Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 253

‫رواية‬

‫َملَنْ ُخوليا ْ‬
‫أنتْأوْالْوطـن‬

‫مرادْالضفري ْ‬

‫]‪[2‬‬
‫َملَن ُخوليا ْ‬
‫أنتْأوْالْوطـن‬

‫املؤلف‪ :‬مراد الضفري‬


‫الطبعة األولى‪ :‬مارس ‪8102‬‬
‫الطبع‪ :‬شمس برانت – الرباط‬
‫اإليداع القانوني‪:‬‬
‫ردمك‪:‬‬

‫]‪[3‬‬
‫إلىْمنْفَقدتُ ْبرحيلهمْأجم َلْرفقةٍْفيْالحياة‪ْ ْ،‬‬
‫إلىْروحْجمعةْبجدادْوأحمدْبوزكيةْ‪ْ ...‬‬
‫رحم ْةُْهللاْعليهما‪ْ .‬‬

‫]‪[4‬‬
‫ماْهوْالوطن؟ ْليسْسؤاالْتجيبْعليهْوتمضيْ‪ْ...‬‬
‫إنهْحياتكْوقضيتكْمعاً‪ْ .‬‬
‫محمودْدرويش ْ‬

‫السعادةْاألبديةْهيْالخالص‪ْ .‬‬
‫سورينْكيرجارد ْ‬

‫]‪[5‬‬
‫''ستقولين لي لم االنتحار؟ سأقول ِ‬
‫لك لم الحياة؟''‬
‫كان هذا سؤاله الذي شغل بالي طويال بعد انتحاره‪ ،‬دون أن أجد له جوابا‪ ،‬دون‬
‫ً‬
‫أن أجد له ذريعة يواصل بها الحياة ويحتال على مأساته مع الوطن والحب‪ .‬وألن‬
‫''طارق ولد الخيل'' لم يعد بيننا كما كان‪ ،‬ارتأيت أن أنشر مذكراته التي تركها لي‬
‫كامل مع الوطن والحب‬‫جيل ٍ‬
‫مع مذكراتي عسانا ند ِفن معا وإلى األبد حكاية مأساة ٍ‬
‫والقضية‪ ...‬هذه الحكاية‪.‬‬

‫ليلىْالمرابط ْ‬
‫ليفيس‪ ،‬كندا‪ 01 .‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪8107‬‬

‫]‪[6‬‬
‫هيفيستوس ْ‬
‫ْْ‬

‫]‪[7‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ1‬‬
‫الرباط ‪ 80-‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪2015‬‬

‫در ذاك املساء‪ ،‬عندما تعثر قلبي‬ ‫إله جعلتك تختبئ في أكوام الق ِ‬
‫تعويذة ٍ‬
‫ِ‬ ‫أي‬
‫بحروف اسمك؟ فسقط شهيدا تنعيه السماء لرواد القمر وتبكيه بدموع املطر!‬
‫أذكر كيف ابتسمت حينها وأنا أنحني ألزيل غبار اسمك من على ركبتي‪ ،‬كي أمض ي‬
‫ً‬
‫في ثنايا الزمن مجردة من اسمك املجيد ومن قلبي الشهيد‪ .‬سمعتك حينها تهمس‬
‫لك إال لي''‪.‬‬
‫شك بعد اآلن‪ ،‬امض ي يا مسكينة فال بيعة وال والء ِ‬
‫لي‪'' :‬أنا ملك عر ِ‬
‫ومضيت‪ ،‬مضيت دون أن أكترث لهذيانك الصادق وقتها‪ ،‬صدقت فنجان قهوتك‬
‫مساء بنهدي وما صدقتك‪...‬‬
‫ٍ‬ ‫إذ ينوء بلثم شفتي‪ ،‬صدقت مالمحك التي تتعمد كل‬
‫ً‬
‫لم أكن أدري أنني سأشعل قلبي احتفاال بعيد عرشك املجيد طيلة أربعين سنة من‬
‫عمري‪ ،‬وأني سأعتكف في زوايا قصرك أنتظر خطاب العرش وإمالءات القدر قبل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املتعثرة باسمك في أكوام القدر وأنا أصيح ممرغة‬
‫ِ‬ ‫أن أنحني راكعة كجموع العبيد‬
‫حبر يديك‪'' :‬هللا يبارك في عمر اسمك يا سيدي''‪.‬‬
‫شفتي في ِ‬
‫ها أنا أقف من جديد في صالة انتظار الحب‪ ،‬يملؤني وجع االنتظار وآهات الفراق‬
‫املتكرر‪ ...‬أنتظر رقمي على شاشة االنتظار‪ ،‬لعل القدر يحالفني في أي ثانية‬
‫ويمنحني الخالص باالرتماء في أحضان من أحبه إلى األبد‪.‬‬

‫قدر إلى األبد جمعني بطارق‪ .‬هذا الرجل الذي دخل حياتي ك ٍ‬
‫جيش‬ ‫لكن‪ ،‬ما من ٍ‬
‫عسكري نثر عليها جنوده ومتاريسه وأعالمه ليعلن احتاللي إلى األبد‪ ...‬ال ش يء‬
‫حب شاردة جمعتني به‪.‬‬ ‫أجدت انتظاره طيلة أربعين سنة من عمري سوى قصة ٍ‬

‫]‪[8‬‬
‫ً‬
‫كانت عقارب الساعة في يدي تتدلل مشيرة إلى الثالثة إال ربع بعد الزوال‪ .‬اقترب‬
‫دوري ألخذ تذكرة من موظف محطة القطار الدار البيضاء امليناء التي اكتست‬
‫ً‬
‫بحلتك القديمة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وحدك تسيرين‬
‫ِ‬ ‫حلة جديدة وكأنها تغمز لي قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين سيدتي؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬الرباط‪ ،‬ذهابا وإيابا من فضلك‪.‬‬
‫وأي مدينة يحلو فيها الحب على ضفافك يا طارق غير الرباط‪ ،‬تلك املدينة املتجبرة‬
‫مرة نقرر فيها العودة إلى بعضنا إلى األبد‪...‬‬
‫التي تلفظني عنك في كل ٍ‬
‫‪ -‬في أي ساعة تريدين العودة سيدتي؟‬
‫بدون تفكير أجبت موظف املحطة‪:‬‬
‫‪ -‬في آخر قطار‪...‬‬
‫ً‬
‫فرقنا‪ ،‬نركب كل القطارات سوية‪ ،‬نعبر كل‬ ‫نعم‪ ،‬القطار األخير هو الذي ي ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املحطات معا‪ .‬وحده القطار األخير ال نركبه معا‪...‬‬
‫عندما انطلق القطار دافعا جسدي إلى طارق‪ ،‬بدأ شريط قصتنا يمر خاطفا‬
‫كالصور التي تمر متسارعة على نوافذ القطار‪.‬‬
‫ً‬
‫يوم عشته معه‪ ،‬كان قبل أربع سنوات عند عودته من فلسطين منهكا‬ ‫أسعد ٍ‬
‫بقصص الحرب واملوت والبحث عن الوطن‪ ،‬ترك كل ش يء وعاد لي‪ .‬ترك عروبته‬
‫بوطن مجزئ يعشق الشتات‪ ،‬ترك وطنه الغائب في الالمكان وعاد لي‪.‬‬‫الجريحة ٍ‬
‫عندما هاتفته في فلسطين قبل مجيئه حينها‪ ،‬قال لي‪'' :‬سأعود فقط من أجلك يا‬
‫ً‬
‫ليلى''‪ .‬كانت هذه العبارة كافية ألغرق في بحر اآلمال ومشاريع الحب‪.‬‬

‫]‪[9‬‬
‫بثوب أبيض في‬
‫انتظرته عند عودته حينها بمطار محمد الخامس‪ ،‬أزف نفس ي إليه ٍ‬
‫انتظار كتب عليها ''‪ ''Terminal 2‬وكأن النهاية أسدلت فعال على فصول‬
‫ٍ‬ ‫ساحة‬
‫قدر الرحيل والعودة‪.‬‬
‫الفراق و ِ‬
‫ً‬
‫عانقته بقوة‪ ،‬فصرخ ممسكا كتفه األيمن‪:‬‬

‫‪ -‬على مهلك يا مجنونة‪ِ ،‬‬


‫كتفي مصاب‬
‫لم أكترث‪ ،‬عانقته‪ ،‬مرغت حواس ي في رائحة عرقه‪ ،‬ضممته إلى صدري‪ ...‬لو كنت‬
‫أستطيع حينها ألدخلته في ثنايا جسدي وخبأته لألبد‪ .‬لم أكن أعرف أن القدر‬
‫ً‬
‫سيسرقه مني مرة أخرى‪ .‬لكن طارق لم يكن سوى ٍ‬
‫حب يأتي إلي ليغادرني‪...‬‬
‫حب سرمدي بال‬ ‫حب فوضوي‪ ،‬أحمق بال منطق‪ ،‬بال مشروع‪ٌ ،‬‬‫ويغادرني ليأتي إلي‪ٌ ،‬‬
‫بداية وبال نهاية‪.‬‬
‫أمضينا شهر عسل كمتزوجين دون زواج‪ ،‬أحيينا كل ذكرياتنا‪ ،‬منذ أيام الجامعة‬
‫إلى أيام مغادرته للقتال في قطاع غزة‪ .‬أعلنا عودة قصة حبنا للجميع‪ ،‬لشوارع‬
‫الرباط‪ ،‬ألمسيات شالة والوداية وحسان ولكل رفاقنا القوميين العرب‪ .‬لم يعد‬
‫ً‬
‫طارق رهينة ملأساة الوطن ولززوات الحب التي جمعته بالبورجوازية زهرة أو‬
‫اإلسرائيلية أماليا أو حتى الفلسطينية سلوان‪ ...‬كنت أنا عنوانه األول واألخير في‬
‫دروب الحب‪.‬‬
‫ِ‬
‫كانت سعادتي بالغة بعودته‪ ،‬لدرجة أنني قررت منحه جسدي بدون حواجز‪،‬‬
‫حبوب تقتل بذوره في جسدي وتلفظها بخارجه‪ ...‬أبدا‪ ،‬ما عاد‬
‫ٍ‬ ‫بدون تحفظ‪ ،‬بدون‬
‫مكان طارق بخارجي‪.‬‬
‫حامل منه سأعثر على دفتر مذكراته‪ ،‬ترددت في‬ ‫ٌ‬ ‫في الليلة التي وددت إخباره أنني‬
‫قراءتها ألنني تعلمت احترام خصوصية طارق‪ ،‬لكن الفضول غلبني في النهاية‪...‬‬
‫قرأت كل صفحات مذكراته املؤملة‪ ،‬استصغتها ألنها من املاض ي إال ورقته األخيرة‬
‫عش هادئ معه‪:‬‬ ‫بناء ٍ‬
‫التي كسرت آمالي في ِ‬
‫]‪[10‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫سقطت روحي شهيدة على أرض‬ ‫''عدت لليلى نعم‪ ،‬لكنني عدت جسدا بال روح‪.‬‬
‫فلسطين بعد أن أعياها الوطن وأحالمي املتكسرة‪ .‬عدت جسدا تتقاذفه األيام‪ ،‬ال‬
‫أبناء من ليلى برغم حبي لها‪ ،‬لن‬
‫شخص آخر‪ .‬لن أستطيع إنجاب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أنا وال أي‬
‫أستطيع منحها االستقرار الذي تريده وأنا أشعر بحياتي مليئة بالدمار والفوض ى‬
‫حرب مع القدر''‪.‬‬
‫كساحة ٍ‬
‫ِ‬
‫خطفني من شريط الذكريات صوت مراقب التذاكر الذي كان يقرع الكراس ي بآلة‬
‫حديدية تشبه املقص معلنا اقترابه ملراقبة التذاكر‪ .‬خطفت حقيبة اليد ألبحث‬
‫سقطت قطرة دم ٍع ظل ْت ترقص‬
‫ْ‬ ‫عن تذكرتي‪ ،‬ما إن أغرقت رأس ي في الحقيبة حتى‬
‫بمقلة عيني طويال‪.‬‬
‫مددت التذكرة ملراقب التذاكر‪ ،‬بينما كان يتحقق من التذكرة ملحت الرجل الذي‬
‫يجلس باملقعد املقابل لي يسرق النظر إلى سا ي العاريتين‪ .‬تساءلت في صمت إن‬
‫سن األربعين ولعنت الكبت الجنس ي الذي يعانيه‬‫كانا ال يزاالن مغريان حتى في ِ‬
‫رجال هذا الوطن الذين غدوا يلهثون وراء النساء في كل الشوارع‪ .‬أعدت التذكرة‬
‫إلى حقيبتي وغرقت في صمتي‪ .‬الصمت الذي ال يسمع فيه إال صوت عبور‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫صوت مزعج لكنه أقل إزعاجا من صراخ الذكريات‪.‬‬ ‫القاطرات على سكك الحديد‪،‬‬
‫في تلك الليلة‪ ،‬قررت ترك طارق‪ .‬قررت أن أغادره كما كان يغادرني في كل مرة‬
‫رجل دون روح؟‬
‫ويعود إلي‪ ،‬لكنني غادرته دون مشروع للعودة‪ .‬كيف أعود لجسد ٍ‬
‫لرجل يقتات على فوضاه وضياعه؟‬
‫كيف أعود ٍ‬
‫لرجل آخر‪ ،‬تزوجته كي أهرب من طارق ونسبت إليه طفلتي ''ليال''‪ ،‬أعمى‬
‫غادرت ٍ‬
‫الغضب حينها قلبي‪ ،‬وعاقبت طارق بكل قسوة‪ .‬حرمته من أحضاني التي كانت‬
‫مشرعة له بال أقفال‪ ،‬حرمته من ابنته‪ ،‬حرمته من حبي ومن كل ش يء‪ ...‬كان‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫ضائعا وزدته ضياعا و ِتيها دون أن يعلم أسباب رحيلي‪ .‬ظننت أنني سأنهي وجود‬
‫ً‬
‫بجرة قلم على كتاب القدر‪ .‬هكذا بكل سهولة‪ ،‬وكأنه كان ط ْفحا‬
‫طارق في حياتي ِ‬

‫]‪[11‬‬
‫على جلدي أداويه بالكحول وبعض املاء كما قال نزار قباني‪ .‬لكنني كنت مخطئة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫لم أكن ِأعي إلى ذلك الحين أنني متورطة في هذا الرجل حد الضياع والوجع‪ .‬وأن‬
‫برحيلي عنه سأصبح على شفير الجنون‪.‬‬
‫ً‬
‫نعم‪ ،‬أصبحت مجنونة بعد رحيلي عنه‪ ،‬غد ْت ذكرياتي معه تجتاحني في كل حين‬
‫لتشتت فكري وتغرقني في شرود عميق وكأنني معزولة عن كل ما يحيط بي‪ .‬بدأت‬
‫أعراض االكتئاب تتملكني بقوة لدرجة أنها عقدت عالقتي مع ''جالل'' زوجي‪ ،‬الذي‬
‫ً‬
‫بدأت أرى فيه رجال غريبا‪ ،‬مغتصبا يحتل مكان طارق في حياتي‪ .‬تأثر عملي في‬
‫ً‬
‫املعهد الكندي الذي أدرس فيه أيضا بسبب شرودي الدائم في الفصل‪ .‬بكل‬
‫ً‬
‫حياة ال يوجد فيها طارق وغدوت تائهة ال أدري من أكون‬
‫بساطة‪ ،‬فقدت الشهية في ٍ‬
‫بدونه‪.‬‬
‫حضن جديد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أما هو‪ ،‬فكعاد ِته يجيد الرحيل والفوض ى‪ ،‬غادر يلملم وحدته إلى‬
‫عاد إلى اإلسرائيلية أماليا‪ ،‬يبحث عن حبها وحنانها وسط ألغام التاريخ والسياسة‬
‫ْ‬
‫اشترطت عودة عالقتهما بزواجه‬ ‫التي تفرق بينهما‪ ،‬لكنها كانت أذكى منه هذه املرة‪.‬‬
‫منها‪ ،‬لترميه لتردده في اتخاذ القرار بأن يكون لها أو ال يكون‪.‬‬
‫بمجرد ما وضعت قدمي على أرض الرباط اجتاحتني رائحة الشوارع التي مشيت‬
‫فيها رفقة طارق أزيد من عشرين سنة‪ .‬كل دروب الرباط وأزقتها تعرفنا‪ ،‬في كل‬
‫ً‬
‫معالم الرباط زرع حبنا بذرة بذرة‪ .‬في قصبة الوداية صاح ْبنا عناق األطلس ي‬
‫ً‬
‫ألبورقراق على نكهة الشاي املنعنع بأحالمنا‪ ،‬وفي قصبة شالة رقصنا تارة على‬
‫أنغام اللقالق الوفية ألعشاشها التاريخية وتارة على أنغام املوسيقى الروحية‬
‫ملوازين‪ ،‬في سينما النهضة وساتيامار والرويال سرقنا القبل تحت جنح الظالم‬
‫كهاربين من شيوخ القبيلة‪ ،‬وفي حسان وأكدال واملحيط وباب األحد تهنا ككل‬
‫راكبي أمواج الحب مع تيار البحر لننتهي بلطم صخر الحياة‪.‬‬

‫]‪[12‬‬
‫ً‬
‫وها هو شارع محمد الخامس يسير بي مرة أخرى إليه‪ ،‬هذه املرة ألحتفل معه ِ‬
‫بعيد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بعيد ميالدنا الذي يحل كل سنة ليجد حبنا أطالال وأشرعة خانتها‬
‫ميالده األربعين‪ِ .‬‬
‫الرياح‪ .‬ها أنا أدخل مجددا من باب مقهى ساتيامار كما كنت أفعل قبل سنوات‬
‫عندما كنت ألوذ إليه في كل صباح كي نفطر معا ونبني أمال للبقاء بعد كل مساء‪.‬‬
‫جميلة في ليالي‬
‫ٍ‬ ‫وها أنا أرتبك مجددا وأنا أقف أمامه ومالمحه تبتسم لي كنسم ٍة‬
‫جرعة عناق‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الصيف تدعوني من جديد إلى‬

‫]‪[13‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ2‬‬
‫الرباط ‪ 80-‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪2015‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫عيناك محبرة لقلمي‪ِ ،‬صرت بأكملي تاريخا من الكلمات‬‫ِ‬ ‫منذ لقائنا األول صارت‬
‫ً‬
‫ورق أحمق ال بداية له وال نهاية‪ .‬ال أعتقد أن هناك رجال‬‫حبر على ٍ‬
‫ورسومات ٍ‬
‫اية للحرب‬
‫فاسمك يا ليلى أكبر دع ٍ‬
‫ِ‬ ‫سيؤمن بمعاهدات السالم بعد لقائ ِك‪...‬‬
‫حب قديم‪.‬‬
‫وعيناك رصاصتا ٍ‬
‫ِ‬
‫حبك على قالعي القديمة؟ ‪...‬‬
‫اسمك و ِ‬
‫ِ‬ ‫حزم'' ستكفيني ألدمر سلطة‬ ‫كم ''عاصفة ٍ‬
‫عيدك إلى طاولة الحوار‪ ،‬حيث‬ ‫قلبك سيكفي لي ِ‬ ‫قصف صاروخي على ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وكم من‬
‫مبعثر‬
‫ٍ‬ ‫الكلمة تكون شقيقة القبلة‪ ،‬حيث بقايا الشجار بيننا تكون آثار أحمر ٍ‬
‫شفاه‬
‫املعطرة بعرق الحب‬
‫ِ‬ ‫املغطاة بظل القمر وأجسادنا‬
‫ِ‬ ‫هنا وهناك‪ ،‬تفضح خطيئتنا‬
‫وجيوش‬ ‫دعم‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬ ‫وليالي السهر‪ .‬كم أنا تعيس‪ ،‬ال تحالف لي‪ ،‬ال إخوة يمدونني ببيانات ٍ‬
‫هامش القصيدة‪ ،‬ستظل ليلى‬ ‫ٌ‬
‫مجاز ولد على‬ ‫تعيد حبيبتي الوحيدة‪ ...‬وألنني‬
‫ِ‬
‫القافية وأنا الرهينة‪.‬‬
‫كنت جالسا بمقهى ساتيامار أنتظر أن تجلس من جديد أمام عيني بعد أن غابت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قصة‬
‫عني سنة كاملة‪ ،‬منذ عيد ميالدي السابق‪ .‬آه يا ليلى‪ ،‬من كان يظن أن بعد ِ‬
‫حبنا املوجعة تلك سنلتقي فقط في األعياد لنجتر حكاياتنا القديمة ونفترق من‬
‫جديد؟‬
‫ً‬
‫عندما ملحتها تدخل من باب املقهى ابتسمت معلنا عن حلول فصل الربيع بقلبي‪،‬‬
‫ً‬
‫على أمل أال يكون كالربيع العربي الذي حصدنا فيه ِعوض الورود‪ ،‬حربا وخرابا‪.‬‬
‫ً‬
‫اهبة غادرت للتو صالتها‪:‬‬
‫سألتني قاطبة حاجبيها وهي تقف أمامي كر ٍ‬
‫‪ -‬لم تبتسم؟ هل يفوتني ش يء ما؟‬

‫]‪[14‬‬
‫أجبتها وعيناي تسبحان في مياه عينيها‪:‬‬
‫‪ -‬فقط تذكرت كيف كنا نلقي على بعضنا تحية ''مجنو ِن ليلى قيس بن‬
‫امللوح'' بعد طول غياب أيام الجامعة‪.‬‬
‫طأطأت رأسها‪ ،‬وكأنها تخفي مالمحها عني أو تلوذ بالفرار من لحظات عشقنا‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫أسرعت في رفعه وصاحت كأنها تذكرني أنها لم تنس تحيتنا أبدا رغم‬ ‫القديم لكنها‬
‫كل ما مض ى‪:‬‬

‫‪ -‬ملا تالقينا على سفح ر ٍ‬


‫امة‪...‬‬
‫ً‬
‫أجبتها متأثرا‪:‬‬
‫خضبت الكف على فراقنا؟‬
‫ِ‬ ‫العامرية أحمر‪ ،‬فقلت‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وجدت بنان‬
‫ردت علي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬معاذ هللا ذلك ما جرى‪ ،‬ولكنني ملا وجدتك راحال بكيت دما حتى بللت به‬
‫الثرى‪.‬‬
‫حملت يداها إلى وجهي ثم أردفت‪:‬‬
‫اليدين كما ترى‪...‬‬
‫ِ‬ ‫نان مدامعي‪ ،‬فسارا ِخضابا في‬ ‫‪ -‬مسحت بأطر ِ‬
‫اف الب ِ‬
‫ً‬
‫تدافعت كلمات ليلى متسارعة وهي تختنق وسط دمع خفيف انهمر على خديها‬
‫بتباطؤ بعدما بلل رموشها بندى كحلها األسود‪ .‬وقفنا صامتين‪ ،‬ورغبة حارقة‬
‫تدفعني إلى صدرها من أجل معانقتها والهمس في أذنيها ''توحشتك أ ليلى''‪ ...‬لكن‬
‫لرجل آخر منحها بيت الزوجية وطفلة وأشياء لم‬ ‫ليلى لم تعد لي اآلن‪ ،‬صارت ٍ‬
‫أستطع منحها إياها‪.‬‬
‫ْ‬
‫تركت‬ ‫مددت لها يدي للسالم عليها بكل تحفظ‪ ،‬لكنها كانت أكثر شجاعة مني‪...‬‬
‫يدي متسمرة وارتمت على صدري لتحضنه بكل حرارة‪ .‬ضغطت بنهديها العامرين‬

‫]‪[15‬‬
‫خيل يلطم ويرقص‬
‫عب ٍ‬
‫كصوت ك ِ‬
‫ِ‬ ‫على صدري‪ ،‬كنت أشعر بدقات قلبها تصدح‬
‫شارع قديم‪ ،‬يبدأ عند اسمها وينتهي عند اسمي‪.‬‬
‫على إسفلت ٍ‬
‫لضمة صدرك ووجودك املربك في‬‫ِ‬ ‫شعرك‪ ،‬اشتقت‬‫ِ‬ ‫آه يا ليلى‪ ،‬اشتقت لرائحة‬
‫حياتي‪ ،‬اشتقت لبعضك ولكلك‪ ...‬لكن ما بي ال أستطيع البوح لك بمشاعري‬
‫وباشتيا ي اآلن؟ ما بي أخرس؟‬
‫مسحت دموعها بمنديل ناعم تحمله في يدها اليسرى ثم جلست قبالتي تنظر‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫أكانت تتفقد‬ ‫لوجهي‪ ،‬تنشر نظرها تارة على عيني‪ ،‬وتارة أخرى على شفتي وشعري‪...‬‬
‫مالمحي إن كانت قد تغيرت عنها؟ أم أنها نستها يا ترى؟‬
‫دروب وجهها؟ وأنا من‬
‫ِ‬ ‫أما أنا فكيف لي أن أنس ى مالمحها؟ كيف لي أن أتوه على‬
‫كان يسرق بشفتيه الكلمات من ثغرها‪ ،‬أنا من كان يركض ألنفها كي يغسل رئتيه‬
‫بأنفاسها‪ ،‬أنا من كان يصلي في محراب عينيها صباح مساء ليثوب من خطايا‬
‫الحب‪.‬‬
‫تجاعيد صغيرة حول جبينها فقط‪ ،‬دون‬ ‫ٌ‬ ‫الت كما هي‪ ،‬ال ش يء تغير في وجهها‪،‬‬ ‫ال ْ‬
‫ز‬
‫ذلك‪ ،‬ليلى التي عرفتها قبل عشرين سنة هي نفسها الجالسة أمامي اآلن‪ .‬ليلى‬
‫الطالبة التي كان صوتها يصدح وسط حلقيات الجامعة دفاعا عن أفكارها الثورية‬
‫وعن البروليتاريا هي ذاتها الفتاة العنيدة التي دافعت عن الفكر القومي العربي‬
‫ووحدة العرب‪ ،‬هي ذاتها اآلن األستاذة الهادئة واملتزنة في معاهد كندا وأمريكا‪ ...‬وهي‬
‫دائما املرأة التي أحببتها دون قيود‪ .‬املرأة التي ألبسها القدر فستان الحب األبدي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ووضعها في طريقي لتحيل قلبي ماركة مسجلة باسمها‪.‬‬
‫ً‬
‫صاحت مبتسمة في وجهي‪:‬‬
‫‪ -‬مر ٌ‬
‫عام إذن‪...‬‬
‫ٌ‬
‫عام على ماذا؟ على ميالدي السابق؟ على آخر لقاء لنا؟ أم على خيبتي؟‬ ‫‪-‬‬

‫]‪[16‬‬
‫‪ -‬على آخر لقاء لنا‪ ،‬أما خيبتك فعمرها أربعون سنة‪.‬‬
‫ً‬
‫معك حق‪ ،‬خيبتي تساوي عمرا بأكمله‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫حضر نادل املقهى‪ ،‬أنقذني من ورطة البداية واالرتباك الذي يأتي معها‪ ،‬أمعقو ٌل‬
‫أن أرتبك وأتلعثم كلما التقيت ليلى بعد طول غياب؟ أمعقول أن تبقى لقاءاتي مع‬
‫ً‬
‫ليلى وفية ملشاعر الحب في أيامه األولى ولقاءاته الحامية؟‬
‫‪ -‬ستشرب قهوة كعادتك؟‬
‫أجبتها بإيماءة رأس ي وأنا سعيد أنها الزالت تذكر عاداتي الصغيرة‪ ،‬لكن سعادتي‬
‫كانت أكبر عندما طلبت من النادل أن يحضر لي فنجان قهوة من ماركة‬
‫''نسبريسو'' قهوتي املفضلة‪.‬‬
‫يا إلهي هي تتذكر كل ش يء‪ ،‬تتعمد أن توغل بي في ذاكرة حبنا الذي ال ينتهي ولن‬
‫ينتهي‪.‬‬
‫ً‬
‫طلبت هي عصير برتقال ثم أردفت قائلة للنادل قبل مغادرته‪:‬‬
‫‪ -‬من فضلك أريد أن أحدث نادية‪ ،‬هال طلبت منها أن تأتي إلي؟‬
‫ً ً‬
‫التفتت إلي بسرعة كمن تذكر شيئا مهما ثم قالت لي‪:‬‬
‫‪ -‬على فكرة‪ ،‬ألم تتساءل أين رحل سعيد‪ ،‬أتذكره؟‬
‫‪ -‬سعيد النادل؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬سعيد نادل ساتيامار الذي كنا نصبح عليه كل يوم أنا وأنت وعزيز‬
‫قبل عشر سنوات‪...‬‬
‫‪ -‬آه‪ ،‬أكيد أذكره‪ ...‬لكنني لم أفكر في السؤال عنه وأين رحل‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬اسمع يا سيدي‪ ،‬املجنون التحق مؤخرا بداعش‪.‬‬

‫]‪[17‬‬
‫ً‬
‫أجبتها مستغربا‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬سعيد التحق بداعش؟! دنيا عجيبة فعال‪ .‬ربما فقط طمعا في جهاد‬
‫النكاح ‪...‬‬
‫ابتسمت ثم غمزتني قائلة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬بذمتك‪ ،‬أليس ذاك سببا مغريا اللتحاق الرجال بداعش؟‬
‫ً‬
‫ثوان حضرت وهي تحمل لنا فنجان قهوة وكأس‬ ‫بصوت مرتفع ثم بعد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ضحكنا معا‬
‫ْ‬
‫عصير البرتقال‪ .‬ألقت علينا التحية بحرارة ثم سألتها ليلى دون ٍ‬
‫صبر على االنتظار‪:‬‬
‫أعددت ما طلبته يا نادية؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هل‬
‫أجابتها الفتاة التي نعرفها أنا وليلى تشتغل منذ زمن كمشرفة في مقهى ساتيامار‪:‬‬
‫‪ -‬نعم سيدة ليلى‪ ،‬سأبعثه لك مع النادل؟‬
‫‪ -‬ال ال‪ ،‬ليس اآلن من فضلك‪ .‬بعد أن نشرب القهوة والعصير‪ ،‬شكرا‪.‬‬
‫قبل أن تنصرف نادية سألتني بفضول‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ملاذا لم نعد نراك كثيرا س ي طارق‪ ،‬اشتقنا لك؟‬
‫أجبتها بخجل‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬فقط مع إكراهات الحياة يا نادية‪ ...‬شكرا الهتمامك‪.‬‬
‫ردت علي وهي تنظر إلى ليلى‪:‬‬

‫‪ -‬شكرا ِ‬
‫ألنك أحضرته لنا اليوم سيدة ليلى‪.‬‬
‫انصرفت نادية بعد أن تركت ابتسامة خفيفة على شفتي ليلى‪ ...‬كانت تبتسم وهي‬
‫تنظر إلي بخبث‪ .‬أثارتني ابتسامتها فسألتها ''ماذا هناك؟'' فقالت لي‪:‬‬

‫]‪[18‬‬
‫‪ -‬املسكينة اشتاقت لك‪...‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال تبالغي‪ ،‬هي فقط تجامل زبونا وفيا للمقهى‪...‬‬
‫‪ -‬يا مراوغ‪ ،‬أنا أعرفك تفهم نظرة املرأة املشتاقة الولهانة‪.‬‬
‫‪ -‬أي نظرة؟‬
‫ضوء المع ويصير‬
‫دمع خفيف وبريق ٍ‬ ‫‪ -‬عندما تمتلئ عيو ًن املرأة بقطرات ٍ‬
‫صوتها خافتا رخوا عندما تقول ''أشتاق لك'' اعلم حينها أنها مغرمة بك‪.‬‬
‫أخفضت رأس ي خجال ثم عدت لسؤالها‪:‬‬
‫‪ -‬أالز ِ‬
‫لت تغارين علي؟‬
‫سقط سؤالي على مسامعها كرصاصة كاتمة الصوت‪ْ .‬‬
‫قتلت االبتسامة على شفتيها‬
‫وأخفت بريق الفرحة من عينيها‪ .‬ارتعشت أناملها وهي تلجأ لكأس العصير عساه‬
‫يطفئ النار التي أشعلها سؤالي‪ ،‬تلك النار التي تداريها برماد الفراق واالبتعاد عني‬
‫لسنين‪ .‬تلك النار التي أشم لهيبها اآلن من شفتيها التي غطاها رذاذ البرتقال وهي‬
‫تلثم الكأس كحبيب يرويها بعد أن كان هو الظمأ‪.‬‬
‫قالت لي بعد أن وضعت الكأس على الطاولة‪:‬‬
‫‪ -‬ما عادت الغيرة تنفعني في رجوعك لي‪ ،‬وال كل املشاعر التائهة في قاموس‬
‫ً‬
‫الحب‪ .‬لقد اخترت طريقا آخر غير تلك الطريق التي كنا نريد أن نمش ي‬
‫ً‬
‫فيها معا‪.‬‬
‫‪ -‬من ترك اآلخر يا ليلى؟ من ضحى بحبنا وتزوج وأنجب؟‬
‫لم تجبني‪ ،‬اجتاحت شفتاها رعشة بكاء سرعان ما أخفتها وسط مالمحها التي‬
‫بدت عليها قسوة بالغة‪ .‬تركت يداها تبحث عن سيجارة وسط حقيبتها‪ ،‬أحرقت‬
‫رأسها وبدأت ترشف منها بشراهة الغارق في حزنه حد الوجع‪.‬‬

‫]‪[19‬‬
‫ً‬
‫قطعت صمتها قائال‪:‬‬
‫نت عهدنا‪...‬‬
‫خانتك كلماتك كما خ ِ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫أجابتني مستفزة‪:‬‬
‫‪ -‬من فضلك يا طارق‪ ،‬دور الضحية ال يليق بك‪ ...‬أرجوك ال تعكر لقاءنا‬
‫الوحيد في كل سنة‪ .‬أنت تعلم كم انتظرتك‪ ،‬أنت تعلم كم ضحيت ألجل‬
‫أن تبقى معي‪ ،‬كي تكون لي إلى األبد‪ ،‬عشرون سنة وأنا أحارب من أجل‬
‫حبنا املستحيل هذا‪ ،‬والنتيجة ها نحن تجاوزنا األربعين من العمر نجر‬
‫خيبة حبنا اللقيط‪ ،‬نجح القدر في آخر املطاف في تفريقنا وتحويلنا‬
‫ألطالل تسكنها رياح الحب‪.‬‬
‫أخذت رشفة من سيجارتها ثم أضافت وأنا أنظر إليها بتأمل العاجز‪:‬‬
‫‪ -‬أتتذكر العهد الذي قطعناه على بعضنا في الجامعة؟ عندما جرحنا‬
‫ً‬
‫أصابعنا ومزجنا دماءنا في منديل أبيض كاملراهقين وقلنا ''سنبقى معا إلى‬
‫األبد''؟ ماذا حدث بعدها؟ خرجت أنا من الجامعة أداوي ذكريات‬
‫ً‬
‫االعتقاالت والتعذيب بسبب الوطن الذي حلمنا به سوية‪ ،‬كان أملي‬
‫الوحيد حينها هو أنت‪ ،‬هو قصة حبنا فقط‪ .‬أما أنت فقد خرجت مشتتا‬
‫ً‬
‫تائها لم تر أمامك سوى فلسطين والبندقية‪ ،‬غادرت إلى فلسطين‬
‫ٌ‬
‫وتجاهلتني‪ ،‬نسيت قصة حبنا‪ .‬فكرة واحدة كانت تغريك حينها‪ :‬املوت‬
‫برصاص إسرائيلي والخالص من مآس ي الوطن والعروبة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كانت كمن يصفي حسابه مع ألم الحب‪ ،‬تتكلم بسرعة وتضغط على الكلمات كي‬
‫ً‬
‫تدفعها لي من على هاوية شفتيها‪ ،‬ظلت تقول كالما كثيرا لم أسمع منه إال آهاتها‬
‫املغلفة في ثوب العتاب‪.‬‬

‫]‪[20‬‬
‫‪ -‬وبعد أن فشلت في املوت املرة األولى والثانية والعاشرة أصبحت جسدا‬
‫فارغا من أي روح‪ ،‬من أي أمل في الحياة‪ ،‬كنت أقول لنفس ي ال عليك يا‬
‫يحبك كما‬
‫ِ‬ ‫عليك أن تبقي بجانبه هو‬
‫ِ‬ ‫ليلى سيرجع طارق كما كان‪،‬‬
‫تحبينه‪ ...‬يلزمه فقط الوقت ليلملم جراحه‪ .‬لكنني كنت غبية‪ ،‬عوض أن‬
‫تعود لحبنا أحببت فتاتك اإلسرائيلية تلك‪ ،‬أماليا‪ ،‬بعد ثالث سنوات‬
‫على عالقتك معها عدت لي من جديد تجر خيبتك‪ ،‬قلت مع نفس ي كانت‬
‫ً‬
‫نزوة وتخطاها لكنني كنت أشعر بك مختلفا غريبا عن ذاك الرجل الذي‬
‫أحببته داخل أسوار الجامعة‪ .‬ثم عدت من جديد لخيانة حبنا‪ ،‬أحببت‬
‫زهرتك تلك وما إن فشلت قصتك معها حتى لجأت إلى فلسطين من‬
‫جديد بحثا عن موتك الجميل وسط أزيز الرصاص وقصص النضال‬
‫العربي‪ .‬حتى هناك خنت حبنا وأحببت سلوان ابنة خان يونس‪ .‬أليس‬
‫صحيح ما أقول؟‬
‫توقف ْت لتنظر إلي بعينيها الدامعتين ثم قالت لي‪:‬‬
‫‪ -‬اشرب فنجانك‪ ،‬قهوتك ستبرد‪...‬‬
‫أشاحت ببصرها بعيدا عني‪ ،‬كانت كمن يستجمع كلماته ليضعها على رشاش‬
‫لسانه‪ .‬ثم عادت لتقصفني‪:‬‬
‫بفستان أبيض‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬عندما عدت آخر مرة من فلسطين‪ ،‬انتظرتك في املطار‬
‫كي أقول لك حان موعد إسدال الستار على فراقنا‪ .‬وحده اللون األبيض‬
‫الذي كنت أراه عند عودتك‪ ،‬كنت أشعر أنها عودتك األبدية لي‪ .‬لقد‬
‫وعدتني أن تعود لي ‪...‬‬
‫ً‬
‫استدركت صوتي هذه املرة مقاطعا كالمها‪:‬‬
‫رجل آخر‪.‬‬
‫لك‪ ...‬لتغادريني بدورك إلى ٍ‬
‫وعدتك وعدت ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬فعال‬

‫]‪[21‬‬
‫صرخت وهي تبكي‪:‬‬
‫‪ -‬ألنك عدت جسدا دون روح‪ ،‬دون أحالم‪ ،‬دون آمال‪ ...‬في كل مرة كنا‬
‫نضحك فيها‪ ،‬أو نرقص أو نتحدث أو نمارس الحب كنت أرى عينيك‬
‫املنكسرتين وقلبك األجوف الفارغ ‪...‬‬
‫عال أثار فضول من كان يجلس‬ ‫غرقت في دموعها هذه املرة مع صوت بكاء ٍ‬
‫بمحاذاتنا‪ .‬لم أستطع قول ش يء أمام ما قالته ليلى‪ .‬ملمت لغتي وأشالء صوتي على‬
‫لساني واستسلمت لنارها ولبكائها قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫قلته‪ ،‬أنا املذنب الوحيد في قصتنا‪ ...‬تبا لي‪.‬‬
‫معك حق يا ليلى في كل ما ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫نهضت بسرعة وهي تغالب دمعها مغادرة الطاولة‪ ،‬ت ِبعتها بنظري حتى اختفت في‬
‫آخر الطرقة التي تتوسط املقهى‪ .‬خمنت أنها ذهبت للحمام كي تصلح كحلها الذي‬
‫بدموع سوداء ولتهرب مني دقائق معدودة لتستكمل موجات بكائها‬ ‫ٍ‬ ‫أمطر وجنتيها‬
‫الجارفة‪.‬‬
‫قدر أحمق حطم قصتنا يا ليلى؟ ‪ ...‬وحده القدر تسلط على قوانين اللغة‬ ‫أي ٍ‬
‫والحروف في قصتنا‪ ،‬فزرع في كلمة "حب" "ر ًاء" بين الحاء والباء فغدونا عشيقين‬
‫في ساحة "حرب"‪ ،‬نتقاتل بأسلحة الشوق والهوى تارة ونهادن بعضنا تارة أخرى‬
‫نحتتك‬
‫ِ‬ ‫بمعاهدات وقف إطالق القبل ورسائل الغرام‪ ...‬هل كان للقدر أصابعا‬
‫مكر الحب وخداعه؟‬
‫حصان الحب الخشبي حيث كنت أنا طروادة شهيدة ِ‬
‫ها هي ليلى استعادت ابتسامتها وطلتها الباهية‪ ،‬تدلف بخطوات سريعة إلي وكأنها‬
‫اشتاقت لي‪ ...‬قبل أن تجلس على كرسيها قصدت خدي ومنحته قبلة سريعة وهي‬
‫تقول‪'' :‬سمح ليا‪ ،‬راك عارفني دغيا كنبكي وعصبية معاك باألخص''‪ .‬ثم جلست‬
‫وابتسامة عريضة تعلو شفتيها في الوقت الذي غرقت فيه أنا في أنفاسها وعطرها‬
‫امللتصق بخدي‪.‬‬

‫]‪[22‬‬
‫قالت برغبة تلطيف لقائنا‪:‬‬
‫‪ -‬اشتقت إليك‬
‫ً‬
‫أجبتها مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا كذلك عزيزتي‪ .‬ما أخبارك؟‬
‫‪ -‬ال جديد يذكر‪ ،‬بين مشاغل التدريس باملعهد الكندي ومشاغل البيت‪.‬‬
‫أحيانا أمر على مطبعة والدي رحمه هللا ألشم رائحته‪ ،‬هذا كل ش يء‪.‬‬
‫‪ -‬تأتين للرباط كي تزوري مطبعة والدك وال تزورينني يا لئيمة؟‬
‫أخفضت رأسها ثم الذت بالصمت‪ .‬لم أعرف ما دار في ذهنها حينها‪ ،‬ربما أرادت أن‬
‫ً‬
‫جنب حوارنا نقاشا آخر يعيدها للبكاء ويعيدني للحزن‪ .‬استدركت كالمي بسرعة‬ ‫ت ِ‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬وليال كيف هي؟‬
‫ْ‬
‫ملعت عيناها وهي تجيبني‪:‬‬
‫‪ -‬إنها تكبر بسرعة ما شاء هللا وأصبحت شقية‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ملاذا لم تحضريها ِ‬
‫معك ألراها‪ ،‬تخيلي رأيتها مرة واحدة‪ ،‬عند والدتها فقط‪.‬‬
‫أجابتني بصوت تائه‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬صحيح‪ ،‬أنت لم ترها سوى مرة واحدة‪.‬‬
‫ْ‬
‫أردفت بسرعة وبحماسة‪:‬‬ ‫ثم‬
‫ً‬
‫‪ -‬لكنني أحكي لها عنك دائما‪ ،‬بالرغم من أنها الزالت في بداية سنتها‬
‫الثالثة‪ ،‬إال أنها تنطق اسمك بطالقة‪.‬‬

‫]‪[23‬‬
‫‪ -‬صحيح؟ تناديني طارق‪.‬‬
‫أجابت بعينين المعتين‪:‬‬
‫‪ -‬تناديك بابا طارق‪.‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫أكملت قائلة‪:‬‬ ‫ابتسمت في وجهها متأثرا ثم‬
‫ً‬
‫‪ -‬لطاملا تمنيت أن يكون لي ابنا منك‪ ،‬عندما وهبني هللا طفلتي أسميتها على‬
‫االسم الذي كنا نرغب أن نسمي ابنتنا األولى به‪ ،‬أتذكر؟ لذلك أنا أشعر‬
‫دائما أنها ابنتك وليست ابنة زوجي جالل‪.‬‬
‫‪ -‬أرني صورها‪.‬‬
‫‪ -‬لألسف ال أحمل صورا لها على هاتفي‪.‬‬
‫ً‬
‫تعجب غريبة على مالمحي فاستفزتها قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رسمت مالمح‬
‫‪ -‬ما بك؟‬
‫وكأنك تخفين صور ليال عني‪ ،‬في كل مرة أطلب فيها صورها‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬أشعر‬
‫تتحججين بكونك ال تحملينها معك‪ ،‬وعندما أطلب منك رؤيتها على‬
‫ً‬
‫الكاميرا في األنترنت تقولين لي دائما أنها نائمة أو غير موجودة‪ ،‬فضال على‬
‫معك للقائي‪ .‬أشعر أن األمر مريب!!‬ ‫أنك ال تحضريها ِ‬
‫‪ -‬كفاك تهيؤات‪ ،‬ليس في األمر ش يء مريب‪ .‬املرة القادمة سأحضرها معي‪.‬‬
‫ً‬
‫أجبتها متلهفا‪:‬‬
‫‪ -‬تعدينني؟‬
‫ردت علي بارتباك واضح‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬أعدك‪.‬‬

‫]‪[24‬‬
‫لثوان ثم حملت رأسها لتسألني مبتسمة بلهفة‪:‬‬
‫صمتت ٍ‬
‫‪ -‬قل لي‪ ،‬أال تفكر في الزواج وإنجاب أطفال‪ ،‬أنت في األربعين من عمرك‬
‫سيفوتك القطار يا عزيزي‪.‬‬
‫تنهدت وأنا أجيبها‪:‬‬
‫‪ -‬سأجيبك بما قاله ''هاني النقشبندي''‪'' ،‬ليس مهما متى نتزوج‪ ،‬بل من‬
‫نتزوج؟ الكثير يعتقد أن القطار فات‪ ،‬فليذهب القطار إن شاء إذا كان‬
‫الثمن هو الذهاب لوجهة ال نريدها''‪.‬‬
‫ْ‬
‫طلبت منك أن‬ ‫‪ -‬وأماليا أليست بالوجهة التي تريدها؟ ألم تعد لها وهي التي‬
‫تتزوجها؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬عدت لها ِ‬


‫ألنك تركتني وحيدا‪ ،‬مشتتا‪ ،‬أنا في حاجة للحب كي أصبر‬
‫على ألم الحياة والقلق األنطولوجي الذي أعيشه يا ليلى‪ .‬لكنني ال‬
‫أستطيع الزواج من أماليا‪.‬‬
‫‪ -‬لكنها وضعتك في مأزق كما قلت لي‪ ،‬إما أن تتزوجها أو تغادرك؟‬
‫‪ -‬صحيح‪ ،‬وال أدري ما علي فعله‪.‬‬
‫‪ -‬هي امرأة متميزة أنصحك بأال تفوت هذه الفرصة للزواج منها‪.‬‬
‫ً‬
‫أنت املرأة الوحيدة التي أشتهيها أما ألوالدي يا ليلى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫لم تجبني‪ ،‬الذت بالصمت للحظات طويلة قبل أن تغير املوضوع قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬لم تقل لي ما أخبارك أنت؟‬

‫]‪[25‬‬
‫أنت ترين‪ ...‬طارق هو طارق لم يتغير ش يء فيه‪ .‬الجديد أنني أصبحت‬
‫‪ -‬ها ِ‬
‫ً‬
‫مشردا‪ ،‬عاطال بال عمل بعد أن كنت بال هوية وال وطن وال أحالم‪.‬‬
‫أصبحت حياتي مسلسال من الالءات يا ليلى‪.‬‬
‫‪ -‬محنة وستزول يا طارق‪ ،‬الصحافة مهنة تحتاج من صاحبها أن يكون‬
‫ً‬
‫مستقرا وصافي الذهن‪ .‬هذا ما لم تتمتع به منذ أيام الجامعة‪.‬‬
‫ْ‬
‫أردفت قائلة بعد أن ملحت ابتسامة سخرية على شفتي‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا لم تطلب من عزيز أن يجد لك وظيفة بجريدته؟‬
‫شغلني في تلك الجريدة‬
‫أجننت؟! أنا أطلب من ذلك الخائن الجبان أن ي ِ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫املخزنية‪...‬‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬يجب أن تنس ى ما حدث‪ ،‬لقد اعتذر لنا عزيز‪ .‬أنت تعلم أنه‬
‫شخص ال يهتم باملبادئ بقدر ما يهتم بمصالحه‪...‬‬
‫‪ -‬أنس ى ما حدث !! أنس ى أن عزيز خان رفاقنا وتجسس علينا لصالح‬
‫جننت‪...‬‬
‫ِ‬ ‫مخابرات النظام طيلة السنوات األخيرة؟‬
‫ً‬
‫لم تجبني طأطأت رأسها عندما أردفت قائال‪:‬‬
‫أنت تعلمين يا ليلى أنني في هذه الحياة أمقت صفتين‪ ،‬ال أتصالح معهما‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أبدا‪ :‬الكذب والخيانة‪ .‬ال أعرف أصال كيف قبلنا بذاك الخائن رفيقا لنا‬
‫أيام الجامعة‪ ،‬وهو ال يهتم ال للعروبة وال لليسار وال هم يحزنون‪...‬‬
‫قمة صدرها‪ .‬تذكرت حينها مقاال‬ ‫ْ‬
‫شعر تدلت على ِ‬‫ظلت صامتة‪ ،‬تعبث بخصلة ٍ‬
‫قرأت فيه أن املرأة التي تلعب بخصالت شعرها عندما تكون جالسة مع ٍ‬
‫رجل هي‬
‫في الغالب تحبه‪ .‬قلت مع نفس ي وأنا أدفع أناملي إلى علبة السجائر كي أشعل‬
‫ً‬
‫لنفس ي الغاضبة سيجارة‪'' :‬ليلى ال يمكن لها أن تحب سواي''‬

‫]‪[26‬‬
‫‪ -‬الزلت تدخن بشراهة‪...‬‬
‫‪ -‬بعد رحيلك عني يا ليلى أصبحت أشعل السيجارة بسيجارة‪...‬‬
‫‪ -‬أتعلم؟ في كل سنة يغمرني الفضول ملعرفة أي الشعرات سيغزوها‬
‫ً‬
‫الشيب في رأسك‪ .‬لكنني في كل مرة أجدك فيها أصلعا أكثر‪...‬‬
‫‪ -‬ربما الشعرات التي تتوقعين أن تصبح رمادية يأتي القدر بقرار إعدامها‬
‫وتترك مكانها بقايا صلع‪ .‬هكذا هو القدر‪ ،‬أحيانا يبقي على ما نملك‪،‬‬
‫ً‬
‫يغيره فقط من حال إلى حال‪ ،‬من لو ٍن إلى آخر‪ .‬أحيانا أخرى يأتي على كل‬
‫ما نملك‪ ،‬يجردنا من كل ش يء‪ ،‬يفرغنا‪ ،‬يحيلنا إلى أشباح تائهة في هذا‬
‫منك‪...‬‬
‫الوجود‪ .‬هكذا جردني ِ‬
‫‪ -‬ربما لم أكن لك منذ البداية أو أنت لم تكن لي‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬كانت لنا معا البداية‪ ،‬البداية فقط‪ .‬لكن النهاية لم تكن لنا‪ .‬قصص‬
‫الحب ال تملك سوى البدايات‪ ،‬حيث يرسم الحبيب لحبيبه نصف قلب‬
‫ويتعاهدان على البقاء دوما كما البداية‪ .‬لكن الزمان يجيد وحده رسم‬
‫النهايات في قصص الحب‪.‬‬
‫باد على شفتيها وظلت صامتة‪ .‬قبل أن أستكمل كالمي‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ابتسمت بألم ٍ‬
‫‪ -‬يجب أن نستفيد من الرياضيات في قصص الحب‪ ،‬فهي تكترث فقط‬
‫للنهايات في حساب الدوال‪ ،‬تضع القوانين واالحتماالت ومجموعات‬
‫التعريف‪ ،‬تشحذ كل أسلحتها الرياضية للتكهن بالنهايات‪ .‬الرياضيات‬
‫والحب كالهما ال يؤمنان بالبدايات‪ ،‬وحدها النهايات تصنع القدر‪.‬‬
‫‪ -‬أحيانا أقول افترقنا ألنني لم أستطع إسعادك‪ .‬كتلة الحزن التي تعشش‬
‫ً‬
‫بداخلك هزمتني‪ ،‬غادرتك على أمل أن تحب فتاة تزرع الفرح بقلبك‪...‬‬

‫]‪[27‬‬
‫‪ -‬وخاب أملك‪.‬‬
‫‪ -‬وخاب أملي‪...‬‬
‫أتتنا النادلة بطبق حلوى كبيرة تسبح فوقها أربع شمعات‪ ،‬كان منظرها مغريا لكن‬
‫ليلى كانت تبدو مغرية أكثر وهي تخطف حبة الكرز من على الحلوى وتضعها في‬
‫فمها‪ ...‬بدت شفتاها ملطختين بالكريمة فأخذت منديال ومسحت شفتيها بهدوء‬
‫وهي تبتسم‪.‬‬
‫ً‬
‫قاطعتنا النادلة متسائلة بكل أدب‪:‬‬
‫‪ -‬عيد ميالد من؟‬
‫سبقتني ليلى إلى الجواب قبل أن تغمز بعينيها لي‪:‬‬
‫‪ -‬عيد ميالدنا نحن اإلثنين‪.‬‬
‫ابتسمت النادلة ثم قالت‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬سأغني لكما رفقة زمالئي ‪ happy birthday to you‬ثم تطفئان‬
‫الشمع لنا‪.‬‬
‫قاطعتها ليلى بود‪:‬‬
‫ً‬
‫يقطع الحلوى والشمع مشتعال‪...‬‬
‫‪ -‬شكرا لك نادية‪ ،‬لكن طارق يحب أن ِ‬
‫هو يكره إطفاء الشمع قبل ذوبانه‪.‬‬
‫أجابتها النادلة وعلى وجهها مالمح االستغراب‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا كما تريدان‪ ،‬عيد ميالد سعيد لكما‪.‬‬
‫ما إن غادرت النادلة طاولتنا حتى همست لي ليلى‪:‬‬
‫بشخص يرفض إطفاء الشمع‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬أقسم أنها أول مرة تسمع‬

‫]‪[28‬‬
‫ً‬
‫صمت ذابت فيها ليلى في نظراتي التائهة على مالمحها‬
‫ٍ‬ ‫ابتسمنا معا‪ ،‬وبعد لحظة‬
‫قالت بعذوبة بالغة دون أي تردد وهي تمسك بكلتا يدي‪.‬‬
‫‪ -‬عيد ميالد سعيد يا طارق‪ ،‬كل عام وأنت حبيبي‪.‬‬
‫غفلة مني إلى مياه الحب‪ .‬ت ِعدني أن مياهه ليست‬
‫ٍ‬ ‫هذه هي ليلى‪ ،‬تسحبني على‬
‫بعناق أبدي لروحينا قبل أن تسرقها‬
‫ٍ‬ ‫بعميقة فأترك نفس ي تغوص بمحاذاتها آمال‬
‫ً‬
‫األيام‪ ،‬وتغرقني مياه الحب في جوفها وحيدا‪.‬‬
‫‪ -‬متى ستنسين تاريخ ميالدي يا ليلى؟ متى ستتوقفين عن صنع أو شراء‬
‫ً‬
‫حلوى لي كلما أقفلت سنة من عمري وفتحت ذراعي ٍ‬
‫لسنة جديدة؟ قولي‬
‫مرة وفي‬
‫لي؟ متى لن تكوني هنا أمامي وأنا أشيخ بسنة وأنت تقولين في كل ٍ‬
‫كل سنة ''كل سنة وأنت حبيبي''؟ أال يمكن أن أبدأ سنة جديدة دون‬
‫منك؟‬
‫هذه األمنية ِ‬
‫ردت علي وهي تنظر إلى شمع الحلوى أمامها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أنا وأنت فتيلتان لشمعة واحدة‪ ،‬نحترق معا في جسد واحد‪ .‬تختلط‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أس‬
‫واحد‪ ،‬نعيش معا عمرا واحدا من ر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫سيل‬
‫دموعنا عندما نبكي في ٍ‬
‫ً‬
‫الشمعة إلى أسفلها‪ ،‬اللهيب الذي يشعلك يحرقني أيضا والريح التي‬
‫ً‬
‫ستطفئك ستذهب بشعلتي أيضا‪ .‬فكيف تريدني أال أحتفل معك بسنة‬
‫ً‬
‫جديدة من عمرك وهو عمرنا معا؟ ماذا يساوي عمرك وأنا لست فيه؟‬
‫وماذا يساوي عمري وأنت لست فيه؟‬
‫ً‬
‫هذه املرة أنا من استسلم للبكاء وشفتي املبللتين بالدمع سمعتهما ترتعشان قائلة‪:‬‬
‫وأنت وطني‪.‬‬
‫عام ِ‬ ‫‪ -‬عيد ميالد سعيد يا ليلى‪ ،‬كل ٍ‬
‫عام وأنت حبيبتي‪ ...‬كل ٍ‬
‫عند نهاية لقائنا ذاك املساء قالت لي وهي تجتاز بوابة مقهى ساتيامار‪:‬‬

‫]‪[29‬‬
‫‪ِ -‬ودعني هنا ‪...‬‬
‫‪ -‬كما املرة السابقة؟ ال تريدينني أن أرافقك إلى محطة القطار؟‬
‫‪ -‬أنت تعلم أنني أحب أن أتمش ى طويال لوحدي بعد كل لحظة فراقنا‪ ...‬إنها‬
‫طريقتي ألتخلص من كلماتك ونظراتك قبل أن يجتاحني البكاء على‬
‫فراقك‪ .‬كما نأخذ حماما ساخنا بعد ممارسة الحب هكذا أتخلص منك‬
‫يا طارق ‪ ...‬لكنني ما ألبث ألعود إليك‪.‬‬
‫تعانقنا كوردتين تدفعهما الرياح إلى بعضهما البعض قبل أن تعود لتفرقهما‪،‬‬
‫ً‬
‫همست في أذنها ''غادي نتوحشك'' لترد علي مبتسمة ''عارفة''‪ .‬ثم غادرتني‪ ،‬تركتني‬
‫كعصفور جريح‪ ،‬تتخبط أجنحته بالتراب املغسو ِل بدمائه‪ .‬على أي شباك سأطل‬
‫اآلن يا ''أميمة الخليلي'' وشباك ليلى كان وحده يخبئني من غدر الزمان؟‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫التفتت وكأنها تذكرت شيئا لتقول لي‪:‬‬
‫‪ -‬هدية عيد ميالدك ستجدها في علبة بريدك‪...‬‬
‫ثم ودعتني بإشارة من يديها وأنا أتذكر كيف أنها لم تقدر طيلة عشرين سنة أن‬
‫تسلمني هدية عيد ميالدي بيديها مباشرة‪ .‬دائما ترسل لي الهدايا عبر البريد أو‬
‫تخبئها في مالبس ي أو تحت السرير‪ ...‬هل في األمر ٌّ‬
‫سر ال أعرفه يا ليلى؟‬
‫ومضيت أنا اآلخر‪ ،‬أمش ي طويال في خنادق الذكريات وحقول ألغام الحب وأمش ي‬
‫عيناك أغسل بهما عيني وأمض ي إلى مثواي األخير‪،‬‬
‫ِ‬ ‫إلى ليالي‪ .‬ما لي الليلة ِسوى‬
‫وأنت مستبدة البدايات؟ كيف ال‬
‫حرفي األخير‪ ،...‬وكيف ال تكونين سيدة النهايات ِ‬
‫كنت لي ميالد الكلمات؟‬
‫وأنت ِ‬
‫تكونين حرفي األخير ِ‬
‫اقك؟ أم وجع‬
‫حبك؟ وجع فر ِ‬
‫وجع يختاره مثواي األخير على ضفافك؟ وجع ِ‬
‫أي ٍ‬
‫اللقاءات املؤجلة؟‬
‫ِ‬

‫]‪[30‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ3‬‬
‫الدار البيضاء ‪ 01-‬شباط‪/‬فبراير ‪2015‬‬

‫هذه الليلة أيضا كنت كالحاضرة الغائبة على مائدة العشاء في بيتي‪ ،‬للحظة بدا لي‬
‫املشهد وكأنني رأيته من قبل‪ .‬نفس حركة جالل زوجي وكالمه وانفعاالت ليال‬
‫وطريقة أكل أمي فاطمة مربية ليال‪ .‬كل ش يء كان وكأنني رأيته من قبل‪ .‬شعرت‬
‫باضطراب وبدوار في رأس ي وأنا أتخيل حياتي وقد صارت مسلسال من التهيؤات‬
‫والشرود في ذكرياتي مع طارق‪ ...‬أتنتهي كل قصص الحب الفاشلة بأمراض نفسية‬
‫وحاالت اكتئاب؟‬
‫بصوت خافت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نهضت من الطاولة وأنا أقول‬
‫‪ -‬سأحضر لنفس ي كوبا من املاء‪...‬‬
‫سمعت جالل يقول وأنا أجتاز باب املطبخ ''لكن املاء فوق الطاولة ما بك يا ليلى؟''‬
‫في املطبخ أخذت كأسا من درج األواني وفتحت صنبور املاء‪ .‬كان لصوت املاء‬
‫املتساقط في قعر الكأس صوتا أعادني لنوستالجيا الذكريات من جديد‪ .‬رأيت‬
‫صوري مع طارق أيام الجامعة‪ .‬هناك في جامعة محمد الخامس بسنتي الثانية‪،‬‬
‫شعرت بمعنى أن أكون امرأة‪ ،‬في بداية تلك السنة كنت قد بدأت ألتقي بطارق من‬
‫حين آلخر في حلقيات الجامعة وتجمعات الرفاق في املقصف أو في شارع محمد‬
‫الخامس‪ .‬بعدها بأشهر اختفى طارق‪ ،‬لم نعرف أين‪ ،‬سمعنا بأنه اعتقل وال ندري‬
‫أين‪ ...‬حينها فقط بدأت أشعر أنه احتل قلبي إلى األبد‪.‬‬
‫فجأة خطفني صوت من شريط الذكريات‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬ليلى‪...‬‬

‫]‪[31‬‬
‫ً‬
‫التفت ورائي بخوف ألجد جالل واقفا عند باب املطبخ ثم سمعت صوت املاء‬
‫يفيض بسرعة من على الكأس الذي نسيته تحت الصنبور‪.‬‬
‫قال لي جالل وأنا أحمل الكأس لشفتي كي أشرب منه‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك يا ليلى؟ ملاذا أصبحت شاردة وتائهة هكذا؟ ملاذا تغيرت عالقتك بي‬
‫منذ والدة ليال؟‬
‫جلست على كرس ي شارد هو اآلخر في املطبخ‪ ،‬وضعت رأس ي بين يدي‪ ،‬أحسست به‬
‫ثقيال‪ ...‬ال أقدر على حمله بين كتفي‪ .‬يا هللا ملاذا ال يتوقف شريط ذكرياتي مع‬
‫طارق على اجتياح حياتي ملاذا؟‬
‫رفعت رأس ي ألجد جالل يواصل النظر إلي‪ .‬قطع صمتنا قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ألن تجيبيني؟‬
‫ً‬
‫أجبته تائهة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرف يا جالل‪...‬‬
‫ً‬
‫أردفت قائلة بعد لحظة صمت‪:‬‬
‫أشعر بنفس ي مضطربة وأتساءل إن كانت خياراتي في الحياة خاطئة أم صحيحة‪.‬‬
‫الحياة يا جالل‪ ،‬الحياة ليست سوى خيارات‪ ،‬إن لم نحسن االختيار نعيش حياة‬
‫ال تر ى ألحالمنا‪ ...‬شبه حياة باألصح‪.‬‬
‫قاطعني بسؤال مفاجئ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬وزواجك بي؟ هل كان خيارا خاطئا في نظرك؟‬
‫صمتت بعد سؤاله‪ ،‬لم أستطع أن أحرجه بحقيقة جوابي‪ ...‬هو يعرف أنني ال‬
‫ً‬
‫أحبه‪ ،‬يشعر بذلك لكنني في لحظة ما وعدته بأن أبني بيتا وعشا زوجيا معه ولطاملا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كنت وفية في وعودي‪ ...‬تبا‪ ،‬الوفاء بالوعود هو الذي يدمر حياتي دائما‪.‬‬

‫]‪[32‬‬
‫سمعته يقول من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬ربما تعانين من أعراض أزمة األربعينات يا عزيزتي‪ ،‬لقد سبق لي أن‬
‫عانيت من نفس األزمة‪.‬‬
‫كنت أنظر إليه صامتة وقلبي يقول إنها أزمة أكبر وأعمق من أن تكون أزمة عمر‪...‬‬
‫إنها أزمة حب وأزمة وجود يا جالل‪.‬‬
‫ً‬
‫أردف قائال‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعي‪ ،‬ملاذا ال تذهبين عند طبيب نفس ي‪ .‬قد تكون هذه أعراض اكتئاب‬
‫وإن لم تعالج ستتطور إلى مرض الذهان أو الكتاتونيا‪...‬‬
‫أجبته وأنا أجمع شعري للوراء متذكرة كيف كان طارق يحب الحركة التي أجمع‬
‫بها شعري‪ ...‬قلت له بصوت هادئ‪:‬‬
‫‪ -‬تظنني مريضة يا جالل؟‬
‫ً‬
‫أجابني متوددا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬ليس بالضرورة أن تكوني مريضة كي تزوري طبيبا نفسيا‪ ،‬فكري في األمر‬
‫فقط‪.‬‬
‫ً‬
‫ظللت صامتة وأنا أراه يغادر املطبخ‪ ،‬لم أستطع هذه الليلة أيضا أن أنام بجانبه‪،‬‬
‫كانت فكرة أن أنام بجانب رجل غير طارق تعذبني وترميني في ظالم األرق‪ ،‬لم أعد‬
‫قادرة على أن أبتسم في وجه رجل غير طارق وال أن أحادث سواه‪.‬‬
‫في الصباح‪ ،‬أفقت على أثر قبلة ليال على خذي‪ ،‬أخذتها في حضني وعانقتها ألشم‬
‫فيها رائحة والدها الذي أشتاق له‪ .‬سألتني كما كل صباح بفضولها املعتاد‪:‬‬
‫‪ -‬ماما‪ِ ،‬‬
‫نمت مجددا هنا على األريكة؟‬
‫‪ -‬غافلني النوم هنا يا حبيبتي‪...‬‬
‫]‪[33‬‬
‫صاحت أمي فاطمة وهي تقترب منا‪:‬‬
‫بنتي ليلى‪ ،‬الفطور في املطبخ ال تخرجي بال فطور كعادتك‪.‬‬
‫‪ -‬صباح الخير ا ِ‬
‫سآخذ ليال إلى الروض‪.‬‬
‫ً‬
‫نهضت من مكاني متثاقلة‪ ،‬ف ِطرت على أنغام فيروز الصباحية وأخذت حماما‪.‬‬
‫اتصلت باملعهد كي أخبرهم أنني سأتغيب اليوم‪ .‬ثم أخذت حقيبتي اليدوية ومفاتيح‬
‫السيارة وخرجت‪.‬‬
‫كان حي بلفيدير هذا الصباح هادئا على غير عادته‪ ،‬ال زحام فيه وال أكاد أسمع‬
‫صوت سيارة‪ .‬انطلقت بسيارتي من شارع محمد الخامس إلى أن وصلت إلى مبنى‬
‫فيليبس القديم أمام مقهى سيتي باالص‪ .‬ركنت سيارتي بالقرب من محطة‬
‫الترامواي ونزلت أبحث في املباني املجاورة على يافطات ألطباء نفسانيين‪ ،‬نصف‬
‫ساعة وأنا أبحث دون نتيجة‪ ،‬أخذت هاتفي وركبت رقم صديقتي ''نزهة صادق''‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كي أسألها إن كانت تعرف طبيبا نفسانيا في النواحي‪ ،‬لكنني تراجعت عن االتصال‬
‫بها مخافة أن تشغل بالها علي‪.‬‬
‫وأنا عائدة إلى السيارة‪ ،‬ملحت عمارة في آخر شارع املقاومة بها يافطات كثيرة‬
‫فقررت أن أبحث فيها‪ .‬كانت يافطات ألطباء القلب والشرايين والعيون‬
‫وتخصصات أخرى ال أعرفها‪ ...‬تركت أعيني تجول بين األسماء حتى سقط نظري‬
‫اسم جميل في أسفل اللوحة كتب عليها‪ :‬نوريانا البناني – طبيبة نفسية‬ ‫على ٍ‬
‫خريجة كلية الطب محمد الخامس الرباط الطابق الثالث‪.‬‬
‫ً‬
‫ظللت متسمرة أمام باب العمارة أفكر في طارق وفي ذكرياتي معه ثم غادرت وأنا‬
‫أصيح في داخلي‪'' :‬طارق هو طبيبي الوحيد''‪.‬‬

‫]‪[34‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ4‬‬
‫الرباط ‪ 81-‬شباط‪/‬فبراير ‪2015‬‬

‫وقفت أمام موظفة البنك املكلفة بخدمات الزبائن التي هي نفسها السيدة التي‬
‫وقعت عندها قبل عشر سنوات عقد القرض الذي اقتنيت به شقتي‪ .‬ما إن ملحتني‬
‫حتى صاحت وابتسامة مصطنعة تعلو شفتيها‪:‬‬
‫‪ Bonjour‬س ي طارق ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫أجبتها ببرودة من فرط حنقي على هذه الوكالة البنكية التي أنهكت جيبي لسنوات‬
‫وأثقلتني بفوائدها‪:‬‬
‫‪ -‬أهال‪ ،‬من فضلك جئت ألسدد بعض األقساط املتأخرة علي‪.‬‬
‫وود بالغين ثم قالت لي‪:‬‬
‫دعتني للجلوس بأدب ٍ‬
‫‪ -‬لكن ليس لديك أي أقساط متأخرة س ي طارق!‬
‫أجبتها بابتسامة ساخرة‪:‬‬
‫‪ -‬من فضلك‪ِ ،‬‬
‫أنت تعرفين أن وضعيتي املالية معكم حرجة وأقساط كثيرة‬
‫سمحت‪.‬‬
‫ِ‬ ‫متأخرة السداد‪ .‬فال داعي للمزاح معي لو‬
‫أجابتني بجدية بالغة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أنا ال أمزح س ي طارق‪ ،‬فعال ليس لديك أي أقساط متأخرة‪ .‬كل أقساط‬
‫القرض دفعت أواخر الشهر السابق ومعها تسبيق لسنة كاملة من‬
‫األقساط‪ ...‬أي أن قرضك دفع عن آخره‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك؟ ال يمكن؟‬

‫]‪[35‬‬
‫‪ -‬هذه هي الحقيقة س ي طارق‬
‫‪ -‬ومن دفع كل هذه األقساط عني إذن؟‬
‫‪ -‬لقد حضرت سيدة إلى مكتبي‪ ،‬وقالت لي أنها من أقاربك وأنك في ظرف‬
‫صعب ال يمكنك من الحضور ملناقشة وضعك املالي معنا‪ ...‬ودفعت عنك‬
‫كل األقساط‪.‬‬
‫ً‬
‫علقت على كالمها متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬بهذه البساطة ‪!! ...‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬يبدو أنها تعرفك جيدا‪.‬‬
‫‪ -‬ما اسمها؟‬
‫‪ -‬رفضت إعطاءنا نسخة من بطاقتها الوطنية وال حتى اسمها‪...‬‬
‫‪ -‬يا سالم !‪ ،‬أي مهنية هذه؟‬
‫لم تجبني‪ ،‬ظلت تنظر إلي باستغراب‪ ،‬غرقت حينها في التفكير باحثا في مخيلتي بين‬
‫كل النساء الالئي أعرفهن عن تلك التي تستطيع القيام بهذا العمل من أجلي‪.‬‬
‫ً‬
‫بحثت مليا ولم أجد سواها ومن غيرها؟ التفت إلى موظفة البنك سائال إياها من‬
‫جديد‪:‬‬
‫‪ -‬كيف هي هذه املرأة؟‬
‫ً‬
‫أجابتني مستفسرة‪:‬‬
‫‪ -‬تقصد صفاتها؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬صفاتها؟ سمر ٌاء طويلة؟‬

‫]‪[36‬‬
‫أجابتني بلهفة وكأنها تتذكرها األن‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬نعم إنها كذلك‬
‫أضفت سائال إياها للتأكد من جديد‪:‬‬
‫ٌ‬
‫‪ -‬عيناها سوداوان كبيرتان؟ أنفها نحيف طويل وشعرها يلمع من شدة‬
‫سواده‪ ...‬صدرها عامر وتضع على عنقها قالدة بيضاء يتدلى منها نصف‬
‫قلب؟ تبدو في األربعين من عمرها؟‬
‫ً‬
‫لم تجبني ظلت تنظر إلي مبتسمة باستغراب‪.‬‬
‫‪ -‬لم تبتسمين؟‬
‫‪C’est fou comment t’apprends par cœur ses détails !! -‬‬
‫ابتسمت أنا اآلخر‪ ...‬قبل أن أغادر أجبتها بلغتها‪:‬‬
‫‪Certes, c’est la femme de ma vie -‬‬
‫ما إن وضعت قدمي في شارع محمد الخامس حتى أمسكت هاتفي واتصلت برقم‬
‫ً‬
‫ليلى‪ .‬رن هاتفها طويال قبل أن تجيب‪:‬‬
‫‪ -‬ألو …‬
‫لم أعرف في البداية ماذا سأقول لها‪ ،‬فتركت لساني يدندن اسمها‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى يا ليلى‪...‬‬
‫‪ -‬أتحاول حفظ اسمي مخافة نسيانه أم هو موال للغناء؟‬
‫‪ -‬أما نسيانك فهو غير وارد في قاموس أيامي الكئيبة‪.‬‬
‫ً‬
‫ردت علي ضاحكة‪:‬‬

‫]‪[37‬‬
‫‪ -‬وموال الغناء؟‬
‫باسمك منذ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وكيف يحلو الغناء دون ذكر ليلى يا ليلى‪ ...‬العرب تغنت‬
‫حب سرمدي يا جميلتي‪.‬‬
‫اسمك عالمة ٍ‬ ‫ِ‬ ‫األزل وسيتغنون به الى األبد‪،‬‬
‫وحده اسمي ال يصلح للغناء‪.‬‬
‫‪ -‬اسمك لي‪ ،‬أنا من تغنيه في كل لحظة‪...‬‬
‫ودفعت أقساط قرض شقتي؟‬
‫ِ‬ ‫ذهبت إلى وكالتي البنكية‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ليلى؟ ملاذا‬
‫‪ -‬أزعجك األمر؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬صراحة نعم‪ .‬في األول تتركين لي مبلغا كبيرا كهدية في عيد ميالدي األخير‬
‫واآلن تدفعين أقساط شقتي‪ .‬صحيح أنني بال عمل اآلن‪ ،‬لكنك تحرجينني‬
‫هكذا‪.‬‬
‫ملكا لك وحدك‪ ،‬هي ٌ‬ ‫ً‬
‫ملك لقصة حبنا‪ .‬فيها‬ ‫‪ -‬اسمع يا طارق‪ ،‬شقتك ليست‬
‫عشنا أجمل لحظاتنا‪ ،‬على جدرانها علقنا قبلنا ولحظات عناقنا‪ .‬شقتك‬
‫هي بيت حبنا فكيف لي أن أتركها تصبح في ملكية غيرنا؟ عندما كنت في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فلسطين تبحث عن رصاصة تسقطك شهيدا بعيدا عني كنت أذهب‬
‫إليها ألشم رائحتك وأنس ى وحدتي‪ .‬تلك الشقة كانت وطننا الوحيد الذي‬
‫نلجأ إليه‪ ...‬والذي نرفع فيه أعالم حبنا ونغني نشيدنا الوطني‪ .‬هي أملي في‬
‫عودتنا لبعضنا البعض‪ ...‬فكيف لي أن أضيع أملي هذا‪ .‬شقتك هويتي يا‬
‫طارق‪...‬‬
‫‪ -‬يا لسخرية القدر‪ ،‬أنا من ال هوية لي وال وطن‪ ،‬أمنح الهويات وأبيع‬
‫األوطان‪...‬‬
‫‪ -‬أنا هويتك ووطنك‪ ،‬متى ستعرف هذا يا طارق؟‬

‫]‪[38‬‬
‫تنهدت من تأثري بكالمها ثم قلت‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دفعته إلى البنك سأعتبره سلفا‪ ،‬عندما أجد عمال‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬اسمعي‪ ،‬املبلغ الذي‬
‫سأسدده‪ ،‬اتفقنا؟‬
‫ً‬
‫ردت علي مستسلمة‪:‬‬
‫‪ -‬اتفقنا يا سيدي‪.‬‬

‫بعد مكاملة ليلى‪ ،‬تركت خطواتي تمض ي متثاقلة لساعات‪ ،‬تقودها اللهفة ملعانقة‬
‫عطرها املتبقي في نسمات هواء شارع محمد الخامس منذ آخر لقاء لنا في عيدي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ميالدي قبل شهر‪ .‬على هذا الشارع مشينا معا يقودنا الحب تارة وتقودنا الحسرة‬
‫ً‬
‫واالنكسار تارات أخرى‪ ،‬على هذه الطريق بنينا أمالنا في غد تشرق فيه حياتنا معا‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫ضاعت أمالنا وكأنها خيط متالش ي من الضباب‪.‬‬ ‫وعلى هذه الطريق أيضا‬
‫توقفت قدماي أمام مطعم لوكراند كومبتوار‪ ،‬أنازع نفس ي بين اللجوء إلى بائع‬
‫الجرائد قبالة املطعم لقراءة عناوين الكتب والجرائد وبين االرتماء في أحضان‬
‫كأس شراب يعد جسدي لكآبة املساء ووحدته‪.‬‬
‫دخلت املطعم‪ ،‬لتعانقني ذكرياتي فيه كالعادة‪ ...‬تحوم حولي كأبنائي الصغار‪،‬‬
‫أيام خلت كنت أظنها لن تفنى‪ .‬كنت أظن أنني سأصير‬‫ترحب بقدومي وتعاتبني على ٍ‬
‫سيد هذا العالم في يوم من األيام‪ ،‬لكن أحالمي فني ْت وفنيت معها أيامي‪ ،‬غابتْ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وغبت معها‪.‬‬
‫ما إن تجتاز باب املطعم حتى تقابلك طاوالت سوداء اللون‪ ،‬صغيرة‪ ،‬متناثرة‬
‫بجلسات دافئة ومسلية‪ ،‬تعزف لك كؤوس النبيذ فيها‬
‫ٍ‬ ‫بترتيب بالغ األنفة‪ .‬تغريك‬
‫موسيقى الحياة ويرقص لك لهيب الشموع فتشعر وكأنك تمتلئ بكل أسباب‬

‫]‪[39‬‬
‫السعادة‪ ...‬ثم تتطلع إلى وجوه املارة بشارع محمد الخامس من على فيترينات‬
‫املطعم‪ ،‬تبدو لك الوجوه تعيسة وتقول مع نفسك أنت أتعس منها‪.‬‬
‫بعد الكراس ي تحتار بين أن تلج الكونتوار حيث تنعزل مع كؤوسك التي تسافر بك‬
‫إلى تاريخك املثقل بغبار الذكريات أو اللجوء إلى املطعم الذي يتقدمه ٌ‬
‫ركح للرقص‬
‫تتبارز فيه األجساد على وقع صراخ النوتات وحماقة األلحان‪.‬‬
‫على هذا الركح راقصت البيضاوات والشقراوات والسمراوات‪ .‬هنا عانقت‬
‫الخصور املنحوتة بأصابع املانغا والفراولة الشهية وهنا لجأت كالهارب من أتون‬
‫الحرب إلى النهود التي تحميني كالجئ في خنادقها‪ .‬هنا تعبت من قوانين التضاريس‬
‫والتموجات على جغرافيا النساء وصادرت كل األفعال في مملكة األنثى‪ ،‬لكنها‬
‫وحدها في لغة الثابت واملتحول تبقى هي الثابتة‪ .‬في لغة االنتماء تبقى هي الوطن‬
‫وفي لغة الحب ستظل هي نبضات القلب من البداية إلى النهاية‪ ...‬ليلى هي الوحيدة‬
‫التي تجيد البقاء في كل صفحات دفاتري‪.‬‬
‫لكنها لم تعد ِملكي اآلن‪ ،‬لقد ضيعتها كأي أحمق يضيع كل كنوزه الكبيرة‪ ،‬سعادته‬
‫الكبيرة وحبه الكبير‪ ...‬لألسف لم تعد ملكي اآلن‪.‬‬
‫رميت خيبتي على كرس ي يتيم في زاوية الكونتوار لتدلف إلي ''مها'' أو ''ماهي'' نادلة‬
‫املطعم مرحبة بي‪:‬‬
‫‪ -‬مساء الخير يا شاعر‪ ،‬أتيت إذن!‬
‫شكين في مجيئي هذا املساء؟‬ ‫‪ -‬مساء الورد يا ماهي‪ِ ،‬‬
‫كنت ت ِ‬
‫ً‬
‫‪ -‬قلت مع نفس ي‪ ،‬ربما لن تأتي هذا اليوم‪ ،‬قد تقرر أن تسافر أو تزور مكانا‬
‫ما عوض جلستك اليومية هنا‪...‬‬
‫‪ -‬ليس لدي مكان أزوره أو أسافر إليه‪.‬‬

‫]‪[40‬‬
‫ً‬
‫انحنت اتجاهي واضعة مرفقيها على سطح الكومبتوار‪ ،‬ثم قالت بصوت يقترب إلى‬
‫الهمس‪:‬‬
‫‪ -‬فرغت حياتك من األمكنة؟‬
‫‪ -‬بل فرغت األمكنة مني‬
‫‪ -‬ال مكان لك إذن ‪...‬‬
‫‪ -‬ال مكان لنا وال وطن يا عزيزتي ‪...‬‬
‫ْ‬
‫أضفت‪:‬‬ ‫نظرت إلى عينيها وهي ترمقني في صمت‪ ،‬ثم‬
‫مكان خاص على هذه األرض يا مها؟ نحن مجرد‬ ‫ٌ‬ ‫‪ -‬متى كان لإلنسان‬
‫مسافرين‪ ،‬عابرين في الزمان واملكان‪ ...‬بين الوالدة واملوت ال نملك سوى‬
‫ٌ‬
‫الوهم وأشياء زائلة ال تعرف البقاء إلى األبد‪ .‬الوطن فكرة وهمية أو حيلة‬
‫حكام وزعماء العالم ليلقوا علينا خطبهم ويشعرونا باالنتماء‬ ‫قديمة من ِ‬
‫ً‬ ‫وبأن لنا ٌ‬
‫أرض وخرائط ورقية توزع علينا حقن االستقرار والوطنية تارة‬
‫ً‬
‫وتدفعنا حطبا لحروب امللوك واألمراء تارة أخرى‪ .‬نحن ال نملك سوى‬
‫العدم يا عزيزتي‪ ،‬ال نملك سوى أجسادنا الفانية‪ ،‬وحدها أجسادنا تبقى‬
‫خر الطريق‪ .‬أما كل األشياء الباقية فينازعوننا فيها‪ .‬أنا ال أملك‬‫لنا حتى آ ِ‬
‫سوى جسدي‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫تسللت إلى قلبي بعد‬ ‫طأطأت رأس ي بحثا عن سيجارة أحرق بنارها تلك الخيبة التي‬
‫مكاملة ليلى‪ ،‬هذه هي ليلى‪ ،‬في حضورها كما في رحيلها تثير زالزل ال ترحم كياني‬
‫مطر ذكرياتها‪.‬‬
‫الهش‪ ،‬تذيبني كقطعة سكر تحت ِ‬
‫ً‬
‫ملحت مها تدفع جسدها للوراء مزيحة صدرها املفخ ِخ من أمامي بعد أن كانت‬
‫تصغي إلي في هدوء‪ ...‬لحظات قليلة قبل أن تضع قبالتي قطعة قطنية دائرية‬
‫الشكل كتب عليها اسم املطعم باللغة الفرنسية‪.‬‬

‫]‪[41‬‬
‫وضعت كأسا طويال فارغا فوق القطعة القطنية ثم قالت لي‪:‬‬
‫‪ -‬ما كأسك اليوم؟‬
‫‪ -‬بل قولي ما كؤوس ي اليوم ‪...‬‬
‫وزعت نظراتها الصامتة على أعيني من جديد وكأنها تقول لي‪ :‬تعالى ألحضنك عوض‬
‫هذه الكؤوس‪.‬‬
‫قطعت صمتها وأنا أنفث دخان سيجارتي‪:‬‬
‫‪ -‬كأس ي األول ''جوني وولكر''‪ ...‬من فضلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ملحتها تمسك ملقاطا حديديا بأناملها ثم دفعته في إناء الثلج‪ ،‬التقطت قطعة ثلج‬
‫ثم الثانية والثالثة‪ ...‬كان لوقع سقوط قطع الثلج في قعر الكأس رنة موسيقية‬
‫ذكرتني بأغنية جميلة لزهرة هيندي ‪.At the same time‬‬
‫قلت لها وهي تمأل الكأس بدفعات من قنينة الويسكي برقة‪:‬‬
‫‪ -‬أيمكن لك أن تضعي أغنية لزهرة هندي يا ماهي؟‬
‫‪ -‬إن وعدتني أن يكون هذا كأسك األخير سأفعل؟‬
‫‪ -‬يا حمقاء‪ ،‬ليس من مصلحتك أن تس ِدي شهية زبنائك عن الشرب‬
‫‪ -‬أنت لست زبونا‪...‬‬
‫نظرت في عينيها الجميلتين‪ ،‬كانت تنتظر أن أسألها ''من أكون إذن؟'' لكن هذا‬
‫السؤال ال يهمني وال يهمني جوابه‪ ،‬هذا سؤال اآلخرين وال جواب له عندي على رأي‬
‫درويش‪ .‬أنا ال هوية لي‪ ،‬سئمت من كل االنتماءات والتصنيفات النسبية لدى‬
‫ً‬
‫اآلخرين‪ ...‬ما يغريني اآلن هو املطلق‪ ،‬أن أكون للمطلق‪ ،‬أن أصير كائنا حرا من‬
‫التعاريف واالنتماءات واإلسقاطات االجتماعية والسياسية‪ ...‬ملاذا الحرية هي‬

‫]‪[42‬‬
‫ً‬
‫فقط تلك الخمس دقائق األولى التي ولدنا فيها نبكي‪ ،‬عراة‪ ،‬بال اسم‪ ،‬بال خطيئة‪،‬‬
‫بال توجهات وبال حقد بشري كما قال مكسيم غوركي‪ .‬أريد أن أكون أنا فقط‪ ،‬فقد‬
‫تعبت من أن أكون اآلخرين‪.‬‬
‫أجبتها وأنا أرتشف أول جرعة من الكأس‪:‬‬
‫‪ At the same time -‬هذه هي األغنية التي أريد سماعها‪...‬‬
‫صاحت وهي تتجه إلى حاسوب وضع في الزاوية األخرى للكونتوار‪ ،‬خمنت أنها‬
‫ستبحث عن األغنية في اليوتيوب‪:‬‬
‫‪ -‬أستغرب كيف يعشق قومي عربي مثلك أغاني زهرة هندي األمازيغية‬
‫املتحمسة للحركة األمازيغية‪...‬‬
‫‪ -‬إنه الحب يا عزيزتي‪ ،‬الحب ال يؤمن باملتناقضات‪ .‬ثم من قال لك أن‬
‫القوميين العرب يعادون النشطاء األمازيغ؟ على العكس‪ ،‬نحن نعتبر‬
‫ً‬
‫الثقافة األمازيغية جزءا من الثقافة والهوية العربية‪...‬العروبة بوتقة‬
‫ثقافية تجمع كل االنتماءات في الوطن العربي‪ .‬املشكلة تكمن في بعضهم‬
‫الذي غرر به املستعمر واللوبيات الصهيونية لتمزيق الوطن العربي‬
‫وضرب مفهوم األمة العربية‪ ،‬انظري ملا يقع للعرب اآلن ِ‬
‫وأنت تفهمين‪،‬‬
‫سوريا والعراق وليبيا والسودان‪ ...‬وسيأتي الدور على املغرب والبقية‪.‬‬
‫انهم يسعون إلى بلقنة الوطن العربي يا ماهي‪...‬‬
‫فجأة غزا صوتها أرجاء املطعم‪ ...‬هو هذا صوتها‪:‬‬
‫‪Here comes the time‬‬
‫‪For my heart to heal the past‬‬
‫‪From now and then‬‬
‫‪There will be the good and the best‬‬

‫]‪[43‬‬
‫‪Oh when your eyes and mine‬‬
‫‪Can see the same‬‬
‫‪Our love could last‬‬
‫?‪Should i follow you‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫همست لي مها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أتعلم‪ ،‬أشتهي أن أرقص معك اآلن على هذه النغمات‪.‬‬
‫ً‬
‫أفردت لها ذراعي قائال‪:‬‬
‫يمنعك‪ ...‬تعالي‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ما الذي‬
‫‪ -‬أنت تعلم‪ ،‬ال يمكن لي أن أرقص مع الزبائن‬
‫ً‬
‫‪ -‬اآلن صرت زبونا‪ ...‬تغيرين مواقفك بسرعة يا محتالة‪.‬‬
‫ابتسمت وهي تغمز لي‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم يمنعوننا من الرقص مع الزبائن‪ ...‬لكنهم ال يستطيعون منعنا من‬
‫الوقوع في حبهم‪.‬‬
‫أجبتها وأنا أمرغ رأس سيجارتي في املنفضة‪:‬‬
‫‪ -‬آه‪ ...‬الوقوع في الحب‪ .‬أتعلمين‪ ،‬هذه العبارة تصور لي الحب كخطيئة‬
‫كذنب نسعى للثوبة منه بعد استمتاعنا بارتكابه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫نقترفها أو‬
‫قاطعتني بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬أتخش ى الحب؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬نحن نخشاه جميعا يا عزيزتي وفي نفس الوقت نتمناه‪ .‬كم تمنيت أن‬
‫يكون لي درعا صاروخيا يقيني من قصف الحب لقلبي املسكين‪.‬‬

‫]‪[44‬‬
‫ابتسمت ثم سألتني وهي تشبك يديها لتتكئ على مرفقيها أمامي‪:‬‬
‫‪ -‬قل لي‪ ،‬لم تخشاه؟‬
‫قبل أن أجيبها‪ ،‬تركت عيني تستحم بنظراتها الجميلة‪ ،‬نظراتها املتعطشة إلى الحب‬
‫والحياة‪.‬‬
‫ً‬
‫أجبتها هامسا‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعي يا عزيزتي‪ ،‬هناك من يأتيه الحب محمال بالورود واألحالم‬
‫الجميلة وآمال جديدة في الحياة‪ ،‬ينقله من عالم الشتات والضياع إلى‬
‫ً‬
‫عالم هادئ وجميل‪ .‬أما أنا فالحب ال يسلك دربي إال مدججا بالرصاص‬‫ٍ‬
‫ً‬
‫ومفخخا بالقنابل الحارقة للقدر‪ ،‬يأتيني الحب كداعش ي يشحذ سيوفه‬
‫لنحر قلبي في مملكة النساء‪ .‬أنا وبكل بساطة ال قدر لي في الحب وليس‬
‫قدر معي‪ ...‬أو ربما الحب الذي أنتظره هو أكبر من أن يجسد‬
‫للحب من ٍ‬
‫في امرأة واحدة‪.‬‬
‫حب قديمة‪:‬‬ ‫أجابتني كمن يجر وراءه خيبة ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬نحن جميعا ال نملك أقدارنا لألسف‪ ،‬والحب هو أكثر أقدارنا غرابة‪ ،‬قد‬
‫يأتي وقد ال يأتي‪ .‬أتعلم‪ ،‬أسأل نفس ي دائما ِلم ال يكون الحب كاملوت‪،‬‬
‫ً‬
‫نعلم أنه سيأتينا ال محالة‪ .‬ملاذا القدر كان كريما حينما وزع املوت قدرا‬
‫ً‬
‫مطلقا على الجميع وبخل في توزيع الحب؟‬
‫معك حق يا ماهي‪ ،‬القدر كان كريما في توزيع املوت والحروب والدمار‪،‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫لكنه بخل في منح الحب للجميع‪ .‬هذه الحياة عبثية‪ ،‬كل ما نفعله‬
‫ونعيشه عبث في عبث‪ ...‬ال منطق للحياة وال جدوى منها‪.‬‬
‫مددت مرفقي على طاولة الكومبتوار كي أسمح لرأس ي أن يتكئ على كفي‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحسست برأس ي ثقيال متعبا‪ .‬ثم أضفت ملها قائال‪:‬‬

‫]‪[45‬‬
‫‪ -‬لقد سئمت عبث هذه الحياة يا مها‪.‬‬
‫‪ -‬تذكرني‪ ،‬بهزري ميشو‪...‬‬
‫‪ -‬الشاعر الفرنس ي؟!‬
‫ً‬
‫‪ -‬نعم ‪ ...‬هو أيضا كان يعتبر الحياة مجرد عبث وأن اإلنسان أصبح ضائعا‬
‫دون ماهية أو قيمة وجودية‪ .‬كان مضربا عن الحياة‪ ،‬عاش على الهامش‬
‫ورفض كل الجوائز التي منحت له‪ .‬كان يكتب ليتخلص من شعوره‬
‫بالقلق وألم الحياة فقط‪ .‬تخيل‪ ،‬كان يتحاش ى أخذ الصور لشعوره بأنها‬
‫تختزل املرء وتسجنه في وضعية نهائية ليغدو مجرد صورة جاهزة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كانت تتحدث ونظرها يغرق في األفق البعيد‪ ،‬حزينا ومشتتا في اآلن نفسه‪ .‬تذكرت‬
‫حينها أن النادلة التي هي أمامي اآلن هي مها خريجة كلية اآلداب بجامعة الرباط‬
‫لكن أمواج الزمن القاس ي رمتها لتبحث عن قوت يومها في املطاعم واملقاهي في‬
‫انتظار أن تجد لها شقيقتها املهاجرة في إيطاليا فرصة عمل هناك‪.‬‬
‫ً‬
‫خمنت أن ملها قصة ما مع كتابات هزري ميشو‪ ،‬ترددت في سؤالها خشية أن أثير‬
‫ً‬
‫جراحا ال أعلم مدى عمقها في ذاكرتها‪.‬‬
‫التفت على يميني ألجد رجال يهم بالجلوس في آخر كراس ي الكومبتوار‪ ،‬كان يبدو من‬
‫ً‬
‫مظهره أنه أجنبي‪ ،‬استأذنتني مها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬سألبي طلب هذا الزبون وأعود يا طارق‪.‬‬
‫لم أزح نظري عن الرجل األجنبي‪ ،‬كانت مالمحه حزينة وبريئة‪ .‬طلب ٍ‬
‫بود بالغ من‬
‫لتوان وراء فيترينا الكومبتوار ثم حضرت وفي يدها قنينة‬
‫مها مشروبه‪ .‬اختفت ٍ‬
‫طويلة بنية اللون من نوع كازابالنكا‪ .‬استفزني حزن هذا الرجل وكآبته‪ ،‬سألت‬
‫نفس ي لم الحزن والقلق مشاعر بنيوية وأنطولوجية في أعماق روح اإلنسان؟ هل‬

‫]‪[46‬‬
‫ً‬
‫حقا شعور القلق له صلة بفكرة العدم واملوت الحتمي لإلنسان كما جاء في‬
‫فلسفة هايدجر؟‬
‫ً‬
‫صحت مقاطعا صوتي الداخلي‪:‬‬

‫‪ -‬مها‪ ،‬كأس ٍ‬
‫ثان من فضلك‪.‬‬
‫أومأت لي مها برأسها‪ ،‬ثم حضرت بعد لحظات وهي تحمل لي قنينة الويسكي كي‬
‫تسقي كأس ي الفارغ‪ .‬قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا كنا نقول؟‬
‫ً‬
‫أجبتها وأنا أفرد ابتسامة على شفتي حبا في وجهها املتعب والجميل‪:‬‬
‫‪ -‬كنا نقول كل األشياء‪ ،‬في انتظار أن نفعل كل األفعال املؤجلة‪...‬‬
‫قطبت حاجبيها ثم خطفت السيجارة من أناملي وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬كنا نتحدث عن هزري ميشو يا مشاغب‪.‬‬
‫ً‬
‫سألتها كمن يوجعها في موضع ألم قائال‪:‬‬
‫ٌ‬
‫تجمعك بهذا الشاعر؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هل هناك قصة ما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫أخذت نفسا عميقا من سيجارتي التي أصبحت سيجارتها والذت بالصمت‪.‬‬
‫أحسست أنها تتمش ى في ذاكرتها فوق ٍ‬
‫حقل من األلغام كانت قد طمرته منذ زمن‪.‬‬
‫خافت هذه املرة‪:‬‬ ‫بصوت‬ ‫ْ‬
‫صاحت‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬حبيبي األول في أيام الجامعة كان مهتما بأدب العبث‪ .‬كنت أجده دائما‬
‫ً‬
‫غارقا وسط مؤلفات صامويل بيكيت‪ ،‬وأوجين يونسكو وجان جينيه‪.‬‬
‫شعاره في الحياة هو أنه ما دام اإلنسان يولد ويعيش ويموت دون‬
‫مبررات مفهومة فال جدوى من االهتمام بالوجود وأن خير طريقة‬

‫]‪[47‬‬
‫للعيش في هذه الحياة الالمنطقية هي العبث‪ .‬من شدة تأثره بالعبث‬
‫حب لنا قصيدة لهزري ميشو ‪ ...‬تخيل؟‬
‫كفكرة وكأدب أهداني في أول لقاء ٍ‬
‫ً‬
‫أجبتها متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬حبيبك هذا عبثي فعال‪.‬‬
‫ابتسمت ثم أخفضت رأسها لتغرق في ذكرياتها املاضية‪ ،‬وددت لو استطعت‬ ‫ْ‬
‫فعل الذاكرة‪ ...‬ال أحد‬
‫إنقاذها‪ ،‬لكن كيف أنقذها من ذاكرتها؟ ال أحد ينقذنا من ِ‬
‫يشفى من ذاكرته كما قالت مستغانمي‪.‬‬
‫ً‬
‫صحت قائال قبل أن تطبق شفتاي على حافة الكأس الذي سقته لي قبل قليل‪:‬‬
‫‪ -‬أالز ِ‬
‫لت تذكرينها؟‬
‫رفعت رأسها‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬من؟ القصيدة؟‬
‫أومأت لها رأس ي باإليجاب وأنا أبتسم لها عساها تلملم جراحها وتعود ابتسامتها‬
‫الجميلة التي تفردها علي كلما حضرت إلى هذا املطعم‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬انطلقت تسرد كلمات أحسست أنها تخفيها في خابية ذاكرتها‪:‬‬
‫معك‬
‫خديني ِ‬
‫خديني معك بسفينة شراعية‬
‫بسفينة شراعية قديمة وجميلة‪،‬‬
‫على الصارية أو إن شئنا على الزبد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وضيعيني بعيدا بعيدا ‪.‬‬
‫على مقطورة لعصر آخر ‪.‬‬
‫على مخمل ثلجي خداع ‪.‬‬

‫]‪[48‬‬
‫على تنفس بعض الكالب املجتمعة ‪.‬‬
‫ضمن مجموعة متعبة من األوراق امليتة ‪.‬‬
‫خديني معك دون أن تحطميني‪ ،‬في القبل‪،‬‬
‫وعلى الصدور التي تنهض وتتنفس‪،‬‬
‫على بساط الكفوف وضحكاتها‪،‬‬
‫على ممرات العظام واملفاصل‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫فاشل عادة في‬ ‫ملحت أملا باديا على مالمح مها‪ ،‬لم أعرف كيف أواسيها‪ ...‬فأنا‬
‫مواساة الناس في مآسيهم‪ .‬مددت يدي ألمسك يدها اليسرى‪ ،‬كانت باردة‪ ،‬ضغطت‬
‫ْ‬
‫بقيت‬ ‫عليها بقوة فسقطت دموعها تنجرف بسرعة على خديها دون صوت بكاء‪.‬‬
‫هادئة مشتتة الفكر‪.‬‬
‫ً‬
‫قطعت هدوءها قائال‪:‬‬
‫كنت تحبينه؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬أحببته أكثر مما ينبغي على رأي أثير النشمي‬
‫‪ -‬وكيف افترقتما؟‬
‫استجمعت قوامها ووقفت أمامي شامخة‪ .‬جمعت شعرها للوراء وجففت عيناها‬
‫مياه شاردة على جفونها ثم قالت‪:‬‬
‫من بقايا الدمع الذي انهمر أمامي كنهر ٍ‬
‫‪ -‬رحل‪ ،‬قرر أن يرحل عن هذا العالم العبثي كما كان يراه‪ .‬وجدوه في غرفته‬
‫ً‬
‫مشنوقا ذات مساء‪ ،‬لم يترك لي سوى ورقة كتب عليها ''آسف يا مها‪،‬‬
‫هذه الحياة ال تستحق أن أتواجد فيها‪ ،‬لن أسمح لها أن تتالعب بقدري‬
‫حبك‪،‬‬
‫كممثل على خشبة مسرحها‪ ...‬أجمل ش يء في هذه الحياة كان ِ‬
‫ً‬
‫أحبك وتبا للحياة'' ‪...‬‬

‫]‪[49‬‬
‫توقفت للحظات ثم أضافت‪:‬‬‫ْ‬
‫ً‬
‫‪ -‬أرأيت شخصا يغادر قصة حبه بهذه الطريقة؟‬
‫ارتبكت‪ ،‬لم أعرف بما أجيبها‪ ،‬ظلت تحدق في عيني بقوة ثم أردف ْت‪:‬‬
‫ْ‬

‫‪ -‬سأسكب لكلينا كأسين ‪ ...‬تأخذ تكيال؟‬


‫أجبتها بتثاقل‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ...‬فلتكن تكيال طونيك‪.‬‬
‫سمعتها تقول لي وهي تنحني لفتح ثالجة صغيرة أسفل الفترينة‪:‬‬
‫‪ -‬بامللح أو الحامض؟‬
‫تجاهلت سؤالها‪ ،‬كنت منشغال فيما قالته عن حبيبها وأسباب انتحاره‪ .‬أكيد أن في‬
‫األمر شجاعة كبيرة أن يتخلص املرء من معاناته مع الحياة بمغادرتها‪ ،‬وفي األمر‬
‫بشاعة كبيرة أيضا أن تصبح الحياة رخيصة دون قيمة أمام أحزاننا‪ .‬تذكرت‬
‫أحداث رواية فاتحة مرشد ''الحق في الرحيل'' وقلت مع نفس ي‪ ،‬نعم يجب أن‬
‫ً‬
‫يكون لنا جميعا الحق في الرحيل عن هذه الحياة‪ ،‬وبالطريقة التي نشتهيها‪.‬‬
‫أحضرت كأسين صغيرين‪ ،‬أفرغت فيهما جرعات من قنينة تكيال‪ ،‬ثم قالت لي‬ ‫ْ‬
‫مبتسمة وهي تحاول إزالة سحابة الكآبة التي غطت مالمحها‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أن ''سعيد'' وجد من ترافقه هذه الليلة‪.‬‬
‫‪ -‬آه صحيح‪ ،‬لم ِ‬
‫يأت ''سعيد السالك'' هذا املساء‪.‬‬
‫‪ -‬عندما يغيب ''سعيد السالك'' فاعلم أن السبب إما امرأة أو ذكريات‬
‫أملانيا‪.‬‬
‫ً‬
‫الشرب معا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ضحكنا وغرقنا في‬

‫]‪[50‬‬
‫أمضيت املساء بأكمله في لوكراند كومبتوار‪ ،‬أحتس ي كؤوس حسرتي في الحياة‬
‫وأبادل أطراف الحديث مع مها‪.‬‬
‫ذاهب في الطريق إلى شقتي بحسان‪ ،‬ال أعرف ِلم ظلت صورة حبيب مها‬ ‫ٌ‬ ‫وأنا‬
‫املنتحر تقفز في خيالي‪ ،‬حتى تذكرت كتاب اميل دوركاييم ''االنتحار'' الذي اختفى‬
‫منذ سنوات من مكتبتي دون أن أعرف ملن أعرته أو من سرقه مني !! وتذكرت‬
‫ً‬
‫ورطتي أيضا مع أماليا التي تلح على زواجنا وأنا لم ألجأ لها إال ملداواة فر ِاق ليلى‪.‬‬
‫كيف لي أن أهرب من وجع الفراق إلى مصيدة الزواج يا أماليا؟ كيف؟‬

‫]‪[51‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ5‬‬
‫الدار البيضاء ‪ 7-‬أذار‪/‬مارس ‪2015‬‬

‫بعد أن أنهيت درس ي هذا املساء حول تأثير الحب على مجرى تاريخ البشرية‪ .‬عم‬
‫حاضر في الفصل انطلق ليغوص في‬ ‫صمت غريب‪ .‬أحسست أن كل‬ ‫ٌ‬ ‫الفصل‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫دواخله بحثا عن ماهية الحب وعالقته الجدلية بالحياة‪.‬‬
‫اجتاحت فكري في تلك اللحظات صورة طارق وغيابه القاتل في حياتي‪ ،‬لقد‬
‫أصبحت أيامي بدونه صعبة ودون نكهة‪ .‬هو هذا الحب على رأي كيرغارد‪ ،‬يعطينا‬
‫كل ش يء ولكنه يأخذ منا كل ش يء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ألقيت نظرة على ساعتي ثم أعلنت انتهاء الدرس قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬انتهت حصة اليوم‪ ،‬نلتقي األسبوع املقبل‪ .‬حاولوا أن تبحثوا في موضوع‬
‫انعكاس الحرب األهلية على األدب اإلسباني‪ ،‬الشعر خصوصا كدراسة‬
‫حالة‪.‬‬
‫صاحت ''بريا''‪ ،‬الطالبة الكاميرونية في فصلي‪ ،‬بلكنة تغلب عليها السخرية‪:‬‬
‫أنت تتربصين بآمال الحب في قلوبنا إذن أستاذة ليلى بعد ''غوته''‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫و''نوفاليس'' و''ت‪.‬س‪ .‬إليوت''‪ ،‬سيكون ''لوركا'' محطتنا القادمة‪.‬‬
‫أجبتها مجاملة‪:‬‬
‫‪ -‬سنمر على كل عظماء الحب عزيزتي بريا‪.‬‬
‫كان قد خرج كل الطلبة من الفصل‪ ،‬لم يبق إال هي واقفة باملحاذاة من مقعدها‬
‫وأنا أجمع حقيبتي‪ .‬ظلت تحدق في سحنات وجهي باهتمام ثم صاحت وهي تغادر‬
‫بخطى متثاقلة‪:‬‬

‫]‪[52‬‬
‫ما اإلنسان دون ٍ‬
‫حرية يا ماريانا‬
‫قولي لي؟‬
‫كيف أستطيع أن أحبك‬
‫ً‬
‫إذا لم أكن حرا؟‬
‫أهبك قلبي‬
‫كيف ِ‬
‫إذا لم يكن ملكي؟‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫عند خروجها توقفت يداي وأسلمت جسدي ملقعدي‪ .‬أخذت نفسا عميقا وأنا‬
‫أغالب البكاء على مصير قصة حبي مع طارق‪ ...‬كيف استطاعت بريا أن تشعر‬
‫بمأساتي مع طارق وهي تردد أشعار لوركا؟‬
‫ً‬
‫لدرس متوجهة إلى مكتب األساتذة‪ .‬في طريقي ملحت ''بركات''‪،‬‬
‫غادرت قاعة ا ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القومي العربي الوحيد في املعهد‪ ،‬واقفا بجانب باب املقصف كأنه ينتظر شخصا‬
‫ما‪.‬‬
‫ً‬
‫توجهت نحوه ثم سألته مبتسمة‪:‬‬
‫‪ -‬يعني لم تقل لي ما رأيك في الرفاق الذين عرفتك عليهم؟‬
‫ابتسم قبل أن يقول‪:‬‬
‫حقا ٌ‬‫ً‬
‫مدين‬ ‫‪ -‬لم أكن أعلم أن هناك قوميين عرب بهذه الكثرة في املغرب‪ ،‬أنا‬
‫لك يا أستاذة ليلى بهذا الفضل‪.‬‬
‫ِ‬
‫قلت له ممازحة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت لم تجبني على سؤالي!‬

‫]‪[53‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬كلهم رائعين‪ ،‬ناصر أصبح صديقا مقربا لي‪ ،‬وأشتغل معه اآلن على‬
‫مشروع سياس ي‪.‬‬
‫‪ -‬أي مشروع؟‬
‫أخبرك ناصر عنه وهو الزال ينتظر ردك باالنضمام لنا‪ .‬املغرب في‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لقد‬
‫حاجة لنا أستاذة ليلى‪ ،‬بحاجة لتضحيات شبابه كي نصنع منه بلدا‬
‫يحترم حقوق شعبه وكرامته‪ ،‬نحن نستحق أن نعيش في وطن بدون‬
‫استبداد‪.‬‬
‫نظرت في عينيه طويال ثم ودعته قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تعد تنوي الهجرة إلى كندا السنة املقبلة؟ مع السالمة‪ ،‬ال تنس‪ ،‬أنت‬
‫مدعو لعرس رفيقتنا حليمة الهاللي‪.‬‬
‫في مكتب األساتذة وجدت ''أليس'' أستاذة األدب اإلنجليزي في املعهد منشغلة في‬
‫مذكرة ال تغادر يدها وبجانبها كتاب ضخم‪ .‬خمنت أنها تنقل منه‬
‫ٍ‬ ‫كتابة ش يء ما في‬
‫مالحظات تتوقف عندها في حصصها‪.‬‬
‫ألقيت عليها التحية وانشغلنا في محادثة عن أحوال التدريس والحياة الزوجية‬
‫ً‬
‫واألوالد حتى سمعنا طرقا على الباب قبل أن يدخل السيد ''أوغست بروان'' مدير‬
‫املعهد‪ ،‬ألقى علينا التحية وطلب مني أن ألتحق بمكتبه عند انتهائي‪.‬‬
‫سألت نفس ي ما األمر الذي دفع املدير ألن يبحث عني بنفسه‪ .‬استأذنت ''أليس'' في‬
‫املغادرة وبعدها وضعت كتبي ودفاتر الطلبة في درج مكتبي الخاص‪ ،‬اتجهت إلى‬
‫مكتب السيد املدير‪.‬‬
‫عند دخولي رحب بي بطريقته املهذبة والحميمية كعادته وطلب مني الجلوس ثم‬
‫ً‬
‫بادر قائال‪:‬‬

‫]‪[54‬‬
‫أقاطعك‪...‬‬
‫ِ‬ ‫حصتك ولم‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أرجو أن تكوني قد ِ‬
‫أنهيت‬
‫أجبته بتردد‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال أبدا‪ ،‬لقد أنهيت حصتي‪.‬‬
‫‪ -‬اسمعي يا أستاذة ليلى‪ ،‬أنت تعرفين أن الكنديين عمليين ويدخلون في‬
‫ً‬
‫صلب املوضوع مباشرة‪.‬‬
‫بانقباض وتوثر في أعلى صدري‪ ...‬تساءلت‪ :‬هل سيفاجئني‬
‫ٍ‬ ‫قطبت حاجبي وشعرت‬
‫بأمر مقلق؟‬
‫املدير ٍ‬
‫سمعته يسترسل وقلبي يخفق بسرعة‪:‬‬
‫‪ -‬تجربة التعليم األكاديمي الحر للطلبة الراغبين في الهجرة واالستقرار في‬
‫الحظت هذا معنا طيلة‬
‫ِ‬ ‫بدورك‬
‫ِ‬ ‫كندا كانت تجربة جيدة ومفيدة وأنت‬
‫السنوات السابقة‪ ،‬لكن الحكومة الفيدرالية قررت أن توقف هذه‬
‫التجربة في بلدان املهاجرين ونقلها إلى كندا‪...‬‬
‫أجبته بهدوء مصطنع‪:‬‬
‫‪ -‬نعم أعلم هذا‪ ،‬وأعرف أن هذه السنة هي آخر سنة دراسية في املعهد‪.‬‬
‫استرسل في حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬جيد‪ ،‬لكن دعيني أخبرك أن الحكومة قررت فتح مسلك أكاديمي قار‬
‫ودائم بجامعة الفال بالكيبك السنة املقبلة لتدريس الطلبة املهاجرين‪.‬‬
‫لقد أعدت الحكومة كل ش يء‪ ،‬مراكز األبحاث واألقسام وكل الشروط‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫البيداغوجية وعينتني مديرا للمسلك كما كلفتني أيضا بتوظيف أساتذة‬
‫أكفاء‪...‬‬
‫ابتسمت بلطف مهنئة املدير‪ ،‬شكر تهنئتي ثم أكمل حديثه‪:‬‬

‫]‪[55‬‬
‫‪ -‬اسمعي يا ليلى‪ ،‬هناك مجموعة من األساتذة في املعهد سأعرض عليهم‬
‫فرصة االلتحاق بكندا للتدريس هناك وأنت على رأسهم‪ ...‬كفاءتك‬
‫وقدراتك األكاديمية ال يمكن لنا أن نفرط فيها‪ ،‬كما أن شخصيتك‬
‫ً‬
‫حيوية ومهذبة جدا‪ ...‬أرجو أن تقبلي هذه الفرصة يا ليلى‪.‬‬
‫‪ -‬لكن يا سيادة املدير‪...‬‬
‫قاطعني بسرعة‪:‬‬
‫ً‬
‫سأمنحك وقتا‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬اسمعي يا ليلى‪ ،‬مثل هذا العرض ال نقرر فيه في ٍ‬
‫ثوان‪،‬‬
‫للتفكير‪ ،‬من هنا إلى آخر السنة‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إلى عيني جيدا ثم أردف قائال‪:‬‬

‫‪ -‬في كندا لن نعتبرك مجرد موظفة أو مهاجرة للعمل‪ ،‬بل سنم ِ‬


‫نحك‬
‫ً‬
‫لك مززال‬
‫ولزوجك أيضا وسنوفر ِ‬
‫ِ‬ ‫عامك األول‬
‫ِ‬ ‫الجنسية الكندية في‬
‫مدفوع األجر لسنة كاملة بمدينة ليفيس قرب الكيبيك‪ ،‬مدينة جميلة‬
‫وهادئة تطل على الضفة الجنوبية لنهر سان لورين ستعجبك‪ ،‬فضال‬
‫ً‬
‫عن االمتيازات االجتماعية‪ ...‬فكري جيدا في األمر عزيزتي‪ ،‬إنها فرصة‬
‫العمر‪.‬‬
‫خيم علينا الصمت للحظات‪ ،‬كنت قد بدأت فيها فعال التفكير في العرض‪ ،‬فقد‬
‫بدا لي مغريا وقفزة كبيرة في حياتي الشخصية واملهنية‪ .‬قلت مع نفس ي‪ ،‬املوضوع‬
‫يحتاج فعال إلى تفكير عميق‪.‬‬
‫الوقت الذي ملحت فيه املدير يقف ويتجه إلى درج في أسفل الخزانة التي تقع‬ ‫ِ‬ ‫في‬
‫ْ‬
‫على يمين مكتبه‪ ...‬سقطت في فكري صورة طارق‪ .‬كيف يمكنني أن أهاجر املغرب‬
‫وأبتعد عن طارق؟ ال يمكن لي فعل ذلك‪ .‬سأختنق في غيابي عنه وكيف لي أن أبعد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يغادرك في‬
‫ِ‬ ‫ليال ابنته عنه؟ لكن صوتا أنانيا في داخلي قاطع أسئلتي قائال ''ملاذا هو‬

‫]‪[56‬‬
‫لك في‬
‫أنت غبية‪ ،‬هو لم يكترث ِ‬
‫كل مرة بكل سهولة؟ ملاذا لم يختنق هو كذلك؟ كم ِ‬
‫بلد‬
‫وأنت ال تقدرين على هجره الى ٍ‬
‫كل املرات التي رحل فيها إلى فلسطين والى املوت ِ‬
‫آخر بعد عشرين سنة من قصتك الفاشلة معه ودون أمل''‪.‬‬
‫سمعت صوت املدير يتعالى في أذني‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى‪ ...‬ليلى‪...‬‬
‫‪ -‬نعم سيدي املدير‪.‬‬
‫مد لي ورقتين‪ ،‬ملحت على رأسيهما علم دولة كندا ورمز املعهد‪ ،‬ثم قال لي‪:‬‬
‫لك ولزوجك‪ .‬أتمنى أن تملئيهما عند موافقتك التي‬‫‪ -‬هاتان استمارتان ِ‬
‫سأنتظرها بفارغ الصبر‪.‬‬
‫مسكت االستمارتين بتردد‪ ،‬لم أجد ما أقوله حينها سوى أنني شكرته على عرضه‬
‫ً‬
‫بحياة جديدة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وتمنيت له يوما طيبا قبل أن أغادر مكتبه وأنا ممتلئة‬
‫بعد انتهاء حصص دروس ي غادرت املعهد إلى املقهى املقابل للمعهد في شارع موالي‬
‫يوسف حيث تنتظرني صديقتي نزهة صادق ومعها ابنتي ليال‪.‬‬
‫ً‬
‫ما كدت أخطو داخل املقهى‪ ،‬حتى قفزت ليال من حضن نزهة قادمة نحوي وهي‬
‫تصيح‪'' :‬ماما‪ ...‬ماما''‪ .‬حملتها وهي تعانقني كعصفورة ت ْر ِسل جناحيها حولي وتطبع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قبال متتالية على خدي‪ .‬فكرت وأنا أسلم على نزهة أن األطفال يمنحوننا حبا‬
‫صادقا ال تنتهي ينابيعه‪.‬‬
‫صاحت نزهة قبل أن آخذ نفس ي‪:‬‬
‫ً‬
‫تشبهك مطلقا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هذه آخر مرة أمسك لك فيها ليال عندي‪ ،‬إنها فتاة مشاغبة‪ ،‬ال‬
‫ْ‬
‫أخذت كل‬ ‫ابتسمت وأنا أقول في خاطري إنها مشاغبة وعنيدة مثل والدها‪ ،‬لقد‬
‫جيناته على أمل أال تأخذ منه خيباته وانكساراته‪.‬‬

‫]‪[57‬‬
‫أجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬اعذريني يا نزهة‪ ،‬مربيتها مسافرة هذه األيام‪ ،‬ولم يكن أمامي سواك‪،‬‬
‫فأنت صديقتي الوحيدة هنا في الدار البيضاء‪.‬‬
‫ِ‬
‫مازحتك فقط‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ال ِ‬
‫عليك‪،‬‬
‫جلسنا نحتس ي القهوة ونتجاذب أطراف الحديث عن تحضيرات عرس رفيقتنا‬
‫حليمة الهاللي الذي لم يتبق له سوى شهر‪ ،‬بينما كانت ليال تلهو تارة بمالبس‬
‫نزهة وتارة أخرى تلف حولنا وتقفز كفراشة تضرب بأجنحتها الهواء‪.‬‬
‫بدت لي نزهة مختلفة‪ ،‬مشتتة الفكر‪ ،‬تريد قول ش يء ما لي وال تستطيع‪ ،‬أعرف‬
‫نزهة عندما تخفي عني أمرا ما‪ .‬سألتها دون تحفظ‪:‬‬
‫ً‬
‫بك تخفين عني شيئا ما‪.‬‬‫بك؟ أشعر ِ‬ ‫‪ -‬نزهة‪ ،‬ما ِ‬
‫نظرت إلي مطوال ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬هناك أمر يشغلني ويتعلق بك‪.‬‬
‫‪ -‬يتعلق بي؟ !!‬
‫أجبتها متفاجئة‪ ،‬لترد علي بحزم‪:‬‬
‫سمحت‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬اسمعي يا ليلى‪ ،‬سأسألك وتجيبينني بصدق لو‬
‫أجبتها بترقب‪:‬‬
‫‪ -‬هللا يسمعنا خير‪.‬‬
‫قالت لي‪:‬‬
‫‪ -‬ليال ابنة من؟‬

‫]‪[58‬‬
‫‪ -‬كيف ابنة من؟ إنها ابنتي‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أعرف أنها ابنتك لكن من أبوها؟ ال تقولي لي جالل من فضلك !؟‬
‫استغربت من قدرة نزهة على اكتشاف سر ابنتي ليال فحاولت أن أداري سؤالها‪:‬‬
‫‪ -‬لم تسألينني هذا السؤال؟‬
‫ردت علي بضجر‪:‬‬
‫ً‬
‫أنت تجيبينني بسؤال !! لكن اسمعي‪ ،‬كانت عندي دائما شكوك في أن‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫تكون ليال ثمرة عالقتك الطويلة واملعقدة مع طارق وما زواجك بجالل‬
‫إال تغطية وهروب لك من طارق التائه والالمستقر‪ .‬مالمح ليال تطابق‬
‫مالمح طارق حتى أن الشامة التي توجد يسار أنفه توجد أيضا في نفس‬
‫املكان في وجه ليال انظري‪.‬‬
‫كنت أرقبها بهدوء وهي تمسك وجه ليال بعصبية لتريني شامتها‪ ،‬ثم سمعتها‬
‫ً‬
‫تستكمل قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬لها نفس لون عينيه العسليتين وكل مالمحه‪ ،‬لكنني هذا الصباح أيقنت‬
‫أنها ابنته‪.‬‬
‫ً‬
‫استفهمتها مستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الصباح؟ كيف؟‬
‫ردت علي وهي تنظر بتمعن في عيني‪:‬‬
‫‪ -‬كانت نائمة في حضني هذا الصباح‪ ،‬عندما هممت بوضعها في السرير‬
‫الحظت أن أشفار عينيها ال تلتقيان وهي نائمة‪ ،‬تترك عينيها مفتوحتين‬
‫ً‬ ‫باب موارب‪ .‬هكذا يبدو طارق وهو ٌ‬ ‫كأنهما ٌ‬
‫نائم أيضا‪.‬‬

‫]‪[59‬‬
‫ً‬
‫خطفت نظرة تائهة إلى ليال‪ ،‬كانت تلهو بالقرب من كرس ي نزهة‪ ،‬تقفز وتدندن‬
‫ً‬
‫بكلما ٍت ال يفهمها سواها‪ .‬عدت ألسأل نزهة محاولة تشتيت فكرها بخبث‪:‬‬
‫‪ -‬تعرفين طارق كيف ينام إذن !! جميل‬
‫تاب‪:‬‬
‫بلكنة ال تخلو من ِع ٍ‬
‫أجابتني ٍ‬
‫عالقة بطارق قبل أن تسرقيه مني أيام الجامعة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬ال تنس ي أنني كنت على‬

‫منك إلي‪ ،‬طارق لم يكن ِ‬


‫لك‪ ،‬كما لن‬ ‫‪ -‬لم أسرقه‪ ،‬لكنه الحب الذي سرقه ِ‬
‫لغيرك‪...‬‬
‫ِ‬ ‫يكون‬
‫بزرفزة بادية ثم قالت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نفخت‬
‫أحضانك اآلن‪ ،‬استفيقي يا مجنونة‪ .‬أجيبيني على‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬على أساس أنه بين‬
‫سؤالي دون أن تتوهي بي في مواضيع جانبية كعادتك‪ .‬ليال ابنة طارق؟‬
‫نظرت إلى ساعتي ثم أجبتها بغضب‪:‬‬
‫لك على تعبك معي هذا‬‫‪ -‬ليال ابنتي وهذا يكفي‪ ،‬علي أن أنصرف‪ .‬شكرا ِ‬
‫اليوم‪.‬‬
‫ْ‬
‫مسكت ساعدي بقوة‪ ،‬ظلت تنظر إلي بعينين‬ ‫لحمل ليال وأغادر‬ ‫قبل أن أقف‬
‫ِ‬
‫فاحصتين قبل أن تقول‪:‬‬
‫معك الحلو واملر‬
‫أنت أختي‪ .‬تقاسمت ِ‬
‫لست صديقتي فقط‪ِ ،‬‬ ‫أنت ِ‬ ‫‪ -‬ليلى‪ِ ،‬‬
‫طيلة عشرين سنة‪ .‬بعد وفاة والدك وفراقك عن طارق لم يعد ِ‬
‫لك‬
‫سواي‪ ...‬من واجبي أن أرد ِك لصوابك‪.‬‬
‫‪ -‬أنا لست حمقاء يا نزهة‪ ،‬أعرف مصلحتي‪.‬‬

‫]‪[60‬‬
‫لت تعلقين أمالك على طارق‪ ،‬أرى ذلك في عينيك‪.‬‬ ‫أنت حمقاء ألنك الز ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ليلى‪ ،‬إلى متى ستظل حياتك مشروع انتظار لطارق؟ أنت مخطئة إن‬
‫بقيت هكذا‪ .‬لقد عاشرِته عشرين سنة ماذا كانت النتيجة؟ ال ش يء‪ .‬اآلن‬ ‫ِ‬
‫لك زوج وابنة وبيت‪ ...‬حافظي على أسرتك يا ليلى‪ ،‬لقد بدأنا نذبل يا‬ ‫ِ‬
‫عزيزتي‪ .‬نحن في األربعينات من عمرنا‪ .‬الحياة بدأت تتوارى خلفنا‪ .‬انس ي‬
‫طارق‪...‬‬
‫تمتمت دون أن أعي ما أقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬ال سيطرة لنا على الحب‪ ...‬طارق هو رجل حياتي الوحيد‪.‬‬
‫لثوان ثم استسلمت لفنجان‬
‫ٍ‬ ‫تنهدت وأرجعت ظهرها للمقعد‪ ،‬ظلت تنظر إلي‬
‫بصدق كلمات نزهة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بخيبة كبيرة في داخلي وفي اآلن ذاته شعرت‬
‫ٍ‬ ‫قهوتها‪ .‬شعرت‬
‫ً‬
‫رميت صفحة يدي على يدها قائلة بتردد‪:‬‬
‫‪ -‬معك حق يا عزيزتي‪ ،‬طارق ليس سوى سراب جريت وراءه عشرين سنة‬
‫أمل ودون مشروع حياة‪ .‬حان الوقت ربما كي أنزعه من حياتي‬
‫دون ٍ‬
‫وأستريح‪.‬‬
‫مددت جسدي نحوها ألقبل خدها ثم وقفت ألحمل ليال وانصرفت‪ .‬التفت إليها‬
‫وأنا أجتاز باب املقهى‪ ،‬كانت هادئة وتائهة في فنجانها‪.‬‬
‫في تلك الليلة ظللت أفكر في كالم نزهة عند عودتي إلى البيت‪ .‬يا هللا‪ ،‬كيف تكون‬
‫حياتي بدون طارق؟‪.‬‬
‫نوم عميق‪ .‬حسدتها على طفولتها وعاملها الجميل‬ ‫التفت لليال ألجدها تغط في ٍ‬
‫ً‬
‫الذي غادرته بسرعة لتصبح لي اآلن أربعون سنة في تاريخ األلم والفراق‪ .‬ذهبت إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غرفة نومي بخطى سريعة وأنا أرسم لنفس ي مشروعا جديدا في الحياة‪ ،‬بحثت عن‬
‫هاتفي ألجده بجانب وسادتي على السرير‪ ،‬أخذته وركبت رقم ''ناصر''‪.‬‬

‫]‪[61‬‬
‫‪ -‬آلو ناصر‪...‬‬
‫‪ -‬أهال ليلى‪ ،‬هل أنت بخير؟‬
‫‪ -‬بخير‪ ،‬بخير‪...‬‬

‫‪ -‬ما ِ‬
‫بك شاردة؟‬
‫‪ -‬ال ش يء‪ ،‬أردت أن أسألك إن كان عرضك لي باالنضمام لحركة ''نحن‬
‫ً‬
‫نستحق'' قائما‪.‬‬
‫‪ -‬أكيد‪ ،‬أنا أنتظر جوابك في املوضوع‪.‬‬
‫‪ -‬سأكون معكم إن شاء هللا‪.‬‬
‫بصوت مرح وهو يغالب انتشاءه‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫صاح‬

‫‪ -‬أهال ِ‬
‫بك يا رفيقتي القديمة‪...‬‬
‫‪ -‬من سيكون معنا في الحركة؟‬
‫وتلميذك بركات وأنا‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬عبد الصمد مرشد‪ ،‬نزهة صادق‪ ،‬يوسف غرادي‬
‫وأنت‪ .‬سنكتفي بهذه املجموعة لقيادة الحركة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫أجبته مستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬رفاقنا القدامى إذن‪...‬‬
‫‪ -‬نعم رفاقنا القدامى‪ ،‬بركات وحده الدم الجديد في املجموعة‪ .‬اسمعي‬
‫سأبعث إلى بريدك اإللكتروني خطة الحركة ومبادئها التأسيسية التي‬
‫سنناقشها في اجتماعنا القادم‪...‬‬
‫‪ -‬متى االجتماع؟‬

‫]‪[62‬‬
‫‪ -‬بداية الشهر املقبل‪ ،‬بعد عرس حليمة‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا شكرا لك‪ ،‬ليلتك سعيدة‪.‬‬
‫‪ -‬أنا من يشكرك على خبرك الجميل في هذه الليلة‪ ،‬مساؤك سكر رفيقتي‪.‬‬
‫ما كدت أنهي املكاملة حتى سمعت جالل يدخل إلى البيت‪ ،‬فأسرعت إلى إطفاء‬
‫ضوء الغرفة وخلدت للنوم‪.‬‬

‫]‪[63‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ6‬‬
‫الدار البيضاء ‪ 00-‬نيسان‪/‬أبريل ‪2015‬‬

‫أكره تلك اللحظات التي يكون فيها زوجي جالل بجانبي‪ .‬تذكرني بالوجع الذي خلفه‬
‫غياب طارق في حياتي‪ ،‬تذكرني بفشل حلمي في أن يكون طارق زوجي وأن يجمعنا‬
‫بيت واحد‪ .‬لكن‪ ،‬كيف سيكون شعوري اليوم في حفلة عرس حليمة عندما‬ ‫ٌ‬
‫سأجلس في طاولة واحدة مع طارق وبجانبي جالل؟ يا إلهي ستكون لحظات مرعبة‪.‬‬
‫ألف حيلة كي أعتذر عن الحضور لكن ال عذر يليق بغيابي عن عرس‬ ‫فكرت في ِ‬
‫رفيقتي القديمة‪ .‬عند وصولنا إلى قاعة األفراح التي ينظم فيها عرس حليمة‪ ،‬فتح‬
‫ً‬
‫لي جالل باب السيارة كي أنزل قائال بتذمر‪:‬‬
‫تصرين علي ألحضر‬
‫أنت تعرفينني أكره األعراس يا ليلى‪ ،‬ال أعرف لم ِ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫صديقتك؟‬
‫ِ‬ ‫معك عرس‬‫ِ‬
‫أجبته بعصبية وأنا أنظر إلى مرآة السيارة ألصلح مكياجي‪:‬‬
‫‪ -‬في هذه املناسبات ال يليق أن أحضر لوحدي وأنا امرأة متزوجة‪ .‬ألم تقل‬
‫إني ال أهتم بك وال أخرج معك؟ ها أنا خرجت معك إذن ما بك؟‬
‫كان املكان مليئا بالضجة وصوت املوسيقى الشعبية الصاخبة‪ ،‬شعرت بنبضات‬
‫ً‬
‫قلبي تتسارع وأنا أعلم أن داخل هذه القاعة رجال لطاملا ارتبكت في حضوره ولطاملا‬
‫قفز قلبي ملعانقته قبل أن أصل إليه‪ .‬وضع جالل يدي على ساعده وكأنه يريد أن‬
‫يطيب خاطري ونحن على باب قاعة العرس‪.‬‬
‫ما إن دخلت إلى قاعة العرس حتى خطفتني نظراته التي كانت تتربص بدخولي‬
‫كبندقية تتأهب إلغرا ي بالرصاص‪ .‬ارتبكت ملا رأيته جالسا ينظر إلي بمالمح جامدة‬

‫]‪[64‬‬
‫بخطوات طفلة تشتاق‬
‫ِ‬ ‫فأسرعت بسحب يدي من على ساعد جالل واتجهت نحوه‬
‫ألبيها‪.‬‬
‫ً‬
‫إليه واقفة بجانبه‪ ،‬بدا‬
‫سكتت كل األصوات في آذاني وتوقف كل العالم وأنا أنظر ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شاحبا متعبا كأنه يذبل في غيابي عنه‪ .‬مددت له يدي كي أسلم عليه قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬وحده هللا يعلم كم أحتاج أن أعانقك اآلن‪ ،‬لكن سأكتفي بيدي لتعانق‬
‫يدك‪.‬‬
‫رد علي بقسوة غريبة دون أن يتحرك من مقعده‪:‬‬
‫خلفك‪ ،‬عانقيه كما تشائين‪.‬‬
‫ِ‬ ‫زوجك ٌ‬
‫قادم‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬ها هو‬
‫صدمت من جوابه‪ ،‬لم أفهم سبب قسوته وكالمه بهذه النبرة معي‪ ،‬وسط ذهولي‬
‫من ردة فعله هذه سمعت صوتا بجانبي يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا يا رفيقة؟ ألم تعودي تعرفيننا؟‬
‫التفت ألجد رفيقنا نجيب يجلس على يسار طارق مبتسما‪ .‬سلمت عليه بحرارة‬
‫لسنوات طويلة‪ .‬ثم رأيت ناصر وبركات يجلسان‬
‫ٍ‬ ‫متفاجئة بحضوره بعد غيابه عنا‬
‫أيضا على الطاولة ذاتها‪ .‬آه كم تعميني نظرات طارق عن رؤية اآلخرين‪.‬‬
‫سلمت على الجميع وقدمت إليهم زوجي جالل‪ ،‬في الوقت الذي بدا فيه طارق غير‬
‫عذر له هو أكيد يغار من‬‫مكترث لحضوري‪ ،‬قلت مع نفس ي وأنا أبحث عن ٍ‬
‫تواجدي مع رجل آخر غيره‪ ،‬هكذا هو‪ ،‬يحب أن يتملكني وإن كنت لغيره‪ .‬قبل أن‬
‫أجلس معهم على الطاولة سحبت جالل وذهبنا لنسلم على العروسين ونقدم لهما‬
‫ً‬
‫هدية العرس‪ .‬عندما رأتني حليمة أقترب منها رسمت ابتسامة مشرقة على وجهها‬
‫الجميل ذكرتني كم كنت حزينة في يوم عرس ي‪.‬‬
‫قلت لها وأنا أعانقها‪:‬‬

‫]‪[65‬‬
‫ً‬
‫عرسك‪ ،‬ألف مبروك يا عزيزتي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تزوجت وسزرقص في‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وأخيرا يا حليمة‬
‫قالت دون أن تغادر االبتسامة العذبة محياها‪:‬‬
‫‪ -‬ربي يخليك لي يا عزيزتي ليلى‪.‬‬
‫بصوت خافت خشية أن يسمعها جالل‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ثم أردفت‬
‫عرسك اآلخر كي أرقص فيه‪ ،‬انظري إليه كم هو تائه من‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أما أنا فأنتظر‬
‫وأنت تعرفين‬
‫لغيرك في اآلخر‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫دونك‪ .‬اذهبي إليه وكوني معه هو لن يكون‬
‫هذا جيدا يا رفيقتي‪.‬‬
‫أجبتها وأنا أخطف نظرة إلى طارق الذي بدا غارقا في حديثه مع نجيب‪:‬‬
‫‪ -‬حكايتنا صعبة ولقاؤنا مستحيل يا حليمة‪ ،‬طارق لن يكون ألي امرأة‪.‬‬
‫ً‬
‫استسلمت؟ اسمعي نحن ال نعيش سوى مرة واحدة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬ما بك يا ليلى؟ هل‬
‫املرأة التي ال تعيش مع الرجل الذي تحبه ليست بامرأة كاملة‪ ،‬ستبقى‬
‫أنت‬
‫أجلك ِ‬
‫ِ‬ ‫دائما ناقصة وتعيش على هامش الحياة‪ .‬طارق خلق من‬
‫فقط‪ ،‬هيا اتركي هذا الرجل الذي تزوجته في لحظة غباء وعودي إلى‬
‫ً‬
‫ينتظرك دائما‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طارق‪ ...‬سيظل‬
‫اكتفيت باالبتسام في وجهها بعد أن خانتني كل الكلمات على لساني‪ ،‬عانقتها بقوة‬
‫ثم عدت مع جالل لنجلس رفقة طارق وبقية الرفاق‪ .‬كانوا كالعادة يتحدثون عن‬
‫الوضع السياس ي في الوطن العربي وعن النضال القومي‪ ،‬سمعت نجيب يقول‬
‫ً‬
‫بصوت هادئ كعادته‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫متحدثا إلى بركات‬
‫‪ -‬يجب أن نقر كقوميين عرب أن الوحدة العربية تبقى مشروعا سياسيا‬
‫صعب التحقق وسط املتغيرات السياسية املعاصرة وفي ظل شراسة‬
‫الحملة االستعمارية الغربية التي تعمل على تدمير الحضارة العربية‬

‫]‪[66‬‬
‫وتجزئة الكيانات السياسية الحالية‪ .‬انظر لألمة العربية كيف حالها‬
‫ات‬
‫اآلن‪ ،‬نحن نواجه انهيارا كامال للتكتالت اإلقليمية‪ ،‬ونواجه انهيار ٍ‬
‫بالجملة‪ ،‬نحن غير قادرين حتى على توحيد دولتين عربيتين على وجهة‬
‫نظر واحدة ومشروع سياس ي واحد‪...‬‬

‫ً‬
‫عقب بركات على كالم نجيب مقاطعا‪:‬‬
‫‪ -‬الوحدة العربية ليست صعبة املنال ولم تفشل كمشروع سياس ي ألنها‬
‫ستظل حتمية تاريخية لنهضة العرب وتوحيد قواهم‪ ،‬مصير العرب‬
‫ووجودهم يحتم عليهم الوحدة السياسية‪ .‬كل ما نعانيه اآلن من موجات‬
‫التطرف والطائفية والتفرقة وانهيار للتكتالت السياسية ما هو إال‬
‫نتيجة لتراجع وغياب مشروع قومي عربي وحدوي‪ ،‬األمة العربية تعيش‬
‫تبعات تراجع املشروع القومي العربي منذ أواخر الستينات إلى اآلن‪.‬‬
‫املشكلة الحقيقية تكمن في املناضلين القوميين العرب وفي الفكر القومي‬
‫ً‬
‫العربي الذي ظل جامدا‪ ،‬لم يستوعب التطور السياس ي والثقافي‬
‫واالجتماعي وحتى النفس ي للشعب العربي‪...‬‬
‫قبل أن يكمل بركات كالمه ملحت طارق يهز رأسه في إشارة ملوافقته رأي بركات‪ ،‬وما‬
‫إن أنهى كالمه حتى صاح بحماس وهو يتجه بكالمه إلى نجيب‪:‬‬
‫‪ -‬وجهة نظره صحيحة يا نجيب‪ ،‬املشروع القومي العربي لم يشهد تطورا‬
‫جديا في تاريخه املعاصر‪ ،‬ال زلنا متوقفين عند املنطلقات األولى واملفاهيم‬
‫التأسيسية التي كانت وليدة الحقبة العثمانية ومناهضة املوجة األولى‬
‫من االستعمار‪ ،‬نحن في حاجة لتلك النظرية النقدية الكبرى‪ ،‬على رأي‬
‫جورج طرابيش ي‪ ،‬لتجديد الفكر القومي العربي وإعادة صياغة‬
‫منطلقات جديدة مع الحفاظ على مبادئنا األساسية‪ .‬باهلل عليكم‪،‬‬

‫]‪[67‬‬
‫أليست األمة في حاجة اآلن لنسخ جديدة من ميشال عفلق ونديم‬
‫البيطار وساطع الحصري وقسطنطين زريق وأكرم حوراني وزكي‬
‫األرسوزي‪.‬‬

‫ً‬
‫في غمرة حديث الرفاق تفاجأت فرحة بسرعة اندماج وتآلف بركات مع طارق‬
‫ونجيب وهم بالكاد يتعرفون عليه‪ .‬التفت لجالل وجدته يلهو بهاتفه غير مكترث‬
‫ً‬
‫بما يدور من حديث‪ ،‬مثل هذه املواضيع تشعره بامللل والضجر‪ .‬بعيدا عن طاولتنا‬
‫رمقت نزهة تدخل القاعة متوجهة عند العروسة كي تسلم عليها‪ ،‬خمنت أنها أكيد‬
‫ستبحث عنا وستنظم لطاولتنا‪ .‬عندما عدت بنظري إلى الرفاق‪ ،‬سقطت عيناي‬
‫ٌ‬
‫غاضب مني‬ ‫على عيني طارق مباشرة‪ ،‬تبادلنا نظرة قصيرة‪ ،‬شعرت من خاللها أنه‬
‫لسبب ما‪ ،‬ثم أشاح ببصره بعيدا عني في الوقت الذي سمعنا بركات يعود فيه‬
‫للحديث‪:‬‬
‫‪ -‬تجديد منطلقات الفكر القومي العربي ضرورة مرحلية ال نقاش فيها‪ ،‬مع‬
‫األخذ بعين االعتبار توحيد الصف القومي‪ ،‬فال يعقل أن نظل مشتتين‬
‫بين ناصريين وبعثيين صداميين وبعثيين سوريين ونحن دعاة وحدة‪ .‬لكن‬
‫األهم في نظري هو نقد تجربة املثقف القومي العربي ودوره في تززيل‬
‫الفكر القومي العربي إلى الواقع‪ ،‬خذوا مثال املثقف الفرنس ي قبل الثورة‬
‫الفرنسية‪ ،‬ألم يكن املثقف هو الشرارة التي شقت الطريق إلى الحرية‬
‫والتحرر؟ فولتير وروسو وديدرو وغيرهم ألم يبدأوا بحملة فكرية انتهت‬
‫بثورة عظيمة من أجل الحرية؟‬
‫قبل أن يهم نجيب بجواب بركات‪ ،‬انضمت لنا نزهة وهي تصيح ممازحة‪:‬‬
‫‪ -‬أقطع ذراعي إن لم تكونوا تتحدثون عن القومية العربية‪...‬‬
‫ً‬
‫ضحكنا جميعا قبل أن أجيبها‪:‬‬
‫]‪[68‬‬
‫‪ -‬هذه املرة يا نزهة بركات هو من أشبعنا كالما في القومية العربية‬
‫والسياسة‪...‬‬
‫ابتسمت نزهة في وجهي ثم قالت لبركات وهي تغمزه بطرف عينيها‪:‬‬
‫‪ -‬الحياة فيها ما هو أجمل من السياسة يا بركات‪ ،‬انظر من حولك‪ ،‬القاعة‬
‫تضج بفتيات مليحات‪...‬‬
‫ً‬
‫أردف طارق سائال بركات باستغراب‪:‬‬
‫‪ -‬هل اسمك طارق أم بركات؟‬
‫ً‬
‫علق بركات مبتسما‪:‬‬
‫ٌ‬
‫طالب في‬ ‫‪ -‬اسمي طارق‪ ،‬لكن األستاذة ليلى تناديني بركات بحكم أنني‬
‫فصلها وبعد أن عرفتني على الرفاق أصبحوا ينادونني بركات هم كذلك‪...‬‬
‫ابتسم طارق قبل أن يستهدفني بكالمه الجارح من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬ربما ليلى تكره اسم طارق يا رفيق‪...‬‬
‫شعرت بألم بالغ وأنا أرى طارق يمطرني بكالمه الجارح ونظراته القاتلة‪ ،‬فكرت أن‬
‫أطلب محادثته على انفراد ألفهم ما به لكنني ملحته يحمل كأس عصير من على‬
‫الطاولة واستأذن باالنصراف إلى الشرفة‪ ،‬ربما يرغب في تدخين سيجارة لوحده‪...‬‬
‫استأذنت بدوري وتبعته بخطى واسعة‪ ،‬لكنني ملحت نجيب يتبعني هو اآلخر عند‬
‫طارق‪ .‬ربما يريد أن يتدخل بيننا بعد أن شعر ببرودة تعاملنا مع بعض‪.‬‬
‫صاح نجيب بمجرد أن وقف بمحاذاتنا‪:‬‬
‫حب سمعت عنها هي قصتكما أنتما االثنين‪ ،‬ما الذي‬ ‫قصة ٍ‬‫ٍ‬ ‫‪ -‬أغرب‬
‫منعكما من الزواج وتكوين عائلة وأنتما ال تفترقان هكذا ‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التفت إلي مباشرة قاطبا حاجبيه وأردف‪:‬‬
‫]‪[69‬‬
‫وأنت تحبين طارق؟‬
‫‪ -‬ما الذي دفعك للزواج بذاك الطبيب يا ليلى ِ‬
‫في الوقت الذي كنت ألوك فيه شتات الكلمات التي توجد داخلي كي أجيبه التفت‬
‫لطارق‪ ،‬ليسأله بدوره‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت يا طارق‪ ،‬ستترك مأساتك مع الوطن تسلبك كل ش يء جميل في‬
‫حياتك؟‪ ،‬أال تدرك أنك فقدت ليلى‪ ،‬حب حياتك يا رجل؟‬
‫سرقت النظر إلى طارق والفضول يغمرني ملعرفة جوابه على سؤال نجيب‪ ،‬كانت‬
‫شفتي طارق تتلذذان برشف جرعة عصير ليمون من الكأس الذي رافق يداه منذ‬
‫مغادرته لطاولتنا‪ ،‬بدا غير مكترث‪ .‬بعد أن فقد نجيب صبره من مجيء جواب‬
‫طارق‪ ،‬حاول استفزازه بسؤال جديد‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫موت جميل هاربا من فشلك‬ ‫‪ -‬أستذهب من جديد إلى فلسطين بحثا عن ٍ‬
‫ً‬
‫هذا؟ أستعيش معلقا بين الرحيل والعودة ‪ ...‬بين البندقية وليلى؟‬
‫بهدوء قاتل‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أجاب طارق‬
‫ً‬
‫‪ -‬ربما أنت أيضا في حاجة للبحث عن موت جميل في فلسطين كي تغسل‬
‫قلبك من خيبة حبك لزرجس وفشل عالقتكما ‪ ...‬أليست أقدارنا‬
‫متشابهة في الحب يا صاحبي؟‬
‫ً‬
‫كان جواب طارق قاسيا‪ ،‬استشعرت قسوته من مالمح نجيب وهو يجيب طارق‬
‫باد على نبرة صوته‪:‬‬
‫بأ ٍلم ٍ‬
‫‪ -‬ربما نرجس لم تكن صادقة في حبها لي‪ ،‬لكن ليلى تحبك بجنون‪ ،‬كلنا‬
‫نعلم هذا من أيام الجامعة ‪...‬‬
‫رد طارق ساخرا‪:‬‬
‫تعيشان اآلن بين أحضان رجل آخر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ال فرق بين نرجس وليلى ‪ ...‬كلتاهما‬

‫]‪[70‬‬
‫أنهى طارق جوابه القاس ي ودفع كأس العصير إلى شفتيه من جديد وكأنه يستعد‬
‫ليكمل قسوته بعد أن يبلل ريقه‪ ،‬رفعت رأس ي ألنظر إليه بإمعان ودمعي يجتمع في‬
‫مسدس رشاش يرمي من حوله‬ ‫ٍ‬ ‫مقلتي‪ ...‬ملاذا تقسو علي يا طارق؟ ملاذا تحولت إلى‬
‫برصاص القسوة والعدوان‪ .‬ظلت عينا نجيب تنظران إلي بشفقة وعطف‪ ،‬كأنه‬
‫ً‬
‫معارك الحب وأملها ‪...‬‬
‫ِ‬ ‫يقول لي يا لتعاستك‪ .‬يا لتعاستنا جميعا في‬
‫قررت أن أتركهما لوحدهما‪ ،‬أن أذهب ألبكي وحيدة‪ ،‬أذرف الدمع بيني وبين نفس ي‬
‫وبدون شاهد على قسوة طارق علي وعلى مأساتي في الحب‪.‬‬
‫ما إن خطوت مغادرة حتى أمسكني نجيب من يدي اليسرى‪ ،‬كانت يده ساخنة‬
‫ً‬
‫كالنار‪ ،‬تتصبب عرقا ال أعرف سببه‪ ،‬نظرت إلى ساعده وجدته يرتعش‪.‬‬
‫أنت وطارق ‪...‬‬
‫إخبارك به ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬انتظري يا ليلى‪ ،‬هناك ٌ‬
‫أمر علي‬
‫ً‬
‫كانت نبرة صوت نجيب توحي بإخفائه موضوعا مهما‪ ،‬رجعت إلى الخلف حيث‬
‫ً‬
‫كنت أقف ماسحة مدامعي‪ .‬نظرت إلى طارق وجدت بصره شاخصا في وجه نجيب‬
‫وكأنه يحاول أن يقرأ مالمحه‪ ،‬كان االثنان ينظران إلى بعضهما البعض بطريقه غير‬
‫خافية علي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أعرفهما منذ أيام الجامعة‪ ،‬أزيد من عشرين سنة‪ ،‬عمرا بأكمله وأنا أحفظ‬
‫مالمحهما وسكناتهما‪ .‬أعرف ما معنى نظراتهما هاتين‪ ،‬إنها نظرات الرحيل ‪...‬‬
‫أحدهما سيرحل !!‪.‬‬
‫وان قائال وهو يتأمل وجه طارق‪:‬‬
‫قطع صوت نجيب الصمت الذي خيم علينا لث ٍ‬
‫‪ -‬أنتما الوحيدان اللذان علي إخبارهما‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أكمل بعد أن نثر من سيجارته نفسا عميقا‪:‬‬

‫]‪[71‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬مؤخرا أصبحت أجهزة األمن تضايقني وتتبع كل خطواتي‪ ،‬إنهم يعدون‬
‫علي أنفاس ي‪ .‬بلغتني معلومات أن جهاز املوساد دخل هو اآلخر على‬
‫الخط وأصبح يتربص بي ‪...‬‬
‫ً‬
‫صاح طارق مقاطعا‪:‬‬
‫‪ -‬هل كشفوا أمرنا؟‬
‫لم أتمالك نفس ي الغارقة في الفضول‪ ،‬التفت إلى طارق وصحت في وجهه‪:‬‬
‫‪ -‬أي أمر؟‬
‫لم يكترث طارق لسؤالي‪ ،‬اكتفى بالبحث عن سيجارة وإشعالها‪ ...‬مال إلي نجيب‬
‫مجيبا على سؤالي‪:‬‬
‫‪ -‬منذ خمس سنوات يا ليلى ونحن نعد رفقة خليل في فلسطين لتشكيل‬
‫جيش من رفاقنا القوميين العرب من مختلف األقطار العربية للقتال في‬
‫ٍ‬
‫قطاع غزة والضفة ضد جيش االحتالل اإلسرائيلي‪ ،‬ربما املخابرات‬
‫اإلسرائيلية استشعرت املخطط وتحركت لتصفيتنا‪ .‬بقائي هنا فيه خطر‬
‫على حياتي وعلى رفاقنا هنا‪...‬‬
‫ً‬
‫قاطعه طارق مستغربا‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لم أعهدك خائفا؟‬
‫‪ -‬هذه املرة بلى‪ ،‬ربما ألنه لدي ٌ‬
‫حلم بسيط أريد تحقيقه‪...‬‬
‫‪ -‬أي حلم؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬أن أصير أبا‪.‬‬
‫نظر إلي طارق متفاجأ من كالم نجيب‪ ،‬ثم أدار وجهه ليسأله‪:‬‬

‫]‪[72‬‬
‫كيف؟‬ ‫‪-‬‬
‫أجابه نجيب بخجل‪:‬‬
‫‪ -‬لدي صديقة تونسية‪ ،‬قررنا أن نتزوج وأن نقطن في سيدي بوسعيد‬
‫ً ً‬
‫بضواحي تونس العاصمة‪ .‬أريد أن أصبح زوجا وأبا يا طارق‪ ،‬إنها آخر‬
‫أحالمي املتبقية‪.‬‬
‫‪ -‬نسيت نرجس إذن؟‬
‫‪ -‬ليست مسألة نسيان‪ ...‬العمر يجري وأنا لم أحقق أي حلم من أحالمي‬
‫ً‬
‫املاضية‪ ،‬أريد أن أصبح أبا‪ ،‬أريد أن يكون لي أبناء قبل أن أغادر هذا‬
‫الكون على أرض فلسطين ‪...‬‬
‫مسكت يد نجيب اليسرى وضغطت عليها بقوة وكأني أقول له‪ ،‬نعم من حقك أن‬
‫تصير أبا وأنا أشجعك ‪...‬‬
‫قال طارق بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬الوضع غير مستقر في تونس بعد الثورة يا نجيب‪ ،‬كما أنها أصبحت‬
‫مرتعا للعمالء وأجهزة االستخبارات‪ ...‬تونس ليست بالخيار الجيد‪.‬‬
‫‪ -‬الحب يستحق أن نغامر من أجله يا طارق‪ ،‬وإن كان ثمن املغامرة حياتنا‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف ستدبر حياتك هناك؟‬
‫تململ نجيب قبل أن يجيبه وهو يضع ابتسامة مكابرة على شفتيه‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تدبرت لي وداد عمال في أحد الفنادق في العاصمة تونس‪ ،‬كما أنني‬
‫كل ما هي إال‬
‫سأبيع مززلي في طنجة ونقتني شقة نعيش فيها هناك‪ ،‬على ٍ‬
‫سنة أو سنتين بالكثير وأرحل إلى فلسطين‪.‬‬

‫]‪[73‬‬
‫ً‬
‫قاطعه طارق من جديد ساخرا‪:‬‬
‫‪ -‬اسمها وداد إذن‪...‬‬
‫ابتسم نجيب بخجل ورد عليه‪:‬‬
‫‪ -‬نعم اسمها وداد‪ ،‬وداد الشافعي‪ .‬فتاة شاعرية من مدنين جنوبي تونس‪.‬‬
‫ً‬
‫انضممت أنا األخرى مداعبة إياه‪:‬‬
‫‪ -‬أهي جميلة؟‬

‫‪ -‬جميلة نعم‪ ،‬لكن ليست أجمل ِ‬


‫منك يا ليلى ‪...‬‬
‫رد عليه طارق بعنف‪:‬‬
‫‪ -‬التزم أ رفيق‪ ،‬أنت تتغزل بليلى‬
‫ً‬
‫أجابه نجيب مستسلما‪:‬‬
‫‪ -‬اعذرني‪ ،‬نسيت أنكما حبيبان‪...‬‬
‫ً‬
‫استدركت قائلة وكأنني أجلد ذاتي‪:‬‬
‫‪ -‬حبيبان مع وقف التنفيذ‬
‫الوقت الذي كان فيه نجيب يبتسم باستحياء‬
‫ِ‬ ‫نظرت في عيني طارق بألم وعتاب في‬
‫‪...‬‬
‫ً‬
‫مرت لحظات صمت قاتلة‪ ،‬قطعها فجأة صوت نجيب قائال وهو يشير بأصبعه إلى‬
‫أحد أزرار سترة طارق‪:‬‬
‫‪ -‬في تونس سألتقي بخليل وفيصل‪ ،‬سيكون لقاؤنا إشارة البداية لتجميع‬
‫''الجيش العربي القومي'' في فلسطين‪ ،‬سأخبرك باملستجدات من هناك‬
‫كي تدبر نفسك وتلتحق بنا أنت ومجموعتك ‪...‬‬
‫]‪[74‬‬
‫كنت أنظر لطارق وأنا أستمع لكالم نجيب‪ ،‬أما قلبي فكان يصرخ بصوت األنين‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيت يا غبية‪ ،‬طارق يخطط للرحيل ِ‬
‫عنك مجددا ودائما ‪ ...‬ها هو سيلجأ‬ ‫قائال '' أر ِ‬
‫ً‬
‫لك‬
‫إياك ملأساتك ‪ ...‬هذا هو الذي قال ِ‬
‫من جديد إلى بندقيته‪ ،‬إلى فلسطين تاركا ِ‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫أجلك! ها هو سيعود إليها‪ ،‬تلك التي تنتظره في فلسطين وسط‬
‫يوما أنه عائد من ِ‬
‫أزيز الرصاص وهدير املدافع''‪.‬‬
‫لم أشعر بنفس ي حتى قاطعتهما بكل قسوة‪:‬‬
‫‪ -‬طارق له معركة هنا أهم من معركة فلسطين‪.‬‬
‫التفت إلي طارق بتجهم عميق على وجهه‪ ،‬في حين كانت مالمح نجيب متأثرة‬
‫متضامنة معي‪.‬‬
‫ً‬
‫خطفني صوت نجيب قائال‪:‬‬
‫بفستان جديد ‪ ...‬ما أحاله من فستان‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬ها قد حضرت العروسة‬
‫عل ْت األصوات مهللة بحضور العروسة والعريس ''الصالة والسالم على رسول هللا‪،‬‬
‫هللا مع الجاه العالي ‪''...‬‬
‫ً‬
‫أردف نجيب قائال بحماسة‪:‬‬
‫‪ -‬سأنضم لهم‪.‬‬
‫لكنه قبل أن يمض ي توقف للحظة نظر إلينا بشرود‪ ،‬ثم جمعنا بكلتا ذراعيه إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صدره‪ .‬كان عناقا على أثر الدموع‪ ،‬حتى طارق ملحته يذرف دمعا كاتم الصوت‪.‬‬
‫الشرفة كالغرباء‪ ،‬ننظر إلى الحضور الذي بدأ يرقص‬
‫ِ‬ ‫بقيت أنا وطارق نقف في‬
‫ويغني مع قدوم العرسان‪.‬‬
‫بدأت إيقاعات الغناء الشعبي املغربي تصدح في املكان‪ ،‬الكل يرقص ويتمايل ‪...‬‬
‫كانت العروسة تبتسم بدلع كبير في وجه عريسها كأنها تقول له‪ ،‬انظر‪ ،‬إنهم‬

‫]‪[75‬‬
‫يرقصون في ليلة عمرنا‪ ،‬في ليلتنا التي سأكون فيها لك وأنت لي‪ ،‬حيث ستخرص في‬
‫ً‬
‫أذاننا كل األقدار وقوانين العالم عندما نختلي معا‪ ،‬سيخرص العالم بسياسته‬
‫حد سنتداوله هذه الليلة‪ ،‬هو‬‫عاجل وا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وحروبه وأخباره القديمة والعاجلة‪ٌ .‬‬
‫خبر‬
‫خبر لقاء أجسادنا في مطار الحب لتحلق عاليا في سماوات العشق‪.‬‬
‫ً‬
‫كنت أغرق في صمتي فيما كان طارق يغرق في دخان سيجارته‪ .‬خطفت نظرة إلى‬
‫عينيه‪ ،‬فبادرتني عيناه متسائلة ماذا هناك؟‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫هل للعيون لغة يا ترى؟ هل تتكلم بأحرف نجهلها لكن نعلم مغزاها؟ أم هي لغة‬
‫أعماق جراحنا دون أن ندري شكلها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫صماء على طريقة برايل تتلمس حروفها في‬
‫الفاشلة في قصة حبها‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ارة‬
‫قلت له بمر ِ‬
‫‪ -‬بقليل من الحظ‪ ،‬كنا سنكون اآلن محمولين على العمارية أنا وأنت‪ ...‬وكل‬
‫هؤالء يرقصون حولنا في عرسنا‪.‬‬
‫أجابني دونما اكتراث ودخان سيجارته يتحرر من شفتيه باندفاع األسير املحرر من‬
‫معتقله‪.‬‬
‫‪ -‬ربما كنا سنكون كذلك‪ ...‬لكن القدر جرب كل احتماالته في قصتنا‬
‫وكانت نتيجته الحتمية استحالة أن نكون لبعضنا لألبد‪ ...‬ليس هناك من‬
‫أبد يجمعنا يا ليلى‪.‬‬
‫ٍ‬
‫‪ -‬هذا رأيك في قصتنا؟‬
‫رد علي دون أن يززع نظره على األجساد املتراقصة في داخل الحفلة‪:‬‬

‫‪ -‬هذا على األقل وصف ِ‬


‫واقع قصتنا‪.‬‬
‫ً‬
‫صمت قليال ثم أردف‪:‬‬

‫]‪[76‬‬
‫ٌ‬
‫محتال وماكر في‬ ‫ثوب جمعتهما إبرة الحب‪ ...‬وألن القدر‬ ‫‪ -‬أنا ِ‬
‫وأنت قطعتا ٍ‬
‫وأنت ال‬ ‫قصص الحب‪ ،‬فقد جعل إبرتنا دون ٍ‬
‫خيط يجمعنا إلى األبد‪ .‬أنا ِ‬
‫نملك اآلن سوى ثقوب إبرة الحب ووجع الفراق‪.‬‬
‫مياه باردة لجمت لساني‪ .‬تركت عيني تزحف بنظرها‬
‫سقطت كلماته علي كشالل ٍ‬
‫بين أصدقائنا الذين لم يتوقفوا عن الرقص والتسابق لحمل عمارية رفيقتنا‬
‫حليمة‪ .‬كان الجميع يرقص ويغني ويضحك‪.‬‬
‫كفرس املواسم الشعبية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫حتى نجيب‪ ،‬املليء بالجراح حد التخمة كان يرقص‬
‫ناصر الذي أعيته السياسة وذكريات النضال القومي العربي يرقص هو اآلخر‪،‬‬
‫نزهة وبركات وكل الرفاق يرقصون‪ .‬ملاذا وحده طارق ال يرقص إال خفية بعد أن‬
‫ي ْسكر من جراحه وأحزانه‪ ،‬كأنه زوربا الجديد‪.‬‬
‫يمرغ رأس سيجارته بجدار الشرفة‪ .‬تذكرت أنه يكره أن يدوس‬ ‫ملحته بطرف عيني ِ‬
‫على سجائره بعد أن ينتهي منها‪ .‬قال لي في أحد األيام في بداية عالقتنا ''في البداية‬
‫بشفتين تواقتين المتصاص الحياة من‬ ‫ِ‬ ‫بلهب الشوق ونقبلها‬‫نحرق السيجارة ِ‬
‫لفافتها‪ ...‬ثم عند انتهائنا منها ندوسها بأقدامنا‪ ،‬جحود اإلنسان ونكرانه للجميل ال‬
‫مثيل له يا ليلى''‪.‬‬
‫ٍآه يا طارق‪ ،‬أحيانا أغار من سجائرك‪!! ...‬‬

‫]‪[77‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ7‬‬
‫الرباط ‪ 80-‬نيسان‪/‬أبريل ‪2015‬‬

‫وأنا أغلق الباب‪ ،‬سمعت صوت خطى على الدرج‪ .‬التفت ألرى جاري عمر يسبق‬
‫زوجته صاعدا إلى شقته‪ .‬ابتسمت وألقيت عليهم تحية الصباح ثم سألتهم عن‬
‫ً‬
‫أحوالهم وبعدها اعتذرت كوني مستعجال‪ .‬ما إن نزلت درجتين حتى تبعني صوت‬
‫ً‬
‫عمر سائال‪:‬‬
‫‪ -‬س ي طارق‪ ،‬هل أنت بخير؟‬
‫استغربت سؤاله‪ ،‬كانت نبرة صوته خافتة تميل للمواساة‪ .‬تطلعت إلى زوجته‬
‫فاطمة ألجد في عينيها نفس النظرات ومالمح املواساة والشفقة‪.‬‬
‫ً‬
‫أجبت مستغربا‪:‬‬
‫ٌ‬
‫خطب ما؟‬ ‫‪ -‬أنا بخير س ي عمر‪ ،‬ما بكما؟ هل هناك‬
‫أجابني على استحياء‪:‬‬
‫‪ -‬منذ أن غادرتك السيدة ليلى وأحوالك ال تبعث على االرتياح‪ ،‬نحن‬
‫ٌ‬
‫شخص عزيز علينا وتهمنا راحتك وسعادتك‪.‬‬ ‫متأسفين‪ ،‬لكنك‬
‫‪ -‬أنا بخير س ي عمر ال تشغل بالك‪...‬‬
‫بصوت مندفع قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫تدخلت فاطمة‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬أنت لست بخير س ي طارق‪ ،‬أصبحت حزينا بشكل مقلق والكآبة‬
‫احتلت نظراتك التائهة‪ ،‬فضال عن كونك تعود سكرانا كل ليلة‪ .‬نحن‬
‫أصدقاء وجيران‪ ،‬من واجبنا الوقوف الى جانبك في وقت الشدة‪.‬‬

‫]‪[78‬‬
‫ً‬
‫أجبتها ساخرا‪:‬‬
‫‪ -‬تتجسسين علي يا فاطمة؟‬
‫استدرك عمر كالمها‪:‬‬
‫‪ -‬حاش هلل أن نفعل ذلك س ي طارق‪ ،‬نحن نلتقي بشكل يومي في باب أو‬
‫درج العمارة‪ .‬والعين ال تتجاهل أحوال األحباب واألصدقاء‪.‬‬
‫ِ‬
‫الرد على عمر وزوجته‪ ،‬بعد أن تأثرت باهتمامهما‪ .‬دفعت يدي‬
‫خانتني لغتي في ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اليسرى ألربت على كتف عمر‪ .‬نظرت في عينيه الذابلتين ثم سرقت نظرة خاطفة‬
‫من وجه فاطمة‪ .‬قلت لهما‪:‬‬
‫‪ -‬شكرا ملحبتكما‪ ،‬هللا وحده يعلم معزتكما عندي‪ .‬ادعوا لي فقط في‬
‫صالتكما أن يغفر هللا لي ويساعدني‪.‬‬
‫درج تاركا عمر وزوجته واقفين‬
‫ابتسمت لهما وتركت أرجلي تدفع جسدي على ال ِ‬
‫كتماثيل ال تعرف الحراك لكنها تعرف كل األحاسيس واملشاعر الجميلة‪.‬‬
‫باب العمارة‪ ،‬وجدت ''با معمر'' يصرخ بهستيريا وسط مجموعة من األطفال‬ ‫عند ِ‬
‫يحومون حوله ويصيحون‪'' :‬وا املسطي‪ ...‬وا املسطي''‪ .‬مسكت بيده بلطف ونهرت‬
‫األطفال الذين سرعان ما هربوا‪ ...‬التفت إليه وجدته يتنفس بصعوبة وهو يصيح‬
‫بعبارته التي ال تفارق لسانه‪'' :‬أوقفوا العالم أريد الززول''‪.‬‬
‫ال أحد يعرف قصة هذا الرجل وال من أين أتى‪ .‬عندما عدت من القتال في‬
‫فلسطين وجدته يفترش رصيف العمارة كل يوم بلباسه الرث وقدميه الحافيتين‪.‬‬
‫البعض يقول إن با معمر كان أستاذ فلسفة لكنه تعب من الحياة فأصبح يعيش‬
‫ً‬
‫في ثوب الجنون والبعض اآلخر يقول إنه كان روائيا يعيش بين شخصياته وأفكاره‬
‫حتى أضاع الخيط الذي يجمعه بهذا الواقع فصار يمش ي بين الناس أحمق‬
‫ً‬
‫مجنونا‪.‬‬

‫]‪[79‬‬
‫ال أذكر أنني رأيت با معمر يوما يتكلم أو يجيب على أسئلة أحد‪ ،‬يردد فقط جمال‬
‫قليلة غير مفهومة‪'' :‬أوقفوا العالم أريد الززول'' و''هللا ينعل بو العالم''‪ .‬آه يا با‬
‫معمر‪ ،‬لست وحدك من تعب من هذه الحياة‪ ،‬لست وحدك من يلبس ثوب‬
‫الجنون‪ ،‬كلنا جننا وضيعنا ذاك اإلنسان الحقيقي في دواخلنا‪.‬‬
‫ً‬
‫أخذته معي إلى املقهى كي نفطر معا كعادتي عندما أصادفه كل صباح عند باب‬
‫العمارة‪ .‬طلبت له الشاي واألومليت الذي يحبه وتركت عيني تغوصان في مالمحه‬
‫التائهة وأنا أشرب قهوتي على مهل‪ .‬كان يلتهم البيض ويشرب الشاي كأنه يسابق‬
‫كلمات منه‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫الزمن‪ ،‬سألته محاوال انتزاع‬
‫‪ -‬أين كنت البارح؟ تركتني آخذ فطوري لوحدي يا رجل‪ .‬هل يدعوك أحد‬
‫غيري للفطور؟‬
‫ً‬
‫ظل صامتا وهو يأكل‪ ،‬كأنه لم يسمع كالمي أو ال يكترث له‪ .‬عدت لسؤاله‪:‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬قل لي فقط ما بك؟ ملاذا أنت ٌ‬
‫قلق هذا الصباح؟‬ ‫‪-‬‬
‫توقف عن الحركة للحظات‪ ،‬بدا أنه يغوص في قاع ذكريات غامضة في داخله قبل‬
‫بصوت خافت ومتقطع‪ :‬هللا ينعل بو العالم‪ ،‬هللا ينعل بو العالم‪ ...‬فجأة‬
‫ٍ‬ ‫أن يقول‬
‫صرخ بملء صوته بعبارته الشهيرة ''أوقفوا العالم أريد الززول'' وانطلق يصرخ‬
‫ويجري في الشارع كعادته‪.‬‬
‫ً‬
‫لم أستطع إكمال فنجان قهوتي وأنا أرى في ''با معمر'' عنوانا ملأساة البشر في هذه‬
‫الحياة‪ ،‬فتركت أرجلي تتمش ى بي في شارع محمد الخامس‪ .‬منذ سنين طويلة وأنا‬
‫رموزه السياسة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أعشق التجول بشارع محمد الخامس بالرباط‪ ،‬ليس بسبب‬
‫حاش هلل‪ ،‬بل بسبب ذلك السفر الجميل إلى ذكرياتي الغابرة الذي يمنحني إياه‪.‬‬
‫ً‬
‫عليه مشيت‬ ‫على رصيف هذا الشارع مشيت يوما عاشقا أرقص صولفيج الحب‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫باكيا‪ ،‬مشيت ناجحا وأحيانا كثيرة مشيت عليه جارا خيباتي املتراكمة‪ .‬على كراس ي‬

‫]‪[80‬‬
‫هذا الشارع كتبت أجمل قصائد الحب‪ ،‬نسجت أروع األشعار وصادقت أسراب‬
‫ً‬
‫الحمام الراقصة حولي‪ ،‬والتي كانت ت ِكلفني درهما ذرة كل يوم عساها تظل وفية لي‬
‫وتؤنس وحدتي املوحشة في هذا الوطن‪ .‬نعم أحب هذا الشارع‪ .‬لكنني ما عدت‬
‫أحبه اآلن!!‬
‫ً‬
‫كيف أحب شارعا تحول رصيفه مأو ًى إلخوتنا السوريين‪ ،‬يشحتوننا ويتوسلون‬
‫دراهمنا؟ كيف أمر بمحاذاتهم وهم يستعطفوننا دون أن يتمزق قلبي وينفطر على‬
‫ثورة هذه التي تحول شعبها‬
‫شعب كان وسيظل شمعة العرب وفخرهم‪ .‬يا إلهي‪ ،‬أي ٍ‬ ‫ٍ‬
‫إلى أشالء الجئين وأسراب شحاتين؟ أي ثورة ملعونة هذه التي عاثت في سوريا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫العروبة تذبيحا وتشريدا وقطعا للرؤوس وأكال لألكباد والقلوب؟‬
‫بيت أماليا هذا الصباح‪ ،‬مررت على مكتبة األلفية الثالثة بشارع‬
‫في طريقي إلى ِ‬
‫محمد الخامس ألبحث عن كتاب اميل دوركايم ''االنتحار''‪ .‬لكنني لم أجده‪،‬‬
‫وعدوني في املكتبة أنهم سيحضرونه لي في ظرف أسبوع‪.‬‬
‫هارب من قصص الحب التي‬ ‫كبطل ٍ‬‫ٍ‬ ‫عند باب مززل أماليا في حي الليمون وقفت‬
‫حكم التاريخ والسياسة بفشلها‪ .‬طرقت الباب بارتباك‪ ،‬أحسست أن أناملي‬
‫ترتعش وكأنها تعارضني في هذا القرار الجنوني الذي اتخذته‪ .‬وكأنها كانت تسألني‬
‫أسترتمي في أحضان أماليا فقط ألنك لم تجد امرأة غيرها تفتح أحضانها لك؟‬
‫وملاذا الزواج! أ بعد أن هربت من كل النساء العربيات الالئي أحببنك تسقط في فخ‬
‫الزواج من إسرائيلية؟‬
‫ً‬
‫فتح الباب ليوقف سيل األسئلة املتناسلة في فكري‪ ،‬أطلت علي أماليا‪ ،‬تلبس ثوبا‬
‫ً‬
‫صاف ازداد بياضا وهو يغرق وسط شعرها األسود الذي وإن‬ ‫حريريا أبيض‪ ،‬بوجه ٍ‬
‫ً ً‬
‫كان فوضويا غير مرتب إال أنه بدا مغريا شهيا برائحته التي سبقت أماليا إلي ‪...‬‬

‫]‪[81‬‬
‫عانقتني كطفلة وجدت دميتها املفقودة‪ ،‬رمت ثقل جسدها علي‪ ،‬تعلقت بعنقي‬
‫ً‬
‫وصدري حتى صارت أقدامها مرفوعة عن األرض‪ .‬اكتشفت أن أماليا أقصر قليال‬
‫مني‪ ،‬ربما ألن قدميها حافيتان وهي التي ال تغادر األحذية العالية الكعب‪.‬‬
‫ْ‬
‫طبعت قبلة حارة على شفتي ثم قالت لي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫سمعت؟ خلقنا‬ ‫‪ -‬خلقنا لنكون معا رغم تفاهات التاريخ وأخطاء أجدادنا‪...‬‬
‫ً‬
‫لنكون معا‪ ،‬أنا وأنت؟‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫سرقت نظرة خفيفة من عيني‪ ،‬ثم عادت لتعانقني‪ ،‬كنت صامتا‪ ،‬باردا ال أعرف ما‬
‫انتبهت أننا ال زلنا عند الباب ثم دعتني للدخول وهي تمسك يدي اليمنى‬ ‫ْ‬ ‫أقوله‪.‬‬
‫كطفلة ترفض أن تفارق يد أبيها‪.‬‬
‫أغلقت الباب برفق‪ ،‬ضغطت على زر قريب من الباب زاد في إضاءة الشقة التي‬ ‫ْ‬
‫كانت تسبح في أضواء خافتة‪ ...‬طلبت منها أن تترك اإلضاءة كما كانت‪ ،‬فكثرة‬
‫الضوء لطاملا أشعرتني بفراغ نفس ي أجهل أسبابه‪.‬‬
‫تركت جسدي يجلس على األريكة التي تتوسط مدخل الشقة‪ ،‬التي الزالت كما هي‬
‫قبل خصامي مع أماليا ومغادرتي شقتها منذ أكثر من شهر‪ .‬لم تزل أعينها عن‬
‫عيني‪ ،‬كانت تبدو وكأنها تسجل كل مالمحي في ذاكرتها بكل دقة‪ .‬شعرت بارتباك وأنا‬
‫ً‬
‫أعلم أنها تنتظر مني جوابا على طلبها أو قرارها املصيري في أن نكون معا لألبد أو ال‬
‫نكون‪ .‬كنت أسأل نفس ي هل سنتخاصم مرة أخرى أم أنني استسلمت لرغبة أماليا‬
‫في أن نكون معا إلى األبد؟‬
‫جلست مالصقة لي على األريكة تدفع صدرها ووجها نحوي وكأني فريسة تتربص بها‬ ‫ْ‬
‫الفتراسها‪ .‬تحاشيت النظر إليها‪ ،‬تركت حواس ي تغرق في رائحة شعرها وعطرها‬
‫الفتاك الذي قض ى على كل كلماتي وأخرس صوتي كأنه سالح كيماوي أردى رزانتي‬
‫ً‬
‫وعقلي قتلى لتبقى وحدها حواس ي الرجولية واقفة منتصبة لالشتباك بجسدها‬
‫األبيض الناعم ومالمحها الجميلة املغرية‪.‬‬
‫]‪[82‬‬
‫دفعت أناملها لتراقص مقدمة شعري في الوقت الذي استنجدت فيه بسجائري‬
‫البيضاء‪ .‬قالت لي‪:‬‬
‫‪ -‬ما ِبه حبيبي العربي ال يريد الحديث معي؟‬
‫اندفع صوتي بشراسة وكأنني أستجمع قواي التي انهارت أمام سيف أنوثتها ألجيبها‪:‬‬
‫‪ -‬هنا يكمن الخلل في قصتنا يا أماليا‪ ،‬أنني عربي ِ‬
‫وأنت إسرائيلية‪...‬‬
‫ً‬
‫ألقت بقفاها على ظهر األريكة متذمرة وهي تقول‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬تبا‪ ،‬لقد عدت من جديد ألسطوانتك القديمة‪ ،‬السياسة والحروب‬
‫والتاريخ وإسرائيل والعرب ووو‪...‬‬
‫أدارت وجهها بعنف نحوي ثم أردفت‪:‬‬
‫‪ -‬أال يمكنك أن تنس ى كل هذه املبادئ واألفكار املثالية التي جعلت منك‬
‫مشردا تعيش على هامش الوطن وعلى هامش الحب وعلى هامش‬
‫الحياة‪ ...‬وعلى هامش كل ش يء؟ أال ترى أنك تضيع كل ش يء جميل في‬
‫حياتك‪ .‬أنا ِمن إسرائيل نعم‪ ،‬ولكن لست أنا من يحتل فلسطين‪ .‬لست‬
‫أنا من دمر أمالك في وطن عربي موحد وذو كرامة‪ ،‬لست أنا من صنع‬
‫مأساتك ومأساة رفاقك مع الوطن والحياة والقدر‪ .‬ربما أنا هدية القدر‬
‫كل منا يستحق‬ ‫لك‪ ،‬كي أنقذك من هذا الضياع على سفينة الحب‪ٌ ...‬‬
‫الحب‪ ،‬أنا وأنت نستحق هذا الحب بعيدا عن حروب أهلينا ومعاركهما‪،‬‬
‫دعهم يتحدثون باللغة التي يفهمونها‪ ،‬لغة البنادق والرصاص‬
‫واملفاوضات التي ال تنتهي وتعال أتحدث أنا وأنت بلغة العشق والحب‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫الذي ال منطق له‪ .‬قلبي الذي لم يخفق يوما ألناشيد ه ِتكڤاه وهافا‬
‫ناغيال اإلسرائيلية‪ ،‬ها هو يخفق لك أنت وحدك منذ سنين ‪...‬‬

‫]‪[83‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫صمتت للحظات وكأنها‬ ‫لم أجبها‪ ،‬ظللت شاردا وهي ظلت تتطلع إلي في حزن‪.‬‬
‫تستجمع كلماتها ثم قالت لي‪:‬‬
‫‪ -‬كم أنا غبية‪ ،‬عندما رأيتك عند الباب ظننت أنك اتخذت القرار‪ ،‬وأتيت‬
‫ً‬
‫موافقا على زواجنا‪...‬‬
‫ً‬
‫أجبتها مقاطعا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬أنا فعال أتيت موافقا على فكرة الزواج‪...‬‬
‫‪ -‬إذن ماذا بك؟ متردد‪ ،‬نادم؟‬
‫تك عندي ولكنني غير قادر على‬ ‫‪ -‬ال هذا وال ذاك يا أماليا‪ِ ،‬‬
‫أنت تعلمين معز ِ‬
‫تقبل هذا الواقع املنافي ملبادئي‪ ،‬املنافي لعقلي ولجسدي حتى‪ ،‬ال أستطيع‬
‫شفتيك وأمتص رضابهما دون أن تمر في ذهني صورة‬ ‫ِ‬ ‫وضع شفتي على‬
‫أحضنك دون‬
‫ِ‬ ‫طائرة إف‪ 01‬تقصف أهلي بغزة أو الضفة‪ .‬ال أستطيع أن‬
‫أن أتخيل أن اآلالف من الفلسطينيين يحتضنهم ركام منازلهم التي دمرها‬
‫أهلك ‪ ...‬كيف لنا أن نتزوج وأن ننجب أبناء؟ ماذا سأسمي أبناءنا‬ ‫ِ‬
‫مناحيم وغولدا وشارون وبيرتس على أسماء من دمر وحرق الشعب‬
‫العربي؟‬
‫قفزت من مكانها لتجلس على األرض بين ركبتي‪ ،‬وضعت يديها على وجهي ثم قالت‬
‫دمع في عينيها‪:‬‬
‫وهي تصارع بداية ٍ‬
‫‪ -‬أنا لست إسرائيلية يا طارق؟ من اليوم أنا لست إسرائيلية‪ ...‬وكل ما‬
‫تريده سأفعله‪ ،‬أسمعت‪ ،‬كل ما تريده سأفعله‪ .‬سأمزق جواز سفري‬
‫اإلسرائيلي سأمزق علم إسرائيل وأدوسه بقدمي إن شئت سأحرق نجمة‬
‫ً‬
‫داوود حتى ‪ ...‬املهم أن نكون معا إلى األبد‪ ،‬أنا ال هوية وال وطن لي بعد اآلن‬
‫سوى أنت يا طارق‪.‬‬

‫]‪[84‬‬
‫جذبتها إلي وعانقتها‪ ،‬حينها انهارت وبدأت تبكي كطفلة‪ ...‬شعرت أنني قسوت عليها‪،‬‬
‫وأنها ال تستحق كل هذا العذاب في قصتنا‪ .‬ال أعرف ملا حينها فكرت في ليلى والفرق‬
‫بينها وبين أماليا‪ .‬ليلى لم تعد لي وال هي حاربت كل ما يفرقنا لتبقى معي‪ ،‬على عكس‬
‫أماليا التي تتمسك بقصة حبنا الالمنطقي بكل جنون‪ .‬أنا ال أملك إال أماليا اآلن‪ ،‬ال‬
‫حب لي اآلن سوى أماليا‪ .‬ربما القدر أبقاها لي لتكون الوحيدة التي ستنقذني من‬
‫وحدتي ومن مأساتي‪ .‬ربما مأساتي مع الوطن لن تشفيها إال ابنة عدو الوطن‪.‬‬
‫مسكت وجه أماليا بين يدي ومسحت عينيها الزرقاوين ببنان أصابعي‪ ،‬قبلت‬
‫جبهتها ثم قلت كي أخفف حزنها‪:‬‬
‫‪ -‬متى سنتزوج إذن؟‬
‫ابتسمت بالتدرج ثم صرخت بهيستيريا‪ ،‬وانطلقت تقفز من الفرح‪ .‬ردت علي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لوال أن العرس يلزمه استعداد مسبق لقلت غدا‪...‬‬
‫‪ -‬استعدي كما تشائين يا عزيزتي‪.‬‬
‫من فرط سعادتها بدأت تسألني وتسأل نفسها من سندعو لزواجنا وماذا سنعد له‬
‫وأين ومتى سنقيمه‪.‬‬
‫‪ -‬ما رأيك في أواخر الشهر املقبل‪ ،‬شهر ماي؟ ما رأيك أن نقيم العرس‬
‫بباريس أو روما أو في الرباط إن شئت؟‬
‫بقيت أنظر إليها مبتسما‪ ،‬وهي واقفة تعد علي كل ما علينا عمله استعدادا‬
‫للعرس‪ ...‬غرقت في مونولوج داخلي وأنا أتتبع حركات شفتيها‪ ،‬سحبني فكري إلى‬
‫أيام الجامعة حيث كنت أبدأ يومي وأنهي مسائي على صوت ليلى وأحضانها‬
‫الدافئة‪ .‬أمعقول أن يكون ''بلزاك'' صادقا عندما قال إن الحب رجل وامرأة‬
‫وحرمان؟ أمعقول أن أزف المرأة غير ليلى؟‬

‫]‪[85‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ8‬‬
‫الدار البيضاء ‪ 01-‬أيار‪/‬ماي ‪2015‬‬

‫قبل أن يبدأ اجتماع رفاقنا في مكتب ناصر هذا املساء انشغلت في الحديث عن‬
‫عرس صديقتنا حليمة مع نزهة وبركات‪ ،‬كنت أحاول استرجاع كل‬ ‫ِ‬ ‫تفاصيل‬
‫تفاصيل ذاك العرس عس ى أن يخبراني بما قاله طارق أو سمعاه عنه في غيابي‪،‬‬
‫حتى سمعنا ناصر يصيح بحماسة‪:‬‬
‫‪ -‬تحية حارة لكل الرفاق‪ .‬أقترح قبل أن نمر ملناقشة اآللية التنظيمية‬
‫للحركة كما هو مقرر الجتماعنا اليوم أن نفتح مجاال وللمرة األخيرة‬
‫ملناقشة أرضية مبادئ الحركة‪ .‬ما رأيكم؟‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫تدخلت نزهة مستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬أظن أننا اتفقنا على مبادئ الحركة في اجتماعاتنا السابقة‪ ،‬اآلن يجب‬
‫على اللجان أن تبدأ عملها‪.‬‬
‫رد عليها ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬بعضنا الزال يتحفظ على البعض من املبادئ يا نزهة‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم التفت إلى بركات قائال‪:‬‬
‫‪ -‬بركات‪ ،‬أي مبدأ الزلت تتحفظ عليه؟‬
‫صاح بركات بصوته الجهوري‪:‬‬
‫‪ -‬املبدأ الثالث‪'' :‬تؤمن حركة ''نحن نستحق'' أن املؤسسة امللكية صمام‬
‫أمان للشعب املغربي وهي الضامن الحقيقي لسالمة الوطن واستقراره‬
‫السياس ي وهي في نفس الوقت الفاعل األساس ي في تخليق وإصالح الحياة‬
‫]‪[86‬‬
‫السياسية وكذا اإلشراف على اإلصالح الثقافي والفكري باململكة‪ .‬لذلك‬
‫ف ''حركة نحن نستحق'' ترفع كل مطالبها إلى امللك بالدرجة األولى''‪ .‬هذا‬
‫نزين صورته‬ ‫املبدأ لم يرق لي‪ ،‬فيه مهادنة جبانة اتجاه النظام وكأننا ِ‬
‫ونخرجه من مسؤولية االستبداد وانسداد األفق السياس ي باملغرب‪ .‬هذا‬
‫املبدأ عليه أن يزول‪...‬‬

‫لم يمهله ناصر حتى رد عليه‪:‬‬


‫‪ -‬هذا هو املبدأ الذي يحدد خصمنا يا بركات‪ ،‬اتفقنا منذ البداية أن‬
‫خصمنا في الحركة هو األحزاب السياسية وليس امللك‪...‬‬
‫ً‬
‫صاحت نزهة معاضدة فكرة ناصر‪:‬‬

‫‪ -‬سزرتكب خطأ استراتيجيا سيقتل الحركة في بدايتها إن لم ن ِ‬


‫حيد النظام‬
‫من معركتنا‪ ،‬ليست لدينا اإلمكانات وال الكادر الذي سيمكننا من‬
‫ً‬
‫مواجهة األحزاب السياسية والنظام امللكي معا‪ ،‬ثم تشخيصنا للوضع‬
‫السياس ي للبالد يفيد بعدم مهاجمة املؤسسة امللكية‪ ،‬هذا ليس هدفنا‬
‫ً‬
‫في الحركة‪ ،‬على األقل اآلن‪ .‬من الحكمة إذن أن نكسب معنا طرفا نهاجم‬
‫به الطرف اآلخر‪ .‬أي أن نكسب امللك معنا في مواجهة األحزاب‬
‫السياسية‪ ،‬هكذا سنكون أقوى‪...‬‬
‫صرخ بركات بزرفزة‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ليس بهذه اللغة االنبطاحية‪ ،‬صمام أمان والضامن الستقرار‬
‫الوطن و''التخربيق'' ‪...‬‬
‫تدخل يوسف غرادي لتلطيف الجو قائال‪:‬‬

‫]‪[87‬‬
‫‪ -‬أنا أتفهم بركات في فكرته‪ ،‬هو ليس ضد املبدأ‪ ،‬هو مع فكرة أن نواجه‬
‫ً‬
‫احة فيها ٌ‬
‫لبس‬ ‫األحزاب الحالية ال النظام امللكي لكن صياغة املبدأ صر‬
‫نحمل النظام امللكي أي مسؤولية فيما‬
‫ما‪ ،‬من يقرأ املبدأ سيظن أننا ال ِ‬
‫يجري في الساحة السياسية‪ .‬أنا أعتقد إذن أن نصحح الصياغة‪.‬‬
‫بصوت هادئ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رد ناصر‬
‫‪ -‬حسنا يا جماعة‪ ،‬ماذا تقترحون لنصحح الصياغة‪.‬‬
‫ً‬
‫أدار يوسف وجهه ناحية بركات ثم دفع كتفه ممازحا‪:‬‬
‫‪ -‬هي يا رفيق‪ ،‬أعطنا صياغة جديدة للمبدأ‪.‬‬

‫‪ -‬فلنغير عبارة ''صمام أمان'' ب ''أحد الثوابت الوطنية'' ثم ِ‬


‫نحمله‬
‫مسؤولية اإلصالح السياس ي والثقافي‪.‬‬
‫ً‬
‫هز ناصر رأسه موافقا في الوقت الذي كان بركات يترقب ردة فعله‪ .‬انتهزت لحظة‬
‫ً‬
‫الصمت التي حلت حينها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أما أنا لو سمحتم لي‪ ،‬فأطلب إعادة نقاش املطلب الثاني وليس املبادئ‪.‬‬
‫ابتسم ناصر قبل أن يقول لي‪:‬‬
‫‪ -‬يا رفيقتي‪ِ ،‬‬
‫أنت تعيديننا لنقطة الصفر‪ ،‬املطالب اتفقنا عليها جميعا‪...‬‬
‫نحن اآلن بصدد املصادقة على املبادئ وإطالق عمل اللجان وليس‬
‫املطالب‪.‬‬
‫‪ -‬اعذرني يا ناصر‪ ،‬لكن املطلب الثاني أجده ال يتوافق بتاتا مع الطابع‬
‫السياس ي للحركة‪ .‬نحن نطالب بإسقاط األحزاب السياسية الحالية‬
‫وحلها ملاذا سنطالب باإلصالح الفكري والثقافي؟ على األقل في املدى‬
‫ِ‬
‫القريب‪.‬‬

‫]‪[88‬‬
‫ً‬
‫التفت ناصر إلى عبد الصمد ضاحكا‪:‬‬

‫‪ -‬تفضل يا عم‪ِ ،‬‬


‫أعد عليها محاضرتك في األسبوع املاض ي‪ ...‬فليلى لم تفهم‬
‫بعد‪.‬‬
‫عال‪:‬‬
‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫كان عبد الصمد سيهم بالحديث قبل أن أقاطعه‬
‫‪ -‬ال ال اسمح لي‪ ،‬ليس األمر أنني لم أفهم‪ ،‬بل لم أتفهم‪...‬‬
‫ً‬
‫انفجر الرفاق جميعا ضاحكين على كالمي‪ ،‬فما لبثت أن ضحكت معهم‪ .‬ملحت‬
‫بركات يضحك بقوة وكأنه يغتنم أول فرصة للضحك على أستاذته‪.‬‬
‫صاح ناصر وهو يغالب ضحكه‪:‬‬
‫‪ -‬يا هللا يا رفيقتي‪ ،‬ماذا تقصدين بأن ِك ال تتفهمين؟‬
‫‪ -‬ببساطة أنا أفهم مغزى هذا املطلب‪ ،‬لكن ال أتفهم أن يكون مطلبا‬
‫لحركة نحن نستحق‪ ،‬اإلصالح الفكري والثقافي مطلب سي ِ‬
‫ميع فكرة‬
‫الحركة وسيجعل النظام يلتف علينا‪.‬‬
‫ً‬
‫تدخل عبد الصمد بصوته الهادئ قائال‪:‬‬
‫‪ -‬بدون شك هدفنا األساس ي في الحركة هو تغيير النخبة السياسية‬
‫كحد أقص ى لنؤسس لحياة‬ ‫الحالية وتأسيس حزبين أو ثالثة أحزاب ٍ‬
‫سياسية قوية وجادة تضع امللكية في مكانها الصحيح وتلبي التطلعات‬
‫الحضارية للشعب املغربي‪ .‬لكن من هم األحزاب في آخر املطاف؟‪ ،‬هم‬
‫ونقوم تربية الشعب الفكرية والثقافية‬
‫أفراد من الشعب‪ ،‬إن لم نصلح ِ‬
‫اب فاسدة وضعيفة‪ .‬لذلك فتحصين‬ ‫سنجد أنفسنا من جديد أمام أحز ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشعب فكريا وثقافيا ضرورة ملحة لتحصين الحياة السياسية وتقويتها‪.‬‬

‫]‪[89‬‬
‫على العكس يا ليلى‪ ،‬حركتنا من املفروض أن تحمل مطلب اإلصالح‬
‫الفكري والثقافي إلى جانب حل األحزاب وتغييرها‪.‬‬
‫قبل أن أتدخل ألشرح وجهة نظري‪ ،‬قاطعني ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعوا‪ ،‬اسمعوا‪ ،‬لن نضيع الوقت في نقاش كل ش يء‪ .‬علينا أن نتقدم‬
‫في عملنا ال أن نعود للوراء‪ .‬أوال‪ ،‬نحن اآلن متفقون جميعا على مبادئ‬
‫الحركة بعد صياغة بركات الجديدة‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫ً‬
‫صاح الجميع قائال ''نعم''‪ ،‬ثم نظر إلي‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى توافقين على املبادئ؟‬
‫‪ -‬نعم أوافق‪.‬‬
‫‪ -‬جيد‪ ،‬بخصوص مطلب اإلصالح الفكري والثقافي لن نناقشه‪ ،‬سنطرحه‬
‫ثان للحركة؟‬
‫للتصويت‪ .‬من يوافق على اإلبقاء عليه كمطلب ٍ‬
‫ً‬
‫رفع الجميع يده موافقا على إبقاء املطلب الثاني‪ ،‬باستثناء بركات‪ .‬تطلع إليه ناصر‬
‫ً‬
‫ساخرا‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لم ترفع يدك تضامنا مع أستاذتك يا بركات؟‬
‫رد عليه بابتسامة خفيفة‪:‬‬
‫‪ -‬أبدا‪ ،‬بل ألني أراه مطلبا سابقا ألوانه‪.‬‬
‫التفت ناصر إلى نزهة‪ ،‬غمزها ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى وبركات يشكالن اليوم جبهة املعارضة‪.‬‬
‫ضحك الجميع ثم أردف ناصر‪:‬‬

‫]‪[90‬‬
‫‪ -‬أربعة أصوات مع بقاء املطلب وصوتان ضده‪ .‬الديمقراطية واضحة‪،‬‬
‫سنبقي على املطلب‪.‬‬
‫يقلب في أوراقه ثم طلب منا أن نطالع خطة العمل قائال‪:‬‬
‫أخذ ِ‬
‫‪ -‬خطة العمل تقتض ي في البداية إنشاء أربع لجان‪ ،‬لجنة الدراسات‬
‫ستقوم بإعداد امللف القانوني ملطالب الحركة وكذا الدراسات النقدية‬
‫للعمل السياس ي في املغرب هذه اللجنة ستترأسها ليلى املرابط بحكم‬
‫تخصصها‪ .‬لجنة اإلعالم والعالقات العامة ستقوم بإعداد بيانات‬
‫الحركة ونشراتها الصحفية وكذا الخطة اإلعالمية هذه اللجنة ستترأسها‬
‫نزهة صادق التي ستكون الناطق الرسمي باسم الحركة‪ .‬لجنة تنظيم‬
‫التظاهرات ستقوم بإعداد أفكار وخطط التظاهرات سيترأسها بركات‬
‫طارق‪ ،‬لجنة املكاتب املحلية ستقوم بإنشاء تنسيقيات الحركة بمختلف‬
‫مدن املغرب وضبط البنية الهرمية للحركة‪ ،‬سيترأسها عبد الصمد‬
‫ً‬
‫مرشد ثم أخيرا لجنة الدعم واللوجستيك سيترأسها يوسف غرادي‪.‬‬
‫أوراق الخطة توضح كل تفاصيل عمل اللجان‪.‬‬
‫تركنا نقرأ أوراق الخطة لدقائق ثم عاد ليقول‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن كل ش يء واضح‪.‬‬
‫ً‬
‫صاح يوسف متسائال‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا املكتب الوطني للحركة مكون منا نحن الستة فقط؟‬
‫رد عليه ناصر بسرعة‪:‬‬

‫‪ -‬لكي ِ‬
‫نحصن الحركة من االختراقات‪ ،‬لن نسقط في أخطاء الحركات‬
‫الشبابية السابقة‪ .‬املكتب الوطني للحركة هو الوحيد الذي يتخذ‬

‫]‪[91‬‬
‫القرارات ويوجه الحركة ويتفاوض باسمها‪ ،‬وأعضاؤه هم نحن فقط‪ ،‬لن‬
‫نقبل بأعضاء جدد‪.‬‬
‫سألته نزهة هذه املرة‪:‬‬
‫‪ -‬وإن أراد عضو جديد االنضمام للحركة؟‬
‫رد عليها ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬اقرئي خطة الحركة جيدا‪ ،‬لكل عضو جديد الحق في االنتساب‬
‫للتنسيقيات املحلية للحركة أو للجانها التنظيمية‪ .‬لكن ليس باملسموح‬
‫له االنضمام إلى املكتب الوطني‪.‬‬
‫‪ -‬لكن في هذا إقصاء للشباب؟‬
‫نغلب مصلحة الحركة ونحميها من االختراقات‪ .‬ثم نحن‬‫‪ -‬يا رفيقتي‪ ،‬نحن ِ‬
‫لن نتخذ القرارات بانفراد بل سنستشير الجميع قبل اتخاذ أي قرار يهم‬
‫مستقبل الحركة‪.‬‬
‫ظللنا نناقش خطة عمل الحركة لساعات طويلة قبل أن ينتهي اجتماعنا بلمسات‬
‫من الضحك الصاخب والكوميديا السوداء كعادة الرفاق في كل لقاء‪ .‬أدهشني‬
‫زمن بعيد‪ ،‬وكم تمنيت لو‬‫اندماج بركات مع رفا ي القدامى وكأننا كنا نعرفه منذ ٍ‬
‫عرفته أكثر على نجيب وفيصل وطارق‪.‬‬
‫ً‬
‫عندما هممت بمغادرة الرفاق‪ ،‬أمسكني ناصر من يدي قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬أريدك في موضوع‪.‬‬
‫رافقني إلى باب مكتبه وهو يتريث في مفاتحتي في موضوعه‪ ،‬سألني أوال عن طارق‬
‫وأحواله قبل أن يقول لي‪:‬‬

‫]‪[92‬‬
‫أيك لو طلبنا انضمام طارق ولد الخيل للحركة؟ هو شخص ذو‬ ‫‪ -‬ما ر ِ‬
‫كفاءة وتجربة طويلة في التنظيمات السياسية كما أنه رفيقنا ويشاطرنا‬
‫نفس التوجهات؟‬
‫ً‬
‫فكرت طويال قبل أن أجيبه‪:‬‬
‫‪ -‬لست متأكدة أنه سيرغب في االنضمام إلينا‪ ،‬طارق يعيش حالة ارتباك‬
‫نفس ي واجتماعي حاد جدا هذه األيام‪.‬‬
‫‪ -‬وما الجديد‪ ،‬لقد عهدناه هكذا منذ قرابة عشرين سنة‪...‬‬
‫لم أجبه‪ ،‬لذت بالصمت وأنا أقول في قرارة نفس ي‪ :‬ال أحد يعلم ما بداخل طارق‬
‫سواي‪ ،‬لقد ولد وحيدا في هذه الحياة وسيبقى وحيدا‪.‬‬
‫قاطعني مصرا‪:‬‬
‫أنت بموضوع حركتنا؟‬ ‫‪ -‬ما رأيك أن تخبريه ِ‬
‫ً‬
‫أجبته وأنا أهم بفتح الباب مغادرة‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ح ِد ْثه أنت على الهاتف أوال وأنا سأدبر لكما ً‬
‫لقاء قريبا هكذا أحسن‪.‬‬
‫مساؤك سكر رفيقي‪.‬‬
‫رد علي مبتسما وهو يشير لي بتحية النصر‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬تحياتي رفيقتي‪.‬‬

‫]‪[93‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ9‬‬
‫الرباط ‪ 0-‬حزيران‪/‬يونيو ‪2015‬‬

‫ْ‬
‫صاحت مها وهي تقف أمامي وتنظر إلى باب املطعم الزجاجي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ها قد حضر صديقنا الشيوعي أخيرا‪...‬‬
‫ً‬
‫التفت ألرى سعيد السالك يدخل متثاقال من باب املطعم وعلى وجهه ابتسامة‬
‫عريضة‪ ،‬هو دائما يسخر من الواقع بابتسامة يسميها ابتسامة الخديعة‪ ،‬يخدع‬
‫بها قدره كما يقول‪.‬‬
‫صاح قائال عند اقترابه منا قبل أن يطلق ضحكته الصاخبة‪:‬‬

‫إياك أن يكون طارق قد غاز ِ‬


‫لك في غيابي‪ ،‬أنت ملكية مشتركة‬ ‫‪ -‬مها ِ‬
‫كالكولخوزات السوفياتية‪ ،‬احذري‪.‬‬
‫ً‬
‫أجابته مها غامزة‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تكفك كلخوزاتك األخريات؟‬
‫لك‪.‬‬
‫أنت أجمل كلخوزة يا مها‪ .‬ألف وألف ثم أعود ِ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫التفت إلي سعيد قائال وهو يهم بالجلوس على كرس ي بمحاذاتي‪:‬‬
‫‪ -‬أين أنت يا رجل؟‬
‫‪ -‬أنا هنا دائما‪ ،‬أنت الغائب‪ ...‬أين تختفي؟‬
‫‪ -‬مررت هنا مرتين األسبوع املاض ي ولم أجدك‪ ،‬سألت مها عنك قالت لي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إنك كنت محبطا وحزينا‪.‬‬

‫]‪[94‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬ومتى لم أكن محبطا وحزينا‪ ...‬أنا كائن حزين كما تعرف‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هذا ليس بجديد علي ولكن ِصدقا هل أنت بخير؟‬
‫ادعيت انشغالي بإشعال سيجارة كي أفكر بما أجيبه‪ .‬هل أخبره؟ أم أتجاهل‬
‫ً‬
‫سؤاله؟ أجد صعوبة في مشاطرة حياتي الخاصة لذلك أجبته مراوغا‪:‬‬
‫‪ -‬دعك مني اآلن‪ ،‬قل لي أنت؟ أين غبت كل هذه املدة؟‬
‫‪ -‬آه يا عزيزي ماذا أقول لك؟‬
‫‪ -‬ما دمت قد بدأت باآله فإما أنك مشتاق ألملانيا أو أن هناك امرأة ما‬
‫تشغلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬صراحة‪ ،‬االثنان معا يا طارق‪.‬‬
‫فسر‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫قبل أن يهم سعيد بتفسير جوابه لي قاطعته مها سائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تشرب يا صاحب الكلخوزات؟‬
‫رد عليها سعيد بسرعة دون أن ينظر إلى وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬قهوة فقط‪ ،‬الفازا من فضلك‪.‬‬
‫استجمع أنفاسه ثم قال لي‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬أشعر أن قرار عودتي للمغرب كان قرارا خاطئا‪ ،‬أشتاق ألملانيا‪ ،‬بالرغم‬
‫أنني لست سوى مهاجرا فيها إال أنها تشعرني باالستقرار والحيوية‪ .‬هناك‬
‫الكل يحترمك كإنسان ويقدر حياتك الخاصة وطموحاتك‪ .‬أتفهمني يا‬
‫طارق؟ املغرب بالرغم أنه بلدي إال أنني أشعر بنفس ي في غربة هنا‪ ،‬كأنني‬

‫]‪[95‬‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫فرد ال قيمة له وسط كل هذا القطيع الكبير‪ .‬ال أشعر بتاتا أن هذا‬
‫الوطن يعرفني أو يكترث لي حتى‪ ...‬أكاد أختنق هنا يا صديقي‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪ -‬ال جديد في قولك‪ ،‬املغاربة كلهم يختنقون في هذه البالد‪ .‬هناك لعنة ما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في أن تكون مغربيا أو عربيا في وقتنا الحاضر‪.‬‬
‫صمتنا لدقائق‪ ،‬ثم عدت لسؤاله‪:‬‬

‫‪ -‬ال أفهم ِ‬
‫لحد اآلن ملاذا عدت من أملانيا !!؟‬
‫‪ -‬عدت من أجل الحب‪ ،‬رجعت كي أبحث عن أسماء كما تعرف‪.‬‬
‫‪ -‬وها أنت قد وجدتها كما ال تشتهي‪ .‬اعتقدت أنك ستجد حبيبتك‬
‫الشيوعية بأيام الجامعة كما هي‪ ،‬فوجدتها قد أصبحت رأسمالية تؤمن‬
‫بالربح والتجارة في كل ش يء‪.‬‬
‫عال من سخرية أقدارنا وعبثها وأنا أرى في سعيد مثال كل أولئك‬
‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ضحكت‬
‫الذين خرجوا من الجامعة بآمال النضال في الحياة ومشاريع املستقبل فلم يلبثوا‬
‫ْ‬
‫وانكسرت أمانيهم‪.‬‬ ‫أن تاهوا في دوامة الزمن‬
‫لجأ بخيبته إلى فنجان القهوة الذي تركته مها بمحاذاته‪ .‬كان يرتشف القهوة حينا‬
‫ويتيه في سوادها حينا آخر كأنه يحاور فنجانه‪ ،‬ينشر على حباله غسيله الداخلي‬
‫عساه يجف من مياه مأساته‪.‬‬
‫عاد لحديثه معي‪ ،‬بصوت مرتبك‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬صراحة يا طارق‪ ،‬ال أصدق أن أسماء التي كانت تناضل ضد الرأسمالية‬
‫وتصف البرجوازية باملتعفنة قد أصبحت مادية وتزوجت من رجل ال‬
‫يجمعها معه سوى فيالته وسياراته وحساباته البنكية املتخمة‪ .‬تخيل‬

‫]‪[96‬‬
‫أنها قالت لي عند عودتي ''لو كنت قد عدت من أملانيا وأنت أغنى من‬
‫ً‬
‫خطيبي‪ ،‬لكنت فسخت خطوبتي فورا ألتزوجك''‪.‬‬
‫ً‬
‫ابتسم بألم وعاد لفنجانه‪ .‬ألجيبه مهونا‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك يا صديقي‪ ،‬اليسار عموما ابتلي بأشباه مناضلين يعانون من‬
‫قطيعة وجودية مع املبادئ التي يعلنونها‪ ،‬يعانون من داء السفسطة‪،‬‬
‫يدافعون عن األفكار ونقيضها حسب موقعهم في الحياة‪ .‬لقد سقط‬
‫اليسار يا رفيقي وسقطت املاركسية‪...‬‬
‫صاح بزرفزته املعهودة كلما قلت له أن املاركسية سقطت‪:‬‬
‫‪ -‬قلت لك ألف مرة إن املاركسية لم تسقط‪ ،‬املاركسيين هم من سقطوا‪...‬‬
‫‪ -‬عن أي ماركسية وماركسيين تتحدث يا سجين رومانسية السبعينات؟‬
‫املاركسية أصبحت ماركسيات يا رفيق‪ ،‬ماركسية لينين ليست هي‬
‫ماركسية ماو وال ماركسية ستالين وال ماركسية تروتسكي‪ ،‬أصبح لكل‬
‫منظر ماركس ي ماركسيته وأتباعه‪ ،‬ألتوسير وغرامتش ي وبليخانوف‬
‫ولوكاتش وكارل كورش لكل من هؤالء ماركسيته‪ ،‬ألم يقل ماركس‬
‫عندما علق على ماركسية الحزب العمالي الفرنس ي إذا كانت هذه هي‬
‫املاركسية فأنا لست ماركسيا‪.‬‬
‫رد علي بعصبية‪:‬‬
‫‪ -‬على أساس أنكم أنتم القوميين العرب حافظتم على فكر واحد ومشروع‬
‫واحد‪ ،‬كل النظريات تجد طريقها إلى التشتت والتشويه عندما تززل‬
‫للواقع‪ .‬ثم إن اختالف املاركسيين فرضته تعقيدات الحياة السياسية‬
‫واالقتصادية وضرورات القرن العشرين بما فيها من تطور قوى اإلنتاج‬

‫]‪[97‬‬
‫ومقدرة الرأسمالية على تجاوز أزماتها وتناقضاتها وتراجع شروط قيام‬
‫الثورة‪...‬‬
‫‪ -‬بل قل فشلت املاركسية في رهاناتها‪ ،‬الرأسمالية لم تسقط والصراع‬
‫الطبقي لم يوصلنا إلى تفجير ثورة البروليتاريا وطبقة العمال والكادحين‬
‫تراجع لديها الوعي الثوري وماركس ي اليوم واليساريين أصبحوا أبعد مما‬
‫تتصور عن املادية التاريخية واملادية الجدلية‪ ...‬هذه هي الحقيقة يا‬
‫رفيق‪.‬‬
‫قاطعتنا مها بصوت خاف ٍت كأنها تنبهنا لش يء ما‪:‬‬
‫‪ -‬أوه عدتما من جديد لتناطحكما‪ ،‬ال تكاد تمر دقائق على لقائكما حتى‬
‫تتناطحان كالديكة بأحاديثكم املاركسية والقومية‪...‬‬
‫لم يجبها أحد منا‪ ،‬لكنني تساءلت مع نفس ي لم في كل مرة ألتقي فيها أنا وسعيد‬
‫نفتح مواضيع األمس وصراعات املاركسيين واليساريين مع محنة التاريخ‪ ،‬ابتسمت‬
‫بمرارة وأنا أتذكر سخرية ''جورج أورويل'' من اليساريين في روايته مزرعة‬
‫الحيوان‪.‬‬
‫تركت سعيد يحتس ي قهوته على مهل وهربت ببصري بعيدا حيث تجلس امرأة‬
‫بفستان أسود جميل في طاولة تتوسط املطعم‪ .‬تطلعت إلى مالمحها الجميلة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫عينان هادئتان يطل فوقهما حاجبين رقيقين ينسدل إلى جانبهما شعر غجري‬
‫كليل الصحراء‪ ...‬هذه هي املرأة التي تحضر كل مساء إلى املطعم منذ شهور‬ ‫ٌ‬
‫أسود ِ‬
‫ً‬
‫طويلة تنثر جمالها ومرحها على املرقص وحيدة ثم تمض ي‪.‬‬
‫سمعت سعيد يقول ملها‪:‬‬
‫‪ -‬مها من فضلك ضعي لنا أغنية الشاب خالد ''ياد املرسم'' واحضري لي‬
‫زجاجة كازابالنكا‬

‫]‪[98‬‬
‫لحظات قليلة حتى تصاعدت في املطعم موسيقى الراي الراقصة وبدأ سعيد‬
‫يدندن مع كلماتها‪.‬‬
‫‪ -‬أين ذهب فكرك؟‬
‫قطع صوت مها لحظات شرودي في مالمح صاحبة الفستان األسود‪ ،‬فأجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب عند تلك التي تلتحف بالسواد في هذه الليلة‪...‬‬
‫‪ -‬تقصد رجاء الغالي؟‬
‫‪ -‬تعرفينها؟‬
‫‪ -‬كل ما أعرف عنها هو اسمها وأنها مغربية مهاجرة في كندا وتحضر‬
‫للمطعم كل مساء منذ شهور‪ ،‬يبدو أنها في عطلة‪...‬‬
‫في تلك اللحظات عمتني أفكار كثيرة وذكريات ثقيلة أوغلت بي في مشاعر الوحدة‬
‫ً ً‬
‫والضياع‪ ،‬لم أشعر بنفس ي حتى وقفت مغادرا قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ماهي وسعيد‪ ،‬سيكون لنا مساء آخر‪ ،‬ربما غدا‪...‬‬
‫قبل أن أغادر الباب سمعت صوت سعيد يصيح مع كلمات الشاب خالد بنبرة‬
‫حزينة‪:‬‬
‫''‪ ..‬ما نعشق ما نقول ها نسوان غير ال كان عشرة الجبانا‬
‫وإال كان تحيط في الكفان‪ ،‬آخرة الحيين للـ ـفان ـا‪'' ..‬‬

‫]‪[99‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ11‬‬
‫الدار البيضاء ‪ 81-‬حزيران‪/‬يونيو ‪2015‬‬

‫ملحت بركات يمر بجانب اإلشارة عند ملتقى شارع الزرقطوني والروداني‪ .‬بدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شاردا‪ ،‬نظراته تائهة في الطريق الذي يمش ي عليه‪ .‬تذكرت أنه في الفصل كان أيضا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شاردا‪ ،‬حاضرا بجسده فقط‪ .‬ضربت املنبه مرتين لكنه لم يستدر‪ .‬أخذت هاتفي‬
‫ً‬
‫واتصلت به فجاءني صوته مشتتا‪:‬‬
‫‪ -‬ألو ‪ ...‬أستاذة ليلى‪.‬‬
‫‪ -‬ارجع‪ ،‬أنا وراءك في سيارتي الواقفة في اإلشارة الضوئية‪ .‬ضربت منبه‬
‫السيارة لك لكنك لم تنتبه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا‪.‬‬
‫استدار في مكانه يبحث عن سيارتي قبل أن أحرك اإلشارة الضوئية كي أساعده‬
‫وسط زحام السيارات التي تنتظر إشارة املرور‪ .‬تقدم بخطى سريعة عندما رآني‪،‬‬
‫فتح الباب ثم صعد‪.‬‬
‫صحت في وجهه‪:‬‬
‫‪ -‬فيما كنت تفكر‪ ،‬ضغطت على منبه السيارة ثالث مرات لكنك كنت‬
‫ً‬
‫شاردا‪.‬‬
‫ً‬
‫أجابني مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬ال ش يء‪ ،‬لم أسمع املنبه وسط هذه الزحمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬تبدو هذه األيام مختلفا‪ ،‬ملحتك في الفصل شاردا أيضا‪ .‬ما بك؟‬

‫]‪[100‬‬
‫أنت تعرفين أنني مسؤول عن إعداد مخطط‬ ‫‪ -‬ربما انشغالي بالحركة‪ِ ،‬‬
‫املظاهرات‪ .‬لم يبق سوى أقل من شهرين كي تنطلق مظاهرات الحركة‪.‬‬
‫ملحت في عينيه مراوغة في جوابه‪ ،‬لكنني لم ِأرد إحراجه أكثر‪ .‬بعد إشارة الضوء‬
‫األخضر تركت السيارة تمض ي بنا في شارع إبراهيم الروداني الذي بدا ممتلئا عن‬
‫آخره بالسيارات‪ ...‬كانت الحركة كثيفة‪ ،‬كل تائه في طريقه يسابق الزمن‪ ،‬تخيلت‬
‫الدارالبيضاء ميتروبوال يبتلع الناس وقيمهم اإلنسانية ويجعلهم آالت تدور وتدور‬
‫لجمع املال وصرفه في حاجيات بيولوجية فانية‪.‬‬
‫‪ -‬أين يوجد بيتك يا فتى؟‬
‫نفسك أستاذة ليلى‪ ،‬انزليني فقط في ساحة لعوينة‪ ،‬سآخذ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ال تتعبي‬
‫تاكس ي من هناك إلى البيت‪.‬‬
‫ً‬
‫نظرت إليه قاطبة حاجبي في الوقت الذي رمقت فيه قطرات مطر خفيف بدأت‬
‫تتساقط على زجاج السيارة‪ ،‬استغربت من هطول مطر خفيف في بداية الصيف‪،‬‬
‫ثم قلت له‪:‬‬
‫لصديق‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬مع هذا املطر لن أتركك للشارع وللتاكسيات‪ ،‬كما أنني في حاجة‬
‫أحادثه هذا املساء‪ .‬هيا قل لي أين بيتك؟‬
‫ً‬
‫أجابني مستسلما‪:‬‬
‫‪ -‬في حي النسيم‪.‬‬
‫‪ -‬أين يوجد هذا الحي؟‬
‫ً‬
‫ابتسم متهكما ثم قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬اذهبي إلى عزبان وهناك سأريك الطريق‪.‬‬
‫أجبته مدندنة برأس ي‪:‬‬

‫]‪[101‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬حسنا‪ ،‬عزبان بالقرب من جامعة الحسن الثاني‪ ،‬سآخذ طريق‬
‫الجديدة ثم الطريق السيار‪ ...‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لم تحفظي شوارع البيضاء بعد؟‬
‫‪ -‬أنت تعرفني رباطية‪ .‬حياتي كلها كانت في الرباط‪ ،‬واآلن أحاول التأقلم مع‬
‫هذه املدينة الغول‪.‬‬
‫‪ -‬ناس الرباط ال يحبون البيضاء‪ ...‬ملاذا ِ‬
‫قررت السكن فيها؟‬
‫شعرت مع سؤال بركات بغصة حزن تجتاحني‪ ،‬لم أكن أظن يوما أنني سأغادر‬
‫الرباط تلك املدينة التي القتني بطارق وجمعتني به‪ .‬رميت نظري على الطريق‬
‫املزدحمة‪ ،‬نصف ساعة ولم نخرج بعد من شارع الروداني‪ .‬ما إن اجتزنا ملتقى‬
‫شارع غاندي والروداني حتى تركت السيارة تجري بسرعة‪ ،‬تبتلع الظالم الذي‬
‫سقط مع املطر‪ ...‬التفت لبركات كي أجيبه‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أنت تعرف‪ ،‬زوجي يقطن بهذه املدينة كما أن عملي أصبح فيها هو أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫يعقب على كالمي‪ ،‬رأيته بطرف عيني ينظر من زجاج النافذة إلى الشارع تائها‪.‬‬ ‫لم ِ‬
‫كان في نظراته ش يء ما يستفزني ويثير فضولي‪.‬‬
‫ً‬
‫سألته محاولة إخراجه من شروده‪.‬‬
‫‪ -‬أتحب سماع هبة قواس؟ لدي قرص أغانيها في السيارة‬
‫ً‬
‫أجابني مستغربا‪:‬‬
‫‪ -‬هبة قواس؟ ال أعرفها‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬هي مطربة غير معروفة كحال كل رواد الفن امللتزم‪ ...‬سأجعلك‬
‫تتعرف عليها اآلن‪.‬‬

‫]‪[102‬‬
‫دفعت يدي اليمنى للبحث عن قرص األغاني في الدرج املحاذي للمقود ثم وضعته‬
‫في جهاز املوسيقى‪ .‬كانت السيارة تدخل بنا في الطريق السيار باتجاه جامعة‬
‫الحسن الثاني عندما صدح صوت هبة قواس في السيارة‪.‬‬
‫ْ‬
‫أشممت ِعطري حين قلت تحبني‬
‫الورد على جسدي‬ ‫ْ‬
‫كيف تفتحت أكمام ِ‬
‫يقظتني "عيناك" في الحل ِم رفة جناح ْي ِن‬ ‫أ ْ‬
‫أعانقك وأنت في ْ‬
‫الغفو ِة‬ ‫ِ‬
‫ترنو وال أ ْرتوي من ضم ِة ْ‬
‫العم ِر‬
‫مياه ت ْزهر من ْ‬
‫صحرائي‬ ‫سبيلي إليك ٌ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫من ع ْمري ر ْعشة ْأم خدر ‪!...‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫ص ْوتك دغدغة املط ِر ر ْعشة ْأم خدر‬
‫ً‬
‫التفت إلي بركات مستغربا‪:‬‬
‫‪ -‬يا سالم‪ ،‬كيف لي أال أعرف هذه املطربة؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬هذه هي الحياة يا صغيري‪ ،‬تعرف شيئا وتغيب عنك أشياء‪.‬‬
‫ٌ‬
‫لك بالتعرف على هبة قواس إذن‪ ...‬لقد صرت أحد عشاقها‪.‬‬‫‪ -‬أنا مدين ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نظرت إليه مبتسمة ثم سألته مستغلة جوابه‪:‬‬
‫‪ -‬بإمكانك أن تؤدي دينك اآلن لي‪.‬‬
‫ً‬
‫التفت بسرعة من جديد قائال‪:‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬

‫]‪[103‬‬
‫‪ -‬بأن تقول لي ما الذي يشغل بالك؟‬
‫ً‬
‫تنهد بعد برهة صمت ثم قال مستسلما‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬استرجعت ذكريات ذلك اليوم الذي التقيت فيه برفاقك في‬
‫عرس صديقتك حليمة‪.‬‬‫ِ‬
‫‪ -‬لقد مر ٌ‬
‫زمن على ذاك اليوم‪ ،‬لم تتذكره اآلن؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬ذاك اليوم بعثر أوراق الحياة في داخلي‪ ،‬جعلني أحفر في ذاتي بحثا عن‬
‫معنى الوطن والحياة وااللتزام بقضية األمة العربية‪ ...‬كنت أظن أنني‬
‫سأجد رفا ي القوميين العرب يملؤهم الحماس واألمل في بعث هذه األمة‬
‫ً‬
‫من جديد لكنني وجدت أشخاصا مبعثرين وتائهين لم أكن أعلم أن‬
‫نفسية القومي العربي هي بالضرورة متأزمة كأزمة الوطن العربي‪.‬‬
‫كنت أنظر إلى الخطوط البيضاء في الطريق وهي تتسابق لتتوارى تحت السيارة وأنا‬
‫أفكر في كالم بركات‪ .‬خمنت أنه يسلك نفس الطريق التي سلكها طارق قبل‬
‫عشرين سنة‪ ،‬هو اآلخر بدأ يتوه وتستززفه قضايا الوطن‪.‬‬
‫ً‬
‫صمت ردحا ثم استطرد قائال وكأنه قرأ أفكاري‪:‬‬
‫‪ -‬أتعلمين يا أستاذة ليلى؟ شخصية طارق أشعرتني بخوف مهول من‬
‫الحياة واملستقبل‪ ،‬حزنه العميق استفز أمالي‪...‬‬
‫شعرت بارتباك عندما ذكر اسم طارق‪ ،‬كنت غير مصدقة أن يكون بركات قد‬
‫نطق اسمه وتأثر بشخصيته فسألته كما لو كنت أبحث عن تأكيد منه‪:‬‬
‫‪ -‬طارق من؟‬
‫فجاءني رده السريع‪:‬‬
‫‪ -‬طارق ولد الخيل‪.‬‬

‫]‪[104‬‬
‫ً‬
‫أجبته مصطنعة عدم االهتمام بذكر اسمه‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬آه‪ ،‬حسنا‬
‫ً‬
‫ثم أردف قائال‪:‬‬
‫‪ -‬شخصية ذاك الرجل مثيرة‪ ،‬من بين كل الرفاق الذين تعرفت عليهم ذاك‬
‫اليوم هو وحده الذي جعلني أدخل في دوامة وجودية‪.‬‬
‫ً‬
‫سألته مبدية اهتماما هذه املرة‪:‬‬

‫‪ -‬كنت قد ملحتك رفقته لوقت طويل في ِ‬


‫عرس حليمة الهاللي‪ ،‬أخمن أنكم‬
‫تحدثتم في مواضيع كثيرة‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬تحدثنا في مواضيع كثيرة‪ .‬كنت قد سألته إن كانت القومية العربية‬
‫ٌ‬
‫لعنة تصيب صاحبها بالحزن والضياع فأجابني بكون حال القومي العربي‬
‫ومحتل وغير مستقر‪ ،‬استبدل ثوب‬ ‫ٌ‬ ‫من حال الوطن العربي‪ ،‬مشتت‬
‫الفرح بثوب الحزن منذ سقوط بغداد العباسيين في يد املغول إلى‬
‫سقوط كل عواصم العرب بالتتابع‪ .‬قال لي‪ ،‬حال القومي العربي كحال‬
‫ً ً ً‬
‫الخنساء ملا لبست حدادا أبديا حزنا على وفاة أخيها صخر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫صمت فجائي ثم أشار لي بيده اليسرى أن أسير في الشارع املقابل على اليسار‪.‬‬ ‫لفه‬
‫كنا قد وصلنا إلى املدار الطر ي أمام شركة عزبان‪ ،‬في تلك اللحظة توقف قرص‬
‫قاس أحسست به يتوغل في عروق دمي‪ .‬التفت‬ ‫ٌ‬
‫أغاني هبة قواس وخيم صمت ٍ‬
‫ً‬
‫إليه ألجده يواصل النظر من النافذة شاردا وقد ألقى بقفاه على ظهر املقعد‪ .‬كنت‬
‫سري ألعن القدر الذي جعل من طارق شخصية تنقل عدوى الفوضوى‬ ‫في ِ‬
‫الوجودية والضياع إلى اآلخرين‪.‬‬
‫فجأة دفع بركات رأسه نحوي وسألني بكلمات متسابقة‪:‬‬

‫]‪[105‬‬
‫ً‬
‫أحالم أن يغرقا شخصا في حز ٍن عميق كالذي‬ ‫‪ -‬كيف ملأساة ٍ‬
‫وطن وانكسار ٍ‬
‫يعيشه طارق؟‬
‫فاجأته بسؤال على جوابه‪:‬‬
‫‪ -‬أال ترى أنك تشبه طارق؟‬
‫رد علي بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أظن‪ ،‬أنا على األقل يملؤني األمل في الغد وكلي تمرد على الواقع‪ ...‬أما‬
‫هو فيبدو أنه استسلم للحزن وألمواج القدر‪.‬‬
‫تنهدت قبل أن أجيبه‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هو أيضا كان مثلك في بداية شبابه‪ ،‬كان ممتلئا بالتحدي واألمل‪ .‬لم يكن‬
‫يعرف سوى الثورة والنضال لتحقيق أماله والدفاع عن أفكاره‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يأت بالنضال يأتي بمزيد من النضال''‪ ،‬كان وردة‬ ‫يقول دائما ''ما لم ِ‬
‫مزهوة بفصل الربيع لكنه استعجل الخريف وتساقطت أوراق أحالمه‬
‫ومبادئه‪ .‬إنك تشبهه في كل ش يء حتى في ارتدائك للبدل السوداء‪ ،‬في‬
‫ً‬
‫عصبيتك أيضا وفي عينيك اللتين تحتضنان الشرود على حافة الحزن‪...‬‬
‫وألن القدر غريب ويعيد نفسه فأنتما تحمالن ذات االسم‪ ،‬كالكما طارق‪.‬‬
‫سألني بزرفزة‪:‬‬
‫‪ -‬ما قصة هذا الرجل؟‬
‫ً‬
‫التفت إليه ورسمت ابتسامة وأنا أعلم في داخلي أن شخصية طارق تملكته بقوة‪.‬‬
‫أجبته وأنا أبطئ من سرعة السيارة كي أركز في كالمي معه أكثر‪:‬‬
‫جيل بأكمله مع أحالمه الضائعة‪ .‬كان طارق في الجامعة يصارع‬
‫‪ -‬إنها قصة ٍ‬
‫الدنيا بأكملها من أجل فكرة الوطن الذي يحلم به‪ ،‬الوطن العربي‬

‫]‪[106‬‬
‫املوحد من املحيط إلى الخليج‪ ،‬كان يحلم باالشتراكية والحرية لكنه عند‬
‫بواقع آخر ال يؤمن بوطنه وأفكاره‪ ،‬وجد‬
‫خروجه من الجامعة اصطدم ٍ‬ ‫ً‬
‫وطنا ال يعرفه وال يحلم به‪ .‬عاش طارق صراعا مريرا في داخله مع كل تلك‬
‫األفكار واملبادئ التي آمن بها قبل أن يكتشف أنها كانت أوهاما في أوهام‪.‬‬
‫فهرب من كل ش يء‪ ،‬هرب من الوطن‪ ،‬من الحب‪ ،‬من االنتماء‪ ،‬من‬
‫الوجود‪ ...‬فقد ثقته حتى في فكرة اإلنسان واإلنسانية‪ .‬لم يبق أمامه إال‬
‫املوت‪ .‬لكن حتى هذا رفضه‪ .‬وحده الحزن فتح له أبوابه املشرعة على‬
‫الضياع والعذاب‪ .‬أراهنك أنه اآلن يبحث عن وسيلة يحتال بها على‬
‫القدر كي يغادر هذه الحياة‪.‬‬
‫سألني باستغراب‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف تعرفين كل هذا؟‬
‫تجاهلت سؤاله‪ ،‬لم أشأ أن يعرف بركات عالقتي العميقة بطارق‪ .‬اكتفيت‬
‫ً‬
‫باالبتسام وأنا أقود السيارة في اتجاه الطريق السيار بوسكورة‪ .‬سمعته يطلق زفيرا‬
‫ً‬
‫طويال قبل أن يقول لي بعد ثوان من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬توقفي هناك من فضلك‪...‬‬
‫‪ -‬هناك أين؟‬
‫‪ -‬دوري على اليسار‪ ،‬وتوقفي حيث توجد تلك املدرسة‬
‫‪ -‬حاضر يا باشا‪.‬‬
‫أوقفت السيارة قرب مدرسة ابتدائية تحمل اسم توبقال دون أن أوقف املحرك‪،‬‬
‫أعدت تشغيل قرص هبة قواس قبل أن أتوجه له بالحديث‪:‬‬

‫]‪[107‬‬
‫‪ -‬اسمع يا بركات‪ ،‬أعلم أنك تعيش دوامة وجودية بعد لقائك برفاقنا‬
‫القوميين وأعرف أن أمالك قد خابت فيهم‪ ،‬لكن هذه هي الحقيقة‪.‬‬
‫القوميون العرب كلهم منكسرون ويعيشون الضياع‪ .‬لكن في يدك أن‬
‫تبني أملك وحدك وتصنع الحلم الذي تريده‪ ،‬كن أنت أملنا وواصل‬
‫طريقك‪.‬‬
‫ً‬
‫ظل صامتا‪ ،‬كنت أنتظر منه أن يجيبني‪ ،‬لكنه فتح باب السيارة ودفع جسده إلى‬
‫ً‬
‫الززول‪ .‬مسكته من يده‪ ،‬كانت ساخنة جدا‪ ،‬تذكرت سخونة جسد طارق كأن نارا‬
‫موقدة تحت جلديهما‪.‬‬
‫قلت له‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيك أن ترافقني كل يوم أحد للجري في شاطئ عين الذئاب؟ انقطعت‬
‫عن الرياضة منذ زمن وأبحث عمن يشجعني ملزاولتها من جديد‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تطلع إلي مبتسما دون أن يجيبني‪ ،‬فأردفت ضاحكة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬وسأعطيك نقطا جيدة في آخر السنة الدراسية‪.‬‬
‫ضحك ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ترشينني إذن‪...‬‬
‫‪ -‬آه‪ ،‬اعتبرها رشوة‬
‫عرضك‪ ،‬ودون رشوة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أقبل‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬صباح كل أحد تجدني في انتظارك عند هذه املدرسة مع التاسعة‬
‫ً‬
‫صباحا‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إلي طويال قبل أن يقول‪:‬‬

‫]‪[108‬‬
‫‪ -‬اتفقنا‪...‬‬
‫أجبته بلطف‪:‬‬
‫‪ -‬تصبح على خير يا فتى‪.‬‬
‫ً‬
‫أغلق الباب ثم دفع رأسه من النافذة قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬شكرا على التوصيلة الجميلة أستاذتي‪ ،‬تصبحين على خير‪.‬‬

‫]‪[109‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ11‬‬
‫الرباط ‪ 18-‬تموز‪/‬يوليوز ‪2015‬‬

‫ْ‬
‫استلقت أماليا بجانبي على السرير‪ ،‬التفت إليها ربما ألرى فيما تفكر حينها‪ ...‬كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صدرها عاليا‪ ،‬شاهقا‪ ،‬أحسست بشعور يدفعني لتسلق هذا الجبل الشامخ‬
‫وامتطاء سفوحه‪ .‬لكن نفس الصور بدأت تغزو فكري‪ :‬أشالء شهداء فلسطين‪،‬‬
‫ً‬
‫أصوات الطائرات والبيوت املدمرة‪ ....‬لقد أصبح جسد أماليا مسيجا بأسالك‬
‫مكهربة‪ ،‬ال أكاد أملسه أو فقط أفكر في ملسه حتى تغزوني صور األلم واملعاناة التي‬
‫كالها الصهاينة لشعبي في فلسطين‪.‬‬
‫ورطة ساقها القدر إلي؟ بعد أن هزمت نفس ي وقبلت الزواج بأماليا يأتي‬‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جسدي ليلفظ جسد أماليا كجيفة يأبى وصالها؟! هل جسدي أكثر وطنية وعروبة‬
‫ً‬
‫مني؟ أم أنه فعال أصبح عاجزا عن الغوص والسباحة في مياه أجساد كل النساء؟‬
‫ً‬
‫فكرة أن أصبح عاجزا أثارت هلعا في نفس ي‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬أدارت أماليا جسدها لتنام على جانبها األيسر دون أن تنبس بكلمة‪ .‬خطفت‬
‫ً‬
‫نظرة إليها فوجدتها مقابلة لي‪ ،‬تضع راحة يدها تحت رأسها وتنظر إلي واستفسارات‬
‫كثيرة بادية على مالمحها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خافت بعد أن أخذت شهيقا عميقا‪:‬‬‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫سألتني‬
‫‪ -‬هل ستبقى هكذا؟‬
‫ً‬
‫صمتت‪ ،‬تظاهرت بعدم اكتراثي لسؤالها‪ ،‬لتردف قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ما سبب برودك معي يا طارق؟ هل تعاني من مشكل ال أعرفه؟ لم‬
‫أعهدك هكذا‪...‬‬

‫]‪[110‬‬
‫ً‬
‫أجبتها مقاطعا بكبرياء‪:‬‬
‫‪ -‬أنا بخير‪ ،‬ال أعاني من أي مشكل‪.‬‬

‫‪ -‬إذن ملاذا ال تقدر على معاشرتي؟ ال أكاد ِ‬


‫أقرب شفتي من ثغرك أو أدفع‬
‫صدري إليك حتى أراك تهرب مني مذعورا؟‬
‫بصوت يقترب إلى املواساة والشفقة‪:‬‬ ‫ْ‬
‫صمتت لحظة ثم واصلت‬
‫ٍ‬
‫‪ -‬هل ستبقى هكذا بعد زواجنا؟ يجب أن تذهب عند طبيب نفس ي يا‬
‫طارق‪...‬‬
‫‪ -‬ال حاجة لذلك‪ ،‬أنا فقط مرتبك وأمر بتراكمات أحداث كثيرة‪ ،‬كما أن‬
‫ً‬
‫زواجنا يزيدني توثرا‪.‬‬
‫سرقت من جديد نظرة سريعة إلى عينيها‪ ،‬بدت عليهما عالمات استفهام كثيرة‪ ،‬ثم‬
‫ً‬
‫سرعان ما حركت شفتيها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ما عالقة زواجنا باملوضوع؟‬
‫ً‬
‫املخدة مستسلما للورطة التي وضعت نفس ي فيها بإثارة موضوع‬‫ِ‬ ‫أرخيت رأس ي على‬
‫زواجي بأماليا من جديد‪ .‬فكرت حينها في تدخين سيجارة ألوذ بها من ضغط أماليا‬
‫ً‬
‫علي‪ ،‬لكنني تذكرت أن علبة سجائري نفذت قبل أن أعود إلى البيت‪ .‬تبا للسجائر‪،‬‬
‫تنتهي في األوقات التي أحتاجها أكثر‪...‬‬
‫سمعت أماليا تقول من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬هيا قل ما عندك يا طارق‪...‬؟‬
‫استجمعت صوتي بصعوبة ثم أجبتها بكلمات مرتعشة‪:‬‬

‫]‪[111‬‬
‫سمحت‪ ،‬ريثما أرتب أوضاعي وأهدأ من‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أريد أن نؤجل زواجنا يا أماليا لو‬
‫حالة الفوض ى التي أعيشها‪.‬‬
‫وان لم تجبني فيها‪ ...‬شعرت بموجة حزن عميقة تجتاحها‪ ،‬أشعرتني‬
‫ظلت صامتة لث ٍ‬
‫بذنب قاتل وندم على ما تفوهت به‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ْ‬
‫نهضت فجأة من على السرير واتجهت إلى باب الغرفة‪ ،‬شعرت برغبة في املناداة‬
‫عليها‪ .‬كيف لي أن أتركها تنصرف بحزنها هكذا دون أن تناقشني وتصرخ في وجهي‪.‬‬
‫ْ‬
‫توقفت برهة لتسألني‪:‬‬ ‫لكنها قبل أن تغلق الباب وتغادر‬
‫‪ -‬الزلت غير مقتنع بزواجنا يا طارق؟‬
‫أجبتها بسرعة وأنا أنهض متجها إليها حيث وقفت عند الباب‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال ال أبدا‪ ،‬ال تفكري هكذا يا أماليا‪ .‬ال أريد إلغاء زواجنا بل تأجيله فقط‪.‬‬
‫‪ -‬لألسف‪ ،‬تأجيل زواجنا لن ينفعنا في ش يء‪ .‬هذه حقيقة واضحة‬
‫كالشمس‪ .‬تصبح على خير‪.‬‬

‫]‪[112‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ12‬‬
‫الدار البيضاء ‪ 81-‬أغسطس‪/‬غشت ‪8102‬‬

‫طيلة األشهر املاضية‪ ،‬كان بركات هو مؤنس ي الوحيد في هذه الحياة‪ ،‬كان هو ذاك‬
‫اآلخر الذي أناقش معه كل ش يء دون تحفظ ودونما تردد‪ .‬لم أعد أشعر به طالبا‬
‫ً‬
‫عندي في املعهد بقدر ما أصبح صديقا قريبا لي‪ .‬في كل مرة نلتقي فيها للركض‬
‫بشاطئ عين الذئاب‪ ،‬نظل نتحدث في كل املواضيع ثم نلجأ بعد أن يتملكنا التعب‬
‫ً‬
‫إلى مقهى تاهيتي‪ ،‬نأخذ قسطا من الراحة قبل أن نستكمل أحاديثنا التي ال تنتهي‪.‬‬
‫في كل لقاء لنا كنا نتحدث في السياسة والقومية العربية وموضوع الهجرة إلى كندا‪.‬‬
‫في مرة واحدة فقط أذكر أنه حدثني عن األدب والحب‪.‬‬
‫ً‬
‫كان ذاك اليوم مختلفا‪ ،‬بدأ بالفلسفة واألدب لينتهي بآهات الحب وآمال االنتظار‪.‬‬
‫ً‬
‫حب جديدة بكل خوف‪ ،‬تائها في بحر‬ ‫شعرت به مجروحا‪ ،‬كذلك الداخل في قصة ٍ‬
‫العشق دون مرس ى‪.‬‬
‫قال لي بمجرد جلوسنا في املقهى‪:‬‬
‫‪ -‬أال ترين يا أستاذة ليلى أن حوادث حرق النفس واالنتحار ارتفعت في‬
‫اآلونة األخيرة باملغرب؟‬
‫أجبته بقليل من االهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬االنتحار ظاهرة اجتماعية قديمة‪ ،‬ما يثير الرعب هي حوادث حرق‬
‫النفس‪ ،‬املسألة أصبحت ظاهرة تحتاج إلى دراسة عميقة‪...‬‬
‫‪ -‬لقد اجتاحت الوطن العربي فكرة الجسد املحروق كقربان ذاتي لطبقة‬
‫ً‬
‫اجتماعية احتجاجا على الظلم واالستبداد هذا كل ما في األمر‪.‬‬

‫]‪[113‬‬
‫‪ -‬أنا أنظر لها من وجهة أخرى‪ ،‬أرى أن حرق الجسد هو رغبة في تدمير‬
‫الذات التي لم تستطع هزم السلطة املتجبرة‪ ،‬سلطة الحاكم واملجتمع‬
‫واملعتقدات‪ ...‬هذا يشير إلى بداية تكون ظاهرة احتجاجية جديدة تطمح‬
‫لتفكيك املنظومة السياسية واملجتمعية السائدة واإلطاحة بكل‬
‫التمثالت الخاوية التي تتحكم في مجتمعنا‪.‬‬
‫‪ -‬صحيح‪ ،‬الفرد العربي انتقل من حالة الصراع مع الوجود وتمثالت‬
‫الوجود والعدم إلى محاولة إللغاء الوجود بأكمله من خالل تدمير الذات‬
‫التي قهرتها سلطة الدولة واملجتمع‪ .‬إرادة الحياة في الفرد العربي تتحطم‬
‫وتتهاوى‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لعل شوبنهاور كان محقا‪ ،‬لطاملا اعتقد أن إرادة الحياة أو فكرة اإلرادة‬
‫بصفة عامة هي سبب معاناة اإلنسان وأمله‪ ،‬تصور لنا الوجود كخطيئة‬
‫وتصور لنا املعاناة واأللم كجزاء حتمي لخطيئة الوجود‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬تبا للوجود‪ ،‬كان أرسطو حكيما عندما آمن أن ألم الوجود ال نداويه إال‬
‫بالتراجيديا‪ ،‬هي وحدها التي تداوينا بما أسماه التطهير من الوجود‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫قال لي بعد أن رفع يده اليمنى ليطلب من نادل املقهى الحضور ألخذ طلباتنا‪:‬‬
‫‪ -‬املفكر املغربي ''كمال فهمي'' يقول أن في التراجيديا يشعر املتفرج‬
‫بالخوف والشفقة وهو يتابع املصير املأساوي للبطل‪ ،‬الش يء الذي‬
‫يحقق ما يسميه أرسطو بالتطهير‪ ،‬حيث يتم تفريغ االنفعال الذي يشعر‬
‫به املتفرج فيما لو كان في وضعية البطل املأساوية ويشعر بعد ذلك بنوع‬
‫من االرتياح يشبه ما يشعر به املريض النفس ي عندما يفرغ همومه‬
‫واضطراباته‪ .‬خذي مثال شخصية أوديب في مسرحية سوفوكليس‪ .‬كل‬

‫]‪[114‬‬
‫قارئ لهذه املسرحية يتفاعل مع أوديبيته الخاصة ويتحرر من‬
‫أحاسيسها وأثارها‪ ،‬هكذا يتحقق مفهوم التطهير في أقوى مظاهره‪.‬‬
‫أوديب في مسرحية سوفوكليس لم يكن يريد قتل أبيه وال الزواج من‬
‫أمه‪ ،‬لكن ما أرادته اآللهة هو ما سيقع فعال‪ ،‬رغم أن والده سعى إلى‬
‫التخلص منه منذ والدته بعد أن أطلعه العراف على ما سيقوم به في‬
‫املستقبل‪ ،‬ومن ثم يمكن القول إن التراجيديا تبدأ عندما يعي اإلنسان‬
‫حريته التي تدفعه إلى مواجهة املتعالي والتمرد عليه‪ ،‬والصراع الجوهري‬
‫في التراجيديا يتمحور حول الصراع بين اإلنسان واإلله‪ ،‬الحرية والقدر‪...‬‬
‫‪ -‬ال أظنها تطهرنا‪ ،‬التراجيديا تضعنا فقط أمام الوجه الرهيب للحياة‪،‬‬
‫وجه مليء باأللم والظلم والشر‪ .‬شوبنهاور على عكس أرسطو آمن أن‬
‫التراجيديا سبيل لخالص اإلنسان عن طريق االستسالم ال التطهير‪،‬‬
‫فبالنسبة له البطل التراجيدي يكفر عن خطيئته في الوجود باأللم‬
‫واملعاناة ليجد سبيله إلى الخالص واالستسالم‪.‬‬
‫توقفت عن الكالم بعد أن حضر النادل‪ ،‬طلب بركات فنجان قهوة وطلبت أنا‬
‫عصير برتقال‪ .‬بعد أن تركنا النادل خيمت علينا لحظة صمت طويلة‪ ،‬قبل أن‬
‫ً‬
‫يقطعها بركات مصرا على استكمال موضوعنا قائال‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬نيتشه أيضا كان له رأيا مغايرا‪ ،‬اعتبر أن للتراجيديا نشوة خاصة تكمن‬
‫تحدي البطولي لقوى املوت‪ ،‬في التصميم على مواجهة الحياة في‬ ‫في ال ِ‬
‫شموليتها وفواجعها والنظر إلى هوة الوجود وجها لوجه‪ .‬التراجيديا قد‬
‫تحول األفكار الفظيعة حول الوجود وعبثيته إلى مفاهيم يمكن للمرء‬
‫أن يتعايش معها‪.‬‬
‫أجبته وأنا أبدي قلة اهتمام بموضوع التراجيديا هذا‪:‬‬

‫]‪[115‬‬
‫‪ -‬التراجيديا هوية وطبيعة إنسانية متأصلة في البشر بغض النظر عن‬
‫انعكاساتها‪...‬‬
‫‪ -‬ال أؤمن أن هناك طبيعة إنسانية متأصلة في اإلنسان باملعنى‬
‫األنطولوجي‪ ،‬أنا مع سارتر في فكرة نفي وجود طبيعة إنسانية وأن ال‬
‫ً‬
‫وجود إال ملواقف يواجه فيها الناس بعضهم بعضا ويكونون مضطرين‬
‫لالختيار فقط‪.‬‬
‫سألته بعد أن استسلمنا للصمت من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬أنت وجودي إذن وأنا ال أدري؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬يمكنك اعتباري وجوديا‬
‫بصوت خافت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫اعتدلت في جلستي وأنا أجيبه‬
‫ً‬
‫‪ -‬أتعلم‪ ،‬في هذه النقطة أيضا تشبه طارق ولد الخيل‪ ،‬هو أيضا يؤمن‬
‫بالوجودية كتجسيد لإلنسانية والحرية املطلقة‪ .‬لطاملا اعتبر أن اإلنسان‬
‫حر وال أهداف ماورائية من وجوده الذي يسبق ماهيته املتصارعة مع‬
‫فكرة اآلخر‪...‬‬
‫ً‬
‫رد علي مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬ذكرتني بمسرحية ‪ huis clos‬لسارتر التي عالج فيها فكرة اآلخر وعالقته‬
‫بذاتنا‪.‬‬
‫‪ -‬تطرق لهذا املوضوع في كتابه الوجود والعدم على ما أظن !!‬

‫‪ -‬صحيح‪ ،‬لكن في مسرحية ‪ huis clos‬تطرق له ٍ‬


‫بحس أدبي عميق‪ .‬في هذه‬
‫املسرحية وضح سارتر أن وجود الذات ال يقوم إال بالغير ومع الغير‪ ،‬لكن‬

‫]‪[116‬‬
‫األنا أمام الغير تدخل في صراع مع السقوط والعذاب‪ ...‬لذلك أنهى هذه‬
‫املسرحية بعبارته املربكة‪ :‬الجحيم هم اآلخرون‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هذا العالم معقد‪ ،‬وعالقاتنا مع اآلخرين زادته تعقيدا‬
‫‪ -‬أتعلمين يا أستاذتي‪ ،‬أنا أرى العالم عبارة عن بنى متداخلة ومتراكبة فيما‬
‫بينها‪ ،‬علينا تفكيكها كلها ودراستها كي نفهم أنفسنا وما حولنا‪...‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬صرت بنيويا اآلن؟‬
‫ً‬
‫رد علي ضاحكا‪:‬‬
‫‪ -‬وليست أي بنيوية من فضلك‪ ،‬إنها البنيوية التكوينية التي تفسر الواقع‬
‫والفكر اإلنساني تفسيرا ماديا من خالل العالقات املتداخلة واملتبادلة‬
‫بين العناصر املكونة لهما‪.‬‬
‫عال قبل أن أسأله‪:‬‬
‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ضحكنا‬

‫‪ -‬قل لي إذن يا فيلسوف‪ ،‬أ ليست لديك أنت اآلخر حبيبة ِ‬


‫تقيم معها قدرة‬
‫ذاتك على بناء عالقة بنيوية مع اآلخر؟‬
‫صمت طويال وهو ينظر إلي بطريقة لم أعهدها فيه‪ ،‬تغيرت مالمحه واحمرت‬
‫وجنتاه وعندما لم أزل نظري عنه لجأ إلى فنجانه ليسرق منه رشفة قهوة قبل أن‬
‫ً‬
‫يجيبني قائال‪:‬‬
‫‪ -‬هناك امرأة في حياتي أحبها بجنون‪ ،‬لكن عالقتي بها غريبة ومعقدة‪،‬‬
‫ً‬
‫معقدة جدا‪.‬‬
‫سألته بلهفة‪:‬‬

‫‪ -‬لم؟ ِ‬
‫احك لي‪.‬‬

‫]‪[117‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أحكي ِ‬
‫لك‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا إذن‪ ،‬أخبرني فقط من تكون؟‬
‫عاد لصمته من جديد‪ ،‬كان كمن ينتقي كلماته من وسط الجمر أو كالهارب من‬
‫أنفاسه بين شهيق وزفير‪ .‬لم يزل عينيه عن البحر‪ ،‬حيث كانت األمواج تقذف‬
‫ً‬
‫بنفسها على الشاطئ ثم تختفي قبل أن تعيد الكرة كأن لعنة سيزيفية حلت بها‪.‬‬
‫ً‬
‫قلت له وأنا أدفع كتفه بيدي ممازحة‪:‬‬
‫‪ -‬هيا قل لي‪ ،‬لن أفضح سرك‪.‬‬
‫قال بعد تردد‪:‬‬
‫‪ -‬سيأتي ٌ‬
‫يوم سأخبرك فيه من تكون حبيبتي‪ ،‬أتمنى فقط أال يكون ذاك‬
‫اك فيه‪.‬‬
‫يوم أر ِ‬
‫آخر ٍ‬

‫أحسست بانقباض حينها في صدري وأنا أشعر بقلبه يخفي مأساة كبيرة‪ .‬كان علي‬
‫أن أنتظر شهورا بعد لقائنا هذا كي أعلم من تكون املرأة التي يحبها وكما توقع هو‪،‬‬
‫يوم أراه فيه‪.‬‬
‫في آخر ٍ‬

‫]‪[118‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ13‬‬
‫الدارالبيضاء ‪ 82-‬أغسطس‪/‬غشت ‪8102‬‬

‫ً‬
‫صاح ناصر مستغربا وهو يززع فنجانه من بين شفتيه‪:‬‬
‫‪ -‬تأخر طارق!‬
‫‪ -‬القطار القادم من الرباط هو الذي تأخر‪ ،‬ألم تسمع إعالن التأخير؟‬
‫نظر إلي وهو يهز رأسه مؤكدا كالمي ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬متى كانت قطارات املغرب تحترم الوقت؟‬
‫كنت حينها أشعر بتوتر مربك وأنا أنتظر مالقاة طارق من جديد‪ ،‬حاولت أن أهدئ‬
‫نفس ي لكن شو ي واستعجالي لرؤيته دفعا أناملي إلى الهاتف ألتصل به‪ .‬سمعت‬
‫ً‬
‫صوته خافتا وسط ضجة القطار‪:‬‬
‫‪ -‬ألو‪ ...‬ليلى‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬لم تصل بعد؟‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬القطار يتوقف اآلن بمحطة كازابور‪ .‬أين أنتم؟‬
‫‪ -‬نحن في مقهى فينيزيا آيس بالطابق التحت أرض ي للمحطة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬دقيقتان وأكون عندكما‪.‬‬
‫وضعت الهاتف وأخبرت ناصر أن طارق قد وصل قبل أن أحمل فنجان قهوتي إلى‬
‫شفتي ألبلل ريقي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خطف ناصر سؤاال سريعا قبل مجيء طارق قائال‪:‬‬

‫]‪[119‬‬
‫‪ -‬أتظنين يا ليلى أن طارق سيقبل االنضمام إلى الحركة؟‬
‫أجبته بسرعة أدهشته‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لن يقبل‪ ،‬لكنك لن تخسر شيئا إن حاولت معه‪.‬‬
‫رد علي بأس ى‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ملاذا تغير طارق هكذا‪ ،‬صار كئيبا ومنهزما بعد أن كانت الثورة والجموح‬
‫ملئان دماءه؟ هل قصة حبكما الفاشلة من جعلته هكذا؟‬‫ي ِ‬
‫‪ -‬هي الحياة فقط يا ناصر‪ ،‬الحزن على أمالك وأحالمك الضائعة يروض في‬
‫داخلك كل ش يء‪.‬‬
‫طل علينا طارق وهو يززل في املصعد الكهربائي‪ ،‬بدا أنه في مز ٍاج س يء‪ ،‬ذقنه مهمل‬
‫وعيناه ضامرتان غائرتان من شدة التعب والتدخين‪.‬‬
‫ً‬
‫وقفت متقدمة نحوه ألعانقه‪ ،‬فابتسم وعانقني بقوة قبل أن يقول‪:‬‬
‫حضنك هذه األيام يا أمي ليلى‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬كم أحتاج إلى‬
‫أجبته وأنا أتفحص عينيه الناعستين إن كان الزال يخاصمني‪:‬‬
‫‪ -‬ستظل ابني الغائب وحبيبي العنيد‪...‬‬
‫ً‬
‫ابتسم وجرني من يدي إلى ناصر‪ ،‬عانقه بدوره قائال‪:‬‬
‫ٌ‬
‫مشتاق لك‪.‬‬ ‫‪ -‬تحيا عروبتنا يا رفيق‪...‬‬
‫ً‬
‫أضاف بعد أن جلس مستسلما لتعبه‪:‬‬
‫‪ -‬قبل أن أسألكما عن أحوالكما اسمحا لي أن أتلذذ بتدخين سيجارة‪ .‬صار‬
‫قطار هذا الذي يمنعوننا فيه من‬
‫ٍ‬ ‫لي ساعة ونصف لم أدخن‪ .‬أي‬
‫التدخين‪...‬؟‬

‫]‪[120‬‬
‫ً‬
‫سمعته يضحك مع ناصر‪ ،‬في الوقت الذي كنت فيه غارقة في النظر إلى تفاصيله‬
‫وحركات عينيه عس ى أن تحكيا لي عما سيعجز لسانه عن قوله‪ .‬سألته‪:‬‬
‫‪ -‬كيف هي أحوالك يا طارق؟‬
‫ً‬
‫هز كتفيه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬كما تركتني آخر مرة‪ ،‬ال ش يء تغير‪...‬‬
‫ً‬
‫ثم التفت الى ناصر متهربا من عيني ليقول له‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك يا عم ناصر؟ أقسم أنك دعوتني إلى مناقشة موضوع‬
‫سياس ي‪...‬‬
‫ً‬
‫رد عليه ناصر مستغربا‪:‬‬
‫‪ -‬ما أدراك يا رفيق طارق؟‬
‫‪ -‬يا رفيقي‪ ،‬أنا وأنت ال نلتقي إال وكانت السياسة والقومية العربية ثالثنا‪...‬‬
‫‪ -‬صراحة لم ألحظ ذلك طيلة هذه السنين الطويلة‪.‬‬
‫ضحك ثم عاد لسؤاله‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك؟ وأحوال عملك؟‬
‫‪ -‬بخير أنت تعلم أكيد أنني استقريت بالبيضاء ومكتبي أصبح يروج ببعض‬
‫القضايا الجيدة وهلل الحمد‪...‬‬
‫رد عليه طارق بعد أن غمزني‪:‬‬
‫‪ -‬املحاماة مهنة تغني أذكياءها‪ ،‬وأنا ال أخش ى عليك يا ناصر‪...‬‬
‫تطلع إلي وقال‪:‬‬

‫]‪[121‬‬
‫ابنتك وزوجك؟‬
‫وأنت يا أخت العرب‪ ،‬ما أخبار أسرتك؟ ِ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫أجبته باقتضاب‪:‬‬
‫‪ -‬بخير‪ ،‬الجميع بخير‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هذه املرة أيضا لم تحضري ليال ِ‬
‫معك؟‬
‫فاجأني بسؤاله عن ليال‪ ،‬ال أعرف سبب إصراره على رؤيتها وشغفه بها‪ .‬تراه يشعر‬
‫بأنها ابنته؟ ال ال أظن‪ .‬لم يمهلني ألجيبه بعد أن نظر إلي بنظرة عتاب قاسية‪.‬‬
‫التفت لناصر ليسأله من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬قل لي إذن يا ناصر‪ ،‬ما املوضوع الذي تريد أن تحدثني فيه؟‬
‫‪ -‬أ مستعجل؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬يا سيدي خذ وقتي كامال‪ ،‬أنا ال أملك غيره‪ .‬قطار عودتي بعد ساعتين‬
‫أي‪...‬‬
‫على ٍ‬
‫ً‬
‫وقفت فجأة محاولة التهرب من بدايتهما فسألني طارق‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين يا سمرا‪ ،‬ودعينا على األقل‪.‬‬
‫ً‬
‫غمزته مجيبة‪:‬‬
‫‪ -‬سأحضر لك قهوتك‪ ،‬هنا املقاهي ‪self service‬‬
‫سمعته يجيبني وأنا أخطو إلى داخل املقهى‪:‬‬
‫‪ -‬تبا ملقاهي الدار البيضاء‪.‬‬
‫طلبت له قهوته املعتادة وقنينة ماء‪ ،‬كنت أختلس النظر إليهما وأنا أنتظر إعداد‬
‫ً‬
‫الطلبية‪ .‬أخذ ناصر يتكلم محركا يديه كعادته‪ .‬بدت تقاسيم وجهه مشدودة‬
‫ً‬
‫يجاهد كي يقنع طارق الذي بدا مستهترا يدخن سيجارته بتلذذ‪.‬‬

‫]‪[122‬‬
‫بعد دقائق أخذت القهوة وقنينة املاء وعدت إليهما‪ .‬صاح طارق وأنا أقترب منهما‪:‬‬
‫تأخرت يا ليلى‪ ...‬أنقذيني بالقهوة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫رشف قهوته على عجل بينما استكمل ناصر حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬النظام يا طارق لن ينخرط في صيرورة دمقرطة الحكم بجدية إال إذا‬
‫كانت هناك نخب سياسية قوية تضغط عليه وتكون جادة بما يكفي‬
‫لتوصل مطالب الشعب إلى املؤسسات السياسية للبالد وتترجمها إلى‬
‫برامج حقيقية بدون ارتهان لبرامج امللك واملخزن‪ .‬مشكلة الشعب اآلن‬
‫ليست هي الوصول الى امللكية البرملانية أو الدستور الديمقراطي أو‬
‫اإلصالح السياس ي واالقتصادي‪ ،‬املشكلة الحقيقية متمثلة في عدم‬
‫وجود أحزاب سياسية حقيقية وذات مصداقية ترفع مطالب الشعب‬
‫وتستمد منه مشروعيتها وتقف الند للند مع امللك والتحالف الطبقي‬
‫الحاكم‪.‬‬
‫بصوت هادئ بعد أن توقف ناصر ليشرب من كأس قهوته‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫صاح طارق‬
‫‪ -‬يا سيدي أنا متفق معك في كل ما قلته‪ .‬النظام في املغرب راهن دائما‪،‬‬
‫حتى ما قبل االستقالل‪ ،‬على خلق نخب سياسية عميلة له واستعمل من‬
‫أجل ذلك كل الوسائل من الريع واإلغراء حتى القمع والتصفية ولن‬
‫أذكرك هنا بصراع النظام مع الشورى واالستقالل واالتحاد الوطني‬
‫للقوات الشعبية في الخمسينات والستينات وبعده مع تنظيمات اليسار‬
‫يفصل كل األحزاب السياسية على‬‫الجذري‪ .‬النظام استطاع في األخير أن ِ‬
‫مقاصاته ويحولها إلى موظفين لديه‪ ،‬من أولئك الذين كانوا في الجبال‬
‫يحملون السالح ثم استبدلوه بالبدل والجالبيب البيضاء واستوطنوا‬
‫ً‬
‫البرملان والوزارات واإلسالميين مؤخرا الذين أصبح برنامجهم السياس ي‬
‫من برنامج امللك‪ ،‬إلى الحقوقيين أيقونات سنوات الرصاص‪ ...‬من كان‬

‫]‪[123‬‬
‫وركاع لهم‬
‫ٍ‬ ‫يصدق أن كل هؤالء سيتحولون إلى خدم عند امللك واملخزن‬
‫في حفالت الوالء‪ .‬الساحة الحزبية التي من املفروض أن تكون ساحة‬
‫شعبية جماهيرية بامتياز أصبحت حديقة للنظام‪ ،‬يخلق فيها حزبا‬
‫جديدا لتززيل سياساته وتجديد أشكاله السلطوية وبعدها يركنه إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اسطبل األحزاب اإلدارية ثم يخلق حزبا جديدا آخر ويحيي آخرا قديما‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫متفق معك أيضا‪ ،‬أن األحزاب السياسية الحالية تعيش حالة‬ ‫وهكذا‪...‬‬
‫انعزال مع تطلعات الشعب ومطالبه وأنها افتقدت للخطاب اإليديولوجي‬
‫واملرجعية القاعدية وأن الخطاب السياس ي انحدر الي مستوى ال أخال ي‪.‬‬
‫لكن ما الحل؟ تقول لي أن تسقط األحزاب الحالية!! النظام لن يسمح‬
‫لك بذلك‪ ،‬سيدخل معك في معركة سيستعمل فيها كل الوسائل املتاحة‬
‫له لقمعك‪ ،‬النظام لم يسمح لألحزاب ذاتها أن تغير نخبها وتجدد الحياة‬
‫الحزبية وأن تر ى بها الى مستوى الشعوب الديمقراطية الراقية فما بالك‬
‫ً‬
‫أن يسمح بذلك لحركة شعبية‪ ...‬يجب أن نفهم جميعا أن األحزاب في‬
‫املغرب هي أدوات للحكم بالنسبة للنظام وهو بالتالي لن يسمح‬
‫بإسقاطها لخلق أحزاب جديدة قوية‪ ،‬هو ليس بأحمق‪ ،‬لن يعيد تجربة‬
‫األحزاب القوية كما في الستينات والسبعينات وهو أيضا لن يسمح‬
‫بتحديد عدد أقص ى لألحزاب فهو هكذا يقطع عليه شريان حياته في أن‬
‫يخلق األحزاب التي يريد إلعادة إنتاج السلطوية دائما‪ ...‬النظام امللكي‬
‫سيحاربك بشراسة يا ناصر‪.‬‬
‫كان ناصر يصغي لطارق في هدوء‪ ،‬ملا رأى أن طارق أنهى كالمه رد عليه بنبرة الواثق‬
‫من نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬النظام لن يدخل معنا في تصادم مباشر ان استطعنا إقناع الشعب‬
‫بفكرة الحركة وخرج معنا في مظاهرات واسعة‪ ...‬مستوى التعبئة الكبير‬
‫هو الذي سيحمينا من شراسته واصطدامه معنا‪ .‬أنت تعلم أن النظام‬

‫]‪[124‬‬
‫املغربي مناور‪ ،‬يخش ى التصادم ويميل حيث يميل ميزان القوة في الشارع‪.‬‬
‫ً‬
‫في آخر املطاف سيجد نفسه مجبرا على التضحية بالحرس القديم من‬
‫حاشيته الحزبية وسينخرط مع الشعب في مسلسل بناء أحزاب شعبية‬
‫جديدة‪.‬‬
‫‪ -‬يا عزيزي‪ ،‬األحزاب نفسها لن تقبل الرضوخ ملطالبكم حتى وإن كان كل‬
‫الشعب وراءكم‪ ،‬ال يمكن أن تقبل األحزاب الحالية حل نفسها وإعادة‬
‫اب جديدة تفتح الطريق للكفاءات الشابة والززيهة للعمل‬ ‫تشكيلها في أحز ٍ‬
‫السياس ي‪ ...‬األحزاب غدت دكاكين سياسية تسترزق قياداتها من األدوار‬
‫التي يوزعها عليهم امللك‪ ،‬من املستحيل أن يتنازلوا على امتيازاتهم‪ ،‬عليك‬
‫أن تفهم هذا يا ناصر‪.‬‬
‫‪ -‬سنضغط من أجل ذلك‪ ،‬إرادة الشعب هي األقوى‪ .‬ثم ال تنس أن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫األحزاب املغربية تضم شبابا واعيا وغيورا على هذا الوطن سيساعدنا‬
‫قلب الطاولة من داخل األحزاب نفسها على قياداتها‪.‬‬
‫في ِ‬
‫‪ -‬أرى أنكم تملكون خطة عمل!‬
‫‪ -‬ال تعوزنا الخطة‪ ،‬وال التنظيم‪ .‬ما يعوزنا اآلن هو فرد ذو خبرة لينضم‬
‫حاجة ألمثالك يا طارق‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫إلينا ويساعدنا‪ .‬لذلك نحن في‬
‫‪ -‬أنت فيك الكفاية يا ناصر‪ ،‬تجربتك في التنظيم والعمل السياس ي ال‬
‫يستهان بها‪ ،‬كما أنك رجل قانون‪...‬‬
‫قاطعه ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬لكننا نريدك أنت بالذات معنا‪ ،‬هكذا سننجح أكثر‪.‬‬
‫‪ -‬تريدني معكم‪ ،‬هذا سبب دعوتك اليوم لي‪.‬‬

‫]‪[125‬‬
‫تنهد ناصر بعمق‪ ،‬هو يعرف أن مثل هذه األسئلة التي يطرحها طارق‪ ،‬تبتغي الحذر‬
‫لذلك رد عليه بدبلوماسية‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أوال نريد مشورتك‪ ،‬ثانيا نطلب منك االنضمام لنا‪ .‬نحن اآلن ستة أفراد‪.‬‬
‫أتمنى أن تصبح سابعنا لنشكل طليعة الحركة وقيادتها‪.‬‬
‫رد عليه طارق بلهفة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬اخترتم اسما للحركة؟‬
‫‪'' -‬حركة نحن نستحق'' هكذا أسميناها‪.‬‬
‫سمع طارق جواب ناصر دون أن يعلق عليه‪ ،‬رمى فقط أنامله على علبة السجائر‬
‫ً‬
‫سيجارة تداعب شفتيه‪ .‬الحظت أن شفتيه ازدادتا زرقة من فرط‬ ‫ٍ‬ ‫بحثا عن‬
‫التدخين‪ ...‬وددت في خاطري أن أمنعه من تدخين هذه السيجارة لكنني تداركت‬
‫نفس ي بأن تذكرت قراري في االبتعاد عن طارق وتركه وشأنه فقد تفرقت بنا السبل‬
‫كما قالت نزهة‪.‬‬
‫ً‬
‫بعد أن أشعل سيجارته‪ ،‬صاح قائال‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬فعال ''نحن نستحق''‪ ،‬الشعب املغربي يستحق نخبا سياسية جادة وذات‬
‫مصداقية‪ ...‬لقد تعبنا من السياسيين الذين جثموا على أنفاسنا سنوات‬
‫طويلة‪ ...‬ال نعرف إن كانوا أعضاء أحزاب سياسية أم موظفين في القصر‬
‫امللكي‪.‬‬
‫ً‬
‫ملحت ابتسامة تعلو وجه ناصر وكأنه اطمأن النضمام طارق لحركة نحن نستحق‪.‬‬
‫كنت أداعب خصلة شعري عندما نظر إلي طارق وكأنه يستنجد من ناصر بي‪.‬‬
‫ً‬
‫ملحت في عينيه أسئلة كثيرة‪ ،‬بدا منكسرا‪ ،‬عيناه تائهتان كعادته‪ .‬أعرف طارق‪ ،‬إنه‬
‫ً‬
‫يخش ى الدخول في مشاريع يخش ى أن تفشل وتزيده انكسارا وهو الذي استنفذ كل‬
‫مشاريعه في الحياة‪.‬‬

‫]‪[126‬‬
‫بصوت هادئ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫سألني‬
‫أنت معهم يا ليلى؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫أجبته بنفس وثيرته الهادئة‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬انضممت لحركة نحن نستحق منذ شهور دون تفكير طويل‪.‬‬
‫ً‬
‫سألني متلهفا‪:‬‬
‫‪ -‬لم؟‬
‫‪ -‬ألن التجربة والتاريخ يحتمان علينا إسقاط النخب السياسية التي‬
‫يحتمي بها القصر وتزيده تعنتا في عدم بناء ديمقراطية حقة‪ .‬كل املعارك‬
‫التي خاضها اليسار وبعده الطلبة والشباب في الحركات الشعبية وإن‬
‫كانت أجبرت النظام على االنخراط مرغما في املسلسل الديمقراطي‬
‫والحقو ي إال أنها باءت بالفشل وارتد الوضع إلى أسوء مما كان‪ .‬خذ‬
‫ً‬
‫حركة ‪ 81‬فبراير مثال‪ ،‬لم فشلت في تحقيق مطالبها؟ ببساطة ألنها ال‬
‫تستطيع وحدها الضغط على النظام لتحقيق مطالبها وباملقابل ليس‬
‫هناك نخب سياسية تترجم مطالبها وتضغط على النظام من أجل‬
‫تحقيقها‪ ،‬بل اصطفت األحزاب إلى جانب النظام ضد شباب الحركة بعد‬
‫أن استغلت حراكهم‪ .‬التشخيص الصحيح للوضع السياس ي اآلن في‬
‫املغرب هو غياب خصم سياس ي قوي للنظام‪ ،‬يجبره على تلبية مطالب‬
‫الشعب وخوض معركة ضده على املدى الطويل إلرساء ديمقراطية‬
‫حقيقية‪ .‬لذلك فاملسار الديمقراطي الصحيح للمغرب يبدأ بإنشاء‬
‫أحزاب سياسية شعبية قوية ويتم تحديدها في حزبين أو ثالثة أحزاب‬
‫فقط منعا للتشرذم وتمييع العمل السياس ي بأن يخلق النظام أحزابا‬
‫ً‬
‫جديدة عميلة له‪ .‬األحزاب الشعبية الجديدة والقوية هي التي ستتكفل‬

‫]‪[127‬‬
‫بإدارة الجولة الثانية مع النظام للضغط عليه من أجل تحديد نفوذه‬
‫وصياغة دستور جديد يسود فيه امللك وال يحكم ويتم الفصل الحقيقي‬
‫بين السلطات وإرساء عدالة اقتصادية واجتماعية‪ ...‬هذا هو املسار‬
‫ً‬
‫الصحيح‪ ،‬وواجبنا اآلن جميعا أن ندعو إلى الخطوة األولى وهي إسقاط‬
‫األحزاب الحالية وبناء أحزاب جديدة‪.‬‬
‫قاطعني طارق وهو يصرخ بعصبية‪:‬‬
‫‪ -‬من سيسقط األحزاب؟ قوال لي؟! ال أحد في هذه البالد يملك صالحية‬
‫إسقاط األحزاب‪ ،‬حتى امللك نفسه‪ ،‬ال الدستور وال األعراف سيسمحان‬
‫له بذلك‪.‬‬
‫بصبر نافذ يوحي أن النقاش مع طارق يدور في حلقة مفرغة‪:‬‬
‫رد عليه ناصر ٍ‬
‫‪ -‬الشعب‪ ،‬الشعوب التي أسقطت األنظمة والحكومات لن تعجز عن‬
‫إسقاط األحزاب‪.‬‬
‫ضحك طارق بسخرية قبل أن يجيب‪:‬‬
‫‪ -‬الشعب! إن كنت تتكلم عن الشعب التونس ي أو املصري‪ ،‬نعم معك‬
‫حق‪ ...‬أما الشعب املغربي ال تنتظر منه أن يسقط حتى رئيس بلدية‪.‬‬
‫صمت قاتل لم نسمع‬
‫ٍ‬ ‫بعد جواب طارق وضحكته الساخرة حلت علينا لحظات‬
‫فيها سوى صوت لفافة سيجارة طارق وهي تحترق على شفتيه‪.‬‬
‫ً‬
‫بعد أن رمقني أتبادل نظرات اإلحباط مع ناصر قطع صمتنا قائال‪:‬‬
‫‪ -‬اعذراني ال يمكنني االنضمام لكم‪.‬‬
‫رد عليه ناصر بسرعة حينها‪:‬‬
‫‪ -‬لم؟‬

‫]‪[128‬‬
‫افض لفكرة التنظيمات الهرمية‬ ‫‪ -‬أنتم تعرفونني‪ ،‬أنا أناركي بطبيعتي‪ ،‬ر ٌ‬
‫واألحزاب والدولة وكل الكيانات السلطوية التي تقمع حرية الفرد وارادته‬
‫في الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬كفاك طوباوية يا طارق‪ ،‬ستعيدنا لنقاشاتنا القديمة والعقيمة‪ .‬األناركية‬
‫حقبة من التاريخ وانتهت‪...‬‬
‫ٍ‬ ‫ليست سوى حلم راود اإلنسانية في‬
‫‪ -‬لم بذمتك؟ أال يمكن لإلنسان أن يعيش في مجتمع السلطوي ودون قوة‬
‫ً‬
‫قهرية مهيمنة؟ هل اإلنسان دائما في حاجة لحاكم وسيد كي يعيش؟ ِأمن‬
‫املفروض علينا أن نعيش دائما تحت سلطة فرد أو جماعة أو مؤسسات‬
‫تحد من حريتنا اإلنسانية وتفرض علينا نمط حياة قهري؟ أليس املجتمع‬
‫األناركي مشروع إنساني يستحق منا كمثقفين التفكير الجدي وامللتزم؟‬
‫صدقني‪ ،‬وحدها األناركية ستعيد لنا إنسانيتنا وستوقف مسلسل‬
‫العبودية التي نعيشها منذ فجر التاريخ إلى اإلقطاعية‪ ،‬إلى الرأسمالية‬
‫وإلى ما بعد الرأسمالية‪...‬‬
‫قاطعته بقسوة‪:‬‬
‫‪ -‬طارق أنت تراوغ فقط‪ ،‬قل إنك ال تريد االنضمام لنا ألنك تخش ى من‬
‫فشل جديد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫بنظرة قاسية‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫صمت لحظة ثم قال وعيناه تلمعان‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫شخص فاشل‪ ...‬ال أخجل من قول هذا‪ ،‬والفاشل ال يخش ى فشال‬ ‫‪ -‬أنا‬
‫ً‬
‫جديدا‪.‬‬
‫أخذ نفسا عميقا ثم أكمل‪:‬‬
‫‪ -‬اعذراني‪ ،‬القطار سينطلق بعد دقائق‪ .‬إلى اللقاء‪.‬‬

‫]‪[129‬‬
‫بقيت أنا وناصر متسمرين في مقعدينا ونحن ننظر ألصابع طارق وهي تلم علبة‬
‫ً‬
‫السجائر والقداحة من على الطاولة ثم غادر غاضبا‪.‬‬
‫لردة فعله‪ .‬لم أستطع الحديث‪ ،‬التفت لطارق ألراه‬
‫بنظرة استغراب ِ‬
‫ِ‬ ‫رمقني ناصر‬
‫يمض ي بخطى سريعة كعادته عندما يغضب ويجر خلفه آماله التائهة في هذا‬
‫الوجود‪.‬‬

‫]‪[130‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ14‬‬
‫الرباط‪ 0-‬أيلول‪/‬شتنبر ‪8102‬‬

‫ٌ‬
‫جميل لك‪.‬‬ ‫‪ -‬لدي ٌ‬
‫خبر‬
‫أجبتها وأنا أضمها إلى صدري‪:‬‬

‫‪ -‬أخبريني به‪ ،‬أنا في حاجة إلى ٍ‬


‫خبر جميل هذا املساء‪.‬‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬رائحة الخمر تفوح منك بشدة‪ ،‬لم أنت ٌّ‬
‫مصر على تدمير ذاتك؟‬

‫‪ -‬هذا هو ِ‬
‫خبرك الجميل !!‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬اسمع يا سيدي‪ .‬سيزورنا جاكوب‪.‬‬
‫ً‬
‫أجبتها مندهشا‪:‬‬
‫‪ -‬معقول؟ يعقوب كوهين !! كيف تذكرنا؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬اتصل بي صباحا وعاتبني ألننا لم نخبره بمشروع زواجنا ثم قال لي البد‬
‫أن يزورنا ليبارك لنا‪.‬‬
‫حقا ل ٌ‬‫ً‬
‫خبر مفرح‪.‬‬ ‫‪ -‬جميل‪ ،‬إنه‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫نظرت في عيني مليا ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا من بين كل اليهود تحب جاكوب يا طارق؟‬
‫أجبتها وأنا أنزع مالبس ي قبل أن أستسلم لرشاش الدوش الساخن‪:‬‬

‫]‪[131‬‬
‫‪ -‬اسمه يعقوب‪ ،‬إنه يحب أن نناديه يعقوب وليس جاكوب‪ .‬ثم يا جميلتي‪،‬‬
‫وأنت تعرفين هذا‪.‬‬
‫أنا ال مشكل لدي مع اليهود‪ ،‬مشكلتي مع الصهاينة ِ‬
‫ً‬
‫فضال عن كون يعقوب فيلسوف ومفكر يناهض إسرائيل والصهيونية‪...‬‬
‫‪ -‬ويناهض الحركة األمازيغية ويفضح عالقتها باملوساد وإسرائيل‪ .‬أليس‬
‫هذا يروق لكم أنتم القوميون العرب؟‬
‫نظرت لها باستغراب قبل أن أسألها‪:‬‬
‫أت موقفه من الحركة‬
‫عرفت هذا؟ في أي كتاب ليعقوب قر ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬كيف‬
‫األمازيغية؟‬

‫‪ -‬لم أقرأه‪ ،‬سمعته يقول هذا بلسانه األسبوع املاض ي في ٍ‬


‫حوار له مع قناة‬
‫ً‬
‫امليادين‪ ،‬كان ضيفا في برنامج ''من الداخل''‪.‬‬
‫ً‬
‫أجبتها ساخرا‪:‬‬
‫ً‬
‫ينقصك أن تلبس ي الكوفية فقط‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وتتابعين قناة امليادين أيضا !! أصبح‬
‫ردت علي وهي تمدني بفوطة الحمام‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ألنني أحبك وأحب ما تحبه يا غبي‪.‬‬
‫ً‬
‫قهقهت ضاحكا وأنا أدخل للحمام‪ ،‬أدرت الصنبور األحمر للرشاش ليدفع مياهه‬
‫الساخنة لتسقط على جسدي‪ ،‬تصاعدت درجة سخونة املياه لحد ما شعرت‬
‫بأطرافي تحترق‪ ،‬لم أكترث‪ ،‬فالكحول التي تجري بدمائي قادرة على تخفيف األلم‪،‬‬
‫ويا ليتها كانت قادرة على تخفيف ألم القلب ووجع الحياة‪.‬‬
‫تركت جسدي يززلق على أرض الحمام وغرقت في ذكريات قديمة‪ .‬تذكرت ليلى‬
‫عندما كانت تأخذ قطعة الصابون وتدعك ظهري بها‪ ،‬كان حمام عشر دقائق‬

‫]‪[132‬‬
‫يتحول إلى ساعات وساعات‪ ...‬أنا وليلى كنا نصير طفلين متى التقينا‪ٍ ،‬آه يا ليلى‪،‬‬
‫تركت الطفل بداخلي يشيخ برحيلك‪.‬‬
‫لقد ِ‬
‫هل أحتاج أنا اآلخر مسيرة خضراء ألعيدك إلى أحضان قلبي يا ليلى؟ كم من‬
‫الكلمات واألشعار ستزحف إليك في طوابير الحب وشاحنات اآلهات الحمراء كي‬
‫أستعيدك؟! قولي لي‪ ،‬كم من حناجر قلمي سأشحذها لترفع لك أغنية "صوت‬
‫الطارق ينادي بلسانك يا ليلى" ؟‬
‫أو سترضين بال حرب وبال سالح كمعجزة الزمان؟ سترضين فقط بكتاب هللا‬
‫وبطريقي املستقيم‪ ،‬ألصل رحم قلبك بأعالمي؟ أم أنك ستقولين عني جبان ال‬
‫أقوى على املعارك في حضرة الحب !!‬
‫أنا فعال جبان‪ ،‬فكيف لي أن أستجدي عودة امرأة أقرت كل القوانين أنها لي‪،‬‬
‫وحكمت محاكم العدل أن لها بيعة أبدية لي وأنها لم تكن امرأة خالء!! فكيف‬
‫فأصبحت قضية تصفية استعمار وتقرير‬
‫ِ‬ ‫استعمرك رجل آخر‬
‫ِ‬ ‫خنت إذن؟ كيف‬
‫ِ‬
‫مصير؟‬
‫كيف سيحارب قلبي من أجلك وهو متعب بألم الحب الجيوسياس ي ووجع الفصل‬
‫العنصري بين جغرافيتك وتاريخي؟ قولي لي كيف سيقاتل من أجلك وهو مهما فعل‬
‫سيظل جنديا مجهوال في ساحة قلبك؟ كيف له أن يسير في مسيرات خضراء أو‬
‫حمراء وهو مصاب بعمى األلوان؟ أترضين بحكم ذاتي وتعودين لي؟ أم ستتركين‬
‫ً‬
‫القدر يسخر مني ويسميني محتال في هيئة العشاق املتحدة؟ أتراني سأرض ى بقدر‬
‫الخسارة‪ ،‬فالخاسرون في قصص الحب يا ليلى هم الصادقون ‪ ...‬هم دائما‬
‫الصادقون‪.‬‬
‫جاءني صوت أماليا بعد أن قرعت الباب مرتين‪:‬‬
‫‪ -‬طارق؟ طارق؟ ما بك تأخرت في الحمام؟‬

‫]‪[133‬‬
‫‪ -‬ال ش يء أماليا‪ ،‬ال ش يء‪ ...‬ها أنا خارج‪.‬‬
‫ً‬
‫حملت جسدي على الوقوف ولففت عليه فوطة بيضاء ثم خرجت ألشعر بهواء‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الغرفة باردا‪ .‬وجدت أماليا واقفة في انتظاري بجانب السرير تلبس قميصا حريريا‬
‫بالكاد يغطي نصف جسدها العلوي ليترك ساقيها املغريين يغمزان لي ''تعال''‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مررت بجانبها متحاشيا جسدها املفخخ لكن عطرها القوي أرداني قتيال بعد‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫ففتحت ذراعيها قائلة‪:‬‬ ‫خطوة من جسدها‪ ،‬التفت لها‬
‫‪ -‬لقد اشتقت لعناق جسدينا‪ ،‬تعال إلي ألغذيك من أنوثتي‪.‬‬
‫كجائع تتلوى أمعاؤه تحت سياط رذاذ شفتيها ولهيب جسدها‬ ‫ٍ‬ ‫اندفعت إلى حضنها‬
‫أمرغ نفس ي في انحناءاتها متعمدا بزبدها األبيض حتى صرت أشهق وأزفر‬‫املرمري‪ِ ،‬‬
‫هبوطا وصعودا على انحداراتها الوعرة‪ .‬لكن فجأة‪ ،‬بدأ أزيز الرصاص من جديد‬
‫يمأل أذني وصور القذائف ودخان القنابل تتناثر أمام أعيني الغارقة في سفوحها‪...‬‬
‫لجسد أماليا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫حاولت تناس ي تلك الصور واألصوات ولكنها كانت عنيدة ترفض تركي‬
‫وضعت أصابعي في أذني‪ ،‬أغلقت عيني بقوة لكن ما غادرتني فلسطين وحروبها‪.‬‬
‫دفعتني أماليا إلى السرير ثم حطت فوق جسدي كطائرة أباتش ي تحوم حولي‬
‫مستعدة لقصف جيوب املقاومة في جسدي‪ ...‬ملحت نهديها يتقدمان إلى شفتي‬
‫ً‬
‫كدبابتي ميركافا تستعدان لسحق كل ش يء حي في طريقها فانتفضت صارخا في‬
‫وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع‪ ...‬ال أستطيع‬
‫ردت علي مستغربة كالعادة‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك؟ لم ال تستطيع‪...‬؟‬

‫‪ -‬ال أعرف‪ ،‬هناك ش يء بداخلي يمنعني ِ‬


‫منك‬

‫]‪[134‬‬
‫‪ -‬لكنك لم تكن هكذا من قبل؟!‬
‫‪ -‬أعرف‪ ،‬أعرف أنني لم أكن هكذا‪.‬‬
‫جلست على السرير أضغط على رأس ي بكلتا يدي كي تغادرني أصوات القنابل‬
‫واملدافع وصور الحرب وأشالء شهداء فلسطين‪ ...‬يا إلهي ما الذي يجري لي؟ ملاذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحولت حياتي إلى فوض ى وجحيم وجودي؟ ملاذا صار حتى جسدي عبوة ناسفة‬
‫تنتظر مرور أماليا عليها كي تنفجر في وجهي مأساة فلسطين وحروب العرب مع‬
‫إسرائيل؟‬

‫]‪[135‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ15‬‬
‫الدار البيضاء‪ 2-‬أيلول‪/‬شتنبر ‪8102‬‬

‫وصلت متأخرة للقاعة التي ينظم فيها املؤتمر الصحفي األول لحركة نحن نستحق‬
‫بشارع الزيراوي وسط الدارالبيضاء‪ .‬كانت القاعة تعج بالحضور‪ ،‬صحفيين‬
‫بكامراتهم وميكروفوناتهم املختلفة األلوان واألشكال‪ ،‬شباب كثر يحملون الفتات‬
‫وأعالم الحركة ورجال ببذل سوداء ذكروني ببذلة طارق السوداء التي يلبسها‬
‫دائما‪.‬‬
‫توقفت لبرهة آلخذ نفس ي فلمحت ناصر على املنصة يتلو بيان الحركة وبجانبه‬
‫نزهة‪ .‬فجأة وقف بجانبي عزيز‪ ،‬صديقنا القديم‪ ،‬ليسلم علي‪ .‬انشغلت معه في‬
‫حوار خفيف قبل أن أستأذنه في االنضمام إلى رفا ي‪ .‬دخلت متجاوزة الحاضرين‬
‫إلى الصفوف األمامية إلى أن ملحني بركات‪ ،‬فأشار لي أن مقعدي شاغرا بجانبهم على‬
‫يمين املنصة‪ .‬كان يجلس بمحاذاته يوسف وعبد الصمد وبعض املنتسبين للحركة‬
‫في مكتب الدار البيضاء‪.‬‬
‫عندما جلست بعد أن سلمت عليهم‪ ،‬ارتفع في أذني صوت ناصر وهو يقرأ من بيان‬
‫بصوت قوي‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫الحركة‬
‫»…وعليه‪ ،‬فإن ''حركة نحن نستحق''‪ ،‬حركة شبابية أكاديمية واحتجاجية‬
‫مستقلة‪ ،‬تطالب باإلصالح الثقافي وبتخليق وإصالح العمل السياس ي في املغرب من‬
‫خالل حل األحزاب السياسية الحالية وخلق نخب سياسية جديدة ذات مصداقية‬
‫وكفاءة‪ ،‬تؤسس لحياة سياسية خالقة تليق بمستوى تطلعات وعراقة الشعب‬
‫املغربي وتنفتح بشكل حقيقي على كفاءات الشباب‪ .‬تطالب ''حركة نحن نستحق''‬
‫ب أوال‪ :‬تشكيل هيئة وطنية أكاديمية تضم الكفاءات والفعاليات الثقافية‬

‫]‪[136‬‬
‫واملدنية بهدف اإلعداد الستراتيجية وطنية شاملة لإلصالح الثقافي والفكري‬
‫والعلمي باملغرب‪« ...‬‬
‫ما كاد ناصر ينهي هذا املطلب األول حتى اهتزت كل القاعة بالتصفيقات‬
‫والصياح‪ ،‬كان الشباب املتواجد بالصفوف األخيرة أكثر حماسة واندفاعا‪ ،‬رأيت‬
‫كل رفا ي يبتسمون كأن جرعة من الثقة بالنفس واألمل في نجاح حركتنا قد‬
‫تسللت إلى عروقهم‪.‬‬
‫بعد أن هدأت القاعة أكمل ناصر قراءة البيان‪:‬‬
‫ً‬
‫»…ثانيا ‪ :‬تطالب ''حركة نحن نستحق'' بحل األحزاب الحالية وإعادة تشكيلها من‬
‫جديد في إطار قانون أحزاب ينص على ما يلي ‪ :‬أ‪-‬تحديد عدد األحزاب في ثالثة‬
‫أحزاب فقط‪ ،‬تؤسس بانتخاب ديمقراطي مباشر‪ ،‬ب‪-‬إلزامية دمقرطة األحزاب‬
‫داخليا وفتح اآلفاق أمام الشباب لتولي املسؤوليات الحزبية‪.‬‬
‫مبادئ الحركة‪:‬‬

‫تعتقد ''حركة نحن نستحق'' أن الشعب املغربي يستحق نخب سياسية ذات‬
‫كفاءة ومصداقية تخدم مصالحه وتحقق تطلعاته إلى عيش كريم ونهضة‬
‫حقيقية وتحترم أخالقه وقيمه الحضارية‪ .‬في حين تحولت األحزاب السياسية‬
‫عبء ثقيل وعائق أمام إرساء قواعد عمل سياس ي نظيف وناجع‪،‬‬‫الحالية إلى ٍ‬
‫إذ إنها تحولت في األغلب إلى دكاكين تسترزق بالعمل السياس ي وإلى هياكل‬
‫تنظيمية عقيمة تدار بمنطق الوالءات والزبونية واملحسوبية عوض الكفاءة‬
‫واالستحقاق وتنتج الفساد والصراعات الالأخالقية عوض األفكار البناءة‬
‫والبرامج السياسية واالقتصادية واالجتماعية الناجعة‪ .‬ومن هذا املنطلق‪،‬‬
‫ترى ''حركة نحن نستحق'' أن‪:‬‬

‫]‪[137‬‬
‫‪ -‬عزوف الشعب املغربي‪ ،‬والشباب خصوصا‪ ،‬عن العمل السياس ي‬
‫واالنخراط الحزبي‪ ،‬دليل على الخيبات املتراكمة لدى املواطنين املغاربة‬
‫وعدم ثقتهم في النخب السياسية الحالية‪.‬‬
‫‪ -‬األحزاب السياسية الحالية فشلت في استقطاب الشباب املغربي وتأطيره‬
‫وفتح آفاق العمل السياس ي والحزبي له وهو ما جعلها تعيش في حالة‬
‫انعزال تام عن انشغاالت هذه الفئة الحيوية ما قد يهدد بالدنا على املدى‬
‫املتوسط‪ ،‬ال قدر هللا‪ ،‬بموجات تطرف وكبت سياس ي واجتماعي عميق‪.‬‬
‫‪ -‬األحزاب السياسية الحالية‪ ،‬أبانت عن فشلها الكبير في التسيير واملساهمة‬
‫في حل امللفات الكبرى واالستراتيجية للمملكة املغربية وأصبحت تتستر‬
‫وراء برامج ومبادرات امللك‪ .‬كما باتت‪ ،‬في نفس السياق‪ ،‬عاجزة وفاقدة‬
‫للمبادرة باملقارنة مع الجمعيات والفعاليات املدنية التي أصبحت صاحبة‬
‫السبق والقوة االقتراحية في امللفات الحيوية التي يعنى بها الشعب املغربي‪.‬‬
‫‪ -‬التشتت والتجزئة الحزبية التي تعرفها بالدنا ما هي إال نتيجة النسداد‬
‫األفق داخل األحزاب السياسية الحالية وغياب العقلية الديمقراطية‬
‫والتشاركية لدى املتحكمين بهذه األحزاب‪ ،‬مما يجعل هذه األخيرة تلفظ‬
‫على الدوام كفاءاتها وأطرها إلى االنشقاق والشتات‪.‬‬
‫‪ -‬الكم الكبير لألحزاب السياسية الحالية ال يجد له تفسير فكري مبادئي أو‬
‫سوسيوسياس ي وال يرتكز على تعدد املرجعيات الفكرية واإليديولوجية‬
‫فرغ ْت األحزاب من دورها الحقيقي في مناقشة‬‫لدى الشعب املغربي‪ ،‬بل أ ِ‬
‫األفكار واإليديولوجيات وصياغة البرامج السياسية واالقتصادية‬
‫واالجتماعية والثقافية‪ ،‬ناهيك عن الغياب والسبات العميق الذي تعيش‬
‫فيه أحزاب سياسية كثيرة ال يذكر الشعب املغربي حتى أسماءها في الوقت‬

‫]‪[138‬‬
‫الذي تستززف فيه املال العام وتذكي العبثية واالرتجالية في العمل‬
‫السياس ي‪.‬‬
‫‪ -‬األحزاب السياسية الحالية‪ ،‬انزلقت إلى مستوى سياس ي ال يحترم حتى‬
‫ً‬
‫القيم األخالقية والحضارية للشعب املغربي إذ أصبحت مرتعا للصراعات‬
‫املشينة والشتائم الالأخالقية والظواهر الصوتية‪.‬‬
‫‪ -‬األحزاب السياسية الحالية تزخر بكفاءات وطنية كبيرة لكنها مهمشة‬
‫لألسف‪ ،‬خصوصا في صفوف الشبيبات واملؤتمرات الحزبية‪ ،‬وقد آن‬
‫األوان لهذه الكفاءات أن تتحمل مسؤوليتها وتوحد مجهوداتها لتدارك‬
‫تدهور الوضع السياس ي والحزبي وخلق قوة إصالحية تر ى ببالدنا إلى‬
‫مصاف الدول الحضارية‪« ...‬‬
‫عندما توقف ناصر عن تالوة بيان الحركة‪ ،‬عمت القاعة من جديد موجة‬
‫تصفيقات وهتافات‪ ،‬تساءلت مع نفس ي حينها هل سيستقبل الشعب املغربي‬
‫مشروع حركتنا بذات الحماسة أيضا وسينخرط معنا في مسيرة النضال لتحقيق‬
‫مطالبنا‪.‬‬
‫صاح ناصر وهو يلم األوراق التي بعثرت أمامه أثناء خطابه‪:‬‬
‫‪ -‬اسمحوا لي أن أترككم اآلن مع الناطقة الرسمية باسم الحركة والتي‬
‫ستتكلف منذ اآلن بمهمة التواصل مع كل فعاليات الشعب املغربي‪،‬‬
‫أقدم لكم األستاذة نزهة صادق‪.‬‬
‫ً‬
‫تقدمت نزهة بخطوات ثابتة إلى املنصة‪ ،‬مبتسمة وأنيقة كأنثى طاووس تفرد على‬
‫القاعة جمالها وحسن طلتها‪ ،‬في الوقت الذي اتجه فيه ناصر للجلوس بجانبي‬
‫بالقرب من املنصة‪ .‬عندما وقفت نزهة على املنصة اعتلت وجهها مالمح جادة‬
‫وصارمة‪ ،‬ثم قالت بصوت هادئ‪:‬‬

‫]‪[139‬‬
‫‪ -‬مساء الخير‪ ،‬بعد أن تفضل األستاذ ناصر الواعد منسق الحركة بقراءة‬
‫بيان الحركة ومبادئها التأسيسية على مسامع حضراتكم‪ ،‬نفتح املجال‬
‫اآلن لإلجابة على تساؤالت الصحفيين‪ .‬سؤال واحد لكل صحفي من‬
‫فضلكم نظرا لضيق الوقت وللحضور الكبير للصحفيين الكرام‪...‬‬
‫ما كادت تنهي كالمها حتى سقط عليها السؤال األول‪:‬‬
‫‪ -‬ما عالقة حركتكم بحركة ‪ 20‬فبراير؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال عالقة لنا بتاتا بحركة ‪ 20‬فبراير‪ ،‬مبادؤنا ومطالبنا مختلفة‪ ...‬ربما‬
‫قاسمنا املشترك الوحيد أن الحركتين جماهيريتين وتشتركان في نفس‬
‫النهج االحتجاجي الشعبي ونحن أكيد سنستفيد من تجربتها وقد درسنا‬
‫مسبقا وبشكل تحليلي نقدي مسار هذه الحركة املتميزة والشجاعة في‬
‫تاريخ املغرب املعاصر‪.‬‬
‫ثم تقاطرت عليها األسئلة فيما بعد‪ ،‬وهي ترد بذكاء وبصراحة كبيرة‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيكم في امللكية؟ هل تريدون ملكية برملانية؟‬
‫‪ -‬حركة نحن نستحق ليست بحركة أيديولوجية وال حزبية وبالتالي ليس‬
‫لها أي رأي إطالقا في نظام الحكم باملغرب وليس لها موقف من شكل‬
‫امللكية الذي يجب العمل به‪ .‬هدف الحركة هو تشكيل نخب سياسية‬
‫جديدة‪ ،‬حقيقية‪ ،‬قوية ونزيهة‪ ...‬هذه النخب الجديدة هي التي سيكون‬
‫بإمكانها النظر في املستقبل في شكل نظام الحكم وموقع امللكية‪.‬‬
‫‪ -‬هل تظنون فعال أن الحل من أجل اإلصالح السياس ي باملغرب هو حل‬
‫األحزاب الحالية؟ وهل بإمكانكم فعال إسقاط األحزاب؟‬
‫‪ -‬الحقيقة التي نؤمن بها في حركة نحن نستحق هي أن األحزاب الحالية ال‬
‫يمكنها أن تقوم باإلصالح السياس ي الحقيقي الذي يتطلع إليه الشعب‬

‫]‪[140‬‬
‫املغربي وقد ظهر ذلك بشكل جلي للشعب املغربي‪ ،‬استنفذنا سنوات‬
‫طويلة وضيعنا أجياال كثيرة من شعبنا دون أن نصل إلصالح جذري‬
‫وحقيقي‪ .‬األحزاب السياسية الحالية إرادتها مصادرة وتحولت في الغالب‬
‫إلى دكاكين لالسترزاق السياس ي فضال عن كونها أصبحت معزولة‬
‫ً‬
‫شعبيا‪ .‬نحن نعتقد أن الخطوة األولى في طريق اإلصالح السياس ي هي أن‬
‫يوصل الشعب املغربي كفاءات سياسية جديدة‪ ،‬نزيهة‪ ،‬قوية وذات‬
‫مصداقية شعبية إلى الحكم‪ ،‬هذه الكفاءات والنخب السياسية‬
‫الجديدة هي التي ستتكفل فيما بعد بتنفيذ با ي الخطوات في مسلسل‬
‫ً‬
‫اإلصالح السياس ي واالقتصادي والثقافي أيضا‪ .‬بخصوص الشق الثاني‬
‫من السؤال أقول‪ ،‬إسقاط األحزاب ليس باألمر الصعب‪ ،‬هناك شعوب‬
‫أسقطت أنظمة وأقامت ثورات‪ ،‬ال أظن أن الشعب املغربي سيعجز أمام‬
‫حفنة أحزاب متآكلة وال قواعد شعبية حقيقية لها‪.‬‬
‫‪ -‬هل ستبدؤون باالحتجاج في الشارع على الطريقة املصرية والتونسية‬
‫لحل األحزاب وتنفيذ مطالبكم؟‬
‫وملء‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬سنبدأ أوال بتوعية الشعب بمطالبنا من خالل توزيع مناشير‬
‫استمارات االنضمام للحركة‪ ،‬كما أننا سنوصل مطالبنا ملن يهمهم األمر‬
‫عن طريق الحوار واإلقناع‪ ،‬في النهاية التصعيد لن يخدمهم‪ .‬وفي حين‬
‫استنفاذ كل الوسائل أكيد سنززل للشارع وبقوة‪.‬‬
‫بينما كانت نزهة تواصل أجوبتها عن أسئلة الصحفيين‪ ،‬أخفض ناصر رأسه‬
‫ً‬
‫باتجاهي قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا قال لك ذلك الخائن‪ ،‬لقد ملحتك تتحدثين معه؟ أال يريد أن يتركنا‬
‫بسالم؟‬
‫قلت له مستغربة‪:‬‬

‫]‪[141‬‬
‫‪ -‬تقصد عزيز؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬عزيز الخائن‪...‬‬
‫‪ -‬جاء ليسلم علي‪ ،‬ويحيينا على مشروع حركة نحن نستحق‪ ،‬قال لي إنه‬
‫سعيد لرؤية رفاقه القدامى يحاولون تغيير الوضع السياس ي باملغرب‬
‫ويقدمون البدائل النضالية‪.‬‬
‫ضحك بسخرية قبل أن يقول لي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬احذري من ذلك الخائن يا ليلى‪ ،‬لقد جاء حتما ليتجسس علينا لصالح‬
‫النظام‪.‬‬
‫ً‬
‫بينما كنت أنظر إليه مبتسمة‪ ،‬تجمع حولنا الصحفيون بعد انتهاء نزهة من‬
‫األجوبة على أسئلتهم‪ .‬بدأوا في أخذ الصور لنا ونحن واقفين نمسك يدا بيد وفي‬
‫قلبنا أمل كبير لتحقيق تطلعات هذا الشعب في رؤية وطن يحترم حرية وكرامة‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫]‪[142‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ16‬‬
‫الرباط‪ 1-‬أيلول‪/‬شتنبر ‪8102‬‬

‫اسمك يسكن الجرائد وكل وسائل اإلعالم‪ ،‬كأنه يتربص بي أينما‬ ‫ِ‬ ‫ها قد أصبح‬
‫نجحت في‬
‫ِ‬ ‫نجحت إذن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫رحلت ليعيدني إلى شريط ذكريات األمس التي ال تغادرني‪.‬‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫لك بعيدا عني‪ ،‬كأن لعنة النضال ولعنة املبادئ كتبتا بإسمي‬‫أول مشروع نضال ِ‬
‫ً‬
‫فقط‪ .‬هل فعال سيصبح وطننا كما نستحق؟ وستملؤونه مظاهرات واحتجاجات‬
‫ً‬
‫لتزيلوا النخب القديمة من معابد السياسة التي باعت لنا دينا سقيما أعيا تاريخ‬
‫الوطن؟‬
‫قالت لي مها همسا وهي تقرب شفاهها من أذني‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيك أن تقرأ لي قصيدة من نسج خيالك يا شاعر؟ لم أسمع منك‬
‫شعرا منذ زمن‪...‬‬
‫‪ -‬هذا ليس وقت الشعر يا مها‪ ،‬إنه وقت الحرب‪ .‬الحرب تعلن في كل مكان‬
‫وعلى كل ش يء‪ ،‬حتى على الشعر واألدب‪.‬‬
‫‪ -‬الحرب لن تستطيع قتل الشعر والحب‪ .‬الحب هو البذرة التي تخرج منها‬
‫الحياة والشعر هو املاء الذي يسقيها‪.‬‬
‫لت تحلمين يا ماهي‪ ،‬انظري لهذا الجيل الذي ضيع معاني الحب أصبح‬ ‫‪ -‬الز ِ‬
‫يلهث وراء الجنس واللهو والعالقات العابرة الفارغة من كل األحاسيس‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الجميلة‪ .‬انظري للشعر الذي أصبح غريبا منبوذا ال يقرأ إال في املقررات‬
‫املدرسية‪ .‬هذا ليس زمن درويش ونزار قباني وجبران يا مها هذا زمن‬
‫الكالشنكوف وداعش وكيم كارديشيان‪.‬‬

‫]‪[143‬‬
‫سكتت لدقائق طويلة ثم قالت لي بجرأة‪:‬‬
‫‪ -‬أتعرف ماذا أشتهي اآلن؟‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬أن أقض ي ليلة معك‪ ،‬أريد أن أمتلك ما لم تستطع امرأة أخرى امتالكه ‪...‬‬
‫ضحكت ساخرا من كالمها قبل أجيبها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لألسف‪ ،‬لم تترك لك األخريات شيئا تملكيه في‪ ،‬فقد صرت أطالال خاوية‬
‫يا عزيزتي‪.‬‬
‫‪ -‬عيناك تكذبانك‪ ،‬عيناك تقوالن لي أن لك سماوات لم تحلق فيها امرأة‬
‫قبلي‪.‬‬
‫تجاهلت كلماتها املغرية بإشعال سيجارة جديدة‪ ،‬لكنها ظلت تبحلق في عيني‬
‫بإصرار ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا قلت؟‬
‫في هذه اللحظة سقطت أماليا في فكري‪ ،‬تذكرت أن أمها ستحضر اليوم إلى املغرب‬
‫لتعينها في تحضيرات زواجنا‪ .‬أجبت مها بقسوة‪:‬‬
‫‪ -‬قلت إن كأس ي قد فرغ منذ لحظات‪...‬‬
‫انصرفت مها غاضبة من أمامي‪ ،‬ألترك بصري يتوه في مرقص املطعم بين األجساد‬
‫الراقصة‪ .‬ملحت رجاء الغالي من جديد ترقص كحورية بثوبها األسود وتنظر إلي‬
‫ً‬
‫وكأنها تغريني بالرقص على شواطئها هذا املساء‪ .‬آه يا رجاء‪ ،‬أنا لم أعد قادرا على‬
‫الدخول في حياة امرأة جديدة‪ ،‬صرت أخش ى محادثة امرأة جديدة وأنا املسكون‬
‫بأطالل امرأة قديمة‪.‬‬

‫]‪[144‬‬
‫جسدك باألشواك‪ ،‬بالحديد‬
‫ِ‬ ‫حاصرونك الليلة دوني‪ ،‬يسيجون‬
‫ِ‬ ‫أينك يا ليلى؟ فهم ي‬
‫ِ‬
‫أرضك ذاك‬
‫ِ‬ ‫بك دوني عذر ْاء؟ أتتذكرين وأنا ألج‬
‫دونك الجئ‪ ،‬وما ِ‬‫والنار‪ .‬ما بي ِ‬
‫الرمل على نهود‬
‫ِ‬ ‫املساء املعطر بتوابل السماء؟ أتتذكرين عزف‬
‫ِ‬ ‫املساء؟ ذاك‬
‫الصحراء؟ حين كنت تعدين كفني ألبعث من جديد في جوفك‪ ،‬حين تضاربتْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫شفتيك‪ ،‬األسود يفاوض األبيض واألحمر يغري األخضر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫األلوان على‬
‫ٌ‬
‫أخرس‬ ‫الحب تجن؟ ‪ ...‬ال تجبني يا أنا‪ ،‬فأنت‬ ‫وما بك يا طارق تحن؟ وما بك‬
‫بعلقم ِ‬
‫ِ‬
‫ثوب أسودٌ‬
‫أصم من اإلشارات وال حواس لك‪ ،‬ال ليل لك سوى ٌ‬ ‫من اإلجابات‪ٌّ ،‬‬
‫تلبسه عشيقتك األولى في دروب الغروب‪ ،‬عندما ينتصب الليل أمام شفتي النهار‪،‬‬
‫فيكون لهم ليلهم ويبقى نهارك إلى األبد‪.‬‬
‫يا أيها األبد‪ ،‬يا أيها األبد لم ال أبد لك في حكايات الحب السقيمة؟ لم أحلت‬
‫قصصك إلى أساطير القبائل القديمة؟ ‪ ...‬لم تزف كل العشاق إلى مدرج النهايات‪،‬‬
‫كقدر يستعجل الرحيل؟ ‪ ...‬ولم النهايات شهادة وفاتك‬ ‫ٍ‬ ‫حيث طائرة الرحيل تربد‬
‫اللعينة؟ ولم الطائرات تلبس لنا األبيض في نهاياتنا السريعة؟ أما كانت ستكون‬
‫ً‬
‫بك'' كعشيقتي‬‫مغرية وهي سوداء سواد النهايات؟ ألم تقرأ هي األخرى ''األسود يليق ِ‬
‫األخيرة؟‬

‫]‪[145‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ17‬‬
‫الدار البيضاء‪ 02-‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪8102‬‬

‫يوم تنطلق فيه مظاهرات حركة نحن نستحق بعد أن استطعنا جمع‬ ‫هذا أول ٍ‬
‫مليوني استمارة للمطالبة بحل األحزاب الحالية‪ .‬يوم أحد مشمس يحمل في جوه‬
‫األمل ونسمات الحياة الجميلة‪ .‬عند التحا ي بمجموعة الرفاق في صباح هذا اليوم‬
‫بمقهى أوديسا وسط املدينة رأيت أن شوارع الحسن الثاني وساحة األمم املتحدة‬
‫قد غصت باملتظاهرين من كل الفئات العمرية‪ ،‬يحملون الشعارات والالفتات‬
‫ً‬
‫وتعلو مالمحهم األمل والعزيمة‪ .‬دبت بي حماسة وأنا أصافح الرفاق باملقهى قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬يبدو أننا سنكسر عظام النظام في أول ٍ‬


‫يوم يا رفاق‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكل كان مبتسما ومتحمسا إال ناصر الذي رد علي بارتباك‪:‬‬
‫استك االستراتيجية للحركة يغلب عليها التفاؤل يا‬
‫‪ -‬أخش ى أن تكون در ِ‬
‫ً‬
‫ليلى‪ .‬هل سننجح حقا؟‬
‫أجبته بكل ثقة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كررت على مسامعي هذا السؤال ألف مرة يا رفيق‪ .‬اسمع هتافات‬
‫الناس‪ ،‬انظر إلى ساحة األمم وشارع الحسن الثاني وأنت تعرف الجواب‪.‬‬
‫أردفت بعد أن ملحت عيون نزهة ويوسف يبحثون في كالمي عما يشجعهم أكثر‬
‫ويزيدهم ثقة‪:‬‬
‫‪ -‬في األشهر املاضية استطاعت حركتنا من خالل اإلعالم والتعبئة تشكيل‬
‫قاعدة شعبية كبيرة ستتوسع مع تراكم املحطات النضالية وتطوير‬
‫أساليب التظاهر واالحتجاج‪.‬‬

‫]‪[146‬‬
‫فرصة للتشاؤم‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قال ناصر كمن يبحث فقط عن‬
‫‪ -‬الدار البيضاء وحدها ال تكفي‪ ،‬يجب أن تغوص كل املدن باملظاهرات يا رفيقتي‪.‬‬
‫ً‬
‫ردت عليه نزهة متحفزة‪:‬‬
‫‪ -‬مشوار امليل يبدأ بخطوة يا ناصر‪ ،‬هيا لنبدأ خطوتنا األولى‪.‬‬
‫ْ‬
‫أكملت بعد أن نظرت إلى ساعتها‪:‬‬ ‫ثم‬
‫‪ -‬يجب أن نلتحق باملظاهرات إنها العاشرة اآلن‪.‬‬
‫قبل أن نغادر املقهى سألت ناصر عن بركات وعبد الصمد فأخبرني أن بركات يقوم‬
‫هو ولجنته بضبط مسار املظاهرة والشعارات املرفوعة فيها أما عبد الصمد‬
‫فيقوم بتوزيع املنشورات والالفتات‪ .‬في طريقنا إلى املظاهرة التفت ناصر إلى‬
‫ً‬
‫يوسف ونزهة ليطلب منهما أن يتفرغا لإلجابة على أسئلة الصحفيين ناصحا‬
‫إياهما بأن تكون أجوبتهما مقتضبة ومتحفظة في انتظار البيان الرسمي للحركة‬
‫هذا املساء‪ ،‬فضربته بكتفي ممازحة‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا‪ ،‬ألن تكلفني بمهمة يا زعيم؟‬
‫ابتسم ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬أنت يا مخططة‪ ،‬مهمتك أن تبقي بجانبي وتراقبي كل صغيرة وكبيرة في املظاهرة‪.‬‬
‫أردف بعد أن اعتلت مالمحه ملحة جد وصرامة‪:‬‬
‫‪ -‬النظام خبيث‪ ،‬علينا أن ندرس تحركات قوات األمن وسلوك أعوان‬
‫النظام كي نستنتج طريقة تفكيره يا ليلى‪ .‬فهمتني؟‬
‫‪ -‬فهمتك يا رفيقي‪ ،‬يكون خير إن شاء هللا‪.‬‬

‫]‪[147‬‬
‫بمجرد التحاقنا بمقدمة املظاهرة وتعرف الناس علينا حتى صاحت كل الجماهير‬
‫عال يصدح في كل أرجاء وسط الدار البيضاء ''الشعب يريد إسقاط األحزاب''‪.‬‬
‫بصوت ٍ‬
‫انطلقت املظاهرة بكل حماسة من ساحة األمم املتحدة في اتجاه شارع محمد‬
‫الخامس‪ .‬في الصف األول تشابكت أيدي ناصر ونزهة ويوسف وأنا مع أيادي بقية‬
‫ً‬
‫املتظاهرين الذين كانوا يصرخون بمل ِء حناجرهم بإسقاط األحزاب‪ ،‬كانوا شبابا‬
‫وشيوخا ونساء تظهر على محياهم مالمح الغضب ونفاذ صبر مما يعيشه الوضع‬
‫السياس ي املغربي‪.‬‬
‫كنت في كل مرة ألتفت فيها للخلف ألرى مدى املظاهرة كانت تبدو لي صفوف‬
‫املحتجين بال نهاية‪ ،‬متراصة بانتظام وعلى الجنبات انتشرت كاميرات وسائل‬
‫اإلعالم والصحفيين وبعض رجال األمن الذين بدأوا يخففون تواجدهم بشكل‬
‫كبير مع تقدم املظاهرة في مسارها‪.‬‬
‫عند وصولنا ساحة السوق املركزي‪ ،‬اعتلى ناصر الشاحنة التي كانت تحمل‬
‫مكبرات الصوت أمام املظاهرة‪ .‬بمجرد ما أمسك مكبر الصوت حتى سر ْت موجة‬
‫هدوء وترقب في صفوف املتظاهرين في انتظار ما سيقوله ناصر‪ .‬في تلك اآلونة‬ ‫ٍ‬
‫ملحت بركات يجري وسط الصفوف ليطلب من املتظاهرين إنزال شعارات ال‬
‫عالقة لها بمطالب الحركة‪.‬‬
‫ً‬
‫ظل ناصر صامتا لدقائق وهو ينظر لجنبات املظاهرة‪ ،‬خشيت أن يكون قد أصابه‬
‫االرتباك قبل أن يصيح بصوته الجهوري الذي ذكرني بأيام نضالنا في الجامعة‪:‬‬
‫‪ -‬عالش جينا اليوم؟‬
‫ً‬
‫رد املتظاهرين بصوت تقشعر له األبدان حماسة‪:‬‬
‫‪ -‬إلسقاط األحزاب‪ ،‬إلسقاط األحزاب‪.‬‬

‫]‪[148‬‬
‫كرر ناصر عبارته أكثر من مرة وردت عليه الجماهير في كل مرة بحماسة أكبر‪ ،‬قبل‬
‫كنسر معلق في السماء ليحفز املتظاهرين‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أن يصيح ناصر‬
‫‪ -‬هاد البالد حنا ماليها‪ ،‬ما غاديش يديروا فيها ما بغاو‪ .‬حنا ماش ي بهايم وهداك‬
‫ماش ي مول البالد‪ ،‬وحنا ماش ي عبيد وهادوك ماش ي أسياد‪ .‬عاش الشعب‪،‬‬
‫عاش املغرب اللي بغيناه ديمقراطي ديال بصح ماش ي الديمقراطية ديال‬
‫األوراق والهضرة الخاوية‪ ،‬بغينا سياسيين يشرفوا الشعب ويدافعوا عليه‬
‫ماش ي يشفروا البالد ويتآمروا علينا‪ .‬عالش جينا اليوم؟‬
‫ورددت الجماهير من ورائه‪:‬‬
‫‪ -‬إلسقاط األحزاب‪ ،‬لإلسقاط األحزاب‪...‬‬
‫ظلت الجماهير تردد شعار إسقاط األحزاب بقوة واملظاهرة تتقدم في اتجاه ساحة‬
‫الياسر بآخر شارع محمد الخامس‪ .‬قبل أن نصل الساحة التحق بنا بركات يمأله‬
‫ً‬
‫الحماس قائال‪:‬‬
‫‪ -‬تخيلوا املظاهرة يفوق عددها ‪ 500‬ألف‪ ،‬نصف مليون يا رفاق‪ ،‬نصف‬
‫مليون‪...‬‬
‫ً‬
‫سأله ناصر فرحا‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا عن بقية املدن؟‬
‫رد عليه بركات وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة‪:‬‬
‫‪ -‬كل التنسيقيات أكدت لي أن التظاهرات كبيرة في الرباط ومراكش وفاس‬
‫وأكادير وطنجة وكل التظاهرات منظمة ومتماسكة‪.‬‬
‫من فرط الحماس أخذ ناصر يعانق بركات مثنيا عليه قبل أن يأمره بالعودة إلى‬
‫عمله رفقة لجنته‪ .‬التفت لززهة وجدتها غارقة في حوارات مع الصحفيين وهي‬

‫]‪[149‬‬
‫ً‬
‫تتصبب عرقا ومالمح التعب بادية على وجهها‪ .‬فجأة مال رأس ناصر اتجاه أذني‬
‫وصرخ كي أسمع كالمه وسط الضوضاء‪:‬‬
‫ً‬
‫الحظت شيئا يا ليلى؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هل‬
‫قبل أن أجيبه سقطت في بالي فكرة أن أكتب له على ورقة كي ال يسمع أحد ما‬
‫سأقول له‪ ،‬فأخذت قلما وورقة من حقيبتي وكتبت له‪:‬‬
‫‪ -‬النظام ذكي‪ ،‬ترك املحالت واملتاجر في الشارع مفتوحة في املقابل أوقف‬
‫الترامواي وسحب قواته األمنية بالتدريج‪ .‬إنه يخطط لبث الفوض ى في‬
‫املظاهرة وتلطيخ صورة املحتجين‪ .‬أكيد أن عمالءه مدسوسون بيننا‬
‫اآلن‪ .‬علينا أال نطيل زمن املظاهرة‪.‬‬
‫وضعت الورقة في يد ناصر ثم قرأها بتمعن قبل أن يضعها في جيبه‪ .‬انشغل في‬
‫التفكير للحظات‪ ،‬ثم أخفض رأسه مرة أخرى ليقول لي‪:‬‬
‫‪ -‬أقترح أن تصل املظاهرة إلى أمام محطة القطار‪.‬‬
‫‪ -‬ال يا رفيق‪ ،‬إنها املظاهرة األولى للحركة يجب أن تنتهي بصورة جيدة‬
‫ومتماسكة‪ ،‬لذلك عليها أن تكون مقتضبة‪...‬‬
‫ً‬
‫هز رأسه موافقا ثم قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬سننهي املظاهرة في ساحة الياسر‪.‬‬
‫كانت مظاهرة هذا اليوم مفتاح النصر األول لحركتنا‪ ،‬أصبحت مطالب حركة نحن‬
‫نستحق على كل لسان وأصبحت تشغل وسائل اإلعالم الوطنية والدولية وغدونا ال‬
‫نبرح القنوات واإلذاعات كي نشرح للشعب مطالبنا ونضغط على النظام أكثر‪.‬‬
‫استمرت مظاهرات الحركة ألكثر من شهرين‪ ،‬تضامنت معنا خاللها شبيبات‬
‫ً‬
‫األحزاب وتفهمت أحزاب اليسار الراديكالي مطالبنا داعية إلى تشكيل أحزاب‬

‫]‪[150‬‬
‫جديدة وإصالح املنظومة السياسية بشكل جذري‪ ،‬فيما ظل النظام ومعه قيادات‬
‫بقية األحزاب صامتين يعدون لنا خطوتهم املفاجأة‪.‬‬

‫]‪[151‬‬
‫هاديس ْ‬

‫]‪[152‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ18‬‬
‫الرباط‪ 81-‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪8102‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫في مطعم لوكراند كومبتوار جلست هذا املساء أيضا أقلب ذكرياتي ‪ ...‬تارة أخطف‬
‫نظرة على شاشات التلفاز عس ى أن أرى ليلى ضيفة على أخبار املساء تتحدث عن‬
‫''حركة نحن نستحق'' وتارة أخرى أستمتع بالنظر إلى مها وهي تلبي طلبات الزبائن‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بدت لي هذا املساء مختلفة‪ ،‬جميلة أكثر لكنها حزينة أكثر أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫رميت نظري على زبائن املطعم‪ ،‬بدوا جميعا حزينين هم اآلخرين تائهين بين‬
‫كؤوسهم ووجبات العشاء التي يأكلونها وسط نزف الذكريات‪ .‬على الطاولة التي‬
‫تجلس عليها عادة رجاء الغالي وصديقاتها كان يجلس رجل خمسيني يحتس ي فنجان‬
‫قهوة على مهل بجانب سيدة من عمره‪ ،‬خمنت أنها زوجته‪ .‬ذكرني مشهدهما‬
‫باللحظات الجميلة التي كنت أشرب فيها قهوة الصباح إلى جانب سلوان بقطاع‬
‫غزة‪.‬‬
‫لم ِأع ما أفعل حينها‪ ،‬جرفني تيار الذكريات ألركب رقم سلوان على هاتفي دون أن‬
‫أفكر وفي تلك اللحظات التي سمعت فيها رنين الهاتف‪ ،‬تصاعدت دقات قلبي تباعا‬
‫حتى كاد يتوقف عند سماع صوتها الدافئ كعادته لكنه يحمل نبرة عتاب هذه املرة‪:‬‬
‫‪ -‬تذكرتني لتوك‪...‬‬
‫ْ‬
‫ألتذكرك يا سلوان‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لم أنس ِك‬
‫‪ -‬اشتقتك يا طارق‪ ،‬كل ش يء في فلسطين اشتاق لك‪ ،‬حتى أزيز الرصاص‬
‫يشتاق لعزف أجمل السمفونيات لك‪.‬‬

‫]‪[153‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬سأعود قريبا يا سلون‪ ،‬سأعود ألشرب قهوة الصباح إلى جانبك وألتحف‬
‫بندقيتي في املساء‪.‬‬
‫‪ -‬لن تجدني عندما تأتي‪ ...‬يبدو أنك ال تعلم ما يجري في غزة وما جرى‬
‫لرفاقك‪.‬‬
‫شعرت بانقباض في صدري وأنا أسمع كلماتها األخيرة‪ ،‬بدا صوتها حزينا كأنها‬
‫فعل ما يحزنها‪ ،‬لم أعرف عم تتحدث‪ .‬فسألتها بانفعال‪:‬‬
‫ستقدم على ٍ‬
‫‪ -‬ماذا تقصدين يا سلوان؟ ماذا هناك‪.‬‬
‫‪ -‬ال تشغل بالك اآلن‪ ،‬ليس هذا وقت الشرح ‪...‬‬
‫صمتت لحظة ثم أردفت‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬ملاذا يأتي الحب مغلفا بطعم الخوف والهزيمة؟‬
‫ً‬
‫أجبتها مستسلما لسؤالها‪:‬‬
‫‪ -‬ألننا نخاف أن نفقد من نحب ونخش ى من أقدارنا املجنونة أن تهزم فينا‬
‫آمال الحب‪ ...‬هذا هو الحب يا عزيزتي‪ ،‬ال يأتي كامال‪.‬‬
‫‪ -‬القدر ذاته ال يأتي كامال يا طارق‪ .‬القدر كما الحياة ينقصهما أشياء كثيرة‬
‫كي يكونا جديرين بالوجود‪ .‬قدري كفلسطينية ينقصه وطن وقدري‬
‫كامرأة ينقصه أنت‪.‬‬
‫‪ -‬لو تعلمين كم ينقصني أنا يا سلوان‪ ،‬ينقصني وطن ينتمي لي كما أنتمي‬
‫حلم يعيد الحياة لسكة األمل‪ ،‬وينقصني الحب ملجأ‬ ‫إليه‪ ،‬ينقصني ٌ‬
‫الالجئين‪ ،‬ينقصني الطفل الذي ضيعته في زحمة اآلمال املنكسرة‪ ،‬هل‬
‫بوسعي يا سلوان أن أشفى من وجع الحياة؟‬
‫‪ -‬لم ال تنس ى كل ش يء وتبدأ من جديد‪...‬؟‬

‫]‪[154‬‬
‫‪ -‬في كل مرة أحاول فيها النسيان أنتهي من جديد‪...‬‬
‫سمعتها تقول بصوت موغل في الحزن‪:‬‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬لن نلتقي مجددا‪ ،‬لكنني سأنتظرك‪ ،‬سأنتظرك مع كل شهداء‬
‫الوطن‪...‬‬
‫‪ -‬سلوان‪ ،‬ماذا تقصدين؟‬
‫‪ -‬سأتركك اآلن‪ ،‬اعتني بنفسك‪.‬‬
‫ً‬
‫مهل وأنا‬
‫وقطعت الخط تاركة إياي لجمر التخمينات التي غزت قلبي لتحرقه على ٍ‬
‫أتذكر كل لحظاتي معها‪ .‬تساءلت مع نفس ي أين ستذهب سلوان؟ ملاذا قالت لن‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫شعور باالنقباض يتوغل في داخلي أكثر وأكثر إلى أن سمعت‬ ‫نلتقي مجددا؟ بدأ‬
‫نغمات عزف العود للثالثي جبران تجتاح مسامعي وتحيل ناري إلى رماد يقتات من‬
‫نغمات العود الحزينة‪.‬‬
‫التفت إلى مها‪ ،‬كانت تنظر إلي بعينيها الصافيتين وعلى شفتيها الكرزيتين ابتسامة‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫ولهى‪ .‬قلت لها مبتسما أنا أيضا‪:‬‬
‫وضعك هذه املوسيقى‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬شكرا ِ‬
‫لك على‬
‫ردت علي بصوتها العذب‪:‬‬
‫‪ -‬ملحتك حزينا تناجي كأسك‪ ،‬فتذكرت هذه املقطوعة التي تعجبك‪.‬‬
‫‪ -‬نعم هي تعجبني‪ ،‬لكنها توغل بسامعها في أعماق الحزن وتعزف على أوتار‬
‫الوجع‪...‬‬
‫‪ -‬لذلك اإلخوة جبران أطلقوا عليها اسم شجن‪.‬‬
‫ً‬
‫أومأت لها برأس ي قائال‪:‬‬

‫]‪[155‬‬
‫‪ -‬يجب عليك أن تسمعيها وهي ترافق صوت درويش وهو يقرأ قصيدة‬
‫انتظرها‪ ،‬فعال تحفة‪.‬‬
‫أدارت ظهرها لترص الكؤوس على فيترينا الكومبتوار‪ ،‬ثم جاءني صوتها مدندنا‬
‫بقصيدة درويش‪ ،‬كأنها تهديني كلماته التي حفظتها مع أنغام الثالثي جبران‪:‬‬
‫بالالزورد‪ ،‬انتظرها‬
‫ِ‬ ‫بكأس الشراب املرصع‬
‫على بركة املاء حول املساء وزهر الكولونيا‪ ،‬انتظرها‬
‫بصبر الحصان املعد ملنحدرات الجبال‪ ،‬انتظرها‬
‫بذوق األمير الرفيع البديع‪ ،‬انتظرها‬
‫بنار البخور النسائي ملء املكان‪ ،‬انتظرها‬
‫صمت عدت فيها لتأمل زبائن املطعم‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قالت لي وهي تقف أمامي بعد لحظة‬
‫‪ -‬هل ستنتظرها أنت؟‬
‫ً‬
‫سألتها مستغربا‪:‬‬
‫‪ -‬من سأنتظر؟‬
‫‪ -‬أنا؟‬
‫‪ -‬ملاذا؟ أين ستذهبين؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬سأرحل إلى إيطاليا‪ ،‬لقد أخبرتني أختي أنها وجدت لي أخيرا عقد ٍ‬
‫عمل‬
‫هناك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تساءلت في نفس ي مستغربا‪ ،‬ما الذي يجري هذه الليلة؟ الكل يودعني مغادرا‪ ...‬لقد‬
‫ً‬
‫تحولت إلى محطة يغادرها الجميع بعد حضور قطار الرحيل‪ ...‬قلت لها شاردا وأنا‬
‫أفرغ ما تبقى من كأس ي في فمي‪:‬‬

‫]‪[156‬‬
‫‪ -‬ألف مبروك يا مها‪.‬‬
‫بصوت حزين‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ظلت تحدق في عيني طويال قبل أن تقول لي‬
‫‪ -‬هذا آخر مساء لي في املطعم‪.‬‬
‫لم أستطع النظر في عينيها‪ ،‬كانت عيناها تعزف أغنية وداع قديمة‪ ،‬رأيتها في مالمح‬
‫الكثيرين وهم يقفون في طوابير الرحيل أمامي‪ ...‬تركت شفتي تهذيان بكلمات ال‬
‫يسمعها إال قلبي هذا املساء‪:‬‬
‫ً‬
‫بعدك هنا يا مها إال الهواجس‪ ،‬تغزلني كالصوف معطفا لرحيلك‬ ‫ِ‬ ‫''‪ ...‬ال مكان لي‬
‫وكلمات وصور‪ .‬ال مكان لي أمام‬ ‫ٍ‬ ‫شرنقة القدر‪ ،‬أنسج ِك ذكريات‬ ‫ِ‬ ‫وكالحرير في‬
‫ليك وتسوقني إلى مقصلتي‪،‬‬ ‫شفاهي إ ِ‬
‫ِ‬ ‫كؤوس الخمر دونك‪ ،‬فهي تسرق القبل من‬
‫شفتيك‪ ،‬فأنا األول في الغرام واألصل في حكايات كل‬
‫ِ‬ ‫شفتيك‪ ...‬أنا وإن كنت لقيط‬
‫ِ‬
‫الرجال‪ .‬تراني من أعشق اآلن؟ ليلى‪ ،‬سلوان‪ ،‬مها‪ ،‬أماليا‪ ...‬هذا هو سؤالي املعتق‬
‫وأخسر حتى أ ْدمى‬
‫أخسر ِ‬ ‫نرد مغشوش‪ِ ،‬‬ ‫في خوابي الذكريات وعمري املكتوب بلعبة ٍ‬
‫رجل أخلد ملن توجد اآلن في أمسيات الوجود‬ ‫على صفحات القدر من الخواء‪ .‬أنا ٌ‬
‫ركام القدر وتراتيل الغياب‪'' ...‬‬
‫وأحن لتلك التي تختبئ وسط ِ‬
‫رفعت رأس ي ألجدها ماتزال متسمرة أمامي‪ ،‬كأنها تسجل كل تفاصيلي قبل أن‬
‫ترحل‪ .‬قالت لي وكأنها تتعمد إيالمي‪:‬‬
‫‪ -‬سأشتاق لك‪...‬‬
‫لم أفهم الشعور الذي خالجني في تلك اللحظة‪ ،‬وجدتني فقط أطفئ سيجارتي‬
‫وأقول لها‪:‬‬
‫ً‬
‫عرضك لي بالرقص على أنغام زهرة هندي قائما؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أالزال‬
‫ْ‬
‫نظرت إلي طويال وهي تغالب الججل على وجنتيها‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬

‫]‪[157‬‬
‫‪ -‬في شقتك؟‬
‫ابتسمت لها مع إماءة من رأس ي‪ ،‬قلت لها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬فليكن‪ ،‬اذهبي لتأخذي حساب نهاية خدمتك وتعالي نقيم عرسا‬
‫لرحيلك‪ ،‬فبقلبي آالف الكمنجات تعشق العزف على نغمات الرحيل‬
‫ِ‬
‫ونوتات الوداع‪.‬‬
‫اشة ترقص بأجنحتها منتشية برحيق وجودي‬ ‫طوال الطريق‪ ،‬مشت بمحاذاتي كفر ٍ‬
‫بقربها‪ .‬كانت تعد خطواتنا بابتسامتها وهي تعانق ذراعي وتوغل برأسها في حضني إلى‬
‫أن وصلنا إلى شقتي في حسان‪.‬‬
‫بعد أن تناولنا وجبة العشاء التي أعددتها بيدي احتفاال برحيلها غرقنا في حديث‬
‫ممتع عن ذكرياتنا في مطعم لوكراند كومبتوار‪ ،‬تحدثنا عن لقائنا األول‪ ،‬سنواتنا‬
‫األولى‪ .‬ضحكنا على حماقاتنا وعن اللحظات التي اشتبكت فيها مشاعرنا على‬
‫أحضان الكؤوس والشعر وتاريخ األدب إلى أن قالت لي بنبرة حزينة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد مر بنا الزمن سريعا يا طارق‪ ،‬أمعقول أن يكون لقاؤنا في شقتك هنا‬
‫آخر لقاء لنا؟‬
‫أجبتها وأنا متعجب أيضا كيف وصل بنا القدر على غفلة إلى نهايتنا‪:‬‬
‫فمن بعضها تولد البدايات‪.‬‬ ‫‪ -‬ال تخش ي النهايات‪ِ ،‬‬
‫ً‬
‫مالمحها بأناملي‪:‬‬
‫أردفت قائال وأنا أداعب ِ‬
‫ً‬
‫‪ -‬أنا ِ‬
‫وأنت ال نهاية لنا‪ ،‬سنهزم القدر وسننتزع من السماء بداية لنا في كل‬
‫لقاء‪...‬‬

‫]‪[158‬‬
‫دوالب صغير عن قرص مدمج ألغاني زهرة‬‫ٍ‬ ‫أطفأت سيجارتي ووقفت ألبحث في‬
‫هندي‪ .‬وجدته مغلفا بالغبار كما بالذكريات القديمة‪ .‬وضعته في جهاز املوسيقى‬
‫وضغطت على رقم ‪ ،4‬لتنبعث كلماتها الجميلة‪:‬‬
‫‪Here comes the time‬‬
‫‪For my heart to heal the past‬‬
‫‪From now and then‬‬
‫‪There will be the good and the best‬‬
‫‪Oh when your eyes and mine‬‬
‫‪Can see the same‬‬
‫‪Our love could last‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التفت إليها فاتحا ذراعي في الهواء قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬تعالي‪ ،‬لنكتب معا بداية فصل جديد‪ ،‬تعالي لنهزم النهايات‪...‬‬
‫دلفت بجسدها إلي والتصقنا‪ ،‬صدرها على صدري يرقصان على دقاتهما ورقصنا‬
‫نحن على أنغام زهرة هندي‪ .‬ظلت تتطلع إلي بمالمحها التي كانت تعيدني إلى‬
‫سنواتي الطويلة على مشربة لوكراند كومبتوار وذكريات التائه بداخلي على‬
‫وبدمع خفيف يغرق‬
‫ٍ‬ ‫مشارف الحب والوطن والقضية‪ .‬شعرت بنبضات قلبها تزداد‬
‫عينيها‪ .‬مر بي حينها تيار جارف قذفني إليها ألضع شفاهي على شفتيها وأمتص منهما‬
‫رضابها العذب املعد لي منذ زمن‪ .‬تداركت نفس ي ألصلح خطأ شفاهي على شفتيها‪،‬‬
‫لكنها رفضت تركي والتحمت شفاهنا‪.‬‬
‫سرت بجسدي نشوة افتقدتها مع أماليا وتعجبت لجسدي اللعين الذي تبنى حتى‬
‫العودة إلى أرضه‬
‫ِ‬ ‫هو القضية وغرقت أنا في عجبي بين ضفافها‪ ،‬كالجئ يمارس حق‬
‫بعد طول غياب‪ .‬بدأت من األعالي تارة‪ ،‬حيث أعناقنا غنت لرضاب الحب املعتق في‬
‫ً‬
‫شفاهنا‪ ،‬ومن سيقان الحياة تارة أخرى حيث غابت الشمس بكسل تاركة خيوطها‬

‫]‪[159‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خنادقا ووشما في وجه الحب ومياهه اللزجة‪ .‬تلعثمت وأنا أراجع درس مطارحة‬
‫الغرام على تفاصيلها وأغرق في خاصرتها حد الفناء وفي يدي حمام صدرها‬
‫ً‬
‫أحرسهما كي ال يحلقان بعيدا دوني‪ .‬ثم أطل برأس ي من على صفحة املاء كالباحث‬
‫ً‬
‫عن أنفاسه وسط هواء اآلخرين ويجذبني الحب إلى األسفل من جديد‪ ،‬جيئة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املوت‬
‫وذهابا‪ ،‬إقباال وإدبارا ‪ ...‬ألهث من أجل البقاء‪ ،‬أنس ى تنفس ي السريع وراء ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سفوح حواء‪ ...‬ونصرخ‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫دم‬‫آ‬ ‫دم‬‫ق‬ ‫الزمن‪،‬‬ ‫في‬ ‫قديمة‬ ‫نغمات‬
‫ٍ‬ ‫على‬ ‫معا‬ ‫ونرتعش‬ ‫غرقا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫معا ال طلبا للنجاة‪ ،‬بل للغر ِق معا‪ ،‬فما أجمل أن نغرق معا‪ ...‬إلى األبد‪.‬‬
‫في الصباح‪ ،‬تلمست مكانها بجانبي على السرير فلم أجدها‪ ،‬صحت مناديا عليها‬
‫بكل األسماء التي سميتها إياها‪ :‬مها‪ ،‬ماهي‪ ...‬لكنها ما ردت علي‪ .‬نهضت مستغربا من‬
‫السرير بحثا عنها‪ ،‬لتفاجئني رسالة كتبتها بأحمر الشفاه على مرآة الدوالب‪'' :‬لقد‬
‫ولدت من جديد بين أحضانك‪ ،‬سأعود إليك‪ ،‬نعم سأعود إليك ‪ ...‬عساك تكون لي‬
‫ً‬
‫يوما‪ .‬أحبك''‬

‫]‪[160‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ19‬‬
‫الدار البيضاء‪ 81-‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪8102‬‬

‫كنت جالسة أمام املرآة عارية‪ ،‬أرقبك واقفا ورائي تنظر إلي بعينيك السوداوين‪.‬‬
‫قلت لك وأنا أتحسس خيالك على وجه املرآة اشتقتك يا طارق‪ ،‬لكنك لم تجبني‪...‬‬
‫غرقت في حضنك وأنا أتخيلك تضمني بشوق وتترك يديك تتحسس ظهري ثم‬
‫تداعبان نهدي‪...‬‬
‫شعرت بيدين باردتين تلمس كتفي‪ ،‬ما عهدت يديك باردتين يا طارق !! فتحت عيني‬
‫فقفزت من مكاني وقد تملكني الهلع‪ .‬لقد كان جالل‪.‬‬
‫يتملكك عند رؤيتي؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬صار الهلع‬
‫ً‬
‫قال لي متفاجأ من ردة فعلي قبل أن يخفض رأسه للثم عنقي‪ .‬أجبته مرتبكة‪:‬‬
‫‪ -‬فاجأتني بدخولك بال حس وال حركة‪...‬‬
‫ً‬
‫لم يجبني‪ .‬ترك فمه يعبث الهثا بأسفل عنقي ويضغط بيديه على صدري ويوغل‬
‫ً‬
‫بهما بين سا ي‪ .‬وقفت مبتعدة عنه قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬من فضلك يا جالل‪ ،‬ال مزاج لي لهذا‪.‬‬
‫ً‬
‫قال بزرفزة وهو يلتصق بصدري بقوة رافضا تركي‪:‬‬
‫أشتهيك هذه الليلة‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لن ِ‬
‫أدعك‪ ،‬أنا‬
‫دفعني على السرير ثم أخذ يززع ثيابه ويمرغ جسده بجسدي‪ ،‬لم أستطع مقاومته‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان هائجا عنيفا‪ ،‬بدأت الدموع تنهمر على خدي وأنا أرى جسدي قد أصبح‬
‫مستباحا من رجل آخر غيرك‪ ،‬يغتصبني كجارية لديه‪ ،‬أصابني الهلع وأنا أتخيل‬

‫]‪[161‬‬
‫ً‬
‫لرجل غيرك‪ ...‬فصرخت كاملجنونة ورميت بجسد جالل‬
‫بطني ينتفخ‪ ،‬وأحمل جنينا ٍ‬
‫بكاء هيستيري‪.‬‬
‫كالجيفة من على السرير‪ .‬غرقت بعدها في موجة ٍ‬
‫ظل جالل جالسا بجانب السرير متفاجأ من ردة فعلي‪ ،‬دون أن ينبس بكلمة‪ .‬مرت‬
‫علينا دقائق طويلة من الصمت قبل أن أسمعه يقول وهو يلبس ثيابه‪:‬‬
‫‪ -‬أتظنين أنني ال أعلم ما تخبئين طيلة سنتين من زواجنا‪ ،‬سنتين بأكملهما‬
‫وأنت تخونين‬
‫وأنت غريبة األطوار‪ ،‬سارحة‪ ،‬هائمة على نفسك‪ ،‬سنتان ِ‬ ‫ِ‬
‫زوجك‪...‬‬
‫قاطعته مستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬أخونك؟ !‬
‫ً‬
‫صرخ في وجهي قائال‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬تخونينني‪ .‬ماذا تسمين كل تلك االعترافات في دفتر يومياتك‪ ،‬عن‬
‫وأنت‬
‫صوتك ِ‬
‫ِ‬ ‫حبك لذاك املسمى طارق؟ أليست هذه خيانة؟ ماذا عن‬
‫ذكرياتك‬
‫ِ‬ ‫نائمة تصيحين باسمه ''طارق'' ''طارق''؟ ِ‬
‫وأنت سارحة في‬
‫القديمة معه؟ حتى عندما كنا نمارس الحب على الفراش كنت أكاد‬
‫تناديه هو ليمأل جسدك لذة‬
‫ِ‬ ‫وكأنك‬
‫ِ‬ ‫شفتيك‬
‫ِ‬ ‫أسمع همس اسمه على‬
‫ونشوة‪...‬‬
‫توقف لبرهة وكأنه يلملم عبارات خانته هي األخرى على لسانه ‪ ...‬طأطأ رأسه ثم‬
‫ً‬
‫مرتفع أكثر‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫أردف قائال‬
‫طارقك هذا؟ ‪...‬‬
‫ِ‬ ‫سفرك املتكرر للرباط؟ ستقولين لي ليس لزيارة‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ماذا عن‬
‫أنت ساقطة‪.‬‬
‫كم ِ‬

‫]‪[162‬‬
‫تمالكت نفس ي وأنا أتلقى هذا السيل من الشتائم والتجريح‪ ،‬ربما ألن نصف كالمه‬
‫صحيح وربما أيضا ألنني أصبحت قريبة من الخالص‪ .‬نعم في هذه اللحظة انتابني‬
‫ٌ‬
‫شعور قوي ِملح بالخالص‪ .‬استجمعت كلماتي ورميته بحجارة الخالص‪.‬‬
‫طلقني يا جالل‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫رد علي مستهترا‪:‬‬

‫‪ -‬أو تظنين أنني سأبقى ِ‬


‫معك بعد خيانتك؟ أو ليست لي كرامة؟‬
‫وقف بزهو بالغ وكأنه يتشفى من انكساري‪ .‬قرب وجهه ِمني وهو يرتدي قميصه‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫بعفن‬ ‫متحضر لن ألطخ نفس ي‬‫ِ‬ ‫خائنة الذبح‪ ،‬لكنني ٌ‬
‫رجل‬ ‫ٍ‬ ‫‪ -‬مصير كل‬
‫ِ‬
‫خيانتك‪ ،‬سأكتفي بتطليقك‪.‬‬
‫ً‬
‫تجاوزني مغادرا إلى باب الغرفة‪ ،‬خطا خطوتين ثم صاح دون أن يلتفت لي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪'' -‬ليال'' ستبقى معي ولن ترينها أبدا‪.‬‬
‫استدركت حالة ضعفي وانكساري وصحت حينها بشراسة‪:‬‬
‫‪ -‬ليال ليست ابنتك‪.‬‬
‫استدار بعنف‪ ،‬دفعه الغضب نحوي كثور هائج‪ ،‬أمسك ذراعي بقوة لكنني لم‬
‫أكترث لغضبه وبقيت هادئة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا ِ‬
‫قلت؟‬
‫اجر‬ ‫‪ -‬كما سمعت‪ ،‬ليال ابنة طارق‪ ،‬تزوجتني وأنا حبلى بها‪ ،‬إن لم ت ِ‬
‫صدق ِ‬
‫ً‬
‫التحليالت الالزمة ألست طبيبا؟‬

‫]‪[163‬‬
‫ً‬
‫نزلت عليه كلماتي باردة وقاسية أفشلت لسانه عن الكالم‪ ،‬ظل يحدق بي مندهشا‬
‫ومستغربا‪ .‬هل استغرب من هول الصدمة أم من برودي وأنا أخبره أن ليال ليست‬
‫ابنته ال أعرف؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فجأة اندفع فمه منفجرا بكلمات نابية بالكاد سمعتها‪ .‬انهال علي ضربا ولكما على‬
‫شف غليله لكماته فبدأ برفس ي بقدميه‪ .‬لم أصرخ لم أنبس‬ ‫وجهي وصدري‪ ،‬لم ت ِ‬
‫كاملذبوحة بكبرياء في يديه‪ .‬أنتظر فقط الخالص منه كيفما كان‬
‫ِ‬ ‫بكلمة كنت‬
‫الثمن‪ ،‬أن أتخلص منه وأعود إليك‪ .‬نعم‪ ،‬أعود إليك فأنا لم أكن لغيرك ولن أكون‬
‫لغيرك‪.‬‬
‫بعد خروجه التقطت هاتفي بأناملي املخضبة بالدماء وكتبت لك رسالة من لغة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الوجع "تبا لك‪ ،‬تبا للوطن‪ ،‬تبا ألحالمنا املتكسرة‪ ...‬أحبك فقط وتبا لكل ش يء"‬

‫]‪[164‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ21‬‬
‫الرباط‪ 2-‬تشرين الثاني‪/‬نونبر ‪8102‬‬

‫ً‬
‫عند اقترابي من مطعم لوكراند كومبتوار ملحت سعيد من الواجهة متكئا على‬
‫الكومبتوار وشاردا كأنه يفك طالسم قضية ما‪ .‬ما إن ملحني داخال قاصدا إياه‪،‬‬
‫حتى صاح بصوت متثاقل‪:‬‬
‫‪ -‬تأخرت يا طارق‪.‬‬
‫سلمت عليه قبل أن أستفسره‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك يا سعيد؟ أفزعتني على الهاتف‪ .‬ملاذا طلبت حضوري على‬
‫عجل؟‬
‫صمت طويل قبل أن يجيبني بيأس‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫غرق في‬
‫‪ -‬أردت أن أسلم عليك قبل أن أرحل يا صديقي‪...‬‬
‫قاطعته منفعال من شدة تفاجئي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ترحل أنت أيضا؟ هل حل موسم الرحيل دون أن أدري؟ يا إلهي‪ ،‬ترحل‬
‫إلى أين؟‬
‫‪ -‬سأرجع إلى أملانيا‪ ،‬لم يعد لي ٌ‬
‫مكان في هذا الوطن‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬نحن جميعا ال مكان لنا في هذا الوطن‪ ،‬لكن الرحيل ليس هو الحل يا‬
‫سعيد‪.‬‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬الرحيل هو الحل‪ .‬أنا أختنق هنا كما تعرف‪ ،‬وأنت كذلك‪ .‬انظر إلى‬
‫يوم هنا‪ .‬هذه البالد طغا فيها االستبداد وغدت ال‬
‫نفسك كيف تذبل كل ٍ‬

‫]‪[165‬‬
‫تحترم إنسانيتنا وال حريتنا في الحياة‪ .‬لقد أخذت قراري‪ ،‬سأمض ي بقية‬
‫عمري هناك‪ ،‬في أملانيا‪.‬‬
‫شعرت بأمواج الحزن تقترب لتلطم شاطئي الذي كان هادئا قبل أن يعكره قرار‬
‫سعيد بالرحيل‪ .‬تساءلت في قرارة نفس ي وأنا أتنفس دخان سيجارتي اليتيمة بين‬
‫ً‬
‫أناملي‪ ،‬ملاذا كل من حولي يقررون الرحيل وأبقى أنا وحيدا أشرب من خوابي‬
‫ٌ‬
‫األطالل وحنين الذكريات؟ هل هناك لعنة ما تفرق بيني وبين كل من رافقت في‬
‫حياتي؟‬
‫قلت له محاوال بث األمل فيه‪:‬‬
‫‪ -‬اسمع يا سعيد‪ ،‬الزال بإمكانك أن تحقق آمالك هنا‪ ،‬فشل قصتك مع‬
‫ً‬
‫حب جديدة وستبني هنا عشا‬
‫أسماء ليس نهاية العالم‪ ،‬ستعيش قصة ٍ‬
‫وتحقق مشاريعك‪ ،‬ال تفقد األمل يا صديقي‪...‬‬
‫ً‬
‫قاطعني مبتسما بسخرية وهو يجفف شفتيه من آخر رشفة قهوة من فنجانه‪:‬‬
‫‪ -‬وهل تملك أنت األمل يا طارق؟‬
‫ْ‬
‫أسكتني سؤاله‪ ،‬خنق كل الكلمات على شفتي وجعلني أنكأ جرحي القديم الجديد‬
‫مع األمل‪ .‬أينك يا درويش لترى صدق قصيدتك في‪ ،‬فقد غدوت العاطل عن العمل‬
‫أربي األمل‪.‬‬
‫ً‬
‫تداركت سؤاله قائال‪:‬‬
‫‪ -‬على األقل أجل رحيلك لبضعة أيام‪.‬‬
‫ً‬
‫رد علي متأسفا‪:‬‬
‫‪ -‬لقد فات األوان‪ ،‬لقد حجزت لي في طائرة السابعة ً‬
‫مساء‪.‬‬
‫صمتنا للحظات‪ ،‬ثم أردف قائال بعد أن خطف نظرة على ساعته‪:‬‬

‫]‪[166‬‬
‫‪ -‬علي الذهاب اآلن يا طارق‪ ،‬سأشتاق لك‪...‬‬
‫فتح لي ذراعيه‪ ،‬ثم عانقني بقوة قبل أن يقول‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫لصعب علي يا رفيق‪.‬‬ ‫‪ -‬تبا لك‪ ،‬إن توديعك‬
‫ً‬
‫اكتفيت باالبتسام في وجهه وأنا أداري الحزن الذي تملكني برحيله‪ .‬خطا مسرعا‬
‫ً‬
‫نحو الباب ليتبعه صوتي مناديا إياه باسمه‪ .‬التفت إلي منتظرا ما سأقوله له‪.‬‬
‫ً‬
‫ابتسمت‪ ،‬ورفعت شارة النصر قائال‪:‬‬
‫‪ -‬املاركسية لم تسقط يا رفيقي‪...‬‬
‫رد علي بمالمح حزينة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬نعم يا رفيق‪ ،‬والقومية العربية لم تسقط أيضا‪ ،‬نحن من سقطنا‪ ...‬نحن‬
‫من سقطنا‪.‬‬

‫ذهب سعيد وتركني وحيدا‪ ،‬أشرب سجائري على مهل في محراب الفراغ والعدم‪.‬‬
‫ً‬
‫تماما كاملسافر وحيدا عبر الزمن‪ ،‬ينتظر نهاية التاريخ‪ ،‬ينتظر ما وراء التاريخ‬
‫ليعرف آخر الحكاية ونهاية القدر‪ ،‬إن كان للقدر نهاية !! ترى‪ ،‬هل يملك هذا‬
‫العالم نهاية؟ أم أنه سيواصل دورانه األزلي إلى األبد عكس ما قاله كل األنبياء‬
‫ً‬
‫واألديان؟ لقد ِشخت أيها العالم وأصبح وجهك قبيحا تحفره التجاعيد ومآس ي‬
‫التاريخ‪ ،‬أما آن لك أن تنتهي من دورانك العبثي وتدفن كل حكاياتك السخيفة؟‬
‫نظرت إلى مقعد سعيد وجدته يبكي غيابه هو أيضا ثم تطلعت إلى مكان مها فبدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شاحبا من دونها هي كذلك‪ .‬ابتسمت وأنا أتخيل نفس ي سائحا يتجول وسط‬
‫أطالله‪ ،‬يقلب صوره على أسواره البالية ويستمع كأي عجوز إلى موسيقاه القديمة‬
‫التي تسافر به إلى تفاصيل املاض ي الذي ال يعود‪ .‬في ذاك الحين سقط نجيب في‬
‫فكري‪ ،‬تذكرت أن غيابه أقس ى غياب أعيشه بعد رحيل ليلى‪ ،‬ثم تذكرت ما طلبه‬
‫]‪[167‬‬
‫مني في آخر اتصال لي به‪ ،‬أراد أن يسمع صوت نرجس‪ ،‬حبيبة عمره‪ .‬ال أفهم ملاذا‬
‫الرجل يتذكر حبيبته األولى عندما يكون على أبواب املوت؟‬
‫ً‬
‫ورطة تضعني فيها يا‬
‫ٍ‬ ‫ترددت كثيرا وأنا أبحث عن رقم نرجس في هاتفي ألكلمها‪ ،‬أي‬
‫ً‬
‫نجيب‪ .‬تبا للحب‪.‬‬
‫‪ -‬ألو ‪...‬‬
‫صوتك لم يتغير رغم كل هذه السنين‪ ،‬الزال قويا كعادته‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬من معي من فضلك؟‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬طارق ولد الخيل‪ .‬أتمنى أال أكون قد أزعجتك هذا املساء‪.‬‬
‫باد على صوتها‪:‬‬
‫أجابتني بارتباك ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬طارق !!‪ ،‬أهال وسهال‪ .‬سعيدة بسماع صوتك‪ ،‬كيف حالك؟‬

‫‪ -‬تمام‪ ،‬بخير‪ ،‬بين ِ‬


‫مد الحياة وجزرها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬علي أن أعتذر منك‪ ،‬ألنني لم أبارك لك عودتك ساملا من فلسطين‪ .‬أعلم‬
‫أن سنوات مرت على عودتك لكن بحق أنا متأسفة‪.‬‬
‫ً‬
‫ساملا من فلسطين ٌ‬
‫أمر نفرح له؟ نحن ال نذهب إلى‬ ‫‪ -‬وهل تظنين أن عودتي‬
‫ً‬
‫فلسطين بأمل العودة منها ساملين‪ .‬ثم‪ ،‬ال أحد يعود ساملا من فلسطين‪،‬‬
‫ً‬
‫كل من يذهب هناك البد أن يترك شيئا‪ ،‬حياته‪ ،‬قلبه‪ ،‬أعضاء من جسده‬
‫أو أحالمه‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق‪ ،‬أنت تعلم أن أحد أكبر أحالمي عندما كنت بالجامعة هو أن‬
‫ألتحق برفاقنا في فلسطين‪ ،‬أقاتل هناك من أجل تلك األفكار التي آمنا‬
‫بها‪...‬‬

‫]‪[168‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بصوت خفيف‪ ،‬متعمدا أن أوصل لها ضحكتي املترنحة بين‬‫ٍ‬ ‫صحت ضاحكا‬
‫ً‬
‫السخرية واأللم‪ ،‬ثم أردفت قائال‪:‬‬
‫‪ -‬كل رفاقنا أيام الجامعة كان لديهم نفس الحلم‪ ،‬الكل كان ينتظر أن‬
‫يستبدل الكتب والدروس بالبندقية والرصاص ليدافع عن العروبة وعن‬
‫فلسطين والوطن‪ ...‬لكن في آخر املطاف الكل انصرف إلى حياته الخاصة‬
‫ومشاريعه الشخصية الصغيرة‪...‬‬
‫أجابتني مقاطعة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬إال أنت ونجيب‪ ،‬بقيتما على العهد وتسابقتما إلى فلسطين دفاعا عن‬
‫الوطن الذي تؤمنان به‪ ،‬تركتما كل ش يء‪ ،‬حتى حبكما‪.‬‬
‫قالت الجملة األخيرة بنبرة تعيسة تركت مرارة صوتها على خط الهاتف‪ ...‬أجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬ال أحد يترك الحب ويهرب إلى الحرب يا نرجس‪...‬‬
‫‪ -‬نجيب فعل ذلك‪ .‬ترك حبنا وغادر إلى فلسطين‪ ،‬كان يقول لي ال يمكن أن‬
‫أرى الصهاينة يقتلون إخوتي ويحتلون أرض ي بفلسطين وأجلس أنا هنا‬
‫شقة‬
‫أستمتع بالحب بين أحضانك وأخطط إلنجاب األطفال وامتالك ٍ‬
‫بالتقسيط‪...‬‬
‫تنهدت عساي أنفض عني ألم هذه الكلمات وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬نجيب لم يضح بحبكما من أجل فلسطين‪ ،‬لقد عاد من أجلك‪ ،‬ووجدك‬
‫ً‬
‫أنت من يالم يا نرجس ليس نجيب‪...‬‬
‫وأنجبت طفال‪ِ ...‬‬
‫ِ‬ ‫تزوجت‬
‫ِ‬ ‫قد‬
‫أجابتني بعدائية‪:‬‬
‫‪ -‬أهي عنصرية جنسية هذه؟ تقف إلى جانب نجيب ألنه ٌ‬
‫رجل مثلك‬
‫وتلومني ألني امرأة؟‬

‫]‪[169‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أبدا‪ ،‬هذه هي حقيقة عالقتكما‪...‬‬
‫ٌ‬
‫أجابتني مستمرة في عدائيتها‪:‬‬

‫‪ -‬الحقيقة يا طارق هي أن املرأة ال تستطيع انتظار ٍ‬


‫حب واهم إلى األبد‪ ،‬لن‬
‫تقبل أن تبقى معلقة على مشجب االنتظار حتى يلبسها رجل ما باسم‬
‫حب قد يأتي وقد ال يأتي‪ .‬املرأة كأي تربة زراعية في انتظار أوهام املطر‪،‬‬
‫ٍ‬
‫تجف‪ ،‬تتشقق وتموت ‪...‬‬
‫صمت كئيبة‪ ،‬لم يقطعها سوى صوت نرجس‬ ‫خيمت على خط الهاتف سحابة‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫ثوان قائلة‪:‬‬
‫بعد ٍ‬
‫‪ -‬على أي‪ ،‬لم تقل لي ما سبب اتصالك؟‬
‫خافت يميل إلى االعتذار‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫أجبتها‬
‫أزعجتك في هذا املساء يا نرجس‪ ،‬خصوصا إن كنت‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬متأسف إن كنت قد‬
‫أحرجتك في تواجد زوجك‪...‬‬
‫ِ‬ ‫قد‬
‫ً‬
‫عال أرسلت معه صوت ريح قوي على خط الهاتف قائلة‪:‬‬‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تنهدت‬
‫‪ -‬أعذرني يا طارق‪ ،‬أنت تعرف أنني عصبية‪ ...‬ال تشغل بالك أنا لوحدي في‬
‫املززل‪.‬‬

‫عليك يا نرجس‪ ،‬اتصلت بك كي أقول ِ‬


‫لك إن نجيب يريد سماع‬ ‫‪ -‬لن أطيل ِ‬
‫صوتك ‪...‬‬
‫ً‬
‫قاطعتني قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬أي جنون هذا؟ لقد انتهت قصتي مع نجيب‪ ،‬أنا اآلن امرأة‬
‫متزوجة ولدي طفل‪...‬‬

‫]‪[170‬‬
‫‪ -‬أعرف يا نرجس‪ ،‬نجيب ال يطمح في العودة ِ‬
‫إليك‪ .‬كل ما في األمر أنه يمر‬
‫ً‬
‫بأوقات صعبة هذه األيام‪ ،‬يعيش معلقا بين املوت والحياة ويطلب آخر‬
‫صوتك ليس أكثر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫منك‪ ،‬أن يسمع‬
‫ش يء ِ‬
‫أجابتني باستسالم‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أين هو؟ في فلسطين مرة أخرى؟‬
‫‪ -‬هو اآلن في تونس‪ ،‬ولكن من أجل فلسطين‪ِ ،‬‬
‫أنت تعلمين‪.‬‬
‫‪ -‬ال أعرف إن كانت فلسطين قدركم أم لعنتكم !!‬
‫ثوان ثم قالت‪:‬‬
‫صمتت ٍ‬
‫‪ -‬ماذا تخفي عني يا طارق؟‬
‫ً‬
‫عنك شيئا‪ ...‬نجيب هرب من املغرب إلى تونس ألن املوساد‬ ‫‪ -‬ال أخفي ِ‬
‫واملخابرات املغربية تالحقانه‪ ،‬ومن تونس سيذهب إلى فلسطين إن‬
‫استطاع الفرار‪ .‬اتصل بي قبل يومين وقال لي "ربما تكون هذه هي أيامي‬
‫األخيرة‪ ،‬لكنني ال أريد أن أغادر دون أن أسمع صوت نرجس من جديد‪.‬‬
‫من فضلك أريد سماع صوتها ‪ ...‬ال أريد من قدرنا املحتال هذا سوى‬
‫صوتها لحافا لي في لحظاتي األخيرة ''‬
‫لثوان طويلة‪ ،‬ثم أجابتني‬
‫ٍ‬ ‫ظلت صامتة‪ ،‬أسمع فقط أنفاسها على خط الهاتف‬
‫بكلمات يخنقها الدمع‪:‬‬
‫‪ -‬سأفكر في األمر وأجيبك يا طارق‪ ،‬شك ًرا التصالك‪ .‬عمت ً‬
‫مساء‪.‬‬
‫أقفلت الخط وأنا ألعن هذا املساء وألعن الحب الذي يتواطأ مع القدر كي يعيث‬
‫ً‬
‫في أيامنا الفوض ى والخراب‪ ،‬وي ِحيل التاريخ بين الرجل واملرأة تاريخا من الحروب‬
‫والهجر‪.‬‬

‫]‪[171‬‬
‫أال يمكن أن تكون هناك منطقة وسطى بين الرجل واملرأة‪ ،‬معزولة السالح بينهما؟‬
‫خوف من‬
‫ٍ‬ ‫يمش ي كل واحد منهما إلى اآلخر دون توجس‪ ،‬دون شك وحتى دون‬
‫الوقوع في الحب؟‬
‫من هذا املحتال الذي ربط كلمة ''الوقوع'' ب ''الحب'' في جملة جدلية متناقضة‪،‬‬
‫مليئة بالسقوط وإرهاصات الجاذبية؟‪ ،‬من هذا اإلرهابي الذي زرع حرف ''الراء''‬
‫وسط كلمة الحب ليحولها إلى نقيضها املأساوي ''الحرب'' هل هناك احتيال ما في‬
‫الحكاية؟‬

‫]‪[172‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ21‬‬
‫الدار البيضاء – ‪ 87‬تشرين الثاني‪/‬نونبر ‪8102‬‬

‫كما تتسرب املياه من شقوق الجبال‪ ،‬تسربت إلي مشاعر الشك والريبة في‬
‫املستقبل هذه الليلة‪ .‬تلخبطت كل أورا ي على دفتر الحياة عندما اتصل بي بركات‬
‫ً‬
‫عاجل للملك‪ .‬لم أفهم مدعاة‬
‫ٍ‬ ‫فرحا يطلب مني فتح التلفاز واالستماع لخطاب‬
‫فرحه! شعرت بالتوجس وبالخوف فقط وأنا أستمع لنهاية الخطاب‪ .‬بقيت‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫متسمرة أفكر فيما قد يحمله الغد لحركة نحن نستحق بعد هذا الخطاب‪ ،‬قبل‬
‫أن يعود رنين الهاتف ليخطفني من جديد‪ .‬أجبت دون أن أدري من املتصل‪:‬‬
‫‪ -‬ألو‪...‬‬
‫‪ -‬مساء الخير ليلى‪ ،‬أزعجتك في هذا الوقت؟‬
‫‪ -‬عزيز‪ ،‬ال ال‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪ -‬بخير ِ‬
‫وأنت؟‬
‫‪ -‬عادي‪ ،‬كما تعلم ال ش يء جديد في حياتي سوى انشغالي بالحركة‪...‬‬
‫بصوت مرتبك‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قاطعني‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬أنا اتصل بك بخصوص الحركة‪ ،‬وهذه املرة كي أحذرك‪ِ .‬‬
‫أنت‬
‫لك املضرة‪.‬‬
‫صديقة عزيزة علي وال أريد ِ‬
‫ً‬
‫أجبته منشغلة بما قاله‪:‬‬
‫‪ -‬خير يا عزيز‪ ،‬أخفتني؟‬
‫استمعت لخطاب امللك هذا املساء؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬

‫]‪[173‬‬
‫‪ -‬ليس كله‪ ،‬ماذا هناك؟‬
‫‪ -‬امللك أسس لجنة وطنية لصياغة قانون أحزاب جديد يلبي تطلعات‬
‫الشعب ويتماش ى مع مطالب حركتكم‪...‬‬
‫قاطعته بانفعال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬سمعت ذلك‪ ،‬هذا التفاف فقط على مطالبنا وليس استجابة لها‪.‬‬
‫مطالبنا هي حل األحزاب الحالية وتأسيس أحزاب جديدة بطريقة شعبية‬
‫وتحديد األحزاب في ثالثة فقط‪.‬‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬أنا لم أتصل ألناقشك في مطالب حركة نحن نستحق‪ ،‬لدي‬
‫ً‬
‫معلومات بأن دوائر عليا في السلطة أخذت قرارا بطي هذا املوضوع‬
‫وإعادة صياغة قانون األحزاب كأقص ى تجاوب للدولة مع حركتكم‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا يعني هذا يا عزيز؟‬
‫‪ -‬يعني أنه بعد خطاب امللك سيمنعون كل تحركاتكم وسيعتقلون نشطاء‬
‫الحركة‪ .‬اآلن أنتم مجبرون على املوافقة على مبادرة امللك أو ستواجهون‬
‫ً‬
‫أنت تعلمين جيدا ماذا يعني ذلك يا ليلى‪.‬‬
‫الدولة‪ِ .‬‬
‫صمت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أجبته بعد لحظة‬
‫‪ -‬عزيز؟ هل أرسلوك إلخافتنا؟‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬أقسم لك بأيامنا الجميلة التي قضيناها معا‪ ،‬أنا خائف عليكم‬
‫وهذه املعلومات وصلتني للتو‪ .‬أنتم لم تهونوا علي رغم كل ش يء‪ .‬بلغي‬
‫رفاقك وحذريهم قبل فوات األوان‪...‬‬
‫‪ -‬ما مدى قرارهم؟‬

‫]‪[174‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هم ينتظرون موقفكم من الخطاب امللكي‪ ،‬إذا كان سلبيا سيتحركون‬
‫العتقال قادة الحركة وسجنهم حتى تهدأ األوضاع وتنتهي املظاهرات في‬
‫الشارع‪.‬‬
‫ً‬
‫صمت برهة ثم عاد ليقول لي‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬فكري في ابنتك ليال وفي طارق الذي ينتظرك كي تكوني جنبه‪.‬‬
‫ليلتك سعيدة‪.‬‬
‫فجأة توقف العالم من حولي وحلت علي لحظات سكون قاتلة‪ .‬ال أبشع من أن‬
‫قادر على فهم ما يدور حولك‪ ،‬غير ٍ‬
‫قادر على التفكير‬ ‫تجد نفسك تائها‪ ،‬غير ٍ‬
‫والتخطيط لغدك‪ .‬سألت نفس ي ماذا علي فعله اآلن؟ أتجاهل كالم عزيز وأترك‬
‫رفا ي في الحركة ملصيرهم؟ أم أخبرهم؟ ‪ ...‬بقيت أفكر لدقائق طويلة قبل أن‬
‫أسحب هاتفي واتصل بناصر‪:‬‬
‫‪ -‬ألو‪...‬‬
‫‪ -‬ألو ناصر‪ ،‬مساء الخير‬
‫‪ -‬بل قولي مساء االنتصار يا رفيقتي‪.‬‬
‫ً‬
‫صحت مستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬انتصار؟ !!‬
‫‪ -‬ألم تسمعي خطاب امللك؟‬
‫أجبته بال اكتراث‪:‬‬
‫‪ -‬ستقول لي كبركات أن النظام أظهر ضعفه وبدأ يتراجع‪...‬‬

‫]‪[175‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬بركات معه حق‪ ...‬هذا هو التحليل السليم‪ ،‬هذه هي فرصتنا‬
‫لالنقضاض ودفع النظام إلى االستجابة ملطالبنا من خالل الرفع من وثيرة‬
‫املظاهرات‪...‬‬
‫تفاجأت من حماسته ومن صوته الواثق قبل أن أرد عليه بحذر‪:‬‬
‫‪ -‬ناصر اسمع‪ ،‬اللعبة أصبحت خطرة اآلن‪ ...‬علينا أن نتريث‪.‬‬
‫ً‬
‫تبدل صوته كأنه شعر بش يء مريب في كالمي قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى ماذا هناك؟‬
‫ً‬
‫نظرت إلى الساعة في يدي‪ ،‬كانت تشير إلى قرابة التاسعة والنصف ليال‪ .‬فأجبته‪:‬‬
‫‪ -‬ناصر هل يمكننا االجتماع اآلن؟ املوضوع طارئ‪.‬‬
‫ً‬
‫سكت برهة ثم قال مستسلما‪:‬‬
‫‪ -‬كما تريدين‪ ،‬أنا الزلت في مكتبي‪ ،‬سأدعو رفاقنا‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا نلتقي في املكتب‪.‬‬
‫‪ -‬الى اللقاء‪...‬‬
‫ً‬
‫وصلت مكتب ناصر متأخرة بعد معاناة مع املواصالت دامت أكثر من ساعة في‬
‫وسط املدينة‪ .‬فتح لي ناصر بنفسه الباب وصاح بزرفزة‪:‬‬
‫أنت من دعوتنا لالجتماع يا حسرة‪.‬‬ ‫‪ -‬ليلى ِ‬
‫أنت دائما متأخرة‪ ،‬هذه املرة ِ‬
‫‪ -‬أنت تعرف أزمة السير في هذه املدينة الغول‪...‬‬
‫ً‬
‫تركته يقفل الباب ورائي واتجهت إلى مكتبه مسرعة حيث وجدت كل الرفاق‬
‫ً‬
‫يتجمعون حول املكتب‪ .‬عندما ألقيت عليهم التحية ملحت بركات غارقا في نقاش‬
‫حاد وعصبي مع نزهة‪ ،‬خمنت أنها تعارضه في موقفه من خطاب امللك‪.‬‬

‫]‪[176‬‬
‫صمت طويلة‪ ،‬كأن كل واحد منا‬
‫ٍ‬ ‫عندما عاد ناصر الى املكتب خيمت لحظات‬
‫ً‬
‫يتحاش ى البداية قبل أن تقطع نزهة صمتنا قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ناصر‪ ،‬طمئني أنك لم تدعونا لتناول وجبة صمت ونمض ي‪.‬‬
‫رد عليها ناصر بسرعة‪:‬‬
‫‪ -‬اسألي ليلى‪ ،‬هي من طلبت اجتماعنا في هذه الساعة‪ .‬لقد أخبرتكم بذلك‬
‫على الهاتف‪.‬‬
‫ً‬
‫التفتت إلي نزهة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬هللا يسمعنا خير!‬
‫أجبتها مطمئنة‪:‬‬
‫‪ -‬خير إن شاء هللا‪ .‬لكن قبل أن أخبركم بما لدي‪ ،‬أود أن أعرف ارتساماكم‬
‫حول خطاب امللك هذا املساء وما القرار الذي ستخرج به حركتنا‪ .‬هل‬
‫سنوافق على مبادرة امللك إلعداد مشروع قانون أحزاب جديد أو‬
‫سنتشبث بمطلب حل األحزاب؟‬
‫ً‬
‫رفعت نظري إلى ناصر قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ناصر‪ ،‬أنت أوال من فضلك‪.‬‬
‫ذكاء كبيرا لفهمه‪ .‬فبعد شهرين من‬ ‫‪ -‬بالنسبة لي‪ ،‬الوضع ال يحتاج ً‬
‫املظاهرات التي تتسع كل يوم ومع حجم الضغط الكبير في الشارع وفي‬
‫وسائل اإلعالم والتواصل االجتماعي يبدو أن النظام بدأ يستشعر‬
‫خطورة استمرار الوضع على ما هو عليه وأصبح يبادر إلى إيجاد حل‬
‫للوضع على غرار خطاب امللك هذا املساء‪ .‬أنا أرى أن هذه بداية النهاية‬

‫]‪[177‬‬
‫والنظام سيتنازل أكثر وأكثر حتى يحقق مطالب حركتنا ويتخلى عن دعم‬
‫األحزاب الحالية‪ .‬ليس علينا اآلن سوى الصمود حتى النهاية يا رفاق‪.‬‬
‫التفت لبركات على يساري ثم قلت له‪:‬‬
‫‪ -‬بركات أنت تشاطر ناصر نفس املوقف كما أعلم‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫رد علي بحماسة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬تماما‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت يا عبد الصمد؟‬
‫ً‬
‫رد علي عبد الصمد متثاقال‪:‬‬
‫‪ -‬أميل لرأي ناصر لكن علينا استشارة التنسيقيات واملكاتب املحلية‬
‫التخاذ موقف رسمي‪ ،‬نحن حركة جماهيرية يا رفاق يجب أال ننس ى هذا‪.‬‬
‫حدقت في نزهة‪:‬‬

‫‪ -‬نزهة ما ر ِ‬
‫أيك؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ترددت طويال قبل تنبس بكلمات متقطعة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬علينا أن نرحب بمبادرة امللك‪ ،‬ونعمل في إطارها‪.‬‬
‫صرخ ناصر وبركات وعبد الصمد في الحين ذاته من شدة االندهاش‪:‬‬
‫أجننت يا نزهة؟ تريديننا أن نتخلى عن مطالب الحركة ومبادئها‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ماذا‪،‬‬
‫ردت عليهم صارخة بدورها‪:‬‬
‫‪ -‬إن لم نفعل ذلك سنواجه النظام وسيرموننا في السجن ورغم ذلك لن‬
‫نستطيع فعل ش يء‪ .‬من الحكمة أن نصلح من الداخل على أن نتشبث‬
‫بمبادئنا الراديكالية دون طائل‪...‬‬
‫]‪[178‬‬
‫تسمرت أنا األخرى مندهشة من كالم نزهة‪ ،‬لم أكن أتوقع أن يكون هذا موقفها‪.‬‬
‫بدت مختلفة هذا املساء‪ ،‬مالمحها مشدودة ونظراتها تائهة‪ .‬كان ش يء ما يشغلها لم‬
‫أستطع معرفته‪.‬‬
‫صمت تعمنا‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت هادئ بعد أن تركت لحظات‬
‫ٍ‬ ‫أردفت‬
‫‪ -‬وأنت يا يوسف ما رأيك؟‬
‫ً‬
‫وبصوت متقطع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رد علي مرتبكا‬
‫‪ -‬صراحة ال أعرف‪ ،‬الوضع ضبابي وغير واضح‪...‬‬
‫صمت من جديد علينا بعد جواب يوسف‪ ،‬كان الكل ينظر إلي‬ ‫ٍ‬ ‫حلت لحظات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منتظرا كالمي‪ ،‬وحدها نزهة كانت سارحة منشغلة في ش يء ما‪ .‬ترددت بدوري كثيرا‬
‫ً‬
‫قبل أن أفاتحهم في املوضوع قائلة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا اسمعوا يا رفاق‪ ،‬أنا تماما كيوسف ليس لدي موقف محدد‪ ،‬لكن‬
‫لدي معلومة مهمة ألشاطرها معكم وفي رأي علينا أن ‪...‬‬
‫لم يتركني ناصر أكمل كالمي حتى قاطعني بعصبية‪:‬‬
‫‪ -‬هيا يا ليلى ال تطيلي علينا من فضلك‪ ،‬قولي ما عندك دفعة واحدة‪...‬‬
‫استكملت كالمي بفارغ الصبر‪:‬‬
‫‪ -‬هذه الليلة اتصل بي عزيز وأخبرني أن النظام ينتظر أن نصدر موقفنا‬
‫من خطاب امللك‪ ،‬إذا لم ننضم ملبادرته ونؤيدها سيتحركون العتقالنا‬
‫وسيواجهون أنشطة الحركة بالقمع وبالقوة‪.‬‬
‫ً‬
‫ضحك ناصرا ساخرا قبل أن يقول‪:‬‬
‫‪ -‬الزلت تسمعين لترهات ذلك الخائن يا ليلى‪ ،‬لقد أرسلوه ليخيفنا ويؤثر‬
‫علينا كي نؤيد مبادرة امللك وينهون مشروع الحركة‪ ،‬هذا كل ما في األمر‪.‬‬
‫]‪[179‬‬
‫‪ -‬ال يا ناصر‪ ،‬لقد شعرت بعزيز صادقا في كالمه هذه املرة‪ ،‬كما أن كالمه‬
‫منطقي‪ .‬إن لم نؤيد صياغة قانون أحزاب جديد سنصبح في مواجهة‬
‫ً‬
‫امللك واألحزاب معا ونحن اتفقنا منذ البداية أن نحيد امللك من صراعنا‬
‫مع األحزاب‪...‬‬
‫تدخل بركات بزرفزته املعتادة‪:‬‬
‫‪ -‬امللك هو الذي اختار أن يقف مع األحزاب ضدنا اآلن‪ ،‬ولن نرحم من‬
‫يقف ضد الحركة‪...‬‬
‫أجبته بزرفزة مماثلة‪:‬‬
‫‪ -‬امللك قادر على أن يقتل حركتنا في ساعة واحدة يا أهبل‪ ،‬املواجهة لن‬
‫ً‬
‫تفيدنا في ش يء خصوصا أننا ال نملك القوة لها‪...‬‬
‫‪ -‬الشعب معنا‪ ،‬وسنضغط حتى يتحقق املطلب األساس ي للحركة‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طيعا مستسلما‪ ،‬سنجد أنفسنا وحيدين‬ ‫‪ -‬الشعب دائما يمش ي وراء امللك ِ‬
‫في آخر املطاف‪...‬‬
‫قاطعنا ناصر رافعا صوته بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعوا يا رفاق‪ ،‬ال يمكننا أن نتراجع عن مبادئنا‪ .‬املبادئ التي أسسنا‬
‫بموجبها حركتنا تبقى خط أحمر‪.‬‬
‫ً‬
‫بصوت خافت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نظرت نزهة إلى ناصر طويال ثم قالت له‬
‫‪ -‬إن لم نتفق على إصدار بيان يؤيد مبادرة امللك وننضم لها‪ ،‬سيتعذر علي‬
‫أن أواصل معكم مشوار الحركة‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫زفر ناصر في وجهها قبل أن يقول مبتسما بسخرية‪:‬‬

‫]‪[180‬‬
‫ً‬
‫أنت وليلى مختلفتان كليا هذا املساء‪ ...‬ال نكاد نفهمكما‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ثم التفت إلى عبد الصمد مسترسال في سخريته‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أن النساء أقل حماسة وشراسة من الرجال في مسيرة النضال يا‬
‫رفيق‪...‬‬
‫قاطعته نزهة من جديد غاضبة‪:‬‬
‫‪ -‬ال تتفوه بكالم رجعي من فضلك يا ناصر‪ ،‬هذه وجهة نظري وموقفي‪...‬‬
‫‪ -‬لن نقبل بمبادرة امللك‪ ،‬ولن يخيفنا أحد‪ ،‬الحركة ستستمر في النضال‬
‫ً‬
‫من أجل تحقيق كل مبادئها التي اتفقنا جميعا حولها منذ البداية‪ .‬من‬
‫يتراجع عن مبادئها فليغادرها‪ ...‬النضال ال يتوقف على شخص أو‬
‫مجموعة أشخاص في اآلخر‪...‬‬
‫ً‬
‫سكتنا جميعا بعد كالم ناصر ونحن ننظر إلى نزهة تجمع حقيبتها غاضبة ثم‬
‫تغادر املكتب دون أن تنبس بكلمة واحدة‪ .‬بدا واضحا أن فريق الحركة بدأ‬
‫يتشتت‪.‬‬
‫ً‬
‫صمت أردف ناصر قائال بزهو‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بعد لحظة‬
‫‪ -‬الذي يوافق نزهة في موقفها أو يرى أن على حركة نحن نستحق أن‬
‫توافق على مبادرة امللك‪ ،‬فليتفضل باملغادرة‪ ،‬مكانه أكيد ليس معنا‪.‬‬
‫لم يترك لي ناصر ما أقوله‪ ،‬أربك كل الكالم في لساني‪ .‬لم أعرف هل أغادرهم أنا‬
‫األخرى أو أبقى معهم وأنا غير مقتنعة بمسار الحركة ومتأكدة بأن النتائج ستكون‬
‫ً‬
‫كارثية علينا جميعا‪.‬‬
‫في الوقت الذي كان فيه ناصر وعبد الصمد وبركات ينظرون إلي وكأنهم ينتظرون‬
‫حسم موقفي‪ ،‬صاح يوسف بخجل‪:‬‬

‫]‪[181‬‬
‫‪ -‬آسف يا رفاق‪ ،‬سأغادر أنا اآلخر‪ ...‬ليست لدينا اإلمكانيات ملواجهة امللك‬
‫ولست مقتنعا بنجاح مشروع الحركة بعد هذه الليلة‪...‬‬
‫لم يمهله ناصر لينهي كالمه حتى قاطعه‪:‬‬
‫‪ -‬مع السالمة يا يوسف‪.‬‬
‫أخفض يوسف رأسه متأسفا ملا يجري‪ .‬ثم وقف مغادرا‪ .‬بعد أن أقفل يوسف‬
‫ً‬
‫الباب وراءه التفت لناصر قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ناصر‪ ،‬في مثل هذه الظروف الصعبة علينا أن نسمع لبعضنا البعض‬
‫ً‬
‫ونناقش جميع وجهات النظر ونتخذ القرار األقل ضرارا ال أن ننقسم‬
‫ونشتت جهودنا هكذا‪...‬‬
‫‪ -‬القرار األقل ضررا هو أن نتشبث بمبادئنا ال أن نبيع الحركة للنظام‬
‫ونخدع الجماهير التي آمنت بمشروعنا‪ .‬اسمعي يا ليلى لن أطيل النقاش‬
‫معك‪ ،‬هذه الليلة سنصدر بيان الحركة الذي سيتماش ى مع املبادئ‬ ‫ِ‬
‫التأسيسية لها وسزرفض مبادرة امللك ونحن مستعدون للتصعيد مع أي‬
‫كان‪ .‬عبد الصمد وبركات يشاطراني نفس املوقف‪ ،‬وبإمكاننا استكمال‬
‫عنك اآلن؟ احسمي موقفك‪.‬‬‫مهام قيادة الحركة بكل سهولة‪ ،‬ماذا ِ‬
‫بصوت في داخلي يقول لي ال تغادري‬
‫ٍ‬ ‫تبادلنا نظرات طويلة في الوقت الذي شعرت‬
‫رفاقك‪ ،‬هذه الحركة هي أمل كل الشعب املغربي‪ ،‬هي أمل كل من يغنون للحرية‪،‬‬
‫للحب‪ ،‬للوطن وللحياة‪ .‬لكن صوت كلمات عزيز التي قالها لي في الهاتف كان أقوى‪،‬‬
‫معه حق‪ ،‬فليال وطارق عندي أغلى من كل ش يء وهما في انتظاري ألجمعهما وأعود‬
‫ً‬
‫لهما معا‪ .‬وقفت بكل ثبات قائلة‪'' :‬أتمنى لكم التوفيق يا رفاق'' وحملت حقيبتي‬
‫وغادرت‪.‬‬

‫]‪[182‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ22‬‬
‫الرباط – ‪ 82‬تشرين الثاني‪/‬نونبر ‪8102‬‬

‫أدرت املفتاح في القفل‪ ،‬دورتان على اليمين فانفتح باب شقتي‪ ...‬خطوت خطوتين‬
‫في الظالم وأنا أتحسس مكان مفتاح الضوء‪ .‬ضغطت عليه فصاح الضوء راقصا‬
‫بلونه األبيض في أرجاء الشقة‪ ...‬تسربت إلي نشوة غامضة‪ ،‬ربما ألن الظالم بدأ‬
‫ً‬
‫يخيفني على غير عادتي وربما أيضا ألنها ترافقني هذا املساء‪.‬‬
‫ً‬
‫ها قد نجحت أخيرا في ربط قلبيهما ولو باتصال هاتفي ينقل همساتهما‪ ،‬وما الحب‬
‫في األخير سوى قصص أبطالها نظرة وهمسة وقبلة‪.‬‬
‫التفت إلى الباب املفتوح وصحت‪:‬‬
‫‪ -‬تفضلي‪ ،‬أكيد لن تبقي عند الباب‪.‬‬
‫دخلت نرجس بخطوات متثاقلة وكأنها تحترس من مفاجأة ما‪ ،‬تجولت بعينيها في‬
‫أرجاء املكان‪ .‬بدا عليها االستغراب عندما لم تجد أي قطع أثاث أخرى غير تلك‬
‫األريكة املتسمرة كاليتيمة في وسط الشقة‪.‬‬
‫ً‬
‫فاجأتني قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬شقتك هادئة‪ ،‬لكنها حزينة‪ ،‬ألديك مشكلة مع قطع األثاث؟‬
‫أجبتها وأنا أتوجه إلى غرفة النوم‪:‬‬
‫‪ -‬كثرة األثاث توحي باالستقرار واالنتماء‪ ...‬وأنا ال أريد أن أقتل في طارق‬
‫املشرد والالمستقر ‪...‬‬
‫سمعتها تجيبني وأنا منشغل في نزع سترتي ووضعها في الدوالب‪:‬‬

‫]‪[183‬‬
‫‪ -‬ربما من األفضل لك أن تقتل حالة الالستقرار والضياع التي تعيشها‪.‬‬
‫لم أجبها‪ ،‬اكتفيت فقط باختالس النظر إليها وهي تنشغل في النظر إلى اللوحات‬
‫التشكيلية املعلقة على الجدران ‪...‬‬
‫توجهت إلى املطبخ‪ ،‬حيث وضعت القهوة فوق النار وأخرجت عصير الليمون الذي‬
‫أضعه دائما في الثالجة كي ينقذني في مناسبات كهذه عندما يزورني ضيوف على‬
‫غفلة‪.‬‬
‫لحظات قليلة ثم عدت إليها محمال بكؤوس العصير وفناجين القهوة ‪ ...‬كانت ال‬
‫تزال منشغلة باللوحات‪.‬‬
‫ً‬
‫حاولت أن أقطع انشغالها قائال‪:‬‬
‫‪ -‬عصير ليمون أو فنجان قهوة؟‬
‫بدا أنها لم تسمع ما قلت أو أنها منشغلة بالتفكير في ش يء ما‪ .‬كانت تائهة باألصح‪،‬‬
‫ناديتها من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬نرجس !!‬
‫برباط أحمر جميل ظل‬ ‫ْ‬
‫أمسكت خصلة شعرها بأناملها الرقيقة وأعادت حزمها ٍ‬
‫ً‬
‫ملتصقا بشعرها بشكل فوضوي منذ لقائنا‪ ،‬ذكرتني هذه الحركة بليلى ‪...‬‬
‫ليلى دائما تداعب خصلة شعرها بين الحين واآلخر‪ ،‬تعيد ربطها حتى وإن كانت في‬
‫غير حاجة لذلك‪ ،‬ربما فقط لتنثر عطر شعرها في الهواء‪ .‬هي تعرف أن رائحة‬
‫ً‬
‫شعرها تغريني وتبني لي طرقا حمراء إلى الهاوية‪ .‬هاوية الغرام‪.‬‬
‫‪ -‬أختار كأس العصير ‪...‬‬

‫]‪[184‬‬
‫أجابتني نرجس وهي تدير نصف وجهها نحوي‪ ...‬س ْ‬
‫معت سؤالي إذن! لكنها ظلت‬
‫منشغلة‪ ،‬توزع نظراتها على كل لوحة وكأنها تحفظ تفاصيل ألوانها وخطوطها‪ .‬ما‬
‫الذي أثارها في هذه اللوحات يا ترى‪...‬؟‬
‫حملت إليها كأس العصير ووقفت بجانبها متأمال اللوحة التي لم تغادر أعينها منذ‬
‫مجيئنا‪.‬‬
‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫لم أسألها‪ ،‬كنت أنتظر أن تبادلني الحديث‪ ...‬بعد لحظات صمت قالت لي‬
‫يميل للهمس‪:‬‬
‫‪ -‬هذه اللوحة أشعرتني بقلق غريب‪.‬‬
‫ً‬
‫أجبتها مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬القلق هو ذاته السبب الذي جعل ''ادفارد مونش'' يرسمها‪ .‬هي فعال‬
‫تشعر كل من يقف أمامها بحالة من القلق والخوف والشعور الشديد‬
‫بالوحدة‪ ،‬توغل بنا في عالم من الصراخ وسؤال الذات‪ ،‬لذلك س ْ‬
‫ميت‬
‫بلوحة ''الصرخة''‪.‬‬
‫بدا على نرجس اهتمام كبير بلوحة الصرخة فبدأت تسألني عن حياة صاحبها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومعانيها‪ .‬حاولت أن أتهرب من موضوع اللوحة كونه موضوعا حزينا ويثير في داخلي‬
‫ذكريات قديمة ولكنها أصرت أنها لن تشرب العصير إال وأنا أحكي لها كل ش يء عن‬
‫هذه اللوحة‪.‬‬
‫مساء‪ .‬كان نجيب قد‬‫خطفنا الحديث من الزمن حتى وصلت الساعة الى السادسة ً‬
‫طلب مني االتصال به في هذه الساعة ومعي نرجس‪ .‬نظرت إليها وسط لحظة‬
‫صمت حلت علينا قبل أن أقول لها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬إنها السادسة تماما‪ ...‬سأتصل بنجيب‪ ،‬مستعدة؟‬

‫]‪[185‬‬
‫أركب رقم هاتف مززل نجيب بتونس وهي‬ ‫أومأت لي برأسها باإليجاب‪ .‬ملحتها وأنا ِ‬
‫ً‬
‫تعد شعرها وتصلح جلستها وكأن نجيب سيحل بيننا بعد دقائق‪ .‬تبا للحب‪ ،‬ال‬
‫عقل له‪.‬‬
‫ٌ‬
‫منشغل بمالمح نرجس التي امتزجت عليها تعابير الحب‬ ‫ظل الهاتف يرن وأنا‬
‫واالرتباك‪ ،‬فجأة قطعني صوت امرأة على الطرف اآلخر من الخط‪:‬‬
‫‪ -‬ألو ‪...‬‬
‫هذا صوت وداد‪ ،‬صديقة نجيب‪ .‬لكن ما به صوتها حزين هكذا‪.‬‬
‫‪ -‬وداد أليس كذلك‪ ،‬مساؤك ورد‪ ،‬أنا طارق‪...‬‬
‫بنبرة خافتة‪:‬‬
‫لم تمهلني ألكمل كالمي حتى صاحت ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬ع السالمة طارق‪ ،‬أهال‬
‫بثقل وتشتت كبيرين‪ .‬حزن أخافني‬
‫لم تفارق نبرة الحزن صوت وداد‪ ،‬كانت تتحدث ٍ‬
‫ودفعني لسؤالها‪:‬‬

‫‪ -‬ما ِ‬
‫بك وداد‪ ،‬تشكين من ش يء؟‬
‫قبل أن أنهي عبارتي انفجرت باكية والكلمات تقفز منتحرة بال منطق على لسانها‪...‬‬
‫‪ -‬لقد مات يا طارق‪ ،‬قتلوهم‪ ،‬الرصاص الغادر قتلهم‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ من الذي قتل يا وداد؟‬
‫صرخت دون شعور وأنا أترقب سقوط الخبر الكارثة على مسامعي‪ .‬كانت نرجس‬
‫تجلس في ذهول‪ ،‬ال تدري مثلي من الذي قتل؟ وكيف قتل؟ كانت يداي ترتعشان‬
‫وقلبي يدق بعنف وكأنه يريد التحرر من قفص ي الصدري‪.‬‬

‫]‪[186‬‬
‫يا قدر‪ ،‬ال تؤملني‪ ،‬ال تفجعني‪ ،‬ال تأخذ مني أولئك الذين يخففون علي علقم الحياة‬
‫ومرارتها‪ ،‬ال تأخذ مني رفا ي الذين أبني معهم آخر أمالي في الحياة‪ ،‬لكن القدر لم‬
‫يسمعني فززل الخبر الفاجعة على مسامعي بكل سادية‪ :‬استشهد نجيب‪ ،‬وليس‬
‫كريم في املآس ي‪ ،‬نجيب وخليل وفيصل كلهم استشهدوا‪ .‬فجأة صرت‬ ‫وحده‪ ،‬القدر ٌ‬
‫يتيما من أغلى الرفاق ومن أجمل املشاريع في الحياة‪ .‬لست وحدي اليتيم‪ ،‬نرجس‬
‫هي األخرى أصبحت يتيمة حبيبها وفلسطين كلها أصبحت ثكلى مناضليها‪.‬‬
‫ما كادت تمر دقائق قليلة على حلول غيوم الحزن ومغادرة نرجس باكية تجمع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أشالء قصص الحب مع القدر حتى سمعت قرعا متسارعا على الباب وأصوات‬
‫ضجة وخطا كثيرة‪ .‬نهضت دونما اكتراث أللبس سترتي‪ ،‬مشطت شعري‪ ،‬بعدها‬
‫الحظت أن الشيب أصبح يغزو الجانب األيسر من رأس ي أكثر‪ .‬على املرآة تخيلت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نجيب يقف بمحاذاتي مبتسما‪ ،‬تبادلنا النظرات‪ ...‬قلت له ''لم تركتني وحيدا يا‬
‫لطيف نجيب طيف فيصل وخليل وليلى وسلوان ومها وسعيد‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫رفيقي؟'' انضاف‬
‫كل أولئك الذين غادروا حياتي أو أنهوا تواجدهم فيها‪ .‬يا إلهي‪ ،‬غدت حياتي فارغة‬
‫من كل الناس الذين أعرفهم‪ ...‬سأصير في اآلخر مجهوال‪ .‬ماذا تكون حياتنا سوى‬
‫كل هؤالء الذين تواجدوا فيها ونثروا عليها عطرهم كتوابل تنضاف إلى األطباق لبث‬
‫الحياة فيها‪.‬‬
‫قطعني عن هذا املشهد التخيلي صوت القرع الذي بدأ يعلو صوته على الباب‪...‬‬
‫لفتحه‪ ،‬أطفأت نور الشقة وفتحت الباب لتنهال علي‬
‫ِ‬ ‫فاتجهت متثاقل الخطوات‬
‫ً ً‬
‫األيدي شدا وجرا‪.‬‬
‫‪ -‬طارق ولد الخيل‪ ،‬أنت موقوف‪ ،‬هناك مذكرة من الضابطة القضائية‬
‫ضدك‪.‬‬
‫هكذا صاح ضابط يبدو أنه أعلى رتبة من عشرات عناصر الشرطة التي تجوقت‬
‫عند باب شقتي وفي درج العمارة‪.‬‬

‫]‪[187‬‬
‫توقف نظري عند ضخامة أجسادهم املمتلئة‪ ،‬كان نصفهم ال يرتدي زي الشرطة‪،‬‬
‫تعرفهم فقط من الهواتف الالسلكية التي تقبض عليها أياديهم الخشنة‪ .‬رفعت‬
‫نظري ألجد س ي عمر وزوجته فاطمة يسرقان النظر من باب شقتهما املوارب وقد‬
‫علت وجوههم مالمح التساؤل والحزن واألس ى‪.‬‬
‫التفت إلى الضابط قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أليس من حقي أن أعرف السبب؟‬
‫أجابني بعنف‪:‬‬
‫هناك سيخبرك املسؤولون‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أضفت إليه مستعذبا استفزازه‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت لست بمسؤول؟‬
‫لم أكد أنهي جوابي الساخر حتى دفعني رجال الشرطة إلى الززول على درج العمارة‬
‫ماسكين بذراعي األيمن‪ ،‬أحسست بألم بالغ في كتفي املصاب حد الصراخ‪ ،‬لكنني‬
‫منعت نفس ي أن أبدو ضعيفا أمام هؤالء‪.‬‬
‫عند باب العمارة وجدت عناصر أخرى من الشرطة تتجمهر حول سياراتهم التي‬
‫انطلقت منها أضواء حمراء وخضراء جميلة‪ ،‬حولت الشارع إلى مرقص بملهى ليلي‬
‫ال ينقصه سوى أصوات األغاني وبائعات الهوى‪.‬‬
‫دفعني رجال الشرطة إلى سيارة كبيرة من نوع بوجو بوكسر تلبس اللون األبيض‬
‫كمحتالة تعلن عليك السالم بألوانها وهي تبتلع في جوفها أبناء الوطن الذين‬
‫سبحوا ضد تيار النظام الحاكم‪ ،‬مزهوة بالعبارة التي كتبت على ظهرها ''األمن‬
‫الوطني''‪.‬‬

‫]‪[188‬‬
‫ً‬
‫أي عبث هذا؟! متى كان األمن وطنيا؟‪ ،‬متى كان رجال األمن والشرطة والجيش‬
‫ً‬
‫وطن يخدمون أصال؟ أليس هؤالء سوى أداة لحماية‬ ‫يخدمون الوطن؟‪ ،‬أي ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الطبقة الحاكمة وحراسة ممتلكاتها؟ تماما كما يضع األثرياء حراسا على أبواب‬
‫وجدران فيالتهم وقصورهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ثم إن كان هؤالء فعال حراسا للوطن‪ ،‬ملاذا يعتقلوني كل مرة هكذا بسبب الكتب‬
‫التي آمنت بها وباألفكار التي أدافع عنها؟ أيكره الوطن مناضليه في السياسة والفكر‬
‫وهز الخصور؟‬‫والثقافة في الوقت الذي يمجد ويكرم مناضليه في الغناء والرقص ِ‬
‫ً‬
‫منافق كبير وضع عقله في نصفه السفلي؟‬
‫ٍ‬ ‫هل تحول الوطن أيضا إلى‬
‫ما إن تحركت سيارة الشرطة‪ ،‬وأنا جالس على مقعد خشبي تزاحمني عليه بقية‬
‫أجساد رجال األمن‪ ،‬حتى مألت فكري صور نرجس وهي تنتظر قبالتي صوت نجيب‬
‫بكل أمل وحب‪ ،‬بابتسامة تعلو وجهها وعينيها تلمعان ببريق يض يء ظالم كل من‬
‫يجلس بمحاذاتها‪.‬‬
‫ً‬
‫هكذا نستقبل جميعا الحب‪ ،‬نفتح له ذراعينا بكل ثقة وسذاجة لنضمه إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صدورنا عسانا نبني مشاريعا جديدة في الحياة‪ .‬لكن الحب يرفض دائما أن يأتينا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هادئا‪ ،‬كريما‪ ،‬يرفض أن يفتح لنا ذراعيه هو اآلخر ليحتضن صدورنا الخاوية من‬
‫الحب والطالبة للجوء من قهر التشرد العاطفي وجفاف محاصيل الحب‪.‬‬
‫الحب قبل أن يأتينا‪ ،‬يجلس إلى طاولة القدر ليتآمر معه على أمننا وسالمة قلوبنا‪،‬‬
‫ً‬
‫ليتباحثا معا عن نوع األسلحة التي ستدمر حياتنا وتحيلها أطالال وساحة خراب‪.‬‬
‫غفلة مني فتح باب سيارة األمن ليززل عناصر الشرطة بالتتابع‪ .‬نهرني أحدهم‬
‫في ٍ‬
‫ً‬
‫بعصبية قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أنزل أخونا‪.‬‬

‫]‪[189‬‬
‫نظرت إلى عينيه‪ ،‬كانتا حمراوين غاضبتين دونما سبب‪ .‬أي حياة يعيش هؤالء؟‬
‫ينفذون األوامر طيلة حياتهم كأصنام تتغذى على الكره والغضب لخدمة‬
‫أسيادهم وحينما يصلون إلى سن التقاعد يرمونهم كجيف ال تحمل سوى عظامهم‬
‫بعد أن امتص سيدهم اللحم والدم‪.‬‬
‫حينما نزلت على درج السيارة اقتادني عنصري شرطة في طرقة طويلة شبه مظلمة‪.‬‬
‫تذكرت هذا املكان‪ ،‬إنه الدائرة السابعة ألمن حسان‪ ،‬وذاك املكان الذي نزلنا فيه‬
‫هو مرآب سيارات األمن‪ .‬لدي قصص طويلة مع هذا املكان الرومانس ي بهراواته‬
‫وعنف شرطيه اللفظي والجسدي منذ أيام دراستي بالجامعة‪.‬‬
‫في نهاية الطرقة اصطفت مكاتب كثيرة على اليمين وعلى الشمال‪ .‬توقفنا أمام‬
‫املكتب الرابع على اليسار كتب في أعلى بابه ''العميد حمو''‪ .‬توقف ثالثة عناصر‬
‫عند الباب فيما دخلت أنا وشرطي آخر إلى املكتب‪ .‬أقفل الباب ثم قال لي قبل أن‬
‫يغادر‪:‬‬
‫‪ -‬اجلس هنا‪ .‬ممنوع أن تتحرك فهمت‪.‬‬
‫جلست على كرس ي بجانب املكتب لدقائق طويلة قبل أن يحضر عميد الشرطة‪.‬‬
‫جلس أمامي على املكتب بمالمحه املتجهمة ونرفزة مغرضة تقفز من عينيه‪ .‬لم‬
‫ً‬
‫يبدو لي شكله غريبا‪ ،‬فقد جمعتنا الظروف أكثر من مرة قبل عشرين سنة‪ ،‬عندما‬
‫ً ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬
‫كان ضابطا صغيرا‪ .‬ما شاء هللا‪ ،‬هو صار ضابطا كبيرا وأنا صرت فاشال كبيرا‪ .‬ال‬
‫غرابة في ذلك‪ ،‬فكل من يضع نفسه ضد الدولة وضد التيار مصيره الفشل الكبير‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إلي مليا ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬أكيد أنت تعلم سبب إحضارك عندنا؟‬
‫ً‬
‫أجبته مستغربا‪:‬‬
‫‪ -‬كيف يمكنني أن أعلم في نظرك؟‬

‫]‪[190‬‬
‫‪ -‬تريد أن تبدأ بداية غير ودية إذن؟‬
‫أردف وهو يقف لينتقل إلى املقعد الذي يوجد قبالتي عند مقدمة املكتب‪:‬‬
‫‪ -‬يا أخي راعي ال ِعشرة التي كانت بيننا قبل سنوات‪...‬‬
‫توقف للحظات‪ ،‬أشعل سيجارته ثم أشار ملساعده بحركة من يده فهمت أنه قد‬
‫طلب منه فتح محضر التحقيق‪.‬‬
‫التفت إلي وقال بنبرة املحقق الغاضب‪:‬‬
‫‪ -‬آخر مرة التقيت بها نجيب الصحراوي متى كانت؟‬

‫‪ -‬منذ ٍ‬
‫زمن طويل‪ ،‬عشرين سنة أو أكثر‪ ،‬ال أذكر‪...‬‬
‫‪ -‬أنت تكذب‪.‬‬
‫أجبته غير مكترث‪:‬‬

‫‪ -‬أنا أدرى بحياتي وبمن ألتقي فيها على ٍ‬


‫كل‪.‬‬
‫رد علي بقوة‪:‬‬
‫‪ -‬آخر مرة التقيت فيها نجيب الصحراوي كانت في بداية شهر أبريل في‬
‫حفل زواج رفيقتكم حليمة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال أذكر أني التقيته هناك وإن كان قد حضر أصال‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟ أين يوجد؟‬
‫‪ -‬سمعت أنه غادر املغرب بعد دراسته في الجامعة‪.‬‬
‫‪ -‬صحيح ‪ ...‬ذهب إلى فلسطين ليقاتل هناك إلى جانب الجبهة الشعبية‬
‫لتحرير فلسطين ويتردد على املغرب بين الحين واآلخر‪.‬‬

‫]‪[191‬‬
‫‪ -‬ال علم لي بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ال علم لك بذهابه إلى فلسطين أم بتردده على املغرب؟‬
‫‪ -‬ال علم لي باألمرين‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أكيد ستنكر كما هي عادتك دائما‪ ،‬لكن تأكد هذه املرة اإلنكار لن‬
‫يفيدك‪ ،‬أصبحنا نعلم عنكم كل ش يء‪ .‬نعلم أنك ونجيب الصحراوي‬
‫وفيصل الحرشاوي وناصر الواعد وليلى املرابط وآخرون غادرتم إلى‬
‫فلسطين بعد دراستكم في الجامعة لاللتحاق بالجبهة في فلسطين‪ ،‬بقيتم‬
‫هناك لفترات متفاوتة‪ ،‬عاد بعضكم دون أن يرجع وبعضكم اآلخر يتردد‬
‫ً‬
‫على فلسطين مرة تلو األخرى‪ ...‬نعلم أيضا أن مخططاتكم ترمي إلى‬
‫تشكيل جيش قومي عربي يقاتل إسرائيل ويضرب مصالح الغرب في‬
‫الدول العربية‪ ...‬ما رأيك؟ ألستم مكشوفين لنا؟‬
‫شعرت باستغراب وذهول من إطالع األمن املغربي على كل مخططاتنا ومعلوماتنا‬
‫السرية‪ .‬كيف استطاعوا الوصول إلى كل هذه املعلومات؟ أكيد نحن مخترقين‪...‬‬
‫فكما استطاعوا تجنيد عزيز ليتجسس علينا أكيد هناك جاسوس آخر لهم‬
‫ً‬
‫يتصيدنا‪ ،‬ال عجب في أن يغتالوا نجيب وفيصل وخليل دفعة واحدة إذن‪...‬‬
‫ً‬
‫بقيت جامدا غير مكترث بما قاله الضابط ليصيح من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬ألن تجيب؟‬
‫ً‬
‫أجبته متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬على ماذا سأجيب يا سيادة املحقق؟ على تخيالتك وقصصك‬
‫السينمائية؟ ألهذا أنا موقوف اآلن؟‬

‫]‪[192‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬واصل إنكارك‪ ،‬اإلنكار لن يزيد وضعك إال تعقيدا‪ ...‬كم مرة ذهبت إلى‬
‫فلسطين؟‬
‫‪ -‬وال مرة‪.‬‬
‫‪ -‬لدينا صور لك خالل زياراتك املتكررة إلى بيروت والقاهرة‪...‬‬
‫‪ -‬ظننتك سألتني عن فلسطين وليس لبنان أو مصر‪...‬‬
‫‪ -‬من هناك كنت تدخل إلى فلسطين رفقة مجموعتك‪.‬‬
‫‪ -‬على حد علمي من املستحيل دخول فلسطين من الحدود اللبنانية أما إن‬
‫كنت قد دخلتها من الحدود املصرية فأكيد ستجدون تأشيرة حرس‬
‫الحدود املصري على جواز سفري‪...‬‬
‫أكيد تستعملون جوازات سفر مزورة أو تعبرون في األنفاق األرضية من‬ ‫‪-‬‬
‫سيناء إلى غزة‪...‬‬
‫ً‬
‫أرني دالئلك إذن‪ ،‬أرني صوري بلبنان والقاهرة كما قلت‪ ...‬لن تجد شيئا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫ما الذي يجعلك مطمئننا هكذا؟ أتغير مظهرك ومالمحك عند ذهابك إلى‬ ‫‪-‬‬
‫فلسطين؟‬
‫طمئن نعم‪ ،‬لسبب بسيط هو أن كل ما تقوله عبارة عن ترهات‬ ‫م ٌ‬ ‫‪-‬‬
‫وتهيؤات‪ ...‬لم أكن أعلم أن األمن واملخابرات على هذا القدر من‬
‫االرتجالية والالحرفية‪.‬‬
‫الذ بالصمت‪ ،‬بحث عن سيجارة جديدة أشعلها وهو ينظر إلى النافذة الصغيرة‬
‫التي يدخل منها ضوء خافت ثم قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬خليل الكاتم‪ ،‬أتعرفه؟‬

‫]‪[193‬‬
‫‪ -‬ال‬
‫‪ -‬فيصل الحرشاوي؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أعرفه‪...‬‬
‫‪ -‬كيف تعرفت عليه؟‬
‫‪ -‬ال أظنك نسيت ملفي عندكم خالل هذه السنين سيادة الضابط‪...‬‬
‫رد علي بعنف‪:‬‬
‫‪ -‬فقط أجب على األسئلة‪.‬‬
‫كان يدرس معي في الجامعة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫وكان رفيقك أيضا في فصيل الطلبة القاعديين قبل تأسيسكم لحركة‬ ‫‪-‬‬
‫القوميين العرب‪.‬‬
‫ً‬
‫يوم من األيام‪ .‬يبدو أنك‬
‫معلوماتك غير صحيحة‪ ،‬أنا لم أكن قاعديا في ٍ‬ ‫‪-‬‬
‫فعال تنس ى ملفاتك مع الزمن‪.‬‬
‫ً‬
‫ألم تكن ماركسيا؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ثقافتك محدودة لألسف‪ ،‬ال يكفي أن تكون ماركسيا لتصبح قاعديا‪،‬‬
‫طلبة النهج الديمقراطي القاعدي هم ماركسيين لينينيين أما أنا فكنت‬
‫ً‬
‫متعاطفا مع الفكر املاركس ي فقط دون أن أتخندق في اللينينية أو املاوية‬
‫أو التروتسكوية‪.‬‬
‫‪ -‬أذكر أننا وجدنا رسائل لك في أيام الجامعة تصف فيها الحركة‬
‫التروتسكوية بالتحريفية والشوفينية أال يفش ي هذا أنك من أتباع‬
‫املاركسية اللينينية‪.‬‬

‫]‪[194‬‬
‫‪ -‬ال أذكر أنني كتبت هكذا أشياء‪.‬‬
‫قلي إذن ملاذا انشققتم عنهم وأسستم فصيل قومي عربي بالجامعة؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬قلت نحن لم نكن مع القاعديين لننشق عنهم‪.‬‬
‫توقفت لبرهة عن الحديث‪ ،‬كان يواصل النظر إلي كي أكمل جوابي عن سؤاله‪...‬‬
‫ارتأيت أن أهادنه قليال اآلن قبل أن أعود الستفزازه‪.‬‬
‫ً‬
‫أردفت قائال‪:‬‬
‫‪ -‬في سنتي األولى بالجامعة انخرطت في خلية سرية كانت معروفة لدى‬
‫الطلبة اليسارين باسم ''البعثيين الجدد'' تضم مجموعة من الطلبة‬
‫ذوي امليوالت القومية العربية‪ .‬كنا نقيم حلقات نقاش وتدارس حول‬
‫الفكر القومي العربي فقط‪ .‬في السنة الثانية طرحت فكرة تأسيس تيار‬
‫يوحد صفوف كل القوميين العرب وإعادة صياغة الفكر القومي العربي‬
‫وفق ثوابت جديدة تنهل من تال ي أفكار قسطنطين زريق‪ ،‬ساطع‬
‫الحصري‪ ،‬ميشال عفلق‪ ،‬منيف الرزاز‪ ،‬زكي األرسوزي وكل منظري‬
‫الفكر القومي العربي ولم ال تعميم التجربة على كافة األقطار العربية‪.‬‬
‫‪ -‬ما املبادئ العامة التي رسمتموها لحركتكم آنذاك؟‬
‫‪ -‬هي ذاتها مبادئ الفكر القومي العربي‪ ،‬وحدة الوطن العربي وتحريره من‬
‫قبضة االستعمار والتحالف الطبقي العميل له باإلضافة إلى تبني‬
‫االشتراكية العربية كنهج اقتصادي‪ ...‬ميزتنا الوحيدة أننا نهدف إلى وحدة‬
‫كل فصائل الصف القومي العربي ‪...‬‬
‫‪ -‬توحيد البعثيين والناصريين في حركة واحدة هذا حلم مثالي‪.‬‬
‫‪ -‬وما الحياة أيها العميد سوى ٌ‬
‫حلم وعمل‪...‬‬

‫]‪[195‬‬
‫‪ -‬وماذا عن ِ‬
‫حمل السالح؟‬
‫ً‬
‫تظاهرت أنني لم أفهم مبتغاه فقلت له‪ :‬عفوا‪.‬‬
‫أجابني‪:‬‬
‫‪ -‬في حركة القوميين العرب ألم تفكروا في حمل السالح للنضال ضد‬
‫إسرائيل واألنظمة العربية التي تنعتوها بالرجعية والعميلة؟‬

‫‪ -‬ضد إسرائيل نعم‪ ،‬هذا أول ٍ‬


‫نضال يؤمن به القومي العربي‪.‬‬
‫‪ -‬إذن سبق وأن ذهبت إلى فلسطين لقتال إسرائيل؟‬
‫‪ -‬سألتني إن كنا نفكر في ذلك؟ وليس إن كنت قد ذهبت!‬
‫‪ -‬ألم تذهب إلى هناك أنت ورفاقك؟‬
‫‪ -‬ال‬
‫‪ -‬لم؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬املسألة كانت صعبة ماديا ولوجستيا‬
‫‪ -‬لكن كانت هناك أطراف خارجية تدعمكم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أبدا !!‬
‫‪ -‬ال تنكر‪ ،‬رصدنا في تلك اآلونة زيارات متكررة لشخصيات فلسطينية‬
‫ً‬
‫ومصرية عندكم‪ ،‬على رأسهم خليل الكاتم الذي ربط حركتكم تنظيميا‬
‫بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين‪.‬‬
‫ً‬
‫أجبته مستهترا‪:‬‬
‫‪ -‬ال علم لي بهذا‪.‬‬

‫]‪[196‬‬
‫ً‬
‫نظرت إليه متذمرا قبل أن أضيف‪:‬‬
‫‪ -‬بربك ملا أنا هنا؟ ملاذا هذا التحقيق العبثي؟‬
‫ً‬
‫ظل صامتا للحظات ثم قال لي بصوت خافت‪:‬‬
‫برصاصة في رأسه باألمس في قمارت‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬صديقك نجيب وجد مقتوال‬
‫بضاحية تونس العاصمة‪ ،‬هو وخليل الكاتم وفيصل الحرشاوي‪.‬‬
‫ً‬
‫اصطنعت االندهاش والتأثر قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أكيد هذا الخبر غير صحيح‪.‬‬
‫‪ -‬لألسف الخبر صحيح‪ ،‬البركة في راسك‪...‬‬
‫‪ -‬من قتلهم؟‬
‫‪ -‬السلطات التونسية تتهم جهاز استخبارات دولة أجنبية‪...‬‬
‫‪ -‬وما السبب في التحقيق معي أنا إذن؟ هل أنا هو جهاز استخبارات هذه‬
‫الدولة األجنبية؟‬
‫أجابني وهو يبتسم بخبث‪:‬‬
‫‪ -‬في شقة نجيب في تونس وجد رجال األمن قطع سالح وجوازات سفر‬
‫لعمل عسكري كبير‬
‫مزورة ووثائق تفيد أن نجيب ورفاقه كانوا يعدون ٍ‬
‫تحت مسمى الجيش القومي العربي بفلسطين ومجموعة من الدول‬
‫العربية‪ ،‬بطبيعة الحال أنت تعرف عما أتكلم بحكم أنك عضو في‬
‫املجموعة لذلك فأنت متهم باالنضمام لعصابة دولية مسلحة واالنخراط‬
‫في أعمال عدائية تمس أمن واستقرار اململكة‪.‬‬
‫‪ -‬استقرار اململكة !!‬

‫]‪[197‬‬
‫‪ -‬بهذه التهم سنحاكمك بموجب قانون اإلرهاب‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا بيننا املحكمة‪.‬‬
‫‪ -‬ال تغتر هكذا‪ ،‬األمر ليس بهذه السهولة‪.‬‬
‫استرسل قائال بعد أن غير نبرة صوته وكأنه يستجدي مساعدتي‪:‬‬
‫‪ -‬اسمع يا طارق‪ ،‬إن ساعدتنا سنساعدك‪ ...‬أنت تعلم هذا أمن اململكة‬
‫والدولة سترد جميل مساعدتك بالعفو عنك وعن ماضيك املتعب‪...‬‬
‫‪ -‬ما املطلوب مني؟‬
‫‪ -‬نريد أن نعرف ما كانت تخطط له مجموعة نجيب‪ ،‬من يدعمها في‬
‫الداخل والخارج‪ ،‬أسماء أعضائها ومموليها وطريقة عملها وتدريبها في‬
‫فلسطين‪...‬‬
‫نبرة متهكمة‪:‬‬
‫أجبته ب ٍ‬
‫‪ -‬خلت أنكم تعلمون كل ش يء عنهم! ألم تقل لي أن الوثائق التي وجدتموها‬
‫في شقة نجيب بتونس تفضح كل ش يء؟‬
‫ً‬
‫بدا على وجهه التذمر واالنزعاج‪ ،‬لم أكترث له‪ ،‬أضفت قائال‪:‬‬

‫‪ -‬ثم كيف لي أن أعرف كل هذه األشياء‪ ...‬أنا لست معهم‪ ،‬ولم ِ‬


‫ألتق نجيب‬
‫وفيصل منذ أيام الجامعة‪...‬‬
‫وقف وبدأ يصرخ ويضرب على الطاولة بكفيه وهو يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬ستعترف يعني ستعترف‪ ،‬برغبتك أو مرغما ستعترف‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا ستفعل لي؟ ستعذبني؟ ستعود ألساليبكم القديمة؟‬

‫]‪[198‬‬
‫‪ -‬متى كان التعذيب وسيلتنا القديمة هو وسيلتنا على الدوام مع من ال‬
‫يتعاون مع األمن‪ ...‬القرعة والشيفون والطيارة الزالت تنتظر أمثالك‪...‬‬
‫‪ -‬إذن ال تنفع معكم ال إنصاف وال مصالحة وال عهد جديد‪...‬‬
‫ً‬
‫انحنى برأسه قليال كأنه يود أن يهمس لي ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬اإلنصاف واملصالحة وصلة اشهارية لالستهالك ال يصدقها سوى األغبياء‬
‫أمثالك‪.‬‬
‫قال عبارته وضرب املكتب بقوة حتى دوى صدى الضربة في الغرفة وعاد لصراخه‬
‫من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬هنا ستعترف بكل ش يء‪ ،‬لن تنام‪ ،‬لن تأكل‪ ،‬لن تشرب‪ ،‬لن تدخن حتى‬
‫تعترف بكل ما يدور في رأسك وإن لم تعترف بإرادتك سزرميك في أوسخ‬
‫الزنازين وأقذرها وسنكرمك بكل أساليب التنكيل واإلهانة حتى تعترف‬
‫رغما عنك‪.‬‬
‫التفت إلى مساعده وجدته ساكنا دون حركة‪ ،‬ال يكتب أي ش يء على املحضر‪،‬‬
‫خاطبته محاوال استفزاز العميد املحقق وكأني ال أكترث لكالمه‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ال تكتب ما يقوله سيادة العميد أم أن كالمه خارج السياق ال معنى‬
‫له؟‬
‫استشاط غضبا وارتمى على عنقي بكلتا يديه‪ ،‬ضغط علي محاوال خنقي بهستيريا‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬وهللا يا مك حتى نخرج منك القديم والجديد‪...‬‬

‫]‪[199‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بقيت باردا جامدا في مكاني‪ ،‬غضبه وانفالت أعصابه يدل على فشله في الحصول‬
‫ٌ‬
‫ودليل على أنه ال يملك أي خيط أو دليل حقيقي كما يزعم‪.‬‬ ‫على أي معلومة تفيده‬
‫اعتقالي لن يكون سوى عمال روتينيا ثم سيخلون سبيلي بعدها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بكعب حذائه غضبا على األرض كمن ينفس‬ ‫ِ‬ ‫خرج من املكتب مسرعا‪ ،‬يضرب‬
‫هزيمته‪ .‬بقيت لوحدي دقائق قليلة ثم عاد رجال أمن ليمسكا بي وأخرجاني من‬
‫املكتب إلى زنزانة في آخر الطرقة التي يوجد بها مكتب العميد‪ .‬بابها من قضبان‬
‫حديد تسمح برؤية كل ما يدور في داخلها‪.‬‬
‫أدخالني وأقفال الباب ثم غادرا‪ .‬كانت زنزانة ضيقة بالكاد تتسع لتمدد شخص‬
‫قطع من الكرتون‪ ...‬بحثت عن دورة‬ ‫بطولي‪ ،‬ال يوجد فيها سوى فراش خفيف فوق ٍ‬
‫صنبور صدئ يعلو حفرة صغيرة في األرض تصلح لكل‬ ‫ٍ‬ ‫مياه فلم أجد غير‬
‫االستعماالت‪.‬‬
‫ً‬
‫أسلمت جسدي املتعب لألرض‪ ،‬تمددت محاوال إراحة جسدي والتفكير في أحداث‬
‫جارف‪ ،‬تذكرت كل‬ ‫ٍ‬ ‫كنهر‬
‫الليلة‪ .‬لم أشعر حتى بدأت أبكي والدموع تنهمر من عيني ٍ‬
‫ً‬
‫املنعطفات التي مرت بها حياتي وجعلتني كائنا حزينا تائها‪ .‬مالي أنا ومال الوطن؟‬
‫ملاذا انتميت إلى هذه املبادئ الخاوية‪ ،‬اليسار‪ ،‬العروبة‪ ،‬االشتراكية‪ ،‬الثورة‪،‬‬
‫ً‬
‫الحرية وفلسطين؟ كان خطئي الكبير أنني قرأت كتبا رمتني خارج تيار الحياة‬
‫ً‬
‫وبعيدا عن سياق الواقع‪ ،‬بدأت باليسار والقومية العربية فانتهيت إلى شبه‬
‫إنسان‪ ،‬ال أنا حي وال أنا ميت‪ .‬الشعب منصرف إلى مباهج الحياة واللهو واملرح‬
‫والجنس‪ ،‬غير مكترث بمآس ي الوطن‪ ،‬وأنا أجلس هنا أحتس ي كؤوس ألم أربعين‬
‫سنة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫غضب يحرق الدم في عرو ي فصرخت كاملجنون بأقص ى صوتي‪ :‬تبا‬ ‫تملكني‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫للعروبة‪ ،‬تبا للوطن‪ ،‬تبا لفلسطين‪ ،‬تبا لالشتراكية ولحلم الثورة‪ ...‬تبا للمبادئ‪ ،‬تبا‬
‫ً‬
‫للجميع‪ ،‬تبا للجميع‪.‬‬

‫]‪[200‬‬
‫بقيت أصرخ حتى أنهكني الصراخ وتطلعت إلى نور القمر من خالل النافذة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الصغيرة القابعة بأعلى الزنزانة وأنا أكفكف دمعي مستشعرا أمال جديدا‬
‫يجتاحني‪.‬‬
‫بيت أماليا كاملجنون‪،‬‬
‫تحقيق فارغ‪ ،‬ثم هرعت إلى ِ‬
‫ٍ‬ ‫في الصباح‪ ،‬أخلوا سبيلي بعد‬
‫أستجديها أن نتزوج بسرعة ونغادر هذا الوطن اللعنة‪ ...‬فما عادت تربطني به إال‬
‫ذكريات قديمة وسأنساها‪ .‬سأنس ى كل مبادئي وسأخونها‪ ...‬خالص ي هو النسيان‬
‫والخيانة كي أعيش مثل با ي البشر‪.‬‬

‫]‪[201‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ23‬‬
‫الدار البيضاء – ‪ 82‬تشرين الثاني‪/‬نونبر ‪8102‬‬

‫ً‬
‫جلست هذا املساء إلى فناجين قهوتي‪ ،‬تائهة أقلب صفحات الشهور املاضية‬
‫وتسارع األحداث التي جعلتني أدور في حلقة مفرغة‪ .‬ال أنا انتهيت من قصتي مع‬
‫طارق وال حافظت على زواجي من جالل‪ .‬ال أنا مع الحبيب وال أنا بدونه‪ ،‬كما قال‬
‫الرومي‪ .‬حتى املشروع الوحيد الذي دفع بجرعات األمل في حياتي ها قد دمر هو‬
‫اآلخر‪ .‬كم كنت مغفلة عندما ظننت أن حركة نحن نستحق ستنجح وستبني وطنا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جديدا لنا جميعا‪ .‬لقد أصبحت أشك في كون هذه البالد تستحق فعال األفضل‪.‬‬
‫ً‬
‫أشك في أن هذا الشعب سينتفض يوما من أجل الحرية والعدل والحياة الكريمة‪.‬‬
‫عندما كنت أهم بحمل فنجان القهوة إلى املطبخ رن الهاتف الداخلي للعمارة‪.‬‬
‫تساءلت مع نفس ي قبل أن أحمل السماعة ألرد على املتصل عمن يكون هذا الذي‬
‫سيأتي عندي في هذا الوقت املتأخر‪ ،‬أتراه جالل عاد ليأخذ شيئا ما؟ أم أنها أمي‬
‫ً‬
‫فاطمة؟ أجبت على الهاتف فجاءني صوت بركات الهثا وسريعا‪:‬‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬من فضلك افتحي لي الباب بسرعة‪...‬‬
‫‪ -‬ما بك بركات؟ اش واقع؟‬
‫‪ -‬افتحي لي أوال‪...‬‬
‫شعرت برعشة في أناملي وأنا أضغط على زر الهاتف كي أفتح له باب العمارة‪ ،‬ثم ذهبت‬
‫بخطى سريعة ألفتح له باب الشقة‪ .‬سمعته يصعد وكأنه هارب من ش يء ما‪ ،‬ما إن‬
‫وصل إلى شقتي حتى دخل وأقفل الباب‪ ،‬ثم بقي واقفا وراءه يلتقط أنفاسه املختنقة‪.‬‬
‫سألته بذعر وأنا ال أعرف ما الذي يجري معه‪:‬‬

‫]‪[202‬‬
‫‪ -‬بركات أفزعتني؟ ماذا هناك؟‬
‫رد علي بصوت متقطع‪:‬‬
‫‪ -‬رجال األمن يبحثون عني‪...‬‬
‫ً‬
‫قاطعته مستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫معلوماتك صحيحة‪ .‬بعد أن اتضح للنظام أن الحركة قررت‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لقد كانت‬
‫التصعيد بعد خطاب امللك وصدور بيان الحركة باألمس‪ ،‬تحركت قوات‬
‫ً‬
‫األمن هذا الصباح إلى مكتب ناصر واعتقلته ثم اعتقلت عبد الصمد أيضا‪.‬‬
‫عاد اللتقاط أنفاسه املتقطعة للحظات ثم اتجه إلى األريكة املتواجدة بمدخل‬
‫الصالون ورمى جسده عليها‪ ،‬بدا متعبا والعرق يتصبب من جبينه بغزارة‪.‬‬
‫استجمع أنفاسه ثم أردف قائال وأنا واقفة بمحاذاته‪:‬‬
‫‪ -‬عندما وصلني الخبر أسرعت إلى شقتي كي أجمع حقيبتي وأغادر املدينة‪،‬‬
‫لكنني وجدت الشرطة تحيط بالحي الذي أسكن فيه وتبحث عني‪ ...‬فلم‬
‫يكن عندي غيرك ألسرع إليه‪.‬‬
‫جلست بجنبه أفكر فيما قاله‪ ،‬قبل أن أعبر عما أشعره بعد لحظة صمت ثقيلة‬
‫خيمت علينا‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو ما كنت أخشاه‪...‬‬
‫رد بانفعال‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا سنفعل اآلن يا ليلى؟‬

‫]‪[203‬‬
‫‪ -‬ال ش يء‪ ،‬ناصر وعبد الصمد أذكياء ولهم تجربة طويلة في االعتقال‬
‫سيعرفون كيف يتصرفون‪ .‬الشرطة ستبقيهم عندها حتى تهدأ األوضاع‬
‫ويمررون قانون األحزاب الجديد وبعد ذلك سيطلقون صراحهم‪.‬‬
‫‪ -‬لكن لن نبقى مكتوفي األيدي هكذا !!‬
‫‪ -‬صدقني ليس بيدنا ما نفعله‪ ،‬األمن لن يوجه لهم أي تهمة‪ ،‬سيبقيهم‬
‫عنده حتى تهدأ األوضاع ويمررون مخططهم‪ .‬علينا أن نفكر فيك أنت‬
‫اآلن وكيف نواريك عن أعينهم‪.‬‬
‫‪ -‬لن أبقى هنا‪ ...‬تبا لهذا الوطن‪.‬‬
‫ً‬
‫التفت إليه متسائلة‪:‬‬
‫‪ -‬كيف لن تبقى هنا؟ إلى أين ستذهب؟‬
‫‪ -‬سأغادر إلى فلسطين‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نظرت إليه مستغربة‪ ،‬بدا جادا في كالمه فأجبته ساخرة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ماذا؟ أجننت؟ تعتقد فلسطين ساحة للعلب تلجأ لها وتغادر كما تشاء‪.‬‬
‫ال تجعل الغضب يعميك‪ ،‬هذه فترة توتر قصيرة مع النظام وستمر‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم أردفت وأنا أدفع كتفه ممازحة‪:‬‬
‫‪ -‬هذه أول محنة لك مع النظام‪ ،‬استعد ستعيش ما هو أفظع في تجاربك‬
‫القادمة يا بطل‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يجبني‪ ،‬ظل شاردا لدقائق قبل أن يقطع صمته‪:‬‬
‫‪ -‬لن أبقى في هذا الوطن املتعفن‪ ،‬أصبحت لدي قناعة أن كل املشاريع‬
‫النضالية ستفشل هنا‪ .‬هذا الوطن ال يريد مناضلين‪ ،‬ال يريد مثقفين وال‬

‫]‪[204‬‬
‫من يحملون هم الحرية‪ .‬هذا الوطن قدره االستبداد والتخلف وقهر‬
‫شعبه‪ .‬من األجدر لي أن أذهب إلى فلسطين ألناضل هناك من أجل‬
‫املبادئ الحقيقية التي أؤمن بها وأنتهي‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أجبته ساخرة وأنا أرى فيه مشروعا جديدا لطارق ولد الخيل‪:‬‬
‫‪ -‬تقصد لتهرب إلى ٍ‬
‫موت جميل‪.‬‬
‫ً‬
‫رد علي منفعال‪:‬‬
‫‪ -‬وإن يكن‪ ...‬من فضلك يا ليلى أنا أعلم أنه لك عالقات بحركات املقاومة‬
‫في قطاع غزة وتستطيعين إيجاد مكان لي بينهم‪ ،‬ساعديني أللتحق بهم‪،‬‬
‫من فضلك‪ ...‬هذا آخر طلب مني لك‪...‬‬
‫نظرت إليه مطوال قبل أن أسأله‪:‬‬
‫‪ -‬كيف علمت أن لدي عالقة بحركات املقاومة في غزة؟‬
‫بصوت مستسلم‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أجابني‬
‫‪ -‬في عرس صديقتك حليمة‪ ،‬سمعت رفاقك يتكلمون في هذا املوضوع‬
‫ً‬
‫أنت أيضا‪ ،‬كما أن نجيب‬
‫وعلمت أن أغلبهم قاتلوا في فلسطين ومنهم ِ‬
‫وطارق قد عادا لتوهما من هناك‪...‬‬
‫‪ -‬وماذا عن حياتك الخاصة وعائلتك‪ ،‬ستترك كل ش يء؟ ماذا عن مشروع‬
‫هجرتك إلى كندا واالستقرار هناك ستترك كل ش يء؟‬
‫‪ -‬صدقيني‪ ،‬لم يعد لي مشروع في الحياة‪ ،‬لقد تبعثرت كل آمالي‪ ...‬ساعديني‬
‫فقط في تحقيق حلمي األخير‪ .‬أن أذهب إلى فلسطين وأؤدي واجبي هناك‬
‫كأي عربي يناضل من أجل وطنه وقضيته‪.‬‬

‫]‪[205‬‬
‫تركت الصمت يخيم علينا لدقائق طويلة وأنا أفكر كيف تحول بركات من ذاك‬
‫الشاب املفعم بالحياة وباألمل إلى انسان يعيش على حافة أحالمه وآماله‪ .‬حملت‬
‫نفس ي مسؤولية هذا االنعطاف املؤلم في حياته‪ ،‬فأنا من عرفته على رفا ي املتعبين‬
‫بأوجاع السياسة والقومية العربية وبآالم الوطن وأنا من دفعه إلى مشروع حركة نحن‬
‫وطن ال يبتغي له القدر الحرية‬‫نستحق فاصطدم بمأساة النضال من أجل ٍ‬
‫والديمقراطية واحترام كرامة اإلنسان‪.‬‬
‫فكرت في أن أمنعه عن فكرة الذهاب إلى فلسطين أو على األقل أال أساعده فيها‬
‫ً‬
‫لكن شيئا ما بداخلي كان يقول لي ساعديه‪ ،‬ففلسطين أمل كل القلوب الصادقة‬
‫التي أتعبها القدر في دروب النضال‪ .‬قلت له بصوت متقطع وحزين‪:‬‬
‫‪ -‬قبل أن أتصل بالرفاق في غزة‪ ،‬علي أوال أن أدبر لك جواز سفر باسم‬
‫آخر‪ ،‬ال يمكنك أن تغادر باسمك الحقيقي في ذلك خطر عليك‪.‬‬
‫ً‬
‫صمتت لحظة ثم مسكت يده قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬سألبي طلبك لكن لدي شرط‪...‬‬
‫ً‬
‫نظر إلي مستفسرا قبل أن أكمل كالمي‪:‬‬
‫‪ -‬أريدك أن تبقي على أمل العودة في بالك‪ ،‬هذا الوطن سيحتاج أمثالك في‬
‫يوم من األيام كي ينفض عنه غبار الذل‪ .‬عدني بأنك ستفعل‪.‬‬
‫أومأ لي برأسه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أعدك أنني سأعود‪...‬‬
‫وابتسمنا‪ ،‬لم أعرف سبب ابتسامة بركات حينها‪ ،‬لكنني أعرف أنني ابتسمت عندما‬
‫ً‬
‫تذكرت كالم طارق قبل أن يرحل لفلسطين‪ .‬كان دائما يعدني بأنه سيعود‪ ...‬حتى وهو‬
‫وسط الحرب كان يعدني بأنه عائد لي‪ .‬عشت حياتي بأكملها على أمل عودته في كل‬
‫ً ً‬
‫مرة‪ ...‬لم أكن أعلم أن انتظار العودة لبعضنا البعض سيبقى انتظارا أبديا في قصتنا‪.‬‬
‫]‪[206‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ24‬‬
‫الرباط – ‪ 0‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪8102‬‬

‫فتحت عيني بتثاقل هذا الصباح‪ ،‬كانت الغرفة مظلمة وال صوت يقطع صمتها‬
‫الثقيل‪ .‬خلت أن أماليا تنام بجانبي لكنني تذكرت أنها أخبرتني البارحة أنها ستذهب‬
‫ً‬
‫باكرا هذا الصباح إلى معرضها التشكيلي في أكدال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بكسل إلى الحمام‪ ،‬أخذت حماما ساخنا وأنا أفكر في هذا اليوم‬ ‫ٍ‬ ‫دفعت جسدي‬
‫الذي سينضاف إلى حياة الالمعنى التي أعيشها‪ ،‬لكنني تذكرت قراري األخير في أن‬
‫ثقة في‬
‫أنس ى كل قضاياي‪ ،‬وكل تلك االنتماءات الخاوية التي أصابتني بنقص ٍ‬
‫الحياة وكآبة طيلة األربعين سنة من عمري‪.‬‬
‫خرجت من الحمام وقد تسربت إلي حيوية مفاجئة‪ ،‬أزلت ستائر الغرفة لتعمها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أمواج من أشعة الشمس ونسيم الصباح‪ .‬ملحت بطرف البصر ورقة مطوية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بجانب السرير يظهر أن حبرا أسودا قد مأل جوفها‪ .‬خمنت أنها رسالة من أماليا‪،‬‬
‫فمن غيرها تقاسمني هذه الغرفة منذ ما يقرب السنة اآلن‪.‬‬
‫فتحت الرسالة‪ ،‬ألجد خط أماليا يقول لي‪'' :‬صباح الورد حبيبي‪ ،‬أمي ستحدثك في‬
‫موضوع يخصنا‪ ،‬أتمنى أن تتعامل معها بلطف وكيفما كان قرارك سأكون دائما‬
‫ً‬
‫معك‪ .‬افطر جيدا قبل أن تخرج وال تنس أنك وعدتني باالبتعاد عن الشرب‪.‬‬
‫أحبك''‬
‫سألت نفس ي وأنا أطوي الرسالة‪ ،‬عن أي موضوع تريد والدة أماليا أن تحدثني‬
‫فيه‪ ،‬شعرت بارتباك وتوجس وأنا أعلم أن خلف الباب تنتظرني والدتها بال صبر‪.‬‬

‫]‪[207‬‬
‫لبست بذلتي السوداء ورتبت شعري الخفيف‪ ،‬الحظت على املرآة أن الصلع في‬
‫ً‬
‫وقت‬
‫رأس ي بدأ يأخذ حجما أكبر‪ ،‬ابتسمت وأنا ألحظ كيف أنني بدأت أشيخ وقبل ٍ‬
‫ً‬
‫قصير كنت ال أزال يافعا أداعب الحياة بأحالم الشباب‪.‬‬
‫ً‬
‫خرجت من الغرفة قاطعا الطرقة الطويلة إلى صالون الجلوس‪ ،‬سمعت صوت‬
‫التلفاز يرتفع في آذاني‪ ،‬كان صوت نشرة أخبار بالفرنسية‪ .‬أمام التلفاز كانت والدة‬
‫أماليا تجلس ومالمح االنتظار بادية عليها‪.‬‬
‫ً‬
‫ما إن رأتني حتى ابتسمت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬صباح الخير بني‪...‬‬
‫‪ -‬صباح الخير سيدة استر‬
‫ً‬
‫‪ -‬تبدو متعبا!‬
‫أجبتها بتوجس‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬فقط أطلت السهر باألمس‪.‬‬
‫ً‬
‫نظرت إلي بمالمح مبتسمة ثم وقفت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬سأسخن لك القهوة فقد بردت‪...‬‬
‫‪ -‬ال تتعبي نفسك‪ ،‬سأفعل ذلك بنفس ي‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال ‪ ...‬دعني أفعل ذلك‪.‬‬
‫تبعتها بنظري وهي تمش ي في الطرقة حتى اختفت في املطبخ‪ ،‬غالبني التوجس من‬
‫املوضوع الذي ستفاتحني فيه‪ .‬سألت نفس ي ''مما أنا متوجس؟ فليكن املوضوع ما‬
‫يكون''‪.‬‬

‫]‪[208‬‬
‫رفعت نظري باتجاه التلفاز‪ ،‬كانت مذيعة األخبار بقناة ‪ TF1‬تقرأ خبر إمساك‬
‫صالح عبد السالم في بلجيكا املتهم بتدبير أحداث باريس في ليلة ‪ 01‬نونبر ‪.8102‬‬
‫انشغلت بمالمح املذيعة الشقراء الجميلة أكثر من الخبر حتى رأيت أم أماليا تعود‬
‫وفي يديها صينية تحمل فنجانا قهوة وقطع من السكر والحلوى‪ .‬الحظت أنها تلبس‬
‫ً‬
‫قفطانا جميال ال يشبه القفاطين املغربية‪ ،‬خمنت أنه إيراني أو عبري ربما‪...‬‬
‫قالت وهي تمد لي فنجان القهوة‪:‬‬
‫‪ -‬هذه أول مرة ستشرب فيها القهوة من صنع يدي‪.‬‬
‫ابتسمت في وجهها دون أن أنبس بكلمة‪ ،‬عادة املجامالت واللف الذي يسبق‬
‫املواضيع تخيفني وال أحبذها‪ .‬أخذت منها فنجان القهوة الذي مدته لي وشربته على‬
‫مهل وأنا أملح في عينيها ارتباك البدايات‪.‬‬
‫فجأة سألتني وهي تضع فنجانها على الصينية‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تنوي بعد الزواج من أماليا يا طارق؟‬
‫ً‬
‫أجبتها مستغربا‪:‬‬
‫‪ -‬كيف ماذا أنوي؟ لم أفهم سؤالك؟‬
‫صمتت لحظة ثم أكملت كالمها بحماسة‪:‬‬
‫‪ -‬اسمع يا بني‪ ،‬سأكون صريحة معك وأكلمك كابن لي‪ .‬أنت تعلم أن أماليا‬
‫ابنتي الوحيدة وال أملك سواها أنا وزوجي ديفيد‪ ...‬حياتي كامرأة وأم كانت‬
‫صعبة جدا فوق ما تتخيل وكذلك كانت حياة زوجي‪ .‬هاجرت من املغرب‬
‫إلى إسرائيل رفقة عائلتي قبل خمسين سنة‪ .‬كنت حينها طفلة‪ ،‬أصغر من‬
‫أخواتي الثالث‪ .‬عندما وصلنا إسرائيل أسكنونا في كيبودس بكفر كنا‬
‫قرب مدينة الناصرة بالجليل‪ .‬كانت ظروف عيشنا صعبة وقاسية‪ .‬تطوع‬
‫ً‬
‫أبي في الجيش الوطني وأمي اشتغلت طيلة النهار خادمة في بيوت‬
‫]‪[209‬‬
‫الضباط وموظفي الدولة‪ .‬حرمت من حنانها في صغري وحرمت من رفقة‬
‫أخواتي أيضا بعد وفاتهن وهن صغيرات بسبب املرض‪ .‬بقيت وحيدة حتى‬
‫أصبحت شابة والتقيت بديفيد عندما قدم الى الكيبودس الذي أقطنه‬
‫قادما من بولندا‪ .‬أحببنا بعضنا ثم تزوجنا بسرعة ورزقنا بابنتنا‬
‫ً‬
‫الوحيدة أماليا‪ .‬كان همنا أن نسعدها وأن نوفر لها حياة مريحة عكس‬
‫حياة التعب التي عشتها أنا وديفيد‪ .‬الحمد للرب اآلن أصبحنا ميسوري‬
‫الحال ولدينا شركات في هارتسيليا وأصبحت حياتنا مريحة‪ ،‬لكننا ال نريد‬
‫أن ينقصنا دفء أماليا وتواجدها معنا‪ .‬أنا وديفيد ال يمكننا العيش من‬
‫دونها يا طارق‪.‬‬
‫كنت استمع إليها دون عميق تفكير فيما كانت تقوله‪ ،‬شغلتني فقط مسألة هجرتها‬
‫من املغرب الى إسرائيل‪ ،‬لم أصبر على فضولي حتى سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬عفوا سيدة استر‪ ،‬هل يمكنني أن أسألك‪ .‬أصلك مغربي؟‬
‫بدت مززعجة لسؤالي‪ ،‬ربما ألنني هربت من موضوعها إلى موضوع آخر‪ ،‬لكنها ردت‬
‫علي بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬نعم أنا مغربية‪ .‬يهود كثر في إسرائيل من أصول مغربية‪ .‬ولدت بأبي جعد‬
‫بنواحي خريبكة من اليهود القرائيين الطشابيم‪.‬‬
‫هاجرت من املغرب؟‬
‫ِ‬ ‫ملاذا‬ ‫‪-‬‬
‫ْ‬
‫تنهدت في صمت ثم ردت علي‪:‬‬
‫‪ -‬بعد قيام دولة إسرائيل سنة ‪ 1948‬أصبح العرب ينظرون بريبة لليهود‪،‬‬
‫ً‬
‫بدأ الكل يشك في كوننا خونة وأعداء للعرب واملسلمين‪ ،‬شيئا فشيئا‬
‫تصاعدت األعمال العدائية ضدنا فقررنا أن نهاجر املغرب‪...‬‬
‫‪ -‬إلى الكيان اإلسرائيلي !!‬

‫]‪[210‬‬
‫لم تجبني ظلت صامتة للحظات ثم قالت محاولة تغيير املوضوع‪:‬‬
‫‪ -‬أزيدك قهوة؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال شكرا‪ ،‬يجب أن أخرج اآلن‪.‬‬
‫بصوت هادئ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أخفضت رأسها وقالت‬
‫‪ -‬أماليا هي كل ما نملك يا طارق‪ ،‬ال تحرمنا منها من فضلك‪ .‬أطلب منك أن‬
‫تقطن أنت وأماليا معنا في هرتسيليا بإسرائيل أو ان لم تستطع اقطنا‬
‫بالقدس الشرقية مع العرب ونأتي لزيارتكم كل أسبوع‪ ...‬فقط ال تحرمنا‬
‫منها أرجوك‪.‬‬
‫اغرورقت عيناها بالدمع واحمر وجهها وهي تنظر إلي منتظرة جوابي‪ .‬سألتها بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬أتريدين أن أتزوج أنا وأماليا في إسرائيل ونقطن معكم هناك‪ .‬هذا ما‬
‫تريدين؟‬
‫ردت علي متوسلة‪:‬‬
‫صعب عليك وأنني أطلب الكثير لكنني أتوسل إليك أال‬ ‫ٌ‬ ‫‪ -‬أعرف أن هذا‬
‫تحرمني من ابنتي‪ ،‬هي تحبك وإن رفضت طلبي ستبقى معك هنا‪ .‬ال‬
‫تحرمني منها‪ ،‬لم يبق لنا الكثير في هذه الحياة أنا ووالدها‪.‬‬
‫غرقت فيه خدودها بدمعها‪ ،‬قلت لها‬‫ْ‬ ‫مسكت يديها محاوال تهدئتها في الوقت الذي‬
‫ً‬
‫مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا كل هذه الدموع سيدة استر‪ ،‬أنا ليست لدي مشكلة مع إسرائيل‪.‬‬
‫صراع العرب وإسرائيل وقضايا الوطن العربي لم تعد تهمني لقد تحررت‬
‫من تلك املبادئ السخيفة التي عطلت حياتي وجعلتني إنسانا مع وقف‬
‫التنفيذ‪.‬‬

‫]‪[211‬‬
‫صمتت لحظة ثم أردفت وهي تنظر إلي متفاجئة‪:‬‬
‫‪ -‬سأذهب معكم إلى إسرائيل‪ ،‬وسنقيم عرسنا في هرتسيليا وسأقطن‬
‫معكم هناك إلى األبد‪ ،‬لن أحرم أماليا منكما‪...‬‬
‫صاحت بصوت تغلبه الدهشة واالرتباك‪:‬‬
‫‪ -‬أصحيح ما تقول‪ ،‬أنت ال تمازحني يا طارق أليس كذلك؟‬
‫ً‬
‫ما كدت أومئ لها برأس ي مؤكدا كالمي حتى ارتمت علي لتعانقني باكية وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬لن أنس ى جميلك هذا طيلة حياتي يا بني‪.‬‬
‫أجبتها بصوت الواثق من قراراته‪:‬‬

‫‪ -‬ال ِ‬
‫تبك يا خالتي استر‪ ،‬بل افرحي وابدئي جمع حقائبنا لنغادر هذا املكان‬
‫ألست متلهفة لعرسنا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫في أقرب وقت‪،‬‬

‫]‪[212‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ25‬‬
‫الرباط‪-‬الدار البيضاء– ‪ 2‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪8102‬‬

‫من كان يظن‪ ،‬أن بعد كل هذه السنين وهذه الفوض ى التي حلت بحياتي‪ ،‬أن يوما‬
‫سيأتي ألجمع فيه حقائبي وأغادر املغرب إلى بلد يسمى مجازا إسرائيل؟ قدري‬
‫اللعين يغيرني من رجل ناضل من أجل القومية العربية وقضية فلسطين إلى رجل‬
‫سيتزوج إسرائيلية ويسكن معها في إسرائيل وسط أعداء األمس وأصدقاء اليوم‬
‫والغد‪...‬‬
‫قالت أماليا وهي تساعدني في وضع حقائب السفر في التاكس ي الذي سيقلنا من‬
‫الرباط إلى مطار الدار البيضاء‪:‬‬
‫‪ -‬طارق‪ ،‬أنا أقدر أن هذه اللحظات صعبة عليك‪ ،‬لكن أنا متأكدة أنك‬
‫ستتجاوزها‪ .‬تنتظرنا حياة جميلة وهادئة بهارتسيليا‪.‬‬
‫‪ -‬ال تشغلي بالك يا أماليا‪ ،‬لقد أخذت قراري عن قناعة‪ .‬ال مكان لي في هذا‬
‫الوطن وإسرائيل لم تعد تشكل لي اآلن أي ش يء ما دمت قد تخلصت من‬
‫انتمائي للعروبة ومبادئي القومية الفارغة‪.‬‬
‫‪ -‬ما بك إذن حزين وشارد؟‬
‫‪ -‬قلت لك ال تشغلي بالك‪...‬‬
‫وقفت تنظر إلي بتمعن ثم وضعت قبلة على شفتي بهدوء‪ ،‬قبل أن تقول لي‪:‬‬
‫‪ -‬بقيت حقيبة واحدة‪ ،‬سأساعد أمي في حملها‪.‬‬
‫تبعتها بنظراتي التائهة‪ ،‬حتى اختفت وراء باب املززل‪ ،‬كنت أشعر حينها بانقباض في‬
‫صدري ال أعلم سببه‪ ،‬قلت مع نفس ي إنه أكيد قرار السفر إلى إسرائيل‪ .‬لكنني‬

‫]‪[213‬‬
‫تذكرت أن هذا الشعور يراودني منذ مكاملتي لسلوان‪ .‬آه يا سلوان‪ ،‬ها أنا سأكون‬
‫ً‬
‫قريبا منك اآلن في فلسطين‪ .‬لكن على الجبهة املعاكسة‪ .‬بعد أن قاتلت لسنين‬
‫طويلة رفقة العرب في فلسطين ها أنا ألجأ إلى الجبهة األخرى كأي مرتز ٍق يبحث عن‬
‫انتماء جديد‪ ...‬بدأت أخش ى أن يأتي يوم يحمل فيه أبنائي السالح مع اإلسرائيليين‬
‫لقتال العرب‪ .‬تبا لي‪ ،‬ملاذا أخش ى ذلك اآلن؟ ألم تعد فلسطين ال تعني لي شيئا؟‬
‫ً‬
‫فليتقاتل من يريد‪ ،‬سحقا للجميع‪.‬‬
‫سرحت وأنا أملح في مخيلتي صورة أمينة املفتي وهند سليم وسامي الحناش ي‬
‫يبتسمون لي‪ ،‬ملاذا أتذكر اآلن قصص الجواسيس العرب الذين خانوا أوطانهم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لصالح إسرائيل؟ هل أصبحت أنا اآلخر جاسوسا وخائنا؟ ال‪ ،‬ال‪ ،‬الوطن هو من‬
‫خانني‪ ،‬أحالمي وآمالي في الحياة هي الخائنة‪...‬‬
‫قاطعني سائق التاكس ي بصوته الخشن‪:‬‬
‫‪ -‬هل انتهيتم سيدي من وضع كل الحقائب؟‬
‫ً‬
‫أجبته شاردا‪:‬‬
‫‪ -‬بقيت حقيبة واحدة وبعدها ننطلق‪.‬‬
‫رأيته يعود إلى التاكس ي في الوقت الذي ملحت فيه أماليا وأمها تقفالن باب البيت‬
‫وتحمالن حقيبة صغيرة‪ .‬كانتا منشغلتان في حديث باللغة العبرية‪ .‬تذكرت أنني‬
‫ً‬
‫طلبت من أماليا في أكثر من مرة أال تتحدث بالعبرية أمامي لكنها تنس ى طلبي دائما‪.‬‬
‫ها أنت يا طارق ستلجأ إلى كل الدولة العبرية اآلن‪.‬‬
‫اتجهت إلى املقعد األمامي في التاكس ي كي أجلس فيه فمسكتني أماليا من يدي‬
‫ً‬
‫قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أال تريد الجلوس بجانبي؟‬
‫أجبتها بابتسامة خفيفة‪:‬‬
‫]‪[214‬‬
‫‪ -‬عيب أن نترك أمك تجلس وحدها بجانب السائق يا أماليا‪.‬‬
‫ابتسمت بدورها ثم جلست بجانب والدتها‪ .‬ما إن انطلق التاكس ي في السير حتى‬
‫عادتا إلى حديثهما وبقيت أنا إلى جانب السائق أتأمل الطريق‪ .‬كان التاكس ي يسير‬
‫بسرعة‪ ،‬يطوي الطريق وراءه كأنه يسرع بأن ينتشلني من هذا الوطن الذي أفرغني‬
‫من كل األحالم واآلمال‪ ،‬استززفني على مهل حتى غدوت رجال يمتلك فقط أربعين‬
‫سنة من العمر وفارغا من انسانيته وماهيته‪.‬‬
‫ً‬
‫أخفض سائق التاكس ي رأسه نحوي متسائال بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬بأي لغة تتكلم السيدتان؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التفت إليه متفاجئا من سؤاله قبل أن أجيبه مرواغا‪:‬‬
‫‪ -‬الكردية‪ ،‬إنها اللغة الكردية‪.‬‬
‫ً‬
‫أجابني مندهشا‪:‬‬
‫‪ -‬كرديتان إذن‪ ،‬ال أعرف لم األكراد يكرهون العرب‪ ،‬لقد استغلوا الربيع‬
‫العربي وقبله غزو العراق إلحياء مشروع تأسيس وطنهم القومي على‬
‫أنقاض سوريا والعراق‪....‬‬
‫ظل يتحدث دون أن أسايره‪ ،‬اكتفيت بالنظر إليه مستغربا اهتمامه بالسياسة‬
‫وبلغته القومية العربية‪ .‬تركته يسترسل في كالمه دون أن أعبأ به حتى سمعته‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أتعلم‪ ،‬ما يشهده العرب اآلن ما هو إال مخطط للصهاينة بهدف تشتيتنا‬
‫وتدمير حضارتنا‪ .‬إنهم يعملون بصمت وبنفس طويل في ظل جهل وقلة‬
‫ٌ‬
‫ونساء ملتزمين بنهج املقاومة‬ ‫وعينا‪ ...‬الحمد هلل أنه الزال هناك رجال‬

‫]‪[215‬‬
‫والتضحية من أجل الوطن كاملرأة الفلسطينية التي استشهدت صباح‬
‫اليوم‪....‬‬
‫سألته مذهوال‪:‬‬
‫‪ -‬امرأة فلسطينية؟ ما الذي حدث؟‬
‫رد علي بلغة الزهو والفخر‪:‬‬
‫‪ -‬امرأة فلسطينية فجرت نفسها في حافلة عسكرية إسرائيلية بأحد‬
‫ً‬
‫املعابر في قطاع غزة وقتلت كل من فيها‪ ،‬إنها حقا بطلة وبألف رجل‪...‬‬
‫سألته بانفعال‪:‬‬
‫‪ -‬ألم يقولوا اسمها؟ ومن أي مدينة هي؟‬
‫ً‬
‫التفت إلي مستغربا‪:‬‬
‫‪ -‬وملاذا تريد اسمها ومدينتها؟‬
‫سكت لحظة ثم أردف عندما لم أستطع جوابه‪:‬‬
‫‪ -‬أنت صحفي على ما أعتقد؟‬
‫ً‬
‫ابتسمت في وجهه مراوغا من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنا صحفي وتهمني مثل هذه األخبار‪.‬‬
‫ً‬
‫رد مبتسما هو اآلخر‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬فلنبحث عما تقوله األخبار على الراديو إذن‪...‬‬
‫دفع يده اليمنى للبحث في أمواج الراديو على إذاعة تنقل الخبر‪ .‬توقف عند موجة‬
‫اإلذاعة الوطنية التي كانت تذيع أغنية قديمة لعبد الوهاب الدكالي ذكرتني بأيام‬
‫الصبا وعالقاتي الغرامية املجنونة‪.‬‬

‫]‪[216‬‬
‫كان يا مكان أنا وحبيبي عاشقين اثنين‬
‫نرعاو الغنم عايشين عايشين‬
‫هانين فوق املرج األخضر‬
‫بالليل نباتو ساهرين‬
‫نغنيو للحلم وفي الصباح نخرجو متعانقين‬
‫تركت كلمات األغنية تنساب في أذني ونظرت في املرآة العاكسة إلى أماليا وأمها‪،‬‬
‫بدتا غارقتين في تفاصيل موضوع يشغلهما‪ ،‬خمنت أنهما منشغلتان بتفاصيل‬
‫العرس وقائمة املدعوين ومواضيع النساء التي ال تنتهي‪...‬‬
‫خطفني صوت سائق التاكس ي من النظر إليهما‪:‬‬
‫‪ -‬انها الثانية عشرة‪ ،‬أخبار الظهيرة ستذاع اآلن‪...‬‬
‫لم تكد تمر ثوان على كالمه حتى صاحت مذيعة األخبار ''أمواج اإلذاعة الوطنية‬
‫بالرباط أهال بكم‪ ....‬نقلت وكاالت األخبار الدولية أن امرأة فلسطينية في عقدها‬
‫الثالث فجرت نفسها في حافلة عسكرية إسرائيلية بمعبر بيت حانون شمال مدينة‬
‫خان يونس بقطاع غزة‪ ،‬مسفرة عن مقتل ‪ 22‬جنديا إسرائيليا بينهم ثالثة‬
‫ضباط‪'' ...‬‬
‫شعرت بمغص في بطني وتهت في أفكاري الشاردة‪ .‬رفا ي في الجبهة دائما يستهدفون‬
‫معبر بيت حانون هل تكون هي سلوان؟ امرأة فلسطينية في عقدها الثالث؟ من‬
‫خان يونس؟ نعم إنها هي‪ ...‬ما هذا الحمق قد ال تكون هي‪ .‬تهت في مشاعري‬
‫املتضاربة بين أن تكون ''هي'' وأال تكون‪ .‬شعرت بزلزال يهز كل كياني ويعيدني إلى‬
‫ألم العروبة ومأساة فلسطين ويغوص بي من جديد في كل تلك املبادئ التي آمنت‬
‫بها وعدت إلى أحضان الوطن املتكسرة‪.‬‬

‫]‪[217‬‬
‫ً‬
‫رفعت بصري من جديد إلى أماليا وأمها فظهرتا لي تلبسان زيا عسكريا يلبسه جنود‬
‫إسرائيل وتضعان على رأسيهما قبعتان بنجمة داود وعلم إسرائيل‪ ...‬ال يا طارق إنها‬
‫تهيؤات فقط؟؟ تهيؤات؟ أليست أماليا وأمها اسرائيليتان؟ إنهما من قتلة العرب‬
‫والفلسطينيين واآلن هما من قتلة سلوان‪ ...‬إنهما يختطفانك إلى املنفى كي تغدو‬
‫الجئا أنت أيضا حيث ال تدري كما قال كنفاني‪.‬‬
‫يا إلهي‪ ،‬هل حقا سلوان هي من استشهدت هذا الصباح؟ هل علمت بقدومي إلى‬
‫''الجبهة املعاكسة'' ففجرت نفسها قبل أن تراني هناك‪.‬‬
‫عند وصولنا إلى املطار تركت أماليا وأمها تسجالن الحقائب وانطلقت أنا أبحث‬
‫عن صورة لتلك املرأة التي استشهدت هذا الصباح على شاشات األخبار في مقاهي‬
‫املطار‪ .‬تهت من مقهى آلخر دون أن أجد شاشة تنقل األخبار‪ ...‬كل الشاشات تنقل‬
‫وصالت من األغاني والرقص‪ ،‬هذا حال العرب‪ ،‬بعضنا يستشهد دفاعا عن الوطن‬
‫وبعضنا اآلخر يرقص ويغني غير مكترث أصال لش يء اسمه الوطن‪.‬‬
‫ً‬
‫كنت أجري من مقهى إلى آخر كاألحمق عندما مسكتني يد أماليا قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬طارق؟ ما بك‪ ،‬ملاذا أنت غريب األطوار منذ أن استيقظت هذا الصباح؟‬
‫بخوف غريب‪ ،‬هذه أول مرة أخاف من أماليا وأرتاب من عينيها‪ .‬كانت نجمة‬ ‫ٍ‬ ‫نظرت إليها‬
‫داوود باللون األزرق تظهر وتختفي في عينيها‪ ...‬فجأة اختفى الثوب األبيض الجميل‬
‫الذي كانت تلبسه أماليا هذا الصباح وأصبح جسدها يلتحف الزي العسكري لجنود‬
‫إسرائيل‪ .‬فركت عيني بقوة كي أزيل هذه الصور منهما لكنها ما كانت لتزال‪.‬‬
‫سمعتها تقول‪:‬‬
‫‪ -‬هيا بنا‪ ،‬سنسجل مغادرتنا اآلن وننتظر نداء الطائرة بقاعة االنتظار‪.‬‬
‫تركت جسدي ليد أماليا تسحبه كما تشاء وأنا تائه في صورة سلوان وصوتها في‬
‫آخر مكاملة لنا‪ .‬في األفق ملحت سلوان في سماء املطار تبتسم وتشير لي بيدها قائلة‬

‫]‪[218‬‬
‫ً‬
‫''وداعا'' ال يا سلوان‪ ،‬أكيد أنت الزلت هناك في خان يونس تشربين القهوة على‬
‫مائدتنا في بيت جدتك وتنتظرين عودتي‪.‬‬
‫أتتذكرين ما قلته لي ذات مساء ونحن جالسين على ركام البيوت التي دمرها‬
‫قلت لي ''‪ ...‬أشتاق لتلك الطاولة التي كنا نتقاسم عليها‬
‫القصف اإلسرائيلي‪ِ ،‬‬
‫ً‬
‫فنجان قهوة الصباح وأزهار الحديقة تعزف لنا أنغاما من رائحة رحيقها في بيت‬
‫جدتي''‪ .‬ترانا سنشرب القهوة معا يا سلوان من جديد في بيت جدتك؟‬
‫عندما وصل دوري عند شرطي الحدود‪ ،‬أمدتني أماليا بجواز سفري تتوسطه‬
‫تذكرتا سفر‪ ،‬األولى إلى مارمريس بتركيا والثانية من مارماريس إلى تل أبيب عبر‬
‫الباخرة‪ .‬أخفيت الثانية وتركت األولى في مكانها تتوسط جواز السفر‪.‬‬
‫ً‬
‫عندما أخذ الشرطي جوازي صاح ممازحا قبل أن يختمه‪:‬‬
‫‪ -‬أتمنى أن تكون ذاهبا لتركيا بهدف السياحة وليس االلتحاق بداعش‬
‫أجبته بسخرية سوداء‪:‬‬
‫‪ -‬بل سأذهب أللتحق بجموع الالجئين هناك‪ ،‬فأنا اآلخر الجئ من كل ش يء‪...‬‬
‫ما ان اجتزت شرطة الحدود أللج املنطقة الحرة في املطار في انتظار الطائرة‪ ،‬حتى‬
‫ملحت من بعيد شاشة تلفاز بمحل لبيع اإلكسسوار تنقل صور لحافلة عسكرية‬
‫محترقة‪ ،‬فجريت كاملجنون ملعرفة من تكون ''هي''‪ .‬أكدت مذيعة األخبار أن‬
‫الشهيدة تبلغ من العمر ‪ 34‬سنة من مدينة خان يونس قبل أن تصدمني‬
‫بصورتها‪ ،‬كانت هي‪ ،‬سلوان‪.‬‬
‫ً‬
‫انفجرت بالبكاء كمن فقد آخر أحبابه وسقطت أرضا كما سقط قلبي مدمى في‬
‫ساحة الغياب وسط تراب الرحيل‪ .‬انتهينا يا طارق! ها قد فقدت آخر من تبقى لي‬
‫في فلسطين‪ ،‬آخر من تبقى لي في كل العالم‪.‬‬
‫صرخت أماليا وهي تمسك بوجهي‪:‬‬

‫]‪[219‬‬
‫‪ -‬ما بك يا طارق‪ ،‬يا إلهي ما بك؟‬
‫أجبتها والدمع يغطي كل وجهي‪:‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أذهب معكما إلى الكيان اإلسرائيلي‪ ...‬ال أستطيع‪ ،‬اعذريني‬
‫يا أماليا‪...‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال ال ال‪ ،‬ستذهب معي‪ ،‬لن تتركني وحيدة مجددا‪ ،‬أنا أحبك يا طارق‬
‫أسمعت وأنت تحبني كذلك‪ ،‬لن نترك بعضنا‪.‬‬
‫صرخت في وجهها بهيستيريا‪:‬‬
‫‪ -‬لن أذهب إلى من قتلوا شعبي‪ ،‬لن أذهب عند قتلة سلوان وخليل ونجيب‬
‫وجهاد وفيصل‪ ...‬اذهبي واتركيني وشأني‪.‬‬
‫مسكتها أمها من يدها وهي تنظر إلي بجفاء وقسوة بالغة‪ ،‬قالت لها وهي تجرها كي‬
‫تنهض من جانبي‪:‬‬

‫‪ -‬هيا يا ابنتي‪ ،‬لنعد إلى بيتنا‪ ،‬لنعد إلسرائيل‪ ...‬هذا الرجل ليس ِ‬
‫لك‪.‬‬
‫بقيت في مكاني أبكي سلوان وأنا أنظر ألماليا تسحبها أمها إلى قاعة املغادرة‪ ،‬بقيت‬
‫ً‬
‫أبكي وأسترجع ذكرياتي مع سلوان يوما بيوم‪ ،‬حتى سمعت صوتا ينادي باسمي في‬
‫مكبرات الصوت لاللتحاق بالطائرة التي ستقلع بعد لحظات‪ .‬ظل النداء يتكرر‬
‫عشرات املرات حتى وقفت بمحاذاتي مضيفة باملطار تسألني‪:‬‬
‫? ‪Monsieur, êtes-vous Tarik OUELD LKHEIL‬‬ ‫‪-‬‬
‫نظرت إليها باكيا‪ ،‬قبل أن أجيبها‪:‬‬
‫‪Non Madame, je ne le suis pas, enfin je ne le suis plus‬‬ ‫‪-‬‬

‫]‪[220‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ26‬‬
‫الدار البيضاء – ‪ 2‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪8102‬‬

‫قبل خمس سنوات فقط‪ ،‬كنت أجلس في هذه املقهى بمطار محمد الخامس أودع‬
‫جميل ينهي مأساته في الحياة وهو‬ ‫ٍ‬ ‫طارق قبل أن يغادر إلى فلسطين بحثا عن ٍ‬
‫موت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يدافع عن قضيته‪ .‬لم أكن أتخيل أنني سأعود إلى نفس املكان ألودع شخصا عزيزا‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫آخرا سيرحل إلى الوجهة ذاتها‪ :‬فلسطين‪ .‬شخصا آخرا يحمل االسم نفسه‪ :‬طارق‪،‬‬
‫يناضل من أجل القضية نفسها‪ :‬القومية العربية وهاربا من املأساة ذاتها‪ :‬الوطن‪.‬‬
‫ً‬
‫خطفت نظرة إلى بركات‪ ،‬وجدته تائها في فنجان قهوته غير آبه بجموع املسافرين‬
‫الذين يتدافعون إلى صاالت املغادرة حاملين حقائبهم التي تختزل وجوديتهم‬
‫الضيقة في هذا الكون‪ ،‬وغير مكترث باأللم الذي سيتركه رحيله في قلوب كل الذين‬
‫أحبوه وأولهم أنا‪.‬‬
‫قلت له تماما كما قلت لطارق عند رحيله‪:‬‬
‫‪ -‬ال أريدك أن ترحل يا بركات‪ .‬أن يغادر فرد مثلك هذا الشعب ‪ ...‬مأساة‪.‬‬
‫رفع رأسه بسرعة كأنه تفاجأ بش يء ما‪ ،‬حملق في عيني طويال وهو يبتسم بطريقة‬
‫لم أعهدها فيه ثم صدمني بنفس الجواب الذي قاله لي طارق قبل خمس سنوات‪:‬‬
‫أنت فقط‪ .‬أما الشعب فال يبكي على فرد منه‪،‬‬ ‫‪ -‬ربما مأساة بالنسبة لك ِ‬
‫الشعب يبكي على سيده‪ .‬كل هؤالء الذين سادوا املغرب رافقهم الشعب‬
‫فكالصفر على الشمال‪ .‬أنا يا‬
‫ِ‬ ‫بالدموع والنحيب إلى املقابر‪ ،‬أما أمثالي‬
‫ً‬
‫ليلى سأموت شهيدا أو منتحرا‪ ،‬فاملوت لن يهزمني إال إذا ذهبت إليه وأنا‬
‫ال أريد الخلود‪ .‬أكره فكرة أن أخلد في هذه الدنيا التي ال ش يء أجمل فيها‬
‫من كوننا سنموت‪.‬‬

‫]‪[221‬‬
‫يا إلهي‪ ،‬كان هذا جواب طارق بالحرف الواحد‪ ،‬لم أستطع استيعاب صدمتي‪،‬‬
‫كيف استطاع بركات أن يردد على مسامعي نفس جواب طارق؟ هل اتحدت‬
‫روحهما في شخص واحد؟ أم غدوت أهلوس برؤية طارق في كل ش يء وسماع‬
‫كلماته في كل صوت !!‬
‫قال لي مبتسما بمكر‪:‬‬
‫‪ -‬ألم يكن هذا جوابه؟‬
‫ً‬
‫سألته مذعورة‪:‬‬
‫‪ -‬جواب من؟‬
‫رد علي بعد أن أشعل سيجارة‪ ،‬وأنا أقول مع نفس ي بركات أصبح يدخن مثله‬
‫ً‬
‫أيضا؟‬

‫‪ -‬طارق ولد الخيل‪ ،‬ألم يكن هذا جوابه ِ‬


‫لك عندما كنت تودعينه في هذا‬
‫املطار وهو راحل إلى فلسطين؟‬
‫ً‬
‫واصلت سؤاله مستغربة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬عجبا‪ ،‬كيف عرفت هذا؟‬
‫‪ -‬اهدئي‪ ،‬ال تفزعي‪ ،‬لقد قرأت روايته التي يحكي فيها كل ش يء عن حياته‬
‫وعنك وعن رفاقه ومأساته مع الوطن‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪ -‬أي رواية؟‬
‫‪ -‬روايته ''الوطن ليس هنا''‬
‫‪ -‬كيف عرفت أنها روايته؟‬

‫]‪[222‬‬
‫‪ -‬رأيتها في حقيبتك في أحد األيام بالفصل‪ ،‬استفزني عنوانها وفي نفس‬
‫استهواك لتقرئيها‬
‫ِ‬ ‫الوقت اعتراني فضول ملعرفة موضوعها الذي‬
‫عنك وعنه‪ ،‬عن قصة‬‫فأسرعت القتنائها‪ .‬لم أكن أعلم حينها أنني سأقرأ ِ‬
‫حبكما ومآسيكما‪...‬‬
‫انفجرت بالبكاء في تلك اللحظة كطفلة صغيرة تفتضح كل أسرارها‪ ،‬مد لي علبة‬
‫ً‬
‫منديل ور ي من جيبه ومسك يدي مواسيا‪:‬‬
‫‪ -‬أتعلمين‪ ،‬هذا العالم مليء باملآس ي‪ ،‬وحده الحب بإمكانه أن يشفينا من‬
‫ً‬
‫حب كقصتكما‬‫آالم الحياة‪ ...‬اذهبي عنده يا ليلى‪ ،‬ال تتركيه وحيدا‪ .‬قصة ٍ‬
‫ليس عليها أن تفشل‪ ...‬اجعال من الحب أمال لكل األجيال القادمة‪.‬‬
‫أجبته وأنا أمسح دموعي‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت‪...‬‬
‫‪ -‬أنا‪ ،‬سأواصل مسيرته مع الوطن والعروبة‪ ،‬هناك في فلسطين تنتظرني‬
‫بندقية طارق وينتظرني أزيز الرصاص‪.‬‬
‫صمت طويلة‪ ،‬لم أستطع فيها جمع كلماتي‪ .‬كان لدي كالم كثير‬
‫ٍ‬ ‫مرت علينا لحظات‬
‫ألقوله لبركات لكن املقدرة على الكالم تخوننا دائما في لحظات الوداع‪.‬‬
‫قال لي وهو يخطف ملسة خفيفة على أناملي‪:‬‬
‫‪ -‬علي أن أذهب اآلن‪ ،‬ستقلع طائرتي بعد دقائق‪.‬‬
‫حمل حقيبته الصغيرة وغادر مسرعا دون حتى أن يسلم علي‪ ،‬فتبعه صوتي مناديا‬
‫عليه‪:‬‬
‫‪ -‬طارق‪...‬‬

‫]‪[223‬‬
‫وقف في مكانه واستدار ببطء في الوقت الذي أسرعت فيه الخطا ملعانقته‪.‬‬
‫سمعته يهمس في أذني‪:‬‬
‫‪ -‬هذه أول مرة تناديني فيها باسمي!‬
‫ابتسمت دون أن أجيبه‪ ،‬وقفت أنظر لعينيه كأنني أراهما ألول مرة عندما أردف‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أتذكرين يوم كنا في مقهى طاهيتي بعين الذئاب وسألتني من تكون‬
‫حبيبتي؟ ‪ ...‬ستعرفينها اآلن‪ ،‬وأنا ر ٌ‬
‫احل كما توقعت‪.‬‬
‫سألته بلهفة‪:‬‬
‫‪ -‬من تكون؟‬
‫نظر إلى عيني طويال ثم خطف قبلة من على شفتي‪ ،‬تركتني أرتعش من وقعها‪ ...‬ثم‬
‫قال لي‪:‬‬
‫عرفت من تكون‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ها قد‬
‫تبعته بعيني حتى دخل إلى قاعة املغادرة وأنا أتحسس رذاذ شفتيه على شفتي‪ .‬ها‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫عاشق آخر إلى البندقية تاركا حبيبته ملوسيقى الرحيل في املطارات‪،‬‬ ‫قد غادر‬
‫ْ‬
‫انتصرت من جديد مأساة القومية العربية على قصة حب أخرى‪.‬‬

‫]‪[224‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ27‬‬
‫الرباط – ‪ 02‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪8102‬‬

‫غيرك يدق قلبي آخر دقات‬‫غيرك أكتب له كلماتي األخيرة؟ ملن ِ‬ ‫''حبيبتي ليلى‪ ،‬من ِ‬
‫الحب ويسقط شهيد غيابك إلى األبد؟ ‪ ...‬لقد تعبت يا ليلى‪ ،‬أنهكني القدر‪ .‬كل تلك‬
‫املبادئ واألفكار التي آمنت بها تفرش لي اآلن طريقي إلى الخالص‪ .‬انتظرت املوت‬
‫ً‬
‫حبك‪.‬‬
‫طويال يا ليلى لكنه ال يأتي‪ ،‬انتظرته كما انتظرت الوطن وانتظرت الحب‪ِ ،‬‬
‫ربما لو بقي ِت معي ملا فكرت في االنتحار‪ ...‬ربما‪.‬‬
‫ستقولين لم االنتحار؟‪ ،‬سأقول ِ‬
‫لك لم الحياة؟ كيف لي أن أستمر في الحياة بهذا‬
‫أنت وكل رفا ي الشهداء‪...‬‬
‫الوطن وأنا ممتلئ بالضياع وبغياب كل من أحببت‪ِ ،‬‬
‫دونك‪ ،‬دون الوطن العربي املوحد الذي حلمنا به ودون حرية‬ ‫كيف لي أن أبقى ِ‬
‫اإلنسان فينا؟ كيف لي أن أبقى دون أن أشفى من مبادئي وأحالمي؟‬
‫ش يء واحد يمأل فكري اآلن وأنا أكتب لك رسالة الختام‪ ،‬إنها ذكريات ليلتنا األولى‪،‬‬
‫بثوب الليل على حافة حلمنا الجميل؟ ذاك‬ ‫أتذكرين؟ أتذكرين عندما رقصنا ِ‬
‫املساء عندما كتبت بأناملي املرتعشة على خدك أولى عبارات االنتماء وصرت أول‬
‫ً‬
‫مدينة يقصفها الحب في زمن السالم‪ .‬أذكر كيف تأوهت كل النجوم وجعا فهوت‬
‫لت‬
‫على رؤوسنا لترجم الحب كلعين أبدي في أسطورة الرجال ببالد النساء‪ ...‬أالز ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تذكرين؟‪ ،‬عندما غزلنا معا الزمان سجادة نمش ي عليها إلى أرض األحالم ومشاريع‬
‫الحياة‪ .‬لم نكن نعلم‪ ،‬لفرط سذاجتنا‪ ،‬أنها أرض مفخخة بالوجع ومحاصرة ببقايا‬
‫من سبقونا في درب الليل وهواجس الحب والوطن‪ .‬لم تكن سوى أرض تتربص بكل‬
‫وبقدر ال يشفق على الجئي‬‫ٍ‬ ‫القلوب التي أعياها األمل في وطن ال يؤمن باألمنيات‬
‫الحروب وشعوب الضائعين في مسارح الحياة‪.‬‬

‫]‪[225‬‬
‫من كان يسرق منا قدرنا حينها؟ من استبدل أقدارنا ونحن نكتب أجمل الترانيم في لغة‬
‫العشاق ونسكر برضاب معتق منذ األزل على شفاهنا أجدر من كل العشاق؟ من‬
‫غيرنا؟ من غيرنا‪ ،‬فصرنا أطالال تبكي دورة الزمن وتحكي للريح بزهو ''الذي كان''؟ أو‬
‫ً‬
‫وصرت بهتان‪ .‬أ بعد أن كنا نطرز األمل أصبحنا نحيك‬‫ِ‬ ‫بعد كل الذي كان‪ ،‬صرت منسيا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خاصرة الذاكرة ووعود الدخان؟‬
‫ِ‬ ‫الذكريات ثوبا للنسيان‪ ،‬وسوطا على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جسدك تلك الليلة نهرا ألجمل البخور وسرجا امتطيته وكأنني لم‬ ‫ِ‬ ‫أتعلمين‪ ،‬كان‬
‫أمتط قط أهوج الخيول‪ ،‬لكنني ما ظننته سيصير بداخلي أشرس ٍ‬
‫جثة تعيث في‬
‫ً‬
‫مقابري إرهابا وتقتيال‪ ...‬حتى صرت فاشال أكتبك بكلمات املجاز والالمعنى‪ .‬أشحذ‬
‫اسمك سيوفي كداعش ي جديد لذبح كل الذكريات على مقصلة القدر‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫عند ِذكر‬
‫وأصيح كأي لعين‪ :‬ه ــي باق ــية وتت ـم ـ ــدد‪...‬‬

‫مالحظة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ِبعت كل ما في الشقة ألسدد بعض الديون املتراكمة علي‪ ،‬شقتنا وإن‬
‫كانت فارغة فهي حبلى بذكرياتنا ولحظاتنا الجميلة‪ ،‬أو ليست هذه‬
‫الشقة وطن قصة حبنا كما تقولين؟‬

‫مالحظة ثانية‪:‬‬
‫‪ -‬ستجدين في الحقيبة بعض األغراض تركتها لك ذكرى في محراب عشقنا‪ ،‬أولها‬
‫لبسته لي في تلك الليلة‪ ...‬أول ليلة لنا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫دفتر مذكراتي وفستانك األسود الذي‬

‫أحبك‪.‬‬
‫مالحظة أخيرة‪ِ :‬‬

‫]‪[226‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ28‬‬
‫الرباط – ‪ 07/01‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪8102‬‬

‫نطقت شفتاي وأنا أقطع شارع عالل بن عبد هللا قبالة مقهى‬‫ْ‬ ‫ليلة لي''‪ ،‬هكذا‬
‫''آخر ٍ‬
‫ً‬
‫ساتيامار متجها إلى مطعم لوكراند كومبتوار في ملتقى شارع محمد الخامس وزنقة‬
‫القاهرة‪ .‬شعور جميل اعتراني وأنا أتخيل الناس من حولي ال يملكون موعد نهايتهم‬
‫على عكس ي أنا‪ .‬ال يعرفون متى يغادرون هذا العالم‪ .‬يعيشون هكذا معلقين بال‬
‫موعد مع املوت وبال وعد من الحياة في أن تواصل أيامها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ها أنا وحدي‪ ،‬أضرب موعدا مع املوت‪ ،‬أنتظره وينتظرني‪ .‬أملك وقتي كما أشاء إلى‬
‫أن يحين موعده‪ .‬أنت ال تملك وقتك إال إذا علمت ساعة نهايتك‪ ،‬حينها ترتب‬
‫أيامك كما تشاء‪ .‬تتخلص من انشغاالتك التافهة التي سرقت وقتك فيما مض ى‬
‫دون أن تلتفت إلى ساعتك اليدوية لتعاتب عقاربها على وفائها ملبدأ الدوران وعدم‬
‫االنتظار‪.‬‬
‫موعد املوت يززع الزمن عن جسده جلباب النسبية وأساور ''املؤجل''‬
‫ِ‬ ‫عند اقتراب‬
‫و ''نظارات االنتظار'' يرضخ حينها فقط للمطلق وملنطق الزوال‪ ،‬فتتزاحم كل تلك‬
‫األشياء التي لم تفعلها والكلمات التي لم تقلها في طوابير طويلة تستجدي صدقة‬
‫بقلب‬
‫زمن مما تبقى لك‪ .‬فتنطلق لتفرغ نفسك من آخر الرغبات كي تقابل املوت ٍ‬ ‫ٍ‬
‫فارغ من آمال البقاء وتمدد الزمن‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جلست على كرس ي املعتاد قبالة الكومبتوار‪ ،‬أتأمل الفراغ الذي أحدثه غياب مها‬
‫وسعيد في املكان وقبل أن أغوص في شو ي لكالمهما وذكرياتي الجميلة معهما‬
‫قاطعني النادل الجديد‪.‬‬
‫‪Bonsoir Monsieur… -‬‬

‫]‪[227‬‬
‫دون أن يكمل كلماته‪ ،‬طلبت منه وجبة العشاء‪ ،‬سمك اسبادون مع خضروات‬
‫ً‬
‫مسلوقة وزجاجة نبيد أبيض‪ .‬هكذا اشتهيت عشائي األخير‪ .‬نسخة مصغرة من‬
‫العشاء األخير ليسوع قبل أن يلوذ إلى السماء‪.‬‬
‫ال فروق بيننا‪ ،‬هو نبي هللا وأنا رسول األرض الى السماء هذه الليلة‪ .‬أحمل لها‬
‫ً‬
‫كلمات العودة وتراتيل الرحيل‪ .‬هو له اثنا عشر حواريا آنسوه في عشائه األخير وأنا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لي اثنتا عشرة ساعة‪ ،‬دورة كاملة لعقرب الزمن‪ ،‬يتجول فيها قدر ما يشاء قبل‬
‫موعد الرحيل األبدي‪.‬‬
‫هو له ليوناردو دافنتش ي ليرسم لوحة عشائه األخير‪ ،‬كي يخلد في التاريخ وأنا لي‬
‫هذه الكلمات‪ ،‬أكتبها من نزفي على ضمادات املذكرات‪ .‬هو له ''اإلسخريوطي''‬
‫خائن الرسالة وأنا لي ''الوطن'' ٌ‬
‫خائن من البداية إلى النهاية‪.‬‬
‫أنهيت عشائي وسط صخب املوسيقى وأحاديث السامرين في املطعم‪ .‬ناديت‬
‫النادل كي يزيدني زجاجة نبيذ‪ ،‬هذه املرة أحمر وأدفع له كامل الحساب‪ .‬دفعت له‬
‫ً‬
‫كل النقود التي بجيبي‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫‪ -‬خذها كلها‪ ،‬لم تعد لي حاجة بها بعد اآلن‪.‬‬
‫استسلمت لكؤوس النبيذ األخيرة وأنا أشعر بالخمر يختلط بدمائي في العروق‬
‫ويثقل رأس ي وأطرافي ويرتفع بأفكاري إلى سد ِة االنتشاء‪.‬‬
‫مرة رقصت فيها مع ليلى‪ .‬اعتدت‬‫تصاعدت موسيقى الفالس باملطعم ألتذكر آخر ٍ‬
‫كنت هنا‪،‬‬
‫ليتك ِ‬
‫رقص الفالس والفادو أمام جسدك املزهو بسمرته يا ليلى‪ ،‬يا ِ‬
‫لك‪.‬‬‫سأشتاق ِ‬
‫ٌ‬
‫تدقق في‬
‫أسود المع يغطي صدرها إلى ركبتيها‪ .‬لم أشأ لعيني أن ِ‬
‫بثوب ٍ‬
‫وقفت امرأة ٍ‬
‫مالمحها‪ ،‬كنت منشغال بمنظر سيقانها الجميلة التي بدت وكأن الشمس تلجأ إلى‬
‫ثغور جلدها بعد الغروب‪.‬‬

‫]‪[228‬‬
‫ً‬
‫أخفضت رأسها قليال ثم قالت لي‪:‬‬
‫الرقص معك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أتمنى أال تخيب طلبي في‬
‫رفعت رأس ي ألرى صاحبة الثوب األسود ألجدها رجاء الغالي‪ .‬املرأة التي تبادلت معها‬
‫أجمل النظرات في هذا املطعم‪.‬‬
‫ابتسمت لها وقلت‪:‬‬
‫ومز ي روحي على نوتات جسدك عساني أصير‬
‫خذيني إلى املرقص يا رجاء ِ‬‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫عينيك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مياه‬
‫وترا يشرب املوسيقى من ِ‬
‫ضحكت ثم قالت‪:‬‬
‫ٌ‬
‫‪ -‬أ تعويذة هذه؟‬
‫أجبتها‪:‬‬
‫عاشق ي ْس ِدل ستار القدر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬نعم‪ ،‬إنها تعويذة‬
‫ابتسمت ومدت لي يدها‪ ،‬عانقت خصرها منتشيا وأنا أردد في نفس ي‪'' :‬عشائي اآلن‬
‫رقص قبل الرحيل''‪.‬‬
‫يختلف عن عشاء املسيح‪ ،‬هو لم يمنحه القدر وصلة ٍ‬
‫تحت إضاءة املرقص كانت مالمح رجاء جميلة وهادئة‪ ،‬هونت علي مأساة النهاية‬
‫وألم املشهد الختامي الذي رسمته لنفس ي في مخيلتي‪ .‬تركت جسدي يتموج على‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫إيقاع املوسيقى الهادئة متتبعا تموجات جسد رجاء وأنا غارق في عينيها وابتسم‪.‬‬
‫شبكت أصابع يديها خلف عنقي وهي تدفع صدرها بجبروت بالغ على صدري‪...‬‬ ‫ْ‬
‫ازداد وقع عطرها على حواس ي لدرجة أن يدي بدأتا ترتجفان وهي تالمس أمواج‬
‫شاطئها العالية أسفل ظهرها‪.‬‬
‫كانت كما كنت أشتهي لنفس ي عند سدول الليل على نهاري ولكن ليس كما تمنيت‬
‫في ليلتي األخيرة‪ .‬ليلتي األخيرة ال يملكها إال طيف ليلى وخنادقها التي وزعت عليها‬

‫]‪[229‬‬
‫أشالء جسدي على دفعات تاريخي املصادر بالتقسيط على جغرافيتها وأيامها‪.‬‬
‫ً‬
‫دفعت سنوات عمري بأكملها ثمنا ألعرف أن ليلى هي قصة الحب الوحيدة التي ال‬
‫تعرف منطق النهايات وال خيانات القدر‪ .‬ليلى هي الوحيدة التي كنت سأبقى في‬
‫أحضانها الى األبد لو لم يكن لي وطن‪...‬‬
‫أنت ذاكرتي يا ليلى‪ ،‬ال يوم يمر علي دون أن تكوني فيه وطني‪ِ .‬‬
‫أنت أو ال وطن لي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أنت أو ال وطن‪.‬‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫تحركت شفتا رجاء قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ما سر ابتسامتك الجميلة والغامضة هذه؟‬
‫‪ -‬أبتسم لحظي الجميل يا رجاء؟‬
‫‪ -‬أي حظ؟‬
‫معك‪ ،‬مع امرأة جميلة ن ِحت جسدها بأنامل‬ ‫‪ -‬أن تكون رقصتي األخيرة ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جارف من الكحل العربي‪ .‬تدللها‬
‫ٍ‬ ‫كنهر‬
‫الشهد والنار‪ ،‬تلتحف ثوبا أسود ٍ‬
‫موسيقى تائهة بين الصخب والهدوء كأنها تتردد بين حتفي األخير ووالدتي‬
‫الثانية‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ٍ -‬آه منك‪ ...‬لم أكن أعلم أنك تغزل الكلمات شعرا‪ ،‬أقسم أنك استعمرت‬
‫نساء كثيرات‪.‬‬
‫قلوب ٍ‬
‫‪ -‬أقسم أنني ما دخلت قالع امرأة إال وخرجت مكسر اآلمال واألحالم‪ .‬أنا‬
‫حرب قديم في تاريخ النساء يا رجاء‪.‬‬
‫معطوب ٍ‬
‫ابتسمت بدالل وأردفت‪:‬‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬رأفة بك إذن‪ ،‬سأفتح لك قالعي دون مقاومة وسأجعلك سيدا أبديا لي‪،‬‬
‫سأكون لك األخيرة في تاريخ فتوحاتك‪...‬‬

‫]‪[230‬‬
‫ضحك يسخر من‬ ‫ٌ‬ ‫ابتسمت بدوري بخجل سرعان ما استحال إلى ضحك هستيري‪.‬‬
‫القدر قبل أن يسخر من مآس ي صاحبه‪ .‬ثم قلت لها‪:‬‬
‫فعال األخيرة‪ ،‬ولعل معاركنا األخيرة نخوضها دون سالح ودون‬ ‫ً‬
‫أنت‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫مقاومة‪ ،‬مجردين من حسابات الربح والخسارة‪ ...‬فكم نحن أغبياء إن‬
‫قدر ال يفوز فيها أحد‪.‬‬
‫اعتقدنا أن بإمكاننا أن نفوز في الحب‪ ،‬الحب لعبة ٍ‬
‫كلنا نخسر فيه‪ ،‬أشطرنا يثوب عنه في خسارته األولى وأغبانا يواصل‬
‫ً‬
‫فوز يصنعه خياله ويكذبه القدر‪.‬‬
‫مسلسل الخسارات طمعا في ٍ‬
‫توقفت املوسيقى وبدأت جموع أزواج الراقصين تعود إلى مقاعدها‪ .‬ظلت رجاء‬
‫بريق يشع كخيط فجر في ليل صحراء‪ ،‬أمسكت‬ ‫تقف أمامي صامتة‪ ،‬في عينيها ٌ‬
‫يديها وقلت لها‪:‬‬
‫برجل يعيش يومه األخير‪ ،‬ماذا تقولين له؟‬
‫التقيت ٍ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬رجاء‪ ،‬إن‬
‫ً‬
‫ظلت وفية لصمتها‪ ،‬تنظر إلي في استغراب وملحة حزن بدأت تغرق مقلة عينيها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ومط شفتيها موحية أنها ال تدري جوابا محددا‪.‬‬
‫بهز كتفيها ِ‬
‫اكتفت ِ‬
‫استدركت قائال لها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال تقولي له شيئا‪ ،‬أدعيه فقط إلى الرقص كما ِ‬
‫فعلت معي‪ ،‬واحرص ي أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يكون لون فستانك أسود‪ .‬كنت سعيدا ومحظوظا برقصتي األخيرة هذه‬
‫معك‪ .‬سأغادر‪ .‬اعتني بنفسك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫طبعت قبلة على أناملها التي كانت تشبك عنقي قبل لحظات ثم خرجت من‬
‫ً‬
‫املطعم‪ .‬تركتها واقفة دون أن تنبس بكلمة‪ .‬حملت عطرها معي ولون فستانها‬
‫وأحمر شفاهها وغادرت‪ ...‬حملتها بأكملها في ذاكرتي املحتضرة وغادرت ألرمي أرجلي‬
‫في أزقة الرباط‪ ،‬تتقاذف جسدي إشارات املرور وأرصفة الشوارع إلى شقتي في‬
‫حسان‪.‬‬

‫]‪[231‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أقلب ذكرياتي صفحة صفحة إلى‬ ‫قضيت ما تبقى من تلك الليلة واقفا في الشرفة‪ِ ،‬‬
‫أحضان السماء‪ .‬التفت إلى الحقيبة التي جمعت فيها لليلى‬‫ِ‬ ‫أن بدأ الفجر يتفتح في‬
‫مسدس قديم في حوزتي لم أكن أعلم أنني‬ ‫ٍ‬ ‫بقاياي‪ ،‬فوقها وضعت عقدة الحبل و‬
‫خيار يمنحه لي القدر هو أن أموت برصاصة مسدس أو‬ ‫أخبئه لهذه الليلة‪ .‬آخر ٍ‬
‫ً‬
‫مشنوقا بحبل‪ ،‬أن أموت أو أموت‪ ...‬هكذا كان القدر معي طيلة أربعين سنة من‬
‫ً‬
‫حياتي‪ ،‬أتاح لي خيارات كلها تؤدي للقدر ذاته‪ ،‬خيرني دائما بين الش يء والش يء‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اخترت الحبل‪ ،‬قدسية املوت تبتغي موتا صامتا بطيئا ال يمنحه الرصاص‪ .‬ثم‪ ،‬إن‬
‫كان الرصاص قد رفض قتلي في كل الحروب التي خضتها لم ألجأ له اآلن؟ أال كبرياء‬
‫لي؟‬
‫ً‬
‫ابتسمت ساخرا من املوت‪ ،‬املوت يضحك على الجميع قبل أن يلحدهم في دفاتر‬
‫الغياب ها أنا على األقل أضحك عليه وأحرمه من كتابة السيناريو الذي يحلو له‬
‫سكان املقابر‪ .‬وقفت على الحائط الصغير الذي يفصل الشرفة‬ ‫ِ‬ ‫قبل أن يكتبني من‬
‫عن مدخل الصالون‪ ،‬ألربط الحبل في قطعة حديدية ناتئة في سقف زاوية الشرفة‬
‫لم أنتبه لوجودها إال عندما بحثت عن وسيلة االنتحار‪ .‬هناك أشياء ترافقنا طيلة‬
‫حياتنا دون أن ننتبه لها‪ ،‬دون أن نعيرها أي اهتمام‪ ...‬لنكتشف في نهاياتنا أنها كانت‬
‫تنتظر فقط أن يحين دورها في أقدارنا كي تقول لنا‪'' :‬كنت فقط أنتظر''‪.‬‬
‫ً‬
‫تسمر نظري فجأة بصومعة مسجد السنة التي كانت تلوح في األفق‪ ،‬سمعت قلبي‬
‫ٌ‬
‫خافت‪ :‬يا هللا‪ ،‬سامحني‪ ،‬فليست لي طاقة للمض ي في القدر‪ ،‬أعفني‬ ‫ٍ‬ ‫يصيح بصوت‬
‫ً‬
‫منه واعف عني أو اصنع لي قدرا جديدا إنك ألرحم الراحمين‪.‬‬
‫ً‬
‫وضعت عقدة الحبل على عنقي وضيقت الحلقة جيدا حتى ابتسمت وأنا أتخيل‬
‫عنق أحزمها على قميص بذلتي السوداء‪ .‬ثم غمرني السكون‪،‬‬ ‫الحبل آخر ربطة ٍ‬
‫سكون مطلق‪ ،‬ال يعكره سوى نبضات قلبي املتسارعة ورعشة شفتي اللتان‬

‫]‪[232‬‬
‫بحبل إلى ناصية‬ ‫ٌ‬
‫لعلي أطير وأنا محلق ٍ‬ ‫خانتهما اللحظات األخيرة‪ .‬أفردت ذراعي ِ‬
‫لعلي أصير حرا‪ ،‬أملك املطلق وأسافر في رحلة الخالص األبدي من كل‬ ‫السماء‪ِ .‬‬
‫كحجر يلطخ صفحة مياه القدر‪ ،‬يتدلى كعناقيد‬ ‫ٍ‬ ‫ش يء‪ .‬رميت جسدي‪ ،‬رميته‬
‫السماء لتعلن نهاية القدر‪ ،‬نهاية الوطن‪ ،‬نهاية الحب‪ ،‬نهاية األلم ونهاية اسمي إلى‬
‫األبد‪ .‬وحدها صورة ليلى وهي تحتضنني في لقاءاتنا كانت تمأل مخيلتي عندما تدلى‬
‫ً‬
‫قدر املشانق‪ .‬وانتهيت كأنني لم أكن هنا في‬
‫جسدي في الفراغ معلقا كاملصلوب على ِ‬
‫حبر لروائي يشتهي الغرق في محبرة هواجسه وأفكاره سردا‬ ‫البداية‪ ،‬كأنني رسومات ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لرواية أخرى‬
‫ٍ‬ ‫وحكيا ووصفا وال يغرق‪ ،‬كأنني رواية يتضامن معها القارئ وينصرف‬
‫ْ‬
‫تنتظر نصيبها من املجاز في مخور األدب‪ ،‬وأنس ى ببساطة‪ ،‬كأنني أنا نصيب العدم‬
‫والعدم نصيبي‪ ،‬كأنني لم أكن‪.‬‬

‫]‪[233‬‬
‫إيزيسْوأوزيريس ْ‬

‫]‪[234‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ29‬‬
‫الدار البيضاء‪/‬الرباط – ‪ 07/01‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪8102‬‬

‫وهذه الليلة أيضا تذكرتك‪ ،‬ال أدري يا طارق متى ال أتذكرك؟ متى تغادر فكري‬
‫بانقباض غريب هذه الليلة‪ ،‬كان قلبي يدق‬
‫ٍ‬ ‫وتترك أطاللي خالية من دونك؟ شعرت‬
‫ً‬
‫ويرتجف كأنه يحاول أن يغادر ضلوعي ِ‬
‫ويحلق عاليا‪ .‬أشعلت املصباح القريب من‬
‫سريري كي أطرد الظالم من على صورتك املعلقة على جدار غرفتي‪ .‬ابتسمت وأنا‬
‫أنظر إلى عينيك العذبتين وابتسامتك املغرية‪ .‬قلت لك وأنا أرد على ابتسامتك‬
‫الجامدة في الصورة‪ ،‬ملاذا ال تتركني أنام يا مشاكس؟ ملاذا ال تجيب على مكاملتي لك‬
‫منذ أول أمس؟‬
‫أمني نفس ي بأن تتحرك ِشفاهك على الصورة وتجيبني‪ ...‬لكننا‬
‫لم تجبني‪ ،‬كنت ِ‬
‫ظللنا ننظر إلى بعضنا البعض كتمثالين متقابلين‪ ،‬أنت على الصورة وأنا على‬
‫السرير‪.‬‬
‫ازداد شعور االنقباض في داخلي أكثر وأكثر فوضعت مخدتي على صدري وضممتها‬
‫ً‬
‫بقوة‪ ...‬ثم التفت إليك قائلة‪ :‬ما الذي يجري لك يا طارق؟ أينك اآلن؟ وملاذا‬
‫اختفيت عني وال تجيب على الهاتف؟‬
‫سمعت صوتك بداخلي هذه املرة يناديني‪ ،‬كانت شفتاك تقول ببطء ''أنقذيني يا‬
‫ليلى‪ '' ...‬انفجرت عيناي بالبكاء وقمت من سريري كامرأة أصابها هلع الليل‪ ،‬أبحث‬
‫عن هاتفي الذي تركته على الشاحن قبل أن أنام‪ ،‬تذكرت نصيحتك عندما كنت‬
‫ً‬
‫تقول لي‪ :‬ال تتركي هاتفك ملتصقا بالشاحن وتنامين‪ ،‬كانت أناملي ترتجف على‬
‫شاشة الهاتف وأنا أركب رقم هاتفك من جديد‪ ،‬لكن وحدها العلبة الصوتية‬
‫كانت تجيب‪.‬‬

‫]‪[235‬‬
‫شعرت بأني أختنق‪ ،‬خرجت إلى غرفة الصالون أستجدي الهواء الطلق من‬
‫الشرفة‪ .‬تفاجأت أن الليل انجلى وبدأت خيوط الصباح تزحف في أفق السماء‪.‬‬
‫قلت مع نفس ي‪ :‬حرمتني من ليلة كاملة يا طارق‪ ،‬هل ستحرمني حتى من هذا‬
‫الصباح؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بقيت واقفة لدقائق طويلة أغوص في ذكرياتنا معا ونسيم برد الصباح يعبث‬
‫بخصالت شعري‪ ،‬لكن االنقباض الذي غزا صدري قبل قليل كان يستفحل وبدأت‬
‫مغص مؤلم‪ .‬اندفعت نحو املطبخ‪ ،‬بحثت عن قارورة أضع فيها‬
‫ٍ‬ ‫أشعر معه ببداية‬
‫جرعة ماء عساه يخفف من آالم املغص ثم‬
‫ٍ‬ ‫الكمون‪ ،‬بلعت القليل منه صحبة‬
‫شرعت في إعداد قهوة الصباح كعادتي‪.‬‬
‫لم تتركني صورتك وشأني يا طارق‪ ،‬كنت في كل حركة لي تقف بين أعيني وشفتك‬
‫تهمس‪'' :‬أنقذيني يا ليلى‪ '' ...‬ما الذي يحدث معك يا طارق؟ قل لي؟‬
‫نغمات‬
‫ٍ‬ ‫تركت املاء يسخن وذهبت أبحث بين أقراص املوسيقى عس ى أن أجد‬
‫تهدئني‪ .‬تركت أناملي تتوه بين أقراص فيروز وسعاد ماس ي وظافر يوسف و‪yani‬‬
‫وأرمند عمار حتى سقطت عيناي على قرص قديم ل ‪ Patsy clin‬كنت قد أهديته‬
‫لي أيام الجامعة‪.‬‬
‫ً‬
‫أذكر ذاك اليوم جيدا‪ ،‬عندما كنا نتقاسم سماعة الولكمان في مكتبة الجامعة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كتاب خطفت قبلة سريعة على خدي كانت قبلة على‬ ‫نظرت إلي وأنا غارقة في قراءة ٍ‬
‫أنغام ‪Patsy clin.‬‬
‫ً‬
‫بقيت تنظر إلي طويال ثم أخرجت القرص وأهديته لي قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أنا الوحيد في املغرب الذي يستمع ألغاني ‪ ...Patsy clin‬فلنكن اثنان‪ ،‬أنا‬
‫وأنت‪.‬‬
‫ِ‬
‫أجبتك حينها وفي عيني بدايات حب كبير‪:‬‬

‫]‪[236‬‬
‫‪ -‬ليس هناك أنا وأنت‪ ،‬نحن لسنا اثنان‪ ،‬نحن واحد فقط‪.‬‬
‫وضعت القرص لتحملني أنغامه إلى عشرين سنة للوراء‪ .‬يا هللا ما ألذ تلك األيام‪.‬‬
‫‪I go out walkin' after midnight‬‬
‫‪Out in the moonlight, just like we used to do‬‬
‫‪I'm always walkin' after midnight‬‬
‫‪Searchin' for you‬‬
‫‪I walk for miles along the highway‬‬
‫‪Well that's just my way of sayin' I love you‬‬
‫‪I'm always walkin' after midnight‬‬
‫‪Searchin' for you‬‬
‫تركت جسدي يززلق على الحائط ثم جلست على األرض أغوص في الذكريات وأبكي‬
‫أيامنا الخوالي‪ .‬فجأة صاح صوت مؤذن املسجد القريب من املززل بآذان الفجر‪.‬‬
‫هللا أكبر ‪ ...‬هللا أكبر‬
‫أشهد أن ال إله إال هللا‬
‫أسرعت لإلطفاء املوسيقى وقلبي يضرب بقوة‪ ،‬ما كدت أهدأ حتى صاح صوت املاء‬
‫الذي بدأ يغلي‪ ...‬غالبت الدمع في أعيني ثم ركضت إلى املطبخ‪.‬‬
‫وبينما أرتشف من كأس القهوة جرعاته األولى‪ ،‬سمعت صوت هاتفي يرن‪ .‬تساءلت‬
‫ً‬
‫مع نفس ي عمن هذا الذي سيتصل بي مع الفجر‪ .‬أيكون طارق يا ترى‪ ،‬أهو أيضا‬
‫غادره النوم هذه الليلة بسببي؟ أم أنه وجد اتصالي به ويرد علي اآلن؟‬
‫لكنك لم تكن أنت املتصل يا طارق‪ ،‬كانت جارتك فاطمة‪ .‬تسارعت دقات قلبي وأنا‬
‫أحمل الهاتف إلى أذني استعدادا لسماع خبر مفزع‪.‬‬
‫‪ -‬ألو‪...‬‬

‫]‪[237‬‬
‫‪ -‬ليلى حمدا هلل أنك صاحية‪ .‬آسفة إلزعاجك لكن األمر طارئ‪.‬‬
‫بأنفاس تتقطع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أجبتها‬
‫‪ -‬ماذا هناك يا فاطمة؟ أخفتني؟‬
‫فضلك تمالك نفسك‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬من‬
‫‪ -‬قولي لي ما الذي يجري يا فاطمة؟‬
‫ً‬
‫ردت علي مندفعة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لقد نقلنا طارق إلى املستشفى وجدناه غائبا عن الوعي وهو معلق إلى‬
‫حبل‪.‬‬
‫صرخت منفجرة بالبكاء‪:‬‬
‫‪ -‬كيف معلق إلى حبل؟ كيف؟‬
‫بينما كانت فاطمة مترددة وهي تستجمع كلماتها صرخت فيها من جديد‪:‬‬
‫‪ -‬فاطمة ال تخبئي عني شيئا‪ ،‬أخبريني‪...‬‬
‫ً‬
‫سمعتها تقول مستسلمة وأنا على ِ‬
‫وشك االنهيار‪:‬‬
‫‪ -‬لقد حاول طارق االنتحار‪ ...‬رأوه جيراننا في العمارة املقابلة قبل الفجر‬
‫يشنق نفسه ويتدلى جسده‪ .‬اقتحمنا الشقة ونقلناه إلى املستشفى على‬
‫وجه السرعة‪.‬‬
‫‪ -‬طمئنيني بأنه الزال حيا من فضلك يا فاطمة‪.‬‬
‫‪ -‬لم ت ْبد عليه إشارة حياة‪ ،‬األطباء يحاولون إنعاشه وإعادته للحياة ونحن‬
‫في االنتظار‪...‬‬

‫]‪[238‬‬
‫ً‬
‫سألتها مقاطعة‪:‬‬
‫‪ -‬بأي مستشفى أنتم؟‬
‫‪ -‬بمصحة ابن خلدون في حسان‪.‬‬
‫‪ -‬ساعة زمن وأكون هناك‪.‬‬
‫قطعت الخط وغدوت أمش ي كاملجنونة في الغرفة‪ ،‬شعرت بهيستيريا تجتاحني‬
‫فصرخت بأعلى صوتي‪ .‬نزعت سترتي ولبست جيززا وقميصا أبيض وجدته ملقى‬
‫على األرض‪ ،‬أخذت حقيبتي ثم غادرت بسرعة‪ .‬كانت عيناي تنفجران بالبكاء وأنا‬
‫في مصعد العمارة أترك رسالة صوتية ألمي فاطمة أطلب منها أن تبقي عندها ليال‪.‬‬
‫ركبت سيارتي ودفعت بها بأقص ى سرعة فوق الطريق السيار من الدار البيضاء إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واحدة على طول الطريق يا ربي ابقي طارق‬ ‫الرباط‪ .‬لم يكن لساني يردد سوى جملة‬
‫معي‪ .‬ال يمكن لطارق أن يرحل إلى األبد ويتركني‪ ،‬أنا وطارق ال يمكن لنا أن نفترق‪،‬‬
‫ال يمكن ألحدنا أن يعيش دون اآلخر‪ .‬حتى في املوت ال يمكن للقدر أن يهزمنا‪.‬‬
‫زمن‬
‫كنت أشعر بأن املسافة بين الرباط والدار البيضاء قد ازدادت وأن ساعة ٍ‬
‫ً‬
‫التي تفصل بينهما قد استحالت دهرا بالرغم من أن سرعة السيارة لم تززل عن‬
‫مائة وأربعين منذ أن دخلت للطريق السيار لم تغادر سيارتي املسار الثالث على‬
‫اليسار‪ .‬لم أكن أدري بما يجري حولي‪ ،‬كانت الالفتات تمر من فو ي مدينة‬
‫ً‬
‫املحمدية‪ ،‬بوزنيقة‪ ،‬الصخيرات‪ ...‬كان تفكيري الوحيد هو طارق‪ ،‬كنت غارقة في‬
‫مالمحه وذكرياتي معه حد الوجع‪.‬‬
‫لم يخرجني من شريط الذكريات إال إشارة ضوئية كثيفة تأتي من الخلف‬
‫باإلضافة إلى صوت منبه سيارة قوي ومتقطع رميت نظري على املرآة العاكسة‬
‫فرأيت سيارة الدرك امللكي تتبعني‪ ،‬ويشير إلي سائقها أن أتجه ألقص ى اليمين‬
‫وأتوقف‪.‬‬

‫]‪[239‬‬
‫ً‬
‫ماذا أفعل اآلن؟ ال أكترث لهم وأسرع للقاء طارق الذي ال أعرف إن كان حيا أو‬
‫ً‬
‫ميتا؟ أو أقف وأضيع الوقت الذي ال أملكه أصال؟ نقصت سرعة السيارة ثم‬
‫ركنتها في أقص ى اليمين‪ .‬توقفت خلفي سيارة الدرك بدورها‪ .‬ترجل من داخلها‬
‫ضابط متجهم الوجه‪ ،‬يبدو عليه الغضب في الوقت الذي توجه الضابط اآلخر‬
‫الذي كان معه إلى خلف السيارة حيث وضع إشارة ضوئية‪ .‬عندما استدار رأيت‬
‫أنها امرأة‪.‬‬
‫تقدم نحوي الضابط وطرق على نافذة الباب بقوة‪ ،‬أنزلت الزجاج ليرميني بصوته‪:‬‬
‫‪ -‬مالك أاللة شنو كاين؟ معامن مسابقة؟‬
‫فاجأني سؤاله‪ ،‬لم أعرف بما أجيبه‪ .‬شعرت بالبرد يصفع خدي املبلل بدمعي الذي‬
‫لم يتوقف بعد‪.‬‬
‫ً‬
‫ظل ينظر إلي الضابط بتمعن ثم أردف قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أوراق السيارة‪.‬‬
‫لم أجبه حتى هذه املرة‪ ،‬تركت أناملي تبحث عن أوراق السيارة في الدرج املقابل‬
‫للكرس ي على اليمين‪ .‬كانت أناملي ترتعش ودموعي الزالت لم تجف وفكري منشغل‬
‫بالوقت الذي يمر دون أن أصل إلى طارق‪.‬‬
‫بعد أن مددت أوراق السيارة للدركي ابتعد عني متوجها إلى سيارة الدرك حيث‬
‫غرق في حديث مطول مع زميلته الضابطة‪ .‬كان قلقي وتوتري يزدادان أكثر وأناملي‬
‫لم تتوقفا عن الرقص على مقود السيارة من ألم االنتظار‪ ،‬أكره االنتظار‪.‬‬
‫ً‬
‫فتحت الباب وتوجهت إليهم وأنا أجري حافية حتى وصلت عندهم‪ .‬صحت في وجه‬
‫الضابط‪:‬‬
‫‪ -‬من فضلك‪ ،‬أنا مستعدة أن أدفع غرامة أو أسجن حتى فقط ال تأخرني‬
‫اآلن‪ ،‬هناك من ينتظرني بين الحياة واملوت‪.‬‬
‫]‪[240‬‬
‫بصوت جاف مستفز‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رد علي‬
‫‪ -‬أنا أقوم بعملي يا سيدتي‪.‬‬
‫‪ -‬لكنك تؤخرني‪ ،‬هذا الوقت بأكمله لتحرر مخالفة؟ !‬
‫‪ -‬يجب أن نبحث إن كانت هذه السيارة مبحوث عنها قبل أن أقرر ما يجب‬
‫عمله بخصوص مخالفتك للسرعة املسموحة‪.‬‬
‫التفت إلى زميلته‪ ،‬كانت تنظر إلي بتمعن بالغ وبتقاسيم تظهر شفقتها علي‪ .‬وجهها‬
‫الجميل والبشوش دفعني للتوسل عندها‪:‬‬
‫ً‬
‫لك حبيبا على فراش‬ ‫أنت امرأة وتعرفين معنى أن يكون ِ‬ ‫‪ -‬من فضلك‪ِ ،‬‬
‫ً‬
‫إليك أن تتركاني أذهب وبسرعة‪.‬‬
‫وأنت بعيدة عنه‪ .‬أتوسل ِ‬
‫املوت ِ‬
‫لم تجبني‪ ،‬ظلت جامدة رغم أن عينيها احمرتا وبدت أنها متعاطفة معي‪ .‬مسحت‬
‫دموعي وصحت في وجههما قبل أن أتوجه إلى سيارتي‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا خذوا كل األوراق وافعلوا ما شئتم ولزرى كيف ستوقفونني‪.‬‬
‫ً‬
‫قفز الضابط بسرعة نحوي وأمسكني من كتفي قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تصعبين املسألة عليك سيدتي وسترتكبين جناية‪ ،‬انتظري فقط ربع‬
‫ساعة‪.‬‬
‫صرخت في وجهه بهيستيريا‪:‬‬
‫‪ -‬في ربع ساعة سيكون طارق قد مات إن لم أكن بجانبه‪.‬‬
‫اتجهت نحونا الضابطة‪ ،‬أخذت كل األوراق من يد زميلها عدا رخصة السياقة ثم‬
‫مدتهم لي قائلة‪:‬‬

‫]‪[241‬‬
‫نك‪ .‬ستجدين رخصتك في مقر والية شرطة‬ ‫‪ -‬اذهبي سيدتي‪ ،‬كان هللا في عو ِ‬
‫الرباط الستكمال اإلجراءات‪.‬‬
‫ً‬
‫لم أشعر بنفس ي وأنا أقبل خدها شاكرة إياها ثم توجهت إلى السيارة الستكمال‬
‫الطريق إلى حبيبي طارق‪ .‬في أقل من ربع ساعة كنت أركن السيارة أمام مصحة ابن‬
‫خلدون وأدخل للبحث عن غرفة طارق‪ ،‬دلتني مسؤولة االستقبال على غرفته‬
‫بالطابق األول‪.‬‬
‫ً‬
‫عندما وصلت إلى الغرفة وجدت شخصا يرتدي بدلة األطباء ويتجمهر حوله‬
‫فاطمة وزوجها ورجلين آخرين ال أعرفهما‪ .‬ما إن رأتني فاطمة حتى صاحت بإسمي‬
‫وارتمت في أحضاني‪.‬‬
‫صحت قائلة بأنفاس ي املتقطعة‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حال طارق هل فاق؟ أجبوني‪.‬‬
‫سألني الطبيب‪:‬‬
‫‪ -‬هل تقربينه سيدتي؟‬
‫أجبته دون تفكير‪:‬‬
‫‪ -‬أنا زوجته‪ ،‬كيف هو اآلن؟‬
‫‪ -‬ال أخفيك‪ ،‬حالته صعبة وغير مفهومة‪ .‬توقف قلبه ألكثر من مرة ولحد‬
‫اآلن هو ال يستجيب لإلنعاش الكهربائي‪ .‬يبدو أن حالته النفسية أثرت‬
‫على عقله الباطن وجعلته يصارع من أجل مغادرة الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬من فضلك أريد رؤيته‪.‬‬
‫رد علي بجواب قاطع‪:‬‬

‫]‪[242‬‬
‫‪ -‬غير مسموح بذلك سيدتي‪ ،‬ال يمكننا تعريضه ألي انفعاالت كيفما كانت‪.‬‬
‫صحت في وجهه‪:‬‬
‫‪ -‬طارق بحاجة لي أيها الطبيب‪ ،‬لن يفده إنعاشكم الكهربائي في ش يء‬
‫وحدها يدي وأنفاس ي ستعيدانه إلى الحياة‪.‬‬
‫ْ‬
‫اتسعت عينا الطبيب مستغربا مما قلته‪ .‬في ذاك الحين سمعت صوت فاطمة وهي‬
‫تستجديه‪:‬‬
‫‪ -‬أتركها تراه أيها الطبيب من فضلك‪ ،‬طارق يحتاج لها وحدها اآلن‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إلي الطبيب مستسلما ثم فسح لي الطريق ألفتح باب الغرفة وأدخل عند‬
‫طارق‪.‬‬
‫وجدته مغمض العينين‪ ،‬فاقدا للوعي‪ .‬تحيط به آالت طبية كثيرة لم أعرف منها‬
‫سوى تلك التي ترسم على شاشتها دقات القلب وسرعة نبضه‪ .‬كان في الغرفة‬
‫ممرضتين‪ ،‬واحدة تأخذ قياس الضغط من على يد طارق اليسرى واألخرى انزوت‬
‫ً‬
‫في زاوية الغرفة تعد قارورة بيضاء خمنت أنها قارورة مصل للحقن‪.‬‬
‫ً ً‬
‫أخذت كرسيا كان بالقرب من السرير واقتربت من وجه طارق‪ ،‬كان حليقا نقيا‬
‫تفوح منه رائحة عطره الخاص ‪ invictus‬كعادته‪ .‬قلت لنفس ي وأنا أقرب أنفاس ي‬
‫من وجهه‪ :‬أتتجمل للموت في لحظات رحيلك يا طارق؟‬
‫تركت يدي تداعب يده اليمنى وتمسح على أنامله وساعده قبل أن أتلمس بها وجهه‬
‫ومالمحه‪ .‬أزلت الغطاء عن عنقه ألجد هالة زرقاء حوله وجروح صغيرة‪ ،‬لم‬
‫أتمالك نفس ي حتى وجدتني أبكي وأنا أتخيل منظر انتحار طارق‪ .‬كانت دموعي تنهمر‬
‫في صمت على مخدته‪ ،‬لم أنت ٌ‬
‫جامد هكذا يا طارق؟ لم أعهدك هكذا في حياتي؟‬
‫التفت للخلف ألجد املمرضتين الزالتا في الغرفة‪ .‬صحت بهدوء قائلة‪:‬‬

‫]‪[243‬‬
‫‪ -‬هل بإمكانكما أن تتركانا للحظات لو سمحتما‪.‬‬
‫استجابت املمرضتان بهدوء لطلبي‪ ،‬ما إن أقفلتا الباب خلفهما حتى دفعت رأس ي‬
‫ً‬
‫إلى طارق أسرق من هدوئه قبلة على شفتيه الباردتين‪ ،‬أردتها أن تكون قبلة طويلة‬
‫عساها تضخ في عروقه شو ي ولهفتي عليه كي أعيده إلي‪ .‬همست بعدها في أذنه‪:‬‬
‫طارق أنا هنا‪ ،‬ليلى حبيبتك‪ ،‬ال تتركني وحيدة عد لي‪ ،‬أنا من تعود إليها بعد كل‬
‫قصة حب فاشلة‪ ،‬أنا من تعود إليها بعد أن ترحل للموت في فلسطين‪ ،‬أنا من تعود‬
‫إليها عندما يضيق بك الوطن‪ ،‬طارق أنا هنا‪ ،‬أملك في العودة وأملك في الحياة ‪ ...‬أنا‬
‫وطنك يا طارق‪ ،‬هيا عد لي‪.‬‬
‫جامد ال يحرك ساكنا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بقيت مع طارق قرابة الساعة أنا أبكي وأداعبه وأكلمه وهو‬
‫ً‬
‫وحده قلبه كان يخفق متعبا كأنه خارج لتوه من أشرس الحروب مع الحياة‪.‬‬
‫عندما خرجت من الغرفة وجدت فاطمة وزوجها يجلسان عند الباب‪ ،‬جلست‬
‫ً‬
‫جنبهما برفق‪ .‬كانت أنظارهما ملتصقة بي‪ ،‬متصفحة مالمحي‪.‬‬
‫خافت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫سألتني فاطمة‬
‫‪ -‬كيف هو اآلن؟‬
‫‪ -‬كما هو‪ ...‬الزال كما هو يا فاطمة‪ .‬طارق ليس هنا‪.‬‬
‫ردت علي وهي تهم بمعانقتي‪:‬‬
‫‪ -‬إن شاء هللا سيعود كما كان وأحسن يا ليلى‪ ،‬ابقي قوية هو في حاجة لك‬
‫اآلن‪.‬‬
‫نظرت إليها بامتنان وطلبت منها أن تذهب لبيتها هي وزوجها وسأبقى أنا مع طارق‬
‫لكنها قالت‪:‬‬
‫‪ -‬سنذهب يا ليلى‪ ،‬لكن من فضلك تعالي معنا‪.‬‬

‫]‪[244‬‬
‫‪ -‬لكنني ال أستطيع ترك طارق لوحده‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف‪ ،‬ولكن األمر مهم‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك يا فاطمة؟‬
‫‪ -‬سأخبرك في بيتنا‪ ...‬هيا من فضلك‪.‬‬
‫كانت مالمحها جادة ومقتضبة‪ .‬وقفت هي وزوجها ثم التفتت إلي‪ ،‬فلم أجد سوى‬
‫أن أتبعهما‪.‬‬
‫ونحن في السيارة ملحت أن الرباط تلبس مالمح حزينة وكئيبة هذا الصباح‪ .‬كانت‬
‫هي كذلك تبكي حال طارق؟ هل يمكن لطارق أن يغادر هذا العالم ويترك كل ش يء‬
‫وراءه؟ ثم ماذا يملك طارق ليتركه وراءه؟ ال ش يء ال يملك أحالما‪ ،‬وال مشاريع‬
‫حياة وال وطن؟ حتى رفاقه غادر الواحد منهم تلو اآلخر‪ ،‬غادره الجميع‪ .‬عاش‬
‫ً‬
‫منفيا في وطنه ال يملك سوى حبنا الذي ولد لقيطا‪.‬‬
‫عند وصولنا إلى البيت‪ ،‬أخذتني فاطمة إلى غرفة صغيرة في آخر شقتها ثم أغلقته‬
‫باملفتاح‪ .‬كانت متوجسة ومرتبكة‪ .‬سألتها باستغراب‪:‬‬

‫‪ -‬ما ِ‬
‫بك يا فاطمة؟ ماذا هناك؟‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫دوالب صغير في زاوية الغرفة‪ .‬فتحت بابه األيمن ثم‬
‫لم تجبني‪ ،‬اتجهت مباشرة نحو ٍ‬
‫حملت منه حقيبة متوسطة الحجم‪ ،‬لونها أزرق أكاد أعرفها‪ .‬نعم‪ ،‬نعم أعرفها‪،‬‬
‫إنها لطارق‪.‬‬
‫صحت في وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬هذه حقيبة طارق‪.‬‬
‫أجابتني بارتجاف‪:‬‬

‫]‪[245‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬إنها له‪.‬‬
‫بخوف كبير لتخرج منها‬
‫ٍ‬ ‫فتحتها ثم أخرجت منها قطعة ثوب ملفوف بعناية‪ .‬فتحتها‬
‫ً‬
‫مسدسا رماديا من نوع سيرديكوف عيار ‪ 2‬ملم‪ .‬أعرف هذا املسدس‪ ،‬إنه لطارق‪،‬‬
‫كانت قد أهدته له رفيقتنا الروسية ماريا مايكوفسكي عندما زرنا شبيبة الحزب‬
‫الشيوعي في روسيا أيام الجامعة‪.‬‬
‫بصوت خافت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫سمعت فاطمة تقول‬
‫‪ -‬كنت أول من دخل إلى شقة طارق‪ ،‬بجوار جسده املرمي على األرض‬
‫وجدت هذه الحقيبة واملسدس بالقرب منه‪ .‬خفت أن يراه أحد أو أن‬
‫تحضر الشرطة وتجده فلففته في قطعة ثوب وأدخلته بعد ذلك في‬
‫الحقيبة‪.‬‬
‫ً‬
‫أخذته من يدها ثم قلت مستغربة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬إنه مشحون‪ ،‬يبدو أن طارق فكر في االنتحار بمسدسه‪ .‬حمدا هلل أنه لم‬
‫يفعل‪.‬‬
‫‪ -‬من فضلك أخرجيه من بيتي‪.‬‬
‫نظرت إلى عينيها‪ ،‬كان يتملكها الخوف ثم قمت بسرعة بإزالة مخزن املسدس‪،‬‬
‫وأرجعت املاسورة إلى الوراء ألخرج الرصاصة املتبقية فيها ثم فككت ِقطعه‪.‬‬
‫كانت فاطمة تنظر إلي بعينين واسعتين عندما قالت لي‪:‬‬
‫تعلمت هذا؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أين‬
‫أجبتها وأنا أضع املسدس في الحقيبة‪:‬‬
‫‪ -‬ال يهم اآلن‪ ،‬سآخذ الحقيبة إلى شقة طارق وأرى ما فيها قبل أن أعود إلى‬
‫املستشفى‪.‬‬

‫]‪[246‬‬
‫ما إن هممت بفتح باب الغرفة حتى صاحت من خلفي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ليلى‪ ،‬وجدت أيضا هذه الرسالة فوق الحقيبة‪.‬‬
‫أخذت منها الرسالة بتثاقل وريبة‪ ،‬كتب على ظهر ظرفها ''إلى حبيبتي ليلى املرابط''‪.‬‬
‫ً‬
‫أحسست بالدمع في أعيني فغادرت مسرعة إلى شقة طارق‪.‬‬
‫ما كدت أغلق الباب حتى ذهلت لخلو الشقة من أي قطعة أثاث‪ ،‬كانت خالية‬
‫ً‬
‫تماما إال من أنفاسه التي حرستها الجدران حتى مجيئي‪ ،‬لم تخل من ذكرياتنا‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬فها هي الجدران واألعمدة والغرف واألبواب وكل ش يء يحكي عن قصة حبنا‬
‫التائهة‪ ،‬كل ش يء في هذه الشقة يحكي عني وعنك يا طارق أجمل الذكريات وأحلى‬
‫األوقات‪.‬‬
‫لم يعد لي منك اآلن إال هذه الذكريات وحروف رسالتك هذه التي أقرأها وأنا‬
‫أفترش أرض شقتنا الباردة وأسلم ظهري لجدران ذاكرتنا‪:‬‬
‫غيرك يدق قلبي آخر دقات‬
‫غيرك أكتب له كلماتي األخيرة؟ ملن ِ‬ ‫''حبيبتي ليلى‪ ،‬من ِ‬
‫الحب ويسقط شهيد غيابك إلى األبد ‪'' ...‬‬

‫]‪[247‬‬
‫ْ‬ ‫ْْ‪ْْ31‬‬
‫الرباط – ‪ 80‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪8101‬‬

‫معجب بقصتنا‪ ،‬فبرغم قسوته‬ ‫ٌ‬ ‫اليوم عيد ميالدك من جديد‪ ،‬يبدو أن القدر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫احترم إرادتنا في األخير وسيمنحنا شمعا جديدا نشعله قربانا لحبنا العنيد‪.‬‬
‫سنحتفل بعمرنا املقبل لكن بال ذكريات‪ ،‬لم أكن أدري أن حتى ذكريات قصتنا‬
‫قدر ال يجيد فيك سوى الرحيل إال بعدما اتصل‬ ‫ستغادرك يا طارق وسترحل مع ٍ‬
‫بي الطبيب هذا الصباح‪ ،‬بعد شهر من دخولك في غيبوبة جراء محاولة االنتحار‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طلب مني املجيء بسرعة إلى املستشفى ألن خبرا سعيدا ينتظرني‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم أكن أعرف أن السعادة تأتيني دائما مغلفة بلباس الخيبة‪ ،‬تأتي دائما ناقصة‪.‬‬
‫ً‬
‫قفزت فرحا حينها وأنا أجزم أنك استعدت وعيك وعدت للحياة‪ ،‬عدت لي‪ .‬أصابتني‬
‫موجة ارتباك وأنا على مشارف لقائك من جديد‪ .‬بحثت عن االستمارتين اللتين‬
‫أعطاهما لي مدير املعهد الكندي وكتبت عليهما من فرط سعادتي اسمي واسمك‪،‬‬
‫ً‬
‫نعم‪ ،‬سنهاجر إلى كندا وستكون لنا بداية جديدة هناك‪ .‬تهت بعدها في دوالبي وأنا‬
‫فستان يليق بعودتك لي‪ ،‬فلم أجد سوى الفستان األسود الذي‬ ‫ٍ‬ ‫أبحث عن‬
‫احتفظت به في حقيبتك لعشرين سنة ونجا من محاولة انتحار قصتنا معك‪.‬‬
‫هذا الفستان وحده يليق بمشهد عودتك هذه املرة‪ ...‬كم فرحت عندما لبست‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفستان ووجدت جسدي وفيا ملقاسه‪ ،‬أكان جسدي يضرب موعدا مع فستاننا‬
‫بعد عشرين سنة هو اآلخر؟ أكان جسدي يتوق إليك في هذا الفستان يا طارق؟‬
‫نصف ساعة هو الزمن الذي كان يفصلني عن املكان واملوعد املشتهى‪ ،‬عدت إلي‬
‫إذن يا طارق‪ .‬عدت من جديد‪ ،‬آه كم مض ى من عمرنا يا حبيبي بين الرحيل‬
‫ً‬
‫والعودة‪ .‬أنتظرك تارة في املطارات وتارة في املستشفيات وتارة أخرى على رصيف‬
‫ْ‬
‫وعدت‪ ،‬انتظرتك أن‬ ‫الزمن‪ .‬انتظرت عودتك لي من املوت في فلسطين أكثر من مرة‬
‫]‪[248‬‬
‫تعود لي بعد أماليا وزهرة وسلوان وعدت‪ ،‬انتظرت عودتك لي من غياهب االنتحار‬
‫ْ‬
‫وعدت‪ ،‬قدرك يا طارق أن تعود لي‪ ،‬أنا وطنك وأنت بدوني الجئ‪.‬‬
‫كان الطبيب ينتظرني عند باب غرفة طارق في املستشفى‪ ،‬ما إن ملحته حتى‬
‫ً‬
‫أسرعت في خطاي التي كانت أصال تمش ي جريا إلى طارق‪.‬‬
‫صاح مجامال عندما وصلت إليه‪:‬‬
‫أنك بهذا الجمال‬ ‫‪ -‬يبدو أن ِ‬
‫قلبك دل ِك إلى الخبر الجميل‪ ،‬لو كنت أعلم ِ‬
‫واألناقة لكنت حقنت طارق بكل أدوية العالم ليستفيق من غيبوبته‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬شكرا ملجاملتك دكتور ياسين‪ ،‬أنت تعلم أن حالة طارق جعلتني أنس ى‬
‫نفس ي وتبعثرت طيلة الشهر الذي ظل فيه غائبا عن عاملنا‪.‬‬
‫أتفهمك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫معك حق‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫قلت له بلهفة‪:‬‬
‫‪ -‬اسمح لي بالدخول‪ ،‬مشتاقة جدا لرؤية طارق والنظر في عينيه‪ .‬أنا غير‬
‫ً‬
‫مصدقة أنه عاد لي أخيرا‪.‬‬
‫بوجه اعتلته‬
‫أردت أن أخطو نحو الباب‪ ،‬لكنه لم يزح جسده من طريقي‪ .‬نظر إلي ٍ‬
‫حيرة وشفقة ثم قال بتردد وبكلمات مرتبكة‪:‬‬
‫حد ذاته هدية‬‫‪ -‬ليلى‪ ،‬طارق والحمد هلل استفاق من غيبوبته‪ ،‬وهذا في ِ‬
‫كبيرة من القدر‪ ،‬لقد كانت حالته حرجة وعلى مشارف املوت‪...‬‬
‫قاطعته متوترة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬يا للفاجعة‪ ،‬عيناك تداريان خبرا مفزعا أيها الطبيب‪...‬‬
‫ً‬
‫أنزل عينيه مستسلما‪ ،‬ثم عاد ليخبرني‪:‬‬

‫]‪[249‬‬
‫‪ -‬طارق حي‪ ...‬لقد نجا من صدمته‪ ،‬لكن ذاكرته لم تنجو‪ ،‬طارق فقد‬
‫ذاكرته بشكل كامل‪.‬‬
‫صرخت كاملفجوعة‪:‬‬
‫‪ -‬مستحيل‪ ،‬كيف ذلك؟ كيف يكون طارق بال ذاكرة؟‬
‫أمسكني مواسيا قبل أن يجلسني على مقعد بجانب باب الغرفة‪ .‬سمعته يقول‪:‬‬
‫‪ -‬طارق أصيب بحالة ‪ Post-traumatic Amnesia‬وهي حالة فقدان‬
‫الذاكرة نتيجة لصدمة قوية‪ .‬هو اآلن ال يتذكر أي ش يء عن حياته في‬
‫املاض ي ال أحداث وال أشخاص وال أي معلومات‪...‬‬
‫كان هول الصدمة أكبر من أن أحتمله‪ ،‬انفجرت باكية بحرقة حتى سقط كحلي‬
‫ً‬
‫سابحا في قطرات دمعي على فستاني‪ .‬األسود يعانق األسود بالدمع‪ ،‬أهذا هو قدري‬
‫معك؟ ال تكون لي إال نصف عائد أو نصف راحل؟‬
‫عدت هذه املرة أيضا‪ ،‬لكنك غير مكتمل العودة‪ .‬لم تترك حبيبة أخرى وراءك هذه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املرة‪ ،‬لم تترك وراءك جرحا ماضيا أو قضية يتيمة من دون نضالك‪ ...‬لم يصبح‬
‫ً‬
‫لك قضايا اآلن‪ ،‬أصبحت مجردا من الذاكرة ومن االنتماء‪ .‬أهذا إذن هو املطلق‬
‫الذي بحثت عنه طيلة حياتك؟ صفيت حساباتك مع الوطن والعروبة بأن أزلتهما‬
‫من الذاكرة؟ أ بعد أن كان الوطن ليس هنا صار طارق ليس هنا؟‬
‫مسحت دمعي ورتبت هيئتي قبل أن أدخل عنده والفضول في أن أرى طارق الجديد‬
‫ً‬
‫يقتلني‪ ،‬طارق بال ذاكرة‪ .‬ما إن فتحت الباب حتى سقط نظره على نظري‪ ،‬ابتسمنا معا‪،‬‬
‫لم أعرف ما أقوله حينها‪ ،‬ارتبكت أمام مالمحه ونظراته التي تعيث في زالزال وبراكين‪.‬‬
‫خافت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫قال لي‬
‫ً‬
‫انتظرتك طويال‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬

‫]‪[250‬‬
‫ً‬
‫أجبته مبتسمة‪:‬‬
‫‪ -‬هللا وحده يعلم من انتظر اآلخر طويال يا عزيزي‪.‬‬
‫لم يمهلني حتى أغوص في مالمحه وأشبع من نظراته ألتأكد أنه عاد لي حتى قصف‬
‫برصاصة غادرة‪ ،‬جاءتني بلهيب الدمع في عيني‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫قلبي‬
‫أنت ليلى‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫اشتعلت نار حارقة في قلبي‪ ،‬وددت لو أصرخ في وجهه وأعاتب ذاكرته الخائنة‪،‬‬
‫لكني تذكرت نصيحة الطبيب بأال أضغط عليه وأشعره بذنب فقدانه للذاكرة‪.‬‬
‫تمالكت نفس ي وأنا أقف أمامه‪ ،‬ابتسمت له من جديد وأجبته‪:‬‬
‫‪ -‬كيف عرفت ذلك؟‬
‫رد علي بخجل‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أخبرتني املمرضة أن لي زوجة اسمها ليلى تأتي لزيارتي كل يوم وأن لي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طفلة أيضا‪ ،‬اسمها‪ ...‬نعم‪ ،‬اسمها ليال‪.‬‬
‫لم أتمالك نفس ي‪ ،‬انفجرت باكية وأنا أرتمي في حضنه‪ ،‬سقطت كل دموعي التي‬
‫خبأتها عنه طيلة عشرين سنة‪ .‬كنت أبكي بحرقة املفجوعة في قلبها‪ ،‬بكيت القدر‪،‬‬
‫ً‬
‫بكيت الوطن‪ ،‬بكيت أيام الجامعة التي نسجنا فيها أحالما ومشاريعا أكبر منا‪،‬‬
‫بكيت كل القضايا التي ناضلنا من أجلها وخذلتنا وبكيت حبي الشهيد‪ ...‬بكيت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طارق الذي يعود إلي في كل مرة ناقصا‪ ،‬هذه املرة يعود ناقصا من ذاكرته‪ ،‬ذاكرتنا‪.‬‬
‫لفني بذراعيه القويتين إلى صدره وحضنني بقوة كعادته عندما يشتاق لي‪ .‬ها هو‬
‫على األقل لم ينس كيف يحضن لياله‪.‬‬
‫ً‬
‫سألته وأنا أقبل جبينه فرحة بعودته‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي حدث يا طارق؟‬
‫]‪[251‬‬
‫ً‬
‫أجابني سارحا‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرف‪ ،‬استيقظت فوجدت نفس ي هنا وأسئلة كثيرة في بالي‪ .‬من أنا؟ وما‬
‫ً‬
‫الذي جرى لي حتى أدخل املستشفى؟ ومن أهلي؟ وجدتني ال أعرف شيئا أو‬
‫ً‬
‫باألحرى ال أتذكر شيئا‪ .‬هرع إلي الطبيب رفقة حشد من املمرضات سألني‬
‫أسئلة غريبة وأعطاني أدوية ثم رحل‪ .‬ترجيت املمرضات أن يحكوا لي من‬
‫أكون‪ ،‬فقلن لي أنني دخلت إلى املستشفى قبل شهر بعد أن تعرضت لحادث‬
‫وأن لي زوجة وطفلة يزورانني كل يوم‪ ...‬هذا كل ش يء‪.‬‬
‫‪ -‬أال تتذكر شيئا قبل دخولك للمستشفى؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صمت برهة ثم قال متأسفا‪:‬‬
‫ٌ‬
‫وظالم يلفان مخيلتي فقط‪.‬‬ ‫‪ -‬ال أذكر أي ش يء‪ .‬فراغ‬
‫مسكت يده وابتسمت في وجهه قائلة كي أهون عليه‪:‬‬
‫املهم أنك عدت لي بالسالمة يا حبيبي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نظر إلي مبتسما بدوره ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬نحن حبيبان إذن؟ !‬
‫ً‬
‫سألته مستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقصد؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬أقصد أننا فضال عن كوننا زوجان‪ ،‬نحن حبيبان‪.‬‬
‫ً‬
‫عدت لسؤاله مشاكسة‪:‬‬
‫‪ -‬أتحبني أنت؟‬
‫رد علي باستحياء كنت أعرفه في طارق في أيامنا األولى‪:‬‬

‫]‪[252‬‬
‫‪ -‬شعرت بقلبي يطير بحبك مذ ِ‬
‫دخلت من ذاك الباب وسقطت عيناك على عيني‪.‬‬
‫رحمة منك تلفني اآلن‪ ،‬أكان الزما علي أن أدفع عشرين سنة كاملة من‬
‫ٍ‬ ‫ياهلل‪ ،‬أي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عمري كي يعود لي طارق؟ يا هللا‪ ،‬هل تعاطفت معي أخيرا ومنحتني بداية جديدة مع‬
‫ً‬
‫طارق؟ نحن فعال نستحق بداية جديدة‪ ،‬فقد أعيتنا أقدار النهايات‪.‬‬
‫ً‬
‫سمعته يقول مستدركا‪:‬‬

‫‪ -‬لكن السؤال‪ ،‬هل كنت ِ‬


‫أحبك قبل اآلن؟ أقصد في ذاكرتي املسروقة؟‬
‫استرسل بلهفة بعدما لم يلمح إجابة على شفاهي‪:‬‬
‫‪ -‬حدثيني عن ماضينا‪ ...‬حدثيني عن كل الذي كان؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بلهفة أكبر من لهفته وأنا أضع قبلة خفيفة على خده‪:‬‬
‫أجبته ٍ‬
‫‪ -‬انس املاض ي‪ ،‬انس الذي كان‪ .‬سأحدثك عن الذي سيكون‪.‬‬
‫ابتسم وقال‪:‬‬
‫‪ -‬وما الذي سيكون؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬سنهاجر إلى كندا ونبدأ حياة جديدة هناك‪ .‬سنبني بيتا من الخشب‬
‫ً‬
‫بمحاذاة نهر السان لورين بليفيس ونكتب أشعارا باملساء‪ .‬سنشيخ معا‬
‫ونحن نرقب ابنتنا ليال وهي تكبر وتصير عروسا‪...‬‬
‫خطفني إلى حضنه وعانقني من جديد‪ ،‬كأنه يفر من قدره القديم إلي‪ ،‬يفر من قضاياه‬
‫التي آمن بها ونكلت به‪ ،‬يفر من وطنه الذي أوجعته مآسيه‪ ،‬وحدي أنا اآلن قدره ووطنه‪.‬‬
‫همس في أذني قبل أن نغرق في قبلة طويلة كانتظارنا الطويل‪:‬‬
‫وحدك أجمل ما سيكون‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أنت‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬

‫]‪[253‬‬

You might also like