Download as rtf, pdf, or txt
Download as rtf, pdf, or txt
You are on page 1of 6

‫لقد كانت توجهات أعلم الجزائر المصلحين منذ مطلع القرن العشرين إلى عشية الستقلل من خلل أفكارهم‬

‫التي صدعوا بها وآرائهم التي ضمنوها مراسلتهم أو الصحف التي كانت تصدر في هذه الفترة يتوزعون إلى‬
‫توجهات يمكن أن ن صصبها في ثلثة أطوار‪:‬الطور الول ويمتد إلى نهاية الحرب العالمية الولى وتطبعه الدعوات‬
‫الملحة إلى القبال على المدارس الحكومية الفرنسية‪ ،‬والدعاية المستمرة لتعليم لغة السلطة الحاكمة ولقد كان‬
‫أغلب هؤلء من خريجي المدارس الحكومية الفرنسية الذين تم تكوينهم وفق الطلب الذي يلبي حاجة الوظيف‬
‫الحكومي للسلطة الفرنسية بالجزائر ونعني به سلكي القضاء والترجمة وبعض الوظائف الدارية التي يقتضي‬
‫‪.‬إسنادها إلى الهالي)‪(1‬‬

‫ولعل الذي دفع هؤلءا إلى هذا التوجه هو مظاهر الجهل السائدة‪ ،‬والفكر الخرافي الذي أصاب عقل المة‪ ،‬وأمات‬
‫ضميرها وشل حُركتها‪ .‬ثم إن حُاجة الناس إلى لغة الحُاكم باتت أكيدة تتحُتتمها الظروف السياسية والجتماعية‬
‫الخاضعة لسلطان الستعمار القاهر)‪.(2‬على أن أصواتا كانت في هذا الوقت المبكر ترفض كل ما من شأنه أن‬
‫يكترس ثقافة المستعمر وينشئ جيل متنكرا لهويته‪ ،‬مبهورا بثقافة الغرب‪ ،‬فظلت هذه الصوات تصدع بفكرها القومي‬
‫والديني والوطني‪ .‬وكان صوت عمر راسم مثال حُيا لمقاومة التميع والذوبان)‪ .(3‬ومن هؤلءا أيضا عباس بن حُمانة‬
‫وأعضاءا جمعيته الصديقية بتبسة التي بادرت إلى إيجاد بديل بفتح أول مدرسة نظامية عصرية في الجزائر في سنة‬
‫‪ 1913‬وكانت تختم مراسلتها بخاتم »الجمعية الصديقية لحُياءا اللغة العربية بتبسة«)‪.(4‬والطور الثاني يغطي فترة‬
‫نهاية الحُرب العالمية الولى إلى ‪ ،1930‬وسمتها النداءا الحُثيث لرفع همة المة الجزائرية‪ ،‬ورفع التحُدي لكسر‬
‫أغلل الجهل والتماس نور العلم والمعرفة‪ ،‬والعمل الجاد بكل طبقات الشعب – على إنشاءا المدارس وفتح أبوابها‬
‫لكل أبناءا المة‪ ،‬ونشر التعليم العربي والفرنسي‪(5).‬لقد كان الشعب الجزائري في هذه الفترة بحُاجة إلى عناية‬
‫مركزة بعد طول غيبوبة‪ ،‬فهي حُالة إنعاش تقتضي إعادة الحُيوية إلى إحُساسه وضميره‪ ،‬حُتى يفضي التنبيه إلى‬
‫استجابة‪.‬ويجمع أعلم الجزائر العاملون أن المنبه الذي تستعيد به المة وعيها وحُركيتها هو التعليم)‪ (6‬بمحُتواه الذي‬
‫يحُيي النفوس وبمنهجه الذي تستنير به العقول‪ .‬في عمل جماعي يرتكز على المبادرة والحُساس بالواجب محُليا‪،‬‬
‫وعلى التعاون والتنسيق وطنيا‪.‬أما الطور الثالث فتبلور مع مناسبة الحُتفال المئوي للحُتلل في ‪ 1930‬وامتد إلى‬
‫الستقلل‪ .‬وقد كان أبرز ملمحُه هو تأسيس جمعية العلماءا المسلمين التي جمعت العلماءا العاملين على بعث‬
‫الشخصية الجزائرية بملمحُها الحُضارية من خلل الحُقل الثقافي المعتمد على التربية والتعليم‪ ،‬بتعدد منابرها‪ ،‬من‬
‫المدرسة والمسجد إلى النادي والصحُافة والتاريخ‪ ،‬ومن خلل التوعية والتجنيد‪ ،‬ومن خلل الحُقل السياسي بمختلف‬
‫وسائله وأدواته من الحُزاب والنقابات والدعاية إليها‪ ،‬وشغل المناصب الدارية‪.‬وكان لجمعية العلماءا المسلمين‬
‫الجزائريين ولحُركتهم الصلحُية هدفان هامان‪ :‬أحُدهما فوري‪ ،‬يتمثل في جمع القوى المثقفة بما في ذلك‬
‫المحُافظون‪ ،‬تحُت راية الصلحا الجتماعي‪ ،‬والثاني طويل المدى يرمي إلى فصل الجزائريين عن فرنسا باسم لواءا‬
‫الوطنية‪.‬يدعو هذا الفكر الوطني إلى استقلل الجزائر‪ ،‬ويعمل على تحُريرها‪» ،‬فالحُرية عند قادة هذا التيار ورموزه‪,‬‬
‫جزءا ل يتجزأ؛ فإما أن يكون كله وإما أن يذهب كله‪ ,‬وهي بطبيعتها تؤخذ ول تعطى‪ ...‬وهي كالشمس لبد منها‬
‫للحُياة«‪.‬ويتميز هذا الفكر بإدراكه لهدف فرنسا الجل في الجزائر؛ ولجميع أبعاد الستقلل ومضامينه‪ ,‬ويبرز هذا‬
‫الدراك في الشعار الذي اعتمده العلماءا وهو‪» :‬السلم ديننا‪ ،‬العربية لغتنا‪ ،‬الجزائر وطننا«)‪.(7‬وتتمثل الخطة‬
‫المسطرة في إحُياءا المقومات التي اندثرت أو طالها الوهن والطمس‪ ,‬من دين وأخلق ولغة وتاريخ وجنس وتقاليد‪,‬‬
‫بتصحُيح قواعدها في النفوس‪ ,‬ثم المطالبة بالحُقوق الضائعة في منطق وإيمان‪ ,‬ثم الصرار على المطالبة في قوة‬
‫وشدة‪ ,‬ثم التصلب في الصرار في استماتة وتضحُية‪ ,‬مع اختيار الفرص الملئمة لكل حُالة)‪.(8‬بعث التعليم العربي‬
‫الحُرلم يقف علماءا الجزائر موقف المتفرج إزاءا المحُاولت الستعمارية التي كانت ترمي إلى مسخ ثقافة شعب‬
‫الجزائر وإلى تحُطيم شخصيته الوطنية بل كافحُوها بكل قواهم وكان من أهم أسلحُتهم في هذه المعركة المصيرية هو‬
‫التعليم العربي الحُر الذي احُتضنه الشعب ورعاه وأمده بكل أسباب الحُياة متحُديا أساليب الحُتلل في محُاربته‬
‫والتضييق عليه)‪.(9‬وفي الجنوب الجزائري‪ ،‬كان المجتمع يرزحا تحُت طائلة الحُكم العسكري وقوانينه العرفية‪ .‬وما‬
‫كان يزيد الحُالة الجتماعية سوءاا أن العلماءا الصالحُين وتلميذهم كانوا يلقون الصعاب الجسام والضرار بالغة‬
‫الذى‪.‬لقد كانت الحُكومة الفرنسية ترى "الطلبة " مصدر تشويش وتعكير للمن‪ ،‬وأنهم أعداءا فرنسا من الدرجة‬
‫الولى ويكفي للقائد لين ككل بأحُد منهم أشد تنكيل أن ينعته للحُكومة الفرنسية أنه " طالب " )معلم(‪ ،‬ففي تقرير للشيخ‬
‫بيوض سجل فيه تلك المعاناة في قوله‪» :‬تعاقبت الحُركات الثلث التعليمية والجتماعية والسياسية‪ ،‬وكان قادتها‬
‫وموجهوها هم العلماءا والعزابة وكبار الطلبة‪ ،‬وأصبح الطلبة في نظر المحُتلين هم أعداءا فرنسا رقم ‪ ،1‬وهم‬
‫المشوشون المعكرون لصفو المن‪ ،‬يجب التنكيل بهم حُتى يكونوا عبرة لغيرهم‪ ،‬وكانت كلمة "طالب" مرادفة عندهم‬
‫فيكفي أن يقول القائد أو الغا أو الباشا لسيده الحُاكم العسكري في شخص ما‪» :‬نعم سيدي )‪ (Agitateur‬لكلمة خلط‬
‫هذا خلط« لجره إلى السجن والتنكيل به‪.‬لذلك تستلطت الضواءا على دور التعليم واعتتبرت مراكز تشويش وعداءا‬
‫لفرنسا‪ .‬ول تسأل بعد ذلك عما وقع من تغريم وسجن وتعذيب وأشغال شاقة لشهور عديدة في "تعظميت" مركز‬
‫التعذيب في الجنوب الذي يشبه "تازولت" و"البرواقية" في الشمال‪ ،‬سيق إلى هذا المركز كثير من كبار الطلبة‬
‫والعيان‪ ،‬وسيق إليه مرة أعضاءا هيئة عزابة القرارة كلهم جميعا‪.(10)» ...‬وفي شمال البلد كان المحُيط السياسي‬
‫والقانوني والجتماعي الذي مساعدا إلى حُد ما على القدام على اتخاذ خطوة جريئة واعدة‪ ،‬فلقد أضفت الحُركية ــــ‬
‫التي برزت في عهد حُاكم الجزائر العام شارل جونار بظهور الصحُافة والجمعيات والنوادي في المدن الكبرى سيما‬
‫الجزائر وقسنطينة ــــ طابعا جديدا على الحُياة الثقافية والجتماعية في الجزائر‪ ،‬وزادها نشاطا زيارة الشيخ محُمد‬
‫عبده‪ ،‬وانعقاد مؤتمر المستشرقين‪ ،‬واصطبغت باللون السياسي بإقرار التجنيد الجباري على الشبان الجزائريين سنة‬
‫‪ 1912‬حُيث احُتدم النقاش حُول هذا القانون بين ألوان الطبقة المثقفة من أبناءا الجزائر‪ ،‬بين مؤيد بشروط ومعارض‬
‫بإطلق)‪.(11‬وعلى الجانب الخر من الحُدود الشرقية كانت تونس تشهد نهضة تعليمية ناجحُة بتأسيس مدرسة الشيخ‬
‫بشير صفر سنة ‪ ،1907‬تلتها مدرسة السلم‪ ،‬وكلتا المدرستين كانت حُديثة الطراز وتدرس مختلف العلوم)‪.(12‬لقد‬
‫تحُمس بعض الجزائريين‪ ،‬وأخذتهم الغيرة على الهوية الجزائرية المستهدفة باستهداف السلم ولغة القرآن‪ ،‬فأسسوا‬
‫أول مدرسة قرآنية عصرية حُرة في تبسة سنة ‪.(13)1913‬لقد كان أحُد رواد هذا المشروع هو الشيخ عباس بن‬
‫حُمانة الذي ترأس جمعية خيرية باسم )الجمعية الصديقية الخيرية للتربية السلمية والتعليم العربي والصلحا‬
‫الجتماعي( وتولى أمانة المال الشيخ الحُاج عمر العنق‪ ،‬وكان أخوه الشيخ الحُاج بكير العنق أحُد أعضائها النشطين‪.‬‬
‫)‪(14‬ويصف محُمد علي دبوز المدرسة الصديقية هذه‪ ،‬نقل عن أحُد مؤسسيها الشيخ الحُاج بكير العنق‪ ،‬وأحُد‬
‫تلمذتها السيد الصديق السعدي‪ ،‬ونقل كذلك عن صحُيفة )الصديق(‪ ،‬بأنها كانت تحُتوي على مكتبة وصيدلية‬
‫ومطبخ‪ ،‬وبكونها ذات أربعة طوابق تبرع بها للجمعية السيد الحُاج بكير بن عمر المرموري‪.‬وأما عن منهاجها‬
‫التعليمي فكان حُديثا يشمل مواد القرآن والتربية السلمية والخلق والتاريخ السلمي بما فيه تاريخ الجزائر وكذا‬
‫الجغرافيا والمواد الرياضية إلى جانب الرياضة البدنية واللغة الفرنسية‪ .‬وينص برنامج المدرسة على ثماني سنوات‬
‫مدة للدراسة‪.‬ومن حُق التلميذ القادمين من بعيد ــــ في نظام هذه المدرسة ــــ الستفادة من إقامة داخلية على أن يدفع‬
‫التلميذ مبلغا ماليا بسيطا‪ ،‬ويجمع قانون داخلي مطبوع في تونس البنود التنظيمية لهذه المدرسة )‪.(15‬وسرعان ما‬
‫تراجعت السلطات الفرنسية عن إرخائها الحُبل فشدت الخناق من جديد‪ ،‬فأصدرت المر بغلق المدرسة بعد ستة‬
‫أشهر من فتحُها‪ ،‬وحُل الجمعية الخيرية صاحُبة المبادرة‪ ،‬ونفت المعلمين وشردت التلميذ وسجنت رئيس الجمعية‪،‬‬
‫ثم أمرت بتصفيته بعد إطلق سراحُه بضربة فأس على أم رأسه‪(16).‬وييعتببر مالك بن نبي الذي نشأ في تبسة أن‬
‫عباس بن حُمانة هو أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في البلد)‪ (17‬في حُين يصفه دبوز نقل عن الحُاج‬
‫بكير العنق بكونه شخصا جديرا بأن يكون رجل دولة‪ ،‬وبأنه نظير الشيخ عبد العزيز الثعالبي في تونس لو ساعدته‬
‫الظروف‪ .‬وقد لقي بن حُمانة دعمما قويا لمشروعه من تجار مدينة تبسة المزابيين )‪.(18‬البعثات العلمية‬
‫المزابية‪:‬انتقلت البعثة المزابية الولى إلى تونس في ماي ‪ 1914‬وكانت تضم حُوالي ‪ 10‬تلميذ)‪ (19‬وتولها‬
‫بالرعاية الشيخان أبو اليقظان والحُاج عمر العنق وكانت نواة هذه البعثة تلميذ المدرسة الصديقية بتسبة التي أغلق‬
‫الستعمار أبوابها‪ ،‬وقد حُرص القائمون على التعليم في مزاب على أن يكون هؤلءا التلميذ في إطار منظم يكفل‬
‫سلمة أخلقهم ويضمن جودة تحُصيلهم الدراسي‪ ،‬ولذلك وضع المشرفون على البعثة بعد الستقرار في تونس نظاما‬
‫داخليا دقيقا يكفل انضباط التلميذ في كامل فترات اليوم والسبوع والشهر حُركة وسكونا‪ ،‬عمل وراحُة‪ ،‬وكان إمام‬
‫البعثة هو أبو اليقظان وقد كان حُمو بن عيسى المرموري أحُد أبرز تلميذ هذه البعثة)‪.(20‬ولقد حُظي تلميذ هذه‬
‫البعثة بمقاعد في مدرسة السلم القرآنية التي أسسها الشاذلي المورالي بمدينة تونس‪ ،‬غير أن ظروفا قاسية دفعت أبا‬
‫اليقظان إلى أن يعود ببعثته إلى البلد في ‪ ،1915‬ويؤسس في ذات السنة مدرسة قرآنية عصرية في القرارة على‬
‫غرار مدرسة السلم بتونس حُيث علم فيها العلوم العصرية والرياضة البدنية)‪.(21‬وسافرت البعثة الثانية إلى تونس‬
‫بقيادة أبى اليقظان أيضا‪ ،‬وكان من بين عناصرها محُمد علي دبوز وإبراهيم اطفيش ومفدي زكريا ورمضان حُمود‬
‫ومحُمد الثميني‪ ،‬وقد قدر لهؤلءا أن يتبوؤوا مكانة مرموقة في الحُياة الفكرية والثقافية في المشرق والمغرب‪ .‬ثم‬
‫التحُقت بعثة أخرى إلى تونس برئاسة محُمد الثميني في ‪ ،1919‬وأخرى بقيادة الحُاج صالح بن باعلي‪ ،‬فالتقت في‬
‫تونس ثلث بعثات مزابية في آن واحُد )‪.(22‬وبمناسبة زيارة الشيخ عبد الحُميد بن باديس تونس في صيف ‪1921‬‬
‫استضافته البعثة المزابية هناك بدار السيد باعلي بن الحُاج محُمد اليزجني الكائنة بنهج المدرسة السليمانية‪ ،‬كعادتها‬
‫استضافة أعلم الجزائر أو أولياءا التلميذ الذين يزورون تونس‪ ،‬بإقامة حُفل أدبي يتبارى فيه التلميذ ويعرضون فيه‬
‫بعض نشاطهم)‪.( 23‬وحُضر الحُفل شخصيات جزائرية بارزة من مزاب منهم الشيخ أبو اليقظان والشيخ أبو إسحُاق‬
‫اطفيش والشيخ محُمد الثميني والشيخ يوسف بن بكير والشيخ الحُاج محُمد بابانو والشيخ أحُمد بن عيسى قزريط‬
‫والخوان محُمد وموسى التشققمة وصاحُب الدار المذكور وغيرهم)‪.(24‬ولقد نشر الشيخ عبد الحُميد ابن باديس ما‬
‫جرى في هذا الحُفل في مقال بجريدة النجاحا)‪ (25‬بانطباعات وطني غيور‪ ،‬ومن ذلك ما يلي‪» :‬حُللت بتونس‬
‫فاستدعتني جماعتهم)الجماعة المزابية( إلى الحُضور عندهم في دارهم ليل‪ ,‬فلما فرغنا من العشاءا‪ ,‬خرجت إلى‬
‫صحُن الدار شبيبتهم المتعلمة بالمدارس التونسية على السلوب الحُديث الذي يجمع بين العلوم الدينية والدنيوية واللغة‬
‫العربية والفرنسوية مع حُفظ القرآن الكريم‪ ,‬فاصطفوا بنظام‪ ,‬وشنفوا أسماع الحُاضرين بالناشيد الوطنية والمدرسية‪,‬‬
‫وتحُاوروا بالمناظرة السيفية القلمية‪ ,‬كل ذلك باللغة الفصحُى واللسن الذلقة‪ ,‬والجأش الثابت‪ ,‬فرأينا منهم أهلة توشك‬
‫أن تكون أقمارا‪ ,‬وغروسا طيبة توشك أن تجنى ثمارا‪ ,‬وكنت أنا إزاءا ذلك بين عاملين متناقضين؛ عامل سرور وأمل‬
‫بمن أرى من بني ملتنا ووطننا‪ ,‬من تلك الشبيبة المتنورة بأنوار العلوم‪ ،‬وعامل حُزن وأسف من حُالة أبنائنا الخرين‬
‫الذين منهم من أهملهم آباؤهم فقتلهم الجهل‪ ,‬والتهمتهم الشوارع وأهلكتهم المفاسد والمنكرات‪ ،‬ومنهم من تعلموا‬
‫وأهملوا حُتى المبادئ الدينية‪ ,‬وحُرموا اللغة العربية لغة الجنس والدين‪ ,‬لغة الباءا والجداد« )‪.(26‬وإضافة إلى ما‬
‫كان يدرس التلميذ في المدارس الهلية التونسية‪ ،‬فإن دروسا وحُصصا إضافية كانوا يتلقونها في دار البعثة‪ ،‬ففي‬
‫مادة القرآن كان يتولى التدريس في بداية العشرينيات الشيخ الفقيه علي بن يعقوب النفوسي‪ .‬وفي الحُديث كانوا‬
‫يتلقون الربعين النووية للنووي‪ ،‬وفي العقيدة متن التوحُيد الذي عكربه أبو حُفص يعمترو بن تجميع)‪ (27‬مع شرحُه‪,‬‬
‫ويتولى ذلك رئيس البعثة الشيخ أبو إسحُاق إبراهيم اطفيش‪ ,‬كما يتناولون بالحُفظ متن الجترومية وألفية ابن مالك في‬
‫‪.‬النحُو وأرجوزة الرحُبية في علم الميراث )‪(28‬‬

‫ولدى عودة أبى اليقظان إلى الجزائر في سنة ‪ 1925‬استخلف السيد قاسم بن الحُاج عيسى على البعثة‪ ،‬ليتفرغ أبو‬
‫‪.‬اليقظان لمشروعه التاريخي في مجال الصحُافة العربية الحُرة)‪(29‬‬

‫وتواصلت البعثات المزابية إلى تونس بين الحُربين وازدادت توسعا في عدد الملتحُقين بها بفعل النتائج العلمية التي‬
‫كان يتحُصل عليها الطلبة هناك فيخبرون زملءاهم في الجزائر‪ ،‬وكذلك بفعل مشاركة المزابيين في الحُياة السياسية‬
‫بتونس خاصة في الحُزب الحُر الدستوري برئاسة عبد العزيز الثعالبي‪ ،‬وكذا بفعل المساهمة في النشاط الدبي‬
‫التونسي‪ ،‬فلم يقتصر حُينئذ المر على المزابيين بل شمل مناطق مختلفة مع التفاوت في الدرجات)‪.(30‬وبعد نشأة‬
‫معهد الحُياة بالقرارة بمزاب في سنة ‪1925‬م الذي يشمل المرحُلة العدادية والثانوية فكر مسؤولوه وعلى رأسهم‬
‫الشيخ بيوض والشيخ عدون إرسال بعثة إلى تونس لمواصلة الدراسة‪ .‬ويذكر محُمد علي دببوز أنه كان أول تلميذ‬
‫البعثة عن هذا المعهد‪ ،‬ثم إنه ترأس بعثته سنة ‪ ،1942‬فأخذت الدفعات تلحُق بتونس في السنوات التالية)‪.(31‬ورغم‬
‫قساوة الظروف التي طبعت سنوات الحُرب العالمية الثانية‪ ،‬وكانت تونس أحُد ساحُاتها فقد ظل الطلبة يغامرون‬
‫بالسفر إلى هناك فكان منهم محُمد لعساكر‪ ،‬وصالح الخرفي‪ ،‬وعلي يحُيى معمر النفوسي الليبي الذي درس بالمعهد‬
‫المذكور‪ .‬وهكذا استطاع معهد الحُياة أن يواصل مسيرة الشيخ اطفيش التعليمية ويربط الحُركة التعليمية العصرية في‬
‫مزاب بمثيلتها في الجزائر وتونس والمشرق)‪.(32‬ولما كثر التلميذ والطلبة في سائر مدن وادي مزاب‪ ،‬وعاد العديد‬
‫من خريجي المعاهد التونسية‪ ،‬فكر المصلحُون وشرعوا في تأسيس جمعيات خيرية تتولى أمر التربية والتعليم‪،‬‬
‫فتأسست لذلك جمعيات في كل قرية منظمة حُسب ما هو معروف من قانون أساسي ومجلس إدارة وأعضاءا‬
‫مشتركين وانتخابات دورية لعضاءا الدارة ومكتبها‪ ،‬إل أنها كانت سرية‪ ،‬أي أنها لم ترسم نفسها حُسب قانون‬
‫جويلية ‪ 1901‬خوفا من تدخل السلطة الحُاكمة في شؤونها بمالها من حُق المراقبة والتفتيش )‪.(33‬لقد تأسست هذه‬
‫الجمعيات سرا‪ ،‬ثم اقتضت ظروف أخرى أن تعلن عن نفسها فاعتمدت جمعية الصلحا بغرداية في ‪ ،1928‬ثم‬
‫جمعية الحُياة بالقرارة سنة ‪ 1937‬ثم جمعية النهضة بالعطف في ‪ 1945‬وجمعية النور ببنورة في ‪ 1945‬فجمعية‬
‫الستقامة ببني يزقن سنة ‪ 1946‬فجمعية الفتح بريان ‪ 1947‬ثم جميع النصر بملكية في ‪.(34)1960‬المراقبة‬
‫الفرنسية للحُركة الصلحُية وجمعية العلماءا ‪:‬أدركت فرنسا أن العلماءا قادة هذا الفكر‪ ،‬فبدأوا يعدون لمعركة فاصلة‬
‫بينهم وبين الفرنسيين‪ ,‬واستيقنت أن مشروعهم يمثل أكبر الخطر على مستقبل فرنسا في الجزائر؛ لن »مدارسهم‬
‫عبارة عن خليا سياسية‪ ،‬والسلم الذي يمارسونه هو مدرسة حُقيقية للوطنية«‪.‬من أجل ذلك راحُت فرنسا تسطر‬
‫خططها‪ ,‬وتنفذ مكرها بشكل مستمر للقضاءا على هذا التيار تنظيما وأفرادا‪ ,‬ومن ذلك‪ *:‬إغلق مدارس الصلحا قبل‬
‫تأسيس الجمعية مثل المدرسة الصديقية بتبسة في ‪ ،1914‬وبعد تأسيس الجمعية مثل مدرسة الحُديث بتلمسان‪ ،‬ولم‬
‫تكتف فرنسا بغلق المدارس؛ وإنما سجنت العلماءا والمدرسين‪ ،‬وحُرم التلميذ من التعليم بغلق المدارس‪ *.‬منع العلماءا‬
‫من التجول في الجنوب الجزائري الخاضع للحُكم العسكري‪.‬وفي هذا السياق كتب ابن باديس محُتجا على منشور‬
‫الحُاكم العام الموجه إلى حُكام الجنوب بالقبض كل طالب )معلم( منسوب إلى الجمعية وسجنه حُال جولنه باسمها أو‬
‫دعوه إليها‪ *( 35).‬منع العلماءا من الوعظ والرشاد في المساجد التي كانت تحُت إشرافها وسيطرتها‪ *.‬منع جرائد‬
‫العلماءا من الصدور‪ ,‬ابتدا مءا بجرائد أبي اليقظان الثمانية‪ ,‬إلى جرائد "السنة" و"الشريعة" و"الصراط")‪ *.(36‬إنشاءا‬
‫جمعيات منافسة لجمعية العلماءا المسلمين الجزائريين‪ ,‬ومن هذه الجمعيات نذكر جمعية علماءا السنة ‪ ,‬وجمعية‬
‫الزوايا‪ ,‬وغيرهما‪ *.‬السعي والضغط لتغيير قيادة جمعية العلماءا‪ ,‬مرة بمحُاولة إخراج المام ابن باديس منها؛ ومرة‬
‫بمحُاولة فرض شخص لقيادة الجمعية بعيد وفاة ابن باديس‪ .‬ولعل محُاولة فرنسا التدخل لفرض رئيس على الجمعية‬
‫أو إبعاده عنها لم يعرفها أي تنظيم في الجزائر‪ ,‬سوى جمعية العلماءا المسلمين الجزائريين‪ *.‬فرض القامة الجبرية‬
‫على العلماءا‪ ,‬مثل ابن باديس‪ ،‬البراهيمي‪ ،‬بيوض‪ ،‬التبسي‪..‬وغيرهم‪ *.‬ارتكاب جرائم قتل واتهام "العلماءا"‬
‫بالتحُريض عليها‪ ,‬ومن ذلك اغتيال الشيخ ك بحُول‪ ,‬واتهام الشيخ الطيب العقبي‪ .‬وإطلق النار على الشيخ أحُمد‬
‫الحُبيباتي‪ ،‬لتهام المام ابن باديس بالتحُريض على اغتياله‪ ,‬وذلك في شهر أوت سنة ‪1936‬م‪ ,‬بعد أسبوع من‬
‫اغتيال الشيخ ك بحُول‪.‬تدبير محُاولت اغتيال قادة هذا التيار قبل تأسيس الجمعية‪ ,‬كما وقع للشيخ ابن باديس‪ ,‬وبعد‬
‫تأسيسها كما وقع للشيخ إبراهيم بيوض)‪(37‬؛ فلقد حُاولت السلطة العسكرية تصفيته ثلث مرات‪(38).‬ولقد استمرت‬
‫هذه المصارعة بين الجمعية والدارة الفرنسية إلى قيام الثورة في سنة ‪ ،1954‬ولكن بدرجات متفاوتة وأساليب‬
‫مختلفة‪( 39).‬وفي مزاب كون الشيخ بيوض حُوله نخبة من المصلحُين المخلصين‪ ،‬ينظرون فيما جد من الحُداث‪،‬‬
‫ويقاومون الظلم بتحُرير الشكاوى والحُتجاجات لحُماية الحُركة الصلحُية وبخاصة الحُركة العلمية ويمدون جسور‬
‫التصال مع العلماءا العاملين في مختلف أنحُاءا القطر لفك العزلة التي ضربها الحُكم العسكري‪ ،.‬ولم يزد ذلك‪ ،‬ول‬
‫المعارضة التي كان يلقاها من خصومه‪ ،‬إل تحُفيزا على العمل والمضي قدما إلى الهداف التي حُددها)‪(40‬ومما‬
‫أثار انتباه عيون الستعلمات الفرنسية في مزاب كثرة تحُركات الشيخ بيوض الذي لم يتوقف من الذهاب والياب‬
‫من وإلى كل أنحُاءا الجزائر وحُتى إلى تونس‪ ،‬ومن أهم الشخصيات التي نسق معها الشيخ بيوض نشاطه في مزاب‬
‫نجد الشيخ أبا اليقظان والشيخ صالح بابكر والسيد عيسى خبزي‪.‬هذا الخير الذي تأسبندت إليه رئاسة جمعية الحُياة‬
‫التي تأسست في سنة ‪ 1937‬بدعم مالي منه‪ .‬وهكذا كان مقر جمعية الصلحا بغرداية ومقر إقامة السيد عيسى‬
‫خبزي ببسكرة مخاض تأسيس هذه الحُركة الصلحُية التي أثمرتها جهود من العمل الجاد في أقاليم الجنوب‪،‬‬
‫وتمكنت من أن تمد جذورها في أعماق إقليمي غرداية وتوقرت العسكريين‪ ،‬وهو ما لم يحُدث في إقليمي عين‬
‫الصفراءا والواحُات)‪.(41‬وحُسب شهادة الخصوم فإن مقرات جمعية الصلحا تحُولت إلى أماكن تعقد بها اجتماعات‬
‫سياسية »وكثيرا ما يوجه انتقادات إلى السياسات الفرنسية تجاه الهالي‪ ،‬وخاصة في "موضوع تموين المواطنين‬
‫أثناءا الحُرب العالمية الثانية"«‪ ،‬حُيث انتشرت الخصاصة وعمت الندرة في مجال المواد الغذائية على وجه‬
‫الخصوص لما وجهت كل مقدرات الجزائر ومنتوجاتها الغذائية لتموين جيوش فرنسا في ساحُات القتال‪ ،‬ومن ذلك‬
‫أيضا أنها كانت »تعارض قرار رفع مبلغ الضرائب على المواطنين‪...‬وتطلب الجمعية من المواطنين عدم السراع‬
‫في أداءا ما عليهم من ضرائب ورسوم لفرنسا‪ ،‬وكذلك عدم المشاركة في العمل الجباري لتنظيف المدينة«)‬
‫‪.( 42‬وتخلص الوثيقة إلى أن جمعية الصلحا بما أن رئيسها تكون في تونس فإن التعليم الذي ينشر تحُت إشرافها‬
‫»له طابع وطني صرف يغرس في نفوس تلميذ مدرسة الصلحا )ذلك التوجه(‪ ،‬وتيحُتفظهم أشعارا تتغنى بالحُرية‪،‬‬
‫الشيءا الذي جعل هؤلءا الطلبة منذ ‪ 1932‬ــــ خاصة من تعلم منهم بمعهد الحُياة عند الشيخ بيوض في القرارة ــــ‬
‫ينشطون مع النظمة الداعية إلى انفصال الجزائر عن فرنسا‪ ،‬والنظمة المتواجدة بشمال الجزائر« )‪.(43‬وهكذا‬
‫تشكل الحُلف الرباعي من الشيخ بيوض والشيخ أبي اليقظان والشيخ بابكر والسيد عيسى الخبزي صاحُب الثروة‬
‫والنفوذ بمنطقة بسكرة الذي بسط عليهم حُمايته وتغطوا بغطاءا الجمعيتين الخيريين "الصلحا والحُياة"‪ .‬وفي تنسيق‬
‫محُكم سعى الحُلف إلى أن يكون مصدر إشعاع للمنطقة واستغل كل الفرص المتاحُة لحُتواءا المجتمع المزابي دون‬
‫إعلن المواجهة مع السلطة العسكرية الفرنسية)‪.(44‬ولقد شهدت سنة ‪1937‬وصول دعامة أخرى من دعائم‬
‫الصلحا إلى مزاب وهو الشيخ أبو إسحُاق إبراهيم أطفيش قادما من القاهرة حُيث استقر بعد أن تم نفيه من تونس‬
‫بتهمة معاداته لفرنسا‪ ،‬وقد استقبله بمدينة الجزائر صديقه أبو اليقظان قبل وصوله إلى مزاب في جويلية من نفس‬
‫السنة وفي جدول أعماله هناك عقد لقاءا مع الشيخ بيوض للتداول في قضايا الساعة)‪.(45‬لقد أبرزت تقارير المن‬
‫الفرنسي)‪ (46‬نشاط جمعية العلماءا في منطقة مزاب‪ ،‬وخاصة منذ ديسمبر ‪ .1936‬ومن نافلة القول الشارة إلى أن‬
‫نشاط الميزابيين ضمن هذه الحُركة كان منذ تأسيسها في مطلع الثلثينيات بالمناطق الشمالية التي تمتاز بهامش أكبر‬
‫من الحُركة في ظل الحُكم المدني وهو ما مكن عددا من التجار هناك من النخراط ضمن صفوف الجمعية‪.‬وحُسب‬
‫المصادر الفرنسية فإن الحُركة الصلحُية لجمعية العلماءا المسلمين تتطلع إلى أن ترسخ جهودها في منطقة مزاب‬
‫وفي قلوب المزابيين لكونها منطقة غنية ويتميز سكانها بالنتشار في كل أنحُاءا الجزائر‪ .‬ومن خصوصياتها أيضا‬
‫خلوها من الطرق الصوفية المنحُرفة الخصم التقليدي للحُركة الصلحُية كل ذلك ساهم في تنامي آمال الحُركة‬
‫الصلحُية »ليكون مزاب حُليفها الثمين والفعال« أما الختلف المذهبي بين المالكية والباضية فليس له أهمية‬
‫تذكر‪ ،‬فكان هذا مصدر قلق حُقيقي للدارة الفرنسية)‪.(47‬ولقد كان أبو اليقظان وهو في هذه السنة نائب أمين المال‬
‫في هذه الجمعية‪ ،‬وصاحُب جريدة المة وكذا إبراهيم بيوض المنشط القديم "لكل مؤسسات التشويش والثارة"‬
‫)حُسب التقرير الفرنسي( هما من ينشط الدعاية في مزاب لهذه الحُركة)‪.(48‬ومما سجلته تقارير المن الفرنسية‬
‫أيضا‪ ،‬ما أسمته "بالمفاهيم الوهابية" التي أصبحُت متداولة في مدن مزاب بشكل متفاوت النتشار)‪ .(49‬ولعل‬
‫المقصود بتلك المفاهيم ما شنته وسائل الدعوة الصلحُية في هذه الفترة من حُملت على الفكار الخرافية‪ ،‬وتنبيه‬
‫العامة إلى خطورتها على الدين‪ ،‬والتحُذير من التزلف إلى الضرحُة والقبور والقباب ومن التوسل إلى الموتى‬
‫والتماس نفع الجن)‪.( 50‬وبالرغم من عدم لزوم الرخصة للتنقل بين بلديات الملحُقة العسكرية الواحُدة فقد غدا ذلك‬
‫لزما إذا تعلق المر بزمن عصيب على فرنسا مثل سنة ‪ 1940‬إحُدى سنواتها الحُالكة في غمرة الحُرب العالمية‬
‫الثانية‪ ،‬ويكون المر أخطر إذا كان هذا التنقل هو لغرض اجتماع شخصيتين تحُملن أفكارا ومشاريع إصلحُية‬
‫وتحُظيان بنفوذ شعبي واسع مثل الشيخ بيوض ابراهيم والشيخ بن يوسف سليمان بن الحُاج داود‪ .‬فعلى إثر سفر هذا‬
‫الخير إلى القرارة أرسلت السلطات الفرنسية قوة على إثره وألقت القبض عليهما‪ ،‬فلما حُضرا أمام حُاكم الملحُقة‬
‫بغرداية بحُضور قواد مزاب‪ ،‬أثنى باللئمة على القواد لتقصيرهم في "واجب" السهر على أمن الدولة الفرنسية‪،‬‬
‫وأصدر الحُاكم أمرا بوضع الشيخ بيوض تحُت القامة الجبرية ثلث سنوات في القرارة ونفي الشيخ بن يوسف‬
‫سليمان إلى قسنطينة لنفس المدة)‪.(51‬من الثار الجانبية للصلحا‪:‬لقد أنتجت هذه الحُركية التي كانت تنشد الصلحا‬
‫الجتماعي والتربوي جملة من الختلفات في صفوف المجتمع في مزاب بلغت في بعض الحُيان إلى مواجهات‬
‫عنيفة‪ ،‬فمن تراشقات كلمية إلى معارك إعلمية صاخبة)‪ ،(52‬إلى رسائل الوشاية لدى سلطة الحُتلل)‪ ،(53‬إلى‬
‫الحُظر على بعض الشخصيات البارزة دخول بعض مدن مزاب‪ ،‬وحُتى إلى تدبير مؤامرات الغتيال)‪.(54‬كما كانت‬
‫الختلفات المتشنجة سببا في »ارتفاع )حُالت( الطلق من جراءا ذلك بين الزواج«)‪ (55‬حُين تختلف العائلت‬
‫المتصاهرة في مواقفها من هذا التجديد الجتماعي الذي جعلت منه الحُركة الصلحُية أمرا واقعا‪.‬وطبيعي أن تلعب‬
‫السلطة الستعمارية في هذا الشأن دور المضخم والنافخ في الكير والمهول لكل الختلفات التي تبدو أحُيانا غير‬
‫ذات شأن‪ ،‬لتسود وتتقمص بعد ذلك دور الحُكم‪.‬غير أن الرادات الخيرة في رأب الصرع وتقريب هوة الخلف‬
‫وجمع الطراف للتحُاور والتصالح كانت حُاضرة دائما‪ ،‬ومن ذلك ما تتبعته بعض التقارير الفرنسية في ‪ 15‬فيفري‬
‫‪ 1938‬حُين دعا بعض أعيان التجار المزابيين في التل إلى لقاءا جمع ممثلي القصور السبع في مسجد با عبد‬
‫الرحُمان الكرتي »بهدف عقد الصلح بين حُزب الطلبة )العزابة( وحُزب بيوض ووضع حُد للنزاع القائم« ويضيف‬
‫التقرير أن عدد الحُضور كان قد بلغ حُوالي ‪ 95‬شخصية دون التوصل إلى اتفاق وأعيد عقد لقاءا آخر في ‪ 22‬من‬
‫نفس الشهر‪ ،‬وانفض اللقاءا بدون نتيجة)‪.(56‬كما سجلت كثير من المبادرات الخيرة لجمع الشمل وتوحُيد الصف‪،‬‬
‫وخاصة بعد الستقلل‪ ،‬بعد أن تبين أن مصالح الدارة الفرنسية كانت في الغالب وراءا تكريس الفرقة‬
‫والتشتت‪،‬وإذكاءا نيران الفتنة والشنآن‪ ،‬ولقد توجت هذه الجهود بإعادة إحُياءا مجلس عمي سعيد الجامع لمشايخ قرى‬
‫مزاب ووارجلن‪.‬ومجمل القول فإن تجربة حُركة الصلحا في الجزائر عموما وفي مزاب على وجه الخصوص‪،‬‬
‫بينت أن مضامين مناهج التربية والتعليم والتكوين في إطار واع من الوحُدة والكفاحا والتحُدي لحُماية مقومات‬
‫الشخصية الحُضارية‪ ،‬هي التي تحُدد مصائر المم والشعوب والمجتمعات وتدفع عنها السقوط والستلب‪ .‬وعندما‬
‫تجمع المنظومة التربوية مقومات المة وتطلعات الشعب وواقع المجتمع ومقتضيات العصر‪ ،‬حُينها يصبح في‬
‫المكان توقع وثبة نوعية للمجتمع تقلب حُسابات العولمة والستعمار الجديد‪ ،‬تماما مثلما أفسدت حُسابات الهيمنة‬
‫والستعمار القديم‬

You might also like