Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 417

‫َح ـ ـ ـ ـنـ ِـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن‬

‫حــــــنِـــــيــــ ْ‬
‫ن‬ ‫اسم الكتاب‪َ :‬‬

‫التأليف‪ :‬ياسمين قنديل‬

‫موضوع الكتاب‪ :‬رواية‬

‫عدد الصفحات‪ 416 :‬صفحة‬

‫عدد المالزم‪ 26 :‬ملزمة‬

‫مقاس الكتاب‪20 × 14 :‬‬ ‫للثقافة والعلوم‬

‫عدد الطبعات‪ :‬الطبعة األولى‬

‫رقم اإليداع‪2016 / 7173 :‬‬

‫الترقيم الدولي‪ISBN : 978 - 977 - 278 - 538 - 4 :‬‬

‫التوزيع والنشر‬

‫‪Darelbasheer@hotmail.com‬‬
‫‪Darelbasheeralla@gmail.com‬‬

‫ت‪01012355714 - 0115280653 :‬‬ ‫‪ 1437‬هـ‬


‫‪2016‬م‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫يمنع طبع هذا الكتاب أو جزء منه بكل طرق الطبع ‪ ،‬والتصوير‪،‬‬
‫والنقل‪ ،‬والترجمة‪ ،‬والتسجيل المرئي والمسموع والحاسوبي‪،‬‬
‫وغيرها من الحقوق إال بإذن خطي من ‪:‬‬
‫َحـ ـ ـنِـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ْن‬

‫ياسمين قنديل‬
‫‪5‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫إهداء‬

‫إلى كل َم ْن أصاب قلبه الحنين‪،‬‬


‫وال يعرف متى ينتهي‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪6‬‬

‫(‪)1‬‬
‫إن لم يكونوا يو ًما من نصيبنا إ ًذا لماذا ظهروا في حياتنا من البداية؟!!‬
‫كيف تسللوا بخفة إلى قلوبنا فتمكنوا منها إلى هذا الحد‪..‬‬
‫نفعل الكثير؛ لنتحرر من سطوتهم وال نفلح‪ ،‬فنعود واقفين على أعتاب‬
‫أرواحنا نرجو الرجوع إلى ما كانت عليه ساب ًقا‪..‬‬
‫الرجوع إلى حياتنا قبل ظهورهم‪..‬إلى أنفسنا القديمة‪..‬‬
‫فنكتشف الحقيقة وقتها أن ال رجوع!!‬
‫كتبت تلك‬
‫ُ‬ ‫ووضعت القلم جان ًبا بعد أن‬
‫ُ‬ ‫أغلقت دفتري الرمادي‬
‫ُ‬
‫الخاطرة؛ لتخرج ً‬
‫قليل مما يجول بصدري‪.‬‬
‫نظرت باتجاه النافذة وأنا جالسة على مقعد مكتبي أراقب شعاع‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫الشمس وهو يتسلل ببطء إلى أرضية الغرفة ويطل بخيوطه الذهبية على كل‬
‫وتغيرت بمجيئه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫تبدلت‬
‫ْ‬ ‫شيء بداخلها فيكشف عن سحر خاص لها وكأنها‬
‫مددت كلتا‬
‫ُ‬ ‫تحرك بانسيابية نحوي وبدأ دفؤه يداعب أطراف أصابعي‪،‬‬
‫قدمي ألنعم بأكبر حصة منه‪..‬‬
‫ّ‬
‫وبقيت‬
‫ُ‬ ‫أغمضت عيني‬
‫ُ‬ ‫تقدم تدريج ًّيا وهو يضم أطرافي شي ًئا فشي ًئا‪،‬‬
‫ساكنة مستسلمة الحتوائه‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫نالت منه‪ ،‬فمع حلول‬


‫كنت أحاول تعويض جسدي عن ليلة باردة سابقة ْ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫مشمس مثل‬ ‫فصل الشتاء على مدينة القاهرة وازدياد الصقيع يصبح أي يو ٍم‬
‫هذا فرص ًة عظيمة يجب استغاللها جيدً ا‪ ..‬‬
‫تمنيت وصول هذا الدفء لثنايا روحي وأن يتغلغل بحنايا قلبي‬
‫ُ‬ ‫كثيرا ما‬
‫ً‬
‫فتهدأ الريح بداخلي‪ ،‬ويذهب ذلك البرد الدائم المصاحب لهما‪.‬‬
‫ودفعت دفتيها‬
‫ُ‬ ‫رفعت المزالج‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وسرت نحو النافذة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قمت من مقعدي‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ببطء؛ ليدخل أكبر قدر من ضوء الشمس فتدفأ الغرفة‪..‬‬
‫استدرت برأسي وأنا أنظر إلى غرفتي وقد توهجت بأكملها‪ ،‬تلك‬ ‫ُ‬
‫الفراشات الثالث الرقيقة الالمعة ذات اللون الوردي الالتي وضعتهن‬
‫اختفت تما ًما النجوم الملصقة‬
‫ْ‬ ‫فوق سريري قد ازدادت بري ًقا ولمعانًا‪ ،‬بينما‬
‫ليل عندما تنطفئ األنوار وتزداد الظلمة‪.‬‬ ‫بالسقف فهي تُضاء فقط ً‬
‫كثيرا‪ ..‬أحب بساط َة مقتنياتها وأثا َثها ذا الطراز القديم‪،‬‬
‫أحب غرفتي ً‬
‫أتذكر عندما اشتراه أبي وأنا في سن السابعة من عمري وقد قرر هو وأمي أنه‬
‫حان الوقت ألحصل على غرفة بمفردي‪ ،‬كانت المرة األولي التي أشعر فيها‬
‫بمعنى االستقاللية وأن هناك مساحة أرضية بشقتنا ملكي وال تحق ألحد‬
‫حاولت أن أقنع أبي بتغيير طالئها من اللون الكريمي إلى اللون‬ ‫ُ‬ ‫غيري‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الوردي لكنه رأى أن لونها يتناسب أكثر مع أرضيتها الخشبية وأثاثها ذي‬
‫اللون البني الفاتح‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪8‬‬

‫كثيرا في أثناء‬
‫أشعر بالراحة في سريري وأحمدُ الله أنني ال أتقلب ً‬
‫نومي فهو متوسط الحجم وال تسمح مساحته بكثير من التقلبات‪ ،‬خزانة‬
‫قمت برسمها منذ‬‫مالبسي من ضلفتين إحداهما مزينة ببعض الورود التي ُ‬
‫زمن‪ ،‬ومكتبي صغير يعج سطحه بالكثير من الكتب في شكل عمودي على‬
‫كوب ملي ٌء باألقالم بأنواعها‬
‫ٌ‬ ‫اليمين واليسار يتوسطها حاسوبي وبجانبها‬
‫المختلفة ودرجان بطول المكتب يحتويان على دفاتري وأشيائي السرية‬
‫التي ال يعرفها أحد‪.‬‬
‫أحاول بين الحين واآلخر أن أضيف إلى الغرفة لمستي األنثوية‬
‫الخاصة‪ ،‬أزينها بالفراشات والورود والنجوم‪ ...‬أكتب بعض العبارات‬
‫وأعلقها هنا وهناك‪ ...‬جعلت منها عالمي الخاص الذي أشعر بالخصوصية‬
‫وأنا بداخله وأسعد وأنا أصنعه‪.‬‬
‫استندت إلى حافة النافذة بظهري وأنا أنظر إلى جدرانها‪ ،‬وأفكر ماذا‬
‫ُ‬
‫يمكنني أن أجدد بها؟‬
‫ٍ‬
‫طرقات على الباب يعقبها صوت أمي منادية‪:‬‬ ‫صوت‬
‫ُ‬ ‫قاطع تفكيري‬
‫‪« -‬حنين‪..‬حنين»‬
‫‪« -‬نعم يا أمي»‬
‫‪« -‬هيا يا حبيبتي الفطور جاهز»‬
‫‪« -‬حسنًا أنا قادمة»‬
‫‪9‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ولممت‬
‫ُ‬ ‫عدلت هندامي أمام المرآة التي تلتصق بإحدى ضلفتي الخزانة‪،‬‬
‫ُ‬
‫خصالت شعري المنسدلة على وجهي بطوق بسيط مزين بورود صغيرة‪..‬‬
‫وتمشيت في الرواق ألصل إلى غرفة الطعام‪..‬‬
‫ُ‬ ‫خرجت‬
‫ُ‬
‫أنعم الله علينا ببيت كبير وواسع‪ ،‬واستغل أبي وأمي هذا فلم يزحماه‬
‫بكثير من األثاث‪ ،‬أكثر أثاث بيتنا بسيط قليل الحجم ويختلف عن طراز‬
‫األثاث القديم المليء بالزخارف والنقوشات فال يحتوي الكثير منها‪.‬‬
‫أتعجب من بعض شقق صديقاتي ذات المساحات الصغيرة وهي تعج‬
‫بكثير من األثاث الضخم الباهظ الثمن‪ ،‬فينتج عن ذلك ضيق المساحة‪،‬‬
‫وجلب الكآبة لكل َم ْن يراه‪.‬‬
‫فوجدت أبي بانتظاري ويزين محياه ابتسامته‬
‫ُ‬ ‫وصلت إلى غرفة الطعام‪،‬‬
‫ُ‬
‫المعهودة التي تحوي بين طياتها فرحة مشتاق برؤية حبيبه‪.‬‬
‫وقارا‬
‫كان أبي أصلع الرأس‪ ،‬تكسو الشيبة لحيته وحاجبيه فتضيف إليه ً‬
‫وحكم ًة‪ ،‬ومالمحه تعلوها الطيبة والود‪ ،‬ولكن وضع الزمان بصمته عليها‬
‫فظهر ذلك في بعض التجاعيد والخطوط التي تحيط بكلتا عينيه‪.‬‬
‫مبتسما‪:-‬‬
‫ً‬ ‫ور َّد ُه أبي‪ ،‬ثم قال –وهو ال يزال‬
‫ألقيت السالم َ‬
‫ُ‬
‫‪« -‬كيف حال حبيبتي الصغيرة؟»‬
‫كثيرا ولكن‬
‫‪« -‬الحمد لله بخير يا أبي‪ ..‬انتظرتك باألمس على العشاء ً‬
‫غلبني النوم ولم أستطع االنتظار أكثر»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪10‬‬

‫تأخرت باألمس‪ ،‬كيف كان حال يومك بالبارحة؟»‬


‫ُ‬ ‫‪« -‬ال ِ‬
‫عليك أنا بالفعل‬
‫‪« -‬بخير الحمد لله»‬
‫أطلت أمى (بروبها) القرمزي‪ ،‬ويحيط شعرها وشاح باللون نفسه‬
‫ْ‬
‫معقو ٌد بشكل جمالي وتظهر منه غرة رأسها‪...‬‬
‫ما يعجبني في أمي هو حفاظها على أناقتها‪ ،‬واهتمامها بالتفاصيل‬
‫الصغيرة المتعلقة بزيها وشكلها بالرغم من كبر سنها‪.‬‬
‫هممت بالوقوف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وضعت أمي الطبق الذي بيدها على المائدة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫إلي بيدها أن أجلس قائلة‪:‬‬
‫فأشارت َّ‬
‫ْ‬
‫‪« -‬اجلسي‪ ..‬كان هذا آخر طبق»‬
‫نظر إليها أبي وعلى وجهه عالمات التساؤل ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬أين آسر؟ ألم يستيقظ بعد؟»‬
‫‪« -‬استيقظ منذ زمن ولكنه أمام حاسوبه»‬
‫ً‬
‫مشغول بإتمام هذه اللعبة اإللكترونية؟!»‬ ‫‪« -‬أمازال‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫ممتعضا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال أبي‬
‫‪« -‬يا لهذا الزمن! في الماضي كان اجتماع العائلة على مائدة الطعام‬
‫ً‬
‫منشغل بهذه األجهزة البغيضة»‬ ‫من أساسيات أي بيت‪ ،‬اآلن أصبح الكل‬
‫‪11‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ردت أمي ‪-‬وهي تتناول إحدى حبات الزيتون وتضعها في فمها‪:-‬‬


‫ْ‬
‫كل ٍ‬
‫زمن يختلف عن سابقه‪ ،‬وال يوجد شيء يدوم على‬ ‫‪« -‬يا طارق ُّ‬
‫ٍ‬
‫جيل ينظر للذي بعده أنه األسوء‪ ،‬أال تتذكر كيف كان ينظر‬ ‫كل‬‫حاله‪ُّ ،‬‬
‫أجدا ُدنا وآباؤنا إلى جيلنا؟»‬
‫تنهد أبي وهو يعقد يديه وتظهر عليه عالمات االستياء‪.‬‬
‫أخيرا لينضم إلينا‪ ،‬كان‬
‫بدأت أمي في مناداة آسرعدة مرات حتى خرج ً‬ ‫ْ‬
‫وبياض عينيه يحمل بعض الشعيرات الحمراء‬ ‫ُ‬ ‫واضحا على وجهه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫اإلرهاق‬
‫من الجانبين مما يدل على أنه لم ينم جيدً ا‪ ،‬وأن عينيه متعبتان من طول النظر‬
‫إلى شاشة الحاسوب‪..‬‬
‫بدأ أبي في معاتبته وتحذيره من خطر ما يفعل على صحته‪ ،‬شاركته أمي‬
‫وكررت شكوتها المعتادة من قلة تناوله للطعام؛ فجسد آسر الهزيل‬
‫ْ‬ ‫العتاب‬
‫واسمرار لونه يدالن على حاجته إلى التغذية الجيدة‪.‬‬
‫أخذ أبي في سرد بعض القصص التي قرأها في بعض الجرائد أو‬
‫سمعها من أصدقائه بهدف النصح آلسر خاصة ولنا عامة‪..‬‬
‫ِ‬
‫كثيرا خوف أبي وحرصه علينا‪ ،‬فعلى الرغم من انشغاله بأعمال‬
‫ب ً‬ ‫ُأح ُّ‬
‫المقاوالت فإنه يحرص على اجتماعنا؛ ليسمع منا ما حدث في يومنا‪ ،‬وماذا‬
‫ضحت في‬
‫ْ‬ ‫َجدَّ في حياتنا‪ ،‬وتشاركه أمي في ذلك فهي تهتم بأدق تفاصيلنا‪،‬‬
‫الماضي بفرص عمل نادرة برواتب مجزية؛ من أجل أن تتفرغ تما ًما لتربيتي‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪12‬‬

‫سعت إليه منذ تخرجها‬


‫ْ‬ ‫أنا وأخي‪ ،‬أحيانًا يراودها تحقيق حلمها القديم الذي‬
‫من كلية رياض األطفال وهو أن تبني مؤسسة لتعليم األمهات الجدد كيفية‬
‫التعامل مع أطفالهن وتنشئتهم نشأة سليمة نفس ًّيا‪..‬‬
‫انتهيت من المرحلة الثانوية أن ألتحق بالكلية‬
‫ُ‬ ‫حاولت إقناعي عندما‬
‫ْ‬
‫نفسها؛ حتى نتعاون م ًعا ونحقق هذا الحلم الكبير خاصة أنني أحب األطفال‬
‫شغف من نوع آخر أريد أن أشبعه وحلم أطمح أن‬ ‫ٌ‬ ‫مثلها‪ ،‬لكن كان لدي‬
‫أحققه‪ ،‬فحبي للكيمياء والمعادالت والتفاعالت والتراكيب بجانب مجموع‬
‫حصلت عليها َأ َّه َلنِي لاللتحاق بكلية الصيدلة‪ ،‬كانت هي‬
‫ُ‬ ‫الدرجات التي‬
‫الخيار األمثل بالنسبة لي‪ ،‬وهذا العام هو عامي األخير بها‪.‬‬
‫آسر هو أخي األصغر في الصف الثاني اإلعدادي‪ ،‬يصغرني بسبعة أعوام‪..‬‬
‫علمت أننا سنرزق بصبي وليست‬ ‫ْ‬ ‫أتذكر مدى حزني عندما أخبرتني أمي أنها‬
‫حب مع مرور األيام‪..‬‬ ‫فتاة‪ ،‬لكن سرعان ما ذهب هذا الحزن وتبدَّ ل مكانه ٌّ‬
‫شاركت أمي في تربيته حتى أنني أشعر أحيانًا أنه ابني وليس أخي‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫ُ‬
‫من مشاغبته المستمرة فإنه عامل أساسي في دب الحياة في بيتنا‪.‬‬
‫أسرتي صغيرة وبيننا روح جميلة‪ ،‬أحب ذلك الجو الدافئ الذي أشعر‬
‫به وأنا بجوارهم‪..‬‬
‫كنت أتمنى فقط أن نكون أكثر من ذلك‪ ،‬أن يكون لدي الكثير من‬‫ُ‬
‫اإلخوة واألخوات وال يهدأ بيتنا من المشاغبات والسمر الذي يحدث‬
‫بالضرورة مع كثرة العدد‪ ،‬أنوي تعويض ذلك عند تكوين أسرتي‪..‬‬
‫‪13‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫شفتي مفكرة‪..‬‬
‫ّ‬ ‫شردت وأنا أتناول ببطء حلقة من الخيار وأضعها على‬
‫ُ‬
‫أسرتي‪ ..‬تُرى كيف ستكون؟ كم سيكون عددها؟ كم سأنجب من‬
‫الصبيان والفتيات؟ ومن سيكون شريكي بها؟‬
‫‪« -‬في ماذا تشردين يا حنين؟» انتبهت لسؤال آسر‪ ،‬وهو يخطف باقي‬
‫وضعت كفي على فروة رأسه‪ ،‬فخرج شعره الطويل‬
‫ُ‬ ‫حلقة الخيار من يدي‪،‬‬
‫من بين أصابعي وحركتها يمنة ويسرة‪ ،‬وأنا أقول‪:‬‬
‫‪« -‬ال شيء أيها المزعج»‬
‫ظهرت عالمات الضيق على وجهه وهو يزيح يدي عن رأسه سري ًعا ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ْ‬
‫وتكرارا ال تقتربي من شعري»‬ ‫مرارا‬ ‫ُ ِ‬
‫ً‬ ‫«قلت لك ً‬ ‫‪-‬‬
‫‪« -‬ولهذا أنا ال أقترب إال منه»‬
‫ضحك أبي وأمي‪ ،‬وسأل أبي آسر وسط ضحكه‪:‬‬
‫‪« -‬هيا يا بطل أخبرنا كيف كانت مغامراتك باألمس؟»‬
‫أعتقد أن سؤال أبي اليومي هذا هو أحد أسباب سعادة آسر؛ فهو الوسيلة‬
‫التي من خاللها يستطيع أن يقص علينا عجائبه وغرائبه التي حدثت خالل يومه‪.‬‬
‫متحمسا جدًّ ا‬
‫ً‬ ‫انتهينا من الطعام وآسر لم يتوقف عن الكالم بعد‪ ،‬كان‬
‫وهو يحكي كيف أنه نجا بأعجوبة من اصطدامه بالحائط وهو يركب دراجته‬
‫بعد أن كان بينهما خمسة سنتيمترات فقط‪ ،‬كنا نضحك من طريقة سرده‬
‫المسترسلة واندماجه في الحدث كأنه يحدث اآلن‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪14‬‬

‫وقمت بتحويل األطباق إلى المطبخ‪ ،‬بدأ أبي‬


‫ُ‬ ‫انتهى آسر من حديثه‬
‫وأمي في حديثهما اليومي المعتاد عن ماذا سنأكل اليوم على الغداء‪ ،‬وتفرع‬
‫الحوار إلى َم ْن يود أبي زيارتهم وما تود أمي عمله ولكن ال وقت لديها‪...‬‬
‫توقف أبي عن الحديث وكأنه تذكر شي ًئا ما‪ ،‬وسأل أمي‪:‬‬
‫ِ‬
‫أرسلت الغداء باألمس إلى حمزة كما أخبرتك؟»‬ ‫‪« -‬مديحة‪ ..‬هل‬
‫تركت الطبق الذي بيدي لكنني رفعته ثانية‬
‫ُ‬ ‫شعرت بجفاف في حلقي‪،‬‬
‫ُ‬
‫على الفور حتى ال يالحظ أحد‪ ،‬فمجرد ذكر اسمه أصبح يصيبني بالتوتر‪..‬‬
‫أجابت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬نعم يا طارق أرسلناه إليه‪ ..‬ال تقلق»‬
‫وضع أبي إحدى يديه على األخرى وأسندهما إلى الطاولة‪ ،‬عقد‬
‫حاجبيه وهو يقول‪:‬‬
‫كثيرا»‬
‫‪« -‬نريد أن نقترب منه أكثر فمنذ أن كشف لي سره وأنا أفكر في أمره ً‬
‫رجعت ذاكرتي بالزمن إلى الوراء؛ ألتذكر‬
‫ْ‬ ‫مع كلمات أبي األخيرة‬
‫األحداث كلها‪..‬‬
‫وكيف بدأ كل شيء‪...‬‬

‫●●●‬
‫‪15‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)2‬‬
‫مال قرص الشمس عن كبد السماء وبقي ٌ‬
‫قليل من ضوئها وقد توارت‬
‫بالحجاب‪ ،‬بدأ الظالم بإسدال ستائره شي ًئا فشي ًئا معلنًا عن قدومه‪.‬‬
‫كانت أمي تجلس في ذلك اليوم وهي تتأبط إبرتين طويلتين تحت ذراعيها‬
‫وتحيك كنزة صوفية حمراء اللون البنة جيراننا الصغيرة وقد استقرت على أرنبة‬
‫أنفها نظارتها مستطيلة العدسات‪ ،‬وهي تقوم بنسج الغرز بشكل آلي وسريع يدل‬
‫علمت أن لجيراننا الجدد‬
‫ْ‬ ‫على مهارة اكتسبتها عبر زمن من الممارسة‪ ،‬فمنذ أن‬
‫قررت أن تصنع واحدة لها من باب كسب الود وإشعارهم باأللفة بيننا‪..‬‬
‫ْ‬ ‫ابنة‬
‫تمارس أمي هذه الهواية منذ زمن‪ ،‬أتذكر مدى إعجاب أقاربنا بكنزاتنا‬
‫الصوفية التي كانت تصنعها ونحن صغار‪ ،‬ويطلبون منها أن تصنع مثلها ألبنائهم‪.‬‬
‫دخل أبي إلى البيت بخطوات مسرعة وهو ينادي أمي على عجل‪:‬‬
‫‪« -‬مديحة‪ ..‬مديحة»‬
‫قامت أمي من مكانها تاركة ما بيدها‪ ،‬وتقول بصوت يشوبه القلق وهي‬
‫تخلع نظرتها‪:‬‬
‫‪« -‬خير يا طارق‪ ..‬هل حدث شيء؟»‬
‫أمسك أبي بيدها ليذهب عنها قلقها‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪16‬‬

‫‪« -‬الال‪..‬اطمئني»‬
‫أخرجت زفرة تنم عن االرتياح وقالت متعجبة‪:‬‬
‫«اعتدت أن أول ما تفعله عند دخول البيت أن تلقي السالم فلما‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫تخيلت أنه حدث شيء ما‪ ..‬أخبرني ماذا هناك؟»‬
‫ُ‬ ‫رأيتك تناديني مسر ًعا‬
‫جلس أبي وهو ال يزال ممسكًا بيدها‪ ،‬وأجلسها أمامه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬كنت أفكر في أمر ما‪ ،‬وأريد أن أستشيرك به»‬
‫‪« -‬تفضل»‬
‫وجدت شا ًّبا في المسجد يصلي العصر معنا‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬من قرابة ثالثة أسابيع‬
‫كثيرا حينها ولكن‬
‫كان ال يحمل أي شيء سوى حقيبة صغيرة‪ ،‬لم أنتبه إليه ً‬
‫الحظته في بقية األيام يصلي جميع الصلوات فتخيلت أنه انتقل حدي ًثا إلى‬
‫منطقتنا‪ ،‬وكما تعرفين أي شخص جديد نحب أن نرحب به ونشعره باأللفة‬
‫وتعرفت عليه لم يخبرني الكثير عنه‪ ،‬ولكن عرفت أنه أتى إلى‬‫ُ‬ ‫ذهبت‬
‫ُ‬ ‫بيننا‪،‬‬
‫هنا لزيارة صديقه عمر ‪-‬رحمه الله‪ -‬أتتذكرينه؟»‬
‫هزت أمي رأسها‪:‬‬
‫‪« -‬نعم أتذكره رحمه الله»‬
‫‪« -‬لكنه لم يكن يعلم بخبر وفاته وتفاجأ حينما أخبره أهالي المنطقة‬
‫عندما سألهم عنه‪ ،‬وأخبرني عثمان حارس المسجد أنه ال يملك مكانًا‬
‫وجدت عثمان يقول‬
‫ُ‬ ‫ليذهب إليه‪ ،‬فعرض عليه المبيت بالمسجد‪ ،‬واليوم‬
‫‪17‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫له إن عليه إيجاد مكان آخر بد ًءا من الليلة؛ ألن ذلك يخالف تعليمات‬
‫ذهبت إليه وسألته‬
‫ُ‬ ‫إدراة المسجد ومن الممكن أن يلحق هذا الضرر به‪،‬‬
‫ماذا سيفعل‪ ،‬فوجدت الحيرة في وجهه‪ ،‬وقال إنه سيحاول أن يتصرف في‬
‫تذكرت حينها غرفة السطح وأنها فارغة إال من بعض األثاث القديم‬
‫ُ‬ ‫األمر‪،‬‬
‫ففكرت لِ َم ال نستضيف هذا الشاب بها هذه الفترة حتى يجد مكانًا ينتقل‬
‫إليه‪ ،‬فما رأيك؟»‬
‫نظرت أمى مل ًّيا‪ ،‬وقد بدت عليها عالمات التردد قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬عهدتك س َّبا ًقا للخير طوال عمرك يا طارق‪ ،‬ولكن تريد أن تسكن‬
‫شا ًّبا ال تعرف عنه شي ًئا في بيتنا!! ال نعرف َم ْن هو وال من أين أتى؟ ولماذا‬
‫منذ مجيئه وهو يبيت بالمسجد أليس له أقارب أو أصدقاء آخرون يبيت‬
‫عندهم؟ وإن لم يكن له فلماذا مكث هنا كل تلك الفترة؟»‬
‫أجاب أبي سري ًعا‪ ،‬وكأنه كان يعلم كالم أمي مسب ًقا‪:‬‬
‫‪« -‬أعلم أن كل كالمك صحيح مئة بالمئة يا مديحة ولكن من خالل‬
‫معاشرتي له وجدت في ذلك الشاب حسن الخلق والخير وارتحت له‬
‫كثيرا‪ ،‬وال أظن أنه شخص مخادع وأرجو أال يخيب ظني به»‬
‫ً‬
‫جذبت أمي يدها من يد أبي‪ ،‬ووقفت وهي تقول مستنكرة‪:‬‬
‫«أية معاشرة تتحدث عنها يا طارق؟! أنت لم تعرفه سوى من بضعة‬
‫أيام!! أنت طيب القلب‪ ،‬وتظن أن الناس جميعهم مثلك‪ ،‬ال تنخدع‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪18‬‬

‫بالمظاهر يا عزيزي‪ ..‬فكر معي ما الذي يجعل شا ًّبا يأتي إلى منطقة ال يعرفه‬
‫بها أحدٌ إال شخص واحد ويمكث بها هذه الفترة؟! أليس من المنطقي أن‬
‫يعود بعدما وجد صديقه قد توفي؟ ما أدرانا ربما يكون فعل فعلة كبيرة‬
‫ضخما وأراد أن يختبئ‪ ،‬أو يكون قد‬ ‫ً‬ ‫ويريد الهروب‪ ،‬أو ربما سرق مبل ًغا‬
‫قتل أحدهم وجاء هنا لينجو بفعلته‪ ،‬أو ربما…»‬
‫قاطعها أبي‪ ،‬وهو يقف ويقول مستغر ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬كفى‪ ..‬كفى‪ ..‬ما كل هذه الظنون!! لماذا نظن السوء بالناس مع أن‬
‫األصل أن نحسن الظن بهم؟!»‬
‫وربتت على كتفه بيدها قائلة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫اقتربت منه‬
‫ْ‬
‫‪« -‬ألن هذا هو الواقع يا أبا آسر»‬
‫ظل أبي وأمي يتبادالن الجمل‪ ،‬وأنا جالسة على األريكة بالقرب منهما‬
‫أراقب نقاشهما‪ ،‬وقد احتد ما بين رفض أمي ومطلب أبي‪..‬‬
‫وسألت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ذهبت بالقرب منه‬
‫ُ‬ ‫لم يقطع حديثهما إال جرس الباب‪،‬‬
‫‪َ « -‬م ْن؟»‬
‫أتاني ذلك الصوت األجش‪:‬‬
‫‪« -‬أنا خالك محمود يا حنين افتحي»‬
‫فتحت الباب سري ًعا فدخل خالي وضمني بحنان فتغلغل عطره في‬
‫ُ‬
‫كبيرا من الفاكهة‪..‬‬
‫كيسا ً‬
‫أنفي‪ ،‬قبلني وأعطاني ً‬
‫‪19‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫سمعنا صوت أقدام آسر وهي تجري في الرواق حتى وصل إلى خالي‬
‫وقفز في محاولة منه للوصول إلى عنقه ليحتضنه‪ ،‬رفعه خالي بجسده‬
‫مبتسما‪:‬‬
‫ً‬ ‫الهزيل إليه‪ ،‬وهو يقول‬
‫‪ً -‬‬
‫«أهل بالولد الشقي»‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫أنزل خالي آسر وهو ينظر إلى أبي وأمي ويشير إليهما في تساؤل‬
‫‪« -‬ماذا أصابكما؟ أسمع صوتكما من بداية الدرج»‬
‫ردت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬حمدً ا لله أنك أتيت اآلن يا محمود احضرنا في هذا الموقف»‬
‫جلس خالي محمود‪ ،‬وبدأت أمي تقص عليه كالم أبي‪..‬‬
‫خالي محمود هو أخو أمي من الرضاعة‪ ،‬كان أبوه وأمه جيرانًا لجدتي‬
‫‪-‬رحمها الله‪ ،-‬توفيت أمه في أثناء والدته فأولته جدتي الرعاية بجانب‬
‫والده‪ ،‬وأرضعته مع أمي التي تكبره بشهرين فصارا أخوين من الرضاعة‪..‬‬
‫هيئته الضخمة‪ ،‬وبنيته الطويلة‪ ،‬وكرشه المتدلي أمامه‪ ،‬وبشرته البيضاء‬
‫المشربة بحمرة‪ ،‬وعيناه الضيقتان‪ ،‬وصوته األجش كل هذا يعطي انطبا ًعا‬
‫أنه شخص قاسي شديد الطباع‪ ،‬ولكن ما إن تجلس معه حتى تكتشف طيبة‬
‫قلبه وصفاء روحه‪ ،‬يشعر بالتعب مع زوجته فهي ترهقه بطلباتها المادية غير‬
‫مراعية ظروفه وراتبه القليل‪ ،‬ويشغل بالها حياة اآلخرين ومستوى معيشاتهم‬
‫فتعقد مقارنات بين حياتهم وحياتها فتغضب ساخطة على وضعها‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪20‬‬

‫كانت أمي تصبره وتعلل ما هي فيه أنه ربما انعكاس لشعورها بالحزن‬
‫ألنهما لم يرزقا باألطفال وقد تقدما بالسن‪ ،‬وتنصحه بالتزام الدعاء أن‬
‫يصلح الله حالها وال يجعل للشيطان بينهما ً‬
‫سبيل‪.‬‬
‫انتهت أمي من سرد موقف أبي وهي منفعلة‪َ ،‬ح َّك خالي ذقنه الالمعة‬
‫التي يبدو أنه حلقها للتو‪ ،‬وقال وهو يفكر‪:‬‬
‫‪« -‬ال أعلم ماذا أقول‪ ..‬أعلم يا طارق أن حب الخير بداخلك كبير‪،‬‬
‫وأنك تقدم على مساعدة اآلخرين دون النظر إليهم‪ ،‬ولكن أشعر أن مديحة‬
‫معها حق في هذا الشأن‪ ،‬أن تسكن هذا الشاب في بيتك يعني أنه ربما تتستر‬
‫على أمر ما قام به وتساعده على الهرب بفعلته»‬
‫قال أبي وقد تملكه الضيق‪:‬‬
‫‪« -‬أنتما تقوالن هذا ألنكما لم ترياه‪ ،‬أنتما تطلقان تلك األحكام كلها‬
‫جزا ًفا لمجرد أنه كان يبيت بالمسجد‪ ،‬ربما أراد الرجوع فقطعه ٌ‬
‫عذر أو‬
‫حابس فظل هنا»‬
‫ٌ‬ ‫حبسه‬
‫قالت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬ولماذا لم يخبرك بذلك؟»‬
‫أجابها بشيء من الغضب‪:‬‬
‫‪« -‬لكل شخص أموره الخاصة يا مديحة وله الحق بإخفائها وال دخل‬
‫لي أنا بهذا‪ ،‬أريد استضافة هذا الشاب من باب المعروف ال أكثر»‬
‫‪21‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ثم قام وهو ينظر أمامه‪ ،‬وقد عقد كفيه خلف ظهره‪ ،‬وأكمل بهدوء‪:‬‬
‫‪« -‬لقد اتخذت قراري لن أدع هذا الشاب يتخبط بين الطرقات اليوم‬
‫لمجرد ظنون سيئة ال أساس لها‪ ،‬سأستضيفه بغرفة السطح حتى يجد مأوى‬
‫آخر له»‬
‫ثم نظر إلى أمي وخالي‪:‬‬
‫‪« -‬أما بالنسبة لشكوككما وأسئلتكما فسوف أطرحهاعليه‪ ،‬وأنا متأكد‬
‫أنه سيجيبني بأسباب منطقية وسيخيب ظنكما»‬
‫قالت أمى باستغراب مذهولة‪:‬‬
‫«ما هذا ياطارق؟ منذ متى ونحن نتعامل بهذا الشكل؟! لم ُيتخذ‬
‫أي قرار في هذا البيت إال بعد موافقتنا م ًعا عليه‪ ،‬منذ متى وأنت تفرض‬
‫قراراتك؟!»‬
‫َه َّم أبي بالرد ولكن أوقفه خالي بيده وهو يشير إلى االثنين؛ ليتمهال‬
‫ويتح َّليا بالهدوء‪ ،‬ثم قال في محاولة منه لتلطيف الجو‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سنقسم البلد نصفين»‬
‫نظر إلى أمي وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬سيأتي هذا الشاب كما يريد طارق‪ ،‬وسيسكن بغرفة السطح حتى‬
‫يجد مسكنًا آخر»‬
‫التفت إلى أبي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪22‬‬

‫‪« -‬أتفهم حسن ظنك يا طارق ولكن مديحة محقة فيما تفكر به؛ لذا يجب‬
‫أن تسأله عن سبب مكوثه هنا حتى اآلن‪ ،‬ومن أين أتى حتى تطمئن قلوبنا»‬
‫عابسا وهو يهز رأسه في داللة‬
‫ً‬ ‫هزت أمي رأسها وأشاح أبي بوجهه‬
‫منهما على اقتناعهما بكالم خالي‪ ،‬رمق خالي أمي بطرف عينيه وحركهما‬
‫وهو يميل برأسه ً‬
‫قليل تجاه أبي في إشارة منه إليها لتلين الوضع‪..‬‬
‫فهمت أمي أشارته‪ ،‬قالت ‪-‬وهي واضعة إحدى يديها تحت ذقنها‪،‬‬
‫وتنظر بعيدً ا عاقدة حاجبيها‪:-‬‬
‫‪« -‬إ ًذا متى سيحضر؟ حتى أتصل بأم سعد كي تأتي وتساعدني في‬
‫تنظيف الغرفة»‬
‫انفرجت أسارير أبي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬سأذهب اآلن إلى المسجد وأخبره‪ ،‬وسيأتي معي بعد صالة العشاء»‬
‫نظرت أمي إلى الساعة المعلقة على الحائط‪ ،‬ثم قامت وهي تقول‪:‬‬
‫‪« -‬لم يبق كثير من الوقت على صالة العشاء سأقوم اآلن واتصل بها‬
‫حتى تستطيع المجئ»‬
‫قام خالي ورفع رأسه إلى أعلى وهو يضم ياقة قميصه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سأذهب على طريق طارق فلدي كثير من األشياء التي يجب‬
‫أن أنجزها»‬
‫وقلت بحزن‪:‬‬
‫ُ‬ ‫زمجر آسر غاض ًبا‪،‬‬
‫‪23‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬لكنك لم تجلس معنا يا خال»‬


‫باسما وهو يربت على كتفي‪:‬‬
‫اقترب مني ً‬
‫‪« -‬سأعوضها قري ًبا إن شاء الله»‬
‫رفع آسر عينيه إليه وقد امتألت بالحزن‪:‬‬
‫‪« -‬وعد؟»‬
‫ربت خالي على رقبته‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬وعد»‪.‬‬
‫ً‬
‫اتصال بأم سعد‪،‬‬ ‫نزل خالي مع أبي بينما اتجهت أمي لغرفتها لتجري‬
‫كنت أرى أن أمي معها كامل الحق فيما قالت‪ ،‬فجميعنا يعلم طيبة قلب‬ ‫ُ‬
‫قليل مما عرضنا ساب ًقا للخديعة والغش من ِقبل بعض األفراد‬ ‫أبي واندفاعه ً‬
‫الذين وضع ثقته بهم سري ًعا‪ ،‬وعندما كنا نناقشه في أفعالهم الغريبة يدافع‬
‫عنهم حتى تظهر حقيقتهم‪ ،‬ويندم على تسرعه‪ ،‬ولكن تظل طيبة قلبه تغلبه‪،‬‬
‫أرجو أن يكون ُمح ًّقا هذه المرة وصائ ًبا في ظنه‪ ،‬وأال يورطنا هذا الشاب‬
‫الغريب في المزيد من المشاكل والمصائب‪.‬‬
‫وبقيت في حالة سكون‬
‫ُ‬ ‫انتهت صالة العشاء و َع َّم الهدوء على منطقتنا‪،‬‬
‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫وانتظار لتدب بها الحياة من جديد عند صالة الفجر وبزوغ الصباح‪،‬‬
‫صوت طرق مميز على الباب الذي أعرف منه أن الطارق أبي‪..‬‬
‫دخل أبي ومعه آسر‪ ،‬وبدأ حديثه معي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪24‬‬

‫‪« -‬السالم عليكم يا حنين‪ ،‬هل أمك هنا؟»‬


‫‪« -‬وعليكم السالم يا أبي‪ ،‬ال أمي ال تزال باألعلى مع أم سعد»‬
‫‪« -‬أتى معي الضيف اآلن‪ ،‬سأدخله ريثما تنتهي أمك‪ ..‬اعدي له‬
‫مشرو ًبا ثم اتصلي بوالدتك وأخبريها أننا هنا»‬
‫‪« -‬حسنًا يا أبي»‬
‫وأسدلت الستار الفاصل بين صالة االستقبال‬
‫ُ‬ ‫تحركت إلى الداخل‪،‬‬
‫ُ‬
‫سمعت أبي بعدها يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ورواق البيت‪،‬‬
‫‪« -‬تفضل يا حمزة‪ ..‬تفضل يا بني»‬
‫لم أسمع أي شيء بعدها لم ُيحدث أي صوت‪ ،‬تساءلت في نفسي باستغراب‬
‫ضحكت بيني وبين نفسي‬ ‫ُ‬ ‫حاجبي‪َ ..‬م ْن هذا؟ أهو اللهو الخفي؟‬
‫َّ‬ ‫وأنا عاقدة‬
‫أعددت لهما مشرو ًبا بار ًدا‬
‫ُ‬ ‫اتصلت بأمي ألخبرها بما قاله أبي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بضحكة مكتومة‪،‬‬
‫وأعطيته آلسر من خلف الستار‪ ،‬كانت مالمح آسر باردة على غير عادته لم أر على‬
‫وجهه ذلك الحماس عند قدوم شخص جديد لبيتنا؛ حيث كان يبدأ في التعرف‬
‫عليه ويوجه له أول أسئلته المعتادة عن أي نوع ُيفضل من األلعاب اإللكترونية‪،‬‬
‫ويظل يتحدث حتى ُيصاب الضيف بالصداع‪ ،‬لم أسمع صوته هذه المرة كان‬
‫صامتًا‪ ،‬ربما يشعر بالضيق من هذا الشخص ألنه السبب في احتدام المناقشة بين‬
‫أمي وأبي اليوم كما أنه لم يستطع الجلوس مع خالنا ألنه كان يسوي الخالف‬
‫صغيرا وال يدري أن جميع البيوت تمر بهذه المشاكل العابرة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بينهما‪ ،‬ال زال آسر‬
‫‪25‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وضع آسر الصينية على الطاولة التي تتوسط غرفة االستقبال‪ ،‬واستأذن‬
‫أيضا لوال‬
‫هممت بالدخول وراءه إلى غرفتي أنا ً‬
‫ُ‬ ‫منهما ودخل إلى غرفته‪،‬‬
‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أنني‬
‫‪« -‬حمزة أريد أن أخبرك بشيء»‬
‫ظلت نفسي تتأرجح ما بين أنه يجب أن أدخل إلى غرفتي وال أسترق السمع‬
‫ْ‬
‫وبين فضولي ألعرف ماذا يريد أن يقول أبي حتى استسلمت لفضولي بالنهاية‪..‬‬
‫أكمل أبي بصوت يكسوه الود‪:‬‬
‫«قمت ببناء هذا البيت منذ زمن وعشت به أنا وأسرتي فقط‪ ،‬ولكن‬
‫فكرت فيما بعد لماذا ال أستفيد من هذه الشقق المغلقة وأقوم بتأجيرها‪،‬‬
‫وأجرتُها جمي ًعا بالفعل‪.‬‬
‫َّ‬
‫جميع ساكني هذا البيت أنا أعرفهم جيدً ا عائلة عائلة‪ ،‬فر ًدا فر ًدا‪ ،‬وأنا‬
‫جارا لنا‪ ،‬وأنا‬
‫أظن بك الخير يا بني‪ ،‬ولكنك ستدخل بيتنا من الليلة وستصير ً‬
‫ال أعرف عنك شي ًئا سوى أشياء قليلة‪ ،‬وأرجو أال يضايقك هذا ولكن أريد‬
‫أن أعرف لماذا تمكث إلى اآلن بمنطقتنا وليس لك فيها أقارب أو أصدقاء؟‬
‫ومن أين أتيت؟ وما هي طبيعة عملك؟ أعلم أن لكل إنسان خصوصياته‬
‫ولكن أظن أشياء كهذه يعلمها جميع من حولك عنك‪ ،‬كما أنني أريد أن‬
‫أعرف جاري الجديد أكثر»‬
‫سمعت صوتًا هادئًا يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َخ َّي َم الصمت بعض الوقت‪ ،‬ثم‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪26‬‬

‫‪« -‬عمي طارق ال أعرف ماذا أقول لك أمام صنيع معروفك لوال الله‬
‫ثم أنت لكنت اآلن أتجول في الطرقات؛ بح ًثا عن مكان للمبيت‪ ،‬ويكفي‬
‫سيرتك التي يشهد بها جميع أهالي المنطقة‪ ،‬ودو ًما يتردد اسمك في‬
‫المسجد ً‬
‫مثال لألمانة والكرم‪ ،‬ووضح هذا جل ًّيا في موقفك معي‪ ،‬لكن‬
‫أرجوك أكمل صنيعك واعفني من الرد على كل هذه األسئلة‪ ،‬سيأتي الوقت‬
‫المناسب الذي أستطيع أن أشرح لك فيه كل شيء»‬
‫تغيرت نبرته ً‬
‫قليل‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫سمعت صوت أبي وقد‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أتفهمك يا حمزة وأحترم رغبتك‪ ،،‬وإِ ْن كنت أفضل أن تخبرني‬
‫بهذه األمور اآلن‪ ،‬ولكن لن أضغط عليك‪ ،‬وأتمنى أن يأتي الوقت الذي‬
‫تعطيني فيه ثقتك قري ًبا وتخبرني أكثر عنك»‬
‫‪« -‬يا عمي المسألة ال تتعلق بالثقة ولكن األمر متعلق بي أنا وبظروف تحوطني»‬
‫انتقل صوت أبي ألعرف أنه اقترب منه‪ ،‬وقال بصوت منخفض بالكاد سمعته‪:‬‬
‫‪« -‬يا بني ال تثقل على نفسك‪ ،‬كتمان األمور بكثرة يجعلها مثل الجبل‬
‫قليل؛ ليخفف عبء قلبه‬ ‫على الصدر‪ ..‬أحيانًا يحتاج اإلنسان أن يبوح ً‬
‫ويهون على النفس ما تحمله‪ ..‬ال أعلم إِ ْن كان أبوك ال يزال على قيد الحياة‬
‫وهل هو مسافر أم هنا‪ ،‬وال أعلم إن كان لديك أخ أو أخت أو صديق تبوح‬
‫لهم‪ ،‬ولكن إذا شعرت بأي وقت أنك تحب أن تتكلم فستجدني حينها كلي‬
‫آذان صاغية ولن تجد مني غير النصح»‬
‫‪27‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫«شكرا لك ياعمي‪ ،‬وأنا لن أذهب ألحد غيرك»‬‫ً‬ ‫‪-‬‬


‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫متصل على الباب‪ ،‬فقام أبي بفتحه‪،‬‬ ‫صوت ٍ‬
‫طرق‬ ‫ُ‬ ‫قاطعهما‬
‫صوت أمي بعدها في نبرته المعتادة‪:‬‬
‫‪« -‬السالم عليكم»‬
‫‪« -‬وعليكم السالم ورحمة الله‪ ..‬مرح ًبا يا مديحة تعالي أعرفك على‬
‫جارنا الجديد حمزة»‬
‫«أهل بك» قالتها أمي باقتضاب شديد‪ ،‬رد حمزة بلطف‪:‬‬ ‫‪ً -‬‬
‫كثيرا أن أتعبتك كنت أود أنا القيام بهذا األمر»‬
‫‪« -‬مرح ًبا يا خالة‪ ،‬أعتذر ً‬
‫‪« -‬ال عليك»‬
‫قال أبي وكأنه أراد أن ينهي هذا الحوار حتى ال ُيحرج حمزة من معاملة‬
‫أمي الجافة‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا هيا بنا يا حمزة‪ ،‬ال بد أنك متعب وتريد أن تنام‪ ،‬اسبقني إلى‬
‫األعلى وأنا سأتبعك»‪ ،‬خرج حمزة بعد أن ألقى السالم‪..‬‬
‫فتحركت سري ًعا إلى باب المطبخ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫سمعت صوت خطوات أمي تقترب‬ ‫ُ‬
‫دخلت أمي إلى الرواق وتبعها أبي ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫خرجت منه ًّتوا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وكأنني‬
‫‪« -‬هل انتهيتم من كل شيء؟»‬
‫‪« -‬نعم نظفناها جيدً ا ونظمنا أثاثها»‬
‫استدار أبي؛ لكي يذهب‪ ،‬فأوقفته أمي سائلة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪28‬‬

‫‪« -‬هل سألته؟»‬


‫‪« -‬نعم»‬
‫عقدت أمي حاجبيها‪ ،‬وقالت مترقبة‪:‬‬
‫‪« -‬وماذا قال؟»‬
‫‪« -‬لم يرد اإلجابة»‬
‫قالت مستنكرة‪:‬‬
‫‪« -‬ولِ َم؟»‬
‫أدر يا مديحة‪ ..‬لم ِ‬
‫أدر‪ ،‬قال لي إنه سيخبرني فيما بعد»‬ ‫‪« -‬لم ِ‬
‫قالت أمي والحنق يمأل صوتها‪:‬‬
‫‪« -‬ولماذا فيما بعد وليس اآلن؟ لماذا ال يريد اإلجابة إن لم يكن وراءه‬
‫شيء ال يريد أن يعلمه أحد؟»‬
‫زفر أبي بضيق وهو يهز رأسه يمنة ويسرة وكأنه َم َّل من كثرة المناقشة‬
‫في هذا األمر‪ ،‬وأدار ظهره وذهب‪.‬‬
‫المس شعور أمي شعوري‪ ،‬فهدوء صوته‪ ،‬وكالمه القليل‪ ،‬وإجابته‬
‫وسرا‪..‬‬
‫أمرا ما ًّ‬
‫المغلفة بالغموض‪ ،‬أشعرتني أن وراءه ً‬
‫سر كبير جدًّ ا‪...‬‬

‫●●●‬
‫‪29‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)3‬‬
‫ألقيت حقيبتي الجلدية ذات اللون األسود جان ًبا‪ ،‬واستلقيت على ظهري‬
‫فوق السرير فاردة ذراعي‪ ،‬وأنا أنظر إلى السقف بعينين مثقلتين من التعب‪.‬‬
‫أطلت أمي برأسها من خالل الباب بعد أن طرقته بهدوء‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬هل أعد ِ‬
‫لك الطعام حبيبتي؟»‬
‫نظرت تجاهها‪ ،‬وهززت رأسي ببطء نافي ًة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال يا أمي لقد أكلت في الجامعة»‬
‫فتحت أمي الباب أكثر ‪-‬وهي واضعة يدها اليمنى على المقبض ويدها‬
‫ْ‬
‫اليسرى على خصرها‪ ،-‬وقالت بضيق‪:‬‬
‫‪« -‬ألم أحذرك مئات المرات يا حنين من تناول الطعام بالخارج‪،‬‬
‫خاصة من تلك المحال التي تنتشر بكثرة أمام الجامعات وال نعرف من أين‬
‫يأتون بمكونات وجباتهم وال كيف يعدونها»‬
‫‪« -‬كان يو ًما ملي ًئا بالمحاضرات وشا ًّقا‪ ،‬وشعرت بالجوع فلم أستطع‬
‫االنتظار حتى أرجع إلى البيت»‬
‫لك الشطائر بالبيت ِ‬
‫وأنت ترفضين»‬ ‫عليك مرارا وتكرارا أن أعد ِ‬
‫«عرضت ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قلت لها وأنا أبتسم‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪30‬‬

‫‪« -‬كبرنا على الشطائر يا أمي»‬


‫أكملت وأنا أرسم بيدي هيئة كوب وأحاول أن أشغلها عن هذا‬
‫ُ‬
‫الحديث قائلة‪:‬‬
‫«كل ما أحتاج إليه اآلن هو كوب دافئ من الحليب»‬
‫‪« -‬حسنًا سأعده ِ‬
‫لك»‬
‫قالتها أمي وهى تجذب الباب وتهم بالخروج‪ ،‬ولكن دفعته ثانية وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬ما رأيك خالل هذا الوقت تبدلين مالبسك وتخرجين تجلسين‬
‫كثيرا عندما يجدكم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫معنا ً‬
‫قليل؟ فأبوك على وصول وأنت تعرفين أنه يفرح ً‬
‫جمي ًعا بانتظاره»‬
‫‪« -‬حسنًا سآتي»‬
‫جلست بمنتصف‬
‫ُ‬ ‫أدرت نظري إلى السقف‪ ،‬ثم‬
‫أغلقت الباب وراءها وذهبت‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫نظرت حولي وأنا أتنهد‪..‬‬
‫ُ‬ ‫يدي عليهما‪،‬‬
‫قدمي أمامي وأضع ّ‬
‫السرير وأنا عاقدة ّ‬
‫ال أريد الخروج‪ ..‬ال أريد الجلوس مع أبي وآسر بالرغم من حبي‬
‫صرت أخشى التجمع معهما فهما ال يكفان عن الحديث عنه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫للقائهما‪،‬‬
‫كنت‬
‫دائما ما يمدح في أخالق حمزة وسمته وحفاظه على دينه‪ُ ،‬‬ ‫فأبي ً‬
‫أشعر أنه يريد أن يثبت ألمي أنه كان على صواب في قراره عندما أراد القدوم‬
‫به إلى بيتنا َّ‬
‫وأن ظنها به ليس بمحله‪.‬‬
‫ولكنه لم ي ِع ماذا فعل على جانب آخر‪ ،‬ذلك الجانب الذي بداخلي‪..‬‬
‫الجانب الذي لم تهطل به األمطار بعد‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫لقد وضع أبي بذرة حب حمزة في قلبي دون أن يدري‪ ،‬كل صفة يذكرها‬
‫به تلمس شي ًئا بروحي؛ فهذه الصفات هي ما أريدها في فارس أحالمي‪.‬‬
‫رحيم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫هذب‪ٌ ..‬‬
‫عاقل‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫خلوق‪ُ ..‬م ٌ‬ ‫متدي ٌن‪..‬‬
‫حتى آسر الذي لم يتقبله في البداية صار يحبه ويجذبه اطالع حمزة‬
‫الجيد على العالم اإللكتروني‪ ،‬بل إن آسر بالرغم من إلحاحنا الشديد عليه‬
‫بأن يمارس أية رياضة وأن يحد من عكوفه على تلك األلعاب اإللكترونية‬
‫قليل هذه األيام؛ ألن حمزة نجح في إقناعه بممارسة‬ ‫فإنه بدأ باالبتعاد عنها ً‬
‫كرة القدم م ًعا لمدة ساعة يوم ًّيا؛ ألن ذلك سيكون جيدً ا لتقوية جسده وعقله‬
‫أكثر من األلعاب اإللكترونية‪.‬‬
‫أصبحت تدريج ًّيا أهتم لسماع أخباره‪ ،‬وأنتظر أن يقول عنه أبي أو آسر‬
‫ُ‬
‫رغما عني‪ ،‬فمشكلة‬‫أي شيء‪ ،‬أحس أنني أتورط بمشاعري أكثر كل يوم ً‬
‫رغما عنك حتى تقف‬ ‫الحب أنه يتسلل بنعومة داخل قلبك ويبدأ يكبر ويكبر ً‬
‫ذات يوم وتُذهل من حجمه‪.‬‬
‫الحب هو ذلك الطريق الذي تجد نفسك واق ًفا عليه فجأة فال تستطيع‬
‫الرجوع وال تعلم ما أنت ُمقبل عليه‪.‬‬
‫أحيانًا أشعر بالحيرة في أمري‪ ،‬هل هو يستحق هذا الشعور؟ وهل به‬
‫من الصفات ما أتمناها ح ًّقا؟ ولهذا تعلقت به؟‬
‫ب يريد أن يرتاح ً‬
‫قليل على ضفة حب تمنحه الحيوية‬ ‫ِ‬
‫أم أنه قلبي التَّع ُ‬
‫نبضا مختل ًفا طالما اشتاق إليه‪.‬‬
‫من جديد فينبض ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪32‬‬

‫ولكن ما يجعلني أعدل عن تفكيري األخير هذا هو أنني منذ أن دخلت‬


‫الجامعة وأنا أرى الكثير من الشباب حولي‪ ،‬إِ ْن كان قلبي يلهث وراء حب‬
‫والسالم لماذا لم يلفت نظري أحدهم؟ قد ال أعلم عنهم الكثير؛ وذلك لقراري‬
‫من بداية الجامعة بعدم االختالط أو الجلوس في تلك التجمعات بين الشباب‬
‫والفتيات للتسلية‪ ،‬وبعدم الحديث مع أي شاب إال للضرورة إال أن بعض الشباب‬
‫بدفعتي ذاع صيتهم بحسن خلقهم وبتفوقهم ولم يجذبني أحد منهم مطل ًقا‪.‬‬
‫ْت جبهتي وأنا أشعر ببوادر صداع تجتاح خاليا عقلي؛ فيحل‬
‫حكك ُ‬
‫ضي ًفا ً‬
‫ثقيل على رأسي هذه الليلة‪.‬‬
‫قمت بخطوات متثاقلة‪،‬‬
‫خارجا وهو يلقي السالم‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫سمعت صوت أبي‬
‫ُ‬
‫وبدأت في ارتداء مالبس البيت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وألقيت بها على المشجب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وخلعت سترتي‪،‬‬
‫ُ‬
‫استطعت الخروج‪ ،‬كان اإلرهاق يتملكني‬
‫ُ‬ ‫طويل حتى‬ ‫ً‬ ‫أخذت وقتًا‬
‫ُ‬
‫وانعكس ذلك على تحركاتي الكسولة‪.‬‬
‫خرجت من غرفتي متجهة لغرفة المعيشة ببطء وخمول‪ ،‬قام آسر من‬
‫ُ‬
‫مقعده عندما رآني ومدَّ ذراعيه وأحنى رأسه بشكل درامي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ها قد أتت الملكة وتكرمت على الرعية بحضورها»‬
‫ضحكت وأنا أنظر إليه‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬تعبى اليوم لن يساعدني في الرد عليك أيها المشاغب»‬
‫نظر إلي أبي مشف ًقا‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬لماذا لم تنامي يا حنين وتريحي جسدك يا حبيبتي؟»‬
‫‪33‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫لففت يدي حول رقبته قائلة‪:‬‬


‫ُ‬ ‫وقفت خلفه‬
‫ُ‬ ‫ابتسمت وأنا أتحرك نحوه‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬كيف أنام وأبي حبيبي لم أره طوال اليوم؟!»‬
‫نظرت إلينا أمي نظرة ساخرة وعلقت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬أدام الله العشق بينكما»‬
‫منهكما بطبق كبير من الفيشار المحلى‬
‫ً‬ ‫نظرت إلى آسر الذي كان‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫بالكراميل‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬يا لحظنا يا آسر ليتنا نحظى بجزء منه»‬
‫نظر إليها أبي وهو يربت على يدي‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫‪« -‬حنين حبيبتي هي وآسر ولكن ِ‬
‫أنت يا مديحة لك وضع خاص‬
‫بقلبي‪ِ ..‬‬
‫أنت األساس»‬
‫ظهر الخجل على وجنتي أمي وهي تبتسم ببراءة وتنظر إلى أسفل‪.‬‬
‫سحبت يدي وأنا أنظر إلى أبي بغيرة كاذبة‪ ،‬وأقول متجهة لمقعدي‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬اللهم ارزقنا يا رب»‬
‫كثيرا من األحاديث من هنا‬ ‫ضحكنا جمي ًعا‪ ،‬وفتحنا ‪-‬كعادتنا‪ً -‬‬
‫وهناك‪ ،‬عن يومنا وكيف كان‪ ،‬واألحداث الجديدة التي طرأت على أقاربنا‬
‫كخطبة أحدهم‪ ،‬أو وضع إحداهن لمولود جميل‪ ،‬كان الصمت يالزمني‬
‫مع ابتسامتي الدائمة وأنا أستمع إليهم في انتظار أن يمضي الوقت سري ًعا؛‬
‫فكرت في االستئذان قبل أن يأتوا بسيرته‪ ،‬ولكن شي ًئا‬
‫ُ‬ ‫ألذهب إلى سريري‪،‬‬
‫بقلبي دفعني للجلوس؛ رغب ًة في االطمئنان على أحواله اليوم‪.‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪34‬‬

‫وو َّج َه حديثه آلسر ً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫نظر أبي إلى ساعته‪َ ،‬‬
‫‪« -‬هيا يا آسر اصعد إلى حمزة‪ ،‬واطمئن عليه‪ ،‬وتأكد أنه أخذ الدواء»‬
‫أومأ آسر برأسه مواف ًقا‪ ،‬واتجه صوب الباب‪ ،‬أشاحت أمي بنظرها بعيدً ا‬
‫وهي تطلق زفرة تنم عن ضيق‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫«الزلت تصر على مكوثه في البيت يا طارق بعد ما حدث اليوم!!‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫كنت أظن أنك ستطلب منه الرحيل»‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبدت الحيرة على وجهه‪ ،‬كان كالم أمي غري ًبا‬
‫ْ‬ ‫وضع أبي يده على ذقنه‬
‫وال أفهمه‪ ..‬عن أي حدث تتكلم؟ وما قصة الدواء التي ذكرها أبي في البداية؟‬
‫شفتي وأنا أتصنع الالمباالة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كوب الحليب الذي أعدته أمي إلى‬
‫رفعت َ‬
‫ُ‬
‫وسألتها بعد أن أخذت رشفة منه‪:‬‬
‫‪« -‬وماذا حدث اليوم؟»‬
‫اتجهت أمي نحوي وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال لتحكي ما حدث‪،‬‬
‫قالت ‪-‬وهي منفعلة‪:-‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يصل حمزة مع أبيك منذ يومين مما دفعه للقلق عليه اليوم‬ ‫‪« -‬لم‬
‫مريضا جدًّ ا»‬
‫صباحا والصعود إليه فوجده ً‬
‫ً‬
‫قاطعت أمي وال تزال الالمباالة تلزمني‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬وماذا به؟»‬
‫‪ُ « -‬أصيب ببرد شديد وارتفعت حرارته‪ ،‬وكانت حالته سيئة‪ ،‬اتصلنا‬
‫بالدكتور مرتجى زوج صديقتي سعاد؛ للكشف عليه وقال إنه ُأصيب بنزلة‬
‫‪35‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫معوية ومن األفضل نقله للمشفى حتى يتم رعايته جيدً ا‪ ،‬والعجيب في األمر‬
‫ِ‬
‫أبوك لماذا؟ َر َّد برده‬ ‫أن حمزة رفض تما ًما ذهابه للمشفى‪ ،‬وعندما سأله‬
‫المعتاد (لسبب متعلق بي)!!»‬
‫اتجهت بالحديث إلى أبي وهي على انفعالها‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫«ما هو السبب؟!! ما كل هذا الغموض وهذه األسرار‪ ..‬لماذا ُيحيط‬
‫نفسه بكل هذا الكتمان؟! من حقنا أن نطمئن لمن يسكنون بيتنا يا طارق‪،‬‬
‫أعلم أنك تراه شا ًّبا جيدً ا وأنك تحسن الظن به‪ ،‬ولكن طريقته هذه تثير‬
‫الكثير من األسئلة حوله»‬
‫َر َّد أبي وال تزال الحيرة بادية على وجهه‪:‬‬
‫‪« -‬ال أعلم‪ ..‬أنا كذلك في حيرة من أمري‪ ،‬لماذا َأ َص َّر بهذا الشكل‬
‫أيضا»‬
‫على عدم الذهاب إلى المشفى؟! هذه األمور بدأت تثير ريبتي أنا ً‬
‫ثم نظر إلى أمي‪ ،‬وأردف‪:‬‬
‫عالجا‪ ،‬وقال إنه سيتحسن‬
‫ً‬ ‫‪« -‬على العموم وصف له دكتور مرتجى‬
‫خالل أسبوعين سنرعاه فيهما‪ ،‬ولن أضغط عليه بأية أسئلة»‬
‫صمت أبي برهة‪ ،‬ثم قال ‪-‬وهو يعقد حاجبيه‪ -‬حاز ًما‪:‬‬
‫«وبعد األسبوعين إما أن يخبرني بأمره أو أن يعود من حيث أتى»‪...‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪36‬‬

‫(‪)4‬‬
‫أيقظني صوت دقات قطرات المطر على نافذتي‪ ،‬هببت من سريري‬
‫وأنا ألتقط أطراف شالي األرجواني وأدثر به جسدي؛ خو ًفا من برد محتمل‪.‬‬
‫كنت أريد أن ُأمتع عيني بمشهد هطول المطر؛ فسماء القاهرة بخيلة وال‬
‫تجود بالكثير منه‪.‬‬
‫ومددت يدي نحو المقبض وحركته‪ ،‬فلفحني الهواء‬
‫ُ‬ ‫اقتربت من النافذة‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫بعض قطرات المطر المنحرفة عن مسارها‪،‬‬
‫وجنتي ُ‬
‫ّ‬ ‫والمست‬
‫ْ‬ ‫البارد‬
‫وكأنها أنامل رقيقة تداعب وجهي بخجل‪.‬‬
‫نظرت إلى السماء وقد غطتها السحب بلونها الفضي‪ ،‬فأضفت عليها‬
‫أغمضت عيني وأنا أردد الدعوات بداخلي‪ ..‬دعواتي التي ال‬
‫ُ‬ ‫خاصا‪،‬‬
‫سحرا ًّ‬
‫ً‬
‫أستطيع أن أخبرها ألحد‪.‬‬
‫ما كان يقطعني عن هذا الجمال سوى الضجة التي كانت تحدثها أم‬
‫فتحت الباب في ضجر متجهة إلى‬
‫ُ‬ ‫سعد بسبب جر األثاث لتنظيف المنزل‪،‬‬
‫توقفت أم سعد عن جر إحدى المقاعد عند رؤيتي‪ ،‬وسألتني‬
‫ْ‬ ‫الحمام بكسل‪،‬‬
‫بلكنتها الريفية وقد بدا على وجهها القمحي القلق‪:‬‬
‫‪« -‬هل أيقظتك؟»‬
‫‪37‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬الال يا أم سعد أيقظني المطر»‬


‫ِ‬
‫«أرأيت يا حنين كيف هطل المطر بغزارة؟! كانت الشمس مشرقة‬ ‫‪-‬‬
‫من ساعة واحدة‪ ..‬سبحان الله»‬
‫أكملت وقد ظهر على مالمحها عالمات اإلشفاق‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬آسر المسكين نزل إلى مدرسته قبل أن تمطر»‬
‫وأغلقت الباب‪ ،‬وأنا ُأطمئنها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫دلفت إلى الحمام‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال تقلقي يا أم سعد‪ ..‬آسر يرتدي الكثير من الثياب في الشتاء»‬
‫تذكرت حكمة الله في توزيع األرزاق؛ فبعضنا‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى أم سعد‬
‫ُ‬ ‫كلما‬
‫يرزقه الله الجمال وبعضنا يرزقه المال‪ ،‬وآخرون يرزقهم الله الصحة مثل‬
‫أم سعد‪ ،‬رأس مالها هو صحتها التي تستطيع بها أن تساعد بعض العائالت؛‬
‫لتحصل على قوتها وقوت أوالدها الذين أتت بهم من إحدى القرى بعد‬
‫وفاة والدهم؛ ساعية لرزق يمنح عائلتها األمان‪.‬‬
‫بدأت بفرش أسناني ببطء وأنا أنظر إلى المرآة‪ ،‬أوقفني قرع جرس‬ ‫ُ‬
‫تعجبت وأنا أتساءل بداخلي َم ْن يأتينا اآلن؟!!‬
‫ُ‬ ‫الباب المستمر‪،‬‬
‫سمعت صوت خالي وهو يقول مستغي ًثا‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فتحت أم سعد الباب‪،‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬أحضري لي منشف ًة يا أم سعد‪ ..‬أغرقني المطر»‬
‫خرجت سري ًعا‪ ،‬فوجدته يقف ساكنًا كالتمثال عند مدخل البيت‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتتساقط منه قطرات الماء‪ ،‬أضحكتني وضعيته‪ ،‬فقلت بتهكم‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪38‬‬

‫‪« -‬ما هذه المفاجأة الرائعة؟»‬


‫منزعجا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال خالي‬
‫‪« -‬حقيقة لم تكن مقصودة‪ ،‬كنت في طريقي للعمل حتى هاتفني‬
‫صديق لي وقال إنه من األفضل أن أرجع؛ ألن الطرق توقفت بسبب المطر‪،‬‬
‫ولم أجد ما يرجعني إلى البيت وكنتم األقرب لي‪ ،‬فتمشيت إليكم وأخذت‬
‫هذا الحمام البارد»‬
‫صمت برهة‪ ،‬ثم أكمل متعج ًبا وهو ينثر بعض القطرات عن يده‪:‬‬
‫َ‬
‫مشمسا منذ ساعة‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ال أدري من أين أتى كل هذا المطر!! كان الجو‬
‫واحدة فقط»‬
‫وأكملت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫اقتربت منه ً‬
‫قليل‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬الحمد لله أنها أمطرت حتى نراك يا خال‪ ،‬ستقضي اليوم معنا ً‬
‫بدل‬
‫من العمل»‬
‫ابتسم لي وقد ذهب عنه الضيق‪ ،‬ثم سألني‪:‬‬
‫‪« -‬أين آسر؟ هل ذهب إلى مدرسته؟»‬
‫‪« -‬نعم‪ ،‬وأظن أنه يندب حظه اآلن بعد تغير الجو»‬
‫ضحكنا أنا وخالي ونحن نتخيل منظر آسر‪ ،‬أتت أم سعد وأعطته‬
‫المنشفة وبعض الثياب الجافة من مالبس أبي‪ ،‬وهي تخبره‪:‬‬
‫‪« -‬سأعد لك مشرو ًبا ساخنًا حتى تدفأ يا سيد محمود»‬
‫‪39‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫عدت إلى غرفتي؛ لحين انتهاء خالي من تبديل مالبسه‪ ،‬فتحت الدرج‬
‫ُ‬
‫وأخرجت بعض األوراق بيدي‪ ،‬وتناولت باليد األخرى قلمين من أقالم‬
‫ُ‬
‫الخط العربي من الكوب الملئ باألقالم على المكتب‪.‬‬
‫مبتسما‪ ،‬وأنا بانتظاره بغرفة الطعام أجلس على المائدة وقد‬
‫ً‬ ‫أطل خالي‬
‫بدا أفضل ً‬
‫حال‪.‬‬
‫ابتسمت وأنا أشير إليه باألقالم قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬مضى زم ٌن ولم نمارس هوايتنا المفضلة م ًعا»‬
‫متحمسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ظهر في عينيه ذلك الشغف الطفولي‪ ،‬وقال‬
‫‪« -‬نعم‪ ،‬هيا لنبدأ»‬
‫أتذكر عندما كنت طفلة وأنا أتابع خالي باهتمام وهو يمسك بإحدى أقالم‬
‫الخط العربى ويكتب لنا لوحاتنا المدرسية فتخرج بشكل جمالي رائع‪.‬‬
‫وتعلمت على يده أنواع الخط المختلفة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫غرس بداخلي حب هذا الفن‬
‫وبرعت في الديواني منها‪ ،‬وصرنا نمارس هوايتنا م ًعا كلما سنح الوقت بذلك‪.‬‬
‫ُ‬
‫أجمل ما في الخط العربي سالسته ونعومة جريان الحبر على الورق‪ ،‬فتخرج‬
‫الحروف بشكل بسيط وأنيق‪ ،‬لكن بالرغم من بساطته فهو يحتاج لكثير من التركيز‬
‫والتدريب؛ للتحكم بزوايا القلم فينتج عن ذلك لوحة فنية بديعة من الكلمات‪.‬‬
‫ال أعلم كم َم َّر من الوقت ونحن نكتب‪ ..‬نكتب آيات قرآنية‪ ،‬وحروف‬
‫متفرقة‪ ،‬وأبيات من الشعر‪.‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪40‬‬

‫لم يكن يقطعنا عن الكتابة غير بعض مشاغبات آسر بعد رجوعه من‬
‫المدرسة‪ ،‬أو وقت الغداء‪ ،‬أو محادثات أمي مع خالي لكننا كنا نرجع‬
‫ونكمل ثانية بالحماس نفسه‪.‬‬
‫كنت أنتبه بشدة وأنا أكتب؛ خشية أن تخط أناملي حروف اسمه بتلقائية‬ ‫ُ‬
‫بعد أن كتبتها مرات ومرات ساب ًقا‪.‬‬
‫صباحا‪ -‬عال ًقا‬
‫ً‬ ‫كنت أكتب والزال حديث األرزاق ‪-‬الذي بدأته‬ ‫ُ‬
‫بذهني‪ ،‬رزقني الله بالكثير وأمتلك ما يود أي أحد امتالكه‪ ،‬ستر من الله‪،‬‬
‫وعائلة جميلة‪ ،‬وبيت واسع‪ ..‬أمن وطمأنينة‪.‬‬
‫يأت بعد‪ ..‬رزق يراودني طيفه فيثير الحنين بداخلي‬‫لكن هناك رزق لم ِ‬
‫إليه رغم عدم معرفتي إياه‪.‬‬
‫أعلم أن رزقي سيأتيني يو ًما ما‪ ،‬كان قري ًبا أو بعيدً ا ال يهمني‪ ،‬المهم‬
‫عندما يأتي يرزقني الله الرضا به والسرور بقدومه‪.‬‬
‫بعضا باستغراب‪،‬‬
‫أوقفنا عن الكتابة جرس الباب‪ ،‬نظرنا إلى بعضنا ً‬
‫وسألني خالي‪:‬‬
‫‪« -‬أ تنتظرون أحدً ا اليوم؟» هززت رأسي بالنفي‪.‬‬
‫فتحت أم سعد الباب‪ ،‬ثم اتجهت لغرفة مكتب أبي وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬أستاذ طارق‪ ،‬جاركم السيد حمزة على الباب ويريد رؤيتك»‬
‫رد أبي من الداخل‪:‬‬
‫‪« -‬أدخليه يا أم سعد»‬
‫‪41‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫سمعنا خطوات تنتقل بخفة مسرعة تأتي نحونا‪ ،‬أطلت أمي وهي‬
‫تهمس لخالي‪:‬‬
‫‪« -‬إنه الشاب صاحب غرفة السطح‪ ،‬أرجوك يا محمود اخرج وتعرف‬
‫عليه وطمئني‪ ،‬فطارق طيب القلب وينخدع بالمظاهر وليس لديه خبرة في‬
‫رؤية حقائق الناس»‬
‫أومأ خالي برأسه مواف ًقا‪ ،‬ثم خرج صوب غرفة االستقبال‪.‬‬
‫بقيت وحدي بالغرفة وقد شغلني التفكير‪ ،‬تُرى ما سبب مجئ حمزة‬ ‫ُ‬
‫إلى بيتنا؟!! َم َّرت عشرة أيام منذ مرضه األخير‪ ..‬أحدث شي ٌء جديدٌ ؟‬
‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫تحركت في خطوة سريعة؛ لمعرفة ما يحدث بالخارج‪ ،‬لكنني‬ ‫ُ‬
‫أم سعد قادمة أمامي وتدخل إلى المطبخ؛ لتعد مشرو ًبا لهم‪ ،‬أوقفتها قائلة‪:‬‬
‫تأخرت اليوم يمكنك أن تذهبي وسأعد أنا المشروب»‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬أم سعد‬
‫‪« -‬حسنًا يا حنين لقد تأخرت بالفعل‪ ،‬اقترب الغروب وال أحب أن‬
‫أمشي ً‬
‫ليل‪ ،‬العصير بالثالجة ضعي لهم منه‪ ،‬وسأذهب أنا اآلن»‬
‫‪« -‬حسنًا في أمان الله‪ ..‬مع السالمة»‬
‫وأخرجت بعض الكؤوس من الضلفة الزجاجية‬
‫ُ‬ ‫دخلت إلى المطبخ‬
‫ُ‬
‫سمعت أبي وهو يقوم بالتعارف بين خالي وحمزة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ذات النقوش الملونة‪،‬‬
‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫توقفت عن الحركة تما ًما‪ ،‬والتزمت السكون حتى أسمعهم جيدً ا‪،‬‬
‫ُ‬
‫أبي وهو يكمل حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪42‬‬

‫‪« -‬حمدً ا لله على سالمتك يا حمزة‪ ..‬أرى أنك أفضل ً‬


‫حال اآلن»‬
‫كثيرا»‬
‫‪« -‬نعم‪ ،‬الحمد لله تحسنت ً‬
‫صمت حمزة برهة‪ ،‬ثم سأل‪:‬‬
‫‪« -‬هل الخالة هنا؟»‬
‫رد أبي متعج ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬نعم هنا‪ ..‬هل تريدها؟»‬
‫‪« -‬نعم أريدكما أنتما االثنين في أمر هام»‬
‫ثم قال وكأنه تذكر خالي محمود الجالس أمامه‪:‬‬
‫‪« -‬ومعنا عم محمود بالتأكيد»‬
‫شعرت بضربات قلبي تتزايد‪َ ،‬م َّر في خاطري للحظة أنه ربما علم أن‬
‫أبي لديه ابنة وأتى لخطبتي‪ ..‬ربما‪..‬‬
‫ألقت أمي التحية على حمزة باقتضاب‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫«خيرا يا حمزة؟ قال لي طارق إنك تريدنا في أمر مهم»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫‪« -‬نعم يا خالة»‬
‫ساد الصمت برهة‪ ،‬ثم أكمل بصوت متردد ً‬
‫قليل‪:‬‬
‫«أعلم أن لديكم الكثير من األسئلة عني وعن سبب مكوثي هنا‪ ،‬و َم ْن‬
‫وم ْن أين جئت؟ خاصة أنني أحسست بريبة عم طارق تجاهي بعد رفضي‬ ‫أنا‪ِ ،‬‬
‫الذهاب إلى المشفى‪ ،‬وليس من الالئق أن أقابل استضافته لي في بيته ببث‬
‫‪43‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫الخوف والشك في قلبه؛ لذلك أنا هنا اآلن ألفصح عن أمري وأزيل غموضي‪،‬‬
‫سرا وال يخرج عبر هذه الجدران»‬
‫ولكن ما سأقوله أرجو أن يظل ًّ‬
‫أردف بصوت متقطع‪:‬‬
‫مسلما من قبل‪ ،‬أسلمت منذ عامين ونصف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪« -‬أنا‪ ..‬أنا‪ ..‬أنا لم أكن‬
‫حمزة هو اسم أطلقته على نفسي بعد أن قرأت جز ًءا من سيرة النبي ﷺ‬
‫وأعجبت بشخصية حمزة عم الرسول‪ ،‬لم ينجب أبي وأمي غيري‪ ،‬من محافظة‬
‫المنيا وأعمل بمجال البرمجة‪ ،‬توفي أبي منذ سنوات عدة‪ ،‬وأمي امرأة طيبة‬
‫كثيرا وخوفها من الفقد جعلها شديدة‬ ‫القلب ولكن بعد وفاة أبي تعلقت بي ً‬
‫الطباع معي؛ مما دفعني لكتمان أمر إسالمي عنها لعلمي أنها ربما لن تتقبل هذا‬
‫األمر‪ ،‬وخشيت أن تغضب‪ ،‬وكان مقابل هذا الكتمان شعور بالمعاناة طوال‬
‫فترة وجودي بالبيت‪ ،‬فلم أكن أعبد الله كما يجب‪ ،‬ولم أستطع الحفاظ على‬
‫صلواتي أو صيامي؛ لذلك أخبرتها أنني سأسافر إلى صديق لي وسنفتح شركة‬
‫م ًعا مما يستلزم اإلقامة معه؛ لكي نستطيع متابعة المشروع م ًعا‪ ،‬ولم أكن أكذب‬
‫في ذلك فصديقي الذي عرفني على اإلسالم وأسلمت على يديه هو عمر‬
‫مستمر ثم انقطع فجأة ولم ِ‬
‫أدر أية‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تواصل‬ ‫جاركم بالمنطقة‪ ،‬كان بيني وبين عمر‬
‫وسيلة للوصول إليه فهاتفه دو ًما خارج الخدمة‪ ،‬حاولت أن أتذكر عنوانه حتى‬
‫نجحت في معرفته‪ ،‬فحزمت حقائبي وشددت رحالي إلى هنا‪ ،‬ولما وصلت‬
‫كثيرا‪ ،‬فيعلم الله‬
‫وسألت عنه أخبرني الناس أنه توفي في حادث‪ ،‬وآلمني هذا ً‬
‫أدر ماذا أفعل حينها‪ ،‬وجدت‬ ‫مقدار حبه ومعزته بقلبي‪ ،‬شعرت بالتخبط ولم ِ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪44‬‬

‫مفتوحا أمامي فدخلت وصليت ركعتين بكيت فيهما لله وظللت‬‫ً‬ ‫باب المسجد‬
‫مخرجا‪ ،‬ولم يكن في المسجد سوى‬ ‫ً‬ ‫أدعو لعمر بالرحمة ولي بأن يجعل لي‬
‫عم عثمان الحارس الذي سمع بكائي فتقدم نحوي ً‬
‫سائل إياي ما بي‪ ،‬فأخبرته‬
‫ٌ‬
‫مكان‬ ‫علي وأخبرني أنه إذا لم يكن لي‬
‫أنني صديق عمر وكان يعرفه‪ ،‬أخذ يهون ّ‬
‫فيمكنني المبيت بالمسجد»‬
‫صمت برهة‪ ،‬وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬بقيت طوال فترة إقامتي بالمسجد أفتح حاسوبي بين الصلوات‬
‫وأبحث عن وظيفة عمل مناسبة ولم أجد؛ فمجالي يوجد به الكثير من‬
‫المحرمات والحصول على الحالل فيه أمر صعب حتى جاء يوم وأخبرني‬
‫عم عثمان ذات يوم أنني لن أتمكن من المبيت في المسجد ثانية‪ ،‬ويجب‬
‫أن أجد مكان ًا آخر من الليلة‪ ،‬وقتها شعرت بضيق كبير في صدري فليس‬
‫لي أحد هنا أستطيع أن أبقى لديه حتى أجد ً‬
‫عمل مناس ًبا‪ ،‬وال يوجد أمامي‬
‫سوى الرجوع‪ ،‬جلست أفكر ماذا يمكنني أن أفعل حتى وجدت عم طارق‬
‫يدخل المسجد ويخبرني أنه يريد استضافتي في بيته دون أن يعرف عني أي‬
‫شيء سوى القليل ال يعرف من أكون ولماذا مكثت هنا‪ ،‬أدخلني بيته بحب‬
‫وكرم‪ ،‬فأي ُخلق هذا وأي معدن أصيل يدل على صاحبه‪.‬‬
‫جارا لكم‪ ،‬وتقربت من عم طارق وآسر الصغير‪ ،‬أحببتهما‬ ‫صرت ً‬
‫كثيرا‪ ،‬وشعرت أني واحد منكم وفرد في هذه العائلة‪ ،‬وشعرت باأللفة وأنا‬
‫ً‬
‫وح َّل االطمئنان في قلبي بجيرتكم‪ ،‬أحسنتم رعايتي وقت مرضي‪،‬‬
‫بقربكم‪َ ،‬‬
‫‪45‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫مقابل‪ ،‬ووجدت فيكم الصدر األمين الذي أستطيع أن أخبره‬ ‫ً‬ ‫ولم تنتظروا‬
‫بأمري دون خوف‪ ،‬واآلن وقد علمتم عني كل شيء لكم حرية اتخاذ القرار‬
‫بشأني‪ ،‬وأي تصرف ستحكمون به سأتقبله بصدر رحب ودعوات من القلب‬
‫على حسن استضافتكم الفترة السابقة وجميل صنيعكم معي منذ البداية»‬
‫أنهى حمزة كالمه‪َ ،‬‬
‫وخ َّي َم الصمت على المكان لدقائق‪ ،‬لم يتفوه أحد‬
‫علي‪..‬‬
‫ببنت شفه‪ ،‬أعلم وقع المفاجأة عليهم تما ًما مثل وقعها ّ‬
‫بدأ أبي بشق هذا الصمت‪ ،‬وقال مرتبكًا‪:‬‬
‫‪« -‬والله ال أدري ماذا أقول لك يا بني‪ ،‬أمرك فاجأني وال زال عقلي‬
‫يحاول االستيعاب»‬
‫لم تعلق أمي بأي شيء وربما هذا ما الحظه حمزة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إحراجا‪ ،‬يمكنني أن أرحـ …‪»..‬‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ال أريد أن يسبب لكم وجودي‬
‫قاطعه أبي‪:‬‬
‫ٍ‬
‫إحراج تتحدث يا حمزة؟ اعتبر هذا بيتك وأنك بين أهلك»‬ ‫‪« -‬عن أي‬
‫إيجارا‬
‫ً‬ ‫‪« -‬أكرمك الله يا عم طارق‪ ،‬ولكن مع بداية الشهر سأدفع‬
‫لغرفتي‪ ،‬فلقد حصلت على فرصة عمل مناسبة»‬
‫‪« -‬دعنا نتكلم في هذا الموضوع الح ًقا»‬
‫كثيرا وال أريد أن أهدر وقتكم أكثر من هذا»‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ،‬لقد أطلت عليكم ً‬
‫أوقفه خالي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪46‬‬

‫‪« -‬على رسلك‪ ..‬أنت لم ِ‬


‫تحك لنا كيف هداك الله لهذا الطريق»‬
‫‪« -‬هذه قصة يطول شرحها‪ ..‬ربما آتي في وقت آخر وأقصها عليكم»‬
‫قام حمزة بعد أن ألقى السالم‪ ،‬قام معه أبي وأوصله للباب‪ ،‬توقف‬
‫موضحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫حمزة وقال ألبي‬
‫‪« -‬أنا لم أستطع الذهاب إلى المشفى حينها؛ ألن أوراقي جميعها‬
‫باسمي القديم ولم أحولها بعد وإذا ذهبت إلى المشفى سيطلبون بطاقتي‬
‫وكنت وقتها ستتفاجأ؛ لذلك لم أرد الذهاب حتى أشرح لك القصة كاملة‬
‫ً‬
‫أول يا عم طارق»‬
‫‪« -‬ال عليك‪ ..‬اتضحت لي كثير من األمور اآلن» ودعه أبي وعاد ألمي‬
‫وخالي‪ ،‬قالت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬طارق أتدرك ماذا تفعل؟ هل تدرك حجم المشاكل التي من الممكن‬
‫ٍ‬
‫بأمور هكذا؟!»‬ ‫أن تأتينا من وراء هذا الشاب؟ لماذا نقحم أنفسنا‬
‫علق خالي‪:‬‬
‫‪« -‬وأنا أرى ذلك؛ فوجوده هنا سيسبب لكم الكثير من المشاكل‪ ،‬أظن‬
‫إيجارا للغرفة‪ ،‬من الممكن أن يرحل‬
‫ً‬ ‫أنه ذكر حصوله على وظيفة وسيدفع‬
‫ويدفع هذا اإليجار بمكان آخر»‬
‫قال أبي بحدة‪:‬‬
‫‪47‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬و َم ْن قال إنني سأطلب منه الرحيل؟!! لن أتركه يذهب ألي مكان‬
‫بعدما أخبرنا بأمره»‬
‫قامت أمي وهي تقول منفعلة‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا لن أتناقش فلقد مللت من كثرة النقاش في هذا األمر‪ ،‬وال‬
‫أعرف ماذا فعل بك هذا الشاب‪ ،‬لن تدرك ماذا تفعل ولن تفيق إال عندما‬
‫نتورط جميعنا بمشاكل ال حصر لها‪ ،‬ولكن أية أذية ستحدث لنا من تحت‬
‫رأس هذا الشاب ستكون أنت المسئول أمامنا عنها يا طارق»‬
‫خرجت من‬
‫ُ‬ ‫سمعت خطواتها وهي تتجه للداخل بعد أن أنهت كالمها‪،‬‬
‫ُ‬
‫المطبخ مسرعة قبل أن تراني‪ ،‬قفلت باب غرفتي ٍ‬
‫ببطء حتى ال ُيحدث صوتًا‬ ‫ُ‬
‫ساقي إلى صدري وأحيطهما بذراعي؛‬ ‫ّ‬ ‫وجلست على سريري وأنا أضم‬
‫ُ‬
‫لكي أهدأ ً‬
‫قليل مما سمعت‪.‬‬
‫هذه المرة األولى التي أميل فيها لقرار أبي وأظن مشاعري هي السبب‬
‫في ذلك‪ ،‬ال أفكر باألمر كما يفكر خالي وأمي‪.‬‬
‫فأنا أريده أن يبقى‪ ..‬رغبت في معرفة سره بشدة‪ ،‬واآلن وقد عرفته‬
‫أشعر أنه انتقل لمكانة مختلفة تما ًما بقلبي‪..‬‬
‫مكانة أكبر وأعمق بكثير‪...‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪48‬‬

‫(‪)5‬‬

‫كانت األوراق منتشرة على األرض في فوضى عارمة وكأن قنبلة ُأ ْ‬


‫لقيت‬
‫وقفت فوق سريري وأنا أحك فروة رأسي ناظرة حولي‬ ‫ُ‬ ‫على المكان‪..‬‬
‫مفكرة في الطريقة المثلى لتنظيف الغرفة بأقل جهد‪ ،‬غال ًبا تصل إلى هذه‬
‫المرحلة بعد خوض حرب شرسة مع اختبارات نهاية العام‪.‬‬
‫دو ًما تنهرنى أمي عن المذاكرة بهذه الطريقة الفوضوية وأنني فتاة مما‬
‫يعني أنه يجب أن أكون مرتبة ومنظمة في كافة أمور حياتي‪ ،‬أفهمتها أنني‬
‫أشعر بأن تحصيلي يكون جيدً ا وأنا أغرق في كومة من األوراق‪ ،‬وتحاوطني‬
‫كلماتها من كل جانب‪ ،‬ولكنها لم تقتنع‪.‬‬
‫وضعت سماعات هاتفي بأذني‪ ،‬وأدرت مكيف الهواء على درجة‬ ‫ُ‬
‫متوسطة؛ َف َح ُّر الصيف بدأ في االشتداد‪.‬‬
‫بدأت أجمع األوراق من بين أرجاء غرفتي‪ ،‬وأزيل الوريقات من‬
‫على الحائط في حركة سريعة‪ ،‬أريد أن أنتهي قبل مجئ أم سعد‪ ،‬فيجب أن‬
‫أساعدها اليوم؛ فألمي بعض المراسم الخاصة بتنظيف البيت وترتيبه مع‬
‫حلول فصل الصيف ويجب أن تتم على أكمل وجه‪.‬‬
‫أخيرا‪ ،‬وقد رجعت لحلتها‬
‫أكملت عملي ونظفت الغرفة حتى انتهيت ً‬
‫‪49‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫يتبق غير بعض األوراق المبعثرة على المكتب‪ ،‬بدأت بترتيبها‬


‫السابقة‪ ،‬ولم َ‬
‫وتنظميها ووضعتها بالدرج السفلي‪.‬‬
‫لمحت وأنا أدفعه للداخل ذلك التوقيع فى ذيل إحدى األوراق‪..‬‬
‫«مع تمنياتي بالتوفيق للجميع‪..‬‬
‫تجميع وترتيب هاشم جالل»‬
‫ابتسمت وأنا أتذكر حديث صديقاتي عن هاشم ومدى إعجابهن به؛‬
‫ودائما يحصل على المرتبة األولى بدفعتي‪،‬‬
‫ً‬ ‫فهاشم شاب مهذب‪ ،‬ومتفوق‪،‬‬
‫طويل القامة‪ ،‬نحيل الجسد‪ ،‬ذو بشرة سمراء‪ ،‬وشعر أسود مجعد‪.‬‬
‫أكثر ما يميزه هو حبه لمساعدة اآلخرين‪ ،‬يعطي أوراق مذاكرته الخاصة‬
‫للجميع وال يحجب أية معلومات؛ ليتفوق هو أو يتقرب من أحد من أجل‬
‫مصلحته الشخصية‪ ،‬ولعل هذا سر حب الدفعة له‪ ،‬وهو ما جعل له قاعدة‬
‫أيضا‪.‬‬
‫كبيرة من المعجبات ً‬
‫دو ًما تتحدث صديقاتي بسيرته ويحاولن معرفة تفاصيل حياته‪ ،‬كل‬
‫واحدة منهن كانت تتمنى أن يهم بخطبتها‪ ،‬وسؤالهن المتكرر هل سيهم‬
‫باالرتباط مباشرة بعد التخرج أم سيكمل الدراسات العليا ً‬
‫أول‪.‬‬
‫أتذكر نفسي وأنا أسدي النصائح إليهن أال يتعلقن بالحبال الذائبة‬
‫ً‬
‫سؤال باستنكار‪:‬‬ ‫واألماني المعلقة غير الواضحة‪ ،‬فتوجه لي واحدة منهن‬
‫ِ‬
‫«وأنت يا حنين أال تعجبين بهاشم؟!»‬ ‫‪-‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪50‬‬

‫فأجيب نافية بقوة‪:‬‬


‫‪« -‬أنا معجبة بإصرار هاشم على النجاح وليس شخص هاشم»‬
‫لو تعلم إحداهن ما أصاب قلبي ِم ْن تعلق‪..‬‬
‫ما أعقلنا حين نرتدي ثوب الحكمة لنطل به على اآلخرين ونملي عليهم‬
‫نصائحنا‪ ،‬ونجده أمام عواطفنا مهتر ًءا ر ًّثا ال يسمن وال يغني من جوع‪.‬‬
‫قليل‪ ،‬وقع نظري على حاسوبي‬ ‫جلست على مقعد مكتبي ألرتاح ً‬ ‫ُ‬
‫دخلت على موقع الـ ‪ Facebook‬متجهة إلى‬ ‫ُ‬ ‫فمددت يدي إليه وفتحته‪،‬‬
‫ُ‬
‫نقرا «ح‪..‬م‪..‬ز‪..‬ة» ظهر حسابه الشخصي‪،‬‬ ‫بدأت في الكتابة ً‬
‫ُ‬ ‫خانة البحث‪،‬‬
‫زفرت‬
‫ُ‬ ‫نقرت عليه فذهب بي إلى صفحة الحساب وأنا أتطلع إليها بشغف‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أغلقت الحاسوب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بضيق وأنا أقول بداخلي «لم ينشر أي شيء منذ البارحة»‬
‫وأنا أتذكر الفترة السابقة فلقد مرت عدة أشهر على وجود حمزة ببيتنا‪،‬‬
‫وأصبح كل شيء حولي يدفعني لزيادة شعوري نحوه دف ًعا مهما حاولت‬
‫الهرب‪ ،‬كنت أراه أحيانًا بالطريق أثناء عودتي من الكلية ويتصادف هذا‬
‫مع مروره‪ ،‬وما زاد األمر تعقيدً ا هو اكتشافي لحسابه الشخصي على الـ‬
‫‪ Facebook‬من خالل رده على مسابقة أجراها المسجد وكان في اإلمكان‬
‫إرسال اإلجابات على الصفحة المهتمة بشؤون المسجد‪.‬‬
‫كنت أنا صاحبة هذه الفكرة أن ننشيء صفحة لنشاطات المسجد؛ لكي‬
‫نشجع شباب المنطقة على الذهاب إليه‪ ،‬وتمت الموافقة من ِقبل اإلمام‬
‫على أن أقوم بإدارتها‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أتذكر وقت أن رأيت اسمه أعلى الرسالة كم كانت فرحتي حينها كأنني‬
‫كنزا ثمينًا‪ ،‬لم أقم من أمام جهازي طوال الليل؛ ألرى جميع ما‬
‫اكتشفت ً‬
‫نشره في السابق‪.‬‬
‫كان يكتب الكثير من األدعية والمناجاة‪ ،‬وأحيانًا عن وحدة قلبه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أبيات من الشعر عن الحب‪ ،‬أكثر ما لفت انتباهي (نور)‪،‬‬ ‫وأحيانًا أخرى‬
‫فهي تقوم بالرد عليه باستمرار وتضع عالمة اإلعجاب على جميع منشوراته‬
‫ٌ‬
‫طويل بينهما‪.‬‬ ‫وتناقشه في بعض ما يكتبه فيدور ٌ‬
‫نقاش‬
‫ِ‬
‫تكون؟وم ْن أين تعرفه؟ فمن الواضح أنهما مقربان من‬ ‫تُرى َم ْن‬
‫بعضا‪.‬‬‫بعضهما ً‬
‫أتكون هي َم ْن يقصدها بأبيات الحب التي يكتبها؟ أتكون هي المعنية‬
‫بإجابته عن إحدى أسئلة موقع الـ ‪« ،ask.fm‬هل عشت ح ًّبا من قبل؟»‬
‫فكان رده «ال‪ ،‬ولكني أظن أنني على مشارفه»‬
‫أصابتني شظايا الغيرة منها‪ ،‬إنها الغيرة الحمقاء أن تغار على شيء ليس‬
‫بملكك‪.‬‬
‫كبيرا بعدها في المكوث على موقع الـ‪ Facebook‬وأنا‬
‫قضيت وقتًا ً‬
‫ُ‬
‫كنت أقوم بفتح حسابه الشخصي؛ ألنظر إليه‬
‫أتابع بشغف جديد ما ينشر‪ُ ،‬‬
‫هكذا فقط‪ ،‬أشعر أنه الشيء الوحيد الذي يجعلني بالقرب منه‪ ،‬أريد أن‬
‫أعرف عنه أكثر‪ ..‬أن أكتشف شخصيته أكثر‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪52‬‬

‫أعرف بماذا يشعر اآلن؟ وماذا يحب وماذا يكره؟ َم ْن أصدقاؤه؟ وأين‬
‫يذهب؟‬
‫ولم يكن أمامي وسيلة لمعرفة هذا كله إال بمالزمة هاتفي الذكي أكثر‬
‫الوقت‪ ،‬فيالحظ هذا أبي وأمي‪ ،‬ويسخر مني آسر ً‬
‫قائل «أنا أصابني إدمان‬
‫الحاسوب وحنين أصابها إدمان الهاتف»‬
‫عقدت عزمي مرات عدة على التوقف وعدم العودة ثانية‪ ،‬ولكن‬ ‫ُ‬
‫سرعان ما يغلبني شوقي وأذهب لحسابه بعد يوم أو يومين‪..‬‬
‫كثيرا؛ أنني صرت ضعيفة لهذا الحد وال‬ ‫صار يضايقني هذا الشعور ً‬
‫أستطيع أن أتحكم بقلبي ولكن َم ْن في الدنيا قلبه بيده؟!‬
‫مشاعره تنبض داخلي بقوة‪ ،‬أحاول أن أتحكم بزمام أموري وال أتورط‬
‫نفسا عمي ًقا‬
‫بمشاعري أكثر من ذلك‪ ،‬وال أعرف السبيل لهذا‪ ..‬أخذت ً‬
‫ببطء‪ ،‬قمت من غرفتي متجهة للخارج؛ ألبدأ ببعض األعمال‬‫ٍ‬ ‫وأخرجته‬
‫بالشقة‪ ،‬وأشغل نفسي عن التفكير‪ ،‬سمعت جرس الباب‪ ،‬اتجهت إليه‬
‫عرق جبينها الحر‪.‬‬
‫وفتحته فوجدت الطارق أم سعد‪ ،‬وقد ّ‬
‫قضينا نصف النهار أنا وأمي في مساعدة أم سعد‪ ،‬وتخلل هذه الساعات‬
‫حوارات كثيرة من هنا وهناك وبعض أكواب من الشاي‪ ،‬كنا نترك أم سعد‬
‫تستريح فقد بدأ الكبر يتسلل إلى صحتها وينال من جسدها‪ ،‬بينما أنا وأمي‬
‫نكمل العمل وننجز بعض األشياء حتى شرفنا على االنتهاء‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ابتسمت أم سعد بعرفان قائلة‪:‬‬


‫أنت والسيدة مديحة فمنذ أن دخلت إلى‬ ‫فيك يا حنين ِ‬ ‫‪« -‬بارك الله ِ‬
‫ِ‬
‫وأنت صاحبة الستة أعوام كنتما تساعداني في أعمال البيت‪ ..‬لم‬ ‫هذا البيت‬
‫تعاملونني يو ًما أني خادمة عندكم‪ ..‬بل دو ًما تحسنون معاملتي»‬
‫وربت على كتفها‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫اقتربت منها‬
‫ِ‬
‫شهدت معنا الفرح والحزن‪،‬‬ ‫أنت واحدة منا‬‫‪« -‬ماذا تقولين يا أم سعد‪ِ ،‬‬
‫ِ‬
‫أنت من أصل هذا البيت»‬
‫وزادت أمي مؤكدة‪:‬‬
‫ِ‬
‫«أنت أقرب إلينا من بعض أقاربنا يا أم سعد»‬ ‫‪-‬‬
‫ظهر عليها الخجل من كالمنا‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪« -‬وأنا والله أشعر كذلك أنني واحدة من هذا البيت»‬
‫ثم نظرت تجاهي وتابعت‪:‬‬
‫ِ‬
‫يرعاك‬ ‫ِ‬
‫أراك يو ًما مع َم ْن‬ ‫«يعلم الله كم أحبك يا حنين‪ ،‬وأحب أن‬
‫ِ‬
‫عليك»‬ ‫ويحافظ‬
‫ثم رفعت بصرها إلى أعلى حيث تقبع أمي على السلم الخشبي؛‬
‫لتنظيف الستائر وقالت سائلة‪:‬‬
‫تفاجأت‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬سيدة مديحة‪ ،‬هل إذا تقدم شاب لخطبة حنين توافقون؟»‬
‫من سؤالها هذا‪ ،‬ردت أمي ساخرة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪54‬‬

‫ِ‬
‫أصبحت تعملين خاطبة من ورائنا؟»‬ ‫‪« -‬ماذا يا أم سعد هل‬
‫أمرا مثل هذا‪ ..‬المهم لم تجيبي على سؤالي»‬
‫‪« -‬يا ليتني أستطيع ومن يرفض ً‬
‫ِ‬
‫لديك أحد بمواصفات جيدة أخبرينا بها ونرى»‬ ‫‪« -‬ال أدري إن كان‬
‫فقطعت هذا الحديث الدائر‪:‬‬
‫ُ‬ ‫شعرت بالدماء تصعد إلى رأسي‪،‬‬
‫‪« -‬أنا ال أفكر في هذا الموضوع اآلن ال يزال أمامي الكثير ألفعله‪ ..‬ال‬
‫زلت صغيرة»‬
‫إلي أمي نظرة ساخرة‪ ،‬وقالت مستنكرة‪:‬‬ ‫نظرت ّ‬
‫‪« -‬صغيرة!! ِ‬
‫أنت عشرين عا ًما يا حبيبتي َم ْن هم في مثل سنك لديهم‬
‫أطفال اآلن»‬
‫‪« -‬أنا ال أفكر في األمور بهذا الشكل»‬
‫نسع لشيء ولكن فرصة أتت إلينا لماذا‬
‫‪« -‬و َم ْن منا يفكر؟! إننا لم َ‬
‫نرفضها؟!»‬
‫بدأت أمي في النزول من على السلم الخشبي‪ ،‬وهي تتابع‪:‬‬
‫‪« -‬أخبريني عنه أكثر يا أم سعد»‬
‫تلقفت سؤالها أم سعد وأجابت متهللة‪:‬‬
‫‪« -‬هو شاب من أسرة كريمة وطيبة األخالق ال تختلف عنكم في‬
‫شيء‪ ..‬يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عا ًما‪ ،‬خلوق‪ ،‬ومتدين‪ ،‬وحسن الهيئة‪،‬‬
‫طبيب‪ ،‬ولديه عيادة خاصة يكسب منها قوت معيشته»‬
‫‪55‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫َّت أمي ذقنها وهي تفكر‪:‬‬


‫َحك ْ‬
‫‪« -‬مواصفات ممتازة‪ ،‬ومناسبة لنا‪ ،‬لكن هل ِ‬
‫أنت واثقة فيهم؟»‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬أنا أعمل لديهم منذ زمن وكانت أمه توصيني إِ ْن وجدت‬
‫له عروسة جيدة أخبرها بها على الفور‪ ،‬وكنت سأخبرها عن حنين‪ ،‬ولكن‬
‫انتظرت حتى تنتهي االمتحانات‪ ،‬وأكلمكم باألمر ً‬
‫أول»‬
‫قالت أمي وقد بدا عليها الحماس‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سأخبر أباها وأبلغك»‬
‫نظرت إلى أمي وقلت منفعلة‪:‬‬
‫ِ‬
‫أرجوك كفى»‬ ‫‪« -‬أمي‬
‫ضحكت أمي متهكمة‪:‬‬
‫‪« -‬يا لدالل الفتيات‪ ..‬يظهرن الرفض ألمر الزواج ومن داخلهن‬
‫يتمنونه‪ ،‬يتمنعن وهن الراغبات»‬
‫أسندت‬
‫ُ‬ ‫وذهبت إلى غرفتي مغلقة الباب ورائي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تركت ما في يدي‬ ‫ُ‬
‫ظهري إلى الباب وأنا أهز رأسي نافية وأردد بداخلي‪ ،‬ال‪ ..‬لن أوافق على‬
‫هذا العريس أبدً ا‪.‬‬
‫أسندت جنبي إليه وأنا أفكر‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وجلست على األرض‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اقتربت من سريري‬
‫ُ‬
‫ولكن ماذا سأفعل إن اقتنع أبي بهذا العريس بعد أن تخبره أمي ووافق؟ بماذا‬
‫سأعلل رفضي حينها؟ فحجتي واهية ولن أستطيع إخبارهما بأمنيتي الخفية‪ ،‬وإِ ْن‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪56‬‬

‫أخبرتهما سينعتاني بالمراهقة الحمقاء التي تعلقت بشخص من خالل الحديث‬


‫عنه فقط ولم تعاشره ولم تقترب منه حتى‪ ،‬وسيوجهان لي ً‬
‫سؤال ال أملك إجابته‬
‫وهو «ماذا بعد إعجابك؟» لن يستطيع أي أحد أن يخبره بمشاعري ويجبره على‬
‫التقدم لي‪ ،‬وفي الوقت نفسه لن أقدر االرتباط بشخص وقلبي معلق بشخص آخر‪،‬‬
‫ولن تتفهمني أمي أبدً ا‪ ،‬ربما يتفهمني أبي إِ ْن لمحت له باألمر من بعيد‪..‬‬
‫ربما‪...‬‬
‫***‬
‫مرت الساعات سري ًعا‪ ،‬وأتى الليل بسكونه‪ ،‬وال زلت بغرفتي على‬
‫حالي غارقة في حديث نفسي‪ ،‬أفكر فيما سأقوله ألبي‪.‬‬
‫لم تكف أمي وأم سعد عن التحدث في تفاصيل هذا العريس طوال‬
‫النهار‪ ،‬لم أخرج للعشاء فبالتأكيد ستتكلم أمي عن هذا الموضوع وتخبر‬
‫أبي‪ ،‬وقد تغضب مني إذا أخبرتهما بإصراري على الرفض‪.‬‬
‫سمعت صوت دقات خفيفة على الباب وبصوت خافت يقول‪:‬‬
‫‪« -‬حنين هل ال ِ‬
‫زلت مستيقظة؟»‬
‫صعدت إلى السرير واعتدلت في جلستي‪:‬‬
‫‪« -‬نعم يا أبي تفضل»‬
‫دلف أبي إلى الغرفة‪ ،‬وأغلق الباب وراءه جاذ ًبا مقعد المكتب؛ ليجلس‬
‫باسما‪:‬‬
‫أمامي وهو ينظر إلى عيني ً‬
‫‪57‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬كيف حال حبيبتي التي لم أرها طوال النهار؟»‬


‫‪« -‬بخير يا أبي الحمد لله‪ ..‬تعبت ً‬
‫قليل من التنظيف فأحببت أن أرتاح‬
‫بغرفتي»‬
‫‪« -‬ولماذا لم تتناولي العشاء معنا؟»‬
‫‪« -‬لم أشعر بالجوع»‬
‫صمت أبي برهة‪ ،‬وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬إ ًذا سأتحدث في الموضوع مباشرة‪ ،‬أخبرتني والدتك َّ‬
‫عما حدث‬
‫اليوم‪ ،‬وعن هذا العريس»‬
‫ابتلعت ريقي وأنا أنظر بعيدً ا‪ ،‬اقترب مني وهمس ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬فما رأيك ِ‬
‫أنت؟ أراه شا ًّبا ذا مواصفات جيدة»‬
‫كنت أود أن أخبره بكل شيء‪ ،‬ولكن الكلمات انحصرت‬ ‫نظرت إليه ُ‬ ‫ُ‬
‫شفتي و ُألجم لساني‪..‬‬
‫َّ‬ ‫عن‬
‫تابع بود‪:‬‬
‫لك بعض‬ ‫عليك‪ ،‬ومن الممكن أن يسبب ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬أعلم أن األمر جديد‬
‫الخوف‪ ،‬ولكن تأكدي أننا لن نرغمك أبدً ا على أمر الزواج من شخص ال‬
‫تريدينه يا حنين‪ ،‬هي مجرد موافقة أن يأتي لبيتنا وتجلسان م ًعا‪ ،‬و َم ْن يدري‬
‫لعلك تشعرين بالراحة تجاهه بعدها»‬
‫صمت برهة وزاد‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪58‬‬

‫‪« -‬صلي استخارة ً‬


‫أول‪ ،‬وتوكلي على الله‪ ،‬ثم ننتظر لنرى ألي اتجاه‬
‫ستجري األمور»‬
‫عيني ثم ودعني؛ كي ينام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قام أبي بعد أن أنهى حديثه‪ ،‬وق َّبلني بين‬
‫ترددت داخل نفسي؛ فجملته «لعلك تشعرين بالراحة تجاهه بعدها» بدا‬ ‫ُ‬
‫كالم أبي منطق ًّيا‪.‬‬
‫ربما إن جلست مع هذا الشخص أرتاح إليه وأنسى أمر حمزة ويختفي‬
‫ٍ‬
‫بأمل يدفعني لالنتظار لعل‬ ‫تعلقي به‪ ،‬ثم إلى متى سأنتظر؟ أنا أتمسك‬
‫كاذب ال أساس له‪ ،‬وما أدراني بعد هذا كله‬
‫ٌ‬ ‫يحدث ما أتمناه‪ ،‬لكنه ٌ‬
‫أمل‬
‫ورفضي للفرص أن أستيقظ ذات يوم على خبر خطبته إلحداهن!! فهو ال‬
‫ظللت أدعو‬
‫ُ‬ ‫يعلم بوجودي من األساس ولعل هذه الفرصة هي الخير الذي‬
‫بها طوال حياتي أن يكتبه الله لي حيث كان ويرضيني به‪.‬‬
‫ال تصري على الرفض يا حنين‪ ..‬ال تكوني غبية وتعلقي نفسك‬
‫ِ‬
‫بقلبك‪ ،‬ويزرع‬ ‫لحب ُيحيي تلك الورود الذابلة‬ ‫باألوهام‪ِ ..‬‬
‫أنت في حاجة‬
‫ٍّ‬
‫بنفسك األمان من جديد‪.‬‬
‫ِ‬
‫أنت بحاجة لهذه الحياة‪..‬‬
‫وافقي وابدئي بداية جديدة وانسي كل ما مضى‪...‬‬

‫●●●‬
‫‪59‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)6‬‬
‫شعرت بالبرودة وهي تتسلل إلى جميع أطرافي‪ ،‬وبخفقات قلبي تتزايد عند‬
‫ُ‬
‫جلست على طرف السرير وأنا أمسح العرق الذي تندى على‬
‫ُ‬ ‫سماع جرس الباب‪،‬‬
‫جبيني‪ ،‬أغمضت عيني وسحبت الهواء إلى رئتي في نفس عميق؛ كي أهدأ ً‬
‫قليل‪..‬‬
‫لم أتعرض لهذا الموقف من قبل وال أعرف كيف أجيد التصرف‪.‬‬
‫وقفت أمام المرآة وأنا ألف حجابي ببطء‪ ،‬مضت ربع ساعة لم يتركني‬
‫ُ‬
‫فيها التفكير‪ ..‬تُرى كيف ستكون الجلسة؟ في ماذا سنتكلم؟ وعن أي‬
‫األشياء يجب أن نتحدث؟‬
‫باغتني طرق أبي الهادئ على الباب‪ ،‬وأطل برأسه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حنين هيا يا حبيبتي‪ ..‬حمزة في انتظارك»‬
‫رجعت بذاكرتي عندما نطق أبي باسمه عند هذا الوقت ُقبيل الفجر‪،‬‬‫ُ‬
‫ليل ومحاولته إقناعي بالجلوس مع العريس‬ ‫بعد يومين من جلسة أبي معي ً‬
‫الذى أتت به أم سعد‪ ،‬وأخبرهم صباح اليوم التالي بموافقتي‪..‬‬
‫كان أبي وأمي يجلسان على أريكة ليست بالبعيدة عني‪ ،‬وأنا أمارس إحدى‬
‫ً‬
‫مجال جيدً ا لسخرية آسر مني معظم‬ ‫هواياتي المفضلة كي المالبس التي كانت‬
‫متهكما «ستجني الكثير من األموال إن قررتي العمل كصبي‬
‫ً‬ ‫الوقت‪ ،‬ويقول لي‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪60‬‬

‫مساعد في إحدى محال الكي ً‬


‫بدل من أن تقومي بفتح صيدلية بعد أن تتخرجي»‪.‬‬
‫بدأ أبي حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ِ‬
‫أخبرت أم سعد يا مديحة؟»‬ ‫‪« -‬هل‬
‫‪« -‬ال ليس بعد‪ ،‬هي قادمة غدً ا‪ ،‬وسأخبرها بموافقتنا؛ لتبلغهم ونتفق‬
‫على موعد يأتون فيه إلى البيت إن شاء الله»‬
‫صمت أبي ً‬
‫قليل ثم تابع‪:‬‬
‫‪« -‬إ ًذا سأعتذر له بعد صالة الفجر»‬
‫‪« -‬نعم اعتذر له وأفهمه األمر»‬
‫‪« -‬أخاف أن يؤثر الرفض على جيرتنا»‬
‫‪« -‬ال لن يؤثر يا طارق إن شاء الله‪ ،‬هو شاب متدين ويؤمن بالقسمة‬
‫والنصيب‪ ،‬ثم إنني ال أفهم كيف ُيقدم على طلب كهذا وهو بمثل ظروفه!!»‬
‫لم يعلق أبي على كالمها األخير وأكمل‪:‬‬
‫‪« -‬أال ترين أنه يجب أن نخبر حنين؟»‬
‫‪« -‬الال يا طارق‪ ،‬ولماذا نخبرها بأمر مرفوض من األساس؟»‬
‫تعجبت من جملة أمي األخيرة‪ ،‬ولم أفهم عن ماذا يتحدثان في آخر‬
‫ُ‬
‫حوارهما‪..‬‬
‫متجها إلى غرفته‬
‫ً‬ ‫شقت تكبيرات صالة الفجر سكون الليل‪ ،‬وقام أبي‬
‫مرورا بي ً‬
‫سائل‪:‬‬ ‫ً‬
‫‪61‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ِ‬
‫انتهيت من كي قميصي األبيض يا حنين؟»‬ ‫‪« -‬هل‬
‫‪« -‬هو في يدي اآلن يا أبي سأنتهي منه وأحضره إليك»‬
‫مشيت إلى غرفة أبي‬
‫ُ‬ ‫مضت دقائق انتهيت خاللها من كي القميص‪،‬‬
‫وأنا أفكر هل أسأله عن ماذا كانا يتحدثان؟ أم ألتزم الصمت؟‪..‬‬
‫وطرقت الباب بدقات خفيفة وأنا أدفعه ببطء قائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وصلت إلى الغرفة‬
‫ُ‬
‫‪« -‬تفضل القميص يا أبي»‬
‫‪« -‬شكرا ِ‬
‫لك حبيبتي»‬ ‫ً‬
‫توقفت في‬
‫ُ‬ ‫كنت لكني‬
‫وأدرت ظهري عائدة إلى حيث ُ‬ ‫ُ‬ ‫ابتسمت له‪،‬‬
‫ُ‬
‫اتخذت طريق الرجوع‬
‫ُ‬ ‫وفكرت في العودة إليه وسؤاله‪،‬‬
‫ُ‬ ‫منتصف الطريق‪،‬‬
‫فوجدت أبي واق ًفا أمام المرآة يمشط لحيته وشعره‪ ،‬وقد انتشر أريج عطره‬
‫ُ‬
‫بالغرفة بعد أن رشه على جسده استعدا ًدا للصالة قلت‪:‬‬
‫‪« -‬أبي»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫‪« -‬اممم عندما كنت أقوم بكي المالبس‪ ..‬سمعتك أنت وأمي تتحدثان‬
‫عن أمر أظنه متعلق بي‪ ..‬هل هناك شيء يدعو للقلق؟»‬
‫بعضا‪:‬‬
‫أجاب أبي وهو يضم طرفي ياقة قميصه إلى بعضهما ً‬
‫‪« -‬الال يا حبيبتي اطمئني‪ ..‬كل ما في األمر أن ابنتنا الجميلة كبرت‬
‫وأصبحت عروض الزواج تنهال عليها»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪62‬‬

‫‪« -‬أهناك أحد آخر عرض عليكم أمر الزواج؟»‬


‫‪« -‬نعم تكلم معي أحدهم باألمس وأراد التقدم ِ‬
‫إليك ولكنني سأعتذر له»‬
‫عقدت حاجبي مستغربة وقد غلبني الفضول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ومن يكون يا أبي؟»‬
‫باسما‪:‬‬
‫نظر إلي عبر المرآة ً‬
‫‪« -‬وهل يهمك األمر؟»‬
‫فحولت بصري سري ًعا إلى األرض‪..‬‬
‫ُ‬ ‫شعرت باإلحراج‬
‫ُ‬
‫الحظ أبي هذا فقال ضاحكًا‪:‬‬
‫‪« -‬أعلم أن الفتيات تحب أن تتباهى بكثرة عروض الزواج بين‬
‫صديقاتها»‬
‫ابتسمت في حرج‪:‬‬
‫‪« -‬ال ليس األمر كذلك يا أبي‪ ،‬هو مجرد استغراب من هذا التوقيت‬
‫الذي اكتشف فيه الجميع فجأة أن لديكم ابنة ويريدونها للزواج»‬
‫أدار أبي وجهه إلي وقال‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سأخبرك‪ ،‬األمر ليس بالسر»‬
‫تابع وهو يغلق أزرار ك َُّمي قميصه‪:‬‬
‫‪« -‬العرض الثاني كان من جارنا‪ ..‬حمزة»‬
‫حلقت بقلبي إلى ٍ‬
‫آفاق بعيدة في‬ ‫ُ‬ ‫شعرت عندما نطق باسمه وكأنني‬
‫ُ‬
‫‪63‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وفرحا بين الطيور المحلقة المتنائية عن تعاسة‬


‫ً‬ ‫أعالي السماء‪ ،‬وأتمايل طر ًبا‬
‫األرض ووحشتها‪..‬‬
‫أعرضت عنها؟!‬
‫ُ‬ ‫كثيرا‪ ..‬تأتي أمنيتي اآلن بعد أن‬
‫تعجبت ً‬
‫ُ‬
‫بعد أن قررت أن أتخذ طري ًقا آخر غير طريقها‪..‬‬
‫كثيرا من األشياء في هذه الدنيا‬
‫هذا القانون الغريب الذي يحكم ً‬
‫عندما تزهد في األشياء تأتيك وعندما تُقبل عليها تُعرض عنك‪..‬‬
‫اشتعل بيتنا بعدها عندما أبديت موافقتي على الجلوس مع حمزة‪،‬‬
‫نعتتني أمي بالجنون؛ لرفضي الطبيب الناجح ذا المكانة المرموقة وموافقتي‬
‫على شخص بمثل ظروف حمزة‪..‬‬
‫كانت تقول ألبي ‪-‬وهي تدق على الطاولة بأصابعها‪« :-‬لن أسمح‬
‫بالموافقة على أن يأتي لبيتنا ويجلس مع حنين؛ فمعنى هذا أننا نرضى‬
‫بإمكانية حدوث هذا االرتباط وهذا غير ممكن‪ ،‬قد يكون شا ًّبا جيدً ا كما‬
‫تقول‪ ،‬وأنا أقدر ظروفه‪ ،‬ولكن بعيدً ا عن ابنتي‪ ،‬لن أغامر بابنتي الوحيدة في‬
‫حياة مضطربة مثل تلك‪ ،‬ماذا سنقول للناس وهو يجلس وحيدً ا في الخطبة‬
‫ولم ْن سنرجع عندما يحدث‬ ‫دون أهله‪ ..‬مع َم ْن سنتفق على شروط الزواج َ‬
‫خالف بيننا؟‪ ،‬ثم ما يدرينا لعله يرجع عن اإلسالم يو ًما ما‪ ..‬ماذا سيكون‬
‫ٌ‬
‫موقفنا حينها؟!‪ ..‬بجانب أنه لم يحصل على عمل إال من فترة قريبة وال‬
‫زال في بداية حياته‪ ،‬وحنين مدللة هنا يأتيها كل ما تريده في أي وقت تشاء‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪64‬‬

‫ولن تستطيع أن تعيش حياة صعبة كهذه‪ ،‬أنا أعرف كيف تفكر هي باألمر‪..‬‬
‫هي تريد أن تسانده في حياته ووحدته وأن تأخذ بيده‪ ،‬ولكن بناء البيوت ال‬
‫يعتمد على هذه األمور وحدها‪ ،‬حنين فتاة حالمة وتفكر بقلبها ال بعقلها‪،‬‬
‫هي ال تدري أين مصلحتها‪ ،‬وأنا أعلم أن مصلحتها بعيدة عن هذا االرتباط»‬
‫أما موقف أبي فكان في حيرة من أمره‪ ،‬يرى كالم أمي منطق ًّيا‪ ،‬ولكنه‬
‫أيضا أنه يجب أال يجبراني على أي موقف سواء بالموافقة أو الرفض‪،‬‬‫يرى ً‬
‫وينبغى أن يفردا لي مساحة من الحرية؛ وأن أحصل على حقي ً‬
‫كامل في‬
‫االختيار‪.‬‬
‫لم يوافقني أحد في البيت سوى آسر كان يقف معي بقوة‪ ،‬ويدافع عن‬
‫شخصا مناس ًبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حمزة ويراه‬
‫ربما كانت أمي محقة فيما تقول‪ ،‬ولكنني أفكر في األمر بشكل‬
‫شخصا مثل حمزة وظروفه التي تعرض لها تجعله إنسانًا‬
‫ً‬ ‫مختلف‪ ،‬فأنا أرى‬
‫قادرا على أن يتحمل مسئولية نفسه بنفسه وليس بحاجة ألحد‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يكن يشغلني كالم الناس وماذا سيقولون‪ ،‬كل ما أفكر به أن أبقى‬
‫بجانبه‪ ..‬أال يتعرض لشيء جديد في الحياة وحده‪ ،‬أن نكون م ًعا في السراء‬
‫والضراء‪ ،‬وأن نصعد بحياتنا خطوة بخطوة دون مساندة أحد‪.‬‬
‫لم أكن أريد أن أقف أمام أمي وأكون تلك الفتاة المتمردة التي تعبث‬
‫المراهقة بقلبها‪ ،‬حاولت عدة مرات أن أجلس معها وأوضح موقفي‪ ،‬فتذهب‬
‫وال ترغب في االستماع إلي وهي تستشيط غض ًبا من إصراري على الموافقة‪.‬‬
‫‪65‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫لم تعرف ماذا تفعل في نهاية األمر غير االتصال بخالي؛ ليأتي ويجلس‬
‫معي ويحاول إقناعي‪ ،‬فهي تعلم مكانته بقلبي‪ ،‬أتى خالي وظل يردد كالمها‬
‫نفسه‪ ،‬ولكن بهدوء مبتعدً ا عن تلك العصبية المفرطة التي تلزم أمي من البداية‪.‬‬
‫التزم أبي الصمت طوال الجلسة بينما كانت أمي تحاول السيطرة على‬
‫انفعالها وتساند كالم خالي وتضيف إليه‪.‬‬
‫صمت ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم‬ ‫ُّ‬ ‫أخيرا في إقناعي‪،‬‬
‫أنهيا حديثهما على أمل أنهما نجحا ً‬
‫قلت بحدة لم يعهدوها من قبل‪:‬‬
‫ُ‬
‫«مع احترامي لكما‪ ،‬ولكن هذه حياتي أنا ولن أدع كالم الناس أو مجرد‬
‫تخيالت قد تحدث أو ال تحدث يجعالني أرفض إنسانًا ال أرى فيه عي ًبا‬
‫واضحا جل ًّيا!!‬
‫ً‬
‫هل نسيتما خالد ابن عمتي ووقوف العائلة جميعها بوجهه عندما أراد‬
‫الزواج بإنسانة أحبها وكانت تكبره بعشرة أعوام‪ ،‬وهاجمه الجميع وضغطوا‬
‫عليه حتى تركها وتزوج بأخرى لم ير السعادة معها يو ًما‪ ..‬أم هبة التي رأت‬
‫أن حياتها ستكون سعيدة بجانب إنسان لم يكن له ذنب إال أنه مر بتجربة‬
‫مريرة انتهت بالطالق‪ ،‬وكان هذا سبب رفض أهلها‪ ،‬وتزوجت بإنسان لم‬
‫أيضا وهي تحمل‬ ‫يرحمها من سباب وضرب لتنتهي حياتها معه بالطالق ً‬
‫صغيرا»‬
‫ً‬ ‫على كتفها ً‬
‫طفل‬
‫تابعت وقد هدأت نبرة صوتي‪:‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪66‬‬

‫صليت‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬لن أدع حياتي تسير مثلهما يتحكم فيها الجميع ما عدا أنا‪،‬‬
‫استخارة عدة مرات وأرتاح لقراري‪ ،‬كل ما أرجوه منكما أن تسمحا لي‬
‫بحقي في االختيار‪ ،‬وأنا على ثقة أن كل أقدار الله خير»‪.‬‬
‫وتحركت خارجة من الغرفة متجهة لغرفتي‪ ،‬وقد ساد‬
‫ُ‬ ‫أنهيت كالمي‪،‬‬
‫ُ‬
‫الصمت‪ ،‬وسكنوا تما ًما وكأن على رؤوسهم الطير‪..‬‬
‫مررت به في‬
‫ُ‬ ‫وجلست على مقعد مكتبي‪ ،‬خرج كل ما‬‫ُ‬ ‫أغلقت الباب‬
‫ُ‬
‫وانفجرت في البكاء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الفترة السابقة في تلك الدموع المتسارعة على وجهي‬
‫مضى قرابة ساعة كنت قد هدأت خاللها ً‬
‫قليل‪ ،‬سمعتهم وهم يتناقشون‬
‫فيعلو صوتهم تارة وينخفض تارة حتى ناداني أبي في النهاية‪ ،‬وقد هدأوا‪،‬‬
‫وجدت أمي وهي تشيح بنظرها‬ ‫ُ‬ ‫خرجت متجهة إليهم والقلق يتملكني‪،‬‬
‫ُ‬
‫بعيدً ا ويظهر عليها الضجر‪.‬‬
‫وقبل أن يبدأ أبي كالمه قامت من مكانها‪ ،‬وقالت غاضبة‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا إِ ْن كنتم تريدون أن تتموا هذا األمر فكما تريدون‪ ،‬ولكن لن‬
‫يكون بمباركتي أبدً ا»‬
‫اقتربت منها؛ كي ُأهدئها لكنها أزاحتني جان ًبا وانصرفت‪ ،‬ابتسم أبي‬
‫ُ‬
‫وخالي لي؛ ليخففا عني ردة فعل أمي‪.‬‬
‫كنت على أمل‬
‫تضايقت في البداية أن يتم األمر دون مباركتها‪ ،‬ولكنني ُ‬
‫ُ‬
‫أن ترى في حمزة ما يدفعها إلى تغيير موقفها تجاهه عبر األيام‪ ،‬وتثني على‬
‫موافقتي حينها‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫راودني شعور القلق بعدها وأرهقني تفكيري بسؤال واحد وهو «ماذا إِ ْن‬
‫اكتشفت حمزة آخر مع الوقت؟» أعرف عنه بعض األشياء ولكن الكثير ال يظهر‬ ‫ُ‬
‫غامضا‪ ،‬بعض‬ ‫ً‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫أحببت‬
‫ُ‬ ‫إال بالمعاملة المتبادلة‪ ..‬طوال الفترة السابقة‬
‫األشياء عندما تقترب منها وتزيل غموضها تزداد ح ًّبا وتعل ًقا بها وبعضها اآلخر‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫تتمنى لو أنك لم تقترب منها قط‪ ،‬لو أنها بقيت بغموضها لكان أفضل ً‬
‫ال أعلم ماذا سأفعل حينها ولكن كلي أمل أن يكون أحسن مما أظن‪.‬‬
‫أتاني كل ما حدث في لمحات سريعة مرت أمام عيني وأنا أتأبط ذراع‬
‫أبي وهو يرافقني إلى غرفة استقبال الضيوف‪ ،‬وصلنا فتقدمني أبي بخطوة‪،‬‬
‫إلي بالتقدم والجلوس‪..‬‬
‫وأشار َّ‬
‫جلس أبي بجانب أمي‪ ،‬وآسر على األريكة‪ ،‬وقد ظهر على وجه أمي‬
‫ٌ‬
‫قليل من عالمات رفضها‪..‬‬
‫أحسست أن صوتي ذهب من حلقي‬‫ُ‬ ‫وددت أن ألقي السالم ولكن‬
‫ُ‬
‫وأنني أتنفس بصعوبة كأن األكسجين ينفذ من حولي وأحاول أن آخذ أكبر‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫قدر منه؛ ألستطيع مواصلة الحياة‪ ،‬تمنيت أال يكون هذا االضطراب‬
‫على وجهي وأن تبقى مالمحي هادئة وثابتة‪.‬‬
‫ساقي وأنا أنظر إلى األرض‪ ،‬لم أستطع‬
‫ّ‬ ‫شبكت أصابعي وأسندتها إلى‬
‫ُ‬
‫أن أرفع بصري عال ًيا وأنظر إليه وإن كانت رغبتي غير ذلك‪..‬‬
‫مشاكسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫خيم الصمت ً‬
‫قليل فقطعه آسر‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪68‬‬

‫عضوا‬
‫ً‬ ‫‪« -‬إن سكتُّم أكثر من ذلك سأقوم وأكمل لعبتي وستخسرون‬
‫ً‬
‫فعال وأساس ًّيا بهذه الجلسة» ضحك أبي وحمزة وابتسمت أمي‪.‬‬
‫بدأ أبي في الحديث بعد كالم آسر ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سأقوم بمهمة التعارف بينكما‪ ..‬حمزة أعرفك بابنتي حنين‬
‫في كلية صيدلة الفرقة الرابعة تبلغ من العمرعشرين عا ًما‪..‬‬
‫حنين أعرفك بـ‪»....‬‬
‫قاطع أبي هذا الصوت الهادئ الذي سمعته أول مرة عندما دخل بيتنا‬
‫وقال بأدب‪:‬‬
‫‪« -‬دعني يا عم طارق أتولى عنك هذه المهمة»‬
‫نظر تجاهي وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬كيف حالك يا حنين؟»‬
‫أجبت بصوت يكاد ُيسمع‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬بخير الحمد لله»‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬أعرفك بنفسي‪».....‬‬
‫ومنظما‪ ،‬وكأنه‬
‫ً‬ ‫أخذ حمزة في التحدث عن نفسه بطالقة‪ ،‬كان حديثه مرت ًّبا‬
‫كثيرا‪ ،‬ولم أمل من حديثه قط‪ ..‬ربما الحظ هذا الضيق‬ ‫قام بترتيبه مسب ًقا‪ ،‬تكلم ً‬
‫في عين أمي وشعر بخوفها من الخوض في هذا االرتباط؛ فتحدث في كثير من‬
‫النقاط المتعلقة به دون سؤاله وبعث برسائل اطمئنان خفية إلى قلبها‪..‬‬
‫‪69‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ً‬
‫مستقبل‪ ،‬وأن عمله‬ ‫تحدث عن أحالمه وآماله بفتح شركته الخاصة‬
‫اآلن في اإلشراف البرمجي على عدة مواقع هو مجرد بداية‪.‬‬
‫كان ُيناديني في أثناء الحديث باسمي‪ ،‬ويتكلم عن نفسه ً‬
‫أول‪ ،‬ثم يتجه‬
‫سائل «وماذا ِ‬
‫عنك في هذه النقطة؟»‬ ‫إلي ً‬
‫فشعرت‬
‫ُ‬ ‫حديثه اللين المسترسل استطاع أن يزيل تلك الرهبة بداخلي‪،‬‬
‫وتحدثت عن نفسي أنا األخرى بثقة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وكأننا جلسنا مرات ومرات من قبل‪،‬‬
‫وتابعت بحرص صوته وانفعاالته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أحببت مرونته في الكالم‪،‬‬
‫ُ‬
‫واضحا وزال غموضه ألزداد به تعل ًقا‪ ،‬لم أتمكن من إطالة النظر‬
‫ً‬ ‫بدا أمامي‬
‫إليه إال عندما يتجه بالحديث ألمي أو أبي وآسر‪ ،‬لم أره بوضوح هكذا من قبل‪.‬‬
‫مالمحه يظهر عليها ثقته بنفسه‪ ..‬بشرته قمحية‪ ،‬عيناه بنيتان‪ ،‬ذو‬
‫حاجبين ك َّث ْين‪ ..‬نظارته الزجاجية ذات حامل كحلي اللون‪ ،‬شعره ناعم‬
‫ممشط للخلف لونه بني مائل للسواد‪ ،‬خفيف اللحية‪ ،‬عريض الكتفين‪ ،‬ذو‬
‫بنية قوية‪.‬‬
‫التزمت أمي الصمت طوال الوقت بينما علق أبي وآسر على بعض‬
‫األشياء‪ ،‬إال أنهما تركا لنا المساحة األكبر للحديث‪..‬‬
‫مضى الوقت سري ًعا‪ ،‬ونظر حمزة إلى ساعته‪ ،‬ثم ابتسم ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬مرت ساعتان ونصف لم أشعر فيها بالوقت‪ ،‬هكذا هو اإلنسان‬
‫عندما يشعر أنه يجلس بين أهله»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪70‬‬

‫ثم اتجه بالحديث إلى أبي وأمي‪ ،‬وتابع‪:‬‬


‫‪« -‬أريد قول شيء قبل أن أرحل»‬
‫قال أبي‪:‬‬
‫«خيرا؟»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫أكمل حمزة بصوت ودود‪:‬‬
‫كنت‬
‫اتخذت قرار االرتباط بحنين قبل معرفتي أنها ابنتكم‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪« -‬أنا‬
‫أحيانًا ألتقيها بالطريق في أثناء ذهابي إلى الصالة‪ ..‬رأيتها خجولة تغض‬
‫الطرف‪ ،‬كل مرة كنت أراها فيها تتكون داخلي صورة الفتاة التي أود أن‬
‫حزمت‬
‫ُ‬ ‫تكون سندً ا وعونًا لي في ديني ودنياي التي أواجهها وحدي حتى‬
‫وحملت قرارى إلى إمام المسجد وسألته إن كان يعرف أهل تلك‬ ‫ُ‬ ‫أمري‬
‫كثيرا أن تكون‬
‫الفتاة؛ ألتقدم إليها فأخبرني أنها ابنتكم ولم أتعجب حينها ً‬
‫هذه النبتة الصالحة هي نتاج هذا البيت الطيب‪ ،‬وأنا اآلن أشعر بالراحة التامة‬
‫لقراري هذا‪ ،‬وفي انتظار رد ابنتكم الكريمة»‬
‫شعرت أنه يحاول أن‬
‫ُ‬ ‫انتهى من كالمه وهو يرمقني بنظرة عابرة ُمحبة‪،‬‬
‫ِ‬
‫أتيت ليس من أجل أن أباك صاحب العرفان‬ ‫ينقل إلي رسالة مفادها أنني ُ‬
‫علي ولكنني أتيت من أجلك‪ ..‬من أجلك ِ‬
‫أنت‪..‬‬ ‫ّ‬
‫قام حمزة واستأذن للرحيل بعد أن سلم علينا وأوصله أبي للخارج‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫دخلت إلى غرفتي على الفور‪ ،‬لم أكن أريد التحدث‪ ..‬ال أريد أن أدخل‬
‫ُ‬
‫في مناقشات مطولة تضيع حالة السعادة التي بداخلي‪.‬‬
‫قفزت إلى سريري وأنا أحدق بالسقف وتتراءى أمامي الكثير من‬
‫ُ‬
‫التخيالت‬
‫خطبتنا‪ ..‬عقد قراننا‪ ..‬زفافنا‪..‬‬
‫فستاني األبيض وبذلته األنيقة‬
‫بيتنا البسيط‪ ..‬صالتنا األولى وهو يصلي بي إما ًما‬
‫حديثنا م ًعا ومشاهدتنا للقمر‪..‬‬
‫ابتسمت وأنا أتذكر مالمحه‪ ،‬سأحكي له عن كل شيء في حياتي‬ ‫ُ‬
‫وأشركه في كل أمري‪ ..‬سأجعل أمطاره تُحيي كل شيء جميل بروحي‪،‬‬
‫وأرعى بساتين قلبي بقربه‪ ،‬ونفجر ينابيع الود م ًعا بعد سنين عجاف‪.‬‬
‫تذكرت أبيات الشعر التي كان يكتبها على موقع الـ‪Facebook‬‬ ‫ُ‬
‫شعرت بالفرح فقد كان يقصدني أنا بها‪ ،‬أنا‬
‫ُ‬ ‫وكالمه األخير قبل أن يرحل‪،‬‬
‫الحب الذي كتب أنه على مشارفه‪.‬‬
‫خطر ببالي أنه ربما يكون كتب شي ًئا هناك فلقد مرت ساعة على رحيله‪،‬‬
‫قفزت من سريري وأنا أنتقل بخطوات سريعة إلى مكتبي وأفتح حاسوبي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫دخلت على حسابه الشخصي فوجدت آخر ما نشره منذ عشرين دقيقة‪..‬‬ ‫ُ‬
‫«يا حبيبي فرحة ال تنتسى‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪72‬‬

‫ضمنا في حسنها هذا المسا‬


‫كاد فيها خافقي أن يلمسا‬
‫((*‬
‫ابتهاجا باللقا»‬
‫ً‬ ‫مهجة النجم‬
‫ضممت أصابعي إلى باطن كفي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وضعت يدي على خدي وقد‬‫ُ‬
‫ً‬
‫خجل وأنا أهمس‪..‬‬ ‫ابتسمت‬
‫ُ‬
‫نعم‪ ..‬هي فرحة ال تُنتسى‪...‬‬
‫●●●‬

‫الشاعر سليم عبد القادر‬ ‫* ‬


‫‪73‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)7‬‬
‫نظرت إلى المرآة بنظرة فاحصة متأملة إياي وقد داهمتني الحيرة‪ ،‬اتجهت‬
‫ببصري؛ ألرى انعكاس ظهري في المرآة الخلفية من خالل المرآة التي تقبع أمامي‪.‬‬
‫سألت مترددة‪:‬‬
‫‪« -‬أمي‪ ..‬ما رأيك؟»‬
‫أجابت أمي بشيء من االقتضاب‪:‬‬
‫‪« -‬جيد»‬
‫تابعت‪:‬‬
‫‪« -‬أشعر أنه مناسب‪ ..‬رقيق‪ ..‬بسيط وليس به الكثير من التفاصيل‬
‫ومالئم لخطبة في البيت»‬
‫أدرت رأسي إليها وأنا أكمل بحماس‪:‬‬
‫‪« -‬واألهم من ذلك أنه بلوني المفضل‪ ..‬اللون الوردي»‬
‫أومأت أمي برأسها وهي تتصنع االبتسام‪ ،‬لم أشأ أن أخوض تجربة‬
‫الفرحة األولى بكل شيء جديد أقدم عليه في ارتباطي بحمزة دونها فأنا كما‬
‫دائما فرحتها المنتظرة‪.‬‬
‫تقول هي ً‬
‫ال أريد أن أحرمها متعة إحساس األم بالمشاركة في تفاصيل ارتباط‬
‫ابنتها حتى إِ ْن كانت ال تزال غير مباركة لهذا االرتباط‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪74‬‬

‫أدرت وجهي إلى المرآة؛ ألعيد التأمل بالفستان وهو ينسدل بنعومة‬
‫قماشته الحريرة وبخصر مزمزم وبه من األعلى بعض التطريز‪ ،‬نظرت إلى‬
‫الفتاة التي كانت تقف بانتظار الرأي النهائي قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬سآخذ هذا الثوب»‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬سأحجزه اآلن باسمك‪ ..‬خطبة مباركة يا عروس»‬
‫ابتسمت عند سماع كلمتها األخيرة‪ ،‬نعم أنا عروس‪ ..‬مر شهر ونصف‬
‫منذ أن جاء حمزة لطلب يدي وجلست معه خاللها مرتين‪..‬‬
‫كل مرة كنت أجلس فيها أكتشف الكثير من األشياء المشتركة بيننا‪ ،‬أو‬
‫ربما دافع الحب الكبير بداخلي هو ما جعلني أشعر أننا متشابهان‪ ..‬نصفان‬
‫بعضا‪.‬‬ ‫َ‬
‫ليكمل بعضهما ً‬ ‫ويجب أن يلتحما؛‬
‫تركت لقلبي العنان؛ ليدفأ بهذا الشعور الرائع الذي أشعر به ألول مرة‬
‫في حياتي‪ ،‬خاصة وقد تمكن التعلق بي من حمزة وأرى ذلك جل ًّيا في عينيه‪..‬‬
‫اجتاحت مشاعره حنايا قلبي وتغلغلت داخلها بقوة في هذه الفترة القصيرة‪.‬‬
‫تم االتفاق على شروط الزواج بينه وبين أبي‪ ،‬عرض أبي أن تكون إقامتنا‬
‫كامل مثل أي مستأجر‪،‬‬‫بإحدى شقق البيت ووافق حمزة بشرط أن يدفع إيجارها ً‬
‫حدد أبي موعد الزفاف على أن يكون بعد االنتهاء من دراستي الجامعية‪.‬‬
‫دائما يقوم بتيسير األمور‪ ،‬لم يبالغ في طلبات الزواج فهو يعلم‬
‫كان أبي ً‬
‫كبيرا من أمي فهاجمت أبي مستنكرة‪:‬‬‫اعتراضا ً‬
‫ً‬ ‫ظروف حمزة وهو ما لقي‬
‫‪75‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬لماذ تفعل ذلك بابنتنا الوحيدة؟!! لماذا تكون أقل من بنات أعمامها‬
‫وعماتها؟! وهي أفضل منهن»‬
‫فيجيب أبي‪:‬‬
‫‪« -‬أتانا حمزة بظروفه هذه ووافقنا عليها وليس من المروءة أن أحمله‬
‫ما ال طاقة له به‪ ،‬وأنا أعلم بحاله»‬
‫ويزيد أبي في محاولة منه إلقناعها‪:‬‬
‫‪« -‬ثم يا مديحة أال تذكرين عندما تقدمت لخطبتك ولم أكن أملك‬
‫ِ‬
‫أبوك ‪-‬رحمه الله‪ -‬أمور زواجنا بل إنه ساعدنا‬ ‫الكثير من األموال‪ ،‬وسهل‬
‫من أمواله ليتم هذا الزواج»‬
‫قالت أمي بانفعال‪:‬‬
‫‪« -‬لكن ظروف زواجنا مختلفة يا طارق‪ ..‬ال مجال للمقارنة بينهما‪،‬‬
‫هذا االرتباط له ظروف خاصة ويجب أن نضمن حقوق ابنتنا كاملة»‬
‫زفر أبي بضيق وهو يهز رأسه بأسف‪ ،‬وقام بعدها‪..‬‬
‫كثيرا‪ ،‬فأنا أريد أن أكون تلك العروس المباركة قليلة‬
‫أحببت ذلك منه ً‬
‫المهر كما أخبرنا رسولنا الكريم‪.‬‬
‫قام حمزة بتغيير جميع أوراقه الشخصية السمه الحالي خالل الفترة السابقة‬
‫مما دفعه لمصارحة أبي برغبته في عقد قراننا‪ ،‬لكن أبي رأى أن تلك الخطوة‬
‫مبكرة جدًّ ا‪ ،‬ومن األفضل أن تكون هناك فترة جيدة لنتعارف على بعضنا أكثر‪.‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪76‬‬

‫أوشك عيد األضحى على المجئ ورأوا أنها مناسبة جيدة لتحديد‬
‫موعد الخطبة لتكون ثالث أيام العيد‪ ،‬أحببت أن نحتفل بها في البيت فاألمر‬
‫ال يستحق أن يكون بمكان أكبر‪.‬‬
‫جميل لطي ًفا‪ ،‬والخواتم‬
‫ً‬ ‫أتذكر يوم شراء خواتم خطبتنا‪ ،‬كان يو ًما‬
‫بسيطة ورقيقة‪ ،‬دبلة من الذهب‪ ،‬وخاتم مرصع بالفصوص الالمعة‪ ،‬وخاتم‬
‫كثيرا‪ ،‬لم يكن يهمني أن‬
‫من الفضة لحمزة‪ ..‬أشياء قليلة ولكنها أسعدتني ً‬
‫أشتري الكثير من المشغوالت الذهبية‪ ..‬يكفي أنني أحمل خاتمه‪.‬‬
‫انتظرت أمي يومها حتى رجعنا إلى البيت لتصرخ وهي تندب حظ‬
‫ابنتها الوحيدة‪ ،‬وتذكر كثرة الذهب المقدم لبنات أقاربنا في خطبتهن وأنني‬
‫أقل منهن في كل شيء‪..‬‬
‫لم ألتفت لهذا العويل فأنا سعيدة بما حصلت عليه‪ ،‬اتجهت لغرفتي‬
‫فور وصولنا وبداخلي شغف كبير ألطلع على هذا الكتاب الذي أهداه لي‬
‫حمزة حينها وأعرف محتواه‪ ،‬مررت أصابعي عليه أللتمس مواضع أصابعه‬
‫منبعجا ً‬
‫قليل من‬ ‫ً‬ ‫وجدت الكتاب‬
‫ُ‬ ‫فمن المؤكد أنه قرأه قبل أن يهديه لي‪،‬‬
‫فوجدت زهرة حديثة القطف ذات لون وردي تقبع بين‬
‫ُ‬ ‫المنتصف‪ ،‬فحصتُه‬
‫ً‬
‫مرسال‬ ‫طياته عند بداية فصل يحمل عنوان (الحب بين الزوجين)‪ ،‬كانت‬
‫إلي‪..‬‬
‫يحمل مشاعره َّ‬
‫‪77‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وأغمضت عيني وأنا أستنشق عبير عطرها الزاكي‬


‫ُ‬ ‫قربتها من أنفي‬
‫ظلت ليلتها بجانبي وهي تنام على وسادتي‬
‫وأمررها على وجنتي بلطف‪ْ ،‬‬
‫رفي ًقا حنونًا وتهمس لي بكلمات صامتة ال يسمعها أحد غيري…‬
‫***‬
‫بدأت تكبيرات صالة العيد تصدح في األرجاء‪ ،‬وأصداء بهجتها تعم‬
‫كل شيء‪ ،‬تعالت األصوات بالتكبير من الرجال والنساء واألطفال‪..‬‬
‫الله أكبر الله أكبر الله أكبر ال إله إال الله‪..‬‬
‫الله أكبر الله أكبر ولله الحمد‬
‫كبيرا من فرحة العيد يكمن في التكبيرات‪.‬‬
‫ما أجملها‪ ..‬أشعر أن جز ًءا ً‬
‫وقفنا أنا وأمي نتبادل التهاني مع جيراننا بعد أن انتهينا من الصالة‪..‬‬
‫وقفت بينهم وأنا أنظر بين الناس رم ًقا باحثة عنه‪ ،‬مر أسبوعان على آخر جلسة‬
‫ُ‬
‫جلسناها م ًعا حتى رأيتهم من بعيد قادمين نحونا‪ ..‬أبي وآسر وحمزة‪ ،‬أشحت‬
‫بنظري لمكان آخر حتى ال يالحظون مراقبتي لهم‪ ،‬وصلوا إلينا وبدأ أبي حديثه‪:‬‬
‫‪« -‬كل عام وأنتم بخير»‬
‫ردت أمي‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬كل عام وأنت بخير يا طارق»‬
‫واتجهت آلسر قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬كل عام وأنت بخير يا آسر»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪78‬‬

‫واضحا أن أمي تعمدت تجاهل حمزة في التهنئة‪ ..‬ليستوعب هو‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫الموقف سري ًعا ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬كل عام وأنتم بخير»‬
‫ردت أمي له التهنئة بصوت مضطر‪ ..‬زاد حمزة لكي يمرر هذا الموقف‪:‬‬
‫‪« -‬العيد هذه السنة مختلف تما ًما بالنسبة لي فهذا أول عيد لي بينكم»‬
‫ابتسم له أبي وهو يربت على كتفه‪ ،‬بدأ أبي وأمي حديثهما عن بعض األمور‬
‫الخاصة بذبح األضحية‪ ،‬وكيف سيتم توزيعها على األسر الفقيرة حولنا‪..‬‬
‫كنت أسمعهما وال يشغل بالي هذا الحديث بقدر ما يشغلني حمزة‬
‫الذي يقف على بعد خطوات مني‪ ..‬أود أن أبدأ معه الحديث وأهنئه بالعيد‬
‫ولكن الخجل يمنعني‪.‬‬
‫مبتسما‪:‬‬
‫ً‬ ‫إلي وقال‬
‫باغتني بتحويل نظره ّ‬
‫ِ‬
‫وأنت بخير يا حنين»‬ ‫‪« -‬كل عام‬
‫أجبت وقد بدا صوتي مرتبكًا من المفاجأة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬كل عام وأنت بخير»‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫بدت على وجهه عالمات االستغراب وهو يسألني‬ ‫ْ‬
‫‪« -‬حنين‪ ..‬لماذا ال تنطقين اسمي؟ ال أتذكر أنك ناديتِني به إال مرة أو‬
‫مرتين»‬
‫تابع بشكل طفولي‪:‬‬
‫ِ‬
‫وأنت بخير يا حنين»‬ ‫‪« -‬هيا فلنعد الحوار ثانية‪ ..‬كل عام‬
‫‪79‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ً‬
‫خجل‪:‬‬ ‫بثقل ٍ‬
‫كبير على لساني وأنا أقول‬ ‫شعرت ٍ‬
‫ُ‬
‫«كل عام وأنت بخير يا حمزة»‬
‫انفرجت أساريره‪:‬‬
‫ْ‬ ‫مبتسما وقد‬
‫ً‬ ‫قال‬
‫‪« -‬أشعر اآلن أنني سميت من جديد»‬
‫هامسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ابتسمت وأنا أحاول أن أواري إحراجي‪ ،‬تابع وهو يسأل‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫«قرأت الكتاب؟»‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫سؤال آخر‪..‬‬ ‫ً‬
‫سؤال وعيناه تسأل‬ ‫كانت شفتاه تسأل‬
‫كانت عيناه تسأل‪:‬‬
‫‪« -‬هل ِ‬
‫رأيت الوردة؟»‬
‫أجبتُه وأنا أبتسم‪:‬‬
‫‪« -‬نعم قرأته»‬
‫وعيناي تجيب سؤال عينيه‪:‬‬
‫‪« -‬نعم رأيتها»‬
‫لمحت طيف ابتسامة تعلو محياه وتعبر عن الكثير من مشاعره‪ ،‬قال‬‫ُ‬
‫أمرا ما‪:‬‬
‫وكأنه تذكر ً‬
‫‪« -‬بالمناسبة‪ ،‬قمت باستئذان عم طارق أن أقوم بإضافتك على موقع‬
‫الـ‪ Facebook‬وسمح لي‪،‬أحيانًا تصادفني منشورات جيدة وأريد أن‬
‫تقرأيها لنستفيد م ًعا»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪80‬‬

‫كثيرا من هذا الطلب فبعد إضافتي أستطيع أن أسأله بوضوح من‬


‫فرحت ً‬
‫ُ‬
‫هي (نور) تلك ومن أين يعرفها؟ ربما لم تعرف بعد أن حمزة هم بخطبتي‪،‬‬
‫رسمت تخيالتي ابتسامة تشفي على وجهي وأنا أتخيل خيبة أملها عندما‬
‫ْ‬
‫ناظرا إلى هاتفه‪:‬‬
‫ننشئ عالقة خطبة بيننا على الموقع وتراها‪ ،‬قال لي حمزة ً‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ،‬أخبريني باسم حسابك»‬
‫نفضت تلك التخيالت عن ذهني سري ًعا وأخبرته‪ ،‬صمت دقيقة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫«أرسلت إليك طلب إضافة اآلن»‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫‪« -‬حسنًا سأقبله عندما أرجع إلى البيت»‬
‫صغيرا وقال ًبا من الشكوالتة وأعطاهما لي ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أخرج مظرو ًفا‬
‫‪« -‬تفضلي هذه عيديتك»‬
‫مددت يدي وأخذتُهما على استحياء‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫«شكرا لك»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫رأى آسر الموقف فعلق‬
‫أيضا أريد واحدة»‬
‫‪« -‬ولماذا حنين هي فقط َم ْن تأتي لها الشكوالتة‪ ،‬أنا ً‬
‫انتبه أبي وأمي على كالمه‪ ،‬رد حمزة وهو يضحك‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سآتي لك بواحدة أيها المشاكس»‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫علق أبي‬
‫‪« -‬انتظر حتى تكبر ثم تخطب أنت اآلخر وتأتي لك خطيبتك بالشكوالتة»‬
‫‪81‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫فعلق آسر ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬أنتظر حتى أكبر!! سأنتظر للحصول على الشكوالتة حتى أكبر؟!!»‬
‫نظر إلي آسر‪ ،‬وقال بشكل عفوي وقد ض َّيق عينيه‪:‬‬
‫ِ‬
‫تأتيك‬ ‫وأيضا‬ ‫عليك يا حنين ِ‬
‫فأنت كبيرة وتفعلين أي شيء‪ً ،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬أحقد‬
‫الشكوالتة»‬
‫ظهر صوت أمي بعد طول صمت‪ ،‬وهي تقول بشيء من التهكم‪:‬‬
‫‪« -‬ال تحسد حنين على الشكوالتة يا آسر فهي ال تملك غيرها»‬
‫تغير وجه حمزة من تعليق أمي األخير‪ ،‬وظهر الضيق في عينيه‪ ،‬تضايقت‬
‫أنا األخرى فلقد جرحته أمي بكالمها‪ ،‬حاول أبي أن يلطف الجو بعد كالم‬
‫أمي فسأل حمزة مداع ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬هل َح َّض َر العريس مالبس خطبته؟» َه َّز حمزة رأسه بنعم وهو‬
‫يبتسم وقد فهم فعل أبي‪..‬‬
‫تابع أبي‪:‬‬
‫‪« -‬وكذلك حنين قامت بتحضير كل شيء‪ ..‬أليس ذلك؟»‬
‫‪« -‬بلى يا أبي»‬
‫نظر حمزة إلى أبي وقال‪:‬‬
‫‪« -‬عم طارق سأتصل بك غدً ا؛ لتخبرني عن مكان جيد يقوم ببيع قطع‬
‫الجاتوه حتى أشتري منه ليوم الخطبة»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪82‬‬

‫‪« -‬حسنًا سأتصل بك غدً ا وأخبرك»‬


‫قال أبي وهو ينظر إلى ساعته‪:‬‬
‫‪« -‬يجب أن نذهب اآلن حتى نرتب أمور ذبح األضحية»‬
‫قال حمزة‪:‬‬
‫‪« -‬إذا أردت أية مساعدة يا عمي أخبرني»‬
‫‪« -‬سأخبرك إن شاء الله‪ ،‬نراك على خير يا حمزة‪ ..‬سالم»‬
‫‪« -‬سالم»‬
‫وقفت برهة وأنا أفكر كيف أخفف عن‬‫ُ‬ ‫بدأ أبي وأمي وآسر بالتحرك‪،‬‬
‫حمزة كالم أمي األخير‪ ،‬فتحت الشكوالتة سري ًعا وقسمتها نصفين‪ ،‬أعطيت‬
‫له النصف باسمة‪ ،‬ثم تحركت وأنا أقول له‪:‬‬
‫‪« -‬سالم»‬
‫مبتسما وقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫نظر إلى نصف الشكوالتة بيده‪ ،‬ثم نظر إلي‬
‫ِ‬
‫«أراك ثالث أيام العيد»‬ ‫‪-‬‬
‫لحقت بأبي وأمي وآسر‬
‫ُ‬ ‫كثيرا عندما رأيت ابتسامته من جديد‪،‬‬
‫فرحت ً‬
‫ُ‬
‫وال زالت عين حمزة تتبعني‪ ،‬وعلى وجهه ابتسامة كبيرة‪...‬‬
‫***‬
‫ً‬
‫جميل يصحبه زقزقة العصافير‪،‬‬ ‫جاء صباح ثالث أيام العيد هادئًا‬
‫مبكرا فلم أنم جيدً ا طوال الليل؛ ربما السبب هو القلق المعتاد‬
‫ً‬ ‫استيقظت‬
‫ُ‬
‫‪83‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ظللت مالزمة سريري أراجع‬


‫ُ‬ ‫الذي يصاحب أية فتاة يوم خطبتها أو زفافها‪،‬‬
‫بذهني ترتيب األشياء‪..‬‬
‫قمت بتعليق الزينة وتحضير الطعام مع‬
‫رتبت األمور كلها بالبارحة‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫أمي‪ ،‬رصصنا المقاعد أنا وآسر‪ ،‬وأكدت على مجئ صديقتي المصورة‪..‬‬
‫ودعوت أنا بعض صديقاتي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قام أبي بدعوة بعض أقاربنا وجيراننا المقربين‪،‬‬
‫إ ًذا لماذا ينتابني هذا الشعور بنسيان شيء ما؟!‪ ..‬ال تشغلي بالك يا‬
‫حنين‪ ،‬فكل شيء ُمعد جيدً ا وسيكون يو ًما رائ ًعا بإذن الله ال تقلقي‪..‬‬
‫شبكت كلتا راحتي ووضعتهما تحت رأسي وأنا أبتسم‪..‬‬
‫ُ‬
‫نظرت جان ًبا إلى ثوب الخطبة المعلق على خزانتي‪ ،‬وهو جاهز ومهيأ لكي‬
‫ُ‬
‫أرتديه‪ ،‬وبجانبه حجاب باللون نفسه‪ ،‬وطوق رقيق من الورود البيضاء الصغيرة‪.‬‬
‫رفعت يدي اليمنى ألعلى وأنا أنظر إلى إصبعي البنصر‪..‬‬
‫اليوم سيتزين إصبعي بخاتمه‪ ،‬اليوم سأكون خطيبته رسم ًّيا أمام الجميع‪.‬‬
‫أخرجت الدفتر الوردي المزين‬
‫ُ‬ ‫واتجهت إلى مكتبي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قمت من فراشي‬
‫ُ‬
‫بالقلوب والورود والفراشات‪..‬‬
‫نزعت ذلك الغالف البالستيكي عنه‪ ،‬وبدأت بالكتابة في أول صفحة منه‪:‬‬
‫ُ‬
‫«حين اكتشفتك‪..‬‬
‫لم يكن قصدي اكتشافك‬
‫فأنا الذي ما كنت ضد الحب يو ًما‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪84‬‬

‫أو معه‪..‬‬
‫أنا مؤمن أن الفصول األربعة‪..‬‬
‫ستظل دو ًما أربعة‬
‫شمسا واحدة‬
‫ً‬ ‫وبأن‬
‫بدرا واحدً ا‪..‬‬
‫وبأن ً‬
‫لكنني حين اكتشفتك‪..‬‬
‫كل األمور تغيرت‬
‫بدرا ثان ًيا‬
‫فأضفت ً‬
‫شمسا ثانية‬
‫ً‬ ‫وأضفت‬
‫خامسا‬
‫ً‬ ‫وأضفت ً‬
‫فصل‬
‫((*‬
‫ما أروعه‪..‬‬
‫اليوم يا حمزة خطبتنا‪ ،‬في انتظارك الكثير من الحكايات واألحاديث‬
‫وأرجو أال تمل‪..‬‬
‫ليتك تعلم كم أحتاج إليك‪ ..‬كم أحتاج أن نجلس م ًعا‪،‬‬
‫ليتك تدرك أن كوني جد صغير وأنك أنت فيه فضائي‪..‬‬
‫أتمنى أن يكون اليوم بداية جميلة لحياة رائعة نقضيها م ًعا حتى نهاية‬
‫العمر»‬

‫الشاعر عبد العزيز جويدة‬ ‫* ‬


‫‪85‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫دونت تاريخ اليوم والساعة‪ ،‬ثم قفلته ووضعته بمكانه السابق‪.‬‬


‫ُ‬
‫اشتريت ذلك الدفتر منذ زمن؛ ألدون به خواطري ومشاعري تجاه‬
‫فارس أحالمي وجاء وقته اليوم‪ ،‬سأكتب كل شيء به وسيكون هديتي له‬
‫يوم زفافنا‪ ،‬سأجعله توثي ًقا لفترة خطبتنا فبداخلي الكثير من المشاعر وال‬
‫أستطيع البوح بها اآلن إليه‪ ،‬ال أريد أن أبدأ بداية خاطئة‪ ..‬أريد أن أبدأ حياتي‬
‫معه بشكل صحيح ُيرضي الله؛ ليبارك لنا في حياتنا‪..‬‬
‫خرجت من غرفتي متجهة إلى المطبخ؛ ألعد مشروبي المفضل من‬ ‫ُ‬
‫الشاي باللبن‪ ،‬أريد اليوم أن أقوم بجميع األشياء التي أحبها‪..‬‬
‫أخذت الكوب ألعود ثانية إلى الغرفة ألجلس على حاسوبي؛ ربما‬ ‫ُ‬
‫كثيرا باألمس بتحضيرات‬
‫انشغلت ً‬
‫ُ‬ ‫منشورا جديدً ا‪،‬‬
‫ً‬ ‫بعث لي شي ًئا أو كتب‬
‫وجدت في‬
‫ُ‬ ‫الخطبة ولم أستطع أن أجلس على حاسوبي وأرى حسابه‪،‬‬
‫طريقي غرفة مكتب أبي مفتوحة على غير العادة في مثل هذا الوقت‪،‬‬
‫ذهبت إليها؛ ألستكشف األمر‪ ،‬نظرت بداخلها فوجدت‬ ‫ُ‬ ‫تعجبت من هذا‪،‬‬
‫ُ‬
‫أبي وأمي يجلسان م ًعا‪ ،‬دخلت إليهما وأنا أبتسم‪:‬‬
‫‪« -‬صباح الخير على أجمل اثنين في الدنيا»‬
‫أكملت‬
‫ُ‬ ‫وطبعت قبلة على خده ويده وكذلك أمي‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫اقتربت من أبي‬
‫ُ‬
‫وأنا أضحك‪:‬‬
‫مبكرا؟ أتشعران بالتوتر مثلي؟»‬
‫‪« -‬لماذا استيقظتما ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪86‬‬

‫ابتسم أبي ولكن ابتسامته كانت خافتة‪ ،‬وعيناه حزينتين‪ ،‬وظهر على‬
‫اعتدت عليه‬
‫ُ‬ ‫أمي االنفعال والضيق‪ ،‬لم أشعر باالستغراب من فعل أمي فقد‬
‫وجهت له سؤالي بقلق‪:‬‬
‫ُ‬ ‫باآلونة األخيرة‪ ،‬لكن ما أقلقني هو أبي‪..‬‬
‫‪« -‬ماذا هناك يا أبي؟ أحدث شي ٌء ما؟» أشاح أبي بوجهه تجاه النافذة‬
‫وقالت أمي منفعلة‪:‬‬
‫‪« -‬لم أوافق على هذا األمر من األساس ولم يسمع أحد منكما‬
‫نصحيتي وكانت هذه النتيجة‪ ،‬رضينا بالهم ولفظنا هو»‬
‫لم أفهم كالم أمي خاصة األخير منه ماذا تعني بكالمها هذا؟!!‪،‬‬
‫توجهت ألبي ثانية‪ ،‬وأنا أسأله بنظرات واجمة خائفة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ماذا هناك يا أبي؟»‬
‫قال أبي بحزن‪:‬‬
‫‪« -‬حمزة منذ األمس وهاتفه مغلق‪ ،‬وغير موجود بغرفته‪ ،‬ولم يره أحد‬
‫بالمسجد»‬
‫رجعت ً‬
‫قليل‪ ،‬وأنا أبتلع ريقي‪ ،‬وأقول بصوت متهدج‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬وما‪ ..‬وماذا يعني هذا؟»‬
‫أجابت أمي منفعلة‪:‬‬
‫يبال ِ‬
‫بك‬ ‫«لقد اختفى يا حنين‪..‬العريس اختفى في يوم الخطبة‪ ،‬ولم ِ‬
‫وال بنا»‬
‫‪87‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كنت أود أن يخبراني أنهما يمزحان‬


‫نزل كالمها على رأسي كالصاعقة‪ُ ..‬‬
‫معي في النهاية‪ ،‬ولكن أمي لن تمزح أبدً ا في أمر كهذا‪..‬‬
‫وذهبت إلى‬
‫ُ‬ ‫فتحت حاسوبي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وركضت سري ًعا إلى غرفتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تركتهما‬
‫ضغطت على زر البحث عشرات المرات‬
‫ُ‬ ‫حسابه الشخصي لكني لم أجده‪..‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وتظهر لي النتيجة نفسها كل مرة‪ ..‬أغلق حسابه ً‬
‫رجعت بظهري في المقعد ببطء‪ ،‬وأنا أحس بوغز موجع في قلبي‪،‬‬
‫ُ‬
‫شعرت بدموعي وهي تجري ساخنة متالحقة على وجهي‪..‬‬
‫ُ‬
‫يبدو أن األمر مثلما قالت أمي تما ًما‪..‬‬
‫حمزة اختفى‪...‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪88‬‬

‫(‪)8‬‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫شخصا يهتم بالتفاصيل الصغيرة هذا يعني أنك ستتألم ً‬
‫ً‬ ‫أن تكون‬
‫أصعب أيام ستمرعليك هي األيام التي تعقب التعود‪ ،‬أن تقوم بتغيير‬
‫تفاصيل العالم من حولك‪..‬‬
‫تتخذ طري ًقا آخر غير الذي اعتدت أن تسلكه الرتباطه بهم‬
‫تترك ذلك العطر ألنك وضعته ذات مرة وأنت تفكر فيهم‪..‬‬
‫تبتعد عن حاسوبك وعن هاتفك‪ ..‬تبتعد عن جنونك وحماستك‬
‫وتعود لعاداتك المملة الرتيبة بقلب يحاول أن يثبت وجوده على قيد‬
‫الحياة بالنبض ال أكثر‪..‬‬
‫زلت ال أستطيع استيعاب األمر‪ ،‬صدري‬
‫مر شهران على ما حدث وال ُ‬
‫مزدحم بكثير من المشاعر ما بين اشتياق‪ ،‬وفقد‪ ،‬ووجع‪ ،‬وحزن‪ ،‬وحيرة‪،‬‬
‫وأسئلة ال تغادر رأسي‪..‬‬
‫أين اختفيت يا حمزة؟! ماذا حدث؟!‬
‫ولماذا االختفاء في هذا التوقيت بالذات‪ ..‬في يوم خطبتنا!!‬
‫لماذا وضعتني في هذا الموقف أمام الجميع؟‬
‫أتذكر المرارة في صوت أبي وهو يهاتف الناس ويخبرهم بإلغاء‬
‫ُ‬
‫الخطبة لظروف ما حدثت للخاطب‪..‬‬
‫‪89‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫لم يستطع أن يقول الحقيقة كاملة‪ ..‬أن الخاطب اختفى فجأة ألسباب‬
‫غامضة‪ ،‬هو يعلم جيدً ا أنه لو قال هذا السبب لن نسلم من ألسنة الناس‪..‬‬
‫أنت ال تفهم ماذا يعني أن تترك فتاة يوم خطبتها‪..‬‬
‫نظل ندّ عي أننا ال نأبه لكالم الناس‪ ،‬وال يشغل بالنا تعليقات المجتمع‪..‬‬
‫لكننا في الحقيقة غير ذلك‪..‬‬
‫إننا نتأثر بكالمهم وتجرحنا ردود أفعالهم‪..‬‬
‫أن تتأخر فتاة في الزواج‪ ،‬أو تفسخ خطبتها‪ ،‬أن تصبح مطلقة‪ ،‬أو تتأخر‬
‫في اإلنجاب‪.‬‬
‫كل هذه أسباب تجعلها موضو ًعا يتداوله الناس‪ ،‬وال يملون الحديث فيه‪..‬‬
‫تس ْر الفتاة في المسار الذي وضعه لها لن تُرحم‪..‬‬‫نحن مجتمع إذا لم ِ‬
‫فعلت إال إنني‬
‫َ‬ ‫أكثر ما أتعجب منه أنه بالرغم من حنقي وغضبي تجاه ما‬
‫أشعر باشتياق وأمل كبير أن ترجع ثانية‪ ،‬أن تظهر لتوضح أسبابك فأقبلها‬
‫وإن كانت واهية‪..‬‬
‫أن أسامحك وأتغاضى عن كل ما مضى في مقابل أن تبقى معي‪..‬‬
‫كلما رن هاتف أبي أو دق جرس بيتنا‪ ..‬تتزايد دقات قلبي من فرط‬
‫التمني أن تكون أنت‪..‬‬
‫أرى الحزن في وجه أبي كلما الحظ أثر البكاء على وجهي‪ ،‬فيجلس‬
‫معي يحدثني‪ ،‬ويحاول أن يخفف عني‪ ،‬أما أمي فكانت تتعجب من حالي‬
‫وتقول مستنكرة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪90‬‬

‫‪« -‬ال أدري لماذا يخيم عليها كل هذا الحزن؟! يجب أن تفرح أن‬
‫أذهب الله عنا هذا الشخص فمنذ أن دخل إلى بيتنا لم يمر يوم دون عراك‪..‬‬
‫بال أهل وال مال‪ ،‬حياته مضطربة وصعبة‪ ..‬كانت ستتعب معه‪ ..‬حنين ال‬
‫يعيبها شيء على اإلطالق‪ ،‬وسيأتيها َم ْن هو أفضل منه ألف مرة»‬
‫أما آسر فكان يحاول أن يخفف عني بأسلوبه الخاص فأحيانًا يطلب‬
‫مني أن ألعب معه على حاسوبه‪ ،‬أو يأتيني ببعض الحلوى من مصروفه‪..‬‬
‫كل منهم كان يشعر بالحزن لما أصاب قلبي من وجع‪ ،‬ويحاول أن‬
‫ُينسيني ما حدث بطريقته‪..‬‬
‫ربما هذا ما دفعني للتصنع أمامهم؛ كي ال أزيد من حزنهم وأتعبهم‬
‫أيضا ما جعلني أميل للعزلة أكثر‬
‫بمحاوالتهم المستمرة لنسيان األمر‪ ،‬وهذا ً‬
‫فشعور التصنع ليس ً‬
‫سهل‪..‬‬
‫رغما عنك أمام الجميع‪ ،‬تظهر أن األمر لم يعد يعنيك‬
‫أن تُظهر القوة ً‬
‫وأنك قد نسيته بالفعل‪ ،‬تحاول أن تخفي الوجع المستمر بقلبك‪..‬‬
‫خال؛ لتبكي‬ ‫ٍ‬
‫مكان ٍ‬ ‫ذلك الوجع الذي يفتك بك أحيانًا فتبحث عن أي‬
‫بحرقة وحيدً ا من شدة األلم‪ ،‬إنه االنفجار الذي يحدث في الكون الذي‬
‫داخلك وال يصدر ضجة‪..‬‬
‫انفجار صامت ال يسمع اآلخرون مدى دويه‪..‬‬
‫‪91‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫دفنت رأسي‬
‫ُ‬ ‫زفرت بتعب وأنا أتقلب في السرير وأشد الغطاء فوقي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وبكيت بكا ًء مكتو ًما‪..‬‬
‫ُ‬ ‫في الوسادة‬
‫أود أن يتوقف عقلي عن التفكير ً‬
‫قليل‪ ..‬أشعر أن كثرة التفكير ستذهب به‪.‬‬
‫سمعت طر ًقا هادئًا على الباب‪ ،‬وتبعه صوت أمي قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬حنين‪ ..‬حنين‪ ..‬هل ِ‬
‫أنت مستيقظة؟»‬
‫وتنحنحت كي ُأذهب عن صوتي أثر البكاء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مسحت دموعي سري ًعا‪،‬‬
‫ُ‬
‫اعتدلت في نومتي‪ ،‬وقلت بصوت ناعس‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬تفضلي يا أمي»‬
‫دلفت أمي قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬حبيبتي صديقتك والء اتصلت على هاتف البيت وتقول إنها‬
‫هاتفتك عدة مرات ولم تردي»‬
‫‪« -‬نعم أنا أضع هاتفي على الوضع الصامت وال أسمع أية اتصاالت‪..‬‬
‫لماذا اتصلت؟»‬
‫ِ‬
‫ُعطيك جميع ما فاتك من محاضرات»‬ ‫‪« -‬تريد أن تقابلك اليوم لت‬
‫‪« -‬حسنًا سأرى‪ ،‬إن كنت أستطيع الذهاب إليها سأذهب»‬
‫اقتربت أمي أكثر‪ ،‬وجلست على طرف السرير بجانبي‪ ،‬مسحت على‬
‫كتفي بحنو‪ ،‬وهي تنظر إلي قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬إلى متى هذا الوضع يا بنيتي؟ بدأ العام الدراسي منذ شهر ونصف‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪92‬‬

‫أراك غير مهتمة بالكلية‬‫وأنت لم تذهبي إلى كليتك قط وهذا عامك األخير‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫والحضور‪ ،‬ولكن هل ستظلين هكذا؟! أنا أعلم جيدً ا ما تمرين به تما ًما وإِ ْن‬
‫أظهرت عكس ذلك‪ ،‬قد تظنين أن انفعالي الشديد حينها كان قسوة مني وعدم‬ ‫ِ‬
‫عليك ورغبة أن تعيشي حياة مستقرة هادئة»‬ ‫ِ‬ ‫استيعاب لمشاعرك لكنه كان خو ًفا‬
‫صمتت برهة وزادت وهي تنظر أمامها‪:‬‬
‫«الحياة ال تنتهي بذهاب أحدهم أو فقده‪ ،‬انسي ما حدث وامضي في‬
‫حياتك‪ ..‬اذهبي وابحثي عن مواضع الفرح فيها وتمسكي بها‪ ،‬هذه هي‬
‫مصادر قوتك أمام صفعات الحياة الموجعة»‬
‫أزاحت أمي خصالت شعري المنسدلة على وجهي‪ ،‬وأرجعته خلف‬
‫أذني‪ ،‬وأكملت‪:‬‬
‫ِ‬
‫«أرجوك يا حنين ارتدي ثيابك واذهبي إلى صديقتك لتأخذي‬ ‫‪-‬‬
‫خيرا أنها تذكرتك»‬
‫محاضراتك‪ ،‬جزاها الله ً‬
‫أومأت برأسي ببطء موافقة‪ ،‬طبعت أمي قبلة على جبيني وخرجت‪..‬‬
‫تمطيت عن سريري بكسل عارم‪ ،‬وعدم الرغبة في فعل أي شيء‪ ،‬ارتديت‬ ‫ُ‬
‫مالبسي واتصلت بصديقتي والء‪ ..‬اتفقنا أن نتقابل في حديقة المسجد‬
‫القريب من بيتها‪ ،‬كنت ال أريد أن تغضب أمي مني‪ ،‬أن ال أحزنها بمشاعري‬
‫التي ال أستطيع التحكم بها‪.‬‬
‫سيرا حتى وصلت للحديقة‪ ،‬كانت الشمس قد قاربت‬
‫اتخذت طريقي ً‬
‫‪93‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫على الرحيل ناثرة وراءها لون الشفق المحمر‪ ،‬وبعض السحب المعلقة‬
‫ٌ‬
‫وجميل‪ ،‬واألزهار تداعبها نسمة هواء خفيفة فتنقل‬ ‫هادئ‬
‫ٌ‬ ‫بالسماء‪ ،‬والجو‬
‫عبيرها عبر الحديقة‪.‬‬
‫جلست على إحدى المقاعد‪ ،‬وأنا أشتم رائحة األزهار التي تمأل‬
‫المكان مغمضة عيني‪ ،‬أخذت أفكر في كالم أمي عن مواضع السعادة في‬
‫حياتي‪ ،‬أشعر أني مشوشة تما ًما هذه الفترة‪ ،‬حولي الكثير من األشياء وال‬
‫أحس بوجودها‪ ،‬قاطع تفكيري صوت مألوف ألذني لم أسمعه منذ زمن‪:‬‬
‫‪« -‬حنين؟!»‬
‫نظرت إلى مصدر الصوت وابتسمت‪:‬‬
‫‪« -‬خديجة‪ ..‬كيف حالك؟»‬
‫اقتربت مني خديجة واحتضنتني بقوة قائلة‪:‬‬
‫كثيرا»‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬حنين‪ ..‬اشتقت إليك ً‬
‫تابعت وقد أفلتتني وأمسكت بيدي‪:‬‬
‫أرك منذ عام‪ ..‬أخبريني ِ‬
‫عنك»‬ ‫أنت؟ لم ِ‬
‫‪« -‬أين ِ‬
‫أجبت وأنا أتصنع االبتسام‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال جديد لدي‪ ..‬أنا كما تركتِني»‬
‫دققت النظر إلى عيني وسألت‪:‬‬
‫ِ‬
‫عينيك حزينتان»‬ ‫‪ِ -‬‬
‫«أبك شيء؟ أشعر أن‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪94‬‬

‫أشحت ببصري بعيدً ا‪:‬‬


‫‪« -‬ال‪ ..‬ال شيء‪ ..‬بعض األمور فقط‪ ..‬كما تعلمين أن الحياة ال تستقيم‬
‫كما نريد»‬
‫شعرت بضيق في صدري من هذه األسئلة‪ ،‬صرت أخشى مالقاة الناس‬
‫وأسئلتهم المعتادة‪..‬‬
‫ال أريد أن يسألني أحد عن حالي‪ ،‬وكيف صرت‪ ،‬وبماذا أشعر؟‬
‫حاولت أن أغير مسار الحديث عني إليها فسألتها‪:‬‬
‫ِ‬
‫«وأنت ماذا تفعلين هنا؟»‬ ‫‪-‬‬
‫‪« -‬اليوم لدينا نشاط خيري في جمعية المسجد»‬
‫أنك ال ِ‬
‫زلت تداومين على هذا األمر»‬ ‫‪« -‬شيء رائع ِ‬
‫‪« -‬نعم يا حنين إنه بالفعل شيء رائع أن يبقى عمل الخير شي ًئا أساس ًّيا‬
‫أنت‬ ‫أنك أرشدتِني لهذا الطريق‪ ..‬أتذكرين؟ ِ‬ ‫لك ِ‬‫في حياتك‪ ،‬دائما أدعو ِ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫السبب أن عرفت هذه النشاطات وأستمر عليها‪ ،‬كنت نشيطة للغاية تبذلين‬
‫اختفيت منذ عام ولم أعد ِ‬
‫أراك»‬ ‫ِ‬ ‫كل جهدك في سبل الخير‪ ،‬ثم‬
‫‪« -‬نعم انشغلت في كليتي ومحاضراتي و‪ ..‬و‪»..‬‬
‫شعرت بغصة تكورت داخل حلقي‪ ،‬وأوقفتني عن الكالم‪ ،‬اقتربت‬
‫مني خديجة خطوة‪ ،‬وهي تضع يدها على كتفي قائلة‪:‬‬
‫ِ‬
‫اختفيت‪،‬‬ ‫‪« -‬حنين‪ِ ..‬‬
‫كنت دو ًما تخطرين ببالي وأسأل يا ترى أين‬
‫ِ‬
‫عينيك‪ ،‬وال أريد أن أتطفل‬ ‫أنا ال أعرف سبب هذا الحزن الظاهر في‬
‫‪95‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫لمعرفته‪ ،‬ولكن لماذا ال تفكرين في األمر يا حبيبتي من منظور آخر‪ ،‬أنه ربما‬
‫ِ‬
‫ابتعدت وهذا الحزن إشارة من الله للرجوع إليه‪..‬‬ ‫يكون قد‬
‫ِ‬
‫يضعك على الطريق مرة أخرى‪..‬‬ ‫قليل ويريد الله أن‬ ‫ِ‬
‫ضللت الطريق ً‬ ‫أن تكوني‬
‫كم من أشياء موجعة تحدث في حياتنا لنحزن ونتألم‪ ،‬ولكن نرى بعدها‬
‫أنها كانت تحوي بين طياتها رحمة‪..‬‬
‫ثقي في أقدار الله في حياتك‪ ،‬وتذكري هذه المقولة جيدً ا‬
‫(حزن يقربك من الله خير من فرح يبعدك عنه)‬
‫ربتت على كتفي باسمة‪ ،‬وأكملت‪:‬‬
‫ِ‬
‫أحببت أن نتحدث م ًعا الح ًقا»‬ ‫‪« -‬ال أريد أن أتأخر‪ ،‬خذي رقم هاتفي لربما‬
‫ق َّبلتني ودعت لي بالخير ثم ودعتني‪ ،‬تابعتها بنظري وهي ذاهبة‪ ،‬وكالمها‬
‫يتردد صداه بداخلي‪ ،‬وأربطه بكالم أمي عن مواطن السعادة في حياتي‪.‬‬
‫خديجة على حق‪ ..‬أنا لم أعد أرى مواطن السعادة في حياتي؛ ألني‬
‫ابتعدت عنها‪ ،‬انشغلت عنها فذهبت عني‪..‬‬
‫قد أكون سعيت للطريق ولكن بشكل خاطئ جعلني أنحرف عنه دون‬
‫اتخذت األسباب التي تُعينني عليه‪ ،‬واعتنيت بها ونسيته‪ ،‬اهتممت‬
‫ُ‬ ‫أن أشعر‪،‬‬
‫كثيرا‬
‫بالوسيلة ونسيت الغاية‪ ،‬أظن أنني قد ضللت وابتعدت ً‬
‫وال بد لي من الرجوع‪ ..‬ال بد من عودة‪...‬‬
‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪96‬‬

‫(‪)9‬‬
‫أحست أصابعي ببرودة ذلك‬
‫ْ‬ ‫مددت يدي وأنا أتحسس الوسادة حتى‬‫ُ‬
‫أمسكت بهاتفي وقربته مني‪ ،‬وأنا أنظر إليه بنصف عين واألخرى‬
‫ُ‬ ‫السطح‪،‬‬
‫لمست أيقونة تظهر على شاشته‪ ،‬فتوقف ذلك الصوت المتصاعد منه‪..‬‬
‫ُ‬ ‫مغلقة‪،‬‬
‫بقيت برهة أحاول أن أسترجع بذهني لماذا قمت بضبط المنبه على‬
‫تذكرت موعدي اليوم مع خديجة‪..‬‬
‫ُ‬ ‫صباحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫العاشرة والنصف‬
‫انتابتني رغبة عارمة للغرق في النوم ثانية‪ ،‬ولكن يجب أن أستيقظ‬
‫اآلن حتى ال نتأخر؛ فلدينا مهمة توزيع حقائب الطعام على بعض المناطق‬
‫رمضان‪..‬وضعت يدي على فمي وأنا أتثاءب في‬
‫ُ‬ ‫الفقيرة قبل حلول شهر‬
‫مسحت على رقبتي وأنا جالسة على‬
‫ُ‬ ‫كسل وأزيح الغطاء عن جسدي‪..‬‬
‫طرف السرير‪ ،‬وأحاول أن أستفيق‪ ،‬نظرت إلى الحائط أمامي بالتحديد إلى‬
‫تلك الورقة المعلقة والمكتوب فيها‪:‬‬
‫«على خطايانا يجب أن نبكي ح ًّقا‪..‬‬
‫وليس على أي هجر‪ ،‬أو أي فراق‪ ،‬أو أي مرض‪ ،‬أو أي موت‪..‬‬
‫((*‬
‫وذلك حال الذين قدروا الله حق قدره‬

‫دكتور مصطفى حممود‬ ‫* ‬


‫‪97‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كنت أعلق هذه المقولة بغرفتي فوق مكتبي؛ لتذكرني دو ًما كلما‬ ‫ُ‬
‫بكيت على أي سبب متعلق بالحياة‪ ،‬أن ما يستحق البكاء ح ًّقا هو البعد‬
‫عن الله‪..‬‬
‫أن ما يستحق البكاء هي تلك الخطايا الصغيرة التي نرتكبها ببساطة وال‬
‫جبل عمال ًقا يحجب رؤيتنا عن الطريق‬ ‫نشعر بحجمها حتى تتجمع وتكون ً‬
‫الصحيح‪ ،‬الخطايا الصغيرة التي نرتكبها ونعلق ضعفنا أمامها على شماعة‬
‫المشاعر‪..‬‬
‫مضى عامي األخير بالكلية منذ شهر‪ ،‬لم أكن أتوقع أنني سأحن إليها‬
‫بهذا القدر بعدما أنهيت دراستي‪..‬‬
‫صدق َم ْن قال إن لكل حي من اسمه نصيب‪ ،‬فالحنين ال يتركني أبدً ا‪..‬‬
‫حنين لكليتي‪ ،‬حنين لمحاضراتي‪ ،‬حنين ألصدقائي‪ ،‬حنين لمدرستي‪،‬‬
‫كثيرا وال أعرف‬
‫حنين لطفولتي‪ ،‬حنين ألنا القديمة‪ ..‬تلك التي أحن إليها ً‬
‫طريق الرجوع إليها‪..‬‬
‫علي فراق الكلية هو قربي من خديجة‪ ،‬تلك الفتاة الرائعة‬
‫ما كان يهون ّ‬
‫التي أرسلها الله لي في التوقيت المناسب‪ ،‬دو ًما تشجعني على التقرب من‬
‫الله والسعي في سبل الخير‪..‬‬
‫أتعلم الكثير وأنا برفقتها‪ ،‬كانت ترى أن الفراغ سالح ذو حدين إن لم‬
‫دائما‬
‫تشغله باألمور الجيدة سيشغلك بعكسها بالضرورة؛ لذا تحمسني ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪98‬‬

‫للذهاب إلى الكثير من األعمال الخيرية‪ ،‬أشعر بالسعادة وأنا بجوارها‬


‫وأطمئن لحديثها ونصحها‪..‬‬
‫أتذكر يوم أن جلسنا ومجموعة من الفتيات؛ لنلعب لعبة النصح وهي‬
‫أن نقوم باختيار واحدة منا ونكتب لها أسئلتنا دون معرفة هويتنا ونطلب منها‬
‫النصح ووقع االختيار عليها‪..‬‬
‫كتبت إليها سائلة‪:‬‬
‫‪« -‬بماذا تنصحين من أراد النسيان؟»‬
‫فكان ردها‪:‬‬
‫‪« -‬عندما تفشل في نسيان ما تود نسيانه وتعجز عن إصالح جرحك‪..‬‬
‫فال ترهق نفسك بتكرار المحاوالت‪،‬‬
‫دع جرحك يسير إلى جوارك‪ ،‬جن ًبا إلى جنب ولكن دون أن تعره‬
‫اهتما ًما‪..‬‬
‫ال تنصب عينيك عليه‪ ،‬ال تستمع إلى أحاديثه‬
‫ِس ْر في طريقك وال تلتفت‪ ،‬مع الوقت ستنسى وجوده تلقائ ًّيا‪ ..‬ستنساه‪..‬‬
‫وتكرارا دون تركيز منك‪..‬‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫سيحدث لك ما أردته ً‬
‫والزم الدعاء‬
‫سينصلح كل شيء بعدها»‬
‫نسيت أنني أريد أن أنسى‪ ،‬انشغلت‬
‫ُ‬ ‫طبقت نصيحتها دون وعي مني‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪99‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫بكثير من األمور؛ لتعود حياتي إلى مسارها الطبيعي ورأيت السعادة على‬
‫وجه أسرتي لِما أصبحت عليه‪.‬‬
‫أحيانًا كنت أشعر بنغز في قلبي عندما يأتيني طيف حمزة‪ ،‬أو من مجرد‬
‫ذكر اسمه أمامي‪.‬‬
‫فالمرأة قد تنسى الموقف الذي بكَت فيه ولكن ال تنسى أبدً ا َم ْن أبكاها‪..‬‬
‫ولكن كنت أحاول أن أتجنب هذا الشعور سري ًعا وال أستسلم له‪،‬‬
‫شعرت خالل الفترة السابقة أنني كبرت ألعوام‪ ،‬نضج تفكيري وآرائي‬
‫وكذلك ردود أفعالي‪ ،‬فهذه هي إحدى مزايا الجرح الخفية‪ ..‬أنه يصنع‬
‫بنفسك ما قد تعجز أنت عن صنعه‪..‬‬
‫يزيد من عمرك العقلي ومن حكمتك في اتخاذ قرارات حياتك‪..‬‬
‫أخبرني بمدى جرحك أخبرك بعمرك الحقيقى‪..‬‬
‫أخبرني بعمق جرحك أخبرك بمقدار حكمتك‪..‬‬
‫قمت من سريري‪ ،‬وذهبت إلى الحمام تشطفت وتوضأت‪ ..‬تصدقت عن‬
‫جميع مفاصل جسدي بصالتي بركعتي الضحى‪ ،‬وارتديت مالبسي سري ًعا‪..‬‬
‫اتجهت للباب بعدها‪ ،‬وناديت أمي وأنا أنحني؛ ألنتعل حذائي‪:‬‬
‫‪« -‬أمي‪ ..‬سأذهب اآلن هل تريدين شي ًئا؟»‬
‫سمعت صوت أبي من داخل مكتبه‪:‬‬
‫أمك هنا تعالي نريد أن نتحدث ِ‬
‫معك»‬ ‫‪« -‬حنين‪ِ ،‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪100‬‬

‫رجعت إلى المكتب وأنا أتساءل باستغراب‪:‬‬


‫باكرا‬
‫‪« -‬أبي أنت هنا؟! أظن أنني سمعتك تقول إنك ستذهب اليوم ً‬
‫لزيارة عم أحمد صديقك بالمشفى»‬
‫وأمك أن نتحدث ِ‬
‫معك‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬نعم كنت ذاهب إليه بالفعل‪ ،‬ولكن أردنا أنا‬
‫ً‬
‫أول في أمر ما»‬
‫‪« -‬تفضال»‬
‫نظر أبي إلى أمي ثم بدأ حديثه‪:‬‬
‫شخصا ُيدعى هاشم؟ أظن أنه معك بفرقتك نفسها»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬هل تعرفين‬
‫‪« -‬هاشم جالل‪ ،‬نعم أعرفه إنه األول على فرقتنا على مدار سنوات‬
‫الدراسة الخمس‪ ،‬وأظن أنه سيصبح معيدً ا»‬
‫سألتني أمي بشغف‪:‬‬
‫أيضا؟»‬
‫‪« -‬وماذا تعرفين عنه ً‬
‫‪« -‬ال أعلم عنه الكثير سوى أنه شاب ذو خلق حسن ومتدين»‬
‫تهلل وجه أمي وأخذت تتمتم بحمد الله وهي تنظر إلى أبي‪..‬‬
‫نظر أبي تجاهي وقال‪:‬‬
‫‪« -‬هاشم متقدم لخطبتك»‬
‫حاولت أن أستوعب ماذا قال أبي‬
‫ُ‬ ‫تسمرت في مكاني مما سمعت‪،‬‬‫ُ‬
‫تعجبت أن يتقدم هاشم لخطبتي تاركًا جميع فتيات الدفعة!!‬
‫ُ‬ ‫للتو‪،‬‬
‫‪101‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫تابع أبي‪:‬‬
‫‪« -‬جاء باألمس إلى المسجد بعد صالة العشاء وأخبرني أنه يود‬
‫خطبتك‪ ،‬فكر في األمر منذ عامين ولكنه انتظر حتى تنتهوا من الكلية»‬
‫قاطعت أبي مستنكرة‪:‬‬
‫‪« -‬أبي رجا ًء اعتذر له‪ ..‬أنا غير مهيأة ألي ارتباط اآلن»‬
‫نظرت إلي أمي مندهشة‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تقولين يا حنين؟!! ما معنى ِ‬
‫أنك غير مهيأة؟!»‬
‫‪« -‬ال أعرف كيف أشرح األمر ولكني ال أريد أن أرتبط اآلن»‬
‫قامت أمي من مكانها وهي تقول بشيء من التهكم الغاضب‪:‬‬
‫‪« -‬ومن المفترض أن الفرص ستنتظرك حتى تتهيئي أليس كذلك؟!»‬
‫تابعت وهي غاضبة‪:‬‬
‫‪« -‬الفرص لن تنتظر حتى تكوني مهيأة يا حنين‪ ،‬الفرص التي تذهب لن تعود»‬
‫أجبت بانفعال‪:‬‬
‫‪« -‬وإن ضاعت يا أمي الفرصة‪ ..‬وإن ضاعت كل الفرص‪ ،‬لن آخذ إال‬
‫ما كتبه الله لي‪ ،‬وأنا لست من تلك الفتيات الالتي ال يشغل بالهن إال أمور‬
‫الزواج‪ ،‬أنا أفكر في األمور بشكل آخر»‬
‫احتدت أمي أكثر في كالمها قائلة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪102‬‬

‫‪« -‬أنا أعلم كيف تفكرين‪ِ ،‬‬


‫أنت ال زلت تنتظرينه‪ ..‬ذلك الحبيب الغائب‬
‫الذي خذلك وخذلنا جمي ًعا أليس كذلك؟ لن يعود يا حنين‪ ..‬لن يعود»‬
‫صرخ أبي في أمي وهو ينهرها‪:‬‬
‫‪« -‬مديحة!!»‬
‫شعرت أن كالمها نبش كل‬
‫ُ‬ ‫لم أستطع أن أتحمل كالم أمي األخير‪،‬‬
‫رغما عني‪.‬‬
‫جرت دموعي على وجنتي ً‬‫ْ‬ ‫الجراح بداخلي من جديد‪،‬‬
‫الصمت وقد ظهرت عالمات الضيق على وجه أبي عندما رأى‬ ‫ُ‬ ‫ساد‬
‫دموعي‪ ،‬قامت أمي واحتضنتني‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪« -‬آسفة يا حنين‪ ..‬أعتذر ِ‬
‫إليك عن هذا الكالم الذي قلته‪ ،‬ال أريدك أن‬
‫ِ‬
‫أرجوك»‬ ‫تحزني‬
‫رفعت أمي وجهي إليها وهي تمسح دموعي وتنظر إلى عيني‪ ،‬قائلة‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫عليك مع َم ْن نثق به‬ ‫لك‪ ،‬ونريد أن نطمئن‬‫‪« -‬حبيبتى‪ ،‬نحن لسنا دائمين ِ‬
‫وم ْن طريقة‬ ‫إليك‪ِ ،‬من كالمك عن هذا الشاب ِ‬‫فيك ويحسن ِ‬ ‫أنه سيتقي الله ِ‬
‫ْ‬
‫شعرت أنه إنسان محترم وخلوق»‬‫ُ‬ ‫تقدمه لخطبتك‬
‫تابع أبي كالمها‪ً ،‬‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬كما أخبرتك ساب ًقا يا حنين لن نجبرك على شيء ال تريدينه في‬
‫حياتك‪ ،‬نعلم ما مر به قلبك ولكن نخشى عندما يذهب كل هذا ويصبح‬
‫ذكرى منسية يصيبك الندم على تضييع إنسان كان من الممكن أن يعوضك‬
‫‪103‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫عن كل ما مضى يا بنيتي‪ ،‬كل ما نريده أن تعطي نفسك فرصة قبل الرفض»‬
‫حكيما جدًّ ا ومقن ًعا‪ ،‬ولكن عندما وجه لي أبي‬
‫ً‬ ‫كان كالم أبي وأمي‬
‫كالمه بالسابق لم يكن قلبي كحاله اآلن‪ ،‬أنا أعلم أنهما يريدان أن يطمئنا‬
‫على حياتي ويفرحان برؤيتي بثوب الزفاف األبيض‪ ،‬ولكن ما فائدة هذا إن‬
‫يتعاف بعد‪ ،‬وال يقوى على الخوض في حياة جديدة ال يعرف‬ ‫َ‬ ‫كان قلبي لم‬
‫سيسعد فيها أم سيشقى‪ ،‬أشعر أنه ال زال متع ًبا‪ ،‬وال أستطيع أن أجازف بأمر‬
‫حقل لتجاربي التي‬‫كهذا على سبيل التجربة‪ ،‬وأجعل من إنسان ال ذنب له ً‬
‫تحتمل النجاح أو الفشل‪ ،‬ال أريد أن أفعل بقلب أحد مثلما ُفعل بقلبي‪ ،‬ال‬
‫أستطيع أن أظلم أحدهم بظلم أحدهم لي‪..‬‬
‫آسفة يا أبي‪ ..‬آسفة يا أمي‪ ..‬لكني ال أستطيع …‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪104‬‬

‫(‪)10‬‬
‫«على السادة الركاب االلتزام بأماكنهم وربط األحزمة‪ ،‬نحن اآلن‬
‫نستعد للهبوط»‬
‫تناهى إلى مسامعي هذا النداء عبر مذياع الطائرة بصوت هادئ‪ ،‬أدرت‬
‫وجهي إلى النافذة أنظر من خاللها إلى تلك المباني الصغيرة الحجم‬
‫بعضا كأنها لعب وقد بدأت تكبر شي ًئا فشي ًئا‪.‬‬
‫المتراصة بجانب بعضها ً‬
‫تصارعت المشاعر بداخلي ما بين شوق‪ ،‬ولهفة‪ ،‬وحماس‪ ،‬واضطراب‪،‬‬ ‫ْ‬
‫تغيرت؟ وأي األشياء‬
‫ْ‬ ‫سرحت في خيالي‪ ،‬وأنا أفكر تُرى أي األشياء‬
‫ُ‬ ‫وخوف‪.‬‬
‫غادرت سماء تلك البالد‪ ،‬ومن‬
‫ُ‬ ‫بقيت على حالها؟ مرت ستة أعوام منذ أن‬
‫ْ‬
‫حدثت خالل هذا الوقت‪..‬‬
‫ْ‬ ‫كثيرا من األمور‬
‫المؤكد أن هناك ً‬
‫شعرت بأنامل هاشم الدافئة وهي تلمس يدي بلطف ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬بماذا تشعرين؟»‬
‫أطلقت زفرة قوية‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قلت بعد أن‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أشعر بالحماس والتوتر في الوقت نفسه»‬
‫ربت على يدي وابتسم‪:‬‬
‫َ‬
‫‪« -‬سيكون كل شيء رائ ًعا ال تقلقي»‬
‫‪105‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫واتجهت إلى النافذة مرة أخرى وأنا أتنهد وأرجع بالزمن‬


‫ُ‬ ‫ابتسمت له‬
‫ُ‬
‫عند ذلك اليوم‪ ،‬منذ سبعة أعوام وبضعة أشهر عندما وافقت على الجلوس‬
‫مع هاشم‪ ،‬لم أكن أعلم حينها أن األمور ستجري على هذا النحو‪.‬‬
‫الملحة ال أكثر‪ ،‬مشيت‬ ‫كان األمر في البداية مجرد استجابة لرغبة أمي ُ‬
‫في الرواق من غرفتي إلى غرفة االستقبال وأنا عاقدة العزم متخذة قراري بعدم‬
‫جلست متأففة في البداية أتكلف في انفعاالتي وأعد‬
‫ُ‬ ‫الموافقة مهما حدث‪،‬‬
‫الدقائق؛ كي يمر الوقت سري ًعا حتى بدأ هاشم في التحدث عن نفسه أكثر‬
‫كثيرا عن الجامعة وفرقتنا‬
‫واتضح لي نقاط به لم أكن أالحظها من قبل‪ ،‬تكلمنا ً‬
‫واألساتذة‪ ،‬ذكر لي وجهة نظره في إصالح كثير من األشياء في الجامعة التي كان‬
‫يقوم بعرضها على اإلدارة ولكن ما من إجابة‪ ..‬تحدث عن حلمه بإكمال دراسته‬
‫وكيف أنه رأى أن أفضل شيء يشرع فيه اآلن هو االرتباط بمن يساعده على هذا‬
‫انسجمت معه في الحديث دون أن أشعر‪..‬مرت ساعة ونصف ثم انتهت‬ ‫ُ‬ ‫الحلم‪،‬‬
‫الجلسة بإحساس لم أكن أتوقعه على اإلطالق‪ ..‬إحساس باالرتياح لهاشم‪.‬‬
‫على الرغم من أنه كان بدفعتي طوال الخمس سنوات الدراسية فإنني‬
‫شعرت وكأنني أراه يومها ألول مرة بشكل مختلف تما ًما‪.‬‬
‫ُ‬
‫أعترف أن هاشم لم يجذبني عاطف ًّيا في البداية بقدر ما جذبني عقله‪،‬‬
‫فكالمه يدل على عقل راجح‪ ،‬وشاب يتمتع بفيض من الحكمة‪ ،‬ثقافته‬
‫الكبيرة‪ ،‬واطالعه على كثير من األمور تجعل َم ْن يجلس أمامه ال يمل‬
‫الحديث معه‪.‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪106‬‬

‫طلبت بعدها جلسة ثانية وثالثة؛ ألتأكد من هذا اإلحساس فأجده يزداد‬
‫ُ‬
‫بداخلي في كل مرة وأخبر أبي وأمي بموافقتي‪..‬‬
‫كثيرا بقراري‪ ،‬وتم االرتباط بمباركتهما‪ ،‬كانت أمي ترى أن‬‫سعدا ً‬
‫وخ ُل ًقا‪ ،‬وأنه تعويض الله عما حدث‬
‫هاشم العريس المناسب لي مكانة ُ‬
‫ساب ًقا‪ ،‬وأبي يعجبه بساطته وسماحته في التعامل وتواضعه‪ ،‬أما آسر فلم‬
‫كثيرا؛ ربما ألن هاشم هادئ الطبع وال يتفاعل مع مشاكساته‬
‫ينسجم معه ً‬
‫المستمرة ويقابلها باالبتسام فقط‪..‬‬
‫لزمتني صالة االستخارة في كل خطوة كنت أخطوها معه فأجد بعدها‬
‫المشاكل قد ُحلت والعوائق زالت‪ ،‬وتم كل شيء بسهولة ويسر‪.‬‬
‫خطبتنا كانت بسيطة وجميلة بحضور خالي وزوجته وبعض أقاربنا‬
‫وجيراننا الذين أجمعوا على ارتياحهم لهاشم‪..‬‬
‫تخللت فترة الخطبة زياراته المتنوعة بين جلسة لمناقشة أمور عدة‪ ،‬أو‬
‫أحسست أنه يريد أن يطلعني على كل شيء‬
‫ُ‬ ‫االطالع على شيء جديد م ًعا‪،‬‬
‫يعرفه‪ ،‬أن أشاركه حياته بتفاصيلها‪ ،‬وأتعرف عليه أكثر وأقترب منه أكثر‪..‬‬
‫طلب هاشم من أبي أن نعقد قراننا بعد مرور ستة أشهر من خطبتنا‪ ،‬ولم يكن‬
‫لدي سبب مقنع للخوف الذي يصيب قلبي بين الحين واآلخر فأرفض بنا ًء عليه‬
‫وح َسن الطباع ويحبني‪ ..‬إ ًذا لماذا‬
‫عرضه‪ ،‬فهاشم فرصة جيدة كما يراه الجميع َ‬
‫رغما عني‪ ،‬طمأنت نفسي أنه‬ ‫الخوف؟! إال أن هذا الشعور كان ينتاب قلبي دو ًما ً‬
‫ربما يذهب ذلك الخوف عندما نقترب من بعضنا أكثر وتتواصل همسات أرواحنا‪..‬‬
‫‪107‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ُعقد قراننا بالمسجد بحضور جميع األحبة‪ ،‬والسعادة تعلو وجوههم‪،‬‬


‫وتغمرنا دعواتهم المباركة‪.‬‬
‫كشف لي هاشم بعدها عن مشاعره‪ ،‬وكيف أن حبي ُزرع بقلبه وترعرع‬
‫معبرا عن ذلك في بعض الخواطر التي كان يكتبها منذ أن كنا‬ ‫عبر األيام ً‬
‫كثيرا من التفاصيل المتعلقة بي‬
‫بالكلية‪ ..‬راقتني تلك الخواطر الذاكر فيها ً‬
‫مثل مروري بجانبه في أحد األيام وكيف كانت سعادته وقتها‪ ،‬أو ذلك اليوم‬
‫الذي سمع فيه صوتي ألول مرة طالبة منه بعض األوراق‪.‬‬
‫أعجبني قلب هاشم الغض العفيف المغلف ببراءة األحاسيس‪،‬‬
‫وجذبني اهتمامه‪..‬‬
‫متيما بك‪ ،‬عاش ًقا لتفاصيلك الصغيرة‪ ،‬يهتم ألمورك‬
‫شخصا ً‬
‫ً‬ ‫أن تجد‬
‫البسيطة التي ال تتخيل أن تشغل بال أحدهم يو ًما ما‪..‬‬
‫رغما عنك وإن كنت ال تبادله المشاعر نفسها‪.‬‬
‫س ُيجبرك هذا أن تحب اهتمامه ً‬
‫كل منا طباع اآلخر مما جعل‬ ‫تقاربنا أكثر خالل فترة العقد‪ ،‬وفهم ٌّ‬
‫سهل‪ ،‬والعالقة هادئة خالية من المشاكل حتى جاء ذلك‬ ‫ً‬ ‫التفاهم بيننا‬
‫اليوم الذي اتصل بي هاشم وهو في غاية سعادته ليخبرني باستجابة إحدى‬
‫الجامعات األسترالية لطلبه وحصوله على منحة دراسية‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬ولكنها كانت بالنسبة لي مشكلة كبيرة فأنا ال‬
‫فرح هاشم بها ً‬
‫أريد أن أترك أسرتي‪ ،‬أرغب في البقاء بقربهم‪ ..‬حاولت أن أنقل له شي ًئا من‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪108‬‬

‫رفضي لهذا األمر ولكن أسبابه المقنعة ألجمتني‪ ،‬فهذه فرصة لن تُعوض‪،‬‬
‫وستساعده على تحقيق الكثير من أحالمه‪ ،‬واإلنترنت اآلن َّقرب المسافات‬
‫كثيرا فأستطيع أن أحدث أهلي كل يوم إذا أردت‪..‬‬
‫ً‬
‫كان هاشم دو ًما يطمئنني ً‬
‫قائل «ال تقلقي فأنا معك» وهو ال يعرف أن‬
‫هذا أكثر شيء يقلقني‪ ،‬خفت أن أخوض تجربة الزواج في البداية وحدي‪..‬‬
‫كثيرا ما انتابني التعجب من شعوري هذا‪ ،‬وسألت نفسي مستغربة‪..‬‬‫ً‬
‫إِ ْن كان ال زال الخوف يطاردك يا حنين كيف تُقدمين على الزواج؟ لماذا‬
‫تخاطرين بحياتك القادمة بأكملها؟!!‬
‫كيف تفعلين هذا؟!! حياتك شيء خارج إطار المخاطرة‪..‬‬
‫لم أجد إجابة عن أسئلتي تلك سوى شعوري باالطمئنان وأنا بقرب‬
‫هاشم واختفاء هذا الخوف تما ًما‪.‬‬
‫أحيانًا كنت أشعر أن هذا الخوف ما هو إال نزغ من الشيطان؛ ليعكر صفو‬
‫حياتي فأستعيذ بالله منه‪ ،‬وأنام وأنا متوضئة فأقوم مرتاحة القلب لِما أنا فيه‪.‬‬
‫سافر هاشم بضعة أشهر أنهى خاللها جميع اإلجراءات ورجع؛ لنتزوج‪..‬‬
‫ً‬
‫جميل وهادئًا مصحو ًبا‬ ‫عصرا‪ ،‬كان زفا ًفا‬
‫ً‬ ‫أقمنا زفافنا بإحدى الحدائق‬
‫باألناشيد الرومانسية ذات الكلمات الراقية بعيدً ا عن الصخب والرقص‬
‫والمحرمات التي تصاحب حفالت الزفاف‪..‬‬
‫‪109‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫مطرزا أني ًقا وكالهما كانا بلون الثلج‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫طويل‪ ،‬وفستانًا‬ ‫ارتديت حجا ًبا‬
‫ُ‬
‫المع يزيد من زينة حجابي‪ ،‬وأحمل بيدي باق ًة‬‫رقيق ٌ‬
‫تاج ٌ‬
‫النقي‪ ،‬وفوق رأسي ٌ‬
‫من الورود الجميلة المرتبة‪ ،‬وبيدي األخرى أتأبط ذراع هاشم‪.‬‬
‫لم أضع أية مساحيق تجميلية ولم أخضع إللحاح بعضهم يومها‬
‫معللين ذلك بأنها ليلة العمر؛ فأنا ال أريد أن أغضب الله في فعل أي شيء‬
‫محرم في بداية حياتي‪ ،‬فليلة العمر يجب أن نحمد الله فيها ونشكره على‬
‫نعمته وفضله بالطاعة وليست بالمعصية‪.‬‬
‫سافرنا بعد زواجنا بأسبوعين‪ ..‬راحلة من البالد تاركة ورائي حياتي‬
‫السابقة بكل ما فيها إال من بعض الذكريات التي تتشبث بأظافرها وتعلق على‬
‫حافة الهاوية بداخلي تخشى السقوط في أغوار نفسي السحيقة المنسية‪..‬‬
‫استرحنا بمنتصف الطريق بإحدى البالد لنواصل بعدها رحلتنا‪ ،‬ونصل‬
‫أخيرا إلى تلك األراضي البعيدة‪.‬‬
‫ً‬
‫عشت في غربتي حياة جديدة‪ ،‬ومررت بمواقف كثيرة‪ ،‬واألهم من‬ ‫ُ‬
‫ذلك أنني اكتشفت هاشم آخر‪ ،‬كان حبي لهاشم طوال فترة الخطبة والعقد‬
‫ح ًّبا هادئًا رزينًا ليس هذا الحب المشتعل المؤجج بالمشاعر واألحاسيس‪،‬‬
‫عرفت معه‬
‫ُ‬ ‫أحببته ح ًّبا غلب عليه العقل أكثر من العاطفة‪ ،‬لكن بعد زواجنا‬
‫ح ًّبا من نوع آخر‪..‬‬
‫ذلك الحب الذي يزداد تدريج ًّيا يو ًما بعد يوم‪ ،‬وموق ًفا تلو موقف‪،‬‬
‫وفرحا تلو فرح‪ ،‬وحزنًا تلو حزن‪..‬‬
‫ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪110‬‬

‫الحب الذي يزداد بوقوفنا م ًعا في مواجهة صعاب الحياة ومخاطر‬


‫الغربة القاسية‪ ،‬وينمو بمراعاته لي‪ ،‬واحترامه لعقلي‪ ،‬وإحسانه لقلبي‪.‬‬
‫إنه حب ِ‬
‫العشرة‪.‬‬
‫الحب الذي أخبرنا عنه نبينا الكريم عندما غارت أ ُّمنا عائشة من كثرة‬
‫ذكره أل ِّمنا خديجة فعلل ذلك بقوله ‪-‬صلوات الله وسالمه عليه‪:-‬‬
‫«قد آمنت بي إذ كفر بي الناس‪،‬‬
‫وصدقتني إذ كذبني الناس‪،‬‬
‫وواستني بمالها إذ حرمني الناس»‬
‫فلم ُيرجع رسولنا الكريم حبه للعاطفة أكثر مما أرجعه لمواقف العشرة‬
‫بينهما‪.‬‬
‫قد يكون الحب العاطفي أقوى في مشاعره وأحاسيسه‪ ،‬ولكن حب‬
‫ِ‬
‫العشرة هو األكثر ثباتًا‬
‫حاول هاشم أن يطبق مقولة الرافعي‬
‫«أيها الحزن القابع في حنايا قلبها‪ ،‬غادر بصمت وأنا سأتكفل بزرع‬
‫دروبك العارية ور ًدا» ونجح في تحقيق ذلك بجدارة‪..‬‬
‫نسيت معه أحزاني السابقة كلها‪ ،‬وأنبتت أزهار قلبي من جديد‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪111‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ربما ما زاد القرب بيني وبين هاشم هو تأخر إنجابي أول عامين من‬
‫زواجنا وكأن الله أراد أال أنشغل بشيء سوى اكتشاف هاشم؛ فيمأل حبه‬
‫قلبي‪ ،‬وأثق في تدابير الله لي في حياتي‪ ،‬وأنها الخير‪.‬‬
‫رزقني الله بعد هاتين السنتين بـ «براء» وبعده بسنتين «مارية» ليكونا‬
‫أجمل شيء نتج عن زواجنا‪..‬‬
‫‪« -‬أمي‪ ..‬أمي‪ ..‬أمـــي»‬
‫انتبهت من إبحاري في عالم الذكريات على نداء «براء» األخير‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬نعم حبيبي»‬
‫‪« -‬أنا جائع»‬
‫أخرجت إحدى الشطائر من الحقيبة القابعة بجانب قدمي وناولته‬
‫ُ‬
‫إياها‪ ..‬أناح بوجهه جان ًبا‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬أريد البطاطس المقرمشة»‬
‫‪« -‬ال يا براء قلت لك قبل ذلك إن البطاطس المقرمشة مضرة وال‬
‫كيسا عندما استرحنا بنصف الطريق‬ ‫كثيرا‪ ،‬وأنت تناولت ً‬
‫يجب أن تتناولها ً‬
‫وأخذت حصتك اليوم»‬
‫بدأ في التذمر وهو يفرك قدميه في غضب‪ ،‬أوقفه هاشم ً‬
‫قائل بطريقة تشويقية‪:‬‬
‫ابق على جوعك فنحن اقتربنا من الوصول‪ ..‬ومن المؤكد أن‬ ‫‪« -‬يا براء َ‬
‫جدتك وجدتك الثانية يعدون لنا الكثير من أصناف الطعام الشهي»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪112‬‬

‫ظهر الحماس في عين براء وهو يمرر طرف لسانه على شفته العليا من‬
‫اليسار إلى اليمين محد ًثا ذلك الصوت الملئ بالتخيالت ألصناف الطعام‬
‫المختلفة‪ ،‬ضحكنا أنا وهاشم من فعله الطفولي‪ ،‬قلت وأنا أنظر إلى مارية‬
‫ٍ‬
‫عميق‪:‬‬ ‫التي تغط في نو ٍم‬
‫‪« -‬تُرى كيف سيكون شعور عائلتينا اآلن؟ أظنهم متشوقين جدًّ ا لرؤية‬
‫براء ومارية؛ فهم لم يريهما سوى عبر شاشة الحاسوب منذ والدتهما»‬
‫كثيرا على الطبيعة»‬
‫‪« -‬نعم أظن أنهم متشوقون لرؤيتهما ً‬
‫أمال هاشم رأسه تجاهي وهمس‪:‬‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬بقيت صامتًا حتى ال أقطع شرودك‪ ،‬ولكن‬ ‫ِ‬
‫شردت‬ ‫ِ‬
‫«وجدتك‬ ‫‪-‬‬
‫براء أبى ذلك»‬
‫قلت ضاحكة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ومنذ متى يتركاني أكمل شي ًئا آلخره»‬
‫ضحك هاشم‪ ،‬ثم تابع‪:‬‬
‫‪« -‬أهناك أمر ما ُيقلقك؟»‬
‫‪« -‬ال ال‪ ..‬مجرد ذكريات وشوق ألبي وأمي وخالي وآسر‪ ،‬أتوق لرؤيتهم‬
‫جمي ًعا خاصة آسر تركته منذ أن كان بالصف الثاني الثانوي كلما رأيت صوره‬
‫اآلن ال أصدق أنه كبر وصار شا ًّبا‪ ،‬وأصبح من خريجي كلية التجارة هذا العام»‬
‫أدرت وجهي إلى براء‪ ،‬وتابعت باسمة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪113‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كثيرا على الرغم‬


‫‪« -‬أشتاق لمشاكساته وشغبه‪ ..‬شغب براء يذكرني به ً‬
‫من أن أمي أخبرتني أنه هدأ ولم يعد كالسابق فإنني ال أتخيله إال مشاغ ًبا»‬
‫وزدت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫شردت ً‬
‫قليل‬ ‫ُ‬
‫دائما تخبرني‬
‫‪« -‬ما يثير دهشتي أنه لم يحدثني منذ وقت طويل‪ً ،‬‬
‫كثيرا‬
‫أمي في أثناء حديثي معهما هي وأبي أنه نائم أو بالخارج‪ ،‬أوصيتها ً‬
‫أن يحدثني عندما يستيقظ أو عند رجوعه لكنه لم يتصل بي قط‪ ،‬حتى‬
‫دائما ردوده‬
‫عندما كنت أحدثه على برنامج الـ ‪ whatsapp‬كانت ً‬
‫مقتضبة»‬
‫‪« -‬لم تسأليه ما السبب؟»‬
‫وتكرارا ولكن كان عذره دو ًما االنشغال»‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫‪« -‬سألته ً‬
‫منشغل ح ًّقا»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ربما كان‬
‫أيضا مع طول مدة غيابي اعتاد على عدم وجودي‬
‫‪« -‬ربما‪ ..‬وربما ً‬
‫ونسيني»‬
‫التقط هاشم يدي بين يديه‪ ،‬وقال بأسف‪:‬‬
‫أطلت مدة بعدك عن عائلتك»‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬حبيبتي أعلم أنني‬
‫قاطعته مسرعة‪:‬‬
‫‪« -‬أنا لم أكن أقصــ‪»...‬‬
‫أوقفني بيده‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪114‬‬

‫أنك لم تقصدي ذلك من كالمك عن موضوع‬ ‫‪« -‬أعلم‪ ..‬أعلم ِ‬


‫أبعدتك مدة طويلة عن عائلتك‪ ..‬كان الموضوع‬‫ِ‬ ‫آسر ولكنني بالفعل‬
‫خارجا عن يدي فكما تعلمين المعيشة في تلك البالد غالية‪ ،‬ولم يتوفر‬
‫ً‬
‫معنا أية أموال تساعدني على السفر‪ ،‬وقضاء عطلة بين عائلتينا إال من‬
‫قريب‪ ،‬ولكن أعدك أال تطول المدة ثانية‪ ،‬وأننا سنزورهم مرة كل عام‬
‫على األقل»‬
‫ابتسمت له قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬نعم يا هاشم أنا أشتاق لعائلتي‪ ،‬ولكن الله أعطاني أسرتي الصغيرة‬
‫الرائعة التي تعوضني عن كل شيء‪ ،‬وتخفف عن قلبي بعدي عن أبي وأمي‬
‫وأخي»‪.‬‬
‫وه َّم أن يقول شي ًئا لوال أن استقرار الطائرة أوقفه‬
‫مسح على يدي بحنو َ‬
‫عن الحديث‪.‬‬
‫وأمسكت براء بيدي‪ ،‬بدأنا في التحرك حاملين على‬
‫ُ‬ ‫حمل هاشم مارية‬
‫ظهورنا الحقائب‪ ،‬مشينا حتى وصلنا إلى صالة االستقبال فوجدنا عائلتينا‪.‬‬
‫جريت نحو أبي وأمي ُأقبل أيديهما وأشتم عطرهما وأحضنهما وأنا أبكي‬
‫كثيرا لهذا الدفء الذي أشعر به وأنا بجوارهما‪..‬‬
‫كنت أشتاق ً‬
‫من شوقي إليهما‪ُ ،‬‬
‫تركتهما واتجهت لخالي أحتضنه بقوة‪ ،‬تغير شكله بعض الشيء ونال‬
‫العجز من مالمحه‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫بدأت مارية في البكاء فهي غير معتادة على هذه األجواء التي تملؤها الضجة‬
‫بينما جرى براء وتعلق برقبة أبي وبدأ في مشاغبته بشد لحيته‪ ،‬نهيته عن ذلك قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬دع جدك يا براء‪ ،‬واحتفظ بمشاغبتك تلك لخالك آسر هو من‬
‫يستطيع مجاراتك»‬
‫انتبهت فجأة‪ ،‬ثم سألتهم بشغف‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أين آسر؟»‬
‫تالشت ابتساماتهم تدريج ًّيا‪ ،‬وظهر االرتباك على وجه أبي وأمي‬
‫وخالي وهم ينظرون لبعضهم‪ ،‬قالت أمي مسرعة‪:‬‬
‫‪« -‬لم يستطع أن يأتي معنا اآلن لكنه سيكون بالبيت ً‬
‫ليل؛ ليسلم عليكم‬
‫ِ‬
‫جمي ًعا‪ ،‬فهو يشتاق لرؤية براء ومارية ولرؤيتك بالتأكيد يا حبيبتي أنت وهاشم»‬
‫حاولت أن أخفي اإلحباط الذي انتابني‪ ،‬وأنا أجيب بصوت متهدج‪:‬‬
‫‪« -‬وكذلك أنا أشتاق لرؤيته»‬
‫ودعت‬
‫ُ‬ ‫استأذنت عائلة هاشم أبي وأمي أنهم سيقومون باستضافتنا اليوم‪،‬‬
‫ْ‬
‫ً‬
‫مشغول بآسر وعدم‬ ‫أبي وأمي على أن ألقاهم في اليوم التالي‪ ،‬ولكن عقلي ظل‬
‫مجيئه‪ ،‬ولماذا ظهر االرتباك على وجه أبي وأمي وخالي عندما سألتهم؟!‬
‫ماذا يحدث وال يريدون أن يخبروني به؟‬
‫ماذا حدث آلسر؟‬
‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪116‬‬

‫(‪)11‬‬

‫تسللت إلى الشرفة غالقة ورائي دفتيها الخشبيتين ببطء‪ ،‬صدر صوت‬ ‫ُ‬
‫جلست على‬‫ُ‬ ‫أزيز مكتوم ناتج عن احتكاك مفاصلها ببعضها البعض‪،‬‬
‫الكرسي البالستيكي وأنا أنظر إلى الشارع َع ْب َر تلك العواميد الحديدية‬
‫الرفيعة الملتصقة بالسور‪ ،‬جذبتني السماء إليها بزرقتها الصافية‪ ..‬أحاول أن‬
‫أشبع بصري المتعطش لرؤية كل شيء هنا بالنظر إلى الشوارع والجدران‬
‫والسماء‪ ،‬لن يشعر بهذا الدفء الذي يتغلغل تلك األشياء إال َم ْن ابتعد‬
‫دلفت إلى الغرفة ببطء حتى‬ ‫ُ‬ ‫عنها‪ ،‬أتاني صوت دقات على الباب من بعيد‪..‬‬
‫فوجدت وجهها تكسوه البشاشة‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وصلت إلى الباب وفتحته‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬صباح الخير يا حنين»‬
‫‪« -‬صباح الخير يا خالة»‬
‫قالت ‪-‬وهي تعطيني صينية كبيرة عليها عدة أطباق‪:‬‬
‫‪« -‬تفضلي الفطورحبيبتي»‬
‫تناولتها منها‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬لم يكن هناك دا ٍع أن تتعبِي نفسك يا خالة‪ُ ..‬‬
‫كنت أنتظر أن يستيقظوا‬
‫وأعد الفطور بنفسي»‬
‫‪117‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قالت باسمة‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليك حبيبتي‪ ..‬أمازالوا نائمين؟»‬ ‫‪« -‬ال‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬قضوا الليل كله يلعبون مع أعمامهم»‬
‫‪« -‬أحبابي حفظهم الله‪ ..‬أنا بانتظارهم في غرفة المعيشة عندما‬
‫يستيقظون»‬
‫ذهبت‪..‬‬
‫ْ‬ ‫أومأت لها برأسي‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫مضت ثالثة أيام على مجيئنا‪ ،‬وال زلنا ببيت عائلة هاشم‪ ..‬أجمل ما‬ ‫ْ‬
‫في عائلة هاشم بساطتهم في التعامل وسماحتهم الظاهرة على وجههم‪،‬‬
‫أبوه وأمه طيبو الطباع وأفنيا عمرهما في تربية أبنائهم‪ ،‬لم يدخرا أية أموال‬
‫تؤمن لهما حياتهما المستقبلية في سبيل تنشئة أوالدهم وتعليمهم‪ ،‬ونتج‬
‫عن ذلك هاشم وأخواه االثنان‪ ..‬الجميع يشهد بأخالقهم وتميزهم بجانب‬
‫مكانتهم بسبب تفوقهم العلمي‪ ..‬لكن هاشم الوحيد المتزوج بينهم‪ ..‬مما‬
‫جعل ألوالدنا مكانة خاصة لديهم؛ فهم أول أحفاد العائلة‪..‬‬
‫بدأ هاشم في االستيقاظ وهو يتقلب بجسده على السرير‪ ..‬فتح إحدى‬
‫عينيه راف ًعا حاجبه ألعلى ً‬
‫سائل‪:‬‬
‫‪« -‬كم الساعة؟»‬
‫وجلست على طرف السرير بجانبه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫اقتربت منه‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪118‬‬

‫‪« -‬إنها العاشرة»‬


‫تثاءب في كسل وهو يتمطى‪ ،‬ثم نظر إلي وأخذ يمسح على كتفي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬صباحك سكر»‬
‫ضحكت وأنا أمرر يدي على لحيته الخفيفة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬صباحك سكر يا نزار((*»‬
‫عال صوته بالضحك‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫بعضا من ذكرياتنا‪ ..‬ما رأيك؟»‬
‫‪« -‬أفكر اليوم أن نستعيد ً‬
‫قلت بحماس‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أوافق جدًّ ا»‬
‫ِ‬
‫وأنت إلى المطعم الذي‬ ‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬سنترك األطفال لهم ونذهب أنا‬
‫تناولنا به الغداء أول مرة بعد عقد قراننا»‬
‫ابتسمت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬اختيار جيد»‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬ولكن سأذهب ً‬
‫أول ألبي وأمي وأنتظرك حتى تأتيني ونذهب م ًعا»‬
‫بدت عالمات االستغراب على وجهه ً‬
‫سائل‪:‬‬ ‫ْ‬

‫شاعر عربي سوري له قصيدة شهيرة تحمل عنوان (صباحك سكر)‬ ‫*‬
‫‪119‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬لماذا ستذهبين وحدك؟ هل حدث شيء؟»‬


‫كثيرا وتضيع‬
‫‪« -‬ال ال‪ ..‬ولكن إن انتظرتكم حتى نذهب جمي ًعا سنتأخر ً‬
‫مني فرصة هذا الغداء الرومانسي»‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬سأذهب أجلس ً‬
‫قليل مع أمي وأبي فمنذ مجيئنا وأنا أحدثهما‬
‫بالهاتف‪ ..‬وال أريد أن يتضايقا من قلة رؤيتي وسأكون بانتظارك هناك»‬
‫قمت في خطوة سريعة؛ ألرتدي مالبسي‪..‬‬‫وافق هاشم على هذا االقتراح‪ُ ،‬‬
‫نعم أنا أشتاق ألمي وأبي ولكن ليس هذا سبب ذهابي لهم اليوم فآسر لم يأتِ‬
‫أو يحدثني منذ مجيئنا‪ ..‬ال بد أن هناك شي ًئا يحدث ويجب أن أعرفه‪...‬‬
‫***‬
‫سمعت أمي تصيح من الداخل وأنا أقرع جرس البيت بشكل متسارع قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬حسنًا حسنًا‪ ..‬صبرك يا أم سعد ما ِ‬
‫بك اليوم؟!»‬
‫وتهللت أساريرها عندما فتحت الباب ووجدتني واقفة‬‫ْ‬ ‫تفاجأت أمي‬
‫ْ‬
‫أمامها‪ ..‬ضمتني ضمة حنونة طالما اشتقت إليها وبدأت في مناداة أبي‪:‬‬
‫‪« -‬حنين يا طارق‪ ..‬إنها حنين» خرج أبي مسر ًعا من مكتبه وضمني هو‬
‫اآلخر مع سؤاله‪:‬‬
‫‪« -‬أين هاشم واألوالد؟»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪120‬‬

‫أجبته‪:‬‬
‫كثيرا وال زالوا نائمين»‬
‫‪« -‬سهروا باألمس ً‬
‫تابعت وأنا أجيل بصري في أنحاء البيت‪:‬‬
‫ُ‬
‫كثيرا‪ ..‬اشتقت للجلوس معكم وحدي كما كنت‬ ‫‪« -‬اشتقت للبيت ً‬
‫بالماضي ولجلستنا م ًعا على مائدة واحدة ويحكي ٌّ‬
‫كل منا عن يومه وحياته‪..‬‬
‫أشتاق لكل شيء بحق»‬
‫اتجهت ألمي أسألها بحماس‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬كيف حال غرفتي؟»‬
‫‪« -‬على حالها كما تركتيها‪ ..‬كانت أم سعد تدخل إليها فقط لكي تنظفها»‬
‫أكملت وقد غلب الحنين على صوتها‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬وأحيانًا كان يحملنا الشوق ِ‬
‫إليك للذهاب إليها والجلوس بها أنا‬
‫ِ‬
‫ننساك»‬ ‫ِ‬
‫وأبوك فنتذكرك وإن كنا ال‬
‫تأثرت بما قالته أمي‪ ،‬اقتربت منها وقبلت رأسها‪ ..‬دخلت إلى الرواق‬
‫وأنا أقول‪:‬‬
‫أول سأرى أين يختفي ذلك المشاغب»‬‫‪« -‬سأذهب إلى غرفتي ولكن ً‬
‫كاد أبي وأمي أن يمنعاني لوال أنني حركت مقبض بابه وفتحته‪..‬‬
‫جالسا على المقعد أمام حاسوبه‪ ،‬لم ينتبه لصوت الباب بسبب‬
‫ً‬ ‫كان آسر‬
‫السماعات التي يضعها على أذنه‪ ..‬اقتربت منه وأنا أنزعها قائلة بحنو‪:‬‬
‫‪121‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬آسر»‬
‫قام من مكانه مضطر ًبا وهو يستكشف َم ْن فعل هذا حتى رآني فاستقبلني‬
‫بعينين باردتين ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حنين‪ ..‬كيف حالك؟»‬
‫كثيرا عن الصور التي كنت أراها‪ ،‬جسده نحيل كما‬‫كان شكله قد تغير ً‬
‫هو بينما تغيرت مالمحه واختفت منها تلك البراءة التي كنت أحب أن أراها‬
‫دو ًما وصارت أكثر جمو ًدا‪ ،‬عيناه محلقتان بدوائر داكنة‪ ،‬وذقنه يكسوها شعر‬
‫قصير متناثر‪ ،‬وشعره طويل مشعث على شكل حلقات صغيرة متداخلة مع‬
‫عشا فوق رأسه‪..‬‬‫طائرا أقام ًّ‬
‫بعضها وكأن ً‬
‫ضممتُه بقوة وأنا أقول‪:‬‬
‫‪« -‬آسر‪ ..‬اشتقت إليك»‬
‫وضع يده على ظهري رد فعل لضمي إياه وسألني بال مباالة‪:‬‬
‫‪« -‬كيف حال هاشم واألطفال؟»‬
‫تركته وأنا أنظر إلى عينيه‪:‬‬
‫‪« -‬جميعنا بخير»‬
‫ثم أكملت وأنا أتطلع إلى وجهه بشوق‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪122‬‬

‫‪« -‬أنا هنا منذ ثالثة أيام وكنت في انتظارك بالمطار أو سماع صوتك‬
‫بعدها لكنك مختفي تما ًما»‬
‫أجابني وقد تصنَّع الحزن‪:‬‬
‫كثيرا»‬
‫‪« -‬آسف حنين‪ ،‬انشغلت ً‬
‫‪« -‬وما الذي كان يشغلك؟»‬
‫مفكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫نظر للسقف‬
‫‪« -‬كثير من األشياء»‬
‫‪« -‬وما تلك األشياء التي تشغلك عن رؤية أختك الغائبة منذ ستة‬
‫أعوام»‬
‫بدأ التأفف يظهر على مالمحه‪:‬‬
‫‪« -‬أشياء ال تعرفينها»‬
‫ثم أكمل وهو يحاول أن ينهي الحوار‪:‬‬
‫‪« -‬المهم أنكم وصلتم بالسالمة‪ ..‬وأنكم جمي ًعا بخير»‬
‫شعرت أنه يطلب مني الرحيل بشكل متواري من خالل تلك الجملة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وخرجت من الغرفة‪ ،‬وقلبي يملؤه الحزن‪ ،‬اتجهت‬
‫ُ‬ ‫تركته بعد أن سلمت عليه‬
‫ألمي وأبي وسألتهما مستنكرة‪:‬‬
‫‪« -‬أخبراني ماذا حدث؟ ماذا حدث له في أثناء غيابي؟»‬
‫‪123‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫صمت أبي بينما قالت أمي وقد اغرورقت عيناها بالدموع‪:‬‬


‫‪« -‬منذ سنتين تعرف آسر على مجموعة من أوالد األثرياء في جامعته‪،‬‬
‫وبدأ حاله يتغير تدريج ًّيا بعدها‪ ،‬فتّحوا عينيه على أبواب الدنيا التي طالما‬
‫وأبوك أن نحميكما منها‪ ،‬صار يلزمهم في كل مكان يذهبون‬ ‫ِ‬ ‫حاولت أنا‬
‫إليه ويقلدهم في كل شيء حتى في هيئتهم‪ ،‬تمرد علينا وبدأ يردد كال ًما‬
‫غري ًبا لسنا معتادين عليه مثل أننا معقدون والحياة التي نعيشها ليست بحياة‪،‬‬
‫ويتمنى أن لو كان فر ًدا في أسرة متحررة‪ ،‬بدأ يترك الصالة شي ًئا فشي ًئا‪،‬‬
‫ويتب َّطر ويتذمر على معيشتنا ويدعونا لالنتقال إلى مكان أرقى يتناسب‬
‫مع مستوى زمالئه‪ ..‬أصبح كل ما يشغل باله هو المال‪ ،‬يريد المال طوال‬
‫كثيرا باللين‪ ،‬وجلس‬ ‫الوقت؛ حتى ال يشعر بالنقص أمامهم‪ ..‬حاولنا معه ً‬
‫كثيرا ما كان‬
‫معه خالك ولكن دون فائدة‪ ،‬مطالبه ال تنتهي وينظر لنفسه فقط‪ً ،‬‬
‫وأبيك حتى صرنا نتجنبه وبقي فى معزل عنا ال يحدثنا‬ ‫ِ‬ ‫يرفع صوته علينا أنا‬
‫إال إذا أراد المال‪ ،‬أصبح قلبه بار ًدا جاحدً ا ال يطمئن علينا إذا تعبنا ويترك‬
‫رعايتنا للغرباء‪ ،‬أخبرته عدة مرات عن سؤالك عليه وال يهتم‪ ،‬لم يشغل باله‬
‫وأنت أخته الوحيدة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليك في غربتك‬ ‫حتى في العامين األخيرين أن يطمئن‬
‫وكنا نأمل أن يكون ظهرك بهذه الحياة عندما نرحل»‬
‫انسدلت الدموع على وجنتيها ولم تستطع أمي إكمال حديثها‪ ،‬جلست‬
‫بجانبها وأنا أمسح على كتفها قائلة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪124‬‬

‫‪« -‬بارك الله في حياتكما يا أمي ولكن لماذا لم تخبريني كل هذا من قبل؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليك‪ ،‬كنت‬ ‫‪« -‬ولماذا أحزنك يا حنين في غربتك؟ يكفي هم الغربة‬
‫ِ‬
‫أعلم كيف سيكون حزنك عندما تعلمين أن آسر المشاغب أخاك الصغير‬
‫الذي تحبينه أصبح هكذا»‬
‫كانت أمي محقة فيما تقول فمنذ أن رأيته وأنا أشعر بحزن شديد‪..‬‬
‫لم أتخيل أن يتغير آسر أخي الصغير الذي أسهمت في تربيته بشكل كبير‪،‬‬
‫أن يصبح هذا الشخص الغريب متبلد المشاعر الذي رأيته منذ قليل‪ ،‬أن‬
‫يفعل هذا بأبي وأمي ومن المفترض أن يكون هو سندهما بعد أن تركتهما‪.‬‬
‫شعرت باإلشفاق على حال أبي وأمي فلقد تعبا في تربيتنا ووفرا لنا سبل‬
‫ُ‬
‫الراحة كلها‪ ،‬وكانت النتيجة أنني ذهبت في غربتي وذهب آسر في عالمه‪..‬‬
‫وبقيا وحيدين وما زال أبناؤهما على قيد الحياة‪...‬‬
‫***‬
‫مرت األجازة سري ًعا ولم يتبق غير أسبوع واحد على عودتنا إلى‬
‫أستراليا‪ ،‬اتفقنا أنا وهاشم منذ البداية على تقسيم وقت األجازة بين عائلتي‬
‫وعائلته؛ حتى يستطيع كل طرف أن يأخذ نصيبه في الجلوس معنا ومع‬
‫طفلينا واستغالل كل دقيقة بجوارهما‪ ،‬وكان الجزء األخير من األجازة من‬
‫نصيب أبي وأمي فقضينا بقيتها بجوارهما‪..‬‬
‫‪125‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كانت األجازة ممتعة؛ ذهبنا لكثير من المناطق وزرنا أماكن عدة‪،‬‬


‫والتقطنا الصور التذكارية‪.‬‬
‫رأيت سعادة مختلفة في وجه براء ومارية فهما مدلالن من قبل الجميع‬
‫وطلباتهما مجابة في أي وقت‪ ..‬أكثر ما خشيته أن تتأثر نفسيتهما عندما‬
‫نعود إلى أستراليا ويفتقدا ذلك الجو األسري ويشعران بالوحدة من جديد‪،‬‬
‫وأن تتأثر نفسية أبي وأمي كذلك بسفرنا مرة أخرى؛ فقد تعلقا ببراء ومارية‬
‫كثيرا ويتحمالن مشاغبتهما بحب‪ ،‬وكنا نستغل أنا وهاشم هذا التعلق بترك‬‫ً‬
‫قليل من المسئوليات‬‫األطفال معهما فننعم ببعض الفسح الفردية ونستريح ً‬
‫وضغوط الحياة‪ ،‬ونستعيد الذكريات‪.‬‬
‫لم يكن يعكر صفو أجازتي سوى آسر الذي لم نره سوى مرتين أو‬
‫ثالث مرات خالل إقامتنا بالبيت؛ فهو إما جالس في غرفته يقضي ساعات‬
‫متأخرا قرب‬
‫ً‬ ‫طويلة على حاسوبه وإما بالخارج مع أصدقائه ويعود البيت‬
‫الفجر‪..‬‬
‫بدأ العد التنازلي للرجوع‪ ،‬وكنا في حاجة لشراء بعض األشياء التي‬
‫صباحا وأنا ُّ‬
‫أغط في‬ ‫ً‬ ‫تنقصنا في أستراليا فتكفل هاشم بهذه المهمة‪ ،‬أيقظني‬
‫نوم عميق وهو يربت على كتفي ببطء ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حنين‪ ..‬حنين‪ ..‬أنا ذاهب إلى وسط المدينة؛ لشراء بعض‬
‫ِ‬
‫تذكرت شي ًئا اتصلي بي حبيبتي»‬ ‫احتياجاتنا‪ ..‬إذا‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪126‬‬

‫طبع ُقبلة على جبيني‪ ،‬ثم ذهب وطبع ُقبلة على جبين براء وثالثة على‬
‫جبين مارية‪ ،‬ثم رحل بعدها‪ ،‬غلبني النوم فلم أستطع أن أقوم لتوديعه‪..‬‬
‫مضت ساعتان كنت قد استيقظت خاللهما وأعددت مشروبي المفضل‬
‫الشاي باللبن كما كنت أعده بالسابق‪ ،‬واتجهت إلى غرفتي في محاولة مني‬
‫لالستمتاع ببعض الهدوء قبل أن يستيقظ الطفالن‪.‬‬
‫جلست على مكتبي وأنا أرتشف من الكوب وأتجول ببصري في‬ ‫ُ‬
‫أنحاء الغرفة فأتذكر مع كل شيء تقع عيني عليه ذكرى خاصة به‪ ..‬مكتبي‪،‬‬
‫أقالمي‪ ،‬تلك الفراشات الالمعة الوردية فوق سريري‪ ..‬النجوم المعلقة التي‬
‫تظهر بالكاد بسبب ضوء الصباح حتى توقفت عيني عند النافذة‪..‬‬
‫جلست في هذا الموضع أراقب ضوء‬
‫ُ‬ ‫ابتسمت وأنا أتذكر كم مرة‬
‫ُ‬
‫الشمس وهو يتسلل إلى غرفتي أو يغادر منها‪..‬‬
‫كم من ذكريات حوت هذه الغرفة‪ ..‬كم من مشاعر أوجعتني وجراح‬
‫آلمتني‪..‬‬
‫علي‪..‬‬
‫تنهدت وأنا أحمد الله على تعويضه لي وإنعامه ّ‬
‫ُ‬
‫تساقطت بعض قطرات الشاي باللبن على مالبسي‬
‫ْ‬ ‫قمت سري ًعا وقد‬
‫ُ‬
‫خشيت أن يستيقظ براء‬
‫ُ‬ ‫بعد سماعي لرنين هاتفي في الغرفة المجاورة‪،‬‬
‫ومارية‪ ،‬لمست األيقونة ذات اللون األخضر ورفعت الهاتف قرب أذني‬
‫بعد أن وجدت جهة االتصال هاشم‪..‬أتاني صوت غريب ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪127‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬هل زوجة دكتور هاشم معي؟»‬


‫أجبت متفاجئة بصوت متقطع‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬نعم أنا‪َ ..‬م ْن أنت؟ ولماذا تتحدث من هاتف هاشم؟»‬
‫‪« -‬آسف إلخبارك هذا لكن دكتور هاشم عندنا بالمشفى اآلن‪ ..‬لقد‬
‫تلقى ضربة على رأسه إثر عراك وأرجو ِ‬
‫منك المجئ»‬
‫شعرت بالدوار بعد أن انتهى من حديثه‪ ..‬لم أستوعب الكلمات التي قالها‪..‬‬
‫ُ‬
‫هاشم‪ ..‬عراك‪ ..‬ضربة‪..‬‬
‫قمت‬
‫ُ‬ ‫لم أستطع التركيز في أي شيء سوى عنوان المشفى الذي‬
‫بتسجيله سري ًعا‪..‬‬
‫ٍ‬
‫وبانقباض في قلبي من كالم المتصل‪،‬‬ ‫بثقل ٍ‬
‫كبير على صدري‬ ‫أحسست ٍ‬‫ُ‬
‫قمت ألرتدي مالبسي وأنا أستغيث الله بداخلي‪:‬‬
‫ُ‬
‫خيرا يارب‪ ،‬واجعل األمر يمر بسالم‪..‬‬
‫«اللهم اجعله ً‬
‫اجعله يمر بسالم يا كريم»‪...‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪128‬‬

‫(‪)12‬‬
‫طوال الطريق لم أتوقف عن الدعاء والتضرع لله‪ ،‬لم أكن أعلم مدى‬
‫إصابته إال أنني لم أشعر بالخير من كالم المتصل‪..‬‬
‫ُصدمت عندما وصلنا أنا وأبي إلى المشفى وأخبرونا أنه يقبع بقسم العناية‬
‫المركزة‪ ،‬هرولنا خالل هذا الرواق الطويل المؤدي إلى العناية المركزة حتى‬
‫وصلنا إلى آخره‪ ،‬عبرنا من خالل غرفة إلى غرفة أخرى كانت إحدى حوائطها‬
‫عبارة عن نافذة زجاجية كبيرة‪ ،‬اقتربت منها بخوف وأفزعني المنظر‪ ،‬كان هاشم‬
‫يرقد على السرير مغمض العينين‪ ،‬شاحب اللون‪ ،‬وكثير من األجهزة متصلة به‪ ،‬لم‬
‫يستوعب عقلي تلك الحالة التي وجدته عليها‪ ..‬كان بخير منذ ساعات بسيطة!!‬
‫خرج أحد األطباء من غرفته فأسرعنا إليه أنا وأبي‪ ،‬قلت والخوف يعثو‬
‫بقلبي‪:‬‬
‫‪« -‬أرجوك‪ ..‬طمئني على وضعه‪ ..‬أنا زوجته»‬
‫نظر الطبيب إلينا وبدا وكأنه في حيرة من أمره‪ ،‬ولكنه استسلم في‬
‫النهاية فأخبرنا بالحقيقة ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ال أريد أن أكذب عليكما ولكن وضعه خطير‪ ،‬الضربة كانت قوية‬
‫وأدت إلى نزيف داخلي بالمخ»‬
‫‪129‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وكدت‬
‫ُ‬ ‫تراجعت ً‬
‫قليل وأنا أضع يدي على صدري‪ ،‬لم تحملني قدماي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أن أسقط لوال أن ساندني أبي‪..‬‬
‫قال أبي بحزن‪:‬‬
‫‪« -‬أليس هناك أية طريقة إلصالح األمر يا دكتور؟»‬
‫‪« -‬نحن نحاول ويبقى األمل الكبير متعلق بالله»‬
‫تمتم أبي‪:‬‬
‫«ونعم بالله»‬
‫ثم زاد‪:‬‬
‫«ما الذي حدث؟ وكيف تلقى هذه الضربة؟»‬
‫‪« -‬الحقيقة ليست لدي أية معلومات عن كيفية حدوث اإلصابة ولكن‬
‫الشخص الذي أوصله إلى هنا يجلس في الغرفة المجاورة» وأشار بيده‪..‬‬
‫وه َّم بالذهاب إلى الغرفة‪ ،‬ولكنني تابعته قائلة‪:‬‬
‫أجلسني أبي َ‬
‫‪« -‬انتظر يا أبي سآتي معك»‬
‫علي بسماع تفاصيل الحادث ولكنني كنت أريد‬
‫ربما أراد أبي أال يثقل ّ‬
‫أن أفهم ماذا حدث بالضبط؛ فهاشم شخص مسالم للغاية‪ ،‬ما الذي أدخله‬
‫في عراك ليأخذ تلك الضربة‪ ،‬ما الذي دفع به للعراك من األساس وهو‬
‫ذاهب لشراء بعض األشياء؟!‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪130‬‬

‫دخلنا إلى الغرفة المجاورة‪ ..‬وجدنا شا ًّبا يجلس على إحدى المقاعد‬
‫واض ًعا كلتا يديه على وجهه وال يظهر إال جوانب ذقنه من الجانبين‪..‬‬
‫ذهب أبي ووضع يده على كتفه بهدوء ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬أأنت يا بني َم ْن نقل الشخص القابع بالعناية المركزة إلى هنا؟»‬
‫أزاح يده عن وجهه وقد ظهر على مالمحه الذعر والحزن م ًعا ً‬
‫قائل‬
‫بصوت متردد‪:‬‬
‫‪« -‬نـ‪ ..‬نعم أنا»‬
‫‪« -‬هو زوج ابنتي وأريد أن‪»..‬‬
‫قاطعت أبي متجهة بحديثي لهذا الشخص‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أرجوك أخبرنا ماذا حدث بالظبط؟»‬
‫نظر إلى األرض وبدا التأثر عليه وهو يقص ما حدث‪:‬‬
‫‪« -‬استقل السيد …‪»..‬‬
‫مخبرا إياه اسمه‪:‬‬
‫ً‬ ‫رد أبي‬
‫‪« -‬هاشم»‬
‫‪« -‬استقل السيد هاشم سيارة أجرة؛ لتوصله إلى مكان ما‪ ،‬وكان الطريق‬
‫مزدحما للغاية مما دفع سائق سيارة أجرة السيد هاشم إلى اإلسراع ً‬
‫قليل‬ ‫ً‬
‫كلما سنحت له الفرصة ومن العجلة اصطدم بسيارة أجرة أخرى أمامه‪..‬‬
‫نزل السائق وهو يحاول رؤية ما حدث ويعتذر ليكمل طريقه‪ ،‬ولكن السائق‬
‫‪131‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫اآلخر نزل من سيارته والشرر يتطاير من عينيه وكأنه كان في انتظار أية فرصة‬
‫أخيرا فبدأ في السباب مباشرة‪..‬‬
‫للعراك وأتت له ً‬
‫مأل الغيظ السائق األول عندما سبه اآلخر دون أن يفهم ماذا حدث‪..‬‬
‫تشاجر االثنان واحتدم العراك بينهما وبدءا بالتطاول شفه ًّيا ثم التشابك‬
‫ٍ‬
‫ومحاول لفض النزاع‪ ،‬ترجل‬ ‫ٍ‬
‫متفرج‬ ‫باأليدي‪ ..‬تجمع بعض الناس ما بين‬
‫السيد هاشم عن السيارة في محاولة منه لتهدئة الوضع وفض االشتباك‬
‫بينهما»‬
‫صمت برهة ثم تابع بأسى‪:‬‬
‫َ‬
‫‪« -‬لكنه نزل بالوقت الخطأ‪ ،‬كان السائق اآلخر بيده حديدة يريد أن‬
‫يضرب السائق األول بها‪ ،‬دفع أستاذ هاشم السائق األول بحركة تلقائية‬
‫بعيدً ا فتلقى هو الضربة بكل قوة على رأسه وسقط غائ ًبا عن الوعي ال أحد‬
‫يدري ما الذي َح َّل به‪ ،‬وما إِ ْن سقط السيد هاشم حتى َف َّر كال السائقين‬
‫هاربين إلدراكهما خطورة الموقف»‬
‫رفع نظره إلينا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬حدث كل هذا الشجار أمام محل قطع غيار السيارات الذي أمتلكه‪،‬‬
‫الجميع ترك السيد هاشم حينها ملقى على األرض‪ ،‬خائفين أن يقتربوا منه حتى‬
‫ُ‬
‫ال تُلصق بهم التهمة‪ ،‬فما كان مني إال أنني أسرعت إليه وأخذته في سيارتي؛‬
‫ألنقله إلى المشفى‪ ،‬كل ما كنت أفكر به أن أحاول إنقاذ حياة هذا الشخص‪ ،‬ثم‬
‫أتيت به إلى هنا وسلمتهم كل متعلقاته وهاتفه؛ ليخبروا أهله باألمر»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪132‬‬

‫تلقيت تلك الضربة على رأسي‪،‬‬


‫ُ‬ ‫انتهى من كالمه ألشعر وكأنني أنا من‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫محاولة تخيل الموقف واأللم الذي تعرض له هاشم أوجعني ً‬
‫شكر أبي هذا الشخص على صنيعه‪ ،‬وطلب اآلخر رقم هاتف أبي حتى‬
‫يستطيع االطمئنان على هاشم باستمرار‪.‬‬
‫جاءت عائلة هاشم والذعر يعلو وجوههم جمي ًعا وفي حالة من الهلع‬
‫وهم يحاولون أن يفهموا ماذا جرى‪ ،‬أخبرهم أبي بكل شيء‪ ،‬فبدأت أمه في‬
‫البكاء بقوة‪ ،‬احتضنتها وبكيت أنا األخرى بشدة‪..‬‬
‫أعلم أن وجعها ليس كمثله وجع فهي أم ولكنه زوجي وحبيبي وأنيسي‬
‫بغربتي‪ ،‬أتم زواجنا الستة أعوام‪ ..‬ستة أعوام ونحن م ًعا في أفراح الحياة‬
‫وأطراحها كان لي فيها نعم الزوج والصديق‪.‬‬
‫مر اليوم األول ونحن جمي ًعا بالمشفى ننتظر خروج أي طبيب أو‬
‫دائما‬
‫ممرضة من عنده فنسرع بسؤالهم‪« - :‬هل من جديد؟» وتأتي اإلجابة ً‬
‫أن الحال كما هوعليه‪ ،‬فتصيبنا خيبة األمل‪..‬‬
‫وقفت أمام الزجاج ناظرة إلى هاشم الراقد أمامي غائ ًبا عن الوعي في‬‫ُ‬
‫صباحا كان معي‪ ،‬بالقرب مني وق َّبلني واآلن ال‬
‫ً‬ ‫محاولة الستيعاب األمر‪ ،‬اليوم‬
‫أستطيع االقتراب منه أو مالمسته‪ ،‬ال أملك غير النظر إليه من خلف هذا الحاجز‬
‫الزجاجي‪ ..‬كانت المشاعر المتضاربة تنهش بعقلي وكلمة يا ليت ال تتركني‪..‬‬
‫يا ليته لم يذهب يا ليته بقي بالبيت‪ ..‬أحاول أن أرضى بما حدث ولكن شعوري‬
‫مسحت جبهتي ببطء وأنا أستغفر الله وأسأله الرضا‪ ،‬وجدت‬ ‫ُ‬ ‫بالحنق يغلبني‪،‬‬
‫‪133‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ذهبت إليه أسأله ولكن هذه المرة كان سؤالي مختل ًفا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫خارجا من غرفته‪،‬‬
‫ً‬ ‫طبي ًبا‬
‫ً‬
‫سؤال»‬ ‫‪« -‬دكتور لو سمحت أريد أن أسأل‬
‫نظر إلي وهو يهز رأسه ناف ًيا‪:‬‬
‫‪« -‬لألسف لم يجد جديد»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬لم يكن هذا سؤالي»‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫بدا االستغراب على وجهه‪،‬‬
‫‪« -‬كنت أريد أن أسأل هل هو يشعر بمن حوله اآلن؟»‬
‫مفكرا وهو يضع يده على ذقنه‪:‬‬
‫ً‬ ‫أجاب‬
‫‪« -‬العلماء اختلفوا في نتائج هذا الموضوع منهم َم ْن قال إن المريض‬
‫ال يشعر بأي شيء في أثناء غيبوبته‪ ،‬ومنهم َم ْن قال عكس ذلك»‬
‫ثم صمت برهة وأكمل‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن الشيء الوحيد الذي أثق أنه يشعر به‪ ..‬هو دعاؤكم»‬
‫رجعت‬
‫ُ‬ ‫استأذن ذاه ًبا وهو يبتسم في محاولة منه لتخفيف األمر‪،‬‬
‫ببصري مرة أخرى إلى هاشم‪..‬‬
‫بالفعل ليس بأيدينا أي شيء حياله اآلن غير الدعاء‪ ..‬فالذي يحيي‬
‫العظام وهي رميم قادر على أن ينجيه مما هو فيه‪..‬‬
‫وضعت يدي على الزجاج مغمضة عيني وأنا أبتهل إلى الله‪:‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪134‬‬

‫«اللهم ال تحرمني خير ما عندك بسوء ما عندي‪،‬‬


‫علي نعمك وال تحرمني من هاشم‬
‫اللهم أدم ّ‬
‫أرجوك يا آلله ال تحرمني من هاشم» …‬
‫***‬
‫مرت ثالثة أيام لم نترك فيها الدعاء والتضرع إلى الله أن ينجي هاشم‪،‬‬
‫سليما معافى‪ ،‬ذهب أبي وعائلة هاشم من أول‬ ‫ً‬ ‫وأن يرجع إلينا مرة أخرى‬
‫رغبت أن‬
‫ْ‬ ‫وبقيت أمي باألطفال في البيت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫يتبق غيري أنا وأمه‪،‬‬
‫يوم ولم َّ‬
‫تبقى معهم؛ حتى ال يشعرون بأي شيء ويؤثر ذلك عليهم نفس ًّيا‪ ..‬تناوب‬
‫أبي وخالي وعائلة هاشم علينا؛ لالطمئنان واإلتيان باألشياء التي نحتاجها‪،‬‬
‫جلست في اليوم الثالث بعد صالة العشاء وأنا أرفع يدي بالدعاء إلى الله‬
‫ُ‬
‫أتوسل إليه فهذا وقت إجابة‪..‬‬
‫رأيت الممرضة وهي‬
‫ُ‬ ‫قمت وأنا أمسح وجنتي بأناملي وأزيل أدمعي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اتسعت حدقتا عينيها من المفاجأة وهي تقول‪:‬‬
‫ْ‬ ‫تهرول متجهة إلينا وقد‬
‫اق»‬‫‪« -‬لقد َأ َف َ‬
‫عدوا أنا وأمه ال نصدق ما سمعناه للتو؛‬‫تركت ما في يدي وانطلقنا ً‬ ‫ُ‬
‫نريد أن نراه بأعيننا حتى ال نتعلق بحبال اآلمال الواهمة ونتأكد أن ما قالته‬
‫حلما‪ ،‬أوقفتنا عند الباب‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫الممرضة ليس ً‬
‫معقما»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬يجب أن ترتديا ز ًّيا‬
‫‪135‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أخذناه منها وارتديناه على عجل‪ ،‬أدخلتنا محذرة‪:‬‬


‫‪« -‬بهدوء؛ فهو ما زال يشعر بالتعب الشديد»‬
‫أومأنا لها برأسينا كطفلين يعدان أمهما بالطاعة كي يفوزا بمكافأة‪..‬‬
‫ودلفت أمه سري ًعا وهي تنظر متشككة حتى‬
‫ْ‬ ‫فتحت الممرضة الباب‪،‬‬
‫ْ‬
‫سمعت صوتها وقد طغى عليه الفرح‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬هاشم‪ ..‬حبيبي‪ ..‬بني»‬
‫تابعتها ببطء‪ ،‬رأيته وهو متكئ بظهره على السرير ينظر إلينا بعيون شبه‬
‫وأمسكت بيده أقبلها بشكل‬
‫ُ‬ ‫جريت إليه‬
‫ُ‬ ‫مغمضة وابتسامة واهنة تعلو وجهه‪،‬‬
‫متوالي‪ ،‬ضممتها إلى صدري وأنا أبكي وأقول بصوت يكاد ُيسمع‪:‬‬
‫كثيرا‪ ..‬كدت أن أفقد األمل»‬
‫‪« -‬اشتقت إليك‪ ،‬خفت عليك ً‬
‫نظر إلي ومازالت على وجهه تلك االبتسامة المتعبة‪ ..‬كان التعب‬
‫متملكًا منه حتى أنه لم يستطع التحدث‪ ،‬اتجه إلى أمه التي ظلت تقبل رأسه‬
‫وتحمد الله على سالمته‪ ،‬تركتنا وهي تخبرني‪:‬‬
‫‪« -‬سأذهب لالتصال بوالده وإخوته‪ ،‬سيطيرون من الفرحة عندما يعلمون»‬
‫تابعتها وهي تخرج من الغرفة‪ ،‬ثم اتجهت إلى هاشم وأنا أحاول أن‬
‫أشبع عيني من مالمحه وكأنني أراه ألول مرة‪..‬‬
‫رفع يده ببطء فساعدتُه على رفعها أكثر‪ ،‬ووضعتُها على خدي‪،‬‬
‫ووضعت يدي تحتها وأنا أردد والسعادة تغمرني‪:‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪136‬‬

‫‪« -‬الحمد لله‪ ..‬الحمد لله‪ ..‬الحمد لله‪»..‬‬


‫‪« -‬حنين‪ ..‬حنين‪ ..‬حنين»‬
‫أتاني هذا الصوت من بعيد وهو يزداد شي ًئا فشي ًئا مع هزة خفيفة أشعر بها‬
‫فوجدت نفسي جالسة على كرسي ورأسي مسندة إلى‬ ‫ُ‬ ‫فتحت عيني‬
‫ُ‬ ‫في كتفي‪،‬‬
‫ونظرت حولي وأنا أسحب الهواء من حولي‬ ‫ُ‬ ‫اعتدلت في جلستي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الحائط‪،‬‬
‫رفعت بصري فوجدت أم هاشم أمامي‪ ،‬سألتها مسرعة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بشكل سريع‪،‬‬
‫‪« -‬هل أفاق هاشم؟»‬
‫ظهرت خيبة األمل على وجهها وهي تهز رأسها نافية‪ ،‬اعتصرني األلم‬
‫كنت أحلم ولم يكن حقيقة‪..‬‬
‫أدركت أنني ُ‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫قالت أم هاشم وهي تمسح على كتفي‪:‬‬
‫عليك اإلرهاق الشديد‪ ،‬كما‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬حنين ِ‬
‫أنت هنا منذ ثالثة أيام ويظهر‬
‫أنت وهاشم من أمامهما فجأة سيؤثر‬ ‫غبت عن األوالد كثيرا وغيابك ِ‬‫أنك ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫عليهما بالتأكيد‪ ..‬اذهبي واستريحي هذه الليلة في البيت حبيبتي ونالي قس ًطا‬
‫من الراحة وإذا حدث أي جديد سأتصل ِ‬
‫بك إن شاء الله»‬
‫أومأت لها برأسي موافقة‪ ،‬وأنا أمسح وجهي وعيني بيدي ومازالت‬
‫ُ‬
‫آثار الحلم عالقة بذهني‪..‬‬
‫بدأت في التحرك متخذة طريقي إلى البيت حتى وصلت ووجدت براء‬ ‫ُ‬
‫ومارية في استقبالي يتعلقان برقبتي ويغرقاني بالقبالت‪ ،‬ظلت مارية متعلقة‬
‫‪137‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫برقبتي بينما أفلتني براء وهو يقول بعد أن عقد يديه أمام صدره غاض ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬أين ِ‬
‫كنت يا أمي كل هذا الوقت؟»‬
‫اقتربت وأنا أمسح على شعره‪:‬‬
‫ُ‬
‫«انشغلت في ٍ‬
‫أمر ما حبيبي»‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫حرك رأسه من تحت يدي ورجع لوقفته الغاضبة‪:‬‬
‫‪« -‬وأين أبي؟»‬
‫تلعثمت وأنا أفكر في اإلجابة‪ ،‬أي كالم يستطيع أن يستوعبه عقل هذا‬
‫ُ‬
‫الصغير‪..‬‬
‫أخرجت‬
‫ُ‬ ‫قليل اآلن وسيأتي قري ًبا إن شاء الله» قلتُها ثم‬ ‫‪« -‬هو م ِ‬
‫نشغل ً‬ ‫ُ‬
‫بعض الحلوى من حقيبتي وأعطيتُها لبراء؛ كي أشغله عن هذا الحوار‪..‬‬
‫وأدرت صنبور المياه؛ ألنعم بحمام يزيل إرهاق‬
‫ُ‬ ‫اتجهت إلى الحمام‬
‫ُ‬
‫األيام السابقة وأسترخي مع قطراته الدافئة‪..‬‬
‫نمت تلك الليلة بغرفتي وأنا أحتضن براء ومارية‪ ،‬ويتسلل إلى قلبي هذا‬
‫ُ‬
‫إلي‪..‬‬
‫الدفء بضمهما‪ ،‬أشعر أني في حاجة إليهما هذه األيام أكثر من حاجتهم ّ‬
‫استسلمت للنوم‬
‫ُ‬ ‫رغما عني من فرط اإلرهاق حتى‬ ‫بدأت عيناي تنغلقا ً‬
‫ْ‬
‫بالنهاية‪ ،‬وكان آخر ما رأيته تلك النجوم الالمعة المعلقة بالسقف‪ ..‬متمنية‬
‫ً‬
‫جميل هادئًا مثلها‪ ،‬وبه من األمور ما يسرني‪...‬‬ ‫أن يكون غدي‬
‫***‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪138‬‬

‫متقهقرا أمام النور الذي بدأ يبزغ في األفق‬


‫ً‬ ‫سحب الظالم رداءه ببطء‬
‫معلنًا ميالد يوم جديد أشهد عليه وأنا أنظر إليه من خالل النافذة المشرعة‪..‬‬
‫تحركت على أطراف أصابعي بخفة‬‫ُ‬ ‫انتظرت حتى َح َّل ْت التاسعة‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫وجدت أبي وأمي يجلسان‬
‫ُ‬ ‫خارج الغرفة؛ حتى ال يستيقظ براء ومارية‪،‬‬
‫ألقيت عليهما تحية‬
‫ُ‬ ‫كوب من الشاي‪..‬‬
‫بغرفة المعيشة وبيد كل واحد منهما ٌ‬
‫الصباح‪ ،‬ثم قال أبي‪:‬‬
‫‪« -‬انتظري سأوصلك للمشفى»‬
‫أشرت إليه بيدي نافية‪:‬‬
‫ُ‬
‫كثيرا الفترة‬
‫‪« -‬ال ال يا أبي‪ ..‬ال داعي‪ ،‬فأنت وخالي انشغلتما معي ً‬
‫السابقة‪ ،‬اذهب أنت إلى مصالحك وسأذهب أنا بمفردي فالمشفى ليس‬
‫بعيدً ا من هنا»‬
‫اتجهت إلى أمي قائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ِ‬
‫عليك برعاية األطفال»‬ ‫‪« -‬أعتذر يا أمي‪ ،‬أعلم أني أثقلت‬
‫قالت أمي نافية‪:‬‬
‫كثيرا وأنا بجوارهما لماذا تقولين هذا؟»‬
‫‪« -‬أبدً ا يا حنين‪ ..‬أنا أسعد ً‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬سأقوم وأعد ِ‬
‫لك الفطور قبل أن تذهبي»‬
‫هززت رأسي نافية‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪139‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬سأفطر مع الخالة بالمشفى حتى ال أتأخر»‬


‫توجهت إلى الباب وأنا أقول منحنية؛ النتعال حذائي‪:‬‬
‫‪« -‬من المحتمل أن أطيل هذه المرة أربعة أو خمسة أيام‪ ..‬سأحاول أن‬
‫آتي ساعة من النهار حتى ال يتأثر األطفال بغيابي أنا وهاشم وإذا حدث أي‬
‫أمر اتصلوا بي»‬
‫التفت إليهما‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫أدرت مقبض الباب‪ ،‬وهممت بالخروج‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أو ربما ينتهي األمر قبل هذه المدة ويأتي هاشم معي اليوم أو غدً ا‪..‬‬
‫ادعوا له»‬
‫أجابتني أمي‪:‬‬
‫‪« -‬من غير طلب يا حنين‪ ..‬نحن ال ننساه من دعائنا طوال اليوم»‬
‫اتخذت مقعدً ا باألريكة األخيرة بإحدى‬ ‫ُ‬ ‫ابتسمت لهما وودعتهما‪،‬‬
‫ُ‬
‫وسائل المواصالت بجانب النافذة الزجاجية؛ ألكمل مشاهدتي لهذا‬
‫الصباح في طريقي إلى المشفى‪..‬‬
‫ً‬
‫جمال أني ًقا ويبعث على الراحة النفسية‪،‬‬ ‫كان الهدوء يضيف على كل شيء‬
‫ً‬
‫جمال بإفاقة هاشم من غيبوبته وعودته إلينا‪..‬‬ ‫تمنيت أن يزداد هذا اليوم‬
‫ُ‬
‫وصلت إلى المشفى متجهة إلى الطابق الثالث؛ حيث تقبع غرفة العناية‬
‫ُ‬
‫المضاء‬
‫تمشيت بذلك الرواق الطويل ‪ -‬المؤدي إلى الغرفة ‪ُ -‬‬ ‫ُ‬ ‫المركزة‪،‬‬
‫بلمبات طويلة من النيون‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪140‬‬

‫وجدت أم هاشم واقفة في نهايته‪ ،‬رفعت يدي أحييها لكنها لم تنتبه‬


‫ُ‬
‫إلي‪ ،‬بدت وكأنها تنتبه لشيء ما بشدة‪..‬‬
‫ّ‬
‫خفضت يدي ببطء عندما رأيت الممرضة وهي تقترب منها وتحدثها‬‫ُ‬
‫وتربت على كتفها‪ ،‬جثت أم هاشم على ركبتيها وهي تضع يدها على رأسها‪..‬‬
‫وضعت يدي على قلبي وتمايل جسدي فالتصق بالحائط وبدأ في‬
‫ُ‬
‫جلست على األرض‪ ،‬كان صوتها يخترق أذني وهي‬
‫ُ‬ ‫السقوط ألسفل حتى‬
‫تنتحب بصوت ٍ‬
‫عال قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬لماذا تركتني ياهاشم!!!» …‬

‫●●●‬
‫‪141‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)13‬‬
‫أصعب األقدار تلك التي لن تظهر الحكمة من ورائها في الدنيا‪ ،‬التي‬
‫ستظل تحتفظ بغموضها لتتجلى بحقيقتها الكاملة يوم القيامة‪..‬‬
‫مثل ذلك القدر الذي كُتب على أبوي الغالم الذي قتله الخضر في أثناء‬
‫رحلته مع سيدنا موسى‪..‬‬
‫لن يعرفا الحكمة والغاية من قتل ولدهما إال يوم القيامة؛ ليشكرا الله‬
‫وكفرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫حينها على قتله وأنه لم يكبر ليرهقهما طغيانًا‬
‫بعض األقدار في حياتي ظهرت حكمتها واضحة جالية أمامي وبعضها‬
‫اآلخر لم أفهم الحكمة من ورائها بعد‪..‬‬
‫لم أتخيل يو ًما أن يرحل هاشم عن الدنيا سري ًعا بهذا الشكل‪ ..‬أن أكون‬
‫موضع شفقة ِم ْن جميع َم ْن حولي بترملي وأنا مازلت في هذا السن‪ ..‬أن‬
‫يكون اليتم هو أول ما يفتح براء ومارية عينهما عليه في هذه الحياة‪..‬‬
‫كثيرا ما كانت تتراءى أمامي التخيالت عن حياتنا القادمة م ًعا‪ ،‬عندما‬
‫ً‬
‫كل منا على اآلخر‪ ،‬وقد نالت التجاعيد من‬ ‫يجري بنا العمر ونكبر‪ ،‬ويتكئ ٌّ‬
‫وجهينا‪ ،‬وشاخت مالمحنا‪ ،‬وسقطت أسنانُنا‪ ،‬وضعف بصرنا‪ ،‬ونحن نعد‬
‫الغداء م ًعا بأيدينا المرتعشة‪ ،‬ونجلس بانتظار براء ومارية فيأتيان لزيارتنا‬
‫بأوالدهما‪ ،‬ويضج البيت بصوت الضحكات العالية‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪142‬‬

‫ولكن زالت سري ًعا تلك األمنيات الجميلة أمام حقيقة الحياة الموحشة‬
‫وقانونها الدائم أن السعادة ال تدوم للنهاية‪.‬‬
‫رجعت لإلقامة‬
‫ُ‬ ‫رجعت كل األمور كما كانت ساب ًقا‪،‬‬
‫ْ‬ ‫بعد وفاة هاشم‬
‫عدت بطفلين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رجعت إلى غرفتي وسريري ولكنني لم أعد وحدي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ببيتنا‪..‬‬
‫ووجع بالقلب‪ ،‬وجسد بال روح‪..‬‬
‫عدت ولم أعد حنين السابقة‪ ،‬صرت األب‬
‫ُ‬ ‫رجعت إلى مكاني نفسه‪،‬‬
‫ُ‬
‫واألم م ًعا‪..‬‬
‫أحيانًا أشعر أن ذلك أفضل من أجل األطفال فتربيتهما تحتاج إلى‬
‫شخصية قوية ال إلى تلك الشخصية الحالمة الشاعرية التي تتأثر بكثير من‬
‫األشياء حولها‪.‬‬
‫نظرت إلى هاتفي الملقى على السرير بجانبي‪ ،‬تناولته وتطلعت إلى‬‫ُ‬
‫تاريخ اليوم‪ ،‬بقي ثالثة أيام ويتم هاشم عامه األول في قبره‪..‬‬
‫عام واحد لكنه َم َّر على نفسي أعوا ًما‪..‬‬
‫عام وتحقيقات الشرطة تحاول الوصول إلى القاتل وما من جدوى‪،‬‬
‫فالقاتل ينعم بالحرية وقد قضى على سعادة أسرة بأكملها‪ ،‬وحتى إن‬
‫أمسكوا به فس ُيحبس ثالث سنوات؛ ألن القتل غير متعمد‪ ..‬ثالث سنوات‬
‫مقابل تعاسة عمر بأكمله لي وألوالدي‪..‬‬
‫‪143‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كثيرا ما كان يسألني براء خالل هذه الفترة عن أبيه‪ ..‬أين ذهب؟ ولماذا‬
‫ً‬
‫أطال الغياب؟ حتى يأس ولم يعد يسأل‪ ،‬لم يفهم إجابتي أن أباه ذهب عند‬
‫حتما ولكنه سيكبر يو ًما ويفهم أن‬
‫الله‪ ،‬فكل ذهاب مقترن في عقله بالعودة ً‬
‫بعض الذهاب ال عودة منه‪..‬‬
‫أالحظ في عين مارية ‪-‬التي لم تتمكن من النطق بطالقة بعد‪ -‬اشتيا ًقا‬
‫ألبيها الذي اختفى من أمامها فجأة وال تدري أين ذهب وال تعرف كيف تعبر‬
‫عن ذلك‪ ،‬فتذهب إلى األبواب وتنظر وراءها؛ لعلها تجده كما كانت تلعب‬
‫معه ويختبئ منها وراء األبواب‪ ،‬فال تجد أحدً ا فتدور بعينيها في األرجاء؛‬
‫بح ًثا عنه لعله يخرج من هنا أو هناك فيفاجئها كما كان يفعل وتنخرط في‬
‫الضحك بعدها‪..‬‬
‫أحاول بأي شكل تعويض هذا الحرمان لديهما‪ ،‬ولكن أي شيء في‬
‫الدنيا يعوض فقدان األب!!‬
‫أصبح كل ما يشغلني اآلن هو تنشئتهما كما أراد هاشم‪..‬‬
‫أن أجعلهما كما كان يدعو لهما دو ًما بدعوة أمير المؤمنين عمر بن‬
‫الخطاب للحسن البصري عندما حمله وهو رضيع‪..‬‬
‫«اللهم حبب خلقك فيه واجعله يدل الناس عليك»‬
‫وأكون األم الصالحة التي تمناها لهما أبوهما‪..‬‬
‫كثيرا أن‬
‫وبرغم من صعوبة موقف وفاة هاشم ومرارته فإنني أحمد الله ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪144‬‬

‫حدث كل هذا ونحن وسط عائلتينا‪ ،‬أتخيل أن أتى قدر الله إلى هاشم ونحن‬
‫في الغربة‪ ..‬كيف كنت سأواجه كل هذا وحدي؟!‬
‫تنهدت وأنا أسترجع الله في أموري كلها‪ ،‬وأترحم على هاشم‪ ،‬وأدعو‬
‫ُ‬
‫وقمت بتحريكه ببطء‪ ،‬بدأ في‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى براء النائم بجانبي‬
‫ُ‬ ‫على قاتله‪،‬‬
‫االستيقاظ وهو يفرك عينيه بكلتا يديه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬صباح الخير يا أمي»‬
‫‪« -‬صباح الخير يا حبيبي‪ ،‬كيف حالك اليوم؟»‬
‫إلي بنصف عين وهو يتثاءب‪ً ،‬‬
‫قائل‪:‬‬ ‫نظر ّ‬
‫‪« -‬بخير الحمد لله‪ ..‬هل سنذهب لتمرين السباحة؟»‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬هيا يا بطل قم تناول فطورك سري ًعا حتى نذهب للتمرين فلم‬
‫يبق على موعده غير ساعة»‬
‫َ‬
‫متجها بحركة سريعة‬
‫ً‬ ‫نفض براء اللحاف بعيدً ا وهو يقفز من السرير‬
‫لخارج الغرفة؛ ذاه ًبا إلى الحمام فهو ينتظر هذا اليوم بفارغ الصبر‪ ،‬ويعد‬
‫الساعات حتى يحين موعده في كل مرة‪.‬‬
‫وقمت بتجهيز مالبس السباحة ووضعتها في‬ ‫ُ‬ ‫أعددت له الفطور‪،‬‬
‫ُ‬
‫جلست على حاسوبي ريثما ينتهي من تناول طعامه‪ ،‬وأنا أتطلع‬
‫ُ‬ ‫حقيبته‪،‬‬
‫بيأس إلى الشاشة المضاءة أمامي بانتظار تحميل صندوق الرسائل‬
‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫اتسعت عيناي بحماس عندما‬
‫ْ‬ ‫الخاص ببريدي اإللكتروني‪،‬‬
‫‪145‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وددت أن أقوم‬
‫ُ‬ ‫«أخيرا»‪،‬‬
‫ً‬ ‫تنبيه برسالة جديدة وأنا أقول بصوت ال ُيسمع‬
‫بفتحها ولكن ضيق الوقت لم يسعفني لذلك فيجب أن نذهب اآلن‪،‬‬
‫تأكدت من وضع هاتفي بالحقيبة فهو الوسيلة الوحيدة التي أستطيع‬ ‫ُ‬
‫أوصيت أمي بمراقبة مارية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫من خاللها قراءة الرسالة في أثناء الطريق‪..‬‬
‫كنت ال أريد أن أوقظها؛ فاستغراقها في النوم يدل أنها ربما تظل نائمة‬
‫ُ‬
‫حتى نرجع‪..‬‬
‫نقلنا أبي بسيارته حتى استطعنا أن نصل قبل موعدنا بدقائق‪ ،‬انطلق براء‬
‫جر ًيا للداخل وتابعته بخطى سريعة‪ ،‬جلسنا أنا وأبي على طاولة بالستيكية‬
‫تطل على المسبح؛ لنراقب براء عن قرب‪ ،‬كنت أقوم بتشجيعه عندما يسبح‬
‫بمفرده مسافة طويلة وأحييه عندما يستطيع أن يكتم نفسه أكبر قدر من‬
‫الوقت تحت الماء‪..‬‬
‫نظرت إلى أبي الذي يتابع براء وهو يبتسم‪ ،‬وأنا أفتش في عقلي عن‬
‫ُ‬
‫أي موضوع مناسب أستطيع أن أفتح به حديثي معه‪ ،‬ومن خالله أخبره بما‬
‫وجدت بغيتي فقلت له سائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أريد‪ ..‬حتى‬
‫‪« -‬كيف حال مشروعكم الجديد يا أبي؟»‬
‫أجابني وقد ظهر في عينيه الحماس‪:‬‬
‫‪« -‬األمور كلها بخير الحمد لله‪ ..‬ما زلنا في مرحلة تجميع األموال من‬
‫الشركاء وسنبدأ بعدها في الشروع بشراء األرض‪ ،‬ثم شراء المعدات‪ ،‬ونبدأ‬
‫بالبناء إن شاء الله»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪146‬‬

‫ابتسمت له‪:‬‬
‫‪« -‬جيد جدًّ ا»‬
‫ثم تابعت‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن أال ترى أنها مجازفة كبيرة أن تدخل في هذا المشروع بكل ما‬
‫يتبق لنا سوى شقتنا والسيارة‬
‫نملك؟! لقد قمت ببيع كل شيء حتى بيتنا ولم َّ‬
‫وسحبت كل النقود من البنك»‬
‫قال بالحماسة نفسها‪:‬‬
‫‪« -‬هذا المشروع ضخم يا حنين ويحتاج لكثير من األموال حتى يتم‬
‫بالمستوى المطلوب‪ ،‬كما أنني شاركت بجميع أموالي فيه؛ ألحصل على‬
‫أكبر قدر من األسهم وفي المقابل سأحصل على أكبر قدر من األرباح»‬
‫ثم نظر أمامه وهو يسرح في خياله‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪« -‬أرباح هذا المشروع ستجعلنا في مكان آخر يا حنين‪ ،‬عندما نجني األرباح‬
‫سأشتري لكم فيال كبيرة ملحق بها حمام سباحة‪ ،‬وسأجلب لكل واحد منكم‬
‫بدل من أمك‪ ،‬وسأدخل‬ ‫سيارة‪ ،‬وأوظف العديد من الخدم؛ ليقوم بمهمام البيت ً‬
‫خاصا لهما في البنك»‬
‫براء ومارية أحسن مدرسة مهما كان ثمنها‪ ،‬وأفتح حسا ًبا ًّ‬
‫ثم عبس ً‬
‫قليل وهو يشيح بنظره بعيدً ا‪:‬‬
‫‪« -‬كل ما يشغل بالي هو آسر أخشى عندما تأتي األموال يأخذ ما يريده‬
‫ويبتعد عنا أكثر»‬
‫‪147‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ثم نظر تجاهي‪ ،‬وقال‪:‬‬


‫‪« -‬المشكلة الحقيقية اآلن أن أرباح هذا المشروع ستبدأ بعد عام أو‬
‫عامين ربما‪ ..‬وخالل هذه الفترة لن أستطيع أن أعطي له المال حتى أسد‬
‫جميع نفقات البيت‪ ،‬وهو لألسف ال يفكر في أي شيء سوى مصلحته‬
‫ومطالبه التي ال تنتهي وبالتأكيد سيفتعل المشاكل»‬
‫فركت‬
‫ُ‬ ‫شعرت مع جملة أبي األخيرة أن هذا الوقت المناسب إلخباره‪،‬‬
‫ُ‬
‫رجعت إليه قائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫يدي وأنا أنظر بعيدً ا‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬
‫‪« -‬ال تقلق يا أبي س ُيحل هذا الموضوع إن شاء الله»‬
‫عقد حاجبيه مستغر ًبا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬وكيف؟»‬
‫قلت بحماسة‪:‬‬
‫‪« -‬اليوم أرسلت لي إحدى شركات الدعاية لألدوية رسالة تخبرني‬
‫فيها أنهم يريدون إجراء مقابلة شخصية معي بعد قراءة سيرتي الذاتية التي‬
‫سيتحدد بعدها قبولي بإحدى الوظائف الشاغرة لديهم»‬
‫ثم تابعت بخوف‪:‬‬
‫‪« -‬أو رفضي»‬
‫عبس أبي بعد سماع كالمي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن يا حنين‪»...‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪148‬‬

‫أوقفته بيدي قائلة‪:‬‬


‫‪« -‬أرجوك يا أبي‪ ..‬لن أسمح بتضييع هذه الفرصة من يدي؛ فجميع‬
‫الشركات تشترط الخبرة وكما تعلم لم أزاول المهنة بمؤهلي من قبل وهذه‬
‫الشركة الوحيدة التي أرسلت لي»‬
‫كثيرا من‬
‫سهل كما تتخيلين‪ ..‬ستصادفين ً‬ ‫ً‬ ‫‪« -‬ولكن العمل ليس‬
‫المشاكل والصعاب‪ ..‬ستقابلين نوعية من البشر لم تريها من قبل»‬
‫تنهدت وأنا أنظر إلى براء القابع بحمام السباحة‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أعلم ولكني أحتاج إلى هذا العمل فأنت كما تعلم لم يترك لنا‬
‫هاشم الكثير من األموال حتى بعدما أوصيت صديقه المقيم بأستراليا ببيع‬
‫متعلقاتنا التي مازالت هناك أتت بمبلغ زهيد‪ ،‬وأنا أريد أن أحافظ على‬
‫مستوى معيشة براء ومارية ال أريد أن أحرمهما من أي شيء في يوم من‬
‫األيام بسبب قصر اليد»‬
‫ظهر الغضب على وجه أبي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬كيف تقولين هذا يا حنين وأنا مازلت على قيد الحياة»‬
‫‪« -‬لم أقصد هذا يا أبي بارك الله لنا فيك وأمد في عمرك‪ ،‬ولكن على األقل‬
‫هذه الفترة حتى تبدأ أرباح مشروعك تعود علينا‪ ،‬ثم إنني في حاجة الكتساب‬
‫وجدت ما يضايقني بهذا العمل سأتركه على الفور»‬
‫ُ‬ ‫هذه الخبرة‪ ،‬وإذا‬
‫ض َّيق أبي عينيه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪149‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ما رأيك أن أكلم جارنا دكتور مجدي وتعملين معه بالصيدلية؟»‬
‫هززت رأسي نافية‪:‬‬
‫‪« -‬ال يا أبي‪ ..‬عملت قبل ذلك في مدة تكليفي بالكلية بإحدى‬
‫الصيدليات‪ ،‬ولم أتكيف مع طبيعة هذا العمل‪ ،‬التعامل مع الجمهور يتطلب‬
‫شخصية تتمتع بكثير من النقاط وأنا أفتقد لتلك النقاط»‬
‫أطلق أبي زفرة استسالم وهو يعقد أصابعه على الطاولة ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ومتى تلك المقابلة؟»‬
‫ابتسمت له وأنا أجيب بحماس‪ « :‬غدً ا»‬
‫ُ‬
‫***‬
‫تملكني التوتر الظاهر في قوة زفراتي‪ ،‬وحركة أصابعي المستمرة‪،‬‬
‫وهي تنقر بخفة على يدي األخرى وأنا أجلس على ذلك الكرسي الجلدي‬
‫األنيق‪ ،‬وأتأمل الغرفة من حولي‪.‬‬
‫جذب انتباهي ذلك الحائط المعلق في أوله تمساح محنط صغير الحجم‪،‬‬
‫أيضا ربما‬
‫وبعده بسنتيمترات كائن لم أعرفه‪ ..‬له ذيل طويل‪ ،‬ورأس صغير محنط ً‬
‫يكون سحلية‪ ،‬اتجهت بوجهي بعيدً ا؛ فوضعي ال يتحمل النظر لهذه األشياء اآلن‪..‬‬
‫نظرت إلى المكتب الذي يبعد عني ً‬
‫قليل فرأيت عينين تنظران لي‬ ‫ُ‬
‫مصغرا لثعبان فاتح فكيه آلخرهما ومخرج لسانه يأخذ‬
‫ً‬ ‫مجسما‬
‫ً‬ ‫بحدة‪ ،‬كان‬
‫وضع (الكوبرا) قبل أن تنفث سمها‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪150‬‬

‫وضعت يدي على جبهتي وأنا أغمض عيني‪ ،‬يبدو أن هذا الشخص‬
‫ُ‬
‫مولع بالزواحف‪..‬‬
‫ٌ‬
‫جذب نظري ذلك الحامل الذهبي المستطيل القابع بمقدمة المكتب‪،‬‬
‫اقتربت برأسي حتى أستطيع قراءة االسم‪..‬‬
‫ُ‬
‫«دكتور حاتم فؤاد‪ ..‬مدير شركة (كير) لدعاية األدوية والعقاقير»‬
‫رجعت بظهري سري ًعا إلى الوراء‪ ..‬دخل‬
‫ُ‬ ‫سمعت صوت مقبض الباب‪،‬‬
‫ُ‬
‫متجها‬
‫ً‬ ‫سيجارا‬
‫ً‬ ‫شخص يتحدث بهاتفه وباليد األخرى يحمل بين إصبعيه‬
‫إلى المقعد القابع خلف المكتب‪ ،‬جلس وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬نعم نعم‪ ..‬فهمت‪ ..‬حسنًا أرسل لي البيانات كاملة على بريدي‬
‫اإللكتروني اآلن؛ حتى نبدأ في الدعاية سري ًعا»‬
‫نظرت إليه كان يبدو في منتصف األربعينيات‪ ..‬شديد سواد الشعر لم‬
‫ُ‬
‫ينل الشيب منه شي ًئا إال الفودين‪ ،‬أبيض البشرة‪ ،‬له شارب كث‪ ..‬وضعت‬
‫الوسامة لمستها على مالمحه‪ ،‬عطره يسبقه في الدخول إلى المكان‪ ،‬وتظهر‬
‫عليه األناقة الشديدة واالهتمام بمظهره‪.‬‬
‫أنهى مكالمته ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا أنا في االنتظار‪ ..‬مع السالمة‪ ..‬مع السالمة»‬
‫نفسا من سيجاره‬
‫نظر إلى الورق الملقى أمامه على المكتب‪ ،‬وهو يأخذ ً‬
‫مبتسما‪:‬‬
‫ً‬ ‫ويخرجه ببطء‪ ،‬رفع نظره إلي‬
‫‪151‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬دكتورة حنين؟»‬


‫أجبت وقد بدا على نبرة صوتي التوتر‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫تابع وهو ينظر إلى الورق مجد ًدا‪ ،‬ويبدأ حواره مباشرة‪:‬‬
‫كثيرا في مراسلتك فكما هو واضح في‬ ‫ِ‬
‫ترددت ً‬
‫ُ‬ ‫عليك‪..‬‬ ‫‪« -‬لن أكذب‬
‫سيرتك الذاتية أنك لم تعملي من قبل‪ ،‬ولكنني بحاجة شديدة لموظفين هذه‬
‫ِ‬
‫سأعطيك رات ًّبا ألف جنيه مقابل عدم‬ ‫الفترة؛ لذلك أرسلت ِ‬
‫إليك‪ .‬في البداية‬
‫خبرتك لمدة ستة أشهر وبعد ذلك نرى إن كان أداؤك جيدً ا خالل هذه الفترة‬
‫سأقوم بزيادة راتبك»‬
‫ثم نظر إلي وهو يتصنع االبتسام‪:‬‬
‫‪« -‬أو نستغني عن خدماتك متمنين ِ‬
‫لك كل التوفيق في حياتك القادمة»‬
‫اتجه إلى شاشة الحاسوب أمامه‪ ،‬وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬عملنا ليس بالصعب‪ ..‬شركات األدوية تأتي إلينا فنقوم بالدعاية لمنتج‬
‫جديد لديها ستطرحه في األسواق‪ ،‬وكل ما نفعله أن نقوم باالتصال بعدد من‬
‫األطباء والمستشفيات الخاصة‪ ،‬ونعرفهم بهذا المنتج وكيفية الحصول عليه»‬
‫قائما‪:‬‬
‫بدأ بالتحرك من مقعده ً‬
‫‪« -‬سأعرفك اآلن على زمالئك بالشركة وسيقومون بشرح طبيعة‬
‫العمل ِ‬
‫لك أكثر»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪152‬‬

‫وقفت استعدا ًدا للذهاب معه‪ ،‬لكنه وقف أمامي وهو ينظر إلى وجهى‬
‫ُ‬
‫ارتفعت حرارة وجهي‬
‫ْ‬ ‫خفضت بصري سري ًعا إلى األرض وقد‬ ‫ُ‬ ‫بجرأة‪،‬‬
‫ً‬
‫خجل فلم أسترح لنظرته‪..‬‬
‫ضحك بصوت ٍ‬
‫عال وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬أمازال هناك فتيات يستحين بهذا الزمن؟!»‬
‫ثم قال بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪« -‬بالمناسبة هل ِ‬
‫أنت متزوجة؟»‬
‫قلت وأنا مازلت أنظر إلى األرض‪:‬‬
‫‪« -‬توفي زوجي منذ عام»‬
‫ابتسم ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬رحمه الله‪ ..‬أتمنى أن تستريحي بيننا»‬
‫رجعت خطوة للوراء وأنا أهز‬
‫ُ‬ ‫مد لي يده وهو يقول جملته األخيرة‪،‬‬
‫رأسي بالنفي‪ ،‬تغير وجهه وضم أصابعه إلى باطن كفه وسحبها ببطء‪ً ،‬‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬هيا ألعرفك على زمالئك»‪..‬‬
‫تابعته إلى الخارج‪ ..‬كانت الشركة عبارة عن شقة كبيرة‪ ،‬أول شيء يطل‬
‫عليه الباب هو صالة استقبال العمالء‪ ،‬ثم ممر طويل بعض الشيء أوله تلك‬
‫الغرفة التي أجريت بها المقابلة‪ ،‬ثم المطبخ والحمام وغرفة صغيرة‪ ،‬وفي‬
‫نهايته غرفة كبيرة مقسمة ألربعة أجزاء يفصل بينها فاصل زجاجي متوسط‬
‫الطول‪ ،‬وكل قسم به مكتب وجهاز حاسوب وهاتف‪.‬‬
‫‪153‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كان يجلس على المكتبين الظاهرين أمامي شابان ظهرهما لي ويتجهان‬


‫بوجههما إلى شاشة الحاسوب‪..‬‬
‫نادى دكتور حاتم‪:‬‬
‫‪« -‬دكتور أسامة‪ ،‬دكتور سيد‪ ،‬دكتورة رحاب‪ ..‬تعالوا ألعرفكم على‬
‫زميلتكم الجديدة»‬
‫ً‬
‫طويل ذا بشرة‬ ‫قام الشابان وتحركا تجاهنا‪ ..‬كان أسامة نحيل الجسم‪،‬‬
‫قمحية‪ ،‬أما سيد فقصير القامة‪ ،‬ممتلئ الجسم‪ ،‬أسمر اللون‪.‬‬
‫تابع دكتور حاتم وهو يشير بيده تجاهي‪:‬‬
‫‪« -‬دكتورة حنين ستنضم إلينا من الغد‪ ،‬أريد منكما أن تشرحا لها طبيعة عملنا‬
‫أكثر‪ ،‬ستجلس يومين تراقبكما؛ لتفهم كيف يتم األمر أكثر ثم تبدأ في ثالث يوم»‬
‫أومأ لي أسامة مع ابتسامة باردة ثم انسحب‪ ،‬ورجع إلى مقعده‪ ،‬بينما‬
‫رحب بي سيد وهو يقول بلكنة صعيدية‪:‬‬
‫«أهل ِ‬
‫بك بيننا»‬ ‫‪ً -‬‬
‫أومأت له برأسي وأنا أبتسم‪ ،‬سمعت صوت طرقات كعب حذائها‬
‫العالية‪ ..‬ظهرت من خلف الحاجز الزجاجي وهي تتقدم نحونا‪ ،‬كانت‬
‫ممشوقة القوام ترتدي ز ًّيا ضي ًقا يبرزه‪ ،‬شعرها مموج أسود داكن طويل‬
‫يصل لنصف ظهرها‪ ،‬تضع الكثير من مساحيق التجميل على وجهها‪،‬‬
‫وعطرها الفواح يسبقها‪ ..‬مدت لي يدها وهي تنظر إلي قائلة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪154‬‬

‫‪« -‬أعتذر‪ ..‬كنت أتكلم بالهاتف‪ ..‬ويجب أن أنهي المكالمة ً‬


‫أول»‬
‫نظر إليها دكتور حاتم ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬دكتورة حنين هي مهمتك القادمة يا رحاب‪ ،‬ستجلس بجانبك حتى‬
‫تتشرب طريقة عملنا‪ ،‬أنا أعرف أنك خير َم ْن تقومين بهذه المهمة»‬
‫نظرت إليه وهي تبتسم لتكشف عن أسنان بيضاء مرتبة متراصة بشكل‬
‫جمالي قائلة‪:‬‬
‫علي»‬
‫‪« -‬اعتمد ّ‬
‫مغادرا الغرفة‪ ،‬قالت لي رحاب وهي مبتسمة‪:‬‬
‫ً‬ ‫رحل دكتور حاتم‬
‫ِ‬
‫ألريك مكتبك»‬ ‫‪« -‬تعالي‬
‫مشينا خطوات قليلة حتى وصلنا إلى مكتبين مالصقين لمكتبي أسامة‬
‫وسيد‪ ،‬ثم قالت وهي تشير إليهما‪:‬‬
‫مجاور لمكتبي»‬
‫ٌ‬ ‫‪« -‬كما ترين مكتبك‬
‫اقتربت من المكتب وهي تفتح أدراجه وتقول‪:‬‬
‫‪« -‬عندما أخبرني دكتور حاتم بمجيئك باألمس قمت بترتيب مكتبك‬
‫وأفرغت األدراج من محتويات من كان قبلك»‬
‫نظرت تجاه المقعد وأكملت‪:‬‬
‫‪« -‬إِ ْن لم تستريحي بالمقعد أخبري دكتور حاتم على الفور وسيقوم‬
‫باستبداله ِ‬
‫لك»‬
‫‪155‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫تابعت وهي تتجه لمقعد مكتبها‪:‬‬


‫‪« -‬ستجلسين بجانبي اليوم وغدً ا‪ ،‬وستفهمين الموضوع أكثر من‬
‫خالل متابعتك لما أقوم»‬
‫ثم ابتسمت قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬نحن هنا جمي ًعا عائلة واحدة وستصيرين فر ًدا منها مع مرور األيام‪،‬‬
‫وأتمنى أن تستريحي بالشركة»‬
‫أيضا؛ فبداخلي شعور غريب ال أستطيع‬
‫ابتسمت لها وأنا أتمنى ذلك ً‬
‫أن أحدده هل هو عدم ارتياح أم الخوف المعتاد مع بداية أي شيء جديد‪..‬‬
‫ال أعرف‪ ..‬ولكن كانت تنتابني رغبة في البكاء ال أعلم سببها!!‪...‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪156‬‬

‫(‪)14‬‬

‫نظرت إلى عقارب ساعتي المتسارعة‪ ،‬خبطت بأصابع يدي اليسرى‬


‫ٍ‬
‫متوال ومتوتر وأنا أنظر إلى الشارع الخالي‬ ‫على قبضة يدي اليمنى بشكل‬
‫أمامي يمنة ويسرة‪ ،‬ويقف على الرصيف بجانبي على بعد متر من جهة‬
‫اليمين عدد من األشخاص َم ْن هم في مثل موقفي‪.‬‬
‫أطلقت زفرة ضيق وأنا أنظر إلى األرض‪ ،‬وقد بدأ اليأس يخبرني‬
‫بصوت هامس «ستتأخرين كالعادة» ولكن سرعان ما اختفى صوته مع‬
‫ظهور عالمات األمل تلوح في األفق من بعيد؛ فلقد أتت الحافلة‪..‬‬
‫وقفت على بعد خطوتين مني‪ ،‬فأسرعت صوب بابها قبل أن يهرول‬‫ْ‬
‫جميع الواقفين إليه‪ ،‬صعدت أبحث سري ًعا ببصري بين هذين الصفين من‬
‫وجدت مكانًا خال ًيا‪ ،‬جلست وأنا‬
‫ُ‬ ‫المقاعد عن اليمين وعن الشمال حتى‬
‫ألتقط أنفاسي وأحمد الله بداخلي أن حصلت على هذا المقعد بعد رؤية‬
‫هذا البحر البشري الصاعد خلفي وكان من نصيبه الوقوف بالممر‪..‬‬
‫دو ًما ما يحدث هذا مع بداية كل أسبوع‪ ..‬تختفي سيارات األجرة وتقل‬
‫الحافالت الخاصة‪ ،‬كنت ال أدري سبب هذا حتى أخبرني دكتور سيد أن‬
‫صباحا بالطرق مع بداية كل أسبوع‪ ،‬فيفر المخالفون؛‬
‫ً‬ ‫اللجان المرورية تنتشر‬
‫‪157‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ً‬
‫سؤال بداخل رأسي مع رؤية الطريق‬ ‫خو ًفا من دفع الغرامة فيطرح هذا‬
‫الخالي من وسائل المواصالت وهو «هل كل السائقين مخالفون؟!!»‬
‫وبرغم هذا الضغط الحاصل في صباح تلك األيام فإنني أفرح بها في‬
‫قرارة نفسي‪ ،‬فهي مبرر جيد أعلل به تأخري‪ ،‬فالحقيقة التي يجب أن أعترف‬
‫بها أنني صرت أتأخر كل يوم سواء توفرت وسائل المواصالت أو لم تتوفر‪..‬‬
‫مضى لي في العمل ستة أشهر لم أتأخر في األربعة األولى منها يو ًما‪،‬‬
‫لم يبدأ التأخر إال مع بدء العام الدراسي منذ شهرين وذهاب براء إلحدى‬
‫رياض األطفال التابعة لمدرسة قريبة من بيتنا‪..‬‬
‫صار هذا عب ًئا صباح ًّيا جديدً ا أعاني منه‪ ،‬أن أقوم بإيقاظ براء وتحضير‬
‫فطوره وطعامه الذي سيأخذه معه‪ ،‬وإيصاله إلى المدرسة‪ ،‬ثم ذهابي للعمل‪،‬‬
‫سباق أخوضه كل يوم الهثة أصارع عقارب الساعة فأفوز مرة وتسحقني مرات‪..‬‬
‫كثيرا ما يحاول أبي وأمي مساعدتي ولكن ال أريد إرهاقهما فليس من‬ ‫ً‬
‫العدل أن يتعبا بتربيتي أنا وأخي ثم بعد أن يصيرا كهلين ويرجوا الراحة ُألقي‬
‫كبيرا بمسئوليات أطفالي فيعيدا الكرة مرة أخرى‪ ،‬كما أن‬
‫ثقل ً‬‫على كتفيهما ً‬
‫كثيرا هذه الفترة بمتابعة مشروعه الجديد‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫مشغول ً‬ ‫أبي‬
‫كنت أفكر أحيانًا مع كثرة شعوري بالضغط هذه الفترة في ترك العمل‬
‫والتفرغ لبراء ومارية ولكن أحاول أن أكمل سنة بعملي على األقل؛ حتى‬
‫أحصل على شهادة خبرة أعزز بها سيرتي الذاتية ً‬
‫قليل أمام أية شركة إذا أردت‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪158‬‬

‫الرجوع للعمل يو ًما فبعد أن دخلت هذا المجال علمت أهمية أن يكون لديك‬
‫خبرة بعدد سنوات ال بأس بها؛ حتى تستطيع الحصول على وظيفة براتب جيد‪.‬‬
‫تنهدت وأنا أنظر للنافذة الزجاجية التي يفصل بيني وبينها مقعد تجلس‬
‫عليه امرأة مسنة‪ ،‬وأفكر هل هذا ح ًّقا ما أريد ترك العمل ألجله أم ما يجعلني‬
‫أفكر بترك العمل هو ذلك الرجل الذي تختفي حقيقته وراء بذلته األنيقة‬
‫وعطره القوي‪ ،‬أنعم الله عليه بالزواج من امرأة يثني َم ْن يعرفها على حسن‬
‫خلقها كما أنها ابنة أحد األثرياء المشهورين في البلد إال أنه ال يمل من‬
‫مغازلة النساء‪ ،‬يتفرس أية امرأة تمر عليه بعينيه ويحاول أن يجذبها بوسامته‪،‬‬
‫وابتساماته اللطيفة‪ ،‬وطريقة حواره األنيقة‪ ،‬يشبه الثعبان ‪-‬الذي يضعه على‬
‫مكتبه تما ًما‪ -‬ذو جلد ناعم يغري به من حوله ويلف ببطء حول فريسته حتى‬
‫إذا تمكن منها نفث سمه‪ ،‬قليالت َم ْن نجين منه وكثيرات وقعن بشباكه‪..‬‬
‫أعلم أنه ال يحب وجودي بالشركة؛ فأنا لست من النوع المفضل لديه‬
‫دائما ربما تذكره بحقيقته القذرة‪ ،‬ولكن‬
‫فصرامتي ومالمحي المقتضبة بوجهه ً‬
‫رغما عنه‪..‬‬
‫مهارتي بالعمل التي اكتسبتها سري ًعا تجعله يتمسك بوجودي ً‬
‫زمالئي أكتشفهم أكثر مع مرور األيام‪ ..‬دكتور أسامة لم أرتح له من‬
‫البداية‪ ،‬صمته الدائم ونظرته الماكرة يثيران الريبة حوله‪ ،‬عرفت فيما بعد أنه‬
‫عين لدكتور حاتم بيننا ينقل له كل كالمنا وأفعالنا كما أنه يحاول أن يصل‬
‫إلى أية معلومات عن العمالء وينقلها له مقابل مكافأة مادية‪ ..‬تجنبته من‬
‫البداية‪ ،‬أرد عليه تحية الصباح إِ ْن ألقها وغير ذلك ال حديث بيننا‪..‬‬
‫‪159‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ودكتور سيد متزوج ولديه ثالثة أبناء‪ ..‬خفيف الظل‪ ..‬يحب عائلته‬
‫كثيرا‪ ،‬وأغلب وقته يتحدث عنهم‪ ،‬يذكرني حبه لزوجته وأوالده بحب أبي‬‫ً‬
‫لنا‪ ..‬شهامته الصعيدية تغلب عليه في كثير من المواقف معنا‪..‬‬
‫كثيرا أن أتجنبه؛ فأنا أحاول أن أحافظ على العهد الذي‬‫حاولت ً‬
‫اتخذته على نفسي مع أول يوم لي بالكلية وهو أال أختلط بالرجال وال‬
‫أتحدث إليهم إال للضرورة ولكنه يقتحم َم ْن أمامه بعفويته المفرطة‬
‫وحبه للمساعدة‪ ..‬أتذكر يوم أن قدم لي عرض زواج بأحد أقاربه‬
‫عرضا آخر فاستأذنته أن يتوقف‬‫واعتذرت له‪ ،‬وبعدها بأسبوعين قدَّ م لي ً‬
‫عن هذا؛ ألنني لن أرتبط بأحد بعد وفاة زوجي‪ ،‬أخبرني وقتها أنه فعل‬
‫كثيرا وكان يتمنى أن أنتسب لعائلته ويأمل أن يرى‬
‫ذلك ألنه يحترمني ً‬
‫ابنته يو ًما مثلي‪..‬‬
‫أما رحاب فهي أغرب مزيج تعاملت معه في حياتي‪..‬‬
‫عندما اقتربنا من بعضنا أكثر وجدتها فتاة تحمل قل ًبا طي ًبا للغاية‪،‬‬
‫ساعدتني في فهم طبيعة العمل جيدً ا ولم تتركني حتى تمكنت منه‪..‬‬
‫أنت حتى ال‬ ‫أحيانًا تأخذ حصتي المتبقية من العمل وتقول «اذهبي ِ‬
‫تتأخرين على أوالدك وسأكمل أنا»‪ ..‬تأتي في بعض األوقات بعلبة صغيرة‬
‫من الطعام وتخبرني أنها تذكرتني عندما كانت تأكل باألمس واحتفظت لي‬
‫بهذا الجزء حتى نتذوقه م ًعا‪.‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪160‬‬

‫تخبرني جميع أسرارها ومشاكلها ومخاوفها أن تتقدم بالسن أكثر دون زواج‬
‫وقد بلغت الثالثين من عمرها‪ ،‬طيبتها ومواقفها معي جعلتني أحبها وأتعلق بوجودها‬
‫في حياتي‪ ..‬الشيء الذي يحزنني هو اقتناعها التام بتلك المبادئ الخربة فهي ترى‬
‫أن الرجل ال يأخذ قرار االرتباط بفتاة إال إذا تأكد من تناسق قوامها ونعومة شعرها‬
‫المنسدل؛ لذلك هي ترتدي هذا الزي وتضع الكثير من مستحضرات التجميل؛‬
‫ألنها الطريقة المثلى في حصولها على العريس المناسب‪ ،‬وأنه ال يوجد أي ضرر من‬
‫كثيرا ما حذرتها‬
‫ذهابها مع دكتور حاتم وأسامة إلى الغداء أو في رحلة فهذه زمالة‪ً ،‬‬
‫من كثرة مزاحها مع دكتور حاتم وهي أعلم به مني وأعلم بحقيقته‪ ،‬فتخبرني‪:‬‬
‫‪« -‬اطمئني يا حنين هو يعلم جيدً ا أنني لست من اللواتي يحاول العبث‬
‫معهن‪ ،‬ولكنني أحاول أن أجاريه وال أضايقه؛ حتى ال يستغني عن وظيفتي‬
‫في أي وقت»‬
‫علي وقتها ناصحة‪:‬‬
‫ومالت ّ‬
‫‪« -‬ونصيحة مني يا حبيبتي حاولي أال تعبسي في وجهه‪ ،‬لن يحدث‬
‫ِ‬
‫اطمئننت على صحته‬ ‫ِ‬
‫ضحكت على نكاته التافهة الحمقاء‪ ،‬أو‬ ‫شيء إذا‬
‫عندما ترينه في الصباح‪ ،‬أو أن تثني على شيء جديد ارتداه‪ ،‬كل هذه األشياء‬
‫ِ‬
‫فأنت الموظفة‬ ‫ِ‬
‫عليك بالمكافآت؛‬ ‫لك رصيدً ا عنده ولن يبخل‬ ‫ستجعل ِ‬
‫سريعة البديهة ال َلبِ َقة التي تهتم بتفاصيل ليست لها أية أهمية ولكنه يسعد‬
‫بذكرها كطفل صغير‪ ..‬وكما يقول المثل (الرزق يحب الخفية)»‬
‫‪161‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كنت أواجه كالمها باعتراض شديد‪ ،‬وأفهمها حقائق األمور‪ ،‬وهي أننا‬
‫لسنا بضاعة تُباع وتُشترى‪ ،‬ويجب أن يتأكد التاجر من جودتها قبل الشراء‪،‬‬
‫وأن الحياة الزوجية ال تُقام على هذا األساس‪ ،‬وأن دكتور حاتم ال ينظر إلى‬
‫األمور بنظرتها‪ ،‬وربما لم يحاول اإليقاع بها إلى اآلن ألنه لم تخطر هذه‬
‫تشرب عقلها‬
‫دائما أن أشعرها بنتائج ما تفعل ولكن َّ‬
‫الفكرة بباله بعد‪ ،‬أحاول ً‬
‫بتلك المفاهيم المعطوبة لألسف‪..‬‬
‫أتت أمامي تلك اليافطة الحمراء التي أعرف منها أنه يجب أن أستعد‬
‫للنزول‪ ،‬فالشركة بعدها بخمسة مباني‪ ،‬نزلت وأنا أمشي تجاه مقر الشركة بخطى‬
‫سريعة حتى وصلت إلى هناك‪ ،‬جلست على مقعدي بعد أن ألقيت حقيبتي على‬
‫المكتب‪ ،‬وأنا ألتقط أنفاسي بشكل متسارع‪ ،‬نظرت إلى رحاب وسألتها‪:‬‬
‫‪« -‬هل أتى؟»‬
‫أجابت‪:‬‬
‫‪« -‬نعم من نصف ساعة‪ ..‬ومنذ أن جاء وهو يسأل ِ‬
‫عنك»‬
‫أطلقت زفرة ضيق وأنا أتجه ببصري بعيدً ا‪ ،‬قامت رحاب من مقعدها‬
‫واقتربت مني قائلة بصوت هامس‪:‬‬
‫‪« -‬اليوم يرتدي بذلة جديدة أثني على اختياره لها‪ ،‬وستمتصين غضبه‬
‫بهذه الطريقة‪ ،‬سيخبرك بعدها كم هو يحب هذا اللون‪ ،‬وأن هذه البذلة نادرة‬
‫كثيرا حتى حصل عليها‪ ،‬وسينسى أمر تأخرك»‬
‫الوجود وتعب ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪162‬‬

‫نظرت إليها والتذمر يعلو وجهي‪ ،‬سمعنا وقع خطواته في الممر‪،‬‬


‫متجها ناحيتي وهو يشير‬
‫ً‬ ‫فرجعت رحاب سري ًعا إلى مكتبها‪ ،‬دخل الغرفة‬
‫قائل بغضب‪:‬‬ ‫إلى ساعته ً‬
‫‪« -‬كم الساعة معك اآلن دكتورة حنين؟»‬
‫وقفت وأنا مطأطئة رأسي‪:‬‬
‫‪« -‬أعتذر‪ ..‬لقد كان الطريـــ…»‬
‫‪« -‬أعذار‪ ..‬أعذار‪ ..‬أعذار‪ ..‬كل يوم األعذار نفسها التي ال تنتهي‪ ،‬نحن‬
‫ً‬
‫اتصال يدر علينا‬ ‫نعمل بشركة دعاية يا دكتورة مما يعني أن كل دقيقة تساوي‬
‫المال»‬
‫نظرت إلى رحاب بطرف عيني فوجدتها تضع سبابتها بالقرب من‬
‫إلي في إشارة منها أن‬
‫فمها وتحركها بشكل مستدير رافعة حاجبيها‪ ،‬وتنظر ّ‬
‫إلي دكتور حاتم‬
‫أتحدث‪ ،‬هززت رأسي بالنفي بعد أن أغمضت عيني‪ ،‬نظر ّ‬
‫الواقف أمامي‪ ،‬وهو يحملق بي ً‬
‫سائل‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تعني بهزة رأسك تلك؟»‬
‫انتبهت لما فعلت‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬أعتذر لم أقصد بها شي ًئا»‬
‫أكملت سري ًعا‪:‬‬
‫‪163‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬سأبدأ عملي على الفور‪ ،‬وسأجلس ساعة بعد انتهاء ساعات‬
‫العمل؛ حتى أعوض ذلك التأخير»‬
‫قليل بهذا التعويض‪ً ،‬‬
‫قائل‪:‬‬ ‫إلي وقد بدا عليه الرضا ً‬
‫نظر ّ‬
‫‪« -‬حسنًا ولكن األهم من ذلك أال يحدث هذا التأخير مرة أخرى»‬
‫أومأت له برأسي موافقة‪ ،‬نظر إلى رحاب وابتسم تلك االبتسامة‬
‫السمجة وبادلته رحاب االبتسامة نفسها‪ ،‬وغادر بعدها‪ ،‬عال صوت رحاب‬
‫بالضحك بعد أن خرج قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬عنيدة»‬
‫ابتسمت لها‪:‬‬
‫‪« -‬أنا ال أقتنع بمبادئك يا رحاب»‬
‫ً‬
‫اتصال‪:‬‬ ‫جلست على المقعد وأنا ألتقط الهاتف من حقيبتي؛ ألجري‬
‫‪« -‬السالم عليكم يا أبي‪ ..‬سأثقل عليك بطلب اليوم سأتأخر بالعمل‬
‫صباحا أرجوك أن تحضر براء من المدرسة‪ ..‬حسنًا يا‬‫ً‬ ‫حتى أعوض تأخيري‬
‫أبي‪ ..‬بارك الله لنا فيك‪ ..‬تأكدوا أنه تناول غداءه وعندما أحضر أنا سأقوم‬
‫بحل واجباته المدرسية معه‪ ..‬حسنًا‪ ..‬مع السالمة‪ ..‬مع السالمة»‬
‫نظرت إلى حاسوبي وشرعت في فتح ملفات عمل اليوم‪ ،‬وأنا أمسك‬
‫سماعة الهاتف القابع بجوار الشاشة بعد أن ضغطت على أحد أزراره وأقول‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪164‬‬

‫‪« -‬عم عبده‪ ..‬واحد شاي باللبن إذا سمحت»‪...‬‬


‫***‬
‫جرت ساعات اليوم سري ًعا لكن غنيمة االتصاالت كانت جيدة مما‬
‫أمدني بطاقة ألجلس ساعتي اإلضافية دون تعب‪ ،‬وأضفت ساعتين أخرتين‬
‫ٍ‬
‫رصيد عند دكتور حاتم فأنا ال أضمن أن يحدث‬ ‫لها في محاولة مني لتكوين‬
‫تأخير مرة ثانية فتشفع تلك الساعات عنده ويتجاوز عن األمر‪.‬‬
‫عملنا يبدو ً‬
‫سهل لكنه مرهق وممل؛ فكل مكالمة نردد الكالم نفسه‬
‫بالصيغة نفسها باألسلوب نفسه‪ ،‬وكأننا آلة مسجلة برسالة موحدة تكررها‬
‫كل دقيقة‪..‬‬
‫علي رحاب منذ الصباح أن تنجز العمل ً‬
‫بدل مني في الساعة‬ ‫عرضت ّ‬
‫كثيرا من‬
‫اإلضافية‪ ،‬ولكنني رفضت‪ ،‬فلقد تحملت األسبوعين الماضيين ً‬
‫المكالمات نيابة عني‪ ،‬فقررت أن تبقى معي حتى أنتهي وال أشعر بالوحدة‪،‬‬
‫وتنجز هي األخرى المزيد من المكالمات‪ ،‬نظرت إلى الساعة أسفل شاشة‬
‫الحاسوب وقد اقتربت دقائقها على إتمام السادسة مسا ًء‪ ،‬أخذت رشفة من‬
‫كوب القهوة سريعة التحضير‪ ،‬وأنا أريح ظهري للخلف وأحرك رقبتي يمنة‬
‫ويسرة‪ ،‬استدرت بالكرسي لليسار تجاه رحاب قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬سأنتهي بعد عشر دقائق‪ ..‬بدأت أشعر بالتعب بجانب أنني تأخرت‬
‫على األوالد»‬
‫‪165‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أومأت لي برأسها‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سأنتهي أنا األخرى اآلن لكي نذهب م ًعا»‬
‫أخرجت من حقيبتها مرآة صغيرة‪ ،‬وإصبع أحمر شفاه‪ ،‬وأعادت طالء‬
‫شفتيها وضمتهما إلى الداخل‪ ،‬وهي تنزل خصالت شعرها على عينيها‬
‫قليل للخلف‪ ،‬أخرجت قنينة عطر وأخذت ترش بخات متتالية‬ ‫وترجعها ً‬
‫في شكل دائري حولها‪..‬‬
‫قلت لها محذرة‪:‬‬
‫‪« -‬ال تضعي الكثير؛ حتى ال تلتقط ثيابي الرائحة منك وأستطيع أن‬
‫أمشي بجوارك بالطريق»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬ال تقلقي هذا من النوع الرخيص‪ ..‬ستطير رائحته قبل أن نخرج من‬
‫هنا»‬
‫نظرت باستغراب إلى رحاب وقد عال صوت رنين هاتفي قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬إنها أمي‪ ..‬يبدو أن براء أتعبها اليوم وتريد أن تعرف متى سأعود»‬
‫أجبت‪:‬‬
‫‪« -‬نعم يا أمي سأقوم ً‬
‫حال وأتـ‪ »...‬ولكنني توقفت‪ ،‬قمت ببطء وأنا أستند‬
‫إلى المكتب الذي أمامي منحنية‪ ،‬وقد تملكني الفزع وأنا أسمع أمي صارخة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪166‬‬

‫«أبوك يا حنين‪ِ ..‬‬


‫أبوك»‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫***‬
‫ترجلت من سيارة األجرة سري ًعا بعد أن وصلت إلى المشفى التي‬
‫أخبرتني أمي باسمها‪ ،‬واستطعت أن أميزه بصعوبة وسط بكائها المستمر‪..‬‬
‫نادى السائق بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬
‫‪« -‬الباقي يا أستاذة»‬
‫أجبته وأنا أتحرك صوب باب المشفى بحركة سريعة‪:‬‬
‫‪« -‬احتفظ به»‬
‫تحركت داخل المشفى حتى وصلت إلى الطابق الثاني‪ ،‬مشيت بممر‬
‫طويل يؤدي إلى غرف عدة حتى وصلت إلى آخره‪ ،‬ونظرت إلى جهة اليمين‬
‫لممر صغير يضم ثالث غرف‪ ،‬فوجدت أمام باب الغرفة األخيرة آسر وهو‬
‫يعقد ذراعيه أمام صدره مستندً ا إلى الحائط‪ ،‬وأمي تبكي وتضع يدها على‬
‫اقتربت منهم وقد انقبض قلبي‬
‫ُ‬ ‫فمها‪ ،‬وخالي بجانبها يربت على كتفها‪،‬‬
‫من رؤية الحزن القابع عليهم‪ ،‬جرت أمي نحوي ودفنت رأسها بداخلي‬
‫وانفجرت في البكاء‪ ،‬ربت على كتفها وحاولت أن أهدئها وأنا أمسح على‬
‫ظهرها‪ ،‬نظرت إلى خالي وسألته بعيون حائرة‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا حدث؟»‬
‫نظر خالي إلى األرض وقال بحزن‪:‬‬
‫‪167‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬رجل األعمال الذي كان يجمع األموال لبدء المشروع المنضم له‬
‫ِ‬
‫أبوك‪ ..‬هرب مساء األمس إلى خارج البالد»‬
‫اتسعت عيناي من هول المفاجأة‪ ،‬وتابع خالي‪:‬‬
‫‪« -‬لم يتحمل ِ‬
‫أبوك وقع الخبر‪ ..‬عندما علم باألمر أغشي عليه‪ ،‬واتصلوا‬
‫بنا‪ ،‬فنقلناه إلى المشفى‪ ،‬واآلن األطباء بالداخل في انتظارهم ليخبروني ماذا‬
‫حدث له»‬
‫تركت أمي حضني وهي تقول بغضب ودموعها تتدفق على وجنتيها‪:‬‬
‫ْ‬
‫ً‬
‫أموال‪ ..‬ملعونة األموال أينما ذهبت‪..‬‬ ‫ً‬
‫أموال‪ ..‬ال نريد‬ ‫‪« -‬ال نريد‬
‫ملعونة»‬
‫أمسكت بيدها وأنا أحاول تهدئتها‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬اصبري يا أمي‪ ..‬اصبري‪..‬سيخرج األطباء اآلن ويطمئنونا أنه‬
‫مجرد عارض وسيزول إن شاء الله»‬
‫قال آسر بصوت ينم عن الضيق‪:‬‬
‫‪« -‬ال أعرف كيف فعل هذا‪ ..‬كيف يضع جميع أموالنا في مشروع‬
‫واحد مع رجل لم يسبق له التعامل معه‪..‬كنت أظن أنه يضع بعض األموال‬
‫وليس كل ما نملك»‬
‫وهممت بقول شيء لوال أننا سمعنا صوت باب الغرفة ُيفتح‪..‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إليه‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪168‬‬

‫خرج طبيبان‪ ..‬ذهب أحدهما بينما بقي اآلخر‪ ،‬أسرعنا تجاهه لنطمئن‪،‬‬
‫بدأ الحديث وعالمات األسف بادية عليه‪:‬‬
‫‪« -‬لألسف ارتفع ضغطه فجأة بشكل كبير مما أدى إلى حدوث جلطة»‬
‫صمت برهة وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬وكانت السبب في إصابة نصفه األيمن بالشلل»‬
‫شهقت أمي وهي تضرب بيدها على صدرها وترجع للخلف‪ ،‬بينما‬‫ْ‬
‫جرت دموعي على خدي بعد سماع كالم الطبيب‪..‬‬
‫سأله خالي‪:‬‬
‫‪« -‬هل نستطيع رؤيته؟»‬
‫‪« -‬الليلة ال‪ ..‬ربما نسمح بالزيارة بعد يومين أو ثالثة»‬
‫قالت أمي بصوت ٍ‬
‫باك‪:‬‬
‫‪« -‬سأبقى بجواره الليلة»‬
‫قال الطبيب‪:‬‬
‫‪« -‬ال داعي لذلك فلن تستطيعي رؤيته‪ ،‬من رأيي أن ترجعوا جميعكم‬
‫للبيت وتأتون غدً ا»‬
‫سألته بصوت متهدج‪:‬‬
‫‪« -‬إلى متى سيتم حجزه هنا؟»‬
‫‪169‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أجاب‪:‬‬
‫‪« -‬ال نعلم‪ ..‬ربما يطول األمر أو يقصر‪ ،‬ولكن إلى اآلن وضعه غير‬
‫مستقر ويجب وضعه تحت أعيننا»‬
‫استأذن منا وذهب‪ ،‬أصرت أمي على المبيت وأنها لن تذهب إلى أي مكان‬
‫حاولت أنا وخالي إقناعها أن ال فائدة من ذلك وأن جسدها‬
‫ُ‬ ‫وتتركه هنا وحده‪،‬‬
‫لن يتحمل الجلوس على الكرسي طوال الليل‪ ،‬وعندما يحل الصباح سنأتي‬
‫ثانية‪ ،‬وافقت على الذهاب معنا على مضض بعد رفضها التام للرجوع إلى‬
‫البيت‪ ..‬ذهبا مع آسر إلى السيارة بينما ذهبت أنا إلى قسم الحسابات؛ ألستلم‬
‫الفاتورة‪ ،‬تفاجأت بهذا الرقم المكون من أربعة أرقام وهو حساب ليلة واحدة‪،‬‬
‫أخبرتهم أننا سنقوم بدفع المبلغ صباح اليوم التالي‪ ،‬ولحقت بأمي وخالي وآسر‬
‫إلى السيارة‪ ،‬كانت أمي تبكي طوال طريق عودتنا إلى البيت بينما كنت أفكر أنا‬
‫في وضع أبي‪ ،‬وإصابته المفاجأة‪ ،‬وكالم األطباء الذي ال يبشر بالخير‪ ،‬وماذا‬
‫سنفعل اآلن‪ ..‬كيف ستكون شكل حياتنا بعد هذه الصدمة‪ ،‬لم نعتد الفقر يو ًما‬
‫بل كنا مرفهين نتقلب في نعم الله‪ ،‬لم يحرمنا أبي من أي شيء طلبناه‪ ..‬اعتدنا‬
‫على أسلوب حياة معين سنأخذ وقتًا ً‬
‫طويل حتى نتعود على غيره‪.‬‬
‫وصلنا إلى البيت وكانت في استقبالنا أم سعد‪ ،‬فتحت الباب وقد ظهر‬
‫على وجهها الوجل‪ ،‬سألت عن حال أبي حتى علمت فأخذت في البكاء‬
‫والدعاء له وشاركتها أمي في ذلك‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪170‬‬

‫سألتها بعد أن هدأت ً‬


‫قليل‪:‬‬
‫‪« -‬هل نام األوالد يا أم سعد؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬نعم ناما منذ ساعة ولم يتوقف براء عن السؤال عنكم»‬
‫هززت رأسي قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬كنت أتوقع ذلك‪ ..‬فطبيعي أن يشعر باالضطراب فجأة عندما‬
‫نختفي جمي ًعا من أمامه»‬
‫ذهبت أللقي عليهما نظرة بينما استأذنت أم سعد للذهاب مع وعدها‬
‫ُ‬
‫صباحا‪ ،‬خرجت ووجدت أمي وخالي يجلسان بغرفة‬ ‫ً‬ ‫أنها ستأتي غدً ا‬
‫المعيشة وخرج آسر لينضم إلى الجلسة ألول مرة منذ زمن‪..‬‬
‫بدأ آسر الحديث وقد بدا عليه الضيق الشديد ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا سنفعل اآلن؟»‬
‫أخرجت الفاتورة ووضعتها على الطاولة التي تنتصف الغرفة قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬هذه فاتورة ليلة واحدة فقط‪ ،‬وكما تعلمون األمور اآلن اختلفت‬
‫ولم يعد معنا أية أموال‪ ..‬وضع أبي جميع أموالنا بهذا المشروع»‬
‫التقط آسر الفاتورة ونظر إليها وهو عاقد حاجبيه‪..‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫صمت برهة ثم‬
‫ُّ‬
‫‪171‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ال نعرف إلى متى سيبقى أبي بالمشفى‪ ،‬وال حل لدينا لدفع تلك‬
‫يتبق غيرها أمامنا»‬
‫الفاتورة والفواتير القادمة إال ببيع السيارة‪ ..‬لم َّ‬
‫جحظت عينا آسر وهو يقوم ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تقولين يا حنين!! لن نستطيع بيع السيارة‪ ..‬كيف سنقضي مشاويرنا!!»‬
‫قمت أمامه وأنا أصيح وأنظر إليه مستنكرة وقد فاض بي‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أهذا كل ما يشغل بالك!! السيارة ومشاويرنا؟! ألم يخطر ببالك أننا‬
‫إذا لم ندفع تلك الفواتير سيخرجون أباك من المشفى!! أبوك الذي صنعك‬
‫وجعل منك ً‬
‫رجل لتكون سندً ا له في الحياة وخيبت ظنه»‬
‫وتحركت أمام الطاولة مشيرة إليه بيدي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قمت من مكاني‬
‫ُ‬
‫‪« -‬انظر لنفسك متى خرجت لتجتمع معنا؟ خرجت اآلن بعد حدوث‬
‫مصيبة كبرى‪ ..‬أين أنت منذ شهر؟ أين أنت منذ عام؟ أين أنت منذ عامين؟‬
‫ال أستبعد أن يكون جرى ما جرى ألبي من فرط حزنه لعلمه أن ال أحد‬
‫سيتحمل مسئوليتنا بعد أن فقدنا أموالنا»‬
‫تابعت بصوت منخفض‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬إِ ْن كنت تفكر ماذا سنفعل بعدما أصبحنا فقراء فأنا أرى أن توفر‬
‫مجهود تفكيرك في البحث عن عمل أفضل ً‬
‫بدل من الجلوس بالبيت‬
‫ومرافقة العاطلين غير النافعين»‬
‫متجها نحوي وهو يرفع يده ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫قام آسر غاض ًبا‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪172‬‬

‫‪« -‬كيف تجرئين على قول هذا؟!»‬


‫إلي‪..‬‬
‫قام خالي ليمسكه ولكن كان آسر أسرع منه في الوصول ّ‬
‫كادت يده أن تصفع وجنتي لوال أن مسكتها بقوة وأنا أنظر بحدة لعينيه‪:‬‬
‫‪« -‬ال تتخيل أنني سأسمح لك بفعل ما لم يفعله معي أبي طوال حياتي‪..‬‬
‫أعلم جيدً ا أن ما أغضبك ليس كالمي ولكنها الحقيقة هي التي أغضبتك»‬
‫حدق بعيني برهة‪ ،‬ثم أزاح يدي‪ ،‬واتجه إلى غرفته غاض ًبا‪ ،‬وأغلق‬
‫الباب وراءه بقوة‪ ..‬وضعت أمي يدها على رأسها وقالت باكية‪:‬‬
‫‪« -‬لم تتشاجرا طوال حياتكما‪ ..‬ستتشاجران اآلن!!»‬
‫قال خالي‪:‬‬
‫‪« -‬هما لم يتشاجرا يا مديحة‪ ..‬ولكن كالم حنين صحيح مئة بالمئة‬
‫وكان ال بد أن يسمعه آسر»‬
‫اتجهت إلى خالي؛ ألنهي الحوار بهذا الموضوع حتى ال تزيد أمي في‬
‫البكاء وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬خالي‪ ،‬أعلم أن لديك العديد من األصدقاء‪ ..‬اعرض عليهم أمر‬
‫بيع السيارة فقد يرغب أحدهم بشرائها حتى إن خسرنا ً‬
‫قليل من ثمنها‪،‬‬
‫وسأعرض أنا األخرى بيعها على زمالئي بالعمل»‬
‫أومأ لي خالي برأسه مواف ًقا‪ ،‬ثم اتجهت بحديثي لهما م ًعا‪:‬‬
‫‪173‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬اآلن تغيرت الكثير من األمور‪ ..‬لم يعد لدينا أموال مما يعني أننا‬
‫سنتخلى عن كثير من األشياء ونعيش حياة جديدة بشكل مختلف»‬
‫قاطعني خالي‪:‬‬
‫‪« -‬سأساعد بكل ما أستطيع معكم يا حنين»‬
‫‪« -‬ال يا خالي نحن نعلم ظروفك‪ ..‬ونعلم أن راتبك بالكاد يكفيك‪،‬‬
‫كما أن هذا األمر لن يرضي زوجتك‪ ،‬ونحن ال نريد أن نسبب لك المشاكل»‬
‫زدت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬سأستعين بالله وسأحاول أن أكثف عملي؛ حتى أستطيع توفير‬
‫األموال دون أن نكون بحاجة ألحد فاألبواب المفتحة في هذا البيت عديدة‬
‫وتحتاج للكثير»‬
‫ختمت كالمي وأنا ال أعرف من أين أتيت بهذه الثقة في كالمي فأنا‬ ‫ُ‬
‫شعرت بالمسئولية عندما‬
‫ُ‬ ‫ال أعلم هل سأستطيع ح ًّقا توفير األموال أم ال‪..‬‬
‫رحل هاشم وترك لي براء ومارية‪ ،‬ولكن اآلن األمور اختلفت‪ ..‬اآلن أصبح‬
‫في رقبتي براء ومارية وأبي وأمي وآسر وبيتنا‪ ،‬إحساسي بالمسئولية أصبح‬
‫أصبحت أشعر‬
‫ُ‬ ‫ثقيل جدًّ ا حتى إنه يطبق على صدري وال أستطيع التنفس‪،‬‬ ‫ً‬
‫باالختناق وبخوف من نوع جديد لم يصيباني من قبل‪.‬‬
‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪174‬‬

‫(‪)15‬‬
‫ُيقال إن المال ال يجلب السعادة‪ ..‬أظن َم ْن قال هذه المقولة لم يعش‬
‫الفقر يو ًما‪ ،‬ولم يمر بشعور العجز الذي يتملكني اآلن‪ ..‬لم يعبث الخوف‬
‫ليل في سريره‬‫بقلبه من فقد حبيب ال يستطيع شراء الدواء له‪ ،‬ولم يتقلب ً‬
‫قل ًقا من حلول نائبة أخرى تأتيه من حيث لم يحتسب وتفتك بما تبقى لديه‬
‫من وريقات زهيدة‪..‬‬
‫كثيرا من المشاعر‬
‫قد ال يجلب المال شعور السعادة ولكن فقده يجلب ً‬
‫المخيفة‪..‬‬
‫بكوعي على المقعد وأسند ذقني‬
‫ّ‬ ‫نظرت إلى شاشة حاسوبي وأنا أتكئ‬
‫بكلتا يدي‪ ،‬ويتملكني الضيق وأنا أسمع دكتور حاتم وهو يخبر رحاب‬
‫عن ثمن نظارته الشمسية‪ ،‬وكيف أن كل من يراها يصبه الجنون من جمال‬
‫شكلها ويسأله من أين اشتراها‪ ،‬إنسان مغرور مهووس بالمناظر يبذر أمواله‬
‫يمنة ويسرة دون أن يقدر قيمتها‪..‬‬
‫ربما أصبح يزعجني ذكر أية أرقام كبيرة من األموال أمامي‪ ،‬عندما يذكر‬
‫امتلكت هذا المبلغ كيف سأستطيع‬
‫ُ‬ ‫المبالغ التي يشتري بها أشياءه أتخيل إِ ْن‬
‫أن أؤمن به عدة أمور في حياتي ألشهر قادمة‪.‬‬
‫‪175‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫بعد حادث أبي تغيرت نظرتي للحياة تما ًما ظهر ذلك النوع من الخوف‬
‫الذي لم أعتده يو ًما‪ ،‬وتغلغل بقلبي‪ ..‬الخوف من الغد‪ ..‬صار سؤال «ماذا‬
‫لو؟» ال يفارق عقلي‪ ..‬ماذا لو نفذت الفلوس قبل نهاية الشهر؟ ماذا لو‬
‫حدث أي شيء جديد وتطلب دفع األموال؟ ماذا لو لم أستطع دفع رسوم‬
‫مدرسة براء؟‪ ..‬ماذا لو‪..‬؟ ماذا لو‪..‬؟‬
‫أضع رأسي على الوسادة كل ليلة وأنا أحمد الله أن انتهى اليوم دون أن‬
‫يجد جديدٌ يستدعي صرف المزيد من األموال فتخرب الميزانية المحددة‬
‫التي أضعها له‪ ،‬ولكن ما يؤرقني أنه بالتأكيد لن يستمر الحال هكذا ستأتي‬
‫أيام لن أعرف فيها ماذا سأفعل‪ ..‬أكثر ما يفزعني هذه الفترة أن النقود التي‬
‫أتت من جراء بيع السيارة قد أوشكت على النفاذ ومصاريف هذا المشفى‬
‫غالية جدًّ ا‪ ،‬ولكنهم في المقابل يعتنون بأبي جيدً ا‪ ،‬ولن أجازف بنقله لمشفى‬
‫آخر أرخص منه‪ ..‬صحة أبي أهم من كل شيء‪ ،‬ثم بماذا أفادتنا النقود‪ ،‬كل‬
‫ما يحصل لنا اآلن من تحت رأسها‪ ،‬سأقترض المال إن استلزم األمر ولكن‬
‫لن أنقل أبي من هذا المشفى‪..‬‬
‫أرجعت رأسي إلى الخلف وأنا أنظر إلى السقف‪ ،‬وأستدير بحدقتي‬
‫عيني في األرجاء‪..‬‬
‫أصبحت أمقت هذا المكان يو ًما بعد يوم‪ ،‬فيما مضى كان عملي اختيار ًّيا‬
‫ُ‬
‫أستطيع أن أتركه في أي وقت أردت‪ ،‬كان السبب الوحيد الستمراري به‬
‫هو الحصول على شهادة خبرة فقط أما اآلن فال‪ ..‬لم أعد أملك االختيار‪،‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪176‬‬

‫أصبح هذا العمل إلزام ًّيا‪ ،‬ضرورة ال بد منها‪ ،‬وال أستطيع تركه حتى أجد‬
‫وظيفة ثانية مما يعني أن أبقى في هذا المكان سنة ونصف على األقل‪..‬‬
‫فجميع الوظائف ذوات الرواتب الجيدة ال تقبل بخبرة أقل من سنتين‪..‬‬
‫أكثر شيء ينقصني هذه الفترة هو حسن الظن بالله والتوكل عليه‪..‬‬
‫ظللت أسمع طوال عمري عن الرضا والصبر‪ ،‬وظننت أنني قادرة على‬
‫واكتشفت أن تطبيقهما ليس ً‬
‫سهل بالمرة‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫القيام بهما حتى أتت النوائب‬
‫سمعت خطوات رحاب بكعب حذائها العالي وهي قادمة نحوي حتى‬
‫وصلت لمكتبها وهي تشير إلي بإبهامها إلى الخلف‪..‬‬
‫اعتدلت في جلستي سري ًعا‪ ،‬أطل دكتور حاتم برأسه من خلف الحاجز‬
‫الزجاجي لمكتبي ً‬
‫سائل‪:‬‬
‫‪« -‬كيف حال العمل دكتورة حنين؟»‬
‫أجبت وأنا أنظر إلى حاسوبي‪:‬‬
‫‪« -‬األمور كلها جيدة الحمد لله»‬
‫أخفض صوته وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬وكيف حال الوالد اآلن؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬الوضع كما هو عليه منذ أسبوعين‪ ،‬ال جديد»‬
‫‪« -‬شفاه الله»‬
‫‪177‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫آمين‪..‬شكرا»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬اللهم‬
‫مغادرا‬
‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ثم اتجه‬
‫استدار وسأل أسامة وسيد عن حال عملهما ً‬
‫إلي رحاب بعين حزينة وقالت‪:‬‬
‫نظرت ّ‬
‫ْ‬ ‫الغرفة‪..‬‬
‫‪« -‬لم يحدث أي جديد؟»‬
‫امتألت عيناي بالدموع‪ ،‬اقتربت مني وهي‬
‫ْ‬ ‫هززت رأسي لها نافية‪ ،‬وقد‬
‫تضع يدها على كتفي‪:‬‬
‫‪« -‬تماسكي يا حنين‪ ..‬أعلم أن األمر صعب»‬
‫سقطت دموعي مسرعة على وجنتي‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬األطباء لم يطمئنونا قط‪ ..‬بل إنهم يخبروننا أن الحالة تزداد سو ًءا»‬
‫منديل ألتقط به دموعي المتالحقة وقالت‪:‬‬‫ً‬ ‫ناولتني رحاب‬
‫‪« -‬سيشفى وسيكون بخير وسيرجع ثانية بينكم إن شاء الله»‬
‫‪« -‬أتمنى ذلك يا رحاب وليس بعيدً ا عن الله»‬
‫مسحت وجهي بشكل سريع وتابعت‪:‬‬
‫‪« -‬أنا انتهيت من عمل اليوم سأقوم اآلن للذهاب إلى المشفى»‬
‫‪« -‬حسنًا وإِ ْن َجدَّ أي أمر أخبريني»‬
‫‪« -‬حسنًا»‬
‫قمت متجهة خارج الشركة‪ ،‬استقليت إحدى سيارات األجرة ألصل‬
‫إلى المشفى‪ ،‬وصلت إلى هناك وصعدت إلى طابق غرفة أبي فوجدت‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪178‬‬

‫أمى تجلس بإحدى المقاعد القريبة من الغرفة‪ ،‬سألتها بعد أن ألقيت عليها‬
‫التحية واطمأننت على حالها‪:‬‬
‫‪« -‬هل من جديد؟»‬
‫هزت رأسها نافية‪ ،‬رأيت أحد األطباء يمشي بالممر‪ ،‬استأذنتها وذهبت‬
‫إليه قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬أنا ابنة السيد طارق‪ ..‬كيف الوضع؟»‬
‫قال وهو يضع يده بجيوب معطفه األبيض وسماعته الطبية تحاوط رقبته‪:‬‬
‫‪« -‬ال أريد أن أحزنك ولكن ال توجد استجابة‪ ،‬والحالة تزداد سو ًءا‪،‬‬
‫كما أنه يتنفس بصعوبة منذ ساعة ونجري له التحاليل اآلن‪ ،‬ونشك أنه أصابه‬
‫التهاب رئوي مما يستدعي وضعه على جهاز تنفس صناعي»‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ابتلعت ريقي بعد سماع كالمه‪،‬‬
‫ُ‬
‫شكرا لك‪ ،‬سأتابع معكم اليوم إلى أين وصلت حالته‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪« -‬حسنًا‬
‫وأرجوك ال تخبر أي أحد عن صحته سوى أنا وخالي؛ فأمي لن تستطيع‬
‫تحمل هذه األخبار»‬
‫رجعت إلى أمي بوجه واجم ال أدري ماذا أقول لها‪ ،‬قلت بتردد بعد‬
‫ُ‬
‫سؤالها لي ماذا قال الطبيب‪:‬‬
‫‪« -‬يقول إنه يلقى بعض الصعوبة في أثناء التنفس‪ ،‬ومن الممكن أن‬
‫يضعوه على جهاز تنفس صناعي»‬
‫‪179‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ثم تابعت مسرعة‪:‬‬


‫‪« -‬أظن أنه إجراء روتيني ال أكثر‪ ..‬وسيتحسن بعده إن شاء الله ويكون‬
‫بخير»‬
‫تنهدت أمي وهي تستغفر الله وتنحي وجهها جان ًبا‪ ..‬ثم قالت‪:‬‬
‫ِ‬
‫حاولت أن تخفي عني األمر يا حنين»‬ ‫‪« -‬أنا أعلم أن حالته تتدهور مهما‬
‫قلت والحنق يمأل صوتي والدموع محتبسة في عيني‪:‬‬
‫‪« -‬ال أعلم لماذا؟ لماذا ال يستجيب وتتدهور حالته بالرغم من‬
‫محاوالت األطباء المستمرة‪ ..‬هل نقوم بنقله إلى مشفى آخر؟»‬
‫هزت أمي رأسها بالنفي‪:‬‬
‫أبيك فهذه ِعشرة سنين‪..‬‬‫‪« -‬هذا لن يصلح شي ًئا‪ ،‬أنا أعلم ما في ِ‬
‫فالجانب النفسي يؤثرعلى حالته بشكل كبير‪ ،‬وأنا أعرف كيف فكر في‬
‫وعلي وعلى آسر‪ ،‬واآلن‬ ‫عليك وعلى أوالدك‬‫ِ‬ ‫كثيرا‬
‫ّ‬ ‫األمر‪ ،‬شعر بالخوف ً‬
‫ِ‬
‫يراك‬ ‫يشعر بالذنب؛ ألنه السبب في كل ذلك هو يفضل الموت على أن‬
‫بيوم ُمهانة تتحملين فوق طاقتك لكي ال تخسرين حفنة من األموال‪ ،‬أخبرته‬
‫مرات عدة أننا ال يشغل بالنا األموال وضياعها‪ ،‬كل ما يشغل بالنا أن يتعافى‬
‫ويصبح بيننا من جديد‪ ،‬ولكنه ال يفكر باألمر مثلنا»‬
‫تنهدت وهي تتابع‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬ال نملك له اآلن سوى الدعاء‪ ..‬الدعاء فقط»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪180‬‬

‫ربت على كتف أمي وأنا أفكر بكالم الطبيب الذي أخبرني به للتو‪..‬‬ ‫ُّ‬
‫كنت أعيش على أمل ضعيف أن تتحسن حالته ويتعافى‪ ،‬ولكن كالمه‬
‫أصابني باإلحباط وجعلني أخاف بشدة على أبي‪ ،‬وأخاف من تطور حالته‪..‬‬
‫كنت أقوى بأبي على فقد هاشم وأتمنى أن يتحسن؛ فبمرضه أشعر أنني‬
‫هشة وضعيفة‪ ..‬ضعيفة جدًّ ا‪...‬‬
‫***‬
‫مر أسبوع سادت خالله حالة من القلق والخوف تجاه وضع أبي‬
‫المضطرب‪ ،‬والترقب لمعرفة راتبي الجديد؛ فلقد مرت الستة أشهر‪ ،‬وحان موعد‬
‫شعرت أن هذه الزيادة جاءت في وقتها‬‫ُ‬ ‫زيادتي وزيادة جميع من في الشركة‪،‬‬
‫المناسب تما ًما‪ ،‬فأنا أعقد عليها الكثير من اآلمال‪ ..‬ستحمل عني بالتأكيد عب ًئا‬
‫قليل من ضغط المصاريف الذي أواجهه‪..‬‬‫من المصاريف الحياتية وستخفف ً‬
‫استقبلتني رحاب على باب الغرفة وهي تهز مظرو ًفا بيدها مبتسمة‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫‪« -‬زيادة الراتب»‬
‫اقتربت مني والسعادة تمأل وجهها‪:‬‬
‫جنيها»‬
‫‪« -‬زدت ألف جنيه وصار راتبي ألفين ونصف ً‬
‫ابتسمت لها بعد أن انشرح صدري من سماع زيادتها‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬بارك الله ِ‬
‫لك في أموالك يا حبيبتي»‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال دكتور سيد ‪-‬وهو يعقد حاجبيه‪-‬‬
‫‪181‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ال أعرف لماذا زادت دكتورة رحاب ألف جنيه بينما أنا وأسامة‬
‫جنيها وجميعنا يعمل عدد الساعات نفسها إِ ْن لم أكن أكثر!»‬
‫ثمانمائة ً‬
‫كثيرا من المعاني‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ضحك أسامة بابتسامة خبيثة تحمل ً‬
‫‪« -‬كل معزة ولها ثمن‪ ،‬وأنت تعلم معزة دكتورة رحاب عند دكتور‬
‫حاتم يا سيد»‬
‫لم تعلق رحاب على كالم أسامة األخير‪ ،‬وقد فهمت مغزاه‪ ..‬سحبتني‬
‫من يدي وهي تقول‪:‬‬
‫‪« -‬مظروفك على المكتب هيا لتعرفي زيادتك»‬
‫جلست على مقعدي وأنا أنظر إلى المظروف الموضوع أمامي وأفكر‪..‬‬ ‫ُ‬
‫جنيها مثلهما فهذا مبلغ جيد بالنسبة لي‪ ،‬أستطيع على‬
‫حتى إن زدت ثمانمائة ً‬
‫األقل أن أسدد به الرسوم المتبقية لمدرسة آسر هذا العام‪..‬‬
‫وأخرجت ما فيه‪ ،‬لم يكن‬
‫ُ‬ ‫قمت بفتحه ببطء‬
‫تناولت المظروف وأنا أبتسم‪ُ ..‬‬
‫ُ‬
‫فتحت المظروف مرة‬ ‫ُ‬ ‫بداخل المظروف غير ورقة واحدة من فئة المائتي جنيه‪..‬‬
‫هت عندما‬
‫ونظرت بداخله جيدً ا لكنه لم يكن يحمل سوى هذه الورقة‪ُ ..‬ب ُّ‬
‫ُ‬ ‫أخرى‬
‫تأكدت من مبلغ زيادتي بينما صمتت رحاب تما ًما وأطلق أسامة ضحكة ساخرة‬ ‫ُ‬
‫كثيرا خالل هذه‬‫عملت ً‬ ‫ُ‬ ‫وعلق سيد‪« :‬هذا ظلم»‪ ..‬قلت‪ :‬نعم هذا ظلم شديد‪،‬‬
‫وتمكنت منه بوقت‬
‫ُ‬ ‫وفهمت العمل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وكنت أعوض عن تأخري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫األشهر الستة‪،‬‬
‫قياسي‪ ،‬هو يستغل ظروفي ويعلم جيدً ا أنني لن أستطيع تركه اآلن وأننا بحاجة‬
‫وسأصمت‪ ..‬فأي ابتزاز هذا؟!!‬
‫ُ‬ ‫إلى المال؛ لذا سأقبل بأي شيء‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪182‬‬

‫سمعنا وقع خطواته بالممر‪ ،‬اعتدل الجميع على مقعده ناظرين إلى‬
‫حواسيبهم‪..‬‬
‫دخل وتلك االبتسامة السمجة تعلو وجهه‪ ،‬وينفث دخان سيجاره ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬كل زيادة وأنتم بخير يا أوالد‪ ..‬آمل أن تكونوا جميعكم راضين عن‬
‫تلك الزيادة»‬
‫ثم نظر إلي وأكمل‪:‬‬
‫‪« -‬دكتورة حنين‪ ..‬هذه أول زيادة ِ‬
‫لك بيننا من المؤكد أنك تشعرين‬
‫بشعور مختلف»‬
‫واضحا تما ًما أنه يحاول أن يستفزني بكالمه؛ ألبدأ باالعتراض‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫والنواح والعويل على هذه الزيادة القليلة َف َي ُم ُّن ّ‬
‫علي بورقة نقدية من فئة‬
‫جنيها ويظهر في آخر األمر بمظهر البطل الراعي لأليادي المحتاجة‪..‬‬‫الخمسين ً‬
‫ابتسمت وأنا أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫كنت في أستراليا مع زوجي هاشم‬
‫‪« -‬أشعر بالسعادة بالتأكيد فعندما ُ‬
‫‪-‬رحمه الله‪ -‬كنا نشتري لطفلينا بعض الحلوى بثمن مائتي جنيه‪ ،‬وأظن أن‬
‫أنسب احتفال بهذه الزيادة هو أن أعيد لهم هذه الذكرى عند رجوعي لهم‬
‫سيسعدهم هذا وسيسعدني بالضرورة»‬
‫تغير وجهه وقد فهم مغزى كالمي لكن سرعان ما ابتسم وقال بصوت‬
‫يحمل ً‬
‫قليل من التهكم‪:‬‬
‫‪183‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫إلي‬
‫‪« -‬أتمنى لكم االستمتاع بها» وغادر المكتب بعدها‪ ..‬أشارت ّ‬
‫رحاب بإبهامها إشارة منها أنني أحسنت‪ ،‬ابتسمت لها ثم نظرت إلى المائتي‬
‫جنيه وأنا أواجه شعوري الحقيقي وإِ ْن أظهرت له عدم اكتراثي لألمر ولكن‬
‫كنت أعتمد على هذه الزيادة‬ ‫بداخلي غير ذلك‪ ..‬أنا أشعر بالحزن الشديد‪ُ ،‬‬
‫تنهدت وأنا أتعجب من‬ ‫ُ‬ ‫في كثير من األمور‪ ،‬واآلن ال أعرف ماذا سأفعل‪..‬‬
‫تبدل األحوال في وقت من األوقات لم يكن المال يشغل بالي على اإلطالق‬
‫حمدت الله عليها‪ ،‬وسألته أن‬
‫ُ‬ ‫واآلن أشعر بالتيه لزيادتي مائتي جنيه فقط‪..‬‬
‫يطرح بها البركة فغيري راتبهم الشهري هو هذه الزيادة فقط‪ ،‬نعم هي ليست‬
‫بالكثيرة ولكنها ستسد با ًبا ما من مصاريف البيت‪..‬‬
‫فأنا مثل الضائع بفالة ويشعر بالعطش الشديد‪ ،‬لن يضره إِ ْن تناول القليل‬
‫ترو عطشه ستمنحه بعض القوة لمواصلة المسير‪..‬‬ ‫من قطرات المياه فإِ ْن لم ِ‬
‫***‬
‫أيقظت براء سري ًعا‪ ،‬وقمت بتحضير فطوره وحقيبته المدرسية‪ ،‬ساعدته على‬
‫وبدأت أشعر بالتوتر؛ فأم‬
‫ُ‬ ‫ارتداء مالبسه‪ ،‬نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط‪،‬‬
‫تأت إلى اآلن‪َ ..‬م ْن سيجلس مع مارية؟! يجب أن أذهب للعمل وأمي‬ ‫سعد لم ِ‬
‫تريد الذهاب إلى المشفى‪ ،‬وآسر يغط في النوم وال أستطيع االعتماد عليه في‬
‫ً‬
‫اتصال‪:‬‬ ‫تناولت هاتفي الذي قارب شحنه على االنتهاء وأجريت‬
‫ُ‬ ‫رعايتها‪،‬‬
‫‪« -‬صباح الخير‪ ..‬هل أيقظتك من النوم؟»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪184‬‬

‫أجابت رحاب‪:‬‬
‫‪« -‬ال ال يا حبيبتي أنا مستيقظة منذ نصف ساعة وسأتناول فطوري‬
‫وأذهب إلى الشركة»‬
‫تأت أم سعد إلى اآلن‪ ،‬وأمي يجب أن تذهب إلى‬ ‫‪« -‬رحاب‪ ،‬لم ِ‬
‫ِ‬
‫استسمحك أن تأخذي عني أول‬ ‫المشفى‪ ،‬وال يوجد َم ْن يعتني بمارية‪..‬‬
‫ساعتين من العمل حتى تأتي أو أجد ًّ‬
‫حل لهذا األمر»‬
‫‪« -‬حسنًا ال تشغلي بالك حبيبتي سأتولى أنا األمر»‬
‫حمدت الله بداخلي على نعمة رحاب فمن الجيد جدًّ ا أن يكون بحياتك‬
‫ُ‬
‫كنت ال أحب أن تغيب أم سعد اليوم حتى ال‬ ‫(رجل المهمات الصعبة) وإِ ْن ُ‬
‫قمت ألرتدي‬
‫تعبير عن حنقي من مقدار زيادته‪ُ ..‬‬
‫يفهم دكتور حاتم أن تأخري ٌ‬
‫نظرت إلى المرآة وأنا ألف حجابي سري ًعا‪ ..‬انسدلت خصلة من شعري‬
‫ُ‬ ‫مالبسي‪،‬‬
‫توقفت برهة أتأمل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هممت بإدخالها ولكنني‬
‫ُ‬ ‫على جبهتي من تحت الحجاب‪،‬‬
‫فظهرت بعض الخصالت من شعري مما أعطاني‬ ‫ْ‬ ‫أرجعت حجابي ً‬
‫قليل للخلف‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫شكل جمال ًّيا‪ ..‬خطر ببالي كالم رحاب‪ ،‬ربما تكون محقة‪ ..‬قد أكون بالغت في‬
‫معاملتي المقتضبة لدكتور حاتم ولزمالئي‪..‬مزاح رحاب وتباسطها في التعامل‬
‫ال ينفي أنها فتاة محترمة‪ ،‬وأنا واثقة من ذلك‪ ،‬وكذلك أنا لن يقل احترامي عندهم‪،‬‬
‫سيظلون يحترمونني فهم يعلمونني جيدً ا‪ ..‬هي مجرد ابتسامات ومجامالت لن‬
‫يضر قولها في شيء‪ ،‬كما أنني وقتها سيزيد راتبي زيادة أستحقها‪..‬‬
‫انتبهت على يد براء الصغيرة وهو يجذبني ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪185‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬هيا يا أمي تأخرنا»‬


‫اتجهت ببراء صوب‬
‫ُ‬ ‫أدخلت خصالت شعري ً‬
‫قليل حتى ال تالحظها أمي‪،‬‬
‫حمدت الله‬
‫ُ‬ ‫سمعت الجرس ونحن ننتعل أحذيتنا؛ استعدا ًدا للذهاب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الباب‪،‬‬
‫دلفت إلى داخل البيت وهي تلتقط أنفاسها قائلة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫عند رؤية أم سعد‪..‬‬
‫‪« -‬أعتذر عن التأخير‪ ..‬هل استيقظت مارية؟»‬
‫‪« -‬ال لم تستيقظ بعد»‬
‫ارتياحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫وضعت يدها على صدرها‪ ،‬وقالت وهي تتنهد‬
‫ْ‬
‫كثيرا أن تستيقظ وتجلس لرعايتها السيدة مديحة‬
‫‪« -‬الحمد لله خفت ً‬
‫وتتأخر عن الذهاب إلى المشفى»‬
‫ابتسمت وأنا أربت على كتفها قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬بارك الله ِ‬
‫فيك يا أم سعد فعلى الرغم من أننا طلبنا منك أن تبحثي‬
‫بدل منا؛ ألننا لن نستطيع الدفع ِ‬
‫لك ولكنك‬ ‫عن عائالت أخرى لمساعدتهم ً‬
‫لم َّ‬
‫تتخل عنا»‬
‫‪« -‬كيف أترككم يا حنين!!‪ ..‬أكون معكم في الرخاء وأتخلى عنكم في‬
‫الشدة!!‪..‬ليست هذه طباع أم سعد»‬
‫ابتسمت لها قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬وأنا أعلم ذلك جيدً ا»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪186‬‬

‫جذبت الباب خلفي‪،‬‬


‫ُ‬ ‫وأمسكت بيد براء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫استأذنتها حتى ال نتأخر‪،‬‬
‫وكدت أن أغلقه لوال نداء أمي الذي أوقفني‪..‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬نعم يا أمي؟»‬
‫‪« -‬هاتفك يا حبيبتي نسيتِه بالشحن»‬
‫‪« -‬يا إلهي كيف كنت سأنساه»‬
‫ضيقت عينيها وهي تقربه‬
‫ْ‬ ‫تحركت تجاهي لتناولني إياه ولكن أوقفها رنينه‪،‬‬
‫ْ‬
‫من وجهها؛ لتستطيع رؤية جهة االتصال‪ ،‬رفعت رأسها‪ ،‬وقالت مستنكرة‪:‬‬
‫‪« -‬اتصال من المشفى في هذا الوقت!!»‬
‫قامت بالرد سري ًعا‪:‬‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫صمتت برهة‪ ،‬ثم نظرت إلي بعيون تائهة وقد سقط الهاتف من يدها‬
‫أسرعت إليها أسندها وأنظر إليها بخوف‬
‫ُ‬ ‫وسقطت على األرض‪،‬‬
‫ْ‬ ‫المرتعشة‪،‬‬
‫بدأت دموعها تنهمر‪ ،‬وهي تردد‪:‬‬
‫ْ‬ ‫وترقب لما ستقوله‪..‬‬
‫‪« -‬إنا لله وإنا إليه راجعون‪ ..‬إنا لله وإنا إليه راجعون»‬
‫جلست على األرض أمامها وأنا أحاول استيعاب الحقيقة التي فهمتُها من‬‫ُ‬
‫خالل كلماتها‪ ،‬وقد اغرورقت عيناي بالدموع‪ ..‬أظن أنها تعني ما فهمته تما ًما‪..‬‬
‫لقد مات أبي‪...‬‬
‫●●●‬
‫‪187‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)16‬‬

‫‪« -‬أبي‪ ..‬أشعر بالبرودة في يدي»‬


‫‪« -‬ضعي يدك اليسرى في جيب سترتك وسأحتضن يدك اليمنى بيدي‬
‫وأضعهما بجيب سترتي»‬
‫شعرت بالدفء حينها وأنا ابنة الستة أعوام‪ ،‬دفء تسلل إلى أطرافي‬
‫ُ‬
‫ليصل إلى أعماق قلبي‪ ..‬لم يتركني من يومها لحظة‪ ،‬أكبر ويكبر معي‪..‬‬
‫وتزوجت‬
‫ُ‬ ‫كبرت‬
‫ُ‬ ‫تراءت أمامي جميع مشاهدي مع أبي منذ طفولتي حتى‬
‫وصرت أ ًّما‪.‬‬
‫ُ‬
‫مهما زادت السنوات في عداد عمري كنت أرى في عينيه تلك الطفلة‬
‫التي ال تكبر أبدً ا‪ ،‬وأنام مطمئنة القلب؛ ألن لي سندً ا في هذه الدنيا يحميني‬
‫شعرت أن ظهري‬ ‫ُ‬ ‫من نوائبها بقوة حتى تلك اللحظة التي مات فيها أبي‪،‬‬
‫بالحياة قد كُسر‪ ،‬تجمعت الغيوم بروحي دون أن تسقط قطرة ماء‪َ ،‬ه َّب ْت‬
‫الريح بداخلي وابتلعت عواصفها الدفء المتبقي في حنايا قلبي وانتشر‬
‫صقيعها‪ ،‬لم أشعر بهذا االنكسار من قبل حتى عند وفاة هاشم‪ ،‬ذهب أبي‬
‫وأخذ معه كل جميل ببيتنا وتركني حيرى تائهة‪..‬‬
‫شعرت بيد توضع فوق كتفي وأتاني صوت رحاب وهي تقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪188‬‬

‫صباحا»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬حبيبتي سأذهب اآلن فلقد تأخر الوقت وسآتي غدً ا‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ربت على يدها‬
‫ُّ‬
‫‪« -‬ال تأتي يا رحاب‪ ،‬ال داعي لذلك أنا بخير ال تقلقي‪ ،‬اذهبي إلى الشركة‬
‫وتابعي العمل ِ‬
‫فأنت هنا منذ البارحة وبالتأكيد سيتضايق دكتور حاتم من هذا»‬
‫هزت رحاب رأسها نافية وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬على العكس تما ًما يا حنين‪ ،‬هو َم ْن قال لي أن أبقى بجانبك وال‬
‫أتركك‪ ..‬هو متفهم تما ًما لما تمرين به‪ ،‬كما إنه جاء اليوم هو ودكتور أسامة‬
‫ودكتور سيد آلسر وخالك وأدوا واجب العزاء»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أوصلي لهم شكري رجا ًء‪ ،‬وأخبري دكتور حاتم أنني سأزاول‬
‫العمل مرة أخرى بعد أن تنتهي مراسم العزاء ولن أطيل األجازة»‬
‫اقتربت وقالت بحنو‪:‬‬
‫‪« -‬خذي وقتك حبيبتي وال تشغلي بالك بأي شيء سأجلس ساعات‬
‫إضافية وأتم عملك بها»‬
‫ابتسمت لها قائلة‪:‬‬
‫فيك يا رحاب‪ِ ..‬‬
‫أنت تحملين عني الكثير وال أعرف كيف‬ ‫‪« -‬بارك الله ِ‬
‫أرد ِ‬
‫لك كل هذا»‬
‫‪189‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ابتسمت لي وذهبت بعد أن قبلتني وودعتني‪ ..‬أتت أم سعد وبدأت‬


‫بنقل فناجين القهوة إلى المطبخ بعد أن ذهب الجميع‪..‬‬
‫قمت إليها سائلة‪:‬‬
‫‪« -‬لم تأكل شي ًئا بعد؟»‬
‫هزت رأسها نافية والحزن يكسو مالمحها وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬لم تأكل منذ البارحة»‬
‫‪« -‬حسنًا سأذهب إليها اآلن»‬
‫تمشيت بالرواق حتى وصلت إلى غرفة أمي وأبي رحمه الله‪ ،‬طرقت‬
‫الباب ببطء ثم فتحت‪..‬‬
‫وجدت أمي وقد تكوم جسدها بقرب الوسادة وتضع يدها على موضع‬
‫رأس أبي حين كان ينام وتبكي بكا ًء مكتو ًما‪..‬‬
‫دلفت إلى الغرفة ومشيت إليها واحتضنتها من الخلف فأجهشت بالبكاء‪..‬‬
‫همست لها‪:‬‬
‫‪« -‬تماسكي يا أمي‪ ..‬أنا أشعر ِ‬
‫بك تما ًما‪ ،‬أشعر بذلك األلم الذي‬
‫يعتصر قلبك»‬
‫ظلت تبكي بقوة حتى هدأت ً‬
‫قليل‪ ،‬فجلست بجانبها قائلة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪190‬‬

‫«لك أن تأخذي وقتك في الحزن ولن أطلب ِ‬


‫منك غير ذلك‪ ،‬ولكن‬ ‫‪ِ -‬‬
‫لن أسمح ِ‬
‫لك أن تتوقفي عن تناول الطعام»‬
‫قلت وقد جرت الدموع مسرعة على وجهي‪:‬‬
‫صمت برهة ثم ُ‬
‫ُّ‬
‫أيضا‪ ..‬فأنا لن أقوى على‬ ‫لك ِ‬
‫أنت ً‬ ‫‪« -‬لن أتحمل حدوث أي شيء ِ‬
‫ذلك‪ ..‬لن أقوى على ذلك»‬
‫مسحت أمي دموعي واحتضنت خدي بكفها قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬سامحيني يا حبيبتى سامحيني ولكن ال أستطيع تخيل أنني لن أراه‬
‫ثانية‪ ،‬لن ينام بجانبي‪ ..‬لن نتناول الفطور م ًعا‪ ..‬لن يذكرني بموعد دوائي‪..‬‬
‫لن أشكو إليه همومي»‬
‫قلت وأنا أربت على كتفها‪:‬‬
‫فقدت هاشم‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫نسيت أنني‬ ‫‪« -‬أعلم يا أمي ما تتكلمين عنه تما ًما‪ ،‬هل‬
‫منذ عام ونصف؟ نعم هناك فارق كبير في سنين الزواج بيننا وبينكم ولكن‬
‫قاس جدًّ ا وإِ ْن كان عمر الزواج ً‬
‫شهرا»‬ ‫صدقيني فقد الزوج له شعور ٍ‬
‫تنهدت قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصابرين»‬
‫أمنت على دعائها‪ ،‬ثم سمعنا جرس الباب‪ ..‬قالت أمي‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال بد أنهما آسر وخالك‪ ،‬هيا نخرج لنجلس معهما»‬
‫‪191‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫خرجت أنا وأمي ووجدنا آسر وخالي يجلسان بغرفة المعيشة‪ ..‬جلسنا‬
‫ُ‬
‫معهما وبدأ خالي في الترحم على أبي‪ ،‬وذكر العدد الكبير للمصلين عليه‬
‫بصالة الجنازة والمعزين‪ ،‬ثم سرد مواقفه وحسن صنيعه معه منذ أن تقدم‬
‫لخطبة أمي‪ ،‬وشاركته أمي في سرد المواقف التي تعرضا لها م ًعا هي وأبي‪،‬‬
‫ومرورهما بالمشاعر المختلفة من حب وصبر وعطاء وبذل‪ ..‬كانت أمي‬
‫تتوجه بالحديث لي تارة وآلسر تارة أخرى‪ ،‬وتذكرني بأشياء حدثت في‬
‫صغرنا‪ ..‬ربما ال يمثل لنا هذا الكالم سوى ذكريات عابرة ولكنه يمثل ألمي‬
‫تاريخ ٍ‬
‫عمر بأكمله قضياه م ًعا هي وأبي‪ ،‬كانت تسرد المواقف وعيناها تلمع‬ ‫َ‬
‫واعتزازا بحبيبها‪..‬‬
‫ً‬ ‫فخرا‬
‫ً‬
‫أنهت أمي كالمها وهي تتنهد قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬رحمك الله يا طارق‪ ..‬الجميع أحبك وحزنوا لفقدك؛ َف َل َك مع كل‬
‫شخص ذكرى طيبة‪ ،‬أما َم ْن فعل بك هذا فلن يهنأ في حياته أبدً ا‪ ،‬ولن يتمتع‬
‫بتلك األموال ما َحيي»‬
‫وأردفت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫رفعت رأسها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫صمتت برهة‪ ،‬ثم‬
‫ْ‬
‫مبكرا في‬
‫‪« -‬على ذكر سيرة المال‪ ..‬أعلم أنه ربما يكون الكالم اآلن ً‬
‫هذا الشأن ولكني أحب أن أتكلم فيه اآلن ونضع النقاط على الحروف»‬
‫نظرت تجاهي أنا وآسر‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬كما تعلمان لم يترك أبوكما شي ًئا لنا‪ ،‬كل ما نملكه اآلن هذه الشقة‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪192‬‬

‫وبعض األموال القليلة التي بقيت في البنك بعد بيع السيارة‪ ،‬وكل ما نعتمد‬
‫عليه اآلن في مصاريف هذا البيت هو راتب حنــ…»‬
‫قاطعها آسر‪:‬‬
‫حصلت على فرصة عمل»‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬لقد‬
‫نظرت إليه باستغراب قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬منذ متى؟»‬
‫رمقني غاض ًبا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫وجدت تلك الفرصة‬
‫ُ‬ ‫ظللت أبحث حتى‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬منذ حديثك السابق‪..‬‬
‫براتب ٍ‬
‫جيد»‬ ‫ٍ‬
‫‪« -‬وما طبيعتها؟» سألته أمي‪..‬‬
‫تلجلج ً‬
‫قليل وأكمل‪:‬‬
‫‪« -‬سأعمل عند والد أحد األصدقاء في مطعمه بالغردقة»‬
‫قامت أمي وهي تسأله مستغربة‪:‬‬
‫‪« -‬غردقة!!»‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬سيكون نظام العمل ثالثة أشهر متصلة ثم أجازة لمدة ثالثة‬
‫أسابيع»‬
‫أشارت أمي بإصبعها نافية‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪193‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ال ال ال‪ ..‬لن أدعك تذهب‪ ..‬أفقدُ أباك منذ يومين ثم تغيب أنت‬
‫اآلخر عنا كل هذه المدة!!»‬
‫‪« -‬هذه الوظيفة الوحيدة التي وجدتها بهذا الراتب يا أمي»‬
‫‪« -‬ال نريد زيادة بالراتب‪ ..‬ابحث عن عمل براتب أقل هنا بالقاهرة‪،‬‬
‫ونضم راتبك إلى راتب حنين‪ ،‬ونتكيف على العيش بهما»‬
‫هز رأسه بقوة ناف ًيا‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬لن أستطيع فأنا أحتاج إلى المال‪ ،‬ال أريد أن أشعر بالنقص عما‬
‫كنت عليه ساب ًقا»‬
‫قالت أمي راجي ًة‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن يا بني ال أريدك أن تبتعد عنا»‬
‫‪« -‬لن أبتعد يا أمي ستمر الثالثة أشهر سري ًعا‪ ،‬وسآتي لقضاء األجازة‬
‫بك كل يوم‪ ،‬وسأرسل لكم مبل ًغا كل شهر يستطيع‬ ‫بينكم‪ ،‬كما أنني سأتصل ِ‬
‫أن يسد الكثير من احتياجات البيت»‬
‫صمتت أمي عندما رأت إصرار آسر‪ ،‬وسألته وقد كسا صوتها الحزن‬
‫أكثر‪:‬‬
‫‪« -‬ومتى ستسافر؟»‬
‫‪« -‬من بداية األسبوع القادم»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪194‬‬

‫قال خالي‪:‬‬
‫‪« -‬سأذهب معك أوصلك»‬
‫صغيرا»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ال داعي لذلك يا خالي فأنا لم أعد‬
‫أغلق آسر بعدها الحديث في هذا الموضوع‪ ،‬وتابعنا حديثنا بأمور أخرى‪.‬‬
‫كان آسر يتجنبني تما ًما منذ كالمي الحاد معه قبل وفاة أبي‪ ،‬استأذن خالي‬
‫أكلت ً‬
‫قليل‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫راحل إلى بيته‪ ،‬وذهبت أمي للنوم‪ ،‬وقد‬ ‫بعد أن انتهينا من حديثنا‬
‫نظرت إلى باب‬
‫ُ‬ ‫هممت بالذهاب إلى غرفتي ولكني‬ ‫ُ‬ ‫بعد إلحاحي الشديد‪،‬‬
‫طرقت‬
‫ُ‬ ‫اتجهت إليه وتملكني التردد في الدخول‪،‬‬
‫ُ‬ ‫غرفة آسر في أثناء ذهابي‪،‬‬
‫جالسا على‬
‫ً‬ ‫الباب وفتحته؛ لعلمي أنه ربما لم يسمع صوت دقاتي‪ ،‬وجدته‬
‫اقتربت منه وقلت له باسم ًة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫حاسوبه‪ ..‬اقتضب ً‬
‫قليل عند رؤيتي‪..‬‬
‫‪« -‬أعتذر عن الكالم الذي قلته حينها‪ ،‬موقف أبي رحمه الله حينها‬
‫أفزعني بشدة‪ ،‬ولم أستطع التحكم في غضبي»‬
‫قلت‪:‬‬
‫رمقني بنظرة حانقة‪ ،‬ثم اتجه لحاسوبه مرة أخرى‪ُ ،‬‬
‫بعضا‪ ،‬أرى‬
‫‪« -‬آسر بعد وفاة أبي‪ ،‬ليس لنا أحد في هذه الدنيا إال بعضنا ً‬
‫أنه يجب أن ننسى ما مضى ونقترب من جديد»‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ظلت عيناه مثبتتان على شاشة الحاسوب‪،‬‬
‫ْ‬
‫احتجت إلى أية مساعدة‬
‫َ‬ ‫‪« -‬أتمنى لك التوفيق في عملك الجديد‪ ،‬إِ ْن‬
‫فأنا‪»....‬‬
‫‪195‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قاطعني‪:‬‬
‫«شكرا ال أحتاج إلى المساعدة»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ابتلعت‬
‫ُ‬ ‫شعرت أن الكالم توقف في حلقي بعد مقاطعته الحرجة لي‪،‬‬
‫ُ‬
‫خارجا‪ ،‬وأغلق الباب‪:‬‬
‫ً‬ ‫وقلت وأنا أتجه‬
‫ُ‬ ‫حروفي‪،‬‬
‫‪« -‬تصبح على خير»‪..‬‬
‫أحببت أن أصلح‬
‫ُ‬ ‫كنت ال أريد أن يتركنا ويذهب وهو غاضب مني‪،‬‬ ‫ُ‬
‫قليل ويحتك في‬ ‫قليل بيني وبينه لكنه أبى‪ ،‬ربما عندما يبتعد عنا ً‬
‫األمور ً‬
‫عمله بطبقات مختلفة من البشر وأشكال متنوعة فيعرف وقتها قيمة العائلة‬
‫وأنها الملجأ الوحيد له بعد الله في هذه الدنيا ويعود إلينا من جديد كما‬
‫كان‪ ،‬وعندها سيجد أن حبه مازال كما هو في قلبي لم يقل ولم يفتر‪ ،‬بل كان‬
‫دو ًما في انتظاره …‬
‫***‬
‫رأيت دقائق الساعة قد قاربت الثامنة ً‬
‫ليل‪..‬‬ ‫قليل عندما ُ‬‫شعرت بالتوتر ً‬
‫ُ‬
‫زفرت بضيق وأنا أفكر بالطريقة المثلى إلنجاز عملي‪ ،‬ال أريد أن أترك أمي‬
‫ُ‬
‫ساعات طويلة؛ حتى ال تشعر بالوحدة فلم يمر على وفاة أبي سوى شهر‬
‫وعشرة أيام‪ ،‬كما أن سفر آسر إلى عمله الجديد يشعرها بالحزن؛ فهي لم‬
‫ف من رحيل أبي بعد حتى يتحمل قلبها ذهابه هو اآلخر وهذه هي المرة‬ ‫ت ُْش َ‬
‫األولى التي يفارق فيها آسر أمي‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪196‬‬

‫كنت أتعجب أحيانًا عندما تبكي على ذهابه وأقول لها إنه منذ فترة وهو‬
‫ُ‬
‫بعيد عنا وال نشعر بوجوده في البيت من األساس‪ ،‬فتخبرني أنه كان يكفي‬
‫وجوده بالبيت لتطمئن عليه أما اآلن وهو بعيد فال تدري عنه شي ًئا هل يهتم‬
‫ألكله أم ال؟ هل يستريح بعمله أم مجبر عليه؟ لم أستطع أن ألومها على‬
‫شعورها هذا فهي أم‪ ،‬وشعورها تجاهه يختلف عنا جمي ًعا بالتأكيد‪..‬‬
‫أوصيت خالي بالذهاب إليها والجلوس معها البارحة واليوم حتى‬ ‫ُ‬
‫أرجع إلى البيت‪ ،‬فأنا لم أكن أستطع رفض عرض دكتور حاتم الذي أخبرنا‬
‫عرضت مبل ًغا ً‬
‫كبيرا من المال‬ ‫ْ‬ ‫فيه أن عد ًدا من شركات األدوية الجديدة‬
‫مقابل الدعاية السريعة لها‪ ،‬وأنه إذا استطعنا تكثيف ساعات عملنا سيحصل‬
‫كل منا على مكافأة مالية‪ ،‬لم يقبل بالعرض سوى أنا ورحاب وأسامة بينما‬
‫كثيرا‪ ،‬فمن مبادئ سيد التي كان يخبرنا بها أنه ال يهتم بزيادة‬
‫سيد لم يهتم به ً‬
‫أمواله بقدر ما يهتم بزيادة عدد الساعات التي يجلس فيها مع أسرته‪..‬‬
‫أعجبني مبدأه هذا؛ فالمال يزيد وينقص أما دقائق العمر الذاهبة فلن تعود‬
‫ثانية ويجب أن نتمتع بها بقرب َم ْن نحب‪..‬‬
‫ربما أستطيع أن أطبق مبدأه عندما أحصل على وظيفة أخرى براتب‬
‫أفضل مما أنا عليه اآلن‪..‬‬
‫كان دكتور حاتم يمشي بين مكاتبنا وهو ينفث دخان سيجاره نشوةً‪،‬‬
‫فرحا من إنجازنا بالعمل‪..‬‬
‫وتلمع عيناه ً‬
‫‪197‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أنهيت مكالمات اليوم‬


‫ُ‬ ‫تنهدت وأنا أريح جسدي على المقعد وقد‬
‫ُ‬
‫قمت وأنا أعيد ترتيب مكتبي وأحمد الله بداخلي أنني‬ ‫بحلول التاسعة‪ُ ،‬‬
‫يتبق أمامي غير ساعات‬ ‫استطعت أن أتم عملي بهذين اليومين‪ ..‬هكذا لم َّ‬
‫ُ‬
‫عمل الغد وأحصل على المكافأة‪ ..‬سأشتري منها لعبتين لبراء ومارية؛ فمنذ‬
‫زمن لم يحصال على ألعاب‪ ،‬وسأشتري كذلك ثو ًبا جديدً ا ألمي لعلها تفرح‬
‫أيضا‬ ‫ً‬
‫قليل به وتنسى حزنها ولو لدقائق‪ .‬أنجز أسامة عمله وقام ليرتب مكتبه ً‬
‫وهو يبتسم لي بابتسامته الساخرة وينظر إلى رحاب ودكتور حاتم اللذين‬
‫يقفان على باب الغرفة مندمجين في الحديث وال ينتبهان لنا‪..‬‬
‫كان يعلم أنني أشعر بالغيرة والخوف على رحاب من دكتور حاتم ومن‬
‫وتكرارا‪ ،‬وأخبرتها أنني ال أشعر بالخير‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫نظراته الجريئة لها‪ ،‬حذرتها منه ً‬
‫بال لهذه النظرات‪ ،‬وتعلل ذلك أن هذه طبيعته‬ ‫في نظراته إليها‪ ،‬ولكنها لم تلق ً‬
‫وأنه ينظر للكل هكذا‪ ،‬من عيوب رحاب أنها عنيدة ال تقتنع بكالم غيرها وترى‬
‫صباحا والخواطر التي‬
‫ً‬ ‫تذكرت يوم وفاة أبي‬
‫ُ‬ ‫الدنيا من خالل مبادئها هي فقط‪،‬‬
‫وكدت أن أتخفف من‬
‫ُ‬ ‫جاءتني حينها‪ ،‬وكيف أنني تأثرت بمبادئ رحاب تلك‪،‬‬
‫حجابي فجاء موت أبي ليذكرني بحقيقة هذه الدنيا ويردني عما كنت سأفعله‪..‬‬
‫وتناولت حقيبتي وأنا أشعر باإلرهاق‬
‫ُ‬ ‫انتهيت من ترتيب مكتبي‪،‬‬
‫ُ‬
‫رفعت يدي ألشير إليها حتى تنهي حوارها مع دكتور حاتم‪ ،‬وتأتي‬
‫ُ‬ ‫الشديد‪،‬‬
‫تسمرت في مكاني فجأة وهالني ما‬
‫ُ‬ ‫ألخذ حقيبتها ونذهب م ًعا‪ ،‬لكنني‬
‫رأيت‪ ،‬لم أكن أصدق ما شاهدته عيناي‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪198‬‬

‫رجعت خطوة للوراء وأنا أشعر أن الدماء تصعد إلى رأسي وتتسارع‬
‫ُ‬
‫دقات قلبي‪..‬‬
‫لقد رأيته وهو يمد يده بخفة تجاهها ويلمس جسدها بكفوف وقحة‬
‫كاللص يحاول سرقة شيء ثمين‪..‬‬
‫لم تستوعب رحاب ماذا فعل لدقيقة‪ ،‬ولكنها أفاقت صارخة‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تفعل أيها الوقح!!» وصفعته بعدها‪..‬‬
‫جذبها من شعرها من الخلف وقربها إلى وجهه‪ ،‬وسألها بجنون وقد‬
‫تطاير من عينيه الشرر‪:‬‬
‫‪« -‬كيف تجرئين على فعل هذا أيتها النكرة؟ كيف تمدين يدك على‬
‫أسيادك»‬
‫أزاحت يده بقوة قائلة غاضب ًة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬أنا ال سيد لي‪ ،‬وسأريك ماذا ستفعل النكرة»‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ساخرا وقال‬
‫ً‬ ‫ضحك‬
‫‪« -‬عجبا كنت أظن أنك تنتظرين هذا اليوم‪ ..‬إ ًذا لماذا ِ‬
‫كنت تثنين على‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫مالبسي‪ ،‬وتهتمين بأدق تفاصيلي إال إذا كنت معجبة بي؟!»‬
‫قالت بحدة‪:‬‬
‫‪199‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫«كنت أحاول أن أرضي غرورك أيها المتعجرف؛ حتى أضمن بقائي‬


‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫كنت أحسبك تستطيع التفريق جيدً ا بيني وبين تلك اللواتي‬
‫في العمل‪ُ ،‬‬
‫تحاول معهن حتى تسقطهن في شباكك»‬
‫نفث دخان سيجارته ببطء‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪« -‬كلكن واحد»‬
‫لم ترد رحاب على كالمه؛ ربما خو ًفا من أن تجادله فيبدأ بقص أفعالها‬
‫التي كانت تراها دو ًما ليس بها شيء‪ ،‬ويفهمها هو على محمل آخر‪..‬‬
‫ورحلت‪ ،‬وهي‬
‫ْ‬ ‫وأخذت حقيبتها‬
‫ْ‬ ‫مشيت من أمامه سري ًعا إلى مكتبها‪،‬‬
‫ْ‬
‫تحاول أن تكتم بكاءها‪ ،‬وتحافظ على قوتها‪..‬‬
‫أخيرا ومشاهدتنا لكل‬
‫ً‬ ‫نظر إلينا دكتور حاتم وكأنه تذكر وجودنا‬
‫ٍ‬
‫بغضب‪،‬‬ ‫ما حدث‪ ..‬ظهر الحنق على وجهه بعد أن نفث دخان سيجاره‬
‫وأعطانا ظهره ورحل‪..‬‬
‫قال أسامة ببرود وهو يضع يده بجيوب بنطاله‪:‬‬
‫‪« -‬أنا اآلخر ال أدري لماذا انفعلت هكذا!! أم أنها كانت تظن أن‬
‫زيادتها في الراتب لن يكون أمامها مقابل»‬
‫اتصلت برحاب فور‬
‫ُ‬ ‫رمقتُه بغضب وأنا أتحرك لخارج الشركة‪،‬‬
‫خروجي؛ ألطمئن عليها وأعرف أين ذهبت‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪200‬‬

‫لم أستطع تمييز صوتها من كثرة البكاء‪ ،‬وأخبرتني أنها لن تقدر على‬
‫التحدث اآلن وستتصل بي عندما تهدأ‪..‬‬
‫تمشيت بخطى متثاقلة‬
‫ُ‬ ‫شعرت بالهم الشديد وأصابتني الحيرة في أمري‬
‫ُ‬
‫وأنا أفكر‪ ..‬ماذا سأفعل اآلن؟ لن أستطيع الذهاب إلى هذه الشركة ثانية‬
‫ورؤية ذلك الذئب المتمثل في شكل رجل‪ ،‬وفي الوقت نفسه ال أستطيع‬
‫أن أترك العمل اآلن‪ ..‬لن يقبل بي أي عمل براتب جيد وأنا ال أملك شهادة‬
‫خبرة‪ ..‬بقي خمسة أشهر فقط وأحصل عليها‪ ،‬كما أنني إن لم أذهب غدً ا‬
‫كثيرا خالل هذين اليومين‪..‬‬
‫تعبت ً‬
‫ستضيع المكافأة وأنا ُ‬
‫وصلت إلى البيت وعقلي يكاد أن ينفجر من كثرة التفكير فيما حدث‬
‫ُ‬
‫ألقيت عليهما‬
‫ُ‬ ‫وجدت خالي وأمي يجلسان بانتظار قدومي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وماذا سأفعل‪،‬‬
‫التحية‪ ،‬وقالت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬هيا بدلي مالبسك سري ًعا وانضمي إلينا‪ ،‬لم نتعشى أنا وخالك‬
‫وانتظرنا حتى تأتي»‬
‫قلت وأنا أحاول إخفاء ما بي‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬لن أستطيع أن آكل شي ًئا‪ ..‬تفضال أنتما بالهناء والشفاء»‬
‫سألني خالي وهو ينظر إلي‪:‬‬
‫بك يا حنين‪ ..‬أحدث شيء ما؟»‬‫‪« -‬ما ِ‬
‫‪201‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫فكرت أن أخبرهما حتى يقوال لي ماذا أفعل ولكني‬


‫ُ‬ ‫صمت ً‬
‫قليل‪..‬‬ ‫ُّ‬
‫خفت أن أندم على هذا بعدها‪..‬‬
‫أجبت‪:‬‬
‫‪« -‬ال ليس بي شيء‪ ،‬مجرد إرهاق من ضغط العمل»‬
‫اتجهت إلى أمي؛ كي أنهي هذا الحديث‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬هل نام األوالد؟»‬
‫كثيرا»‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬نعم ناما بعد أن يئسا من رؤيتك اليوم‪ ..‬انتظراك ً‬
‫هززت رأسي وأنا أتصنع االبتسام‪ ،‬واستأذنتهما وذهبت إلى الغرفة‪،‬‬
‫ُ‬
‫خلعت مالبسي‪ ،‬وارتديت مالبس النوم‪ ،‬نظرت إلى براء ومارية النائمين‬
‫ُ‬
‫مستمرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫كالمالئكة ومازال حديث نفسي‬
‫ال لن أستطيع ترك العمل نحن بحاجة للمال وطفالي يحتاجان للكثير‪،‬‬
‫لن أستطيع أن أعيد الكرة ثانية بمكان آخر‪ ،‬وأجلس سنة أخرى جديدة‪ ..‬هو‬
‫كثيرا‪ ،‬ونصحتها مرات عدة‬
‫أيضا أخطأت ً‬ ‫رجل سيء بالتأكيد ولكن رحاب ً‬
‫ولم تستجب‪ ..‬هي تتحمل الخطأ مثله تما ًما‪..‬‬
‫تمشيت بالغرفة ذها ًبا وإيا ًبا‪ ،‬والصراع يشتد بداخلي ما بين مبادئي‬
‫وترك العمل‪ ،‬وما بين مصلحتي‪..‬‬
‫سمعت صوت خالي وهو يودع أمي ويخبرها أنه سيأتي إليها غدً ا‪..‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪202‬‬

‫فتحت باب غرفتي سري ًعا قائلة‪:‬‬


‫ُ‬
‫‪« -‬خالي انتظر»‬
‫قال خالي مستغر ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬ألم تنامي بعد يا حنين؟ ظننتك نائمة»‬
‫خرجت إليهما‪ ،‬وقلت وقد عال االستغراب وجههما‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال لم أنم‪ ..‬اجلس عشر دقائق فأنا أريد استشارتكما في أمر ما»‬
‫وبدأت بسرد كل شيء حدث اليوم بين دكتور‬
‫ُ‬ ‫جلس خالي وأمي‪،‬‬
‫حاتم ورحاب عليهما‪..‬‬
‫حتى انتهيت من حديثي‪ ،‬فقالت أمي بانفعال‪:‬‬
‫‪« -‬في ماذا تفكرين يا حنين؟!! هل ح ًّقا تفكرين بالرجوع إلى هذا‬
‫الرجل والعمل عنده ثانية بعد اليوم وما حدث؟!»‬
‫‪« -‬يا أمي أنا ال أخاف منه‪ ،‬وأعلم أنه لن يستطيع االقتراب مني فهو‬
‫يعرفني جيدً ا»‬
‫ِ‬
‫وافقت على ما حدث‪..‬‬ ‫ذهبت بعد ما حدث اليوم فهذا معناه ِ‬
‫أنك‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬إِ ْن‬
‫ِ‬
‫عليك فيما بعد»‬ ‫لتجرئه‬
‫وهذا سيكون سب ًبا قو ًّيا ُّ‬
‫كثيرا منه ولم‬
‫أيضا مخطئة وأنا نصحتها ً‬ ‫‪« -‬ولكن يا أمي‪ ،‬رحاب ً‬
‫لست مثلها»‬ ‫تقتنع‪ ..‬وأنا ُ‬
‫‪203‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬أعلم ذلك ‪-‬هداها الله‪ -‬ولكن َم ْن مثل هذا الرجل لن تختلف‬
‫ً‬
‫مشغول بالنظر إلى‬ ‫عنده األمور‪ ..‬إِ ْن لم يكن ينظر ِ‬
‫إليك اليوم فهذا ألنه كان‬
‫رحاب وغدً ا سيتحول نظره ِ‬
‫إليك»‬
‫علق خالي هادئًا‪:‬‬
‫‪« -‬أوافق أمك تما ًما في كل ما تقول»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ولكن يا خالي لن أستطيع أن أحصل على عمل جيد اآلن بسهولة‪،‬‬
‫بقي لي خمسة أشهر فقط وأحصل على شهادة خبرة‪ ،‬كما أنني يجب أن أتم‬
‫عملي غدً ا حتى أحصل على المكافأة»‬
‫أكملت بانفعال هادئ‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬نحن بحاجة إلى األموال أم أنكما نسيتما ما نحن فيه؟»‬
‫قالت أمي‪:‬‬
‫ِ‬
‫أخاك بعمل‪ ،‬وأخبرني اليوم أنه أرسل لنا المال‪،‬‬ ‫‪« -‬لقد أكرم الله‬
‫صباحا من مكتب البريد‪ ،‬وسنحاول أن نتكيف بهذا‬
‫ً‬ ‫وسيستلمه خالك غدً ا‬
‫الراتب حتى تحصلين على فرصة عمل أخرى»‬
‫وقلت راجي ًة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫شعرت بالتردد من كالمهما‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬غدً ا فقط»‬
‫هزت أمي رأسها نافي ًة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪204‬‬

‫‪« -‬وال ساعة واحدة أخرى مع هذا الرجل يا حنين‪ ،‬كيف تقبلين المال‬
‫من رجل بهذه األخالق حتى إِ ْن كان مقابل جهدك‪ ،‬ثم إنني لن أشعر باألمان‬
‫ِ‬
‫وأنت تذهبين إلى هذا العمل»‬ ‫ِ‬
‫عليك‬
‫ذهبت تجاهه والتقطته وأجابت‪ ،‬أكمل‬ ‫ْ‬ ‫قطع حديث أمي رنين هاتفها‪،‬‬
‫جلست وأنا أحك‬
‫ُ‬ ‫خالي كالمه بكالم أمي نفسه وهو يحاول أن يقنعني‪،‬‬
‫رأسي وأفكر‪ ،‬كالمهما صحيح مئة بالمئة ولكن أشعر بالحنق أن يضيع‬
‫ِ‬
‫هداك الله‬ ‫مجهودي كل األشهر السابقة في الهواء هكذا بمنتهى البساطة‪..‬‬
‫استمعت إلى كالمي لم يحدث كل هذا من البداية‪ ،‬ولكن‬ ‫ِ‬ ‫يا رحاب لو ِ‬
‫أنك‬
‫ما أدراني ربما أمي محقة‪ ،‬وأنه كان سيتجه إلينا يو ًما ما حتى إن تجنبناه‪..‬‬
‫انتبهت على صوت أمي وهي تقول بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬هل ِ‬
‫أنت متأكدة مما تقولين يا سعاد؟!!»‬
‫وأكملت بصوت حزين‪:‬‬
‫ْ‬ ‫صمتت برهة‪،‬‬
‫ْ‬
‫معك المكالمة اآلن وأتصل ِ‬
‫بك في وقت الحق»‬ ‫‪« -‬حسنًا سأنهي ِ‬
‫توقفنا عن الحديث أنا وخالي ونظرنا إليها بترقب في انتظار لما ستقوله‬
‫وقد تملكنا القلق‪ ،‬نظرت إلينا بعينين حزينتين وانخرطت في البكاء‪.‬‬
‫●●●‬
‫‪205‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)17‬‬

‫أتاني صوتها الباكي الممزوج بالقهر قائلة‪:‬‬


‫‪« -‬ال أدري كيف تجرأ على فعل هذا!!»‬
‫وزادت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫صمتت لحظة‬
‫ْ‬
‫تجرئه غال ًيا»‬
‫‪« -‬وغد‪ ..‬حقير‪ ..‬ولكنني سأعرفه َم ْن أنا وسأجعله يدفع ثمن ُّ‬
‫عليك ولكن ال أتعجب‬ ‫ِ‬ ‫عليك يا رحاب‪ ..‬أعلم أن األمر شديد‬‫ِ‬ ‫‪« -‬هوني‬
‫أن يصدر موقف كهذا من دكتور حاتم؛ فكلنا نعلم شخصيته ِ‬
‫وأنت أولنا»‬
‫صمتت رحاب تما ًما‪ ،‬ربما شعرت بالخجل وتذكرت كالمي‪ ،‬وكيف أنني‬
‫إلي‪..‬‬
‫حذرتها مما آلت إليه األمور اآلن‪ ،‬ولكن عنادها منعها من االستماع ّ‬
‫حاولت أال أثقل عليها بعتابي‪ ،‬أو أن أظل أذكرها بنصحي الدائم لها‪،‬‬
‫كثيرا على عدم إنصاتها‪ ،‬فال داعي أن أزيد‬
‫فأنا أعلم أنها تجلد ذاتها اآلن ً‬
‫عليها ما تمر به‪..‬‬
‫خففت من حدة الموقف قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬أتعلمين أكثر ما يحزنني أنني سأفتقد الشاي باللبن الذي يعده عم عبده»‬
‫ضحكت ضحكة مكتومة وقالت‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪206‬‬

‫‪« -‬أنا أسفة جدًّ ا يا حنين‪ ،‬إنني السبب في تركك للعمل وأنا أعلم‬
‫حاجتك إليه»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫أخطأت منذ البداية في االستمرار‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫لست السبب يا رحاب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫«أنت‬ ‫‪-‬‬
‫بالعمل رغم اكتشافي لشخصيته‪ ،‬وأظن أنه جاء الوقت المناسب اآلن»‬
‫قالت تطمئنني‪:‬‬
‫ولك‪ ،‬ولن أذهب إلى أية وظيفة إال ِ‬
‫وأنت معي»‬ ‫‪« -‬سأبحث عن عمل لي ِ‬

‫قلت ضاحكة‪:‬‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫طويل»‬ ‫‪« -‬إ ًذا ستنتظرين‬
‫صمتت برهة ثم تابعت‪:‬‬
‫‪« -‬هل ستذهبين للشركة ثانية؟»‬
‫‪« -‬نعم سأذهب غدً ا؛ حتى أجمع متعلقاتي من المكتب»‬
‫أيضا‪ ..‬فلن أستطيع‬ ‫ِ‬
‫«أرجوك يا حنين أن تحضري لي متعلقاتي أنا ً‬ ‫‪-‬‬
‫الذهاب إلى هذا المكان ثانية»‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬سأحضرها ِ‬
‫لك معي»‬
‫سألت متعجبة‪:‬‬
‫‪« -‬ولماذا لم تذهبي اليوم؟»‬
‫‪207‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ِ‬
‫نسيت؟»‬ ‫‪« -‬اليوم الجمعة وهو عطلة‪ ،‬هل‬
‫‪« -‬ياإلهي نسيت تما ًما»‬
‫أكملت‪:‬‬
‫‪« -‬كما أنه لدي أمر ما بالبيت ولن أستطيع النزول»‬
‫قالت والقلق يشوب صوتها‪:‬‬
‫‪« -‬هل حدث شيء عندكم بالبيت؟»‬
‫‪« -‬ال ال‪ ..‬أمي تحتاجني فقط معها اليوم»‬
‫كثيرا للخالة»‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬حسنًا لن أطيل عليك‪ ،‬وأوصلي سالمي ً‬
‫‪« -‬حسنًا‪..‬اعتني بنفسك جيدً ا»‬
‫‪« -‬سالم»‬
‫‪« -‬سالم»‬
‫وخرجت إلى غرفة المعيشة‪ ،‬كانت أمي تجلس على‬
‫ُ‬ ‫أغلقت الخط‬
‫ُ‬
‫نظرت إليها سائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫األريكة بانتظاره‪..‬‬
‫‪« -‬هل وصل؟»‬
‫قالت باقتضاب‪:‬‬
‫‪« -‬نعم قال لي إن أمامه نصف ساعة ويأتي إلى هنا»‬
‫ِ‬
‫طلبت حضوره إلى هنا فجأة؟»‬ ‫‪« -‬لم يسألك عن شيء؟ ولماذا‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪208‬‬

‫‪« -‬بالتأكيد سأل‪ ،‬ولكنني أخبرته أنني لن أستطيع مناقشة األمر معه‬
‫بالهاتف»‬
‫أطلقت زفرة قلق وأنا أقول‪:‬‬
‫‪« -‬آمل أن تخيب ظنوننا»‬
‫وقع بصري على المظروف الموجود على الطاولة بوسط الغرفة‪..‬‬
‫سألتها‪:‬‬
‫‪« -‬هل استلم خالي النقود من مكتب البريد؟»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫قلت بتردد‪:‬‬
‫‪« -‬وكم أرسل؟»‬
‫جنيها»‬
‫‪« -‬ثالثة آالف ً‬
‫شعرت بالحزن عند سماع الرقم؛ فهذا يؤكد ً‬
‫قليل ما أخبرتنا به الخالة‬ ‫ُ‬
‫وربت على ساقها اليمنى‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫جلست بجانبها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫سعاد صديقة أمي‪،‬‬
‫‪« -‬أمي ال نريد أن ننفعل‪ ..‬نريد أن نفهم األمر منه‪ ،‬ونناقشه بهدوء‬
‫فلربما اختلط األمر على الخالة سعاد»‬
‫أومأت لي برأسها ببطء موافقة‪ ،‬والحزن يكسو مالمحها‪.‬‬
‫وأسرعت بفتحه‪ ،‬دلف آسر مسر ًعا ثم نظر‬
‫ُ‬ ‫قمت‬
‫دق جرس الباب‪ُ ،‬‬
‫‪209‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫إلي‪ ،‬واتجه بالسؤال إلى أمي مستغر ًبا‪:‬‬


‫ّ‬
‫ِ‬
‫طلبت حضوري إلى هنا من‬ ‫‪« -‬ماذا هناك يا أمي؟ أحدث لكم شيء؟ لماذا‬
‫الغردقة بهذه السرعة؟ وما هذا األمر الذي لن نستطيع مناقشته بالهاتف؟»‬
‫مباشرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سؤال‬ ‫قامت أمي من مكانها حتى استقرت أمامه تما ًما‪ ،‬وسألته‬
‫‪« -‬آسر‪ ..‬ما طبيعة عملك في الغردقة؟»‬
‫إلي ثم نظر إليها‪ ،‬وقد ظهر على مالمحه التوتر‪ً ،‬‬
‫قائل‪:‬‬ ‫نظر ّ‬
‫‪« -‬كما أخبرتك من قبل‪ ..‬أساعد والد صديقي في مطعمه»‬
‫احتد صوت أمي وهي تقول‪:‬‬
‫‪« -‬مطعمه أم ملهاه الليلي؟!»‬
‫جحظت عينا آسر من المفاجأة‪ ،‬وهز رأسه ناف ًيا بقوة‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬ملهى ليلي!! َم ْن أخبرك بهذا الكالم!! َم ْن قال لك هذا الكالم‬
‫يحاول أن يوقع بيني وبينكم»‬
‫قالت أمي بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪« -‬اتصلت بي صديقتي سعاد زوجة الدكتور مرتجى باألمس‪ ..‬كانت‬
‫تطمئن على صحتي بعد وفاة أبيك‪ ،‬وسألتني عنك‪ ،‬وعن وظيفتك‪ ،‬ولما‬
‫ترددت ً‬
‫قليل‪ ،‬ولكنها‬ ‫ْ‬ ‫تأكدت أنني ال أعلم شي ًئا عن وظيفتك الحقيقة‬
‫أخبرتني في نهاية األمر أمام إلحاحي»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪210‬‬

‫صمت آسر ونظر إلى األرض‪ ،‬فأكملت أمي‪:‬‬


‫‪« -‬انتقلت سعاد إلى الغردقة منذ عامين؛ النتقال عمل دكتور مرتجى‬
‫بإحدى المستشفيات هناك‪ ،‬واألسبوع الماضي استقبل دكتور مرتجى‬
‫بعض أصدقائه من الدول األجنبية‪ ،‬وأخبروه أنهم سيتناولون العشاء في‬
‫مكان يعرفونه من خالل زياراتهم في األعوام السابقة لمدينة الغردقة‪،‬‬
‫وعندما ذهب وجلس معهم اكتشف حقيقة المكان وانسحب بعد خمس‬
‫وه َّم‬
‫مخبرا إياهم أن مثل هذه األماكن ينهانا ديننا عن الجلوس فيها‪َ ..‬‬
‫ً‬ ‫دقائق‬
‫ظهرت أمامه المفاجأة»‬
‫ْ‬ ‫بالخروج لكن‬
‫ثم قالت بانفعال‪:‬‬
‫‪« -‬آسر الخلوق المحترم ابن األستاذ طارق ‪-‬رحمه الله‪ -‬الذي‬
‫يشهد الجميع بحسن سمعته يتجول بين الطاوالت هناك‪ ،‬ويلبي احتياجات‬
‫الزبائن!!»‬
‫صاحت وهي تسأله‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬أليس كذلك؟»‬
‫صمت آسر وهو مطأطئ رأسه‪ ،‬فصاحت أمي ثانية وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬أجبني»‬
‫عقد آسر حاجبيه‪ ،‬وقال بعد أن أطلق زفرة تدل على االستسالم‪:‬‬
‫‪« -‬نعم أنا أعمل ً‬
‫نادل بملهى ليلي‪ ..‬لم أجد وظيفة بمثل هذا الراتب‬
‫‪211‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫الذي من خالله أستطيع أن أحصل على ما أريد وألبي احتياجاتكم»‬


‫صاحت أمي والذهول في عينيها‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬ال تتحجج بنا‪ ..‬أنت لم يشغل بالك أمورنا قط‪ ..‬أنت تقبل المال‬
‫الحرام من أجل نفسك فقط»‬
‫قال آسر بغضب‪:‬‬
‫تعرضت لصدمة قوية بين‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬وماذا ِ‬
‫كنت تنتظرين أن أفعل يا أمي؟!‪..‬‬
‫ليلة وضحاها اختفى كل شيء‪ ..‬كل شيء‪ ..‬وإِ ْن ذهبت ألي عمل اآلن‬
‫كثيرا مقابل الحصول على وريقات زهيدة لن تفيد»‬
‫سأتعب ً‬
‫قالت أمي متعجبة‪:‬‬
‫‪« -‬تتكلم وكأنك تعرضت وحدك لهذه الصدمة‪ ..‬جميعنا في مثل‬
‫موقفك‪ ،‬ولكننا استطعنا أن نتكيف مع حياتنا الجديدة‪ ،‬وأن نستغني عن‬
‫الكثير من األشياء»‬
‫قال وهو يشيح بوجهه بعيدً ا‪:‬‬
‫‪« -‬هذه قدرات يا أمي‪ ..‬هناك َم ْن يستطيع التكيف وهناك َم ْن ال‬
‫يستطيع»‬
‫قالت بقوة‪:‬‬
‫‪« -‬نعم أنت ضعيف ولذلك أطعمت جسدك حرا ًما بعد أن تعب َ‬
‫أبوك‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪212‬‬

‫وشقي من أجل أال تنبت أجسادكم من الحرام‪ ،‬ثم أمام رغباتك هددت كل‬
‫ما فعله ألعوام من أجلك»‬
‫اقتربت أمي منه ونظرت في عينيه‪ ،‬وقالت بهدوء وهي تغالب بكاءها‪:‬‬
‫‪َ « -‬م ْن أنت؟! أنت لست ابني‪ ..‬أنت لست آسر الذي ربيته أنا وأبوه‬
‫وحنين‪ ..‬أنت شخص آخر مأل الجشع قلبه‪ ،‬وتكالبت عليه الدنيا حتى‬
‫أسقطته في آبارها المظلمة»‬
‫وضعت أمي يدها على كتفه‪ ،‬وقالت بحنو‪:‬‬
‫‪« -‬ارجع يا آسر إلينا‪ ،‬واترك هذا الطريق يا بني‪ ..‬فطريق الحرام آخره ندم‬
‫وحسرة‪..‬ارجع وسيفرجها الله وسيوسعها علينا من حيث ال نحتسب‪ ،‬صدقني»‬
‫تنهد آسر وهو ينظر بعيدً ا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬لن أستطيع»‬
‫رجعت أمي للخلف وهي تحاول أن تمنع دموعها من السقوط وقد بدا‬
‫عليها الحزم‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬إ ًذا لك ما اخترت‪ ،‬ولكن في مقابل اختيارك هذا‪ ..‬انس أن لك أ ًّما‬
‫على وجه هذه الدنيا‪ ،‬أو أن لك عائلة‪ ،‬وال تطأ قدمك هذا البيت يو ًما حتى‬
‫تترك ذلك العمل»‬
‫ثم التقطت أمي المظروف من على الطاولة‪ ،‬وألقته بوجهه‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪213‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬وخذ هذه النقود معك‪ ..‬حافظ أبوك عمره كله على هذا البيت أن‬
‫ال يدخله حرام‪ ،‬ولن أدنسه بعد موته»‬
‫رغما عنها‪:‬‬
‫ثم تابعت وقد سقطت دموعها ً‬
‫‪« -‬الحمد لله الذي أمات أباك قبل أن يرى هذا اليوم وإال كان سينفطر‬
‫قلبه حزنًا كما هو مفطور قلبي اآلن‪ ..‬اذهب من هنا ال أريد أن أرى وجهك‬
‫ثانية‪ ..‬اذهب»‬
‫حاول آسر أن يقترب منها ولكنه تراجع‪ ،‬نظر إلي وقد ظهر في عينيه‬
‫الضيق الشديد‪ ،‬نظرت إليه نظرة رجاء ترجوه بشدة أن يبقى لكنه فتح الباب‬
‫وأغلقه خلفه بقوة‪..‬‬
‫ذهبت إلى أمي أحتضنها‪ ،‬وقد أجهشت بالبكاء‪ ،‬تعجبت من إصرار آسر‬ ‫ُ‬
‫على الذهاب فهو ال يستطيع التخلي عن رغباته وإِ ْن كان سيلبيها بالحرام‪..‬‬
‫ت ًّبا لتلك األموال التي أفسدت علينا حياتنا‪ ،‬ذهبت بأبي‪ ،‬وأوجعت قلب‬
‫أمي‪ ،‬وأفسدت آسر‪ ،‬وكادت أن تفسدني‪ ..‬ت ًّبا لتلك األموال التي أفقدت‬
‫وهما ال ينتهيان‪ ..‬ت ًّبا لها ثم ت ًّبا»‪...‬‬
‫ذلك البيت فرحته‪ ،‬وأبدلته مكانها حزنًا ًّ‬
‫***‬
‫باكرا‪ ،‬وتحركت بخفة داخل الغرفة حتى ال يستيقظ براء‬
‫استيقظت ً‬
‫ومارية؛ ألرتدي مالبسي فاليوم هو السبت وهو أنسب يوم للذهاب إلى‬
‫الشركة؛ ألحضر متعلقاتي أنا ورحاب‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪214‬‬

‫يوم السبت هو ليس يوم عطلة وال يوم عمل ولكن دكتور حاتم كان‬
‫يعطينا فيه حرية االختيار ما بين الذهاب فيه إلى الشركة؛ لمضاعفة عملنا‬
‫أو الراحة في البيت‪ ،‬ويقوم عم عبده بفتح الشركة في موعدها الرسمي‪،‬‬
‫واألهم من ذلك كله أن دكتور حاتم ال يأتي في هذا اليوم مطل ًقا مما يعني‬
‫أنني لن أرى وجهه ولن أضطر للحديث معه‪..‬‬
‫انتهيت من ارتداء مالبسي‪ ،‬والتقطت حقيبتي‪ ،‬شددت اللحاف على‬
‫جسدي براء ومارية النحيلين حتى يدفئا جيدً ا‪ ،‬ابتسمت وأنا أتأمل مالمح‬
‫براء التي قد بدأت تتحول تدريج ًّيا إلى مالمح هاشم‪..‬‬
‫تمنيت أن لو يكون هاشم معي ويحمل عني ً‬
‫قليل مما أالقي‪ ..‬تنهدت‬
‫خارجا وأترحم عليه وعلى أبي داعي ًة لهما بأن يكون مثواهما‬
‫ً‬ ‫وأنا أتوجه‬
‫الفردوس‪..‬‬
‫اتجهت إلى المطبخ؛ ألتناول أي شيء قبل ذهابي فوجدت أمي تجلس‬
‫على األريكة بغرفة المعيشة وتضع يدها على خدها وقد َخ َّي َم عليها الحزن‪..‬‬
‫اقتربت منها قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬صباح الخير يا أمي»‬
‫أجابت بصوت مرهق‪:‬‬
‫‪« -‬صباح الخير يا حنين‪ ..‬هل ستذهبين؟»‬
‫‪215‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫جلست بجانبها ووضعت يدي على يدها‪:‬‬


‫‪« -‬والله يا أمي ال أريد أن أتركك‪ ،‬ولكنه أنسب يوم لجمع متعلقاتي؛‬
‫فورا»‬
‫فدكتور حاتم ال يذهب إلى الشركة كما أنني لن أتأخر‪ ..‬ساعة وسأعود ً‬
‫ربتت أمي على يدي‪:‬‬
‫‪« -‬ال تشغلي بالك حبيبتي أنا بخير ال تقلقي‪ ..‬اذهبي ِ‬
‫أنت واقضي حاجتك»‬
‫توجهت إلى باب الشقة بعد أن ودعتها‪ ،‬وانتعلت حذائي ونزلت‪،‬‬
‫استقليت الحافلة‪ ،‬وجلست بإحدى المقاعد المجاورة للنافذة‪ ..‬نظرت إلى‬
‫اتصال من آسر‪ ،‬ولكن سرعان ما خاب أملي‪..‬‬ ‫ً‬ ‫هاتفي على أمل أن أجد‬
‫كثيرا باألمس لكنه لم يرد على أي من اتصاالتي‪ ،‬كنت سأخبره‬ ‫اتصلت به ً‬
‫أال ينزعج من كالم أمي‪ ،‬وأنني سأقوم بتهدئة األمور بينهما‪ ،‬وأحاول أن‬
‫أقنعه بترك ذلك العمل‪ ..‬ربما شعر بالكالم الذي سأخبره به فآثر عدم الرد‪..‬‬
‫حفظت معالمها جيدً ا‬
‫ُ‬ ‫نظرت من خالل النافذة إلى تلك المباني التي‬ ‫ُ‬
‫فهي رفيقة الطريق على مدار سبعة أشهر‪ ،‬هذا هو ما سأفتقده ح ًّقا‪ ..‬فالطريق‬
‫هو الوقت المستقطع الوحيد في حياتي‪ ..‬أنعزل فيه عن جميع البشر وإِ ْن‬
‫كنت بينهم جسدً ا‪ ..‬ال أتكلم مع أحد‪ ،‬وال يشغل بالي شيء‪ ..‬أغرق في‬
‫تأمالتي وأنا أتطلع إلى السحب والطريق والمباني واألزقة والحافالت‪،‬‬
‫أدقق النظر في التفاصيل الصغيرة التي ربما ال يالحظها أحد بالمرة وإِ ْن كان‬
‫أثرا ال يزول‪..‬‬
‫يمر عليها يوم ًّيا فتترك في قلبي ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪216‬‬

‫أخذني من تأمالتي صوت رنين هاتفي‪ ،‬هممت بفتح حقيبتي سري ًعا؛‬
‫وجدت جهة االتصال رحاب‪ ،‬كانت تتأكد‬ ‫ُ‬ ‫لعل يكون المتصل آسر‪ ،‬ولكنني‬
‫أنني في طريقي إلى الشركة وتذكرني بمتعلقاتها الموجودة باألدراج؛ كي ال‬
‫أنسى شي ًئا‪..‬‬
‫أغلقت معها وأنا أتذكر مكالمتها في آخر الليل باألمس‪ ،‬وهي تخبرني‬
‫أنها قررت أن تقوم بتحرير محضر ضد دكتور حاتم تثبت فيه واقعة تحرشه‬
‫بها‪ ،‬وأنها لن تهتم بكالم الناس‪ ،‬وال بردود أفعالهم‪ ،‬وكل ما يشغل بالها أن‬
‫تنقذ أية فتاة من الممكن أن تقع بشباكه في المستقبل‪..‬‬
‫ولكنها ستنتظر ابن عمتها المحامي حتى يرجع من سفره بعد عشرة‬
‫أيام؛ ليتابع معها إجراءات هذا األمر‪..‬‬
‫أيضا عندما‬‫احترمت شجاعتها وقرارها‪ ،‬ولكنني شعرت بالخوف ً‬
‫قالت إنها ستأخذني أنا وأسامة شاهدان على هذه الواقعة‪ ،‬فنحن الوحيدان‬
‫اللذان كانا بالشركة وقتها وشهدنا جميع ما حدث‪..‬‬
‫لم أدخل إلى أي قسم شرطة في حياتي إال مرة واحدة وقت استخراج‬
‫بطاقتي‪ ،‬ولم أوضع في مثل هذا الموقف من قبل وأكون شاهدً ا وليست في‬
‫قضية عادية بل قضية شائكة تتعلق بسمعة دكتور كبير في مجال دعاية األدوية‬
‫مثل دكتور حاتم‪ ،‬ولكنني لن أكتم شهادتي أبدً ا إذا ُطلب مني ذلك‪ ..‬أريد أن‬
‫أساند رحاب في موقفها لكي نكف أذى هذا الشخص عن جميع الفتيات‪ ،‬كما‬
‫أنه جاء الوقت المناسب الذي أرد به لرحاب ما تفعله معي دو ًما‪..‬‬
‫‪217‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ظهرت تلك اليافطة الحمراء‪ ،‬فنزلت من الحافلة‪ ،‬وعبرت الطريق‬


‫للجهة األخرى متجهة إلى الشركة‪ ،‬استقبلني عم عبده بسؤاله‪:‬‬
‫لك الشاي باللبن؟»‬‫‪« -‬صباح الخير دكتورة حنين‪ ..‬هل أعد ِ‬
‫«شكرا لك ياعم عبده ال أريد؛ فأنا في عجلة من أمري‪ ..‬هل هناك‬‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫أحد بالداخل؟»‬
‫‪« -‬نعم دكتور سيد فقط‪ ،‬أتى منذ عشر دقائق»‬
‫أومأت له برأسي واتجهت إلى غرفة المكاتب‪ ،‬ألقيت تحية الصباح‬
‫على دكتور سيد‪ ،‬واتجهت إلى مكتبي‪ ،‬وبدأت بجمع متعلقاتي‪..‬‬
‫جاء دكتور سيد عند المكتب وقال بصوت خيم عليه الحزن‪:‬‬
‫‪« -‬ستتركين الشركة؟»‬
‫قلت وأنا أضع بعض األشياء بصندوق صغير‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬لم يعد لي مكان هنا»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬علمت ما حدث لألسف»‬
‫سألته وأنا أستفسر‪:‬‬
‫‪« -‬و َم ْن أخبرك؟»‬
‫‪« -‬أسامة»‬
‫سكت ً‬
‫قليل ثم أكمل‪:‬‬
‫عاجل أم ً‬
‫آجل أنك ستتركين هذا المكان‪ ..‬فالطيبون ال‬ ‫ً‬ ‫‪« -‬كنت أعلم‬
‫مكان لهم هنا»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪218‬‬

‫ثم نظر إلي‪ ،‬وقال‪:‬‬


‫ِ‬
‫احتجت إلى أي شيء دكتورة حنين ال تتردي في طلب‬ ‫‪« -‬إذا‬
‫المساعدة‪ِ ..‬‬
‫معك هاتفي وسأكون في خدمتك بأي وقت»‬
‫قلت‪:‬‬
‫«شكرا لك يا دكتور سيد‪ ..‬أتمنى لك التوفيق في حياتك‪ ..‬أوصل‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫سالمي ألسرتك الكريمة»‬
‫سمعنا صوت سيارة قد توقف محركها للتو‪ ،‬نظرت إلى دكتور سيد‬
‫باستغراب شديد‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬هل يأتي اليوم؟!»‬
‫أجاب وهو يهز رأسه ناف ًيا‪:‬‬
‫‪« -‬في العادة ال‪ ..‬من الممكن أن يكون شخص آخر وليس هو»‬
‫‪« -‬أتمنى ذلك فأنا ال أريد رؤية وجهه ثانية»‬
‫تضايقت‬
‫ُ‬ ‫وما إن مرت خمس دقائق حتى سمعنا وقع خطواته في الممر‪،‬‬
‫كثيرا من مجيئه‪ ،‬ال بد أنه أوصى عم عبده بإبالغه عند حضوري إلى هنا‪..‬‬
‫ً‬
‫أظهرت‬
‫ُ‬ ‫أطل برأسه وعلى وجهه ابتسامته المعتادة التي تثير استفزازي‪..‬‬
‫وأكملت جمع متعلقات رحاب‪ ،‬مشى ببطء حتى‬ ‫ُ‬ ‫عدم االهتمام بحضوره‪،‬‬
‫أتى قرب المكتب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫اتخذت قرارك بترك العمل من أجلها؟»‬‫ِ‬ ‫‪« -‬إ ًذا‬
‫‪219‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫رفعت رأسي إليه‪ ،‬وقلت‪:‬‬


‫‪« -‬ال من أجلها بل من أجلك»‬
‫ابتسم عند سماع إجابتي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬دكتورة حنين أريد مناقشة أمر مهم معك بمكتبي بعد أن تنتهي»‬
‫قلت بحزم‪:‬‬
‫‪« -‬لم يعد يعنني أهمية أي أمر بهذه الشركة»‬
‫أمال رأسه ناحيتي وأخفض صوته‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن أظن أن األمر سيهمك ح ًّقا» لمعت عيناه وهو يقول جملته‬
‫األخيرة مما أوقع الخوف في قلبي‪..‬‬
‫انتهيت من جمع متعلقاتي أنا ورحاب ووضعتها جان ًبا‪ ،‬هممت بالخروج‬
‫من الغرفة فناداني دكتور سيد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬إذا حدث أي شيء نادي باسمي فقط‪ ،‬وستجدينني أمامك»‬
‫أومأت له برأسي موافقة‪ ،‬واتجهت لمكتب دكتور حاتم‪..‬‬
‫رحب بي وكأنه يراني ألول مرة‪ ،‬طلب من عم عبده إحضار مشروب‬
‫وه َّم بغلق الباب لوال أنني منعته من ذلك‪..‬‬
‫لنا‪َ ،‬‬
‫بدأ حديثه بابتسامة ماكرة ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬هل تعلمين أن دكتور أسامة سيشتري السيارة التي حلم بها دو ًما‬
‫نهاية هذا األسبوع»‬
‫نظرت إليه بضيق‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪220‬‬

‫‪« -‬وهل هذا هو األمر المهم الذي تود مناقشته معي؟!»‬


‫عال صوته بالضحك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬بالتأكيد ال»‬
‫عقد ذراعيه على المكتب‪ ،‬وقال بصوت منخفض‪:‬‬
‫أنت األخرى وتودين تحقيقها»‬‫‪« -‬أنا أعلم أن لديك أحالما ِ‬
‫ً‬
‫صمت برهة‪ ،‬وزاد‪ ،‬وعيناه ممتلئة بالخبث‪:‬‬
‫«سأعطيك مكانها بالشركة وبأكثر من راتبها وسأمنحك مكافأة‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫قرضا طويل األمد حتى ال تعتبرينها‬
‫كبيرة‪ ،‬أو من الممكن أن نطلق عليها ً‬
‫رشوة فأنا أعلم بمبادئك»‬
‫رجع بجسده في المقعد وأكمل‪:‬‬
‫‪« -‬كل هذا مقابل أن تنفي ما حدث عندما تطلب شهادتك في المحضر‬
‫الذي ستقوم بتحريره»‬
‫وتعجبت أنه علم بأمر‬
‫ُ‬ ‫اتسعت حدقتا عيني من المفاجأة من عرضه‪،‬‬
‫ليل!! تذكرت صوتها وهي تخبرني‬ ‫المحضر؛ فرحاب لم تخبرني إال باألمس ً‬
‫أنها ستطلبني للشهادة أنا وأسامة‪ ،‬ال بد أنها أخبرت أسامة وبالتأكيد أخبره‪..‬‬
‫ابتسمت بسخرية‪ ،‬ونظرت إليه قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬من الواضح أن كثرة تعاملك مع الكثير من عديمي المبادئ يا دكتور‬
‫حاتم جعلك تتوهم أن جميع الناس هكذا»‬
‫‪221‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ضيق عينيه‪ ،‬وقال وقد بدأ الغضب يظهر على مالمحه‪:‬‬


‫ِ‬
‫«دعك من هذه الخرافات‪ ،‬وال تدعي المثالية فنحن لسنا بالمدينة‬ ‫‪-‬‬
‫الفاضلة‪ ..‬ال تكوني حمقاء واقبلي عرضي فأنا أعلم حاجتك جيدً ا لهذا المال»‬
‫قلت وأنا أقوم من المقعد‪:‬‬
‫‪« -‬من الممكن أن تضيفها لرصيد دكتور أسامة؛ فأنا أظن أنه لن يمانع‬
‫أن تقوم بزيادة رشوته‪ ..‬أقصد مكافأته»‬
‫قام وهو يضرب المكتب بقبضته‪ ،‬وقد تحولت لهجته إلى الوعيد‪:‬‬
‫ِ‬
‫رفضت هذا العرض فأنت ستجعليني ألجأ إلى أساليب‬ ‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬إذا‬
‫أخرى قد ال تحبينها»‬
‫قلت باستنكار‪:‬‬
‫‪« -‬هل تقوم بتهديدي؟!»‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬أهددك وأحذرك في الوقت نفسه؛ فأنا ال أسامح أبدً ا َم ْن‬
‫حاول أذيتي‪ ..‬أنا أعلم الكثير عنك وعن عائلتك وإصرارك على موقفك قد‬
‫يعرض أحدهم لخطر تندمين عليه طوال حياتك»‬
‫ارتجف قلبي عندما قال كالمه األخير‪ ،‬وأصبت بالذعر الذي بدا على‬
‫مالمحي بالرغم من محاولتي إخفاء هذا‪..‬‬
‫زاد بعد أن جلس‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪222‬‬

‫‪« -‬فكري في األمر جيدً ا وال تتسرعي فأنا أعلم عنك الحكمة ومازال‬
‫قائما كما هو»‬
‫عرضي األول ً‬
‫استدرت بظهري بعد أن ابتلعت ريقي ولم أنطق ببنت شفة؛ فتهديده جعل‬
‫ُ‬
‫اتجهت خارج مكتبه بخطى متعثرة حتى أوقفني صوته منب ًها إياي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫رأسي يدور‪..‬‬
‫‪« -‬دكتورة حنين‪ ..‬ال يخطر ببالك لحظة أن تقومي بإبالغ الشرطة عما‬
‫ِ‬
‫فعلت هذا ولن يفيدك بشيء‬ ‫قلته ِ‬
‫لك‪ ..‬فأنا عالقاتي متعددة وسأعرف ْ‬
‫إن‬
‫فال تزيدي غضبي بفعل مثل هذا»‬
‫خرجت من الشركة هائمة‬
‫ُ‬ ‫وتحركت متجهة للخارج‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إليه بغضب‪،‬‬
‫ُ‬
‫على وجهي‪ ،‬يحاول عقلي استيعاب كل هذه المصائب المتالحقة‪ ..‬أشعر أنني‬
‫ال أقوى على تحمل كل هذا جملة واحدة‪ ،‬كما أن كل ما حدث في السابق‬
‫تذكرت نبرة صوته المليئة بالوعيد‪ ،‬وعينيه‬
‫ُ‬ ‫شيء وما أنا مقبلة عليه شيء آخر‪..‬‬
‫المتلونة بالشر‪ ،‬ال أظن أنه يهددني من باب تخويفي أو الضغط على موقفي‪ ،‬بل‬
‫هو قادر على فعل ما يقوله؛ فأمواله وعالقاته تساعده في ذلك‪..‬‬
‫هو ال يستطيع االقتراب من رحاب ومنعها؛ لعلمه برتبة عمها بالشرطة‬
‫التي تجعله يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على تهديدها‪..‬‬
‫علي؛ لعلمه بظروفي وأنه ال يوجد من يستطيع‬ ‫لذلك يقوم بالضغط َّ‬
‫حمايتي‪ ،‬وأسامة كالخاتم في إصبعه فلم يبذل جهدً ا في إقناعه باألمر‪ ،‬فهو‬
‫رجله المخلص له منذ زمن بالشركة‪..‬‬
‫‪223‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫تذكرت براء ومارية‪ ،‬ال بد أنه يقصدهما‬


‫ُ‬ ‫شعرت بانقباض في قلبي عندما‬
‫ُ‬
‫وضعت يدي على وجهي وأنا‬ ‫ُ‬ ‫بتهديده‪ ،‬تراءت بعض التخيالت أمامي‪،‬‬
‫أهز رأسي بقوة ألنفض هذه التخيالت عن ذهني‪ ..‬ال‪ ..‬لن أستطيع‪ ..‬لن‬
‫أتحمل حدوث أي شيء لهما‪..‬لن أجعلهما يدفعان ثمن أخطاء رحاب‪،‬‬
‫لن ألقي بهما في مثل هذه الصراعات‪ ،‬ولن أخبر أمي بكل هذا‪ ،‬فبالتأكيد‬
‫ستحثني على التمسك بموقفي وقول الحق كما كان موقفها عندما أخبرتها‬
‫بتحرش دكتور حاتم برحاب‪ ،‬ولكن الموقف اآلن اختلف‪ ،‬هي لن تشعر‬
‫بالخوف الذي أشعر به اآلن‪ ،‬لم يقم أحد من قبل بتهديدها بإيذاء أطفالها‪،‬‬
‫لم تتعرض لما أتعرض له‪ ..‬بقيت أمي طول عمرها بالبيت خلف أسوار‬
‫المدينة الفاضلة‪ ،‬وبقينا معها بداخلها‪ ،‬حتى خرجنا إلى الدنيا مبتعدين عن‬
‫تلك األسوار لنرى الدنيا التي لم تخبرني أمي عنها يو ًما قط‪ ..‬الدنيا التي‬
‫تفترسك بأنيابها لمجرد أنك شخص ضعيف ال تملك إال مبادئك‪ ،‬فتارة‬
‫تستطيع أن تواجهها بقوة وتنتصر‪ ،‬وتارات تدميك أنيابها الحادة حتى‬
‫تستسلم لها وتنصاع ألوامرها‪ ..‬كما انصاع آسر لها في النهاية‪..‬‬
‫وأظن هذه المرة أنني لن أقوى على المواجهة‪ ..‬كنت سأقاوم إِ ْن كان‬
‫األمر سيمسني أنا فقط‪ ..‬أما أن يتجه ألوالدي فال‪ ..‬سأستسلم هذه المرة‪..‬‬
‫فال خيار أمامي إال االستسالم‪.‬‬
‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪224‬‬

‫(‪)18‬‬

‫مضت نصف ساعة وأنا أجوب رصيف المحطة جيئة وذها ًبا في انتظار‬
‫القطار الذي تأخر عن موعده ربع ساعة حتى اآلن‪..‬‬
‫أيضا وهم‬
‫كان بعض المسافرين يقفون عن يميني وعن يساري بانتظاره ً‬
‫يحملون حقائبهم المتنوعة بين حقائب متوسطة الحجم وأخرى يحملونها‬
‫على ظهورهم‪ ،‬وعدد منهم مثلي ال يحمل شي ًئا سوى حقيبة على كتفه‪ ،‬أو‬
‫خالي اليدين‪.‬‬
‫انتبه الجميع فجأة إلى صوت صفارة القطار المتصاعد في األرجاء‬
‫معلنًا عن وصوله‪ ،‬ظهر ذلك الهيكل المعدني الضخم فضي اللون‪ ،‬وبدأ‬
‫باالقتراب منا بشكل سريع حتى وقف أمامنا ببطء مع صوت فرملة محركه‬
‫المتقطعة‪ ،‬فصدر صوت صليل نتج عن احتكاك عجالته المعدنية بالقضبان‬
‫المثبتة على األرض اقشعر له بدني حتى استقر تما ًما‪ ،‬تجمع الناس أمام‬
‫األبواب‪ُ ،‬فتحت وبدأ الناس بالصعود‪..‬‬
‫صعدت وأنا أنظر إلى الرقم الموجود على تذكرتي واألرقام المدونة‬
‫ُ‬
‫على ذلك اللوح المعدني الرفيع أعلى المقاعد‪..‬‬
‫‪225‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫بدأت أتنقل بين المقطورات حتى وجدت الرقم المدون على التذكرة‪،‬‬‫ُ‬
‫أخيرا أن أصل إلى مقعدي‪..‬‬
‫استطعت ً‬
‫ُ‬ ‫ارتياحا أنني‬
‫ً‬ ‫فجلست وأنا أتنهد؛‬
‫ُ‬
‫عقدت كلتا ذراعي أمام صدري وأنا أنظر إلى النافذة الزجاجية بجواري إلى‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫قريب مني االهتمام‬ ‫التفت حولي ببطء‪ ،‬فلم أر في وجه أحد‬‫ُّ‬ ‫رصيف المحطة‪،‬‬
‫إلي‪ ..‬أظن أنه لم يرسل أحدً ا لمراقبتي ومعرفة إلى أين سأذهب‪..‬‬
‫بالنظر ّ‬
‫تناهى إلى مسامعي رنين هاتفي ووجدت جهة االتصال رحاب‪ ،‬أجبت‬
‫فبادرتني بسؤالها‪:‬‬
‫‪« -‬هل جاء القطار؟»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬اعتني بنفسك وعندما تصلين أخبريني»‬
‫‪« -‬بالتأكيد إن شاء الله»‬
‫بدأ القطار بالتحرك مع صوت صفارته‪ ،‬اغرورقت عيناي بالدموع وأنا‬
‫أنظر إلى سماء القاهرة فربما تكون تلك المرة األخيرة التي أنظر إليها‪..‬‬
‫بالرغم من الحياة المادية التي تطغى على هذه المدينة‪ ،‬وتسلب روحها‬
‫شي ًئا فشي ًئا على مدار الوقت فإنها مكان نشأتي وقضيت بها طفولتي وكل‬
‫ذكرياتي وذكريات عائلتي بها ومهما ذهبنا يظل الحنين في قلوبنا ينبض‬
‫لمكان طفولتنا وذكرياتنا األولى‪ ،‬ال أعرف طبيعة مدينة اإلسكندرية وال‬
‫أعرف هل سنرتاح بها أم ال‪ ،‬ولكن ما من خيار أمامي‪ ،‬رضيت أم أبيت‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪226‬‬

‫تمشي حياتي باتجاه واحد اآلن‪ ،‬ويجب أن أسير به‪ ،‬فأنا ال أملك رفاهية‬
‫االختيار هذه الفترة‪ ،‬رجعت بجسدي في المقعد القماشي‪ ،‬وأنا أحاول‬
‫االسترخاء وأتذكر منذ ثمانية أيام‪ ..‬منذ ثمانية أيام فقط كيف كانت األمور‬
‫تجري على ما يرام‪ ،‬فقد حزمت أمري واتخذت قراري بعد تهديد دكتور‬
‫كذب‪،‬‬
‫حاتم لي بأنني سأفعل مثل أسامة‪ ،‬وسأشهد أن كل ما تدعيه رحاب ٌ‬
‫وأن دكتور حاتم لم يمسها قط‪ ،‬أخذت هذا القرار وأنا مرتاحة البال‪ ،‬ولم‬
‫كثيرا‪ ،‬كنت أشعر أنني فعلت ما يجب تجاه رحاب بكثرة‬ ‫يؤنبني ضميري ً‬
‫نصحي لها وهي لم تستمع‪ ،‬إ ًذا لماذا أدفع أنا وأوالدي ثمن عنادها‪ ،‬بجانب‬
‫أنني أحتاج إلى األموال هذه الفترة خاصة بعد اكتشاف أمر آسر الذي كنت‬
‫أعتمد على راتبه في حالة إن تركت عملي‪ ،‬كما أنني تحت هذا التهديد في‬
‫كثيرا‬
‫وضع المضطر الذي ال حيلة له وعليه االستسالم‪ ..‬جلست مع نفسي ً‬
‫وأنا أتشبع بتلك األسباب حتى إذا قام ضميري من سباته العميق في أي‬
‫لحظة يجد أمامه أكثر من مبرر يخمده ثانية‪..‬‬
‫توقفت عن الرد على مكالمات رحاب‪ ،‬وانقطعت عنها حتى ال يثنيني‬
‫عن قراري أي شيء كما أنها ستقاطعني بالضرورة ولن تفهم أسبابي عندما‬
‫تعلم بشهادتي‪.‬‬
‫كان كل شيء يسير بهدوء وسالم داخلي حتى ذلك اليوم الذي ذهبت فيه‬
‫إلحضار براء كالعادة من مدرسته ولكن حدث شيء غريب هذه المرة وجدت‬
‫براء ينتظرني على باب المدرسة وهذا لم يحدث من قبل‪ ،‬ابتهج عندما رآني‬
‫‪227‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وبدأ في التحرك تجاهي‪ ،‬أشرت له بيدي أن يتوقف قبل أن تخط قدماه الطريق‬
‫األسفلتي‪ ،‬ولكنه لم ينتبه لي وبدأ في العبور‪ ..‬تسمرت في مكاني بعدما سمعت‬
‫صوت صرير عال نتج عن احتكاك عجالت إحدى السيارات باألسفلت ووقع‬
‫براء أمامها من شدة خوفه‪ ..‬جريت عليه وأنا أحمله وأحتضنه وال أصدق أنه‬
‫لوال هذه السنتيمترات القليلة للحق براء بأبي وهاشم‪..‬‬
‫دخلت إلى المدرسة وأنا أستشيط غض ًبا من هذا اإلهمال الجسيم‪،‬‬
‫ولكن الجميع أصابته الدهشة لحدوث هذا‪ ،‬وتعجبوا كيف خرج براء من‬
‫بين أيديهم‪ ،‬ولم يشعروا به‪ ،‬ولم يحدث هذا من قبل أبدً ا‪..‬‬
‫أخذت أفكر في ترتيب األمور في أثناء رجوعي إلى البيت‪ ،‬وكيف أنني كنت‬
‫سأفقد براء في لحظة‪ ،‬شعرت أن الله يوجه لي رسالة من خالل هذا الموقف‪..‬‬
‫أريد أن أشهد شهادة زور خو ًفا على أبنائي وال أفكر في عاقبة هذا األمر عليهم‪..‬‬
‫حتما مهما فعلت لمنعها عنهم ومهما حاولت‬‫هي أقدار الله سيلقونها ً‬
‫حمايتهم‪ ..‬وصلت إلى المنزل ووجدت خالي قد وصل قبلي‪ ،‬فانفجرت‬
‫عما حدث‪..‬‬‫في البكاء مما جعل أمي وخالي يصابان بالذعر ويسأالني َّ‬
‫قصصت لهما ماذا حدث لبراء ثم أخبرتهم بعدها عن ذهابي األخير للشركة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتهديد دكتور حاتم لي‪..‬‬
‫قامت أمي واحتضنتني‪ ،‬وهي تحاول أن تخفف عني قائلة‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫«حماك الله يا ابنتي شرور تلك الدنيا‪ ..‬أعلم أن األمر يزداد شدة‬ ‫‪-‬‬
‫ولكن ستنفرج كل تلك األمور قري ًبا صدقيني وسيزول كل ما نعيشه اآلن»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪228‬‬

‫مسحت الدموع من على وجنتي‪ ،‬وأنا أهز رأسي مؤكدة كالمها‪..‬‬


‫جلسنا بعدها نفكر ماذا سنفعل مع تهديد دكتور حاتم وكيف سنحل‬
‫األمر إذا أدليت بشهادتي الحقيقية ضده‪ ،‬قال خالي‪:‬‬
‫‪« -‬نبلغ الشرطة»‬
‫قلت نافية‪:‬‬
‫‪« -‬ال يا خالي‪ ..‬هو حذرني من اتخاذ هذا الموقف وأال أفعل أي فعل‬
‫يثير غضبه‪ ،‬كما أن له الكثير من المعارف وال أعرف هل سيجدي هذا األمر‬
‫أم ال ولن أجازف بهذا الفعل»‬
‫قالت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬عندما تذهبين وتدلين بشهادتك أخبريهم أنه يقوم بتهديدك»‬
‫توجهت إليها وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬ويعلم هو‪ ،‬ويسرع بإرسال رجاله إليكم‪ ،‬ويفعل ما يفعل‪ ،‬ولن‬
‫أحصل على أي شيء وقتها بل إني ُ‬
‫سأالم ألنني لم أبلغ من قبل»‬
‫صمتت أمي وهي تضع يدها على ذقنها‪ ،‬ثم سألت حائرة‪:‬‬
‫‪« -‬إ ًذا ماذا سنفعل؟»‬
‫نظرت إليهما وقلت بتردد‪:‬‬
‫‪« -‬هناك حل واحد فقط أمامنا»‬
‫‪229‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قال خالي‪:‬‬
‫‪« -‬وما هو؟»‬
‫قلت ببعض الخوف من ردة فعل أمي‪:‬‬
‫‪« -‬أن نترك هذا المكان ونرحل لمكان آخر بعيد عن القاهرة»‬
‫قامت أمي من مكانها واتسعت حدقتا عينيها مستنكرة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬نترك بيتنا!!»‬
‫‪« -‬ال حل عندي يا أمي غير هذا‪ ..‬هذه الطريقة الوحيدة التي سأشعر‬
‫من خاللها أننا سنكون بأمان»‬
‫قالت أمي وهي تهز رأسها نافية‪:‬‬
‫‪« -‬لن أستطيع ترك بيتي‪ ..‬اتركيني أنا هنا‪ِ ،‬‬
‫أنت ال تعرفين مكانة هذا‬
‫البيت عندي‪ ..‬حصلنا عليه بعد خمسة أعوام من والدتك‪ ،‬وكان بداية فتح‬
‫أبواب الخير والرزق على ِ‬
‫أبيك‪ ،‬أنا هنا منذ خمسة وعشرين عا ًما امتدت‬
‫جذوري بهذا البيت وال أحد يستطيع اقتالعي»‬
‫ثم بدأت في البكاء بعد أن انتهت من كالمها‪ ،‬قمت وأنا أمسك يدها‬
‫وأحاول تهدئتها قائلة‪:‬‬
‫ِ‬
‫أرجوك ال تُصعبي األمر؛ فأنا لن أستطيع تركك وحدك هنا‪ ..‬فلو‬ ‫‪« -‬أمي‬
‫علم باختفائي بعد إدالء شهادتي من الممكن أن يستشيط غض ًبا ويقوم بأذيتك»‬
‫نظرت إلى األرض وقد أصابتها الحيرة‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪230‬‬

‫تابعت‪:‬‬
‫‪« -‬أنا أعلم تما ًما مكانة هذا البيت في قلبك ومكانته كذلك كبيرة في‬
‫قلبي‪ ،‬ولكن بماذا ستنفعني الحوائط إن جرى ألي أحد منا أي شيء؟! بماذا‬
‫سيفيدني البيت وقتها؟!»‬
‫قالت أمي وقد بدا الحزن في صوتها‪:‬‬
‫‪« -‬وإلى أين سنذهب؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬إلى اآلن لست متأكدة‪ ،‬ولكن أغلب الظن إلى اإلسكندرية‪ ،‬دكتور سيد‬
‫كثيرا أمامي أن لديه أقارب هناك ويمكنه مساعدتي في األمر»‬
‫زميلي بالعمل ذكر ً‬
‫قال خالي‪:‬‬
‫‪« -‬إ ًذا سأذهب معكم للعيش هناك»‬
‫قلت وأنا أشير نافية بيدي‪:‬‬
‫رأسا‬
‫‪« -‬ال يا خالي ال نريد أن نسبب لك المشاكل‪ ،‬وأن تنقلب حياتك ً‬
‫كثيرا»‬
‫على عقب بسببي‪ ،‬كما أن زوجتك ستغضب ً‬
‫أجاب بحزم‪:‬‬
‫‪« -‬تغضب كما تغضب‪ ،‬لن أستطيع أن أترككما وحدكما ببلد غريب‬
‫عجوزا مثلي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال تعرفان به أحدً ا بدون رجل معكما حتى إن كان هذا الرجل‬
‫ولكن وجوده بالبيت سيكون حماية لكما ولألوالد»‬
‫‪231‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫صمت وقد ارتحت بداخلي لقرار خالي؛ فإنني وإن أظهرت رفضي‬ ‫ُّ‬
‫إال إننا بالفعل بحاجة لرجل معنا هناك‪ ،‬ال أعرف ماذا سنواجه‪ ،‬وال أريد‬
‫حدوث المزيد من المشاكل‪ ،‬يكفي ما سببته لهم جمي ًعا‪..‬‬
‫‪« -‬ومتى سنبدأ بنقل أشيائنا؟» سألت أمي‪..‬‬
‫ابتلعت ريقي وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬قد ال نتمكن إال من أخذ القليل من ثيابنا»‬
‫إلي أمي باستنكار‪ ،‬فاستطردت سري ًعا موضحة‪:‬‬
‫نظرت ّ‬
‫‪« -‬ال نريد أن نلفت النظر إلينا أننا ننتقل لمكان آخر حتى ال نثير‬
‫تساؤالت من حولنا‪ ،‬سنخرج م ًعا وكأننا ذاهبين لزيارة ما‪ ،‬وسنستقل القطار‬
‫بعدها»‬
‫صمت برهة وزدت‪:‬‬
‫‪« -‬ما سأفعله اآلن أنني سأتصل بدكتور حاتم أخبره بموافقتي على‬
‫عرضه حتى يطمئن وال يرسل أحدً ا لمراقبتنا‪ ،‬وسأتصل بدكتور سيد حتى‬
‫أفهمه األمر وأرى كيف سيساعدنا‪ ..‬أتمنى أن يسعفنا الوقت فبقي أسبوع‬
‫محضرا ضده وال أستطيع أن أجعلها تتأخر‬
‫ً‬ ‫واحد لذهاب رحاب وتحريرها‬
‫أكثر من هذا‪ ..‬فكلما تأخرت في تحرير المحضر كلما ضعف وقتها»‬
‫شعرت بالحزن يسيطر على أمي‪ ،‬ولكنها تعلم جيدً ا أنه ليس بيدي‬
‫حيلة‪ ،‬وأنني مجبرة على هذا ما دمت سأتمسك بموقفي‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪232‬‬

‫مر يومان بعدها قمت باالتصال فيهما بدكتور سيد وشرحت له األمر‪ ،‬وكان‬
‫عند حسن ظني فبعد اتصالي بساعة واحدة أخبرني أن أحد أقاربه وجد لنا مكانًا‬
‫بثالث غرف بالسعر الذي أخبرته أنني أستطيع دفعه‪ ،‬ثم ذهبت إلى مدرسة براء‪،‬‬
‫وقمت بسحب أوراقه‪ ،‬وبعد أن اطمئننت أننا صرنا مهيئين لالنتقال وأوجدنا‬
‫كثيرا عند‬
‫مكانًا نذهب إليه‪ ،‬اتصلت بدكتور حاتم وأخبرته بموافقتي والذي سعد ً‬
‫سماع هذا‪ ،‬وأثنى على عقلي وحكمتي في اتخاذ قراراتي‪..‬‬
‫أخذت براء ومارية وذهبنا لبيت جدهما وجدتهما والدي هاشم؛ كي‬
‫كثيرا عندما أخبرتهما برحيلنا إلى‬ ‫يسلموا عليهما قبل أن نرحل‪ ،‬تفاجئا ً‬
‫اإلسكندرية وتسأال عن السبب‪ ..‬أخبرتهما أنني وجدت فرصة عمل أفضل‬
‫هناك ولن تتوفر مثل هذه الفرصة هنا‪ ..‬أعلم أنهما سيغضبان من داخلهما بسبب‬
‫اتخاذي لقرار مثل هذا وحرمانهما من رؤية براء ومارية أسبوع ًّيا كما اعتادا‪،‬‬
‫ولكني ال أستطيع إخبارهما بالحقيقة؛ حتى ال يصيبهما الذعر على األطفال كما‬
‫أنهما لن يستطيعا فعل شيء لي‪ ..‬فعائلة هاشم عائلة مسالمة وبسيطة وأخواه‬
‫االثنان سافرا منذ عدة أشهر؛ إلكمال دراستهما وال أريد إقحامهما في أمر قد‬
‫يعود عليهما بالمشاكل‪ ..‬أخبرتهما أنني سأبلغهما بالعنوان فور تأكدي منه‪،‬‬
‫وأننا سنكون بانتظارهما هناك ليأتيا ويقضيا معنا بعض الوقت‪..‬‬
‫بدأت أمي بوضع األغطية البيضاء على األثاث حتى ال يكسوه التراب‪،‬‬
‫كنت أالحظها وهي تتأمل أعمدة البيت وأرضه وجدرانه وكأنها تشبع عينيها‬
‫منه‪ ،‬شعرت باشتياقها له من قبل أن نرحل عنه‪ ،‬حتى بقي يوم على رحيلنا‪،‬‬
‫‪233‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ذهبت إليها فوجدتها جالسة على طرف السرير صامتة تمسك إحدى‬
‫المحارم بيدها‪ ،‬دلفت إلى غرفتها سائلة‪:‬‬
‫قمت بتحضير أغراضك المهمة يا أمي؟»‬‫‪« -‬هل ِ‬
‫أربت على‬
‫ُ‬ ‫وجلست بجانبها وأنا‬
‫ُ‬ ‫ذهبت‬
‫ُ‬ ‫أومأت برأسها لي ببطء‪،‬‬
‫ْ‬
‫وقامت بفرد المحرمة القماشية التي تمسكها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فتحت كلتا يديها‬
‫ْ‬ ‫كتفها‪،‬‬
‫كانت محرمة بيضاء اللون عليها تطريز بمنتصفها على شكل بيت صغير‬
‫بمدخنة بخيط لونه أحمر‪ ،‬وحوله بعض النباتات المطرزة بخيط لونه‬
‫أخضر‪ ،‬وطائران يحومان فوقه بخيط أسود‪..‬‬
‫قالت وهي تغالب بكاءها‪:‬‬
‫تعبيرا عن‬
‫‪« -‬قمت بتطريز هذا المنديل عندما قدمت إلى هذا البيت ً‬
‫فرحتي به‪ ..‬أتذكر وأنا جالسة في مكاني هذا نفسه وأقوم بتطريزه‪ ،‬كنت‬
‫وقتها في بداية ممارستي للتطريز‪ ،‬وظللت عاكفة عليه طوال الليل حتى‬
‫كثيرا عند رؤيته إياه»‬ ‫ِ‬
‫انتهيت منه قرب الفجر‪ ،‬وفرح أبوك ً‬
‫ثم قامت بضم المحرمة إلى صدرها تحتضنها وقد سقطت دموعها‪..‬‬
‫قلت مهونة عليها‪:‬‬
‫ِ‬
‫أرجوك‪ ..‬أعلم أنني السبب في كل هذا ولكن‬ ‫‪« -‬ال تحزني يا أمي‬
‫أعدك عندما يزول هذا األمر سنعود إلى هنا ثانية ونعيش ببيتنا من جديد وال‬
‫نتركه أبدً ا»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪234‬‬

‫قالت بخيبة أمل‪:‬‬


‫ِ‬
‫بأبيك»‬ ‫‪« -‬وما أدرانا‪ ..‬قد أكون وقتها لحقت‬
‫قلت بسرعة أنهاها‪:‬‬
‫ِ‬
‫وحفظك لنا»‬ ‫ِ‬
‫أرجوك‪ ،‬بارك الله في عمرك‬ ‫‪« -‬ال تقولي هذا يا أمي‬
‫وضعت يدها على ساقي‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليك يا حبيبتي حزني هذا سيزول إن شاء الله‪ ،‬أهم شيء أن‬ ‫‪« -‬ال‬
‫تبقين ِ‬
‫أنت وبراء ومارية بخير»‬
‫ربت على يدها قائلة‪:‬‬
‫صباحا»‬
‫ً‬ ‫مبكرا فموعد القطار الساعة العاشرة‬
‫‪« -‬حاولي أن تنامي ً‬
‫‪« -‬حسنًا»‬
‫قبلتها وودعتها‪ ،‬ثم ذهبت إلى غرفتي؛ ألتأكد من جمع متعلقاتي‬
‫المهمة أنا وبراء ومارية‪..‬‬
‫بحثت جيدً ا في خزانتي وأدراجي عن أي شيء قد أحتاجه فأنا ال أعلم‬
‫هل سأستطيع المجئ إلى هنا قري ًبا أم ال‪..‬‬
‫وقع نظري في الدرج األخير لمكتبي على ذلك السلك الدائري ألحد‬
‫الدفاتر‪ ،‬أزحت المذكرات الورقية التي تعلوه وأخرجته‪ ..‬نظرت إليه وأنا‬
‫أقلبه بين يدي وأبتسم‪ ،‬فتحته وبدأت بقراءة الخواطر التي تقبع بين طياته‪..‬‬
‫كم كتبت في ذلك الدفتر الرمادي من خواطر وكلمات وأحاسيس‪،‬‬
‫‪235‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كم كنت حالمة وقتها كل ما يشغل بالي هو الحب وما يدور حوله من ألم‬
‫وفرحة وحزن ونشوة‪ ..‬لم أكن أرى الدنيا بعيني التي أراها اآلن بها‪ ..‬الدنيا‬
‫حينها كانت بسيطة نقية غير معقدة وخادعة مثل اآلن‪ ،‬كلما كبرت تنضج‬
‫أحاسيسي ومشاعري معي وتزداد تعقيدً ا‪ ،‬كل زمن يأتي علينا نترحم على‬
‫الذي قبله‪ ،‬ونظل ننعي تلك األيام الراحلة‪ ،‬وفي مراحل أعمارنا القادمة‬
‫سنترحم على األيام التي نمر بها اآلن وننعها كذلك‪ ،‬ونظل هكذا حتى‬
‫الموت‪ ..‬ما بين حنين ونعي ومحاولة الوصول لألفضل أو الرجوع ولكن‬
‫تأبى دائرة الحياة‪..‬‬
‫بقيت مستيقظة طوال الليل وأنا أنظر من النافذة إلى النجوم الالمعة‬
‫كالمصابيح في السماء أبثها شجوني تارة‪ ،‬وأقرأ في دفتري الرمادي تارة‬
‫فأستعيد بعض الذكريات‪..‬‬
‫حتى بدأ الصباح في البزوغ واستيقظت أمي واألوالد‪ ،‬تناولنا الفطور‬
‫سري ًعا وبدأنا في التحرك‪ ،‬استقلينا سيارة أجرة أوصلتنا إلى محطة القطار‪،‬‬
‫وكان في انتظارنا هناك خالي وأم سعد‪ ،‬جلسنا بإحدى األماكن الملحقة‬
‫بالمحطة فما زال على موعد القطار ساعة‪ ،‬أخبرنا خالي أنه قام بإجراءات‬
‫نقل ورقه من عمله إلى فرع اإلسكندرية ومن الممكن أن يأخذ عشرة أيام‬
‫حتى يستطيع اللحاق بنا‪..‬‬
‫سألته عن موقف زوجته ولكن صمت‪ ،‬فلم أسأل ثانية فأنا أعلم بموقفها‬
‫الغاضب بالتأكيد فلست بحاجة إلى إجابته‪ ،‬كانت أم سعد تبكي طوال وقت‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪236‬‬

‫انتظارنا للقطار وتبكي معها أمي‪ ،‬حاولت أن أخفف عنهما وأقول لهما إننا‬
‫سنرجع مرة أخرى إلى هنا إن شاء الله وستنصلح األحوال وأنا ال أعرف‬
‫على أي أساس أقول هذا الكالم‪ ،‬ولكنني ال أملك غيره اآلن ألحاول أن‬
‫ألطف الجو ً‬
‫قليل‪..‬‬
‫متأخرا عن موعده بعشر دقائق‪ ،‬تبادلنا السالم مع خالي وأم‬‫ً‬ ‫جاء القطار‬
‫سعد وصعدنا إلى المقطورة‪ ،‬بدأ القطار في التحرك شي ًئا فشي ًئا ونحن نلوح‬
‫لهما من خالل النافذة حتى اختفيا تما ًما‪..‬‬
‫كان براء ومارية في عالم آخر فهما يشعران باإلثارة فالقطار بالنسبة‬
‫لهما مغامرة جديدة لم يخوضاها من قبل‪ ،‬الحظت ذلك الحماس بأعينهما‬
‫وهما يلصقان وجوههما بزجاج النافذة ويكتشفان كل شيء بالطريق‪..‬‬
‫كثيرا أن أنضم إليهما بشعورهما‪ ..‬ال أحمل عبء شيء وال‬
‫تمنيت ً‬
‫أفكر في شيء سوى بتلك المغامرة التي أخوضها اآلن‪..‬‬
‫ولكن ال ضرر‪ .‬يكفي اآلن أنهما يشعران بهذا الشعور‪ ،‬يجب أن يأخذا‬
‫دورهما في تلك المشاعر البريئة الخالية من المتاعب‪ ،‬فستدور عليهما‬
‫الدنيا بالتأكيد يو ًما ما ويرونها على حقيقتها‪..‬‬
‫لفح الهواء البارد وجوهنا بقوة عندما وصلنا وترجلنا عن القطار‪..‬‬
‫كنا نرتدي المالبس الشتوية الثقيلة؛ لعلمنا أن اإلسكندرية هذه األيام تمر‬
‫بموجة صقيع‪ ،‬كانت السماء مليئة بالغيوم التي تنذر بمطر غزير‪ ،‬وبانتظارنا‬
‫أحد أقارب دكتور سيد بالمحطة بجلبابه الصعيدي‪ ،‬أخذنا بسيارته إلى‬
‫‪237‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫مكان البيت حتى وقفنا أمام مبنى قديم قد تصدعت جدرانه مكون من أربعة‬
‫طوابق وأخبرنا بوصولنا‪ ،‬بدأنا في التحرك إلى بوابة البناية وصعدنا على‬
‫وصول إلى الطابق الرابع‪ ،‬فتح الباب ببطء فانتشر‬‫ً‬ ‫السلم المتهالكة درجاته‬
‫أزيزا قو ًّيا‪ ،‬أضاء النور وهو يدعونا للولوج‪ ،‬كانت‬
‫الغبار في الجو وأصدر ً‬
‫جدران الشقة لبنية اللون تنتشر عليها البقع الخضراء وبعضها قد تساقط‬
‫عنها الطالء وظهر اللون الرمادي بطبقة بيضاء رخوة‪ ،‬وبالط األرضية باهت‬
‫اللون يحتاج إلى كثير من التنظيف حتى يظهر لونه الحقيقي‪ ،‬ونوافذها‬
‫الخشبية مفتوحة يضربها الهواء فتتحرك ذها ًبا وإيا ًبا‪..‬‬
‫صدمني هذا المنظر بالرغم من أن دكتور سيد أخبرني أن الشقة ستكون‬
‫متواضعة ولكن لم أكن أتخيل أنها بهذه الدرجة‪ ،‬أما أمي َ‬
‫فش َع ْر ُت أنها ستفقد‬
‫وعيها من تأثير ما رأت‪..‬‬
‫خرجت مع صاحب البيت خارج الشقة وأنا أطلب منه أن يجد لنا شقة‬
‫مستنكرا أن المال الذي لدينا يكفي لتأجير‬
‫ً‬ ‫مناسبة أكثر من هذه ولكنه رد‬
‫غرفة على السطح وليست شقة مثل تلك‪ ،‬وأنه وافق على إعطائنا هذه الشقة‬
‫تحت إلحاح دكتور سيد‪ ،‬ولن يطالبنا باإليجار أول ثالثة أشهر ألنه يعلم‬
‫بظروفنا‪..‬‬
‫وأخبرني أن األثاث سيأتي اليوم ً‬
‫ليل ولكنني شكرته‪ ،‬وأخبرته أنه ال حاجة‬
‫لذلك‪ ،‬وسأتصرف أنا باألمر‪ ،‬فوضع الشقة يوحي بالوضع الذي سيكون عليه‬
‫األثاث ولم أرد ألمي أن تحزن أكثر من هذا‪ ..‬لذلك قررت سحب المبلغ البسيط‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪238‬‬

‫المتبقي بالبنك وشراء عفش مستعمل لنا وإن كنت أحاول الحفاظ على تلك‬
‫األموال لوقت الحاجة الشديدة‪ ،‬ذهبت إلى إحدى المحال المجاورة للمنزل لشراء‬
‫بعض الحاجات وسألته عن أماكن بيع األثاث المستعمل بالمدينة فدلني عليها‪..‬‬
‫أخذت أمي وبراء ومارية وذهبنا إلى المكان بسيارة أجرة‪ ،‬وجعلت‬
‫أمي هي التي تختار جميع األثاث‪ ،‬وأنا أمازحها أنه من فوائد انتقالنا إلى هنا‬
‫أنني جعلتها تختار األثاث للمرة الثانية في حياتها‪..‬‬
‫بدأنا بنقله على عربة مخصصة للنقل‪ ،‬وبدأنا التحرك‪ ،‬ووصلنا إلى‬
‫المنزل‪ ،‬وما إن انتهى العمال من وضع األثاث بالشقة وأغلقوا الباب‬
‫وراءهم حتى بدأت قطرات المطر تدق على زجاج النوافذ بغزارة‪ ..‬انتقل‬
‫براء ومارية إلى الشرفة وهما يقفزان ويصيحان؛ فرح ًة بالمطر فهما لم يعتادا‬
‫وقفزت معهما‬
‫ُ‬ ‫على رؤية المطر بهذا الشكل في القاهرة‪ ،‬انضممت إليهما‬
‫وبلل ثيابنا المطر ونحن نخرج ألسنتنا؛ لنرتوي منها‪..‬‬
‫عال صوت أمي بالضحك مما نفعل‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫ً‬
‫أطفال»‬ ‫‪« -‬طفلة أنجبت‬
‫ثم رفعت يديها وبدأت تدعو‪« ..‬اللهم اجعل هذا المكان فاتحة خير‬
‫علينا وسب ًبا لسعادتنا واطرح فيه البركة»‬
‫أمنت على دعائها بداخلي وأنا أدعو «اللهم اجعل األيام القادمة تمر‬
‫على خير»‪..‬‬
‫‪239‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫مر يومان كنا انتهينا خاللهما من فرش أثاث البيت‪ ،‬وأخذت أمي‬
‫غرفتها‪ ،‬وأخذت أنا واألوالد غرفتنا‪ ،‬أما الغرفة الثالثة فتركناها مجهزة‬
‫لحضور خالي وزوجته‪..‬‬
‫اتصلت بي رحاب؛ لتطمئن على أحوالنا وتخبرني أنها ال تعرف ماذا تقول‬
‫لي وكيف تشكرني على موقفي هذا وأن مثلي ندر بهذا الزمن‪ ..‬وودت أن‬
‫زورا لوال أن‬
‫بشر‪ ،‬وضعفت‪ ،‬وكنت سأشهد ً‬ ‫أخبرها أنني لست كذلك وأنني ٌ‬
‫الله أرسل لي رسالة‪ ،‬ولوال أسرتي بجانبي التي تدعمني بقراراتي لطغى ضعفي‬
‫على روحي واستسلمت‪ ..‬أكدت في نهاية المكالمة على موعدنا غدً ا‪ ،‬وذهابها‬
‫إلى قسم الشرطة؛ لتحرير المحضر‪ ،‬وأنها أخبرت أسامة كذلك بالموعد‪ ،‬لم‬
‫أرد أن أخبرها طوال هذا الوقت موقف أسامة الذي أخبرني به دكتور حاتم‬
‫فربما أيقظه ضميره خالل هذا الوقت فيقول غدً ا شهادته الحقيقية‪..‬‬
‫صباحا واتجهت للخارج في طريقي لمحطة القطار بعد أن‬
‫ً‬ ‫استيقظت‬
‫أوصيت أمي بعدم فتح الباب ألي أحد‪ ،‬وإذا احتاجوا أي شيء يقومون‬
‫باالتصال بي‪..‬‬
‫اتخذت القطار المتجه إلى القاهرة وأنا أدعو الله طوال طريق سفري‬
‫مكرا‪،‬‬
‫أن يمر اليوم على خير‪ ،‬ويجنبنا أنا وأمي وأوالدي كل من يريد بنا ً‬
‫استقليت إحدى سيارات األجرة عند وصولي وذهبت إلى قسم الشرطة‪،‬‬
‫ألقى المكان رهبته بداخلي عندما دخلت إليه‪ ،‬فهو مزدحم للغاية‪ ..‬الجميع‬
‫يتحرك في الوقت نفسه‪ ،‬الكثيرون أيديهم مصفدة باألغالل نتيجة جرائمهم‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪240‬‬

‫إلي‪ ،‬ذهبت إليها وكان بجانبها ابن عمتها‬


‫ظهرت رحاب من بعيد وهي تشير ّ‬
‫وأسامة‪ ..‬ألقيت التحية‪ ،‬ثم بدأ ابن عمة رحاب بالكالم ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ستقوم رحاب اآلن بإجراء المحضر‪ ،‬وستقول إن لديها شاهدين للواقعة‪،‬‬
‫وتذكركما وتذكر أنكما حاضرين اآلن‪ ،‬وسيدخلونكما واحدً ا تلو اآلخر للشهادة »‬
‫أومأنا له برؤوسنا موافقين‪ ،‬دلف هو ورحاب إلى الداخل‪ ،‬وابتعدت أنا‬
‫عن أسامة بعض الخطوات؛ تجن ًبا للحديث معه‪ ،‬كان هناك رجالن يراقبوننا‬
‫من بعيد أظنهما من رجال دكتور حاتم؛ لينقال له ماذا يحدث باستمرار‪،‬‬
‫مرت نصف ساعة خرج بعدها أحد أمناء الشرطة ونادى على اسم أسامة‪،‬‬
‫دخل أسامة وغاب عشرين دقيقة كنت أشعر خاللها بالتوتر الشديد‪ ،‬فأنا‬
‫التالية ثم خرج وعلى وجهه ابتسامة ساخرة فهمت منها ما حدث بالداخل‪..‬‬
‫خرج أمين الشرطة ونادى على اسمي‪ ،‬دخلت ورأيت أثر ما فعله أسامة‬
‫على وجه رحاب وخيبة األمل تكسو مالمحها‪..‬‬
‫بدأ الضابط بسؤاله لي‪:‬‬
‫‪« -‬اروي لنا ما حدث رجا ًء»‬
‫رويت ما حدث ببطء وأنا أحاول أن أستدعي جميع التفاصيل بذهني؛‬
‫كي ال أنسى شي ًئا حتى انتهيت‪ ،‬وبدأ بتوجيه بعض األسئلة لي‪ ،‬وكنت أجيب‬
‫عنها دون أن أفكر‪ ،‬أجيب بالصدق فقط‪..‬‬
‫انتهينا جمي ًعا وخرجنا‪ ،‬احتضنتني رحاب وشكرتني‪ ،‬ثم قالت لي‪:‬‬
‫‪241‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ِ‬
‫«رأيت ماذا فعل أسامة‪ ..‬ك ََّذ َب كل ما حدث»‬ ‫‪-‬‬
‫أجبتها متعجبة‪:‬‬
‫‪« -‬وماذا ِ‬
‫كنت تنتظرين من أسامة!! وهو كالخاتم في إصبع دكتور‬
‫حاتم من زمن»‬
‫قالت بتأفف‪:‬‬
‫‪« -‬لكن لم أكن أعلم أنه من الممكن أن يبيع نخوته مقابل حفنة من المال»‬
‫«دائما تضعين ثقتك باألشخاص الخطأ»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫هزت رأسها موافقة وهي تقول‪:‬‬
‫ِ‬
‫«معك حق»‬ ‫‪-‬‬
‫ثم توجهت إلى ابن عمتها المحامي وسألته‪:‬‬
‫‪« -‬وماذا سيحدث اآلن؟»‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪« -‬سيرسلون إليه ويطلبونه للتحقيق‪ ،‬وسيجمعون األدلة ويرون‬
‫بعدها‪ ..‬ولكن شهادة زميلكما أضعفت الموقف»‬
‫تمتمت رحاب‪:‬‬
‫‪« -‬حقير مثله»‬
‫ثم توجهت إلي بالحديث‪:‬‬
‫‪« -‬أين ستذهبين اآلن؟»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪242‬‬

‫قلت بصوت متردد‪:‬‬


‫‪« -‬كنت أفكر بالرجوع إلى اإلسكندرية‪ ،‬فأمي وبراء ومارية بمفردهم‬
‫ولكن هناك رجالن خلفي أظنهما من رجال دكتور حاتم وأخاف أن يتبعاني»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬سأوصلك بالسيارة إلى صديقتي وستنقلك وسط مجموعة من‬
‫أصدقائنا المحجبات إلى صديقة لنا أخرى حتى ال يعرفونك‪ ،‬وسوف‬
‫صباحا بالقطار»‬
‫ً‬ ‫تبيتِين عندها الليلة وتسافرين غدً ا‬
‫قلت مستنكرة‪:‬‬
‫‪« -‬ال أستطيع أن أتركهم الليلة بمفردهم»‬
‫قالت بحزم‪:‬‬
‫‪« -‬وأنا لن أتركك تعرضين أنفسكم للخطر من أجل ليلة»‬
‫فكرت بكالمها ووجدته منطق ًّيا‪ ،‬اتصلت بأمي وأخبرتها باألمر‬
‫وطمأنتني أنها ستعتني باألوالد جيدً ا هذه الليلة‪..‬‬
‫ذهبت مع صديقة رحاب التي أوصلتني لصديقتها‪ ..‬لم أنم طوال ليلة‬
‫أمس من الخوف والقلق‪ ،‬وأنا أفكر ماذا يمكن أن يفعل دكتور حاتم‪ ،‬وكيف‬
‫كانت ردة فعله عندما علم بشهادتي بعدما اتصلت وأكدت له بموافقتي على‬
‫عرضه‪ ،‬وأنني سأدلي بشهادتي لصالحه‪.‬‬
‫‪243‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫هل سيبحث عني؛ لينتقم مني ويلحق األذية بي وبأوالدي؟ وإِ ْن وجدني‪،‬‬
‫ماذا سأفعل حينها؟ ماذا سأفعل إِ ْن عرف مكاننا الجديد؟ ماذا سـ‪...‬‬
‫‪« -‬تذكرتك يا أستاذة‪ ..‬تذكرتك يا أستاذة»‬
‫انتبهت على صوت محصل التذاكر‪ ،‬أعطيته تذكرتي فوضع عالمة‬
‫تأكيدً ا على صحتها وانصرف‪..‬‬
‫أخذتها منه ووضعت طرفها على شفتي‪ ،‬وأنا أفكر ناظرة إلى النافذة‪،‬‬
‫ماذا لو اكتشف مكاننا؟ إلى أين سنذهب بعدها؟‪....‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪244‬‬

‫(‪)19‬‬
‫سحبت أطراف أكمامي إلى أصابعي‪ ،‬وأنا أنفث الهواء في يدي‬
‫بعضا؛ كي أدفأ ً‬
‫قليل‪..‬‬ ‫وأحكهما ببعضهما ً‬
‫تناولت كوب المشروب الساخن من على الطاولة المجاورة لي‪ ،‬واحتضنته‬
‫بأناملي؛ ليصل الدفء لهما‪ ،‬وأنا أراقب من النافذة قطرات المطر الخفيفة وهي‬
‫فجرا‪..‬‬
‫تدور حول مصابيح اإلنارة بالطريق وقد قاربت الساعة الرابعة ً‬
‫حجب رؤيتي بخار تنفسي المتصاعد على الزجاج ففتحت إحدى‬
‫ضلفتيها ً‬
‫قليل؛ ألتمتع برؤية الشتاء‪ ،‬وأشتم رائحة البحر الممزوجة برائحة‬
‫المطر عبر تلك الرياح الرطبة‪..‬‬
‫جميع البنايات حولنا قصيرة ال تتعدى األربعة طوابق قد بنيت منذ زمن‬
‫بعيد مما يساعد على نقل رائحة البحر إلينا بالرغم من ابتعاده عنا بعشرة بنايات‪..‬‬
‫سكان المدينة يقولون إن فصل الشتاء أطال البقاء هذا العام‪ ،‬وأن‬
‫أمطاره تأبى وداعنا‪ ،‬مضى شهران ونصف منذ مجيئنا إلى اإلسكندرية‪،‬‬
‫استطاع خاللها حب هذه المدينة أن يخترق قلبي بسرعة كبيرة‪ ،‬ارتبطت‬
‫مازالت تحتفظ‬
‫ْ‬ ‫ببحرها‪ ،‬وجوها الماطر‪ ،‬وشوارعها‪ ،‬ومبانيها‪ ،‬ومحالها‪،‬‬
‫بجمال روحها الراقية بعيدً ا عن الماديات الزائلة‪ ،‬اعتدت عليها وصرت‬
‫‪245‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كثيرا من األشياء هنا‪ ،‬فأنا أقوم بشراء احتياجات البيت بنفسي مما‬
‫أعرف ً‬
‫ساعدني في معرفة أماكن عدة‪ ،‬وكيفية الذهاب إليها فمن مزايا اإلسكندرية‬
‫سهولة التنقل بين المناطق‪..‬‬
‫أمي لم تعتد عليها بعد؛ ربما لطقسها البارد الذي يفت في عضدها‪ ،‬أو‬
‫لوضع الشقة مقارنة ببيتنا القديم‪ ،‬آخذها هي واألوالد أحيانًا لنتمشى ً‬
‫قليل‬
‫على الكورنيش‪ ،‬وأريها جمال هذه المدينة؛ ً‬
‫أمل في أن تشعر بالراحة‪..‬‬
‫أتمنى أن تحبها وتعتاد عليها عندما يهل فصل الربيع بنسائمه اللطيفة‬
‫ويذهب فصل الشتاء ويزول البرد‪..‬‬
‫التحق براء بمدرسة قريبة من البيت وبالرغم من شخصيته االجتماعية‬
‫وسرعة تعرفه على اآلخرين فإنه لم ينسجم مع أقرانه بصفه حتى اآلن‪،‬‬
‫أحاول أن أصل إلى سبب المشكلة وال أجد شي ًئا سوى أنه ربما ال يستوعب‬
‫مؤخرا التي تحدث بشكل متالحق‪..‬‬ ‫ً‬ ‫تلك التغييرات الكثيرة بحياتنا‬
‫أخذت رشفة من الكوب وأنا أفكر كيف يمكنني إصالح هذا األمر‪..‬‬
‫فليس لدينا هنا جيران نعرفهم أو أصدقاء لديهم أوالد بسنه نذهب إليهم‬
‫ويأتون إلينا حتى يألف العيش هنا بجانب أنني أخشى تكوين عالقات‬
‫جديدة مع َم ْن حولنا‪ ،‬وقد يتطلعون إلى معرفة سبب مجيئنا كما أنني ال‬
‫أستطيع أن أسمح ألحد بزيارتنا دون أن أعرفه جيدً ا‪..‬‬
‫تناهى إلى مسامعي ذلك الصوت المكتوم الخارج من الغرفة الثانية‬
‫بالرواق وقد حجبه ً‬
‫قليل غلق الباب‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪246‬‬

‫إنه صوت زوجة خالي وعراكها المعتاد معه يوم ًّيا فعندما تشعر بالبرد‬
‫وهي تتقلب ال تعرف كيف تعبر عن شعورها إال بالعراك مع خالي وكيف‬
‫أنها انتقلت إلى هذه الخرابة وتريد العودة إلى ما كانت عليه فهي ال تحب‬
‫هذه المدينة قط‪..‬‬
‫أتذكر أول مرة عندما وطأت قدمها أرض الشقة وكيف وقعت الحقائب‬
‫من يديها عند رؤية الجدران واألرض والنوافذ‪ ،‬كانت تستشيط غض ًبا‬
‫ونظرات االشمئزاز ال تترك عينيها وهي تتطلع إلى كل شيء بالشقة بالرغم‬
‫من محاوالتنا بالترحاب الجم بها‪..‬‬
‫أنا ال ألومها على هذا‪ ..‬فلو كنت مكانها ربما ال أوافق على ما فعله خالي‬
‫وأفعل مثلها وأكثر لكن هي ال تفهم أن وجود خالي يحدث فر ًقا بالتأكيد‬
‫فمجرد شعوري أنه يوجد رجل بالبيت معنا يمنحني السكينة واالطمئنان‪..‬‬
‫انتهيت من مشروبي واتجهت إلى المطبخ؛ ألنجز بعض األعمال به‪..‬‬
‫فاليوم السبت وهو عطلة والجميع نائمون أما أنا فوضعي مختلف‪..‬‬
‫مضى الوقت سري ًعا حتى سمعت جرس منبه هاتفي ينبئني عن قدوم‬
‫السادسة والنصف‪ ،‬وكنت قد انتهيت من غسيل األطباق واألواني وتنظيف‬
‫المطبخ فزوجة خالي دو ًما تخبرني أنها تشعر باالختناق عند دخولها إلى‬
‫هذا المطبخ الضيق فهي معتادة على المطابخ الواسعة‪ ..‬فأحاول أال أزيد‬
‫ً‬
‫ومتسخا في الوقت نفسه‪.‬‬ ‫اختناقها برؤيته ضي ًقا‬
‫‪247‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ما زال على موعدي ساعة إال قليل إال إنني قمت بكي مالبسي وارتدائها‬
‫وهممت بالنزول‪ ،‬فاليوم أتخذ طريق البحر عكس كل أيام األسبوع الباقية‬
‫التي أتخذ بها الطريق المختصر‪..‬‬
‫مشيت بطريقي وأنا أرى زرقة البحر من بعيد تظهر شي ًئا فشي ًئا كلما تقدمت‪،‬‬
‫السماء صافية‪ ،‬واألرض ما زالت رطبة من أثر المطر‪ ،‬وقد تجمعت بعض برك‬
‫المياه الصغيرة على الجانبين‪ ،‬اجتزت العشر بنايات وقطعت الطريق ألصل‬
‫إلى جهة الكورنيش‪..‬‬
‫ضممت ياقة معطفي إلى رقبتي أكثر؛ حتى أقيها لسعة البرد التي زادت‬
‫باالقتراب من البحر‪ ،‬كل يوم أريد الذهاب إلى إحدى المحال لشراء كوفية‬
‫صوفية تدفئني ولكن ال يسعفني الوقت فمنذ أن عملت بتلك الروضة‬
‫عصرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫صباحا حتى الثالثة‬
‫ً‬ ‫األهلية أصبحت أعمل من السابعة والنصف‬
‫أتذكر عندما وجدت ذلك اإلعالن المعلق على إحدى الفلل ويعلنون عن‬
‫حاجتهم لمعلمات للعمل بالروضة التي تقبع بتلك الفيال ترددت في البداية‪،‬‬
‫كثيرا ولكن لم أعمل بهذا المجال من قبل‪ ،‬وال أتقن‬ ‫أينعم أحب األطفال ً‬
‫التعامل مع عدد كبير من األطفال‪ ،‬فكرت أنه حان وقت أمي واالستعانة بخبرتها‬
‫ومجالها وحلمها القديم في مساعدتي وإرشادي عن أفضل الطرق للتعامل‬
‫معهم والتقرب منهم‪ ..‬أعطيت نفسي فترة اختبار لألمر إن نجحت سأكمل‬
‫وإن فشلت سأتركه‪ ،‬كما أن هذه الفرصة جيدة بالنسبة لي فلم يكن لدي وقت‬
‫للبحث عن عمل أو شركة أخرى لدعاية األدوية فقد مر شهر إال أيام قليلة‪ ،‬ولم‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪248‬‬

‫أجد فرصة عمل وأصابني القلق فاأليام تجري وكما مر شهر سيمر الشهران‬
‫الباقيان سري ًعا‪ ،‬وسأجد صاحب البيت يأتي ويطالبني باإليجار‪.‬‬
‫اعترض خالي على العمل بالروضة وأنها ليست تخصصي فأنا دكتورة‬
‫فكيف أعمل بالروضة؟! تلك القوالب التي يضعها مجتمعنا‪ ،‬وكأن الطبيب‬
‫أو المهندس إذا حاول العمل بأي شيء آخر سيحط هذا من مكانته‪ ،‬ولكنني‬
‫أبديت رغبتي التامة بالذهاب إلى تلك الروضة وخوض التجربة‪ ،‬أخذت‬
‫رقمهم وتمت المقابلة وأخبروني بالموافقة‪ ..‬كانت الروضة بمنطقة راقية‬
‫جنيها‪،‬‬
‫ً‬ ‫تبعد عن البيت خمسة وعشرين دقيقة مش ًيا‪ ..‬كان راتبهم سبعمائة‬
‫في البداية سعدت بسماعه ولم يكن لدي أسباب لالعتراض؛ فأنا ال أملك‬
‫شي ًئا من األساس ولكن بمرور األيام والجهد المبذول شعرت أنه ضئيل كما‬
‫أنه ال يسد إال بعض األشياء بالبيت‪ ،‬كان خالي يشاركنا بمبلغ بسيط ولكن‬
‫لم أحب أن أثقل عليه؛ لعلمي أن راتبه يضعه بيد زوجته فكنت ال أعتمد‬
‫كثيرا لذلك اضطررت إلى أن أبحث عن عمل آخر أساند براتبه ذلك‬ ‫عليه ً‬
‫الراتب الضعيف ولم أجد إال تلك الوظيفة التي فررت منها دو ًما وهي العمل‬
‫عصرا وحتى الثامنة مسا ًء‪..‬‬
‫ً‬ ‫بإحدى الصيدليات القريبة من البيت من الرابعة‬
‫فكرت في ترك العمل بالروضة والذهاب ألعمل عدد ساعات أكثر‬
‫بالصيدلية فالعمل هناك مريح وسأحصل على راتب أفضل‪..‬‬
‫كثيرا وتعلقت بها‪ ..‬فعالم‬
‫ولكن مع مرور األيام لي بالروضة أحببتها ً‬
‫األطفال برئ للغاية‪ ،‬أشعر وأنا بجوارهم وكأني بجوار المالئكة‪ ..‬يتعاملون‬
‫‪249‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫بطبيعتهم‪ ،‬يخبرون الجميع بما يريدونه بحرية‪ ،‬إذا أحبوا أظهروا‪ ،‬وإذا غضبوا‬
‫أظهروا‪ ،‬وإذا تعبوا ناموا‪ ،‬وإذا حزنوا بكوا‪ ..‬ال خداع وال نفاق وال تلون‪..‬‬
‫أرى هذا في براء ومارية ولكنني كنت بحاجة لرؤيته في مجتمع أكبر‬
‫من األطفال خاصة بعد ما مررت به‪..‬‬
‫أشعر وأنا أجلس وسطهم بالرجوع إلى ذاتي‪ ،‬إلى فطرتي التي نشأت‬
‫عليها‪ ،‬إلى مبادئي التي ُغرست بداخلي وأحاول أن أبثها فيهم‪ ..‬كنت كلما‬
‫رجعت إلى العمل بالصيدلية مسا ًء ورأيت الواقفين بها‪ ،‬أتذكر شركتي القديمة‬
‫وزمالئي هناك ودكتور حاتم والمواقف التي حدثت معي‪ ،‬مع االختالف الكبير‬
‫بين الشخصيات فجميع العاملين بالصيدلية أشهد لهم باالحترام واألخالق‬
‫أيضا الشرور في أي عمل مهما‬ ‫الحسنة‪ ،‬ولكنه عالم الكبار الذي ستجد فيه ً‬
‫كان فيثنيني هذا عن ترك الروضة وأتمسك بها أكثر‪..‬‬
‫وصلت إلى الروضة وقد تجمد وجهي بفعل هواء البحر‪ ،‬استقبلتني صديقتي‬
‫أماني وهي إحدى المشرفات هناك‪ ..‬ق ّبلتني على خدي وابتعدت ً‬
‫قليل قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬وجهك بارد للغاية»‬
‫قلت وأنا أتصنع االرتعاش‪:‬‬
‫‪« -‬نعم مشيت من طريق البحر اليوم»‬
‫ضحكت وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬مجنونة»‬
‫سألتها‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪250‬‬

‫‪« -‬هل جاءت أستاذة هدى؟»‬


‫‪« -‬ال‪ ..‬ليس بعد‪ ..‬أظن أنها ستتأخر لعلمها أن أكثر األطفال ال‬
‫يحضرون؛ ألن أغلب أسرهم عطلة اليوم ويبقوهم ليتمتعوا بقربهم»‬
‫هززت رأسي‪ ،‬ثم سألتها‪:‬‬
‫‪« -‬هل أتى أحد من األطفال؟»‬
‫‪« -‬نعم أربعة»‬
‫اتجهت نحو الغرفة قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬إذا جاءت أستاذة هدى أخبريني»‬
‫جلست وسط األطفال أقصص عليهم القصص تارة‪ ،‬وأالعبهم تارة‪ ،‬ونتكلم‬
‫ً‬
‫وجميل‪..‬‬ ‫تارة‪ ،‬أحب األيام التي يكون بها عدد األطفال ً‬
‫قليل؛ فالجو يكون هادئًا‬
‫سمعت جرس الباب وبعدها بدقيقتين ظهرت أماني وبيديها مريم‪..‬‬
‫قمت من مقعدي ببطء وأنا أتجه لهما قائلة‪:‬‬
‫أهل بالجميلة مريم‪ ..‬كيف حال حبيبتي اليوم؟»‬ ‫«أهل ً‬
‫‪ً -‬‬
‫إلي بعينيها الجميلتين اللتين ظهرتا من خالل خصال شعرها‬ ‫نظرت ّ‬
‫المنسدلة على جبهتها ولم تجب‪..‬‬
‫زدت‪:‬‬
‫‪« -‬هيا انضمي إلينا‪ ..‬فاليوم لدينا الكثير من المغامرات التي سنقوم بها»‬
‫تركت مريم يد أماني‪ ،‬ووضعت حقيبتها بالمكان المخصص للحقائب‪،‬‬
‫وجلست على الطاولة الحمراء المستديرة‪..‬‬
‫‪251‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫اتجهت إلى أماني وهمست‪:‬‬


‫ِ‬
‫أخبرت والدتها األسبوع الماضي أنني أريد الجلوس معها؟»‬ ‫‪« -‬هل‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬الذي يحضرها السائق الخاص بعائلتها وأخبرته باألمر وأخبرني‬
‫ظهرا للمقابلة»‬
‫أنهم سيأتون اليوم في الواحدة ً‬
‫أومأت لها رأسي موافقة‪ ،‬ورجعت مرة أخرى إلى األطفال‪ ،‬كانت مريم‬
‫كثيرا‪ ،‬فمنذ أن أتت إلى الروضة‬
‫صاحبة األربعة أعوام ونصف تشغل بالي ً‬
‫وهي ال تتكلم مع أحد صامتة طوال الوقت‪ ،‬تتجنبنا وال تتفاعل مع أية‬
‫أنشطة‪ ،‬حتى وقت الطعام تتخذ مكانًا بعيدً ا وتتناوله‪ ..‬حاولت أن أشركها‬
‫معنا مرات عدة ولكن دون فائدة‪ ،‬أحاول أن أفهم ماذا بها؟ وهل أفعالها‬
‫نتيجة حزنها لشيء ما‪ ،‬أم أن طبيعتها انطوائية‪ ،‬ولذلك طلبت مقابلة إحدى‬
‫والديها؛ ألفهم منه وأتناقش معه ما هي أنسب الحلول لنجعلها تتفاعل‬
‫وتمرح وتعيش طفولتها فبالتأكيد أنهم يشعرون بحالتها تلك في البيت‪.‬‬
‫مر الوقت سري ًعا وأتت خالله أستاذة هدى مديرة الروضة‪ ،‬وألقت‬
‫التحية علينا‪ ،‬واطمأنت على أحوالنا‪..‬‬
‫أستاذة هدى امرأة فاضلة ومربية جليلة‪..‬كل يوم أتأكد أنها أقامت هذه‬
‫الروضة ال من أجل جمع األموال بل لتنشئة جيل مميز على المبادئ والقيم‬
‫الصحيحة‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪252‬‬

‫بدأنا في لعب لعبة المغامرات وهي أننا نتخيل أننا رجعنا بآلة الزمن‬
‫إلى العصور القديمة‪ ،‬فنستكشف ما بها‪ ،‬جلست مريم على مقعدها ال تريد‬
‫المشاركة كعادتها لكن كانت أحيانًا تبتسم من ردة فعل إحدى األطفال‪،‬‬
‫وأحيانا أخرى تنسجم معنا بمالمح وجهها فقط‪..‬‬
‫كانت عقارب الساعة قد قاربت الواحدة والربع‪ ..‬أتت أماني ووقفت‬
‫على الباب‪ ،‬وأشارت إلى مريم ثم أشارت للخارج‪ ،‬فهمت من إشارتها أن‬
‫إحدى والديها قد قدم‪ ،‬أخبرتها أن تبقى معهم حتى أنتهي‪..‬‬
‫شرحت لها‬
‫ُ‬ ‫وكنت قد‬
‫ُ‬ ‫خرجت مع األستاذة هدى إلى صالة االستقبال‬
‫الوضع من قبل ولماذا طلبت إحدى والديها‪..‬‬
‫رجل واق ًفا يعطينا ظهره وينظر من خالل النافذة‪..‬‬
‫دلفنا ووجدنا ً‬
‫بادرت بسؤالي إياه‪:‬‬
‫‪« -‬هل حضرتك والد الطفلة مريم؟»‬
‫لف بجسده إلينا ببطء‪..‬‬
‫وبدأت دقات قلبي تتزايد وتتصاعد الدماء إلى وجهي‪..‬‬
‫ْ‬ ‫شعرت باالضطراب‬
‫ُ‬
‫شاهدت تلك العينين البنيتين خلف نظارته الزجاجية ولحيته الخفيفة‬
‫ُ‬
‫البنية المائلة للسواد‪..‬‬
‫إنه حمزة‪.‬‬
‫●●●‬
‫‪253‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)20‬‬
‫وأسندت ذقني باليد األخرى وأنا‬
‫ُ‬ ‫وضعت يدي على عجلة القيادة‪،‬‬‫ُ‬
‫ٌ‬
‫مشوش للغاية وتتصارع المشاعر‬ ‫أنظر إلى الطريق أمامي وال أراه‪ ،‬أشعر أني‬
‫بداخلي‪..‬‬
‫تنهدت وأنا أتعجب مما حدث اليوم‪ ،‬أراها بعد مضي كل هذه السنين‬
‫ُ‬
‫ونلتقي ثانية!!‬
‫شعرت عندما رأيتها بكمية كبيرة من األحاسيس المتناقضة بداخلي‪ ،‬ما‬
‫ُ‬
‫بين اشتياق جارف إليها وزجر شديد لنفسي على ذلك؛ فأنا أعلم أنها امرأة‬
‫متزوجة‪..‬‬
‫لو أن األمور جرت كما ينبغي‪ ،‬لو أن األحداث سارت كما كان ُمخطط‬
‫لها لصارت حنين اآلن زوجتي‪..‬‬
‫أنس أبدً ا نظرة عينيها‬
‫أتذكر آخر يوم رأيتها فيه بعد صالة العيد‪ ،‬لم َ‬
‫وافقت على الزواج بي على الرغم من ظروفي وقتها‪ ..‬لم‬
‫ْ‬ ‫الخجولة المحبة‪،‬‬
‫تخلت عن كثير من األشياء‬
‫ْ‬ ‫تنظر إلى رفيقاتها وتطمح أن تنال فرصة مثلهن‪،‬‬
‫وقابلت كل هذه التضحيات بخذالنها وجرح قلبها‪..‬‬
‫ُ‬ ‫من أجلي‬
‫قائل‪ ..‬كفى جلدً ا لنفسك‬ ‫حككت جبهتي بضيق وأنا أحاول أن أتوقف ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪254‬‬

‫كنت تستطيع أن تفعل أنت اآلخر؟ ُوضعت في موقف صعب‬ ‫يا حمزة ماذا َ‬
‫ولم يكن لديك أي خيار حينها‪ ..‬ولكن ما الجديد؟! فحياتك كعادتها تموج‬
‫بكثير من الصعاب ولم تكن حياتك سهلة يو ًما‪..‬‬
‫زفرت زفرة طويلة‬ ‫ُ‬ ‫ساخرا ثم‬
‫ً‬ ‫وابتسمت‬
‫ُ‬ ‫يدي على عجلة القيادة‬‫وضعت كلتا ّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وأنا أراقب ضوء اإلشارة األحمر وأذهب معها إلى زمن بعيد‪ ..‬بعيد جدًّ ا‪ ..‬منذ‬
‫طفل‪ ،‬نشأت بمحافظة المنيا وكانت حياتي مليئة بالترف والتدليل؛‬ ‫أن كنت ً‬
‫حرصا‬
‫ً‬ ‫لكوني االبن الوحيد‪ ،‬أحاطني أبي وأمي بسياج من الخوف الشديد؛‬
‫أحد غيرهما إال قليل‬ ‫على حياتي مما جعلني بمعزل عن الناس‪ ،‬ال أتعامل مع ٍ‬
‫وال أحب أحدً ا غيرهما‪ ،‬وكان لهذا فائدة كبيرة فعزلتي ساعدتني على التأمل في‬
‫األشياء من حولي والتفكير بها والبحث عن أصولها‪ ..‬ال أتقبل أي شيء دون‬
‫أن أفهمه ويتقبله عقلي‪ ،‬لكن شعور الوحدة كان يرهقني بين الحين واآلخر‪،‬‬
‫كنت أرغب في التواصل مع عدد أكبر من الناس فيحول خجلي دون ذلك‪..‬‬ ‫ُ‬
‫أتذكر أول حب في حياتي بعد أبي وأمي لم يكن لفتاة بل كان لصديقي عمر‪،‬‬
‫كان عمر بصفي الدراسي نفسه وكان يتمتع بشخصية مغناطيسية يجذب كل من‬
‫حوله إليه‪ ،‬فهو اجتماعي ومحبوب من الجميع حتى المعلمين‪ ،‬ربما كان هذا‬
‫رغبت أن أكون عليها دو ًما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هو سبب حبي له؛ فشخصية عمر هي الشخصية التي‬
‫وليست تلك الشخصية االنطوائية قليلة الكالم التي ال ينتبه إليها أحدٌ ‪ ،‬لم يصنع‬
‫حيزا في أي مكان ولم يشكل حضوري أو غيابي فر ًقا ألحدهم‪،‬‬ ‫وجودي يو ًما ً‬
‫مقربون‪ ..‬أقرب الناس لي هم أبي وأمي وباألخص أبي‪..‬‬ ‫لم يكن لدي أصدقاء َّ‬
‫‪255‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قادرا على التقرب من عمر فهو كما أسمع من بقية األصدقاء‬ ‫لم أكن ً‬
‫صغارا وأنا أراه يصلي‬‫ً‬ ‫شخص متدين ولم يكن يخفى عني هذا؛ فمنذ أن كنا‬
‫دائما بكتاب المسلمين (القرآن) مما خلق‬ ‫بمسجد المدرسة‪ ،‬وممسك ً‬
‫حاجزا بداخلي بيني وبينه‪..‬‬ ‫ً‬
‫كبرنا م ًعا عا ًما بعد عام‪ ..‬أنقط ُع عنه في فصل الصيف وأعو ُد أراه مجد ًدا مع‬
‫قليل مع بعضنا البعض؛ لنطمئن على أحوالنا وكيف‬ ‫بداية العام الدراسي فنقف ً‬
‫كان صيف كل منا‪ ،‬وأعود بعدها لقوقعتي من جديد‪ ..‬لم يذهب عن ذاكرتي‬
‫أصعب موقف مررت به في حياتي وهو وفاة والدي وكان ذلك قبيل امتحانات‬
‫شعرت حينها أن الدنيا اسودت أمام عيني فقد كان أبي هو صديقي‬ ‫ُ‬ ‫الثانوية العامة‪،‬‬
‫انعزلت‬
‫ُ‬ ‫أثرت وفاة أبي على نفسي بشكل كبير‪،‬‬‫المقرب وأحب الخلق إلى قلبي‪ْ ..‬‬
‫وصرت مالز ًما لغرفتي‪ ..‬لم أرغب في عمل أي شيء سوى النوم؛‬ ‫ُ‬ ‫عن الناس أكثر‬
‫ألغيب عن تلك الحقيقة المرة‪ ..‬حقيقة ذهاب أبي عن الحياة‪..‬‬
‫وانخرطت في مشاعر الحزن حتى ظهر‬ ‫ُ‬ ‫لم أفكر بمستقبلي أو المذاكرة‪،‬‬
‫عمر وألول مرة بهذا الشكل في حياتي‪ ،‬طلب زيارتنا‪ ،‬وأتى لبيتنا‪ ،‬وجلس‬
‫حل وأن لو كان أبي هنا لحزن مما أفعل‪ ،‬وأنه‬ ‫معي‪ ،‬أخبرني أن هذا ليس ًّ‬
‫يجب أن أعود إلى دروسي ومذاكرتي ومجموعات التقوية التي كانت تجمعنا‬
‫م ًعا‪ ،‬كان الشخص الوحيد الذي وقف بجانبي بتلك الفترة‪ ،‬وشجعني على‬
‫خصيصا ليتأكد أنني أتابع مذاكرتي‬‫ً‬ ‫المذاكرة من جديد‪ ،‬فكان يأتي إلى البيت‬
‫بشكل جيد وأنني على ما يرام حتى جاءت االختبارات وحصلت على مجموع‬
‫يؤهلني لتحقيق حلمي وااللتحاق بكلية الحاسبات والمعلومات‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪256‬‬

‫بدأ عامي األول في الكلية وكان من إحدى أسباب سعادتي هو وجود‬


‫عمر بفرقتي نفسها فهو اآلخر يحب علم البرمجة ولديه أحالم بإنشاء شركة‬
‫كبيرة تكون رائدة في عالم البرمجيات‪ ،‬ولكن على جانب آخر ّأرقني شي ٌء‬
‫كثيرا معي‪..‬‬
‫ما فأكثر ما الحظته عند بداية دخولي الكلية هو تغير طباع أمي ً‬
‫أصبحت حازمة حادة الطباع متقلبة المزاج‪ ،‬وتبرر ذلك دو ًما بأن أبي ترك‬
‫لها مسئولية ويجب أن تكون على قدرها‪ ،‬وظهر ذلك في قلقها المفرط‬
‫وعصبيتها الشديدة عندما أتأخر في االتصال بها‪ ،‬كانت تعاملني كطفل‬
‫حاولت التأقلم على طباعها الجديدة وأال أتضايق من هذا؛ فهي‬ ‫ُ‬ ‫صغير‪،‬‬
‫وأخيرا بدافع حبها لي وخوفها علي‪..‬‬
‫ً‬ ‫تفعل ذلك ً‬
‫أول‬
‫كثيرا خالل الكلية‪ ،‬أصبحنا نرى بعضنا أكثر‪ ،‬ونجلس‬‫تقربنا أنا وعمر ً‬
‫شعرت ألول مرة أن الجدار الحائل بيني وبينه‬
‫ُ‬ ‫لمناقشة المحاضرات م ًعا‪،‬‬
‫بدأ في الزوال‪ ،‬وساعدني في ذلك شخصيته المرنة في التعامل التي تشعرك‬
‫أنك قريب جدًّ ا منه‪..‬‬
‫وأصبحت أنا وعمر وبقية َم ْن تعرفنا عليهم في‬
‫ُ‬ ‫أتذكر كيف مرت األيام‪،‬‬
‫الكلية على عالقة قوية ببعضنا البعض‪ ،‬نساند بعضنا في فهم المحاضرات‬
‫ونقسم األعمال علينا؛ لنحصل على مدار الثالث سنوات على تقدير جيد جدًّ ا‪..‬‬
‫أصبحت مالز ًما لهم في جميع األوقات أذهب معهم أينما ذهبوا‬
‫ُ‬
‫شعرت وأنا بينهم بتعويض الحرمان الذي بداخلي منذ أن‬
‫ُ‬ ‫وأذاكر معهم‪،‬‬
‫فقدت أبي‪..‬‬
‫ُ‬
‫‪257‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫بعض ممن حولنا كانوا يتعجبون من عالقتنا فجميعهم كما يطلقون‬


‫عليهم (متدينون) فكيف أشعر باالنسجام معهم وأبقى بجوارهم‪ ،‬لكنني لم‬
‫أكن أشعر بالغربة بينهم قط؛ فهم يعاملونني كما يتعاملون فيما بينهم‪ ،‬وما‬
‫كانوا يتركونني إال ألداء الصالة بالمسجد‪..‬‬
‫كنت أراقبهم من بعيد بدافع الفضول‪ ،‬وأتساءل بداخلي بماذا يشعرون‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫ونزول؟ أهي بحق تريحهم كما‬ ‫يا ترى وهم يؤدون تلك الحركات صعو ًدا‬
‫يزعمون؟‬
‫فوجدت أنها تؤثر فيهم روح ًّيا‪ ،‬وأظن‬
‫ُ‬ ‫كثيرا في صالة المسلمين‬
‫بحثت ً‬ ‫ُ‬
‫حاولت أال أتوغل‬
‫ُ‬ ‫ذلك منطق ًّيا فحرصهم على أدائها وراءه سبب بالتأكيد‪،‬‬
‫كنت أبحث حتى أعرف‬ ‫كثيرا لكن بحكم طبيعتي ُ‬ ‫باألسئلة داخل نفسي ً‬
‫وأفهم ما حولي خاصة إن كان شيء يتعلق بأصدقائي‪.‬‬
‫كان يأتي شهر رمضان وأنا بينهم وأراهم يتكلمون عنه بعيدً ا عن رمضان‬
‫الذي أعرفه‪ ،‬فحديثهم الحماسي عن اقتراب موعده‪ ،‬وكيف سيستعدون له‬
‫سمعت عن شهر رمضان طوال حياتي منذ صغري سواء‬ ‫ُ‬ ‫أثار استغرابي؛ فلقد‬
‫من خالل التلفاز وأنه شهر الحسنات‪ ،‬أو من خالل توصية أمي لي أن أتجنب‬
‫األكل أمام المسلمين في هذا الشهر؛ مراعاة لشعورهم‪ ..‬كل معلوماتي عنه‬
‫أن المسلمين يقومون بالصيام فيه من الفجر حتى المغرب‪ ،‬وتضج موائدهم‬
‫وقت اإلفطار بمختلف األصناف من المأكوالت‪ ،‬ويتناولون بعدها شتى‬
‫أنواع الحلوى أمام التلفاز‪ ..‬كان رمضان في مخيلتي عبارة عن موائد عليها‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪258‬‬

‫أطعمة عدة ومشروبات مختلفة‪ ،‬ومسلسالت وبرامج جديدة تُعرض فيه ال‬
‫أكثر من هذا‪..‬‬
‫ثالث سنوات وأنا يشدني استعدادهم وإصرارهم مع اقتراب موعده‪،‬‬
‫وأنسحب عند حديثهم بحجة الذهاب لشراء أي شيء يروي عطشي حتى‬
‫ال يزداد فضولي وتكثر األسئلة بداخلي‪..‬‬
‫بقيت هكذا حتى أتى رمضان في عامنا الرابع بالكلية‪ ،‬وطلب مني عمر‬‫ُ‬
‫على استحياء ككل عام مع اقتراب الشهر أنه لو كان في إمكاني أن أكتب‬
‫المحاضرات التي سيتغيبون عنها ؛ ألنهم لن يستطيعوا الحضور بانتظام خالل‬
‫وافقت بكل ترحيب على طلبه‪..‬‬
‫ُ‬ ‫العشرة أيام األخيرة من الشهر وبالطبع‬
‫شعرت بالحزن لعلمي بانشغالهم عني ككل عام‪ ،‬فهم‬ ‫ُ‬ ‫أتذكر حينها كيف‬
‫إما في المحاضرات وإما جالسون في الجامعة يمسك ٌّ‬
‫كل منهم بمصحفه ليقرأ‬
‫فيه‪ ،‬وال يوجد لديهم وقت للحديث أو المسامرة كعادتنا‪ ،‬كل منهم يحاول‬
‫استغالل كل دقيقة تمر عليه‪ ،‬لم أكن أجد ما أفعله في هذا الوقت سوى‬
‫الذهاب لشراء أي شيء يسد جوعي ويروي عطشي وأذهب به إلى الحمام‬
‫لتناوله؛ مراعاة لشعورهم وهم صائمون‪ ،‬حتى تغ َّيب عامل النظافة بإحدى‬
‫فكرت أين‬
‫ُ‬ ‫األيام لمرضه‪ ،‬وكانت رائحة الحمام غير مشجعة لتناول الطعام‪،‬‬
‫يمكنني أن أذهب‪ ،‬فدار بخلدي ٌ‬
‫سؤال وهو لماذا ال آكل في جو نظيف فهذا من‬
‫مسلما‪ ،‬لم يجبرهم أحد على فعل‬
‫ً‬ ‫حقي‪ ،‬ولن يستطيع أحد معاتبتي فأنا لست‬
‫هذا حتى أراعي شعورهم‪َ ،‬م ْن شاء منهم أن يفطر فليفطر‪..‬‬
‫‪259‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وجلست على أريكة خشبية كانت بالقرب من‬ ‫ُ‬ ‫أخذت طعامي حينها‬
‫ُ‬
‫إلي قط‪ ،‬ولم‬
‫وبدأت بتناوله‪ ،‬وعلى عكس ما تخيلته لم ينظروا ّ‬
‫ُ‬ ‫مجموعتي‪،‬‬
‫ٌ‬
‫منهمك بشدة‬ ‫إلي باشمئزاز‪ ،‬لم يعاتبني أحدهم على فعلي هذا‪ٌ ،‬‬
‫كل منهم‬ ‫يتطلعوا ّ‬
‫شعرت وكأنهم في عالم آخر‪ ..‬غير عالمي الذي أجلس فيه‪..‬‬
‫ُ‬ ‫في ذلك الكتاب‪..‬‬
‫وددت أن أطرح عليه السؤال‬
‫ُ‬ ‫واقتربت من عمر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وضعت الطعام جان ًبا‬
‫ُ‬
‫الذي يتردد بداخلي منذ ثالث سنوات‪ ،‬كان يقرأ بكتابه فجلست بجانبه‬
‫حتى ينتهي‪..‬‬
‫وفكرت أن أسأله أي‬
‫ُ‬ ‫شعرت بالتردد ً‬
‫قليل‬ ‫ُ‬ ‫مبتسما‪،‬‬
‫ً‬ ‫انتهى وتوجه لى‬
‫جئت به‪ ،‬لكن ابتسامته طمأنتني‪ ،‬فقلت له سائًال‪:‬‬
‫سؤال آخر غير الذي ُ‬
‫‪« -‬لماذا أنتم بهذا الشغف يا عمر؟ لماذا لستم كالبقية تهتمون بالطعام‬
‫وأصنافه وبالتلفاز فقط؟»‬
‫إلي عمر ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫نظر ّ‬
‫‪« -‬كثير من المسلمين لألسف ال يشعرون بقيمة هذا الشهر ويضيعونه‬
‫في مثل هذه األشياء»‬
‫متحمسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫صمت برهة‪ ،‬وقال‬
‫َ‬
‫«هذا الشهر فرصة لنا للبدء من جديد‪ ..‬تزيد رحمة الله فيه بنا‪ ..‬كل‬
‫ليلة ُينجى أناس من النار ويكتبون من أهل الجنة؛ لذلك نحن نسعى لنفوز‬
‫بهذه النجاة»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪260‬‬

‫ظهرت عالمات التعجب على وجهي‪ ،‬وسألته باستغراب‪:‬‬


‫ْ‬
‫‪« -‬ولماذا يا عمر إنسان مثلك ممكن أن يكون من أهل النار؟! أنت شاب‬
‫صالح تحافظ على الصالة تساعد غيرك‪ ..‬أبعد كل هذا يكون جزاؤك النار؟!»‬
‫ابتسم واقترب مني ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬أنا أحسن الظن بالله أنه سيجعلني من أهل الجنة ولكنني أسعى‬
‫ألعلى من ذلك‪ ..‬أنا أريد أعلى منزلة في الجنة‪ ..‬أريد الفردوس»‬
‫شعرت بشيء‬ ‫ُ‬ ‫مرت أمامي كلماته تلك من قبل ولكنه عندما قالها‬ ‫ْ‬
‫القوي‪..‬حرك شي ًئا‬
‫ّ‬ ‫مختلف‪ ..‬ابتسامته ونظرته الثابتة وإحساسي بشعوره‬
‫قمت من أمامه على الفور حتى ال أسترسل في األسئلة‪ ،‬وأنفض‬ ‫بداخلي‪ُ ،‬‬
‫ودخلت‬
‫ُ‬ ‫عدت إلى البيت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عن نفسي ذلك اإلحساس‪ ،‬ولكنه لم يتركني‪،‬‬
‫إلى غرفتي سري ًعا‪ ،‬وفتحت حاسوبي‪ ،‬وبدأت بالبحث عن بعض الكلمات‬
‫التي ذكرها عمر؛ ألعرف عنها أكثر‪..‬‬
‫الفردوس‪ ..‬النجاة‪ ..‬شهر رمضان‪..‬‬
‫بحثت عن شيء ظهر لي مئات المواضيع المتعلقة به‪ ،‬فيدفعني فضولي‬ ‫ُ‬ ‫كلما‬
‫ألبحث عنها هي األخرى‪ ،‬ويتفجر بداخلي ظمأ ال ينتهي لمعرفة هذا الدين‪َ ،‬م َّر‬
‫الليل سري ًعا‪ ،‬وأوشك الصباح على الظهور وأنا ما زلت على حاسوبي‪..‬‬
‫واستطعت‬
‫ُ‬ ‫حاولت أن أتذكر بعض الكلمات التي كان يقرأها عمر اليوم‪،‬‬
‫ُ‬
‫في النهاية الوصول لآليات واالستماع إليها‪..‬‬
‫‪261‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫شعرت وقتها وكأن مشكاة نور ُألقيت بقلبي‪ ،‬وأحسست بميل إلى‬‫ُ‬
‫اإلسالم ولكن رأسي يموج بالكثير من األسئلة التي تعصف بفكري‪ ،‬وأريد‬
‫رغما عني‪..‬‬
‫اإلجابة عنها‪ ..‬كما أن شعور الخوف يجتاحني ً‬
‫َأ ْن تُغير معتقدً ا تؤمن به منذ صغرك ونشأت عليه ليس باألمر السهل‬
‫كنت معج ًبا ببعض تعاليم اإلسالم منذ صغري وزاد‬ ‫أبدً ا‪ ،‬ال أنكر أنني ُ‬
‫إعجابي بها عندما اقتربت من ُعمر‪ ،‬لكن لم أفكر قط في اعتناقه يو ًما‪..‬‬
‫صباحا فتوجهت إلى الجامعة؛ بح ًثا عن عمر‬
‫ً‬ ‫انتظرت حتى حانت العاشرة‬
‫ُ‬
‫شعرت أن سبب ذهابي إليه لرغبتي في االطمئنان أكثر من إجابة‬
‫ُ‬ ‫حتى وجدته‪،‬‬
‫أسئلتي‪ ،‬أخبرته بما حدث معي منذ األمس وأن لدي الكثير من األمور أريد‬
‫اإلجابة عنها‪..‬‬
‫ترك عمر كل شيء بيده وجلس معي‪ ،‬جاوب عن جميع أسئلتي بنفسه‬
‫تارة وباالستعانة بشبكة اإلنترنت أو أحد أصدقائه تارة أخرى‪..‬شعر بخوفي‬
‫فحاول أن يهدئني وهو يخبرني أنه لن يجبرني أحدٌ في هذا العالم على فعل‬
‫وشعرت بالراحة بعد جلستي معه‪..‬‬
‫ُ‬ ‫شيء ال أريده؛ فال داعي لخوفي‪،‬‬
‫رجعت إلى البيت بعدها‪ ،‬لم أستطع حضور محاضرات هذا اليوم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اتخذت قراري واتصلت بعمر الساعة السادسة مسا ًء‬
‫ُ‬ ‫كثيرا حتى‬
‫فكرت ً‬‫ُ‬
‫وأخبرته أنني أريد اعتناق اإلسالم‪..‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وأخبرني أنه كلما‬
‫لم أنس سعادته وقتها‪ ،‬وتكبيره وحمده لله ً‬
‫رأى حسن خلقي وطيب سريرتي كان يدعو الله لي أن يكمل هذا بإسالمي‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪262‬‬

‫حتى استجاب الله دعوته‪ ،‬وأعطاني عنوان أحد المساجد القريبة من بيته‪،‬‬
‫وقال إنه سيكون بانتظاري‪..‬‬
‫وصلت إلى هناك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وأخذت طريقي إليه حتى‬
‫ُ‬ ‫خرجت من البيت‪،‬‬
‫ُ‬
‫فشعرت بضربات قلبي تتزايد‪ ،‬وألقى الموقف‬
‫ُ‬ ‫اقتربت من باب المسجد‬
‫ُ‬
‫هيبته في نفسي‪..‬‬
‫ووطأت‬
‫ُ‬ ‫خلعت حذائي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رآني عمر من الداخل فدعاني للدخول‪،‬‬
‫بقدمي أرض المسجد ألول مرة في حياتي‪ ،‬استقبلني عمر وأخذني لجمع‬
‫صغيرا‬
‫ً‬ ‫من الناس يجلسون بإحدى الزوايا‪ ،‬كانوا أصدقاءنا المقربين وعد ًدا‬
‫من المصلين في انتظار الصالة‪..‬‬
‫صوت أنفاسي يتصاعد‪ ،‬بدأ عمر بحمد الله‬‫ُ‬ ‫جلست أمام عمر‪ ،‬وقد بدأ‬
‫ُ‬
‫وشكره‪ ،‬وسألني إذا كنت ما أزال متأكدً ا من قراري‪ ،‬فأجبته بنعم‪..‬‬
‫مرتجف ٍ‬
‫باك من فرط‬ ‫ٍ‬ ‫قال الشهادتين ببطء ورددتهما وراءه بصوت‬
‫أحسست به في تلك اللحظة‪..‬‬
‫ُ‬ ‫شعوري الذي‬
‫َك َّب َر جميع الحاضرين وتقدموا نحوي وهم يسلمون ّ‬
‫علي ويحتضنوني‬
‫ويهنئوني بدخولي اإلسالم‪ ،‬أخذني عمر بعدها إلى بيت أحد أصدقائه‬
‫القريب من المسجد الذي كان يعيش به بمفرده؛ ألغتسل وأتوضأ‪..‬‬
‫ووقفت بجانبهم في الصف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رجعنا إلى المسجد ثانية وقد أذن العشاء‪،‬‬
‫وأقمت أول صالة في حياتي‪ ،‬لم أكن أحفظ الفاتحة أو أي شيء من القرآن‬
‫ُ‬
‫بعد‪ ،‬ولكنني كنت أعرف ترتيب الصالة‪..‬‬
‫‪263‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫كنت أريد أن أصلي معهم‪ ..‬أن أشعر بهذا اإلحساس مثلهم‪..‬‬


‫ُ‬
‫رجعت إلى بيتي ذلك اليوم إنسانًا آخر‪ ..‬ازدحم صدري بالمشاعر‬
‫ُ‬
‫تبدلت حياتي كلها‪..‬‬
‫ْ‬ ‫المتخبطة‪ ،‬ففي يومين فقط‬
‫ولكن أكثر شعور كنت أستطيع أن أميزه بين تلك المشاعر هو إحساس‬
‫األمان الذي فقدته منذ أن توفي والدي‪..‬‬
‫بدأ اإلرهاق الجسدي والعقلي في الهجوم فمنذ البارحة لم أنم ولم يتوقف‬
‫وغططت في نوم عميق‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ألقيت بنفسي على السرير‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عقلي عن التفكير لحظة‪،‬‬
‫كثيرا‪ ..‬أن أنام دون أن أتذكر فقدان والدي ويثير‬
‫اشتقت لتلك النومة اآلمنة ً‬
‫ُ‬
‫هذا شجوني‪ ،‬دون أن أفكر بمواقف أمي التي تضايقني‪ ،‬دون أن أفكر في ضعفي‪..‬‬
‫أجمل الليالي التي تجد نفسك فيها ال تفكر في شيء سوى النوم‪،‬‬
‫فتغمض عينيك وتستسلم له ببساطة؛ لتغط في نوم عميق‪..‬‬
‫دون تفكير‪ ..‬دون اشتياق‪ ..‬دون ذكرى قد تجعلك تذرف دم ًعا‪..‬‬
‫أصعب ما كان يواجهنى بعد ذلك هو أمي‪ ،‬لن أستطيع إخبارها باألمر؛‬
‫فلن تتقبله أبدً ا‪ ،‬ومن الممكن أن يؤثر هذا على عالقتنا ويزيد من مرضها‪..‬‬
‫استشرت عمر في األمر فأخبرني أنه يمكنني أن أكتم األمر عنها حتى‬
‫ُ‬
‫أستطيع إخبارها في الوقت المناسب‪..‬‬
‫بقيت بعدها مع عمر وأصدقائنا‪ ،‬وبداخلي ن ََه ٌم ال ينتهي لمعرفة تعاليم‬
‫ُ‬
‫اإلسالم أكثر‪ ،‬أصلي معهم وأصوم وأفهم منهم الكثير من األمور‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪264‬‬

‫حتى أتت االختبارات وانتهت حياتي الدراسية وهذا ما زاد األمر‬


‫حاولت أن أصلي‬
‫ُ‬ ‫أصبحت أجلس مع أمي أكثر الوقت‪..‬‬
‫ُ‬ ‫صعوبة؛ فلقد‬
‫دون أن تشعر بشيء ولكن حياتي خالية من االطمئنان‪ ..‬أصلي بشكل سريع‬
‫وأحيانًا ال أستطيع الصالة لحلول أقارب لدينا بالبيت‪ ،‬أو ألننا خرجنا م ًعا‬
‫وتأخرنا بالوقت‪..‬‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫كنت أستطيع‪،‬‬ ‫ً‬
‫وقليل ما ُ‬ ‫حاولت أن أحافظ على أمور ديني‬
‫ُ‬
‫وأخذت قراري بعد عام ونصف من‬ ‫ُ‬ ‫فكرت‬
‫ُ‬ ‫بالضيق يخنقني شي ًئا فشئ ًيا‪،‬‬
‫تخرجي أنني سأذهب إلى عمر وأعيش بجانبه ونفتح شركة م ًعا للبرمجيات؛‬
‫فلقد انتقل بعد التخرج مباشرة إلى القاهرة فمجال العمل بها حيوي وكبير‪،‬‬
‫شعرت في أي وقت بعدم الراحة‬‫ُ‬ ‫كان دو ًما يقدم لي هذا العرض‪ ،‬أنه إذا‬
‫أتصل به على الفور وهو سيتصرف في األمر‪..‬‬
‫مغلق‪ ..‬ال أعرف‬
‫وتكرارا لكن هاتفه دو ًما ٌ‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫حاولت االتصال به ً‬
‫ُ‬
‫أين اختفى؟ وال أعرف له أية وسيلة اتصال أخرى غير هاتفه‪..‬‬
‫آخر مرة تحدثنا م ًعا كانت قبل إغالق هاتفه بأسبوعين ولم يخبرني أنه‬
‫سيسافر أو سيقوم بتغيير الرقم‪..‬‬
‫جلست مع نفسي وأنا أعتصر ذاكرتي وأستدعي عنوانه‪ ..‬أتذكر أنه‬‫ُ‬
‫ذكره أمامي مرة أثناء حديثنا وهو يعطيه ألحد أصدقائه بالخارج على شبكة‬
‫اإلنترنت؛ ليرسل له شي ًئا عبر شركات الشحن‪ ..‬استطاعت ذاكرتي أن تسعفني‬
‫قرارا بفتح شركة مع أحد‬
‫اتخذت ً‬
‫ُ‬ ‫أخبرت أمي أنني‬
‫ُ‬ ‫بالمنطقة واسم الشارع‪..‬‬
‫‪265‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أصدقائي‪ ،‬وهذا األمر ُيوجب أن أكون بجانبه حتى تستطيع الشركة أن تقف‬
‫ورفضت ابتعادي‪..‬‬
‫ْ‬ ‫استنكرت تما ًما حينها‬
‫ْ‬ ‫على قدميها في وقت قصير‪..‬‬
‫أخذت أيا ًما بعدها في محاوالت عدة إلقناعها أنني كبرت ويجب أن أشق‬‫ُ‬
‫طريقي بالحياة وحدي وطمأنتها أنني سأكون على اتصال دائم بها‪ ،‬وسآتي‬
‫باكرا‬
‫وخرجت ً‬
‫ُ‬ ‫حزمت حقائبي‬
‫ُ‬ ‫أخيرا على مضض‪،‬‬
‫وافقت ً‬
‫ْ‬ ‫إليها كل فترة حتى‬
‫كبير لحياتي الجديدة‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫وشوق ٌ‬ ‫فرح‬ ‫ً‬
‫متخذا طريقي إليه‪ ،‬وبداخلي ٌ‬
‫تخبطت ً‬
‫قليل‬ ‫ُ‬ ‫نجحت في الوصول إلى منطقته في نهاية األمر بعد أن‬
‫ُ‬
‫فوجدت جميع أهل منطقته يعرفونه على‬
‫ُ‬ ‫وسألت عنه‬
‫ُ‬ ‫بين المناطق والطرق‪،‬‬
‫وتعجبت من سؤالهم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الفور‪،‬‬
‫‪« -‬هل تريد منه ً‬
‫مال أو أي شيء؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬أريد أن تدلوني على بيته فقط وسأذهب إليه»‬
‫ظهر الحزن على وجوههم‪ ،‬وقال واحدٌ منهم‪:‬‬
‫‪« -‬لن تستطيع»‬
‫سألت مستغر ًبا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ولماذا؟»‬
‫‪« -‬لقد توفي في حادث منذ عشرة أيام»‬
‫تسمرت في مكاني من مفاجأة الخبر‪ ،‬فلم أكن أتوقع أن يكون هذا سبب‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪266‬‬

‫وبدأت في‬
‫ُ‬ ‫واتخذت جان ًبا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجدت باب مسجد أمامي فهرولت إليه‬ ‫ُ‬ ‫اختفائه‪،‬‬
‫إلي‪ ،‬حتى إن كنا نتواصل على فترات متباعدة‬ ‫البكاء‪ ،‬كان عمر من أقرب الناس ّ‬
‫قمت بمهاتفته بأي وقت سأجده يمنحني‬ ‫لكن مجرد شعوري بوجوده أو أنني إذا ُ‬
‫محتارا في أمري ال أدري‬‫ً‬ ‫وبقيت بالمسجد‬
‫ُ‬ ‫شعرت بحزن كبير عليه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫االطمئنان‪،‬‬
‫فكرت في االتصال بأصدقائنا والذهاب إلى أي واحد منهم‪ ..‬فلقد‬ ‫ُ‬ ‫ماذا أفعل‪..‬‬
‫أيضا‪ ،‬لكن عالقتي بهم جمي ًعا ليست بتلك القوة التي‬ ‫انتقل بعضهم إلى القاهرة ً‬
‫تسمح لي بالمكوث عندهم كما أنني ال أعلم هل ظروفهم مهيأة الستقبالي أم‬
‫فكرت في الرجوع إلى أمي مرة أخرى ولكن ال أريد هذا؟‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ال‪،‬‬
‫ظلت الحيرة تعصف بي وما أنقذني حينها إال عرض عم عثمان حارس‬
‫المسجد بعدما الحظ بكائي وحزني‪ ،‬وهو أنه يمكنني أن أبقى بالمسجد إذا‬
‫أردت‪ ،‬فأرتب أوراقي وأنظر ماذا أفعل‪..‬‬
‫ُ‬
‫َم َّر أسبوع وأنا على هذا الحال ال جديد يطرأ وال أعرف أي قرار‬
‫يجب أن أتخذ‪ ،‬وزاد األمر على نفسي عندما أخبرني عم عثمان أنه يجب‬
‫حل أمامي غير الرجوع مرة أخرى إلى‬ ‫شعرت أنه ال يوجد ٌّ‬
‫ُ‬ ‫أن أرحل غدً ا‪،‬‬
‫وجدت عم طارق يدخل من باب المسجد‬ ‫ُ‬ ‫وعزمت على العودة حتى‬
‫ُ‬ ‫أمي‪،‬‬
‫علي االستضافة في‬
‫ويخبرني أنه سمع حوار عم عثمان اليوم ويعرض ّ‬
‫وأحببت عائلته‪..‬خالة مديحة وآسر وحنين‪..‬‬
‫ُ‬ ‫كثيرا‬
‫أحببت عم طارق ً‬ ‫ُ‬ ‫بيته‪..‬‬
‫حنين التي تعلق قلبي بها مرة بعد مرة في كل صدفة رأيتها فيها‪..‬‬
‫‪267‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫رأيت تفاصيل وجهها في أية مرة كنت أصادفها‪ ،‬ولك َّن‬


‫لم أتذكر أنني ُ‬
‫خل َقها وحيا َءها يعطيها هالة من الجمال تجذب أي شخص إليها‪..‬‬
‫كان يضيق صدري عندما أفكر في وحدتي وحياتي وما صارت عليه‬
‫فتأتي هالتها أمامي فتخفف ما بي وتزيل الوحشة وتُذهب الوحدة‪..‬‬
‫واتخذت قرار التقدم إليها والبحث عن أهلها؛‬
‫ُ‬ ‫صليت استخارة‪،‬‬
‫ُ‬
‫كثيرا عندما أخبرني إمام المسجد أنها ابنة عم طارق‪..‬‬
‫سعدت ً‬
‫ُ‬
‫هممت إليهم لطلب يدها‪ ،‬وكلي خوف وأمل ضعيف أن توافق أو‬
‫ُ‬
‫يوافق أهلها على شخص بمثل ظروفي‪..‬‬
‫وكانت المفاجأة‪ ..‬أخبرني عم طارق بالموافقة بعد عدة أيام‪..‬‬
‫ازددت ح ًّبا لتلك العائلة بأكملها ولحنين بشكل خاص‪..‬‬
‫ُ‬
‫كانوا يعلمون بظروفي ويتقبلونها ويخففون عني‪ ..‬اشترينا خواتم الخطبة‬
‫وحددنا موعدها‪ ،‬كل شيء كان في البداية رائ ًعا‪ ،‬صارت األمور كلها بشكل‬
‫عصرا أول أيام العيد قبل خطبتنا بيومين‪ ،‬اتصال‬
‫جيد حتى أتاني ذلك االتصال ً‬
‫من الطبيب المسئول عن حالة أمي يخبرني فيه بأن حالتها تطورت فجأة وساءت‬
‫كثيرا وأنها ترفض الذهاب إلى المشفى ويجب أن أكون بجانبها في هذا الوقت‪،‬‬
‫ً‬
‫وأخذت أول طريق للذهاب إلى بيتنا‪..‬‬
‫ُ‬ ‫تركت كل ما في يدي وقتها‪،‬‬
‫ُ‬
‫أتذكر عندما رأتني كيف انفجرت في البكاء وهي تحتضنني وتحمد‬
‫الله أنها استطاعت رؤيتي قبل أن تموت‪ ،‬وتعاتبني بمرارة على غيابي كل‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪268‬‬

‫هذا الوقت حتى إن كنت على اتصال بها بالهاتف فهذا ال يغنني عن رؤيتها‪..‬‬
‫وشعرت بتأنيب الضمير‪ ..‬نعم كنت‬
‫ُ‬ ‫تأثرت جدًّ ا بدموعها وكالمها‪،‬‬
‫ُ‬
‫على اتصال بها طوال فترة بعدي عنها‪ ،‬ولكن كان يجب أن أزورها بين‬
‫الحين واآلخر‪ ،‬أن أبقى بجانبها وقت مرضها المفاجئ‪ ،‬أال أتركها هكذا‬
‫وحيدة تستعين بالغرباء لمساعدتها وابنها على قيد الحياة‪..‬‬
‫جلست بجانبها تلك الليلة‪ ،‬وأنا أرعاها‪ ،‬وأضاحكها؛ كي أخفف عنها‬ ‫ُ‬
‫صباحا وسآتي لزيارتها في أقرب وقت‬ ‫ً‬ ‫غيابي حتى أخبرتها أنني سأذهب غدً ا‬
‫وبدأت في البكاء‪..‬‬
‫ْ‬ ‫وأقسمت أنها لن تتركني أبدً ا‬
‫ْ‬ ‫تشبثت بي‬
‫ْ‬ ‫بالتأكيد لكنها‬
‫فكرت أن أخبرها‬
‫ُ‬ ‫ب هذا موقفي‪ ،‬فيجب أن أذهب فالخطبة بعد غد‪..‬‬ ‫َص َّع َ‬
‫شعرت أن الوقت غير مناسب لهذا اآلن؛ فلو قلت لها سيزيد‬
‫ُ‬ ‫باألمر كله‪ ،‬لكنني‬
‫حتما‪ ،‬ولو علمت أن خطبتي بعد يومين من الممكن أن تتوفى‬ ‫هذا من مرضها ً‬
‫حزنًا إلحساسها أنها آخر من يعلم بأمر زواج ابنها الوحيد‪..‬‬
‫أمرا ضرور ًّيا وال أستطيع الغياب عنه‪ ،‬وسآتي لزيارتها‬
‫أخبرتها أن هناك ً‬
‫قسما بهذا‪..‬‬
‫قليل بعد أن أخذت مني ً‬ ‫ثانية بعد يومين‪ ،‬اقتنعت ً‬
‫نمت ليلتها بغرفتي‪ ،‬واستلقيت على سريري‪ ،‬وأنا أحمد الله أنني‬
‫واستسلمت للنوم وأنا أتخيل مراسم‬
‫ُ‬ ‫أخيرا بالذهاب‬
‫نجحت في إقناع أمي ً‬‫ُ‬
‫الخطبة غدً ا ووجه حنين المالئكي وهي بجانبي وتبتسم لي‪..‬‬
‫وأشعلت‬
‫ُ‬ ‫فمددت يدي‬
‫ُ‬ ‫قلقت من نومي على صوت حركة ما بالغرفة‬
‫ُ‬
‫‪269‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫فوجدت أمي بالقرب من المشجب‪ ،‬وبنطالي‬


‫ُ‬ ‫األباجورة المجاورة لسريري‪،‬‬
‫اتسعت عيناها من المفاجأة وهي تنظر‬
‫ْ‬ ‫ومحفظتي ملقيان على األرض‪ ،‬وقد‬
‫إلى مصحفي الصغير وبطاقتي الشخصية‪..‬‬
‫جلست على سريري ببطء وأنا أنظر إليها وأبتلع ريقي‪ ..‬أشارت لي‬
‫ُ‬
‫بيدها سائلة‪:‬‬
‫‪« -‬ما هذا؟ ماذا يفعل هذا بجيبك؟ وما هذا االسم المكتوب في‬
‫رأيت صورتك»‬
‫كنت سأظنها بطاقة شخص آخر لوال أنني ُ‬‫البطاقة؟ ُ‬
‫اتجهت بعيني إلى األرض ولم أتكلم‪..‬‬
‫ُ‬
‫تابعت بترقب‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬منذ أن رأيتك وأنا أشعر أن بك شي ًئا ما مختل ًفا خاصة بعد إصرارك‬
‫على الذهاب غدً ا مما دفعني إلى التفتيش وراءك»‬
‫قالت بحزم‪:‬‬
‫ثم ْ‬
‫‪« -‬أخبرني اآلن ماذا كان يحدث وراء ظهري طوال الفترة السابقة وال أعلمه»‬
‫وقلت بهدوء‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تحركت نحوها‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫‪« -‬حسنًا سأشرح لك كل شيء يا أمي وأفهمك األمر»‬
‫جذبتُها من يدها وما زالت عالمات التساؤل على وجهها‪ ،‬وأجلستُها‬
‫وبدأت أقص كل شيء عليها‪..‬‬
‫ُ‬ ‫بجانبي على السرير‪،‬‬
‫كثيرا عند سماع ما مررت به جملة واحدة‪ ،‬ولكن‬
‫كنت أعلم أنها ستغضب ً‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪270‬‬

‫بعدها ستهدأ بالتأكيد عندما ترى راحتي في هذه الحياة وتسعد لسعادة ابنها؛ فهي‬
‫أم بالنهاية تتمنى راحة ولدها وما ُيفرحه ُيفرحها‪ ..‬كما أن موضوع حنين سيسعدها‪،‬‬
‫علي في موضوع االرتباط وتأتي لي بالفتيات وتخبرني عن‬ ‫فكثيرا ما كانت تلح ّ‬
‫ً‬
‫أمنيتها التي ترجوها قبل مماتها وهي أن تحمل أبنائي وأن تكبر عائلتنا‪..‬‬
‫مؤخرا‪ ..‬عن عمر‪ ،‬وفترة الكلية‪،‬‬
‫ً‬ ‫أخبرتُها جميع ما حدث في حياتي‬
‫تغيرت حياتي‪ ،‬وعن إسالمي‪ ،‬وعم طارق‪ ،‬وحنين وتعلقي بها‪..‬‬
‫ْ‬ ‫وكيف‬
‫فقامت‬
‫ْ‬ ‫انتهيت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كانت المفاجأة تتملكها وهي فاغرة فاها مما أقوله لها حتى‬
‫فقدت صوابي ألفعل هذا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وهي تصيح وتنعتني بالمجنون األبله وأنني بالتأكيد‬
‫صمتت برهة تفكر‪ ،‬ثم قالت بغضب‪:‬‬
‫ْ‬ ‫حاولت أن أهدئها لكنها لم تكن تسمعني‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬هذه الفتاة‪ ..‬هذه الفتاة هي السبب وأهلها‪ ..‬من المؤكد أنهم علموا‬
‫بميراثك الكبير من أبيك لذلك أوقعوك في شباكهم»‬
‫قلت وأنا أنفي بشدة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال يا أمي‪ ،‬ال عالقة لهم بما فعلت‪ ..‬هم ال يعلمون أي شيء عن‬
‫أردت‬
‫ُ‬ ‫خرجت من هنا لم آخذ شي ًئا من أموال أبي؛ ألنني‬
‫ُ‬ ‫أموالنا‪ ،‬عندما‬
‫وجدت ً‬
‫عمل يدر لي‬ ‫ُ‬ ‫االعتماد على نفسي‪ ،‬واستضافوني في بيتهم حتى‬
‫فقيرا‪ ،‬وهذا‬
‫المال‪ ،‬ولم يسألوني يو ًما عن أموال أبي بالعكس هم يظنوني ً‬
‫من ضمن أسباب احترامي لهم»‬
‫خارجا وهي تضرب بيدها على صدرها وتدعو على من لعب‬
‫ً‬ ‫اتجهت‬
‫ْ‬
‫‪271‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وحاولت أن أفهمها األمر جيدً ا ولكن‬


‫ُ‬ ‫ذهبت وراءها‬
‫ُ‬ ‫بعقل ابنها الوحيد‪،‬‬
‫شعرت أنه من األفضل أن أنصرف من أمامها اآلن حتى‬
‫ُ‬ ‫ما من جدوى‪..‬‬
‫تهدأ‪..‬‬
‫مرت ثالث ساعات وأنا بغرفتي أنتظر نور الصباح؛ ألعود من حيث‬
‫أتيت‪ ،‬وقررت أنني سآتي ألمي بعد عدة أيام‪ ،‬وحينها ستكون قد هدأت‬
‫تناولت بعض األشياء التي أحتاجها من غرفتي‪ ،‬ووضعتها‬
‫ُ‬ ‫وتقبلت األمر‪،‬‬
‫بإحدى الحقائب وحملتها وتحركت بخفة حتى ال تعلم أمي بذهابي فلو‬
‫فتحت باب غرفتي بهدوء‬
‫ُ‬ ‫رأتني لن تدعني أذهب وستظل تصيح وتصرخ‪،‬‬
‫جالسا على‬
‫ً‬ ‫وجدت خالي مراد‬
‫ُ‬ ‫تسمرت في مكاني من المفاجأة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫لكنني‬
‫األريكة الموازية لباب غرفتي وأمي بجانبه وكأنه في انتظاري‪..‬‬
‫اقتربت أمي مني‬
‫ْ‬ ‫إلي بحزم دون أن ينطق كلمة‪،‬‬
‫قام من مكانه وهو ينظر ّ‬
‫وربتت على كتفي قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫«اتصلت بخالك مراد؛ كي يأتي ويجلس معك ويعقلك»‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫شعرت بضيق شديد في صدري مما فعلت أمي‪ ،‬لماذا أخبرت خالي‬ ‫ُ‬
‫مراد؟ لماذا؟!‪ ..‬لم أتقبله في حياتي يو ًما فهو شديد الطباع‪ ،‬غليظ الكالم‪ ،‬فظ‪،‬‬
‫ومتسلط‪ ..‬ال يقتنع إال بآرائه‪ ..‬فكرة العقاب التأديبي ال تغادر رأسه‪ ..‬أتذكر حثه‬
‫صغيرا وأفعل مثلما يفعل جميع‬ ‫ً‬ ‫ألمي على ضربي وعقابي عندما كنت ً‬
‫طفل‬
‫األطفال‪ ..‬انصاعت أمي لكالمه فترة فهي ضعيفة أمامه ويستطيع إقناعها بما يريد‬
‫بسهولة‪ ،‬وكانت تعاقبني بقسوة لوال أن أبي نهاها عن ذلك تما ًما‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪272‬‬

‫قال خالي بصوته األجش‪:‬‬


‫‪« -‬ستأتي معي اآلن أنت ووالدتك وستنتقالن للعيش بفي َّلتي‪..‬‬
‫وسنتناقش هناك»‬
‫اتجهت إليه ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫نظرت بغضب إلى أمي‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ولكن يا خالي ال أريد أن أنتقل للعيش هناك»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬أخذنا هذا القرار أنا وأمك وال رجعة فيه‪ ،‬تركناك لقراراتك فترة‬
‫طويلة وانظر إلى النتيجة‪ ..‬انصياع ألية كلمة تقال لك ولهث وراء فتاة ال‬
‫نعلم أصلها من فصلها»‬
‫ً‬
‫منفعل‪:‬‬ ‫وقلت‬
‫ُ‬ ‫صعدت الدماء إلى رأسي عند سماع جملته األخيرة‬
‫‪« -‬هذه الفتاة وأهلها ِم ْن أحسن َم ْن عرفتهم بحياتي»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬هم سبب غيابك وتغيرك إ ًذا كما أخبرتني والدتك؟»‬
‫قلت ناف ًيا بقوة‪:‬‬
‫ُ‬
‫وتكرارا أنه ليس هم‪ ..‬ليس هم»‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬أخبرتها ً‬
‫قرارا اختيار ًّيا أمامك بل أمر ستنفذه‬
‫‪« -‬عامة ما أقوله اآلن ليس ً‬
‫شئت أم أبيت‪ ،‬لن نتركك ثانية وحدك‪ ..‬انس كل ما مضى‪ ،‬وانس أمر‬
‫خلفت‬
‫ْ‬ ‫تلك الفتاة وستبدأ حياة جديدة معنا‪ ،‬من الواضح أن وفاة والدك‬
‫‪273‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وراءها حرمانًا عاطف ًّيا بداخلك جعل كل من أمامك يستغل هذه النقطة‬
‫بك‪ ،‬ونحن أخطأنا أننا لم نفهم هذا األمر‪ ،‬وسنصلحه اآلن وسنحاوطك‬
‫ونكون بجانبك»‬
‫قالت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬اسمع كالم خالك يا بني فهو يريد مصلحتنا جمي ًعا»‬
‫‪« -‬ولكن يا أمي …»‬
‫عال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫قاطعني‬
‫‪« -‬ال يوجد لكن‪ ..‬ستأتي معنا اآلن»‬
‫إلي بسبباته‪:‬‬
‫ثم قال مهد ًدا وهو يشير ّ‬
‫‪« -‬وال تجعل األمر يأخذ منحنى آخر بعنادك‪ ..‬إذا صممت على‬
‫الذهاب سأتبعك وأصعد الموضوع وأورطهم بمشكلة لن يستطيعوا‬
‫الخروج منها»‬
‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫شعرت بالخوف بعد سماع جملته؛ فتسلط خالي وشعوره أنني‬
‫ُ‬
‫عن طاعة أوامره قد يدفعه ذلك لفعل أي شيء‪..‬‬
‫قلت راج ًيا‪:‬‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬أرجوك يا خالي دعهم وشأنهم‪ ..‬سأفعل ما تريد ولكن ال‬
‫تؤذهم وتسبب لهم المشاكل؛ فهم لم يؤذوني قط»‬
‫صمت برهة وتابع‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪274‬‬

‫‪« -‬إِ ْن كنت تحب هذه الفتاة ح ًّقا انس أمرها‪..‬ألننا لن نوافق عن هذه الزيجة‪،‬‬
‫وسنفعل أي شيء للوقوف أمامها وأمام ما تفعله حتى ترجع إلى صوابك»‬
‫نظرت إلى األرض وأنا أشعر ببركان من الغضب يغلي بداخلي‪..‬‬
‫ُ‬
‫نظر إلينا وقال‪:‬‬
‫‪« -‬هيا السائق بانتظارنا بالخارج»‬
‫قالت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬سأحضر بعض األشياء الخاصة بي وآتي»‬
‫إلي وقال‪:‬‬
‫نظر ّ‬
‫‪« -‬هيا‪ ،‬نحن للسيارة حتى تأتي أمك»‬
‫جلست في األريكة‬
‫ُ‬ ‫ذهبت معه إلى السيارة وأنا أشعر بالقهر والعجز‪،‬‬‫ُ‬
‫وأغلقت حسابي على موقع الـ ‪،Facebook‬‬‫ُ‬ ‫وأخرجت هاتفي ببطء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الخلفية‪،‬‬
‫وقمت بإعادة ضبط إعدادات الهاتف؛ ليرجع جديدً ا كما كان وتُمحى جميع‬ ‫ُ‬
‫بياناته‪ ..‬فبالتأكيد سيأخذه خالي مني وال أريد أن يكون وسيلة للوصول لعم‬
‫طارق وأسرته‪..‬‬
‫إلي خالي بعد دقائق وكأنه تذكر شي ًئا‪ ،‬ثم مد يده لي ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫نظر ّ‬
‫‪« -‬أعطني هاتفك»‬
‫أعطيته إياه بعد أن استراح قلبي أنني محوت كل شيء‪ ،‬جاءت أمي‬
‫وانضمت إلينا في السيارة وانطلقنا‪..‬‬
‫‪275‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ظللت طوال الطريق أفكر في حنين‪ ،‬وكيف أن األمور صارت بهذا‬ ‫ُ‬
‫الشكل بعد أن كان ُّ‬
‫كل شيء ُم َعدًّ ا ورائ ًعا‪..‬‬
‫بسور ٍ‬
‫عال وتبدو عليها الفخامة‪ ،‬أمامها‬ ‫ٍ‬ ‫المحاطة‬ ‫وصلنا إلى فيال خالي ُ‬
‫وكلب أسود شرس مدرب لمهاجمة اللصوص‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫حارسان ضخما الجثة‪،‬‬
‫شعرت وأنا أتجه داخلها‬
‫ُ‬ ‫ُفتحت بوابتها‪ ،‬وتابعنا التحرك بالسيارة إلى الداخل‪..‬‬
‫أنني متجه لسجن كبير؛ ألقضي به فترة عقوبتي التي ال أعلم متى ستنقضي‪..‬‬
‫أعطاني خالي أنا وأمي إحدى الغرف الكبيرة بطابق الغرف وكان يتعمد‬
‫وجود أمي معي بالغرفة نفسها حتى تراقبني طوال الوقت‪ ،‬سحب مني كل‬
‫شيء يمكنني التواصل من خالله بالعالم الخارجي من باب التأديب‪ ،‬فال‬
‫هاتف‪ ،‬وال حاسوب‪ ،‬ومسموح لي الخروج برفقتهم فقط حتى بعدما‬
‫ورجعت عن قراراتي كلها‪..‬‬
‫ُ‬ ‫اقتنعت بكالمه‬
‫ُ‬ ‫أظهرت له أنني‬
‫ُ‬
‫تحسنت‬
‫ُ‬ ‫كانت تطلب منه أمي أحيانًا الرجوع إلى بيتنا فهي تالحظ أنني‬
‫ونسيت أمر تلك الفتاة‪ ،‬فيخبرها أنه ما زال‬
‫ُ‬ ‫ونسيت كل ما كنت عليه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كثيرا‪،‬‬
‫ً‬
‫ال يطمئن لي بعد‪ ،‬ويجب أن أبقى تحت عينيه‪..‬‬
‫شعرت بمرور كل دقيقة فيها ولم تغب‬ ‫ُ‬ ‫مرت الشهور ثقيلة على قلبي‪،‬‬
‫حنين عن تفكيري خاللها‪ ،‬أتذكر كل شيء‪ ..‬كالمنا‪ ..‬مواقفنا‪ ،‬وجلساتنا م ًعا‪..‬‬
‫فقدت‬
‫ُ‬ ‫كثيرا بعد أن‬
‫أحسست بالوحشة ً‬
‫ُ‬ ‫أتذكر عم طارق وخالة مديحة وآسر‪..‬‬
‫ً‬
‫منعزل‬ ‫صرت وحيدً ا حزينًا‬
‫ُ‬ ‫كنت أشعر به وأنا بينهم‪..‬‬
‫ذلك الدفء الجميل الذي ُ‬
‫كنت‪..‬‬
‫كما ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪276‬‬

‫كانت أمي حزينة لرؤيتي هكذا‪ ،‬ولكنها كانت تقول لي إن هذا كله‬
‫تهللت‬
‫ْ‬ ‫من أجل مصلحتي‪ ،‬حتي وجدتُها ذات يوم تدخل إلى الغرفة‪ ،‬وقد‬
‫أساريرها قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬سيذهب حزنك من اليوم يا حبيبي»‬
‫قلت بشغف‪:‬‬
‫قمت وقد مأل األمل قلبي أننا سنخرج من هنا‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬كيف؟»‬
‫تابعت قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬وعد ابنة خالك قادمة اليوم من أمريكا بعد انتهاء دراستها»‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إليها مستغر ًبا‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬وما عالقتي بهذا؟!»‬
‫قالت متحمسة وهي تبتسم‪:‬‬
‫شاب ال ينقصك شي ٌء‪ ،‬وهي فتاة ال مثيل لها‪ ،‬فلماذا‬
‫‪« -‬عالقتك أنك ٌّ‬
‫ال تتزوجها ويذهب حزنك وتجد َم ْن يؤنسك»‬
‫أشحت بوجهي بعيدً ا بعد أن أصابتني خيبة األمل‪ ،‬وأنا أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫أرجوك ال تورطيني بأي شيء‪ ،‬وانسي هذا األمر تما ًما»‬‫ِ‬ ‫‪« -‬أمي‬
‫قالت مستنكرة‪:‬‬
‫‪« -‬ولماذا أنساه؟! لن أدع تلك الفرصة تفلت من بين أيدينا‪ ..‬فتاة‬
‫جميلة ومتعلمة ومثقفة»‬
‫‪277‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وتابعت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫أخفضت صوتها‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬كما أنها سترث كل هذا بمفردها‪ ،‬وإِ ْن تزوجتها سيكون هذا لك‬
‫أيها األبله‪ ..‬ال تكن أحم ًقا‪..‬أنا أفكر بمصلحتك»‬
‫قلت بتأفف‪:‬‬
‫ُ‬
‫مللت من تلك الكلمة»‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬مصلحتي‪ ..‬مصلحتي‪..‬‬
‫غادرت الغرفة وهي تقول بسعادة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬نعم مصلحتك‪ ..‬سأرتب األمر أنا وخالك‪ ..‬فهو اآلخر يتمنى‬
‫ذلك‪ ..‬وسنتمه»‬
‫شعرت بداخلي بالحنق الشديد؛ لما تفعله أمي‪ ،‬أصبح بها الكثير من‬
‫ُ‬
‫طباع خالي المتسلطة‪..‬‬
‫حت لها بأمري‪ ..‬ال أعرف أين كان عقلي حينها‬
‫أكثر ما أندم عليه أنني ُب ُ‬
‫ألفعل ذلك‪..‬‬
‫جاءت وعد ليلتها‪ ،‬ولم أخرج للسالم عليها‪ ،‬غضبت أمي لفعلي وعاتبتني‬
‫بقسوة‪ ،‬ولكن لم ألق ً‬
‫بال لعتابها‪ ..‬التقيتها صدفة على الغداء ثاني يوم من‬
‫مجيئها‪..‬‬
‫فتحت أمي وخالي كعادتهما الكثير من المواضيع التي يقوالن فيها آراءهما‬
‫وكنت ألتزم الصمت خالل حديثهما حتى ال أشترك معهما بأي نقاش‬ ‫ُ‬ ‫الغريبة‪،‬‬
‫قد يجلب عراكًا‪ ،‬فأنا أعد األيام؛ كي أخرج من هنا وال أريد أن أثير غضب‬
‫خالي‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪278‬‬

‫لكن وعد هذا اليوم ظلت تناقشهما وتعبر عن رأيها وتخبرهما أنهما‬
‫يجب أن يغيرا مفاهيمهما العقيمة تلك‪ ،‬كانت صريحة وجريئة‪ ،‬وتعبر‬
‫كثيرا فأصبحت أشترك معها‬
‫عن رأيها ورغبتها بمنتهى القوة‪ ،‬أعجبني هذا ً‬
‫في اعتراضها على بعض األمور‪ ،‬ويعلو صوتي ً‬
‫قليل بعد شهور كثيرة من‬
‫انعدامه‪..‬‬
‫ولم تكن أمي أو خالي يعترضان بل بالعكس كان ُيفرحهما هذا األمر؛‬
‫ألن هذا يدل على اتفاق تفكيرنا وشخصيتنا أنا ووعد‪..‬‬
‫لم يكن يخفى علينا حركاتهما المصطنعة من أجل التقريب بيننا‪ ..‬كأن‬
‫مبكرا‬
‫يجعال مقاعدنا على المائدة بجانب بعضها البعض‪ ،‬أو يتناوالن العشاء ً‬
‫فنتعشى أنا وهي بمفردنا‪ ،‬ولكننا كنا ال نلقي ً‬
‫بال لهذه األمور وال نهتم بها‪..‬‬
‫وسمعت صوته هو‬
‫ُ‬ ‫مررت يو ًما بجانب مكتب خالي‬
‫ُ‬ ‫أتذكر عندما‬
‫ووعد عال ًيا‪ ،‬وهما يتناقشان في أمر ما‪ ..‬قالت وعد بشكل حازم‪:‬‬
‫«انس هذا األمر يا أبي لن تجبرني على شيء ال أريده‪ ..‬أو أن أتزوج‬
‫‪َ -‬‬
‫إنسانًا ال أحبه»‬
‫فصاح خالي‪:‬‬
‫‪« -‬أنا أعرف مصلحتك هذا أنسب شخص ِ‬
‫لك»‬
‫أيضا أعرف مصلحتي‪ ،‬وأعرف أنه ليس الشخص المناسب لي»‬
‫‪« -‬وأنا ً‬
‫ً‬
‫منفعل‪:‬‬ ‫قال‬
‫‪279‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ِ‬
‫«صرت عنيدة‪ ..‬الدراسة بهذه البالد علمتك التمرد‪ ،‬هذا خطأي من‬ ‫‪-‬‬
‫البداية أنني وافقت على ذهابك»‬
‫وأغلقت الباب‬
‫ْ‬ ‫خرجت من الغرفة بعد هذه الجملة وهي غاضبة‪،‬‬
‫ْ‬
‫وراءها بقوة‪ ،‬رفعت رأسها ألعلى فوجدتني واق ًفا أمامها‪ ،‬فنظرت ّ‬
‫إلي‬
‫بغضب‪ ،‬ثم انصرفت‪..‬‬
‫شعرت بالسعادة بعد سماع عراكهما فهي األخرى ال توافق على‬
‫ُ‬
‫فكرتهما بأمر الزواج‪ ،‬وهذا سيعزز موقفي أكثر‪..‬‬
‫تجنبتنا وعد بشكل كبير بعد هذه المناقشة وتجنبتني أنا بشكل خاص‬
‫صرت أتحاشى مقابلتها‪ ،‬ولم يكن هذا يعجب خالي‬
‫ُ‬ ‫وساعدتها في ذلك‪..‬‬
‫وأمي بالتأكيد‪ ..‬كلما حدثتني أمي في األمر بعدها ألقي بالكرة في ملعب‬
‫وعد ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬يا أمي كيف أرتبط بفتاة ال تتقبلني‪ ..‬هذا ضد رجولتي»‬
‫فتصمت وتذهب لخالي تخبره أن يجلس مع وعد إلقناعها؛ ألنني محق‬
‫فيما أقول مما يجعل خالي يختلي بوعد في مكتبه لمدد طويلة لمحاورتها‬
‫حتى ينتهي األمر كالعادة بصوتهما العالي‪ ،‬وانسحاب وعد من المناقشة‪..‬‬
‫حتى تلك الليلة التي احتل فيها األرق رأسي وأذهب النوم عني فقررت‬
‫تمشيت بذلك الرواق الطويل وأنا أطل‬
‫ُ‬ ‫قليل خارج غرفتي‪،‬‬ ‫أن أتمشى ً‬
‫توقفت‬
‫ُ‬ ‫بعيني إلى األسفل إلى تلك النافورة التي تتوسط مدخل البيت‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪280‬‬

‫مكاني متفاج ًئا وأنا أشاهد وعد وهي تحمل حقيبتها وتنتقل بخطوات‬
‫نزلت سري ًعا‬
‫إزعاجا حتى خرجت من باب البيت‪ُ ،‬‬‫ً‬ ‫خفيفة؛ خشية أن تحدث‬
‫مشيت حتى وصلت إلى آخر حديقة‬ ‫ْ‬ ‫على الدرج ألتبعها وأعرف ماذا تفعل‪،‬‬
‫وانحنت لفعل شيء ما‪ ،‬ثم‬
‫ْ‬ ‫وأزاحت بعض الحشائش من األرض‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الفيال‪،‬‬
‫تقدمت سري ًعا‬
‫ُ‬ ‫وقفت وهي تسحب ذلك الغطاء الحديدي وتهم بالنزول‪..‬‬ ‫ْ‬
‫وزفرت بضيق‪..‬‬
‫ْ‬ ‫تفاجأت عند رؤيتي‬
‫ْ‬ ‫وأوقفتها‪..‬‬
‫سألتُها مستغر ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تفعلين؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬سأعود من حيث أتيت»‬
‫‪« -‬أمريكا؟!»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫‪« -‬ولماذا؟»‬
‫‪« -‬لن أبقى هنا حتى يصبح أمر هذا الزواج واق ًعا وأتفاجأ ذات يوم‬
‫بخبر من أبي أن الزفاف غدً ا»‬
‫‪« -‬لن يحدث هذا»‬
‫قالت مستنكرة‪:‬‬
‫‪« -‬وما أدراك؟»‬
‫‪281‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أجبت مؤكدً ا‪:‬‬ ‫ُ‬


‫‪« -‬ألننا لن نسمح بذلك»‬
‫‪« -‬نسمح!! لو كان األمر بأيدينا لتركوك تعيش حياتك كيفما تشاء‬
‫وتذهب إلى حبيبتك»‬
‫اجتاح الضيق صدري دفعة واحدة بعد جملتها األخيرة‪..‬‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ْ‬
‫«عرفت كل ما فعلوه معك‪ ..‬ولكنني لن أستسلم مثلك‪ ..‬لن أدع‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫حياتي يتحكمون بها كيفما شاءوا»‬
‫ٍ‬
‫بغضب‪:‬‬ ‫قلت‬
‫ُ‬
‫‪« -‬وهل الهروب من أمام المشكلة هو الحل؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬إِ ْن كان خيار المواجهة لن يجدي‪ ..‬فالهروب أحد أوجه المواجهة»‬
‫إلي بضيق قائلة‪:‬‬ ‫نظرت ّ‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬أنت ال تفضل الهروب ولكن تفضل العيش بهذه الطريقة السخيفة‬
‫التي تعيش بها‪ ..‬أليس كذلك؟!! محبوس في بيت كبير مثل هذا ال تستطيع‬
‫تخليت عن حياتك وحبيبتك هكذا بمنتهى السهولة»‬
‫َ‬ ‫قرارا واحدً ا‪..‬‬ ‫أن تأخذ ً‬
‫ً‬
‫منفعل‪:‬‬ ‫قلت‬
‫ُ‬
‫أتخل عنها ولكن ِ‬
‫أباك هددني أنه سيورطها في مشاكل هي وأهلها»‬ ‫‪« -‬لم َّ‬
‫َّ‬
‫قالت وهي ترمقني متأففة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪282‬‬

‫‪« -‬لم تكن تحبها»‬


‫أجبت بقوة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أحبها جدًّ ا وإلى اآلن لم تغب عن بالي لحظة»‬
‫إلي وقالت غاضبة‪:‬‬
‫نظرت ّ‬
‫ْ‬
‫لقاتلت من أجلها»‬
‫َ‬ ‫‪« -‬لو كنت تحبها‬
‫أوجعتني جملتها‪ ،‬ووضعتني في مواجهة حقيقية أمام نفسي‪..‬‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬لم يكن يستطيع االقتراب منهم إِ ْن وجدك قو ًّيا متمسكًا بما تفعل‬
‫لكنك ظهرت أمامه ضعي ًفا خائ ًفا»‬
‫وزادت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫صمتت برهة‬
‫ْ‬ ‫أشحت بنظري بعيدً ا‪..‬‬
‫وقفت أمامه وشعر بقوتك لن يقترب منك ثانية‪ ..‬تمرد‬
‫َ‬ ‫‪« -‬صدقني إِ ْن‬
‫على ما أنت فيه ال تكن سلب ًّيا بهذه الطريقة»‬
‫ثم أكملت‪:‬‬
‫‪« -‬أنا غير مقتنعة بما قمت به ولكنني أؤمن بحق كل إنسان في اختيار‬
‫طت في حقك؟»‬‫الحياة التي يريدها بجوار َم ْن يحبهم‪ ..‬فلماذا َف َّر َ‬
‫نظرت إلى الغطاء الحديدي وقالت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪283‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬هذا المخرج ال يعلم أحد عنه شي ًئا‪ ،‬كنا نستخدمه ونحن صغار‬
‫لالختباء أنا وأصدقائي‪ ..‬وبعدما كبرت تجمعت عليه الحشائش ونسي‬
‫الجميع أمره‪ ..‬أتمنى أن تكون أنت التالي الذي يخرج منه»‬
‫قالت وهي تنزل من خالله‪:‬‬
‫صباحا‪ ..‬ال أعلم متى سأعود‪ ..‬أتمنى أنا أراك على‬
‫ً‬ ‫‪« -‬طائرتي غدً ا‬
‫خير‪ ..‬أو ال أراك إطال ًقا وتكون بحياتك مستمت ًعا بجوار حبيبتك‪ ..‬سالم»‬
‫نزلت ببطء حتى استقرت على األرض‪ ،‬واتجهت يمينًا واختفت‪..‬‬
‫ووضعت فوقه الحشائش‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وضعت الغطاء الحديدي فوق الفوهة ثانية‪،‬‬
‫ُ‬
‫رجعت إلى غرفتي ولم أستطع النوم بقية تلك الليلة‪ ،‬ظل كالمها يتردد‬
‫ُ‬
‫شعرت بالخزي من نفسي‪ ..‬هي فتاة واستطاعت أن تفعل‬ ‫ُ‬ ‫صداه داخل عقلي‪..‬‬
‫استسلمت لهما كل هذه المدة بهذه الطريقة‪ ..‬لماذا‬
‫ُ‬ ‫ما لم أقدر على فعله‪ ..‬لماذا‬
‫لم أقف أمام خالي حينها‪ ،‬لو شعر بإصراري لما استطاع أن يمنعني من الذهاب‪،‬‬
‫كنت ضعي ًفا أمام تهديده‪ ،‬وانسحبت من أول‬‫أو أن يؤذي حنين وأسرتها‪ ،‬لكنني ُ‬
‫جولة‪..‬‬
‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫ظهر نور الصباح واستيقظ الجميع وأنا بسريري لم أنم بعد‪..‬‬
‫متجها لغرفة الطعام‪ ،‬كان خالي وأمي يجلسان ويتناوالن‬ ‫ً‬ ‫من غرفتي‬
‫ألقيت تحية الصباح‪..‬‬
‫ُ‬ ‫انضممت إليهما بعد أن‬
‫ُ‬ ‫فطورهما‪..‬‬
‫قال خالي إلحدى الخادمات‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪284‬‬

‫‪« -‬اذهبي إلى السيدة وعد وأيقظيها للفطور»‬


‫ذهبت الخادمة ورجعت بعد دقائق لتخبر خالي أن وعد ليست بغرفتها‪..‬‬
‫أمرها أن تذهب لحديقة الفيال وتناديها؛ فأحيانا تمارس الرياضة في هذا‬
‫الوقت‪..‬‬
‫كنت أترقب ماذا سيفعل عند اكتشافه ذهاب وعد‪ ..‬حتى جاءت‬ ‫ُ‬
‫الخادمة مرة أخرى وأخبرته أنها ال تجد وعد بأي مكان‪..‬‬
‫بدأ التوتر يتسلل إلى خالي‪ ،‬فنادى جميع الخدم وأمرهم بالبحث عن‬
‫وعد‪ ،‬وكانت اإلجابة واحدة «غير موجودة»‪ ..‬التقط خالي هاتفه وأجرى‬
‫ً‬
‫اتصال بأصابع متوترة‪ ..‬قال وهو يغالب خوفه‪:‬‬
‫‪« -‬أين ِ‬
‫أنت؟»‬
‫ثم صاح‪:‬‬
‫حال‪ ..‬ارجعي ً‬
‫حال يا‬ ‫ِ‬
‫جننت؟!! ارجعي ً‬ ‫‪« -‬ماذا تقولين؟!! هل‬
‫وعد‪ ..‬وعد‪ ..‬وعد»‬
‫أجرى االتصال مرة أخرى‪ ..‬أنزله من على أذنه وهو يلقي هاتفه غاض ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬أغلقت هاتفها»‬
‫‪« -‬ماذا يحدث؟» سألت أمي‪..‬‬
‫قال بغضب‪:‬‬
‫‪« -‬وعد بالمطار اآلن عائدة إلى أمريكا»‬
‫‪285‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ماذا تقول؟! ولماذا؟»‬


‫‪« -‬إللحاحي عليها في أمر الزواج»‬
‫أشاحت أمي بوجهها بعيدً ا قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬أف لهذه التربية‪ ..‬فتاة طائشة عنيدة تمشي وراء قراراتها وال تعرف‬
‫مصلحتها»‬
‫قلت بصوت غاضب‪:‬‬
‫‪« -‬وهل تسميان تسلطكما مصلحة؟!!»‬
‫انتبها على جملتي‪ ،‬وقال خالي مستغر ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تقول؟!»‬
‫ً‬
‫منفعل‪:‬‬ ‫قلت‬
‫‪« -‬أنتما تتحكمان بحياة اآلخرين من باب المصلحة‪ ،‬وما هي إال‬
‫استجابة لرغبة التسلط بداخلكما ليكون الجميع تحت إمرتكما وتحركاهم‬
‫كالدمى»‬
‫قمت وأنا أتابع‪:‬‬
‫‪« -‬تركتكما تتحكمان بحياتي وتحبساني بهذا السجن واستسلمت‬
‫لكما‪ ..‬كل ما فعلته وعد اآلن كان يجب أن أفعله منذ زمن»‬
‫قال خالي‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تقصد؟»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪286‬‬

‫نظرت إليه بغضب‪:‬‬


‫‪« -‬أقصد أنني لن أستسلم ثانية ولن أسمح لكما بالتحكم في حياتي‬
‫وسأخرج من هذا السجن»‬
‫إلي أمي برجاء‪ ،‬وقالت خائفة‪:‬‬
‫نظرت ّ‬
‫‪« -‬اهدأ يا بني أرجوك‪ ..‬ال تجعل االنفعال يأخذك ويخرجك عن‬
‫صوابك»‬
‫نظرت إليها‪:‬‬
‫عما فعلتُه بحياتي‪..‬‬ ‫ِ‬
‫قررت أن أحكي لك َّ‬
‫ُ‬ ‫«خرجت عن صوابي عندما‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تخيلتُك ستفرحين عندما تجديني سعيدً ا ولكنك خذلتني»‬
‫وصعدت إلى الغرفة‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى األرض بمرارة ممزوجة بحزن‪ ..‬تركتُهما‬
‫ْ‬
‫متجها إليهما ً‬
‫قائل بحزم‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ونزلت مرة أخرى‬
‫ُ‬ ‫جمعت بعض األشياء بحقيبتي‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬سأخرج من هذا الباب اآلن‪ ،‬وسأعيش حياتي كما أريدها»‬
‫وقلت بتوعد‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى خالي‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫علمت يو ًما أنك تحاول إيذاء أي أحد أعرفه سأقف أمامك‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬وإِ ْن‬
‫بكل قوة وأحاربك حتى أموت»‬
‫متجها إلى باب البيت‪ ..‬جرى اثنان من الحراس؛‬ ‫ً‬ ‫أدرت ظهري لهما‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال‪ٍ:‬‬ ‫ليمسكاني فأشار إليهما خالي بيده فابتعدا‪ ،‬ثم قال‬
‫مليما واحدً ا من ميراث أبيك أو أمك»‬
‫خرجت من هنا‪ ..‬لن تأخذ ً‬
‫َ‬ ‫‪« -‬إِ ْن‬
‫‪287‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ساخرا‪ ،‬وأنا أضع حقيبتي على األرض ً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫وابتسمت‬
‫ُ‬ ‫التفت إليه‬
‫ُّ‬
‫أيضا»‬
‫‪« -‬وخذ هذه لك ً‬
‫تابع وقد زاد غضبه‪:‬‬
‫‪« -‬وانس أن لك عائلة يو ًما‪ ..‬أو أن لك أ ًّما»‬
‫صاحت أمي وهي تبكي‪:‬‬
‫‪« -‬ال يا مراد‪ ..‬ال»‬
‫وجرت نحوي وهي تحتضنني قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬ال تتركني يا بني أرجوك‪ ..‬أعتذر عن كل ما فعلته لك ولكن ال تتركني»‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ربت على كتفها‪،‬‬
‫ُّ‬
‫بك يا أمي‪ ،‬وسآتي ِ‬
‫إليك ثانية ولكن عندما‬ ‫‪« -‬سأكون على اتصال دائم ِ‬
‫تتركين ذلك السجن وتعودين إلى البيت»‬
‫وصلت إلى الطريق‪..‬‬
‫ُ‬ ‫خارجا حتى‬
‫ً‬ ‫احتضنتها بقوة ثم قبلتها‪ ،‬واتجهت‬
‫أخيرا أن أخرج من هذا السجن‪..‬‬
‫استطعت ً‬
‫ُ‬ ‫لم أكن مصد ًقا ما أنا فيه وأنني‬
‫أول‪ ..‬أن أحطم جدران الخوف التي‬ ‫ليس سجن خالي بل سجن نفسي ً‬
‫كانت تحاوطني وقيود العجز التي طالما كبلتني‪ ..‬كل ما كان يلزمني أن‬
‫لعنت غبائي‬
‫ُ‬ ‫أتحلى بالشجاعة وأقف بوجه خالي كما أخبرتني وعد‪..‬‬
‫وضعفي ألف مرة حينها‪..‬‬
‫أول ما خطر ببالي هو حنين‪ ،‬فاتخذت طريق العودة إليها وإلى عم‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪288‬‬

‫هيأت نفسي لتقبل أي فعل منهم‪ ،‬ولكن لن‬ ‫ُ‬ ‫طارق والخالة مديحة وآسر‪،‬‬
‫أتركها أبدً ا هذه المرة‪ ،‬حتى إِ ْن أغلقوا األبواب في وجهي‪ ،‬حتي إِ ْن نعتوني‬
‫بأقذع األلفاظ سأصبر حتى أفوز بها‪..‬‬
‫وذهبت للجلوس في المسجد حتى تحين صالة المغرب‬ ‫ُ‬ ‫وصلت إلى هناك‬
‫ُ‬
‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫وأقابل عم طارق وأشرح له األمر وأبدي رغبتي بالتقدم لحنين ثانية‪..‬‬
‫إمام المسجد يقرأ القرآن بإحدى الزوايا فذهبت إليه وسلمت عليه‪ ،‬فسألني أين‬
‫فشرحت له ظروفي وماذا حدث لي‪ ،‬وأنني آتي اليوم إلصالح ما أفسدته‬‫ُ‬ ‫غبت‬
‫من قبل‪ ،‬فأخبرني وخيبة األمل بادية على وجهه أنه قد فات األوان فحنين تمت‬
‫خطبتها منذ أسبوعين لشاب يسمع عنه من الخير الكثير‪..‬‬
‫شعرت بوجع بالغ في قلبي حينها واجتاحني الندم‪ ،‬من المؤكد أنه شاب‬
‫ُ‬
‫تعويضا عما عاشته من خذالني لها‪..‬‬
‫ً‬ ‫جيد؛ كي يفوز بقلبها وحبها‪ ..‬ويكون‬
‫كنت ضعي ًفا‪،‬‬
‫خرجت من المسجد والهم جاثم على صدري‪ ،‬نعم ُ‬ ‫ُ‬
‫وأخيرا؛ خو ًفا عليهم من توريطهم بأية مشاكل‪..‬‬
‫ً‬ ‫ولكنني فعلت كل هذا ً‬
‫أول‬
‫لكن لن يشفع لي هذا اآلن فلقد انتهى األمر‪..‬‬
‫انتبهت من إبحاري العميق في الذاكرة على صوت أبواق السيارات‬
‫ُ‬
‫التي خلفي؛ لكي أتحرك بعد تحول لون اإلشارة إلى األخضر‪..‬‬
‫ومريم تجذبني من أطراف قميصي وهي تقول‪:‬‬
‫‪« -‬هيا‪..‬هيا»‬
‫‪289‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫انطلقت سري ًعا بسيارتي على الطريق‪ ،‬وأنا أفكر في كل ما جرى وفي ما‬
‫ُ‬
‫حدث اليوم وأتساءل متعج ًبا عن سبب مجئ حنين إلى هنا‪ ،‬وسبب عملها‬
‫بالروضة‪ ،‬ولماذا لم تعمل في مجالها‪ ..‬وهل انتقلت جميع العائلة إلى هنا‬
‫أم هي وزوجها فقط؟‪ ..‬ال أعلم إن كانت أنجبت أم ال؟‪ ..‬وهل‪....‬‬
‫حاولت‬
‫ُ‬ ‫وزجرت نفسي وأنا أحاول أن أتوقف عن التفكير‪..‬‬
‫ُ‬ ‫انتبهت فجأة‬
‫ُ‬
‫رغما عني منذ رؤيتها فيجب أن أنساها‬
‫أن أحدّ من ذلك الشعور المتدفق بقلبي ً‬
‫تما ًما وأنسى تلك المشاعر‪ ،‬فليس من حقي أن أشعر تجاهها بهذا اآلن‪..‬‬
‫ليس من حقي أن أقترب من زهرة جميلة ُوضعت بحديقة أحدهم‬
‫ليرعاها ويخفيها عن الناظرين‪..‬‬
‫ليس هذا من شيمي‪ ..‬فأنا لست ممن يختلس النظر‪.‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪290‬‬

‫(‪)21‬‬

‫‪« -‬دكتورة حنين‪ ..‬دكتورة حنين»‬


‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫انتبهت من شرودي على صوت دكتور حسن وهو يناديني‪،‬‬
‫أحد األشخاص واق ًفا أمام ذلك الحاجز الزجاجي الفاصل بيننا وبين‬
‫وصرفت له العالج المكتوب بداخلها إال‬
‫ُ‬ ‫تناولت الروشتة من يده‬
‫ُ‬ ‫الزبائن‪،‬‬
‫دواء واحد وقلت له‪:‬‬
‫‪« -‬هذه جميع األدوية ما عدا هذا غير متوفر»‬
‫‪« -‬ما اسمه؟» قال دكتور حسن‪..‬‬
‫صباحا وقام بإحضاره‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أخبرته باسمه فقال إن هذا الدواء توفر اليوم‬
‫أتى دكتور حسن تجاهي بعد أن انصرف الزبون ً‬
‫سائل‪:‬‬
‫ِ‬
‫وأخبرت‬ ‫ِ‬
‫وأنت شاردة‬ ‫أبك شيء اليوم؟ منذ أن ِ‬
‫جئت‬ ‫‪« -‬دكتورة حنين ِ‬
‫ٌ‬
‫لك عندما ِ‬
‫أتيت أنه تم توافره اليوم»‬ ‫الزبون بعدم توفر الدواء رغم إخباري ِ‬

‫قلت بصوت متردد‪:‬‬


‫ُ‬
‫وخرجت‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬ربما أشعر ببعض اإلرهاق‪ ..‬اليوم كان شا ًّقا بالروضة‬
‫منها إلى هنا مباشرة»‬
‫‪291‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قال‪:‬‬
‫ِ‬
‫أردت ولن ُيخصم شي ٌء من راتبك»‬ ‫‪« -‬يمكنك أن تذهبي وتستريحي إذا‬
‫أومأت له برأسي موافقة وشكرته‪..‬‬
‫دكتور حسن هو صاحب الصيدلية التي أقف بها‪ ،‬في األربعينيات‬
‫من عمره‪ ..‬يعده الجميع هنا األب الروحي للمكان؛ فهو ال يزعج أحدً ا‪،‬‬
‫وال يتدخل بشئون أحد إال إذا ُطلب منه التدخل ويستشيرونه في أمورهم‬
‫كنت أتجنبه تما ًما وهذه المرة خو ًفا‬
‫لما يعرفون عنه من الحكمة‪ ،‬ولكنني ُ‬
‫أكثر من أي شيء آخر‪ ،‬ربما رسب موقف دكتور حاتم داخلي بعض العقد‬
‫حاجزا بيني وبين التعامل مع أي غرباء‪ ،‬وأظن أنها‬
‫ً‬ ‫النفسية التي خلقت‬
‫ستأخذ وقتًا حتى تزول‪..‬‬
‫اتخذت جانب الطريق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واتجهت خارج الصيدلية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫التقطت حقيبتي‬
‫ُ‬
‫وبدأت أمشي ببطء عاقدة ذراعي أمامي ناظرة إلى األرض‪ ،‬ال أريد‬ ‫ُ‬
‫قليل حتى يزول ما بي وال‬‫أن أذهب إلى البيت سري ًعا‪ ..‬أريد أن أتمشى ً‬
‫تالحظه أمي وتصر على معرفة ما حدث‪ ،‬فرؤية حمزة اليوم مفاجأة كبيرة‬
‫أيضا؛ فلقد الحظت ذلك في عينيه‪،‬‬ ‫لي‪ ،‬وأظن أنها كانت مفاجأة كبيرة له ً‬
‫وبدأت أتحدث وأنا أشيح ببصري بعيدً ا‬
‫ُ‬ ‫شعرت باالضطراب عند رؤيته‬
‫حتى أتحكم بانفعاالتي وال تظهر معرفتي المسبقة له أمام أستاذة هدى‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل سري ٍع أمر مريم وفي جملتين فقط‪:‬‬ ‫أخبرتُه‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪292‬‬

‫كثيرا ونريد أن تتفاعل معنا ونرجو مساعدتكم لنا في ذلك»‬


‫‪« -‬مريم منطوية ً‬
‫بقيت هي‬
‫وانسحبت بعدها إلى الداخل مما أثار دهشة أستاذة هدى‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬
‫قليل وشرحت له بعض األمور المتعلقة بمريم ثم ذهب‪ ،‬أتت بعدها‬ ‫معه ً‬
‫وسألتني عن سبب عدم توجيه أية أسئلة له بخصوص مريم حتى أفهم ماذا‬
‫تفاجأت عندما رأيت والدها وكنت أعتقد أن‬
‫ُ‬ ‫بها‪ ،‬ولكنني عللت ذلك أنني‬
‫والدتها هي َم ْن أتت وهذا سبب تلعثمي ً‬
‫قليل‪ ..‬أظنها لم تقتنع بهذا الكالم‬
‫فأنا أتعامل يوم ًّيا مع آباء أطفال يأتون ويسألون عن أحوال أوالدهم‪ ،‬ربما‬
‫أمرا ما ولم ترد أن تتطفل بالسؤال‪..‬‬
‫شعرت أن هناك ً‬
‫أثارت الكثير من المشاعر داخلي‪،‬‬
‫ْ‬ ‫زفرت وأنا أتذكر مالمحه‪ ،‬رؤيته اليوم‬
‫ُ‬
‫وجميعها بعيدة عن الحب أو االشتياق بل العكس‪ ..‬مشاعر ممزوجة بالحنق‬
‫والغضب والضيق‪ ..‬تجدد الجرح بقلبي‪ ،‬ليس بقوة حدوثه حينها بالتأكيد ولكن‬
‫تذكرت منذ قرابة العشر سنوات عندما تركني يوم خطبتنا‬
‫ُ‬ ‫ندبته الباقية أوجعتني‪،‬‬
‫جرحا بحياتي كان هو‪ ..‬ذهب وتزوج وأصبح‬ ‫واختفى بعدها‪ ،‬أول َم ْن سبب لي ً‬
‫أيضا‪ ،‬ربما يكون تركني يومها من أجل‬
‫غن ًّيا كما هو ظاهر عليه اآلن وأنجب فتاة ً‬
‫قطبت حاجبي من الضيق وأنا أتمتم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫العودة لحبه القديم‪..‬‬
‫‪« -‬خائن»‬
‫ولكن ال مشكلة لعله خير فلربما رجع له حبه بعد خطبتنا أو زواجنا‬
‫ووقتها كان جرحي سيصير أكبر‪ ،‬ولقد عوضني الله بعده بهاشم وهو أفضل‬
‫منه بكثير كما كانت تخبرني أمي دو ًما‪..‬‬
‫‪293‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫سمعت رنين هاتفي فأخرجته سري ًعا فمع كل رنين يصعد من هاتفي‬
‫يتجدد األمل بداخلي أن يكون المتصل آسر‪ ،‬فمنذ أن رحل غاض ًبا يومها من‬
‫البيت لم يتصل بنا قط‪ ،‬وال يعلم عنا شي ًئا حتى إنه ال يعلم بانتقالنا‪ ،‬وجدت‬
‫وأجبت مسرعة‪..‬‬
‫ُ‬ ‫مسجل بالهاتف فازداد األمل بداخلي‬ ‫ً‬ ‫رقما غري ًبا ليس‬
‫ً‬
‫أتاني صوتها قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬كيف حال الجو عندكم؟»‬
‫أجبت بفرحة‪:‬‬
‫غبت أيتها النذلة؟‪ ..‬من حوالي‬‫‪« -‬رحاااب‪ ..‬كيف حالك؟ أفتقدك‪ ..‬أين ِ‬
‫شهرين لم تهاتفيني وعندما كنت أقوم باالتصال ِ‬
‫بك كان هاتفك دو ًما مغل ًقا»‬
‫‪« -‬انشغلت بكثير من األمور حبيبتي اعذريني وقمت بتغيير رقم هاتفي»‬
‫عليك المهم أن تكوني بخير»‬‫ِ‬ ‫‪« -‬ال‬
‫‪ِ -‬‬
‫«لك عندي خبران ساران»‬
‫قلت متلهفة‪:‬‬
‫‪« -‬ح ًّقا؟ أنا بالفعل في حاجة شديدة لسماع أي خبر سار»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬أي خبر تريدين أن تعرفي ً‬
‫أول؟»‬
‫سرورا»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬أكثرهما‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪294‬‬

‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬هل تتذكرين عندما هاتفتك وأخبرتك أن حاتم تمت تبرئته‬
‫من واقعة تحرشه بي؛ لعدم كفاية ثبوت األدلة وكان السبب في ذلك أسامة‬
‫كما أن حاتم قام برشوة بعض القائمين على المحضر وانتهى األمر؟»‬
‫‪« -‬نعم أتذكر‪ ..‬وأتذكر بكاءك الشديد حينها‪ ،‬وكيف أنني أخبرتك أال‬
‫ِ‬
‫ويكفيك قول «حسبنا الله ونعم الوكيل»‬ ‫تجعلي اعتمادك الكلي على البشر‬
‫ِ‬
‫سيأتيك بحقك»‬ ‫وسترين أن الله‬
‫‪« -‬نعم وأنا قمت بوصيتك ومنذ أيام علمت أن الله أتى لي بحقي»‬
‫قلت باستغراب‪:‬‬
‫‪« -‬وكيف؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬بعد أسبوعين من تبرئته أتت له امرأة جميلة وكعادته ‪-‬كما تعلمين‪-‬‬
‫بدل أن يخاف مما حدث فال يفعل ذلك ثانية‬ ‫حاول معها؛ فمثل هذا النوع ً‬
‫بعد أن كاد ُيسجن‪ ،‬بل إنه بغبائه توهم أن كل مرة ستمر على خير مثل التي‬
‫قبلها‪ ..‬المهم أنه كان يحاول أن يصل إليها في كل مرة كانت تأتيه لمناقشة‬
‫عمل بينهما وال يفلح حتى إنه في إحدى المرات تجرأ وفعل معها مثلما‬
‫فعل معي‪ ،‬فقامت غاضبة وذهبت متوعدة إياه‪ ،‬ومن حظه العاثر أنها كانت‬
‫ابنة صديق حماه‪ ،‬فذهبت إلى أبيها واشتكت له‪ ،‬وذهب أبوها فاشتكى‬
‫لحماه‪ ،‬وذهب حماه على الفور إلى ابنته لكي يفهم منها هل حاتم الوسيم‬
‫‪295‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫األنيق يفعل ذلك ح ًّقا‪ ،‬وما كاد يسألها حتى انفجرت ابنته في البكاء وبدأت‬
‫سرد وقائع خيانته لها مرات عدة‪ ،‬وأنها تعلم جيدً ا أن قضية تحرشه بي‬
‫صادقة ولكنه خرج منها بسبب رشوته‪ ،‬وكانت تصبر على كل هذا لعله يندم‬
‫ويرجع‪ ،‬ويمنعها حبها له من تركه‪ ..‬أصر أبوها بعد سماع هذه المصائب‬
‫كلها على ذهابها معه وأخذها بالفعل‪ ،‬ثم ذهب إليه في الشركة وقام بسبه‬
‫أمام الجميع‪ ،‬وطلب منه طالق ابنته دون إزعاج‪ ،‬وأنه سيعرف كيف يأخذ‬
‫حقه وحق ابنته‪ ،‬وسيعيده إلى الشارع مرة أخرى بعد ما جلبه منه وجعل منه‬
‫رجل مهند ًما صاحب شركة»‬ ‫ً‬
‫‪« -‬ثم؟»‬
‫‪« -‬ال شيء‪ ..‬بالفعل طلق ابنته‪ ،‬و َف َقدَ مصدر تمويل كبير‪ ،‬للشركة‪..‬‬
‫كثيرا من الشركات من التعامل معه؛ ألن سمعته‬ ‫بجانب أن حماه حذر ً‬
‫سيئة وال يجب أن يثقوا به‪ ،‬وكما تعلمين أن حماه رجل أعمال كبير وكثير‬
‫من شركات األدوية تخاف من معاداته وتطمع في تمويله‪ ..‬مما جعلهم‬
‫يستجيبون شركة وراء شركة ويسحبون دعاياتهم من عند حاتم إلى شركات‬
‫دعاية أخرى»‬
‫زادت وصوتها يملؤه النشوة‪:‬‬
‫‪« -‬ومنذ قليل أتاني خبر أنه أغلق الشركة منذ ثالثة أيام وأصبح كما‬
‫كان‪َ ..‬ف َقدَ كل شيء وانتهى أمره»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪296‬‬

‫سألتها‪:‬‬
‫‪« -‬ألم يكن معه أموال احتياطية في رصيد الشركة؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬وهذه كانت مفاجأة أخرى‪ ،‬فلم يكن لديه أية أموال احتياطية‪ ،‬وكان‬
‫يتعامل أن األموال تأتيه باستمرار‪ ،‬وهو مبذر كما تعلمين ولم يكن يخطر‬
‫بباله كل هذا»‬
‫أكملت مندهشة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬ال أصدق بالفعل كل ما حدث‪ ،‬لو حكى لي أحدهم أن هذا‬
‫سيحدث له يو ًما لم أكن أصدقه»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫عليك وعلى ظلمك وعلى ظلم الكثير‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬ربك يا رحاب مطلع‬
‫غيرك‪ ..‬هذا الرجل تجبر‪ ..‬كان يفعل ما يشاء غير ٍ‬
‫مبال‪ ..‬يغازل ويتحرش‬
‫ويهدد و ُيرشي‪..‬كان ال بد له يو ًما من سقوط؛ ليرد الله له تلك المظالم كلها‬
‫ويشفي صدور المظلومين»‬
‫صدقت‪ ،‬ونِ ْع َم بالله»‬
‫ِ‬ ‫‪« -‬نَعم ح ًّقا‬
‫سألتها‪:‬‬
‫‪« -‬وسيد وأسامة ماذا فعال؟»‬
‫‪297‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أجابت‪:‬‬
‫‪« -‬أسامة عندما رأى حماه وما فعله معه بالمكتب ذهب إليه في الخفاء‬
‫وأخبره أنه بخدمته إذا أراد أي شيء ضد حاتم‪ ..‬ثعبانه الذي كان يسمنه‬
‫طوال الوقت َب َّخ سمه فيه بالنهاية»‬
‫‪« -‬وماذا فعل حماه؟»‬
‫فعل وطلب منه أدلة ضد حاتم يهدده بها إذا حاول فعل أي‬ ‫‪« -‬استخدمه ً‬
‫مليما واحدً ا‬
‫خارجا دون أن يعطي له ً‬
‫ً‬ ‫شيء‪ ،‬وبعد ما حصل على ما يريده ألقاه‬
‫أو حتى يجلب له وظيفة‪ ،‬وعلم حاتم بما فعله أسامة فتوعد له مما جعل أسامة‬
‫يلوذ بالفرار إلى إحدى المحافظات البعيدة وما زال يبحث عن عمل وال يجد»‬
‫ابتسمت ساخرة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ما حدث معي نفسه حدث معه»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬مع الفارق بينكما بالتأكيد»‬
‫سألتها‪:‬‬
‫‪« -‬وسيد؟»‬
‫صغيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كثيرا‪ ..‬فتح مكت ًّبا‬
‫‪« -‬سيد ‪-‬ما شاء الله‪ -‬واضح أنه أتقن اللعبة ً‬
‫بدأ به فكرة الدعاية نفسها ولكن على مساحة أضيق‪ ،‬ويعمل معه اثنان»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪298‬‬

‫‪« -‬ما شاء الله فتح الله عليه‪ ..‬هو شخص محترم ويستحق من الخير الكثير»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬وددت أن أخبرك تلك األخبار السعيدة فور علمي بها»‬
‫‪« -‬وما الخبر الثاني؟»‬
‫وقالت بصوت حيي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫تنحنحت ً‬
‫قليل‬ ‫ْ‬
‫‪« -‬الخبر الثاني هو أنه تمت خطبتي األسبوع الماضي»‬
‫كثيرا يا رحاب»‬ ‫ُ ِ‬ ‫‪« -‬ياإااالهي‪ ..‬هذا الخبر السعيد ح ًّقا‪..‬‬
‫فرحت لك ً‬
‫قالت بخجل‪:‬‬
‫‪« -‬الحمد لله‪ ..‬أتى األمر بشكل غريب وسريع»‬
‫‪« -‬وكيف حدث؟»‬
‫أخذت عهدً ا على‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬عندما حصلت على عمل منذ شهر ونصف‪..‬‬
‫نفسي أن أغير مبادئي بعدما حدث لي‪ ،‬واكتشافي أنها كانت جميعها خاطئة‬
‫كثيرا‪ ..‬لم‬ ‫ِ‬ ‫وأنك ِ‬
‫ِ‬
‫تغيرت ً‬‫ُ‬ ‫نصائحك لي يا حنين‪..‬‬ ‫كنت محقة في جميع‬
‫أصبحت ألبس مالبس ال تصف تفاصيل جسدي وال‬ ‫ُ‬ ‫أتحجب بعد ولكن‬
‫أبالغ بوضع الكثير من أدوات التجميل‪ ..‬مجرد أشياء بسيطة‪ ..‬ال أمزح مع‬
‫كثيرا‪ ..‬كالمي كله مرتبط بالعمل فقط‪ ..‬حتى جاء يوم وأتاني‬
‫أحد وال أختلط ً‬
‫مازن زميلي في العمل وأخبرني أنه تعجبه أخالقي وشخصيتي ومعاملتي‬
‫‪299‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫المتحفظة مع الشباب بالشركة وأنه كان ينتظر فتاة بهذه المواصفات منذ‬
‫زمن ويود خطبتي‪ ،‬وكانت الخطبة في البيت األسبوع الماضي بحضور‬
‫بعض األقارب‪»..‬‬
‫قلت بفرحة عارمة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬رحاب ال تعلمين حجم سعادتي بسماع كالمك هذا‪ ،‬بالفعل يهون‬
‫على نفسي أي تعب القيته في الفترة الماضية‪ ..‬أتم الله زواجك على خير‬
‫ياحبيبتي»‬
‫‪« -‬اللهم آمين‪ ..‬وأكرمك الله يا حنين ِ‬
‫أنت وأوالدك على جميع ما‬
‫فعلتِه معي»‬
‫‪« -‬اللهم آمين»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬الزفاف سيكون بعد ستة أشهر من اآلن إن شاء الله‪ ..‬ستحضرين‬
‫أليس كذلك؟»‬
‫ِ‬
‫وأنت ترتدين ثوب زفافك‬ ‫‪« -‬بلى‪ ،‬بالتأكيد‪ ..‬كيف أفوت رؤيتك‬
‫األبيض»‬
‫أغلقت رحاب الهاتف وهي تودعني على أمل أن نتحدث ثانية قري ًبا؛‬
‫أثلجت‬
‫ْ‬ ‫شعرت أن أخبار رحاب‬
‫ُ‬ ‫لتحكي لي مزيدً ا من تفاصيل ارتباطها‪،‬‬
‫صدري وذهبت بكل ضيق اعتراني منذ الظهيرة‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪300‬‬

‫وصلت إلى البيت وأنا منتشية أخبر أمي سري ًعا بما أخبرتني به رحاب‪،‬‬
‫ُ‬
‫َف شر حاتم عن الفتيات‪ ،‬وتدعو لرحاب بكل خير‪..‬‬ ‫فتسعد وتحمد الله أن ك َّ‬
‫لم أخبرها بما حدث معي اليوم وبرؤيتي لحمزة وأن ابنته عندي‬
‫بالروضة‪ ،‬ال أريد أن أخبر أمي أي شيء متعلق بهذا الموضوع‪ ..‬فبالتأكيد‬
‫ستسألني في كثير من التفاصيل‪ ،‬وتتذكر معي ما حدث‪ ،‬وأنا ال أريد أن‬
‫أخرب شعوري بالسعادة اآلن‪..‬‬
‫أريد أن أضع رأسي على الوسادة فقط واستسلم بهدوء لنوم عميق‪..‬‬
‫ناسية كل ما حدث في أول اليوم‪...‬‬
‫***‬
‫قالت‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليك يا دكتورة حنين ولكن لماذا هذا القرار‬ ‫‪« -‬ال أريد أن أضغط‬
‫المفاجئ؟ هل يوجد أحد قام بمضايقتك هنا؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬ال ال بالعكس يا أستاذة هدى فالجميع هنا يحسن معاملتي جدًّ ا‬
‫أصبحت أشعر بالتعب»‬
‫ُ‬ ‫ولكن‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬أتت معلمة جديدة منذ يومين وستساعدك في األمر»‬
‫‪« -‬وأنا كنت بانتظارها حتى تشغل مكاني وال أترككم هكذا فجأة‪،‬‬
‫وأتت لتحمل عني وتبدأ مهمتها وأنسحب أنا»‬
‫‪301‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬أنا أعلم أن الراتب ليس بالكثير ولكن مع بداية الصيف يأتي المزيد‬
‫من األطفال وسأقوم بزيادة راتبك»‬
‫أشرت إليها بيدي نافية‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬صدقيني يا أستاذة هدى األمر ليس له عالقة بالراتب إطال ًقا‪ ،‬ولكن‬
‫أشعر أنه القرار المناسب لي في هذا التوقيت»‬
‫صمتت برهة وقد ظهر عليها االستسالم‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬أليس هناك أي أمل في إقناعك وتنحيتك عن قرارك هذا؟»‬
‫‪« -‬إِ ْن رجعت عن قراري هذا يو ًما‪ ..‬صدقيني لن أرجع إال لهذا‬
‫المكان»‬
‫قالت بصوت حزين‪:‬‬
‫كثيرا‪..‬‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬ال أدري كيف سيتقبل األطفال عدم وجودك وقد تعلقوا بك ً‬
‫إِ ْن كنا نحن الكبار نشعر بالحزن لقرارك‪ ..‬فكيف سيكون حالهم»‬
‫ابتسمت قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬األطفال ينسون سري ًعا‪ ..‬سيتأثرون بغيابي حتى يتعودوا على‬
‫المعلمة الجديدة فيحبونها وينسون أمري بعدها»‬
‫قامت أستاذة هدى من مقعدها واحتضنتني بقوة‪ ،‬ودعتها وفتحت‬
‫الباب فوجدت أماني تقف أمامي وهي تقول ناظرة ألستاذة هدى‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪302‬‬

‫‪« -‬لم تنجحي في إقناعها؟»‬


‫هزت أستاذة هدى رأسها نافية بحزن‪ ،‬امتألت عينا أماني بالدموع‬
‫ربت على كتفها وأنا أخبرها أنني سأمر بين الحين واآلخر‬
‫واحتضنتني‪ُّ ،‬‬
‫ألطمئن عليهم‪..‬‬
‫نظرت إلى الغرفة التي يجتمع بها‬
‫ُ‬ ‫وهممت بالخروج‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حملت حقيبتي‬
‫ُ‬
‫كنت أشعر به‪ ،‬وكيف سأشتاق‬ ‫وتذكرت وأنا بينهم‪ ،‬والشعور الذي ُ‬
‫ُ‬ ‫األطفال‬
‫وضعت يدي على صدري وأنا أنظر إليهم مودعة وتحتبس الدموع‬ ‫ُ‬ ‫إليه‪،‬‬
‫لمحت مريم الجالسة على مقعد جانبي مبتعدة عن األطفال وتنظر‬ ‫ُ‬ ‫بعيني‪،‬‬
‫رغما‬
‫وخرجت إلى الشارع وقد انسكبت دموعي ً‬ ‫ُ‬ ‫أدرت وجهي سري ًعا‬ ‫ُ‬ ‫إلي‪..‬‬
‫ِ‬
‫عني وأنا أردد داخلي‪ ..‬ليتها لم تأت تلك الفتاة للروضة يو ًما‪ ..‬لماذا لم‬
‫يذهبها إلى روضة أخرى؟‪ ..‬ليتني لم أهتم ألمرها فأطلب أحد والديها‬
‫وأكتشف أن والدها حمزة‪..‬‬
‫فمنذ ذلك اليوم أصبحت أشعر بالضيق كلما رأيتها وأتذكر َم ْن أبوها‪،‬‬
‫صرت أشعر بالتوتر بعد ما أخبرتني أماني أنه‬
‫ُ‬ ‫وماذا فعل بي وجرحه القديم‪،‬‬
‫أصبح يأتي أحيانًا الصطحابها إلى المنزل‪ ..‬ماذا سأفعل إن شاهدته يو ًما‬
‫صدفة‪ ،‬ال أريد رؤية وجهه ثانية‪ ،‬فرؤيته تصيبني بالحنق‪..‬‬
‫وما ذنب مريم تلك الطفلة البريئة في هذا كله‪ ،‬أتذكر نظراتها السائلة‬
‫لي عن سر تغيري واجتنابي لها‪ ،‬ولكن كيف سأشرح لها ما بداخلي؟ كيف‬
‫‪303‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫سيستوعب عقلها الصغير شعوري تجاه أبيها بعد ما فعله بي؟‪..‬‬


‫كيف سأفهمها أن بعض الناس ال ذنب لهم سوى أنهم جاءوا بذكرى سيئة؟‪..‬‬
‫شعرت مع مرور األيام أنني أظلمها‪ ،‬فتعاملي الجيد مع األطفال‬
‫ُ‬
‫واجتنابي لها بعد أن أغدقت عليها مشاعري به إجحاف كبير‪ ،‬مما دفعني‬
‫للتفكير بترك األمر كله ألريح وأستريح‪ ،‬فما عاد لقلبي أن يتحمل تجدد‬
‫جراح ثانية بعد كل ما حدث له‪..‬‬
‫باسماوهو يقول‪:‬‬
‫وصلت إلى الصيدلية فاستقبلني دكتور حسن ً‬
‫اتخذت القرار المناسب ِ‬
‫لك»‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬آمل ِ‬
‫أنك‬
‫هززت رأسي بالموافقة‪..‬‬
‫تابع‪:‬‬
‫ظهرا وحتى الثامنة‬
‫وقت عملك بالصيدلية من الثانية عشر ً‬‫‪« -‬سيكون ُ‬
‫أردت زيادة عدد ساعات عملك‬‫ِ‬ ‫مسا ًء‪ ،‬وسيختلف راتبك بالتأكيد‪ ،‬وإذا‬
‫صباحا‪ ،‬ال مانع عندي»‬
‫ً‬ ‫فتحضرين منذ الثامنة‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫استطعت زيادة‬
‫ُ‬ ‫ظهرا وأرى بعدها إِ ْن‬
‫‪« -‬سأبدأ من فترة الثانية عشر ً‬
‫ساعات عملي أم ال»‬
‫أومأ لي برأسه‪ ،‬ثم ذهب‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪304‬‬

‫استدرت وأنا أنظر من خالل باب الصيدلية الزجاجي إلى زرقة البحر‬
‫ُ‬
‫في الجهة األخرى من الطريق وأنا أفكر‪ ..‬تُرى أين ستكون المحطة التالية؟‬
‫أيضا؟ لم‬
‫هل يا ترى سيحدث شي ٌء جديدٌ في حياتي يجعلني أترك الصيدلية ً‬
‫أعد أستبعد حدوث أي شيء يجعلني أفر من اإلسكندرية جميعها إلى مكان‬
‫آخر‪ ..‬وليس من الصيدلية فقط …‬
‫***‬
‫قاربت عقارب الساعة السابعة مسا ًء‪ ..‬كانت الرياح تهز األشجار‬
‫ٍ‬
‫شديد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بمطر‬ ‫بشدة‪ ،‬وتزداد ظلمة السماء الملبدة بالغيوم التي تنذر‬
‫جلسنا نراقب سرعة بعض األوراق الطائرة‪ ،‬والسيارات المسرعة على‬
‫الطريق وكل واحدة منها تحاول الوصول إلى مبتغاها قبل هطول المطر‪..‬‬
‫تعجب مصطفى ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫كثيرا هذا العام»‬
‫‪« -‬ال أعرف لماذا يأبى الشتاء مغادرتنا‪ ..‬أطال ً‬
‫‪« -‬ليس العجيب أنه أطال‪ ..‬العجيب أن يكون الطقس بهذا الشكل‬
‫ومن المفترض أننا اقتربنا على فصل الربيع» قالت فريدة ذلك‪..‬‬
‫علق تامر‪:‬‬
‫‪« -‬يقولون باألرصاد الجوية إن هذا آخر طقس سيء َسن َُم ُّر به‪،‬‬
‫وسيتحسن الجو ابتدا ًء من الغد»‬
‫‪305‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫مصطفى وفريدة وتامر يقفون معي في الصيدلية‪ ،‬ما زالوا طلبة بالكلية‬
‫كثيرا أنني أختهم الكبرى؛ فقد سبقتهم في‬‫ويقضون فترة تكليفهم‪ ،‬أشعر ً‬
‫التخرج منذ أعوام وأكبرهم سنًّا‪..‬‬
‫أبتسم عندما يتحدثون عن الكلية وصعوبة بعض المواد وطباع‬
‫األساتذة المختلفة‪ ،‬وأسترجع معهم ذكريات تلك الفترة‪ ،‬أتخيل فيهم آسر‪،‬‬
‫وكيف سيكون حالنا لو لم يتغير واستمرت عالقتنا كما كانت في الماضي‪،‬‬
‫لو كان كما هو ألصبح كل شيء رائ ًعا‪..‬‬
‫يصرحا‬
‫أالحظ إعجاب تامر وفريدة لبعضهما البعض ولكنهما لم ِّ‬
‫بذلك‪.‬‬
‫ثالثتهم يحترمونني ويقدرونني ويأخذون بقراراتي‪ ..‬تزامن قدومهم‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫مع استالمي لحصة كاملة من الساعات بالوقوف في الصيدلية‪،‬‬
‫بالراحة معهم خاصة بعد قرار دكتور حسن بنقل َم ْن كانوا يقفون معي ساب ًقا‬
‫كثيرا كما أرتاح بين هؤالء الصغار‪..‬‬
‫للفترة الليلية‪ ،‬فلم أكن أرتاح لهم ً‬
‫توقفوا عن الحديث فجأة عند رؤية ذلك البرق الخاطف وهو يشطر‬
‫التأمت‬
‫ْ‬ ‫السماء إلى نصفين‪ ،‬وتبعه صوت هادر خفقت له القلوب خو ًفا‪،‬‬
‫السماء مرة أخرى مع تدافع قطرات المطر وقد أصابها الجنون‪..‬‬
‫جلس ٌّ‬
‫كل منا أمام كوبه الدافئ في انتظار تحسن الجو؛ لكي نستطيع‬
‫الخروج والعودة إلى منازلنا فقد أصبحت الثامنة وعشر دقائق‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪306‬‬

‫هاتفنا دكتور حسن وأبلغنا أنه اقترب منا ولكن الطريق سيء للغاية‬
‫لذلك يمشي بحذر شديد؛ خو ًفا من انزالق عجل سيارته‪ ،‬وطلب منا البقاء‪،‬‬
‫وقال إنه سيوصل كل شخص منا إلى منزله‪ ،‬اتصلت بأمي وأخبرتها باألمر؛‬
‫كي ال تقلق من تأخري‪..‬‬
‫وصل دكتور حسن عند الثامنة والنصف وخمس دقائق ودخل َج ْر ًيا‬
‫قائل‪:‬‬ ‫إلى الصيدلية وهو ينفض قطرات المطر سري ًعا قبل أن يتشربها معطفه ً‬
‫‪« -‬الطقس سيء للغاية والطريق غير آمن»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬يمكنك أخذ مصطفى وفريدة وتوصيلهما؛ فبيوتهما بعيدة عن هنا‪..‬‬
‫أما أنا وتامر منازلنا قريبة»‬
‫أومأ دكتور حسن وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬معي صديقي بالسيارة كان من المفترض أن يسافر ولكني‬
‫ألححت عليه بالمبيت عندي هذه الليلة حتى يستقر الطقس‪ ..‬سيجلس‬
‫بالصيدلية معكما حتى عودتي وآخذكم جمي ًعا»‬
‫ثم نظر إلى ساعته وقال‪:‬‬
‫‪« -‬كان من المفترض أن يأتي َم ْن يقفون بالفترة المسائية منذ نصف‬
‫ساعة ولكن ربما عطلهم الطريق»‬
‫‪307‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أخذت فريدة حقيبتها وارتدى مصطفى معطفه وخرجا مع دكتور حسن‬ ‫ْ‬
‫ترجل صديقه من السيارة وهو يعدو صوب باب الصيدلية‪..‬‬
‫واستقلوا السيارة‪ ،‬بينما َّ‬
‫اتجهت إلى الداخل ألعد مشرو ًبا آخر داف ًئا بعد أن انتهى األول‪،‬‬
‫وسمعت ترحيب تامر بصديق دكتور حسن وهو يدعوه للجلوس ويسأله‬ ‫ُ‬
‫ووضعت الكوب أمامي‪ ،‬وما‬
‫ُ‬ ‫وألقيت السالم‬
‫ُ‬ ‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫ماذا يحب أن يشرب‪،‬‬
‫عيني حتى تجمدتا واتسعت حدقتاهما‪ ..‬كان صديق‬ ‫ّ‬ ‫ورفعت‬
‫ُ‬ ‫جلست‬
‫ُ‬ ‫إن‬
‫دكتور حسن الذي يجلس أمامي هو دكتور حاتم!!‬
‫كثيرا فهو يرتدي ز ًّيا عاد ًّيا على غير عادته مجرد قميص‬
‫ذهبت أناقته ً‬
‫وبنطال‪ ،‬ومالمح الهم الظاهرة على وجهه‪ ،‬وذقنه المنبتة بالشعر أظهرته‬
‫أكبر من سنه‪..‬‬
‫ظهرت المفاجأة بعينيه أول ما رآني وما لبثت حتى تحولت سري ًعا إلى‬
‫نظرات غضب وشزر ووعيد‪..‬‬
‫تذكرت عندما رأيت نظرة الوعيد بعينيه‪ ،‬نظرته يوم أن هددني بمكتبه ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬أنا ال أسامح أبدً ا َم ْن حاول أذيتي»‬
‫قمت ببطء وأنا أنظر بعيدً ا وأسحب معطفي وحقيبتي متجهة للخارج‪..‬‬
‫ُ‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫صاح تامر‬
‫‪« -‬دكتورة حنين إلى أين؟! ألن تنتظري دكتور حسن حتى يوصلنا؟!»‬
‫ألتفت إليه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ابتلعت ريقي دون أن‬
‫ُ‬ ‫قلت بعد أن‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪308‬‬

‫انتظرت كما إن بيتي بعيدٌ جدًّ ا ويجب أن أذهب اآلن»‬


‫ْ‬ ‫كثيرا إِ ْن‬
‫‪« -‬سأتأخر ً‬
‫سمعته يقول بصوت منخفض يشوبه االستغراب‪:‬‬
‫‪« -‬بيتك بعيد!!»‬
‫وانطلقت أمشي مسرعة وأنا أنظر ورائي؛ خو ًفا من أن‬ ‫ُ‬ ‫دفعت الباب‬
‫ُ‬
‫فرأيت يدً ا تدفع الباب الزجاجي‬‫ُ‬ ‫يالحقني حتى تجاوزت ثالث بنايات‬
‫واختبأت‬
‫ُ‬ ‫فدخلت سري ًعا إلى مدخل البناية الرابعة‬
‫ُ‬ ‫للصيدلية إلى الخارج‪،‬‬
‫وراء بابها الحديدي حتى ال يراني‪..‬‬
‫سمعت صوت تنفسي عال ًيا وصدري يصعد ويهبط سري ًعا من الخوف‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أظنه هو َم ْن كان يدفع الباب لمالحقتي‪..‬‬
‫ماذا سأفعل اآلن‪ ..‬هل سأبقى الليلة هنا؟ غير ممكن وإِ ْن خرجت اآلن‬
‫ربما ما زال واق ًفا فيراني ويتبعني‪ ،‬وحتى إن خرجت بعد مرور بعض الوقت‪،‬‬
‫لقد علم بمكان عملي وربما يسأل دكتور حسن عن عنواني ويأتي لهناك‪..‬‬
‫أخرجت هاتفي بسرعة‪ ..‬سأتصل بدكتور حسن وأطلب منه أال يخبره‬ ‫ُ‬
‫وتراجعت ً‬
‫قليل‪ ،‬وأنا أفكر فأنا ال أعلم مدى‬ ‫ُ‬ ‫توقفت لحظة‬
‫ُ‬ ‫أي شيء عني‪،‬‬
‫صداقتهما فكونه سيأخذه إلى بيته للمبيت هذه الليلة يعني أنه يثق به ومن‬
‫الممكن أن أضع بقلب دكتور حسن الريبة بطلبي هذا‪ ،‬وال يوجد مجال اآلن‬
‫لشرح كل ما مررت به‪ ،‬وليس ببعيد أن يطلب منه اآلخر عندما يرجع عنواني‬
‫وهربت إلى هنا ويريد استردادها‬
‫ُ‬ ‫أخذت منه بعض األموال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ويتهمني أنني‬
‫‪309‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ضربت بيدي العمود الذي بجانبي‬


‫ُ‬ ‫فيساعده دكتور حسن من باب خدمته‪..‬‬
‫وأنا أصرخ بداخلي‪ ..‬لماذا يحدث كل هذا معي؟ لماذا!!‬
‫فكرت‪ ..‬هل أتصل بخالي؟ ولكن ماذا سيفعل فمثلي مثله ال نقوى‬
‫ُ‬
‫على شيء‪..‬‬
‫نظرت إلى هاتفي بتردد وأنا‬
‫ُ‬ ‫تذكرت شي ًئا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رفعت رأسي ً‬
‫قليل وقد‬ ‫ُ‬
‫أفكر‪ ..‬ذهبت إلى قائمة الهواتف المسجلة وحركتها بإصبعي حتى ظهر‬
‫رفعت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫اتصال‪،‬‬ ‫ذلك االسم أمامي‪ ،‬ضغطت عليه بإصبعي المرتعش ألجري‬
‫الهاتف إلى أذني ببطء وما زال التردد يتملكني‪ ،‬أتاني صوته الهادئ على‬
‫الطرف اآلخر ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪َ ..‬م ْن معي؟»‬
‫أجبته بصوت مرتبك‪:‬‬
‫‪« -‬معك حنين‪ ..‬أنا أحتاج إلى المساعدة»‪...‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪310‬‬

‫(‪)22‬‬
‫‪« -‬السيد حمزة ينتظرك بهذا المكان»‬
‫جذبت مقبض‬‫ُ‬ ‫نظرت من النافذة إلى المكان الذي أشار إليه السائق‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وترجلت من السيارة بعد أن شكرته‪ ..‬بدأ في التحرك وانضم إلى‬ ‫ُ‬ ‫الباب‬
‫صعدت على الرصيف وأنا أنظر‬
‫ُ‬ ‫صفوف السيارات السائرة على الطريق‪،‬‬
‫إلى األعلى‪ ،‬وقد صفيت السماء بعد أن أسقطت عن كاهلها عبء الغيوم‬
‫وتوقفت األمطار مخلفة وراءها هوا ًء بار ًدا‪..‬‬
‫اتجهت إلى المطعم المرتفع عن األرض بسلم مكون من خمس درجات‪،‬‬ ‫ُ‬
‫صعدتها ببطء حتى وصلت إلى الباب فانفتحت إحدى دفتيه الزجاجية المحاطة‬
‫بإطار خشبي بواسطة رجل يرتدي ز ًّيا أني ًقا يضع يده اليمنى خلف ظهره ويده‬
‫اليسرى تشد مقبض الباب وينحني ً‬
‫قليل؛ ترحي ًبا بالزبائن‪..‬‬
‫دلفت إلى الداخل وأنا أنظر في أرجاء المطعم ذي الطراز الكالسيكي‪ ،‬كان‬
‫ُ‬
‫واضحا أن األناقة وضعت لمستها على كل شيء بداخله‪ ،‬فالطاوالت جميعها‬ ‫ً‬
‫مغطاة بشراشف بيضاء ويتوسطها شمعدانات فضية اللون تحمل شمو ًعا‬
‫بيضا َء مشتعلة‪ ،‬والمقاعد خشبية مبطنة بأقمشة حمراء مخملية‪ ،‬وترتكز بإحدى‬
‫الحوائط مدفأة تشتعل النار بداخلها وتبعث الدفء بالمكان‪ ،‬الحوائط بها نقوش‬
‫بسيطة تقليدية وعليها مصابيح نحاسية تحمل لمبات ذات إضاءة برتقالية هادئة‪..‬‬
‫‪311‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫جالسا على طاولة ينظر‬


‫ً‬ ‫نظرت بين الطاوالت؛ بح ًثا عنه‪ ،‬حتى وجدته‬
‫ُ‬
‫من خالل النافذة الزجاجية المجاورة له إلى ثوب البحر األسود وقد نثر‬
‫القمر لمعته على سطحه‪..‬‬
‫تقدمت حتى وصلت إلى طاولته‪ ،‬وقلت بصوت يكاد ُيسمع‪:‬‬
‫‪« -‬السالم عليكم»‬
‫قام من مقعده فور سماع صوتي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬وعليكم السالم ورحمة الله وبركاته»‬
‫ثم أشار إلى المقعد الذي أمامه وأكمل‪:‬‬
‫‪« -‬تفضلي بالجلوس»‬
‫جلست في المقعد وأنا أنظر إلى النافذة على استحياء قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أعتذر عن هذا اإلزعاج»‬
‫هز رأسه ناف ًيا وهو يقول‪:‬‬
‫جالسا هنا حين اتصالك بي أستريح‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫‪« -‬ال يوجد أي إزعاج‪ُ ..‬‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫قليل بعد عمل اليوم‪ ،‬وأرسلت سائقي على الفور إليك»‬
‫صمت برهة وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬أنا زبون دائم لهذا المكان‪ ،‬أرتاد هذا المطعم منذ أن جئت إلى‬
‫هنا‪ ..‬أرتاح للجلوس به خاصة بعد أيام العمل الشاقة»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪312‬‬

‫هززت رأسي لكالمه وأنا أنظر إلى أسفل‪..‬‬


‫قميصا أبيض وصدير ًّيا أسود‪ ،‬وبيده قلم‬
‫ً‬ ‫أتى النادل مرتد ًيا ز ًّيا أني ًقا‬
‫وورق صغير‪ً ،‬‬
‫سائل إيانا‪:‬‬
‫‪« -‬مساء الخير‪ ..‬ماذا تودان أن تشربا؟»‬
‫نظر إلي حمزة ً‬
‫سائل بعينيه‪ ..‬هززت رأسي نافية وأنا أقول‪:‬‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬ال شيء»‬
‫قال له‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬ربما بعد قليل من الوقت نطلب مشرو ًبا ساخنًا»‬
‫انسحب النادل بأدب جم ليعود حمزة إلى الحديث ثانية ويقول‪:‬‬
‫غريب اليوم‪ ،‬أظن أن الشتاء يقوم بالوداع األخير»‬
‫ٌ‬ ‫«الطقس‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫‪« -‬نعم الطقس متقلب جدًّ ا اليوم»‬
‫مبتسما وأكمل‪:‬‬
‫ً‬ ‫نظر إلي‬
‫ِ‬
‫«وأنت كيف حالك وكيف تجري أمور الحياة معك؟»‬ ‫‪-‬‬
‫أجبته‪:‬‬
‫‪« -‬الحمد لله بخير»‬
‫‪« -‬هل انتقلتم للعيش هنا؟»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫سأل‪:‬‬
‫‪313‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬وكيف حال الخالة وآسر وعم طارق؟»‬


‫قلت وأنا أشبك أصابعي وأرفع نظري إليه‪:‬‬
‫‪« -‬توفي أبي منذ بضعة أشهر»‬
‫َق َّط َب حاجبيه وقد علت وجهه مالمح المفاجأة الممزوجة بحزن‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪« -‬البقاء لله»‬
‫صمت برهة ثم استطردت قائلة‪:‬‬
‫ُّ‬
‫‪« -‬عندما كنت أعمل بالروضة كانوا يعطوننا أرقام هواتف ذوي كل‬
‫طفل‪ ،‬في حالة إن غابت إحدى المشرفات وحدث أي شيء يمكننا نحن‬
‫ونسيت تما ًما‬
‫ُ‬ ‫المعلمات التوصل إلى ذويهم مباشرة‪ ،‬وكانت هذه نمرة مريم‬
‫أن أقوم بمسح جميع تلك األرقام و…»‬
‫أشار إلي بيده يقاطعني‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬ال داعي لكل هذا الشرح‪ ،‬األمر أبسط من ذلك صدقيني»‬
‫نظرت إليه وقلت بصوت يشوبه الخوف‪:‬‬
‫‪« -‬المهم اآلن أنني قمت باالتصال ألنني متورطة بمشكلة وأحتاج إلى‬
‫المساعدة»‬
‫عقد ذراعيه على الطاولة وهو ينظر إلي باهتمام ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬وأنا في خدمتك‪ ،‬أخبريني كيف أستطيع أن أساعدك؟»‬
‫عيني يمنة ويسرة على أطراف الطاولة أمامي‪:‬‬
‫قلت وأنا أدور بحدقتي ّ‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪314‬‬

‫‪« -‬ال أدري كيف يمكنك المساعدة ولكن لتستطيع فهم المشكلة جيدً ا‬
‫يجب أن أشرح لك األمر من البداية»‬
‫رجع بجسده للخلف وما زال االهتمام باد ًيا عليه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬كلي آذان صاغية»‬
‫بدأت أقص األحداث جميعها عليه من بداية التحاقي بالشركة‪ ،‬ووفاة‬ ‫ُ‬
‫أبي‪ ،‬وتهديد دكتور حاتم لي وأنه السبب الرئيس النتقالنا إلى اإلسكندرية‪ ،‬كان‬
‫في أثناء حديثي تتسع حدقتا عينيه من مفاجأة األحداث تارة ويقطب حاجبيه‬
‫ويظهر الضيق على وجهه تارة‪ ،‬حتى وصلت إلى ما حدث اليوم قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬المشكلة اآلن أنني رأيته اليوم ورآني مجد ًدا!!»‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫سأل حمزة‬
‫‪« -‬كيف؟!»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬أخبرنا دكتور حسن صاحب الصيدلية التي أعمل بها أنه صديقه‬
‫وأتى به إلى الصيدلية‪ ،‬وال أعرف ماذا سيقول له بعد أن رآني‪ ،‬ربما يتهمني‬
‫إلي»‬
‫بشيء‪ ،‬ويطلب من دكتور حسن المساعدة ليستطيع الوصول ّ‬
‫مفكرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫وضع يده على ذقنه‬
‫أردفت‪:‬‬
‫ُ‬
‫خرجت سري ًعا من الصيدلية وأنا أنظر ورائي؛ خو ًفا أن‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬عندما رأيته‬
‫‪315‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫اختبأت بمدخل إحدى البنايات»‬


‫ُ‬ ‫يالحقني حتى‬
‫وتابعت بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪« -‬وقمت باالتصال بك»‬
‫قال‪:‬‬
‫ِ‬
‫فعلت ذلك فأنا لدي الكثير من المعارف واألصدقاء‪،‬‬ ‫‪« -‬من الجيد أن‬
‫وأستطيع التوصل إلى خط سيره وماذا يفعل بعد أن أفلست شركته‪ ،‬أعطني‬
‫اسمه ً‬
‫كامل وأنا سـ…»‬
‫قاطعه رنين هاتفه فقال‪:‬‬
‫‪« -‬أستأذنك دقيقة واحدة»‬
‫ثم أجاب‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬حسنًا‪ ..‬أعطني إياها»‬
‫صمت برهة وأكمل‪:‬‬
‫‪« -‬نعم يا مريم‪ ..‬حبيبتي ما زال أمامي بعض الوقت وهكذا ستتأخرين‬
‫صباحا‬
‫ً‬ ‫عن ميعاد نومك‪ ،‬ادخلي إلى سريرك اآلن وعندما تستيقظين‬
‫ستجدين مفاجأة بجانبك»‬
‫ابتسم وهو يقول‪:‬‬
‫أيضا أحبك‪ ..‬هيا اذهبي إلى السرير»‬
‫‪« -‬وأنا ً‬
‫أغلق هاتفه ووضعه على الطاولة أمامه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪316‬‬

‫‪« -‬إنها مريم‪ ،‬ال تريد النوم حتى تراني ً‬


‫أول‪ ..‬مشكلة كل يوم غال ًبا»‬
‫أشحت بنظري بعيدً ا وقلت بشيء من الضيق‪:‬‬
‫ُ‬
‫كثيرا‬
‫‪« -‬مريم فتاة عاطفية وتحتاج لكثير من االهتمام‪ ،‬واالنشغال عنها ً‬
‫سيضر بها»‬
‫ُّ‬
‫قال‪:‬‬
‫رغما‬
‫‪« -‬نعم معك حق في هذه النقطة‪ ،‬ولكن تأخذني ساعات العمل ً‬
‫كثيرا وال أعرف كيـ…»‬
‫عني‪ ،‬وأنشغل ً‬
‫قاطعته منفعلة‪:‬‬
‫‪« -‬تأخذك ساعات العمل؟! من أجل ماذا؟ من أجل جمع األموال وتترك‬
‫ابنتك هكذا تعاني من الوحدة وفقر االهتمام!! ال أعلم إذا كانت والدتها تعمل‬
‫كثيرا ويظهر ذلك جل ًّيا في سلوك‬
‫أيضا أم ال‪ ،‬فمن الواضح أنها تنشغل عنها ً‬ ‫ً‬
‫مريم‪ ..‬لماذا تنجبان األطفال إ ًذا طالما لن تهتما بهما في النهاية؟!»‬
‫ثم تابعت وقد انخفض صوتي‪:‬‬
‫ً‬
‫سؤال شديدً ا»‬ ‫‪« -‬سيسألكما الله عن تلك االبنة يوم القيامة‬
‫مبتسما‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫إلي حمزة وهو يتنهد‬
‫نظر ّ‬
‫‪« -‬ولكن مريم ليست ابنتي»‬
‫قطبت حاجبي باستغراب قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬ليست ابنتك!!!»‬
‫‪317‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قال‪:‬‬
‫ِ‬
‫الحظت أن اسم أبيها ليس اسمي»‬ ‫‪« -‬نعم‪ ..‬تخيلتك‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬لم أنظر إلى اسم أبيها من قبل‪ ،‬فمريم الطفلة الوحيدة التي تحمل‬
‫هذا االسم بالروضة‪ ،‬فلم نكن بحاجة أن نناديها باسم والدها كي نميزها عن‬
‫طفلة أخرى»‬
‫أكمل‪:‬‬
‫تعرفت عليه في أثناء سفري إلى الخارج‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬مريم ابنة صديقي المقرب‬
‫متزوجا ورزقه الله بمريم‪ ،‬وأوصاني عليها قبل مماته هو وزوجته»‬
‫ً‬ ‫وكان‬
‫شعرت بنغز في قلبي‪ ،‬وقلت مشفقة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬هل توفي والداها؟»‬
‫طأطأ رأسه بأسف وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬نعم وتركاها لي»‬
‫سألت باهتمام‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أليس لها أقارب؟ أين أجدادها؟»‬
‫‪« -‬أجدادها وأقاربها معيشتهم ال تصلح الستقبالها وتربيتها؛ لذلك‬
‫أوصاني أبوها عليها»‬
‫‪« -‬وكيف مات والداها؟»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪318‬‬

‫قال بصوت متردد وهو ينظر بعيدً ا‪:‬‬


‫‪« -‬الموضوع معقد بعض الشيء»‬
‫انتبهت لكثرة أسئلتي‪ ،‬فتوقفت وأنا أنظر إلى هاتفي قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫كثيرا»‬
‫‪« -‬ياإلهي إنها العاشرة وعشر دقائق لقد تأخرت ً‬
‫تناول هاتفه من على الطاولة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬سأتصل بالسائق اآلن حتى يأتي إلينا فال بد أنه وقف بعيدً ا؛ ألنه ال‬
‫يوجد موقف للسيارات هنا»‬
‫هززت رأسي نافية‪:‬‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬ال داعي لذلك‪ ..‬سأستقل سيارة أجرة أذهب بها إلى المنزل»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬لن أدعك تستقلين سيارة أجرة في مثل هذا الوقت وحدك‪ ،‬كما أننا‬
‫ال نعرف أين ذهب ذلك الرجل بعد خروجك وبماذا يفكر» قال جملته هذه‬
‫بشيء من الحزم‪ ،‬ثم تناول هاتفه واتصل بالسائق يأمره بالمجئ‪..‬‬
‫نظر إلى النافذة بعد أن أنهى اتصاله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫كثيرا»‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬يبدو أنك تحبين مريم ً‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬بالرغم من كثرة صمتها وعدم تفاعلها فإنها طفلة حساسة ورقيقة‬
‫َم ْن يفهم طبيعتها يحبها على الفور»‬
‫‪319‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫نظر إلي وقال بهدوء‪:‬‬


‫ِ‬
‫تركت عملك بالروضة؟»‬ ‫‪« -‬لماذا‬
‫أجبت وقد نال مني االرتباك ً‬
‫قليل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬الروضة لم تكن تناسبني من البداية‪ ،‬كان من الخطأ أن أترك مجال‬
‫تخصصي وأذهب آلخر»‬
‫قال‪:‬‬
‫نفرت من الروضة‬ ‫ِ‬
‫غادرت‪ ،‬لدرجة أنها‬ ‫كثيرا بعد أن‬
‫ْ‬ ‫«حزنت مريم ً‬‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ولم ترد الذهاب ثانية»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ستتعود على المعلمة الجديدة مع الوقت»‬
‫هز رأسه ناف ًيا وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬لم تعد بحاجة للروضة‪ ،‬ذهابها إلى الروضة كان سببه األجازة السنوية‬
‫للمربية لمدة شهر ونصف‪ ،‬وكانت هذه الروضة هي األقرب لى فألحقتها بها؛‬
‫حتى تمضي فترة األجازة وعادت المربية معها اآلن من جديد»‬
‫عال رنين هاتفه‪ ،‬فنظر إليه وقال‪:‬‬
‫‪« -‬هيا لقد أتى السائق»‬
‫متجها إلى الخارج‪ ،‬وهو ينظر خلفه بين اللحظة واألخرى‬
‫ً‬ ‫تقدمني بخطوة‬
‫دخلت وأغلق الباب‬
‫ُ‬ ‫ليتابعني حتى وصلنا إلى السيارة ففتح لي الباب الخلفي‪،‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪320‬‬

‫وصفت لهما العنوان حتى استطاع السائق‬


‫ُ‬ ‫ورائي وجلس هو بجانب السائق‪،‬‬
‫الوصول إليه‪ ،‬تطلع حمزة من النافذة إلى بناية منزلنا‪ ،‬وسأل متشككًا‪:‬‬
‫‪« -‬هذا هو المنزل؟»‬
‫أجبته‪:‬‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫شعرت في سؤاله باالندهاش أن يصبح هذا بيتنا بعد بيتنا السابق الذي‬
‫ُ‬
‫إِ ْن دل على شيء يدل على تغير مستوى معيشتنا ً‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫سألته قبل نزولي‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا أفعل اآلن؟»‬
‫إلي من خالل المرآة األمامية‪:‬‬
‫قال وهو ينظر ّ‬
‫أنك لن تستطيعي الذهاب إلى الصيدلية‬‫‪« -‬ال شيء‪ ..‬أخبريهم غدً ا ِ‬
‫بأية حجة‪ ،‬وسأقوم باتصاالتي اليوم وسأخبرك غدً ا بما توصلت إليه وكيف‬
‫يمكننا حمايتكم من هذا الرجل‪ ،‬وسأتصل اآلن بأحد رجال األمن بشركتي‬
‫ليأتي إلى هنا ويقوم بمراقبة البيت»‬
‫توقفت‬
‫ُ‬ ‫وفتحت الباب‪ ،‬وهممت بالنزول‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أمسكت بمقبض السيارة‬
‫ُ‬
‫وقلت باقتضاب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫برهة‬
‫«شكرا»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ابتسم ثم قال‪:‬‬
‫‪321‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬اعتني بنفسك جيدً ا»‬


‫وعبرت الطريق إلى الجهة األخرى‪ ،‬رحال بعد أن‬‫ُ‬ ‫نزلت من السيارة‬
‫ُ‬
‫صعدت سري ًعا وفتحت الباب ودخلت بخفة؛ كي‬ ‫ُ‬ ‫تأكدا من دخولي البناية‪،‬‬
‫ضجيجا‪ ،‬استقبلتني أمي مستغربة وقد بدا عليها القلق‪:‬‬
‫ً‬ ‫ال ُأصدر‬
‫‪« -‬ما كل هذا التأخير يا حنين لم يحدث من قبل؟!»‬
‫أجبت‪:‬‬
‫كثيرا من الوقت حتى تأكدنا من استقرار‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬أعتذر إليك يا أمي‪ ،‬جلسنا ً‬
‫الطقس‪ ،‬وبدأنا بالتحرك»‬
‫سألتها سري ًعا حتى أشغلها عن هذا الحوار‪:‬‬
‫‪« -‬هل نام الجميع؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫أيضا ذاهبة للنوم»‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬وأنا ً‬
‫‪« -‬حسنًا تصبحين على خير»‬
‫لم أرد أن أخبرها بما حدث اليوم فلو علمت برؤيتي لحاتم ستشعر‬
‫بالخوف والقلق وستحزن؛ خو ًفا من انتقالنا إلى مكان آخر فنتعرض لهذه‬
‫ذهبت أللقي‬
‫ُ‬ ‫وأعددت شطيرة جبن ساخنة‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫بدلت مالبسي‬
‫ُ‬ ‫المشقة ثانية‪،‬‬
‫رجل قوي البنية يجلس على إحدى المقاعد وهو‬ ‫نظرة إلى الطريق فوجدت ً‬
‫ينظر يمنة ويسرة ويراقب من حوله‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪322‬‬

‫دخلت تحت الغطاء ببطء حتى‬


‫ُ‬ ‫ارتياحا وأنا أتجه إلى غرفتي‪،‬‬
‫ً‬ ‫تنهدت‬
‫ُ‬
‫ال يستيقظ براء أو مارية‪..‬‬
‫وأسندت رأسي على ظهر السرير الخشبي وأنا أتذكر‬
‫ُ‬ ‫ساقي‬
‫ّ‬ ‫مددت‬
‫ُ‬
‫طراز المطعم الكالسيكي وجلسته األنيقة‪..‬‬
‫كثيرا وظهر‬
‫فكرت في حمزة والسائق والحارس الشخصي‪ ،‬تغيرت حياته ً‬ ‫ُ‬
‫عليه الغنى‪ ،‬تُرى ما سبب تلك األموال كلها؟ وكيف تبدلت أموره بهذا الشكل؟‪..‬‬
‫نفسا بعمق وأخرجه بزفرة طويلة‪،‬‬
‫أنزلت رأسي على الوسادة وأنا آخذ ً‬
‫كنت سأسهر طوال الليل؛‬
‫أشعر باالرتياح لوجود هذا الرجل باألسفل‪ُ ،‬‬
‫خو ًفا من مالحقة حاتم أو حدوث أي شيء آخر‪..‬‬
‫أغمضت عيناي وأنا أستسلم للنوم وما زالت شعلة الشمعة التي كانت‬
‫ُ‬
‫تقبع بيننا تتراقص أمامي …‬
‫***‬
‫قمت‬
‫ُ‬ ‫صباحا‪..‬‬
‫ً‬ ‫أيقظني صوت المنبه المتصاعد على السادسة والنصف‬
‫يدي وأنا أتثاءب‪ ،‬وضعت‬
‫مسحت وجهي بكلتا ّ‬
‫ُ‬ ‫بكسل وأنا أجلس على السرير‪،‬‬
‫إصبعي السبابة والوسطى على جبهتي أتحسس بوادر صداع قادمة‪..‬‬
‫ّ‬
‫فانتصبت في جلستي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تراءت أمامي بعض المشاهد من الليلة السابقة‬
‫ْ‬
‫وعنفت نفسي‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وشعرت بضيق في صدري‬
‫ُ‬
‫‪323‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ِ‬
‫طلبت مساعدته؟‬ ‫ما هذا الذي فعلته؟!! ما هذا الذي فعلتِه يا حنين؟ لماذا‬
‫ِ‬
‫جعلت‬ ‫لماذا أدخلتِه في األمر من األساس؟ لماذا هذا التسرع؟ لماذا‬
‫ِ‬
‫عليك إلى هذا الحد؟‬ ‫الخوف يسيطر‬
‫ِ‬
‫مازلت طفلة‬ ‫كان يمكنك الصبر حتى تري كيف تجري األمور‪..‬‬
‫تتعاملين بحمق وال تعرفين كيف تتصرفين بأمورك‪ ،‬ويصيبك العمى في‬
‫شعرت بالضيق‬
‫ُ‬ ‫كثير من األوقات فتتسرعين في تصرفاتك مثل البلهاء‪..‬‬
‫نفضت الغطاء من على‬
‫ُ‬ ‫يزداد في صدري ويجتاحني شعور الندم لما فعلت‪،‬‬
‫خرجت من الغرفة متجهة إلى الحمام فوجدت‬‫ُ‬ ‫جسدي وأنا أتمتم «غبية»‬
‫خالي يفتح باب غرفته وينظر إلي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬صباح الخير يا حنين»‬
‫ابتسمت له ورددت‪:‬‬
‫‪« -‬صباح الخير يا خالي‪ ،‬كيف حالك اليوم؟»‬
‫كثيرا باألمس»‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬بخير الحمد لله‪ ..‬تأخرت ً‬
‫وانتظرت حتى يتحسن؛ ألتمكن من المجئ»‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬نعم كان الطقس سي ًئا‬
‫أشرت بيدي تجاه الحمام وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أول‪ ،‬وسأذهب أنا إلعداد الفطور لك حتى‬ ‫‪« -‬تفضل أنت يا خالي ً‬
‫أيقظت براء حتى يذهب‬
‫ُ‬ ‫وقمت بإعداد الفطور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ذهبت إلى المطبخ‬
‫ُ‬ ‫تنتهي»‬
‫ألقيت‬
‫ُ‬ ‫إلى المدرسة وساعدته في ارتداء زيه وتحضير حقيبته وتناول فطوره‪،‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪324‬‬

‫وفتحت باب غرفتها وباب غرفة أمي حتى تستطيع سماعها‬


‫ُ‬ ‫نظرة على مارية‬
‫استيقظت‪ ،‬وضعت على الطاولة كو ًبا من الشاي وشطرتي جبن مع ثمرة‬
‫ْ‬ ‫إِ ْن‬
‫طرقت باب غرفة خالي وقلت بهدوء‪:‬‬
‫ُ‬ ‫خيار‪،‬‬
‫‪« -‬خالي‪ ..‬فطورك على المائدة‪ ،‬سأنزل أنا اآلن ألوصل براء حتى ال يتأخر»‬
‫أجاب من الداخل‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا يا عزيزتي‪ ..‬شكرا ِ‬
‫لك»‬ ‫ً‬
‫فتحت الباب وما إن أغلقته حتى نظر إلي براء بعين يملؤها الحماس ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬هيا؟»‬
‫أجبته بالحماس نفسه‪:‬‬
‫‪« -‬هيا»‬
‫أجرينا سباقنا المعتاد بالجري على الدرج حتى نرى َم ْن سيصل ً‬
‫أول‬
‫قدمي عمدً ا حتى يستطيع براء الفوز وأراه وهو يقفز‬
‫ّ‬ ‫كنت أؤخر‬
‫إلى أوله‪ُ ،‬‬
‫من نشوة االنتصار‪ ،‬وأتصنع أنا الحسرة على خسارتي‪ ،‬وأتوعد له أنني‬
‫لن أتركه يفوز المرة القادمة‪ ،‬خرجنا من بوابة البناية وأنا أمسك بيد براء‬
‫رجل آخر قوي البنية يجلس بالمقعد نفسه الذي كان يجلس عليه‬ ‫فوجدت ً‬
‫تذكرت أمر رجل األمن الذي أخبرني‬‫ُ‬ ‫الرجل السابق‪ ،‬ويلتفت يمنة ويسرة‪،‬‬
‫به حمزة فقفز الضيق إلى صدري ثانية‪ ،‬ذلك الضيق الذي يصيبك نتيجة‬
‫أفعالك البلهاء المتسرعة ويصارعك الندم‪..‬‬
‫‪325‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ أوصلت براء إلى مدرسته في الوقت المحدد‪ ،‬نظرت إلى ساعة‬


‫هاتفي وقد قاربت الثامنة والنصف‪ ..‬ما زال هناك ثالث ساعات ونصف‬
‫فكرت دقيقة ثم بدأت بكتابة رسالة‬
‫ُ‬ ‫حتى موعد فترة عملي في الصيدلية‪،‬‬
‫على هاتفي‪..‬‬
‫ِ‬
‫استيقظت ولم تجديني‪ ،‬سأذهب إلى الصيدلية»‬ ‫«أمي ال تقلقي إن‬
‫اتخذت طريقي إلى الصيدلية مش ًيا متخذة البحر رفي ًقا‪ ،‬وقد صار الطقس‬‫ُ‬
‫فوجدت مصطفى وتامر قد أتيا وفريدة‬
‫ُ‬ ‫وصلت إلى هناك‬
‫ُ‬ ‫مشمسا وداف ًئا‪،‬‬
‫ً‬
‫لم تصل بعد‪..‬‬
‫صاح تامر عند رؤيتي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬دكتورة حنين كيف كان رجوعك باألمس؟»‬
‫أجبته‪:‬‬
‫‪« -‬الحمد لله كان جيدً ا وصلت البيت بسالم»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬كنت أود أن أتصل ِ‬
‫بك لالطمئنان على وصولك ولكنني خفت أن‬
‫تتضايقي»‬
‫ابتسمت وأنا أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫«شكرا لك يا دكتور تامر»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫نظرت في أرجاء الصيدلية ثم سألتهما‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪326‬‬

‫‪« -‬هل جاء دكتور حسن؟»‬


‫أجاب تامر‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليك‬ ‫‪« -‬ال‪ .‬أتى البارحة أخذني أنا وصديقه وأوصلني‪ ،‬وسأل‬
‫صباحا لكنه‬
‫ً‬ ‫كثيرا عندما أخبرته بذهابك‪ ،‬وقال إنه سيأتي اليوم‬
‫واستغرب ً‬
‫لم ِ‬
‫يأت بعد»‪.‬‬
‫هززت له رأسي‪ ،‬ثم ذهبت وجلست بمقعدي‪ ،‬وأنا أفكر‪ ..‬تُرى هل‬
‫قال له شي ًئا عني؟ وإِ ْن قال فبماذا أخبره؟‬
‫أتت فريدة بعد مضي ساعة ونصف وتبعها بعشر دقائق دكتور حسن‪،‬‬
‫ألقى تحية الصباح ببشاشة وجهه المعتادة‪ ،‬ثم نظر إلي وهو يضع حقيبته في‬
‫ً‬
‫متسائل‪:‬‬ ‫مكانها وقال‬
‫ِ‬
‫ذهبت بمفردك البارحة؟»‬ ‫‪« -‬دكتورة حنين لماذا‬
‫قلت وأنا أرسم ابتسامة على وجهي ألخفي الحقيقة‪:‬‬
‫ُ‬
‫«خفت أن أتأخر»‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫شعرت أن سلوكه معي كالمعتاد لم‬
‫ُ‬ ‫هز رأسه‪ ،‬ثم أكمل ما كان يفعله‪،‬‬
‫إلي‪..‬‬
‫يتغير‪ ،‬ربما لم يسأله حاتم عني أو يخبره شي ًئا كاذ ًبا للوصول ّ‬
‫ظهرا‪ ،‬ذهبت إلى دكتور حسن الستئذانه في‬
‫قاربت الساعة الواحدة ً‬
‫الذهاب لكي أحضر براء‪ ،‬كان يجلس على المكتب الموجود بأحد أركان‬
‫الصيدلية مرتد ًيا نظارته يدقق النظر في بعض األوراق‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫‪327‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬دكتور حسن سأذهب إلحضار براء من المدرسة وسأرجع خالل‬


‫نصف ساعة إن شاء الله» قال‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا تفضلي دكتورة حنين»‬
‫خطر ببالي أن أسأله بطريقة متوارية إِ ْن كان رحل حاتم أم ما زال هنا‪،‬‬
‫قلت متسائلة‪:‬‬
‫‪« -‬هل سافر صديق حضرتك؟»‬
‫أجاب‪:‬‬
‫صباحا»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬نعم سافر‬
‫ضيقت عيني وتصنعت التساؤل قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬هل يمتلك صيدلية؟»‬
‫رفع نظره إلي وخلع نظارته‪:‬‬
‫‪« -‬ومن أين تعرفين أنه صيدلي؟»‬
‫ارتبكت من سؤاله ً‬
‫قليل وقلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫كثيرا‪،‬‬
‫‪« -‬كانت في منطقتنا التي نسكن بها صيدلية وصاحبها يشبهه ً‬
‫فظننت أنه من الممكن أن يكون هو»‬
‫ناظرا إلى الورق‪:‬‬
‫ارتدى نظارته ثانية وهو يخفض رأسه ً‬
‫‪« -‬ال ليست لديه صيدلية‪ ،‬كانت لديه شركة دعاية أدوية وتعرض لخسارة‬
‫خارجا‪ ،‬ويريد أن يرحل عن البالد»‬
‫ً‬ ‫مالية كبيرة وأغلقها‪ ،‬وهو يخطط اآلن للسفر‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪328‬‬

‫وتنفست الصعداء وأنا أقول‪:‬‬


‫ُ‬ ‫أثلجت جملته األخيرة صدري‪،‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬الجميع اآلن يرى الخارج أفضل من هنا»‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬بعد إذنك حتى ال أتأخر»‬
‫وخرجت من الصيدلية وأنا أحمد الله‪ ،‬واالطمئنان يمأل‬
‫ُ‬ ‫استأذنته‬
‫صدري فلو سافر حاتم سينتهي هذا الكابوس‪ ،‬وربما نتمكن من العودة إلى‬
‫القاهرة‪ ،‬وإلى بيتنا‪ ،‬وتسعد أمي ثانية‪ ،‬ويرجع خالي إلى بيته‪ ،‬وتنتهي مشاكله‬
‫مع زوجته‪ ،‬وسينتهي هذا التوتر والخوف من حياتي‪ ،‬وأستطيع أن أبدأ من‬
‫جديد‪ ..‬ربما أنضم لمكتب سيد فأنا أعلم أنني إذا طلبت منه هذا سيساعدني‬
‫اعتلت االبتسامة وجهي‬
‫ْ‬ ‫كثيرا ولن يبخسني حقي مثلما كان يفعل حاتم‪،‬‬ ‫ً‬
‫وأنا أتخيل رجوع حياتنا كالسابق لكنني لن أستعجل األمور ولن أخبر أمي‬
‫أي شيء حتى أتأكد من سفره‪..‬‬
‫ما أتعجب منه ح ًّقا في هذا األمر هو أنني أعلم دكتور حسن جيدً ا‪،‬‬
‫وشخصيته المحترمة‪ ،‬فكيف يكون صديق حاتم هكذا؟! ربما ال يعلم شي ًئا‬
‫استغفرت‬
‫ُ‬ ‫أيضا أن يكون مثله وال يظهر لنا‪..‬‬‫عن مصائبه في القاهرة‪ ،‬وربما ً‬
‫الله سري ًعا عن هذا الظن فمن الواضح أن شخصية حاتم جعلتني صاحبة‬
‫نظرة متشككة ألي إنسان ال أعرفه جيدً ا‪..‬‬
‫‪329‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫انتبهت على صوت هاتفي فالتقطته من جيب حقيبتي ووجدت‬ ‫ُ‬


‫المتصل حمزة‪ ،‬نظرت إلى شاشته وأنا أجز على أسناني غي ًظا من تسرعي‬
‫ومما فعلت‪ ..‬ماذا كان سيضيرني لو كنت انتظرت حتى الصباح‪ ،‬وأجريت‬
‫هذا الحوار مع دكتور حسن ً‬
‫أول‪..‬‬
‫أجبت بصوت مقتضب‪:‬‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫سألني‪:‬‬
‫‪« -‬كيف األحوال؟»‬
‫‪« -‬كل األمور بخير الحمد لله»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬أجريت اتصاالتي باألمس وصباح اليوم بعدة أصدقاء لي واستطاعوا‬
‫أن يتوصلوا لمعلومات عنه وأخبروني أنه لم يعد كما في السابق‪ ،‬وأصبح‬
‫كثيرا أن يقوم أحد‬
‫فقره ال يساعده على االنتقام من أحد‪ ،‬كما أنه سيخاف ً‬
‫بإبالغ الشرطة ف ُيتخذ إجراء ضده‪ ،‬ولم يعد معه المال الذي يساعده على‬
‫خارجا‬
‫ً‬ ‫دفع رشوة يستطيع الخروج بها‪ ،‬ومنهم َم ْن أخبرني أنه يعد للسفر‬
‫اآلن بعد نبذ الجميع له وتجنبهم التعامل معه وأنه‪»....‬‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫بالغت في خوفي منه‪ ،‬وهو ال‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬نعم‪ ..‬نعم فهمت‪ .‬أظن أنني بالفعل‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪330‬‬

‫كثيرا من األمور»‬
‫يستطيع فعل شيء‪ ،‬كما أن سفره للخارج سيحل ً‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا ولكننا يجب أن نتوخى الحذر حتى نتأكد من سفره‪ ،‬سأتابع‬
‫مع أصدقائي خطواته‪ ،‬ويوجد اآلن رجالن من األمن يتبادالن مراقبة بنايتكم»‬
‫قلت باقتضاب‪:‬‬
‫‪« -‬ال داعي لذلك‪ ..‬ال تشغل بالك باألمر ال نريد أن نعطيه أكبر من‬
‫حجمه‪ ،‬وأبلغ رجالك أن يذهبوا من أمام البناية لم نعد في حاجة لهذا»‬
‫صمت برهة وهو متفاجئ من طريقتي في التحدث‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪« -‬أال ترين أنه يجب أن ننتظر ً‬
‫قليل حتى سفره؟»‬
‫قلت بحزم‪:‬‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬ال أرى ذلك‪ ،‬كما أنني أتأسف على اإلزعاج الذي سببته‪ ،‬سيطر‬
‫الخوف على نفسي ولم أحسن تقدير األمور ووضعها في نصابها الحقيقي»‬
‫شعرت باإلحراج في صوته‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬حسنًا سأخبرهم بالرحيل اآلن وإذا حدث أي شيء ال تتردي في‬
‫االتصال»‬
‫«شكرا»‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫‪« -‬حسنا‪ ،‬ال أريد أن أطيل أكثر‪ ..‬مع السالمة»‬
‫‪« -‬سالم»‬
‫‪331‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أغلقت الخط وأنا أشعر بالضيق‪ ،‬لم أعتد أن أكون قليلة الذوق في‬
‫ُ‬
‫أخطأت منذ البداية ويجب أن أصلح خطأي هذا‬ ‫ُ‬ ‫تعاملي هكذا‪ ،‬ولكنني‬
‫حتى إن كان يسبني اآلن وينعتني بالمجنونة التي طلبت مساعدته باألمس‬
‫وتكلمه اليوم بهذا الشكل‪ ،‬على أية حال ال يعنيني رأيه فليقل ما يقول‪..‬‬
‫وأصلحت‬
‫ُ‬ ‫أخطأت أنني أدخلته من األساس في حياتي بهذا الشكل‪..‬‬ ‫ُ‬
‫خطأي اآلن‪...‬‬
‫***‬
‫أتى خالي بعد صالة الجمعة وهو يشمشم بأنفه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ما هذه الرائحة الشهية‪ ،‬أشعر بالجوع»‬
‫قلت ضاحكة‪:‬‬
‫‪« -‬هذه وصفة من ابتكار أمي ومن صنع يدي‪ ،‬كنت أعدها لهاشم‬
‫كثيرا»‬
‫رحمه الله بأستراليا وكان يحبها ً‬
‫خرجت زوجة خالي من غرفتها على حديثنا‪ ،‬وهي تنظر بتأفف‪،‬‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬ومتي ستنتهي؟»‬
‫أجبتها‪:‬‬
‫‪« -‬أمامها ربع ساعة ال أكثر»‬
‫أدارت ظهرها وهي تقول‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪332‬‬

‫‪« -‬عندما ينتهي الطعام أخبروني» ثم رجعت إلى غرفتها وأغلقت‬


‫الباب وراءها‪ ،‬قام خالي بتحضير السلطة ووضع األطباق على المائدة‪..‬‬
‫كنت أشعر بمزاج جيد منذ معرفتي بخبر سفر حاتم لخارج البالد‪ ،‬وما‬
‫ُ‬
‫بعث االطمئنان في قلبي أكثر أنه مر على رؤيته لي خمسة أيام ولم يحدث‬
‫خاللها شيء‪..‬‬
‫أخرجت صينية الطعام من الفرن وحملتها إلى الطاولة‪ ،‬جاء جر ًيا براء‬
‫ومارية وجلسا على مقعدهما‪ ،‬بينما أتت أمي بخطواتها البطيئة وهي تثني‬
‫أخيرا خالي وزوجته بعد أن كان بانتظارها‪..‬‬
‫على رائحة الطعام‪ ،‬وانضم إلينا ً‬
‫يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي نجتمع فيه م ًعا على الغداء‪ ،‬أغلب األيام‬
‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫الباقية يتناول كل شخص منا طعامه بمفرده الختالف مواعيد عملنا‪..‬‬
‫لكل فرد نصيبه من الطعام بطبقه‪ ،‬وأنا ألقي الدعابات‪ ،‬وأتذكر معهم أيام أستراليا‪،‬‬
‫وبعض المواقف الغريبة التي حدثت معنا هناك‪ ..‬لم نجلس هذه الجلسة منذ زمن‪،‬‬
‫نظرت في وجوههم وأسعدني‬ ‫ُ‬ ‫أكثر جلساتنا كانت صامتة أو لمناقشة أمور البيت‪،‬‬
‫استمتاعهم بالطعام وضحكهم عل سرد الذكريات‪ ،‬كان ينقصنا وجه واحد بهذه‬
‫كنت سأشعر حينها باكتمال فرحتي‪..‬‬ ‫كنت أتمنى أن يكون معنا‪ُ ،‬‬
‫الجلسة‪ ،‬وجه آسر‪ُ ..‬‬
‫رن جرس البيت فتوقفنا عن الطعام ونظر بعضنا إلى بعض باستغراب‪،‬‬
‫قطب خالي حاجبيه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪َ « -‬م ْن يأتينا يوم الجمعة؟!! ال يرن جرس هذا البيت أحد غيرنا»‬
‫‪333‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قام خالي من مكانه لفتح الباب‪ ،‬كنت أتابعه بخوف وأفكر بمائة‬
‫احتمال في الوقت نفسه‪ ،‬نظر خالي من عين الباب وقال لنا بصوت هامس‪:‬‬
‫«شاب يرتدي نظارة ولديه لحية قصيرة»‬
‫ٌّ‬ ‫‪-‬‬
‫اتسعت حدقتا عيني؛ خو ًفا من تأكد ظني‪ ،‬قام خالي بفتح الباب ً‬
‫قليل‬
‫خارجا وهو يقول‪:‬‬
‫ً‬ ‫وأطل برأسه‬
‫‪َ « -‬م ْن تريد؟»‬
‫سمعت صوت يقول بود‪:‬‬
‫‪« -‬أنا حمزة يا عم محمود‪ ..‬أال تتذكرني؟»‬
‫شعرت بالتوتر واالندهاش الممزوج بالغضب وأنا أسأل نفسي «ما‬
‫ُ‬
‫الذي أتى به إلى هنا؟!!!»‬
‫وطلبت مني أمي أن أناولها حجابها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫قمت سري ًعا الرتداء حجابي‪،‬‬
‫ُ‬
‫قائما حتى تذكره في‬
‫فوجدت خالي ما زال الحوار بينه وبين حمزة ً‬
‫ُ‬ ‫رجعت‬
‫ُ‬
‫النهاية ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حمزة‪ ..‬نعم‪ ..‬نعم تذكرتك»‬
‫فتح خالي الباب أكثر وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬تفضل»‬
‫باسما‪:‬‬
‫دخل حمزة مطأطأ رأسه وقال ً‬
‫‪« -‬السالم عليكم‪ ..‬كيف حالكم جمي ًعا؟»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪334‬‬

‫جحظت عين أمي عند رؤيته وقالت بشيء من الغضب‪:‬‬


‫‪« -‬حمزة!! بعد كل هذه السنين؟!! كيف أتيت إلى هنا؟! وكيف‬
‫عرفت طريقنا؟!»‬
‫إلي حمزة وقد بدا عليه التوتر‪ ،‬وهو يقول بصوت منخفض‪:‬‬
‫نظر ّ‬
‫‪« -‬ألم تخبريهم بشيء؟»‬
‫إلي أمي وقد تطاير الشرر من عينيها قائلة‪:‬‬
‫نظرت ّ‬
‫ْ‬ ‫هززت رأسي نافية بغضب‪،‬‬
‫‪« -‬تخبرينا بماذا يا حنين؟! ما الذي يحدث هنا وال ندري عنه شي ًئا؟‬
‫أريد أن أفهم ً‬
‫حال»‬
‫أشرت إليها بيدي في محاولة مني لتهدئتها قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬حسنًا يا أمي‪ ..‬حسنًا سأخبرك بكل شيء»‬
‫قالت بغضب‪:‬‬
‫‪« -‬اآلن أخبريني»‬
‫لم أعرف ماذا أقول‪ ..‬نظرت إلى األرض وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬هناك فتاة بالروضة التي كنت أعمل بها‪ ،‬كانت تعاني من مشكلة ما»‬
‫واستطردت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى أمي‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬مريم يا أمي التي كنت أسألك دو ًما ماذا أفعل معها»‬
‫أومأت أمي برأسها بسرعة في إشارة منها أن أتابع‪..‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪335‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬المهم أنني في يوم ما طلبت استدعاء ولي أمرها حتى أناقش‬
‫مشكلتها معه»‬
‫صمت برهة وأكملت‪:‬‬
‫ُّ‬
‫‪« -‬وكانت المفاجأة يومها أنني اكتشفت أن حمزة هو ولي أمرها»‬
‫ثم قلت مسرعة‪:‬‬
‫ونسيت األمر»‬
‫ُ‬ ‫وتركت الروضة‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬لكننا لم نتحدث مطل ًقا حينها‪،‬‬
‫تابعت بصوت متقطع‪:‬‬
‫‪« -‬لكن‪ ..‬لكن منذ خمسة أيام أتى حاتم إلى الصيدلية ورآني»‬
‫ضربت أمي على صدرها بيدها قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬حاتم!! حاتم ثانية!! تركنا كل شيء بسببه وأتينا إلى هنا وأتى‬
‫وراءنا!!»‬
‫نفيت قائلة‪:‬‬
‫يأت من أجلنا‪ ،‬هو صديق دكتور حسن صاحب‬‫‪« -‬ال يا أمي ال‪ ..‬لم ِ‬
‫أيضا يومها برؤيتي ووجدت في عينيه الوعيد»‬
‫الصيدلية وتفاجأ هو ً‬
‫هززت رأسي قائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫توهمت أنا بذلك»‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬أو ربما‬
‫نظرت إليهم وأكملت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬خرجت فور رؤيته هائمة على وجهي‪ ..‬ال أدري ماذا أفعل‪ ..‬خفت‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪336‬‬

‫عليكم جمي ًعا‪ ،‬خفت أن يالحقني ويلحق األذى بأي أحد فيكم‪ ،‬وهذا الذي‬
‫فكرت في محادثة دكتور حسن ولكن لم أعرف مدى‬ ‫ُ‬ ‫لن أتحمله أبدً ا‪،‬‬
‫صداقتهما ومن الممكن أن يخبره حاتم أي أمر عني ويصدقه أكثر مني»‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى خالي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬ومع احترامي لك يا خالي‪ ،‬ولكن إِ ْن حدثتك فماذا َ‬
‫كنت ستفعل‬
‫فمثلك مثلي ال نقوى على فعل شيء»‬
‫عاودت النظر إليهم قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ولن أستطيع إخبار الشرطة‪ ..‬ماذا سأقول في البالغ؟ رجل ينظر‬
‫شزرا؟!! لم يكن أمامي سوى الذهاب إلى الشخص الوحيد الذي‬ ‫إلي ً‬ ‫ّ‬
‫أعرفه بهذه المدينة ربما يمكنه المساعدة»‬
‫ثم قلت مسرعة‪:‬‬
‫تسرعت في هذا‪ ،‬الخوف تملكني ولم ِ‬
‫أدر ماذا أفعل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪« -‬وأعترف أنني‬
‫بالغت في تقدير األمر»‬
‫ُ‬ ‫كان يجب أن أنتظر ربما قد‬
‫وزدت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫صمت برهة‬
‫ُّ‬
‫‪« -‬يومها أخبرني حمزة أنه سيساعدني‪ ،‬وأوصلني إلى هنا بسائقه‪،‬‬
‫وأرسل حارسه كي يراقب بنايتنا‪ ،‬واتصل بي اليوم التالي وأخبرني أنه قام‬
‫باتصاالته وتأكد أن حاتم لم يعد كما سبق ولن يستطيع إيذاء أي أحد»‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى حمزة بغضب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪337‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬وشكرته يومها على مساعدته وأخبرته أن األمر انتهى‪ ،‬وال أعرف‬
‫سبب وجوده هنا اآلن؟!»‬
‫نظر حمزة إلينا جمي ًعا‪ ،‬وقال بصوت يغلبه الحزن‪:‬‬
‫كثيرا اليوم برؤيتي‪،‬‬
‫‪« -‬أعتذر لكم جمي ًعا فمن الواضح أنني أزعجتكم ً‬
‫علي ماذا حدث لكم من تحت رأس حاتم هذا‪،‬‬‫ولكن بعد أن قصت حنين ّ‬
‫علي‬
‫شعرت أنه حان وقت رد الجميل‪ ،‬فعائلة عم طارق رحمه الله فضلهم ّ‬
‫ُ‬
‫لن أستطيع رده بأي شيء»‬
‫مفتاحا من جيبه ووضعه على الطاولة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫ثم أخرج‬
‫‪« -‬هذا مفتاح لشقة أمتلكها تبعد عن هنا نصف ساعة‪ ..‬مجهزة بالكامل‬
‫كثيرا»‬
‫وستشعرون بالراحة بها‪ ،‬وهي أفضل من هنا ً‬
‫لمعت عينا زوجة خالي وهي تتناول المفتاح من على الطاولة‪ ،‬ثم سألته‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬كم عدد غرف الشقة؟»‬
‫أجابها‪:‬‬
‫‪« -‬أربع غرف»‬
‫‪« -‬وهل يمكننا االنتقال إليها مباشرة؟»‬
‫‪« -‬اآلن إذا أردتم»‬
‫قطعت عليها‬
‫ُ‬ ‫تهلل وجهها بعد سماع جملته األخيرة‪ ،‬ولكن سرعان ما‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سعادتها‪،‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪338‬‬

‫‪« -‬و َم ْن قال إننا سننتقل من هنا؟!»‬


‫قالت زوجة خالي غاضبة‪:‬‬
‫‪« -‬ولماذا ال ننتقل؟ أال تنظرين حولك وترين مدى وضاعة هذه الشقة‬
‫وجدرانها المتصدعة‪ ،‬يأتينا البرد من كل مكان حتى َف َّت في عضدنا‪ ..‬هذه‬
‫خرابة وال تصلح للعيش اآلدمي»‬
‫نظرت إليها بغضب‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬نحن ال نقبل منة من أحد»‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قطب حمزة حاجبيه‪ ،‬وقال‬
‫‪« -‬منة!!»‬
‫قلت مؤكدة‪:‬‬
‫‪« -‬نعم منة‪ ..‬إن كان أبي فعل شي ًئا في الماضي فهذا من طبعه‪ ،‬كان‬
‫دو ًما يساعد اآلخرين وطوال عمره لم يخذل أحدً ا في يوم من األيام»‬
‫اتجه حمزة بنظره إلى األرض بعد أن سمع جملتي األخيرة وقد فهم‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫مغزاها‪،‬‬
‫‪« -‬إن كان أبي ما زال ح ًّيا سيرفض هذا العرض؛ فهو ال يقبل جزا ًء من‬
‫أحد مقابل أفعاله‪ ،‬فأفعاله كلها كانت لوجه الله‪ ،‬وأرجو أن يكون لقى منها‬
‫ً‬
‫مقابل ألفعاله‬ ‫ُحسنًا اآلن‪ ،‬ونحن مثله لن نفعل ما لم يفعله يو ًما فال نقبل‬
‫من أحد»‬
‫‪339‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫جذبت المفتاح من يد زوجة خالي‪ ،‬ووضعته أمامه على الطاولة‪ ،‬وقلت‪:‬‬


‫ُ‬
‫وانس أمرنا‬
‫‪« -‬خذ مفتاحك وارحل عن هنا‪ ،‬وأرجوك ال تأت ثانية‪َ ،‬‬
‫تما ًما كأننا لم نتقابل»‬
‫زجرني خالي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬حنين‪ ..‬منذ متى ونحن نتعامل هكذا مع أي أحد دخل بيتنا»‬
‫أشار إليه حمزة بيده‪ ،‬وقد كسا الحزن وجهه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬دعها يا عم محمود‪ ،‬أنا أعلم لماذا تفعل هذا»‬
‫متجها إلى الباب ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ثم رجع خطوتين للخلف‬
‫‪« -‬أعتذر لكم مرة ثانية على مجيئي‪ ،‬صد ًقا لم يكن قصدي إال‬
‫المساعدة»‬
‫ثم اتجه إلى الباب وأدار مقبضه‪ ،‬تبعه خالي ليوصله‪ ،‬أخرج إحدى‬
‫البطاقات وأعطاها لخالي فوضعها في جيبه‪ ،‬ثم أغلق الباب ورحل‪..‬‬
‫صاحت زوجة خالي بعد أن ذهب حمزة‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪« -‬هذا وضع ال ُيحتمل‪ ..‬كنت أصبر على هذا الجحر على أمل أن‬
‫يتغير يوما‪ ،‬وأرسل الله لنا اآلن جائزة صبرنا وركلتِها ِ‬
‫أنت بقدمك أيتها‬ ‫ً‬
‫لست َأ َمة هنا كي تفعلوا بي ما تريدون‪ ،‬سأجمع مالبسي اآلن‬
‫ُ‬ ‫البلهاء‪ ،‬أنا‬
‫وأرجع إلى بيتي في القاهرة‪ ،‬فما ذنبي ألتحمل أخطاءكم؟!!»‬
‫ثم نظرت إلى خالي بعين ثاقبة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪340‬‬

‫‪« -‬ستأتي معي أم ال؟»‬


‫أجابها خالي مترد ًدا‪:‬‬
‫‪« -‬كيف نذهب ونتركهم؟!»‬
‫قالت‪:‬‬
‫واتجهت بخطوات غاضبة‬
‫ْ‬ ‫‪« -‬إ ًذا َ‬
‫ابق بجوارهم وحدك‪ ..‬أما أنا فال»‬
‫إلى غرفتها‪..‬‬
‫إلي أمي وهي تهز رأسها بخيبة أمل قائلة‪:‬‬
‫نظرت ّ‬
‫ِ‬
‫فعلت ذلك»‬ ‫«أنت السبب في كل هذا‪ ..‬ال أصدق ِ‬
‫أنك‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫قلت بأسف‪:‬‬
‫كنت سأفعل‬ ‫ِ‬
‫«أرجوك يا أمي يكفي ما أشعر به من ندم‪ ،‬ولكن ماذا ُ‬ ‫‪-‬‬
‫في هذا الموقف؟‪ ..‬جميعكم تنظرون إلى فعلي وال تنظرون إلى السبب‪،‬‬
‫ماذا سأفعل وأنا ال أعرف أحدً ا في هذه المدينة‪ ..‬كما أنني عندما رأيت‬
‫حمزة وتغير وضعه ومعيشته قلت ربما يكون له عالقاته التي تساعدنا»‬
‫اتجهت أمي بنظرها إلى األرض‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫وقمت‬ ‫ِ‬
‫تحججت برؤية حاتم‪،‬‬ ‫‪« -‬ما تقولينه ال يبرر فعلك‪ ،‬أخشى ِ‬
‫أنك‬
‫بهذا االتصال؛ استجابة لرغبة بداخلك»‬
‫وقلت وأنا غاضبة جدًّ ا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫حدقت بها‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪341‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬من الممكن أن أقبل عتابك يا أمي‪ ،‬أما اتهامات باطلة فلن أقبل بها‬
‫كنت أريد محادثته لفعلت ذلك بعد رؤيتي له مباشرة في الروضة‪،‬‬ ‫أبدً ا‪ ..‬إِ ْن ُ‬
‫وكان عندي أكثر من حجة لذلك»‬
‫وأكملت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫صمتت أمي برهة‪،‬‬
‫‪« -‬حدث ما حدث والعتاب لن يصلح شي ًئا‪ ،‬أرجو أن يكون فهم‬
‫رسالتك وال يأتي إلى هنا ثانية»‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫نظرت إلى خالي‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬اذهب إلى زوجتك وهدئها ً‬
‫قليل‪ ،‬فأنا أقدر شعورها وأتفهمه»‬
‫ذهب خالي بخطى متثاقلة إلى غرفتهما فهو يعلم جيدً ا أن محاوالته‬
‫ستبوء بالفشل‪..‬‬
‫خارجا؛ لتصبر فلربما نرجع جميعنا‬
‫ً‬ ‫وددت أن أخبره بقرار حاتم للسفر‬
‫إلى القاهرة من جديد قري ًبا‪ ،‬ولكن خفت أن أعلق آمالهم بهذا الخبر ويحدث‬
‫أي شيء لحاتم فال يسافر‪..‬‬
‫مضت نصف ساعة ونحن نسمع محاوالت خالي مع زوجته لتبقى‬
‫ولكنها ترفض أي حديث منه حتى خرجت في النهاية وهي تحمل حقيبتها‬
‫متجهة إلى باب الشقة‪ ،‬أدارت المقبض‪ ،‬ثم نظرت إلينا بتأفف‪ ،‬وخرجت‬
‫بعدها‪ ،‬وأغلقت الباب وراءها بقوة‪..‬‬
‫قالت أمي مسرعة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪342‬‬

‫‪« -‬اتبعها يا محمود‪ ..‬ال تتركها‪ ،‬وحاول أن ترجعها‪ ،‬وإِ ْن سافرت سافر‬
‫معها‪ ،‬وال تشغل بالك بنا يا أخي‪ ،‬سنتدبر أمورنا ال تقلق»‬
‫أخيرا‬
‫بدت الحيرة على وجهه حتى اتخذ قراره ً‬
‫وقف خالي دقيقة وقد ْ‬
‫ففتح الباب وذهب وراءها‪..‬‬
‫أشاحت أمي وجهها عني‪ ،‬وقامت بخطاها البطيئة حتى وصلت إلى‬
‫غرفتها‪ ،‬وأغلقت الباب بشدة‪..‬‬
‫بقيت واقفة في الصالة وحدي‪ ،‬وأنا أحاول استيعاب ما حدث‪..‬‬
‫التهت مارية ببعض المكعبات الموجودة على األرض‪ ،‬بينما جذبني‬
‫ْ‬
‫براء من طرف ثوبي وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬ما الذي يحدث يا أمي؟ لماذا تتعاركون؟»‬
‫كنت أود أن أجيبه ولكن أنا نفسي ال أعرف كيف تطور األمر هكذا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫وجميل‪ ،‬واآلن خرب كل شيء‪..‬‬ ‫كان اليوم في بدايته رائ ًعا‬
‫احتضنته قائلة وقد اغرورقت عيناي بالدموع‪:‬‬
‫‪« -‬ال شيء حبيبي‪ ..‬ال شيء»‬
‫نظرت إلى األعلى وأنا أتنهد‪ ،‬وأمسح على شعره من الخلف‪ ،‬وأفكر‬
‫ُ‬
‫ماذا أفعل فأنا السبب في كل ما حدث اليوم‪ ..‬وكل ما حدث من قبل‪ ..‬أنا‬
‫السبب في كل شيء…‬
‫●●●‬
‫‪343‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫(‪)23‬‬
‫‪« -‬أعطني إياه»‬
‫‪« -‬هو معك»‬
‫لحظة صمت‪..‬‬
‫‪« -‬نعم يا أمي»‬
‫‪« -‬براء ماذا بك؟! هذه المرة الثانية التي تتصل بها جدتك وتشتكي‬
‫منك؟ لماذا ال تطيعها وتزعج مارية؟»‬
‫لم يرد‪..‬‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬كن مطي ًعا يا حبيبي حتى ال تغضب منك جدتك‪ ،‬ودع مارية وشأنها‬
‫والعب أنت بألعابك»‬
‫قال بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا يا أمي»‬
‫تناولت منه أمي الهاتف وسألتني‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬متى ستأتين؟»‬
‫نظرت إلى الساعة المعلقة على إحدى حوائط الصيدلية‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪344‬‬

‫‪« -‬إنها الخامسة والنصف‪ ..‬أمامي ساعتان ونصف وآتي إن شاء الله»‬
‫زفرت أمي بضيق ثم قالت‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا مع السالمة» وأغلقت الخط‪..‬‬
‫ما زالت أمي تعاملني بحدة بعض الشيء منذ ما حدث من أسبوعين‪..‬‬
‫غادر خالي يومها مع زوجته وشجعناه أنا وأمي على الرجوع معها إلى‬
‫بيتهما‪ ،‬ذهب معها لمدة يومين وعاد ثانية الرتباطه بالعمل‪..‬‬
‫حاول خالي أن يظهر الالمباالة وعدم االهتمام بذهاب زوجته‪ ،‬وقرر‬
‫الجلوس معنا‪ ،‬والرجوع إليها يوم الجمعة من كل أسبوع‪ ،‬لكن قلة كالمه‬
‫وانعزاله بعض الشيء عنا‪ ،‬كل ذلك عكس حزنه الذي يحاول أن يخفيه‬
‫لذهاب زوجته‪ ،‬فبالرغم من كل ما تفعله فإن حبها مستقر في قلبه‪ ،‬ووضح‬
‫ذلك لي جل ًّيا عندما عاشا معنا ورأيت صبره على كالمها‪ ،‬وعصبية مزاجها‪،‬‬
‫الفظة‪..‬ألحت أمي في طلبها لتحويل أوراق عمله إلى القاهرة مرة‬
‫ْ‬ ‫ومواقفها‬
‫أخرى؛ فهكذا ال يستقيم األمر ويجب أن يكون بجوار زوجته‪ ..‬تملكته الحيرة‬
‫فهو ال يريد أن يتركنا بمفردنا ببلد غريب ال نعرف به أحدً ا وفي الوقت ذاته‬
‫يريد الرجوع إلى زوجته‪ ..‬كنت أسمعه ً‬
‫ليل وهو يهاتفها راج ًيا إياها أن تعود‬
‫ويعدها أن األمور ستنصلح قري ًبا فتقابل هذا بالرفض التام‪ ،‬ولما فشلت جميع‬
‫محاوالته في إقناعها اتخذ قراره وشرع منذ خمسة أيام في نقل أوراق عمله‬
‫شعرت بحزن أمي عندما علمت أن خالي أمامه أسبوعان‬ ‫ُ‬ ‫إلى القاهرة ثانية‪،‬‬
‫على األكثر وسيغادرنا بالرغم من إلحاحها عليه ليأخذ تلك الخطوة‪..‬‬
‫‪345‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أتذكر كالمها لي بعد أن أخبرها خالي بذهابه‪ ،‬وهي تقول بصوت حزين‪:‬‬
‫‪« -‬يرحل األحبة من حولي واحدً ا تلو اآلخر في البداية هاشم ثم ِ‬
‫أبوك‬
‫وبعده آسر واآلن خالك»‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫‪« -‬لكنني سأظل ِ‬
‫معك يا أمي مهما حدث‪ ..‬أنا وبراء ومارية»‬
‫قالت نافية‪:‬‬
‫‪« -‬ال تجزمي بأي شيء يا حنين فبعد ما مررنا به‪ ،‬ال يمكنني توقع ما‬
‫الذي من الممكن أن يحدث لنا بعد ساعة»‬
‫كنت أشعر بالحزن أنا األخرى لذهاب خالي ولكن ماذا سنفعل‪ ،‬يكفي‬ ‫ُ‬
‫أيضا‪..‬‬
‫ما سببناه له من مشاكل‪ ،‬لن نكون سب ًبا في حزنه ً‬
‫وشعرت بالحنق من زوجة خالي‪ ..‬ماذا كان سيضيرها‬ ‫ُ‬ ‫زفرت بضيق‬ ‫ُ‬
‫لو أنها بقيت ولم تفتعل هذه المشكلة‪ ،‬كان اآلن كل شيء يسير على ما يرام‬
‫كما كنا‪ ،‬ولكن ال أريد أن أكون أنانينة وأنظر إلى األمور بمنظور مصلحتي‬
‫أنا فقط‪ ،‬فلو وضعت نفسي مكانها ربما أفعل مثلها‪..‬‬
‫فقيرا وزال‬
‫فكرت أن نرجع مع خالي فإن لم يسافر حاتم فقد أصبح ً‬ ‫ُ‬
‫تراجعت ً‬
‫قليل وأنا أرد على نفسي نافية‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫خطره ولن يستطيع إيذاءنا‪ ،‬ولكنني‬
‫ال‪ ..‬ال أريد أن أتسرع يجب أن أتريث قبل اتخاذ أي قرار فإن حدث أي شيء‬
‫لن أستطيع ترك القاهرة ثانية وال أريد أن أحمل أمي عناء مشاكل أخرى‪ ،‬وإن‬
‫بقينا هنا ستظل أمي على حزنها بل من المؤكد أنه سيزداد بعد ذهاب خالي‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪346‬‬

‫فكرت في محاولة‬
‫ُ‬ ‫مسحت وجهي وأنا أتنهد وأريح رأسي للخلف‪،‬‬ ‫ُ‬
‫نظرت إلى تامر قائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ربما تنجح وت ِ‬
‫ُحدث اختال ًفا‪..‬‬
‫‪« -‬دكتور تامر سأذهب عشر دقائق وسأعود»‬
‫‪« -‬حسنًا دكتورة حنين»‬
‫خرجت من الصيدلية متجهة إلى المحل الذي يقبع بعد الصيدلية بثالثة‬ ‫ُ‬
‫وقلت للرجل الجالس خلف ذلك الصندوق الخشبي‪:‬‬ ‫دفعت بابه الزجاجي ُ‬ ‫محال‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫اتصال»‬ ‫‪« -‬أريد أن أجري‬
‫وبدأت بنقل الرقم من هاتفي‬
‫ُ‬ ‫أخرجت هاتفي‬
‫ُ‬ ‫ناولني أحد الهواتف‪،‬‬
‫واتخذت جان ًبا من المحل وأنا أضع الهاتف على‬ ‫ُ‬ ‫إلى الهاتف اآلخر‪،‬‬
‫أذني‪ ..‬بدأ اليأس يتسلل إلى نفسي مع طول صوت الرنين المتكرر حتى كاد‬
‫أن ينتهي االتصال لوال أن أجاب في آخر لحظة‪:‬‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫تهلل وجهي عند سماع صوته‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫‪« -‬آسر»‬
‫قال بصوت ناعس‪:‬‬
‫‪َ « -‬م ْن معي؟»‬
‫‪« -‬أنا حنين»‬
‫فبادرت بالسؤال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ظل صامتًا‬
‫كثيرا»‬
‫‪« -‬كيف حالك؟ اشتقنا إليك ً‬
‫‪347‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬أنا بخير‪ ..‬أنتم كيف حالكم؟»‬


‫‪« -‬نحن بخير الحمد لله كل ما ينقصنا هو أنت»‬
‫فأكملت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫لم يرد على جملتي األخيرة‬
‫‪« -‬لماذا ال تجيب على اتصاالتي المتكررة؟»‬
‫أجاب باقتضاب‪:‬‬
‫نائما‪ ،‬أو بالعمل ويكون الهاتف بعيدً ا عني»‬
‫‪« -‬أكثر الوقت أكون ً‬
‫‪« -‬ولماذا ال تأتي إلى زيارتنا؟»‬
‫كنت أتمنى أن يقول لي إنه أتى ولم يجدنا‪ ،‬ولكن إن فعل هذا كان‬
‫سيتصل بنا بالتأكيد‪..‬‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪« -‬ولماذا آتي وأنا أعلم ماذا سيحدث مسب ًقا»‬
‫‪« -‬وما الذي سيحدث؟»‬
‫‪« -‬ستسبني أمي وتخبرني بغضبها العارم‪ ،‬وأذهب كما ذهبت المرة‬
‫السابقة»‬
‫‪« -‬وما يدريك‪ ..‬لعلها تحتضنك وتصلح ما حدث»‬
‫‪« -‬ال أظن»‬
‫تنهد ثم تابع‪:‬‬
‫‪« -‬لألسف أنتم غير مؤهلين لقبول االختالف»‬
‫قلت معترضة‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪348‬‬

‫‪« -‬ولكن يا آسر هذا ليس اختال ًفا‪ ..‬هذه أساسيات دين ومبادئ»‬
‫فأكملت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫صمت برهة‪..‬‬
‫ُّ‬
‫‪« -‬لو كنا غير مؤهلين لالختالف كما تقول‪ ،‬لكان أمي وأبي رفضاك‬
‫منذ أن تغيرت وتجنبتهما منذ زمن»‬
‫زدت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫مؤخرا‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ثم ألم تفكر أن طبيعة عملك هي السبب في كل ما حدث‬
‫وليس أي شيء آخر؟»‬
‫قلت راجية‪:‬‬ ‫تنهدت ثم ُ‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أرجوك يا آسر فكر في األمر‪ ..‬ليس هذا ما ر ّبانا عليه أبي وأمي‪..‬‬
‫أنا متأكدة أنك إذا نحيت العناد جان ًبا وفكرت في األمر بفطرتك ستتخذ‬
‫كثيرا»‬
‫قرارات صائبة وستتغير حياتك وستختلف األمور ً‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬ربما‪ ،‬ولكن ما أنا متأكد منه اآلن جيدً ا أنني أحتاج إلى هذا العمل بالوقت‬
‫الحالي»‬
‫أصابتني خيبة األمل بعد سماع جملته األخيرة‪ ،‬قلت وأنا أتعلق بأطراف‬
‫أمل‪:‬‬
‫‪« -‬ألن تجرب حتى المحاولة وتطل علينا ربما تخيب ظنونك؟»‬
‫‪« -‬سأحاول بالتأكيد ولكن ليس اآلن‪ ..‬سآتي عندما أشعر أن الوقت‬
‫مناسب لزيارتكم وأن أمي لن تغضب لرؤيتي»‬
‫‪349‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫اعتن بنفسك جيدً ا»‬‫‪« -‬حسنًا يا آسر‪ِ ..‬‬


‫‪« -‬وكذلك ِ‬
‫أنت»‬
‫‪« -‬مع السالمة»‬
‫‪« -‬سالم»‬
‫خرجت من المحل والحزن جاثم على قلبي‪ ..‬أي جحود هذا الذي‬ ‫ُ‬
‫يغير اإلنسان بهذا الشكل‪ ،‬أي تمرد هذا الذي يتوهمه بعض الشباب‬
‫فيضرب بدينه ومبادئه عرض الحائط من أجل إثبات أنه نضج وأصبح له‬
‫تفكيره وقراراته الخاصة‪ ،‬ويظن بذلك أنه يصنع لنفسه شخصيته المستقلة‪..‬‬
‫دخلت إلى الصيدلية مطأطأة‬
‫ُ‬ ‫هما فوق همي‪،‬‬ ‫زادتني مكالمة آسر ًّ‬
‫الرأس فباغتتني رؤية دكتور حسن‪..‬‬
‫قلت مسرعة‪:‬‬
‫وعدت»‬
‫ُ‬ ‫«استأذنت عشر دقائق‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫أومأ برأسه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬أخبرني تامر»‬
‫جلس دكتور حسن بمكانه المعتاد وبدأ بمراجعة بعض الدفاتر المتعلقة‬
‫بأدوية الصيدلية‪ ،‬ثم ناداني ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ظهرا‪..‬أليس كذلك؟»‬ ‫‪« -‬دكتورة حنين‪ ..‬أتت األدوية الناقصة ً‬
‫أجبته‪:‬‬
‫‪« -‬بلى‪ ..‬أتت اليوم»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪350‬‬

‫قال طال ًبا‪:‬‬


‫ِ‬
‫«أستأذنك أن تأتي عشر دقائق حتى نراجع بعض الملفات م ًعا»‬ ‫‪-‬‬
‫وقمت متجهة إليه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وسحبت الدفاتر التي بداخله‬
‫ُ‬ ‫فتحت أحد األدراج‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كنا نفعل هذا األمر بشكل دوري‪ ،‬نرى أي األدوية قد انتهت وأي منها قد‬
‫أوشك على االنتهاء ونطلبها من الشركات ونصنف ما هو متوفر بشكل كبير‬
‫وال نحتاجه ونراجع ما تم بيعه بالصيدلية‪..‬‬
‫كان مصطفي وتامر يتبادالن الحديث بصوت مسموع في أثناء عملنا‪..‬‬
‫قال مصطفي‪:‬‬
‫مشمسا طوال النهار وتهب نسمات خفيفة‬ ‫ً‬ ‫‪« -‬الطقس رائع اليوم‪ ،‬كان‬
‫منعشة مع الغروب‪ ..‬ما رأيك أن نتعشى بمكان ما بعد العمل؟»‬
‫أجابه تامر‪:‬‬
‫ً‬
‫جميل»‬ ‫‪« -‬ال مانع عندي‪ ..‬ما رأيك بأي مطعم على البحر سيكون الجو‬
‫شاركهما دكتور حسن ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬أنصحكما باستغالل هذه األيام قبل حلول الصيف واشتداد‬
‫الزحام‪ ،‬فاإلسكندرية تكون بأروع حاالتها في تلك الفترة ما بين فصلي‬
‫الشتاء والصيف ولكن ال تهمال مذاكرتكما»‬
‫قال تامر وقد ظهر على وجهه الضيق‪:‬‬
‫‪« -‬نعم اقتربت االمتحانات‪ ..‬ولكن ال بأس بقليل من الترفيه قبل‬
‫زحام الصيف‪ ،‬فهذا االزدحام يصيبني باالختناق‪ ..‬كل عام تراودني فكرة‬
‫‪351‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ترك اإلسكندرية في هذا الوقت والرجوع إليها مع بداية الشتاء»‬


‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال مصطفى‬
‫فكرت‪ ،‬ال يوجد مكان مناسب للذهاب إليه بالصيف»‬ ‫َ‬ ‫‪« -‬حتي إِن‬
‫ساخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال تامر‬
‫‪« -‬بالعكس يوجد الكثير‪ ..‬أوروبا ً‬
‫مثل»‬
‫عال صوت مصطفى بالضحك ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫مؤخرا فكل طموحاتك أصبحت في الخارج اآلن»‬ ‫ً‬ ‫كنزا‬
‫‪« -‬يبدو أنك وجدت ً‬
‫كثيرا في األونة األخيرة‬
‫بدا الضيق على وجه فريدة؛ فتامر أصبح يردد ً‬
‫أنه يرغب في السفر إلى الخارج وال يريد العيش هنا‪ ،‬ربما هذا يقلقها فهو‬
‫لم يتخذ أي إجراء للتقدم إليها أو التلميح لها‪..‬‬
‫قال دكتور حسن‪:‬‬
‫‪« -‬لم يعد السفر إلى الخارج بهذه السهولة‪ ..‬أصبح األمر صع ًبا‪..‬‬
‫بعض من أصدقائي توقف سفرهم خالل هذا العام بدون أي سبب موضح»‬
‫فرحا‪ ،‬أما أنا فوقعت‬
‫ضجر تامر عند سماع هذا بينما انبسط وجه فريدة ً‬
‫جملته األخيرة بصدري‪ ..‬بعض من أصدقائه؟ َم ْن يقصد يا ترى؟‬
‫ووجدت أنها الفرصة المناسبة لسؤاله‪..‬‬
‫ُ‬ ‫أكمل تامر ومصطفى حديثهما‪،‬‬
‫قلت وأنا أنظر إلى الورق‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬الشباب تأخذهم حماسة السفر وال يخططون للموضوع جيدً ا‪،‬‬
‫األمر ليس بتلك السهولة التي يتخيلونها»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪352‬‬

‫قال وهو ينظر إلى الدفتر الذي أمامه‪:‬‬


‫معك حق»‬‫‪« -‬نعم ِ‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أظن السفر اآلن يحتاج لسن أكبر ناضج يعرف كيف يدير أموره‬
‫عمل يدر له المال الجيد‪ ،‬ولكن ال أعرف ما المجال المناسب‬ ‫هناك‪ ،‬ويقيم ً‬
‫لنا بالخارج؟»‬
‫قلت وأنا أتصنع الالمباالة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬صديق حضرتك الذي أتى إلى هنا من قبل‪ ..‬أخبرتَني أنه سيسافر‬
‫خارجا بعد خسارته‪ ،‬ماذا سيعمل هناك؟»‬ ‫ً‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪« -‬سيحاول أن يقيم فكرة شركته نفسها هناك»‬
‫‪« -‬و إلى أين سيتجه؟»‬
‫‪« -‬كندا»‬
‫‪« -‬وهل سافر؟»‬
‫رفع وجهه تجاهي بعد أن نزع نظارته‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬دكتورة حنين‪ ..‬ما قصتك مع صديقي هذا؟!‪ ..‬تكثرين من األسئلة‬
‫حوله منذ أن رأيتِه هنا»‬
‫وقلت‬
‫ُ‬ ‫ابتعلت ريقي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫شعرت بالدماء تصعد إلى وجهي من اإلحراج‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وأنا أغالب ارتباكي‪:‬‬
‫‪353‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫شخصا آخر»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ال‪ ..‬ليس هناك شيء‪ ..‬كل ما في األمر أنني ظننته‬
‫‪« -‬ال أظن» قالها وكانت عيناه تحمل بين طياتها اتها ًما ضايقني مما‬
‫جعلني أتخذ قراري بالتحدث مباشرة‪..‬‬
‫بصوت هادئ‪:‬‬‫ٍ‬ ‫قلت‬
‫ُ‬
‫‪« -‬حسنًا‪ ..‬هل تعرف صديقك هذا جيدً ا يا دكتور حسن؟»‬
‫بدا االستغراب على وجهه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تقصدين؟»‬
‫‪« -‬هل تعرفه جيدً ا؟ عاشرته؟ تعلم طباعه؟»‬
‫قال وما زال االستغراب على وجهه‪:‬‬
‫‪« -‬أنا وحاتم خريجو دفعة واحدة‪ ..‬كنا نذاكر م ًعا وعندما تخرجنا‬
‫أخذت قراري بنقل معيشتي إلى‬ ‫ُ‬ ‫فكرنا أن نفتح صيدلية م ًعا‪ ،‬ولكن وقتها‬
‫وافتتحت أنا الصيدلية‬
‫ُ‬ ‫اإلسكندرية وبقي هو في القاهرة‪ ،‬مرت السنون‬
‫هنا وافتتح هو شركته هناك‪ ..‬كنا نتبادل أخبارنا كل فترة ونطمئن على‬
‫بعضنا»‬
‫ثم نظر إلي متمعنًا‪:‬‬
‫‪« -‬ما سبب سؤالك؟»‬
‫قلت وأنا أنظر إلى المكتب‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«كنت أعمل عند دكتور حاتم بشركته»‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ض َّيق عينيه متفاج ًئا‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪354‬‬

‫‪« -‬عند حاتم؟!»‬


‫‪« -‬نعم وأظن أنك ال تعرفه جيدً ا»‬
‫ثم بدأت بسرد أفعال حاتم القذرة عليه‪ ،‬وما فعل برحاب وما فعله‬
‫مؤخرا مما كان سب ًبا في فقره وحاله المزري اآلن‪ ،‬كان يستمع باهتمام شديد‬‫ً‬
‫انتهيت من كالمي‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وال يعلق سوى بإيماءات رأسه حتى‬
‫ش َّبك أصابعه ووضع كلتا يديه على المكتب‪ ،‬وقال بضيق‪:‬‬
‫‪« -‬لم أكن أعلم كل هذا‪ ..‬كان له بعض األفعال بالجامعة و ُأ ْ‬
‫ثيرت‬
‫حوله مشاكل عدة ولكنني تخيلت أنه بعد زواجه تغير وانصلحت أموره»‬
‫صمت برهة وأكمل‪:‬‬‫َ‬
‫‪« -‬حتى إغالق شركته أخبرني أن حماه ال يحبه من األساس‪ ،‬وكان‬
‫السبب في طالقه من زوجته‪ ،‬وأنه يثير المكائد ضده حتى خسر شركته بسببه‬
‫ولم يقل السبب الحقيقي»‬
‫رفع نظره تجاهي‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن لماذا لم تخبريني كل هذا من قبل يا دكتورة حنين؟ لماذا لم‬
‫تخبريني منذ رؤيتك له هنا؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬صراحة خفت»‬
‫«مم؟»‬
‫‪َّ -‬‬
‫«أل تصدقني‪ ..‬فأنا ال أعلم مدى عمق صداقتكما»‬ ‫‪َّ -‬‬
‫‪355‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫قال بشيء من الحزم‪:‬‬


‫‪« -‬كان يجب أن تخبريني فمهما كنا أصدقاء هناك مبادئ ال تتجزأ»‬
‫زفر بضيق‪:‬‬
‫‪« -‬أكثر ما يضايقني هو كذبه بشأن شركته‪ ..‬وإتيانه إلى هنا وطلب‬
‫المال مني ليستطيع السفر»‬
‫صمت برهة وأكمل‪:‬‬
‫َ‬
‫‪« -‬أظن أنه ال يستطيع فعل أي من تلك األفعال بتلك البالد‪ ..‬فأي‬
‫فورا»‬
‫شبهة حوله ستعرضه للترحيل ً‬
‫سألتُه وأنا أحاول السيطرة على شغفي‪:‬‬
‫‪« -‬هل سافر؟»‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪« -‬نعم منذ أسبوع»‬
‫فرحا‪ ،‬لم أشعر بهذا‬‫وكدت أن أطير ً‬
‫ُ‬ ‫مأل االرتياح قلبي دفعة واحدة‪،‬‬
‫الشعور منذ زمن‪..‬‬
‫طلب مني دكتور حسن أن نكمل غدً ا؛ ألنه تشوش تركيزه وأصابه‬
‫وسحبت الدفاتر عائدة إلى مكاني‪..‬‬
‫ُ‬ ‫عما سببته له‬
‫الضيق‪ ،‬اعتذرت َّ‬
‫التقطت‬
‫ُ‬ ‫ظللت أعد الدقائق من السابعة والنصف حتى حانت الثامنة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اشتريت بعض‬
‫ُ‬ ‫وبدأت أتحرك بخطى مسرعة متجهة إلى البيت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حقيبتي‬
‫وصعدت إلى الشقة فاستقبلني‬
‫ُ‬ ‫الحلوى في طريقي حتى وصلت إلى البناية‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪356‬‬

‫براء ومارية باستقبالهما الحافل كعادة كل يوم وخطفا كيس الحلوى من‬
‫يدي وجريا بعيدً ا‪..‬‬
‫وجدت أمي وخالي وهما يجلسان قرب الشرفة وأمامهما كوبان من‬ ‫ُ‬
‫الشاي تتصاعد منهما األبخرة المتراقصة‪..‬‬
‫وانضممت إلى مجلسهما‬
‫ُ‬ ‫وألقيت السالم عليهما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وضعت حقيبتي جان ًبا‪،‬‬‫ُ‬
‫توجهت إلى خالي سائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وبعد أن سألتني أمي عن يومي وكيف كان العمل‪،‬‬
‫‪« -‬وما آخر األخبار يا خالي؟»‬
‫قال‪:‬‬
‫«كنت لتوي أقول ألمك إن صدي ًقا لي أخبرني أنه ربما يتم االنتقال‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫خالل عشرة أيام من اآلن»‬
‫نظرت أمي إلى زجاج النافذة وهي تتنهد‪ ،‬فتابع مسر ًعا‪:‬‬ ‫ْ‬
‫‪« -‬ولكنني سآتي إليكم يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع وأقضهما‬
‫معكم إن شاء الله»‬
‫نظرت أمي إلى خالي مبتسمة‪:‬‬ ‫ْ‬
‫‪« -‬ال تقوى صحتك على هذا يا محمود‪ ،‬نحن نكبر وال نصغر‬
‫والمجهود يتعبنا‪ ،‬ال تشغل بالك بي يا أخي سأكون بخير‪ ..‬ما يحزنني هو‬
‫فراقك ال أكثر وما يهمني هو راحتك وراحة زوجتك»‬
‫قطعت حديثهما وأنا أبتسم بشدة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪357‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫لست في حاجة للمجئ هنا ثانية»‬ ‫‪« -‬عامة يا خالي أنت بالفعل َ‬
‫قالت أمي مستنكرة‪:‬‬
‫لك هذا تلك السعادة كلها البادية على وجهك؟!!»‬ ‫‪« -‬وهل يسبب ِ‬
‫واقتربت منها وأنا أجلس على المسند الخشبي‬ ‫ُ‬ ‫ضحكت من قولها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫للمقعد الجالسة عليه وأضع يدي على كتفها قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬ال يا أمي ليس هذا سبب سعادتي بالتأكيد»‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫صمت برهة‬ ‫ُّ‬
‫‪« -‬لن نكون بحاجة لمجئ خالي إلى هنا ألننا‪»...‬‬
‫وقفت وأنا أنظر إليهما وأقول بحماس‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬سنعود جمي ًعا إلى القاهرة»‬
‫***‬
‫أثبت الربيع حضوره بطقسه الساحر‪ ،‬وشمسه الدافئة على اإلسكندرية‪،‬‬
‫السماء صافية إال من بعض السحب الصغيرة المتقاربة التي تتحرك ببطء‬
‫بعضا‪..‬‬
‫وتعانق بعضها ً‬
‫تأبطت ذراع خالي ونحن نمشيان على طريق الكورنيش م ًعا ونتأمل‬ ‫ُ‬
‫السماء وتداعبنا نسمات البحر المنعشة‪..‬‬
‫نفسا عمي ًقا قائلة‪:‬‬
‫سحبت ً‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬رائحة البحر تلك سحر‪ ..‬تصنع بالنفس ما ال يصنعه شيء»‬
‫قال خالي‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪358‬‬

‫‪« -‬نعم‪ ..‬كان بعض أصدقائي يأتون إلى اإلسكندرية ويذهبون إلى‬
‫خصيصا؛ الستنشاق رائحة اليود القوية المنبعثة من البحر»‬
‫ً‬
‫((*‬
‫منطقة المكس‬
‫‪« -‬وهل هذا المكان بعيد عن هنا؟»‬
‫‪« -‬نعم أظن ذلك»‬
‫مبكرا ونذهب إلى هناك قبل رحيلنا»‬ ‫‪« -‬من الممكن أن نستيقظ يو ًما ً‬
‫‪« -‬إن شاء الله»‬
‫وقلت لخالي سائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫صمت برهة‬‫ُّ‬
‫‪« -‬ولكن يا خالي أال ترى أنه يجب أن ترجع اآلن؟ فما زال أمامنا شهر‬
‫ونصف حتى ينتهي براء من عامه الدراسي ونستطيع بعدها االنتقال»‬
‫أجابني‪:‬‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬سيمرون سري ًعا‪ ،‬سأظل أذهب إلى العمل هنا وإذا تم نقلي‬
‫سأقتطع من أجازتي وأبقى معكم حتى نرحل جمي ًعا م ًعا»‬
‫ثم نظر تجاه البحر وقال‪:‬‬
‫‪« -‬سأقضي هذه األجازة في وداع اإلسكندرية»‬
‫‪« -‬وزوجتك؟»‬
‫ابتسم ابتسامة ساخرة تحمل بين طياتها مرارة وهو يقول‪:‬‬
‫كثيرا حضوري من غيابي‪،‬‬ ‫‪« -‬أنا فقط َم ْن يهمني أمرها‪ ،‬ال يشغل بالها ً‬
‫ما دمت أرسل إليها األموال لن يؤثر عليها غيابي شهر ونصف»‬
‫منطقة باإلسكندرية مطلة عىل البحر شهرية بقوة رائحة اليود هبا‪.‬‬ ‫* ‬
‫‪359‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ربت على يديه قائلة‪:‬‬ ‫ُّ‬


‫‪« -‬أما نحن فلن نتركك أبدً ا حتى بعدما نعود»‬
‫همست‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫‪« -‬فتأتي زوجتك وتقتلنا جمي ًعا ونستريح»‬
‫ضحك خالي من قولي وسألني بعدها‪:‬‬
‫فعلت بشأن الصيدلية؟»‬ ‫ِ‬ ‫‪« -‬وماذا‬
‫قلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬أخبرتهم برحيلي بعد شهر ونصف إن شاء الله؛ لكي يستطيعوا أن‬
‫بديل خالل هذا الوقت»‬ ‫يجدوا ً‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫صمت برهة‬‫ُّ‬
‫«ح َز َن تامر ومصطفى وفريدة ً‬
‫كثيرا وكذلك دكتور حسن لكنهم في النهاية‬ ‫‪َ -‬‬
‫يتمنون لي التوفيق في حياتي القادمة‪ ،‬ويقومون بتدليلي للغاية هذه الفترة‪..‬‬
‫ذهبت متأخرة ال مشكلة‪ ،‬وسمحوا لي أن أستأذن‬ ‫ُ‬ ‫مبكرا وإِ ْن‬
‫يجعلوني أرجع ً‬
‫اتصلت بي وأخبرتني بمرورك على الصيدلية‬ ‫َ‬ ‫اليوم وأتمشى برفقتك بعد أن‬
‫واصطحابي إلى الكورنيش‪ ..‬كان من الصعب حدوث كل هذا من قبل»‬
‫توجهت إليه سائلة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى البحر‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬ولكن لماذا لم تحضر أمي معك واألطفال؟ كانوا سيستمتعون‬
‫كثيرا فالجو رائع»‬ ‫ً‬
‫قال‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪360‬‬

‫‪« -‬المرة القادمة إن شاء الله»‬


‫تطلع برأسه إلى إحدى اليافطات‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬ما رأيك أن نجلس هنا لنتناول أي مشروب؟»‬
‫‪« -‬حسنًا هيا بنا»‬
‫مطل على البحر مباشرة‪ ،‬جميع مقاعده وطاوالته‬ ‫كان المكان بسي ًطا ًّ‬
‫من الخوص المجمع‪ ،‬محاط بأعمدة خشبية يعلوها أغطية من القماش‬
‫المشمع بيضاء اللون؛ لحجب أشعة الشمس بوقت الظهيرة‪..‬‬ ‫ُ‬
‫جلست وأنا أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬سأعزمك أنا هذه المرة»‬
‫ابتسم خالي لي ثم أتى نادل بسيط المظهر ً‬
‫سائل‪:‬‬
‫‪« -‬ماذا تودان أن تشربا؟»‬
‫تجولت بعيني في القائمة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قلت بعد أن‬
‫ُ‬
‫‪« -‬سأطلب شكوالتة مثلجة»‬
‫قال خالي دون أن ينظر إليه‪:‬‬
‫‪« -‬وأنا مثلها»‬
‫ضحكت باستغراب‬
‫ُ‬ ‫َد َّو َن النادل الطلب على الدفتر الصغير بيده وابتعد‪،‬‬
‫وأنا أقول‪:‬‬
‫‪« -‬منذ متى وأنت تشرب الشكوالتة المثلجة يا خالي؟»‬
‫انتبه لكالمي فجأة وقال‪:‬‬
‫‪361‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ظننتك طلبت شا ًيا‪ ،‬لم أنتبه لما طلبتِه»‬


‫نادى على النادل الواقف بعيدً ا وقال‪:‬‬
‫بدل من الشكوالتة لو سمحت» أومأ النادل‬ ‫‪« -‬أريد شا ًيا بالنعناع ً‬
‫برأسه مواف ًقا‪..‬‬
‫نظرت إلى البحر قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬هذا المكان رائع‪ ،‬جلسته ظريفة‪ ،‬ورخيص الثمن يجب أن نحضر‬
‫أمي واألوالد المرة القادمة»‬
‫مبتسما وهو ينظر بعيدً ا‪ ..‬سألته متعجبة‬ ‫ً‬ ‫أومأ لي خالي‬
‫‪« -‬خالي‪ ..‬هل هناك شيء؟!»‬
‫‪« -‬ال يا حنين لماذا تسألين هذا السؤال؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬كنا على ما يرام ونحن نتمشى حتى جلسنا‪..‬ال تنتبه لما أقول وتنظر‬
‫إلى ساعتك وهاتفك طوال الوقت وتشرد بعيدً ا‪ ،‬أشعر أن ذهنك مشغول‬
‫بأمر ما كأنك في انتظار شيء»‬
‫مبتسما‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫إلي خالي‬
‫نظر ّ‬
‫‪« -‬نعم أنا في انتظار أحد‪ ،‬فلدينا ضيف اليوم»‬
‫قلت مستغربة‪:‬‬
‫‪« -‬لدينا؟! أنا وأنت؟»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪362‬‬

‫نظر خالي بعيدً ا إلى جهة ما‪ ،‬ثم قال‪:‬‬


‫‪« -‬ها قد أتى»‬
‫رجعت‬‫ُ‬ ‫أدرت رأسي إلى الخلف متجهة ببصري إلى الجهة نفسها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫برأسي سري ًعا وقد اتسعت حدقتا عيني غض ًبا‪ ،‬وأنا أقول‪:‬‬
‫‪« -‬خالي ما هذا؟!!»‬
‫قال وهو يحاول أن يشرح لي‪:‬‬
‫‪« -‬حنين أعلم أن هذا الموقف ربما يضايقك لكن حمزة اتصل بي‬
‫واستأذنني بالمجئ‪ ،‬وأتى إلينا منذ يومين في أثناء عملك وجلس معنا أنا‬
‫لك األمر‪..‬‬ ‫معك؛ ليشرح ِ‬
‫وأمك‪ ،‬وأفهمنا كل شيء واستأذننا في الجلوس ِ‬
‫إحراجا‬‫ً‬ ‫وخفنا من ردة فعلك‪ ،‬ففضلنا أن نبتعد عن البيت حتى ال نسبب له‬
‫وتكون المقابلة بالخارج»‬
‫سألت مستغربة‪:‬‬
‫‪« -‬وأمي وافقت؟!»‬
‫‪« -‬نعم وافقت‪ ،‬بعد أن قمت أنا وهو بإقناعها»‬
‫ثم نظر إلي ً‬
‫قائل بهدوء‪:‬‬
‫حدقت في خالي‬ ‫ُ‬ ‫‪« -‬اسمعي منه فقط ما يريد قوله واحكمي بعدها»‬
‫وه َّم‬ ‫إلي َ‬
‫والذهول الغاضب يتملكني خاصة بعد معرفتي بموافقة أمي‪ ،‬نظر ّ‬
‫أن يقول شي ًئا لكنه لم يستطع‪ ،‬فقد وصل حمزة إلى طاولتنا‪ ،‬ألقى السالم‬
‫علينا وجذب مقعدً ا وهو يقول‪:‬‬
‫‪363‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬كيف حالك يا عم محمود؟»‬


‫‪« -‬بخير الحمد لله يا حمزة»‬
‫إلي وقال‪:‬‬
‫اتجه ّ‬
‫‪« -‬كيف حالك يا حنين؟»‬
‫أشحت بوجهى بعيدً ا وأنا أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬بخير»‬
‫كنت غاضبة جدًّ ا مما فعله خالي بي‪ ،‬وفي الوقت نفسه ال أفهم شي ًئا‪..‬‬ ‫ُ‬
‫أية جلسة تلك التي يتحدث عنها خالي؛ ليسمح له هو وأمي بعدها أن‬
‫يجلس معي‪..‬‬
‫قام خالي وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سأجلس في الطاولة المجاورة لكما»‬
‫تحرك خالي ليجلس بجانبنا وهو يبتسم لي‪ ،‬اقترب النادل منا فأشار‬
‫إليه خالي بيده‪ ،‬أظن أنه أخبره أننا لن نطلب شي ًئا اآلن حتى ال يقطع أي أحد‬
‫حديثنا‪..‬‬
‫نظر حمزة تجاهي وبدأ كالمه مترد ًدا‪:‬‬
‫كثيرا مما حدث‬‫‪« -‬حنين‪ ..‬ال أعرف من أين أبدأ‪ ..‬أعلم أنك غاضبة ً‬
‫طلبت عدم المجئ إليكم مرة أخرى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأنك‬ ‫مؤخرا‬ ‫منذ زمن ومما حدث‬
‫ً‬
‫ولكن‪»...‬‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪364‬‬

‫غضبت من موقفك األخير؛ ألنه أحرجني أمام‬ ‫ُ‬ ‫‪« -‬مخطئ‪ ..‬نعم أنا‬
‫عائلتي‪ ،‬وغضبي األكثر كان من نفسي لتسرعي‪ ،‬أما أي شيء بالماضي فال‪،‬‬
‫فأنا لم يعد يهمني أمرك كي أغضب منك»‬
‫قال‪:‬‬
‫ِ‬
‫تعرضت للكثير‬ ‫ِ‬
‫مررت به جيدً ا فلقد‬ ‫ِ‬
‫أرجوك‪ ..‬أعلم صعوبة ما‬ ‫‪« -‬حنين‬
‫ِ‬
‫وتحملت الكثير‪ ،‬وأظن أنه أتى الوقت المناسب ألوضح لك بعض األمور»‬ ‫ِ‬
‫صمت برهة وتابع‪:‬‬
‫َ‬
‫‪« -‬وأوضح سبب اختفائي يومها»‬
‫قلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬لم يعد يشغل بالي البتة تلك األمور كلها»‬
‫قال بقليل من االنفعال‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن من حقي أن أقوم بتوضيح األمر»‬
‫نظرت إليه‪ ،‬وقلت وأنا غاضبة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬حقك؟! عن أي حق تتحدث؟ وما فائدة اإليضاح اآلن؟!! تركتني‬
‫يوم خطبتنا والحيرة تنهش بعقلي‪ ،‬لم تتصل حتى لتوضح أمرك‪ ،‬ألم تفكر‬
‫لحظة في موقفي أمام الناس؟ في شعوري باختفائك المفاجئ حينها؟‬
‫واآلن تطلب مني االستماع؛ ألنه من حقك أن توضح األمر!! صدقني لم‬
‫أعد بحاجة إلى هذا اإليضاح‪ ..‬لم يعد له فائدة»‬
‫إلي‪:‬‬
‫أكمل بصوت هادئ‪ ،‬وهو ما زال ينظر ّ‬
‫‪365‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬صدقينى األمر كان صع ًبا جدًّ ا‪ ،‬مرضت أمي فجأة مما اضطرني‬
‫وكنت أنوي العودة لحضور خطبتنا‪ ،‬لكن عند خروجي من‬ ‫ُ‬ ‫للذهاب إليها‬
‫وجدت خالي وقد أخبرتْه أمي بأمري فحبسني في بيته وأخذ مني‬ ‫ُ‬ ‫المنزل‬
‫هاتفي ومنع عني أية وسيلة أستطيع التواصل بها معكم»‬
‫وأشحت بوجهي بعيدً ا‪ ،‬فأكمل‪:‬‬‫ُ‬ ‫صمت‬ ‫ُّ‬
‫استسلمت له‪ ،‬ولم أكن شجا ًعا بالدرجة الكافية ألقف‬ ‫ُ‬ ‫«أعترف أنني ربما‬
‫أمامه وأصر على ذهابي بقوة‪ ،‬ولكن السبب في ذلك هو خوفي عليكم فلقد‬
‫صممت على الرحيل‪ ،‬ولم أدرك حينها‬ ‫ُ‬ ‫هددني أنه سيلحق بكم المشاكل إِ ْن‬
‫وأدركت هذا الح ًقا لألسف»‬
‫ُ‬ ‫أنه لن يقدر على فعل شيء إذا واجهته بقوة‪،‬‬
‫إلي وتابع‪:‬‬
‫نظر ّ‬
‫لك وعلى كل ما‬ ‫إليك على كل ما سببته ِ‬ ‫‪« -‬وأنا قادم اليوم ألعتذر ِ‬
‫حدث ساب ًقا‪ ،‬وسأفعل كل ما بوسعي إلصالح ما أفسدته‪ ،‬كل ما أطلبه أن‬
‫تعطيني فرصة لذلك»‬
‫ضيقت عيني مستغربة‪ ،‬وقلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬ماذا تقصد؟»‬
‫قال وقد ظهر الحماس بعينه‪:‬‬
‫‪« -‬أريد أن نكمل ما وقفنا عنده منذ عشر سنوات‪ ..‬أريد أن نتزوج»‬
‫رجعت بظهري إلى المقعد وأنا أنظر بعيدً ا‪:‬‬ ‫ُ‬
‫مزاحا»‬
‫‪« -‬أرجوك كفى ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪366‬‬

‫ظهر الضيق على وجهه‪ ،‬وقال‪:‬‬


‫‪« -‬أنا ال أمزح على اإلطالق‪ ،‬أنا جاد جدًّ ا في طلبي»‬
‫قلت‪:‬‬‫ُ‬
‫‪« -‬و أنا ال أفكر في أمر الزواج مطل ًقا‪ ..‬أنا اآلن أم لطفلين يتيمين‪ ،‬وكل‬
‫هدفي في الحياة هو تربيتهما»‬
‫قال متعج ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬و َم ْن قال إنه لن يكون هدفي أنا اآلخر؟! أريد أن أكون سندً ا لهما‬
‫معك يا حنين‪ ،‬أن نحميهما م ًعا ونرعاهما م ًعا‪ ،‬أن أضم طفليك إلى مريم‬ ‫ِ‬
‫ونصير جمي ًعا عائلة واحدة»‬
‫تنهدت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قلت بعد أن‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬األمر ليس بتلك البساطة»‬
‫قال باستغراب‪:‬‬
‫‪« -‬وأين تكمن صعوبته؟»‬
‫‪« -‬تكمن صعوبته بشيء داخل نفسي»‬
‫‪« -‬وما هو؟»‬
‫قلت وأنا أهز رأسي‪:‬‬‫ُ‬
‫‪« -‬لن أقدر‪ ..‬لن أقدر أن أعيش مع رجل بعد هاشم رحمه الله‪ ،‬لن‬
‫يقدر قلبي على حب رجل بعده فلن أجد ً‬
‫رجل مثله أبدً ا»‬
‫زفر حمزة بحزن‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪367‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫«أنا ال أستطيع أن أعدك أنك ستجدينني مثل هاشم زوجك رحمة الله‬
‫عليه‪ ،‬ولكن أستطيع أن أعدك أن تجدي حمزة أحسن مما تتوقعين»‬
‫صمت برهة‪ ،‬ووضع ذراعيه على الطاولة واقترب ً‬
‫قليل‪:‬‬ ‫َ‬
‫أنسك لحظة‪ ..‬لم أستطع أن أرتبط بأية فتاة بعدك؛‬‫ِ‬ ‫‪« -‬حنين‪ ..‬أنا لم‬
‫بك‬ ‫بك بالرغم من معرفتي بزواجك وأنه من المستحيل أن أجتمع ِ‬ ‫لتعلقي ِ‬
‫رجعت‬‫ُ‬ ‫أنت أنني بعد أن مضى عام ونصف من اختفائي‬ ‫ثانية‪ ،‬وما ال تعلمينه ِ‬
‫فانسحبت من‬
‫ُ‬ ‫إليك ولكن عرفت بأمر خطبتك‪،‬‬‫إليكم مرة أخرى ألتقدم ِ‬
‫دفعت ثمن بعدي عنك‬ ‫ُ‬ ‫حياتك واأللم يعتصر قلبي‪ ،‬صدقينى أنا اآلخر‬
‫تدفقت‬ ‫ْ‬ ‫ليال وليال من التحسر والوجع‪ ،‬وعندما رأيتُك أول مرة بالروضة‬
‫كنت أزجر نفسي على هذا لعلمي أنك‬ ‫مشاعري نحوك بشكل كبير‪ ،‬ولكنني ُ‬
‫معك بأية طريقة‪ ،‬ولكن رجولتي منعتني‬ ‫متزوجة‪ ،‬راودتني نفسي أن أتحدث ِ‬
‫ِ‬
‫وجلست‬ ‫ِ‬
‫اتصلت بي‬ ‫من هذا فما ال أرضاه لنفسي ال أرضاه لغيري‪ ،‬حتى‬
‫تغيرت األمور تما ًما بداخلي‪ ،‬وبالرغم من أنك‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫زوجك‬ ‫وعلمت بوفاة‬
‫ُ‬ ‫معي‬
‫كثيرا على هذا‪ ،‬لكنه من وجهة‬ ‫تشعرين بالندم التصالك بي وتلومين نفسك ً‬
‫قمت به على اإلطالق»‬ ‫نظري هذا أجمل فعل ِ‬
‫زاد بصوت يملؤه األمل‪:‬‬
‫‪« -‬اآلن جميع أموري تغيرت‪ ..‬سافرت بعد علمي بخطبتك ثم رجعت‬
‫وجئت إلى هنا فلم يعد أحد لي في المنيا فقد ماتت‬ ‫ُ‬ ‫إلى البلد منذ سنتين‪،‬‬
‫ونجحت بفضل الله في وقت‬ ‫ُ‬ ‫وافتتحت شركتي الخاصة‬
‫ُ‬ ‫أمي خالل سفري‪،‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪368‬‬

‫علي من فضله»‬‫قياسي وأغدق الله َّ‬


‫ثم همس بصوت يغلبه الرجاء‪:‬‬
‫«كل شيء في حياتي بمظهره الكامل يصيبه النقصان بغيابك عنه‪ ،‬كل‬
‫شيء يريد أن يكتمل بك‪..‬‬
‫ِ‬
‫أفقدك ثانية»‬ ‫فقدتُك من قبل وال أريد أن‬
‫أنهى كالمه بانتظار ردي‪ ،‬ولكنني التزمت الصمت‪ ..‬نظر في عيني‬
‫فشعر بعدم اقتناعي‪ ،‬فأكمل كالمه‪:‬‬
‫‪« -‬ألم تفكري في مجريات األمور؟ أال تتعجبي من ترتيب األحداث‬
‫بهذا الشكل؟‬
‫أن تأتوا إلى اإلسكندرية‪ ،‬وتعملين في روضة مريم‪ ،‬ونتقابل صدفة‪،‬‬
‫وأن يقودك تفكيرك لالتصال بي بعيدً ا عن ندمك بعدها‪ ،‬ألم تفكري أنه‬
‫ً‬
‫مفعول»‬ ‫أمرا كان‬
‫لربما أراد الله أن نتقابل في هذا الوقت تحديدً ا؛ ليقضي ً‬
‫تنهدت وأنا أتجه بنظري‬
‫ُ‬ ‫إلي بترقب وهو ينتظر أن أقول أي شيء‪،‬‬ ‫نظر ّ‬
‫إلى البحر قائلة‪:‬‬
‫قمت بخطبتها فيجب أن أخبرك‬‫كنت تنتظر أن تجد حنين التي َ‬ ‫‪« -‬إِ ْن َ‬
‫أنك ستصاب بخيبة األمل؛ ألنها لم تعد موجودة»‬ ‫َ‬
‫قال مسر ًعا‪:‬‬
‫‪« -‬أريد حنين الموجوع قلبها فأضعه على أوجاع قلبي فتذهب جميع‬
‫األوجاع بعيدً ا ونبدأ من جديد»‬
‫‪369‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫نظرت إليه وقلت بحدة بصوت متقطع‪:‬‬ ‫ُ‬


‫أرجوك‪ ..‬لن أستطيع‪ ،‬أعتذر إليك ولكنني لن أستطيع»‬‫َ‬ ‫‪« -‬كفى ضغ ًطا‬
‫ظهرت عالمات خيبة األمل والحزن على وجهه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫فعلت فهذا قرارك‬ ‫ِ‬
‫عليك بكالمي‪ ،‬فمهما‬ ‫‪« -‬ال أقصد بالتأكيد الضغط‬
‫أحسست أنه تم تحت ضغط مني‪ ،‬ولكنني لن‬‫ُ‬ ‫بالنهاية‪ ،‬ولن أكون سعيدً ا إذا‬
‫آخذ ردك اآلن‪ ،‬خذي وقتك وفكري في كالمي‪ ،‬وتأكدي أنني سأظل دو ًما‬
‫بانتظارك»‬
‫قام حمزة من أمامي‪ ،‬وذهب إلى خالي‪ ،‬وسلم عليه وانصرف‪ ،‬جاء‬
‫خالي وهو ينظر تجاهي‪ ،‬وعلى وجهه عالمات التساؤل‪..‬‬
‫هززت رأسي بالنفي‪ ،‬وأنا أقول‪:‬‬
‫«لن أستطيع يا خالي‪ ..‬لن أستطيع»‪...‬‬

‫●●●‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪370‬‬

‫(‪)24‬‬
‫«الهاتف الذي تحاول االتصال به ربما يكون مغل ًقا أو غير متاح‪..‬‬
‫حاول االتصال في وقت الحق»‬
‫وضعت الهاتف على قدمي وأنا أفرك بيدي‪ ،‬مسكته ثانية‪ ،‬وأنا ألمس‬
‫ُ‬
‫أخيرا صوت رنين‬‫ً‬ ‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫شاشته مسرعة محاولة االتصال مرة أخرى‪،‬‬
‫الهاتف المتقطع وردت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬السالم عليكم»‬
‫استطعت أن أصل ِ‬
‫إليك‪..‬‬ ‫أخيرا‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬وعليكم السالم يا أمي‪ ..‬حمدً ا لله ً‬
‫الشبكة اليوم سيئة للغاية‪ ..‬طمئنيني على حالكم؟»‬
‫‪« -‬نحن جمي ًعا بخير يا حنين‪ ..‬ال تقلقي يا حبيبتي»‬
‫‪« -‬واألطفال؟»‬
‫‪« -‬يلعبون ويستمتعون بوقتهم للغاية»‬
‫‪« -‬الحمد لله»‬
‫‪« -‬وكيف الحال عندك؟»‬
‫‪« -‬األمور تسير على ما يرام»‬
‫‪371‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ِ‬
‫عليك‪ ..‬اعتنيا بنفسيكما جيدً ا»‬ ‫‪« -‬حسنًا ال أريد أن أطيل‬
‫‪« -‬حاضر يا أمي‪ ..‬في أمان الله‪ ..‬مع السالمة»‬
‫‪« -‬مع السالمة»‬
‫أنزلت الهاتف من على أذني؛ ألرفعه سري ًعا مرة أخرى وأقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أمي‪ ..‬هل ما ِ‬
‫زلت معي؟»‬
‫أجابت أمى‪:‬‬
‫كنت على وشك أن أغلق الهاتف‪ ،‬هل هناك شيء؟»‬
‫‪« -‬نعم يا حنين‪ُ ..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬نسيت أن أخبرك أن حمزة وجد فرصة عمل براتب جيد جدًّ ا آلسر‪،‬‬
‫وسنحاول أن نقنعه بها‪ ،‬ربما يوافق ويترك ما هو فيه ويعيش بيننا من جديد»‬
‫زفرت أمي بحزن وقالت‪:‬‬
‫‪« -‬أرجو ذلك‪ ..‬وإِ ْن ُ‬
‫كنت أشك بقبوله‪ ،‬فمن الواضح أن الموضوع‬
‫خرج عن دائرة احتياجه إلى المال لحب تلك الحياة التي يعيشها»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ادعي له يا أمي فال مستحيل مع الدعاء»‬
‫‪« -‬يعلم الله يا بنيتي أدعو له ليل نهار أن يرده الله إلى ما كان عليه‬
‫ويرده إلينا»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪372‬‬

‫سألتها‪:‬‬
‫‪« -‬و ما أخبار مريم هل تنسجم مع براء ومارية؟»‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪« -‬في البداية كانت تهاب الوضع ً‬
‫قليل ولكن بعد بضعة أيام اندمجت‬
‫معهما‪ ،‬وأصبحت تستمتع باللعب‪ ،‬وأصبحوا جمي ًعا مرتبطين ببعضهم‬
‫البعض‪ ،‬كما أنني أقوم بسرد الحكايات عليهم‪ ،‬وصنع األلعاب لهم‪،‬‬
‫بعضا»‬
‫وأجعلهم يتعاونون مع بعضهم ً‬
‫قلت ضاحكة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬تمارسين معهم هوايتك القديمة»‬
‫ضحكت وهي تقول‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬بالتأكيد»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬وهل تساعدك المربية؟»‬
‫‪« -‬نعم تساعدني وتقوم بمهامها»‬
‫‪« -‬وهل ترتاحين بغرفتك؟»‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬ولكن أخبرك بشيء؟»‬
‫‪« -‬تفضلي»‬
‫‪373‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬بالرغم من رحابة هذا البيت واتساعه وشرفاته المطلة على الحدائق‬
‫من جهة‪ ،‬وظهور جزء كبير من البحر من جهته األخرى فإنني أشتاق أحيانًا‬
‫لشقتنا المتهالكة»‬
‫ضحكت وأنا أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫مازلت أتذكر نظرتك عندما دخلنا إليها أول مرة»‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬ح ًّقا!!‬
‫تنهدت أمي وقالت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬وما يبقى على حاله يا حنين‪ ..‬القلوب بين يدي الرحمن‪ ،‬وما تكرهه اليوم‬
‫ربما تحبه غدً ا وما تحبه اليوم ربما تكرهه غدً ا‪ ..‬كنت أكره تلك الشقة واآلن بقلبي‬
‫حنين إليها‪ ..‬كنا نستضيف حمزة عندنا بغرفة فوق السطح وهو يستضيفنا اآلن في‬
‫كنت أعيب عليه في يوم من األيام فقره وقلة يده فتجري األيام ونسير‬
‫بيته الواسع‪ُ ..‬‬
‫كثيرا»‬
‫نحن الفقراء ويغتني هو‪ ..‬كنت ال أتقبله لسنوات طويلة واآلن أحبه ً‬
‫قلت ضاحكة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬هو يشعر بذلك وأظن أنه سعيد بشعورك نحوه أكثر من سعادته‬
‫بزواجي منه»‬
‫عال صوت أمي بالضحك بعد جملتي‪ ،‬وصمتت برهة ثم أكملت‪:‬‬
‫‪« -‬سيظل اإلنسان يتعلم ويتعلم مهما جرى به السن‪ ،‬وستظل تتغير‬
‫أحواله حتى الموت»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪374‬‬

‫‪« -‬نعم يا أمي سنظل نتعلم طوال حياتنا»‬


‫سألتني أمي مسرعة‪ ،‬وكأنها تذكرت فجأة‪:‬‬
‫ِ‬
‫اتصلت بوالد هاشم ووالدته؟»‬ ‫‪« -‬هل‬
‫أجبتها‪:‬‬
‫وألححت عليهما بالزيارة‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬نعم حدثتُهما وطمأنتُهما على األوالد‪،‬‬
‫في أقرب وقت»‬
‫ِ‬
‫«فعلت حسنًا»‬ ‫‪-‬‬
‫قلت لها بشيء من الحزن‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أشعر أنهما يتحدثان معي على مضض منذ أن أخبرتهما بقرار‬
‫زواجي‪ ،‬ولكنهما متأكدان أنني لن أفعل شي ًئا يضر ببراء ومارية بل سيكون‬
‫في مصلحتهما»‬
‫قالت أمي وهي تحاول التخفيف عني‪:‬‬
‫قليل يا حبيبتي‪ ،‬وتلقي بقليل‬ ‫ِ‬
‫«مررت بالكثير يا حنين وجاء وقت أن ترتاحي ً‬ ‫‪-‬‬
‫من عبئك على كتف آخر يحمل ِ‬
‫معك المسئولية‪ ،‬من حقهما بالتأكيد أن يأخذا‬
‫وقتهما حتى ينتهي شعورهما بالضيق‪ ،‬ولكن صدقيني ستجري األيام وسينسيان‬
‫هذا الموقف بمجرد رؤيتهما للطفلين واطمئنانهما أنهما بخير مع رجل يرعاهما»‬
‫زادت بعد أن سمعت زفرتي‪:‬‬
‫‪375‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬على العموم ال تشغلي بالك اآلن بهذه األمور‪ ،‬س ُيحل كل شيء ال‬
‫تقلقي‪ ،‬وسأكلم أنا والدة هاشم وأؤكد عليها الزيارة وأطمئنها‪ ..‬فنحن الكبار‬
‫لنا كالمنا الذي نستطيع به وضع األمور في نصابها الصحيح‪ ،‬استمتعي بوقتك‬
‫وبأجازتك‪ ..‬فاختراع شهر العسل ُو ِجدَ من أجل االستمتاع ال التفكير»‬
‫متجها‬
‫ً‬ ‫لوح لي حمزة من وسط البحر‪ ،‬وبدأ يتحرك ويقترب من الرمال‬
‫لوحت له أنا األخرى وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ناحيتي‪..‬‬
‫ِ‬
‫سأتركك اآلن ونكمل حديثنا فيما بعد‪ ..‬وإِ ْن حدث‬ ‫‪« -‬حسنًا يا أمي‬
‫شيء اتصلي بي على الفور وال تتردي»‬
‫‪« -‬حسنًا يا حنين في أمان الله»‬
‫خطى حمزة بقدميه تاركًا أثرها العميق على الرمال واقترب مني‪ ،‬نفض‬
‫أطراف أنامله على وجهي ببعض قطرات المياه التي تتصبب منه‪..‬‬
‫ناولته المنشفة فمسح جسده‪ ،‬ثم جلس بجانبي وتناول يدي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫«اشتقت لحبيبتي»‬
‫ضحكت وأنا أنظر إليه متعجبة‪:‬‬
‫ُ‬
‫إلي؟!»‬
‫«لم تغب في المياه سوى نصف ساعة واشتقت ّ‬
‫نظر إلى عيني وقال‪:‬‬
‫«في قلبي اشتياق لن يرويه شيء سوى قربك لبقية العمر»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪376‬‬

‫نظرت إلى بساط البحر األزرق‬


‫ُ‬ ‫ً‬
‫خجل من كالمه‪،‬‬ ‫احمرت وجنتي‬
‫الممتد أمامي قائلة‪:‬‬
‫دائما»‬
‫‪« -‬تغرقني بمشاعرك الجميلة يا حمزة‪ ..‬أتمنى أن تظل هكذا ً‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬إن شاء الله ستكون عقدتنا على حالها كحال عقدة رسول الله وأمنا عائشة»‬
‫‪« -‬إن شاء الله»‬
‫سألني‪:‬‬
‫ِ‬
‫اطمئننت على براء ومارية ومريم؟»‬ ‫‪« -‬هل‬
‫اطمئننت عليهم»‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬نعم‬
‫‪« -‬وكيف حال مريم معهما؟»‬
‫‪« -‬منسجمة للغاية ومستمتعة»‬
‫قال‪:‬‬
‫كثيرا ستصل إليهم يوم رجوعنا»‬
‫«أحضر لهم مفاجأة ستسعدهم ً‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫ابتسمت وأنا أنظر إليه‪ ،‬وأقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫كنت متخوفة من ردة فعل براء ومارية عندما‬
‫«شكرا لك يا حمزة ُ‬‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫استطعت أن تكسبهما بحسن‬
‫َ‬ ‫يجدون ً‬
‫رجل جديدً ا ظهر في حياتنا‪ ،‬ولكنك‬
‫معاملتك واهتمامك بهما»‬
‫‪377‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ثم قلت بغضب كاذب‪:‬‬


‫‪« -‬وهذا طب ًعا بجانب حب مريم الذي أغار منه أحيانًا»‬
‫ضحك حمزة ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫كثيرا وأشتاق لرؤيتهم جمي ًعا‪ ،‬أما بالنسبة لحب‬
‫أيضا أحبهم ً‬
‫‪« -‬أنا ً‬
‫إليك فهي متعلقة ِ‬
‫بك‬ ‫مريم فأظن أنه بعد انتقالك معنا سينتقل حب مريم ِ‬
‫منذ أن كانت بالروضة»‬
‫تذكرت شي ًئا على سيرة موضوع‬
‫ُ‬ ‫ومسحت عليها‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫ربت على يده‬
‫ُّ‬
‫الغيرة‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫‪« -‬حمزة عندي سؤال أريد أن أسألك إياه منذ عشر سنوات»‬
‫ضحك حمزة جدًّ ا‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫ِ‬
‫وصبرت كل هذا الوقت؟!! وما هو يا ترى هذا السؤال؟»‬ ‫‪« -‬عشر سنوات‬
‫نظرت إلى عينيه مباشرة وقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪َ « -‬م ْن هي نور؟»‬
‫أرجع رأسه للخلف‪ ،‬وهو يعقد حاجبيه‪:‬‬
‫‪« -‬نور‪ ..‬نور‪َ ..‬م ْن نور؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪378‬‬

‫‪« -‬كانت تقوم بالرد عليك ومناقشتك في بعض األمور على حسابك‬
‫على موقع الـ ‪ Facebook‬وكانت تضع عالمة إعجاب على جميع‬
‫منشوراتك التي تنشرها»‬
‫متذكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫هز رأسه‬
‫«نعم‪ ..‬نعم‪ ..‬هي أخت عمر ‪-‬رحمه الله‪ -‬الكبرى الذي حدثتك‬
‫عنه من قبل‪ ،‬عمر كان يحدثها عني‪ ،‬وعندما أتيت إلى منطقتكم أرشدني‬
‫بعض الناس إلى منزلها ألذهب إليها وأعزيها وتفاجأت أنها تعرفني‪ ،‬كانت‬
‫تتواصل معي وتقول لي إنني أذكرها بأخيها»‬
‫ابتسمت له ثم صمت‪ ،‬أكمل وكأنه أدرك سبب سؤالي الرئيس‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬هي كبيرة بالسن ومتزوجة منذ زمن ولديها أوالد أصغر من عمري ً‬
‫قليل»‬
‫باسما‪:‬‬
‫ثم ضغط على يدي بحنو واقترب مني ً‬
‫‪« -‬حنين‪ِ ..‬‬
‫أنت أول حب دخل قلبي وال حب بعدك»‬
‫ابتسمت له بخجل‪ ،‬قام حمزة ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬بقيت ساعة على غروب الشمس سأذهب ألسبح ً‬
‫قليل‪ ،‬فالبحر‬
‫اليوم رائع»‬
‫أومأت له برأسي موافقة‪ ،‬عاد إلى البحر بخطى مسرعة حتى توارى‬ ‫ُ‬
‫يتبق غير رأسه والجزء األعلى من كتفيه‪..‬‬
‫جسده شي ًئا فشي ًئا داخل المياه ولم َ‬
‫‪379‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫نظرت باتجاه الشمس وقد اتخذت من السحب الكبيرة برق ًعا لحجب‬ ‫ُ‬
‫جمالها مرسلة أشعتها الذهبية من بينها في دالل‪ ،‬التي ما إِ ْن المست البحر‬
‫بأناملها الساحرة حتى انفرطت كحبات اللؤلؤ الالمعة على سطحه‪..‬‬
‫مرت أحداث حياتي جميعها أمامي كشريط تسجيلي‪..‬‬
‫عملت رغبة في‬
‫ُ‬ ‫أحببت حمزة وافترقنا‪ ،‬وتزوجت هاشم وفارقني‪،‬‬
‫وهددنا ورحلنا من بيتنا إلى اإلسكندرية‪،‬‬
‫زيادة المال وافتقرنا‪ ،‬مات أبي ُ‬
‫واآلن عدت إلى حمزة من جديد‪..‬‬
‫كنت أتخيل أنه سيبتعد عني بعد جلستي معه ورفضي لعرضه‪ ،‬لكنه‬ ‫ُ‬
‫لم يستسلم ظل يحاول ويحاول‪ ،‬تحمل صدي له‪ ،‬وردودي الجافة‪ ،‬وحدة‬
‫معاملتي‪ ،‬وقسوة عتابي وهو يردد أمام كل هذا جملة واحدة‪..‬‬
‫«فقدت ِ‬
‫ُك من قبل ولن أفقدك ثانية»‪..‬‬
‫استطاع حمزة أن يجدد حبه في قلبي ويكسب ثقتي فيه مرة أخرى‪ ،‬فعل‬
‫الكثير حتى أقتنع بفكرة الزواج بعد أن كانت مرفوضة من قبلي ألسباب عدة‪..‬‬
‫أحسست بصدقه وحسن نيته‪ ،‬واألهم من ذلك بحبه المخلص لي‪ ..‬حبه‬ ‫ُ‬
‫الذي دفعه لإلصرار والصبر على أفعالي بالرغم من استطاعته بالزواج من أخرى‬
‫كثيرا‪ ،‬ويريح نفسه هذا العناء‪ ،‬حبه الذي بث دفأه في قلبي من جديد‬
‫أفضل مني ً‬
‫فمنحه األمان بعد أن فقده تما ًما‪ ،‬حبه الذي أعطاني األمل أنه من الممكن أن‬
‫أنسى ما حدث وأن أعود ثانية لتلك الطفلة الحالمة المفعمة بالمشاعر‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪380‬‬

‫تصيبنا الجراح فتترك في قلوبنا ندو ًبا نظن بعدها أن ال شفاء‪ ،‬فيرزقنا‬
‫الله ولو بعد حين ح ًّبا صاد ًقا يكون بلسم العالج‪..‬‬
‫عندما أنظر إلى حياتي‪ ..‬تصيبني الغصة أحيانًا عند تذكر بعض‬
‫أصبحت أدرك جيدً ا أن‬
‫ُ‬ ‫المواقف‪ ،‬ولكني أراها اآلن بمنظور آخر‪..‬‬
‫ً‬
‫عامل أساس ًّيا لتربية قلبي؛ فلقد‬ ‫جميع المواقف التي مررت بها كانت‬
‫وتعبت‬
‫ُ‬ ‫بكيت‬
‫ُ‬ ‫كانت تنقصني الثقة التامة في تدابير الله لي‪ ..‬فلكم‬
‫وتذمرت ولم أحسن التوكل‪ ،‬ولم أحسن الدعاء‪ ،‬ولم‬ ‫ُ‬ ‫وفقدت األمل‬
‫ُ‬
‫أحسن الظن به‪ ،‬ومع ذلك أرى جميل صنعه ولطف أمره أجمل مما‬
‫أتوقع‪ ،‬وأستشعر برسالة فأجد صداها في نفسي في كل مرة ﴿ﮧ ﮨ‬
‫ﮩﮪﮫﮬ ﴾‬
‫فقط لو كنت أحسنت التوكل ألرحت نفسي من عناء جميع المشاعر‬
‫التي مررت بها من خوف وعجز وقهر‪..‬‬
‫كنت أجزع وأتألم عند تذكر بعض ما مررت به‪ ،‬واآلن أحمد الله‬
‫عليها؛ فلقد أوصلتني لغاية كنت ال أستطيع أن أصل إليها لوال مروري بها‪..‬‬
‫رضيت عن تدابير الله فسيرضني بما يسرني‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وهي إِ ْن‬
‫تعلقت به وحده‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وستتشبث بي السعادة كلما‬
‫بالله …‬
‫***‬
‫‪381‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫مضى شهر العسل سري ًعا وحان وقت رجوعنا‪..‬‬


‫كان حمزة طوال هذه الفترة رائ ًعا ورقي ًقا للغاية‪ ،‬ويحاول أن يسعدني‬
‫بشتى الطرق‪..‬‬
‫دلفنا إلى غرفتنا بالفندق بعد عودتنا من الشاطئ وقد تعالى صوت‬
‫ضحكاتنا من تذكر بعض المواقف لكل واحد منا في الماضي‪..‬‬
‫نظر حمزة إلى الساعة المعلقة على الحائط‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬أمامنا ساعة وسنغادر من هنا»‬
‫قلت بحزن طفولي‪:‬‬
‫‪« -‬نعم أمامنا ساعة»‬
‫اقترب مني ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ِ‬
‫سأخطفك‬ ‫ِ‬
‫أعدك أنه كلما ُأتيحت لنا فرصة الهروب‬ ‫‪« -‬ال تحزني‬
‫ونأتي إلى هنا»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬إِ ْن كان الخطف سيكون إلى هنا فأنا موافقة على خطفي»‬
‫ضحك حمزة من تعليقي‪ ،‬ثم سألني‪:‬‬
‫‪« -‬هل أغراضنا جاهزة؟»‬
‫‪« -‬نعم جمعت أكثرها بالبارحة وسأجمع بقيتها اآلن»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪382‬‬

‫‪« -‬حسنًا وخالل هذا الوقت سأستحمى سري ًعا ألزيل الماء المالح‬
‫عن جسدي»‬
‫أومأت له برأسي‪ ،‬دخل حمزة إلى الحمام بينما بدأت أنا بجمع بقية‬
‫األغراض بحقائبنا‪ ،‬كنت أجمعها وأنا أبتسم شو ًقا القتراب رؤية براء ومارية‬
‫كثيرا‪ ،‬أتخيلهما وهما يريان مفاجأة حمزة سيسعدان بها‬ ‫فلقد اشتقت إليهما ً‬
‫جدًّ ا‪ ،‬ولكن يجب أن أراعي أفعالي من هنا وصاعدً ا تجاههما‪ ،‬وال ُأشعر‬
‫أيضا تلك الصغيرة تحتل مكانة كبيرة‬ ‫مريم بأي فرق في المعاملة‪ ،‬فمريم ً‬
‫بقلبي‪..‬‬
‫أفرغت الدرج األول والثاني‬ ‫ُ‬ ‫فتحت األدراج ألتناول ما بداخلها‪،‬‬
‫ُ‬
‫ودفعته لوال أنني الحظت في آخره أطراف خيوط مجمعة فسحبته ثانية‪..‬‬
‫أخرجتها ببطء وأنا أضعها على يدي وأتحسس ملمسها وأهمس لنفسي‬
‫بسؤال مستغربة «ما الذي أتى بها إلى هنا؟» كانت كوفية فلسطينية خشنة‬
‫الملمس بعض الشيء‪ ،‬ويبرز تطريزها األسود‪ ..‬دفعتني أمنيتي القديمة‬
‫بامتالك واحدة إلى أخذها وارتدائها حول عنقي أمام المرآة وأنا أنظر إليها‬
‫يمنة ويسرة‪..‬‬
‫خرج حمزة من الحمام وهو يضع منشفة على رأسه ويحركها بسرعة؛‬
‫ليجفف شعره‪ ،‬ثم أرخاها على كتفيه ورآني‪ ،‬وقف ورائي وهو يفرق بأنامله‬
‫خصالت شعره المتجمعة من آثار المياه الباقية بها ً‬
‫سائل‪:‬‬
‫‪383‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ِ‬
‫أعجبتك؟»‬ ‫‪« -‬هل‬
‫أجبته‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬كانت إحدى أمنياتي القديمة أن أمتلك واحدة»‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ولكن ما الذي أتى بها إلى هنا؟ أيكون نساها َم ْن كان يقطن الغرفة‬
‫قبلنا؟»‬
‫باسما‪:‬‬
‫قال ً‬
‫«هذه الكوفية ملكي‪ ..‬آخذها معي إذا سافرت إلى أي مكان»‬
‫ظهرت عالمات السعادة على وجهي‪ ،‬وقلت بلهجة مسيطرة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪« -‬إ ًذا فقد صارت ملكي بالتبعية»‬
‫نظرت إلى نفسي في المرآة وأنا أضبطها‪ ،‬قربتها من أنفي وشممتها‬
‫بعمق‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫‪« -‬رائحتها غريبة»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬رائحة فلسطين»‬
‫حاجبي إلى أعلى وأنا أنظر إليه ساخرة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫رفعت‬
‫ُ‬
‫‪َ « -‬م ْن يسمعك وأنت تتكلم هكذا يقول إنك تعرف رائحة فلسطين»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪384‬‬

‫قميصا‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬


‫ً‬ ‫اتجه إلى المشجب والتقط‬
‫‪« -‬هو َم ْن أخبرني بذلك»‬
‫التفت إليه مستغربة‪:‬‬
‫ُّ‬
‫‪َ « -‬م ْن هو؟»‬
‫قطع حوارنا صوت دقات تطرق الباب‪ ،‬فتح حمزة فأخبره أحد العاملين‬
‫بالفندق أن السيارة في انتظارنا‪..‬‬
‫نزعت الكوفية سري ًعا ووضعتها بجيوب إحدى الحقائب‪ ،‬وأكمل‬ ‫ُ‬
‫حمزة ارتداء مالبسه‪ ،‬صعدنا إلى السيارة بينما نقل أحد العاملين حقائبنا‪..‬‬
‫أخبرت أمي من قبل موعد عودتنا‪ ،‬ولكنني أوصتيها أال تخبر األوالد‬
‫ُ‬
‫ليتفاجئوا بقدومنا‪..‬‬
‫التقط حمزة هاتفه بعدما سمعنا رنينه‪ ،‬وهو ينظر إليه قبل أن يجيب‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪« -‬يتصلون بي من الشركة»‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬نعم يا هيثم‪ ..‬أنا بخير الحمد لله‪ ..‬أنا في الطريق اآلن وسأمر‬
‫على الشركة غدً ا»‬
‫صمت بضع دقائق‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫َ‬
‫‪385‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ألم يخبرك َم ْن هو؟ حسنًا سأرى هذا األمر عندما أعود‪ ..‬مع السالمة»‬
‫إلي ً‬
‫سائل‪:‬‬ ‫أغلق الهاتف واتجه ّ‬
‫‪« -‬موعد زيارة خالة مديحة للطبيب غدً ا‪ ..‬أليس كذلك؟»‬
‫‪« -‬بلى»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سنذهب للطبيب ً‬
‫أول‪ ،‬ثم نرجع إلى الشركة ألطمئن على‬
‫أمورها كيف كانت في غيابي‪ ،‬ثم نعود»‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪« -‬ال تشغل بالك باألمر‪ ،‬اذهب أنت إلى الشركة وسيوصلنا السائق أنا‬
‫وأمي إلى الطبيب»‬
‫مرورا سري ًعا غدً ا‪ ،‬وسأبدأ العمل من‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ال ال سأذهب معكما‪ ،‬سأمر‬
‫بداية األسبوع القادم إن شاء الله‪ ،‬أريد أن أقضي بقية هذا األسبوع معك‬
‫ومع خالة مديحة واألوالد»‬
‫‪« -‬فكرة جيدة‪ ..‬فاألوالد يفتقدونك بالتأكيد خاصة مريم»‬
‫‪« -‬نعم أشعر أنها غاضبة مني؛ ألني تركتها كل هذا الوقت»‬
‫أكملت كالمه‪:‬‬
‫ُ‬
‫أيضا‪ ..‬فعم حمزة صار لديه حبيبة تشغله عنها‪،‬‬
‫‪« -‬وتشعر بالغيرة ً‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪386‬‬

‫ويجب أن نراعي هذا األمر‪ ،‬وال تشعرها أن اهتمامك َق َّل بها‪ ..‬بل تزداد‬
‫بها اهتما ًما»‬
‫مبتسما‪ ،‬ويحتضنهما بين يديه‪..‬‬
‫ً‬ ‫أومأ لي برأسه مواف ًقا‪ ،‬وهو يلتقط ّ‬
‫يدي‬
‫قطب حاجبيه‪ ،‬وكأنه تذكر شي ًئا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬ال أعلم َم ْن الرجل الذي حدثني عنه هيثم»‬
‫‪« -‬أي رجل؟»‬
‫‪« -‬قال لي إنه أتى رجل إلى الشركة منذ ثالثة أيام أعرج ولكنته غريبة‬
‫يسأل عني‪ ،‬ورفض إخبارهم باسمه‪ ،‬ويأتي كل يوم في الموعد نفسه‪،‬‬
‫وعندما ال يجدني يرحل»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ربما يكون أحد أصدقائك القدامى»‬
‫‪« -‬ليس لدي أصدقاء بهذه المواصفات»‬
‫‪« -‬ربما يكون أحد المحتاجين»‬
‫محتاجا سيطلب من أي شخص‬
‫ً‬ ‫‪« -‬ومن أين يعرفني؟ وإذا كان‬
‫بالشركة وال يطلبني تحديدً ا»‬
‫اتجه برأسه نحو النافذة‪:‬‬
‫‪« -‬عامة لن أشغل بالي باألمر‪ ..‬سأنتظر حتى أذهب إلى الشركة‬
‫وأعرف َم ْن هو»‬
‫‪387‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬معك حق»‬


‫كان الطريق خال ًيا مما ساعدنا في الوصول إلى البيت سري ًعا‪ ،‬قابلنا‬
‫حارس البناية ُمرح ًبا هو وزوجته وبدءا بإنزال الحقائب من السيارة‪..‬‬
‫ركبنا المصعد متجهين إلى الشقة وبداخلي شعور كبير بالفرحة؛ ألنني‬
‫أخيرا بعد هذه الفترة كلها‪..‬‬
‫سأرى األطفال ً‬
‫فتحنا باب الشقة ببطء وكانت أمي في استقبالنا‪ ،‬سلمنا عليها‪ ،‬وهمست‬
‫لها سائلة‪:‬‬
‫‪« -‬أين هم؟»‬
‫أشارت بيدها إلى الغرفة‪ ،‬اتجهنا نحو الغرفة بخطى خفيفة وفتحنا‬
‫الباب فجأة‪..‬‬
‫فرحا عند رؤيتنا فجريا نحونا وهما يتسلقانا‬ ‫قفز براء ومارية صارخين ً‬
‫ركبتي وأنا‬
‫ّ‬ ‫جثوت على‬
‫ُ‬ ‫ويحتضنانا‪ ،‬وبقيت مريم في مكانها تنظر إلينا‪،‬‬
‫أحتضن مارية بذراعي وفاتحة ذراعي اآلخر لمريم قائلة‪:‬‬
‫إلي وبقيت مكانها ولم تحرك‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬حبيبتي مريم‪ ..‬اشتقت إليك»نظرت ّ‬
‫ساكنًا‪ ،‬تقدم إليها حمزة بعد أن أنزل براء وحملها فوق كتفيه مداع ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬اشتقنا ِ‬
‫إليك يا مريم‪ ..‬يا مريم‪ ..‬يا مريم‪ ..‬يا مريم»‬
‫قمت وأنا أتصنع الذعر قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪388‬‬

‫‪« -‬لقد علق الرجل اآللي ويجب الضغط على الزر حتى يتوقف»‬
‫متحمسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال براء‬
‫‪« -‬وأين هو الزر؟»‬
‫همست بصوت مسموع‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ما دام علق وهو ينادي اسم مريم فيجب هي َم ْن تضغط عليه»‬
‫ابتسمت مريم ونظرت إلى حمزة الذي ما زال يردد اسمها‪ ..‬أخذت‬
‫تلمس بيدها شعره وكتفه وعينه حتى لمست أذنه فتوقف‪..‬‬
‫هللت فرحة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬لقد وجدت مريم الزر» فهلل براء ومارية معي وبدأت مريم في‬
‫ً‬
‫احتفال بها الكتشافها الزر‪..‬‬ ‫الضحك‪ ،‬وحمزة يدور بها‪ ،‬ونحن وراءه‬
‫قطع احتفالنا جرس الباب‪ ..‬فقال حمزة‪:‬‬
‫‪« -‬حان موعد المفاجأة»‬
‫خارجا‪ ،‬وأنزل حمزة مريم التي‬
‫ً‬ ‫انطلق براء ومارية كالصاروخين‬
‫عدوا‪ ..‬خرجنا وراءهم ونحن نضحك من سرعتهم‪..‬‬
‫تبعتهما ً‬
‫استلمت الخادمة طر ًدا كبير الحجم ساعدها حمزة في نقله إلى منتصف‬
‫الصالة ووضعه على األرض‪..‬‬
‫كان الشغف يقفز من عين األطفال وهم ينظرون إليه حتى بدأ حمزة في‬
‫‪389‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫فتحه‪ ،‬فظهرت ثالث علب كبيرة الحجم متراصة بجانب بعضها‪ ..‬تطلعوا‬
‫إليها بشغف والفرحة تجتاح وجوههم‪..‬‬
‫أمرهم حمزة بفتح العلب وإخراج لعبهم‪ ،‬ففتحوها سري ًعا وبدأوا في اكتشاف‬
‫اللعب‪ ،‬لكن حمزة طلب منهم النظر جيدً ا داخل العلب‪ ،‬فنظروا مرة أخرى وأخرج‬
‫كل واحد منهم مظرو ًفا َ‬
‫وه َّم بفتحه فوجدوا بداخلها بطاقة‪ ..‬علق حمزة‪:‬‬
‫‪« -‬هذه هي المفاجأة‪ ..‬تذاكر لمدينة األلعاب المائية وسنذهب إليها‬
‫السبت القادم»‬
‫فرحا وهم يقفزون ويعدون على أصابعهم األيام؛ ليعرفوا‬
‫صاح األوالد ً‬
‫كم بقي على يوم السبت‪..‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وأنا أرى تلك السعادة العارمة على وجوههم‬
‫شعرت بالفرحة ً‬
‫ُ‬
‫وباالمتنان إلى حمزة الذي نجح في تعويضهم عن فترة غيابنا عنهم‪..‬‬
‫قضينا ذلك اليوم وحمزة يالعب األطفال ويشاغبهم‪ ،‬وجلست أنا بجانب‬
‫كثيرا ولجلستنا اليومية التي اعتدت عليها‪..‬‬
‫أمي أحدثها‪ ،‬كنت مشتاقة لها ً‬
‫أخبرتني أن خالي أتى لزيارتها هو وزوجته مرتين خالل شهر أجازتنا‬
‫‪ ،‬وأن زوجة خالي تحسنت معاملتها خالل هاتين الزيارتين‪ ،‬وكيف أنها‬
‫كثيرا لتحويل أوراقه إلى القاهرة‪ ،‬فكان بإمكانهما أن‬
‫المت على خالي ً‬
‫يعيشا معنا بهذا البيت الواسع‪ ،‬وطلبت من أمي وهي ذاهبة أن توصي حمزة‬
‫بإيجاد أي عمل مناسب لخالي في شركته براتب أفضل مما هو عليه اآلن‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪390‬‬

‫مما دفع خالي للعراك معها وإخبارها أنه لن يترك عمله‪ ..‬وعلقت أمي قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬ال أفهم ما يدور برأس تلك المرأة‪ ..‬هداها الله»‬
‫تأخرنا في النوم جمي ًعا ليلتها‪ ،‬فلم يرغب األوالد في النوم تلك الليلة؛‬
‫لكي يستمروا في اللعب مع حمزة ولكنهم استسلموا من التعب في النهاية‬
‫باكرا صباح اليوم التالي لكي نذهب إلى‬
‫وغطوا في نوم عميق‪ ،‬استيقظنا ً‬
‫طبيب أمي الذي قام بفصحها وطمأننا أنها بخير‪ ،‬ولكنها تعاني من بعض‬
‫االضطراب في الضغط‪ ،‬وهمس لي أنا وحمزة دون أن تسمع هي أنه يشك‬
‫أن السبب هو نفسيتها غير المستقرة‪ ..‬عرفت السبب فور إخباري الطبيب‬
‫بهذا‪ ،‬فبالرغم من استقرار أمورنا وتغيرها لألفضل فإن موضوع آسر ما زال‬
‫يحزنها ويؤثر بقلبها‪..‬‬
‫رجعنا مع حمزة إلى الشركة ليطمئن على أمورها ونرحل جمي ًعا م ًعا‪..‬‬
‫بقيت أمي بالسيارة وذهبت أنا معه‪..‬‬
‫دخلنا مكتبه وأخبره هيثم‪ ،‬الذراع األيمن لحمزة بالشركة أنه سيجد‬
‫مل ًفا به بعض األوراق التي تحتاج إلى اإلمضاء‪ ،‬ومل ًفا آخر به بعض األعمال‬
‫المتوقفة على اتصاالت يجب أن يجريها حمزة بنفسه‪..‬‬
‫بدأ حمزة باالطالع على الملفات والقيام بعمله بشكل سريع حتى‬
‫كنت أراقبه‬
‫سكت ولم أنطق ببنت شفة‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫انغمس تما ًما ولم يشعر بوجودي‪،‬‬
‫بشغف فهذه أول مرة أراه وهو يعمل‪..‬‬
‫‪391‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫مضى القليل من الوقت‪ ،‬فالتقطتُه من انغماسه قائلة‪:‬‬


‫‪« -‬هل ما زال أمامك الكثير؟»‬
‫رفع رأسه بسرعة وكأنه انتبه لوجودي‪..‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬مضت ربع ساعة وال أريد أن نتأخر على أمي‪ ،‬فهي تجلس وحدها‬
‫ً‬
‫منشغل يمكننا أن نذهب أنا وهي إلى البيت»‬ ‫بالسيارة‪ ،‬إِ ْن َ‬
‫كنت‬
‫قال‪:‬‬
‫انهمكت في العمل ولم أشعر بالوقت‪ ،‬سنتحرك اآلن‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬آسف‬
‫وسأجري االتصاالت من البيت»‬
‫أغلق الملف الذي بين يديه والتقط الملف اآلخر‪ ،‬أطل هيثم برأسه من‬
‫الباب بعد أن طرقه‪ ،‬وقال بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪« -‬سيد حمزة‪ ..‬الرجل الذي أخبرتك عنه‪ ،‬أتى اآلن ويسأل عنك‪..‬‬
‫هل أخبره أنك هنا أم أتركه يرحل؟»‬
‫قال حمزة وقد بدا االهتمام على وجهه‪:‬‬
‫‪« -‬أدخله اآلن»‬
‫غاب هيثم دقيقتين‪ ،‬سمعنا صوت طرقاته وهو يفتح الباب‪ ،‬ثم دلف‬
‫الرجل إلى الغرفة بعرجته‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪392‬‬

‫فاغرا فاه متسعة عينيه من‬


‫وقف حمزة ببطء وهو ينظر إلى الرجل بتمعن ً‬
‫ً‬
‫مندهشا‪:‬‬ ‫المفاجأة‪ ،‬وقال‬
‫‪« -‬غسان!!!»‬
‫مبتسما‪ ،‬جرى حمزة تجاهه‬
‫ً‬ ‫اقترب الرجل أكثر‪ ،‬وأومأ له برأسه‬
‫واحتضنه بقوة‪ ،‬ثم أفلته وهو يتحسس كتفيه‪ ،‬وما زالت المفاجأة تتملكه‪،‬‬
‫فقال بصوت متقطع‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن‪ ..‬ولكن‪..‬كيف‪ ..‬أليس من المفترض أن تكون …‪.‬؟!»‬
‫قال بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪« -‬سأشرح لك كل شيء ولكن ليس هنا»‬
‫قال حمزة‪:‬‬
‫‪« -‬حسنًا سنذهب اآلن إلى أي مكان مناسب نجلس به حتى أفهم‪ ..‬ما‬
‫زلت غير مصدق‪ ..‬أشعر كأنه حلم وسأفيق منه»‬
‫انتبه حمزة لوجودي‪ ،‬فقال للرجل وهو يشير تجاهي‪:‬‬
‫‪« -‬أعرفك بزوجتي‪ ..‬حنين»‬
‫بدت السعادة على وجه الرجل‪ ،‬وقال متفاج ًئا‪:‬‬
‫‪« -‬تزوجتها؟!»‬
‫مبتسما‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫إلي حمزة‬
‫نظر ّ‬
‫‪393‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬نعم»‬
‫‪« -‬لذلك رجعت إلى هنا؟»‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬تقابلنا صدفة‪ ..‬وكان سبب لقائنا مريم»‬
‫قفز الشوق إلى عيني الرجل وقال بصوت حاني‪:‬‬
‫‪« -‬مريم»‬
‫‪« -‬ال تقلق‪ ..‬هي في الحفظ والصون»‬
‫ثم سأله حمزة مسر ًعا وكأنه تذكر شي ًئا‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن أين أسيل؟»‬
‫طأطأ الرجل رأسه إلى األرض أس ًفا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬توفيت»‬
‫وربت على كتفه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫ظهر الحزن على وجه حمزة‪،‬‬
‫‪« -‬هون عليك يا صديقي»‬
‫ثم قال له‪:‬‬
‫‪« -‬هيا لنخرج من هنا‪ ..‬فأنا أحتاج لسماع الكثير منك كي أفهم»‬
‫متجها إلى الخارج‪ ،‬أخذني حمزة من يدي وسرنا‬ ‫ً‬ ‫تقدمنا الرجل‬
‫ِ‬
‫وراءه‪ ..‬لم أكن أفهم شي ًئا مما جرى‪َ ..‬م ْن هذا الرجل؟ وم ْن أين أتى؟ و َم ْن‬
‫أسيل التي يسأل عنها حمزة؟‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪394‬‬

‫وجلست بجانب أمي في الخلف بينما جلس الرجل‬


‫ُ‬ ‫وصلنا إلى السيارة‬
‫في المقعد األمامي‪..‬‬
‫إلي أمي بيدها متسائلة عن الرجل‪ ،‬رفعت كتفي وأخرجت‬
‫أشارت َّ‬
‫شفتي السفلي ً‬
‫قليل أجيبها بأنني ال أعرف‪..‬‬
‫انطلق حمزة في طريقه‪ ،‬وبدأ هو والرجل في الحديث عن الماضي‬
‫وسرد بعض الذكريات بينهما‪ ،‬ظللنا أنا وأمي صامتتين حتى وصلنا إلى‬
‫إحدى المقاهي ذات الطراز الحديث جلسنا على أريكتين حول طاولة‬
‫بجانب نافذة تطل على كوبري استانلي((*‪ ..‬جاءنا النادل وطلبنا بعض‬
‫المشروبات الباردة‪ ،‬أكمل حمزة والرجل حديثهما‪ ،‬فقررت أمي قطعهما‬
‫إلشراكنا في الحوار قائلة‪:‬‬
‫لست من هنا»‬
‫‪« -‬لكنتك غريبة يا بني‪ ،‬من الواضح أنك َ‬
‫أجاب حمزة مسر ًعا‪:‬‬
‫‪« -‬يا إلهي‪ ..‬أخذنا الكالم ونسيت أن أعرفكما على غسان»‬
‫نظر إلينا وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬غسان فلسطيني الجنسية وزوجته أسيل سورية‪ ،‬تعرفت عليهما‬
‫في أثناء سفري‪ ،‬كانا يسكنان في البناية نفسها التي أسكن بها‪ ..‬اهتما بي‬
‫وبأموري عندما عرفا ما مررت به وتقاربنا من بعضنا يو ًما بعد يوم‪ ،‬اكتشفت‬

‫إحدى الكباري الشهرية باإلسكندرية‬ ‫* ‬


‫‪395‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫أن غسان يحب علم البرمجيات مثلي فأنشأنا أنا وهو شركة صغيرة هناك‪،‬‬
‫وأثبتنا نجاحنا بوقت قصير‪ ،‬وبدأنا بجمع األموال لتكبير شركتنا وتزويد‬
‫العمالة بها‪ ،‬وفي هذه األثناء ُرزق غسان وأسيل بمريم‪ ،‬وكانت من أجمل‬
‫األشياء التي حدثت لنا»‬
‫أكمل حمزة‪:‬‬
‫وصرت مالز ًما لها في كثير من الوقت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫«ارتبطت بمريم جدًّ ا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫وأحبتني هي وتعلقت بي‪ ،‬كانت ال تهدأ إال مع أبيها وأمها وأنا‪ ..‬اختلف‬
‫كل شيء بعدما ُولدت وحلت بركة مجيئها على حياتنا‪ ..‬كان كل شيء يسير‬
‫ً‬
‫جمال‪،‬‬ ‫على ما يرام‪ ..‬الشركة تدر األموال ومريم تكبر شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬وتزداد‬
‫وأزداد تعل ًقا بها‪ ،‬تحسنت معيشتنا»‬
‫تنهد حمزة وتابع‪:‬‬
‫‪« -‬حتى ذلك اليوم عندما شاهدنا تلك الغارات الجوية على سوريا‪،‬‬
‫وازداد عدد القتلى والجرحى بها‪َ ،‬ج َّن جنون أسيل حينها فالقصف كان‬
‫على القرية التي تعيش بها أسرتها‪ ،‬وانقطعت الخطوط فلم تتمكن من‬
‫االتصال بهم لالطمئنان عليهم‪ ،‬اتصل بها ابن عمها الذي يعيش بالخارج‬
‫أيضا وأخبرها أنه تمكن من التوصل إليهم ومعرفة أحوالهم وأن أباه‬‫ً‬
‫ُأصيب إصابة بالغة جراء القصف ويشعر باقتراب األجل ويريد أن يراها‪،‬‬
‫هرولت أسيل بجمع أشيائها ورفضت االنتظار حتى تهدأ األمور وتنتهي‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪396‬‬

‫الغارات بتلك المنطقة‪ ،‬أخبرني غسان أنه لن يتركها تسافر إلى هناك وحدها‬
‫وسيسافر معها‪ ،‬ولكنهما سيتركان معي مريم؛ خو ًفا عليها من أن يحدث أي‬
‫شيء مفاجئ كما أنهما لن يستغرقا أكثر من أسبوع وسيعودان»‬
‫زاد‪ ،‬وهو ينظر تجاه غسان‪:‬‬
‫‪« -‬سافرا وتركا لي مريم‪ ،‬تابعتهما طوال الطريق حتى وصال إلى‬
‫هناك وانقطعت االتصاالت‪ ..‬مر أسبوع ثم الثاني والثالث‪ ،‬شهر ولم‬
‫يعودا واختفى أثرهما‪ ..‬اتصلت بابن عم أسيل فأخبرني أنه ال يعلم شي ًئا‬
‫وطلب مني أن أعطيه يومين‪ ،‬وسيحاول خاللهما أن يصل إلى أية معلومات‬
‫عنهما‪ ..‬مرت أربعة أيام واتصل بي بعدها وأخبرني بصوت يشوبه الحزن‬
‫أنه في أثناء مرورهما بإحدى القرى القريبة من قرية أسيل وهما في طريقهما‬
‫إلى المطار‪ ،‬تعرضت تلك القرية للقصف و ُقصفت شاحنتهما ومات السائق‬
‫وكل من فيها»‬
‫بدأ صوت حمزة يتغير إثر تذكره لشعوره حينها ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫وأقسمت‬
‫ُ‬ ‫‪« -‬بكيت وقتها كما لم ِ‬
‫أبك من قبل‪ ،‬احتضنت مريم بقوة‬
‫أن ُأحسن تربيتها وأحافظ عليها ًّبرا ووفا ًء لغسان وأسيل وما فعاله معي‪،‬‬
‫ولكن مع مرور الوقت بدأت أشعر بالوحشة الشديدة في غربتي خاصة بعد‬
‫ورجعت بالفعل منذ‬
‫ُ‬ ‫رحيلهما‪ ،‬فقررت حينها أن آخذ مريم وأعود إلى هنا‪،‬‬
‫سنتين وبضعة أشهر وافتتحت شركتنا»‬
‫‪397‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ربت‬
‫اغرورقت عينا غسان بالدموع بعد أن انتهى حمزة من كالمه‪َ ..‬‬
‫حمزة على كتفه وقال‪:‬‬
‫‪« -‬واليوم كانت المفاجأة أن غسان ما زال ح ًّيا ُيرزق»‬
‫ثم سأله‪:‬‬
‫‪« -‬واآلن أخبرني يا صديقي ماذا حدث معك؟ وكيف أخبرني ابن عم‬
‫أسيل أنكما ُقتلتما وأنت مازلت على قيد الحياة؟ وكيف ماتت أسيل؟»‬
‫َخ َّي َم الصمت لدقائق‪ ،‬ثم أكمل غسان ً‬
‫متأثرا‪:‬‬
‫«بالفعل تم قصفنا كما أخبرك ابن عم أسيل رحمها الله في أثناء مرورنا‬
‫بإحدى القرى المؤدية إلى طريق المطار‪ ،‬ماتت أسيل ومات كل َم ْن كان‬
‫في الشاحنة إال أنا وشخص آخر كانت إصابتنا خطيرة‪ ..‬أنقذنا أهل القرية‬
‫واستطاعوا نقلنا إلى مكان آخر به مشفى‪ ،‬ولكن كانت االتصاالت منقطعة‬
‫عن هذا المكان‪ ،‬نجحوا في إسعافنا بالرغم من إمكاناتهم المتواضعة وكانوا‬
‫متعجبين من نجاتنا وأخبرونا أننا ِ‬
‫حيينا فقط؛ ألن الله أراد لنا ذلك‪ ،‬بقينا‬
‫قليل وهدأت األوضاع لكن‬ ‫فترة طويلة بذلك المشفى حتى تحسنت حالتنا ً‬
‫أصيبت قدمي إصابة بالغة ولم أستطع المشي‪ ،‬فتم نقلي إلى مشفى آخر بإحدى‬
‫حل لذلك‪ ،‬وهناك أخبروني أنه‬ ‫األماكن إمكانياته الطبية أفضل حتى يجدوا ًّ‬
‫يجب إجراء عملية‪ ،‬وسيرون بعدها هل أستطيع أن أمشي عليها مرة أخرى‬
‫مع العالج الطبيعي أم ال‪ُ ..‬أجريت العملية الحمد لله ونجحت وبقيت بعدها‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪398‬‬

‫سنة أمارس العالج الطبيعي حتى استطعت المشي عليها ثانية‪ ،‬وخالل هذه‬
‫الفترة كنت أقوم باالتصال عليك كلما ُأتيحت االتصاالت فأجد هاتفك‬
‫خارج الخدمة‪ ،‬اتصلت بابن عم أسيل وأخبرني أنه قال لك نبأ وفاتنا ومن‬
‫كثيرا وما من إجابة‪ ،‬ولم‬
‫اتصلت بهواتف الشركة ً‬ ‫ُ‬ ‫وقتها ال يعلم عنك شي ًئا‪،‬‬
‫أستطع إرسال رسالة إلى بريدك اإللكتروني فحاسوبي وهاتفي الذكي ذهبا‬
‫مع الحادث‪ ،‬بقيت حتى أخبرني األطباء أنني اآلن أستطيع التحرك بمفردي‪،‬‬
‫وكان أول ما فعلته تحركي إلى المطار مباشرة فأخذت طائرة العودة‪ ،‬حمدت‬
‫الله أن جواز سفري كان بجيبي في أثناء الحادث وإال كان ذهب مع بقية‬
‫عدت إلى بنايتنا وتفاجأ صاحبها‬ ‫ُ‬ ‫األشياء ولم أستطع السفر‪ ،‬وفور وصولي‬
‫تركت المكان فلم تعد‬
‫َ‬ ‫عند رؤيتي حتى كاد أن يغشى عليه‪ ،‬وأخبرني أنك‬
‫ظننت أنك من الممكن‬ ‫ُ‬ ‫طلبت منه أن أستخدم حاسوبه‪..‬‬‫ُ‬ ‫تتحمله بعد رحيلنا‪،‬‬
‫أن تعيد افتتاح شركتنا في المكان الذي ذهبت إليه‪ ..‬وصدق حدسي عندما‬
‫تنويها أن جميع نشاطات الشركة تحولت‬ ‫ً‬ ‫دخلت إلى موقع الشركة وجدت‬
‫وذهبت‬
‫ُ‬ ‫عرفت حينها أنك جئت إلى هنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫إلى مصر ومكتوب عنوانها الجديد‪،‬‬
‫بعدها إلى البنك فأخبروني عندما تأكدوا من هو َّيتي أنه تم عمل حساب باسم‬
‫مريم وتحولت جميع أموالي إليه‪ ،‬ونصيبي من الشركة‪ ،‬أما حساب الشركة‬
‫مصر‪..‬حجزت تذكرة في أول طائرة قادمة‬
‫ُ‬ ‫األساسي فقد تم تحويله إلى فرع‬
‫وذهبت إلى شركتك‪ ..‬لم أشأ أن أخبرهم َم ْن أنا‪ ،‬وأحببت أن ألتقيك‬ ‫ُ‬ ‫إلى هنا‬
‫بنفسي‪ ،‬والحمد لله أنني وجدتك اليوم»‬
‫‪399‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫باسما‪ ..‬تنهدت أمي‬


‫ً‬ ‫انتهى غسان من كالمه وهو ينظر إلى حمزة‬
‫مستغربة‪ ،‬ثم قالت وهي تضرب كفيها ببعضهما‪:‬‬
‫‪« -‬سبحان الله سنظل نرى العجائب في هذه الدنيا حتى نموت»‬
‫قال غسان‪:‬‬
‫‪« -‬كل شيء في هذه الدنيا يقدره الله لسبب‪ ..‬ومن المؤكد أن كل هذا‬
‫حدث لسبب ما‪ ..‬ربما حدث هذا كله ليقرر حمزة العودة إلى هنا ويلتقي‬
‫هو وحنين مرة أخرى ويتزوجان»‬
‫إلي ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫التفت ّ‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫كثيرا‪ ،‬وكان حزينًا للغاية ألنه لم يستطع‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬حكى لنا حمزة عنك ً‬
‫وتكرارا أنا وأسيل في أمر‬
‫ً‬ ‫االرتباط بك ولن ُأخفي عليك ألححنا عليه ً‬
‫مرارا‬
‫مازحا‬
‫ً‬ ‫الزواج‪ ،‬وكنا نأتي له بالفتيات‪ ،‬وكان يرفض تما ًما وأحيانًا كان يوقفنا‬
‫أنه ينتظر مريم حتى تكبر وسيتزوجها»‬
‫ً‬
‫خجل من كالمه‪..‬‬ ‫نظرت إلى األرض‬
‫ُ‬
‫اتجه إلى حمزة ً‬
‫سائل‪:‬‬
‫‪« -‬ولكن كيف تزوجتما؟»‬
‫‪« -‬قصة طويلة سأخبرك تفاصيلها الح ًقا»‬
‫أومأ برأسه ثم قال‪:‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪400‬‬

‫كثيرا‪ ..‬أوحشتني‬
‫‪« -‬هل سنذهب اآلن إلى البيت؟ أشتاق لرؤية مريم ً‬
‫تلك الصغيرة»‬
‫قال حمزة بحماس‪:‬‬
‫كثيرا عند رؤيتك وستفرح»‬
‫‪« -‬بالتأكيد ستتفاجأ ً‬
‫قاطعتهما‪:‬‬
‫‪« -‬مع احترامي لرغبتك يا سيد غسان‪ ..‬أنا أعلم مدى اشتياقك‬
‫لمريم‪ ..‬ولكنها لم ترك منذ عامين‪ ،‬بالتأكيد ستتعجب من ظهورك المفاجئ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وربما لن تتذكرك ولن يستوعب عقلها هذه األحداث كلها‪ ،‬ولو‬
‫كثيرا»‬
‫أخذتها من بيننا فجأة سيؤثر هذا على نفسيتها ً‬
‫علقت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬إِ ْن كنا نحن الكبار لم نستوعب بعد فما بالها الصغيرة»‬
‫وأكد حمزة‪:‬‬
‫ِ‬
‫«معك حق فيما تقولين»‬ ‫‪-‬‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال غسان‬
‫‪« -‬هل معنى هذا أنني لن أستطيع أخذها اليوم؟!»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال لألسف»‬
‫‪401‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬ومتى أستطيع أخذها؟»‬


‫أجبته‪:‬‬
‫‪« -‬أنا أرى أن تظل مريم كما هي بيننا‪ ،‬وتأتي أنت لزيارتنا وتقضي‬
‫اليوم معنا حتى تعتاد عليك من جديد فتأخذها حينها»‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال‬
‫‪« -‬ولكن ليس لدي وقت لهذا فموعد طائرتي يوم الثالثاء القادم»‬
‫سأله حمزة متعج ًبا‪:‬‬
‫‪« -‬ولِ َم العجلة؟»‬
‫قال‪:‬‬
‫«غبت سنتين يا حمزة والكثير يعتقد أنني ميت‪ ..‬يجب أن ُأعيد إجراء‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫الكثير من األشياء‪ ،‬وسأبدأ ببناء كل شيء من جديد فال يوجد وقت أضيعه»‬
‫متحمسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫صمت برهة ثم قال‬
‫َ‬
‫‪« -‬لماذا ال تعود معي ونفتح شركتنا من جديد‪ ،‬وتترك أي شخص تثق‬
‫أيضا وتلحقك زوجتك بعد ذلك‬
‫به إلدارة فرع الشركة هنا‪ ،‬ونتابع عملها ً‬
‫ونعيش هناك م ًعا من جديد»‬
‫قال حمزة‪:‬‬
‫«سافرت في البداية ألن جميع األبواب ُأغلقت بوجهي أما اآلن فال‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪402‬‬

‫جدوى من السفر بعد أن تزوجنا‪ ..‬سأتابع أنا فرع الشركة هنا وتهتم أنت‬
‫بالشركة هناك ونتواصل م ًعا»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬لن ُعد إلى موضوعنا األساسي مريم‪ ..‬أرى أنه ما دام اقترب موعد‬
‫سفرك يا سيد غسان‪ ،‬إ ًذا يجب أن تبدأ بالمجئ إلى بيتنا من اليوم‪ ..‬فاليوم‬
‫األربعاء وبقي أقل من أسبوع على سفرك‪ ،‬وأتمنى أن يكون هذا وقتًا كاف ًيا‬
‫لتستوعب مريم األمر‪ ،‬وتذهب ونحن مطمئنين أنها ستكون بخير»‬
‫قالت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬نعم يجب أن نطمئن عليها أنها لن تشعر بالخوف من هذه التغيرات‬
‫المفاجئة‪ ..‬يكفيها يا حبيبتي أنها فقدت والدتها»‬
‫قمنا متجهين إلى البيت بعد أن اتفق الجميع على اقتراحي‪ ..‬أتى حمزة‬
‫ببعض الحلوى قبل وصولنا إلى البيت وأعطاها لغسان لكي يعطيها لألوالد‪،‬‬
‫فهذا مدخل جيد ليتقبلوه ويقبلوا عليه‪ ،‬وصلنا إلى البيت وكان بانتظارنا‬
‫قليل عند رؤية غسان‪ ..‬اغرورقت عين‬ ‫األوالد كعادتهم لكنهم انكمشوا ً‬
‫غسان بالدموع عند رؤية مريم‪َ ..‬مدَّ ذراعيه لها وناداها بحنو‪:‬‬
‫‪« -‬مريم»‬
‫بقيت في مكانها وهي تتمعنه وتحاول أن تتذكره‪ ،‬لكنها اختبأت خلف‬
‫رجل حمزة عندما ناداها ثانية‪ ،‬حملها حمزة واقترب بها إلى غسان‪ ،‬فأعطاها‬
‫‪403‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫شي ًئا من الحلوى التي معه فأخذتها منه وابتسمت له‪ ،‬مسح غسان على شعرها‬
‫كنت أوصيته قبل أن نصعد أن يعاملها بلطف وال ينكب بمشاعره عليها‬ ‫وقبلها‪ُ ،‬‬
‫فتخاف‪ ،‬وستعتاد عليه رويدً ا رويدً ا‪ ،‬ظل براء ومارية بمكانهما وهما يتابعان‬
‫الموقف وتبدو عليهما عالمات التساؤل مما يحدث‪ ،‬أخبرتهما بصوت‬
‫منخفض أنه والد مريم‪ ..‬ظهرت الدهشة على مالمحهما دون أن ينطقا‪..‬‬
‫بقي غسان معنا طوال هذا اليوم يالعب األطفال هو وحمزة وكان سعيدً ا‬
‫دخلت إلى المطبخ لمساعدة‬ ‫ُ‬ ‫للغاية أن مريم بدأت تعتاد عليه وتالعبه‪،‬‬
‫الخادمة سمر في تحضير العشاء‪ ،‬أتى براء بجانبي وأنا أقطع الخضروات‬
‫على اللوح الخشبي لتحضير السلطة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬أمي»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫‪« -‬هل ستذهب مريم اليوم مع والدها؟»‬
‫‪« -‬ال ليس اليوم‪ ..‬بعد عدة أيام إن شاء الله»‬
‫‪« -‬ولكن كيف عاد والدها؟ ألم تخبريني أن أباها وأمها ذهبا إلى الله»‬
‫‪« -‬اممم‪ ،‬كان من المفترض أن يكون ذهب إلى الله ولكن تفاجأنا‬
‫اليوم أنه ما زال بيننا»‬
‫أيضا؟»‬‫‪« -‬وهل هذا يعني أنه من الممكن أن يفاجئنا أبي ذات يوم ويأتي ً‬
‫علت المفاجأة وجهي من كالمه‪ ،‬تابع‪:‬‬ ‫نظرت إليه وقد ْ‬ ‫ُ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪404‬‬

‫‪« -‬ألم تخبريني أن أبي ذهب إلى الله إ ًذا يمكنه أن يعود كما عاد والد مريم»‬
‫ركبتي لتكون عيني بعينه وقلت‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫تركت ما في يدي ونزلت على‬ ‫ُ‬
‫أبوك وضع مختلف‪ ..‬فأبوك لن يعود ألنه اآلن بمكان‬ ‫‪« -‬براء حبيبي‪َ ،‬‬
‫أفضل إن شاء الله فلماذا يعود‪ ..‬نحن َم ْن سنذهب إليه»‬
‫قال متفاج ًئا‪:‬‬
‫‪« -‬ح ًّقا؟»‬
‫أومأت له برأسي قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬سنذهب جميعنا إلى هناك إن شاء الله وسنلعب ونمرح‬
‫وسنأكل رقائق البطاطس كما يحلو لنا فلن تكون وقتها مضرة واآليس كريم‬
‫أيضا فلن يكون هناك شتاء قارص»‬ ‫ً‬
‫اتسعت حدقتا براء ولمعت عيناه حماسة وهو يقول‪:‬‬
‫‪« -‬ح ًّقا؟»‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬أرأيت‪ ،‬أليس من األفضل أن نذهب نحن له بدل أن يأتي هو»‬
‫كثيرا»‬
‫‪« -‬نعم ذلك أفضل ً‬
‫سألني‪:‬‬
‫‪« -‬ومتى سنذهب إليه؟»‬
‫‪« -‬عندما يشاء الله»‬
‫قليل‪ ،‬فقاطعته قائلة‪:‬‬ ‫سرح براء بخياله ً‬
‫‪« -‬هيا اآلن اذهب وامرح معهم ريثما ُيوضع طعام العشاء»‬
‫‪405‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وه َّم بالذهاب‪ ..‬ناديته بعد أن خرج‪:‬‬


‫أومأ لي برأسه َ‬
‫‪« -‬براء»‬
‫‪« -‬نعم يا أمي»‬
‫‪« -‬بأية نكهة ستطلب رقائق البطاطس حينها؟»‬
‫مفكرا‪ ،‬ثم قال بعد تفكير‬ ‫ً‬ ‫عقد ذراعيه ووضع يده اليمنى تحت ذقنه‬
‫عميق‪:‬‬
‫‪« -‬بالفراولة»‬
‫تعجبت من اختياره وأنا أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أتوق لتذوقها معك»‬
‫ابتسم لي براء ثم ذهب‪ ..‬وضعنا العشاء وأكلنا جمي ًعا وودعنا غسان‬
‫بعدها ورحل‪..‬‬
‫أتى بعدها يومين آخرين فلزمنا فيهما طوال اليوم‪ ،‬ويلعب مع األطفال‬
‫وباألخص مريم حتى أتى يوم السبت وذهبنا جمي ًعا إلى مدينة األلعاب المائية‪،‬‬
‫كثيرا فهذه أول مرة يذهبون إلى هناك‪ ،‬مر اليوم سري ًعا واستأذننا‬
‫سعدوا األطفال ً‬
‫غسان أن تبيت معه مريم ابتدا ًء من الليلة لكن حمزة عارضه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ال يا غسان ستبقى مريم معنا لموعد السفر حتى ال تتأثر»‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫مناسب بهذا‬
‫ٌ‬ ‫‪« -‬بعد إذنك يا حمزة ولكن أرى أن اقتراح السيد غسان‬
‫تبيت معه مريم هذين اليومين قبل السفر حتى تعتاد أنها‬ ‫الوقت‪ ،‬يجب أن َ‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪406‬‬

‫ستكون بجانبه‪ ،‬كما أنها اعتادت عليه في األيام السابقة‪ ،‬وأظنها لن تشعر‬
‫بالخوف إِ ْن ذهبت معه وسنقوم بتبديل األداور‪ ،‬ونحن َم ْن سنأتي لزيارتها‬
‫بالفندق»‬
‫ظهر الضيق على وجه حمزة وهو يومئ برأسه مواف ًقا‪ ،‬أخذ غسان‬
‫مريم وقمنا بوداعهما وإخبارها أننا سنأتي لزيارتها غدً ا‪ ،‬رجعنا إلى البيت‪،‬‬
‫فورا من فرط اإلرهاق‪ ،‬وأخبرتني الخادمة أن أمي ذهبت‬ ‫ونام براء ومارية ً‬
‫للنوم منذ ساعة‪ ،‬دخلنا إلى الفراش بعد أن بدلنا مالبسنا‪ ،‬ومازالت عالمات‬
‫الضيق على وجه حمزة وهو ينظر إلى السقف‪..‬‬
‫قلت وأنا أنظر إليه‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أظن أن أحدً ا هنا متضايق من ذهاب مريم وكان يرفض ذهابها ليس‬
‫ألنها لم تعتد كما ادعى ولكن ألنه ال يريد ذلك من األساس»‬
‫أشاح حمزة بنظره بعيدً ا ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ال أتخيل فراقها يا حنين فجأة هكذا‪ ،‬الزمتني آخر سنتين من‬
‫اعتدت على وجودها‬ ‫ُ‬ ‫عمري‪ ..‬نفطر م ًعا ونأكل م ًعا وننام م ًعا ونسافر م ًعا‪..‬‬
‫بحياتي»‬
‫وربت عليها‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫التقطت يديه‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أعلم جيدً ا ما تمر به يا حمزة‪ ،‬ولكن أال ترى معي أن غسان ظهر‬
‫كثيرا‪ ..‬كنت تنام بجانب‬ ‫بالوقت المناسب‪ ..‬فبعد زواجنا تغيرت األمور ً‬
‫مريم ستنام اآلن بجانبي‪ ..‬كنتما تأكالن بمفردكما اآلن سنأكل جمي ًعا م ًعا‪..‬‬
‫‪407‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫هذه التغيرات الكبيرة كانت ستؤثر عليها بالتأكيد بشكل سلبي‪ ،‬وأنا أرى‬
‫أن الله أرسل إليها غسان بهذا الوقت لنبقى بذاكرتها ذكرى طيبة جميلة لم‬
‫تجرحها أو تؤذيها يو ًما»‬
‫زدت‪:‬‬
‫هز رأسه مؤيدً ا لكالمي‪ُ ..‬‬
‫‪« -‬كما أننا سنتواصل معهما دو ًما وسنكلمهما باستمرار فاإلنترنت‬
‫اآلن َق َّر َب كل شيء فلم يعد أحدٌ بعيدً ا»‬
‫نظر إلي ثم قال‪:‬‬
‫كثيرا‬ ‫ِ‬
‫كنت سأتأثر ً‬‫‪« -‬الحمد لله أنك معي‪ ..‬فلو تركتني مريم وأنا وحدي ُ‬
‫أنت وبراء ومارية والخالة مديحة»‬‫فما يخفف عني ذهابها هو وجودك بجانبي ِ‬
‫مسحت بيدي على وجنته ولحيته ببطء‪ ،‬وأنا أبتسم له قائلة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫أيضا نشعر بالسعادة ألنك معنا»‬ ‫‪« -‬نحن ً‬
‫تابعت وأنا يغلبني التثاؤب‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬يجب أن ننام اآلن حتى نريح أجسادنا من إرهاق اليوم حتى نستطيع‬
‫باكرا للذهاب إلى مريم»‬ ‫االستيقاظ غدً ا ً‬
‫أومأ لي برأسه وقال‪:‬‬
‫‪« -‬تصبحين على خير»‬
‫‪« -‬وأنت من أهله»‬
‫أطفأنا األباجورات المجاورة للسرير‪ ،‬وغططنا في نوم عميق‪ ..‬مرت‬
‫األيام بعدها سري ًعا ونحن نذهب إلى مريم ونقضي معها اليوم بأكمله‪ ..‬لم‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪408‬‬

‫شعرت بسعادتها واختالفها بجوار غسان حتى‬ ‫ُ‬ ‫أشعر بخوفها بل بالعكس‬
‫أتى يوم سفرهما‪ ،‬أوصلنا غسان ومريم إلى المطار‪ ،‬وكانت تلك المرة‬
‫األولى التي أرى فيها دموع حمزة وهي تجري على وجهه وهو يحتضنها‪،‬‬
‫و َّدعناهما على وعد من غسان أن يأتيا لزيارتنا مرة أخرى قري ًبا‪ ،‬وأنه سيبقى‬
‫على تواصل معنا كي نطمئن عليهما باستمرار‪ ..‬بدءا باالبتعاد شي ًئا فشي ًئا‬
‫فلوحا لنا‬
‫ونحن نراقبهما من وراء الحاجز الزجاجي حتى وقفا أمام بوابة َّ‬
‫واختفيا من أمام أعيننا متجهين لليمين‪..‬‬
‫رجعنا إلى البيت‪ ،‬ودخل حمزة إلى غرفته‪ ،‬وأغلق عليه الباب‪ ..‬لم‬
‫أحب أن أقتحمه وتركته؛ فمن حقه أن تأخذ مشاعره وقتها في الحزن‪..‬‬
‫حال‪ ..‬احتضنته فور خروجه‪،‬‬ ‫خرج حمزة بعد بضع ساعات وقد بدا أفضل ً‬
‫ثم قلت له باسمة‪:‬‬
‫‪« -‬اشتقنا إليك»‬
‫وأكملت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تصنعت الغضب‬
‫ُ‬
‫‪« -‬بالمناسبة بدأت أغير من مريم»‬
‫تابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫فضحك حتى بدت نواجذه‪،‬‬
‫جاهزا»‬
‫ً‬ ‫‪« -‬هيا انضم إليهم على المائدة‪ ،‬دقائق وسيكون العشاء‬
‫أومأ لي حمزة برأسه واتجه إليهم‪ ..‬سمعت أمي وهي تحكي له عن‬
‫بعض ذكرياتها مع أبي رحمه الله عند أول زواجهما‪ ،‬وكم مرة أحرقت‬
‫رغما عنه لكي ال تغضب حتى جاء يو ًما‬ ‫فيها الطعام‪ ،‬وكان أبي يتناوله ً‬
‫‪409‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫وصارحها أنه لن يغامر بصحته بأكل هذا األكل ثانية وبدأ يعلو صوت‬
‫حمزة بالضحك‪..‬‬
‫وأخذت أنا‬
‫ُ‬ ‫انتهينا أنا والخادمة من وضع األطباق على المائدة‪،‬‬
‫األخرى في سرد بعض المواقف المضحكة التي حدثت لي عندما كنت‬
‫صغيرة مع أبي وأمي‪..‬‬
‫جوا من المرح يشترك‬‫كنا نحاول أنا وأمي أن نخفف عن حمزة فنصنع ًّ‬
‫أيضا بذهاب مريم‪..‬‬ ‫فيه الجميع فبراء ومارية تأثرا ً‬
‫انتهينا من الطعام وتوجهنا إلى غرفة المعيشة‪ ..‬أتت الخادمة بالعصائر وبدأت‬
‫بصبها في األكواب‪ ..‬توقفت فجأة عند سماع جرس البيت‪ ..‬قلت مستغربة‪:‬‬
‫‪َ « -‬م ْن يأتينا بهذه الساعة؟»‬
‫نظرت إلى حمزة سائلة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪« -‬أتنتظر أحدً ا ما؟»‬
‫أجاب حمزة وهو ينظر إلى ساعة يده‪:‬‬
‫‪« -‬أظنه قد حان وقت المفاجأة»‬
‫فرحا لوال أن حمزة قطع عليهما‬ ‫قفز براء ومارية وهما يصيحان ً‬
‫حماسهما ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬هذه المفاجأة ليست لكما»‬
‫إلي وأكمل‪:‬‬‫نظر ّ‬
‫‪« -‬هذه مفاجأة لمن لم يحظوا بمفاجأة بعد‪ ..‬أمكما وجدتكما»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪410‬‬

‫تعجبت أمي‪:‬‬
‫‪« -‬مفاجأة لي أنا!!»‬
‫نظرت إليه سائلة‪:‬‬ ‫ْ‬
‫‪« -‬أيوجد مدينة ألعاب مائية لمن هم في سني؟»‬
‫عال صوتنا بالضحك من سؤال أمي‪ ..‬وقال حمزة‪:‬‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬مفاجأة أحلى من األلعاب المائية»‬
‫وضعت الكوب من‬‫ُ‬ ‫رن الجرس ثانية فاتجهت الخادمة لفتح الباب‪..‬‬
‫يدي وأنا أحدق بالباب غير مصدقة وأقول بفرح‪:‬‬
‫‪« -‬آسر»‬
‫عبس وجه أمي وأشاحت بوجهها بعيدً ا‪ ..‬جريت نحوه واحتضنته‪..‬‬
‫كان يعاملني بشيء من التكلف‪ ،‬دخل واتجه صوب أمي التي لم تتحرك من‬
‫مكانها‪ ،‬وألقى عليها السالم‪ ،‬فردت باقتضاب شديد‪ ،‬جلس بجانبها وقال‪:‬‬
‫وقدمت إلى هنا فال تصعبي‬
‫ُ‬ ‫تركت عملي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أرجوك كفى‪ ..‬لقد‬ ‫‪« -‬أمي‬
‫الموضوع على نفسي»‬
‫نظرت إليه أمي متشككة قائلة‪:‬‬ ‫ْ‬
‫تركت عملك ح ًّقا؟»‬
‫َ‬ ‫‪« -‬هل‬
‫قال مؤكدً ا‪:‬‬
‫وتركت كل شيء وأتيت»‬
‫ُ‬ ‫تركت عملي‬
‫ُ‬ ‫لك‬‫‪« -‬أقسم ِ‬
‫اقتربت منه أمي واحتضنته وهي تقول‪:‬‬
‫‪411‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬الحمد لله‪ ..‬الحمد لله يا بني أن َم َّن الله عليك بترك هذا العمل‪..‬‬
‫كنت أدعو الله ليل نهار أن يهديك ويردك إلينا»‬
‫ق َّبل آسر يد أمي وظل بقربها‪..‬‬
‫قال حمزة‪:‬‬
‫‪« -‬أظن آسر يشعر باإلجهاد من السفر‪ ..‬ستقوم سمر بتحضير غرفته‬
‫لينام ويرتاح ريثما يتناول العشاء»‬
‫بقينا تلك الليلة حول آسر ونحن نرحب به ونعبر عن سعادتنا بقدومه‪..‬‬
‫كان يرد ببعض الكلمات البسيطة وأحيانًا يكتفي بإيماءات رأسه‪..‬‬
‫استأذن آسر للنوم‪ ،‬وقامت أمي معه وأخبرتنا أنها ستنام بجواره الليلة‪..‬‬
‫وبقيت مستيقظة أفكر بشأن‬
‫ُ‬ ‫نام براء ومارية واستسلم حمزة للنوم سري ًعا‪..‬‬
‫كنت أحاول أن ُأذهبها‬‫آسر ومجيئه‪ ..‬راودتني الكثير من األفكار والظنون ُ‬
‫من رأسي و ُأطمئن نفسي أن األمور ستكون بخير ويكفي أنني على تأكد تام‬
‫أن أمي تنام الليلة وهي بكامل سعادتها لعودة آسر إلى أحضانها مرة أخرى‪..‬‬
‫بقيت أتقلب في السرير حتى سمعت أذان الفجر‪ ،‬أيقظت حمزة‬
‫للصالة وأيقظت أمي‪..‬‬
‫صلت أمي وعادت للنوم ثانية‪ ،‬وعاد حمزة من المسجد إلى مكتبه‬
‫وقال إنه سيراجع بعض األوراق التي يحتاجها في اجتماع اليوم للشركة‬
‫وسيذهب للنوم بعدها حتى يحين موعد ذهابه‪.‬‬
‫ذهبت إلى السرير مجد ًدا ولكن تمكّن األرق مني فلم أستطع النوم‪..‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪412‬‬

‫قمت إلى المطبخ وأعددت كو ًبا من الشاي باللبن وارتديت حجابي ودلفت‬ ‫ُ‬
‫إلى الشرفة‪ ،‬جلست على إحدى المقاعد البالستيكية وأنا أنظر لزرقة البحر‬
‫بدأت تلمع بنور الصباح‪..‬‬
‫ْ‬ ‫البعيدة‪ ،‬وأتأمل السماء وقد‬
‫أحسست بيد تلتف حول‬
‫ُ‬ ‫تناولت رشفة من الكوب وأنا احتضنه بكلتا يدي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رقبتي بحنان من الخلف‪ ،‬ثم طبع قبلة على وجنتي‪ ،‬وقال بصوت منخفض‪:‬‬
‫‪« -‬لماذا لم تكملي نومك؟»‬
‫ابتسمت له قائلة‪:‬‬
‫‪« -‬لم أذق النوم من األساس ألكمله»‬
‫بدت عالمات االستغراب على وجه حمزة‪ ،‬وهو يجذب المقعد‬ ‫ْ‬
‫ويجلس أمامي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪« -‬ولِ َم؟»‬
‫قلت‪:‬‬‫ُ‬
‫ممزوج بكثير من التفكير»‬
‫ٌ‬ ‫‪ٌ -‬‬
‫«أرق‬
‫«وفيم تفكرين؟»‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫تنهدت ثم نظرت إليه‪:‬‬ ‫ُ‬
‫مضطرا»‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬أشعر أن آسر لم يأت بكامل إرادته وكأنه أتى‬
‫ً‬
‫سألته‪:‬‬
‫‪« -‬كم الراتب الذي عرضته عليه لإلتيان والعمل معك؟»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪413‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫‪« -‬وبماذا سيفيد معرفة هذا األمر؟»‬


‫‪« -‬سيفيد أنني سأعرف هل عاد من أجلنا أم من أجل المال»‬
‫‪« -‬وإِ ْن عاد من أجل المال ما الضرر؟!»‬
‫نظرت بعيدً ا ولم أجد إجابة لسؤاله‪ ..‬تابع‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬حنين ال تتعمقي في التفكير في األمور لهذه الدرجة لن يفيدك إذا‬
‫عرفت أنه رجع من أجلكم أم من أجل األموال بل معرفة هذا األمر من‬ ‫ِ‬
‫الممكن أن يصيبك بالحزن‪ ،‬إ ًذا لماذا تبحثين عن شيء يحزنك؟! انظري‬
‫إلى األمر بمجمله‪ ،‬إلى الفائدة من ورائه‪ ..‬حتى إن رجع من أجل األموال‬
‫يكفي أنه عاد إلينا من جديد وأنه ترك عمله وهذا مكسب بحد ذاته‪ ،‬أنا متأكد‬
‫أنه سيعود إلينا بروحه كما كان ولكن شي ًئا فشي ًئا‪ ..‬حدثت الخطوة األصعب‬
‫وكل ما بعدها من خطوات ستأتي الح ًقا إن شاء الله»‬
‫اقتنعت بكالمه‪ ،‬وأومأت له برأسي موافقة‪ ،‬وأنا أقول‪:‬‬‫ُ‬
‫‪« -‬معك حق‪ ..‬يكفي أنه عاد إلينا من جديد وإن لم ِ‬
‫نجن شي ًئا من وراء‬
‫عودته إال راحة أمي كفى بها»‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬نعم‪ ..‬ألم تري كيف تبدلت مالمحها حينما أخبرها آسر أنه ترك‬
‫وظيفته؟»‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬اجتاح الفرح وجهها دفعة واحدة‪ ..‬لم أرها بهذه الفرحة منذ زمن»‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ ‫‪414‬‬

‫وقلت‪:‬‬
‫توجهت إليه باسمة ُ‬
‫ُ‬ ‫وشعرت أنه الوقت المناسب‪..‬‬
‫ُ‬ ‫َخ َّي َم الصمت ً‬
‫قليل‬
‫«قمت بالعديد من المفاجأت الفترة الماضية لألوالد ولي وألمي»‬ ‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬أتمنى أن يكون كل شخص قد فرح بمفاجأته»‬
‫‪« -‬نعم جميعنا ِ‬
‫فرحنا»‬
‫قلت بحماس‪:‬‬ ‫ثم ُ‬
‫‪« -‬وبقي أنت وحان وقت مفاجأتك اآلن»‬
‫اندهش‪ ،‬وهو مبتسم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬مفاجأتي؟»‬
‫‪« -‬نعم مفاجأتك‪ ..‬دقيقة وسآتي بها»‬
‫وفتحت أحد أدراج الخزانة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واتجهت إلى غرفة النوم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قمت من مكاني‬ ‫ُ‬
‫وعدت إليه‪..‬‬
‫ُ‬ ‫التقطت منه مظرو ًفا‬
‫ُ‬
‫وضعته أمامه على الطاولة‪ ..‬التقطه وهو يقلبه مستغر ًبا ويقول‪:‬‬
‫‪« -‬أهذه مفاجأتي؟!»‬
‫‪« -‬نعم»‬
‫ساخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫بدأ بفتح المظروف وهو يقول‬
‫‪« -‬أتمنى أال تكون تذكرة لمدينة األلعاب المائية»‬
‫ضحكت قائلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪« -‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬اطمئن»‬
‫‪415‬‬ ‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬

‫ضاقت عيناه وهو يحدق بداخله‪ ..‬أخرج ذلك المستطيل األبيض‬


‫البالستيكي الصغير وبوسطه خطان أحمران‪..‬‬
‫إلي ببطء وكأنه قد استنتج شي ًئا ما‪،‬‬
‫تأمله برهة مستغر ًبا‪ ،‬ثم رفع رأسه ّ‬
‫فرحا‪ ،‬فسألني بتردد‪:‬‬
‫بدأت حدقتا عينيه تتسع ً‬
‫‪« -‬هل‪ ..‬هل‪ ..‬هل ِ‬
‫أنت …»‬
‫يدي فوق يديه‪ ،‬ونظرت إلى عينيه‪ ،‬وقلت وقد‬ ‫ووضعت ّ‬
‫ُ‬ ‫اقتربت منه‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫خجل‪:‬‬ ‫توردت وجنتاي‬
‫‪« -‬أنا حامل»‬

‫(تمت)‬
‫حا‬
‫‪ 3:09‬صبا ً‬
‫ا لسبت‬
‫‪ - 26‬ديسمبر ‪2015 -‬‬
‫َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن‬ 416

‫صفحة الرواية‬

https://www.facebook.com/YasmineQandil

You might also like