Professional Documents
Culture Documents
الثقافة
الثقافة
التي صدعوا بها وآرائهم التي ضمنوها مراسلتهم أو الصحف التي كانت تصدر في هذه الفترة يتوزعون إلى
توجهات يمكن أن ن صصبها في ثلثة أطوار:الطور الول ويمتد إلى نهاية الحرب العالمية الولى وتطبعه الدعوات
الملحة إلى القبال على المدارس الحكومية الفرنسية ،والدعاية المستمرة لتعليم لغة السلطة الحاكمة ولقد كان
أغلب هؤلء من خريجي المدارس الحكومية الفرنسية الذين تم تكوينهم وفق الطلب الذي يلبي حاجة الوظيف
الحكومي للسلطة الفرنسية بالجزائر ونعني به سلكي القضاء والترجمة وبعض الوظائف الدارية التي يقتضي
.إسنادها إلى الهالي)(1
ولعل الذي دفع هؤلءا إلى هذا التوجه هو مظاهر الجهل السائدة ،والفكر الخرافي الذي أصاب عقل المة ،وأمات
ضميرها وشل حُركتها .ثم إن حُاجة الناس إلى لغة الحُاكم باتت أكيدة تتحُتتمها الظروف السياسية والجتماعية
الخاضعة لسلطان الستعمار القاهر).(2على أن أصواتا كانت في هذا الوقت المبكر ترفض كل ما من شأنه أن
يكترس ثقافة المستعمر وينشئ جيل متنكرا لهويته ،مبهورا بثقافة الغرب ،فظلت هذه الصوات تصدع بفكرها القومي
والديني والوطني .وكان صوت عمر راسم مثال حُيا لمقاومة التميع والذوبان) .(3ومن هؤلءا أيضا عباس بن حُمانة
وأعضاءا جمعيته الصديقية بتبسة التي بادرت إلى إيجاد بديل بفتح أول مدرسة نظامية عصرية في الجزائر في سنة
1913وكانت تختم مراسلتها بخاتم »الجمعية الصديقية لحُياءا اللغة العربية بتبسة«).(4والطور الثاني يغطي فترة
نهاية الحُرب العالمية الولى إلى ،1930وسمتها النداءا الحُثيث لرفع همة المة الجزائرية ،ورفع التحُدي لكسر
أغلل الجهل والتماس نور العلم والمعرفة ،والعمل الجاد بكل طبقات الشعب – على إنشاءا المدارس وفتح أبوابها
لكل أبناءا المة ،ونشر التعليم العربي والفرنسي(5).لقد كان الشعب الجزائري في هذه الفترة بحُاجة إلى عناية
مركزة بعد طول غيبوبة ،فهي حُالة إنعاش تقتضي إعادة الحُيوية إلى إحُساسه وضميره ،حُتى يفضي التنبيه إلى
استجابة.ويجمع أعلم الجزائر العاملون أن المنبه الذي تستعيد به المة وعيها وحُركيتها هو التعليم) (6بمحُتواه الذي
يحُيي النفوس وبمنهجه الذي تستنير به العقول .في عمل جماعي يرتكز على المبادرة والحُساس بالواجب محُليا،
وعلى التعاون والتنسيق وطنيا.أما الطور الثالث فتبلور مع مناسبة الحُتفال المئوي للحُتلل في 1930وامتد إلى
الستقلل .وقد كان أبرز ملمحُه هو تأسيس جمعية العلماءا المسلمين التي جمعت العلماءا العاملين على بعث
الشخصية الجزائرية بملمحُها الحُضارية من خلل الحُقل الثقافي المعتمد على التربية والتعليم ،بتعدد منابرها ،من
المدرسة والمسجد إلى النادي والصحُافة والتاريخ ،ومن خلل التوعية والتجنيد ،ومن خلل الحُقل السياسي بمختلف
وسائله وأدواته من الحُزاب والنقابات والدعاية إليها ،وشغل المناصب الدارية.وكان لجمعية العلماءا المسلمين
الجزائريين ولحُركتهم الصلحُية هدفان هامان :أحُدهما فوري ،يتمثل في جمع القوى المثقفة بما في ذلك
المحُافظون ،تحُت راية الصلحا الجتماعي ،والثاني طويل المدى يرمي إلى فصل الجزائريين عن فرنسا باسم لواءا
الوطنية.يدعو هذا الفكر الوطني إلى استقلل الجزائر ،ويعمل على تحُريرها» ،فالحُرية عند قادة هذا التيار ورموزه,
جزءا ل يتجزأ؛ فإما أن يكون كله وإما أن يذهب كله ,وهي بطبيعتها تؤخذ ول تعطى ...وهي كالشمس لبد منها
للحُياة«.ويتميز هذا الفكر بإدراكه لهدف فرنسا الجل في الجزائر؛ ولجميع أبعاد الستقلل ومضامينه ,ويبرز هذا
الدراك في الشعار الذي اعتمده العلماءا وهو» :السلم ديننا ،العربية لغتنا ،الجزائر وطننا«).(7وتتمثل الخطة
المسطرة في إحُياءا المقومات التي اندثرت أو طالها الوهن والطمس ,من دين وأخلق ولغة وتاريخ وجنس وتقاليد,
بتصحُيح قواعدها في النفوس ,ثم المطالبة بالحُقوق الضائعة في منطق وإيمان ,ثم الصرار على المطالبة في قوة
وشدة ,ثم التصلب في الصرار في استماتة وتضحُية ,مع اختيار الفرص الملئمة لكل حُالة).(8بعث التعليم العربي
الحُرلم يقف علماءا الجزائر موقف المتفرج إزاءا المحُاولت الستعمارية التي كانت ترمي إلى مسخ ثقافة شعب
الجزائر وإلى تحُطيم شخصيته الوطنية بل كافحُوها بكل قواهم وكان من أهم أسلحُتهم في هذه المعركة المصيرية هو
التعليم العربي الحُر الذي احُتضنه الشعب ورعاه وأمده بكل أسباب الحُياة متحُديا أساليب الحُتلل في محُاربته
والتضييق عليه).(9وفي الجنوب الجزائري ،كان المجتمع يرزحا تحُت طائلة الحُكم العسكري وقوانينه العرفية .وما
كان يزيد الحُالة الجتماعية سوءاا أن العلماءا الصالحُين وتلميذهم كانوا يلقون الصعاب الجسام والضرار بالغة
الذى.لقد كانت الحُكومة الفرنسية ترى "الطلبة " مصدر تشويش وتعكير للمن ،وأنهم أعداءا فرنسا من الدرجة
الولى ويكفي للقائد لين ككل بأحُد منهم أشد تنكيل أن ينعته للحُكومة الفرنسية أنه " طالب " )معلم( ،ففي تقرير للشيخ
بيوض سجل فيه تلك المعاناة في قوله» :تعاقبت الحُركات الثلث التعليمية والجتماعية والسياسية ،وكان قادتها
وموجهوها هم العلماءا والعزابة وكبار الطلبة ،وأصبح الطلبة في نظر المحُتلين هم أعداءا فرنسا رقم ،1وهم
المشوشون المعكرون لصفو المن ،يجب التنكيل بهم حُتى يكونوا عبرة لغيرهم ،وكانت كلمة "طالب" مرادفة عندهم
فيكفي أن يقول القائد أو الغا أو الباشا لسيده الحُاكم العسكري في شخص ما» :نعم سيدي ) (Agitateurلكلمة خلط
هذا خلط« لجره إلى السجن والتنكيل به.لذلك تستلطت الضواءا على دور التعليم واعتتبرت مراكز تشويش وعداءا
لفرنسا .ول تسأل بعد ذلك عما وقع من تغريم وسجن وتعذيب وأشغال شاقة لشهور عديدة في "تعظميت" مركز
التعذيب في الجنوب الذي يشبه "تازولت" و"البرواقية" في الشمال ،سيق إلى هذا المركز كثير من كبار الطلبة
والعيان ،وسيق إليه مرة أعضاءا هيئة عزابة القرارة كلهم جميعا.(10)» ...وفي شمال البلد كان المحُيط السياسي
والقانوني والجتماعي الذي مساعدا إلى حُد ما على القدام على اتخاذ خطوة جريئة واعدة ،فلقد أضفت الحُركية ــــ
التي برزت في عهد حُاكم الجزائر العام شارل جونار بظهور الصحُافة والجمعيات والنوادي في المدن الكبرى سيما
الجزائر وقسنطينة ــــ طابعا جديدا على الحُياة الثقافية والجتماعية في الجزائر ،وزادها نشاطا زيارة الشيخ محُمد
عبده ،وانعقاد مؤتمر المستشرقين ،واصطبغت باللون السياسي بإقرار التجنيد الجباري على الشبان الجزائريين سنة
1912حُيث احُتدم النقاش حُول هذا القانون بين ألوان الطبقة المثقفة من أبناءا الجزائر ،بين مؤيد بشروط ومعارض
بإطلق).(11وعلى الجانب الخر من الحُدود الشرقية كانت تونس تشهد نهضة تعليمية ناجحُة بتأسيس مدرسة الشيخ
بشير صفر سنة ،1907تلتها مدرسة السلم ،وكلتا المدرستين كانت حُديثة الطراز وتدرس مختلف العلوم).(12لقد
تحُمس بعض الجزائريين ،وأخذتهم الغيرة على الهوية الجزائرية المستهدفة باستهداف السلم ولغة القرآن ،فأسسوا
أول مدرسة قرآنية عصرية حُرة في تبسة سنة .(13)1913لقد كان أحُد رواد هذا المشروع هو الشيخ عباس بن
حُمانة الذي ترأس جمعية خيرية باسم )الجمعية الصديقية الخيرية للتربية السلمية والتعليم العربي والصلحا
الجتماعي( وتولى أمانة المال الشيخ الحُاج عمر العنق ،وكان أخوه الشيخ الحُاج بكير العنق أحُد أعضائها النشطين.
)(14ويصف محُمد علي دبوز المدرسة الصديقية هذه ،نقل عن أحُد مؤسسيها الشيخ الحُاج بكير العنق ،وأحُد
تلمذتها السيد الصديق السعدي ،ونقل كذلك عن صحُيفة )الصديق( ،بأنها كانت تحُتوي على مكتبة وصيدلية
ومطبخ ،وبكونها ذات أربعة طوابق تبرع بها للجمعية السيد الحُاج بكير بن عمر المرموري.وأما عن منهاجها
التعليمي فكان حُديثا يشمل مواد القرآن والتربية السلمية والخلق والتاريخ السلمي بما فيه تاريخ الجزائر وكذا
الجغرافيا والمواد الرياضية إلى جانب الرياضة البدنية واللغة الفرنسية .وينص برنامج المدرسة على ثماني سنوات
مدة للدراسة.ومن حُق التلميذ القادمين من بعيد ــــ في نظام هذه المدرسة ــــ الستفادة من إقامة داخلية على أن يدفع
التلميذ مبلغا ماليا بسيطا ،ويجمع قانون داخلي مطبوع في تونس البنود التنظيمية لهذه المدرسة ).(15وسرعان ما
تراجعت السلطات الفرنسية عن إرخائها الحُبل فشدت الخناق من جديد ،فأصدرت المر بغلق المدرسة بعد ستة
أشهر من فتحُها ،وحُل الجمعية الخيرية صاحُبة المبادرة ،ونفت المعلمين وشردت التلميذ وسجنت رئيس الجمعية،
ثم أمرت بتصفيته بعد إطلق سراحُه بضربة فأس على أم رأسه(16).وييعتببر مالك بن نبي الذي نشأ في تبسة أن
عباس بن حُمانة هو أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في البلد) (17في حُين يصفه دبوز نقل عن الحُاج
بكير العنق بكونه شخصا جديرا بأن يكون رجل دولة ،وبأنه نظير الشيخ عبد العزيز الثعالبي في تونس لو ساعدته
الظروف .وقد لقي بن حُمانة دعمما قويا لمشروعه من تجار مدينة تبسة المزابيين ).(18البعثات العلمية
المزابية:انتقلت البعثة المزابية الولى إلى تونس في ماي 1914وكانت تضم حُوالي 10تلميذ) (19وتولها
بالرعاية الشيخان أبو اليقظان والحُاج عمر العنق وكانت نواة هذه البعثة تلميذ المدرسة الصديقية بتسبة التي أغلق
الستعمار أبوابها ،وقد حُرص القائمون على التعليم في مزاب على أن يكون هؤلءا التلميذ في إطار منظم يكفل
سلمة أخلقهم ويضمن جودة تحُصيلهم الدراسي ،ولذلك وضع المشرفون على البعثة بعد الستقرار في تونس نظاما
داخليا دقيقا يكفل انضباط التلميذ في كامل فترات اليوم والسبوع والشهر حُركة وسكونا ،عمل وراحُة ،وكان إمام
البعثة هو أبو اليقظان وقد كان حُمو بن عيسى المرموري أحُد أبرز تلميذ هذه البعثة).(20ولقد حُظي تلميذ هذه
البعثة بمقاعد في مدرسة السلم القرآنية التي أسسها الشاذلي المورالي بمدينة تونس ،غير أن ظروفا قاسية دفعت أبا
اليقظان إلى أن يعود ببعثته إلى البلد في ،1915ويؤسس في ذات السنة مدرسة قرآنية عصرية في القرارة على
غرار مدرسة السلم بتونس حُيث علم فيها العلوم العصرية والرياضة البدنية).(21وسافرت البعثة الثانية إلى تونس
بقيادة أبى اليقظان أيضا ،وكان من بين عناصرها محُمد علي دبوز وإبراهيم اطفيش ومفدي زكريا ورمضان حُمود
ومحُمد الثميني ،وقد قدر لهؤلءا أن يتبوؤوا مكانة مرموقة في الحُياة الفكرية والثقافية في المشرق والمغرب .ثم
التحُقت بعثة أخرى إلى تونس برئاسة محُمد الثميني في ،1919وأخرى بقيادة الحُاج صالح بن باعلي ،فالتقت في
تونس ثلث بعثات مزابية في آن واحُد ).(22وبمناسبة زيارة الشيخ عبد الحُميد بن باديس تونس في صيف 1921
استضافته البعثة المزابية هناك بدار السيد باعلي بن الحُاج محُمد اليزجني الكائنة بنهج المدرسة السليمانية ،كعادتها
استضافة أعلم الجزائر أو أولياءا التلميذ الذين يزورون تونس ،بإقامة حُفل أدبي يتبارى فيه التلميذ ويعرضون فيه
بعض نشاطهم).( 23وحُضر الحُفل شخصيات جزائرية بارزة من مزاب منهم الشيخ أبو اليقظان والشيخ أبو إسحُاق
اطفيش والشيخ محُمد الثميني والشيخ يوسف بن بكير والشيخ الحُاج محُمد بابانو والشيخ أحُمد بن عيسى قزريط
والخوان محُمد وموسى التشققمة وصاحُب الدار المذكور وغيرهم).(24ولقد نشر الشيخ عبد الحُميد ابن باديس ما
جرى في هذا الحُفل في مقال بجريدة النجاحا) (25بانطباعات وطني غيور ،ومن ذلك ما يلي» :حُللت بتونس
فاستدعتني جماعتهم)الجماعة المزابية( إلى الحُضور عندهم في دارهم ليل ,فلما فرغنا من العشاءا ,خرجت إلى
صحُن الدار شبيبتهم المتعلمة بالمدارس التونسية على السلوب الحُديث الذي يجمع بين العلوم الدينية والدنيوية واللغة
العربية والفرنسوية مع حُفظ القرآن الكريم ,فاصطفوا بنظام ,وشنفوا أسماع الحُاضرين بالناشيد الوطنية والمدرسية,
وتحُاوروا بالمناظرة السيفية القلمية ,كل ذلك باللغة الفصحُى واللسن الذلقة ,والجأش الثابت ,فرأينا منهم أهلة توشك
أن تكون أقمارا ,وغروسا طيبة توشك أن تجنى ثمارا ,وكنت أنا إزاءا ذلك بين عاملين متناقضين؛ عامل سرور وأمل
بمن أرى من بني ملتنا ووطننا ,من تلك الشبيبة المتنورة بأنوار العلوم ،وعامل حُزن وأسف من حُالة أبنائنا الخرين
الذين منهم من أهملهم آباؤهم فقتلهم الجهل ,والتهمتهم الشوارع وأهلكتهم المفاسد والمنكرات ،ومنهم من تعلموا
وأهملوا حُتى المبادئ الدينية ,وحُرموا اللغة العربية لغة الجنس والدين ,لغة الباءا والجداد« ).(26وإضافة إلى ما
كان يدرس التلميذ في المدارس الهلية التونسية ،فإن دروسا وحُصصا إضافية كانوا يتلقونها في دار البعثة ،ففي
مادة القرآن كان يتولى التدريس في بداية العشرينيات الشيخ الفقيه علي بن يعقوب النفوسي .وفي الحُديث كانوا
يتلقون الربعين النووية للنووي ،وفي العقيدة متن التوحُيد الذي عكربه أبو حُفص يعمترو بن تجميع) (27مع شرحُه,
ويتولى ذلك رئيس البعثة الشيخ أبو إسحُاق إبراهيم اطفيش ,كما يتناولون بالحُفظ متن الجترومية وألفية ابن مالك في
.النحُو وأرجوزة الرحُبية في علم الميراث )(28
ولدى عودة أبى اليقظان إلى الجزائر في سنة 1925استخلف السيد قاسم بن الحُاج عيسى على البعثة ،ليتفرغ أبو
.اليقظان لمشروعه التاريخي في مجال الصحُافة العربية الحُرة)(29
وتواصلت البعثات المزابية إلى تونس بين الحُربين وازدادت توسعا في عدد الملتحُقين بها بفعل النتائج العلمية التي
كان يتحُصل عليها الطلبة هناك فيخبرون زملءاهم في الجزائر ،وكذلك بفعل مشاركة المزابيين في الحُياة السياسية
بتونس خاصة في الحُزب الحُر الدستوري برئاسة عبد العزيز الثعالبي ،وكذا بفعل المساهمة في النشاط الدبي
التونسي ،فلم يقتصر حُينئذ المر على المزابيين بل شمل مناطق مختلفة مع التفاوت في الدرجات).(30وبعد نشأة
معهد الحُياة بالقرارة بمزاب في سنة 1925م الذي يشمل المرحُلة العدادية والثانوية فكر مسؤولوه وعلى رأسهم
الشيخ بيوض والشيخ عدون إرسال بعثة إلى تونس لمواصلة الدراسة .ويذكر محُمد علي دببوز أنه كان أول تلميذ
البعثة عن هذا المعهد ،ثم إنه ترأس بعثته سنة ،1942فأخذت الدفعات تلحُق بتونس في السنوات التالية).(31ورغم
قساوة الظروف التي طبعت سنوات الحُرب العالمية الثانية ،وكانت تونس أحُد ساحُاتها فقد ظل الطلبة يغامرون
بالسفر إلى هناك فكان منهم محُمد لعساكر ،وصالح الخرفي ،وعلي يحُيى معمر النفوسي الليبي الذي درس بالمعهد
المذكور .وهكذا استطاع معهد الحُياة أن يواصل مسيرة الشيخ اطفيش التعليمية ويربط الحُركة التعليمية العصرية في
مزاب بمثيلتها في الجزائر وتونس والمشرق).(32ولما كثر التلميذ والطلبة في سائر مدن وادي مزاب ،وعاد العديد
من خريجي المعاهد التونسية ،فكر المصلحُون وشرعوا في تأسيس جمعيات خيرية تتولى أمر التربية والتعليم،
فتأسست لذلك جمعيات في كل قرية منظمة حُسب ما هو معروف من قانون أساسي ومجلس إدارة وأعضاءا
مشتركين وانتخابات دورية لعضاءا الدارة ومكتبها ،إل أنها كانت سرية ،أي أنها لم ترسم نفسها حُسب قانون
جويلية 1901خوفا من تدخل السلطة الحُاكمة في شؤونها بمالها من حُق المراقبة والتفتيش ).(33لقد تأسست هذه
الجمعيات سرا ،ثم اقتضت ظروف أخرى أن تعلن عن نفسها فاعتمدت جمعية الصلحا بغرداية في ،1928ثم
جمعية الحُياة بالقرارة سنة 1937ثم جمعية النهضة بالعطف في 1945وجمعية النور ببنورة في 1945فجمعية
الستقامة ببني يزقن سنة 1946فجمعية الفتح بريان 1947ثم جميع النصر بملكية في .(34)1960المراقبة
الفرنسية للحُركة الصلحُية وجمعية العلماءا :أدركت فرنسا أن العلماءا قادة هذا الفكر ،فبدأوا يعدون لمعركة فاصلة
بينهم وبين الفرنسيين ,واستيقنت أن مشروعهم يمثل أكبر الخطر على مستقبل فرنسا في الجزائر؛ لن »مدارسهم
عبارة عن خليا سياسية ،والسلم الذي يمارسونه هو مدرسة حُقيقية للوطنية«.من أجل ذلك راحُت فرنسا تسطر
خططها ,وتنفذ مكرها بشكل مستمر للقضاءا على هذا التيار تنظيما وأفرادا ,ومن ذلك *:إغلق مدارس الصلحا قبل
تأسيس الجمعية مثل المدرسة الصديقية بتبسة في ،1914وبعد تأسيس الجمعية مثل مدرسة الحُديث بتلمسان ،ولم
تكتف فرنسا بغلق المدارس؛ وإنما سجنت العلماءا والمدرسين ،وحُرم التلميذ من التعليم بغلق المدارس *.منع العلماءا
من التجول في الجنوب الجزائري الخاضع للحُكم العسكري.وفي هذا السياق كتب ابن باديس محُتجا على منشور
الحُاكم العام الموجه إلى حُكام الجنوب بالقبض كل طالب )معلم( منسوب إلى الجمعية وسجنه حُال جولنه باسمها أو
دعوه إليها *( 35).منع العلماءا من الوعظ والرشاد في المساجد التي كانت تحُت إشرافها وسيطرتها *.منع جرائد
العلماءا من الصدور ,ابتدا مءا بجرائد أبي اليقظان الثمانية ,إلى جرائد "السنة" و"الشريعة" و"الصراط") *.(36إنشاءا
جمعيات منافسة لجمعية العلماءا المسلمين الجزائريين ,ومن هذه الجمعيات نذكر جمعية علماءا السنة ,وجمعية
الزوايا ,وغيرهما *.السعي والضغط لتغيير قيادة جمعية العلماءا ,مرة بمحُاولة إخراج المام ابن باديس منها؛ ومرة
بمحُاولة فرض شخص لقيادة الجمعية بعيد وفاة ابن باديس .ولعل محُاولة فرنسا التدخل لفرض رئيس على الجمعية
أو إبعاده عنها لم يعرفها أي تنظيم في الجزائر ,سوى جمعية العلماءا المسلمين الجزائريين *.فرض القامة الجبرية
على العلماءا ,مثل ابن باديس ،البراهيمي ،بيوض ،التبسي..وغيرهم *.ارتكاب جرائم قتل واتهام "العلماءا"
بالتحُريض عليها ,ومن ذلك اغتيال الشيخ ك بحُول ,واتهام الشيخ الطيب العقبي .وإطلق النار على الشيخ أحُمد
الحُبيباتي ،لتهام المام ابن باديس بالتحُريض على اغتياله ,وذلك في شهر أوت سنة 1936م ,بعد أسبوع من
اغتيال الشيخ ك بحُول.تدبير محُاولت اغتيال قادة هذا التيار قبل تأسيس الجمعية ,كما وقع للشيخ ابن باديس ,وبعد
تأسيسها كما وقع للشيخ إبراهيم بيوض)(37؛ فلقد حُاولت السلطة العسكرية تصفيته ثلث مرات(38).ولقد استمرت
هذه المصارعة بين الجمعية والدارة الفرنسية إلى قيام الثورة في سنة ،1954ولكن بدرجات متفاوتة وأساليب
مختلفة( 39).وفي مزاب كون الشيخ بيوض حُوله نخبة من المصلحُين المخلصين ،ينظرون فيما جد من الحُداث،
ويقاومون الظلم بتحُرير الشكاوى والحُتجاجات لحُماية الحُركة الصلحُية وبخاصة الحُركة العلمية ويمدون جسور
التصال مع العلماءا العاملين في مختلف أنحُاءا القطر لفك العزلة التي ضربها الحُكم العسكري ،.ولم يزد ذلك ،ول
المعارضة التي كان يلقاها من خصومه ،إل تحُفيزا على العمل والمضي قدما إلى الهداف التي حُددها)(40ومما
أثار انتباه عيون الستعلمات الفرنسية في مزاب كثرة تحُركات الشيخ بيوض الذي لم يتوقف من الذهاب والياب
من وإلى كل أنحُاءا الجزائر وحُتى إلى تونس ،ومن أهم الشخصيات التي نسق معها الشيخ بيوض نشاطه في مزاب
نجد الشيخ أبا اليقظان والشيخ صالح بابكر والسيد عيسى خبزي.هذا الخير الذي تأسبندت إليه رئاسة جمعية الحُياة
التي تأسست في سنة 1937بدعم مالي منه .وهكذا كان مقر جمعية الصلحا بغرداية ومقر إقامة السيد عيسى
خبزي ببسكرة مخاض تأسيس هذه الحُركة الصلحُية التي أثمرتها جهود من العمل الجاد في أقاليم الجنوب،
وتمكنت من أن تمد جذورها في أعماق إقليمي غرداية وتوقرت العسكريين ،وهو ما لم يحُدث في إقليمي عين
الصفراءا والواحُات).(41وحُسب شهادة الخصوم فإن مقرات جمعية الصلحا تحُولت إلى أماكن تعقد بها اجتماعات
سياسية »وكثيرا ما يوجه انتقادات إلى السياسات الفرنسية تجاه الهالي ،وخاصة في "موضوع تموين المواطنين
أثناءا الحُرب العالمية الثانية"« ،حُيث انتشرت الخصاصة وعمت الندرة في مجال المواد الغذائية على وجه
الخصوص لما وجهت كل مقدرات الجزائر ومنتوجاتها الغذائية لتموين جيوش فرنسا في ساحُات القتال ،ومن ذلك
أيضا أنها كانت »تعارض قرار رفع مبلغ الضرائب على المواطنين...وتطلب الجمعية من المواطنين عدم السراع
في أداءا ما عليهم من ضرائب ورسوم لفرنسا ،وكذلك عدم المشاركة في العمل الجباري لتنظيف المدينة«)
.( 42وتخلص الوثيقة إلى أن جمعية الصلحا بما أن رئيسها تكون في تونس فإن التعليم الذي ينشر تحُت إشرافها
»له طابع وطني صرف يغرس في نفوس تلميذ مدرسة الصلحا )ذلك التوجه( ،وتيحُتفظهم أشعارا تتغنى بالحُرية،
الشيءا الذي جعل هؤلءا الطلبة منذ 1932ــــ خاصة من تعلم منهم بمعهد الحُياة عند الشيخ بيوض في القرارة ــــ
ينشطون مع النظمة الداعية إلى انفصال الجزائر عن فرنسا ،والنظمة المتواجدة بشمال الجزائر« ).(43وهكذا
تشكل الحُلف الرباعي من الشيخ بيوض والشيخ أبي اليقظان والشيخ بابكر والسيد عيسى الخبزي صاحُب الثروة
والنفوذ بمنطقة بسكرة الذي بسط عليهم حُمايته وتغطوا بغطاءا الجمعيتين الخيريين "الصلحا والحُياة" .وفي تنسيق
محُكم سعى الحُلف إلى أن يكون مصدر إشعاع للمنطقة واستغل كل الفرص المتاحُة لحُتواءا المجتمع المزابي دون
إعلن المواجهة مع السلطة العسكرية الفرنسية).(44ولقد شهدت سنة 1937وصول دعامة أخرى من دعائم
الصلحا إلى مزاب وهو الشيخ أبو إسحُاق إبراهيم أطفيش قادما من القاهرة حُيث استقر بعد أن تم نفيه من تونس
بتهمة معاداته لفرنسا ،وقد استقبله بمدينة الجزائر صديقه أبو اليقظان قبل وصوله إلى مزاب في جويلية من نفس
السنة وفي جدول أعماله هناك عقد لقاءا مع الشيخ بيوض للتداول في قضايا الساعة).(45لقد أبرزت تقارير المن
الفرنسي) (46نشاط جمعية العلماءا في منطقة مزاب ،وخاصة منذ ديسمبر .1936ومن نافلة القول الشارة إلى أن
نشاط الميزابيين ضمن هذه الحُركة كان منذ تأسيسها في مطلع الثلثينيات بالمناطق الشمالية التي تمتاز بهامش أكبر
من الحُركة في ظل الحُكم المدني وهو ما مكن عددا من التجار هناك من النخراط ضمن صفوف الجمعية.وحُسب
المصادر الفرنسية فإن الحُركة الصلحُية لجمعية العلماءا المسلمين تتطلع إلى أن ترسخ جهودها في منطقة مزاب
وفي قلوب المزابيين لكونها منطقة غنية ويتميز سكانها بالنتشار في كل أنحُاءا الجزائر .ومن خصوصياتها أيضا
خلوها من الطرق الصوفية المنحُرفة الخصم التقليدي للحُركة الصلحُية كل ذلك ساهم في تنامي آمال الحُركة
الصلحُية »ليكون مزاب حُليفها الثمين والفعال« أما الختلف المذهبي بين المالكية والباضية فليس له أهمية
تذكر ،فكان هذا مصدر قلق حُقيقي للدارة الفرنسية).(47ولقد كان أبو اليقظان وهو في هذه السنة نائب أمين المال
في هذه الجمعية ،وصاحُب جريدة المة وكذا إبراهيم بيوض المنشط القديم "لكل مؤسسات التشويش والثارة"
)حُسب التقرير الفرنسي( هما من ينشط الدعاية في مزاب لهذه الحُركة).(48ومما سجلته تقارير المن الفرنسية
أيضا ،ما أسمته "بالمفاهيم الوهابية" التي أصبحُت متداولة في مدن مزاب بشكل متفاوت النتشار) .(49ولعل
المقصود بتلك المفاهيم ما شنته وسائل الدعوة الصلحُية في هذه الفترة من حُملت على الفكار الخرافية ،وتنبيه
العامة إلى خطورتها على الدين ،والتحُذير من التزلف إلى الضرحُة والقبور والقباب ومن التوسل إلى الموتى
والتماس نفع الجن).( 50وبالرغم من عدم لزوم الرخصة للتنقل بين بلديات الملحُقة العسكرية الواحُدة فقد غدا ذلك
لزما إذا تعلق المر بزمن عصيب على فرنسا مثل سنة 1940إحُدى سنواتها الحُالكة في غمرة الحُرب العالمية
الثانية ،ويكون المر أخطر إذا كان هذا التنقل هو لغرض اجتماع شخصيتين تحُملن أفكارا ومشاريع إصلحُية
وتحُظيان بنفوذ شعبي واسع مثل الشيخ بيوض ابراهيم والشيخ بن يوسف سليمان بن الحُاج داود .فعلى إثر سفر هذا
الخير إلى القرارة أرسلت السلطات الفرنسية قوة على إثره وألقت القبض عليهما ،فلما حُضرا أمام حُاكم الملحُقة
بغرداية بحُضور قواد مزاب ،أثنى باللئمة على القواد لتقصيرهم في "واجب" السهر على أمن الدولة الفرنسية،
وأصدر الحُاكم أمرا بوضع الشيخ بيوض تحُت القامة الجبرية ثلث سنوات في القرارة ونفي الشيخ بن يوسف
سليمان إلى قسنطينة لنفس المدة).(51من الثار الجانبية للصلحا:لقد أنتجت هذه الحُركية التي كانت تنشد الصلحا
الجتماعي والتربوي جملة من الختلفات في صفوف المجتمع في مزاب بلغت في بعض الحُيان إلى مواجهات
عنيفة ،فمن تراشقات كلمية إلى معارك إعلمية صاخبة) ،(52إلى رسائل الوشاية لدى سلطة الحُتلل) ،(53إلى
الحُظر على بعض الشخصيات البارزة دخول بعض مدن مزاب ،وحُتى إلى تدبير مؤامرات الغتيال).(54كما كانت
الختلفات المتشنجة سببا في »ارتفاع )حُالت( الطلق من جراءا ذلك بين الزواج«) (55حُين تختلف العائلت
المتصاهرة في مواقفها من هذا التجديد الجتماعي الذي جعلت منه الحُركة الصلحُية أمرا واقعا.وطبيعي أن تلعب
السلطة الستعمارية في هذا الشأن دور المضخم والنافخ في الكير والمهول لكل الختلفات التي تبدو أحُيانا غير
ذات شأن ،لتسود وتتقمص بعد ذلك دور الحُكم.غير أن الرادات الخيرة في رأب الصرع وتقريب هوة الخلف
وجمع الطراف للتحُاور والتصالح كانت حُاضرة دائما ،ومن ذلك ما تتبعته بعض التقارير الفرنسية في 15فيفري
1938حُين دعا بعض أعيان التجار المزابيين في التل إلى لقاءا جمع ممثلي القصور السبع في مسجد با عبد
الرحُمان الكرتي »بهدف عقد الصلح بين حُزب الطلبة )العزابة( وحُزب بيوض ووضع حُد للنزاع القائم« ويضيف
التقرير أن عدد الحُضور كان قد بلغ حُوالي 95شخصية دون التوصل إلى اتفاق وأعيد عقد لقاءا آخر في 22من
نفس الشهر ،وانفض اللقاءا بدون نتيجة).(56كما سجلت كثير من المبادرات الخيرة لجمع الشمل وتوحُيد الصف،
وخاصة بعد الستقلل ،بعد أن تبين أن مصالح الدارة الفرنسية كانت في الغالب وراءا تكريس الفرقة
والتشتت،وإذكاءا نيران الفتنة والشنآن ،ولقد توجت هذه الجهود بإعادة إحُياءا مجلس عمي سعيد الجامع لمشايخ قرى
مزاب ووارجلن.ومجمل القول فإن تجربة حُركة الصلحا في الجزائر عموما وفي مزاب على وجه الخصوص،
بينت أن مضامين مناهج التربية والتعليم والتكوين في إطار واع من الوحُدة والكفاحا والتحُدي لحُماية مقومات
الشخصية الحُضارية ،هي التي تحُدد مصائر المم والشعوب والمجتمعات وتدفع عنها السقوط والستلب .وعندما
تجمع المنظومة التربوية مقومات المة وتطلعات الشعب وواقع المجتمع ومقتضيات العصر ،حُينها يصبح في
المكان توقع وثبة نوعية للمجتمع تقلب حُسابات العولمة والستعمار الجديد ،تماما مثلما أفسدت حُسابات الهيمنة
والستعمار القديم