Professional Documents
Culture Documents
مقالة الأحكام المسبقة
مقالة الأحكام المسبقة
مقالة الأحكام المسبقة
*هل األحكام المسبقة تعيق البحث العلمي؟ *هل األحكام المسبقة تشكل عائقا
النطباق الفكر مع الواقع أم أنها سند له وحافز إليه؟
*هل األحكام المسبقة ضرورية في البحث العلمي؟
سكٍ في مبادئهطرح المشكلة :إن العقل البشري ،بما ُجبِل ( فطر) عليه من تما ُ
ق في أحكامه ،في مجال تطابق الفكر مع نفسه ؛ ليس منطويا على ذاته ونظام دقي ٍ
ٍ
فقط و منغلقا عليها ،بل هو متّجه باستمرار إلى معرفة الواقع وما ينطوي عليه
من ظواهر وأشياء .حيث يشكل الواقع الحسي بكل ما يحمله من حقائق جزئية
بعدية مصدرا وحيدا للمعرفة لدى رواد المذهب التجريبي متخذين االستقراء
(انطباق الفكر مع الواقع) سبيال أوحد للدراسة العلمية و تقصي الحقائق ،غير
الفالسفة والمفكرين لم يتفقوا حول موضوع األحكام المسبقة ودورها وعالقتها
بالبحث العلمي والدراسة التجريبية .ونتج عن ذلك موقفان متعارضان أحدهما
يفترض أن يحصل انطباق للفكر مع الواقع دون األخذ بسوابق األحكام ،وعلى
النقيض يؤكد آخرون على ضرورة األخذ باألحكام المسبقة .ألن البحث العلمي ال
يقوم من فراغ .من هنا ورفعا للتعارض بين الموقفين حق لنا أن نتساءل :هل
تشكل األحكام المسبقة عائقا أمام انطباق الفكر مع الواقع؟ أم أنها تشكل سندا له
وحافزا إليه؟
وبعبارة أخرى :هل يمكن للفكر أن ينطبق مع الواقع دون الحاجة إلى أحكام
مسبقة؟
محاولة حل المشكلة :
يرى عدد من المفكرين والفالسفة والعلماء أنه يفترض أن يحصل انطباق للفكر
مع الواقع دون األخذ بسوابق األحكام .والتي تعرف بأنها جملة اآلراء
والتصورات التي يك ّ ِونها العقل حول األشياء والحوادث على نح ٍو ّأولي (أو قبلي
(دون سن ٍد من الخبرة والوقائع التجريبية التي تش ِ ّكلها من الناحية الموضوعية ؛
وهي آراء وتصورات معرضة أحيانا ً ،للتواتر واالنتقال من جي ٍل إلى آخر ،بفعل
توارث الثقافات والمعتقدات .ومن مصادرها األساسية يمكن أن نذكر :التفسير
الميتافيزيقي ،والغيبي ،والعرف السائد ،واالنطباع والقناعات الشخصية .وهي
اعتقادات راسخة في الذهن ينظر اإلنسان من خاللها و يسقطها على ما يجري في
محيطه ،من وقائع وحوادث .كتفسير الظواهر بعلل غيبية أو خرافية .فاألحكام
المسبقة أحكام تنشأ في الذهن بصورة تلقائية من خالل التنشئة االجتماعية وتتراكم
نتيجة الخبرات التي يكتسبها ك ّل فرد من اتصاله بعالم األشياء والظواهر .
لذلك كله يتَّفق العديد من الفالسفة والعلماء على القول بأن سوابق األحكام،
بالمعنى الذي رأيناه ،من شأنها أن تهدد مسار منهج البحث العلمي باالنحراف عن
مقاصده ،بل وبتقويضه وإجهاضه قبل تطبيقه .والسبب في ذلك يعود إلى دورها
السلبي في بناء المعرفة من حيث هي عوائق ابستمولوجية (معرفية) كما أنها
تُعتبر في الغالب مطيةً للوقوع في الذاتية ( و هذا مخالف للروح العلمية) فالباحث
إذا كان مدفوعا بطبيعته البشرية ،قد يسارع إلى إصدار أحكام ال تبررها مقدمات
بأفكار لمجرد أنها تصادف في نفسه
ٍ وال وقائع ،ويتجه إلى التصديق و االعتقاد
ى ،أو تحقّق له مصلحة ،أو لكونها فقط ،صادرة ً عن تقديس المأثور عن هو ً
السلف ؛ فينتهي به المطاف إلى االعتقاد بأوهام زائفة ،ت ُحول بينه وبين مالحظة
الظاهرة على نح ٍو موضوعي وحقيقي .وقد وجد" بيكون " أن هذا النمط من
التفكير الذي كان سائدا ً في القرون الوسطى ،ال يصلح أن يعد منطلقا ً للعلماء في
الكشف عن قوانين الطبيعة ،ألن مقدماته تنطوي على أفكار عامة وشائعة تُقبل
تمحيص ونقد ،كاالعتقاد بأن الطبيعة تخشى الفراغ وبذلك يفسرون صعود ٍ دون
المياه في األنابيب وتفسير األمراض بإرجاعها إلى أسباب غيبية ومعالجتها بطرق
سحرية ،...لكن بعد استعمال هذا النقد في العلم التجريبي للعصر الحديث ،صار
ب األقيسة الكاذبة واالستدالالت الفاسدة ،والمصادراتلزاما ً على الباحث تجنُّ ُ
الخاطئة واعتبار ذلك من سوابق األحكام الضارة .فلقد آمن قدماء المصريين بان
سبب فيضان نهر النيل هو غضب اآللهة واعتقد اليونانيون القدماء أن سبب
سقوط األمطار هو بكاء اآللهة ،وكان لهذه المعتقدات الميتافيزيقية أثرا سلبيا على
مجرد التفكير في نقدها أو رفضها ،أما الفكر األوروبي في العصور الوسطى فلم
يكن أفضل حاال ،إذ تبنت الكنيسة فكرة مركزية األرض وثباتها وأضفت عليها
صبغة دينية مقدسة ،لما حاول "غاليلي" إثبات بطالن إدعائهم بالتدليل على صحة
سلفه "كوبرنيك" الذي احرق دفاعا عن أفكاره العلمية واجه مصيرا مشابها وخير
بين التنازل عن آرائه أو الموت .كما ألح "فرانسيس بيكون" على اعتبار األحكام
المسبقة أوهاما تحول بين العالم والمالحظة المشكلة ،حين رفض الفكر العلمي ذو
الصبغة الالهوتية ،ودعا مقابل ذلك إلى اعتماد الشك المنهجي والنقد البناء ضد ما
سماه "أوهام المسرح" ،أما "زكي نجيب محمود" فقد أثار الشك حول النتائج ذاتها
في كتابه "خرافة الميتافيزيقا" ،وفي كتابه "نحو فلسفة علمية" رفض كل الحقائق
المبنية على األحكام المسبقة حيث يقول" :والعلوم الطبيعية كلها قائمة على
الترجيح ال اليقين ألن اليقين ال يكون إال في القضايا التكرارية التي ال تقول شيئا
جديدا كقضايا الرياضة" .وعليه يمكن القول أن المنهج التجريبي ،بِنَبذه لسوابق
قدر من الموضوعية شد ضمان أكبر ٍ األحكام ِلما رأيناه من خطرها ،إنما ين ُ
لمباحثه؛ لذلك اشترط في الباحث أن يق ِبل على مالحظة الظاهرة وهو متجر ٌد
تماما ً من أحكامه المسبقة لكي ال يشوه تفسيره لهذه الظاهرة .وبالتالي فأساس
البحث العلمي هو عدم األخذ باألحكام المسبقة ألنها تقوض وتجهض أي مجهود
علمي وبعبارة أخرى فإنها تكرس الذاتية ،فيصبح بذلك البحث بعيدا عن
الموضوعية.
النقد :لئن كنا ال ننكر ما لألحكام المسبقة من أثر سلبي في إعاقة انطباق الفكر مع
الواقع استنادا إلى ما تحويه من تفسيرات غير مبرهنة حول الظواهر المختلفة
باسم الحتمية النفسية تارة وتأثير حتمية الفكر االجتماعي تارة أخرى ،إال أننا نقر
من جهة أخرى أن الحكم المطلق على بطالنها أمر مبالغ فيه وأن األحكام
المنطقية الصحيحة غالبا ما تكون سندا للباحث المجرب .كما أن األحكام المسبقة
ليست كلها عائقا معرفيا ،وان العقل ال يمكنه االنطالق من عدم ،بل يحتاج إلى
مقدمات يسلم بها لبناء معارفه ،ومن جهة أخرى وجب أن نعلم أن هناك فرقا بين
مفهوم األحكام المسبقة ومبادئ العقل األساسية التي تؤطر المعرفة عقلية كانت آو
تجريبية.
لذلك وفي المقابل يرى عدد آخر من المفكرين والفالسفة والعلماء ضرورة األخذ
باألحكام المسبقة .ألن البحث العلمي ال يقوم من فراغ لذا يجب اإليمان بمبادئ
وأحكام ضرورية تسبق التجربة .ذلك ما يثبته تاريخ العلم في تطوره إذ يشكل
حلقات متصلة يكمل بعضها كما أكد "أوغيست كونت" .وانطباق الفكر مع الواقع
بناء على ذلك يجب عليه األخذ بأحكام مسبقة لبناء نسق معرفي صحيح ،تلك
المبادئ التي أقرها "أرسطو" ووصفت بأنها دليل العقل في البحث عن الحقيقة
صورية كانت أم مادية ،وأهمها مبدأ السببية الذي يعني أن لكل ظاهرة سبب
يحدثها وال ظاهرة دون علة كالعالقة بين الحرارة والتبخر ،واالعتقاد بهذا المبدأ
يشكل حافزا لدى العلماء للبحث عن أسباب الظواهر القرينة وتحديد العالقة
بينهما ،ثم صياغتها صياغة رياضية في شكل قوانين ثابتة .يقول عبد الرحمن
بدوي" :في سلسلة األحداث وجود ظاهرة ال بد من أن يعني وجود ظاهرة
أخرى" ،وكذا مبدأ اطراد الظواهر وهو في جوهره افتراض تقدم به العلماء
لرصد الوقائع بناء على االعتقاد الجازم باالتصال والتشابه بين الظواهر الطبيعية
ما يجعل تكرارها في ظروف مشابهة أمر وارد الحدوث ،يقول جون ستيوارت
مل" :االطراد مبدأ كان ال بد من اتخاذه مقدمة نهائية ترتد إليها كل العمليات
االستقرائية" ،إضافة إلى مبدأ الحتمية الذي يفيد أن توفر نفس األسباب يؤدي دوما
وحتما إلى نفس النتائج ويترتب عن ذلك استبعاد الصدفة من العلم يقول
"بوانكاري"" :العلم حتمي بالبداهة" ،واالعتقاد الصارم بهذا المبدأ مكن العلماء
من التنبؤ بالظواهر قبل حدوثها عن طريق معرفة أسبابها الفاعلة ما أدى إلى
التطور العلمي ،وفي ذلك يقول "البالص"" :يجب أن ننظر إلى الحالة الحاضرة
للكون على أنها معلولة لحالته السابقة وعلة لحالته الالحقة".وهكذا ،يتبيّن لنا أن
انطباق الفكر مع الواقع من خالل االستقراء والمنهج التجريبي المطبق في العلم ال
يستغني عن االحتكام و االستناد إلى طائف ٍة من المبادئ ،تنشأ عن قوانينه المنطقية
الخاصة وعن خبرته المتحصلة باإلدراك الحسي؛ فتتضافر هذه المبادئ لتش ِ ّكل
اإلطار والمرجع الذي يم ّكن الباحثين من التقدم في أبحاثهم ،ودونها ال يستقيم لهم
ذلك وال يمكن للعلم أن يتقدم خطوة في دراسته للظواهر الطبيعية .كما أن كل
معرفة سابقة فهي حكم مسبق للمعرفة الجديدة ،وبالتالي فالمعرفة ال تقوم لها قائمة
إلى متى انسجمت مع هذه األوليات (مبدأ السببية ،الحتمية ،مبدأ اطراد الظواهر).
مما يعني حاجة المنطق المادي االستقرائي إلى المفاهيم (المنطق الصوري).
النقد :صحيح ما ذهب إليه أنصار هذا االتجاه غير أن المشكلة األساسية التي
تطرح مرارا لدى العلماء التجريبيين ال تتعلق بأثر المبادئ العقلية على اختالفها
في التطور العلمي ،بقدر ما تتعلق بحقيقة هذه األحكام ومصدرها ،إذ ينظرون
إليها على أنها وليدة التجربة ال العقل وعليه فال وجود لمبادئ عقلية قبلية بل أن
كل ما يحويه العقل من أحكام مصدرها التجربة وهي في عمومها خاضعة للتعديل
والضبط .كما أن التتابع بين الظواهر يظل فكرة في العقل ال في األشياء فالسببية
فكرة ميتافيزيقية .ومن جهة أخرى بينت االكتشافات العلمية والبحوث المعاصرة
أن فكرة السببية والحتمية أصبحتا ال تتالءمان مع الفيزياء المعاصرة التي دخلت
عالم الذرة والذي يحكمه مبدأ الالحتمية .وبالتالي أيا كانت أهمية هذه المبادئ،
فإنه ال يمكن أخذها على أساس أنها مقوالت مطلقة فلقد تغير مفهوم السببية من
أرسطو إلى بيكون ومبدأ الحتمية إلى الالحتمية .دون أن ننسى أن سبب تخلف
البشرية في القرون السابقة هو اعتمادهم على الكثير من األحكام المسبقة واألفكار
الجاهزة التي أسرت فكرهم وقيدته.
التركيب :نتيجة لالنتقادات الموجهة لكال االتجاهين يمكننا القول أن انطباق الفكر
مع الواقع من خالل االستقراء والمنهج التجريبي وإن تحرى الموضوعية ونبذ
األحكام المسبقة ،فإنه ال يستغني حتما عن االحتكام إلى طائفة من المبادئ التي
تنشأ عن قوانينه المنطقية الخاصة وعن خبرته المحصلة باإلدراك الحسي أين
تتخذ هذه المبادئ لتشكل اإلطار الذي يمكن الباحثين من التقدم في أبحاثهم التي ال
يمكن أن تستقيم إال بها ،يقول توفيق الطويل":إن البحث العلمي يبدأ بوضع
فروض تستند إلى تعميمات تجريبية سابقة آو قوانين مسلم بها ثم يستنبط الباحث
من هذه الفروض نتائج ."...وبالتالي يجب التمييز بين األحكام المسبقة التي هي
عوائق يجب تخطيها ،وتلك التي هي مبادئ عقلية يجب األخذ بها بعد تهذيبها .مما
يعني وجوب الحذر في التعامل مع األحكام المسبقة واألخذ بما يناسب البحث
العلمي(.مع إبراز الرأي الشخصي وتبريره).
ختاما ومما سبق يتضح لنا من التحليل السابق أن األحكام المسبقة تساعد على
حصول انطباق الفكر مع الواقع ،طالما أنها مبادئ عقلية صادقة ،وأيا كانت نتيجة
الجدل حول طبيعة هذه المبادئ وردها األول عقال أم تجربة فإن التأكيد على
أهميتها في البحث العلمي أمر بالغ األهمية ،على أننا نرفض األحكام المسبقة التي
تأخذ صبغة األوهام والخرافة لكونها معيقة بشهادة تاريخ العلم ذاته.وعليه يمكن
القول أن هناك تناسقا وانسجاما بين مبادئ العلم و نتائجه .فلوال االعتقاد بأن هناك
تمكن العلماء من الكشف عن عللها ( أي ّ أسبابا تتحكم في حدوث الظواهر لما
ّ
تمكن العلماء أيضا االفتراض أوال )؛ ولوال االعتقاد بمبدأ الحتمية و االطراد لما
من تعميم نتيجة أبحاثهم و صياغتها في عالقات عامة نسميها بالقوانين العلمية؛ و
تمكن العلماء كذلك من توقع حدوث الظواهر في المستقبل بنفس الشكل الذي ّ لما
حدثت به في الماضي و الحاضر والسيطرة على الطبيعة ،وأن انطباق الفكر مع
الواقع تحكمه جملة من المبادئ و األحكام المسبقة الضرورية له....
بالتوفيق -األستاذ يزيد سكوب-