -‬إن كل ما ترينَه لن يبقى منه للتاريخ إال ما يخُ لده ٌ‬
‫يف َتكَّه شاعر بليغ من بني أنياب الزمان!‬

‫‪358‬‬
‫فهمت ما يرمي إليه‪ ،‬ثم سحبت يدها من يده عائدة إىل عودها‬ ‫ْ‬
‫وهي تفكر يف أسباب حبها هلذا اخلَ ْلق الغريب‪ .‬فال هو وسيم الطلعة‪،‬‬
‫وال صاحب سلطان حيث نشأت هي بني الرشيد واملأمون‪ .‬لكنها ال‬
‫تشك يف زيادة تعلقها به كلام مرت األيام‪.‬‬
‫هل سبب تعلقها به شعورها أنه أول رجل تالحظ كون عالقته‬
‫هبا ليست متمحورة حول إشباع الرغبات احلسية‪ ،‬فال هو ممن يتوق إىل‬
‫ذلك اجلانب منها إال نادرا‪ ،‬بخالف من عرفتهم قبله؟‬
‫شعرت معه‬
‫ْ‬ ‫كانوا ال ينظرون إليها إال عىل أهنا أنثى‪ ،‬أما هو فقد‬
‫بأهنا امرأة‪ ،‬يتعلق بغنائها ومجاهلا والتفاهتا وغنجها‪ ،‬وصدقها وكذهبا‬
‫ودموعها وقوهتا وضعفها‪ ...‬يتعلق بتلك اجلوانب التي جتلعها امرأة‪،‬‬
‫ال بتلك األعضاء التي جتلعها أنثى‪.‬‬
‫أما هي فقد علمتها األيام أن تكره كل ما جيعلها أنثى‪ ،‬تكره ذلك‬
‫اجلامل اجلسدي الذي أغلق عليها زنازين الشقاء أكثر مما فتح هلا بساتني‬
‫السعادة‪.‬‬
‫كانت تنظر إليه‪ ،‬ثم تذكرت ما سمعته خلسة البارحة أثناء حديث‬
‫له مع أحد زواره‪ ،‬فبادرته سائلة‪:‬‬
‫‪- -‬هل صحيح أن املعتصم يقدم وزيره ابن الزيات‪ ،‬عىل القايض‬
‫أمحد بن أيب دؤاد وأن احلرب بينهام مشتعلة؟‬
‫القلم عن الورقة التي كان يكتب فيها وقال بلهجة فيها تأفف‬
‫َ‬ ‫رفع‬
‫وتضايق‪:‬‬
‫‪- -‬وما أدراك؟‬

‫‪359‬‬
‫فقالت بتلعثم‪:‬‬
‫‪- -‬أخربتني جاريت‪ ...‬و‪...‬‬
‫‪- -‬هل كنت تتلقطني حديثنا البارحة؟‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬ال‪ ...‬لكن‪.‬‬
‫أخطر من أن‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬لكن ماذا؟ اسمعي! إن قصص امللك والوزارات‬
‫صدور املراضع! ال تتسمعي حلديثنا أبدا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تتحملها‬
‫ّ‬
‫وضحكت علي ُة ضح ًة متأرجحة بني االعتذار والغواية‪ .‬ووقف هو‬
‫وإصبعه وسط الكتاب الذي كان يكتبه‪ .‬خرج من الرشفة مغلقا الباب‬
‫اخلشبي وراءه‪ ،‬ومفكرا يف أن موعد وصول بعض زواره قد اقرتب‪.‬‬
‫وما كادت الشمس تغيب عن هنر دجلة حتى كان املجلس يضج‬
‫بزوار‪ ،‬منهم مارسجويه والنظام وأبو حممد الفاريس‪.‬‬
‫أخذ كل منهم جملسه بينام كان اجلاحظ يبالغ يف الرتحيب‪ ،‬ممازحا‬
‫النظام قائال‪:‬‬
‫شعور عاشق ُيغازل‬
‫َ‬ ‫‪- -‬أنت عندما تدخل مدينة غري البرصة تشعر‬
‫غري معشوقته‪.‬‬
‫َ‬
‫ترددت ضحكات اجلميع‪ ،‬وجلس النظام مرددا نظره يف جنبات‬
‫املجلس‪ .‬رأى طنافس مجيلة وسجادا فاخرا‪ ،‬فشعر بغبطة جتتاحه وهو‬
‫يتذكر الغرفة التي كان يسكنها صاحبه يف حي العالفني بالبرصة‪.‬‬
‫دخل غالم حامال خوانا ووضعه وسط املجلس‪.‬‬
‫جاء صوت رجل ضخم اجلثة شديد البياض يعمل يف قرص اخلليفة‬
‫يسمى أبا حممد الفاريس‪:‬‬

‫‪360‬‬
‫سمعت أن أمري املؤمنني املعتصم سيمتحن أهل احلديث أكثر مما‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫فعل املأمون رمحه اهلل‪.‬‬
‫فأجابه اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬إذا مل يفعل فأخشى أن تنتقض عليه اخلالفة‪ .‬فأصحاب احلديث‬
‫اآلن يملكون املدن بطاعة الدمهاء هلم‪.‬‬
‫قاهلا اجلاحظ وهو ال يرفع عينيه مراقبا نفيسا وهو يضع بعض‬
‫األرشبة عىل اخلوان‪ .‬ثم رفع عينيه إىل النظام وقال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف حال مويس بن عمران؟‬
‫رد النظام بلكنة مشفقة‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أصابه مرض وهو اآلن بني احلياة واملوت‪.‬‬
‫‪- -‬عافاه اهلل‪.‬‬
‫‪- -‬آمني‪.‬‬
‫‪- -‬وماذا عن عبود‪ ،‬صاحب ِ‬
‫القيان؟‬
‫مجع النظام يديه وفركهام‪ ،‬وهو يتأمل جدران الغرفة املزركشة‬
‫بصور الطواويس وقال‪:‬‬
‫نفسه للجهاد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪- -‬سبحن اهلل! من ْهيد اهللُ فهو املهتد! عبود نذر َ‬
‫برقت أسارير اجلاحظ‪ ،‬وتفرس وجوه جلسائه قبل احلديث وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هل تعرفون سبب اختيار ع ّبود للجهاد؟‬
‫فقال النظام‪:‬‬
‫‪- -‬أرى أنه فكر يف األعامل‪ ،‬ثم وجد أشدها عىل النفس وأكثرها‬
‫أجرا سنام اإلسالم اجلهاد‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫دوت ضحكة اجلاحظ الساخرة‪ ،‬ومال إىل الوراء يف كرسيه وهو‬
‫يعدل قلنسوته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أرى ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أنه اختار اجلهاد ألن له ثأر ًا مع الروم‪ .‬فهم‬
‫اخليص يتدين‬
‫ُّ‬ ‫الذين خصوه ّملا كان صغريا وباعوه‪ .‬لذلك ال يكاد‬
‫وينرصف للزهد حتى يرتك كل العبادات القريبة والبعيدة ويفضل‬
‫عليها اجلهاد بأرض الروم‪.‬‬
‫رفع النظام وجهه مقطبا جبينه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬عفا اهلل عنك أبا عثامن‪ ،‬ما هذه اخلواطر؟‬
‫‪- -‬هذا ما أراه‪ ،‬ولعله هو يف دخيلة نفسه ال يدرك ذلك‪ .‬وال تعجبوا‬
‫فقد رأيت أن لكل طائفة من الناس مسلك ًا يف التدين والتعبد‪.‬‬
‫حيج‪ ،‬وتدين عامل الدولة أن يرتكوا‬
‫فتد ُّي ُن الفاريس إذا تاب أن ّ‬
‫العمل للسلطان‪ ،‬وتدين املغني أن يكثر اهلذرمة بالتسبيح‬
‫والصالة عىل النبي‪ ،‬والصالة يف اجلامعة مع رشب النبيذ‪ ،‬وتدين‬
‫الترسع إىل إكفار أهل‬
‫ّ‬ ‫الشيعي إظهار ترك النبيذ‪ .‬وتدين املتك ّلم‬
‫املعايص‪ ،‬ورمي الناس باجلرب‪ ،‬أو بالتعطيل‪ ،‬أو بالزندقة‪.‬‬
‫كان الفاريس يستمع شاعرا بامللل من حديث اجلاحظ وغوصه يف‬
‫أعامق النفوس‪ .‬وكان ذهنه مشغوال بالتفكري يف كثرة األتراك يف بغداد‬
‫وتفضيل املعتصم هلم عىل الفرس‪ ،‬فقال حماوال تغيري جمرى احلديث‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أصبحت بغداد ترطن بلكنة الرتك‪ .‬ما رأيكم يف اعتامد أمري‬
‫املؤمنني املعتصم عىل األتراك‪ ،‬وجلبه األلوف منهم؟‬
‫قال النظام وهو يمأل يده من الزبيب الذي عىل اخلوان‪:‬‬

‫‪362‬‬
‫‪- -‬أليسوا أخواله؟‬
‫ختول إدارة الدول‪.‬‬
‫‪- -‬بىل‪ ،‬لكن اخلؤولة ال ّ‬
‫‪- -‬لكني ما سمعتك تتضايق من اعتامد املأمون عىل الفرس ألهنم‬
‫أخواله‪.‬‬
‫‪- -‬نحن لسنا كالرتك‪ .‬فاعتامد املأمون عىل الفرس ليس ألهنم‬
‫أخواله‪ ،‬بل ألهنم أخوال اإلدارة وأعامم السياسة وأبناء كرسى‪.‬‬
‫اث ٍ‬
‫دول‬ ‫فهم أعرف بالسياسة واآليني واحلدود والرسوم‪ ،‬هم ُو ّر ُ‬
‫وصنّاع ُملك‪.‬‬
‫ُ‬
‫تربع اجلاحظ عىل أريكته وسط املجلس‪ ،‬ونزع القلنسوة‪ ،‬فبدا‬
‫أصغر من حجمه املعتاد‪:‬‬
‫َ‬ ‫الشيب يغزوه‬
‫ُ‬ ‫رأسه الصغري الذي بدأ‬
‫‪ - -‬أنتم تعلمون أن دولة بني مروان كانت عربية أعرابية‪ ،‬ودولة‬
‫عددت الوزراء من لدن‬
‫َ‬ ‫بني العباس هذه خراسانية فارسية‪ .‬فلو‬
‫السفاح إىل املأمون لوجدت معظمهم من اخلراسانية‪ ،‬مع أن قادة‬
‫اجلند عىل الثغور من العرب‪.‬‬
‫قاطعه الفاريس‪:‬‬
‫صدور بني العباس‪ ،‬ونحن من‬
‫َ‬ ‫‪- -‬ال غرو‪ ،‬فنحن من شفى اهلل بنا‬
‫فتحنا البالد‪ ،‬وقتلنا العباد‪ .‬ونحن أصحاب هذه الدولة‪ ،‬و َمن َبت‬
‫هذه الشجرة‪ ،‬ومن أرضنا ه ّب ْت هذه الريح‪.‬‬
‫كان الكل ينظرون إىل الفاريس مندفعا يف احلديث حمركا يديه‪ ،‬كام‬
‫كانوا ينظرون إىل حبيبات العرق التي تتجمع عىل جبني اجلاحظ‪ ،‬فقد‬
‫كان ال ينزعج من يشء انزعاجه من تنقص العرب‪ .‬فانطلق قائال‪:‬‬

‫‪363‬‬
‫‪- -‬ليس للعجم أن يتكلموا عن هذه الدولة مع وجود العرب‪« .‬فهل‬
‫أكثر النقباء إال من صميم العرب‪ ،‬كأيب عبد احلميد الطائي وأيب‬
‫حممد سليامن اخلزاعي وأيب نرص مالك بن اهليثم اخلزاعي؟ ثم‬
‫من الذي قتل آخر ملوك بني مروان؟ ومن هزم ابن هبرية؟ ومن‬
‫قتل ابن ضبارة؟ ومن فتح السند إال موسى بن كعب؟ ومن فتح‬
‫إفريقية إال حممد بن األشعث؟»‪ ،‬ومن قادة جيوش الثغور اآلن‬
‫إال العرب؟‬
‫كان الرجل الفاريس يعبث بطرف حليته الصهباء مستمعا‪ ،‬ثم‬
‫أرخى يده وقال‪:‬‬
‫تذكر ما قاله حممد بن عيل والد السفاح؟‬
‫‪- -‬أو ُ‬
‫‪- -‬وماذا قال؟‬
‫وصنائع عثامن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫غلب عليها عثامن‬‫َ‬ ‫‪- -‬قال إن «البرصة وسوادها‬
‫فليس من شيعة بني العباس فيها إال القليل‪.»...‬‬
‫قاطعه اجلاحظ مشريا إىل النظام‪:‬‬
‫‪- -‬أنا اآلن من أهل بغداد‪ ،‬لكن ال تتحدث عن البرصة والنظام ينظر‬
‫إليك‪...‬‬
‫انفرجت شفتا النظام الغليظتان عن ابتسامة‪ ،‬فواصل الفاريس‬
‫رواية كالم السفاح‪:‬‬
‫‪«- -‬وأما اجلزيرة العربية فخارج ٌة مارقة‪ ،‬ولكن عليكم هبذا الرشق‬
‫فإن فيه صدورا سليمة وقلوبا باسلة‪ ،‬مل تفسدها األهواء ومل ت ْعتَق ْبها‬
‫البدع‪ ،‬وهم مغيظون موتورون»‪ .‬فكيف ال نكون أصحاب الدولة‬

‫‪364‬‬
‫وأحق هبا من العرب‪ ،‬فكيف بأعراب الرتك األجالف؟‬
‫رفع اجلاحظ برصه يف السقف وقال‪:‬‬
‫‪- -‬إن كالم حممد بن عيل كال ُم صاحب سياسة ال صاحب كالم‬
‫وفلسفة‪ ،‬لقد كان الفرس أصحاب ديانة سابقة وملك قائم‪،‬‬
‫لذلك مل يستسيغوا الدي َن كام استساغه العريب والرتكي‪ .‬فالعريب‬
‫خملصي‬
‫نْ‬ ‫والرتكي امتزج اإلسالم بشغافهام‪ ،‬وخدما هذه الدولة‬
‫ألنه مل يكن هلام سلطان بني األمم إال هبذه الدولة وسندها النابت‬
‫يف الدين‪ .‬أما الفرس فكانت فيهم املجوسية والكرسوية‪ ،‬وجاء‬
‫العرب فهدموا دولتهم وفلوا حدّ هم‪ ،‬فهم موتورون مغيظون‪،‬‬
‫وحانقون حمزونون دائام‪.‬‬
‫بدوار يف رأسه وهو يقول‪:‬‬
‫شعر الفاريس ّ‬
‫‪- -‬من مهد قواعد العلم غري الفرس؟ وما الدين إن مل يقم عىل‬
‫قواعد؟‬
‫كان النظام منشغال بخضم حبات من اللوز فابتلعها هبدوء‪،‬‬
‫وتنحنح فشخصت إليه األبصار‪ .‬مسح طرف شفته وقال‪:‬‬
‫‪- -‬يشء عجييييب! هاهنا باب آخر ال أراكم فطنتم له‪ ،‬إن هذه املل َة‬
‫األمم املختلف َة أم ًة واحدة‪ ،‬فمزجت األلوان وأدخلت‬ ‫َ‬ ‫ق َل َبت‬
‫الفضائل والرذائل بعضها ببعض‪ .‬فأصبح اخلراساين عربيا‬ ‫َ‬
‫وتوح ِد القصد‪ ،‬وأصبح العريب فارسيا لتقارب السكن‬ ‫ُّ‬ ‫بالتنشئة‬
‫ووحدة التع ّلم والديانة والسعي وتشابه املقاصد‪ ،‬فأنا ال أعلم‬
‫كتبت وحتدثت يف الشعر‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أعرق يف األعرابية منك يا أبا حممد إذا‬
‫واملديح وقصص العرب‪ .‬وال أعلم أكثر خراسانية منك يا أبا‬

‫‪365‬‬
‫مرو‪ ،‬وحكيت قصصهم‪ .‬فأنتام‬
‫عثامن‪ ،‬إذا حتدثت عن أهل َ‬
‫متفقان بالقوة‪ ،‬وإن اختلفتام بالفعل‪.‬‬
‫تثاءب مارسجويه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬إن اخللفاء يف هذه امللة ال يقربون الرجل جلنسه وال قبيله وال‬
‫ديانته‪ ،‬بل لعلمه وفضله‪ ،‬وإال مل َ مجعت جمالس اخللفاء بني الفاريس‬
‫والرافيض‪ ،‬والعريب واملحدث‪ ،‬واملتفلسف والطبيب والنرصاين؟!‬
‫رفع اجلاحظ عينيه إىل الستائر املزركشة التي تغطي النوافذ‪ ،‬ثم‬
‫تذكر أمرا‪ ،‬فقال وكأنه يريد إهناء احلديث‪:‬‬
‫‪- -‬نحن متفقون عىل هذا‪ .‬لكن الشعوبية أحدثت رضبا مستحدثا‬
‫من القول يف مثالب العرب‪ ،‬فقاد ذلك إىل هذا احلجاج واللجاج‪.‬‬
‫ساد صمت‪ ،‬قطعه صوت الفاريس‪:‬‬
‫‪- -‬ما أخبار التنافس بني ابن أيب دؤاد وابن الزيات؟‬
‫فقال رجل يف طرف املجلس ظل صامتا‪:‬‬
‫‪- -‬املعتصم أصبح يقدم ابن الزيات‪ ،‬حتى إنه أمر كل من رآه يف‬
‫القرص أن يقوم تكريام له إذا داخل‪.‬‬
‫قال الفاريس‪ ،‬وهو يلعب بلحيته الصهباء‪:‬‬
‫‪- -‬هل تعلمون ماذا فعل ابن أيب دؤاد؟ كلف أحد معاونيه أن خيربه‬
‫إذا دخل ابن الزيات‪ ،‬فإذا أعلمه بدخوله قام وبدأ يصيل حتى ال‬
‫يقف له!‬
‫قال اجلاحظ‪:‬‬
‫‪ - -‬كنت معه أمس‪ ،‬فلام دخلنا رأينا ابن أيب دؤاد يصيل‪ ،‬فقلت له أهيا‬

‫‪366‬‬
‫الوزير‪ ،‬ما بال هذا يصيل يف وقت ليس وقت صالة؟ فقال يل‪:‬‬
‫صلى الضح�ى ّملا اس�تفاد عداويت‬
‫ُ‬
‫يـنس�ك بـعـده�ا ويـص�و ُم‬ ‫وأراه‬
‫ال تـعـدم� َّن ع�داو ًة مس�مـوم ًة‬
‫تـركـت َ‬
‫ْ�ك تـقـع�دُ ت�ار ًة وتـق�و ُم‬
‫قال الفاريس‪:‬‬
‫‪- -‬سمعت أن ابن الزيات نظم تسعني بيتا يف هجاء ابن أيب دؤاد‪.‬‬
‫جاء صوت مارسجويه‪:‬‬
‫‪- -‬لكن ابن أيب دؤاد رد عليه ببيتني يعدالهنا كلها حني قال‪:‬‬
‫أحس� ُن م�ن تس�عني بيت� ًا ُس�دى‬
‫ِ‬
‫بـي�ت‬ ‫جـمـع�ك مـعـنـاه�ن يف‬
‫املل�ك إىل م ْط ٍ‬
‫�رة‬ ‫َ‬ ‫م�ا أح�وج‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الـزيـ�ت!‬ ‫ـ�ر‬ ‫ُ‬
‫تـغس�ل عـن�ه َو َض َ‬
‫تضايق اجلاحظ من التعرض لصديقه ابن الزيات‪ ،‬فالحظ ذلك‬
‫جلساؤه‪ ،‬وخيم صمت قطعه صوت اجلاحظ متظاهرا بعدم االنزعاج‪:‬‬
‫لكن ابن الزيات رد عىل هذين البيتني وقال‪:‬‬
‫ي�ا أهي�ا الطام�ع يف هجون�ا‬
‫ِ‬
‫للم�وت‬ ‫عــرض�ت‬
‫َ‬ ‫نفس�ك قـ�د‬
‫الزي�ت ال ُي�زري بأحس�ابنا‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫الـبـي�ت‬ ‫أحس�ا ُبـنـا مـعـروفـ� ُة‬
‫ضحك اجلميع‪ ،‬فقال النظام ملتفتا إىل اجلاحظ‪:‬‬

‫‪367‬‬
‫‪- -‬وما الذي جعل املعتصم يقدم ابن الزيات عىل ابن أيب دؤاد رغم‬
‫علمه وبالغته ونسبه يف بني إياد؟‬
‫ساد صمت‪ ،‬مطبق‪ ،‬فتالحظ النظام ومارسجويه‪ ،‬بينام ظهر ظل‬
‫مججمة اجلاحظ منعكسا عىل اجلدار خيضم حبات من اللوز‪.‬‬
‫أبعد الفاريس املصباح عن وسادته قليال وقال‪:‬‬
‫يدر عىل اخلليفة مائال طائال‪....‬‬
‫‪- -‬إن ابن الزيات أصبح ّ‬
‫ثم توقف عن احلديث‪ ،‬والتفت فرأى أجفانا ترتاقص‪ ،‬مع صمت‬
‫متوتّر‪.‬‬
‫لكن النظام قال‪:‬‬
‫‪- -‬كيف ذلك؟‬
‫مل يكن أحد جاهزا للجواب‪ ،‬فخيم الصمت‪.‬‬
‫فليس يف بغداد أحد إال سمع عن تنور العذاب الذي أعدّ ه ابن‬
‫الزيات للمخالفني واملصا َدرين‪ ،‬إذ أصبح يأيت بالتاجر الذي تُصادر‬
‫أمواله ويضعه فيه حتى يقر بكل ما عنده أو يتمزق أشالء بالكالليب‪.‬‬
‫جاء صوت النظام حادا هذه املرة‪:‬‬
‫‪- -‬كيف يقع هذا وأنتم مجاعة العدل والتوحيد واألمر باملعروف‬
‫والنهي عن املنكر؟‬
‫وقع السؤال عىل رؤوس احلارضين كأنه صخرة متدحرجة قادمة‬
‫من قعر نار جهنم‪ ،‬ساد صمت مطبق‪.‬‬
‫فرغم التقارب العقيل بني اجلالسني فإن احلياة يف بغداد ويف أكناف‬
‫اخللفاء عودهتم أال يأمن أحد جليسه‪ ،‬كان السؤال قاسيا‪ ،‬فسبب املودة‬

‫‪368‬‬
‫والتقارب بينهم هو انتامؤهم إىل االعتزال القائم عل مبادئ أمههام‬
‫العدل والتوحيد‪ ،‬واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪.‬‬
‫لكن لبغداد منطقها‪.‬‬
‫كان النظام بعيدا عن عامل بغداد هذا‪ ،‬مشغوال بالتنظري والتفكري‪،‬‬
‫والعيش يف عامل املناظرات العقلية يف البرصة‪.‬‬
‫خطف اجلاحظ احلديث‪:‬‬
‫‪- -‬ومن قال إن العدل ليس يف استخراج املال املغصوب بغري وجهه‬
‫من أرباب الربا؟‬
‫فقال النظام باستغراب‪:‬‬
‫‪- -‬ومن قال إن من يعذهبم الوزير ُمرابون؟ ومن أباح ظلم املرابني؟‬
‫ومن أباح التعذيب يف امل ّلة؟‬
‫‪- -‬إذا كان الظامل ال ينزجر عن ظلمه إال بالتعذيب‪ ،‬أال جيوز تعذيبه؟‬
‫‪- -‬مل يثبت عن النبي وال عن أصحابه أهنم عذبوا أحدا‪ ،‬وما كان‬
‫النبي وال عمر وال أبو بكر يسجنون أحدا‪ ،‬فكيف بتعذيبه‪ .‬ثم إن‬
‫التعذيب يتعارض مع تكريم اهلل لبني آدم وتسخري الكون هلم‪.‬‬
‫احتدم اجلدل بني اجلاحظ والنظام‪ ،‬ثم ساد صمت‪ ،‬قطعه صوت‬
‫اخلادم نفيس يدعوهم لالنتقال إىل جملس العشاء‪.‬‬
‫تغريت نربة احلديث عىل مائدة العشاء‪ ،‬وانصب احلديث عىل‬
‫كراسة كتبها اجلاحظ عن عادات البخالء وأخالقهم‪ ،‬فتذكر اجلميع‬
‫ّ‬
‫أيام املسجديني بالبرصة وقصصهم‪.‬‬
‫امتألت أطراف املجلس بأصوات القضم واللقم‪ ،‬واحتكاك‬

‫‪369‬‬
‫األواين واختالف األيدي فوق الطعام‪.‬‬
‫بعد العشاء و ّدع اجلاحظ ضيوفه‪ ،‬وصعد السلم إىل غرفة كتبه‪،‬‬
‫كان معتدل املزاج يكاد يقفز حيوية وسعادة‪ ،‬دخل الغرفة وجلس بني‬
‫كتبه‪ ،‬فيام كانت رائحة العطور الفواحة تداعب خياالته من غرفة علية‬
‫القريبة‪ .‬نفض الرتاب عن أحد كتبه وهو يغالب نفسه بني سحر علية‬
‫وسلطان الكتاب‪ ،‬وبني احلالتني شعر بغبطة وسعادة‪.‬‬
‫لكن ما مل يدُ ر بخلده تلك اللحظة‪ ،‬أن هذا العامل سيتهاوى أمام‬
‫عينيه يف ملحة الربق‪.‬‬
‫***‬
‫وقف نفيس مشدوها يف حديقة املنزل من ترصفات سيده‪ .‬كان‬
‫اجلاحظ يميش‪ ،‬وجيلس ثم يقف‪ .‬يحُ َ ْو ِق ُل أحيانا ويحُ َ ْسبِ ُل أخرى‪ .‬جيلس‬
‫واضعا يديه عىل رأسه ثم يقف ويسأل نفيس ًا من جديد متوسال بنربة طفل‪:‬‬
‫‪- -‬هل رأيتها؟ كيف ذهبت؟ كيف؟‬
‫لكن إجابة نفيس ال تكشف شيئا عن اللغز املحري‪ ،‬أعاد عليه‬
‫نفيس العبارة ألف مرة‪.‬‬
‫عدت مل أعثر هلا عىل أثر‪.‬‬
‫طلبت مني أن أذهب إىل السوق‪ ،‬وعندما ُ‬
‫‪ْ --‬‬
‫بصعوبة‪ ،‬عاد إىل داخل املنزل جير قدميه‪ ،‬وال يدري كيف محلتاه‪.‬‬
‫ها هو مستلق عىل ظهره يف غرفة كتبه ينظر إىل السقف بعينني منطفئتني‪.‬‬
‫الصدمة ليست يف اختفاء علية فقط‪ ،‬بل يف عجبه من حجم احلب‬
‫الذي يكنه هلا دون أن يدري‪ ،‬هل هناك أشياء نعشقها دون أي معرفة‬
‫ٌ‬
‫مؤجل يتوقف عىل حلظة فقدانه؟متاما‪ ،‬كالطفل‬ ‫منا باألمر؟ أهناك عشق‬

‫‪370‬‬
‫الذي يظل مستلقيا بني حضن أبويه ال يلقي باال حلضورمها يف حياته‪،‬‬
‫ثم ييتم فجأة‪ .‬فيلتفت إىل زوايا الكون فرياها خالية‪ ،‬موحشة وخميفة‪،‬‬
‫ويستيقظ عىل مآقيه تسيل أهنارا من الدموع‪.‬‬
‫هل أحب علية هلذه الدرجة؟‬
‫أدار عينيه يف جنبات الكتب‪ ،‬رأى كتب األوائل واألواخر‪ ،‬من‬
‫أدب وتاريخ ولغة وفلسلفة‪ ...‬كل هذه الطوامري فقدت رونقها بعد‬
‫خروج علية من هذا املنزل‪.‬‬
‫عجز عن ختيل عامله بدوهنا‪ ،‬ختيل نفسه حافيا يف شوارع بغداد‬
‫يسائل عنها الدراويش واملتسولني والصيادين والتجار وقطاع الطرق‪.‬‬
‫‪- -‬هل فيكم من رآها؟‬
‫‪- -‬من هي؟‬
‫‪- -‬هي علية‪ ....‬هي عريب! ومن منكم ال يعرفها؟ هي! بمالءهتا‬
‫البيضاء وشعرها املنسدل ووجها الوضاح؟‬
‫كانت أذناه مرتعتني بلحن أصابعها ترتاقص عىل العود‪ ،‬وبتمتامت‬
‫شفتيها يف أمايس بغداد الوادعة‪ ،‬وكانت عيناه مسكونتني بوجهها‬
‫الصبوح وهي تقول له‪ :‬فديتك!‬
‫أغمض عينيه عىل صورهتا تلك‪ ،‬ووقف بتثاقل متسائال يف نفسه‬
‫عن هذا احلب الذي ال يشتد رضامه إال بعد فقدانه‪ ،‬كيف يعشق هذا‬
‫الشيب ون ّيف عىل الستني؟ بل كيف يعشق‬
‫ُ‬ ‫العشق احلارق من َو َخ َط ُه‬
‫من مل يتجاوز الستني؟‬
‫إن احلب ألطف وأدق وأخطر من أن ُيرتك لعبة لطيش الشباب‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫فام يقع فيه الشباب ليس حبا‪ ،‬بل صخب حواس فقط‪ .‬إنام يعشق‬
‫يدي من أ ّدبتْه األيا ُم‬
‫العجائز‪ .‬فال يمكن لربعم احلب أن يرتعرع إال بني ْ‬
‫ور ّباه تعاقب الليل والنهار‪.‬‬
‫مرت عليه أيام مل خيرج من عتبة غرفة كتبه‪ ،‬وقل ُبه مرتع بحزن دفني‬
‫وشعور بعبثية احلياة‪ .‬ثم انقضت أسابيع كان يعود فيها َّ‬
‫كل مساء‪ ،‬فال‬
‫يطلب طعاما وال رشابا‪ .‬يصعد إىل غرفة كتبه‪ ،‬ويمر وقته بني كتابة‬
‫ونوم وتفكري‪.‬‬
‫سمع مرة نفيسا يقول خلادم جاره‪:‬‬
‫‪- -‬منذ اختفائها أمهل سيدي كل يشء‪ ،‬أصبح ال يسأل عن سقي‬
‫احلديقة وال هيتم بنوع الطعام وال الرشاب‪.‬‬
‫***‬
‫طال جملس اجلاحظ مع ابن الزيات‪ ،‬ويكاد ينهي قراءة رسالته‬
‫التي كتبها له بعنوان «رسالة يف اجلد واهلزل»‪ .‬سكت اجلاحظ قليال‬
‫لريتاح بعد قراءة طويلة‪ ،‬فامل اب ُن الزيات عىل وسادته‪ ،‬ووضع عاممته‬
‫عن رأسه‪ ،‬وقال وهو يتفقد فتيلة املصباح‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل إين ملريض القلب يا أبا عثامن؟‬
‫‪- -‬عاىف اهلل الوزير!‬
‫دنف باحلب‪ ،‬وال قوة يل عليه‪.‬‬
‫‪- -‬إين ٌ‬
‫قفز قلب اجلاحظ من مكانه عندما سمع كلمة احلب‪ .‬لكنه كان‬
‫يداري ما به‪ ،‬وال يريد أن يطلع الوزير عىل اختفاء علية‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬إيه! و َمن الغزال الذي افرتس األسد؟‬

‫‪372‬‬
‫‪- -‬إن قلبي متنازع بني حزين عىل فراق زوجتي وحبي جلارية من‬
‫جواري فرهود ا ُمل َق نِّي عشقتها قبل سنني طويلة!‬
‫‪- -‬جارية فرهود خطبها سهل‪ ،‬مل َ ال تطلبها منه؟ أما أم جعفر رمحها‬
‫اهلل‪ ،‬فال تنس أجر الصرب‪.‬‬
‫‪- -‬لقد بيعت اجلارية وذهبت منذ سنني‪ ،‬حتى كأن أرضا ابتلعتها‪،‬‬
‫أو سام ًء حلستْها‪ ،‬وما عثرنا هلا عىل أثر‪.‬‬
‫حلبي أهيا الوزير؟‬
‫‪- -‬هل يتسع القلب نْ‬
‫‪- -‬إييه!‬
‫قاهلا ابن الزيات متنفسا بعمق‪ ،‬ثم أردف‪:‬‬
‫‪- -‬إن القلب الكبري يتسع ألكثر من حب يا أبا عثامن‪ .‬فبني جوانحي‬
‫بحار من املشاعر ال يتسع هلا قلب امرأة واحدة‪.‬‬
‫‪- -‬لكن ثمة فرقا بني أن حتب امرأة‪ ،‬وأن متيل إىل أخرى!‬
‫‪- -‬أنا أحتدث عن احلب يا أبا عثامن‪ ،‬ففي هذا املنزل من اجلواري‬
‫الروميات واحلبشيات واهلنديات والفارسيات ما يكبح الرغبة‪،‬‬
‫أنا حمب يا أبا عثامن‪.‬‬
‫استند ابن الزيات ووقف من مكان جلوسه‪ ،‬ومشى قليال إىل‬
‫الباب وألقى نظرة عىل احلديقة املصفوفة بعناية يف مدخل منزله‪ ،‬كان‬
‫قلبه حيرتق‪ ،‬ثم جعل يردد آخر أبيات قاهلا باكيا عىل اجلارية التي بيعت‬
‫لرجل من أهل مهدان‪:‬‬
‫طول ساعات ليل العاشق الدنِ ِ‬
‫ف‬ ‫يا َ‬
‫وط�ول ر ْعيتِ�ه للنجم يف السَّ�دَ ِ‬
‫ف‬ ‫َ‬
‫َ‬

‫‪373‬‬
‫م�ا ذا تواري ثيايب م�ن أخي ُحرق‬
‫ِ‬
‫األل�ف!‬ ‫كأنما اجلس�م من� ُه دق�ة‬
‫أدار ظهره للنافذة ونظر إىل اجلاحظ وأكمل‪:‬‬
‫�ت اهلوى دنِفا‬
‫م�ن رسه أن يرى َم ْي َ‬
‫فليس�تدل على الزي�ات و ْل ِ‬
‫يق�ف!‬ ‫َّ‬
‫التفت اجلاحظ إىل فتيلة الرساج وهي تكاد تنطفئ‪ ،‬ورفع برصه‬
‫فرأى خيال ابن الزيات عىل اجلدار ضعيفا هزيال مسكينا‪ ،‬رغم أن جمرد‬
‫ذكر اسمه خييف أشداء الرجال يف بغداد‪.‬‬
‫جلسا صامتني‪ ،‬لكن قلب كل منهام كان مليئا بالصخب‪ ،‬ثم‬
‫استأذن اجلاحظ وخرج من باب املنزل الكبري‪.‬‬
‫وبعد ساعة‪ ،‬كان ابن الزيات يدخل إىل باب السجن الكبري ببغداد‪،‬‬
‫فهذه الساعة املتأخرة من الليل هي الوقت املحبب عنده للقيام بعمله‪.‬‬
‫جلس عىل كرسيه ونادى بأول سجني‪.‬‬
‫دخل الرجل يرسف يف أغالله‪ ،‬ووقف بني يديه‪ ،‬غطى ابن الزيات‬
‫أنفه بكمه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أما آن لك أن تقر بكل ما متلكه من ِضياع وأموال؟‬
‫‪- -‬واهلل لقد أحصيت لك كل ما أملكه يا موالي‪.‬‬
‫‪- -‬خذوه إىل التنور!‬
‫كانت تلك الكلمة هي كل ما فكر فيه هذا السجني طيلة األيام‬
‫اخلمسة املاضية‪ ،‬فرغم انطباق ِح َل ِق القيد عىل رجليه الداميتني‪ ،‬فإنه كان‬
‫ينظر إليهام كأهنام معصامن من احلرير بالقياس إىل ما سيلقاه يف التنور‪.‬‬

‫‪374‬‬
‫فام أكثر ما سمع رفاق السجن يتحدثون برعب عن التنور‪ ،‬وكان‬
‫وصفهم لعذابه ال يفارق أذنيه‪:‬‬
‫‪- -‬دخله عبد اهلل اللص فاندلقت أحشاؤه‪ .‬كانت كالليب احلديد‬
‫تنزع مصارينه‪.‬‬
‫‪- -‬ما دخله أحد قط وخرج منه عاقال إن خرج حيا!‬
‫قفز اجلنود عىل السجني ومحلوه إىل التنور‪...‬‬
‫وح َس ٌك‬
‫كان تنورا كبريا مصنوعا من احلديد‪ ،‬تتوسطه كالليب َ‬
‫ومقعد من خشب‪ .‬جيلس السجني عىل اخلشبة وحتيط به الكالليب‬
‫واحلسك من كل جهة دون أن تلمسه‪.‬‬
‫لكنه ال يتحرك حركة إال خدشته‪ ،‬فإن نام خدشه مسامر‪ ،‬وإن‬
‫تقلب تناوشته مسامري‪.‬‬
‫جيلس عىل أطراف التنور حارس مكلف بإيذاء من يدخله‪.‬‬
‫ما إن استقر السجني داخل التنور حتى صاح باستعطاف‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل يا موالي لو ملكت شيئا يف هذه الدنيا ما أخربتك به‬
‫ألقررت به! ارمحني رمحك اهلل‪.‬‬
‫ال يزيد ابن الزيات عىل تكرار مجلته التي غدت ترتدد يف كل بيت‬
‫ببغداد‪:‬‬
‫‪- -‬الرمح ُة َخ َو ٌر يف الطبيعة!‬
‫‪- -‬ارمحني يرمحك الرمحن!‬
‫خور يف الطبيعة!‬
‫‪- -‬الرمحة ٌ‬
‫ثم يتالشى صوت املعذب يف غياهب التنور‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫وبعد ليلة مليئة بالرصاخ والعويل‪ ،‬واالسرتحام والقصص‪،‬‬
‫وحلظات انكسار الرجال املستورين‪ ،‬خيرج ابن الزيات لتداعب وجهه‬
‫نسائم هنر دجله‪.‬‬
‫ويف ساعات الصباح األوىل يعود إىل باب قرصه وخيال جاريته‬
‫اهلمدانية يداعبه‪ ،‬وهو ينشد األشعار الرقيقة يف رثاء زوجته‪.‬‬
‫***‬

‫‪376‬‬
‫الدوحة‪ 1440 ،‬هـ‬

‫مرت أيام ثالثة وهو يتصور حلظة دخوله منزل أهلها لطلب يدها‪.‬‬
‫وكان أكثر ما أزعجه اشرتاط والدها أال يأيت وحيدا؛ فكيف يأيت‬
‫رجل وحده خلطبة ابنته؟ فكان عليه أن جيد أصدقاء ومعارف ينتحلون‬
‫هوي َة أعاممه وأقاربه‪ .‬وانتخب ‪-‬بعد طول تفكري‪ -‬أربعة أصدقاء‪،‬‬
‫التحفوا دراريعهم املوريتانية البيضاء املزركشة‪.‬‬
‫وقفت سيارهتم أمام املنزل الواسع الواقع بمنطقة الدفنة‪ ،‬حيث‬
‫تنام غابة من األبراج الشاهقة عىل مياه اخلليج اهلادئة‪ .‬نزل القروي‪،‬‬
‫ملقي ًا نظرة عىل األبراج العالية البادية يف األفق وقت الغروب‪ ،‬ثم أعاد‬
‫نظره هلاتفه وهو يبستم‪ .‬فقد الحظ أن رفا َقه يمشون متجهني للباب‬
‫عكس هبوب الرياح‪ ،‬فدخل اهلواء يف أطراف دراريعهم الواسعة‪ ،‬فبدا‬
‫كل واحد منهم كأنه منطا ٌد يستعد لإلقالع‪.‬‬
‫أعاد برصه للهاتف‪ ،‬فهو مشغول بالتواصل مع حصة احلريصة‬
‫عىل أال يرتكب أي كارثة بروتوكولية ختالف األعراف والتقاليد‪ .‬كأن‬
‫يرفض تناول القهوة مثال واصفا إياها بأهنا مرة ال تُستساغ‪ ،‬كام أخربها‬
‫يستلقي عىل ظهره ‪-‬كام يفعل‬
‫َ‬ ‫أنه فعل يوما بأحد املجالس‪ ،‬أو أن‬
‫املوريتاين األصيل هو اإلنسان الوحيد الذي يولد‬
‫َ‬ ‫أحيانا‪ -‬متعلال بأن‬
‫دون عمود فقري!‬

‫‪377‬‬
‫ما إن دخلوا من الباب الواسع حتى تلقاهم أخوها بمالبسه‬
‫الناصعة البياض‪ ،‬مندفعا يرتب عقاله فوق رأسه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬يا هال ومرحبا‪...‬‬
‫‪- -‬أهال بكم‪...‬‬
‫وعزى‬
‫انقبض القروي مالحظا غياب أيب حصة عن االستقبال‪ّ ،‬‬
‫نفسه بأن العادات ربام ال تستلزم حضور الوالد حلظة دخول اخلطاب‬
‫وأصوات احتكاك‬
‫ُ‬ ‫املنزل‪ .‬دلف القروي وأصحابه من الباب الواسع‪،‬‬
‫دراريعهم متأل املكان‪.‬‬
‫ما إن دلف اجلميع إىل املجلس حتى خرج والد حصة من طرف‬
‫األغراب‪ .‬نظر إىل دراريعهم املزركشة‪ ،‬مالحظا‬
‫َ‬ ‫املنزل‪ ،‬متأمال اخلُ َّط َ‬
‫اب‬
‫أطرافها الواسعة وزركشاهتا الالفتة‪.‬‬
‫ُ‬
‫األرائك‬ ‫جلسوا داخل املجلس املستطيل الفسيح الذي تغطي‬
‫الفارهة الغامقة جنباتِه‪ ،‬ويزين السجا ُد الرمادي الفاخر أرضيتَه‪ .‬وأمام‬
‫ضعت طاولة صغرية عليها مكرسات وشاي‬ ‫ْ‬ ‫كل أريكة من األرائك ُو‬
‫وقهوة‪.‬‬
‫وصب فناجني القهوة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دخل أخوها األصغر‬
‫كل ِ‬
‫حيفر يف ذهنه‬ ‫بعد السالم انتهى الكالم وساد الصمت‪ِ .‬‬
‫وطفق ٌّ‬
‫الصمت الثقيل‪ .‬بعد هنيهات صامتة مل ُيسمع فيها‬
‫ُ‬ ‫عن كلمة لينكشف‬
‫إال منبه سيارة يف الشارع‪ ،‬حترك القروي يف مكانه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هذه املنطقة مجيلة‪ ،‬ما شاء اهلل‪ ..‬وقريبة من الكورنيش‪.‬‬
‫وبادله أخوها الكبري النظرة قائال‪:‬‬

‫‪378‬‬
‫‪- -‬صحيح‪ .‬أنا أمترن هناك يف الصباحات‪...‬‬
‫فصب فنجان القهوة اخلامس خالل‬ ‫ّ‬ ‫واقرتب أخوها األصغر‬
‫دقيقتني للرجل اجلالس عن يمني القروي‪ ،‬وكانت أول مرة جيلس فيها‬
‫جملسا خليجيا‪ ،‬وال يعرف شيئا عن عادات القوم يف رشب القهوة‪.‬‬
‫وصب له الفنجان السادس فرماه يف جوفه‪.‬‬
‫يصاعد إىل حلقه‪ ،‬فمعدته مل تتعود إال‬
‫وبدأ يشعر بلهب يف معدته ّ‬
‫الشاي األخرض ا ُمل َّ‬
‫حىل‪ ،‬ومل تعرف قط طعم القهوة‪ ،‬فكيف بقهوة عربية‬
‫مرة‪.‬‬
‫تلو اآلخر للضيف‪ ،‬وظن‬ ‫رتع الفنجان َ‬‫وظل الشاب واقفا ُي ُ‬
‫الضيف أن األدب يقيض بازدراد كل ما ُأعطي له من قهوة‪ ،‬ثم تصاعد‬
‫األمل واللهب أكثر‪ .‬فامل عىل القروي وهو بالكاد يتكلم‪:‬‬
‫‪- -‬اسأهلم أين احلامم؟‬
‫وأشري إىل محام قريب من املجلس‪ ،‬ووقف الرجل بدراعته املزركشة‪،‬‬
‫فطارت الدلة يف اهلواء‪.‬‬
‫ْ‬ ‫دل القهوة بكمها‪،‬‬ ‫فانفتح طرفاها ِ‬
‫فعلق ُّ‬
‫شعر القروي بحرج شديد‪ ،‬الحظه والد حصة فقال‪:‬‬
‫‪- -‬عادي‪ ..‬عادي‪ ،..‬تعال يا‪..‬‬
‫وجاء عامل هندي يركض‪ ،‬وجفف القهوة املتناثرة عىل األرض‪،‬‬
‫وأخذ املواعني وذهب هبا‪.‬‬
‫وعاد القروي إىل مكان جلوسه متوترا‪.‬‬
‫القروي‪ .‬فشعر باالرتياح ملنظره‪،‬‬
‫َّ‬ ‫رفع أبو حصة وجهه ليتأمل‬
‫وأعجبته طريقته يف احلديث‪ ،‬وأناقته الالفتة‪ .‬فبادره قائال‪:‬‬

‫‪379‬‬
‫‪- -‬أين درست؟‬
‫‪- -‬درست يف موريتانيا‪.‬‬
‫‪- -‬ما شاء اهلل‪ ،‬بس سمعت أنك تتحدث لغات كثرية‪.‬‬
‫‪- -‬صحيح‬
‫‪- -‬ودرست كذلك يف أملانيا‪.‬‬
‫‪- -‬تتكلم أملاين؟‬
‫‪- -‬طبعا‪ ،‬وأتلكم الفرنسية واإلنكليزية‪.‬‬
‫وتأمل والد حصة رأسه املتوسط‪ ،‬وشعره الناعم وأنفه احلائر بني أن‬
‫يكون أفطس وأقنى‪ ،‬وشفتيه اإلفريقيتني الغليظتني رغم بياضه الالفت‪.‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪- -‬من أي القبائل العربية أنتم؟‬
‫‪- -‬يقول أهلنا إننا محرييون‪ ...‬وأنا ال‪..‬‬
‫ثم تذكر أن هذه ليست حلظة حذلقة وحتقيق يف األنساب‪ ،‬وأن‬
‫األفضل له أن يكون محرييا ولو كذبا؛ فسكت‪.‬‬
‫ورفع والد حصة وجهه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لكنك ماذا؟‬
‫‪- -‬أبدا‪ ،‬كنت سأقول لكنني لست عارفا بالروابط النسبية بني القبائل‬
‫بشكل دقيق‪.‬‬
‫وعاد صاحب القروي إىل املجلس جير دراعته بعد أن تقيأ يف احلامم‬
‫كل القهوة التي ابتلعها‪.‬‬
‫شقيق حصة الصغري متحفزا ليصب له فناجني أخرى‪ ،‬فرفع‬
‫ورأى َ‬

‫‪380‬‬
‫كلتا يديه وقال دون مواربة بالفصحى‪:‬‬
‫تصب يل أبدا‪ ،‬جزاك اهلل خريا!‬
‫ًّ‬ ‫‪- -‬يكفيني‪ ..‬واهلل يكفيني! وال‬
‫وحتا َد َج اإلخو ُة وأبوهم النظرات‪ .‬ثم أشار القروي إىل صديقه‬
‫األكرب سنا ليبدأ احلديث‪.‬‬
‫فشمر كم دراعته وعدل عاممته وبدأ يتحدث‪.‬‬
‫ّ‬
‫***‬
‫كان اجلاحظ مستلقيا عىل ظهره يف غرفة الكتب بعد أن كتب عدة‬
‫ساعات يف كتابه «البيان والتبيني»‪ .‬كان راضيا عام كتب لكنه مل يكن‬
‫سعيدا‪ ،‬فالبيت خال من علية‪ ،‬ومل يعثر هلا عىل خرب وال أثر‪ .‬ثم إنه يشعر‬
‫بأن الزمن يترسب من بني أصابعه دون أن يخُ رج الكتب التي عزم عىل‬
‫كتب حتفظ آداب العرب وت ُف ُّلحدَّ الشعوبية‪.‬‬
‫إخراجها‪ٌ .‬‬
‫رمى القلم جانبا‪ ،‬وهو يشعر بوخز يف نفسه مستعيدا جملس‬
‫املعتصم يوم أمس‪.‬‬
‫فقد دخل من الباب الواسع املقوس الذي يقود إىل الديوان‪ ،‬وما‬
‫إن دخل حتى امتأل رعبا‪.‬‬
‫رأى جملسا كبريا دائريا‪ ،‬جيلس الوزراء والعلامء يف أطرافه‪.‬‬
‫أما الوسط غري املسقوف من املكان فيقف فيه جنود بأيدهيم سيوف‬
‫وحراب‪ .‬كام يقف جنود آخرون بمالبس مغايرة بأيدهيم السياط‬
‫وأغالل احلديد‪.‬‬
‫نظر اجلاحظ إىل صدر املجلس فرأى الوزير ابن الزيات والقايض‬
‫ابن أيب دؤاد‪ ،‬أراد اجللوس حيث انتهى به املجلس‪ ،‬لكن ابن الزيات‬

‫‪381‬‬
‫أشار إليه بالتقدم‪ .‬جلس بني ابن الزيات وابن أيب دؤاد‪ ،‬وهو يتأمل‬
‫الوجوه‪.‬‬
‫مال عىل ابن الزيات‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هذه جلسة امتحان بخلق القرآن؟‬
‫‪- -‬نعم‬
‫‪- -‬ومن املمحتن اليوم؟‬
‫‪- -‬أمحد بن حنبل‬
‫‪- -‬أما زال مرصا عىل مقالته رافضا القول بخلق القرآن؟‬
‫‪- -‬نعم‪.‬‬
‫ثم جاءت صيحة جندي‪:‬‬
‫‪- -‬أمري املؤمنني املعتصم!‬
‫وقف اجلميع‪ ،‬فدخل املعتصم يف مالبسه احلربية ينبض حياة‬
‫وقوة‪ ،‬شديد البياض ذهبي الشعر‪ ،‬تدور داخل عينيه حدقتان كأهنام‬
‫حدقتا نمر‪.‬‬
‫خرست‪.‬‬
‫ْ‬ ‫جلس‪ ،‬فساد صمت مطبق‪ ،‬حتى قعقعة سيوف اجلنود‬
‫فسمع صوت سالسل احلديد‬ ‫بعد حلظات صمت أشار املعتصم بيده‪ُ ،‬‬
‫يف طرف املجلس‪.‬‬
‫التفت اجلميع صوب باب داخيل فخرج أمحد بن حنبل يرسف يف‬
‫قيوده‪.‬‬
‫جمُ عت رجاله ويداه بقيد‪ ،‬ثم ُربطت القيود كلها بسلسلة‪ ،‬كان‬
‫يميش بصعوبة حتى ليظن الناظر إليه أنه سيسقط عند كل خطوة‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫ٌ‬
‫ممسك بذراع أمحد‪ ،‬فجاءه صوت املعتصم‪،‬‬ ‫اقرتب السجان وهو‬
‫وعيناه الزائغتان تدوران برسعة‪:‬‬
‫‪- -‬فكوا قيوده‪ ،‬وأجلسوه عىل ذلك الكريس‪.‬‬
‫كان أمحد قد تعود عىل القيود‪ ،‬فقد مر عليه عام كامل وهو يف‬
‫السجن‪ .‬يلبس جبة ال يتبني لوهنا من تراكم األوساخ‪ ،‬مع شعر كث‬
‫منسدل عىل كتفيه‪ .‬ومع اإلرهاق الظاهر عليه فإنه ما إن وقف وسدد‬
‫نظراته إىل اجلالسني أمامه حتى هبرهتم نظراته الراسية‪.‬‬
‫قوسني‪ ...‬عينان حادتان‬ ‫كانت عيناه غائرتني حتت جفنني ُم َّ‬
‫المعتان‪ ،‬فيهام ثبات ورسوخ وهدوء‪ .‬كانتا عيني أم تنظر إىل ولدها‪،‬‬
‫أو عيني سلطان يرقب جنوده يتدربون بني يديه‪.‬‬
‫رفع عينيه يف وجه املعتصم‪ ،‬فالتقت عيوهنام أول مرة‪.‬‬
‫عينيا سلطان يملك معظم األرض‪ ،‬وعينا إنسان يملك روحه‪.‬‬
‫عينا خليفة ممتلئ غرورا بقوته وجيوشه‪ ،‬وعينا عامل يملك إيامنا راسخا‬
‫وروحا أب ّية‪.‬‬
‫أشاح املعتصم ببرصه‪ ،‬فتأمله أمحد بنظرة ثابتة‪ .‬بدا له شديد‬
‫البياض‪ ،‬قوي البنية متامسك األعضاء جيري ماء الصحة والعافية يف‬
‫النظر إليه‪ ،‬ثم مرت بذهنه آالف الصور املختلطة‪ ،‬رأى‬
‫َ‬ ‫أطرافه‪ .‬ردد‬
‫نفسه فيها كأنه يقف موقف موسى أمام فرعون‪ ،‬أو عامر بن يارس بني‬
‫يدي أيب جهل‪ ...‬ثم تردد يف أذنه صوت أحد املساجني يف سجن بغداد‬
‫قبل أيام يودعه‪:‬‬
‫ضعفت‬
‫َ‬ ‫‪- -‬اثبت يا إمام‪ .‬فأنت لست مثلنا‪ ،‬أنت ُيقتدى بك وإذا‬
‫ضعف الناس‪.‬‬

‫‪383‬‬
‫ثم التفت يمنة ويرسة فرأى أمحد بن أيب دؤاد يلعب بذقنه‪ ،‬ورأى‬
‫اجلاحظ يمأل عينيه الواسعتني منه‪ ،‬ثم ردد البرص يف اجلنود الواقفني‬
‫عىل رأسه وبأيدهم السيوف والسياط واحلراب‪.‬‬
‫رفع برصه يف الفضاء املفتوح‪ ،‬فانسدل شعره الكث عىل أطراف‬
‫والصور الكثرية املنقوشة‬
‫َ‬ ‫وجهه املرهق‪ ،‬متأمال اجلدران الصلبة‪،‬‬
‫عليها‪ .‬أعاد نظرته اهلادئة إىل عيني املعتصم‪.‬‬
‫حرك املعتصم حربة ذهبية بيده وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أهال وسهال بأيب عبد اهلل‪ ،‬واهلل لوال أين وجدتك سجينا عند من‬
‫كان قبيل ما عرضت لك‪ ،‬وإين ألكره أن أثقل عليك‪.‬‬
‫رفع ابن حنبل حاجبيه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬لكنك مع ذلك امتحنتني من بني مجيع الناس‪ ،‬وأنت تعرف ما يف‬
‫املحنة من الفتنة!‬
‫‪- -‬واهلل لئن أجبتني ألطلقنك وألحسنن إليك‪ ،‬وألركبن إىل بيتك‬
‫لزيارتك!‬
‫‪- -‬اعطوين شيئا من كتاب اهلل ُيثبت مقالتكم!‬
‫‪- -‬ناظروه!‬
‫قاهلا املعتصم‪ ،‬فتحرك ابن أيب دؤاد وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ما تقول يف القرآن‪ ،‬أخملوق هو؟‬
‫‪- -‬وما تقول يف علم اهلل؟‬
‫ُّ َ‬ ‫هَ‬
‫‪- -‬أليس اهلل قد قال‪ُ ّ ﴿ :‬‬
‫الل َخ ال ُِق ك ِل ش ْي ٍء﴾‪ ،‬والقرآن أليس بيشء؟‬

‫‪384‬‬
‫َ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫فدمرت إال ما شاء اهلل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫‪- -‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬تُ َد ّم ُِر ك ل ش ْي ٍء ب ِأ ْم ِر َر ّب ِ َه ا﴾‪.‬‬
‫‪- -‬لكن اهلل يصف القرآن بأنه محُ ْدَ ث‪ ،‬واملحدث خملوق‪ ،‬أمل تقرأ‬
‫ُ‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬م ا يَأْتِي ه م ّمِن ذ ِْك ر َّم ن َّر ّب ه م ُّم ْ‬
‫ح َدث إلا َّ ْ‬
‫اس َت َم ُع وهُ َوه ْم‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ََُْ َ‬
‫ون﴾؟‬ ‫يلعب‬
‫ّ ْ‬ ‫ْ‬
‫َ ُ ْ‬
‫آن ذِي الذِك ِر﴾‪ ،‬فالذكر بالتعريف هو‬ ‫‪- -‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ص ۚ وال ق ر ِ‬
‫القرآن‪ ،‬أما الذكر املنكّر الذي تشري إليه فهو ذكر املعرفة وليس‬
‫بقرآن!‬
‫اشتدت املناظرة بني ابن حنبل وابن أيب دؤاد‪.‬‬
‫وكان ابن أيب دؤاد أحيانا إذا جاء بسؤال جديل يرد عليه ابن حنبل‪:‬‬
‫‪- -‬أنا لست صاحب كالم! وهل كان النبي وأصحابه يقولون هبذا؟‬
‫يدي املعتصم‪ ،‬فلم يكن مثل‬
‫بدأ الضجر والتضايق يظهر عىل حركة ْ‬
‫املأمون الذي كان ضليعا بالفلسفة وعلم الكالم‪ ،‬بل مل يكن املعتصم‬
‫يفهم دالالت احلديث بني الرجلني‪ .‬فوقف متربما مالاًّ وصاح‪:‬‬
‫‪- -‬اسمع يا أمحد‪ ،‬أال يكفي أين قلت إن عليك أن تقول هذا‪ ...‬فأنا‬
‫أمري املؤمينن!‬
‫‪- -‬ال طاعة ملخلوق يف معصية اخلالق‪.‬‬
‫والتفت املعتصم جه َة ابن أيب دؤاد كأنه يستغيث‪ ،‬فقال برسعة‬
‫موجها كالمه ألمحد‪:‬‬
‫‪- -‬يا أهيا الذين آمنوا أطيعوا اهلل وأطيعوا الرسول وأويل األمر منكم!‬
‫أبقيت‬
‫َ‬ ‫‪- -‬نعم‪« ،‬منكم» ومل يقل «وأويل األمر» باإلطالق! ثم ماذا‬

‫‪385‬‬
‫عمه‬
‫ألجر إنكار املنكر وجهاد الظامل؟ أمل يساوي النبي ‪ ‬بني ّ‬
‫محزة وبني من وقف يف وجه احلاكم الظامل‪ ،‬فقال‪ :‬سيدُ الشهداء‬
‫ٌ‬
‫ورجل قامإىل إمام جائر فأمره وهناه‪،‬‬ ‫محز َة بن عبد املطلب‪،‬‬
‫فقتله‪!.‬‬
‫نظر املعتصم إليه بغضب‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪- -‬اخلعوه!‬
‫قفز جندي وأمسكه‪ ،‬ثم جاء آخر وأمسك بمنكبه‪ .‬وجاء ثالث‬
‫بخشبة فأثبتوه عليها وبدأت السياط تنهال عىل ظهره‪.‬‬
‫اختفى صوت اجلدل‪ ،‬وتعاىل صوت السياط املصحوب بأنني‬
‫مكبوت‪ ،‬وقف املعتصم‪ ،‬ثم مال عىل ابن أيب دؤاد وقال‪:‬‬
‫ضجرت منه!‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬إذا مل جيبهم فليخلعوا كتفيه‪ ،‬فهذه املرة الثالثة وقد‬
‫خرج املعتصم من املجلس‪ ،‬وتعالت صيحات من طرف املجلس‪:‬‬
‫‪- -‬ارضبوه حتى يقر راغام!‬
‫‪- -‬إنه شيخ سوء!‬
‫‪- -‬يفضل رضا الدمهاء عنه عىل رضا أمري املؤمنني!‬
‫غلبت أمري‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬يريد أن جيلس يف صحن مسجده ببغداد ويقول‪:‬‬
‫املؤمنني!‬
‫لكن ابن أيب دؤاد أشار بيده بانزعاج طالبا السكوت‪.‬‬
‫بدأت قوى الشيخ ابن حنبل تنهار‪ ،‬فتدىل رأسه عىل صدره‪ ،‬بينام‬
‫كانت الرياح تعبث بشعره الطويل الذي مل حيلقه منذ دخول السجن‬
‫قبل عام‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫صاح جندي‪:‬‬
‫‪- -‬لقد أغمي عليه!‬
‫أجابه آخر‪:‬‬
‫‪- -‬اطعمه سويقا‪.‬‬
‫مرت حلظات‪ ،‬ثم فتح عينيه‪ .‬قرب إليه اجلندي السويق‪ ،‬فتمتم‬
‫والدم يسيل من فيه‪:‬‬
‫‪- -‬أليس اليوم من رمضان؟‬
‫ثم عاد إىل غيبوبته!‬
‫شعر اجلاحظ ‪-‬وهو يستعيد صورة وقع السياط عىل جسد ابن‬
‫حنبل‪ -‬بوخز يف أعامق نفسه‪ ،‬جلس بتثاقل وهو يلوم نفسه عىل مسامهته‬
‫يف التحريض عىل امتحانه‪ ،‬ثم خطر له أن ما قام به إنام هو لصالح‬
‫اإلسالم واملسلمني‪ ،‬فلو ساد ما يدعو إليه ابن حنبل لتعطل العقل‬
‫وبطلت الرشيعة‪.‬‬
‫طرد فكرة الندم عن ذهنه‪ ،‬وهو ينظر من نافذة مكتبته إىل احلديقة‬
‫املرصوصة بأناقة يف فناء منزله الفسيح‪ .‬عاد وجلس وهو يشعر بضيق‬
‫وخوف‪ ،‬وتذكر نظرات القايض أمحد بن أيب دؤاد قبل أيام‪ ،‬وحديثه‬
‫اجلايف معه‪.‬‬
‫فقبل أيام قال له ابن أيب دؤاد‪:‬‬
‫انصح صاحبك ابن الزيات أن يكف عن تعذيب املسلمني!‬
‫‪ْ --‬‬
‫‪- -‬وما أدراك أنه يعذهبم؟‬
‫‪- -‬إن أهل بغداد اآلن ال يتحدثون إال عن ثالثة‪ :‬عن شجاعة اخلليفة‬

‫‪387‬‬
‫املعتصم‪ ،‬وكثرة األتراك يف الشوارع‪ ،‬وتن ِ‬
‫ُّور ابن الزيات‪.‬‬
‫‪- -‬ال تنس قول ابن مروان‪ :‬امللك شجر ٌة ال تنمو إال إذا ُسقيت‬
‫بالدم!‬
‫‪- -‬وأين أنت من العدل والتوحيد واألمر باملعروف؟ أم إن الكالم‬
‫صناعة حدُّ ها اللسان‪ ،‬وال طريق هلا إىل اجلَنان؟‬
‫‪- -‬أنت القايض‪ ،‬وصاحب الكلمة املسموعة‪ ،‬كلم أمري املؤمنني‬
‫ليثنيه عن أفعاله‪ ،‬أما أنا فخادم وصانع كالم‪ ،‬أنت تفعل‪ ،‬وأنا‬
‫أصف‪ ،‬أنا أمتنى وأنت تستويل‪ ،‬وشتان بني من يملك القدرة عىل‬
‫الفعل‪ ،‬ومن يملك القدرة عىل الوصف‪.‬‬
‫ثم تذكر كيف وقف ابن أيب دؤاد غاضبا‪ ،‬ناظرا إليه بحنق‪ .‬و ُذكر‬
‫له بعد ذلك أنه يتهمه بالتسبب يف العداوة بينه وبني ابن الزيات‪.‬‬
‫ثم خطر له أن ابن أيب دؤاد قد يوقع بينه وبني املعتصم‪ .‬عادت‬
‫صورة الدم السائل من فم ابن حنبل إىل ذهنه‪ ،‬والسياط الواقعة عىل‬
‫ظهره‪ ....‬مع صدى رصخات بشار بن برد قبل عرشات السنني‪.‬‬
‫***‬
‫كان نفيس منهمكا يف تنظيف املجلس فسمع طرقا مزلزال عىل‬
‫الباب‪ .‬هرع وفتح‪ ،‬فإذا بعرشة جنود عىل خيوهلم‪ .‬هنره أحدهم‪:‬‬
‫‪- -‬أين موالك؟‬
‫‪- -‬مل يأت منذ أمس وال أدري أين هو‪.‬‬
‫‪- -‬أين موالك‪ ،‬قلت لك!!‬
‫قاهلا اجلندي بصوت جهوري مرتع بالتهديد‪ ،‬فقال نفيس بلكنة‬

‫‪388‬‬
‫هندية وهو يكاد خيرج من جلده خوفا‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل أنا ما عارف!‬
‫قفز جندي من فوق حصانه ودخل الدار‪.‬‬
‫فتشوا املنزل غرفة غرفة‪ ،‬ثم التفت أحدهم إىل اآلخر وهو يشري‬
‫للكتب‪:‬‬
‫‪- -‬أيش هذا؟‬
‫‪- -‬كله كتب!‬
‫نزل اجلنود‪ ،‬وقبل خروج أحدهم من الباب التفت إىل نفيس وقال‪:‬‬
‫عثرت لنا عىل سيدك أعتقناك!‬
‫َ‬ ‫‪- -‬إن‬
‫خفض نفيس رأسه‪ ،‬وطافت بذهنه خواطر خمتلفة ومتناقضة‪.‬‬
‫يف الوقت ذاته‪ ،‬كان عرشون جنديا يسوقون ابن الزيات يف قيوده‬
‫إىل السجن‪ ،‬دخل السجن وقت املغرب‪ُ ،‬فتح الباب‪ ،‬فنظر إليه اجلندي‬
‫الذي فتح الباب‪ ،‬فرصخ رعبا‪.‬‬
‫ثم استعاد جأشه‪ ،‬ومال عىل زمليه سائال‪:‬‬
‫‪- -‬أليس هذا ابن الزيات؟‬
‫‪- -‬بىل‪ ،‬لقد غضب عليه أمري املؤمنني املتوكل‪.‬‬
‫كان ابن الزيات مشغوال بنفسه‪ ،‬حائر الطرف‪ ،‬مشوش اخلاطر كأنه‬
‫جمنون‪ .‬يستمع إىل أحاديث اجلنود لكنه ال يوليها اهتامما النشغاله بنفسه‪،‬‬
‫يضج ذهنه بآالف األخيلة واألسئلة امللحة واالحتامالت واجلوابات‪.‬‬
‫التفت يمينا فرأى املساجني يف أغالهلم وبؤسهم‪ ،‬ومالبسهم املتسخة‪،‬‬
‫وسدّ ت أن َفه روائحهم الكرهية‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫نفس الروائح التي كانت تدخل أنفه كلام جاء هنا للتحقيق مع‬
‫مساجينه‪ ،‬لكنها اليوم أبشع وأوقع‪.‬‬
‫هل كان السجناء تعساء هلذه الدرجة؟ رفع عينيه وأنزهلام فرأى‬
‫قيود احلديد والدماء‪ ،‬واملالبس املتسخة واألوجه املرهقة الفزعة‪،‬‬
‫واألسنان اجلافة الصفراء‪ ،‬والضحكات املتأرجحة بني العقل واجلنون‪،‬‬
‫ضحكات حائرة بني تعاسة العاقل‪ ،‬وسعادة املجنون‪.‬‬
‫ظل وامجا ال يتكلم‪.‬‬
‫ينظر إىل معصميه وقد أحاطت هبام ِح َل ُق احلديد‪ ،‬ثم يرفع برصه‬
‫إىل ذات الزنازين والبهو‪ ،‬إىل الردهات نفسها التي كان يسلكها ليال‬
‫للتحقيق مع مضطهديه‪ ،‬يرى نفس األوجه التي كان يراها قبل‪.‬‬
‫اقرتب منه ق ِّي ُم السجن وقال بلهجة متسائلة‪:‬‬
‫‪- -‬حممد بن عبد امللك الزيات؟‬
‫‪- -‬نعم!‬
‫قاهلا بصوت ضعيف متوسل‪.‬‬
‫وكانت أول مرة خيرج صوته هزيال وضعيفا بني هذه اجلدران التي‬
‫تعرفه‪.‬‬
‫أشار مسيرّ السجن برأسه للجندي أن يتقدم‪ ،‬ثم وىل ويداه وراء‬
‫ظهره متمتام‪:‬‬
‫‪- -‬ال إله إال اهلل!‬
‫ومرت األيام عىل ابن الزيات يف السجن غري عجىل وال رامحة‪ ،‬وكان‬
‫ُ‬
‫الغليظ املسمى الدنداين موكال بمراقبته وحراسته والتضييق عليه‪.‬‬ ‫اجلندي‬

‫‪390‬‬
‫يقيض يومه وليله جالسا عىل اخلشبة ومسامري احلديد حتيط به‬
‫من كل جانب‪ .‬شغلته نفسه عن جسده يف األيام األوىل‪ ،‬فكان هيذي‬
‫متحدثا مع نفسه كاملجنون‪:‬‬
‫‪- -‬يا ابن الزيات‪ ،‬ما الذي دعاك لكل هذا؟ أبوك تاجر بغداد‬
‫فلم تطمح للسلطان والنفوذ؟ أمل تسعك املراكب الفارهة‬
‫األول‪َ ،‬‬
‫واملالبس الفاخرة واجلواري احلسان حتى رضيت بمجالسة‬
‫اخللفاء ومنازعتهم السلطان؟ مل َ مل ْ تعترب بام جرى لبني برمك؟‬
‫ثم يفيق عىل صوت الدنداين قائال‪:‬‬
‫‪- -‬اسكت يا ابن الزيات‪....‬‬
‫كان يتأمل أملا مضاعفا‪ ،‬فحلق احلديد تضغط عىل قدميه حتى ليخيل‬
‫إليه أن اإلنسان يتنفس من قدميه‪ ،‬ثم تغمزه الكالليب من كل جانب‪.‬‬
‫وأثناء أمواج العذاب تلك يستجمع قواه لتجنب النطق بكلمة‬
‫واحدة‪...‬‬
‫شعر بالنعاس يلعب بجفونه‪ ،‬ثم خيل إليه وسط أمواج النعاس‬
‫السود أنه يستطيع فعل كل يشء‪ ،‬يستطيع اخلروج من التنور‪ ،‬بل‬
‫يستطيع النوم عىل سكك احلديد‪ ،‬بني هذه التهاويم جذبه النعاس‪،‬‬
‫فدخلت حسكة يف كتفه فاستيقظ‪...‬‬
‫حاول أن ينطق تلك اجلملة التي نازع نفسه طويال حتى ال ينطقها‪،‬‬
‫وادخر كل جهده حتى ال يقوهلا‪ ،‬لكن أمواج النعاس واألمل والندم‬
‫دفعته‪ ،‬فقال بصوت ضعيف‪:‬‬
‫‪- -‬ارمحوين! ارمحوين!‬

‫‪391‬‬
‫تردد النداء يف جنبات السجن‪ ،‬ثم ظهر وجه الدنداين مطال من‬
‫حافة التنور‪:‬‬
‫خور يف الطبيعة!‬
‫‪- -‬الرمحة ٌ‬
‫شخصت يف خياله صور رجال بأيدهيم رماح يغمزونه هبا من كل‬
‫جانب‪ ،‬ثم سمع رصخات َّ‬
‫معذبيه الذين كان يعذهبم‪:‬‬
‫‪- -‬ارمحنا يا ابن الزيات! ارمحنا يا ابن الزيات‪...‬‬
‫مرت ساعات ال يعرف أكان فيها حيا أم ميتا‪ ،‬ثم أفاق ونادى‬
‫الدنداين‪ ،‬فأطل عليه من حافة التنور‪:‬‬
‫‪- -‬ماذا تريد أهيا الوزير!‬
‫‪- -‬يل إليك حاجة‪.‬‬
‫‪- -‬ما هي‬
‫‪- -‬اكتب هذه األبيات وابعث هبا للمتوكل‪ ،‬فإن عفى عني كنت لك‬
‫عبدا ما حييت!‬
‫بعد تردد‪ ،‬مشى الدنداين يف الردهة املظلمة وعاد وبيده دواة‬
‫وقرطاس‪ .‬ثم أمىل عليه ابن الزيات‪:‬‬
‫يـرش�د الـصـ�ب ِ‬
‫إلي�ه‬ ‫م�ن ل�ه عه�دٌ بن�و ٍم؟‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫عـلـيـ�ه‬ ‫عـيــنـ�ي‬ ‫َد َّل‬ ‫رحــ�م اهلل رحــيــما‬
‫َّ‬
‫ن�ت لدي�ه!ِ‬
‫عين م�ن ُه ُ‬
‫ُ‬ ‫ونامت‬
‫ْ‬ ‫رت عين�ي‬ ‫ِ‬
‫س�ه ْ‬
‫***‬
‫مرت أسابيع عىل اجلاحظ وهو خمتف يف منزل قرب باب الطاق‬
‫عند أحد معارفه البرصيني‪ ،‬ال يربح البيت ليال وال هنارا‪ ،‬وال يفكر‬

‫‪392‬‬
‫إال يف صورة أمحد بن أيب دؤاد‪ ،‬مرت األيام األوىل وهو مشدوه اخلاطر‬
‫لشدة فزعه‪ ،‬لكنه بدأ يتعود عىل االختفاء‪ ،‬وأصبح إذا جاع يامزح‬
‫مستضيفه قائال‪:‬‬
‫‪- -‬إنني جائع يا أبا عبد اهلل‪ ،‬وال تنس أن اهلل تعاىل امت َّن باإلطعام من‬
‫لذَّ َ‬
‫اجلوع قبل املن باألمن من اخلوف‪ ،‬فقال‪...﴿ :‬ا ِي أ ْط َع َم ُه م ّمِن‬
‫ُج و ٍع َو َآم َن ُه م ّم ِْن َخ ْو ٍف﴾‪.‬‬
‫حتى إنه بدأ يقرأ ويكتب يف الساعات الطويلة التي يقضيها داخل‬
‫غرفته الضيقة املتوارية يف حي الطاق‪.‬‬
‫كان البيت قريبا من املارستان فأصبح يستمتع بالنظر من الكوة إىل‬
‫الداخلني واخلارجني من املارستان‪.‬‬
‫قال له مضيفه مرة‪:‬‬
‫‪- -‬احذر يا أبا عثامن‪ ،‬فإن يف املجانني عقالء‪.‬‬
‫‪- -‬وهل اجلنون إال مقام من مقامات العقل؟‬
‫لكنه مل يسمع نصيحة مضيفه‪ ،‬وظل يطل متأمال‪ ،‬ويف أحد‬
‫الصباحات خيل إليه وهو ينظر باب املارستان أنه رأى علية داخله‪.‬‬
‫قفز كامللسوع‪ ،‬وأخرج رأسه من النافذة وصاح‪:‬‬
‫‪-‬علية! عريب!‬
‫ومل يفق إال وهو خيرج مرسعا إىل مدخل املارستان‪.‬‬
‫ٍ‬
‫رجل‬ ‫دخل فناءه فرأى جمانني من كل لون‪ ،‬رأى أسود يقف عىل‬
‫واحدة إىل أن تتعب‪ ،‬ثم يراوحها باألخرى‪ ،‬وبقربه جمنون آخر يصفق‬
‫له‪.‬‬

‫‪393‬‬
‫سأل عن ق ّيم املارستان‪ ،‬فأدخله حارس إىل جهة النساء‪ ...‬لكنه مل‬
‫ير علية‪.‬‬
‫عاد إىل غرفته وهو يتلفت يمنة ويرسة مؤنبا نفسه‪ ،‬ومتسائال عن‬
‫قيمة هذا العقل الذي ال يعود إال بعد انقضاء حلظة االمتحان‪ ،‬ملاذا‬
‫تطيش العقول وختتفي يف اللحظات التي نحتاجها فيها أكثر؟ مل َ يقفز‬
‫القلب كالفارس املغوار يف تلك اللحظة ليقود‪ ،‬فيام يتوارى العقل‬
‫هزيال مهزوما جبانا؟‬
‫وبعد اهلزيمة املنكرة يعود العقل ليلوم وحيسب ويطرح!‬
‫إن العقل يشبه ال َع ِي َّي الذي ُيشتم أمام الناس فال جيد ما يرد به‪ .‬ثم‬
‫انثالت عليه‬
‫ْ‬ ‫إذا انقضت اللحظة وعاد إىل بيته وجلس بني أبنائه وخدمه‬
‫ُ‬
‫اجلمل والعبارات واجلوابات‪.‬‬
‫كان مستلقيا عىل ظهره يؤنب نفسه‪ ،‬فسمع َط ْرقا خميفا عىل الباب!‬
‫قفزت زوجة املضيف لتفتح الباب‪ .‬فجاء صوت جندي‪:‬‬
‫‪- -‬قويل له أن خيرج!‬
‫‪- -‬من هو؟‬
‫‪- -‬اجلاحظ!‬
‫‪- -‬واهلل ما يف بيتنا إال حممد!‬
‫فقال العسكري بلغة هتديد‪:‬‬
‫‪- -‬قويل له أن خيرج‪ ،‬أو سندخل البيت!‬
‫مل تكن املرأة تعرف أهنا ختفي يف بيتها مطلوبا‪ .‬قال هلا زوجها إنه‬
‫تاجرمن أهل خراسان اسمه حممد‪.‬‬

‫‪394‬‬
‫عادت املرأة متلففة يف مالبسها وقالت بتلعثم‪:‬‬
‫‪- -‬هناك جنود بالباب‪....‬‬
‫ال يعرف ما قال‪ ،‬وال ما قالت‪ .‬لكنه يذكر جيدا أن ركبتيه كانتا‬
‫رتي‪ ...‬وأن قفص صدره مل يتسع لقلبه الذي كان يقفز كأنه صويف‬ ‫ِ‬
‫خد نْ‬
‫يف حالة َو ْجد‪.‬‬
‫اجلرس املنصوب فوق هنر دجلة‪ ،‬واجلنود‬
‫َ‬ ‫أفاق عىل نفسه وهو يعرب‬
‫صامتون كأهنم يف موكب جنائزي‪ ،‬بينام يمسك اثنان منهم ذراعيه‬
‫بإحكام‪ ،‬وحلق القيد يف رجليه‪ ،‬كان الصوت الوحيد يف أذنيه صوت‬
‫وتشاتم بني بائعني عىل حافة النهر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قلبه يدق‪،‬‬
‫امللح عليه هو كيف‬
‫مضت اللحظات ثقيلة الوطء‪ ،‬وكان السؤال ّ‬
‫سيعاقبه ابن أيب دؤاد؟ ذلك القايض الذي جعل اخلليف َة خامتا يف إصبعه‬
‫يرصفه كيف يشاء‪ ،‬ثم خطر له أنه سريمي به يف التنور مع ابن الزيات!‬
‫ُفتح الباب الواسع‪ ،‬ودخل اجلاحظ ُم ْلتاعا خائفا‪ ،‬باذال َّ‬
‫كل ما‬
‫أويت ليستجمع خواطره ول ّبه‪ .‬ومع تشتت خاطره‪ ،‬فقد الحظ اتساع‬
‫املجلس‪ ،‬وكثر َة الستائر اخلراسانية الفاخرة يف زواياه‪ .‬بدا املجلس‬
‫مرتفع السقف‪.‬‬
‫َ‬ ‫واسعا‬
‫وسط املجلس‪ ،‬رأى أمحدَ بن أيب دؤاد جالسا يف جبتة األنيقة‬
‫ِ‬
‫الناصعة البياض‪ .‬وعن يمينه ويساره بعض‬ ‫وعاممتِه املتوسطة احلجم‬
‫ممسكي بذراعي اجلاحظ‪ ،‬بينام كان صوت‬
‫نْ‬ ‫معاونيه‪ .‬تقدم اجلنديان‬
‫القيد يقرع البالط‪.‬‬
‫حارس الرأس‪ ،‬ضعيفا كأنه محامة يف قفص‬
‫َ‬ ‫وقف أمام ابن أيب دؤاد‪،‬‬

‫‪395‬‬
‫صمت خانق‪ ،‬حتى سمع كل من يف املجلس صوت محامة‬
‫ٌ‬ ‫صياد‪ .‬ساد‬
‫تُغرد عند إحدى النوافذ‪.‬‬
‫اجتهت األبصار إىل ابن أيب دؤاد‪ ،‬الذي كانت يرسح حليتَه بأصابعه‬
‫هبدوء‪ .‬بعد وقت‪ ،‬اعتدل وقال بحزم‪:‬‬
‫‪- -‬اتركوه!‬
‫التقت عيوهنام‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫يف هذه اللحظة‪ ،‬تذكر ابن أيب دؤاد كلام قال له الوشاة عن‬
‫اجلاحظ‪ ،‬فهو الذي كان يكتب الرسائل ا ُملقنع َة بطلب من ابن الزيات‪،‬‬
‫حتى يعطيها للواثق حاث ًا إياه عىل تعيني ابنه الرضيع وليا للعهد بدل‬
‫املتوكل‪ ،‬وحيثه فيها عىل عزل ابن أيب دؤاد‪ ،‬لكنه ما يلبث أن يشفق عليه‬
‫متذكرا أدبه وتبحره يف العلوم والفنون‪ ،‬وكتبه النافعة القاطعة لدعاوى‬
‫الشعوبية‪ ،‬واملنافحة عن االعتزال‪.‬‬
‫وارى اب ُن أيب دؤاد الرصاع الذي يعيشه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬احلمد هلل الذي أمكن منك‪ ،‬يا عدو اهلل!‬
‫شخصت أبصار احلارضين إىل اجلاحظ‪ ،‬فقال بصوت واضح‬
‫وخمارج قوية‪:‬‬
‫ُصيب يف العقوبة‪.‬‬
‫أرشف من أن ت َ‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬واهلل ألن تخُ َ‬
‫طئ يف العفو هلو‬
‫سكت ابن أيب دؤاد‪ ،‬وخطر بباله رشف العفو‪ ،‬وكونه شيمة من‬
‫شيم الكرام‪ ،‬ثم تذكر قرب اجلاحظ من ابن الزيات‪ ...‬مال عىل وسادته‬
‫الضخمة وقال‪:‬‬
‫علمت بوفاة صاحبك ابن الزيات يف تنُّوره؟‬
‫َ‬ ‫‪- -‬هل‬

‫‪396‬‬
‫وجم قليال ُمنزال وجهه إىل األرض‪ ،‬وصور ُة ابن الزيات متقلبا‬
‫يف ظلامت التنور شاخصة يف ذهنه‪ .‬شعر بخدَ ر يف ركبيته‪ ..‬ثم غمغم‬
‫بكلامت‪ ..‬فجاءه صوت ابن أيب دؤاد‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َٰ َ َ ْ ُ َ ّ َ‬
‫ك إ ِ َذا أ َخ َذ الْ ُق َر ٰ‬
‫ى َوه َِي‬ ‫‪- -‬ما تأويل قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬وك ذل ِك أخ ذ رب ِ‬
‫َ َ ٌ َّ َ ْ َ‬
‫ِيد﴾‪.‬‬ ‫خ َذهُ أل ٌ‬
‫ِيم َش د ٌ‬ ‫ظ ال ِم ة ۚ إِن أ‬
‫‪- -‬أعز اهلل القايض‪ ،‬تأويلها تالوهتا‪.‬‬
‫‪- -‬أعلم أنك منافق جمادل!‬
‫‪- -‬واهلل إناستبقيتَني فلساين وجدايل لك! وذلك خري من أن ت ِ‬
‫ُسكتَه‬ ‫ٌ‬
‫برضبة سيف‪ ،‬فيكون ال لك وال عليك!‬
‫أظننت أن عيوننا ستعجز‬
‫َ‬ ‫‪- -‬ما الذي دعاك إىل الفرار واالختباء؟‬
‫عن إخراجك من جحرك؟‬
‫‪ِ - -‬خ ُ‬
‫فت أن أكون ثاين اثنني إذ مها يف التنور!‏‬
‫‪- -‬واهلل ما علمتك إال متناسي ًا للنعمة كفور ًا هبا‪.‬‬
‫عيل خري من أن يكون يل عليك‪ .‬وألن‬‫لك َّ‬‫‪- -‬واهلل ألن يكون األمر َ‬
‫تعفو عني يف حال‬ ‫ْ‬
‫وألن َّ‬ ‫خري من أن ُأحس َن وتُيسء‪،‬‬
‫ُأيس َء وتحُ س َن ٌ‬
‫قدرتك ُ‬
‫أمجل من االنتقام مني!‏‬ ‫َ‬
‫‪- -‬قبحك اهلل‪ ،‬ما علمتك إال كثري تزويق الكالم‪.‬‬
‫ثم التفت ابن أيب دؤاد إىل معاونيه‪:‬‬
‫حلدّ اد!‬
‫‪- -‬تعالوا با َ‬
‫انتابت اجلاحظ موجة شعور باألمل واليأس‪ ،‬متسائال هل سيأيت‬
‫احلداد ليفك القيد أم ليضيف قيودا أخرى؟ بقي حلظات معلقا بني‬

‫‪397‬‬
‫األمل واليأس‪ ،‬بني خفة احلرية وثقل السجن‪ ،‬ومل يستطع الصرب فقال‬
‫بتظارف مصطنع‪ ،‬وقلبه يرجف‪:‬‬
‫‪- -‬أعز اهلل القايض! احلداد‪ ..‬ليفك عني‪ ..‬أم ليزيدين؟‏‬
‫‪- -‬بل ليفك عنك‪.‬‏‬
‫ثم دخل رجل بدي ٌن أصلع بيده حديد‪ ،‬واقرتب وجلس عند ساقي‬
‫اجلاحظ‪ .‬لكنه ما كاد يبدأ يف فك القيد حتى غمزه ابن أيب دؤاد أن يطيل‬
‫الفك‪ ،‬ويغرز احلديد يف ساقه حتى يستثريه‪.‬‬
‫وعند أول غمزة لساقه لطمه اجلاحظ‪ ،‬قائال‪:‬‏‬
‫َ‬
‫وعمل‬ ‫َ‬
‫وعمل يوم يف ساعة‪،‬‬ ‫عمل شهر يف يوم‪،‬‬ ‫اعمل َ‬‫ْ‬ ‫‪- -‬ويلك!‬
‫ساعة يف حلظة‪ ،‬فإن األمل َ بساقي وليس بجذع نخلة‪ ،‬وال بحائط‪.‬‬
‫ضج املجلس ضحكا‪ ،‬ثم قال ابن أيب دؤاد ويف صوته بقية ضحك‪:‬‏‬
‫‪- -‬إين أثق بظرفك وال أثق بدينك! عفونا عنك وسنزين جملسنا‬
‫بأحاديثك يا أبا عثامن‪.‬‬
‫طلب اجلاحظ من ابن أيب دؤاد أن يرسل معه من يوصله إىل بيته‪.‬‬
‫يف الطريق‪ ،‬بدأ يتذكر أن بيته قد يكون من األموال التي صادرها‬
‫املتوكل‪ ،‬فقد صادر كل مال ابن الزيات‪ ،‬فام الذي يمنعه من مصادرة‬
‫بيت اجلاحظ‪ .‬ثم أين اخلادم نفيس؟ وهل هرب من ربقة الرق؟ أم ِ‬
‫أخذ‬
‫فيام صودر؟‬
‫تزامحت خواطر كثيفة يف ذهنه وهو يقف أمام بيته‪.‬‬
‫دخل‪ ،‬فتلقاه نفيس يركض وماء السعادة يتهاطل من عينيه‪ .‬ومل‬
‫يفق اجلاحظ إال وهو حيتضنه ودموعه تسيل مدرارا‪ .‬ثم ارختت يداه‬

‫‪398‬‬
‫وابتعد عن نفيس متسائال هل أخذت احلياة منه كل يشء‪ ،‬حتى إنه مل‬
‫جيد من حيتضنه حلظة عودته إال خادما هنديا!‬
‫تذكر أمه‪ ،‬فرأى نفسه طفال غريرا يركض قادما من الكُتاب‪ .‬ثم‬
‫بيت ِ‬
‫وس ٍخ‬ ‫شخصت آخر صورة هلا أمام عينيه وهي جتود بنفسها يف ٍ‬
‫مهمل بحي بني كنانة يف البرصة‪.‬‬
‫أجال برصه يف املنزل الفسيح واحلديقة الواسعة‪ ،‬ومتنى لو عاشت‬
‫حتى تستمتع بالثراء معه‪ .‬فام قيمة ترف ال يشاركك فيه أحباؤك؟‬
‫ثم أطلت صورة متارض باسمة ومجيلة كأهنا ٌ‬
‫أمل هارب‪ ،‬ثم ختيلها‬
‫تستقبله عند مدخل البيت لتضمه وتُفدّ يه‪ ...‬لكن علية كانت تنظر إليه‬
‫بانزعاج‪ ،‬بقدّ ها اجلميل متلففة يف مالءهتا البيضاء دوما‪.‬‬
‫رفع عينيه إىل احلديقة فالحظ للمرة األوىل أن البيت أوسع مما‬
‫ينبغي‪ .‬حتى كأنه اتسع بعده وامتد‪ ،‬وتصاعد صوت الريح داخله‪.‬‬
‫ثم جاءه صوت نفيس‪:‬‬
‫‪- -‬سيدي‪ ،‬هذه رسالة لك‪.‬‬
‫فتح الرسالة وبدأ يقرأ‪ ،‬وكلام قرأ غامت األحرف أمامه‪.‬‬
‫«سيدي‪،‬‬
‫لقد أرسل أخي امللك جواسيس وخطفوين من بغداد‪ ،‬وأنا اآلن‬
‫أعيش معهم يف قرص والدي‪ .‬لكني سجينة‪ ،‬فأنا ال أعرف لغتهم وال‬
‫أفهم عاداهتم‪ ،‬أنا أشبههم يف جسدي وسحنتي فقط‪ .‬أحن إليك وإىل‬
‫مراتع الصبا وإىل أهل بغداد‪ ....‬سقاك اهلل وسقى أيامك‪ ،‬ولن آلو‬
‫جهدا يف العودة‪ ،‬والسالم»‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫ويف هناية الرسالة‪ ،‬وضعت كلمة كأهنا تذكرهتا بعد كتابة الرسالة‪.‬‬
‫كانت عبارة واحدة لكنها كانت أوقع عىل قلبه من الرسالة كلها‪ .‬كتبت‪:‬‬
‫«ال أنسى يوم الطاق»‪.‬‬
‫استنفدت العبارة األخرية كل قواه‪ .‬جلس واضعا يديه عىل رأسه‪.‬‬
‫ْ‬
‫فتلك العبارة األخرية التائهة كانت أكثر وقعا من كل ذكرى‪.‬‬
‫وما يوم الطاق؟ مل يكن إال يوما خرجا فيه وجلسا عىل حافة دجلة‪،‬‬
‫وقضيا يومهام كامال هناك‪ ،‬كانت تغنّي وكان يستمع ويقرأ ويكتب‪.‬‬
‫لكن الذاكرة مولعة بتقديس حلظات ونسيان أخرى دون سبب مفهوم‪.‬‬
‫فقد ختزن الذاكرة موقفا عاديا لتبني منه عاملا من اخليال اجلميل‪ ،‬وإن مل‬
‫يكن بذلك اجلامل‪ .‬قد يمر باإلنسان يوم يشعر فيه بالتعاسة‪ ،‬لكنه إذا مر‬
‫وانقىض تزخرفه الذاكرة جاعلة منه يوما ال كاأليام‪.‬‬
‫ظل جالسا واضعا يده عىل رأسه‪ ،‬ثم فاضت ذاكرته رن َة ٍ‬
‫عود‪ ،‬وعشبا‬
‫وانحدرت عىل خده دمعة شاردة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أخرض‪ ،‬وحلظات ٍ‬
‫أنس ج ْفىل‪...‬‬
‫دمعة عجوز عاشق‪ ..‬ويتيم!‬
‫***‬
‫وقع ذلك احلادث املزلزل قبل فرتة‪.‬‬
‫فتح عين ْيه فرأى مجاعة فيهم مارسجويه الطبيب حييطون به وهو‬
‫هم باجللوس‬
‫ممدد عىل فراشه يف غرفة كتبه‪ ،‬فتح عينه فلم حيس بأي أمل‪ّ ،‬‬
‫باندهاش‪ ،‬لكنه فوجئ بأنه ال يملك سلطانا عىل شقه األيرس‪.‬‬
‫نظر إىل مارسجويه الطبيب وهو جيس نبضه‪ ،‬ثم جاءه صوته‪:‬‬
‫‪- -‬إنه الفالج‪.‬‬

‫‪400‬‬
‫ساد صمت‪.‬‬
‫ثم مهس ابن أيب دؤاد‪:‬‬
‫‪- -‬وما العمل؟‬
‫وجم اجلميع‪ ،‬فيام كانت نظرات اجلاحظ املتوسلة تقفز بني وجهيهام‪.‬‬
‫وهبت رياح قادمة من جهة احلديقة حتمل أنساما‪ ،‬ورائحة عشب مبلل‪.‬‬
‫محلق يف وجهيهام كأنه طفل عاجز‪ ،‬كان الشيب قد غطى كل شعرة‬
‫يف جسمه‪ ،‬لكن الدموع التي كانت تتحدر من أطراف عينيه الذاويتني‬
‫دموع شوق إىل أشياء كثرية‪ .‬شوق إىل جاريته التي طارت من بني يديه‪،‬‬
‫ُ‬
‫وشوق إىل نيل األمنيات التي يضطرب هبا قلبه الكبري‪ ،‬وشوق إىل‬
‫العافية‪ ،‬وشوق إىل أشياء وعوامل تضيق اللغة عن قنصها يف أحرف ميتة‪.‬‬
‫رددوا أبصارهم فرأوه يداري دموعه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ابيضاض رأس الطفل شيب ًا من اهلموم‪ ،‬إال‬ ‫فال يضاهي فداح َة‬
‫اهنامر الدموع من عيني عجوز مشتاق‪.‬‬
‫ومضت أشهر ال يرى فيها إال قليال من الزوار‪ .‬فال يكاد يرى إال‬
‫اخلادم نفيس‪ ،‬الذي بدأ يكثر الصالة واالستشهاد بالقرآن واألحاديث‪،‬‬
‫زواره من العبيد يكثرون‪ ،‬أو بنت أخته مريم التي جاءته من‬
‫كام بدأ ّ‬
‫البرصة لالعتناء به‪.‬‬
‫تعود رسيعا عىل حياته اجلديدة‪ .‬فقد قرر أن يعيش داخل غرفة‬
‫كتبه ال يربحها‪ .‬وصارت مجلته التي يرددها‪:‬‬
‫‪- -‬أنا دفني الكتب!‬
‫نُصب له رسير مرتفع‪ ،‬ووضعت له خمدات حتت قدميه‪ ،‬حتيط به‬

‫‪401‬‬
‫بياض النهار‬
‫الكتب من كل جانب‪ .‬وعن يمينه دفاتره التي يكتب فيها َ‬
‫وسوا َد الليل‪.‬‬
‫تتوىل مريم خدمته يف ما ال بد منه‪ ،‬أما نفيس فيتوىل طعامه ورشابه‪.‬‬
‫مرت أشهر ال يزوره فيها إال ال ُع ّواد‪ ،‬ثم بدأ الناس يف بغداد يتناقلون‬
‫متعة جمالسته حتى مع مرضه‪ ،‬ثم كثر زواره حتى اشرتط أال يزوره أحد‬
‫إال بني العرص واملغرب‪ ،‬تنوع زواره ما بني الوزراء والكتاب واملتأدبني‪،‬‬
‫وحتى الشباب العشاق الذين يريدون االستشارة يف شؤون احلب‪.‬‬
‫كان مستلقيا ناظرا إىل السقف‪ ،‬بعد أن كتب فصال كامال من‬
‫«البيان والتبيني»‪ .‬فجاءه صوت بنت أخته‪:‬‬
‫‪- -‬هل تريد شيئا‪ ،‬فأنا سأخرج قليال‪.‬‬
‫‪- -‬ال عليك يا ابنتي‪.‬‬
‫قاهلا ومل ينظر صوهبا‪ ،‬فذهنه مشغول بام دار بينه وبني الشاب الذي‬
‫زاره أمس‪ .‬تذكر وجهه املتورد وعينيه الناظرتني إىل األسفل دائام‪.‬‬
‫دخل عليه وهو مستلق‪ ،‬فبادره‪:‬‬
‫‪- -‬ماذا تريد يا فتى؟‬
‫‪- -‬أريد أن أسألك يف أمر أمهني‪.‬‬
‫‪- -‬ادخل‬
‫جلس الشاب وأدار برصه يف رفوف الكتب‪ ،‬ثم نظر إىل اجلسد‬
‫النحيل الرصيع‪ ،‬فندم حلظة عىل قدومه‪ ،‬ثم جاءه صوت اجلاحظ‪:‬‬
‫‪- -‬هل أنت عاشق؟‬

‫‪402‬‬
‫متتم الفتى‪ ،‬فكأنه أخذه عىل غرة‪ ،‬ومل تتضح الكلامت التي نطق هبا‪.‬‬
‫فقال اجلاحظ بتثاقل‪:‬‬
‫‪- -‬إييييه!‬
‫‪- -‬نعم‬
‫‪- -‬هل تعرف الفرق بني املحب والعاشق؟‬
‫‪- -‬وما الفرق بني املقامني؟‬
‫اسم ملا زاد عن احلب‪ ،‬كام أن‬
‫‪- -‬اسمع يا ابن أخي‪ .‬إن العشق ٌ‬
‫اإلرساف اسم ملا زاد عن اجلود‪ ،‬والبخل اسم ملا نقص عن درجة‬
‫االقتصاد‪ .‬فهل أنت حمب أم عاشق؟‬
‫‪- -‬أنا عاشق إذن‪ ،‬لكن والدي يعنفني لذا جئتك‪.‬‬
‫‪- -‬اعشق يا بني وال تلتفت لوالدك‪ ،‬فالعشق من أهم أسباب اخلري‬
‫يف هذه الدنيا‪ ،‬كام أن البغض من أعظم أسباب الرش يف هذا العامل‪.‬‬
‫‪- -‬كيف؟‬
‫‪- -‬إن العشق أصدق تعبري يف النفس البرشية‪ .‬أال ترى أن الرجل قد‬
‫يصل احلد األقىص من الغضب ثم إذا متكن من عدوه عفا عنه‬
‫لرجائه أن يوصف بالنبل واحللم‪ ،‬وكذلك اإلنسان مهام بلغ من‬
‫حب املال فإنه قد يمنحه لغريه وخيرج من كل ماله‪ ،‬لكن العاشق‬
‫ال يظفر بمعشوقه ثم يتنازل عنه أو تسخو نفسه بأن يرتكه لوالد‬
‫أو ولد‪.‬‬
‫‪- -‬لكننا أيضا نحب والدينا حبا متناهيا!‬
‫‪- -‬رغم حبنا ألهلينا ووالدينا وأبنائنا إال أننا مل نر قط من مات عشقا‬

‫‪403‬‬
‫لوالديه‪ ،‬والدنيا ال ختلو ممن مات عشقا!‬
‫‪- -‬لكن‪ ،‬ما الذي جيعل العشق بابا من أبواب اخلري؟‬
‫‪- -‬ما دام العشق أصيال يف الفطرة البرشية أكثر من غريه‪ ،‬فذاك يعني‬
‫َ َ َ َّ‬
‫الن َ‬ ‫ْ َ َ ّهَ َّ‬
‫اس‬ ‫ت اللِ ال ت ِي ف ط ر‬‫أنه خري الندراجه يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ف ِط ر‬
‫َ ْ َ َ ْ ّهَ‬ ‫َ‬
‫اللِ ۚ﴾‪ .‬فهو أكثر صفة التصاقا بالنفس‬ ‫َع ل يْ َه ا ۚ لاَ ت ب دِيل ل ِخ ل ِق‬
‫البرشية‪.‬‬
‫‪- -‬لكنهم علمونا أن املرأة رش كلها!‬
‫انتفض اجلاحظ‪ ،‬فرفع ساقه السليمة عن الوسادة‪ ،‬ورفع يده‬
‫اليمنى‪ ،‬ودارت بذهنه آالف الصور‪ .‬ثم قال نصف ساخر‪:‬‬
‫‪- -‬ومن قال ذلك يا بني؟ ال تلتف لكالم احلشوة فكالمهم عىل قدر‬
‫عقوهلم‪.‬‬
‫ثم سكت قليال‪ ،‬وشخصت يف ذهنه متارض‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬إن املرأة كلها خري‪ .‬فكل ما يسعى له الرجال من جمد وسؤدد‬
‫وجتمل إنام ينتهي للمرأة‪ ،‬ولوال املرأة ما جتمل رجل وال تعطر‪،‬‬
‫جتمر‪ .‬أما هي فتتجمل وتتعطر فطرة فطرها اهلل‬
‫وال تنظف وال ّ‬
‫عليها‪ ،‬ترى ذلك يف خلقة البنت الصغرية التي مل يدر بخلدها‬
‫امليل إىل الرجال‪.‬‬
‫وخف اخلجل الذي كان يعقد لسانه فقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫برقت عينا الشاب‪،‬‬
‫‪- -‬لكن الرجل أرفع قدرا عند الناس!‬
‫‪- -‬دعك من هذا‪ .‬إن املرأة فوق الرجل بأمور‪ .‬فهي التي تخُ َطب‬
‫وتُعشق وتُفدَّ ى وتحُ مى! ثم إن الرجل العاقل ُيستح َلف باأليامن‬

‫‪404‬‬
‫املغلظة؛ من ميش إىل البيت احلرام ومن ٍ‬
‫عتق لرقيقه وخروج من‬
‫ماله‪ ،‬فال جيد حرجا يف ذلك‪ .‬لكنك ما إن تستحلفه بالطالق‬
‫حتى يرتبد وجهه وتنتفخ أوداجه ويتحرج من ذلك‪ ،‬وإن كانت‬
‫زوجه قبيحة املنظر‪ ،‬سيئة املخرب خفيفة املهر رقيقة النسب‪ ،‬فدل‬
‫هذا عىل أن املرأة أمكن من الرجل!‬
‫شعر الشاب بخفة وانبساط فصاح‪:‬‬
‫‪- -‬إي واهلل!‬
‫‪- -‬وهنا باب آخر يا ولدي‪ .‬وهو أن الرجل واملرأة إذا جلسا وبينهام‬
‫تعاشق‪ ،‬وكانا من أبلد خلق اهلل فإن ما يأيت من أطايب احلديث‬
‫وتفانني الغزل بينهام يكون أرق من شعر عمر بن أيب ربيعة‪ .‬فإن‬
‫الغزل رقيق بطبيعته حتى ولو كان بني رجل عيي وفتاة بليدة‪،‬‬
‫فأي كالم خيرج خمرج الغزل ّ‬
‫يرق ويسمو وحيلو‪.‬‬
‫قال الشاب وهو يرفع برصه يف رفوف الكتب‪:‬‬
‫‪- -‬إذا كان هذا هو موقع املرأة يف هذه الدنيا ويف نفوس الرجال‪ ،‬فلم‬
‫ال يرصحون هبذا؟‬
‫‪- -‬إهنم يتسرتون عىل األمر ويدارونه لعلمهم أهنم ال يريدون شيئا‬
‫خرجت اآلن إىل الشارع وخيرّ َت‬ ‫َ‬ ‫يف الدنيا إال هلن‪ .‬فأنت لو‬
‫أي رجل تلقاه بني أن يعيش طيلة حياته فقريا ممُ َكَّن ًا من التمتع‬‫َّ‬
‫بالنساء‪ ،‬وبني أن يعيش طيلة حياته غنيا حمروما من التمتع هبن‪،‬‬
‫ملا تردد حلظة يف اختيار الفقر‪.‬‬
‫‪- -‬أنا أعشق بنت عمي‪ ،‬وعمها ال يمكنني من رؤيتها‪.‬‬

‫‪405‬‬
‫رفع اجلاحظ رجله السليمة‪ ،‬وانفجر هادرا كأنه مجل هائج‪:‬‬
‫‪- -‬اجلارية أفضل يا بني‪ ،‬وال خري يف احلرائر‪ ،‬فاجلارية تراها قبل أن‬
‫متلكها فتعرف حماسن جسمها وحماسن روحها‪ ،‬وهتجم منها عىل‬
‫ما يرسك ويسوؤك فت ِ‬
‫ُقدم عىل ابتياعها وأنت عارف بمكنوناهتا‪،‬‬
‫أما احلرة فصفق ُة َغ َرر! فأنت ال تعرف عنها شيئا إال بعد أن‬
‫تتزوجها فتكون كاملغبون‪.‬‬
‫‪- -‬لكن أمي وصفتها يل‪.‬‬
‫التفت جهة الشاب‪ ،‬ثم سال ريق‪ ،‬مسحه بمنديل‪ ،‬ويده ترتعد‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬إن النساء ال يعرفن ما يعجب الرجال يف النساء‪ .‬فاملرأة ال تعرف‬
‫من املرأة إال الصف َة الظاهرة‪ ،‬أما اخلصائص التي تُعجب الرجل‬
‫فال تنتبه هلا‪ ،‬بل تأتيك إحداهن وتقول‪ :‬كأن أنفها سيف‪ ،‬وكأن‬
‫ساقها جمَُّ َارة‪ ،‬وكأن شعرها العناقيد‪ ،‬وهذا ال فائدة منه‪ ،‬فهي ال‬
‫تدرك ما يريد الرجل‪.‬‬
‫كان اجلاحظ غارقا يف استعادة حواره مع الشاب العاشق الذي‬
‫زاره‪ ،‬فأفاق عىل صوت نفيس يقول‪:‬‬
‫‪- -‬سيدي‪ ،‬لقد حان وقت طعامك‪.‬‬
‫كأن استعادة حديثه مع الشاب قد فتحت له بابا من التفكري‪ ،‬فضج‬
‫خياله بصور متارض وعلية‪ ،‬وتذكر كل ما سمعه من انتقاص للجواري‬
‫والنساء عامة‪ ،‬ثم تذكر حواراته يف ليل البرصة مع أترابه عن النساء‪.‬‬
‫شعر بعدم الرغبة يف الطعام‪ ،‬وانتابته موجة صبابة وشوق إىل علية‪،‬‬

‫‪406‬‬
‫التفت إىل نفيس وقال بصوت حزين‪:‬‬
‫أخر الطعا َم حتى أدعوك‪.‬‬
‫‪ْ --‬‬
‫ثم مال عىل شقه السليم‪ ،‬وأمسك قلمه وكتب‪« :‬رسالة يف مدح‬
‫النساء»‪.‬‬
‫***‬
‫كاد الرجل األسمر النحيل يطري فرحا‪ ،‬وهو يستمع للجاحظ‬
‫ويتأمله‪ .‬فمنذ اشرتى رسائله قبل سنوات من وراق بمدينة منبج‬
‫بالشام‪ ،‬وهو يتمنى لقاءه‪.‬‬
‫جلس يف طرف الغرفة‪ ،‬ومال عىل اجلاحظ ليقبل جبينه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬السالم عىل أيب عثامن ورمحة اهلل!‬
‫رفع عينيه متأمال الرجل األسمر الذي يراه أول مرة‪ ،‬ومتتم‪:‬‬
‫‪- -‬من أنت أهيا الزائر؟‬
‫‪- -‬أنا أبو عبادة‪ ،‬البحرتي الشاعر‪.‬‬
‫انفرجت أساريره‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬يا أهال وسهال‪ .‬لقد سمعت كثريا من شعرك وأعجبني‪.‬‬
‫‪- -‬شكر اهلل لكم أبا عثامن‪ ،‬واهلل إن هذا ليزيد شعري يف عيني‪.‬‬
‫دارت عدة مقطوعات بذهن اجلاحظ من شعر البحرتي‪ ،‬لكن‬
‫األبيات التي قاهلا يف وصف مقتل املتوكل كادت تقفز عىل شفتيه‪.‬‬
‫فبادره البحرتي‪:‬‬
‫‪- -‬كيف صحتك يا أبا عثامن؟‬
‫العدو وتبكي الصديق‪.‬‬
‫َّ‬ ‫‪- -‬هي كام ترى‪ ،‬ترس‬

‫‪407‬‬
‫‪- -‬ال بأس إن شاء اهلل!‬
‫رفع وجهه إىل السقف‪ ،‬وأعاده متفرسا وجه البحرتي وعاممته‬
‫اخلرضاء‪ ،‬والرسور يربق يف عينيه فقال‪:‬‬
‫قلت لبعض األصحاب إنك وأبا متام أشعر أهل زماننا؛ غري‬
‫‪ - -‬لقد ُ‬
‫أين سمعت أحدهم ذكر لك قصيدة يف وصف إيوان كرسى‪.‬‬
‫‪- -‬إي‪ ،‬نعم‪.‬‬
‫‪- -‬كرسى! أما عندك شعر يف حمامد قيس بن زهري أو األحنف بن‬
‫قيس؟!‬
‫خيم الصمت وشعر البحرتي بالضيق‪ ،‬وجعل يمسح حليته‬
‫هبدوء‪ ،‬مذكرا نفسه بأن اجلاحظ طعن يف السن‪ ،‬وال تؤخذ دالالت‬
‫كالمه كلها‪ .‬وخطر له أنه ربام لو سمع القصيدة ألعجبته‪ ،‬فوضع يده‬
‫عىل يد اجلاحظ وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هل لك أن تسمع مني بعضها حتى حتكم يا أبا عثامن؟‬
‫مل جيبه‪ ،‬وتذكر اجلاحظ أن البحرتي كان حارضا حلظة مقتل‬
‫اخلليفة املتوكل ووزيره الفتح بن خاقان‪ ،‬فأحب أن يسمع منه القصة‬
‫كام وقعت‪ .‬سكت قليال وقال‪:‬‬
‫علمت أنك كنت حارضا قتل علوج األتراك للمتوكل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬أبا عبادة‪،‬‬
‫فهال رويت يل األمر حتى أحققه منك؟‬
‫وجم البحرتي قليال وهو ينظر إىل أرض الغرفة املفروشة بالسجاد‬
‫الفاخر‪ ،‬جعل ينكت السجاد بإصبعه وامجا‪ ،‬متذكرا تأليف اجلاحظ‬
‫لكتاب يف مدح اجلنود األتراك‪ ،‬أعاد نظره للجاحظ‪ ،‬الذي بدا يف عينيه‬

‫‪408‬‬
‫هيكال عظميا مدفونا منذ آالف السنوات‪ .‬تأمل جسمه النحيل الذي‬
‫ال يكاد يتحرك منه إال تينك العينني احلادتني اللتني خترتقانه انتظارا‬
‫للحديث‪.‬‬
‫طال صمت البحرتي‪ ،‬وطالت نظرات اجلاحظ إليه‪ ،‬فهو ال يضيق‬
‫بيشء ضيقه باستعادة تلك اللحظة التي قتل فيها املتوكل أمامه‪.‬‬
‫رفع رأسه متنهدا‪ ،‬وخياله شارد إىل تلك الليلة التي مل تشهد العراق‬
‫مثلها من قبل‪ .‬ليلة ُقتل خليفة املسلمني بمامألة بني اجلنود األتراك وابنه‬
‫املنترص‪.‬‬
‫كان املتوكل ووزيره الفتح بن خاقان والبحرتي جالسني يف هبو‬
‫واسع بقرص اجلعفري بحي القاطول‪ ،‬حتيط هبم أربعة مصابيح كبرية‬
‫مثبتة يف زوايا البهو الواسع‪ .‬كان املتوكل مستندا إىل وسادة ضخمة‪،‬‬
‫وبني يديه أرشبة وكتب وبخور‪.‬‬
‫بدا املتوكل مرسورا مقبال عىل احلديث واالستزادة من إنشاد‬
‫الشعر وقصص أيام العرب‪ .‬وكان الفتح بن خاقان ‪-‬وزيره األديب‪-‬‬
‫ال يدخر نادرة إال رواها‪ ،‬وال ملحة إال حكاها‪ .‬أما البحرتي فظل‬
‫يراوح بني إنشاد الشعر ورواية احلكايات‪.‬‬
‫يف أثناء ذلك‪ ،‬كان القائد الرتكي ُبغا يغلق أبواب القرص دون أن‬
‫رشع ًا ليدخل منه مع‬
‫يشعر به أحد‪ ،‬ترك بابا واحدا يسمى باب الشط ُم َ‬
‫جمموعة من اجلنود امللثمني‪.‬‬
‫وبينام املتوكل يرمق الفتح منصتا له‪ ،‬إذ سمعا قرع نعال اجلنود‬
‫وقعقعة السيوف‪ ،‬وصوت أحد احلاشية من بعيد يقول‪:‬‬

‫‪409‬‬
‫‪ - -‬ما هذا يا سفل!‬
‫وقف املتوكل مذعورا‪ ،‬فرأى قائدَ ه بغا‪ ،‬فصاح به‪:‬‬
‫‪- -‬ما هذا يا بغا؟‬
‫ارتبك بغا عندما رأى املتوكل أمامه‪ ،‬فتلعثم‪:‬‬
‫‪ - -‬هؤالء رجال الن َّْوبة الذين يبيتون حيرسون باب سيدي أمري‬
‫املؤمنني‪.‬‬
‫الحظ اجلنود تلعثم بغا‪ ،‬فتدافعوا راجعني‪ .‬لكن بغا استعاد متاسكه‬
‫وصاح هبم‪:‬‬
‫‪- -‬يا سفل‪ ،‬أنتم مقتولون ال حمالة‪ ،‬فارجعوا وموتوا كراما‪.‬‬
‫عندها‪ ،‬رجع اجلنود وقفز جندي تركي اسمه بغلون ورضب‬
‫املتوكل بالسيف عىل كتفه‪ ،‬ثم أرجعه إليه فطارت أذنه‪.‬‬
‫صاح الفتح بن خاقان‪:‬‬
‫‪- -‬ويلكم‪ ،‬أمري املؤمنني!‬
‫فقال بغا‪:‬‬
‫‪ - -‬يا حلقي‪ ،‬أال تسكت!‬
‫قفز الفتح ورمى بجسمه فوق املتوكل ليحميه‪ ،‬فبجعوه بسيوفهم‪،‬‬
‫وقام بغا حتى غرز طرف السيف يف بطن كل واحد منهام‪ ،‬سالت‬
‫دماؤمها حتى لطخت كتبا كانت يف طرف املجلس‪.‬‬
‫وسمعت صيحات وبكاء من جهة بيوت النساء يف أطراف القرص‪.‬‬
‫ُ‬
‫أهنى البحرتي احلديث‪ ،‬وجعل يفرك يديه صامتا‪ .‬سأله اجلاحظ‬
‫دون أن يلتفت إليه‪:‬‬

‫‪410‬‬
‫نجوت أنت؟‬
‫َ‬ ‫‪- -‬وكيف‬
‫علمت أن جهدي لن ينفع‪ ،‬فعندما بدأ اجلنود يف القتل ابتعدت‬
‫ُ‬ ‫‪--‬‬
‫ووجدت يل خمت َب ًأ‪ .‬وكنت أردد يف ذهني قول الفارس احلارث بن‬
‫هشام حني فر من املعركة يوم بدر‪:‬‬
‫إن أقاتِ�ل واح�د ًا‬
‫وعلم�ت أين ْ‬
‫ُ‬
‫ش�هدي‬
‫عدوي َم َ‬
‫َّ‬ ‫يرضر‬
‫ْ‬ ‫ُأ ْ‬
‫قتل‪ ،‬وال‬
‫وسكت البحرتي‪ ،‬وشعر بضيق وهو َيلمح يف وجه اجلاحظ‬
‫سخرية مشوبة بحزن‪ .‬وتساءل يف نفسه كيف كان سيترصف اجلاحظ‬
‫لو شهد القتل‪.‬‬
‫وبعد صمت ثقيل‪ ،‬مال اجلاحظ عىل شقه السليم وقال متنهدا‪:‬‬
‫‪- -‬أنشدين القصيدة التي قلت يف رثاء املتوكل وذكر هذه الليلة‬
‫الليالء‪.‬‬
‫غيرّ البحرتي جلسته وقال مرتبكا‪:‬‬
‫�ق داثِ ُر ْه‬‫ول» َأ ْخ َل َ‬ ‫محَ َ ٌّل على «ال َقا ُط ِ‬
‫هر َج ْيش ًا ُت َغ ِ‬
‫او ُر ْه‬ ‫وفالدَّ ِ‬
‫و َعا َد ْتصرُ ُ ُ‬
‫ُ�ذور ًا إذا ا ْنبرَ َ ْت‬ ‫ُويف ن ُ‬‫الص َب�ا ت ِ‬
‫كأ َّن َّ‬ ‫َ‬
‫تُــر ِاوحــهأذيــا ُلـهـاوتُــب ِ‬
‫ــاك ُـر ْه‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫ٍ ِ‬
‫�م َع ْه�دُ ُه‬ ‫ور َّب زم�ان ناع� ٍم َث َّ‬ ‫ُ‬
‫�ق ن�اضرِ ُ ْه‬ ‫�ـيـه‪ ،‬و ُيونِ ُ‬
‫ـواش ِ‬
‫َ�ر ُّق ح ِ‬
‫ت ِ َ‬
‫�ر ِّي‪ ،‬و ُأن ُْس� ُه‬ ‫َّي� ُح ْس� ُن اجلَ ْع َف ِ‬
‫َت َغ رَّ َ‬
‫وحاضرِ ُ ْه‬ ‫جل ْع َف ِر ِّي‪َ ،‬‬ ‫و ُق ِّو َض َب ِ‬
‫�ادي ا َ‬

‫‪411‬‬
‫ِ‬
‫س�اكنو ُه ُف َج�ا َء ًة‬ ‫َّ�ل عن�ه‬ ‫تحَ َ م َ‬
‫ور ُه و َمقابِ ُ�ر ْه‬
‫فـعـ�ا َد ْت َس�ـوا ًء ُد ُ‬
‫األس�ى‬ ‫إذا نح� ُن ُزرنَ�ا ُه َأ َج�دَّ َلن�ا َ‬
‫قب�ل الي�و ِم يبه�ج ِ‬
‫زائ ُ�ر ْه‬ ‫وق�د كان َ‬
‫ََْ ُ‬
‫برقت عينا اجلاحظ طربا‪ ،‬وأشار للبحرتي بالتوقف‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪- -‬من حق األدب عيل أال أسمع هذا الشعر وأنا مستلق‪ِ ،‬‬
‫ناد نفيسا‬ ‫ّ‬
‫ليجلسني‪.‬‬
‫شعر البحرتي بغبطة عارمة وقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال عليك يا أبا عثامن‪.‬‬
‫فصاح اجلاحظ بأعىل صوته‪:‬‬
‫‪- -‬نفيس! أجلسني يا نفيس!‬
‫بمنكبي اجلاحظ‪ ،‬وأجلسه‪ .‬ثم وضع‬
‫ْ‬ ‫جاء نفيس يركض‪ ،‬وأمسك‬
‫وسائد بني كتفيه واجلدار‪ .‬اعتدل وهو يمسح لعابا سائال بطرف ثوبه‪:‬‬
‫‪- -‬أما اآلن فأنشد يا أبا عبادة!‬
‫نظر البحرتي إىل األرض كأنه يتذكر من أين يعاود اإلنشاد‪:‬‬
‫يع سرِ ْ ُبه‬‫القرص إ ْذ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫أنس َو ْح َش‬
‫ومل َ‬
‫أطلاؤه وج ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ�آذ ُر ْه‬ ‫ُُ َ‬ ‫ـ�ر ْت‬‫وإ ْذ ُذع َ‬
‫َت‬ ‫الر ِح ِ‬
‫ي�ل َف ُه ِّتك ْ‬ ‫ي�ح في�ه بِ َّ‬
‫ِ‬
‫وإ ْذ ص َ‬
‫�ل‪ ،‬أس�تَـاره وس�ت ِ‬
‫َـائ ُر ْه‬ ‫ـج ٍ‬
‫ُُ َ‬ ‫على َع َ‬
‫ِ‬ ‫وو ْح َش� َت ُه‪ ،‬حت�ى َ‬
‫�م ب�ه‬ ‫كأ ْن مل ُيق ْ‬ ‫َ‬
‫ي�س‪ ،‬ومل تحَ ْ ُس� ْن لِ َعْي�نْ ٍ َمناظِ ُ�ر ْه‬ ‫َأن ٌ‬
‫ِ‬

‫‪412‬‬
‫�ت في�ه اخلال َف� ُة َط ْل َق� ًة‬ ‫كأ ْن مل تَبِ ْ‬‫َ‬
‫�ك يْش�رْ ِ ُق َز ِ‬
‫اه ُ�ر ْه‬ ‫اش�تُها‪ ،‬وا ُمل ْل ُ ُ‬ ‫َب َش َ‬
‫إلي�ه بـهـا َءه�ا‬ ‫ِ‬ ‫ومل جَ ْت َم� ِع الدنْي�ا‬
‫�ض َمكَاسرِ ُ ْه‬ ‫وبهَ ْ َجتَه�ا‪ ،‬وال َع ْي ُش َغ ٌّ‬
‫‪- -‬أمسك يا أبا عبادة‪ ،‬يا اهلل!‬
‫رفع اجلاحظ يده النحيلة الشاحبة هبدوء وهي ختتلج‪ .‬وضعها عىل‬
‫جبهته ور ّدد بصوت ميلء بالعربة واحلرسات‪:‬‬
‫كأ ْن مل تَبِ ْ‬
‫�ت في�ه اخلال َف� ُة َط ْل َق� ًة‬ ‫َ‬
‫�ك يْش�رْ ِ ُق َز ِ‬
‫اه ُ�ر ْه‬ ‫اش�تُها‪ ،‬وا ُمل ْل ُ ُ‬ ‫َب َش َ‬
‫‪- -‬هلل أبوك يا أبا عبادة‪ ،‬إيه!‬
‫اش� ًة‬ ‫وف ُح َش َ‬ ‫الس� ُي ُ‬‫اضا ُه ُّ‬ ‫يع َت َق َ‬‫صرَ ِ ٌ‬
‫وامل�وت حمُ ْ ٌ�ر َأ َظافِ ُ�ر ْه‬
‫ُ‬ ‫يجَ ُ �و ُد بهِ�ا‬
‫�ع عن� ُه بِال َيدَ ْي ِ‬ ‫ِ‬
‫�ن‪ ،‬ومل َيكُ� ْن‬ ‫ُأ َداف ُ‬
‫ادي َأ ْع َز ُل ال َّل ْي ِل َحاسرِ ُ ْه‬
‫ن�ي األ َع ِ‬ ‫لِ َي ْث ِ‬
‫دي‬ ‫في َساع َة ال َقت ِْل يف َي ِ‬ ‫ولو كان َس ْي ِ‬
‫او ُر ْه‬ ‫الن كيف ُأ َس ِ‬ ‫َد َرى ال َقاتِ ُل ال َع ْج ُ‬
‫اح َب ْع�دَ َك‪ ،‬أو َأ َرى‬ ‫ال�ر ُ‬
‫َح َ�را ٌم َعليََّ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األرض َمائ ُر ْه‬ ‫ري على‬ ‫َد َم� ًا بِ�دَ ٍم يجَ ْ ِ‬
‫�ب الدَّ َم َواتِ ٌر‪،‬‬
‫رت ِي َأ ْن َي ْط ُل َ‬‫وه�ل َأ جَ‬
‫ُور بِال�دَّ ِم َواتِ ُر ْه؟‬ ‫َي�دَ الدَّ ِ‬
‫ه�ر؛ وا َمل ْوت ُ‬
‫ه�د َأ ْض َم َ�ر َغ�دْ َرةً؟‬ ‫أكان وليِ الع ِ‬
‫َ َ ُّ َ‬
‫أن وليِّ العه�دَ َغ ِ‬ ‫َف ِم� ْن َع َج ٍ‬
‫اد ُر ْه‬ ‫�ب ْ ُ َ َ ْ‬

‫‪413‬‬
‫ُ�راث الذي َمض‬ ‫اقي ت َ‬ ‫َفال ُمِّل�يِّ َ ال َب ِ‬
‫اك الدُّ َع�ا َء َمنَابِ ُ�ر ْه‬ ‫�ت َذ َ‬‫وال حمَ َ َل ْ‬
‫وح َل ْي َل� َة َج ْع َف ٍ‬ ‫ِ‬
‫�ر‬ ‫َلن ْع َ‬
‫�م ال�دَّ ُم ا َمل ْس� ُف ُ‬
‫ْ�ح ال َّل ْي ِل س�و ٌد َد َي ِ‬
‫اج ُر ْه‬ ‫َه َر ْقت ُْم ُ‬
‫وجن ُ‬
‫ُ‬
‫رفع اجلاحظ يده ووضعها عىل رأسه وهو يقول‪:‬‬
‫‪- -‬يا اهلل! هلل درك يا أبا عبادة‪.‬‬
‫عيني البحرتي وأنشد‪:‬‬ ‫وضع يده عن رأسه ونظر يف ْ‬
‫�ع عن� ُه بِال َيدَ ْي ِ‬‫ِ‬
‫�ن‪ ،‬ومل َيكُ� ْن‬ ‫ُأ َداف ُ‬
‫ادي َأ ْع َز ُل ال َّل ْي ِل َحاسرِ ُ ْه‬ ‫لِ َي ْث ِ‬
‫ن�ي األ َع ِ‬
‫البحرتي بضيق‪ ،‬فقد فهم أن اجلاحظ توقف عند‬ ‫ُّ‬ ‫وسكت‪َ ،‬‬
‫وش َعر‬
‫البيت مشككا يف تصور البحرتي لنفسه فارسا مدافعا عن املتوكل‪،‬‬
‫وهو يعلم أنه اختبأ كام أخربه‪.‬‬
‫وخيم صمت‪ ،‬مل يقطعه إال صوت أذان من بعيد ٍ‬
‫آت من نافذة‬ ‫ّ‬
‫الغرفة‪ .‬حرك اجلاحظ فكه السفيل‪ ،‬فظهر َد َر ُده بوضوح وهو يقول‪:‬‬
‫غسلت أذين من‬
‫َ‬ ‫‪ - -‬أحسنت‪ ،‬هذا واهلل الشعر‪ .‬جزيت خريا عىل أن‬
‫يشء سمعته أمس من أحد األدعياء‪ ،‬جاءين هنا وأنشدين ما زعم‬
‫أنه شعر‪ ،‬فزاد علتي‪ ،‬ومل أنم البارحة غيظا منه‪ ،‬ولوال أن ُأ ْد ِخ َل‬
‫لقضيت بأن ذريته ال خيرج منها شاعر‬ ‫بعض ال َفت ِ‬
‫ْك‬ ‫حلكم َ‬
‫ُ‬ ‫يف ا ُ‬
‫أبدا‪.‬‬
‫‪- -‬قاتله اهلل‪ ،‬هذا أجرأ من خايص األسد! كيف يعرض رديء‬
‫الشعر عىل أيب عثامن!‬

‫‪414‬‬
‫وشعر البحرتي بأنه جتاوز اللحظة احلرجة التي كان خيشى فيها أن‬
‫ُيغلظ له أبو عثامن القول‪.‬‬
‫وتذكر اجلاحظ أن نفيسا مل يأت بأي رشاب للزائر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬أنتم تزورون لعابا سائال ِ‬
‫وشقا مائال! هذا اخلادم مل يسقكم!‬
‫‪- -‬واهلل لقد رشبنا أفضل رشاب وأكلنا ألذ طعام بمحادثتكم‪.‬‬
‫حرك اجلاحظ كتفه فتحركت الوسادة املثبتة بينه وبني اجلدار‪،‬‬
‫وعج خياله بصورة صديقه الوزير الفتح بن خاقان‬ ‫وكأنه يسرتخي‪ّ .‬‬
‫وهو رصيع مرضج بدمائه‪ .‬وتذكر نبله واألشعار التي حيفظها‪ ،‬وأدبه‬
‫وكياسته‪ .‬وختيل اجلنود األتراك األميني يركلونه بأرجلهم‪ ،‬وهو يموت‬
‫ميتة األكارم فاديا اخلليفة بنفسه‪ .‬ظللته سحابة حزن‪ ،‬فقلل احلديث‪،‬‬
‫وشعر البحرتي بأن اجلاحظ يريد أن خيلو بنفسه‪ .‬سكتا برهة‪ ،‬ثم قال‬
‫البحرتي‪:‬‬
‫‪- -‬أستأذن يا أبا عثامن‪.‬‬
‫ورفع اجلاحظ جفنيه‪ ،‬موافقا‪:‬‬
‫‪- -‬حفظك اهلل أبا عبادة‪.‬‬
‫ونزل البحرتي متدحرجا من الدرج بخفة‪ ،‬وقبل أن يصل إىل‬
‫الباب كان نفيس يركض ليستأذن لرسول من اخلليفة‪.‬‬
‫خرج البحرتي مرخيا طرف عاممته عىل وجهه‪ ،‬ودخل رسول أمري‬
‫املؤمنني‪.‬‬
‫جلس عند رأس اجلاحظ‪ ،‬ومال عليه‪:‬‬
‫‪- -‬لقد عرفنا كيف ُخطفت جاريتكم!‬

‫‪415‬‬
‫حتول اجلسد النحيل ا ُملعاق إىل كتلة من احليوية‪ ،‬والدم املتدفق‪.‬‬
‫كانت يد اجلاحظ يف الطريق إىل فمه ملسح لعابه‪ ،‬فوقفت حائرة يف اهلواء‬
‫بني فمه وركبته ثم هوت عىل ركبته‪ .‬أدار عينيه يف وجه الرسول‪ ،‬وحتول‬
‫شابا ُمولهَّ ا‪:‬‬
‫‪- -‬كيف؟‬
‫ٌ‬
‫فرسان‬ ‫‪- -‬لقد أمسكنا غالما كان يتجسس‪ ،‬وعلمنا منه كيف جاء‬
‫متنكرون يف زي جتار‪ .‬وكيف دهلم عىل بيتك فجاءوا وأخذوا‬
‫اجلارية‪.‬‬
‫قفز سؤال حارق إىل ذهنه‪ ،‬لكنه تردد يف النطق به خوفا من نتيجته‪.‬‬
‫ثم غلبته نفسه فقال‪:‬‬
‫‪- -‬هل وافقتهم علية عىل اخلروج أم أرهبوها؟‬
‫‪- -‬ال‪ ..‬ال‪ ،‬قال الغالم إهنم أخذوها مكرهة‪ ،‬وزعم اجلاسوس أهنا‬
‫بنت ملك من ملوكهم ظل يبحث عنها طيلة حياته‪ ،‬وأن أخاه‬
‫خلفه يف البحث عنها‪ .‬وزعم أهنا بنت ملك من ملوك شامل‬
‫األندلس!‬
‫‪- -‬نعم‪ ،‬لقد أخربتني بذلك‪.‬‬
‫الحظ الرسول أن اجلاحظ ك َف َت رج َله السليمة بسهولة دون جهد‬
‫منه‪ ،‬وأن جسده النحيل يزداد تعرقا‪ ،‬كام الحظ انتعاشا يف حركة عينيه‬
‫الذاويتني‪ ،‬ثم الحظ أنه جياهد نفسه حتى ال يتكلم‪ .‬فالنظرات التائهة‬
‫تقفز‪ ،‬وجانب شفته السفىل يتحرك حركة دائبة‪.‬‬
‫مرت ثوان‪ ،‬فوقف الرسول مودعا‪ .‬خرج من غرفة الكتب‪ ،‬ونزل‬

‫‪416‬‬
‫من الدرج‪ .‬وما إن وصل إىل الباب حتى سمع صوت نفيس‪:‬‬
‫‪- -‬سيدي يدعوك للرجوع إليه‪.‬‬
‫جلس الرسول هبدوء‪ ،‬فقال اجلاحظ ويف صوته رعدة‪:‬‬
‫‪- -‬أريد أن جُت َ‬
‫هز يل راحلة ورفقة ألعود للبرصة‪.‬‬
‫مع إرشاقة الشمس عىل جرس دجلة‪ ،‬كان اجلاحظ مستندا عىل‬
‫وسائدَ يف مقدمة سفينة حييط به نفيس وبنت أخته مريم وجمموعة من‬
‫اجلنود‪.‬‬
‫جندي السفين َة عن حافة اليابسة‪ ،‬بينام كانت أذن اجلاحظ‬
‫ٌ‬ ‫دفع‬
‫ٍ‬
‫جلارية تغسل ثوبا عىل طرف النهر وهي تغني‪:‬‬ ‫اللقاطة تنصت‬
‫واخضرََّ عو ُد ُه‬ ‫العيش يف بغ�دا َد ْ‬
‫ُ‬ ‫صف�ا‬
‫غض!‬‫ض وال ِّ‬ ‫غري َخ ْف ٍ‬
‫وعيش س�واها ُ‬ ‫ُ‬
‫إن ِغذا َءه�ا‬ ‫األعمار؛ َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تط�ول هب�ا‬
‫ِ‬
‫بعض!‬ ‫ِ‬
‫األرض أ ْم َر ُأ من‬ ‫وبعض‬ ‫َمري ٌء‪ُ ،‬‬
‫تغضن ومسح دمع ًة شاردة‪ .‬وتأ ّمل اجلارية‬ ‫ِ‬ ‫أمر يدَ ه عىل خده ا ُمل‬
‫َّ‬
‫الثوب الذي بني يدهيا وتواصل الغناء‪.‬‬
‫َ‬ ‫بطرف عينيه وهي تفرك‬
‫***‬

‫‪417‬‬
‫الدوحة‪ 1440 ،‬هـ‬

‫شقيق حصة فنجان قهوة آخر للقروي‪ ،‬فرشفه رشف ًة واحدة‬‫صب ُ‬


‫النشغال ذهنه باالستامع إىل صديقه الذي بدأ احلديث‪:‬‬
‫‪- -‬بسم اهلل الرمحن الرحيم وصىل اهلل عىل نبيه الكريم‪ .‬احلمد هلل الذي‬
‫السفاح‪ ،‬وجعل املصاهرة نسبا موصوال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وحر َم‬
‫َّ‬ ‫النكاح‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫أحل‬
‫ورمحا ُمع َّلقة‪.‬‬
‫قدر ما فيها من‬
‫واصل الرجل حديثه بلغة فيها من الفصاحة َ‬
‫التكلف والسجع‪ .‬فجعل أهل املنزل حيدجونه بعيوهنم‪ ،‬وراح آخرون‬
‫يتلفتون ويتثاءبون‪.‬‬
‫وبعد دقائق‪ ،‬وصل املتحدث إىل قوله‪ :‬أما بعد‪..‬‬
‫فحرك طرف عاممته ومسح فاه وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أما بعد‪ ،‬فقد جئنا لنترشف بمصاهرتكم‪ ،‬فمحمد شاب من‬
‫أفضل الشباب علام وفهام وأخالقا‪ ،‬ثم هو ذو حسب ونسب‬
‫يف قومه‪ ،‬فهو من إحدى القبائل احلمريية ِ‬
‫ذات الصولة بالقلم‬
‫والسيف‪ ،‬وهو الفحل ال يجُ دَ ُع أن ُف ُه‪...‬‬
‫دوت ضحك ُة طفل كان يف طرف املجلس‪ ،‬وولىّ هاربا‪.‬‬
‫ْ‬
‫ساد صمت‪ ،‬ثم استعاد الرجل اتزانه وشدّ عليه طرف دراعته‬

‫‪419‬‬
‫املزركشة وواصل‪:‬‬
‫تضيع عنده احلُ ُرم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪- -‬فهو الفحل ال يجُ دَ ُع أن ُفه‪ ،‬وال‬
‫ثم خفض نربته وصىل وسلم عىل النبي‪ ،‬وسكت‪.‬‬
‫خ ّيم صمت مطبق يف انتظار ما يقوله والد الفتاة الذي بدا غري‬
‫متعجل‪ .‬بل تشاغل بنفض نقطة سوداء بادية عىل طرف قميصه الناصع‬
‫البياض‪ ،‬ثم رفع رأسه وقال وصوته يكاد ال يسمع‪:‬‬
‫‪- -‬نشكر لكم احلضور وحسن الظن‪ .‬لكننا نرى أن ليس لألخ حممد‬
‫نصيب يف هذا الزواج‪ ،‬ولعل اهلل ادخر له األفضل‪.‬‬
‫كان القروي ينظر إىل أيب حصة نظرا متواصال برتكيز حتى كأنه ال‬
‫حيرك حدقتيه‪ ،‬فلام انتهى من الكالم قال له بلغة ال مبالية‪ ،‬وهو ينظر إىل‬
‫باب املجلس‪:‬‬
‫‪- -‬هل يمكنني السؤال عن سبب الرفض؟‬
‫شعر األب بغرابة السؤال‪ ،‬معتربا إياه جرأة وصفاقة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪- -‬ال هيمك!‬
‫‪- -‬كيف ال هيمني؟ إذا مل يكن هيمني فمن هيم؟‬
‫‪- -‬ال هيمك معرفة السبب‪ ،‬املهم أننا رافضون وأكثر‪.‬‬
‫وسكت القروي قليال وهو يتلمظ‪.‬‬
‫وساد جو كثيف حتى كأن اهلواء انحبس‪ ،‬ومل يبق إال صوت‬
‫املكيف اهلادر يف طرف املجلس‪ .‬أدار القروي عينيه يف السقف وقال‪:‬‬
‫‪- -‬أنا ال أرى وجها لرفضكم‪ .‬فإن كنتم تنطلقون من تقاليد العرص‬
‫الذي نعيش فيه‪ ،‬فأنا وإياها اتفقنا عىل الزواج‪ ،‬وكالنا يعمل يف‬

‫‪420‬‬
‫نفس املؤسسة وال سبب للرفض‪.‬‬
‫‪- -‬طيب؟‬
‫‪- -‬وإن كنتم تنطلقون من عادات البدو‪ ،‬فنحن وإياكم منحدرون‬
‫من قبائل عربية بدوية‪.‬‬
‫‪- -‬طيب؟‬
‫بدو كانت‬
‫‪- -‬والفرق الوحيد بيننا وبينكم أننا بدو متعلمون‪ ،‬وأنتم ٌ‬
‫لكم اهتاممات أخرى‪!..‬‬
‫وقف والد حصة دفع ًة واحدة كأن كهرباء لسعته‪ ،‬فوقف اجلميع‬
‫بوقوفه‪ .‬وتوقف الزمن للحظات‪.‬‬
‫قبيلتي من قبائل العرب قبل‬
‫نْ‬ ‫ُ‬
‫املستطيل ساح َة حرب بني‬ ‫بدا املجلس‬
‫رماح مرشع ٌة وسيوف تربق‪ ،‬ومل‬
‫آالف السنني‪ .‬صفان متقاربان للنِّزال‪ٌ ،‬‬
‫يبق إال أن تنطلق حناجر النساء بالزغاريد احلامسية واألهازيج احلربية‪.‬‬
‫ثم رفع والد حصة يده متوعدا‪:‬‬
‫أي صفاقة وجه هذه؟ كان عليك أن ترتبى أوال قبل الطمع يف‬‫‪ُّ - -‬‬
‫خطبة بنات الناس!‬
‫‪- -‬الرتبية هي أن نعرف أقدار الرجال ومنازل الناس‪.‬‬
‫‪- -‬أنت الذي ال تعرف أقدار الناس!‬
‫استمر الكالم للحظات والقوم وقوف‪ ،‬فقال القروي ‪-‬وهو يتجه‬
‫للخروج من باب املجلس‪ -‬بصوت جهوري واضح‪:‬‬
‫‪- -‬الفرق الوحيد هو أنني بدوي متعلم‪ ،‬وأنك بدوي من نوع آخر‪.‬‬
‫أنا أحيص سبعة من آبائي كلهم عامل‪ ،‬ولعلك حتيص نفس العدد‬

‫‪421‬‬
‫من أجدادك قطاع طرق‪.‬‬
‫مشى أبو حصة وراءهم قائال بصوت مرتفع فيه رعدة‪:‬‬
‫‪- -‬ال مرحبا وال أهال‪.‬‬
‫ثم وقف وأشار ألبنائه بالسكوت‪ ،‬وهم يرقبون اخلُ ّط َ‬
‫اب خيرجون‬
‫إىل مواقف السيارات‪.‬‬
‫ودوى ُّ‬
‫صك الباب مغلقا وراءهم بازدراء‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وارمتى القروي يف املقعد اخللفي للسيارة‪ ،‬ومدّ مفتاحها ألحد‬
‫مرافقيه دون أن يتكلم‪.‬‬
‫ساد صمت‪ ،‬مل يقطعه إال رنني هاتف القروي الذي ال ينقطع‪.‬‬
‫وكانت شاشة هاتفه تلمع‪« :‬مطوعة بريدة تتصل»‪.‬‬
‫وقف أبو حصة وسط املنزل يرصخ كأنه ثور مقيد‪.‬‬
‫سمعته حصة‪ ،‬فقطعت االتصال متواري ًة من الردهة التي سيمر‬
‫منها حتى ال يراها‪.‬‬
‫رمى غطاء رأسه وجلس دفعة واحدة يف جملس داخيل وقال البنه‬
‫الكبري‪:‬‬
‫‪- -‬كيف يتطاول عيل يف بيتي؟ إن مل أخرج ذلك الوغد من هذه‬
‫البالد فأنا لست أباكم!‬
‫وضعت حصة يدها عىل صدرها‪ ،‬وختيلت القروي يقاد إىل خمافر‬
‫جلنَح‪.‬‬
‫الرتحيل بني مئات اهلنود واألفغان من أصحاب ا ُ‬
‫وسارعت إىل غرفتها‪ ،‬وصكّت الباب وراءها‪ ،‬وارمتت فوق الرسير‬
‫الفاخر الذي حتول إىل شوك يف تلك اللحظات‪.‬‬

‫‪422‬‬
‫كيف تفقده هكذا دفعة واحدة؟ وضج ذهنها بأسئلة أبدية‪.‬‬
‫كيف يتحكم والدي يف مستقبيل هلذه الدرجة؟ كيف ال يسمح يل‬
‫بأن أقرر‪ ،‬وأنا العاقلة البالغة الراشدة!‬
‫وختيلت نفسها وهي خترج من مطار الدوحة لتلقاه يف جزر‬
‫خارجي من مسجد وقد عقد قراهنام معمم‬ ‫نْ‬ ‫موريشوس‪ .‬وختيلتهام‬
‫إفريقي يرامها للمرة األوىل واألخرية‪ ....‬حالال عىل سنة اهلل ورسوله‪،‬‬
‫متسائلة كيف ُيع ّقد هؤالء حياتنا هلذه الدرجة‪...‬‬
‫وسمعت طرقا قويا عىل باب حجرهتا‪...‬‬
‫صوت والدها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫فصك أذنهَ ا‬ ‫وقامت كالسكرانة لتفتح‪،‬‬
‫ِ‬
‫حتدثت مع ذلك النذل فلن تر ْيني ولن‬ ‫‪- -‬إن قال يل أي شخص ِ‬
‫إنك‬
‫أراك ما حييت‪ .‬وسوف‪ ....‬وسوف‪....‬ثم ابتلع العبارة التي‬
‫كانت عىل لسانه‪ ،‬وأغلق الباب بعنف ووىل هيدر كأنه مجل هائج‬
‫ُفصل عن قطيعه بني رمال نجد‪.‬‬
‫أظلمت الدنيا يف عينيها‪ ،‬ووقفت حائرة بني أبيها ومعشوقها‪.‬‬
‫والدها الذي ال خترج دموع العطف واألبوة من عينيه إال نادرا‪.‬‬
‫تذكرته وهو حيملها ويالعبها صغرية‪ ،‬يأخذها إىل القارات األربع‪،‬‬
‫يطمئن عىل دراستها وعىل مستقبلها حتى صنع منها من هي اآلن‪.‬‬
‫كيف تؤذيه يف شيبته؟‬
‫عرفها‬
‫وحبيبها الذي عرفت معه معنى التوتر املمتع يف احلياة‪ّ ،‬‬
‫معنى أن يتحول يومها إىل يوم ميلء بتوتر السعادة‪ ،‬وكيف تستيقظ‬
‫هتب من‬
‫وهي تتحفز الستقبال يوم جديد ستقابله فيه‪ .‬وعرفها كيف ّ‬
‫نومها لتنظر هاتفها ّ‬
‫عل به رسالة جديدة‪.‬‬

‫‪423‬‬
‫تعلمت معه تلك املعاين التي جتعل احلياة لذيذة شيقة مفعمة بالتوتر‬
‫واجلديد واملفاجآت‪ ،‬والشد واجلذب‪ ،‬والرضا والغضب اللذين يعطيان‬
‫معنى للحياة‪ ،‬ال ذلك الرضا األبدي الشبيه برضا أهل املقابر‪ ،‬ذلك‬
‫السكون الثقيل الذي خييم عىل املقابر والسجون‪.‬‬
‫لتعرف يف أي االجتاهني يميل‪ ،‬فوجدته حائرا عاجزا‬
‫َ‬ ‫رازت قل َبها‬
‫ْ‬
‫عن امليل يف أي من اجلهتني‪.‬‬
‫هل متسك حقيبتها وهترب ليتزوجا يف مكان بعيد‪ ،‬أم تنساه؟‬
‫وكيف هلا أن تنساه؟‬
‫وقفزت فوق رسيرها صائحة والعجز يكبلها‪:‬‬
‫‪- -‬حسبي اهلل ونعم الوكيل!‬
‫ومر أخوها قرب الباب فسمع الرصخة تدوي‪ .‬وتردد صداها‬
‫ِ‬
‫وحنق والدها الذي يكاد‬ ‫يف جنبات املنزل الفاخر وسط غيظ إخوهتا‪،‬‬
‫خيرج من جلده غضبا‪.‬‬
‫***‬

‫‪424‬‬
‫البصرة‪ 255 ،‬هـ‬

‫يتكو ُم اجلسدُ النحيل ممددا بني آالف الكتب‪ ،‬داخل غرفة معزولة‬
‫يف زاوية من زوايا البرصة‪ .‬تدور عيناه يف سقف الغرفة فال يرى إال‬
‫أكداس الكتب‪ ،‬نظر إىل كتاب مهرتئ اجللد‪ ،‬فربقت عيناه من الشوق‪،‬‬
‫تأمله كأنه صديق قديم‪ .‬فقد اشرتاه من دمشق قبل أربعني عاما‪ ،‬يمد‬
‫يده ليأخذه‪ ،‬لكنها ال تصل إليه‪.‬‬
‫أخذت األيا ُم من قوة جسمه‪ ،‬وأبدلتْه حد ًة وقوة يف العقل‬
‫والشعور كلام تقدم به العمر‪ .‬مد يده مرة أخرى ليأخذ الكتاب فلم‬
‫يستطع‪ .‬فقال بصوت متهدج‪:‬‬
‫‪- -‬نفيييس!‬
‫لكن صوته الضعيف مل يتجاوز غرفته املوحشة املنزوية يف الضيعة‬
‫الواسعة‪.‬‬
‫بعد ميض وقت‪ ،‬نادى بنت أخته بصوت أضعف من األول‪:‬‬
‫‪- -‬يا مريم!‬
‫لكنه مل يسمع إال تناوح الريح قرب نافذته‪.‬‬
‫مرت ساعات‪ ،‬احتاج فيها إىل من يساعده لقضاء حاجته‪ ...‬فبنت‬
‫أخته ذهبت لبعض أوطارها وتأخرت كثريا‪ .‬أما نفيس فقد هرب إىل‬

‫‪425‬‬
‫سباخ البرصة والتحق بثوار الزنج الزاحفني عىل البرصة‪.‬‬
‫ردد ناظريه يف السقف والكتب‪ ..‬رسح خاطره مع عمره الطويل‪،‬‬
‫وهو يغوص يف الروائح النتنة‪.‬‬
‫ثم أفاق عىل بنت أخته واقفة عىل الباب ممسكة أنفها‪:‬‬
‫‪- -‬كيف؟ ملاذا فعلت هذا قبل عوديت؟‬
‫مل ينبس ببنت شفة‪ ،‬وغاص عقله احلاد عىل آالف األسئلة‬
‫واملشاعر‪ ،‬وهو ينظر إليها وجفناه يرتاقصان برسعة‪ ،‬ردد النظر يف بنت‬
‫أخته‪ ،‬ويف السقف‪ ،‬ويف الكتب املبثوثة يف أطراف الغرفة‪.‬‬
‫اقرتبت منه‪ ،‬وفيام كانت تنزع األذى من إزاره رأت دمع ًة شاردة‬
‫رأسه عىل الوسادة حتى ال تراها‪.‬‬
‫من عينه اليرسى‪ ،‬فأمال َ‬
‫شعرت بضيق مؤنب ًة َ‬
‫نفسها عىل تأخرها عنه؛ فقالت له بلهجة‬
‫اعتذارية‪:‬‬
‫‪- -‬البد من أن تغتسل اليوم وتتعطر‪ ،‬فقد يأتيك بعض طالبك‪.‬‬
‫لكنه مل جيبها‪ ،‬كانت املشاعر السائبة املتمنعة عىل اللغة تشعره بعبثية‬
‫احلديث‪.‬‬
‫وقبيل الغروب بقليل‪ ،‬طلب منها أن تضع له وسائد وراء ظهره‪،‬‬
‫موليا وجهه‬
‫فأسندته عىل وسادة ضخمة وهونصف مستقيم‪ ،‬استند ّ‬
‫جهة الباب حيث تبدو الشمس صفراء ذاوي ًة جافل ًة إىل الغروب‪ .‬رفع‬
‫حاجبيه املتهدلني فبدت له الشمس كئيبة متشبثة باألفق رغم غروهبا‬
‫الوشيك‪.‬‬
‫كانت جنبات البرصة تضج باهلرج واملرج بعد ساعات من‬

‫‪426‬‬
‫استباحة الزنج هلا‪ ،‬غري أن رجال يقود حصانا عليه امرأة كان يقرتب‬
‫من هذه الضيعة املنعزلة رغم اهلرج يف أطراف املدينة‪.‬‬
‫اللعاب السائل من فيه‪،‬‬
‫َ‬ ‫صوت يف اخلارج‪ ،‬مسح‬‫ٌ‬ ‫فاجأ اجلاحظ‬
‫ونظر جهة الشمس مرة أخرى فبدا الباقي منها أشبه بحاجب ميت‬
‫جيود بنفسه‪ُ ،‬فتح الباب‪ ،‬فرفع حاجب ْيه متأمال‪ ...‬فرأى خيال امرأة‬
‫يقرتب‪.‬‬
‫تأمل وجه املرأة الشائبة وهي تدخل رأسها يف باب الغرفة املعتمة‪.‬‬
‫يف هذه اللحظة نيس أنه مشلول منذ سنني طويلة‪ ،‬حاول القفز من‬
‫مكانه‪ ،‬لكن شقه األيرس خانه‪ ...‬فلم يتحرك من مكانه‪.‬‬
‫رصخت‪ ...‬ثم ارمتت فوق جسده!‬
‫أسندته إىل صدرها كأنه طفل رضيع‪ ،‬فيام سال عىل صدرها ماء‪...‬‬
‫كان مزجيا من لعابه ومن دموعها‪.‬‬
‫وهو يردد‪:‬‬
‫ِ‬
‫عدت يا علية!‬ ‫‪- -‬علية‪..‬‬
‫***‬

‫‪427‬‬
‫الدوحة‪ 1440 ،‬هـ‬

‫مرت أيام ثالثة مل يأت خالهلا القروي إىل عمله بالقناة‪ ،‬بل نيس‬
‫ومر‬
‫أن يستأذن أو يطلب إجازة‪ ،‬أو لعله تذكر فشعر بعبثية كل ذلك‪ّ .‬‬
‫صديقه مازن عىل شقته بمنطقة السد باحثا عنه فلم جيده‪ .‬ترك له رسالة‬
‫طالبا منه أن يطمئنه عىل سالمته‪ ،‬بعد أن يئس من أن يرد عىل اتصاالته‬
‫أو رسائله‪.‬‬
‫قىض القروي ثالثة أيام ال خيرج من غرفته إال لي ً‬
‫ال ليتمشى عىل‬
‫حافة الكورنيش وحيدا‪ .‬رفيقاه احلزن والغم‪ .‬احلزن عىل ما وقع يف‬
‫املايض‪ ،‬والغم مما قد تأيت به ُحبىل األيام‪.‬‬
‫كان يميش الساعات عىل الكورنيش كأنه عاشق ُع ْذري مد ّله‪.‬‬
‫يميش عىل احلافة أحيانا وسط مجوع املرتيضني‪ ،‬وأحيانا يتجاوز احلاجز‬
‫اإلسمنتي لينزل إىل املاء وجيلس عىل طرفه ساعات كأنه صياد ٍ‬
‫هاو أو‬
‫متسول ُمرشد‪ ،‬وكلام تأخر الوقت ليال وجد سلواه يف هذا املكان‪.‬‬
‫فهو يتمتع بالليل أيام متعة‪ ،‬وكثريا ما فكر يف أن الليل مستودع‬
‫أرسار العشاق والشعراء واللصوص والساسة ورجال االستخبارات‪،‬‬
‫وهو رفيق احلزانى وكاتم آهاهتم‪ ،‬ويف سواده العذب تنهل شفاه من‬
‫شفاه‪ ،‬ويشكو املحبون ملحبوبيهم‪ ،‬وتروي الشفاه العطشى ممن سعت‬

‫‪429‬‬
‫وراءه طويال‪ ،‬ويف تضاعيفه تتمرغ جباه النساك تعبدا‪ ،‬وتسيل دموعهم‬
‫املدرارة بعيدا عن األعني املتطفلة‪ ،‬وحتت ردائه العذب يبتل قلم‬
‫الكاتب بعد يبس‪ ،‬وجيري عىل الورق بعد ِحران‪ ،‬وحتت عباءة الليل‬
‫وحده ُتعبرّ العذارى يف خدورهن عام يعتلج يف صدورهن الفاتنة من‬
‫عشق وشوق ورضام‪.‬‬
‫جلس عىل حافة مياه اخلليج الناعسة يف ليل الدوحة‪ ،‬وغمس يده‬
‫يف املاء ثم مسح هبا وجهه‪ ،‬والسؤال الذي يؤرقه مل َ مل ْ تر ّد حصة عىل‬
‫اتصاالته‪.‬‬
‫قد يكون بسبب تضايقها من رفض والدها لزواجهام‪ ،‬لكنه خيشى‬
‫أن يكون بسبب كالمه القايس مع والدها وإخوهتا‪ ،‬فهل هي غاضبة‬
‫عليه أ ْم له؟ هل هي راضية عنه أم مغاضبة له؟‬
‫هل انقطع التواصل لشدة كلفها به‪ ،‬أم النزعاجها منه؟‬
‫نفض يده من املاء‪ ،‬وعاد إىل حافة الكورنيش ليتمشى‪ ،‬فرتاءى له‬
‫من بعيد املتحف اإلسالمي متلففا يف الظالم كأنه حسناء منقبة تطفو‬
‫عىل املاء‪.‬‬
‫كان رغم تعاسته وحزنه جيد لذة دفينة يف حالته تلك دون أن يكون‬
‫واعيا بذلك‪.‬‬
‫فحالة القلق والتحول التي يعيشها جيد فيها ذاته‪ ،‬وجيد فيها مالمح‬
‫يرسه كلحظات التأرجح بني عاملني‪.‬‬ ‫حمبوبته‪ .‬فال يشء ّ‬
‫فالتأرجح هو أمجل ما يف عامله‪ ،‬فال الوصول إىل ِذروة املبتغى لذيذا‪،‬‬
‫وال اليأس منه كذلك‪ .‬بل تلك اللحظة املتأرجحة املشكوك يف انتامئها‬
‫ألحد الطرفني‪ ،‬فأمجل املدن ما وقع بني اليابسة واملاء‪ ،‬وأطيب اهلواء ما‬

‫‪430‬‬
‫وتشاغبت فيها‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫األعراق‬ ‫وقع بني القارات‪ ،‬وأمجل النساء من تناوشتها‬
‫األمزجة واأللوان املختلفة‪ ،‬فوقفت حائرة بني السواد والبياض‪ ،‬وبني‬
‫جعودة الشعر وانبساطه‪ ،‬وأمجل األشخاص حمادثة من تنازعته اللغات‬
‫والثقافات املتباينة‪.‬‬
‫وما سبب انجذابه حلصة إال ذلك التحول األبدي والتأرجح‬
‫األزيل يف مزاجها وتدينها وعملها وانتامءاهتا‪.‬‬
‫كانت هذه األفكار تلعب بذهنه وهو يكاد يقرتب من فندق‬
‫الشرياتون القابع عىل طرف كورنيش الدوحة‪ ،‬التفت يسارا إىل القهوة‬
‫التي جلس فيها ذات يوم مع حمبوبته‪.‬‬
‫فانتزع هاتفه واتصل عليها حماوال من جديد‪.‬‬
‫ّ‬
‫رن اهلاتف طويال ثم انقطع االتصال‪ ،‬فر ّد اهلاتف جليبه وهو يتمتم‪:‬‬
‫‪- -‬إن املرأة ظاهرة متحولة‪.‬‬
‫عقلت‬
‫َ‬ ‫فهي يف حتوهلا كالشمس تفاجئك دائام بغروهبا‪ ،‬مع أنك منذ‬
‫تشاهدها ترشق وتغرب لكنها ال تفقد خاصية املفاجأة‪.‬‬
‫وكذلك املرأة‪ ،‬تصحبها وقتا طويال حتى تظن وامها أنك عرفتها‪،‬‬
‫فتفاجئك كل يوم بطبع جديد وأخالق جديدة‪ ،‬ومراوغات جديدة‪،‬‬
‫وصبيانية وتفاهات جديدة‪ .‬فلحظة التحول وعدم االستقرار التي‬
‫تطبعها جتعلها فاتنة وساحرة‪ ،‬فمن ذا الذي حيب امرأة مستقرة املزاج‪،‬‬
‫ذاك أتعس ما يف املرأة‪ .‬أمجل النساء هي تلك التي يشبه مزاجها جو‬
‫بعض املدن الساحلية‪ .‬حيث متر بك الفصول األربعة وأنت جالس‬
‫حتتيس قهوتك‪ ،‬ما أسمج الرتابة‪ .‬وصل هناية الدرب املخصص للمشاة‬

‫‪431‬‬
‫عىل الكورنيش‪ ،‬فاستدار راجعا وهو يتذكر حمبوبته‪ ،‬متذوقا مجاهلا لغويا‬
‫وهو يتمتم‪:‬‬
‫‪- -‬كانت عاصفة من اجلامل‪ ،‬وأنشودة قلق ًة للحياة‪.‬‬
‫***‬
‫يتضح من جلسة القروي بمكتبه يف غرفة األخبار أنه مل ينم جيدا‬
‫البارحة وال التي قبلها‪ .‬يمد يديه متثائبا‪ ،‬ثم يرجعهام وراءه متثاقال‪ ،‬مر‬
‫رئيس التحرير بقامته القصرية وبطنه املدور راكضا من وراء ظهره كأنه‬
‫يلهث‪ ،‬ثم صفق بيده ملذيعة خرجت ًّتوا من موجز األخبار قائال‪:‬‬
‫‪- -‬يا سالم عليك‪ ،‬إيه اجلامل ده؟ أحببت تقديمك للموجز باللهجة‪،‬‬
‫هذا ما نريده من اآلن فصاعدا‪ .‬لقد ابتعدنا كثريا عام يريده‬
‫الشباب‪ ،‬وسكنا يف برج عاجي فصيح دهرا طويال‪ .‬حان وقت‬
‫اخلروج منه‪.‬‬
‫ثم رفع رئيس التحرير هامته الصلعاء الضخمة يف وجه املذيعة‬
‫وأردف‪:‬‬
‫‪- -‬ولقد ِ‬
‫نزلت من ذلك الربج باحرتاف أعجبني‪.‬‬
‫وأمطرت املذيعة مسؤوهلا بعبارات الشكر‪.‬‬
‫وجاء صوت صحفي من قسم االقتصاد يقول‪:‬‬
‫‪- -‬واهلل يا أستاذنا‪ ،‬لقد أصبحت القناة خفيفة‪ ،‬وما عندي شك أن‬
‫مشاهدهتا تضاعفت‪.‬‬
‫والتفت عرشات العاملني جهة الصحفي املعروف بتملقه ملسؤوليه‪.‬‬
‫واجتاحت القروي موج ُة غضب مل يستطع السيطرة عليها‪ ،‬فالتفت جهة‬

‫‪432‬‬
‫الصحفي قائال‪:‬‬
‫‪- -‬كان بعض العوام يستصعبون شعر أيب متام‪ ،‬فسأله أحدهم يوما‪:‬‬
‫مل َ ال تقول ما ُيفهم؟ فأجابه‪ :‬ومل َ ال تفهمون ما ُيقال؟!‬
‫وضجت ضحكات خمتلفة من زوايا الغرفة‪ ،‬فتشجع القروي وهو‬
‫يشعر بأنه يف مهمة تارخيية‪:‬‬
‫‪- -‬فهل املطلوب منا أن ننزل لدرك الضعفاء‪ ،‬أم املطلوب أن نرتفع‬
‫بأذواقهم إىل مقامنا؟ إذا كان عندك تالميذ نجباء يف مدرستك‬
‫وفيها بلداء‪ ،‬فهل املطلوب أن تقمع األذكياء وتنزل هبم لدرك‬
‫األغبياء؟‬
‫وتبادل القروي ورئيس التحرير نظرات مرتعة باالحتقار املتبادل‪.‬‬
‫ورفع رئيس التحرير يده وحك صلعته وهو يتذكر بغبطة حديثه‬
‫البارحة مع مدير القناة‪ ،‬حول اتصال رجل يشكو من حترش القروي‬
‫ببنته‪ ،‬وكيف قرر هو استغالل املوقف للتخلص من عبئه‪.‬‬
‫عاد رئيس التحرير راكضا إىل مكتبه كأنه بالون يتدحرج‪.‬‬
‫فبدت له كئيبة باردة‬
‫ْ‬ ‫ردد القروي برصه يف جنبات غرفة األخبار‪،‬‬
‫كأهنا مرشحة موتى‪ .‬وضجت أذناه باللهجات واللحن‪ ،‬والتفت باحثا‬
‫ببرصه عن مازن‪ ،‬فرآه منهمكا يف احلديث هاتفيا مع أحد ضيوفه‪.‬‬
‫وردد نظراته مرة أخرى يف أطراف غرفة األخبار فشعر بالضياع‬
‫صوت صحفي‬
‫ُ‬ ‫وعدم انتامئه للمكان‪ .‬فوقف ماشيا‪ ،‬واخرتق أذن ْيه‬
‫سوداين يغني بأبيات من الشعر الشعبي يف املديح النبوي‪.‬‬
‫وسمع شجارا بني منتج وصحفي يف غرفة املونتاج‪ ،‬خمتلطا‬

‫‪433‬‬
‫بتوسالت منتج نرشات لضيف كي يقبل احلديث عىل النرشة القادمة‪.‬‬
‫مشى بقدمني متثاقلتني وقلب كسالن‪ ،‬وصعد الدرج الذي أسلمه‬
‫إىل الكافيرتيا‪.‬‬
‫مل يطلب أي يشء‪ ،‬فال شهية عنده ألي يشء‪ .‬رمى جسمه عىل‬
‫الكريس‪ ،‬وجلس قبالة النافذة متأمال السيارات الغادية والرائحة يف‬
‫ٍ‬
‫مسجد خاشع ًة هادئة‬ ‫الشارع املؤدي للكورنيش‪ .‬ثم تراءت له منارة‬
‫حميلة لعامل بعيد‪.‬‬
‫وأعاد برصه إىل الكافيرتيا‪ ،‬ورمى نظره عىل املقعد الذي رأى عليه‬
‫حصة آخر مرة‪ .‬وانتابته موجة ال يعرف أهي موجة صبابة أم موجة‬
‫غضب‪.‬‬
‫وضع ذراعيه عىل الطاولة ورمى بوجهه بينهام‪ ،‬فسمع صوت أحد‬
‫املذيعني يقول‪:‬‬
‫‪- -‬مالك يا حممد‪ ،‬أمل تنم البارحة؟‬
‫‪- -‬أنا تعبان جدا‪.‬‬
‫ثم رأى مازن قادما يميش برسعة‪.‬‬
‫وسحب كرسيا بجانبه وجلس‪ ،‬دون أن يمر لطلب قهوته املفضلة‪.‬‬
‫ثم مال عىل القروي وقال‪:‬‬
‫‪- -‬هل ما سمعته صحيح؟‬
‫‪- -‬وما ذا سمعت؟‬
‫‪- -‬إذا مل يكن عندك خرب فيعني أن األمر غري صحيح!‬
‫‪- -‬ال‪ ،‬قل يل‪ ،‬ماذا سمعت؟‬

‫‪434‬‬
‫وتأمل مازن وجه صاحبه‪ ،‬فالحظ انطفاء اللمعان الذي كان يف‬
‫عينيه‪ُ ،‬‬
‫وخيل إليه أنه مل ينم منذ مدة‪ .‬ثم أردف متلعثام‪:‬‬
‫‪- -‬سمعت أن رئيس التحرير ومدير الربامج حصال عىل موافقة‬
‫إلقالتك من عملك‪.‬‬
‫‪- -‬حق اهلل؟!‬
‫لكنه مل يمدها هذه املرة كام يفعل عادة‪ ،‬بل نطقها كأنه ال يبايل‪.‬‬
‫فلم يشعر القروي بأي مفاجأة أو انزعاج مما سمعه‪ ،‬فقد بدأ يشعر‬
‫وصدم مازن من ردة الفعل‬ ‫منذ فرتة بالرغبة اجلاحمة يف مغادرة املكان‪ُ ،‬‬
‫الباردة لصديقه‪.‬‬
‫فبادره بلهجة متطلعة‪:‬‬
‫‪- -‬شو؟ هل وجدت وظيفة بديلة؟‬
‫كان القروي عميق اإليامن بأن األرزاق بيد اهلل‪ ،‬فنظر إىل الفلبينية‬
‫املنشغلة بإعداد القهوة وقال عبارته األثرية‪:‬‬
‫‪- -‬إذا غال يش ٌء أرخصتُه بالرتك‪ .‬ال أريد هذه الوظيفة وال وظيفة‬
‫بديلة عنها‪.‬‬
‫***‬
‫مر عليه شهر كامل وهو يعيش مرشدا عىل ضفاف الكورنيش‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كان ينام يف سيارته ليال‪ ،‬ويقيض معظم هناره يف دار الكتب القطرية‬
‫بمنطقة أم غويلينة‪ ،‬جيلس هناك للبحث والكتابة‪ ،‬مصمام عىل إكامل‬
‫روايته عن اجلاحظ‪.‬‬
‫يئس كل معارفه من إقناعه بالسكن يف بيوهتم حتى يتيرس له قضاء‬

‫‪435‬‬
‫القرض الذي يطالبه به البنك‪ ،‬فبعد إقالته من وظيفته أرسل البنك‬
‫اسمه للمحكمة فوضعته عىل قائمة املمنوعني من السفر‪.‬‬
‫َ‬
‫قبل أيام جاءه أحد وجوه اجلالية املوريتانية يف الدوحة مصمام عىل‬
‫أال يرتكه حتى يذهب معه إىل بيته‪ ،‬لكنه بعد حماوالت لساعات فشل‬
‫يف إقناعه‪.‬‬
‫وبعد ذهاب الرجل عنه‪ ،‬خرج من سيارته ومشى عىل طرف‬
‫الكورنيش مرددا قول الشنفرى ٍ‬
‫بزهو شديد‪:‬‬
‫ت�رب األرض ك ْيلا يرى له‬
‫َ‬ ‫وأس�تف‬
‫ُّ‬
‫ام�رؤ متط�ول!‬
‫ٌ‬ ‫عليَّ م�ن الط�ول‬
‫اتفق مع أحد العامل اهلنود عىل مائة ريال يف الشهر مقابل السامح له‬
‫باالستحامم عنده كل يومني‪ ،‬فكان خيرج إليه‪ ،‬ثم ما يلبث أن يعود إىل‬
‫مكانه عىل الكورنيش‪ .‬وأصبح كل من يرتيض عىل ضفاف الكورنيش‬
‫معتادا عىل رؤيته جالسا القرفصاء وسط سيارته أو حتت نخلة يقرأ‬
‫ويكتب‪.‬‬
‫اختفت معامل التأنق التي ُعرف هبا‪ ،‬وتكاثف شعر رأسه وحليته‪.‬‬
‫أصبح شبيها بيساريي سبعينيات القرن العرشين‪ ،‬لكنه مع ذلك مل يكن‬
‫حزينا‪ ،‬بل كانت السعادة أغلب عىل مزاجه من التعاسة‪ .‬فقد شعر بأن‬
‫عليه أن يثبت أنه مل خيرس‪ ،‬بل أولئك الذين أقالوه هم اخلارسون‪ ،‬ال‬
‫يضايقه إال أمر واحد؛ هو أن أمه اتصلت به لتخربه بأهنا ستبيع عرشين‬
‫ناق ًة من اإلبل التي ورثتها عن والدها لتسدد عنه الدين‪ .‬كلام تذكر ذلك‬
‫األمر‪ ،‬شعر بضيق خانق وحزن كاسح‪ ،‬غري أنه ضيق يدفعه إىل إكامل‬
‫روايته عن اجلاحظ‪ ،‬ال ضيق يدعو إىل الكسل واخلمول‪.‬‬

‫‪436‬‬
‫ٍ‬
‫مرات حتى أقنعها زور ًا بأنه يطالب أحد أصدقائه بدين‬ ‫ناقش أمه‬
‫سريده له قريبا‪ ،‬وأن ذلك الدين كفيل بإخراجه من ورطته‪.‬‬
‫***‬
‫يف أحد صباحات السبت‪ ،‬كانت سيارة مرسيدس فارهة تسري‬
‫رصخت داخلها فتاة‪ ،‬فتوقفت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫هبدوء عىل طرف الكورنيش‪ ،‬إىل أن‬
‫أطلت الفتاة من النافذة لتتأكد من لوحة السيارة التي كان القروي‬
‫جيلس داخلها‪.‬‬
‫تأملته‪ ...‬تأملت شعره الثائر‪ ،‬ومالبسه املتسخة‪ .‬وتذكرت صور‬
‫املرشدين الذين كانت ترثي حلاهلم يف مرتو األنفاق خالل إجازاهتا‬
‫الصيفية بباريس‪ ،‬واهنمرت الدموع من عينيها مدرارا‪ ،‬وهي تضع يدهيا‬
‫عىل زجاج نافذة السيارة التي يقودها والدها‪.‬‬
‫والتفت إليها والدُ ها متأمال إياها دون أن تنبس‪ ،‬ثم أعادت النظر‬
‫َ‬
‫إىل الشاب وأعادت عينيها إىل والدها‪ ،‬فاهنمرت دموعهام معا‪ .‬مل يشك‬
‫والدها للحظة أن الرجل أصيب باجلنون بسبب رفضه الزواج من ابنته‪.‬‬
‫وشعر بجبال الدنيا تستقر عىل كتفيه‪ ،‬شعر بالرغبة يف االنتحار‪،‬‬
‫فكيف يجُ ّرع خملوقا كل هذه املرارات‪ .‬واستيقظت داخل نفسه شيم‬
‫نخوة طمرتهْ ا العصبيات طويال‪ .‬أوقف سيارته عىل طرف الشارع‬
‫الصاخب‪ ،‬وفكر يف النزول‪ ،‬تردد‪ ،‬ثم نزع نظارتيه ومسح دموعا انثالت‬
‫من عينيه يف صمت‪.‬‬
‫بقيا صامتني‪ ...‬يراوحان بني النظر إىل القروي املندمج يف قراءة‬
‫كتاب داخل سيارته‪ ،‬وتبا ُد ِل نظرات ثقيلة مليئة باألسئلة واحلرية‬
‫والتأنيب‪ ...‬والتالوم‪.‬‬

‫‪437‬‬
‫وضغط والدُ حصة عىل دواسة الوقود بقوة‪ ،‬فانطلقت السيارة‬
‫برسعة‪ ،‬بينام كانت حصة ُملتفت ًة تنظر من الزجاج اخللفي للسيارة‬
‫آللئ عىل خدهيا‪ .‬قاد سيارته برسعة حماوال‬
‫الفاخرة‪ ،‬ودمو ُعها تتحدر َ‬
‫التحر َر من رصاع يضطرم نارا بني جوانحه‪ .‬ضغط دواس َة الوقود‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫لتستيقظ‬ ‫ُ‬
‫تتململ‬ ‫وعض عىل شفتيه كأنه حياول اإلفالت من شي ٍم وقي ٍم‬ ‫ّ‬
‫بني ضلوعه رغ ًام عنه‪.‬‬
‫مل يالحظ القروي أي يشء مما دار‪.‬‬
‫وبعد يومني‪ّ ،‬‬
‫رن هاتفه برقم سويرسي غريب‪:‬‬
‫‪- -‬السيد حممد القروي؟‬
‫‪- -‬نعم‪ ..‬تفضل‪..‬‬
‫‪- -‬أنا عمران إسحاق من رشكة غوغل بزيورخ‪.‬‬
‫‪- -‬نعم‬
‫‪- -‬هل الوقت مناسب للحيث؟‬
‫‪- -‬جدا‪ ،‬بكل رسور‪.‬‬
‫وانطلق املتصل شارحا كيف قررت غوغل عرض وظيفة عليه‬
‫للخدمات اجلليلة التي أسداها هلا عن طريق تصحيحه للرتمجات‪.‬‬
‫وكيف أن املختصني يف الرشكة انتهوا إىل أنه عقل لغوي البد من تعيينه‬
‫مستشارا‪.‬‬
‫وكان آخر ما سمعه القروي‪:‬‬
‫‪- -‬ال إشكال‪ ...‬يمكننا منحكم قرضا‪ ،‬رتب أمرك لتأيت إىل زيورخ‪.‬‬
‫ووقف القروي عىل حافة الكورنيش متأمال الزوارق الصغرية‬

‫‪438‬‬
‫ودموع السعادة تنبجس من مآقيه‪ ...‬خمتلط ًة برذاذ‬
‫ُ‬ ‫الطافية عىل صفحته‪،‬‬
‫متصاعد من حافة مياه اخلليج‪.‬‬
‫ضاجا بصور متناقضة‪ .‬استعاد صورة أمه وهي‬
‫ًّ‬ ‫سافر خياله بعيدا‪،‬‬
‫تبيع نوقا تالدا مما ورثتْه من والدها‪ ،‬مع صور موظفي غوغل بمقر‬
‫الرشكة بزيورخ‪.‬‬
‫ثم رسح ذهنه إىل بالد يستطيع السري فيها متى شاء وأنى شاء‬
‫وكيف شاء‪ ...‬صحراء‪ ،‬ال سلطان ألحد عليه فيها‪.‬‬

‫* * * انتهى * * *‬

‫‪439‬‬

You might also like