Professional Documents
Culture Documents
الحدقي بيروت
الحدقي بيروت
ر.د.م.ك978-9938-992-77-9 :
الطبعة األوىل2018 :
7
مراسلي يف
نْ يتحدث شاب قطري من قسم التبادل اإلخباري هاتفيا مع
وقت واحد؛ أحدمها من نريويب واآلخر من واشنطن ،حاث ًا إيامها عىل
تقريريام خالل أقل من ساعة ،أي قبل نرشة الظهرية:
هْ وصول
- -ال ،ال! فيه وقت وايدْ قبل النرشة!
كان ذلك التنوع واحلركية أول ما شد انتباه حممد القروي حلظة
دخوله غرفة األخبار.
وقف يف طرف الغرفة بقامته املربوعة وشعره الناعم ،وأنفه احلائر
بني أن يكون أفطس أو أقنى .نظر إىل مرآة مثبتة يف طرف اجلدار متأمال
ٍ
دويلة جبهته الغماّ ء؛ فالشعر يكاد يغزو كل أطرافها املضغوطة كخريطة
ٍ
واقعة بني إمرباطوريتني متنافستني. ضعيفة
ز ّم شفتيه الغليظتني ،مفكرا يف أهنام اإلرث الوحيد الذي تركته جدة
والده الزنجية يف عائلته .فلوال أن كل أفراد عائلته يتميزون بشفاههم
أي منهم أن جدهتم زنجية؛ إذ كان القروي
اإلفريقية الغليظة ملا دار بخلد ّ
شديد البياض ،سبط الشعر.
جال قليال يف الغرفة ،لكن أحدا مل يلحظ وجودهَ ،ب ْل َه أن يتلقاه
بالتحاب .التفت يمينا فرأى إحدى املذيعات جالسة كتمثال ،وأمامها
رَّ
رجل يرتدي ثوبا ناصع البياض ،ويقول بصوت مرتفع موجها نظره
إليها كأنه يتو ّعد:
أيت ،سفن ،سيكس ،فايف ،فور ،ثري ،توْ ،
ونْ ..ك ُيو! - -ناي ْنْ ،
نكزه قل ُبه انزعاجا من املنظر؛ مستغربا مل َ مل ْ ينطق الرجل األرقام
بالعربية.
8
التفت يسارا فرأى فتاة فاغر ًة فاها ،ناظر ًة إىل حاسوهبا .اقرتب
منها مس ّل ًام بصوت خافت.
لكن سالمه ما زادها إال اهنامكا فيام بني يدهيا .سلم من جديد بنربة
نصف التفاتة:
َ احتجاج ،فالتفتت
- -أهلني!
ِ
سمحت ،أين مكتب رئيس التحرير؟ - -لو
قفزت بخفة ،لتقوده إىل مكتب ّ
مطل عىل غرفة األخبار ال يبعد
أكثر من عرشة أمتار .فلو كان رفع برصه قبل سؤاهلا لرآه.
شكر الفتاة التي مل تنتظر شكره وهي تويل مرسعة ،فيام كان يؤنب
نفسه عىل سؤاهلا.
دخل عىل رئيس التحرير ،فشعر أن درجة التكييف يف مكتبه أكثر
حدة منها يف غرفة األخبار.
- -السالم عليكم.
- -أهال.
بدا رئيس التحرير قصري القامة جدا .حتى إنه ّملا وقف من وراء
مكتبه ليحييه مل يالحظ كبري فرق بني قامته مندس ًا يف مقعده ،وقامته
واقفا ما ًّدا يده للمصافحة.
دخل رئيس التحرير يف احلديث حاال.
- -كيفك يا أستاذ؟
وتابع دون انتظار جواب:
- -ستبدأ عملك .لكن بدل أن تبدأ يف العمل مبارشة ،البد أن متر
9
باألقسام الرئيسية أياما حتى تعرف طبيعة سري العمل.
كان رئيس التحرير يتحدث واقفا –أو شب َه واقف -والقروي
رئيس التحرير قائال:
جالس .فقاطع َ
- -كيف؟
- -يعني ،ستعمل ثالثة أيام مع قسم الصحفيني حتى ترى طبيعة
التكليف من منتج النرشة،
َ تنسيقهم مع املنتجني ،وكيف يتلقون
وكيف يكتبون األخبار والتقارير .ثم تنتقل لقسم املقابالت،
فرتى كيف يتواصلون مع الضيوف واملراسلني لريتبوا ظهورهم
عىل الشاشة .وأخريا ،تنتقل إىل قسم التبادل اإلخباري لرتى
كيف حيجزون األقامر الصناعية للمراسلني والضيوف.
- -لكنني سأعمل مدققا لغويا ،وما دخل سيبويه يف األقامر الصناعية؟
ابتسم رئيس التحرير ابتسامة ساخرة ،مستثقال مزاح القروي.
فبدا وجهه طفوليا بعد ظهور أسنانه الصغرية الشبيهة بأسنان األطفال،
رغم كثافة الشعر املحيط بشفتيه .ثم قال:
- -أعرف ذلك ،لكنك بحاجة لفهم دورة العمل.
قاهلا رئيس التحرير بنربة موحية بأن احلديث انتهى .وضع نظارتيه
عىل مكتبه ثم استدار خارجا وهو يقول:
- -تفضل معي.
دخال املكتب املوايل ،فإذا بسيدة أربعينية جالسة .بادرها رئيس
التحرير:
- -ضعيه عىل وردية التعرف عىل العمل ،ثالثا ،ثالثا ،ثالثا.
10
ثم ابتسم ابتسامة جافة كأن صاحبها يفكر يف أمر بعيد مما هو فيه،
وقال:
- -بالتوفيق يا أستاذ حممد.
وقف القروي أمام السيدة األربعينية ،فال هي دعته للجلوس عىل
الكريس الوحيد ،وال هو عرف هل عليه اجللوس أم ال .ظلت تنظر
إىل حاسوهبا كأهنا أضاعت فيه أمرا ،أو كأهنا تتعرف عىل ما فيه للمرة
األوىل.
صوبت إليه نظراهتا من فوق عدسات نظارتيها -اللتني ثم ّ
تدحرجتا جِتاه أرنبة أنفها -وقالت بلهجة لبنانية:
- -إ ْم َت بدَّ ك تبدأ يا محْ مد؟
- -يمكنني البدء غدا.
التفتت وقالت لرئيس التحرير هامسة:
َ - -ه ْيدا هو؟
ارتبك مفاجأ ًة من سؤاهلا حني الحظ سامع القروي للنجوى:
- -نعم ،الشاب الذي حتدثنا عن علمه وثقافته ...و..
لكن القروي فهم من سحابة التوتر التي ظللت وجه رئيس
التحرير أن احلديث كانت له مرا ٍم أخرى .ازداد توتر رئيس التحرير
أصلع بدي ٌن من أمام املكتب .ثم وقف قليال مرتددا يف
ُ مر ٌ
رجل عندما ّ
الدخول ،وواصل امليش ومل يدخل .وتبادل رئيس التحرير والسكرترية
نظرات زائغة.
رفعت السكرترية جفنيها قائلة:
11
- -طيب .عليك احلضور من الثامنة وحتى اخلامسة.
- -شكرا.
خرج من مكتبها املطل عىل غرفة األخبار .التفت يمينا فرأى متثال
املذيعة قد نُفخت فيه الروح ،إذ كانت هذه املرة تظهر عىل الشاشة
املعلقة يف طرف غرفة األخبار ،وهي تتحدث عىل اهلواء بروح وحيوية
بعيدين عن الصورة التمثالية اجلامدة التي رآها عليها أول مرة.
ضحك يف نفسه قائال:
- -كيف حييي اهلل املوتى!
التفت إىل االستديو الصغري الذي تذيع منه باحثا عن مدير
االستديو ،صاحب األرقام اإلنكليزية .رآه جالس ًا عىل كريس غري بعيد
نظر معل ٍم إىل متليذ
من املذيعة ،وعىل أذن ْيه سامعات .نظر إليه بحنق َ
متمرد ،وقال يف نفسه:
انتزاع تلك األرقام
َ - -ينبغي أن يكون أول تدقيق لغوي هنا هو
فكي ذلك العريب ،كيف حيدث هذا يف قناة
اإلنكليزية من بني ْ
عربية!
شق غرفة األخبار ليجد نفسه يف املمرات املتعرجة القائدة إىل
خمرج القناة .كان ذهنه ضاجا بأسئلة عن أسباب اختيار مدير االستديو
نطق األرقام باإلنكليزية ما دام املخا َطب عربيا والقناة كذلك .هل جيد
املخرج لذ ًة عندما ينطق األرقام بلغة أجنبية ال جيدها عندما ينطقها بلغة
أجداده؟!
كان يميش مرسعا يف املمرات ،ومل ينتبه إال وهو مصطدم بسيدة
12
بدينة حتمل كيسا فيه وجبة من وجبات مكدونالدز .تناثرت قطع
البطاطا املقلية ،وانسكب الكوكاكوال عىل عباءهتا السوداء.
- -أوه ،آسف ،آسف
- -أنت ما تشوف؟ ما عندك عينني؟
تعود
مشكلته أنه يميش دائام برسعة كأنه يف سباق .فهو من جمتمع ّ
يلتف يمينا متى
فياف منبسطة ال ازدحا َم هبا ،يميش كيفام شاء؛ ُّامليش يف ٍ
شاء ،ويسارا أنّى أراد ،حانيا رأسه لألسفل أو رافعا إياه.
مل يعرف كيف يترصف .فالسيدة البدينة تبدو مثل لبؤة جائعة
اختُطف وحيدُ ها.
انحنى ليلتقط البطاطا املتناثرة ،فنهرته:
- -ال ،دعها! هل تظنني سآكلها؟ هذه زبالة!
قال وهو يناوهلا قطعا من البطاطا مبتسام:
- -كانت زبالة عندما اشرتيتِها .إن بني أمريكان الذين صنعوها
نك ُفو ْد»!
«ج ْ
يسموهنا باإلنكليزية َ
ْ
أمريكان» حدجته بنظرات غاضبة ،واحتقرت حذلقته وقوله« :بني
جيودها جتويدا .كام كرهت أكثر نطقه لكلمة «جنك فو ْد» بإنكليزية
كأنه ّ
وجهها الدائري الصغري
فصيحة كأنه أحد أبناء ويلز .بادهلا النظر فرأى َ
املنغرس يف جسمها الضخم كأنه مغموس يف العرق ،وعين ْيها الضيقتني
تكادان تنبجسان دموعا .كانت شفتها السفىل ترتعد رعدة خفيفة
عرق كانت متجمعة عىل حافتها. ِ
حبيبات ٍ أسالت
ْ
استدارت وهي تقول هامسة:
13
- -واهلل جمنون!
ظل واقفا ثواين ،وبيده اليمنى قبضة من البطاطا املقلية .ثم ظهر
له رئيس التحرير يف هناية املمر الضيق ،فرمى البطاطا بشكل هستريي
حتى ال يراه.
ثم فكر كيف سينظر إليه رئيس التحرير بعد اليوم ،وكيف أنه
لن يفرس وقوفه وسط املمر ويف يده البطاطا إال بأنه يأكل واقفا يف
املمرات!
حترك من مكانه متجها إىل خمرج القناة وذهنه ضاج بأسئلة منطقية
وأخرى سخيفة.
ما إن خرج من الباب حتى لسعته حرارة الشمس وكثافة الرطوبة
مذكر ًة إياه بأن الفصل فصل صيف حارق ،رغم الربودة العالية داخل
مبنى القناة.
فكر يف أن احلياة كلها يف هذه املدينة التي يعيش فيها حياة مصطنعة؛
فكيف تكون غرفة األخبار بتلك الربودة يف جو كهذا؟!
ثم قاده تفكريه إىل الصورة غري احلقيقية التي قد ينظر هبا إليه رئيس
التحرير كآكل بطاطا يف ممرات واحدة من أهم قنوات العامل العريب،
وكيف أن السيدة صاحبة البطاطا أيضا أقنعتها احلياة االستهالكية بأكل
تلك الفضالت باعتبارها طعاما نافعا.
خرج يميش برسعة ،متأمال يف أن احلياة املصطنعة يف هذه املدينة ما
هي إال صورة للحياة كلها.
وصل إىل موقف السيارات ،وألقى نظرة عىل مواقف «سوق
14
واقف» املجاور ،وذهنُه مشغول بالتفكري يف طبيعة ذلك التهامس بني
رئيس التحرير والسيدة األربعينية.
***
مرت أشهر كأهنا أعوام ،واندمج القروي يف عمله اندماجا من نوع
خاص.
كان ذات يوم جيلس عىل مكتبه الواقع يف الطرف الشاميل من غرفة
األخبار ،واضعا كفه اليرسى حتت ذقنه ،بينام ترتاقص أصابعه عىل
حافة شفته العليا وهو يقرأ بتضايق خرب ًا كتبه أحد الصحفيني اجلالسني
عن يساره.
ِ
والنظر إىل الصحفي كاتب كان يراوح بني قراءة النص بانزعاج
رب حيسب
اخلرب بحنق .ومما يزيد يف حنقه أن هذا الصحفي بالذات متك ٌ
نفسه صحفيا عظيام.
َ
كانت صيغة اخلرب كالتايل:
«علم مراسل العروبة يف غزة أن جنودا إرسائيليني يتواجدون
اآلن قرب منطقة الشجاعية داخل املدينة ...وكان الناطق باسم كتائب
القسام قد قال إن اهلجوم اإلرسائييل األخري عىل غزة سيكون األخري».
مل يستطع القروي الصرب ،فقفز من فوق مقعده كأن نارا مستْه:
- -باهلل عليكم! أي صياغة هذه؟ ارمحونا!
التفت كل من يف الغرفة صوب الصوت .فاألجواء كانت هادئة
متاما ،غري أن الضجيج الذي كان يف رأس القروي فصله عن جوها
اهلادئ ،فلم ينتبه الرتفاع نربته.
15
حدجتْه كل العيون من أطراف الغرفة استغرابا .فشعر باخلجل
ثواين ،لكن َس ْورة الغضب رسعان ما عاودته؛ فقال بنربة أكثر هدوءا:
- -ومنذ متى كان اجلنود اإلرسائيليون «يتواجدون؟» إن التواجد
الو ْجد ،والتواجد حال من أحوال املتصوفة ،ال تفاعل من َ
ف من ترصفات جنود االحتالل .ثم ما الذي يعنيه هذا ترص ٌ
ّ
رب –أو ع ّبده -بقوله« :اهلجوم
الصحفي العظيم الذي حرر اخل َ
اإلرسائييل األخري عىل غزة سيكون األخري!» فهل اجتمع صاحبنا
بقائد جنود االحتالل ليقول له إن اهلجوم سيكون األخري إىل أبد
اآلبدين؟ أما يف لغة العرب عبارة مثل اهلجوم األحدث مثال؟
كانت كلامت القروي تصل إىل سمع الصحفي الذي حرر اخلرب.
كان الصحفي يعرف أن زمالءه دخلوا عىل برنامج نظام النرش ،وعرفوا
أنه هو من كتب اخلرب بالتعرف عىل اسم املستخدم اخلاص به.
مل يتحدث الصحفي ،وظل يداري غضبه خوفا من نقاش مع
تعود كل من يف الغرفة عىل أن
القروي يعلم مسبقا أنه سيخرسه .فقد ّ
أي نقاش لغوي معه آيل مناقشه فيه للخرسان .فالرجل يكاد حيفظ
معظم دواوين العرب وقواميسها وقوانني لغتها.
أشاح أحد معدّ ي النرشات بنظراته عن شاشة حاسوبه حماوال
تلطيف اجلو:
- -أما أنا فلم أسمع قط أن التواجد مصطلح صويف ،وما دخل
التواجد يف الزهد؟
التفت إليه القروي ،شارحا جذر كلمة «وجد» واختالفات
معانيها .ويف هناية حديثه قال:
16
- -قال الشامخ بن رضار:
العين َعْب�رْ ًة
ُ فلما رشاه�ا فاض�ت
حز ٌاز من الوجد ِ
حام ُز ويف الصدر ّ
ْ
أنشد القروي البيت األخري بلغة فصيحة وصوت مو ّقع ،كأنه
ُينهي به حديثه يف املوضوع .فتضايق صحفي من قسم االقتصاد
ضعيف اللغة ،كثريا ما ُيتعبه القروي كلام جاء ليصحح له تقريرا ،فقال
بلهجة ساخرة:
«- -حامز» إيه يا أخي ..إيه ده!؟ دي لغة عربية؟
خرج رئيس التحرير من مكتبه مصفق ًا احتجاجا عىل ارتفاع
الصوت.
عاد اهلدوء إىل غرفة األخبار ،وعاد القروي فجلس عىل مقعده
ليجد خربا آخر أكثر استفزازا يلمع يف طرف حاسوبه ينتظر التدقيق.
اهنمك يف تدقيق األخبار التي تتوارد عىل الصفحة اخلاصة بالنرشة
التالية ،فاملدقق ومنتج النرشة واملرشفون عىل األخبار هم وحدهم
املخولون التغيري يف أي خرب عىل هذه الصفحة .ظل منهمكا يف التدقيق
ٍ
برتبيت خفيف عىل كتفه: إىل أن أحس
- -هال ،كيفك؟
التفت فإذا بأحد زمالئه الصحفيني حيمل أوراقا تتضمن تقريرا
يريد تصحيحه قبل توجهه لغرفة املونتاج.
السمع
َ جلس الصحفي وبدأ قراءة تقريره ،بينام أرهف القروي
متأهب ًا كأنه حمفظ قرآن.
17
....«- -ويرى مراقبون أن.»...
- -ال يا أخي ،لن أتركك تستخدم هذه العبارة اخلادعة إال إذا أريتَني
مراقبا من حلم وشحم .من هم هؤالء املراقبون الذين نسمع
عنهم عندكم وال نراهم يف دنيانا؟
ارتبك الصحفي وهو يرفع وجهه عن الورقة قائال:
- -هذا أسلوب صحفي دارج.
- -واألخطاء واحلامقات دارجة كذلك.
فقال بتلعثم دون رفع برصه:
- -طيب ،ماذا أقول؟
- -ال تقل شيئا؛ احذفها.
أخرج الصحفي قلام من جيبه وخط خطا غليظا بانفعال عىل
الكلمة ،وواصل القراءة .أرهف القروي أذنَه احلادة كأنه شيخ
شنقيطي يف حمظرة:
- -ال ،ذاك فاعل مرفوع.
- -متام.
- -ال ،ذاك ظرف منصوب يا أخي.
- -متام.
ما إن أهنى الصحفي قراءة التقرير حتى كان ْير َف ُّض َع َرق ًا .مللم
أوراقه شاكرا ،ثم مشى متجها صوب غرفة املونتاج ،ال يكاد ُيبصرِ أين
يضع قدمه من احلرج.
ترك القروي مكتبه ومشى خطوات للحديث مع صديقه بقسم
18
املقابالت مازن أمحد .كان مازن منهمكا يف مكاملة هاتفية مع أحد
املسؤولني الروس حماوال إقناعه باحلديث يف إحدى النرشات للتعليق
عىل العالقات الروسية األمريكية.
وقف القروي جنب صديقه منتظرا هناية املكاملة .وأثناء وقوفه
الحظ وجود ورقة عىل مكتب زميله مطبوعة وحتمل مخسة توقيعات.
اسرتق النظر إليها فإذا فيها:
املوضوع :طلب حتويل املدقق اللغوي السيد حممد القروي
نظرا لرضورة سري العمل اإلخباري بانسياب ،ولصعوبة العمل مع
السيد حممد القروي ،فإننا –معرش الصحفيني املوقعني أسفله -نلتمس
مقرين -مع ذلك-
من اإلدارة املوقرة حتويل الزميل عن قسم التدقيقّ .
بكفاءته ومهنيته وأخالقه احلسنة .غري أن ضغط العمل اإلخباري ال
حيتمل املهاترات اللغوية وال التشدد املعريف للزميل املذكور.
شاكرين لإلدارة املوقرة حسن التفهم.
املوقعون.
يف ملحة ،قرأ القروي الورق َة بنظرة واحدة كأنه صقر من صقور
الصحراء املوريتانية .حاول أال يبدو عليه أي ارتباك بعد قراءهتا،
بينام كان زميله مازن منهمكا يف مراوغة السيايس الرويس عىل اهلاتف
إلقناعه باحلديث للقناة.
وضع مازن اهلاتف بقوة رافعا برصه وهو يقول بامتعاض:
- -ما رأيت أصعب من الروس! إيش هذا؟!
رد القروي حماوال إهيامه أن ال يشء يشغل ذهنه:
19
- -الروس! ال تنس كالم املنظر السيايس الفرنيس دي توكفيل عنهم
شعبي يتجهان
نْ يف كتابه «الديمقراطية يف أمريكا» .قال إن هناك
برسعة حلكم العامل ،لكن وسيلة أحدمها احلرية ،ووسيلة اآلخر
العبودية .األمريكيون والروس.
انتبه مازن إىل أنه نيس إخفاء الورقة التي تركها أحد الزمالء عىل
مكتبه ،فوقف فجأة قائال وهو يدسها حتت طرف مكتبه:
- -ما رأيك يف أن نرشب قهوة يف الكافيرتيا؟
- -ال مانع.
مشيا عدة أمتار إىل باب غرفة األخبار ليصعدا س ّلام خشبيا ،قادمها
إىل الكافيرتيا اخلاصة بالقناة.
كان القروي يميش وراء صديقه منتظرا فتح موضوع الورقة .فلام
التقت عيوهنام -ومها يدخالن إىل الكافترييا -قال مازن هبمس:
- -هل علمت أن بعض الزمالء قدموا عريضة مطالبني بتحويلك؟
أظهر القروي املفاجأة من اخلرب قائال بلهجة موريتانية:
-حق اهلل؟
لكن حركة عينيه أكدت لزميله أنه اطلع عىل الورقة؛ فحاول إنقاذه
من احلرج:
- -ال هيم يا رجل ،ربام قد يعجبك العمل يف قسمك اجلديد إذا
استجابت هلم اإلدارة.
كانا قد وصال إىل البائعة الفلبينية القصرية التي بادرهتام بابتسامة
قائلة بلغة إنكليزية حمشوة باللكنة الفلبينية:
20
- -هل أستطيع مساعدتكام؟
تقدم مازن مبعد ًا يد صديقه -كيال يدفع النقود -قائال هلا باإلنكليزية:
وكأيس شاي.
ْ صحني فول
ْ - -بىل،
ثم مد هلا ورقة مائة ريال قائال:
- -اتركي عندك البقية حتى آخذ منها اليوم أو غدا.
اجتها إىل وسط املقهى حيث الكرايس املتناثرة ،والطاوالت الدائرية
املتوسطة احلجم ،وجلسا .شعر القروي بارتياح وهو يزيح معطفه
مالحظا أن درجات التكييف أقل برودة هنا منها يف غرفة األخبار.
فحركة الناس دخوال وخروجا ،وأزيز أدوات إعداد القهوة والشاي
والطعام تضفي جوا دافئا عىل املكان .مدّ جسمه ومال عىل الطاولة جهة
صديقه وقال هبمس:
- -بعث يل رئيس التحرير رسالة إلكرتونية طالبا اجتامعا.
كان القروي يتحدث فيام كان مازن ينظر إليه نظرة تعاطف ،متأمال
جبهته الضيقة ،وشفتيه الغليظتني وشعره الناعم ،مفكرا كيف تآمرت
جمموعة من ضعاف الصحفيني عىل هذا البدوي املسكني .كان مازن
مقتنعا بأن سبب رفع الشكوى ضد صديقه هو كونه ال سند له يف غرفة
األخبار ،فلو أنه من إحدى الدول العربية الكبرية لكانت له عصابة
حتميه ،وتدافع عنه ،وتربز حماسنه وتسرت مثالبه.
كانت هذه األفكار تتزاحم يف ذهن مازن ،بينام يواصل القروي
حديثه.
أخرج مازن سيجارا من جيبه ،ثم قاطع صدي َقه وهو يلتفت جهة
21
مدخل الكافيرتيا:
- -شوف ،مثلك ال خوف عليه .فأنت هنا بعلمك وقدراتك ،أما
هؤالء فكثري منهم هنا بالشللية والوساطات .ولوال أنك بدوي
ِنز ٌق ال تستطيع التحكم يف انفعاالتك ملا وصل األمر إىل ما وصل
إليه.
تذكر القروي القرض املايل الضخم الذي أخذه من البنك قبل
شهر .وتراءت له صورة والده الذي يعيش عىل أدوية شديدة الغالء،
فقال متظاهرا بالتج ُّلد:
- -عادي يا أخي ،حتى لو أقالوين.
- -أنا أرى أن سبب كل هذا هو نائب رئيس التحرير.
بساما؟
- -تقصد ّ
- -نعم .هو يغار من املميزين ...ثم إنك ُو ّظ َ
فت رغم أنفه .وهو
يعترب أي شخص مل يوظفه هو عدوا له.
- -عقلية إما أنك عبدي أو ضدي؟
- -إيه!
وتذكر القروي ذلك الرجل البدين األصلع الذي أطل عليه
بمكتب السكرترية يوم عمله األول .واستعاد نظرات السكرترية
ورئيس التحرير.
والتفت رافعا برصه إىل مازن الغارق يف سحابة سجاره:
- -كيف تصفني بالبدوي النزق يا رجل؟ أنتم دائام حتملون البدو
كل يشء .أال تعلم أن احللم واألناة أيضا من أخالق البادية؟ ثم،
22
هل املزارعون أهل حلم وأناة؟
وقهقه مازن قائال بلهجة أهل اخلليل:
- -اهلل خيرب شيطانك ،يا ب ّييه!
وبدأ حديثهام ينحرف إىل اجلانب النظري أكثر من االنشغال هبموم
اللحظة ،ومها يرقبان الداخلني واخلارجني من املقهى .بعد دقائق،
جاءت الفتاة الفلبينية حاملة صحنني من الفول وكأسني من الشاي.
رفع إليها مازن وجهه قائال:
- -شكرا ،عزيزيت.
كان جيلس قبالة القروي مذيع ومذيعة يتحدثان .ويبدو من
مالمح املذيعة أهنا ستظهر عىل الشاشة بعد قليل .فطبقة املكياج الكثيفة
املندس يف أذهنا ،يشيان بأهنا مستعدة
ُّ عىل وجهها ،واملِ ْل ُ
قان البالستيكي
للظهور يف النرشة التالية.
جتلس فتاتان عن يسار املذيعة ،إحدامها بدين ٌة متلفف ٌة يف عباءة
سوداء ،واألخرى نحيفة ربعة القامة ترتدي بنطاال أزرق وقميصا
بالكاد يالمس طرف بنطاهلا.
انتبه القروي -وهو يتأمل الفتاة البدينة -إىل أهنا صاحبة البطاطا
التي اصطدم هبا يف املمر قبل أشهر ،كام انتبه إىل أن جبينها ما زال يتفصد
عرقا .أما الفتاة اجلالسة إىل جانبها فلم ُيعرها كبري اهتامم .فرغم نوعية
متر
املالبس التي ترتدهيا للفت األنظار إليها فإهنا من النساء الالئي ّ
عليهن العني متدحرج ًة بحياد.
فال هي ممن تتأذى العني برؤيتها حتى تعلق بالذهن ،وال باجلميلة
23
ِ
وابتهاج العيون. مجاال جيعل خريطة جسمها مدى رَلتداد النظر
أمر عليها القروي عينه رسيعا كأنه ينظر إىل شارع عام ،ثم التفت
ّ
إىل مازن:
- -عيل الذهاب للحديث مع رئيس التحرير.
- -انتظر حتى تُنهي إفطارك.
قاهلا مازن ،وهو يالحظ التوتر الذي حاول صديقه إخفاءه.
وقف القروي مستأذنا مازن ًا ،هبط مع الدرج اخلشبي الذي أسلمه
إىل غرفة األخبار .اجته يمينا إىل مكتب رئيس التحرير.
دخل فإذا برئيس التحرير وراء مكتبه الصغري ،وأمامه كرسيان
جيلس عىل أحدمها رجل بدين شديد البياض.
- -السالم عليكم
- -وعليكم السالم ،هال .تفضل!
جلس القروي متأمال الرجل اجلالس قبالته .كان مكتنز األعضاء
مقديس اللهجة .أما رئيس التحرير فكان غارقا يف كتابة
َّ ضخم البطن
رسالة إلكرتونية ،ومع ذلك يرمي كلمة بني الفينة واألخرى إلشعارمها
بعدم االنشغال الكامل عنهام.
بعد هنيهات ،أهنى رئيس التحرير كتابة رسالته ،والتفت بحامس
ووجهه الطفويل اململوء شعرا يربق:
- -يا هال أستاذ حممد ،كيفك؟
- -أهال بك.
عرف رئيس التحرير القروي عىل جليسه املقديس قائال:
ّ
24
- -هذا األستاذ أمحد أبو صالح ،مدير قسم الوثائقيات بالقناة.
ثم التفت إىل املقديس مؤرشا جهة القروي:
- -وهذا األستاذ حممد القروي ،أحد أفضل املدققني عندنا.
أمال املقديس رأسه قائال بأدب:
- -يا أهال وسهال
- -أهال وسهال بكم ،حيا اهلل أهل القدس.
- -وكيف عرفت أنني مقديس؟
- -أنا ال أسمع هلجة عربية إال م ّيزهتا.
- -ما شاء اهلل .عندكم يف موريتانيا مقدسيون؟
- -أبدا ،ولك ْن يل أصدقاء مقدسيون تعرفت عليهم ببالد شتى.
- -ما شاء اهلل!
قطع رئيس التحرير حديثهام قائال بنربة حازمة:
- -أستاذ حممد ،إن السيد مسؤول امللفات الوثائقية كان يبحث منذ
فرتة عن كاتب قدير يكتب له نصا لفيلم وثائقي .وكنت أخربته
عنك وعن قدراتك ،وما إن ذكرت له اسمك حتى حتمس
للحديث معك هبذا اخلصوص.
ظهره مسند الكريس ليصبح أكثر
عدّ ل القروي جلسته حتى فارق ُ
اعتداال ،وقال بتوتر:
- -طيب؟!
النص الحقا إىل
- -الفكرة ،هي أن تتفرغ لكتابة النص ،و ُيدفع ُّ
كاتب سيناريو ليمفصله ويعده للتمثيل.
25
- -وما موضوع الفيلم؟
مد رئيس التحرير يده لينزع نظارتيه ،فبدا شعر رأسه األشيب
كثيفا ،ثم التفت إىل مسؤول الوثائقيات قائال:
- -تفضل يا أستاذ ،فأنت أفضل من يرشح له الفكرة.
مال املقديس بجسمه الضخم جهة القروي –رغم حمدودية املسافة
بني كرسييهام -وقال:
- -شوف يا أستاذ حممد ،لقد قرأت كثريا من كتاباتك املنشورة يف
الصحف ،واطلعت عىل روايتك التي كتبتها عن حياة البدو
الرحل يف موريتانيا .كام سمعت الثناء عىل علمك من أستاذنا
قررت اإلقدام
ُ رئيس التحرير .لذا أمتنى أن تدخل معي يف مغامرة
عليها.
كان القروي يستمع باهتامم ،واضعا يده اليرسى عىل فيه إمعانا يف
اإلنصات.
فواصل املقديس حديثه:
- -املغامرة هي أننا قررنا إنتاج فيلم تارخيي .وإلكامل املغامرة،
أحببت أن يكون كاتب النص وكاتب السيناريو من الشباب
اجلدد عىل الساحة ،ال كتابا مسته َلكني.
شعر القروي بارتياح للفكرة ،رغم مفاجأهتا .فقد أعجبته الروح
املتفائلة الواثقة للمقديس .فبادره وهو يفرك أصابع يديه:
- -أنا ال مانع لدي ،لك َّن عندي رشطا واحدا.
- -تفضل.
26
- -أال يتدخل يل أحد يف نمط الكتابة .فأنا سأكتب كام حيلو يل.
قال املقديس بحامس:
- -أوه ،طبعا ..طبعا ،فاحلرية رشط اإلبداع يا رجل.
- -لكن ،ما موضوع الفيلم؟
- -نحن نريد إنتاج عدة أفالم تارخيية عن شخصيات مفصلية يف
تاريخ احلضارة اإلسالمية .مثل اخلليل بن أمحد ،واجلاحظ ،وابن
تيمية والغزايل واملتنبي.
ما إن سمع القروي اسم اجلاحظ حتى قال بنربة مراهق يرى فريقه
املفضل يسجل هدفا:
- -هل يل أن أختار من هذه األسامء؟
- -جدا .فأنا كنت أفكر يف أنك ربام تكتب عن اجلاحظ ،فقد رأيت
يف سريتك الذاتية أنك كتبت عنه أطروحة ماجستري.
اسم اجلاحظ ،وقال دون شعر القروي بحامس طفويل َ
حال سامعه َ
أدنى تفكري يف العواقب:
- -اتفقنا إذن.
حني سمع رئيس التحرير كلمة «اتفقنا» قفز من فوق كرسيه
فرتاءت جلليس ْيه قامته الضئيلة وهو يقول:
ْ َج َذالً،
- -خالص ،يمكنك -يا أستاذ حممد -التفرغ للمرشوع .وسأبعث
اآلن رسالة للسكرترية كي تعفيك من الورديات .وستداوم يف
مكتبك العادي بغرفة األخبار ،لكنك تكتب للزمالء يف القسم
الوثائقي.
27
وجد القروي نفسه خارجا من مكتب رئيس التحرير مستغربا
كيف جرت األمور هبذه الرسعة .وتناوشتْه أسئلة مثل :كيف وافق عىل
هذه املغامرة؟ وما ضامن نجاحها؟ وكيف ينجح فيها وهو مل يكتب قط
نصا للتمثيل؟
ثم ألح عليه سؤال :ماذا لو مل ينجح يف كتابة النص؟ هل سيقال
من عمله؟
دخل غرفة األخبار ومشى خطوات إىل قسم املقابالت ،فلام رآه
مازن قادما وقف ليتلقاه .وقفا يف طرف غرفة األخبار اجلنويب مما ييل
غرف املونتاج.
- -كيف كانت نتائج االجتامع؟
قال القروي متصنعا االبتسام ورباطة اجلأش:
- -يبدو أنني سأتفرغ لكتابة رواية تصلح نصا لفيلم تارخيي.
- -كيف ،وما دخل قناة إخبارية يف األفالم التارخيية؟
- -سأكتبه لقسم الوثائقيات .كأهنم سيجربون إنتاج أفالم تارخيية.
قال مازن بلؤم ونربة ساخرة:
- -جيد ،ما داموا فاشلني يف إنتاج األخبار ،فليجربوا األفالم
التارخيية!
- -وماذا يعنيني أنا من كل ذلك؟ املهم أين من اآلن سأكتب نصوصا
عربية عىل مزاجي خالية من عبارات األعاجم.
ضحك مازن ممُ ِ ًّرا يده عىل رأسه الكث ،وتراءت ثناياه التي غزاها
التسوس واضحة وهو يقول:
28
- -ما موضوع الفيلم؟
- -سيكون عن اجلاحظ .لذلك لن ترد فيه عبارة «من جهة أخرى»
وال «شكرا لك حتى اللحظة!».
- -اكتب يا عم! اكتب ما حيلو لك ،ففي عامل اجلاحظ لن َي ْش َغ َ
ب
عليك أحد.
وقف رئيس قسم املقابالت يف طرف الغرفة مشريا ملازن كي يأيت
برسعة.
مد القروي يده إىل صديقه قائال:
- -أستأذن ،فقد حتررت من وردياتكم ودواماتكم ...ورؤساء
أقسامكم.
ضغط مازن عىل يده قائال بلهجته الفسطينية:
- -نيالك يا حبيبي!
سار القروي يف غرفة األخبار مرسعا دون أن يلتفت إىل أي جهة
حتى ال يشغله زميل بسؤال أو سالم ،وهو يفكر يف طبيعة التحدي
الذي وافق عىل خوضه دون كبري تفكري.
وخالل دقائق ،كان يف شقته بمنطقة السد .رمى مفتاح سيارته
جانبا ،وتوجه إىل املطبخ .أعد كأسا من الشاي األخرض ،ووضعه عىل
مكتبه .ثم فتح حاسوبه -وهو يتقد محاسا مشوبا بخوف -وكتب:
***
29
البصرة170-168 ،هـ
هبت نسائم الصباح عىل السفينة اجلاثمة غري بعيد من البطيحة عىل
أطراف البرصة .صدحت رنات العود املطربة ،وانترشت روائح العنرب
اهلندي يف كل اجتاه .لكن اخلليفة املهدي الذي جيلس يف صدر السفينة
ضيق الصدر.
بدا َ
التفت إىل وزيره وقال وهو يرفع حاجبيه ،وكأنه ينفخ:
تتكاثف فيها
ُ - -واهلل إين ألحار يف نفس اإلنسان! ملاذا تأيت حلظات
كل أسباب االنرشاح والسعادة ،لكن النفس تنقبض لسبب
ال تدركه .ألذلك عالق ٌة بحركات األفالك؟ أم بعامل األرواح
املتل ّف ِ
ف يف دياجري الغيب املستور؟
- -ما أرى -يا أمري املؤمنني -إال أن لألمر عالقة بحركة الكواكب
الدوار .فاملرء جيد نفسه وقد ظفر بام ظل يطلبه
السبعة والفلك ّ
نفسه عن سعادته الغامرة به .ثم ما إن تأيت
دهرا ،وكان حيدث َ
ٍ
وريح حلظة قطف السعادة املرجوة حتى حيس بخواء جارف،
جتري يف زوايا روحه.
رسحا طر َفه جهة غيمة ْ
بدت يف السامء. تنفس املهدي الصعداء ُم ّ
التلفت إىل يسارها جهة
َ بدأت اجلارية اجلالسة عن يمينه تكثر
31
الشاطئ ،حيث بدأ مجع من النظارة يتجمعون بعد سامع خرب قدوم
اخلليفة ،بينام كان جنود يشقون احلشود حاملني رجال طويل القامة،
عظيم اهلامة ،كث الشعر.
املهدي يقف ويقعد ،فلام وصلوا صاح هبم:
ُّ اقرتب اجلنود ،وجعل
حل َّراقة.
- -امحلوا الزنديق إىل صدر ا َ
ضخم الكراديس:
ُ أشقر
صاح جندي ُ
- -سمعا وطاعة يا موالي!
صعد جنديان عىل حافة السفينة ومد كل منهام يده واضعا إياها
حتت إبط الرجل الضخم ليجذباه ،ثم دفعه ثالثة جنود من ساقيه فوقع
عىل أرض السفينة متأوه ًا .حاول الرجل الضخم مجع شتات نفسه
وهم يرمونه يف مقدمة السفينة .جعل يقلب رأسه الضخم ،رافعا إياه
وهو يغمغم.
بدأت مجوع النظارة تتحاشد عىل حافة النهر بعد شيوع خرب أن
اخلليفة سيقتل شاعر البرصة بشار بن برد .اشتد الزحام قرب السفينة
حتى كاد بعض الفضوليني يسقطون يف املاء ،فوقفت جمموعة من اجلند
سدّ ا بينهم وبني حافة النهر.
وسط الزحام ،كان ٌ
طفل يف عامه التاسع متشبثا بيد أمه ،وعيناه
اجلاحظتان الواسعتان تدوران برسعة ،متأملتني كل التفاصيل .كانتا
خترتقان احلشود ،وتعودان إىل هامته ،وقلبه يكاد ين ُْزو من بني أضالعه
َف َرق ًا.
اشتد الزحام ،ثم خ ّيم السكون انتظارا لكالم اخلليفة.
32
امتأل الطفل هيبة وهو يتأمل اخلليفة املهدي مرتبع ًا ،والرشر يتطاير
من عينيه وهو ينظر شزرا إىل بشار بن برد قائال بتوعد:
- -أتؤ ّذ ُن يف غري وقت أذان ،يا زنديق؟
حرك بشار يديه ،وز ّم شفتيه وتسارعت حركات عينيه الضخمتني
اللتني خيرج منهام ما يشبه الدُّ َّم َل ،وقال:
كر ودعو ٌة للخري ينادي هبا املؤمن متى ِ
- -سيدي ،وما األذان إال ذ ٌ
شاء؟
صاح الوزير يعقوب بن داود ،وهو يمدّ سوطا ناحية بشار:
شيح عنه بوجهك يا
- -كيف تتحدث بحرضة أمري املؤمنني وأنت ُم ٌ
سكران! يازنديق؟
وكان بشار -ككثري من العميان -إذا حتدث رفع رأسه الضخم
ٍ
سدر ناظرا جهة السامء ،فيتدىل شعره الكثيف عىل كتفيه كشجرة
صحراوية تائهة.
- -عفوا يا سيدي ،فأنا ال أبرص مكان اخلليفة للعاهة التي يب.
فقال اخلليفة دون أن ينظر ناحية بشار:
- -اجلدوه!
قفز اجلندي ذو الكراديس الضخمة وبيده سوط جلدي كأنه
بمنكبي الشاعر ،وأسنداه إىل جانب السفينة
ْ ثعبان .أمسك جنديان
وبدأت السياط احلامية تنهال عىل ظهر شاعر البرصة .وكان كلام وقع
سوط عىل الظهر الضخم املكتنز حلام وشحام صاح:
َ - -ح ِّس! ...آه!َ ....ح ِّس!
33
وقف الوزير وكأنه يوجه حديثه للحشود املتجمعة التي يوجد فيها
من َيطرب لشعر بشار ويغني به ،ومن كان يفاخر به َ
أهل األمصار،
ومن حيقد عليه ،فقال بصوت َج ْه َو ِر ٍّي:
«حس» بدل
ّ - -انظروا يا أهل البرصة إىل زندقته؟ كيف يقول
االستغاثة باهلل ،وبدل قول بسم اهلل.
سوطي:
نْ فقال بشار بصوت مرتفع منتهزا فسح َة ما بني وقع
- -ويلك! أطعا ٌم هو حتى أسمي اهلل عليه؟ إنام هي سياط حامية!
جف ريق الوزير حرج ًا ،وتدارك عاممته احلريرية السوداء قبل ّ
سقوطها ،فأمسكها ،وقال خماطبا بشارا:
- -وملاذا ال تقول احلمد هلل أهيا الزنديق؟
حتامل بشار عىل جراحه عاض ًا عىل شفته السفىل ،وصاح بصوت
فيه من األمل ما فيه من السخرية:
السياط نعم ٌة حتى أمحد اهلل عليها؟
ُ - -وهل هذه
كانت عيون املتفرجني وآذاهنم تتلقف احلديث الدائر عىل ظهر
السفينة بكل دقائقه .لكن الطفل ذا العينني اجلاحظتني كان يعيشه بكل
عرق ينبض يف جسمه األسمر النحيل.
مال ٌ
رجل يلبس ثوبا ُم َع ْص َفرا يقف َ
جنب الطفل ،وقال لصديقه:
- -إن الشاعر أبا معاذ سيقيض حتت السياط! كيف يقتل اخلليف ُة عىل
رشب اخلمر؟
أريب مثلك رضبه إياه لرشبه اخلمر؟ وكم يف البرصة
- -هل يصدق ٌ
من حانة مل يسأل عنها؟
34
- -مل َ إذن؟
الوزير يعقوب إىل مسامع اخلليفة القصيد َة التي هجاه
ُ - -لقد أوصل
فيها باالنشغال بامللذات عن مهوم الناس ،حني قال:
ضاعت خالفتُكم -يا قو ُم -فالتمسوا
ْ
ِ
والع�ود! ِ
الن�اي خليف� َة اهلل بــيـ�ن
وسمع الطفل كالم الرجلني ،وحفظ البيت من أول سامع
كعادته ،وكان قلبه خيفق بني أضالعه اهلزيلة التي تغطيها التامئم
والتعاويذ.
تضايق اخلليفة من األخذ والرد الذي وقع بني الوزير والشاعر،
احلراقة
فخيش أن تؤثر كلامت بشار يف بعض النفوس فأشار لقائد ّ
بالتحرك.
وابتعدت السفينة عن حافة النهر ،وابتعد صدى األنّات املكتومة
للجثامن الضخم الذي ما زالت السياط اجللدية تنهشه .وحتركت
ُ
الطفل ذو العينني اجلموع عن الشاطئ عائدة من حيث أتت ،وأكثر
اجلاحظتني يف االلتفات وراءه ،ويدُ ه اليرسى عىل قلبه.
كانت أمه تسحبه من يده مستحث ًة إياه عىل اإلرساع ،فيام كان يشعر
وخدَ ِر يف ركبتيه النحيلتني.
برعدة َ
***
بات الطفل يتقلب يف فراشه ،وحلافه األسود قد انحرس عن جسده
لكثرة اضطرابه يف مضجعه .ذرا ُعه الطويلة الدقيقة ملتوية حتت خده
اليرسى ،ويده اليمنى بني ركبتيه .أما رأسه الصغري ذو الشعر األجعد
ٍ
فمنحن جتاه صدره ،وهو يغط يف نوم عميق رغم تقلبه واضطرابه.
35
طار قلب أمه َف َرق ًا وهي حتاول إيقاظه دون جدوى .إذ تعودت
عىل وثوبه من النوم -كأنه سرِ ْ ٌ
حان -عند أول نداء .أما هذا الصباح
فكأنام حتاول إيقاظ ميت!
- -قم يا عمرو !..فقد انتصف النهار!
مل ينم الطفل البارحة إال بعد نوم البرصة كلها؛ فقد وقفت صورة
الرجل الضخم برصاخه املكبوت بينه وبني النوم .كلام داعب النو ُم
جفونَه ّ
رن يف أذنيه صدى استغاثة الشاعر ،أو شامتة أحد النظارة ،أو
َش َخص أمامه اجلندي ذو الكراديس بسوطه املخيف.
متلمل يف فراشه متشبثا بلحافه ،وفتح ع ْين ْيه فرأى أمه منتصب ًة فوق
رأسه .جلس مستعيذا باهلل من الشيطان الرجيم.
وخشيت عليك! قم يا ولدي واذهب إىل
ُ - -لقد ارتفع النهار،
اخلباز ،فقد حان وقت ذهابك للكتاب ،وأخشى عليك من عصا
معلمك .جلس فاركا عينيه:
- -أخزاه اهلل وأخزى عصاه.
- -ال تقل ذلك يا ولدي .أرسع!
رب ،فاجتاز بجانبه ب ّغال ُي ّ
غني خرج الطفل ماشيا وسط الطريق املغ ِّ
ُ
البغال بسوطه إىل وعىل ظهر بغلته أعوا ٌد طوال حداد األطراف .أومأ
الطفل -دون أن يقطع غناءه -ليبتعد حتى ال تؤذيه العيدان ،فالتصق
مرت
ْ الطفل باحلائط ،فاندس أنفه يف جلباب امرأة عطرة األثواب
مرسع ًة.
الفران .كان ِ
العطر الغريب عىل أنفه وهو يدخل إىل ّ استنشق بقايا
36
اخلباز ُمل ّث ًام كعادته ،ومنهمكا يف خمبزه املكتظ دائام .يتزاحم أطفال احلي
فكل ُي ِد ُّل بسابق معرفة أو سالف
وغلامنه داخل املخبز فتكثف حرارتهٌ .
معروف ليقدمه عىل غريه.
ترتفع األيدي النحيلة يف اهلواء وسط دخان املخبز املتصاعد،
واألصوات املختلطة تنادي:
- -رغيفني باهلل عليك!
- -مخسة أرغفة ،مواليت تستعجلني!
وقف الطفل مكتفيا بالنظر إىل اخلباز امللثم؛ فاخلباز يعرف بالضبط
كم رغيفا يريد .إذ يكاد يعرف كم لقمة تقع يف جوف كل واحد من
سكان حي بني كنانة بالبرصة .بعد حلظات ،ناول الفتى ثالث َة أرغفة
اخلباز خياطب فتى من
َ ساخنة .وبينام كان الفتى يضعها يف مخِ الته سمع
فتيان العطارين ذا ذؤابتني طويلتني قائال:
- -تعال يا شاعر ،هل سمعت بام وقع لبشار بن برد أمس؟
ُ
السياط احلامية وشخصت
ْ ارتعد الفتى وهو يسمع اسم بشار،
والرصاخ واالستغاثات والشامتة أمام عينيه.
ظل الفتى ذو الذؤابتني يبتسم مداعبا ذؤابته اليمنى بيده ،ناظرا
صوب إحدى اجلواري دون أن يويل كالم اخلباز اهتامما.
رفع اخلباز وجهه متأمال الزقاق الضيق ليتأكد من غياب رجال
ِ
احلسبة الذين يفرضون عليه التقنع كي ال يتساقط الشعر يف اخلبز أزال
قناعه ورماه قائال:
- -لقد قىض شاعر البرصة أمس حتت سياط اخلليفة .مات شاعر
37
البرصة ،لقد قتله الشعر .وأنت أهيا الفتى تريد أن تصبح شاعرا.
اخلبز والعجن أفضل لك يا بني من شعر يقود للموت جلد ًا.
ثم ضج املخبز الدافئ بالضحكات.
ّ
استل الصبي نفسه من زحام املخبز ،لتزدحم صور وأفكار كثرية
يف رأسه.
كان يفكر يف الشعر الذي حيفظ منه عرشات القصائد ،متسائال
ما قيمة الشعر والعلم واجلاه إذا كان يقود ملهاوي الردى؟ تذكر قول
أمه :لن تغني عنك هذه القصائد شيئا ،وعرشون سمكة أكثر فائدة
من مائة قصيدة.
عاد الصبي إىل بيته ،ومضغ رغيفه دون شهية .مضغه كأنه سعف
ٍ
نخلة يابس ،ثم أرسع إىل ال ُكتَّاب.
ما إن دخل الساحة الواسعة املؤدية إىل بيت معلمه حتى شاهد كلبا
ضامر البطن ،يركض جهة ٍ
صبي واقف يمحو لوحه عند ِ
الشدق َه ِر َ
يت
َ
جذع شجرة.
الكلب عىل الطفل وأطبق أسنانه عىل طرف وجهه فسقط
ُ هجم
مغشيا عليه .انحرس جانب وجهه عن عظم الفك األيرس والوجنة مما
ييل العني حتى الفك.
فاهنالت األلواح اخلشبية من
ْ تصارخ الصبية ،وجاء املعلم يركض،
كل جانب عىل الكلب الذي ظل ينبح حتى حتول نباحه إىل أنني حتت
وقع األلواح والعيص ورصخات األطفال.
ظل عمرو واقفا يف مكانه ال يتحرك ،وقلبه خيفق ،مقارنا -يف
38
دخيلة نفسه -بني موت الكلب حتت ألواح أطفال الكُتاب ،ووقع
السياط.
***
ال تكاد الشمس تخُ ِ
رج حاجبها مطل ًة عىل هنر سيحان بالبرصة
حتى تكتظ جنباتُه بالسماّ كني والصيادين والباعة والفضوليني .كانت
جمموعة من املالحني تقرتب من حافة النهر وهي تغني أهازجيها بعد
وجوههم مرهق ًة بعد ساعات طويلة من الصيد
ُ بدت
ليلة اصطيادْ .
والغناء ،والقصص امللفقة واألحالم السخيفة.
اقرتب الزورق الصغري رويدا رويدا من حافة النهر حيث يقف
عمرو .كان وجهه قد َب َق َل ،فبدا أقرب إىل الفتوة منه إىل الطفولة ،أو
هو واقف حائر ما بني صالبة الفتوة وغضاضة الطفولة كانت عيناه
تتأمالن حركات الزورق الصغري ،وذهنه -الذي ال يفرت عن املقارنة بني
الشبهبني احلياة واألهنار .فاحلياة مغرية دائام؛
َ األشياء واألفكار -يتأمل
مع جهل اإلنسان بام ختبئه أحشاؤها املعتمة .فهي مكونة من موجات
تعلو باإلنسان لتغرقه يف األماين البيض ،وموجات أخرى هتبط به إىل
قاع اليأس رامي ًة إياه يف متاهات التيه .ما احلياة إال هنر هائج ال يدري
راكبه أين ستأخذه أمواجه الطامية! فهل سيعود املسافر ظافرا بالآللئ
واألماين الشهية ،أم ستفرتسه أول موجة ليتحول جث ًة تافه ًة تضيق هبا
كل موجة فرتميها جلارهتا؟
ما كاد الزورق الصغري يالمس حافة النهر حتى صاح عمرو
وقد ُمه تكاد تنزلق يف النهر:
أتيت بام يكفي من سمك الش ّبوط؟
- -هل َ
39
- -قاتلك اهلل! واهلل ال أرى يومي هذا إال يوما ِ
نكد ًا .ملاذا كان أول
من تلقاين أنت؟
صائر إليه! والنكد بني
ٌ جئت منه وما أنت
- -النكد ما أنت فيه وما َ
يفر النكد
يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شاملك؟ وهل ُّ
من النكد...؟
ضحك الصيادون رغم اإلرهاق البادي عىل وجوههم وهم
فأكب عىل احلمولة ينتقي منها انتقاء
ّ يتقافزون من الزورق .أما الغالم
ِ
املاهر .كانت ذراعه النحيلة تروح وجتيء داخل سالل السمك .وكان
إذا انتقى سمكة تأ ّملها قليال ثم رماها وراءه لتستقر بمهارة داخل
جراب جلدي واسع م ٍ
ثبت عىل ظهره. ُ
عيني الفتى األسمر ال ختطئان هدفا وال يتوارى
وتذكر الصياد أن ْ
عنهام شارد ،فبادر:
اسمع يا عمرو ،ال تأخذ َّ
كل الشبوط .خذ منه واترك لغريك. ْ --
ٌ
منهمك يف شد أمتعة عىل ظهر محار أشهب ،قائال التفت صياد آخر
بعربية فيها ن َف ٌس فاريس:
- -أنت تناديه عمرو؟ كل الناس هنا ينادونه اجلاحظ.
ثم التفت إىل الفتى وقال بالفارسية:
- -تُو اجلاحظ َه ْستى!
كان الفتى قد فرغ من اإلغارة عىل السمك بعد أن انتقى منه ما
ودسها يف يد الصياد وقال بابتسامة واثقة ساخرة:
شاء ،فأخذ دراهم ّ
ألخف عىل اللسان وأسبق إىل الذهن ،وإن
ّ اسم عمرو
- -واهلل إن َ
40
اجلاحظ لتبدأ بحرف ُم ْستَص َع ِ
ب النطق ،فلامذا تستبدل الذي هو
أدنى بالذي هو خري؟
مبتسمي ،وأدبر الفتى شاق ًا طري َقه بني زحام
نْ وترامق الصيادان
ّقي بقايا السمك املتناثرة
املارة والباعة ،رافعا أسفل إزاره الداكن ليت َ
عىل األرض.
هنر سيحان وراءه ،سالكا أزقة قادته إىل درب الطويل.
ترك َ
درب ال ّطويل ضاجا باحلركة ،لكن ضجيج األفكار واخلواطر كان ُ
التي تكتظ هبا مججمة الفتى أعىل من أي ضجيج ،حيفظ درب الطويل
عن ظهر قلب ،بل يكاد يعرف كل أرسار هذا الدرب املرت ِع بالفضائل
والفضائح ،بدا له الدرب يف هذه الساعة مكتظا باملارة عىل جانبيه أكثر
من املعتاد.
سلك الدرب الواسع فقاده إىل الساحة الفسيحة الواقعة عند
مدخل سوق البرصة الكبري .جتاوز املسجد عن يساره قاصدا الباب
املقوس للسوق .وقبل ُو ُل ِ
وجه سمع تلك اجلملة التي طاملا األمحر ّ
سمعها تنبعث من خيمة الوبر املرضوبة أمام خانقاه الصوفية قرب
مدخل السوق عىل اليمني:
الغرور!
ْ متاع
ُ --
كان الصوت اخلارج من اخليمة يمط كلمة الغرور مطا طويال
حتى تكاد نفس صاحبه تتقطع رغم خمارجه الفخمة وصوته القوي
مه ِدي عىل
احلاد .ابتسم الفتى متذكرا كيف كان يرتاهن هو وصدي ُقه ْ
مط صاحب الركض من جانب املسجد ليصال باب السوق قبل هناية ّ
الصوت كلم َة الغرور.
41
ال حيب الفتى مكانا حبه سوق البرصة ودرب الوراقني .فهنا
يروج كل يشء .بدءا من العلم الذي تنوء به كواهل الوراقني الرائحني
الغادين ،إىل الكذب الذي يرتدد عىل ألسنة الباعة وهم يقسمون عىل
أسعار بضائعهم ،إىل وعود املدينني لدائنيهم.
ومن أسباب حب الفتى للسوق غرامه بتأمل التشابه الدفني بني
جانبي
ْ األشياء املختلفة ظاهريا عند الناس .فالسقائف الرابطة ما بني
السوق تُظِ ُّل ُس َحن ًا خمتلفة ،وأمشاجا وأخالطا ال جتتمع بمكان يف الدنيا
عيني الفتى تظالن تلتقطان أوجه التشابه بني
إال يف هذه املدينة .غري أن ْ
الس َح ُن تعلو وهتبط يف دروب السوق
تلك السحن واألمشاج .كانت ُّ
الضيقة أمامه ،وأذناه ترشئبان تطلع ًا لسامع نبض احلياة ،وتلتقطان
هلجات ولغات متباينة تضج هبا أروقة السوق املتعرجة.
كان يسمع اللسان الفاريس بم ّطاته احللوة ،واللهج َة البدوية
الصقيلة وسط هلجات عربية ولكنات هجينة أخرى ،وهو يضحك
يف نفسه قائال :واهلل ما البرص ُة إال حسناء يتعاقب عليها األزواج فتلد
األمحر واألصفر واألسود ...ومن رأى تداخل األهنار يف أطرافها
العرض.بغي مستباحة ِ ِ
وكثرة السفن الواردة عىل موانئها ،خييل إليه أهنا ٌّ
سمع من يناديه:
- -اجلاحظ!
ال يركض حايف القدمني ،مرتديا جب ًة
سه ً
التفت فرأى صديقه ْ
قذرةً .فبادره قائال:
- -ما وارءك؟
42
غضن ًا خدَّ ه:
ابتسم سهل بن هارون العب ًا بجفنه األيرسُ ،م ِّ
- -هل ترى تلك الفتاة؟ لقد حادثتُها فشتمتْني ،ولوال أبوها الذي
فعلت ذلك!
ْ معها ملا
قال اجلاحظ والريق يكاد يتطاير من فيه:
افرتضت أهنا ما صدّ تْك إال لوجود أبيها ،ومل ْ تفرتض أهنا
َ - -مل
برزت يف هذه
َ شتمتك لقذارة ُج ّبتك وخلق قميصك! واهلل لو
الستعاذت باهلل منك!
ْ جلنية يف ٍ
فالة الصورة ٍ
ما زاد سهل عىل التبسم وهو يعيد النظر جهة الفتاة ،العب ًا بطرف
عاممته املسرتخي عىل صدره.
سهل مبتسمة .فتسارعت دقات قلبه،ٍ دارت الفتاة والتفتت جهة
رافعا يده إىل صدره ،وقبل أن يكمل إشارته هلا سمع صوتا يناديه من
خلفه:
ِ --
اتق اهلل يا سهل! ما هذا اللعب يف السوق وعىل رؤوس الناس؟
التفت سهل فرأى شابا يلبس جبة سوداء نظيفة ،معتجرا عاممة
بيضاء ناصعة اللون ،مرخيا طرفها بني كتفيه.
اقرتب الشاب ،فلم يزد سهل عىل أن سلم عليه وهو يقول بارتباك:
- -كيف حالك يا عيل؟
رفع الشاب برصه عن األرض وهو يقول:
- -أنا بخري ،لوال أين رأيتك ت َُش ِّب ُ
ب بفتاة متيش وراء أبيها .أال تعلم
أن هذا ال جيوز؟
كان الفتى –رغم حداثة سنه -يتحدث بألفاظ فخمة ،ووقار
43
الفت .فشعر اجلاحظ باخلجل وأن الفتى يكربه سنا ،مع أن وجهه
الطري وشاربه الذي مل ينبت ييش بأنه يف عمره.
كان اجلاحظ يتشبث بجرابه اجللدي اململوء سمكا وهو يص ّعد
النظر يف الشاب ،بينام صمت سهل بن هارون ُهنيهة ،ثم قطع الصمت
واالرتباك:
- -جزيت خريا عىل النصيحة يا عيل ،وأنا يف عجلة من أمري.
نظر اجلاحظ إىل الفتى نظرة متجهمة ،ثم مد يده اليرسى وجذب
هبا صديقه سهل ،أما يده اليمنى فظلت متشبثة بطرف اجلراب اجللدي
الذي عىل كاهله .وانطلقا يمشيان وسط الزقاق الضيق املؤدي لسوق
الوراقني.
التفت اجلاحظ إىل سهل وقال:
- -من هذا الطفل/الكهل؟
- -هذا عيل بن املديني .كان معي يف الكتاب ،وكان ظريفا غري أنه
منذ أشهر يريد أن يصبح سفيان بن عيينة يف غداة واحدة.
وراق عىل يمني الزقاق .ما إن دخال حتى
دلف الفتيان إىل أول ّ
وقف صاحبه قائال:
- -أهال! هل أتيت بش ّبوط؟
- -نعم ،هو ذا.
أشار الوراق إىل أحد غلامنه فتقدم وأخذ السمك .تقدم اجلاحظ
وسهل وجلسا يف طرف مجاعة من الرجال كانت جتلس ِ
عاصب ًة حول
أيب حممد الوراق.
44
عاد الوراق إىل مكان جلوسه وسط الرجال املتحنكني بعامئمهم.
قميصه غري ٍ
منتبه للحديث ،فلام رأى الشبوط ِ وكان ٌ
شيخ منشغل بفليْ
هي َّيأ للشواء نشط وانتبه ،ورفع برصه وقال:
- -ما أخبار الناس؟ وما الوارد من بغداد؟
فرد عليه الرجل اجلالس بجنبه:
- -لقد ُبويع يف بغداد هلارون الرشيد باخلالفة بعد وفاة اهلادي الذي
كان حبسه ليخلعه من والية العهد .كام كان قد ح َبس حييى بن
َ
والفضل لقرهبام من هارون الرشيد. الربمكي
َّ خالد
حترك رجل آخر عميق احلدقتني وهو يمسح حليته وحيك أسفل
ذقنه:
ق�رب الش�عراء وأغ�دق عليه�م
س�معت أن حيي�ى الربمك�ي ّ
ُ --
األعطيات .وأن الرجل ربام أتى بقصيدة يمنحه عليها ألف دينار
عد ًا ونقد ًا.
قال الوراق ،وهو ينظر للسمك وقد مسته النار:
- -آل برمك أرسة إدارة وسياسة .كان جدهم برمك جموسيا من
كبار خدام بيوت النار بكابول .وسمعت أن الرشيد وحييى أكثر
من أخوين.
كان اجلاحظ يستمع إىل حديث القوم وهو جالس يف طرف املجلس
والغبار املتصاعد من وراء العتبة يلفح وجهه أحيانا.
ُ مما ييل الباب،
تلتقط أذناه املرهفتان كل مفردة يفوه هبا الرجال .أما عيناه فتسافران بني
الوجوه ،وسقف الدكان ،والكتب والباعة واملارين يف الزقاق.
45
ومع زوغان برصه بني تلك التفاصيل ،ما كانت تضيع صورة أو
فكرة دون أن هيضمها ويق ّلبها عىل وجوهها .كان يضع يده اليرسى
حتت ذقنه وهو ينصت حلديث الوراق عن الربامكة:
- -حييى الربمكي هذا يرضب به املثل يف الكرم .فإذا كان بينكم من
يقرض الشعر فليذهب إليه ليعو َد لنا باألمحر واألصفر .فالربامك ُة
ال َي ُعدُّ ون ألف دينار شيئا.
قارن اجلاحظ بني الدوانيق التي يكسبها بعد ساعات من اجللوس
عىل النهر ،وألوف الدنانري التي يقبضها شاعر يف ملح البرص ،فخفق
قلبه .ثم تذكر أمه التي تركها يف البيت واقفة بني العجز والفقر ،مفكرا
كيف ستكون لو جاءها يف يوم واحد بألف دينار ،وهي التي مل متلك يف
حياهتا عرشين دينارا.
ختيل نفسه ناظام قصائد طواال يف مدح حييى الربمكي وهارون
الرشيد .لكنه ما لبث أن شعر بوخز بني أضالعه .غاب عنه حديث
ٍ
ونظارة جل ْلد، ٍ
شاعر يئن حتت ا َ الوراق ،وذهب خياله إىل صورة
ٍ
وسياط تعلو وهتبط يف مقدمة سفينة. يصفقون،
رأسه وكأنه يطرد األفكار التي
هازا َ
أزال يرساه من حتت ذقنه ّ
غزته ،متأمال الزقاق املكتظ باملارة.
***
46
الدوحة1438 ،هـ
47
فاجأته هلجتها .إذ كان يظنها من دولة عربية مع ّينة لطريقة لبسها.
غري أن حياته يف اخلليج علمته أن اخلليجيني هم أكثر من يستخدم
عبارة الشناقطة .فقال هلا وكأنه ينتزع نفسه من الكآبة التي كانت تُظلل
مزاجه:
- -متام ،مدفونون يف بحر الرمال!
- -حرام عليك ،كيف؟
- -تلك املنطقة كان يسميها بعض املؤرخني «بحر الرمال» .أما
واملنكب الربزخي!
َ املؤرخون الشناقطة فيسموهنا البالد السائبة...
لفت انتباهها حتلله من العقد التي تعشعش يف أذهان معظم
زمالئهاُ .ع َقدُ املناطقية واهلويات املصنوعة صناع ًة من طرف املستعمر،
فاستزادته قائلة:
- -أي املؤرخني يسميها بحر الرمال؟
- -وصفها ابن خلدون هبذا الوصف ،أما ياقوت احلموي فقال يف
«معجم البلدان» عندما أراد احلديث عنا« :ومن السوس األدنى
بحر الرمل وليس
إىل السوس األقىص مسرية شهرين ،وبعده ُ
وراء ذلك يشء يعرف».
وبعد استظهاره للنص من ذاكرته ،رفع عينيه يف السقف وقال
ُمت ِ
َظارفا:
عرف!
- -وأنا -يا سيديت -من ذلك العامل الذي ال ُي َ
رفعت هاتفها عن الطاولة وقالت:
- -وماذا كان يسميها اجلاحظ؟
48
مت بمرشوعه الذي فاجأه السؤال .ثم خطر له أهنا قد تكون ِ
عل ْ
يعمل عليه .فرد باسام:
- -اجلاحظ مل يتحدث عن تلك األماكن ،فهي هامشية وبعيدة
بالنسبة له.
- -كويس!
- -مل نتعارف
- -أنا حصة إبراهيم
- -من وين؟
- -من السعودية؟
وقع جواهبا وقع الصاعقة .فالسعودية آخر البلدان التي كان يتوقع
أن تكون الفتاة منها .دارى استغرابه برشفة من القهوة مل ْ
يذق هلا طعام:
- -من وين يف السعودية؟
- -من املنطقة الوسطى.
- -من أي مدهنا بالضبط؟
مل جتبه .فشعر بخجل جيتاحه ،ونظر جهة مدخل الكافترييا وقال
ُمغيرّ ا املوضوع:
- -يف أي األقسام تعملني؟
- -أعمل يف قسم أمن املعلومات ،بالقسم التقني.
ِ
النفاثات يف ال ُع َقد؟ ْ
-إذن -من - -أوهِ ،
أنت
قطبت جبينها خمفية ابتسامة فاترة ،وهي تلعب هباتف نوكيا
املتواضع قائلة:
49
- -كيف يعني؟
رش النفاثات يف العقد» بأن داللتها
ُ - -يفرس بعضهم اآلية« :ومن ّ
احلالية تقع عىل العاملني يف أمن املعلومات ،الذين تلعب
أصابعهم بأمن الناس وأخبارهم ومعلوماهتم ،يعقدون العقد
اإللكرتونية وحيلوهنا.
- -واهلل هذا التفسري ذكي جدا.
مدت يدها إىل هاتفها ناظر ًة يف الرسائل الواردة .فانسدل شعرها
الفاحم عىل اهلاتف .فخطر له أن اللقطة يمكن أن تُرسم باحرتاف:
وشعر فاحم منسدل عىل أطراف طاولة .ثم
ٌ لقى،
هاتف متواضع ُم ً
ٌ
خطر له مع ذلكأن الفتاة أبعد ما تكون عن اجلامل.
فوجهها طويل قليل اللحم ،وعيناها عميقتان ،وشفتاها محُ ِايدتان،
ُ
الضاغط له بأن ال ٍ
مربوعة أقرب للقرص .وجسم ييش اجلينز مع قامة
يشء فيه يدعو لالهتامم أو ِّيل األعناق.
رفعت رأسها عن النظر إىل هاتفها .فلم تكن تبحث عن يشء
معي ،بل كانت فقدت روح االندفاع يف احلديث لكالمه عن اآلية. نّ
فهي ال تضيق بيشء ضيقها باملتدينني .ثم محلقت فيه متأمل ًة شفتيه
الغليظتني وذقنه احلليق قائلة:
- -ختصصك أدب؟
- -ال ،ملاذا؟
- -من تعلقك باللغة العربية.
فاجأه حديثها .فهو ال يذكر أن بينهام تعارفا سابقا جيعلها تعرف
50
عنه كل هذا .فقبل قليل أشارت للجاحظ ،واآلن تتحدث عن ولعه
بالعربية .قال بتضايق وهو ينظر إىل هاتفها التعيس (نوكيا أبو املصباح)،
مستغربا استخدامها له مع َك َلف بنات عرصها بآخر موضة يف عامل
اهلواتف:
ِ
قرأت سرييت الذاتية؟ - -هل
ارتبكت قليال ،ألهنا مل تتوقع سؤاله ،وقالت:
- -النفاثات يف العقد...
ووقفت ،مستأذنة وسط صدمته.
اجتاحته موجة أسئلة مفكرا يف هذه الفتاة الغريبة .وتساءل يف
نفسه :هل يعقل أن تكون دخلت عىل حاسوبه واطلعت عىل ما يكتب
وعىل كل ملفاته؟ ثم تساءل عن انطباعاهتا عنه وهي تقرأ كل ذلك دون
علمه .وسط صدمته ،أخذت حقيبتها وابتعدت خطوات ،ثم رجعت
ومالت عليه هامسة:
- -باهلل ال تقل ألحد ما قلته لك!
- -ال بأس
- -أمانة! باهلل أمانة ...سأرشح لك الحقا.
ِ
املعقود هز رأسه موافقا ،فيام كان أنفه قد اقتبس من رائحة البخور
ِ
الفائح من أرداهنا. بالعطر البارييس
قت بذاكرته قديام: أفاق عىل نفسه وهو يردد أبياتا ِ
عل ْ
عَ�دِّ ع�ن ذا ،فف�ي اخللي�ج نس�ا ٌء
عط�ر
ُ َ
س�بيك منه� َّن فــاتـن�ات َي
ٌ
51
وارس�م َ
بأنف�ك ُ فانظ�ر
ْ خ�ادرات،
ٌ
يرس! ُ
والـخيال ُّ ص�ور الــحس�ن،
َ
أتبعها نظره وهي تنزل مع السلم ،حيث تبادلت التحي َة مع أحد
الصحفيني الداخلني إىل باب الكافيرتيا .لبث يف مكانه قليال حتى قدّ ر
أهنا جتاوزت غرفة األخبار إىل القسم التقني ،فنزل مرسعا إىل مكتبه.
جلس وفتح حاسوبه ،حماوال طر َد صورهتا من ذهنه.
52
البصرة180-175 ،هـ
كان اجلاحظ مستلقيا عىل بطنه واضعا مرفق ْيه عىل األرض ويديه
حتت ذقنه ،وهو يتأمل مدينة البرصة من ربوة عالية .كان يستلقي داخل
ص من األخصاص التي يسكنها طالب اخلليل بن أمحد. ُخ ٍّ
تأمل البرصة متسائال :هل القرب من املحاسن يعمي عنها؟ أم
البعد يوحي بمحاسن زائفة؟ وإال ما بالنا نكون داخل البرصة فال نرى
إال قصاب ًا يف ثوبه الوسخ ،أو سائال أعور ،أو كناسا هيوديا ،فإذا خرجنا
منها رأيناها مكتملة املحاسن بأهنارها ودورها وأسواقها ،كأهنا عروس
جُتىل لعاشق؟
إن القرب أكرب حاجز عن رؤية املحاسن .وإال مل َ ال يعشق معظم
العشاق إال من ال يقدرون عىل القرب منه ،وال يساكنهم؟ لذا يرون
حماسنه جمتمعة ،كام نرى حماسن القمر وهو بعيد ،ولعل أحدنا لو
طار إىل القمر ما رأى منه إال بقعة باهتة حتت قدميه ،ولزالت دائريته
واؤه .ثم إن احلسناء نراها مجيلة ما دامت بعيدة،
ور ُوبريقه ومجاله ُ
فنرى مشيتها املرتنحة ،ونسمع ن َغمها الساحر ونتأمل معاقد احلسن
البض .فإذا التصق هبا عاشقها مل ير منها إال ما قرب من
يف جسمها ّ
عينيه فحسب!
53
جلس بتثاقل طاردا تلك األفكار عن ذهنه .ذهب خياله بعيدا
مستعيدا ذكريات جميئه إىل هذا املكان رفقة أ ّمه قبل سنوات طويلة.
يذكر جيدا كيف جاء معها عىل عادة أهل البرصة رغم أنه كان شابا
يافعا.
تذكر يوم جاء معها إىل هذا املكان وكيف تقدم أمامها عندما
وصال فاعرتضهام شاب أمحر يلف عاممة أكرب من مججمته وسأهلام :ما
حاجتكام؟
بادره اجلاحظ:
- -نريد رؤية اخلليل بن أمحد.
- -انتظراين هنيه ًة.
عاد الغالم بعد قليل طالبا منهام أن يتبعاه.
ٍ
وجه لف مخارها الذي كان مرختيا عىل جانب أحكمت املرأ ُة ّ
ْ
عة الشباب الباقية .أمسكت بطرف مخارهاطرزتْه الغضون رغم مي ِ
َْ
حدقتي عينيها
ْ وأمر ْت طر َفه لتسمح به حبات العرق املتجمعة حتت
ّ
ِ
وشفتها السفىل ،ودخلت مرتبكة.
- -السالم عليكم
- -وعليكم السالم ورمحة اهلل
ٍ
طنفسة كان اخلليل جالسا يف ركن الكوخ الواسع ،مرتبعا عىل
خرضا َء نظيفة ،وحوله نحو العرشة من طالبه ،وبني يديه إناء زجاجي
مملوء برشاب الرمان.
وسادتي جلديتني فجلسا عليهام.
نْ قام أحد الطالب ورمى جتاههام
54
سمتَك.
علمك ويرى ْ- -هذا ولدي عمرو بن بحر .جئتك به ليتعلم َ
فهو ال ّ
ينفك ينفق كل ما تقع عليه يده لرشاء الكتب .وال ينفك
منذ صغره يسألني عام ال أقدر عىل فهمه.
كان اخلليل يستمع حلديث املرأة مطرق ًا ممسك ًا حليته البيضاء بيده
اليرسى ،واضعا كفه اليمنى حتت مرفقه األيرس .وكان طالبه حيدجون
املرأة بأبصارهم عجب ًا ،وهي تتحدث وكأهنا تالعب ولدها وهو يف
عامه الرابع:
- -مل يكن كغريه من أترابه ولِداتِه منذ عقل .كنت ال أرمي له كلمة
أسكتُه هبا عن أمر إال احتج عيل بام َي ْبهتُني ،...كنا مرة يف السوق
فمر بائع عنب فطلب عنقودا منه فقلت له: وكان يف عامه الرابعّ ،
مرا يف ِ
مر .فقال :هل ذقته؟ دعيني أجربه ألحكم ،فقد يكون ّ إنه ّ
حلقك حلو ًا بني فك ّّي.
كانت املرأة تتحدث وكأهنا نسيت أهنا يف حرضة أعقل العرب .بل
حتولت إىل أم تروي قصص طفلها إلحدى جاراهتا.
تزحزح اخلليل قليال فوق الطنفسة ،رافعا وجهه األشيب
واالبتسامة ال تفارق حمياه ،ثم التفت إىل الفتى:
صف يل ح َّبك للعلم يا بني.
ْ --
التفت الغالم إىل الطالب ا ُمل ْط ِرقني وقد سكنت أقال ُمهم ورفعوا
أبصارهم صو َبه ،منصتني ملا يقول .أعاد برصه إىل اخلليل وقال بلسان
ٍ
صاف: ٍ
وصوت ٍ
منطلق
وحب الظمآن
َّ ِ
والغائب ْأوبتَه، حب األم ولدَ ها،
- -نعم .أحبه َّ
الصادي للامء الزالل.
55
- -واهلل إنك لفصيح يا بني ،ونحن إىل التعلم منك أحوج.
قاطعته أم عمرو قائلة:
- -حبه للعلم عجيب .فهو ينفق معظم ما جينيه من بيع السمك
لرشاء الكتب ،ولقد جاء يوما وكنا ننتظره نكاد نقيض جوعا.
فوضع اجلراب عن ظهره فلام فتحته وجدته مملوءا كتبا ،وكأنه
نيس فوضع الكتب مكان السمك...
ثم اندفعت أم عمرو تضحك بصوت عال .شعر اجلاحظ بحرج
ضحك أمه بني يدي أعقل العرب ،وظهر ذلك يف تعرق جبهته ،التي
تكاد تكون املكان الوحيد الذي يفضح مشاعره كلام حاول إخفاءها.
ابتسم اخلليل خماطبا أحد أنجب تالميذه إبراهيم بن سيار الن ّظام ،قائال:
وأدرجه يف حلقتك.
ْ عمر ًا معك
- -قم يا إبراهيم وخذ ْ
حتفز الشاب األسمر النحيف ذو األنف األفطس للوقوف –وهو
قلمه ما بني طرف أذنه األعىل وصدغه -ورحب باجلاحظ طالبا
يدس َ
ّ
منه صحبتَه إىل أحد األخصاص.
و َّدع الفتى أ َّمه ثم تبع النظام ،سالكا طريقا متعرجا وسط
أخصاص متناثرة .الحظ الفتى -وهو يسري خلف شيخه اجلديد -أن
اهل ْينم َة املنبعثة من األخصاص ترتفع كلام ابتعدا عن جملس اخلليل بن
أمحد .بدأت أذنه الواعية تلقط أصواتا متناثرة خترج من هنا وهناك.
كان يسري خلف النظام وأمشاج األصوات تتسابق إىل أذنيه حتى
ال يكاد يستمع لصوت حتى يشغله آخر.
حلداء ،وسمع ترتيال
سمع أصواتا تقرأ أشعارا قراءة قريبة من ا ُ
56
ُم ْش ِجي ًا ٍ
آلي من القرآن .غري أنه ما كاد يستمتع بالقراءة املشجية حتى
ازدادت األصوات املنبعثة من األخصاص تداخال.
وصال بعد خطوات إىل خص واسع ،فدخل النظام ،وتريث
اجلاحظ ليسمع احلديث الدائر بني رجلني جيلسان حتت شجرية عند
مدخل اخلص:
- -انطقها كام ينطقها اهلذليون ..ال تستطيع! قلت لك ال تستطيع!
- -واهلل إين ألستطيع.
- -إن لسانك أكثر التوا ًء من ن ّيتِك .وإنك ألكثر عجم ًة من جدك
وجدتك!
جاء شاب جيري وبيده خيط رفيع .وقف عند زجاجة ضخمة
مثبتة عىل األرض ثم اتكأ بقرهبا وبدأ يقيسها باخليط .كانت عيناه ال
تكادان تفتحان لتقابلهام مع أشعة الشمس ،لكنه ظل صابرا حتى عدّ
ووصل الرقم مخسة وعرشين.
كان اجلاحظ يرقب ِ
اجلدّ البادي يف عني الرجل املنبطح عىل
األرض ،واخليط الدقيق املرتجرج بني يديه ،فكاد يضحك لوال حاجز
احلياء.
بحصرُ ٍ من جريد النخل، دلف إىل اخلص .كانت أرضيته مفروشة ُ
والكتب والوسائد متناثرة يف أطرافه .ارتبك قليال غري أن الن ّظام دعاه
للجلوس يف الركن املرتب من اخلص ،حيث جيلس شاب ذو ذؤابتني
تتدليان عىل كتفيه .تقدم النظام وخاطب اجلاحظ قائال :هذا صديقي
احلسن بن هانئ أبو نواس .ثم التفت لصديقه وقال:
57
- -هذا عمرو بن بحر ،سيكون رشيكنا يف املسكن والدرس.
مدّ يده للفتى بارتباك حماوال تذكر املكان الذي رآه فيه ُ
قبل .أين
رأى هاتني العينني العميقتني الناعستني ..وتينك الذؤابتني املنسدلتني؟
كان يتأمل الوجه الدائري املشوب بحمرة ،وكلام تأمله ازداد شعورا
بغرابته مع يقينه أنه رآه ُ
قبل.
خطر له أن املرء يرى بعض الوجوه أحيانا فيشعر بأهنا ناتئة عن
عقله وقلبه ،فيقوده ذلك لسوء الظن هبا من أول نظرة .وبعض الوجوه
متلك مفتاحا سحريا تتسلل به إىل قلب املرء دون استئذان.
كانت هذه األفكار تلعب بذهنه ،بينام انشغل النظام بجمع بعض
الكراريس واندفع يرتبها .جلس اجلاحظ جنب الشاب دون أن يتحدث
أحدمها لآلخر .كان مندهشا من املكان اندهاش الداخل يف مكان
جمهول ،وكان الشاب مستثقال حضور اجلاحظ استثقال صاحب البيت
لغريب تسور عليه فجأةً.
اقرتب النظام وبيده حزمة من الكراريس فجلس يمني اجلاحظ
وقال:
- -كيف معرفتك بالشعر وأيام العرب؟
حرضت جمالس األصمعي وأيب عبيدة أشهرا .وإذا كان حضور
ُ --
التحريش بني األعراب وكتابة أقواهلم معرفة بالعربية فقد
شهدت من ذلك ما يغني.
مل ُي ِع ْر إبراهيم النظام إجاب َة اجلاحظ كبري اهتامم ،بل مل ينتبه ملا قاله؛
فقد اندهش وهو يتأمل وجهه الشائه كأنه يالحظ معامله للوهلة األوىل.
58
عينان بنّيتان واسعتان جاحظتان خييل للناظر أهنام موشكتان عىل السقوط
لنتوئهام عن احلاجبني الكثني األ َغ َّم نْي .وأنف أفطس متوسط احلجم،
ونتف من الشعر بدأت تغزو عارضيه عىل
ٌ حتته خدّ ان كأهنام ُح ِفرا حفر ًا.
غري هدى .وأسنان متشاكسة تظهر وختتفي بني شفتني غليظتني.
أفاق النظام مالحظا انتباه اجلاحظ لتأمل ِخلقته ،فقال:
- -لعلك جتد يف صحبة أيب نواس ما ُيعجب و ُيطرب ،فهو شاعر
وفقيه ومتكلم.
نظر اجلاحظ بطرف عينه اليرسى إىل أيب نواس ،فرآه متشاغال
بالنظر يف جملد ضخمُ .خ ّيل إليه أنه ال يفهم منه شيئا ،وإنام يتشاغل عن
الرتحيب به ِضيقا بحضوره.
تفرس أنه من أهل خوزستان ،تلك املدينة التي ال يضيق بأحد
ضيقه بأهلها .ثم ذهب خياله بعيدا متذكرا أنه رأى ت ْينك العينني
الفران القريب
الناعستني املليئتني باأللغاز ،والذؤابتني املنسدلتني عند ّ
من منزل أهله.
ومع غرابة استقبال املضيف للجاحظ ،فإنه شعر بسعادة غامرة
ورغبة يف حفظ وإتقان كل ما يمور به هذا املكان امليلء بالعلم والتجارب.
جعل ُيصعد عينيه وخيفضهام يف الكتب املصفوفة والكراريس املتناثرة،
مفكرا يف حجم اإلمتاع واألنس العظيمني اللذين ينتظرانه بني هذه
األخصاص املطلة عىل البرصة.
اقرتب النظام من اجلاحظ ليسأله:
- -أي الفنون تود أن تنشغل هبا هذه األيام؟
59
كان اجلاحظ قد بدأ يسرتيح للمكان ،وكان الشعور بالغبطة
مستوليا عليه فأجاب طبقا خلاطره ،ال للسؤال:
- -كيف لرجل م ّن اهلل عليه بصحبة اخلليل أن يرتكه ويعود للعيش
يف حي بني كنانة؟
أفاق اجلاحظ من ذكرياته تلك وهو ما يزال جالسا يف مكانه ينظر
علو .وقف متثاقال ،ملقيا نظرة عىل الكتب املرصوصة يف
إىل البرصة من ّ
طرف اخلص ،وخرج حلضور جملس اخلليل ،مفكرا يف ذكرى أمه التي
توفيت منذ أشهر.
***
استيقظ كعادته قبيل الفجر بقليل ،واستل نفسه من بني أجساد
زمالئه .وضع رجل ْيه يف نعليه املهرتئتني ومشى خطوات متثاقلة .كان
عازما عىل حضور درس مع أحد أئمة احلديث.
األخصاص املرتاصة وراءه ،وكان هدوء الليل ينحرس عن
َ ترك
أطراف البرصة بتدرج ،وأصوات نباح الكالب ختتلط بصياح الديكة
ونداءات املؤذنني .دخل مسجد اإلمام إسامعيل بن علية ،فوجدهم
فرغوا من صالة الصبح.
بدأ الطلبة يتزاحفون مقرتبني من ابن علية .زحف هو من جهته
بعد أن صىل رسيعا .حترك الشيخ من حمرابه ليجلس عند إحدى
ب الطالب حوله.
السواري و َع َص َ
تقارب أجساد الطالب
ُ رطب داخل املسجد .وضاعف
اجلو ساخن ٌ
يف شكل دائري حول الشيخ من السخونة والرطوبة .جلس اجلاحظ
60
مقابل الشيخ ،فغشيتْه رائحة املالبس املتسخة واألجساد املتعرقة.
بدأ ابن علية ببيان رشف علم احلديث ،مذكرا بأن رشف كل علم
نابع من رشف موضوعه .كان يتحدث هبدوء وكأن بقية نعاس ما زالت
متواري ًة يف حباله الصوتية ،رغم القراءة الندية التي قرأ هبا يف الصالة
قبل قليل.
بعد ساعة ،اتضحت أوجه الطالب شيئا فشيئا .إذ تكاد الشمس
خترج حاجبها من ك ُّوة املسجد .فبدا وجه أنجب طالب ابن علية -عيل
بن املديني -شديدَ البياض ،مفعام باحلياة ،حتى لكأنه الوحيد الذي
بدت عاممته -املكورة
املتورد .كام ْ
ّ نام نوما هنيئا تفضحه صفح ُة وجهه
بأناقة حول شعره الفاحم -وأن ُفه األقنى وشفتاه الدقيقتان أكثر وسامة
من ذي قبل.
كان اجلاحظ متلففا يف ثوب متخرق بال .أطرافه مشققة ولونه ال
يكاد ُيتَبني .وكان أفضل مالبسه طيلسانا أسود ما زال متامسكا يلقيه
عىل عاتقه.
عيل ب َن املديني قائال:
رفع الشيخ ابن علية عينيه وخاطب طال َبه َّ
- -حدثنا عن رشف علم احلديث!
كان ابن علية حيب أن يسمع حديث تلميذه املديني .فحالوة
ألفاظه وقوة حجته ووسامته جتعل مثل ابن علية يفخر بأنه من طالبه.
تنحنح املديني وقال بصوت واضح:
- -إن رشف كل علم –كام قال الشيخ– نابع من رشف موضوعه.
فإذا كان بعض الناس مثال يبكّرون يف مثل هذه الساعة لدراسة
61
الكيمياء ،واالنشغال باهليوىل واملنطق اليوناين ،فنحن نشتغل
بكالم خري الربية.
ما إن نطق املديني كلمة «خري الربية» حتى صاح شيخ مضطجع
بني السواري بصوت مرتفع:
- -بأيب هو وأمي! .
فالتفت ابن علية جهة الرجل املضطجع ،فقال له املديني:
- -هذا صوت املتجنن رأس النعجة.
ثم واصل ابن املديني:
فقسم عاكف عىل علوم
ٌ - -إن أهل البرصة اليوم منقسمون إىل أقسام.
األوائل ،ال يفرت عن ذكر أريسطو طاليس وأفالطون وإقليدس.
وقسم مستهرت بأخبار العرب وأيامها وأشعارها ،وما قال الشاعر
يف بني فالن وما هجا به بني عالن.
فهم اجلاحظ يف كالم املديني غمزا فيه ويف شيخه اخلليل بن أمحد
هم بأن يتكلم لكنه تراجع ،فواصل املديني:
وصديقه النظامّ .
وقسم ال شغل له إال أيام موبذان ،وما قال أردشري بن بابكان،
ٌ --
وما فعل كرسى أنو رشوان .وقوم آخرون وفقهم اهلل للعكوف
عىل سنة املصطفى أيام إدبار الناس عنها ،ولعل هذه اجلامعة
املرحومة من أهل احلديث رأس ذلك .جعلنا اهلل من املتمسكني
بسنة رسوله...
ثم جاءت الرصخة من جهة رأس النعجة أقوى هذه املرة:
- -بأيب هو وأمي! .تعيشون من بركاته ،وتأكلون الفالوذج من
62
كالمه ،ثم تكسلون عن الصالة عليه؟
سكت اجلميع ،بينام كان اجلاحظ يواري ابتسامة .لكن ابن علية
قال بصوت مغضب:
-صىل اهلل عليه وعىل آله وصحبه وسلم .جتن ْبنا يا هذا.
قفز شابان من احللقة ليخرجاه ،فقام رأس النعجة وركض خارجا
من املسجد ،مراوحا بني الغناء والتصفري.
واصل ابن علية حديثه ،فيام كانت الشمس قد ارتفعت من جهة
بدت جبه ُة ابن علية الواسعة
الكوة فاتضحت األوجه أكثر فأكثر .حيث ْ
وعليها أثر احلىص من الصالة.
وختم ابن علية حديثه فاحتا األسئلة ملن شاء.
حترك شاب يف طرف احللقة ومال بجسمه دون أن يرتك مكان
جلوسه:
- -يا شيخ ،لقد كثرت علينا األحاديث .فام ندري ما نرتك وما
ندع .فلامذا ال نعمد إىل القرآن الكريم فنلزم ما فيه من أمر وهني
ونطرح ما عداه؟
يف هذه اللحظة ،شخصت األبصار إىل ابن علية يف انتظار جوابه.
إذ شهد املسجد بعد صالة العرص أمس حديثا بني بعض طلبة العلم يف
هذا األمر .ثم اتفقوا عىل أن يسأل أحدهم ابن علية.
مد ابن علية يرساه جهة كتفيه وخلع طيلسانا كان عليهام رغم
احلرارة والرطوبة .ثم وضعه حتت ركبته اليرسى معتمدا عليه ،وقال
بصوت مفع ٍم باجلدية واالحتشاد:
63
أوتيت
ُ - -روينا عن غري واحد من شيوخنا أن النبي قال« :أال إين
َ
القرآن ومثله معه» .ثم إننا إذا عمدنا إىل القرآن وحده ،لن يشفي
غليلنا يف أمور كثرية .فكيف سنعرف مقدار الزكاة يف أموالنا؟
ومن لنا بمعرفة عدد ركعات الصالة وأوقاهتا؟ ثم من أين
سنعرف مناسك احلج؟ وأنى لنا بمعرفة رشوط صحة النكاح؟
كان ابن املديني منتبها أشد االنتباه لكالم شيخه .غري أنه ما إن سمع
خاطره بعيدا .فتذكر كيف حدثته أمه قبل أيام
ُ كلمة النكاح حتى رسح
عن نيتها تزوجيه من فتاة فاتنة .وكيف وصفتها له ذلك الوصف الذي ما
كان يظن أنه يدور بخاطر أمه املنهمكة يف العبادة أبدا.
خفق قلبه وهو يتذكر قوهلا:
البدنِ ،
لدن ُة القد ،تتثنى يف مشيتها كأهنا ِ غض ُة
- -إهنا يا ولدي ّ
الغريب عن أهله مهه ،وتُسيل ٍ
َ خوط بان .واهلل إهنا لتنيس املهمو َم َّ
وأحبابه.
انتبه املدينيُ ،مؤنّب ًا َ
نفسه كيف رسح خاطره عن أحاديث رسول
اهلل ،وبني سواري بيت اهلل ،ليفكر يف حماسن فتاة ما زالت أجنبية عليه.
فاستغفر وحترك يف مكانه ،مراوحا بني اجللوس عىل رجليه.
ثم انتبه إىل أن ابن علية قد أهنى اجلواب عىل السؤال ،ودخل يف
احلديث عن جهود أهل األثر يف حفظ السنة:
َّ حَْ َ نْ
- -إن اهلل سبحانه وتعاىل قد تعهد بحفظ القرآن فقال﴿ :إِنا ن ُن ن َّزلَا
ّ ْ َ َّ هَ ُ حَ َ ُ َ
ون﴾ .ونحن نرى أن حفظ السنة من حفظ اذلِكر ِإَونا ل لاف ِظ
القرآن؛ إذ هبا ُي نّبي القرآن و ُيفهم.
64
فربزت بوضوح أصوات قراءة
ْ ثم سكت ابن علية قليال وتنحنح،
األطفال يف أحد الكتاتيب القريبة .فبادر اجلاحظ سائال:
- -لكن كيف نثبت أن القول الفالين من كالم النبي قطعا؟
- -نعرف ذلك بمعرفة الرجال الناقلني والتأكد من صدقهم وضبطهم.
- -لكن هذا ال يصح .فلو كان الرجل املعروف بالصدق ال يكذب،
واألمني املعروف باألمانة عند الناس ال خيون ،والثقة ال َينسى،
ُ
العيش يا شيخ .فهذا أمر متعذر عقال. والويف ال يغدر لطاب
ُّ
بدا احلرج يف وجه ابن علية ،وانتابته كحة خفيفة ،بصق يف منديل
صويف ثم رده إىل جيبه قائال:
ميت يف
- -هذا القرآن حمفوظ .فلو طارت كل املصاحف اآلن أو ُر ْ
البحر ،الستطاع كل حي من أحياء املسلمني كتابته كامال من
صدور أطفاهلم .أليس كذلك؟
- -بىل!
- -وما دام اهلل قد تعهد بحفظه فهو حمفوظ ،وحفظ السنة جزء
من حفظه ألهنا شارحة له .ثم إن الثقة ممكنة عقال ،والثقات
معروفون ،وبراهني الوقائع تثبت ذلك.
كان اجلاحظ يستمع بانتباه لكالم ابن علية ،وكان املديني ينظر إىل
ردات فعله أكثر من نظره إىل شيخه .فقال اجلاحظ:
- -لوال أن الثقات يكذبون يف آرائهم ملا تناقضت آراؤهم ،فنحن
نرى الرجل من املعروفني بعلم احلديث يدعي أنه التقى فالنا
وهو مل يلقه.
65
- -هذا يا ولدي ليس بثقة ،وهو جمروح عندنا.
- -لو وجب علينا تصديق املحدث لظاهر عدالته لوجب علينا
تصديق مثله وإن خالف روايته وناقض خربه ،ولو صدقنامها
لتناقضا ولو تناقضا لصدقنا الضدين ،وهذا ال يصح عقال.
ثم اشتدت الكحة عىل ابن علية ،ورفع عينيه الدامعتني وقال
للجاحظ:
- -هذا ما نراه وما ننتحله يا ولدي .فإن كنت من أصحاب األهواء
فاصحب غرينا.
وارتفعت غمغامت يف أطراف احللقة ،قطعها صوت املديني:
- -إن أهل األهواء مولعون بالشغب عىل أهل السنة.
وشعر اجلاحظ باإلساءة ،ثم تذكر ما قال له النظام من أن أهل
احلديث ال يؤاخذون بام يؤاخذ به أهل الفلسفة والكالم .فأمسك ومل
يتكلم.
ساد اهلدوء هنيهات ،ثم وضع ابن علية يديه عىل األرض ووقف.
فوقف بوقوفه كل احلضور وودعوه إىل باب املسجد.
عاد ابن املديني إىل مكان جلوس ابن علية وأسند ظهره للسارية.
غري أن نصف احلضور انرصف ،ومل يبق معه إال فتية ثالثة رابعهم
اجلاحظ.
تنحنح املديني وكأنه حياول تقليد صوت شيخه دون قصد منه:
احلق حني قال إن السنة حمفوظة ،فهذا مالك بن - -إن الشيخ مل يعدُ َّ
أنس ألف كتابا مجع فيه السنة من أفواه التابعني يف املدينة .وقد
66
قيض اهلل رجاال ليتتبعوا األسانيد وينقدوها ليميزوا الصحيح
من السقيم.
وتوقف عن احلديث ليمسح حبيبات ٍ
عرق جتمعن حتت جانب
عاممته مما ييل صدغه ،فبادره أحد الطالب ممن هم أكرب منه سنا:
- -مل َ قبل أهل احلديث الرواية عن أصحاب البدع؟ ومل َ ال تُقرص عىل
أهل األثر امللتزمني بالسنة؟
رد املديني يده إىل مستقرها فوق ركبته وقال:
- -ال .لقد قبل أهل احلديث أحاديث خمالفيهم ألنه ال يمتنع عقال
وطبع ًا وجود الصادقني بينهم .فاخلُ ُلق خصلة معزولة عن الورع.
فقد جتد الرجل الذي ال بأس بدينه يرتخص يف الكذب .وقد جتد
يتصون ويأنف من الكذب مروء ًة ال تأث ًام.
ّ الرجل الذي ال دين له
- -ولكن ،أال يستطيع صاحب البدعة الرتخص ووضع احلديث
حتى وإن كان خلقه متينا؟
ابتسم املديني ،وهو يرى نفسه قد تصدر لإلفتاء و ّملا يصل العرشين
من العمر ،فقال بغبطة:
- -إنا معارش أهل األثر ال نسعى إال ملعرفة الصحيح والسقيم من
األحاديث ،وال يمتنع عقال وجود حديث عند بدعي ثقة وصل
إليه بطريق مل تتيرس لغريه.
كان اجلاحظ قد شعر بعدم جدوى النقاش ،غري أنه قرر مواصلة
االستامع حتى يفهم املنطق الذي يقوم عليه مذهب القوم.
ثم سأل سائل يف صوته بحة رافعا صوته:
67
- -لعل ذلك ممكن يف مكة واملدينة حيث كان أصحاب رسول اهلل.
أما يف برصتنا هذه فام أرى يف هذ املبتدعة -من معتزلة وخوارج
وروافض -خريا.
التفت ابن املديني إىل الزقاق املحاذي للمسجد فالحظ ارتفاع
النهار .فأعاد نظره إىل الطالب قائال:
- -لكن هنا أمرا ربام غاب عنك .وهو أن البرصة كانت سكنا جلمع
من صحابة رسول اهلل مثل أنس بن مالك ،وأيب موسى األشعري،
وعبد اهلل بن عباس الذي َتولىَّ إمارهتا لعيل بن أيب طالب.
كان املديني يتحدث منطلق ًا ،وهو يرسد أسامء الصحابة الذين
نزلوا البرصة للزيارة أو السكن .وكان إذا حتدث يف أسامء الصحابة
وتفاصيل حياهتم يستغرب سامعه كيف حفظ كل هذا العلم مع حداثة
سنه.
كان املديني يتحدث ،والطالب شاخصو األبصار إليه ،واهلدوء
خييم عىل جنبات املسجد املسقوف باآلجر وجريد النخل .فجأة ،حترك
باب املسجد ،فالتفت أحد الطالب فرأى جارية هندية حتمل إناء كبريا.
أشار املديني إليه بالقيام إليها .وقف الطالب إليها فناولته إناء
خزفيا مرتعا باللبن .ثم قالت واحلياء يغلبها:
- -لقد بعثتني مواليت هبذا الرشاب.
عاد الطالب باإلناء ،وعني اجلاحظ ال تكاد ترتفع عنه .فقد كان
يشعر بجوع شديد.
وضع الطالب اإلناء بني يدي املديني ،ثم قام إىل حجرة يف جانب
68
املسجد وأتى بإناء صغري .أترع اإلناء اخلشبي الصغري من اللبن املخيض
وناول ابن املديني فاعتذر ،فناول الطالب واحدا واحدا.
وصوت ازدراد اللبن يرتامى إىل
ُ واصل املديني حديثه هبدوء،
سمعه وقال:
- -لقد نزل بالبرصة كثري من الصحابة مثل عتبة بن غزوان ،وعمران
بن حصني ،وأيب برزة األسلمي ،ومعقل بن يسار ،وعبد الرمحن
الش ِّخ ْري ،واحلكم
بن سمرة ،وأيب زيد األنصاري ،وعبد اهلل بن ِّ
ابني أيب العاص.
وعثامن ْ
كان اإلناء قد وصل إىل آخر الطالب جلوسا يف طرف احللقة،
فعب منه ثم وضعه عىل األرض ،ومسح فمه بيده وقال:
ّ
يدي
الناس تعلموا يف هذه املدينة عىل ْ
َ - -وال تنس أهيا الشيخ أن
احلسن البرصي الذي أدرك مخسامئة من الصحابة ،وحممد بن
السختياين ،وبهَ ْز بن حكيم القشريي ،ويونس
سريين ،وأيوب َّ
بن عبيد ،وخالد بن مهران ّ
احلذاء ،وعبد اهلل بن عون ،وعاصم
بن سليامن األحول ،وقتادة بن دعامة السدويس ،وغريهم.
هتللت أسارير املديني ثم استدرك عىل الطالب قائال:
- -هذا صحيح .غري أننا نرى أن احلسن البرصي مد ِّلس.
فقاطعه الطالب وقد خف اجلفاف الذي كان باديا عىل حمياه قبل
الرشاب:
- -أعلم ذلك أهيا الشيخ .ولك ّن يف تالميذه ثقاتا عدوال.
مل يتاملك اجلاحظ أن قال بصوت منخفض:
69
- -إذا كان احلسن البرصي غري عدل ،فكيف نثق يف العدالة معيارا
للرواية؟
قال املديني:
- -احلسن البرصي عدل ثقة ،لكنه يدلس يف الرواية .وهنا فرق دقيق.
وهم أن يرد بجملة مفحمة ،ثم تذكر أن ابن وابتسم اجلاحظّ ،
املديني قد يغضب ،وأن ال فائدة من حماورة هؤالء باحلجج املنطقية.
تثاءب ابن املديني وهو يبادل اجلاحظ النظرات ،وسالت دمعة
عىل خده األيمن ،مسحها بطرف أصبعه قائال:
- -لعلنا نلقاكم يف صالة الظهرية.
وقف القوم واحدا تلو اآلخر ،والتفت املديني إىل أحد الطالب
قائال:
- -أعد إىل اجلارة إناءها.
خرج اجلميع من باب املسجد .وخرج اجلاحظ مفكرا يف طول
املسافة التي تفصله عن مدرسة اخلليل .ثم توسط الطريق وهو يفكر
كيف سيجد ما يسد به رمقه ،فأمعاؤه تكاد تتشقق جوعا.
***
70
الدوحة1438 ،هـ
ال يذكر كم جالسها بعد ذلك ،وال كيف بدأ يشك يف تص ّيدها له
يف الكافيرتيا.
لكنه كان ال يلقي هلا باال بداية ،فام هي من الفتيات الالئي تشعر
نحوهن بانجذاب من أول مرة .بل كانت من ذلك النمط من النساء
َ
حبال غوايته .تستطيع بعض النساء يرمي
َ كي
املحتاج لوقت طويل ْ
رمي الفؤاد بسهم من أول لقاء ،أما بعضهن فال بد أن يسافر الرجل
يف عواملها كي ينجذب إليها بتدرج .متاما مثل أمواج الشطآن ..تزحف
َ
الغافل الواقف عىل ضفافها. بتدرج حتى تُغرق
لقد سافر يف عاملها أياما ،وأبحر يف تالفيف شخصيتها أشهرا دون
أن يدري.
بدأت العالقة تتوطد ،وشغاف القلوب تتامهى .تواعدا عىل
الكورنيش ،دون أن يمشيا معا.
بل يميش كل منهام عىل حافته ،بحيث يراه اآلخر من بعيد ،ثم
ٍ
ساعات .عرف عنها يتحدثان عىل اهلاتف .تستمر أحاديثهام أحيانا
كل يشء ،عرف كيف ترك والدُ ها السعودية وقرر االستقرار يف قطر،
وكيف طلق أمها التي بقيت هناك ،وكيف سافرت هي لدراسة أمن
71
املعلومات يف إحدى اجلامعات األمريكية.
مكنته مئات الساعات اهلاتفية ،واللقاءات اخلاطفة يف كافيرتيا قناة
العروبة ،من التعود عىل شخصيتها الغريبة.
حصة فتا ًة سعودية عادية.
فلم تكن ّ
فقد أورثها اجلو الديني املكثف يف منطقتها بالسعودية ضيقا شديدا
باملتدينني ،وفهام خاصا لإلسالم .فهي تسخر دائام من املتدينني ،لكنها
ختشى من العني خشي ًة جنونية .تدعو إىل الليربالية االجتامعية ،لكنها
ِ
احلركات اإلسالمية السياسية ،لكنها تُدافع ضد احلرية السياسية .تنتقد
ٍ
بدوي يطلب ثأر أبيه! عن املدرسة الوهابية بعقلية
كلمتْه قبل أيام هاتفيا ،قائل ًة دون مقدمات:
- -قل ما شاء اهلل ال قوة إال باهلل!
- -ليش؟
- -قل وبعدين أقل لك.
- -ما شاء اهلل ال قوة إال باهلل!
- -قبل يوم قلت يل إن سياريت مجيلة ،ومن يومها وأنا أالحظ أين
أكاد أقع يف حادث سري عند كل منعرج.
ومع ذلك تعطي االنطباع بميلها إىل التفسري العقيل للدين مع
حمدودية ثقافتها ،وتدعي أحيانا ميلها إىل يشء من التحرر السيايس ،ثم
ما تلبث يف أول نقاش جا ّد أن تنفجر:
- -نحن العرب ال نصلح إال للحكم االستبدادي.
ومع مالبسها الالفتة وحرصها الدائم عىل ارتداء اجلينز وكشف
72
الرأس ،فهي حمافظة اجتامعيا.
كانت غرابة شخصيتها أكرب ما يغريه فيها ،ومن أشد ما يضايقها
من نفسها .فهو يضيق بالفتاة الباهتة العادية التي ختلو حياهتا من أي
تعرجات أو نتوءات .كان يقول ألصحابه:
- -أنا ال أريد أن أتزوج فتاة مثل جديت .أريد فتاة تفاجئني طول
الطريق ،حتى ولو كانت مفاجآت سلبية.
أما هي فكان أيضا مما جيذهبا إليه غرابة شخصيته .حتب تعلقه
باللغة ومبالغته يف أمهيتها يف كل يشء ،وكانت تتمتع بمراقبته وهو يكلم
العامل اآلسيويني بالفصحى .فإذا تعلموا منه كلمة برقت عيناه بسعادة
طفل فقري حصل فجأة عىل لعبة ،كان يعلمهم ويكتب هلم الكلامت عىل
وهيجيها هلم حتى يتأكد من صحة نطقهم هلا ،وإذا عاد إىل ّ املناديل،
نفس املكان استخدم معهم نفس الكلامت التي علمهم إياها.
ومع أن رس انجذاب كل منهام لآلخر غرابة شخصيته ،فإن كال
منهام يود لو غيرّ ذلك اجلانب من شخصيته.
واإلنسان ال ينتبه دائام ألقوى أسلحته التي يملك.
كان من أكثر ما جذهبا إليه تدينه املخالف للتدين الذي عرفتْه.
هجم ْت
َ فعندما رأته أول مرة مل تتوقع تدينه ،لكنها مع طول الصحبة
منه عىل خصائص غريبة .فقد اكتشفت استحالة التواصل معه ببعض
وكيد فهمت أنه يعتكف يف مسجد منعزل يف ٍ األمايس .وبعد تتب ٍع
ضاحية من ضواحي الدوحة.
كام اكتشفت ولعه بصدقة الرس ،وكلفه بمساعدة املعوزين ،فكم
َ
العامل اآلسيويني حلظة ذهب إىل ُو َرش البناء يف منطقة الدفنة مرتصدا
73
ليدس مئات الرياالت يف جيوهبم ،وكم
َّ انقالهبم من أعامهلم منهكني
وزع عليهم املرشوبات يف أيام الدوحة القائظة.
ومما زادها إعجابا بتدينه املختلف ،ذلك اجلهد الذي يبذله يف إخفاء
صدقاته وعباداته حرصا عىل األجر .كان هذا اجلانب من شخصيته
مناقضا ألنامط من التدين ألفتها يف أهل منطقتها ممن يتدثرون بعباءة
التدين.
اليوم ،كانا جالسني يف الكافيرتيا ،فضاع هاتفه .طلب منها أن
تتصل عليه ،فاتصلت .رن اهلاتف فوجدته مرميا حتت الكريس .أمسكته
«مطوعة
َّ لتناوله إياه فكانت املفاجأة أن رقمها خمزن يف هاتفه حتت اسم:
بريدة!».
صاحت:
- -حرام عليك ،مل َ تسميني مطوعة بريدة؟ هل تراين أشبه مطوعي
بريدة!
- -أرى أنك حنبلية يف مسالخ ليربالية! وق َبل ّية يف حلاف مواطنة.
- -كيف؟
تردد قليال ،وهو يشيح بوجهه نحو مدخل الكافيرتيا مداريا
ابتسامة:
- -مطوعة بريدة اسم مجيل!
ابتسمت ،وهي تشعر بألفة غريبة مع اسم تسمعه ألول مرة .ثم
حركت كأس القهوة وقالت:
- -لكنك تعرف أين ال أضيق بيشء ضيقي بمطاوعة بريدة!
74
ِ
أفكارك الدفينة كلها أفكار مطوع من - -تلك القرشة البادية ،لكن
بريدة.
ظلت تنظر يف كوب القهوة ،وهي تفكر يف مدى دقة ما قال.
حانت منه التفاتة إىل شاشة التلفاز املعلقة ،فرأى خطأ نحويا فادحا
أسفل الشاشة .وقف دون مقدمات وصاح بلهجته املوريتانية:
أعامركم!
ْ - -اهلل ي َقصرّ ْ
انتشلها منظره من اجلو اجلاد الذي كانت فيه ،فدارت ضحكة
وهي تراقبه .ثم قالت:
- -اجلس ،ما عليك .وال تنس أنك لست مدققا اآلن!
عادت حلظات الصمت ،ثم قطعها هو بعد أن سكنت فورته قائال:
- -اللغة العربية يتيمة بني هذه اجلدران ،وال هيتم هبا أحد .أنا من
يبيت بمكان
أرسة تُعيل من قيمة اللغة ،وكان جدي ال يرىض أن َ
ليس فيه نسخة من القاموس املحيط.
شعرت بملل وهي تسمعه يبدأ يف احلديث عن اللغة ،لعلمها أنه
إذا فعل ينسى املكان والزمان وال يتوقف .فقاطعته ساخرة:
- -أما أنا فكان جدي قاطع طريق!
انتبه إىل أنه قد يكون بالغ يف مدح أجداداه ،وهو يتحدث مع بنت
من جمتمع يعيل من القيم القبلية وإن تنكرت هي لكل ذلك ،فقال
بخجل:
- -ونصف سكان بلدي كانوا قطاع طرق أيضا.
قطعت احلديث قائلة بمكر أنثوي:
75
- -تعجبني لغة املذيعة سلمى!
رمت العبارة ،وحدجتْه بعينيها حتى تقرأ كل حركة يف جفنيه،
كمن َْت له متحفز ًة كأهنا هرة َّ
وكل دوران حلدقت ْيه .رمت العبارة ،ثم َ
تستعد للوثوب .فقال بعفوية:
- -إي واهلل!
انتبه لوقوعه يف الفخ ،والتفت .رأى عينيها مرتعتني بالغرية
احلارقة .قال –وكأنه طفل أمسكه أبوه يرسق من اجلريان -قصدي أن
لغتها جيدة ،لكنها ثقيلة الدم.
مل جتبه ،وساد صمت لثوان .ثم ظهر صديقه مازن قادما من مدخل
ملوحا بيده املقبوضة عىل سيجار.
الكافتريياّ ،
قطع القروي الصمت وقال:
الوقت حان لنناقش املوضوع.
َ - -أال تر ْين أن
فهمت ما يقصده ،وتغافلت مقطب ًة جبينها:
- -أي موضوع؟
- -املوضوع الذي ناقشناه البارحة هاتفيا.
مل جتبه ،وفكرت أن تصيح يف وجهه:
- -وهل مر عىل تعارفنا إال أشهر قالئل؟
غري أهنا دارت مشاعرها ،والتفتت جهة موظفة الكافترييا متخيلة
صورة والدها يقول ألمها:
اهنبلت! كيف تتجرأ عىل التفكري يف هذا؟
ْ - -البنت
هبم عىل وجهها وعينيها العسليتني.
الحظ سحابة غضب مشوب ّ
76
مرتع بالصمت
مل يتكلم ،بل قرر انتظارها حتى تبدأ احلديث .مر وقت ٌ
الثقيل ،ثم قالت:
- -ال أرى أن الوقت مناسب للحديث مع أهيل يف هذا األمر.
وقفت دفع ًة واحدة ،وأخذت حقيبتها اليدوية ،وتوارت .ركض
هو إىل مكتبه ،وخيا ُله يبتعد شيئا فشيئا عن عاملها ..وعن عامل اإلعالم
َ
ليغرق بعيدا ...يف حواري البرصة. والصور املعارصة
***
غزت منخر ْيه رائح ٌة شهية .فرأى الدجاج
ْ التفت اجلاحظ بعد أن
املشوي الشهي يسيل سمن ًا أمام دكان ّفران .فازدادت سخونة البخار
احلار الذي يكاد يفتت أمعاءه .ختيل موائد األثرياء وما فيها من ُمتع
و ُأنس وهبجة ،وهو يدخل إىل باب اجلامع الكبري بالبرصة.
ٍ
مناظر أدار برصه يف اجلامع املكتظ .رأى صاحلا اخلوزي –أشهر
عن عقائد املجوس يف البرصة -قادم ًا من الباب اآلخر يتخطى الرقاب
بصعوبة وهو يف طريقه إىل منرب منصوب بني السواري ،بعيدا عن
املحراب.
جلس اجلاحظ ،ووقف شاب واضح اللهجة حلو خمارج احلروف،
أسمر السحنة ،وبيده ورقة وقلم وقال:
أجل مشاخيكم .هذا صالح- -يا أهل البرصة ،هذان شيخان من ّ
اخلوزي ،وأبو هذيل العالف سيتناظران وفق آداب املناظرة
واملباحثة .صالح يناظر عن الثنوية ،والعالف عن التوحيد .فال
تنسوا أن احلق مقصدنا ،وأن الرصاخ والصياح ليسا غلبة بل
شغبا وسوء أدب.
77
ثم التفت الشاب إىل صالح وطلب منه الوقوف لبدء املناظرة.
وضع صالح يديه عىل األرض ،ثم حتامل عليهام واقفا .مشى
خطوات وارتقى املنرب بصعوبة ثم جلس ،التفت يرسة فرأى جمموعة
من الشبان جالسني بزهيم املحتشم وعامئمهم املكورة فعرف أهنم من
تالميذ العالف .والتفت يمن ًة فالحت له كوكبة من طالبه وحوارييه
أمر يرساه عىل طرف حليته الصهباء وقال:
جالسني حارسي الرؤوسّ .
- -نحن نقول إن النور والظالم مها أصال اخلري والرش يف هذا العامل.
ونرى أن العامل مركّب من عرشة عنارص؛ مخسة منها عنارص خري
ونور ،ومخسة منها عنارص رش وظلمة.
كان صالح يتحدث واهلدوء يغزو جنبات املسجد إال من رصير
كحة شاردة من صدر شيخاألقالم عىل القراطيس بأيدي الطالب ،أو ٍ
مريض .فنوافذ املسجد مغلق ٌة لتلبد السامء بالغيم وهبوب ريح الشامل
اآلتية برائحة سوق الغنم غري البعيد ،مما زاد كثافة رائحة العرق الناشئ
من الزحام.
واصل صالح حديثه بمخارجه الواضحة ،ولغته العربية الصقيلة:
يكون يف ّ
كل ُ - -إن اإلنسان مركّب من تلك األجناس عىل قدر ما
واحد من رجحان جنس اخلري عىل جنس الشرّ ّ .ثم إن اإلنسان
حاسة منها عنارص من كل ّ فإن يف ّ
حواس مخسّ - ّ -وإن كان ذا
نظرت األم مثال نظرة رمحة فتلك النّظرة
ْ األجناس اخلمسة .فمتى
نسب بينها وبني الظلمة ،ومتى نظر اإلنسان نظرة من النّور ،وال َ
غضب إىل عدوه فتلك من الظلمة ال حمالة ،وقس عىل هذا .غري
أن ها هنا جز ًءا لطيفا ال بد من التنبيه عليه .ف...
78
التفت صالح يمينه ملقيا ناظره إىل طرف املسجد فرأى رجال كبريا
ليفيل مالبسه القذرة ،منشغال بإخراج
َ نحيفا يدس يد ْيه الشاحبتني
القمل ِ
وقتله.
امحرت وجنتاه ،واستوىل عليه شعور بالرغبة يف إهناء احلديث .إذ
ّ
كيف يتحدث إىل هؤالء عن مسائل من دقيق الكالم.
مستقرتي
نْ عيني أيب اهلذيل العالف العميقتني
ْ ثم التفت فرأى
رأت عليه ترتصدان كل كلمة يفوه هبا ،فانبعث من جديد بعزيمة ٍ
شاة ْ
ذئب ًا:
- -فأنتم تُرصون عىل أن اهلل واحد ،وال تنكرون من عقائدنا شيئا
إنكاركم للثنوية .فام الدليل عىل أن اهلل واحد؟
واصل حديثه حاشدا كل األدلة عىل فكرة الثنوية وقيام العامل عىل
أصيل اخلري والرش املتنافرين ،مستخدما كل ما أويت من جدل وبالغة.
ْ
ثم أشار له الشاب األسمر القائم عىل تنظيم املناظرة عاقدا أصبعني،
منبها إياه إىل أن عليه إهناء حديثه.
بعد هنيهات ،التفت الشاب إىل العالف طالبا منه التقدم لصعود
املنرب.
وقف العالف دفعة واحدة كأنه يقفز ،فجسمه النحيف املخروط
ومالبسه اخلفيفة البيضاء جتعل حركته رسيعة تشبه حركة الصبيان ،مع
كونه جاوز األربعني .تقدم إىل املنربُ ،مبسمال ومحُ وقال.
جلس عىل املنرب وأخرج من جيب جبته منديال مسح به أرنبة أنفه
القصري وجبهته.
79
ٌ َ َ َ
بدأ العالف يتحدث ،بادئا بقراءة اآلية﴿ :ل ْو كان فِي ِه َما آل َِهة إِل
ّهَ ُ َ َ
الل لف َس َدتَا﴾ .ثم طفق حيشد األدلة عىل استحالة قيام العامل إال عىل إله
واحد مدبر لطيف.
كان اجلاحظ جالسا وسط طالب أيب هذيل ،وبني يديه كومة
كراريس ال يكاد يرفع برصه عنها إىل املتناظر ْين النشغاله بالكتابة .أما
النَّ َّظام فكان جالسا عند ظهر شيخه أيب اهلذيل حتى إن ركبتيه تكادان
تالمسان املنرب ،ثم جاء صوت العالف:
- -أما سؤالكم :ملاذا نؤمن بأن اهلل واحد ال ثاين له ،فألنه لو كان
معه إله قديم لوجب أن يكون مثله يف القدم .وهذا يستلزم عقال
أن يكون قديام لنفسه ،وذاك يعني أن يكون أيضا قديرا لنفسه،
وإذا كان اإلهلان قديرين لنفسيهام وجب أن يريد أحدمها إرادة
ويريد اآلخر أخرى .وإذا وقع ذلك فاألمر ال خيرج عن ثالثة
احتامالت :إما أن يقع ما يريده كل منهام ،وهذا حمال لتضاد
أي منهام ،وهذا حمال ألنه يستلزم إرادتيهام ،وإما أال يقع مراد ٍ
ضعفهام معا ،واإلله ال جيوز يف حقه الضعف .أما االحتامل
الثالث فهو أن يقع مراد أحدمها وذلك يوجب أنه أقوى ،وأن
والضعيف ال يكون قديام وال إهلا.
ُ اآلخر ضعيف،
كان العالف يتحدث ،والنظام يدير عينيه ناظرا إىل احلضور
متفرسا مدى فهمهم وإدراكهم ،فوقعت عينه عىل شاب ُم ْست َْوفِ ٍز،
ُيراوح بني اجللوس عىل ركبتيه والرت ّبع ،فاغر ًا فاه ،يتلقف كل كلمة،
صهيب احلماّ ل ،واضعا يدَ ه حتت ذقنه
ٌ وكان عن يمني الشاب املشدوه
عابثا بأسنانه.
80
أما تالميذ أيب اهلذيل املحيطون بالنظام فمرشئ ّبو األعناق،
يلتقطون كل كلمة ويالحظون كل حيلة من حيل املناظرات الرائجة
يف مساجد البرصة.
أما زمرة الطالب حارسي الرؤوس عن يمني اخلوزي ،فكان
أحدهم يقلب جملدا ضخام كأنام يبحث عن يشء أضاعه ،أما الباقون
فكانوا منصتني ،وأبصارهم شاخصة.
أشار الشاب املنظم للمناظرة إىل اخلوزي بالعودة إىل املنرب ،فلام
وقف وبدأ احلديث ،صاح رجل من جهة الباب املؤدي إىل السوق:
- -أمه زاني ٌة من ال يؤمن باهلل واليوم اآلخر!
أشار الشاب بيده لصالح بالتوقف ،ملتفتا جهة الباب سائال
بصوت ميلء باالحتجاج:
- -من صاحب الصوت املنكر؟
مز ِّمل يف ثوبه،
ومههامت .وجاء صوت شيخ َّ
ٌ تصاعدت غمغامت
ٍ
مستلق عىل قفاه:
- -ذاك عبيد الكناس؛ وقد وىل هاربا.
هدأت األصوات ،ثم أشار الشاب للخوزي بمواصلة احلديث.
مرت ساعات ،ثم انتهت املناظرة بانقطاع اخلوزي .واالنقطاع أن
خصمه بدليل عقيل ال يستطيع االنفكاك منه.
َ اخلصم
ُ ُي ِ
لز َم
بعد هناية املناظرة انفض اجلمع ،فيام تصافح املتناظران وتقارب
طالهبام ،وخرجوا مجيعا من املسجد متجهني صوب منزل اخلوزي
لتناول الطعام.
81
وكانت هذه أفضل اللحظات التي ينتظرها اجلاحظ والنظام
برتقب .فهي فرصتهام الوحيدة مللء بطن ْيهام طعاما.
***
األخصاص خطيا وأبواهبا مرشعة جه َة البرصة .كان
ُ ترتاص
تعود اجللوس خالل األشهر املاضية عىل هذا الكثيب
اجلاحظ قد ّ
الصغري املجاور لألخصاص .فهدوء الليل وظال ُمه يمآلن روحه رهبة.
كثريا ما جيلس هنا وحيدا بعد نوم رفاقه للخلو بنفسه ومعرفة
إنك لتنفق سحاب َة يومك متأمال يف نفوس
دخيلتها ،فيخاطبها قائالَ :
الناس ،فاصرب لتفهم نفسك التي بني جنبيك.
جيلس عىل الكثيب ينكت يف األرض بعود بيدهُ ،مستغربا كيف أنه
بسامتمٍ ن دخيلة نفسه غريبة عنه .حتى إنه فكر مرة يف أن
أحيانا يفاجأ ِ
روحه لو جتسدت شخصا أمامه وحتادث معها ملا عرفها!
غرق يف التفكري يف معايب نفسه ومثالبها ،متذكرا مواقف مرت به
اليوم .رمى العود وهو يتذكر كيف مازحه أبو نواس بقوله:
ختيل لو أن اهلل َم َس َخ َّ
كل حسناوات الدنيا وصيرّ هن عىل شكلك، ْ --
كيف يطيب العيش بعد ذلك؟
الضحك جمامل ًة ،لكن أبا نواس أحس بذلك
َ وتذكر كيف تك ّلف
فاعتذر له .لكنه أنكر غضبه من املزاح ،وهو يعلم يف دخيلة نفسه أنه
بحارة
طوحت به األفكار ،وكان اجلو هادئا إال من أصوات ّ
غضبّ .
سماّ ر عىل هنر غري بعيد .ترتامى ضحكاهتم إىل مسمع ْيه أحيانا ،وسط
رصير ريح الشامل العابثة بأبواب األخصاص.
82
وقف من مكان جلوسه متذكرا أن اخلليل بن أمحد عادة ما خيصص
هذا الوقت للصالة .وكيف أن صوت قراءته للقرآن يف هتجده من
أعذب ما حيرك كوامن نفسه.
نزل من فوق الربوة ناظر ًا جهة املدينة وهو يفكر يف أن اخلليل
لزهده وورعه اختار هذا املكان بحيث تصبح املدينة وكأهنا ّتوليه
ظهرها حتى ال يرى حماسنها.
وصل إىل اخلُص األول عىل يمينه لكنه مل يسمع قراءة اخلليل ،مع
أن هذا وقت هتجده عادة .ثم تذكر أنه مل يأت الليلة عىل خالف عادته.
ُ
اخلليل طال َبه أن يقيض بداية الليل يف بيته يف طرف البرصة، عود
فقد ّ
لكنه ما إن يصيل العشاء يف بيته حتى يأيت إىل هذه األخصاص ،ويبدأ
تدريس طالبه النحو والرصف واملوسيقى والرياضيات واألنساب.
سمع صيحة منكرة.
التفت فلمح أحد الطالب قادما من جهة البرصة يركض .ورأى
ّ
يستلذه طويال وهو يكرر: الن ّظام قادما يمسح عينيه من نوم مل
- -إيش؟
اقرتب الرجل فتسابق إليه اجلاحظ والنظام ،بادره النظام قائال
بصوت ما زال مفعام بنربة نعاس:
- -ما اخلرب؟
- -لقد تويف شيخنا اخلليل!
مل تكد قوائم النظام حتمله فجثا عىل ركبتيه مرددا:
- -إنا هلل وإنا إليه راجعون!
83
بدأ مجع من الطالب يتململون يف أخصاصهم يستيقظون الواحد
تلو اآلخر الرتفاع األصوات .جاء أحدهم يركض إىل النظام:
- -ما ذا حدث؟
- -لقد تويف شيخنا اخلليل!
- -حسبنا اهلل ونعم الوكيل.
ونم حتى ينبلج الصباح.
- -ارجع ْ
مشى النظام عائدا إىل خصه واجلاحظ يتبعه وامجا ،وجدا أبا نواس
جالسا عند الباب .دخال بصمت.
ترصف
َ جلس الثالثة كل منهم يف ركن من اخلص .كل واحد ينتظر
اآلخر .فلم يجُ مع أهل البرصة عىل حب رجل كام أمجعوا عىل حبهم
للخليل.
َ
املكان ،وتنخنق صدور كل منهم بغصة ،وتدور دموع يلف الظال ُم
يف العيون املتلففة يف الظالم ،جيمع بني أخيتلهم يف تلك اللحظة صورة
اخلليل بن أمحد وهو يبتسم ويع ّلم.
بعد ارتفاع الشمس بقليل ،جتمع الطالب واجتهوا جهة دار اخلليل
حلضور جنازته .امتألت جوانب الدار بأصناف الطالب الذين مل
جيتمعوا قط خارج مكان الدرس قبل اليوم ،تقدم نجل اخلليل مشريا
بيده للناس باهلدوء ،ثم ارتقى صخر ًة جاثمة ما بني باب الدار وباب
احلائط وقال:
- -أهيا الناس ،إننا ننتظر أبا اهلذيل العالف للصالة عىل الشيخ ،ثم
بعد ذلك نذهب إىل املقربة.
84
كان اجلاحظ يف طرف الناس مما ييل مدخل املنزل .وكان اهلدوء
خييم عىل املكان إال من نشيج يتعاىل أحيانا من صدور بعض الطالب،
جياوبه نحيب نساء قادم من جهة الدار.
جلس بعض الطالب عىل األرض ،ودخل بعضهم إىل غرفة
واسعة عند مدخل البيت يف انتظار قدوم العالف .كان اجلاحظ
والنظام جالسني عىل األرض وظهرامها للدار ،وحياوالن ختفيف احلزن
عنهام بالنظر إىل كل داخل إىل الدار من الشارع الصغري الذي يرشف
عليه املنزل.
التفت اجلاحظ دون أن ينظر إليه وقال:
- -لقد خلت البرصة من أعقل العرب.
رفع النظام وجهه وشفته السفىل الغليظة ترتعد قليال:
- -لقد كان اخلليل آية يف الزهد ،واهلل لقد رأيت اخللفاء يبعثون له
ملحني طالبني زيارته ،فال يزيد عىل أن يقلب الورقة ويكتب عىل
ّ
ظهرها معتذرا.
دخل أبو اهلذيل العالف مقنع ًا يميش كأنه يقفز فقام الناس حميني
ومسلمني .سلم عىل الطالب املجتمعني يف ردهة الدار ،ثم أخذه ُ
نجل
َ
ليحدث النساء ويصربهن .تراجع الطالب وواصل العالف اخلليل
التقدم مع نجل اخلليل يف الدهليز الداخل إىل الدار حتى اختفيا.
تقدم ابن اخلليل أمام العالف مشريا له بيده إىل ردهة واسعة وجد
فيها عدة نساء جمتمعات ،وهلن خنني من البكاء.
وقف العالف ،ومحد اهلل وأثنى عليه ثم بدأ احلديث .لكنه ما إن
85
ٍ
شجن بدأ حتى تذكر شامئل صديقه فخاف أن ختنقه العربة فيثري مكامن
جاء ل ُيسيل عنها ،متالك نفسه ورفع صوته:
- -أما بعد ،فإن هذا الشيخ ِ
قدم إىل ما قدَّ م .وأنتم تعلمون أنه ليس
يف هذه املدينة الواسعة رجل اتفق الناس عىل صالحه وحسن
سمته وشبه رسه بعالنيته منه ،فنحن ال نستطيع أن نحدثكم عن
شامئله وعبادته فأنتم هبا أدرى ،وهلا أرأى .لكنا نذكركم بوعد اهلل
هم إال كيف يعلم
ملعلمي الناس العلم ،وهذا الشيخ ما كان له ّ
مهد من علوم.
ويمهد هلم ما مل ُي ّ
ّ ذراري املسلمني العلم
واصل العالف حديثه ،فهدأ اخلنني والبكاء الذي كان هاج يف
بداية حديثه ،فهيبة أيب اهلذيل فرضت عىل النساء هدوءا وسكينة.
ثم دعا وانرصف.
ما كاد العالف يعود إىل الردهة الواسعة عند مدخل الدار حيث
جيتمع الطالب حتى جاء النعش حمموال عىل األعناق ليوضع.
وتصاف الناس للصالة عليه ،فجأة خرجت فتاة
ّ وضع النعش،
من داخل الدار حارسة الرأس ،باكية وألقت نفسها عىل النعش تق ّبله.
خرج نجل اخلليل راكضا وأمسك ذراعها وأعادها إىل البيت.
كان اجلاحظ واقفا يف الصف األمامي مما ييل النعش ،مل يدر ما وقع
بالضبط .كل يشء كان رسيعا وخاطفا.
لكنه وجد أثر ما وقع يف قلبه ،إذ وجد قلبه مأخوذا بتأمل شعر
الفتاة الذهبي وجبينها الوضاء ،وذلك اللغز املتجمع ما بني عين ْيها
وفمها.
86
ٍ
وسخط عىل نفسه وتضايق .كيف أمكنه النظر شعر بحرج شديد،
بريبة إىل بنت شيخه حلظة وفاته؟
هل يمكن أن تكون كل هذه القساوة والبالدة واألنانية تعشش يف
قلبه دون أن يدري؟
كيف يمكن ملن تتلمذ عىل اخلليل ورأى خصاله أن ينظر إىل بناته
بريبة يف منزله وجثامنه مسجى والصالة عليه قائمة؟
شعر اجلاحظ بضيق شديد .فجعل يراوح بني قدميه كأنه واقف
عىل مجر ،يرفع رجله اليمنى ويضعها ثم يرفع اليرسى ويضعها.
كان يمسك طرف عاممته ويمسح هبا جبينه الذي بدأ يتفصد عرقا،
شعر كأن كل من يف الدار رأى نظراته للفتاة واطلع عىل اخلواطر التي
ظللت فؤا َده ،تعجب مما رآه خسة يف نفسه ودناءة يف نحيزته! شعر أن
كل من يف املكان أبرص ما يف قلبه فرأى خواطره املذنبة وهو يشتهي بنت
اخلليل عىل نعش اخلليل!
فجأة ،التفت إليه النظام وهو يقول:
- -ما لك؟
- -ما يل؟ ال يشء! ال يشء!
- -آوه ،ال بأس عليك ،هلل ما أخذ وله ما أعطى فال تذهب نفسك
حرسات.
ازداد أمل اجلاحظ للمنزلة التي يضعه فيها رفيقه وهو ال يستحقها،
تسارعت دقات قلبه حزنا وأسفا عىل تلك اخلواطر ،وأثناء ذلك تقدم
العالف وقال بصوت فصيح قوي:
87
- -اهلل أكرب.
كرب الناس خلفه وبدأت الصالة ،فهدأ كل يشء ،هدأت أصوات
النشيج واخلنني القادمة من داخل البيت ،ومل يبق إال حلى الرجال
املصلني تتحرك بالدعاء والقراءة ،يقطعها بني الفرتة وأختها صوت
العالف:
- -اهلل أكرب.
غالب اجلاحظ خواطره ،فاطمأن قليال ،لكنه ما إن بدأ قراءة
الفاحتة ،حتى عادت صورة اجلبني الوضاح ،والناصية املقطبة ،والشعر
الذهبي ،والبنان اخلضيب ،مرتائي ًة من فوق النعش.
متتم رافعا برصه إىل السامء متوسال ،وال َعربة تكاد ختنقه .ثم جاء
صوت العالف وهو يقول هبدوء:
- -السالم عليكم ورمحة اهلل!
حترك بعض املصلني من أماكنهم راكضني جهة النعش ليحملوه،
فأشار إليهم العالف بيده أن يبقوا يف أماكنهم .ثم ا ْعتىل الصخرة
املوجودة وسط الفناء وقال:
- -أهيا الناس! ها نحن اليوم نو ّدع شيخ أهل البرصة وقدوهتم.
ها نحن ندفن الزهد والورع والعلم ،لقد أكل الناس الفالوذج
وكنزوا الذهب والفضة من علم صاحب هذا اجلثامن املسجى،
وهو يف أخصاصه التي تعرفون ال يربحها .ها نحن اليوم نودع
أعقل العرب وأزهدها وأنقاها وال نزكيه عىل ربه .لكننا شهداء
بام نعلم ،ألسنة اخللق أقالم احلق.
88
ارتفعت صيحة يف الطرف ،فأشار العالف بيده طالبا اهلدوء ،ثم
عدل عاممته وواصل:
- -لقد علمتم كيف تويف اخلليل .لقد جلس يفكر عرشين يوما
كيف يضع قواعد حسابية ال ِ
يظلم بعدها أحدٌ أحد ًا يف احلساب،
دكان من خداع الشاب ِ
الغ ْمر ٍ صاحب بائع أو
ُ وال يتمكن بعدها ٌ
أو الفتاة الغريرة.
رأسه بني
ما إن نطق بتلك العبارة حتى قفز قلب اجلاحظ .فدس َ
ركبتيه حماوال التخلص من الصورة التي هجمت عىل خياله.
تابع العالف حديثه قائال:
- -كان يسعى إىل أن يستوي الناس يف علوم احلساب فال يستطيع
تاجر مهام كان أن يظلم آخر ،فنظم قواعد حسابي ًة جتعل كل ما
اخلاطر بوقوعه بني الناس من معامالت حمفوظا ومعلوما
ُ هيجس
بالعدد ،ولشدة استغراقه يف األمر ظل يدور بني سواري املسجد
إىل أن اصطدم بسارية فشجت رأسه فسقط ،ومل يتعاف منها إىل
أن تويف رمحه اهلل.
انطلقت حناجر املشيعني بالرتحم ،والدعاء ،فنزل العالف من
فوق الصخرة ،وتبادر الناس إىل النعش حلمله إىل املقربة.
حاول اجلاحظ التقدم جهة النعش وسط الزحام .غري أن رجال
قوي البنية ،ناصع البياض ،تفوح من أردانه رائحة املسك ،ويرخي
عاممة بني كتفيه ،قفز أمامه حتى أصبح ال يرى إال منكبيه العريضني،
فحرمه من التقدم قيد أنملة.
89
حاول اجلاحظ ،تأمل وجه الرجل صاحب املنكبني العريضني
محه ،ففوجئ بأنه عيل بن املديني.
الذي ز َ
وقف مكانه وهو يفكر مل َ تقاعس عن محل النعش عند أول زمحة؟
ومل َ خانتْه ساقاه حتى وجد نفسه متأخرا الصفوف التي خترج من املنزل؟
حدثته نفسه حلظة خروجه من باب الدار أن يلتفت وراءه ،و ّبخ
نفسه وقفز خارج البيت دون أن يلتفت ...لك ّن قلبه كان متلفتا.
َ
***
محال و ُم ٍ
كار عند مدخل سوق املربد ،ويزعم كل منهام أنه يتدافع ٌ
جتر محال ثقيال من أمتعة اشرتهتا ًّتوا .ينقطع
سبق اآلخر إىل املرأة التي ّ
هنيق محار بقرهبام ،فريكض احلماّ ُل جهة َ
اآلذان ُ يصم
اجلدال بينهام بعد أن َّ
مجاعة من األعراب دخلت السوق حاالً.
روائح الغبار
ُ ضحى-
ً تتزاحم يف السوق -الذي يكتظ عادة
املتصاعد املختلط بروث البهائم ،مع أ ْيامن الباعة املغ ّلظة ،وهلجات
األعراب ا ُملستطرفة ،و َلكَنات اجلواري والغلامن اهلجينة.
بدأ النهار يرتفع ،غري أن اجلاحظ والنظا َم ال يملاّ ن من سامع
أحاديث األعراب ،السيام إن كان األصمعي والكسائي يحُ ّرشان بينهم.
فهذا األصمعي والكسائي جالسان وسط مجاعة من األعراب يف طرف
السوق.
جيلس األصمعي عىل األرض الداكنة ليس بينه وبينها حائل رغم
نظافة جبته السوداء ،ويرتبع الكسائي عىل حصري وبني يديه حمربة ودواة
وقراطيس.
90
جيلس قبالة الكسائي أعرايب أسمر البرشة أشعث الرأس ،نحيف
األعضاء مشتمال يف َش ْم َل ٍة ال تكاد تواري نصف جسمه .ال يستقر
األعرايب عىل حال ،فتارة جيلس عىل قدميه ،وتارة ينكت يف األرض
بعصاه وهو يتكلم دون رفع عينيه إىل خماطبه.
رفع الكسائي برصه إىل األعرايب وقال:
أذهب إىل بيتي»؟
َ لكي ْ
أن «أردت ْ
ُ - -هل يستقيم كالم من يقول:
- -ما سمعت هذا الكالم قط.
التفت األصمعي إىل الكسائي قائال:
- -لكنا سمعنا من يروي قول القائل:
تطير ِبق ْربت�ي
َ أردت لك ْيما ْ
أن ُ
فترتكَه�ا َش�نّ ًا ب َب ْي�دا َء بل َق�عِ.
فقال الكسائي ،دون أن يرفع برصه عن دفاتره:
- -هذا بيت ال ُيعرف قائله ،ونحن ال نحتج بالبيت املجهول قائله.
كان النظام يراقب دون أن يتحدث ،أما اجلاحظ فكان ال يرفع
عينه عن األعرايب وبيده كراريس يكتب فيها .تنحنح اجلاحظ وقال
لألعرايب:
- -من أي العرب أنت؟
- -أنا إيادي
- -ما أظنك إال دخيل ًة فيهم وما أنت منهم يف يشء ،فأنا أعرف
سحنَهم وأكاد أميز َن َع َم ُه ْم يف مراتع الكأل ،فكيف بمن هو
منهم صليب ًة!
91
وثب األعرايب من مكانه واقفا رافعا عصاه جهة اجلاحظ ،حتى
كراريس الكسائي التي بني يديه.
َ الغبار
ُ فرق
قهقه اجلاحظ وهو يشري بيده لألعرايب أن جيلسُ ،مقسام له أنه
يامزحه .احتدم احلديث بني اجلاحظ واألعرايب ،بينام كان الكسائي ال
يكف عن التبسم يف وقار ،متعجبا من شطط اجلاحظ ورسعة غضب
بائع ينادي عىل كومة
ومر ٌاألعرايب .جلس األعرايب مع متنع متصنعّ ،
من البقول:
- -قرع قرع! من يشرتي القرع؟
التفت األعرايب عاقدا بني عينيه ،مشريا إىل القرع بعصاه:
- -وما القرع؟!
أجابه الكسائي وهو يشيح بنظره برسعة عن فتاة حسناء مرت
بقربه:
رضب من البقول يكثر يف احلوارض .أال تعرفونه يف باديتكم؟
ٌ --
- -ال أعرفه.
كان األعرايب جييب عىل أسئلة األصمعي والكسائي ،لكنه بدأ
يتلفت ويكثر القول إنه يريد اللحاق بأهله قبل انتصاف النهار .أدخل
الكسائي يده يف كمه وأخرج درمها ومده إليه .فالتقطه بيمينه دون أن
يمدها حتى ال تسقط عصاه املثبتة حتت إبطه .أخذ الدرهم ووقف دون
أن ينبس.
التفت اجلاحظ إىل الكسائي قائال:
- -أترى أنه مل يسمع قط بالقرع؟
92
- -نعم ،ال ُأراه أبرصه قبل اآلن.
ابتسم اجلاحظ بسخرية:
- -ما أرى إال أن نصف حلمه نبت من القرع ،وأكاد أقسم أن أمه
حنَّكتْه به .لكنه ملا علم أنكم تفضلون الرواية عن األعرايب
ِ
املفرط يف التوحش عىل الرواية عن األعرايب الذي ينزل احلوارض
تظاهر بجهل البقول.
ابتسم األصمعي رافعا طرف ثوبه ليضع يده اليرسى عىل النظام
قائال:
- -كنت أنا والنظام هذا يف سوق الوراقني بالبرصة فوقف علينا
مستبشع املنظر ،و َط ِف َق يكلمنا بلهجة أعراب
َ أعرايب مخُ َش ِ
وشن
َ
الديك إال يو َمه ذاك. الدور وال
َ ربيعة فام شككنا أنه مل ير
وجلست وسألته عن عرشين حرفا وكتبتها عنه ،وما هي إال
ُ
محاد الراوية.
ساعة حتى أطل علينا ّ
التقت
ْ فلام دخل محاد ،الحظنا اضطراب األعرايب وجزعه ،فلام
أعينُهام ناداه محاد:
- -أهال بأيب ُلب ْينى!
قاهلا محاد ّ
ومط النون كاملتغني والساخر ،فوضع األعرايب عاممته
عىل فمه وهو يضحك وو ّىل مدبرا.
أمسك اجلاحظ حزمة الكراريس التي بيده ولفها لفا ثم دسها يف
كمه وهو يلتفت إىل األصمعي:
- -أنا ال أدري ملاذا أوقفتم االحتجاج بالشعر عند بشار بن برد؟
93
ومل َ قلتم إن أشعار املولدين ال حيتج هبا؟ مع أين ال أشك يف أن
صاحبنا أبا نواس فصيح فصاحة األعراب.
- -إن األمر ال يتعلق بالفصاحة .فنحن ال نشك يف كون عرصة املربد
هذه مألى بالفصحاء من أهل البرصة وعرهبا القاطنني فيها ،وأن
فيها من يتفنن يف القول .لكننا ال نكتب إال لغة األعراب التي مل
تشبها الرطانات ،فاألذن ل ّقاطة ملا تسمع ،وما
ختتلط باهلُجنة ومل ُ
نضمن إذا أطال العريب ال ُق ُّح املكث يف احلرض أن يعلق بلسانه
فنقيس عىل كالمه ،فيصبح اللحن مصدرا من مصادر َ حلن
القواعد التي نضعها.
كان األصمعي يتحدث فبدأ جلساؤه يقرتبون منه متحلقني .كان
ثابت األعضاء أثناء احلديث .وضع الكسائي يده عىل ركبة
حلو الكالم َ
األصمعي وهو يقول:
- -واهلل إن عجائب األعراب ال تنقيض ،كنا مرة عند اخلليل نتدارس،
فجاءنا أعرايب مشتمل بشملة وجلس إلينا ،فسمع كالمنا عن
الفاعل واملفعول واجلار واملجرور والعامل واملعمول ،فدهش
انفض الدرس دعوناه
لكالمنا وأظهر االستغراب والتفجع .فلام ّ
لألكل معنا يف أحد األخصاص ،فلام مأل بطنه من السكباج
والكباب اضطجع عىل قفاه وجعل هُي ْينِ ُم بكالم غري مسموع.
فاقرتب منه يونس بن حبيب وقال له:
- -ما الذي هتينم به؟
- -إنام هي أبيات قلتها يف يومي هذا ،فام زال جملسكم وطنطناتكم
يف أذين.
94
- -إيه أسمعنا .وماذا قلت؟
فرفع األعرايب رجليه وجلس دفعة واحدة –كأنه أرنب يف فالة-
وقال بلكنة أعايل هتامة:
ٍ
ب�أرض ال ت َُش ُّ
�ب هب�ا إين ربِ ُ
ي�ت
املج�وس وال تُبن�ى هب�ا البِ َي ُ
�ع ِ ن�ار
ُ
واخلنزي�ر تربتَه�ا
ُ وال ي َط�ا الق�ر ُد
يم والرئ ُ
ْب�ال والض ُب ُع! الر ُ
لك�ن هبا ِّ
فضحكنا منه ،وكانت قصته سلوانا لغاية اجلمعة.
ما إن أهنى الكسائي القصة حتى وقف نافضا ثوبه وهو يقول:
- -لقد انتصف النهار.
مد اجلاحظ يده للكسائي وهو يقول:
- -واهلل ال يطيب احلديث يف املربد إال من اآلن .فقد بدأ احلماّ لون
وزعا ُقها ،وسيطيب وقل صخب العامة ُ والب ّغالون يف االنرصافّ ،
ْ
تعجل. احلديث فال
- -إن الصبية ينتظرون طعامهم وما ك ّل ُ
فت من يأيت به ،فعيل
االنرصاف حاال.
ولف عاممته ونادى
ضم الكسائي دفاتره ،وشدها بسري من جلودّ ،
ّ
ُمكاري ًا.
اقرتب هيودي قصري القامة طويل األنف ،جير محارا من أذنه.
فبارده الكسائي:
- -بكم تأخذين إىل حي بني أسد؟
95
- -عرشة دوانق.
- -قفز الكسائي عىل ظهر احلامر فيام اندفع املكاري جيذب محاره من
أذنه وهو يتمتم ويغمغم.
كان ظل اخلص قد بدأ يف االنحسار عن اجللساء ،مع أن أشعة
الشمس خفيفة الوقع بسبب تلبد السامء وتغيمها يف الشتاء ،لكن النظام
طفق حيبو جهة تكاثف الظل داعيا جلساءه إىل ذلك ،أما األصمعي
فاتكأ عىل يمناه واضعا نعليه حتت مرفقه كالوسادة ،وقال موجها كالمه
للنظام ،ويف صوته نربة هتكم:
- -يا أبا إسحاق ،سمعت أنك بدأت تناظر شيخك العالف .فلم
هذا العقوق؟
فقال اجلاحظ وهو ينظر إىل بائع ُب ُق ٍ
ول يعرض بضاعته ،ومعدته
تكاد تتقدد جوعا:
- -واهلل إنه ألعق من هرة!
ابتسم النظام ابتسامة باردة ليداري غاممة الضيق التي الحت يف
جبينه األسمر وهو يقول:
- -ال ليس عقوقا .وإنام نختلف ونتفق ونتناظر وما يف األمر عقوق.
فقال له اجلاحظ ،دون أن ينظر إليه:
- -لكنه درسك وعلمك.
- -هو كذلك .لكن احلق أحب إيل منه.
جاء البائع فوضع ِقنْع ًا مليئا بالفواكه .فأخرج األصمعي –الذي
الحظ أن اجلاحظ ال يرفع برصه عن البقول -كيسا واشرتى موزا،
96
وناول جلساءه منه وهو يقول:
- -سمعت أن اخلليفة بعث يطلب إحصاء من يف البرصة من العلامء
والطالب .فهل األمر صحيح؟
- -نعم ،لقد مر بنا العالّف يف مجع من تالميذه ومعهم دفاتر وأحصوا
كل من كان مع اخلليل ،حتى انحدروا إىل أصحاب الكتاتيب
يسألوهنم عن أسامئهم .ولقد وجدوا يف البرصة سبعامئة عامل
وأحد عرش ألف متعلم.
- -واهلل إن هارون الرشيد مجع ما بني سؤدد الرئاسة وجالل العلم.
اعتدل األصمعي يف جلسته وهو يقول:
- -كان اخلليفة املهدي أيضا حمبا للعلم مقدرا للعلامء قبله.
وتقديره
َ شعر اجلاحظ بحرارة جتتاحه وهو يسمع ذكر املهدي
للعلم ،ذهب خياله إىل صورة الرجل الضخم اجلثة األعمى وهو جيلد
وسط ضحكات اجلواري وزجمرة اجلند.
أمسك عن مضغ نصف موزة ،ومسح طرف شفته بكمه وقال:
- -إن املهدي قد قتل بشارا ،وواهلل ما يفعل ذلك إال جاهل بحق
العلم والعلامء.
- -ال ال ،لقد قتله لزندقته.
عدّ ل اجلاحظ جلسته ،مطبقا ذراعيه أمام ركبتيه وهو يقول:
- -واهلل ال يقول هذا مثلكَ .أو تصدق أن املهدي قتل بشارا لزندقته؟
ومتى كانت الزندقة املحضة سببا للقتل يف دولة اإلسالم؟ أال
اخلوزي وأرضابهَ ام كانوا جيلسون يف
َّ تذكر أن بشارا وصاحلا
97
جملس اخلليل .وكان بشار ينشد شعره فإذا انتقده منتقد يقول:
هذه قصيدة أحسن من بقرتكم وآل عمرانكم .فال يزيد الناس
عىل أن يضحكوا؟
كان اجلاحظ يتحدث ويرتفع صوته متصاعدا دون أن يدري ،كان
أشبه بخطيب عىل منرب منه بجليس خياطب جلساء وأصحابا .بدأت
مطرقي
نْ يداه ترجتفان وجبهته تتعرق وهو يتحدث .أما صاحباه فكانا
ينظران إليه:
وترتس
ٌ - -واهلل مل َيقتل خليفة قط عىل الزندقة ،وإنام هي معاذير باردة
من لوم الناس للسلطان عىل أنه قتل رجال من املسلمني –أو من
غريهم -عىل بيت من الشعر أو كلمة أو مقالة ،وأنتم تعرفون أننا
نجتمع يف مسجد البرصة ونحرض املناظرة الطويلة بني من يقول
بالثنوية ومن يقول بالوحدانية ،فام أنكر ذلك أحد من اخللفاء.
متلمل األصمعي ،ثم اعتدل يف جلسته وهو يضع قرشة موز عىل
األرض قائال:
جالست املهدي وما رأيت منه إال إكباره للعلم وتقديره ُ - -لقد
للعلامء ،ولقد كان يأيت إيل ومعه غلامنه فيجالسني ويسألني عن
أيام العرب ،ثم ال خيرج حتى هيديني املال الكثري.
ِ
الغضبان وقال: يتلم ُظ ت َل ُّم َظ
ز ّم اجلاحظ شفتيه َّ
- -ذاك فعله معك ،لكن فعله مع بشار ما سمعت .فام الذي جعله
يتحفك بالتحف والدنانري ويتحف بشارا بالسياط احلامية؟ إال
أنك الينْتَه وأسمعته ما يريد أم....
كان اجلاحظ يتحدث متخيال نفسه حتت السياط احلامية وابنة
98
اخلليل بن أمحد تنظر إليه ،فشعر بحمية جتتاحه ،فارتفع صوته وهو
يتحدث...
ثم أفاق منتبها إىل أنه أغلظ القول لشيخه األصمعي.
ساد صمت.
ثم نظر اجلاحظ إىل األصمعي فرآه ينظر إليه بتضايق .حاول تدارك
األمر قائال:
- -أنا ال أشك يف أنك كنت تنصحه يف خلواتك معه ،لكني كذلك
ال أشك يف أنه مل يقتل بشارا إال بسبب سخريته منه وحتريش
العامة عليه.
- -دعنا من هذا.
قاهلا األصمعي وهو يشيح بوجهه عن اجلاحظ ليخاطب النظام
بقوله:
- -هل ترى أن اجلاحظ لو جالس املهدي أو أحد اخللفاء سينصحه
عىل رؤوس األشهاد؟
قال النظام وهو يلعب بحاجبيه:
- -ال واهلل! فصاحبي يكره الظلم قدر حبه لإلحسان ،ويمقت
الظاملني كام حيب املحسنني .وحينو عىل الضعاف لكنه عىل نفسه
حنوا.
أكثر ّ
ق ّطب اجلاحظ جبينَه ُمواريا ابتسام ًة فضحتها ابتسام ٌة ندّ ْت من
شفتيه.
عادت النفوس إىل أماكنها بعد االستفزاز واالستنفار ،وج ّفت
99
حبيبات العرق التي جتمعت قبل قليل عىل جبني اجلاحظ يف هذا اليوم
الشايت .فحرك عينيه مشريا بذراعه الطويلة إىل جنبات السوق التي
بدت شبه خالية:
نم ْل إىل دار صاحبنا سهل بن هارون- -لقد كاد السوق خيلو ،ف ْل ِ
لنصيب عنده طعاما.
قال له النظام وهو يبصق عىل األرض:
- -أنت تعلم أنه ليس يف جنبات البرصة أبخل منه.
- -أعلم ذاك ،ولذلك أعترب بخ َله إدام ًا لطعامه ،فبخله به جيعله
قط أشهىذقت طعاما ّ
سلس املرور يف بطني ،فام ُ شهيا يف حلقيَ ،
من أطعمة البخالء ،فأنا أنوي بأكله التنكيد عليهم فيسيغه ذلك
ِ
ويأدمه وهيضمه.
دوت ضحكات رفيق ْيه وهم يسريون وسط السوق جتاه البغال ّ
املربوطة عند بابه .التفت النظام إىل اجلاحظ وقال:
حدثت األصمعي بقصة سهل بن هارون مع رأس الديك؟
َ - -هال
ُ
اجلاحظ صور َة سهل بن هارون جالسا يف وقف ثالثتهم ،واستعاد
ِ جملسه يف يوم ٍ
شات وقد دخل عليه خادمه ووضع الطعام عىل اخلوان،
سهل رأسه ورصخ: فرفع ٌ
- -أين رأس الديك!؟
فارتبك الغالم وقال:
- -رميتُه!
- -صحيح ،رميتَه يف بطنك ،أخزاك اهلل!
100
ثم تأمل ٌ
سهل وجو َه الرجال اجلالسني يف بيته ،فخاف أن ينكروا
وجهه بطرف ثوبه وقال هبدوء:
عليه اهتام َمه برأس ديك ،فمسح َ
- -إن الرأس أشهى األعضاء ،وذلك الختالف الطعوم فيه« .فالرأس
وطعمهام يشء عىل فيه الدماغ :فطعم الدماغ عىل ٍ
حدة؛ وفيه العينان
ُ ُ
وطعمها
ُ ومؤخر العني
ّ حدة؛ وفيه الشحمة التي بني أصل األذن
وأنعم من
ُ خاصة أطيب من ّ
املخ عىل حدة .عىل أن هذه الشحمة ّ
وطعمه يشء عىل
ُ ُ
اللسان السالء؛ ويف الرأس
الزبد وأدسم من ّ
وطعمهام يشء
ُ حدة .وفيه اخليشوم والغرضوف الذي يف اخليشوم،
عىل حدة؛ وفيه حلم اخلدّ ين وطعمه يشء عىل حدة».
فبارده أحد جلسائه ،وقال وهو ينظر إىل اخلادم الواقف وهو
يرجتف:
تلم
- -ولكنك –يا اب َن هارون -رجل من أهل احلكمة والعقل ،فال ْ
املسكني عىل رأس ديك!
َ هذا
فانتفض ،سهل ،ورمى عاممته وقال:
- -إن اهتاممي برأس الديك إنام مر ُّده إىل اهتاممي باحلكمة والعقل.
«فالرأس س ّيد البدن ،وفيه الدماغ ،وهو معدن العقل ،ومنه
السامعة والذائقة؛ وإنام األنف واألذن بابان .ولوال أن
تتفرق ّ
ّ
العقل يف الرأس ملا ذهب العقل من الرضبة تصيبه ،ويف الرأس
احلواس اخلمس .ولذلك قال األعرايب:
إذا احتملوا رأيس ،ويف الرأس أكثري
و ُغ ِ
�ود َر عن�د امللتق�ى َث َّم س�ائري!».
101
ما إن أهني اجلاحظ القصة حتى كان األصمعي يكاد يسقط
ِ
ضحكا ،وكانت عينا النظام مرتعتان دموعا .فرفع رأسه وقال:
- -يشء عجيب!
أمسك اجلاحظ يد األصمعي وقال:
والبد أن أقص عليك قصة صاحب سهل ،عبد الرمحن مع ابنه.
فقال األصمعي وكالمه يكاد ال يتضح ملغالبة الضحك:
- -وما هي يا أبا عثامن؟
اللحم
َ كان عبد الرمحن هذا –وهو من أبخل أصحابنا -ال يأكل
إال مرة واحدة يف األسبوع .وكان ال يدع ولده جيلس عىل ِ
اخل َوان إال بعد
وهنم الصبيان ،وشرَ َ َه ٍ
تشرَ ُّ ط كثري ،ثم يقول له إذا مدّ يدَ ه ليأكل« :إياك َ
وأخالق النوائح .ودع عنك خبط امللاّ حني ،وهنْ َش األعراب. َ الزراع،ُّ
وكل من بني يديك ،فإنام ح ّظك الذي وقع وصار أقرب إليك .واعلم ْ
–عد ْمتُك! -أنه إذا كان يف الطعام يشء طريف ولقمة كريمة ومضغة ِ
ولست واحدا منهام. َ شه ّية ،فإنام ذلك للشيخ ا ُملعظم والصبي املدلل،
وتدخل منازل وعهدك باللحم ُ الوالئم، وتيب ِ
الدعوات جُ فأنت قد تأيت
َ
قريب ،وإخوانك أشدّ َق َرما إليه منك .وأنا -بعدُ -أكره لك املواال َة بني
اللحم! فإن اهلل ُيبغض َ
أهل البيت اللحمني .وكان عمر يقول« :إياكم
وهذه املجازر ،فإن هلا رضاوة كرضاوة اخلمر» .وكان يقول« :مدم ُن
اللحم كمدمن اخلمر» .وقال املسيح -ورأى رجال يأكل اللحم« -حلم
نفسك األثرة وجماهد َة اهلوى
عو ْد َ
بني! ّ
أي َّ
أف هلذا عمال»ّ .
يأكل حلامٍّ ،
خضم الرباذين ،وال
َ هنش األفاعي ،وال تخَ ْ
ضم َنهش َ
والشهوةَ ،وال ت ْ
102
َ
األكل إدام َة النعاج ،وال تلقم لقم اجلامل». ت ُِدم
وتوقف اجلاحظ عن احلديث ،فقال له األصمعي:
- -أخربوين أنك جتمع هذه األقاصيص وأرضابهَ ا يف كتاب عن
البخالء؟
وتبسم اجلاحظ ،وجاء صوت النظام:
- -ستذهب إىل سهل وحدك ،أما نحن فذاهبان يف طريق آخر.
وقرب اجلاحظ بغال
وتفرقوا وهم يقرتبون من باب سوق املربدّ ،
ملوحا هلام بالوداع. كار ِسن ٍ
ْدي ّ ُمل ٍ
طلب املكاري من اجلاحظ أن يقفز عىل ظهر البغل ،لكن اجلاحظ
مل يقفز.
ركب هبدوء –كام َيركب البدين -خوفا من تشقق اإلزار الوحيد
الذي يملك .رضب املكاري َ
البغل ليرسع ،بينام بدأ ذه ُن اجلاحظ خيرج
جو السوق ،لينرصف للتفكري يف متارض بنت اخلليل.
من ّ
***
103
الدوحة1438 ،هـ
105
- -مستحيل.
- -أنا جاد ،لقد سمعت اخلرب من سكرترية رئيس التحرير.
التفت القروي نصف التفاتة دون رفع برصه عن الشاشة وقال:
العرب
ُ - -باهلل ،شوف ترمجة غوغل لكالم الـجاحظ .لقد دمر
املعارصون ذائق َة غوغل املسكني.
شعر مازن ببعض امللل ،لكنه مال جهة الشاشة وقال:
- -طريف؛ العجم هم الفرس فقط؟
اسم لغري العرب ،لكن
- -تلك ليست أسوأ ما فيه .فالعجم يف اللغة ٌ
خيصون هبا الفرس.العرب أحيانا ّ
- -صحيح ،أهل اخلليج هنا يسمون ال ُفرس العجم.
ماشيي إىل خمرج خلفي يقود لفناء مفتوح
نْ وقفا وش ّقا غرفة األخبار
جيلس فيه بعض املدخنني .أخرج مازن سيجارا كوبيا وأشعله قائال:
بسام رئيسا للتحرير.
سيعي ّ
نّ - -اخلرب مؤكد يا صديقي.
- -رئيس التحرير احلايل ممتاز بعقله التحريري وصياغاته اخلربية.
فلم يقال؟
وهو جيد يف إدارة الفريق َ
- -ال أدري .سمعت أن نائبه تآمر عليه مع بعض املقربني منه حتى
وجدوا مستمسكات تدينه.
استند القروي عىل طرف اجلدار ،وهو ينظر إىل املصابيح الكهربائية
يف طرف الشارع قرب سوق واقف .تذكر أن من أسباب قدومه إىل هذه
البالد إيامنه بإخالص أهلها يف حب العرب وخدمة لغتهم ،فقال بنربة
انزعاج:
106
- -ميزة رئيس التحرير أنه يملك وعيا حضاريا عميقا .فهو يفهم
أن اللغة األم عامد النهضة ،ولن تقوم هنضة إال عىل سيقان اللغة
املغموس يف بحار العجمة -كام يقول ابن
ُ األم .أما ذلك األصلع
خلدون -فال أستطيع ختيله مسؤوال.
والتقم مازن سيجاره بنهم ،وقال بلهجة فالّح من ضواحي رام
اهلل:
- -واهلل ما نعرف املصلحة وين يا صديقي!
وسمعا صوت منتج قادم يركض:
- -تعال يا مازن ،النرشة قريبة!
ودخال إىل غرفة األخبار .ركض مازن إىل قسم املقابالت ،وجتاوز
القروي الغرفة إىل القسم التقني مرتصدا حصة إبراهيم .دخل ،فرأى
صديقتها البدينة فاغرة فاها محُ ملق ًة يف احلاسوب ،وعن يمينها علبة
بالستيكية من مرشوبات مكدونالدز .تردد يف سؤاهلا ،ثم قال:
- -هال ،باهلل حصة داومت اليوم؟
- -واهلل ما أدري!
ونطقت «ما» مفخم ًة بلكنة فارسية كأن صوهتا قاد ٌم من بئر سحيق.
وشعر بالندم عىل سؤاهلا ،وقبل خروجه من القسم رأى حصة خارجة
من غرفة قريبة.
تلعثم كالمها.
وقفا يف طرف املمر الواسع مرتبكني لوقوفهام وكأهنام يضيقان
الطريق .غري أن الرغبة يف احلديث كرست احلرج .وقفا ،دون أن
107
يكون يف ذهن أحدمها ما يريد قوله لآلخر .املهم أن يقفا معا ،متقابلني
ترتاقص أعينهام سعادة.
قال ساعيا لكرس احلرج:
- -كيف عملك اليوم؟
- -ممتاز.
والتفت وراءه فرأى صديقتها البدينة ترمقه بحنق .فامل جهة
حصة:
َك تلك؟ - -باهلل ،مل ال تبيعني صديقت ِ
َ
- -كيف يعني؟
- -كان اجلاحظ يكره أهل مدينة خوزستان يف فارس ويقول :من
خوزي ف ْليب ْعه!
ٌّ جار
كان له ٌ
تضاحكت ،مستثقل ًة حديثه عن اجلاحظ وهي تنظر داخل حقيبتها
قائلة:
- -ال بالعكس ،ترى هي طيبة.
وأخرجت هاتف نوكيا القديم ،وقالت:
- -عندي عمل...
- -دعينا نلتق يف الكافيرتيا إن وجدت وقتا.
- -إن شاء اهلل.
تعر َق جبهته وانعقا َد لسانه
وعادت إىل مكتبها ،واستدار مستغربا ّ
شنقيطي حيدو إب َله
ٍ دندن بصوتعندما رآها بغتة .عاد إىل مكتبه ،وهو ي ِ
ُ
وقت املغيب:
108
أن أراه�ا ُفج�اء ًة
وم�ا ه�و إال ْ
ُفأبهْ َ َ
�ت ،حت�ى م�ا أكا ُد ُأ ُ
بين!
وسمع صوت صحفي قادم من قسم االقتصاد:
- -إيه ده؟ عايزين هدوء يا ناس!
وأرص عىل ترديد البيت بصوت
ّ تصا َم َم عن احتجاج زميله،
ورد ،وهو يبتستم ٍ
عال مرة أخرى ،وهو جيلس إىل مكتبه .فتح ملف ُو ْ
حب اجلاحظ لتامرض بنت اخلليل!
مستغربا أنه يتطلع إىل معرفة مصري ّ
***
يتموج
ّ تكاد الريح تصك باب الغرفة ،غري أن الزعازع التي
هبا خاطر اجلاحظ كانت أقوى .كيف ملثيل أن يعشق ،وما قيمة تلك
درست إذا كان العقل يطيش عند مرور أول
ُ األطامر والكتب التي
ٍ
غزال أحوى؟
رمى وسادة كانت عن يمينه ،ونزل من فوق الرسير املهرتئ
ليجلس عىل األرض ،وضع يديه عىل رأسه فكادتا تغطيانه .ثم بدأ
هيينم بأشعار يف احلنني والوجد.
استغرب كيف أن شعر الغزل قد يتحول عند العاشق إىل عقار
يلتهمه كاملجنون ليتخفف من زوابع روحه.
ِ
طف َق يذهب وجييء يف الغرفة مفكرا يف حاله ،ها هو ذا بكل عقله
وعلمه وحيدا هيذي دون أن يملك عىل نفسه سلطانا! وكل ذلك بسبب
ٍ
وضاء ملحهام قبل سنني. ٍ
بنان خمضوب وجبني
كان عقله ال يتوقف متسائال :إذا كان العقل ال يملك سلطانا عىل
109
أثق بكل تلك األطامر والفلسفات املرمية يف
القلب إىل هذا احلد ،فلامذا ُ
ذلك الركن؟ مل َ أثق يف أن ما قاله واصل بن عطاء أو احلسن البرصي
أو أريسطو طاليس غري تابع مليوهلام البعيدة عن العقل؟ وما أدراين أن
العقل الذي تتحدث عنه الكتب ما هو إال خادم ذليل ط ّي ٌع للميول
واألهواء وزوابع الوجدان؟
ثم ابتسم ساخرا من نفسه :وما الفرق بني العقل والقلب أصال؟
تح من ٍ
معني واحد ويتأثر بصاحبه وجاره. يم ُ
فكالها عضو ْ
كان وحيدا يف الغرفة املربعة الشكل اململوءة بالكتب والكراريس.
يوجد قرب الباب كرسيان خشبيان .يأيت بعدمها الرسير املنحرف إىل
اليمني يف ركن الغرفة .توجد منضدة خشبية ملبسة بقامش ،فوقها قلم
وكتاب.
غري أن املنضدة أقرص قليال من الرسير ،ولذلك فالكتابة عليها غري
مرحية عندما ينحني عليها وهو عىل رسيره.
أما املساحة الباقية فمفروشة بحصري من جريد النخل مغطى
تبي من كثرة الكتب والقراطيس املتناثرة.
بلحاف مهرتئ ،ال يكاد لونه ُي نّ ُ
يف هناية الزاوية عن يسار البابُ ،وضعت طاولة ذات ثالث قوائم
عليها مواعني مبعثرة.
توجد نافذتان إحدامها مرشعة جهة اجلنوب واألخرى جهة
ُطمر من اخلارج
الشامل .غري أن تلك املرشعة جهة اجلنوب تكاد ت َ
بالرمال الزاحفة التي أوشكت أن تغطي نصف جدار البيت .لذلك
جيد اجلاحظ صعوبة يف فتحها أحيانا كثرية.
110
انحنى ليستخرج من حتت رسيره إسطرالبا وضعه عىل األرض،
ونظر فيه ليعرف التوقيت بالضبط ،فقد وعده النظام البارحة بأنه
سيزوره.
أعاد اإلسطرالب إىل مكانه ،وهو يفكر يف حديث األعراب عن
معرفة األوقات باحلدس ،مقارنا يف ذهنه بني فضائل احلدس الفطري
يف البادية ،وفضائل الصناعة يف احلرض.
خرج من باب احلجرة ونظر يف جنبات احلائط املتعرج املحيط
بحجرته ،متسائال يف نفسه هل حان موعد دفع إجيار السكن أم ال؟ ثم
فكر قليال يف مالك احلجرة ووعورة أخالقه ،متذكرا كيف اضطر ليقول
له الشهر املايض :كأنك تتعمد خمالفة احلديث« :رحم اهلل من باع سمحا
واشرتى سمحا».
املؤجر يف جبته املتسخة وشعره الثائر رغم ملكه أكثر من
َ تذكّر
عرش دور يف البرصة .ثم التفت جهة باب احلائط فرأى النظام قادما.
ما إن ملحه حتى تلقاه ،فمع كوهنام ال يفرتقان إال أهنام ال يلتقيان
بعد فراق ساعة إال كان كل منهام أشد هلفة عىل اللقاء واحلديث.
بادر النظام قائال:
- -كيف كانت ليلتك؟
- -ال تسأل!
قاهلا اجلاحظ وقد وضع قدمه داخل احلجرة .تقدم خطوات ورمى
بجسمه عىل الرسير ،فيام جلس النظام عىل الكريس.
دارت عينا النظام وهو يمسح أرنبة أنفه األفطس قائال:
111
- -ما بال ليلتك؟
جلس اجلاحظ واضعا كفيه بني ركبتيه ضاغطا عليهام –وهي
هتمم ألمر -وهو يقول:
حركة يفعلها إذا ّ
- -ما زال خياهلا يسكن عقيل .وقد عزمت عىل خطبتها من أهلها.
مدّ النظام يده وراء ظهره مصطنعا حكّة يف كتفيه حتى يداري
استغرابه ،وقال بنربة غري مكرتث:
- -وهل تراك قادرا عىل النفقة والكسوة اآلن؟
- -ال واهلل .لكن قدريت عىل اإلنفاق أقوى من قدريت عىل التحمل.
هم تظلل وجه صديقه .وأحس يف التفت النظام فرأى غاممة ّ
جتاويف صوته حزن ًا عميقا وصبابة عذبة .تأمل وجهه ،ثم رسح عين ْيه
يف أطراف الغرفة متخيال قدوم معشوقته إىل هذا املكان املوحش .رفع
وجهه قائال:
- -يا أبا عثامن ،أال ترى أنك يف عشقك لتلك الفتاة قد ظلمت
وتعجلت من وجوه ثالثة .فأنت..
َ نفسك
وقبل اسرتسال النظام قاطعه اجلاحظ:
- -باهلل عليك جنبني تشقيق الكالم وتوزيعه إىل مقدمات،
وتقسيامت ونتائج..
ابتسم النظام قائال:
طعمه.
الناس َ
- -يشء عجييييب! البد أن تذوق شيئا مما تُذيق َ
عاد اجلاحظ بصوت جاد مرتع باهلم:
احتلت حتى رأيتها قبل أيام.
ُ - -لقد
112
- -وهل حدثتها عن حبك هلا؟
- -نعم .لقد أعلمتني جارية جارهتم أهنا ذاهبة لسوق العطارين،
فكمنت هلا هناك .ثم تقدمت هلا وحدثتها عن مييل إليها.
ُ
برقت أسارير النظام كأنه طفل:
- -وماذا قالت؟
- -لقد ماشيتها من وسط سوق العطارين إىل هنايته ،ثم عربت هلا
عن تعلقي بالزواج منها ،لكنها مل تضع يف يدي شيئا.
قام النظام من مكانه ثائرا وهو يقول:
- -أمل تقل يل مرة إن الرجل ال خيلو باملرأة فيسمعها من حديث احلب
واهلجر والقرب والبعد ،ويقسم هلا ويفدّ هيا بأبيه وأمه ونفسه ،إال
أجابته كائنة من كانت؟
- -بىل ،لكني كنت عجال وكانت املرة األوىل التي أراها فيها وكنت
أخشى العيون.
كان اجلاحظ يتحدث ،ثم تذكر الفتاة وتصعيدها النظر فيه ،فطاف
به خاطر حزن؛ فتصعيدها النظر يف وجهه وأطرافه لن يكون بداعي
اإلعجاب قطعا.
أحس النظام بانشغال ذهن صديقه فبادره:
- -لكني ال أرى أن أهلها سيقبلونك زوجا هلا ،ثم ما الذي يدعوك
للتعلق هبا ،فغريها كثري...
هنا وقف اجلاحظ كأنه كان ينتظر هذا السؤال.
بدأ يدور بني رسيره وكريس النظام وهو يقول:
113
نار تتوقد ،وشعل ٌة تتوهج .طينُتها حرةٌ ،وعر ُقها
- -هي فتاة كأهنا ٌ
طيب ،ومنشؤها حممود.
كريم ،و َمغرسها ٌ
- -مقا ُم احلديث ليس طينتها هي وال حسنها ،بل....
قاهلا النظام وهو يطرد ذباب ًة ّ
بكمه.
غري أن اجلاحظ كان ما زال ِ
مغمضا عينيه متخيال فتاته مواصال
حديثه:
- -ولقد ُغ ْ
ذيت بالنعمة وجرى يف أطرافها ماء احلياة ...واهلل إهنا
لنهر من أهنار اخللود ،ونفحة من نفحات اجلامل ،وخاطر من
خواطر الرسور.
فتح اجلاحظ عينه فرأى النظام مبتسام فقال:
بالغت؟
ُ - -مل َ تبتسم ومل َ ال تعني صاحبك؟ َأو حتسبني
- -واهلل ال أرى إعانتك إال أن تقلع عن هذا فام أرى القوم
سيزوجونك .وما أرى إال أن تصرب حتى جتد لك جارية تترسى
هبا.
عاد اجلاحظ وجلس عىل رسيره ،ثم تذكر أنه مل يعرض طعاما وال
رشابا عىل صاحبه ،فقام إىل طاولة املواعني يف ركن الغرفة وأخذ من
فوقها مخِ ال ًة حمشو ًة باخلبز اليابس ،وهو يقول:
- -واهلل لقد بدأت أخشى عىل نفيس يا أخي .فلقد أصبح التفكري
فيها مستوليا عىل قلبي ،فإذا قرأت كتابا ملحتها بني سطوره ،وإذا
وجهت وجهي للصالة رأيتها معرتضة ما بيني وبني الكعبة.
ُ
كان يتحدث ،وهو يفرغ ماء ساخنا عىل يشء من اخلرب اليابس يف
114
ذر عليه قليل ٍ
ملح ووضعه بينه وبني صديقه. صحن .ثم ّ
مد النظام يده إىل اخلبز وهو يقول:
السلو عنها؟
َّ حاولت
َ - -هل
- -واهلل لقد حاولت ،لكن حسنها ليس احلسن الذي تبقى معه
تصح معه سلوى ،أو يثبت معه عزم. عقيدة ،أو ُّ
- -يا أبا عثامن ،أمجِ ْل يف العشق!
رأيت أحس َن النساء
ُ - -واهلل ما رأيتُها قط إال ذكرت اجلنة ،وال
بعدها إال ذكرت النار.
حبيبات طعام من فيه ،فوضع يده
ُ تطايرت
ْ ضحك النظام حتى
عىل فمه وهو يقول:
- -واهلل ما أنصفتنا يا أبا عثامن! هلاّ ّ
تغزلت بتامرض بنت اخلليل
وجتنبت تشبيه حسناوات البرصة ٍ
بنار تلظى!
وقف اجلاحظ ،وأتى بامء وصابون.
اقرتب النظام من باب احلجرة ومد يديه من فوق العتبة حتى صار
نصف جسمه خارجها .فخرج اجلاحظ وجعل يصب له املاء عىل يديه
ليغسلهام ،وهو يقول:
- -هل سمعت بام يحُ كى عن أيب نواس؟
- -نعم ،سمعت.
توقف اجلاحظ عن صب املاء بعد أن غسل النظام يديه ونفضهام
يف اهلواء ،ثم تناول النظا ُم اإلناء وبدأ يسكب املاء عىل يدي صديقه.
جلس اجلاحظ وطفق يفرك يديه بالصابون وقال:
115
- -سمعت أنه مستهرت هذه األيام بجارية من جواري عبود .ولقد
قيل يل إنه أرسل هلا رسالة كتبها بدمه.
- -ال أشك يف ذلك .فمع أنه كان متني الديانة حا ّد الفهم إال أنه
هتتّك.
- -قاتله اهلل ما أظرفه ،وأنا ال أخشى عليه التهتك ،فصاحب
ويقلع ويتوب .إنام أخشى أال َيسلم قل ُبه
ُ التهتك واملجون ّ
يمل
من ُّ
الش َبه .إذ سمعت أنه يكثر جمالسة بعض املانوية والديصانية،
وهو ضعيف يف اجلدل كام تعلم.
- -يشء عجيب! وماذا عند املانوية يغري غري طعامهم؟
وفهم اجلاحظ ما يرمي إليه صديقه .وتذاكرا كيف كانا قبل
سنوات يذهبون ملعبد للامنوية خارج البرصة يناظروهنم .ال رغبة يف
املناظرة بل حرصا عىل طعام يقدمونه بعد انقضائها .تذكرا رهبان
املانوية يف مالبسهم البيضاء ورؤوسهم احلليقة ،وكيف كانوا جيلسون
معهم الساعات الطوال يف انتظار حلظة وضع الطعام.
ٍ
طيلسان أسود مهرتئ فوق قال اجلاحظ وهو يمد يده ألخذ
رسيره:
فلنذهب إىل دار مويس فقد اقرتب الزوال.
ْ --
نظر النظام إىل احلىص املجتمع عىل طيلسان اجلاحظ ،وقال:
- -أيش هذا الغبار؟ ما أرى إال أنه من تلك النافذة فلم ال تسدها؟
نفض اجلاحظ الطيلسان نفضا قويا ،وقال:
- -ما رأيت َّ
أقل فائدة من هذه النافذة .إ ْذ ال يأيت منها إال احلىص ،ثم
116
هي مرشعة جهة منزل ُم ٍ
كار يملك عرشين محارا ،فال يأتيني منها
من األصوات إال هنيق احلمري ،وال من اهلواء إال احلىص .وحتى
ونظرت مل أر إال محارا ينهق ،هذا إذا مل تدخل حصاة
ُ فتحت
ُ إذا
يف عيني ،واهلل لكأهنا نافذة مفتوحة عىل جهنم.
وما إن نطق «جهنم» حتى تذكر حديثه قبل قليل عن متارض،
وكيف أنه إذا رأى فتاة غريها ذكر النار ،فبادر قائال:
- -هل ترى أن أطلب من شيخنا العالف أن خيطبها يل؟
عزمت ،فال أرى باألمر بأسا ،فهو شيخ جليل وهم
َ - -ما دمت قد
يقدرونه حق قدره .ولعله يزكيك عندهم.
ما إن أهنى النظام اجلملة حتى ذهب خيال اجلاحظ بعيدا ،فرأى
نفسه جالسا مع متارض يطارحها الغرام ،حاكيا هلا معاناته خلطبتها،
قاصا عليها تثبيط النظام له ،وكيف أنه حلبه هلا ذ ّلل كل صعب.
لعبت هذه األخيلة بذهنه وهو يحُ كم إغالق القفل عىل باب
حجرته ،والنظام يقول له:
- -واهلل ال يراك أحد حتكم القفل حتى يظن أنك تغلق حجرتك عىل
كنوز .وإهنا حلجرة لو دخلها لص لقعد يبكي عىل حظه العاثر.
سارا يف فناء احلائط متجهني جهة الباب واجلاحظ يقول:
- -وما أدراك أن اإلنسان ال ُيغلق بيتَه إال خوفا من رسقة متاعه؟ إن
نفوسنا ،ونكره اطالع الغريب عىل ما بداخلها .أال
بيوتنا ختتزن َ
مطلع عىل ما يف دواخل نفوسنا ونحن
ٌ ترى أننا نكره أن ي ّطلع
آمنون من رسقة ما يف سويداء قلوبنا؟
117
كان اجلاحظ يتحدث ومها يمشيان يف الزقاق املحاذي حلائط
احلجرة من جهتها اجلنوبية .فالتفت فرأى محري جاره املكاري يف حظرية
واسعة ،فقال للنظام:
ِ
والس َقط َّ
والرعاع؟ وما قيمة العلم - -إىل متى سنظل جري ًة للدمهاء َّ
والقراطيس إذا كان منزل النظام واجلاحظ ال يتميز عن محيد
املكاري وشمعون القصاب؟
ما زاد النظام عىل االبتسام ،وهو يثبت قلنسوته عىل رأسه ويقول:
- -إن لكل ثمرة أوان ًا يا أبا عثامن ،ثم إن العلم يراد لذاته ال لثمنه،
العنب يف فصل غري فصله فلن جيده ،ومن حترى ليلة
َ ومن تعجل
القدر يف شعبان أعيتْه.
***
مخارها عىل الرسير املثبت يف زاوية احلجرة وقالت
متارض َ
ُ رمت
ْ
بِ َغنَج:
- -من اجلاحظ؟
كانت أمها منهمكة يف ترتيب سفرة الطعام يف الدهليز الضيق
املفتوح عىل احلجرة التي تقف فيها ،فرفعت برصها وهي ال تزال جاثية
عىل ركبتيها:
- -قبل ذلك ،هل كان احلماّ م اليوم نظيفا؟
- -لقد كان نظيفا رغم صعوبة ذلك يف أيام اخلميس لكثرة الناس.
وقد جلست فيه مع صاحبتي ساعة .وأنا أفضله عىل آالف
احلاممات املنترشة يف البرصة.
118
أعادت األم برصها إىل ما بني يدهيا وقالت:
- -أما اجلاحظ ،فشاب يذكرون من علمه وأدبه وظرفه وفصاحته.
كانت متارض تتظاهر بأهنا مل تسمع باسم اجلاحظ ،ب ْله أن تراه ،بل
تريد إشعار أمها أهنا مل تسمع به إال بعدما حدثتها أمس أنه خطبها ،ثم
قالت ألمها –وهي تتذكر حالوة حديثه عند خمرج سوق العطارين-
ومن أي العرب هو؟
أعادت األم برصها إىل الطعام املرصوص عىل السفرة وواصلت
ترتيبه قائلة:
- -لقد أخربين أبو اهلذيل العالف أن اسمه عمرو بن بحر بن حمبوب
الفقيمي ِ
الكناين .وتذكرت أين سمعت أباك ذكره مرة واصفا إياه
بحدة الذكاء.
كانت الفتاة قد خلعت مالبس خروجها وبرزت من احلجرة
حارسة الرأس إىل الدهليز النظيف .ثم خاطبت أمها قائلة ،وهي تلعب
بشعرها املنسدل عىل ِصدارها تغنجا:
- -ومن اخلاطب اآلخر؟
- -عيل املدينيّ .مل ْ
حت يل أمه مرات وإن مل ترصح .وهو من قد
ِ
سمعت عنه مجاال وأخالقا وعلام.
جلست متارض يف ركن الدهليز غري املفروش ،مسندة ظهرها إىل
اجلدار ،فيام كانت أمها جالسة وسطه عىل حصري نظيف عليه سفرة
فوقها أوان وفاكهة .كانت األم تفكر يف أن سبب خطبة الرجلني هلا قد
ال يكون امليل إليها بل امليل إىل الزواج من ابنة اخلليل.
119
واصلت الفتاة لعبها بأطراف ذوائبها وهي تقول:
- -وما ذا ترين يا أماه؟
كان قلب الفتاة خيفق انتظارا للجواب خمافة إرصارها عىل أحد
الرجلني وهي ّملا خترت بعدُ .
- -األمر إليك يا ابنتي ...ثم إن...
ولشدة انشغاهلا باخلاطر مل تسمع كالم أمها بوضوح .فعادت
وسألتها:
- -ما رأيك يا أماه؟
- -األمر إليك يا بنية .فأنت من ستصبحني أسرية يف بيت أحدمها،
فال أحد يتخري لك غري نفسك.
وقع جواب األم عىل قلبها وقعا طيبا .ومع معرفتها بأن هذا رأي
أمها دائام إال أن كثافة اللحظة أنستها ذلك.
كانت الفتاة تعرف يف قرارة نفسها أهنا ليست مجيلة ،فأنفها املتوسط
احلجم ترتبع عىل أرنبته شامة سوداء جتعلها ال ترتاح إذا ردد شخص
النظر إليها مرارا ،لظنها أنه إنام ينظر إىل أنفها فقط .ومع أهنا حتفظ كل
َ
ما قاله الشعراء يف التغزل باخلال يف الوجه ،إال أهنا تتضايق من تلك
الناظر
َ الشامة كثريا .فكأن تلك الشامة ال تضيف إليها مجاال ،بل تُنبه
إىل أنفها حتى يتأمله وينتبه إىل دمامته ،ويتشاغل به عام يف وجهها مما هو
أكثر اعتداال وأقرب إىل اجلامل.
أما وجهها فمتوسط احلجم ليس فيه مجال وال قبح .واحد من
يدون عنها أي مالحظة
تلك الوجوه التي يمكن أن يراها املرء دون أن ّ
120
مادحة أو قادحة .أو هو من الوجوه التي ال بد للمرء أن يراها مرارا
حتى ختزهنا ذاكرته .أما إذا رآه مرات قليلة وحاول تذكره فسيتذكر
وجه شخص آخر ،أو ال يتذكر أي تقاسيم واضحة.
فعيناها سوداوان لكنهام ضيقتان ضيقا غري مفرط .وفوقهام حاجبان
متوسطان ،ترتاقص حتتهام أهداب غري كثيفة وال خفيفة .أما أسناهنا
فمف ّلجة ،وإن كان هلا ما يمكن أن تتيه به فهو جسمها الطري وقوامها
املعتدل ،دون أن يكون يف تفاصيل اجلسم ملن تأمله مجال يف عضو بذاته.
فهو جسم معتدل ،مجيل يف كليته ،لكنك ال تستطيع أن ختص عضوا منه
بأنه مجيل أو متصف بصفات اجلامل واالتساق واالعتدال.
غري أهنا تعرف مع ذلك أن كثريا من الرجال يميلون إليها.
فام زالت تذكر كيف قال هلا شاب يف سوق البرصة:
- -ليتني شام ٌة عىل أرنبة أنف!
قطبت جبينها من تلك العبارة ،حياء من أمها التي
ْ ومع أهنا
كانت تسمع ،فإهنا تذكرت كيف وقعت منها العبارة كام يقع املطر من
الصحراء العطشى .فقد يتطاير غبار الصحراء حلظة هبوط املطر ،لكنه
غبار لالحتفال واالستقبال والتلهف واالستزادة ،ال غبار االحتجاج
واالنزعاج .فالفتاة ال تنزعج أبدا من أي تغزل بجامهلا مهام كان وممّن
كان .فأي ثورة تبدهيا إنام هي من قبيل االستزادة ،وأي احتجاج تظهره
إنام هو رصخة لطلب مزيد من القول والثناء.
أفاقت متارض من أفكارها عىل صوت أمها:
ْ
- -ما رأيك أنت يا بن ّيتي؟
121
ومع أهنا أنافت عىل العرشين وشخصيتها قوية ،تلعثمت قائلة:
- -ما ترينه يا أمي.
تري الرجلني وختتاري بينهام.
- -أنا أرى أن ْ
- -ذاك رأيك يا أماه؟
كانت أمها قد وقفت ومشت قليال يف الدهليز ،وأخرجت رأسها
من بابه ونادت جارية رومية ،فأقبلت ملبي ًة ّ
جتر حلافا خلفها.
عادت األم واقرتبت من بنتها وقالت:
- -إن الرجال يا بنيتي هم كام قالت األعرابية الغابرة عثم ُة بنت
دريك ما ْ
الدخل». ِ ْ
كالنخل ،وما ُي َ
الفتيان ٍ
مطرود البجلية« :ترى
فالرجل يف حلظة إقباله عىل املرأة يخُ رج كل عذوبته وخيفي كل
قساوته .فأنت ال ترين منه إال ما يعجبك ،فهو لن ُيسمعك إال
كلمة غزل يطري هبا قلبك الغرير ،وال تقع عينك عليه إال وهو
متجمل متعطر طيب النفس حسن املزاج.
كانت متارض تستمع بكل حواسها حلديث أمها رغم ضوضاء
ضحكات العبيد التي تصلها من بيت اخلدم القريب من مدخل الدار.
بادرت البنت قائلة:
كالنخل ،وما يدريك ما ْ
الدخل». ْ - -أنا أعرف امل َث َل« :ترى الفتيان
لكني ال أعرف قصته.
رمت متارض سؤاهلا وهي تعرف أن أمها ال تسعد بيشء سعادهتا
ْ
برواية القصص التي سمعتها من زوجها اخلليل بن أمحد .فاندفعت
األم بحامسة وفخر وقالت:
122
- -لقد حدثني أبوك بذلك.
ِ --
إيه!
ورأي يف قومها، ٍ - -كانت عثم ُة بنت مطرود البجلية ذات عقل
وكانت هلا أخت ذات مجال يقال هلا خود ،فجاء سبعة إخوة
حل َل ُل
من األزد خيطبوهنا إىل أبيها ،وأتى الفتيان السبعة وعليهم ا ُ
اليامنية ،ويركبون النجائب الفارهة ،فقالوا :نحن بنو مالك بن
النحيي ،جئنا نخطب بنتك خودا ،فانظر من ستزوج نْ غفيلة ذي
منا .فدخل عليها أبوها وقال هلا :ما ترين؟ فقالت له« :أنكحني
عىل قدري ،وال تشطط يف مهري ،فإن تخُ ْط ْئني أحال ُمهم ،ال
ختطئني أجسامهم».
نطقت األم هذه العبارة ،ثم رفعت برصها إىل ابنتها لتنبيهها عىل
أغضت
ْ أمهية احتفاء الفتاة بعقل اخلاطب ال بجامله ،فلام التقت عيوهنام
متارض حيا ًء ،وقالت:
ُ
- -إيه!
وكانت األم إذا انشغلت برواية القصص -التي روهتا عن اخلليل-
ال تكاد تفيق عىل يشء مما بني يدهيا ،فوقفت وأخذت بيد بنتها ومتشت
هبا خطوات حتى خرجتا من الدهليز إىل غرفة اجللوس الكبرية .ثم
واصلت حديثها:
ٍ
خود إىل الفتيان وسأل كل واحد أن يصف له نفسه، - -فخرج والدُ
وكانت مع الفتيان ربيب ٌة هلم كاهنة يقال هلا الشعثاء .فاندفعت
تصف كل واحد منهم بأوصاف محيدة ومجل بليغة ،غري أن الفتاة
دخلت عىل أختها عثمة وشاورهتا يف األمر ،فقالت هلا أختها
123
َ
الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل» .اسمعي عثمة« :ترى
وخريها ُيدفن ،انكحي يف
َ مني يا ُأ َخ َّيتي« :إن رش الغريبة ُيعلن،
قومك وال تغررك األجسام».
فلم تقبل خو ٌد نصيحة أختها لفتنتها بجامل شاب منهم اسمه
مدرك .فبعثت إىل أبيها قائلة« :أنكحني شابا منهم يسمى مدركا».
فأنكحها أبوها عىل مائة ناقة ورعاهتا ،ومحلها زوجها مدرك.
فلم تلبث عنده إال قليال حتى غزهتم فوارس من بني مالك بن كنانة،
فاقتتلوا ساعة من هنار ،ثم إن زوجها وإخوته وبني عامر هربوا وتركوها
بيت فيمن ُسبي.
فس ْ ُ
كانت األم تواصل حديثها ،فيام انشغلت متارض بالتفكري يف تأويل
حديث أمها ،وهي تتذكر وجه اجلاحظ ودمامته املفرطة مع حالوة
حديثه ،فهل تعني أمها هبذا ترغيبها يف اجلاحظ؟
واصلت األم القصة قائلة:
- -فلام سباها بنو مالك وساروا هبا جعلت خود تبكي بكاء مرا.
فقال هلا أحد الفرسان :ما يبكيك؟ أعىل فراق زوجك؟ فقالت
له خود« :زوجي؟ ال واهلل! قبحه اهلل!».
فقال هلا الفارس :لقد كان مجيال .فقالت له :قبح اهلل مجاال ال نفع
معه ،إنام أبكي عىل عصياين ألختي وغفلتي عن صدقها حني قالت:
«ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل» ،وأخربهتم بخرب خطبتها
من أبيها وكيف اختارته جلامله ،فقال هلا رجل منهم يكنى بأيب نواس
أفو َه مضطرب اخللق :أترضني يب عىل أن أمنعك من وكان شابا دميام َ
ذئاب العرب؟
124
فقالت ألصحابه :أكذلك هو؟ قالوا :نعم إنه مع ما ترين ليمنع
احلليلة ،وتتقيه القبيلة .فقالت« :هذا وربيّ هو أمجل مجال ،وأكمل كامل.
قد رضيت به .فزوجوها منه».
كانت متارض تستمع إىل حديث أمها باهتامم وهي تتذكر شكوى
صديقة هلا من رضب زوجها هلا ،مع أهنا ما زالت حتتفظ بعدة رسائل
غرامية بعثها هلا قبل الزواج .وكان وجه اجلاحظ وعيناه املارقتان
شواخص يف خياهلا ،كام كانت تتذكر حديث
َ -اللتان تكادان تسقطان-
إحدى جاراهتا عن وسامة عيل املديني.
وقفت متارض من مكان جلوسها وعادت إىل الدهليز ،وأخذت
ُف ْرنِي ًة وعضت منها عضة وعادت إىل أمها وهي متضغها هبدوء ،وتقول:
- -وما ذا يغني لقاء أو لقاءان مع الرجل إذا كانت هذه هي احلال
يا أماه؟
تري الرجل ومل حتادثيه.
- -إن ذلك أفضل من أن ختتاري وأنت مل ْ
ولقد خطبني أبوك -رمحه اهلل -من والدي وكان رجال أزديا من
عامن ،جديد العهد بالبرصة ،ومع ذلك جالسته يف بيتنا مرات
قبل الزواج.
ما زادت الفتاة عىل مواصلة مضغ قطعة من ال ُف ْرنِ ّية بتلذذ قائلة:
األمر ما ترين يا أماه .دعي الرجلني يأتيان وأنا سأختار.
***
125
الدوحة1439 ،هـ
127
املوضوع وقل ُبه خيفق:
- -أنا تعرفت عىل فتاة هنا من أهل هذه البالد وأستأذن يف الزواج
منها.
رمى العبارة ،ثم انتظر اجلواب .فخيل إليه أن اخلط انقطع ،فلم
يسمع ألمه مهسا:
- -ألو ،ألو...
لكنه مل يسمع صوتا .انقطع االتصال ،فأعاده من جديد.
- -السالم عليكم.
- -وعليكم السالم يا ولدي.
شعر بارتباك شديد ،فحاول أن يسأهلا أسئلة ممهدة للحديث ،فلم
مس من جنون ،فقال:يتذكر إال جارة هلم هبا ّ
- -كيف حال جارتكم زينب!
سمع ضحكة أمه:
- -بخري ،ما الذي ذكرك هبا؟
- -أنا أتذكر كل األهل.
- -اهلل حيفظك يا ولدي.
- -طيب.
- -أيوه
- -أنا أريد رأيك .فقد قررت أن أتزوج فتاة هنا .وهي فتاة طيبة
وأهلها طيبون.
- -من أي الناس (القبائل)؟
128
- -هي من قبيلة عربية
- -ما اسمها؟
وبام أنه ال يعرف من أي القبائل هي فقد اخرتع هلا اسام له وقع
عريب:
- -من بني قحطان!
- -يا ولدي هؤالء ال نعرفهم! وما كنت أظنهم موجودين إال يف
الكتب!
- -ال ال ،عايشني ،عايشني يا أمي.
أنت تعرف رأيي وأين ما كنت أريدك أن تتزوج إال ببنات األكارم
َ --
من املجموعات التي نعرف.
- -أيوه
- -ولكني كنت عاهدت اهلل أال أمنعك وال أحدا من إخوتك من
االرتباط بأي امرأة .اهلل ييرس لك اخلري يا ُبني.
انتابته موجة طاغية من السعادة ،مل َيدر كيف ينهي املكاملة .فقال
بتلعثم:
- -هذا ممتاز ،طيب .كلمي أيب.
- -إن شاء اهلل.
ما إن قطع االتصال حتى ّ
رن عىل حصة .جاءه صوهتا حنونا
عطوفا ،دافئا.
- -كيفك؟
- -محد هلل!
129
- -كيف حال مطوعة بريدة الليلة؟
- -واهلل طيبة!
- -وينك اآلن؟
- -أنا يف السيتي سنرت ،أشرتي بعض األغراض.
- -صحيح ،مركز املدينة حيث أنت!
بخ َفر ُ
مشوب بضحكة: فردت َ
- -كذاب!
كلمت أمي وقالت ال مانع ،وستكلم أيب غدا.
ُ - -اسمعي،
مل تعن كلامته هلا شيئا .فهو مل خيربها بإمكانية رفض أهله ،وما كانت
تتوقع الرفض ممكنا إال من أهلها هي .فقالت:
- -طيب.
- -قلت لك ال مانع عند أمي.
كادت ترمي بكلمة ،ثم أمسكت نفسها قائلة:
- -طيب.
- -ومتى ستكلمني أهلك بشأن ِ
اخلطبة؟
- -قريبا إ شاء اهلل!
كانت حصة تتحدث من داخل متجر كارفور الواقع يف الطابق
األول من السيتي سنرت وسط الدوحة .مدت يدها وأخذت سلة،
ومشت جهة اخلرضوات .كانت تنتقي منها ،لكن قلبها مشحون بسؤال
واحد :كيف ستقنع أهلها بالزواج من شاب موريتاين؟ ما املدخل
بادي الرأي فكيف تراجعهم؟
للحديث؟ وإذا رفضوا َ
130
لكنها مل تنتبه حلجم انشغال عقلها هبذه األسئلة إال عندما الحظت
أهنا ظلت واقفة بعض الوقت عند صندوق الدفع ،واملوظف ينادهيا
لتضع البضاعة دون أن تسمعه .حينها ،استيقظت من عاملها وبدأت
ترمي أكياس اخلرضوات بني يديه معتذرة.
وأفاقت عىل صوت البائع قائال:
ِ
ونسيت أيضا أن ِتزنيها عىل امليزان! --
قطعت االتصال ،وهرولت عائدة إىل مكان وزن اخلرضوات
يرجف حيا ًء.
وقل ُبها ُ
ما إن انقطع االتصال معها حتى وقف القروي يف طرف غرفته
وأطل من النافذة املرشفة عىل شارع احلمداين –بمنطقة السد -وهو
فرتاءت له «بقالة الفل ّبني» ،ثم ملح
ْ يشعر بخفة وبِشرْ وراحة بال .نظر
جمموعة من العامل اهلنود يقطعون الشارع وهم يضحكون داخلني إىل
مطعم مرصي لبيع الفول .استعذب فكرة اختالط األمم ومتازجها
داخل الدوحة ،ثم تذكر عامل البرصة واختالط األمم واللغات واألفكار
فيها حتى قبل عرص التواصل الرسيع هذا.
***
انتفض فوق رسيره فزعا .وجلس يفرك عينيه ،ونصفه األسفل
مغطى بلحاف مهرتئ .متتم متثائب ًا:
- -اللهم ارمحها.
فهذه من املرات القليلة التي رأى فيها أمه يف النوم منذ وفاهتا قبل
سنني .فمع كوهنا كانت له يف طفولته أبا وأما ،إال أنه يؤنب نفسه عىل
131
أنه مل حيزن عليها من احلزن ما تستحقه.
أنزل رجله اليمنى من فوق الرسير ،فانحرس اللحاف عن ساقه
الدقيقة .نظر إليها وهو يفكر يف طبيعة اإلنسان وكيف ال يستطيع
التحكم يف مشاعره .فهو يود أن يكون حزينا عىل أمه بمقدار ،لكنه مل
حيزن عليها بذلك املقدار .فهل يعني هذا أن الشعور معزول عن اإلرادة
كليا؟ وما عالقة هذا بموضوع املناظرة أمس يف املسجد حول اإلرادة،
األخرويي.
نْ ومدى سلطة املرء عليها وعالقة ذلك بالثواب والعقاب
وقف وهو يتمتم بحمد اهلل ،ونظر من نافذة حجرته ليعرف
الوقت.
توضأ وصىل العرص .وأخذ حزمة من الكراريس ،ولبس جبة بني ًة
كور عىل رأسه عاممة صفراء متسخة
كانت معلقة عند رأس الرسيرّ ،
وخرج مرسعا.
املار من أمام حائط حجرته حيا صاخبا .فالغبار كان الشارع ُّ
يتصاعد وسطه لكثرة البغال واحلمري واإلبل املارة فيه .فهو قريب من
سوق البرصة الكبري ،بل يكاد يكون من أهم الطرق املوصلة إىل السوق.
كان ذهنه ال يزال منشغال بمناظرة حرضها أمس يف مسجد البرصة
بني العالف وأحد أحبار النصارى ،وكان ذهنه منشغال باحتجاج
النرصاين عىل العالف بأن عيسى ذو طبيعة الهوتية وناسوتية يف آن؛
بحجة أن القرآن يصفه بأنه كلمة اهلل .فهو بذلك كالقرآن الذي هو كالم
اهلل .كانت تفاصيل املناظرة حية يف ذهنه.
مشى حتى حاذى منزل جريانه النصارى ،فرأى والدهم أمام بيته
132
ُيرسج فرسه وبيده مخِ الة .فحياه من بعيدّ .لوح الطبيب النرصاين من
بعيد وقال:
- -حياك اهلل.
لكن اجلاحظ مل يسمع ما قاله ،فقد حالت بينهام جمموعة من الغلامن
الغبار
ُ إن انحرسمرتاكضني وراء سيدهم املرتبع عىل بغلة فارهة ،ما ْ
الذي أثارته حوافر البغلة وأقدام الغلامن الراكضني وراءها ،حتى كان
اجلاحظ قد وصل إىل طرف الشارع الذي يقود لساحة احلامم.
لف يمينا وهو يفكر يف مدى معرفة جاره النرصاين بتفاصيل ِدينه ّ
الذي يتبعه .متسائال :هل هو مقلد آلبائه فقط؟ أم هي العادة التي
املحرف؟ وهل هو معذور يف اآلخرة إذا
ّ جعلته يتشبث بذلك الدين
كان يوقن يف دخيلة نفسه بأن دينه هو الدين احلق؟ أم أن اجلاحد للحق
فقط هو اآلثم وغريه بريء أمام اهلل؟
كان ذهنه ال يزال مشحونا بتلك األفكار وهو خيلع حذاءه داخال
إىل مسجد زينب ،بدا املسجد مكتظا بالشبان املنحنني عىل كتبهم،
واحللقات الدائرية حول كل سارية .جتاوز السارية األوىل فرأى أحد
الشيوخ وحوله عصبة من الشباب املنشغلني بدراسة علوم األوائل؛ من
منطق وكيمياء وموسيقى ،فهو يذكر أن ذلك الشيخ ذا العاممة احلمراء
ال يطيب له إال تدريس اهلندسة والرياضيات ،وصل إىل السارية التي
اعتاد شيخه اجللوس عندها فلم جيده ،لكن جمموعة من الطالب بادروا
إليه مرحبني .ما كاد جيلس حتى قال له شاب كثيف اللحية:
- -لقد سافر الشيخ ،وما أرى إال أن جتلس مكانه لنلتمس من
علمك ريثام يعود.
133
ثم دوت غمغامت الطالب مؤيدين كالم الشاب.
ابستم اجلاحظ ،وهو يضع يده عىل منكب الشاب األسمر:
- -هذا مرتقى صعب ،وما أراين أصلح للجلوس هنا للتعليم مكان
الشيخ.
ثم خيم الصمت ،فسمع بوضوح صوت أحد الشيوخ اجلالسني
عند إحدى السواري يقول:
«- -القوة الغضبية والقوة الشهوية مها أصل هذا املنزع».
التفت اجلاحظ نحو الصوت ،فرتاءى له الشيخ محُ َ ْم ِلق ًا يف صحيفة
كبرية عليها رسوم ملونة .ثم ملح شابا قصريا أبيض ،جيلس عن يمني
الشيخ ويشري جهة اجلاحظ بأصبعه.
ثم وقف الشاب مقرتبا وقال ِ
خجال:
- -هل أنت أبو عثامن؟
- -بىل!
ما كاد الشاب يصدق ،وانعقد لسانه وهو يشري إىل كومة من الورق
بيده:
كتبت يف «فخر السودان عىل
كنت اآلن أقرأ هذه القراطيس التي َ
ُ --
البيضان» وما أظن أحدا كتب يف هذا الشأن قبلك.
ونظر اجلاحظ بغبطة إىل األوراق املنسوخة من كتابه وقال:
- -وهل أعجبك ما فيها؟
- -إي ،باهلل.
ّ
وحك شحمة أذنه وقال: ثم رفع الشاب يده
134
- -عىل أن عندي بعض اإلشكال فيها.
فقال اجلاحظ بغبطة:
- -وما هو؟
مد الشاب يده بصفحة وقال للجاحظ اقرأ من هنا:
َ
األوراق اجللدية وبدأ يقرأ: أمسك
أعم، «والناس جممعون عىل أنّه ليس يف األرض أ ّم ٌة ّ
السخا ُء فيها ُّ ُ
قط إلاّ يف كريم.
الزنج .وهاتان اخل ّلتان مل توجدا ّوعليها أغلب من ّ
الرقص املو ّقع املوزون ،والضرّ ب بال ّطبل عىل
وهي أطبع اخللق عىل ّ
اإليقاع املوزون ،من غري تأديب وال تعليم .وليس يف األرض أحسن
أخف عىل اللسان من لغتهم ،وال
ّ ُح ُلوقا منهم .وليس يف األرض لغة
يف األرض قوم أذرب ألسنة ،وال ّ
أقل متطيطا منهم.
األرت والفأفا َء
َّ وليس يف األرض قوم إلاّ وأنت تُصيب فيهم
والعيي ،ومن يف لسانه حبسة ،غريهم .والرجل منهم خيطب عند امللك
َّ
بالزنج من لدن طلوع ّ
الشمس إىل غروهبا ،فال يستعني بالتفاتة وال ّ
بسكتة حتّى يفرغ من كالمه.
أعم منهم فيهام.
وقوة األرس ّ
وليس يف األرض أ ّمة يف شدّ ة األبدان ّ
الرجل لريفع احلجر ال ّثقيل الذي تعجز عنه اجلامعة من ّ
وإن ّ
األعراب وغريهم .وهم شجعاء أشداء األبدان أسخياء .وهذه هي
خصال الرشف.
الصدور وأمال للعيون ،كام ّ
أن املسودة أهول يف ُ
أهول يف ّ وهم
للصدور من املب ّيضة ،وكام ّ
أن الليل أهول من النهار. العيون وأمال ّ
135
والسواد أبدا أهول!
ّ
السود أحسن وأهبى ،وجلودها
و ُد ْه ُم اخليل أهبى وأقوى ،والبقر ّ
السود أثمن وأحسن وأقوى .وسود ّ
الشاء أثمن وأنفع وأبقى .واحلمر ّ
وكل جبل ّ
وكل حجر أدسم ألبانا وأكثر زبدا ،والدّ بس أغزر من احلمرّ .
إذا كان أسود كان أصلب صالبة وأشدّ يبوسة.
واألسد األسود ال يقوم له يشء.
أعم منفعة وال
وليس من التّمر يشء أحىل حالوة من األسود ،وال ّ
أبقى عىل الدّ هر .والنّخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود اجلذوع.
جل وعالَ ﴿ :وم ِْنالسواد .قال اهلل ّ
وأحسن اخلرضة ما ضارع ّ
ُ ْ َّ َ َّ ُ
تان﴾ .قال تان﴾ ،ثم قال ّملا وصفهام ّ
وشوق إليهام﴿ :مدهام ِ دون ِ ِهما جن ِ
الر ّي سوداوان.
ابن عباس :خرضاوان من ّ
واحلجر األسود من اجلنّة.
والصقالبة من
ّ والروم فمن استنكر َ
لون السواد فام يف الفرنجة ّ
الرأس
والصهوبة ،واحلمرة يف شعر ّ
ّ والر ّقة
الشعر ّإفراط سبوطة ّ
وأسمج .وال سوا َء من مل
ُ أقبح
واللحية ،وبياض احلواجب واألشفارُ ،
تُنضجه األرحا ُم وما جازت به حدَّ التامم».
ثم رفع اجلاحظ برصه –وهو جيد لذة قراءة كالمه -وقال للشاب:
- -وما وجه اإلشكال يف هذا؟
- -مل تقل لنا ما سبب السواد؟ وهل هو لعن ٌة من اهلل كام يقول اليهود؟
رميت إليه بقولك« :وال سوا َء من مل تُنضجه األرحا ُم
َ وما الذي
جازت به حدَّ التامم».
ْ وما
136
وقبل أن جييب اجلاحظ ،الحظ أن كثريا من طالب احللقات بدأوا
يتجمعون لسامع حديثه ،فقال ،وقد خامره بعض الغرور:
تركت َ
بسط ذلك اتكاال عىل فطنة قارئ الكتاب .فاهلل تعاىل ُ - -لقد
مل جيعل السواد تشوهيا يف اخلَ ْلق ،ولك ّن اختالف البالد وقوة
«واحلجة يف ذلك ّ
أن يف ّ الشمس هي التي فعلت ذلك بالناس.
احلرة
وكل من نزل ّ العرب قبائل سودا كبني سليم بن منصورّ .
من غري بني سليم ك ّلهم سود .وإنهّ م ليتخذون املامليك للرعي
الروم نسائهم،والسقاء ،واملهنة واخلدمة ،من األشبان ّيني ومن ّ
ّ
احلرة إىل ألوان بني سليم.
فام يتوالدون ثالثة أبطن حتّى تنقلهم ّ
احلرة ّ
أن ظباءها ونعامها ،وهوا ّمها وذباهبا ولقد بلغ من أمر تلك ّ
وثعالبها وشاءها ومحريها ،وخيلها ،وطريها ك ّلها سودّ .
والسواد
والبياض إنّام مها من قبل خلقة البلدة ،وما طبع اهلل عليه املاء
حرها .وليس الشمس وبعدها ،وشدّ ة ّ والتبة ،ومن قبل قرب ّ
رّ
ذلك من قبل مسخ وال عقوبة ،وال تشويه وال تقصري.
التك .ومن رأى إبلهم عىل ّ
أن بالد بني سليم جتري جمرى بالد رّ
تركي رآه شيئا واحداّ .
وكل يشء هلم ّ ودوابهّ م ّ
وكل يشء هلم
تركي املنظر.
ّ
الروم فال خيفى
ور ّبام رأى الغزاة دون العواصم أخالط غنم ّ
الروم».
عليهم غنم ّ
كان الفتى ومن حوله يستمعون مذهولني بكل حواسهم للجاحظ،
ُمتعجبني من فصاحته وبدهيته وقوة منطقه .فلام سكت بارده رجل من
طرف احللقة يشد عليه جبته حيا ًء:
137
- -وما ذا عن الروم؟
- -الروم إنام نقص َخ ْل ُقهم قليال النحرافهم شامال يف األرض .وأنت
تعلم أن األرض عىل هيئة البيضة ،فكأن األرحا َم مل تنضجهم لقلة
الشمس فجاء َخ ْل ُقهم ُمتهافِتا ،وجلو ُدهم ضعيف ًة .فكأن األرحام
كبري إنضاج!.
زادت عىل إنضاج السودان ،ومل تُنضج الرو َم َ
ْ
ُ
اجلاحظ لون حمبوبته متارض ،فاستعاد برشهتا املتسوطة بني وتذكر
البياض والسواد .فنظر إىل األرض ،ورفع وجهه ،وقل ُبه خيفق:
- -لذلك ترون أحس َن الناس أجساما وأمج َلهم ألوانا أهل هذه
ننحرف شامال
ْ فلم
وسط األرضْ ، َ البالد؛ وذلك لوقوع إقليمنا
وال جنوبا.
وسكت وهو يتذكر متارض ،وكيف و ّدعها آخر مرة قرب سوق
العطارين .فتمتم قائال:
عيل العودة ألمر مهم!
ّ --
ثم وقف ،فوقف معه الطالب يش ّيعونه إىل الباب ،ما كاد يضع
رجله يف نعله حتى شعر برضب خفيف عىل كتفه ،فالتفت فإذا سهل
بن هارون.
ابتسم اجلاحظ فاحتا ذراعيه وعانق سهال قائال:
- -ما الذي جاء بك؟
- -جئت أستعري كتاب بطليموس من أحد الرتامجة الرسيان.
وسخ ًا إىل مكاهنا ،ونفض
انشغل اجلاحظ بإعادة عاممته املصفرة َ
ٍ
طوبة وقعت عليها وهو يقول: طرف جبته األسفل من أثر
138
- -أمل نقرأ كتاب بطليموس منذ دهر مع ًا؟
- -بىل ،وأنا أبتغيه ألنسخه للبيع ،لكني مل أجد الرجل ولعيل أعود
وقتا آخر.
- -حسنا ،ما رأيك يف أن تصحبني لدار مويس بن عمران فنتعشى
معه؟
- -ال بأس.
خرج الرجالن من باب احلائط الدائر عىل املسجد وبدآ يسريان يف
الشارع ،كانت الضوضاء اآلتية من جهة السوق عالية ،والشمس تكاد
تغيب وأذان املغرب يكاد ينطلق ،ظال يسريان يف الشارع ،وكان اجلو
باردا فجعل كل منهام يشد جبته عليه ،بينام أخذ اجلاحظ عاممته وتقنّع
هبا.
فالتفت إليه سهل وقال:
- -ال أنصحك بالتقنع؛ فأنت عندما تتقنع بعاممتك ختفي حماسن
وجهك.
لكزه اجلاحظ بمنكبه:
- -تعني أين عندما أتقنع ُأبرز ما يف وجهي من دمامة؟
ثم قطع حديثهام صوت مؤذن قريب.
كانا قد حاذيا الزقاق الكبري املؤدي لساحة احلامم ،فازدادت
الضوضاء تكاثفا باختالط أصوات املؤذنني مع صوت مطرقة يف طرف
السوق.
يتدافع الناس خارجني من سوق البرصة عائدين إىل بيوهتم،
139
أو متوجهني للمسجد اجلامع لصالة املغرب .يكاد الشارع يضيق
بالكتل البرشية اآلخذة يف كل اجتاه .فهؤالء قصابون حيملون سيوفهم
وآالهتم ،وتفوح رائحة الشحم واللحم من مالبسهم ،وهم منهمكون
يف أحاديثهم بعد يوم طويل من العمل ،مروا من جهة سهل ،فضم
طرف جبته حتى ال تالمس مالبسهم .ثم دخل هو واجلاحظ إىل
املسجد للصالة.
بدأت الصالة يف املصىل الصغري املطل عىل الشارع ،دخل الناس يف
صالهتم لكن اللوحة البادية أمام املصلني ال تكاد ترتك للمصيل مساحة
تأمل أو خشوع.
وتلك جمموعة من اجلواري يمشني مرسعات وعىل رأس إحداهن
كومة مالبس ،وهن يتضاحكن ويتغامزن مع شاب يف طرف الشارع،
ثم مر بني الشاب والفتيات َكال ٌّب يركض ووراءه جمموعة من الكالب
حممال يقوده أعرايب ّ
رث الثياب. أفزعت مجال ّ
كانت الكتل البرشية تتحرك مبتعدة عن السوق لتتوارى يف الشارع
الواسع ،فيام بدأ الليل يفغر فاه ليلتهم املدينة ومن فيها.
نفض اجلاحظ حذاءه وهو خيرج من باب املسجد وقال لسهل:
ُتبت هذه الصالة حسنات أم سيئات؟ وما الذي عقلنا منها
- -هل ك ْ
وحرضناه بقلوبنا؟
التفت سهل متنهدا وقال وهو ينفض حبيبات احلىص عن أرنبة
أنفه األقنى:
- -وما أدراك أهنا من أكثر الصلوات أجرا؟ فاألجر يتضاعف كلام
أجر املتعبد املنفرد يف خلوته تضاعفت الفتن والعوارضّ ،
وإن َ
140
املنقطع عن العوارض ألقل عندي من أجر من يصيل وهو ّ
مطل
عىل سوق العطارين.
- -ثم إن الفرق بني السيئة واحلسنة دقيق ال يدركه العامة ،فاحلسنة
قد تكون سيئة بحسب املقام والنية ،والسيئة قد تصري حسنة
باملقام والنية.
ظال يتباحثان يف الفروق ما بني احلسنات والسيئات ،وكل منهام
يستعرض قدرته عىل توليد األفكار وزحزحة الدارج منها بمنطق حا ّد.
واصال السري قاصد ْين منزل مويس بن عمران ..ذلك املنزل الوحيد
اخلاويتي أبدا.
نْ الذي جيدان فيه عادة ما يشبع معدت ْيهام
***
مد اجلاحظ يده وقرع الباب بقوة.
خرج غالم صقلبي وفتح الباب ،ثم دعامها للدخول وهو مطأطئ
الرأس.
كان مويس بن عمران مرتبعا يف جملسه الواسع الواقع باجلانب
األيمن من منزله الكبري ،ومعه مجاعة فيهم النظام ومارسجويه
اجلنديسابوري وأبو نواس.
قام مويس من مكانه واستقبلهام كأنه يتدحرج ،وهو يردد بلثغته
التي تبدل الراء غينا:
- -يا م ْغحب ًا وأهال!
مد اجلاحظ يده ملصافحته وهو يبتسم متذكر ًا كيف وصف أبو
نواس مويس ًا قبل أيام بأن مشيته تشبه مشية اإلوزة .فجسمه القصري
141
املمتلئ ،وساقاه األ ْفحج ِ
ان جيعالن مشيته متأرجحة متلكئة ،ثم تذكر َ
-وهو يعانقه -كيف اغتابه بأن اهلل ُييرس له الكلامت التي فيها الراء
كلام تكلم لتظهر لثغته أكثر ،ولتزداد ظرافته يف أعني الناس.
جلس اجلاحظ عن يمني مويس ،أما النظام فكان جيلس عن يسار
مويس ،فيام يرتبع مقابلهم أبو نواس ومارسجويه الطبيب ،الذي بدا
وجهه أكثر وضوحا من غريه لقربه من املصباح.
كان املجلس دائريا أنيقا مفروشا كله بالسجاد اخلراساين الفاخر،
واملساند البرصية األنيقة .وكانت إحدى زواياه مملوءة كتبا .شعر
اجلاحظ براحة وهو يستنشق رائحة الكتب اجللدية والورقية .فجلس
غري بعيد منها -عىل عادته -وهو يتذكر سخرية سهل بن هارون منه:
- -سأقرتح عىل الفتاة التي ستتزوجها أن تصنع قارورة عطرها من
غبار الكتب!
التفت مويس بجسمه كامال إىل اجلاحظ وقال بنربة أرفع من نربته
العادية:
- -هل طلبك أمري املؤمنني هارون الرشيد يف من طلب أمس؟
حترك اجلاحظ يف مكانه -العبا بجفنه األيمنُ ،مرخي ًا شفته السفىل،
غضن ًا خده األيرس -قائال:
ُم ِّ
- -لو طلبني ملا كنت جالسا بني هذه الوجوه .فام أظن من جالس
اخللفاء يعود القهقرى ملجالسة الدمهاء واحلشوة ومن ال يعبأ اهلل
هبم!
مويس يف مكانه ،ثم رفع يده وصك
ٌ دوى املجلس ضحكا ،واهتز
ّ
142
هبا يد اجلاحظ طرب ًا .أما أبو نواس فكان يداري ضحكه بسبب توايل
آت منراءات يف كالم مويس ،بادر النظام –وكأن صوته الغليظ ٍ
ٍ ثالث
أعامق روحه -وقال:
- -لقد دعا َ
شيخنا أبا اهلذيل العالف يف مجاعة من املشيخة .وطلب
إحصاء كل طالب العلم والعلامء يف البرصة.
غاب اجلاحظ عن احلديث منطويا عىل نفسه ،وهو يفكر كيف أن
الرشيد لو دعاه فلربام تيرس أمر زواجه من متارض بنت اخلليل ،ثم ختيل
نفسه بني يدي الرشيد وهو ُيظهر كل علمه ومهاراته ،والرشيد يقول
له :مل َ مل ْ خيربوين عنك قبل هذا؟
غري أن هذه األفكار -التي داعبت خياله -قطعتها عليه فكرة
أخرى :ملاذا ما زال يشعر بالذنب لتعلقه هبا عند رؤيتها وهي تنوح عىل
يكتم حلظة رؤيته األوىل هلا عن كل أحد؟
أبيها قبل بضعة أعوام؟ ومل َ ُ
كانت عيناه تدوران برسعة الفتة ،وهي اإلشارة التي يعرف هبا
أصدقاؤه انشغاله بأمر جلل .فانتبه مويس وبادره:
طرت عنا ،وبأي أرض نزلت؟
َ - -ما بالك يا أبا عثامن؟ أين
انتبه ،فاعتدل يف جلسته شا ّد ًا أطراف جبته ،وهو يقول بنربة غري
واثقة:
- -كنت أفكر يف مسألة منطقية!
واسع
ٌ دخل الغالم الصقلبي ونظره إىل األرض ،وبيده جا ٌم
مزركش بصور الطواويس ووضعه وسط املجلس ،فوقف أبو نواس
تفوح من أردانه رائحة عطور خمتلطة .أخذ تفاحة وقضمها ،ثم قال
143
وكالمه ال يكاد ُيفهم:
- -هل سيصلنا يشء من صلة أمري املؤمنني لطالب العلم والعلامء؟
بادره اجلاحظ وقال:
- -ومن أي الفريقني ترى نفسك يا ابن هانئ؟
أبعد أبو نواس بقية التفاحة عن فيه وهي تقطر ماء عىل شدقه قائال
بابتسامة فاترة:
- -وماذا ترى أنت يا أبا عثامن؟
- -ال أرى أنك مندرج يف طالب العلم وال يف العلامء .فأنت شاعر
مفلق ،ومنطيق مطرب ،فأرى أن تلتمس طريقا حتى يعرف
اخلليفة مكانتك كأشعر أهل البرصة.
كان اجلاحظ يتحدث ،غري أن جوا من التوتر والنظرات املرتابة
فهم كالم اجلاحظ عىل أنه ٌ
حط من مكانته العلمية، خيم .فأبو نواس َ
خاصة بعد املناظرة التي دارت بينهام قبل أيام يف أحد املساجد ،وبحضور
النظام .فكيف مل يرض أن ينظمه يف سلك العلامء وهو الذي يشهد كل
من عرفه بتبحره يف الفقه واللغة واملنطق والتاريخ ،كان النظام يراوح
النظر بني وجه أيب نواس الذي تظلله سحابة انزعاج ،ووجه اجلاحظ
الذي تغشاه موجة توتر حياول إخفاءها ،والنظر إىل حم ّيا مويس الذي
ال حيب أن ُيؤذى أحد يف جملسه .مد النظا ُم يدَ ه إىل كوز من ماء الورد،
وقطع حديث اجلاحظ بقوله:
- -أنت يا أبا نواس تستحق كل تلك الصفات جلمعك إياها كلها،
ثم إن الرجل الكامل يف أيامنا هذه ال يستحق صفة الكامل إال إذا
144
مجع صفات متباينة...
ومع سعي النظام لتطييب خاطر أيب نواس ،فإن أبا نواس مل يرتح
لعبارة «الرجل الكامل» خمافة أن يؤوهلا بقية الرهط تأويال آخر .فبادر
أبو نواس مخُ في ًا تضايقه -حماوال استعجال األذهان قبل االنتباه لكلمة
«الرجل الكامل» -قائال بتلعثم ،موجها كالمه إىل مارسجويه:
ناظره سمعت أن أحد رهبانكم ناظر يف املسجد أمس و َق َ
طع ُم َ ُ --
املسلم.
فقال مارسجويه:
- -سمعت ذلك ،وما كنت حارضا.
نزع اجلاحظ عاممته ،فظهر ُّ
ظل رأسه الدقيق عىل اجلدار أكرب من
حجمه وقال:
ألباب وطارت
ٌ سمعت أهنا كانت مناظرة مشهودة ،حارت فيها
ُ --
عامئم.
ابتسم النظام مبتعدا عن اجلدار ،وأخذ وسادة وثناها لتكون له
ُم ْر َت َفق ًا وهو يستقبل وجه اجلاحظ.
فانطلق اجلاحظ:
- -لقد فكرت يف سبب انخداع كثري من العامة بالنصارى وتقديمهم
هلم عىل املجوس واليهود ،وقد حدثت صديقنا مارسجويه بذلك
من قبل.
فالتفت مويس إىل اجلاحظ:
- -وما ذا وجدت يا أبا عثامن؟
145
- -وجدت أن املسلمني حينون عىل النصارى أكثر من اليهود
واملجوس ألسباب .فاليهود كانوا جريان املسلمني يف يثرب.
ِ
وثبات وعداوة اجلريان كعداوة األقارب يف الشدة والتمكن
ُ
اإلنسان من يعرف ،ويناقض من يشاكل، احلقد .وإنام يعادي
وعىل قدر احلب والقرب يكون البغض والبعد.
التظارف إلثبات أنه
ُ عندها التفت أبو نواس إىل مارسجويه حماوال
مل يغضب ،وقال:
- -وهبذا تكون دواعي البغض بينك وبني اجلاحظ كثرية يا
مارسجويه!
ابتسم اجلاحظ دون أن يستطيع إخفاء انزعاجه من قطع أيب نواس
حلديثه وواصل:
«- -ثم ملا رأى اليهو ُد جريانهَ م من األنصار قد استقبلوا املهاجرين
خري استقبال حسدهتم اليهو ُد عىل النعمة يف الدين واالجتامع بعد
االفرتاق والتواصل بعد التقاطع ...فامألوا األعداء واحلسدة ،ثم
جاوزا إىل الطعن وإدخال الشبه ،إىل املناجزة واملنابذة والعداوة.
فجمع املسلمون كيدهم وبذلوا أنفسهم وأمواهلم يف إخراجهم
من ديارهم فطال ذلك واستفاض فيهم وظهر».
كان النظام يستمع بانتباه وهو متكئ عىل وسادته ،ممسكا وسط
جبته ال يكاد يتحرك ،وال يزيد عىل التأمل وإغضاء نظراته املتأملة دوما
وترديد كلمته األثرية :يشء عجيب! .يمدها هبدوء ناظرا إىل األرض،
سعيدا باتساع علم تليمذه اجلاحظ.
واصل اجلاحظ حديثه:
146
البغض ومتكن ذلك
ُ ُ
الغيظ وتضاعف ذلك «- -ثم ترادف ذلك
احلقد».
كان يتحدث بصوت مسموع ،رغم ضوضاء تصادم األواين
وج َل َبة اخلدم يف بيت العامل وهم منكبون عىل جتهيز العشاء.
َ
أما مويس فكان يفكر يف سؤال يرميه أو نكتة يشارك هبا .فقبض
بيده عىل يد اجلاحظ قائال:
- -سمعنا عن اليهود ،فامذا عن النصارى وهم موضوع احلديث؟
التفت اجلاحظ إىل مويس ،مغريا هلجته وضاغطا عىل خمارج
احلروف ،مربزا مجال صوته وأناقة ألفاظه:
ومهاجره-
َ «- -كانت النصارى -لبعد ديارهم من مبعث النبي
ال يتكلفون طعن ًا ،وال يثريون كيدا ،وال جيمعون عىل حرب.
القلوب عىل اليهود ،ول ّينها عىل
َ فكان هذا أول أسباب ما غلظ
النصارى .ثم كان من أمر املهاجرين إىل احلبشة ما حببهم إىل
غلظت عىل أعدائهم،
ْ القلوب لقو ٍم
ُ النت
عوام املسلمني .وكلام ْ
وبقدر ما نقص من بغض النصارى زاد يف بغض اليهود .ومن
شأن الناس حب من اصطنع إليهم خريا».
حترك مارسجويه ،مائال بنصف جسمه إىل األمام ،وقال بلهجة
واثقة:
وتكلفت الغائب،
َ أبعدت النجع َة
َ - -أال ترى يا أبا عثامن أنك
وأمهلت احلارض؟ مل َ غفلت عن أن القرآن ناطق بحب النصارى.
َ
اس َع َد َاوةً ّل ِّلَ ذ َ َ َ َ َّ َ َ َّ َّ
ِين الن ِ ج دن أش د واآلية من سورة األنعام تقول﴿ :ل ت ِ
147
َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ
ِين َآم ُن وا ّالَ ذ َ
ِين ِين أ ْش َر ُك وا ۖ َولَ َت ج َد َّن أقْ َر َب ُه م َّم َو َّدةً ّل ِّلَ ذ َ
آم ن وا ال ي ه ود وال ذ
ِ
ْ ْ َ َ قَ ال ُوا إنَّا نَ َص َ
ين﴾.سن ِ َ ى﴾ إىل قولهَ ﴿ :وذٰل ِك َج َز ُاء ال ُم ح ِ ار ٰ ِ
كان مارسجويه يتحدث ،وكانت عيون جمالسيه ترمقه بانتباه .فهو
منذ الصبا حيرض جمالس املعتزلة يف املسجد فأكسبته مهارة يف اجلدل.
فلام سكت مارسجويه ،قال اجلاحظ وهو يوجه كالمه إليه:
- -صدقت ،وما كنت ألغفل عن ذلك لكني أخرت ذكر اآلية
لبعض التدبري املنطقي .فإن من أمتن أسباب ميل عوام املسلمني
لعقيدة النصارى تأويل هذه اآلية التي «غلطت فيها العامة حتى
واحتجت هبا ،واستاملت
ْ نازعت اخلاصة ،وحفظتها النصارى
والس ْفلة .ويف نفس اآلية أعظم الدليل عىل أن
الرعاع ِّ
قلوب َّ
اهلل تعاىل مل يعن هؤالء النصارى وال أشباههم من امللكانية
واليعقوبية ،وإنام عنى أمثال بحريا الراهب والرهبان الذين كان
خيدمهم سلامن الفاريس».
دخل الغالم الصقلبي ناظرا إىل األرض ،حامال سفرة نظيفة .جثا
عىل ركبتيه ليبسطها فتباعد الرجال حتى ُبسطت وسط املجلس .وقبل
أن ينرصف أشار إليه مويس بأن يحُ كم إغالق ستارة النافذة ألن بعض
الغبار بدأ يتسلل.
خرج الغالم وعاد حامال جفنة مملوءة ثريدا ،ووراءه غالم هندي
حيمل قصعة وكوزا من املاء .اقرتب اخلادم اهلندي من سهل بن هارون
ومد له قطعة صابون وبدأ يفرغ املاء عىل يد ْيه .
يدي سهل حتت
نظر اجلاحظ إىل املاء القذر املنحدر بوضوح من ْ
148
ضوء املصباح ،متسائال متى غسلهام بالصابون آخر مرة .طرد الفكرة
عن ذهنه مواصال حديثه:
- -وإن من أسباب عطف املسلمني عىل النصارى «أنه جاء اإلسالم
وملوك العرب رجالن غساين وخلمي ،ومها نرصانيان .وقد
كانت العرب تدين هلام ،وتؤدي اإلتاوة هلام ،فكان تعظيم قلوهبم
هلام راجعا إىل تعظيم دينهام .وكانت هتامة -وإن كانت َل َقاح ًا ال
تدين الدين ،وال تؤدي اإلتاوة ،وال تدين للملوك -ال متتنع من
تعظيم ما ع ّظم الناس ،وتصغري ما صغروا .ونرصانية النعامن
وملوك غسان مشهورة يف العرب ،معروفة عند الناس».
قال النظام ،وهو يفرك يديه بالصابون بعد أن وصل إليه الغالم
اهلندي بقصعته الواسعة:
- -هلل أنت يا أبا عثامن ،واهلل ما فكرت يف هذا األمر ُ
قبل.
شعر اجلاحظ بنشوة من تزكية النظام ،وهو الرجل املعروف بحدة
الذهن .فواصل حديثه ،وأبو نواس يرقب حرك َة فك ْيه املنعكس َة عىل
اجلدار:
- -وقد كانت العرب تتجر إىل الشام ،وينفذ رجاهلا إىل ملوك الروم،
وهلا رحلة يف الشتاء والصيف ،يف جتارة مرة إىل اليمن ،ومرة
ِق َبل الشام ،ومصيفها بالطائف ،فكانوا أصحاب نعمة ،وذلك
مشهور مذكور يف القرآن وعند أهل املعرفة .وقد كانت هتاجر إىل
احلبشة ،وتأيت باب النجايش وافدة ،فيحبوهم باجلزيل ،ويعرف
هلم األقدار .ثم إن قيرص والنجايش نرصانيان ،فكان ذلك أيضا
تبع لألول يف تعظيم
واآلخر من الناس ٌ
ُ للنصارى دون اليهود.
149
من عظم ،وتصغري من صغر ،ثم إن العرب كانت النرصانية فيها
فاشية ،وعليها غالبة».
حترك مويس من مكانه مقرتبا من ِ
اخلوان وقال: ٌ
- -باسم اهلل!
تقارب الرجال حمدقني باجلفنة الواسعة املحشوة ثريدا مملوءا سمنا،
وبدأت األصوات ختفت بينام عال صوت القضم واللقم .واختلطت
خمارج احلروف باصطكاك األرضاس .حاول اجلاحظ مواصلة حديثه
فلم يستطع مقاومة غواية الثريد ،فهو مل يأكل طعاما منذ أمس.
أراد مويس قطع الصمت الذي خيم ُفجاءةً ،فقال وهو يمضغ
وخمارج حروفة خمتلطة:
- -واهلل ما كنت أظن قبلك يا أبا عثامن أن كثريا من العرب كانوا
نصارى.
أمسك اجلاحظ يده قبل وصول اللقمة إىل فيه وقال:
- -إال مرض .فلم تغلب عليها هيودية وال جموسية ،ومل تفش فيها
النرصانية إال ما كان من قوم منهم نزلوا احلرية يسمون ِ
العباد،
فإهنم كانوا نصارى ،وهم مغمورون مع ٍ
نبذ يسري يف بعض
مرض إال دي َن العرب ،ثم اإلسالم.
القبائل .ومل تعرف ُ
كان النظام ينظر من طرف خفي إىل اجلاحظ ،ثم تذكر رقة حاله
ومعاناته وحاجته إىل أن يذوق ثريدا وحلام ،فخاف -إن ظل مويس
ٍ
مستح ،فأخذ الكالم قائال: يسأله -أن يحُ رم من بقية الطعام وهو
- -ثم إن النرصانية «غلبت عىل ملوك العرب وقبائلها :عىل خلم،
150
وغسان ،واحلارث بن كعب بنجران ،وقضاعة ،وط ّيئ ،يف قبائل
كثرية ،وأحياء معروفة .ثم ظهرت يف ربيعة فغلبت عىل تغلب
وعبد القيس وأفناء بكر ،ثم يف آل ذي اجلدين خاصة.
وجاء اإلسالم وليست اليهودية بغالبة عىل قبيلة ،إال ما كان
من ناس من اليامنية ،ونبذ يسري من مجيع إياد وربيعة .ومعظم
اليهودية إنام كانت بيثرب ومحري وتيامء ووادي القرى ،يف ولد
هارون دون العرب».
كان مارسجويه ال يزيد عىل حتريك رأسه مومئا باملوافقة .أما
أبو نواس فكان مندفعا يف القضم ،ثم تذكر أنه مل يتحدث منذ بداية
احلديث ،وذاك قد يكون مثار تندّ ٍر عليه .فقال لسهل بن هارون:
- -مالك ال تتحدث يا سهل؟
قال له سهل ،والطعام يكاد يتطاير من فيه:
كنت قس بن ساعدة عىل منربه منذ
- -ما يل ال أحتدث؟ كأنك أنت َ
وضع هذا الطعام!
دوى الضحك يف أرجاء املجلس ،ورفع اجلميع أيادهيم إىل
ّ
أفواههم اتقا ًء النفالت الطعام منها .أما مويس بن عمران فالتفت إىل
سهل حماوال زيادة التحريش بينه وبني أيب نواس:
- -ال تظلم أبا نواس يا سهل ،فام منعه من احلديث إال احلرص عىل
سامع الدرر التي كان ينثرها أبو عثامن.
فقال سهل وهو جيمع بأطراف أصابعه لقمة:
- -واهلل ما أسكته حب العلم ،وإنام خشع لسفرة الطعام.
151
حاول النظام إعادة احلديث إىل موضوعه بقوله:
«فعطف قلوب دمهاء العرب عىل النصارى –كام تقول يا أبا
ُ --
عثامن -إنام هو للملك الذي كان فيهم ،والقرابة التي كانت هلم،
ثم رأت عوامنا أن فيهم ملكا قائام ،وأن فيهم عربا كثرية ،وأن ِ
بنات ُّ
الروم و َلدْ َن مللوك اإلسالم ،وأن يف النصارى متكلمني وأطباء
ومنجمني ،فصاروا بذلك عندهم عقالء وفالسفة وحكامء ،ومل
يروا ذلك يف اليهود».
قال اجلاحظ بني لقمتني:
- -فكأن الدمهاء ظنوا أنه إذا عال ُ
شأن قوم يف الدنيا اقرتب دينُهم من
احلق .فجلعوا نظافة النرصاين من نظافة دينه ،وقذارة اليهودي
من قذارة دينه .فاليهودي ال يكون إال قصابا أو سباكا أو نخاسا،
فظنوا قذارته وحقارته من قذارة وحقارة دينه.
نفض مارسجويه يده من الطعام قائال وهو يتجشأ:
- -صدقت يا أبا عثامن.
قال النظام ،وهو يشيح بوجهه ليتخلص من رائحة جتشؤ جليسه:
- -وهاهنا يشء آخر يف باب الديانات .وذلك أن الناس خيُصون
َ
الرجل عاقال الدي َن بأخطاء وأغالط ال خيصون هبا غريه .فرتى
حازما يزن األمور بميزان العقل ،حتى إذا دخل يف باب الدين
صار كأنه جمنون هيذي.
اهتز اجلاحظ لفكرة النظام وأضاف:
وجدت ديانتَهم
َ - -هلل أنت يا أبا إسحاق! لذلك لن تنظر إىل قو ٍم إال
152
أدنى من عقوهلم .فاليونان مع عقوهلم يعبدون الكواكب،
واهلنود مع حذقهم يف احلساب يعبدون البِدَ َدة ،وكانت العرب
مع رجاحة عقوهلا تعبد األصنام.
عاد النظام وقال:
- -وهلذا انرصفت هذه الطائفة املباركة من املعتزلة إىل عرض أمور
الدين عىل العقل حتى تشكر اهلل عىل ما وهبه من قسطاس لتمييز
احلق من الباطل.
تباعد الرجال عن القصعة ،ودخل الغالم الصقلبي ألخذ األواين،
وعاد الغالم اهلندي حامال الصابون وكوز املاء.
كان الغالم اهلندي يفرغ املاء عىل يدي النظام ،فوقف اجلاحظ
واقرتب من النافذة وبصق خارجها ،ثم التفت إىل مويس وقال:
اهبار ُ
الليل وحان وقت االنرصاف. - -لقد َّ
قال أبو نواس بسخرية:
- -مل العجلة يا أبا عثامن ،لكأن جارية طيبة الدَّ ِّل َملذوذ َة احلديث
تنتظرك! إنام هو كوخك ِ
الوس ُخ وكراريسك املتطاير ُة وحلا ُفك
املغرب.
تساءل اجلاحظ يف نفسه هل وصل خرب عشقه لتامرض إىل أيب
نواس ،ثم التفت إىل النظام فكانت نظراته خالية مل يقرأ فيها شيئا.
عادت إليه نفسه ،وقال:
- -من سمع حديثك يا أبا نواس يظن أنك ممُ َ ّك ٌن َّ
كل ليلة من ليايل
هذا الشتاء من الكافات الستة.
153
ضحكوا مجيعا ،لكن مويسا ضحك ضحكة متكلفة لعدم فهمه ملا
يشري إليه اجلاحظ .فامل بجسمه املتقارب عىل اجلاحظ وقال:
- -علمنا ما الكافات الست يا أبا عثامن!
أمسك يدَ مويس وجعل يعد له عىل أصابعه القصرية:
والكيس والكافور - -الكافات التي يحُ ارب هبا الشتاء هيِ :
الك ُّن
ُ َ
وكأس ال ِّطالء والكساء ...أما السادسة فاسأل عنها شيخنا النظام!
ُ
التفت مويس جهة النظام ،فأغىض مبتسام متمتام هبدوء مشوبا
بحياء:
- -يشء عجيب! يشء عجيب!
حترك مويس يف مكانه ورضب كف اجلاحظ ،مؤكدا له فهمه
للكاف السادسة .أما النظام فكان ال يزيد عىل االبتسام والنظر إىل
األرض ،بينام ينعكس ظل مججمته الكبرية عىل اجلدار.
كان اجلاحظ أول الواقفني ،فقام املجلس بقيامه ،وتقدم مويس إىل
باب بيته يتدحرج مرددا:
- -يا مغحب ًا يا مغحب ًا!
***
ال يكاد باب احلجرة ينفتح بعصف الرياح اجلنوبية البرصية حتى
تأيت زوبعة أخرى من زوابعها فتغلقه بقوة ،لكن اجلاحظ ال يزال يغط
يف نوم عميق ،لقد احتاط قبل نومه لكتبه حتى ال تعبث هبا الرياح.
فلف عليها الوطاء ،ورمى بعضها فوق بعض واضعا عليها حلافا كبريا
ووسائد ،ثم نام بعد ليلة طويلة من القراءة والكتابة.
154
دخل النظام من باب احلائط ماشيا مرسعا وفتح الباب بقوة وهو
يقول بصوت ساخر:
- -ما بال العريس نائام؟ أهذه حال عريس؟
- -حترك اجلاحظ فوق رسيره كأنه يف حلم ،ثم فتح عينيه فرأى
النظام واقفا عند طرف الرسير ضاحكا.
جلس دفعة واحدة ،متذكرا بحامس ما عليه فعله اليومّ .
حك عينيه
بطرف يده وقال بتثاؤب:
- -علينا الذهاب للحامم.
رجع النظام القهقرى متجها إىل اللحاف الذي يغطي الكتب.
كشفه وجلس بني الكتب وقال وهو يمد يده ألحدها:
- -ما كنت أظنك ستنام البارحة أصال ،وهل ينام العشاق يا أبا
عثامن؟
- -مل أنم! تنام عيني وال ينام قلبي يا أبا إسحاق!
- -أرسع! فعلينا الذهاب حلامم مسعود قبل نوبة النساء.
هنض اجلاحظ من فوق رسيره ثائر الشعر ،مرتديا جبة ال يكاد
لوهنا يعرف من تراكم األوساخ عليها .رفع النظام عينه عن الكتاب
الذي يتصفحه ،وردد برصه يف قامة اجلاحظ فبدا له أكثر دمامة مما
عهده .ثم فكر يف جدوى ذهابه للحامم .لكنه دارى كل ذلك مصانعة
لصديقه وأعاد نظره إىل الكتاب ،فأتاه صوت صديقه متمتام:
- -أصيل ركعتني ،ثم ننطلق.
وضع النظام الكتاب الذي بيده جانبا ،وخرج من احلجرة ،ثم
155
تبعه اجلاحظ وجعل يحُ كم قفل بابه كعادته .ابتسم النظام قائال بلهجة
ساخرة:
أحكم القفل يا أبا عثامن ،ففي احلجرة أموال هارون الرشيد
ْ --
ونصف أموال بني برمك.
- -دعنا من هذا.
مشيا يف الفناء الواسع ،ثم خرجا من باب احلائط ،فالتهمهام
الشارع الضاج باحلركة املؤدي إىل طرف سوق البرصة.
يقع محام مسعود يف زقاق ضيق يقود إىل سوق البقول ،وتتناثر
عىل أطراف الزقاق املبلط باحلجارة دكاكني البقالني املختلفة الغاصة
بأصناف احلبوب والفواكه واخلرضاوات املجلوبة من قرى سواد
العراق ومدن خراسان.
كان اجلاحظ والنظام يسريان وسط زحام الناس ،فيام متتلئ
مناخريمها بروائح العنرب اهلندي وروائح الفواكه الطازجة واملتعفنة .ظال
يسريان وسط الزحام ،ثم سمع اجلاحظ صوت بقال يعنف عامله قائال:
وجع الرضس!
َ َ --
تعال يا
فرد عليه العامل بقوله:
- -أنا قادم يا مؤخر َة املبطون!
التفت اجلاحظ إىل النظام ،وهو يرفع طرف إزاره حماوال جتنب
بعض القاذورات املرمية ،وقال بنربة ضاحكة:
- -ال ينقيض عجبي من كون كالم الدمهاء أعلق باألذن والقلب من
الكالم الفصيح.
156
- -وكيف ذاك؟
العاميي ما حييت .وسأظل أذكر
نْ - -أنا مثال لن أنسى عبارة هذين
العبارة كام هي مهام تطاولت السنون وتقلبت األيام .لكني لو
سمعت العالف يقول كالما مسبوكا ملا حفظته إال بجهد ،وملا
وهتمم.
بقي يف ذهني إال باحتياط ّ
سحب النظام يده من يد صديقه وهو يقول:
- -لعل السبب أن الفصاحة يف حقنا تكلف ،أما اللحن فيأتينا عفوا،
والس ْفلة ،يف هذا العامل ا ُملو َّلد.
وذلك ملالبستنا الدمهاء ِّ
كان الزقاق مليئا باحلركة ،فأجساد البرش واحليوانات تتدافع،
بينام ختتلط أصوات البقالني املنادين عىل بضائعهم مع قرع احلوافر
عىل الطريق املبلط .ومع أن النهار ملا يرتفع ،فإن روائح الروث والغبار
وعرق األجساد تكاد تزكم األنوف.
اقرتبا من الباب اخلشبي الكبري ،فرتاءى هلام مسعود ،واقفا عىل
باب محامه ومعه غلامنه.
دخل اجلاحظ أوال ،فلام رآه مسعود التفت إىل أحد الغلامن وقال
له:
- -ال تسمح لذلك املتسول بالدخول.
دوت ضحكة النظام ،بينام كان اجلاحظ غري منتبه ،غارقا يف التفكري
فيام ينتظره.
التفت النظام إىل صاحب احلامم وقال له:
- -لقد جنيت عىل صاحبي! إنه عريس وليس سائال.
157
ابتسم الرجل األصلع املمتلئ ،واعتذر قائال:
- -لقد هجم علينا أمس مجاعة من متسويل السوق ،فرصت ال أرى
أحدا إال تذكرهتم.
حل َجر .دخل اجلاحظ والنظام،
كان احلامم واسع املدخل كثري ا ُ
وتبعهام أربعة غلامن.
- -أبا إسحاق ،هل سبق أحد من خلفاء املسلمني إىل ما فعله الرشيد
من بيعة البن ْيه –األمني واملأمون -يف جوف الكعبة قبل أعوام؟
قاهلا اجلاحظ ،وهو يتأوه من برودة املاء الذي أفرغه عليه عامل
زنجي بقوة.
كان النظام مستلقيا عىل مغسلة عن يمني صديقه وقد بدأ غالم
آخر يغطي جسمه بالصابون .فقال وهو يمسح الصابون عن شفته:
- -ال أذكر أن أحدا فعلها قبله.
- -مع إرصار الرشيد –رمحه اهلل -عىل أخذ العهود منهام داخل
الكعبة ،وتعليق االتفاق يف جوف الكعبة عىل أن البيعة لألمني ثم
للمأمون من بعده ،مل يعصمهام ذلك من النزاع عىل األمر عندما
جد اجلد.
- -إي واهلل .وما جديد خربمها؟
- -سمعت أن جيوش املأمون دخلت األهواز ،وما هي إال أيام حتى
تقتحم البرصة.
- -هل سيظل املنصور بن املهدي -أمري البرصة -عىل وقوفه مع
األمني مع أن أمره يتناقص كل يوم؟
158
- -سمعت أنه أمر بتحصني املدينة استعدادا ألي طارئ أو اقتحام
من جيوش املأمون؟
ارختت يد العامل الزنجي عن الفرك وصب املاء ،وهو يستمع
بانتباه ملا يدور بني الرجلني ،فانتهره النظام:
ْ
وافرك يا هذا! صب ِ
ونجاح َبكر؟ ّ - -وما لك أنت يف هالك عمرو
ضحك العامل وقال بلكنة ما زال صاحبها يعاين من نطق بعض
احلروف العربية:
- -واهلل ما أعرف أيش! لكن أنا أحب حديسكم.
ضحك اجلاحظ وقال بتفاصح حتى ال يفهم العامل شيئا:
ٍ
رسادق - -وفيكم سماّ عون هلم ...سمعت أن القوم غرزوا يف كل
سوقي م ُقدَّ َم شرُ َ ط.
ٍ ُأ ُذن ًا ،وتخَ ِذوا من كل
كان النظام نصف جالس ،رافعا ذراعه إىل األعىل فيام ينهمك
الغالم يف فرك إبطه .فقال بصوت متقطع:
- -يشء عجيب.
مد كلمة عجيب فجاءت متقطعة بسبب الفرك الشديد .ثم واصل
حديثه وعيناه نصف مغمضتني ،وعىل أطرافهام رذاذ صابون متناثر:
- -ال عليك يا أبا عثامن ،وماذا يعنيني أنا وأنت؟ نحن أصحاب
أحالس خيول وأرباب سيوف وكتبة ورق وحرب وكالم ،ال ْ
دواوين .فإذا دخل األمني البرصة أو دخلها املأمون فكالمها من
ضارين يف احلالني.
بم ّهذه الشجرة العباسية الزكية ،وما نحن ُ
اجتهد الغالم الزنجي حتى قلب اجلاحظ عىل ظهره ،وأفرغ خليطا
159
من الصابون املعقود بني كتف ْيه ،حتى غطت الرغوة أعضاءه الدقيقة ومل
يبق إال رأسه الصغري ُمسنَدا عىل طرف املغسلة .فرفع رأسه -حتى بدا
كفرخ يف عشه -وهو يقول:
ذكرت بكبري ،يا أبا إسحاق.
َ - -وما الفرق بني ما
كان النظام يفكر يف هواية صاحبه يف الربط بني املتناقضات
والكشف عن العالقات بني ما يبدو متباعدا .وقبل أن يستفرس منه
اندفع اجلاحظ وهو حيك طرف رأسه األنزع قائال:
- -فأصحاب اخليول والنبال والسيوف ال يطيب هلم عيش وال
يقر هلم قرار إال بمعاونة أرباب الورق واملحابر واألقالم ،فنحن
نندرج يف مجاعة اخلاصة وننتظم يف سلك ِ
العلية ،وإن قعدت بنا
احلرفة ،وجفانا الدهر ،وسكنّا حيث تعلم!
- -لعله كذلك .وأصحاب األقالم كثريا ما يكونون مقدمة للجيوش.
قاطع الغالم الزنجي النظام:
- -تعالوا إىل تلك احلجرة ...واهلل وسخ كسري كسري!
غمز اجلاحظ النظام بعينه اليمنى قائال:
- -لقد هجانا الزنجي!
- -ال تنس أهنم حسبوك سائال يا أبا عثامن ،ومل يعرفوا حدَّ ما بني
العريس والسائل!
مشيا بتؤدة ،مؤتزر ْين ُبأ ُز ٍر بيض ليجلسا يف حجرة التنشيف.
وكانت ابتسامة متارض ماثلة يف ذهن اجلاحظ عندما رآها آخر مرة ومها
خيرجان من السوق.
160
جلس اجلاحظ عىل طرف ِم ْصطبة مربعة وسط احلجرة ،وجلس
النظام عىل طرفها اآلخر .ثم أدخل اجلاحظ يده يف مخِ الة ل ُيخرج
املالبس التي يدخرها ملقابلة متارض ،بينام كان النظام جالسا عىل طرف
املصطبة يتأمل صديقه.
كان النظام ينظر إىل صديقه مفكرا هل سينجح يف الظفر بقلب
متارض أم ال .فكّر يف ظرفه وعقله وعلمه وطيب معرشه ،فام الذي يمنعه
من سحر تلك الفتاة الغريرة إذا ما استخرج هلا ما شاء من أسلحة
الغواية التي ما ينفك يستخرجها ،وقادها بأالعيب احلديث وجودة
اخلاطر وطيب اللفظ وحسن املخارج واملداخل؟
وقف اجلاحظ يف زاوية من زوايا احلامم املعتمة ،وأخرج مالبسه
من خمالة مغربة .لبس قميصا أخرض مزركش الصدر ،وإزارا سنديا
ملونا ،ووضع فوق ذلك كله ُدراعة رمادية .ثم وضع قلنسوته وعاممته
السوداء.
ثم درج إىل مرآة معلقة يف طرف الغرفة مما ييل شعاع الشمس
ونظر إىل نفسه .وقف أمام املرآة لكنه مل ير نفسه ،بل رآها .رأى متارض
بنت اخلليل وهي ترتدي مالءة مزركشة ،وذوائبها السود منسدلة عىل
كتفيها ،وهي تبتسم مرحبة به.
ُصدم وهو ينظر يف املرآة مرة أخرى مفكرا يف أهنا أحيانا أدق بكثري
مما يظنه الناس .وإال مل َ مل ْ ير وجهه يف املرآة اآلن وإنام رأى وجه متارض؟
هل يعني هذا أن املرآة تتغلغل إىل أعامق النفوس البرشية فتعكس ما
فيها؟ تعرف ما يف دواخلنا؟ أم إنه خداع العني ،فاملرآة تعكس ما ترى
غري أن العني اإلنسانية ال ترى إال ما تريد رؤيته حتى ولو شخص
161
أمامها غريه؟
ترك املرآة وراءه وقال للنظام:
- -كيف ترى العريس اآلن؟
عواتق هذه املدينة إال عىل خطر
َ - -واهلل إنه البدر قد ّ
أطل! وما أرى
عظيم!
- -يقولون إن املؤمن مرآة أخيه ،و َلتلك املرآ ُة املعلقة يف محام مسعود
أمس رمح ًا يب منك وأصدق!ّ
تقدم اجلاحظ ليدفع أجرة احلماّ م ،وعاد النظام إىل زاوية احلجرة
لريتدي مالبسه.
وبعد ساعة ،كان اجلاحظ يسري يف الشارع املؤدي إىل بيت متارض،
يتضوع من مالبسه .لكنه مل يشعر إال وهو هيوي يف بركة آسنة
ّ والعطر
حلشوش .خرج بصعوبة عائدا إىل بيته كسيفا تعيسا كأنه مل من مياه ا ُ
يدخل محاما قط.
***
162
الدوحة1439 ،هـ
كان الوقت قبل نرشة املساء الرئيسية ،فبدت غرفة األخبار ضاجة
املوكّل به يف النرشة .يركض
باحلركة ،فالكل مندمج يف إنجاز اجلزء ّ
صحفي قصري القامة إىل غرفة املونتاج لتسجيل تقريره ،ويركض منتج
أخبار فارع الطول لإلرشاف عىل َمنْت ََج ِة العناوين .فعناوين هذه النرشة
من أكثر العناوين التي يمنحها منتجو النرشات وقتا كي يضبطوها،
متأكدين من وضوح عباراهتا وإرشاق كلامهتا.
كان القروي جالسا بمكتبه يف طرف الغرفة ،فرأى رئيس التحرير
خيرج من مكتبه قصريا كأنه طفل وهو يقول:
- -من هذا احلامر الذي عىل الشاشة!
التفت اجلميع فرأوا مراسال ُمطال من مكان فيه حريق ،لكنه
يرتدي بدلة بيضاء أنيقة ويتحدث عن احلريق.
مشى رئيس التحرير كأنه يقفز ،واقرتب من قسم املراسلني وقال:
أكلمه هاتفيا.
- -إذا أهنى حديثه فأعطنيه ْ
بعد ثوان ،مد الشاب اجلالس بقسم املراسلني اهلاتف إىل رئيس
التحرير:
- -السالم عليكم ،رئيس التحرير معك.
163
- -أهال ومرحبا
ملتحف بدل ًة
ٌ - -يا أخي باهلل كيف تطل من مكان حريق وأنت
بيضاء كأنك يف مهرجان ْ
كان لألفالم السينامئية؟
- -واهلل ،أنا كنت ،شوف...
عني املشاهد .وإذا كان
- -واهلل أيش؟ هذا ال ينبغي ،وهو جيرح َ
العرب قديام قالوا :إن البالغة مطابق ُة املقال ملقتىض احلال ،فإن
األمر كذلك يف البالغة البرصية .هناك بالغة برصية وبالغة
لسانية.
َ
املراسل ورمى اهلاتف ،وصاح بأعىل صوته وهو يقف ثم ودع
وسط غرفة األخبار:
بتفهم!
ْ - -ناس ما
كان القروي يستمع بكل حواسه لرئيس التحرير ،يكاد يطري
سعادة بترصفه خالفا لكل من يف غرفة األخبار .فمعظم الصحفيني
يضيقون بجربوت رئيس التحرير ،واهتاممه بالتفاصيل ،وحرصه عىل
اللغة العربية ،وما يسميه الفصاحة البرصية.
مال القروي عىل كرسيه ،وهو يشعر بسعادة غامرة .انتزع نفسه
من عامل اجلاحظ إىل عامل رئيس التحرير ،شاعرا بغبطة.
ثم وقف وتوجه إىل صديقه مازن بقسم املقابالت فرآه منهمكا يف
االتصاالت.
- -أيمكننا أن نرشب شايا يف املقهى؟
- -هال حبيبي حممد ،ال أنا مشغول كثريا .نحتسيه بعد هناية النرشة.
164
عاد القروي ماشيا وسط غرفة األخبار ،ملتفتا يمنة ويرسة متأمال
اهللع املستويل عىل اجلميع عداه.
ختيل نفسه كالنبي إبراهيم يميش وسط النار ،لكن هلبها ال يمسه.
كل هؤالء يركضون ويلهثون عند كل نرشة ،أما هو فيعيش ما بني
البرصة وبغداد قبل أكثر من ألف ومائتي عام ،يكتبون كالما بالستيكيا
ميتا ،مرتمجا أنتجته عقول حمرري رويرتز وغريها من وكاالت األنباء
الغربية .أما هو فيكتب بلغة اجلاحظ والنظام والعالف ...كام شاء.
جلس عىل مكتبه ،ثم أدار شاشة التلفزة املثبتة يف طرف حاسوبه
ليشاهد النرشة .جلس يتابع تقريرا ألحد املراسلني من شبه القارة
اهلندية.
كان التقرير ضعيفا ومهلهال .فالصور تتقافز دون رابط منطقي.
والنص املكتوب ال عالقة بينه وبني تلك الصور .ف ّك ر يف الوقوف وتقليد
رئيس التحرير .ختيل نفسه واقفا وسط غرفة األخبار ،ممسكا باهلاتف
متصال بامل راسل:
- -أيش هذا؟ ما هذا التقرير؟إن اللغة مهلهل ٌة ومنسوج ٌة باألخطاء،
كتبت النص قبل أن ترى َ رح َم بني الصور والنص .هل وال ِ
الصور؟ إن الصور والنص ال بد أن يأخذ بعضهام برقاب بعض...
متاما كام قال اجلاحظ عن األلفاظ واملعاين!
ثم تذكر وجه حصة قبل أسابيع تسخر منه قائلة:
أنت تعيش داخل قوقعة لغوية!
َ --
وكيف رد عليها:
165
- -وأنت تعيشني يف رشاك عنكبويت ومصاب ٌة بوسواس إلكرتوين.
وكيف سخرت من كتبه التي يقرأ ،ومن أبطاله الذين ماتوا قبل
مئات السنني .ابتسم وهو يتذكر كيف رد عليها ساخرا:
- -إذا كان السلف الصالح عندي هم اجلاحظ والنظام وعمرو بن
عبيد ،فسلفك أنت :إدوارد سنودن وجوليان أسانج.
وتذكر كيف ضحكت ،وأخرجت من شنطتها كتابا بعنوانThe« :
.»Dark Net: Inside the Digital Underworld
انقطع حبل الذكرى إ ْذ سمع إشعارا برسالة نصية يف هاتفه.
«كلمت أهيل ....األمر معقد جدا،
ُ كانت رسالة من حصة تقول:
وال بد من اللقيا لنتحدث ..رضوري».
***
انتبه اجلاحظ إىل أنه جتاوز َ
سوق الرآسني .كيف جتاوز كل تلك
األزقة دون أن يالحظ ذلك؟ انرصف ذهنه متأمال يف أن حالة القلوب
هي التي تطيل املسافات أو تقصرّ ها حسب حالة اإلنسان .ففي حلظات
انتظار ما حيبه اإلنسان ويتعجل احلصول عليه ،تبدو الساعات كأهنا
ساعات سجني مقيد يميش وئيدا ،ويف حلظات اهلناء يطري الوقت كأنه
حصان عريب مجوح.
ثم ِ
طف َق يفكر يف العالقة بني العقل والقلب ،إذا كان العقل باملكانة
التي يضعه فيها املتكلمون فلامذا يغيب أحيانا يف حلظات تكاثف املشاعر؟
وإذا كانت املشاعر والعقل أخص خصائص اإلنسان ،فلامذا تطرد
َ
العقل؟ مل َ يغيب العقل إذا حرض الشعور القوي؟ املشاعر
ُ
166
اإلنسان عرق ًا شوقا إىل حمبوب؟
ُ ارفض
هل خيتفي سلطان العقل كلام َّ
ثم ملاذا يتعرق اجلسد إذا تسارعت دقات القلب ،أو انشغل بأمر ،وال
يتعرق اجلسم مهام فكر اإلنسان بعقله وأعمله يف القضايا الكربى؟
حلشوش شغلته األسئلة التي هجمت عليه عن احلذر من بِ َرك ا ُ
التي يف أطراف الشارع ،ثم وجد نفسه عند باب متارض.
دق الباب ،ثم ابتعد عنه قليال ،وهو يشد عليه جبته ويعدل عاممته
السوداء و ُيمر يديه عىل جفنيه ،وشفتيه.
فتح غالم الباب قائال:
- -من؟
- -اجلاحظ.
صك الغالم الباب بقوة ،فقفز قلبه من مكانه .تأ ّفف وهو ُيراوح
بني رجليه قائال يف نفسه :ما هذه العجرفة! ليت الصك َة كانت بني
كتفيك أهيا الغالم األخرق!
ظل واقفا يراقب الشارع اخلايل إال من ُم ٍ
كار يرضب برذونا بطيئا،
وصبية يرتاكضون ويرتامون باحلجارة.
ْ
يستأذن. سمع الغال َم يقول ألهل املنزل :اجلاحدْ
دق اجلاحظ الباب وقال بانزعاج:
حلدَ قي ،إذا كنت عاجزا عن نطق الظاء ،أعوذ
- -وحيك ،قل هلم ا َ
باهلل من اجلحود!
ُ
اجلاحظ الغال َم من وراء الباب ينادي: وسمع
حل َلقي يستأذن!
- -ا َ
167
صاح اجلاحظ:
أخذ َك اهلل!
- -ردين إىل اجلحودَ ،
ثم أمسك نفسه عن أن يصيح:
- -احللقي وأنا ٍ
آت للخبطة؟ جتلعلني َح َلقيا خمنثا؟! ُّ
بعد هنيهات من التوتر عاد الغالم وفتح الباب بوجه ُم ْر َبدٍّ مشريا
له بالدخول.
دخل فنا ًء واسعا ،ودلف الغالم أمامه ،ثم تبعه وهو ال يكاد يبرص
معتم ،وال يكاد ُيرى ما بداخله.
أين يضع قدمه ،فاملنزل ٌ
قاده الغالم إىل حجرة وتركه.
اعتدل يف جلسته ،وجعل يصور لنفسه حلظة دخول متارض عليه،
ثم فكر يف أسلحة الغواية التي يملكها من حديث أخاذ ،ونكتة شاردة.
لكن انتظاره مل يطل ،فرأى خياال قادما من دهليز البيت.
ثم دخلت.
رفع برصه -وقد بدأت عيناه تريان األشياء بشكل أوضح داخل
البيت -فإذا بوالدة متارض.
- -مرحبا بكم.
- -يا أهال وسهال
جلست أم متارض يف طرف احلجرة .ثم دخل غالم حيمل صينية
عليها ماء وفواكه.
أشارت األم له بتناول يشء ،فمد يده وأخذ كوزا من املاء وعب
منه عبتني ،فقد أنساه التوتر ظمأ خفيفا أحس به قبل الدخول.
168
بدأت األم تتحدث وهي تنظر إىل األرض:
- -واهلل لقد انتظرناك يا أبا عثامن ،لكننا حسبناك رضبت صفحا عن
األمر.
انغرزت كلامت األم سهام مسموما يف قلبه ،وفقد فجأة كل قدرة
عىل الكالم ،مل ينبس ببنت شفة.
رفعت أم متارض برصها -عىل استحياء -كأهنا تستحثه للحديث،
فرأت عينيه الواسعتني وقد سكنتا ،أما رأسه الدقيق املدفون حتت
عاممته السوداء فكان ساكنا أيضا ال يتحرك.
مرت ٍ
ثوان ثقيلة صامتة.
بخدَ ٍر يف أطرافه وقال بصوت بذل
واستعاد قوته ،وهو يشعر َ
كي ال تُسمع فيه رعدة:
طاقته ْ
- -كيف يا أم متارض؟
- -واهلل لقد انتظرتك متارض لرتاك وتتحدث معك ،فهي كام تعرف
مل ترك من قبل...
هنا كاد اجلاحظ يرصخ :كيف مل ترين وقد التقينا وماشيتها من
سوق العطارين إىل باب منزلكم!
لكنه حتكم يف مشاعره وقال بصوت مشحون بالعجز والفضول:
- -ثم ماذا؟
- -كان أحد اخلُ ّطاب قد طلبها وألح يف طلبها ،وأنت تعرف ضعف
الفتيات الغريرات أمام الكلمة اجلميلة يا أبا عثامن.
شعر بأن كل كلمة تفوه هبا األم تزيد آالمه وحرساته ،فإذا كان ما
169
تريده متارض الكلم َة الغزلية اجلميلة ومطارحة الغرام فمن حيسن ذلك
غريه!
مد يده إىل الوراء قليال زاحفا جهة اجلدار ليستند إليه ،ثم جاءه
صوهتا:
- -لقد وافقت الفتاة عىل الزواج من عيل بن املديني.
فتى يف سوقكل ما يذكره بعد ذلك أن خياله ازدحم بصورة ً
الوراقني ينهى عن النظر إىل فتاة متيش يف طرف السوق ،وأن رجال
رشبا بحمرة زمحه يف الصالة عىل جنازة اخلليل بن أمحد .كام
أبيض ُم َ
يتذكر صوت أم متارض وهي تقول له:
هون عليك يا أبا عثامن ،فأنت زين فتيان البرصة.
ّ --
وجد نفسه مستلقيا يف مسجد صغري بأحد أحياء البرصة غري بعيد
من السوق الكبري ،كان يف زاوية املسجد ،وال يكاد ينزع عينيه عن
السقف املصنوع من جريد النخل والقش والطني ،مفكرا هل خيرج من
املسجد أم ال؟ فإىل أين يذهب وما قيمة ما هو ذاهب إليه؟
هل يذهب إىل بيته البائس امليلء بالكتب والكراريس واألقالم
العامي ذي الرباذين واحلمري؟ أم يظل هنا؟ أم
ِّ واألوساخ؟ وجاره
خيرج من البرصة كلها هائام؟ ظل مضطجعا دون أن يشعر بحاجة إىل
طعام أو رشاب ،حتى جاء املؤذن ورفع األذان وبدأ الناس يتكاثرون
يف املسجد الضيق.
جلس متثاقال .ثم رأى أحد املصلني ال يكاد يرفع برصه عنه،
فتذكر أن كثريا من الطالب يعرفونه ،وال يليق به أن يظل مستلقيا يف
مسجد كاملجنون.
170
وقف متثاقال وخرج من باب املسجد الصغري ليتوضأ .جلس
مستقبال القبلة وهو يسكب املاء عىل أعضائه مكررا بلسان متثاقل:
- -ال حول وال قوة إال باهلل.
وقف املؤذن وأقام الصالة ،لكنه هو مل يتعجل ،بل ظل يستلذ
الوضوء ساكبا املاء عىل أعضائه؛ إ ْذ ُخيل إليه أن املاء يطفئ حرارة ما
به.بعد انتهائه من غسل رجله اليرسى ،رفع برصه جهة باب املسجد
فرأى الناس ما زالوا يصلون.
مل يشعر بأي رغبة يف إدراك الصالة معهم ،فام قيمة صالة اإلنسان
إذا كان مشغول القلب ُم ْلتاع الفؤاد؟ وإذا كان املؤمن منهي ًا عن الصالة
ٍ
خالء ،أفال يكون العذر أبلغ يف حالة انشغال ذهنه بجو ٍع أو حاجة إىل
يف انشغال القلب بام هو أهم وأطم.
ثم خطر له أن العاشق الوهلان قد ال يكون خماطبا بالصالة أصال
ما دام ُمدَ لهَّ ًا عشق ًا .وتذكر كيف حدثه شيخه عبد الوهاب بحديث« :ال
صالة بحرضة الطعام ،وال هو يدافعه األخبثان» .فاألصل الذي عليه
مناط احلكم انشغال القلب وعزوبه ،وانشغال القلب بخواطر احلب،
وأمل ويأس ،وصعود وهبوط ٍ وتردد خطراته ما بني وصل وهجر،
أشد من أي انشغال بأمر آخر.
انقضت الصالة وانرصف الناس من املسجد.
ْ ظل جالسا حتى
وقف بتثاقل ودخل املسجد .وما كاد يرفع يديه حذو أذنيه ليكبرّ
ظهرت أمامه ،كانت تلبس ِم ْرط ًا من القطن ،ويداها خمضوبتان بحناء
ْ حتى
قانئة ،ذكّرتْه بالكف اخلضيب الذي رآه منها أول مرة ،وغارت صورهتا
فظهر عيل بن املديني بقامته املعتدلة وعاممته البيضاء وألفاظه الفخمة.
171
استعاذ باهلل وبدأ يصيل.
وانتبه إىل أنه أطال السجود عىل حصباء املسجد غري املفروش،
وأن ريح اجلنوب احلارة َتصرِ ّ يف أذنه آتية من النافذة .مر وقت ،لكنه ال
يذكر كم ركعة صىل ،وال بم قرأ يف صالته .أكمل ركعة ثم سلم.
شعر بأنه بدأ يستعيد بعض عافيته ،فأقبل عىل نفسه موبخا هلا ،أين
العقل والكالم واخلواطر الشاردة؟ وما أدراين أن اهلل ادخر يل أفضل
وأحسن وأعلق بالقلب من تلك الفتاة الغريرة؟
ما إن نطق كلمة الفتاة حتى أحس بقفزة بني ضلوعه ،لكنه الحظ
أن عقله يفكر يف عرشات احلجج املقنعة بأهنا ال تصلح له وال يصلح
هلا ،وأهنا ال تستحق كل هذا احلب .تنفس الصعداء وهو يتأمل املساحة
املمتدة الواسعة الفاصلة بني رأسه وقلبه.
أيعقل أن تكون املسافة الفاصلة ما بني العقل والقلب هبذا
االتساع؟
فقلبه ال يكاد يذكر تلك الفتاة إال اضطرب ،أما عقله فقد بدأ يرى
عيوب الزواج منها.
ثم تساءل ملن تكون الغلبة يف النهاية :للعقل الذي يرضب ويطرح
وحيسب العواقب بتبرص ،أم للقلب الذي حيس ويشعر ويسترشف
ويبرص ويضطرب ويرقص ويتكدر؟
وقف من مكانه مؤنبا نفسه عىل أنه مل يستطع إحصاء عدد ركعاته،
ثم وجد ابتسامة تتسلل ُخفي ًة إىل شفتيه وهو ُيتمتم بأبيات سمعها من
ف األمحر ينسبها لعروة بن حزام: َخ َل ٍ
172
ُأصّل�يّ فما أدري إذا م�ا ذكرتهُ ا
العرص أ ْم بثامن!
َ قضيت
ُ ٍ
بخمس
خرج من باب املسجد الصغري ليسلم قدميه إىل الشارع وهو يوبخ
نفسه :هل هناية مزامحة العلامء بالركب ،ودراسة علم الكالم واملنطق،
وتصفح العلوم ومفاتشة األذكياء ،أن يصبح املرء كمجنون بني عامر
وعروة بن حزام؟
أرسع يف الشارع عائدا إىل بيته ،وهو يتأمل الغبار املتصاعد يف
الشارع الذي تثريه احلوافر واألقدام السائرة فيه.
وخطرت له–بغت ًة-خاطرة :لعل أهل متارض سألوا عن نسبه،
ّ
ولعل بعض احلسادقالوا هلم–زوارا -ما يقوله أهل املربد من أنه مو ًىل
لبني كنانة ،ال صليبة فيهم؟!
***
مرت أيام ثالثة مل ير فيها أحدا من أصدقائه ،واألدهى أنه مل يقرأ
تعمد خالهلا أن يقيض هناره بمسجد مهجور، فيها كتابا واحدا .فقد ّ
وأال يأيت حجرته إال وقت النوم ،لكنه اآلن أصبح واثقا من أن عقله
انترص عىل قلبه ،بل إنه عاهد نفسه أن يظل عقله قائدا لقلبه ما تبقى من
حياته.
ومع يقينه الظاهر بأنه نجح يف ذلك ،إال أنه رأى أن يزور أصدقا َءه
املسجديني .ثم سأل نفسه ،مل اختار زيارة املسجديني –وهم مجاعة
من ظراف البخالء جيتمعون بمسجدهم ملدارسة وسائل االقتصاد يف
النفقة -مع أنه مل يزرهم منذ أشهر ،فهل جاء خاطر الذهاب إليهم ألن
تسل بعد ،وأن قلبه ما زال يقود عقله؟ وإنام هيالنفس موقنة بأهنا مل ُ
173
نفسه تبحث عام تستجم به لتتغافل عن األحزان ثم تعود؟
تزامحت تلك األسئلة يف ذهنه وهو خيرج من بيته ،لكن هنيق محار
ومطارد َة ٍ
بغل آلخر أفزعتاه ،فانشغل عن أسئلته باالنزعاج من سكنه
قرب هذا املكاري األهوج ،وعادت األسئلة تطارده.
وصل إىل شارع ضيق كأنه منحدر ،فالتفت يمينا فرأى بابا مواربا،
فتذكر كيف كان هو والنظام يلومان أبا نواس عىل دوام اإلتيان إىل هذه
احلانة للرشاب ،ثم خطر له أن يعرج فيعب من الصهباء ع ّلها تذهب
بعض ما به ،ثم تذكر أن الوقت بعد العرص بقليل ،وأن احلانة ال تفتح
إال بعد املغيب.
توقف عن السري منزعجا مؤنبا نفسه ،إذ كيف ختطر له هذه
اخلواطر أصال؟
فهل وصل به األمر أن يفكر يف معاطاة اخلمر املحرمة فرارا من
خيال فتاة غريرة؟
مشى بتثاقل حتى تراءى له املسجد الذي جيلس فيه أصحابه من
املسجديني.
قدم رجله اليمنى ودخل.
كانوا متحلقني قرب املحراب ،وفيهم اجلالس واملتكئ واملستلقي،
وكانوا نحو العرشة ما بني شباب وكهول.
َ
اجلاحظ داخال من الباب حتى وقفوا الستقباله ،ثم ما إن ملحوا
كهل منهم -ذو شعر أصهب قائال:بادره ٌ
- -أين أنت يا أبا عثامن ،وما هذا اهلجران؟
174
ٌ
وترحال ،أهيا األصحاب. ٌ
أشغال --
قاهلا اجلاحظ وهو هيم باجللوس يف طرف احللقة التي يتوسطها
تبي من تراكم األوساخ عليها، ٌ
شيخ يرتدي جبة صوف ال َيكاد لوهنا ُي نّ
جلس اجلاحظ وسط احللقة ،ونزع عاممته ليضعها حتت فخذه اليمنى
قائال بابتسام:
- -إيه!؟ ماذا كنتم فيه؟
يروح بثوبه عن أنفه حتى ال ختنقه
تر ّبع الشيخ األصهب -وهو ّ
رائحة دخان القاممة املحروقة قرب املسجد -وقال بنربة خمتنقة:
- -كنا يف سرية األفاضل الصلحاء ممن سلف.
ُ
اجلاحظ ابتسامته وهو يضمر سعادة بأنه جاء يف وقت طاب ورأى
فيه املجلس واطمأن ،فأراد استزادة الشيخ فقال مستثريا له:
شقيت بأصحاب زهدوين يف هذا
ُ - -جئتكم اليوم لتخففوا عني .فقد
الطريق ،لذا فكرت يف من أحتدث إليه لعله ُيث ّبتني فلم أتذكر يف
هذه املدينة العامرة إال هذه العصبة املعصومة واجلامعة املباركة.
ّزر عاري الصدر يدَ ه ولكز اجلاحظ: مدّ ٌ
رجل مت ٌ
- -واهلل إنك يا أبا عثامن ال تريد إال مصانعتنا ومقاربتنا ،ونحن نعلم
أنك لست من أهل هذا الفن ،فأنت مرسف ّ
مبذر ،وما تأتينا إال
لتحكي أمورنا عىل أصحابك وتكتبها يف صحائفك.
فنهره الشيخ األصهب:
- -دعه يا عبد اهلل ،فهو مع من أحب ،ونحن القوم ال يشقى بنا
جليس.
175
فواصل اجلاحظ حديثه متصنعا اجلد -وهو يشعر بسعادة غامرة،
شاعرا أن احلديث انتزعه انتزاعا مما كان فيه -فقال:
- -أنتم واهلل أصحايب الذين تنتحلون االقتصاد يف النفقة ،والتثمري
للامل ،وقد أضحى هذا املذهب نادرا ،وهو كالنسب الذي جيمع
التحاب ،وكاحللف الذي جيمع عىل التنارص ،وأنا
ّ بيننا عىل
صاحب صاحبكم سهل بن هارون.
فقاطعه الرجل العاري الصدر وقال:
- -ما آخر ما سمعتم يا أحبتنا مما ُيث ّبت عىل الطريق؟
ِ
البرشة أشعث ما كاد الرجل ينهي سؤاله ،حتى اندفع شيخ آ َد ُم
الرأس ،يرتدي كساء مخُ ّر َق األسفل:
- -لقد علمتم أن ماء بئرنا مالح أجاج ،ال يقربه محار ،وال تُسيغه
والنهر منا بعيد ،ويف تك ّلف املاء العذب
ُ ناقة ،وال يصلح به زرع،
علينا مؤونة كبرية.
فقاطعه الشيخ األصهب هازا رأسه وقال:
- -نعلم ذلك يا أبا رقية ،فام الذي ُفتح لك؟
فعدّ ل أبو رقية جلسته وهو يربم ُخ ْصل ًة من رأسه بأصابعه:
احلامر من ماء بئرنا فمرض ،فرصنا نسقيه املا َء العذب
َ - -فكنّا نسقي
صرِ ف ًا ،وكنت أنا وأ ّم رقية نغتسل باملاء العذب خمافة أن يصيب
جلو َدنا منه مثل ما أصاب جوف احلامر ،وكان ذلك املاء العذب
الصايف الذي نغتسل به يذهب باطال ،وأنا أعلم أن ذلك الغسل
فسهرت ليل ًة أفكر
ُ عبادة ،وحاشا للعبادة أن تؤدي إىل إرساف،
176
حتى انفتح يل باب من اإلصالح.
فصاح الشيخ األصهب صيحة اسرتواح وطرب:
آآآآآح يا قلبي! وماذا ُفتح لك يا أبا رقية؟
فضحك اجلاحظ نازعا عاممته من حتت رجله وجعل يفركها بيديه
طربا ،ثم خاف إن حتدث أو سأل أن يقطع ذلك احلديث ،فحبس
ضحكه وجعل ينظر إىل أيب رقية بتلهف ،واصل أبو رقية حديثه ُم َق ّط َ
ب
الوجه:
فعمدت إىل ذلك املتوضأ الذي أغتسل فيه أنا وأم رقية ،فجعلت
ُ --
رجتُها ،وم ّلستُها حتى صارت كأهنا
وصه ْ
ْ يف ناحية منه حفرة،
وصوبت إليها املسيل .فنحن اآلن إذا اغتسلنا
ّ صخرة منقورة،
باملاء العذب صار إليها صافيا ،مل خيالطه يشء ،فنستخدم ذلك
تقزز له من ماء اجلنابة ،وليس علينا
املاء لسقي احلامر ،واحلامر ال ّ
حرج يف سقيه منه.
فمد اجلاحظ يده مستفرسا:
- -وما يدريك أن هذا جيوز؟ ومل َ تسقي ذلك املخلوق بامء اجلنابة؟
فالتفت أبو رقية غاضبا:
- -ومتى صار احلامر يميز بني ماء اجلنابة وماء زمزم؟
- -وما أدراك أن احلمري ال تتأذى من ذلك املاء وأهنا مل ترشبه إال
ترخص ًا خمافة اهلالك من شدة العطش ،كام يرتخص أحدُ نا يف أكل
ّ
اجليفة وحلم اخلنزير؟
فقال أبو رقية بصوت منكر:
177
- -أوووووووه ،ماذا؟ وهل حيس احلامر أصال بشعور أو يميز؟
عدل اجلاحظ جلسته ،فبدل الرتبع ثنى ركبتيه وجلس عىل ساقيه
كام جيلس الناس يف حلقات العلم .ثم تصنع الوقار واجلد وقال:
- -ومن قال إن احلمري ال حتس وال تعشق وال تتعبد؟ ففي القرآن:
﴿ َولِلَّ ِه يَ ْس ُج ُد َما ِفي َّ
الس َما َو ِات َو َما ِفي أْالَ ْر ِض ِمن َدابَّ ٍة﴾ .ثم أمل
تسمع بقصة محار بشار بن برد الذي قتله احلب؟
كان الشيخ األصهب يستمع هبدوء ال خيلو من تصنع ،فقال حا ّثا
َ
اجلاحظ ،وهو يعرف أنه قد أوقع أبا رقية يف ما يريد:
- -وما قصة محار بشار؟ أيدك اهلل!
واصل اجلاحظ حديثه واضعا يديه عىل ركبتيهُ ،متصنّع ًا الوقار:
- -قصته دليل عىل أن احلمري ال تشعر فقط ،بل تعشق وتقرض الشعر
كذلك ،فقد حدثني سهل بن هارون ،قال أخربين أبو شبل عاصم
بن وهب الربمجي ،قال حدثني حممد بن احلجاج قال :جاءنا بشار
يوما فقلنا له مالك مغت ًام يا أبا معاذ؟ فقال مات محاري فرأيته يف
مت ،أمل أكن أحسن إليك فقال :لقد قتلني عشق
النوم فقلت له مل ّ
ُ
–واألتان أنثى احلمري -وقد قلت يف ذلك شعرا. ٍ
أتان
عن�د ب�اب األصبه�اين خ�ذ يب أتَان� ًا
ْ س�يدي
وبِــ�دَ ٍّل قــ�د ش�جاين ٍ
بـبـنـ�ان تـيـمــتـنـ�ي
ِ
الـحسان بــثــنــايـاها ت ّيمتْن�ي يـــ�و َم ُرحن�ا
َّ
س�ل جس�مي و َب�راين! ْـــ�ج و َد ٍ
الل ٍ وبـــ ُغـــن
مث�ل خ�دّ الش�ي ِ
فران! ٌ
�ـيــل أسولـه�ا َخـ�دٌّ ِ
ْ
178
ضج املسجديون ضحكا .فقال أبو رقية:
ّ
حرم ما فعلتُه بذلك احلامر ،وال أن سنّة
- -واهلل ما علمت أن كتابا ّ
هنت عنه ،وقد أسقطنا بتلك احليلة مؤونة كبرية عن النفس
واملال.
فضج القوم قائلني بإعجاب:
- -هذا واهلل توفيق اهلل ومنّه.
شعر اجلاحظ بخفة وسعادة وهو ال يكاد يتنفس ضحكا ،وجعل
يفكر كيف حرم نفسه من جمالسة املسجديني أشهرا ،ثم كيف جلس
األيام املاضية حمزونا ومل يدر بباله املرور عليهم.
فأقبل عليهم الشيخ ذو الصدر العاري وقال بنربة حمزونةُ ،منكّس ًا
رأسه:
َ
- -هل شعرتم بموت املرأة الصاحلة مريم الصنّاع؟ فإهنا كانت
من ذوات االقتصاد ،وصاحبة إصالح عظيم ومن أعالم هذا
الطريق؟
مغضنا ما بني عينيه كاملستفرس وقال:
فحثه اجلاحظّ ،
- -ال نعرفها واهلل ،فهال حدثتنا عنها؟
- -مناقبها كثرية وحديثها طويل ،ولكني أخربكم عن واحدة فيها
كفاية.
تقارب القوم ،وشخصوا بأبصارهم ،لعلمهم أن ذا الصدر العاري
إذا حتدث أتى باألوابد ،فقال:
والفضة ،وكستْها
ّ زوجت بني ًة هلا فح ّلتها الذهب
«- -رمحها اهلل! لقد ّ
179
الذهب والويش والقز واخلز ودقت هلا الطيب ،وع ّظمت َ
أمرها َ
يف عني اخلت َِن ،ورفعت من قدرها عند األمحاء ،فقال هلا زوجها:
أنّى لك هذا يا مريم؟ قالت :هو من عند اهلل .فقال هلا :دعيني
عنك ،وهايت التفسري ،فواهلل ما كنت ذات مال قديام ،وال ورثتِه
حديثا ،وما أنت بخائنة يف نفسك ،وال يف مال بعلك ،إال أن
تكوين قد وقعت عىل كنز ،فقد أسقطت عني مؤونة عظيمة،
وكفيتني نائبة داهية».
فقاطعه أبو رقية قائال بنربة إعجاب وحترس مع ن َفس مرتفع:
- -ال واهلل ما كانت صاحبة خيانة وال تبذير!
واصل ذو الصدر العاري حديثه:
زوجتُها ،كنت أرفع من
- -قالت« :اعلم أين منذ يوم ولدهتا إىل أن ّ
ٍ
دقيق كل َعجنة حفن ًة؛وكنّا -كام تعلم -نخبز يف كل يوم ّ
مرة،
فإذا اجتمع من ذلك مكّوكٌبعتُه .فقال هلا زوجها :ث ّبت اهلل رأيك
كنت له سكنا ،وبارك ملن ج ِ
علت له وأرشدك ،فقد أسعد اهلل من ِ
ُ
إلفا».
انتفض شيخ يكنيه املسجديون «اإلبايض» وحل حبوته طربا
وقال:
- -واهلل إين ألرجو أن يخُ رج اهلل من ولد هذه املرأة من يحُ يي هذا
عم اإلرساف وانترش اإلنفاق ،وإن قومي –من
الطريق بعد أن ّ
للح ْجر عىل السفهاء واألخذ عىل
اخلوارج -ألجدى هبم اخلروج َ
أيدي املرسفني من اخلروج عىل السالطني.
180
مال اجلاحظ عىل الشيخ اإلبايض املعروف ببغضه للشيعة قائال:
تشيعت بعدي ،فهل األمر كام قيل؟
َ - -قيل يل إنك
- -أنا أتشيع؟
- -هذا ما قيل يل!
- -لن أتشيع حتى يتشيع معاوية بن أيب سفيان!
- -وما الذي ب ّغضك يف الشيعة؟
قط إلاّ وهيالشني يف ّأول كلمة ّ
- -بغضني فيهم أين مل أجد ّ
وشح ،وشامل،
ّ ورش ،وشيطان ،وشغب،
مسخوطة مثل :شؤمّ ،
وشك ،وشوكة، ّ وشجن ،وشيب ،وشني ،ورشاسة ،وشنج،
وشبث ،ورشك ،وشارب ،وشطري ،وشطور ،وشعرة ،وشانئ،
وشتم ،وشنعة ،وشناعة ،وشأمة ،وشوصة ،وشرت.
دارى اجلاحظ ضحكة مكتومة وهو يستمع إىل اإلبايض يعدد
معائب الشني ،ثم ظللته سحابة حزن وهو يستدعي صورة متارض
فظهرت عىل حمياه
ْ مغموسة يف احلناء والعطور ،جملو ًة البن املديني،
سحابة غم وكآبة ،ثم قال حماوال تدارك أصحابه قبل مالحظة ما به:
- -واهلل إين لسعيد بلقياكم.
هنيق
دوى ُ ٍ
غمغامت جمامالت من أطراف احللقة بينام ّ
ُ وانطلقت
ٍ
محار خارج املسجد.
***
بدأت السفينة املثقل ُة باآلمال واألحالم تقرتب رويدا رويدا من
ٍ
وفؤاد أعياه الدموع، املرفأ ،كانت اجلارية تتطلع إىل املرفأ بعني ّقرحتها
ُ
181
نحيب مل ينقطع منذ أعوام ،كان سيدها ينظر إىل املرفأ نظرة املنترص إىل
ٌ
الغنائم.
يتموج به خاطر
كان قلبامها من عاملني خمتفلني رغم جتاورمها ،فام ّ
الفتاة من خوف ويأس وضيق ،ال يضاهيه إال ما يرقص به قلب سيدها
جوار املتضاد ْين يزيد حد َة كل
َ من سعادة وحتفز وتفاؤل ،حتى كأن
منهام اندفاعا يف اجتاهه بدل أن ي ِ
عد َي أحدَ مها اآلخر. ُ
النخاس مرآة صغرية من صندوق خشبي بني يديه ،ثم بدأ
ُ استل
ينظر يف وجهه الطويل ذي األنف األقنىُ ،معدّ ال من وضع قلنسوته
السوداء التائهة وسط صحراء رأسه األصلع ،رمى مرآتَه الصغرية
داخل صندوقه الصغري ،وهو يتطلع إىل تفاصيل احلياة التي بدأت تظهر
معاملها عىل مرفأ البرصة من بعيد.
التفتت اجلارية سائلة املرأ َة البدينة اجلالسة إىل جانبها وكأهنا
تتوسل:
- -هل أنت واثقة من أننا يف العراق!؟
مل جتبها املرأة ،وحدجها سيدها بنظرة تأنيب.
مرت عليها سنون.
أما هي فاستيقظت داخلها ذكرى ّ
كانت جتلس منزوي ًة يف ركن حجرة يف بغداد ترتعد خوف ًا.
فمع كوهنا الوحيدة يف احلجرة ،فإهنا مع ذلك جتلس يف زاويتها
ساعديا عىل فخذهيا ،ضام ًة ركبت ْيها إىل صدرها حتى كأهنا
هْ ُمشبك ًة
مطوية طيا ،فاإلنسان ينطوي عىل نفسه إذا شعر باخلوف ،فتتقارب
أعضاؤه كأنه يريد حتجيم مساحته عندما يشعر بالتهديد .تتقلص
182
املساحات التي حيتاجها جسده كأنه يريد أن يذوب خوفا مما هيدده ،أما
إذا كان يف حلظة قوة فيتمدد جسمه ،ويرتفع رأسه كأن املساحة التي حيتل
جسده ال تكفيه.
قفص
الصوت الوحيد الذي تسمعه صوت قلبها الذي يدق َ
اهلرب فور ًا ،أو االنتحار حاال.
َ صدرها كأنه سجني قرر
مر وقت طويل واألصوات هادئة داخل املنزل الواسع ،وال أحد
سمعت قرع نعاله ماشيا يف الدهليز الواسع.
ْ مستيقظ سواها ،فجأة،
وقع كل خطوة من خطواته يقرع طبلة أذهنا قبل مالمسة يكاد ُ
رجله للممر املب ّل ِ
ط بالرخام واملؤدي إىل حجرهتا ،رفعت رأسها فرأت
ظله حتت ضوء القمر ممتدا عىل البالط مما ييل الباب ،دخل احلجر َة
يديا عىل ركبتها فيام أصبحت عجيزهتا اجلزء فأحكمت شد هْ
ْ هبدوء؛
الوحيد املالمس لألرض من جسمها املخروط.
دخل الرجل ،ورائحة العطر تفوح من أردانه ثم قال بصوت
خافت ،ميلء بالغضب املكبوت:
- -أين ِ
أنت؟ مل ال توقدين مصباحا؟
مل تزد الفتاة عىل أن قالت بصوت نحيل مرتعش:
- -أنا هنا يا سيدي ...أنا..
ثم سكتت .حتى كأن احلبل الواصل بني لساهنا وعقلها قد انقطع
هلعا .فهي ال تعرف هل األفضل أن ت ِ
ُسم َعه صوتهَ ا فلعله يرق هلا ،أم
األفضل الصمت حتى ال يكون صوهتا باعثا لغضبه وسببا لتذكر ما
اقرتفته.
183
اجلدار بطرف يده اليمنى
َ ُ
الرجل صوب الصوت متلمس ًا حترك
التي يلمع يف وسطها خاتم ،حتى وصل إىل حافة الرسير الذي جتلس
عليه.
جلس عىل طرف الرسير وقال بصوت خافت مل تتوقعه:
- -ال ختايف.
خيل إليها أهنا سمعت« :ال ختايف» ثم شكت يف ذلك.
فخياهلا الذي يسبح يف عوامل واحتامالت ال حتىص ّ
كذب أذن ْيها،
فرفعت رأسها من بني ركبتيها وقالت بصوت أكثر ارتعاشا من ذي
ْ
قبل ،وهي جتد طعم دموعها بني شفتيها:
- -ماذا؟ هل ...ماذا يا سيدي؟
كانت ال تعرف ماذا ُأعد هلا ،فلحظات انتظار العقاب عادة ما
تكون أفظع وأنكى من العقاب ذاته ،ظلت تفكر منذ ساعات يف كل
االحتامالت ،فهي تتذكر جيدا قصة صديقتها َغنَج ،وما جرى هلا مع
سيدها قبل أشهر حني أقسم أن جيلدها بالسيور وهي عارية حتى يتقرش
جلدها.
تتذكر املنظر الذي ما زال يسكن خياهلا.
كانت صديقتها غنج قد عصت سيدها يف أمر تافه ،فأقسم أن
يعاقبها ،جاء باجلارية وصلبها عىل عمود قرب سلم املنزل ،ثم جردها
من ثياهبا ليجلدها ،فلام جردها من مالبسها إذا بجسمها غض طري
مكتنز شديد النعومة ،فتحركت شهوته .فأمرها أن تلبس مالبسها
وتتجمل.
184
ثم عاد بعد قضاء وطره ونصبها عىل السلم ،وجلدها بالسيور
حتى تقرش ذلك اجلسم الغض الذي نزا عليه قبل ساعات!
كانت تفكر يف كل ما رأته وسمعته من عقوبات للجواري واخلدم
داخل بيوتات بغداد .فكيف بمن اقرتفت داهية بحجم الداهية التي
اقرتفتها هي؟
طافت هذه القصص بخياهلا يف ثوان قالئل ،وهي ترفع حاجبيها
منتظرة جواب الرجل الذي كان يداري من أمواج الغضب مقدار
ما جيتاحها من محم اخلوف ،لكنه ضغط عىل طرف شفته يف الظالم
الدامس وقال هبدوء ُمتَصنّعٍ:
قلت ال ختايف! فلن يمسك سوء!
ُ --
وقعت كلمته عىل قلبها وقع املطر عىل البلد ا َمل ْحل.
زعازع جوانح مزقتْها ٍ
ضياء َع َم َر حتول ظالم الغرفة الدامس إىل
ُ َ
اخلوف ،واجتاحتها براكني اجلزع أياما طواال.
شعرت بحاجة ملحة إىل الرصاخ فرحا هذه املرة .لكن هل
ترصخ؟ ال ،فلعل يف األمر مستورا مل يتبني بعدُ .وما أدراها؟ فقد يغري
سيدها رأيه يف ملحة عني؟
رتى تعابري وجهه
حاولت رفع حاجبيها من فوق ركبتيها قليال ل َ
يف الظالم ،ثم خطر هلا أال تفعل فلعله يغري رأيه إذا رأى عينيها ولو من
وراء حجب الظالم الكثيف ،فالعني رسول نافذ إىل القلب ،وال نافذة
يف جسد اإلنسان تفضحه وتكشف بواطنه للناس مثل العني ،ولعلها
إن رفعت عينيها –حتى من وراء الظالم -يثور ثورة ويعود يف كالمه.
185
ظل سيدها جالسا بقرهبا يف هدوء دون رفع برصه يف احلجرة
املظلمة ،ثم مححم قليال ،وقال بصوت خافت:
- -ستُباعني يف السوق بأي ثمن ،وال أريد منك إال ثالثة أشياء :ال
تذكري ألحد أبدا أنك كنت جاريتي ،وال تعودي للعراق أبدا
حت بك األيا ُم .وسمي نفسك باسم جديد ال يعرفه طو ْ
مهام َّ
أحد.
ثم وقف وخرج من احلجرة املظلمة مرسعا ،مخُ لفا وراءه َر ّيا ٍ
عطر
ذكي.
شعرت بخفة مل تذقها منذ أيام ،وانتاهبا أم ٌن ممزوج بخوف ،فقد
ْ
ٍ
عقاب ما كانت تدري طبيعته ،فسيدُ ها أزيح عن كاهلها شبح انتظار
كان يمكن أن يعاقبها عىل جرمها بأي عقاب شاء ،وال يستطيع أحد
منعه من ذلك.
قامت من مكاهنا وخطت خطوات جهة النافذة ،أزاحت الستار،
فرتاءت هلا بغداد وادعة هادئة.
ضج خيالهُ ا بأسئلة متشابكة :هل ستودع هذه املدينة التي مل تعرف
غريها منذ عقلت؟ هذه املدينة التي أتقنت فيها كل ما حتسنه اآلن؟ كل
ما تعرفه اآلن مما هو سبب سعادهتا وشقائها.
إن عالقتها ببغداد عالقة ملتبسة ،فهي تكرهها وحتبها ،فتعلقها هبا
يشبه تعلق اجلارية املغتصبة بوالد أطفاهلا ،فهي تكرهه ألنه اغتصبها،
ومع ذلك حتبه ألنه الراعي الوحيد ألطفاهلا ،تكرهه ألنه متسلط ومعتد
عىل جسدها ،ومتيل إليه ألن فلذات كبدها حيبونه .يسعدها ألنه يسعد
عيون أطفاهلا الربيئة ،ويشقيها ألهنا كلام رأته تذكرت اإلكراه والعسف.
186
تلك هي بغداد بالنسبة هلا ،هنا فتحت عينيها عىل الدنيا ،وهنا
تعلمت ما تعلمت.
كانت متسك بيمناها طرف الستارة بينام تركت طرفها اآلخر
يرفرف ليالمس جبينها وهي ترسل إىل بغداد نظرة وداع.
هبت ريح شاملية حامل ًة رائحة الرحيان العبقة ،أرجعت الستارة
ْ
اتسعت حواسها للتمتع بالريح العطرة
ْ إىل مكاهنا وهي تستغرب كيف
رغم ضيق اللحظة وحرجها.
بدأت الليلة القمراء تنحرس عن املدينة الكبرية املليئة بتنهدات
ِ
املرتعة بدموع األفراح واألتراح ،املأهولة بآالف األسياد األمل واللذة،
والعبيد ،واألمراء والسجناء ،والتجار واملتسولني ،والن ُّّساك وال ُفتّاك.
أفاقت اجلارية من تذكر تلك الليلة البغدادية ،والسفينة تصطدم
بحافة شاطئ البرصة الصاخب بالصيادين والتجار واألطفال والبغال
واحلمري ،والسفن املحملة بالفواكه القادمة من مناطق خمتلفة.
كانت تشعر بكل سهام الدنيا تتكرس داخل سويداء ٍ
قلب ما كانت
ب األيا َم أبقت فيه مكانا للجروح أو مساحة لآلالم ،كانت كلام حتس ُ
َ
تكشفت هلا تفاصيل احلياة عىل الشاطئ ازداد شعورها بعبثية احلياة
كأهنا يف حلم ال يستحق أي اهتامم ،نعم ،ما الذي يضريها أن تباع أو
تشرتى أو تسعد أو تفرح أو تَعشق أو تُعشق؟ ما دام كل هذا حلم نائم
وخيال َو ْسنان؟
لو كانت احلياة حقيقي ًة الستحق األمر اجلزع أو القلق ،أو استحق
الفرح والسعادة ،لكن كل هذا حلم من األحالم! فأين الساعات العذبة
والضحكات املجلجلة ومسح دموع السعادة من املآقي يف األمايس
187
البيض؟ وأين األمل واللذة والكره والبغض؟ وأين األوجه التي ضاق
اإلنسان طويال بقرهبا منه ثم تبخرت حتى أصبحت كأهنا حلم؟!
كان اإلرهاق النفيس قد وصل بالفتاة لتلك املرحلة التي جتعل
الذهن يتأرجح بني عاملني :عاملٍ واقعي يتعامل معه عىل حقيقته ،وعامل
خيايل منفصل عن الواقع ،كانت حائرة بني وجودها بني ذينك العاملني،
كانت تفكر يف الرصاخ والضحك بصوت عال لتحتفل مع ركاب
السفينة بأهنا يف حلم ،وال داعي للتهمم والتجهم ،لكنها ما تلبث أن
تراجع ذاتهَ ا لتقول إن ما هي فيه واقع ،فتهم بالبكاء والرصاخ حزنا
عىل ما فات وخوفا مما قد يأيت ...لكنها ما تلبث أيضا أن تعود للمرحلة
الربزخية فتنكمش شفتاها بعد أن استوفزتا للرصاخ أو الضحك.
اسرتق إليها سيدُ ها نظرة ُمفعمة باملشاعر املتناقضة .فك َّلام ص ّعد
الدامعتي دائام مع خريطة جسدها ترتاءى له ٌ
مدن من نْ عين ْيه احلمراو ْين
الذهب وقوافل من اجلواري والغلامن ،ثم تغوص تلك املدن يف آالف
األخيلة فريى فيها نفسه أب ًا ألطفال قد انعتقوا من دمامته ودمامة آبائه
إىل أبد اآلبدين.
بني تلك اخلواطر ،كان يتخيل عرشات التجار البرصيني يتنافسون
لرشاء فتاته ،فام زالت كلامت النخاس الذي باعه إياها ّ
ترن يف أذنه كأهنا
هاتف ساموي يعد بالثراء األبدي:
وخمرت البحار واألهنار ،وسلكت فِجاجُ طوفت الدنيا،
ُ «لقد
وحلبت
ُ وعارشت التجار والزهاد والنساك والفتاك،
ُ األنجاد والوهاد،
وخرست ،وسرُ رت وحزنت ،لكني مل أشرت ومل ُ وربحت
ُ أشطر الدهر،
أبع أمجل من هذه الفتاة ،قاتلها اهلل! لكأنهّ ا مصنوعة صناع ًة ،أو لكأن
ْ
188
اخلالق استشار عشا َقها قبل خلقها».
َ
كان النخاس اليهودي ينظر إىل جاريته ،التي بدت له يف هذه
جردها التقلب الطويل بني ظهور
اللحظة أبعد ما تكون عن اجلامل ،فقد ّ
اجلامل ومتون اخليل وبطون السفن من كثري من أسلحة الغواية التي
كانت سبب شقائها.
وكثريا ما يصبح سالح املرء سالحا بيد عدوه ،وكثريا ما يضحى
اجلامل نقمة عىل حامله.
بدت عيناها اخلرضاوان الواسعتان بال بريق ،أما شعرها الذهبي
فتحول إىل كومة من القش املهمل ،أو كومة من األثواب البالية الداكنة،
رؤوس عشاقها فغابت،
َ أما حركاهتا اخلفيفة املوقعة التي كانت تلوي
واسرتخت أعضاؤها اسرتخاء املتعب املستسلم املقهور.
كان مجالهُ ا يف هذه اللحظة مجاال منكرسا مرحوم ًا ،يثري الشفقة ال
اإلعجاب.
صيحات الناس عىل مرفأ البرصة لوهلة،
ُ أفكار النخاس
َ قطعت
اليهودي عن بضاعته ،فهذه أول مرة يرى فيها مدينة البرصة ،كان
ُّ ذهل
الوقت ُبعيد العرص بقليل ،واملرفأ يضج باحلركة والنشاط.
تقافز املسافرون الذين أضناهم اجللوس يف السفينة ،بينام ظل
النخاس جاثام يف مكانه متشبثا بيد فتاته يف انتظار سكون الزحام.
بدأ النخاس يقطع طريقه وسط زحام الناس ،سحنات شتى وأوجه
خمتلفة الرتاكيب من هنود وصقالبة وزنج وعرب وروم .يصيحون عىل
بضائعهم املختلفة.
189
كانت رائحة البهارات والعطور والسمك الطازج وروث اخليول
واحلمري واإلبل ختتلط برائحة الغبار والفاكهة لتشكل رائحة كثيفة
غريبة ،عرب التاجر من أمام بقال جالس أمام دكانه فصاح به:
- -أين اخلان؟
ْ
واصل السري عىل هذا الطريق الواسع إىل أن خترج من سوق --
َ
اخلان عىل يسارك. العطارين ،ثم سرتى
نخالت يربط املسافرون
ٌ كان اخلان واسع الفناء تتوسط مدخله
مطاياهم يف جذوعها .دخل التاجر فبادر ق ِّي ُم اخلان بتحيته والرتحاب
به.
- -ننوي املقام عندكم أياما ثالثة.
- -نزلتم أهال وحللتم سهال ،خذ األمتعة وأدخلها يا غالم.
رومي يرتدي قميصا أمحر ،معتجرا عاممة بيضاء .أخذ
ٌ قفز غالم
الصندوقني اخلشبيني فوضع أحدمها عىل رأسه وأمسك اآلخر بيده .ثم
وقف كأنه جذع شجرة خلف التاجر.
فجأة ،وقف رجالن عىل باب اخلان وصاح أحدمها قائال« :لقد
لشيخ ِ
زم ٌن ال ٌ َ
لسان هذا املسكني فأعينوه بام تيرس .فواهلل إنه قطع ٌ
خناق
لسان له منذ ثالثة أشهر».
فمه واسعا كأنه يتثاءب،
التفتت الفتاة ناحية الصوت ففتح السائل َ
فإذا هو بدون لسان.
رمى ق ّي ُم اخلان املفتاح الصدئ الذي كان بيده ،وخطا خطوتني
السائلي صائحا:
نْ جتاه
190
ُ
للسان ثور .خدعتني من قبل فانخدعت لك، - -واهلل إن لسانك
وإن مل خترج ألوجعنك رضبا ...يابن الفاعلة!
قيم اخلان وهو يغني وتبعه التاجر
توارى السائالن رسيعا ،وقفز ُ
وفتاته صاعدين درج اخلان ،ثم حترك الغالم الرومي بخطواته الوئيدة
متاميال بالصندوقني اخلشبيني ليلحق هبم.
***
كان ق ّيم اخلان ُمنحنيا عىل دفرت ضخم بني يديه يكتب فيه ويمحو،
فحانت منه التفاتة صوب السالمل فرأى فتا ًة أذهلتْه.
ْ سمع وقع أقدا ٍم
كانت كلام نزلت درج ًة من درجات السلم ازدادت مجاال.
فكل درجة تفضح حركة من حركات أنوثتها الف ّياضة ،كانت
يداها ترفعان طرف ثوهبا األمحر مما ييل ركبتيها حتى ال تعثر ،وكان
شعرها الذهبي يقفز فوق كتفيها كلام نزلت درجة ،وكان قرطان ذهبيان
مرتاقصي خيفقان كأهنام قلب عاشق.
نْ بطريف أذنيها
ْ يتشبثان
استغرب قيم اخلان كيف دخلت هذه دون أن يراها ومن أذن هلا
بالدخول ،غري أن النخاس اليهودي الذي ظهر متدحرجا من ورائها
ويدُ ه اليرسى عىل صلعته قال له:
صف يل أين سوق النخاسني.
ْ --
نحى قيم اخلان دفرته الضخم إىل اليمني ووقف قائال:
ّ
- -خترج من الباب ثم متيش يمينا ،وتسأل عن سوق الرآسني .وبعد
عبورك سوق الرآسني تسأل عن سوق النخاسني.
أمسك النخاس اليهودي بيد جاريته وخرجا من الباب ،أما ق ّي ُم
191
اخلان فكان يفكر كيف مل ينتبه جلامل اجلارية عندما وقفت أمامه قبل
يومني .ثم ابتسم وهو يفتح دفرته الضخم قائال لنفسه :من أراد أن يرى
وقت قدومها من سفر ،واهلل إن مجال
امرأة ليتزوجها فليشرتط رؤيتها َ
النساء خلدعة! فام هو إال ثياب وعطور.
دلف النخاس من الباب الرشقي لسوق النخاسني ومشى
بخطوات قلقة ونظرات زائغة .كان يقبض بيمينه عىل معصم جاريته
األيرس ،فيام يرسل يرساه بني الفينة واألخرى لتعديل القلنسوة السوداء
التائهة عىل رأسه األملس ،مشى وسط زحام السوق ،أخالط من غلامن
األحباش والصقالبة ُينادى عليهم.
كانت اجلارية متيش خافض ًة رأسهاُ ،مكبة عىل وجهها ال ترفع
برصها عن األرض ،والنخاس يميش مرسعا ممسكا بيدها حتى غدت
كأهنا تقفز قفزا أو تتدحرج وراءه ،كانت تتشبث بخامرها لتغطي جانبا
من وجهها كأهنا ال تريد أحدا أن يراها؛ بخالف نخاسها الذي يتمنى
لو رأهتا الدنيا كلها ،جتاوز مكان عرض الغلامن قاصدا مكان عرض
اجلواري ،ما إن وصل إليه حتى هنر جاريته طالبا منها إزاحة مخارها
الذي تدىل عىل وجهها فرتكته منسدال ،حتى إن طرفه ال يتميز بيشء
عن شعرها املنسدل ،فجأة ظهر رجل عاجي الوجه قصري القامة
عريض املنكبني قائال:
- -يا أهال وسهال ...ما اسم اجلارية؟
- -اسمها علية
دار النخاس باجلارية واضع ًا كفه اليرسى حتت ذقنه ،مداعبا طرف
حليته بسبابته موجها حديثه للفتاة:
192
- -أحتسنني الغناء يا علية؟
غمغمت اجلارية بجمل غري مفهومة رافعة حاجبيها مشيح ًة
بوجهها إىل األرض.
- -ال ..ال .إهنا من َج ْلب جديد من األندلس ،وعهدها هبذه الديار
قريب ،لكنها عاقلة وقابلة للتعليم ،وهي عىل ما ترى حسنا
وهباء.
- -عجيب! عندما وقعت عيني عليها مل أشك يف أهنا ممن حيسن
الغناء والرضب بالعود .بكم تبيعها؟
كان النخاسان يتفاوضان ،وكانت اجلارية ترسل برصها يف أطراف
السوق كأهنا تبحث عن يشء ،لكنها تنظر نظر املنكرس املسرتق اخلائف،
إذ ال تريد يف ذات الوقت لفت أي انتباه ،كانت تنظر ،ثم تتحاشى
نظرات الناس ،وكان النخاسون يطوفون حوهلا ناظرين إليها لكنهم
أبعد ما يكونون اطالعا عىل ما يدور داخل رأسها من أفكار ،آه! كيف
يمكن التحلل من هذا الذي يعدونه مجاال؟ فام هو بجامل! إذ لو كان
مجاال ملا جرعني الصاب والعلقم وال كنت حيث اآلن ،يف سوق غريبة
بمدينة غريبة .ما هذا اجلامل امللعون الذي ال يفارقها حلظة من العمر،
ليت اجلامل تاجا يضعه املرء عىل رأسه وقت ما شاء ليتزين به حلبيبه ،ثم
ينزعه عن رأسه ويرميه متى طاردته العيون اجلائعة والذئاب املتطفلة.
ذهب خياهلا بعيدا ضاجا بصور متفاوتة الوضوح ،كانت ترى
نفسها وسط مجع من صوحيباهتا ،دخل فارس مقنع باحلديد وتأمل
مجيعهن ثم عمد إليها وأمسك بيمينها وجذهبا ووضعها عىل فرسه
وسط رصخاهتا ورصخات صديقاهتا .ملاذا مل يأخذ إحدى صديقاهتا؟
193
كان وجه أنطوينت األمحر وعيناها الضيقتان ودمامتها البادية طريقها
إىل السعادة األبدية! ليتني أشرتى تلك الدمامة احللوة التي تصد الناس
هبذا الشعر املنسدل واجلسم البض اجلاذب ملآيس احلياة.
انتبه نخاس آخر كان منهمكا يف احلديث مع موالها فأقبل عليها
سائال:
- -ما لك يا بنية؟
- -غمغت الفتاة ومل جتب ببنت شفة.
اندفع النخاس خماطبا سيدها ،بعد أن بصق عن يمينه:
- -أنا ال أنكر مجاهلا لكنها شاردة الطرف كسيفة املنظر ،وال يشء
أدعى للهم من اجلارية احلزينة .فبعها يل بمئايت دينار.
- -قلت لك لن أبيعها بأقل من ألف.
كانت اجلارية حائرة الطرف تنظر عىل استيحاء يف جنبات السوق،
متسح دمعة بني الفينة واألخرى من فوق خدها املتورد ،كانت تنظر ،ثم
تتل ّف ُ
ف يف مالبسها أحيانا كأهنا تتسرت عن أحد املارة ،ثم تبدو سارحة
أحيانا وبيدها عود تنكت به يف األرض ،فجأة ،وقعت رمي ٌة إىل جانبها
فالتفتت ،فرأت جارية غري بعيد منها تريد أن تكلمها ،أشارت هلا،
فاندفعت تتحدث إليها كأهنا تسأهلا عن أمر ،غري أن سيد اجلارية هنرها
وسحبها فتوارت وسط الزحام.
كان السوق ضاجا باحلركة ،فصفقات البيع والرشاء ال تتوقف،
وأحاديث اجلواري والغلامن وبكاؤهم وضحكاهتم متأل اآلذان ،ربام
كانت علية هي الصامتة الوحيدة.
194
انفرج جانب السوق الشاميل فدخل رجل طويل نحيف األطراف
ممتلئ الوسط راكبا عىل برذون وبني يديه غلامن يفسحون له الطريق،
وقف عدد من النخاسني ينادون :أهال بعبود! تفضل.
نزل من فوق برذونه وبدأ يتمشى يف اجلانب املخصص للجواري،
كان كلام اقرتب هو وغلامنه من علية ،حترزت وانكمشت داخل
مالبسها كي ال يراها ،كانت حتكم قبضة يدهيا ومتسك أنفاسها حماولة
التضاؤل داخل مالبسها ،متخيلة أن ذلك قد يعصم عني الناظر إليها
من االفتتان بمنظرها الذي يبهج كل الناس إال هي.
نظرت إليه متسائلة هل يا ترى سأخرج بعد هنيهات مع هذا
الرجل ال أدري إىل أين؟ وما العيب يف ذلك ،ما قيمة أن أظل مع هذا
النخاس اجلشع ذي الفم األبخر؟
عدلت جلستها بينام كان عبود يقرتب من سيدها.
- -السالم عليكم.
وقف النخاس اجلشع حتى كاد يعثر وهو يمسح فمه بظهر يده
قائال بصوت متأرجح بني الرتحيب والطمع:
- -وعليكم السالم ورمحة اهلل.
- -هل حتسن هذه الغناء والرضب عىل العود؟
علمت.
ْ - -ال ..لكنها ...ال ،غري أهنا حلوة َث ِق َف ٌة تتقن كل ما
- -وما ثمنها؟
- -ألف ومخسامئة دينار.
خترجت عىل يد إسحاق املوصيل.
ْ - -هذا الثمن ال أعطيه يف جارية
195
- -إهنا حسنة هبية الطلعة حلوة احلديث و..
فقاطعه عبود:
- -ولكن..
- -ولكن ماذا؟ هي ال تعزف وال حتفظ الشعر ...كأين سأنشئها نشأة
كاملة.
- -هل تبيعها بألف دينار؟
طال األخذ والرد ،ثم قال اليهودي بتلكؤ:
- -نعم .خذها.
يف ملحة برق ،مال أحد الغلامن عىل النخاس وناوله رصة الدنانري.
كانت اجلارية ما زالت جالسة ،وكأن احلديث الدائر ال يعنيها.
التفت إليها سيدها اجلديد وقال:
- -مالك؟ قفي وتعا ْيل.
عيني سيدها اجلديد.
نظرت يف ْ
حلظة واحدة تفصل بني عاملني ال متلك يف أي منهام شيئا.
كانت قبل هنيهة مملوكة لذلك التاجر اليهودي اجلشع ذي الفم
األبخر ،يترصف فيها كيفام يشاء ،ال ُيسأل إن رضهبا أو اغتصبها أو
باعها أو أهاهنا أو شتمها ،لكنها عىل األقل قد عرفتْه ،كانت تعرف نقاط
قوته وضعفه ،وذاك يمنحها هامش ترصف داخل دائرة سيطرته املغلقة.
أما صاحب هاتني العينني العسليتني فام زال لغزا ال تعرف عنه
شيئا .ال تعرف من أي النوافذ تتسلل إىل عامله ،ومن أي الزوايا يمكن
اللعب بحدود دائرة سيطرته.
196
نظرت إليه مرة أخرى ،فرأت عينيه العسليتني وشعره الذهبي
املكتنز وبرشته الصافية.
- -قومي ،وأبرشي فعبود يشهد له من يف هذه ال َع َرصات بحسن
املِ ْلكة!
تقدم إليها غالم رومي وأركبها عىل ظهر برذون واندفع هيملج هبا
وسط زحام الرائحني بعد يوم طويل من أيام سوق النخاسني ،التفتت
اجلارية وهي خترج من الباب الشاميل عىل ظهر الربذون فرأت طرف
الشمس قد غرب ،بينام طرفها اآلخر بازغ ممتقع اللون تلفه احلمرة
القانية.
التفتت يمينا فرأت جمموعة من اجلواري عائدات مع نخاسهن
بعد يوم كامل قضينه ُيعرضن عىل كل قادم دون فائدة .ردت برصها
شعر سيدها الذهبي املكتنز وأطرافه النحيلة
احلسري ناظر ًة أمامها فرأت َ
َ
وبرشته الصافية ،وغالما معتجرا عاممة ،وبرذونا ُمرهقا يمضغ جلامه
من اجلوع.
مل يكن هناك فرق بينها وبني الربذون ،فكالمها يركض ال يدري
إىل أين؟ بل لعل حاله أحسن من حاهلا ،فقد مر ُ
قبل من هذه الناحية،
ويعرف الطريق الذي يركض فيه.
***
وقف املكاري صائحا عىل الباب:
دانقني عن صاحبك!
ْ - -يا هذا ،اخرج وادفع
حارس الرأس ،ماشي ًا
َ خرج النظام راكضا ،مرتدي ًا جبة داكنة،
197
كأنه يتدحرج ،إذ كان جيري منحنيا قليال إىل األمام ،بدا مقطب اجلبني
املكاري ذا الثوب األصفر ممسكا بتالبيب
َّ مغضبا ،رفع رأسه فرأى
اجلاحظ بيده اليمنى وأذن محاره بيده اليرسى.
دانقي من جيبه
نْ ابتسم إبراهيم النظام وهو يرى اجلاحظ خيرج
ٍ
منحن ضحك ًا. ويدسهام يف يد املكاري وهو
ولىّ املكاري وهو ُيص ّفر بشدقيه ،فبادر النظام قائال:
- -ما اخلطب؟
حاولت التحريش به ،فقلت له إين ال أملك دانقا وإنك صديق
ُ --
بخيل ،ثم طلبت منه أن يرتك الكراء لوجه اهلل تعاىل ،وذكرت له
أحاديث تر ّغب يف األجر عىل طريقة ال ُقصاص ألعرف ما عنده،
فكان منه ما ترى!
ضحك النظام وهو يفتح باب داره قائال:
بركت َمربك ًا طيبا مقابل صومعة
ُ - -لقد أزعجني نداؤه ألين كنت قد
احلَماَ م بحيث ال يراين ،وكنت أرقب بعض عاداته ومذاهبه
وأدوهنا ،حتىجاء الغالم وأخربين بنداء املكاري.
ّ
- -قاتله اهلل! ما أشد نكارة صوته وأقل عقله ،لذلك كثريا ما أقول
لك إين ما رأيت مكاريا عاقال قط ،وال رأيت مكاريا يف قرية إال
شبيها بكل مكار آخر يف أي بلد كان ،فالباعة واحلاملة والعجائز
واحلجامون واحلاكة والنساء كأنام ُولدوا يف عام واحد ،وكأن
وص ّبت يف قالب واحد.عقوهلم ُقدرت بمقدار واحد ُ
كانا يتحادثان وقد جتاوزا فناء الدار ،ثم بلغا البيت املتواري خلفها،
198
كان مويس بن عمران وبعض جتار املعتزلة قد اكرتوا هذا البيت ليضعوا
فيه ما شاءوا من احليوانات ويراقبوها ويتأملوها عن قرب بإرشاف
النظام ،كان فناء واسعا مليئا باحليوانات املختلفة.
حلماَ م ،رفع
تقدم النظام وفتح الباب هبدوء حماوال أن ال يزعج ا َ
اجلاحظ إزاره وهو يتجاوز العتبة ،فوضع النظام سبابته طالبا منه
الصمت.
صعدا سلام طينيا هبدوء ،حتى كأهنام ال يكادان يطآنه ،ثم قادمها
السلم إىل غرفة دائرية صغرية عىل ظهر الدار فيها نافذة مطلة عىل باحة
البيت الواسعة املليئة بأصناف خمتلفة من احليوانات ،كانت داخل البيت
كراريس ودواة وأقالم من القصب وكريس وحصري.
خلع اجلاحظ طيلسانه ورماه عىل احلصري ،ثم جلس ،تقدم إبراهيم
جهة النافذة وهو يقول بصوت منخفض:
- -ما رأيت أغزل من احلامم!
مل يزد اجلاحظ عىل أن حرك رأسه ،وهو يتأمل القراطيس املصفوفة
عىل احلصري ،تناول قرطاسا فوجد فيه رسوما هليكل الفيل وتسمية
لكل عظم من عظامه مكتوبة مقابل العظم املرسوم ،ثم تناول ورقة
أخرى فوجد فيها كالما يصف طبيعة احلامم وحماسنه ومساوئه ،والفرق
بني احلامم املعد للزجل وغريه ،وضع اجلاحظ الورقة ورفع رأسه خماطبا
النظام هبمس:
- -لو رآك أحد العامة لقال إنك تنوي التزوج بحاممة.
- -قاتلك اهلل! ملاذا؟
199
عامي عىل هذه الكراريس اململوءة حديثا عن حماسن ٌّ - -لو اطلع
احلامم وكيف أنه أغزل احليوانات ،سيقول :ما الذي يدفع رجال
من أهل الكالم والصناعة مثلك ملثل هذا إال إذا كان استخار ربه
وأمجع عىل أن ُيعرس بحاممة أو بومة أو قطاة.
- -إذا كان ذاك منطقهم ،فسيتهمونك بنية الزواج من إحدى بنات
ُنف أبدا! ِ
الساكنات الك َ َ (((
وردان
ْ
ضحك اجلاحظ ،فلكزه النظام ليخفض صوته ،فرفع فيه عينيه
قائال:
- -وما الذي دعاك إىل القول إن احلامم أغزل ما رأيت؟
وحسن مشيته،
ّ - -لقد رأيت احلامم إذا أراد َق ْم َط أنثاه نفش ريشه
وتفنن يف لفت نظرها إليه بأحابيل من احلسن عجيبة ،وتالوين
من احليل غريبة.
- -ثم له ميزة أخرى ،أال ترى أنه يتزوج ويكون وفيا لزوجه عكس
الدجاج ،فاحلامم قد يعيش عمره مع محامة واحدة ال يريد غريها
وال تريد غريه ،أما الدجاجة فرتحب بكل ديك ،والديك يقع
عىل كل دجاجة ،بل من بالدة الديك أنه يقع عىل الديكة وال
يعرفها.
- -نعم ،لقد كنت أنا ومجاعة من املتعلمني هنا نرقب ذلك ،فالحظناه.
غري أننا الحظنا مرة أنه قد يقع من احلامم أن َي ْق ِمط غري زوجه.
- -نعم نعم ،ال أنكر هذا .لكن ما استقر عندي بعد طول مراقبة
200
أن احلامم ذا الصوت اجلميل كالنوائح واملغنيات مما جيري عىل
رجلني أعف من غريها ،ومع ذلك قد يفسق احلامم إذا احتاج
إىل غري محامته ،لذلك رأيته أشبه باإلنسان يف هذا ،ففي الناس
العفيف والعفيفة وفيهم غري ذلك.
التفت إليه النظام برسعة وهو يقول بصوت متعجب خافت ،وقد
بدت قطريات عرق عىل جبينه:
أعف من
ّ - -يشء عجيب! ما دامت النوائح واملغنيات من احلامم
غريهن فلم أصبحت النوائح واملغنيات من اإلنس أقل عفة من
غريهن؟
ما كاد النظام ينهي سؤاله حتى طار احلامم من احلائط.
فمد اجلاحظ رجليه وأسند ظهره إىل اجلدار ،أما النظام فجلس
عىل قدميه مادا يديه أمامه.
متلمل اجلاحظ وقال:
- -مشكلة ال َق ْينَة أهنا تنشأ بني العود والطنبور ،وبني ا ُمل ّجان والفساق،
فعيشها مربوط بالتهتك وال تستقيم صناعتها ومهنتها دونه ،فهي
والعفة ال يأخذان طريقا.
- -يشء عجيييب.
- -لذلك لعل من اآلفات التي قد تصيب الرجل الكريم أن يعشق
قينة ،فالقينة جتمع من امللذات ما ال جيمعه غريها عىل وجه
األرض.
اعتدل النظام يف جلسته ومهس:
201
- -كيف ذاك يا أبا عثامن؟
- -إن املطعوم واملرشوب مثال ال يوصل إىل لذته إال بحاسة واحدة،
ذقت املسك بلسانك لعفتَه،
ولو خربته بحاسة غريها لعافتْه .فلو َ
ألنه من حظ حاسة الشم ،ولو وضعت كل لذيذ عىل أذنك ملا
وجدت له طعام.
- -وما وجه مجع القينة لكل مال ّذ الدنيا؟
- -ألن متعة القينة تدخل إليك عن طريق حواس أربع؛ فهي متتع
أذنك بالصوت املزلزل ،وعينك بالدل الذي حيل عقدة العزم،
وملمسك باللمس الذي يقود إىل احلنني للباه ،وشمك بالريح
َ
الطيبة ،ثم يعضد القلب ذلك بالتخيل فتمتعك من أربع حواس.
- -يشء عجييييب!
مع أن اجلاحظ هو الذي ما زال يتحدث ،إال أنه خيل إليه أنه سمع
دقا خفيفا عىل طرف الباب ،فبادر قائال:
- -كأن الباب طرق طرقة خفيفة.
فانتبه النظام من رشوده ومد جسمه جهة الباب وقال:
- -من؟
فجاء صوت اخلادم حادا متذبذبا كالعادة بني صوت املرأة
والرجل:
- -سيدي ،هناك مجاعة من األصحاب يستأذنون.
- -أدخلهم يف املجلس وقل هلم إين قادم.
وقف النظام بقامته الفارعة ،منحنيا لسقف الغرفة الواطئ حتى
202
أخرج رأسه من الباب وهو ال يزال منحنيا ،ثم تبعه اجلاحظ.
نزال من الدرج هبدوء ،ومها يرقبان عن يسارمها تالوين احليوانات
املستأنسة التي تروح وتغدو داخل احلديقة املصطنعة التي بناها النظام
وأصحابه قبل سنوات بتربعات مويس بن عمران وبعض أصحابه من
جتار املعتزلة ،يوجد جملس واسع يف طرف احلديقة جيتمع فيه عشاق
احليوانات للحديث عنها ،وعن نتائج مراقبتها بني الفينة واألخرى.
تقدم اخلادم وفتح الباب املؤدي إىل الردهة الداخلية للمنزل ،وهو
يقول:
- -لقد أعددت املجلس ،والرجال فيه يا سيدي.
دخل النظام واجلاحظ إىل املجلس الواسع ،فتقافز الرجال للسالم
عليهام ،لكنه بادرهم قائال:
- -أماكنَكم ،أما سمعتم األثر :من أحب أن يتمثل له الرجال قياما
فليتبوأ مقعده من النار؟
أعور العني وهو يعود ملكان جلوسه قائال:
أشقر ُ
ضحك شاب ُ
- -ومتى كان املعتزلة يستشهدون بأحاديث أيب يوسف ومالك بن
أنس؟
ز ّم اجلاحظ شفت ْيه متضايقا وهو يفكر يف أن الرجل يستكمل حوارا
ساخنا دار بينهام أمس باملسجد اجلامع فقال:
- -أهل العدل والتوحيد يأخذون باحلديث ،لكنه أخذ صاحب
العقل ،ال أخذ رأس النعجة وأرضابه من موسويس احلشوية
مثل ابن املديني.
203
تالمح رجل جالس يف الركن مع آخر عندما ذكر اجلاحظ ابن
املديني ،لكن اجلاحظ مل يالحظ إشارتيهام ،دخل غالم إىل املجلس
املربع ذي الفرش املتواضعة ،ووضع جاما مملوءا بعصري الليمون املحىل
بالسكر أمام كل واحد منهم ،ثم توجه إىل النافذتني املرشعتني إلحكام
إغالقهام اتقاء للغبار املتسلل للغرفة ،واملشبع برائحة رطوبة هنر دجلة.
عدل النظام جلسته –وهو يتوسط املجلس -وقال:
- -واهلل لو علم إمام ح ّينا باجتامعكم عندي لطال تعجبه .فقد
استوقفني أمس وأنا خارج من املسجد ليسألني عن سبب
اهتاممي بعادات احليوانات ،ومل َ أرصف وقتا يف فهمها وفهم
ترصفاهتا؟
وقبل أن يكمل النظام كالمه قاطعه عبود من طرف املجلس وهو
يقول دون رفع برصه:
- -عليك سؤاله مل سمى اهلل تعاىل سورة باسم البقرة ،وأخرى باسم
النملة ،وثالثة باسم الفيل ،ورابعة باسم النحل ،وخامسة باسم
العنكبوت؟
«العنكبوت» وكأنه يرفع صوته بمدة الباء أكثر مما
ْ نطق عبود كلمة
ينبغي ،أو كأنه حياول جعل صوته أغلظ من حقيقته .فأجابه اجلاحظ
-ماسحا حبيبات حىص ظلت عالقة بأنفه منذ آخر صالة -قائال دون
أن يلتفت إليه:
- -ال ال ،إن حماججة هؤالء يف مثل هذا تدخل يف باب حماججة
صبي الكُتاب بقيمة التعلم.
ثم مدّ اجلاحظ ذراعه النحيل يف اهلواء وهو ينظر إليها ،وقال:
204
- -ملا كان صاحبكم هذا صغريا ،كان يمد يده هكذا ويسأل معلمه:
مل إذا فكرت أن أمد يدي مددتهُ ا؟ مل تطاوعني؟ ومل إذا حاول
مفلوج مدّ ها مل تطاوعه؟ وأنا ال أشك يف أن اخلاطر الذي يأمر
ٌ
فلم
يدي أن متتد فتمتد هو نفس اخلاطر الذي يعرتي املفلوجَ ،
تستجيب يد السليم وال تستجيب يد املفلوج؟
فكان معلم الصبيان يقول يل :قاتلك اهلل من صبي سؤول! واهلل
لن تلفح أبدا ،مل َ تسأل عام ال ُيسأل عنه ومل َ تستغرب ما ال ُيستغرب؟!
ضحك القوم وحترك كل واحد منهم يف مكان جلوسه ،فمنهم
من حتامل أكثر عىل إحدى الوسائد ُمغريا جلسته ،ومنهم من مد عن َقه
مبدي ًا االهتامم ،إال أن النظام ظل ساكنا ،إذ كانت عيناه ذواتااألهداب
اخلفيفة ترمقان اجلاحظ وكأهنام قد سكنتا ،وبدت عيناه الكبريتان فوق
أنفه األفطس وجبهته الواسعة وكأن احلياة قد فارقتهام لثباهتام ورشود
ذهنه ،فلام ظ ّلل الصمت املجلس انتبه ،وأزال يده من حتت ذقنه فيام
انشغلت يمناه باللعب باجلام الذي بني يديه.
فاستأنف اجلاحظ حديثه بعد أن رد يده اليمنى لينزع قلنسوته
البيضاء من فوق رأسه الصغري ،وهو ُيميل رأسه حتى بدت عنقه
الدقيقة كأهنا منكرسة ،وهو يقول:
- -إن العوام وأشباه العوام ال يندهشون إال من احلديث الغريب،
كامليش فوق املاء وأكل النار ،أو أحاديث من ذلك اجلنس ،أما إذا
توقف املتأمل سائال عن رس غروب الشمس املحرتقة ،وانبالج
الفجر الوضاح ،وتعاقب الليل والنهار ،فيتهمونه باالندهاش مما
ال يدعو لالندهاش.
205
قاطع عبود اجلاحظ ،وهو يمرر يده اليرسى عىل ذقنه املصقول كأنه
الص ْفر القوية تقرقع لوزة بقي منها قليل ،وقال:
جملوة ،وأسنانه ُّ
مرآة ّ
- -كنت كلام سألت أعرابيا عن يشء من أرسار احليوان أظهر
التعجب من انشغايل بمثل هذه األمور ،واستغرب كيف لرجل
مثيل....
ثم ارتبك عبود قليال ،وامحرت وجنتاه ،ثم اسرتق التفاتة فرأى
حاجبي الرجل اجلالس عن يمينه يلعبان ،وشفتي اجلالس أمامه ْ
تتأرجحان قليال...
فابتلع احلرج وعاد حلديثه:
- -كيف ملثيل من طالب علم الكالم أن ينشغل بمثل هذه األمور.
عيني عبود ليشعره بأنه مل ينتبه ملا وقع،
تدخل النظام ،وهو ينظر يف ْ
ومل يلحظ احلرج الذي بدا عليه ،وقال:
- -أما أنا فال تقع عيني عىل يشء إال كان أدعى للعجب من سالفه،
واهلل إين ألحار من ضحكات احلسناوات ،وتلفتات الفتاة
احلسنة الدل والغنج ،وأتعجب مل َ ينخلع القلب إذا رأى الوجهِ
الصبوح ،ومل َ ينبهر إذا رأى البدر الوضاح .ومل َ يظل الرجل
حشى ،والصولة الركني ذو العاممة املكورة ،والرداء ا ُمل ّ
ُ الزميت
العاتية ماشيا يف طريق ،فتظهر فتاة حسناء متلفف ًة يف مالبسها
ّ
وتبتل تلك فتنحل تلك العقدة ،وينفتح ذلك احلاجب املق َّطب، ّ
العني اجلامدة ،وترتاقص تلك األهداب املتصلبة وينعقد ذلك
اجلوال؟ واهلل إين حلائر! ويكون ذلك الرجل ملكانته ختافه
اللسان ّ
الوحش ،وتتحاشاه املارة ،ويتقيه أشداء الرجال.
206
ثم مال النظام إىل الوراء متنهدا خامتا حديثه بعبارته األثرية ،يمدها
مدا طويال:
- -يشء عجيب!
كان اجلاحظ يستمع إليه وقد أمال رأسه إىل الوراء ،ورفع رجله
اليرسى بتشبيك راحت ْيه عىل ركبته ورفعها قليال ،وهو يقول:
- -لكنك لو سألت أحد هؤالء احلشوة من قادة الرعاع وهو يف
مسجده وبني طالبه ملا زادك عىل أن يقول :ذاك تقدير اهلل .ثم
الغامض وعثر عىل
َ الفكر واستخرج
َ يلتفت وكأنه قد أجال
املستور! لكني مل أعد أتعجب من احلشوة والنابتة.
بادره عبود قائال:
ومل ال تتعجب منهم يا أبا عثامن؟
العجب قد ذهب ...وكيف التعجب واألمور
َ «أعجب من أن
ُ - -أنا
كلها أصبحت عجبا؟ كنت أتعجب من كل فعل خارج عن
العقل أو العادة ،فلام خرجت األفعال بأرسها من العقل والعادة
خرجت
ْ صارت بأرسها عجبا ،فبدخوهلا كلها يف باب العجب
بأمجعها من باب العجب» عندي.
تنحنح النظام ،ثم قال موجها كالمه لعبود ،مستحرضا احلرج
األخري ،حماوال إشعاره بأنه مل يالحظ شيئا:
- -هات يا عبود ،ماذا عملت بعدنا؟ وماذا ُفتح عليك من أبواب
العلم؟
اعتدل عبود يف جلسته وهو يضم عليه أطراف جبته النظيفة ،وقال:
207
- -لقد أرسلت أحد خدامي إىل بعض الوراقني من أصحابنا فوجد
عرشة كتب من كتب األوائل ،اثنان منها عن الفيل.
أنزل اجلاحظ رجله اليرسى واعتدل وهو يمد يده جهة النظام
قائال:
- -أبو إسحاق هذا صاحب الفيل ،فهو ال يعجب من حيوان عجبه
منه ،ولقد رأيته يوما وهو جيري وراءه يف الغياض شارد الذهن
حتى لكأنه عاشق وهلان.
توقف اجلاحظ عن احلديث قليال ويده اليمنى تدور يف كمه باحثا
عن ورقة ،ثم استخرجها قائال:
- -ما دام حديثكم عن الفيل ،فدعوين أحدثكم عن اجلرذ للمناسبة
بينهام.
انفجر اجلمع ضاحكني ،فواصل اجلاحظ قائال:
- -نعم! فال تناسب أقوى من التنافر ،فأنت إذا ذكرت العظيم
ذكرت الصغري للتباعد بينهام ،ومن هذا الباب يصبح الكبري
يشري للصغري ،واجلميل للقبيح ،والدنيا إىل اآلخرة ،فام عجائب
الفيل–كام تعلمون -بأغزر من عجائب اجلرذ.
ثم قرب اجلاحظ الورقة ونظر إليها ثم ردها إىل جيبه وقال:
- -لقد رأيت عجبا ،رأيت أن كل حيوان إذا ُخصيِ ض ُعف ونزلت
درجته عن طبقته من الذكران إال اجلرذ ،فإنه إذا خيص استأسد
وخافه كل فحل من اجلرذان ...ثم إين....
عيني النظام تدوران برسعة ،وجبينه يتقطب،
انتبه اجلاحظ إىل أن ْ
208
تزور جانبا..
وعينه اليرسى ّ
ثم خ ّيم صمت مطبق.
فالتفت اجلاحظ فرأى حواجب تتقافز ،وضحكات تنحبس،
وشفاها تتصنع الوقار وأطرافها ترتعد من أسفل.
أما عبود فازدادت محرة وجهه الصقيل ،وجتمعت حبيبات عرق
عىل أرنبة أنفه األقنى ،بينام انشغلت أصابعه باللعب بطرف عاممته.
اندفع اجلاحظ وجبينه يتفصد عرقا ،بعد أن أحس باحلرج قائال:
- -وقبل حديثي عن اجلرذ وما اطلعت عليه من عجائب خلق اهلل
فيه ،سأحدثكم بام شهدته من أمر الذباب مع القايض ابن سوار.
ضحك النظام ،حماوال إعادة احلديث إىل وتريته قائال:
- -ولن تعدم حجة لتقول إن الصلة بني الفيل والذباب أوثق،
واحلديث عنه بعده أنسب ،كيف ولكل منها خرطوم...
ضحك عبود بصوت عال ،حماوال إهيام جلسائه أنه مل ينتبه ،وأن
نفسه قد صفت من أي حرج .فالتفت إليه اجلاحظ مبتسام وعيناه
تلمعان وتكاد قهقهة تندّ من صدره ،وقال:
- -هل حدثتكم بام شهدت من قاضينا عبد اهلل بن سوار والذبابة؟
انحنى عبود إىل األمام وقد برقت عيناه الناعستان بتصنع ،وقال:
ِ --
إيه يا أبا عثامن!
تزحزح اجلاحظ يف مكان جلوسه وعاد إىل اعتدال جلسته ،وقال:
- -تعلمون أن أهل البرصة مل يروا حاكام ّ
قط وال ز ّميتا وال ركينا وال
ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط القايض َ وقورا،
209
عبد اهلل بن سوار ،إذ كان يصليّ الغداة يف منزله ،وهو قريب الدّ ار
من مسجده ،فيأيت جملسه فيحتبي وال يتّكئ ،فال يزال منتصبا وال
حيول رجال عن يتحرك له عضو ،وال يلتفت ،وال ّ
حيل حبوته وال ّ ّ
مبني ،أو صخرةرجل ،وال يعتمد عىل أحد ش ّقيه ،حتّى كأنّه بناء ّ
منصوبة ،أو وتد مغروس ،ثم يظل عىل حاله ذلك ال يقوم إال إىل
صالة حتى ينادى لصالة املغرب.
أثناء حديث اجلاحظ دخل خادم ووضع خوانا مملوءا فواكه ،ثم
جعل يناول كل واحد من اجللوس تفاحا أو عنبا .ثم أمسك سفرجلة
ومدها للجاحظ ،أخذها اجلاحظ بيرساه دون النظر إىل اخلادم وواصل:
- -وكنا نتعجب منه ،فلم نره ق ّطقام مع طول تلك املدّ ة والوالية
مرة واحدة إىل الوضوء ،وال احتاج إليه ،وال رشب ماء وال غريه ّ
من الشرّ اب ،كذلك كان شأنه يف طوال األيام ويف قصارها ،ويف
حيرك يده ،وال يشري برأسه،صيفها ويف شتائها ،وكان مع ذلك ال ّ
وال يتكلم إال موجزا ،فيبلغ بالكالم اليسري املعاين الكثرية.
ضحك النظام ومد يده جهة اجلاحظ وهو يتكلم ويكاد الريق
خيرج من فهمه ملغالبته الضحك قائال:
- -ليته وهب إلمام ح ّينا من إجيازه ،ومنحناه من حركاته ولعبه عىل
أعواد املنرب!
ابتسم اجلاحظ ويده اليرسى تلعب بالسفرجلة ،وعيناه تلمعان
كعادته إذا حدث بحديث يطربه:
- -فبينا هو عىل حاله ذات يوم -وقد دخلت أنا وسهل بن هارون
إىل جملسه ضمن العامة لنرقب حاله تلك -وهو جالس للقضاء
210
فجعلت أغمز لسهل تلهف ًا
ُ إذ سقط عىل أنفه ذباب فأطال املكث،
ملا قد يقع إذا أطال الذباب املكث عىل أرنبة أنفه .وبعد مكث
فتحولت إىل مؤق عينه ،فرامّ الذبابة دهرا عىل أنفه مل يتحرك،
عضها ونفاذ خرطومها الصرب يف سقوطها عىل مؤق عينيه ،وعىل ّ
ّ
يغضن حيرك أرنبته ،أو ّ
كام صرب عىل سقوطها عىل أنفه من غري أن ّ
يذب بإصبعه .فلماّ طال ذلك عليه من الذباب وشغله وجهه ،أو ّ
وأوجعه وأحرقه ،وقصد إىل مكان ال حيتمل التّغافل ،أطبق جفنه
األعىل عىل جفنه األسفل فلم ينهض ،فدعاه ذلك إىل أن واىل بني
فتنحى الذباب ريثام سكن جفنه.
اإلطباق والفتحّ ،
دوت ضحكة اجلميع ،وجاء صوت عبود نحيال قائال:
وعيني أيب
ْ مسكني أنت يا ابن سوار! وقعت بني ذبابة متسلطة
ٌ --
عثامن ،ثم ماذا؟
مرته األوىل فغمس خرطو َمه يف مكانثم عاد إىل مؤقه بأشدّ من ّّ --
كان قد أوهاه قبل ذلك ،فكان احتامله له أضعف ،وعجزه عن
فحرك أجفانه وزاد يف شدّ ة احلركة ويف
الصرب يف الثانية أقوىّ ،
ّ
فتنحى عنه بقدر ما سكنتفتح العني ،ويف تتابع الفتح واإلطباقّ ،
يلح عليه حتى استفرغ صربه ثم عاد إىل موضعه ،فام زال ّحركته ّ
يذب عن عينيه بيده ،ففعل.
وبلغ جمهوده .فلم جيد بدّ ا من أن ّ
فلام حرك يده ذابا عن عينيه كدنا نخرج من جلودنا فرحا!
وكانت عيون القوم ترمقه ،وأفواههم مفتوحة وعامئمهم مائلة من
هول احلادثة.
التفت اجلاحظ فرأى النظام يضع يده عىل بطنه من شدة الضحك،
211
وبقية القوم ما بني مبتسم وضاحك ،وراكل برجله ،فواصل حديثه
مائال برأسه باسام وهو يقول:
تنحى عنه الذباب بقدر ما ر ّد يده وسكنت حركته،
- -فلام فعل ذلك ّ
ذب عن وجهه بطرف كمه، ثم أجلأه إىل أن ّ
ثم عاد إىل موضعهّ ، ّ
ثم أجلأه إىل أن تابع بني ذلك.
فلام رأيته يتابع الذب بكمه كدت أزغرد زغردة نساء اخلناقني،
وأهتف كام هيتف الرعاع عند مناطحة الكباش ومهارشة الديكة قرب
املسجد اجلامع!
قاطع عبود اجلاحظ قائال:
- -واهلل إنك وسهل بن هارون لرش جليسني!
واصل اجلاحظ حديثه ويده اليرسى تلعب بالسفرجلة ،ويده
اليمنى تذهب وتأيت بني ركبته اليمنى وقلنسوته وهو يقول:
أن فعله ك ّله مراقب ممن حرضه من أمنائه - -فلام علم القايض ّ
ألح من اخلنفساء ،وأزهى من أن ّ
الذباب ّ وجلسائه قال :أشهد ّ
عز
نفسه فأراد اهلل ّ
الغراب! وأستغفر اهلل! فام أكثر من أعجبتْه ُ
يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا! وقد علمت أين ّ
وجل أن ّ
عند الناس من أزمت الناس ،فقد غلبني وفضحني أضعف
باب َشيْئا ً ال ي َ ْستَنْقِ ُذوهُ ْ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُّ
اذل ُ ثم تال قوله تعاىلِ﴿ :إَون يسلبهمخلقه! ّ
َّ ُ َ ْ َ ْ ُ َ
مِنْ ُه َض ُعف الطال ِب والمطلوب﴾.
ُ
212
أسند رأسه إىل احلائط وراءه ،أما أصحابه فكانوا قد استنفدوا
قواهم ضحكا ،فام بقي إال مسح اخلدود عن الدموع وعبارات التعجب
واالستزادة .ثم جاء صوت النظام:
يشء عجيب!
***
213
الدوحة1439 ،هـ
215
انزعج من نطقها املفخم لـ «ما» وتركها وراء ظهره متأكدا أهنا
تستطيع مساعدته لو شاءت ،لكن احلزن الطافح من قلبه حال دون
شعوره بالغضب ،فالقلب يضيق أحيانا عن امتزاج املشاعر داخله.
عاد إىل مكتبه يف ركن غرفة األخبار وذهنه مزدحم باألسئلة ،ما
قصة هذه الفتاة؟
ملاذا ظهرت حتى إذا أنشبت أظافرها يف سويداء القلب اختفت
كأهنا حلم.
إن املرأة ظاهرة متحولة.
رس فتنتها،
لذلك تصبح املفاجأة أقوى أسلحتها دائام ،وهذا ّ
توزع الظالل
فأوقات التحول أمجل أوقات اليوم ،فال يشء أمجل من ّ
وقت الغروب ووقت الرشوق .وال حلظة أهبج للعيون والنفوس من
سويعات السحر وأنسام الغسق ،وال يأرس اإلنسان يشء كاللحظات
التي تأيت قبيل املطر وبعده.
فعدم اليقني وغياب الرتابة هو طابع تلك اللحظات املتحولة
كلها ،واملرأة كذلك خملوق ال يمكن التنبؤ بترصفاته .وأي مرصد يف
الدنيا يستطيع التنبؤ بتقلبات مزاج امرأة؟
املرأة كائن متقلب بالفطرة ،لكن ذلك التقلب هو رس قوته
وضعفه ،ومجاله وتعاسته.
ثم تذكر القروي معنى آخر ،وهو أن املتنبي كان يرى رأيه هذا،
وإال ملاذا مدح حلظات التأرجح والتحول.
شعر بخفة وحاجة إىل اإلنشاد بصوت مسموع عىل طريقة
216
الشناقطة يف باديتهم ،فوقف عن كرسيه ووضع يديه عىل مكتبه ،وبدأ
ينشد عىل طريقة البدو:
ِ
والقرب والنوى وبني الرضا والس ِ
خط ُّ
ِ ت ْق ِ ِ ٌ
�رق! مـج�ال لـدم�ع الـمـقـل�ة ا ُمل رَ َ
وأحلى اهلوى ما َّ
ش�ك يف الوصل ر ُّبه
ويتقي!
ّ الده�ر يرجوَ ويف اهلج�ر ،فهو
سكنت أيدي كل من يف غرفة األخبار عىل حواسيبهم ،والتفتوا
ْ
جهة الصوت.
األرض بغت ًة عىل ظهر
َ بدا القروي كائنا عجيبا ،ذا قرنني هبط
مذن ٍ
ّب شارد.
وجاء صوت صحفي من قسم الرياضة:
- -إيه ده! عاوزين هدوء عشان نشتغل يا ناس!
صوت سيدة كأهنا ترصخ:
ُ وس ِم َع بعده
ُ
- -نحن َوي ْن؟!
ثم وقف صحفي سوداين طويل القامة من قسم املقابالت وقال:
بالغت لكن ...نحن ما ا ْفخلوة يا أخينا!
َ - -واهلل
ٍ
انزعاج واحتجاج.... وعبارات
ُ ومهسات،
ٌ متتامت
ٌ وانطلقت
وضحكات ،قطعها رئيس التحرير خارجا من مكتبه كأنه يتدحرج،
ثم صفق بيديه.
عاد اهلدوء ،فإذا الصوت الوحيد املسموع يف غرفة األخبار صوت
الشاشات املثبتة يف أطراف الغرفة الزرقاء املدورة.
217
يف هذه اللحظة ،انتبه القروي لوجود الفتاة البدينة صاحبة حصة
واقف ًة يف طرف غرفة األخبار تل َف ُحه بنظراتهِ اُ .خيل إليه أهنا تتشفى فيه،
ومصدر لإلزعاج والتسلية!ٍ وهو يتحول إىل كائن غريب
رجع إىل نفسه ِ
خجال ،وارمتى عىل كرسيه وهو يشعر بأن جسمه
قد حتول إىل كتلة من العرق .فتح ملف وورد ،وجاهد نفسه لنسيان
احلرج الذي وقع فيه ...ولنسيان خيال مطوعة بريدة ،وكتب:
***
تفر من مالحقة كانت الشمس ترسع إىل املغيب كأهنا حسناء ُّ
األعني املتطلعة .غاب حاج ُبها عن هذه املدينة التي تتخللها األهنار،
شعرها بأناملها الرخصة .انعكست محرة املغيب يف َ َ
ختليل احلسناء
فأضفت لونا ذهبيا عىل َجنَبات سوق الوراقني يف طرف
ْ األهنر املحيطة،
سوق البرصة الكبري.
ولف خيمهم وإغالق حوانيتهم.
بدأ الناس يف طي أمتعتهم ّ
يتدافع املارة والغلامن والدواب واملتسولون عند باب السوق ما
ٍ
متجه جهة ساحة احلامم، ٍ
ومتعجل بني متجه إىل املسجد لصالة املغرب،
تاركا السوق مرسعا إىل أهله قبل حلول الظالم.
عمن حيملون ،بأصوات األذان،
ختتلط أصوات املكارين الباحثني ّ
وجلبة أطفال الكُتاب ،وهنيق احلمري ،ووقع حوافر املطايا.
لكن اجلاحظ ما يزال جالسا يف زاوية دكان مويس بن عمران رغم
الظالم الذي بدأ حيول بينه وبني الكتاب الذي بني يديه .فقد بدأ الظالم
يتكاثف خاصة داخل السوق.
218
نفض مويس جراب ًا كان معلقا يف وسط الدكان ووضع فيه أرغفة
وبقوال ،ثم قال للجاحظ وهو يناول جرا َبه للغالم الواقف إىل جنبه:
- -ال تنس أن اخلناقني كثروا يف البرصة منذ ُغ در بال وايل العادل فاحذر.
مل ينتبه يف حديث مويس إال لتتابع حرف الراء الذي يلثغه مويس
حول اجلملة يف سمعه إىل غمغامت .رفع نظره عن الكتاب،غين ًا ،مما ّ
فاقرتب منه مويس ،ونع ُله السندي يقرع بالط الدكان:
- -يا أبا عثامن ،لقد خرج الغلامن ،وأنا خارج ،فال تنس التحفظ،
واحذر اخلناقني إذا خرجت لقضاء حاجة.
األغمني اللذين ال
ّ أبعد اجلاحظ الكتاب عن وجهه ،رافعا حاجبيه
يكادان يظهران يف الظالم املتكاثف:
- -اخلناقون هيجمون لسلب الذهب والفضة يا مويس ،وما أظنهم
هيجمون لسلب أشعار العرب وعلوم األوائل ،وترمجات الرسيان
املستغلقة.
- -أخشى أن يظنوك ُمورسا من مياسري أهل البرصة أقعد به عدُّ
الدراهم والدنانري عن ترك السوق ليال ،فيقتحموا عليك الدكان.
سكت مويس قليال ،ثم قال كأنه تذكر شيئا نسيه:
- -وما يدريك أهنم علموا بجائزة الدنانري األلف التي بعث هبا إليك
األمري بعد قراءته رسالتك األخرية؟
- -ال ال ،وهل تظن خناقي البرصة وفتاكها ال يعرفون أن هذا دكان
وراق؟ يعرفون أهنم لو هجموا علينا لعادوا بأرسطو وأيب عبيدة
مك ّب نْلي ،ال بالصفراء واحلمراء.
219
قاهلا اجلاحظ وهو يتذكر بغبطة كيف كان يدفع الدوانق للوراقني
ليرتكوه يبيت يف دكاكينهم للمطالعة.
نظر مويس إىل املمر الضيق أمام دكانه ،وقال بصوت فيه خوف:
- -حسبك! إن البالء موكّل باملنطق .لقد بدأت الدروب تُظلم.
مشى مويس جهة الباب وحذاؤه السندي يقرقع ،بينام كان غلامنه
ينتظرون يف هناية املمر مما ييل الساحة املؤدية إىل املسجد.
وضع اجلاحظ الكتاب جانبا ،ووقف ليحكم إغالق الباب .ثم
مد يرساه وخلع عاممته وجبته وبقي يف إزار أسود ،بدا يف إزاره األسود
أنحف جسام من ذي قبل ،إذ برز جسمه النحيل وصدره املحفور
وعنقه الدقيقة ورأسه الصغري يف هذه اللحظة كأهنا أصغر وأقرص من
ذي قبل .عاد إىل زاويته وأبعد بعض الكتب عن أطراف احلصري وصىل
صالة املغرب ،ثم قام عن احلصري ،وأوقد قنديال ،كان الدكان واسع
اجلوانب ،وفيه دهليز يقود إىل حجرة النساخ.
عاد للجلوس يف ركنه املفضل عىل حصري ووسادة جلدية حمشوة
بالليف بني أطامر الكتب.
ويدون ما يراها
ّ جلس ساعات يقرأ يف كتاب «احليوان» ألرسطو
أخطاء وقع فيها املؤلف.
مرت ساعات ،ويف غمرة انشغاله بالكتابة انطفأ القنديل .أصبح
الظالم مطبقا .انزعج ،إذ كيف أخذته املطالعة لدرجة عدم مالحظته
اقرتاب انطفاء الفتيلة ،وكيف سيوقد قنديال آخر ،بدأ يتحرك داخل
الدكان باحثا عن جبته وعاممته.
220
وقف وبدأ يتحرك ببطء باحثا بيديه يف الظالم املرتاكم عن جبته
وعاممته فوقعت يده عليهام ،لبسهام ،ثم لف الكراريس التي كان يكتب
فيها ،واندفع خارجا من السوق.
متشى يف أزقة السوق احلالكة اخلالية من أي صوت ،وبدأ ذهنه
يقارن بني حركة السوق وضوضائه يف النهار ،ومواته املخيف بالليل
حتى ليخيل للواحد أنه لن ُينرش مرة أخرى ،فها هو يمر من أمام دكان
محيد القصاب ،فال يرى التزاحم والتصارخ واخليول والبغال واحلمري
وتساب العامة! ال يسمع إال نفسه تلهث وقدميه تقرعان أرضية السوق
َّ
فقف شعره! هل انكشفت حجب الغيب ملويس املب ّلطة .سمع جلبةّ ،
وسيهامجني خناقون اآلن؟
التفت فاختفى الصوت هنائيا!
وسمع ضحكات أطفال ،كانوا يعربون السوق متسابقني فعاد إليه
قلبه.
وجد نفسه خارج السوق ،مفكرا يف ما عليه فعله .فال يوجد مكار
حيمله إىل بيته ،وال يستطيع امليش طويال خوفا من اخلناقني .كان يفكر
يف أصدقائه الذي يسكنون غري بعيد من سوق البرصة ،وتذكر أن النظام
يبيت مع أمه بمنزهلا القريب .دق الباب ،فخرج له النظام متزرا بإزار
ملون وهو يقول:
- -أبا عثامن؟ ماذا أتى بك يف هذه الساعة؟
- -كنت سأبيت يف دكان مويس إلكامل بعض القراءات ،ثم بدا يل
أن أخرج بعد انطفاء القنديل.
- -يا مرحبا وأهال.
221
دخال إىل الردهة الواسعة بني غرف املنزل ،وتقدم النظام إىل غرفة
عىل اجلانب األيمن مناديا اجلاحظ أن يتبعه.
دخل النظام أوال ،فيام تسمر اجلاحظ عند الباب.
أوقد النظام فتيلة ،ثم نادى اجلاحظ فدخل وجلس عىل طرف
احلصري.
ووسادتي وفراشا
نْ خرج النظام ثم عاد بعد قليل حامال حلافا ناعام
داكن اللون مهدّ ب األطراف .قال النظام وهو يرتب الفراش:
- -أليس من العجب أنك كنت سهران عىل كتاب «احليوان» ألرسطو
وأين كنت سهران أنقد كتابه اآلخر يف املنطق؟
- -عجيب!
- -لكني عانيت من الرتمجة التي عندي .حتى كأن أرسطو –كام كان
يقول شيخنا اخلليل -يريد ما ال يقول ،أو يقول ما ال يريد.
- -الناسخون املاسخون والرتامجة اجلاهلون داء دوي!
- -إي وريب!
انتهى النظام من ترتيب فراش اجلاحظ فأشار إليه أن جيلس ،بينام
عاد هو وجلس عىل طرف فراشه اململوء بالكتب والكراريس املتناثرة.
ثم سأل:
- -لقد ذهبت اليوم واشرتيت غالما سنديا بسبعة دنانري.
- -كيف؟ سبعة فقط؟
- -نعم ،أما علمت أن أهل البرصة ال يشرتون رقيق السند هذه
األيام؟
222
- -كيف؟
- -أما علمت بقصة املهلبي مع غالمه السندي وامرأته؟
- -ال...ال .لقد انشغلت األسبوع املايض بتدبري بعض األمور
وذهبت للبادية.
كان النظام يتحدث والقنديل بينه وبني اجلاحظ ،مرددا النظر يف
ظل اجلاحظ املنعكس عىل اجلدار ،مغالبا الضحك لبشاعة املنظر.
فقد بدت جبهة اجلاحظ الناتئة ورأسه الصغري وعنقه الدقيق بشكل
مضحك ،إذ انسلت الرقبة وطالت مع دقتها فيام ازدادت مججمته صغرا
وأنفه تضاؤال ،وجبهته نتوءا .قال النظام:
- -تعرف أن الوايل عىل إيالة السند من آل املهلب بن أيب صفرة.
- -نعم.
- -ورد الربيد بخرب مستطري وقع له مع غالمه السندي .إذ دخل
يوما –وهو من هو رشفا -فوجد غالمه وامرأته يف حلاف واحد،
وكان قد شاع بني الناس أن امرأته علقت بغالمه لكنه مل يسمع
باخلرب ،فلام رأى زوجته يف أحضان العبد ،كاد عقله يذهب .فقفز
عىل الغالم ونادى بحديدة فخصاه هبا.
- -ثم ماذا؟
واصل النظام حديثه وهو يصلح طرف فتيلة املصباح قائال:
- -فعاش معه الغالم زمنا حتى نيس املهلبي األمر ،وكان للمهلبي
ولدان من أحسن ما يكون الولد ،فدخل يوما فوجد الغالم قد
أوثقهام عىل حافة سقف البيت وجلس دوهنام ،فلام رآه الرجل
223
توسل إليه أن يرسل الغالمني فام زاده عىل أن قال له :إنه لن
يرسلهام إال إذا جلس وخصا نفسه أمامه حاال ،أو قطع عضوه
منه قصاصا.
ثم طال احلديث بينهام ،فلام علم املهلبي أن الغالم عازم عىل قتل
يت كبده جلس وقطع ذلك العضو منه بيده والغالم ينظر .فلام فعل
فلذ ْ
فسأدف
ُّ فعلت بنفسك فذاك قصاص ،وأما أنا
َ ذلك قال له غالمه :أما ما
الغالمني زيادة عقوبة من عندي ،ودفع الطفلني من الشاهق فامتا حاال.
- -وما ذا بعد؟
ثم ُأ ِخذ الغال ُم و ُعذب و ُقتل .وهلذا بدأ الناس يزهدون يف غلامن
السند حتى سمعت أهنم بيعوا بخمسة دنانري.
- -ثم يلومونني أين ال أنوي التزوج من احلرائر؟
ابتسم النظام ،متنفسا الصعداء قائال ،وما زال يف نربته ن َفس حزين
من القصة التي كان يروهيا:
- -أوه! لكن هذا أمر ال يقاس عليه ،فهي قصة واحدة يف ركن قيص
من أركان الدنيا.
- -ال ،ال! أتثق بصالبة امرأة يف وجه اإلغراء باحلب؟
- -أعلم أهنن ضعيفات إذا سمعت آذاهنن احلب وكالم العشاق.
ابتسم اجلاحظ وهو يميل بمرفقه عىل وسادته:
والتحصن
ّ - -اسمع مني .ال توجد امرأة مهام بلغت من اجلاه
والتصون والعلو واجلامل ،ثم تكون من رجل -مهام بلغ َض َع ًة
ّ
وحقارةً -بحيث يتحدث هلا عن كلفه هبا وحبه هلا ،وكيف أهنا
224
أمجل نساء الدنيا ثم داوم عىل ذلك إال أجابته طال الزمن أم قرص.
ظل النظام يستمع واضعا كفه اليرسى حتت خده األيمن .فواصل
اجلاحظ قائال:
- -إن للكلمة عىل قلب املرأة سلطانا ال يوصف ،فلو انفرد خادم
بامرأة امللك وحدثها عن مجاهلا اخلالب والتفاتتها السخية ،وعن
تنهده وسهره واحرتاقه يف حبها ثم بكى ألجابته طائعة.
كان ذهن النظام يسافر يف أثناء حديث صديقه مستعرضا صورا
ال تنتهي مما سمعه وشاهده ،ومما افرتضه وخشيه ،فظللت سحابة غم
وجهه األسمر الذي بدا حتت ضوء املصباح أكثر سمرة من ذي قبل،
فبادر سائال:
- -ما العمل إذن؟ وطبيعة الدنيا ال تصح إال باالتصال بني الرجال
والنساء؟
- -العمل؟ العمل أال نتزوج! فقد أكرمنا اهلل هبذه األسواق التي
جُتلب إليها حسان الروم والسند واهلند واحلبشة والفرنجة لنختار
منها ما نشاء.
- -لكن الغرية عىل احلرة كالغرية عىل اجلارية سواء بسواء.
اعتدل اجلاحظ يف جلسته وقال:
- -نعم هو ذاك ،لك ْن هنا أمر آخر ،فاجلارية اململوكة إذا علمت
باهتامم سيدها هبا بقيت له عادة ،وال تطمح عينها لغريه لعلو
فعني طاحمة،
منزلته عىل منزلتها وحقارهتا عند نفسها ،أما احلرة ٌ
ٌ
خفاق ،وشهوة مشبوبة .فهي ُمن َّشأة عىل املنع من اخللوة وقلب
ٌ
225
بالرجال فلذا يشتد ولعها هبم وشوقها إليهم ،فهي يف هذا الباب
أكثر عرضة للفتنة من اجلارية ،ثم إن اجلارية ملك يمينك ،إن
الحظت عليها ما ال حتب بعتَها ونسيتَها ،أما احلرة فلها ٌ
أهل
وقبيل ،وإرعا ٌد وإبراق ،فهي ُغ ٌّل مق ِّيد ،و َدين ثقيل.
خرج النظام من باب الغرفة ودخل بيت اخلدم وصب ماء من
قارورة فخار ،ثم عاد حامال كوزا مملوءا باملاء مده للجاحظ قائال:
- -إنك لعليم بمكنوناهتن!
وزين لترصفاهتن وأخالقهن ،أال ترى أن عرفت ذلك من ُْ - -لقد
احلرة املتعففة منهن تشبه األمري املخلوع من عرشه إذا زال مجالهُ ا؟
فكالمها جمرد من أمالكه التي كان هبا يصول ،لذلك ال يكره
كرهه رؤية من كان يعرفه وهو وراء احلجاب املخلوع رؤية أحد َ
السامطي .واحلرة تضيق بنظر الفتيان إذا
نْ واحلراس وواقفا بني
نقص مجالهُ ا ،ألهنا فقدت خمالبها التي كانت هبا تصول ،ونابهَ ا
التي كانت هبا تعض .فإذا تدىل بطنها األهيف ،أو انطفأت عيناها
جف ماء احلياة يف خدهيا األسيلني ،كرهت أن النجالوان ،أو ّ
يراها من كان يعرفها قبل ذلك .فإذا كانت ال تريد اجلامل إال
هتتم بنظر الفتيان إليها عىل أي حال؟
لزوجها فلم ّ
- -يشء عجيب! لك َّن أحدَ نا يو ّد أن يكون حسن اهليئة ،نظيف
امللبسَ ،
مجيل الطلعة ،وحتى أنت يا أبا عثامن حتب ذلك ،وليس
لألمر صلة بفسق أو فجور فيك!
رفع اجلاحظ حاجبيه وكأن مالحظة النظام فاجأته فقال:
- -إن الشعور سابق عىل العقل با أبا إسحاق .وشعوري أهنن ال
226
يفعلن ذلك إال لتعلقهن بالفتيان .ولذا قلت لك مرارا إن العاقل
ال حيتفل بالزواج وال هيش للعرس.
- -ملاذا يا أبا عثامن؟
- -هل يسعد األسري بوضع القيود يف يديه ،وينظر إليهام كأهنام
معصامن ذهبيان؟ إن الطالق وحده -أبا إسحاق! -هو اجلدير
بالتخليد واحلفاوة.
مد النظام يده إىل فتيلة املصباح التي بدأ زيتها ينحرس ،وهو يشعر
بيشء من الشفقة عىل صديقه ،فقد تذكر متارض وحبه هلا ،وكيف انتهت
مدور،
تلك الفتاة يف أحضان عيل بن املديني .صب زيتا من جام صغري ّ
وهو يقول مبتسام ابتسامة واضحة حتت ضوء املصباح:
- -أما أنا يا أبا عثامن ،فال أنظر إىل امرأة حرة مستورة مجيلة إال خفق
قلبي ،ولن أترك الزواج من إحداهن جلواريك وغريتك.
- -أنا ال أنكر حترك النفس هلن والتعلق هبن ،قاتلهن اهلل! فاهلل تعاىل
خلق املرأة إلسعاد الدنيا وإقالقها ،فاملرأة اجلميلة إذا ملحتها
رمقت مخارها ساقطا وهي متيش اهلويناَ فجأة داخلة إىل دكان ،أو
مهك ومجعتْه ،فهي تنفث البِرش واجلامل أنى وفرقت َّ
ْ أهبجتك،
سار ،أو حتف ُة قادم ،أو شفا ُء
رب ّ فواح ،أو خ ٌ عطر ٌحلت ،كأهنا ٌ
اقرتب ،وهبجة ملن ابتعد.
ْ مريض ،لكنها كذلك ُغ ٌّل ملن
ٍ
متعب: انحنى النظام جهة املصباح وهو يقول بصوت
- -أما أنا فأسأل اهلل أن ييرس يل حرة متعففة كريمة ،وأسأله أن ييرس
لك من حسناوات الروم والفرنجة والسند واهلند ما شئت من
اهبار الليل -أبا عثامن -فدعنا نأخذ غفوة قبل الصبح.
جوار ،لقد ّ
227
انحنى اجلاحظ عىل جنبه األيمن ،واستلقى النظام عىل فراشه غري
بعيد .وبدأ االثنان يسمعان بوضوح أصوات نباح كالب متقطع من
بعيد ،وهنيق محري بني الوهلة واألخرى.
جعل اجلاحظ يتقلب يف فراشه مفكرا يف لؤم احلرائر وطباعهن،
فلم يملك إال أن تراءت له صورة متارض.
تقلب يف فراشه ،منزعجا بعد أن أحس بخفقة يف قلبه خالهَ ا ْ
ذوت
منذ حقبة .متلمل يف فراشه بعض الوقت وهو جيهد لطرد خياهلا من
ذهنه.
***
وقف النظام بقامته الفارعة وبني يديه إناء كبري مملوء مخرا ،وقد
كلف بعض صغار الطالب بس ْق ِي جمموعة من احليوانات زقاقا من
اخلمر لرياقب سلوكها ،كان يميش بني احليوانات ،فاقرتب منه طالب
وقال:
- -كيف نسقي العقرب؟
فقال دون أن يلتفت إليه:
- -لقد صنع شيخنا العالف محِ ْ َقنة كمحاقن املارستان خاصة
بالعقارب.
ويف طرف احلائط ال واسع ،كان اجلاحظ جالسا حتت ظل يتحدث
عن آخر ما توصل إليه من نتائج ،وحوله فتيان يعتجرون عامئم
وبأيدهيم أوراق:
- -إن للكلب حسا دقيقا باألوقات ،فقد الحظت أنه ُي ميز يوم
228
اجلمعة عن غريه .ففي يوم اجلمعة وحده يرمي القصابون ما
فضل عنهم ،ويف هذا اليوم وحده خيرج إىل ذلك املكان وينتظر
حلظة إلقاء اللحم ليأكله.
كان الطالب يستمعون إليه ويكتبون ،ثم واصل:
- -وقد راقبتُه أربعة أسابيع ،ومل يشتبه عليه يوم اجلمعة مع أي يوم
آخر قط ،مع أين أغلقت عليه وحبسته ألحجب عنه تعاقب الليل
والنهار ،فلم خيطئ مرة واحدة.
فجأة ،جاء اخلادم يركض:
- -هناك جندي عىل الباب.
خرج النظام برسعة ،فبادره اجلندي:
- -أنا أسأل عن اجلاحظ ...يريده األمري.
خشعت األصوات يف جنبات املنزل املخصص ملراقبة احليوانات،
فيام وقف اجلاحظ ...وركبتاه ال تكادان حتمالنه.
رب متجهني
ركب خلف اجلندي عىل فرسه ،وسارا يف الطريق املغ ّ
نفسه يف تفسري سلوك اجلندي وحماولة فهم
جهة دار أمري البرصة .أجهد َ
جهة اجلند التي ينتمي إليها من مالبسه وطريقته يف احلديث ،كان خيشى
أن يكون من جنود السجن ،ثم خطر له أنه مل يرتكب ما يساق به إىل
السجن ،واجلندي مهذب ومتأنق ،فلعله ممن يرسلهم األمري إلحضار
من يكرمه.
كان الفرس اجلامح يركض يف الشوارع الضيقة املزدمحة ،واجلاحظ
مشغول بمراجعة مسريته إلجياد سبب الستدعاء األمري له.
229
وجد نفسه ،يدخل ردهة واسعة ،ثم يتلقاه غالم يقوده إىل جملس
عامر ،ما إن وقف حتى وقف األمري من مكانه:
- -أهال وسهال بأيب عثامن!
كانت تلك العبارة كافية حلل كل عقد اخلوف التي تكاثفت عىل
قلبه خالل الساعة املاضية ،جيلس نحو مخسة رجال بعامئمهم الطويلة
يتوسطهم أمري البرصة ،فظهر اجلاحظ بينهم كأنه متسول .فمالبسه
غبار ييش بأنه جلس طويال
قذرة ،وغري متسقة ،ويظهر عىل أط راف ثوبه ٌ
عىل أرض مغربة.
حترك األمري يف جملسه وقال:
- -لقد أسعدنا حضورك يا أبا عثامن ،ولقد متنينا رؤيتك بمجلسنا
منذ زمن .قرأت كتابك عن الكتب ،وواهلل إنه لرائق.
ُ
اجلاحظ حيا ًء ،لكن األمري صفق بيديه ،فجاء غالم يركض. أ ْغىض
- -إ َّيل بكتاب اجلاحظ عن الكتب.
ثم التفت إىل الرجل اجلالس عن يمينه وقال:
- -هل قرأته؟
أي مدح
كان الرجل اجلالس عن يمني اجلاحظ شاعرا ،يرى أن َّ
للنثر انتقاص من الشعر .فقال كاذبا:
- -ال ،ما سمعت به.
ملحه اجلاحظ بحنق ،ثم جاء صوت األمري وهو يقلب كتاب
اجلاحظ:
- -ما كتبت اإلنس وال اجلن كتابا عن الكتب أفضل من هذا.
230
قال اجلاحظ بزهو:
- -عقالء اخلليقة ال حيصون ،لكني كام قال األمري مل أطلع عىل كتاب
يف بابه.
بدأ األمري يتحدث عن بعض الفقرات التي تعجبه يف الكتاب فقرأ
بصوت مسموع:
يش ظرف ًا ،إن َ
شئت كان أعيا «- -الكتاب وعا ٌء ملئ عل ًام و َظ ٌ
رف ُح َ
من باقل ،وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل ،وإن شئت
بكيت من مواعظه ،ومن لك َ ضحكت من نوادره وإن شئت َ
بواعظ ُم ْل ٍه وبناسك فاتك وناطق أخرس ...وما رأيت بستان ًا
ٍ
ردن ،وروض ًة تُنقل يف ِحجر ينطق عن املوتى ويرتجم
حيمل يف ٍ
عن األحياء غريه ،ومن لك بمؤنس ال ينام إال بنومك وال ينطق
إال بام هتوى ،آمن من يف األرض وأكتم للرس من صاحب الرس
وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة!».
وضع األمري الكتاب عن يمينه ،فيام كان أحد الغلامن يضع حساء
ورغيفا ساخنا أمام كل واحد من اجلالسني ،بدأ اجلاحظ يغالب ريقه
حتى ال يسيل ،لكنه مل يستطع .رفع كمه وتظاهر بحك أنفه حتى أفرغ
ريقه يف كمه ،فهو مل يأكل طعاما مطبوخا منذ أسبوع.
قال األمري وهو يقلب الكتاب:
- -سمعت كثريا عن حبك للكتب..
- -أصلح اهلل األمري ،كل ما سمعتموه صحيح .فأنا «ال أعلم جار ًا
أخضع ،وال
َ أطوع وال معلام
َ أنصف ،وال رفيق ًا
َ أبر وال خليط ًا
َّ
231
صاحبا أظهر كفاية وال عناية ،وال أقل إمالالً وإبرام ًا ،وال أبعد
عن مراء وال أترك لشغب ،وال أزهد يف جدال وال أكف عن
قتال؛ من كتاب .وال أعم بيان ًا وال أحسن مؤاتاة وال أعجل
جمتنى
ً مكافأة ،وال شجرة أطول عمر ًا وال أطيب ثمر ًا ،وال أقرب
وال أرسع إدراك ًا وال أوجد يف كل إبان ،من كتاب».
كان مخستهم ينظرون إليه ،متعجبني من ألفاظه الضخمة وذهنه
احلارض ،لكنه كان يغالب ريقه حتى ال يسيل ،فرائحة احلساء اململوء
بالبهارات تداهم أنفه ،وهو يغالب نفسه حياء .فال يعرف هل عليه أن
يأكل واألمري ما زال مقبال عليه ،أم يمكنه أخذ ما يمنع به سيالن ريقه،
فهذه أول مرة يدخل فيها عىل أمري .وقد سمع كثريا عن طرق املحادثة
واملؤاكلة مع األمراء.
ابتلع ريقه بمضض ،ملتفتا إىل الشاعر اجلالس عن يمني األمري،
فالحظ أنه مل يلمس الرغيف وال احلساء.
مدّ يده إىل اخلبز املدهون بالزيت وأمسك طرف الرغيف .ثم تركه.
انتبه األمري إىل ارتباكه ،كام الحظ حياءه من البدء يف األكل فقال:
- -بسم اهلل!
وبدأ األمري برشف احلساء الساخن.
أمسك اجلاحظ اإلناء ورشف بصوت مسموع ،ملح يف وجه
الشاعر انزعاجا منه.
التفت األمري إليه قائال:
- -سمعت أنك بعت املنزل الوحيد الذي ورثته من الوالدة لتشرتي
232
به كتبا؟
- -هو كذلك .لكن شيخنا النظام باع كل ما يملكه يوما –وما هو
بكثري -لرشاء أصباغ لرسم صورة األرض عىل صخرة.
- -سمعت أنه من عقالء اخلليقة.
- -هو كذلك.
- -إيه يا أبا عثامن!
- -إن الكتب -أهيا األمري -هي آثار العقول الصحيحة وثمرة
َ
سلطان ُ
«سلطان النسيان األذهان اللطيفة ،ولوال الكتب لغلب
مفزع إىل موضع استذكار ،ولو مل يتم ذلك
ٌ الذكر ،وملا كان للناس
حلُرمنا أكثر النفع».
حترك الشاعر يف مكانه العبا بطرف عاممته وقال:
- -لكن العرب مل ختلد أيامها وأجمادها إال يف القصيد ،أما النثر
فتكلف أعجمي أجلأت إليه العجمة.
ٌ
قال اجلاحظ مفكرا يف أن الشاعر يسعى النتقاصه أمام األمري:
- -صدقت يف أن العرب مل ختلد أيامها إال يف الشعر ،وال أحد
ينقص من قيمة الشعر ،لكن االعرتاف بفضيلة الشعر ال يستلزم
االنتقاص من فضيلة النثر .أما سبب صدود العرب عن النثر
فألهنم كانوا أمة أمية ،ال تقرأ وال تكتب .فلام جاء اإلسالم بالدين
تعلموا فكتبوا ،وانتهت إليهم حماسن األمم وجتمعت فيهم ،ومن
تلك املحاسن النثر ،ثم أال ترى أن القرآن ليس بشعر!
واصل اجلاحظ حديثه ،ناسيا احلسا َء الساخن الذي بني يديه ،محي
233
الدم يف عروقه وهو ينظر بغيظ إىل نظرات الشاعر وصلفه وتكربه،
فواصل قائال:
- -وإذا كان املرء يطرب للبيت والبيتني فإن الكتاب صديق خفيف
«ال يبتدئك يف حال شغلك وال يف أوقات عدم نشاطك ،وال
حيوجك إىل التجمل والتذمم ،ومن لك بزائر إن شئت جعلت
زيارته ِغ ّب ًا وورده خمِ س ًا وإن شئت لزمك لزوم ظلك ،ثم إن
الكتاب هو اجلليس الذي ال يطريك ،والصديق الذي ال َيقليك،
والرفيق الذي ال يملك ،واملستميح الذي ال يؤذيك ،واجلار
الذي ال يستبطئك ،والصاحب الذي ال يريد استخراج ما عندك
بامللق ،وال يعاملك باملكر وال خيدعك بالنفاق».
ابتسم األمري مفكرا يف أن اجلاحظ يتهم شاعره بالنفاق ،منبهرا من
حالوة حديثه وفصاحة خمارجه ،مع دمامته التي تزداد اتضاحا كلام امتد
املجلس .ثم قال:
- -لكن الشعر يرفع صاحبه ملنادمة األمراء واخللفاء ،وفيه احلكم
واملواعظ ،وبه يسرتىض املحبوب.
نظرت فيه أطال
َ - -هو كذلك أهيا األمري« .والكتاب هو الذي إن
وجود بيانكّ ،
وفخم إمتاعك ،وشحذ طباعك ،وبسط لسانكّ ،
وعمر صدرك ،وحباك تعظيم األقوام ،ومنحك صداقة ألفاظكّ ،
امللوك ،يطيعك يف الليل طاعته بالنهار ،ويف السفر طاعته يف
افتقرت إليه مل حي ّقرك ،وإن قطعت
َ احلرض ،وهو املعلم الذي إن
يدع طاعتك ،وإن
زلت مل ْعنه املادة مل يقطع عنك الفائدة وإن ُع َ
هبت عليك ريح أعدائك مل ينقلب عليك!».
234
تقافزت حواجب الرجلني اللذين كانا جالسني يف طرف املجلس، ْ
وظللت سحاب ُة خجل وجه الشاعر ،وتشاغل األمري بغمس قطعة ْ
خبز يف احلساء الذي بني يديه .فقد كان الشاعر صديقا ألمري البرصة
السابق ،فلام ُعزل تنكر له والتحق بباب األمري اجلديد.
قال األمري ملتفتا إىل الرجل البدين اجلالس يف طرف املجلس،
حماوال تغيري املوضوع:
- -ما أخبار الناس يا هبلول!
حترك الرجل املعروف بقدرته عىل رسد القصص وتتبع تفاصيل
القصور يف بغداد قائال:
- -ال حديث اآلن يف بغداد إال عن احلشوة وأصحاب احلديث
وكثرة أتباعهم.
قال اجلاحظ متهلال:
ألست هبلول بن قيس؟
َ --
فقال الرجل ،هبدوء:
- -بىل!
- -لقد كنت أبحث عنك منذ زمن ،فأنا كام تعلم رجل من أهل
صناعة الكالم ،مولع بتوثيق األقاصيص ،ولقد سمعت أنك
كنت حارضا عندما قىض هارون الرشيد عىل الربامكة.
ضحك األمري بصوت عال وقال:
- -ال يا أبا عثامن ،البد أن يدفع لك ماال! فهو ال يمل من رسد تلك
القصة!
235
ضحك هبلول ضحكة بدون صوت ،بل ظهرت عىل اهتزاز بطنه
الضخم.
فقال اجلاحظ:
إن ِ
أذ َن األمري سمعناها ،فال بد يل من توثيق األمر. ْ --
أشار األمري بيده لبهلول ،فاعتدل يف جلسته وبدأ يقص .وكان
إذا حتدث عن نكبة الربامكة يعيشها بأحاسيسه ،وكأهنا تتكشف أمامه
للمرة األوىل.
- -لقد حدثني بالقصة مرسور خادم أمري املؤمنني الرشيد وس ّيافه،
أياما بعد وقوعها سنة سبع وثامنني ومائة ،ومرسور هو الذي قام
بقطع رأس جعفر الربمكي.
مال اجلاحظ بصدره إىل األمام واضعا يده حتت ذقنه منصتا بتطلع
شديد لسامع التفاصيل.
- -كان جعفر بن حييى بن خالد الربمكي رضيع الرشيد؛ إذ ولدا يف
يوم واحد ويف بيت واحد ،وكان آل برمك من صنائع اخلالفة
ومن أعمدهتا ،ومنذ توىل الرشيد اخلالفة أصبحوا يديرون
شؤون الدولة ال يغيب عنهم منها يشء.
فقاطعه األمري قائال:
سمعت أن الرشيد كان يطلب بعض املال فال جيده إال عن
ُ - -لقد
طريق الربامكة.
واصل هبلول رسد تفاصيل القصة التي ظلت حديث الناس
أعواما ،وكان إذا حدث هبا ختيل املشهد كام هو ليلة الواقعة.
236
كان آل برمك يف قصورهم ببغداد ،يع ّينون حكام الواليات
ويديرون شؤون البالد مدلني بعالقتهم بالرشيد.
وكان الرشيد جالسا وسط قرصه ببغداد ينكت بقضيب يف
األرض ،ال يزيد عىل أن يردد:
لذي احللم قبل اليوم ما تُقرع العصا
ُ
اإلنس�ان إال لـيـعلما! وم�ا ُع ّل�م
ثم وقف من مكانه ونادى غالمه مرسورا ،فلباه راكضا.
- -اذهب إىل قرص جعفر وائتني برأسه!
جزم مرسور بأنه مل يفهم ما قال الرشيد .فقال بتلعثم:
- -ماذا يا أمري املؤمنني؟!
- -قلت :ائتني حاال برأس جعفر بن حييى بن خالد بن برمك!
ورمى العصا التي كانت بيده عىل األرض.
جتمد اجلندي يف مكانه ،وعجز عن ختيل نفسه وهو يرضب رأس
جعفر بن حييى.
مل يتحرك.
دار الرشيد هبدوء ورفع برصه يف وجه مرسور قائال:
ناديت من يقطع رأسك أوال ،ورأسه ثانيا.
ُ - -إن مل تأتني به
استدار اجلندي ،كاملخمور ومشى فرتدد صدى وقع حذاءيه
العسكريني يف الردهة الواسعة التي تتسلل إليها رياح باردة آتية من
جهة دجلة.
كان جعفر بن حييى جالسا يف قرصه وبني يديه مبخر ٌة وعن يساره
237
جارية تغني:
فت�ى س�يأيت ُّ
ف�كل ً فلا تب ُع�دْ
علي�ه املوت يط�رق أو يغادي!
تقع اللون ومل يتكلم.
وقف اجلندي ممُ ْ َ
رفع جعفر وجهه إليه ،وقد خطر بباله أن أمرا خطريا حدث يف
اخلالفة:
- -ما ذا عندك يا مرسور؟
- -يا أبا الفضل! ....لقد....
كان جعفر مستلقيا عىل وسادة ضخمة ،فوقف وتقدم قائال:
- -ما األمر؟
- -لقد أمرين أمري املؤمنني أن آتيه برأسك!
تكلف جعفر ضحكة وقال:
- -لعله يامزحك يا مرسور! عدْ إليه وقل له إنك فعلتها..
- -إنه ال يمزح يا أبا الفضل ،فاكتب وصيتك إن كانت لك وصية.
وقف جعفر مصدوما مشدوها معلقا بني حياة رغدة ملذوذة
فكهة ،وموت كالح ٍ
فاغر فاه سيفرتسه ،ردد برصه يف القرص املنيف،
واجلواري احلسان ،ثم ترامى إىل سمعه رصاخ لعب أطفاله من وراء
الستائر يف إحدى الغرف.
تذكر تغري سلوك الرشيد معه خالل األيام املاضية ،وكيف ّقرعه إذ
دخل عليه فجأة دون استئذان كعادته:
- -أ ُي ُ
دخل علينا يف بيوتنا دون استئذان؟
238
وكيف اعتذر له مذكرا إياه بأنه هو الذي أذن له يف ذلك.
رفع برصه إىل مرسور متذكرا ساعات األنس والصفاء مع الرشيد
عىل شواطئ دجلة ،وكيف كان مرسور خادما طيعا له.
أعاد النظر ،فرأى دموع مرسور تتحدر ،فقال له بصوت ُمتهدِّ ج:
- -لعل أمري املؤمنني يامزحنا ....
- -لقد كان مغضبا وهددين بالقتل إن مل آت ...ب..
قفز جعفر ،وقبل َ
رجل مرسور متوسال:
- -أتوسل إليك أن ترجع إليه ،فلعله يمزح...
انتزع اخلادم قدمه من يدي الوزير ،وألقى نظرة عىل اجلارية التي
كانت تغني ،فرآها تركض خائفة لتختفي يف إحدى الغرف املجاورة.
مشى وسط ردهة واسعة بني جدران مزينة بالستائر املزركشة،
وأرضية مفروشة بالسجاد األمحر ،فيام كانت رائحة البخور والعطور
واخلوف متأل املكان.
كان الرشيد واقفا حيث هو ،والقضيب ال يفارق يده.
سمع وقع أقدام مرسور قادما ....ثم رآه .مشى من مكانه قائال
هبدوء:
- -أين رأسه؟
- -لقد طلب....
ثم وقع القضيب عىل رأس مرسور ،وتردد صدى صوت الرشيد:
- -أقسم بقرابتي من املهدي ،إن مل تأت به ألقطعن رأسك بيدي!
كان جعفر ساجدا يصيل ،عندما عاد مرسور.
239
سلم من صالته ،وقال بصوت قادم من عامل األموات:
- -ما ذا قال؟
- -هو املوت يا أبا الفضل.
قام من فوق مصاله ومشى خطوات ،وقال بصوت هادئ:
- -لقد أوصيت يا مرسور ،وهذا رأيس...
أخرج جعفر منديال وشده عىل عينيه ومدّ رقبته ،كان ذهنه ضاجا
بآالف الصور واألخيلة واألسئلة واألماين واملخاوف.
ثم سمع صوت السيف خيرج من غمده ...وتردد صوت وقعه يف
املكان.
وسمع الرشيد وقع أقدام مرسور قادما ،ثم ملح رأس صديقه
ورضيعه جعفر ،عض عىل شفتيه حماوال كبح دموع تتدافع للنزول،
ثم خطر له أن اخلادم مرسور قد ينقل ذلك للناس .فعض عىل شفتيه
وقال:
- -صدق األعرايب:
عليكم
ْ ُلك�م
ونبك�ي حين نقت ْ
ونـقـتـلك�م ،كأن�ا ال نب�ايل!
ْ
رفع وجهه يف مرسور الذي كان يبكي بكاء مرا:
- -إن امللك عقيم ال رحم له يا مرسور! خذ ذلك الكتاب ،ووجه إىل
األمصار بمصادرة واستصفاء أموال كل آل برمك .لقد أرسلت
ابني برمك.
من قبض عىل حييى وخالد ْ
أهنى هبلول حديثه كعادته وهو ينظر إىل أمري البرصة قائال:
240
- -وهلل األمر من قبل ومن بعد.
فقال اجلاحظ ،وذهنه مسكون بآالف األسئلة:
- -هذا هو ما تقتضيه جتارب األمم ،فامللك شجر ٌة ال تنبت إال
بالدم.
بعد وقت ،أشار األمري جللسائه باالنرصاف ،وللجاحظ بالبقاء.
ثم جاء غالم حيمل رصة مملوءة دنانري ووضعها بني يدي اجلاحظ.
وجاء صوت األمري:
- -هذه صلتنا لك ،مخسة آالف دينار ومعها غالم خيدمك.
مل يكد اجلاحظ يصدق ما يسمع ،غري أن اخلَدَ ر الذي تركته قصة
الربامكة يف ركبتيه وقف حاجزا دون رسوره باملبلغ ،فذهنه مملوء بصورة
املال والسلطان الذي كان يسبح فيه الربامكة ،ثم تراءت له صورة بشار
بن برد حتت وقع السياط.
تزامحت يف ذهنه تلك األفكار وهو يرى نفسه جالسا يف بيت أمري
البرصة.
وقف من مكانه ،وقلبه موزع بني رسور طا ٍغ هبذا املال الوفري الذي
ما كان حيلم به ،وتلك الصور واألخيلة التي تطارده خوفا من االقرتاب
من السلطان حتى ال ينقلب عليه يوما.
بعد ساعة ،كان اجلندي يوصل اجلاحظ وخادمه إىل منزله بحي
العالفني قرب محري وبغال محيد .لكن رصة الدنانري التي ينوء هبا جيبه
تيش بأنه مل يعد ينتمي هلذا احلي البائس.
***
241
كان درب الوراقني بسوق البرصة غاصا كالعادة يف مثل هذه
الساعة من كل مجعة ،إذ يخُ صص جتار الكتب واألوراق واجللود
القادمون من املدن األخرى عرص اجلمعة لعرض بضائعهم اجلديدة،
دخل اجلاحظ من جهة ساحة احلامم ،فأحس باختالط روائح متنافرة
يف الدرب الضيق .فرائحة اجللود املصبوغة ،والكاغد السمرقندي،
وعرق األجساد املختلط بالعطور واألصباغ ،شكلت مزجيا غريبا يف
أنفه رغم إلفه الطويل للمكان .ومع نكارة مزيج الروائح يف أنفه ،فقد
وعامئم الوراقني الغادين
َ شعر براحة غامرة وهو يرى أضاميم الكتب،
الرئحني.
سحر هذه الدكاكني الغاصة بالناس، َ فال يوجد مكان يسحره
وتلك الكتب املتناثرة ،وهذا اجلو املكتوم قليال بروائح اجللد واحلرب
والكاغد.
فكر يف أن هذه أول مرة يدخل فيها السوق وجيبه مملو ٌء دنانري ،ثم
تذكر أن هذه اجلبة الزرقاء والطيلسان والقميص الفاخر ،مل تُر عليه قبل
اليوم يف درب الوراقني.
الحظ االنبساط والنشاط الذي خلفته هذه الفكرة يف رأسه ،وهو
ينزوي يف زاوية ليفسح الطريق لرجل محُ دَ و َدب الظهر ،أنّبته نفسه كيف
يسعد كل هذه السعادة وتزداد ثقته بنفسه بسبب قبضة من الدنانري،
فلم ِ ٍ
وخرق من القامش .فإذا كانت قبضة الدنانري تعمل كل هذا العمل َ
مل ْ ينشغل بجمع املال ويرتك كتبه من أول يوم؟
ظل يسري وسط زحام الناس ،وترتامى إىل سمعه املرهف عبارات
من الفارسية والرسيانية وكالم النبط.
242
كتبي من
ما إن اقرتب من دكان سهل بن هارون حتى تراءى له ٌ
سمرقند وبني يديه حاوية كتب كبرية .كان التاجر واقفا يف طرف
الدرب مما ييل باب دكان سهل ،ويتجمع عليه عرشات من النظارة
يفتشون بضاعته.
وكان سهل واقفا عىل باب دكانه منزعجا .فقد سبق أن حذر
التاجر من فتح حاويته أمام دكانه ألن ذلك حيجب مدخل دكانه عن
املشرتين .غري أن التاجر ذهب إىل أهل احلسبة املسؤولني عن تنظيم
السوق ِ
فأذنوا له.
ظل سهل يرتدد أمام دكانه ذهابا وإيابا ال يكاد يستقر من شدة
الغضب.
اندس اجلاحظ وسط املتجمعني عىل التاجر السمرقندي لتصفح
الكتب ،ناظرا بطرف خفي إىل سهل الذي مل يالحظ وجوده ،ثم مشى
تاركا حاوية التاجر ،وذهب إىل جهة الدرب األخرى ثم جاء إىل دكان
سهل متظاهرا بأنه قدم حاال.
َ
الدكان والتفت إىل سهل قائال: دخل
- -ما بال هذا التاجر يضيق عليك رزقك؟
فتقدم إليه سهل ووجهه يكاد ينفطر غضبا:
ٍ
مشرت طيلة هذا اليوم املنحوس. - -واهلل ما أدري! مل يدخل عيل
- -ياله من سمرقندي هلع! لكأن القائل عناه حني قال:
كأن بلاد اهلل وه�ي فس�يح ٌة
ِ
حابل! َّ�و ِع ِكف ُة ِ
عىل التاجر اهلل ْ
243
تآكلت أطراف األرض وانحرست البسيطة حتت قدميه حتى
ْ هل
مل يبق منها إال عتبة دكانك؟
رمى اجلاحظ العبارة ،ثم استنفر كل طاقاته تلهفا ملا قد يأيت به
سهل .وكان سهل يعلم أن اجلاحظ يسخر منه ،لكنه كان منزعجا
مغضبا لدرجة أنه مل يضحك من حتريف اجلاحظ لبيت الشعر .فأخرج
رأسه من باب دكانه والتفت إىل التاجر وقال بصوت منكر:
- -واهلل ،واهلل!
ِ
«واللـــــه» مط ًا شديدا ،واضعا سبابته عىل أرنبة أنفه، ّ
مط كلمة
ثم سكت قليال ،وخرج فجأة من باب الدكان وصاح:
ِ
غرائب رضب
َ - -واهلل! واهلل! لئن مل ترتك عتبة دكاين ألرضبنك
اإلبلْ ،أو رضب هبرية جلاريتها يف سوق البرصة ،أو رضب
ِ
البليد لتلميذه األبله ،أو رضب احلجاج ألهل العراق! املعلم
ارتبك التاجر ،وانحنى عىل بضاعته جيمعها وهو يقول بنربة
مشحونة خوفا واستسالما:
- -خريا يا أخي .سأنرصف.
اهنمك التاجر يف لف أطراف حاويته ،فيام كان اجلاحظ يضع طرف
طيلسانه األنيق عىل فيه خمفيا ضحكه.
عاد سهل إىل دكانه ،فتلقاه اجلاحظ قائال:
- -قاتل اهلل أهل سمرقند إهنم قوم سوء!
جلسا عىل حصري أنيق مصنوع من جريد النخل ،عىل أطرافه
طنافس أنيقة ،فيام كانت أطامر الكتب املرتبة بإتقان حتيط هبام.
244
َ
اجلاحظ يف حديثه ،بل جلس كان سهل ال يزال مغضبا فلم يجُ ِ
ار
فارختت عاممتُه املهرتئة ،فبدا شعر رأسه ملبدا متسخا كأنه مل
ْ إىل جانبه،
يغسل منذ شهر.
التفت سهل إىل صديقه وعيناه العميقتان تدوران متأملتني مالبسه
الفاخرة دون أن يتكلم.
عيني سهل بالنظر إىل مالبسه الفاخرة،
ْ الحظ اجلاحظ انشغال
حممرتني ،نظر
ّ كانتا تدوران برسعة ومها نصف دامعتني ونصف
اجلاحظ إليه ،فلام التقت عيوهنام أغىض سهل متشاغال بمناداة أحد
عامله ،كان اجلاحظ يعرف املشاعر املختلطة يف نفس صديقه.
فهو نصف سعيد بام سمع قبل أيام من منح أمري البرصة ماال وافرا
له ،لكنه يف ذات الوقت مستشيط الفؤاد حنقا ألن الوايل كان ينبغي أن
يعطيه هو أيضا.
فام جيتاحه ليس حسدا رصفا ،وليس غبطة أيضا .فهي مشاعر
خمتلطة فيها من الغبطة ومن احلسد ومن الغرية ،ومن الرضا ومن
الغضب ومن اليأس.
جاء أحد الغلامن بحساء ساخن ومتر وزبيب ،ثم بدآ يف احلديث عن
الكتب ،غري أن كال منهام كان يعلم أن ما يتحدثان فيه ما هو إال مقدمات
ملا يريدان احلديث عنه ،لذلك كان كل منهام يرمي الكالم عىل عواهنه
دون اكرتاث ،فال يالحظ جليسه ،ولو الحظ ملا اهتم ألن النفوس
مشغولة بالتفكري يف حديث آخر يو ّد كل منهام أن يبدأه صديقه قبله.
جعل اجلاحظ يرمي يف فيه مترة ،ثم ُيتبعها بجرعة حساء وهو
يتحدث هبدوء .فجأة ،دخل عبود إىل الدكان .كان عبود يلبس جبة
245
حريرية ملونة ويميش وراءه غالم ،التفت عبود إىل اجلاحظ قائال
بصوت ساخر:
- -تب ْغد ْد َت يا أبا عثامن؟!
رمى سهل كتابا كان بيده ملتفتا بكل حواسه:
- -أال ترى مالبسه التي يتيه فيها كأنه طاووس من طواويس
خراسان؟
انفرجت أسارير اجلاحظ مالحظ ًا أن وجود عبود جعل حديثه مع
صديقه أسهل ،مع أن العالقة بينه وبني سهل أمتن من عالقته بعبود،
لكن األنفس مهام تقاربت تظل هبا مساحات شائكة ال يدخلها الصديق
دون استئذان أو وسيط.
ابتسم اجلاحظ وهو يقول:
تركت حي العالّفني ،وما
ُ زلت يف البرصة ،وإن
- -مل أتبغد ْد ،بل ما ُ
زلت أعرف مكان حمُ يد املكاري.
أزاح عبود عاممته وهو هيم باجللوس إىل جانب اجلاحظ:
- -دعك من هذا يا أبا عثامن ،لكن قل يل كم كانت اجلائزة .فقد
سمعت أهنا عرشة آالف دينار ،وسمعت ثالثة آالف.
- -ا ُملق ّلل أصدق يا عبود.
وقف سهل وتناول كتابا من فوق الرف وصكه بيده لينفض عنه
الغبار وقال:
- -جزى اهلل عنك هذا الكتاب خريا يا أبا عثامن! ثالثة آالف
لكتابتك هذه الرسالة التي أستطيع كتابتها بني الظهر والعرص؟
246
رضب عبود فخذ اجلاحظ ،وهو يقول:
- -حدثنا عن قصة جمالستك لألمري عندما دعاك؟
قبل أن جييب اجلاحظ ،التفت خلسة لتأمل وجه صديقه سهل،
فرآه ُمستَن َفر ًا لسامع اخلرب يكاد خيرج من جلده ،وأهداب عينيه الكثيفة
ترتاقص ،فأراد أن يعبث به قليال فقال:
- -كيف أصف للدمهاء جمالسة األمراء؟
لكن سهال كان يعرف صديقه ،فقال له بنصف ابتسامة:
- -أمل تقل إنك مل تتبغدد؟
- -نعم يا ابن هارون .لكن كيف يمكن وصف اخلمر للناسكِ ،
ولذة َ
النرص للجبان القاعد؟ وكيف يمكنني وصف لذة املضاجعة
للحصور؟!
ثم ابتلع اجلاحظ لسانه خجال ،فقد نيس أنه يتحدث إىل عبود،
الحظ سهل ذلك فقطع احلديث قائال:
وهات َ
املقال ،يا أبا عثامن! ِ - -ال تطل الدَّ الل
تعود عىل حتمل مثيالهتا منذ مراهقته،
أحس عبود بطعنة يف قلبه ّ
فاعتدل يف جلسته ومال عىل اجلاحظ قائال هبمس ،وصوت أسنانه
-وهو يقضم مترة -خيفي بعض ما يقوله:
وجدت لك اجلارية التي تنسيك أيام احلرمان بني حي
ُ - -لقد
العالفني ودرب الطويل.
شم اجلاحظ رائحة مخر قوية من أنفاس صديقه .فأجابه مشيحا
عنه بوجهه ،متظاهرا بأخذ مترة من الصحن:
247
- -هذا أمر طيب.
لكن عبودا اقرتب منه أكثر ،فازدادت حدة رائحة الصهباء وهو
هيمس:
- -لكنك إذا كنت تريدها ستعطيني كل ما أعطاك أمري البرصة.
كان سهل ينشغل ما بني الفينة وأختها بالنقاش مع أحد عامله.
فالتفت إليهام وقال:
فيم تتهامسان؟
َ --
- -عرضت عىل أيب عثامن رشاء جارية يل كالقمر.
اعتدل سهل يف جلسته -وهو يطوي طرف احلصري ليزيل حجارة
صغرية جتمعت حتته -وقال:
- -أبو عثامن لن يشرتي جارية ،بل سينتقي من بيوتات البرصة من
حتلو له.
فقال أبو عثامن برسعة بنربة غاضبة:
حرة.
- -ال واهلل .أنا لن أتزوج ّ
- -ومل َ ؟
- -أنا رجل أعيش كام تعلمون عىل صناعة الكالم ،فإذا تزوجت
حر ًة قيدتني بأخواهلا وأعاممها ،ونكدت خاطري بالذهاب إىل
األعراس والوالئم ،أما اجلارية فخادمتك متى أردت خادمة،
ومتعتك متى أردت متعة .وإذا نكدت عليك عيشك رميتها بني
يدي أول نخاس هيودي تراه يف طريقك.
ضحك سهل فاهتز جسمه النحيل كامال ،وهو يشد عليه طرف
248
جبته املتسخة وقال:
- -واحلرة تطلب من املال بحجم ما تزعم أهنا تك ّن من احلب .واملال
-كام تعلمون -معدو ٌد حارض ،واحلب َدي ٌن ونسيئة.
التفت عبود باحثا بعينيه الناعستني عن غالمه فرآه أمام الباب
واقفا يتحدث مع أحد الغلامن ،ثم ملح الشمس تدنو للغروب ،وحركة
الناس تتكاثف يف الدرب خارجني من السوق.
التفت إىل اجلاحظ وقال هبمس:
- -ما رأيك أن تأيت معي لرتى اجلارية ،وتسمع وتطرب.
بعد قليل ،كان الرجالن يشقان الدرب الضيق وسط أمواج الناس
املرسعني العائدين إىل بيوهتم ،بدأ الظالم يغزو جنبات السوق ،وهبت
رياح شاملية باردة ،ظهرت حدهتا يف تلفف بعض الراجلني يف مالبسهم
وتقنع بعضهم بعامئمهم .وسط الرائحني ،كانت عاممة اجلاحظ تعلو
وهتبط وهو راكب عىل ٍ
بغل أشهب ،فيام يمسك غالم عبود بزمام فرس
ِ
وتصاعد الغبار ،وهنيق احلمري ورغاء سيده ماشيا وسط الضوضاء
الشاء.
***
249
الدوحة 1439 ،هـ
251
بدت هادئة البال بعيدة من التوتر ،مع أهنا املرة األوىل التي جيلسان
فيها معا يف مكان عام.
مرتع باألسئلة
ٌ كان القروي حياول إجلام فمه عن السؤال ،فذهنه
احلائرة ،ثم إن هدوءها استفزه أيضا.
هل هو هدوء اليأس أم هدوء الظفر؟ هل هو هدوء من شعر
بالراحة النقطاع األمل ،أم هدوء الظفر ونيل املبتغى؟
مل يستطع الصرب ،وال انتظار حديثها فقال:
- -ما اخلرب؟ أين كنت؟ إن شاء اهلل صحتك طيبة!
أدخلت يدها يف حقيبتها الصغرية ،وأخرجت هاتف آيفون جديدا
ثم ضبطته عىل نمط الطريان ،ووضعته حتت فخذها .خطر له أن
يامزحها قائال:
ِ
امتلكت آي فون؟ هل قررت أخريا العبور إىل عامل - -اهلل أكرب!
احلضارة!
لكن اللحظة كانت كثيفة عن ذلك املزاح ،فابتلع كلامته ،وسمعها
تقول:
- -القصة طويلة.
- -أيوه.
- -املهم ،من اآلخر.
- -أيوه.
وكلمت والدي فغضب .كان نصف غضبه عائدا ْ - -كلمت أمي
إىل أننا تعارفنا دون أن يعلم ،والنصف اآلخر ألنه ال يريدين أن
252
أتزوج إال من الناس الذين يعرفهم.
- -طيب
- -املهم أين تعبت كثريا ،ودخلت املستشفى ،قلت هلم إين لن أتزوج
إال من أرضاه ،أو لن أتزوج .كانت قصة طويلة عريضة ،ثم
جلست يف املستشفى ثالثة أيام.
ُ
شعر القروي بنياط قلبه تتقطع ،رمحها وهي تتحدث ،نظر
إىل وجهها الطفويل وعينيها الذاويتني العميقتني وختيلها طرحية يف
املستشفى واملمرضات من حوهلا ....كل هذا بسببه هو .شعر بأمل
عانت بسببه ،لكنه طرب لفكرة
ْ مشوب بصبابة حلوة ،آمله أن تكون
دخول فتاة املستشفى بسبب امليل إليه .ثم خطر له كم هو حقري أن
جيتمع ذانك الشعوران يف قلبه ،كيف يزهو بجراح اآلخرين ،وكيف
يطرب لشقاء حمبوبته.
كانت قد توقفت عن الكالم منذ ثوان لكنه مل ينتبه ،فقد غرق
يف أفكاره املتناقضة ،رمى نظرة عىل مياه اخلليج اهلادئة وعىل فندق
الشرياتون ،ثم قال بتلعثم:
- -وكيف انتهت القصة؟
مل جتبه .فقد شعرت أنه متطلع للنتائج أكثر من تطلعه للوقوف
عىل معاناهتا خالل األيام املاضية ،التفت إىل الطاولة التي بجانبها فرأى
سيدة ضخمة اجلثة جالسة مع رجل يكاد اهلزال يفنيه ،وكانت املرأة
الضخمة ال تكف عن احلديث والضحك بصوت عال ،أما الرجل فال
يرفع برصه عن هاتفه .أشاحت بوجهها وهي تتساءل هل ستصبح يوما
من األيام يف هذه احلالة ،وقالت:
253
وطلب والدي مهل ًة للتفكري
َ - -املهم ،أين صممت عىل رأيي.
واستشارة أخي الكبري ،املوجود بربيطانيا اآلن.
- -خريا إن شاء اهلل.
ردد برصه يف أطراف املقهى بعد إفاقته من الصدمة قائال:
- -أو متأكد ٌة ِ
أنت أن املكان هنا مناسب؟ َ
حتركت يف كرسيها وقالت بتنهد:
والسري عىل طريقتهم ومع
َ حاولت مداراهتم
ُ - -ما هيمني يشء.
ذلك مل يقدروا ذلك .اآلن ال أبايل.
ثم خطر له السؤال :ماذا لو دخل أبوها أو أخوها ووجداه معها؟
كيف سيترصفان؟ ثم ختيل املقاعد تتطاير يف املقهى والرصاخ يرتفع،
واملعركة حامية بينه وبني والدها أو أخيها.
حاول ختفيف جو احلزن والتوتر املخيم:
ِ
عرفت أن خمابرات العامل ال تطاردك! - -مربوك اهلاتف الذكي ،أخريا
- -ال ال ،مل أضع عليه أي تطبيق من هذه التطبيقات.
- -اشرتيته للتربك مثال؟
- -ال ،هناك برامج آمنة من الـ « »open sourceسأنزهلا .هي برامج
مثل الربامج التي عندكم لكنها ليست تابعة للرشكات الكربى أو
احلكومات ،فهي تطبيقات يصممها الناشطون املؤمنون باحلرية
واخلصوصية الفردية.
املريض من التجسس واملراقبة:
كان يستمع إليها مفكرا يف خوفها َ
- -واهلل إنك ِقي َق ٌة خطرية!
254
- -ماذا تقصد؟
ِ
ونوار ُدها! - -قيقة من « ،»geeksوهم ع ّباد التكنولوجيا
- -وأيش النوار ْد؟
- -النوارد مجع نِ ْر ٍد « »Nurdوهو الغارق يف بحور الكومبيوتر،
أو الكتب .هؤالء الشبان والفتيات اجلالسون يف زوايا العامل
بنظاراهتم وبحوثهم يف التقنية ،وقد ولوا ظهورهم ملباهج الدنيا.
ضحكت رافعة اآلي فون قائلة:
- -أنا مطوعة بريدة وقيقة أيضا؟
أزهر قلبه عندما رآها تضحك بعد أسبوع من احلزن والتوتر
وانتظار املجهول .وكانت ضحكتها تثري يف نفسه العميقة شجونا وعوامل
ُ
اهلالل بدرا ،وترجع الطيور ال ضفاف هلا .فعندما تضحك يستدير
القطبي بعد شتاءات من لفح
نْ املهاجرة إىل أوطاهنا ،وتُرشق الشمس عىل
فواحا. ُ
الكون عطرا ّ ويتضوع
ّ الزمهرير ..وتتفتق ورود،
مالت عىل الطاولة ورشفت َح ْس َو ًة من قهوهتا وقالت:
ُعرب كل يشء ....نوارد!
- -أنت ت ِّ
- -إن األشياء تزداد حالوة إذا ُعربت .أليست كلمة «نوارد» أحىل
من «نريدس» اإلنكليزية؟
- -لكنك تُدخل اللغة يف كل يشء بمبالغة أحيانا.
وقبل أن جييبها خطر له خاطر لكنه مل يستطع الترصيح هلا به ،وهو
أنه أيضا ال يتذوق مجال املرأة إال بحاسة اللغة ،يذكر جيدا أيام مراهقته
أنه كان إذا رأى فتاة مجيلة ال يعرف كيف حيكم عىل مجاهلا إال إذا ختيلها
255
لغويا ،ثم حياكمها إىل خمزونه اللغوي للجامل ،ثم يستطيع بعد ذلك
احلكم.
وكم كان أصحابه يضحكون عندما يقول هلم واصفا فتاةٌ :
جبال
نحيات ومنعرجات ...وسيول ووديان ...عنرب وعود،
ٌ ووهادُ ...م
أماس وردية ندية ،وصقيع دافئ.
طرد خواطره وقال هلا:
- -قلت لك إن أهيل وافقوا..
أخرجت جهاز حاسوب من حقيبتها وفتحته ،ثم قالت بسخرية:
- -أهلك وافقوا؟
- -نعم!
- -ما شاء اهلل.
- -ما ذا تقصدين؟
- -هل سمعت قصة زواج السائل من بنت امللك؟
- -ما هي؟
- -كان ابن أحد السائلني يقول ألصدقائه إنه سيتزوج بنت امللك،
فسألوه كيف .فقال إن مخسني باملائة من األمر تم .فوالدي وأمي
وافقا وأنا موافق ،ومل يبق إال أن توافق بنت امللك وأبوها وأمها.
ثم ضحكت ...لكن القروي مل يضحك.
شعر بانزعاج ،فانقطعت ضحكتها وهي تالحظ أن املزحة قد
حممر ،وإذا جبهته الغامء
تكون أكرب مما ينبغي ،نظرت إليه فإذا وجهه ّ
تزداد ضيقا ،وأرنبة أنفه تكتنز امحرارا.
256
نظرت إليه ،فتحول يف عينها إىل أعرايب يطلب ثأرا قديام ،فانتابتها
موجة ندم عىل املزاح الثقيل قائلة:
- -واهلل ما قصدي....
- -يعني أنا الشحات ابن الشحات؟
- -ال ال ،مو قصدي .حاشاكم ،بس قصدي أن ال ُعقد والتخلف يف
جمتمعنا أكثر .فأنتم أكثر علام وانفتاحا من جمتمعنا.
وساد صمت ،وكان يعلم أهنا مل تكن تعي ما قالته ،كام كانت تعرف
فرمقت
ْ أنه لن يصدق ذلك االستدراك البارد ،أرادت تلطيف اجلو،
السيدة الضخمة لتتأكد من أهنا ما زالت تتحدث بصوت مرتفع حتى
ال تسمع كالمها ،ثم قالت وهي تشري حلاسوهبا:
- -هل الحظت شيئا يف جهازي هذا؟
وفهم هو أهنا هتدف لتغيري موضوع احلديث الستعادة الدفء .نظر
إىل اجلهاز فالحظ وجود الصق مثبت عىل مكان الكامريا يف اجلهاز.
- -نعم ،ما هذا الالصق؟
- -هذا لتغطية العدسة حتى يمنع اجلهاز من التصوير .إن األجهزة
كلها مزودة بعدسات ،وكل رشكة تستطيع تصويرك حتى ولو كان
اجلهاز مطفأ .لذا ،أنا أضع الالصق عىل مكان الكامريا .ستقول
إين جمنونة باخلوف من األجهزة؟ وأن يب وسواس ًا إلكرتونيا؟
أنت ضحية ختصصك .إن التخصص دائام يطارد صاحبه. ِ --
257
من بعيد سابحا عىل صفحة اخلليج ،ذكرى من زمن انقىض .فقال متصنعا
احلكمة:
- -كلنا ضحية للتخصص وللاميض ...وألشياء كثرية.
ومل جتب ،بل تشاغلت بتنظيف حافة حاسوهبا .تذكر كيف يستدعي
اهتاممها فقال:
- -لقد رأيت أمس بمكتبة جرير كتابا بعنوان «احلرب اإللكرتونية».
بارتلت .هل قرأته؟
ْ - -بجد ،ذاك كتاب ممتاز ،مؤلفه جامي
- -تصفحته عىل عجل ،لكني لست مقتنعا باملبالغة يف اخلوف من
اإلنرتنت واالخرتاق اإللكرتوين.
رفعت برصها عن حاسوهبا ،وقالت بجدية:
- -شوف ،إن اإلنرتنت يظهر اجلانب األسود من البرش ،انظر مثال إىل
التعليقات باألسامء املستعارة يف يوتيوب ،وستلحظ ُبعدَ أصحاهبا
من اللباقة ،واستعدا َدهم الكامل للقذف والسب وكل املوبقات،
ألن النت حيررنا من األقنعة االجتامعية املزيفة التي نرتدي.
- -طيب.
- -ولذا ،فإن املخرتقني الذين يتسللون إىل األجهزة آمنون من
املالحقة ،ويمكنهم أن يقوموا بأي يشء.
خطر له أنه إذا واصل احلديث معها فسيتحول املوضوع إىل نقاش
فلسفي ،لعلها ال تفهمه أو ال تستسيغه .فسكت قليال ،ثم غلبته شهوة
التفلسف:
- -أختلف مع هذه النظرة التي عندك ،مع أهنا نظرية للمتنبي وهو
258
شاعر أحبه .فاملتنبي يقول:
والظلم من شيم النفوس فإن جتدْ
ُ
�م! ِ ٍ ٍ
ذا عـف�ة فـلـعـل�ة ال يظل ُ
رفعت وجهها فيه لرتيه االهتامم ،فواصل:
- -الفكرة التي عندك مبنية عىل سوء الظن بالبرش .أما أنا فمؤمن بأن
األصل يف البرش هو اخلريية .وإال ملاذا يقوم أشياخك –سنودن
وأسانج -بام يقومون به من دفاع عن خصوصيات الناس
وتضحية يف سبيلها؟
رفع برصه فجأة جهة الباب ،فرأى رجال مخسينيا داخال من باب
ٍ
بدوية حادة .فمد يده هامسا: املقهى حيدجه بنظرات
- -هل هذا أبوك؟
***
259
بغداد198 ،هـ
261
الكرخ .فالتهمه زقاق ضيق قاده إىل دار قصرية تنغرز يف األرض انغرازا
ييش بأن ما بني منها يف األرض أكثر مما ش ّيد فوقها ،وقف أمام الباب،
ثم دفعه فإذا هو حمكم اإلغالق.
يقرب أذنه منهُ ،
فخيل إليه أنه سمع رنة دق الباب دقا خفيفا وهو ّ
ِ
عود .بعد حلظات انتظارُ ،فتح الباب فظهر غالم س ٌ
ندي وسأل بإدالل:
ْ --
أقول ل ْه م ْن؟
- -قل له :حممد بن عبد امللك الزيات.
صك الغالم الباب.
التفت الشاب إىل الزقاق الضيق اخلايل ،فرأى قناديل ترتاءى من
نوافذ البيوت املطلة عىل الشارع الساكن ،بينام ما زالت أصداء صخب
الشارع ترتدد يف جوانحه ،حتسس سيفه املتواري يف غمده حتت دراعته
الواسعة ،فسمع صوت فرهود يرحب من وراء الباب.
فتح فرهود الباب ،فرتاءى وجهه املدفون يف شعر حليته الكثيف
مع رأسه األصلع وهو يقول:
- -يا مرحبا يا مرحبا!
تقدم فرهود وقاد اب َن الزيات إىل درج أنزهلام إىل حجرة واسعة
مضاءة إضاءة كبرية .كانت احلجرة واسعة ومليئة بالشموع املعلقة عىل
أركاهنا األربعة ،ويتوسطها قنديل كبري.
تعود اجللوس ،هناك
أشار فرهود البن الزيات بتبوؤ مقعده حيث ّ
يف الركن األيمن عىل سجادة محراء تتناثر عليها نامرق.
جتلس ثالث قينات يف اجلانب اآلخر من احلجرة وبأيدهين أعواد.
262
انحنى ابن الزيات مائال بمرفقه عىل الوسادة وهو ال يرفع عينه عن
اجلارية اجلالسة يف الوسط.
وقف فرهود يف الوسط ما بني ابن الزيات واجلواري .ثم مال
برأسه ورفع كفه اليمنى ووضعها يف كفه اليرسى ،وقال موجها حديثه
للوسطى من اجلواري:
ِ
وصاحبتيك -أال تدخرن صوتا من قسم عليك -أنت- -ظلومُ ،أ ِ
األصوات املطربة واألحلان املونقة عن ابن الزيات.
ٍ
مرتعة طمع ًا: ثم انحنى برأسه أكثر ملتفتا عن يمينه ،وقال بابتسامة
- -وأنا موق ٌن أن سيدنا ال يدخر عنكن شيئا..
متحمح معتذرا بانشغاله ببعض األمور وأدبر يتسلق الدرج ،محُ ِدث ًا
قرقع ًة بحذائه عىل السلم ،وذيل إزاره ينجر وراءه.
وتلف
ّ كانت الفتاة املتوسطة ترتدي قميصا ضيقا أمحر مزكشا،
مالءة عىل اجلزء األسفل من جسمها ،لكن املالءة ال تغطي إال ركبتيها
ومكان جلستها .أما ما فوق ذلك فيكاد يشف من حتت القميص
األمحر الضيق ،أما ذوائبها الذهبية فمزينة بخيوط معقودة بني كل
ضفرية وأختها ،تنعكس معاقدها حتت ضوء الشموع املدالّة يف أطراف
احلجرة.
رفعت القين ُة برصها إىل ابن الزيات فألفت وجهه كام عهدته خالل
األشهر املاضية .عينان سوداوان واسعتان مرتعتان بربيق قوي يكاد
خيرتق اجلليس ،فوقهام حاجبان قويان مقوسان ،وجبهة واسعة وشعر
أسبط فاحم .أما الفم ،فذو شفتني رقيقتني ختفيان أسنانا صغرية،
ينتصب فوق ذلك أنف دقيق قصري.
263
أما عاممته السوداء ودراعته الداكنة الواسعة ،وسيفه الذي ال
يفارقه يف محائله ،فتخلع عليه مهابة تنيس الناظر إليه أنه ّملا يتجاوز
اخلامسة والعرشين من العمر.
نظرت إليه قائلة بغنج متصنّع بحذق:
ْ
- -أفديك بروحي! كيف أنت وكيف الناس؟ فأنا مل أخرج من هذا
الباب املوارب منذ التقينا.
- -أفديك بروحي ...أنا بخري ما رأيتك.
كاملتي ال تتكحل فيهام
نْ مجعتي
نْ - -واهلل َ
إنك لظامل! كيف تتغ ّيب
عيناي بمرآك؟
- -الظلوم من كان ذلك اسمه! لقد تنبأ لك من سامك به ،فقد فطرت
كبدي وأحرقت قلبي ،ولقد جئت مرتني فلم أجدك.
ضحكت ظلوم ضحكة فاجرة حني علمت أنه جاء ومل جيدها مع
زعمها أهنا مل تربح البيت ،فرفعت يدها اليمنى جهته وكأهنا تُكذب ما
يقول ،ثم حتركت يف مكاهنا كأهنا تريد إشغال عاشقها باهتزاز جسمها
عن التفكري يف كذهبا عليه:
- -ليت قدمي ُقطعت حني خرجت قبل قدومك!
وتعض شفتها السفىل ،ثم قالت
ّ قالتها وهي تغمز بعينها اليمنى،
بتثاقل ُم ْغ ٍر:
- -ماذا حتب أن تسمع اليوم ،فديتُك!
- -كل ما تنطقني به فهو حتفة قادم وشفاء مريض وفكاك سجني،
وإن صوتك وأنت تتحدثني ليدخل جسمي فال يصل إىل عرق
264
هش له ّ
وبش .فغني ما إال نبض به ،وال يتغلغل إىل عصب إال ّ
شئت...
كان الشاب يتحدث بحرقة ،وكانت ظلوم التي تكربه بعام جتاريه.
سمع قرع نعال عىل الدرج ،فالتفت الكل ،وإذا الغالم الزنجي
قادم وبيده جام مرتع نبيذا.
فالتفتت اجلارية اجلالسة عن يمني ظلوم إىل األخرى اجلالسة عن
يسارها وأشارت هلا إشارة ،فوقفتا وصعدتا الدرج.
نزل الغالم الزنجي وهو يص ّفر ،ووضع جام النبيذ عىل سفرة
خشبية بني ابن الزيات وظلوم ،ثم خرج مرسعا دون أن يتكلم أو يرفع
برصه.
كان ابن الزيات متكئا فجلس ،وأمسك الوسادة التي كانت حتت
مرفقه وزحف جهة القينة حتى صار عىل بعد ذراع منها واتكأ عىل
كم دراعته الواسعة املفتوحة من الوسط مالمسا لطرف
وسادته ،فصار ّ
مالءهتا .أما جام النبيذ فأصبح عىل بعد تناول اليد منه ومن املغنية.
بدأت ظلوم تالعب األوتار بأصابعها الرخصة ،وهي هتينم ،فمد
وعب منه.
ّ ابن الزيات يده إىل اجلام
ثم أغمض عينيه وجعل حيرك قدمه طربا لدى حركة كل وتر من
األوتار التي تئن حتت أصابع ظلوم.
فتذكرت شجو ًا قديام هلا يف أصفهان،
ْ وتضاجرت
ْ تناوحت ظلوم،
شجوها الذي أضناها ،وحبها قت العو َد ،وحيث ِ
وحذ ْ حيث تربت
ُ
الذي انتزع قل َبها منها ،فتسارع لعب أصابعها باألوتار ،وتسارعت
265
دقات قلبها وهي تتذكر وجه فتاها يف مروج ًأصفهان حيث كانت
تغنيه:
ٍ
ذوائ�ب ذات
َ و ُع ِّلقتُه�ا َغ َّ�را َء
حجم
ُ ومل َيب�دُ لألت�راب م�ن ثدهيا
�م ياليت أننا
�ن نرع�ى ال َب ْه َ صغري ْي ِ
إىل الي�وم مل ن ْكَب�رَ ْ ،ومل تَكرب ال َب ُ
هم!
الشدو بالبيتني حتى كاد قلب ابن الزيات ينزو من بني
َ ما إن أهنت
أضالعه ،وكاد قلبها هي يطري شوقا إىل أصفهان.
فقد رددت عبارة «يا ليت أننا »..ترديدا متأنيا مرتعا باألحزان،
وأفرغت يف تلك العبارة كل ما فاهتا من مؤ َّمل ،وما عجزت عنه من
حترر من أيادي أسيادها ،وما ضاع هلا من حب.
فهي تضمر فيها متنيات مثل :يا ليت أنني مل أرسق يف طفولتي
من أهيل ،ومل أحتول إىل جارية! ليت الدنيا أرحم مما هي عليه ،وليت
املظلوم ينتصف من ظامله!
وقد تعلمت من صنعتها أهنا ال تُطرب جليسها إال إذا تذكرت
شجوها ومتثلته بني يدهيا كأهنا ختاطبه ،فعند ذلك تطيب أوتارها،
ويسهل حل ُقها ،وتنفرج خمارج نطقها ،وحيلو النغم يف فيها.
الشدو حتى التفتت إىل ابن الزيات وقالت بتنهد:
َ ما إن أهنت
- -فديتك!
نظرت إىل عينيه فرأت بريقهام املتوهج قد انطفأ ،ومها ممتقعتان
ْ ثم
دموعا.
266
مال الفتى أكثر عىل وسادته مبتعدا قليال ،ثم أخذ طرف عاممته
ووضعه عىل عينيه وهو بني البكاء والضحك ،متذكرا قصة حدثه هبا
صديقه قبل أيام عن هذين البيتني.
فقد كان مؤذن مكة املعروف بابن مليكة يؤذن ،فسمع مغنيا يغني
من دار العاص بن وائل هبذين البيتني .فطرب هلام طربا شديدا حتى
أراد أن يقول «حي عىل الصالة» فقال« :حي عىل ال َبهم» ،وسمعه أهل
مكة فغدا يعتذر إليهم يف السوق.
فكر يف القصة وهو يقول :كيف إذا سمعها املؤذن من هذه اجلارية
الرومية احلاذقة.
ظل مستلقيا عىل قفاه ،يعب أحيانا من ّ
الدن ،ويعب أحايني أخرى
من االقرتاب من اجلارية ومطارحتها آيات الغرام.
التفتت إليه مرة بعد صمت وقالت بدالل:
- -مل ال تشرتيني من سيدي؟
- -قاتله اهلل ما أجشعه .لقد عرضت عليه لكنه يطلب ما ال أملك.
مالت عليه اجلارية واضعة يدها عىل طرف ركبته وقالت:
- -كيف ال متلكه وأنت ابن عبد امللك ،أشهر جتار الكرخ ببغداد؟
ثم ابتعدت عنه مرسلة إحدى ذوائبها ،مداعبة إياها بيدها ،وقالت
وهي تغمز بطرف عينها التي تزداد مجاال حتت ضوء املصباح:
- -أم أنني ال أساوي عندك إال درهيامت؟
ابتسم ابتسامة مفعمة بالشوق إىل مزيد من القرب وهو يقول
بصوت هامس:
267
- -ال تقويل هذا يا ظلوم .فواهلل لنعم وسيلة إبليس ِ
أنت يف األرض!
ضحكت اجلارية ،وقبل أن متيل عليه لتمسك طرف قميصه،
سمعت قرع نعال سيدها عىل الدرج.
فتظاهرت بالتحرج مبتعد ًة من ابن الزيات.
دخل فرهود مبتسام ،وقال:
- -ساحمني يا ابن الزيات إن كنت عجلت عليكام .لكن وقت النوم
الصباح يكاد ْيز ُقو.
ِ ُ
وديك قد حان،
تراجعت الفتاة أكثر حتى كاد ظهرها يالمس قاعدة القنديل الكبري
املنصوب وسط احلجرة ،أما ابن الزيات فجلس بتثاقل وهو يبحث يف
جيبه عن رصة دنانريه.
وقف وهو يقول:
- -ال عليك يا فرهود ،فقد انتصف الليل والطريق غري مأمون
هنب للشطار والعيارين.
وبغداد ٌ
ثم مال عىل السفرة اخلشبية وطرح رصة حمشوة دنانري وكأنه ال
يريد فرهود أن يراه ،وهو يف ذات الوقت البد له من أن يراه.
فنظر فرهود إىل الرصة وقال:
- -ال تباعد بني الزيارات يا سيدي.
بطريف ُدراعته ،وغمدُ سيفه يكاد
ْ صعد ابن الزيات الدرج ممسكا
يالمس طرف السلم .ثم التفت إىل َظ ُلو ٍم قبل أن يتوارى ،فلوحت له
بقبلة.
فتح فرهود الباب مودعا ابن الزيات ،وقال بصوت فيه خوف:
268
- -احرتس يا حممد!
- -ال ختف يا فرهود ،فسيفي بتار.
بدا الطريق مظلام وخاليا من الناس ،فيام ترامت إىل سمع الفتى
ضحكات شبان من البيوت املطلة عىل الزقاق.
قاده الزقاق الضيق إىل الشاع الواسع املؤدي للجرس.
ظلت يمينه عىل مقبض سيفه حتى وصل إىل مدخل دار أبيه
الكبرية.
عرب اجلرس حتى انحدر إىل اجلانب الرشقي ،وما إن اقرتب من
املنزل األمحر -ذي الباب املستطيل الضخم -حتى تلقاه أحد احلراس
مهروال:
- -سيدي ،مل مل تأمرين آليت معك ،فالطريق غري آمن.
أشار إليه ابن الزيات بيده قائال:
- -ال عليك.
ٍ
مزين باألشجار الباب الواسع الذي أسلمه إىل فناء فسيح
َ دخل
عىل طرفيه ،ثم وقف ملتفتا إىل احلارس وقال بصوت هادئ:
- -ال خترب أيب.
مل يزد احلارس عىل أن انحنى قليال برأسه متمتام:
- -أمرك يا موالي.
***
269
البصرة199 ،هـ
271
فتحتني يف طرفيه من الركبة حتى الكعبني.
دخلت علية متيش وراءمها ،غري أهنا مل تتزين كام تزينتا .إذ كانت
متلففة يف قميص أمحر فوقه جبة واسعة ،فيام تنسدل ذوائبها الطويلة،
التي تكاد ختفي قرط ْيها.
جلسن ثالثتهن ،وكانت علية يف الطرف األبعد مما ييل الزاوية،
ثم وضعت كربى اجلواري عودها يف حجرها واندفعت تعزف،
أناملها الغليظة تذهب وتأيت عىل األوتار األربعة للعود متفننة يف رضبه
وتوقيعه ،وكانت كلام أطابت النغم وأحكمت األوتار هدأت أصوات
الغلامن واخلدم ،بل إن أصوات صبيان احلي الالعبني يف الشارع تبدأ
يف االنحسار.
بعد هنيهات ،قبضت كربى اجلاريتني يدها عن عودها تاركة إياه
يف حجرها دون تغيري جلستها ،ثم أشارت برأسها إىل اجلارية األخرى
فانطلق عودها يئن بعزف شجي.
كأن اجلارية األوىل كانت تفتح الطريق هلذا اللحن الشجي بالذات.
فاندفعت كربى اجلواري وقد رفعت يرساها عن العود ،ووضعت
يدها عىل خدها وأنشدت بصوت مطرب ُم ْش ٍج:
ل�و أن م�ا تبتلين�ي الـحادث�ات ب�ه
ُيرم�ى عىل امل�اء مل ُيرشب م�ن الكدر!
يف هذه اللحظة دخل عبود ماشيا بتؤدة ،مرتديا جب ًة حريرية واسعة
األكامم تفوح منها رائحة العنرب ،ووراءه اجلاحظ متعثرا يف جبة قشيبة.
خفضت اجلارية صوهتا انتظارا جللوس سيدها وضيفه.
272
جلس عبود عىل حافة الرسير مشريا للجاحظ باجللوس قربه عىل
طرفه الثاين ،وما إن جلس عبود حتى مال عىل مرفقه األيمن ليستلقي
نصف استلقاء ،فبادر غالم كان يتبعه وأمسك رجله لينزع خفه.
سحب عبود رجله برسعة من يد اخلادم قائال:
- -اخدم أبا عثامن أوال.
ثم تدحرج عبود قليال ليسند وسادته إىل اجلدار ،أشار بيده دون أن
يتحدث إىل اجلاريتني لتستأنفا الغناء.
جلس اجلاحظ مرتبعا مسندا ظهره للجدار ،ووضع عاممته عن
رأسه فبدا أصغر من ذي قبل.
كان جو الغرفة معت ًام قليال رغم املصابيح األربعة املنصوبة يف
أركاهنا ،رفع اجلاحظ عينيه ليتأمل اجلواري حماوال معرفة تلك الفتاة
التي حدثه عنها عبود.
مل تدر عيناه طويال حتى جزم بأهنا تلك الفتاة التي يف الزاوية .ذلك
الظبي العاطل من كل زينة ،لكن زينته تسكنه ،وال يستطيع منها فرارا.
لسعها بعينيه احلادتني ،فالتقت عيوهنام ألول مرة.
نظرت إليه لكنها مل تبادله النظر بالنظر ،فعيناه اللتان تكادان تقعان
ورأسه الدقيق وأذناه الصغريتان وقامته القصرية جعلته يف
ُ يف حجره،
عينها أشبه بدمية منه بإنسان.
نظرت إىل سيدها ثم أ ْغضت جفنيها وقد غشيتها موجة طرب
وهي تستمع للحن الشجي الذي ينبعث من يد صاحبتها.
مال اجلاحظ عىل عبود ،ومهس يف أذنه.
273
اعتدل عبود وأشار إىل علية أن جتلس قرب الرسير مما ييل اجلاحظ.
قامت ودارت من خلف اجلاريتني وجاءت كأهنا تتعثر فجلست
عن يمينه.
مال عليها:
- -ما اسمك؟
- -علية
رفع رأسه كأن نارا لسعته.
لقد تذكر رؤيا رآها قبل أيام.
رأى أنه نزل ضيفا عىل اخلليفة يف بغداد ،وأنه كان يتسلل إىل حرمه
ليال ويبيت مع زوجة للخليفة تدعى عل ّية ،وأن اخلليفة اطلع عليه من
نافذة وهو جالس مع علية فهرب .فأرسل اخلليفة كل جنود اخلالفة
يبحثون عنه.
تفاجأت علية بالصدمة التي أصابته ،فالتفتت جهة الباب فإذا
اخلادم األصلع قادم حيمل سكرج ًة فيها لوز ،وجام ًا مملوءا من عصري
البطيخ ،وأباريق نبيذ.
وضع األصلع السكرجة والنبيذ عىل خوان فوق الرسير ،فيام
كان اجلاحظ يستعيد توازنه متذكرا كيف سخر من تلك الرؤيا قائال
لصديقه النظام:
- -أنا رجل من أهل االعتزال ،واألحالم واملرائي ال يعبأ هبا إال
العوام ومن يف حكمهم.
استعاذ من الشيطان الرجيم ،ومال عىل علية قائال هبمس:
274
- -أي حديقة مباركة أنبتتك؟
تلعثمت ثم قالت:
- -أنا من أصفهان.
- -تلك مدينة مجيلة ،ال تنبت إال الزهر والشعر.
مل تكن تعرف أي يشء عن أصفهان ،ومل ترها قط ،لكنها شعرت
بسعادة حني الحظت فصاحة اجلاحظ واطالعه ،وهي تقارن يف ذهنها
بينه وبني سيدها.
فغريت جمرى احلديث حتى ال يسأهلا سؤاال حمددا عن أصفهان
قائلة:
- -وأنتم يا سيدي؟
- -أنا من علقم البرصة!
قاهلا وقد اختنق قليال من رائحة البخور املتصاعد بني يديه من
املبخرة املنصوبة خلفه.
وجدت نفسها تبتسم من إجابته وطريقته التي نطقها هبا ،حيث
قاهلا وهو يغمض نصف عينيه متظارفا ،ثم اختنق ،فتحول يف عينها من
الدمامة املقيتة ،إىل الدمامة املستظرفة.
ثم واصل قائال:
- -هذه املدينة ليست كأصفهان ،فهيال تنبت من األشجار إال ما فيه
شوك ،وال من النباتات إال املر ،وال يربى فيها من الكالب إال
املكلوب .أما نساؤها فيرضبن رجاهلن.
ابتسمت وهي تنظر إليه وقد مدّ يده ألخذ حلوى من فوق
275
اخلوان ،وقالت:
- -إهنا تنبت الرياحني والنارنج والتفاح...
ال تدري كيف نطقت كلمة «التفاح» فهي أبعد ما تكون عن جو
التغزل ،أحرى لرجل غريب دميم ،لكنه مل هيملها لتغيرّ حديثها فقال:
- -هذه النباتات وإن نبتت هنا إال أهنا غريبة يف هذه الرتبة ،فقد
ونبتت مكره ًة .لذلك ستجدين طعم تفاح ْ انتُزعت من منبتها
أصفهان أذكى وأحىل من تفاح البرصة .فكأنه هناك ينبت راضيا،
وهنا كارها ،فينعكس ذلك يف الطعم.
انتبه إىل أنه تعود احلديث اجلاد ،املحشو باملنطق حتى مع اجلواري
وعىل كؤوس النبيذ ،فغري حديثه برسعة:
- -هل تتقنني الغناء؟
- -ال...
كانت اجلارية الكربى تواصل الغناء والعود يف حجرها ،وكانت
تنظر بطرف عينيها باستغراب إىل اندماج علية يف احلديث مع هذا الرجل
الغريب ،كانت تنظر إليهام حتت ضوء املصباح املثبت وراءمها ،فيام يمر
خيط دخان من البخور بينهام كأنه يرسم حدودا بني اجلامل والدمامة.
ظلت اجلارية تتأمل باستغراب ابتسامات علية هلذا الرجل
الدميم الغريب ،فمنذ وصوهلا إىل هذا البيت مل ترها قط هبذا االندماج
واالستئناس يف احلديث.
بعد ميض وقت ،اعتدل اجلاحظ يف جلسته مائال إىل اجلدار قليال،
ويعب عليها من النبيذ املعتق.
ّ وهو يمضغ حلوى
276
بدأ حيرك قدمه طربا وهو يستمع إىل اجلارية تغني صوتا بدويا
قديام ،لكنها أخطأت يف أدائه .اعتدل وقال هلا:
- -أول من غنى هذ الصوت هو مغني أهل مكة ال َغريض ،لكنك
أخطأت يف توقيعه.
ثم جعل يرشح هلا ويعيده حتى أتقنته.
بدأ جبينه يتعرق رغم اجلو املعتدل يف اخلارج .وجعل حيرك رأسه
طربا .وكانت علية تنظر إليه من طرف خفي بعد سامعها ملالحظاته عىل
املغنية.
أما عبود فكان ال يتحدث يف مثل هذه الساعة عادة .بل يرتك حل َقه
للنبيذ ،وأذنَه للغناء ،وبطنَه للحلوى .ويظل حيدق يف السقف ،فعادة ما
يبيت يف نفس املكان.
انطفأت فتيلة أحد املصابيح ،فخفتت اإلضاءة يف الغرفة.
ترفض عرقا بعد
ُّ وضعت كربى اجلواري العود من يدها وهي
ساعات من الغناء.
أما اجلاحظ فامل عىل عبود متمت ًام.
وقف عبود بتثاقل بينام كان اجلاحظ يرتب قلنسوته وعاممته،
فانعكس ظل رأسه الصغري عىل اجلدار.
مشيا يف فناء البيت حتى وصال إىل باب الدار .مشى عبود بتثاقل
فقد أفرغ يف بطنه أربعة أرطال من النبيذ املعتّق ،وكثريا من احللوى.
أما اجلاحظ فكان يميش بخفة ،فقد تعود أال يزيد عىل رطل واحد
من النبيذ.
277
وصال عتبة الباب ،فالتفت إىل عبود مودعا قائال:
ُغيل يف سعرها.
- -أريد الفتاة ،لكن أمتنى أال ت َ
- -لن يكون إال ما تريد يا أبا عثامن.
وصك الباب شاعرا كأن خنجرا ُدفن يف صدره .رمى ّ قاهلا،
بجسمه يف طرف الغرفة عاجزا ذاهال .جلس متأمال علية مشدوها
ني .لسعها ِ
بجامهلا األخاذ ..عاجزا .نظر إليها نظر األ ْد َرد إىل التفاح اجلَ ِّ
بعينني عسليتني مها نافذتاه املرشعتني دائام عىل الشقاء والعذاب .أرسل
برصه مع داره الواسعة ،فرأى اخلدم يقبلون ويدبرون ،واألفرشة
ّات العود التي تعبث بنياط قلبه. املبثوثة واألطعمة املشتهاة ،واستعاد رن ِ
أمر يدَ ه عىل خده الصقيل متسائال :كيف كان طعم ازدادت حرستهَّ .
الدنيا لو ِ
سل َم من تلك العاهة؟
متوج ذهنه بآالف األسئلة الكثيفة املتزامحة ،واخلواطر اجلارحة.
وتذكر تلك الواقعة التي حددت مسار ٍ
حياة ال يستطيع منها انفكاكا.
تذكر رجاال يرتدون مالبس داكنة يقودونه إىل بيت واسع...
اقرتب منه رجل أشقر قصري بيده سكاكني وأدوية .ال يذكر ما حدث
خص ْوه
بعد ذلك .كل ما يعرفه أن ذلك وقع بأرض الروم ...وأهنم َ
وباعوه.
تنفس بعمق ،ومسح دمعة شاردة عىل خده ...وعزم عزيمة ال
سيخصص ما بقي من عمره للجهاد مرابطا قرب طرطوس ّ تُنقض.
ملجالدة الروم .وقف متثاقال ،متذكرا قول إمام حيه يف خطبة اجلمعة:
- -عجب ًا للنصارى ،يدعون الرمح َة ،وهم من س َّن سن َة خصاء بني
آدمُّ ،
وكل خميص يف الدنيا فمن أرضهم جاء!
278
ترك اجلاحظ منزل عبود وراءه بينام كان الظالم خييم عىل األزقة
الضيقة املوحشة التي ال يصلها يف هذه الساعة إال نبحة كلب شاردة،
أو بكاء رضيع من بعيد ،أو ُمواء قط.
فكّر يف علية مستعيدا صورة جسمها البض وشعرها املنسدل
وأنوثتها الف ّياضة ،ثم خرجت تلك الصورة من ذهنه متأمال ليل البرصة
مظلم ميلء بتنهدات األمل
ٌ األسود سوا َد عيون بدويات سوق املربد .ليل
واللذة ،لكنها لذة ال يصل إليها الفقري ،ليل ميلء بوسو ِ
سة اخلالخل يف ْ َ
املخادع العطرة ،وتنهدات العبيد الكادحني يف األقبية والسباخ ،وأنّات
الشكوى يف السجون ،ورصخات اللذة يف املخادع ،والضحكات
احلزينة للجواري املجلوبات من بالد بعيدة ..غريبة.
طرد تلك األفكار عن ذهنه ،لكنه مل يستطع طرد صورة ابتسام
وتاج اجلامل الذي ُيظلل كل حركة من حركاهتا السخية ...وذلك
عليةَ ،
اليشء الغامض الفاتن ...ما بني فمها وعينيها.
***
يضج دكان سهل بعشاق الكتب يف مثل هذه الساعة من النهار،
ٍ
جلدي بني اللون ،وعيناه تبحثان يرتبع اجلاحظ داخل الدكان عىل ٍ
فرو
بنه ٍم يف عناوين الكتب الكثرية املصفوفة بأناقة عىل رفوف الدكان.
وقف أحد املجاذيب بباب الدكان وقال بصوت واعظ:
- -متاع الغرور!
ثم جتاوز إىل الدكان املوايل.
رفع اجلاحظ وجههه عن الكتب منزعجا وقال لسهل:
279
- -من أين جاء هذا؟
- -هذا أحد أصحاب رأس النعجة ،من ُد ّويرة الصوفية الواقعة
بطرف السوق.
- -أنا ال أرى الزهد املنقطع عن الدنيا ومال ِّذها إال رضبا من اجلبن
عن مقارعة خطوهبا ،ونوعا من االفتتان بدين الربامهة.
وكنت منهمكا يف رشاء اجلواري
َ - -إذا مل تكن من العباد والزهاد،
واكرتاء الدور الواسعة ،فاترك الناس لزهدهم وعبادهتم.
خطر للجاحظ أن يف تضاعيف حديث صاحبه نوعا من احلسد،
فدارى مشاعره وقال:
- -ال ..ال .ما عنيتُه أن الدين ال يأمر بالزهد كام يفعل هؤالء ،فأنا ال
أعلم أحدا من أصحاب النبي بنى خيمة عىل باب السوق لصد
الناس عن أهوائهم وحاجاهتم التي تقوم هبا دنياهم ،فقد كان
أصحاب حممد يتّجرون ويغزون ويعشقون ويتزوجون ويلعبون.
- -أعلم ذلك .لكن أصحاب حممد كانوا يف زمن فيه أمثال أيب بكر
ٌ
زمان فيه أمثالك أنت. وعمر ،وهذا
ابتسم اجلاحظ وهو يسحب كتابا أنيقا وقال:
ان البرصة و ُفت ِ
َّاكها دوين؟ ٍ
مبالغة يف مجُ ّ ِ - -أما كان لك ُمت ََّس ُع
- -جمان البرصة وفتاكها ُمقرون بمجوهنم وفتكم ،أما أنا وأنت
نحلة ،كان شيوخها معروفني بالزهادة ٍ فشيوخ قو ٍم وجل ُة ُ
عت
والعبادة .ففي سلفنا من املعتزلة عمرو بن عبيد الذي لو ُو ّز ْ
عبادتُه عىل أهل البرصة لكفتهم .ويف سلفنا بشري الرحال واحلسن
280
البرصي ،ومع ذلك أراك تنهى عن الزهادة والعبادة.
ثم التفت سهل ألحد غلامنه قائال:
- -هات املاء البارد وكرسة خبز يا غالم.
ق ّلب اجلاحظ الكتاب األنيق التجليد وقال:
- -ال أشك يف أن هذا الكتاب من تأليف زنديق!
فرد عليه سهل -وهو يتناول من خادمه طست ًا صينيا ُمزي َن
احلوايش -قائال:
- -وكيف عرفت ذلك؟
- -إن عناية الزنادقة بكتبهم ال تضاهيها عناية ،فال تكاد ترى كتابا
من كتبهم إال جملدا أحسن جتليد ،خمطوطا بخط أنيق يف ورق
ناعم ،كأنه عروس جُتىل لعاشق.
- -واهلل إن هذا لرشف هلم ،فهو من عنايتهم بالعلم.
ظننت ،بل إن إنفاق الزنادقة عىل كتبهم كإنفاق
َ - -ليت األمر كام
النصارى عىل ُكنُسهم وصوامعهم ،وليس من العناية بالعلم يف
يشء.فلو كانت كتبهم مثل كتبنا وتبحث فيام ينفع الناس من
رياضيات وهندسة ،أو علم وآداب ،لكان داعي التأنق فيها
يدخل يف باب حب العلم.
يت بمسودات
سهل حديث اجلاحظ بمناداة أحد عامله ليأ َ قطع ٌ
الكتب التي نُسخت خالل األيام املاضية ،ثم قال:
كنت أخليتَها من الرياضيات واحلساب
- -وماذا يف كتب الزنادقة إذا َ
واآلداب وما ينفع الناس؟
281
يب األنيق،
كان اجلاحظ يتحدث وهو يقلب ورق الكتاب العنا ِّ
فوضعه جانبا ورفع وجهه إىل صديقه وقال:
أدخل يف باب الديانة ،لذلك ال أرى اإلنفاق عىل ُ - -إن كتبهم
تزويقها إال كإنفاق املجويس عىل بيت النار ،والنرصاين عىل
صليب الذهب ،أو كإنفاق اهلنود عىل سدنة البِدَ َد ِة .فكتبهم
دينية ال عالقة هلا بالدنيا .فهم جيملوهنا لرتوج ،لعلمهم بضعف
منطقها ،وهتافت حججها ،فيحاولون تعويض نقص ما يف بنيتها
بإكامل جلودها وحروفها ِ
وشياهتا.
كان اجلاحظ يواصل حديثه وصوته الندي وخمارجه الفخمة تزداد
أناق ًة كلام تكشفت أمامه حجة أثناء حديثه ،وكان سهل ينظر إليه بانتباه،
غري أن أحد النساخني وقف يف وجهه ،وكاه ُله ينوء بعدة جملدات ،ومل
يضعها عنه خيفة مقاطعة اجلاحظ .توقف اجلاحظ عن احلديث فأشار
سهل للنَّساخ أن يضع الكتب عىل الطاولة ذات القوائم الثالث،
املنتصبة بينه وبني اجلاحظ .وضع النَّساخ الكتب ،غري أن يده الصغرية
اليمنى املتسخة من سواد املحربة تركت أثرا عىل طرف أحد الكتب،
فرفع فيه سهل وجهه قائال:
- -أمل أحذرك مرارا من هذا؟
ارتبك النساخ فتحولت صفرة وجهه الصافية وعيناه الصغريتان
الغائصتان يف وجهه املدور إىل محرة وهو يقول:
- -واهلل لقد نفد الصابون الذي نُزيل به سواد احلرب البرصي كام نفد
األُشنان.
- -هذا احلرب متكن إزالته باملاء وال حيتاج لصابون ،فال تُكثر املعاذير،
282
نضبت؟ أم ابتعلت األرض ماءها
ْ أم أن مياه أهنر البرصة قد
وجفت غدراهنا؟
كان اجلاحظ واضعا طرف عاممته السوداء عىل فمه وعيناه تدوران
بني صديقه والنساخ ،وكانت أذناه الصغريتان ترشئبان اللتقاط كل
حرف من احلوار.
- -يا سيدي ،لقد نفد الصابون ،ونفد كل يشء ومل نأكل طعاما منذ
أمس و...
أدخلت موضوعا يف موضوع ،وخرجت من االعتذار إىلَ - -ها قد
االستجداء ،أم ستقول إنك تُنظف يديك من احلرب بالرغيف،
ُ
وتغسل الدوا َة بالكباب والكاسوج؟
- -ال ...يا سيدي ،ما قصدته هو تذكريك فقط بأننا مل نأكل طعاما
منذ يومني.
التفت سهل إىل اجلاحظ فرآه متشاغال بالنظر يف أحد الكتب
ليومهه أنه منهمك يف تأمل الكتاب ،حتى ال يشعر باحلرج أو يغري من
نربة احلوار( .وهي عادة عنده إذا كان شديد احلرص عىل سامع احلديث
اجلاري ،وخياف إذا أظهر االنتباه أن يتحرج املتحدث فيقطع احلديث).
لكن سهال كان يعرف صديقه ويعرف حيلته تلك ،بل يعرف حرصه
عىل سامع معاذيره دون درامهه ودنانريه ،لكي يقصها عند أول جملس
من جمالس األصحاب.
كان سهل قد غري ِجلستَه فأصبح جالسا عىل قدميه ،ويداه
معتمدتان عىل ركبتيه تدوران وهو يكلم غالمه:
- -خذ هذا الدانق والفلس واشرت ثالثة أرغفة بينك وبني أصحابك،
283
وال تدخل أمرا يف أمر مرة أخرى .قم فاشرت خبز ًا لتغسل به
الدواة واحلرب عن يديك!
الفران ،بينام التفت
خرج النساخ من باب الدكان متجها صوب ّ
سهل فوجد عاممة اجلاحظ قد اسرتخت من الضحك.
- -وتضحك أنت!
- -أنت رجل غني ،فلامذا التشديد عىل غلامنك يف النفقة يا سهل؟
غني ِأم َن الفقر!
- -واهلل ليس أحد أفقر من ٍ
فهم اجلاحظ أن صديقه ال يريد االسرتسال يف احلديث اآلن ،فام
دام قد رمى بتلك اجلملة التي يقوهلا عادة عند هناية احلديث ،فذاك
يعني أن نفسه غري منرشحة لألخذ والرد يف موضوع النفقة والتدبري،
فأغىض برصه واندفع يق ّلب ورق املجلد الضخم الذي بيده ،بينام كان
سهل يمسك بقلمه ِ
مراجعا كتبه املنسوخة حديثا.
دخل أحد املشرتين إىل الدكان ،شاب ُغ ٌ
رانق ،شديدُ األرس ،فخم
الصوت ،عليه سيام طلبة احلديث .وقف ثم سأل:
- -هل عندكم يشء من كتب السنن؟
فالتفت إليه سهل مرحبا وقال:
- -نعم ،تفضل وماذا تريد منها؟
- -هل عندك من كتب إسامعيل بن علية؟
مرر سهل يده حتت ذقنه وقال بصوت هادئ:
- -ذاك ليست عندي كتبه.
فوىل الشاب خارجا ،ثم وقف والتفت وقال:
284
- -فهل عندك كتاب السنن لسعيد بن أيب عروبة؟
- -نعم ،ذاك عندي.
وقف سهل وأخذ الكتاب وناوله إياه ،أمسك الشاب الكتاب
ودسها يف يد سهل وخرج.
مقلبا صفحاته ،ثم أخرج دراهم ّ
وقف اجلاحظ وبصق خارج الدكان حتى كادت بصقته تقع عىل
نظرت إليه الفتاة بتأفف وشتمتْه قائلة:
ْ مخار فتاة يف الشارع.
- -أي ٍ
قرد يف صورة شيطان!
وصل صوت الفتاة إىل سهل وهو منهمك يف تصحيح كتاب بني
يديه ،فقال بلهجة غنائية:
رب أعوذ بك من مهزات الشياطني»!
«- -وقل ِّ
عاد اجلاحظ ِ
خجال وجلس وهو يغري املوضوع سائال بنربة تطلع:
- -هل من أخبار عن أيب نواس؟
رفع سهل رأسه عن املجلد الذي بني يديه ،تارك ًا طرفيه بني رجليه
وقال:
- -أخربين حممود الوراق ،أنه ُقتل يف بغداد بعد خلع األمني وقتله.
شعر اجلاحظ بسخونة تتصاعد مع عروق رأسه وهو يذكر اخلرب:
- -هل عرفتم كيف قتل؟ وملاذا؟
- -أنت تعلم أنه كان مالزما لألمني املخلوع ،وأنه كان شاعره،
حتى إن أنصار املأمون كانوا يعريون األمني بقرب أيب نواس
منه ،فلام كثرت الفوىض يف بغداد وانترش السلب والنهب اضطر
لالختفاء ،ثم انقطعت أخباره زمنا.
285
- -لعل احلشوية قتلوه .فقد اشتد بأسهم يف بغداد ...وال أشك أن
أصحاب ابن املديني هم من قتله.
- -هل أقلع عن استهتاره باخلمر قبل موته؟
- -يموت املرء عىل ما عاش عليه.
- -كيف؟
- -حدثني حممود الوراق ،أهنم سمعوا مرة أنه تاب وعزم عىل
دخول دار الصوفية .فخرجوا من املسجد ودخلوا عليه ليهنئوه.
فلام علم أهنم قادمون إليه وضع بني يديه باطي ًة كبرية ،وجعل ال
يدخل عليه أحد هينئه إال أمسك الباطية ورشب منها ثم أنشد:
نزع�ت ،و ّمل�ا يعلم�وا وط�ري
ُ قال�وا
ِ
يف كل أغي�دَ س�اجي الط�رف م ّي ِ
�اس
تقاس�م ُه
الن�زوع وقلب�ي ق�د َ
ُ كي�ف
ِ
بالكاس! وق�رع الس� ِّن
ُ ُ
حل�ظ العيون،
فخجل جلة الشيوخ الذين جاءوا لتهنئته وانرصفوا ومل يعودوا
ملثلها إىل أن سمعوا بمقتله يف الفوىض.
يصاعد إىل دماغه مفكرا يف أن العالقةشعر اجلاحظ ببخار ّ
بالسلطان كثريا ما تأيت بقتل أو سحل يف النهاية ،والبعد من السلطان
يقود إىل العوز والفقر املدقع.
انشغل ذهنه بتذكر جمالسته األخرية ألمري البرصة ،وذلك املال
الذي مكنه من اكرتاء بيت مجيل واسع ،ورشاء فتاة حسناء ستزف له
هذا املساء ،ثم شبك يديه وجعلهام بني ركبتيه ،وقال لسهل حماوال طرد
تلك األفكار بصوت كأنه تنهدٌ :
286
- -سمعت أن األمور بدأت تستقر منذ دخول املأمون ،فاحلشوة
واملطوعة بدأ هياجهم خيبو.
َّ والعامة
- -مل ترك املأمون بغداد هذه السنوات الست؟ فاملخلوع قتل عام
ثامين وتسعني ومائة ،لكن املأمون ظل بخراسان تاركا مدينة
أجداده للرعاع!
التفت سهل قائال بحامس:
- -املأمون رجل ملة وأمة وعلم ،فهو يفهم أن القوة واملنعة والسياسة
يف فارس ال يف بغداد ،حيث يرتاءى منزل اخلليفة مع منازل
األعراب!
شعر اجلاحظ بضيق ،فاعتدل قائال بحدة:
- -وهل األعراب إال فوارس وصناع دول؟
َ
اجلاحظ بعينيه وضع سهل عاممته فبدا ثائر الشعر ،ثم حدج
احلادتي:
نْ
- -البد أن تعرف فرق ما بني م َلكة الشجاعة و َم َلكة احلرب ،وبني
القدرة عىل اهلدم واملقدرة عىل البناء .فإذا كان العريب فارسا
-وهذا ما ال ينفيه أحد ألن معظم قادة اجليوش عرب -فإنه ال
يعرف السياسة وال التدبري ،وأهل فارس أصحاب رأي وفكر
وسياسة وتدبري ،ثم إن أ ّم املأمون منهم ،فام العيب يف جلوس
الرجل بني أخواله؟
- -مل أقل إن يف ذلك عيبا .لكني تعجبت من إمهاله لبغداد وهي دار
اخلالفة.
287
- -عاقبهم ملنارصهتم املخلوع ،وتقريبهم له ألن أمه قرشية.
تؤول كل أمر تأويال شعوبيا ،وهل بغداد إال
- -أنت يا أبا هارون ّ
فارس العراق؟ فام فيها من الفرس أكثر مما يف فارس!
ُقر بفضائل العجم لتعصبك للعرب ،وال
- -وأنت يا أبا عثامن ال ت ّ
عليك ،فاملأمون خليفة من أهل العلم ،وهو ممن حيب هذه اجلامعة
املباركة من املعتزلة .وقد سمعت أنه بدأ يقرهبم من جملسه.
عج ذهن اجلاحظ بصور خمتلطة فيها البيوت الفاخرة ،واجلواري
ّ
احلسان ،والرجال األشداء ،والسحل والسجن واجللد ...مع طيف
من صورة اجلارية علية .فخفق قلبه وهو يفكر فيها.
لكن ما مل يدُ ر بخلده أن ذلك العامل كان أقرب إليه مما يظن.
***
مل تشعر علي ُة بشعور األمان الذي يسكنها هذا املساء منذ سنوات.
كانت جالسة وسط هبو الدار عىل سجادة خراسانية فاخرة ،واجلاحظ
ٍ
مستلق قرهبا يكتب كتابا ،رفعت عينيها الواسعتني فالحت هلا العصافري
تزقزق خارج املنزل ،واألفق تلبده غيوم تشارف اإلمطار.
طريف مالءهتا -ناظر ًة إىل اجلاحظ
ْ أعادت عينيها -وهي تشدّ
يمر عىل رشائه هلا إال وقت قصري،
منهمكا يف الكتابة .استغربت أنه مل ّ
لكنها تشعر معه بأمان مل تشعر به منذ زمن طويل.
كانت تتأمله ،فشعر بعين ْيها خترتقانه ،فانتبه ،التفت إليها فقرأ يف
عينيها حنانا ووهل ًا وحزنا واستعداد ًا للحديث .أعاد عينيه إىل كتابه
سائالً ،وكأنه ال هيتم باجلواب:
288
- -فيم تفكرين يا علية؟
- -أفكر فيك!
المست جوانب من روحه مل تُلمس قط.
ْ رمى القلم ،وكأن كلامهتا
فقال هلا بصوت هادئ:
- -وما وجه تفكريك ّيف؟
- -أنا يا أبا عثامن...
ثم انحدر دمعها ،فسكتت.
تستدعي
َ معضلة الرجل مع املرأة أهنا تظل ضعيف ًة أمامه إىل أن
وتنهار سدو ٌد ومتّحي
َ ذلك املاء السحري من مآقيها ،فتسقط جدران
حدود.
الدمع حتى تفرض
َ فالرجل يعرض أحيانا عن املرأة ،وما إن تُسبل
االهتامم .وأقدر األقوياء عىل هزيمة خصمه من تظهر قوتُه يف اللحظة
اخلصم ضعيفا .وسالح املرأة السحري ينبجس يف حلظات ُ التي يظنه فيها
ضعفها ،وهي حلظة يكون فيها اخلصم مسرتخيا ومسرتحيا وبال سالح.
دمع امرأة قط منذ فجر التاريخ!
لذلك مل هُيزم ُ
قفز من مكانه وجلس إىل جنبها ممسكا يدها:
- -ال تبكي يا علية ،ال تبكي يا...
كان مرتددا يف نطق تلك الكلمة.
فقد سمع كثريا من أصحابه يتحدثون عن أن آفة اجلارية أن تفهم
عشق سيدها هلا ،وهو يعلم أنه عاشق وهلان ...لكنه يتجلد.
مىض وقت وهو ممسك بيدها دون أن يتلكام ،لكنه فوجئ بشفته
289
السفىل ترتعد .أرسل يدها برسعة متظاهرا بأنه سيبصق .مشى إىل باب
فسمعت صوته حياول أن يبصق.
ْ البيت،
شعر ٍ
بعرق خفيف يتجمع عىل ناصيته ،وهو يسائل نفسه مندهشا:
هل فعال عشقت هذه اجلارية؟
قاهلا وهو يتذكر آالف اخلواطر التي مرت به ،وآالف املرات التي
عزم فيها أال يتعلق بامرأة قط بعد متارض .وال يدري كيف تذكر يف هذه
اللحظة نقاشه قبل أيام مع أصحاب احلديث عن قدرة اإلنسان عىل
خلق أفعاله.
فهو مؤمن بأن اإلنسان خملوق خمتار يصنع ما يشاء بإرادته دون
تدخل للمشيئة اإلهلية .فهو يملك بني جوانحه مساحة حرة يقرر فيها
ما يشاء .ثم فكر كيف يمكنه أن حيتج هبذه احلجة بعد اآلن إذا كان ال
يريد أن يعشق هذه اجلارية ،لكن قلبه خيفق وجبينه يتفصد ...وشفته
السفىل ترتعد عندما رآها تبكي.
عاد وقد استجمع قواه ،جلس إىل جانبها فالتقت عيوهنام ،تبارقت
العيون األربع ...ولن يستطيع أي منهام إخفاء أن يف تلك العيون وهلا
وحبا وتوترا وأخيلة وأسئلة.
ثرى وطني.
التقت عينان من در وعسجد ،وعينان من ً
دارت عيناه برسعة ،فكثر ماؤمها فجأ ًة وتسارعت حركات أهداهبام.
وحتركت عيناها اللتان ج ّفتا ،وإن كانت وجنتاها النديتان حتبسان دمعا
فح قبل قليل.
ُس َ
تساءل يف نفسه هل هي دموع صادقة؟ أم دموع جارية تتقن فن
اللعب بالقلوب؟
290
فدموع البرش ال ختتلف عن أحاديثهم يف يشء .فمعظمها كذب
وتصنع ،بعضها جمامالت ...ونادرا ما يتدفق الدمع خارجا من معني
القلب.
هم بالوقوف فجذبت طرف
عانقها بحرارة دون أن يتلكم ،ثم ّ
كمه:
- -أمتنى أن تبعث نفيسا إىل السوق ليأيت بعود يا أبا عثامن ألسمعك
ما مل تسمع قط.
جلس دفعة واحدة حمدقا فيها وهو يقول بصوت مرتع باملفاجأة:
- -هل حتسنني الغناء؟
فقالت بغنج مشوب بلهجة متوعدة:
- -أحسن منه ما ال حيسنه الغريض وال معبد وال زرياب.
فقال هلا وهو يفكر يف دمعها الذي جف فجأة:
- -ومن ع ّلمك الغناء؟
أشاحت بنظراهتا عنه متصنعة التشاغل بإزالة بقعة عن السجادة:
- -تعلمته وأنا صغرية يف أصفهان.
- -لكن إتقان الصنعة حيتاج ِمران ًا ومعلمني حذاقا!
- -ال أحد يف أصفهان إال يتقن الغناء .ثم..
وتذكرت عدم معرفتها بأصفهان ،فهي مل تزرها قط ،فخافته أن
يسأهلا سؤاال حمددا ،ففاجأته سائلة:
- -هل زرت أصفهان؟
- -نعم ،وجالست شعراءها وكتاهبا ودخلت بيوت الغناء فيها.
291
- -سآتيك بحساء فاليوم بارد.
كان جالسا وظهره إىل اجلدار متأمال شعرها املنسدل ومالءهتا
الداكنة ،متسائال هل لدهيا رس ختبئه داخل ذلك الصدر الفتان ،وقفت،
العطر أرنب َة أنفه ،وهي تدندن
ُ ومرت من أمامه متعمدة أن يالمس ثوبهُ ا
بأبيات أيب قطيفة يف شوقه إىل املدينة املنورة:
أال لي�ت ش�عري ه�ل تغّي�رّ بعدنا
وحارضه
ُ العقي�ق
ُ ُقب�ا ٌء ،وهل زال
ٍ
حمم�د ح�ت بطح�ا َء ِ
قبر وه�ل ِبر ْ
ُباك�ره
غ�ر م�ن قري�ش ت ُ ُ
أراه�ط ٌّ
مشت يف البهو ٍّ
بتأن ودخلت املطبخ وهي تغني األبيات بلحن
املوقع بإتقان من بني أصوات قرع
شجي ،فرتامى إىل سمعه صوتهُ ا ّ
األواين بعضها ببعض.
وقف من مكانه متّجها إىل غرفة كتبه وهو ممزق الوجدان.
فال يدري هل يطري سعادة هبذا اجلامل اآلرس والصوت الشجي
وإحكام صنعة الغناء؟ أم ينقبض خوفا من أن يكون وراء هذه اجلارية
رش مستطري مل تفصح عنه؟
جلس عىل طرف رسيره ومد يده بتثاقل وأمسك كتابا ليقرأه.
الرياح الباردة القادمة من مدخل الدار مع صوهتا الشجي مرة
ُ وه ّب ْت
أخرى وهي تدندن:
وصف�و م�وديت
ُ هل�م منته�ى حب�ي
ْ
سائره!
وحمض اهلوى مني ،وللناس ُ
ُ
***
292
الدوحة1439 ،هـ
قفز رئيس التحرير إىل قسم اإلنتاج ،حيث جيلس املنتجون الذين
ين ّفذون النرشات عىل اهلواء .جاء يركض الهثا:
- -هل تأكد اخلرب؟
- -ال ،ما زلنا ننتظر.
وقف منتج قصري ضخم البطن ومد يده إىل األعىل:
- -انظر إىل الشاشة ،إن البي يب يس بثته ،يمكننا أن ننقله عنهم...
حدجه رئيس التحرير بنظرة تأنيب:
- -كيف ننقل عن البي يب يس خربا يف العامل العريب ...هذا ملعبنا نحن،
يقع!
وما مل نؤكده نحن فلن يتأكد ...واخلرب الذي ال نبثه نحن مل ْ
وظهر عىل شاشة البي يب يس بعد قليل تنويه باالعتذار ،عن نرش
خرب وفاة زعيم دولة عربية ،فصفق منتج النرشة الرئييس الذي ظل
يتقلب عىل مجر احلرية بني اخلوف من الوقوع يف نرش خرب كاذب ،أو
فوات خرب هبذه األمهية.
وظهر باألمحر أسفل الشاشة خرب يقول:
«طبيب امللك اخلاص :ال زال امللك يرقد يف املستشفى وصحته
تتحسن».
293
أحس الكل باالرتياح ،وجاء صوت القروي:
- -خطأ!
ٌ
أعناق من رجع رئيس التحرير مهروال ،من مكتبه ،وامتدت
مكتب اإلنتاج مستفرسة .فقال القروي وهو يدس يده يف جيب
بنطاله:
- -هناك فرق بني «ال زال» و«ما زال» ،فاألوىل للدعاء يف األغلب.
كقول الشاعر:
م�ي على البِلادار ٍّ
اس�لمي ي�ا َ
أال ي�ا ْ
ِ
لا بِ َج ْرعائ�ك ال َق ُ
ط�ر! و«الزال» ُمن َْه ًّ
فاألمثل أن «ال زال» للدعاء.
دو ْت غمغامت مفاجئة يف أطراف غرفة األخبار ،وعاد االطمئنانّ
ملنتجي النرشة ،وتدخل رئيس التحرير قائال وشفتاه تنفرجان عن أسنانه
الطفولية:
- -يا حممد ،خوفتنا ،وكالمك صح .غريوها إىل «ما زال».
ونظر القروي نظرة استفسار لزميله املدقق اجلالس بجانبه ،فنزع
نظاراته الكثيفة ومال عليه:
- -هم كانوا متوتّرين ،فظنوا أنك تنبه عىل صياغة خاطئة يف اخلرب
تعطي معنى مغايرا ملا أرادوه.
وتذكر القروي أن ال ناقة له وال مجل يف التدقيق .وبدل أن جيلس
ليواصل الكتابة ،رن هاتفه وكانت أمه عىل الطرف اآلخر.
- -ال أسمعك جيدا.
294
وصعد السلم إىل الكافترييا ،بحثا عن جو أهدأ .فأصبح الصوت
أوضح.
- -أبوك اشتد مرضه!
- -كيف؟ ما باله؟
- -أنت ولده الكبري ،وكان حيلم بأن يراك تتزوج من إحدى بنات
عمه ممن ترفع الرأس ...يكون أهلها خؤولة ألبنائك .لكنك....
وشعر بدوار يف رأسه ،وتسارع يف نبضات قلبه ،ومتاسك:
- -طيب ...ماذا أفعل؟
نظره مع
مرسحا َ وانقطع االتصال .وجلس عىل أحد الكرايس ّ
النافذة املطلة عىل الشارع .فرأى طوابري السيارات أبدي ًة ال هناية هلا.
وملح عماّ ال آسيويني يرتاكضون إلدراك باص يتوقف غري بعيد منهم.
ثم ملح طرف القمر يطل من ناحية الكورنيش هزيال حزينا ،ملبدا بغيمة
تائهة.
شعر بعبثية كل ما هو فيه ،وحتولت املذيعة املطلة من الشاشة
ِ
املغروزة يف طرف الكافترييا إىل طفلة عابثة يف عينيه .فام قيمة هذا العامل
الكاذب الذي نرتاكض فيه كاملجانني؟
مل يعرف هل يكلم والده اآلن ،أم يكلم أمه لتوصل إليه رسالة،
فالعادات متنعه من فتح قصة الزواج مع أبيه.
وال يدري كيف خطر له أن يكلم حصة ليخربها اخلرب ويسمع
رأهيا .وأمسك هاتفه واتصل.
- -أيوه.
295
- -كيف احلال؟
- -ال تكلمني مرة ثانية!
- -إيش؟
- -ما تكلمني مرة ثانية لو سمحت ....مفهوم؟
وسمع صوت وقوع هاتفه عىل الرخام األبيض بني رجليه.
وختيل نفسه وقد عاد إىل موريتانيا ،جاء ليال إىل مضارب قبيلته،
حيث تكفي إشارة منه لنيل ود أمجل فتاة أنجبتها القبيلة .فهو الفتى
املتعلم ابن احلسب والنسب ،وليس يف قبيلته فتاة متعلمة أو جاهلة إال
وتتمناه.
لكنه عندما ختيل نفسه مع فتاة غريها ،وجد قلبه ال يطاوعه.
هي فقط التي يريد ،بابتسامتها احلائرة ،وجنوهنا األبدي ،وقصصها
وأحابيلها ،وهاتفها القديم ،ووسواسها اإللكرتوين.
ال يتخيل نفسه مع فتاة غريها .ال يتخيل احلياة مع أي فتاة أخرى
إال حياة َمواتا باهتة ال روح فيها ،حياة ال حركية للزمن فيها.
ما الذي أغضبها؟ ماذا فعل حتى يغضبها وتطلب منها قطع حبل
الود أبدا؟
مشى خطوات إىل البائعة الفليبينية ،وطلب قنينة من املاء وعاد
وجلس وسط القاعة.
ما الذي أغضب تلك احلمقاء يا ترى؟
وبدأ حماسبة نفسه :ما الذي دفع يب إىل كل هذا؟
ثم فكر يف غباء أحد أصدقائه حني قال له يوما:
296
- -ال سعادة إال لعاشق.
عمق له الفكرة بأن العاشق ال تراه إالثم تذكر غباءه هو ،وكيف ّ
َ
مرشق الوجه كأنام الدنيا بني يديه. ضاحك السن،
ثم خطر له أن أتعس الناس هم العشاق ،وذلك ألهنم يظنون
السعادة يف قرب املحبوب ،ويغفلون عن أن جمرد وجود املحبوب بداية
العذاب ،ألن مفتاح سعادة اإلنسان حينها يصبح بيد شخص آخر،
يغلق قل َبك وقت ما شاء ويفتح لك أبواب الرسور متى شاء.
ودخل أحد الصحفيني ورمى التحية:
- -كيفك يا حممد؟
- -بخري.
وعاد إىل األسئلة احلارقة .كيف رمى فجأة -يف غفلة من عقله-
بمفاتيح قلبه إىل تلك الفتاة لتعبث به كيف شاءت؟ تفتح له أبواب
السعادة ،فتنفرج أسارير وجهه وتطيب عرشته للناس .وما إن تقرر
إغالق قلبه حتى تتحول احلياة يف عينيه موكبا عبثيا ال معنى لهٌ ...
عامل َ
يرتاكضون إىل باص ،وطابور من السيارات ال ينتهي ،وقمر كئيب،
وأشباح برشية تتقافز عىل شاشة مثبتة يف طرف حجرة باردة.
قام من فوق مقعده ،فسمع إشعارا برسالة نصية يف هاتفه.
ملحها ،فوجدها من حصة .مل تزد عىل سطر:
روح تزوج زينب بنت األمني».
«كذبت عيلْ ،
وشعر بكيانه هيتز.
كيف عرفت تلك الشيطانة هذا االسم ،ومن أخربها به؟!
297
ويف غمرة املفاجأة راح يستعرض احتامالت وصول االسم لتلك
الشيطانة .ثم تذكر.
كيف أمسكت هاتفه للحظة ،وتذكر قوهلا له مرة إهنا تستطيع
الدخول إىل أي هاتف شاءت.
وتراءت له ضحكتها املستفزة قائلة:
- -النفاثات يف العقد!
وختيل روحه عارية أمامها ،تقرأ خلجات قلبه كلها ،متأمل ًة كل
صوره يف املايض واحلارض ،وكل حاالته نائام ومستيقظا.
وتذكر وجه زينب بنت األمني ،وضحكتها الدائمة وبراءهتا ،وكوهنا
ال تكاد تتهجى احلروف ،فكيف بالسطو عىل أخص اخلصوصيات.
ٍ
سجني هارب كُبل وانتابه شعور بالعجز .شعور ٍ
طائر يف قفص ،أو
فجأ ًة بأغالله من جديد ،تراخى عىل كرسيه ،وشبك ساعديه ووضعهام
عىل الطاولة ورمى رأسه بينهام .ثم جاءه صوت مازن:
- -هال حممد كيفك؟
ورفع وجهه من بني ذراعيه بتثاقل ،حماوال مداراة أكوام اهلموم
التي حيمل فوق كتفيه:
- -بخري.
وغمزه مازن بطرف سيجاره ممازحا:
- -مالك يا أخي؟
- -أحدثك الحقا.
ونظرات
ُ ومشى بتثاقل كأنه يقتلع رجليه من األرض اقتالعا،
298
مازن املتسائلة تُشيعه حتى توارى وراء باب الكافترييا.
نزل من السلم وهو يطرد من ذهنه عبار ًة قرأها قديام لنيتشه،
قلب الرجل مكمنا للقسوة، واستيقظت من ذاكرته فجأة« :إذا كان ُ
ْ
فقلب املرأة مكم ٌن للرش»!.
299
البصرة 200 ،هـ
مر يومان كامالن عىل اجلاحظ مل يرتك خالهلام بيته حتى إىل املسجد،
ّ
سقطت كل مهوم الدنيا عىل هامته ،ومما زاد يف مهه أن علية مل تستطع
التخفيف عنه ،بل زادت مهه مهوما.
نزل عن رسيره وأخذ كتابا عن اخليل عند العرب ،وعاد إىل الرسير
ليقرأه ،استلقى عىل قفاه واضعا الكتاب اجللدي عىل صدره ،وبدأ يقرأ.
قرأ صفحات ثم الحظ أنه مل يفهم كلمة .كأن موضوع الكتاب
عن السفر إىل بغداد وجاريته علية ،وتاريخ الرصاع بني املأمون وأخيه
األمني الذي ُقتل قبل سنني ،وحقيقة ابن الزيات.
الكتاب منزعجا مفكرا يف خداع عقولنا لنا حتى مع الكتب.
َ وضع
فهل الكتب ال تعطينا إال ما يف أذهاننا أصال؟ وإال كيف قرأ صفحات
ال يذكر منها إال أنه سيدخل بغداد وينادى باسمه عند باب أثرى أثرياء
بغداد ابن الزيات ،مع أن الصفحات تتحدث عن اخليل!
جلس ُم ِنزال رجله من فوق الرسير ،متسائال :هل يعني هذا أنني
ال أجد يف الكتب إال ما كان مطمورا يف ذهني قبل قراءهتا؟ فال أجد
فيها إال ما أريد أن أجده فيها؟ وهل هلذا عالقة بقول حكيم اليونان إن
العلم ما هو إال تذكر ،واجلهل ليس إال نسيانا؟ فحتى هذه الكتب التي
301
أفنيت العمر يف مجعها ومعارشهتا ال تعطيني ماهيتها ،فال متنحني إال ما
ُ
كان مطمورا يف دهاليز نفيس.
قام من فوق رسيره ملقي ًا نظرة عىل علية التي بدت قمرا وهي ما
بني اليقظة والنوم .نظر إليها وهو يفكر هل يف العراق جارية أحسن
منها ،لكن ذهنه ذهب إىل الرسالة التي أتته أمس وغريت عامله.
إذ كان جالسا وسط حلقة املسجد يناظر بعض أصحابه يف الفلسفة،
كان هو يدافع عن األدلة عىل وجود اهلل وإمكان النبوءة ،وكان أحد
أصدقائه حيشد األدلة عىل استحالة النبوءة عقال ،فدخل عليهم فجأة
جندي.
وقف اجلندي قرب السارية يف مالبسه السوداء ،وعاممته ا ُملق ّب ِبة،
وذراعاه املفتولتان تغطيهام جلو ٌد واقية.
انحبست األنفاس انتظارا ملا يقوله .قال اجلندي الذي يبدو عليه
اإلرهاق:
- -أين أبو عثامن عمرو ب ُن ٍ
بحر اجلاحظ؟
ما إن أهنى اجلندي كلمته حتى التفت الناس بعضهم إىل بعض،
خوفا من أن تكون يف األمر وشاية عند سلطان ،أعاد اجلندي سؤاله
بحزم مغريا صيغته:
- -أيكم اجلاحظ؟
ِ
ببنت فالتفت اجلالسون هذه املرة إىل اجلاحظ دون أن ينبسوا
شفة ،أما اجلاحظ فمرت بذهنه آالف االحتامالت يف ثوان ،فكّر يف أن
اجلندي ربام يدعوه ملنادمة السلطان بعد أن سمع أو قرأ أحد كتبه ،أو
302
لعله جاء بعد أن وشى به أحد طالب احلديث متهام إياه باالستخفاف
باحلديث واملبالغة يف مكانة العقل ،وسط تلك االحتامالت واألخيلة
حس آه....
حس آهّ ،
سمع رصخات بشار بن بردّ :
رفع يده قائال:
- -أنا اجلاحظ.
عرف بنفسه عن شجاعة ثم تقلصت شفتاه رعبا ،فال يدري هل ّ
أو خوف .فكثريا ما ُأ ّو ْ
لت ترصفات نابعة من الشجاعة عىل أهنا جبن،
وأخرى نابعة من اخلوف عىل أهنا شجاعة.
فعندما يقفز اإلنسان من ٍ
عل ليقتل نفسه ،أمل يملك قدرا من
الشجاعة مكّنه من القيام بتلك اخلطوة املهولة؟ ومع ذلك ،أليس اجلبن
عن مواجهة أعباء احلياة الدافع وراء تلك اخلطوة الرهيبة؟
ضج خياله بتلك األسئلة حتى يف هذه اللحظة ،فذهنه ال يتوقف
عن املقارنات .أثناء ذلك ،تقدم اجلندي وناوله كتابا.
أيفتحه هنا بني رفاقه ،أم ينتظر حتى خيرج
ُ تناول الكتاب حمتارا.
فلعل فيه ما يستحق الكتامن ،التفت إىل جلسائه ،فرأى الوجوه وامجة،
صت ،وبعض العيون تغيض إىل األرض خمافة الشامتة، والشفاه قد تق ّل ْ
وتلهف وأسئلة حمبوسة تكاد تفر من عقال شفاهها.
ٌ وأخرى فيها بريق
أما اجلندي ،فلم ينتظر ،وو ّىل ماشيا ،خارجا من باب املسجد.
التفت أحد اجللساء إليه قائال:
- -ما دام الرسول قد و ّىل ،فاألمر أمر خري.
ابتسم اجلاحظ ،وهو يرفع يرساه إىل وجهه خلس ًة ليمسح حبيبات
303
عرق جتمعن عىل جبهته ،متمنيا أال يكون جلساؤه الحظوا وجودها.
ثم التفت إليهم متصنعا االبتسامة ،ملمحا إىل آخر فكرة كان خصمه
يدافع عنها فقال:
- -وما الفرق عند احلكامء بني رسول البِرش ونذير األرس؟ فأحوال
هذا العامل قائمة عىل الوهم!
رست ضحك ٌة متفاوتة مفعمة بالتوتر واالنتظار .أمسك اجلاحظ
الكتاب بيرساه وبدأ حيل اخليط اجللدي الذي يطوقه بيمناه.
لكن اضطراب إهبامه كان كاشفا عماّ انتابه بوضوح.
كانت الرسالة من بغداد تطالبه باحلضور حاال.
***
304
بغداد ،ما بين 200و 208هـ
305
سمع صوتا آتيا من أعىل يقول:
نذير الشؤم!
- -هو واهلل ُ
رفع برصه فرأى سيدة بخامر أسود تتحدث إىل جارهتا من رشفة
منزهلا ،وبيدها قطة شائهة اخلَلق .شعر بانزعاج وتطيرّ وهو يفكر يف
أن أول كلمة يسمعها يف طريقه إىل منزل ابن الزيات هي كلمة «نذير
ضار وال نافع إال اهلل .ثم
الشؤم» .لكنه مل يلبث أن راجع نفسه أن ال ّ
عاتب نفسه :إذا كان أهل العدل والتوحيد يتطريون فامذا تركنا للعامة
والدمهاء؟
طرد التطري من ذهنه متذكرا صورة علية واقفة تودعه ...حائرة بني
البكاء والوداع ..متأرجحة بني عالمَني.
صورهتا -وهي واقفة أمام منزله ملوحة بيدها -تكاد ختتنق
بعربهتا .غري أن ما جعلها ال تغيب عن ذهنه ليس شوقه إليها فحسب،
بل ذلك الرس الغامض الذي ختفيه ،وذلك اخلوف الذي يستبد به كلام
فكر يف ذلك األمر الذي ختفيه.
مل حتك له القصة كاملة ،فلو حكتها له السرتاح .أعطته أنصاف
حقائق وأنصاف مجل ،وأنصاف خالصات.
وأنصاف احلقائق أخطر من غياب احلقائق بالكلية .كام أن الغياب
الكامل للحديث أكثر إفهاما وإفصاحا من احلديث املتقطع امللتوي.
ألح سمع
فهم منها قبل سفره حزنا وخوفا عليه وعليها .وعندما ّ
منها كلامت« :بغداد ،...كنت جارية ،...وال أستطيع ،...وهو املوت.»...
تذكر ما قاله لصديقه النظام من أن األدب وإحكام الصنعة الذي
306
عندها ال يكون إال جلارية خليفة أو أخد من حاشية اخلليفة.
كانت هذه األفكار تتقافز يف ذهنه وهو يقف أمام احلارس قائال:
- -قل له :عمرو بن بحر بالباب.
بعد قليل عاد احلارس ليقوده إىل غرفة واسعة مؤثثة بفرش
الصوف أحسن ما يكون األثاث .جلس متأمال الغرفة ،وهو يقارن
بني هذا األثاث وأثاث بيت أمري البرصة ،مالحظا تواضع جملس األمري
مقارنة هبذه الغرفة.
رفع نظره متأمال السقف املزين بالفسيفساء الدقيقة التي متيل
ألواهنا وزركشاهتا إىل األخرض والذهبي .ثم ردده يف زواياها فرأى
فهودا ذهبية كأن احلياة تدب فيها ،وعىل مقربة منها طاولة دائرية قصرية
القوائم عليها كتب وقراطيس وأقالم.
ثم سمع صوتا قادما يف الردهة.
دخل ابن الزيات مرتديا مالبسه متشحا سيفه وهو يقول بضحكة
واسعة:
- -أخريا رأيناك!
وقف اجلاحظ مرتبكا حتى كاد يعثر وهو يقول:
رشفكم اهلل!
ّ --
تعانقا ثم أشار ابن الزيات إىل ركن الزاوية:
- -تفضل ،تفضل.
كان قلب اجلاحظ ممزقا بني السعادة واخلشية ،وبني الطمع يف
السالمة والطمع يف املغنم .فكان ينظر إىل االبتسامة الواسعة عىل حميا
307
الزيات ،فريجح أنه ما أتى به إال ليقتبس من علمه وأدبه .لكنه ما يلبث
أن يراجع نفسه متذكرا أنصاف اجلمل التي قالتها له علية وهي ترتعد.
انتشله ابن الزيات من تلك األفكار قائال:
- -واهلل إن كتبك أشهى من الراح بأيدي املالح يا أبا عثامن.
- -شكر اهلل لكم.
قاهلا وشعور باألمان جيتاحه بتدرج ،طاردا عنه صورة علية.
دخل غالمان حيمالن صينية كبرية عليها أوان خمتلفة مغطاة بقامش
من احلرير .وضعاها ثم انرصفا.
دخل غالم آخر وأزاح الغطاء فظهرت مائدة ملونة ال تكاد ختلو
من صنف من أصناف الطعام.
بذل اجلاحظ جهده حتى ال ينشغل بالنظر إىل ِخوان الطعام عن
عيني جليسه .بادره ابن الزيات قائال:
النظر يف ْ
- -تفضل يا أبا عثامن ،ثم قل يل كيف أنت وكيف حال البرصة؟
وكيف رأيت بغداد؟
اقرتب اجلاحظ من اخلوان وقد اطمأن به املجلس ،فابتسم نصف
ابتسامة وهو يقول:
- -واهلل يا أبا جعفر ،إن البرصة بخري ،وإهنا ألحسن مدن الدنيا.
- -وما الذي جيعلها أحسن مدن الدنيا؟
- -إن البرصة عامل صغري ينطوي يف تالفيفه العامل األكرب .ففي أي مدن هذا
العامل جتد النسطوري واملانوي والعامي والشيعي والصويف واألعرايب
واخلراساين والبنوي والزنجي يف صعيد واحد إال يف البرصة؟
308
- -صحيح!
قاهلا ابن الزيات ومل يزد عليها ،وكأنه حيث اجلاحظ عىل مواصلة
حديثه.
- -فأنت إذا رست يف شارع واحد من شوارع البرصة سرتى عابد
َ
ومؤذن املسلمني، وماسح الصليب النرصاين،
َ البِدَ َدة اهلندي،
واملجويس واملانوي .وال أحسب مدينة من مدن العامل غري البرصة
حتوي ذلك كله.
مد ابن الزيات يده لقطعة من البطيخ ثم قطعها بأناقة وناوهلا
للجاحظ وهو يقول:
- -لكن بغداد تكاد تساوهيا يف ذلك .ولوال الفتنة التي خربتها خالل
أنافت عليها.
ْ األعوام املاضية لكانت
- -إن للبرصة ما ليس لغريها من املدن ،فالسعر فيها أرخص ،فهو
عىل النصف من سعر بالد الشام وغريها ،فلو أردت مثال أن تبني
دارا يف الكوفة أو بغداد أو الشام لكلفك بناؤها مائة ألف درهم.
- -سمعت ذلك.
- -أما لو ابتنيتها يف البرصة فلن تكلفك إال نصف ذلك.
- -وما سبب ذلك؟
واجلص وأجذاع الشجر
ّ - -ألن الدار إنام تُبنى باآلجر والطني
واحلديد واخلشب والصناع .وكل هذا بسعر النصف بالبرصة
لكثرة سكاهنا مع وفرة الدرهم والدينار.
- -صحيح.
309
- -ثم إن خراج البرصة وحدها يساوي أضعاف خراج مدن العراق
جمتمعة .فعدد السفن التي تدخل البرصة وال تبيت هبا يف اليوم
الواحد ألفا سفينة.
- -ومع هذا يفاخركم الكوفيون؟
- -ثم إن للبرصة ميزة أخرى يا أبا حممد ،وأنت أدرى..
- -ما هي؟
- -إن خراج البرصة من أكثر اخلراج .فخراج العراق كله مائة ألف
ألف ،واثنا عرش ألف ألف .وخراج البرصة وحدها من ذلك هو
ستون ألف ألف!
رفع ابن الزيات رأسه مبتسام وقال وكأنه يتنهد:
- -آه! أراك اشتقت إىل البرصة وأنت ما تركتها إال أمس!
ضحك اجلاحظ ،ثم عدل جلسته ،فبادره ابن الزيات قائال:
- -هل تدري مل دعوتك يا أبا عثامن؟
- -دعومتوين لكرمكم وحبكم العلم واألدب.
قرأت كتابك عن حيل اللصوص ،وكنت أضحك طول ُ - -لقد
مسا من جنون ،كام قرأت الليل فيظن اجلواري والغلامن أن يب ًّ
لك ُنتَف ًا متفرقة أخرى ،فرأيت أدبا مشوبا بعقل ،وختيال ممزوجا
بظرافة ما رأيت مثلها عند الكتاب وال الشعراء.
شعر اجلاحظ كأن جبال أزيح عن كاهله ،فمدّ يديه ألخذ سفرجلة
من فوق الصينية وقال:
- -ما ذاك إال من أدبكم وطيب منبتكم.
310
رفع إليه ابن الزيات وجهه ،فالحظ للمرة األوىل درجة دمامته
وهو يتأمل رأسه الدقيق ورقبته القصرية ،فبادره قائال:
- -سأشرتط عليك يا أبا عثامن.
- -اشرتط ما بدا لك يا أبا جعفر.
- -أشرتط أن حتادثني كام حتادث أقرب أصدقائك إليك ،وأال
تستعمل الكُنى إال استعامل الصديق هلا.
- -لك ذلك.
ثم قال ابن الزيات وكأنه تذكر أمرا نسيه:
- -دعوتك يا أبا عثامن ألقتبس من علمك وأدبك .فأنا رجل ُولدت
يف بيت تاجر ،إال أن قلبي قلب شاعر ،فتجارة والدي هذه ال
يعنيني منها إال ما أقيض به حاجايت وأشرتي به كتبي.
- -متعك اهلل بمباهج احلياة.
- -لقد أمرت الغلامن بتجهيز مسكنك ،كام أمرهتم بالسهر عىل
خدمتك .وسيأتيك أحدهم غدا لنلتقي يف بيت احلكمة.
مال ابن الزيات جهة الباب وصفق بيديه ،فأقبل أربعة غلامن
يتسابقون ،أشار ألحدهم برفع املائدة وهو يقول:
- -لقد بدأ أمري املؤمنني املأمون يف إحياء «بيت احلكمة» الذي أسسه
آباؤه وقد مأله برتامجة لسبع لغات ،هي :الرسيانية واهلندية
والعربية واليونانية والقبطية والفارسية واحلبشية.
شعر اجلاحظ بغرية دفعته إىل التساؤل ،وهو ّ
حيك رقبته:
- -وهل أجرى عليهم أجورا؟
311
- -نعم ،مخسامئة دينار يف الشهر للمرتجم.
ثم استعجل حتى يعرف طبيعة ما خيبئ له الرجل:
- -لكنني يا أبا جعفر ال أعرف من اللغات إال ُنتَف ًا من الفارسية
قليلة ،وهي ليست لغة علم ومل ُيكتب هبا يشء ذو بال.
فهم ابن الزيات استفسار صاحبه ،فقال مبتمسا:
- -لكني ما أتيت بك للرتمجة .بل ألقتبس من علمك وأعينك عىل
التفرغ للتأليف.
ما إن سمع اجلاحظ العبارة حتى شعر بسعادة غامرة جتتاحه ،شعر
برعدة يف ركبتيه ال تنتابه إال عند اخلوف الشديد أو السعادة الفائضة.
فهل وجد أخريا ما كان حيلم به طيلة حياته؟ هل وجد رجال ثريا يتوىل
عنه شؤون الدنيا ليتفرغ تفرغا تاما للتأليف دون حاجة إىل التفكري يف
املعاش؟
لكن ابن الزيات مل يمهله؛ فقال وقد تذكر ما حدثه به املأمون
البارحة.
- -كيف صاحبكم سهل بن هارون؟
وقع السؤال وقعا غري مريح ،إذ خطر ببال اجلاحظ أن ابن الزيات
قد يسأل عنه ليرشكه معه يف املهامت التي سيكلفه هبا؛ فقال:
- -هو بخري ،وما زال شديد التعصب عىل العرب ،يكاد قلبه حيرتق
غيظا عليهم وحبا للفرس.
ابتسم ابن الزيات -وهو يريد أن يقف ليأخذ كراسة من فوق
الطاولة املستديرة -ثم قال وهو يقلب الكراسة:
312
- -لقد اطلعت عىل رسالته هذه يف ذم العرب ،وواهلل إهنا لظريفة
وحمشوة أدبا و َظ ْرفا.
- -ال شك أنه رجل من أهل البالغة والرتسل ،لكن ذم العرب
وتتبع عوراهتم ليس من شيم األكارم ،وهو مع ذلك صديق
ودود ،ولقد كنت معه يوم كتب هذه األوراق التي بيدك.
ثم روى اجلاحظ كيف كانوا مع املسجديني وجرت مناظرة حامية
بني من يتعصب للعرب ومن يتعصب للفرس ،إذ كان سهل بن هارون
وأبو نواس يتعصبان للفرس ،فيام كان اجلاحظ يدافع عن العرب.
ثم ابتسم اجلاحظ وقال:
- -وبعد انقضاء املناظرة يف املسجد عاد سهل إىل بيته وكتب هذه
الوريقات يف ذم العرب ،غري أن الناس مل تلهج يف ذلك اليوم إال
بأبيات أيب نواس يف ذم الشعراء العرب ووقوفهم عىل األطالل.
- -ماذا قال؟ قاتله اهلل ما أظرفه!
تربع اجلاحظ وقال بصوت فخم وخمارج واضحة:
ِ
الش�ق ّي على رب�ع يس�ائله ع�اج
َ
أس�أل ع�ن خمَ ّ�ار ِة البل�دِ
ُ ج�ت
و ُع ُ
َ
يبكي على طلل الثاوين من أس�د
درك ق�ل يل :م�ن بنو أس�د؟ در ّ ال ّ
قي�س ولفهما؟
متي�م و َم�ن ٌ
و َم�ن ٌ
لي�س األعاريب عن�د اهلل من أحد
حجر ًا
عين�ي من بكى َ
ْ ال ُي ْرقئ اهلل
يصبو إىل َوت َِد! وال ش َفى َو ْجدَ من ْ
313
دوت ضحكة الزيات ورضب رجله طربا عىل األرض وقال:
ّ
- -وأبو نواس مع ذلك عريب يامين النسب ،ولعل ال َّظ ْرف هو ما
محله عىل هذا القول فال هتتم يا أبا عثامن ،فالعرب هام ُة الناس،
الغرة من ال َفرس ،والقالدة من احلسناء ،و َمق َبضِ وموضع
ُ
السيف .فال يرضهم شتم وال يزيدهم ثناء.
ثم وقف الزيات كأنه تذكر أمرا نسيه ،فصفق بيديه ،فدخل غالم
رومي شديد البياض ومال عليه فهمس يف أذنه.
خرج الغالم مرسعا ،والتفت ابن الزيات إىل اجلاحظ وقال:
- -أبا عثامن ،هنأ اهلل منزلك فواهلل إين بقدومك لسعيد ،واحلديث ذو
شجون ،ولعيل أراك الليلة إنشاء اهلل.
عاد الغالم وبيده رصة ،أخذها ابن الزيات ووضعها بني يدي
اجلاحظ ،وقال وقد جتمع الدم يف وجهه:
- -هذه مخسة آالف دينار صلة لك يا أبا عثامن ،فتقبلها مني ،وأمتنى
أن تأيت بأهلك إىل بغداد فهم أهلنا.
تزاحم شعور السعادة واخلجل والغبطة يف نفس اجلاحظ ،فقال
بتلعثم:
- -أحسن اهلل إليك ،وجازاك.
وقفا من مكاهنام فيام اقرتب غالم يقود بغلة ليأخذ اجلاحظ إىل
مكان إقامته اجلديد.
***
314
الدوحة 1439 ،هـ
315
حتاشى الذهاب للكافترييا رغم تفكريه الدائم فيها ،وصار يكلف
صديقه مازنا بإعطائه املعلومات كاملة عن جوها .فام إن ينزل مازن
حتى يتلقاه عند هناية السلم اخلشبي كأنه طفل كبري:
- -هل رأيتَها جالسة هناك؟ مع من تتحدث؟ هل صاحبتها البدينة
سلمت عليك؟
ْ معها؟ هل
ينصت إنصات الرهبان ألجوبة مازن .وينتهز صديقه الفرص َة
الصطناع بعض القصص املزعجة ،ثم ينفجر ضاحكا:
- -أمزح معك يا أخي ،أنت تصدق كل يشء!
ويرد القروي يدَ ه إىل جبهته الغامء ليلمسها قائال بارتباك:
- -بدون مزح ،اهلل خيليك!
يرفع مازن عينيه إىل سقف غرفة األخبار ،ثم يعيدمها لوجه صديقه
متأمال شفتيه الغليظتني:
- -يا أخي عندي فكرة ،ما أدراك أهنا تتمنى لقياك كام تتمنى لقياها؟
ملاذا ال تذهب وتكلمها؟ هي اآلن يف الكافترييا.
معاىف
ً - -أخشى من غوائل العادات اخلليجية .فلو كان املجتمع
يف وعيه ،حس َن الظ ِّن بالناس لفعلت ،فالعالقات بني اجلنسني
ليست طبيعية هنا ،وأخشى أن تنزعج فتشكو مني.
- -ال ،ما أظن ،هي حتبك يف النهاية.
تذكر القروي قصة سمعها عن أحد أبناء قريته ممن ِ
عمل يف سلك
الرشطة بإحدى دول اخلليج قبل عرشين سنة .كان حيرس مفوضية
للرشطة ،ويف الصباح دخل الضابط املسؤول ليجد منشورات معارضة
316
للسلطة عند مدخل املفوضية ،فغضب وطلب إحضار احلريس املناوب،
فجاءه الشاب املوريتاين .فصاح به:
- -لقد أصبحت املفوضية غارقة باملنشورات ،هل كنت نائام؟
فرد الشاب بكل برودة:
- -ال ،كنت مستيقظا ورأيت من يوزعها.
- -كيف؟
- -لكنها كانت امرأة .وضعتها أمام عيني ومل أحرك ساكنا.
- -مل؟
- -خفت إن أمسكتها أو تعرضت هلا أن تُس ّفروين غدا وتضعوا عىل
جوازي ختام يقول« :طرد من البالد بتهمة املغازلة!».
أفاق من تذكر القصة وهو يقول ملازن:
- -أخشى أن حتملها الغرية عىل ترصف ما.
فامل عليه مازن قائال بنربة غنائية:
«- -فالعذارى قلوهبن هوا ُء» ،كام قال شوقي .هي حتبك يف النهاية.
اذهب وكلمها ،وأستأذن منك فعندي نرشة بعد قليل.
مشى مازن إىل قسم املقابالت ،فيام ظل القروي واقفا عند مدخل
غرفة األخبار حائرا ،معلقا بني اخلوف والرجاء .بني العودة إىل كرسيه،
وبني تسلق السلم املؤدي إىل الكافيرتيا حيث جتلس معشوقته.
نظر إىل السلم اخلشبي املؤدي إىل الكافيرتيا كأنه دهليز سحري
يقود إىل الفراديس.
ثم فكر يف تقلب مزاجها ،وصعوبة التنبؤ بترصفاهتا يف أوقات
317
الرخاء والرضا ،فكيف بأوقات الغضب ،وبني ألسنة هليب الغرية ،وما
إن بدأ يتذكر مزاجها املتقلب حتى ازداد تعلقا هبا وشوقا لرؤيتها ،كأنه
يتذكر املحاسن التي جتذبه إليها.
وأحس باندفاع شديد للحديث معها ،وباستهتار بكل احلواجز
والعوائد والعواقب ،ووجد نفسه يضع رجله عىل السلم ليسلمه إىل
مدخل الكافيرتيا .فرتاءت له جالسة يف طرفها وهاتف نوكيا األزرق
القديم عىل الطاولة أمامها .كانت وحيدة ،ونظرت إليه كأهنا كانت عىل
موعد معه دون أن تتكلم.
ودون أن يفكر مشى إليها.
مل ترفع برصها عن هاتفها.
- -كيفك؟
- -احلمد هلل.
وجلس عىل الكريس املقابل ،كأنه يمسك بحافة جبل شاهق،
متأرجحا بني اهلاوية والوصول للقمة ،ورفعت برصها ،فقال:
- -كل ما أريده ِ
منك أن ترتكيني أرشح لك قص َة تلك الفتاة...
زينت بنت األمني.
ورفعت إليه برصها دون أن تنبس ،وامتأل خياهلا بصورة تلك
الفتاة ذات االبتسامة اآلرسة ،واملالبس امللونة ،واحلناء القانية.
وقرأ يف عينيها أمل ًا وصبابة ،وإذنا باحلديث...
فانطلق يتحدث بكل حواسه كأنه حمام بارع يدافع عن أعدل
قضية يف العامل.
318
وازدمحت الكافيرتيا بالداخلني واخلارجني ،لكنه كان غائبا عن
ذلك الزحام متاما .يتحدث كأنه خيطب يف الدنيا ،والدنيا كلها منصتة
حلديثه ،وما الباقي من الدنيا إذا كان احلبيب يستمع إليك بكل حواسه.
واسرتخت حصة يف مقعدها ،وارختت يدها عن اهلاتف ،وأصبحت
أكثر قدرة عىل النظر يف عينيه .ومل يمر وقت طويل حتى كانا يضحكان
ويتحدثان ،وخطر له أن ال يشء يشبه معارك األطفال كمعارك املحبني،
تبلغ ذروة البطش والعنف ألتفه األسباب ،وتنحل وختتفي ألتفهها
كذلك.
ودخل مازن من باب الكافيرتيا ،فرأى صاحبه مندجما يف احلديث،
وفتاتُه ترقبه بكل حواسها بابتسامة عريضة.
أخذ قهوة وعاد من باب الكافيرتيا ،وهو يلعب بطرف سيجاره
قائال يف نفسه:
- -إن أغبى شخص من هيتم بمعارك املتحابني.
***
319
بغداد 208 ،و 2018هـ
321
تقع مكتبة ضخمة حتتوي آالف الكتب ،فقد ظل طوال األشهر الستة
املاضية يقيض فيها سحابة هناره ،غري أن تعيني املأمون لصديقه سهل بن
هارون غيرّ برنامج هذا اليوم .فقد عني املأمون سه ً
ال أمينا ملكتبة أتت
من جزيرة قربص.
دخل اجلاحظ فرتاءى له سهل جالسا عىل كريس يف حجرة واسعة
حتيط به الكتب من كل جانب ،كام جيلس أربعة رجال عن يمينه وأربعة
عن يساره منكبني عىل كتبهم ودفاترهم.
بدا ٌ
سهل يف قلنسوته احلمراء املحددة الرأس ،وعاممته امللفوفة
فوقها ،ودراعته البيضاء شخصا خمتلفا يف عني اجلاحظ.
إذ كانت آخر مرة رآه فيها يف دكانه بالبرصة ،بني غلامنه وسط
ضوضاء سوق الوراقني.
- -السالم عليكم ورمحة اهلل!
وقف سهل من مكانه فاحتا ذراعيه:
- -وعليكم السالم ،حيا اهلل أبا عثامن!
تعانقا ،غري أن رائحة غبار الكتب حبست أنفاس اجلاحظ ،فأحلت
عليه كحة حاول مداراهتا قائال بنفس متقطع:
- -بارك اهلل لك يف القرب من أمري املؤمنني.
- -يا أهال وسهال ،وبارك لك يف القرب من ابن الزيات.
تساءل يف نفسه هل يقصد ٌ
سهل التعايل عليه بتلك املقارنة أم هي
جمرد هتنئة؟ لكن سهال قطع عليه فكره:
- -يا غالم ،تعال بامء الورد والفواكه وما تيرس.
322
نظر اجلاحظ بطرف عينه جهة الباب حيث يقف الغالم ،ثم قال
بسخرية:
- -أما اآلن فيمكنك أن تض ّيف الناس بكرم األعراب ،ألن املال
ليس من خزائنك بل من خزائن قوم آخرين.
- -ال يشء ألذ من اإلنفاق عىل الناس من جيب غري جيبك ،وهذا
هو رس كرم األمراء!
دخل الغالم ووضع صينية مملوءة فواكه ،يتوسطها جام مملوء بامء
الورد املثلج .مد سهل يده املغربة إىل كأس من ماء الورد ورشف منه
صفري ًا ،ثم قال:
- -كيف مقامك مع ابن الزيات يا أبا عثامن؟
- -واهلل لنعم املقام.
- -هل أنساك أيام حي العالفني وجماورة محيد الب ّغال ،و ُمصا َقب َة
الدمهاء؟
- -أعوذ باهلل ،ال أعادها اهلل من أيام.
غضن خدَّ ه ويغمز:
ضحك سهل ،لكن اجلاحظ مل هيمله وهو ُي ّ
درب الوراقني ،واستالف
َ - -وهل أنستك جمالس ُة أمري املؤمنني
اخلبز من الفران الذي قرب بيتك؟
- -ال واهلل! فام فيه أنا وأنت اآلن ما هو إال نتيجة لتلك األيام وذلك
اجلوع والصرب .فلوال اختفاء احلبة يف بطن األرض ما كان الثمر،
ولوال غوص الغواص يف جلج البحار ما عاد بالدرر.
الحـظ اجلاحظ أن بعض مساعدي سهل توقـفوا عن أعامهلم
323
وانشغلوا باالستامع حلديثه مع صديقه؛ فقال بنربة اعتذارية:
- -كأين شغلتكم عام كنتم فيه؟
- -ال عليك ،فهذه احلجرات الثالث هبا مئات الكتب التي جاء هبا
أمري املؤمنني من قربص ،فقد اشرتط عىل حاكمها أال يقبل منه
صلحا إال إذا أرسل إليه ما يف بالده من كتب ،وهؤالء الرجال
يقومون بتصنيفها وفهرستها.
- -لكنها بلغة الروم.
فقال سهل وهو يشري بيده نحو الباب ،وجبينُه يتفصد عرقا ،فيام
تظهر حبيبات غبار عىل أهداب عينيه:
- -بعد انتهاء تصنيفها وفهرستها سنحوهلا إىل أولئك احلمقى
ليرتمجوها.
- -سمعت أنكم جُترون عىل املرتجم مخسامئة دينار؟
- -هذا للمرتجم الشادي .أما املرتجم املتمكن فقد يصل ألف دينار.
- -لقد اطلعت عىل ترمجة كتاب «املِ ِج ْسطِي» لبطليموس فرأيت ِعي ًا
وهتاويم وختاليط مع صعوبة يف العبارات.
- -تلك ترمجة احلجاج بن مطر ،ومع ذلك ها هو يف تلك احلجرة
يميش كأنه طاووس!
ابتسم اجلاحظ ممُ ِر ًا طرف عاممته ملسح العرق عن وجهه وقال:
- -أطلعني ابن الزيات عىل وريقات من كتاب الصوت ،الذي
يرتمجه له حنني بن إسحاق .ومل تعجبني الرتمجة أيضا.
وقف سهل من فوق كرسيه ملتفتا إىل مساعديه وقال:
324
- -واصلوا النسخ والتصنيف ،وأنا سأخرج قليال.
قاما من مكاهنام ،والتفت اجلاحظ فلمح قطع ًة جلدية فيها كتابة
عربية ،عرف من نمط اخلط أهنا قديمة .مد إليها يده:
- -ما هذه يا أبا هارون؟
- -ذلك خط عبد املطلب بن هاشم ،جد النبي.
رفع اجلاحظ اجللد برفق كام ُيرفع الطفل الوليد ،ثم بدأ يقرأ
بصوت هامس« :هذا حق عبد املطلب بن هاشم من أهل مكة عىل لبيد
احلمريي من أهل صنعاء ،عليه ألف درهم فض ًة كي ً
ال باحلديدة ،ومتى
دعاه هبا أجابه؛ شهد اهلل وامللكان».
ثم رفع برصه وقال:
- -كأنه خط النساء.
كان سهل قد وصل إىل باب احلجرة ،فوضع اجلاحظ اجللد برفق
وتبعه إىل الباب .فقال سهل وهو يعدل وضع عاممته:
- -لقد نهُ ب الكثري من الكتب واخلزائن أيام انفراد املخلوع ابن زبيدة
بحكم بغداد .لذلك قرر أمري املؤمنني حفظ كل الكتب النادرة يف
خزانة حتى ال تضيع.
مشيا عىل حافة الربكة املائية ،فرتاءت هلام عىل الطرف اآلخر مجاعة
من الرتامجة فيهم حنني بن إسحاق واحلجاج بن مطر ،وقف سهل يف
الزاوية وقال لصديقه بصوت هامس:
- -لقد سمعت أمري املؤمنني يذكرك ،فلقد قرأ بعض رسائلك
وأعجبه ما فيها ،فلعله يطلبك لتأديب ولده أو لتكون نديمه.
325
فوجئ باخلرب ،لكنه بذل جهده حتى ال يظهر درجة املفاجأة أمام
صاحبه ،فام دام صاحبه قد نال حظوة عند املأمون فمن الطبيعي أن ينال
هو ذات احلظوة ،لكن سهال بادره قبل أن يتكلم:
- -قد تصبح يا أبا عثامن من خاصة أمري املؤمنني!
ما إن نطق سهل العبارة ،حتى شخصت صور كثرية متناقضة يف
ذهن اجلاحظ .رأى سياطا حامية تقع عىل ظهر بشار بن برد ،كام رأى
رؤوس الربامكة تتطاير بسيف هارون الرشيد.
الحظ سهل ارتباك صاحبه ،فبادره قائال:
- -ما بك يا أبا عثامن؟
رد اجلاحظ وهو يشعر برعدة يف ركبتيه ،ال يدري أهي من سعادة
أم من خوف:
- -ال يشء ،لقد فاجأتني بخرب أمري املؤمنني.
وبعد نطقه لكلمة املفاجأة تنبه لتناقض املشاعر التي أراد اإلحياء هبا
لصاحبه ،فبادره ليرصف ذهنه عن التفكري:
- -أنا خادم أمري املؤمنني ،وخاتم يف يديه .هو يأمر وأنا أطيع.
انتبه سهل إىل ارتباك صديقه ،ففكر يف أنه ربام خطر له أال يذهب
إىل املأمون إال عن طريق ويل نعمته ابن الزيات ،وإال فإن ابن الزيات
قد يغضب منه ،فمع أن ابن الزيات ال يتوىل منصبا إال أن عالقة والده
التاجر الثري باملأمون تسمح له بأن يقرتح عليه ما شاء.
فجأة ،خيم الصمت ،وظال واقفني هنيهات دون كالم .وانقطع
الصمت حني جاء أحد مساعدي سهل يركض عىل طرف الربكة
326
وهو يقول:
- -سيدي ،لقد أهنينا القائمة «ألف» ،فهل نبدأ يف القائمة «باء»؟
أشار سهل باملوافقة دون أن يتحدث.
ثم التفت إىل اجلاحظ وقال:
- -لعيل أزورك الليلة يف بيتك إن شاء اهلل لنكمل احلديث.
مشى سهل عىل حافة الربكة عائدا إىل ديوانه ،وسار اجلاحظ يف
االجتاه اآلخر متجها إىل املكتبة.
***
اقرتب ثالثتهم من مدخل بغداد وقت الغروب.
عيني علية أشبه بسجن ضخم وهي تدخل بدت املدينة املدورة يف ْ
َ
البغل الذي تركبه استعجاال من أحد أبواهبا الواسعة ،حيث نفيس
لدخول بغداد التي متثل يف ذهنه شيئا أشبه بالسحر .حرك رأسه أفقيا:
- -هذي هي بغداد؟
مل جتبه علية ،فقد كانت ممزق َة القلب ملتاعة الفؤاد خوفا ،لكن
الرجل اآلخر -ابن أخت اجلاحظ -الذي يقود البغل التفت إليه قائال:
- -نعم ،وصلنا وهذه هي بغداد.
ألقت علية نظرة عىل احلراس الواقفني عند مدخل باب بغداد،
فتلقتها رائحة السوق املختلطة ،وأصوات الناس خارجني من السوق،
وأذان املغرب يرتدد يف آفاق مدينة عرفتها جيدا ،وأنكرهتا.
احلي يرقص
كانت عيناها الواسعتان تتأمالن كل زاوية ،وقلبها ّ
بني أضالعها كجنني حانت والدته.
327
عربت من فوق اجلرس ،فتذكرت املواكب التي كانت تسري وراءها
إذا ركبت ،واحلراس الذين كانوا يمشون خلفها مهطعني رؤوسهم.
ثم شخصت صورته يف ذهنها ،تذكرت آخر مرة دخل عليها يف
تلك الغرفة فجرا قبل سنوات ،وخامته الذي يلمع يف يده ،وكلمته :ال
ختايف.
كانت علية جالسة وهي تستعيد يف اندهاش حلظة دخوهلا البارحة
بغداد ،فيام خرج اجلاحظ من غرفة كتبه فلمحها غارقة يف أفكارها،
ألقى نظرة عىل احلديقة اخلرضاء البادية من نافذة منزله ،ثم التفت إليها
وهو ينشف يديه بمديل:
وجدت بغداد؟ وهل أعجبك املنزل يا علية؟ِ - -كيف
مل تسمع سؤاله ،فام زالت غري مصدقة أن اجلرأة واتتها لتدخل
بغداد.
- -مالك يا علية؟
انتبهت ،فانتفضت وقالت:
- -ال ،ال يشء.
مسا من جنون!
- -ال ،تبدين مشدوهة كأن بك ّ
- -ال ،...أريد...أريد أن أحدثك حديثا مهام.
رمى اجلاحظ املنديل مقرتبا منها.
وقفت برسعة ،مشرية إليه أن يتحدثا داخل إحدى الغرف حتى ال
يسمعهام اخلادم نفيس أو أحد العامل.
مشيا يف الردهة الواسعة ،وتواريا داخل إحدى الغرف ،ثم أحكم
328
اجلاحظ إغالق الباب وراءمها فتحوال إىل شبحني يف ظالم الغرفة.
قالت بنربة مفعمة باخلوف واالرتباك ،وهي جتلس عىل أريكة:
- -أريد أن أقص عليك القصة كاملة .أنا كنت جارية ألمري املؤمنني
املأمون عندما كان وليا للعهد ،تربيت يف قرص هارون الرشيد،
وكنت من اجلواري اللوايت أرشف عىل تربيتهن وتعليمهن الغناء
عىل أيدي أمهر املغنني.
مع توقع اجلاحظ ألمر شبيه هبذا ،إال أن أنفاسه توقفت فجأة ،ثم
قال بصوت فيه من الضعف ما فيه من االستطالع:
- -ثم ماذا؟
- -والدي ملك إفرنجي اسمه ُغو ْد ْفري ،يف بالد بعيدة شامل
األندلس ،تربيت مع املأمون واألمني ومع زبيدة وهارون ،ويف
سن اخلامسة عرشة عشقت شابا اسمه حممد حامد من خدام
فتمنعت عليه...
ُ القرص .ثم طلبني املأمون
مد اجلاحظ يده يف عتمة الغرفة يريد شيئا يستند إليه فرارا من
احلمم احلارقة التي خترج من فم جاريته ،وخياله اخلصب يضج بصورة
والد علية امللك ،ومربيها امللك ...وعشيقها امللك .مل ينبس ،بل ظل
فاغرا فاه منصتا:
- -ظل املأمون حياول أن أميل إليه أشهرا ،لكني كنت جمنونة بذلك
بست يف كنيف ميلء
فح ُالفتى .فلام أيقن أين ال أطيعه أمر يب ُ
بالقاذورات...
- -كيف؟
329
حبست يف الكنيف شهرا كامال ما مسني فيه ماء وال صابون .كان
ُ --
كنيفا معتام ال أرى فيه النور ،وال أكلم أحدا ،بل يأيت خبز وملح
مرة يف اليوم .ويف أحد األيام أمر بإخراجي وإصالح هيئتي ،ثم
سألني فلم أجبه .بل إين جتارست وسألته عن الفتى الذي كنت
أتعشقه ،فأخربين أنه أرسله للجهاد يف أرض الروم و ُقتل.
- -ثم ماذا؟
- -ثم ....ثم....
كان التوتر قد بلغ مداه باجلاحظ ،فركبتاه ال تكادان تستقران من
الرعدة ،ووجهه يميل إىل الصفرة يف جو الغرفة املعتم .قال كأنه يتوسل:
- -ثم ماذا؟
- -مل أشعر بيشء إال ويدي عىل خد املأمون ...لطمتُه!
قالتها ثم انفجرت باكية ،مرمتية عىل األريكة.
ْ
أيييششش؟ --
دوت رصخة اجلاحظ يف جنبات املنزل الفسيح ،فاختلطت مع ْ
فحيح احتكاك الستائر التي تعبث هبا الرياح القادمة من جهة احلديقة.
بدا االثنان يف تلك الغرفة املعتمة أشبه بسجينني تسلام فجأة خرب
احلكم باإلعدام.
ساد صمت ثقيل.
كان يقطعه صوت بكائها املكتوم ،وصهيل فرس ٍ
آت من بعيد.
انطلق خياهلام يف اجتاهني خمتلفني.
خط�رت للجاح�ظ آالف اخلواط�ر اجل�ادة والس�خيفة ،واملرحي�ة
330
واملخيف�ة .رأى نفس�ه ذاهب�ا ليجد من يوص�ل اخلبر إىل املأمون ،حتى
يربئ ذمته ،فلو فعل فلربام أكربه املأمون لذلك ،وغفر له متلكه جلاريته،
ومن يدري فقد خيلع عليه ،أو يعينه يف والية أو منصب ،ثم ختيل نفس�ه
يف عامل ال علية فيه...
فوجد قلبه يكاد يسيل دما ،رأى نفسه تعيسا يسري يف شوارع بغداد
يسأل عنها العجائز اجلالسات عىل عتبات بيوهتن ،والركبان اخلارجني
من بغداد ،وربابنة السفن الواردة من كل طريق...
رأى نفسه يطارد احلامم الزاجل ظانا أن بني خمالبه خربا عنها.
كيف يعيش دون هذه الفتاة التي جعلت قلبه خيفق يف اليوم ألف
خفقة ،هذه الفتاة التي جعلت ضحكه عميقا لذيذا ،وطعامه سائغا
مريئا ،وصباحاته وردي ًة مجيلة حممل ًة بعبري الفراديس.
كيف يستطيع التمتع بإمساك القلم واالندفاع يف الكتابة إذا خال
املكان من علية ،وترددت الرياح يف جنبات منزل ال يسمع فيه تلك
النغمة ،ويرى فيه ذلك الوجه العتيق؟
فبدت له أضعف من
ْ ثم استيقظ فجأة عىل نظراهتا احلادة تنهشه،
ذي قبل ،وأمجل من ذي قبل.
كانت جالسة ال يكاد يالمس األرض منها إال عجيزهتا ،ذراعاها
تطوقان ركبتيها ،وشعرها منسدل عىل وجهها ،والدموع تسيل عىل
أطراف وجهها ،وبني تلك الدموع نظرات فاتنة خترتق فؤاده.
بدت أمجل من ذي قبل.
ردد نظره احلائر إليها ،فرآها طفلة غريرة ،ضعيفة متوسلة.
331
وقف ليخرج ،لكنه مل يكن يعرف وجهته وال ماذا يريد .فهو يعرف
ما خيشى و َمن خيشى أكثر مما يعرف أي أمر آخر.
عاد وجلس إىل جانبها.
متتمت قائلة:
اسم سامين به اجلندي الذي بعثه - -ثم إن علية ليس اسمي .فهو ٌ
املأمون وباعني يف سوق النخاسني ...أنا ...أنا َع ِريب!
قفز اجلاحظ وفتح الباب خوفا من أن يكون أحد قد سمع
حديثهام ،فام يف البرصة وبغداد أحد إال سمع الناس يتهامسون قبل
سنوات طويلة بقصة عريب اجلارية.
تذكر اجلاحظ كيف حكى له أبو نواس قصتها ،وكيف كانوا
يتندرون بالقصة ،زاعمني أن اجلارية ال حتب هذا القدر من احلب ،وأن
القصة خمتلقة.
أما اآلن فها هو ذا واقف يف غرفة معتمة مع عريب جارية
املأمون ...وسط مدينة بغداد .مسح العرق عن جبينه وهو يفتح الباب
متذكرا حلام رآه قبل فرتة ،جلس يف الردهة الواسعة وهو ينادي خادمه
نفيس.
أجابه نفيس من جهة باب اخلدم .فقال:
- -إ ّيل بامء بارد.
***
مع كثرة احلراس الداخلني واخلارجني من باب القرص ،فإن
الصمت خييم عىل املكان .فلعل الصوت الوحيد الذي يصل اآلذان
332
صوت حركة الباب الطويل املقوس الذي فتحه حارسان تكاد ِح ُ
لق
احلديد تغطي كل موضع من جسدهيام.
عن يمني الباب الذي انفتح جيلس مجع من الرجال وقد لبسوا
أهبى حللهم واعتجروا عامئمهم ،شاخصني بأبصارهم جهة الباب.
خرج إليهم رجل متوسط القامة ،يميش بشكل آيل ُمباعدا بني
قرع البالط بقوة ،ثم قال:
خطواته وكأنه يتعمد َ
- -عمرو بن بحر اجلاحظ ،ثاممة بن أرشس ،سهل بن هارون ،أبا
العتاهية ،تفضلوا.
وقفوا مجيعا ،ووقف اجلاحظ وهو ينفي بطرف إصبعه القذى عن
عين ْيه وأنفه ،إذ كان الوحيد الذي سيدخل عىل اخلليفة املأمون أول مرة.
كانت نوازع اخلوف والرهبة والرغبة تعصف بجوانحه ،وكان
القادر عىل توليد آالف األخيلة واالحتامالت يف حلظة
ُ ذهنه احلا ّد
واحدة يضج بخواطر الطمع واخلوف ،والرغبة والرهبة ،ويسافر يف
شطآن غريبة من األمل والتشاؤم تتوسطها صورة جاريته علية.
دخلوا بانحناء ُمطرقني من الباب الواسع ،بينام عاد احلارسان آليا
فسمعت له حركة خفيفة خمتلطة بصوت
ل ُيحكام إغالق الباب الضخمُ ،
قرع نعال احلراس.
متلكه شعور الرهبة وهو يرفع عينيه يف املجلس الواسع املفروش
امللون ،والطنافس اخلُرض ،والتصاوير املعلقة عىل اجلدران،
بالصوف ّ
والنحوتات الذهبية عىل شكل حيوانات مفرتسة منصوبة يف أطرافه
عىل طاوالت.
333
أخذ كل منهم جملسه ،فيام انرصفت عني اجلاحظ متأملة الكريس
املذهب الضخم وسط املجلس.
إن جلسوا يف املجلس حتى شعروا باطمئنان ،فاخلليفة مل يدخلما ْ
جملسه بعد .التفت كل منهم متأمال صاحبه يف جو املجلس املعتم قليال،
إذ إن الضوء القادم من أطراف اجلدران وأعايل السقوف يضفي عىل
املكان جوا باهتا يشبه وقت الغروب ،رغم أن الوقت عرص.
لكز سهل اجلاحظ بطرف منكبه ومال عليه:
- -هذا يومك يا أبا عثامن لتُخرج كل ما عندك ألمري املؤمنني!
كان اجلاحظ مشدو َه اخلاطر ُم َشت َّت النفسّ ،
يرن يف أذنه قوهلا« :إذا
فهمت أنه علم باألمر ،صارحه بكل يشء ....فهو حليم.»... َ
كان قلبه يقفز بني ضلوعه قفزا ال يعرف أهو ِم َن السعادة أم من
اخلوف؟ يفكر أحيانا يف املواضيع التي سيناقشها مع املأمون مستعرضا
فيها علمه وأدبه ،وأحيانا يتذكر بطش امللوك وكون اإلنسان كلام اقرتب
منهم اقرتب من السعادة والشقاء معا.
وغالبا ال تأيت السعادة إال يف تضاعيف الشقاء.
قطع عليه ثاممة تفكريه قائال:
حل ْشوة تكاد متلك البرصة يا أبا عثامن ،وأن أتباع عيل
- -سمعت أن ا ُ
بن املديني هناك أكثر من أتباع الشيطان ،هل هذا صحيح؟
فدوت صيحة قادمة من جهة باب داخيل:
مال اجلاحظ ليجيبهّ ،
- -أمري املؤمنني عبد اهلل بن هارون املأمون!
تقافز اجلمع واقفني ،فدخل املأمون ماشيا هبدوء ثم قال:
334
- -السالم عليكم ورمحة اهلل
اندفع كل منهم مسلام ومق ّبال يده ،ثم مشى خطوات وجلس عىل
الكريس ،فيام عاد كل واحد منهم إىل كرسيه يف طرف املجلس.
رفع اجلاحظ عينيه متأمال املأمون للمرة األوىل.
نظر إىل جبته الناصعة البياض ،ومن حتتها قميص أخرض ،وفوق
ذلك عاممة سوداء .بدت له حليته املائلة للحمرة اخلاصية الوحيدة التي
ورثها من أ ّمه الفارسية .أما عيناه السوداوان الواسعتان وأنفه احلاد
وشفتاه فتشبه ما ُوصف له عن والده هارون الرشيد.
مسح املأمون طرف أنفه احلاد كأنه رأس سهم ،وحدج اجلاحظ
بنظرة قائال:
- -أهال وسهال بك يا أبا عثامن.
قاهلا املأمون وهو يستغرب دمامة اجلاحظ ،فرغم أنه سمع عنها
كثريا ،ووصفت له غري ما مرة ،فإنه مل يتوقعها هبذه الدرجة.
شعر اجلاحظ براحة وخفة وهو يقول بصوت فخم مجيل واضح
التجاويف:
وسهل له.
- -حفظ اهلل أمري املؤمنني وح ّياه ّ
كان سهل بن هارون واجلاحظ أقرب اجلالسني إىل اخلليفة يسارا،
أما ثاممة وأبو العتاهية فجلسا عىل اليمني جهة متثال الكرة األرضية
املنصوب فوق الطاولة املسامتة لكريس املأمون.
دخل غالم ووضع فواكه وحساء بني يدي كل واحد ،فيام تنحنح
املأمون وقال:
335
سهرت البارحة أفكر يف مسألة القضاء والقدَ ر ،وكان معي
ُ - -لقد
حييى بن أكثم فتناقشنا طويال ومل نتفق عىل رأي ،وسلك ٌ
كل منا
طريقا.
وأمر نظره رسيعا عىل وجوه رفاقه ،ثم
حترك ثاممة من فوق كرسيهّ ،
توجه إىل املأمون وقال مبتسام:
- -أنا أبني ألمري املؤمنني القضاء والقدر يف مجلتني ،وأزيد مجلة ثالثة
للضعيف.
ابتسم املأمون مائال من فوق كرسيه ،قائال بلهجة مستطلعة ساخرة:
- -ومن الضعيف أهيا النمريي؟
- -الضعيف قايض القضاة حييى بن أكثم!
ترددت يف املجلس ضحكات موزونة ومزموم ٌة بوقار املجلس .ثم
واصل ثاممة:
- -إن أفعال العباد يستحيل أن خترج عن ثالثة أوجه ،فهي إما أن
تكون كلها من تقدير اهلل وال دخل للعباد فيها ،فهم بذلك ال
يستحقون عليها ثوابا وال عقابا وال مدحا وال ذما ،وإما أن تكون
األفعال منهم ومن اهلل ،فيجب املدح والذم هلام معا ،أو تكون
األفعال من العباد وحدهم وبمشيئتهم وإرادهتم وحدهم ،فلهم
املدح والثواب ،وعليهم الذم والعقاب.
نزع املأمون كفه من حتت ذقنه ،ونظر إىل السقف املزركش املرتفع
وقال:
- -صدقت يا ابن أرشس!
336
كان أبو العتاهية جالسا بجانب ثاممة ،فرفع برصه إىل املأمون:
- -أنا أستطيع أن أقطع لك ثاممة ،وأرد حجته هذه يا أمري املؤمنني.
التفت ثاممة فاغرا فاه إىل أيب العتاهية ،فجاء صوت املأمون:
- -دعك يف شعرك وقوافيك يا أبا العتاهية ،فأنا أخشى عليك منه.
فقال أبو العتاهية:
- -دعني أسأ ْله يا أمري املؤمنني يف القضاء والقدر وسأقطعه لك.
- -تفضل!
كان أبو العتاهية قصري القامة ،جيلس عىل كريس مرتفع ،فبدت
رجاله ال تكادان تالمسان األرض .كام كانت عاممته مكورة تكويرا
كبريا ،فبدت صورته مثرية للسخرية وهو يرفع يده يف اهلواء سائال
ثاممة:
- -من حرك يدي هذه؟
طرف شفته السفىل:
َ فقال ثاممة بلهجة ساخرة ،م ِ
رخيا ُ
- -حركها من أ ُّمه زانية!
فانتفض أبو العتاهية وقال:
- -لقد شتمني يا أمري املؤمنني!
فقال ثاممة وهو حيبس ضحكة:
- -لقد ترك مذهبه يا أمري املؤمنني .فلو كان يؤمن حقا باجلرب ،ملا
غضب منها ،فالعبد ال فعل له وال حيرك وال يسكن ،وبذا مل
أشتمه ما دام يؤمن بمذهبه.
سكت أبو العتاهية ووجهه حممر ،فبادر املأمون قائال:
337
- -أمل أقل لك؟
التفت أبو العتاهية إىل ثاممة وقال بابتسامة مصطنعة وصوت
خافت:
- -أما كانت لك مندوح ٌة عن الس َفه؟
- -إن خري اجلواب ما مجع بني احلجة واالنتقام.
أثناء ذلكُ ،سمع قرع نعال احلاجب قادما مباعدا بني رجليه.
اقرتب من املأمون وحدثه بحديث خافت ،ثم انرصف.
رفع املأمون عينيه وقال:
املنجم ببناء مرصد ْين أحدمها يف
ّ - -كنا قد كلفنا سندَ ب َن عيل
العباسية هنا ببغداد ،واآلخر يف جبل قاسيون بدمشق .وقد
أخربين هذا أهنام اكتمال.
فجاء صوت اجلميع:
- -محدا هلل يا أمري املؤمنني.
كان اجلاحظ يرتقب فرصة للحديث ،فاملأمون مل يسأله ،وهو غري
مطمئن أن يبدأ احلديث دون سؤال من املأمون حتى ال خيالف ما تسميه
احلاشية هنا «اآليني» ،أي العادات املعمول هبا يف البالط.
وبعد تردد قرر أن يتحدث يف موضوع املراصد وأمهيتها ،لكن
سهل بن هارون سبقه قائال:
- -يا أمري املؤمنني إن املراصد وعلم الفلك يدخالن يف باب العبادة
والدين وهم الصيقان بكل يشء ،ولعل من بركات هذه اللغة
العربية أن حروفها ثامنية وعرشون عىل عدد منازل القمر.
338
شعر اجلاحظ بغيظ ،إذ إن سهل بن هارون ال يشتهر بيشء اشتهاره
فلم ينافح عن العربية اآلن؟ لكن ابن
بانتقاص العرب وميله للفرسَ ،
هارون واصل حديثه:
- -وغاية ما تبلغ الكلمة من الكلامت العربية يف الزيادات سبعة
أحرف ،وتلك عىل عدد النجوم السبعة.
برقت عينا املأمون استعذابا ،فواصل سهل بحامس:
- -ثم إن حروف الزوائد اثنا عرش حرفا عىل عدد الربوج االثني
عرش ،ومن احلروف ما يدغم مع الم التعريف ،وهي أربعة عرش
حرفا مثل منازل القمر املسترتة حتت األرض ،وأربعة عرش حرفا
ظاهرا ال تدغم مثل بقية املنازل الظاهرة ،ثم إن اهلل تعاىل جعل
اإلعراب يف العربية ثالث حركات هي الرفع والنصب واخلفض،
ألن احلركات الطبيعية ثالث حركات حركة من الوسط كحركة
النار ،وحركة إىل الوسط كحركة األرض ،وحركة عىل الوسط
كحركة الفلك.
كان الكل ينظرون إىل سهل بإنصات وتأمل فيام يقوله .غري أن
اجلاحظ مل يسمع ما قاله النشغاله بالتفكري فيام عليه أن يقوله ل ُيبهر
ويثبت استحقاقه هذا املجلس وهذا املقام .لكن حرصه عىل َ َ
املأمون
عدم خمالفة اآليني جعله ال يتجرأ عىل فتح موضوع بنفسه ،بل قرر أن
ينتظر حتى يسأله املأمون أو تع ّن فرصة مقنعة للحديث.
بدأ جو املجلس يميل للربودة ،فقد بدأت الشمس تتوارى خلف
جدران هذه املدينة املدورة التي يشقها هنر دجلة ،كام اختفت األنوار
التي كانت تدخل من الفتحات العلوية يف السقف ،فازدادت العتمة
339
داخل املجلس وانخفضت احلرارة .دخل خادم وأوقد قناديل جعلت
املجلس أكثر إضاءة.
فاتضحت الوجوه أكثر ،وظهرت األلوان الدقيقة لفراش الصوف
والزرايب املرمية وسط املجلس.
التفت املأمون إىل اجلاحظ وقال:
صفت يل باجلودة قبل
ْ - -لقد قرأت بعض كتبك يا أبا عثامن ،ولقد ُو
رب أربى عىل اخلَرب ،ووجدهتا
أن أقرأها ،وعندما قرأهتا وجدت اخلُ َ
تستحق ثناء أكثر مما سمعت.
تلعثم اجلاحظ -عىل غري عادته -وهو يسمع إطراء كتبه من أقوى
رجل عىل ظهر األرض .رفع عينيه ،وحركات أجفانه الغليظة تتسارع
وقال:
- -هذا من كرم نحيزتكم وطيب أرومتكم يا أمري املؤمنني!
ابتسم املأمون وهو يتذكر فقرة من آخر ما قرأ للجاحظ فقال:
- -غري أنك يا أبا عثامن شديد عىل العامة ،وا ُمل ُ
لك -كام تعلم -إنام
يستقر عىل أكتافها ،والسوق إنام يروج بسواعدها.
كان املأمون يتحدث ،فيام انرصفت أبصار ثاممة وأبو العتاهية
مرتقبي رده ،فقال:
نْ وسهل إىل اجلاحظ،
- -إن ما لقيتْه العامة من اهلل أشد يا أمري املؤمنني .فاهلل تعاىل جعل
ْ ُ ْ ُ اَّ اَ أْ َ ْ
عقوهلا حتت عقول األنعام حني قال﴿ :إِن ه ْم إِل كلن َع ِام ۖ بَل ه ْم
َ ُّ
أ َض ل َس ب ِيل﴾.
- -وكيف ذاك؟
340
وجوارح وآالت للخاصة ،فهي تبتذهلا للمهن
ُ - -إن العامة سواعدُ
وتدبر هلا األمور وتغزو هبا العدو وتسد هبا الثغور ،فاخلاصة مثل
روح اإلنسان وعقله ،والعامة مثل يده وبقية جوارحه .فكام أن
اجلوارح ال تعرف ما تنطوي عليه النفس من فكر وروية وتأمل،
فكذلك الدمهاء ال يفهمون شأن اخلاصة وتدبريها .ولذا،
قائم عىل حسن تدبري اخلاصة ،ومتام طاعة العامة.
فصالح العامل ٌ
وطاعة العامة ناجتة عن حسن سياسة اخلاصة.
أنصت املأمون بتأمل ،وأعجبه تشبيه اخلاصة بالعقل والروح ،فام
زاد عىل تشجيع اجلاحظ عىل مواصلة احلديث:
ِ --
إيه ،أبا عثامن!
الحظ سهل استعذاب املأمون حلديث اجلاحظ ،فقال بخبث نية:
- -لكن بعض العامة يف بغداد -ممن يسمون ا ُمل َّط ِّوعة -يشغبون
أحيانا؛ فهل ذلك ناتج عن نقص يف التدبري؟
انتبه اجلاحظ ملحاولة صديقه اإليقاع به فتدارك:
- -ومع أن تدبري العامة للخاصة كتدبري العقل للجوارح فإن العامة
قد يعرض هلا املرض كام حيدث للجوارح .فقد تُصاب اليد
بالفالج ،ويصاب اللسان باخلرس ،فال يقدر العقل عىل توجيه
اجلوارح وتسديدها خللل ٍ
ذايت يف اجلوارح ال يف العقل املدبر،
وكذلك الشأن يف الدمهاء ،فقد يكون األمري مدبرا حسن التدبري
لكن العامة تنتقض خللل فيها.
كان اجلاحظ إذا حتدث تنثال عليه األفكار والتشبيهات متزامح ًة يف
341
ذهنه .وكان يعرب عن تلك األفكار بلسان ٍ
ذرب ّ
أخاذ ،وصوت فصيح
وخمارج ندية تُطرب وتُعجب.
فابتسم املأمون وقال:
- -ماذا لقيت العامة منك ومن ثاممة بن أرشس!
ثم جاء صوت قرع نعال احلاجب مباعدا بني خطواته .اقرتب من
املأمون ومهس.
فوقف املأمون وقال:
- -حان موعد صالة املغرب.
نزل من فوق الكريس ،فقام اجلمع مودعا ومسلام ،فيام سمعت
قعقعة الباب الواسع وقد أمسك احلارسان بطرفيه إشعارا بأن موعد
اخلروج قد حان.
***
وقف اجلاحظ يف طرف غرفة كتبه ال يعرف ما يفعل ،حائرا أي
قرار سيتخذ .كان يبغض حلظات االنتظار ألهنا حيا ٌة مؤجلة معلقة
ٌ
برزخ بني بلحظة مل تتكشف قسامهتا بعد .إذ خيطر له أن أوقات االنتظار
املايض واملستقبل واحلارض .فال هي تنتمي للحارض ألن صاحبها معلق
يف انتظار ما سيسفر عنه املستقبل ،غري راض باللحظة احلارضة .وال
هي جزء من املستقبل ،فاملنتظِر يقف يف احلارض بقدمني متأرجحتني،
ونفس مرشئبة ملستقبل ّملا يتشكف ما ختبئه أحشاؤه.
ألقى نظرة عىل مكتبته العامرة بتأفف ،فاقدا الشهية يف القراءة
والكتابة .فامذا تغني عنه يف النهاية؟
342
خطر له خاطر.
سيطلب لقاء املأمون وخيربه بأن جاريته عريب يف بيته ،فسياط
ٍ
جارية رومية أهون من بطش اخللفاء. االشتياق إىل
شعر براحة غامرة جتتاحه ،فبدا يف قميصه الواسع وقلنسوته
الالصقة عىل رأسه دون عاممة مسكينا وضعيفا.
سمع صوت نفيس قادما يف الردهة ،حانيا رأسه ينادي:
- -موالي ،رسول أمري املؤمنني بالباب.
بعد وقت قصري ،كان اجلاحظ يدخل إىل جملس املأمون يف إحدى
حجرات أحد قصوره يف طرف بغداد.
مل يفق عىل الطريق الذي قطع ،فقد ظل طول الطريق يقدر كل
يشء .هل وشى أحد الناس به وأخربه بوجود عريب يف بيته؟ كيف
ذلك ،وال أحد يعرف عنها شيئا وحتى هو نفسه مل يكتشف رسها إال
قبل أيام؟
مل ينتظر عىل الباب كالعادة ،بل جاء احلاجب صاحب اخلطوات
الواسعة وأدخله.
فتح عينيه متأمال أطراف املجلس فوقعت عينه عىل سهل بن
هارون وثاممة بن أرشس ،ومجاعة أخرى من أصحابه من املعتزلة ،شعر
بطمأنينة وهو يكاد يعثر يف جبته األنيقة قائال بنفس متقطع:
- -السالم عىل أصحابنا ورمحة اهلل!
كان املأمون يف حجرة صغرية متوارية غري بعيدة من املجلس.
حيث يستمع إىل آخر تقرير من واليه عىل بغداد إبراهيم بن إسحاق.
343
كانا جيلسان وبينهام مصباح وأوراق كثرية.
فمنذ أشهر وإبراهيم يرفع التقارير حمذرا من تنامي نفوذ علامء
احلديث يف العراق كلها ويف بغداد خاصة ،وأصبح املأمون مقتنعا بأهنم
يف طريقهم إىل زعزعة دولته.
املوقعة ،ووقف عىل باب احلجرة
جاء احلاجب ماشيا بطريقته ّ
ومهس:
- -القوم يف املجلس يا أمري املؤمنني.
مشى املأمون خطوات ،ثم دخل املجلس مسلام.
ضج املجلس الواسع:
- -وعىل أمري املؤمنني السالم ورمحة اهلل.
جلس املأمون عىل سجادة محراء فوق رسير بطرف املجلس .ش ّبك
بني أصابعه ومال عىل وسادة ضخمة وقال:
وح ْش ِوية يعيثون فسادا يف بغداد، ٍ
- -قد علمتم أن ا ُمل ّط ِّو َع َة من نابتة َ
فبعض أتباعهم يملكون السالح ويتولون أمورهم يف أحيائهم
من قضاء وفصل بني اخلصوم ،وأخذ عىل أيدي اللصوص،
فمنذ أيام املخلوع صارت له مقوة ومنعة ،حتى إن الشيخ من
شيوخهم اآلن إذا حتدث يف مسجد يتحلق عليه آالف الطغام.
ولقد مررت قبل أيام بأحد شوارع بغداد فرأيت خلقا ال حيىص
قيل يل إهنم متحلقون عىل أمحد بن حنبل.
كان املأمون يتحدث ،وذهن اجلاحظ يقفز بني آالف االحتامالت؛
آخرها أن املأمون اصطفاه من بني كثريين ليكون من حلقة مستشاريه.
344
ثم تذكر أن هذا االختيار وهذا القرب قد يرضه أكثر إذا تكشف خرب
اجلارية .ثم أفاق من أفكاره عىل أصوات احتكاك األواين الفاخرة،
وتوزيع احللوى واألرشبة يف أطراف املجلس ،رفع عينيه فرأى املأمون
ساكتا رافعا عينيه إىل السقف ،ثم واصل:
- -فامذا ترون؟
تنحنح ثاممة بن أرشس وقال:
خطر عظيم عىل اخلالفة ،فقد عمروا املساجدَ
ٌ حل ْشوة
- -إن علامء ا ُ
َ
واألسواق ،وهلم سلطان عىل قلوب الدمهاء ال يدانيه سلطان.
مسح املأمون حليته وقال:
- -ما سبب إقبال العامة عليهم ،وإعراضهم عن هذه اجلامعة من
املعتزلة؟
- -السبب املشاكلة بينهم وبني الدمهاء ،فحديثهم قريب املأخذ؛
َار ٍ
وسباك أكدر ،وكل فران أبخر ،وكل ُمك ٍ محال أثغر،
يعقله كل ّ
بليد الطبع ،وكل أعرايب متقرش اجللد .فال حيتاج إىل غوص عىل
املعاين وال إىل إدامة فكر وال روية .إنام هي أحاديث وأوامر ونواه
وأقاصيص ،ال حدود فيها وال تقسيم.
- -وماذا ترى يا ابن هارون؟
- -لقد افتتن كثري من العامة بدعوة النصارى يف بغداد ،فهم كام
تعلم يدعون إىل ديانتهم يف املساجد باملناظرات ،وقد استاملوا
عقول كثري من عوام املسلمني .وسبب ذلك هو احلُشوة وعلامء
احلديث.
345
- -كيف ذلك؟
- -ألن النصارى أصبحوا أهل جدل وتفكري بسبب قراءهتم لكتبنا،
فيأتون ويل ّبسون عىل العامي بأسئلة ،فيلجأ العامي ألصحاب
احلديث مستفتيا فال جييبونه بيشء النعدام صلتهم باملعقوالت،
فيظن العامي أن ذلك الضعف اآليت من احلشوي ضعف يف ذات
الدين.
وما رأيك يا أبا عثامن؟
- -إذا أذن أمري املؤمنني ،خذوا مثال قصة «كالم اهلل» .لقد ل ّبس
النصارى عىل كثري من العوام بكون عيسى كلمة اهلل كام ورد يف
التنزيل .ثم قالوا هلم إن عيسى ما دام كلمة اهلل فهو كالقرآن الكريم،
فإذا كان القرآن كالم اهلل وعيسى كلمة اهلل فهام معا قديامن ،ألن
صفة اهلل قديمة وهي القرآن (كالم اهلل) وعيسى كذلك قديم ألنه
كلمة اهلل .ثم يبنون هلم عىل ذلك أنه ابن اهلل ِلقدَ مه ،كام أن القرآن
قديم ألنه صادر عن اهلل ،تعاىل اهلل عام يقولون ُعلوا كبريا.
- -وماذا يمنع علامء احلشوية من تعلم اجلدل حتى يناضلوا عن
حججهم؟
تنحنح اجلاحظ وهو يطرد عن ذهنه فكرة خطرت له ،وقال:
- -يمنعهم من ذلك أن ديانتهم قائمة عىل نبذ اجلدل كله ،واعتبار
احلجج والرباهني مضلة وطارئة عىل امللة ،لذلك ال جيوز عندهم
التوغل يف املعقوالت ،ألنه نظر عقيل حادث ،ومع ذلك فقد
صار لبعضهم عقل بقراءة بعض كتب هذه اجلامعة.
346
- -أنا أعلم رأهيم ووقوفهم عند ظاهر اآلثار .لكن ما حيريين هو أهنم
مل يتفطنوا لألمر.
قاهلا املأمون ثم سكت ،فلم ينبس أحد يف املجلس ،بل ظلت
األبصار شاخصة إليه .ازدرد ريقه وقال:
- -واهلل لقد حريين أمرهم ،فهم يدّ عون االقتداء هبدي السلف وما
وجدت هلم سلفا .فقد تأملت مذاهب امللة اآلن فوجدهتا ترجع
إىل أربعة مذاهب .فاخلوارج ال سند هلم وال سلف ألن مذهبهم
حدث أيام عيل بن أيب طالب فخ ّطأهم وقاتلهم ،فهم بذلك
طارئون عىل امللة ال يوثق بدينهم ،وأما الروافض فظهر مذهبهم
بعد انقضاء الصدر األول ،فلم يرد عن أي من الصحابة أن
جيل واضح ،بل اجتهادات وتأويالت ،والالنص عىل إمامة عيل ّ
ورد ذلك يف كون األئمة اثني عرش إماما .وإن زعموا أن سلامن
الفاريس وعامر بن يارس كانا سلفا هلم ّ
كذهبم الواقع؛ فكالمها
كان واليا لعمر بن اخلطاب.
اعتدل املأمون يف جلسته ،وردد برصه يف أطراف املجلس ثم واصل:
- -وا ُملجربة -القائلون بكون كل يشء بقدر اهلل -فظهروا أيام بني
أمية ويف ظل ملوك بني مروان ،فهو قول حادث ال سند له ،أما
هؤالء احلشوية الذين مألوا شوارع بغداد فال سلف هلم البتة وهم
أهلج الناس بكلمة السلف ،بل هم قوم تعلقوا بأذيال النصوص،
وأمهلوا العقل ،وذاك ما جيمعهم ،والقسم الرابع من أقسام امللة
هو هذه اجلامعة املباركة ،فهي أصح األمة سندا وأوثقها سلفا.
ألهنا تروي عن عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء عن حممد بن
347
عيل بن أيب طالب .وهذا سند ظاهر جيل ومتواتر.
سكت املأمون ،ثم رفع عينيه يف السقف وقال:
- -ما التدبري الذي ترونه مع علامء احلشوة؟
كان الوايل إبراهيم بن إسحاق جالسا يف طرف املجلس ،وكانت له
صلة بثاممة بن أرشس .فنظر إليه بطرف عينه ،فقال ثاممة:
- -أرى يا أمري املؤمنني أن متتحن علامء احلشوة فردا فردا حتى يعلنوا
خضوعهم لك .فالعامة إنام هم تبع وصدى ،ال غري.
- -كيف ذاك؟
- -أرى أن متتحنهم يف خلق القرآن ،فهم قد جعلوا املوقف منه ميزة
العامل املتصدر بينهم ،فهم ال يقبلون أن يقولوا إنه خملوق يف سياق
الزمن .بل يرونه كالما قديام ذاتيا هلل عز وجل وهذا حمال كام ترون،
ً َ َ
َّ َ َ ّ َ َ َْ
ان آيَ ٍة﴾؟ فكيف يكون كذلك وقد قال اهلل تعاىل ﴿ِإَوذا ب دل ن ا آي ة م ك
كان ثاممة بن أرشس يتحدث ،وكان أقوى املعتزلة حجة ،حتى
إنه أتقن لعلم الكالم واحلجج املنطقية من النجم الصاعد أمحد بن أيب
ُدؤاد ،كان ثاممة منشغال بحشد احلجة ،فدخل احلاجب طالبا اإلذن
لقايض القضاة حييى بن أكثم.
دخل حييى يرفل يف أثواب القضاة ،فناداه املأمون وأجلسه بقربه.
وملا أهنى ثامم ُة حديثه طلب املأمون رأي حييى ،فالتفت يمنة ويرسة،
وشد عليه طرف جبته وقال:
- -أنا أرى يا أمري املؤمنني أن تؤجل هذا األمر .فإن محلت العامة
عىل ما تكره فإنني أخشى أن تنفر َن ْفر ًة ال تعلم عاقبتها.
348
قال ثاممة بسخرية:
- -العامة؟ ومن ذا الذي يقيم وزنا للدمهاء؟ واهلل يا أمري املؤمنني لو
طيلسان أسود وبيده عصا لساق لك منها ٌ بعثت رجال عىل عاتقه
َ
عرشة آالف ناعق!
مد القايض يده مستأذنا:
- -يا أمري املؤمنني ،ما دام رجال من أمثال يزيد بن هارون يف العراق،
فال أرى امتحان أحد ،أو محل العامة عىل أمر تكرهه ،وهذا رأيي
من باب السياسة ال من باب الديانة .فأهل خراسان من الفرس
ال يطيقون اإلساءة للحشوية وعلامئهم ،مثل ابن حنبل وابن
املديني ويزيد بن هارون.
كان املأمون ينظر إىل القايض بجبته الفخمة وحليته الكثة وبطنه
املدور ،وهو يتذكر كالما سمعه من أبيه هارون الرشيد عن أن صالح
امللك يف سكون العامة ،وخرابه يف نفورها.
مل يعط املأمون أي إشارة عام أضمره ،بل أشار بطرف يده فدخل
مجاعة من اخلدم ليقودوا من يف املجلس إىل غرفة العشاء.
وقف اجلميع وكل منهم يتفقد عاممته ،ويشد عليه طرف جبته،
ومال اجلاحظ عىل سهل بن هارون هامسا:
- -زرين غدا يف البيت ألستشريك يف أمر مهم.
مل يفق اجلاحظ يف هناية العشاء إال عىل صوت املأمون:
- -ابق يا أبا عثامن ،أريد أن أحتدث معك يف أمر.
ال يذكر ماذا حدث قبل ذلك ،فال يدري هل امتنع عن تناول الطعام
349
من األطباق التي كانت بني يديه ،أم أنه أكل أكال ّمل ًا كأكل الصبيان وهو
ال يعقل .وال يدري هل حتدث عن جاريته بني يدي املأمون وحدجه
اجلميع فاغرين أفواههم مستغربني جرأته ،أم أنه ظل ساكتا وامجا.ُ
لكنه ال يشك يف صوت املأمون:
ابق يا أبا عثامن ،أريد أن أحدثك يف أمر.
َ --
كانت الغرفة خالية ،ال ضوء فيها بعد انفضاض املجلس .قال
املأمون وهو ينظر إىل األرض عىل غري عادته:
علمت من عيوننا أن جاريتنا َعريب يف منزلكم.
ُ --
كانت تلك العبارة آخر ما أفاق عليه.
كلام يذكره بعد ذلك صور ومشاعر خمتلطة ،تتخللها ضحكتها
آت من مدائن بعيدة .تراءت له يف ِمرطها األبيض
املوقعة كأهنا صوت ٍ
ّ
واحلراس يسوقوهنا
ُ الناصع ،وشعرها الذهبي املنسدل عىل كتفيها
لتحبس يف كنيف.
خطر له كيف يملك املأمون احلق يف سؤاله عن جاريته حتى ولو
كان خليفة؟ من منحه حق التجرؤ عىل حرمه؟ والسؤال عمن يعيش
يف مخَ ادعه؟
سوغ موقفه ،وال كيف قص عىل املأمون قصة ال يعرف كيف ّ
يرفض
وصول اجلارية إليه يف البرصة .كل ما يذكره أنه خرج من الباب ُّ
عرقا ،واملأمون يقول باسام:
- -لقد وهبناها لك يا أبا عثامن!
***
350
الدوحة 1440 ،هـ
انقضت أيا ٌم ثالثة ال حديث فيها داخل القناة إال عن ترقية نائب
(بسام) إىل منصب رئيس التحرير .انقسم الصحفيون رئيس التحرير ّ
ما بني معجب شديد اإلعجاب به ،وحمتقر شديد االحتقار له ولكل
ما يقوله.
دخل القروي فرآه يرتأس اجتامع التحرير الصباحي.
كان االجتامع يعقد وسط غرفة األخبار ،ويتوزع الصحفيون ما
بني جالس عىل مقعد ،وواقف مستند إىل طاولة.
يتوسطهم رئيس التحرير اجلديد بجسمه الضخم وقامته القصرية،
وصلعته الواسعةّ ،
حك صلعته وقال بلهجة كثيفة:
بصو حزرتكم ،من اآلن فصاعدا نريد بعض النرشات اخلفيفة أنٌّ - -
تكون باللهجة.
قاطعه صحفي مغريب:
- -بأي هلجة ..اجلزائرية مثال؟
- -أو ،يعني ...ال أقول باللهجة ،فذاك يستلزم اختيار هلجة معينة
ونحن قناة عربية .أقصد أن تكون النرشة ملحونة وليست
فصحى ،حتى يشعر الناس بقرب املحطة منهم.
351
َو َج َم اجلميع.
ومل ُيسمع غري صوت مذيعة قادم من جهة االستديو الرئييس تقرأ
نرشة التاسعة صباحا.
كان القروي غري مصدق ملا يسمعه .مل يتكلم بل ظل وامجا يلعب
نفسه حتى يتأكد من جدية احلديث.
بأطراف أصابعه ،المجا َ
قال صحفي تونيس:
ومتزيق لوجدان
ٌ - -هذا نزول للقاع ،ووقوع يف شرِ اك العامية،
العرب.
وكأن كلامت الصحفي فتحت األفواه املغلقة ،فقال آخر:
- -إذا جعلنا إحدى نرشاتنا باللهجة فسنفقد التعابري الفنية،
فالفصحى لغة متطورة مليئة بكل مصطلح نحتاجه ،أما اللهجات
دت يف املعاين ،وتو ّغ َ
لت يف ففقرية بائسة ال تسعفك باللفظ كلام ب ُع َ
مضايق املصطلحات.
مرر رئيس التحرير يده عىل هامته الضخمة وقال بنفس متقطع:
ّ
- -فاهم فاهم يا ر ّي ْس .لكن هناك حمطات ببعض الدول تتحدث
بيشء أقرب إىل اللهجة وهلا مشاهدوها ،ثم إن اللغة ليست كل
يشء ،املهم املادة البرصية ،...وإنام التلفزيون صورة.
كان القروي مستندا عىل طرف مكتبه ،فشعر ببخار يتصاعد إىل
دماغه ،وفورة غضب .خطا خطوة وجلس عىل أقرب كريس لرئيس
التحرير وقال:
- -كيف تقول إن اللغة ليست كل يشء؟ بل هي كل يشء .فالكون
352
إنام خرج من العدم بكلمة واحدة هي «ك ْن» .وهذه األمة الفاخرة
-التي جيمعنا االنتامء هلا -إنام ُولدت من كلمة واحدة يف غار
حراء« :اقرأ» .إن الوجود البرشي ال ماهية له خارج أسوار اللغة.
فغر رئيس التحرير فاه .ومل يعرف كيف يرد ،فهو رجل عركته
غرف األخبار غري أن خربته ال تتجاوز اجلانب التقني ،وفنيات بناء
ُ
النرشات ،وترتيب األخبار ومالحقتها ،لكن تكوينه الثقايف ضعيف،
فال هو يستطيع اإلبانة عن حجة ،وال الدفاع عنها بمنطق.
غمغم قائال:
- -الزم تفهم حرضتك أن التلفزيون صورة أوالً...
قاطعه القروي:
- -وكلمة أيضا! والكلمة كل يشء .فبالكلامت نحب ،وهبا نعرب عن
لواعج العشق .ومنها نغضب وهبا نصادق ونحارب .وبالكلامت
يتعبد النساك داخل املساجد واملحاريب والكنائس والصوامع.
وهبا نهُ دهد أطفالنا قبل النوم ،وبالكلمة وحدها نرتىض املحبوب
املشاعر املختلجة يف صدورنا،
َ الغاضب .وبالكلامت نصف
ونداعب البدر الضحوك يف سامئنا ،وهبا نصف الغابات واألزهار
واألمطار ،واألمايس املاتعة والصباحات الوضاءة .فعالقتنا
بالكون كله إنام هي عرب الكلامت يا سيدي ...رئيس التحرير!
والتفت اجلميع إىل رئيس التحرير منتظرين رده .فبدا يف أعينهم
سمينا قصريا أصلع ،طف ً
ال يف عامه الثالث ...يبحث عن كلامت.
ورفع هامته وأجال برصه يف وجه القروي ،فبدا له جادا ُمغضبا
353
قوي احلجة .وتساءل يف نفسه :بأي حيلة سأروض هذا اجلمل اهلائج.
ثم تصنع االبتسامة:
- -دعونا َنر أجندة األخبار اليوم ،وسنتحدث يف هذه اجلزئية الحقا.
وأحس القروي بغضب يكاد خينقه .فهو يغار عىل اللغة العربية كام
يغار البدوي عىل زوجته احلسناء ،وختيل نفسه جالسا مستمعا لنرشات
باللهجة عىل قناة العروبة .تلك القناة التي يؤمن إيامنا عميقا بأهنا
ِ
وتوحيد اهتاممات اإلنسان العريب. سامهت يف النهوض بالفصحى،
اعتذر لينرصف قبل هناية اجتامع التحرير .ثم ختيل ردة فعل
اجلاحظ إذا ُأخبرِ بأن بعض العرب يميل إىل اللهجات املرتعة باللحن
أكثر من ميله للغة مرض! أحس برغبة عارمة يف غسل سليقته بعد هذا
النقاش .ووجد نفسه يتذكر كالما للجاحظ ،فقرر طباعته عىل ورقة
وتعليقه عىل طرف مكتبه حتى يقرأه كل من يف غرفة األخبار.
وقبل انتهاء االجتامع ،قذفت الطابعة ورقة تلقفها القروي
وألصقها عىل طرف مكتبه ،وكان مكتوبا فيها:
تنق من َ
اجلهال والن َّْوكى والسخفا َء شهرا فقط ،مل َ جالست
َ «ولو
وخبال معانيهم بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا،ِ أوضار كالمهم،
ُ
واإلنسان بالتعلم أرسع إىل الناس ،وأشدُّ التحاما بالطبائع،
ُ ألن الفساد
ِ
االختالف إىل العلامء ومدارسة الكتب جيو ُد ل ُفظه والتكلف ،وبِ ِ
طول
وحيس ُن أد ُبه .وهو ال حيتاج يف اجلهل إىل أكثر من ترك التعلم ،ويف فساد
البيان إىل أكثر من ترك التخري».
وز َع منشورا سياسيا يف دولة بوليسية.
ومتلكه شعور مناضل ّ
354
وأمسك قلام وخط حتت عبارة «ويف فساد البيان إىل أكثر من ترك
التخيرُّ ».
وحانت منه التفاتة فلمح رئيس التحرير يرمقه بحنق من زجاج
مكتبه ،فرمى بجسمه عىل كريس مكتبه غري مكرتث ،وبدأ يكتب:
***
355
بغداد ،ما بين ،219و 235هـ
تعود اجلاحظ عىل جلسات مر السنوات وتالحق األيامّ ، عىل ّ
املساء يف رشفة من رشفات منزله الواسع يف بغداد ،بدأ يتعلق بالعزلة
مع كتبه وجاريته ،أكثر من تعلقه بمجالسة األمراء واخللفاء والوجهاء.
حصل من اهلبات -التي تتالت عليه بعد كتابته كتبا للمأمون وابن
فقد ّ
الزيات وغريمها -ماالً عريضا مع شهرة ط َّبقت اآلفاق.
جلس يكتب مدير ًا ظهره لسحر بغداد وما تضطرب به من
أحداث ،مستمتعا برصير أقالمه عىل الورق ،ورنات عود جاريته
علية .ومع وقوع أحداث جسام يف السنوات املاضية؛ كوفاة املأمون،
وامتحانه لرجال احلديث بخلق القرآن ،فإنه ظل منكفئا ال هيمه إال
الكتابة والقراءة .فقد أحس بأن العمر يتقدم وهو مل حيقق حلمه الذي
بدأ يكرب بني جنبيه.
ِ
مستعج ٌل حتى ولو مل يعرف وجهته القادمة. أصبح يشعر دائام بأنه
يعب من الدنيا
هل اإلحساس بتقدم العمر يدفع اإلنسان للركض كي ّ
قبل أن تخُ طف من بني يديه ،أو ُي ّ
ستل منها؟
ال يدري ،لكنه أصبح يستيقظ وينام عىل حلم إكامل كتب جديدة
جتمع ثقافة العرب.
357
دول وتغريت أحوال خالل السنوات املتطاولة ،لكن ذلك تقلبت ٌ
كله شجعه عىل العزلة بني كتبه .يستمع إىل رصير قلمه عىل الورق ،ثم
الدوي الذي يأتيه من خلف األبواب عن كتبه ورسائله.
َّ يستلذ
خرج من غرفة كتبه ووقف يف الرشفة ممتعا عينيه بالنظر إىل هنر
دجلة البادي يف األفق ،وكانت علية جالسة يف طرفها ،وبيدها عو ٌد
تستعد للغناء كام تفعل عادة كل مجعة.
شدت وترا من األوتار وقالت بتدلل:
- -أال مت َ ّل من الكتب والكتابة؟
مل جيبها ،فقد كان ذهنه مشغوال بام سمعه أمس من قصص البالط
واحلرب الدائرة بني املقربني من اخلليفة ،وكانت عينه قد استقرت عىل
حراقة مليئة باجلنود يعربون دجلة.
ثم التفت إليها بكامل جسمه وقال:
- -تعا ْيل.
وضعت العود من حجرها واقرتبت منه ،فمدّ يده يف األفق مشريا
إىل مدينة بغداد الساحرة املرتامية وقال:
- -هل ترين هذه املدينة؟
- -بىل!
قالتها بتنهد ،وهي تفكر يف عالقتها املتناقضة هبذه املدينة الغافية
يف مثل هذه الساعة .مل هيملها لتفكر يف طبيعة عالقتها ببغداد ،وقال:
مبني ،أو
قلم ٌ- -إن كل ما ترينَه لن يبقى منه للتاريخ إال ما يخُ لده ٌ
يف َتكَّه شاعر بليغ من بني أنياب الزمان!
358
فهمت ما يرمي إليه ،ثم سحبت يدها من يده عائدة إىل عودها ْ
وهي تفكر يف أسباب حبها هلذا اخلَ ْلق الغريب .فال هو وسيم الطلعة،
وال صاحب سلطان حيث نشأت هي بني الرشيد واملأمون .لكنها ال
تشك يف زيادة تعلقها به كلام مرت األيام.
هل سبب تعلقها به شعورها أنه أول رجل تالحظ كون عالقته
هبا ليست متمحورة حول إشباع الرغبات احلسية ،فال هو ممن يتوق إىل
ذلك اجلانب منها إال نادرا ،بخالف من عرفتهم قبله؟
شعرت معه
ْ كانوا ال ينظرون إليها إال عىل أهنا أنثى ،أما هو فقد
بأهنا امرأة ،يتعلق بغنائها ومجاهلا والتفاهتا وغنجها ،وصدقها وكذهبا
ودموعها وقوهتا وضعفها ...يتعلق بتلك اجلوانب التي جتلعها امرأة،
ال بتلك األعضاء التي جتلعها أنثى.
أما هي فقد علمتها األيام أن تكره كل ما جيعلها أنثى ،تكره ذلك
اجلامل اجلسدي الذي أغلق عليها زنازين الشقاء أكثر مما فتح هلا بساتني
السعادة.
كانت تنظر إليه ،ثم تذكرت ما سمعته خلسة البارحة أثناء حديث
له مع أحد زواره ،فبادرته سائلة:
- -هل صحيح أن املعتصم يقدم وزيره ابن الزيات ،عىل القايض
أمحد بن أيب دؤاد وأن احلرب بينهام مشتعلة؟
القلم عن الورقة التي كان يكتب فيها وقال بلهجة فيها تأفف
َ رفع
وتضايق:
- -وما أدراك؟
359
فقالت بتلعثم:
- -أخربتني جاريت ...و...
- -هل كنت تتلقطني حديثنا البارحة؟
- -ال ،ال ...لكن.
أخطر من أن
ُ - -لكن ماذا؟ اسمعي! إن قصص امللك والوزارات
صدور املراضع! ال تتسمعي حلديثنا أبدا.
ُ تتحملها
ّ
وضحكت علي ُة ضح ًة متأرجحة بني االعتذار والغواية .ووقف هو
وإصبعه وسط الكتاب الذي كان يكتبه .خرج من الرشفة مغلقا الباب
اخلشبي وراءه ،ومفكرا يف أن موعد وصول بعض زواره قد اقرتب.
وما كادت الشمس تغيب عن هنر دجلة حتى كان املجلس يضج
بزوار ،منهم مارسجويه والنظام وأبو حممد الفاريس.
أخذ كل منهم جملسه بينام كان اجلاحظ يبالغ يف الرتحيب ،ممازحا
النظام قائال:
شعور عاشق ُيغازل
َ - -أنت عندما تدخل مدينة غري البرصة تشعر
غري معشوقته.
َ
ترددت ضحكات اجلميع ،وجلس النظام مرددا نظره يف جنبات
املجلس .رأى طنافس مجيلة وسجادا فاخرا ،فشعر بغبطة جتتاحه وهو
يتذكر الغرفة التي كان يسكنها صاحبه يف حي العالفني بالبرصة.
دخل غالم حامال خوانا ووضعه وسط املجلس.
جاء صوت رجل ضخم اجلثة شديد البياض يعمل يف قرص اخلليفة
يسمى أبا حممد الفاريس:
360
سمعت أن أمري املؤمنني املعتصم سيمتحن أهل احلديث أكثر مما
ُ --
فعل املأمون رمحه اهلل.
فأجابه اجلاحظ:
- -إذا مل يفعل فأخشى أن تنتقض عليه اخلالفة .فأصحاب احلديث
اآلن يملكون املدن بطاعة الدمهاء هلم.
قاهلا اجلاحظ وهو ال يرفع عينيه مراقبا نفيسا وهو يضع بعض
األرشبة عىل اخلوان .ثم رفع عينيه إىل النظام وقال:
- -كيف حال مويس بن عمران؟
رد النظام بلكنة مشفقة:
- -لقد أصابه مرض وهو اآلن بني احلياة واملوت.
- -عافاه اهلل.
- -آمني.
- -وماذا عن عبود ،صاحب ِ
القيان؟
مجع النظام يديه وفركهام ،وهو يتأمل جدران الغرفة املزركشة
بصور الطواويس وقال:
نفسه للجهاد. ِ
- -سبحن اهلل! من ْهيد اهللُ فهو املهتد! عبود نذر َ
برقت أسارير اجلاحظ ،وتفرس وجوه جلسائه قبل احلديث وقال:
- -هل تعرفون سبب اختيار ع ّبود للجهاد؟
فقال النظام:
- -أرى أنه فكر يف األعامل ،ثم وجد أشدها عىل النفس وأكثرها
أجرا سنام اإلسالم اجلهاد.
361
دوت ضحكة اجلاحظ الساخرة ،ومال إىل الوراء يف كرسيه وهو
يعدل قلنسوته وقال:
- -أرى -واهلل أعلم -أنه اختار اجلهاد ألن له ثأر ًا مع الروم .فهم
اخليص يتدين
ُّ الذين خصوه ّملا كان صغريا وباعوه .لذلك ال يكاد
وينرصف للزهد حتى يرتك كل العبادات القريبة والبعيدة ويفضل
عليها اجلهاد بأرض الروم.
رفع النظام وجهه مقطبا جبينه وقال:
- -عفا اهلل عنك أبا عثامن ،ما هذه اخلواطر؟
- -هذا ما أراه ،ولعله هو يف دخيلة نفسه ال يدرك ذلك .وال تعجبوا
فقد رأيت أن لكل طائفة من الناس مسلك ًا يف التدين والتعبد.
حيج ،وتدين عامل الدولة أن يرتكوا
فتد ُّي ُن الفاريس إذا تاب أن ّ
العمل للسلطان ،وتدين املغني أن يكثر اهلذرمة بالتسبيح
والصالة عىل النبي ،والصالة يف اجلامعة مع رشب النبيذ ،وتدين
الترسع إىل إكفار أهل
ّ الشيعي إظهار ترك النبيذ .وتدين املتك ّلم
املعايص ،ورمي الناس باجلرب ،أو بالتعطيل ،أو بالزندقة.
كان الفاريس يستمع شاعرا بامللل من حديث اجلاحظ وغوصه يف
أعامق النفوس .وكان ذهنه مشغوال بالتفكري يف كثرة األتراك يف بغداد
وتفضيل املعتصم هلم عىل الفرس ،فقال حماوال تغيري جمرى احلديث:
- -لقد أصبحت بغداد ترطن بلكنة الرتك .ما رأيكم يف اعتامد أمري
املؤمنني املعتصم عىل األتراك ،وجلبه األلوف منهم؟
قال النظام وهو يمأل يده من الزبيب الذي عىل اخلوان:
362
- -أليسوا أخواله؟
ختول إدارة الدول.
- -بىل ،لكن اخلؤولة ال ّ
- -لكني ما سمعتك تتضايق من اعتامد املأمون عىل الفرس ألهنم
أخواله.
- -نحن لسنا كالرتك .فاعتامد املأمون عىل الفرس ليس ألهنم
أخواله ،بل ألهنم أخوال اإلدارة وأعامم السياسة وأبناء كرسى.
اث ٍ
دول فهم أعرف بالسياسة واآليني واحلدود والرسوم ،هم ُو ّر ُ
وصنّاع ُملك.
ُ
تربع اجلاحظ عىل أريكته وسط املجلس ،ونزع القلنسوة ،فبدا
أصغر من حجمه املعتاد:
َ الشيب يغزوه
ُ رأسه الصغري الذي بدأ
- -أنتم تعلمون أن دولة بني مروان كانت عربية أعرابية ،ودولة
عددت الوزراء من لدن
َ بني العباس هذه خراسانية فارسية .فلو
السفاح إىل املأمون لوجدت معظمهم من اخلراسانية ،مع أن قادة
اجلند عىل الثغور من العرب.
قاطعه الفاريس:
صدور بني العباس ،ونحن من
َ - -ال غرو ،فنحن من شفى اهلل بنا
فتحنا البالد ،وقتلنا العباد .ونحن أصحاب هذه الدولة ،و َمن َبت
هذه الشجرة ،ومن أرضنا ه ّب ْت هذه الريح.
كان الكل ينظرون إىل الفاريس مندفعا يف احلديث حمركا يديه ،كام
كانوا ينظرون إىل حبيبات العرق التي تتجمع عىل جبني اجلاحظ ،فقد
كان ال ينزعج من يشء انزعاجه من تنقص العرب .فانطلق قائال:
363
- -ليس للعجم أن يتكلموا عن هذه الدولة مع وجود العرب« .فهل
أكثر النقباء إال من صميم العرب ،كأيب عبد احلميد الطائي وأيب
حممد سليامن اخلزاعي وأيب نرص مالك بن اهليثم اخلزاعي؟ ثم
من الذي قتل آخر ملوك بني مروان؟ ومن هزم ابن هبرية؟ ومن
قتل ابن ضبارة؟ ومن فتح السند إال موسى بن كعب؟ ومن فتح
إفريقية إال حممد بن األشعث؟» ،ومن قادة جيوش الثغور اآلن
إال العرب؟
كان الرجل الفاريس يعبث بطرف حليته الصهباء مستمعا ،ثم
أرخى يده وقال:
تذكر ما قاله حممد بن عيل والد السفاح؟
- -أو ُ
- -وماذا قال؟
وصنائع عثامن.
ُ غلب عليها عثامنَ - -قال إن «البرصة وسوادها
فليس من شيعة بني العباس فيها إال القليل.»...
قاطعه اجلاحظ مشريا إىل النظام:
- -أنا اآلن من أهل بغداد ،لكن ال تتحدث عن البرصة والنظام ينظر
إليك...
انفرجت شفتا النظام الغليظتان عن ابتسامة ،فواصل الفاريس
رواية كالم السفاح:
«- -وأما اجلزيرة العربية فخارج ٌة مارقة ،ولكن عليكم هبذا الرشق
فإن فيه صدورا سليمة وقلوبا باسلة ،مل تفسدها األهواء ومل ت ْعتَق ْبها
البدع ،وهم مغيظون موتورون» .فكيف ال نكون أصحاب الدولة
364
وأحق هبا من العرب ،فكيف بأعراب الرتك األجالف؟
رفع اجلاحظ برصه يف السقف وقال:
- -إن كالم حممد بن عيل كال ُم صاحب سياسة ال صاحب كالم
وفلسفة ،لقد كان الفرس أصحاب ديانة سابقة وملك قائم،
لذلك مل يستسيغوا الدي َن كام استساغه العريب والرتكي .فالعريب
خملصي
نْ والرتكي امتزج اإلسالم بشغافهام ،وخدما هذه الدولة
ألنه مل يكن هلام سلطان بني األمم إال هبذه الدولة وسندها النابت
يف الدين .أما الفرس فكانت فيهم املجوسية والكرسوية ،وجاء
العرب فهدموا دولتهم وفلوا حدّ هم ،فهم موتورون مغيظون،
وحانقون حمزونون دائام.
بدوار يف رأسه وهو يقول:
شعر الفاريس ّ
- -من مهد قواعد العلم غري الفرس؟ وما الدين إن مل يقم عىل
قواعد؟
كان النظام منشغال بخضم حبات من اللوز فابتلعها هبدوء،
وتنحنح فشخصت إليه األبصار .مسح طرف شفته وقال:
- -يشء عجييييب! هاهنا باب آخر ال أراكم فطنتم له ،إن هذه املل َة
األمم املختلف َة أم ًة واحدة ،فمزجت األلوان وأدخلت َ ق َل َبت
الفضائل والرذائل بعضها ببعض .فأصبح اخلراساين عربيا َ
وتوح ِد القصد ،وأصبح العريب فارسيا لتقارب السكن ُّ بالتنشئة
ووحدة التع ّلم والديانة والسعي وتشابه املقاصد ،فأنا ال أعلم
كتبت وحتدثت يف الشعر َ َ
أعرق يف األعرابية منك يا أبا حممد إذا
واملديح وقصص العرب .وال أعلم أكثر خراسانية منك يا أبا
365
مرو ،وحكيت قصصهم .فأنتام
عثامن ،إذا حتدثت عن أهل َ
متفقان بالقوة ،وإن اختلفتام بالفعل.
تثاءب مارسجويه وقال:
- -إن اخللفاء يف هذه امللة ال يقربون الرجل جلنسه وال قبيله وال
ديانته ،بل لعلمه وفضله ،وإال مل َ مجعت جمالس اخللفاء بني الفاريس
والرافيض ،والعريب واملحدث ،واملتفلسف والطبيب والنرصاين؟!
رفع اجلاحظ عينيه إىل الستائر املزركشة التي تغطي النوافذ ،ثم
تذكر أمرا ،فقال وكأنه يريد إهناء احلديث:
- -نحن متفقون عىل هذا .لكن الشعوبية أحدثت رضبا مستحدثا
من القول يف مثالب العرب ،فقاد ذلك إىل هذا احلجاج واللجاج.
ساد صمت ،قطعه صوت الفاريس:
- -ما أخبار التنافس بني ابن أيب دؤاد وابن الزيات؟
فقال رجل يف طرف املجلس ظل صامتا:
- -املعتصم أصبح يقدم ابن الزيات ،حتى إنه أمر كل من رآه يف
القرص أن يقوم تكريام له إذا داخل.
قال الفاريس ،وهو يلعب بلحيته الصهباء:
- -هل تعلمون ماذا فعل ابن أيب دؤاد؟ كلف أحد معاونيه أن خيربه
إذا دخل ابن الزيات ،فإذا أعلمه بدخوله قام وبدأ يصيل حتى ال
يقف له!
قال اجلاحظ:
- -كنت معه أمس ،فلام دخلنا رأينا ابن أيب دؤاد يصيل ،فقلت له أهيا
366
الوزير ،ما بال هذا يصيل يف وقت ليس وقت صالة؟ فقال يل:
صلى الضح�ى ّملا اس�تفاد عداويت
ُ
يـنس�ك بـعـده�ا ويـص�و ُم وأراه
ال تـعـدم� َّن ع�داو ًة مس�مـوم ًة
تـركـت َ
ْ�ك تـقـع�دُ ت�ار ًة وتـق�و ُم
قال الفاريس:
- -سمعت أن ابن الزيات نظم تسعني بيتا يف هجاء ابن أيب دؤاد.
جاء صوت مارسجويه:
- -لكن ابن أيب دؤاد رد عليه ببيتني يعدالهنا كلها حني قال:
أحس� ُن م�ن تس�عني بيت� ًا ُس�دى
ِ
بـي�ت جـمـع�ك مـعـنـاه�ن يف
املل�ك إىل م ْط ٍ
�رة َ م�ا أح�وج
َ
ِ
الـزيـ�ت! ـ�ر ُ
تـغس�ل عـن�ه َو َض َ
تضايق اجلاحظ من التعرض لصديقه ابن الزيات ،فالحظ ذلك
جلساؤه ،وخيم صمت قطعه صوت اجلاحظ متظاهرا بعدم االنزعاج:
لكن ابن الزيات رد عىل هذين البيتني وقال:
ي�ا أهي�ا الطام�ع يف هجون�ا
ِ
للم�وت عــرض�ت
َ نفس�ك قـ�د
الزي�ت ال ُي�زري بأحس�ابنا
ُ
ِ
الـبـي�ت أحس�ا ُبـنـا مـعـروفـ� ُة
ضحك اجلميع ،فقال النظام ملتفتا إىل اجلاحظ:
367
- -وما الذي جعل املعتصم يقدم ابن الزيات عىل ابن أيب دؤاد رغم
علمه وبالغته ونسبه يف بني إياد؟
ساد صمت ،مطبق ،فتالحظ النظام ومارسجويه ،بينام ظهر ظل
مججمة اجلاحظ منعكسا عىل اجلدار خيضم حبات من اللوز.
أبعد الفاريس املصباح عن وسادته قليال وقال:
يدر عىل اخلليفة مائال طائال....
- -إن ابن الزيات أصبح ّ
ثم توقف عن احلديث ،والتفت فرأى أجفانا ترتاقص ،مع صمت
متوتّر.
لكن النظام قال:
- -كيف ذلك؟
مل يكن أحد جاهزا للجواب ،فخيم الصمت.
فليس يف بغداد أحد إال سمع عن تنور العذاب الذي أعدّ ه ابن
الزيات للمخالفني واملصا َدرين ،إذ أصبح يأيت بالتاجر الذي تُصادر
أمواله ويضعه فيه حتى يقر بكل ما عنده أو يتمزق أشالء بالكالليب.
جاء صوت النظام حادا هذه املرة:
- -كيف يقع هذا وأنتم مجاعة العدل والتوحيد واألمر باملعروف
والنهي عن املنكر؟
وقع السؤال عىل رؤوس احلارضين كأنه صخرة متدحرجة قادمة
من قعر نار جهنم ،ساد صمت مطبق.
فرغم التقارب العقيل بني اجلالسني فإن احلياة يف بغداد ويف أكناف
اخللفاء عودهتم أال يأمن أحد جليسه ،كان السؤال قاسيا ،فسبب املودة
368
والتقارب بينهم هو انتامؤهم إىل االعتزال القائم عل مبادئ أمههام
العدل والتوحيد ،واألمر باملعروف والنهي عن املنكر.
لكن لبغداد منطقها.
كان النظام بعيدا عن عامل بغداد هذا ،مشغوال بالتنظري والتفكري،
والعيش يف عامل املناظرات العقلية يف البرصة.
خطف اجلاحظ احلديث:
- -ومن قال إن العدل ليس يف استخراج املال املغصوب بغري وجهه
من أرباب الربا؟
فقال النظام باستغراب:
- -ومن قال إن من يعذهبم الوزير ُمرابون؟ ومن أباح ظلم املرابني؟
ومن أباح التعذيب يف امل ّلة؟
- -إذا كان الظامل ال ينزجر عن ظلمه إال بالتعذيب ،أال جيوز تعذيبه؟
- -مل يثبت عن النبي وال عن أصحابه أهنم عذبوا أحدا ،وما كان
النبي وال عمر وال أبو بكر يسجنون أحدا ،فكيف بتعذيبه .ثم إن
التعذيب يتعارض مع تكريم اهلل لبني آدم وتسخري الكون هلم.
احتدم اجلدل بني اجلاحظ والنظام ،ثم ساد صمت ،قطعه صوت
اخلادم نفيس يدعوهم لالنتقال إىل جملس العشاء.
تغريت نربة احلديث عىل مائدة العشاء ،وانصب احلديث عىل
كراسة كتبها اجلاحظ عن عادات البخالء وأخالقهم ،فتذكر اجلميع
ّ
أيام املسجديني بالبرصة وقصصهم.
امتألت أطراف املجلس بأصوات القضم واللقم ،واحتكاك
369
األواين واختالف األيدي فوق الطعام.
بعد العشاء و ّدع اجلاحظ ضيوفه ،وصعد السلم إىل غرفة كتبه،
كان معتدل املزاج يكاد يقفز حيوية وسعادة ،دخل الغرفة وجلس بني
كتبه ،فيام كانت رائحة العطور الفواحة تداعب خياالته من غرفة علية
القريبة .نفض الرتاب عن أحد كتبه وهو يغالب نفسه بني سحر علية
وسلطان الكتاب ،وبني احلالتني شعر بغبطة وسعادة.
لكن ما مل يدُ ر بخلده تلك اللحظة ،أن هذا العامل سيتهاوى أمام
عينيه يف ملحة الربق.
***
وقف نفيس مشدوها يف حديقة املنزل من ترصفات سيده .كان
اجلاحظ يميش ،وجيلس ثم يقف .يحُ َ ْو ِق ُل أحيانا ويحُ َ ْسبِ ُل أخرى .جيلس
واضعا يديه عىل رأسه ثم يقف ويسأل نفيس ًا من جديد متوسال بنربة طفل:
- -هل رأيتها؟ كيف ذهبت؟ كيف؟
لكن إجابة نفيس ال تكشف شيئا عن اللغز املحري ،أعاد عليه
نفيس العبارة ألف مرة.
عدت مل أعثر هلا عىل أثر.
طلبت مني أن أذهب إىل السوق ،وعندما ُ
ْ --
بصعوبة ،عاد إىل داخل املنزل جير قدميه ،وال يدري كيف محلتاه.
ها هو مستلق عىل ظهره يف غرفة كتبه ينظر إىل السقف بعينني منطفئتني.
الصدمة ليست يف اختفاء علية فقط ،بل يف عجبه من حجم احلب
الذي يكنه هلا دون أن يدري ،هل هناك أشياء نعشقها دون أي معرفة
ٌ
مؤجل يتوقف عىل حلظة فقدانه؟متاما ،كالطفل منا باألمر؟ أهناك عشق
370
الذي يظل مستلقيا بني حضن أبويه ال يلقي باال حلضورمها يف حياته،
ثم ييتم فجأة .فيلتفت إىل زوايا الكون فرياها خالية ،موحشة وخميفة،
ويستيقظ عىل مآقيه تسيل أهنارا من الدموع.
هل أحب علية هلذه الدرجة؟
أدار عينيه يف جنبات الكتب ،رأى كتب األوائل واألواخر ،من
أدب وتاريخ ولغة وفلسلفة ...كل هذه الطوامري فقدت رونقها بعد
خروج علية من هذا املنزل.
عجز عن ختيل عامله بدوهنا ،ختيل نفسه حافيا يف شوارع بغداد
يسائل عنها الدراويش واملتسولني والصيادين والتجار وقطاع الطرق.
- -هل فيكم من رآها؟
- -من هي؟
- -هي علية ....هي عريب! ومن منكم ال يعرفها؟ هي! بمالءهتا
البيضاء وشعرها املنسدل ووجها الوضاح؟
كانت أذناه مرتعتني بلحن أصابعها ترتاقص عىل العود ،وبتمتامت
شفتيها يف أمايس بغداد الوادعة ،وكانت عيناه مسكونتني بوجهها
الصبوح وهي تقول له :فديتك!
أغمض عينيه عىل صورهتا تلك ،ووقف بتثاقل متسائال يف نفسه
عن هذا احلب الذي ال يشتد رضامه إال بعد فقدانه ،كيف يعشق هذا
الشيب ون ّيف عىل الستني؟ بل كيف يعشق
ُ العشق احلارق من َو َخ َط ُه
من مل يتجاوز الستني؟
إن احلب ألطف وأدق وأخطر من أن ُيرتك لعبة لطيش الشباب.
371
فام يقع فيه الشباب ليس حبا ،بل صخب حواس فقط .إنام يعشق
يدي من أ ّدبتْه األيا ُم
العجائز .فال يمكن لربعم احلب أن يرتعرع إال بني ْ
ور ّباه تعاقب الليل والنهار.
مرت عليه أيام مل خيرج من عتبة غرفة كتبه ،وقل ُبه مرتع بحزن دفني
وشعور بعبثية احلياة .ثم انقضت أسابيع كان يعود فيها َّ
كل مساء ،فال
يطلب طعاما وال رشابا .يصعد إىل غرفة كتبه ،ويمر وقته بني كتابة
ونوم وتفكري.
سمع مرة نفيسا يقول خلادم جاره:
- -منذ اختفائها أمهل سيدي كل يشء ،أصبح ال يسأل عن سقي
احلديقة وال هيتم بنوع الطعام وال الرشاب.
***
طال جملس اجلاحظ مع ابن الزيات ،ويكاد ينهي قراءة رسالته
التي كتبها له بعنوان «رسالة يف اجلد واهلزل» .سكت اجلاحظ قليال
لريتاح بعد قراءة طويلة ،فامل اب ُن الزيات عىل وسادته ،ووضع عاممته
عن رأسه ،وقال وهو يتفقد فتيلة املصباح:
- -واهلل إين ملريض القلب يا أبا عثامن؟
- -عاىف اهلل الوزير!
دنف باحلب ،وال قوة يل عليه.
- -إين ٌ
قفز قلب اجلاحظ من مكانه عندما سمع كلمة احلب .لكنه كان
يداري ما به ،وال يريد أن يطلع الوزير عىل اختفاء علية ،فقال:
- -إيه! و َمن الغزال الذي افرتس األسد؟
372
- -إن قلبي متنازع بني حزين عىل فراق زوجتي وحبي جلارية من
جواري فرهود ا ُمل َق نِّي عشقتها قبل سنني طويلة!
- -جارية فرهود خطبها سهل ،مل َ ال تطلبها منه؟ أما أم جعفر رمحها
اهلل ،فال تنس أجر الصرب.
- -لقد بيعت اجلارية وذهبت منذ سنني ،حتى كأن أرضا ابتلعتها،
أو سام ًء حلستْها ،وما عثرنا هلا عىل أثر.
حلبي أهيا الوزير؟
- -هل يتسع القلب نْ
- -إييه!
قاهلا ابن الزيات متنفسا بعمق ،ثم أردف:
- -إن القلب الكبري يتسع ألكثر من حب يا أبا عثامن .فبني جوانحي
بحار من املشاعر ال يتسع هلا قلب امرأة واحدة.
- -لكن ثمة فرقا بني أن حتب امرأة ،وأن متيل إىل أخرى!
- -أنا أحتدث عن احلب يا أبا عثامن ،ففي هذا املنزل من اجلواري
الروميات واحلبشيات واهلنديات والفارسيات ما يكبح الرغبة،
أنا حمب يا أبا عثامن.
استند ابن الزيات ووقف من مكان جلوسه ،ومشى قليال إىل
الباب وألقى نظرة عىل احلديقة املصفوفة بعناية يف مدخل منزله ،كان
قلبه حيرتق ،ثم جعل يردد آخر أبيات قاهلا باكيا عىل اجلارية التي بيعت
لرجل من أهل مهدان:
طول ساعات ليل العاشق الدنِ ِ
ف يا َ
وط�ول ر ْعيتِ�ه للنجم يف السَّ�دَ ِ
ف َ
َ
373
م�ا ذا تواري ثيايب م�ن أخي ُحرق
ِ
األل�ف! كأنما اجلس�م من� ُه دق�ة
أدار ظهره للنافذة ونظر إىل اجلاحظ وأكمل:
�ت اهلوى دنِفا
م�ن رسه أن يرى َم ْي َ
فليس�تدل على الزي�ات و ْل ِ
يق�ف! َّ
التفت اجلاحظ إىل فتيلة الرساج وهي تكاد تنطفئ ،ورفع برصه
فرأى خيال ابن الزيات عىل اجلدار ضعيفا هزيال مسكينا ،رغم أن جمرد
ذكر اسمه خييف أشداء الرجال يف بغداد.
جلسا صامتني ،لكن قلب كل منهام كان مليئا بالصخب ،ثم
استأذن اجلاحظ وخرج من باب املنزل الكبري.
وبعد ساعة ،كان ابن الزيات يدخل إىل باب السجن الكبري ببغداد،
فهذه الساعة املتأخرة من الليل هي الوقت املحبب عنده للقيام بعمله.
جلس عىل كرسيه ونادى بأول سجني.
دخل الرجل يرسف يف أغالله ،ووقف بني يديه ،غطى ابن الزيات
أنفه بكمه وقال:
- -أما آن لك أن تقر بكل ما متلكه من ِضياع وأموال؟
- -واهلل لقد أحصيت لك كل ما أملكه يا موالي.
- -خذوه إىل التنور!
كانت تلك الكلمة هي كل ما فكر فيه هذا السجني طيلة األيام
اخلمسة املاضية ،فرغم انطباق ِح َل ِق القيد عىل رجليه الداميتني ،فإنه كان
ينظر إليهام كأهنام معصامن من احلرير بالقياس إىل ما سيلقاه يف التنور.
374
فام أكثر ما سمع رفاق السجن يتحدثون برعب عن التنور ،وكان
وصفهم لعذابه ال يفارق أذنيه:
- -دخله عبد اهلل اللص فاندلقت أحشاؤه .كانت كالليب احلديد
تنزع مصارينه.
- -ما دخله أحد قط وخرج منه عاقال إن خرج حيا!
قفز اجلنود عىل السجني ومحلوه إىل التنور...
وح َس ٌك
كان تنورا كبريا مصنوعا من احلديد ،تتوسطه كالليب َ
ومقعد من خشب .جيلس السجني عىل اخلشبة وحتيط به الكالليب
واحلسك من كل جهة دون أن تلمسه.
لكنه ال يتحرك حركة إال خدشته ،فإن نام خدشه مسامر ،وإن
تقلب تناوشته مسامري.
جيلس عىل أطراف التنور حارس مكلف بإيذاء من يدخله.
ما إن استقر السجني داخل التنور حتى صاح باستعطاف:
- -واهلل يا موالي لو ملكت شيئا يف هذه الدنيا ما أخربتك به
ألقررت به! ارمحني رمحك اهلل.
ال يزيد ابن الزيات عىل تكرار مجلته التي غدت ترتدد يف كل بيت
ببغداد:
- -الرمح ُة َخ َو ٌر يف الطبيعة!
- -ارمحني يرمحك الرمحن!
خور يف الطبيعة!
- -الرمحة ٌ
ثم يتالشى صوت املعذب يف غياهب التنور.
375
وبعد ليلة مليئة بالرصاخ والعويل ،واالسرتحام والقصص،
وحلظات انكسار الرجال املستورين ،خيرج ابن الزيات لتداعب وجهه
نسائم هنر دجله.
ويف ساعات الصباح األوىل يعود إىل باب قرصه وخيال جاريته
اهلمدانية يداعبه ،وهو ينشد األشعار الرقيقة يف رثاء زوجته.
***
376
الدوحة 1440 ،هـ
مرت أيام ثالثة وهو يتصور حلظة دخوله منزل أهلها لطلب يدها.
وكان أكثر ما أزعجه اشرتاط والدها أال يأيت وحيدا؛ فكيف يأيت
رجل وحده خلطبة ابنته؟ فكان عليه أن جيد أصدقاء ومعارف ينتحلون
هوي َة أعاممه وأقاربه .وانتخب -بعد طول تفكري -أربعة أصدقاء،
التحفوا دراريعهم املوريتانية البيضاء املزركشة.
وقفت سيارهتم أمام املنزل الواسع الواقع بمنطقة الدفنة ،حيث
تنام غابة من األبراج الشاهقة عىل مياه اخلليج اهلادئة .نزل القروي،
ملقي ًا نظرة عىل األبراج العالية البادية يف األفق وقت الغروب ،ثم أعاد
نظره هلاتفه وهو يبستم .فقد الحظ أن رفا َقه يمشون متجهني للباب
عكس هبوب الرياح ،فدخل اهلواء يف أطراف دراريعهم الواسعة ،فبدا
كل واحد منهم كأنه منطا ٌد يستعد لإلقالع.
أعاد برصه للهاتف ،فهو مشغول بالتواصل مع حصة احلريصة
عىل أال يرتكب أي كارثة بروتوكولية ختالف األعراف والتقاليد .كأن
يرفض تناول القهوة مثال واصفا إياها بأهنا مرة ال تُستساغ ،كام أخربها
يستلقي عىل ظهره -كام يفعل
َ أنه فعل يوما بأحد املجالس ،أو أن
املوريتاين األصيل هو اإلنسان الوحيد الذي يولد
َ أحيانا -متعلال بأن
دون عمود فقري!
377
ما إن دخلوا من الباب الواسع حتى تلقاهم أخوها بمالبسه
الناصعة البياض ،مندفعا يرتب عقاله فوق رأسه قائال:
- -يا هال ومرحبا...
- -أهال بكم...
وعزى
انقبض القروي مالحظا غياب أيب حصة عن االستقبالّ ،
نفسه بأن العادات ربام ال تستلزم حضور الوالد حلظة دخول اخلطاب
وأصوات احتكاك
ُ املنزل .دلف القروي وأصحابه من الباب الواسع،
دراريعهم متأل املكان.
ما إن دلف اجلميع إىل املجلس حتى خرج والد حصة من طرف
األغراب .نظر إىل دراريعهم املزركشة ،مالحظا
َ املنزل ،متأمال اخلُ َّط َ
اب
أطرافها الواسعة وزركشاهتا الالفتة.
ُ
األرائك جلسوا داخل املجلس املستطيل الفسيح الذي تغطي
الفارهة الغامقة جنباتِه ،ويزين السجا ُد الرمادي الفاخر أرضيتَه .وأمام
ضعت طاولة صغرية عليها مكرسات وشاي ْ كل أريكة من األرائك ُو
وقهوة.
وصب فناجني القهوة.
ّ دخل أخوها األصغر
كل ِ
حيفر يف ذهنه بعد السالم انتهى الكالم وساد الصمتِ .
وطفق ٌّ
الصمت الثقيل .بعد هنيهات صامتة مل ُيسمع فيها
ُ عن كلمة لينكشف
إال منبه سيارة يف الشارع ،حترك القروي يف مكانه وقال:
- -هذه املنطقة مجيلة ،ما شاء اهلل ..وقريبة من الكورنيش.
وبادله أخوها الكبري النظرة قائال:
378
- -صحيح .أنا أمترن هناك يف الصباحات...
فصب فنجان القهوة اخلامس خالل ّ واقرتب أخوها األصغر
دقيقتني للرجل اجلالس عن يمني القروي ،وكانت أول مرة جيلس فيها
جملسا خليجيا ،وال يعرف شيئا عن عادات القوم يف رشب القهوة.
وصب له الفنجان السادس فرماه يف جوفه.
يصاعد إىل حلقه ،فمعدته مل تتعود إال
وبدأ يشعر بلهب يف معدته ّ
الشاي األخرض ا ُمل َّ
حىل ،ومل تعرف قط طعم القهوة ،فكيف بقهوة عربية
مرة.
تلو اآلخر للضيف ،وظن رتع الفنجان َوظل الشاب واقفا ُي ُ
الضيف أن األدب يقيض بازدراد كل ما ُأعطي له من قهوة ،ثم تصاعد
األمل واللهب أكثر .فامل عىل القروي وهو بالكاد يتكلم:
- -اسأهلم أين احلامم؟
وأشري إىل محام قريب من املجلس ،ووقف الرجل بدراعته املزركشة،
فطارت الدلة يف اهلواء.
ْ دل القهوة بكمها، فانفتح طرفاها ِ
فعلق ُّ
شعر القروي بحرج شديد ،الحظه والد حصة فقال:
- -عادي ..عادي ،..تعال يا..
وجاء عامل هندي يركض ،وجفف القهوة املتناثرة عىل األرض،
وأخذ املواعني وذهب هبا.
وعاد القروي إىل مكان جلوسه متوترا.
القروي .فشعر باالرتياح ملنظره،
َّ رفع أبو حصة وجهه ليتأمل
وأعجبته طريقته يف احلديث ،وأناقته الالفتة .فبادره قائال:
379
- -أين درست؟
- -درست يف موريتانيا.
- -ما شاء اهلل ،بس سمعت أنك تتحدث لغات كثرية.
- -صحيح
- -ودرست كذلك يف أملانيا.
- -تتكلم أملاين؟
- -طبعا ،وأتلكم الفرنسية واإلنكليزية.
وتأمل والد حصة رأسه املتوسط ،وشعره الناعم وأنفه احلائر بني أن
يكون أفطس وأقنى ،وشفتيه اإلفريقيتني الغليظتني رغم بياضه الالفت.
فقال:
- -من أي القبائل العربية أنتم؟
- -يقول أهلنا إننا محرييون ...وأنا ال..
ثم تذكر أن هذه ليست حلظة حذلقة وحتقيق يف األنساب ،وأن
األفضل له أن يكون محرييا ولو كذبا؛ فسكت.
ورفع والد حصة وجهه وقال:
- -لكنك ماذا؟
- -أبدا ،كنت سأقول لكنني لست عارفا بالروابط النسبية بني القبائل
بشكل دقيق.
وعاد صاحب القروي إىل املجلس جير دراعته بعد أن تقيأ يف احلامم
كل القهوة التي ابتلعها.
شقيق حصة الصغري متحفزا ليصب له فناجني أخرى ،فرفع
ورأى َ
380
كلتا يديه وقال دون مواربة بالفصحى:
تصب يل أبدا ،جزاك اهلل خريا!
ًّ - -يكفيني ..واهلل يكفيني! وال
وحتا َد َج اإلخو ُة وأبوهم النظرات .ثم أشار القروي إىل صديقه
األكرب سنا ليبدأ احلديث.
فشمر كم دراعته وعدل عاممته وبدأ يتحدث.
ّ
***
كان اجلاحظ مستلقيا عىل ظهره يف غرفة الكتب بعد أن كتب عدة
ساعات يف كتابه «البيان والتبيني» .كان راضيا عام كتب لكنه مل يكن
سعيدا ،فالبيت خال من علية ،ومل يعثر هلا عىل خرب وال أثر .ثم إنه يشعر
بأن الزمن يترسب من بني أصابعه دون أن يخُ رج الكتب التي عزم عىل
كتب حتفظ آداب العرب وت ُف ُّلحدَّ الشعوبية.
إخراجهاٌ .
رمى القلم جانبا ،وهو يشعر بوخز يف نفسه مستعيدا جملس
املعتصم يوم أمس.
فقد دخل من الباب الواسع املقوس الذي يقود إىل الديوان ،وما
إن دخل حتى امتأل رعبا.
رأى جملسا كبريا دائريا ،جيلس الوزراء والعلامء يف أطرافه.
أما الوسط غري املسقوف من املكان فيقف فيه جنود بأيدهيم سيوف
وحراب .كام يقف جنود آخرون بمالبس مغايرة بأيدهيم السياط
وأغالل احلديد.
نظر اجلاحظ إىل صدر املجلس فرأى الوزير ابن الزيات والقايض
ابن أيب دؤاد ،أراد اجللوس حيث انتهى به املجلس ،لكن ابن الزيات
381
أشار إليه بالتقدم .جلس بني ابن الزيات وابن أيب دؤاد ،وهو يتأمل
الوجوه.
مال عىل ابن الزيات ،وقال:
- -هذه جلسة امتحان بخلق القرآن؟
- -نعم
- -ومن املمحتن اليوم؟
- -أمحد بن حنبل
- -أما زال مرصا عىل مقالته رافضا القول بخلق القرآن؟
- -نعم.
ثم جاءت صيحة جندي:
- -أمري املؤمنني املعتصم!
وقف اجلميع ،فدخل املعتصم يف مالبسه احلربية ينبض حياة
وقوة ،شديد البياض ذهبي الشعر ،تدور داخل عينيه حدقتان كأهنام
حدقتا نمر.
خرست.
ْ جلس ،فساد صمت مطبق ،حتى قعقعة سيوف اجلنود
فسمع صوت سالسل احلديد بعد حلظات صمت أشار املعتصم بيدهُ ،
يف طرف املجلس.
التفت اجلميع صوب باب داخيل فخرج أمحد بن حنبل يرسف يف
قيوده.
جمُ عت رجاله ويداه بقيد ،ثم ُربطت القيود كلها بسلسلة ،كان
يميش بصعوبة حتى ليظن الناظر إليه أنه سيسقط عند كل خطوة.
382
ٌ
ممسك بذراع أمحد ،فجاءه صوت املعتصم، اقرتب السجان وهو
وعيناه الزائغتان تدوران برسعة:
- -فكوا قيوده ،وأجلسوه عىل ذلك الكريس.
كان أمحد قد تعود عىل القيود ،فقد مر عليه عام كامل وهو يف
السجن .يلبس جبة ال يتبني لوهنا من تراكم األوساخ ،مع شعر كث
منسدل عىل كتفيه .ومع اإلرهاق الظاهر عليه فإنه ما إن وقف وسدد
نظراته إىل اجلالسني أمامه حتى هبرهتم نظراته الراسية.
قوسني ...عينان حادتان كانت عيناه غائرتني حتت جفنني ُم َّ
المعتان ،فيهام ثبات ورسوخ وهدوء .كانتا عيني أم تنظر إىل ولدها،
أو عيني سلطان يرقب جنوده يتدربون بني يديه.
رفع عينيه يف وجه املعتصم ،فالتقت عيوهنام أول مرة.
عينيا سلطان يملك معظم األرض ،وعينا إنسان يملك روحه.
عينا خليفة ممتلئ غرورا بقوته وجيوشه ،وعينا عامل يملك إيامنا راسخا
وروحا أب ّية.
أشاح املعتصم ببرصه ،فتأمله أمحد بنظرة ثابتة .بدا له شديد
البياض ،قوي البنية متامسك األعضاء جيري ماء الصحة والعافية يف
النظر إليه ،ثم مرت بذهنه آالف الصور املختلطة ،رأى
َ أطرافه .ردد
نفسه فيها كأنه يقف موقف موسى أمام فرعون ،أو عامر بن يارس بني
يدي أيب جهل ...ثم تردد يف أذنه صوت أحد املساجني يف سجن بغداد
قبل أيام يودعه:
ضعفت
َ - -اثبت يا إمام .فأنت لست مثلنا ،أنت ُيقتدى بك وإذا
ضعف الناس.
383
ثم التفت يمنة ويرسة فرأى أمحد بن أيب دؤاد يلعب بذقنه ،ورأى
اجلاحظ يمأل عينيه الواسعتني منه ،ثم ردد البرص يف اجلنود الواقفني
عىل رأسه وبأيدهم السيوف والسياط واحلراب.
رفع برصه يف الفضاء املفتوح ،فانسدل شعره الكث عىل أطراف
والصور الكثرية املنقوشة
َ وجهه املرهق ،متأمال اجلدران الصلبة،
عليها .أعاد نظرته اهلادئة إىل عيني املعتصم.
حرك املعتصم حربة ذهبية بيده وقال:
- -أهال وسهال بأيب عبد اهلل ،واهلل لوال أين وجدتك سجينا عند من
كان قبيل ما عرضت لك ،وإين ألكره أن أثقل عليك.
رفع ابن حنبل حاجبيه وقال:
- -لكنك مع ذلك امتحنتني من بني مجيع الناس ،وأنت تعرف ما يف
املحنة من الفتنة!
- -واهلل لئن أجبتني ألطلقنك وألحسنن إليك ،وألركبن إىل بيتك
لزيارتك!
- -اعطوين شيئا من كتاب اهلل ُيثبت مقالتكم!
- -ناظروه!
قاهلا املعتصم ،فتحرك ابن أيب دؤاد وقال:
- -ما تقول يف القرآن ،أخملوق هو؟
- -وما تقول يف علم اهلل؟
ُّ َ هَ
- -أليس اهلل قد قالُ ّ ﴿ :
الل َخ ال ُِق ك ِل ش ْي ٍء﴾ ،والقرآن أليس بيشء؟
384
َ ُ َّ َ
فدمرت إال ما شاء اهلل.
ْ - -قال اهلل تعاىل﴿ :تُ َد ّم ُِر ك ل ش ْي ٍء ب ِأ ْم ِر َر ّب ِ َه ا﴾.
- -لكن اهلل يصف القرآن بأنه محُ ْدَ ث ،واملحدث خملوق ،أمل تقرأ
ُ قولهَ ﴿ :م ا يَأْتِي ه م ّمِن ذ ِْك ر َّم ن َّر ّب ه م ُّم ْ
ح َدث إلا َّ ْ
اس َت َم ُع وهُ َوه ْم ٍ ِ ِِ ٍ ِ
ََُْ َ
ون﴾؟ يلعب
ّ ْ ْ
َ ُ ْ
آن ذِي الذِك ِر﴾ ،فالذكر بالتعريف هو - -قال اهلل تعاىل﴿ :ص ۚ وال ق ر ِ
القرآن ،أما الذكر املنكّر الذي تشري إليه فهو ذكر املعرفة وليس
بقرآن!
اشتدت املناظرة بني ابن حنبل وابن أيب دؤاد.
وكان ابن أيب دؤاد أحيانا إذا جاء بسؤال جديل يرد عليه ابن حنبل:
- -أنا لست صاحب كالم! وهل كان النبي وأصحابه يقولون هبذا؟
يدي املعتصم ،فلم يكن مثل
بدأ الضجر والتضايق يظهر عىل حركة ْ
املأمون الذي كان ضليعا بالفلسفة وعلم الكالم ،بل مل يكن املعتصم
يفهم دالالت احلديث بني الرجلني .فوقف متربما مالاًّ وصاح:
- -اسمع يا أمحد ،أال يكفي أين قلت إن عليك أن تقول هذا ...فأنا
أمري املؤمينن!
- -ال طاعة ملخلوق يف معصية اخلالق.
والتفت املعتصم جه َة ابن أيب دؤاد كأنه يستغيث ،فقال برسعة
موجها كالمه ألمحد:
- -يا أهيا الذين آمنوا أطيعوا اهلل وأطيعوا الرسول وأويل األمر منكم!
أبقيت
َ - -نعم« ،منكم» ومل يقل «وأويل األمر» باإلطالق! ثم ماذا
385
عمه
ألجر إنكار املنكر وجهاد الظامل؟ أمل يساوي النبي بني ّ
محزة وبني من وقف يف وجه احلاكم الظامل ،فقال :سيدُ الشهداء
ٌ
ورجل قامإىل إمام جائر فأمره وهناه، محز َة بن عبد املطلب،
فقتله!.
نظر املعتصم إليه بغضب ،ثم قال:
- -اخلعوه!
قفز جندي وأمسكه ،ثم جاء آخر وأمسك بمنكبه .وجاء ثالث
بخشبة فأثبتوه عليها وبدأت السياط تنهال عىل ظهره.
اختفى صوت اجلدل ،وتعاىل صوت السياط املصحوب بأنني
مكبوت ،وقف املعتصم ،ثم مال عىل ابن أيب دؤاد وقال:
ضجرت منه!
ُ - -إذا مل جيبهم فليخلعوا كتفيه ،فهذه املرة الثالثة وقد
خرج املعتصم من املجلس ،وتعالت صيحات من طرف املجلس:
- -ارضبوه حتى يقر راغام!
- -إنه شيخ سوء!
- -يفضل رضا الدمهاء عنه عىل رضا أمري املؤمنني!
غلبت أمري
ُ - -يريد أن جيلس يف صحن مسجده ببغداد ويقول:
املؤمنني!
لكن ابن أيب دؤاد أشار بيده بانزعاج طالبا السكوت.
بدأت قوى الشيخ ابن حنبل تنهار ،فتدىل رأسه عىل صدره ،بينام
كانت الرياح تعبث بشعره الطويل الذي مل حيلقه منذ دخول السجن
قبل عام.
386
صاح جندي:
- -لقد أغمي عليه!
أجابه آخر:
- -اطعمه سويقا.
مرت حلظات ،ثم فتح عينيه .قرب إليه اجلندي السويق ،فتمتم
والدم يسيل من فيه:
- -أليس اليوم من رمضان؟
ثم عاد إىل غيبوبته!
شعر اجلاحظ -وهو يستعيد صورة وقع السياط عىل جسد ابن
حنبل -بوخز يف أعامق نفسه ،جلس بتثاقل وهو يلوم نفسه عىل مسامهته
يف التحريض عىل امتحانه ،ثم خطر له أن ما قام به إنام هو لصالح
اإلسالم واملسلمني ،فلو ساد ما يدعو إليه ابن حنبل لتعطل العقل
وبطلت الرشيعة.
طرد فكرة الندم عن ذهنه ،وهو ينظر من نافذة مكتبته إىل احلديقة
املرصوصة بأناقة يف فناء منزله الفسيح .عاد وجلس وهو يشعر بضيق
وخوف ،وتذكر نظرات القايض أمحد بن أيب دؤاد قبل أيام ،وحديثه
اجلايف معه.
فقبل أيام قال له ابن أيب دؤاد:
انصح صاحبك ابن الزيات أن يكف عن تعذيب املسلمني!
ْ --
- -وما أدراك أنه يعذهبم؟
- -إن أهل بغداد اآلن ال يتحدثون إال عن ثالثة :عن شجاعة اخلليفة
387
املعتصم ،وكثرة األتراك يف الشوارع ،وتن ِ
ُّور ابن الزيات.
- -ال تنس قول ابن مروان :امللك شجر ٌة ال تنمو إال إذا ُسقيت
بالدم!
- -وأين أنت من العدل والتوحيد واألمر باملعروف؟ أم إن الكالم
صناعة حدُّ ها اللسان ،وال طريق هلا إىل اجلَنان؟
- -أنت القايض ،وصاحب الكلمة املسموعة ،كلم أمري املؤمنني
ليثنيه عن أفعاله ،أما أنا فخادم وصانع كالم ،أنت تفعل ،وأنا
أصف ،أنا أمتنى وأنت تستويل ،وشتان بني من يملك القدرة عىل
الفعل ،ومن يملك القدرة عىل الوصف.
ثم تذكر كيف وقف ابن أيب دؤاد غاضبا ،ناظرا إليه بحنق .و ُذكر
له بعد ذلك أنه يتهمه بالتسبب يف العداوة بينه وبني ابن الزيات.
ثم خطر له أن ابن أيب دؤاد قد يوقع بينه وبني املعتصم .عادت
صورة الدم السائل من فم ابن حنبل إىل ذهنه ،والسياط الواقعة عىل
ظهره ....مع صدى رصخات بشار بن برد قبل عرشات السنني.
***
كان نفيس منهمكا يف تنظيف املجلس فسمع طرقا مزلزال عىل
الباب .هرع وفتح ،فإذا بعرشة جنود عىل خيوهلم .هنره أحدهم:
- -أين موالك؟
- -مل يأت منذ أمس وال أدري أين هو.
- -أين موالك ،قلت لك!!
قاهلا اجلندي بصوت جهوري مرتع بالتهديد ،فقال نفيس بلكنة
388
هندية وهو يكاد خيرج من جلده خوفا:
- -واهلل أنا ما عارف!
قفز جندي من فوق حصانه ودخل الدار.
فتشوا املنزل غرفة غرفة ،ثم التفت أحدهم إىل اآلخر وهو يشري
للكتب:
- -أيش هذا؟
- -كله كتب!
نزل اجلنود ،وقبل خروج أحدهم من الباب التفت إىل نفيس وقال:
عثرت لنا عىل سيدك أعتقناك!
َ - -إن
خفض نفيس رأسه ،وطافت بذهنه خواطر خمتلفة ومتناقضة.
يف الوقت ذاته ،كان عرشون جنديا يسوقون ابن الزيات يف قيوده
إىل السجن ،دخل السجن وقت املغربُ ،فتح الباب ،فنظر إليه اجلندي
الذي فتح الباب ،فرصخ رعبا.
ثم استعاد جأشه ،ومال عىل زمليه سائال:
- -أليس هذا ابن الزيات؟
- -بىل ،لقد غضب عليه أمري املؤمنني املتوكل.
كان ابن الزيات مشغوال بنفسه ،حائر الطرف ،مشوش اخلاطر كأنه
جمنون .يستمع إىل أحاديث اجلنود لكنه ال يوليها اهتامما النشغاله بنفسه،
يضج ذهنه بآالف األخيلة واألسئلة امللحة واالحتامالت واجلوابات.
التفت يمينا فرأى املساجني يف أغالهلم وبؤسهم ،ومالبسهم املتسخة،
وسدّ ت أن َفه روائحهم الكرهية.
389
نفس الروائح التي كانت تدخل أنفه كلام جاء هنا للتحقيق مع
مساجينه ،لكنها اليوم أبشع وأوقع.
هل كان السجناء تعساء هلذه الدرجة؟ رفع عينيه وأنزهلام فرأى
قيود احلديد والدماء ،واملالبس املتسخة واألوجه املرهقة الفزعة،
واألسنان اجلافة الصفراء ،والضحكات املتأرجحة بني العقل واجلنون،
ضحكات حائرة بني تعاسة العاقل ،وسعادة املجنون.
ظل وامجا ال يتكلم.
ينظر إىل معصميه وقد أحاطت هبام ِح َل ُق احلديد ،ثم يرفع برصه
إىل ذات الزنازين والبهو ،إىل الردهات نفسها التي كان يسلكها ليال
للتحقيق مع مضطهديه ،يرى نفس األوجه التي كان يراها قبل.
اقرتب منه ق ِّي ُم السجن وقال بلهجة متسائلة:
- -حممد بن عبد امللك الزيات؟
- -نعم!
قاهلا بصوت ضعيف متوسل.
وكانت أول مرة خيرج صوته هزيال وضعيفا بني هذه اجلدران التي
تعرفه.
أشار مسيرّ السجن برأسه للجندي أن يتقدم ،ثم وىل ويداه وراء
ظهره متمتام:
- -ال إله إال اهلل!
ومرت األيام عىل ابن الزيات يف السجن غري عجىل وال رامحة ،وكان
ُ
الغليظ املسمى الدنداين موكال بمراقبته وحراسته والتضييق عليه. اجلندي
390
يقيض يومه وليله جالسا عىل اخلشبة ومسامري احلديد حتيط به
من كل جانب .شغلته نفسه عن جسده يف األيام األوىل ،فكان هيذي
متحدثا مع نفسه كاملجنون:
- -يا ابن الزيات ،ما الذي دعاك لكل هذا؟ أبوك تاجر بغداد
فلم تطمح للسلطان والنفوذ؟ أمل تسعك املراكب الفارهة
األولَ ،
واملالبس الفاخرة واجلواري احلسان حتى رضيت بمجالسة
اخللفاء ومنازعتهم السلطان؟ مل َ مل ْ تعترب بام جرى لبني برمك؟
ثم يفيق عىل صوت الدنداين قائال:
- -اسكت يا ابن الزيات....
كان يتأمل أملا مضاعفا ،فحلق احلديد تضغط عىل قدميه حتى ليخيل
إليه أن اإلنسان يتنفس من قدميه ،ثم تغمزه الكالليب من كل جانب.
وأثناء أمواج العذاب تلك يستجمع قواه لتجنب النطق بكلمة
واحدة...
شعر بالنعاس يلعب بجفونه ،ثم خيل إليه وسط أمواج النعاس
السود أنه يستطيع فعل كل يشء ،يستطيع اخلروج من التنور ،بل
يستطيع النوم عىل سكك احلديد ،بني هذه التهاويم جذبه النعاس،
فدخلت حسكة يف كتفه فاستيقظ...
حاول أن ينطق تلك اجلملة التي نازع نفسه طويال حتى ال ينطقها،
وادخر كل جهده حتى ال يقوهلا ،لكن أمواج النعاس واألمل والندم
دفعته ،فقال بصوت ضعيف:
- -ارمحوين! ارمحوين!
391
تردد النداء يف جنبات السجن ،ثم ظهر وجه الدنداين مطال من
حافة التنور:
خور يف الطبيعة!
- -الرمحة ٌ
شخصت يف خياله صور رجال بأيدهيم رماح يغمزونه هبا من كل
جانب ،ثم سمع رصخات َّ
معذبيه الذين كان يعذهبم:
- -ارمحنا يا ابن الزيات! ارمحنا يا ابن الزيات...
مرت ساعات ال يعرف أكان فيها حيا أم ميتا ،ثم أفاق ونادى
الدنداين ،فأطل عليه من حافة التنور:
- -ماذا تريد أهيا الوزير!
- -يل إليك حاجة.
- -ما هي
- -اكتب هذه األبيات وابعث هبا للمتوكل ،فإن عفى عني كنت لك
عبدا ما حييت!
بعد تردد ،مشى الدنداين يف الردهة املظلمة وعاد وبيده دواة
وقرطاس .ثم أمىل عليه ابن الزيات:
يـرش�د الـصـ�ب ِ
إلي�ه م�ن ل�ه عه�دٌ بن�و ٍم؟
َّ ُ
ِ
عـلـيـ�ه عـيــنـ�ي َد َّل رحــ�م اهلل رحــيــما
َّ
ن�ت لدي�ه!ِ
عين م�ن ُه ُ
ُ ونامت
ْ رت عين�ي ِ
س�ه ْ
***
مرت أسابيع عىل اجلاحظ وهو خمتف يف منزل قرب باب الطاق
عند أحد معارفه البرصيني ،ال يربح البيت ليال وال هنارا ،وال يفكر
392
إال يف صورة أمحد بن أيب دؤاد ،مرت األيام األوىل وهو مشدوه اخلاطر
لشدة فزعه ،لكنه بدأ يتعود عىل االختفاء ،وأصبح إذا جاع يامزح
مستضيفه قائال:
- -إنني جائع يا أبا عبد اهلل ،وال تنس أن اهلل تعاىل امت َّن باإلطعام من
لذَّ َ
اجلوع قبل املن باألمن من اخلوف ،فقال...﴿ :ا ِي أ ْط َع َم ُه م ّمِن
ُج و ٍع َو َآم َن ُه م ّم ِْن َخ ْو ٍف﴾.
حتى إنه بدأ يقرأ ويكتب يف الساعات الطويلة التي يقضيها داخل
غرفته الضيقة املتوارية يف حي الطاق.
كان البيت قريبا من املارستان فأصبح يستمتع بالنظر من الكوة إىل
الداخلني واخلارجني من املارستان.
قال له مضيفه مرة:
- -احذر يا أبا عثامن ،فإن يف املجانني عقالء.
- -وهل اجلنون إال مقام من مقامات العقل؟
لكنه مل يسمع نصيحة مضيفه ،وظل يطل متأمال ،ويف أحد
الصباحات خيل إليه وهو ينظر باب املارستان أنه رأى علية داخله.
قفز كامللسوع ،وأخرج رأسه من النافذة وصاح:
-علية! عريب!
ومل يفق إال وهو خيرج مرسعا إىل مدخل املارستان.
ٍ
رجل دخل فناءه فرأى جمانني من كل لون ،رأى أسود يقف عىل
واحدة إىل أن تتعب ،ثم يراوحها باألخرى ،وبقربه جمنون آخر يصفق
له.
393
سأل عن ق ّيم املارستان ،فأدخله حارس إىل جهة النساء ...لكنه مل
ير علية.
عاد إىل غرفته وهو يتلفت يمنة ويرسة مؤنبا نفسه ،ومتسائال عن
قيمة هذا العقل الذي ال يعود إال بعد انقضاء حلظة االمتحان ،ملاذا
تطيش العقول وختتفي يف اللحظات التي نحتاجها فيها أكثر؟ مل َ يقفز
القلب كالفارس املغوار يف تلك اللحظة ليقود ،فيام يتوارى العقل
هزيال مهزوما جبانا؟
وبعد اهلزيمة املنكرة يعود العقل ليلوم وحيسب ويطرح!
إن العقل يشبه ال َع ِي َّي الذي ُيشتم أمام الناس فال جيد ما يرد به .ثم
انثالت عليه
ْ إذا انقضت اللحظة وعاد إىل بيته وجلس بني أبنائه وخدمه
ُ
اجلمل والعبارات واجلوابات.
كان مستلقيا عىل ظهره يؤنب نفسه ،فسمع َط ْرقا خميفا عىل الباب!
قفزت زوجة املضيف لتفتح الباب .فجاء صوت جندي:
- -قويل له أن خيرج!
- -من هو؟
- -اجلاحظ!
- -واهلل ما يف بيتنا إال حممد!
فقال العسكري بلغة هتديد:
- -قويل له أن خيرج ،أو سندخل البيت!
مل تكن املرأة تعرف أهنا ختفي يف بيتها مطلوبا .قال هلا زوجها إنه
تاجرمن أهل خراسان اسمه حممد.
394
عادت املرأة متلففة يف مالبسها وقالت بتلعثم:
- -هناك جنود بالباب....
ال يعرف ما قال ،وال ما قالت .لكنه يذكر جيدا أن ركبتيه كانتا
رتي ...وأن قفص صدره مل يتسع لقلبه الذي كان يقفز كأنه صويف ِ
خد نْ
يف حالة َو ْجد.
اجلرس املنصوب فوق هنر دجلة ،واجلنود
َ أفاق عىل نفسه وهو يعرب
صامتون كأهنم يف موكب جنائزي ،بينام يمسك اثنان منهم ذراعيه
بإحكام ،وحلق القيد يف رجليه ،كان الصوت الوحيد يف أذنيه صوت
وتشاتم بني بائعني عىل حافة النهر.
ٌ قلبه يدق،
امللح عليه هو كيف
مضت اللحظات ثقيلة الوطء ،وكان السؤال ّ
سيعاقبه ابن أيب دؤاد؟ ذلك القايض الذي جعل اخلليف َة خامتا يف إصبعه
يرصفه كيف يشاء ،ثم خطر له أنه سريمي به يف التنور مع ابن الزيات!
ُفتح الباب الواسع ،ودخل اجلاحظ ُم ْلتاعا خائفا ،باذال َّ
كل ما
أويت ليستجمع خواطره ول ّبه .ومع تشتت خاطره ،فقد الحظ اتساع
املجلس ،وكثر َة الستائر اخلراسانية الفاخرة يف زواياه .بدا املجلس
مرتفع السقف.
َ واسعا
وسط املجلس ،رأى أمحدَ بن أيب دؤاد جالسا يف جبتة األنيقة
ِ
الناصعة البياض .وعن يمينه ويساره بعض وعاممتِه املتوسطة احلجم
ممسكي بذراعي اجلاحظ ،بينام كان صوت
نْ معاونيه .تقدم اجلنديان
القيد يقرع البالط.
حارس الرأس ،ضعيفا كأنه محامة يف قفص
َ وقف أمام ابن أيب دؤاد،
395
صمت خانق ،حتى سمع كل من يف املجلس صوت محامة
ٌ صياد .ساد
تُغرد عند إحدى النوافذ.
اجتهت األبصار إىل ابن أيب دؤاد ،الذي كانت يرسح حليتَه بأصابعه
هبدوء .بعد وقت ،اعتدل وقال بحزم:
- -اتركوه!
التقت عيوهنام.
ْ ثم
يف هذه اللحظة ،تذكر ابن أيب دؤاد كلام قال له الوشاة عن
اجلاحظ ،فهو الذي كان يكتب الرسائل ا ُملقنع َة بطلب من ابن الزيات،
حتى يعطيها للواثق حاث ًا إياه عىل تعيني ابنه الرضيع وليا للعهد بدل
املتوكل ،وحيثه فيها عىل عزل ابن أيب دؤاد ،لكنه ما يلبث أن يشفق عليه
متذكرا أدبه وتبحره يف العلوم والفنون ،وكتبه النافعة القاطعة لدعاوى
الشعوبية ،واملنافحة عن االعتزال.
وارى اب ُن أيب دؤاد الرصاع الذي يعيشه وقال:
- -احلمد هلل الذي أمكن منك ،يا عدو اهلل!
شخصت أبصار احلارضين إىل اجلاحظ ،فقال بصوت واضح
وخمارج قوية:
ُصيب يف العقوبة.
أرشف من أن ت َ
ُ - -واهلل ألن تخُ َ
طئ يف العفو هلو
سكت ابن أيب دؤاد ،وخطر بباله رشف العفو ،وكونه شيمة من
شيم الكرام ،ثم تذكر قرب اجلاحظ من ابن الزيات ...مال عىل وسادته
الضخمة وقال:
علمت بوفاة صاحبك ابن الزيات يف تنُّوره؟
َ - -هل
396
وجم قليال ُمنزال وجهه إىل األرض ،وصور ُة ابن الزيات متقلبا
يف ظلامت التنور شاخصة يف ذهنه .شعر بخدَ ر يف ركبيته ..ثم غمغم
بكلامت ..فجاءه صوت ابن أيب دؤاد:
َ َ َ َٰ َ َ ْ ُ َ ّ َ
ك إ ِ َذا أ َخ َذ الْ ُق َر ٰ
ى َوه َِي - -ما تأويل قول اهلل تعاىل﴿ :وك ذل ِك أخ ذ رب ِ
َ َ ٌ َّ َ ْ َ
ِيد﴾. خ َذهُ أل ٌ
ِيم َش د ٌ ظ ال ِم ة ۚ إِن أ
- -أعز اهلل القايض ،تأويلها تالوهتا.
- -أعلم أنك منافق جمادل!
- -واهلل إناستبقيتَني فلساين وجدايل لك! وذلك خري من أن ت ِ
ُسكتَه ٌ
برضبة سيف ،فيكون ال لك وال عليك!
أظننت أن عيوننا ستعجز
َ - -ما الذي دعاك إىل الفرار واالختباء؟
عن إخراجك من جحرك؟
ِ - -خ ُ
فت أن أكون ثاين اثنني إذ مها يف التنور!
- -واهلل ما علمتك إال متناسي ًا للنعمة كفور ًا هبا.
عيل خري من أن يكون يل عليك .وألنلك َّ- -واهلل ألن يكون األمر َ
تعفو عني يف حال ْ
وألن َّ خري من أن ُأحس َن وتُيسء،
ُأيس َء وتحُ س َن ٌ
قدرتك ُ
أمجل من االنتقام مني! َ
- -قبحك اهلل ،ما علمتك إال كثري تزويق الكالم.
ثم التفت ابن أيب دؤاد إىل معاونيه:
حلدّ اد!
- -تعالوا با َ
انتابت اجلاحظ موجة شعور باألمل واليأس ،متسائال هل سيأيت
احلداد ليفك القيد أم ليضيف قيودا أخرى؟ بقي حلظات معلقا بني
397
األمل واليأس ،بني خفة احلرية وثقل السجن ،ومل يستطع الصرب فقال
بتظارف مصطنع ،وقلبه يرجف:
- -أعز اهلل القايض! احلداد ..ليفك عني ..أم ليزيدين؟
- -بل ليفك عنك.
ثم دخل رجل بدي ٌن أصلع بيده حديد ،واقرتب وجلس عند ساقي
اجلاحظ .لكنه ما كاد يبدأ يف فك القيد حتى غمزه ابن أيب دؤاد أن يطيل
الفك ،ويغرز احلديد يف ساقه حتى يستثريه.
وعند أول غمزة لساقه لطمه اجلاحظ ،قائال:
َ
وعمل َ
وعمل يوم يف ساعة، عمل شهر يف يوم، اعمل َْ - -ويلك!
ساعة يف حلظة ،فإن األمل َ بساقي وليس بجذع نخلة ،وال بحائط.
ضج املجلس ضحكا ،ثم قال ابن أيب دؤاد ويف صوته بقية ضحك:
- -إين أثق بظرفك وال أثق بدينك! عفونا عنك وسنزين جملسنا
بأحاديثك يا أبا عثامن.
طلب اجلاحظ من ابن أيب دؤاد أن يرسل معه من يوصله إىل بيته.
يف الطريق ،بدأ يتذكر أن بيته قد يكون من األموال التي صادرها
املتوكل ،فقد صادر كل مال ابن الزيات ،فام الذي يمنعه من مصادرة
بيت اجلاحظ .ثم أين اخلادم نفيس؟ وهل هرب من ربقة الرق؟ أم ِ
أخذ
فيام صودر؟
تزامحت خواطر كثيفة يف ذهنه وهو يقف أمام بيته.
دخل ،فتلقاه نفيس يركض وماء السعادة يتهاطل من عينيه .ومل
يفق اجلاحظ إال وهو حيتضنه ودموعه تسيل مدرارا .ثم ارختت يداه
398
وابتعد عن نفيس متسائال هل أخذت احلياة منه كل يشء ،حتى إنه مل
جيد من حيتضنه حلظة عودته إال خادما هنديا!
تذكر أمه ،فرأى نفسه طفال غريرا يركض قادما من الكُتاب .ثم
بيت ِ
وس ٍخ شخصت آخر صورة هلا أمام عينيه وهي جتود بنفسها يف ٍ
مهمل بحي بني كنانة يف البرصة.
أجال برصه يف املنزل الفسيح واحلديقة الواسعة ،ومتنى لو عاشت
حتى تستمتع بالثراء معه .فام قيمة ترف ال يشاركك فيه أحباؤك؟
ثم أطلت صورة متارض باسمة ومجيلة كأهنا ٌ
أمل هارب ،ثم ختيلها
تستقبله عند مدخل البيت لتضمه وتُفدّ يه ...لكن علية كانت تنظر إليه
بانزعاج ،بقدّ ها اجلميل متلففة يف مالءهتا البيضاء دوما.
رفع عينيه إىل احلديقة فالحظ للمرة األوىل أن البيت أوسع مما
ينبغي .حتى كأنه اتسع بعده وامتد ،وتصاعد صوت الريح داخله.
ثم جاءه صوت نفيس:
- -سيدي ،هذه رسالة لك.
فتح الرسالة وبدأ يقرأ ،وكلام قرأ غامت األحرف أمامه.
«سيدي،
لقد أرسل أخي امللك جواسيس وخطفوين من بغداد ،وأنا اآلن
أعيش معهم يف قرص والدي .لكني سجينة ،فأنا ال أعرف لغتهم وال
أفهم عاداهتم ،أنا أشبههم يف جسدي وسحنتي فقط .أحن إليك وإىل
مراتع الصبا وإىل أهل بغداد ....سقاك اهلل وسقى أيامك ،ولن آلو
جهدا يف العودة ،والسالم».
399
ويف هناية الرسالة ،وضعت كلمة كأهنا تذكرهتا بعد كتابة الرسالة.
كانت عبارة واحدة لكنها كانت أوقع عىل قلبه من الرسالة كلها .كتبت:
«ال أنسى يوم الطاق».
استنفدت العبارة األخرية كل قواه .جلس واضعا يديه عىل رأسه.
ْ
فتلك العبارة األخرية التائهة كانت أكثر وقعا من كل ذكرى.
وما يوم الطاق؟ مل يكن إال يوما خرجا فيه وجلسا عىل حافة دجلة،
وقضيا يومهام كامال هناك ،كانت تغنّي وكان يستمع ويقرأ ويكتب.
لكن الذاكرة مولعة بتقديس حلظات ونسيان أخرى دون سبب مفهوم.
فقد ختزن الذاكرة موقفا عاديا لتبني منه عاملا من اخليال اجلميل ،وإن مل
يكن بذلك اجلامل .قد يمر باإلنسان يوم يشعر فيه بالتعاسة ،لكنه إذا مر
وانقىض تزخرفه الذاكرة جاعلة منه يوما ال كاأليام.
ظل جالسا واضعا يده عىل رأسه ،ثم فاضت ذاكرته رن َة ٍ
عود ،وعشبا
وانحدرت عىل خده دمعة شاردة.
ْ أخرض ،وحلظات ٍ
أنس ج ْفىل...
دمعة عجوز عاشق ..ويتيم!
***
وقع ذلك احلادث املزلزل قبل فرتة.
فتح عين ْيه فرأى مجاعة فيهم مارسجويه الطبيب حييطون به وهو
هم باجللوس
ممدد عىل فراشه يف غرفة كتبه ،فتح عينه فلم حيس بأي أملّ ،
باندهاش ،لكنه فوجئ بأنه ال يملك سلطانا عىل شقه األيرس.
نظر إىل مارسجويه الطبيب وهو جيس نبضه ،ثم جاءه صوته:
- -إنه الفالج.
400
ساد صمت.
ثم مهس ابن أيب دؤاد:
- -وما العمل؟
وجم اجلميع ،فيام كانت نظرات اجلاحظ املتوسلة تقفز بني وجهيهام.
وهبت رياح قادمة من جهة احلديقة حتمل أنساما ،ورائحة عشب مبلل.
محلق يف وجهيهام كأنه طفل عاجز ،كان الشيب قد غطى كل شعرة
يف جسمه ،لكن الدموع التي كانت تتحدر من أطراف عينيه الذاويتني
دموع شوق إىل أشياء كثرية .شوق إىل جاريته التي طارت من بني يديه،
ُ
وشوق إىل نيل األمنيات التي يضطرب هبا قلبه الكبري ،وشوق إىل
العافية ،وشوق إىل أشياء وعوامل تضيق اللغة عن قنصها يف أحرف ميتة.
رددوا أبصارهم فرأوه يداري دموعه.
ِ
ابيضاض رأس الطفل شيب ًا من اهلموم ،إال فال يضاهي فداح َة
اهنامر الدموع من عيني عجوز مشتاق.
ومضت أشهر ال يرى فيها إال قليال من الزوار .فال يكاد يرى إال
اخلادم نفيس ،الذي بدأ يكثر الصالة واالستشهاد بالقرآن واألحاديث،
زواره من العبيد يكثرون ،أو بنت أخته مريم التي جاءته من
كام بدأ ّ
البرصة لالعتناء به.
تعود رسيعا عىل حياته اجلديدة .فقد قرر أن يعيش داخل غرفة
كتبه ال يربحها .وصارت مجلته التي يرددها:
- -أنا دفني الكتب!
نُصب له رسير مرتفع ،ووضعت له خمدات حتت قدميه ،حتيط به
401
بياض النهار
الكتب من كل جانب .وعن يمينه دفاتره التي يكتب فيها َ
وسوا َد الليل.
تتوىل مريم خدمته يف ما ال بد منه ،أما نفيس فيتوىل طعامه ورشابه.
مرت أشهر ال يزوره فيها إال ال ُع ّواد ،ثم بدأ الناس يف بغداد يتناقلون
متعة جمالسته حتى مع مرضه ،ثم كثر زواره حتى اشرتط أال يزوره أحد
إال بني العرص واملغرب ،تنوع زواره ما بني الوزراء والكتاب واملتأدبني،
وحتى الشباب العشاق الذين يريدون االستشارة يف شؤون احلب.
كان مستلقيا ناظرا إىل السقف ،بعد أن كتب فصال كامال من
«البيان والتبيني» .فجاءه صوت بنت أخته:
- -هل تريد شيئا ،فأنا سأخرج قليال.
- -ال عليك يا ابنتي.
قاهلا ومل ينظر صوهبا ،فذهنه مشغول بام دار بينه وبني الشاب الذي
زاره أمس .تذكر وجهه املتورد وعينيه الناظرتني إىل األسفل دائام.
دخل عليه وهو مستلق ،فبادره:
- -ماذا تريد يا فتى؟
- -أريد أن أسألك يف أمر أمهني.
- -ادخل
جلس الشاب وأدار برصه يف رفوف الكتب ،ثم نظر إىل اجلسد
النحيل الرصيع ،فندم حلظة عىل قدومه ،ثم جاءه صوت اجلاحظ:
- -هل أنت عاشق؟
402
متتم الفتى ،فكأنه أخذه عىل غرة ،ومل تتضح الكلامت التي نطق هبا.
فقال اجلاحظ بتثاقل:
- -إييييه!
- -نعم
- -هل تعرف الفرق بني املحب والعاشق؟
- -وما الفرق بني املقامني؟
اسم ملا زاد عن احلب ،كام أن
- -اسمع يا ابن أخي .إن العشق ٌ
اإلرساف اسم ملا زاد عن اجلود ،والبخل اسم ملا نقص عن درجة
االقتصاد .فهل أنت حمب أم عاشق؟
- -أنا عاشق إذن ،لكن والدي يعنفني لذا جئتك.
- -اعشق يا بني وال تلتفت لوالدك ،فالعشق من أهم أسباب اخلري
يف هذه الدنيا ،كام أن البغض من أعظم أسباب الرش يف هذا العامل.
- -كيف؟
- -إن العشق أصدق تعبري يف النفس البرشية .أال ترى أن الرجل قد
يصل احلد األقىص من الغضب ثم إذا متكن من عدوه عفا عنه
لرجائه أن يوصف بالنبل واحللم ،وكذلك اإلنسان مهام بلغ من
حب املال فإنه قد يمنحه لغريه وخيرج من كل ماله ،لكن العاشق
ال يظفر بمعشوقه ثم يتنازل عنه أو تسخو نفسه بأن يرتكه لوالد
أو ولد.
- -لكننا أيضا نحب والدينا حبا متناهيا!
- -رغم حبنا ألهلينا ووالدينا وأبنائنا إال أننا مل نر قط من مات عشقا
403
لوالديه ،والدنيا ال ختلو ممن مات عشقا!
- -لكن ،ما الذي جيعل العشق بابا من أبواب اخلري؟
- -ما دام العشق أصيال يف الفطرة البرشية أكثر من غريه ،فذاك يعني
َ َ َ َّ
الن َ ْ َ َ ّهَ َّ
اس ت اللِ ال ت ِي ف ط رأنه خري الندراجه يف قوله تعاىل﴿ :ف ِط ر
َ ْ َ َ ْ ّهَ َ
اللِ ۚ﴾ .فهو أكثر صفة التصاقا بالنفس َع ل يْ َه ا ۚ لاَ ت ب دِيل ل ِخ ل ِق
البرشية.
- -لكنهم علمونا أن املرأة رش كلها!
انتفض اجلاحظ ،فرفع ساقه السليمة عن الوسادة ،ورفع يده
اليمنى ،ودارت بذهنه آالف الصور .ثم قال نصف ساخر:
- -ومن قال ذلك يا بني؟ ال تلتف لكالم احلشوة فكالمهم عىل قدر
عقوهلم.
ثم سكت قليال ،وشخصت يف ذهنه متارض ،فقال:
- -إن املرأة كلها خري .فكل ما يسعى له الرجال من جمد وسؤدد
وجتمل إنام ينتهي للمرأة ،ولوال املرأة ما جتمل رجل وال تعطر،
جتمر .أما هي فتتجمل وتتعطر فطرة فطرها اهلل
وال تنظف وال ّ
عليها ،ترى ذلك يف خلقة البنت الصغرية التي مل يدر بخلدها
امليل إىل الرجال.
وخف اخلجل الذي كان يعقد لسانه فقال:
ّ برقت عينا الشاب،
- -لكن الرجل أرفع قدرا عند الناس!
- -دعك من هذا .إن املرأة فوق الرجل بأمور .فهي التي تخُ َطب
وتُعشق وتُفدَّ ى وتحُ مى! ثم إن الرجل العاقل ُيستح َلف باأليامن
404
املغلظة؛ من ميش إىل البيت احلرام ومن ٍ
عتق لرقيقه وخروج من
ماله ،فال جيد حرجا يف ذلك .لكنك ما إن تستحلفه بالطالق
حتى يرتبد وجهه وتنتفخ أوداجه ويتحرج من ذلك ،وإن كانت
زوجه قبيحة املنظر ،سيئة املخرب خفيفة املهر رقيقة النسب ،فدل
هذا عىل أن املرأة أمكن من الرجل!
شعر الشاب بخفة وانبساط فصاح:
- -إي واهلل!
- -وهنا باب آخر يا ولدي .وهو أن الرجل واملرأة إذا جلسا وبينهام
تعاشق ،وكانا من أبلد خلق اهلل فإن ما يأيت من أطايب احلديث
وتفانني الغزل بينهام يكون أرق من شعر عمر بن أيب ربيعة .فإن
الغزل رقيق بطبيعته حتى ولو كان بني رجل عيي وفتاة بليدة،
فأي كالم خيرج خمرج الغزل ّ
يرق ويسمو وحيلو.
قال الشاب وهو يرفع برصه يف رفوف الكتب:
- -إذا كان هذا هو موقع املرأة يف هذه الدنيا ويف نفوس الرجال ،فلم
ال يرصحون هبذا؟
- -إهنم يتسرتون عىل األمر ويدارونه لعلمهم أهنم ال يريدون شيئا
خرجت اآلن إىل الشارع وخيرّ َت َ يف الدنيا إال هلن .فأنت لو
أي رجل تلقاه بني أن يعيش طيلة حياته فقريا ممُ َكَّن ًا من التمتعَّ
بالنساء ،وبني أن يعيش طيلة حياته غنيا حمروما من التمتع هبن،
ملا تردد حلظة يف اختيار الفقر.
- -أنا أعشق بنت عمي ،وعمها ال يمكنني من رؤيتها.
405
رفع اجلاحظ رجله السليمة ،وانفجر هادرا كأنه مجل هائج:
- -اجلارية أفضل يا بني ،وال خري يف احلرائر ،فاجلارية تراها قبل أن
متلكها فتعرف حماسن جسمها وحماسن روحها ،وهتجم منها عىل
ما يرسك ويسوؤك فت ِ
ُقدم عىل ابتياعها وأنت عارف بمكنوناهتا،
أما احلرة فصفق ُة َغ َرر! فأنت ال تعرف عنها شيئا إال بعد أن
تتزوجها فتكون كاملغبون.
- -لكن أمي وصفتها يل.
التفت جهة الشاب ،ثم سال ريق ،مسحه بمنديل ،ويده ترتعد
وهو يقول:
- -إن النساء ال يعرفن ما يعجب الرجال يف النساء .فاملرأة ال تعرف
من املرأة إال الصف َة الظاهرة ،أما اخلصائص التي تُعجب الرجل
فال تنتبه هلا ،بل تأتيك إحداهن وتقول :كأن أنفها سيف ،وكأن
ساقها جمَُّ َارة ،وكأن شعرها العناقيد ،وهذا ال فائدة منه ،فهي ال
تدرك ما يريد الرجل.
كان اجلاحظ غارقا يف استعادة حواره مع الشاب العاشق الذي
زاره ،فأفاق عىل صوت نفيس يقول:
- -سيدي ،لقد حان وقت طعامك.
كأن استعادة حديثه مع الشاب قد فتحت له بابا من التفكري ،فضج
خياله بصور متارض وعلية ،وتذكر كل ما سمعه من انتقاص للجواري
والنساء عامة ،ثم تذكر حواراته يف ليل البرصة مع أترابه عن النساء.
شعر بعدم الرغبة يف الطعام ،وانتابته موجة صبابة وشوق إىل علية،
406
التفت إىل نفيس وقال بصوت حزين:
أخر الطعا َم حتى أدعوك.
ْ --
ثم مال عىل شقه السليم ،وأمسك قلمه وكتب« :رسالة يف مدح
النساء».
***
كاد الرجل األسمر النحيل يطري فرحا ،وهو يستمع للجاحظ
ويتأمله .فمنذ اشرتى رسائله قبل سنوات من وراق بمدينة منبج
بالشام ،وهو يتمنى لقاءه.
جلس يف طرف الغرفة ،ومال عىل اجلاحظ ليقبل جبينه وقال:
- -السالم عىل أيب عثامن ورمحة اهلل!
رفع عينيه متأمال الرجل األسمر الذي يراه أول مرة ،ومتتم:
- -من أنت أهيا الزائر؟
- -أنا أبو عبادة ،البحرتي الشاعر.
انفرجت أساريره ،وقال:
- -يا أهال وسهال .لقد سمعت كثريا من شعرك وأعجبني.
- -شكر اهلل لكم أبا عثامن ،واهلل إن هذا ليزيد شعري يف عيني.
دارت عدة مقطوعات بذهن اجلاحظ من شعر البحرتي ،لكن
األبيات التي قاهلا يف وصف مقتل املتوكل كادت تقفز عىل شفتيه.
فبادره البحرتي:
- -كيف صحتك يا أبا عثامن؟
العدو وتبكي الصديق.
َّ - -هي كام ترى ،ترس
407
- -ال بأس إن شاء اهلل!
رفع وجهه إىل السقف ،وأعاده متفرسا وجه البحرتي وعاممته
اخلرضاء ،والرسور يربق يف عينيه فقال:
قلت لبعض األصحاب إنك وأبا متام أشعر أهل زماننا؛ غري
- -لقد ُ
أين سمعت أحدهم ذكر لك قصيدة يف وصف إيوان كرسى.
- -إي ،نعم.
- -كرسى! أما عندك شعر يف حمامد قيس بن زهري أو األحنف بن
قيس؟!
خيم الصمت وشعر البحرتي بالضيق ،وجعل يمسح حليته
هبدوء ،مذكرا نفسه بأن اجلاحظ طعن يف السن ،وال تؤخذ دالالت
كالمه كلها .وخطر له أنه ربام لو سمع القصيدة ألعجبته ،فوضع يده
عىل يد اجلاحظ وقال:
- -هل لك أن تسمع مني بعضها حتى حتكم يا أبا عثامن؟
مل جيبه ،وتذكر اجلاحظ أن البحرتي كان حارضا حلظة مقتل
اخلليفة املتوكل ووزيره الفتح بن خاقان ،فأحب أن يسمع منه القصة
كام وقعت .سكت قليال وقال:
علمت أنك كنت حارضا قتل علوج األتراك للمتوكل،
ُ - -أبا عبادة،
فهال رويت يل األمر حتى أحققه منك؟
وجم البحرتي قليال وهو ينظر إىل أرض الغرفة املفروشة بالسجاد
الفاخر ،جعل ينكت السجاد بإصبعه وامجا ،متذكرا تأليف اجلاحظ
لكتاب يف مدح اجلنود األتراك ،أعاد نظره للجاحظ ،الذي بدا يف عينيه
408
هيكال عظميا مدفونا منذ آالف السنوات .تأمل جسمه النحيل الذي
ال يكاد يتحرك منه إال تينك العينني احلادتني اللتني خترتقانه انتظارا
للحديث.
طال صمت البحرتي ،وطالت نظرات اجلاحظ إليه ،فهو ال يضيق
بيشء ضيقه باستعادة تلك اللحظة التي قتل فيها املتوكل أمامه.
رفع رأسه متنهدا ،وخياله شارد إىل تلك الليلة التي مل تشهد العراق
مثلها من قبل .ليلة ُقتل خليفة املسلمني بمامألة بني اجلنود األتراك وابنه
املنترص.
كان املتوكل ووزيره الفتح بن خاقان والبحرتي جالسني يف هبو
واسع بقرص اجلعفري بحي القاطول ،حتيط هبم أربعة مصابيح كبرية
مثبتة يف زوايا البهو الواسع .كان املتوكل مستندا إىل وسادة ضخمة،
وبني يديه أرشبة وكتب وبخور.
بدا املتوكل مرسورا مقبال عىل احلديث واالستزادة من إنشاد
الشعر وقصص أيام العرب .وكان الفتح بن خاقان -وزيره األديب-
ال يدخر نادرة إال رواها ،وال ملحة إال حكاها .أما البحرتي فظل
يراوح بني إنشاد الشعر ورواية احلكايات.
يف أثناء ذلك ،كان القائد الرتكي ُبغا يغلق أبواب القرص دون أن
رشع ًا ليدخل منه مع
يشعر به أحد ،ترك بابا واحدا يسمى باب الشط ُم َ
جمموعة من اجلنود امللثمني.
وبينام املتوكل يرمق الفتح منصتا له ،إذ سمعا قرع نعال اجلنود
وقعقعة السيوف ،وصوت أحد احلاشية من بعيد يقول:
409
- -ما هذا يا سفل!
وقف املتوكل مذعورا ،فرأى قائدَ ه بغا ،فصاح به:
- -ما هذا يا بغا؟
ارتبك بغا عندما رأى املتوكل أمامه ،فتلعثم:
- -هؤالء رجال الن َّْوبة الذين يبيتون حيرسون باب سيدي أمري
املؤمنني.
الحظ اجلنود تلعثم بغا ،فتدافعوا راجعني .لكن بغا استعاد متاسكه
وصاح هبم:
- -يا سفل ،أنتم مقتولون ال حمالة ،فارجعوا وموتوا كراما.
عندها ،رجع اجلنود وقفز جندي تركي اسمه بغلون ورضب
املتوكل بالسيف عىل كتفه ،ثم أرجعه إليه فطارت أذنه.
صاح الفتح بن خاقان:
- -ويلكم ،أمري املؤمنني!
فقال بغا:
- -يا حلقي ،أال تسكت!
قفز الفتح ورمى بجسمه فوق املتوكل ليحميه ،فبجعوه بسيوفهم،
وقام بغا حتى غرز طرف السيف يف بطن كل واحد منهام ،سالت
دماؤمها حتى لطخت كتبا كانت يف طرف املجلس.
وسمعت صيحات وبكاء من جهة بيوت النساء يف أطراف القرص.
ُ
أهنى البحرتي احلديث ،وجعل يفرك يديه صامتا .سأله اجلاحظ
دون أن يلتفت إليه:
410
نجوت أنت؟
َ - -وكيف
علمت أن جهدي لن ينفع ،فعندما بدأ اجلنود يف القتل ابتعدت
ُ --
ووجدت يل خمت َب ًأ .وكنت أردد يف ذهني قول الفارس احلارث بن
هشام حني فر من املعركة يوم بدر:
إن أقاتِ�ل واح�د ًا
وعلم�ت أين ْ
ُ
ش�هدي
عدوي َم َ
َّ يرضر
ْ ُأ ْ
قتل ،وال
وسكت البحرتي ،وشعر بضيق وهو َيلمح يف وجه اجلاحظ
سخرية مشوبة بحزن .وتساءل يف نفسه كيف كان سيترصف اجلاحظ
لو شهد القتل.
وبعد صمت ثقيل ،مال اجلاحظ عىل شقه السليم وقال متنهدا:
- -أنشدين القصيدة التي قلت يف رثاء املتوكل وذكر هذه الليلة
الليالء.
غيرّ البحرتي جلسته وقال مرتبكا:
�ق داثِ ُر ْهول» َأ ْخ َل َ محَ َ ٌّل على «ال َقا ُط ِ
هر َج ْيش ًا ُت َغ ِ
او ُر ْه وفالدَّ ِ
و َعا َد ْتصرُ ُ ُ
ُ�ذور ًا إذا ا ْنبرَ َ ْت ُويف ن ُالص َب�ا ت ِ
كأ َّن َّ َ
تُــر ِاوحــهأذيــا ُلـهـاوتُــب ِ
ــاك ُـر ْه َ َ ُ ُ
ٍ ِ
�م َع ْه�دُ ُه ور َّب زم�ان ناع� ٍم َث َّ ُ
�ق ن�اضرِ ُ ْه �ـيـه ،و ُيونِ ُ
ـواش ِ
َ�ر ُّق ح ِ
ت ِ َ
�ر ِّي ،و ُأن ُْس� ُه َّي� ُح ْس� ُن اجلَ ْع َف ِ
َت َغ رَّ َ
وحاضرِ ُ ْه جل ْع َف ِر ِّيَ ، و ُق ِّو َض َب ِ
�ادي ا َ
411
ِ
س�اكنو ُه ُف َج�ا َء ًة َّ�ل عن�ه تحَ َ م َ
ور ُه و َمقابِ ُ�ر ْه
فـعـ�ا َد ْت َس�ـوا ًء ُد ُ
األس�ى إذا نح� ُن ُزرنَ�ا ُه َأ َج�دَّ َلن�ا َ
قب�ل الي�و ِم يبه�ج ِ
زائ ُ�ر ْه وق�د كان َ
ََْ ُ
برقت عينا اجلاحظ طربا ،وأشار للبحرتي بالتوقف ،وقال:
- -من حق األدب عيل أال أسمع هذا الشعر وأنا مستلقِ ،
ناد نفيسا ّ
ليجلسني.
شعر البحرتي بغبطة عارمة وقال:
- -ال عليك يا أبا عثامن.
فصاح اجلاحظ بأعىل صوته:
- -نفيس! أجلسني يا نفيس!
بمنكبي اجلاحظ ،وأجلسه .ثم وضع
ْ جاء نفيس يركض ،وأمسك
وسائد بني كتفيه واجلدار .اعتدل وهو يمسح لعابا سائال بطرف ثوبه:
- -أما اآلن فأنشد يا أبا عبادة!
نظر البحرتي إىل األرض كأنه يتذكر من أين يعاود اإلنشاد:
يع سرِ ْ ُبهالقرص إ ْذ ِر َ
ِ أنس َو ْح َش
ومل َ
أطلاؤه وج ِ ِ
ـ�آذ ُر ْه ُُ َ ـ�ر ْتوإ ْذ ُذع َ
َت الر ِح ِ
ي�ل َف ُه ِّتك ْ ي�ح في�ه بِ َّ
ِ
وإ ْذ ص َ
�ل ،أس�تَـاره وس�ت ِ
َـائ ُر ْه ـج ٍ
ُُ َ على َع َ
ِ وو ْح َش� َت ُه ،حت�ى َ
�م ب�ه كأ ْن مل ُيق ْ َ
ي�س ،ومل تحَ ْ ُس� ْن لِ َعْي�نْ ٍ َمناظِ ُ�ر ْه َأن ٌ
ِ
412
�ت في�ه اخلال َف� ُة َط ْل َق� ًة كأ ْن مل تَبِ َْ
�ك يْش�رْ ِ ُق َز ِ
اه ُ�ر ْه اش�تُها ،وا ُمل ْل ُ ُ َب َش َ
إلي�ه بـهـا َءه�ا ِ ومل جَ ْت َم� ِع الدنْي�ا
�ض َمكَاسرِ ُ ْه وبهَ ْ َجتَه�ا ،وال َع ْي ُش َغ ٌّ
- -أمسك يا أبا عبادة ،يا اهلل!
رفع اجلاحظ يده النحيلة الشاحبة هبدوء وهي ختتلج .وضعها عىل
جبهته ور ّدد بصوت ميلء بالعربة واحلرسات:
كأ ْن مل تَبِ ْ
�ت في�ه اخلال َف� ُة َط ْل َق� ًة َ
�ك يْش�رْ ِ ُق َز ِ
اه ُ�ر ْه اش�تُها ،وا ُمل ْل ُ ُ َب َش َ
- -هلل أبوك يا أبا عبادة ،إيه!
اش� ًة وف ُح َش َ الس� ُي ُاضا ُه ُّ يع َت َق َصرَ ِ ٌ
وامل�وت حمُ ْ ٌ�ر َأ َظافِ ُ�ر ْه
ُ يجَ ُ �و ُد بهِ�ا
�ع عن� ُه بِال َيدَ ْي ِ ِ
�ن ،ومل َيكُ� ْن ُأ َداف ُ
ادي َأ ْع َز ُل ال َّل ْي ِل َحاسرِ ُ ْه
ن�ي األ َع ِ لِ َي ْث ِ
دي في َساع َة ال َقت ِْل يف َي ِ ولو كان َس ْي ِ
او ُر ْه الن كيف ُأ َس ِ َد َرى ال َقاتِ ُل ال َع ْج ُ
اح َب ْع�دَ َك ،أو َأ َرى ال�ر ُ
َح َ�را ٌم َعليََّ َّ
ِ ِ
األرض َمائ ُر ْه ري على َد َم� ًا بِ�دَ ٍم يجَ ْ ِ
�ب الدَّ َم َواتِ ٌر،
رت ِي َأ ْن َي ْط ُل َوه�ل َأ جَ
ُور بِال�دَّ ِم َواتِ ُر ْه؟ َي�دَ الدَّ ِ
ه�ر؛ وا َمل ْوت ُ
ه�د َأ ْض َم َ�ر َغ�دْ َرةً؟ أكان وليِ الع ِ
َ َ ُّ َ
أن وليِّ العه�دَ َغ ِ َف ِم� ْن َع َج ٍ
اد ُر ْه �ب ْ ُ َ َ ْ
413
ُ�راث الذي َمض اقي ت َ َفال ُمِّل�يِّ َ ال َب ِ
اك الدُّ َع�ا َء َمنَابِ ُ�ر ْه �ت َذ َوال حمَ َ َل ْ
وح َل ْي َل� َة َج ْع َف ٍ ِ
�ر َلن ْع َ
�م ال�دَّ ُم ا َمل ْس� ُف ُ
ْ�ح ال َّل ْي ِل س�و ٌد َد َي ِ
اج ُر ْه َه َر ْقت ُْم ُ
وجن ُ
ُ
رفع اجلاحظ يده ووضعها عىل رأسه وهو يقول:
- -يا اهلل! هلل درك يا أبا عبادة.
عيني البحرتي وأنشد: وضع يده عن رأسه ونظر يف ْ
�ع عن� ُه بِال َيدَ ْي ِِ
�ن ،ومل َيكُ� ْن ُأ َداف ُ
ادي َأ ْع َز ُل ال َّل ْي ِل َحاسرِ ُ ْه لِ َي ْث ِ
ن�ي األ َع ِ
البحرتي بضيق ،فقد فهم أن اجلاحظ توقف عند ُّ وسكتَ ،
وش َعر
البيت مشككا يف تصور البحرتي لنفسه فارسا مدافعا عن املتوكل،
وهو يعلم أنه اختبأ كام أخربه.
وخيم صمت ،مل يقطعه إال صوت أذان من بعيد ٍ
آت من نافذة ّ
الغرفة .حرك اجلاحظ فكه السفيل ،فظهر َد َر ُده بوضوح وهو يقول:
غسلت أذين من
َ - -أحسنت ،هذا واهلل الشعر .جزيت خريا عىل أن
يشء سمعته أمس من أحد األدعياء ،جاءين هنا وأنشدين ما زعم
أنه شعر ،فزاد علتي ،ومل أنم البارحة غيظا منه ،ولوال أن ُأ ْد ِخ َل
لقضيت بأن ذريته ال خيرج منها شاعر بعض ال َفت ِ
ْك حلكم َ
ُ يف ا ُ
أبدا.
- -قاتله اهلل ،هذا أجرأ من خايص األسد! كيف يعرض رديء
الشعر عىل أيب عثامن!
414
وشعر البحرتي بأنه جتاوز اللحظة احلرجة التي كان خيشى فيها أن
ُيغلظ له أبو عثامن القول.
وتذكر اجلاحظ أن نفيسا مل يأت بأي رشاب للزائر ،فقال:
- -أنتم تزورون لعابا سائال ِ
وشقا مائال! هذا اخلادم مل يسقكم!
- -واهلل لقد رشبنا أفضل رشاب وأكلنا ألذ طعام بمحادثتكم.
حرك اجلاحظ كتفه فتحركت الوسادة املثبتة بينه وبني اجلدار،
وعج خياله بصورة صديقه الوزير الفتح بن خاقان وكأنه يسرتخيّ .
وهو رصيع مرضج بدمائه .وتذكر نبله واألشعار التي حيفظها ،وأدبه
وكياسته .وختيل اجلنود األتراك األميني يركلونه بأرجلهم ،وهو يموت
ميتة األكارم فاديا اخلليفة بنفسه .ظللته سحابة حزن ،فقلل احلديث،
وشعر البحرتي بأن اجلاحظ يريد أن خيلو بنفسه .سكتا برهة ،ثم قال
البحرتي:
- -أستأذن يا أبا عثامن.
ورفع اجلاحظ جفنيه ،موافقا:
- -حفظك اهلل أبا عبادة.
ونزل البحرتي متدحرجا من الدرج بخفة ،وقبل أن يصل إىل
الباب كان نفيس يركض ليستأذن لرسول من اخلليفة.
خرج البحرتي مرخيا طرف عاممته عىل وجهه ،ودخل رسول أمري
املؤمنني.
جلس عند رأس اجلاحظ ،ومال عليه:
- -لقد عرفنا كيف ُخطفت جاريتكم!
415
حتول اجلسد النحيل ا ُملعاق إىل كتلة من احليوية ،والدم املتدفق.
كانت يد اجلاحظ يف الطريق إىل فمه ملسح لعابه ،فوقفت حائرة يف اهلواء
بني فمه وركبته ثم هوت عىل ركبته .أدار عينيه يف وجه الرسول ،وحتول
شابا ُمولهَّ ا:
- -كيف؟
ٌ
فرسان - -لقد أمسكنا غالما كان يتجسس ،وعلمنا منه كيف جاء
متنكرون يف زي جتار .وكيف دهلم عىل بيتك فجاءوا وأخذوا
اجلارية.
قفز سؤال حارق إىل ذهنه ،لكنه تردد يف النطق به خوفا من نتيجته.
ثم غلبته نفسه فقال:
- -هل وافقتهم علية عىل اخلروج أم أرهبوها؟
- -ال ..ال ،قال الغالم إهنم أخذوها مكرهة ،وزعم اجلاسوس أهنا
بنت ملك من ملوكهم ظل يبحث عنها طيلة حياته ،وأن أخاه
خلفه يف البحث عنها .وزعم أهنا بنت ملك من ملوك شامل
األندلس!
- -نعم ،لقد أخربتني بذلك.
الحظ الرسول أن اجلاحظ ك َف َت رج َله السليمة بسهولة دون جهد
منه ،وأن جسده النحيل يزداد تعرقا ،كام الحظ انتعاشا يف حركة عينيه
الذاويتني ،ثم الحظ أنه جياهد نفسه حتى ال يتكلم .فالنظرات التائهة
تقفز ،وجانب شفته السفىل يتحرك حركة دائبة.
مرت ثوان ،فوقف الرسول مودعا .خرج من غرفة الكتب ،ونزل
416
من الدرج .وما إن وصل إىل الباب حتى سمع صوت نفيس:
- -سيدي يدعوك للرجوع إليه.
جلس الرسول هبدوء ،فقال اجلاحظ ويف صوته رعدة:
- -أريد أن جُت َ
هز يل راحلة ورفقة ألعود للبرصة.
مع إرشاقة الشمس عىل جرس دجلة ،كان اجلاحظ مستندا عىل
وسائدَ يف مقدمة سفينة حييط به نفيس وبنت أخته مريم وجمموعة من
اجلنود.
جندي السفين َة عن حافة اليابسة ،بينام كانت أذن اجلاحظ
ٌ دفع
ٍ
جلارية تغسل ثوبا عىل طرف النهر وهي تغني: اللقاطة تنصت
واخضرََّ عو ُد ُه العيش يف بغ�دا َد ْ
ُ صف�ا
غض!ض وال ِّ غري َخ ْف ٍ
وعيش س�واها ُ ُ
إن ِغذا َءه�ا األعمار؛ َّ
ُ ُ
تط�ول هب�ا
ِ
بعض! ِ
األرض أ ْم َر ُأ من وبعض َمري ٌءُ ،
تغضن ومسح دمع ًة شاردة .وتأ ّمل اجلارية ِ أمر يدَ ه عىل خده ا ُمل
َّ
الثوب الذي بني يدهيا وتواصل الغناء.
َ بطرف عينيه وهي تفرك
***
417
الدوحة 1440 ،هـ
419
املزركشة وواصل:
تضيع عنده احلُ ُرم.
ُ - -فهو الفحل ال يجُ دَ ُع أن ُفه ،وال
ثم خفض نربته وصىل وسلم عىل النبي ،وسكت.
خ ّيم صمت مطبق يف انتظار ما يقوله والد الفتاة الذي بدا غري
متعجل .بل تشاغل بنفض نقطة سوداء بادية عىل طرف قميصه الناصع
البياض ،ثم رفع رأسه وقال وصوته يكاد ال يسمع:
- -نشكر لكم احلضور وحسن الظن .لكننا نرى أن ليس لألخ حممد
نصيب يف هذا الزواج ،ولعل اهلل ادخر له األفضل.
كان القروي ينظر إىل أيب حصة نظرا متواصال برتكيز حتى كأنه ال
حيرك حدقتيه ،فلام انتهى من الكالم قال له بلغة ال مبالية ،وهو ينظر إىل
باب املجلس:
- -هل يمكنني السؤال عن سبب الرفض؟
شعر األب بغرابة السؤال ،معتربا إياه جرأة وصفاقة ،فقال:
- -ال هيمك!
- -كيف ال هيمني؟ إذا مل يكن هيمني فمن هيم؟
- -ال هيمك معرفة السبب ،املهم أننا رافضون وأكثر.
وسكت القروي قليال وهو يتلمظ.
وساد جو كثيف حتى كأن اهلواء انحبس ،ومل يبق إال صوت
املكيف اهلادر يف طرف املجلس .أدار القروي عينيه يف السقف وقال:
- -أنا ال أرى وجها لرفضكم .فإن كنتم تنطلقون من تقاليد العرص
الذي نعيش فيه ،فأنا وإياها اتفقنا عىل الزواج ،وكالنا يعمل يف
420
نفس املؤسسة وال سبب للرفض.
- -طيب؟
- -وإن كنتم تنطلقون من عادات البدو ،فنحن وإياكم منحدرون
من قبائل عربية بدوية.
- -طيب؟
بدو كانت
- -والفرق الوحيد بيننا وبينكم أننا بدو متعلمون ،وأنتم ٌ
لكم اهتاممات أخرى!..
وقف والد حصة دفع ًة واحدة كأن كهرباء لسعته ،فوقف اجلميع
بوقوفه .وتوقف الزمن للحظات.
قبيلتي من قبائل العرب قبل
نْ ُ
املستطيل ساح َة حرب بني بدا املجلس
رماح مرشع ٌة وسيوف تربق ،ومل
آالف السنني .صفان متقاربان للنِّزالٌ ،
يبق إال أن تنطلق حناجر النساء بالزغاريد احلامسية واألهازيج احلربية.
ثم رفع والد حصة يده متوعدا:
أي صفاقة وجه هذه؟ كان عليك أن ترتبى أوال قبل الطمع يفُّ - -
خطبة بنات الناس!
- -الرتبية هي أن نعرف أقدار الرجال ومنازل الناس.
- -أنت الذي ال تعرف أقدار الناس!
استمر الكالم للحظات والقوم وقوف ،فقال القروي -وهو يتجه
للخروج من باب املجلس -بصوت جهوري واضح:
- -الفرق الوحيد هو أنني بدوي متعلم ،وأنك بدوي من نوع آخر.
أنا أحيص سبعة من آبائي كلهم عامل ،ولعلك حتيص نفس العدد
421
من أجدادك قطاع طرق.
مشى أبو حصة وراءهم قائال بصوت مرتفع فيه رعدة:
- -ال مرحبا وال أهال.
ثم وقف وأشار ألبنائه بالسكوت ،وهم يرقبون اخلُ ّط َ
اب خيرجون
إىل مواقف السيارات.
ودوى ُّ
صك الباب مغلقا وراءهم بازدراء. ّ
وارمتى القروي يف املقعد اخللفي للسيارة ،ومدّ مفتاحها ألحد
مرافقيه دون أن يتكلم.
ساد صمت ،مل يقطعه إال رنني هاتف القروي الذي ال ينقطع.
وكانت شاشة هاتفه تلمع« :مطوعة بريدة تتصل».
وقف أبو حصة وسط املنزل يرصخ كأنه ثور مقيد.
سمعته حصة ،فقطعت االتصال متواري ًة من الردهة التي سيمر
منها حتى ال يراها.
رمى غطاء رأسه وجلس دفعة واحدة يف جملس داخيل وقال البنه
الكبري:
- -كيف يتطاول عيل يف بيتي؟ إن مل أخرج ذلك الوغد من هذه
البالد فأنا لست أباكم!
وضعت حصة يدها عىل صدرها ،وختيلت القروي يقاد إىل خمافر
جلنَح.
الرتحيل بني مئات اهلنود واألفغان من أصحاب ا ُ
وسارعت إىل غرفتها ،وصكّت الباب وراءها ،وارمتت فوق الرسير
الفاخر الذي حتول إىل شوك يف تلك اللحظات.
422
كيف تفقده هكذا دفعة واحدة؟ وضج ذهنها بأسئلة أبدية.
كيف يتحكم والدي يف مستقبيل هلذه الدرجة؟ كيف ال يسمح يل
بأن أقرر ،وأنا العاقلة البالغة الراشدة!
وختيلت نفسها وهي خترج من مطار الدوحة لتلقاه يف جزر
خارجي من مسجد وقد عقد قراهنام معمم نْ موريشوس .وختيلتهام
إفريقي يرامها للمرة األوىل واألخرية ....حالال عىل سنة اهلل ورسوله،
متسائلة كيف ُيع ّقد هؤالء حياتنا هلذه الدرجة...
وسمعت طرقا قويا عىل باب حجرهتا...
صوت والدها:
ُ ّ
فصك أذنهَ ا وقامت كالسكرانة لتفتح،
ِ
حتدثت مع ذلك النذل فلن تر ْيني ولن - -إن قال يل أي شخص ِ
إنك
أراك ما حييت .وسوف ....وسوف....ثم ابتلع العبارة التي
كانت عىل لسانه ،وأغلق الباب بعنف ووىل هيدر كأنه مجل هائج
ُفصل عن قطيعه بني رمال نجد.
أظلمت الدنيا يف عينيها ،ووقفت حائرة بني أبيها ومعشوقها.
والدها الذي ال خترج دموع العطف واألبوة من عينيه إال نادرا.
تذكرته وهو حيملها ويالعبها صغرية ،يأخذها إىل القارات األربع،
يطمئن عىل دراستها وعىل مستقبلها حتى صنع منها من هي اآلن.
كيف تؤذيه يف شيبته؟
عرفها
وحبيبها الذي عرفت معه معنى التوتر املمتع يف احلياةّ ،
معنى أن يتحول يومها إىل يوم ميلء بتوتر السعادة ،وكيف تستيقظ
هتب من
وهي تتحفز الستقبال يوم جديد ستقابله فيه .وعرفها كيف ّ
نومها لتنظر هاتفها ّ
عل به رسالة جديدة.
423
تعلمت معه تلك املعاين التي جتعل احلياة لذيذة شيقة مفعمة بالتوتر
واجلديد واملفاجآت ،والشد واجلذب ،والرضا والغضب اللذين يعطيان
معنى للحياة ،ال ذلك الرضا األبدي الشبيه برضا أهل املقابر ،ذلك
السكون الثقيل الذي خييم عىل املقابر والسجون.
لتعرف يف أي االجتاهني يميل ،فوجدته حائرا عاجزا
َ رازت قل َبها
ْ
عن امليل يف أي من اجلهتني.
هل متسك حقيبتها وهترب ليتزوجا يف مكان بعيد ،أم تنساه؟
وكيف هلا أن تنساه؟
وقفزت فوق رسيرها صائحة والعجز يكبلها:
- -حسبي اهلل ونعم الوكيل!
ومر أخوها قرب الباب فسمع الرصخة تدوي .وتردد صداها
ِ
وحنق والدها الذي يكاد يف جنبات املنزل الفاخر وسط غيظ إخوهتا،
خيرج من جلده غضبا.
***
424
البصرة 255 ،هـ
يتكو ُم اجلسدُ النحيل ممددا بني آالف الكتب ،داخل غرفة معزولة
يف زاوية من زوايا البرصة .تدور عيناه يف سقف الغرفة فال يرى إال
أكداس الكتب ،نظر إىل كتاب مهرتئ اجللد ،فربقت عيناه من الشوق،
تأمله كأنه صديق قديم .فقد اشرتاه من دمشق قبل أربعني عاما ،يمد
يده ليأخذه ،لكنها ال تصل إليه.
أخذت األيا ُم من قوة جسمه ،وأبدلتْه حد ًة وقوة يف العقل
والشعور كلام تقدم به العمر .مد يده مرة أخرى ليأخذ الكتاب فلم
يستطع .فقال بصوت متهدج:
- -نفيييس!
لكن صوته الضعيف مل يتجاوز غرفته املوحشة املنزوية يف الضيعة
الواسعة.
بعد ميض وقت ،نادى بنت أخته بصوت أضعف من األول:
- -يا مريم!
لكنه مل يسمع إال تناوح الريح قرب نافذته.
مرت ساعات ،احتاج فيها إىل من يساعده لقضاء حاجته ...فبنت
أخته ذهبت لبعض أوطارها وتأخرت كثريا .أما نفيس فقد هرب إىل
425
سباخ البرصة والتحق بثوار الزنج الزاحفني عىل البرصة.
ردد ناظريه يف السقف والكتب ..رسح خاطره مع عمره الطويل،
وهو يغوص يف الروائح النتنة.
ثم أفاق عىل بنت أخته واقفة عىل الباب ممسكة أنفها:
- -كيف؟ ملاذا فعلت هذا قبل عوديت؟
مل ينبس ببنت شفة ،وغاص عقله احلاد عىل آالف األسئلة
واملشاعر ،وهو ينظر إليها وجفناه يرتاقصان برسعة ،ردد النظر يف بنت
أخته ،ويف السقف ،ويف الكتب املبثوثة يف أطراف الغرفة.
اقرتبت منه ،وفيام كانت تنزع األذى من إزاره رأت دمع ًة شاردة
رأسه عىل الوسادة حتى ال تراها.
من عينه اليرسى ،فأمال َ
شعرت بضيق مؤنب ًة َ
نفسها عىل تأخرها عنه؛ فقالت له بلهجة
اعتذارية:
- -البد من أن تغتسل اليوم وتتعطر ،فقد يأتيك بعض طالبك.
لكنه مل جيبها ،كانت املشاعر السائبة املتمنعة عىل اللغة تشعره بعبثية
احلديث.
وقبيل الغروب بقليل ،طلب منها أن تضع له وسائد وراء ظهره،
موليا وجهه
فأسندته عىل وسادة ضخمة وهونصف مستقيم ،استند ّ
جهة الباب حيث تبدو الشمس صفراء ذاوي ًة جافل ًة إىل الغروب .رفع
حاجبيه املتهدلني فبدت له الشمس كئيبة متشبثة باألفق رغم غروهبا
الوشيك.
كانت جنبات البرصة تضج باهلرج واملرج بعد ساعات من
426
استباحة الزنج هلا ،غري أن رجال يقود حصانا عليه امرأة كان يقرتب
من هذه الضيعة املنعزلة رغم اهلرج يف أطراف املدينة.
اللعاب السائل من فيه،
َ صوت يف اخلارج ،مسحٌ فاجأ اجلاحظ
ونظر جهة الشمس مرة أخرى فبدا الباقي منها أشبه بحاجب ميت
جيود بنفسهُ ،فتح الباب ،فرفع حاجب ْيه متأمال ...فرأى خيال امرأة
يقرتب.
تأمل وجه املرأة الشائبة وهي تدخل رأسها يف باب الغرفة املعتمة.
يف هذه اللحظة نيس أنه مشلول منذ سنني طويلة ،حاول القفز من
مكانه ،لكن شقه األيرس خانه ...فلم يتحرك من مكانه.
رصخت ...ثم ارمتت فوق جسده!
أسندته إىل صدرها كأنه طفل رضيع ،فيام سال عىل صدرها ماء...
كان مزجيا من لعابه ومن دموعها.
وهو يردد:
ِ
عدت يا علية! - -علية..
***
427
الدوحة 1440 ،هـ
مرت أيام ثالثة مل يأت خالهلا القروي إىل عمله بالقناة ،بل نيس
ومر
أن يستأذن أو يطلب إجازة ،أو لعله تذكر فشعر بعبثية كل ذلكّ .
صديقه مازن عىل شقته بمنطقة السد باحثا عنه فلم جيده .ترك له رسالة
طالبا منه أن يطمئنه عىل سالمته ،بعد أن يئس من أن يرد عىل اتصاالته
أو رسائله.
قىض القروي ثالثة أيام ال خيرج من غرفته إال لي ً
ال ليتمشى عىل
حافة الكورنيش وحيدا .رفيقاه احلزن والغم .احلزن عىل ما وقع يف
املايض ،والغم مما قد تأيت به ُحبىل األيام.
كان يميش الساعات عىل الكورنيش كأنه عاشق ُع ْذري مد ّله.
يميش عىل احلافة أحيانا وسط مجوع املرتيضني ،وأحيانا يتجاوز احلاجز
اإلسمنتي لينزل إىل املاء وجيلس عىل طرفه ساعات كأنه صياد ٍ
هاو أو
متسول ُمرشد ،وكلام تأخر الوقت ليال وجد سلواه يف هذا املكان.
فهو يتمتع بالليل أيام متعة ،وكثريا ما فكر يف أن الليل مستودع
أرسار العشاق والشعراء واللصوص والساسة ورجال االستخبارات،
وهو رفيق احلزانى وكاتم آهاهتم ،ويف سواده العذب تنهل شفاه من
شفاه ،ويشكو املحبون ملحبوبيهم ،وتروي الشفاه العطشى ممن سعت
429
وراءه طويال ،ويف تضاعيفه تتمرغ جباه النساك تعبدا ،وتسيل دموعهم
املدرارة بعيدا عن األعني املتطفلة ،وحتت ردائه العذب يبتل قلم
الكاتب بعد يبس ،وجيري عىل الورق بعد ِحران ،وحتت عباءة الليل
وحده ُتعبرّ العذارى يف خدورهن عام يعتلج يف صدورهن الفاتنة من
عشق وشوق ورضام.
جلس عىل حافة مياه اخلليج الناعسة يف ليل الدوحة ،وغمس يده
يف املاء ثم مسح هبا وجهه ،والسؤال الذي يؤرقه مل َ مل ْ تر ّد حصة عىل
اتصاالته.
قد يكون بسبب تضايقها من رفض والدها لزواجهام ،لكنه خيشى
أن يكون بسبب كالمه القايس مع والدها وإخوهتا ،فهل هي غاضبة
عليه أ ْم له؟ هل هي راضية عنه أم مغاضبة له؟
هل انقطع التواصل لشدة كلفها به ،أم النزعاجها منه؟
نفض يده من املاء ،وعاد إىل حافة الكورنيش ليتمشى ،فرتاءى له
من بعيد املتحف اإلسالمي متلففا يف الظالم كأنه حسناء منقبة تطفو
عىل املاء.
كان رغم تعاسته وحزنه جيد لذة دفينة يف حالته تلك دون أن يكون
واعيا بذلك.
فحالة القلق والتحول التي يعيشها جيد فيها ذاته ،وجيد فيها مالمح
يرسه كلحظات التأرجح بني عاملني. حمبوبته .فال يشء ّ
فالتأرجح هو أمجل ما يف عامله ،فال الوصول إىل ِذروة املبتغى لذيذا،
وال اليأس منه كذلك .بل تلك اللحظة املتأرجحة املشكوك يف انتامئها
ألحد الطرفني ،فأمجل املدن ما وقع بني اليابسة واملاء ،وأطيب اهلواء ما
430
وتشاغبت فيها
ْ ُ
األعراق وقع بني القارات ،وأمجل النساء من تناوشتها
األمزجة واأللوان املختلفة ،فوقفت حائرة بني السواد والبياض ،وبني
جعودة الشعر وانبساطه ،وأمجل األشخاص حمادثة من تنازعته اللغات
والثقافات املتباينة.
وما سبب انجذابه حلصة إال ذلك التحول األبدي والتأرجح
األزيل يف مزاجها وتدينها وعملها وانتامءاهتا.
كانت هذه األفكار تلعب بذهنه وهو يكاد يقرتب من فندق
الشرياتون القابع عىل طرف كورنيش الدوحة ،التفت يسارا إىل القهوة
التي جلس فيها ذات يوم مع حمبوبته.
فانتزع هاتفه واتصل عليها حماوال من جديد.
ّ
رن اهلاتف طويال ثم انقطع االتصال ،فر ّد اهلاتف جليبه وهو يتمتم:
- -إن املرأة ظاهرة متحولة.
عقلت
َ فهي يف حتوهلا كالشمس تفاجئك دائام بغروهبا ،مع أنك منذ
تشاهدها ترشق وتغرب لكنها ال تفقد خاصية املفاجأة.
وكذلك املرأة ،تصحبها وقتا طويال حتى تظن وامها أنك عرفتها،
فتفاجئك كل يوم بطبع جديد وأخالق جديدة ،ومراوغات جديدة،
وصبيانية وتفاهات جديدة .فلحظة التحول وعدم االستقرار التي
تطبعها جتعلها فاتنة وساحرة ،فمن ذا الذي حيب امرأة مستقرة املزاج،
ذاك أتعس ما يف املرأة .أمجل النساء هي تلك التي يشبه مزاجها جو
بعض املدن الساحلية .حيث متر بك الفصول األربعة وأنت جالس
حتتيس قهوتك ،ما أسمج الرتابة .وصل هناية الدرب املخصص للمشاة
431
عىل الكورنيش ،فاستدار راجعا وهو يتذكر حمبوبته ،متذوقا مجاهلا لغويا
وهو يتمتم:
- -كانت عاصفة من اجلامل ،وأنشودة قلق ًة للحياة.
***
يتضح من جلسة القروي بمكتبه يف غرفة األخبار أنه مل ينم جيدا
البارحة وال التي قبلها .يمد يديه متثائبا ،ثم يرجعهام وراءه متثاقال ،مر
رئيس التحرير بقامته القصرية وبطنه املدور راكضا من وراء ظهره كأنه
يلهث ،ثم صفق بيده ملذيعة خرجت ًّتوا من موجز األخبار قائال:
- -يا سالم عليك ،إيه اجلامل ده؟ أحببت تقديمك للموجز باللهجة،
هذا ما نريده من اآلن فصاعدا .لقد ابتعدنا كثريا عام يريده
الشباب ،وسكنا يف برج عاجي فصيح دهرا طويال .حان وقت
اخلروج منه.
ثم رفع رئيس التحرير هامته الصلعاء الضخمة يف وجه املذيعة
وأردف:
- -ولقد ِ
نزلت من ذلك الربج باحرتاف أعجبني.
وأمطرت املذيعة مسؤوهلا بعبارات الشكر.
وجاء صوت صحفي من قسم االقتصاد يقول:
- -واهلل يا أستاذنا ،لقد أصبحت القناة خفيفة ،وما عندي شك أن
مشاهدهتا تضاعفت.
والتفت عرشات العاملني جهة الصحفي املعروف بتملقه ملسؤوليه.
واجتاحت القروي موج ُة غضب مل يستطع السيطرة عليها ،فالتفت جهة
432
الصحفي قائال:
- -كان بعض العوام يستصعبون شعر أيب متام ،فسأله أحدهم يوما:
مل َ ال تقول ما ُيفهم؟ فأجابه :ومل َ ال تفهمون ما ُيقال؟!
وضجت ضحكات خمتلفة من زوايا الغرفة ،فتشجع القروي وهو
يشعر بأنه يف مهمة تارخيية:
- -فهل املطلوب منا أن ننزل لدرك الضعفاء ،أم املطلوب أن نرتفع
بأذواقهم إىل مقامنا؟ إذا كان عندك تالميذ نجباء يف مدرستك
وفيها بلداء ،فهل املطلوب أن تقمع األذكياء وتنزل هبم لدرك
األغبياء؟
وتبادل القروي ورئيس التحرير نظرات مرتعة باالحتقار املتبادل.
ورفع رئيس التحرير يده وحك صلعته وهو يتذكر بغبطة حديثه
البارحة مع مدير القناة ،حول اتصال رجل يشكو من حترش القروي
ببنته ،وكيف قرر هو استغالل املوقف للتخلص من عبئه.
عاد رئيس التحرير راكضا إىل مكتبه كأنه بالون يتدحرج.
فبدت له كئيبة باردة
ْ ردد القروي برصه يف جنبات غرفة األخبار،
كأهنا مرشحة موتى .وضجت أذناه باللهجات واللحن ،والتفت باحثا
ببرصه عن مازن ،فرآه منهمكا يف احلديث هاتفيا مع أحد ضيوفه.
وردد نظراته مرة أخرى يف أطراف غرفة األخبار فشعر بالضياع
صوت صحفي
ُ وعدم انتامئه للمكان .فوقف ماشيا ،واخرتق أذن ْيه
سوداين يغني بأبيات من الشعر الشعبي يف املديح النبوي.
وسمع شجارا بني منتج وصحفي يف غرفة املونتاج ،خمتلطا
433
بتوسالت منتج نرشات لضيف كي يقبل احلديث عىل النرشة القادمة.
مشى بقدمني متثاقلتني وقلب كسالن ،وصعد الدرج الذي أسلمه
إىل الكافيرتيا.
مل يطلب أي يشء ،فال شهية عنده ألي يشء .رمى جسمه عىل
الكريس ،وجلس قبالة النافذة متأمال السيارات الغادية والرائحة يف
ٍ
مسجد خاشع ًة هادئة الشارع املؤدي للكورنيش .ثم تراءت له منارة
حميلة لعامل بعيد.
وأعاد برصه إىل الكافيرتيا ،ورمى نظره عىل املقعد الذي رأى عليه
حصة آخر مرة .وانتابته موجة ال يعرف أهي موجة صبابة أم موجة
غضب.
وضع ذراعيه عىل الطاولة ورمى بوجهه بينهام ،فسمع صوت أحد
املذيعني يقول:
- -مالك يا حممد ،أمل تنم البارحة؟
- -أنا تعبان جدا.
ثم رأى مازن قادما يميش برسعة.
وسحب كرسيا بجانبه وجلس ،دون أن يمر لطلب قهوته املفضلة.
ثم مال عىل القروي وقال:
- -هل ما سمعته صحيح؟
- -وما ذا سمعت؟
- -إذا مل يكن عندك خرب فيعني أن األمر غري صحيح!
- -ال ،قل يل ،ماذا سمعت؟
434
وتأمل مازن وجه صاحبه ،فالحظ انطفاء اللمعان الذي كان يف
عينيهُ ،
وخيل إليه أنه مل ينم منذ مدة .ثم أردف متلعثام:
- -سمعت أن رئيس التحرير ومدير الربامج حصال عىل موافقة
إلقالتك من عملك.
- -حق اهلل؟!
لكنه مل يمدها هذه املرة كام يفعل عادة ،بل نطقها كأنه ال يبايل.
فلم يشعر القروي بأي مفاجأة أو انزعاج مما سمعه ،فقد بدأ يشعر
وصدم مازن من ردة الفعل منذ فرتة بالرغبة اجلاحمة يف مغادرة املكانُ ،
الباردة لصديقه.
فبادره بلهجة متطلعة:
- -شو؟ هل وجدت وظيفة بديلة؟
كان القروي عميق اإليامن بأن األرزاق بيد اهلل ،فنظر إىل الفلبينية
املنشغلة بإعداد القهوة وقال عبارته األثرية:
- -إذا غال يش ٌء أرخصتُه بالرتك .ال أريد هذه الوظيفة وال وظيفة
بديلة عنها.
***
مر عليه شهر كامل وهو يعيش مرشدا عىل ضفاف الكورنيش، ّ
كان ينام يف سيارته ليال ،ويقيض معظم هناره يف دار الكتب القطرية
بمنطقة أم غويلينة ،جيلس هناك للبحث والكتابة ،مصمام عىل إكامل
روايته عن اجلاحظ.
يئس كل معارفه من إقناعه بالسكن يف بيوهتم حتى يتيرس له قضاء
435
القرض الذي يطالبه به البنك ،فبعد إقالته من وظيفته أرسل البنك
اسمه للمحكمة فوضعته عىل قائمة املمنوعني من السفر.
َ
قبل أيام جاءه أحد وجوه اجلالية املوريتانية يف الدوحة مصمام عىل
أال يرتكه حتى يذهب معه إىل بيته ،لكنه بعد حماوالت لساعات فشل
يف إقناعه.
وبعد ذهاب الرجل عنه ،خرج من سيارته ومشى عىل طرف
الكورنيش مرددا قول الشنفرى ٍ
بزهو شديد:
ت�رب األرض ك ْيلا يرى له
َ وأس�تف
ُّ
ام�رؤ متط�ول!
ٌ عليَّ م�ن الط�ول
اتفق مع أحد العامل اهلنود عىل مائة ريال يف الشهر مقابل السامح له
باالستحامم عنده كل يومني ،فكان خيرج إليه ،ثم ما يلبث أن يعود إىل
مكانه عىل الكورنيش .وأصبح كل من يرتيض عىل ضفاف الكورنيش
معتادا عىل رؤيته جالسا القرفصاء وسط سيارته أو حتت نخلة يقرأ
ويكتب.
اختفت معامل التأنق التي ُعرف هبا ،وتكاثف شعر رأسه وحليته.
أصبح شبيها بيساريي سبعينيات القرن العرشين ،لكنه مع ذلك مل يكن
حزينا ،بل كانت السعادة أغلب عىل مزاجه من التعاسة .فقد شعر بأن
عليه أن يثبت أنه مل خيرس ،بل أولئك الذين أقالوه هم اخلارسون ،ال
يضايقه إال أمر واحد؛ هو أن أمه اتصلت به لتخربه بأهنا ستبيع عرشين
ناق ًة من اإلبل التي ورثتها عن والدها لتسدد عنه الدين .كلام تذكر ذلك
األمر ،شعر بضيق خانق وحزن كاسح ،غري أنه ضيق يدفعه إىل إكامل
روايته عن اجلاحظ ،ال ضيق يدعو إىل الكسل واخلمول.
436
ٍ
مرات حتى أقنعها زور ًا بأنه يطالب أحد أصدقائه بدين ناقش أمه
سريده له قريبا ،وأن ذلك الدين كفيل بإخراجه من ورطته.
***
يف أحد صباحات السبت ،كانت سيارة مرسيدس فارهة تسري
رصخت داخلها فتاة ،فتوقفت.
ْ هبدوء عىل طرف الكورنيش ،إىل أن
أطلت الفتاة من النافذة لتتأكد من لوحة السيارة التي كان القروي
جيلس داخلها.
تأملته ...تأملت شعره الثائر ،ومالبسه املتسخة .وتذكرت صور
املرشدين الذين كانت ترثي حلاهلم يف مرتو األنفاق خالل إجازاهتا
الصيفية بباريس ،واهنمرت الدموع من عينيها مدرارا ،وهي تضع يدهيا
عىل زجاج نافذة السيارة التي يقودها والدها.
والتفت إليها والدُ ها متأمال إياها دون أن تنبس ،ثم أعادت النظر
َ
إىل الشاب وأعادت عينيها إىل والدها ،فاهنمرت دموعهام معا .مل يشك
والدها للحظة أن الرجل أصيب باجلنون بسبب رفضه الزواج من ابنته.
وشعر بجبال الدنيا تستقر عىل كتفيه ،شعر بالرغبة يف االنتحار،
فكيف يجُ ّرع خملوقا كل هذه املرارات .واستيقظت داخل نفسه شيم
نخوة طمرتهْ ا العصبيات طويال .أوقف سيارته عىل طرف الشارع
الصاخب ،وفكر يف النزول ،تردد ،ثم نزع نظارتيه ومسح دموعا انثالت
من عينيه يف صمت.
بقيا صامتني ...يراوحان بني النظر إىل القروي املندمج يف قراءة
كتاب داخل سيارته ،وتبا ُد ِل نظرات ثقيلة مليئة باألسئلة واحلرية
والتأنيب ...والتالوم.
437
وضغط والدُ حصة عىل دواسة الوقود بقوة ،فانطلقت السيارة
برسعة ،بينام كانت حصة ُملتفت ًة تنظر من الزجاج اخللفي للسيارة
آللئ عىل خدهيا .قاد سيارته برسعة حماوال
الفاخرة ،ودمو ُعها تتحدر َ
التحر َر من رصاع يضطرم نارا بني جوانحه .ضغط دواس َة الوقود ّ
َ
لتستيقظ ُ
تتململ وعض عىل شفتيه كأنه حياول اإلفالت من شي ٍم وقي ٍم ّ
بني ضلوعه رغ ًام عنه.
مل يالحظ القروي أي يشء مما دار.
وبعد يومنيّ ،
رن هاتفه برقم سويرسي غريب:
- -السيد حممد القروي؟
- -نعم ..تفضل..
- -أنا عمران إسحاق من رشكة غوغل بزيورخ.
- -نعم
- -هل الوقت مناسب للحيث؟
- -جدا ،بكل رسور.
وانطلق املتصل شارحا كيف قررت غوغل عرض وظيفة عليه
للخدمات اجلليلة التي أسداها هلا عن طريق تصحيحه للرتمجات.
وكيف أن املختصني يف الرشكة انتهوا إىل أنه عقل لغوي البد من تعيينه
مستشارا.
وكان آخر ما سمعه القروي:
- -ال إشكال ...يمكننا منحكم قرضا ،رتب أمرك لتأيت إىل زيورخ.
ووقف القروي عىل حافة الكورنيش متأمال الزوارق الصغرية
438
ودموع السعادة تنبجس من مآقيه ...خمتلط ًة برذاذ
ُ الطافية عىل صفحته،
متصاعد من حافة مياه اخلليج.
ضاجا بصور متناقضة .استعاد صورة أمه وهي
ًّ سافر خياله بعيدا،
تبيع نوقا تالدا مما ورثتْه من والدها ،مع صور موظفي غوغل بمقر
الرشكة بزيورخ.
ثم رسح ذهنه إىل بالد يستطيع السري فيها متى شاء وأنى شاء
وكيف شاء ...صحراء ،ال سلطان ألحد عليه فيها.
* * * انتهى * * *
439