Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 66

‫تقديم ‪ " :‬قصة حياة " للشيخ محمد الغزالى ‪ ..

‬هو كتاب ذاع اسمه ولم ييعُرف له أثر ‪ ،‬اشتهر بين الباحثين‬
‫والمثقفين ولم يحظى باهتمام الناشرين ‪ ،‬إل ماكان من المعُهد العُالمى للفكر السلمي من جهد فى‬
‫نشره بمجلة ) إسلمية المعُرفة ( العُدد ‪ 7‬للسنة الثانية ‪ ،‬بعُنوان " قصة حياة ‪ ..‬مقتطفات من مذكرات الشيخ‬
‫محمد الغزالى " ‪ ،‬لعُل هذه المقتطفات هى مسودة كتاب " قصة حياة " الذى شرع الشيخ فى كتابته ‪ ،‬ثم‬
‫شغلته هموم أمته وأولويات الوقت عن إتمامه ‪ ،‬فدفع بما أنجز منه إلى المعُهد العُالمى لينشره ريثما تزول‬
‫الصوارف وتنتهى الشواغل ‪ ،‬ولم يزل مشغول حتى عاجله القدر بما حال عن إكماله ‪ ،‬وربما لو طال به‬
‫العُمر لجعُل منه سفرا حافل بالرواية المميزة ‪ ،‬والنظرة الثاقبة ‪ ،‬وكان شهادة هامة على أحداث‬
‫تاريخية عظيمة الخطر مرت بأمتنا ‪ ..‬رحم ا الشيخ الديب ‪ ،‬ورفع ذكره فى العُالمين ‪ ،،‬وسلم عليه فى‬
‫‪ .‬الخالدين‬
‫]علمات‪/‬محمد جللا لشاين[‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫قصة حياة ]العُناوين[‬
‫‪ -1‬ذكريات طفولة ‪ -2‬حياة اليكتتاب ‪ -3‬التعُليم البتدائي ‪ -4‬تعُليم ديني ومدني ‪ -5‬اضطرابات سياسية ‪-6‬‬
‫عقبات ‪ -7‬في المرحلة الثانوية ‪ -8‬تساؤل ‪ -9‬حادث طريف ‪ -10‬دراسة السلم في أوربا ‪ -11‬الدراسة‬
‫الزهرية القديمة ‪ -12‬صلتنا بالمدرسين ‪ -13‬رسالة من المرشد ‪ -14‬طبائع بيئات ‪ -15‬طلب مرفوض ‪-16‬‬
‫بعُض صفاتي ‪ -17‬عذر مقبول ‪ -18‬دعوة مستجابة ‪ -19‬حول منهج الدراسة ‪ -20‬البحث عن وظيفة‪...‬؟‬
‫‪ -21‬اكتشاف مهم ‪ -22‬قصة مضحكة ‪ -23‬زواج سعُيد ‪ ... -24‬ونهاية! ‪ -25‬حال المسلمين يومئذ ‪-26‬‬
‫محاولة فاشلة ‪ -27‬الديمقراطية ‪ -28‬النظمة العُالمية ‪ -29‬راحة الكادح الصبور ‪ -30‬واعظ إخوانى ‪- 31‬‬
‫النتفاع بالحريات الديمقراطية ‪ -32‬الحوال السياسية وجماعة الخوان المسلمين ‪ -33‬نقاش حول الدساتير‬
‫‪ -34‬انقلب على الوقاف ‪ -35‬منهجي في الدعوة ‪ -36‬مع التحاد الشتراكي ‪ -37‬مع أنور السادات‬
‫ذكريات طفولة‬

‫ل ييسأل أحدنا للمم في زمان كذا‪ ،‬أو في مكان كذا؟ فهذا قدر سابق ل خيرة‬
‫لنا فيه وإنما لفت نظري أني برزت إلى الدنيا في كبوة من تاريخ السلم‪،‬‬
‫وأيام كئيبة كان النجليز فيها يحتلون مصر‪ ،‬كما احتلوا أقطاراا فيحاء من‬
‫!!أرض السلم الجريح‬
‫ومع الهزائم المترة التي أحرجت الباء والولد‪ ،‬فإن المقاومة الشعُبية‬
‫‪.‬كانت عامة‪ .‬ومرففض الستسلم للغاصب الكفور كان يعُمم الرجاء‬
‫وأذكر أن قريتي الصغيرة "تكل العُنب ‪-‬محافظة البحيرة" شاركت في‬
‫!الثورة العُامة ضد النجليز‪ ،‬وقطعُت أسلكا الهاتف وأعلنت التممرد‬
‫وجاءت فرقة من جيش الحتلل وعسكرت أمام أحد المساجد واستخفى‬
‫الناس في البيوت‪ ،‬وقتل أحد الفلحين الذين لم يلتزموا بتعُليمات منع‬
‫‪...‬التجول‬
‫وقد علق بذاكرتي ما حدث في ذلكا اليوم‪ ،‬وكانت أمي تحملني على‬
‫ذراعها ونحن ننظر إلى الجيش الزاحف –من فوق سطح بعُيد‪ -‬أظنني‬
‫يومئذ في الثالثة من عمري‪ ،‬فقد ولدت ف ي ‪ 22‬سبتمبر ‪ ،1917‬وكانت‬
‫!هذه الثورة سنة ‪ 1920‬للميلد‬
‫هل يعُني ذلكا ال تسرد أن ذاكرتي حسنة؟ إنني أبادر بالنفي! فإنني قد أنسى‬
‫ما عرفته منذ دقائق ‪ ،‬وفي الوقت نفسه أذكر أموراا ممرت عليها عشرات‬
‫‪...‬السنين‬
‫سألني مدرس النحو وأنا طالب في المرحلة البتدائية ‪ :‬أعرب يا ولد‬
‫"رأيت ا أكبر كل شيء"‪ ،‬فقلت على عجل‪ :‬رأيت فعُل وفاعل‪ ،‬وا‬
‫!منصوب على التعُظيم‬
‫وحدثت ضجة من الطلبة‪ ،‬ونظرت مذعوراا إلى الستاذ ‪ ،‬فرأيت عينيه‬
‫!!تذرفان‬
‫كان الرجل من القلوب الخاشعُة‪ ،‬وقد همزه أني التزمت الحترام مع لفظ‬
‫الجللة ‪ -‬كما علموني ‪ -‬فلم أقل إنه مفعُول أول ‪ ،‬ودمعُت عيناه تأددبا ا مع‬
‫!ا‬
‫!كان ذلكا من ستين سنة أو يزيد‪ ...‬رحمه ا وأجزل مثوبته‬
‫إن هناكا أشياء تفرض نفسها على ذاكرتي ‪ ،‬ولو اختلف الليل والنهار‪،‬‬
‫‪ ...‬وأخرى تقرع الباب فل يؤذن لها فتمر كأن لم تكن‬
‫ت فيه من أسوأ القرون التي ممرت بديننا الحنيف! لم‬ ‫والقرن الذي ولد ي‬
‫أبلغ سبع سنين حتى كان المرتمد التركي مصطفى كمال قد رمى "بالخلفة‬
‫السلمية" في البحر! نعُم كانت شبحاا ل روح له ‪ ،‬بيد أن هذا الشبح كان‬
‫ي المطارق على أم‬ ‫مفزعا ا لعداء السلم ‪ ،‬وإذا كان يمغمى عليه تحت هلو م‬
‫رأسه ‪ ،‬فمن يدري؟ قد يستيقظ فجأة ويستأنف نشاطه المخوف ‪ ،‬فموته‬
‫‪...‬أجدى على أعداء السلم‬
‫وعندما كبرت وقرأت لم أشعُر بالخزي لهذا الظروف التي اكتنفت‬
‫!ميلدي‬
‫لقد رأيت ابن تيمية يولد وينمو في ظروف مشابهة ‪ ،‬فقد برز إلى الحياة‬
‫مع سقوط الخلفة العُباسية ‪ ،‬وكانت أمواج الغزو التتاري تتدافع بعُنف ‪،‬‬
‫وترغمه هو وأسرته على الفرار من بلد إلى بلد‪ ،‬والسير في طريق مليئة‬
‫‪.‬بصرعى الفتكا والضياع والهزائم المتتابعُة‬
‫إن الشعُوب السلمية تجني المصائب من تفريط الحكام وإضاعتهم‬
‫لمانات ا التي طموقت أعناقهم‪ ،‬ما ذنبنا نحن الطفال‪ ،‬وما ذنب آبائنا‬
‫الذين يحبون السلم ويفتدونه بالنفس والنفيس؟‬
‫أشهد أن أبي رحمه ا‪ ،‬كان عابداا قمواما ا ومكافحا ا جلداا‪ ،‬وقد سماني‬
‫محمد الغزالي لن أبا حامد رضي ا عنه أوصاه بذلكا في رؤيا صالحة‬
‫‪...‬رآها وهو أعزب‬
‫وعندما ولدت شرع يهتدم بي ‪ ،‬فما بلغت الخامسة حتى كنت في اليكمتاب ‪،‬‬
‫أحفظ القرآن مع غيري من الصبية ‪ ،‬ولما كان هو من الحفاظ ‪ ،‬فقد‬
‫تعُاون مع فقهاء الكتاب على أل أضيع سدى‪ ،‬يجب أن أستظهر القرآن‬
‫!الكريم في أقصر مدة‬
‫حياة اليكتتاب‬
‫لم أكن بليداا ول نابغاا ‪ ،‬كنت متوسط الذكاء ‪ ،‬ضئيل الجسم ‪ ،‬قصير القاممة‬
‫وكان وقع العُصا على جلدي رهيباا عندما أخطئ ‪ ،‬وربما أكرهتني الهيبة‬
‫ت إلى استعُادة موفعيي وتابعُت‬‫على التلعُثم ‪ ،‬فإذا ارتفعُت العُصا أسرع ي‬
‫القراءة ‪ ،‬بعُدما انتهوا من مرحلة الكتابة‪.‬‬
‫وعلى بعُد مائة ذراع تسمع هدير التلوة‪ ،‬تقطعُه بين الحين والحين‬
‫استغاثة مضروب لم يحسن الداء‪ ،‬يتوجع من لذع العُصا‪...‬‬
‫والباء يوصون المعُلمين بأل تأخذهم شفقة في التعُليم والتأديب‪ ،‬فعُصى‬
‫الفقيه من الجنة كما يقولون‪!...‬‬
‫سألت نفسي بعُدما كبرت سني عن جدوى هذه الطريقة‪ ،‬ولم أنته إلى‬
‫إجابة حاسمة!‬
‫هناكا من رفضها بحجة أن شحن أذهان الولد غير مفهومة يعُطل نموهم‬
‫العُقلي‪!...‬‬
‫ولكني رأيت هؤلء يشحنون عقول الطفال بخيالت مجنونة ل أصل لها‬
‫ول جدوى منها‪ ،‬عن طريق الحكايات الخرافية المصورة في "التلفاز" أو‬
‫المروية بوسائل العلم الخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لن أمل الذاكرة بشيء أستفيد منه في المستقبل خير من ملء‬
‫الدماغ بأوهام الصور المتحركة‪ ،‬والقاصيص السخيفة‪...‬‬
‫ومع هذا الرد فإن العتراض بقي قائما‪ ،‬هل يستفيد القرآن نفسه من هذه‬
‫الشرطة التي استوعبت ألفاظه‪ ،‬وحفظت آياته في الصدور؟ حفظا ا ل تدمبر‬
‫معُه ول فقه فيه؟‬
‫ربما قيل‪ :‬بقي القرآن متواترما على حين ضاعت كتب سماوية أخرى!‬
‫وذلكا حق! فإن ضمانات الخلود توفرت لهذا القرآن العُظيم فما ضاع منه‬
‫حرف‪ ،‬غير أن ذلكا ل يقصد لذاته‪ ،‬فبقاء المبنى إنما هو من أجل حياة‬
‫المعُنى‪ ،‬وازدهاره‪ ،‬والعُمل به‪ ،‬وإقامة حضارة على دعائمه‪ ،‬والمساكا‬
‫باللفاظ ل يحقق هذه الغايات العُظام‪...‬‬
‫إن نظام اليكمتاب قد تلشى تقريبا‪ ،‬وحملت محمله مدارس للقرآن فيها وجود‬
‫يشبه العُدم! وتكاد التربية السلمية والعُربية عندنا تجف ينابيعُها‪!...‬‬
‫ت لو انعُقدت مؤتمرات دائمة لستبقاء محاسن اليكمتاب واستبعُاد‬ ‫ومولدفد ي‬
‫مساوئه ووضع سياسة جديدة لربط الجيال الناشئة بأصولها وقيمها‪...‬‬
‫ت حفظ الكتاب العُزيز‪ ،‬وعرفت‬ ‫ت في اليكمتاب إلى سنن العُاشرة‪ ،‬فأتممفم ي‬‫بقي ي‬
‫ل من قواعد الملء‪ ،‬ورأى أبي أن يقدم على‬ ‫مبادئ الحساب‪ ،‬وشيئا ا قلي ا‬
‫مرحلة يتمعُدد عصبية بالنسبة له‪ ،‬لكنها مهمة بالنسبة لي!‬
‫التعُليم البتدائي‬

‫يجب أن يلحقني بالمعُهد الزهري المخصص في هذا العُصر لمحافظة‬


‫البحيرة‪ ،‬وكان ذلكا المعُهد في مدينة السكندرية‪...‬‬
‫وطفل في العُاشرة من عمره ل يقدر أن يعُيش وحده‪ ،‬ل بد إذن أن تنتقل‬
‫السرة معُه‪ ،‬فباع دكانه الذي يرتزق منه‪ ،‬واشترى في السكندرية مكتبة‬
‫بح مي "كرموز" كانت تبيع الوراق والكراريس‪ ،‬والروايات المترجمة‪،‬‬
‫والكتب المدرسية والعُلمية‪ ،‬والقصص الشعُبية‪ ،‬والسفار الدينية‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫ونقل السرة التي أصبحت تضم معُي شخصين آخرين غير من ماتوا‬
‫واستقبل مرحلة شاقة من مراحل السعُي واللغوب!‬
‫لم أكن يومئذ مغارم هذا التحول من القرية الهادئة إلى المدينة المائجة‪،‬‬
‫ويظهر أن أبي واجه أزمات وضوائق فلم ينهزم‪ ،‬وخمفف عنه آلم الحياة‬
‫أني نجحت في امتحان القبول‪ ،‬الذي عقدته مشيخة معُهد السكندرية‬
‫الديني‪ ،‬وكان الناجحون نحو مائتي طالب‪ ،‬يكملفوا بارتداء العُمامة والجتبة‬
‫المقررة‪.‬‬
‫ويظهر أن منظري وأنا في هذه السن الصغيرة كان مثيراا للضحكا! مما‬
‫جعُلني أتنكر لهذا الزي المفروض أمداا طوي ا‬
‫ل‪...‬‬
‫أصبحت الشيخ محمد وأنا لم أبلغ الحلم! كنت أحب اللعُب ولكن كيف يلعُب‬
‫شيخ؟ وكنت كثير الضحكا وجزائي على ذلكا طول الزجر والتوبيخ‪...‬‬
‫وتطلعُت إلى المكتبة التي نرتزق منها وكنت منهوما ا بالقراءة‪ ،‬فتركني‬
‫أبي أقرأ‪ ،‬وإن كان قد لحظ في أسف أني آبى القراءة في الكتب الدينية‪،‬‬
‫وأوثر مطالعُة ال نروايات الجنبية‪ ،‬وربما فضلت قراءة ألف ليلة على ما‬
‫يختار لي هو من كتب‪...‬‬
‫عرفت بعُد ما كبرت أن هذه الكتب مليئة بالحاديث الموضوعة والواهية‬
‫والخرافات العُلمية‪ ،‬ولكن الناس كانوا مقبلين عليها‪ ،‬مثل‪ :‬دقائق الخبار‬
‫في ذكر الجنة والنار‪ ،‬والروض الفائق في الوعظ والرقائق‪ ،‬وتنبيه‬
‫الغافلين‪ ،‬وقصص النبياء‪ ،‬والخمرة اللهية‪ ،‬والفتوحات المكية‪...‬إلخ‪.‬‬
‫لقد كانت الثقافة السلمية –وما زالت‪ -‬حافلة بالسموم والمخدرات‪،‬‬
‫والحاجة ماسة إلى غربلتها ونفي القذاء عنها‪.‬‬
‫دخلت المرحلة البتدائية من التعُليم الزهري مع بدايات الحادية عشر من‬
‫عمري‪ ،‬وكان ذلكا عام ‪ 1928‬للميلد‪ ،‬وأشعُر الن أن العُقد الول من‬
‫حياتي تضمن خيراا كثيراا‪ ،‬يكفي أني حفظت فيه القرآن‪ ،‬وتهيأت لدراسة‬
‫يصبو إليها الكثيرون‪.‬‬
‫وكان بطل هذه المرحلة أبا ا وهب ابنه ل على حند التعُبير الشائع! وباع ما‬
‫يملكا ليصلني بدراسة تخدم السلم‪ ،‬وكان الزهر يومئذ حصن الدين‬
‫واللغة‪ ،‬بل كان موقفه من الحتلل النجليزي صورة لموقفه من الحتلل‬
‫الفرنسوي‪ ،‬كان قذى في عيون المستعُمرين وكهفا للحرار والمجاهدين‪.‬‬
‫تعُليم ديني ومدني‬
‫دخلت معُهد السكندرية الديني لقضي فيه تسع سنين من أغلى أيام‬
‫العُمر‪ ،‬كانت الدراسة وفق نظام اليوم الكامل تبدأ صباحا ا وتنتهي في‬
‫الصيل‪ ،‬وهي دراسة حسنة ل يجوز وصفها بأنها دينية خالصة‪ ،‬فإن‬
‫العُلوم المدنية كانت لها أنصبة محترمة‪ ،‬ولم يكن مستوانا فيها دون‬
‫مستوى أندادنا من طلب التعُليم العُام‪ ،‬إل في اللغات الجنبية فقد حرمنا‬
‫منها‪ ،‬وكنا نستطيع ‪ -‬لو قررت علينا ‪ -‬أن ننجح فيها‪...‬‬
‫والمنهج الذي ارتبطنا به كان من وضع الشيخ محمد مصطفى المراغي‪،‬‬
‫وهو من مدرسة الشيخ محمد عبده الصلحية‪ ،‬ولذلكا لم يبق طويلا حتى‬
‫عصف القصر الملكي به‪ ،‬وأتى بالشيخ الحمدي الظواهري‪.‬‬
‫وقد نفذ الشيخ الجديد برنامج سلفه بدقة‪ ،‬وأعتقد أن هذه الفترة من‬
‫أزهى فترات التألق العُلمي في الزهر‪ ،‬لن دراسة الطبيعُة والكيمياء‬
‫والحياء وعلوم الحساب والجبر والهندسة‪ ،‬والتوسع في دراسة التاريخ‬
‫المحلي والسلمي والعُالمي‪ ،‬ودراسة جغرافية العُالم كله‪ ...‬إن هذا كله‬
‫يصقل فكر الطالب ويعُينه على تكوين حكم صائب‪ ،‬بل إن الحقائق‬
‫الشرعية ل تفهم على واقعُها الصحيح إل بهذه المعُرفة‪...‬‬
‫وقد رأيت ناساا من المشتغلين بالدين وعلومه‪ ،‬قرؤوا بعُض المتون‬
‫والمؤلفات القديمة‪ ،‬ثم أخذوا باسم السلم ييكذمبون غزو الفضاء‬
‫والوصول إلى القمر‪ ،‬بل يكذبون كروية الرض ودورانها‪ ،‬ولهم في هذا‬
‫تبجح منكر!‬
‫ذلكا مبلغهم من العُلم!‬
‫وكانت الدراسة في معُهدنا نصف داخلية‪ ،‬أ يلعتدت غرف فسيحة للنوم‪،‬‬
‫وييصمرف للطالب نحو ثلثين قرشا ا في الشهر يستعُين بها على طعُامه‬
‫اليومي‪ .‬وقد نفعُني هذا أكبر النفع‪ ،‬عندما اضطربت أحوال أبي‬
‫القتصادية‪ ،‬وقارب الفلس‪ ،‬واضطر بعُد أربع سنين أن يعُود إلى القرية‬
‫من حيث جاء‪...‬‬
‫وثلثون قرشا ا ليست يوم ذاكا شيئاا تافها‪ ،‬فإن القرش الواحد كان يشتري‬
‫عشر بيضات تساوي في عصرنا الن مائة وخمسين قرشاا‪...‬‬
‫وهذا النفاق كان من أوقاف المسلمين!‬
‫لقد عرفت سمر حرص الستعُمار على إلغاء الوقف الخيري‪ ،‬وتركا جهات‬
‫البر ل مورد لها‪ ،‬ولدع هذا الحديث الن إلى وصف حياتي في المعُهد‪...‬‬
‫إنني منذ نعُومة أظافري أهتم بالحوال العُامة‪ ،‬وأكترث للمبادئ التي‬
‫يعُتمد عليها الحكم‪ ،‬وأتعُشق الحرية والعُزة‪ ،‬وأكاد أذوب إذا توترطت فيما‬
‫يعُاب‪ ،‬وأصادق بإخلص‪ ،‬وأعادي الخصوم بنـزاهة‪ ،‬وأتطلع إلى الصدارة‬
‫وأبذل ثمنها بطيب نفس!‬
‫اضطرابات سياسية‬
‫ولما كنت يافعُا ا تو ملى إسماعيل صدقي باشا الحكم‪ ،‬فألغى الدستور القائم‪،‬‬
‫وجاء بدستور آخر‪ ،‬وقبل ذلكا كان محمد محمود باشا قد عطل الدستور‬
‫مؤقتا ا وممهد للضربة القادمة‪...‬‬
‫وكانت المة كلها ضد هذه التصرفات‪ ،‬وترى أن القصر وأحزابه يعُملون‬
‫لمصلحة إنجلترا ضد جمهرة الشعُب المصري‪ ،‬وكان الطلب المصريون‬
‫يقودون حركة تمدرد ل آخر لها‪ ...‬فلم يكن عجبا ا أن يشاركا معُهدنا في‬
‫هذه الثورات‪ ،‬ولم يكن مستغربا ا أن أكون بين قادتها‪.‬‬
‫ت إحدى المظاهرات العُنيفة‪ ،‬ويحمقق معُي ثم‬ ‫وقد دفعُت ثمن ذلكا غاليا‪ ،‬ققمد ي‬
‫أفرجت النيابة عني بكفالة مالية قدرها جنيهان‪ ،‬دفعُها أبي وهو يلهث من‬
‫العياء‪ .‬ومضت القضية في طريقها العُتيد‪ ،‬وما كنت أدري ما يفعُل بي‬
‫لول أن قانوناا بالعُفو العُام شملها فيما شمل من أمثالها‪ ،‬ونجوت من‬
‫السجن‪.‬‬
‫ويقدت أخرى داخل المعُهد‪ ،‬وبعُد التحقيق يرئي فصلي سنة من الدراسة‪،‬‬
‫أو بعُبارة أخرى رئي منعُي من دخول امتحان آخر العُام‪ ،‬وكنت في السنة‬
‫الثانية الثانوية‪ ،‬فعُتز علتي أن أتخلف سنة عن زملئي فتركت الدراسة‬
‫نهائي اا وانفصلت من المعُهد‪ ،‬وقلت‪ :‬أتقدم لمتحان "الشهادة الثانوية –‬
‫القسم الول" من الخارج‪.‬‬
‫وكانت مغامرة ل يقدم عليها أحد! ورأيت أبي –رحمه ا‪ -‬يكاد يقتله‬
‫الحزن لخيبة أمله في مستقبلي‪ ،‬وفي الرؤيا التي سيطرت عليه‪.‬‬
‫عقبات‬
‫غير أن ع ملة فادحة دهمتني سقطت بعُدها طريح الفراش ثلثة شهور‪،‬‬
‫وانفتحت في جسدي عدة خمراجات قاتلة‪ ،‬وكنت خلل هذه الشهور في‬
‫عالم آخر‪ ،‬واتجهت الظنون إلى أني مائت ل محالة‪ ،‬وترقب أهل القرية‬
‫بين الحين والحين نعُيي! وعلمت بعُد ما دخلت في مرحلة الشفاء أن‬
‫تموين البيت كله بيع في تمريضي! وأن الب الجلد المؤمن لم يدخر‬
‫وسعُاا في علجي لصح‪ ،‬ماذا أفعُل؟ نهضت من هذا المرض جلداا على‬
‫عظم‪ ،‬وأرسلت لصدقائي في المعُهد أن يبعُثوا إلي بالكراسات التي‬
‫يكتبون فيها مسائل الرياضة‪ ،‬وبعُض الكتب المقررة‪ ،‬وكانوا عند حسن‬
‫الظن‪ ،‬فأنجدوني بما يعُينني على المذاكرة‪...‬‬
‫كان علي أن أستعُد للمتحان في نحو عشرين علما‪ ،‬هي المقررات‬
‫الرسمية للسنوات الولى والثانية والثالثة الثانوية‪ ،‬وذلكا وفق ما يقضي‬
‫به قانون الذين ييمتحنون من منازلهم!‬
‫كان زملئي يحضرون في معُمل الطبيعُة والكيمياء‪ ،‬وكانوا يسمعُون‬
‫المدرس وهو يشرح الجبر والحساب والهندسة‪ ،‬أما أنا فكنت ممدداا على‬
‫عيدان الذرة الجافة فوق سطح دارنا‪ ،‬أقرأ وأعاني وأستعُين بال!‬
‫إن حالتي في المعُهد كانت عادية‪ ،‬كنت سباقا ا في علوم اللغة والدب فقط‪،‬‬
‫أما في الفقه والتفسير وغيرهما فقد كان نفوري شديداا من كتب نور‬
‫اليضاح‪ ،‬ومتن القدوري‪ ،‬ومجمع النهر على ملتقى البحر‪ ،‬التي كانت‬
‫تقدم لنا الفقه الحنفي ‪ ،‬كما كنت ضائقا ا بتفسير النسفي وأبي السعُود‬
‫وغيرهما‪...‬‬
‫ل بد مما ليس منه بد! وبعُد عام من فصلي ذهبت مرة أخرى إلى المعُهد‬
‫متقدماا من الخارج في امتحان صعُب‪ ،‬وكان زملئي يرثون لحالي‪،‬‬
‫ولكنهم ل يحبون أن يجرحوا كبريائي‪ ،‬فيسكتون مشفقين‪...‬‬
‫ل أدري كيف أديت المتحان بهدوء! وكرهت أن أعود إلى أبي أنتظر‬
‫النتيجة في جواره! وعشت في مساكن المعُهد حتى تم إعلن النتيجة‪،‬‬
‫وكانت المفاجأة‪ :‬نجحت في هذا المتحان الصعُب‪ ،‬بل كنت من الوائل في‬
‫القطر كله والول في معُهد السكندرية‪...‬‬
‫وأحسست داخل نفسي أن هذه ليست مهارتي‪ ،‬بل كانت دعوات أبي‬
‫المؤمن المتوكل الصبور!‬
‫في المرحلة الثانوية‬
‫واستأنفت الدراسة مع زملئي ملتحقا ا بالسنة الرابعُة‪ ،‬فلم يضع من‬
‫عمري ما كان مفروضاا أن يضيع‪ ،‬وعندما راجعُت نفسي لم أكن أشعُر‬
‫بأني أخطأت‪ .‬لقد أديت واجبي‪ ،‬وانسقت مع عاطفة شريفة‪ ،‬إنني كنت‬
‫أحارب الستبداد‪ ،‬وأخدم أمتي وبلدي! بيد أن ذلكا الشعُور كان يصحبه‬
‫شعُور آخر باللم الفادح الذي نالني ونال أسرتي معُي‪ ،‬وانضم إلى ذلكا‬
‫إدراكا بأني كنت غارقا ا حتماا لول القد الذي حنا علينا وانتشلني من اللتجة!‬
‫نعُم لقد مرت بي لحظات استوحشت فيه من كل شيء‪ ،‬واستبان لي عجز‬
‫الخلئق أجمعُين‪ ،‬ولم يأخذ بيدي إل الواحد القهار‪.‬‬
‫وازدادت أزمات أبي‪ ،‬فأخذت أمدنرس لبعُض الطفال نظير أجر تافه‪،‬‬
‫وأحتال على البقاء في المعُهد بما أتكسبه من قريشات قليلة‪ ...‬حتى‬
‫أحرزت الشهادة الثانوية الخيرة‪.‬‬
‫إن هذه الشهادة كانت تمثل آخر تطبيق للنظام الصلحي الذي وضعُه‬
‫رجل تتلمذ على الشيخ محمد عبده‪ ،‬وكانت فرقتنا آخر من حصل على هذا‬
‫النوع من الشهادات‪ ،‬ويعمدلت البرامج بعُد ذلكا تعُديلا حذف كثيراا من‬
‫المواد الرياضية والعُلمية والنسانية العُظيمة النفق‪.‬‬
‫وكنا نتحدث فيما بيننا أن الشيخ المراغي سئم تكاليف الجهاد العُلمي وآثر‬
‫الراحة بالتعُاون مع الحزاب المتعُاونة مع القصر‪ ،‬وتركا الزهر حبله‬
‫على غاربه‪ ،‬فأخذ التعُليم الديني ينحدر رويداا رويداا‪...‬‬
‫لقد استفدت كثيراا من دراستي في المعُهد بين عامي )‪(1928،1937‬‬
‫وأذكر أن المشرفين على الدارة حاربوا المراض المتواطنة الفاشية في‬
‫أجسامنا‪ ،‬فبعُد أن أظهر الكشف الطبي أنني مصاب بالبلهارسيا‪ ،‬تعُهدني‬
‫المسؤولون بالعُلج أربع سنين معُاقبة‪ ،‬أخذت خللها نحو خمسين حقنة‬
‫حتى انقطع دابر المرض‪ ،‬وكنت قبلها أحسب أن أبناء آدم يبولون دما ا‬
‫آخر ما يقضون حاجاتهم‪...‬‬
‫تساؤل‬
‫وقد أصبنا مقادير جيدة من علوم اللغة والدين‪.‬‬
‫ول أدري لماذا كل هذا الحرص على الكتب القديمة؟ إن مؤلفي النحو‬
‫قديم اا كانوا مشغولين بالستدلل على قواعدهم من شواهد الشعُر والنثر‬
‫والقرآن الكريم‪ ،‬كانت القضية تذكر ثم يساق البرهان بعُدها‪...‬‬
‫لقد ثبتت هذه القضايا واستقرت‪ ،‬وبقي أن تدخل مرحلة التطبيق في كل‬
‫نواحي الحياة‪ ...‬فإذا كان من الضروري أن يدرس هذا العُهد ففي مرحلة‬
‫التخصص‪.‬‬
‫أما قبل ذلكا فكان يجب أن تدرس كتب النحو والبلغة على الطريقة التي‬
‫قدمها الديب الشاعر علي الجارم في مؤلفاته القيمة‪.‬‬
‫ل‪ ،‬إن لغتنا تتعُرض لهمال شديد‬ ‫ولعُل ذلكا يراعى في تعُليم اللغة مستقب ا‬
‫لعُله مقصود!‬
‫س للناس كافة وكأنهم يعُيشون في صحراء‬ ‫وفقه دورة المياه الذي ييدتر ي‬
‫الجزيرة! إن تغييراا واسعُاا طرأ على المجتمع البشري ينبغي أن يلحظ‬
‫عند درس الحكام الفقهية‪ ،‬ل في النظافة وحدها بل في معُاملت شتى‪...‬‬
‫كنا نحس ذلكا ونحن طلب في تلكا المرحلة‪ ،‬مرحلة الشباب المتطلع‬
‫الناشط الدؤوب‪...‬‬
‫وفي السنة الخيرة من مقامي بالسكندرية التقيت بالستاذ المام حسن‬
‫البنا‪ ،‬كنت جالس اا في مسجد عبد الرحمن بن هرمز بحي رأس التين أقرأ‬
‫وردي القرآني‪ ،‬وانتظرت لصلي المغرب وأخرج‪ ،‬فإذا رجل يقوم بعُد‬
‫الصلة يلقي درسا ا جامعُاا يتسم بالوضوح والتأثير والصدق‪.‬‬
‫قررت من يومها أن أتبعُه‪ ،‬وأن أسير معُه على درب واحد لخدمة السلم‬
‫والمسلمين‪...‬‬
‫التحقت بكلية أصول الدين من كليات جامع الزهر‪ ،‬وبدأت الدراسة عام‬
‫‪ ،1938‬ونظرت إلى زملئي القادمين من معُهد السكندرية فوجدت يجملهم‬
‫من النابهين ذوي المواهب الحسنة‪ ،‬لكن عددهم قليل! لقد كمنا عندما‬
‫التحقنا بالمعُهد قريب اا من مائتين‪ ،‬فلما دخلنا امتحان الثانوية العُامة كنا‬
‫نحو السبعُين طالبا‪ ...‬توزعتنا الكليات الزهرية الثلث‪ :‬اللغة العُربية‪،‬‬
‫والشريعُة السلمية‪ ،‬وأصول الدين‪ ،‬والتحق آخرون بدار العُلوم‪.‬‬
‫وتخلف عدد كبير في قراهم لم يستكملوا دراستهم لسباب كثيرة‪ .‬وجدير‬
‫بالذكر أن هؤلء الذين لم تصل بهم حظوظهم إلى نهاية التعُليم الزهري‬
‫كانوا يحيون في القرى شبه شيوخ‪ ،‬وكانوا يدرسون للناس علوم الفقه‬
‫والحديث والتفسير‪ ،‬ويربطون سواد المة بدينها وتراثها‪!...‬‬
‫ول بد أن الستعُمار العُالمي يدركا خطورة هذا التعُليم الديني الشعُبي‬
‫ودوره الممتد في بقاء الروح السلمية‪ ،‬ومن ثم فهو يكره بقاءه ويبميت‬
‫له أسوأ التدبير!‪...‬‬
‫وبدأنا نحن نواجه هذه المرحلة من حياتنا العُلمية‪ ،‬مع زملئنا القادمين‬
‫من مدائن القطر كله‪.‬‬
‫حادث طريف‬
‫وجمعُنا عميد الكلية في مسجد "الخازندارة" في حفل عام للتعُارف‬
‫واستقبال العُام الجديد‪ ،‬وتوثيق العُرى بين الطلب وهيئة التدريس‪،‬‬
‫وحدث في هذا الحفل أمر ذو بال‪ ،‬فقد كان من بين من تحدثوا الستاذ‬
‫الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة والخلق بالكلية‪ ،‬وجرى‬
‫على لسانه ثناء حار على المجتمع الفرنسي‪ ،‬وتنويه بما يسوده من أمانة‬
‫ونظام‪ ،‬وأهاب بنا أن نتمسكا بهذه الخلل!‪.‬‬
‫وغاظني ما سمعُت‪ ،‬فانتفضت قائما ا أصيح‪ :‬أي خلل يا أستاذ؟ هؤلء‬
‫تقدموا في اللصوصية‪ ،‬اللص عندنا يسرق آنية من بيت‪ ،‬أو حافظة من‬
‫جيب‪ ،‬أو ثمرة من حقل‪ ،‬وهؤلء يسرقون الشعُوب تحت الشمس‪،‬‬
‫ويختلسون العُقائد من القول! أي خلل تعُني يا أستاذ نلتمسها من هؤلء‬
‫المعُتدين عل إخواننا في أقطار المغرب –وكانت كلها محتلة‪-‬؟ ولماذا لم‬
‫تذكرنا بسلفنا العُظيم؟‬
‫وانطلقت بطريقة همجية اضطرب بها نظام الحفل‪ ،‬ثم أمسكا بي بعُض‬
‫المشرفين وقادوني إلى عميد الكلية الشيخ عبد المجيد اللبان فرأى شابا ا‬
‫في العُشرين أفقده الحماس وعيه‪ ،‬فقال لي بصوت وديع‪ :‬أقعُد يا ولد!‬
‫فجلست أمامه‪ ،‬وكلف شيخاا آخر بالتحدث إلى الطلب الذين بدا أنهم‬
‫متعُاطفون معُي‪ ،‬بل بدا أن أكثر المدرسين لم يستريحوا إلى توجيه‬
‫الدكتور محمد يوسف‪ ،‬وأنهم يؤيدون موقفي‪!...‬‬
‫لم يعُاقبني عميد الكلية مكتفياا بإسداء بعُض النصائح‪ ،‬وصرفني بعُد‬
‫انتهاء الحفل‪...‬‬
‫والغريب أن علقتي بالستاذ الدكتور محمد يوسف موسى توطدت‪ ،‬وكنت‬
‫فيما بعُد أثير اا عنده‪ ،‬وطيلة مدة الدراسة بالكلية لم أستغن عن توجيهه‬
‫وإرشاده‪ ،‬وبعُد التخرج نمت بيننا صداقة عميقة وتعُاون في خدمة‬
‫الدعوة السلمية‪...‬‬
‫دراسة السلم في أوربا‬
‫والواقع أن هناكا شيوخاا أخذوا الدكتوراه من جامعُات أوربة بجدارة‪،‬‬
‫وعادوا إلى بلدهم يخدمون دينهم بقوة‪ ،‬ويسعُينون بالمزيد الذي نالوه‬
‫على تحسين مواقف الزهريين في مجال الكفاح العُلمي‪.‬‬
‫وهناكا شيوخ ذهبوا إلى أوربا ل يرمدون يد لمس! أخذوا شهادات مزتورة‬
‫في النحو واللغة والفقه والتاريخ! وعادوا بعُدما فقدوا حصيلتهم الولى‪.‬‬
‫ويخ ميل إلي أن رسائل كتبت لهم ل يدرون هم خباياها! وقد ناقشت بعُضهم‬
‫في شيء مما كتب ‪-‬لنه ضد السلم‪ -‬فاستغربه‪ ،‬وفوجئ به‪ ،‬فأدركت أنه‬
‫حمل الدكتوراه سفاحا‪ !...‬ومن المحزن أن نفراا من هؤلء قاد الزهر في‬
‫تاريخه الخير‪...‬‬
‫الدراسة الزهرية القديمة‬
‫لنعُد إلى كليتنا التي التحقنا بها‪ .‬إن المناهج الموضوعة تكفي وتشفي‪،‬‬
‫ولو وجدت الستاذ الكفء لخترجت دعاة ومدرسين من طراز رفيع‪ ...‬إن‬
‫الطريقة التي تعُلمنا بها تفتق الذهان‪ ،‬وتحمرر المراد‪ ،‬وتضبط المفاهيم‪...‬‬
‫ومع أن المذاهب الفقهية الثلثة كانت منتشرة بين الطلب والمدرسين‬
‫بنسب متقاربة‪ ،‬إل أن ذلكا لم يكن له أي أثر في تحدزب أو انقسام‪ ،‬بل‬
‫كانت الددعابة أحيانا ا تصبغ البحوث العُلمية‪.‬‬
‫ض تفكير السلف والخلف في السماء والصفات! كان يتم بحياد‬ ‫كذلكا عر ي‬
‫ورحابة صدر! وتضمنت مناهج الكلية إلى جانب العُلوم التقليدية دراسة‬
‫موسعُة للفلسفة في شتى العُصور‪ ،‬وتوسعُا ا آخر في علم النفس‬
‫والخلق‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫وأرى أن علماء المسلمين يجب أن يتبحروا في هذه المعُارف كلها‪ ،‬وأن‬
‫تكون لديهم قدرة نفسية على فهم المتناقضات‪ ،‬والحاطة بأبعُادها‪ ،‬فيفهم‬
‫أحدهم الشيوعية بنفس القدرة الذهنية التي يفهم بها الصوفية‪ ،‬بنفس‬
‫القدرة التي يفهم بها حقائق الدين‪...‬‬
‫ومع رحابة الفكر تكون رحابة الصدر‪ ،‬وإدراكا وجهات النظر الخرى‪،‬‬
‫بغير تضخيم ول تهوين‪ ،‬وينتهي المر عندئذ بأل يثور المرء إل لشؤون‬
‫ذات بال من المهات والصول‪.‬‬
‫إن نسيان هذه الحقيقة أحدث فتوقا ا جساما ا في تاريخنا العُلمي‪!...‬‬
‫لقد رأيت المراسيم السلطانية التي صدرت ضد ابن تيمية‪ ،‬فوجدتها تأمر‬
‫بحبسه مرتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬لفتواه بأن الطلق الثلث بلفظ واحد‪ ،‬يقع واحداا‪.‬‬
‫والخرى‪ :‬لنه كره زيارة قبر النبي ‪ ،‬للتبركا‪ ،‬ولما يذكر العُامة أحيانا ا من‬
‫طلب استشفاع وتضدرع إلى ا‪.‬‬
‫وما كان المر ليتطلب الحبس في الولى ول في الخرة‪ ،‬إذ الخطأ‬
‫والصواب هنا في أمور فرعية‪ ،‬ليس السجن هو الذي يبمت فيها‪...‬‬
‫والتهويل في هذه القضايا صرف للجماهير عن الفساد السياسي‪ ،‬وشغلهم‬
‫بما يربح الحاكمين!‬
‫ول زلت أرى أن فقه الفروع ل ينبغي أن يقسم المة شيعُاا‪ ،‬ول أن‬
‫يصرفها عن أركان السلم الجتماعية والقتصادية‪ ،‬بله الركان‬
‫الخرى‪...‬‬
‫ومن ثم فقد أعجبتني الدراسة في الزهر ‪-‬قبل أن يطيح‪ ،-‬وقلت‪ :‬لو‬
‫مضى هذا التيار إلى مداه فسيكسب المسلمون الكثير‪...‬‬
‫صلتنا بالمدرسين‬
‫وكان يدرس في الكلية عدد من الرجال الراسخين أمثال الشيخ محمد أبي‬
‫زهرة‪ ،‬والدكتور محمد أحمد الغمراوي‪ ،‬والشيخ أمين الخولي‪ ،‬والدكتور‬
‫عبد الوهاب عتزام‪ ،‬والستاذ عبد الوهاب خلف‪ ،‬والشيخ محمد الخضر‬
‫حسني‪ ،‬الدكتور محمد البهي‪ ،‬والدكتور محمد عبد ا ماضي‪ ،‬والعُلمة‬
‫الدكتور محمد عبد ا دراز‪ ،‬والدكتور محمد يوسف موسى‪ ،‬والشيخ‬
‫المجاهد الغيور محمد الودن‪ ...‬وآخرون‪.‬‬
‫إل أننا لحظنا آسفين أن مستقبلنا في مهامب الرياح‪ ،‬وأن الخمريجين‬
‫يلقون مصيرهم في الشوارع‪ ،‬وأن الذين يدرسون لنا ل يكترثون‬
‫لمصيرنا‪ ،‬وأن الزهر كله يواجه أياما ا عصيبة‪...‬‬
‫لمعُة يختفي‪ ،‬وعكف الباقون من‬ ‫وأخذ عدد من أصحاب السماء ال م‬
‫الشيوخ ‪-‬وهم عشرات‪ -‬يؤدون المحاصرات التي يكملفوا به وينصرفون‬
‫إلى بيوتهم على عجل‪...‬‬
‫وأحسسنا أنه ليس لنا آباء يحنون علينا أو يهتمون بقضايانا‪ ،‬وأن علينا‬
‫أن نمهد لمستقبلنا بأنفسنا وإل ضعُنا‪.‬‬
‫والحق أننا كرهنا شيوخنا على اختلف مناصبهم الدارية‪ .‬كان الدكتور‬
‫طه حسن في كلية الداب يدعو طلبته إلى حفل شاي ويسمر معُهم‪ ،‬ويظل‬
‫مع الخريج حتى يعُرف أين استقر به المقام‪ ،‬أما نحن فالعُلقة بيننا وبين‬
‫شيوخنا رسمية‪.‬‬
‫ولهذه الجفوة يجذوقر قديمة‪ ،‬فهل تعُجب إذا علمت أن الطلب ذهبوا‬
‫يمح منقين إلى مكتب الشيخ الحمدي الظواهري شيخ الجامع الزهر‪،‬‬
‫فح مطموه بالعُصي وأحسبهم لو وجدوا الشيخ لتركوه كومة عظام‪...‬‬
‫ثم جاء الشيخ المراغي وارتبطت بعُودته آمال عراض سرعان ما‬
‫تبخرت! ولم يكن خيراا من سابقه!‬
‫إن علماء الدين الذين يحصرون واجبهم في كلمات تؤدي بقصور أو‬
‫وفاء‪ ،‬ثم يقبعُون في بيوتهم بعُد ذلكا‪ ،‬ل ينصرون حقا ا ول ينشئون‬
‫جي ا‬
‫ل‪...‬‬
‫وقد رأيت شيوخ طرق يغرسون الخرافة ويحرسونها حتى تنمو‪ ،‬ويعتدتهم‬
‫في ذلكا قدر من اللبشلر والحفاوة والكرم‪ ،‬أمما من لديهم فقه صحيح فقد‬
‫أضاعوه بالجلفة والكزازة والجبن عن لقاء الناس‪.‬‬
‫وعلى أية حال فقد مضينا في تلقي الدروس واجتياز المتحانات‪ ،‬غير أن‬
‫الحوال السياسية في مصر يومئذ كانت تموج موجاا‪ ،‬فالصراع شديد بين‬
‫القصر الملكي والحزاب التي تؤيده من جهة والوفد المصري الذي يمثل‬
‫الكثرة الكاثرة من الجماهير‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬
‫وظهر تيار آخر لم يكترث به المسؤولون أول المر هو تيار الخوان‬
‫المسلمين‪ .‬لقد بدأ هين الشأن‪ ،‬ل يثير قلقا‪ ،‬ول يخيف أحدا‪ ،‬ثم تضاعف‬
‫مائة مرة خلل بضع سنين لسببين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬الطبيعُة الدينية للشعُب المصري وحنينه المثالي للسلم‪ ،‬وإلقاؤه‬
‫مقاليده كلها لمن يثق في صلحه وتقواه‪...‬‬
‫الثاني‪ :‬عبقرية حسن البنا الذي أوتي موهبة في البيان والشرح والتجميع‬
‫والتنسيق جعُلته ينفذ إلى غرضه من خلل أصعُب العُوائق‪...‬‬
‫وأعانه على ذلكا أن الغزو الثقافي كان قد كشف عن مقاصده ‪ ،‬فأدركت‬
‫الجماهير أنه ستخسر دينها ودنياها إذا بقيت مستكينة له‪ ،‬وماذا بعُد أن‬
‫يينمق مذ القرآن الكرم في كلية الداب بالقاهرة‪ ،‬ويهان الرسول الكريم في‬
‫تمثيلية تعُرض بدار الوبرا؟‪...‬‬
‫ل أن تبقى كليتنا بعُيدة عن هذه الحوال‪...‬‬‫كان مستحي ا‬
‫ل إنشاء شعُبة لجماعة الخوان المسلمين بكليتنا‪ ،‬وقد انتظمت‬ ‫كان سه ا‬
‫من عناصر قوية اليقين‪ ،‬زاكية الخلق‪ ،‬راغبة في نصرة السلم وإعلء‬
‫رايته‪ ،‬وكنت الرجل الثالث تقريباا في هذا التشكيل‪ ،‬غير أني كنت أتردد‬
‫على المركز العُام يوميا ا تقريباا‪ ،‬لما كان في "العُتبة الخضراء"‪ ،‬ثم لما‬
‫انتقل إلى "الحلمية الجديدة"‪.‬‬
‫ولم يخف على فضيلة المرشد العُام هذا الدأب الذي ييممده روح ناشط؛‬
‫والحق أن عددا من الزملء في كلية أصول الدين برزوا في ميدان‬
‫الدعوة‪ ،‬وكانوا أنجح مني في ميدان الخطابة والتأثير العُام‪...‬‬
‫وقد أحسن المركز العُام استغلل هذه الطاقات الشابة النقية‪ ،‬فنظم لها‬
‫شعُب‬‫رحلت في القاليم‪ ،‬وهيأ لها ميادين العُمل في مختلف ال د‬
‫والمساجد‪...‬‬
‫رسالة من المرشد‬
‫المام حسن البنا‬
‫وبدأ العُمل المستمر ينممي ملكانا‪ ،‬وميصيقل معُادننا‪ ،‬وفي أثناء الدراسة‬
‫وقع لي مع الستاذ المرشد شيء ساار‪ ،‬كان له وقع عظيم في حياتي‪...‬‬
‫كتبت يوما ا مقا ال‪ ،‬وأرسلته إلى مجلة الخوان‪ ،‬وارتقبت نشره‪ ،‬فلم ينشر‪،‬‬
‫وساء ظني بنفسي فتركت الكتابة‪...‬‬
‫وبغتة تلقيت بالبريد رسالة من المرشد العُام‪ ،‬عرفت فيما بعُد نبأها‪ ...‬لقد‬
‫دخل إدارة المجلة وساءل الستاذ صالح عشماوي رئيس التحرير‪ :‬لماذا‬
‫ل أقرأ للخوان مقالت جيدة؟ وما السبب في ضعُف المجلة؟ وممد يده‬
‫‪-‬غير متعُمد‪ -‬إلى ملف المحفوظات المنتفخ بالمقالت التي يرئي عدم‬
‫نشرها‪ ،‬ووقع بصره على مقالي! وغضب غضبا ا شديداا لهماله‪ ،‬وأمر‬
‫بجعُله "افتتاحية" العُدد المقبل‪.‬‬
‫وبعُث إلى برسالة شخصية هذا نصها‪" :‬أخي العُزيز الشيخ محمد‬
‫الغزالي‪ ،‬السلم عليكم ورحمة ا وبركاته –قرأت مقالكا "الخوان‬
‫المسلمون والحزاب" فطربت لعُبارته الجزلة‪ ،‬ومعُانيه الدقيقة‪ ،‬وأدبه‬
‫ف الرصين‪ ،‬هكذا يجب أن تكتبوا أيها الخوان المسلمون‪ .‬اكتب دائما ا‬ ‫العُ ن‬
‫وروح القدس يؤيدكا وا معُكا‪ .‬أخوكا حسن البنا‪ ،‬المرشد العُام للخوان‬
‫المسلمين"‪.‬‬
‫وأصبحت بعُد هذه الرسالة من كتاب الجماعة الوائل‪ ،‬واستبشرت بأن ا‬
‫سيلهمني الرشد فيما أكتب!‬
‫طبائع بيئات‬
‫كنت أتحدث مع شيخي الجليل محمد عرفة –رحمه ا‪ -‬وكان عضواا في‬
‫جماعة كبار العُلماء‪ ،‬فقال لي‪ :‬هناكا بيئات خاذلة مثبطة‪ ،‬وهناكا بيئات‬
‫دافعُة منشطة! تأمل في قول الشافعُي‪ :‬الليث أفقه من مالكا‪ ،‬ولكن قومه‬
‫لم ينهضوا به!‬
‫إن أهل المدينة عظموا مالكام ودفعُوه إلى الصدارة‪ ،‬أما المصريون‬
‫فأهملوا الليث حتى ينسي‪...‬‬
‫قال‪ :‬والبيئة الزهرية من النوع الخير! ما تنهض لواحد من بينها‪ ،‬إل‬
‫إذا فرضته عليهم قوى من الخارج‪.‬‬
‫ت بأن الشيخ محمد عرفة كان‬ ‫ومع سير الحداث واختلف اليام شعُر ي‬
‫على حق في الحكم الذي أصدره‪ ،‬وهو حكم على العم الغلب‪.‬‬
‫ويوجد في كل أوان من يلتزم بالنصاف ويكره الحيف‪﴿ :‬مولمفن مقفولم يمو م‬
‫سى‬
‫أ يتمقة ميفهيدومن لبافلمحنق مولبله ميفعُلديلومن﴾َ )العراف‪.(159:‬‬
‫طلب مرفوض‬

‫الستاذ عباس العُقاد‬


‫ل قصة وقعُت لي بعُد التخرج بسنين‪ ،‬أسوقها الن‬ ‫أقول ذلكا متعُج ا‬
‫للموازنة بين مسلكا ومسلكا‪ ،‬أو بين إنصاف وإجحاف! في الخمسينيات‬
‫كان في مصر ما يسمى بالمؤتمر السلمي‪ ،‬يتولى أمانته العُامة القائمقام‬
‫أنور السادات‪ .‬وحدث أن وجه المؤتمر دعوة إلى الكتاب والمفكرين‬
‫المسلمين ليقوموا بعُمل ما في خدمة الرسالة السلمية‪ ،‬وضم المدعنوين‬
‫اجتماع تمهيداي كان من بين رجاله لستاذ الدكتور محمد يوسف موسى‪،‬‬
‫الذي نظر فيمن حوله فلم يرني! وكان لي يومئذ بضعُة عشر مؤلفا ا في‬
‫خدمة الدعوة والدفاع عنها‪...‬‬
‫وكان الجمع يضم عدداا من علماء الزهر‪ ،‬وكبار الدباء‪ ...‬وما كان‬
‫الشمل يلتئم والعُمل يبدأ حتى قال الدكتور محمد يوسف موسى للسادات‬
‫–أمين المؤتمر‪ -‬بصوت مسموع‪" :‬أرى أن يكون معُنا في تحقيق أهدافنا‬
‫رجل ليس بيننا الن‪ ،‬الشيخ محمد الغزالي!"‬
‫قال الدكتور الفاضل‪" :‬وما كدت أنتهي من قولي حتى ختيم على المجلس‬
‫صمت شامل‪ ،‬طال فترة حتى أحسست بالحرج‪ ،‬وما أغراني بالكلم إل أن‬
‫ت أنهم سوف يؤيدونني! لقد لذوا بالسكوت‬ ‫هناكا أزهريين كثيرين‪ ،‬اعتقد ي‬
‫جميعُا!‬
‫وما أنقذني من الخجل إل صوت الستاذ عباس محمود العُقاد‪ ،‬وهو‬
‫ش على عادته‪ :‬نعُم أنا قرأت لهذا الشاب‪ ،‬وينبغي أن يكون‬ ‫ينطلق أج م‬
‫معُنا!"‬
‫وعندئذ تحركا جمهور المشايخ يثني علي ويؤيد وجودي‪!...‬‬
‫ولم توتجه إل مى دعوة‪ ،‬ولم أعرف ما تم بعُد ذلكا‪ ،‬وأظن الستاذ العُقاد ألف‬
‫كتابه حقائق السلم وأباطيل خصومه إجابة لرغبة المؤتمر‪...‬‬
‫ومن المفيد أن أذكر أنه ل علقة بيني وبين العُقاد ولم أحضر للكاتب‬
‫العُملق ندوة أو تربطني به صحبة‪ ،‬وإن كنت من أشد الناس إعظاما ا‬
‫لدبه وعلمه‪.‬‬
‫إن تشجيع حسن البنا لي‪ ،‬وإقبال الخوان علمي كانا من أقوى السباب في‬
‫عكوفي على التأليف؛ مع تجدهم الحكام لي وضيقهم بي‪ ...‬واستطعُت –‬
‫وأنا طالب‪ -‬أن أجمع بين مواصلة التعُليم ونشر الدعوة في العُاصمة‬
‫والقاليم‪...‬‬
‫ول ريب أن الخطابة الدينية ارتقت في مصر‪ ،‬وفي أقطار أخرى مع نماء‬
‫جماعة الخوان‪ ،‬وتحولت الكلمات الميتة التي كانت يتسع من المنابر إلى‬
‫كلمات تهتز بالحياة والحماس‪ ،‬ويدرس فيها التاريخ السلمي والسيرة‬
‫النبوية‪ ،‬وتتأكد فيها رغبة السلم في استعُادة أمجاده واستئناف سيره‪...‬‬
‫سمع الطعُن صريحاا في القوانين الوضعُية والتقاليد الجنبية‪ ،‬كما يطلبت‬‫و ي‬
‫العُودة صريحة إلى تعُاليم السلم في كل شيء‪.‬‬
‫وفي هذه الونة أنشئت فلمرق العُمل‪ ،‬أو ما سنمي بعُد ذلكا بالنظام الخاص‪،‬‬
‫وأساس تكوينه مواجهة الوضع في فلسطين‪ ،‬بعُد عربدة العُصابات‬
‫اليهودية فيها‪ ،‬وإتمام تحرير مصر بالسلح إذا لم يخرج النجليز‬
‫طوعا‪...‬‬

‫بعُض صفاتي‬
‫وكتب اسمي بين عدد كبير من المرشحين للتدريب‪ ...‬ويعرضت قوائم‬
‫السماء على الستاذ المرشد‪ ،‬فلم يوافق على تجنيدي! وقال له المسؤول‬
‫عني‪ ،‬هذا رجل مخلص! فقال له‪ :‬أعرف ذلكا من قبلكا‪ ،‬لكن هذا نظام‬
‫عسكري يتطلب طاعة مطلقة‪...‬‬
‫والشيخ الغزلي يعُترض على ما ل يروقه من أوامر‪ ،‬ويقول لكا‪ :‬ما‬
‫السبب؟ وأين الدليل؟ ثم هو ل يحسن الكتمان‪ ،‬إذا سخط بدا سخطه على‬
‫وجهه‪ ،‬والسرية المطلقة أساس هذا النظام‪!...‬‬
‫دعوه يكتب ويخطب وينشر الدعوة السلمية في الميدان الذي يصلح له‬
‫ول يصلح لغيره‪...‬‬
‫وغضبت عندما بلغني هذا الحوار‪ ،‬وبقيت كسير الخاطر أمداا‪ ،‬وإن كنت‬
‫أؤدي عملي برتابة ووفاء‪...‬‬
‫وجاءني يوماا الستاذ محمد فريد عبد الخالق‪ ،‬وهو من أنضج رجال‬
‫المركز العُام‪ ،‬جاءني يزورني في البيت‪ ،‬ورأى على الجدار شيئا ا أثار‬
‫انتباهه‪ ،‬قال‪ :‬ما هذا؟ وأمسكا بإطار ساذج‪ ،‬فيه صورتي بملبس التدريب‬
‫العُسكرية مثبتة في فراغ كتاب موجه لي من الستاذ المرشد العُام‪،‬‬
‫الكتاب الذي أثنى علمي فيه ودعا لي بخير!‬
‫قلت‪ :‬هذا أثر أعتز به! قال‪ :‬أتحب المرشد إلى هذا الحمد؟ وأجبت ببراءة‪:‬‬
‫نعُم!‪...‬‬
‫وعرفت فيما بعُد أن ناساا كانت تشككا في ولئي للدعوة وقائدها‪ ،‬لني‬
‫كنت في مناسبات وجلسات مختلفة أعترض أو أرفض ما ل أسيغ‪...‬‬
‫على أن حسن البنا كان أذكى وأكبر من أن تغنيره تعُليقات المبغضين‪ ،‬بيد‬
‫أن ذلكا جعُلني أحاسب نفسي فيما أقول وأنقد‪ ،‬وجعُلني أحذر مغمدرات‬
‫الناس ومفترياتهم‪...‬‬
‫ترى هل نجحت في تغيير طبعُي؟ ليس كثيراا على أية حال‪!...‬‬
‫لقد مشيت وراء الرجل الذي عرفته في طريق الحق وعبادة ا‪ ،‬لم يكن‬
‫حسن البنا محترف سياسة‪ ،‬ول صاحب دهاء وحيل‪ ،‬وإنما كان ربانيا ا‬
‫عامر القلب بذكر ا‪ ،‬وبجمع الشباب والشيب في الصلوات الخاشعُة‬
‫والتلوة الباكية‪ ،‬والخطابة التي ترفع مستمعُيها إلى مستوى رفيع من‬
‫الروحانية والتجرد وحب العُلم ل والذود عن دينه‪...‬‬
‫وكانت هذه المشاعر الجياشة تنقص أساتذتنا في كلية أصول الدين‪ ،‬إذا‬
‫كانت الدراسة نظرية شاحبة‪ ،‬تجري على اللسنة ول تتحركا بها القلوب!‬
‫بل أرى أنه من الناحية العُلمية بحاجة إلى إضافات مفيدة‪ ،‬وإلى بتر أو‬
‫إيجاز موضوعات أثرية ل قيمة لها‪ ،‬وربما احتاج المر إلى إعادة‬
‫تشكيلها في نظام داخلي يمتمد إشراقه على اليقظة والمنام والعُمل‬
‫والستجمام‪.‬‬
‫ل أدري كيف حصلت على شهادتي العُالية ‪1941‬؟ إنه لول عون ا ما‬
‫تم ذلكا!‬
‫ولم أكن متقدم اا في ترتيب الناجحين‪ ،‬فهل أحزنني أني لم اكن من العُشرة‬
‫الوائل؟ كل! إنني ما تأخرت عن بلدة أو تقصير‪ ،‬كانت الحوال التي‬
‫تكتنفني رديئة‪ ،‬ل أذكر أنني ملكت كتابا ا طول السنوات الربع‪ ،‬وأمنى لي‬
‫ذلكا؟‬
‫وعندما عرض علينا شرح النووي لصحيح مسلم بنصف جنيه مقسطا ا‬
‫على عشرة شهور؛ هززت رأسي بأساا‪ ،‬وقلت‪ :‬ما معُي يكفي للطعُمة‬
‫والملبس‪ !...‬واختفيت دون أي يشعُر بي أحد!‬
‫عذر مقبول‬
‫واضطرني هذا للنصات بعُمق إلى شروح الساتذة‪ ،‬وكنت استحضرت‬
‫من دكان أبي بعُض الوراق التي يتلف بها السلع‪ ،‬لدنون فيها ما أرى‬
‫ضرورة تدوينه‪.‬‬
‫وربما جالست بعُض الزملء الذين يملكون كتبا ا لتثتبت من حكم أو‬
‫أستذكر ما نسيت! وكم نسيت من قضايا وحقائق!‬
‫وأورثني هذا خللا أصبحت طبعُاا ثانيا؛ صرت كالمكفوفين الذين يعُتمدون‬
‫كثير اا على ذاكرتهم‪ !.‬وتعُلمت القتصاد في الوراق‪ ،‬فليس هناكا مبيضة‬
‫ومسودة‪ ،‬هي ورقة واحدة تلكا التي تكتب‪ ،‬والتي ستقدم للمطبعُة فيما بعُد‬
‫وهذه الورقة ل يتركا فيها فراغ‪ ،‬ينبغي أن يتستغل من أولها إلى‬
‫آخرها‪!...‬‬
‫حتى بعُد أن أفاء ا وباركا‪ ،‬بقيت هذه الخلل تغلبني‪!...‬‬
‫ووقعُت حادثة أريد إثباتها لما فيها من عبرة! جائتني "برقية" من البلد‬
‫تطلب حضوري فوراا‪ ،‬فأدركت أن خطراا داهم السرة‪ ،‬وسافرت وأنا‬
‫مشتت الذهن‪ ،‬واسومدت أفكاري عندما رأيت دكان أبي –عن بعُد‪ -‬وهو‬
‫مغلق‪.‬‬
‫دعوة مستجابة‬
‫تح مركت قدماي بل وعي إلى البيت‪ ،‬ورأيت أبي يصرخ من "مغص‬
‫كلوي" أصيب به‪ ،‬والولد من حوله حيارى‪ ،‬وقد أعطاه الطبيب بعُض‬
‫القراص المخ مدرة‪ ،‬ولكن اللم كانت أربى وأقسى‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل بد من‬
‫جراحة تستخرج ما في الكلى من حصتيات‪...‬‬
‫وفتحت الدكان ووقفت مكان أبي أعمل‪ ،‬وأنا خبير بذلكا لني في أثناء‬
‫الجازة الصيفية أساعده‪ ،‬ومضت عدة أيام ونحن نترموى ونتدارس ما‬
‫نصنع‪ ...‬أجور الطباء فوق الطاقة‪ ،‬ولو أمكن إعدادها فإن الجراحة‬
‫يومئذ غير مأمونة العُقبى‪ ،‬وقد مات عام لي في جراحة مشابهة‪ ...‬ماذا‬
‫نصنع؟‬
‫وحاصرني غم ثقيل‪ ،‬وأخذت شخوص الشياء تتقلص أمام عيني‪ ،‬وثبتت‬
‫بصيرتي على شيء واحد‪ ،‬ا وحسب! وكأنما كنت أكلم الناس وأنا‬
‫حالم‪...‬‬
‫وجاء رجل يشتري بعُض الغذية‪ ،‬ولما قدمتها له قال لي بصوت ضارع‪:‬‬
‫ليس معُي ثمن الن‪ ،‬وأقسم بال أنه صادق‪ ،‬وأنه غدا يجيء بالثمن!‬
‫ووقر في نفسي أن الرجل محرج فقلت له‪ :‬خذ البضاعة وهي مني‬
‫إليكا‪ ...‬وانصرف الرجل غير مصمدق ما سمع‪!...‬‬
‫ب‪ ،‬نبميكا قال لنا داووا‬‫أما أنا فذهبت إلى ركن في الدكان‪ ،‬وقلت‪ :‬يا ر م‬
‫مرضاكم بالصدقة! فأسألكا أن تشفي أبي بهذه الصدقة‪!...‬‬
‫وجلست على الرض أبكي‪ ،‬وبعُد ساعة سمعُت من يناديني من البيت –‬
‫وكان قريباا‪ -‬فذهبت على عجل وقد طاش صوابي‪...‬‬
‫وفوجئت بأبي يلقاني وراء الباب يقول‪ :‬نزلت هذه الحصاة مني –وكانت‬
‫ل من حبة الفول‪ -‬ل أدري ما حدث‪ ،‬لقد شفيت‪!...‬‬ ‫حصاة أكبر قلي ا‬
‫وفي صباح اليوم التالي كنت في الكلية أحضر الدروس مع الزملء‪!...‬‬
‫إن الذي يجيب المضطر إذا دعاه رحمني ورحم السرة كلها‪ ،‬فله الحمد‪...‬‬
‫حول منهج الدراسة‬
‫إن المناهج العُلمية التي يقدمت لنا في كلية أصول الدين تكفي –مع‬
‫إضافات قليلة‪ -‬لتكوين مدرس ناجح وداعية موفق‪ ،‬غير أني أقول‬
‫بتواضع إن عرض السلم وعلومه اليوم بالسلوب نفسه الذي كان‬
‫ييعُرض به في القرن السادس أو السابع غير مفهوم‪ ،‬ول دللة له على‬
‫أزمة حامدة في المواهب والعُزائم‪...‬‬
‫ول أدري ما يحدث الن في الزهر‪ ،‬وإنما أشكو أن علم أصول الفقه –‬
‫وهو علم ثانوي في كليتنا‪ -‬يدنرس لنا بطريقة يمخملة‪ ،‬والقدر الذي قمدم لنا‬
‫من حقائقه غير كاف‪ ،‬ومنهج هذا العُلم من ينابيعُه الولى متفاوت‪ ،‬وما‬
‫سلكه الغزالي والمدي غير ما سلكه الشاطبي في الموافقات‪ ،‬وهؤلء‬
‫لهم مسلكا يخالف من وجه مسلكا فقهاء الحناف‪...‬‬
‫وهناكا مع الصول العُامة قواعد فقهية نشأ عنها تباين وجهات النظر بين‬
‫الشافعُية والحناف‪ ،‬كما أشار إلى ذلكا الزنجاني‪.‬‬
‫وبديهي أن الستبحار في هذا العُلم من اختصاص كلية الشريعُة‪ ،‬ولما‬
‫كان الدعاة المسلمون يواجهون مشكلت مذهبية وفقهية فيجب أن تقدم‬
‫لهم خلصات معُقولة‪ ،‬يتوسع بعُدها الدارس كيف يشاء‪.‬‬
‫والمؤسف أنه ل الكلية الصلية‪ ،‬ول الكلية التابعُة يتحقق فيها ما ينبغي‪،‬‬
‫ويوشكا أن يوضع هذا العُلم في المتاحف!‬
‫وما يقال في علم أصول الفقه‪ ،‬يقال في علوم السنة‪ ،‬وعلم مصطلح‬
‫الحديث الذي يدرس قواعد وتعُاريف تحتاج إلى التطبيق الواسع‪ ،‬ول‬
‫تساق على هذا النحو الجاف العُقيم! سمعُت أستاذ المنطق يعُنرف علم‬
‫المنطق بأنه آلة قانونية تعُصم الذهن عن الخطأ في الفكر! ورآني بعُض‬
‫الزملء مشمئزاا‪ ،‬قال‪ :‬ما خطبكا؟ قلت‪ :‬تعُريف سخيف!‬
‫قال‪ :‬وما التعُريف الصحيح عندكا؟ قلت‪ :‬ماذا لو قيل‪ :‬قواعد تصون العُقل‬
‫عن الخطأ في التفكير؟ بدل عبارة "آلة قانونية"؟‬
‫قال‪ :‬إن الكتاب المقرر وهو "القطب على الشمسية" عليه شروح‬
‫وحواش وتقارير كثيرة‪ ،‬تريد أن ندعها لقتراحكا هذا؟ دعنا من فلسفتكا!‬
‫وقال‪ :‬آخر ‪-‬يمزح وهو في الواقع جامد‪ -‬هل هذا أيضا ا من الدعوة‬
‫السلمية؟‬
‫قلت‪ :‬المعُروف عن الداعي أن يكون لديه من كل روض زهرة! وأرى أن‬
‫الدعاة الكبار قد يكونون أقدر منا لخصائيين في فنونهم الصلية‪ ،‬أل ترى‬
‫أبا حامد الغزالي كتب تهافت الفلسفة فكان ييطمر من عقله الكبير على‬
‫أرسطو وجماعته‪ ،‬فيكتشف مواقع القصور في نظرهم والخلل في قولهم؟‬
‫إن الدعوة السلمية ليست ثرثرة واعظ منكم؛ يزنهد في الدنيا‪ ،‬إنها فكر‬
‫شاف يعُمل قبل كل شيء على ميز الخبيث من الطيب والخطأ من‬ ‫ك م‬
‫الصواب‪...‬‬
‫وقلت ‪-‬مؤثراا عدم الشتباكا‪ -‬النسان هو العُنصر الول في كل معُركة‪،‬‬
‫إنه قبل أي سلح مهما بلغ مففتكه ومبيعُد مداه‪...‬‬
‫الحق أن الزهر يحتاج إلى تجديد ثقافي وروحاني يقوم به رجال أولو‬
‫عزم‪...‬‬
‫وقد كان ذلكا مطلوباا قبل ما عراه على يد الناصريين‪ ،‬فكيف بعُد ما غاض‬
‫رونقه وقاده المهازيل؟‬
‫قلت‪ :‬إنني تخرجت من الكلية السنة ‪ ،1941‬وصحيح أن أمامي تخصصا ا‬
‫في الدعوة والرشاد‪ ،‬أقضي فيه عامين حتى أنال "العُالمية مع إجازة‬
‫الدعوة والرشاد"‪ !...‬بيد أن شهادتي العُالية تتيح لي أن أجد عملا‬
‫أرتزق منه‪ ،‬وكنت ‪-‬على فقري‪ -‬جامح الرغبة في الزواج!‬
‫البحث عن وظيفة‪...‬؟‬
‫وحصول الزهري على عمل كان على عهدنا شيئا ا بعُيد المنال‪ ،‬وهذا‬
‫جزء من خطة محكمة لتخريب الزهر‪ ،‬وصرف الناس عن التعُليم الديني‬
‫كله‪...‬‬
‫ولح المل عندما أعلنت وزارة الوقاف عن مسابقة بين خريجي الزهر‬
‫لشغل وظائف "المامة والخطابة والتدريس" الخالية بمساجدها‪...‬‬
‫وتقدمت للمسابقة مع مئات كثيرة من "العُلماء العُاطلين"‪ ،‬وكانت‬
‫تحريرية وشفوية‪...‬‬
‫وفي المتحان الشفوي وقعُت بيني وبين أعضاء اللجنة مجادلة حامدة؛‬
‫بدأت بعُمل مني كان طائشاا‪ ...‬كان أحد العضاء يسألني في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وكنت أحفظه جيداا‪ ،‬وأجبت عن كل ما سئلت عنه‪ ،‬والرجل‬
‫يتابعُني في مصحف كبير أمامه‪ ،‬وينتقل بي من صفحة إلى صفحة وأنا‬
‫ماض في التلوة‪...‬‬
‫ور تدني في كلمة‪ ،‬فتوقفت ثم مددت بصري إلى المصحف الذي معُه‪ ،‬فقال‬
‫لي بدهشة‪ :‬ماذا تفعُل؟ قلت‪ :‬أريد أن أستوثق هل أخطأت حقا؟ فأنا أحفظ‬
‫جيداا‪!...‬‬
‫وشتمني رئيس اللجنة ‪-‬وكان الستاذ أحمد حسين أخا الدكتور طه‬
‫حسني‪ ،‬وهو يومئذ مفتي الوقاف‪.‬‬
‫وجاء دور الستاذ أمين الخولي الذي طلب مني تفسير آيات قرأتها‪،‬‬
‫وأجبت فخطأني‪ ،‬وذكرت رأياا آخر في التفسير فخطأني‪ ،‬فقلت وأنا أضبط‬
‫ت لو أعرف الحق‪ ،‬فقد ذكرت كل ما أعرف! قال‪ :‬ذاكا في‬ ‫أعصابي‪ :‬ودفد ي‬
‫قاعة الدرس ل في لجنة المتحان‪.‬‬
‫ل للشيخ أمين‪ :‬لقد اعترف‬ ‫وتدخل مدير المساجد الشيخ سيد زهران قائ ا‬
‫الطالب بعُجزه‪ ،‬فيدله على الجواب! فقال مرة أخرى‪ :‬ليس هنا‪...‬‬
‫ت‪ ،‬وأتحتدى إذا كان هناكا جواب آخر!‬ ‫فقلت بنـزق‪ :‬ل جواب إل ما قل ي‬
‫وعاد الشيخ أحمد حسين إلى توبيخي‪ ،‬أما الستاذ أمين الخولي فأدار‬
‫ظهره معُرضا ا عني ومنهيا ا المناقشة‪.‬‬
‫ولكن سؤالا يونجه إلي من مدير المساجد‪ :‬ألق الخطبة التي أعددتها‪ ،‬فقلت‬
‫اقترح أي موضوع أتحدث فيه‪ ،‬وقمت فتحدثت في موضوع اقترحه‬
‫وانصرفت‪...‬‬
‫وظهرت النتيجة بعُد أسبوعين‪ ،‬وكنت الخامس بين الناجحين‪ ،‬وتم ذلكا‬
‫ت إماما ا وخطيبا ا ومدرسا ا بمسجد‬
‫بما يشبه خوارق العُادات! ويعنين ي‬
‫"معمزبان" بالعُتبة الخضراء‪ ،‬ولم يلق هذا الحمظ أحد من زملئي معُي!‬
‫"المامة والخطابة والتدريس" هذه الوظيفة المثلثة هي التي كلفت بها‬
‫ورزقت منها صدر شبابي‪ ،‬لقد كان عملي في مسجد محدود المساحة‪،‬‬
‫لكن موقعُه في قلب القاهرة‪ ،‬وفي سوق تزدحم بالناس سحابة النهار‬
‫وزلفا ا من الليل‪...‬‬
‫س مرهف من الناحية الدينية! عندما يجد واعظا ا‬ ‫والمصريون شعُب له ح ا‬
‫جاداا ييدنرس موضوعه‪ ،‬ويحسن شرحه يلتف حوله ويعُمر مسجده‪ ،‬ومن‬
‫صر‪،‬‬
‫ثم لم يمض شهر حتى كان جزء كبير من ميدان العُتبة يفرش باليح ي‬
‫وتنقل له الخطبة بالمكبرات!‬
‫اكتشاف مهم‬
‫وأدركت بعُد شهر واحد أنني جاهل‪ ،‬وأن حصيلتي العُلمية استنفذت خلل‬
‫أسابيع‪ ،‬وأني إذا لم أجندد نفسي‪ ،‬وأقع على ينابيع ثترة تمدني بالمعُرفة‬
‫افتضحت حتماا‪...‬‬
‫لقد كنت مغرور اا بعُدد من المحاضرات والدروس أجيده‪ ،‬وأتنقل به في‬
‫أنحاء البلد! أما الن فأمامي منبر واحد يثوب الناس إليه من كل فمج‪،‬‬
‫وينبغي أن أقدم كل يوم درساا‪ ،‬وكل أسبوع خطبة!‬
‫ت تلميذاا مرة أخرى‪ ،‬وكان الكتاب الديني وغير‬ ‫إنني في هذا المسجد عد ي‬
‫الديني أستاذي‪ ،‬وكان إذا حضر عميد كلية أصول الدين في طريقه إلى‬
‫مجلس الزهر العلى‪ ،‬أحبسه لستفيد منه حلوال كثيرة لمشكلت علمية‬
‫تعُترضني‪...‬‬
‫فإذا تبرم لطول ما أحبسه أقول له في جدد‪ :‬أنتم أعطيتموني الشهادة على‬
‫جهل‪ ،‬فتداركوا ما فعُلتم‪ ،‬يضحكا ويصبر!‬
‫في هذا المسجد وفيما تله من ميادين عمل كانت لي صفة مزدوجة‪ ،‬فأنا‬
‫من رجال الخوان المسلمين‪ ،‬وأنا من علماء الوزارة‪ ،‬ولم أكترث أو‬
‫أشعُر بحرج ما في المزج بين الصفتين‪ :‬الرسمية والشعُبية‪...‬‬
‫وانضم إلى ذلكا أني أنتسب إلى تخصص الدعوة والرشاد‪ ،‬فضممفمت صفة‬
‫ثالثة‪ ،‬صفة طالب يستطيع القيادة لزملئه‪...‬‬
‫قصة مضحكة‬
‫وأحكي هنا طرفة حدثت لي أول عهدي بالمامة‪ ،‬كان مدير المساجد‬
‫حسن الظن بي منذ أن شاركا في اختباري‪ ،‬فاستدعاني إلى مكتبه وكلفني‬
‫بالستعُداد لصلة الجمعُة بالملكا فاروق‪ ،‬وامرني بإعداد الخطبة‬
‫المناسبة‪ ،‬وأفهمني أن ذلكا في افتتاح مسجد بحمي "المنيل"‪...‬‬
‫وفي يوم الخميس كنت بوزارة الوقاف‪ ،‬وأخذ الرجل الخطبة وراجعُها‪،‬‬
‫وذهب بها إلى قصر عابدين فأقرت‪ ،‬واتصل بي من القصر تلفونيا ا يطلب‬
‫مني الستعُداد للقاء الخطبة غداا! ثم قال‪ :‬وللحيطة تعُال إلمي في البيت‬
‫نذهب إلى المسجد معُاا‪...‬‬
‫وفي الصباح كنت عنده جالساا في حجرة الستقبال أنتظر دخوله بعُد ما‬
‫فتح الخادم لي‪...‬‬
‫ودخل المدير ونظر إلمي فكاد يصعُق‪ ،‬وأخذ ييجمجم بكلمات لم أتبتينها وهو‬
‫يتم تيز من الغيظ! يا أستاذ تجيء للصلة بجللة الملكا في هذه الجبة‬
‫البالية وهذا الجلباب الرخيص؟‬
‫وشعُرت بحرج بالغ‪ ،‬وتملكني الخجل‪ ،‬ثم غلبتني طبيعُتي الضاحكة فقلت‪:‬‬
‫الجبة حسنة‪ ،‬أما الجلباب فأنا ألبس ما ترتديه الشيوخ من نسيج بمراق‬
‫ل مماع‪ ،‬ثم ل تنس أني ألقاكا بهذه الثياب‪ ،‬وأنت والملكا سواء‪!...‬‬
‫فقال‪ :‬الرسميات يا‪!...‬‬
‫وأخذ الرجل يفكر بسرعة ليخرج من هذه الورطة‪ ،‬وأرسل إلى مفتش‬
‫مساجد قريب في مثل جسمي‪ ،‬واستعُار منه ملبس أخرى فاخرة‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فعُلمني كيف أحافظ على‬ ‫وأكرهني على ارتدائها‪ ،‬وكانت أطول مني قلي ا‬
‫سمتي داخلها‪!...‬‬
‫وانتهت الصلة بخير‪ ،‬وكان شديد القلق إلى أن انصرف صاحب الجللة‪،‬‬
‫سمب الظروف التي عرفته بي! ويحمد ا أن تم‬ ‫فاقتادني إلى البيت وهو ي ي‬
‫المر بستر! وأنا أواجه هذا كله بالضحكا‪ ،‬وأقول‪ :‬أما من وسيلة للهرب‬
‫بهذه الملبس؟‬
‫ومع هذه الحادثة الطريفة فإن الصداقة ربطت بيني وبين المدير‪ ،‬وكنت‬
‫أعاونه في بعُض القضايا العُلمية حتى مات رحمه ا‪...‬‬
‫زواج سعُيد‬
‫ومع تسلمي للعُمل الحكومي تم زواجي‪ ،‬وكان الستاذ حسن البنا تدمخل‬
‫في المسألة التي بدأت معُقدة‪ ،‬فإن والد الفتاة التي اخترتها كان يطمع في‬
‫زوج أغنى مني؛ إنه من قريتنا‪ ،‬وإن كان موظفا ا بوزارة العُدل في‬
‫القاهرة‪ ،‬وعلم أن مرتبي ستة جنيهات‪ ،‬أعطي أبي نصفها تقريبا‪!...‬‬
‫لكن الستاذ المرشد أقنع الرجل بأني أفضل من غيري‪ ،‬والمستقبل بيد‬
‫ا‪ ،‬وسيكون خيراا‪...‬‬
‫وتزوجت‪ ،‬وسألني الستاذ المرشد‪ :‬ماذا فعُلت مع فلن –يعُني صهري‪-‬‬
‫فقلت له‪ :‬دخلت بابنته! قال عاتبا‪ :‬لمم لم تدعني وتمثل بقول الشاعر وهو‬
‫يبتسم‪:‬‬
‫وإذا تكون كريهة أ يفدمعى لها وإذا يحاس الحبس يدعى جندب!‬
‫فقلت‪ :‬لم تكن هناكا وليمة! اكتفينا بأشربة حلوة‪ ،‬تناولها بعُض الزملء‪،‬‬
‫وأوسع لي الرجل غرفة في بيته والحمد ل‪ ...‬فدعا لنا بالبركة‪!...‬‬
‫‪ ...‬ونهاية!‬
‫لقد عشت مع زوجتي ثلثين سنة كأسعُد زوجين في الدنيا‪ ،‬وكافأتها على‬
‫رضاها بفقري‪ ،‬فأسكنتها الغرف‪ ،‬وأذقتها الترف‪ ،‬وجعُلتها تدوس الحرير‬
‫والذهب! وأنجبت منها تسعُاا من الولد‪ ،‬استودعت ربي اثنين‪ ،‬وبقي لي‬
‫سبع من الناث والذكور‪ ،‬ثم فارقفت الدنيا على غير انتظار‪ ،‬فبكيتها من‬
‫أعماقي‪ ،‬وتمثلت بما قيل‪:‬‬
‫أما والذي أبكى وأضحكا والذي أمات وأحيا والذي أمره المر!‬
‫لقد تركتني أحسن الطير أن أرى أليفين منها ل يروعهما الدذعر!‬
‫رحمها ا أوسع رحمة‪ ،‬ورفع درجتها في عليين‪...‬‬
‫فلتركا هذه الزفرة التي غلبتني‪ ،‬ولعدل إلى شرخ الشباب وأيام السير‬
‫الحثيث والكدح الدؤوب‪...‬‬
‫ولكي أشرح عملي يجب أن ألقي الضوء على الحوال الجتماعية‬
‫والسياسية التي تمر بأمتنا يومئذ‪.‬‬
‫كانت الحرب العُالمية الثانية قد انتهت بنصر إنجلترا وفرنسا وأمريكا؛‬
‫ومع أن الحرب دارت رحاها وتمت معُاركها الحاسمة في أرضنا‪ ،‬فقد كان‬
‫العُرب والمسلمون فيها عنصراا تافهاا‪...‬‬
‫حال المسلمين يومئذ‬
‫إن تخلفنا الحضاري والسلمي كان بعُيد المدى‪ ،‬واليفرقة التي ممزقت‬
‫جماعتنا أذهبت ريحنا وأحبطت سعُينا‪ ،‬وبلغ من جنون الحقد على‬
‫المستعُمر المباشر أن بعُض الشباب هتف في السكندرية تقدم يا روميل‬
‫عندما كان القائد اللماني يطارد الفلول النجليزية المبعُثرة في الصحراء!‬
‫وأنا أفهم كره العُرب لمن خلفوا إسرائيل في أرضنا ‪-‬وكانت وقتئذ جنينا ا‬
‫في المخاض‪ -‬لكن ماذا يفيده استبدال مستعُمر بمستعُمر؟‬
‫إن هذا التجاه العمى دليل فراغ رهيب! والذين يريدون النهوض بأمتنا‬
‫على نحو راشد ليس أمامهم إل إزالة هذا الفراغ‪ ،‬وإحلل عقائدنا‬
‫ومناهجنا مكانه‪ ،‬وذلكا ما كنا نصنعُه مع أستاذنا حين البنا‪ ،‬وليتنا توفرنا‬
‫على هذا مكانه‪ ،‬وذلكا ما كنا نصنعُه مع أستاذنا حسن البنا‪ ،‬وليتنا توفرنا‬
‫على هذا وحده‪ ،‬والحديث في هذا ذو شجوني‪ ،‬وليس هنا مكانه!‬
‫ومع النشاط الذكي الذي قام به حسن البنا في إيقاظ القاعدة الشعُبية‪،‬‬
‫كانت في مصر أحساب صورية‪ ،‬ما عدا حزب الوفد الذي كان يمثل تسعُة‬
‫أعشار المصريين في أي انتخاب حر‪ ،‬أما الحزاب الخرى فتدور في فلكا‬
‫القصر الملكي‪ ،‬ترتقب خلص الملكا من ممثلي الشعُب لتتولى هي الحكم‬
‫في ظل انتخابات مفتعُلة‪...‬‬
‫ومن الواجب أن ييعُرف الوضع الديني على صورته الكاملة‪ ،‬إن جمهرة‬
‫المنتمين للحزاب السياسية‪ ،‬الصحيحة والمزمورة‪ ،‬كانوا مسلمين يسود‬
‫بينهم المفهوم الغربي لمعُنى الدين!‬
‫الدين عندهم ليس إل صلة بين المرء وربه تظهر في الصلة والخلق‪،‬‬
‫وبعُض المسالكا الخاصة! أما أنه تشريع شامل يصوغ الروابط بين‬
‫النسان والنسان‪ ،‬وييملي تعُاليمه في شؤون الحكم والقتصاد فذاكا ما ل‬
‫ييدرى!‬
‫وهناكا ناس تمتردوا على الدين كله‪ ،‬عقائده وشرائعُه‪ ،‬وساروا وراء‬
‫ملحدة الغرب والشرق‪ ،‬ل يلوون على أحد‪ ،‬وكل الصنفين يضيق‬
‫بجماعة الخوان ودعوتهم‪ ،‬وقد يرفضها دون مبالة‪ ،‬أو يعُلن الحرب‬
‫عليها بقسوة!‬
‫ولما انتظمت في تخصص الدعوة والرشاد بكلية أصول الدين عتن لي أن‬
‫أؤلف اتحاد اا لعادة التشريع السلمي‪ ،‬يزاحم التحادات الطلبية‬
‫الخرى‪ ،‬ويظهر أن الرض كانت ممهدة‪ ،‬فسرعان ما اكتسحنا الساحات‬
‫الخرى‪ ،‬وأخذنا نوزع ألوف المنشورات لنبلغ غايتنا!‬
‫محاولة فاشلة‬

‫مصطفى النحاس باشا‬


‫طلبنا مقابلة رئيس الوزراء –وكان مصطفى النحاس باشا‪ -‬للتفاهم معُه‪،‬‬
‫فحدد لنا الرجل موعداا ضحى أحد اليام‪ ،‬ودخلت أتقدم زملئي‪ ،‬فرأيت‬
‫الباشا يمتجنهم اا‪ ،‬وبعُد أن نظر إلينا بازدراء قال لنا‪ :‬إنه مؤمن بال‪ ،‬وإنه‬
‫أكثر إيمان اا من شيوخنا‪ ،‬وإنه كان في المعُتقل ل يدع صلة! ثم شرع‬
‫يونجه إلينا نقداا أشبه بالسباب‪!...‬‬
‫ونظرت إلى الرجل فوجدته غير متكلف‪ ،‬وشعُرت أن لشعُبيته أساسا ا من‬
‫بساطة خلقه‪ ،‬ورأيت أن أقاطعُه على عجل قبل أن ينال منا!‬
‫فقلت له‪ :‬إنكا تحكم بلداا ييصدر تراخيص بالزنا‪ ،‬ويفتح حانات الخمور‪،‬‬
‫ويحل ما حمرم ا! فأين ما تحكي عنه من إيمان وصلة؟‬
‫وقدمت له مطالبنا فأخذها ورمى بها في وجهي‪ ،‬وكان معُه الشيخ محمد‬
‫البنا وكيل الوزارة للشؤون الدينية‪ ،‬فقال بأدب جم‪ ،‬مهلا يا رفعُت باشا‬
‫إنهم يطلبون بعُض الصلحات الجتماعية التي تفكر فيها والتي سبق أن‬
‫كلمتني عنها‪ ،‬وأخذ ورقة المطالب وانسحب إلى غرفة أخرى‪.‬‬
‫وبعُد جدال يململ انصرفنا‪ ،‬وعلم الستاذ المرشد بما وقع فاستدعاني‬
‫ولمني على تأليف التحاد‪ ،‬وعلى السير به إلى هذه المرحلة‪ ،‬وأفهمني‬
‫أن منهج الخوان وحده هو الموصل للهدف المنشود‪ ،‬وإن طال المدى‪،‬‬
‫ومن الخير أن أكرس جهودي كلها له‪ ،‬وتم الوفاق على ذلكا‪ ،‬وأنهينا‬
‫التشكيل الذي صنعُناه‪.‬‬
‫استأنفت العُمل ناشطا ا راغباا في ميدان الدعوة‪ ،‬وسرني أن الستاذ‬
‫المرشد العُام جعُلني سكرتيراا لمجلة الخوان المسلمين‪ ،‬فكنت أكتب‬
‫كثير اا‪ ،‬تارة بتوقيعُي وتارات بتوقيعُات أخرى‪ ،‬وكنت أتردد على مكتبي‬
‫بانتظام‪ ،‬وأجمع بين عملي في المسجد وعملي في التحرير‪...‬‬
‫الديمقراطية‬

‫الستاذ أحمد السكرى‬


‫وك تونت عدة أحكام على أوضاعنا المختلفة كان لها أثر في حاضري‬
‫ومستقبلي!‬
‫ففي أعقاب لقائي برئيس الوزراء‪ ،‬وزعيم حزب الوفد مصطفى النحاس‬
‫باشا‪ ،‬قلت لمن معُي‪ :‬هذه هي الديمقراطية الغربية بخيرها وشرها!‬
‫طالبنا بمقابلة الرجل فلقينا وأسمعُنا رأيه فينا‪ ،‬وأسمعُناها رأينا فيه! وبعُد‬
‫نقاش عاصف أذن لحد مساعديه أن يجتمع بنا‪ ،‬ثم عدنا إلى أعمالنا‬
‫العُادية‪ ،‬فما صدر أمر بنقل موظف‪ ،‬أو فصل طالب أو اعتقال إنسان!‬
‫وأذكر أنه عندما رشح الستاذ حسن البنا نفسه في دائرة السماعيلية‬
‫استدعاه النحاس باشا‪ ،‬وقال له‪ :‬إن النجليز يأبون أن تكون في مجلس‬
‫النواب‪ ،‬وأنا ل أزنور انتخابا ا أبدما‪ ،‬فهل تنقذنا من هذا الحرج‪ ،‬وتنسحب‬
‫بإرادتكا‪ ،‬ونعُدكا بتمكينكا من نشر دعوتكا حيث أحببت‪ ،‬بعُيداا عن‬
‫المجلس‪...‬؟‬
‫وعرض الستاذ المرشد المر على الخوان فوافقت كثرتهم‪ ...‬وانسحب‬
‫حسن البنا من النتخابات‪.‬‬
‫والواقع أن وزراء الوفد زاروا المركز العُام‪ ،‬ومنعُوا عوائق كانت في‬
‫شعُب الخوان‪...‬‬ ‫طريق الدعوة‪ ،‬وتضاعفت ي‬
‫بيد أن هذا الجسر بين الفريقين انهار لسباب أر أن كل الفريقين مسؤول‬
‫عنها‪ ...‬فالوفديون شعُروا بالغيرة من اتساع نفوذ الخوان‪ ،‬والترحيب‬
‫الحار الذي يستقبل المصريون به الدعاة المسلمين‪ ،‬وضمموا إلى هذا‬
‫الشعُور كلما ا سفيهاا عن حسن البنا يصفونه بأنه موظف صغير‪ ،‬أو‬
‫مدرس لغة عربية‪ ،‬أو مدرس خط!‬
‫أما الخوان فقد كان همزة الوصل بينهم وبين الوفد الستاذ أحمد‬
‫السكري وكيل الجماعة‪ ،‬على حين كان هناكا رجل آخر يؤثر أن تقام‬
‫الجسور بين الخوان من ناحية‪ ،‬والقصر وأحزابه من ناحية أخرى‪ ،‬هو‬
‫الستاذ منير الداملة رحمه ا‪...‬‬
‫وقد رأى الخوان فصل الستاذ السكري‪ ،‬ولقحت بعُد ذلكا الحرب بين‬
‫الفريقين‪...‬‬
‫لم أكن أهتم بغلبة تيار على تيار‪ ،‬أو قيام شخص على أنقاض آخر‪ ،‬كان‬
‫المهم عندي أل يوصف السلم بأنه ظهير الستبداد السياسي‪ ،‬وأن‬
‫فكرته غامضة عن الحريات النسانية!‬
‫وكنت أشعُر بأن الحزاب المصرية‪ ،‬صحيحها وسقيمها‪ ،‬ل تعُرف الصول‬
‫الجتماعية للسلم‪ ،‬ول الطريقة المثلى لمداواة عللنا وعلل الحضارة‬
‫التي تغزونا‪...‬‬
‫وكان المنهج الذي نعُرضه من خلل دعوة الخوان هو في نظري خير ما‬
‫يقال للناس‪ ،‬وكان حسن البنا –فيما رأيت منه‪ -‬قائداا عابداا‪ ،‬ومجاهداا‬
‫صامداا‪ ،‬ومربيا ا قديراا‪ ،‬وداعيا ا متفانياا‪ ،‬يضمن باللحظة من عمره أن تضيع‬
‫في غير عمل للسلم!‬
‫النظمة العُالمية‬
‫التفاوت الذي أحسسته كان في التطبيق فقط‪!...‬‬
‫فطويت نفسي على ما بها‪ ،‬ومشيت مع القافلة التي تكبر ا‪ ،‬وترفع علم‬
‫السلم‪ ،‬وقلت‪ :‬يأصدر –إلى جانب ذلكا‪ -‬كتبا ا أشرح فيها وجهة نظري‪...‬‬
‫تدعم تعُاليم اللسلم في جانب غير مطروق‪!...‬‬
‫س حالة النقسام النفسني التي اعترتني‪:‬‬ ‫قال لي صديق أح ت‬
‫كأنكا تحب الديمقراطية الغربية؟ قلت‪ :‬بإجمال نعُم! لقد رأيت الشعُب‬
‫النجليزي يقول لرئيسه تشرشل بعُد ما كسب الحرب‪ :‬يعد إلى بيتكا! نحن‬
‫بحاجة إلى كفاية من نوع آخر! ورأيت الرجل يستقبل القرار مبتسماا‪،‬‬
‫ويعُود إلى قريته يستريح ويضاحكا الطفال‪ ،‬كأتن شيئا ا لم يقع!‬
‫قال‪ :‬والشتراكية؟ قلت‪ :‬العُناوين ل تخدعني‪ ،‬إن النظام الملكي‬
‫الرأسمالي في إنجلترا ومفر للطبقات الكادحة حقوقا ا يحلم بها زملؤهم في‬
‫روسيا‪ ،‬ألم تسمع ما قيل‪ :‬إن النجليز شعُب سعُيد‪ ،‬والروس شعُب ل‬
‫غني ول سعُيد؟‬
‫إن المال على كل حال أحد عناصر الستقرار النفسي والجتماعي‪ ،‬ل بد‬
‫منه يقيناا‪ ،‬ولكنه ليس كل شيء‪ ،‬ولست أقبل حرية ل غناى معُها‪ ،‬ول‬
‫غنى ل حرية معُه‪...‬‬
‫ونحن المسلمين ننتمي إلى دين الفطرة‪ ،‬قل لي‪ :‬بأي عقل ييطلب من مسلم‬
‫أن يحيا فاقداا كرامته المادية والدبية‪...‬؟‬
‫إنني أريد توكيد هذه المعُاني للجيال الجديدة حتى ل ترنو إلى مبادئ‬
‫مستوردة‪ ،‬أو تفقد الثقة في صلحية دينها للحياة‪...‬‬
‫وقد أخطئ في تشخيص علة أو اقتراح دواء! فما ادعيت العُصمة‪ ،‬إنني‬
‫أسرع الناس إلى قبول الحق من غيري‪ ،‬وإعلن فضله‪ ،‬ونشر الثناء‬
‫عليه‪.‬‬
‫راحة الكادح الصبور‬
‫وبينما أنا أعمل في مسجدي بالعُتبة الخضراء‪ ،‬والمركز العُام للخوان‬
‫بالحلمية‪ ،‬إذ تلقيت برقية تستدعيني إلى قريتي‪...‬‬
‫كنت أعلم أن أبي متعُب‪ ،‬ولم يخطر ببالي أن حالته سيئة ودخلت القرية‬
‫متونجس اا أتصفح الوجوه وأتعُجل الخبار‪ ،‬حتى وقع بصري على دكاننا‬
‫من بعُيد فرأيت أخاا لي يقف به فأدركت أن أبي مريض‪ ،‬واتجهت توام إلى‬
‫الدار‪...‬‬
‫وجدت أمي تبكي‪ ،‬وأبي طريح الفراش إلى جوارها‪ ،‬تناولت يده وقتبلتها‬
‫بحنان‪ ،‬فنظر إلي واستراح لمرآي! ورأيت علبا ا وقوارير فعُرفت أن‬
‫الطبيب حضر‪ ،‬وكتب هذه العُقاقير‪ ،‬ويظهر أنها لم تحقق نفعُا ا ييذكر‪...‬‬
‫وجئت بالطبيب مرة أخرى لن هيئته أقلقتني‪ ،‬ولما حضر الرجل لم‬
‫يحاول أن يخدعني‪ ،‬وفهمت أن هناكا عدة أمراض بالمسالكا البولية‬
‫يعُجزه التغلب عليها‪ ،‬ويوشكا مع تضمخم "البروستاتا" أن يحتبس البول‪،‬‬
‫وحالة الجسم ل تتحمل الجراحة‪!...‬‬
‫وتناوبنا بالسهر على تمريضه‪ ،‬وتحت ضغط أمي طلبنا الطبيب ليعُالج‬
‫التدهور المستمر‪ ...‬واعتذر الرجل عن الحضور‪ ،‬إنه يائس‪...‬‬
‫ل لني سهرت أمس‪ ،‬وجلست إلى جوار‬ ‫ونمت بعُد الظهيرة نوما ا طوي ا‬
‫أبي‪ ،‬وقررت أن أصلي جنبه‪ ،‬وبعُد العُشاء أخذت أرقبه‪...‬‬
‫كانت ليلة ليلء هدأ كل من في البيت بعُد أن غلبه العياء‪ ،‬وبقيت يقظان‪،‬‬
‫قال لي بصوت خافت‪ :‬إنني أموت! وخرست فلم أنطق! كان المصباح‬
‫المضاء بالبترول مثبتاا في الجدار‪ ،‬فشعُرت كأن ذبالته ارتعُشت‪ ،‬قلت في‬
‫ت فخفق جناحه خفقة اضطرب لها المصباح؟‬ ‫نفسي‪ :‬أمدخل م ملمكا المو ي‬
‫وأصخت إلى أبي فسمعُته يدعو لي‪ ...‬ثم سكت السكوت الخير‪...‬‬
‫في الصباح كان الرجال يحملون الجثة‪ ،‬ورأيت أمي متعُلقة بأقدام الميت‬
‫الراحل تقبلها‪ ،‬وتدفن وجهها في باطن القدام‪ ،‬وهي في شبه غيبوبة‪،‬‬
‫خملصت الجثة منها بصعُوبة‪...‬‬
‫إنني أنا الخر أريد من أعماق قلبي أن أنفجر بالبكاء‪ ،‬ولكني ل أقدر‪،‬‬
‫ت انهاروا‪ ،‬يجب‬ ‫يجب أن أتماسكا‪ ،‬فقد أصبحت كبير هذه السرة‪ ،‬إذا انهر ي‬
‫أن أتش مبه بأبي الذي كان يتظاهر بأن أزمة المور كلها في يده؛ وهو ل‬
‫يملكا شيئا ا إل الثقة في ا‪...‬‬
‫ما أعظم الواصر التي تشمد السرة المسلمة‪ ،‬قلت لوالدتي وأخوتي وأنا‬
‫أسافر إلى القاهرة لستأنف عملي‪ :‬لم يمت أبي‪ ،‬سأرعى الجميع بفضل‬
‫ا‪ ،‬حتى يتم الذكور تعُليمهم‪ ،‬وتتزوج من لم تتزوج من البنات وحقق‬
‫ا برحماته كل حرف قلته‪...‬‬
‫واعظ إخواني‬
‫وقد أشرت إلى الميزة التي وفرها القدر لي‪ ،‬وهي أني أجمع في منصبي‬
‫بين الصفين الشعُبي والرسمي‪ ،‬مما جعُلني أملكا حق الكلم في مختلف‬
‫المحافل والمساجد‪...‬‬
‫وقد اجتهدت إذا تحدثت في أمر ما أن أستوفي عناصره العُلمية‪ ،‬وأن‬
‫أربطه بالمناسبات العُابرة على نحو معُقول‪ ،‬وأن أجنرد كلمي من أي‬
‫يزلفى للحاكمين‪ ،‬وأن أضمنه تصريحا ا أو تلميحا ا ما أنصف به ديني‬
‫وأسترضي به ربي‪...‬‬
‫وهي خطة ضاق بها أصحاب السلطة‪ ،‬ولكنهم لم يتحاملوا عليها! وقد‬
‫ضممفمت إلى هذا أني ألفت كتابا ا عن السلم والستبداد السياسي‪ ،‬لخصت‬
‫فيه بعُض ما كنت ألقيه على المعُتقلين في "طور سينا" والكتاب نابض‬
‫بكره الفرعنة؛ ومساوئ الحكم الفردي الغشوم‪ ،‬ويمفمعُقم بالتوجيهات‬
‫السلمية في سياسة الحكم‪...‬‬
‫النتفاع بالحريات الديمقراطية‬
‫وبديهي أن يجعُلني هذا الكتاب وما سبقه في "القائمة السوداء"‪ !...‬كانت‬
‫جماعة الخوان المسلمين منحلة‪ ،‬بحكم القانون‪ ،‬غير أننا رفضنا أن‬
‫نعُترف بهذا الوضع‪ ،‬وسحنا في أرجاء البلد‪ ،‬نؤكد حياتنا ورسالتنا‬
‫بلباقة‪...‬‬
‫ونفعُتنا الوضاع الدستورية القائمة حين ذلكا‪ ،‬فتلقينا وتدارسنا حالتنا‪،‬‬
‫بل إن التيار السلمي زاد مممده‪ ،‬وتضاعف لرفده‪ ،‬وبرغم المصائب التي‬
‫حاقت بكثير منا فإن طبيعُة التددين في شعُبنا؛ والحفظ الذي كتبه ا لدينه‬
‫جعُل علم السلم يرتفع مرة أخرى‪...‬‬
‫وفي هذه الثناء جاءنا من الهند الستاذ الداعية أبو الحسن الندوي‪،‬‬
‫فكان مممدداا من أمداد الخير‪ ،‬وترافقنا معُا ا في النطلق من القاهرة إلى‬
‫القاليم‪ ،‬ندعو إلى ا‪ ،‬ونرجع الناس إلى صراطه المستقيم‪ ،‬وقد لحظت‬
‫أن التوافق في الفكر يجمع بيننا‪ ،‬في اغل بالنظرات والحكام‪ ،‬وشعُر‬
‫إخواننا بذلكا عن طريق المصادفة المحضة‪ ،‬فكان موضع ترحيب‬
‫وسرور‪...‬‬
‫إن السنوات الربع التي سبقت النقلب العُسكري الناصري‪ ،‬كانت من‬
‫أعمق السنوات أثراا في تاريخنا المصري‪ ،‬فقد استطاع الخوان –في‬
‫القدر المتاح من الحريات الدستورية‪ -‬أن يجمعُوا شملهم‪ ،‬وينمموا كيانهم‪،‬‬
‫ويؤكدوا بقاءهم‪!...‬‬
‫الحوال السياسية وجماعة الخوان‬
‫وانـزاح حكم القليات‪ ،‬ورجع حزب الوفد إلى الحكم‪ ،‬وكان نجاحه الكاسح‬
‫سبب اا في أن الستاذ مصطفى أمين‪ ،‬وهو عدو الوفد المبين‪ ،‬يقول معُلقا ا‬
‫على هذه النتيجة‪ :‬لكل داء دواء إل الوفد‪!...‬‬
‫ولم أكن يوم اا أنتمي إلى حزب الوفد‪ ،‬فقد عرفت حسن البنا وأنا طالب في‬
‫الرابعُة الثانوية‪ ،‬بمعُهد السكندرية الديني‪ ،‬ويشرفن أني كنت تلميذاا لهذا‬
‫الرجل‪ ،‬بيد أنني حسن الدراسة لديننا ودنيانا‪ ،‬برئ من العُلل التي تشنوه‬
‫النظر‪ ،‬وتفسد الحكم على المور‪...‬‬
‫شعُبيتين لنجفت مصر من النكسة‬ ‫واعتقادي أنه لو تم تفاهم بين الهيئتين ال ت‬
‫الهائلة التي وقعُت فيها بعُد ذلكا‪...‬‬
‫وما أحببت هذا التفاهم إل لشيء واحد‪ ،‬هو ضمان بقاء الدستور الذي‬
‫نالته مصر ‪ ،1923‬والذي يوفر للمصريين من الحريات –لو يننفذ‪ -‬ما‬
‫يمنع الفرعنة‪ ،‬ويحمي المستضعُفين من الهوان‪...‬‬
‫إنني –أنا الداعي المسلم‪ -‬ل أحتاج إل إلى الحرية‪ ،‬لؤندي واجبي‪ ،‬ويأنجح‬
‫رسالتي‪ ،‬ويوم أفقد الحرية أفقد كياني كتله!‬
‫إن السلم ل يحتاج إل لهذه الحرية كي ينتشر وينتصر! وإذا كان بعُض‬
‫شفون هذه الحرية‬‫الفاشلين في العُرض أو القاصرين في الفقه يخ م‬
‫فليجاوزوا ميداناا ل يستطيعُون أعباءه‪ ،‬وليحترفوا شيئا ا آخر غير الدعوة‬
‫السلمية‪!...‬‬
‫وكان ظني أن الخوان بعُد مقتل مرشدهم وحلن جماعتهم في ظل استبداد‬
‫مسعُور‪ ،‬سوف يستفيدون من التجربة‪ ،‬ويستبقون في مصر ضمانات‬
‫الكرامة النسانية‪ ،‬ومعُالم الحيات العُامة‪ ،‬أفذلكا وقع؟ كل‪ ...‬لقد مشى‬
‫المر في طريق آخر!‬
‫وقد أحزنني وأنا في "الطور" أن الخوان عموما ا يرفضون أي اتهام‬
‫لسياستهم‪ ،‬وقد قلت‪ :‬إنه بعُد هزيمة "أحد" وقع اللوم على "البعُض" من‬
‫الصحابة‪ ،‬فلماذا ل نفنتش في مسالكنا الخاصة والعُام‪ ،‬فقد يكون بها ما‬
‫يستدعي التغيير! وما يفرض تعُديل الخطة؟ لكن هذا التفكير لم يلق‬
‫ترحيباا‪!...‬‬
‫والواقع أن الفكر السياسي عند جمهرة المتدينين يمتسم بالقصور البالغ‪،‬‬
‫إنهم يرون الفساد ول يعُرفون سببه‪ ،‬ويقرؤون التاريخ ول يكشفون‬
‫عبره‪ ،‬ويقال لهم كان لنا ماض عزيز‪ ،‬فل يعُرفون سمر هذه العُزة‪،‬‬
‫وانهزمنا في عصر كذا‪ ،‬فل يدركون سبب هذه الكبوة‪ ،‬ويشعُرون أن‬
‫العُالم الغربتي بزغ نجمه‪ ،‬فل يدرسون ما وراء هذا البزوغ‪!...‬‬
‫قلت لحدهم –وكان يكابرني‪ -‬ما الفرق بين دستور سنة ‪1923‬؛‬
‫والدستور الذي جاء بعُد أيام النقلب الناصري فقال بعُد تحدير‪ :‬ل أدري‬
‫ول يضرني هذا الجهل!‬
‫نقاش حول الدساتير‬
‫قلت‪ :‬تدري فقط أن تثير الشغب حول الصلة بالنعُل أو بدونها‪ ،‬وحول‬
‫انتقاض الوضوء من لمس المرأة أو عدم انتقاضه! فإذا اتصل المر‬
‫بقدرة حاكم ما على تخريب البيوت وتعُمير السجون‪ ،‬وحرق الكرامات‪،‬‬
‫وترويع العُائلت؛ قلت‪ :‬الجهل بأسباب ذلكا ل يضر!‬
‫إن العُودة إلى الكتاب والسنة عنوان جميل‪ ،‬وسيكون هذا العُنوان على‬
‫فراغ قاتل يوم يتاح للفراعنة أن يتخطفونا مستندين إلى دستور وضعُوه‪،‬‬
‫لم نعُرف نحن للمم يوضع وكيف؟‬
‫قال لي آخ آخر يرقب الحوار‪ :‬ل تنس أن الدستور الذي منتوه م‬
‫ت به‬
‫مستورد من الخارج! قلت‪ :‬ل أنسى ذلكا‪ ،‬إنه فعُلا مترجم‪ ،‬ومنقول عن‬
‫جملة من الدساتير الوربية الحديثة‪ ،‬وليس كل ما جاء من الخارج‬
‫يعُاب‪...‬‬
‫صنوا أنفسهم ضد المظالم المتوقعُة بهذه المبادئ القانونية‪...‬‬‫إن القوم ح م‬
‫فإذا كنا في مصر نتعُرض لذات المرض‪ ،‬فل حرج من مواجهته‬
‫بالحصانة المج مربة! إننا نرفض الستيراد إذا كان ما نجلبه مضاداا لما‬
‫عندنا‪ ،‬أو كان عندنا ما يغني عنه‪...‬‬
‫ومن حقي أن أرتقب من الخوان كراهية من آمذوفههم‪ ،‬وأهانوا إيمانهم‪،‬‬
‫وكانوا يد الستعُمار العُالمي التي بطشت بهم‪ ،‬وزلزلت أركانهم! وأن‬
‫ينترجم هذه الكراهية إلى موقف سياسي صلب ضمد القليات السياسية أو‬
‫الحزاب المصنوعة لخدمة فرد مسملط‪...‬‬
‫وعلى أية حال فإنني سوف أعمد من كبائر الثم والفواحش‪ ،‬تزوير‬
‫النتخابات‪ ،‬وكفبت الحريات‪ ،‬والفتيات على الجماهير‪ ،‬وسأسلكا هذه‬
‫الجرائم مع أنواع الخنا والربا‪ ،‬والسرقات الكبرى‪ ،‬وسأعتبر الحياد في‬
‫مواجهة هذه النحرافات خيانة ل ولرسوله ولجماعة المسلمين‪...‬‬
‫واستطاع الستاذ صالح عشماوي وكيل جماعة الخوان‪ ،‬على عهد المام‬
‫الشهيد‪ ،‬أن يفتتح مقراا لهذا النشاط السلمي ببيته في حمي "الظاهر"‬
‫وشرع يجمع فلول الخوان من هنا وهناكا‪ ،‬ثم تحمول هذا المركز المؤقت‬
‫إلى مركز عام‪ ،‬يلقى فيه دروس الثلثاء‪ ،‬كما كان الستاذ البنا يصنع‪،‬‬
‫ويجتمع فيه محامو الخوان لبحث قضاياهم‪ ،‬وميلفد إليه ممثلوا الشعُب‬
‫القديمة من الوجهين البحري والقبلي‪!...‬‬
‫وكنا نحس أن وكيل الجماعة يقوم مقام المرشد في غيابه إلى أن ينتخب‬
‫هو أو غيره من أعضاء الجماعة مرشداا جديداا مكان المام الشهيد‪...‬‬
‫ولم يكن المضمي في هذا النشاط تسلية بل تضحية‪ ،‬ومغامرة قد تطيح‬
‫بالنفس والمال‪ ،‬لن الملكا فاروقا ا كان قائما ا على عرشه‪ ،‬وقد كثر‬
‫خلصاؤه من أمثال "بوللي" و "إدجار جلد" و "كريم ثابت"‪ ،‬وآخرين‬
‫نسيت أسماءهم ليبعُد العُهد‪.‬‬
‫عندما عدت إلى القاهرة وجدت أمامي مشكلة عويصة‪ ،‬فإن المحكمة أبت‬
‫أن يتطبق على علماء المساجد قانونا ا صدر لنصاف حملة الشهادات‬
‫العُالية‪ ،‬ومعُنى ذلكا أن تبقى مرتباتنا خمسة جنيهات‪ ،‬بينما يأخذ زملؤنا‬
‫المدرسون إثني عشر جنيهاا‪ ،‬وكذلكا الكتبة والداريون ومن إليهم!‬
‫انقلب على الوقاف‬
‫الشهيد عبدالقادرعودة‬
‫عندما التحقت بوزارة الوقاف أول عهدي بالوظائف وجدتها دولة داخل‬
‫الدولة! ول مغفرمو فهي تنفق في مصاريف الصدقات‪ ،‬وتشرف على أنواع‬
‫الخيرات والمبرات‪ ،‬وتقوم على تحفيظ القرآن وتنشيط الجوانب الروحية‬
‫والثقافية في المساجد!‬
‫وضماناا لذلكا كله فهي تزرع عشرات اللوف من الفدنة‪ ،‬وتؤنجر مثلها‬
‫للفلحين‪ ،‬وتبني مئات الدور والقصور‪ ،‬بل دخلت في بعُض الصناعات‬
‫الزراعية‪ ،‬وأصبحت في الواقع وزارة زراعة واستصلح‪ ،‬وبلديات‬
‫ومرافق‪ ،‬وتعُليم وثقافة‪ ،‬وصحة وهندسة‪ ،‬وذلكا كله لحساب جهات البر‬
‫السلمية‪...‬‬
‫فلما عدت إليها ثانية كانت الخطة قد يأحكمت للجهاز عليها‪ ،‬أو تقليص‬
‫رسالتها في أضيق نطاق‪ ،‬وبدأ التنفيذ بسلخ كل المستشفيات السلمية‬
‫من الوزارة‪ ،‬وإلحاقها بوزارة الصحة‪...‬‬
‫امرأة صالحة كالخازندارة‪ ،‬وصدت ما تلكا لمسجد وملجأ ومستشفى‪،‬‬
‫ابتغاء مرضاة ا وطلباا لمثوبته؛ يجيء النقلب العُسكري‪ ،‬فيضع‬
‫مشروعاته لخذ المستشفى وجعُله عامما ا ل خاصا ا بالمسلمين‪ ،‬ثم يأخذ بعُد‬
‫فترة الملجأ‪ ،‬ثم يجرد جهة البر الباقية مما تلكا من عار أو أرض لتتولى‬
‫الموازنة العُامة شؤون المسجد‪.‬‬
‫ت لمه‬
‫وسوف نرى ما كان ييبني ي‬
‫كان وزير الوقاف بصفته أمينا ا على أموال البرار من المسلمين‪ ،‬هو‬
‫ل‪ ،‬وكان هو الذي ييسأل‬ ‫الذي ييعُين مدير مستشفى "بولق" للولدة مث ا‬
‫عن إمداد المستشفى بكل ما يحتاج إليه‪...‬‬
‫فإذا الوزارة يتكملف بتركا جميع مستشفياتها‪ ،‬ويلغى القسم الطبي بها‪،‬‬
‫وتضيع صلة الوزارة الدينية بمستشفى "قلوون"‪ ،‬ومستشفى "الملكا"‪،‬‬
‫ومممبترة محمد علي‪ ،‬ومستشفى الجمعُية الخيرية السلمية‪ ،‬ومستشفيات‬
‫ومستوصفات شتى في القاهرة والقاليم‪...‬‬
‫المعُروف أن المستشفيات تستقبل المرضى من أهل كل دين‪ ،‬ولكن ذلكا ل‬
‫يعُني أن ينـزع طابعُها الديني لنه السلم!‬
‫إن جمعُيات الشباب المسيحية ينتسب إليها مسلمون‪ ،‬فهل يعُني ذلكا رفع‬
‫النتماء المسيحي عنها؟‪...‬‬
‫إن من حق المسلمين في مصر وفي غير مصر‪ ،‬أن يكون لهم مستشفيات‬
‫لها طابعُها السلمي الخاص‪ ،‬ويتأكد ذلكا إذا أعمدوا لها من خالص‬
‫أموالهم ما يكفي وييغني‪...‬‬
‫أما الن ففي مستشفى الجمعُية الخيرية السلمية بالعُجوزة مكان‬
‫للراهبات المسيحيات‪ ،‬يؤدين فيه شعُائر العُبادة وهي جمعُية خيرية‬
‫إسلمية‪ .‬أحرام على بلبله الدوح‪ ،‬حلل للطير من كل جنس؟‬
‫وبدأت الخبار الحزينة تتوالى‪،‬فقد صدر قرار ثوري بأن تسلم وزارة‬
‫الوقاف كل ثرواتها الزراعية والعُقارية لوزارتي الصلح الزراعي‬
‫والدارة المحلية‪ ،‬وجاءني أحد الموظفين المكلفين بالتنفيذ‪ ،‬يقول لي‪ :‬إن‬
‫الوقف الخيري أكبر إقطاعي في مصر! فقلت له‪ :‬أيوصف أحد بأنه‬
‫إقطاعي إذا كان ملكه كله للخير؟‬
‫إن هذه الموال ل وحده‪ ،‬حبست عينها‪ ،‬وبقيت ثمرتها تبذل في صالح‬
‫السلم وأمته‪.‬‬
‫فكيف تؤمخذ منه؟‬
‫إن هذا الغتصاب أكبر أعمال القهر والجتياح في تاريخ مصر –وماذا‬
‫ت مكظوماا‪...‬‬‫عساي أفعُل؟ سك د‬
‫ثم جاء نبأ آخر‪ ،‬يحملت جماعة الخوان المسلمين‪ ،‬وصودرت أموالها‪،‬‬
‫وألقي القبض على أعداد كبيرة من أعضائها‪.‬‬
‫لقد كنت مفصو ال بقرار عرف القاصي والداني‪ ،‬فلما وقعُت هذه المصيبة‬
‫أحسست أن رياحاا عاصفة تهب بعُنف لتدمر حاضر السلم ومستقبله‪،‬‬
‫ووقفت من بعُيد أرقب‪ ،‬وماذا عساي أن أفعُل‪...‬؟‬
‫ثم تقرر في محاكمة هزلية قتل ستة من رجال الخوان بينهم الستاذ عبد‬
‫القادر عودة‪ ،‬والشيخ محمد فرغلي و‪ ...‬و‪ ...‬وآخرون‪...‬‬
‫وقلت لمن أحاطوا بي‪ :‬طالما حدثتكم عن مساوئ الحكم الفردي‪ ،‬وعدم‬
‫وجود دستور محترم‪...‬‬
‫إن الملكا فاروقا ا لما أراد قتل حسن البنا‪ ،‬دتبر اغتياله في ظلم الليل‪،‬‬
‫وظهرت الجريمة للناس دون أن ييعُرف للشهيد الراحل قاتل معُروف‪ ،‬أما‬
‫اليوم فإن لجنة تؤلف من بعُض الضباط لتقتل في وضح النهار ستة من‬
‫خيار المسلمين‪ ،‬دون أن يجرؤ أحد على اعتراض‪...‬‬
‫إن الرعب ألمج مم اللسنة! أين الذين كانوا يرجمون النحاس باشا بالبيض‬
‫الفاسد؟‬
‫إن الستاذ العُقاد هاجم الملكا في روعة سلطانه فدخل السجن بضعُة‬
‫شهور‪ ،‬تعُملم خللها اللغة اللمانية!‬
‫كنتم تضحكون مني وأنا أتحمس للحريات وأركانها‪ ...‬هل عرفتم الن؟‬
‫وتذكرت جدا ال دار في المركز العُام للخوان المسلمين‪ ،‬يوم كنت عضواا‬
‫في الجماعة‪ ،‬فقد كان معُروضا ا علينا أن نوافق على إلغاء دستور‬
‫‪ ،1923‬ورأى الستاذ عبد القادر عودة –وكان رئيس الجلسة‪ -‬أن هناكا‬
‫ترددداا‪ ،‬وسمع من يقول له‪ :‬كيف سينحمكم في غيبة الدستور؟ فقال رحمه‬
‫ا متعُجباا‪ :‬كيف سنحمكم؟ ثم ارتسمت على فهم ابتسامة عريضة‪ :‬إنكم‬
‫أنتم الذين ستحكمون! أنتم أيها الخوان!‬
‫إنني والستاذ عبد القادر صديقان متحابان‪ ،‬ول أدري أينا أكبر سذاجة‬
‫من الخر؟ كلنا مشهور بأنه ل يصلح في ميدان السياسة‪...‬‬
‫الرجل الوحيد الذي قاوم القرار ورفضه‪ ،‬هو الستاذ أحمد عبد العُزيز‬
‫جلل –الذي يفصل معُي‪ -‬في حركة إبعُادنا عن الجماعة! كان –أطال ا‬
‫بقاءه‪ -‬أبعُدنا نظراا‪...‬‬
‫ونعُود إلى وزارتنا التي تضأل وتنكمش‪ ،‬كان منصب مدير المساجد‬
‫ل‪ -‬حتى يجيء من يحتله‪ ،‬وذات‬ ‫خالياا‪ ،‬فكنت أقوم بأعماله –بصفتي وكي ا‬
‫يوم عرفنا أن القائمقام أنور السادات نفسه‪ ،‬فاستغربت لن المسجد يتبع‬
‫ي الخطيب‪...‬‬
‫الجمعُية الشرعية‪ ،‬وللقوم تقاليد معُينة في ز م‬
‫وفيما أنا أفكر دخل السيد أنور‪ ،‬مرتديا ا عباءة عربية‪ ،‬وعلى رأسه عمامة‬
‫لها ذنب يغطي قفاه‪ ،‬كأنه من رجال الجمعُية القدامى!‬
‫وتأملت وجهه فتذكرت التعُايشي*‪ ،‬خليفة المهدي السوداني المعُروف‪...‬‬
‫كان في سمرته وسمته الديني شيئا ا عجباا‪...‬‬
‫وألقى الخطبة باللغة العُامية حيناا‪ ،‬وبالعُربية المشتوهة حينا‪ ،‬ثم انتهى‬
‫منها وتقدم للصلة ونحن خلفه‪ ،‬قرأ في الركعُة الولى سورة الماعون‪،‬‬
‫فاضطرب‪ ،‬وقد وأخر‪ ،‬ثم ختمها على أي نحو! ولطف ا في الركعُة‬
‫الثانية‪ ،‬وسملم من الصلة‪ ،‬ونظر إلينا من معلل‪ ،‬وكأنه يقول‪ :‬ما أنتم؟ إذا‬
‫ت بطل وجودكم!‬ ‫يوجفد ي‬
‫ولم أكن أعرف الرجل من قبل‪ ،‬مبلغ ما أسمع عنه أن الستاذ حسن البنا‪،‬‬
‫كان يرسل إلى بيته بعُض المساعدات عندما يقع في ورطة‪ ،‬لكنه الن –‬
‫فيما أحسست‪ -‬يجمع بين الكبر والجهل!‬
‫وهمست إلى صديق معُي‪ :‬إن الخطأ في العُبادات‪ ،‬أو الهزل في أدائها‬
‫حسابه عند ا‪...‬‬
‫إن الذي أخشاه أن تعُالج أمور المة المدنية والعُسكرية بالندعاء‬
‫والجهالة معُاا‪ ،‬وقد كن نحفظ قديماا‪:‬‬
‫ل يصلح الناس فوضى ل سراة لهم ول سراة إذا جهالهم سادوا‬
‫تبقى المور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولتفت فبالشرار تنقاد‬
‫إن وظيفة المسجد في المجتمع السلمي عظيمة الخطر! إنه صانع الفكر‬
‫والضمير‪ ،‬ومطنهر البدن‪ ،‬ومنظم الصفوف‪ ،‬وصائغ العُلقات النسانية‬
‫المشربة بالحب والخاء‪...‬‬
‫وقد اجتهدنا –أنا وصديقي الشيخ سيد سابق‪ -‬في ربط الناس بالمسجد‪،‬‬
‫وإحسان التوجيهات الثقافية التي تصدر عنه‪.‬‬
‫وكان من بين المقترحات التي نفذناها‪ ،‬إنشاء جمعُية أهلية لكل مسجد‬
‫تتعُاون مع المام في تحسين أدائه المادي والروحي‪ !...‬فاتهمنا التفاكون‬
‫أننا نحاول إعادة الخوان المسلمين‪!...‬‬
‫فحولنا اسم "الجمعُية" إلى "مجلس المسجد"‪ ،‬على غرار مجالس الباء‬
‫التي يأنشئت في مدارس وزارة التربية والتعُليم‪ ،‬كما وضعُنا مناهج وكتبا ا‬
‫يدرسها المام طوال السبوع‪ ،‬وكراسات للتحضير‪ ،‬يتدتون فيها المادة‬
‫العُلمية المقروءة أو المخطوبة‪...‬‬
‫بيد أن المور كانت تسير إلى وجهة أخرى‪!...‬‬
‫وظهر ذلكا بوضوح لما توملى الوزارة السيد حسين الشافعُي‪ ،‬وهو –فيما‬
‫ب لدينه!‬‫ف اللسان‪ ،‬مح د‬‫أعلم‪ -‬رجل مسلم‪ ،‬نقمي اليد‪ ،‬ع د‬
‫لكنه كان يومئذ من رجال الثورة السائرين وراء جمال عبد الناصر‪...،‬‬
‫فتب تنى فكرة غريبة‪ ،‬أن توكل المساجد إلى جمعُيات شعُبية تديرها‪ ،‬ويتسأل‬
‫عنها‪ ،‬وتمنحها الوزارة العانة الكافية‪ ،‬وتكون هذه الجمعُيات تحت رقابة‬
‫وزارة الشؤون الجتماعية!‬
‫وسألت‪ :‬لم ذلكا؟ قيل‪ :‬هذا أفضل! سألت‪ :‬هل سيصنع هذا بالمدار التي‬
‫تتبع وزارة التربية والتعُليم؟ قيل‪ :‬ل‪ !...‬فأدركت أن المقصود جعُل الدولة‬
‫علمانية‪ ،‬ل صلة لها مباشرة بالدين‪!...‬‬
‫وقمنا بحركة هائلة شملت المساجد في القطر كله‪ ،‬وقابلني مندوب‬
‫الهرام‪ ،‬الستاذ محمود الكوملي‪ ،‬وقال لي‪ ،‬إنه علم أن هذا هو النظام‬
‫المتبع في يوغسلفيا!‬
‫وصدر ضد هذا المقترح بيان شديد الغضب من اتحاد الئمة في‬
‫ف‪ ،‬لسباب‬ ‫السكندرية‪ ،‬وشاء ا أن يوضع المشروع على الر م‬
‫نجهلها‪!...‬‬
‫الحق أن النقلب الناصري رسمه الذين نفذوا النقلب الكمالمي في تركيا‪،‬‬
‫مع تغيير في العُناوين والساليب‪ ،‬يتفق مع أحوال مصر وطبيعُة‬
‫شعُبها‪...‬‬
‫وقد ذكرت في كتابي كفاح دين أن الطيار عبد اللطيف بغدادي‪ ،‬هدم قريبا ا‬
‫من عشرين مسجد اا في جراحة لتجميل القاهرة! ترى؛ لو كانت هذه معُابد‬
‫يهودية‪ ،‬أكان يفعُل ذلكا؟ إنها المؤامرة على دين غتظ حمراسه في نوم‬
‫عميق‪!...‬‬
‫قررت أن أتفرد بالعُمل للدعوة‪ ،‬على النحو الذي أختار‪ ،‬وبالطريقة التي‬
‫يأحسن‪ ،‬وأمامي ميدانان فسيحان‪ :‬ميدان التأليف‪ ،‬وقد وضع ا لي‬
‫القبول فيه‪ ،‬وميدان المساجد‪ ،‬وأنا قادر على إلقاء الدروس والخطب‪،‬‬
‫وعلى توجيه ألوف الئمة إلى الغاية الرشد‪ ،‬والنهج المثل‪...‬‬
‫غير أن العُقبات التي يبعُثرت أمامي كانت كثيرة‪ ،‬ويخميل غلتي أن الخدمة‬
‫الصحيحة للسلم عمل ق يبعُث على التهمة‪ ،‬إن لم يكن جريمة تقذف في‬
‫السجون‪!...‬‬
‫والغريب أن البيئات الدينية تنظر إلى الدعاة بجفاء‪ ،‬وترى أجهزة الدعوة‬
‫كيانا ا ملصقاا بها‪ ،‬ل يقبل إل على كره‪ ،‬كذلكا الحال في الجامع الزهر‪،‬‬
‫ووزارة الوقاف جميعُاا‪...‬‬
‫وقد يكون سلوكا بعُض الدعاة علة هذا النفور‪ ،‬بيد أني بعُد تأمل طويل‬
‫وجدت أن الضيق بالسلم نفسه من وراء هذا الصدود‪ ،‬ينضمم إليه إيثار‬
‫السلمة بالبعُد عن مجالت النصيحة‪ ،‬وغلبة الحتراف على عبيد الحياة‪،‬‬
‫وشيوع القصور العُلمي بين جمهرة من "رجال الدين" كما ييستمون!‬
‫فالداعي يعُرض عقله وأدبه‪ ،‬وقد قيل لعُبد الملكا بن مروان‪ :‬شبت يا أمير‬
‫المؤمنين! فقال‪ :‬شيبني صعُود المنابر وتوقف اللحن‪ ،‬فإذا لم يكن لدى‬
‫امرئ علم يعُرضه‪ ،‬أو أدب ينطقه فلم يصعُد المنابر؟ إنه سيتراجع‪ ،‬ثم‬
‫يقول‪ :‬هذه أعمال تافهة!‬
‫إنها يعقدة الوضاعة عند التافهين!‬
‫ومذ عملت في السلكا الداري وأنا أرفض الكتفاء به‪ ،‬وأركض ركضا ا إلى‬
‫المساجد والندية والكليات‪ ،‬أتحدث عن السلم‪ ،‬أذود عنه الهاجمين‪،‬‬
‫وأكشف كامنه للمتوسمين‪ ،‬وأتعُرض للمدح والقدح والتكريم والهانة‪...‬‬
‫كنت أول موظف كبير يدخل الديوان‪ ،‬أستفتح عملي بقراءة جزء من‬
‫القرآن على أحد شيوخ المقارئ‪ ،‬ثم أنظر في الملفات المعُتدة‪ ،‬وأتتبع‬
‫مصالح الناس بالنجاز‪ ،‬وأغشى عشرات المكاتب شفاء لهذا‪ ،‬أو إعانة‬
‫ب إلتي فعُل الخير‪ ،‬حتى ظننت‬ ‫لذاكا‪ ،‬كنت كما وصف المأمون نفسه‪" :‬يحنب م‬
‫أن ل يأوجر عليه"!‬
‫وقد أحصى مكتب الستعُلمات في الوزارة من يطلبون الدخول إليها‪،‬‬
‫ت في ذلكا قلت‪ :‬معُنى‬ ‫فوجد ثلثة أرباعهم يذكرون اسمي‪ ،‬ولما يكنلم ي‬
‫موظف عام أنه خادم للجماهير حقيقة ل دعوى‪...‬‬
‫إن الذين سيتكبرون عن ذلكا إنما يأكلون السحت‪!...‬‬
‫وبديهي أن يكون الخوان المسلمون –فرادى‪ -‬أول من يسعُهم هذا‬
‫ت للقائهم‪ ،‬وطمأنت مقملقهم‪ ،‬وأريته من نفسي‬ ‫شش ي‬ ‫النشاط‪ ،‬طالما مه م‬
‫الستعُداد التام لعُونه!‬
‫ت‪ ،‬وكان تظالما ا وخيم العُقبى‬ ‫لقد هاجمت الخوان وهاجموني يوم فصل ي‬
‫على مستقبل الجماعة‪ ،‬يغفر ا لنا فيه ما كان مني ومنهم!‬
‫فلما محتلت الدولة الجماعة للمترة الثانية‪ ،‬وأحسست أن ذلكا ل يستفيد منه‬
‫ت مبتئسما!‬
‫إل اليهودية والنصرانية‪ ،‬سك د‬
‫ت بقلبي وكياني كله إلى المستضعُفين‬ ‫فلما بدأ التعُذيب والتقتيل انضمم ي‬
‫في الرض‪ ،‬وبكيت لهم ما يلقون! وماذا عساي أفعُل؟‬
‫إن المأساة التي يجب كشفها أن السلم نفسه ييضرب‪ ،‬باسم ضرب‬
‫الخوان‪!...‬‬
‫لو أن واحد اا أو أكثر يعُاقبون لخطائهم باسم الدين‪ ،‬لقلنا‪ :‬العُدل يأخذ‬
‫مجراه‪!...‬‬
‫أما أن تصادر نصوص‪ ،‬وتطمس تعُاليم‪ ،‬ويلغى نصف الكتاب والسنة‪،‬‬
‫لن جماعة ما أخطأت‪ ،‬فهذا هو العُجب‪...‬‬
‫ما معُنى أن يعُلن رئيس دولة إعجابه بشخص مرتمد كمصطفى كمال‪ ،‬وأن‬
‫يأمر بإصدار طوابع بريد لتخليد ذكراه؟ كيف تخلد ذكرى فصل الدين عن‬
‫الدولة‪ ،‬وجعُل الحكم معلمانيا؟ كيف تخلد ذكرى ضرب السلم‪ ،‬وإسقاط‬
‫رايته وخلفته؟‬
‫والعجب أن يصمت علماء السوء فل يقولوا كلمة أبداا في هذا الفسوق‪،‬‬
‫ثم تراهم بعُد يتسابقون في هجاء الخوان لنهم خرجوا على الحاكم؟ هل‬
‫ولؤكم أنتم له هو اليمان؟‬
‫قال لي صديق يشتغل في العلم‪ :‬طلبنا من فلن أن يضع لنا جملة‬
‫أحاديث في تحديد النسل‪ .‬قال‪ :‬تريدون أن أكتب بالتحليل أم بالتحريم؟‬
‫فقال له المجيب ساخراا‪ :‬خمسة أحاديث بالحمل‪ ،‬وخمسة أخرى بالحرمة!‬
‫قلت‪:‬هذا الشيخ يصلح مفتيا للجمهورية‪ ،‬أو وزيراا للوقاف! قال‪ :‬أو‬
‫شيخا ا للزهر؟ قلت بعُد ترديث‪ :‬أو شيخا ا للزهر‪!...‬‬
‫إن أولئكا الثلثة في إمبان حكم العُسكر حتملوا السلم ما ل يطيق‪ ،‬ل في‬
‫مصر وحدها‪ ،‬بل في أقطار أخرى! إنهم ونظرائهم سخرا الفقه لهوى‬
‫الرجال والنساء‪ ،‬واخترعوا أحكاما ما أنـزل ا بها من سلطان‪...‬‬
‫وما كسبوا إل غضب ا سبحانه‪ ،‬وكراهية الصالحين من عباده‪،‬‬
‫وازدراء الجماهير المغلوبة على أمرها‪...‬‬
‫في هؤلء يقول أحمد محرم‪:‬‬
‫أرى علماء الدين ل يحفظونه ول يرفعُون اليوم رايته العُليا‪...‬‬
‫هم اتخذوا ما أحرزوا من علومه سبيل إلى ما يبتغون من الدنيا‬
‫إذا ما أتاهم جاهل بضللة! أمتوه بألفي عالم يحمل اليفتيا‬
‫في عصرنا هذا أقامت اليهودية جولة لها على أنقاضنا؛ وأقامت الصليبية‬
‫استعُماراا طحن معُالمنا وتراثنا‪ ،‬واصطنع نوعا ا من الحكم في بلد السلم‬
‫ليس ل ولؤه‪ ،‬ول للسلم انتماؤه‪...‬‬
‫فإذا تم مرد أهل اليمان‪ ،‬وهاجت غيرتهم على دينهم‪ ،‬قيل لهم‪ :‬إن أحسن‬
‫الحاكم فله الشكر وإن أساء فعُلينا الصبر! وخير لنا أن نعُتزل ونعُض‬
‫بأصل شجرة فل نصنع شيئا!‪!...‬‬
‫أين فريضة النصح؟ أين فريضة المر والنهي؟‬
‫أين فرائض الجهاد بأنواعه‪ :‬البدنية‪ ،‬والمالية‪ ،‬والبيانية؟ اختفى هذا كله‬
‫ليقول عالم ينتسب إلى الزهر في حاكم من أسوأ الحكام سيرة وأبينهم‬
‫خيانة‪ :‬لو استطعُت لجعُلته في مستوى من ل ييسأل عما يفعُل!‬
‫إن الذين اتهموا الدين بأنه مخدر للشعُوب‪ ،‬إنما استمدوا هذه التهمة من‬
‫أقوال أولئكا "العُلماء" المفرطين‪...‬‬
‫تج تنبت من شبابي الباكر هذه القافلة الخائنة‪ ،‬وقلت‪ :‬الوفاء ل ورسوله‬
‫أبقى وأجدى!‬
‫وبعُد فترة قليلة من قيام ثورة ‪ 23‬يوليه ‪– 1952‬وهي في حقيقتها‬
‫انقلب عسكري‪ ،‬يدنبر بعُناية لغايات معُينة‪ -‬ألفت عدة كتب‪ ،‬متر بعُضها‬
‫بسهولة‪ ،‬واعترضت وزارة الداخلية على كتابي الستعُمار أحقاد وأطماع‬
‫وكفاح دين‪.‬‬
‫فأما الول فقد رفضت النيابة العتراض‪ ،‬تركته ينشر‪ ،‬وأما الثاني فقد‬
‫أقرت عدم النشر‪ ،‬ورفعُت المر للقضاء‪ ،‬كي يبمت في القضية في جلسة‬
‫ش فيها‪...‬‬
‫أحضرها وأناق ي‬
‫و يطلبت إلى المحكمة‪ ،‬فذهبت وأنا شاعر بالحرج‪ ،‬لن مصادرة كتاب لي‬
‫شيء ثقيل الوطأة على نفسي‪ ،‬والخسارة الدبية والمادية شديدة‪ ،‬ثم إن‬
‫عملي في الوزارة أحاطت به الظنون‪ ،‬والعداء متربصون‪ ،‬وسيقال‪:‬‬
‫استغلم منصبه الديني في تعُكير المن العُام!‬
‫ووقفت أمام المحكمة‪ ،‬وكان رئيسها مستشاراا نـزيها ا شجاعاا‪:‬‬
‫قال‪ :‬أنت مؤلف هذا الكتاب كفاح دين؟‬
‫قلت‪ :‬نعُم‪..‬‬
‫‪ -‬أل ترى أن فيه فصولا وبحوثاا مثيرة؟ قلت‪ :‬المهم أن تستيقن المحكمة‬
‫من صدق ما قيل‪ ،‬فإذا كان ما أثبته حقا ا فل يألم على تقريره!‬
‫قد يكون الكلم حقاا ولكن ليس كل ما يعُلم يقال‪ ،‬فربما أهاج ذكره‬
‫الخواطر‪ ،‬ونحن بحاجة إلى الهدوء!‬
‫‪ -‬قلت‪ :‬أنا أحصيت أسماء المساجد التي هدمت في القاهرة وحدها كي‬
‫أوقف هذا التخريب العُمد لبيوت ا‪ ،‬وذكرت أن في مصر الجديدة وحدها‬
‫‪ 34‬كنيسة و ‪ 7‬مساجد فقط‪ ،‬مع أن نسبة المسلمين هائلة‪ ،‬ونسبة القباط‬
‫دون العُشر‪ ،‬فهل أن أخطأت في ذكر العداد؟ إنني استقيت معُلوماتي من‬
‫بلدية القاهرة ‪.1957‬‬
‫ي ما يخمطئ هذه العداد التي ذكرتها‪،‬‬ ‫قال الستاذ المستشار‪ :‬ليس لد ت‬
‫وإنما المخوف من طريقة العُرض فهي تبعُث على البلبلة‪!...‬‬
‫‪ -‬قلت‪ :‬سيدي المستشار‪ ،‬قد يسير رجل في الطريق فيرى لصا ا يعُالج باب‬
‫دكان يريد كسره ليسرقه‪ ،‬فيقول في نفسه لو تعُرضت له ربما أصابني‪،‬‬
‫فيدعه ويمضي لشانه‪ !...‬قد يعُذر على نحو ما هذا الجبان! لكن ما الرأي‬
‫إذا كان الفادر من وجه اللص واحداا من رجال الشرطة؟ إنه يعُد خائنا ا‬
‫يقيناا‪ ،‬لن مهمته حراسة المن!‬
‫‪ -‬قال الستاذ المستشار‪ :‬هذا صحيح!‬
‫قلت‪ :‬فأنا ‪-‬في وظيفتي الترسمية‪ -‬حارس لليمان‪ ،‬سأكون خائنا ا إذا سك م‬
‫ت‬
‫عن هدم المساجد‪ ،‬أو غلبة غيرها عليها!‬
‫شعُرت بأن الستاذ العُادل رئيس المحكمة قد تغتير وجهه‪ ،‬وأخذت صورة‬
‫من التفكير الجاد‪ ،‬والتجدرد ل تظهر على ملمحه‪ ،‬وأخذ يناقشني بشيء‬
‫من الحنمو والهدوء‪ ،‬ويقلب صفحات الكتاب‪ ،‬ويسألني عن بعُض الحقائق‬
‫العُلمية‪ ،‬ثم أصدر حكمه برفض المصادرة‪ ،‬وتركا الكتاب للتداول الحمر!‬
‫صمفق قلبي بين جوانحي‪ ،‬وخرجت من الجلسة شاكراا‪ ،‬وإذا رجال‬
‫الشرطة يلقونني ببرود أقرب إلى السخرية! إن إجراءات الداخلية ل‬
‫توقفها أحكام القضاء‪ ،‬فقد تفرج المحكمة عن شخص وتعُتقله الداخلية‬
‫لسباب لديها‪...‬‬
‫وصودر الكتاب فلم يفرج عنه إل بعُد أن مات جمال عبد الناصر فاتح باب‬
‫الحرية‪ ،‬الرئيس الكبير القلب!‬
‫منهجي في الدعوة‬
‫أرى أن ألقي ضوءاا على طريقتي في الدعوة‪ ،‬ووسائل لدعم اليمان‬
‫والمنهج السلمي!‬
‫إنني أعتقد أن الدين هو الفطرة السليمة‪ ،‬قبل أن تشوهها تقاليد سيئة‬
‫وأفكار سقيمة‪ ،‬وأن أنصبة الناس من سلمة الفطرة شديدة التفاوت‪ ،‬وأن‬
‫هذه النصبة موزعة على خلق ا حيث كانوا‪ ،‬ومن ثم فأنا أرقب ما‬
‫يصدر عن الناس من أقوال وأفعُال‪ ،‬وأزنه بمعُيار الفطرة المقررة عندي‪،‬‬
‫فما كان خيراا قبلته‪ ،‬وما كان شراا رفضته‪...‬‬
‫وفي حالت في الرفض والقبول فأنا أكمل للناس ما نقصهم‪ ،‬أو أؤكد ما‬
‫صني ا به! أعني من السلم الذي هداني ا‬ ‫لديهم‪ ،‬من التراث الذي خ م‬
‫سرته لي‪ ،‬ومتكنتني منه‪.‬‬ ‫إليه‪ ،‬إذ أوجدني في بيئة ي ت‬
‫إن الديان أقدار! وإذا أنعُم ا علمي بالسلم فلقندر هذه النعُمة‪ ،‬وليكن‬
‫تقديري لها أن أعامل من حموها بشيء من الوعي للظروف التي أحاطت‬
‫بهم‪...‬‬
‫والواقع أني أكره العُنف والتحامل على الخرين‪ ،‬وبقدر ذلكا أكره العُدوان‬
‫على ديني‪ ،‬الفتيات على حقي‪!...‬‬
‫من أجل ذلكا لم أتهيب أي مجتمع أدعو فيه‪ ،‬ولم أستوحش من السماء‬
‫السائدة أو العُناوين الشائعُة للمذاهب الجتماعية والقتصادية المختلفة‪،‬‬
‫بل من نقطة التلقي بين الفطرة التي عرفيتها بالوحي‪ ،‬وعرفها غيري‬
‫بالتجربة أو بالفلسفة أو بالعُلم‪ ،‬من هذه النقطة أبدأ العُمل لديني وأنا‬
‫متمكن ومستريح‪!...‬‬
‫ل‪ ،‬وعن‬ ‫نعُم قبلت ما رفضه غيري من كلمات الديمقراطية والشتراكية مث ا‬
‫طريق الكراهية الفطرية للستبداد السياسي أو الجشع الرأسمالي؛ أخذت‬
‫أعرض من ديني النواحي المقابلة أو المماثلة‪ ،‬فإذا نجحت في إبراز‬
‫الحقيقة السلمية –ويجب أن أنجح وإل كنت داعيا ا فاشل‪ -‬انتقلت بالفرد‬
‫س‬
‫الذي أحدثه أو المجتمع الذي أخاطبه‪ ،‬إلى آفاق أوسع ونواح تم د‬
‫العُقيدة والعُبادة وسائر شعُمب اليمان‪.‬‬
‫بل إنني دخلت في ميدان "العُروبة" بهذه الخطة‪ ،‬وقلت لولئكا الناس‪:‬‬
‫تريدون بعُثا ا عربياا؟ وأنا كذلكا أريد بعُثا ا عربياا!‬
‫هل رفع شأن العُرب رجل أعظم من محمد؟ هل خملد لغتهم إل القرآن؟ هل‬
‫دخل بهم في التاريخ إل السلم؟ هل كفكف عصبياتهم وأمات حزازاتهم‬
‫إل هذا الدين؟ فأذهب فرقتهم‪ ،‬ورفع رايتهم‪ ،‬ونصرهم على عدوهم‪،‬‬
‫وحتملهم رسالة خالدة‪ ،‬هي الرحمة للعُالمين‪!...‬‬
‫ما هي الرسالة التي يحملها العُرب إذا تركوا السلم؟‬
‫تقولون‪ :‬أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟ ما هي هذه الرسالة؟ إن لم‬
‫تكن السلم؟ ثم إن السلم جعُل العُربي النصراني مضمون البر والعُدل‪،‬‬
‫موفور الكرامة والذمة؛ وما أظن أحداا من العُرب الذين يحترمون جنسهم‬
‫يكره محمداا أو ميمومد المعُمنمت لقومه والهوان لرسالته‪!...‬‬
‫الذي وجدته في أدعياء العُروبة أنهم يكرهون اللغة العُربية‪ ،‬والتراث‬
‫العُربي‪ ،‬التاريخ العُربي‪ ،‬حتى لقد استيقنت أنهم سماسرة الستعُمار‬
‫خبيث‪ ،‬يريد القضاء على العُرب باسم "العُروبة"‪!...‬‬
‫هناكا ناس من الدعاة يضيقون أشد الضيق بالعُناوين المحمدثة‪،‬‬
‫ويشمئزون من ديمقراطية أو اشتراكية‪ ،‬أو ما شابه ذلكا!‬
‫وهؤلء الناس نوعان‪ :‬نوع يريد السلم عنوانا ا فجا ا على يركام من‬
‫التعُاليم الممدتونة بلغة العُصر المملوكي‪ ،‬أو لتركي‪ ،‬ول يتحركا مقفيد أنملة‬
‫لتوضيح يطلبه العُصر‪ ،‬ول يقبل مقترحات جديدة للوسائل التي تخدم‬
‫أهدافنا وشرائعُنا‪ ...‬إن هذا النوع يشبه من يريد المقاتلة بالخيل في‬
‫عصر التفجير الذمر معُتمداا على نصوص لم يفهمها‪...‬‬
‫وأنا أرفض التعُاون مع هذا النوع‪ ،‬ول أكترث بإنكاره علمي‪ ،‬أو تبدرمه‬
‫بي‪!...‬‬
‫وهناكا نوع غيور على السلم شكلا وموضوعا ا يقول‪:‬إن العُناوين‬
‫المجلوبة من الخارج قد تقدح في الحقائق الجليلة التي ورثناها‪ ،‬ومن‬
‫الممكن أن ننظر إلى أحسن ما لدى الخرين ملءمة للفطرة‪ ،‬وموافقة‬
‫للوحي‪ ،‬فنأخذه ليكون –بعُد تهذيبه‪ -‬من بين الوسائل التي نخدم بها قيمنا‬
‫المقررة!‬
‫إن الخلف مع هذا النوع شكلي‪ ،‬وإنني لغار على ديني كما يغارون‪،‬‬
‫وإنما لريد أل يألدغ من جحر مرتين! فكم من متدينين يتصورون الخلفة‬
‫فرعونية جديدة تحكم دون معُقب‪ ،‬أو قارونية جديدة تحب المال حبا ا جماا‪،‬‬
‫وتريقه في أهوائها دون رقيب!‬
‫مع التحاد الشتراكي‬

‫جمال عبدالناصر‬
‫على أية حال‪ ،‬إننا نحن المسلمين نتبع دينا ا واضح المحجة‪ ،‬منير النهج‪،‬‬
‫وقد أبحث لنفسي‪ ،‬وأنا في مصر‪ ،‬أن أدخل فيما يستمى التحاد الشتراكي‪،‬‬
‫وقررت عن طريقه أن أحاول خدمة السلم ونشر الدعوة‪...‬‬
‫لقد كان أستاذي حسن البنا يقول‪ :‬أنا ل أخاف العُمل مع الشيطان‪ ،‬فلينلسر‬
‫معُاا‪ ،‬وسنرى من يفمر من صاحبه!‬
‫إنني سأدخل هذه الهيئة‪ ،‬وسأرى هل سأنتصر بالسلم أم ل؟ وكان معُي‬
‫شيخ محممين الدين كثير الدعابة‪ ،‬نتعُاون معُا ا على صنع النكتة‪ ،‬إذا محمز بنا‬
‫أمر‪ ،‬أو أردنا التنفيس عن متاعبنا‪ ،‬قال لي يوما‪ :‬أجز هذا البيت‪:‬‬
‫إذا بلغ الرضيع لنا فطاما يروح إلى اتحاد الشر كفينا!‬
‫فقلت‪:‬‬
‫فيهتف للزعيم هتاف عبد يخاف السجن أو يخشى المنونا!‬
‫واستغرقنا في الضحكا‪ ،‬ماذا نصنع؟ إن الفكاهة تريح العصاب أحياناا‪...‬‬
‫ودخلت التحاد الشتراكي‪ ،‬وكانت تجربة شاقة‪ ،‬ل عهد لي بمثلها‪ ،‬فهناكا‬
‫لجنة أساسية ينتخب الجمهور أعضاءها بطريق القوائم في كل وزارة‪ ،‬أو‬
‫ح مي‪ ،‬أو مصنع‪ ...‬إلخ؛ ثم يجتمع مندوبو اللجان الساسية في كل قسم‬
‫لينتخبوا لجنة القسم أو المركز‪ ،‬ثم يجتمع مندوبو المراكز أو القسام‬
‫لينتخبوا لجنة المحافظة‪ ،‬ثم تجتمع لجان المحافظات لتختار ضعُف‬
‫العضاء المطلوبين للجنة المركزية‪ ،‬فييختار نصفهم لعُضوية اللجنة‬
‫المركزية‪ ،‬ومن اللجنة المركزية تكون اللجنة التنفيذية التي تدير شؤون‬
‫الدولة تقريباا‪ ،‬لن الوزراء منها‪ ،‬أو خاضعُون لها‪...‬‬
‫ومن السهل إدراكا أن هذا التنظيم صورة لتنظيم الحزب الشيوعي في أي‬
‫بلد اشتراكي‪ ،‬فالقمة تصنع القاعدة أكثر مما تصنع القاعدة القمة‪!...‬‬
‫وقد رأيت أني في المركز أشاهد أناسا ا ل أدري كيف نبتوا‪ ،‬فل يكاد‬
‫يعُرفهم أحد! يمشون معُنا ليصلوا بقدرة قادر إلى مستوى المحافظة‪ ،‬ثم‬
‫يتم تصعُيدهم إلى اللجنة المركزية‪ ،‬بطريق الختيار الصريح من أعلى!‬
‫وشاء ا أن أصعُد في هذه لدرجات مستوى بعُد مستوى‪ ،‬حتى بلغت‬
‫اللجنة المركزية‪ ،‬فاختار المسؤولون أسماء ارتضوها‪ ،‬ويرتد اسمي لنه ل‬
‫يوثق به! قلت‪ :‬إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون!‬
‫وأخذت أعمل مكاني‪ ،‬أحاول خدمة ديني‪ ...‬كان الجو موبوءاا‪،‬‬
‫فالشيوعيون رتبوا صفوفهم لقيادة البلد‪ ،‬وغيرهم بين متملق يتسكع على‬
‫أبواب الرؤساء‪ ،‬أو أناني ل تحركه إل مآربه المكشوفة؛ وإذا جاء وقت‬
‫صلة فما يتحركا إل قليل‪...‬‬
‫والفكر السلمي غريب‪ ،‬واتخاذه شعُاراا أغرب‪ ،‬والقضايا تهبط من فوق‬
‫لتلقى التأييد‪ ،‬والشيطان يذرع الساحة كلها جيئة وذهاباا‪...‬‬
‫وأذكر أننا في أحد المؤتمرات‪ ،‬سمعُت المقرر يعُلن باسمنا أننا قررنا‬
‫تعُديل قوانين الحوال الشخصية!‬
‫فنهضت من مكاني صائحاا‪ :‬هذا غير صحيح‪ ،‬لم نقرر شيئا ا من هذا‪ ،‬هذا‬
‫افتعُال ل أصل له‪...‬‬
‫وتواثب الحراس من حولي يشدونني لجلس‪ ،‬ولما لم يقم أحد معُي‬
‫يرفض هذا الزيف؛ صحت‪:‬أنا منسحب من المؤتمر‪ ،‬وخرجت عائداا إلى‬
‫بيتي‪!...‬‬
‫ويظهر أن هذا الموقف كان له بعُض الثر‪ ،‬فقد أعيد تنظيم لجنة السرة‪،‬‬
‫ووضعُت فيها‪ ،‬وكان معُنا الدكتور محمد عبد ا ماضي وكيل الزهر يوم‬
‫ذاكا‪ ،‬وأمكن حجز الشر إلى حين‪...‬‬
‫لقد لمني بعُض الصالحين على قبول عضوية التحاد الشتراكي! والعُمل‬
‫في هذا الوسط الرديء‪ ،‬فقلت له‪ :‬أنبقى مكتوفي اليدي والغير يصنع‬
‫القرارات‪ ،‬ويفاجئنا بما يهوى؟ إن السلبية ل تفيد!‬
‫قال‪ :‬وماذا صنعُت أنت؟ قلت‪ :‬أنا وحدي ل أعني‪ ،‬إن الجبن في هذه‬
‫التنظيمات هو سيد الخلق! عندما وقفت أعترض المقرر‪ ،‬كان جاري‬
‫اليمن وكيل وزارة‪ ،‬والجار اليسر من كبار الشيوخ في الزهر‪ ،‬ومع‬
‫ذلكا فإن كليهما فزع‪ ،‬وكأنه لعُن الظروف التي قاربته مني‪ ،‬إنهما يفقدان‬
‫شجاعة اليمان‪ ،‬وقد فهمت لماذا كان حسن البنا حريصا ا على"التربية‬
‫الدينية الصحيحة"؟‬
‫وذكرت أني مسؤول كبير في أجهزة الدعوة‪ ،‬وأني من بضع سنين أخطب‬
‫الجمعُة في الزهر‪ ،‬فقررت مضاعفة الجهد‪ ،‬وفتق الحيل لعُلم إسلمي‬
‫مثمر‪ ،‬وقلت‪ :‬تستعُد شعُبيا ا لعُودة أشمل وأسرع إلى السلم‪...‬‬
‫وعرفت أن مؤتمراا كبيراا سوف ينعُقد لمراجعُة إقرار "الميثاق الوطني"‬
‫الذي ستمضي البلد على ضوئه في السنوات القادمة‪...‬‬
‫إنني هنا أروي قصة حياتي‪ ،‬ولست أؤرخ للحداث الهائلة التي تعُرضت‬
‫لها مصر‪ ،‬عندما هاجمتها إسرائيل وفرنسا وإنجلترا‪ ،‬ول مولد التحاد‬
‫بين مصر وسوريا ووفاة هذا التحاد‪ ،‬ول الهوال التي مغلشميفت‬
‫المحبوسين والمعُتقلين من جماعة الخوان المسلمين‪ ،‬ول الهتمات التي‬
‫صمدعت الكيان السلمي في القاهرة –العُاصمة الثقافية للمسلمين‪-‬‬
‫وأ مخرت‪ ،‬ول أقول‪ ،‬أماتت الدور التاريخي الذي تقوم به في خدمة السلم‬
‫ولمم فلوله‪...‬‬
‫إنني أيم مر بهذه الحداث كما يمر راكب القطار بمعُالم الطريق‪ ،‬واقف وقفة‬
‫طويلة عندما يكون الحديث ذا شجون‪.‬‬
‫انعُقد المؤتمر الكبير‪ ،‬وافتتحه الرئيس جمال عبد الناصر‪ ،‬وكان يعُاونه‬
‫السيد كمال الدين حسني‪ ،‬وينوب عنه في غيابه‪ ،‬وكان المين العُام السيد‬
‫أنور السادات‪.‬‬
‫وبعُد العمال التمهيدية أخذ العضاء يسجلون أسماءهم طالبين التحدث‬
‫إلى الحضور ليشرحوا وجهات نظرهم‪ ،‬وكنت من أوائل الذين طلبوا‬
‫الكلمة‪ ،‬وقد حددت موضوعي بأناة‪ ،‬وقررت البعُد عن التحندي‬
‫والسهاب‪!...‬‬
‫قلت‪" :‬أيها الخوة‪ ،‬إن الشعُار الذي رفعُناه هو تحرير الوطن والمواطن‪،‬‬
‫فهل يتحقق هذا الشعُار إذا أخرجنا النجليز من أرضنا وبقيت قوانينهم‪،‬‬
‫وتقاليدهم‪ ،‬ولغتهم تحتل م مجتمعُنا وتسميره؟ فيم كان الجهاد إذن؟ إذا كانت‬
‫تبعُتييتنا لهم ظاهرة‪ ،‬وولؤنا لمخاتلفاتهم قائما؟‬
‫"إن التحرير الحق هو أن نحيي تراثنا‪ ،‬ونقندم لغتنا وأدبنا‪ ،‬ونننفذ‬
‫شريعُتنا‪،‬وننبذ هذه القوانين التي وضعُها المستعُمرون لنا‪ ،‬وسلخونا بها‬
‫عن ديننا وتاريخنا!‬
‫"ولننظر إلى مصلحتنا الجتماعية موازنين بين الربح والخسارة! آلف‬
‫من جرائم القتل تقع‪ ،‬والذين يعُاقبون بالعدام نفر قليل‪ ،‬ويحكم على‬
‫الكثرين بالسجن‪ ،‬ثم تمر العوام‪ ،‬ويخرج السجين القاتل‪ ،‬ويرى النسان‬
‫قاتل أبيه أو أخيه في الطريق فيقتله أخاذ بالثأر!‬
‫"أيكفي في علج هذه الحال تكليف بعُض الوعاظ بمحاربة عادة الخذ‬
‫بالثأر؟ ما الذي يمنع من القصاص الذي كتبه ا لصيانة الحياة وتحقيق‬
‫صن مجتمعُنا‪!...‬‬‫العُدالة؟ فنرضى ربنا‪ ،‬ونح ن‬
‫"وإني واحد من الذين يأمبون قبل جائع يسرق ليقوت نفسه أو أهله‪،‬‬
‫والشريعُة يستحيل أن تقطع هؤلء البائسين؛ لكن إذا وجدنا من يسرق‬
‫مثنى وثلث ورباع ليعُربد‪ ،‬وينفق عن سفه ذات اليمين وذات الشمال‪،‬‬
‫كيف نتركه؟ لماذا ل نحمي الكسب الحلل من عدوان أولئكا المجرمين؟‬
‫إن يد اا واحدة تقطع ستقضي على العُصابات التي احترفت اللصوصية!"‬
‫ومضيت في شرح الحقائق السلمية الضائعُة‪ ،‬مطالبا ا بعُودة المجتمع‬
‫إليها‪ ...‬وبعُد ربع ساعة تكلمت عن "الملبس" في أقل من ثلث دقائق‬
‫مطالبا ا بتوحيد الزني للرجال‪ ،‬وتوحيده كذلكا للنساء خصوصا ا الطالبات‪...‬‬
‫ت مواصفات سهلة‪ :‬أن يكون رخيص السعُر‪ ،‬وأن يكون من‬ ‫ووضعُ ي‬
‫النتاج الوطني‪ ،‬وأن يلبسه الرئيس والوزراء‪ ،‬ويعُد اللباس الرسمي في‬
‫كل ديوان أو حفل!‬
‫وبالنسبة للنساء يكون ساتراا للجسم كله ما عدا الوجه والكفين‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ولعُل أقرب مثل له زدي الراهبات المسيحيات أو الفلحات المصريات‪!...‬‬
‫وكنت في حديثي سهل العُبارة‪ ،‬ممتوندداا إلى الجمع الذي يزيد على القل‪،‬‬
‫وكنت قبل الحديث قد دعوت ا أن يلهمني الرشد‪ ،‬وأن يفتح لي‬
‫القلوب‪!...‬‬
‫ويظهر أن ا استجاب لي‪ ،‬فإن كلمتي –وإن عمدها البعُض شرحا ا ماكراا‬
‫لدعوة الخوان المسلمين‪ -‬بلغت أعماق النفوس‪ ،‬ولقيت ترحابا ا واضحا ا‬
‫وتصفيقا ا شديداا‪...‬‬
‫وكان بين أعضاء المؤتمر سبعُون شيوعياا‪ ،‬أفزعهم هذا الجو السلمي‪،‬‬
‫وزاد من ضيقهم أن جماعات ضخمة كانت تردي الصلوات في الوقات‪،‬‬
‫وتتحدث عن ضرورة التمسكا بالسلم‪.‬‬
‫وقد اتفقت كلمتهم على توجيه ضربة سيئة لي توقف نشاطي‪ ،‬فأوعزوا‬
‫إلى الرسام الهزلي صلح جاهين أل يدع الكلمة التي ألقيتها تممر دون‬
‫تعُليق ساخر يفقدها قيمتها!‬
‫وظهرت صحيفة الهرام في اليوم التالي‪ ،‬وقد صورتني عاري الرأس‬
‫ساقط العُمامة على الرض‪ ،‬لن قوانين الجاذبية شمدتها‪ ،‬وفق التطور‬
‫العُلممي!‬
‫ونظرت إلى الصورة وقد تملكني الغضب‪ ،‬فإن العُمامة ليست لباسا ا خاصا ا‬
‫بي‪ ،‬وإنما هي رمز العُلماء المسلمين! والرسام الشيوعي يريد اليحاء‬
‫بأن القوانين العُلمية ستعُصف بالسلم‪!...‬‬
‫ورئيس تحرير الهرام‪ ،‬فيما علمت‪ ،‬له دور في وضع الميثاق‪ ،‬وصلت‬
‫الميثاق بالسلم خافية أو حائلة‪...‬‬
‫قلت في نفسي‪ :‬بدأ الهجوم! إنه بدأ في الهرام واستمر في الكلمات التي‬
‫تتابعُت بالرمد علمي من شيوعيين آخرين داخل المؤتمر نفسه‪...‬‬
‫وطلبت التعُقيب على ما ونجه إلتي من تساؤلت وتهم‪ ،‬ويأعطي ي‬
‫ت الكلمة‪،‬‬
‫فقسمتها شطرين‪...‬‬
‫"الول‪ :‬هل لعضاء المؤتمر حرية الكلم دون أن تهينهم الصحف أم‬
‫ل‪...‬؟ إن كان كل عضو هنا له حق عرض رأيه‪ ،‬فهل هذا الحق مصون‪،‬‬
‫أم أنه ما يكاد يتكلم حتى يناوشه النباح من هنا ومن هناكا؟‬
‫إنني أتركا لعضاء المؤتمر أن يتخذوا قراراهم في هذا الموضوع‬
‫المهم‪...‬‬
‫الثاني‪ :‬لقد عرضت حقائق إسلمية كثيرة‪ ،‬عجز أعداء السلم عن‬
‫مناقشتها‪ ،‬وأخذوا يوجهون سهامهم إلى قضية الملبس وحدها‪ ،‬وإلى‬
‫ملبس النساء بالذات! فهل المطالبة بالحتشام جريمة أو خروج عن‬
‫القانون؟"‬
‫ثم شرحت موقف السلم من المرأة‪ ،‬وبمينت أخطار فصل قضية المرأة‬
‫عن الدين‪ ،‬ثم حملت حملة شعُواء على الباحيين وفاقدي الشعُور الديني‬
‫في بلدنا‪...‬‬
‫واقتربت مرة أخرى من نفوس العضاء الذين تضاعف حماسهم‬
‫ي!‬‫للسلم‪ ،‬وظهر أن اتجاههم إلى تحكيمه قو م‬
‫ول بد أن أقول هنا‪ :‬إني وجدت تجاوبا ا وترحابا ا من السيد كمال الدين‬
‫حسني‪ ،‬على حين كان غيره من المسؤولين يكاد يتميز من الغيظ‪!...‬‬
‫لكني طالعُت الصحف في اليوم التالي‪ ،‬فوجدت عدوى الضلل قد انتقلت‬
‫إلى بقية الجرائد والمجلت‪ ،‬وأن الحملة علمي اتسمت بالحدة والقسوة!‬
‫وتحركا الشيوعيون داخل المؤتمر مرة أخرى‪ ،‬وسمعُت هجاء كثيراا‪،‬‬
‫وتكلمت امرأة كانت وزيرة للشؤون الجتماعية فوصفتني بما أضحكني!‬
‫ولم أتابعُها لني وجديتها تلغو بما ل يساوي سماعه!‬
‫إن حتدة عاطفتي تسيء إلمي كثيراا‪ ،‬وقد حزنت لني أصبحت مادة لكتاب‬
‫تافهين‪ ،‬وتيقظت في دمي غرائز القتال‪ ،‬فشرعت أهاجم بضراوة‪،‬‬
‫وأتحدث عن كبار وصغار باحتقار‪ ،‬وأرسل إلمي بعُض المسؤولين يطلب‬
‫مني التحدفظ‪...‬‬
‫وشاء ا أن يشعُر أعضاء المؤتمر بأنهم أهينوا في شخصي‪ ،‬فكتبوا‬
‫لسكت هذا‬ ‫طلبا ا للرئيس عبد الناصر أن يأعطي الكلمة مرة ثالثة ي‬
‫الضجيج‪...‬‬
‫حمل الطلب بعُض العضاء من الصعُيد‪ ،‬وممروا به بين الصفوف ليأخذوا‬
‫إمضاء أكبر عدد من الحضور‪ ،‬فإذا المئات يوافقون‪ ،‬وأحس الرئيس‬
‫جمال عبد الناصر بالحركة‪ ،‬وكان متيقظا ا لكل ما يحدث‪ ،‬وجاءه الطلب‪،‬‬
‫ولم أعرف الرأي في قبوله!‬
‫وأخذ العضاء استراحة نحو نصف ساعة‪ ،‬ثم عادوا إلى مقاعدهم‪ ،‬وكنت‬
‫يائس اا من أن أتكلم مرة ثالثة‪ ،‬فاخترت أن أجلس في مؤخرة الصفوف‪...‬‬
‫وعندما التأم شمل الجلسة لحظت أن الرئيس انصرف!‬
‫كنت أسترجع الماضي القريب! إنه من بضع سنين فقط كان رؤساء‬
‫التحرير الذين سخروا صحفهم لشتمي من رجال القصر الملكي‪ ،‬وبغتة‬
‫ركبوا عربة هذا النقلب المشؤوم‪ ،‬وزعموا أنفسهم طلئع الحرية‪!...‬‬
‫وافتتح أنور السادات الجلسة‪ ،‬وقال‪ :‬هناكا طلب وقعُه كثيرون بأن يعُود‬
‫الشيخ الغزالي إلى المنصة‪ ،‬فتعُالى التصفيق‪ ،‬وغلبت صيحات الموافقة‬
‫كل شيء! فقال السادات في هدوء‪ :‬ليحضر العُضو المحترم‪ ،‬وليتكلم‪!...‬‬
‫كنت بعُيداا لني في آخر صف‪ ،‬ولما دموى التصفيق تذكرت كلمة لبي‬
‫ت غير‬ ‫يوسف الفقيه الحنفي‪ :‬أيها الناس‪ ،‬أريدوا ا بعُملكم‪ ،‬فوا ما أرد ي‬
‫ت الوقفة‬ ‫ت رأسي‪ ،‬وتذكرت ربي‪ ،‬وقلت‪ :‬أجعُفل ي‬ ‫ا بعُمل إل يخذلت‪ ،‬فطأطأ ي‬
‫له‪ ،‬فما أحب الخذلن‪ ،‬وإذا غترني هذا التصفيق المتتابع محمبط عملي‪ ،‬حتى‬
‫لو نجحت في كلمتي وأعجبت هؤلء الخوة‪ ،‬فل قيمة لي بعُد أن خسرت‬
‫وجه ا‪!...‬‬
‫ل‪ :‬أهي جريمة ل تغتفر أن أقف إلى جانب‬ ‫وبدأت الحديث مع إخواني قائ ا‬
‫السلم‪ ،‬وأن أشرح بعُض تعُاليمه؟ هل الحرية تكمفل لكل من أراد نصرة‬
‫مبدأ ما؛ فإذا انتهى المر إلى السلم فل حرية‪!...‬‬
‫"أين كانت أصوات الشاغبين علمي وأنا أحامي عن المستضعُفين‪ ،‬أنشيد‬
‫لهم الكرامة‪ ،‬وعن الفقراء أتطملب له من القوت‪ ،‬أين كان هؤلء يوم أملفت‬
‫كتابي السلم والستبداد السياسي‪ ،‬في ظل أزمات عصيبة أوقعُها القصر‬
‫بالشعُب‪!...‬‬
‫إنني لم أسمع لواحد من هؤلء الشجعُان صوتا‪ ،‬ولم أر لهم أثراا‪!...‬‬
‫لقد اعتقلت عاما ا في الطور وهم يلهون ويلعُبون!‬
‫الن نتحدث عن السلم يستباح بهذا السلوب؟‬
‫يا عجب اا‪ ،‬إنه عندما كان الملكا فاروق يبحث عن الشهوات كان أولئكا‬
‫المهاجمون لي من رجال الصحافة يشتغلون قموادين للملكا الماجن!"‬
‫وانطلقت بعُد ذلكا أتناول موضوع النـزاع‪ ،‬ول أدري ما قلت بدقة‪ ...‬وإنما‬
‫الذي أذكره أن الرئيس السادات حاول ثفنمي زمامي‪ ،‬وتذكيري بأني‬
‫تجاوزت الوقت‪ ،‬فرفضت السماع له‪ ،‬وشفيت مما نالني ونال المؤمنين‬
‫معُي‪...‬‬
‫وفي اليوم التالي‪ ،‬وكان يوم جمعُة‪ ،‬نشرت الهرام عشر صور هزلية في‬
‫صفحة كانت فيما يبدو مخصصة للنيل مني‪ ،‬ولكني هذه المرة لم أكترث‬
‫لهذا الهزل‪ ،‬ولم أعتبر نفسي مهزوما‪...‬‬
‫ت خطبة الجمعُة في الزهر مختاراا لها موضوعا ا أبعُد ما يكون عن‬ ‫وألقي ي‬
‫قضية الساعة‪ ،‬وأحسست أن الزحام شديد جداا‪ ،‬وبعُد الصلة سكنت‬
‫مكاني دقيقة واحدة‪ ،‬انفجر المسجد المكتظ بعُدها بصياح اختلط فيه‬
‫التكبير بالبكاء وبالهتاف‪ ،‬ورأيتني محموال فوق الرؤوس‪ ،‬ل أعرف ما‬
‫أصنع‪!...‬‬
‫وحاولت المساكا بأي عمود يلقاني من أعمدة المسجد‪ ،‬وهيهات! فلما‬
‫اقتربنا بعُد لي من الباب بذلت جهد اليأس في المساكا به‪ ،‬وأعانني‬
‫رجال الشرطة على النـزول بالرض والحتماء بإدارة الزهر‪ ،‬وكان‬
‫المصلون في المسجد يزيدون على عشرين ألفا‪ ،‬انضم إليهم مثلهم من‬
‫مسجد الحسين والمساجد القريبة‪ ،‬وانطلقت المظاهرة إلى جريدة الهرام‬
‫لتحرقها‪ ،‬وكلما قاربت هدفها تضاعف عددها‪ ،‬ولكن رجال الشرطة‬
‫استدعوا نجدات كثيفة لحماية الجريدة‪ ،‬فدامر الجمهور حول نفسه في‬
‫غضب رهيب‪ ،‬وقال كبير في الداخلية‪ :‬لو كانت هذه المظاهرة منظمة أو‬
‫مدبرة لحرقت القاهرة‪!...‬‬
‫عندما أقبل صباح الغد علمنا أن المظاهرات لم تكن مقصورة على القاهرة‬
‫وحدها‪ ،‬بل إن بعُض عواصم القاليم تحركت فيها الجماهير مناصرة‬
‫للسلم‪ ،‬وناقمة على النيل من علمائه‪...‬‬
‫ولذلكا قرأنا ونحن نضحكا ما كتبه الستاذ محمد حسنين هيكل يوم‬
‫السبت‪ ،‬من أن الشيخ الغزالي ستير لفيفا ا من تلمذته لتهاجم الهرام!‬
‫إن الحشود التي سارت صوب الصحيفة المتجمنية‪ ،‬فوق المائة ألف‪ ،‬فهل‬
‫أولئكا جميعُاا تلمذتي الذين أوعزت إليهم بما حدث؟‬
‫إن أمتنا تحب دينها‪ ،‬وتريد أن تحيا وتحكم وتوتجه به وحده! وقد مرمبت‬
‫ثقتنا في أنفسنا عندما استأنفنا جلسات المؤتمر‪ ،‬ولم نكترث لما كان يلوح‬
‫على وجه جمال والسادات من ضيق مكتوم!‬
‫ولما تقرر تأليف لجنة لوضع التقرير المطلوب عن الميثاق المقترح‪،‬‬
‫همس يت في أذن الشيخ سيد سابق أن العُمل الحقيقي قد بدأن فإن المهم أن‬
‫يوضع تقرير تبرز فيه الصبغة السلمية لمصر‪ ،‬ويخسر هذا التيار‬
‫اليساري المنكور‪...‬‬
‫والواقع أن الجهاد المضني بذل في لجنة التقرير‪ ،‬واستمات فيه الشيخ‬
‫سيد سابق‪ ،‬مع عدد من أولي الخلص والغيرة‪ ،‬وأمكنهم تقليم أظافر‬
‫الشيوعيين‪ ،‬ووضع التقرير المطلوب‪...‬‬
‫ى‪ ،‬لول‬ ‫ومن النصاف أن نوضح هنا أن عملنا كله كان سيذهب سد ا‬
‫صلبة الرجل المؤمن الصبور كمال الدين حسني‪ ،‬فقد أبى المداهنة‬
‫والعُبث‪ ،‬ووفر الحرية كاملة للعضاء‪ ،‬وهم ل يبغون بالسلم بدي ا‬
‫ل‪...‬‬
‫ولذلكا انمحت الميوعة العُقائدية التي تجعُل الميثاق المقترح يصلح كما‬
‫قلنا لدول أوربا الشرقية‪ ،‬ويجعُل الشعُب المصري مبتوت الصلة بدينه‬
‫وشعُائره‪...‬‬
‫وأثبتنا أننا على السلم نبمين‪ ،‬ومنه نستمد‪ ،‬وجعُلنا التقرير المحتفي‬
‫بكتاب ا مهيمناا على ما سواه‪ ،‬ول بد من طبعُه مع الميثاق ليكون جزءاا‬
‫متمما ا له!‬
‫وقرء التقرير‪ ،‬ونال موافقة شبه إجماعية! ولم تكن هذه النتيجة متوقعُة‪،‬‬
‫ولم يرض عنها جمال عبد الناصر‪!...‬‬
‫وألحق أن الخصومة التي وقعُت بين كمال الدين حسين وجمال عبد‬
‫الناصر بدأت من ذلكا اليوم‪ ،‬واتسعُت الهتوة على منر اليام‪ ،‬حتى يأبعُد‬
‫الرجل الذي استمسكا بدينه‪ ،‬ويدنمرت حياته المادية‪ ،‬وعاش بعُيداا عن‬
‫أسباب السلطة!‬
‫لو يجد جمال صعُوبة في طمي التقرير وإهمال إرادة المؤتمر‪ ،‬وفرض ما‬
‫يريده هو على المصريين‪!...‬‬
‫أما أنور السادات فهو صوت سيده! كان أقل م وأذلم من أن ينأى عن هوى‬
‫زعيمه قيد أنملة! بل كان معُروفا ا بأنه الرجل الذي ييسملي وييسنري‪،‬‬
‫ويسارع في مرضاة سيده!‬
‫وعدت إلى عملي بوزارة الوقاف‪ ،‬وقلبي مستريح لما بذلت‪ ،‬وإن كنت‬
‫محزونا ا لما تمم!‬
‫شيء ثمين استفدته من هذه المعُركة‪ ،‬أن الدعايات التي كانت يقوم بها‬
‫بعُض الخوان ضدي توقفت‪ ،‬وخرست اللسنة التي استمرأت عرضي‬
‫حين اا من الدهر‪ !...‬ول أكتم أني كنت أهتاج إذا سمعُت من يقول‪ :‬انضمم‬
‫ض من الدنيا!‬‫إلى الحكومة أو باع دينه بمعُر ل‬
‫ول أزال أرى أن معُاصي القلوب تفتكا بإيمان بعُض المنتمين إلى الدين!‬
‫وأن التماسهم للبرآء العُيب أمر يبطل طاعتهم‪!...‬‬
‫وما أبرئ نفسي من التقصير‪ ،‬وإني لعلم فقري المدقع إلى غفران ا‪،‬‬
‫ولكني بعُيد عما أشاعوه عني‪ ،‬وشاء ا في مواطن كثيرة أن يكشف‬
‫كذبه من حيث ل أدري!‬
‫ولم يلحقني ضار عاجل من موقفي في المؤتمر‪ ،‬ويبدوا أن القوم أمكر من‬
‫ذلكا‪ ،‬فقد تربصوا بي عدة شهور‪ ،‬ثم جاء وزير هبط بي من مدير‬
‫للمساجد إلى مفتش بها‪ ،‬أي رجع بي القهقري خمسة عشر عاما ا في سملم‬
‫الوظائف‪ ،‬ونقلني من مكتبي الخاص إلى مكتب به بعُض الموظفين‬
‫والموظفات!‬
‫ي موللمي وزارة الوقاف‪ ،‬قبل هذه‬ ‫وأجدني هنا مسوقا ا إلى ذكر رجل عسكر م‬
‫الحداث بسنين‪ ،‬هو أحمد عبد ا طعُيمة‪ ،‬لم أر مثله حبا ا في الخير‪،‬‬
‫ورغبة في خدمة السلم‪ ،‬وحماسا ا في فتح المساجد‪ ،‬ودعم الدعوة‪،‬‬
‫وتذليل العُقبات أمامها‪...‬‬
‫جئته يوما –وأنا معُتقز بتقويته لي‪ -‬وقلت له‪ :‬قمت بعُمل ل في المحملة‬
‫الكبرى ل يجيزه القانون‪ ،‬ولكني ثقة فيكا‪ ،‬واطمئنانا ا إلى عونكا فعُلته!‬
‫قال مبتسماا‪ :‬ماذا فعُلت؟‬
‫قلت‪ :‬وجدت الكنيسة التي تقع أمام مسجد أبي الفضل الوزيري‪ ،‬يعُاد‬
‫تشييدها‪ ،‬ورفع أبراجها‪ ،‬وتجديد معُالمها‪ ،‬وبدا المسجد أمامها قزما‪،‬‬
‫وعلمت أن أرض الوقاف حول المسجد سوف تباع بالمزاد‪ ،‬وقد يشتريها‬
‫إخواننا القباط ويتم حصار المسجد‪ ،‬فأمرت الهالي بالستيلء عليها‬
‫وتوسيع المسجد فوقها‪ ،‬وأثبدت ذلكا في دفتر الحوال‪ ،‬وكلفت مدير‬
‫المساجد بمتابعُة التنفيذ وتلقي التبرعات لتجديد المسجد على النحو‬
‫المعُقول!‬
‫فأطال الرجل النظر في وجهي وسأل‪ :‬باسم ممفن لممن الواقفين يكون هذا‬
‫العُقار المراد ضمه إلى المسجد؟ قلت‪ :‬ل أدري! قال‪ :‬ابحث على عجل‬
‫وتعُال إلمي‪...‬‬
‫ضتم إلى المسجد ضما ا قانونيا ا‬ ‫ولم يمض غير أسبوع حتى كان العُقار قد ا‬
‫وصدرت الوامر بجعُل مسجد الوزيري مسجداا نموذجياا‪ ...‬وتتم ذلكا كله‬
‫بفضل ا‪...‬‬
‫وكوفئ الوزير الغيور على السلم بإخراجه من الوزارة‪ ،‬وإرساله سفيراا‬
‫إلى أمريكا الجنوبية‪...‬‬
‫ي الشجاع من الوزارة تذكرت قول الشاعر‪:‬‬ ‫وعندما خرج الرجل القو د‬
‫إن المير هو الذي يضحي أميراا يوم عزله!‬
‫إن ضاع سلطان الول ية لم يضع سلطان فضله!‬
‫وربما نسي الناس كفاح هذا الرجل‪ ،‬لكن ا ل ينسى عمل عامل‪!...‬‬
‫م ترت بي هذه الذكرى وأنا أنزوي في مكتبي المتواضع بالوزارة‪ ،‬بعُد ما‬
‫نـزل بي من ظلم‪ ،‬ثم انضتم إلي ذلكا أني يمنعُت من الخطابة في الجامع‬
‫الزهر! فقلت‪ :‬ل داعي للعُطلة‪ ،‬فلتفمرغ للتأليف‪...‬‬
‫أتمفم يت في هذه العُزلة ثلثة كتب‪ :‬الجانب العُاطفي من السلم‪ ،‬ومعُركة‬
‫المصحف‪ ،‬ودفاع عن العُقيدة والشريعُة ضد مطاعن المستشرقين‪،‬‬
‫ووجدت من جميع العُاملين بالوزارة معُاونة تامة في العُمل الصغير الذي‬
‫ت به‪ ،‬وإحساسا ا بالغضب المكتوم لما حل ت بي من غمط‪...‬‬ ‫كملف ي‬
‫غير أن مصيبة لم تكن متوقعُة هبطت علمي ففمزعتني‪!...‬‬
‫أبلغني الناشر أن الشرطة تحفظت على ثلثة كتب كانت في المطابع يعُاد‬
‫طبعُها‪ ،‬بعُد نفاد طبعُاتها الولى هي‪ :‬مع ا والتعُصب والتسامح‪ ،‬أما‬
‫كفاح دين فقد نقل إلى الداخلية‪ ،‬وتمت مصادرته‪!...‬‬
‫وشيء آخر حدث‪ ،‬أبلغني أصدقائي أن حظراا صدر يقضي ألم أظهر في‬
‫الذاعات كلها مسموعة أو مرئية‪ ،‬فإذا انضمم ذلكا كله بعُضه إلى بعُض‪،‬‬
‫فالقصد واضح‪ ،‬هو تجميدي ماديا ا وأدبياا‪ ،‬وضرب حصار خانق حولي‪!...‬‬
‫والمقلق في هذا الوضع أني كنت بدأت بناء مسكن لي في الجيزة‪،‬‬
‫ف‬‫وسأضطر لعُدم الوفاء بما التزمت به! ثم إن نفقاتي أنا ستقل م بعُد أن ج م‬
‫أغلب المنابع!‬
‫وأنـزلت بال حاجتي‪ ،‬وكتمت مخاوفي في أعماقي‪ ،‬ولم متمزل ابتسامتي‬
‫عن فمي أمام أهلي وأصدقائي‪ ،‬وكلت يوم يمر يتناقص معُه رصيدي‪،‬‬
‫ويتسلل القلق إلى فؤادي‪ ،‬بيد أني أعلل النفس بالمل‪ ،‬وأرقب من ا‬
‫الفرج‪...‬‬
‫وذهب الوزير الذي آذاني‪ ،‬وجاء آخر‪ ،‬لم يلبث غير قليل حتى أرسل إلمي‪،‬‬
‫فصعُدت إلى مكتبه‪ ،‬قال لي باقتضاب‪ :‬دولة الكويت أرسلت تطلبكا لتقضي‬
‫شهر رمضان بها في الدعوة والوعظ! ألديكا مانع؟ قلت‪ :‬ل‪ ،‬فأمر باتخاذ‬
‫إجراءات السفر!‬
‫عدت من الكويت‪ ،‬وقد قضيت شهراا مباركاا‪ ،‬أبيح لي فيه ما كان محظوراا‬
‫عل مي في القاهرة‪ ،‬حاضرت في المساجد الكبرى‪ ،‬وتحدثت إلى أمهات‬
‫الصحف‪ ،‬وسجلت دروساا كثيرة في التلفاز‪ ،‬والذاعة‪ ،‬وتعُاقدت مع‬
‫الناشرين على طبع عشرة كتب من مؤلفاتي!‬
‫ماذا كان على القاهرة لو وسعُتني كما وسعُت الشيوعيين والملحدين من‬
‫كل لون‪...‬؟‬
‫إنني أحتقر من أقصى القلب ناساا يتشدقون بالحرية العُقلنية‪ ،‬فإذا تحدث‬
‫الربانيون الدارسون‪ ،‬وشرعت الجماهير تتدافع إلى ساحتهم‪ ،‬جمفت‬
‫حلوقهم من الذعر والهلع‪ ،‬وتنادوا فيما بينهم‪ :‬امنعُوا فلنا ا وفلنا ا من‬
‫الكلم‪ ،‬وحولوا بين الناس وبينهم حتى ل يسمعُوا منهم حجة‪...‬‬
‫ثم رجعُوا في صفاقة نادرة يقولون‪ :‬الحرية‪ ،‬التقدمية‪ ،‬العُلمانية‪ ...‬إلخ!‬
‫كأن الحرية لهم وحدهم‪ ،‬والسجون والمنافي لخصومهم في الرأي‪...‬‬
‫عدت من الكويت‪ ،‬وكنت قبل سفري شديد الوجل من الزمات الزاحفة‬
‫علمي‪ ،‬وكنت أحفظ حديثاا عن رمضان أنه شهر "يزاد رزق المؤمن فيه"‪،‬‬
‫فس ترني أن جعُلني ربي في عداد أولئكا المؤمنين المعُانين‪ ،‬ووفي ي‬
‫ت‬
‫صادي ما ألفوا نيله مني‪ ،‬لو يشعُر ذو سلطة‬ ‫بالتزاماتي كلها‪ ،‬ومنحت ق م‬
‫أني محتاج إلى بابه‪ ،‬فلله الحمد والممنة‪...‬‬
‫واستدعاني السيد حسين الشافعُي‪ ،‬وفهمت منه أني أستطيع أن أخطب‬
‫الجمعُة‪ ،‬واختار لي وكيل الوزارة مسجد عمر مكرم بميدان التحرير‪،‬‬
‫وذهبت إلى المسجد‪ ،‬وبدأت أؤدي فيه واجبي‪ ،‬وما أن علم الناس أني‬
‫أخطب هناكا حتى تدفقوا ألوفاا على المسجد والميدان المحيط به‪!...‬‬
‫وتكرر اعتراض الداخلية على ظهوري مرة أخرى‪ ،‬وهمس في أذني‬
‫الستاذ القرماني وكيل الوزارة‪ ،‬أن أدع الخطابة من تلقاء نفسي بدل أن‬
‫أحرج السيد حسين الشافعُي مع الوزارة المسؤولة عن المن!‬
‫فكتبت اعتذاراا عن أداء الخطبة‪ ،‬وتوفرت على الكتابة –وهي هواي‬
‫الصيل‪،‬ورأيت أن أحاضر في المساجد الهلية‪ ،‬والندية العُامة‪ ،‬وأن‬
‫أعمل مع العُاملين على تقوية الروح الديني‪ ،‬ونشر الثقافة السلمية‪،‬‬
‫ومطاردة النحراف الفكري والخلقي‪ ،‬وشعُرت بفطرة المؤمن أن هذا‬
‫التنقل أفاد‪ ،‬وأن جيشاا من أهل اليمان استطاع أن يثب بالدعوة إلى‬
‫المام‪ ،‬فهل يتركا السلم يتحركا وحده؟ كل‪ ،‬لقد وقع ما ليس في‬
‫الحسبان!‬
‫س أعداء السلم أن المصريين متمسكون بدينهم‪ ،‬راغبون في إعلء‬ ‫أح م‬
‫شعُائره‪ ،‬وإحياء شرائعُه‪ ،‬وأنهم تحت وطأة القمع ينكمشون‪ ،‬ثم سرعان‬
‫ما يفيقون وييسمع جؤارهم بضرورة العُودة إلى الدين‪!...‬‬
‫وكانت مصر في أوائل الستينيات تتجه نحو الشيوعية وتطبق أوامر‬
‫صارمة ضد الغنياء عموماا‪ ،‬وذهب جمال عبد الناصر إلى "موسكو"‪،‬‬
‫وهناكا قيل له‪ :‬إن تركا الجماعات السلمية خصوصا ا الخوان المسلمين‬
‫ينشطون على هذا النحو‪ ،‬سوف يدممر مستقبل الشتراكية‪ ،‬فأسرع جمال‬
‫–وهو ل يزال في موسكو‪ -‬بإعلن الحرب على الخوان‪ ،‬وإنذارهم بالويل‬
‫والثبور‪!...‬‬
‫وكان الشعُار الذي تحركت تحته عساكر السلطة هو محاربة الرهاب!‬
‫والمرء يدهش للتوافق التام بين منطق الفراعنة في العُصر القديم‬
‫والحديث‪!...‬‬
‫إن موسى لما بعُثه ا نبيا ا قال لرمسيس ‪-‬فرعون مصر السابق‪:-‬‬
‫﴿مفأ مفرلسلف مممعُمنا مبلني إلفسرائيل م مول يتمعُنذفبيهفم ﴾َ )طـه‪!(47 :‬‬
‫ضمنا لبلسفحلرمكا‬‫فكان جوابه بعُد أن رأى المعُجزات‪﴿ :‬أملجفئمتمنا لليتفخلرمجمنا لمفن أمفر ل‬
‫سى﴾َ )طـه‪.(57:‬‬ ‫ميا يمو م‬
‫إن موسى يقول له‪ :‬ابق وحدكا في أرضكا‪ ...‬وأرسل معُنا هؤلء الذين‬
‫ضقت بهم! فيكون الرمد‪ :‬أتريد إخراجنا من أرضنا؟ ويمضي فرعون في‬ ‫ل‬
‫ف أمفن ييمبندل م‬
‫سى موفلميفديع مرتبيه إلنني أممخا ي‬ ‫قلب الحقائق‪ ،‬فيقول‪﴿ :‬مذيرولني أمفقيتلف يمو م‬
‫سامد﴾َ )غافر‪!(26:‬‬ ‫ض افلمف م‬ ‫لديمنيكفم أمفو أمفن ييفظلهمر لفي افلمفر ل‬
‫فرعون خائف من أن موسى يفسد في الرض!‬
‫على هذا العُوج في اختلق الدتهم‪ ،‬والتماس العُيب للبرياء‪ ،‬قيل في دعاة‬
‫السلم إنهم إرهابيون!‬
‫ترى‪ ،‬لو قال هؤلء الرهابيون لصحاب السلطة‪ :‬اقتلونا‪ ،‬ونحن بذلكا‬
‫راضون‪ ،‬على شرط أن تتركوا السلم يحكم أمته وييسميرها في كل ميدان!‬
‫أيرضون؟‪ ...‬كل‪ ،‬لن الحرب ضد السلم ذاته!‬
‫وفي سبيل ضرب السلم ضربة تشنرد القريب والبعُيد‪ ،‬اعيتقل في ليلة‬
‫ت أنا واحداا‬ ‫واحدة ثمانية عشر ألفا ا من العُاملين في الحقل السلمي‪ ،‬وكن ي‬
‫من هذه اللف!‬
‫وقبل أن أصف أحداث هذه الليلة‪ ،‬أريد أن أذكر السبب المباشر الذي أتدى‬
‫إلى اعتقالي‪ ،‬وزنجي في سجن "طرة"‪...‬‬
‫يطلبت إلى الذاعة‪ ،‬فلما ذهبت وجدت عدداا من الشيوخ والخوان‬
‫القدمين‪ .‬وكانت التعُليقات محددة‪ :‬إن الرئيس أمر بنشر مساوئ‬
‫الرهابيين‪ ،‬وتحذير المة من الثقة بهم أو التعُاون معُهم‪ ،‬ويجب أن تقوم‬
‫بهذا الواجب الوطني على عجل!‬
‫ت فوق كرستي ضائقاا‪ ،‬ولحظ ذلكا المشرفون على البرنامج‬ ‫متممفلممل ي‬
‫فتجاهلوني‪ ،‬ثم كلفوني –بوصفي مفصوال من الخوان‪ -‬أن أبدأ التسجيل!‬
‫كان جوابي حاسماا‪ :‬أنا على استعُداد للحديث عن السلم‪ ،‬وضرورة‬
‫إحياء ما مات من أحكامه! ومستعُد لرشاد المخطئين‪ ،‬حكاما ا كانوا أو‬
‫محكومين‪ ،‬لصلح ما يكون قد بدر منهم من خطأ‪ ،‬أمما شتم الخوان‬
‫وحدهم‪ ،‬فليس من خلقي أن أجهز على جريح‪!...‬‬
‫ت‪ :‬إذا‬‫قيل‪ :‬إنهم فصلوكا من جماعتهم؟ فلماذا يتبقي عليهم؟ قل ي‬
‫استضعُفوني أيام قوتهم‪ ،‬فلن أستضعُفهم أيام حريتي‪!...‬‬
‫وما هي إل ساعات حتى كانت القيود في يدي!‬
‫ت‪ ،‬ودخلوا‬ ‫جاءت الشرطة بعُد منتصف الليل بساعة‪ ،‬وطرقت الباب ففتح ي‬
‫يديرون عيونهم في أرجاء المكان‪ ،‬ثم أفهموني بأدب أن أجيء معُهم!‬
‫وعرفت الوضع‪ ،‬وكانت إحدى بناتي قد استيقظت‪ ،‬فصاحت‪ :‬بابا‪،‬‬
‫فأمسكتها بلطف‪ ،‬وقلت لها‪ :‬ل تخافي‪ ،‬سأعود بسرعة إن شاء ا‪ ،‬وقلت‬
‫لزوجتي‪ :‬أعدي حقيبة فيها عدد من الثياب‪...‬‬
‫وانطلقت السيارة بنا إلى سجن طرة‪...‬‬
‫نظر الضابط إل مي نظرة سيئة‪ ،‬ثم أمرني أن أخلع ملبسي وأرتدي ملبس‬
‫ب؟‬
‫السجن فاستجبت‪ ،‬ثم نظر مرة أخرى وصاح بغضب‪ :‬في رجلكا جور ق‬
‫ممنوع! فخلعُت الجورب‪ ،‬واقتادني اثنان من الجنود إلى "الزنزانة"‬
‫المعُتدة لي‪ ،‬وأرياني داخلها‪ ،‬على ضوء خافت‪" ،‬جردلفين"‪ :‬أحدهما‬
‫لقضاء الحاجة‪ ،‬والخر غطاء! ثم أوصدا الباب وتركاني وحدي في ظلمة‬
‫يضيئها جو السماء من خلل يكتوة في السقف‪...‬‬
‫كأنما حدث كله مباغتة بعُيدة التصدور! فبقيت مكاني أفكر كيف سأحيا‬
‫هنا؟ وعلى أي نحو وهل سأعذب كثيرا؟ وبينما أنا في استغراقي سمعُت‬
‫ت حذائي في سراويل‬ ‫أذان الفجر‪ ،‬فصليت إلى ما ظننت أنه قبلة‪ ،‬ولمففف ي‬
‫معُي‪ ،‬وجعُلته وسادة‪ ،‬واستغرقت في النوم‪ ،‬بعُد أن قلت لربي‪ :‬جعُلت‬
‫زمامي في يدكا‪ ،‬آمنت بكا وتوكلت عليكا‪" ،‬رب اغفر وارحم وأنت خير‬
‫الراحمين"‪ ،‬لن أفكر في أسرتي أبداا فهي في ودائعُكا‪ ،‬اخلفني في أهلي‬
‫سبات عميق!‬‫بخير‪ !...‬ثم رحت في ي‬
‫ت مع مطلع الشمس‪ ،‬فإذا خنفساء إلى جواري تزحف على‬ ‫وصمحو ي‬
‫الرض المليئة بالحفر والشقوق‪ ،‬فقلت لها ضاحكاا‪ :‬متى اعتقلت أنت‬
‫سكا مني سوء‪...‬‬ ‫الخرى؟ امضي بسلم فلن يم م‬
‫ت قراءة القرآن الكريم‪ ،‬واضعُا ا نصب عينمي أن أختمه كل أربعُة‬ ‫وبدأ ي‬
‫أيام‪...‬‬
‫كان الكل رديئا ا جداا‪ ،‬ولكنه يقيم المود مهما تقمزز المرء عند تناوله! أما‬
‫المشكلة التي خشيت منها على حياتي‪ ،‬فهي البرد الذي يهبط من كموة‬
‫مفتوحة أبد اا‪ ،‬لنها المنفذ الوحيد إلى الدنيا‪ ،‬ففي أثناء الليل أشعُر بتيار‬
‫ت‪ ،‬وأين المفر؟‪...‬‬‫يريد فتح جنبي اليمن أو اليسر كلما تقلب ي‬
‫وتضمرعت إلى السمجان بعُد أن آنست منه نظرات عطف أن يصنع لي‬
‫شيئ اا‪ ،‬فأتاني بقطعُة خيش كبيرة‪ ،‬جعُلتها على "السفلت"‪ ،‬واتخذت‬
‫"البطانيتين" المهلهلتين غطاءاا‪!...‬‬
‫س الخوان المسجونون بمقدمي‪ ،‬وكان بعُضهم يتطوع مع الموظفين‬ ‫وأح م‬
‫ال ترسميين في الخدمة والنظافة‪ ،‬فاتفقوا على إراحتي من كنس المكان‬
‫الذي أعيش فيه‪ ،‬ومن رمي فضلته بعُيداا‪ ،‬وعرفت بعُيد أن الذي قام عني‬
‫بهذه المهمة مدرس بإحدى المدارس الثانوية‪...‬‬
‫في غبش الفجر يوماا ما جاء المدرس النبيل‪ ،‬ومعُه أخصائي اجتماعمي‬
‫معُتقل مثله‪،‬وأخذا يؤديان عملهما! ونظرت إلى أنضر شباب مصر ييهاين‬
‫عمداا لنه مسلم! وهمزني اللم‪ ،‬بيد أني تماسكت حتى انصرفا‪ ،‬فوضعُت‬
‫وجهي تلقاء الجدار‪ ،‬وبكيت في صمت! فلما سمعُت خفق أقدامهما‬
‫عائدين أصلحت هيئتي بسرعة‪ ،‬وكملماني فرددت عليهما‪ ،‬ونتم صوتي عما‬
‫بي‪ ،‬فإذا هما يقولن‪ :‬أكنت تبكي؟ فقلت‪ :‬وا من أجلكما!‬
‫فضحكا وقال‪ :‬ل تعُذيب هنا‪ ،‬نحن هنا في راحة‪ ،‬التعُذيب في السجن‬
‫الحربي‪ ،‬وفي القلعُة‪ ،‬وفي‪ ...‬وذكرا أماكن أخرى‪ ...‬الهوال هناكا‪ ،‬أهوال‬
‫من وراء الخيال!‬
‫إنني في كتابي قذائف الحق نقلت أطرافا ا من صنوف النكال الذي نـزل‬
‫بأولئكا الشباب فهلكا‪ ،‬وفقد من بقي صوابه أو سكنينته‪ ،‬أو طعُم الحياة‬
‫نفسها إلى أن يلقى ا‪ ،‬وذلكا كله لتنصرف المة عن دينها‪ ،‬لتنسى‬
‫السلم‪ ،‬وتسكت عن المناداة بكتابه وسنته!‬
‫ومع المحن السود التي ممرت بالعُاملين لهذا الدين إمبان هزيمته؛ فإن ألوفا ا‬
‫مؤلفة من الشباب البرار ظلوا أوفياء للحق مخلصين ل‪ ،‬والغريب أن‬
‫ضرب السلم وبنيه أصبح عادة مألوفة لكل وغد يملكا السلطة‪ ،‬هذا يخدم‬
‫الشيوعية‪ ،‬وذاكا يخدم الصليبية!‬
‫وكلتا الجبهتين تخدم اليهود‪ ،‬وترى أن إسرائيل خلقت لتبقى‪ ...‬وكلتاهما‬
‫تعُتمد في منهجها السياسي على عقيدة صلبة‪ ،‬أما العُقيدة عندنا –وهي‬
‫السلم‪ -‬فمنكورة محصورة‪ ،‬يستطيع أي تافه أن يتناولها بالهمز واللمز‪،‬‬
‫ثم يمضي لشأنه كأنه لم يفعُل شيئاا!‬
‫ويع فدت من خواطري إلى الواقع الذي يحيط بي‪ ،‬وتذكرت أهلي وأولدي‬
‫ت نفسي سريعُاا على هذا الضعُف‪ ،‬إنني استودعتهم ا‪،‬‬ ‫وعزلتي‪ ،‬ثم لم ي‬
‫فل معُنى للخشية‪ ،‬ولقد بقيت في منفى الطور قريبا ا من عام فماذا حدث‬
‫لهم؟ وهذا فلن تركا ابنته طفلة‪ ،‬ثم خرج من السجن فوجدها تزوجت‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فهل غاب ا عنها لحظة؟ كل! وعادت السكينة‬ ‫إنه غاب عنها طوي ا‬
‫ب على تددبر القرآن الكريم ما بقيت هنا‪ ،‬وأن‬ ‫إلى نفسي‪ ،‬وقررت أن أنك ت‬
‫ب‬ ‫أضع نصب عيني قول ا لنبيه‪﴿ :‬موافذيكلر افسمم مرنبمكا مومتمبتتلف إلملفيله متفبلتي ا‬
‫ل‪ .‬مر د‬
‫ل﴾َ )المزمل‪.(9-8:‬‬ ‫ب ل إلملمه إلتل يهمو مفاتتلخفذهي مولكي ا‬‫شلرلق موافلممفغلر ل‬
‫افلمم ف‬
‫وشرعت في إنفاذ خطتي العُلمية‪ ،‬مستبعُداا المل في مخرج قريب! وبعُد‬
‫أن صليت العُشاء سمعُت ضجة غير معُتادة‪ ،‬وانفتح الباب‪ ،‬وتدملى سلكا‬
‫من الكموة فيه مصباح كهربمي‪ ،‬ودخل ضابط كبير عرفت أنه رئيس‬
‫المعُتقل‪ ،‬وسألني‪:‬شيخ غزالي‪ :‬تطلب شيئاا؟ قلت‪ :‬الملبس عندكم! فأمر‬
‫فجيئ بها! وشرعت أرتديها‪ ،‬واقتادوني إلى إدارة السجن‪ ،‬فشربت كوبا ا‬
‫من الماء لول مرة من عشرة أيام في إناء زجاجي! ثم نقلتني سيارة إلى‬
‫وزارة الداخلية‪ ،‬فقلت في نفسي‪ :‬الن يبدأ التحقيق‪...‬‬
‫ووقفت أمام ضابط جالس في ركن الحجرة‪ ،‬وقفت على بعُد منه‪ ،‬وتهيأت‬
‫للسئلة‪ ،‬وإذا هو يقول لي‪:‬تفضل! فنظرت حولي فلم أجد كرسيا ا أجلس‬
‫عليه!‬
‫فأعاد المر‪ :‬تفضل! فقلت له‪ :‬ماذا أفعُل؟ قال‪ :‬تفضل عد إلى بيتكا!‬
‫فخرجت وأنا ل أصدق نفسي ول ما حولي‪ ،‬وسرت قليلا بجوار الوزارة‬
‫فوجدت عمارة شاهقة مكتوبا ا عليها اسم الجللة مناراا بالكهرباء‪...‬‬
‫ا لكن كيف؟ طويت حبي في قلبي‪،‬‬ ‫شعُرت برغبة عميقة أن أقنبل اسم م‬
‫وأخذت سيارة إلى بيتي‪ ،‬وكان منظر القاهرة غريبا ا أمام عيني‪ ،‬لقد كنت‬
‫في الجمب‪ ،‬والن أن على ظهر الرض‪ ،‬وعلى قيد الحياة‪ ،‬ما أجمل‬
‫الحرية! وما أجملها مع المن واليمان!‬
‫إذا كان ا قد فمكا إساري فليكن شكري لنعُمائه أن أسعُى في فمكا إسار‬
‫الخرين‪ ،‬لقل للناس‪ :‬إن ا حق‪ ،‬وإن الجهاد في سبيله مضمون‬
‫الثمرات في الدنيا والخرة‪ ،‬صحيح أني أهون المؤمنين عذاباا‪ ،‬بيد أني‬
‫أسرعهم إلى ا كلما دهمني كرب‪ ،‬ومازلت أرجو عافيته‪ ،‬وأفرح بها‬
‫لنفسي ولغيري من عباد ا‪!...‬‬
‫وفيما أنا أستعُد لستئناف نشاطي‪ ،‬جاء بيتي المهندس أحمد عبده‬
‫ت لستقبالهما‪ ...‬فقال‬ ‫الشرباصي‪ ،‬والشيخ أحمد حسن الباقوري‪ ،‬فخمفف ي‬
‫لي الشيخ الباقوري بعُد التهنئة بالفراج‪ :‬تدري من أخرجكا؟ فقلت‬
‫بصوت عالل عجل متحنمس‪ :‬ا!‬
‫ب العُتزة!‬
‫وكانت اللهجة مفعُمة باليقين والتقدير لر ن‬
‫ت طويل‪ ،‬احتراماا لهذا اليمان‪ ،‬ثم قال المهندس الشرباصي‬ ‫فسامد صم ق‬
‫بلطف‪ :‬حقاا إن ا وراء كل فضل‪ ،‬وهناكا مفاتيح للخير‪ ،‬تكون سببا ا فيه‪،‬‬
‫وهناكا من أجرى ا علىيده! قلت في استغراب!‪ :‬من؟ قال‪ :‬جمال عبد‬
‫الناصر‪ ،‬إنه لما حضر من مؤتمر المغرب‪ ،‬يبملغ بمن اعتيقلوا في غيابه‪،‬‬
‫وكنمت أحدهم‪ ،‬فسأل‪ :‬ماذا حدث منه؟ فلم يلق من أحد جواباا! فأمر‬
‫بإخراجكا فوراا‪ ...‬فينمفذ أمره ليلا ساعة صدر‪!...‬‬
‫ي هائل في نفسي‪ ،‬ثم قلت‪ :‬إذن‬ ‫ألجم هذا الخبر لساني‪ ،‬وكان له دو ا‬
‫سأذهب إلى قصر عابدين‪ ،‬وأكتب شكري في سجل الزيارات‪ ...‬غداا‬
‫الجمعُة‪ ،‬سأؤدي واحبي بعُد غد!‬
‫ولكن يوم السبت لم يجيء حتى يألقمي القبض على زوج ابنتي الكبرى‪،‬‬
‫ويز تج به في السجون مع آخرين‪ ،‬فقلت‪ :‬أهذا يليق؟ علم الشكر بعُد هذا؟‬
‫لن أذهب!‬
‫وبقي صهري في السجن أربعُة أشهر‪ ،‬ثم أفرج عنه‪،‬ما سئل في شيء‪،‬‬
‫ول ينسب إليه شيء!‬
‫أحسست أن العُمل للسلم مضطرب‪ ،‬وأن التقوى عقبة أمام صاحبها‪،‬‬
‫تعُترض طريقه‪ ،‬فل يمضي إلى المام أبدا‪ ،‬وأن الكفاية الشخصية جريمة‬
‫ترشح من أصيب بها للخلف‪ ،‬والستخفاء‪ ،‬ومخملفت مساجد من الشبان فما‬
‫يصلي الفجر فيها إل الشيوخ الفانون!‬
‫الحكم الفردي يأبى أن يسمع من بشر هذه الكلمة‪:‬‬
‫ت معيوفا ا ل أرى لبن حرة علتي يداا يأغضي لها حين يغضب!‬ ‫يخلق ي‬
‫ضل رجلا له زتلة يسترها عليه‪ ،‬لينمكس بها رأسه أبدا‪ ،‬ويقفه أمامه‬ ‫إنه يف ن‬
‫عبداا‪ ،‬أما ذو الكفاية الشامخ الذي يناقش طبا ا للحقيقة ويقررها غير‬
‫همياب‪ ،‬فهذا ل مكان له‪ ،‬ول ينبغي أن يبقى‪!...‬‬
‫العُملة السائدة هي الملق والزلفى‪ ،‬ألملق والزلفى‪ ،‬أما الخبرة والنـزاهة‬
‫فتلكا عاهات ل أوسمة!‬
‫وقد يفرضت هذه السياسة على كل شيء فيمصر‪ ،‬وأول الميادين نصيبا ا‬
‫من هذا البلء‪ ،‬الجيش‪ ،‬ثم الزهر‪...‬‬
‫كنت واحد اا من الذين حاربوا القطاعيين أيام الملكا السابق‪ ،‬وها أنا ذا في‬
‫عهد الثورة‪ ،‬وقد ذهب القطاع القديم فماذا أرى؟‬
‫إن عبود باشا اغتنى من إنشاء شركات أسمدة‪ ،‬وبواخر‪ ،‬وسكر‪ .‬إلخ‪،‬‬
‫فكيف اغتنى فلن‪ ،‬وأصبح عضواا في مجلس الشعُب؟ قالوا‪ :‬من تجارة‬
‫المخدرات‪!...‬‬
‫أكان الول عدوا للشعُب لنه اغتنى من طرق قانونية‪ ،‬والخر صديقا ا‬
‫للشعُب لنه اغتنى عن طريق الحرام والملق والرشوة؟‬
‫ثم ما بال أولئكا المنفيين في الواحات والسجون النائية؟ أييكتب الشقاء‬
‫على كل امرئ منهم‪ ،‬لنه قال‪ :‬أريد الحكم إسلميا!‬
‫إلى متى يرسفون في قيودهم؟‬
‫تساؤلت كثيرة كانت تهجس بها نفسي‪ ،‬وأنا أمشي على صراط أحدد من‬
‫السيف‪ ،‬وأمدمق من الشعُرة‪ ،‬كي أستبقي للدعوة وجوداا وسط هذا‬
‫الظلم‪!...‬‬
‫ثم جاءت سنة ‪ ،1967‬ومجمنينا الحصاد علقماا‪ ،‬لكني ما فكرت قط في أن‬
‫الخزي الذي نـزل يحمل كل هذا السواد‪ ،‬ويلدفنا في عالر ل أول له ول‬
‫آخر‪...‬‬
‫يا أسف اا على بلدي المحروب وأمتنا المغشوشة؛ في عشرين دقيقة فقط‪،‬‬
‫يد ممرت مطاراتنا كلها‪ ،‬واحترقت طائراتنا وهي جاثمة على الرض!‬
‫ولما كان لدينا أعظم جهاز للكذب في دنيا الناس‪ ،‬فقد خرج الغلم الموتجه‬
‫بجناحيه‪ :‬الصحافة والذاعة يقول للناس‪ :‬إننا دمرنا طائرات اليهود‪!...‬‬
‫وما هي إل أيام تعُد على الصابع‪ ،‬حتى كان الجيش بين قتيل وأسير‬
‫وهارب‪ ،‬ما أغنى الكذب عنه شيئاا!‬
‫غالطت نفسي يوماا‪ ،‬وقلت لها‪ :‬صحيح أن الحريات ل بد منها لضمان‬
‫مصالحنا المادية والدبية‪ ،‬أما يمكن أن يكون تولد العُسكر الحكم ضرورة‬
‫مقبول لمواجهة إسرائيل؟ سيبنون جيشا ا قوياا‪ ،‬ويوجهون مواردنا كلها‬
‫لكسب الحرب‪ ،‬وهذا ميدانهم الذي تخصصوا فيه!‬
‫وجاءت الحداث تقول‪:‬إن الحكم الفردي الجائر ل يكسب معُركة أبدا! بل‬
‫الغريب أن أعظم هزائمه كانت في الميدان الذي تخصص فيه‪!...‬‬
‫إن جمال عبد الناصر لم يكسب معُركة قط‪ ،‬إل المعُركة التي أدارها ضد‬
‫إخوانه‪ ،‬وضد السلم‪ ،‬وضد كرامات الناس!‬
‫في هذه المعُركة قدر على تخريب آلف البيوت‪ ،‬وسجن اللوف من‬
‫البرياء‪ ،‬واستطاع أن يدفن في أرض اليمن مائة ألف مسلم‪ ،‬عدا الذين‬
‫قبلوا سمراا وعلنا في مصر!‬
‫أسقد علتي وفي الحروب نعُامة فتخاء تنفر من صفي الصافر‪!...‬‬
‫هلم برزت إلى غزالل في الوغى! بل كان قلبكا في جنامحفي طائر‪!...‬‬
‫وإن تعُجب فاعجب لجهاز لكذب الذي بقي يعُمل دون تواقف‪!...‬‬
‫قيل لنا‪ :‬أتظنون أننا انهزمنا؟ كل‪ ،‬إن العُدمو لم يحقق هدفه! إنه كان يريد‬
‫إسقاط جمال فخاب سعُيه!‬
‫أرأيت صفاقة أوقح من ذلكا؟‬
‫وعلمت بعُ يد أن هذا السفاف منقول عن دعايات البعُث العُربي‪ ،‬بعُد‬
‫الهزيمة التي يممنمي بها هو الخر!‬
‫إن إسرائيل تدفع أضعُاف ميزانيتها بضع سنين‪ ،‬كي يقع انقلب عسكري‬
‫من هذا الطراز‪ ،‬في كل بلد عربي‪ !...‬لنه يضاعف رقعُتها‪،‬ويؤكد‬
‫سلمتها‪ ،‬ويحفظ حاضرها ومستقبلها‪...‬‬
‫وفي الزهر والوقاف أخذت الدعاية تعُمل تحت عنوان‪":‬نكسة أحد"!‬
‫بال ما صلة هزيمة ‪ 1967‬بما أصاب المسلمين في أحد؟‬
‫ما صلة السكارى والحشاشين‪ ،‬بالصديقين والشهداء؟‬
‫ما صلة ناس لم يخسروا شبراا من أرض‪ ،‬ولم يضيعُوا ساعة من الوقت‬
‫بعُد خطأ تومرط فيه تعُضهم‪ ،‬فاحتشدوا على عجل‪ ،‬وخرجوا يطاردون‬
‫العُدمو الذي أصاب منهم لغمرة‪ ،‬ما صلة هؤلء بمن فقدوا كل شيء دون‬
‫سبب واضح إل الغفلة والسف؟‬
‫إن الدين يم نرغ في الوحل كي يرضى الحاكم الصغير عن بعُض الناس‪!...‬‬
‫الواقع أن حالة الجيش كانت رديئة‪ ،‬لن أحسن الكفايات أبعُدت عنه‬
‫عمداا‪ ،‬ولو تمم تحقيق نـزيه في حالة مصر كلها‪ ،‬لظهر أن مصر بعُد يربع‬
‫قرن من النقلب العُسكري‪ ،‬كانت تترنح من الناحية الروحية والخلقية‪،‬‬
‫والجتماعية والقتصادية‪...‬‬
‫وإذا كانت الظروف قد كشفت تخدلفنا السياسي والعُسكري‪ ،‬فهي‬
‫المصادفات التي أزاحت الغطاء عن المستور‪.‬‬
‫يل‬ ‫ورأيي أننا تقهقرنا إلى أيام الخديوي إسماعيل‪ ،‬وأن تخلفنا الحضار م‬
‫يستره ازدياد عدد السكان‪ ،‬وارتفاع المقادير المستهلكة من الطعُام‬
‫والشراب‪...‬‬
‫لحظت أنا الحس الديني عند المصريين جعُلهم يرددون الهزيمة إلى‬
‫هجران الدين ومحاربة أهله! فماذا فعُل جمال عبد الناصر ليعُلن انعُطافه‬
‫إلى الدين‪ ،‬وصلحه مع ا؟ انتظر أول حفل لمولد النبمي ‪ ،r‬فذهب إلى‬
‫مسجد الحسين ليشاركا فيه! ذهب بعُد صلة الغرب‪ ،‬وانصرف قبل صلة‬
‫العُشاء!‬
‫إن الرجل انقطعُت علقته بالسلم من أمملد بعُيد‪ ،‬وأظن ذلكا يرجع إلى‬
‫صداقته مع تيتو وسوكارنو ونهرو وغيرهم‪ ،‬فقد حسب أن أولئكا الرهط‬
‫ب التشدبه بهم‪،‬‬ ‫من الرؤساء على درجة عالية من الثقافة والمكانة‪ ،‬فأح ت‬
‫والنسج على منوالهم!‬
‫ولم تكن لديه حصيلة من المعُرفة واليقين تنأى به عنهم‪ ،‬فألمحمد مثلهم‬
‫ليكون عظيما ا هو الخر!‬
‫ولعُل مما أعانه على مروقه شيوخ الزهر الذين ازدلفوا عنده طلب‬
‫دنيا‪ ...‬ولو كان فيهم من يهاب ا لتماسكا اليمان قليلا في نفس هذا‬
‫البائس‪ ...‬وحدثت بعُد الهزيمة تمثيلية الستقالة والنكول فيها‪ ،‬ورأى‬
‫الناس في مجلس المة المصري منظراا ينقللم إلى القارات كلها لما يصرخ‬
‫به من دللة مهينة‪ ،‬فقد وقف عضو في المجلس يرقص! لعُودة الرئيس‬
‫في استقالته‪!...‬‬
‫والعُضو الراقص يفعُل فعُلته تلكا وعشرات اللوف من جنودنا أسرى لم‬
‫يطلق سراحهم‪ ،‬وآلف القتلى والجرحى يملون البيوت أحزاناا‪...‬‬
‫إن هذا العُضو ل يحسن تمثيل نفسه ول أسرته‪ ،‬ولكن النظام الذي وضعُه‬
‫الحاكم الفذ الذي استكثر من هذا النوع‪ ،‬وجعُله –وهو الجدير بأن ييحجمر‬
‫عليه‪ -‬قمواما ا على شؤون المة!‬
‫إنه يرقص لنه سيبقى هو‪ ،‬فلو جاء حكم شرعي ل زيف فيه‪ ،‬لعُاد إلى‬
‫الفلحة أو إلى أي حرفة آلية يأكل منها‪ ،‬وحسبه ذلكا‪...‬‬
‫إن الستبداد العمى يحتاج في سناده إلى أشخاص غير طبيعُيين يتبادل‬
‫معُهم المنفعُة‪ ،‬يسترون نقصه ويتجاوز عن قصورهم‪ ،‬ويتعُاونون جميعُا ا‬
‫على قيادة القافلة‪ ...‬إلى الهاوية‪...‬‬
‫الحق يقال إن سوق الجهل نفقت في هذه السنوات العُجاف‪ ،‬انهزمت‬
‫الرجولة والخبرة والديانة‪ ،‬وتقدم مجيدوا النحناء والتزوير والستغلل!‬
‫إنني أعتبر أن جمال عبد الناصر مات سنة ‪ ،1967‬وإذا كان قد تأخر‬
‫سنتين عن تركا هذه الدنيا‪ ،‬فإنه على أية حال وترث العُرب عاراا تسودد له‬
‫الوجوه‪ ،‬ووترث اليهود نصراا لم يحلموا به يوماا‪ ،‬ووترث المسلمين‬
‫ب‪!...‬‬ ‫مشكلت أعقد من مذمنب ال ت‬
‫ض م‬
‫مع أنور السادات‬
‫الرئيس أنور السادات‬
‫عدت من محاضرة تدريبية لئمة المساجد إلى وزارة الوقاف‪ ،‬كي أنجز‬
‫العمال الدارية المطلوبة مني‪ ،‬فوجدت موظف الستعُلمات ينتظرني‬
‫بصبر نافذ‪ ،‬ويقول‪ :‬إن الوزير انتظركا كثيراا لتذهب معُه إلى رئيس‬
‫الجمهورية‪ ،‬وأوصى أن تلحق به فور مجيئكا‪ ،‬فإنه وشيخ الزهر على‬
‫رأس وفد سيلقى الرئيس السادات!‬
‫وكان الموظف من الخوان‪ ،‬وكان حريصا ا على ما يراه الخير‪ ،‬فلما‬
‫وجدني فاتراا في الستماع إليه‪ ،‬أقسم علمي أن أذهب‪ ،‬وأمر سائق السيارة‬
‫أن ينطلق بي للحاق بالوفد‪...‬‬
‫إن أنور السادات لم يكن أفضل زملئه بعُد جمال عبد الناصر‪ ،‬ربما كان‬
‫أقملهم‪ ،‬غير أن القدار جاءت به‪ ،‬برغم أنوفهم جميعُاا‪ ،‬وقد قبلوه على‬
‫مضض‪ ،‬وز تين لهم الرضا به أن المور ستكون في أيديهم‪ ،‬أي أنه‬
‫سيكون رئيسا ا صورياا‪...‬‬
‫والحق أن الجيش كان في أيديهم‪ ،‬والشرطة‪ ،‬والعلم‪ ،‬وكل ما يورث‬
‫القوة‪ ،‬على حين كان السادات مجترداا من أي دعم! ومع ذلكا فقد انهزموا‬
‫أمامه‪ ،‬وتتغذى بهم قبل أن يتعُ ت‬
‫شوا به‪!...‬‬
‫ما السبب؟ ألذكاء السادات ودهائه؟ لقائل أن يقول ذلكا! أما رأيي فهو أن‬
‫خذلن ا للقوم حرمهم من كل توفيق‪ ،‬فانتحروا‪ ،‬ول أقول‪ :‬انتصروا!‬
‫إنهم جميعُاا اضربوا عن العُمل ظانين أن أجهزة الدولة ستتوقف!‬
‫فما توقف جهاز‪ ،‬بل ظل كل شيء يدور وفق العُادة‪ ،‬كما ظل جدن سليمان‬
‫مسخرين في العُلم‪ ،‬يتلتقون الهوان‪ ،‬وسليمان ميت!‬
‫وانتهز السادات الفرصة‪ ،‬وتفاهم مع بعُض الرجال الناقمين‪ ،‬واستولى‬
‫على السلطة‪ ،‬وزج بخصومه في السجن جنبا ا إلى جنب مع الخوان‬
‫المسلمين‪...‬‬
‫وكان منظراا عجباا أن الذين كانوا يضربون الخوان أمس‪ ،‬يتلمتقون العُذاب‬
‫معُهم اليوم!‬
‫وبعُد ما انفرد السادات بالسلطة‪ ،‬هرعت الوفود للتأييد! أل ما أحقر‬
‫الحياة! وقادتني السيارة على عجل فلحقت بوفد الزهر‪ ،‬وعلى رأسه‬
‫الشيخ محمد الفحام‪ ،‬ووفد الوقاف وعلى رأسه الدكتور عبد العُزيز‬
‫كامل‪...‬‬
‫والواقع أن استقبال السادات بالترحاب كان صادقا‪ ،‬فإن العُصابة الذاهبة‬
‫ما تركت يومداا في قلب‪ ،‬وبديهي أن ميعُد الرئيس الجديد بتغيير شامل‪ ،‬وأن‬
‫يينتظر منه الخير!‬
‫كنت أنا حاضر اا بجسدي‪ ،‬أما فكري فهو سارح في ذكريات مضت عليها‬
‫سنون‪ ،‬لكن الرئيس السادات لما وقع بصره علتي‪ ،‬حمياني بتقدير خاص‪،‬‬
‫وتساءل‪ :‬أين أنت‪...‬؟‬
‫وفهم الحاضرون أني موضع الرضا‪ ،‬فعُاملوني باحترام أكثر! وقد فهم‬
‫السادات من الدكتور عبد العُزيز أن يضم إلى ذلكا إعطائي سلطات وكيل‬
‫الوزارة في عملي‪!...‬‬
‫قررت أن أؤدي عملي الجديد بأمانة وقوة‪ ،‬وأن أننوه بصنيع الرئيس معُي‬
‫وأشكره علنية!‬
‫إن الجهود المبذولة لخدمة الدعوة في وزارة الوقاف حسنة جداا‪ ،‬وقد‬
‫تعُاونت فيها قوى كثيرة‪ ،‬فنحن ندرب كل إمام شهراا تقريبا ا في المدينة‬
‫الزهرية التي تعُيش فيها البعُوث السلمية‪...‬‬
‫في مبنى خاص يجتمع عشرات الئمة‪ ،‬ويتلقون المحاضرات في العُلوم‬
‫التي لم يستكملوها في الزهر‪ ،‬ويعُطيهم أعظم المفكرين ثمرات تجاربهم‪،‬‬
‫ويظلون في عزلتهم العُلمية هذه المدة‪ ،‬ثم ينصرفون إلى وظائفهم بعُد‬
‫اختبار يفيدهم في مستقبلهم‪...‬‬
‫وهناكا نشاط علماي آخر‪ ،‬ففي كل عام تجري مسابقة في عدة كتب‬
‫مختارة‪ ،‬توسع أفق قارئها‪ ،‬وتزيد خبرته بعُمله‪ ،‬وييعُطى بعُدها جائزة‬
‫حسنة بعُدما تختبر معُلوماته‪...‬‬
‫وقد رأينا أن ننتقل نحن إلى القاليم‪،‬فنجتمع برجال الدعوة شهريا ا‬
‫لنتدارس ما ينبغي سلوكه لداء الرسالة على وجه أفضل‪...‬‬
‫سر الطلع وتقنرب المعُرفة‪...‬‬‫ورأينا إمداد المساجد بمكتبات تي ن‬
‫وقد تعُاونا مع أهل الصدق في النهوض بالدعوة‪ ،‬فإن الشكليات المرعية‬
‫تقتل الحقيقة‪ ،‬وتعُصف باللباب‪ ،‬بيد أن أهل الصدق قليلون‪...‬‬
‫أذكر أن وكيل الوزارة كتلفني يوما ا أن أضع خطبة محترمة في تحديد‬
‫النسل‪ ،‬لن المشروع موشكا على الفشل! فقلت له‪ :‬إن مشكلة النفجار‬
‫السكاني في العُالم ل تحلم على حساب المسلمين وحدهم! قال‪ :‬ماذا تعُني؟‬
‫قلت‪ :‬التعُليمات صدرت لغيرنا أن يتكاثروا‪ ،‬فل أعمل أنا على تقليل‬
‫المسلمين!‬
‫فقال في عبوس‪ :‬أنت موظف‪ ،‬وقد أمر الرؤساء بشيء فيجب تنفيذه!‬
‫فقلت في صرامة‪ :‬أنا لست موظفاا في بيت أحد الرؤساء‪ ،‬أنا وأي رئيس‬
‫موظفون في جهاز إسلمي حسيبنا فيه ا‪ ،‬فأنا أرعى ربي قبل أي امرئ‬
‫آخر‪ ،‬أنا ورئيس الدولة نأخذ مرتباتنا من وعاء واحد‪ ،‬من مال‬
‫المسلمين‪ ،‬أنا ل آخذ مرتبي من كيس أجد حتى أجعُل ولئي له من دون‬
‫ا‪!...‬‬
‫فأشاح معُرضاا‪ ،‬وانصرف مغضباا‪ ،‬وانصرف مغضباا‪ ،‬وبعُد أيام أرسل‬
‫إل تي‪ ،‬وقال‪ :‬يا سيدي كتب الخطبة غيركا! قلت‪ :‬ليكتب من شاء ما شاء‪،‬‬
‫أمما أنا فل أبيع ديني لحد‪...‬‬
‫إنني أكره الشيوخ الذين يسترضون الرؤساء بالفتاوى الجهلء‪ ،‬إنهم‬
‫يدورون –في القاهرة وفي كل عاصمة‪ -‬بذممهم‪ ،‬كما يدور سائقو‬
‫سيارات الجرة بعُرباتهم‪ ،‬يتلفتون‪:‬هل من راكب؟ قبحهم ا‪ ،‬وقمبح من‬
‫كملفهم‪ ،‬وقبل منهم‪!...‬‬
‫وفي أحد اليام جاءني صديق كثير الدعابة يقول لي‪:‬لقد وقعُت في شر‬
‫أعمالكا! أتدري أن الدكتور عبد الحليم محمود يعمين وزيراا للوقاف؟ قلت‪:‬‬
‫وأي ضير في هذا؟ قال‪ :‬ألم تكتب في مجلة لواء السلم تصحيحا ا لحديث‬
‫نشره؟ قلت‪ :‬بل! ولو أن امرؤاا صتحح لي خطأ بنتية حسنة ما وسعُني إل‬
‫شكره! قال‪:‬سنرى! ودخل الدكتور عبد الحليم الوزارة‪ ،‬وخشيت أن أكون‬
‫بين مستقبليه حتى ل يقع ما يسوؤني!‬
‫وبعُد قليل جاءني رسول من الدكتور الوزير يطلبني‪ ،‬فذهبت إليه‪ ،‬فأخذني‬
‫ناحية وقال لي‪ :‬إنني أريد أن أبدأ عملي في وزارة الوقاف بخدمة كتاب‬
‫ا‪ ،‬فيأعللن عن مسابقة بين طلب الزهر‪ ،‬وأرتب جوائز سخية لمن‬
‫يحفظون القرآن الكريم‪ ،‬وأريد أن أمضي القرار الوزاري بذلكا اليوم!‬
‫ت له هذا التجاه‪ ،‬وتمم إنجاز ما يبغي‪ ،‬وافتتح الرجل الطيب أعماله‬ ‫فحمد ي‬
‫بتقديم ذلكا الخير للمسلمين! لقد كانت علقتي به حسنة‪ ،‬وكان مستحيلا‬
‫في شمائل الرجال أن يضيق بتصحيح علمي قمت به‪...‬‬
‫وأرسل إل مي الدكتور عبد الحليم بعُد ذلكا‪ ،‬يخبرني أنه قد وقع اختياره‬
‫عل تي‪ ،‬لخطب الجمعُة في مسجد عمرو بن العُاص‪ ،‬فقلت له‪ :‬إنه ليس‬
‫بمسجد‪ !...‬لقد تغيرت معُالمه‪ ،‬فأصبح أرضا ا فضاء بين جدران بالية‪،‬‬
‫وكثيراا ما تطفح مياه المجاري في صحنه!‬
‫قال‪ :‬ولهذا اخترتكا! قلت‪ :‬لماذا ل أعود إلى إلقاء خطبة الجمعُة بالزهر‪،‬‬
‫وقد ظللت بضع سنين أتطوع بذلكا؟ قال‪ :‬اليوم الربعُاء بعُد غد سأصلي‬
‫وراءكا في مسجد عمرو بن العُاص‪ ،‬فاستعُد!‬
‫وجاء يوم الجمعُة‪ ،‬وكنت في المسجد مبكراا‪ ،‬لشرف على تهيئة مكان‬
‫للصلة! كانت أكوام القمامة حول المسجد تصل السقف بالرض‪ ،‬وكانت‬
‫هناكا سحب من الدخان تغطس المسجد من "الفواخير" المبعُثرة إلى‬
‫جواره‪ ،‬وكان صحن المسجد قطعُة من صحراء مهجورة‪ ،‬يشيع فيا‬
‫التعُرج واللتواء‪ ،‬ونظرت إلى المساحة الشاسعُة التي تقع بين أجنحة‬
‫المسجد المتداعية‪ ،‬ثم قلت‪:‬ماذا أصنع في هذا المكان الذي تعُوي فيه‬
‫الرياح‪...‬‬
‫وص مليت مع الدكتور وألقيت خطبة عادية‪ ،‬ودعا لي هو بخير! وبدأنا‬
‫الكفاح الصعُب‪ ،‬فإذا المسجد يتضاعف رواده‪ ،‬وبعُد أن كانوا بضع‬
‫عشرات ل تصح صلة الجمعُة بهم –في بعُض المذاهب‪ -‬أصبحوا مئات‪،‬‬
‫ثم آلفا‪ ،‬وقدرت وزارة الداخلية المصلين في بعُض الجمع بثلثين ألفا‪..‬‬
‫والس مر أني اهتممت بالموضوع الذي أعرضه على الناس‪ ،‬وإذا تجاوزنا‬
‫المناسبات التي تفرض نفسها‪ ،‬فإن التفسير الموضوعمي للقرآن الكريم‬
‫ت في أسلوب العُرض‪ ،‬بالشيخ الجليل‬ ‫سي ي‬‫كان شغلي الشاغل‪ ،‬وقد تأ ت‬
‫الدكتور محمد عبد ا دراز‪ ،‬في كتابه النبأ العُظيم‪.‬‬
‫والحق أن المصلين يكرهون الخطب التي ترسل للذان رنين الفراغ‪ ،‬أو‬
‫التي تتضمن موضوعا ا سياسيا ا تافها‪...‬‬
‫إنني أنا استفدت مزيداا من العُلم والتدبر في كتاب ا‪ ،‬والرتباط بال‬
‫سبحانه وتعُالى‪ ،‬إذ كانت الخطبة ذكراا ل‪ ،‬وإحياء لوامره‪.‬‬
‫والرجل الذي يرجع إليه الفضل في عمران المسجد هو السيد حمدي‬
‫عاشور الذي أمر بتنسيق الميدان حوله‪ ،‬والذي أزال مصادر الدخان‪،‬‬
‫وسمخر النقلة فحملوا بعُيداا عن المسجد نحو ألف عربة من القمامة‪ ،‬ثم‬
‫أملف لجنة تتولى البناء لما تهتدم‪ ،‬والصيانة لما أهمل‪ ،‬فإذا المسجد مثابة‬
‫للمسلمين من كل فمج‪ ،‬ومدرسة يلتقي فيها الجامعُيون أساتذة وطلباا‪،‬‬
‫ويقصدها العُابدون من الوجهين القبلي والبحري‪...‬‬
‫ولما كان السيد حمدي عاشور محافظا ا للقاهرة‪ ،‬فإنه يأبعُد عن منصبه من‬
‫أجل هذا الشعُور الديني الغالب!‬
‫وفي أيامي الخيرة رأى الستاذ الدكتور زكرياء البري أن يكشف الحيف‬
‫النازل بي‪ ،‬وأن يجعُلني وكيل لوزارة الوقاف‪ ،‬وقدر على إقناع أنور‬
‫السادات بذلكا؛ وأنا أرى أن المناصب فرص متاحة لعُمل خير كثير‪ ،‬وكلما‬
‫كبر المنصب كانت دائرته أرحب في نفع المة‪ ،‬وما أخشى أن أكون في‬
‫منصب ما‪ ،‬ما دمت أنوي تسخيره فيما أنشئ من أجله‪ ،‬والمناصب أنشئت‬
‫للنفع العُام وحده‪...‬‬
‫ت‬‫وسألني أحد الناس‪ :‬لمن سيكون ولؤكا؟ قلت‪ :‬ل بداهة! قال‪ :‬وإذا يومكل م‬
‫بمدح الحكام وتسويغ سياستهم؟ قلت‪ :‬ليس هذا عملي‪ ،‬أنا أعمل للسلم‬
‫وحده!‬
‫قال‪ :‬إنكا تعُرف السادات وتنقد سياسته! قلت‪ :‬ولم أتغتير‪ !...‬فمضى عني‬
‫يائساا‪...‬‬
‫ولما بدأت تسدلم عملي‪ ،‬كان المر أعجل مما أتصتور‪ ،‬فقد واجهني اختبار‬
‫لم أر معُه بد اا من تركا منصبي‪ ،‬مع حرصي على أن أبقى فيه لخدم ربي‬
‫وديني! لقد تركته بعُد يومين اثنين على طريقة "ما سملم حتى وتدع"!‬
‫إن الرؤساء في أمتنا المحرومة يحسبون أنهم اشتروا رجلا عندما‬
‫أسندوا إليه منصباا‪ ،‬وقد نظرت إلى ميدان العمال الدينية والنشطة‬
‫السلمية فوجدت أن الذي تختير الرجال في هذا الميدان كان حاذقا ا في‬
‫رمي السلم بكل مصيبة!‬
‫ب عاصفة هوجاء‬ ‫وما هي إل أيام حتى كان النشاط السلمي كله في مه م‬
‫تركته شذر مذر‪...‬‬
‫وقال لي أحد العُارفين بالسياسة‪ :‬كان ل بد أن يقع هذا الدمار في دوائر‬
‫العُمل الديني‪ ،‬فإن الرئيس السادات عاد من أميركا بغير الوجه الذي ذهب‬
‫به! قلت‪ :‬كيف؟ قال‪ :‬إن اليهود يطلبون أن تكون العُلقات بينهم وبين‬
‫مصر طبيعُية‪ ،‬ل عداء ول جفاء!‬
‫ويقضي هذا بتغيير مفاهيم دينية وتاريخية‪ ،‬وتحوير أوضاع اجتماعية‬
‫واقتصادية‪!...‬‬
‫وما دام التيار السلمدي في مصر قويا ا ناميا ا مهيمنا ا على الشباب‪ ،‬ومؤثراا‬
‫في مجرى المور على النحو المشهود في مصر‪ ،‬فمعُنى ذلكا كله أن‬
‫معُاهدة "مخ تيم داود" التي فصلت مصر عن العُرب قد فشلت! وأن أيام‬
‫السادات معُدودة بعُد هذا الفشل!‬
‫قلت‪ :‬كأن الرجل بضرب الخوان المسلمين والجماعات السلمية يريد‬
‫توكيد وجوده‪ ،‬واستبقاء حياته‪ ،‬وإشعُار بين إسرئيل –ومن ورائهم‬
‫أميركا‪ -‬بأنه قوي جدير يثقتهم‪ ،‬قال‪ :‬ذلكا ما يقصد‪ ،‬وهذا سر صياحه‪ :‬أنا‬
‫صاحب القرار‪ ،‬أنا وحدي! أنا سأعلمكم كيف تحترمون الحكام! وهو سر‬
‫حلفه بعُد ما اعتقل رئيساا للخوان‪:‬وا لن أرحمه‪ !...‬وسر تعُليقه على‬
‫حبس الشيخ الذي نمدد بكثرة استراحاته‪ ،‬فقال بعُدما أمر بسجنه‪ :‬إنه‬
‫مرماي في السجن كالكلب!‬
‫يقولون‪ :‬إن طالب القوت ما تعُمدى‪ ،‬ويبدو أن طالب الرياسة كذلكا‪ ،‬يفقد‬
‫العُقل والخلق والدين وراء ما يشتهي!‬
‫كل هذا الهوان ينـزل برجال السلم لنهم يرفضون الصلح مع اليهود‪!...‬‬
‫والطريف في تلكا المأساة أنها تتم باسم الشعُب‪ ،‬أي شعُب؟ لعُله الشعُب‬
‫اليهودي!‬
‫الملحظ على السادات أنه تحت عنوان كراهية العُيب ألغى الرقابة‬
‫ض الطرف عن فضائح مالية‪...‬‬ ‫الدارية في مصر‪ ،‬وغ م‬
‫وتحت عنوان تقاليد القرية مغلشمي أحفاال راقصة يسهل فيها تقبيل النساء‬
‫وكسر التقاليد القروية والمدنية! والمعُروف أن امرأته من أسرة مالطمية‬
‫هاجرت إلى مصر أخيراا‪ ،‬وقيل إنها اعتنقت السلم‪ !...‬والمر عندي‬
‫موضع ريبة‪...‬‬
‫إنه رجل غريب الطوار‪ ،‬ندع حسابه إلى ا‪...‬‬

You might also like