Professional Documents
Culture Documents
باب إبطال الاستحسان
باب إبطال الاستحسان
( قال الشافعي ) وكل ما وصفت مع ما أنا ذاكر وساكت عنه اكتفاء بما ذكرت منه عما لم أذكر من حكم
هللا ثم حكم رسوله صلى هللا عليه وسلم ،ثم حكم المسلمين دليل على أن ال يجوز لمن استأهل أن يكون
حاكما أو مفتيا أن يحكم وال أن يفتي إال من جهة خبر الزم وذلك الكتاب ثم السنة أو ما قاله أهل العلم ال
يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا ال يجوز له أن يحكم وال يفتي باالستحسان إذ لم يكن االستحسان
واجبا وال في واحد من هذه المعاني ،فإن قال قائل فما يدل على أن ال يجوز أن يستحسن إذا لم يدخل
االستحسان في هذه المعاني مع ما ذكرت في كتابك هذا ؟ قيل قال هللا عز وجل { أيحسب اإلنسان أن
يترك سدى } فلم يختلف أهل العمل بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي ال يؤمر وال ينهى ومن أفتى أو
حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معاني السدى وقد أعلمه هللا أنه لم يتركه سدى ورأى
أ ن قال أقول بما شئت وادعى ما نزل القرآن بخالفه في هذا وفي السنن فخالف منهاج النبيين وعوام حكم
جماعة من روى عنه من العالمين ،فإن قال فأين ما ذكرت من القرآن ومنهاج النبيين صلى هللا عليهم
وسلم أجمعين ؟ قيل قال هللا عز وجل لنبيه عليه الصالة والسالم { اتبع ما أوحي إليك من ربك } وقال {
وأن احكم بينهم بما أنزل هللا وال تتبع أهواءهم } اآلية ثم جاءه قوم فسألوه عن أصحاب الكهف وغيرهم
فقال أعلمكم غدا يعني أسأل جبريل ثم أعلمكم فأنزل هللا عز وجل { وال تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا
إال أن يشاء هللا } اآلية وجاءته امرأة أوس بن الصامت تشكو إليه أوسا فلم يجبها حتى أنزل هللا عز وجل
{ قد سمع هللا قول التي تجادلك في زوجها } وجاءه العجالني يقذف امرأته قال لم ينزل فيكما وانتظر
الوحي فلما نزل دعاهما فالعن بينهما كما أمره هللا عز وجل وقال لنبيه { أن احكم بينهم بما أنزل هللا }
وقال عز وجل { يا داود إنا جعلناك خليفة في األرض فاحكم بين الناس بالحق } اآلية.
وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إال وقد علم الحق وال يكون الحق معلوما إال عن هللا نصا أو داللة من هللا
فقد جعل هللا الحق في كتابه ثم سنة نبيه صلى هللا عليه وسلم فليس تنزل بأحد نازلة إال والكتاب يدل
عليها نصا أو جملة ،فإن قال وما النص والجملة ؟ قيل النص ما حرم هللا وأحل نصا حرم األمهات
والجدات والعمات والخاالت ومن ذكر معهن وأباح من سواهن وحرم الميتة والدم [ ص ] 314 :ولحم
الخنزير والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأمر بالوضوء فقال { اغسلوا وجوهكم وأيديكم } اآلية فكان
مكتفى بالتنزيل في هذا عن االستدالل فيما نزل فيه مع أشباه له ،فإن قيل فما الجملة ؟ قيل ما فرض هللا
من صالة وزكاة وحج فدل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كيف الصالة وعددها ووقتها والعمل فيها
وكيف الزكاة وفي أي المال هي وفي أي وقت هي وكم قدرها وبين كيف الحج والعمل فيه وما يدخل فيه
وما يخرج به منه ( قال الشافعي ) :فإن قيل فهل يقال لهذا كما قيل لألول قبل عن هللا ؟ قيل نعم ،فإن
قيل فمن أين قيل ؟ قبل عن هللا لكالمه جملة وقبل تفسيره عن هللا بأن هللا فرض طاعة نبيه فقال عز
وجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقال { من يطع الرسول فقد أطاع هللا } مع ما
فرض من طاعة رسوله ،فإن قيل فهذا مقبول عن هللا كما وصفت فهل سنة رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم بوحي ؟ قيل هللا أعلم أخبرنا مسلم بن خالد عن طاوس قال الربيع هو عن ابن جريج عن ابن
طاوس عن أبيه أن عنده كتابا من العقول نزل به الوحي.
( قال الشافعي ) وما فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم شيئا قط إال بوحي فمن الوحي ما يتلى ومنه
ما يكون وحيا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيستن به أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن
أبي عمرو عن المطلب بن حنطب أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال { ما تركت شيئا مما أمركم هللا
به إال وقد أمرتكم به وال شيئا مما نهاكم عنه إال وقد نهيتكم عنه وإنالروح األمين قد ألقى في روعي أنه
لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فأحملوا في الطلب } ( قال الشافعي ) وقد قيل ما لم يتل قرآنا إنما
ألقاه جبريل في روعه بأمر هللا فكان وحيا إليه وقيل جعل هللا إليه لما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط
مستقيم أن يسن وأيهما كان فقد ألزمهما هللا تعالى خلقه ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن لهم
وفرض عليهم اتباع سنته ( قال الشافعي ) :فإن قال قائل فما الحجة في قبول ما اجتمع الناس عليه ؟
قيل لما أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين لم يكن للزوم جماعتهم معنى إال
لزوم قول جماعتهم وكان معقوال أن جماعتهم ال تجهل كلها حكما هلل وال لرسوله صلى هللا عليه وسلم
وأن الجهل ال يكون إال في خاص وأما ما اجتمعوا عليه فال يكون فيه الجهل فمن قبل قول جماعتهم
فبداللة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قبل قولهم.
( قال الشافعي ) رحمه هللا وإن قال قائل أرأيت ما لم يمض فيه كتاب وال سنة وال يوجد الناس اجتمعوا
عليه فأمرت بأن يؤخذ قياسا على كتاب أو سنة أيقال لهذا قبل عن هللا ؟ قيل نعم قبلت جملته عن هللا ،
فإن قيل ما جملته ؟ قيل االجتهاد فيه على الكتاب والسنة ،فإن قيل أفيوجد في الكتاب دليل عن ما
وصفت ؟ قيل نعم نسخ هللا قبلة بيت المقدس وفرض على الناس التوجه إلى البيت فكان على من رأى
البيت أن يتوجه إليه بالعيان وفرض هللا على من غاب عنه البيت أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام
ألن البيت في المسجد الحرام فكان المحيط بأنه أصاب البيت بالمعاينة والمتوجه قصد البيت ممن غاب
عنه قابلين عن هللا معا التوجه إليه وأحدهما على اإلحاطة واآلخر متوجه بداللة فهو على إحاطة من
صواب جملة ما كلف وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من صواب البيت ولم يكلف اإلحاطة
( قال الشافعي ) :فإن قيل فيم يتوجه إلى البيت ؟ قيل قال هللا تعالى { هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا
بها في ظلمات البر والبحر } وقال { وعالمات وبالنجم هم يهتدون } وكانت العالمات جباال يعرفون
مواضعها من األرض وشمسا وقمرا ونجما مما يعرفون من الفلك ورياحا يعرفون مهابها على الهواء
تدل على قصد البيت الحرام فجعل عليهم طلب الدالئل على شطر المسجد الحرام فقال { ومن حيث
خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وكان معقوال [ ص315 :
] عن هللا عز وجل أنه إنما يأمرهم بتولية وجوههم شطره بطلب الدالئل عليه ال بما استحسنوا وال بما
سنح في قلوبهم وال خطر على أوهامهم بال داللة جعلها هللا لهم ألنه قضى أن ال يتركهم سدى وكان
معقوال عنه أنه إذا أمرهم أن يتوجهوا شطره وغيب عنهم عينه أن لم يجعل لهم أن يتوجهوا حيث شاءوا
ال قاصدين له بطلب الداللة عليه.
( قال الشافعي ) وقال هللا عز وجل { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال { ممن ترضون من الشهداء }
فكان على الحكام أن ال يقبلوا إال عدال في الظاهر وكانت صفات العدل عندهم معروفة وقد وصفتها في
غير هذا الموضع وقد يكون في الظاهر عدال وسريرته غير عدل ولكن هللا لم يكلفهم ما لم يجعل لهم
السبيل إلى عمله ولم يجعل لهم إذ كان يمكن إال أن يردوا من ظهر منه خالف العدل عندهم وقد يمكن أن
يكون الذي ظهر منه خالف العدل خيرا عند هللا عز وجل من الذي ظهر منه العدل ولكن كلفوا أن
يجتهدوا على ما يعلمون من الظاهر الذي لم يؤتوا أكثر منه.
( قال الشافعي ) وقال هللا جل ثناؤه { ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما
قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } فكان معقوال عن هللا في الصيد النعامة وبقر الوحش وحماره
والثيتل والظبي الصغير والكبير واألرنب واليربوع وغيره ومعقوال أن النعم اإلبل والبقر والغنم وفي
هذا ما يصغر عن الغنم وعن اإلبل وعن البقر فلم يكن المثل فيه في المعقول وفيما حكم به من حكم من
صدر هذه األمة إال أن يحكموا في الصيد بأولى األشياء شبها منه من النعم ولم يجعل لهم إذ كان المثل
يقرب قرب الغزال من العنز والضبع من الكبش أن يبطلوا اليربوع مع بعده من صغير الغنم وكان
عليهم أن يجتهدوا كما أمكنهم االجتهاد وكل أمر هللا جل ذكره وأشبه لهذا تدل على إباحة القياس وحظر
أن يعمل بخالفه من االستحسان ألن من طلب أمر هللا بالداللة عليه فإنما طلبه بالسبيل التي فرضت عليه
ومن قال أستحسن ال عن أمر هللا وال عن أمر رسوله صلى هللا عليه وسلم فلم يقبل عن هللا وال عن
رسوله ما قال ولم يطلب ما قال بحكم هللا وال بحكم رسوله ،وكان الخطأ في قول من قال هذا ،بينا بأنه
قد قال :أقول وأعمل بما لم أومر به ولم أنه عنه وبال مثال على ما أمرت به ونهيت عنه وقد قضى هللا
بخالف ما قال فلم يترك أحدا إال متعبدا.
( قال الشافعي ) في قول هللا عز وجل { أيحسب اإلنسان أن يترك سدى } إن من حكم أو أفتى بخير
الزم أو قياس عليه فقد أدى ما عليه وحكم وأفتى من حيث أمر فكان في النص مؤديا ما أمر به نصا
وفي القياس مؤديا ما أمر به اجتهادا وكان مطيعا هلل في األمرين.
ثم لرسوله فإن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أمرهم بطاعة هللا ثم رسوله
،ثم االجتهاد فيروى { أنه قال لمعاذ بم تقضي ؟ قال بكتاب هللا قال ،فإن لم يكن في كتاب هللا قال بسنة
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ،فإن لم يكن قال أجتهد قال الحمد هلل الذي وفق رسول رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم } وقال { :إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر } فأعلم أن
للحاكم االجتهاد والمقيس في موضع الحكم
(قال الشافعي ) ومن استجاز أن يحكم أو يفتي بال خبر الزم وال قياس عليه كان محجوجا بأن معنى
قوله أفعل ما هويت وإن لم أومر به مخالف معنى الكتاب والسنة فكان محجوجا على لسانه ومعنى ما لم
أعلم فيه مخالفا ،فإن قيل ما هو ؟ .
قيل ال أعلم أحدا من أهل العلم رخص ألحد من أهل العقول واآلداب في أن يفتي وال يحكم برأي نفسه
إذا لم يكن عالما بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة واإلجماع والعقل لتفصيل المشتبه فإذا
زعموا هذا قيل لهم ولم لم يجز ألهل العقول التي تفوق كثيرا من عقول أهل العلم بالقرآن والسنة والفتيا
أن يقولوا فيما قد نزل مما يعلمونه معا أن ليس فيه كتاب وال سنة وال إجماع [ص ] : 316وهم أوفر
عقوال وأحسن إبانة لما قالوا من عامتكم ؟ ،فإن قلتم ألنهم ال علم لهم باألصول قيل لكم فما حجتكم في
علمكم باألصول إذا قلتم بال أصل وال قياس على أصل ؟ هل خفتم على أهل العقول الجهلة باألصول
أكثر من أنهم ال يعرفون األصول فال يحسنون أن يقيسوا بما ال يعرفون وهل أكسبكم علمكم باألصول
القياس عليهم أو أجاز لكم تركها ؟ فإذا جاز لكم تركها جاز لهم القول معكم ألن أكثر ما يخالف عليهم
ترك القياس عليها أو الخطأ
،ثم ال أعلمهم إال أحمد على الصواب إن قالوا على غير مثال منكم لو كان أحد يحمد على أن يقول على
غير مثال ألنهم لم يعرفوا مثاال فتركوه وأعذر بالخطأ منكم وهم أخطئوا فيما ال يعلمون وال أعلمكم إال
أعظم وزرا منهم أتركتم ما تعرفون من القياس على األصول التي ال تجهلون ،فإن قلتم فنحن تركنا
القياس على غير جهالة باألصل قيل ،فإن كان القياس حقا فأنتم خالفتم الحق عالمين به وفي ذلك من
المأثم ما إن جهلتموه لم تستأهلوا أن تقولوا في العلم وإن زعمتم أن واسعا لكم ترك القياس والقول بما
سنح في أوهامكم وحضر أذهانكم واستحسنته مسامعكم حججتم بما وصفنا من القرآن
،ثم السنة وما يدل عليه اإلجماع من أن ليس ألحد أن يقول إال بعلم وما ال تختلفون فيه من أن الحاكم لو
تداعى عنده رجالن في ثوب أو عبد تبايعاه عيبا لم يكن للحاكم إذا كان مشكال أن يحكم فيه وكان عليه
أن يدعو أهل العلم به فيسألهم عما تداعيا فيه هل هو عيب ،فإن تطالبا قيمة عيب فيه وقد فات سألهم
عن قيمته فلو قال أفضلهم دينا وعلما إني جاهل بسوقه اليوم وإن كنت عالما بها قبل اليوم ولكني أقول
فيه لم يسعه أن يقبل قوله بجهالته بسوق يومه وقبل قول من يعرف سوق يومه ولو جاء من يعرف سوق
يومه فقال إذا قست هذا بغيره مما يباع وقومته على ما مضى وكان عيبه دلني القياس على كذا ولكني
أستحسن غيره لم يحل له أن يقبل استحسانه وحرم عليه إال أن يحكم بما يقال إنه قيمة مثله في يومه .
وكذلك هذا في امرأة أصيبت بصداق فاسد يقال كم صداق مثلها في الجمال والمال والصراحة والشباب
واللب واألدب فلو قيل مائة دينار ولكنا نستحسن أن نزيدها درهما أو ننقصها لم يحل له وقال للذي يقول
أستحسن أن أزيدها أو أنقصها ليس ذلك لي وال لك وعلى الزوج صداق مثلها وإذا حكم بمثل هذا في
المال الذي نقل رزيته على من أخذ منه ولم يسع فيه االستحسان وألزم فيه القياس وأهل العلم به ولم
يجهل ألهل الجهالة قياسا فيه ألنهم ال يعلمون ما يقيسون عليه فحالل هللا وحرامه من الدماء والفروج
وعظيم األمور أولى أن يلزم الحكام والمفتين ( قال الشافعي )أفرأيت إذا قال الحاكم والمفتي في النازلة
ليس فيها نص خبر وال قياس وقال أستحسن فال بد أن يزعم أن جائزا لغيره أن يستحسن خالفه فيقول
كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ،فإن كان هذا
جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا وإن كان ضيقا فال يجوز أن يدخلوا فيه وإن قال
الذي يرى منهم ترك القياس بل على الناس اتباع ما قلت قيل له من أمر بطاعتك حتى يكون على الناس
اتباعك ؟ أو رأيت إن ادعى عليك غيرك هذا أتطيعه أم تقول ال أطيع إال من أمرت بطاعته ؟ فكذلك ال
طاعة لك على أحد وإنما الطاعة لمن أمر هللا أو رسوله بطاعته والحق فيما أمر هللا ورسوله باتباعه
ودل هللا ورسوله عليه نصا أو استنباطا بدالئل أورأيت إذ أمر هللا بالتوجه قبل البيت وهو مغيب عن
المتوجه هل جعل له أن يتوجه إال باالجتهاد بطلب الدالئل عليه ؟ أورأيت إذا أمر بشهادة العدل فدل على
أن ال يقبل غيرها هل يعرف العدل من غيره إال بطلب الدالئل على عدله ؟ أورأيت إذا أمر بالحكم
بالمثل في الصيد هل أمر أن يحكم إال بأن يحكم بنظره ؟ فكل هذا اجتهاد وقياس أورأيت إذا أمر النبي
صلى هللا عليه وسلم باالجتهاد في الحكم [ص ] : 317هل يكون مجتهدا على غير طلب عين وطلب
العين ال يكون إال باتباع الدالئل عليها وذلك القياس ألن محاال أن يقال اجتهد في طلب شيء من لم يطلبه
باحتياله واالستدالل عليه ال يكون طالبا لشيء من سنح على وهمه أو خطر بباله منه .
(قال الشافعي )وإنه ليلزم من ترك القياس أكثر مما ذكرت وفي بعضه ما قام عليه الحجة وأسأل هللا
تعالى لي ولجميع خلقه التوفيق وليس للحاكم أن يقبل وال للوالي أن يدع أحدا وال ينبغي للمفتي أن يفتي
أحدا إال متى يجمع أن يكون عالما علم الكتاب وعلم ناسخه ومنسوخه خاصه وعامه وأدبه وعالما بسنن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأقاويل أهل العلم قديما وحديثا وعالما بلسان العرب عاقال يميز بين
المشتبه ويعقل القياس .
فإن عدم واحدا من هذه الخصال لم يحل له أن يقول قياسا ،وكذلك لو كان عالما باألصول غير عاقل
للقياس الذي هو الفرع لم يجز أن يقال لرجل قس وهو ال يعقل القياس وإن كان عاقال للقياس وهو مضيع
لعلم األصول أو شيء منها لم يجز أن يقال له قس على ما ال تعلم كما ال يجوز أن يقال قس ألعمى
وصفت له اجعل كذا عن يمينك ،وكذا عن يسارك فإذا بلغت كذا فانتقل متيامنا وهو ال يبصر ما قيل له
يجعله يمينا ويسارا أو يقال سر بالدا ولم يسرها قط ولم يأتها قط وليس له فيها علم يعرفه وال يثبت له
فيها قصد سمت يضبطه ألنه يسير فيها عن غير مثال قويم وكما ال يجوز لعالم بسوق سلعة منذ زمان ثم
خفيت عنه سنة أن يقال له قوم عبدا من صفته كذا ألن السوق تختلف وال لرجل أبصر بعض صنف من
التجارات وجهل غير صنفه والغير الذي جهل ال داللة عليه ببعض علم الذي علم قوم كذا كما ال يقال
لبناء انظر قيمة الخياطة وال لخياط انظر قيمة البناء ،فإن قال قائل فقد حكم وأفتى من لم يجمع ما
وصفت قيل فقد رأيت أحكامهم وفتياهم فرأيت كثيرا منها متضادا متباينا ورأيت كل واحد من الفريقين
يخطئ صاحبه في حكمه وفتياه وهللا تعالى المستعان ،فإن قال قائل أرأيت ما اجتهد فيه المجتهدون كيف
الحق فيه عند هللا ؟ قيل ال يجوز فيه عندنا وهللا تعالى أعلم أن يكون الحق فيه عند هللا كله إال واحدا ألن
علم هللا عز وجل وأحكامه واحد الستواء السرائر والعالنية عنده وأن علمه بكل واحد جل ثناؤه سواء ،
فإن قيل من له أن يجتهد فيقيس على كتاب أو سنة هل يختلفون ويسعهم االختالف ؟ .
أو يقال لهم إن اختلفوا :مصيبون كلهم أو مخطئون أو لبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب ؟ قيل ال يجوز
على واحد منهم إن اختلفوا إن كان ممن له االجتهاد وذهب مذهبا محتمال أن يقال له أخطأ مطلقا ولكن
يقال لكل واحد منهم قد أطاع فيما كلف وأصاب فيه ولم يكلف علم الغيب الذي لم يطلع عليه أحد ،فإن
قال قائل فمثل لي من هذا شيئا قيل ال مثال أدل عليه من الغيب عن المسجد الحرام واستقباله فإذا اجتهد
رجالن بالطريقين عالمان بالنجوم والرياح والشمس والقمر فرأى أحدهما القبلة متيامنا منه ورأى
أحدهما القبلة منحرفة عن حيث رأى صاحبه كان على كل واحد منهما أن يصلي حيث يرى وال يتبع
صاحبه إذا أداه اجتهاده إلى غير ما أدى صاحبه اجتهاده إليه ولم يكلف واحد منهما صواب عين البيت
ألنه ال يراه وقد أدى ما كلف من التوجه إليه بالدالئل عليه ،فإن قيل فيلزم أحدهما اسم الخطأ قيل أما
فيما كلف فال وأما خطأ عين البيت فنعم ألن البيت ال يكون في جهتين ،فإن قيل فيكون مطيعا بالخطأ
قيل هذا مثل جاهد يكون مطيعا بالصواب لما كلف من االجتهاد وغير آثم بالخطأ إذ لم يكلف صواب
المغيب العين عنه فإذا لم يكلف صوابه لم يكن عليه خطأ ما لم يجعل عليه صواب عينه ،فإن قيل أفتجد
سنة تدل على ما وصفت ؟ قيل نعم .
أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد هللا بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بسر بن سعيد عن
أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول {
إذا حكم الحاكم [ص ] : 318فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر }قال يزيد بن
الهاد فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة
،فإن قال قائل فما معنى هذا ؟ قيل ما وصفت من أنه إذا اجتهد فجمع الصواب باالجتهاد وصواب العين
التي اجتهد كان له حسنتان وإذا أصاب االجتهاد وأخطأ العين التي أمر يجتهد في طلبها كانت له حسنة
وال يثاب من يؤدي في أن يخطئ العين ويحسن من يؤدي أن يكف عنه وهذا يدل على ما وصفت من
أنه لم يكلف صواب العين في حال ،فإن قيل ذم هللا على االختالف قيل االختالف وجهان فما أقام هللا
تعالى به الحجة على خلقه حتى يكونوا على بينة منه ليس عليهم إال اتباعه وال لهم مفارقته ،فإن اختلفوا
فيه فذلك الذي ذم هللا عليه والذي ال يحل االختالف فيه ،فإن قال فأين ذلك ؟ قيل قال هللا تعالى { وما
تفرق الذين أوتوا الكتاب إال من بعد ما جاءتهم البينة }فمن خالف نص كتاب ال يحتمل التأويل أو سنة
قائمة فال يحل له الخالف وال أحسبه يحل له خالف جماعة الناس وإن لم يكن في قولهم كتاب أو سنة
ومن خالف في أمر له فيه االجتهاد فذهب إلى معنى يحتمل ما ذهب إليه ويكون عليه دالئل لم يكن في
من خالف لغيره وذلك أنه ال يخالف حينئذ كتابا نصا وال سنة قائمة وال جماعة وال قياسا بأنه إنما نظر
في القياس فأداه إلى غير ما أدى صاحبه إليه القياس كما أداه في التوجه للبيت بداللة النجوم إلى غير ما
أدى إليه صاحبه ،فإن قال ويكون هذا في الحكم ؟ قيل نعم ،فإن قيل فمثل هذا إذا كان في الحكم داللة
على موضع الصواب قيل قد عرفناها في بعضه وذلك أن تنزل نازلة تحتمل أن تقاس فيوجد لها في
األصلين شبه فيذهب ذاهب إلى أصل واآلخر إلى أصل غيره فيختلفان ،فإن قيل فهل يوجد السبيل إلى
أن يقيم أحدهما على صاحبه حجة في بعض ما اختلفا فيه ؟ قيل نعم إن شاء هللا تعالى بأن تنظر النازلة ،
فإن كانت تشبه أحد األصلين في معنى واآلخر في اثنين صرفت إلى الذي أشبهته في االثنين دون الذي
أشبهته في واحد وهكذا إذا كان شبيها بأحد األصلين أكثر