Professional Documents
Culture Documents
رواية ملنخوليا
رواية ملنخوليا
َملَنْ ُخوليا ْ
أنتْأوْالْوطـن
مرادْالضفري ْ
][2
َملَن ُخوليا ْ
أنتْأوْالْوطـن
][3
إلىْمنْفَقدتُ ْبرحيلهمْأجم َلْرفقةٍْفيْالحياةْ ْ،
إلىْروحْجمعةْبجدادْوأحمدْبوزكيةْْ ...
رحم ْةُْهللاْعليهماْ .
][4
ماْهوْالوطن؟ ْليسْسؤاالْتجيبْعليهْوتمضيْْ...
إنهْحياتكْوقضيتكْمعاًْ .
محمودْدرويش ْ
السعادةْاألبديةْهيْالخالصْ .
سورينْكيرجارد ْ
][5
''ستقولين لي لم االنتحار؟ سأقول ِ
لك لم الحياة؟''
كان هذا سؤاله الذي شغل بالي طويال بعد انتحاره ،دون أن أجد له جوابا ،دون
ً
أن أجد له ذريعة يواصل بها الحياة ويحتال على مأساته مع الوطن والحب .وألن
''طارق ولد الخيل'' لم يعد بيننا كما كان ،ارتأيت أن أنشر مذكراته التي تركها لي
كامل مع الوطن والحبجيل ٍ
مع مذكراتي عسانا ند ِفن معا وإلى األبد حكاية مأساة ٍ
والقضية ...هذه الحكاية.
ليلىْالمرابط ْ
ليفيس ،كندا 01 .تشرين األول/أكتوبر 8107
][6
هيفيستوس ْ
ْْ
][7
ْ ْْْْ1
الرباط 80-كانون الثاني/يناير 2015
در ذاك املساء ،عندما تعثر قلبي إله جعلتك تختبئ في أكوام الق ِ
تعويذة ٍ
ِ أي
بحروف اسمك؟ فسقط شهيدا تنعيه السماء لرواد القمر وتبكيه بدموع املطر!
أذكر كيف ابتسمت حينها وأنا أنحني ألزيل غبار اسمك من على ركبتي ،كي أمض ي
ً
في ثنايا الزمن مجردة من اسمك املجيد ومن قلبي الشهيد .سمعتك حينها تهمس
لك إال لي''.
شك بعد اآلن ،امض ي يا مسكينة فال بيعة وال والء ِ
لي'' :أنا ملك عر ِ
ومضيت ،مضيت دون أن أكترث لهذيانك الصادق وقتها ،صدقت فنجان قهوتك
مساء بنهدي وما صدقتك...
ٍ إذ ينوء بلثم شفتي ،صدقت مالمحك التي تتعمد كل
ً
لم أكن أدري أنني سأشعل قلبي احتفاال بعيد عرشك املجيد طيلة أربعين سنة من
عمري ،وأني سأعتكف في زوايا قصرك أنتظر خطاب العرش وإمالءات القدر قبل
ً ً
املتعثرة باسمك في أكوام القدر وأنا أصيح ممرغة
ِ أن أنحني راكعة كجموع العبيد
حبر يديك'' :هللا يبارك في عمر اسمك يا سيدي''.
شفتي في ِ
ها أنا أقف من جديد في صالة انتظار الحب ،يملؤني وجع االنتظار وآهات الفراق
املتكرر ...أنتظر رقمي على شاشة االنتظار ،لعل القدر يحالفني في أي ثانية
ويمنحني الخالص باالرتماء في أحضان من أحبه إلى األبد.
قدر إلى األبد جمعني بطارق .هذا الرجل الذي دخل حياتي ك ٍ
جيش لكن ،ما من ٍ
عسكري نثر عليها جنوده ومتاريسه وأعالمه ليعلن احتاللي إلى األبد ...ال ش يء
حب شاردة جمعتني به. أجدت انتظاره طيلة أربعين سنة من عمري سوى قصة ٍ
][8
ً
كانت عقارب الساعة في يدي تتدلل مشيرة إلى الثالثة إال ربع بعد الزوال .اقترب
دوري ألخذ تذكرة من موظف محطة القطار الدار البيضاء امليناء التي اكتست
ً
بحلتك القديمة.
ِ وحدك تسيرين
ِ حلة جديدة وكأنها تغمز لي قائلة:
-إلى أين سيدتي؟
ً ً
-الرباط ،ذهابا وإيابا من فضلك.
وأي مدينة يحلو فيها الحب على ضفافك يا طارق غير الرباط ،تلك املدينة املتجبرة
مرة نقرر فيها العودة إلى بعضنا إلى األبد...
التي تلفظني عنك في كل ٍ
-في أي ساعة تريدين العودة سيدتي؟
بدون تفكير أجبت موظف املحطة:
-في آخر قطار...
ً
فرقنا ،نركب كل القطارات سوية ،نعبر كل نعم ،القطار األخير هو الذي ي ِ
ً ً
املحطات معا .وحده القطار األخير ال نركبه معا...
عندما انطلق القطار دافعا جسدي إلى طارق ،بدأ شريط قصتنا يمر خاطفا
كالصور التي تمر متسارعة على نوافذ القطار.
ً
يوم عشته معه ،كان قبل أربع سنوات عند عودته من فلسطين منهكا أسعد ٍ
بقصص الحرب واملوت والبحث عن الوطن ،ترك كل ش يء وعاد لي .ترك عروبته
بوطن مجزئ يعشق الشتات ،ترك وطنه الغائب في الالمكان وعاد لي.الجريحة ٍ
عندما هاتفته في فلسطين قبل مجيئه حينها ،قال لي'' :سأعود فقط من أجلك يا
ً
ليلى'' .كانت هذه العبارة كافية ألغرق في بحر اآلمال ومشاريع الحب.
][9
بثوب أبيض في
انتظرته عند عودته حينها بمطار محمد الخامس ،أزف نفس ي إليه ٍ
انتظار كتب عليها '' ''Terminal 2وكأن النهاية أسدلت فعال على فصول
ٍ ساحة
قدر الرحيل والعودة.
الفراق و ِ
ً
عانقته بقوة ،فصرخ ممسكا كتفه األيمن:
][11
على جلدي أداويه بالكحول وبعض املاء كما قال نزار قباني .لكنني كنت مخطئة.
ٌ
لم أكن ِأعي إلى ذلك الحين أنني متورطة في هذا الرجل حد الضياع والوجع .وأن
برحيلي عنه سأصبح على شفير الجنون.
ً
نعم ،أصبحت مجنونة بعد رحيلي عنه ،غد ْت ذكرياتي معه تجتاحني في كل حين
لتشتت فكري وتغرقني في شرود عميق وكأنني معزولة عن كل ما يحيط بي .بدأت
أعراض االكتئاب تتملكني بقوة لدرجة أنها عقدت عالقتي مع ''جالل'' زوجي ،الذي
ً
بدأت أرى فيه رجال غريبا ،مغتصبا يحتل مكان طارق في حياتي .تأثر عملي في
ً
املعهد الكندي الذي أدرس فيه أيضا بسبب شرودي الدائم في الفصل .بكل
ً
حياة ال يوجد فيها طارق وغدوت تائهة ال أدري من أكون
بساطة ،فقدت الشهية في ٍ
بدونه.
حضن جديد.
ٍ أما هو ،فكعاد ِته يجيد الرحيل والفوض ى ،غادر يلملم وحدته إلى
عاد إلى اإلسرائيلية أماليا ،يبحث عن حبها وحنانها وسط ألغام التاريخ والسياسة
ْ
اشترطت عودة عالقتهما بزواجه التي تفرق بينهما ،لكنها كانت أذكى منه هذه املرة.
منها ،لترميه لتردده في اتخاذ القرار بأن يكون لها أو ال يكون.
بمجرد ما وضعت قدمي على أرض الرباط اجتاحتني رائحة الشوارع التي مشيت
فيها رفقة طارق أزيد من عشرين سنة .كل دروب الرباط وأزقتها تعرفنا ،في كل
ً
معالم الرباط زرع حبنا بذرة بذرة .في قصبة الوداية صاح ْبنا عناق األطلس ي
ً
ألبورقراق على نكهة الشاي املنعنع بأحالمنا ،وفي قصبة شالة رقصنا تارة على
أنغام اللقالق الوفية ألعشاشها التاريخية وتارة على أنغام املوسيقى الروحية
ملوازين ،في سينما النهضة وساتيامار والرويال سرقنا القبل تحت جنح الظالم
كهاربين من شيوخ القبيلة ،وفي حسان وأكدال واملحيط وباب األحد تهنا ككل
راكبي أمواج الحب مع تيار البحر لننتهي بلطم صخر الحياة.
][12
ً
وها هو شارع محمد الخامس يسير بي مرة أخرى إليه ،هذه املرة ألحتفل معه ِ
بعيد
ً ً
بعيد ميالدنا الذي يحل كل سنة ليجد حبنا أطالال وأشرعة خانتها
ميالده األربعينِ .
الرياح .ها أنا أدخل مجددا من باب مقهى ساتيامار كما كنت أفعل قبل سنوات
عندما كنت ألوذ إليه في كل صباح كي نفطر معا ونبني أمال للبقاء بعد كل مساء.
جميلة في ليالي
ٍ وها أنا أرتبك مجددا وأنا أقف أمامه ومالمحه تبتسم لي كنسم ٍة
جرعة عناق.
ِ الصيف تدعوني من جديد إلى
][13
ْ ْْْْ2
الرباط 80-كانون الثاني/يناير 2015
ً ً
عيناك محبرة لقلميِ ،صرت بأكملي تاريخا من الكلماتِ منذ لقائنا األول صارت
ً
ورق أحمق ال بداية له وال نهاية .ال أعتقد أن هناك رجالحبر على ٍ
ورسومات ٍ
اية للحرب
فاسمك يا ليلى أكبر دع ٍ
ِ سيؤمن بمعاهدات السالم بعد لقائ ِك...
حب قديم.
وعيناك رصاصتا ٍ
ِ
حبك على قالعي القديمة؟ ...
اسمك و ِ
ِ حزم'' ستكفيني ألدمر سلطة كم ''عاصفة ٍ
عيدك إلى طاولة الحوار ،حيث قلبك سيكفي لي ِ قصف صاروخي على ِ ٍ وكم من
مبعثر
ٍ الكلمة تكون شقيقة القبلة ،حيث بقايا الشجار بيننا تكون آثار أحمر ٍ
شفاه
املعطرة بعرق الحب
ِ املغطاة بظل القمر وأجسادنا
ِ هنا وهناك ،تفضح خطيئتنا
وجيوش دعم ٌ
ٍ وليالي السهر .كم أنا تعيس ،ال تحالف لي ،ال إخوة يمدونني ببيانات ٍ
هامش القصيدة ،ستظل ليلى ٌ
مجاز ولد على تعيد حبيبتي الوحيدة ...وألنني
ِ
القافية وأنا الرهينة.
كنت جالسا بمقهى ساتيامار أنتظر أن تجلس من جديد أمام عيني بعد أن غابت
ً ً
قصة
عني سنة كاملة ،منذ عيد ميالدي السابق .آه يا ليلى ،من كان يظن أن بعد ِ
حبنا املوجعة تلك سنلتقي فقط في األعياد لنجتر حكاياتنا القديمة ونفترق من
جديد؟
ً
عندما ملحتها تدخل من باب املقهى ابتسمت معلنا عن حلول فصل الربيع بقلبي،
ً
على أمل أال يكون كالربيع العربي الذي حصدنا فيه ِعوض الورود ،حربا وخرابا.
ً
اهبة غادرت للتو صالتها:
سألتني قاطبة حاجبيها وهي تقف أمامي كر ٍ
-لم تبتسم؟ هل يفوتني ش يء ما؟
][14
أجبتها وعيناي تسبحان في مياه عينيها:
-فقط تذكرت كيف كنا نلقي على بعضنا تحية ''مجنو ِن ليلى قيس بن
امللوح'' بعد طول غياب أيام الجامعة.
طأطأت رأسها ،وكأنها تخفي مالمحها عني أو تلوذ بالفرار من لحظات عشقنا ْ
ْ
أسرعت في رفعه وصاحت كأنها تذكرني أنها لم تنس تحيتنا أبدا رغم القديم لكنها
كل ما مض ى:
][15
خيل يلطم ويرقص
عب ٍ
كصوت ك ِ
ِ على صدري ،كنت أشعر بدقات قلبها تصدح
شارع قديم ،يبدأ عند اسمها وينتهي عند اسمي.
على إسفلت ٍ
لضمة صدرك ووجودك املربك فيِ شعرك ،اشتقتِ آه يا ليلى ،اشتقت لرائحة
حياتي ،اشتقت لبعضك ولكلك ...لكن ما بي ال أستطيع البوح لك بمشاعري
وباشتيا ي اآلن؟ ما بي أخرس؟
مسحت دموعها بمنديل ناعم تحمله في يدها اليسرى ثم جلست قبالتي تنظر ْ
ْ
أكانت تتفقد لوجهي ،تنشر نظرها تارة على عيني ،وتارة أخرى على شفتي وشعري...
مالمحي إن كانت قد تغيرت عنها؟ أم أنها نستها يا ترى؟
دروب وجهها؟ وأنا من
ِ أما أنا فكيف لي أن أنس ى مالمحها؟ كيف لي أن أتوه على
كان يسرق بشفتيه الكلمات من ثغرها ،أنا من كان يركض ألنفها كي يغسل رئتيه
بأنفاسها ،أنا من كان يصلي في محراب عينيها صباح مساء ليثوب من خطايا
الحب.
تجاعيد صغيرة حول جبينها فقط ،دون ٌ الت كما هي ،ال ش يء تغير في وجهها، ال ْ
ز
ذلك ،ليلى التي عرفتها قبل عشرين سنة هي نفسها الجالسة أمامي اآلن .ليلى
الطالبة التي كان صوتها يصدح وسط حلقيات الجامعة دفاعا عن أفكارها الثورية
وعن البروليتاريا هي ذاتها الفتاة العنيدة التي دافعت عن الفكر القومي العربي
ووحدة العرب ،هي ذاتها اآلن األستاذة الهادئة واملتزنة في معاهد كندا وأمريكا ...وهي
دائما املرأة التي أحببتها دون قيود .املرأة التي ألبسها القدر فستان الحب األبدي
ً ً
ووضعها في طريقي لتحيل قلبي ماركة مسجلة باسمها.
ً
صاحت مبتسمة في وجهي:
-مر ٌ
عام إذن...
ٌ
عام على ماذا؟ على ميالدي السابق؟ على آخر لقاء لنا؟ أم على خيبتي؟ -
][16
-على آخر لقاء لنا ،أما خيبتك فعمرها أربعون سنة.
ً
معك حق ،خيبتي تساوي عمرا بأكمله. ِ -
حضر نادل املقهى ،أنقذني من ورطة البداية واالرتباك الذي يأتي معها ،أمعقو ٌل
أن أرتبك وأتلعثم كلما التقيت ليلى بعد طول غياب؟ أمعقول أن تبقى لقاءاتي مع
ً
ليلى وفية ملشاعر الحب في أيامه األولى ولقاءاته الحامية؟
-ستشرب قهوة كعادتك؟
أجبتها بإيماءة رأس ي وأنا سعيد أنها الزالت تذكر عاداتي الصغيرة ،لكن سعادتي
كانت أكبر عندما طلبت من النادل أن يحضر لي فنجان قهوة من ماركة
''نسبريسو'' قهوتي املفضلة.
يا إلهي هي تتذكر كل ش يء ،تتعمد أن توغل بي في ذاكرة حبنا الذي ال ينتهي ولن
ينتهي.
ً
طلبت هي عصير برتقال ثم أردفت قائلة للنادل قبل مغادرته:
-من فضلك أريد أن أحدث نادية ،هال طلبت منها أن تأتي إلي؟
ً ً
التفتت إلي بسرعة كمن تذكر شيئا مهما ثم قالت لي:
-على فكرة ،ألم تتساءل أين رحل سعيد ،أتذكره؟
-سعيد النادل؟
-نعم ،سعيد نادل ساتيامار الذي كنا نصبح عليه كل يوم أنا وأنت وعزيز
قبل عشر سنوات...
-آه ،أكيد أذكره ...لكنني لم أفكر في السؤال عنه وأين رحل.
ً
-اسمع يا سيدي ،املجنون التحق مؤخرا بداعش.
][17
ً
أجبتها مستغربا:
ً
-سعيد التحق بداعش؟! دنيا عجيبة فعال .ربما فقط طمعا في جهاد
النكاح ...
ابتسمت ثم غمزتني قائلة:
ً ً
-بذمتك ،أليس ذاك سببا مغريا اللتحاق الرجال بداعش؟
ً
ثوان حضرت وهي تحمل لنا فنجان قهوة وكأس بصوت مرتفع ثم بعد ٍ
ٍ ضحكنا معا
ْ
عصير البرتقال .ألقت علينا التحية بحرارة ثم سألتها ليلى دون ٍ
صبر على االنتظار:
أعددت ما طلبته يا نادية؟
ِ -هل
أجابتها الفتاة التي نعرفها أنا وليلى تشتغل منذ زمن كمشرفة في مقهى ساتيامار:
-نعم سيدة ليلى ،سأبعثه لك مع النادل؟
-ال ال ،ليس اآلن من فضلك .بعد أن نشرب القهوة والعصير ،شكرا.
قبل أن تنصرف نادية سألتني بفضول:
ً
-ملاذا لم نعد نراك كثيرا س ي طارق ،اشتقنا لك؟
أجبتها بخجل:
ً
-فقط مع إكراهات الحياة يا نادية ...شكرا الهتمامك.
ردت علي وهي تنظر إلى ليلى:
-شكرا ِ
ألنك أحضرته لنا اليوم سيدة ليلى.
انصرفت نادية بعد أن تركت ابتسامة خفيفة على شفتي ليلى ...كانت تبتسم وهي
تنظر إلي بخبث .أثارتني ابتسامتها فسألتها ''ماذا هناك؟'' فقالت لي:
][18
-املسكينة اشتاقت لك...
ً
-ال تبالغي ،هي فقط تجامل زبونا وفيا للمقهى...
-يا مراوغ ،أنا أعرفك تفهم نظرة املرأة املشتاقة الولهانة.
-أي نظرة؟
ضوء المع ويصير
دمع خفيف وبريق ٍ -عندما تمتلئ عيو ًن املرأة بقطرات ٍ
صوتها خافتا رخوا عندما تقول ''أشتاق لك'' اعلم حينها أنها مغرمة بك.
أخفضت رأس ي خجال ثم عدت لسؤالها:
-أالز ِ
لت تغارين علي؟
سقط سؤالي على مسامعها كرصاصة كاتمة الصوتْ .
قتلت االبتسامة على شفتيها
وأخفت بريق الفرحة من عينيها .ارتعشت أناملها وهي تلجأ لكأس العصير عساه
يطفئ النار التي أشعلها سؤالي ،تلك النار التي تداريها برماد الفراق واالبتعاد عني
لسنين .تلك النار التي أشم لهيبها اآلن من شفتيها التي غطاها رذاذ البرتقال وهي
تلثم الكأس كحبيب يرويها بعد أن كان هو الظمأ.
قالت لي بعد أن وضعت الكأس على الطاولة:
-ما عادت الغيرة تنفعني في رجوعك لي ،وال كل املشاعر التائهة في قاموس
ً
الحب .لقد اخترت طريقا آخر غير تلك الطريق التي كنا نريد أن نمش ي
ً
فيها معا.
-من ترك اآلخر يا ليلى؟ من ضحى بحبنا وتزوج وأنجب؟
لم تجبني ،اجتاحت شفتاها رعشة بكاء سرعان ما أخفتها وسط مالمحها التي
بدت عليها قسوة بالغة .تركت يداها تبحث عن سيجارة وسط حقيبتها ،أحرقت
رأسها وبدأت ترشف منها بشراهة الغارق في حزنه حد الوجع.
][19
ً
قطعت صمتها قائال:
نت عهدنا...
خانتك كلماتك كما خ ِ
ِ -
أجابتني مستفزة:
-من فضلك يا طارق ،دور الضحية ال يليق بك ...أرجوك ال تعكر لقاءنا
الوحيد في كل سنة .أنت تعلم كم انتظرتك ،أنت تعلم كم ضحيت ألجل
أن تبقى معي ،كي تكون لي إلى األبد ،عشرون سنة وأنا أحارب من أجل
حبنا املستحيل هذا ،والنتيجة ها نحن تجاوزنا األربعين من العمر نجر
خيبة حبنا اللقيط ،نجح القدر في آخر املطاف في تفريقنا وتحويلنا
ألطالل تسكنها رياح الحب.
أخذت رشفة من سيجارتها ثم أضافت وأنا أنظر إليها بتأمل العاجز:
-أتتذكر العهد الذي قطعناه على بعضنا في الجامعة؟ عندما جرحنا
ً
أصابعنا ومزجنا دماءنا في منديل أبيض كاملراهقين وقلنا ''سنبقى معا إلى
األبد''؟ ماذا حدث بعدها؟ خرجت أنا من الجامعة أداوي ذكريات
ً
االعتقاالت والتعذيب بسبب الوطن الذي حلمنا به سوية ،كان أملي
الوحيد حينها هو أنت ،هو قصة حبنا فقط .أما أنت فقد خرجت مشتتا
ً
تائها لم تر أمامك سوى فلسطين والبندقية ،غادرت إلى فلسطين
ٌ
وتجاهلتني ،نسيت قصة حبنا .فكرة واحدة كانت تغريك حينها :املوت
برصاص إسرائيلي والخالص من مآس ي الوطن والعروبة.
ٍ
كانت كمن يصفي حسابه مع ألم الحب ،تتكلم بسرعة وتضغط على الكلمات كي
ً
تدفعها لي من على هاوية شفتيها ،ظلت تقول كالما كثيرا لم أسمع منه إال آهاتها
املغلفة في ثوب العتاب.
][20
-وبعد أن فشلت في املوت املرة األولى والثانية والعاشرة أصبحت جسدا
فارغا من أي روح ،من أي أمل في الحياة ،كنت أقول لنفس ي ال عليك يا
يحبك كما
ِ عليك أن تبقي بجانبه هو
ِ ليلى سيرجع طارق كما كان،
تحبينه ...يلزمه فقط الوقت ليلملم جراحه .لكنني كنت غبية ،عوض أن
تعود لحبنا أحببت فتاتك اإلسرائيلية تلك ،أماليا ،بعد ثالث سنوات
على عالقتك معها عدت لي من جديد تجر خيبتك ،قلت مع نفس ي كانت
ً
نزوة وتخطاها لكنني كنت أشعر بك مختلفا غريبا عن ذاك الرجل الذي
أحببته داخل أسوار الجامعة .ثم عدت من جديد لخيانة حبنا ،أحببت
زهرتك تلك وما إن فشلت قصتك معها حتى لجأت إلى فلسطين من
جديد بحثا عن موتك الجميل وسط أزيز الرصاص وقصص النضال
العربي .حتى هناك خنت حبنا وأحببت سلوان ابنة خان يونس .أليس
صحيح ما أقول؟
توقف ْت لتنظر إلي بعينيها الدامعتين ثم قالت لي:
-اشرب فنجانك ،قهوتك ستبرد...
أشاحت ببصرها بعيدا عني ،كانت كمن يستجمع كلماته ليضعها على رشاش
لسانه .ثم عادت لتقصفني:
بفستان أبيض
ٍ -عندما عدت آخر مرة من فلسطين ،انتظرتك في املطار
كي أقول لك حان موعد إسدال الستار على فراقنا .وحده اللون األبيض
الذي كنت أراه عند عودتك ،كنت أشعر أنها عودتك األبدية لي .لقد
وعدتني أن تعود لي ...
ً
استدركت صوتي هذه املرة مقاطعا كالمها:
رجل آخر.
لك ...لتغادريني بدورك إلى ٍ
وعدتك وعدت ِ
ِ -فعال
][21
صرخت وهي تبكي:
-ألنك عدت جسدا دون روح ،دون أحالم ،دون آمال ...في كل مرة كنا
نضحك فيها ،أو نرقص أو نتحدث أو نمارس الحب كنت أرى عينيك
املنكسرتين وقلبك األجوف الفارغ ...
عال أثار فضول من كان يجلس غرقت في دموعها هذه املرة مع صوت بكاء ٍ
بمحاذاتنا .لم أستطع قول ش يء أمام ما قالته ليلى .ملمت لغتي وأشالء صوتي على
لساني واستسلمت لنارها ولبكائها قائال:
ً
قلته ،أنا املذنب الوحيد في قصتنا ...تبا لي.
معك حق يا ليلى في كل ما ِ ِ -
ً ْ
نهضت بسرعة وهي تغالب دمعها مغادرة الطاولة ،ت ِبعتها بنظري حتى اختفت في
آخر الطرقة التي تتوسط املقهى .خمنت أنها ذهبت للحمام كي تصلح كحلها الذي
بدموع سوداء ولتهرب مني دقائق معدودة لتستكمل موجات بكائها ٍ أمطر وجنتيها
الجارفة.
قدر أحمق حطم قصتنا يا ليلى؟ ...وحده القدر تسلط على قوانين اللغة أي ٍ
والحروف في قصتنا ،فزرع في كلمة "حب" "ر ًاء" بين الحاء والباء فغدونا عشيقين
في ساحة "حرب" ،نتقاتل بأسلحة الشوق والهوى تارة ونهادن بعضنا تارة أخرى
نحتتك
ِ بمعاهدات وقف إطالق القبل ورسائل الغرام ...هل كان للقدر أصابعا
مكر الحب وخداعه؟
حصان الحب الخشبي حيث كنت أنا طروادة شهيدة ِ
ها هي ليلى استعادت ابتسامتها وطلتها الباهية ،تدلف بخطوات سريعة إلي وكأنها
اشتاقت لي ...قبل أن تجلس على كرسيها قصدت خدي ومنحته قبلة سريعة وهي
تقول'' :سمح ليا ،راك عارفني دغيا كنبكي وعصبية معاك باألخص'' .ثم جلست
وابتسامة عريضة تعلو شفتيها في الوقت الذي غرقت فيه أنا في أنفاسها وعطرها
امللتصق بخدي.
][22
قالت برغبة تلطيف لقائنا:
-اشتقت إليك
ً
أجبتها مبتسما:
-وأنا كذلك عزيزتي .ما أخبارك؟
-ال جديد يذكر ،بين مشاغل التدريس باملعهد الكندي ومشاغل البيت.
أحيانا أمر على مطبعة والدي رحمه هللا ألشم رائحته ،هذا كل ش يء.
-تأتين للرباط كي تزوري مطبعة والدك وال تزورينني يا لئيمة؟
أخفضت رأسها ثم الذت بالصمت .لم أعرف ما دار في ذهنها حينها ،ربما أرادت أن
ً
جنب حوارنا نقاشا آخر يعيدها للبكاء ويعيدني للحزن .استدركت كالمي بسرعة ت ِ
ً
قائال:
-وليال كيف هي؟
ْ
ملعت عيناها وهي تجيبني:
-إنها تكبر بسرعة ما شاء هللا وأصبحت شقية.
ً
-ملاذا لم تحضريها ِ
معك ألراها ،تخيلي رأيتها مرة واحدة ،عند والدتها فقط.
أجابتني بصوت تائه:
ً
-صحيح ،أنت لم ترها سوى مرة واحدة.
ْ
أردفت بسرعة وبحماسة: ثم
ً
-لكنني أحكي لها عنك دائما ،بالرغم من أنها الزالت في بداية سنتها
الثالثة ،إال أنها تنطق اسمك بطالقة.
][23
-صحيح؟ تناديني طارق.
أجابت بعينين المعتين:
-تناديك بابا طارق.
ً ْ ً
أكملت قائلة: ابتسمت في وجهها متأثرا ثم
ً
-لطاملا تمنيت أن يكون لي ابنا منك ،عندما وهبني هللا طفلتي أسميتها على
االسم الذي كنا نرغب أن نسمي ابنتنا األولى به ،أتذكر؟ لذلك أنا أشعر
دائما أنها ابنتك وليست ابنة زوجي جالل.
-أرني صورها.
-لألسف ال أحمل صورا لها على هاتفي.
ً
تعجب غريبة على مالمحي فاستفزتها قائلة:
ٍ رسمت مالمح
-ما بك؟
وكأنك تخفين صور ليال عني ،في كل مرة أطلب فيها صورها ِ -أشعر
تتحججين بكونك ال تحملينها معك ،وعندما أطلب منك رؤيتها على
ً
الكاميرا في األنترنت تقولين لي دائما أنها نائمة أو غير موجودة ،فضال على
معك للقائي .أشعر أن األمر مريب!! أنك ال تحضريها ِ
-كفاك تهيؤات ،ليس في األمر ش يء مريب .املرة القادمة سأحضرها معي.
ً
أجبتها متلهفا:
-تعدينني؟
ردت علي بارتباك واضح:
ً
-حسنا ،أعدك.
][24
لثوان ثم حملت رأسها لتسألني مبتسمة بلهفة:
صمتت ٍ
-قل لي ،أال تفكر في الزواج وإنجاب أطفال ،أنت في األربعين من عمرك
سيفوتك القطار يا عزيزي.
تنهدت وأنا أجيبها:
-سأجيبك بما قاله ''هاني النقشبندي'''' ،ليس مهما متى نتزوج ،بل من
نتزوج؟ الكثير يعتقد أن القطار فات ،فليذهب القطار إن شاء إذا كان
الثمن هو الذهاب لوجهة ال نريدها''.
ْ
طلبت منك أن -وأماليا أليست بالوجهة التي تريدها؟ ألم تعد لها وهي التي
تتزوجها؟
][25
أنت ترين ...طارق هو طارق لم يتغير ش يء فيه .الجديد أنني أصبحت
-ها ِ
ً
مشردا ،عاطال بال عمل بعد أن كنت بال هوية وال وطن وال أحالم.
أصبحت حياتي مسلسال من الالءات يا ليلى.
-محنة وستزول يا طارق ،الصحافة مهنة تحتاج من صاحبها أن يكون
ً
مستقرا وصافي الذهن .هذا ما لم تتمتع به منذ أيام الجامعة.
ْ
أردفت قائلة بعد أن ملحت ابتسامة سخرية على شفتي:
-ملاذا لم تطلب من عزيز أن يجد لك وظيفة بجريدته؟
شغلني في تلك الجريدة
أجننت؟! أنا أطلب من ذلك الخائن الجبان أن ي ِ
ِ -
املخزنية...
-طارق ،يجب أن تنس ى ما حدث ،لقد اعتذر لنا عزيز .أنت تعلم أنه
شخص ال يهتم باملبادئ بقدر ما يهتم بمصالحه...
-أنس ى ما حدث !! أنس ى أن عزيز خان رفاقنا وتجسس علينا لصالح
جننت...
ِ مخابرات النظام طيلة السنوات األخيرة؟
ً
لم تجبني طأطأت رأسها عندما أردفت قائال:
أنت تعلمين يا ليلى أنني في هذه الحياة أمقت صفتين ،ال أتصالح معهما ِ -
ً ً ً
أبدا :الكذب والخيانة .ال أعرف أصال كيف قبلنا بذاك الخائن رفيقا لنا
أيام الجامعة ،وهو ال يهتم ال للعروبة وال لليسار وال هم يحزنون...
قمة صدرها .تذكرت حينها مقاال ْ
شعر تدلت على ِظلت صامتة ،تعبث بخصلة ٍ
قرأت فيه أن املرأة التي تلعب بخصالت شعرها عندما تكون جالسة مع ٍ
رجل هي
في الغالب تحبه .قلت مع نفس ي وأنا أدفع أناملي إلى علبة السجائر كي أشعل
ً
لنفس ي الغاضبة سيجارة'' :ليلى ال يمكن لها أن تحب سواي''
][26
-الزلت تدخن بشراهة...
-بعد رحيلك عني يا ليلى أصبحت أشعل السيجارة بسيجارة...
-أتعلم؟ في كل سنة يغمرني الفضول ملعرفة أي الشعرات سيغزوها
ً
الشيب في رأسك .لكنني في كل مرة أجدك فيها أصلعا أكثر...
-ربما الشعرات التي تتوقعين أن تصبح رمادية يأتي القدر بقرار إعدامها
وتترك مكانها بقايا صلع .هكذا هو القدر ،أحيانا يبقي على ما نملك،
ً
يغيره فقط من حال إلى حال ،من لو ٍن إلى آخر .أحيانا أخرى يأتي على كل
ما نملك ،يجردنا من كل ش يء ،يفرغنا ،يحيلنا إلى أشباح تائهة في هذا
منك...
الوجود .هكذا جردني ِ
-ربما لم أكن لك منذ البداية أو أنت لم تكن لي.
ً
-بلى ،كانت لنا معا البداية ،البداية فقط .لكن النهاية لم تكن لنا .قصص
الحب ال تملك سوى البدايات ،حيث يرسم الحبيب لحبيبه نصف قلب
ويتعاهدان على البقاء دوما كما البداية .لكن الزمان يجيد وحده رسم
النهايات في قصص الحب.
باد على شفتيها وظلت صامتة .قبل أن أستكمل كالمي: ْ
ابتسمت بألم ٍ
-يجب أن نستفيد من الرياضيات في قصص الحب ،فهي تكترث فقط
للنهايات في حساب الدوال ،تضع القوانين واالحتماالت ومجموعات
التعريف ،تشحذ كل أسلحتها الرياضية للتكهن بالنهايات .الرياضيات
والحب كالهما ال يؤمنان بالبدايات ،وحدها النهايات تصنع القدر.
-أحيانا أقول افترقنا ألنني لم أستطع إسعادك .كتلة الحزن التي تعشش
ً
بداخلك هزمتني ،غادرتك على أمل أن تحب فتاة تزرع الفرح بقلبك...
][27
-وخاب أملك.
-وخاب أملي...
أتتنا النادلة بطبق حلوى كبيرة تسبح فوقها أربع شمعات ،كان منظرها مغريا لكن
ليلى كانت تبدو مغرية أكثر وهي تخطف حبة الكرز من على الحلوى وتضعها في
فمها ...بدت شفتاها ملطختين بالكريمة فأخذت منديال ومسحت شفتيها بهدوء
وهي تبتسم.
ً
قاطعتنا النادلة متسائلة بكل أدب:
-عيد ميالد من؟
سبقتني ليلى إلى الجواب قبل أن تغمز بعينيها لي:
-عيد ميالدنا نحن اإلثنين.
ابتسمت النادلة ثم قالت:
ً
-حسنا ،سأغني لكما رفقة زمالئي happy birthday to youثم تطفئان
الشمع لنا.
قاطعتها ليلى بود:
ً
يقطع الحلوى والشمع مشتعال...
-شكرا لك نادية ،لكن طارق يحب أن ِ
هو يكره إطفاء الشمع قبل ذوبانه.
أجابتها النادلة وعلى وجهها مالمح االستغراب:
-حسنا كما تريدان ،عيد ميالد سعيد لكما.
ما إن غادرت النادلة طاولتنا حتى همست لي ليلى:
بشخص يرفض إطفاء الشمع.
ٍ -أقسم أنها أول مرة تسمع
][28
ً
صمت ذابت فيها ليلى في نظراتي التائهة على مالمحها
ٍ ابتسمنا معا ،وبعد لحظة
قالت بعذوبة بالغة دون أي تردد وهي تمسك بكلتا يدي.
-عيد ميالد سعيد يا طارق ،كل عام وأنت حبيبي.
غفلة مني إلى مياه الحب .ت ِعدني أن مياهه ليست
ٍ هذه هي ليلى ،تسحبني على
بعناق أبدي لروحينا قبل أن تسرقها
ٍ بعميقة فأترك نفس ي تغوص بمحاذاتها آمال
ً
األيام ،وتغرقني مياه الحب في جوفها وحيدا.
-متى ستنسين تاريخ ميالدي يا ليلى؟ متى ستتوقفين عن صنع أو شراء
ً
حلوى لي كلما أقفلت سنة من عمري وفتحت ذراعي ٍ
لسنة جديدة؟ قولي
مرة وفي
لي؟ متى لن تكوني هنا أمامي وأنا أشيخ بسنة وأنت تقولين في كل ٍ
كل سنة ''كل سنة وأنت حبيبي''؟ أال يمكن أن أبدأ سنة جديدة دون
منك؟
هذه األمنية ِ
ردت علي وهي تنظر إلى شمع الحلوى أمامها:
ً
-أنا وأنت فتيلتان لشمعة واحدة ،نحترق معا في جسد واحد .تختلط
ً ً ً
أس
واحد ،نعيش معا عمرا واحدا من ر ِ ٍ سيل
دموعنا عندما نبكي في ٍ
ً
الشمعة إلى أسفلها ،اللهيب الذي يشعلك يحرقني أيضا والريح التي
ً
ستطفئك ستذهب بشعلتي أيضا .فكيف تريدني أال أحتفل معك بسنة
ً
جديدة من عمرك وهو عمرنا معا؟ ماذا يساوي عمرك وأنا لست فيه؟
وماذا يساوي عمري وأنت لست فيه؟
ً
هذه املرة أنا من استسلم للبكاء وشفتي املبللتين بالدمع سمعتهما ترتعشان قائلة:
وأنت وطني.
عام ِ -عيد ميالد سعيد يا ليلى ،كل ٍ
عام وأنت حبيبتي ...كل ٍ
عند نهاية لقائنا ذاك املساء قالت لي وهي تجتاز بوابة مقهى ساتيامار:
][29
ِ -ودعني هنا ...
-كما املرة السابقة؟ ال تريدينني أن أرافقك إلى محطة القطار؟
-أنت تعلم أنني أحب أن أتمش ى طويال لوحدي بعد كل لحظة فراقنا ...إنها
طريقتي ألتخلص من كلماتك ونظراتك قبل أن يجتاحني البكاء على
فراقك .كما نأخذ حماما ساخنا بعد ممارسة الحب هكذا أتخلص منك
يا طارق ...لكنني ما ألبث ألعود إليك.
تعانقنا كوردتين تدفعهما الرياح إلى بعضهما البعض قبل أن تعود لتفرقهما،
ً
همست في أذنها ''غادي نتوحشك'' لترد علي مبتسمة ''عارفة'' .ثم غادرتني ،تركتني
كعصفور جريح ،تتخبط أجنحته بالتراب املغسو ِل بدمائه .على أي شباك سأطل
اآلن يا ''أميمة الخليلي'' وشباك ليلى كان وحده يخبئني من غدر الزمان؟
ً ْ
التفتت وكأنها تذكرت شيئا لتقول لي:
-هدية عيد ميالدك ستجدها في علبة بريدك...
ثم ودعتني بإشارة من يديها وأنا أتذكر كيف أنها لم تقدر طيلة عشرين سنة أن
تسلمني هدية عيد ميالدي بيديها مباشرة .دائما ترسل لي الهدايا عبر البريد أو
تخبئها في مالبس ي أو تحت السرير ...هل في األمر ٌّ
سر ال أعرفه يا ليلى؟
ومضيت أنا اآلخر ،أمش ي طويال في خنادق الذكريات وحقول ألغام الحب وأمش ي
عيناك أغسل بهما عيني وأمض ي إلى مثواي األخير،
ِ إلى ليالي .ما لي الليلة ِسوى
وأنت مستبدة البدايات؟ كيف ال
حرفي األخير ،...وكيف ال تكونين سيدة النهايات ِ
كنت لي ميالد الكلمات؟
وأنت ِ
تكونين حرفي األخير ِ
اقك؟ أم وجع
حبك؟ وجع فر ِ
وجع يختاره مثواي األخير على ضفافك؟ وجع ِ
أي ٍ
اللقاءات املؤجلة؟
ِ
][30
ْ ْْْْ3
الدار البيضاء 01-شباط/فبراير 2015
هذه الليلة أيضا كنت كالحاضرة الغائبة على مائدة العشاء في بيتي ،للحظة بدا لي
املشهد وكأنني رأيته من قبل .نفس حركة جالل زوجي وكالمه وانفعاالت ليال
وطريقة أكل أمي فاطمة مربية ليال .كل ش يء كان وكأنني رأيته من قبل .شعرت
باضطراب وبدوار في رأس ي وأنا أتخيل حياتي وقد صارت مسلسال من التهيؤات
والشرود في ذكرياتي مع طارق ...أتنتهي كل قصص الحب الفاشلة بأمراض نفسية
وحاالت اكتئاب؟
بصوت خافت:
ٍ نهضت من الطاولة وأنا أقول
-سأحضر لنفس ي كوبا من املاء...
سمعت جالل يقول وأنا أجتاز باب املطبخ ''لكن املاء فوق الطاولة ما بك يا ليلى؟''
في املطبخ أخذت كأسا من درج األواني وفتحت صنبور املاء .كان لصوت املاء
املتساقط في قعر الكأس صوتا أعادني لنوستالجيا الذكريات من جديد .رأيت
صوري مع طارق أيام الجامعة .هناك في جامعة محمد الخامس بسنتي الثانية،
شعرت بمعنى أن أكون امرأة ،في بداية تلك السنة كنت قد بدأت ألتقي بطارق من
حين آلخر في حلقيات الجامعة وتجمعات الرفاق في املقصف أو في شارع محمد
الخامس .بعدها بأشهر اختفى طارق ،لم نعرف أين ،سمعنا بأنه اعتقل وال ندري
أين ...حينها فقط بدأت أشعر أنه احتل قلبي إلى األبد.
فجأة خطفني صوت من شريط الذكريات:
-ليلى ،ليلى...
][31
ً
التفت ورائي بخوف ألجد جالل واقفا عند باب املطبخ ثم سمعت صوت املاء
يفيض بسرعة من على الكأس الذي نسيته تحت الصنبور.
قال لي جالل وأنا أحمل الكأس لشفتي كي أشرب منه:
-ما بك يا ليلى؟ ملاذا أصبحت شاردة وتائهة هكذا؟ ملاذا تغيرت عالقتك بي
منذ والدة ليال؟
جلست على كرس ي شارد هو اآلخر في املطبخ ،وضعت رأس ي بين يدي ،أحسست به
ثقيال ...ال أقدر على حمله بين كتفي .يا هللا ملاذا ال يتوقف شريط ذكرياتي مع
طارق على اجتياح حياتي ملاذا؟
رفعت رأس ي ألجد جالل يواصل النظر إلي .قطع صمتنا قائال:
-ألن تجيبيني؟
ً
أجبته تائهة:
-ال أعرف يا جالل...
ً
أردفت قائلة بعد لحظة صمت:
أشعر بنفس ي مضطربة وأتساءل إن كانت خياراتي في الحياة خاطئة أم صحيحة.
الحياة يا جالل ،الحياة ليست سوى خيارات ،إن لم نحسن االختيار نعيش حياة
ال تر ى ألحالمنا ...شبه حياة باألصح.
قاطعني بسؤال مفاجئ:
ً
-وزواجك بي؟ هل كان خيارا خاطئا في نظرك؟
صمتت بعد سؤاله ،لم أستطع أن أحرجه بحقيقة جوابي ...هو يعرف أنني ال
ً
أحبه ،يشعر بذلك لكنني في لحظة ما وعدته بأن أبني بيتا وعشا زوجيا معه ولطاملا
ً ً
كنت وفية في وعودي ...تبا ،الوفاء بالوعود هو الذي يدمر حياتي دائما.
][32
سمعته يقول من جديد:
-ربما تعانين من أعراض أزمة األربعينات يا عزيزتي ،لقد سبق لي أن
عانيت من نفس األزمة.
كنت أنظر إليه صامتة وقلبي يقول إنها أزمة أكبر وأعمق من أن تكون أزمة عمر...
إنها أزمة حب وأزمة وجود يا جالل.
ً
أردف قائال:
-اسمعي ،ملاذا ال تذهبين عند طبيب نفس ي .قد تكون هذه أعراض اكتئاب
وإن لم تعالج ستتطور إلى مرض الذهان أو الكتاتونيا...
أجبته وأنا أجمع شعري للوراء متذكرة كيف كان طارق يحب الحركة التي أجمع
بها شعري ...قلت له بصوت هادئ:
-تظنني مريضة يا جالل؟
ً
أجابني متوددا:
ً ً
-ليس بالضرورة أن تكوني مريضة كي تزوري طبيبا نفسيا ،فكري في األمر
فقط.
ً
ظللت صامتة وأنا أراه يغادر املطبخ ،لم أستطع هذه الليلة أيضا أن أنام بجانبه،
كانت فكرة أن أنام بجانب رجل غير طارق تعذبني وترميني في ظالم األرق ،لم أعد
قادرة على أن أبتسم في وجه رجل غير طارق وال أن أحادث سواه.
في الصباح ،أفقت على أثر قبلة ليال على خذي ،أخذتها في حضني وعانقتها ألشم
فيها رائحة والدها الذي أشتاق له .سألتني كما كل صباح بفضولها املعتاد:
-ماماِ ،
نمت مجددا هنا على األريكة؟
-غافلني النوم هنا يا حبيبتي...
][33
صاحت أمي فاطمة وهي تقترب منا:
بنتي ليلى ،الفطور في املطبخ ال تخرجي بال فطور كعادتك.
-صباح الخير ا ِ
سآخذ ليال إلى الروض.
ً
نهضت من مكاني متثاقلة ،ف ِطرت على أنغام فيروز الصباحية وأخذت حماما.
اتصلت باملعهد كي أخبرهم أنني سأتغيب اليوم .ثم أخذت حقيبتي اليدوية ومفاتيح
السيارة وخرجت.
كان حي بلفيدير هذا الصباح هادئا على غير عادته ،ال زحام فيه وال أكاد أسمع
صوت سيارة .انطلقت بسيارتي من شارع محمد الخامس إلى أن وصلت إلى مبنى
فيليبس القديم أمام مقهى سيتي باالص .ركنت سيارتي بالقرب من محطة
الترامواي ونزلت أبحث في املباني املجاورة على يافطات ألطباء نفسانيين ،نصف
ساعة وأنا أبحث دون نتيجة ،أخذت هاتفي وركبت رقم صديقتي ''نزهة صادق''
ً ً
كي أسألها إن كانت تعرف طبيبا نفسانيا في النواحي ،لكنني تراجعت عن االتصال
بها مخافة أن تشغل بالها علي.
وأنا عائدة إلى السيارة ،ملحت عمارة في آخر شارع املقاومة بها يافطات كثيرة
فقررت أن أبحث فيها .كانت يافطات ألطباء القلب والشرايين والعيون
وتخصصات أخرى ال أعرفها ...تركت أعيني تجول بين األسماء حتى سقط نظري
اسم جميل في أسفل اللوحة كتب عليها :نوريانا البناني – طبيبة نفسية على ٍ
خريجة كلية الطب محمد الخامس الرباط الطابق الثالث.
ً
ظللت متسمرة أمام باب العمارة أفكر في طارق وفي ذكرياتي معه ثم غادرت وأنا
أصيح في داخلي'' :طارق هو طبيبي الوحيد''.
][34
ْ ْْْْ4
الرباط 81-شباط/فبراير 2015
وقفت أمام موظفة البنك املكلفة بخدمات الزبائن التي هي نفسها السيدة التي
وقعت عندها قبل عشر سنوات عقد القرض الذي اقتنيت به شقتي .ما إن ملحتني
حتى صاحت وابتسامة مصطنعة تعلو شفتيها:
Bonjourس ي طارق ... -
أجبتها ببرودة من فرط حنقي على هذه الوكالة البنكية التي أنهكت جيبي لسنوات
وأثقلتني بفوائدها:
-أهال ،من فضلك جئت ألسدد بعض األقساط املتأخرة علي.
وود بالغين ثم قالت لي:
دعتني للجلوس بأدب ٍ
-لكن ليس لديك أي أقساط متأخرة س ي طارق!
أجبتها بابتسامة ساخرة:
-من فضلكِ ،
أنت تعرفين أن وضعيتي املالية معكم حرجة وأقساط كثيرة
سمحت.
ِ متأخرة السداد .فال داعي للمزاح معي لو
أجابتني بجدية بالغة:
ً
-أنا ال أمزح س ي طارق ،فعال ليس لديك أي أقساط متأخرة .كل أقساط
القرض دفعت أواخر الشهر السابق ومعها تسبيق لسنة كاملة من
األقساط ...أي أن قرضك دفع عن آخره.
-كيف ذلك؟ ال يمكن؟
][35
-هذه هي الحقيقة س ي طارق
-ومن دفع كل هذه األقساط عني إذن؟
-لقد حضرت سيدة إلى مكتبي ،وقالت لي أنها من أقاربك وأنك في ظرف
صعب ال يمكنك من الحضور ملناقشة وضعك املالي معنا ...ودفعت عنك
كل األقساط.
ً
علقت على كالمها متهكما:
-بهذه البساطة !! ...
ً
-يبدو أنها تعرفك جيدا.
-ما اسمها؟
-رفضت إعطاءنا نسخة من بطاقتها الوطنية وال حتى اسمها...
-يا سالم ! ،أي مهنية هذه؟
لم تجبني ،ظلت تنظر إلي باستغراب ،غرقت حينها في التفكير باحثا في مخيلتي بين
كل النساء الالئي أعرفهن عن تلك التي تستطيع القيام بهذا العمل من أجلي.
ً
بحثت مليا ولم أجد سواها ومن غيرها؟ التفت إلى موظفة البنك سائال إياها من
جديد:
-كيف هي هذه املرأة؟
ً
أجابتني مستفسرة:
-تقصد صفاتها؟
-نعم ،صفاتها؟ سمر ٌاء طويلة؟
][36
أجابتني بلهفة وكأنها تتذكرها األن:
-نعم ،نعم إنها كذلك
أضفت سائال إياها للتأكد من جديد:
ٌ
-عيناها سوداوان كبيرتان؟ أنفها نحيف طويل وشعرها يلمع من شدة
سواده ...صدرها عامر وتضع على عنقها قالدة بيضاء يتدلى منها نصف
قلب؟ تبدو في األربعين من عمرها؟
ً
لم تجبني ظلت تنظر إلي مبتسمة باستغراب.
-لم تبتسمين؟
C’est fou comment t’apprends par cœur ses détails !! -
ابتسمت أنا اآلخر ...قبل أن أغادر أجبتها بلغتها:
Certes, c’est la femme de ma vie -
ما إن وضعت قدمي في شارع محمد الخامس حتى أمسكت هاتفي واتصلت برقم
ً
ليلى .رن هاتفها طويال قبل أن تجيب:
-ألو …
لم أعرف في البداية ماذا سأقول لها ،فتركت لساني يدندن اسمها:
-ليلى يا ليلى...
-أتحاول حفظ اسمي مخافة نسيانه أم هو موال للغناء؟
-أما نسيانك فهو غير وارد في قاموس أيامي الكئيبة.
ً
ردت علي ضاحكة:
][37
-وموال الغناء؟
باسمك منذ
ِ -وكيف يحلو الغناء دون ذكر ليلى يا ليلى ...العرب تغنت
حب سرمدي يا جميلتي.
اسمك عالمة ٍ ِ األزل وسيتغنون به الى األبد،
وحده اسمي ال يصلح للغناء.
-اسمك لي ،أنا من تغنيه في كل لحظة...
ودفعت أقساط قرض شقتي؟
ِ ذهبت إلى وكالتي البنكية
ِ -ليلى؟ ملاذا
-أزعجك األمر؟
ً
-صراحة نعم .في األول تتركين لي مبلغا كبيرا كهدية في عيد ميالدي األخير
واآلن تدفعين أقساط شقتي .صحيح أنني بال عمل اآلن ،لكنك تحرجينني
هكذا.
ملكا لك وحدك ،هي ٌ ً
ملك لقصة حبنا .فيها -اسمع يا طارق ،شقتك ليست
عشنا أجمل لحظاتنا ،على جدرانها علقنا قبلنا ولحظات عناقنا .شقتك
هي بيت حبنا فكيف لي أن أتركها تصبح في ملكية غيرنا؟ عندما كنت في
ً ً
فلسطين تبحث عن رصاصة تسقطك شهيدا بعيدا عني كنت أذهب
إليها ألشم رائحتك وأنس ى وحدتي .تلك الشقة كانت وطننا الوحيد الذي
نلجأ إليه ...والذي نرفع فيه أعالم حبنا ونغني نشيدنا الوطني .هي أملي في
عودتنا لبعضنا البعض ...فكيف لي أن أضيع أملي هذا .شقتك هويتي يا
طارق...
-يا لسخرية القدر ،أنا من ال هوية لي وال وطن ،أمنح الهويات وأبيع
األوطان...
-أنا هويتك ووطنك ،متى ستعرف هذا يا طارق؟
][38
تنهدت من تأثري بكالمها ثم قلت:
ً ً
دفعته إلى البنك سأعتبره سلفا ،عندما أجد عمال
ِ -اسمعي ،املبلغ الذي
سأسدده ،اتفقنا؟
ً
ردت علي مستسلمة:
-اتفقنا يا سيدي.
بعد مكاملة ليلى ،تركت خطواتي تمض ي متثاقلة لساعات ،تقودها اللهفة ملعانقة
عطرها املتبقي في نسمات هواء شارع محمد الخامس منذ آخر لقاء لنا في عيدي
ً ً
ميالدي قبل شهر .على هذا الشارع مشينا معا يقودنا الحب تارة وتقودنا الحسرة
ً
واالنكسار تارات أخرى ،على هذه الطريق بنينا أمالنا في غد تشرق فيه حياتنا معا
ٌ ْ ً
ضاعت أمالنا وكأنها خيط متالش ي من الضباب. وعلى هذه الطريق أيضا
توقفت قدماي أمام مطعم لوكراند كومبتوار ،أنازع نفس ي بين اللجوء إلى بائع
الجرائد قبالة املطعم لقراءة عناوين الكتب والجرائد وبين االرتماء في أحضان
كأس شراب يعد جسدي لكآبة املساء ووحدته.
دخلت املطعم ،لتعانقني ذكرياتي فيه كالعادة ...تحوم حولي كأبنائي الصغار،
أيام خلت كنت أظنها لن تفنى .كنت أظن أنني سأصيرترحب بقدومي وتعاتبني على ٍ
سيد هذا العالم في يوم من األيام ،لكن أحالمي فني ْت وفنيت معها أيامي ،غابتْ
ِ ٍ
وغبت معها.
ما إن تجتاز باب املطعم حتى تقابلك طاوالت سوداء اللون ،صغيرة ،متناثرة
بجلسات دافئة ومسلية ،تعزف لك كؤوس النبيذ فيها
ٍ بترتيب بالغ األنفة .تغريك
موسيقى الحياة ويرقص لك لهيب الشموع فتشعر وكأنك تمتلئ بكل أسباب
][39
السعادة ...ثم تتطلع إلى وجوه املارة بشارع محمد الخامس من على فيترينات
املطعم ،تبدو لك الوجوه تعيسة وتقول مع نفسك أنت أتعس منها.
بعد الكراس ي تحتار بين أن تلج الكونتوار حيث تنعزل مع كؤوسك التي تسافر بك
إلى تاريخك املثقل بغبار الذكريات أو اللجوء إلى املطعم الذي يتقدمه ٌ
ركح للرقص
تتبارز فيه األجساد على وقع صراخ النوتات وحماقة األلحان.
على هذا الركح راقصت البيضاوات والشقراوات والسمراوات .هنا عانقت
الخصور املنحوتة بأصابع املانغا والفراولة الشهية وهنا لجأت كالهارب من أتون
الحرب إلى النهود التي تحميني كالجئ في خنادقها .هنا تعبت من قوانين التضاريس
والتموجات على جغرافيا النساء وصادرت كل األفعال في مملكة األنثى ،لكنها
وحدها في لغة الثابت واملتحول تبقى هي الثابتة .في لغة االنتماء تبقى هي الوطن
وفي لغة الحب ستظل هي نبضات القلب من البداية إلى النهاية ...ليلى هي الوحيدة
التي تجيد البقاء في كل صفحات دفاتري.
لكنها لم تعد ِملكي اآلن ،لقد ضيعتها كأي أحمق يضيع كل كنوزه الكبيرة ،سعادته
الكبيرة وحبه الكبير ...لألسف لم تعد ملكي اآلن.
رميت خيبتي على كرس ي يتيم في زاوية الكونتوار لتدلف إلي ''مها'' أو ''ماهي'' نادلة
املطعم مرحبة بي:
-مساء الخير يا شاعر ،أتيت إذن!
شكين في مجيئي هذا املساء؟ -مساء الورد يا ماهيِ ،
كنت ت ِ
ً
-قلت مع نفس ي ،ربما لن تأتي هذا اليوم ،قد تقرر أن تسافر أو تزور مكانا
ما عوض جلستك اليومية هنا...
-ليس لدي مكان أزوره أو أسافر إليه.
][40
ً
انحنت اتجاهي واضعة مرفقيها على سطح الكومبتوار ،ثم قالت بصوت يقترب إلى
الهمس:
-فرغت حياتك من األمكنة؟
-بل فرغت األمكنة مني
-ال مكان لك إذن ...
-ال مكان لنا وال وطن يا عزيزتي ...
ْ
أضفت: نظرت إلى عينيها وهي ترمقني في صمت ،ثم
مكان خاص على هذه األرض يا مها؟ نحن مجرد ٌ -متى كان لإلنسان
مسافرين ،عابرين في الزمان واملكان ...بين الوالدة واملوت ال نملك سوى
ٌ
الوهم وأشياء زائلة ال تعرف البقاء إلى األبد .الوطن فكرة وهمية أو حيلة
حكام وزعماء العالم ليلقوا علينا خطبهم ويشعرونا باالنتماء قديمة من ِ
ً وبأن لنا ٌ
أرض وخرائط ورقية توزع علينا حقن االستقرار والوطنية تارة
ً
وتدفعنا حطبا لحروب امللوك واألمراء تارة أخرى .نحن ال نملك سوى
العدم يا عزيزتي ،ال نملك سوى أجسادنا الفانية ،وحدها أجسادنا تبقى
خر الطريق .أما كل األشياء الباقية فينازعوننا فيها .أنا ال أملكلنا حتى آ ِ
سوى جسدي.
ْ ً
تسللت إلى قلبي بعد طأطأت رأس ي بحثا عن سيجارة أحرق بنارها تلك الخيبة التي
مكاملة ليلى ،هذه هي ليلى ،في حضورها كما في رحيلها تثير زالزل ال ترحم كياني
مطر ذكرياتها.
الهش ،تذيبني كقطعة سكر تحت ِ
ً
ملحت مها تدفع جسدها للوراء مزيحة صدرها املفخ ِخ من أمامي بعد أن كانت
تصغي إلي في هدوء ...لحظات قليلة قبل أن تضع قبالتي قطعة قطنية دائرية
الشكل كتب عليها اسم املطعم باللغة الفرنسية.
][41
وضعت كأسا طويال فارغا فوق القطعة القطنية ثم قالت لي:
-ما كأسك اليوم؟
-بل قولي ما كؤوس ي اليوم ...
وزعت نظراتها الصامتة على أعيني من جديد وكأنها تقول لي :تعالى ألحضنك عوض
هذه الكؤوس.
قطعت صمتها وأنا أنفث دخان سيجارتي:
-كأس ي األول ''جوني وولكر'' ...من فضلك.
ً ً
ملحتها تمسك ملقاطا حديديا بأناملها ثم دفعته في إناء الثلج ،التقطت قطعة ثلج
ثم الثانية والثالثة ...كان لوقع سقوط قطع الثلج في قعر الكأس رنة موسيقية
ذكرتني بأغنية جميلة لزهرة هيندي .At the same time
قلت لها وهي تمأل الكأس بدفعات من قنينة الويسكي برقة:
-أيمكن لك أن تضعي أغنية لزهرة هندي يا ماهي؟
-إن وعدتني أن يكون هذا كأسك األخير سأفعل؟
-يا حمقاء ،ليس من مصلحتك أن تس ِدي شهية زبنائك عن الشرب
-أنت لست زبونا...
نظرت في عينيها الجميلتين ،كانت تنتظر أن أسألها ''من أكون إذن؟'' لكن هذا
السؤال ال يهمني وال يهمني جوابه ،هذا سؤال اآلخرين وال جواب له عندي على رأي
درويش .أنا ال هوية لي ،سئمت من كل االنتماءات والتصنيفات النسبية لدى
ً
اآلخرين ...ما يغريني اآلن هو املطلق ،أن أكون للمطلق ،أن أصير كائنا حرا من
التعاريف واالنتماءات واإلسقاطات االجتماعية والسياسية ...ملاذا الحرية هي
][42
ً
فقط تلك الخمس دقائق األولى التي ولدنا فيها نبكي ،عراة ،بال اسم ،بال خطيئة،
بال توجهات وبال حقد بشري كما قال مكسيم غوركي .أريد أن أكون أنا فقط ،فقد
تعبت من أن أكون اآلخرين.
أجبتها وأنا أرتشف أول جرعة من الكأس:
At the same time -هذه هي األغنية التي أريد سماعها...
صاحت وهي تتجه إلى حاسوب وضع في الزاوية األخرى للكونتوار ،خمنت أنها
ستبحث عن األغنية في اليوتيوب:
-أستغرب كيف يعشق قومي عربي مثلك أغاني زهرة هندي األمازيغية
املتحمسة للحركة األمازيغية...
-إنه الحب يا عزيزتي ،الحب ال يؤمن باملتناقضات .ثم من قال لك أن
القوميين العرب يعادون النشطاء األمازيغ؟ على العكس ،نحن نعتبر
ً
الثقافة األمازيغية جزءا من الثقافة والهوية العربية...العروبة بوتقة
ثقافية تجمع كل االنتماءات في الوطن العربي .املشكلة تكمن في بعضهم
الذي غرر به املستعمر واللوبيات الصهيونية لتمزيق الوطن العربي
وضرب مفهوم األمة العربية ،انظري ملا يقع للعرب اآلن ِ
وأنت تفهمين،
سوريا والعراق وليبيا والسودان ...وسيأتي الدور على املغرب والبقية.
انهم يسعون إلى بلقنة الوطن العربي يا ماهي...
فجأة غزا صوتها أرجاء املطعم ...هو هذا صوتها:
Here comes the time
For my heart to heal the past
From now and then
There will be the good and the best
][43
Oh when your eyes and mine
Can see the same
Our love could last
?Should i follow you
ً ْ
همست لي مها قائلة:
-أتعلم ،أشتهي أن أرقص معك اآلن على هذه النغمات.
ً
أفردت لها ذراعي قائال:
يمنعك ...تعالي
ِ -ما الذي
-أنت تعلم ،ال يمكن لي أن أرقص مع الزبائن
ً
-اآلن صرت زبونا ...تغيرين مواقفك بسرعة يا محتالة.
ابتسمت وهي تغمز لي:
-إنهم يمنعوننا من الرقص مع الزبائن ...لكنهم ال يستطيعون منعنا من
الوقوع في حبهم.
أجبتها وأنا أمرغ رأس سيجارتي في املنفضة:
-آه ...الوقوع في الحب .أتعلمين ،هذه العبارة تصور لي الحب كخطيئة
كذنب نسعى للثوبة منه بعد استمتاعنا بارتكابه.
ٍ نقترفها أو
قاطعتني بفضول:
-أتخش ى الحب؟
ً
-نحن نخشاه جميعا يا عزيزتي وفي نفس الوقت نتمناه .كم تمنيت أن
يكون لي درعا صاروخيا يقيني من قصف الحب لقلبي املسكين.
][44
ابتسمت ثم سألتني وهي تشبك يديها لتتكئ على مرفقيها أمامي:
-قل لي ،لم تخشاه؟
قبل أن أجيبها ،تركت عيني تستحم بنظراتها الجميلة ،نظراتها املتعطشة إلى الحب
والحياة.
ً
أجبتها هامسا:
-اسمعي يا عزيزتي ،هناك من يأتيه الحب محمال بالورود واألحالم
الجميلة وآمال جديدة في الحياة ،ينقله من عالم الشتات والضياع إلى
ً
عالم هادئ وجميل .أما أنا فالحب ال يسلك دربي إال مدججا بالرصاصٍ
ً
ومفخخا بالقنابل الحارقة للقدر ،يأتيني الحب كداعش ي يشحذ سيوفه
لنحر قلبي في مملكة النساء .أنا وبكل بساطة ال قدر لي في الحب وليس
قدر معي ...أو ربما الحب الذي أنتظره هو أكبر من أن يجسد
للحب من ٍ
في امرأة واحدة.
حب قديمة: أجابتني كمن يجر وراءه خيبة ٍ
ً
-نحن جميعا ال نملك أقدارنا لألسف ،والحب هو أكثر أقدارنا غرابة ،قد
يأتي وقد ال يأتي .أتعلم ،أسأل نفس ي دائما ِلم ال يكون الحب كاملوت،
ً
نعلم أنه سيأتينا ال محالة .ملاذا القدر كان كريما حينما وزع املوت قدرا
ً
مطلقا على الجميع وبخل في توزيع الحب؟
معك حق يا ماهي ،القدر كان كريما في توزيع املوت والحروب والدمار،
ِ -
لكنه بخل في منح الحب للجميع .هذه الحياة عبثية ،كل ما نفعله
ونعيشه عبث في عبث ...ال منطق للحياة وال جدوى منها.
مددت مرفقي على طاولة الكومبتوار كي أسمح لرأس ي أن يتكئ على كفي...
ً ً
أحسست برأس ي ثقيال متعبا .ثم أضفت ملها قائال:
][45
-لقد سئمت عبث هذه الحياة يا مها.
-تذكرني ،بهزري ميشو...
-الشاعر الفرنس ي؟!
ً
-نعم ...هو أيضا كان يعتبر الحياة مجرد عبث وأن اإلنسان أصبح ضائعا
دون ماهية أو قيمة وجودية .كان مضربا عن الحياة ،عاش على الهامش
ورفض كل الجوائز التي منحت له .كان يكتب ليتخلص من شعوره
بالقلق وألم الحياة فقط .تخيل ،كان يتحاش ى أخذ الصور لشعوره بأنها
تختزل املرء وتسجنه في وضعية نهائية ليغدو مجرد صورة جاهزة.
ً ً
كانت تتحدث ونظرها يغرق في األفق البعيد ،حزينا ومشتتا في اآلن نفسه .تذكرت
حينها أن النادلة التي هي أمامي اآلن هي مها خريجة كلية اآلداب بجامعة الرباط
لكن أمواج الزمن القاس ي رمتها لتبحث عن قوت يومها في املطاعم واملقاهي في
انتظار أن تجد لها شقيقتها املهاجرة في إيطاليا فرصة عمل هناك.
ً
خمنت أن ملها قصة ما مع كتابات هزري ميشو ،ترددت في سؤالها خشية أن أثير
ً
جراحا ال أعلم مدى عمقها في ذاكرتها.
التفت على يميني ألجد رجال يهم بالجلوس في آخر كراس ي الكومبتوار ،كان يبدو من
ً
مظهره أنه أجنبي ،استأذنتني مها قائلة:
-سألبي طلب هذا الزبون وأعود يا طارق.
لم أزح نظري عن الرجل األجنبي ،كانت مالمحه حزينة وبريئة .طلب ٍ
بود بالغ من
لتوان وراء فيترينا الكومبتوار ثم حضرت وفي يدها قنينة
مها مشروبه .اختفت ٍ
طويلة بنية اللون من نوع كازابالنكا .استفزني حزن هذا الرجل وكآبته ،سألت
نفس ي لم الحزن والقلق مشاعر بنيوية وأنطولوجية في أعماق روح اإلنسان؟ هل
][46
ً
حقا شعور القلق له صلة بفكرة العدم واملوت الحتمي لإلنسان كما جاء في
فلسفة هايدجر؟
ً
صحت مقاطعا صوتي الداخلي:
-مها ،كأس ٍ
ثان من فضلك.
أومأت لي مها برأسها ،ثم حضرت بعد لحظات وهي تحمل لي قنينة الويسكي كي
تسقي كأس ي الفارغ .قالت:
-ماذا كنا نقول؟
ً
أجبتها وأنا أفرد ابتسامة على شفتي حبا في وجهها املتعب والجميل:
-كنا نقول كل األشياء ،في انتظار أن نفعل كل األفعال املؤجلة...
قطبت حاجبيها ثم خطفت السيجارة من أناملي وهي تقول:
-كنا نتحدث عن هزري ميشو يا مشاغب.
ً
سألتها كمن يوجعها في موضع ألم قائال:
ٌ
تجمعك بهذا الشاعر؟
ِ -هل هناك قصة ما
ً ً ْ
أخذت نفسا عميقا من سيجارتي التي أصبحت سيجارتها والذت بالصمت.
أحسست أنها تتمش ى في ذاكرتها فوق ٍ
حقل من األلغام كانت قد طمرته منذ زمن.
خافت هذه املرة: بصوت ْ
صاحت
ٍ ٍ
ً
-حبيبي األول في أيام الجامعة كان مهتما بأدب العبث .كنت أجده دائما
ً
غارقا وسط مؤلفات صامويل بيكيت ،وأوجين يونسكو وجان جينيه.
شعاره في الحياة هو أنه ما دام اإلنسان يولد ويعيش ويموت دون
مبررات مفهومة فال جدوى من االهتمام بالوجود وأن خير طريقة
][47
للعيش في هذه الحياة الالمنطقية هي العبث .من شدة تأثره بالعبث
حب لنا قصيدة لهزري ميشو ...تخيل؟
كفكرة وكأدب أهداني في أول لقاء ٍ
ً
أجبتها متهكما:
-حبيبك هذا عبثي فعال.
ابتسمت ثم أخفضت رأسها لتغرق في ذكرياتها املاضية ،وددت لو استطعت ْ
فعل الذاكرة ...ال أحد
إنقاذها ،لكن كيف أنقذها من ذاكرتها؟ ال أحد ينقذنا من ِ
يشفى من ذاكرته كما قالت مستغانمي.
ً
صحت قائال قبل أن تطبق شفتاي على حافة الكأس الذي سقته لي قبل قليل:
-أالز ِ
لت تذكرينها؟
رفعت رأسها ،ثم قالت:
-من؟ القصيدة؟
أومأت لها رأس ي باإليجاب وأنا أبتسم لها عساها تلملم جراحها وتعود ابتسامتها
الجميلة التي تفردها علي كلما حضرت إلى هذا املطعم.
فجأة ،انطلقت تسرد كلمات أحسست أنها تخفيها في خابية ذاكرتها:
معك
خديني ِ
خديني معك بسفينة شراعية
بسفينة شراعية قديمة وجميلة،
على الصارية أو إن شئنا على الزبد،
ً ً
وضيعيني بعيدا بعيدا .
على مقطورة لعصر آخر .
على مخمل ثلجي خداع .
][48
على تنفس بعض الكالب املجتمعة .
ضمن مجموعة متعبة من األوراق امليتة .
خديني معك دون أن تحطميني ،في القبل،
وعلى الصدور التي تنهض وتتنفس،
على بساط الكفوف وضحكاتها،
على ممرات العظام واملفاصل.
][49
توقفت للحظات ثم أضافت:ْ
ً
-أرأيت شخصا يغادر قصة حبه بهذه الطريقة؟
ارتبكت ،لم أعرف بما أجيبها ،ظلت تحدق في عيني بقوة ثم أردف ْت:
ْ
][50
أمضيت املساء بأكمله في لوكراند كومبتوار ،أحتس ي كؤوس حسرتي في الحياة
وأبادل أطراف الحديث مع مها.
ذاهب في الطريق إلى شقتي بحسان ،ال أعرف ِلم ظلت صورة حبيب مها ٌ وأنا
املنتحر تقفز في خيالي ،حتى تذكرت كتاب اميل دوركاييم ''االنتحار'' الذي اختفى
منذ سنوات من مكتبتي دون أن أعرف ملن أعرته أو من سرقه مني !! وتذكرت
ً
ورطتي أيضا مع أماليا التي تلح على زواجنا وأنا لم ألجأ لها إال ملداواة فر ِاق ليلى.
كيف لي أن أهرب من وجع الفراق إلى مصيدة الزواج يا أماليا؟ كيف؟
][51
ْ ْْْْ5
الدار البيضاء 7-أذار/مارس 2015
بعد أن أنهيت درس ي هذا املساء حول تأثير الحب على مجرى تاريخ البشرية .عم
حاضر في الفصل انطلق ليغوص في صمت غريب .أحسست أن كل ٌ الفصل
ٍ
ً
دواخله بحثا عن ماهية الحب وعالقته الجدلية بالحياة.
اجتاحت فكري في تلك اللحظات صورة طارق وغيابه القاتل في حياتي ،لقد
أصبحت أيامي بدونه صعبة ودون نكهة .هو هذا الحب على رأي كيرغارد ،يعطينا
كل ش يء ولكنه يأخذ منا كل ش يء.
ً ً
ألقيت نظرة على ساعتي ثم أعلنت انتهاء الدرس قائلة:
-انتهت حصة اليوم ،نلتقي األسبوع املقبل .حاولوا أن تبحثوا في موضوع
انعكاس الحرب األهلية على األدب اإلسباني ،الشعر خصوصا كدراسة
حالة.
صاحت ''بريا'' ،الطالبة الكاميرونية في فصلي ،بلكنة تغلب عليها السخرية:
أنت تتربصين بآمال الحب في قلوبنا إذن أستاذة ليلى بعد ''غوته'' ِ -
و''نوفاليس'' و''ت.س .إليوت'' ،سيكون ''لوركا'' محطتنا القادمة.
أجبتها مجاملة:
-سنمر على كل عظماء الحب عزيزتي بريا.
كان قد خرج كل الطلبة من الفصل ،لم يبق إال هي واقفة باملحاذاة من مقعدها
وأنا أجمع حقيبتي .ظلت تحدق في سحنات وجهي باهتمام ثم صاحت وهي تغادر
بخطى متثاقلة:
][52
ما اإلنسان دون ٍ
حرية يا ماريانا
قولي لي؟
كيف أستطيع أن أحبك
ً
إذا لم أكن حرا؟
أهبك قلبي
كيف ِ
إذا لم يكن ملكي؟
ً ً
عند خروجها توقفت يداي وأسلمت جسدي ملقعدي .أخذت نفسا عميقا وأنا
أغالب البكاء على مصير قصة حبي مع طارق ...كيف استطاعت بريا أن تشعر
بمأساتي مع طارق وهي تردد أشعار لوركا؟
ً
لدرس متوجهة إلى مكتب األساتذة .في طريقي ملحت ''بركات''،
غادرت قاعة ا ِ
ً ً
القومي العربي الوحيد في املعهد ،واقفا بجانب باب املقصف كأنه ينتظر شخصا
ما.
ً
توجهت نحوه ثم سألته مبتسمة:
-يعني لم تقل لي ما رأيك في الرفاق الذين عرفتك عليهم؟
ابتسم قبل أن يقول:
حقا ًٌ
مدين -لم أكن أعلم أن هناك قوميين عرب بهذه الكثرة في املغرب ،أنا
لك يا أستاذة ليلى بهذا الفضل.
ِ
قلت له ممازحة:
-أنت لم تجبني على سؤالي!
][53
ً
-كلهم رائعين ،ناصر أصبح صديقا مقربا لي ،وأشتغل معه اآلن على
مشروع سياس ي.
-أي مشروع؟
أخبرك ناصر عنه وهو الزال ينتظر ردك باالنضمام لنا .املغرب في
ِ -لقد
حاجة لنا أستاذة ليلى ،بحاجة لتضحيات شبابه كي نصنع منه بلدا
يحترم حقوق شعبه وكرامته ،نحن نستحق أن نعيش في وطن بدون
استبداد.
نظرت في عينيه طويال ثم ودعته قائلة:
-ألم تعد تنوي الهجرة إلى كندا السنة املقبلة؟ مع السالمة ،ال تنس ،أنت
مدعو لعرس رفيقتنا حليمة الهاللي.
في مكتب األساتذة وجدت ''أليس'' أستاذة األدب اإلنجليزي في املعهد منشغلة في
مذكرة ال تغادر يدها وبجانبها كتاب ضخم .خمنت أنها تنقل منه
ٍ كتابة ش يء ما في
مالحظات تتوقف عندها في حصصها.
ألقيت عليها التحية وانشغلنا في محادثة عن أحوال التدريس والحياة الزوجية
ً
واألوالد حتى سمعنا طرقا على الباب قبل أن يدخل السيد ''أوغست بروان'' مدير
املعهد ،ألقى علينا التحية وطلب مني أن ألتحق بمكتبه عند انتهائي.
سألت نفس ي ما األمر الذي دفع املدير ألن يبحث عني بنفسه .استأذنت ''أليس'' في
املغادرة وبعدها وضعت كتبي ودفاتر الطلبة في درج مكتبي الخاص ،اتجهت إلى
مكتب السيد املدير.
عند دخولي رحب بي بطريقته املهذبة والحميمية كعادته وطلب مني الجلوس ثم
ً
بادر قائال:
][54
أقاطعك...
ِ حصتك ولم
ِ -أرجو أن تكوني قد ِ
أنهيت
أجبته بتردد:
ً
-ال أبدا ،لقد أنهيت حصتي.
-اسمعي يا أستاذة ليلى ،أنت تعرفين أن الكنديين عمليين ويدخلون في
ً
صلب املوضوع مباشرة.
بانقباض وتوثر في أعلى صدري ...تساءلت :هل سيفاجئني
ٍ قطبت حاجبي وشعرت
بأمر مقلق؟
املدير ٍ
سمعته يسترسل وقلبي يخفق بسرعة:
-تجربة التعليم األكاديمي الحر للطلبة الراغبين في الهجرة واالستقرار في
الحظت هذا معنا طيلة
ِ بدورك
ِ كندا كانت تجربة جيدة ومفيدة وأنت
السنوات السابقة ،لكن الحكومة الفيدرالية قررت أن توقف هذه
التجربة في بلدان املهاجرين ونقلها إلى كندا...
أجبته بهدوء مصطنع:
-نعم أعلم هذا ،وأعرف أن هذه السنة هي آخر سنة دراسية في املعهد.
استرسل في حديثه:
-جيد ،لكن دعيني أخبرك أن الحكومة قررت فتح مسلك أكاديمي قار
ودائم بجامعة الفال بالكيبك السنة املقبلة لتدريس الطلبة املهاجرين.
لقد أعدت الحكومة كل ش يء ،مراكز األبحاث واألقسام وكل الشروط
ً ً
البيداغوجية وعينتني مديرا للمسلك كما كلفتني أيضا بتوظيف أساتذة
أكفاء...
ابتسمت بلطف مهنئة املدير ،شكر تهنئتي ثم أكمل حديثه:
][55
-اسمعي يا ليلى ،هناك مجموعة من األساتذة في املعهد سأعرض عليهم
فرصة االلتحاق بكندا للتدريس هناك وأنت على رأسهم ...كفاءتك
وقدراتك األكاديمية ال يمكن لنا أن نفرط فيها ،كما أن شخصيتك
ً
حيوية ومهذبة جدا ...أرجو أن تقبلي هذه الفرصة يا ليلى.
-لكن يا سيادة املدير...
قاطعني بسرعة:
ً
سأمنحك وقتا
ِ -اسمعي يا ليلى ،مثل هذا العرض ال نقرر فيه في ٍ
ثوان،
للتفكير ،من هنا إلى آخر السنة.
ً
نظر إلى عيني جيدا ثم أردف قائال:
][56
لك في
أنت غبية ،هو لم يكترث ِ
كل مرة بكل سهولة؟ ملاذا لم يختنق هو كذلك؟ كم ِ
بلد
وأنت ال تقدرين على هجره الى ٍ
كل املرات التي رحل فيها إلى فلسطين والى املوت ِ
آخر بعد عشرين سنة من قصتك الفاشلة معه ودون أمل''.
سمعت صوت املدير يتعالى في أذني:
-ليلى ...ليلى...
-نعم سيدي املدير.
مد لي ورقتين ،ملحت على رأسيهما علم دولة كندا ورمز املعهد ،ثم قال لي:
لك ولزوجك .أتمنى أن تملئيهما عند موافقتك التي -هاتان استمارتان ِ
سأنتظرها بفارغ الصبر.
مسكت االستمارتين بتردد ،لم أجد ما أقوله حينها سوى أنني شكرته على عرضه
ً
بحياة جديدة.
ٍ وتمنيت له يوما طيبا قبل أن أغادر مكتبه وأنا ممتلئة
بعد انتهاء حصص دروس ي غادرت املعهد إلى املقهى املقابل للمعهد في شارع موالي
يوسف حيث تنتظرني صديقتي نزهة صادق ومعها ابنتي ليال.
ً
ما كدت أخطو داخل املقهى ،حتى قفزت ليال من حضن نزهة قادمة نحوي وهي
تصيح'' :ماما ...ماما'' .حملتها وهي تعانقني كعصفورة ت ْر ِسل جناحيها حولي وتطبع
ً ً
قبال متتالية على خدي .فكرت وأنا أسلم على نزهة أن األطفال يمنحوننا حبا
صادقا ال تنتهي ينابيعه.
صاحت نزهة قبل أن آخذ نفس ي:
ً
تشبهك مطلقا.
ِ -هذه آخر مرة أمسك لك فيها ليال عندي ،إنها فتاة مشاغبة ،ال
ْ
أخذت كل ابتسمت وأنا أقول في خاطري إنها مشاغبة وعنيدة مثل والدها ،لقد
جيناته على أمل أال تأخذ منه خيباته وانكساراته.
][57
أجبتها:
-اعذريني يا نزهة ،مربيتها مسافرة هذه األيام ،ولم يكن أمامي سواك،
فأنت صديقتي الوحيدة هنا في الدار البيضاء.
ِ
مازحتك فقط...
ِ -ال ِ
عليك،
جلسنا نحتس ي القهوة ونتجاذب أطراف الحديث عن تحضيرات عرس رفيقتنا
حليمة الهاللي الذي لم يتبق له سوى شهر ،بينما كانت ليال تلهو تارة بمالبس
نزهة وتارة أخرى تلف حولنا وتقفز كفراشة تضرب بأجنحتها الهواء.
بدت لي نزهة مختلفة ،مشتتة الفكر ،تريد قول ش يء ما لي وال تستطيع ،أعرف
نزهة عندما تخفي عني أمرا ما .سألتها دون تحفظ:
ً
بك تخفين عني شيئا ما.بك؟ أشعر ِ -نزهة ،ما ِ
نظرت إلي مطوال ثم قالت:
-هناك أمر يشغلني ويتعلق بك.
-يتعلق بي؟ !!
أجبتها متفاجئة ،لترد علي بحزم:
سمحت.
ِ -اسمعي يا ليلى ،سأسألك وتجيبينني بصدق لو
أجبتها بترقب:
-هللا يسمعنا خير.
قالت لي:
-ليال ابنة من؟
][58
-كيف ابنة من؟ إنها ابنتي
-نعم ،أعرف أنها ابنتك لكن من أبوها؟ ال تقولي لي جالل من فضلك !؟
استغربت من قدرة نزهة على اكتشاف سر ابنتي ليال فحاولت أن أداري سؤالها:
-لم تسألينني هذا السؤال؟
ردت علي بضجر:
ً
أنت تجيبينني بسؤال !! لكن اسمعي ،كانت عندي دائما شكوك في أن ِ -
تكون ليال ثمرة عالقتك الطويلة واملعقدة مع طارق وما زواجك بجالل
إال تغطية وهروب لك من طارق التائه والالمستقر .مالمح ليال تطابق
مالمح طارق حتى أن الشامة التي توجد يسار أنفه توجد أيضا في نفس
املكان في وجه ليال انظري.
كنت أرقبها بهدوء وهي تمسك وجه ليال بعصبية لتريني شامتها ،ثم سمعتها
ً
تستكمل قائلة:
-لها نفس لون عينيه العسليتين وكل مالمحه ،لكنني هذا الصباح أيقنت
أنها ابنته.
ً
استفهمتها مستغربة:
-هذا الصباح؟ كيف؟
ردت علي وهي تنظر بتمعن في عيني:
-كانت نائمة في حضني هذا الصباح ،عندما هممت بوضعها في السرير
الحظت أن أشفار عينيها ال تلتقيان وهي نائمة ،تترك عينيها مفتوحتين
ً باب موارب .هكذا يبدو طارق وهو ٌ كأنهما ٌ
نائم أيضا.
][59
ً
خطفت نظرة تائهة إلى ليال ،كانت تلهو بالقرب من كرس ي نزهة ،تقفز وتدندن
ً
بكلما ٍت ال يفهمها سواها .عدت ألسأل نزهة محاولة تشتيت فكرها بخبث:
-تعرفين طارق كيف ينام إذن !! جميل
تاب:
بلكنة ال تخلو من ِع ٍ
أجابتني ٍ
عالقة بطارق قبل أن تسرقيه مني أيام الجامعة.
ٍ -ال تنس ي أنني كنت على
][60
لت تعلقين أمالك على طارق ،أرى ذلك في عينيك. أنت حمقاء ألنك الز ِ ِ -
ليلى ،إلى متى ستظل حياتك مشروع انتظار لطارق؟ أنت مخطئة إن
بقيت هكذا .لقد عاشرِته عشرين سنة ماذا كانت النتيجة؟ ال ش يء .اآلن ِ
لك زوج وابنة وبيت ...حافظي على أسرتك يا ليلى ،لقد بدأنا نذبل يا ِ
عزيزتي .نحن في األربعينات من عمرنا .الحياة بدأت تتوارى خلفنا .انس ي
طارق...
تمتمت دون أن أعي ما أقول لها:
-ال سيطرة لنا على الحب ...طارق هو رجل حياتي الوحيد.
لثوان ثم استسلمت لفنجان
ٍ تنهدت وأرجعت ظهرها للمقعد ،ظلت تنظر إلي
بصدق كلمات نزهة.
ِ بخيبة كبيرة في داخلي وفي اآلن ذاته شعرت
ٍ قهوتها .شعرت
ً
رميت صفحة يدي على يدها قائلة بتردد:
-معك حق يا عزيزتي ،طارق ليس سوى سراب جريت وراءه عشرين سنة
أمل ودون مشروع حياة .حان الوقت ربما كي أنزعه من حياتي
دون ٍ
وأستريح.
مددت جسدي نحوها ألقبل خدها ثم وقفت ألحمل ليال وانصرفت .التفت إليها
وأنا أجتاز باب املقهى ،كانت هادئة وتائهة في فنجانها.
في تلك الليلة ظللت أفكر في كالم نزهة عند عودتي إلى البيت .يا هللا ،كيف تكون
حياتي بدون طارق؟.
نوم عميق .حسدتها على طفولتها وعاملها الجميل التفت لليال ألجدها تغط في ٍ
ً
الذي غادرته بسرعة لتصبح لي اآلن أربعون سنة في تاريخ األلم والفراق .ذهبت إلى
ً ً
غرفة نومي بخطى سريعة وأنا أرسم لنفس ي مشروعا جديدا في الحياة ،بحثت عن
هاتفي ألجده بجانب وسادتي على السرير ،أخذته وركبت رقم ''ناصر''.
][61
-آلو ناصر...
-أهال ليلى ،هل أنت بخير؟
-بخير ،بخير...
-ما ِ
بك شاردة؟
-ال ش يء ،أردت أن أسألك إن كان عرضك لي باالنضمام لحركة ''نحن
ً
نستحق'' قائما.
-أكيد ،أنا أنتظر جوابك في املوضوع.
-سأكون معكم إن شاء هللا.
بصوت مرح وهو يغالب انتشاءه:
ٍ صاح
-أهال ِ
بك يا رفيقتي القديمة...
-من سيكون معنا في الحركة؟
وتلميذك بركات وأنا
ِ -عبد الصمد مرشد ،نزهة صادق ،يوسف غرادي
وأنت .سنكتفي بهذه املجموعة لقيادة الحركة.
ِ
ً
أجبته مستغربة:
-رفاقنا القدامى إذن...
-نعم رفاقنا القدامى ،بركات وحده الدم الجديد في املجموعة .اسمعي
سأبعث إلى بريدك اإللكتروني خطة الحركة ومبادئها التأسيسية التي
سنناقشها في اجتماعنا القادم...
-متى االجتماع؟
][62
-بداية الشهر املقبل ،بعد عرس حليمة.
-حسنا شكرا لك ،ليلتك سعيدة.
-أنا من يشكرك على خبرك الجميل في هذه الليلة ،مساؤك سكر رفيقتي.
ما كدت أنهي املكاملة حتى سمعت جالل يدخل إلى البيت ،فأسرعت إلى إطفاء
ضوء الغرفة وخلدت للنوم.
][63
ْ ْْْْ6
الدار البيضاء 00-نيسان/أبريل 2015
أكره تلك اللحظات التي يكون فيها زوجي جالل بجانبي .تذكرني بالوجع الذي خلفه
غياب طارق في حياتي ،تذكرني بفشل حلمي في أن يكون طارق زوجي وأن يجمعنا
بيت واحد .لكن ،كيف سيكون شعوري اليوم في حفلة عرس حليمة عندما ٌ
سأجلس في طاولة واحدة مع طارق وبجانبي جالل؟ يا إلهي ستكون لحظات مرعبة.
ألف حيلة كي أعتذر عن الحضور لكن ال عذر يليق بغيابي عن عرس فكرت في ِ
رفيقتي القديمة .عند وصولنا إلى قاعة األفراح التي ينظم فيها عرس حليمة ،فتح
ً
لي جالل باب السيارة كي أنزل قائال بتذمر:
تصرين علي ألحضر
أنت تعرفينني أكره األعراس يا ليلى ،ال أعرف لم ِ
ِ -
صديقتك؟
ِ معك عرسِ
أجبته بعصبية وأنا أنظر إلى مرآة السيارة ألصلح مكياجي:
-في هذه املناسبات ال يليق أن أحضر لوحدي وأنا امرأة متزوجة .ألم تقل
إني ال أهتم بك وال أخرج معك؟ ها أنا خرجت معك إذن ما بك؟
كان املكان مليئا بالضجة وصوت املوسيقى الشعبية الصاخبة ،شعرت بنبضات
ً
قلبي تتسارع وأنا أعلم أن داخل هذه القاعة رجال لطاملا ارتبكت في حضوره ولطاملا
قفز قلبي ملعانقته قبل أن أصل إليه .وضع جالل يدي على ساعده وكأنه يريد أن
يطيب خاطري ونحن على باب قاعة العرس.
ما إن دخلت إلى قاعة العرس حتى خطفتني نظراته التي كانت تتربص بدخولي
كبندقية تتأهب إلغرا ي بالرصاص .ارتبكت ملا رأيته جالسا ينظر إلي بمالمح جامدة
][64
بخطوات طفلة تشتاق
ِ فأسرعت بسحب يدي من على ساعد جالل واتجهت نحوه
ألبيها.
ً
إليه واقفة بجانبه ،بدا
سكتت كل األصوات في آذاني وتوقف كل العالم وأنا أنظر ِ
ً ً ً
شاحبا متعبا كأنه يذبل في غيابي عنه .مددت له يدي كي أسلم عليه قائلة:
-وحده هللا يعلم كم أحتاج أن أعانقك اآلن ،لكن سأكتفي بيدي لتعانق
يدك.
رد علي بقسوة غريبة دون أن يتحرك من مقعده:
خلفك ،عانقيه كما تشائين.
ِ زوجك ٌ
قادم ِ -ها هو
صدمت من جوابه ،لم أفهم سبب قسوته وكالمه بهذه النبرة معي ،وسط ذهولي
من ردة فعله هذه سمعت صوتا بجانبي يقول:
-ماذا يا رفيقة؟ ألم تعودي تعرفيننا؟
التفت ألجد رفيقنا نجيب يجلس على يسار طارق مبتسما .سلمت عليه بحرارة
لسنوات طويلة .ثم رأيت ناصر وبركات يجلسان
ٍ متفاجئة بحضوره بعد غيابه عنا
أيضا على الطاولة ذاتها .آه كم تعميني نظرات طارق عن رؤية اآلخرين.
سلمت على الجميع وقدمت إليهم زوجي جالل ،في الوقت الذي بدا فيه طارق غير
عذر له هو أكيد يغار منمكترث لحضوري ،قلت مع نفس ي وأنا أبحث عن ٍ
تواجدي مع رجل آخر غيره ،هكذا هو ،يحب أن يتملكني وإن كنت لغيره .قبل أن
أجلس معهم على الطاولة سحبت جالل وذهبنا لنسلم على العروسين ونقدم لهما
ً
هدية العرس .عندما رأتني حليمة أقترب منها رسمت ابتسامة مشرقة على وجهها
الجميل ذكرتني كم كنت حزينة في يوم عرس ي.
قلت لها وأنا أعانقها:
][65
ً
عرسك ،ألف مبروك يا عزيزتي.
ِ تزوجت وسزرقص في
ِ -وأخيرا يا حليمة
قالت دون أن تغادر االبتسامة العذبة محياها:
-ربي يخليك لي يا عزيزتي ليلى.
بصوت خافت خشية أن يسمعها جالل:
ٍ ثم أردفت
عرسك اآلخر كي أرقص فيه ،انظري إليه كم هو تائه من
ِ -أما أنا فأنتظر
وأنت تعرفين
لغيرك في اآلخرِ .
ِ دونك .اذهبي إليه وكوني معه هو لن يكون
هذا جيدا يا رفيقتي.
أجبتها وأنا أخطف نظرة إلى طارق الذي بدا غارقا في حديثه مع نجيب:
-حكايتنا صعبة ولقاؤنا مستحيل يا حليمة ،طارق لن يكون ألي امرأة.
ً
استسلمت؟ اسمعي نحن ال نعيش سوى مرة واحدة، ِ -ما بك يا ليلى؟ هل
املرأة التي ال تعيش مع الرجل الذي تحبه ليست بامرأة كاملة ،ستبقى
أنت
أجلك ِ
ِ دائما ناقصة وتعيش على هامش الحياة .طارق خلق من
فقط ،هيا اتركي هذا الرجل الذي تزوجته في لحظة غباء وعودي إلى
ً
ينتظرك دائما.
ِ طارق ...سيظل
اكتفيت باالبتسام في وجهها بعد أن خانتني كل الكلمات على لساني ،عانقتها بقوة
ثم عدت مع جالل لنجلس رفقة طارق وبقية الرفاق .كانوا كالعادة يتحدثون عن
الوضع السياس ي في الوطن العربي وعن النضال القومي ،سمعت نجيب يقول
ً
بصوت هادئ كعادته:
ٍ متحدثا إلى بركات
-يجب أن نقر كقوميين عرب أن الوحدة العربية تبقى مشروعا سياسيا
صعب التحقق وسط املتغيرات السياسية املعاصرة وفي ظل شراسة
الحملة االستعمارية الغربية التي تعمل على تدمير الحضارة العربية
][66
وتجزئة الكيانات السياسية الحالية .انظر لألمة العربية كيف حالها
ات
اآلن ،نحن نواجه انهيارا كامال للتكتالت اإلقليمية ،ونواجه انهيار ٍ
بالجملة ،نحن غير قادرين حتى على توحيد دولتين عربيتين على وجهة
نظر واحدة ومشروع سياس ي واحد...
ً
عقب بركات على كالم نجيب مقاطعا:
-الوحدة العربية ليست صعبة املنال ولم تفشل كمشروع سياس ي ألنها
ستظل حتمية تاريخية لنهضة العرب وتوحيد قواهم ،مصير العرب
ووجودهم يحتم عليهم الوحدة السياسية .كل ما نعانيه اآلن من موجات
التطرف والطائفية والتفرقة وانهيار للتكتالت السياسية ما هو إال
نتيجة لتراجع وغياب مشروع قومي عربي وحدوي ،األمة العربية تعيش
تبعات تراجع املشروع القومي العربي منذ أواخر الستينات إلى اآلن.
املشكلة الحقيقية تكمن في املناضلين القوميين العرب وفي الفكر القومي
ً
العربي الذي ظل جامدا ،لم يستوعب التطور السياس ي والثقافي
واالجتماعي وحتى النفس ي للشعب العربي...
قبل أن يكمل بركات كالمه ملحت طارق يهز رأسه في إشارة ملوافقته رأي بركات ،وما
إن أنهى كالمه حتى صاح بحماس وهو يتجه بكالمه إلى نجيب:
-وجهة نظره صحيحة يا نجيب ،املشروع القومي العربي لم يشهد تطورا
جديا في تاريخه املعاصر ،ال زلنا متوقفين عند املنطلقات األولى واملفاهيم
التأسيسية التي كانت وليدة الحقبة العثمانية ومناهضة املوجة األولى
من االستعمار ،نحن في حاجة لتلك النظرية النقدية الكبرى ،على رأي
جورج طرابيش ي ،لتجديد الفكر القومي العربي وإعادة صياغة
منطلقات جديدة مع الحفاظ على مبادئنا األساسية .باهلل عليكم،
][67
أليست األمة في حاجة اآلن لنسخ جديدة من ميشال عفلق ونديم
البيطار وساطع الحصري وقسطنطين زريق وأكرم حوراني وزكي
األرسوزي.
ً
في غمرة حديث الرفاق تفاجأت فرحة بسرعة اندماج وتآلف بركات مع طارق
ونجيب وهم بالكاد يتعرفون عليه .التفت لجالل وجدته يلهو بهاتفه غير مكترث
ً
بما يدور من حديث ،مثل هذه املواضيع تشعره بامللل والضجر .بعيدا عن طاولتنا
رمقت نزهة تدخل القاعة متوجهة عند العروسة كي تسلم عليها ،خمنت أنها أكيد
ستبحث عنا وستنظم لطاولتنا .عندما عدت بنظري إلى الرفاق ،سقطت عيناي
ٌ
غاضب مني على عيني طارق مباشرة ،تبادلنا نظرة قصيرة ،شعرت من خاللها أنه
لسبب ما ،ثم أشاح ببصره بعيدا عني في الوقت الذي سمعنا بركات يعود فيه
للحديث:
-تجديد منطلقات الفكر القومي العربي ضرورة مرحلية ال نقاش فيها ،مع
األخذ بعين االعتبار توحيد الصف القومي ،فال يعقل أن نظل مشتتين
بين ناصريين وبعثيين صداميين وبعثيين سوريين ونحن دعاة وحدة .لكن
األهم في نظري هو نقد تجربة املثقف القومي العربي ودوره في تززيل
الفكر القومي العربي إلى الواقع ،خذوا مثال املثقف الفرنس ي قبل الثورة
الفرنسية ،ألم يكن املثقف هو الشرارة التي شقت الطريق إلى الحرية
والتحرر؟ فولتير وروسو وديدرو وغيرهم ألم يبدأوا بحملة فكرية انتهت
بثورة عظيمة من أجل الحرية؟
قبل أن يهم نجيب بجواب بركات ،انضمت لنا نزهة وهي تصيح ممازحة:
-أقطع ذراعي إن لم تكونوا تتحدثون عن القومية العربية...
ً
ضحكنا جميعا قبل أن أجيبها:
][68
-هذه املرة يا نزهة بركات هو من أشبعنا كالما في القومية العربية
والسياسة...
ابتسمت نزهة في وجهي ثم قالت لبركات وهي تغمزه بطرف عينيها:
-الحياة فيها ما هو أجمل من السياسة يا بركات ،انظر من حولك ،القاعة
تضج بفتيات مليحات...
ً
أردف طارق سائال بركات باستغراب:
-هل اسمك طارق أم بركات؟
ً
علق بركات مبتسما:
ٌ
طالب في -اسمي طارق ،لكن األستاذة ليلى تناديني بركات بحكم أنني
فصلها وبعد أن عرفتني على الرفاق أصبحوا ينادونني بركات هم كذلك...
ابتسم طارق قبل أن يستهدفني بكالمه الجارح من جديد:
-ربما ليلى تكره اسم طارق يا رفيق...
شعرت بألم بالغ وأنا أرى طارق يمطرني بكالمه الجارح ونظراته القاتلة ،فكرت أن
أطلب محادثته على انفراد ألفهم ما به لكنني ملحته يحمل كأس عصير من على
الطاولة واستأذن باالنصراف إلى الشرفة ،ربما يرغب في تدخين سيجارة لوحده...
استأذنت بدوري وتبعته بخطى واسعة ،لكنني ملحت نجيب يتبعني هو اآلخر عند
طارق .ربما يريد أن يتدخل بيننا بعد أن شعر ببرودة تعاملنا مع بعض.
صاح نجيب بمجرد أن وقف بمحاذاتنا:
حب سمعت عنها هي قصتكما أنتما االثنين ،ما الذي قصة ٍٍ -أغرب
منعكما من الزواج وتكوين عائلة وأنتما ال تفترقان هكذا ...
ً ً
التفت إلي مباشرة قاطبا حاجبيه وأردف:
][69
وأنت تحبين طارق؟
-ما الذي دفعك للزواج بذاك الطبيب يا ليلى ِ
في الوقت الذي كنت ألوك فيه شتات الكلمات التي توجد داخلي كي أجيبه التفت
لطارق ،ليسأله بدوره:
-وأنت يا طارق ،ستترك مأساتك مع الوطن تسلبك كل ش يء جميل في
حياتك؟ ،أال تدرك أنك فقدت ليلى ،حب حياتك يا رجل؟
سرقت النظر إلى طارق والفضول يغمرني ملعرفة جوابه على سؤال نجيب ،كانت
شفتي طارق تتلذذان برشف جرعة عصير ليمون من الكأس الذي رافق يداه منذ
مغادرته لطاولتنا ،بدا غير مكترث .بعد أن فقد نجيب صبره من مجيء جواب
طارق ،حاول استفزازه بسؤال جديد:
ً ً
موت جميل هاربا من فشلك -أستذهب من جديد إلى فلسطين بحثا عن ٍ
ً
هذا؟ أستعيش معلقا بين الرحيل والعودة ...بين البندقية وليلى؟
بهدوء قاتل:
ٍ أجاب طارق
ً
-ربما أنت أيضا في حاجة للبحث عن موت جميل في فلسطين كي تغسل
قلبك من خيبة حبك لزرجس وفشل عالقتكما ...أليست أقدارنا
متشابهة في الحب يا صاحبي؟
ً
كان جواب طارق قاسيا ،استشعرت قسوته من مالمح نجيب وهو يجيب طارق
باد على نبرة صوته:
بأ ٍلم ٍ
-ربما نرجس لم تكن صادقة في حبها لي ،لكن ليلى تحبك بجنون ،كلنا
نعلم هذا من أيام الجامعة ...
رد طارق ساخرا:
تعيشان اآلن بين أحضان رجل آخر.
ِ -ال فرق بين نرجس وليلى ...كلتاهما
][70
أنهى طارق جوابه القاس ي ودفع كأس العصير إلى شفتيه من جديد وكأنه يستعد
ليكمل قسوته بعد أن يبلل ريقه ،رفعت رأس ي ألنظر إليه بإمعان ودمعي يجتمع في
مسدس رشاش يرمي من حوله ٍ مقلتي ...ملاذا تقسو علي يا طارق؟ ملاذا تحولت إلى
برصاص القسوة والعدوان .ظلت عينا نجيب تنظران إلي بشفقة وعطف ،كأنه
ً
معارك الحب وأملها ...
ِ يقول لي يا لتعاستك .يا لتعاستنا جميعا في
قررت أن أتركهما لوحدهما ،أن أذهب ألبكي وحيدة ،أذرف الدمع بيني وبين نفس ي
وبدون شاهد على قسوة طارق علي وعلى مأساتي في الحب.
ما إن خطوت مغادرة حتى أمسكني نجيب من يدي اليسرى ،كانت يده ساخنة
ً
كالنار ،تتصبب عرقا ال أعرف سببه ،نظرت إلى ساعده وجدته يرتعش.
أنت وطارق ...
إخبارك به ِ
ِ -انتظري يا ليلى ،هناك ٌ
أمر علي
ً
كانت نبرة صوت نجيب توحي بإخفائه موضوعا مهما ،رجعت إلى الخلف حيث
ً
كنت أقف ماسحة مدامعي .نظرت إلى طارق وجدت بصره شاخصا في وجه نجيب
وكأنه يحاول أن يقرأ مالمحه ،كان االثنان ينظران إلى بعضهما البعض بطريقه غير
خافية علي.
ٍ
أعرفهما منذ أيام الجامعة ،أزيد من عشرين سنة ،عمرا بأكمله وأنا أحفظ
مالمحهما وسكناتهما .أعرف ما معنى نظراتهما هاتين ،إنها نظرات الرحيل ...
أحدهما سيرحل !!.
وان قائال وهو يتأمل وجه طارق:
قطع صوت نجيب الصمت الذي خيم علينا لث ٍ
-أنتما الوحيدان اللذان علي إخبارهما...
ً ً
أكمل بعد أن نثر من سيجارته نفسا عميقا:
][71
ً
-مؤخرا أصبحت أجهزة األمن تضايقني وتتبع كل خطواتي ،إنهم يعدون
علي أنفاس ي .بلغتني معلومات أن جهاز املوساد دخل هو اآلخر على
الخط وأصبح يتربص بي ...
ً
صاح طارق مقاطعا:
-هل كشفوا أمرنا؟
لم أتمالك نفس ي الغارقة في الفضول ،التفت إلى طارق وصحت في وجهه:
-أي أمر؟
لم يكترث طارق لسؤالي ،اكتفى بالبحث عن سيجارة وإشعالها ...مال إلي نجيب
مجيبا على سؤالي:
-منذ خمس سنوات يا ليلى ونحن نعد رفقة خليل في فلسطين لتشكيل
جيش من رفاقنا القوميين العرب من مختلف األقطار العربية للقتال في
ٍ
قطاع غزة والضفة ضد جيش االحتالل اإلسرائيلي ،ربما املخابرات
اإلسرائيلية استشعرت املخطط وتحركت لتصفيتنا .بقائي هنا فيه خطر
على حياتي وعلى رفاقنا هنا...
ً
قاطعه طارق مستغربا:
ً
-لم أعهدك خائفا؟
-هذه املرة بلى ،ربما ألنه لدي ٌ
حلم بسيط أريد تحقيقه...
-أي حلم؟
ً
-أن أصير أبا.
نظر إلي طارق متفاجأ من كالم نجيب ،ثم أدار وجهه ليسأله:
][72
كيف؟ -
أجابه نجيب بخجل:
-لدي صديقة تونسية ،قررنا أن نتزوج وأن نقطن في سيدي بوسعيد
ً ً
بضواحي تونس العاصمة .أريد أن أصبح زوجا وأبا يا طارق ،إنها آخر
أحالمي املتبقية.
-نسيت نرجس إذن؟
-ليست مسألة نسيان ...العمر يجري وأنا لم أحقق أي حلم من أحالمي
ً
املاضية ،أريد أن أصبح أبا ،أريد أن يكون لي أبناء قبل أن أغادر هذا
الكون على أرض فلسطين ...
مسكت يد نجيب اليسرى وضغطت عليها بقوة وكأني أقول له ،نعم من حقك أن
تصير أبا وأنا أشجعك ...
قال طارق بقلق:
-الوضع غير مستقر في تونس بعد الثورة يا نجيب ،كما أنها أصبحت
مرتعا للعمالء وأجهزة االستخبارات ...تونس ليست بالخيار الجيد.
-الحب يستحق أن نغامر من أجله يا طارق ،وإن كان ثمن املغامرة حياتنا.
-وكيف ستدبر حياتك هناك؟
تململ نجيب قبل أن يجيبه وهو يضع ابتسامة مكابرة على شفتيه:
-لقد تدبرت لي وداد عمال في أحد الفنادق في العاصمة تونس ،كما أنني
كل ما هي إال
سأبيع مززلي في طنجة ونقتني شقة نعيش فيها هناك ،على ٍ
سنة أو سنتين بالكثير وأرحل إلى فلسطين.
][73
ً
قاطعه طارق من جديد ساخرا:
-اسمها وداد إذن...
ابتسم نجيب بخجل ورد عليه:
-نعم اسمها وداد ،وداد الشافعي .فتاة شاعرية من مدنين جنوبي تونس.
ً
انضممت أنا األخرى مداعبة إياه:
-أهي جميلة؟
][75
يرقصون في ليلة عمرنا ،في ليلتنا التي سأكون فيها لك وأنت لي ،حيث ستخرص في
ً
أذاننا كل األقدار وقوانين العالم عندما نختلي معا ،سيخرص العالم بسياسته
حد سنتداوله هذه الليلة ،هوعاجل وا ٌ
ٌ وحروبه وأخباره القديمة والعاجلةٌ .
خبر
خبر لقاء أجسادنا في مطار الحب لتحلق عاليا في سماوات العشق.
ً
كنت أغرق في صمتي فيما كان طارق يغرق في دخان سيجارته .خطفت نظرة إلى
عينيه ،فبادرتني عيناه متسائلة ماذا هناك؟
ِ
ٌ
هل للعيون لغة يا ترى؟ هل تتكلم بأحرف نجهلها لكن نعلم مغزاها؟ أم هي لغة
أعماق جراحنا دون أن ندري شكلها.
ِ صماء على طريقة برايل تتلمس حروفها في
الفاشلة في قصة حبها:
ِ ارة
قلت له بمر ِ
-بقليل من الحظ ،كنا سنكون اآلن محمولين على العمارية أنا وأنت ...وكل
هؤالء يرقصون حولنا في عرسنا.
أجابني دونما اكتراث ودخان سيجارته يتحرر من شفتيه باندفاع األسير املحرر من
معتقله.
-ربما كنا سنكون كذلك ...لكن القدر جرب كل احتماالته في قصتنا
وكانت نتيجته الحتمية استحالة أن نكون لبعضنا لألبد ...ليس هناك من
أبد يجمعنا يا ليلى.
ٍ
-هذا رأيك في قصتنا؟
رد علي دون أن يززع نظره على األجساد املتراقصة في داخل الحفلة:
][76
ٌ
محتال وماكر في ثوب جمعتهما إبرة الحب ...وألن القدر -أنا ِ
وأنت قطعتا ٍ
وأنت ال قصص الحب ،فقد جعل إبرتنا دون ٍ
خيط يجمعنا إلى األبد .أنا ِ
نملك اآلن سوى ثقوب إبرة الحب ووجع الفراق.
مياه باردة لجمت لساني .تركت عيني تزحف بنظرها
سقطت كلماته علي كشالل ٍ
بين أصدقائنا الذين لم يتوقفوا عن الرقص والتسابق لحمل عمارية رفيقتنا
حليمة .كان الجميع يرقص ويغني ويضحك.
كفرس املواسم الشعبية،
ِ حتى نجيب ،املليء بالجراح حد التخمة كان يرقص
ناصر الذي أعيته السياسة وذكريات النضال القومي العربي يرقص هو اآلخر،
نزهة وبركات وكل الرفاق يرقصون .ملاذا وحده طارق ال يرقص إال خفية بعد أن
ي ْسكر من جراحه وأحزانه ،كأنه زوربا الجديد.
يمرغ رأس سيجارته بجدار الشرفة .تذكرت أنه يكره أن يدوس ملحته بطرف عيني ِ
على سجائره بعد أن ينتهي منها .قال لي في أحد األيام في بداية عالقتنا ''في البداية
بشفتين تواقتين المتصاص الحياة من ِ بلهب الشوق ونقبلهانحرق السيجارة ِ
لفافتها ...ثم عند انتهائنا منها ندوسها بأقدامنا ،جحود اإلنسان ونكرانه للجميل ال
مثيل له يا ليلى''.
ٍآه يا طارق ،أحيانا أغار من سجائرك!! ...
][77
ْ ْْْْ7
الرباط 80-نيسان/أبريل 2015
وأنا أغلق الباب ،سمعت صوت خطى على الدرج .التفت ألرى جاري عمر يسبق
زوجته صاعدا إلى شقته .ابتسمت وألقيت عليهم تحية الصباح ثم سألتهم عن
ً
أحوالهم وبعدها اعتذرت كوني مستعجال .ما إن نزلت درجتين حتى تبعني صوت
ً
عمر سائال:
-س ي طارق ،هل أنت بخير؟
استغربت سؤاله ،كانت نبرة صوته خافتة تميل للمواساة .تطلعت إلى زوجته
فاطمة ألجد في عينيها نفس النظرات ومالمح املواساة والشفقة.
ً
أجبت مستغربا:
ٌ
خطب ما؟ -أنا بخير س ي عمر ،ما بكما؟ هل هناك
أجابني على استحياء:
-منذ أن غادرتك السيدة ليلى وأحوالك ال تبعث على االرتياح ،نحن
ٌ
شخص عزيز علينا وتهمنا راحتك وسعادتك. متأسفين ،لكنك
-أنا بخير س ي عمر ال تشغل بالك...
بصوت مندفع قائلة:
ٍ تدخلت فاطمة
-ال ،أنت لست بخير س ي طارق ،أصبحت حزينا بشكل مقلق والكآبة
احتلت نظراتك التائهة ،فضال عن كونك تعود سكرانا كل ليلة .نحن
أصدقاء وجيران ،من واجبنا الوقوف الى جانبك في وقت الشدة.
][78
ً
أجبتها ساخرا:
-تتجسسين علي يا فاطمة؟
استدرك عمر كالمها:
-حاش هلل أن نفعل ذلك س ي طارق ،نحن نلتقي بشكل يومي في باب أو
درج العمارة .والعين ال تتجاهل أحوال األحباب واألصدقاء.
ِ
الرد على عمر وزوجته ،بعد أن تأثرت باهتمامهما .دفعت يدي
خانتني لغتي في ِ
ً ً
اليسرى ألربت على كتف عمر .نظرت في عينيه الذابلتين ثم سرقت نظرة خاطفة
من وجه فاطمة .قلت لهما:
-شكرا ملحبتكما ،هللا وحده يعلم معزتكما عندي .ادعوا لي فقط في
صالتكما أن يغفر هللا لي ويساعدني.
درج تاركا عمر وزوجته واقفين
ابتسمت لهما وتركت أرجلي تدفع جسدي على ال ِ
كتماثيل ال تعرف الحراك لكنها تعرف كل األحاسيس واملشاعر الجميلة.
باب العمارة ،وجدت ''با معمر'' يصرخ بهستيريا وسط مجموعة من األطفال عند ِ
يحومون حوله ويصيحون'' :وا املسطي ...وا املسطي'' .مسكت بيده بلطف ونهرت
األطفال الذين سرعان ما هربوا ...التفت إليه وجدته يتنفس بصعوبة وهو يصيح
بعبارته التي ال تفارق لسانه'' :أوقفوا العالم أريد الززول''.
ال أحد يعرف قصة هذا الرجل وال من أين أتى .عندما عدت من القتال في
فلسطين وجدته يفترش رصيف العمارة كل يوم بلباسه الرث وقدميه الحافيتين.
البعض يقول إن با معمر كان أستاذ فلسفة لكنه تعب من الحياة فأصبح يعيش
ً
في ثوب الجنون والبعض اآلخر يقول إنه كان روائيا يعيش بين شخصياته وأفكاره
حتى أضاع الخيط الذي يجمعه بهذا الواقع فصار يمش ي بين الناس أحمق
ً
مجنونا.
][79
ال أذكر أنني رأيت با معمر يوما يتكلم أو يجيب على أسئلة أحد ،يردد فقط جمال
قليلة غير مفهومة'' :أوقفوا العالم أريد الززول'' و''هللا ينعل بو العالم'' .آه يا با
معمر ،لست وحدك من تعب من هذه الحياة ،لست وحدك من يلبس ثوب
الجنون ،كلنا جننا وضيعنا ذاك اإلنسان الحقيقي في دواخلنا.
ً
أخذته معي إلى املقهى كي نفطر معا كعادتي عندما أصادفه كل صباح عند باب
العمارة .طلبت له الشاي واألومليت الذي يحبه وتركت عيني تغوصان في مالمحه
التائهة وأنا أشرب قهوتي على مهل .كان يلتهم البيض ويشرب الشاي كأنه يسابق
كلمات منه:
ٍ الزمن ،سألته محاوال انتزاع
-أين كنت البارح؟ تركتني آخذ فطوري لوحدي يا رجل .هل يدعوك أحد
غيري للفطور؟
ً
ظل صامتا وهو يأكل ،كأنه لم يسمع كالمي أو ال يكترث له .عدت لسؤاله:
ً
حسنا ،قل لي فقط ما بك؟ ملاذا أنت ٌ
قلق هذا الصباح؟ -
توقف عن الحركة للحظات ،بدا أنه يغوص في قاع ذكريات غامضة في داخله قبل
بصوت خافت ومتقطع :هللا ينعل بو العالم ،هللا ينعل بو العالم ...فجأة
ٍ أن يقول
صرخ بملء صوته بعبارته الشهيرة ''أوقفوا العالم أريد الززول'' وانطلق يصرخ
ويجري في الشارع كعادته.
ً
لم أستطع إكمال فنجان قهوتي وأنا أرى في ''با معمر'' عنوانا ملأساة البشر في هذه
الحياة ،فتركت أرجلي تتمش ى بي في شارع محمد الخامس .منذ سنين طويلة وأنا
رموزه السياسة،
ِ أعشق التجول بشارع محمد الخامس بالرباط ،ليس بسبب
حاش هلل ،بل بسبب ذلك السفر الجميل إلى ذكرياتي الغابرة الذي يمنحني إياه.
ً
عليه مشيت على رصيف هذا الشارع مشيت يوما عاشقا أرقص صولفيج الحبِ .
ً ً ً ً
باكيا ،مشيت ناجحا وأحيانا كثيرة مشيت عليه جارا خيباتي املتراكمة .على كراس ي
][80
هذا الشارع كتبت أجمل قصائد الحب ،نسجت أروع األشعار وصادقت أسراب
ً
الحمام الراقصة حولي ،والتي كانت ت ِكلفني درهما ذرة كل يوم عساها تظل وفية لي
وتؤنس وحدتي املوحشة في هذا الوطن .نعم أحب هذا الشارع .لكنني ما عدت
أحبه اآلن!!
ً
كيف أحب شارعا تحول رصيفه مأو ًى إلخوتنا السوريين ،يشحتوننا ويتوسلون
دراهمنا؟ كيف أمر بمحاذاتهم وهم يستعطفوننا دون أن يتمزق قلبي وينفطر على
ثورة هذه التي تحول شعبها
شعب كان وسيظل شمعة العرب وفخرهم .يا إلهي ،أي ٍ ٍ
إلى أشالء الجئين وأسراب شحاتين؟ أي ثورة ملعونة هذه التي عاثت في سوريا
ً ً ً
العروبة تذبيحا وتشريدا وقطعا للرؤوس وأكال لألكباد والقلوب؟
بيت أماليا هذا الصباح ،مررت على مكتبة األلفية الثالثة بشارع
في طريقي إلى ِ
محمد الخامس ألبحث عن كتاب اميل دوركايم ''االنتحار'' .لكنني لم أجده،
وعدوني في املكتبة أنهم سيحضرونه لي في ظرف أسبوع.
هارب من قصص الحب التي كبطل ٍٍ عند باب مززل أماليا في حي الليمون وقفت
حكم التاريخ والسياسة بفشلها .طرقت الباب بارتباك ،أحسست أن أناملي
ترتعش وكأنها تعارضني في هذا القرار الجنوني الذي اتخذته .وكأنها كانت تسألني
أسترتمي في أحضان أماليا فقط ألنك لم تجد امرأة غيرها تفتح أحضانها لك؟
وملاذا الزواج! أ بعد أن هربت من كل النساء العربيات الالئي أحببنك تسقط في فخ
الزواج من إسرائيلية؟
ً
فتح الباب ليوقف سيل األسئلة املتناسلة في فكري ،أطلت علي أماليا ،تلبس ثوبا
ً
صاف ازداد بياضا وهو يغرق وسط شعرها األسود الذي وإن حريريا أبيض ،بوجه ٍ
ً ً
كان فوضويا غير مرتب إال أنه بدا مغريا شهيا برائحته التي سبقت أماليا إلي ...
][81
عانقتني كطفلة وجدت دميتها املفقودة ،رمت ثقل جسدها علي ،تعلقت بعنقي
ً
وصدري حتى صارت أقدامها مرفوعة عن األرض .اكتشفت أن أماليا أقصر قليال
مني ،ربما ألن قدميها حافيتان وهي التي ال تغادر األحذية العالية الكعب.
ْ
طبعت قبلة حارة على شفتي ثم قالت لي:
ْ ً
سمعت؟ خلقنا -خلقنا لنكون معا رغم تفاهات التاريخ وأخطاء أجدادنا...
ً
لنكون معا ،أنا وأنت؟
ً ً ْ
سرقت نظرة خفيفة من عيني ،ثم عادت لتعانقني ،كنت صامتا ،باردا ال أعرف ما
انتبهت أننا ال زلنا عند الباب ثم دعتني للدخول وهي تمسك يدي اليمنى ْ أقوله.
كطفلة ترفض أن تفارق يد أبيها.
أغلقت الباب برفق ،ضغطت على زر قريب من الباب زاد في إضاءة الشقة التي ْ
كانت تسبح في أضواء خافتة ...طلبت منها أن تترك اإلضاءة كما كانت ،فكثرة
الضوء لطاملا أشعرتني بفراغ نفس ي أجهل أسبابه.
تركت جسدي يجلس على األريكة التي تتوسط مدخل الشقة ،التي الزالت كما هي
قبل خصامي مع أماليا ومغادرتي شقتها منذ أكثر من شهر .لم تزل أعينها عن
عيني ،كانت تبدو وكأنها تسجل كل مالمحي في ذاكرتها بكل دقة .شعرت بارتباك وأنا
ً
أعلم أنها تنتظر مني جوابا على طلبها أو قرارها املصيري في أن نكون معا لألبد أو ال
نكون .كنت أسأل نفس ي هل سنتخاصم مرة أخرى أم أنني استسلمت لرغبة أماليا
في أن نكون معا إلى األبد؟
جلست مالصقة لي على األريكة تدفع صدرها ووجها نحوي وكأني فريسة تتربص بها ْ
الفتراسها .تحاشيت النظر إليها ،تركت حواس ي تغرق في رائحة شعرها وعطرها
الفتاك الذي قض ى على كل كلماتي وأخرس صوتي كأنه سالح كيماوي أردى رزانتي
ً
وعقلي قتلى لتبقى وحدها حواس ي الرجولية واقفة منتصبة لالشتباك بجسدها
األبيض الناعم ومالمحها الجميلة املغرية.
][82
دفعت أناملها لتراقص مقدمة شعري في الوقت الذي استنجدت فيه بسجائري
البيضاء .قالت لي:
-ما ِبه حبيبي العربي ال يريد الحديث معي؟
اندفع صوتي بشراسة وكأنني أستجمع قواي التي انهارت أمام سيف أنوثتها ألجيبها:
-هنا يكمن الخلل في قصتنا يا أماليا ،أنني عربي ِ
وأنت إسرائيلية...
ً
ألقت بقفاها على ظهر األريكة متذمرة وهي تقول:
ً
-تبا ،لقد عدت من جديد ألسطوانتك القديمة ،السياسة والحروب
والتاريخ وإسرائيل والعرب ووو...
أدارت وجهها بعنف نحوي ثم أردفت:
-أال يمكنك أن تنس ى كل هذه املبادئ واألفكار املثالية التي جعلت منك
مشردا تعيش على هامش الوطن وعلى هامش الحب وعلى هامش
الحياة ...وعلى هامش كل ش يء؟ أال ترى أنك تضيع كل ش يء جميل في
حياتك .أنا ِمن إسرائيل نعم ،ولكن لست أنا من يحتل فلسطين .لست
أنا من دمر أمالك في وطن عربي موحد وذو كرامة ،لست أنا من صنع
مأساتك ومأساة رفاقك مع الوطن والحياة والقدر .ربما أنا هدية القدر
كل منا يستحق لك ،كي أنقذك من هذا الضياع على سفينة الحبٌ ...
الحب ،أنا وأنت نستحق هذا الحب بعيدا عن حروب أهلينا ومعاركهما،
دعهم يتحدثون باللغة التي يفهمونها ،لغة البنادق والرصاص
واملفاوضات التي ال تنتهي وتعال أتحدث أنا وأنت بلغة العشق والحب
ْ ً
الذي ال منطق له .قلبي الذي لم يخفق يوما ألناشيد ه ِتكڤاه وهافا
ناغيال اإلسرائيلية ،ها هو يخفق لك أنت وحدك منذ سنين ...
][83
ْ ً
صمتت للحظات وكأنها لم أجبها ،ظللت شاردا وهي ظلت تتطلع إلي في حزن.
تستجمع كلماتها ثم قالت لي:
-كم أنا غبية ،عندما رأيتك عند الباب ظننت أنك اتخذت القرار ،وأتيت
ً
موافقا على زواجنا...
ً
أجبتها مقاطعا:
ً ً
-أنا فعال أتيت موافقا على فكرة الزواج...
-إذن ماذا بك؟ متردد ،نادم؟
تك عندي ولكنني غير قادر على -ال هذا وال ذاك يا أمالياِ ،
أنت تعلمين معز ِ
تقبل هذا الواقع املنافي ملبادئي ،املنافي لعقلي ولجسدي حتى ،ال أستطيع
شفتيك وأمتص رضابهما دون أن تمر في ذهني صورة ِ وضع شفتي على
أحضنك دون
ِ طائرة إف 01تقصف أهلي بغزة أو الضفة .ال أستطيع أن
أن أتخيل أن اآلالف من الفلسطينيين يحتضنهم ركام منازلهم التي دمرها
أهلك ...كيف لنا أن نتزوج وأن ننجب أبناء؟ ماذا سأسمي أبناءنا ِ
مناحيم وغولدا وشارون وبيرتس على أسماء من دمر وحرق الشعب
العربي؟
قفزت من مكانها لتجلس على األرض بين ركبتي ،وضعت يديها على وجهي ثم قالت
دمع في عينيها:
وهي تصارع بداية ٍ
-أنا لست إسرائيلية يا طارق؟ من اليوم أنا لست إسرائيلية ...وكل ما
تريده سأفعله ،أسمعت ،كل ما تريده سأفعله .سأمزق جواز سفري
اإلسرائيلي سأمزق علم إسرائيل وأدوسه بقدمي إن شئت سأحرق نجمة
ً
داوود حتى ...املهم أن نكون معا إلى األبد ،أنا ال هوية وال وطن لي بعد اآلن
سوى أنت يا طارق.
][84
جذبتها إلي وعانقتها ،حينها انهارت وبدأت تبكي كطفلة ...شعرت أنني قسوت عليها،
وأنها ال تستحق كل هذا العذاب في قصتنا .ال أعرف ملا حينها فكرت في ليلى والفرق
بينها وبين أماليا .ليلى لم تعد لي وال هي حاربت كل ما يفرقنا لتبقى معي ،على عكس
أماليا التي تتمسك بقصة حبنا الالمنطقي بكل جنون .أنا ال أملك إال أماليا اآلن ،ال
حب لي اآلن سوى أماليا .ربما القدر أبقاها لي لتكون الوحيدة التي ستنقذني من
وحدتي ومن مأساتي .ربما مأساتي مع الوطن لن تشفيها إال ابنة عدو الوطن.
مسكت وجه أماليا بين يدي ومسحت عينيها الزرقاوين ببنان أصابعي ،قبلت
جبهتها ثم قلت كي أخفف حزنها:
-متى سنتزوج إذن؟
ابتسمت بالتدرج ثم صرخت بهيستيريا ،وانطلقت تقفز من الفرح .ردت علي:
ً
-لوال أن العرس يلزمه استعداد مسبق لقلت غدا...
-استعدي كما تشائين يا عزيزتي.
من فرط سعادتها بدأت تسألني وتسأل نفسها من سندعو لزواجنا وماذا سنعد له
وأين ومتى سنقيمه.
-ما رأيك في أواخر الشهر املقبل ،شهر ماي؟ ما رأيك أن نقيم العرس
بباريس أو روما أو في الرباط إن شئت؟
بقيت أنظر إليها مبتسما ،وهي واقفة تعد علي كل ما علينا عمله استعدادا
للعرس ...غرقت في مونولوج داخلي وأنا أتتبع حركات شفتيها ،سحبني فكري إلى
أيام الجامعة حيث كنت أبدأ يومي وأنهي مسائي على صوت ليلى وأحضانها
الدافئة .أمعقول أن يكون ''بلزاك'' صادقا عندما قال إن الحب رجل وامرأة
وحرمان؟ أمعقول أن أزف المرأة غير ليلى؟
][85
ْ ْْْْ8
الدار البيضاء 01-أيار/ماي 2015
قبل أن يبدأ اجتماع رفاقنا في مكتب ناصر هذا املساء انشغلت في الحديث عن
عرس صديقتنا حليمة مع نزهة وبركات ،كنت أحاول استرجاع كل ِ تفاصيل
تفاصيل ذاك العرس عس ى أن يخبراني بما قاله طارق أو سمعاه عنه في غيابي،
حتى سمعنا ناصر يصيح بحماسة:
-تحية حارة لكل الرفاق .أقترح قبل أن نمر ملناقشة اآللية التنظيمية
للحركة كما هو مقرر الجتماعنا اليوم أن نفتح مجاال وللمرة األخيرة
ملناقشة أرضية مبادئ الحركة .ما رأيكم؟
ً ْ
تدخلت نزهة مستغربة:
-أظن أننا اتفقنا على مبادئ الحركة في اجتماعاتنا السابقة ،اآلن يجب
على اللجان أن تبدأ عملها.
رد عليها ناصر:
-بعضنا الزال يتحفظ على البعض من املبادئ يا نزهة.
ً
ثم التفت إلى بركات قائال:
-بركات ،أي مبدأ الزلت تتحفظ عليه؟
صاح بركات بصوته الجهوري:
-املبدأ الثالث'' :تؤمن حركة ''نحن نستحق'' أن املؤسسة امللكية صمام
أمان للشعب املغربي وهي الضامن الحقيقي لسالمة الوطن واستقراره
السياس ي وهي في نفس الوقت الفاعل األساس ي في تخليق وإصالح الحياة
][86
السياسية وكذا اإلشراف على اإلصالح الثقافي والفكري باململكة .لذلك
ف ''حركة نحن نستحق'' ترفع كل مطالبها إلى امللك بالدرجة األولى'' .هذا
نزين صورته املبدأ لم يرق لي ،فيه مهادنة جبانة اتجاه النظام وكأننا ِ
ونخرجه من مسؤولية االستبداد وانسداد األفق السياس ي باملغرب .هذا
املبدأ عليه أن يزول...
][87
-أنا أتفهم بركات في فكرته ،هو ليس ضد املبدأ ،هو مع فكرة أن نواجه
ً
احة فيها ٌ
لبس األحزاب الحالية ال النظام امللكي لكن صياغة املبدأ صر
نحمل النظام امللكي أي مسؤولية فيما
ما ،من يقرأ املبدأ سيظن أننا ال ِ
يجري في الساحة السياسية .أنا أعتقد إذن أن نصحح الصياغة.
بصوت هادئ:
ٍ رد ناصر
-حسنا يا جماعة ،ماذا تقترحون لنصحح الصياغة.
ً
أدار يوسف وجهه ناحية بركات ثم دفع كتفه ممازحا:
-هي يا رفيق ،أعطنا صياغة جديدة للمبدأ.
][88
ً
التفت ناصر إلى عبد الصمد ضاحكا:
][89
على العكس يا ليلى ،حركتنا من املفروض أن تحمل مطلب اإلصالح
الفكري والثقافي إلى جانب حل األحزاب وتغييرها.
قبل أن أتدخل ألشرح وجهة نظري ،قاطعني ناصر:
-اسمعوا ،اسمعوا ،لن نضيع الوقت في نقاش كل ش يء .علينا أن نتقدم
في عملنا ال أن نعود للوراء .أوال ،نحن اآلن متفقون جميعا على مبادئ
الحركة بعد صياغة بركات الجديدة .أليس كذلك؟
ً
صاح الجميع قائال ''نعم'' ،ثم نظر إلي:
-ليلى توافقين على املبادئ؟
-نعم أوافق.
-جيد ،بخصوص مطلب اإلصالح الفكري والثقافي لن نناقشه ،سنطرحه
ثان للحركة؟
للتصويت .من يوافق على اإلبقاء عليه كمطلب ٍ
ً
رفع الجميع يده موافقا على إبقاء املطلب الثاني ،باستثناء بركات .تطلع إليه ناصر
ً
ساخرا:
ً
-لم ترفع يدك تضامنا مع أستاذتك يا بركات؟
رد عليه بابتسامة خفيفة:
-أبدا ،بل ألني أراه مطلبا سابقا ألوانه.
التفت ناصر إلى نزهة ،غمزها ثم قال:
-ليلى وبركات يشكالن اليوم جبهة املعارضة.
ضحك الجميع ثم أردف ناصر:
][90
-أربعة أصوات مع بقاء املطلب وصوتان ضده .الديمقراطية واضحة،
سنبقي على املطلب.
يقلب في أوراقه ثم طلب منا أن نطالع خطة العمل قائال:
أخذ ِ
-خطة العمل تقتض ي في البداية إنشاء أربع لجان ،لجنة الدراسات
ستقوم بإعداد امللف القانوني ملطالب الحركة وكذا الدراسات النقدية
للعمل السياس ي في املغرب هذه اللجنة ستترأسها ليلى املرابط بحكم
تخصصها .لجنة اإلعالم والعالقات العامة ستقوم بإعداد بيانات
الحركة ونشراتها الصحفية وكذا الخطة اإلعالمية هذه اللجنة ستترأسها
نزهة صادق التي ستكون الناطق الرسمي باسم الحركة .لجنة تنظيم
التظاهرات ستقوم بإعداد أفكار وخطط التظاهرات سيترأسها بركات
طارق ،لجنة املكاتب املحلية ستقوم بإنشاء تنسيقيات الحركة بمختلف
مدن املغرب وضبط البنية الهرمية للحركة ،سيترأسها عبد الصمد
ً
مرشد ثم أخيرا لجنة الدعم واللوجستيك سيترأسها يوسف غرادي.
أوراق الخطة توضح كل تفاصيل عمل اللجان.
تركنا نقرأ أوراق الخطة لدقائق ثم عاد ليقول:
-أعتقد أن كل ش يء واضح.
ً
صاح يوسف متسائال:
-ملاذا املكتب الوطني للحركة مكون منا نحن الستة فقط؟
رد عليه ناصر بسرعة:
-لكي ِ
نحصن الحركة من االختراقات ،لن نسقط في أخطاء الحركات
الشبابية السابقة .املكتب الوطني للحركة هو الوحيد الذي يتخذ
][91
القرارات ويوجه الحركة ويتفاوض باسمها ،وأعضاؤه هم نحن فقط ،لن
نقبل بأعضاء جدد.
سألته نزهة هذه املرة:
-وإن أراد عضو جديد االنضمام للحركة؟
رد عليها ناصر:
-اقرئي خطة الحركة جيدا ،لكل عضو جديد الحق في االنتساب
للتنسيقيات املحلية للحركة أو للجانها التنظيمية .لكن ليس باملسموح
له االنضمام إلى املكتب الوطني.
-لكن في هذا إقصاء للشباب؟
نغلب مصلحة الحركة ونحميها من االختراقات .ثم نحن -يا رفيقتي ،نحن ِ
لن نتخذ القرارات بانفراد بل سنستشير الجميع قبل اتخاذ أي قرار يهم
مستقبل الحركة.
ظللنا نناقش خطة عمل الحركة لساعات طويلة قبل أن ينتهي اجتماعنا بلمسات
من الضحك الصاخب والكوميديا السوداء كعادة الرفاق في كل لقاء .أدهشني
زمن بعيد ،وكم تمنيت لواندماج بركات مع رفا ي القدامى وكأننا كنا نعرفه منذ ٍ
عرفته أكثر على نجيب وفيصل وطارق.
ً
عندما هممت بمغادرة الرفاق ،أمسكني ناصر من يدي قائال:
-ليلى ،أريدك في موضوع.
رافقني إلى باب مكتبه وهو يتريث في مفاتحتي في موضوعه ،سألني أوال عن طارق
وأحواله قبل أن يقول لي:
][92
أيك لو طلبنا انضمام طارق ولد الخيل للحركة؟ هو شخص ذو -ما ر ِ
كفاءة وتجربة طويلة في التنظيمات السياسية كما أنه رفيقنا ويشاطرنا
نفس التوجهات؟
ً
فكرت طويال قبل أن أجيبه:
-لست متأكدة أنه سيرغب في االنضمام إلينا ،طارق يعيش حالة ارتباك
نفس ي واجتماعي حاد جدا هذه األيام.
-وما الجديد ،لقد عهدناه هكذا منذ قرابة عشرين سنة...
لم أجبه ،لذت بالصمت وأنا أقول في قرارة نفس ي :ال أحد يعلم ما بداخل طارق
سواي ،لقد ولد وحيدا في هذه الحياة وسيبقى وحيدا.
قاطعني مصرا:
أنت بموضوع حركتنا؟ -ما رأيك أن تخبريه ِ
ً
أجبته وأنا أهم بفتح الباب مغادرة:
ً -ح ِد ْثه أنت على الهاتف أوال وأنا سأدبر لكما ً
لقاء قريبا هكذا أحسن.
مساؤك سكر رفيقي.
رد علي مبتسما وهو يشير لي بتحية النصر:
-حسنا ،تحياتي رفيقتي.
][93
ْ ْْْْ9
الرباط 0-حزيران/يونيو 2015
ْ
صاحت مها وهي تقف أمامي وتنظر إلى باب املطعم الزجاجي:
ً
-ها قد حضر صديقنا الشيوعي أخيرا...
ً
التفت ألرى سعيد السالك يدخل متثاقال من باب املطعم وعلى وجهه ابتسامة
عريضة ،هو دائما يسخر من الواقع بابتسامة يسميها ابتسامة الخديعة ،يخدع
بها قدره كما يقول.
صاح قائال عند اقترابه منا قبل أن يطلق ضحكته الصاخبة:
][94
ً ً
-ومتى لم أكن محبطا وحزينا ...أنا كائن حزين كما تعرف.
ً
-هذا ليس بجديد علي ولكن ِصدقا هل أنت بخير؟
ادعيت انشغالي بإشعال سيجارة كي أفكر بما أجيبه .هل أخبره؟ أم أتجاهل
ً
سؤاله؟ أجد صعوبة في مشاطرة حياتي الخاصة لذلك أجبته مراوغا:
-دعك مني اآلن ،قل لي أنت؟ أين غبت كل هذه املدة؟
-آه يا عزيزي ماذا أقول لك؟
-ما دمت قد بدأت باآله فإما أنك مشتاق ألملانيا أو أن هناك امرأة ما
تشغلك.
ً ً
-صراحة ،االثنان معا يا طارق.
فسر...
ِ -
ً
قبل أن يهم سعيد بتفسير جوابه لي قاطعته مها سائلة:
-ماذا تشرب يا صاحب الكلخوزات؟
رد عليها سعيد بسرعة دون أن ينظر إلى وجهها:
-قهوة فقط ،الفازا من فضلك.
استجمع أنفاسه ثم قال لي:
ً ً
-أشعر أن قرار عودتي للمغرب كان قرارا خاطئا ،أشتاق ألملانيا ،بالرغم
أنني لست سوى مهاجرا فيها إال أنها تشعرني باالستقرار والحيوية .هناك
الكل يحترمك كإنسان ويقدر حياتك الخاصة وطموحاتك .أتفهمني يا
طارق؟ املغرب بالرغم أنه بلدي إال أنني أشعر بنفس ي في غربة هنا ،كأنني
][95
ً ٌ
فرد ال قيمة له وسط كل هذا القطيع الكبير .ال أشعر بتاتا أن هذا
الوطن يعرفني أو يكترث لي حتى ...أكاد أختنق هنا يا صديقي.
ٌ
-ال جديد في قولك ،املغاربة كلهم يختنقون في هذه البالد .هناك لعنة ما
ً ً
في أن تكون مغربيا أو عربيا في وقتنا الحاضر.
صمتنا لدقائق ،ثم عدت لسؤاله:
-ال أفهم ِ
لحد اآلن ملاذا عدت من أملانيا !!؟
-عدت من أجل الحب ،رجعت كي أبحث عن أسماء كما تعرف.
-وها أنت قد وجدتها كما ال تشتهي .اعتقدت أنك ستجد حبيبتك
الشيوعية بأيام الجامعة كما هي ،فوجدتها قد أصبحت رأسمالية تؤمن
بالربح والتجارة في كل ش يء.
عال من سخرية أقدارنا وعبثها وأنا أرى في سعيد مثال كل أولئك
بصوت ٍ
ٍ ضحكت
الذين خرجوا من الجامعة بآمال النضال في الحياة ومشاريع املستقبل فلم يلبثوا
ْ
وانكسرت أمانيهم. أن تاهوا في دوامة الزمن
لجأ بخيبته إلى فنجان القهوة الذي تركته مها بمحاذاته .كان يرتشف القهوة حينا
ويتيه في سوادها حينا آخر كأنه يحاور فنجانه ،ينشر على حباله غسيله الداخلي
عساه يجف من مياه مأساته.
عاد لحديثه معي ،بصوت مرتبك ،قائال:
ً
-صراحة يا طارق ،ال أصدق أن أسماء التي كانت تناضل ضد الرأسمالية
وتصف البرجوازية باملتعفنة قد أصبحت مادية وتزوجت من رجل ال
يجمعها معه سوى فيالته وسياراته وحساباته البنكية املتخمة .تخيل
][96
أنها قالت لي عند عودتي ''لو كنت قد عدت من أملانيا وأنت أغنى من
ً
خطيبي ،لكنت فسخت خطوبتي فورا ألتزوجك''.
ً
ابتسم بألم وعاد لفنجانه .ألجيبه مهونا:
-ال عليك يا صديقي ،اليسار عموما ابتلي بأشباه مناضلين يعانون من
قطيعة وجودية مع املبادئ التي يعلنونها ،يعانون من داء السفسطة،
يدافعون عن األفكار ونقيضها حسب موقعهم في الحياة .لقد سقط
اليسار يا رفيقي وسقطت املاركسية...
صاح بزرفزته املعهودة كلما قلت له أن املاركسية سقطت:
-قلت لك ألف مرة إن املاركسية لم تسقط ،املاركسيين هم من سقطوا...
-عن أي ماركسية وماركسيين تتحدث يا سجين رومانسية السبعينات؟
املاركسية أصبحت ماركسيات يا رفيق ،ماركسية لينين ليست هي
ماركسية ماو وال ماركسية ستالين وال ماركسية تروتسكي ،أصبح لكل
منظر ماركس ي ماركسيته وأتباعه ،ألتوسير وغرامتش ي وبليخانوف
ولوكاتش وكارل كورش لكل من هؤالء ماركسيته ،ألم يقل ماركس
عندما علق على ماركسية الحزب العمالي الفرنس ي إذا كانت هذه هي
املاركسية فأنا لست ماركسيا.
رد علي بعصبية:
-على أساس أنكم أنتم القوميين العرب حافظتم على فكر واحد ومشروع
واحد ،كل النظريات تجد طريقها إلى التشتت والتشويه عندما تززل
للواقع .ثم إن اختالف املاركسيين فرضته تعقيدات الحياة السياسية
واالقتصادية وضرورات القرن العشرين بما فيها من تطور قوى اإلنتاج
][97
ومقدرة الرأسمالية على تجاوز أزماتها وتناقضاتها وتراجع شروط قيام
الثورة...
-بل قل فشلت املاركسية في رهاناتها ،الرأسمالية لم تسقط والصراع
الطبقي لم يوصلنا إلى تفجير ثورة البروليتاريا وطبقة العمال والكادحين
تراجع لديها الوعي الثوري وماركس ي اليوم واليساريين أصبحوا أبعد مما
تتصور عن املادية التاريخية واملادية الجدلية ...هذه هي الحقيقة يا
رفيق.
قاطعتنا مها بصوت خاف ٍت كأنها تنبهنا لش يء ما:
-أوه عدتما من جديد لتناطحكما ،ال تكاد تمر دقائق على لقائكما حتى
تتناطحان كالديكة بأحاديثكم املاركسية والقومية...
لم يجبها أحد منا ،لكنني تساءلت مع نفس ي لم في كل مرة ألتقي فيها أنا وسعيد
نفتح مواضيع األمس وصراعات املاركسيين واليساريين مع محنة التاريخ ،ابتسمت
بمرارة وأنا أتذكر سخرية ''جورج أورويل'' من اليساريين في روايته مزرعة
الحيوان.
تركت سعيد يحتس ي قهوته على مهل وهربت ببصري بعيدا حيث تجلس امرأة
بفستان أسود جميل في طاولة تتوسط املطعم .تطلعت إلى مالمحها الجميلة، ٍ
ٌ
عينان هادئتان يطل فوقهما حاجبين رقيقين ينسدل إلى جانبهما شعر غجري
كليل الصحراء ...هذه هي املرأة التي تحضر كل مساء إلى املطعم منذ شهور ٌ
أسود ِ
ً
طويلة تنثر جمالها ومرحها على املرقص وحيدة ثم تمض ي.
سمعت سعيد يقول ملها:
-مها من فضلك ضعي لنا أغنية الشاب خالد ''ياد املرسم'' واحضري لي
زجاجة كازابالنكا
][98
لحظات قليلة حتى تصاعدت في املطعم موسيقى الراي الراقصة وبدأ سعيد
يدندن مع كلماتها.
-أين ذهب فكرك؟
قطع صوت مها لحظات شرودي في مالمح صاحبة الفستان األسود ،فأجبتها:
-ذهب عند تلك التي تلتحف بالسواد في هذه الليلة...
-تقصد رجاء الغالي؟
-تعرفينها؟
-كل ما أعرف عنها هو اسمها وأنها مغربية مهاجرة في كندا وتحضر
للمطعم كل مساء منذ شهور ،يبدو أنها في عطلة...
في تلك اللحظات عمتني أفكار كثيرة وذكريات ثقيلة أوغلت بي في مشاعر الوحدة
ً ً
والضياع ،لم أشعر بنفس ي حتى وقفت مغادرا قائال:
-ماهي وسعيد ،سيكون لنا مساء آخر ،ربما غدا...
قبل أن أغادر الباب سمعت صوت سعيد يصيح مع كلمات الشاب خالد بنبرة
حزينة:
'' ..ما نعشق ما نقول ها نسوان غير ال كان عشرة الجبانا
وإال كان تحيط في الكفان ،آخرة الحيين للـ ـفان ـا'' ..
][99
ْ ْْْْ11
الدار البيضاء 81-حزيران/يونيو 2015
ملحت بركات يمر بجانب اإلشارة عند ملتقى شارع الزرقطوني والروداني .بدا
ً ً
شاردا ،نظراته تائهة في الطريق الذي يمش ي عليه .تذكرت أنه في الفصل كان أيضا
ً ً
شاردا ،حاضرا بجسده فقط .ضربت املنبه مرتين لكنه لم يستدر .أخذت هاتفي
ً
واتصلت به فجاءني صوته مشتتا:
-ألو ...أستاذة ليلى.
-ارجع ،أنا وراءك في سيارتي الواقفة في اإلشارة الضوئية .ضربت منبه
السيارة لك لكنك لم تنتبه.
ً
-حسنا.
استدار في مكانه يبحث عن سيارتي قبل أن أحرك اإلشارة الضوئية كي أساعده
وسط زحام السيارات التي تنتظر إشارة املرور .تقدم بخطى سريعة عندما رآني،
فتح الباب ثم صعد.
صحت في وجهه:
-فيما كنت تفكر ،ضغطت على منبه السيارة ثالث مرات لكنك كنت
ً
شاردا.
ً
أجابني مبتسما:
-ال ش يء ،لم أسمع املنبه وسط هذه الزحمة.
ً ً ً
-تبدو هذه األيام مختلفا ،ملحتك في الفصل شاردا أيضا .ما بك؟
][100
أنت تعرفين أنني مسؤول عن إعداد مخطط -ربما انشغالي بالحركةِ ،
املظاهرات .لم يبق سوى أقل من شهرين كي تنطلق مظاهرات الحركة.
ملحت في عينيه مراوغة في جوابه ،لكنني لم ِأرد إحراجه أكثر .بعد إشارة الضوء
األخضر تركت السيارة تمض ي بنا في شارع إبراهيم الروداني الذي بدا ممتلئا عن
آخره بالسيارات ...كانت الحركة كثيفة ،كل تائه في طريقه يسابق الزمن ،تخيلت
الدارالبيضاء ميتروبوال يبتلع الناس وقيمهم اإلنسانية ويجعلهم آالت تدور وتدور
لجمع املال وصرفه في حاجيات بيولوجية فانية.
-أين يوجد بيتك يا فتى؟
نفسك أستاذة ليلى ،انزليني فقط في ساحة لعوينة ،سآخذ
ِ -ال تتعبي
تاكس ي من هناك إلى البيت.
ً
نظرت إليه قاطبة حاجبي في الوقت الذي رمقت فيه قطرات مطر خفيف بدأت
تتساقط على زجاج السيارة ،استغربت من هطول مطر خفيف في بداية الصيف،
ثم قلت له:
لصديق
ٍ -مع هذا املطر لن أتركك للشارع وللتاكسيات ،كما أنني في حاجة
أحادثه هذا املساء .هيا قل لي أين بيتك؟
ً
أجابني مستسلما:
-في حي النسيم.
-أين يوجد هذا الحي؟
ً
ابتسم متهكما ثم قال لي:
-اذهبي إلى عزبان وهناك سأريك الطريق.
أجبته مدندنة برأس ي:
][101
ً ً
-حسنا ،حسنا ،عزبان بالقرب من جامعة الحسن الثاني ،سآخذ طريق
الجديدة ثم الطريق السيار ...أليس كذلك؟
-نعم ،لم تحفظي شوارع البيضاء بعد؟
-أنت تعرفني رباطية .حياتي كلها كانت في الرباط ،واآلن أحاول التأقلم مع
هذه املدينة الغول.
-ناس الرباط ال يحبون البيضاء ...ملاذا ِ
قررت السكن فيها؟
شعرت مع سؤال بركات بغصة حزن تجتاحني ،لم أكن أظن يوما أنني سأغادر
الرباط تلك املدينة التي القتني بطارق وجمعتني به .رميت نظري على الطريق
املزدحمة ،نصف ساعة ولم نخرج بعد من شارع الروداني .ما إن اجتزنا ملتقى
شارع غاندي والروداني حتى تركت السيارة تجري بسرعة ،تبتلع الظالم الذي
سقط مع املطر ...التفت لبركات كي أجيبه:
ً
-أنت تعرف ،زوجي يقطن بهذه املدينة كما أن عملي أصبح فيها هو أيضا.
ً
يعقب على كالمي ،رأيته بطرف عيني ينظر من زجاج النافذة إلى الشارع تائها. لم ِ
كان في نظراته ش يء ما يستفزني ويثير فضولي.
ً
سألته محاولة إخراجه من شروده.
-أتحب سماع هبة قواس؟ لدي قرص أغانيها في السيارة
ً
أجابني مستغربا:
-هبة قواس؟ ال أعرفها.
-ال عليك ،هي مطربة غير معروفة كحال كل رواد الفن امللتزم ...سأجعلك
تتعرف عليها اآلن.
][102
دفعت يدي اليمنى للبحث عن قرص األغاني في الدرج املحاذي للمقود ثم وضعته
في جهاز املوسيقى .كانت السيارة تدخل بنا في الطريق السيار باتجاه جامعة
الحسن الثاني عندما صدح صوت هبة قواس في السيارة.
ْ
أشممت ِعطري حين قلت تحبني
الورد على جسدي ْ
كيف تفتحت أكمام ِ
يقظتني "عيناك" في الحل ِم رفة جناح ْي ِن أ ْ
أعانقك وأنت في ْ
الغفو ِة ِ
ترنو وال أ ْرتوي من ضم ِة ْ
العم ِر
مياه ت ْزهر من ْ
صحرائي سبيلي إليك ٌ
ِ
ٌ ْ
من ع ْمري ر ْعشة ْأم خدر !...
ٌ ْ
ص ْوتك دغدغة املط ِر ر ْعشة ْأم خدر
ً
التفت إلي بركات مستغربا:
-يا سالم ،كيف لي أال أعرف هذه املطربة؟
ً
-هذه هي الحياة يا صغيري ،تعرف شيئا وتغيب عنك أشياء.
ٌ
لك بالتعرف على هبة قواس إذن ...لقد صرت أحد عشاقها. -أنا مدين ِ
ً ً
نظرت إليه مبتسمة ثم سألته مستغلة جوابه:
-بإمكانك أن تؤدي دينك اآلن لي.
ً
التفت بسرعة من جديد قائال:
-كيف؟
][103
-بأن تقول لي ما الذي يشغل بالك؟
ً
تنهد بعد برهة صمت ثم قال مستسلما:
ً
-حسنا ،استرجعت ذكريات ذلك اليوم الذي التقيت فيه برفاقك في
عرس صديقتك حليمة.ِ
-لقد مر ٌ
زمن على ذاك اليوم ،لم تتذكره اآلن؟
ً
-ذاك اليوم بعثر أوراق الحياة في داخلي ،جعلني أحفر في ذاتي بحثا عن
معنى الوطن والحياة وااللتزام بقضية األمة العربية ...كنت أظن أنني
سأجد رفا ي القوميين العرب يملؤهم الحماس واألمل في بعث هذه األمة
ً
من جديد لكنني وجدت أشخاصا مبعثرين وتائهين لم أكن أعلم أن
نفسية القومي العربي هي بالضرورة متأزمة كأزمة الوطن العربي.
كنت أنظر إلى الخطوط البيضاء في الطريق وهي تتسابق لتتوارى تحت السيارة وأنا
أفكر في كالم بركات .خمنت أنه يسلك نفس الطريق التي سلكها طارق قبل
عشرين سنة ،هو اآلخر بدأ يتوه وتستززفه قضايا الوطن.
ً
صمت ردحا ثم استطرد قائال وكأنه قرأ أفكاري:
-أتعلمين يا أستاذة ليلى؟ شخصية طارق أشعرتني بخوف مهول من
الحياة واملستقبل ،حزنه العميق استفز أمالي...
شعرت بارتباك عندما ذكر اسم طارق ،كنت غير مصدقة أن يكون بركات قد
نطق اسمه وتأثر بشخصيته فسألته كما لو كنت أبحث عن تأكيد منه:
-طارق من؟
فجاءني رده السريع:
-طارق ولد الخيل.
][104
ً
أجبته مصطنعة عدم االهتمام بذكر اسمه:
ً
-آه ،حسنا
ً
ثم أردف قائال:
-شخصية ذاك الرجل مثيرة ،من بين كل الرفاق الذين تعرفت عليهم ذاك
اليوم هو وحده الذي جعلني أدخل في دوامة وجودية.
ً
سألته مبدية اهتماما هذه املرة:
][105
ً
أحالم أن يغرقا شخصا في حز ٍن عميق كالذي -كيف ملأساة ٍ
وطن وانكسار ٍ
يعيشه طارق؟
فاجأته بسؤال على جوابه:
-أال ترى أنك تشبه طارق؟
رد علي بثقة:
-ال أظن ،أنا على األقل يملؤني األمل في الغد وكلي تمرد على الواقع ...أما
هو فيبدو أنه استسلم للحزن وألمواج القدر.
تنهدت قبل أن أجيبه:
ً
-هو أيضا كان مثلك في بداية شبابه ،كان ممتلئا بالتحدي واألمل .لم يكن
يعرف سوى الثورة والنضال لتحقيق أماله والدفاع عن أفكاره .كان
ً ً
يأت بالنضال يأتي بمزيد من النضال'' ،كان وردة يقول دائما ''ما لم ِ
مزهوة بفصل الربيع لكنه استعجل الخريف وتساقطت أوراق أحالمه
ومبادئه .إنك تشبهه في كل ش يء حتى في ارتدائك للبدل السوداء ،في
ً
عصبيتك أيضا وفي عينيك اللتين تحتضنان الشرود على حافة الحزن...
وألن القدر غريب ويعيد نفسه فأنتما تحمالن ذات االسم ،كالكما طارق.
سألني بزرفزة:
-ما قصة هذا الرجل؟
ً
التفت إليه ورسمت ابتسامة وأنا أعلم في داخلي أن شخصية طارق تملكته بقوة.
أجبته وأنا أبطئ من سرعة السيارة كي أركز في كالمي معه أكثر:
جيل بأكمله مع أحالمه الضائعة .كان طارق في الجامعة يصارع
-إنها قصة ٍ
الدنيا بأكملها من أجل فكرة الوطن الذي يحلم به ،الوطن العربي
][106
املوحد من املحيط إلى الخليج ،كان يحلم باالشتراكية والحرية لكنه عند
بواقع آخر ال يؤمن بوطنه وأفكاره ،وجد
خروجه من الجامعة اصطدم ٍ ً
وطنا ال يعرفه وال يحلم به .عاش طارق صراعا مريرا في داخله مع كل تلك
األفكار واملبادئ التي آمن بها قبل أن يكتشف أنها كانت أوهاما في أوهام.
فهرب من كل ش يء ،هرب من الوطن ،من الحب ،من االنتماء ،من
الوجود ...فقد ثقته حتى في فكرة اإلنسان واإلنسانية .لم يبق أمامه إال
املوت .لكن حتى هذا رفضه .وحده الحزن فتح له أبوابه املشرعة على
الضياع والعذاب .أراهنك أنه اآلن يبحث عن وسيلة يحتال بها على
القدر كي يغادر هذه الحياة.
سألني باستغراب:
-وكيف تعرفين كل هذا؟
تجاهلت سؤاله ،لم أشأ أن يعرف بركات عالقتي العميقة بطارق .اكتفيت
ً
باالبتسام وأنا أقود السيارة في اتجاه الطريق السيار بوسكورة .سمعته يطلق زفيرا
ً
طويال قبل أن يقول لي بعد ثوان من الصمت:
-توقفي هناك من فضلك...
-هناك أين؟
-دوري على اليسار ،وتوقفي حيث توجد تلك املدرسة
-حاضر يا باشا.
أوقفت السيارة قرب مدرسة ابتدائية تحمل اسم توبقال دون أن أوقف املحرك،
أعدت تشغيل قرص هبة قواس قبل أن أتوجه له بالحديث:
][107
-اسمع يا بركات ،أعلم أنك تعيش دوامة وجودية بعد لقائك برفاقنا
القوميين وأعرف أن أمالك قد خابت فيهم ،لكن هذه هي الحقيقة.
القوميون العرب كلهم منكسرون ويعيشون الضياع .لكن في يدك أن
تبني أملك وحدك وتصنع الحلم الذي تريده ،كن أنت أملنا وواصل
طريقك.
ً
ظل صامتا ،كنت أنتظر منه أن يجيبني ،لكنه فتح باب السيارة ودفع جسده إلى
ً
الززول .مسكته من يده ،كانت ساخنة جدا ،تذكرت سخونة جسد طارق كأن نارا
موقدة تحت جلديهما.
قلت له:
-ما رأيك أن ترافقني كل يوم أحد للجري في شاطئ عين الذئاب؟ انقطعت
عن الرياضة منذ زمن وأبحث عمن يشجعني ملزاولتها من جديد.
ً ً
تطلع إلي مبتسما دون أن يجيبني ،فأردفت ضاحكة:
ً
-وسأعطيك نقطا جيدة في آخر السنة الدراسية.
ضحك ثم قال:
-ترشينني إذن...
-آه ،اعتبرها رشوة
عرضك ،ودون رشوة.
ِ -أقبل
-حسنا ،صباح كل أحد تجدني في انتظارك عند هذه املدرسة مع التاسعة
ً
صباحا.
ً
نظر إلي طويال قبل أن يقول:
][108
-اتفقنا...
أجبته بلطف:
-تصبح على خير يا فتى.
ً
أغلق الباب ثم دفع رأسه من النافذة قائال:
ً
-شكرا على التوصيلة الجميلة أستاذتي ،تصبحين على خير.
][109
ْ ْْْْ11
الرباط 18-تموز/يوليوز 2015
ْ
استلقت أماليا بجانبي على السرير ،التفت إليها ربما ألرى فيما تفكر حينها ...كان
ً ً
صدرها عاليا ،شاهقا ،أحسست بشعور يدفعني لتسلق هذا الجبل الشامخ
وامتطاء سفوحه .لكن نفس الصور بدأت تغزو فكري :أشالء شهداء فلسطين،
ً
أصوات الطائرات والبيوت املدمرة ....لقد أصبح جسد أماليا مسيجا بأسالك
مكهربة ،ال أكاد أملسه أو فقط أفكر في ملسه حتى تغزوني صور األلم واملعاناة التي
كالها الصهاينة لشعبي في فلسطين.
ورطة ساقها القدر إلي؟ بعد أن هزمت نفس ي وقبلت الزواج بأماليا يأتيٍ أي
ً ً
جسدي ليلفظ جسد أماليا كجيفة يأبى وصالها؟! هل جسدي أكثر وطنية وعروبة
ً
مني؟ أم أنه فعال أصبح عاجزا عن الغوص والسباحة في مياه أجساد كل النساء؟
ً
فكرة أن أصبح عاجزا أثارت هلعا في نفس ي.
فجأة ،أدارت أماليا جسدها لتنام على جانبها األيسر دون أن تنبس بكلمة .خطفت
ً
نظرة إليها فوجدتها مقابلة لي ،تضع راحة يدها تحت رأسها وتنظر إلي واستفسارات
كثيرة بادية على مالمحها.
ً ً
خافت بعد أن أخذت شهيقا عميقا:ٍ بصوت
ٍ سألتني
-هل ستبقى هكذا؟
ً
صمتت ،تظاهرت بعدم اكتراثي لسؤالها ،لتردف قائلة:
-ما سبب برودك معي يا طارق؟ هل تعاني من مشكل ال أعرفه؟ لم
أعهدك هكذا...
][110
ً
أجبتها مقاطعا بكبرياء:
-أنا بخير ،ال أعاني من أي مشكل.
][111
سمحت ،ريثما أرتب أوضاعي وأهدأ من
ِ -أريد أن نؤجل زواجنا يا أماليا لو
حالة الفوض ى التي أعيشها.
وان لم تجبني فيها ...شعرت بموجة حزن عميقة تجتاحها ،أشعرتني
ظلت صامتة لث ٍ
بذنب قاتل وندم على ما تفوهت به.
ٍ
ْ
نهضت فجأة من على السرير واتجهت إلى باب الغرفة ،شعرت برغبة في املناداة
عليها .كيف لي أن أتركها تنصرف بحزنها هكذا دون أن تناقشني وتصرخ في وجهي.
ْ
توقفت برهة لتسألني: لكنها قبل أن تغلق الباب وتغادر
-الزلت غير مقتنع بزواجنا يا طارق؟
أجبتها بسرعة وأنا أنهض متجها إليها حيث وقفت عند الباب:
ً
-ال ال أبدا ،ال تفكري هكذا يا أماليا .ال أريد إلغاء زواجنا بل تأجيله فقط.
-لألسف ،تأجيل زواجنا لن ينفعنا في ش يء .هذه حقيقة واضحة
كالشمس .تصبح على خير.
][112
ْ ْْْْ12
الدار البيضاء 81-أغسطس/غشت 8102
طيلة األشهر املاضية ،كان بركات هو مؤنس ي الوحيد في هذه الحياة ،كان هو ذاك
اآلخر الذي أناقش معه كل ش يء دون تحفظ ودونما تردد .لم أعد أشعر به طالبا
ً
عندي في املعهد بقدر ما أصبح صديقا قريبا لي .في كل مرة نلتقي فيها للركض
بشاطئ عين الذئاب ،نظل نتحدث في كل املواضيع ثم نلجأ بعد أن يتملكنا التعب
ً
إلى مقهى تاهيتي ،نأخذ قسطا من الراحة قبل أن نستكمل أحاديثنا التي ال تنتهي.
في كل لقاء لنا كنا نتحدث في السياسة والقومية العربية وموضوع الهجرة إلى كندا.
في مرة واحدة فقط أذكر أنه حدثني عن األدب والحب.
ً
كان ذاك اليوم مختلفا ،بدأ بالفلسفة واألدب لينتهي بآهات الحب وآمال االنتظار.
ً
حب جديدة بكل خوف ،تائها في بحر شعرت به مجروحا ،كذلك الداخل في قصة ٍ
العشق دون مرس ى.
قال لي بمجرد جلوسنا في املقهى:
-أال ترين يا أستاذة ليلى أن حوادث حرق النفس واالنتحار ارتفعت في
اآلونة األخيرة باملغرب؟
أجبته بقليل من االهتمام:
-االنتحار ظاهرة اجتماعية قديمة ،ما يثير الرعب هي حوادث حرق
النفس ،املسألة أصبحت ظاهرة تحتاج إلى دراسة عميقة...
-لقد اجتاحت الوطن العربي فكرة الجسد املحروق كقربان ذاتي لطبقة
ً
اجتماعية احتجاجا على الظلم واالستبداد هذا كل ما في األمر.
][113
-أنا أنظر لها من وجهة أخرى ،أرى أن حرق الجسد هو رغبة في تدمير
الذات التي لم تستطع هزم السلطة املتجبرة ،سلطة الحاكم واملجتمع
واملعتقدات ...هذا يشير إلى بداية تكون ظاهرة احتجاجية جديدة تطمح
لتفكيك املنظومة السياسية واملجتمعية السائدة واإلطاحة بكل
التمثالت الخاوية التي تتحكم في مجتمعنا.
-صحيح ،الفرد العربي انتقل من حالة الصراع مع الوجود وتمثالت
الوجود والعدم إلى محاولة إللغاء الوجود بأكمله من خالل تدمير الذات
التي قهرتها سلطة الدولة واملجتمع .إرادة الحياة في الفرد العربي تتحطم
وتتهاوى.
ً
-لعل شوبنهاور كان محقا ،لطاملا اعتقد أن إرادة الحياة أو فكرة اإلرادة
بصفة عامة هي سبب معاناة اإلنسان وأمله ،تصور لنا الوجود كخطيئة
وتصور لنا املعاناة واأللم كجزاء حتمي لخطيئة الوجود.
ً
-تبا للوجود ،كان أرسطو حكيما عندما آمن أن ألم الوجود ال نداويه إال
بالتراجيديا ،هي وحدها التي تداوينا بما أسماه التطهير من الوجود.
-كيف؟
قال لي بعد أن رفع يده اليمنى ليطلب من نادل املقهى الحضور ألخذ طلباتنا:
-املفكر املغربي ''كمال فهمي'' يقول أن في التراجيديا يشعر املتفرج
بالخوف والشفقة وهو يتابع املصير املأساوي للبطل ،الش يء الذي
يحقق ما يسميه أرسطو بالتطهير ،حيث يتم تفريغ االنفعال الذي يشعر
به املتفرج فيما لو كان في وضعية البطل املأساوية ويشعر بعد ذلك بنوع
من االرتياح يشبه ما يشعر به املريض النفس ي عندما يفرغ همومه
واضطراباته .خذي مثال شخصية أوديب في مسرحية سوفوكليس .كل
][114
قارئ لهذه املسرحية يتفاعل مع أوديبيته الخاصة ويتحرر من
أحاسيسها وأثارها ،هكذا يتحقق مفهوم التطهير في أقوى مظاهره.
أوديب في مسرحية سوفوكليس لم يكن يريد قتل أبيه وال الزواج من
أمه ،لكن ما أرادته اآللهة هو ما سيقع فعال ،رغم أن والده سعى إلى
التخلص منه منذ والدته بعد أن أطلعه العراف على ما سيقوم به في
املستقبل ،ومن ثم يمكن القول إن التراجيديا تبدأ عندما يعي اإلنسان
حريته التي تدفعه إلى مواجهة املتعالي والتمرد عليه ،والصراع الجوهري
في التراجيديا يتمحور حول الصراع بين اإلنسان واإلله ،الحرية والقدر...
-ال أظنها تطهرنا ،التراجيديا تضعنا فقط أمام الوجه الرهيب للحياة،
وجه مليء باأللم والظلم والشر .شوبنهاور على عكس أرسطو آمن أن
التراجيديا سبيل لخالص اإلنسان عن طريق االستسالم ال التطهير،
فبالنسبة له البطل التراجيدي يكفر عن خطيئته في الوجود باأللم
واملعاناة ليجد سبيله إلى الخالص واالستسالم.
توقفت عن الكالم بعد أن حضر النادل ،طلب بركات فنجان قهوة وطلبت أنا
عصير برتقال .بعد أن تركنا النادل خيمت علينا لحظة صمت طويلة ،قبل أن
ً
يقطعها بركات مصرا على استكمال موضوعنا قائال:
ً ً
-نيتشه أيضا كان له رأيا مغايرا ،اعتبر أن للتراجيديا نشوة خاصة تكمن
تحدي البطولي لقوى املوت ،في التصميم على مواجهة الحياة في في ال ِ
شموليتها وفواجعها والنظر إلى هوة الوجود وجها لوجه .التراجيديا قد
تحول األفكار الفظيعة حول الوجود وعبثيته إلى مفاهيم يمكن للمرء
أن يتعايش معها.
أجبته وأنا أبدي قلة اهتمام بموضوع التراجيديا هذا:
][115
-التراجيديا هوية وطبيعة إنسانية متأصلة في البشر بغض النظر عن
انعكاساتها...
-ال أؤمن أن هناك طبيعة إنسانية متأصلة في اإلنسان باملعنى
األنطولوجي ،أنا مع سارتر في فكرة نفي وجود طبيعة إنسانية وأن ال
ً
وجود إال ملواقف يواجه فيها الناس بعضهم بعضا ويكونون مضطرين
لالختيار فقط.
سألته بعد أن استسلمنا للصمت من جديد:
-أنت وجودي إذن وأنا ال أدري؟
ً
-نعم ،يمكنك اعتباري وجوديا
بصوت خافت:
ٍ اعتدلت في جلستي وأنا أجيبه
ً
-أتعلم ،في هذه النقطة أيضا تشبه طارق ولد الخيل ،هو أيضا يؤمن
بالوجودية كتجسيد لإلنسانية والحرية املطلقة .لطاملا اعتبر أن اإلنسان
حر وال أهداف ماورائية من وجوده الذي يسبق ماهيته املتصارعة مع
فكرة اآلخر...
ً
رد علي مبتسما:
-ذكرتني بمسرحية huis closلسارتر التي عالج فيها فكرة اآلخر وعالقته
بذاتنا.
-تطرق لهذا املوضوع في كتابه الوجود والعدم على ما أظن !!
][116
األنا أمام الغير تدخل في صراع مع السقوط والعذاب ...لذلك أنهى هذه
املسرحية بعبارته املربكة :الجحيم هم اآلخرون.
ً
-هذا العالم معقد ،وعالقاتنا مع اآلخرين زادته تعقيدا
-أتعلمين يا أستاذتي ،أنا أرى العالم عبارة عن بنى متداخلة ومتراكبة فيما
بينها ،علينا تفكيكها كلها ودراستها كي نفهم أنفسنا وما حولنا...
ً
-صرت بنيويا اآلن؟
ً
رد علي ضاحكا:
-وليست أي بنيوية من فضلك ،إنها البنيوية التكوينية التي تفسر الواقع
والفكر اإلنساني تفسيرا ماديا من خالل العالقات املتداخلة واملتبادلة
بين العناصر املكونة لهما.
عال قبل أن أسأله:
بصوت ٍ
ٍ ضحكنا
-لم؟ ِ
احك لي.
][117
-ال أستطيع أن أحكي ِ
لك.
-حسنا إذن ،أخبرني فقط من تكون؟
عاد لصمته من جديد ،كان كمن ينتقي كلماته من وسط الجمر أو كالهارب من
أنفاسه بين شهيق وزفير .لم يزل عينيه عن البحر ،حيث كانت األمواج تقذف
ً
بنفسها على الشاطئ ثم تختفي قبل أن تعيد الكرة كأن لعنة سيزيفية حلت بها.
ً
قلت له وأنا أدفع كتفه بيدي ممازحة:
-هيا قل لي ،لن أفضح سرك.
قال بعد تردد:
-سيأتي ٌ
يوم سأخبرك فيه من تكون حبيبتي ،أتمنى فقط أال يكون ذاك
اك فيه.
يوم أر ِ
آخر ٍ
أحسست بانقباض حينها في صدري وأنا أشعر بقلبه يخفي مأساة كبيرة .كان علي
أن أنتظر شهورا بعد لقائنا هذا كي أعلم من تكون املرأة التي يحبها وكما توقع هو،
يوم أراه فيه.
في آخر ٍ
][118
ْ ْْْْ13
الدارالبيضاء 82-أغسطس/غشت 8102
ً
صاح ناصر مستغربا وهو يززع فنجانه من بين شفتيه:
-تأخر طارق!
-القطار القادم من الرباط هو الذي تأخر ،ألم تسمع إعالن التأخير؟
نظر إلي وهو يهز رأسه مؤكدا كالمي ثم قال:
-متى كانت قطارات املغرب تحترم الوقت؟
كنت حينها أشعر بتوتر مربك وأنا أنتظر مالقاة طارق من جديد ،حاولت أن أهدئ
نفس ي لكن شو ي واستعجالي لرؤيته دفعا أناملي إلى الهاتف ألتصل به .سمعت
ً
صوته خافتا وسط ضجة القطار:
-ألو ...ليلى
-طارق ،لم تصل بعد؟
-بلى ،القطار يتوقف اآلن بمحطة كازابور .أين أنتم؟
-نحن في مقهى فينيزيا آيس بالطابق التحت أرض ي للمحطة.
ً
-حسنا ،دقيقتان وأكون عندكما.
وضعت الهاتف وأخبرت ناصر أن طارق قد وصل قبل أن أحمل فنجان قهوتي إلى
شفتي ألبلل ريقي.
ً ً
خطف ناصر سؤاال سريعا قبل مجيء طارق قائال:
][119
-أتظنين يا ليلى أن طارق سيقبل االنضمام إلى الحركة؟
أجبته بسرعة أدهشته:
ً
-لن يقبل ،لكنك لن تخسر شيئا إن حاولت معه.
رد علي بأس ى:
ً
-ملاذا تغير طارق هكذا ،صار كئيبا ومنهزما بعد أن كانت الثورة والجموح
ملئان دماءه؟ هل قصة حبكما الفاشلة من جعلته هكذا؟ي ِ
-هي الحياة فقط يا ناصر ،الحزن على أمالك وأحالمك الضائعة يروض في
داخلك كل ش يء.
طل علينا طارق وهو يززل في املصعد الكهربائي ،بدا أنه في مز ٍاج س يء ،ذقنه مهمل
وعيناه ضامرتان غائرتان من شدة التعب والتدخين.
ً
وقفت متقدمة نحوه ألعانقه ،فابتسم وعانقني بقوة قبل أن يقول:
حضنك هذه األيام يا أمي ليلى...
ِ -كم أحتاج إلى
أجبته وأنا أتفحص عينيه الناعستين إن كان الزال يخاصمني:
-ستظل ابني الغائب وحبيبي العنيد...
ً
ابتسم وجرني من يدي إلى ناصر ،عانقه بدوره قائال:
ٌ
مشتاق لك. -تحيا عروبتنا يا رفيق...
ً
أضاف بعد أن جلس مستسلما لتعبه:
-قبل أن أسألكما عن أحوالكما اسمحا لي أن أتلذذ بتدخين سيجارة .صار
قطار هذا الذي يمنعوننا فيه من
ٍ لي ساعة ونصف لم أدخن .أي
التدخين...؟
][120
ً
سمعته يضحك مع ناصر ،في الوقت الذي كنت فيه غارقة في النظر إلى تفاصيله
وحركات عينيه عس ى أن تحكيا لي عما سيعجز لسانه عن قوله .سألته:
-كيف هي أحوالك يا طارق؟
ً
هز كتفيه قائال:
-كما تركتني آخر مرة ،ال ش يء تغير...
ً
ثم التفت الى ناصر متهربا من عيني ليقول له:
-ماذا هناك يا عم ناصر؟ أقسم أنك دعوتني إلى مناقشة موضوع
سياس ي...
ً
رد عليه ناصر مستغربا:
-ما أدراك يا رفيق طارق؟
-يا رفيقي ،أنا وأنت ال نلتقي إال وكانت السياسة والقومية العربية ثالثنا...
-صراحة لم ألحظ ذلك طيلة هذه السنين الطويلة.
ضحك ثم عاد لسؤاله:
-كيف حالك؟ وأحوال عملك؟
-بخير أنت تعلم أكيد أنني استقريت بالبيضاء ومكتبي أصبح يروج ببعض
القضايا الجيدة وهلل الحمد...
رد عليه طارق بعد أن غمزني:
-املحاماة مهنة تغني أذكياءها ،وأنا ال أخش ى عليك يا ناصر...
تطلع إلي وقال:
][121
ابنتك وزوجك؟
وأنت يا أخت العرب ،ما أخبار أسرتك؟ ِ
ِ -
أجبته باقتضاب:
-بخير ،الجميع بخير.
ً
-هذه املرة أيضا لم تحضري ليال ِ
معك؟
فاجأني بسؤاله عن ليال ،ال أعرف سبب إصراره على رؤيتها وشغفه بها .تراه يشعر
بأنها ابنته؟ ال ال أظن .لم يمهلني ألجيبه بعد أن نظر إلي بنظرة عتاب قاسية.
التفت لناصر ليسأله من جديد:
-قل لي إذن يا ناصر ،ما املوضوع الذي تريد أن تحدثني فيه؟
-أ مستعجل؟
ً
-يا سيدي خذ وقتي كامال ،أنا ال أملك غيره .قطار عودتي بعد ساعتين
أي...
على ٍ
ً
وقفت فجأة محاولة التهرب من بدايتهما فسألني طارق:
-إلى أين يا سمرا ،ودعينا على األقل.
ً
غمزته مجيبة:
-سأحضر لك قهوتك ،هنا املقاهي self service
سمعته يجيبني وأنا أخطو إلى داخل املقهى:
-تبا ملقاهي الدار البيضاء.
طلبت له قهوته املعتادة وقنينة ماء ،كنت أختلس النظر إليهما وأنا أنتظر إعداد
ً
الطلبية .أخذ ناصر يتكلم محركا يديه كعادته .بدت تقاسيم وجهه مشدودة
ً
يجاهد كي يقنع طارق الذي بدا مستهترا يدخن سيجارته بتلذذ.
][122
بعد دقائق أخذت القهوة وقنينة املاء وعدت إليهما .صاح طارق وأنا أقترب منهما:
تأخرت يا ليلى ...أنقذيني بالقهوة.
ِ -
رشف قهوته على عجل بينما استكمل ناصر حديثه:
-النظام يا طارق لن ينخرط في صيرورة دمقرطة الحكم بجدية إال إذا
كانت هناك نخب سياسية قوية تضغط عليه وتكون جادة بما يكفي
لتوصل مطالب الشعب إلى املؤسسات السياسية للبالد وتترجمها إلى
برامج حقيقية بدون ارتهان لبرامج امللك واملخزن .مشكلة الشعب اآلن
ليست هي الوصول الى امللكية البرملانية أو الدستور الديمقراطي أو
اإلصالح السياس ي واالقتصادي ،املشكلة الحقيقية متمثلة في عدم
وجود أحزاب سياسية حقيقية وذات مصداقية ترفع مطالب الشعب
وتستمد منه مشروعيتها وتقف الند للند مع امللك والتحالف الطبقي
الحاكم.
بصوت هادئ بعد أن توقف ناصر ليشرب من كأس قهوته:
ٍ صاح طارق
-يا سيدي أنا متفق معك في كل ما قلته .النظام في املغرب راهن دائما،
حتى ما قبل االستقالل ،على خلق نخب سياسية عميلة له واستعمل من
أجل ذلك كل الوسائل من الريع واإلغراء حتى القمع والتصفية ولن
أذكرك هنا بصراع النظام مع الشورى واالستقالل واالتحاد الوطني
للقوات الشعبية في الخمسينات والستينات وبعده مع تنظيمات اليسار
يفصل كل األحزاب السياسية علىالجذري .النظام استطاع في األخير أن ِ
مقاصاته ويحولها إلى موظفين لديه ،من أولئك الذين كانوا في الجبال
يحملون السالح ثم استبدلوه بالبدل والجالبيب البيضاء واستوطنوا
ً
البرملان والوزارات واإلسالميين مؤخرا الذين أصبح برنامجهم السياس ي
من برنامج امللك ،إلى الحقوقيين أيقونات سنوات الرصاص ...من كان
][123
وركاع لهم
ٍ يصدق أن كل هؤالء سيتحولون إلى خدم عند امللك واملخزن
في حفالت الوالء .الساحة الحزبية التي من املفروض أن تكون ساحة
شعبية جماهيرية بامتياز أصبحت حديقة للنظام ،يخلق فيها حزبا
جديدا لتززيل سياساته وتجديد أشكاله السلطوية وبعدها يركنه إلى
ً ً
اسطبل األحزاب اإلدارية ثم يخلق حزبا جديدا آخر ويحيي آخرا قديما
ً ٌ
متفق معك أيضا ،أن األحزاب السياسية الحالية تعيش حالة وهكذا...
انعزال مع تطلعات الشعب ومطالبه وأنها افتقدت للخطاب اإليديولوجي
واملرجعية القاعدية وأن الخطاب السياس ي انحدر الي مستوى ال أخال ي.
لكن ما الحل؟ تقول لي أن تسقط األحزاب الحالية!! النظام لن يسمح
لك بذلك ،سيدخل معك في معركة سيستعمل فيها كل الوسائل املتاحة
له لقمعك ،النظام لم يسمح لألحزاب ذاتها أن تغير نخبها وتجدد الحياة
الحزبية وأن تر ى بها الى مستوى الشعوب الديمقراطية الراقية فما بالك
ً
أن يسمح بذلك لحركة شعبية ...يجب أن نفهم جميعا أن األحزاب في
املغرب هي أدوات للحكم بالنسبة للنظام وهو بالتالي لن يسمح
بإسقاطها لخلق أحزاب جديدة قوية ،هو ليس بأحمق ،لن يعيد تجربة
األحزاب القوية كما في الستينات والسبعينات وهو أيضا لن يسمح
بتحديد عدد أقص ى لألحزاب فهو هكذا يقطع عليه شريان حياته في أن
يخلق األحزاب التي يريد إلعادة إنتاج السلطوية دائما ...النظام امللكي
سيحاربك بشراسة يا ناصر.
كان ناصر يصغي لطارق في هدوء ،ملا رأى أن طارق أنهى كالمه رد عليه بنبرة الواثق
من نفسه:
-النظام لن يدخل معنا في تصادم مباشر ان استطعنا إقناع الشعب
بفكرة الحركة وخرج معنا في مظاهرات واسعة ...مستوى التعبئة الكبير
هو الذي سيحمينا من شراسته واصطدامه معنا .أنت تعلم أن النظام
][124
املغربي مناور ،يخش ى التصادم ويميل حيث يميل ميزان القوة في الشارع.
ً
في آخر املطاف سيجد نفسه مجبرا على التضحية بالحرس القديم من
حاشيته الحزبية وسينخرط مع الشعب في مسلسل بناء أحزاب شعبية
جديدة.
-يا عزيزي ،األحزاب نفسها لن تقبل الرضوخ ملطالبكم حتى وإن كان كل
الشعب وراءكم ،ال يمكن أن تقبل األحزاب الحالية حل نفسها وإعادة
اب جديدة تفتح الطريق للكفاءات الشابة والززيهة للعمل تشكيلها في أحز ٍ
السياس ي ...األحزاب غدت دكاكين سياسية تسترزق قياداتها من األدوار
التي يوزعها عليهم امللك ،من املستحيل أن يتنازلوا على امتيازاتهم ،عليك
أن تفهم هذا يا ناصر.
-سنضغط من أجل ذلك ،إرادة الشعب هي األقوى .ثم ال تنس أن
ً ً ً
األحزاب املغربية تضم شبابا واعيا وغيورا على هذا الوطن سيساعدنا
قلب الطاولة من داخل األحزاب نفسها على قياداتها.
في ِ
-أرى أنكم تملكون خطة عمل!
-ال تعوزنا الخطة ،وال التنظيم .ما يعوزنا اآلن هو فرد ذو خبرة لينضم
حاجة ألمثالك يا طارق.
ٍ إلينا ويساعدنا .لذلك نحن في
-أنت فيك الكفاية يا ناصر ،تجربتك في التنظيم والعمل السياس ي ال
يستهان بها ،كما أنك رجل قانون...
قاطعه ناصر:
-لكننا نريدك أنت بالذات معنا ،هكذا سننجح أكثر.
-تريدني معكم ،هذا سبب دعوتك اليوم لي.
][125
تنهد ناصر بعمق ،هو يعرف أن مثل هذه األسئلة التي يطرحها طارق ،تبتغي الحذر
لذلك رد عليه بدبلوماسية:
ً
-أوال نريد مشورتك ،ثانيا نطلب منك االنضمام لنا .نحن اآلن ستة أفراد.
أتمنى أن تصبح سابعنا لنشكل طليعة الحركة وقيادتها.
رد عليه طارق بلهفة:
ً
-اخترتم اسما للحركة؟
'' -حركة نحن نستحق'' هكذا أسميناها.
سمع طارق جواب ناصر دون أن يعلق عليه ،رمى فقط أنامله على علبة السجائر
ً
سيجارة تداعب شفتيه .الحظت أن شفتيه ازدادتا زرقة من فرط ٍ بحثا عن
التدخين ...وددت في خاطري أن أمنعه من تدخين هذه السيجارة لكنني تداركت
نفس ي بأن تذكرت قراري في االبتعاد عن طارق وتركه وشأنه فقد تفرقت بنا السبل
كما قالت نزهة.
ً
بعد أن أشعل سيجارته ،صاح قائال:
ً ً
-فعال ''نحن نستحق'' ،الشعب املغربي يستحق نخبا سياسية جادة وذات
مصداقية ...لقد تعبنا من السياسيين الذين جثموا على أنفاسنا سنوات
طويلة ...ال نعرف إن كانوا أعضاء أحزاب سياسية أم موظفين في القصر
امللكي.
ً
ملحت ابتسامة تعلو وجه ناصر وكأنه اطمأن النضمام طارق لحركة نحن نستحق.
كنت أداعب خصلة شعري عندما نظر إلي طارق وكأنه يستنجد من ناصر بي.
ً
ملحت في عينيه أسئلة كثيرة ،بدا منكسرا ،عيناه تائهتان كعادته .أعرف طارق ،إنه
ً
يخش ى الدخول في مشاريع يخش ى أن تفشل وتزيده انكسارا وهو الذي استنفذ كل
مشاريعه في الحياة.
][126
بصوت هادئ:
ٍ سألني
أنت معهم يا ليلى؟
ِ -
أجبته بنفس وثيرته الهادئة:
-نعم ،انضممت لحركة نحن نستحق منذ شهور دون تفكير طويل.
ً
سألني متلهفا:
-لم؟
-ألن التجربة والتاريخ يحتمان علينا إسقاط النخب السياسية التي
يحتمي بها القصر وتزيده تعنتا في عدم بناء ديمقراطية حقة .كل املعارك
التي خاضها اليسار وبعده الطلبة والشباب في الحركات الشعبية وإن
كانت أجبرت النظام على االنخراط مرغما في املسلسل الديمقراطي
والحقو ي إال أنها باءت بالفشل وارتد الوضع إلى أسوء مما كان .خذ
ً
حركة 81فبراير مثال ،لم فشلت في تحقيق مطالبها؟ ببساطة ألنها ال
تستطيع وحدها الضغط على النظام لتحقيق مطالبها وباملقابل ليس
هناك نخب سياسية تترجم مطالبها وتضغط على النظام من أجل
تحقيقها ،بل اصطفت األحزاب إلى جانب النظام ضد شباب الحركة بعد
أن استغلت حراكهم .التشخيص الصحيح للوضع السياس ي اآلن في
املغرب هو غياب خصم سياس ي قوي للنظام ،يجبره على تلبية مطالب
الشعب وخوض معركة ضده على املدى الطويل إلرساء ديمقراطية
حقيقية .لذلك فاملسار الديمقراطي الصحيح للمغرب يبدأ بإنشاء
أحزاب سياسية شعبية قوية ويتم تحديدها في حزبين أو ثالثة أحزاب
فقط منعا للتشرذم وتمييع العمل السياس ي بأن يخلق النظام أحزابا
ً
جديدة عميلة له .األحزاب الشعبية الجديدة والقوية هي التي ستتكفل
][127
بإدارة الجولة الثانية مع النظام للضغط عليه من أجل تحديد نفوذه
وصياغة دستور جديد يسود فيه امللك وال يحكم ويتم الفصل الحقيقي
بين السلطات وإرساء عدالة اقتصادية واجتماعية ...هذا هو املسار
ً
الصحيح ،وواجبنا اآلن جميعا أن ندعو إلى الخطوة األولى وهي إسقاط
األحزاب الحالية وبناء أحزاب جديدة.
قاطعني طارق وهو يصرخ بعصبية:
-من سيسقط األحزاب؟ قوال لي؟! ال أحد في هذه البالد يملك صالحية
إسقاط األحزاب ،حتى امللك نفسه ،ال الدستور وال األعراف سيسمحان
له بذلك.
بصبر نافذ يوحي أن النقاش مع طارق يدور في حلقة مفرغة:
رد عليه ناصر ٍ
-الشعب ،الشعوب التي أسقطت األنظمة والحكومات لن تعجز عن
إسقاط األحزاب.
ضحك طارق بسخرية قبل أن يجيب:
-الشعب! إن كنت تتكلم عن الشعب التونس ي أو املصري ،نعم معك
حق ...أما الشعب املغربي ال تنتظر منه أن يسقط حتى رئيس بلدية.
صمت قاتل لم نسمع
ٍ بعد جواب طارق وضحكته الساخرة حلت علينا لحظات
فيها سوى صوت لفافة سيجارة طارق وهي تحترق على شفتيه.
ً
بعد أن رمقني أتبادل نظرات اإلحباط مع ناصر قطع صمتنا قائال:
-اعذراني ال يمكنني االنضمام لكم.
رد عليه ناصر بسرعة حينها:
-لم؟
][128
افض لفكرة التنظيمات الهرمية -أنتم تعرفونني ،أنا أناركي بطبيعتي ،ر ٌ
واألحزاب والدولة وكل الكيانات السلطوية التي تقمع حرية الفرد وارادته
في الحياة.
-كفاك طوباوية يا طارق ،ستعيدنا لنقاشاتنا القديمة والعقيمة .األناركية
حقبة من التاريخ وانتهت...
ٍ ليست سوى حلم راود اإلنسانية في
-لم بذمتك؟ أال يمكن لإلنسان أن يعيش في مجتمع السلطوي ودون قوة
ً
قهرية مهيمنة؟ هل اإلنسان دائما في حاجة لحاكم وسيد كي يعيش؟ ِأمن
املفروض علينا أن نعيش دائما تحت سلطة فرد أو جماعة أو مؤسسات
تحد من حريتنا اإلنسانية وتفرض علينا نمط حياة قهري؟ أليس املجتمع
األناركي مشروع إنساني يستحق منا كمثقفين التفكير الجدي وامللتزم؟
صدقني ،وحدها األناركية ستعيد لنا إنسانيتنا وستوقف مسلسل
العبودية التي نعيشها منذ فجر التاريخ إلى اإلقطاعية ،إلى الرأسمالية
وإلى ما بعد الرأسمالية...
قاطعته بقسوة:
-طارق أنت تراوغ فقط ،قل إنك ال تريد االنضمام لنا ألنك تخش ى من
فشل جديد.
ٍ
ً
بنظرة قاسية:
ٍ صمت لحظة ثم قال وعيناه تلمعان
ً ٌ
شخص فاشل ...ال أخجل من قول هذا ،والفاشل ال يخش ى فشال -أنا
ً
جديدا.
أخذ نفسا عميقا ثم أكمل:
-اعذراني ،القطار سينطلق بعد دقائق .إلى اللقاء.
][129
بقيت أنا وناصر متسمرين في مقعدينا ونحن ننظر ألصابع طارق وهي تلم علبة
ً
السجائر والقداحة من على الطاولة ثم غادر غاضبا.
لردة فعله .لم أستطع الحديث ،التفت لطارق ألراه
بنظرة استغراب ِ
ِ رمقني ناصر
يمض ي بخطى سريعة كعادته عندما يغضب ويجر خلفه آماله التائهة في هذا
الوجود.
][130
ْ ْْْْ14
الرباط 0-أيلول/شتنبر 8102
ٌ
جميل لك. -لدي ٌ
خبر
أجبتها وأنا أضمها إلى صدري:
-هذا هو ِ
خبرك الجميل !!
-ال ،اسمع يا سيدي .سيزورنا جاكوب.
ً
أجبتها مندهشا:
-معقول؟ يعقوب كوهين !! كيف تذكرنا؟
ً
-اتصل بي صباحا وعاتبني ألننا لم نخبره بمشروع زواجنا ثم قال لي البد
أن يزورنا ليبارك لنا.
حقا ل ًٌ
خبر مفرح. -جميل ،إنه
ً ْ
نظرت في عيني مليا ثم قالت:
-ملاذا من بين كل اليهود تحب جاكوب يا طارق؟
أجبتها وأنا أنزع مالبس ي قبل أن أستسلم لرشاش الدوش الساخن:
][131
-اسمه يعقوب ،إنه يحب أن نناديه يعقوب وليس جاكوب .ثم يا جميلتي،
وأنت تعرفين هذا.
أنا ال مشكل لدي مع اليهود ،مشكلتي مع الصهاينة ِ
ً
فضال عن كون يعقوب فيلسوف ومفكر يناهض إسرائيل والصهيونية...
-ويناهض الحركة األمازيغية ويفضح عالقتها باملوساد وإسرائيل .أليس
هذا يروق لكم أنتم القوميون العرب؟
نظرت لها باستغراب قبل أن أسألها:
أت موقفه من الحركة
عرفت هذا؟ في أي كتاب ليعقوب قر ِ
ِ -كيف
األمازيغية؟
][132
يتحول إلى ساعات وساعات ...أنا وليلى كنا نصير طفلين متى التقيناٍ ،آه يا ليلى،
تركت الطفل بداخلي يشيخ برحيلك.
لقد ِ
هل أحتاج أنا اآلخر مسيرة خضراء ألعيدك إلى أحضان قلبي يا ليلى؟ كم من
الكلمات واألشعار ستزحف إليك في طوابير الحب وشاحنات اآلهات الحمراء كي
أستعيدك؟! قولي لي ،كم من حناجر قلمي سأشحذها لترفع لك أغنية "صوت
الطارق ينادي بلسانك يا ليلى" ؟
أو سترضين بال حرب وبال سالح كمعجزة الزمان؟ سترضين فقط بكتاب هللا
وبطريقي املستقيم ،ألصل رحم قلبك بأعالمي؟ أم أنك ستقولين عني جبان ال
أقوى على املعارك في حضرة الحب !!
أنا فعال جبان ،فكيف لي أن أستجدي عودة امرأة أقرت كل القوانين أنها لي،
وحكمت محاكم العدل أن لها بيعة أبدية لي وأنها لم تكن امرأة خالء!! فكيف
فأصبحت قضية تصفية استعمار وتقرير
ِ استعمرك رجل آخر
ِ خنت إذن؟ كيف
ِ
مصير؟
كيف سيحارب قلبي من أجلك وهو متعب بألم الحب الجيوسياس ي ووجع الفصل
العنصري بين جغرافيتك وتاريخي؟ قولي لي كيف سيقاتل من أجلك وهو مهما فعل
سيظل جنديا مجهوال في ساحة قلبك؟ كيف له أن يسير في مسيرات خضراء أو
حمراء وهو مصاب بعمى األلوان؟ أترضين بحكم ذاتي وتعودين لي؟ أم ستتركين
ً
القدر يسخر مني ويسميني محتال في هيئة العشاق املتحدة؟ أتراني سأرض ى بقدر
الخسارة ،فالخاسرون في قصص الحب يا ليلى هم الصادقون ...هم دائما
الصادقون.
جاءني صوت أماليا بعد أن قرعت الباب مرتين:
-طارق؟ طارق؟ ما بك تأخرت في الحمام؟
][133
-ال ش يء أماليا ،ال ش يء ...ها أنا خارج.
ً
حملت جسدي على الوقوف ولففت عليه فوطة بيضاء ثم خرجت ألشعر بهواء
ً ً ً
الغرفة باردا .وجدت أماليا واقفة في انتظاري بجانب السرير تلبس قميصا حريريا
بالكاد يغطي نصف جسدها العلوي ليترك ساقيها املغريين يغمزان لي ''تعال''.
ً ً
مررت بجانبها متحاشيا جسدها املفخخ لكن عطرها القوي أرداني قتيال بعد
ً ْ
ففتحت ذراعيها قائلة: خطوة من جسدها ،التفت لها
-لقد اشتقت لعناق جسدينا ،تعال إلي ألغذيك من أنوثتي.
كجائع تتلوى أمعاؤه تحت سياط رذاذ شفتيها ولهيب جسدها ٍ اندفعت إلى حضنها
أمرغ نفس ي في انحناءاتها متعمدا بزبدها األبيض حتى صرت أشهق وأزفراملرمريِ ،
هبوطا وصعودا على انحداراتها الوعرة .لكن فجأة ،بدأ أزيز الرصاص من جديد
يمأل أذني وصور القذائف ودخان القنابل تتناثر أمام أعيني الغارقة في سفوحها...
لجسد أماليا.
ِ حاولت تناس ي تلك الصور واألصوات ولكنها كانت عنيدة ترفض تركي
وضعت أصابعي في أذني ،أغلقت عيني بقوة لكن ما غادرتني فلسطين وحروبها.
دفعتني أماليا إلى السرير ثم حطت فوق جسدي كطائرة أباتش ي تحوم حولي
مستعدة لقصف جيوب املقاومة في جسدي ...ملحت نهديها يتقدمان إلى شفتي
ً
كدبابتي ميركافا تستعدان لسحق كل ش يء حي في طريقها فانتفضت صارخا في
وجهها:
-ال أستطيع ...ال أستطيع
ردت علي مستغربة كالعادة:
-ما بك؟ لم ال تستطيع...؟
][134
-لكنك لم تكن هكذا من قبل؟!
-أعرف ،أعرف أنني لم أكن هكذا.
جلست على السرير أضغط على رأس ي بكلتا يدي كي تغادرني أصوات القنابل
واملدافع وصور الحرب وأشالء شهداء فلسطين ...يا إلهي ما الذي يجري لي؟ ملاذا
ً ً
تحولت حياتي إلى فوض ى وجحيم وجودي؟ ملاذا صار حتى جسدي عبوة ناسفة
تنتظر مرور أماليا عليها كي تنفجر في وجهي مأساة فلسطين وحروب العرب مع
إسرائيل؟
][135
ْ ْْْْ15
الدار البيضاء 2-أيلول/شتنبر 8102
وصلت متأخرة للقاعة التي ينظم فيها املؤتمر الصحفي األول لحركة نحن نستحق
بشارع الزيراوي وسط الدارالبيضاء .كانت القاعة تعج بالحضور ،صحفيين
بكامراتهم وميكروفوناتهم املختلفة األلوان واألشكال ،شباب كثر يحملون الفتات
وأعالم الحركة ورجال ببذل سوداء ذكروني ببذلة طارق السوداء التي يلبسها
دائما.
توقفت لبرهة آلخذ نفس ي فلمحت ناصر على املنصة يتلو بيان الحركة وبجانبه
نزهة .فجأة وقف بجانبي عزيز ،صديقنا القديم ،ليسلم علي .انشغلت معه في
حوار خفيف قبل أن أستأذنه في االنضمام إلى رفا ي .دخلت متجاوزة الحاضرين
إلى الصفوف األمامية إلى أن ملحني بركات ،فأشار لي أن مقعدي شاغرا بجانبهم على
يمين املنصة .كان يجلس بمحاذاته يوسف وعبد الصمد وبعض املنتسبين للحركة
في مكتب الدار البيضاء.
عندما جلست بعد أن سلمت عليهم ،ارتفع في أذني صوت ناصر وهو يقرأ من بيان
بصوت قوي:
ٍ الحركة
»…وعليه ،فإن ''حركة نحن نستحق'' ،حركة شبابية أكاديمية واحتجاجية
مستقلة ،تطالب باإلصالح الثقافي وبتخليق وإصالح العمل السياس ي في املغرب من
خالل حل األحزاب السياسية الحالية وخلق نخب سياسية جديدة ذات مصداقية
وكفاءة ،تؤسس لحياة سياسية خالقة تليق بمستوى تطلعات وعراقة الشعب
املغربي وتنفتح بشكل حقيقي على كفاءات الشباب .تطالب ''حركة نحن نستحق''
ب أوال :تشكيل هيئة وطنية أكاديمية تضم الكفاءات والفعاليات الثقافية
][136
واملدنية بهدف اإلعداد الستراتيجية وطنية شاملة لإلصالح الثقافي والفكري
والعلمي باملغرب« ...
ما كاد ناصر ينهي هذا املطلب األول حتى اهتزت كل القاعة بالتصفيقات
والصياح ،كان الشباب املتواجد بالصفوف األخيرة أكثر حماسة واندفاعا ،رأيت
كل رفا ي يبتسمون كأن جرعة من الثقة بالنفس واألمل في نجاح حركتنا قد
تسللت إلى عروقهم.
بعد أن هدأت القاعة أكمل ناصر قراءة البيان:
ً
»…ثانيا :تطالب ''حركة نحن نستحق'' بحل األحزاب الحالية وإعادة تشكيلها من
جديد في إطار قانون أحزاب ينص على ما يلي :أ-تحديد عدد األحزاب في ثالثة
أحزاب فقط ،تؤسس بانتخاب ديمقراطي مباشر ،ب-إلزامية دمقرطة األحزاب
داخليا وفتح اآلفاق أمام الشباب لتولي املسؤوليات الحزبية.
مبادئ الحركة:
تعتقد ''حركة نحن نستحق'' أن الشعب املغربي يستحق نخب سياسية ذات
كفاءة ومصداقية تخدم مصالحه وتحقق تطلعاته إلى عيش كريم ونهضة
حقيقية وتحترم أخالقه وقيمه الحضارية .في حين تحولت األحزاب السياسية
عبء ثقيل وعائق أمام إرساء قواعد عمل سياس ي نظيف وناجع،الحالية إلى ٍ
إذ إنها تحولت في األغلب إلى دكاكين تسترزق بالعمل السياس ي وإلى هياكل
تنظيمية عقيمة تدار بمنطق الوالءات والزبونية واملحسوبية عوض الكفاءة
واالستحقاق وتنتج الفساد والصراعات الالأخالقية عوض األفكار البناءة
والبرامج السياسية واالقتصادية واالجتماعية الناجعة .ومن هذا املنطلق،
ترى ''حركة نحن نستحق'' أن:
][137
-عزوف الشعب املغربي ،والشباب خصوصا ،عن العمل السياس ي
واالنخراط الحزبي ،دليل على الخيبات املتراكمة لدى املواطنين املغاربة
وعدم ثقتهم في النخب السياسية الحالية.
-األحزاب السياسية الحالية فشلت في استقطاب الشباب املغربي وتأطيره
وفتح آفاق العمل السياس ي والحزبي له وهو ما جعلها تعيش في حالة
انعزال تام عن انشغاالت هذه الفئة الحيوية ما قد يهدد بالدنا على املدى
املتوسط ،ال قدر هللا ،بموجات تطرف وكبت سياس ي واجتماعي عميق.
-األحزاب السياسية الحالية ،أبانت عن فشلها الكبير في التسيير واملساهمة
في حل امللفات الكبرى واالستراتيجية للمملكة املغربية وأصبحت تتستر
وراء برامج ومبادرات امللك .كما باتت ،في نفس السياق ،عاجزة وفاقدة
للمبادرة باملقارنة مع الجمعيات والفعاليات املدنية التي أصبحت صاحبة
السبق والقوة االقتراحية في امللفات الحيوية التي يعنى بها الشعب املغربي.
-التشتت والتجزئة الحزبية التي تعرفها بالدنا ما هي إال نتيجة النسداد
األفق داخل األحزاب السياسية الحالية وغياب العقلية الديمقراطية
والتشاركية لدى املتحكمين بهذه األحزاب ،مما يجعل هذه األخيرة تلفظ
على الدوام كفاءاتها وأطرها إلى االنشقاق والشتات.
-الكم الكبير لألحزاب السياسية الحالية ال يجد له تفسير فكري مبادئي أو
سوسيوسياس ي وال يرتكز على تعدد املرجعيات الفكرية واإليديولوجية
فرغ ْت األحزاب من دورها الحقيقي في مناقشةلدى الشعب املغربي ،بل أ ِ
األفكار واإليديولوجيات وصياغة البرامج السياسية واالقتصادية
واالجتماعية والثقافية ،ناهيك عن الغياب والسبات العميق الذي تعيش
فيه أحزاب سياسية كثيرة ال يذكر الشعب املغربي حتى أسماءها في الوقت
][138
الذي تستززف فيه املال العام وتذكي العبثية واالرتجالية في العمل
السياس ي.
-األحزاب السياسية الحالية ،انزلقت إلى مستوى سياس ي ال يحترم حتى
ً
القيم األخالقية والحضارية للشعب املغربي إذ أصبحت مرتعا للصراعات
املشينة والشتائم الالأخالقية والظواهر الصوتية.
-األحزاب السياسية الحالية تزخر بكفاءات وطنية كبيرة لكنها مهمشة
لألسف ،خصوصا في صفوف الشبيبات واملؤتمرات الحزبية ،وقد آن
األوان لهذه الكفاءات أن تتحمل مسؤوليتها وتوحد مجهوداتها لتدارك
تدهور الوضع السياس ي والحزبي وخلق قوة إصالحية تر ى ببالدنا إلى
مصاف الدول الحضارية« ...
عندما توقف ناصر عن تالوة بيان الحركة ،عمت القاعة من جديد موجة
تصفيقات وهتافات ،تساءلت مع نفس ي حينها هل سيستقبل الشعب املغربي
مشروع حركتنا بذات الحماسة أيضا وسينخرط معنا في مسيرة النضال لتحقيق
مطالبنا.
صاح ناصر وهو يلم األوراق التي بعثرت أمامه أثناء خطابه:
-اسمحوا لي أن أترككم اآلن مع الناطقة الرسمية باسم الحركة والتي
ستتكلف منذ اآلن بمهمة التواصل مع كل فعاليات الشعب املغربي،
أقدم لكم األستاذة نزهة صادق.
ً
تقدمت نزهة بخطوات ثابتة إلى املنصة ،مبتسمة وأنيقة كأنثى طاووس تفرد على
القاعة جمالها وحسن طلتها ،في الوقت الذي اتجه فيه ناصر للجلوس بجانبي
بالقرب من املنصة .عندما وقفت نزهة على املنصة اعتلت وجهها مالمح جادة
وصارمة ،ثم قالت بصوت هادئ:
][139
-مساء الخير ،بعد أن تفضل األستاذ ناصر الواعد منسق الحركة بقراءة
بيان الحركة ومبادئها التأسيسية على مسامع حضراتكم ،نفتح املجال
اآلن لإلجابة على تساؤالت الصحفيين .سؤال واحد لكل صحفي من
فضلكم نظرا لضيق الوقت وللحضور الكبير للصحفيين الكرام...
ما كادت تنهي كالمها حتى سقط عليها السؤال األول:
-ما عالقة حركتكم بحركة 20فبراير؟
ً
-ال عالقة لنا بتاتا بحركة 20فبراير ،مبادؤنا ومطالبنا مختلفة ...ربما
قاسمنا املشترك الوحيد أن الحركتين جماهيريتين وتشتركان في نفس
النهج االحتجاجي الشعبي ونحن أكيد سنستفيد من تجربتها وقد درسنا
مسبقا وبشكل تحليلي نقدي مسار هذه الحركة املتميزة والشجاعة في
تاريخ املغرب املعاصر.
ثم تقاطرت عليها األسئلة فيما بعد ،وهي ترد بذكاء وبصراحة كبيرة:
-ما رأيكم في امللكية؟ هل تريدون ملكية برملانية؟
-حركة نحن نستحق ليست بحركة أيديولوجية وال حزبية وبالتالي ليس
لها أي رأي إطالقا في نظام الحكم باملغرب وليس لها موقف من شكل
امللكية الذي يجب العمل به .هدف الحركة هو تشكيل نخب سياسية
جديدة ،حقيقية ،قوية ونزيهة ...هذه النخب الجديدة هي التي سيكون
بإمكانها النظر في املستقبل في شكل نظام الحكم وموقع امللكية.
-هل تظنون فعال أن الحل من أجل اإلصالح السياس ي باملغرب هو حل
األحزاب الحالية؟ وهل بإمكانكم فعال إسقاط األحزاب؟
-الحقيقة التي نؤمن بها في حركة نحن نستحق هي أن األحزاب الحالية ال
يمكنها أن تقوم باإلصالح السياس ي الحقيقي الذي يتطلع إليه الشعب
][140
املغربي وقد ظهر ذلك بشكل جلي للشعب املغربي ،استنفذنا سنوات
طويلة وضيعنا أجياال كثيرة من شعبنا دون أن نصل إلصالح جذري
وحقيقي .األحزاب السياسية الحالية إرادتها مصادرة وتحولت في الغالب
إلى دكاكين لالسترزاق السياس ي فضال عن كونها أصبحت معزولة
ً
شعبيا .نحن نعتقد أن الخطوة األولى في طريق اإلصالح السياس ي هي أن
يوصل الشعب املغربي كفاءات سياسية جديدة ،نزيهة ،قوية وذات
مصداقية شعبية إلى الحكم ،هذه الكفاءات والنخب السياسية
الجديدة هي التي ستتكفل فيما بعد بتنفيذ با ي الخطوات في مسلسل
ً
اإلصالح السياس ي واالقتصادي والثقافي أيضا .بخصوص الشق الثاني
من السؤال أقول ،إسقاط األحزاب ليس باألمر الصعب ،هناك شعوب
أسقطت أنظمة وأقامت ثورات ،ال أظن أن الشعب املغربي سيعجز أمام
حفنة أحزاب متآكلة وال قواعد شعبية حقيقية لها.
-هل ستبدؤون باالحتجاج في الشارع على الطريقة املصرية والتونسية
لحل األحزاب وتنفيذ مطالبكم؟
وملء
ِ -سنبدأ أوال بتوعية الشعب بمطالبنا من خالل توزيع مناشير
استمارات االنضمام للحركة ،كما أننا سنوصل مطالبنا ملن يهمهم األمر
عن طريق الحوار واإلقناع ،في النهاية التصعيد لن يخدمهم .وفي حين
استنفاذ كل الوسائل أكيد سنززل للشارع وبقوة.
بينما كانت نزهة تواصل أجوبتها عن أسئلة الصحفيين ،أخفض ناصر رأسه
ً
باتجاهي قائال:
-ماذا قال لك ذلك الخائن ،لقد ملحتك تتحدثين معه؟ أال يريد أن يتركنا
بسالم؟
قلت له مستغربة:
][141
-تقصد عزيز؟
-نعم ،عزيز الخائن...
-جاء ليسلم علي ،ويحيينا على مشروع حركة نحن نستحق ،قال لي إنه
سعيد لرؤية رفاقه القدامى يحاولون تغيير الوضع السياس ي باملغرب
ويقدمون البدائل النضالية.
ضحك بسخرية قبل أن يقول لي:
ً
-احذري من ذلك الخائن يا ليلى ،لقد جاء حتما ليتجسس علينا لصالح
النظام.
ً
بينما كنت أنظر إليه مبتسمة ،تجمع حولنا الصحفيون بعد انتهاء نزهة من
األجوبة على أسئلتهم .بدأوا في أخذ الصور لنا ونحن واقفين نمسك يدا بيد وفي
قلبنا أمل كبير لتحقيق تطلعات هذا الشعب في رؤية وطن يحترم حرية وكرامة
اإلنسان.
][142
ْ ْْْْ16
الرباط 1-أيلول/شتنبر 8102
اسمك يسكن الجرائد وكل وسائل اإلعالم ،كأنه يتربص بي أينما ِ ها قد أصبح
نجحت في
ِ نجحت إذن،
ِ رحلت ليعيدني إلى شريط ذكريات األمس التي ال تغادرني.
ِ
ً
لك بعيدا عني ،كأن لعنة النضال ولعنة املبادئ كتبتا بإسميأول مشروع نضال ِ
ً
فقط .هل فعال سيصبح وطننا كما نستحق؟ وستملؤونه مظاهرات واحتجاجات
ً
لتزيلوا النخب القديمة من معابد السياسة التي باعت لنا دينا سقيما أعيا تاريخ
الوطن؟
قالت لي مها همسا وهي تقرب شفاهها من أذني:
-ما رأيك أن تقرأ لي قصيدة من نسج خيالك يا شاعر؟ لم أسمع منك
شعرا منذ زمن...
-هذا ليس وقت الشعر يا مها ،إنه وقت الحرب .الحرب تعلن في كل مكان
وعلى كل ش يء ،حتى على الشعر واألدب.
-الحرب لن تستطيع قتل الشعر والحب .الحب هو البذرة التي تخرج منها
الحياة والشعر هو املاء الذي يسقيها.
لت تحلمين يا ماهي ،انظري لهذا الجيل الذي ضيع معاني الحب أصبح -الز ِ
يلهث وراء الجنس واللهو والعالقات العابرة الفارغة من كل األحاسيس
ً ً
الجميلة .انظري للشعر الذي أصبح غريبا منبوذا ال يقرأ إال في املقررات
املدرسية .هذا ليس زمن درويش ونزار قباني وجبران يا مها هذا زمن
الكالشنكوف وداعش وكيم كارديشيان.
][143
سكتت لدقائق طويلة ثم قالت لي بجرأة:
-أتعرف ماذا أشتهي اآلن؟
-ماذا؟
ً
-أن أقض ي ليلة معك ،أريد أن أمتلك ما لم تستطع امرأة أخرى امتالكه ...
ضحكت ساخرا من كالمها قبل أجيبها:
ً
-لألسف ،لم تترك لك األخريات شيئا تملكيه في ،فقد صرت أطالال خاوية
يا عزيزتي.
-عيناك تكذبانك ،عيناك تقوالن لي أن لك سماوات لم تحلق فيها امرأة
قبلي.
تجاهلت كلماتها املغرية بإشعال سيجارة جديدة ،لكنها ظلت تبحلق في عيني
بإصرار ثم قالت:
-ماذا قلت؟
في هذه اللحظة سقطت أماليا في فكري ،تذكرت أن أمها ستحضر اليوم إلى املغرب
لتعينها في تحضيرات زواجنا .أجبت مها بقسوة:
-قلت إن كأس ي قد فرغ منذ لحظات...
انصرفت مها غاضبة من أمامي ،ألترك بصري يتوه في مرقص املطعم بين األجساد
الراقصة .ملحت رجاء الغالي من جديد ترقص كحورية بثوبها األسود وتنظر إلي
ً
وكأنها تغريني بالرقص على شواطئها هذا املساء .آه يا رجاء ،أنا لم أعد قادرا على
الدخول في حياة امرأة جديدة ،صرت أخش ى محادثة امرأة جديدة وأنا املسكون
بأطالل امرأة قديمة.
][144
جسدك باألشواك ،بالحديد
ِ حاصرونك الليلة دوني ،يسيجون
ِ أينك يا ليلى؟ فهم ي
ِ
أرضك ذاك
ِ بك دوني عذر ْاء؟ أتتذكرين وأنا ألج
دونك الجئ ،وما ِوالنار .ما بي ِ
الرمل على نهود
ِ املساء املعطر بتوابل السماء؟ أتتذكرين عزف
ِ املساء؟ ذاك
الصحراء؟ حين كنت تعدين كفني ألبعث من جديد في جوفك ،حين تضاربتْ
ِ ِ ِ ِ
شفتيك ،األسود يفاوض األبيض واألحمر يغري األخضر.
ِ األلوان على
ٌ
أخرس الحب تجن؟ ...ال تجبني يا أنا ،فأنت وما بك يا طارق تحن؟ وما بك
بعلقم ِ
ِ
ثوب أسودٌ
أصم من اإلشارات وال حواس لك ،ال ليل لك سوى ٌ من اإلجاباتٌّ ،
تلبسه عشيقتك األولى في دروب الغروب ،عندما ينتصب الليل أمام شفتي النهار،
فيكون لهم ليلهم ويبقى نهارك إلى األبد.
يا أيها األبد ،يا أيها األبد لم ال أبد لك في حكايات الحب السقيمة؟ لم أحلت
قصصك إلى أساطير القبائل القديمة؟ ...لم تزف كل العشاق إلى مدرج النهايات،
كقدر يستعجل الرحيل؟ ...ولم النهايات شهادة وفاتك ٍ حيث طائرة الرحيل تربد
اللعينة؟ ولم الطائرات تلبس لنا األبيض في نهاياتنا السريعة؟ أما كانت ستكون
ً
بك'' كعشيقتيمغرية وهي سوداء سواد النهايات؟ ألم تقرأ هي األخرى ''األسود يليق ِ
األخيرة؟
][145
ْ ْْْْ17
الدار البيضاء 02-تشرين األول/أكتوبر 8102
يوم تنطلق فيه مظاهرات حركة نحن نستحق بعد أن استطعنا جمع هذا أول ٍ
مليوني استمارة للمطالبة بحل األحزاب الحالية .يوم أحد مشمس يحمل في جوه
األمل ونسمات الحياة الجميلة .عند التحا ي بمجموعة الرفاق في صباح هذا اليوم
بمقهى أوديسا وسط املدينة رأيت أن شوارع الحسن الثاني وساحة األمم املتحدة
قد غصت باملتظاهرين من كل الفئات العمرية ،يحملون الشعارات والالفتات
ً
وتعلو مالمحهم األمل والعزيمة .دبت بي حماسة وأنا أصافح الرفاق باملقهى قائلة:
][146
فرصة للتشاؤم:
ٍ قال ناصر كمن يبحث فقط عن
-الدار البيضاء وحدها ال تكفي ،يجب أن تغوص كل املدن باملظاهرات يا رفيقتي.
ً
ردت عليه نزهة متحفزة:
-مشوار امليل يبدأ بخطوة يا ناصر ،هيا لنبدأ خطوتنا األولى.
ْ
أكملت بعد أن نظرت إلى ساعتها: ثم
-يجب أن نلتحق باملظاهرات إنها العاشرة اآلن.
قبل أن نغادر املقهى سألت ناصر عن بركات وعبد الصمد فأخبرني أن بركات يقوم
هو ولجنته بضبط مسار املظاهرة والشعارات املرفوعة فيها أما عبد الصمد
فيقوم بتوزيع املنشورات والالفتات .في طريقنا إلى املظاهرة التفت ناصر إلى
ً
يوسف ونزهة ليطلب منهما أن يتفرغا لإلجابة على أسئلة الصحفيين ناصحا
إياهما بأن تكون أجوبتهما مقتضبة ومتحفظة في انتظار البيان الرسمي للحركة
هذا املساء ،فضربته بكتفي ممازحة:
-وأنا ،ألن تكلفني بمهمة يا زعيم؟
ابتسم ثم قال:
-أنت يا مخططة ،مهمتك أن تبقي بجانبي وتراقبي كل صغيرة وكبيرة في املظاهرة.
أردف بعد أن اعتلت مالمحه ملحة جد وصرامة:
-النظام خبيث ،علينا أن ندرس تحركات قوات األمن وسلوك أعوان
النظام كي نستنتج طريقة تفكيره يا ليلى .فهمتني؟
-فهمتك يا رفيقي ،يكون خير إن شاء هللا.
][147
بمجرد التحاقنا بمقدمة املظاهرة وتعرف الناس علينا حتى صاحت كل الجماهير
عال يصدح في كل أرجاء وسط الدار البيضاء ''الشعب يريد إسقاط األحزاب''.
بصوت ٍ
انطلقت املظاهرة بكل حماسة من ساحة األمم املتحدة في اتجاه شارع محمد
الخامس .في الصف األول تشابكت أيدي ناصر ونزهة ويوسف وأنا مع أيادي بقية
ً
املتظاهرين الذين كانوا يصرخون بمل ِء حناجرهم بإسقاط األحزاب ،كانوا شبابا
وشيوخا ونساء تظهر على محياهم مالمح الغضب ونفاذ صبر مما يعيشه الوضع
السياس ي املغربي.
كنت في كل مرة ألتفت فيها للخلف ألرى مدى املظاهرة كانت تبدو لي صفوف
املحتجين بال نهاية ،متراصة بانتظام وعلى الجنبات انتشرت كاميرات وسائل
اإلعالم والصحفيين وبعض رجال األمن الذين بدأوا يخففون تواجدهم بشكل
كبير مع تقدم املظاهرة في مسارها.
عند وصولنا ساحة السوق املركزي ،اعتلى ناصر الشاحنة التي كانت تحمل
مكبرات الصوت أمام املظاهرة .بمجرد ما أمسك مكبر الصوت حتى سر ْت موجة
هدوء وترقب في صفوف املتظاهرين في انتظار ما سيقوله ناصر .في تلك اآلونة ٍ
ملحت بركات يجري وسط الصفوف ليطلب من املتظاهرين إنزال شعارات ال
عالقة لها بمطالب الحركة.
ً
ظل ناصر صامتا لدقائق وهو ينظر لجنبات املظاهرة ،خشيت أن يكون قد أصابه
االرتباك قبل أن يصيح بصوته الجهوري الذي ذكرني بأيام نضالنا في الجامعة:
-عالش جينا اليوم؟
ً
رد املتظاهرين بصوت تقشعر له األبدان حماسة:
-إلسقاط األحزاب ،إلسقاط األحزاب.
][148
كرر ناصر عبارته أكثر من مرة وردت عليه الجماهير في كل مرة بحماسة أكبر ،قبل
كنسر معلق في السماء ليحفز املتظاهرين:
ٍ أن يصيح ناصر
-هاد البالد حنا ماليها ،ما غاديش يديروا فيها ما بغاو .حنا ماش ي بهايم وهداك
ماش ي مول البالد ،وحنا ماش ي عبيد وهادوك ماش ي أسياد .عاش الشعب،
عاش املغرب اللي بغيناه ديمقراطي ديال بصح ماش ي الديمقراطية ديال
األوراق والهضرة الخاوية ،بغينا سياسيين يشرفوا الشعب ويدافعوا عليه
ماش ي يشفروا البالد ويتآمروا علينا .عالش جينا اليوم؟
ورددت الجماهير من ورائه:
-إلسقاط األحزاب ،لإلسقاط األحزاب...
ظلت الجماهير تردد شعار إسقاط األحزاب بقوة واملظاهرة تتقدم في اتجاه ساحة
الياسر بآخر شارع محمد الخامس .قبل أن نصل الساحة التحق بنا بركات يمأله
ً
الحماس قائال:
-تخيلوا املظاهرة يفوق عددها 500ألف ،نصف مليون يا رفاق ،نصف
مليون...
ً
سأله ناصر فرحا:
-وماذا عن بقية املدن؟
رد عليه بركات وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة:
-كل التنسيقيات أكدت لي أن التظاهرات كبيرة في الرباط ومراكش وفاس
وأكادير وطنجة وكل التظاهرات منظمة ومتماسكة.
من فرط الحماس أخذ ناصر يعانق بركات مثنيا عليه قبل أن يأمره بالعودة إلى
عمله رفقة لجنته .التفت لززهة وجدتها غارقة في حوارات مع الصحفيين وهي
][149
ً
تتصبب عرقا ومالمح التعب بادية على وجهها .فجأة مال رأس ناصر اتجاه أذني
وصرخ كي أسمع كالمه وسط الضوضاء:
ً
الحظت شيئا يا ليلى؟
ِ -هل
قبل أن أجيبه سقطت في بالي فكرة أن أكتب له على ورقة كي ال يسمع أحد ما
سأقول له ،فأخذت قلما وورقة من حقيبتي وكتبت له:
-النظام ذكي ،ترك املحالت واملتاجر في الشارع مفتوحة في املقابل أوقف
الترامواي وسحب قواته األمنية بالتدريج .إنه يخطط لبث الفوض ى في
املظاهرة وتلطيخ صورة املحتجين .أكيد أن عمالءه مدسوسون بيننا
اآلن .علينا أال نطيل زمن املظاهرة.
وضعت الورقة في يد ناصر ثم قرأها بتمعن قبل أن يضعها في جيبه .انشغل في
التفكير للحظات ،ثم أخفض رأسه مرة أخرى ليقول لي:
-أقترح أن تصل املظاهرة إلى أمام محطة القطار.
-ال يا رفيق ،إنها املظاهرة األولى للحركة يجب أن تنتهي بصورة جيدة
ومتماسكة ،لذلك عليها أن تكون مقتضبة...
ً
هز رأسه موافقا ثم قال لي:
-حسنا ،سننهي املظاهرة في ساحة الياسر.
كانت مظاهرة هذا اليوم مفتاح النصر األول لحركتنا ،أصبحت مطالب حركة نحن
نستحق على كل لسان وأصبحت تشغل وسائل اإلعالم الوطنية والدولية وغدونا ال
نبرح القنوات واإلذاعات كي نشرح للشعب مطالبنا ونضغط على النظام أكثر.
استمرت مظاهرات الحركة ألكثر من شهرين ،تضامنت معنا خاللها شبيبات
ً
األحزاب وتفهمت أحزاب اليسار الراديكالي مطالبنا داعية إلى تشكيل أحزاب
][150
جديدة وإصالح املنظومة السياسية بشكل جذري ،فيما ظل النظام ومعه قيادات
بقية األحزاب صامتين يعدون لنا خطوتهم املفاجأة.
][151
هاديس ْ
][152
ْ ْْْْ18
الرباط 81-تشرين األول/أكتوبر 8102
ً ً
في مطعم لوكراند كومبتوار جلست هذا املساء أيضا أقلب ذكرياتي ...تارة أخطف
نظرة على شاشات التلفاز عس ى أن أرى ليلى ضيفة على أخبار املساء تتحدث عن
''حركة نحن نستحق'' وتارة أخرى أستمتع بالنظر إلى مها وهي تلبي طلبات الزبائن،
ً ً
بدت لي هذا املساء مختلفة ،جميلة أكثر لكنها حزينة أكثر أيضا.
ً
رميت نظري على زبائن املطعم ،بدوا جميعا حزينين هم اآلخرين تائهين بين
كؤوسهم ووجبات العشاء التي يأكلونها وسط نزف الذكريات .على الطاولة التي
تجلس عليها عادة رجاء الغالي وصديقاتها كان يجلس رجل خمسيني يحتس ي فنجان
قهوة على مهل بجانب سيدة من عمره ،خمنت أنها زوجته .ذكرني مشهدهما
باللحظات الجميلة التي كنت أشرب فيها قهوة الصباح إلى جانب سلوان بقطاع
غزة.
لم ِأع ما أفعل حينها ،جرفني تيار الذكريات ألركب رقم سلوان على هاتفي دون أن
أفكر وفي تلك اللحظات التي سمعت فيها رنين الهاتف ،تصاعدت دقات قلبي تباعا
حتى كاد يتوقف عند سماع صوتها الدافئ كعادته لكنه يحمل نبرة عتاب هذه املرة:
-تذكرتني لتوك...
ْ
ألتذكرك يا سلوان.
ِ -لم أنس ِك
-اشتقتك يا طارق ،كل ش يء في فلسطين اشتاق لك ،حتى أزيز الرصاص
يشتاق لعزف أجمل السمفونيات لك.
][153
ً
-سأعود قريبا يا سلون ،سأعود ألشرب قهوة الصباح إلى جانبك وألتحف
بندقيتي في املساء.
-لن تجدني عندما تأتي ...يبدو أنك ال تعلم ما يجري في غزة وما جرى
لرفاقك.
شعرت بانقباض في صدري وأنا أسمع كلماتها األخيرة ،بدا صوتها حزينا كأنها
فعل ما يحزنها ،لم أعرف عم تتحدث .فسألتها بانفعال:
ستقدم على ٍ
-ماذا تقصدين يا سلوان؟ ماذا هناك.
-ال تشغل بالك اآلن ،ليس هذا وقت الشرح ...
صمتت لحظة ثم أردفت:
ً
-طارق ،ملاذا يأتي الحب مغلفا بطعم الخوف والهزيمة؟
ً
أجبتها مستسلما لسؤالها:
-ألننا نخاف أن نفقد من نحب ونخش ى من أقدارنا املجنونة أن تهزم فينا
آمال الحب ...هذا هو الحب يا عزيزتي ،ال يأتي كامال.
-القدر ذاته ال يأتي كامال يا طارق .القدر كما الحياة ينقصهما أشياء كثيرة
كي يكونا جديرين بالوجود .قدري كفلسطينية ينقصه وطن وقدري
كامرأة ينقصه أنت.
-لو تعلمين كم ينقصني أنا يا سلوان ،ينقصني وطن ينتمي لي كما أنتمي
حلم يعيد الحياة لسكة األمل ،وينقصني الحب ملجأ إليه ،ينقصني ٌ
الالجئين ،ينقصني الطفل الذي ضيعته في زحمة اآلمال املنكسرة ،هل
بوسعي يا سلوان أن أشفى من وجع الحياة؟
-لم ال تنس ى كل ش يء وتبدأ من جديد...؟
][154
-في كل مرة أحاول فيها النسيان أنتهي من جديد...
سمعتها تقول بصوت موغل في الحزن:
-طارق ،لن نلتقي مجددا ،لكنني سأنتظرك ،سأنتظرك مع كل شهداء
الوطن...
-سلوان ،ماذا تقصدين؟
-سأتركك اآلن ،اعتني بنفسك.
ً
مهل وأنا
وقطعت الخط تاركة إياي لجمر التخمينات التي غزت قلبي لتحرقه على ٍ
أتذكر كل لحظاتي معها .تساءلت مع نفس ي أين ستذهب سلوان؟ ملاذا قالت لن
ٌ ً
شعور باالنقباض يتوغل في داخلي أكثر وأكثر إلى أن سمعت نلتقي مجددا؟ بدأ
نغمات عزف العود للثالثي جبران تجتاح مسامعي وتحيل ناري إلى رماد يقتات من
نغمات العود الحزينة.
التفت إلى مها ،كانت تنظر إلي بعينيها الصافيتين وعلى شفتيها الكرزيتين ابتسامة
ً ْ
ولهى .قلت لها مبتسما أنا أيضا:
وضعك هذه املوسيقى...
ِ -شكرا ِ
لك على
ردت علي بصوتها العذب:
-ملحتك حزينا تناجي كأسك ،فتذكرت هذه املقطوعة التي تعجبك.
-نعم هي تعجبني ،لكنها توغل بسامعها في أعماق الحزن وتعزف على أوتار
الوجع...
-لذلك اإلخوة جبران أطلقوا عليها اسم شجن.
ً
أومأت لها برأس ي قائال:
][155
-يجب عليك أن تسمعيها وهي ترافق صوت درويش وهو يقرأ قصيدة
انتظرها ،فعال تحفة.
أدارت ظهرها لترص الكؤوس على فيترينا الكومبتوار ،ثم جاءني صوتها مدندنا
بقصيدة درويش ،كأنها تهديني كلماته التي حفظتها مع أنغام الثالثي جبران:
بالالزورد ،انتظرها
ِ بكأس الشراب املرصع
على بركة املاء حول املساء وزهر الكولونيا ،انتظرها
بصبر الحصان املعد ملنحدرات الجبال ،انتظرها
بذوق األمير الرفيع البديع ،انتظرها
بنار البخور النسائي ملء املكان ،انتظرها
صمت عدت فيها لتأمل زبائن املطعم:
ٍ قالت لي وهي تقف أمامي بعد لحظة
-هل ستنتظرها أنت؟
ً
سألتها مستغربا:
-من سأنتظر؟
-أنا؟
-ملاذا؟ أين ستذهبين؟
ً
-سأرحل إلى إيطاليا ،لقد أخبرتني أختي أنها وجدت لي أخيرا عقد ٍ
عمل
هناك.
ً ً
تساءلت في نفس ي مستغربا ،ما الذي يجري هذه الليلة؟ الكل يودعني مغادرا ...لقد
ً
تحولت إلى محطة يغادرها الجميع بعد حضور قطار الرحيل ...قلت لها شاردا وأنا
أفرغ ما تبقى من كأس ي في فمي:
][156
-ألف مبروك يا مها.
بصوت حزين:
ٍ ظلت تحدق في عيني طويال قبل أن تقول لي
-هذا آخر مساء لي في املطعم.
لم أستطع النظر في عينيها ،كانت عيناها تعزف أغنية وداع قديمة ،رأيتها في مالمح
الكثيرين وهم يقفون في طوابير الرحيل أمامي ...تركت شفتي تهذيان بكلمات ال
يسمعها إال قلبي هذا املساء:
ً
بعدك هنا يا مها إال الهواجس ،تغزلني كالصوف معطفا لرحيلك ِ '' ...ال مكان لي
وكلمات وصور .ال مكان لي أمام ٍ شرنقة القدر ،أنسج ِك ذكريات ِ وكالحرير في
ليك وتسوقني إلى مقصلتي، شفاهي إ ِ
ِ كؤوس الخمر دونك ،فهي تسرق القبل من
شفتيك ،فأنا األول في الغرام واألصل في حكايات كل
ِ شفتيك ...أنا وإن كنت لقيط
ِ
الرجال .تراني من أعشق اآلن؟ ليلى ،سلوان ،مها ،أماليا ...هذا هو سؤالي املعتق
وأخسر حتى أ ْدمى
أخسر ِ نرد مغشوشِ ، في خوابي الذكريات وعمري املكتوب بلعبة ٍ
رجل أخلد ملن توجد اآلن في أمسيات الوجود على صفحات القدر من الخواء .أنا ٌ
ركام القدر وتراتيل الغياب'' ...
وأحن لتلك التي تختبئ وسط ِ
رفعت رأس ي ألجدها ماتزال متسمرة أمامي ،كأنها تسجل كل تفاصيلي قبل أن
ترحل .قالت لي وكأنها تتعمد إيالمي:
-سأشتاق لك...
لم أفهم الشعور الذي خالجني في تلك اللحظة ،وجدتني فقط أطفئ سيجارتي
وأقول لها:
ً
عرضك لي بالرقص على أنغام زهرة هندي قائما؟
ِ -أالزال
ْ
نظرت إلي طويال وهي تغالب الججل على وجنتيها ،ثم قالت:
][157
-في شقتك؟
ابتسمت لها مع إماءة من رأس ي ،قلت لها:
ً
-فليكن ،اذهبي لتأخذي حساب نهاية خدمتك وتعالي نقيم عرسا
لرحيلك ،فبقلبي آالف الكمنجات تعشق العزف على نغمات الرحيل
ِ
ونوتات الوداع.
اشة ترقص بأجنحتها منتشية برحيق وجودي طوال الطريق ،مشت بمحاذاتي كفر ٍ
بقربها .كانت تعد خطواتنا بابتسامتها وهي تعانق ذراعي وتوغل برأسها في حضني إلى
أن وصلنا إلى شقتي في حسان.
بعد أن تناولنا وجبة العشاء التي أعددتها بيدي احتفاال برحيلها غرقنا في حديث
ممتع عن ذكرياتنا في مطعم لوكراند كومبتوار ،تحدثنا عن لقائنا األول ،سنواتنا
األولى .ضحكنا على حماقاتنا وعن اللحظات التي اشتبكت فيها مشاعرنا على
أحضان الكؤوس والشعر وتاريخ األدب إلى أن قالت لي بنبرة حزينة:
-لقد مر بنا الزمن سريعا يا طارق ،أمعقول أن يكون لقاؤنا في شقتك هنا
آخر لقاء لنا؟
أجبتها وأنا متعجب أيضا كيف وصل بنا القدر على غفلة إلى نهايتنا:
فمن بعضها تولد البدايات. -ال تخش ي النهاياتِ ،
ً
مالمحها بأناملي:
أردفت قائال وأنا أداعب ِ
ً
-أنا ِ
وأنت ال نهاية لنا ،سنهزم القدر وسننتزع من السماء بداية لنا في كل
لقاء...
][158
دوالب صغير عن قرص مدمج ألغاني زهرةٍ أطفأت سيجارتي ووقفت ألبحث في
هندي .وجدته مغلفا بالغبار كما بالذكريات القديمة .وضعته في جهاز املوسيقى
وضغطت على رقم ،4لتنبعث كلماتها الجميلة:
Here comes the time
For my heart to heal the past
From now and then
There will be the good and the best
Oh when your eyes and mine
Can see the same
Our love could last
ً ً
التفت إليها فاتحا ذراعي في الهواء قائال:
ً
-تعالي ،لنكتب معا بداية فصل جديد ،تعالي لنهزم النهايات...
دلفت بجسدها إلي والتصقنا ،صدرها على صدري يرقصان على دقاتهما ورقصنا
نحن على أنغام زهرة هندي .ظلت تتطلع إلي بمالمحها التي كانت تعيدني إلى
سنواتي الطويلة على مشربة لوكراند كومبتوار وذكريات التائه بداخلي على
وبدمع خفيف يغرق
ٍ مشارف الحب والوطن والقضية .شعرت بنبضات قلبها تزداد
عينيها .مر بي حينها تيار جارف قذفني إليها ألضع شفاهي على شفتيها وأمتص منهما
رضابها العذب املعد لي منذ زمن .تداركت نفس ي ألصلح خطأ شفاهي على شفتيها،
لكنها رفضت تركي والتحمت شفاهنا.
سرت بجسدي نشوة افتقدتها مع أماليا وتعجبت لجسدي اللعين الذي تبنى حتى
العودة إلى أرضه
ِ هو القضية وغرقت أنا في عجبي بين ضفافها ،كالجئ يمارس حق
بعد طول غياب .بدأت من األعالي تارة ،حيث أعناقنا غنت لرضاب الحب املعتق في
ً
شفاهنا ،ومن سيقان الحياة تارة أخرى حيث غابت الشمس بكسل تاركة خيوطها
][159
ً ً
خنادقا ووشما في وجه الحب ومياهه اللزجة .تلعثمت وأنا أراجع درس مطارحة
الغرام على تفاصيلها وأغرق في خاصرتها حد الفناء وفي يدي حمام صدرها
ً
أحرسهما كي ال يحلقان بعيدا دوني .ثم أطل برأس ي من على صفحة املاء كالباحث
ً
عن أنفاسه وسط هواء اآلخرين ويجذبني الحب إلى األسفل من جديد ،جيئة
ً ً ً
املوت
وذهابا ،إقباال وإدبارا ...ألهث من أجل البقاء ،أنس ى تنفس ي السريع وراء ِ
ً ً
سفوح حواء ...ونصرخ
ِ في دمآ دمق الزمن، في قديمة نغمات
ٍ على معا ونرتعش غرقا
ً ً ً
معا ال طلبا للنجاة ،بل للغر ِق معا ،فما أجمل أن نغرق معا ...إلى األبد.
في الصباح ،تلمست مكانها بجانبي على السرير فلم أجدها ،صحت مناديا عليها
بكل األسماء التي سميتها إياها :مها ،ماهي ...لكنها ما ردت علي .نهضت مستغربا من
السرير بحثا عنها ،لتفاجئني رسالة كتبتها بأحمر الشفاه على مرآة الدوالب'' :لقد
ولدت من جديد بين أحضانك ،سأعود إليك ،نعم سأعود إليك ...عساك تكون لي
ً
يوما .أحبك''
][160
ْ ْْْْ19
الدار البيضاء 81-تشرين األول/أكتوبر 8102
كنت جالسة أمام املرآة عارية ،أرقبك واقفا ورائي تنظر إلي بعينيك السوداوين.
قلت لك وأنا أتحسس خيالك على وجه املرآة اشتقتك يا طارق ،لكنك لم تجبني...
غرقت في حضنك وأنا أتخيلك تضمني بشوق وتترك يديك تتحسس ظهري ثم
تداعبان نهدي...
شعرت بيدين باردتين تلمس كتفي ،ما عهدت يديك باردتين يا طارق !! فتحت عيني
فقفزت من مكاني وقد تملكني الهلع .لقد كان جالل.
يتملكك عند رؤيتي؟
ِ -صار الهلع
ً
قال لي متفاجأ من ردة فعلي قبل أن يخفض رأسه للثم عنقي .أجبته مرتبكة:
-فاجأتني بدخولك بال حس وال حركة...
ً
لم يجبني .ترك فمه يعبث الهثا بأسفل عنقي ويضغط بيديه على صدري ويوغل
ً
بهما بين سا ي .وقفت مبتعدة عنه قائلة:
-من فضلك يا جالل ،ال مزاج لي لهذا.
ً
قال بزرفزة وهو يلتصق بصدري بقوة رافضا تركي:
أشتهيك هذه الليلة...
ِ -لن ِ
أدعك ،أنا
دفعني على السرير ثم أخذ يززع ثيابه ويمرغ جسده بجسدي ،لم أستطع مقاومته
ً ً
كان هائجا عنيفا ،بدأت الدموع تنهمر على خدي وأنا أرى جسدي قد أصبح
مستباحا من رجل آخر غيرك ،يغتصبني كجارية لديه ،أصابني الهلع وأنا أتخيل
][161
ً
لرجل غيرك ...فصرخت كاملجنونة ورميت بجسد جالل
بطني ينتفخ ،وأحمل جنينا ٍ
بكاء هيستيري.
كالجيفة من على السرير .غرقت بعدها في موجة ٍ
ظل جالل جالسا بجانب السرير متفاجأ من ردة فعلي ،دون أن ينبس بكلمة .مرت
علينا دقائق طويلة من الصمت قبل أن أسمعه يقول وهو يلبس ثيابه:
-أتظنين أنني ال أعلم ما تخبئين طيلة سنتين من زواجنا ،سنتين بأكملهما
وأنت تخونين
وأنت غريبة األطوار ،سارحة ،هائمة على نفسك ،سنتان ِ ِ
زوجك...
قاطعته مستغربة:
-أخونك؟ !
ً
صرخ في وجهي قائال:
-نعم ،تخونينني .ماذا تسمين كل تلك االعترافات في دفتر يومياتك ،عن
وأنت
صوتك ِ
ِ حبك لذاك املسمى طارق؟ أليست هذه خيانة؟ ماذا عن
ذكرياتك
ِ نائمة تصيحين باسمه ''طارق'' ''طارق''؟ ِ
وأنت سارحة في
القديمة معه؟ حتى عندما كنا نمارس الحب على الفراش كنت أكاد
تناديه هو ليمأل جسدك لذة
ِ وكأنك
ِ شفتيك
ِ أسمع همس اسمه على
ونشوة...
توقف لبرهة وكأنه يلملم عبارات خانته هي األخرى على لسانه ...طأطأ رأسه ثم
ً
مرتفع أكثر:
ٍ بصوت
ٍ أردف قائال
طارقك هذا؟ ...
ِ سفرك املتكرر للرباط؟ ستقولين لي ليس لزيارة
ِ -ماذا عن
أنت ساقطة.
كم ِ
][162
تمالكت نفس ي وأنا أتلقى هذا السيل من الشتائم والتجريح ،ربما ألن نصف كالمه
صحيح وربما أيضا ألنني أصبحت قريبة من الخالص .نعم في هذه اللحظة انتابني
ٌ
شعور قوي ِملح بالخالص .استجمعت كلماتي ورميته بحجارة الخالص.
طلقني يا جالل ِ -
ً
رد علي مستهترا:
][163
ً
نزلت عليه كلماتي باردة وقاسية أفشلت لسانه عن الكالم ،ظل يحدق بي مندهشا
ومستغربا .هل استغرب من هول الصدمة أم من برودي وأنا أخبره أن ليال ليست
ابنته ال أعرف؟
ً ً
فجأة اندفع فمه منفجرا بكلمات نابية بالكاد سمعتها .انهال علي ضربا ولكما على
شف غليله لكماته فبدأ برفس ي بقدميه .لم أصرخ لم أنبس وجهي وصدري ،لم ت ِ
كاملذبوحة بكبرياء في يديه .أنتظر فقط الخالص منه كيفما كان
ِ بكلمة كنت
الثمن ،أن أتخلص منه وأعود إليك .نعم ،أعود إليك فأنا لم أكن لغيرك ولن أكون
لغيرك.
بعد خروجه التقطت هاتفي بأناملي املخضبة بالدماء وكتبت لك رسالة من لغة
ً ً ً ً
الوجع "تبا لك ،تبا للوطن ،تبا ألحالمنا املتكسرة ...أحبك فقط وتبا لكل ش يء"
][164
ْ ْْْْ21
الرباط 2-تشرين الثاني/نونبر 8102
ً
عند اقترابي من مطعم لوكراند كومبتوار ملحت سعيد من الواجهة متكئا على
الكومبتوار وشاردا كأنه يفك طالسم قضية ما .ما إن ملحني داخال قاصدا إياه،
حتى صاح بصوت متثاقل:
-تأخرت يا طارق.
سلمت عليه قبل أن أستفسره:
-ماذا هناك يا سعيد؟ أفزعتني على الهاتف .ملاذا طلبت حضوري على
عجل؟
صمت طويل قبل أن يجيبني بيأس:
ٍ غرق في
-أردت أن أسلم عليك قبل أن أرحل يا صديقي...
قاطعته منفعال من شدة تفاجئي:
ً
-ترحل أنت أيضا؟ هل حل موسم الرحيل دون أن أدري؟ يا إلهي ،ترحل
إلى أين؟
-سأرجع إلى أملانيا ،لم يعد لي ٌ
مكان في هذا الوطن.
ً
-نحن جميعا ال مكان لنا في هذا الوطن ،لكن الرحيل ليس هو الحل يا
سعيد.
-بلى ،الرحيل هو الحل .أنا أختنق هنا كما تعرف ،وأنت كذلك .انظر إلى
يوم هنا .هذه البالد طغا فيها االستبداد وغدت ال
نفسك كيف تذبل كل ٍ
][165
تحترم إنسانيتنا وال حريتنا في الحياة .لقد أخذت قراري ،سأمض ي بقية
عمري هناك ،في أملانيا.
شعرت بأمواج الحزن تقترب لتلطم شاطئي الذي كان هادئا قبل أن يعكره قرار
سعيد بالرحيل .تساءلت في قرارة نفس ي وأنا أتنفس دخان سيجارتي اليتيمة بين
ً
أناملي ،ملاذا كل من حولي يقررون الرحيل وأبقى أنا وحيدا أشرب من خوابي
ٌ
األطالل وحنين الذكريات؟ هل هناك لعنة ما تفرق بيني وبين كل من رافقت في
حياتي؟
قلت له محاوال بث األمل فيه:
-اسمع يا سعيد ،الزال بإمكانك أن تحقق آمالك هنا ،فشل قصتك مع
ً
حب جديدة وستبني هنا عشا
أسماء ليس نهاية العالم ،ستعيش قصة ٍ
وتحقق مشاريعك ،ال تفقد األمل يا صديقي...
ً
قاطعني مبتسما بسخرية وهو يجفف شفتيه من آخر رشفة قهوة من فنجانه:
-وهل تملك أنت األمل يا طارق؟
ْ
أسكتني سؤاله ،خنق كل الكلمات على شفتي وجعلني أنكأ جرحي القديم الجديد
مع األمل .أينك يا درويش لترى صدق قصيدتك في ،فقد غدوت العاطل عن العمل
أربي األمل.
ً
تداركت سؤاله قائال:
-على األقل أجل رحيلك لبضعة أيام.
ً
رد علي متأسفا:
-لقد فات األوان ،لقد حجزت لي في طائرة السابعة ً
مساء.
صمتنا للحظات ،ثم أردف قائال بعد أن خطف نظرة على ساعته:
][166
-علي الذهاب اآلن يا طارق ،سأشتاق لك...
فتح لي ذراعيه ،ثم عانقني بقوة قبل أن يقول:
ٌ ً
لصعب علي يا رفيق. -تبا لك ،إن توديعك
ً
اكتفيت باالبتسام في وجهه وأنا أداري الحزن الذي تملكني برحيله .خطا مسرعا
ً
نحو الباب ليتبعه صوتي مناديا إياه باسمه .التفت إلي منتظرا ما سأقوله له.
ً
ابتسمت ،ورفعت شارة النصر قائال:
-املاركسية لم تسقط يا رفيقي...
رد علي بمالمح حزينة:
ً
-نعم يا رفيق ،والقومية العربية لم تسقط أيضا ،نحن من سقطنا ...نحن
من سقطنا.
ذهب سعيد وتركني وحيدا ،أشرب سجائري على مهل في محراب الفراغ والعدم.
ً
تماما كاملسافر وحيدا عبر الزمن ،ينتظر نهاية التاريخ ،ينتظر ما وراء التاريخ
ليعرف آخر الحكاية ونهاية القدر ،إن كان للقدر نهاية !! ترى ،هل يملك هذا
العالم نهاية؟ أم أنه سيواصل دورانه األزلي إلى األبد عكس ما قاله كل األنبياء
ً
واألديان؟ لقد ِشخت أيها العالم وأصبح وجهك قبيحا تحفره التجاعيد ومآس ي
التاريخ ،أما آن لك أن تنتهي من دورانك العبثي وتدفن كل حكاياتك السخيفة؟
نظرت إلى مقعد سعيد وجدته يبكي غيابه هو أيضا ثم تطلعت إلى مكان مها فبدا
ً ً
شاحبا من دونها هي كذلك .ابتسمت وأنا أتخيل نفس ي سائحا يتجول وسط
أطالله ،يقلب صوره على أسواره البالية ويستمع كأي عجوز إلى موسيقاه القديمة
التي تسافر به إلى تفاصيل املاض ي الذي ال يعود .في ذاك الحين سقط نجيب في
فكري ،تذكرت أن غيابه أقس ى غياب أعيشه بعد رحيل ليلى ،ثم تذكرت ما طلبه
][167
مني في آخر اتصال لي به ،أراد أن يسمع صوت نرجس ،حبيبة عمره .ال أفهم ملاذا
الرجل يتذكر حبيبته األولى عندما يكون على أبواب املوت؟
ً
ورطة تضعني فيها يا
ٍ ترددت كثيرا وأنا أبحث عن رقم نرجس في هاتفي ألكلمها ،أي
ً
نجيب .تبا للحب.
-ألو ...
صوتك لم يتغير رغم كل هذه السنين ،الزال قويا كعادته.
ِ -
-من معي من فضلك؟
-طارق ،طارق ولد الخيل .أتمنى أال أكون قد أزعجتك هذا املساء.
باد على صوتها:
أجابتني بارتباك ٍ
ً
-طارق !! ،أهال وسهال .سعيدة بسماع صوتك ،كيف حالك؟
][168
ً ً
بصوت خفيف ،متعمدا أن أوصل لها ضحكتي املترنحة بينٍ صحت ضاحكا
ً
السخرية واأللم ،ثم أردفت قائال:
-كل رفاقنا أيام الجامعة كان لديهم نفس الحلم ،الكل كان ينتظر أن
يستبدل الكتب والدروس بالبندقية والرصاص ليدافع عن العروبة وعن
فلسطين والوطن ...لكن في آخر املطاف الكل انصرف إلى حياته الخاصة
ومشاريعه الشخصية الصغيرة...
أجابتني مقاطعة:
ً
-إال أنت ونجيب ،بقيتما على العهد وتسابقتما إلى فلسطين دفاعا عن
الوطن الذي تؤمنان به ،تركتما كل ش يء ،حتى حبكما.
قالت الجملة األخيرة بنبرة تعيسة تركت مرارة صوتها على خط الهاتف ...أجبتها:
-ال أحد يترك الحب ويهرب إلى الحرب يا نرجس...
-نجيب فعل ذلك .ترك حبنا وغادر إلى فلسطين ،كان يقول لي ال يمكن أن
أرى الصهاينة يقتلون إخوتي ويحتلون أرض ي بفلسطين وأجلس أنا هنا
شقة
أستمتع بالحب بين أحضانك وأخطط إلنجاب األطفال وامتالك ٍ
بالتقسيط...
تنهدت عساي أنفض عني ألم هذه الكلمات وقلت:
-نجيب لم يضح بحبكما من أجل فلسطين ،لقد عاد من أجلك ،ووجدك
ً
أنت من يالم يا نرجس ليس نجيب...
وأنجبت طفالِ ...
ِ تزوجت
ِ قد
أجابتني بعدائية:
-أهي عنصرية جنسية هذه؟ تقف إلى جانب نجيب ألنه ٌ
رجل مثلك
وتلومني ألني امرأة؟
][169
ً
-أبدا ،هذه هي حقيقة عالقتكما...
ٌ
أجابتني مستمرة في عدائيتها:
][170
-أعرف يا نرجس ،نجيب ال يطمح في العودة ِ
إليك .كل ما في األمر أنه يمر
ً
بأوقات صعبة هذه األيام ،يعيش معلقا بين املوت والحياة ويطلب آخر
صوتك ليس أكثر.
ِ منك ،أن يسمع
ش يء ِ
أجابتني باستسالم:
ً
-أين هو؟ في فلسطين مرة أخرى؟
-هو اآلن في تونس ،ولكن من أجل فلسطينِ ،
أنت تعلمين.
-ال أعرف إن كانت فلسطين قدركم أم لعنتكم !!
ثوان ثم قالت:
صمتت ٍ
-ماذا تخفي عني يا طارق؟
ً
عنك شيئا ...نجيب هرب من املغرب إلى تونس ألن املوساد -ال أخفي ِ
واملخابرات املغربية تالحقانه ،ومن تونس سيذهب إلى فلسطين إن
استطاع الفرار .اتصل بي قبل يومين وقال لي "ربما تكون هذه هي أيامي
األخيرة ،لكنني ال أريد أن أغادر دون أن أسمع صوت نرجس من جديد.
من فضلك أريد سماع صوتها ...ال أريد من قدرنا املحتال هذا سوى
صوتها لحافا لي في لحظاتي األخيرة ''
لثوان طويلة ،ثم أجابتني
ٍ ظلت صامتة ،أسمع فقط أنفاسها على خط الهاتف
بكلمات يخنقها الدمع:
-سأفكر في األمر وأجيبك يا طارق ،شك ًرا التصالك .عمت ً
مساء.
أقفلت الخط وأنا ألعن هذا املساء وألعن الحب الذي يتواطأ مع القدر كي يعيث
ً
في أيامنا الفوض ى والخراب ،وي ِحيل التاريخ بين الرجل واملرأة تاريخا من الحروب
والهجر.
][171
أال يمكن أن تكون هناك منطقة وسطى بين الرجل واملرأة ،معزولة السالح بينهما؟
خوف من
ٍ يمش ي كل واحد منهما إلى اآلخر دون توجس ،دون شك وحتى دون
الوقوع في الحب؟
من هذا املحتال الذي ربط كلمة ''الوقوع'' ب ''الحب'' في جملة جدلية متناقضة،
مليئة بالسقوط وإرهاصات الجاذبية؟ ،من هذا اإلرهابي الذي زرع حرف ''الراء''
وسط كلمة الحب ليحولها إلى نقيضها املأساوي ''الحرب'' هل هناك احتيال ما في
الحكاية؟
][172
ْ ْْْْ21
الدار البيضاء – 87تشرين الثاني/نونبر 8102
كما تتسرب املياه من شقوق الجبال ،تسربت إلي مشاعر الشك والريبة في
املستقبل هذه الليلة .تلخبطت كل أورا ي على دفتر الحياة عندما اتصل بي بركات
ً
عاجل للملك .لم أفهم مدعاة
ٍ فرحا يطلب مني فتح التلفاز واالستماع لخطاب
فرحه! شعرت بالتوجس وبالخوف فقط وأنا أستمع لنهاية الخطاب .بقيت ِ
ً
متسمرة أفكر فيما قد يحمله الغد لحركة نحن نستحق بعد هذا الخطاب ،قبل
أن يعود رنين الهاتف ليخطفني من جديد .أجبت دون أن أدري من املتصل:
-ألو...
-مساء الخير ليلى ،أزعجتك في هذا الوقت؟
-عزيز ،ال ال ،كيف حالك؟
-بخير ِ
وأنت؟
-عادي ،كما تعلم ال ش يء جديد في حياتي سوى انشغالي بالحركة...
بصوت مرتبك:
ٍ قاطعني
-ليلى ،أنا اتصل بك بخصوص الحركة ،وهذه املرة كي أحذركِ .
أنت
لك املضرة.
صديقة عزيزة علي وال أريد ِ
ً
أجبته منشغلة بما قاله:
-خير يا عزيز ،أخفتني؟
استمعت لخطاب امللك هذا املساء؟
ِ -
][173
-ليس كله ،ماذا هناك؟
-امللك أسس لجنة وطنية لصياغة قانون أحزاب جديد يلبي تطلعات
الشعب ويتماش ى مع مطالب حركتكم...
قاطعته بانفعال:
ً
-سمعت ذلك ،هذا التفاف فقط على مطالبنا وليس استجابة لها.
مطالبنا هي حل األحزاب الحالية وتأسيس أحزاب جديدة بطريقة شعبية
وتحديد األحزاب في ثالثة فقط.
-ليلى ،أنا لم أتصل ألناقشك في مطالب حركة نحن نستحق ،لدي
ً
معلومات بأن دوائر عليا في السلطة أخذت قرارا بطي هذا املوضوع
وإعادة صياغة قانون األحزاب كأقص ى تجاوب للدولة مع حركتكم...
-ماذا يعني هذا يا عزيز؟
-يعني أنه بعد خطاب امللك سيمنعون كل تحركاتكم وسيعتقلون نشطاء
الحركة .اآلن أنتم مجبرون على املوافقة على مبادرة امللك أو ستواجهون
ً
أنت تعلمين جيدا ماذا يعني ذلك يا ليلى.
الدولةِ .
صمت:
ٍ أجبته بعد لحظة
-عزيز؟ هل أرسلوك إلخافتنا؟
ٌ ً
-ليلى ،أقسم لك بأيامنا الجميلة التي قضيناها معا ،أنا خائف عليكم
وهذه املعلومات وصلتني للتو .أنتم لم تهونوا علي رغم كل ش يء .بلغي
رفاقك وحذريهم قبل فوات األوان...
-ما مدى قرارهم؟
][174
ً
-هم ينتظرون موقفكم من الخطاب امللكي ،إذا كان سلبيا سيتحركون
العتقال قادة الحركة وسجنهم حتى تهدأ األوضاع وتنتهي املظاهرات في
الشارع.
ً
صمت برهة ثم عاد ليقول لي:
-ليلى ،فكري في ابنتك ليال وفي طارق الذي ينتظرك كي تكوني جنبه.
ليلتك سعيدة.
فجأة توقف العالم من حولي وحلت علي لحظات سكون قاتلة .ال أبشع من أن
قادر على فهم ما يدور حولك ،غير ٍ
قادر على التفكير تجد نفسك تائها ،غير ٍ
والتخطيط لغدك .سألت نفس ي ماذا علي فعله اآلن؟ أتجاهل كالم عزيز وأترك
رفا ي في الحركة ملصيرهم؟ أم أخبرهم؟ ...بقيت أفكر لدقائق طويلة قبل أن
أسحب هاتفي واتصل بناصر:
-ألو...
-ألو ناصر ،مساء الخير
-بل قولي مساء االنتصار يا رفيقتي.
ً
صحت مستغربة:
-انتصار؟ !!
-ألم تسمعي خطاب امللك؟
أجبته بال اكتراث:
-ستقول لي كبركات أن النظام أظهر ضعفه وبدأ يتراجع...
][175
-نعم ،بركات معه حق ...هذا هو التحليل السليم ،هذه هي فرصتنا
لالنقضاض ودفع النظام إلى االستجابة ملطالبنا من خالل الرفع من وثيرة
املظاهرات...
تفاجأت من حماسته ومن صوته الواثق قبل أن أرد عليه بحذر:
-ناصر اسمع ،اللعبة أصبحت خطرة اآلن ...علينا أن نتريث.
ً
تبدل صوته كأنه شعر بش يء مريب في كالمي قائال:
-ليلى ماذا هناك؟
ً
نظرت إلى الساعة في يدي ،كانت تشير إلى قرابة التاسعة والنصف ليال .فأجبته:
-ناصر هل يمكننا االجتماع اآلن؟ املوضوع طارئ.
ً
سكت برهة ثم قال مستسلما:
-كما تريدين ،أنا الزلت في مكتبي ،سأدعو رفاقنا.
-حسنا نلتقي في املكتب.
-الى اللقاء...
ً
وصلت مكتب ناصر متأخرة بعد معاناة مع املواصالت دامت أكثر من ساعة في
وسط املدينة .فتح لي ناصر بنفسه الباب وصاح بزرفزة:
أنت من دعوتنا لالجتماع يا حسرة. -ليلى ِ
أنت دائما متأخرة ،هذه املرة ِ
-أنت تعرف أزمة السير في هذه املدينة الغول...
ً
تركته يقفل الباب ورائي واتجهت إلى مكتبه مسرعة حيث وجدت كل الرفاق
ً
يتجمعون حول املكتب .عندما ألقيت عليهم التحية ملحت بركات غارقا في نقاش
حاد وعصبي مع نزهة ،خمنت أنها تعارضه في موقفه من خطاب امللك.
][176
صمت طويلة ،كأن كل واحد منا
ٍ عندما عاد ناصر الى املكتب خيمت لحظات
ً
يتحاش ى البداية قبل أن تقطع نزهة صمتنا قائلة:
-ناصر ،طمئني أنك لم تدعونا لتناول وجبة صمت ونمض ي.
رد عليها ناصر بسرعة:
-اسألي ليلى ،هي من طلبت اجتماعنا في هذه الساعة .لقد أخبرتكم بذلك
على الهاتف.
ً
التفتت إلي نزهة قائلة:
-ليلى ،هللا يسمعنا خير!
أجبتها مطمئنة:
-خير إن شاء هللا .لكن قبل أن أخبركم بما لدي ،أود أن أعرف ارتساماكم
حول خطاب امللك هذا املساء وما القرار الذي ستخرج به حركتنا .هل
سنوافق على مبادرة امللك إلعداد مشروع قانون أحزاب جديد أو
سنتشبث بمطلب حل األحزاب؟
ً
رفعت نظري إلى ناصر قائلة:
-ناصر ،أنت أوال من فضلك.
ذكاء كبيرا لفهمه .فبعد شهرين من -بالنسبة لي ،الوضع ال يحتاج ً
املظاهرات التي تتسع كل يوم ومع حجم الضغط الكبير في الشارع وفي
وسائل اإلعالم والتواصل االجتماعي يبدو أن النظام بدأ يستشعر
خطورة استمرار الوضع على ما هو عليه وأصبح يبادر إلى إيجاد حل
للوضع على غرار خطاب امللك هذا املساء .أنا أرى أن هذه بداية النهاية
][177
والنظام سيتنازل أكثر وأكثر حتى يحقق مطالب حركتنا ويتخلى عن دعم
األحزاب الحالية .ليس علينا اآلن سوى الصمود حتى النهاية يا رفاق.
التفت لبركات على يساري ثم قلت له:
-بركات أنت تشاطر ناصر نفس املوقف كما أعلم ،أليس كذلك؟
رد علي بحماسة:
ً
-تماما.
-وأنت يا عبد الصمد؟
ً
رد علي عبد الصمد متثاقال:
-أميل لرأي ناصر لكن علينا استشارة التنسيقيات واملكاتب املحلية
التخاذ موقف رسمي ،نحن حركة جماهيرية يا رفاق يجب أال ننس ى هذا.
حدقت في نزهة:
-نزهة ما ر ِ
أيك؟
ً ً
ترددت طويال قبل تنبس بكلمات متقطعة قائلة:
-علينا أن نرحب بمبادرة امللك ،ونعمل في إطارها.
صرخ ناصر وبركات وعبد الصمد في الحين ذاته من شدة االندهاش:
أجننت يا نزهة؟ تريديننا أن نتخلى عن مطالب الحركة ومبادئها...
ِ -ماذا،
ردت عليهم صارخة بدورها:
-إن لم نفعل ذلك سنواجه النظام وسيرموننا في السجن ورغم ذلك لن
نستطيع فعل ش يء .من الحكمة أن نصلح من الداخل على أن نتشبث
بمبادئنا الراديكالية دون طائل...
][178
تسمرت أنا األخرى مندهشة من كالم نزهة ،لم أكن أتوقع أن يكون هذا موقفها.
بدت مختلفة هذا املساء ،مالمحها مشدودة ونظراتها تائهة .كان ش يء ما يشغلها لم
أستطع معرفته.
صمت تعمنا:
ٍ بصوت هادئ بعد أن تركت لحظات
ٍ أردفت
-وأنت يا يوسف ما رأيك؟
ً
وبصوت متقطع:
ٍ رد علي مرتبكا
-صراحة ال أعرف ،الوضع ضبابي وغير واضح...
صمت من جديد علينا بعد جواب يوسف ،كان الكل ينظر إلي ٍ حلت لحظات
ً ً
منتظرا كالمي ،وحدها نزهة كانت سارحة منشغلة في ش يء ما .ترددت بدوري كثيرا
ً
قبل أن أفاتحهم في املوضوع قائلة:
ً
-حسنا اسمعوا يا رفاق ،أنا تماما كيوسف ليس لدي موقف محدد ،لكن
لدي معلومة مهمة ألشاطرها معكم وفي رأي علينا أن ...
لم يتركني ناصر أكمل كالمي حتى قاطعني بعصبية:
-هيا يا ليلى ال تطيلي علينا من فضلك ،قولي ما عندك دفعة واحدة...
استكملت كالمي بفارغ الصبر:
-هذه الليلة اتصل بي عزيز وأخبرني أن النظام ينتظر أن نصدر موقفنا
من خطاب امللك ،إذا لم ننضم ملبادرته ونؤيدها سيتحركون العتقالنا
وسيواجهون أنشطة الحركة بالقمع وبالقوة.
ً
ضحك ناصرا ساخرا قبل أن يقول:
-الزلت تسمعين لترهات ذلك الخائن يا ليلى ،لقد أرسلوه ليخيفنا ويؤثر
علينا كي نؤيد مبادرة امللك وينهون مشروع الحركة ،هذا كل ما في األمر.
][179
-ال يا ناصر ،لقد شعرت بعزيز صادقا في كالمه هذه املرة ،كما أن كالمه
منطقي .إن لم نؤيد صياغة قانون أحزاب جديد سنصبح في مواجهة
ً
امللك واألحزاب معا ونحن اتفقنا منذ البداية أن نحيد امللك من صراعنا
مع األحزاب...
تدخل بركات بزرفزته املعتادة:
-امللك هو الذي اختار أن يقف مع األحزاب ضدنا اآلن ،ولن نرحم من
يقف ضد الحركة...
أجبته بزرفزة مماثلة:
-امللك قادر على أن يقتل حركتنا في ساعة واحدة يا أهبل ،املواجهة لن
ً
تفيدنا في ش يء خصوصا أننا ال نملك القوة لها...
-الشعب معنا ،وسنضغط حتى يتحقق املطلب األساس ي للحركة...
ً ً
طيعا مستسلما ،سنجد أنفسنا وحيدين -الشعب دائما يمش ي وراء امللك ِ
في آخر املطاف...
قاطعنا ناصر رافعا صوته بحدة:
-اسمعوا يا رفاق ،ال يمكننا أن نتراجع عن مبادئنا .املبادئ التي أسسنا
بموجبها حركتنا تبقى خط أحمر.
ً
بصوت خافت:
ٍ نظرت نزهة إلى ناصر طويال ثم قالت له
-إن لم نتفق على إصدار بيان يؤيد مبادرة امللك وننضم لها ،سيتعذر علي
أن أواصل معكم مشوار الحركة...
ً ً
زفر ناصر في وجهها قبل أن يقول مبتسما بسخرية:
][180
ً
أنت وليلى مختلفتان كليا هذا املساء ...ال نكاد نفهمكما.
ِ -
ثم التفت إلى عبد الصمد مسترسال في سخريته:
-يبدو أن النساء أقل حماسة وشراسة من الرجال في مسيرة النضال يا
رفيق...
قاطعته نزهة من جديد غاضبة:
-ال تتفوه بكالم رجعي من فضلك يا ناصر ،هذه وجهة نظري وموقفي...
-لن نقبل بمبادرة امللك ،ولن يخيفنا أحد ،الحركة ستستمر في النضال
ً
من أجل تحقيق كل مبادئها التي اتفقنا جميعا حولها منذ البداية .من
يتراجع عن مبادئها فليغادرها ...النضال ال يتوقف على شخص أو
مجموعة أشخاص في اآلخر...
ً
سكتنا جميعا بعد كالم ناصر ونحن ننظر إلى نزهة تجمع حقيبتها غاضبة ثم
تغادر املكتب دون أن تنبس بكلمة واحدة .بدا واضحا أن فريق الحركة بدأ
يتشتت.
ً
صمت أردف ناصر قائال بزهو:
ٍ بعد لحظة
-الذي يوافق نزهة في موقفها أو يرى أن على حركة نحن نستحق أن
توافق على مبادرة امللك ،فليتفضل باملغادرة ،مكانه أكيد ليس معنا.
لم يترك لي ناصر ما أقوله ،أربك كل الكالم في لساني .لم أعرف هل أغادرهم أنا
األخرى أو أبقى معهم وأنا غير مقتنعة بمسار الحركة ومتأكدة بأن النتائج ستكون
ً
كارثية علينا جميعا.
في الوقت الذي كان فيه ناصر وعبد الصمد وبركات ينظرون إلي وكأنهم ينتظرون
حسم موقفي ،صاح يوسف بخجل:
][181
-آسف يا رفاق ،سأغادر أنا اآلخر ...ليست لدينا اإلمكانيات ملواجهة امللك
ولست مقتنعا بنجاح مشروع الحركة بعد هذه الليلة...
لم يمهله ناصر لينهي كالمه حتى قاطعه:
-مع السالمة يا يوسف.
أخفض يوسف رأسه متأسفا ملا يجري .ثم وقف مغادرا .بعد أن أقفل يوسف
ً
الباب وراءه التفت لناصر قائلة:
-ناصر ،في مثل هذه الظروف الصعبة علينا أن نسمع لبعضنا البعض
ً
ونناقش جميع وجهات النظر ونتخذ القرار األقل ضرارا ال أن ننقسم
ونشتت جهودنا هكذا...
-القرار األقل ضررا هو أن نتشبث بمبادئنا ال أن نبيع الحركة للنظام
ونخدع الجماهير التي آمنت بمشروعنا .اسمعي يا ليلى لن أطيل النقاش
معك ،هذه الليلة سنصدر بيان الحركة الذي سيتماش ى مع املبادئ ِ
التأسيسية لها وسزرفض مبادرة امللك ونحن مستعدون للتصعيد مع أي
كان .عبد الصمد وبركات يشاطراني نفس املوقف ،وبإمكاننا استكمال
عنك اآلن؟ احسمي موقفك.مهام قيادة الحركة بكل سهولة ،ماذا ِ
بصوت في داخلي يقول لي ال تغادري
ٍ تبادلنا نظرات طويلة في الوقت الذي شعرت
رفاقك ،هذه الحركة هي أمل كل الشعب املغربي ،هي أمل كل من يغنون للحرية،
للحب ،للوطن وللحياة .لكن صوت كلمات عزيز التي قالها لي في الهاتف كان أقوى،
معه حق ،فليال وطارق عندي أغلى من كل ش يء وهما في انتظاري ألجمعهما وأعود
ً
لهما معا .وقفت بكل ثبات قائلة'' :أتمنى لكم التوفيق يا رفاق'' وحملت حقيبتي
وغادرت.
][182
ْ ْْْْ22
الرباط – 82تشرين الثاني/نونبر 8102
أدرت املفتاح في القفل ،دورتان على اليمين فانفتح باب شقتي ...خطوت خطوتين
في الظالم وأنا أتحسس مكان مفتاح الضوء .ضغطت عليه فصاح الضوء راقصا
بلونه األبيض في أرجاء الشقة ...تسربت إلي نشوة غامضة ،ربما ألن الظالم بدأ
ً
يخيفني على غير عادتي وربما أيضا ألنها ترافقني هذا املساء.
ً
ها قد نجحت أخيرا في ربط قلبيهما ولو باتصال هاتفي ينقل همساتهما ،وما الحب
في األخير سوى قصص أبطالها نظرة وهمسة وقبلة.
التفت إلى الباب املفتوح وصحت:
-تفضلي ،أكيد لن تبقي عند الباب.
دخلت نرجس بخطوات متثاقلة وكأنها تحترس من مفاجأة ما ،تجولت بعينيها في
أرجاء املكان .بدا عليها االستغراب عندما لم تجد أي قطع أثاث أخرى غير تلك
األريكة املتسمرة كاليتيمة في وسط الشقة.
ً
فاجأتني قائلة:
-شقتك هادئة ،لكنها حزينة ،ألديك مشكلة مع قطع األثاث؟
أجبتها وأنا أتوجه إلى غرفة النوم:
-كثرة األثاث توحي باالستقرار واالنتماء ...وأنا ال أريد أن أقتل في طارق
املشرد والالمستقر ...
سمعتها تجيبني وأنا منشغل في نزع سترتي ووضعها في الدوالب:
][183
-ربما من األفضل لك أن تقتل حالة الالستقرار والضياع التي تعيشها.
لم أجبها ،اكتفيت فقط باختالس النظر إليها وهي تنشغل في النظر إلى اللوحات
التشكيلية املعلقة على الجدران ...
توجهت إلى املطبخ ،حيث وضعت القهوة فوق النار وأخرجت عصير الليمون الذي
أضعه دائما في الثالجة كي ينقذني في مناسبات كهذه عندما يزورني ضيوف على
غفلة.
لحظات قليلة ثم عدت إليها محمال بكؤوس العصير وفناجين القهوة ...كانت ال
تزال منشغلة باللوحات.
ً
حاولت أن أقطع انشغالها قائال:
-عصير ليمون أو فنجان قهوة؟
بدا أنها لم تسمع ما قلت أو أنها منشغلة بالتفكير في ش يء ما .كانت تائهة باألصح،
ناديتها من جديد:
-نرجس !!
برباط أحمر جميل ظل ْ
أمسكت خصلة شعرها بأناملها الرقيقة وأعادت حزمها ٍ
ً
ملتصقا بشعرها بشكل فوضوي منذ لقائنا ،ذكرتني هذه الحركة بليلى ...
ليلى دائما تداعب خصلة شعرها بين الحين واآلخر ،تعيد ربطها حتى وإن كانت في
غير حاجة لذلك ،ربما فقط لتنثر عطر شعرها في الهواء .هي تعرف أن رائحة
ً
شعرها تغريني وتبني لي طرقا حمراء إلى الهاوية .هاوية الغرام.
-أختار كأس العصير ...
][184
أجابتني نرجس وهي تدير نصف وجهها نحوي ...س ْ
معت سؤالي إذن! لكنها ظلت
منشغلة ،توزع نظراتها على كل لوحة وكأنها تحفظ تفاصيل ألوانها وخطوطها .ما
الذي أثارها في هذه اللوحات يا ترى...؟
حملت إليها كأس العصير ووقفت بجانبها متأمال اللوحة التي لم تغادر أعينها منذ
مجيئنا.
بصوت
ٍ لم أسألها ،كنت أنتظر أن تبادلني الحديث ...بعد لحظات صمت قالت لي
يميل للهمس:
-هذه اللوحة أشعرتني بقلق غريب.
ً
أجبتها مبتسما:
-القلق هو ذاته السبب الذي جعل ''ادفارد مونش'' يرسمها .هي فعال
تشعر كل من يقف أمامها بحالة من القلق والخوف والشعور الشديد
بالوحدة ،توغل بنا في عالم من الصراخ وسؤال الذات ،لذلك س ْ
ميت
بلوحة ''الصرخة''.
بدا على نرجس اهتمام كبير بلوحة الصرخة فبدأت تسألني عن حياة صاحبها
ً ً
ومعانيها .حاولت أن أتهرب من موضوع اللوحة كونه موضوعا حزينا ويثير في داخلي
ذكريات قديمة ولكنها أصرت أنها لن تشرب العصير إال وأنا أحكي لها كل ش يء عن
هذه اللوحة.
مساء .كان نجيب قدخطفنا الحديث من الزمن حتى وصلت الساعة الى السادسة ً
طلب مني االتصال به في هذه الساعة ومعي نرجس .نظرت إليها وسط لحظة
صمت حلت علينا قبل أن أقول لها:
ً
-إنها السادسة تماما ...سأتصل بنجيب ،مستعدة؟
][185
أركب رقم هاتف مززل نجيب بتونس وهي أومأت لي برأسها باإليجاب .ملحتها وأنا ِ
ً
تعد شعرها وتصلح جلستها وكأن نجيب سيحل بيننا بعد دقائق .تبا للحب ،ال
عقل له.
ٌ
منشغل بمالمح نرجس التي امتزجت عليها تعابير الحب ظل الهاتف يرن وأنا
واالرتباك ،فجأة قطعني صوت امرأة على الطرف اآلخر من الخط:
-ألو ...
هذا صوت وداد ،صديقة نجيب .لكن ما به صوتها حزين هكذا.
-وداد أليس كذلك ،مساؤك ورد ،أنا طارق...
بنبرة خافتة:
لم تمهلني ألكمل كالمي حتى صاحت ٍ
ً
-ع السالمة طارق ،أهال
بثقل وتشتت كبيرين .حزن أخافني
لم تفارق نبرة الحزن صوت وداد ،كانت تتحدث ٍ
ودفعني لسؤالها:
-ما ِ
بك وداد ،تشكين من ش يء؟
قبل أن أنهي عبارتي انفجرت باكية والكلمات تقفز منتحرة بال منطق على لسانها...
-لقد مات يا طارق ،قتلوهم ،الرصاص الغادر قتلهم...
-ماذا؟ من الذي قتل يا وداد؟
صرخت دون شعور وأنا أترقب سقوط الخبر الكارثة على مسامعي .كانت نرجس
تجلس في ذهول ،ال تدري مثلي من الذي قتل؟ وكيف قتل؟ كانت يداي ترتعشان
وقلبي يدق بعنف وكأنه يريد التحرر من قفص ي الصدري.
][186
يا قدر ،ال تؤملني ،ال تفجعني ،ال تأخذ مني أولئك الذين يخففون علي علقم الحياة
ومرارتها ،ال تأخذ مني رفا ي الذين أبني معهم آخر أمالي في الحياة ،لكن القدر لم
يسمعني فززل الخبر الفاجعة على مسامعي بكل سادية :استشهد نجيب ،وليس
كريم في املآس ي ،نجيب وخليل وفيصل كلهم استشهدوا .فجأة صرت وحده ،القدر ٌ
يتيما من أغلى الرفاق ومن أجمل املشاريع في الحياة .لست وحدي اليتيم ،نرجس
هي األخرى أصبحت يتيمة حبيبها وفلسطين كلها أصبحت ثكلى مناضليها.
ما كادت تمر دقائق قليلة على حلول غيوم الحزن ومغادرة نرجس باكية تجمع
ً ً
أشالء قصص الحب مع القدر حتى سمعت قرعا متسارعا على الباب وأصوات
ضجة وخطا كثيرة .نهضت دونما اكتراث أللبس سترتي ،مشطت شعري ،بعدها
الحظت أن الشيب أصبح يغزو الجانب األيسر من رأس ي أكثر .على املرآة تخيلت
ً ً
نجيب يقف بمحاذاتي مبتسما ،تبادلنا النظرات ...قلت له ''لم تركتني وحيدا يا
لطيف نجيب طيف فيصل وخليل وليلى وسلوان ومها وسعيد... ِ رفيقي؟'' انضاف
كل أولئك الذين غادروا حياتي أو أنهوا تواجدهم فيها .يا إلهي ،غدت حياتي فارغة
من كل الناس الذين أعرفهم ...سأصير في اآلخر مجهوال .ماذا تكون حياتنا سوى
كل هؤالء الذين تواجدوا فيها ونثروا عليها عطرهم كتوابل تنضاف إلى األطباق لبث
الحياة فيها.
قطعني عن هذا املشهد التخيلي صوت القرع الذي بدأ يعلو صوته على الباب...
لفتحه ،أطفأت نور الشقة وفتحت الباب لتنهال علي
ِ فاتجهت متثاقل الخطوات
ً ً
األيدي شدا وجرا.
-طارق ولد الخيل ،أنت موقوف ،هناك مذكرة من الضابطة القضائية
ضدك.
هكذا صاح ضابط يبدو أنه أعلى رتبة من عشرات عناصر الشرطة التي تجوقت
عند باب شقتي وفي درج العمارة.
][187
توقف نظري عند ضخامة أجسادهم املمتلئة ،كان نصفهم ال يرتدي زي الشرطة،
تعرفهم فقط من الهواتف الالسلكية التي تقبض عليها أياديهم الخشنة .رفعت
نظري ألجد س ي عمر وزوجته فاطمة يسرقان النظر من باب شقتهما املوارب وقد
علت وجوههم مالمح التساؤل والحزن واألس ى.
التفت إلى الضابط قائال:
-أليس من حقي أن أعرف السبب؟
أجابني بعنف:
هناك سيخبرك املسؤولون. -
أضفت إليه مستعذبا استفزازه:
-وأنت لست بمسؤول؟
لم أكد أنهي جوابي الساخر حتى دفعني رجال الشرطة إلى الززول على درج العمارة
ماسكين بذراعي األيمن ،أحسست بألم بالغ في كتفي املصاب حد الصراخ ،لكنني
منعت نفس ي أن أبدو ضعيفا أمام هؤالء.
عند باب العمارة وجدت عناصر أخرى من الشرطة تتجمهر حول سياراتهم التي
انطلقت منها أضواء حمراء وخضراء جميلة ،حولت الشارع إلى مرقص بملهى ليلي
ال ينقصه سوى أصوات األغاني وبائعات الهوى.
دفعني رجال الشرطة إلى سيارة كبيرة من نوع بوجو بوكسر تلبس اللون األبيض
كمحتالة تعلن عليك السالم بألوانها وهي تبتلع في جوفها أبناء الوطن الذين
سبحوا ضد تيار النظام الحاكم ،مزهوة بالعبارة التي كتبت على ظهرها ''األمن
الوطني''.
][188
ً
أي عبث هذا؟! متى كان األمن وطنيا؟ ،متى كان رجال األمن والشرطة والجيش
ً
وطن يخدمون أصال؟ أليس هؤالء سوى أداة لحماية يخدمون الوطن؟ ،أي ٍ
ً ً
الطبقة الحاكمة وحراسة ممتلكاتها؟ تماما كما يضع األثرياء حراسا على أبواب
وجدران فيالتهم وقصورهم.
ً ً
ثم إن كان هؤالء فعال حراسا للوطن ،ملاذا يعتقلوني كل مرة هكذا بسبب الكتب
التي آمنت بها وباألفكار التي أدافع عنها؟ أيكره الوطن مناضليه في السياسة والفكر
وهز الخصور؟والثقافة في الوقت الذي يمجد ويكرم مناضليه في الغناء والرقص ِ
ً
منافق كبير وضع عقله في نصفه السفلي؟
ٍ هل تحول الوطن أيضا إلى
ما إن تحركت سيارة الشرطة ،وأنا جالس على مقعد خشبي تزاحمني عليه بقية
أجساد رجال األمن ،حتى مألت فكري صور نرجس وهي تنتظر قبالتي صوت نجيب
بكل أمل وحب ،بابتسامة تعلو وجهها وعينيها تلمعان ببريق يض يء ظالم كل من
يجلس بمحاذاتها.
ً
هكذا نستقبل جميعا الحب ،نفتح له ذراعينا بكل ثقة وسذاجة لنضمه إلى
ً ً
صدورنا عسانا نبني مشاريعا جديدة في الحياة .لكن الحب يرفض دائما أن يأتينا
ً ً
هادئا ،كريما ،يرفض أن يفتح لنا ذراعيه هو اآلخر ليحتضن صدورنا الخاوية من
الحب والطالبة للجوء من قهر التشرد العاطفي وجفاف محاصيل الحب.
الحب قبل أن يأتينا ،يجلس إلى طاولة القدر ليتآمر معه على أمننا وسالمة قلوبنا،
ً
ليتباحثا معا عن نوع األسلحة التي ستدمر حياتنا وتحيلها أطالال وساحة خراب.
غفلة مني فتح باب سيارة األمن ليززل عناصر الشرطة بالتتابع .نهرني أحدهم
في ٍ
ً
بعصبية قائال:
-أنزل أخونا.
][189
نظرت إلى عينيه ،كانتا حمراوين غاضبتين دونما سبب .أي حياة يعيش هؤالء؟
ينفذون األوامر طيلة حياتهم كأصنام تتغذى على الكره والغضب لخدمة
أسيادهم وحينما يصلون إلى سن التقاعد يرمونهم كجيف ال تحمل سوى عظامهم
بعد أن امتص سيدهم اللحم والدم.
حينما نزلت على درج السيارة اقتادني عنصري شرطة في طرقة طويلة شبه مظلمة.
تذكرت هذا املكان ،إنه الدائرة السابعة ألمن حسان ،وذاك املكان الذي نزلنا فيه
هو مرآب سيارات األمن .لدي قصص طويلة مع هذا املكان الرومانس ي بهراواته
وعنف شرطيه اللفظي والجسدي منذ أيام دراستي بالجامعة.
في نهاية الطرقة اصطفت مكاتب كثيرة على اليمين وعلى الشمال .توقفنا أمام
املكتب الرابع على اليسار كتب في أعلى بابه ''العميد حمو'' .توقف ثالثة عناصر
عند الباب فيما دخلت أنا وشرطي آخر إلى املكتب .أقفل الباب ثم قال لي قبل أن
يغادر:
-اجلس هنا .ممنوع أن تتحرك فهمت.
جلست على كرس ي بجانب املكتب لدقائق طويلة قبل أن يحضر عميد الشرطة.
جلس أمامي على املكتب بمالمحه املتجهمة ونرفزة مغرضة تقفز من عينيه .لم
ً
يبدو لي شكله غريبا ،فقد جمعتنا الظروف أكثر من مرة قبل عشرين سنة ،عندما
ً ً ً ً ً
كان ضابطا صغيرا .ما شاء هللا ،هو صار ضابطا كبيرا وأنا صرت فاشال كبيرا .ال
غرابة في ذلك ،فكل من يضع نفسه ضد الدولة وضد التيار مصيره الفشل الكبير.
ً
نظر إلي مليا ثم قال:
-أكيد أنت تعلم سبب إحضارك عندنا؟
ً
أجبته مستغربا:
-كيف يمكنني أن أعلم في نظرك؟
][190
-تريد أن تبدأ بداية غير ودية إذن؟
أردف وهو يقف لينتقل إلى املقعد الذي يوجد قبالتي عند مقدمة املكتب:
-يا أخي راعي ال ِعشرة التي كانت بيننا قبل سنوات...
توقف للحظات ،أشعل سيجارته ثم أشار ملساعده بحركة من يده فهمت أنه قد
طلب منه فتح محضر التحقيق.
التفت إلي وقال بنبرة املحقق الغاضب:
-آخر مرة التقيت بها نجيب الصحراوي متى كانت؟
-منذ ٍ
زمن طويل ،عشرين سنة أو أكثر ،ال أذكر...
-أنت تكذب.
أجبته غير مكترث:
][191
-ال علم لي بذلك.
-ال علم لك بذهابه إلى فلسطين أم بتردده على املغرب؟
-ال علم لي باألمرين.
ً
-أكيد ستنكر كما هي عادتك دائما ،لكن تأكد هذه املرة اإلنكار لن
يفيدك ،أصبحنا نعلم عنكم كل ش يء .نعلم أنك ونجيب الصحراوي
وفيصل الحرشاوي وناصر الواعد وليلى املرابط وآخرون غادرتم إلى
فلسطين بعد دراستكم في الجامعة لاللتحاق بالجبهة في فلسطين ،بقيتم
هناك لفترات متفاوتة ،عاد بعضكم دون أن يرجع وبعضكم اآلخر يتردد
ً
على فلسطين مرة تلو األخرى ...نعلم أيضا أن مخططاتكم ترمي إلى
تشكيل جيش قومي عربي يقاتل إسرائيل ويضرب مصالح الغرب في
الدول العربية ...ما رأيك؟ ألستم مكشوفين لنا؟
شعرت باستغراب وذهول من إطالع األمن املغربي على كل مخططاتنا ومعلوماتنا
السرية .كيف استطاعوا الوصول إلى كل هذه املعلومات؟ أكيد نحن مخترقين...
فكما استطاعوا تجنيد عزيز ليتجسس علينا أكيد هناك جاسوس آخر لهم
ً
يتصيدنا ،ال عجب في أن يغتالوا نجيب وفيصل وخليل دفعة واحدة إذن...
ً
بقيت جامدا غير مكترث بما قاله الضابط ليصيح من جديد:
-ألن تجيب؟
ً
أجبته متهكما:
-على ماذا سأجيب يا سيادة املحقق؟ على تخيالتك وقصصك
السينمائية؟ ألهذا أنا موقوف اآلن؟
][192
ً
-واصل إنكارك ،اإلنكار لن يزيد وضعك إال تعقيدا ...كم مرة ذهبت إلى
فلسطين؟
-وال مرة.
-لدينا صور لك خالل زياراتك املتكررة إلى بيروت والقاهرة...
-ظننتك سألتني عن فلسطين وليس لبنان أو مصر...
-من هناك كنت تدخل إلى فلسطين رفقة مجموعتك.
-على حد علمي من املستحيل دخول فلسطين من الحدود اللبنانية أما إن
كنت قد دخلتها من الحدود املصرية فأكيد ستجدون تأشيرة حرس
الحدود املصري على جواز سفري...
أكيد تستعملون جوازات سفر مزورة أو تعبرون في األنفاق األرضية من -
سيناء إلى غزة...
ً
أرني دالئلك إذن ،أرني صوري بلبنان والقاهرة كما قلت ...لن تجد شيئا. -
ً
ما الذي يجعلك مطمئننا هكذا؟ أتغير مظهرك ومالمحك عند ذهابك إلى -
فلسطين؟
طمئن نعم ،لسبب بسيط هو أن كل ما تقوله عبارة عن ترهات م ٌ -
وتهيؤات ...لم أكن أعلم أن األمن واملخابرات على هذا القدر من
االرتجالية والالحرفية.
الذ بالصمت ،بحث عن سيجارة جديدة أشعلها وهو ينظر إلى النافذة الصغيرة
التي يدخل منها ضوء خافت ثم قال لي:
-خليل الكاتم ،أتعرفه؟
][193
-ال
-فيصل الحرشاوي؟
-نعم ،أعرفه...
-كيف تعرفت عليه؟
-ال أظنك نسيت ملفي عندكم خالل هذه السنين سيادة الضابط...
رد علي بعنف:
-فقط أجب على األسئلة.
كان يدرس معي في الجامعة. -
ً
وكان رفيقك أيضا في فصيل الطلبة القاعديين قبل تأسيسكم لحركة -
القوميين العرب.
ً
يوم من األيام .يبدو أنك
معلوماتك غير صحيحة ،أنا لم أكن قاعديا في ٍ -
فعال تنس ى ملفاتك مع الزمن.
ً
ألم تكن ماركسيا؟ -
-ثقافتك محدودة لألسف ،ال يكفي أن تكون ماركسيا لتصبح قاعديا،
طلبة النهج الديمقراطي القاعدي هم ماركسيين لينينيين أما أنا فكنت
ً
متعاطفا مع الفكر املاركس ي فقط دون أن أتخندق في اللينينية أو املاوية
أو التروتسكوية.
-أذكر أننا وجدنا رسائل لك في أيام الجامعة تصف فيها الحركة
التروتسكوية بالتحريفية والشوفينية أال يفش ي هذا أنك من أتباع
املاركسية اللينينية.
][194
-ال أذكر أنني كتبت هكذا أشياء.
قلي إذن ملاذا انشققتم عنهم وأسستم فصيل قومي عربي بالجامعة؟ -
-قلت نحن لم نكن مع القاعديين لننشق عنهم.
توقفت لبرهة عن الحديث ،كان يواصل النظر إلي كي أكمل جوابي عن سؤاله...
ارتأيت أن أهادنه قليال اآلن قبل أن أعود الستفزازه.
ً
أردفت قائال:
-في سنتي األولى بالجامعة انخرطت في خلية سرية كانت معروفة لدى
الطلبة اليسارين باسم ''البعثيين الجدد'' تضم مجموعة من الطلبة
ذوي امليوالت القومية العربية .كنا نقيم حلقات نقاش وتدارس حول
الفكر القومي العربي فقط .في السنة الثانية طرحت فكرة تأسيس تيار
يوحد صفوف كل القوميين العرب وإعادة صياغة الفكر القومي العربي
وفق ثوابت جديدة تنهل من تال ي أفكار قسطنطين زريق ،ساطع
الحصري ،ميشال عفلق ،منيف الرزاز ،زكي األرسوزي وكل منظري
الفكر القومي العربي ولم ال تعميم التجربة على كافة األقطار العربية.
-ما املبادئ العامة التي رسمتموها لحركتكم آنذاك؟
-هي ذاتها مبادئ الفكر القومي العربي ،وحدة الوطن العربي وتحريره من
قبضة االستعمار والتحالف الطبقي العميل له باإلضافة إلى تبني
االشتراكية العربية كنهج اقتصادي ...ميزتنا الوحيدة أننا نهدف إلى وحدة
كل فصائل الصف القومي العربي ...
-توحيد البعثيين والناصريين في حركة واحدة هذا حلم مثالي.
-وما الحياة أيها العميد سوى ٌ
حلم وعمل...
][195
-وماذا عن ِ
حمل السالح؟
ً
تظاهرت أنني لم أفهم مبتغاه فقلت له :عفوا.
أجابني:
-في حركة القوميين العرب ألم تفكروا في حمل السالح للنضال ضد
إسرائيل واألنظمة العربية التي تنعتوها بالرجعية والعميلة؟
][196
ً
نظرت إليه متذمرا قبل أن أضيف:
-بربك ملا أنا هنا؟ ملاذا هذا التحقيق العبثي؟
ً
ظل صامتا للحظات ثم قال لي بصوت خافت:
برصاصة في رأسه باألمس في قمارت
ٍ -صديقك نجيب وجد مقتوال
بضاحية تونس العاصمة ،هو وخليل الكاتم وفيصل الحرشاوي.
ً
اصطنعت االندهاش والتأثر قائال:
-أكيد هذا الخبر غير صحيح.
-لألسف الخبر صحيح ،البركة في راسك...
-من قتلهم؟
-السلطات التونسية تتهم جهاز استخبارات دولة أجنبية...
-وما السبب في التحقيق معي أنا إذن؟ هل أنا هو جهاز استخبارات هذه
الدولة األجنبية؟
أجابني وهو يبتسم بخبث:
-في شقة نجيب في تونس وجد رجال األمن قطع سالح وجوازات سفر
لعمل عسكري كبير
مزورة ووثائق تفيد أن نجيب ورفاقه كانوا يعدون ٍ
تحت مسمى الجيش القومي العربي بفلسطين ومجموعة من الدول
العربية ،بطبيعة الحال أنت تعرف عما أتكلم بحكم أنك عضو في
املجموعة لذلك فأنت متهم باالنضمام لعصابة دولية مسلحة واالنخراط
في أعمال عدائية تمس أمن واستقرار اململكة.
-استقرار اململكة !!
][197
-بهذه التهم سنحاكمك بموجب قانون اإلرهاب.
ً
-حسنا بيننا املحكمة.
-ال تغتر هكذا ،األمر ليس بهذه السهولة.
استرسل قائال بعد أن غير نبرة صوته وكأنه يستجدي مساعدتي:
-اسمع يا طارق ،إن ساعدتنا سنساعدك ...أنت تعلم هذا أمن اململكة
والدولة سترد جميل مساعدتك بالعفو عنك وعن ماضيك املتعب...
-ما املطلوب مني؟
-نريد أن نعرف ما كانت تخطط له مجموعة نجيب ،من يدعمها في
الداخل والخارج ،أسماء أعضائها ومموليها وطريقة عملها وتدريبها في
فلسطين...
نبرة متهكمة:
أجبته ب ٍ
-خلت أنكم تعلمون كل ش يء عنهم! ألم تقل لي أن الوثائق التي وجدتموها
في شقة نجيب بتونس تفضح كل ش يء؟
ً
بدا على وجهه التذمر واالنزعاج ،لم أكترث له ،أضفت قائال:
][198
-متى كان التعذيب وسيلتنا القديمة هو وسيلتنا على الدوام مع من ال
يتعاون مع األمن ...القرعة والشيفون والطيارة الزالت تنتظر أمثالك...
-إذن ال تنفع معكم ال إنصاف وال مصالحة وال عهد جديد...
ً
انحنى برأسه قليال كأنه يود أن يهمس لي ثم قال:
-اإلنصاف واملصالحة وصلة اشهارية لالستهالك ال يصدقها سوى األغبياء
أمثالك.
قال عبارته وضرب املكتب بقوة حتى دوى صدى الضربة في الغرفة وعاد لصراخه
من جديد:
-هنا ستعترف بكل ش يء ،لن تنام ،لن تأكل ،لن تشرب ،لن تدخن حتى
تعترف بكل ما يدور في رأسك وإن لم تعترف بإرادتك سزرميك في أوسخ
الزنازين وأقذرها وسنكرمك بكل أساليب التنكيل واإلهانة حتى تعترف
رغما عنك.
التفت إلى مساعده وجدته ساكنا دون حركة ،ال يكتب أي ش يء على املحضر،
خاطبته محاوال استفزاز العميد املحقق وكأني ال أكترث لكالمه:
-ملاذا ال تكتب ما يقوله سيادة العميد أم أن كالمه خارج السياق ال معنى
له؟
استشاط غضبا وارتمى على عنقي بكلتا يديه ،ضغط علي محاوال خنقي بهستيريا
وهو يقول:
-وهللا يا مك حتى نخرج منك القديم والجديد...
][199
ً ً
بقيت باردا جامدا في مكاني ،غضبه وانفالت أعصابه يدل على فشله في الحصول
ٌ
ودليل على أنه ال يملك أي خيط أو دليل حقيقي كما يزعم. على أي معلومة تفيده
اعتقالي لن يكون سوى عمال روتينيا ثم سيخلون سبيلي بعدها.
ً ً
بكعب حذائه غضبا على األرض كمن ينفس ِ خرج من املكتب مسرعا ،يضرب
هزيمته .بقيت لوحدي دقائق قليلة ثم عاد رجال أمن ليمسكا بي وأخرجاني من
املكتب إلى زنزانة في آخر الطرقة التي يوجد بها مكتب العميد .بابها من قضبان
حديد تسمح برؤية كل ما يدور في داخلها.
أدخالني وأقفال الباب ثم غادرا .كانت زنزانة ضيقة بالكاد تتسع لتمدد شخص
قطع من الكرتون ...بحثت عن دورة بطولي ،ال يوجد فيها سوى فراش خفيف فوق ٍ
صنبور صدئ يعلو حفرة صغيرة في األرض تصلح لكل ٍ مياه فلم أجد غير
االستعماالت.
ً
أسلمت جسدي املتعب لألرض ،تمددت محاوال إراحة جسدي والتفكير في أحداث
جارف ،تذكرت كل ٍ كنهر
الليلة .لم أشعر حتى بدأت أبكي والدموع تنهمر من عيني ٍ
ً
املنعطفات التي مرت بها حياتي وجعلتني كائنا حزينا تائها .مالي أنا ومال الوطن؟
ملاذا انتميت إلى هذه املبادئ الخاوية ،اليسار ،العروبة ،االشتراكية ،الثورة،
ً
الحرية وفلسطين؟ كان خطئي الكبير أنني قرأت كتبا رمتني خارج تيار الحياة
ً
وبعيدا عن سياق الواقع ،بدأت باليسار والقومية العربية فانتهيت إلى شبه
إنسان ،ال أنا حي وال أنا ميت .الشعب منصرف إلى مباهج الحياة واللهو واملرح
والجنس ،غير مكترث بمآس ي الوطن ،وأنا أجلس هنا أحتس ي كؤوس ألم أربعين
سنة.
ً ٌ
غضب يحرق الدم في عرو ي فصرخت كاملجنون بأقص ى صوتي :تبا تملكني
ً ً ً
للعروبة ،تبا للوطن ،تبا لفلسطين ،تبا لالشتراكية ولحلم الثورة ...تبا للمبادئ ،تبا
ً
للجميع ،تبا للجميع.
][200
بقيت أصرخ حتى أنهكني الصراخ وتطلعت إلى نور القمر من خالل النافذة
ً ً
الصغيرة القابعة بأعلى الزنزانة وأنا أكفكف دمعي مستشعرا أمال جديدا
يجتاحني.
بيت أماليا كاملجنون،
تحقيق فارغ ،ثم هرعت إلى ِ
ٍ في الصباح ،أخلوا سبيلي بعد
أستجديها أن نتزوج بسرعة ونغادر هذا الوطن اللعنة ...فما عادت تربطني به إال
ذكريات قديمة وسأنساها .سأنس ى كل مبادئي وسأخونها ...خالص ي هو النسيان
والخيانة كي أعيش مثل با ي البشر.
][201
ْ ْْْْ23
الدار البيضاء – 82تشرين الثاني/نونبر 8102
ً
جلست هذا املساء إلى فناجين قهوتي ،تائهة أقلب صفحات الشهور املاضية
وتسارع األحداث التي جعلتني أدور في حلقة مفرغة .ال أنا انتهيت من قصتي مع
طارق وال حافظت على زواجي من جالل .ال أنا مع الحبيب وال أنا بدونه ،كما قال
الرومي .حتى املشروع الوحيد الذي دفع بجرعات األمل في حياتي ها قد دمر هو
اآلخر .كم كنت مغفلة عندما ظننت أن حركة نحن نستحق ستنجح وستبني وطنا
ً ً
جديدا لنا جميعا .لقد أصبحت أشك في كون هذه البالد تستحق فعال األفضل.
ً
أشك في أن هذا الشعب سينتفض يوما من أجل الحرية والعدل والحياة الكريمة.
عندما كنت أهم بحمل فنجان القهوة إلى املطبخ رن الهاتف الداخلي للعمارة.
تساءلت مع نفس ي قبل أن أحمل السماعة ألرد على املتصل عمن يكون هذا الذي
سيأتي عندي في هذا الوقت املتأخر ،أتراه جالل عاد ليأخذ شيئا ما؟ أم أنها أمي
ً
فاطمة؟ أجبت على الهاتف فجاءني صوت بركات الهثا وسريعا:
-ليلى ،من فضلك افتحي لي الباب بسرعة...
-ما بك بركات؟ اش واقع؟
-افتحي لي أوال...
شعرت برعشة في أناملي وأنا أضغط على زر الهاتف كي أفتح له باب العمارة ،ثم ذهبت
بخطى سريعة ألفتح له باب الشقة .سمعته يصعد وكأنه هارب من ش يء ما ،ما إن
وصل إلى شقتي حتى دخل وأقفل الباب ،ثم بقي واقفا وراءه يلتقط أنفاسه املختنقة.
سألته بذعر وأنا ال أعرف ما الذي يجري معه:
][202
-بركات أفزعتني؟ ماذا هناك؟
رد علي بصوت متقطع:
-رجال األمن يبحثون عني...
ً
قاطعته مستغربة:
-ملاذا؟
معلوماتك صحيحة .بعد أن اتضح للنظام أن الحركة قررت
ِ -لقد كانت
التصعيد بعد خطاب امللك وصدور بيان الحركة باألمس ،تحركت قوات
ً
األمن هذا الصباح إلى مكتب ناصر واعتقلته ثم اعتقلت عبد الصمد أيضا.
عاد اللتقاط أنفاسه املتقطعة للحظات ثم اتجه إلى األريكة املتواجدة بمدخل
الصالون ورمى جسده عليها ،بدا متعبا والعرق يتصبب من جبينه بغزارة.
استجمع أنفاسه ثم أردف قائال وأنا واقفة بمحاذاته:
-عندما وصلني الخبر أسرعت إلى شقتي كي أجمع حقيبتي وأغادر املدينة،
لكنني وجدت الشرطة تحيط بالحي الذي أسكن فيه وتبحث عني ...فلم
يكن عندي غيرك ألسرع إليه.
جلست بجنبه أفكر فيما قاله ،قبل أن أعبر عما أشعره بعد لحظة صمت ثقيلة
خيمت علينا:
-هذا هو ما كنت أخشاه...
رد بانفعال:
-ماذا سنفعل اآلن يا ليلى؟
][203
-ال ش يء ،ناصر وعبد الصمد أذكياء ولهم تجربة طويلة في االعتقال
سيعرفون كيف يتصرفون .الشرطة ستبقيهم عندها حتى تهدأ األوضاع
ويمررون قانون األحزاب الجديد وبعد ذلك سيطلقون صراحهم.
-لكن لن نبقى مكتوفي األيدي هكذا !!
-صدقني ليس بيدنا ما نفعله ،األمن لن يوجه لهم أي تهمة ،سيبقيهم
عنده حتى تهدأ األوضاع ويمررون مخططهم .علينا أن نفكر فيك أنت
اآلن وكيف نواريك عن أعينهم.
-لن أبقى هنا ...تبا لهذا الوطن.
ً
التفت إليه متسائلة:
-كيف لن تبقى هنا؟ إلى أين ستذهب؟
-سأغادر إلى فلسطين...
ً ً
نظرت إليه مستغربة ،بدا جادا في كالمه فأجبته ساخرة:
ً
-ماذا؟ أجننت؟ تعتقد فلسطين ساحة للعلب تلجأ لها وتغادر كما تشاء.
ال تجعل الغضب يعميك ،هذه فترة توتر قصيرة مع النظام وستمر.
ً
ثم أردفت وأنا أدفع كتفه ممازحة:
-هذه أول محنة لك مع النظام ،استعد ستعيش ما هو أفظع في تجاربك
القادمة يا بطل.
ً
لم يجبني ،ظل شاردا لدقائق قبل أن يقطع صمته:
-لن أبقى في هذا الوطن املتعفن ،أصبحت لدي قناعة أن كل املشاريع
النضالية ستفشل هنا .هذا الوطن ال يريد مناضلين ،ال يريد مثقفين وال
][204
من يحملون هم الحرية .هذا الوطن قدره االستبداد والتخلف وقهر
شعبه .من األجدر لي أن أذهب إلى فلسطين ألناضل هناك من أجل
املبادئ الحقيقية التي أؤمن بها وأنتهي...
ً ً
أجبته ساخرة وأنا أرى فيه مشروعا جديدا لطارق ولد الخيل:
-تقصد لتهرب إلى ٍ
موت جميل.
ً
رد علي منفعال:
-وإن يكن ...من فضلك يا ليلى أنا أعلم أنه لك عالقات بحركات املقاومة
في قطاع غزة وتستطيعين إيجاد مكان لي بينهم ،ساعديني أللتحق بهم،
من فضلك ...هذا آخر طلب مني لك...
نظرت إليه مطوال قبل أن أسأله:
-كيف علمت أن لدي عالقة بحركات املقاومة في غزة؟
بصوت مستسلم:
ٍ أجابني
-في عرس صديقتك حليمة ،سمعت رفاقك يتكلمون في هذا املوضوع
ً
أنت أيضا ،كما أن نجيب
وعلمت أن أغلبهم قاتلوا في فلسطين ومنهم ِ
وطارق قد عادا لتوهما من هناك...
-وماذا عن حياتك الخاصة وعائلتك ،ستترك كل ش يء؟ ماذا عن مشروع
هجرتك إلى كندا واالستقرار هناك ستترك كل ش يء؟
-صدقيني ،لم يعد لي مشروع في الحياة ،لقد تبعثرت كل آمالي ...ساعديني
فقط في تحقيق حلمي األخير .أن أذهب إلى فلسطين وأؤدي واجبي هناك
كأي عربي يناضل من أجل وطنه وقضيته.
][205
تركت الصمت يخيم علينا لدقائق طويلة وأنا أفكر كيف تحول بركات من ذاك
الشاب املفعم بالحياة وباألمل إلى انسان يعيش على حافة أحالمه وآماله .حملت
نفس ي مسؤولية هذا االنعطاف املؤلم في حياته ،فأنا من عرفته على رفا ي املتعبين
بأوجاع السياسة والقومية العربية وبآالم الوطن وأنا من دفعه إلى مشروع حركة نحن
وطن ال يبتغي له القدر الحريةنستحق فاصطدم بمأساة النضال من أجل ٍ
والديمقراطية واحترام كرامة اإلنسان.
فكرت في أن أمنعه عن فكرة الذهاب إلى فلسطين أو على األقل أال أساعده فيها
ً
لكن شيئا ما بداخلي كان يقول لي ساعديه ،ففلسطين أمل كل القلوب الصادقة
التي أتعبها القدر في دروب النضال .قلت له بصوت متقطع وحزين:
-قبل أن أتصل بالرفاق في غزة ،علي أوال أن أدبر لك جواز سفر باسم
آخر ،ال يمكنك أن تغادر باسمك الحقيقي في ذلك خطر عليك.
ً
صمتت لحظة ثم مسكت يده قائلة:
-سألبي طلبك لكن لدي شرط...
ً
نظر إلي مستفسرا قبل أن أكمل كالمي:
-أريدك أن تبقي على أمل العودة في بالك ،هذا الوطن سيحتاج أمثالك في
يوم من األيام كي ينفض عنه غبار الذل .عدني بأنك ستفعل.
أومأ لي برأسه قائال:
-أعدك أنني سأعود...
وابتسمنا ،لم أعرف سبب ابتسامة بركات حينها ،لكنني أعرف أنني ابتسمت عندما
ً
تذكرت كالم طارق قبل أن يرحل لفلسطين .كان دائما يعدني بأنه سيعود ...حتى وهو
وسط الحرب كان يعدني بأنه عائد لي .عشت حياتي بأكملها على أمل عودته في كل
ً ً
مرة ...لم أكن أعلم أن انتظار العودة لبعضنا البعض سيبقى انتظارا أبديا في قصتنا.
][206
ْ ْْْْ24
الرباط – 0كانون األول/ديسمبر 8102
فتحت عيني بتثاقل هذا الصباح ،كانت الغرفة مظلمة وال صوت يقطع صمتها
الثقيل .خلت أن أماليا تنام بجانبي لكنني تذكرت أنها أخبرتني البارحة أنها ستذهب
ً
باكرا هذا الصباح إلى معرضها التشكيلي في أكدال.
ً ً
بكسل إلى الحمام ،أخذت حماما ساخنا وأنا أفكر في هذا اليوم ٍ دفعت جسدي
الذي سينضاف إلى حياة الالمعنى التي أعيشها ،لكنني تذكرت قراري األخير في أن
ثقة في
أنس ى كل قضاياي ،وكل تلك االنتماءات الخاوية التي أصابتني بنقص ٍ
الحياة وكآبة طيلة األربعين سنة من عمري.
خرجت من الحمام وقد تسربت إلي حيوية مفاجئة ،أزلت ستائر الغرفة لتعمها
ً ً
أمواج من أشعة الشمس ونسيم الصباح .ملحت بطرف البصر ورقة مطوية
ً ً
بجانب السرير يظهر أن حبرا أسودا قد مأل جوفها .خمنت أنها رسالة من أماليا،
فمن غيرها تقاسمني هذه الغرفة منذ ما يقرب السنة اآلن.
فتحت الرسالة ،ألجد خط أماليا يقول لي'' :صباح الورد حبيبي ،أمي ستحدثك في
موضوع يخصنا ،أتمنى أن تتعامل معها بلطف وكيفما كان قرارك سأكون دائما
ً
معك .افطر جيدا قبل أن تخرج وال تنس أنك وعدتني باالبتعاد عن الشرب.
أحبك''
سألت نفس ي وأنا أطوي الرسالة ،عن أي موضوع تريد والدة أماليا أن تحدثني
فيه ،شعرت بارتباك وتوجس وأنا أعلم أن خلف الباب تنتظرني والدتها بال صبر.
][207
لبست بذلتي السوداء ورتبت شعري الخفيف ،الحظت على املرآة أن الصلع في
ً
وقت
رأس ي بدأ يأخذ حجما أكبر ،ابتسمت وأنا ألحظ كيف أنني بدأت أشيخ وقبل ٍ
ً
قصير كنت ال أزال يافعا أداعب الحياة بأحالم الشباب.
ً
خرجت من الغرفة قاطعا الطرقة الطويلة إلى صالون الجلوس ،سمعت صوت
التلفاز يرتفع في آذاني ،كان صوت نشرة أخبار بالفرنسية .أمام التلفاز كانت والدة
أماليا تجلس ومالمح االنتظار بادية عليها.
ً
ما إن رأتني حتى ابتسمت قائلة:
-صباح الخير بني...
-صباح الخير سيدة استر
ً
-تبدو متعبا!
أجبتها بتوجس:
-ال ،فقط أطلت السهر باألمس.
ً
نظرت إلي بمالمح مبتسمة ثم وقفت قائلة:
-سأسخن لك القهوة فقد بردت...
-ال تتعبي نفسك ،سأفعل ذلك بنفس ي
-ال ،ال ...دعني أفعل ذلك.
تبعتها بنظري وهي تمش ي في الطرقة حتى اختفت في املطبخ ،غالبني التوجس من
املوضوع الذي ستفاتحني فيه .سألت نفس ي ''مما أنا متوجس؟ فليكن املوضوع ما
يكون''.
][208
رفعت نظري باتجاه التلفاز ،كانت مذيعة األخبار بقناة TF1تقرأ خبر إمساك
صالح عبد السالم في بلجيكا املتهم بتدبير أحداث باريس في ليلة 01نونبر .8102
انشغلت بمالمح املذيعة الشقراء الجميلة أكثر من الخبر حتى رأيت أم أماليا تعود
وفي يديها صينية تحمل فنجانا قهوة وقطع من السكر والحلوى .الحظت أنها تلبس
ً
قفطانا جميال ال يشبه القفاطين املغربية ،خمنت أنه إيراني أو عبري ربما...
قالت وهي تمد لي فنجان القهوة:
-هذه أول مرة ستشرب فيها القهوة من صنع يدي.
ابتسمت في وجهها دون أن أنبس بكلمة ،عادة املجامالت واللف الذي يسبق
املواضيع تخيفني وال أحبذها .أخذت منها فنجان القهوة الذي مدته لي وشربته على
مهل وأنا أملح في عينيها ارتباك البدايات.
فجأة سألتني وهي تضع فنجانها على الصينية:
-ماذا تنوي بعد الزواج من أماليا يا طارق؟
ً
أجبتها مستغربا:
-كيف ماذا أنوي؟ لم أفهم سؤالك؟
صمتت لحظة ثم أكملت كالمها بحماسة:
-اسمع يا بني ،سأكون صريحة معك وأكلمك كابن لي .أنت تعلم أن أماليا
ابنتي الوحيدة وال أملك سواها أنا وزوجي ديفيد ...حياتي كامرأة وأم كانت
صعبة جدا فوق ما تتخيل وكذلك كانت حياة زوجي .هاجرت من املغرب
إلى إسرائيل رفقة عائلتي قبل خمسين سنة .كنت حينها طفلة ،أصغر من
أخواتي الثالث .عندما وصلنا إسرائيل أسكنونا في كيبودس بكفر كنا
قرب مدينة الناصرة بالجليل .كانت ظروف عيشنا صعبة وقاسية .تطوع
ً
أبي في الجيش الوطني وأمي اشتغلت طيلة النهار خادمة في بيوت
][209
الضباط وموظفي الدولة .حرمت من حنانها في صغري وحرمت من رفقة
أخواتي أيضا بعد وفاتهن وهن صغيرات بسبب املرض .بقيت وحيدة حتى
أصبحت شابة والتقيت بديفيد عندما قدم الى الكيبودس الذي أقطنه
قادما من بولندا .أحببنا بعضنا ثم تزوجنا بسرعة ورزقنا بابنتنا
ً
الوحيدة أماليا .كان همنا أن نسعدها وأن نوفر لها حياة مريحة عكس
حياة التعب التي عشتها أنا وديفيد .الحمد للرب اآلن أصبحنا ميسوري
الحال ولدينا شركات في هارتسيليا وأصبحت حياتنا مريحة ،لكننا ال نريد
أن ينقصنا دفء أماليا وتواجدها معنا .أنا وديفيد ال يمكننا العيش من
دونها يا طارق.
كنت استمع إليها دون عميق تفكير فيما كانت تقوله ،شغلتني فقط مسألة هجرتها
من املغرب الى إسرائيل ،لم أصبر على فضولي حتى سألتها:
-عفوا سيدة استر ،هل يمكنني أن أسألك .أصلك مغربي؟
بدت مززعجة لسؤالي ،ربما ألنني هربت من موضوعها إلى موضوع آخر ،لكنها ردت
علي بهدوء:
-نعم أنا مغربية .يهود كثر في إسرائيل من أصول مغربية .ولدت بأبي جعد
بنواحي خريبكة من اليهود القرائيين الطشابيم.
هاجرت من املغرب؟
ِ ملاذا -
ْ
تنهدت في صمت ثم ردت علي:
-بعد قيام دولة إسرائيل سنة 1948أصبح العرب ينظرون بريبة لليهود،
ً
بدأ الكل يشك في كوننا خونة وأعداء للعرب واملسلمين ،شيئا فشيئا
تصاعدت األعمال العدائية ضدنا فقررنا أن نهاجر املغرب...
-إلى الكيان اإلسرائيلي !!
][210
لم تجبني ظلت صامتة للحظات ثم قالت محاولة تغيير املوضوع:
-أزيدك قهوة؟
ً
-ال شكرا ،يجب أن أخرج اآلن.
بصوت هادئ:
ٍ أخفضت رأسها وقالت
-أماليا هي كل ما نملك يا طارق ،ال تحرمنا منها من فضلك .أطلب منك أن
تقطن أنت وأماليا معنا في هرتسيليا بإسرائيل أو ان لم تستطع اقطنا
بالقدس الشرقية مع العرب ونأتي لزيارتكم كل أسبوع ...فقط ال تحرمنا
منها أرجوك.
اغرورقت عيناها بالدمع واحمر وجهها وهي تنظر إلي منتظرة جوابي .سألتها بهدوء:
-أتريدين أن أتزوج أنا وأماليا في إسرائيل ونقطن معكم هناك .هذا ما
تريدين؟
ردت علي متوسلة:
صعب عليك وأنني أطلب الكثير لكنني أتوسل إليك أال ٌ -أعرف أن هذا
تحرمني من ابنتي ،هي تحبك وإن رفضت طلبي ستبقى معك هنا .ال
تحرمني منها ،لم يبق لنا الكثير في هذه الحياة أنا ووالدها.
غرقت فيه خدودها بدمعها ،قلت لهاْ مسكت يديها محاوال تهدئتها في الوقت الذي
ً
مبتسما:
-ملاذا كل هذه الدموع سيدة استر ،أنا ليست لدي مشكلة مع إسرائيل.
صراع العرب وإسرائيل وقضايا الوطن العربي لم تعد تهمني لقد تحررت
من تلك املبادئ السخيفة التي عطلت حياتي وجعلتني إنسانا مع وقف
التنفيذ.
][211
صمتت لحظة ثم أردفت وهي تنظر إلي متفاجئة:
-سأذهب معكم إلى إسرائيل ،وسنقيم عرسنا في هرتسيليا وسأقطن
معكم هناك إلى األبد ،لن أحرم أماليا منكما...
صاحت بصوت تغلبه الدهشة واالرتباك:
-أصحيح ما تقول ،أنت ال تمازحني يا طارق أليس كذلك؟
ً
ما كدت أومئ لها برأس ي مؤكدا كالمي حتى ارتمت علي لتعانقني باكية وهي تقول:
-لن أنس ى جميلك هذا طيلة حياتي يا بني.
أجبتها بصوت الواثق من قراراته:
-ال ِ
تبك يا خالتي استر ،بل افرحي وابدئي جمع حقائبنا لنغادر هذا املكان
ألست متلهفة لعرسنا.
ِ في أقرب وقت،
][212
ْ ْْْْ25
الرباط-الدار البيضاء– 2كانون األول/ديسمبر 8102
من كان يظن ،أن بعد كل هذه السنين وهذه الفوض ى التي حلت بحياتي ،أن يوما
سيأتي ألجمع فيه حقائبي وأغادر املغرب إلى بلد يسمى مجازا إسرائيل؟ قدري
اللعين يغيرني من رجل ناضل من أجل القومية العربية وقضية فلسطين إلى رجل
سيتزوج إسرائيلية ويسكن معها في إسرائيل وسط أعداء األمس وأصدقاء اليوم
والغد...
قالت أماليا وهي تساعدني في وضع حقائب السفر في التاكس ي الذي سيقلنا من
الرباط إلى مطار الدار البيضاء:
-طارق ،أنا أقدر أن هذه اللحظات صعبة عليك ،لكن أنا متأكدة أنك
ستتجاوزها .تنتظرنا حياة جميلة وهادئة بهارتسيليا.
-ال تشغلي بالك يا أماليا ،لقد أخذت قراري عن قناعة .ال مكان لي في هذا
الوطن وإسرائيل لم تعد تشكل لي اآلن أي ش يء ما دمت قد تخلصت من
انتمائي للعروبة ومبادئي القومية الفارغة.
-ما بك إذن حزين وشارد؟
-قلت لك ال تشغلي بالك...
وقفت تنظر إلي بتمعن ثم وضعت قبلة على شفتي بهدوء ،قبل أن تقول لي:
-بقيت حقيبة واحدة ،سأساعد أمي في حملها.
تبعتها بنظراتي التائهة ،حتى اختفت وراء باب املززل ،كنت أشعر حينها بانقباض في
صدري ال أعلم سببه ،قلت مع نفس ي إنه أكيد قرار السفر إلى إسرائيل .لكنني
][213
تذكرت أن هذا الشعور يراودني منذ مكاملتي لسلوان .آه يا سلوان ،ها أنا سأكون
ً
قريبا منك اآلن في فلسطين .لكن على الجبهة املعاكسة .بعد أن قاتلت لسنين
طويلة رفقة العرب في فلسطين ها أنا ألجأ إلى الجبهة األخرى كأي مرتز ٍق يبحث عن
انتماء جديد ...بدأت أخش ى أن يأتي يوم يحمل فيه أبنائي السالح مع اإلسرائيليين
لقتال العرب .تبا لي ،ملاذا أخش ى ذلك اآلن؟ ألم تعد فلسطين ال تعني لي شيئا؟
ً
فليتقاتل من يريد ،سحقا للجميع.
سرحت وأنا أملح في مخيلتي صورة أمينة املفتي وهند سليم وسامي الحناش ي
يبتسمون لي ،ملاذا أتذكر اآلن قصص الجواسيس العرب الذين خانوا أوطانهم
ً ً
لصالح إسرائيل؟ هل أصبحت أنا اآلخر جاسوسا وخائنا؟ ال ،ال ،الوطن هو من
خانني ،أحالمي وآمالي في الحياة هي الخائنة...
قاطعني سائق التاكس ي بصوته الخشن:
-هل انتهيتم سيدي من وضع كل الحقائب؟
ً
أجبته شاردا:
-بقيت حقيبة واحدة وبعدها ننطلق.
رأيته يعود إلى التاكس ي في الوقت الذي ملحت فيه أماليا وأمها تقفالن باب البيت
وتحمالن حقيبة صغيرة .كانتا منشغلتان في حديث باللغة العبرية .تذكرت أنني
ً
طلبت من أماليا في أكثر من مرة أال تتحدث بالعبرية أمامي لكنها تنس ى طلبي دائما.
ها أنت يا طارق ستلجأ إلى كل الدولة العبرية اآلن.
اتجهت إلى املقعد األمامي في التاكس ي كي أجلس فيه فمسكتني أماليا من يدي
ً
قائلة:
-أال تريد الجلوس بجانبي؟
أجبتها بابتسامة خفيفة:
][214
-عيب أن نترك أمك تجلس وحدها بجانب السائق يا أماليا.
ابتسمت بدورها ثم جلست بجانب والدتها .ما إن انطلق التاكس ي في السير حتى
عادتا إلى حديثهما وبقيت أنا إلى جانب السائق أتأمل الطريق .كان التاكس ي يسير
بسرعة ،يطوي الطريق وراءه كأنه يسرع بأن ينتشلني من هذا الوطن الذي أفرغني
من كل األحالم واآلمال ،استززفني على مهل حتى غدوت رجال يمتلك فقط أربعين
سنة من العمر وفارغا من انسانيته وماهيته.
ً
أخفض سائق التاكس ي رأسه نحوي متسائال بفضول:
-بأي لغة تتكلم السيدتان؟
ً ً
التفت إليه متفاجئا من سؤاله قبل أن أجيبه مرواغا:
-الكردية ،إنها اللغة الكردية.
ً
أجابني مندهشا:
-كرديتان إذن ،ال أعرف لم األكراد يكرهون العرب ،لقد استغلوا الربيع
العربي وقبله غزو العراق إلحياء مشروع تأسيس وطنهم القومي على
أنقاض سوريا والعراق....
ظل يتحدث دون أن أسايره ،اكتفيت بالنظر إليه مستغربا اهتمامه بالسياسة
وبلغته القومية العربية .تركته يسترسل في كالمه دون أن أعبأ به حتى سمعته
يقول:
-أتعلم ،ما يشهده العرب اآلن ما هو إال مخطط للصهاينة بهدف تشتيتنا
وتدمير حضارتنا .إنهم يعملون بصمت وبنفس طويل في ظل جهل وقلة
ٌ
ونساء ملتزمين بنهج املقاومة وعينا ...الحمد هلل أنه الزال هناك رجال
][215
والتضحية من أجل الوطن كاملرأة الفلسطينية التي استشهدت صباح
اليوم....
سألته مذهوال:
-امرأة فلسطينية؟ ما الذي حدث؟
رد علي بلغة الزهو والفخر:
-امرأة فلسطينية فجرت نفسها في حافلة عسكرية إسرائيلية بأحد
ً
املعابر في قطاع غزة وقتلت كل من فيها ،إنها حقا بطلة وبألف رجل...
سألته بانفعال:
-ألم يقولوا اسمها؟ ومن أي مدينة هي؟
ً
التفت إلي مستغربا:
-وملاذا تريد اسمها ومدينتها؟
سكت لحظة ثم أردف عندما لم أستطع جوابه:
-أنت صحفي على ما أعتقد؟
ً
ابتسمت في وجهه مراوغا من جديد:
-نعم ،أنا صحفي وتهمني مثل هذه األخبار.
ً
رد مبتسما هو اآلخر:
-حسنا ،فلنبحث عما تقوله األخبار على الراديو إذن...
دفع يده اليمنى للبحث في أمواج الراديو على إذاعة تنقل الخبر .توقف عند موجة
اإلذاعة الوطنية التي كانت تذيع أغنية قديمة لعبد الوهاب الدكالي ذكرتني بأيام
الصبا وعالقاتي الغرامية املجنونة.
][216
كان يا مكان أنا وحبيبي عاشقين اثنين
نرعاو الغنم عايشين عايشين
هانين فوق املرج األخضر
بالليل نباتو ساهرين
نغنيو للحلم وفي الصباح نخرجو متعانقين
تركت كلمات األغنية تنساب في أذني ونظرت في املرآة العاكسة إلى أماليا وأمها،
بدتا غارقتين في تفاصيل موضوع يشغلهما ،خمنت أنهما منشغلتان بتفاصيل
العرس وقائمة املدعوين ومواضيع النساء التي ال تنتهي...
خطفني صوت سائق التاكس ي من النظر إليهما:
-انها الثانية عشرة ،أخبار الظهيرة ستذاع اآلن...
لم تكد تمر ثوان على كالمه حتى صاحت مذيعة األخبار ''أمواج اإلذاعة الوطنية
بالرباط أهال بكم ....نقلت وكاالت األخبار الدولية أن امرأة فلسطينية في عقدها
الثالث فجرت نفسها في حافلة عسكرية إسرائيلية بمعبر بيت حانون شمال مدينة
خان يونس بقطاع غزة ،مسفرة عن مقتل 22جنديا إسرائيليا بينهم ثالثة
ضباط'' ...
شعرت بمغص في بطني وتهت في أفكاري الشاردة .رفا ي في الجبهة دائما يستهدفون
معبر بيت حانون هل تكون هي سلوان؟ امرأة فلسطينية في عقدها الثالث؟ من
خان يونس؟ نعم إنها هي ...ما هذا الحمق قد ال تكون هي .تهت في مشاعري
املتضاربة بين أن تكون ''هي'' وأال تكون .شعرت بزلزال يهز كل كياني ويعيدني إلى
ألم العروبة ومأساة فلسطين ويغوص بي من جديد في كل تلك املبادئ التي آمنت
بها وعدت إلى أحضان الوطن املتكسرة.
][217
ً
رفعت بصري من جديد إلى أماليا وأمها فظهرتا لي تلبسان زيا عسكريا يلبسه جنود
إسرائيل وتضعان على رأسيهما قبعتان بنجمة داود وعلم إسرائيل ...ال يا طارق إنها
تهيؤات فقط؟؟ تهيؤات؟ أليست أماليا وأمها اسرائيليتان؟ إنهما من قتلة العرب
والفلسطينيين واآلن هما من قتلة سلوان ...إنهما يختطفانك إلى املنفى كي تغدو
الجئا أنت أيضا حيث ال تدري كما قال كنفاني.
يا إلهي ،هل حقا سلوان هي من استشهدت هذا الصباح؟ هل علمت بقدومي إلى
''الجبهة املعاكسة'' ففجرت نفسها قبل أن تراني هناك.
عند وصولنا إلى املطار تركت أماليا وأمها تسجالن الحقائب وانطلقت أنا أبحث
عن صورة لتلك املرأة التي استشهدت هذا الصباح على شاشات األخبار في مقاهي
املطار .تهت من مقهى آلخر دون أن أجد شاشة تنقل األخبار ...كل الشاشات تنقل
وصالت من األغاني والرقص ،هذا حال العرب ،بعضنا يستشهد دفاعا عن الوطن
وبعضنا اآلخر يرقص ويغني غير مكترث أصال لش يء اسمه الوطن.
ً
كنت أجري من مقهى إلى آخر كاألحمق عندما مسكتني يد أماليا قائلة:
-طارق؟ ما بك ،ملاذا أنت غريب األطوار منذ أن استيقظت هذا الصباح؟
بخوف غريب ،هذه أول مرة أخاف من أماليا وأرتاب من عينيها .كانت نجمة ٍ نظرت إليها
داوود باللون األزرق تظهر وتختفي في عينيها ...فجأة اختفى الثوب األبيض الجميل
الذي كانت تلبسه أماليا هذا الصباح وأصبح جسدها يلتحف الزي العسكري لجنود
إسرائيل .فركت عيني بقوة كي أزيل هذه الصور منهما لكنها ما كانت لتزال.
سمعتها تقول:
-هيا بنا ،سنسجل مغادرتنا اآلن وننتظر نداء الطائرة بقاعة االنتظار.
تركت جسدي ليد أماليا تسحبه كما تشاء وأنا تائه في صورة سلوان وصوتها في
آخر مكاملة لنا .في األفق ملحت سلوان في سماء املطار تبتسم وتشير لي بيدها قائلة
][218
ً
''وداعا'' ال يا سلوان ،أكيد أنت الزلت هناك في خان يونس تشربين القهوة على
مائدتنا في بيت جدتك وتنتظرين عودتي.
أتتذكرين ما قلته لي ذات مساء ونحن جالسين على ركام البيوت التي دمرها
قلت لي '' ...أشتاق لتلك الطاولة التي كنا نتقاسم عليها
القصف اإلسرائيليِ ،
ً
فنجان قهوة الصباح وأزهار الحديقة تعزف لنا أنغاما من رائحة رحيقها في بيت
جدتي'' .ترانا سنشرب القهوة معا يا سلوان من جديد في بيت جدتك؟
عندما وصل دوري عند شرطي الحدود ،أمدتني أماليا بجواز سفري تتوسطه
تذكرتا سفر ،األولى إلى مارمريس بتركيا والثانية من مارماريس إلى تل أبيب عبر
الباخرة .أخفيت الثانية وتركت األولى في مكانها تتوسط جواز السفر.
ً
عندما أخذ الشرطي جوازي صاح ممازحا قبل أن يختمه:
-أتمنى أن تكون ذاهبا لتركيا بهدف السياحة وليس االلتحاق بداعش
أجبته بسخرية سوداء:
-بل سأذهب أللتحق بجموع الالجئين هناك ،فأنا اآلخر الجئ من كل ش يء...
ما ان اجتزت شرطة الحدود أللج املنطقة الحرة في املطار في انتظار الطائرة ،حتى
ملحت من بعيد شاشة تلفاز بمحل لبيع اإلكسسوار تنقل صور لحافلة عسكرية
محترقة ،فجريت كاملجنون ملعرفة من تكون ''هي'' .أكدت مذيعة األخبار أن
الشهيدة تبلغ من العمر 34سنة من مدينة خان يونس قبل أن تصدمني
بصورتها ،كانت هي ،سلوان.
ً
انفجرت بالبكاء كمن فقد آخر أحبابه وسقطت أرضا كما سقط قلبي مدمى في
ساحة الغياب وسط تراب الرحيل .انتهينا يا طارق! ها قد فقدت آخر من تبقى لي
في فلسطين ،آخر من تبقى لي في كل العالم.
صرخت أماليا وهي تمسك بوجهي:
][219
-ما بك يا طارق ،يا إلهي ما بك؟
أجبتها والدمع يغطي كل وجهي:
-ال أستطيع أن أذهب معكما إلى الكيان اإلسرائيلي ...ال أستطيع ،اعذريني
يا أماليا...
ً
-ال ال ال ،ستذهب معي ،لن تتركني وحيدة مجددا ،أنا أحبك يا طارق
أسمعت وأنت تحبني كذلك ،لن نترك بعضنا.
صرخت في وجهها بهيستيريا:
-لن أذهب إلى من قتلوا شعبي ،لن أذهب عند قتلة سلوان وخليل ونجيب
وجهاد وفيصل ...اذهبي واتركيني وشأني.
مسكتها أمها من يدها وهي تنظر إلي بجفاء وقسوة بالغة ،قالت لها وهي تجرها كي
تنهض من جانبي:
-هيا يا ابنتي ،لنعد إلى بيتنا ،لنعد إلسرائيل ...هذا الرجل ليس ِ
لك.
بقيت في مكاني أبكي سلوان وأنا أنظر ألماليا تسحبها أمها إلى قاعة املغادرة ،بقيت
ً
أبكي وأسترجع ذكرياتي مع سلوان يوما بيوم ،حتى سمعت صوتا ينادي باسمي في
مكبرات الصوت لاللتحاق بالطائرة التي ستقلع بعد لحظات .ظل النداء يتكرر
عشرات املرات حتى وقفت بمحاذاتي مضيفة باملطار تسألني:
? Monsieur, êtes-vous Tarik OUELD LKHEIL -
نظرت إليها باكيا ،قبل أن أجيبها:
Non Madame, je ne le suis pas, enfin je ne le suis plus -
][220
ْ ْْْْ26
الدار البيضاء – 2كانون األول/ديسمبر 8102
قبل خمس سنوات فقط ،كنت أجلس في هذه املقهى بمطار محمد الخامس أودع
جميل ينهي مأساته في الحياة وهو ٍ طارق قبل أن يغادر إلى فلسطين بحثا عن ٍ
موت
ً ً
يدافع عن قضيته .لم أكن أتخيل أنني سأعود إلى نفس املكان ألودع شخصا عزيزا
ً ً ً
آخرا سيرحل إلى الوجهة ذاتها :فلسطين .شخصا آخرا يحمل االسم نفسه :طارق،
يناضل من أجل القضية نفسها :القومية العربية وهاربا من املأساة ذاتها :الوطن.
ً
خطفت نظرة إلى بركات ،وجدته تائها في فنجان قهوته غير آبه بجموع املسافرين
الذين يتدافعون إلى صاالت املغادرة حاملين حقائبهم التي تختزل وجوديتهم
الضيقة في هذا الكون ،وغير مكترث باأللم الذي سيتركه رحيله في قلوب كل الذين
أحبوه وأولهم أنا.
قلت له تماما كما قلت لطارق عند رحيله:
-ال أريدك أن ترحل يا بركات .أن يغادر فرد مثلك هذا الشعب ...مأساة.
رفع رأسه بسرعة كأنه تفاجأ بش يء ما ،حملق في عيني طويال وهو يبتسم بطريقة
لم أعهدها فيه ثم صدمني بنفس الجواب الذي قاله لي طارق قبل خمس سنوات:
أنت فقط .أما الشعب فال يبكي على فرد منه، -ربما مأساة بالنسبة لك ِ
الشعب يبكي على سيده .كل هؤالء الذين سادوا املغرب رافقهم الشعب
فكالصفر على الشمال .أنا يا
ِ بالدموع والنحيب إلى املقابر ،أما أمثالي
ً
ليلى سأموت شهيدا أو منتحرا ،فاملوت لن يهزمني إال إذا ذهبت إليه وأنا
ال أريد الخلود .أكره فكرة أن أخلد في هذه الدنيا التي ال ش يء أجمل فيها
من كوننا سنموت.
][221
يا إلهي ،كان هذا جواب طارق بالحرف الواحد ،لم أستطع استيعاب صدمتي،
كيف استطاع بركات أن يردد على مسامعي نفس جواب طارق؟ هل اتحدت
روحهما في شخص واحد؟ أم غدوت أهلوس برؤية طارق في كل ش يء وسماع
كلماته في كل صوت !!
قال لي مبتسما بمكر:
-ألم يكن هذا جوابه؟
ً
سألته مذعورة:
-جواب من؟
رد علي بعد أن أشعل سيجارة ،وأنا أقول مع نفس ي بركات أصبح يدخن مثله
ً
أيضا؟
][222
-رأيتها في حقيبتك في أحد األيام بالفصل ،استفزني عنوانها وفي نفس
استهواك لتقرئيها
ِ الوقت اعتراني فضول ملعرفة موضوعها الذي
عنك وعنه ،عن قصةفأسرعت القتنائها .لم أكن أعلم حينها أنني سأقرأ ِ
حبكما ومآسيكما...
انفجرت بالبكاء في تلك اللحظة كطفلة صغيرة تفتضح كل أسرارها ،مد لي علبة
ً
منديل ور ي من جيبه ومسك يدي مواسيا:
-أتعلمين ،هذا العالم مليء باملآس ي ،وحده الحب بإمكانه أن يشفينا من
ً
حب كقصتكماآالم الحياة ...اذهبي عنده يا ليلى ،ال تتركيه وحيدا .قصة ٍ
ليس عليها أن تفشل ...اجعال من الحب أمال لكل األجيال القادمة.
أجبته وأنا أمسح دموعي:
-وأنت...
-أنا ،سأواصل مسيرته مع الوطن والعروبة ،هناك في فلسطين تنتظرني
بندقية طارق وينتظرني أزيز الرصاص.
صمت طويلة ،لم أستطع فيها جمع كلماتي .كان لدي كالم كثير
ٍ مرت علينا لحظات
ألقوله لبركات لكن املقدرة على الكالم تخوننا دائما في لحظات الوداع.
قال لي وهو يخطف ملسة خفيفة على أناملي:
-علي أن أذهب اآلن ،ستقلع طائرتي بعد دقائق.
حمل حقيبته الصغيرة وغادر مسرعا دون حتى أن يسلم علي ،فتبعه صوتي مناديا
عليه:
-طارق...
][223
وقف في مكانه واستدار ببطء في الوقت الذي أسرعت فيه الخطا ملعانقته.
سمعته يهمس في أذني:
-هذه أول مرة تناديني فيها باسمي!
ابتسمت دون أن أجيبه ،وقفت أنظر لعينيه كأنني أراهما ألول مرة عندما أردف
ً
قائال:
-أتذكرين يوم كنا في مقهى طاهيتي بعين الذئاب وسألتني من تكون
حبيبتي؟ ...ستعرفينها اآلن ،وأنا ر ٌ
احل كما توقعت.
سألته بلهفة:
-من تكون؟
نظر إلى عيني طويال ثم خطف قبلة من على شفتي ،تركتني أرتعش من وقعها ...ثم
قال لي:
عرفت من تكون.
ِ -ها قد
تبعته بعيني حتى دخل إلى قاعة املغادرة وأنا أتحسس رذاذ شفتيه على شفتي .ها
ً ٌ
عاشق آخر إلى البندقية تاركا حبيبته ملوسيقى الرحيل في املطارات، قد غادر
ْ
انتصرت من جديد مأساة القومية العربية على قصة حب أخرى.
][224
ْ ْْْْ27
الرباط – 02كانون األول/ديسمبر 8102
غيرك يدق قلبي آخر دقاتغيرك أكتب له كلماتي األخيرة؟ ملن ِ ''حبيبتي ليلى ،من ِ
الحب ويسقط شهيد غيابك إلى األبد؟ ...لقد تعبت يا ليلى ،أنهكني القدر .كل تلك
املبادئ واألفكار التي آمنت بها تفرش لي اآلن طريقي إلى الخالص .انتظرت املوت
ً
حبك.
طويال يا ليلى لكنه ال يأتي ،انتظرته كما انتظرت الوطن وانتظرت الحبِ ،
ربما لو بقي ِت معي ملا فكرت في االنتحار ...ربما.
ستقولين لم االنتحار؟ ،سأقول ِ
لك لم الحياة؟ كيف لي أن أستمر في الحياة بهذا
أنت وكل رفا ي الشهداء...
الوطن وأنا ممتلئ بالضياع وبغياب كل من أحببتِ ،
دونك ،دون الوطن العربي املوحد الذي حلمنا به ودون حرية كيف لي أن أبقى ِ
اإلنسان فينا؟ كيف لي أن أبقى دون أن أشفى من مبادئي وأحالمي؟
ش يء واحد يمأل فكري اآلن وأنا أكتب لك رسالة الختام ،إنها ذكريات ليلتنا األولى،
بثوب الليل على حافة حلمنا الجميل؟ ذاك أتذكرين؟ أتذكرين عندما رقصنا ِ
املساء عندما كتبت بأناملي املرتعشة على خدك أولى عبارات االنتماء وصرت أول
ً
مدينة يقصفها الحب في زمن السالم .أذكر كيف تأوهت كل النجوم وجعا فهوت
لت
على رؤوسنا لترجم الحب كلعين أبدي في أسطورة الرجال ببالد النساء ...أالز ِ
ً ً
تذكرين؟ ،عندما غزلنا معا الزمان سجادة نمش ي عليها إلى أرض األحالم ومشاريع
الحياة .لم نكن نعلم ،لفرط سذاجتنا ،أنها أرض مفخخة بالوجع ومحاصرة ببقايا
من سبقونا في درب الليل وهواجس الحب والوطن .لم تكن سوى أرض تتربص بكل
وبقدر ال يشفق على الجئيٍ القلوب التي أعياها األمل في وطن ال يؤمن باألمنيات
الحروب وشعوب الضائعين في مسارح الحياة.
][225
من كان يسرق منا قدرنا حينها؟ من استبدل أقدارنا ونحن نكتب أجمل الترانيم في لغة
العشاق ونسكر برضاب معتق منذ األزل على شفاهنا أجدر من كل العشاق؟ من
غيرنا؟ من غيرنا ،فصرنا أطالال تبكي دورة الزمن وتحكي للريح بزهو ''الذي كان''؟ أو
ً
وصرت بهتان .أ بعد أن كنا نطرز األمل أصبحنا نحيكِ بعد كل الذي كان ،صرت منسيا
ً ً
خاصرة الذاكرة ووعود الدخان؟
ِ الذكريات ثوبا للنسيان ،وسوطا على
ً ً
جسدك تلك الليلة نهرا ألجمل البخور وسرجا امتطيته وكأنني لم ِ أتعلمين ،كان
أمتط قط أهوج الخيول ،لكنني ما ظننته سيصير بداخلي أشرس ٍ
جثة تعيث في
ً
مقابري إرهابا وتقتيال ...حتى صرت فاشال أكتبك بكلمات املجاز والالمعنى .أشحذ
اسمك سيوفي كداعش ي جديد لذبح كل الذكريات على مقصلة القدر... ِ عند ِذكر
وأصيح كأي لعين :ه ــي باق ــية وتت ـم ـ ــدد...
مالحظة:
-لقد ِبعت كل ما في الشقة ألسدد بعض الديون املتراكمة علي ،شقتنا وإن
كانت فارغة فهي حبلى بذكرياتنا ولحظاتنا الجميلة ،أو ليست هذه
الشقة وطن قصة حبنا كما تقولين؟
مالحظة ثانية:
-ستجدين في الحقيبة بعض األغراض تركتها لك ذكرى في محراب عشقنا ،أولها
لبسته لي في تلك الليلة ...أول ليلة لنا.
ِ دفتر مذكراتي وفستانك األسود الذي
أحبك.
مالحظة أخيرةِ :
][226
ْ ْْْْ28
الرباط – 07/01كانون األول/ديسمبر 8102
نطقت شفتاي وأنا أقطع شارع عالل بن عبد هللا قبالة مقهىْ ليلة لي'' ،هكذا
''آخر ٍ
ً
ساتيامار متجها إلى مطعم لوكراند كومبتوار في ملتقى شارع محمد الخامس وزنقة
القاهرة .شعور جميل اعتراني وأنا أتخيل الناس من حولي ال يملكون موعد نهايتهم
على عكس ي أنا .ال يعرفون متى يغادرون هذا العالم .يعيشون هكذا معلقين بال
موعد مع املوت وبال وعد من الحياة في أن تواصل أيامها.
ٍ
ها أنا وحدي ،أضرب موعدا مع املوت ،أنتظره وينتظرني .أملك وقتي كما أشاء إلى
أن يحين موعده .أنت ال تملك وقتك إال إذا علمت ساعة نهايتك ،حينها ترتب
أيامك كما تشاء .تتخلص من انشغاالتك التافهة التي سرقت وقتك فيما مض ى
دون أن تلتفت إلى ساعتك اليدوية لتعاتب عقاربها على وفائها ملبدأ الدوران وعدم
االنتظار.
موعد املوت يززع الزمن عن جسده جلباب النسبية وأساور ''املؤجل''
ِ عند اقتراب
و ''نظارات االنتظار'' يرضخ حينها فقط للمطلق وملنطق الزوال ،فتتزاحم كل تلك
األشياء التي لم تفعلها والكلمات التي لم تقلها في طوابير طويلة تستجدي صدقة
بقلب
زمن مما تبقى لك .فتنطلق لتفرغ نفسك من آخر الرغبات كي تقابل املوت ٍ ٍ
فارغ من آمال البقاء وتمدد الزمن.
ٍ
جلست على كرس ي املعتاد قبالة الكومبتوار ،أتأمل الفراغ الذي أحدثه غياب مها
وسعيد في املكان وقبل أن أغوص في شو ي لكالمهما وذكرياتي الجميلة معهما
قاطعني النادل الجديد.
Bonsoir Monsieur… -
][227
دون أن يكمل كلماته ،طلبت منه وجبة العشاء ،سمك اسبادون مع خضروات
ً
مسلوقة وزجاجة نبيد أبيض .هكذا اشتهيت عشائي األخير .نسخة مصغرة من
العشاء األخير ليسوع قبل أن يلوذ إلى السماء.
ال فروق بيننا ،هو نبي هللا وأنا رسول األرض الى السماء هذه الليلة .أحمل لها
ً
كلمات العودة وتراتيل الرحيل .هو له اثنا عشر حواريا آنسوه في عشائه األخير وأنا
ً ً
لي اثنتا عشرة ساعة ،دورة كاملة لعقرب الزمن ،يتجول فيها قدر ما يشاء قبل
موعد الرحيل األبدي.
هو له ليوناردو دافنتش ي ليرسم لوحة عشائه األخير ،كي يخلد في التاريخ وأنا لي
هذه الكلمات ،أكتبها من نزفي على ضمادات املذكرات .هو له ''اإلسخريوطي''
خائن الرسالة وأنا لي ''الوطن'' ٌ
خائن من البداية إلى النهاية.
أنهيت عشائي وسط صخب املوسيقى وأحاديث السامرين في املطعم .ناديت
النادل كي يزيدني زجاجة نبيذ ،هذه املرة أحمر وأدفع له كامل الحساب .دفعت له
ً
كل النقود التي بجيبي ،قائال:
-خذها كلها ،لم تعد لي حاجة بها بعد اآلن.
استسلمت لكؤوس النبيذ األخيرة وأنا أشعر بالخمر يختلط بدمائي في العروق
ويثقل رأس ي وأطرافي ويرتفع بأفكاري إلى سد ِة االنتشاء.
مرة رقصت فيها مع ليلى .اعتدتتصاعدت موسيقى الفالس باملطعم ألتذكر آخر ٍ
كنت هنا،
ليتك ِ
رقص الفالس والفادو أمام جسدك املزهو بسمرته يا ليلى ،يا ِ
لك.سأشتاق ِ
ٌ
تدقق في
أسود المع يغطي صدرها إلى ركبتيها .لم أشأ لعيني أن ِ
بثوب ٍ
وقفت امرأة ٍ
مالمحها ،كنت منشغال بمنظر سيقانها الجميلة التي بدت وكأن الشمس تلجأ إلى
ثغور جلدها بعد الغروب.
][228
ً
أخفضت رأسها قليال ثم قالت لي:
الرقص معك.
ِ -أتمنى أال تخيب طلبي في
رفعت رأس ي ألرى صاحبة الثوب األسود ألجدها رجاء الغالي .املرأة التي تبادلت معها
أجمل النظرات في هذا املطعم.
ابتسمت لها وقلت:
ومز ي روحي على نوتات جسدك عساني أصير
خذيني إلى املرقص يا رجاء ِِ -
ً
عينيك.
ِ مياه
وترا يشرب املوسيقى من ِ
ضحكت ثم قالت:
ٌ
-أ تعويذة هذه؟
أجبتها:
عاشق ي ْس ِدل ستار القدر.
ٍ -نعم ،إنها تعويذة
ابتسمت ومدت لي يدها ،عانقت خصرها منتشيا وأنا أردد في نفس ي'' :عشائي اآلن
رقص قبل الرحيل''.
يختلف عن عشاء املسيح ،هو لم يمنحه القدر وصلة ٍ
تحت إضاءة املرقص كانت مالمح رجاء جميلة وهادئة ،هونت علي مأساة النهاية
وألم املشهد الختامي الذي رسمته لنفس ي في مخيلتي .تركت جسدي يتموج على
ٌ ً
إيقاع املوسيقى الهادئة متتبعا تموجات جسد رجاء وأنا غارق في عينيها وابتسم.
شبكت أصابع يديها خلف عنقي وهي تدفع صدرها بجبروت بالغ على صدري... ْ
ازداد وقع عطرها على حواس ي لدرجة أن يدي بدأتا ترتجفان وهي تالمس أمواج
شاطئها العالية أسفل ظهرها.
كانت كما كنت أشتهي لنفس ي عند سدول الليل على نهاري ولكن ليس كما تمنيت
في ليلتي األخيرة .ليلتي األخيرة ال يملكها إال طيف ليلى وخنادقها التي وزعت عليها
][229
أشالء جسدي على دفعات تاريخي املصادر بالتقسيط على جغرافيتها وأيامها.
ً
دفعت سنوات عمري بأكملها ثمنا ألعرف أن ليلى هي قصة الحب الوحيدة التي ال
تعرف منطق النهايات وال خيانات القدر .ليلى هي الوحيدة التي كنت سأبقى في
أحضانها الى األبد لو لم يكن لي وطن...
أنت ذاكرتي يا ليلى ،ال يوم يمر علي دون أن تكوني فيه وطنيِ .
أنت أو ال وطن لي، ِ
أنت أو ال وطن.
ِ
ً
تحركت شفتا رجاء قائلة:
-ما سر ابتسامتك الجميلة والغامضة هذه؟
-أبتسم لحظي الجميل يا رجاء؟
-أي حظ؟
معك ،مع امرأة جميلة ن ِحت جسدها بأنامل -أن تكون رقصتي األخيرة ِ
ً ً
جارف من الكحل العربي .تدللها
ٍ كنهر
الشهد والنار ،تلتحف ثوبا أسود ٍ
موسيقى تائهة بين الصخب والهدوء كأنها تتردد بين حتفي األخير ووالدتي
الثانية.
ً
ٍ -آه منك ...لم أكن أعلم أنك تغزل الكلمات شعرا ،أقسم أنك استعمرت
نساء كثيرات.
قلوب ٍ
-أقسم أنني ما دخلت قالع امرأة إال وخرجت مكسر اآلمال واألحالم .أنا
حرب قديم في تاريخ النساء يا رجاء.
معطوب ٍ
ابتسمت بدالل وأردفت:
ً ً ً
-رأفة بك إذن ،سأفتح لك قالعي دون مقاومة وسأجعلك سيدا أبديا لي،
سأكون لك األخيرة في تاريخ فتوحاتك...
][230
ضحك يسخر من ٌ ابتسمت بدوري بخجل سرعان ما استحال إلى ضحك هستيري.
القدر قبل أن يسخر من مآس ي صاحبه .ثم قلت لها:
فعال األخيرة ،ولعل معاركنا األخيرة نخوضها دون سالح ودون ً
أنت
ِ -
مقاومة ،مجردين من حسابات الربح والخسارة ...فكم نحن أغبياء إن
قدر ال يفوز فيها أحد.
اعتقدنا أن بإمكاننا أن نفوز في الحب ،الحب لعبة ٍ
كلنا نخسر فيه ،أشطرنا يثوب عنه في خسارته األولى وأغبانا يواصل
ً
فوز يصنعه خياله ويكذبه القدر.
مسلسل الخسارات طمعا في ٍ
توقفت املوسيقى وبدأت جموع أزواج الراقصين تعود إلى مقاعدها .ظلت رجاء
بريق يشع كخيط فجر في ليل صحراء ،أمسكت تقف أمامي صامتة ،في عينيها ٌ
يديها وقلت لها:
برجل يعيش يومه األخير ،ماذا تقولين له؟
التقيت ٍ
ِ -رجاء ،إن
ً
ظلت وفية لصمتها ،تنظر إلي في استغراب وملحة حزن بدأت تغرق مقلة عينيها.
ً ً ً
ومط شفتيها موحية أنها ال تدري جوابا محددا.
بهز كتفيها ِ
اكتفت ِ
استدركت قائال لها:
ً
-ال تقولي له شيئا ،أدعيه فقط إلى الرقص كما ِ
فعلت معي ،واحرص ي أن
ً ً
يكون لون فستانك أسود .كنت سعيدا ومحظوظا برقصتي األخيرة هذه
معك .سأغادر .اعتني بنفسك. ِ
ً
طبعت قبلة على أناملها التي كانت تشبك عنقي قبل لحظات ثم خرجت من
ً
املطعم .تركتها واقفة دون أن تنبس بكلمة .حملت عطرها معي ولون فستانها
وأحمر شفاهها وغادرت ...حملتها بأكملها في ذاكرتي املحتضرة وغادرت ألرمي أرجلي
في أزقة الرباط ،تتقاذف جسدي إشارات املرور وأرصفة الشوارع إلى شقتي في
حسان.
][231
ً ً ً
أقلب ذكرياتي صفحة صفحة إلى قضيت ما تبقى من تلك الليلة واقفا في الشرفةِ ،
أحضان السماء .التفت إلى الحقيبة التي جمعت فيها لليلىِ أن بدأ الفجر يتفتح في
مسدس قديم في حوزتي لم أكن أعلم أنني ٍ بقاياي ،فوقها وضعت عقدة الحبل و
خيار يمنحه لي القدر هو أن أموت برصاصة مسدس أو أخبئه لهذه الليلة .آخر ٍ
ً
مشنوقا بحبل ،أن أموت أو أموت ...هكذا كان القدر معي طيلة أربعين سنة من
ً
حياتي ،أتاح لي خيارات كلها تؤدي للقدر ذاته ،خيرني دائما بين الش يء والش يء
نفسه.
ً ً ً
اخترت الحبل ،قدسية املوت تبتغي موتا صامتا بطيئا ال يمنحه الرصاص .ثم ،إن
كان الرصاص قد رفض قتلي في كل الحروب التي خضتها لم ألجأ له اآلن؟ أال كبرياء
لي؟
ً
ابتسمت ساخرا من املوت ،املوت يضحك على الجميع قبل أن يلحدهم في دفاتر
الغياب ها أنا على األقل أضحك عليه وأحرمه من كتابة السيناريو الذي يحلو له
سكان املقابر .وقفت على الحائط الصغير الذي يفصل الشرفة ِ قبل أن يكتبني من
عن مدخل الصالون ،ألربط الحبل في قطعة حديدية ناتئة في سقف زاوية الشرفة
لم أنتبه لوجودها إال عندما بحثت عن وسيلة االنتحار .هناك أشياء ترافقنا طيلة
حياتنا دون أن ننتبه لها ،دون أن نعيرها أي اهتمام ...لنكتشف في نهاياتنا أنها كانت
تنتظر فقط أن يحين دورها في أقدارنا كي تقول لنا'' :كنت فقط أنتظر''.
ً
تسمر نظري فجأة بصومعة مسجد السنة التي كانت تلوح في األفق ،سمعت قلبي
ٌ
خافت :يا هللا ،سامحني ،فليست لي طاقة للمض ي في القدر ،أعفني ٍ يصيح بصوت
ً
منه واعف عني أو اصنع لي قدرا جديدا إنك ألرحم الراحمين.
ً
وضعت عقدة الحبل على عنقي وضيقت الحلقة جيدا حتى ابتسمت وأنا أتخيل
عنق أحزمها على قميص بذلتي السوداء .ثم غمرني السكون، الحبل آخر ربطة ٍ
سكون مطلق ،ال يعكره سوى نبضات قلبي املتسارعة ورعشة شفتي اللتان
][232
بحبل إلى ناصية ٌ
لعلي أطير وأنا محلق ٍ خانتهما اللحظات األخيرة .أفردت ذراعي ِ
لعلي أصير حرا ،أملك املطلق وأسافر في رحلة الخالص األبدي من كل السماءِ .
كحجر يلطخ صفحة مياه القدر ،يتدلى كعناقيد ٍ ش يء .رميت جسدي ،رميته
السماء لتعلن نهاية القدر ،نهاية الوطن ،نهاية الحب ،نهاية األلم ونهاية اسمي إلى
األبد .وحدها صورة ليلى وهي تحتضنني في لقاءاتنا كانت تمأل مخيلتي عندما تدلى
ً
قدر املشانق .وانتهيت كأنني لم أكن هنا في
جسدي في الفراغ معلقا كاملصلوب على ِ
حبر لروائي يشتهي الغرق في محبرة هواجسه وأفكاره سردا البداية ،كأنني رسومات ٍ
ً ً
لرواية أخرى
ٍ وحكيا ووصفا وال يغرق ،كأنني رواية يتضامن معها القارئ وينصرف
ْ
تنتظر نصيبها من املجاز في مخور األدب ،وأنس ى ببساطة ،كأنني أنا نصيب العدم
والعدم نصيبي ،كأنني لم أكن.
][233
إيزيسْوأوزيريس ْ
][234
ْ ْْْْ29
الدار البيضاء/الرباط – 07/01كانون األول/ديسمبر 8102
وهذه الليلة أيضا تذكرتك ،ال أدري يا طارق متى ال أتذكرك؟ متى تغادر فكري
بانقباض غريب هذه الليلة ،كان قلبي يدق
ٍ وتترك أطاللي خالية من دونك؟ شعرت
ً
ويرتجف كأنه يحاول أن يغادر ضلوعي ِ
ويحلق عاليا .أشعلت املصباح القريب من
سريري كي أطرد الظالم من على صورتك املعلقة على جدار غرفتي .ابتسمت وأنا
أنظر إلى عينيك العذبتين وابتسامتك املغرية .قلت لك وأنا أرد على ابتسامتك
الجامدة في الصورة ،ملاذا ال تتركني أنام يا مشاكس؟ ملاذا ال تجيب على مكاملتي لك
منذ أول أمس؟
أمني نفس ي بأن تتحرك ِشفاهك على الصورة وتجيبني ...لكننا
لم تجبني ،كنت ِ
ظللنا ننظر إلى بعضنا البعض كتمثالين متقابلين ،أنت على الصورة وأنا على
السرير.
ازداد شعور االنقباض في داخلي أكثر وأكثر فوضعت مخدتي على صدري وضممتها
ً
بقوة ...ثم التفت إليك قائلة :ما الذي يجري لك يا طارق؟ أينك اآلن؟ وملاذا
اختفيت عني وال تجيب على الهاتف؟
سمعت صوتك بداخلي هذه املرة يناديني ،كانت شفتاك تقول ببطء ''أنقذيني يا
ليلى '' ...انفجرت عيناي بالبكاء وقمت من سريري كامرأة أصابها هلع الليل ،أبحث
عن هاتفي الذي تركته على الشاحن قبل أن أنام ،تذكرت نصيحتك عندما كنت
ً
تقول لي :ال تتركي هاتفك ملتصقا بالشاحن وتنامين ،كانت أناملي ترتجف على
شاشة الهاتف وأنا أركب رقم هاتفك من جديد ،لكن وحدها العلبة الصوتية
كانت تجيب.
][235
شعرت بأني أختنق ،خرجت إلى غرفة الصالون أستجدي الهواء الطلق من
الشرفة .تفاجأت أن الليل انجلى وبدأت خيوط الصباح تزحف في أفق السماء.
قلت مع نفس ي :حرمتني من ليلة كاملة يا طارق ،هل ستحرمني حتى من هذا
الصباح؟
ً ً
بقيت واقفة لدقائق طويلة أغوص في ذكرياتنا معا ونسيم برد الصباح يعبث
بخصالت شعري ،لكن االنقباض الذي غزا صدري قبل قليل كان يستفحل وبدأت
مغص مؤلم .اندفعت نحو املطبخ ،بحثت عن قارورة أضع فيها
ٍ أشعر معه ببداية
جرعة ماء عساه يخفف من آالم املغص ثم
ٍ الكمون ،بلعت القليل منه صحبة
شرعت في إعداد قهوة الصباح كعادتي.
لم تتركني صورتك وشأني يا طارق ،كنت في كل حركة لي تقف بين أعيني وشفتك
تهمس'' :أنقذيني يا ليلى '' ...ما الذي يحدث معك يا طارق؟ قل لي؟
نغمات
ٍ تركت املاء يسخن وذهبت أبحث بين أقراص املوسيقى عس ى أن أجد
تهدئني .تركت أناملي تتوه بين أقراص فيروز وسعاد ماس ي وظافر يوسف وyani
وأرمند عمار حتى سقطت عيناي على قرص قديم ل Patsy clinكنت قد أهديته
لي أيام الجامعة.
ً
أذكر ذاك اليوم جيدا ،عندما كنا نتقاسم سماعة الولكمان في مكتبة الجامعة،
ً ً
كتاب خطفت قبلة سريعة على خدي كانت قبلة على نظرت إلي وأنا غارقة في قراءة ٍ
أنغام Patsy clin.
ً
بقيت تنظر إلي طويال ثم أخرجت القرص وأهديته لي قائال:
-أنا الوحيد في املغرب الذي يستمع ألغاني ...Patsy clinفلنكن اثنان ،أنا
وأنت.
ِ
أجبتك حينها وفي عيني بدايات حب كبير:
][236
-ليس هناك أنا وأنت ،نحن لسنا اثنان ،نحن واحد فقط.
وضعت القرص لتحملني أنغامه إلى عشرين سنة للوراء .يا هللا ما ألذ تلك األيام.
I go out walkin' after midnight
Out in the moonlight, just like we used to do
I'm always walkin' after midnight
Searchin' for you
I walk for miles along the highway
Well that's just my way of sayin' I love you
I'm always walkin' after midnight
Searchin' for you
تركت جسدي يززلق على الحائط ثم جلست على األرض أغوص في الذكريات وأبكي
أيامنا الخوالي .فجأة صاح صوت مؤذن املسجد القريب من املززل بآذان الفجر.
هللا أكبر ...هللا أكبر
أشهد أن ال إله إال هللا
أسرعت لإلطفاء املوسيقى وقلبي يضرب بقوة ،ما كدت أهدأ حتى صاح صوت املاء
الذي بدأ يغلي ...غالبت الدمع في أعيني ثم ركضت إلى املطبخ.
وبينما أرتشف من كأس القهوة جرعاته األولى ،سمعت صوت هاتفي يرن .تساءلت
ً
مع نفس ي عمن هذا الذي سيتصل بي مع الفجر .أيكون طارق يا ترى ،أهو أيضا
غادره النوم هذه الليلة بسببي؟ أم أنه وجد اتصالي به ويرد علي اآلن؟
لكنك لم تكن أنت املتصل يا طارق ،كانت جارتك فاطمة .تسارعت دقات قلبي وأنا
أحمل الهاتف إلى أذني استعدادا لسماع خبر مفزع.
-ألو...
][237
-ليلى حمدا هلل أنك صاحية .آسفة إلزعاجك لكن األمر طارئ.
بأنفاس تتقطع:
ٍ أجبتها
-ماذا هناك يا فاطمة؟ أخفتني؟
فضلك تمالك نفسك...
ِ -من
-قولي لي ما الذي يجري يا فاطمة؟
ً
ردت علي مندفعة:
ً
-لقد نقلنا طارق إلى املستشفى وجدناه غائبا عن الوعي وهو معلق إلى
حبل.
صرخت منفجرة بالبكاء:
-كيف معلق إلى حبل؟ كيف؟
بينما كانت فاطمة مترددة وهي تستجمع كلماتها صرخت فيها من جديد:
-فاطمة ال تخبئي عني شيئا ،أخبريني...
ً
سمعتها تقول مستسلمة وأنا على ِ
وشك االنهيار:
-لقد حاول طارق االنتحار ...رأوه جيراننا في العمارة املقابلة قبل الفجر
يشنق نفسه ويتدلى جسده .اقتحمنا الشقة ونقلناه إلى املستشفى على
وجه السرعة.
-طمئنيني بأنه الزال حيا من فضلك يا فاطمة.
-لم ت ْبد عليه إشارة حياة ،األطباء يحاولون إنعاشه وإعادته للحياة ونحن
في االنتظار...
][238
ً
سألتها مقاطعة:
-بأي مستشفى أنتم؟
-بمصحة ابن خلدون في حسان.
-ساعة زمن وأكون هناك.
قطعت الخط وغدوت أمش ي كاملجنونة في الغرفة ،شعرت بهيستيريا تجتاحني
فصرخت بأعلى صوتي .نزعت سترتي ولبست جيززا وقميصا أبيض وجدته ملقى
على األرض ،أخذت حقيبتي ثم غادرت بسرعة .كانت عيناي تنفجران بالبكاء وأنا
في مصعد العمارة أترك رسالة صوتية ألمي فاطمة أطلب منها أن تبقي عندها ليال.
ركبت سيارتي ودفعت بها بأقص ى سرعة فوق الطريق السيار من الدار البيضاء إلى
ً ً
واحدة على طول الطريق يا ربي ابقي طارق الرباط .لم يكن لساني يردد سوى جملة
معي .ال يمكن لطارق أن يرحل إلى األبد ويتركني ،أنا وطارق ال يمكن لنا أن نفترق،
ال يمكن ألحدنا أن يعيش دون اآلخر .حتى في املوت ال يمكن للقدر أن يهزمنا.
زمن
كنت أشعر بأن املسافة بين الرباط والدار البيضاء قد ازدادت وأن ساعة ٍ
ً
التي تفصل بينهما قد استحالت دهرا بالرغم من أن سرعة السيارة لم تززل عن
مائة وأربعين منذ أن دخلت للطريق السيار لم تغادر سيارتي املسار الثالث على
اليسار .لم أكن أدري بما يجري حولي ،كانت الالفتات تمر من فو ي مدينة
ً
املحمدية ،بوزنيقة ،الصخيرات ...كان تفكيري الوحيد هو طارق ،كنت غارقة في
مالمحه وذكرياتي معه حد الوجع.
لم يخرجني من شريط الذكريات إال إشارة ضوئية كثيفة تأتي من الخلف
باإلضافة إلى صوت منبه سيارة قوي ومتقطع رميت نظري على املرآة العاكسة
فرأيت سيارة الدرك امللكي تتبعني ،ويشير إلي سائقها أن أتجه ألقص ى اليمين
وأتوقف.
][239
ً
ماذا أفعل اآلن؟ ال أكترث لهم وأسرع للقاء طارق الذي ال أعرف إن كان حيا أو
ً
ميتا؟ أو أقف وأضيع الوقت الذي ال أملكه أصال؟ نقصت سرعة السيارة ثم
ركنتها في أقص ى اليمين .توقفت خلفي سيارة الدرك بدورها .ترجل من داخلها
ضابط متجهم الوجه ،يبدو عليه الغضب في الوقت الذي توجه الضابط اآلخر
الذي كان معه إلى خلف السيارة حيث وضع إشارة ضوئية .عندما استدار رأيت
أنها امرأة.
تقدم نحوي الضابط وطرق على نافذة الباب بقوة ،أنزلت الزجاج ليرميني بصوته:
-مالك أاللة شنو كاين؟ معامن مسابقة؟
فاجأني سؤاله ،لم أعرف بما أجيبه .شعرت بالبرد يصفع خدي املبلل بدمعي الذي
لم يتوقف بعد.
ً
ظل ينظر إلي الضابط بتمعن ثم أردف قائال:
-أوراق السيارة.
لم أجبه حتى هذه املرة ،تركت أناملي تبحث عن أوراق السيارة في الدرج املقابل
للكرس ي على اليمين .كانت أناملي ترتعش ودموعي الزالت لم تجف وفكري منشغل
بالوقت الذي يمر دون أن أصل إلى طارق.
بعد أن مددت أوراق السيارة للدركي ابتعد عني متوجها إلى سيارة الدرك حيث
غرق في حديث مطول مع زميلته الضابطة .كان قلقي وتوتري يزدادان أكثر وأناملي
لم تتوقفا عن الرقص على مقود السيارة من ألم االنتظار ،أكره االنتظار.
ً
فتحت الباب وتوجهت إليهم وأنا أجري حافية حتى وصلت عندهم .صحت في وجه
الضابط:
-من فضلك ،أنا مستعدة أن أدفع غرامة أو أسجن حتى فقط ال تأخرني
اآلن ،هناك من ينتظرني بين الحياة واملوت.
][240
بصوت جاف مستفز:
ٍ رد علي
-أنا أقوم بعملي يا سيدتي.
-لكنك تؤخرني ،هذا الوقت بأكمله لتحرر مخالفة؟ !
-يجب أن نبحث إن كانت هذه السيارة مبحوث عنها قبل أن أقرر ما يجب
عمله بخصوص مخالفتك للسرعة املسموحة.
التفت إلى زميلته ،كانت تنظر إلي بتمعن بالغ وبتقاسيم تظهر شفقتها علي .وجهها
الجميل والبشوش دفعني للتوسل عندها:
ً
لك حبيبا على فراش أنت امرأة وتعرفين معنى أن يكون ِ -من فضلكِ ،
ً
إليك أن تتركاني أذهب وبسرعة.
وأنت بعيدة عنه .أتوسل ِ
املوت ِ
لم تجبني ،ظلت جامدة رغم أن عينيها احمرتا وبدت أنها متعاطفة معي .مسحت
دموعي وصحت في وجههما قبل أن أتوجه إلى سيارتي:
-حسنا خذوا كل األوراق وافعلوا ما شئتم ولزرى كيف ستوقفونني.
ً
قفز الضابط بسرعة نحوي وأمسكني من كتفي قائال:
-أنت تصعبين املسألة عليك سيدتي وسترتكبين جناية ،انتظري فقط ربع
ساعة.
صرخت في وجهه بهيستيريا:
-في ربع ساعة سيكون طارق قد مات إن لم أكن بجانبه.
اتجهت نحونا الضابطة ،أخذت كل األوراق من يد زميلها عدا رخصة السياقة ثم
مدتهم لي قائلة:
][241
نك .ستجدين رخصتك في مقر والية شرطة -اذهبي سيدتي ،كان هللا في عو ِ
الرباط الستكمال اإلجراءات.
ً
لم أشعر بنفس ي وأنا أقبل خدها شاكرة إياها ثم توجهت إلى السيارة الستكمال
الطريق إلى حبيبي طارق .في أقل من ربع ساعة كنت أركن السيارة أمام مصحة ابن
خلدون وأدخل للبحث عن غرفة طارق ،دلتني مسؤولة االستقبال على غرفته
بالطابق األول.
ً
عندما وصلت إلى الغرفة وجدت شخصا يرتدي بدلة األطباء ويتجمهر حوله
فاطمة وزوجها ورجلين آخرين ال أعرفهما .ما إن رأتني فاطمة حتى صاحت بإسمي
وارتمت في أحضاني.
صحت قائلة بأنفاس ي املتقطعة:
-كيف حال طارق هل فاق؟ أجبوني.
سألني الطبيب:
-هل تقربينه سيدتي؟
أجبته دون تفكير:
-أنا زوجته ،كيف هو اآلن؟
-ال أخفيك ،حالته صعبة وغير مفهومة .توقف قلبه ألكثر من مرة ولحد
اآلن هو ال يستجيب لإلنعاش الكهربائي .يبدو أن حالته النفسية أثرت
على عقله الباطن وجعلته يصارع من أجل مغادرة الحياة.
-من فضلك أريد رؤيته.
رد علي بجواب قاطع:
][242
-غير مسموح بذلك سيدتي ،ال يمكننا تعريضه ألي انفعاالت كيفما كانت.
صحت في وجهه:
-طارق بحاجة لي أيها الطبيب ،لن يفده إنعاشكم الكهربائي في ش يء
وحدها يدي وأنفاس ي ستعيدانه إلى الحياة.
ْ
اتسعت عينا الطبيب مستغربا مما قلته .في ذاك الحين سمعت صوت فاطمة وهي
تستجديه:
-أتركها تراه أيها الطبيب من فضلك ،طارق يحتاج لها وحدها اآلن.
ً
نظر إلي الطبيب مستسلما ثم فسح لي الطريق ألفتح باب الغرفة وأدخل عند
طارق.
وجدته مغمض العينين ،فاقدا للوعي .تحيط به آالت طبية كثيرة لم أعرف منها
سوى تلك التي ترسم على شاشتها دقات القلب وسرعة نبضه .كان في الغرفة
ممرضتين ،واحدة تأخذ قياس الضغط من على يد طارق اليسرى واألخرى انزوت
ً
في زاوية الغرفة تعد قارورة بيضاء خمنت أنها قارورة مصل للحقن.
ً ً
أخذت كرسيا كان بالقرب من السرير واقتربت من وجه طارق ،كان حليقا نقيا
تفوح منه رائحة عطره الخاص invictusكعادته .قلت لنفس ي وأنا أقرب أنفاس ي
من وجهه :أتتجمل للموت في لحظات رحيلك يا طارق؟
تركت يدي تداعب يده اليمنى وتمسح على أنامله وساعده قبل أن أتلمس بها وجهه
ومالمحه .أزلت الغطاء عن عنقه ألجد هالة زرقاء حوله وجروح صغيرة ،لم
أتمالك نفس ي حتى وجدتني أبكي وأنا أتخيل منظر انتحار طارق .كانت دموعي تنهمر
في صمت على مخدته ،لم أنت ٌ
جامد هكذا يا طارق؟ لم أعهدك هكذا في حياتي؟
التفت للخلف ألجد املمرضتين الزالتا في الغرفة .صحت بهدوء قائلة:
][243
-هل بإمكانكما أن تتركانا للحظات لو سمحتما.
استجابت املمرضتان بهدوء لطلبي ،ما إن أقفلتا الباب خلفهما حتى دفعت رأس ي
ً
إلى طارق أسرق من هدوئه قبلة على شفتيه الباردتين ،أردتها أن تكون قبلة طويلة
عساها تضخ في عروقه شو ي ولهفتي عليه كي أعيده إلي .همست بعدها في أذنه:
طارق أنا هنا ،ليلى حبيبتك ،ال تتركني وحيدة عد لي ،أنا من تعود إليها بعد كل
قصة حب فاشلة ،أنا من تعود إليها بعد أن ترحل للموت في فلسطين ،أنا من تعود
إليها عندما يضيق بك الوطن ،طارق أنا هنا ،أملك في العودة وأملك في الحياة ...أنا
وطنك يا طارق ،هيا عد لي.
جامد ال يحرك ساكنا، ٌ بقيت مع طارق قرابة الساعة أنا أبكي وأداعبه وأكلمه وهو
ً
وحده قلبه كان يخفق متعبا كأنه خارج لتوه من أشرس الحروب مع الحياة.
عندما خرجت من الغرفة وجدت فاطمة وزوجها يجلسان عند الباب ،جلست
ً
جنبهما برفق .كانت أنظارهما ملتصقة بي ،متصفحة مالمحي.
خافت:
ٍ بصوت
ٍ سألتني فاطمة
-كيف هو اآلن؟
-كما هو ...الزال كما هو يا فاطمة .طارق ليس هنا.
ردت علي وهي تهم بمعانقتي:
-إن شاء هللا سيعود كما كان وأحسن يا ليلى ،ابقي قوية هو في حاجة لك
اآلن.
نظرت إليها بامتنان وطلبت منها أن تذهب لبيتها هي وزوجها وسأبقى أنا مع طارق
لكنها قالت:
-سنذهب يا ليلى ،لكن من فضلك تعالي معنا.
][244
-لكنني ال أستطيع ترك طارق لوحده.
-أعرف ،ولكن األمر مهم.
-ماذا هناك يا فاطمة؟
-سأخبرك في بيتنا ...هيا من فضلك.
كانت مالمحها جادة ومقتضبة .وقفت هي وزوجها ثم التفتت إلي ،فلم أجد سوى
أن أتبعهما.
ونحن في السيارة ملحت أن الرباط تلبس مالمح حزينة وكئيبة هذا الصباح .كانت
هي كذلك تبكي حال طارق؟ هل يمكن لطارق أن يغادر هذا العالم ويترك كل ش يء
وراءه؟ ثم ماذا يملك طارق ليتركه وراءه؟ ال ش يء ال يملك أحالما ،وال مشاريع
حياة وال وطن؟ حتى رفاقه غادر الواحد منهم تلو اآلخر ،غادره الجميع .عاش
ً
منفيا في وطنه ال يملك سوى حبنا الذي ولد لقيطا.
عند وصولنا إلى البيت ،أخذتني فاطمة إلى غرفة صغيرة في آخر شقتها ثم أغلقته
باملفتاح .كانت متوجسة ومرتبكة .سألتها باستغراب:
-ما ِ
بك يا فاطمة؟ ماذا هناك؟
ً ْ
دوالب صغير في زاوية الغرفة .فتحت بابه األيمن ثم
لم تجبني ،اتجهت مباشرة نحو ٍ
حملت منه حقيبة متوسطة الحجم ،لونها أزرق أكاد أعرفها .نعم ،نعم أعرفها،
إنها لطارق.
صحت في وجهها:
-هذه حقيبة طارق.
أجابتني بارتجاف:
][245
-نعم ،إنها له.
بخوف كبير لتخرج منها
ٍ فتحتها ثم أخرجت منها قطعة ثوب ملفوف بعناية .فتحتها
ً
مسدسا رماديا من نوع سيرديكوف عيار 2ملم .أعرف هذا املسدس ،إنه لطارق،
كانت قد أهدته له رفيقتنا الروسية ماريا مايكوفسكي عندما زرنا شبيبة الحزب
الشيوعي في روسيا أيام الجامعة.
بصوت خافت:
ٍ سمعت فاطمة تقول
-كنت أول من دخل إلى شقة طارق ،بجوار جسده املرمي على األرض
وجدت هذه الحقيبة واملسدس بالقرب منه .خفت أن يراه أحد أو أن
تحضر الشرطة وتجده فلففته في قطعة ثوب وأدخلته بعد ذلك في
الحقيبة.
ً
أخذته من يدها ثم قلت مستغربة:
ً
-إنه مشحون ،يبدو أن طارق فكر في االنتحار بمسدسه .حمدا هلل أنه لم
يفعل.
-من فضلك أخرجيه من بيتي.
نظرت إلى عينيها ،كان يتملكها الخوف ثم قمت بسرعة بإزالة مخزن املسدس،
وأرجعت املاسورة إلى الوراء ألخرج الرصاصة املتبقية فيها ثم فككت ِقطعه.
كانت فاطمة تنظر إلي بعينين واسعتين عندما قالت لي:
تعلمت هذا؟
ِ -أين
أجبتها وأنا أضع املسدس في الحقيبة:
-ال يهم اآلن ،سآخذ الحقيبة إلى شقة طارق وأرى ما فيها قبل أن أعود إلى
املستشفى.
][246
ما إن هممت بفتح باب الغرفة حتى صاحت من خلفي:
ً
-ليلى ،وجدت أيضا هذه الرسالة فوق الحقيبة.
أخذت منها الرسالة بتثاقل وريبة ،كتب على ظهر ظرفها ''إلى حبيبتي ليلى املرابط''.
ً
أحسست بالدمع في أعيني فغادرت مسرعة إلى شقة طارق.
ما كدت أغلق الباب حتى ذهلت لخلو الشقة من أي قطعة أثاث ،كانت خالية
ً
تماما إال من أنفاسه التي حرستها الجدران حتى مجيئي ،لم تخل من ذكرياتنا
ً
أيضا ،فها هي الجدران واألعمدة والغرف واألبواب وكل ش يء يحكي عن قصة حبنا
التائهة ،كل ش يء في هذه الشقة يحكي عني وعنك يا طارق أجمل الذكريات وأحلى
األوقات.
لم يعد لي منك اآلن إال هذه الذكريات وحروف رسالتك هذه التي أقرأها وأنا
أفترش أرض شقتنا الباردة وأسلم ظهري لجدران ذاكرتنا:
غيرك يدق قلبي آخر دقات
غيرك أكتب له كلماتي األخيرة؟ ملن ِ ''حبيبتي ليلى ،من ِ
الحب ويسقط شهيد غيابك إلى األبد '' ...
][247
ْ ْْْْ31
الرباط – 80كانون الثاني/يناير 8101
معجب بقصتنا ،فبرغم قسوته ٌ اليوم عيد ميالدك من جديد ،يبدو أن القدر
ً ً
احترم إرادتنا في األخير وسيمنحنا شمعا جديدا نشعله قربانا لحبنا العنيد.
سنحتفل بعمرنا املقبل لكن بال ذكريات ،لم أكن أدري أن حتى ذكريات قصتنا
قدر ال يجيد فيك سوى الرحيل إال بعدما اتصل ستغادرك يا طارق وسترحل مع ٍ
بي الطبيب هذا الصباح ،بعد شهر من دخولك في غيبوبة جراء محاولة االنتحار.
ً ً
طلب مني املجيء بسرعة إلى املستشفى ألن خبرا سعيدا ينتظرني.
ً ً
لم أكن أعرف أن السعادة تأتيني دائما مغلفة بلباس الخيبة ،تأتي دائما ناقصة.
ً
قفزت فرحا حينها وأنا أجزم أنك استعدت وعيك وعدت للحياة ،عدت لي .أصابتني
موجة ارتباك وأنا على مشارف لقائك من جديد .بحثت عن االستمارتين اللتين
أعطاهما لي مدير املعهد الكندي وكتبت عليهما من فرط سعادتي اسمي واسمك،
ً
نعم ،سنهاجر إلى كندا وستكون لنا بداية جديدة هناك .تهت بعدها في دوالبي وأنا
فستان يليق بعودتك لي ،فلم أجد سوى الفستان األسود الذي ٍ أبحث عن
احتفظت به في حقيبتك لعشرين سنة ونجا من محاولة انتحار قصتنا معك.
هذا الفستان وحده يليق بمشهد عودتك هذه املرة ...كم فرحت عندما لبست
ً ً
الفستان ووجدت جسدي وفيا ملقاسه ،أكان جسدي يضرب موعدا مع فستاننا
بعد عشرين سنة هو اآلخر؟ أكان جسدي يتوق إليك في هذا الفستان يا طارق؟
نصف ساعة هو الزمن الذي كان يفصلني عن املكان واملوعد املشتهى ،عدت إلي
إذن يا طارق .عدت من جديد ،آه كم مض ى من عمرنا يا حبيبي بين الرحيل
ً
والعودة .أنتظرك تارة في املطارات وتارة في املستشفيات وتارة أخرى على رصيف
ْ
وعدت ،انتظرتك أن الزمن .انتظرت عودتك لي من املوت في فلسطين أكثر من مرة
][248
تعود لي بعد أماليا وزهرة وسلوان وعدت ،انتظرت عودتك لي من غياهب االنتحار
ْ
وعدت ،قدرك يا طارق أن تعود لي ،أنا وطنك وأنت بدوني الجئ.
كان الطبيب ينتظرني عند باب غرفة طارق في املستشفى ،ما إن ملحته حتى
ً
أسرعت في خطاي التي كانت أصال تمش ي جريا إلى طارق.
صاح مجامال عندما وصلت إليه:
أنك بهذا الجمال -يبدو أن ِ
قلبك دل ِك إلى الخبر الجميل ،لو كنت أعلم ِ
واألناقة لكنت حقنت طارق بكل أدوية العالم ليستفيق من غيبوبته.
ً
-شكرا ملجاملتك دكتور ياسين ،أنت تعلم أن حالة طارق جعلتني أنس ى
نفس ي وتبعثرت طيلة الشهر الذي ظل فيه غائبا عن عاملنا.
أتفهمك.
ِ معك حق...
ِ -
قلت له بلهفة:
-اسمح لي بالدخول ،مشتاقة جدا لرؤية طارق والنظر في عينيه .أنا غير
ً
مصدقة أنه عاد لي أخيرا.
بوجه اعتلته
أردت أن أخطو نحو الباب ،لكنه لم يزح جسده من طريقي .نظر إلي ٍ
حيرة وشفقة ثم قال بتردد وبكلمات مرتبكة:
حد ذاته هدية -ليلى ،طارق والحمد هلل استفاق من غيبوبته ،وهذا في ِ
كبيرة من القدر ،لقد كانت حالته حرجة وعلى مشارف املوت...
قاطعته متوترة:
ً ً
-يا للفاجعة ،عيناك تداريان خبرا مفزعا أيها الطبيب...
ً
أنزل عينيه مستسلما ،ثم عاد ليخبرني:
][249
-طارق حي ...لقد نجا من صدمته ،لكن ذاكرته لم تنجو ،طارق فقد
ذاكرته بشكل كامل.
صرخت كاملفجوعة:
-مستحيل ،كيف ذلك؟ كيف يكون طارق بال ذاكرة؟
أمسكني مواسيا قبل أن يجلسني على مقعد بجانب باب الغرفة .سمعته يقول:
-طارق أصيب بحالة Post-traumatic Amnesiaوهي حالة فقدان
الذاكرة نتيجة لصدمة قوية .هو اآلن ال يتذكر أي ش يء عن حياته في
املاض ي ال أحداث وال أشخاص وال أي معلومات...
كان هول الصدمة أكبر من أن أحتمله ،انفجرت باكية بحرقة حتى سقط كحلي
ً
سابحا في قطرات دمعي على فستاني .األسود يعانق األسود بالدمع ،أهذا هو قدري
معك؟ ال تكون لي إال نصف عائد أو نصف راحل؟
عدت هذه املرة أيضا ،لكنك غير مكتمل العودة .لم تترك حبيبة أخرى وراءك هذه
ً ً ً ً
املرة ،لم تترك وراءك جرحا ماضيا أو قضية يتيمة من دون نضالك ...لم يصبح
ً
لك قضايا اآلن ،أصبحت مجردا من الذاكرة ومن االنتماء .أهذا إذن هو املطلق
الذي بحثت عنه طيلة حياتك؟ صفيت حساباتك مع الوطن والعروبة بأن أزلتهما
من الذاكرة؟ أ بعد أن كان الوطن ليس هنا صار طارق ليس هنا؟
مسحت دمعي ورتبت هيئتي قبل أن أدخل عنده والفضول في أن أرى طارق الجديد
ً
يقتلني ،طارق بال ذاكرة .ما إن فتحت الباب حتى سقط نظره على نظري ،ابتسمنا معا،
لم أعرف ما أقوله حينها ،ارتبكت أمام مالمحه ونظراته التي تعيث في زالزال وبراكين.
خافت:
ٍ بصوت
ٍ قال لي
ً
انتظرتك طويال.
ِ -
][250
ً
أجبته مبتسمة:
-هللا وحده يعلم من انتظر اآلخر طويال يا عزيزي.
لم يمهلني حتى أغوص في مالمحه وأشبع من نظراته ألتأكد أنه عاد لي حتى قصف
برصاصة غادرة ،جاءتني بلهيب الدمع في عيني.
ٍ قلبي
أنت ليلى ،أليس كذلك؟
ِ -
اشتعلت نار حارقة في قلبي ،وددت لو أصرخ في وجهه وأعاتب ذاكرته الخائنة،
لكني تذكرت نصيحة الطبيب بأال أضغط عليه وأشعره بذنب فقدانه للذاكرة.
تمالكت نفس ي وأنا أقف أمامه ،ابتسمت له من جديد وأجبته:
-كيف عرفت ذلك؟
رد علي بخجل:
ً
-أخبرتني املمرضة أن لي زوجة اسمها ليلى تأتي لزيارتي كل يوم وأن لي
ً ً
طفلة أيضا ،اسمها ...نعم ،اسمها ليال.
لم أتمالك نفس ي ،انفجرت باكية وأنا أرتمي في حضنه ،سقطت كل دموعي التي
خبأتها عنه طيلة عشرين سنة .كنت أبكي بحرقة املفجوعة في قلبها ،بكيت القدر،
ً
بكيت الوطن ،بكيت أيام الجامعة التي نسجنا فيها أحالما ومشاريعا أكبر منا،
بكيت كل القضايا التي ناضلنا من أجلها وخذلتنا وبكيت حبي الشهيد ...بكيت
ً ً
طارق الذي يعود إلي في كل مرة ناقصا ،هذه املرة يعود ناقصا من ذاكرته ،ذاكرتنا.
لفني بذراعيه القويتين إلى صدره وحضنني بقوة كعادته عندما يشتاق لي .ها هو
على األقل لم ينس كيف يحضن لياله.
ً
سألته وأنا أقبل جبينه فرحة بعودته:
-ما الذي حدث يا طارق؟
][251
ً
أجابني سارحا:
-ال أعرف ،استيقظت فوجدت نفس ي هنا وأسئلة كثيرة في بالي .من أنا؟ وما
ً
الذي جرى لي حتى أدخل املستشفى؟ ومن أهلي؟ وجدتني ال أعرف شيئا أو
ً
باألحرى ال أتذكر شيئا .هرع إلي الطبيب رفقة حشد من املمرضات سألني
أسئلة غريبة وأعطاني أدوية ثم رحل .ترجيت املمرضات أن يحكوا لي من
أكون ،فقلن لي أنني دخلت إلى املستشفى قبل شهر بعد أن تعرضت لحادث
وأن لي زوجة وطفلة يزورانني كل يوم ...هذا كل ش يء.
-أال تتذكر شيئا قبل دخولك للمستشفى؟
ً ً
صمت برهة ثم قال متأسفا:
ٌ
وظالم يلفان مخيلتي فقط. -ال أذكر أي ش يء .فراغ
مسكت يده وابتسمت في وجهه قائلة كي أهون عليه:
املهم أنك عدت لي بالسالمة يا حبيبي. -
نظر إلي مبتسما بدوره ثم قال:
-نحن حبيبان إذن؟ !
ً
سألته مستغربة:
-ماذا تقصد؟
ً
-أقصد أننا فضال عن كوننا زوجان ،نحن حبيبان.
ً
عدت لسؤاله مشاكسة:
-أتحبني أنت؟
رد علي باستحياء كنت أعرفه في طارق في أيامنا األولى:
][252
-شعرت بقلبي يطير بحبك مذ ِ
دخلت من ذاك الباب وسقطت عيناك على عيني.
رحمة منك تلفني اآلن ،أكان الزما علي أن أدفع عشرين سنة كاملة من
ٍ ياهلل ،أي
ً ً ً
عمري كي يعود لي طارق؟ يا هللا ،هل تعاطفت معي أخيرا ومنحتني بداية جديدة مع
ً
طارق؟ نحن فعال نستحق بداية جديدة ،فقد أعيتنا أقدار النهايات.
ً
سمعته يقول مستدركا:
][253