Professional Documents
Culture Documents
حنين PDF
حنين PDF
حــــــنِـــــيــــ ْ
ن اسم الكتابَ :
التوزيع والنشر
Darelbasheer@hotmail.com
Darelbasheeralla@gmail.com
ياسمين قنديل
5 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
إهداء
()1
إن لم يكونوا يو ًما من نصيبنا إ ًذا لماذا ظهروا في حياتنا من البداية؟!!
كيف تسللوا بخفة إلى قلوبنا فتمكنوا منها إلى هذا الحد..
نفعل الكثير؛ لنتحرر من سطوتهم وال نفلح ،فنعود واقفين على أعتاب
أرواحنا نرجو الرجوع إلى ما كانت عليه ساب ًقا..
الرجوع إلى حياتنا قبل ظهورهم..إلى أنفسنا القديمة..
فنكتشف الحقيقة وقتها أن ال رجوع!!
كتبت تلك
ُ ووضعت القلم جان ًبا بعد أن
ُ أغلقت دفتري الرمادي
ُ
الخاطرة؛ لتخرج ً
قليل مما يجول بصدري.
نظرت باتجاه النافذة وأنا جالسة على مقعد مكتبي أراقب شعاع ُ
ٍ
الشمس وهو يتسلل ببطء إلى أرضية الغرفة ويطل بخيوطه الذهبية على كل
وتغيرت بمجيئه.
ْ تبدلت
ْ شيء بداخلها فيكشف عن سحر خاص لها وكأنها
مددت كلتا
ُ تحرك بانسيابية نحوي وبدأ دفؤه يداعب أطراف أصابعي،
قدمي ألنعم بأكبر حصة منه..
ّ
وبقيت
ُ أغمضت عيني
ُ تقدم تدريج ًّيا وهو يضم أطرافي شي ًئا فشي ًئا،
ساكنة مستسلمة الحتوائه.
7 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
كثيرا في أثناء
أشعر بالراحة في سريري وأحمدُ الله أنني ال أتقلب ً
نومي فهو متوسط الحجم وال تسمح مساحته بكثير من التقلبات ،خزانة
قمت برسمها منذمالبسي من ضلفتين إحداهما مزينة ببعض الورود التي ُ
زمن ،ومكتبي صغير يعج سطحه بالكثير من الكتب في شكل عمودي على
كوب ملي ٌء باألقالم بأنواعها
ٌ اليمين واليسار يتوسطها حاسوبي وبجانبها
المختلفة ودرجان بطول المكتب يحتويان على دفاتري وأشيائي السرية
التي ال يعرفها أحد.
أحاول بين الحين واآلخر أن أضيف إلى الغرفة لمستي األنثوية
الخاصة ،أزينها بالفراشات والورود والنجوم ...أكتب بعض العبارات
وأعلقها هنا وهناك ...جعلت منها عالمي الخاص الذي أشعر بالخصوصية
وأنا بداخله وأسعد وأنا أصنعه.
استندت إلى حافة النافذة بظهري وأنا أنظر إلى جدرانها ،وأفكر ماذا
ُ
يمكنني أن أجدد بها؟
ٍ
طرقات على الباب يعقبها صوت أمي منادية: صوت
ُ قاطع تفكيري
« -حنين..حنين»
« -نعم يا أمي»
« -هيا يا حبيبتي الفطور جاهز»
« -حسنًا أنا قادمة»
9 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ولممت
ُ عدلت هندامي أمام المرآة التي تلتصق بإحدى ضلفتي الخزانة،
ُ
خصالت شعري المنسدلة على وجهي بطوق بسيط مزين بورود صغيرة..
وتمشيت في الرواق ألصل إلى غرفة الطعام..
ُ خرجت
ُ
أنعم الله علينا ببيت كبير وواسع ،واستغل أبي وأمي هذا فلم يزحماه
بكثير من األثاث ،أكثر أثاث بيتنا بسيط قليل الحجم ويختلف عن طراز
األثاث القديم المليء بالزخارف والنقوشات فال يحتوي الكثير منها.
أتعجب من بعض شقق صديقاتي ذات المساحات الصغيرة وهي تعج
بكثير من األثاث الضخم الباهظ الثمن ،فينتج عن ذلك ضيق المساحة،
وجلب الكآبة لكل َم ْن يراه.
فوجدت أبي بانتظاري ويزين محياه ابتسامته
ُ وصلت إلى غرفة الطعام،
ُ
المعهودة التي تحوي بين طياتها فرحة مشتاق برؤية حبيبه.
وقارا
كان أبي أصلع الرأس ،تكسو الشيبة لحيته وحاجبيه فتضيف إليه ً
وحكم ًة ،ومالمحه تعلوها الطيبة والود ،ولكن وضع الزمان بصمته عليها
فظهر ذلك في بعض التجاعيد والخطوط التي تحيط بكلتا عينيه.
مبتسما:-
ً ور َّد ُه أبي ،ثم قال –وهو ال يزال
ألقيت السالم َ
ُ
« -كيف حال حبيبتي الصغيرة؟»
كثيرا ولكن
« -الحمد لله بخير يا أبي ..انتظرتك باألمس على العشاء ً
غلبني النوم ولم أستطع االنتظار أكثر»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 10
شفتي مفكرة..
ّ شردت وأنا أتناول ببطء حلقة من الخيار وأضعها على
ُ
أسرتي ..تُرى كيف ستكون؟ كم سيكون عددها؟ كم سأنجب من
الصبيان والفتيات؟ ومن سيكون شريكي بها؟
« -في ماذا تشردين يا حنين؟» انتبهت لسؤال آسر ،وهو يخطف باقي
وضعت كفي على فروة رأسه ،فخرج شعره الطويل
ُ حلقة الخيار من يدي،
من بين أصابعي وحركتها يمنة ويسرة ،وأنا أقول:
« -ال شيء أيها المزعج»
ظهرت عالمات الضيق على وجهه وهو يزيح يدي عن رأسه سري ًعا ً
قائل: ْ
وتكرارا ال تقتربي من شعري» مرارا ُ ِ
ً «قلت لك ً -
« -ولهذا أنا ال أقترب إال منه»
ضحك أبي وأمي ،وسأل أبي آسر وسط ضحكه:
« -هيا يا بطل أخبرنا كيف كانت مغامراتك باألمس؟»
أعتقد أن سؤال أبي اليومي هذا هو أحد أسباب سعادة آسر؛ فهو الوسيلة
التي من خاللها يستطيع أن يقص علينا عجائبه وغرائبه التي حدثت خالل يومه.
متحمسا جدًّ ا
ً انتهينا من الطعام وآسر لم يتوقف عن الكالم بعد ،كان
وهو يحكي كيف أنه نجا بأعجوبة من اصطدامه بالحائط وهو يركب دراجته
بعد أن كان بينهما خمسة سنتيمترات فقط ،كنا نضحك من طريقة سرده
المسترسلة واندماجه في الحدث كأنه يحدث اآلن..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 14
●●●
15 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()2
مال قرص الشمس عن كبد السماء وبقي ٌ
قليل من ضوئها وقد توارت
بالحجاب ،بدأ الظالم بإسدال ستائره شي ًئا فشي ًئا معلنًا عن قدومه.
كانت أمي تجلس في ذلك اليوم وهي تتأبط إبرتين طويلتين تحت ذراعيها
وتحيك كنزة صوفية حمراء اللون البنة جيراننا الصغيرة وقد استقرت على أرنبة
أنفها نظارتها مستطيلة العدسات ،وهي تقوم بنسج الغرز بشكل آلي وسريع يدل
علمت أن لجيراننا الجدد
ْ على مهارة اكتسبتها عبر زمن من الممارسة ،فمنذ أن
قررت أن تصنع واحدة لها من باب كسب الود وإشعارهم باأللفة بيننا..
ْ ابنة
تمارس أمي هذه الهواية منذ زمن ،أتذكر مدى إعجاب أقاربنا بكنزاتنا
الصوفية التي كانت تصنعها ونحن صغار ،ويطلبون منها أن تصنع مثلها ألبنائهم.
دخل أبي إلى البيت بخطوات مسرعة وهو ينادي أمي على عجل:
« -مديحة ..مديحة»
قامت أمي من مكانها تاركة ما بيدها ،وتقول بصوت يشوبه القلق وهي
تخلع نظرتها:
« -خير يا طارق ..هل حدث شيء؟»
أمسك أبي بيدها ليذهب عنها قلقها ،وهو يقول:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 16
« -الال..اطمئني»
أخرجت زفرة تنم عن االرتياح وقالت متعجبة:
«اعتدت أن أول ما تفعله عند دخول البيت أن تلقي السالم فلما
ُ -
تخيلت أنه حدث شيء ما ..أخبرني ماذا هناك؟»
ُ رأيتك تناديني مسر ًعا
جلس أبي وهو ال يزال ممسكًا بيدها ،وأجلسها أمامه ً
قائل:
« -كنت أفكر في أمر ما ،وأريد أن أستشيرك به»
« -تفضل»
وجدت شا ًّبا في المسجد يصلي العصر معنا
ُ « -من قرابة ثالثة أسابيع
كثيرا حينها ولكن
كان ال يحمل أي شيء سوى حقيبة صغيرة ،لم أنتبه إليه ً
الحظته في بقية األيام يصلي جميع الصلوات فتخيلت أنه انتقل حدي ًثا إلى
منطقتنا ،وكما تعرفين أي شخص جديد نحب أن نرحب به ونشعره باأللفة
وتعرفت عليه لم يخبرني الكثير عنه ،ولكن عرفت أنه أتى إلىُ ذهبت
ُ بيننا،
هنا لزيارة صديقه عمر -رحمه الله -أتتذكرينه؟»
هزت أمي رأسها:
« -نعم أتذكره رحمه الله»
« -لكنه لم يكن يعلم بخبر وفاته وتفاجأ حينما أخبره أهالي المنطقة
عندما سألهم عنه ،وأخبرني عثمان حارس المسجد أنه ال يملك مكانًا
وجدت عثمان يقول
ُ ليذهب إليه ،فعرض عليه المبيت بالمسجد ،واليوم
17 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
له إن عليه إيجاد مكان آخر بد ًءا من الليلة؛ ألن ذلك يخالف تعليمات
ذهبت إليه وسألته
ُ إدراة المسجد ومن الممكن أن يلحق هذا الضرر به،
ماذا سيفعل ،فوجدت الحيرة في وجهه ،وقال إنه سيحاول أن يتصرف في
تذكرت حينها غرفة السطح وأنها فارغة إال من بعض األثاث القديم
ُ األمر،
ففكرت لِ َم ال نستضيف هذا الشاب بها هذه الفترة حتى يجد مكانًا ينتقل
إليه ،فما رأيك؟»
نظرت أمى مل ًّيا ،وقد بدت عليها عالمات التردد قائلة:
« -عهدتك س َّبا ًقا للخير طوال عمرك يا طارق ،ولكن تريد أن تسكن
شا ًّبا ال تعرف عنه شي ًئا في بيتنا!! ال نعرف َم ْن هو وال من أين أتى؟ ولماذا
منذ مجيئه وهو يبيت بالمسجد أليس له أقارب أو أصدقاء آخرون يبيت
عندهم؟ وإن لم يكن له فلماذا مكث هنا كل تلك الفترة؟»
أجاب أبي سري ًعا ،وكأنه كان يعلم كالم أمي مسب ًقا:
« -أعلم أن كل كالمك صحيح مئة بالمئة يا مديحة ولكن من خالل
معاشرتي له وجدت في ذلك الشاب حسن الخلق والخير وارتحت له
كثيرا ،وال أظن أنه شخص مخادع وأرجو أال يخيب ظني به»
ً
جذبت أمي يدها من يد أبي ،ووقفت وهي تقول مستنكرة:
«أية معاشرة تتحدث عنها يا طارق؟! أنت لم تعرفه سوى من بضعة
أيام!! أنت طيب القلب ،وتظن أن الناس جميعهم مثلك ،ال تنخدع
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 18
بالمظاهر يا عزيزي ..فكر معي ما الذي يجعل شا ًّبا يأتي إلى منطقة ال يعرفه
بها أحدٌ إال شخص واحد ويمكث بها هذه الفترة؟! أليس من المنطقي أن
يعود بعدما وجد صديقه قد توفي؟ ما أدرانا ربما يكون فعل فعلة كبيرة
ضخما وأراد أن يختبئ ،أو يكون قد ً ويريد الهروب ،أو ربما سرق مبل ًغا
قتل أحدهم وجاء هنا لينجو بفعلته ،أو ربما…»
قاطعها أبي ،وهو يقف ويقول مستغر ًبا:
« -كفى ..كفى ..ما كل هذه الظنون!! لماذا نظن السوء بالناس مع أن
األصل أن نحسن الظن بهم؟!»
وربتت على كتفه بيدها قائلة:
ْ اقتربت منه
ْ
« -ألن هذا هو الواقع يا أبا آسر»
ظل أبي وأمي يتبادالن الجمل ،وأنا جالسة على األريكة بالقرب منهما
أراقب نقاشهما ،وقد احتد ما بين رفض أمي ومطلب أبي..
وسألت:
ُ ذهبت بالقرب منه
ُ لم يقطع حديثهما إال جرس الباب،
َ « -م ْن؟»
أتاني ذلك الصوت األجش:
« -أنا خالك محمود يا حنين افتحي»
فتحت الباب سري ًعا فدخل خالي وضمني بحنان فتغلغل عطره في
ُ
كبيرا من الفاكهة..
كيسا ً
أنفي ،قبلني وأعطاني ً
19 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
سمعنا صوت أقدام آسر وهي تجري في الرواق حتى وصل إلى خالي
وقفز في محاولة منه للوصول إلى عنقه ليحتضنه ،رفعه خالي بجسده
مبتسما:
ً الهزيل إليه ،وهو يقول
ً -
«أهل بالولد الشقي»
مستنكرا:
ً أنزل خالي آسر وهو ينظر إلى أبي وأمي ويشير إليهما في تساؤل
« -ماذا أصابكما؟ أسمع صوتكما من بداية الدرج»
ردت أمي:
« -حمدً ا لله أنك أتيت اآلن يا محمود احضرنا في هذا الموقف»
جلس خالي محمود ،وبدأت أمي تقص عليه كالم أبي..
خالي محمود هو أخو أمي من الرضاعة ،كان أبوه وأمه جيرانًا لجدتي
-رحمها الله ،-توفيت أمه في أثناء والدته فأولته جدتي الرعاية بجانب
والده ،وأرضعته مع أمي التي تكبره بشهرين فصارا أخوين من الرضاعة..
هيئته الضخمة ،وبنيته الطويلة ،وكرشه المتدلي أمامه ،وبشرته البيضاء
المشربة بحمرة ،وعيناه الضيقتان ،وصوته األجش كل هذا يعطي انطبا ًعا
أنه شخص قاسي شديد الطباع ،ولكن ما إن تجلس معه حتى تكتشف طيبة
قلبه وصفاء روحه ،يشعر بالتعب مع زوجته فهي ترهقه بطلباتها المادية غير
مراعية ظروفه وراتبه القليل ،ويشغل بالها حياة اآلخرين ومستوى معيشاتهم
فتعقد مقارنات بين حياتهم وحياتها فتغضب ساخطة على وضعها..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 20
كانت أمي تصبره وتعلل ما هي فيه أنه ربما انعكاس لشعورها بالحزن
ألنهما لم يرزقا باألطفال وقد تقدما بالسن ،وتنصحه بالتزام الدعاء أن
يصلح الله حالها وال يجعل للشيطان بينهما ً
سبيل.
انتهت أمي من سرد موقف أبي وهي منفعلةَ ،ح َّك خالي ذقنه الالمعة
التي يبدو أنه حلقها للتو ،وقال وهو يفكر:
« -ال أعلم ماذا أقول ..أعلم يا طارق أن حب الخير بداخلك كبير،
وأنك تقدم على مساعدة اآلخرين دون النظر إليهم ،ولكن أشعر أن مديحة
معها حق في هذا الشأن ،أن تسكن هذا الشاب في بيتك يعني أنه ربما تتستر
على أمر ما قام به وتساعده على الهرب بفعلته»
قال أبي وقد تملكه الضيق:
« -أنتما تقوالن هذا ألنكما لم ترياه ،أنتما تطلقان تلك األحكام كلها
جزا ًفا لمجرد أنه كان يبيت بالمسجد ،ربما أراد الرجوع فقطعه ٌ
عذر أو
حابس فظل هنا»
ٌ حبسه
قالت أمي:
« -ولماذا لم يخبرك بذلك؟»
أجابها بشيء من الغضب:
« -لكل شخص أموره الخاصة يا مديحة وله الحق بإخفائها وال دخل
لي أنا بهذا ،أريد استضافة هذا الشاب من باب المعروف ال أكثر»
21 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ثم قام وهو ينظر أمامه ،وقد عقد كفيه خلف ظهره ،وأكمل بهدوء:
« -لقد اتخذت قراري لن أدع هذا الشاب يتخبط بين الطرقات اليوم
لمجرد ظنون سيئة ال أساس لها ،سأستضيفه بغرفة السطح حتى يجد مأوى
آخر له»
ثم نظر إلى أمي وخالي:
« -أما بالنسبة لشكوككما وأسئلتكما فسوف أطرحهاعليه ،وأنا متأكد
أنه سيجيبني بأسباب منطقية وسيخيب ظنكما»
قالت أمى باستغراب مذهولة:
«ما هذا ياطارق؟ منذ متى ونحن نتعامل بهذا الشكل؟! لم ُيتخذ
أي قرار في هذا البيت إال بعد موافقتنا م ًعا عليه ،منذ متى وأنت تفرض
قراراتك؟!»
َه َّم أبي بالرد ولكن أوقفه خالي بيده وهو يشير إلى االثنين؛ ليتمهال
ويتح َّليا بالهدوء ،ثم قال في محاولة منه لتلطيف الجو:
« -حسنًا سنقسم البلد نصفين»
نظر إلى أمي وتابع:
« -سيأتي هذا الشاب كما يريد طارق ،وسيسكن بغرفة السطح حتى
يجد مسكنًا آخر»
التفت إلى أبي ،وقال:
َ ثم
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 22
« -أتفهم حسن ظنك يا طارق ولكن مديحة محقة فيما تفكر به؛ لذا يجب
أن تسأله عن سبب مكوثه هنا حتى اآلن ،ومن أين أتى حتى تطمئن قلوبنا»
عابسا وهو يهز رأسه في داللة
ً هزت أمي رأسها وأشاح أبي بوجهه
منهما على اقتناعهما بكالم خالي ،رمق خالي أمي بطرف عينيه وحركهما
وهو يميل برأسه ً
قليل تجاه أبي في إشارة منه إليها لتلين الوضع..
فهمت أمي أشارته ،قالت -وهي واضعة إحدى يديها تحت ذقنها،
وتنظر بعيدً ا عاقدة حاجبيها:-
« -إ ًذا متى سيحضر؟ حتى أتصل بأم سعد كي تأتي وتساعدني في
تنظيف الغرفة»
انفرجت أسارير أبي ،وقال:
« -سأذهب اآلن إلى المسجد وأخبره ،وسيأتي معي بعد صالة العشاء»
نظرت أمي إلى الساعة المعلقة على الحائط ،ثم قامت وهي تقول:
« -لم يبق كثير من الوقت على صالة العشاء سأقوم اآلن واتصل بها
حتى تستطيع المجئ»
قام خالي ورفع رأسه إلى أعلى وهو يضم ياقة قميصه ً
قائل:
« -حسنًا سأذهب على طريق طارق فلدي كثير من األشياء التي يجب
أن أنجزها»
وقلت بحزن:
ُ زمجر آسر غاض ًبا،
23 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وضع آسر الصينية على الطاولة التي تتوسط غرفة االستقبال ،واستأذن
أيضا لوال
هممت بالدخول وراءه إلى غرفتي أنا ً
ُ منهما ودخل إلى غرفته،
سمعت أبي يقول:
ُ أنني
« -حمزة أريد أن أخبرك بشيء»
ظلت نفسي تتأرجح ما بين أنه يجب أن أدخل إلى غرفتي وال أسترق السمع
ْ
وبين فضولي ألعرف ماذا يريد أن يقول أبي حتى استسلمت لفضولي بالنهاية..
أكمل أبي بصوت يكسوه الود:
«قمت ببناء هذا البيت منذ زمن وعشت به أنا وأسرتي فقط ،ولكن
فكرت فيما بعد لماذا ال أستفيد من هذه الشقق المغلقة وأقوم بتأجيرها،
وأجرتُها جمي ًعا بالفعل.
َّ
جميع ساكني هذا البيت أنا أعرفهم جيدً ا عائلة عائلة ،فر ًدا فر ًدا ،وأنا
جارا لنا ،وأنا
أظن بك الخير يا بني ،ولكنك ستدخل بيتنا من الليلة وستصير ً
ال أعرف عنك شي ًئا سوى أشياء قليلة ،وأرجو أال يضايقك هذا ولكن أريد
أن أعرف لماذا تمكث إلى اآلن بمنطقتنا وليس لك فيها أقارب أو أصدقاء؟
ومن أين أتيت؟ وما هي طبيعة عملك؟ أعلم أن لكل إنسان خصوصياته
ولكن أظن أشياء كهذه يعلمها جميع من حولك عنك ،كما أنني أريد أن
أعرف جاري الجديد أكثر»
سمعت صوتًا هادئًا يقول:
ُ َخ َّي َم الصمت بعض الوقت ،ثم
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 26
« -عمي طارق ال أعرف ماذا أقول لك أمام صنيع معروفك لوال الله
ثم أنت لكنت اآلن أتجول في الطرقات؛ بح ًثا عن مكان للمبيت ،ويكفي
سيرتك التي يشهد بها جميع أهالي المنطقة ،ودو ًما يتردد اسمك في
المسجد ً
مثال لألمانة والكرم ،ووضح هذا جل ًّيا في موقفك معي ،لكن
أرجوك أكمل صنيعك واعفني من الرد على كل هذه األسئلة ،سيأتي الوقت
المناسب الذي أستطيع أن أشرح لك فيه كل شيء»
تغيرت نبرته ً
قليل: ْ سمعت صوت أبي وقد
ُ
« -أتفهمك يا حمزة وأحترم رغبتك ،،وإِ ْن كنت أفضل أن تخبرني
بهذه األمور اآلن ،ولكن لن أضغط عليك ،وأتمنى أن يأتي الوقت الذي
تعطيني فيه ثقتك قري ًبا وتخبرني أكثر عنك»
« -يا عمي المسألة ال تتعلق بالثقة ولكن األمر متعلق بي أنا وبظروف تحوطني»
انتقل صوت أبي ألعرف أنه اقترب منه ،وقال بصوت منخفض بالكاد سمعته:
« -يا بني ال تثقل على نفسك ،كتمان األمور بكثرة يجعلها مثل الجبل
قليل؛ ليخفف عبء قلبه على الصدر ..أحيانًا يحتاج اإلنسان أن يبوح ً
ويهون على النفس ما تحمله ..ال أعلم إِ ْن كان أبوك ال يزال على قيد الحياة
وهل هو مسافر أم هنا ،وال أعلم إن كان لديك أخ أو أخت أو صديق تبوح
لهم ،ولكن إذا شعرت بأي وقت أنك تحب أن تتكلم فستجدني حينها كلي
آذان صاغية ولن تجد مني غير النصح»
27 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
●●●
29 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()3
ألقيت حقيبتي الجلدية ذات اللون األسود جان ًبا ،واستلقيت على ظهري
فوق السرير فاردة ذراعي ،وأنا أنظر إلى السقف بعينين مثقلتين من التعب.
أطلت أمي برأسها من خالل الباب بعد أن طرقته بهدوء ،وقالت:
« -هل أعد ِ
لك الطعام حبيبتي؟»
نظرت تجاهها ،وهززت رأسي ببطء نافي ًة:
ُ
« -ال يا أمي لقد أكلت في الجامعة»
فتحت أمي الباب أكثر -وهي واضعة يدها اليمنى على المقبض ويدها
ْ
اليسرى على خصرها ،-وقالت بضيق:
« -ألم أحذرك مئات المرات يا حنين من تناول الطعام بالخارج،
خاصة من تلك المحال التي تنتشر بكثرة أمام الجامعات وال نعرف من أين
يأتون بمكونات وجباتهم وال كيف يعدونها»
« -كان يو ًما ملي ًئا بالمحاضرات وشا ًّقا ،وشعرت بالجوع فلم أستطع
االنتظار حتى أرجع إلى البيت»
لك الشطائر بالبيت ِ
وأنت ترفضين» عليك مرارا وتكرارا أن أعد ِ
«عرضت ِ ُ -
ً ً
قلت لها وأنا أبتسم:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 30
لقد وضع أبي بذرة حب حمزة في قلبي دون أن يدري ،كل صفة يذكرها
به تلمس شي ًئا بروحي؛ فهذه الصفات هي ما أريدها في فارس أحالمي.
رحيم.
ٌ هذبٌ ..
عاقل.. ٌ
خلوقُ ..م ٌ متدي ٌن..
حتى آسر الذي لم يتقبله في البداية صار يحبه ويجذبه اطالع حمزة
الجيد على العالم اإللكتروني ،بل إن آسر بالرغم من إلحاحنا الشديد عليه
بأن يمارس أية رياضة وأن يحد من عكوفه على تلك األلعاب اإللكترونية
قليل هذه األيام؛ ألن حمزة نجح في إقناعه بممارسة فإنه بدأ باالبتعاد عنها ً
كرة القدم م ًعا لمدة ساعة يوم ًّيا؛ ألن ذلك سيكون جيدً ا لتقوية جسده وعقله
أكثر من األلعاب اإللكترونية.
أصبحت تدريج ًّيا أهتم لسماع أخباره ،وأنتظر أن يقول عنه أبي أو آسر
ُ
رغما عني ،فمشكلةأي شيء ،أحس أنني أتورط بمشاعري أكثر كل يوم ً
رغما عنك حتى تقف الحب أنه يتسلل بنعومة داخل قلبك ويبدأ يكبر ويكبر ً
ذات يوم وتُذهل من حجمه.
الحب هو ذلك الطريق الذي تجد نفسك واق ًفا عليه فجأة فال تستطيع
الرجوع وال تعلم ما أنت ُمقبل عليه.
أحيانًا أشعر بالحيرة في أمري ،هل هو يستحق هذا الشعور؟ وهل به
من الصفات ما أتمناها ح ًّقا؟ ولهذا تعلقت به؟
ب يريد أن يرتاح ً
قليل على ضفة حب تمنحه الحيوية ِ
أم أنه قلبي التَّع ُ
نبضا مختل ًفا طالما اشتاق إليه.
من جديد فينبض ً
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 32
معوية ومن األفضل نقله للمشفى حتى يتم رعايته جيدً ا ،والعجيب في األمر
ِ
أبوك لماذا؟ َر َّد برده أن حمزة رفض تما ًما ذهابه للمشفى ،وعندما سأله
المعتاد (لسبب متعلق بي)!!»
اتجهت بالحديث إلى أبي وهي على انفعالها:
ْ ثم
«ما هو السبب؟!! ما كل هذا الغموض وهذه األسرار ..لماذا ُيحيط
نفسه بكل هذا الكتمان؟! من حقنا أن نطمئن لمن يسكنون بيتنا يا طارق،
أعلم أنك تراه شا ًّبا جيدً ا وأنك تحسن الظن به ،ولكن طريقته هذه تثير
الكثير من األسئلة حوله»
َر َّد أبي وال تزال الحيرة بادية على وجهه:
« -ال أعلم ..أنا كذلك في حيرة من أمري ،لماذا َأ َص َّر بهذا الشكل
أيضا»
على عدم الذهاب إلى المشفى؟! هذه األمور بدأت تثير ريبتي أنا ً
ثم نظر إلى أمي ،وأردف:
عالجا ،وقال إنه سيتحسن
ً « -على العموم وصف له دكتور مرتجى
خالل أسبوعين سنرعاه فيهما ،ولن أضغط عليه بأية أسئلة»
صمت أبي برهة ،ثم قال -وهو يعقد حاجبيه -حاز ًما:
«وبعد األسبوعين إما أن يخبرني بأمره أو أن يعود من حيث أتى»...
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 36
()4
أيقظني صوت دقات قطرات المطر على نافذتي ،هببت من سريري
وأنا ألتقط أطراف شالي األرجواني وأدثر به جسدي؛ خو ًفا من برد محتمل.
كنت أريد أن ُأمتع عيني بمشهد هطول المطر؛ فسماء القاهرة بخيلة وال
تجود بالكثير منه.
ومددت يدي نحو المقبض وحركته ،فلفحني الهواء
ُ اقتربت من النافذة
شعرت
ُ بعض قطرات المطر المنحرفة عن مسارها،
وجنتي ُ
ّ والمست
ْ البارد
وكأنها أنامل رقيقة تداعب وجهي بخجل.
نظرت إلى السماء وقد غطتها السحب بلونها الفضي ،فأضفت عليها
أغمضت عيني وأنا أردد الدعوات بداخلي ..دعواتي التي ال
ُ خاصا،
سحرا ًّ
ً
أستطيع أن أخبرها ألحد.
ما كان يقطعني عن هذا الجمال سوى الضجة التي كانت تحدثها أم
فتحت الباب في ضجر متجهة إلى
ُ سعد بسبب جر األثاث لتنظيف المنزل،
توقفت أم سعد عن جر إحدى المقاعد عند رؤيتي ،وسألتني
ْ الحمام بكسل،
بلكنتها الريفية وقد بدا على وجهها القمحي القلق:
« -هل أيقظتك؟»
37 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
عدت إلى غرفتي؛ لحين انتهاء خالي من تبديل مالبسه ،فتحت الدرج
ُ
وأخرجت بعض األوراق بيدي ،وتناولت باليد األخرى قلمين من أقالم
ُ
الخط العربي من الكوب الملئ باألقالم على المكتب.
مبتسما ،وأنا بانتظاره بغرفة الطعام أجلس على المائدة وقد
ً أطل خالي
بدا أفضل ً
حال.
ابتسمت وأنا أشير إليه باألقالم قائلة:
ُ
« -مضى زم ٌن ولم نمارس هوايتنا المفضلة م ًعا»
متحمسا:
ً ظهر في عينيه ذلك الشغف الطفولي ،وقال
« -نعم ،هيا لنبدأ»
أتذكر عندما كنت طفلة وأنا أتابع خالي باهتمام وهو يمسك بإحدى أقالم
الخط العربى ويكتب لنا لوحاتنا المدرسية فتخرج بشكل جمالي رائع.
وتعلمت على يده أنواع الخط المختلفة،
ُ غرس بداخلي حب هذا الفن
وبرعت في الديواني منها ،وصرنا نمارس هوايتنا م ًعا كلما سنح الوقت بذلك.
ُ
أجمل ما في الخط العربي سالسته ونعومة جريان الحبر على الورق ،فتخرج
الحروف بشكل بسيط وأنيق ،لكن بالرغم من بساطته فهو يحتاج لكثير من التركيز
والتدريب؛ للتحكم بزوايا القلم فينتج عن ذلك لوحة فنية بديعة من الكلمات.
ال أعلم كم َم َّر من الوقت ونحن نكتب ..نكتب آيات قرآنية ،وحروف
متفرقة ،وأبيات من الشعر.
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 40
لم يكن يقطعنا عن الكتابة غير بعض مشاغبات آسر بعد رجوعه من
المدرسة ،أو وقت الغداء ،أو محادثات أمي مع خالي لكننا كنا نرجع
ونكمل ثانية بالحماس نفسه.
كنت أنتبه بشدة وأنا أكتب؛ خشية أن تخط أناملي حروف اسمه بتلقائية ُ
بعد أن كتبتها مرات ومرات ساب ًقا.
صباحا -عال ًقا
ً كنت أكتب والزال حديث األرزاق -الذي بدأته ُ
بذهني ،رزقني الله بالكثير وأمتلك ما يود أي أحد امتالكه ،ستر من الله،
وعائلة جميلة ،وبيت واسع ..أمن وطمأنينة.
يأت بعد ..رزق يراودني طيفه فيثير الحنين بداخليلكن هناك رزق لم ِ
إليه رغم عدم معرفتي إياه.
أعلم أن رزقي سيأتيني يو ًما ما ،كان قري ًبا أو بعيدً ا ال يهمني ،المهم
عندما يأتي يرزقني الله الرضا به والسرور بقدومه.
بعضا باستغراب،
أوقفنا عن الكتابة جرس الباب ،نظرنا إلى بعضنا ً
وسألني خالي:
« -أ تنتظرون أحدً ا اليوم؟» هززت رأسي بالنفي.
فتحت أم سعد الباب ،ثم اتجهت لغرفة مكتب أبي وقالت:
« -أستاذ طارق ،جاركم السيد حمزة على الباب ويريد رؤيتك»
رد أبي من الداخل:
« -أدخليه يا أم سعد»
41 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
سمعنا خطوات تنتقل بخفة مسرعة تأتي نحونا ،أطلت أمي وهي
تهمس لخالي:
« -إنه الشاب صاحب غرفة السطح ،أرجوك يا محمود اخرج وتعرف
عليه وطمئني ،فطارق طيب القلب وينخدع بالمظاهر وليس لديه خبرة في
رؤية حقائق الناس»
أومأ خالي برأسه مواف ًقا ،ثم خرج صوب غرفة االستقبال.
بقيت وحدي بالغرفة وقد شغلني التفكير ،تُرى ما سبب مجئ حمزة ُ
إلى بيتنا؟!! َم َّرت عشرة أيام منذ مرضه األخير ..أحدث شي ٌء جديدٌ ؟
وجدت
ُ تحركت في خطوة سريعة؛ لمعرفة ما يحدث بالخارج ،لكنني ُ
أم سعد قادمة أمامي وتدخل إلى المطبخ؛ لتعد مشرو ًبا لهم ،أوقفتها قائلة:
تأخرت اليوم يمكنك أن تذهبي وسأعد أنا المشروب» ِ « -أم سعد
« -حسنًا يا حنين لقد تأخرت بالفعل ،اقترب الغروب وال أحب أن
أمشي ً
ليل ،العصير بالثالجة ضعي لهم منه ،وسأذهب أنا اآلن»
« -حسنًا في أمان الله ..مع السالمة»
وأخرجت بعض الكؤوس من الضلفة الزجاجية
ُ دخلت إلى المطبخ
ُ
سمعت أبي وهو يقوم بالتعارف بين خالي وحمزة،
ُ ذات النقوش الملونة،
سمعت
ُ توقفت عن الحركة تما ًما ،والتزمت السكون حتى أسمعهم جيدً ا،
ُ
أبي وهو يكمل حديثه ً
قائل:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 42
الخوف والشك في قلبه؛ لذلك أنا هنا اآلن ألفصح عن أمري وأزيل غموضي،
سرا وال يخرج عبر هذه الجدران»
ولكن ما سأقوله أرجو أن يظل ًّ
أردف بصوت متقطع:
مسلما من قبل ،أسلمت منذ عامين ونصف، ً « -أنا ..أنا ..أنا لم أكن
حمزة هو اسم أطلقته على نفسي بعد أن قرأت جز ًءا من سيرة النبي ﷺ
وأعجبت بشخصية حمزة عم الرسول ،لم ينجب أبي وأمي غيري ،من محافظة
المنيا وأعمل بمجال البرمجة ،توفي أبي منذ سنوات عدة ،وأمي امرأة طيبة
كثيرا وخوفها من الفقد جعلها شديدة القلب ولكن بعد وفاة أبي تعلقت بي ً
الطباع معي؛ مما دفعني لكتمان أمر إسالمي عنها لعلمي أنها ربما لن تتقبل هذا
األمر ،وخشيت أن تغضب ،وكان مقابل هذا الكتمان شعور بالمعاناة طوال
فترة وجودي بالبيت ،فلم أكن أعبد الله كما يجب ،ولم أستطع الحفاظ على
صلواتي أو صيامي؛ لذلك أخبرتها أنني سأسافر إلى صديق لي وسنفتح شركة
م ًعا مما يستلزم اإلقامة معه؛ لكي نستطيع متابعة المشروع م ًعا ،ولم أكن أكذب
في ذلك فصديقي الذي عرفني على اإلسالم وأسلمت على يديه هو عمر
مستمر ثم انقطع فجأة ولم ِ
أدر أية ٌ ٌ
تواصل جاركم بالمنطقة ،كان بيني وبين عمر
وسيلة للوصول إليه فهاتفه دو ًما خارج الخدمة ،حاولت أن أتذكر عنوانه حتى
نجحت في معرفته ،فحزمت حقائبي وشددت رحالي إلى هنا ،ولما وصلت
كثيرا ،فيعلم الله
وسألت عنه أخبرني الناس أنه توفي في حادث ،وآلمني هذا ً
أدر ماذا أفعل حينها ،وجدت مقدار حبه ومعزته بقلبي ،شعرت بالتخبط ولم ِ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 44
مفتوحا أمامي فدخلت وصليت ركعتين بكيت فيهما لله وظللتً باب المسجد
مخرجا ،ولم يكن في المسجد سوى ً أدعو لعمر بالرحمة ولي بأن يجعل لي
عم عثمان الحارس الذي سمع بكائي فتقدم نحوي ً
سائل إياي ما بي ،فأخبرته
ٌ
مكان علي وأخبرني أنه إذا لم يكن لي
أنني صديق عمر وكان يعرفه ،أخذ يهون ّ
فيمكنني المبيت بالمسجد»
صمت برهة ،وتابع:
« -بقيت طوال فترة إقامتي بالمسجد أفتح حاسوبي بين الصلوات
وأبحث عن وظيفة عمل مناسبة ولم أجد؛ فمجالي يوجد به الكثير من
المحرمات والحصول على الحالل فيه أمر صعب حتى جاء يوم وأخبرني
عم عثمان ذات يوم أنني لن أتمكن من المبيت في المسجد ثانية ،ويجب
أن أجد مكان ًا آخر من الليلة ،وقتها شعرت بضيق كبير في صدري فليس
لي أحد هنا أستطيع أن أبقى لديه حتى أجد ً
عمل مناس ًبا ،وال يوجد أمامي
سوى الرجوع ،جلست أفكر ماذا يمكنني أن أفعل حتى وجدت عم طارق
يدخل المسجد ويخبرني أنه يريد استضافتي في بيته دون أن يعرف عني أي
شيء سوى القليل ال يعرف من أكون ولماذا مكثت هنا ،أدخلني بيته بحب
وكرم ،فأي ُخلق هذا وأي معدن أصيل يدل على صاحبه.
جارا لكم ،وتقربت من عم طارق وآسر الصغير ،أحببتهما صرت ً
كثيرا ،وشعرت أني واحد منكم وفرد في هذه العائلة ،وشعرت باأللفة وأنا
ً
وح َّل االطمئنان في قلبي بجيرتكم ،أحسنتم رعايتي وقت مرضي،
بقربكمَ ،
45 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
مقابل ،ووجدت فيكم الصدر األمين الذي أستطيع أن أخبره ً ولم تنتظروا
بأمري دون خوف ،واآلن وقد علمتم عني كل شيء لكم حرية اتخاذ القرار
بشأني ،وأي تصرف ستحكمون به سأتقبله بصدر رحب ودعوات من القلب
على حسن استضافتكم الفترة السابقة وجميل صنيعكم معي منذ البداية»
أنهى حمزة كالمهَ ،
وخ َّي َم الصمت على المكان لدقائق ،لم يتفوه أحد
علي..
ببنت شفه ،أعلم وقع المفاجأة عليهم تما ًما مثل وقعها ّ
بدأ أبي بشق هذا الصمت ،وقال مرتبكًا:
« -والله ال أدري ماذا أقول لك يا بني ،أمرك فاجأني وال زال عقلي
يحاول االستيعاب»
لم تعلق أمي بأي شيء وربما هذا ما الحظه حمزة ،فقال:
إحراجا ،يمكنني أن أرحـ …»..
ً « -ال أريد أن يسبب لكم وجودي
قاطعه أبي:
ٍ
إحراج تتحدث يا حمزة؟ اعتبر هذا بيتك وأنك بين أهلك» « -عن أي
إيجارا
ً « -أكرمك الله يا عم طارق ،ولكن مع بداية الشهر سأدفع
لغرفتي ،فلقد حصلت على فرصة عمل مناسبة»
« -دعنا نتكلم في هذا الموضوع الح ًقا»
كثيرا وال أريد أن أهدر وقتكم أكثر من هذا»
« -حسنًا ،لقد أطلت عليكم ً
أوقفه خالي ً
قائل:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 46
« -و َم ْن قال إنني سأطلب منه الرحيل؟!! لن أتركه يذهب ألي مكان
بعدما أخبرنا بأمره»
قامت أمي وهي تقول منفعلة:
« -حسنًا لن أتناقش فلقد مللت من كثرة النقاش في هذا األمر ،وال
أعرف ماذا فعل بك هذا الشاب ،لن تدرك ماذا تفعل ولن تفيق إال عندما
نتورط جميعنا بمشاكل ال حصر لها ،ولكن أية أذية ستحدث لنا من تحت
رأس هذا الشاب ستكون أنت المسئول أمامنا عنها يا طارق»
خرجت من
ُ سمعت خطواتها وهي تتجه للداخل بعد أن أنهت كالمها،
ُ
المطبخ مسرعة قبل أن تراني ،قفلت باب غرفتي ٍ
ببطء حتى ال ُيحدث صوتًا ُ
ساقي إلى صدري وأحيطهما بذراعي؛ ّ وجلست على سريري وأنا أضم
ُ
لكي أهدأ ً
قليل مما سمعت.
هذه المرة األولى التي أميل فيها لقرار أبي وأظن مشاعري هي السبب
في ذلك ،ال أفكر باألمر كما يفكر خالي وأمي.
فأنا أريده أن يبقى ..رغبت في معرفة سره بشدة ،واآلن وقد عرفته
أشعر أنه انتقل لمكانة مختلفة تما ًما بقلبي..
مكانة أكبر وأعمق بكثير...
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 48
()5
أتذكر وقت أن رأيت اسمه أعلى الرسالة كم كانت فرحتي حينها كأنني
كنزا ثمينًا ،لم أقم من أمام جهازي طوال الليل؛ ألرى جميع ما
اكتشفت ً
نشره في السابق.
كان يكتب الكثير من األدعية والمناجاة ،وأحيانًا عن وحدة قلبه،
ٍ
أبيات من الشعر عن الحب ،أكثر ما لفت انتباهي (نور)، وأحيانًا أخرى
فهي تقوم بالرد عليه باستمرار وتضع عالمة اإلعجاب على جميع منشوراته
ٌ
طويل بينهما. وتناقشه في بعض ما يكتبه فيدور ٌ
نقاش
ِ
تكون؟وم ْن أين تعرفه؟ فمن الواضح أنهما مقربان من تُرى َم ْن
بعضا.بعضهما ً
أتكون هي َم ْن يقصدها بأبيات الحب التي يكتبها؟ أتكون هي المعنية
بإجابته عن إحدى أسئلة موقع الـ « ،ask.fmهل عشت ح ًّبا من قبل؟»
فكان رده «ال ،ولكني أظن أنني على مشارفه»
أصابتني شظايا الغيرة منها ،إنها الغيرة الحمقاء أن تغار على شيء ليس
بملكك.
كبيرا بعدها في المكوث على موقع الـ Facebookوأنا
قضيت وقتًا ً
ُ
كنت أقوم بفتح حسابه الشخصي؛ ألنظر إليه
أتابع بشغف جديد ما ينشرُ ،
هكذا فقط ،أشعر أنه الشيء الوحيد الذي يجعلني بالقرب منه ،أريد أن
أعرف عنه أكثر ..أن أكتشف شخصيته أكثر..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 52
أعرف بماذا يشعر اآلن؟ وماذا يحب وماذا يكره؟ َم ْن أصدقاؤه؟ وأين
يذهب؟
ولم يكن أمامي وسيلة لمعرفة هذا كله إال بمالزمة هاتفي الذكي أكثر
الوقت ،فيالحظ هذا أبي وأمي ،ويسخر مني آسر ً
قائل «أنا أصابني إدمان
الحاسوب وحنين أصابها إدمان الهاتف»
عقدت عزمي مرات عدة على التوقف وعدم العودة ثانية ،ولكن ُ
سرعان ما يغلبني شوقي وأذهب لحسابه بعد يوم أو يومين..
كثيرا؛ أنني صرت ضعيفة لهذا الحد وال صار يضايقني هذا الشعور ً
أستطيع أن أتحكم بقلبي ولكن َم ْن في الدنيا قلبه بيده؟!
مشاعره تنبض داخلي بقوة ،أحاول أن أتحكم بزمام أموري وال أتورط
نفسا عمي ًقا
بمشاعري أكثر من ذلك ،وال أعرف السبيل لهذا ..أخذت ً
ببطء ،قمت من غرفتي متجهة للخارج؛ ألبدأ ببعض األعمالٍ وأخرجته
بالشقة ،وأشغل نفسي عن التفكير ،سمعت جرس الباب ،اتجهت إليه
عرق جبينها الحر.
وفتحته فوجدت الطارق أم سعد ،وقد ّ
قضينا نصف النهار أنا وأمي في مساعدة أم سعد ،وتخلل هذه الساعات
حوارات كثيرة من هنا وهناك وبعض أكواب من الشاي ،كنا نترك أم سعد
تستريح فقد بدأ الكبر يتسلل إلى صحتها وينال من جسدها ،بينما أنا وأمي
نكمل العمل وننجز بعض األشياء حتى شرفنا على االنتهاء.
53 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ِ
أصبحت تعملين خاطبة من ورائنا؟» « -ماذا يا أم سعد هل
أمرا مثل هذا ..المهم لم تجيبي على سؤالي»
« -يا ليتني أستطيع ومن يرفض ً
ِ
لديك أحد بمواصفات جيدة أخبرينا بها ونرى» « -ال أدري إن كان
فقطعت هذا الحديث الدائر:
ُ شعرت بالدماء تصعد إلى رأسي،
« -أنا ال أفكر في هذا الموضوع اآلن ال يزال أمامي الكثير ألفعله ..ال
زلت صغيرة»
إلي أمي نظرة ساخرة ،وقالت مستنكرة: نظرت ّ
« -صغيرة!! ِ
أنت عشرين عا ًما يا حبيبتي َم ْن هم في مثل سنك لديهم
أطفال اآلن»
« -أنا ال أفكر في األمور بهذا الشكل»
نسع لشيء ولكن فرصة أتت إلينا لماذا
« -و َم ْن منا يفكر؟! إننا لم َ
نرفضها؟!»
بدأت أمي في النزول من على السلم الخشبي ،وهي تتابع:
« -أخبريني عنه أكثر يا أم سعد»
تلقفت سؤالها أم سعد وأجابت متهللة:
« -هو شاب من أسرة كريمة وطيبة األخالق ال تختلف عنكم في
شيء ..يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عا ًما ،خلوق ،ومتدين ،وحسن الهيئة،
طبيب ،ولديه عيادة خاصة يكسب منها قوت معيشته»
55 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
●●●
59 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()6
شعرت بالبرودة وهي تتسلل إلى جميع أطرافي ،وبخفقات قلبي تتزايد عند
ُ
جلست على طرف السرير وأنا أمسح العرق الذي تندى على
ُ سماع جرس الباب،
جبيني ،أغمضت عيني وسحبت الهواء إلى رئتي في نفس عميق؛ كي أهدأ ً
قليل..
لم أتعرض لهذا الموقف من قبل وال أعرف كيف أجيد التصرف.
وقفت أمام المرآة وأنا ألف حجابي ببطء ،مضت ربع ساعة لم يتركني
ُ
فيها التفكير ..تُرى كيف ستكون الجلسة؟ في ماذا سنتكلم؟ وعن أي
األشياء يجب أن نتحدث؟
باغتني طرق أبي الهادئ على الباب ،وأطل برأسه ً
قائل:
« -حنين هيا يا حبيبتي ..حمزة في انتظارك»
رجعت بذاكرتي عندما نطق أبي باسمه عند هذا الوقت ُقبيل الفجر،ُ
ليل ومحاولته إقناعي بالجلوس مع العريس بعد يومين من جلسة أبي معي ً
الذى أتت به أم سعد ،وأخبرهم صباح اليوم التالي بموافقتي..
كان أبي وأمي يجلسان على أريكة ليست بالبعيدة عني ،وأنا أمارس إحدى
ً
مجال جيدً ا لسخرية آسر مني معظم هواياتي المفضلة كي المالبس التي كانت
متهكما «ستجني الكثير من األموال إن قررتي العمل كصبي
ً الوقت ،ويقول لي
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 60
ِ
انتهيت من كي قميصي األبيض يا حنين؟» « -هل
« -هو في يدي اآلن يا أبي سأنتهي منه وأحضره إليك»
مشيت إلى غرفة أبي
ُ مضت دقائق انتهيت خاللها من كي القميص،
وأنا أفكر هل أسأله عن ماذا كانا يتحدثان؟ أم ألتزم الصمت؟..
وطرقت الباب بدقات خفيفة وأنا أدفعه ببطء قائلة:
ُ وصلت إلى الغرفة
ُ
« -تفضل القميص يا أبي»
« -شكرا ِ
لك حبيبتي» ً
توقفت في
ُ كنت لكني
وأدرت ظهري عائدة إلى حيث ُ ُ ابتسمت له،
ُ
اتخذت طريق الرجوع
ُ وفكرت في العودة إليه وسؤاله،
ُ منتصف الطريق،
فوجدت أبي واق ًفا أمام المرآة يمشط لحيته وشعره ،وقد انتشر أريج عطره
ُ
بالغرفة بعد أن رشه على جسده استعدا ًدا للصالة قلت:
« -أبي»
« -نعم»
« -اممم عندما كنت أقوم بكي المالبس ..سمعتك أنت وأمي تتحدثان
عن أمر أظنه متعلق بي ..هل هناك شيء يدعو للقلق؟»
بعضا:
أجاب أبي وهو يضم طرفي ياقة قميصه إلى بعضهما ً
« -الال يا حبيبتي اطمئني ..كل ما في األمر أن ابنتنا الجميلة كبرت
وأصبحت عروض الزواج تنهال عليها»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 62
ولن تستطيع أن تعيش حياة صعبة كهذه ،أنا أعرف كيف تفكر هي باألمر..
هي تريد أن تسانده في حياته ووحدته وأن تأخذ بيده ،ولكن بناء البيوت ال
يعتمد على هذه األمور وحدها ،حنين فتاة حالمة وتفكر بقلبها ال بعقلها،
هي ال تدري أين مصلحتها ،وأنا أعلم أن مصلحتها بعيدة عن هذا االرتباط»
أما موقف أبي فكان في حيرة من أمره ،يرى كالم أمي منطق ًّيا ،ولكنه
أيضا أنه يجب أال يجبراني على أي موقف سواء بالموافقة أو الرفض،يرى ً
وينبغى أن يفردا لي مساحة من الحرية؛ وأن أحصل على حقي ً
كامل في
االختيار.
لم يوافقني أحد في البيت سوى آسر كان يقف معي بقوة ،ويدافع عن
شخصا مناس ًبا.
ً حمزة ويراه
ربما كانت أمي محقة فيما تقول ،ولكنني أفكر في األمر بشكل
شخصا مثل حمزة وظروفه التي تعرض لها تجعله إنسانًا
ً مختلف ،فأنا أرى
قادرا على أن يتحمل مسئولية نفسه بنفسه وليس بحاجة ألحد.
ً
لم يكن يشغلني كالم الناس وماذا سيقولون ،كل ما أفكر به أن أبقى
بجانبه ..أال يتعرض لشيء جديد في الحياة وحده ،أن نكون م ًعا في السراء
والضراء ،وأن نصعد بحياتنا خطوة بخطوة دون مساندة أحد.
لم أكن أريد أن أقف أمام أمي وأكون تلك الفتاة المتمردة التي تعبث
المراهقة بقلبها ،حاولت عدة مرات أن أجلس معها وأوضح موقفي ،فتذهب
وال ترغب في االستماع إلي وهي تستشيط غض ًبا من إصراري على الموافقة.
65 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
لم تعرف ماذا تفعل في نهاية األمر غير االتصال بخالي؛ ليأتي ويجلس
معي ويحاول إقناعي ،فهي تعلم مكانته بقلبي ،أتى خالي وظل يردد كالمها
نفسه ،ولكن بهدوء مبتعدً ا عن تلك العصبية المفرطة التي تلزم أمي من البداية.
التزم أبي الصمت طوال الجلسة بينما كانت أمي تحاول السيطرة على
انفعالها وتساند كالم خالي وتضيف إليه.
صمت ً
قليل ،ثم ُّ أخيرا في إقناعي،
أنهيا حديثهما على أمل أنهما نجحا ً
قلت بحدة لم يعهدوها من قبل:
ُ
«مع احترامي لكما ،ولكن هذه حياتي أنا ولن أدع كالم الناس أو مجرد
تخيالت قد تحدث أو ال تحدث يجعالني أرفض إنسانًا ال أرى فيه عي ًبا
واضحا جل ًّيا!!
ً
هل نسيتما خالد ابن عمتي ووقوف العائلة جميعها بوجهه عندما أراد
الزواج بإنسانة أحبها وكانت تكبره بعشرة أعوام ،وهاجمه الجميع وضغطوا
عليه حتى تركها وتزوج بأخرى لم ير السعادة معها يو ًما ..أم هبة التي رأت
أن حياتها ستكون سعيدة بجانب إنسان لم يكن له ذنب إال أنه مر بتجربة
مريرة انتهت بالطالق ،وكان هذا سبب رفض أهلها ،وتزوجت بإنسان لم
أيضا وهي تحمل يرحمها من سباب وضرب لتنتهي حياتها معه بالطالق ً
صغيرا»
ً على كتفها ً
طفل
تابعت وقد هدأت نبرة صوتي:
ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 66
صليت
ُ « -لن أدع حياتي تسير مثلهما يتحكم فيها الجميع ما عدا أنا،
استخارة عدة مرات وأرتاح لقراري ،كل ما أرجوه منكما أن تسمحا لي
بحقي في االختيار ،وأنا على ثقة أن كل أقدار الله خير».
وتحركت خارجة من الغرفة متجهة لغرفتي ،وقد ساد
ُ أنهيت كالمي،
ُ
الصمت ،وسكنوا تما ًما وكأن على رؤوسهم الطير..
مررت به في
ُ وجلست على مقعد مكتبي ،خرج كل ماُ أغلقت الباب
ُ
وانفجرت في البكاء.
ُ الفترة السابقة في تلك الدموع المتسارعة على وجهي
مضى قرابة ساعة كنت قد هدأت خاللها ً
قليل ،سمعتهم وهم يتناقشون
فيعلو صوتهم تارة وينخفض تارة حتى ناداني أبي في النهاية ،وقد هدأوا،
وجدت أمي وهي تشيح بنظرها ُ خرجت متجهة إليهم والقلق يتملكني،
ُ
بعيدً ا ويظهر عليها الضجر.
وقبل أن يبدأ أبي كالمه قامت من مكانها ،وقالت غاضبة:
« -حسنًا إِ ْن كنتم تريدون أن تتموا هذا األمر فكما تريدون ،ولكن لن
يكون بمباركتي أبدً ا»
اقتربت منها؛ كي ُأهدئها لكنها أزاحتني جان ًبا وانصرفت ،ابتسم أبي
ُ
وخالي لي؛ ليخففا عني ردة فعل أمي.
كنت على أمل
تضايقت في البداية أن يتم األمر دون مباركتها ،ولكنني ُ
ُ
أن ترى في حمزة ما يدفعها إلى تغيير موقفها تجاهه عبر األيام ،وتثني على
موافقتي حينها.
67 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
راودني شعور القلق بعدها وأرهقني تفكيري بسؤال واحد وهو «ماذا إِ ْن
اكتشفت حمزة آخر مع الوقت؟» أعرف عنه بعض األشياء ولكن الكثير ال يظهر ُ
غامضا ،بعض ً شخصا
ً أحببت
ُ إال بالمعاملة المتبادلة ..طوال الفترة السابقة
األشياء عندما تقترب منها وتزيل غموضها تزداد ح ًّبا وتعل ًقا بها وبعضها اآلخر
كثيرا..
تتمنى لو أنك لم تقترب منها قط ،لو أنها بقيت بغموضها لكان أفضل ً
ال أعلم ماذا سأفعل حينها ولكن كلي أمل أن يكون أحسن مما أظن.
أتاني كل ما حدث في لمحات سريعة مرت أمام عيني وأنا أتأبط ذراع
أبي وهو يرافقني إلى غرفة استقبال الضيوف ،وصلنا فتقدمني أبي بخطوة،
إلي بالتقدم والجلوس..
وأشار َّ
جلس أبي بجانب أمي ،وآسر على األريكة ،وقد ظهر على وجه أمي
ٌ
قليل من عالمات رفضها..
أحسست أن صوتي ذهب من حلقيُ وددت أن ألقي السالم ولكن
ُ
وأنني أتنفس بصعوبة كأن األكسجين ينفذ من حولي وأحاول أن آخذ أكبر
ظاهرا
ً قدر منه؛ ألستطيع مواصلة الحياة ،تمنيت أال يكون هذا االضطراب
على وجهي وأن تبقى مالمحي هادئة وثابتة.
ساقي وأنا أنظر إلى األرض ،لم أستطع
ّ شبكت أصابعي وأسندتها إلى
ُ
أن أرفع بصري عال ًيا وأنظر إليه وإن كانت رغبتي غير ذلك..
مشاكسا:
ً خيم الصمت ً
قليل فقطعه آسر
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 68
عضوا
ً « -إن سكتُّم أكثر من ذلك سأقوم وأكمل لعبتي وستخسرون
ً
فعال وأساس ًّيا بهذه الجلسة» ضحك أبي وحمزة وابتسمت أمي.
بدأ أبي في الحديث بعد كالم آسر ً
قائل:
« -حسنًا سأقوم بمهمة التعارف بينكما ..حمزة أعرفك بابنتي حنين
في كلية صيدلة الفرقة الرابعة تبلغ من العمرعشرين عا ًما..
حنين أعرفك بـ»....
قاطع أبي هذا الصوت الهادئ الذي سمعته أول مرة عندما دخل بيتنا
وقال بأدب:
« -دعني يا عم طارق أتولى عنك هذه المهمة»
نظر تجاهي وتابع:
« -كيف حالك يا حنين؟»
أجبت بصوت يكاد ُيسمع:
ُ
« -بخير الحمد لله»
« -حسنًا ..أعرفك بنفسي».....
ومنظما ،وكأنه
ً أخذ حمزة في التحدث عن نفسه بطالقة ،كان حديثه مرت ًّبا
كثيرا ،ولم أمل من حديثه قط ..ربما الحظ هذا الضيق قام بترتيبه مسب ًقا ،تكلم ً
في عين أمي وشعر بخوفها من الخوض في هذا االرتباط؛ فتحدث في كثير من
النقاط المتعلقة به دون سؤاله وبعث برسائل اطمئنان خفية إلى قلبها..
69 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ً
مستقبل ،وأن عمله تحدث عن أحالمه وآماله بفتح شركته الخاصة
اآلن في اإلشراف البرمجي على عدة مواقع هو مجرد بداية.
كان ُيناديني في أثناء الحديث باسمي ،ويتكلم عن نفسه ً
أول ،ثم يتجه
سائل «وماذا ِ
عنك في هذه النقطة؟» إلي ً
فشعرت
ُ حديثه اللين المسترسل استطاع أن يزيل تلك الرهبة بداخلي،
وتحدثت عن نفسي أنا األخرى بثقة.
ُ وكأننا جلسنا مرات ومرات من قبل،
وتابعت بحرص صوته وانفعاالته، ُ أحببت مرونته في الكالم،
ُ
واضحا وزال غموضه ألزداد به تعل ًقا ،لم أتمكن من إطالة النظر
ً بدا أمامي
إليه إال عندما يتجه بالحديث ألمي أو أبي وآسر ،لم أره بوضوح هكذا من قبل.
مالمحه يظهر عليها ثقته بنفسه ..بشرته قمحية ،عيناه بنيتان ،ذو
حاجبين ك َّث ْين ..نظارته الزجاجية ذات حامل كحلي اللون ،شعره ناعم
ممشط للخلف لونه بني مائل للسواد ،خفيف اللحية ،عريض الكتفين ،ذو
بنية قوية.
التزمت أمي الصمت طوال الوقت بينما علق أبي وآسر على بعض
األشياء ،إال أنهما تركا لنا المساحة األكبر للحديث..
مضى الوقت سري ًعا ،ونظر حمزة إلى ساعته ،ثم ابتسم ً
قائل:
« -مرت ساعتان ونصف لم أشعر فيها بالوقت ،هكذا هو اإلنسان
عندما يشعر أنه يجلس بين أهله»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 70
دخلت إلى غرفتي على الفور ،لم أكن أريد التحدث ..ال أريد أن أدخل
ُ
في مناقشات مطولة تضيع حالة السعادة التي بداخلي.
قفزت إلى سريري وأنا أحدق بالسقف وتتراءى أمامي الكثير من
ُ
التخيالت
خطبتنا ..عقد قراننا ..زفافنا..
فستاني األبيض وبذلته األنيقة
بيتنا البسيط ..صالتنا األولى وهو يصلي بي إما ًما
حديثنا م ًعا ومشاهدتنا للقمر..
ابتسمت وأنا أتذكر مالمحه ،سأحكي له عن كل شيء في حياتي ُ
وأشركه في كل أمري ..سأجعل أمطاره تُحيي كل شيء جميل بروحي،
وأرعى بساتين قلبي بقربه ،ونفجر ينابيع الود م ًعا بعد سنين عجاف.
تذكرت أبيات الشعر التي كان يكتبها على موقع الـFacebook ُ
شعرت بالفرح فقد كان يقصدني أنا بها ،أنا
ُ وكالمه األخير قبل أن يرحل،
الحب الذي كتب أنه على مشارفه.
خطر ببالي أنه ربما يكون كتب شي ًئا هناك فلقد مرت ساعة على رحيله،
قفزت من سريري وأنا أنتقل بخطوات سريعة إلى مكتبي وأفتح حاسوبي، ُ
دخلت على حسابه الشخصي فوجدت آخر ما نشره منذ عشرين دقيقة.. ُ
«يا حبيبي فرحة ال تنتسى
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 72
()7
نظرت إلى المرآة بنظرة فاحصة متأملة إياي وقد داهمتني الحيرة ،اتجهت
ببصري؛ ألرى انعكاس ظهري في المرآة الخلفية من خالل المرآة التي تقبع أمامي.
سألت مترددة:
« -أمي ..ما رأيك؟»
أجابت أمي بشيء من االقتضاب:
« -جيد»
تابعت:
« -أشعر أنه مناسب ..رقيق ..بسيط وليس به الكثير من التفاصيل
ومالئم لخطبة في البيت»
أدرت رأسي إليها وأنا أكمل بحماس:
« -واألهم من ذلك أنه بلوني المفضل ..اللون الوردي»
أومأت أمي برأسها وهي تتصنع االبتسام ،لم أشأ أن أخوض تجربة
الفرحة األولى بكل شيء جديد أقدم عليه في ارتباطي بحمزة دونها فأنا كما
دائما فرحتها المنتظرة.
تقول هي ً
ال أريد أن أحرمها متعة إحساس األم بالمشاركة في تفاصيل ارتباط
ابنتها حتى إِ ْن كانت ال تزال غير مباركة لهذا االرتباط..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 74
أدرت وجهي إلى المرآة؛ ألعيد التأمل بالفستان وهو ينسدل بنعومة
قماشته الحريرة وبخصر مزمزم وبه من األعلى بعض التطريز ،نظرت إلى
الفتاة التي كانت تقف بانتظار الرأي النهائي قائلة:
« -سآخذ هذا الثوب»
« -حسنًا ..سأحجزه اآلن باسمك ..خطبة مباركة يا عروس»
ابتسمت عند سماع كلمتها األخيرة ،نعم أنا عروس ..مر شهر ونصف
منذ أن جاء حمزة لطلب يدي وجلست معه خاللها مرتين..
كل مرة كنت أجلس فيها أكتشف الكثير من األشياء المشتركة بيننا ،أو
ربما دافع الحب الكبير بداخلي هو ما جعلني أشعر أننا متشابهان ..نصفان
بعضا. َ
ليكمل بعضهما ً ويجب أن يلتحما؛
تركت لقلبي العنان؛ ليدفأ بهذا الشعور الرائع الذي أشعر به ألول مرة
في حياتي ،خاصة وقد تمكن التعلق بي من حمزة وأرى ذلك جل ًّيا في عينيه..
اجتاحت مشاعره حنايا قلبي وتغلغلت داخلها بقوة في هذه الفترة القصيرة.
تم االتفاق على شروط الزواج بينه وبين أبي ،عرض أبي أن تكون إقامتنا
كامل مثل أي مستأجر،بإحدى شقق البيت ووافق حمزة بشرط أن يدفع إيجارها ً
حدد أبي موعد الزفاف على أن يكون بعد االنتهاء من دراستي الجامعية.
دائما يقوم بتيسير األمور ،لم يبالغ في طلبات الزواج فهو يعلم
كان أبي ً
كبيرا من أمي فهاجمت أبي مستنكرة:اعتراضا ً
ً ظروف حمزة وهو ما لقي
75 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -لماذ تفعل ذلك بابنتنا الوحيدة؟!! لماذا تكون أقل من بنات أعمامها
وعماتها؟! وهي أفضل منهن»
فيجيب أبي:
« -أتانا حمزة بظروفه هذه ووافقنا عليها وليس من المروءة أن أحمله
ما ال طاقة له به ،وأنا أعلم بحاله»
ويزيد أبي في محاولة منه إلقناعها:
« -ثم يا مديحة أال تذكرين عندما تقدمت لخطبتك ولم أكن أملك
ِ
أبوك -رحمه الله -أمور زواجنا بل إنه ساعدنا الكثير من األموال ،وسهل
من أمواله ليتم هذا الزواج»
قالت أمي بانفعال:
« -لكن ظروف زواجنا مختلفة يا طارق ..ال مجال للمقارنة بينهما،
هذا االرتباط له ظروف خاصة ويجب أن نضمن حقوق ابنتنا كاملة»
زفر أبي بضيق وهو يهز رأسه بأسف ،وقام بعدها..
كثيرا ،فأنا أريد أن أكون تلك العروس المباركة قليلة
أحببت ذلك منه ً
المهر كما أخبرنا رسولنا الكريم.
قام حمزة بتغيير جميع أوراقه الشخصية السمه الحالي خالل الفترة السابقة
مما دفعه لمصارحة أبي برغبته في عقد قراننا ،لكن أبي رأى أن تلك الخطوة
مبكرة جدًّ ا ،ومن األفضل أن تكون هناك فترة جيدة لنتعارف على بعضنا أكثر.
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 76
أوشك عيد األضحى على المجئ ورأوا أنها مناسبة جيدة لتحديد
موعد الخطبة لتكون ثالث أيام العيد ،أحببت أن نحتفل بها في البيت فاألمر
ال يستحق أن يكون بمكان أكبر.
جميل لطي ًفا ،والخواتم
ً أتذكر يوم شراء خواتم خطبتنا ،كان يو ًما
بسيطة ورقيقة ،دبلة من الذهب ،وخاتم مرصع بالفصوص الالمعة ،وخاتم
كثيرا ،لم يكن يهمني أن
من الفضة لحمزة ..أشياء قليلة ولكنها أسعدتني ً
أشتري الكثير من المشغوالت الذهبية ..يكفي أنني أحمل خاتمه.
انتظرت أمي يومها حتى رجعنا إلى البيت لتصرخ وهي تندب حظ
ابنتها الوحيدة ،وتذكر كثرة الذهب المقدم لبنات أقاربنا في خطبتهن وأنني
أقل منهن في كل شيء..
لم ألتفت لهذا العويل فأنا سعيدة بما حصلت عليه ،اتجهت لغرفتي
فور وصولنا وبداخلي شغف كبير ألطلع على هذا الكتاب الذي أهداه لي
حمزة حينها وأعرف محتواه ،مررت أصابعي عليه أللتمس مواضع أصابعه
منبعجا ً
قليل من ً وجدت الكتاب
ُ فمن المؤكد أنه قرأه قبل أن يهديه لي،
فوجدت زهرة حديثة القطف ذات لون وردي تقبع بين
ُ المنتصف ،فحصتُه
ً
مرسال طياته عند بداية فصل يحمل عنوان (الحب بين الزوجين) ،كانت
إلي..
يحمل مشاعره َّ
77 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
واضحا أن أمي تعمدت تجاهل حمزة في التهنئة ..ليستوعب هو ً كان
الموقف سري ًعا ً
قائل:
« -كل عام وأنتم بخير»
ردت أمي له التهنئة بصوت مضطر ..زاد حمزة لكي يمرر هذا الموقف:
« -العيد هذه السنة مختلف تما ًما بالنسبة لي فهذا أول عيد لي بينكم»
ابتسم له أبي وهو يربت على كتفه ،بدأ أبي وأمي حديثهما عن بعض األمور
الخاصة بذبح األضحية ،وكيف سيتم توزيعها على األسر الفقيرة حولنا..
كنت أسمعهما وال يشغل بالي هذا الحديث بقدر ما يشغلني حمزة
الذي يقف على بعد خطوات مني ..أود أن أبدأ معه الحديث وأهنئه بالعيد
ولكن الخجل يمنعني.
مبتسما:
ً إلي وقال
باغتني بتحويل نظره ّ
ِ
وأنت بخير يا حنين» « -كل عام
أجبت وقد بدا صوتي مرتبكًا من المفاجأة: ُ
« -كل عام وأنت بخير»
مستنكرا:
ً بدت على وجهه عالمات االستغراب وهو يسألني ْ
« -حنين ..لماذا ال تنطقين اسمي؟ ال أتذكر أنك ناديتِني به إال مرة أو
مرتين»
تابع بشكل طفولي:
ِ
وأنت بخير يا حنين» « -هيا فلنعد الحوار ثانية ..كل عام
79 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ً
خجل: بثقل ٍ
كبير على لساني وأنا أقول شعرت ٍ
ُ
«كل عام وأنت بخير يا حمزة»
انفرجت أساريره:
ْ مبتسما وقد
ً قال
« -أشعر اآلن أنني سميت من جديد»
هامسا:
ً ابتسمت وأنا أحاول أن أواري إحراجي ،تابع وهو يسأل
ُ
ِ
«قرأت الكتاب؟» -
ً
سؤال آخر.. ً
سؤال وعيناه تسأل كانت شفتاه تسأل
كانت عيناه تسأل:
« -هل ِ
رأيت الوردة؟»
أجبتُه وأنا أبتسم:
« -نعم قرأته»
وعيناي تجيب سؤال عينيه:
« -نعم رأيتها»
لمحت طيف ابتسامة تعلو محياه وتعبر عن الكثير من مشاعره ،قالُ
أمرا ما:
وكأنه تذكر ً
« -بالمناسبة ،قمت باستئذان عم طارق أن أقوم بإضافتك على موقع
الـ Facebookوسمح لي،أحيانًا تصادفني منشورات جيدة وأريد أن
تقرأيها لنستفيد م ًعا»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 80
فعلق آسر ً
قائل:
« -أنتظر حتى أكبر!! سأنتظر للحصول على الشكوالتة حتى أكبر؟!!»
نظر إلي آسر ،وقال بشكل عفوي وقد ض َّيق عينيه:
ِ
تأتيك وأيضا عليك يا حنين ِ
فأنت كبيرة وتفعلين أي شيءً ، ِ « -أحقد
الشكوالتة»
ظهر صوت أمي بعد طول صمت ،وهي تقول بشيء من التهكم:
« -ال تحسد حنين على الشكوالتة يا آسر فهي ال تملك غيرها»
تغير وجه حمزة من تعليق أمي األخير ،وظهر الضيق في عينيه ،تضايقت
أنا األخرى فلقد جرحته أمي بكالمها ،حاول أبي أن يلطف الجو بعد كالم
أمي فسأل حمزة مداع ًبا:
« -هل َح َّض َر العريس مالبس خطبته؟» َه َّز حمزة رأسه بنعم وهو
يبتسم وقد فهم فعل أبي..
تابع أبي:
« -وكذلك حنين قامت بتحضير كل شيء ..أليس ذلك؟»
« -بلى يا أبي»
نظر حمزة إلى أبي وقال:
« -عم طارق سأتصل بك غدً ا؛ لتخبرني عن مكان جيد يقوم ببيع قطع
الجاتوه حتى أشتري منه ليوم الخطبة»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 82
أو معه..
أنا مؤمن أن الفصول األربعة..
ستظل دو ًما أربعة
شمسا واحدة
ً وبأن
بدرا واحدً ا..
وبأن ً
لكنني حين اكتشفتك..
كل األمور تغيرت
بدرا ثان ًيا
فأضفت ً
شمسا ثانية
ً وأضفت
خامسا
ً وأضفت ً
فصل
((*
ما أروعه..
اليوم يا حمزة خطبتنا ،في انتظارك الكثير من الحكايات واألحاديث
وأرجو أال تمل..
ليتك تعلم كم أحتاج إليك ..كم أحتاج أن نجلس م ًعا،
ليتك تدرك أن كوني جد صغير وأنك أنت فيه فضائي..
أتمنى أن يكون اليوم بداية جميلة لحياة رائعة نقضيها م ًعا حتى نهاية
العمر»
ابتسم أبي ولكن ابتسامته كانت خافتة ،وعيناه حزينتين ،وظهر على
اعتدت عليه
ُ أمي االنفعال والضيق ،لم أشعر باالستغراب من فعل أمي فقد
وجهت له سؤالي بقلق:
ُ باآلونة األخيرة ،لكن ما أقلقني هو أبي..
« -ماذا هناك يا أبي؟ أحدث شي ٌء ما؟» أشاح أبي بوجهه تجاه النافذة
وقالت أمي منفعلة:
« -لم أوافق على هذا األمر من األساس ولم يسمع أحد منكما
نصحيتي وكانت هذه النتيجة ،رضينا بالهم ولفظنا هو»
لم أفهم كالم أمي خاصة األخير منه ماذا تعني بكالمها هذا؟!!،
توجهت ألبي ثانية ،وأنا أسأله بنظرات واجمة خائفة:
ُ
« -ماذا هناك يا أبي؟»
قال أبي بحزن:
« -حمزة منذ األمس وهاتفه مغلق ،وغير موجود بغرفته ،ولم يره أحد
بالمسجد»
رجعت ً
قليل ،وأنا أبتلع ريقي ،وأقول بصوت متهدج: ُ
« -وما ..وماذا يعني هذا؟»
أجابت أمي منفعلة:
يبال ِ
بك «لقد اختفى يا حنين..العريس اختفى في يوم الخطبة ،ولم ِ
وال بنا»
87 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 88
()8
كثيرا..
شخصا يهتم بالتفاصيل الصغيرة هذا يعني أنك ستتألم ً
ً أن تكون
أصعب أيام ستمرعليك هي األيام التي تعقب التعود ،أن تقوم بتغيير
تفاصيل العالم من حولك..
تتخذ طري ًقا آخر غير الذي اعتدت أن تسلكه الرتباطه بهم
تترك ذلك العطر ألنك وضعته ذات مرة وأنت تفكر فيهم..
تبتعد عن حاسوبك وعن هاتفك ..تبتعد عن جنونك وحماستك
وتعود لعاداتك المملة الرتيبة بقلب يحاول أن يثبت وجوده على قيد
الحياة بالنبض ال أكثر..
زلت ال أستطيع استيعاب األمر ،صدري
مر شهران على ما حدث وال ُ
مزدحم بكثير من المشاعر ما بين اشتياق ،وفقد ،ووجع ،وحزن ،وحيرة،
وأسئلة ال تغادر رأسي..
أين اختفيت يا حمزة؟! ماذا حدث؟!
ولماذا االختفاء في هذا التوقيت بالذات ..في يوم خطبتنا!!
لماذا وضعتني في هذا الموقف أمام الجميع؟
أتذكر المرارة في صوت أبي وهو يهاتف الناس ويخبرهم بإلغاء
ُ
الخطبة لظروف ما حدثت للخاطب..
89 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
لم يستطع أن يقول الحقيقة كاملة ..أن الخاطب اختفى فجأة ألسباب
غامضة ،هو يعلم جيدً ا أنه لو قال هذا السبب لن نسلم من ألسنة الناس..
أنت ال تفهم ماذا يعني أن تترك فتاة يوم خطبتها..
نظل ندّ عي أننا ال نأبه لكالم الناس ،وال يشغل بالنا تعليقات المجتمع..
لكننا في الحقيقة غير ذلك..
إننا نتأثر بكالمهم وتجرحنا ردود أفعالهم..
أن تتأخر فتاة في الزواج ،أو تفسخ خطبتها ،أن تصبح مطلقة ،أو تتأخر
في اإلنجاب.
كل هذه أسباب تجعلها موضو ًعا يتداوله الناس ،وال يملون الحديث فيه..
تس ْر الفتاة في المسار الذي وضعه لها لن تُرحم..نحن مجتمع إذا لم ِ
فعلت إال إنني
َ أكثر ما أتعجب منه أنه بالرغم من حنقي وغضبي تجاه ما
أشعر باشتياق وأمل كبير أن ترجع ثانية ،أن تظهر لتوضح أسبابك فأقبلها
وإن كانت واهية..
أن أسامحك وأتغاضى عن كل ما مضى في مقابل أن تبقى معي..
كلما رن هاتف أبي أو دق جرس بيتنا ..تتزايد دقات قلبي من فرط
التمني أن تكون أنت..
أرى الحزن في وجه أبي كلما الحظ أثر البكاء على وجهي ،فيجلس
معي يحدثني ،ويحاول أن يخفف عني ،أما أمي فكانت تتعجب من حالي
وتقول مستنكرة:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 90
« -ال أدري لماذا يخيم عليها كل هذا الحزن؟! يجب أن تفرح أن
أذهب الله عنا هذا الشخص فمنذ أن دخل إلى بيتنا لم يمر يوم دون عراك..
بال أهل وال مال ،حياته مضطربة وصعبة ..كانت ستتعب معه ..حنين ال
يعيبها شيء على اإلطالق ،وسيأتيها َم ْن هو أفضل منه ألف مرة»
أما آسر فكان يحاول أن يخفف عني بأسلوبه الخاص فأحيانًا يطلب
مني أن ألعب معه على حاسوبه ،أو يأتيني ببعض الحلوى من مصروفه..
كل منهم كان يشعر بالحزن لما أصاب قلبي من وجع ،ويحاول أن
ُينسيني ما حدث بطريقته..
ربما هذا ما دفعني للتصنع أمامهم؛ كي ال أزيد من حزنهم وأتعبهم
أيضا ما جعلني أميل للعزلة أكثر
بمحاوالتهم المستمرة لنسيان األمر ،وهذا ً
فشعور التصنع ليس ً
سهل..
رغما عنك أمام الجميع ،تظهر أن األمر لم يعد يعنيك
أن تُظهر القوة ً
وأنك قد نسيته بالفعل ،تحاول أن تخفي الوجع المستمر بقلبك..
خال؛ لتبكي ٍ
مكان ٍ ذلك الوجع الذي يفتك بك أحيانًا فتبحث عن أي
بحرقة وحيدً ا من شدة األلم ،إنه االنفجار الذي يحدث في الكون الذي
داخلك وال يصدر ضجة..
انفجار صامت ال يسمع اآلخرون مدى دويه..
91 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
دفنت رأسي
ُ زفرت بتعب وأنا أتقلب في السرير وأشد الغطاء فوقي، ُ
وبكيت بكا ًء مكتو ًما..
ُ في الوسادة
أود أن يتوقف عقلي عن التفكير ً
قليل ..أشعر أن كثرة التفكير ستذهب به.
سمعت طر ًقا هادئًا على الباب ،وتبعه صوت أمي قائلة:
ُ
« -حنين ..حنين ..هل ِ
أنت مستيقظة؟»
وتنحنحت كي ُأذهب عن صوتي أثر البكاء،
ُ مسحت دموعي سري ًعا،
ُ
اعتدلت في نومتي ،وقلت بصوت ناعس:
ُ
« -تفضلي يا أمي»
دلفت أمي قائلة:
« -حبيبتي صديقتك والء اتصلت على هاتف البيت وتقول إنها
هاتفتك عدة مرات ولم تردي»
« -نعم أنا أضع هاتفي على الوضع الصامت وال أسمع أية اتصاالت..
لماذا اتصلت؟»
ِ
ُعطيك جميع ما فاتك من محاضرات» « -تريد أن تقابلك اليوم لت
« -حسنًا سأرى ،إن كنت أستطيع الذهاب إليها سأذهب»
اقتربت أمي أكثر ،وجلست على طرف السرير بجانبي ،مسحت على
كتفي بحنو ،وهي تنظر إلي قائلة:
« -إلى متى هذا الوضع يا بنيتي؟ بدأ العام الدراسي منذ شهر ونصف
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 92
أراك غير مهتمة بالكليةوأنت لم تذهبي إلى كليتك قط وهذا عامك األخيرِ ، ِ
والحضور ،ولكن هل ستظلين هكذا؟! أنا أعلم جيدً ا ما تمرين به تما ًما وإِ ْن
أظهرت عكس ذلك ،قد تظنين أن انفعالي الشديد حينها كان قسوة مني وعدم ِ
عليك ورغبة أن تعيشي حياة مستقرة هادئة» ِ استيعاب لمشاعرك لكنه كان خو ًفا
صمتت برهة وزادت وهي تنظر أمامها:
«الحياة ال تنتهي بذهاب أحدهم أو فقده ،انسي ما حدث وامضي في
حياتك ..اذهبي وابحثي عن مواضع الفرح فيها وتمسكي بها ،هذه هي
مصادر قوتك أمام صفعات الحياة الموجعة»
أزاحت أمي خصالت شعري المنسدلة على وجهي ،وأرجعته خلف
أذني ،وأكملت:
ِ
«أرجوك يا حنين ارتدي ثيابك واذهبي إلى صديقتك لتأخذي -
خيرا أنها تذكرتك»
محاضراتك ،جزاها الله ً
أومأت برأسي ببطء موافقة ،طبعت أمي قبلة على جبيني وخرجت..
تمطيت عن سريري بكسل عارم ،وعدم الرغبة في فعل أي شيء ،ارتديت ُ
مالبسي واتصلت بصديقتي والء ..اتفقنا أن نتقابل في حديقة المسجد
القريب من بيتها ،كنت ال أريد أن تغضب أمي مني ،أن ال أحزنها بمشاعري
التي ال أستطيع التحكم بها.
سيرا حتى وصلت للحديقة ،كانت الشمس قد قاربت
اتخذت طريقي ً
93 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
على الرحيل ناثرة وراءها لون الشفق المحمر ،وبعض السحب المعلقة
ٌ
وجميل ،واألزهار تداعبها نسمة هواء خفيفة فتنقل هادئ
ٌ بالسماء ،والجو
عبيرها عبر الحديقة.
جلست على إحدى المقاعد ،وأنا أشتم رائحة األزهار التي تمأل
المكان مغمضة عيني ،أخذت أفكر في كالم أمي عن مواضع السعادة في
حياتي ،أشعر أني مشوشة تما ًما هذه الفترة ،حولي الكثير من األشياء وال
أحس بوجودها ،قاطع تفكيري صوت مألوف ألذني لم أسمعه منذ زمن:
« -حنين؟!»
نظرت إلى مصدر الصوت وابتسمت:
« -خديجة ..كيف حالك؟»
اقتربت مني خديجة واحتضنتني بقوة قائلة:
كثيرا» ِ
« -حنين ..اشتقت إليك ً
تابعت وقد أفلتتني وأمسكت بيدي:
أرك منذ عام ..أخبريني ِ
عنك» أنت؟ لم ِ
« -أين ِ
أجبت وأنا أتصنع االبتسام:
ُ
« -ال جديد لدي ..أنا كما تركتِني»
دققت النظر إلى عيني وسألت:
ِ
عينيك حزينتان» ِ -
«أبك شيء؟ أشعر أن
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 94
لمعرفته ،ولكن لماذا ال تفكرين في األمر يا حبيبتي من منظور آخر ،أنه ربما
ِ
ابتعدت وهذا الحزن إشارة من الله للرجوع إليه.. يكون قد
ِ
يضعك على الطريق مرة أخرى.. قليل ويريد الله أن ِ
ضللت الطريق ً أن تكوني
كم من أشياء موجعة تحدث في حياتنا لنحزن ونتألم ،ولكن نرى بعدها
أنها كانت تحوي بين طياتها رحمة..
ثقي في أقدار الله في حياتك ،وتذكري هذه المقولة جيدً ا
(حزن يقربك من الله خير من فرح يبعدك عنه)
ربتت على كتفي باسمة ،وأكملت:
ِ
أحببت أن نتحدث م ًعا الح ًقا» « -ال أريد أن أتأخر ،خذي رقم هاتفي لربما
ق َّبلتني ودعت لي بالخير ثم ودعتني ،تابعتها بنظري وهي ذاهبة ،وكالمها
يتردد صداه بداخلي ،وأربطه بكالم أمي عن مواطن السعادة في حياتي.
خديجة على حق ..أنا لم أعد أرى مواطن السعادة في حياتي؛ ألني
ابتعدت عنها ،انشغلت عنها فذهبت عني..
قد أكون سعيت للطريق ولكن بشكل خاطئ جعلني أنحرف عنه دون
اتخذت األسباب التي تُعينني عليه ،واعتنيت بها ونسيته ،اهتممت
ُ أن أشعر،
كثيرا
بالوسيلة ونسيت الغاية ،أظن أنني قد ضللت وابتعدت ً
وال بد لي من الرجوع ..ال بد من عودة...
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 96
()9
أحست أصابعي ببرودة ذلك
ْ مددت يدي وأنا أتحسس الوسادة حتىُ
أمسكت بهاتفي وقربته مني ،وأنا أنظر إليه بنصف عين واألخرى
ُ السطح،
لمست أيقونة تظهر على شاشته ،فتوقف ذلك الصوت المتصاعد منه..
ُ مغلقة،
بقيت برهة أحاول أن أسترجع بذهني لماذا قمت بضبط المنبه على
تذكرت موعدي اليوم مع خديجة..
ُ صباحا،
ً العاشرة والنصف
انتابتني رغبة عارمة للغرق في النوم ثانية ،ولكن يجب أن أستيقظ
اآلن حتى ال نتأخر؛ فلدينا مهمة توزيع حقائب الطعام على بعض المناطق
رمضان..وضعت يدي على فمي وأنا أتثاءب في
ُ الفقيرة قبل حلول شهر
مسحت على رقبتي وأنا جالسة على
ُ كسل وأزيح الغطاء عن جسدي..
طرف السرير ،وأحاول أن أستفيق ،نظرت إلى الحائط أمامي بالتحديد إلى
تلك الورقة المعلقة والمكتوب فيها:
«على خطايانا يجب أن نبكي ح ًّقا..
وليس على أي هجر ،أو أي فراق ،أو أي مرض ،أو أي موت..
((*
وذلك حال الذين قدروا الله حق قدره
كنت أعلق هذه المقولة بغرفتي فوق مكتبي؛ لتذكرني دو ًما كلما ُ
بكيت على أي سبب متعلق بالحياة ،أن ما يستحق البكاء ح ًّقا هو البعد
عن الله..
أن ما يستحق البكاء هي تلك الخطايا الصغيرة التي نرتكبها ببساطة وال
جبل عمال ًقا يحجب رؤيتنا عن الطريق نشعر بحجمها حتى تتجمع وتكون ً
الصحيح ،الخطايا الصغيرة التي نرتكبها ونعلق ضعفنا أمامها على شماعة
المشاعر..
مضى عامي األخير بالكلية منذ شهر ،لم أكن أتوقع أنني سأحن إليها
بهذا القدر بعدما أنهيت دراستي..
صدق َم ْن قال إن لكل حي من اسمه نصيب ،فالحنين ال يتركني أبدً ا..
حنين لكليتي ،حنين لمحاضراتي ،حنين ألصدقائي ،حنين لمدرستي،
كثيرا وال أعرف
حنين لطفولتي ،حنين ألنا القديمة ..تلك التي أحن إليها ً
طريق الرجوع إليها..
علي فراق الكلية هو قربي من خديجة ،تلك الفتاة الرائعة
ما كان يهون ّ
التي أرسلها الله لي في التوقيت المناسب ،دو ًما تشجعني على التقرب من
الله والسعي في سبل الخير..
أتعلم الكثير وأنا برفقتها ،كانت ترى أن الفراغ سالح ذو حدين إن لم
دائما
تشغله باألمور الجيدة سيشغلك بعكسها بالضرورة؛ لذا تحمسني ً
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 98
بكثير من األمور؛ لتعود حياتي إلى مسارها الطبيعي ورأيت السعادة على
وجه أسرتي لِما أصبحت عليه.
أحيانًا كنت أشعر بنغز في قلبي عندما يأتيني طيف حمزة ،أو من مجرد
ذكر اسمه أمامي.
فالمرأة قد تنسى الموقف الذي بكَت فيه ولكن ال تنسى أبدً ا َم ْن أبكاها..
ولكن كنت أحاول أن أتجنب هذا الشعور سري ًعا وال أستسلم له،
شعرت خالل الفترة السابقة أنني كبرت ألعوام ،نضج تفكيري وآرائي
وكذلك ردود أفعالي ،فهذه هي إحدى مزايا الجرح الخفية ..أنه يصنع
بنفسك ما قد تعجز أنت عن صنعه..
يزيد من عمرك العقلي ومن حكمتك في اتخاذ قرارات حياتك..
أخبرني بمدى جرحك أخبرك بعمرك الحقيقى..
أخبرني بعمق جرحك أخبرك بمقدار حكمتك..
قمت من سريري ،وذهبت إلى الحمام تشطفت وتوضأت ..تصدقت عن
جميع مفاصل جسدي بصالتي بركعتي الضحى ،وارتديت مالبسي سري ًعا..
اتجهت للباب بعدها ،وناديت أمي وأنا أنحني؛ ألنتعل حذائي:
« -أمي ..سأذهب اآلن هل تريدين شي ًئا؟»
سمعت صوت أبي من داخل مكتبه:
أمك هنا تعالي نريد أن نتحدث ِ
معك» « -حنينِ ،
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 100
تابع أبي:
« -جاء باألمس إلى المسجد بعد صالة العشاء وأخبرني أنه يود
خطبتك ،فكر في األمر منذ عامين ولكنه انتظر حتى تنتهوا من الكلية»
قاطعت أبي مستنكرة:
« -أبي رجا ًء اعتذر له ..أنا غير مهيأة ألي ارتباط اآلن»
نظرت إلي أمي مندهشة:
« -ماذا تقولين يا حنين؟!! ما معنى ِ
أنك غير مهيأة؟!»
« -ال أعرف كيف أشرح األمر ولكني ال أريد أن أرتبط اآلن»
قامت أمي من مكانها وهي تقول بشيء من التهكم الغاضب:
« -ومن المفترض أن الفرص ستنتظرك حتى تتهيئي أليس كذلك؟!»
تابعت وهي غاضبة:
« -الفرص لن تنتظر حتى تكوني مهيأة يا حنين ،الفرص التي تذهب لن تعود»
أجبت بانفعال:
« -وإن ضاعت يا أمي الفرصة ..وإن ضاعت كل الفرص ،لن آخذ إال
ما كتبه الله لي ،وأنا لست من تلك الفتيات الالتي ال يشغل بالهن إال أمور
الزواج ،أنا أفكر في األمور بشكل آخر»
احتدت أمي أكثر في كالمها قائلة:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 102
عن كل ما مضى يا بنيتي ،كل ما نريده أن تعطي نفسك فرصة قبل الرفض»
حكيما جدًّ ا ومقن ًعا ،ولكن عندما وجه لي أبي
ً كان كالم أبي وأمي
كالمه بالسابق لم يكن قلبي كحاله اآلن ،أنا أعلم أنهما يريدان أن يطمئنا
على حياتي ويفرحان برؤيتي بثوب الزفاف األبيض ،ولكن ما فائدة هذا إن
يتعاف بعد ،وال يقوى على الخوض في حياة جديدة ال يعرف َ كان قلبي لم
سيسعد فيها أم سيشقى ،أشعر أنه ال زال متع ًبا ،وال أستطيع أن أجازف بأمر
حقل لتجاربي التيكهذا على سبيل التجربة ،وأجعل من إنسان ال ذنب له ً
تحتمل النجاح أو الفشل ،ال أريد أن أفعل بقلب أحد مثلما ُفعل بقلبي ،ال
أستطيع أن أظلم أحدهم بظلم أحدهم لي..
آسفة يا أبي ..آسفة يا أمي ..لكني ال أستطيع …
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 104
()10
«على السادة الركاب االلتزام بأماكنهم وربط األحزمة ،نحن اآلن
نستعد للهبوط»
تناهى إلى مسامعي هذا النداء عبر مذياع الطائرة بصوت هادئ ،أدرت
وجهي إلى النافذة أنظر من خاللها إلى تلك المباني الصغيرة الحجم
بعضا كأنها لعب وقد بدأت تكبر شي ًئا فشي ًئا.
المتراصة بجانب بعضها ً
تصارعت المشاعر بداخلي ما بين شوق ،ولهفة ،وحماس ،واضطراب، ْ
تغيرت؟ وأي األشياء
ْ سرحت في خيالي ،وأنا أفكر تُرى أي األشياء
ُ وخوف.
غادرت سماء تلك البالد ،ومن
ُ بقيت على حالها؟ مرت ستة أعوام منذ أن
ْ
حدثت خالل هذا الوقت..
ْ كثيرا من األمور
المؤكد أن هناك ً
شعرت بأنامل هاشم الدافئة وهي تلمس يدي بلطف ً
قائل: ُ
« -بماذا تشعرين؟»
أطلقت زفرة قوية:
ُ قلت بعد أن
ُ
« -أشعر بالحماس والتوتر في الوقت نفسه»
ربت على يدي وابتسم:
َ
« -سيكون كل شيء رائ ًعا ال تقلقي»
105 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
طلبت بعدها جلسة ثانية وثالثة؛ ألتأكد من هذا اإلحساس فأجده يزداد
ُ
بداخلي في كل مرة وأخبر أبي وأمي بموافقتي..
كثيرا بقراري ،وتم االرتباط بمباركتهما ،كانت أمي ترى أنسعدا ً
وخ ُل ًقا ،وأنه تعويض الله عما حدث
هاشم العريس المناسب لي مكانة ُ
ساب ًقا ،وأبي يعجبه بساطته وسماحته في التعامل وتواضعه ،أما آسر فلم
كثيرا؛ ربما ألن هاشم هادئ الطبع وال يتفاعل مع مشاكساته
ينسجم معه ً
المستمرة ويقابلها باالبتسام فقط..
لزمتني صالة االستخارة في كل خطوة كنت أخطوها معه فأجد بعدها
المشاكل قد ُحلت والعوائق زالت ،وتم كل شيء بسهولة ويسر.
خطبتنا كانت بسيطة وجميلة بحضور خالي وزوجته وبعض أقاربنا
وجيراننا الذين أجمعوا على ارتياحهم لهاشم..
تخللت فترة الخطبة زياراته المتنوعة بين جلسة لمناقشة أمور عدة ،أو
أحسست أنه يريد أن يطلعني على كل شيء
ُ االطالع على شيء جديد م ًعا،
يعرفه ،أن أشاركه حياته بتفاصيلها ،وأتعرف عليه أكثر وأقترب منه أكثر..
طلب هاشم من أبي أن نعقد قراننا بعد مرور ستة أشهر من خطبتنا ،ولم يكن
لدي سبب مقنع للخوف الذي يصيب قلبي بين الحين واآلخر فأرفض بنا ًء عليه
وح َسن الطباع ويحبني ..إ ًذا لماذا
عرضه ،فهاشم فرصة جيدة كما يراه الجميع َ
رغما عني ،طمأنت نفسي أنه الخوف؟! إال أن هذا الشعور كان ينتاب قلبي دو ًما ً
ربما يذهب ذلك الخوف عندما نقترب من بعضنا أكثر وتتواصل همسات أرواحنا..
107 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
رفضي لهذا األمر ولكن أسبابه المقنعة ألجمتني ،فهذه فرصة لن تُعوض،
وستساعده على تحقيق الكثير من أحالمه ،واإلنترنت اآلن َّقرب المسافات
كثيرا فأستطيع أن أحدث أهلي كل يوم إذا أردت..
ً
كان هاشم دو ًما يطمئنني ً
قائل «ال تقلقي فأنا معك» وهو ال يعرف أن
هذا أكثر شيء يقلقني ،خفت أن أخوض تجربة الزواج في البداية وحدي..
كثيرا ما انتابني التعجب من شعوري هذا ،وسألت نفسي مستغربة..ً
إِ ْن كان ال زال الخوف يطاردك يا حنين كيف تُقدمين على الزواج؟ لماذا
تخاطرين بحياتك القادمة بأكملها؟!!
كيف تفعلين هذا؟!! حياتك شيء خارج إطار المخاطرة..
لم أجد إجابة عن أسئلتي تلك سوى شعوري باالطمئنان وأنا بقرب
هاشم واختفاء هذا الخوف تما ًما.
أحيانًا كنت أشعر أن هذا الخوف ما هو إال نزغ من الشيطان؛ ليعكر صفو
حياتي فأستعيذ بالله منه ،وأنام وأنا متوضئة فأقوم مرتاحة القلب لِما أنا فيه.
سافر هاشم بضعة أشهر أنهى خاللها جميع اإلجراءات ورجع؛ لنتزوج..
ً
جميل وهادئًا مصحو ًبا عصرا ،كان زفا ًفا
ً أقمنا زفافنا بإحدى الحدائق
باألناشيد الرومانسية ذات الكلمات الراقية بعيدً ا عن الصخب والرقص
والمحرمات التي تصاحب حفالت الزفاف..
109 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ربما ما زاد القرب بيني وبين هاشم هو تأخر إنجابي أول عامين من
زواجنا وكأن الله أراد أال أنشغل بشيء سوى اكتشاف هاشم؛ فيمأل حبه
قلبي ،وأثق في تدابير الله لي في حياتي ،وأنها الخير.
رزقني الله بعد هاتين السنتين بـ «براء» وبعده بسنتين «مارية» ليكونا
أجمل شيء نتج عن زواجنا..
« -أمي ..أمي ..أمـــي»
انتبهت من إبحاري في عالم الذكريات على نداء «براء» األخير:
ُ
« -نعم حبيبي»
« -أنا جائع»
أخرجت إحدى الشطائر من الحقيبة القابعة بجانب قدمي وناولته
ُ
إياها ..أناح بوجهه جان ًبا ،وهو يقول:
« -أريد البطاطس المقرمشة»
« -ال يا براء قلت لك قبل ذلك إن البطاطس المقرمشة مضرة وال
كيسا عندما استرحنا بنصف الطريق كثيرا ،وأنت تناولت ً
يجب أن تتناولها ً
وأخذت حصتك اليوم»
بدأ في التذمر وهو يفرك قدميه في غضب ،أوقفه هاشم ً
قائل بطريقة تشويقية:
ابق على جوعك فنحن اقتربنا من الوصول ..ومن المؤكد أن « -يا براء َ
جدتك وجدتك الثانية يعدون لنا الكثير من أصناف الطعام الشهي»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 112
ظهر الحماس في عين براء وهو يمرر طرف لسانه على شفته العليا من
اليسار إلى اليمين محد ًثا ذلك الصوت الملئ بالتخيالت ألصناف الطعام
المختلفة ،ضحكنا أنا وهاشم من فعله الطفولي ،قلت وأنا أنظر إلى مارية
ٍ
عميق: التي تغط في نو ٍم
« -تُرى كيف سيكون شعور عائلتينا اآلن؟ أظنهم متشوقين جدًّ ا لرؤية
براء ومارية؛ فهم لم يريهما سوى عبر شاشة الحاسوب منذ والدتهما»
كثيرا على الطبيعة»
« -نعم أظن أنهم متشوقون لرؤيتهما ً
أمال هاشم رأسه تجاهي وهمس:
ً
طويل ،بقيت صامتًا حتى ال أقطع شرودك ،ولكن ِ
شردت ِ
«وجدتك -
براء أبى ذلك»
قلت ضاحكة:
ُ
« -ومنذ متى يتركاني أكمل شي ًئا آلخره»
ضحك هاشم ،ثم تابع:
« -أهناك أمر ما ُيقلقك؟»
« -ال ال ..مجرد ذكريات وشوق ألبي وأمي وخالي وآسر ،أتوق لرؤيتهم
جمي ًعا خاصة آسر تركته منذ أن كان بالصف الثاني الثانوي كلما رأيت صوره
اآلن ال أصدق أنه كبر وصار شا ًّبا ،وأصبح من خريجي كلية التجارة هذا العام»
أدرت وجهي إلى براء ،وتابعت باسمة:
ُ
113 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
بدأت مارية في البكاء فهي غير معتادة على هذه األجواء التي تملؤها الضجة
بينما جرى براء وتعلق برقبة أبي وبدأ في مشاغبته بشد لحيته ،نهيته عن ذلك قائلة:
« -دع جدك يا براء ،واحتفظ بمشاغبتك تلك لخالك آسر هو من
يستطيع مجاراتك»
انتبهت فجأة ،ثم سألتهم بشغف:
ُ
« -أين آسر؟»
تالشت ابتساماتهم تدريج ًّيا ،وظهر االرتباك على وجه أبي وأمي
وخالي وهم ينظرون لبعضهم ،قالت أمي مسرعة:
« -لم يستطع أن يأتي معنا اآلن لكنه سيكون بالبيت ً
ليل؛ ليسلم عليكم
ِ
جمي ًعا ،فهو يشتاق لرؤية براء ومارية ولرؤيتك بالتأكيد يا حبيبتي أنت وهاشم»
حاولت أن أخفي اإلحباط الذي انتابني ،وأنا أجيب بصوت متهدج:
« -وكذلك أنا أشتاق لرؤيته»
ودعت
ُ استأذنت عائلة هاشم أبي وأمي أنهم سيقومون باستضافتنا اليوم،
ْ
ً
مشغول بآسر وعدم أبي وأمي على أن ألقاهم في اليوم التالي ،ولكن عقلي ظل
مجيئه ،ولماذا ظهر االرتباك على وجه أبي وأمي وخالي عندما سألتهم؟!
ماذا يحدث وال يريدون أن يخبروني به؟
ماذا حدث آلسر؟
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 116
()11
تسللت إلى الشرفة غالقة ورائي دفتيها الخشبيتين ببطء ،صدر صوت ُ
جلست علىُ أزيز مكتوم ناتج عن احتكاك مفاصلها ببعضها البعض،
الكرسي البالستيكي وأنا أنظر إلى الشارع َع ْب َر تلك العواميد الحديدية
الرفيعة الملتصقة بالسور ،جذبتني السماء إليها بزرقتها الصافية ..أحاول أن
أشبع بصري المتعطش لرؤية كل شيء هنا بالنظر إلى الشوارع والجدران
والسماء ،لن يشعر بهذا الدفء الذي يتغلغل تلك األشياء إال َم ْن ابتعد
دلفت إلى الغرفة ببطء حتى ُ عنها ،أتاني صوت دقات على الباب من بعيد..
فوجدت وجهها تكسوه البشاشة ،قائلة:
ُ وصلت إلى الباب وفتحته،
ُ
« -صباح الخير يا حنين»
« -صباح الخير يا خالة»
قالت -وهي تعطيني صينية كبيرة عليها عدة أطباق:
« -تفضلي الفطورحبيبتي»
تناولتها منها ،قائلة:
« -لم يكن هناك دا ٍع أن تتعبِي نفسك يا خالةُ ..
كنت أنتظر أن يستيقظوا
وأعد الفطور بنفسي»
117 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
قالت باسمة:
ِ
عليك حبيبتي ..أمازالوا نائمين؟» « -ال
« -نعم ..قضوا الليل كله يلعبون مع أعمامهم»
« -أحبابي حفظهم الله ..أنا بانتظارهم في غرفة المعيشة عندما
يستيقظون»
ذهبت..
ْ أومأت لها برأسي ،ثم
ُ
مضت ثالثة أيام على مجيئنا ،وال زلنا ببيت عائلة هاشم ..أجمل ما ْ
في عائلة هاشم بساطتهم في التعامل وسماحتهم الظاهرة على وجههم،
أبوه وأمه طيبو الطباع وأفنيا عمرهما في تربية أبنائهم ،لم يدخرا أية أموال
تؤمن لهما حياتهما المستقبلية في سبيل تنشئة أوالدهم وتعليمهم ،ونتج
عن ذلك هاشم وأخواه االثنان ..الجميع يشهد بأخالقهم وتميزهم بجانب
مكانتهم بسبب تفوقهم العلمي ..لكن هاشم الوحيد المتزوج بينهم ..مما
جعل ألوالدنا مكانة خاصة لديهم؛ فهم أول أحفاد العائلة..
بدأ هاشم في االستيقاظ وهو يتقلب بجسده على السرير ..فتح إحدى
عينيه راف ًعا حاجبه ألعلى ً
سائل:
« -كم الساعة؟»
وجلست على طرف السرير بجانبه:
ُ اقتربت منه
ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 118
شاعر عربي سوري له قصيدة شهيرة تحمل عنوان (صباحك سكر) *
119 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أجبته:
كثيرا وال زالوا نائمين»
« -سهروا باألمس ً
تابعت وأنا أجيل بصري في أنحاء البيت:
ُ
كثيرا ..اشتقت للجلوس معكم وحدي كما كنت « -اشتقت للبيت ً
بالماضي ولجلستنا م ًعا على مائدة واحدة ويحكي ٌّ
كل منا عن يومه وحياته..
أشتاق لكل شيء بحق»
اتجهت ألمي أسألها بحماس:
ُ ثم
« -كيف حال غرفتي؟»
« -على حالها كما تركتيها ..كانت أم سعد تدخل إليها فقط لكي تنظفها»
أكملت وقد غلب الحنين على صوتها:
ْ ثم
« -وأحيانًا كان يحملنا الشوق ِ
إليك للذهاب إليها والجلوس بها أنا
ِ
ننساك» ِ
وأبوك فنتذكرك وإن كنا ال
تأثرت بما قالته أمي ،اقتربت منها وقبلت رأسها ..دخلت إلى الرواق
وأنا أقول:
أول سأرى أين يختفي ذلك المشاغب»« -سأذهب إلى غرفتي ولكن ً
كاد أبي وأمي أن يمنعاني لوال أنني حركت مقبض بابه وفتحته..
جالسا على المقعد أمام حاسوبه ،لم ينتبه لصوت الباب بسبب
ً كان آسر
السماعات التي يضعها على أذنه ..اقتربت منه وأنا أنزعها قائلة بحنو:
121 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -آسر»
قام من مكانه مضطر ًبا وهو يستكشف َم ْن فعل هذا حتى رآني فاستقبلني
بعينين باردتين ً
قائل:
« -حنين ..كيف حالك؟»
كثيرا عن الصور التي كنت أراها ،جسده نحيل كماكان شكله قد تغير ً
هو بينما تغيرت مالمحه واختفت منها تلك البراءة التي كنت أحب أن أراها
دو ًما وصارت أكثر جمو ًدا ،عيناه محلقتان بدوائر داكنة ،وذقنه يكسوها شعر
قصير متناثر ،وشعره طويل مشعث على شكل حلقات صغيرة متداخلة مع
عشا فوق رأسه..طائرا أقام ًّ
بعضها وكأن ً
ضممتُه بقوة وأنا أقول:
« -آسر ..اشتقت إليك»
وضع يده على ظهري رد فعل لضمي إياه وسألني بال مباالة:
« -كيف حال هاشم واألطفال؟»
تركته وأنا أنظر إلى عينيه:
« -جميعنا بخير»
ثم أكملت وأنا أتطلع إلى وجهه بشوق:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 122
« -أنا هنا منذ ثالثة أيام وكنت في انتظارك بالمطار أو سماع صوتك
بعدها لكنك مختفي تما ًما»
أجابني وقد تصنَّع الحزن:
كثيرا»
« -آسف حنين ،انشغلت ً
« -وما الذي كان يشغلك؟»
مفكرا:
ً نظر للسقف
« -كثير من األشياء»
« -وما تلك األشياء التي تشغلك عن رؤية أختك الغائبة منذ ستة
أعوام»
بدأ التأفف يظهر على مالمحه:
« -أشياء ال تعرفينها»
ثم أكمل وهو يحاول أن ينهي الحوار:
« -المهم أنكم وصلتم بالسالمة ..وأنكم جمي ًعا بخير»
شعرت أنه يطلب مني الرحيل بشكل متواري من خالل تلك الجملة،
ُ
وخرجت من الغرفة ،وقلبي يملؤه الحزن ،اتجهت
ُ تركته بعد أن سلمت عليه
ألمي وأبي وسألتهما مستنكرة:
« -أخبراني ماذا حدث؟ ماذا حدث له في أثناء غيابي؟»
123 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -بارك الله في حياتكما يا أمي ولكن لماذا لم تخبريني كل هذا من قبل؟»
قالت:
ِ
عليك ،كنت « -ولماذا أحزنك يا حنين في غربتك؟ يكفي هم الغربة
ِ
أعلم كيف سيكون حزنك عندما تعلمين أن آسر المشاغب أخاك الصغير
الذي تحبينه أصبح هكذا»
كانت أمي محقة فيما تقول فمنذ أن رأيته وأنا أشعر بحزن شديد..
لم أتخيل أن يتغير آسر أخي الصغير الذي أسهمت في تربيته بشكل كبير،
أن يصبح هذا الشخص الغريب متبلد المشاعر الذي رأيته منذ قليل ،أن
يفعل هذا بأبي وأمي ومن المفترض أن يكون هو سندهما بعد أن تركتهما.
شعرت باإلشفاق على حال أبي وأمي فلقد تعبا في تربيتنا ووفرا لنا سبل
ُ
الراحة كلها ،وكانت النتيجة أنني ذهبت في غربتي وذهب آسر في عالمه..
وبقيا وحيدين وما زال أبناؤهما على قيد الحياة...
***
مرت األجازة سري ًعا ولم يتبق غير أسبوع واحد على عودتنا إلى
أستراليا ،اتفقنا أنا وهاشم منذ البداية على تقسيم وقت األجازة بين عائلتي
وعائلته؛ حتى يستطيع كل طرف أن يأخذ نصيبه في الجلوس معنا ومع
طفلينا واستغالل كل دقيقة بجوارهما ،وكان الجزء األخير من األجازة من
نصيب أبي وأمي فقضينا بقيتها بجوارهما..
125 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
طبع ُقبلة على جبيني ،ثم ذهب وطبع ُقبلة على جبين براء وثالثة على
جبين مارية ،ثم رحل بعدها ،غلبني النوم فلم أستطع أن أقوم لتوديعه..
مضت ساعتان كنت قد استيقظت خاللهما وأعددت مشروبي المفضل
الشاي باللبن كما كنت أعده بالسابق ،واتجهت إلى غرفتي في محاولة مني
لالستمتاع ببعض الهدوء قبل أن يستيقظ الطفالن.
جلست على مكتبي وأنا أرتشف من الكوب وأتجول ببصري في ُ
أنحاء الغرفة فأتذكر مع كل شيء تقع عيني عليه ذكرى خاصة به ..مكتبي،
أقالمي ،تلك الفراشات الالمعة الوردية فوق سريري ..النجوم المعلقة التي
تظهر بالكاد بسبب ضوء الصباح حتى توقفت عيني عند النافذة..
جلست في هذا الموضع أراقب ضوء
ُ ابتسمت وأنا أتذكر كم مرة
ُ
الشمس وهو يتسلل إلى غرفتي أو يغادر منها..
كم من ذكريات حوت هذه الغرفة ..كم من مشاعر أوجعتني وجراح
آلمتني..
علي..
تنهدت وأنا أحمد الله على تعويضه لي وإنعامه ّ
ُ
تساقطت بعض قطرات الشاي باللبن على مالبسي
ْ قمت سري ًعا وقد
ُ
خشيت أن يستيقظ براء
ُ بعد سماعي لرنين هاتفي في الغرفة المجاورة،
ومارية ،لمست األيقونة ذات اللون األخضر ورفعت الهاتف قرب أذني
بعد أن وجدت جهة االتصال هاشم..أتاني صوت غريب ً
قائل:
127 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 128
()12
طوال الطريق لم أتوقف عن الدعاء والتضرع لله ،لم أكن أعلم مدى
إصابته إال أنني لم أشعر بالخير من كالم المتصل..
ُصدمت عندما وصلنا أنا وأبي إلى المشفى وأخبرونا أنه يقبع بقسم العناية
المركزة ،هرولنا خالل هذا الرواق الطويل المؤدي إلى العناية المركزة حتى
وصلنا إلى آخره ،عبرنا من خالل غرفة إلى غرفة أخرى كانت إحدى حوائطها
عبارة عن نافذة زجاجية كبيرة ،اقتربت منها بخوف وأفزعني المنظر ،كان هاشم
يرقد على السرير مغمض العينين ،شاحب اللون ،وكثير من األجهزة متصلة به ،لم
يستوعب عقلي تلك الحالة التي وجدته عليها ..كان بخير منذ ساعات بسيطة!!
خرج أحد األطباء من غرفته فأسرعنا إليه أنا وأبي ،قلت والخوف يعثو
بقلبي:
« -أرجوك ..طمئني على وضعه ..أنا زوجته»
نظر الطبيب إلينا وبدا وكأنه في حيرة من أمره ،ولكنه استسلم في
النهاية فأخبرنا بالحقيقة ً
قائل:
« -ال أريد أن أكذب عليكما ولكن وضعه خطير ،الضربة كانت قوية
وأدت إلى نزيف داخلي بالمخ»
129 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وكدت
ُ تراجعت ً
قليل وأنا أضع يدي على صدري ،لم تحملني قدماي، ُ
أن أسقط لوال أن ساندني أبي..
قال أبي بحزن:
« -أليس هناك أية طريقة إلصالح األمر يا دكتور؟»
« -نحن نحاول ويبقى األمل الكبير متعلق بالله»
تمتم أبي:
«ونعم بالله»
ثم زاد:
«ما الذي حدث؟ وكيف تلقى هذه الضربة؟»
« -الحقيقة ليست لدي أية معلومات عن كيفية حدوث اإلصابة ولكن
الشخص الذي أوصله إلى هنا يجلس في الغرفة المجاورة» وأشار بيده..
وه َّم بالذهاب إلى الغرفة ،ولكنني تابعته قائلة:
أجلسني أبي َ
« -انتظر يا أبي سآتي معك»
علي بسماع تفاصيل الحادث ولكنني كنت أريد
ربما أراد أبي أال يثقل ّ
أن أفهم ماذا حدث بالضبط؛ فهاشم شخص مسالم للغاية ،ما الذي أدخله
في عراك ليأخذ تلك الضربة ،ما الذي دفع به للعراك من األساس وهو
ذاهب لشراء بعض األشياء؟!
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 130
دخلنا إلى الغرفة المجاورة ..وجدنا شا ًّبا يجلس على إحدى المقاعد
واض ًعا كلتا يديه على وجهه وال يظهر إال جوانب ذقنه من الجانبين..
ذهب أبي ووضع يده على كتفه بهدوء ً
قائل:
« -أأنت يا بني َم ْن نقل الشخص القابع بالعناية المركزة إلى هنا؟»
أزاح يده عن وجهه وقد ظهر على مالمحه الذعر والحزن م ًعا ً
قائل
بصوت متردد:
« -نـ ..نعم أنا»
« -هو زوج ابنتي وأريد أن»..
قاطعت أبي متجهة بحديثي لهذا الشخص:
ُ
« -أرجوك أخبرنا ماذا حدث بالظبط؟»
نظر إلى األرض وبدا التأثر عليه وهو يقص ما حدث:
« -استقل السيد …»..
مخبرا إياه اسمه:
ً رد أبي
« -هاشم»
« -استقل السيد هاشم سيارة أجرة؛ لتوصله إلى مكان ما ،وكان الطريق
مزدحما للغاية مما دفع سائق سيارة أجرة السيد هاشم إلى اإلسراع ً
قليل ً
كلما سنحت له الفرصة ومن العجلة اصطدم بسيارة أجرة أخرى أمامه..
نزل السائق وهو يحاول رؤية ما حدث ويعتذر ليكمل طريقه ،ولكن السائق
131 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
اآلخر نزل من سيارته والشرر يتطاير من عينيه وكأنه كان في انتظار أية فرصة
أخيرا فبدأ في السباب مباشرة..
للعراك وأتت له ً
مأل الغيظ السائق األول عندما سبه اآلخر دون أن يفهم ماذا حدث..
تشاجر االثنان واحتدم العراك بينهما وبدءا بالتطاول شفه ًّيا ثم التشابك
ٍ
ومحاول لفض النزاع ،ترجل ٍ
متفرج باأليدي ..تجمع بعض الناس ما بين
السيد هاشم عن السيارة في محاولة منه لتهدئة الوضع وفض االشتباك
بينهما»
صمت برهة ثم تابع بأسى:
َ
« -لكنه نزل بالوقت الخطأ ،كان السائق اآلخر بيده حديدة يريد أن
يضرب السائق األول بها ،دفع أستاذ هاشم السائق األول بحركة تلقائية
بعيدً ا فتلقى هو الضربة بكل قوة على رأسه وسقط غائ ًبا عن الوعي ال أحد
يدري ما الذي َح َّل به ،وما إِ ْن سقط السيد هاشم حتى َف َّر كال السائقين
هاربين إلدراكهما خطورة الموقف»
رفع نظره إلينا ،وقال:
« -حدث كل هذا الشجار أمام محل قطع غيار السيارات الذي أمتلكه،
الجميع ترك السيد هاشم حينها ملقى على األرض ،خائفين أن يقتربوا منه حتى
ُ
ال تُلصق بهم التهمة ،فما كان مني إال أنني أسرعت إليه وأخذته في سيارتي؛
ألنقله إلى المشفى ،كل ما كنت أفكر به أن أحاول إنقاذ حياة هذا الشخص ،ثم
أتيت به إلى هنا وسلمتهم كل متعلقاته وهاتفه؛ ليخبروا أهله باألمر»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 132
ذهبت إليه أسأله ولكن هذه المرة كان سؤالي مختل ًفا:
ُ خارجا من غرفته،
ً طبي ًبا
ً
سؤال» « -دكتور لو سمحت أريد أن أسأل
نظر إلي وهو يهز رأسه ناف ًيا:
« -لألسف لم يجد جديد»
قلت:
« -لم يكن هذا سؤالي»
تابعت:
ُ بدا االستغراب على وجهه،
« -كنت أريد أن أسأل هل هو يشعر بمن حوله اآلن؟»
مفكرا وهو يضع يده على ذقنه:
ً أجاب
« -العلماء اختلفوا في نتائج هذا الموضوع منهم َم ْن قال إن المريض
ال يشعر بأي شيء في أثناء غيبوبته ،ومنهم َم ْن قال عكس ذلك»
ثم صمت برهة وأكمل:
« -ولكن الشيء الوحيد الذي أثق أنه يشعر به ..هو دعاؤكم»
رجعت
ُ استأذن ذاه ًبا وهو يبتسم في محاولة منه لتخفيف األمر،
ببصري مرة أخرى إلى هاشم..
بالفعل ليس بأيدينا أي شيء حياله اآلن غير الدعاء ..فالذي يحيي
العظام وهي رميم قادر على أن ينجيه مما هو فيه..
وضعت يدي على الزجاج مغمضة عيني وأنا أبتهل إلى الله:
ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 134
برقبتي بينما أفلتني براء وهو يقول بعد أن عقد يديه أمام صدره غاض ًبا:
« -أين ِ
كنت يا أمي كل هذا الوقت؟»
اقتربت وأنا أمسح على شعره:
ُ
«انشغلت في ٍ
أمر ما حبيبي» ُ -
حرك رأسه من تحت يدي ورجع لوقفته الغاضبة:
« -وأين أبي؟»
تلعثمت وأنا أفكر في اإلجابة ،أي كالم يستطيع أن يستوعبه عقل هذا
ُ
الصغير..
أخرجت
ُ قليل اآلن وسيأتي قري ًبا إن شاء الله» قلتُها ثم « -هو م ِ
نشغل ً ُ
بعض الحلوى من حقيبتي وأعطيتُها لبراء؛ كي أشغله عن هذا الحوار..
وأدرت صنبور المياه؛ ألنعم بحمام يزيل إرهاق
ُ اتجهت إلى الحمام
ُ
األيام السابقة وأسترخي مع قطراته الدافئة..
نمت تلك الليلة بغرفتي وأنا أحتضن براء ومارية ،ويتسلل إلى قلبي هذا
ُ
إلي..
الدفء بضمهما ،أشعر أني في حاجة إليهما هذه األيام أكثر من حاجتهم ّ
استسلمت للنوم
ُ رغما عني من فرط اإلرهاق حتى بدأت عيناي تنغلقا ً
ْ
بالنهاية ،وكان آخر ما رأيته تلك النجوم الالمعة المعلقة بالسقف ..متمنية
ً
جميل هادئًا مثلها ،وبه من األمور ما يسرني... أن يكون غدي
***
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 138
●●●
141 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()13
أصعب األقدار تلك التي لن تظهر الحكمة من ورائها في الدنيا ،التي
ستظل تحتفظ بغموضها لتتجلى بحقيقتها الكاملة يوم القيامة..
مثل ذلك القدر الذي كُتب على أبوي الغالم الذي قتله الخضر في أثناء
رحلته مع سيدنا موسى..
لن يعرفا الحكمة والغاية من قتل ولدهما إال يوم القيامة؛ ليشكرا الله
وكفرا..
ً حينها على قتله وأنه لم يكبر ليرهقهما طغيانًا
بعض األقدار في حياتي ظهرت حكمتها واضحة جالية أمامي وبعضها
اآلخر لم أفهم الحكمة من ورائها بعد..
لم أتخيل يو ًما أن يرحل هاشم عن الدنيا سري ًعا بهذا الشكل ..أن أكون
موضع شفقة ِم ْن جميع َم ْن حولي بترملي وأنا مازلت في هذا السن ..أن
يكون اليتم هو أول ما يفتح براء ومارية عينهما عليه في هذه الحياة..
كثيرا ما كانت تتراءى أمامي التخيالت عن حياتنا القادمة م ًعا ،عندما
ً
كل منا على اآلخر ،وقد نالت التجاعيد من يجري بنا العمر ونكبر ،ويتكئ ٌّ
وجهينا ،وشاخت مالمحنا ،وسقطت أسنانُنا ،وضعف بصرنا ،ونحن نعد
الغداء م ًعا بأيدينا المرتعشة ،ونجلس بانتظار براء ومارية فيأتيان لزيارتنا
بأوالدهما ،ويضج البيت بصوت الضحكات العالية..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 142
ولكن زالت سري ًعا تلك األمنيات الجميلة أمام حقيقة الحياة الموحشة
وقانونها الدائم أن السعادة ال تدوم للنهاية.
رجعت لإلقامة
ُ رجعت كل األمور كما كانت ساب ًقا،
ْ بعد وفاة هاشم
عدت بطفلين،
ُ رجعت إلى غرفتي وسريري ولكنني لم أعد وحدي، ُ ببيتنا..
ووجع بالقلب ،وجسد بال روح..
عدت ولم أعد حنين السابقة ،صرت األب
ُ رجعت إلى مكاني نفسه،
ُ
واألم م ًعا..
أحيانًا أشعر أن ذلك أفضل من أجل األطفال فتربيتهما تحتاج إلى
شخصية قوية ال إلى تلك الشخصية الحالمة الشاعرية التي تتأثر بكثير من
األشياء حولها.
نظرت إلى هاتفي الملقى على السرير بجانبي ،تناولته وتطلعت إلىُ
تاريخ اليوم ،بقي ثالثة أيام ويتم هاشم عامه األول في قبره..
عام واحد لكنه َم َّر على نفسي أعوا ًما..
عام وتحقيقات الشرطة تحاول الوصول إلى القاتل وما من جدوى،
فالقاتل ينعم بالحرية وقد قضى على سعادة أسرة بأكملها ،وحتى إن
أمسكوا به فس ُيحبس ثالث سنوات؛ ألن القتل غير متعمد ..ثالث سنوات
مقابل تعاسة عمر بأكمله لي وألوالدي..
143 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
كثيرا ما كان يسألني براء خالل هذه الفترة عن أبيه ..أين ذهب؟ ولماذا
ً
أطال الغياب؟ حتى يأس ولم يعد يسأل ،لم يفهم إجابتي أن أباه ذهب عند
حتما ولكنه سيكبر يو ًما ويفهم أن
الله ،فكل ذهاب مقترن في عقله بالعودة ً
بعض الذهاب ال عودة منه..
أالحظ في عين مارية -التي لم تتمكن من النطق بطالقة بعد -اشتيا ًقا
ألبيها الذي اختفى من أمامها فجأة وال تدري أين ذهب وال تعرف كيف تعبر
عن ذلك ،فتذهب إلى األبواب وتنظر وراءها؛ لعلها تجده كما كانت تلعب
معه ويختبئ منها وراء األبواب ،فال تجد أحدً ا فتدور بعينيها في األرجاء؛
بح ًثا عنه لعله يخرج من هنا أو هناك فيفاجئها كما كان يفعل وتنخرط في
الضحك بعدها..
أحاول بأي شكل تعويض هذا الحرمان لديهما ،ولكن أي شيء في
الدنيا يعوض فقدان األب!!
أصبح كل ما يشغلني اآلن هو تنشئتهما كما أراد هاشم..
أن أجعلهما كما كان يدعو لهما دو ًما بدعوة أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب للحسن البصري عندما حمله وهو رضيع..
«اللهم حبب خلقك فيه واجعله يدل الناس عليك»
وأكون األم الصالحة التي تمناها لهما أبوهما..
كثيرا أن
وبرغم من صعوبة موقف وفاة هاشم ومرارته فإنني أحمد الله ً
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 144
حدث كل هذا ونحن وسط عائلتينا ،أتخيل أن أتى قدر الله إلى هاشم ونحن
في الغربة ..كيف كنت سأواجه كل هذا وحدي؟!
تنهدت وأنا أسترجع الله في أموري كلها ،وأترحم على هاشم ،وأدعو
ُ
وقمت بتحريكه ببطء ،بدأ في
ُ نظرت إلى براء النائم بجانبي
ُ على قاتله،
االستيقاظ وهو يفرك عينيه بكلتا يديه ً
قائل:
« -صباح الخير يا أمي»
« -صباح الخير يا حبيبي ،كيف حالك اليوم؟»
إلي بنصف عين وهو يتثاءبً ،
قائل: نظر ّ
« -بخير الحمد لله ..هل سنذهب لتمرين السباحة؟»
« -نعم ..هيا يا بطل قم تناول فطورك سري ًعا حتى نذهب للتمرين فلم
يبق على موعده غير ساعة»
َ
متجها بحركة سريعة
ً نفض براء اللحاف بعيدً ا وهو يقفز من السرير
لخارج الغرفة؛ ذاه ًبا إلى الحمام فهو ينتظر هذا اليوم بفارغ الصبر ،ويعد
الساعات حتى يحين موعده في كل مرة.
وقمت بتجهيز مالبس السباحة ووضعتها في ُ أعددت له الفطور،
ُ
جلست على حاسوبي ريثما ينتهي من تناول طعامه ،وأنا أتطلع
ُ حقيبته،
بيأس إلى الشاشة المضاءة أمامي بانتظار تحميل صندوق الرسائل
وجدت
ُ اتسعت عيناي بحماس عندما
ْ الخاص ببريدي اإللكتروني،
145 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وددت أن أقوم
ُ «أخيرا»،
ً تنبيه برسالة جديدة وأنا أقول بصوت ال ُيسمع
بفتحها ولكن ضيق الوقت لم يسعفني لذلك فيجب أن نذهب اآلن،
تأكدت من وضع هاتفي بالحقيبة فهو الوسيلة الوحيدة التي أستطيع ُ
أوصيت أمي بمراقبة مارية،
ُ من خاللها قراءة الرسالة في أثناء الطريق..
كنت ال أريد أن أوقظها؛ فاستغراقها في النوم يدل أنها ربما تظل نائمة
ُ
حتى نرجع..
نقلنا أبي بسيارته حتى استطعنا أن نصل قبل موعدنا بدقائق ،انطلق براء
جر ًيا للداخل وتابعته بخطى سريعة ،جلسنا أنا وأبي على طاولة بالستيكية
تطل على المسبح؛ لنراقب براء عن قرب ،كنت أقوم بتشجيعه عندما يسبح
بمفرده مسافة طويلة وأحييه عندما يستطيع أن يكتم نفسه أكبر قدر من
الوقت تحت الماء..
نظرت إلى أبي الذي يتابع براء وهو يبتسم ،وأنا أفتش في عقلي عن
ُ
أي موضوع مناسب أستطيع أن أفتح به حديثي معه ،ومن خالله أخبره بما
وجدت بغيتي فقلت له سائلة:
ُ أريد ..حتى
« -كيف حال مشروعكم الجديد يا أبي؟»
أجابني وقد ظهر في عينيه الحماس:
« -األمور كلها بخير الحمد لله ..ما زلنا في مرحلة تجميع األموال من
الشركاء وسنبدأ بعدها في الشروع بشراء األرض ،ثم شراء المعدات ،ونبدأ
بالبناء إن شاء الله»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 146
ابتسمت له:
« -جيد جدًّ ا»
ثم تابعت:
« -ولكن أال ترى أنها مجازفة كبيرة أن تدخل في هذا المشروع بكل ما
يتبق لنا سوى شقتنا والسيارة
نملك؟! لقد قمت ببيع كل شيء حتى بيتنا ولم َّ
وسحبت كل النقود من البنك»
قال بالحماسة نفسها:
« -هذا المشروع ضخم يا حنين ويحتاج لكثير من األموال حتى يتم
بالمستوى المطلوب ،كما أنني شاركت بجميع أموالي فيه؛ ألحصل على
أكبر قدر من األسهم وفي المقابل سأحصل على أكبر قدر من األرباح»
ثم نظر أمامه وهو يسرح في خياله ،ثم قال:
« -أرباح هذا المشروع ستجعلنا في مكان آخر يا حنين ،عندما نجني األرباح
سأشتري لكم فيال كبيرة ملحق بها حمام سباحة ،وسأجلب لكل واحد منكم
بدل من أمك ،وسأدخل سيارة ،وأوظف العديد من الخدم؛ ليقوم بمهمام البيت ً
خاصا لهما في البنك»
براء ومارية أحسن مدرسة مهما كان ثمنها ،وأفتح حسا ًبا ًّ
ثم عبس ً
قليل وهو يشيح بنظره بعيدً ا:
« -كل ما يشغل بالي هو آسر أخشى عندما تأتي األموال يأخذ ما يريده
ويبتعد عنا أكثر»
147 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -ما رأيك أن أكلم جارنا دكتور مجدي وتعملين معه بالصيدلية؟»
هززت رأسي نافية:
« -ال يا أبي ..عملت قبل ذلك في مدة تكليفي بالكلية بإحدى
الصيدليات ،ولم أتكيف مع طبيعة هذا العمل ،التعامل مع الجمهور يتطلب
شخصية تتمتع بكثير من النقاط وأنا أفتقد لتلك النقاط»
أطلق أبي زفرة استسالم وهو يعقد أصابعه على الطاولة ً
قائل:
« -ومتى تلك المقابلة؟»
ابتسمت له وأنا أجيب بحماس « :غدً ا»
ُ
***
تملكني التوتر الظاهر في قوة زفراتي ،وحركة أصابعي المستمرة،
وهي تنقر بخفة على يدي األخرى وأنا أجلس على ذلك الكرسي الجلدي
األنيق ،وأتأمل الغرفة من حولي.
جذب انتباهي ذلك الحائط المعلق في أوله تمساح محنط صغير الحجم،
أيضا ربما
وبعده بسنتيمترات كائن لم أعرفه ..له ذيل طويل ،ورأس صغير محنط ً
يكون سحلية ،اتجهت بوجهي بعيدً ا؛ فوضعي ال يتحمل النظر لهذه األشياء اآلن..
نظرت إلى المكتب الذي يبعد عني ً
قليل فرأيت عينين تنظران لي ُ
مصغرا لثعبان فاتح فكيه آلخرهما ومخرج لسانه يأخذ
ً مجسما
ً بحدة ،كان
وضع (الكوبرا) قبل أن تنفث سمها..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 150
وضعت يدي على جبهتي وأنا أغمض عيني ،يبدو أن هذا الشخص
ُ
مولع بالزواحف..
ٌ
جذب نظري ذلك الحامل الذهبي المستطيل القابع بمقدمة المكتب،
اقتربت برأسي حتى أستطيع قراءة االسم..
ُ
«دكتور حاتم فؤاد ..مدير شركة (كير) لدعاية األدوية والعقاقير»
رجعت بظهري سري ًعا إلى الوراء ..دخل
ُ سمعت صوت مقبض الباب،
ُ
متجها
ً سيجارا
ً شخص يتحدث بهاتفه وباليد األخرى يحمل بين إصبعيه
إلى المقعد القابع خلف المكتب ،جلس وهو يقول:
« -نعم نعم ..فهمت ..حسنًا أرسل لي البيانات كاملة على بريدي
اإللكتروني اآلن؛ حتى نبدأ في الدعاية سري ًعا»
نظرت إليه كان يبدو في منتصف األربعينيات ..شديد سواد الشعر لم
ُ
ينل الشيب منه شي ًئا إال الفودين ،أبيض البشرة ،له شارب كث ..وضعت
الوسامة لمستها على مالمحه ،عطره يسبقه في الدخول إلى المكان ،وتظهر
عليه األناقة الشديدة واالهتمام بمظهره.
أنهى مكالمته ً
قائل:
« -حسنًا أنا في االنتظار ..مع السالمة ..مع السالمة»
نفسا من سيجاره
نظر إلى الورق الملقى أمامه على المكتب ،وهو يأخذ ً
مبتسما:
ً ويخرجه ببطء ،رفع نظره إلي
151 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وقفت استعدا ًدا للذهاب معه ،لكنه وقف أمامي وهو ينظر إلى وجهى
ُ
ارتفعت حرارة وجهي
ْ خفضت بصري سري ًعا إلى األرض وقد ُ بجرأة،
ً
خجل فلم أسترح لنظرته..
ضحك بصوت ٍ
عال وهو يقول:
« -أمازال هناك فتيات يستحين بهذا الزمن؟!»
ثم قال بصوت منخفض:
« -بالمناسبة هل ِ
أنت متزوجة؟»
قلت وأنا مازلت أنظر إلى األرض:
« -توفي زوجي منذ عام»
ابتسم ً
قائل:
« -رحمه الله ..أتمنى أن تستريحي بيننا»
رجعت خطوة للوراء وأنا أهز
ُ مد لي يده وهو يقول جملته األخيرة،
رأسي بالنفي ،تغير وجهه وضم أصابعه إلى باطن كفه وسحبها ببطءً ،
قائل:
« -هيا ألعرفك على زمالئك»..
تابعته إلى الخارج ..كانت الشركة عبارة عن شقة كبيرة ،أول شيء يطل
عليه الباب هو صالة استقبال العمالء ،ثم ممر طويل بعض الشيء أوله تلك
الغرفة التي أجريت بها المقابلة ،ثم المطبخ والحمام وغرفة صغيرة ،وفي
نهايته غرفة كبيرة مقسمة ألربعة أجزاء يفصل بينها فاصل زجاجي متوسط
الطول ،وكل قسم به مكتب وجهاز حاسوب وهاتف.
153 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 156
()14
ً
سؤال بداخل رأسي مع رؤية الطريق خو ًفا من دفع الغرامة فيطرح هذا
الخالي من وسائل المواصالت وهو «هل كل السائقين مخالفون؟!!»
وبرغم هذا الضغط الحاصل في صباح تلك األيام فإنني أفرح بها في
قرارة نفسي ،فهي مبرر جيد أعلل به تأخري ،فالحقيقة التي يجب أن أعترف
بها أنني صرت أتأخر كل يوم سواء توفرت وسائل المواصالت أو لم تتوفر..
مضى لي في العمل ستة أشهر لم أتأخر في األربعة األولى منها يو ًما،
لم يبدأ التأخر إال مع بدء العام الدراسي منذ شهرين وذهاب براء إلحدى
رياض األطفال التابعة لمدرسة قريبة من بيتنا..
صار هذا عب ًئا صباح ًّيا جديدً ا أعاني منه ،أن أقوم بإيقاظ براء وتحضير
فطوره وطعامه الذي سيأخذه معه ،وإيصاله إلى المدرسة ،ثم ذهابي للعمل،
سباق أخوضه كل يوم الهثة أصارع عقارب الساعة فأفوز مرة وتسحقني مرات..
كثيرا ما يحاول أبي وأمي مساعدتي ولكن ال أريد إرهاقهما فليس من ً
العدل أن يتعبا بتربيتي أنا وأخي ثم بعد أن يصيرا كهلين ويرجوا الراحة ُألقي
كبيرا بمسئوليات أطفالي فيعيدا الكرة مرة أخرى ،كما أن
ثقل ًعلى كتفيهما ً
كثيرا هذه الفترة بمتابعة مشروعه الجديد.. ٌ
مشغول ً أبي
كنت أفكر أحيانًا مع كثرة شعوري بالضغط هذه الفترة في ترك العمل
والتفرغ لبراء ومارية ولكن أحاول أن أكمل سنة بعملي على األقل؛ حتى
أحصل على شهادة خبرة أعزز بها سيرتي الذاتية ً
قليل أمام أية شركة إذا أردت
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 158
الرجوع للعمل يو ًما فبعد أن دخلت هذا المجال علمت أهمية أن يكون لديك
خبرة بعدد سنوات ال بأس بها؛ حتى تستطيع الحصول على وظيفة براتب جيد.
تنهدت وأنا أنظر للنافذة الزجاجية التي يفصل بيني وبينها مقعد تجلس
عليه امرأة مسنة ،وأفكر هل هذا ح ًّقا ما أريد ترك العمل ألجله أم ما يجعلني
أفكر بترك العمل هو ذلك الرجل الذي تختفي حقيقته وراء بذلته األنيقة
وعطره القوي ،أنعم الله عليه بالزواج من امرأة يثني َم ْن يعرفها على حسن
خلقها كما أنها ابنة أحد األثرياء المشهورين في البلد إال أنه ال يمل من
مغازلة النساء ،يتفرس أية امرأة تمر عليه بعينيه ويحاول أن يجذبها بوسامته،
وابتساماته اللطيفة ،وطريقة حواره األنيقة ،يشبه الثعبان -الذي يضعه على
مكتبه تما ًما -ذو جلد ناعم يغري به من حوله ويلف ببطء حول فريسته حتى
إذا تمكن منها نفث سمه ،قليالت َم ْن نجين منه وكثيرات وقعن بشباكه..
أعلم أنه ال يحب وجودي بالشركة؛ فأنا لست من النوع المفضل لديه
دائما ربما تذكره بحقيقته القذرة ،ولكن
فصرامتي ومالمحي المقتضبة بوجهه ً
رغما عنه..
مهارتي بالعمل التي اكتسبتها سري ًعا تجعله يتمسك بوجودي ً
زمالئي أكتشفهم أكثر مع مرور األيام ..دكتور أسامة لم أرتح له من
البداية ،صمته الدائم ونظرته الماكرة يثيران الريبة حوله ،عرفت فيما بعد أنه
عين لدكتور حاتم بيننا ينقل له كل كالمنا وأفعالنا كما أنه يحاول أن يصل
إلى أية معلومات عن العمالء وينقلها له مقابل مكافأة مادية ..تجنبته من
البداية ،أرد عليه تحية الصباح إِ ْن ألقها وغير ذلك ال حديث بيننا..
159 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ودكتور سيد متزوج ولديه ثالثة أبناء ..خفيف الظل ..يحب عائلته
كثيرا ،وأغلب وقته يتحدث عنهم ،يذكرني حبه لزوجته وأوالده بحب أبيً
لنا ..شهامته الصعيدية تغلب عليه في كثير من المواقف معنا..
كثيرا أن أتجنبه؛ فأنا أحاول أن أحافظ على العهد الذيحاولت ً
اتخذته على نفسي مع أول يوم لي بالكلية وهو أال أختلط بالرجال وال
أتحدث إليهم إال للضرورة ولكنه يقتحم َم ْن أمامه بعفويته المفرطة
وحبه للمساعدة ..أتذكر يوم أن قدم لي عرض زواج بأحد أقاربه
عرضا آخر فاستأذنته أن يتوقفواعتذرت له ،وبعدها بأسبوعين قدَّ م لي ً
عن هذا؛ ألنني لن أرتبط بأحد بعد وفاة زوجي ،أخبرني وقتها أنه فعل
كثيرا وكان يتمنى أن أنتسب لعائلته ويأمل أن يرى
ذلك ألنه يحترمني ً
ابنته يو ًما مثلي..
أما رحاب فهي أغرب مزيج تعاملت معه في حياتي..
عندما اقتربنا من بعضنا أكثر وجدتها فتاة تحمل قل ًبا طي ًبا للغاية،
ساعدتني في فهم طبيعة العمل جيدً ا ولم تتركني حتى تمكنت منه..
أنت حتى ال أحيانًا تأخذ حصتي المتبقية من العمل وتقول «اذهبي ِ
تتأخرين على أوالدك وسأكمل أنا» ..تأتي في بعض األوقات بعلبة صغيرة
من الطعام وتخبرني أنها تذكرتني عندما كانت تأكل باألمس واحتفظت لي
بهذا الجزء حتى نتذوقه م ًعا.
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 160
تخبرني جميع أسرارها ومشاكلها ومخاوفها أن تتقدم بالسن أكثر دون زواج
وقد بلغت الثالثين من عمرها ،طيبتها ومواقفها معي جعلتني أحبها وأتعلق بوجودها
في حياتي ..الشيء الذي يحزنني هو اقتناعها التام بتلك المبادئ الخربة فهي ترى
أن الرجل ال يأخذ قرار االرتباط بفتاة إال إذا تأكد من تناسق قوامها ونعومة شعرها
المنسدل؛ لذلك هي ترتدي هذا الزي وتضع الكثير من مستحضرات التجميل؛
ألنها الطريقة المثلى في حصولها على العريس المناسب ،وأنه ال يوجد أي ضرر من
كثيرا ما حذرتها
ذهابها مع دكتور حاتم وأسامة إلى الغداء أو في رحلة فهذه زمالةً ،
من كثرة مزاحها مع دكتور حاتم وهي أعلم به مني وأعلم بحقيقته ،فتخبرني:
« -اطمئني يا حنين هو يعلم جيدً ا أنني لست من اللواتي يحاول العبث
معهن ،ولكنني أحاول أن أجاريه وال أضايقه؛ حتى ال يستغني عن وظيفتي
في أي وقت»
علي وقتها ناصحة:
ومالت ّ
« -ونصيحة مني يا حبيبتي حاولي أال تعبسي في وجهه ،لن يحدث
ِ
اطمئننت على صحته ِ
ضحكت على نكاته التافهة الحمقاء ،أو شيء إذا
عندما ترينه في الصباح ،أو أن تثني على شيء جديد ارتداه ،كل هذه األشياء
ِ
فأنت الموظفة ِ
عليك بالمكافآت؛ لك رصيدً ا عنده ولن يبخل ستجعل ِ
سريعة البديهة ال َلبِ َقة التي تهتم بتفاصيل ليست لها أية أهمية ولكنه يسعد
بذكرها كطفل صغير ..وكما يقول المثل (الرزق يحب الخفية)»
161 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
كنت أواجه كالمها باعتراض شديد ،وأفهمها حقائق األمور ،وهي أننا
لسنا بضاعة تُباع وتُشترى ،ويجب أن يتأكد التاجر من جودتها قبل الشراء،
وأن الحياة الزوجية ال تُقام على هذا األساس ،وأن دكتور حاتم ال ينظر إلى
األمور بنظرتها ،وربما لم يحاول اإليقاع بها إلى اآلن ألنه لم تخطر هذه
تشرب عقلها
دائما أن أشعرها بنتائج ما تفعل ولكن َّ
الفكرة بباله بعد ،أحاول ً
بتلك المفاهيم المعطوبة لألسف..
أتت أمامي تلك اليافطة الحمراء التي أعرف منها أنه يجب أن أستعد
للنزول ،فالشركة بعدها بخمسة مباني ،نزلت وأنا أمشي تجاه مقر الشركة بخطى
سريعة حتى وصلت إلى هناك ،جلست على مقعدي بعد أن ألقيت حقيبتي على
المكتب ،وأنا ألتقط أنفاسي بشكل متسارع ،نظرت إلى رحاب وسألتها:
« -هل أتى؟»
أجابت:
« -نعم من نصف ساعة ..ومنذ أن جاء وهو يسأل ِ
عنك»
أطلقت زفرة ضيق وأنا أتجه ببصري بعيدً ا ،قامت رحاب من مقعدها
واقتربت مني قائلة بصوت هامس:
« -اليوم يرتدي بذلة جديدة أثني على اختياره لها ،وستمتصين غضبه
بهذه الطريقة ،سيخبرك بعدها كم هو يحب هذا اللون ،وأن هذه البذلة نادرة
كثيرا حتى حصل عليها ،وسينسى أمر تأخرك»
الوجود وتعب ً
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 162
« -سأبدأ عملي على الفور ،وسأجلس ساعة بعد انتهاء ساعات
العمل؛ حتى أعوض ذلك التأخير»
قليل بهذا التعويضً ،
قائل: إلي وقد بدا عليه الرضا ً
نظر ّ
« -حسنًا ولكن األهم من ذلك أال يحدث هذا التأخير مرة أخرى»
أومأت له برأسي موافقة ،نظر إلى رحاب وابتسم تلك االبتسامة
السمجة وبادلته رحاب االبتسامة نفسها ،وغادر بعدها ،عال صوت رحاب
بالضحك بعد أن خرج قائلة:
« -عنيدة»
ابتسمت لها:
« -أنا ال أقتنع بمبادئك يا رحاب»
ً
اتصال: جلست على المقعد وأنا ألتقط الهاتف من حقيبتي؛ ألجري
« -السالم عليكم يا أبي ..سأثقل عليك بطلب اليوم سأتأخر بالعمل
صباحا أرجوك أن تحضر براء من المدرسة ..حسنًا ياً حتى أعوض تأخيري
أبي ..بارك الله لنا فيك ..تأكدوا أنه تناول غداءه وعندما أحضر أنا سأقوم
بحل واجباته المدرسية معه ..حسنًا ..مع السالمة ..مع السالمة»
نظرت إلى حاسوبي وشرعت في فتح ملفات عمل اليوم ،وأنا أمسك
سماعة الهاتف القابع بجوار الشاشة بعد أن ضغطت على أحد أزراره وأقول:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 164
أومأت لي برأسها:
« -حسنًا سأنتهي أنا األخرى اآلن لكي نذهب م ًعا»
أخرجت من حقيبتها مرآة صغيرة ،وإصبع أحمر شفاه ،وأعادت طالء
شفتيها وضمتهما إلى الداخل ،وهي تنزل خصالت شعرها على عينيها
قليل للخلف ،أخرجت قنينة عطر وأخذت ترش بخات متتالية وترجعها ً
في شكل دائري حولها..
قلت لها محذرة:
« -ال تضعي الكثير؛ حتى ال تلتقط ثيابي الرائحة منك وأستطيع أن
أمشي بجوارك بالطريق»
قالت:
« -ال تقلقي هذا من النوع الرخيص ..ستطير رائحته قبل أن نخرج من
هنا»
نظرت باستغراب إلى رحاب وقد عال صوت رنين هاتفي قائلة:
« -إنها أمي ..يبدو أن براء أتعبها اليوم وتريد أن تعرف متى سأعود»
أجبت:
« -نعم يا أمي سأقوم ً
حال وأتـ »...ولكنني توقفت ،قمت ببطء وأنا أستند
إلى المكتب الذي أمامي منحنية ،وقد تملكني الفزع وأنا أسمع أمي صارخة:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 166
« -رجل األعمال الذي كان يجمع األموال لبدء المشروع المنضم له
ِ
أبوك ..هرب مساء األمس إلى خارج البالد»
اتسعت عيناي من هول المفاجأة ،وتابع خالي:
« -لم يتحمل ِ
أبوك وقع الخبر ..عندما علم باألمر أغشي عليه ،واتصلوا
بنا ،فنقلناه إلى المشفى ،واآلن األطباء بالداخل في انتظارهم ليخبروني ماذا
حدث له»
تركت أمي حضني وهي تقول بغضب ودموعها تتدفق على وجنتيها:
ْ
ً
أموال ..ملعونة األموال أينما ذهبت.. ً
أموال ..ال نريد « -ال نريد
ملعونة»
أمسكت بيدها وأنا أحاول تهدئتها:
ُ
« -اصبري يا أمي ..اصبري..سيخرج األطباء اآلن ويطمئنونا أنه
مجرد عارض وسيزول إن شاء الله»
قال آسر بصوت ينم عن الضيق:
« -ال أعرف كيف فعل هذا ..كيف يضع جميع أموالنا في مشروع
واحد مع رجل لم يسبق له التعامل معه..كنت أظن أنه يضع بعض األموال
وليس كل ما نملك»
وهممت بقول شيء لوال أننا سمعنا صوت باب الغرفة ُيفتح..
ُ نظرت إليه
ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 168
خرج طبيبان ..ذهب أحدهما بينما بقي اآلخر ،أسرعنا تجاهه لنطمئن،
بدأ الحديث وعالمات األسف بادية عليه:
« -لألسف ارتفع ضغطه فجأة بشكل كبير مما أدى إلى حدوث جلطة»
صمت برهة وتابع:
« -وكانت السبب في إصابة نصفه األيمن بالشلل»
شهقت أمي وهي تضرب بيدها على صدرها وترجع للخلف ،بينماْ
جرت دموعي على خدي بعد سماع كالم الطبيب..
سأله خالي:
« -هل نستطيع رؤيته؟»
« -الليلة ال ..ربما نسمح بالزيارة بعد يومين أو ثالثة»
قالت أمي بصوت ٍ
باك:
« -سأبقى بجواره الليلة»
قال الطبيب:
« -ال داعي لذلك فلن تستطيعي رؤيته ،من رأيي أن ترجعوا جميعكم
للبيت وتأتون غدً ا»
سألته بصوت متهدج:
« -إلى متى سيتم حجزه هنا؟»
169 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أجاب:
« -ال نعلم ..ربما يطول األمر أو يقصر ،ولكن إلى اآلن وضعه غير
مستقر ويجب وضعه تحت أعيننا»
استأذن منا وذهب ،أصرت أمي على المبيت وأنها لن تذهب إلى أي مكان
حاولت أنا وخالي إقناعها أن ال فائدة من ذلك وأن جسدها
ُ وتتركه هنا وحده،
لن يتحمل الجلوس على الكرسي طوال الليل ،وعندما يحل الصباح سنأتي
ثانية ،وافقت على الذهاب معنا على مضض بعد رفضها التام للرجوع إلى
البيت ..ذهبا مع آسر إلى السيارة بينما ذهبت أنا إلى قسم الحسابات؛ ألستلم
الفاتورة ،تفاجأت بهذا الرقم المكون من أربعة أرقام وهو حساب ليلة واحدة،
أخبرتهم أننا سنقوم بدفع المبلغ صباح اليوم التالي ،ولحقت بأمي وخالي وآسر
إلى السيارة ،كانت أمي تبكي طوال طريق عودتنا إلى البيت بينما كنت أفكر أنا
في وضع أبي ،وإصابته المفاجأة ،وكالم األطباء الذي ال يبشر بالخير ،وماذا
سنفعل اآلن ..كيف ستكون شكل حياتنا بعد هذه الصدمة ،لم نعتد الفقر يو ًما
بل كنا مرفهين نتقلب في نعم الله ،لم يحرمنا أبي من أي شيء طلبناه ..اعتدنا
على أسلوب حياة معين سنأخذ وقتًا ً
طويل حتى نتعود على غيره.
وصلنا إلى البيت وكانت في استقبالنا أم سعد ،فتحت الباب وقد ظهر
على وجهها الوجل ،سألت عن حال أبي حتى علمت فأخذت في البكاء
والدعاء له وشاركتها أمي في ذلك..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 170
« -ال نعرف إلى متى سيبقى أبي بالمشفى ،وال حل لدينا لدفع تلك
يتبق غيرها أمامنا»
الفاتورة والفواتير القادمة إال ببيع السيارة ..لم َّ
جحظت عينا آسر وهو يقوم ً
قائل:
« -ماذا تقولين يا حنين!! لن نستطيع بيع السيارة ..كيف سنقضي مشاويرنا!!»
قمت أمامه وأنا أصيح وأنظر إليه مستنكرة وقد فاض بي:
ُ
« -أهذا كل ما يشغل بالك!! السيارة ومشاويرنا؟! ألم يخطر ببالك أننا
إذا لم ندفع تلك الفواتير سيخرجون أباك من المشفى!! أبوك الذي صنعك
وجعل منك ً
رجل لتكون سندً ا له في الحياة وخيبت ظنه»
وتحركت أمام الطاولة مشيرة إليه بيدي:
ُ قمت من مكاني
ُ
« -انظر لنفسك متى خرجت لتجتمع معنا؟ خرجت اآلن بعد حدوث
مصيبة كبرى ..أين أنت منذ شهر؟ أين أنت منذ عام؟ أين أنت منذ عامين؟
ال أستبعد أن يكون جرى ما جرى ألبي من فرط حزنه لعلمه أن ال أحد
سيتحمل مسئوليتنا بعد أن فقدنا أموالنا»
تابعت بصوت منخفض:
ُ ثم
« -إِ ْن كنت تفكر ماذا سنفعل بعدما أصبحنا فقراء فأنا أرى أن توفر
مجهود تفكيرك في البحث عن عمل أفضل ً
بدل من الجلوس بالبيت
ومرافقة العاطلين غير النافعين»
متجها نحوي وهو يرفع يده ً
قائل: ً قام آسر غاض ًبا
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 172
« -اآلن تغيرت الكثير من األمور ..لم يعد لدينا أموال مما يعني أننا
سنتخلى عن كثير من األشياء ونعيش حياة جديدة بشكل مختلف»
قاطعني خالي:
« -سأساعد بكل ما أستطيع معكم يا حنين»
« -ال يا خالي نحن نعلم ظروفك ..ونعلم أن راتبك بالكاد يكفيك،
كما أن هذا األمر لن يرضي زوجتك ،ونحن ال نريد أن نسبب لك المشاكل»
زدت:
ُ
« -سأستعين بالله وسأحاول أن أكثف عملي؛ حتى أستطيع توفير
األموال دون أن نكون بحاجة ألحد فاألبواب المفتحة في هذا البيت عديدة
وتحتاج للكثير»
ختمت كالمي وأنا ال أعرف من أين أتيت بهذه الثقة في كالمي فأنا ُ
شعرت بالمسئولية عندما
ُ ال أعلم هل سأستطيع ح ًّقا توفير األموال أم ال..
رحل هاشم وترك لي براء ومارية ،ولكن اآلن األمور اختلفت ..اآلن أصبح
في رقبتي براء ومارية وأبي وأمي وآسر وبيتنا ،إحساسي بالمسئولية أصبح
أصبحت أشعر
ُ ثقيل جدًّ ا حتى إنه يطبق على صدري وال أستطيع التنفس، ً
باالختناق وبخوف من نوع جديد لم يصيباني من قبل.
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 174
()15
ُيقال إن المال ال يجلب السعادة ..أظن َم ْن قال هذه المقولة لم يعش
الفقر يو ًما ،ولم يمر بشعور العجز الذي يتملكني اآلن ..لم يعبث الخوف
ليل في سريرهبقلبه من فقد حبيب ال يستطيع شراء الدواء له ،ولم يتقلب ً
قل ًقا من حلول نائبة أخرى تأتيه من حيث لم يحتسب وتفتك بما تبقى لديه
من وريقات زهيدة..
كثيرا من المشاعر
قد ال يجلب المال شعور السعادة ولكن فقده يجلب ً
المخيفة..
بكوعي على المقعد وأسند ذقني
ّ نظرت إلى شاشة حاسوبي وأنا أتكئ
بكلتا يدي ،ويتملكني الضيق وأنا أسمع دكتور حاتم وهو يخبر رحاب
عن ثمن نظارته الشمسية ،وكيف أن كل من يراها يصبه الجنون من جمال
شكلها ويسأله من أين اشتراها ،إنسان مغرور مهووس بالمناظر يبذر أمواله
يمنة ويسرة دون أن يقدر قيمتها..
ربما أصبح يزعجني ذكر أية أرقام كبيرة من األموال أمامي ،عندما يذكر
امتلكت هذا المبلغ كيف سأستطيع
ُ المبالغ التي يشتري بها أشياءه أتخيل إِ ْن
أن أؤمن به عدة أمور في حياتي ألشهر قادمة.
175 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
بعد حادث أبي تغيرت نظرتي للحياة تما ًما ظهر ذلك النوع من الخوف
الذي لم أعتده يو ًما ،وتغلغل بقلبي ..الخوف من الغد ..صار سؤال «ماذا
لو؟» ال يفارق عقلي ..ماذا لو نفذت الفلوس قبل نهاية الشهر؟ ماذا لو
حدث أي شيء جديد وتطلب دفع األموال؟ ماذا لو لم أستطع دفع رسوم
مدرسة براء؟ ..ماذا لو..؟ ماذا لو..؟
أضع رأسي على الوسادة كل ليلة وأنا أحمد الله أن انتهى اليوم دون أن
يجد جديدٌ يستدعي صرف المزيد من األموال فتخرب الميزانية المحددة
التي أضعها له ،ولكن ما يؤرقني أنه بالتأكيد لن يستمر الحال هكذا ستأتي
أيام لن أعرف فيها ماذا سأفعل ..أكثر ما يفزعني هذه الفترة أن النقود التي
أتت من جراء بيع السيارة قد أوشكت على النفاذ ومصاريف هذا المشفى
غالية جدًّ ا ،ولكنهم في المقابل يعتنون بأبي جيدً ا ،ولن أجازف بنقله لمشفى
آخر أرخص منه ..صحة أبي أهم من كل شيء ،ثم بماذا أفادتنا النقود ،كل
ما يحصل لنا اآلن من تحت رأسها ،سأقترض المال إن استلزم األمر ولكن
لن أنقل أبي من هذا المشفى..
أرجعت رأسي إلى الخلف وأنا أنظر إلى السقف ،وأستدير بحدقتي
عيني في األرجاء..
أصبحت أمقت هذا المكان يو ًما بعد يوم ،فيما مضى كان عملي اختيار ًّيا
ُ
أستطيع أن أتركه في أي وقت أردت ،كان السبب الوحيد الستمراري به
هو الحصول على شهادة خبرة فقط أما اآلن فال ..لم أعد أملك االختيار،
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 176
أصبح هذا العمل إلزام ًّيا ،ضرورة ال بد منها ،وال أستطيع تركه حتى أجد
وظيفة ثانية مما يعني أن أبقى في هذا المكان سنة ونصف على األقل..
فجميع الوظائف ذوات الرواتب الجيدة ال تقبل بخبرة أقل من سنتين..
أكثر شيء ينقصني هذه الفترة هو حسن الظن بالله والتوكل عليه..
ظللت أسمع طوال عمري عن الرضا والصبر ،وظننت أنني قادرة على
واكتشفت أن تطبيقهما ليس ً
سهل بالمرة.. ُ القيام بهما حتى أتت النوائب
سمعت خطوات رحاب بكعب حذائها العالي وهي قادمة نحوي حتى
وصلت لمكتبها وهي تشير إلي بإبهامها إلى الخلف..
اعتدلت في جلستي سري ًعا ،أطل دكتور حاتم برأسه من خلف الحاجز
الزجاجي لمكتبي ً
سائل:
« -كيف حال العمل دكتورة حنين؟»
أجبت وأنا أنظر إلى حاسوبي:
« -األمور كلها جيدة الحمد لله»
أخفض صوته وتابع:
« -وكيف حال الوالد اآلن؟»
قلت:
« -الوضع كما هو عليه منذ أسبوعين ،ال جديد»
« -شفاه الله»
177 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
آمين..شكرا»
ً « -اللهم
مغادرا
ً أيضا ،ثم اتجه
استدار وسأل أسامة وسيد عن حال عملهما ً
إلي رحاب بعين حزينة وقالت:
نظرت ّ
ْ الغرفة..
« -لم يحدث أي جديد؟»
امتألت عيناي بالدموع ،اقتربت مني وهي
ْ هززت رأسي لها نافية ،وقد
تضع يدها على كتفي:
« -تماسكي يا حنين ..أعلم أن األمر صعب»
سقطت دموعي مسرعة على وجنتي ،وقلت:
« -األطباء لم يطمئنونا قط ..بل إنهم يخبروننا أن الحالة تزداد سو ًءا»
منديل ألتقط به دموعي المتالحقة وقالت:ً ناولتني رحاب
« -سيشفى وسيكون بخير وسيرجع ثانية بينكم إن شاء الله»
« -أتمنى ذلك يا رحاب وليس بعيدً ا عن الله»
مسحت وجهي بشكل سريع وتابعت:
« -أنا انتهيت من عمل اليوم سأقوم اآلن للذهاب إلى المشفى»
« -حسنًا وإِ ْن َجدَّ أي أمر أخبريني»
« -حسنًا»
قمت متجهة خارج الشركة ،استقليت إحدى سيارات األجرة ألصل
إلى المشفى ،وصلت إلى هناك وصعدت إلى طابق غرفة أبي فوجدت
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 178
أمى تجلس بإحدى المقاعد القريبة من الغرفة ،سألتها بعد أن ألقيت عليها
التحية واطمأننت على حالها:
« -هل من جديد؟»
هزت رأسها نافية ،رأيت أحد األطباء يمشي بالممر ،استأذنتها وذهبت
إليه قائلة:
« -أنا ابنة السيد طارق ..كيف الوضع؟»
قال وهو يضع يده بجيوب معطفه األبيض وسماعته الطبية تحاوط رقبته:
« -ال أريد أن أحزنك ولكن ال توجد استجابة ،والحالة تزداد سو ًءا،
كما أنه يتنفس بصعوبة منذ ساعة ونجري له التحاليل اآلن ،ونشك أنه أصابه
التهاب رئوي مما يستدعي وضعه على جهاز تنفس صناعي»
وقلت:
ُ ابتلعت ريقي بعد سماع كالمه،
ُ
شكرا لك ،سأتابع معكم اليوم إلى أين وصلت حالته،
ً « -حسنًا
وأرجوك ال تخبر أي أحد عن صحته سوى أنا وخالي؛ فأمي لن تستطيع
تحمل هذه األخبار»
رجعت إلى أمي بوجه واجم ال أدري ماذا أقول لها ،قلت بتردد بعد
ُ
سؤالها لي ماذا قال الطبيب:
« -يقول إنه يلقى بعض الصعوبة في أثناء التنفس ،ومن الممكن أن
يضعوه على جهاز تنفس صناعي»
179 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ربت على كتف أمي وأنا أفكر بكالم الطبيب الذي أخبرني به للتو.. ُّ
كنت أعيش على أمل ضعيف أن تتحسن حالته ويتعافى ،ولكن كالمه
أصابني باإلحباط وجعلني أخاف بشدة على أبي ،وأخاف من تطور حالته..
كنت أقوى بأبي على فقد هاشم وأتمنى أن يتحسن؛ فبمرضه أشعر أنني
هشة وضعيفة ..ضعيفة جدًّ ا...
***
مر أسبوع سادت خالله حالة من القلق والخوف تجاه وضع أبي
المضطرب ،والترقب لمعرفة راتبي الجديد؛ فلقد مرت الستة أشهر ،وحان موعد
شعرت أن هذه الزيادة جاءت في وقتهاُ زيادتي وزيادة جميع من في الشركة،
المناسب تما ًما ،فأنا أعقد عليها الكثير من اآلمال ..ستحمل عني بالتأكيد عب ًئا
قليل من ضغط المصاريف الذي أواجهه..من المصاريف الحياتية وستخفف ً
استقبلتني رحاب على باب الغرفة وهي تهز مظرو ًفا بيدها مبتسمة ،وتقول:
« -زيادة الراتب»
اقتربت مني والسعادة تمأل وجهها:
جنيها»
« -زدت ألف جنيه وصار راتبي ألفين ونصف ً
ابتسمت لها بعد أن انشرح صدري من سماع زيادتها ،وقلت:
« -بارك الله ِ
لك في أموالك يا حبيبتي»
مستنكرا:
ً قال دكتور سيد -وهو يعقد حاجبيه-
181 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -ال أعرف لماذا زادت دكتورة رحاب ألف جنيه بينما أنا وأسامة
جنيها وجميعنا يعمل عدد الساعات نفسها إِ ْن لم أكن أكثر!»
ثمانمائة ً
كثيرا من المعاني ،وقال:
ضحك أسامة بابتسامة خبيثة تحمل ً
« -كل معزة ولها ثمن ،وأنت تعلم معزة دكتورة رحاب عند دكتور
حاتم يا سيد»
لم تعلق رحاب على كالم أسامة األخير ،وقد فهمت مغزاه ..سحبتني
من يدي وهي تقول:
« -مظروفك على المكتب هيا لتعرفي زيادتك»
جلست على مقعدي وأنا أنظر إلى المظروف الموضوع أمامي وأفكر.. ُ
جنيها مثلهما فهذا مبلغ جيد بالنسبة لي ،أستطيع على
حتى إن زدت ثمانمائة ً
األقل أن أسدد به الرسوم المتبقية لمدرسة آسر هذا العام..
وأخرجت ما فيه ،لم يكن
ُ قمت بفتحه ببطء
تناولت المظروف وأنا أبتسمُ ..
ُ
فتحت المظروف مرة ُ بداخل المظروف غير ورقة واحدة من فئة المائتي جنيه..
هت عندما
ونظرت بداخله جيدً ا لكنه لم يكن يحمل سوى هذه الورقةُ ..ب ُّ
ُ أخرى
تأكدت من مبلغ زيادتي بينما صمتت رحاب تما ًما وأطلق أسامة ضحكة ساخرة ُ
كثيرا خالل هذهعملت ً ُ وعلق سيد« :هذا ظلم» ..قلت :نعم هذا ظلم شديد،
وتمكنت منه بوقت
ُ وفهمت العمل،
ُ وكنت أعوض عن تأخري، ُ األشهر الستة،
قياسي ،هو يستغل ظروفي ويعلم جيدً ا أنني لن أستطيع تركه اآلن وأننا بحاجة
وسأصمت ..فأي ابتزاز هذا؟!!
ُ إلى المال؛ لذا سأقبل بأي شيء
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 182
سمعنا وقع خطواته بالممر ،اعتدل الجميع على مقعده ناظرين إلى
حواسيبهم..
دخل وتلك االبتسامة السمجة تعلو وجهه ،وينفث دخان سيجاره ً
قائل:
« -كل زيادة وأنتم بخير يا أوالد ..آمل أن تكونوا جميعكم راضين عن
تلك الزيادة»
ثم نظر إلي وأكمل:
« -دكتورة حنين ..هذه أول زيادة ِ
لك بيننا من المؤكد أنك تشعرين
بشعور مختلف»
واضحا تما ًما أنه يحاول أن يستفزني بكالمه؛ ألبدأ باالعتراض ً كان
والنواح والعويل على هذه الزيادة القليلة َف َي ُم ُّن ّ
علي بورقة نقدية من فئة
جنيها ويظهر في آخر األمر بمظهر البطل الراعي لأليادي المحتاجة..الخمسين ً
ابتسمت وأنا أقول:
ُ
كنت في أستراليا مع زوجي هاشم
« -أشعر بالسعادة بالتأكيد فعندما ُ
-رحمه الله -كنا نشتري لطفلينا بعض الحلوى بثمن مائتي جنيه ،وأظن أن
أنسب احتفال بهذه الزيادة هو أن أعيد لهم هذه الذكرى عند رجوعي لهم
سيسعدهم هذا وسيسعدني بالضرورة»
تغير وجهه وقد فهم مغزى كالمي لكن سرعان ما ابتسم وقال بصوت
يحمل ً
قليل من التهكم:
183 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
إلي
« -أتمنى لكم االستمتاع بها» وغادر المكتب بعدها ..أشارت ّ
رحاب بإبهامها إشارة منها أنني أحسنت ،ابتسمت لها ثم نظرت إلى المائتي
جنيه وأنا أواجه شعوري الحقيقي وإِ ْن أظهرت له عدم اكتراثي لألمر ولكن
كنت أعتمد على هذه الزيادة بداخلي غير ذلك ..أنا أشعر بالحزن الشديدُ ،
تنهدت وأنا أتعجب من ُ في كثير من األمور ،واآلن ال أعرف ماذا سأفعل..
تبدل األحوال في وقت من األوقات لم يكن المال يشغل بالي على اإلطالق
حمدت الله عليها ،وسألته أن
ُ واآلن أشعر بالتيه لزيادتي مائتي جنيه فقط..
يطرح بها البركة فغيري راتبهم الشهري هو هذه الزيادة فقط ،نعم هي ليست
بالكثيرة ولكنها ستسد با ًبا ما من مصاريف البيت..
فأنا مثل الضائع بفالة ويشعر بالعطش الشديد ،لن يضره إِ ْن تناول القليل
ترو عطشه ستمنحه بعض القوة لمواصلة المسير.. من قطرات المياه فإِ ْن لم ِ
***
أيقظت براء سري ًعا ،وقمت بتحضير فطوره وحقيبته المدرسية ،ساعدته على
وبدأت أشعر بالتوتر؛ فأم
ُ ارتداء مالبسه ،نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط،
تأت إلى اآلنَ ..م ْن سيجلس مع مارية؟! يجب أن أذهب للعمل وأمي سعد لم ِ
تريد الذهاب إلى المشفى ،وآسر يغط في النوم وال أستطيع االعتماد عليه في
ً
اتصال: تناولت هاتفي الذي قارب شحنه على االنتهاء وأجريت
ُ رعايتها،
« -صباح الخير ..هل أيقظتك من النوم؟»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 184
أجابت رحاب:
« -ال ال يا حبيبتي أنا مستيقظة منذ نصف ساعة وسأتناول فطوري
وأذهب إلى الشركة»
تأت أم سعد إلى اآلن ،وأمي يجب أن تذهب إلى « -رحاب ،لم ِ
ِ
استسمحك أن تأخذي عني أول المشفى ،وال يوجد َم ْن يعتني بمارية..
ساعتين من العمل حتى تأتي أو أجد ًّ
حل لهذا األمر»
« -حسنًا ال تشغلي بالك حبيبتي سأتولى أنا األمر»
حمدت الله بداخلي على نعمة رحاب فمن الجيد جدًّ ا أن يكون بحياتك
ُ
كنت ال أحب أن تغيب أم سعد اليوم حتى ال (رجل المهمات الصعبة) وإِ ْن ُ
قمت ألرتدي
تعبير عن حنقي من مقدار زيادتهُ ..
يفهم دكتور حاتم أن تأخري ٌ
نظرت إلى المرآة وأنا ألف حجابي سري ًعا ..انسدلت خصلة من شعري
ُ مالبسي،
توقفت برهة أتأمل،
ُ هممت بإدخالها ولكنني
ُ على جبهتي من تحت الحجاب،
فظهرت بعض الخصالت من شعري مما أعطاني ْ أرجعت حجابي ً
قليل للخلف ُ
ً
شكل جمال ًّيا ..خطر ببالي كالم رحاب ،ربما تكون محقة ..قد أكون بالغت في
معاملتي المقتضبة لدكتور حاتم ولزمالئي..مزاح رحاب وتباسطها في التعامل
ال ينفي أنها فتاة محترمة ،وأنا واثقة من ذلك ،وكذلك أنا لن يقل احترامي عندهم،
سيظلون يحترمونني فهم يعلمونني جيدً ا ..هي مجرد ابتسامات ومجامالت لن
يضر قولها في شيء ،كما أنني وقتها سيزيد راتبي زيادة أستحقها..
انتبهت على يد براء الصغيرة وهو يجذبني ً
قائل: ُ
185 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()16
صباحا»
ً « -حبيبتي سأذهب اآلن فلقد تأخر الوقت وسآتي غدً ا
وقلت:
ُ ربت على يدها
ُّ
« -ال تأتي يا رحاب ،ال داعي لذلك أنا بخير ال تقلقي ،اذهبي إلى الشركة
وتابعي العمل ِ
فأنت هنا منذ البارحة وبالتأكيد سيتضايق دكتور حاتم من هذا»
هزت رحاب رأسها نافية وقالت:
« -على العكس تما ًما يا حنين ،هو َم ْن قال لي أن أبقى بجانبك وال
أتركك ..هو متفهم تما ًما لما تمرين به ،كما إنه جاء اليوم هو ودكتور أسامة
ودكتور سيد آلسر وخالك وأدوا واجب العزاء»
قلت:
ُ
« -أوصلي لهم شكري رجا ًء ،وأخبري دكتور حاتم أنني سأزاول
العمل مرة أخرى بعد أن تنتهي مراسم العزاء ولن أطيل األجازة»
اقتربت وقالت بحنو:
« -خذي وقتك حبيبتي وال تشغلي بالك بأي شيء سأجلس ساعات
إضافية وأتم عملك بها»
ابتسمت لها قائلة:
فيك يا رحابِ ..
أنت تحملين عني الكثير وال أعرف كيف « -بارك الله ِ
أرد ِ
لك كل هذا»
189 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
خرجت أنا وأمي ووجدنا آسر وخالي يجلسان بغرفة المعيشة ..جلسنا
ُ
معهما وبدأ خالي في الترحم على أبي ،وذكر العدد الكبير للمصلين عليه
بصالة الجنازة والمعزين ،ثم سرد مواقفه وحسن صنيعه معه منذ أن تقدم
لخطبة أمي ،وشاركته أمي في سرد المواقف التي تعرضا لها م ًعا هي وأبي،
ومرورهما بالمشاعر المختلفة من حب وصبر وعطاء وبذل ..كانت أمي
تتوجه بالحديث لي تارة وآلسر تارة أخرى ،وتذكرني بأشياء حدثت في
صغرنا ..ربما ال يمثل لنا هذا الكالم سوى ذكريات عابرة ولكنه يمثل ألمي
تاريخ ٍ
عمر بأكمله قضياه م ًعا هي وأبي ،كانت تسرد المواقف وعيناها تلمع َ
واعتزازا بحبيبها..
ً فخرا
ً
أنهت أمي كالمها وهي تتنهد قائلة:
« -رحمك الله يا طارق ..الجميع أحبك وحزنوا لفقدك؛ َف َل َك مع كل
شخص ذكرى طيبة ،أما َم ْن فعل بك هذا فلن يهنأ في حياته أبدً ا ،ولن يتمتع
بتلك األموال ما َحيي»
وأردفت:
ْ رفعت رأسها،
ْ صمتت برهة ،ثم
ْ
مبكرا في
« -على ذكر سيرة المال ..أعلم أنه ربما يكون الكالم اآلن ً
هذا الشأن ولكني أحب أن أتكلم فيه اآلن ونضع النقاط على الحروف»
نظرت تجاهي أنا وآسر ،وقالت:
ْ
« -كما تعلمان لم يترك أبوكما شي ًئا لنا ،كل ما نملكه اآلن هذه الشقة
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 192
وبعض األموال القليلة التي بقيت في البنك بعد بيع السيارة ،وكل ما نعتمد
عليه اآلن في مصاريف هذا البيت هو راتب حنــ…»
قاطعها آسر:
حصلت على فرصة عمل»
ُ « -لقد
نظرت إليه باستغراب قائلة:
ُ
« -منذ متى؟»
رمقني غاض ًبا ،وقال:
وجدت تلك الفرصة
ُ ظللت أبحث حتى
ُ « -منذ حديثك السابق..
براتب ٍ
جيد» ٍ
« -وما طبيعتها؟» سألته أمي..
تلجلج ً
قليل وأكمل:
« -سأعمل عند والد أحد األصدقاء في مطعمه بالغردقة»
قامت أمي وهي تسأله مستغربة:
« -غردقة!!»
« -نعم ..سيكون نظام العمل ثالثة أشهر متصلة ثم أجازة لمدة ثالثة
أسابيع»
أشارت أمي بإصبعها نافية ،وهي تقول:
193 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -ال ال ال ..لن أدعك تذهب ..أفقدُ أباك منذ يومين ثم تغيب أنت
اآلخر عنا كل هذه المدة!!»
« -هذه الوظيفة الوحيدة التي وجدتها بهذا الراتب يا أمي»
« -ال نريد زيادة بالراتب ..ابحث عن عمل براتب أقل هنا بالقاهرة،
ونضم راتبك إلى راتب حنين ،ونتكيف على العيش بهما»
هز رأسه بقوة ناف ًيا ،وهو يقول:
« -لن أستطيع فأنا أحتاج إلى المال ،ال أريد أن أشعر بالنقص عما
كنت عليه ساب ًقا»
قالت أمي راجي ًة:
« -ولكن يا بني ال أريدك أن تبتعد عنا»
« -لن أبتعد يا أمي ستمر الثالثة أشهر سري ًعا ،وسآتي لقضاء األجازة
بك كل يوم ،وسأرسل لكم مبل ًغا كل شهر يستطيع بينكم ،كما أنني سأتصل ِ
أن يسد الكثير من احتياجات البيت»
صمتت أمي عندما رأت إصرار آسر ،وسألته وقد كسا صوتها الحزن
أكثر:
« -ومتى ستسافر؟»
« -من بداية األسبوع القادم»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 194
قال خالي:
« -سأذهب معك أوصلك»
صغيرا»
ً « -ال داعي لذلك يا خالي فأنا لم أعد
أغلق آسر بعدها الحديث في هذا الموضوع ،وتابعنا حديثنا بأمور أخرى.
كان آسر يتجنبني تما ًما منذ كالمي الحاد معه قبل وفاة أبي ،استأذن خالي
أكلت ً
قليل ْ ً
راحل إلى بيته ،وذهبت أمي للنوم ،وقد بعد أن انتهينا من حديثنا
نظرت إلى باب
ُ هممت بالذهاب إلى غرفتي ولكني ُ بعد إلحاحي الشديد،
طرقت
ُ اتجهت إليه وتملكني التردد في الدخول،
ُ غرفة آسر في أثناء ذهابي،
جالسا على
ً الباب وفتحته؛ لعلمي أنه ربما لم يسمع صوت دقاتي ،وجدته
اقتربت منه وقلت له باسم ًة:
ُ حاسوبه ..اقتضب ً
قليل عند رؤيتي..
« -أعتذر عن الكالم الذي قلته حينها ،موقف أبي رحمه الله حينها
أفزعني بشدة ،ولم أستطع التحكم في غضبي»
قلت:
رمقني بنظرة حانقة ،ثم اتجه لحاسوبه مرة أخرىُ ،
بعضا ،أرى
« -آسر بعد وفاة أبي ،ليس لنا أحد في هذه الدنيا إال بعضنا ً
أنه يجب أن ننسى ما مضى ونقترب من جديد»
أكملت:
ُ ظلت عيناه مثبتتان على شاشة الحاسوب،
ْ
احتجت إلى أية مساعدة
َ « -أتمنى لك التوفيق في عملك الجديد ،إِ ْن
فأنا»....
195 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
قاطعني:
«شكرا ال أحتاج إلى المساعدة»
ً -
ابتلعت
ُ شعرت أن الكالم توقف في حلقي بعد مقاطعته الحرجة لي،
ُ
خارجا ،وأغلق الباب:
ً وقلت وأنا أتجه
ُ حروفي،
« -تصبح على خير»..
أحببت أن أصلح
ُ كنت ال أريد أن يتركنا ويذهب وهو غاضب مني، ُ
قليل ويحتك في قليل بيني وبينه لكنه أبى ،ربما عندما يبتعد عنا ً
األمور ً
عمله بطبقات مختلفة من البشر وأشكال متنوعة فيعرف وقتها قيمة العائلة
وأنها الملجأ الوحيد له بعد الله في هذه الدنيا ويعود إلينا من جديد كما
كان ،وعندها سيجد أن حبه مازال كما هو في قلبي لم يقل ولم يفتر ،بل كان
دو ًما في انتظاره …
***
رأيت دقائق الساعة قد قاربت الثامنة ً
ليل.. قليل عندما ُشعرت بالتوتر ً
ُ
زفرت بضيق وأنا أفكر بالطريقة المثلى إلنجاز عملي ،ال أريد أن أترك أمي
ُ
ساعات طويلة؛ حتى ال تشعر بالوحدة فلم يمر على وفاة أبي سوى شهر
وعشرة أيام ،كما أن سفر آسر إلى عمله الجديد يشعرها بالحزن؛ فهي لم
ف من رحيل أبي بعد حتى يتحمل قلبها ذهابه هو اآلخر وهذه هي المرة ت ُْش َ
األولى التي يفارق فيها آسر أمي..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 196
كنت أتعجب أحيانًا عندما تبكي على ذهابه وأقول لها إنه منذ فترة وهو
ُ
بعيد عنا وال نشعر بوجوده في البيت من األساس ،فتخبرني أنه كان يكفي
وجوده بالبيت لتطمئن عليه أما اآلن وهو بعيد فال تدري عنه شي ًئا هل يهتم
ألكله أم ال؟ هل يستريح بعمله أم مجبر عليه؟ لم أستطع أن ألومها على
شعورها هذا فهي أم ،وشعورها تجاهه يختلف عنا جمي ًعا بالتأكيد..
أوصيت خالي بالذهاب إليها والجلوس معها البارحة واليوم حتى ُ
أرجع إلى البيت ،فأنا لم أكن أستطع رفض عرض دكتور حاتم الذي أخبرنا
عرضت مبل ًغا ً
كبيرا من المال ْ فيه أن عد ًدا من شركات األدوية الجديدة
مقابل الدعاية السريعة لها ،وأنه إذا استطعنا تكثيف ساعات عملنا سيحصل
كل منا على مكافأة مالية ،لم يقبل بالعرض سوى أنا ورحاب وأسامة بينما
كثيرا ،فمن مبادئ سيد التي كان يخبرنا بها أنه ال يهتم بزيادة
سيد لم يهتم به ً
أمواله بقدر ما يهتم بزيادة عدد الساعات التي يجلس فيها مع أسرته..
أعجبني مبدأه هذا؛ فالمال يزيد وينقص أما دقائق العمر الذاهبة فلن تعود
ثانية ويجب أن نتمتع بها بقرب َم ْن نحب..
ربما أستطيع أن أطبق مبدأه عندما أحصل على وظيفة أخرى براتب
أفضل مما أنا عليه اآلن..
كان دكتور حاتم يمشي بين مكاتبنا وهو ينفث دخان سيجاره نشوةً،
فرحا من إنجازنا بالعمل..
وتلمع عيناه ً
197 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
رجعت خطوة للوراء وأنا أشعر أن الدماء تصعد إلى رأسي وتتسارع
ُ
دقات قلبي..
لقد رأيته وهو يمد يده بخفة تجاهها ويلمس جسدها بكفوف وقحة
كاللص يحاول سرقة شيء ثمين..
لم تستوعب رحاب ماذا فعل لدقيقة ،ولكنها أفاقت صارخة:
« -ماذا تفعل أيها الوقح!!» وصفعته بعدها..
جذبها من شعرها من الخلف وقربها إلى وجهه ،وسألها بجنون وقد
تطاير من عينيه الشرر:
« -كيف تجرئين على فعل هذا أيتها النكرة؟ كيف تمدين يدك على
أسيادك»
أزاحت يده بقوة قائلة غاضب ًة:
ْ
« -أنا ال سيد لي ،وسأريك ماذا ستفعل النكرة»
مستنكرا:
ً ساخرا وقال
ً ضحك
« -عجبا كنت أظن أنك تنتظرين هذا اليوم ..إ ًذا لماذا ِ
كنت تثنين على ً
ِ
مالبسي ،وتهتمين بأدق تفاصيلي إال إذا كنت معجبة بي؟!»
قالت بحدة:
199 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
لم أستطع تمييز صوتها من كثرة البكاء ،وأخبرتني أنها لن تقدر على
التحدث اآلن وستتصل بي عندما تهدأ..
تمشيت بخطى متثاقلة
ُ شعرت بالهم الشديد وأصابتني الحيرة في أمري
ُ
وأنا أفكر ..ماذا سأفعل اآلن؟ لن أستطيع الذهاب إلى هذه الشركة ثانية
ورؤية ذلك الذئب المتمثل في شكل رجل ،وفي الوقت نفسه ال أستطيع
أن أترك العمل اآلن ..لن يقبل بي أي عمل براتب جيد وأنا ال أملك شهادة
خبرة ..بقي خمسة أشهر فقط وأحصل عليها ،كما أنني إن لم أذهب غدً ا
كثيرا خالل هذين اليومين..
تعبت ً
ستضيع المكافأة وأنا ُ
وصلت إلى البيت وعقلي يكاد أن ينفجر من كثرة التفكير فيما حدث
ُ
ألقيت عليهما
ُ وجدت خالي وأمي يجلسان بانتظار قدومي،
ُ وماذا سأفعل،
التحية ،وقالت أمي:
« -هيا بدلي مالبسك سري ًعا وانضمي إلينا ،لم نتعشى أنا وخالك
وانتظرنا حتى تأتي»
قلت وأنا أحاول إخفاء ما بي:
ُ
« -ال ..لن أستطيع أن آكل شي ًئا ..تفضال أنتما بالهناء والشفاء»
سألني خالي وهو ينظر إلي:
بك يا حنين ..أحدث شيء ما؟»« -ما ِ
201 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -أعلم ذلك -هداها الله -ولكن َم ْن مثل هذا الرجل لن تختلف
ً
مشغول بالنظر إلى عنده األمور ..إِ ْن لم يكن ينظر ِ
إليك اليوم فهذا ألنه كان
رحاب وغدً ا سيتحول نظره ِ
إليك»
علق خالي هادئًا:
« -أوافق أمك تما ًما في كل ما تقول»
قلت:
ُ
« -ولكن يا خالي لن أستطيع أن أحصل على عمل جيد اآلن بسهولة،
بقي لي خمسة أشهر فقط وأحصل على شهادة خبرة ،كما أنني يجب أن أتم
عملي غدً ا حتى أحصل على المكافأة»
أكملت بانفعال هادئ:
ُ
« -نحن بحاجة إلى األموال أم أنكما نسيتما ما نحن فيه؟»
قالت أمي:
ِ
أخاك بعمل ،وأخبرني اليوم أنه أرسل لنا المال، « -لقد أكرم الله
صباحا من مكتب البريد ،وسنحاول أن نتكيف بهذا
ً وسيستلمه خالك غدً ا
الراتب حتى تحصلين على فرصة عمل أخرى»
وقلت راجي ًة:
ُ شعرت بالتردد من كالمهما،
ُ
« -غدً ا فقط»
هزت أمي رأسها نافي ًة ،وقالت:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 204
« -وال ساعة واحدة أخرى مع هذا الرجل يا حنين ،كيف تقبلين المال
من رجل بهذه األخالق حتى إِ ْن كان مقابل جهدك ،ثم إنني لن أشعر باألمان
ِ
وأنت تذهبين إلى هذا العمل» ِ
عليك
ذهبت تجاهه والتقطته وأجابت ،أكمل ْ قطع حديث أمي رنين هاتفها،
جلست وأنا أحك
ُ خالي كالمه بكالم أمي نفسه وهو يحاول أن يقنعني،
رأسي وأفكر ،كالمهما صحيح مئة بالمئة ولكن أشعر بالحنق أن يضيع
ِ
هداك الله مجهودي كل األشهر السابقة في الهواء هكذا بمنتهى البساطة..
استمعت إلى كالمي لم يحدث كل هذا من البداية ،ولكن ِ يا رحاب لو ِ
أنك
ما أدراني ربما أمي محقة ،وأنه كان سيتجه إلينا يو ًما ما حتى إن تجنبناه..
انتبهت على صوت أمي وهي تقول بصوت ٍ
عال: ُ
« -هل ِ
أنت متأكدة مما تقولين يا سعاد؟!!»
وأكملت بصوت حزين:
ْ صمتت برهة،
ْ
معك المكالمة اآلن وأتصل ِ
بك في وقت الحق» « -حسنًا سأنهي ِ
توقفنا عن الحديث أنا وخالي ونظرنا إليها بترقب في انتظار لما ستقوله
وقد تملكنا القلق ،نظرت إلينا بعينين حزينتين وانخرطت في البكاء.
●●●
205 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()17
« -أنا أسفة جدًّ ا يا حنين ،إنني السبب في تركك للعمل وأنا أعلم
حاجتك إليه»
قلت:
ُ
أخطأت منذ البداية في االستمرار
ُ ِ
لست السبب يا رحاب، ِ
«أنت -
بالعمل رغم اكتشافي لشخصيته ،وأظن أنه جاء الوقت المناسب اآلن»
قالت تطمئنني:
ولك ،ولن أذهب إلى أية وظيفة إال ِ
وأنت معي» « -سأبحث عن عمل لي ِ
قلت ضاحكة:
ُ
ً
طويل» « -إ ًذا ستنتظرين
صمتت برهة ثم تابعت:
« -هل ستذهبين للشركة ثانية؟»
« -نعم سأذهب غدً ا؛ حتى أجمع متعلقاتي من المكتب»
أيضا ..فلن أستطيع ِ
«أرجوك يا حنين أن تحضري لي متعلقاتي أنا ً -
الذهاب إلى هذا المكان ثانية»
« -حسنًا ..سأحضرها ِ
لك معي»
سألت متعجبة:
« -ولماذا لم تذهبي اليوم؟»
207 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ِ
نسيت؟» « -اليوم الجمعة وهو عطلة ،هل
« -ياإلهي نسيت تما ًما»
أكملت:
« -كما أنه لدي أمر ما بالبيت ولن أستطيع النزول»
قالت والقلق يشوب صوتها:
« -هل حدث شيء عندكم بالبيت؟»
« -ال ال ..أمي تحتاجني فقط معها اليوم»
كثيرا للخالة» ِ
« -حسنًا لن أطيل عليك ،وأوصلي سالمي ً
« -حسنًا..اعتني بنفسك جيدً ا»
« -سالم»
« -سالم»
وخرجت إلى غرفة المعيشة ،كانت أمي تجلس على
ُ أغلقت الخط
ُ
نظرت إليها سائلة:
ُ األريكة بانتظاره..
« -هل وصل؟»
قالت باقتضاب:
« -نعم قال لي إن أمامه نصف ساعة ويأتي إلى هنا»
ِ
طلبت حضوره إلى هنا فجأة؟» « -لم يسألك عن شيء؟ ولماذا
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 208
« -بالتأكيد سأل ،ولكنني أخبرته أنني لن أستطيع مناقشة األمر معه
بالهاتف»
أطلقت زفرة قلق وأنا أقول:
« -آمل أن تخيب ظنوننا»
وقع بصري على المظروف الموجود على الطاولة بوسط الغرفة..
سألتها:
« -هل استلم خالي النقود من مكتب البريد؟»
« -نعم»
قلت بتردد:
« -وكم أرسل؟»
جنيها»
« -ثالثة آالف ً
شعرت بالحزن عند سماع الرقم؛ فهذا يؤكد ً
قليل ما أخبرتنا به الخالة ُ
وربت على ساقها اليمنى:
ُّ جلست بجانبها،
ُ سعاد صديقة أمي،
« -أمي ال نريد أن ننفعل ..نريد أن نفهم األمر منه ،ونناقشه بهدوء
فلربما اختلط األمر على الخالة سعاد»
أومأت لي برأسها ببطء موافقة ،والحزن يكسو مالمحها.
وأسرعت بفتحه ،دلف آسر مسر ًعا ثم نظر
ُ قمت
دق جرس البابُ ،
209 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وشقي من أجل أال تنبت أجسادكم من الحرام ،ثم أمام رغباتك هددت كل
ما فعله ألعوام من أجلك»
اقتربت أمي منه ونظرت في عينيه ،وقالت بهدوء وهي تغالب بكاءها:
َ « -م ْن أنت؟! أنت لست ابني ..أنت لست آسر الذي ربيته أنا وأبوه
وحنين ..أنت شخص آخر مأل الجشع قلبه ،وتكالبت عليه الدنيا حتى
أسقطته في آبارها المظلمة»
وضعت أمي يدها على كتفه ،وقالت بحنو:
« -ارجع يا آسر إلينا ،واترك هذا الطريق يا بني ..فطريق الحرام آخره ندم
وحسرة..ارجع وسيفرجها الله وسيوسعها علينا من حيث ال نحتسب ،صدقني»
تنهد آسر وهو ينظر بعيدً ا ،وقال:
« -لن أستطيع»
رجعت أمي للخلف وهي تحاول أن تمنع دموعها من السقوط وقد بدا
عليها الحزم ،وقالت:
« -إ ًذا لك ما اخترت ،ولكن في مقابل اختيارك هذا ..انس أن لك أ ًّما
على وجه هذه الدنيا ،أو أن لك عائلة ،وال تطأ قدمك هذا البيت يو ًما حتى
تترك ذلك العمل»
ثم التقطت أمي المظروف من على الطاولة ،وألقته بوجهه ،وقالت:
213 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -وخذ هذه النقود معك ..حافظ أبوك عمره كله على هذا البيت أن
ال يدخله حرام ،ولن أدنسه بعد موته»
رغما عنها:
ثم تابعت وقد سقطت دموعها ً
« -الحمد لله الذي أمات أباك قبل أن يرى هذا اليوم وإال كان سينفطر
قلبه حزنًا كما هو مفطور قلبي اآلن ..اذهب من هنا ال أريد أن أرى وجهك
ثانية ..اذهب»
حاول آسر أن يقترب منها ولكنه تراجع ،نظر إلي وقد ظهر في عينيه
الضيق الشديد ،نظرت إليه نظرة رجاء ترجوه بشدة أن يبقى لكنه فتح الباب
وأغلقه خلفه بقوة..
ذهبت إلى أمي أحتضنها ،وقد أجهشت بالبكاء ،تعجبت من إصرار آسر ُ
على الذهاب فهو ال يستطيع التخلي عن رغباته وإِ ْن كان سيلبيها بالحرام..
ت ًّبا لتلك األموال التي أفسدت علينا حياتنا ،ذهبت بأبي ،وأوجعت قلب
أمي ،وأفسدت آسر ،وكادت أن تفسدني ..ت ًّبا لتلك األموال التي أفقدت
وهما ال ينتهيان ..ت ًّبا لها ثم ت ًّبا»...
ذلك البيت فرحته ،وأبدلته مكانها حزنًا ًّ
***
باكرا ،وتحركت بخفة داخل الغرفة حتى ال يستيقظ براء
استيقظت ً
ومارية؛ ألرتدي مالبسي فاليوم هو السبت وهو أنسب يوم للذهاب إلى
الشركة؛ ألحضر متعلقاتي أنا ورحاب..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 214
يوم السبت هو ليس يوم عطلة وال يوم عمل ولكن دكتور حاتم كان
يعطينا فيه حرية االختيار ما بين الذهاب فيه إلى الشركة؛ لمضاعفة عملنا
أو الراحة في البيت ،ويقوم عم عبده بفتح الشركة في موعدها الرسمي،
واألهم من ذلك كله أن دكتور حاتم ال يأتي في هذا اليوم مطل ًقا مما يعني
أنني لن أرى وجهه ولن أضطر للحديث معه..
انتهيت من ارتداء مالبسي ،والتقطت حقيبتي ،شددت اللحاف على
جسدي براء ومارية النحيلين حتى يدفئا جيدً ا ،ابتسمت وأنا أتأمل مالمح
براء التي قد بدأت تتحول تدريج ًّيا إلى مالمح هاشم..
تمنيت أن لو يكون هاشم معي ويحمل عني ً
قليل مما أالقي ..تنهدت
خارجا وأترحم عليه وعلى أبي داعي ًة لهما بأن يكون مثواهما
ً وأنا أتوجه
الفردوس..
اتجهت إلى المطبخ؛ ألتناول أي شيء قبل ذهابي فوجدت أمي تجلس
على األريكة بغرفة المعيشة وتضع يدها على خدها وقد َخ َّي َم عليها الحزن..
اقتربت منها قائلة:
« -صباح الخير يا أمي»
أجابت بصوت مرهق:
« -صباح الخير يا حنين ..هل ستذهبين؟»
215 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أخذني من تأمالتي صوت رنين هاتفي ،هممت بفتح حقيبتي سري ًعا؛
وجدت جهة االتصال رحاب ،كانت تتأكد ُ لعل يكون المتصل آسر ،ولكنني
أنني في طريقي إلى الشركة وتذكرني بمتعلقاتها الموجودة باألدراج؛ كي ال
أنسى شي ًئا..
أغلقت معها وأنا أتذكر مكالمتها في آخر الليل باألمس ،وهي تخبرني
أنها قررت أن تقوم بتحرير محضر ضد دكتور حاتم تثبت فيه واقعة تحرشه
بها ،وأنها لن تهتم بكالم الناس ،وال بردود أفعالهم ،وكل ما يشغل بالها أن
تنقذ أية فتاة من الممكن أن تقع بشباكه في المستقبل..
ولكنها ستنتظر ابن عمتها المحامي حتى يرجع من سفره بعد عشرة
أيام؛ ليتابع معها إجراءات هذا األمر..
أيضا عندمااحترمت شجاعتها وقرارها ،ولكنني شعرت بالخوف ً
قالت إنها ستأخذني أنا وأسامة شاهدان على هذه الواقعة ،فنحن الوحيدان
اللذان كانا بالشركة وقتها وشهدنا جميع ما حدث..
لم أدخل إلى أي قسم شرطة في حياتي إال مرة واحدة وقت استخراج
بطاقتي ،ولم أوضع في مثل هذا الموقف من قبل وأكون شاهدً ا وليست في
قضية عادية بل قضية شائكة تتعلق بسمعة دكتور كبير في مجال دعاية األدوية
مثل دكتور حاتم ،ولكنني لن أكتم شهادتي أبدً ا إذا ُطلب مني ذلك ..أريد أن
أساند رحاب في موقفها لكي نكف أذى هذا الشخص عن جميع الفتيات ،كما
أنه جاء الوقت المناسب الذي أرد به لرحاب ما تفعله معي دو ًما..
217 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -فكري في األمر جيدً ا وال تتسرعي فأنا أعلم عنك الحكمة ومازال
قائما كما هو»
عرضي األول ً
استدرت بظهري بعد أن ابتلعت ريقي ولم أنطق ببنت شفة؛ فتهديده جعل
ُ
اتجهت خارج مكتبه بخطى متعثرة حتى أوقفني صوته منب ًها إياي:
ُ رأسي يدور..
« -دكتورة حنين ..ال يخطر ببالك لحظة أن تقومي بإبالغ الشرطة عما
ِ
فعلت هذا ولن يفيدك بشيء قلته ِ
لك ..فأنا عالقاتي متعددة وسأعرف ْ
إن
فال تزيدي غضبي بفعل مثل هذا»
خرجت من الشركة هائمة
ُ وتحركت متجهة للخارج،
ُ نظرت إليه بغضب،
ُ
على وجهي ،يحاول عقلي استيعاب كل هذه المصائب المتالحقة ..أشعر أنني
ال أقوى على تحمل كل هذا جملة واحدة ،كما أن كل ما حدث في السابق
تذكرت نبرة صوته المليئة بالوعيد ،وعينيه
ُ شيء وما أنا مقبلة عليه شيء آخر..
المتلونة بالشر ،ال أظن أنه يهددني من باب تخويفي أو الضغط على موقفي ،بل
هو قادر على فعل ما يقوله؛ فأمواله وعالقاته تساعده في ذلك..
هو ال يستطيع االقتراب من رحاب ومنعها؛ لعلمه برتبة عمها بالشرطة
التي تجعله يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على تهديدها..
علي؛ لعلمه بظروفي وأنه ال يوجد من يستطيع لذلك يقوم بالضغط َّ
حمايتي ،وأسامة كالخاتم في إصبعه فلم يبذل جهدً ا في إقناعه باألمر ،فهو
رجله المخلص له منذ زمن بالشركة..
223 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()18
مضت نصف ساعة وأنا أجوب رصيف المحطة جيئة وذها ًبا في انتظار
القطار الذي تأخر عن موعده ربع ساعة حتى اآلن..
أيضا وهم
كان بعض المسافرين يقفون عن يميني وعن يساري بانتظاره ً
يحملون حقائبهم المتنوعة بين حقائب متوسطة الحجم وأخرى يحملونها
على ظهورهم ،وعدد منهم مثلي ال يحمل شي ًئا سوى حقيبة على كتفه ،أو
خالي اليدين.
انتبه الجميع فجأة إلى صوت صفارة القطار المتصاعد في األرجاء
معلنًا عن وصوله ،ظهر ذلك الهيكل المعدني الضخم فضي اللون ،وبدأ
باالقتراب منا بشكل سريع حتى وقف أمامنا ببطء مع صوت فرملة محركه
المتقطعة ،فصدر صوت صليل نتج عن احتكاك عجالته المعدنية بالقضبان
المثبتة على األرض اقشعر له بدني حتى استقر تما ًما ،تجمع الناس أمام
األبوابُ ،فتحت وبدأ الناس بالصعود..
صعدت وأنا أنظر إلى الرقم الموجود على تذكرتي واألرقام المدونة
ُ
على ذلك اللوح المعدني الرفيع أعلى المقاعد..
225 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
بدأت أتنقل بين المقطورات حتى وجدت الرقم المدون على التذكرة،ُ
أخيرا أن أصل إلى مقعدي..
استطعت ً
ُ ارتياحا أنني
ً فجلست وأنا أتنهد؛
ُ
عقدت كلتا ذراعي أمام صدري وأنا أنظر إلى النافذة الزجاجية بجواري إلى
ُ
ٍ
قريب مني االهتمام التفت حولي ببطء ،فلم أر في وجه أحدُّ رصيف المحطة،
إلي ..أظن أنه لم يرسل أحدً ا لمراقبتي ومعرفة إلى أين سأذهب..
بالنظر ّ
تناهى إلى مسامعي رنين هاتفي ووجدت جهة االتصال رحاب ،أجبت
فبادرتني بسؤالها:
« -هل جاء القطار؟»
« -نعم»
« -حسنًا ..اعتني بنفسك وعندما تصلين أخبريني»
« -بالتأكيد إن شاء الله»
بدأ القطار بالتحرك مع صوت صفارته ،اغرورقت عيناي بالدموع وأنا
أنظر إلى سماء القاهرة فربما تكون تلك المرة األخيرة التي أنظر إليها..
بالرغم من الحياة المادية التي تطغى على هذه المدينة ،وتسلب روحها
شي ًئا فشي ًئا على مدار الوقت فإنها مكان نشأتي وقضيت بها طفولتي وكل
ذكرياتي وذكريات عائلتي بها ومهما ذهبنا يظل الحنين في قلوبنا ينبض
لمكان طفولتنا وذكرياتنا األولى ،ال أعرف طبيعة مدينة اإلسكندرية وال
أعرف هل سنرتاح بها أم ال ،ولكن ما من خيار أمامي ،رضيت أم أبيت
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 226
تمشي حياتي باتجاه واحد اآلن ،ويجب أن أسير به ،فأنا ال أملك رفاهية
االختيار هذه الفترة ،رجعت بجسدي في المقعد القماشي ،وأنا أحاول
االسترخاء وأتذكر منذ ثمانية أيام ..منذ ثمانية أيام فقط كيف كانت األمور
تجري على ما يرام ،فقد حزمت أمري واتخذت قراري بعد تهديد دكتور
كذب،
حاتم لي بأنني سأفعل مثل أسامة ،وسأشهد أن كل ما تدعيه رحاب ٌ
وأن دكتور حاتم لم يمسها قط ،أخذت هذا القرار وأنا مرتاحة البال ،ولم
كثيرا ،كنت أشعر أنني فعلت ما يجب تجاه رحاب بكثرة يؤنبني ضميري ً
نصحي لها وهي لم تستمع ،إ ًذا لماذا أدفع أنا وأوالدي ثمن عنادها ،بجانب
أنني أحتاج إلى األموال هذه الفترة خاصة بعد اكتشاف أمر آسر الذي كنت
أعتمد على راتبه في حالة إن تركت عملي ،كما أنني تحت هذا التهديد في
كثيرا
وضع المضطر الذي ال حيلة له وعليه االستسالم ..جلست مع نفسي ً
وأنا أتشبع بتلك األسباب حتى إذا قام ضميري من سباته العميق في أي
لحظة يجد أمامه أكثر من مبرر يخمده ثانية..
توقفت عن الرد على مكالمات رحاب ،وانقطعت عنها حتى ال يثنيني
عن قراري أي شيء كما أنها ستقاطعني بالضرورة ولن تفهم أسبابي عندما
تعلم بشهادتي.
كان كل شيء يسير بهدوء وسالم داخلي حتى ذلك اليوم الذي ذهبت فيه
إلحضار براء كالعادة من مدرسته ولكن حدث شيء غريب هذه المرة وجدت
براء ينتظرني على باب المدرسة وهذا لم يحدث من قبل ،ابتهج عندما رآني
227 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وبدأ في التحرك تجاهي ،أشرت له بيدي أن يتوقف قبل أن تخط قدماه الطريق
األسفلتي ،ولكنه لم ينتبه لي وبدأ في العبور ..تسمرت في مكاني بعدما سمعت
صوت صرير عال نتج عن احتكاك عجالت إحدى السيارات باألسفلت ووقع
براء أمامها من شدة خوفه ..جريت عليه وأنا أحمله وأحتضنه وال أصدق أنه
لوال هذه السنتيمترات القليلة للحق براء بأبي وهاشم..
دخلت إلى المدرسة وأنا أستشيط غض ًبا من هذا اإلهمال الجسيم،
ولكن الجميع أصابته الدهشة لحدوث هذا ،وتعجبوا كيف خرج براء من
بين أيديهم ،ولم يشعروا به ،ولم يحدث هذا من قبل أبدً ا..
أخذت أفكر في ترتيب األمور في أثناء رجوعي إلى البيت ،وكيف أنني كنت
سأفقد براء في لحظة ،شعرت أن الله يوجه لي رسالة من خالل هذا الموقف..
أريد أن أشهد شهادة زور خو ًفا على أبنائي وال أفكر في عاقبة هذا األمر عليهم..
حتما مهما فعلت لمنعها عنهم ومهما حاولتهي أقدار الله سيلقونها ً
حمايتهم ..وصلت إلى المنزل ووجدت خالي قد وصل قبلي ،فانفجرت
عما حدث..في البكاء مما جعل أمي وخالي يصابان بالذعر ويسأالني َّ
قصصت لهما ماذا حدث لبراء ثم أخبرتهم بعدها عن ذهابي األخير للشركة،
ُ
وتهديد دكتور حاتم لي..
قامت أمي واحتضنتني ،وهي تحاول أن تخفف عني قائلة:
ِ
عليك، ِ
«حماك الله يا ابنتي شرور تلك الدنيا ..أعلم أن األمر يزداد شدة -
ولكن ستنفرج كل تلك األمور قري ًبا صدقيني وسيزول كل ما نعيشه اآلن»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 228
قال خالي:
« -وما هو؟»
قلت ببعض الخوف من ردة فعل أمي:
« -أن نترك هذا المكان ونرحل لمكان آخر بعيد عن القاهرة»
قامت أمي من مكانها واتسعت حدقتا عينيها مستنكرة ،وقالت:
« -نترك بيتنا!!»
« -ال حل عندي يا أمي غير هذا ..هذه الطريقة الوحيدة التي سأشعر
من خاللها أننا سنكون بأمان»
قالت أمي وهي تهز رأسها نافية:
« -لن أستطيع ترك بيتي ..اتركيني أنا هناِ ،
أنت ال تعرفين مكانة هذا
البيت عندي ..حصلنا عليه بعد خمسة أعوام من والدتك ،وكان بداية فتح
أبواب الخير والرزق على ِ
أبيك ،أنا هنا منذ خمسة وعشرين عا ًما امتدت
جذوري بهذا البيت وال أحد يستطيع اقتالعي»
ثم بدأت في البكاء بعد أن انتهت من كالمها ،قمت وأنا أمسك يدها
وأحاول تهدئتها قائلة:
ِ
أرجوك ال تُصعبي األمر؛ فأنا لن أستطيع تركك وحدك هنا ..فلو « -أمي
علم باختفائي بعد إدالء شهادتي من الممكن أن يستشيط غض ًبا ويقوم بأذيتك»
نظرت إلى األرض وقد أصابتها الحيرة..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 230
تابعت:
« -أنا أعلم تما ًما مكانة هذا البيت في قلبك ومكانته كذلك كبيرة في
قلبي ،ولكن بماذا ستنفعني الحوائط إن جرى ألي أحد منا أي شيء؟! بماذا
سيفيدني البيت وقتها؟!»
قالت أمي وقد بدا الحزن في صوتها:
« -وإلى أين سنذهب؟»
قلت:
« -إلى اآلن لست متأكدة ،ولكن أغلب الظن إلى اإلسكندرية ،دكتور سيد
كثيرا أمامي أن لديه أقارب هناك ويمكنه مساعدتي في األمر»
زميلي بالعمل ذكر ً
قال خالي:
« -إ ًذا سأذهب معكم للعيش هناك»
قلت وأنا أشير نافية بيدي:
رأسا
« -ال يا خالي ال نريد أن نسبب لك المشاكل ،وأن تنقلب حياتك ً
كثيرا»
على عقب بسببي ،كما أن زوجتك ستغضب ً
أجاب بحزم:
« -تغضب كما تغضب ،لن أستطيع أن أترككما وحدكما ببلد غريب
عجوزا مثلي،
ً ال تعرفان به أحدً ا بدون رجل معكما حتى إن كان هذا الرجل
ولكن وجوده بالبيت سيكون حماية لكما ولألوالد»
231 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
صمت وقد ارتحت بداخلي لقرار خالي؛ فإنني وإن أظهرت رفضي ُّ
إال إننا بالفعل بحاجة لرجل معنا هناك ،ال أعرف ماذا سنواجه ،وال أريد
حدوث المزيد من المشاكل ،يكفي ما سببته لهم جمي ًعا..
« -ومتى سنبدأ بنقل أشيائنا؟» سألت أمي..
ابتلعت ريقي وقلت:
« -قد ال نتمكن إال من أخذ القليل من ثيابنا»
إلي أمي باستنكار ،فاستطردت سري ًعا موضحة:
نظرت ّ
« -ال نريد أن نلفت النظر إلينا أننا ننتقل لمكان آخر حتى ال نثير
تساؤالت من حولنا ،سنخرج م ًعا وكأننا ذاهبين لزيارة ما ،وسنستقل القطار
بعدها»
صمت برهة وزدت:
« -ما سأفعله اآلن أنني سأتصل بدكتور حاتم أخبره بموافقتي على
عرضه حتى يطمئن وال يرسل أحدً ا لمراقبتنا ،وسأتصل بدكتور سيد حتى
أفهمه األمر وأرى كيف سيساعدنا ..أتمنى أن يسعفنا الوقت فبقي أسبوع
محضرا ضده وال أستطيع أن أجعلها تتأخر
ً واحد لذهاب رحاب وتحريرها
أكثر من هذا ..فكلما تأخرت في تحرير المحضر كلما ضعف وقتها»
شعرت بالحزن يسيطر على أمي ،ولكنها تعلم جيدً ا أنه ليس بيدي
حيلة ،وأنني مجبرة على هذا ما دمت سأتمسك بموقفي..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 232
مر يومان بعدها قمت باالتصال فيهما بدكتور سيد وشرحت له األمر ،وكان
عند حسن ظني فبعد اتصالي بساعة واحدة أخبرني أن أحد أقاربه وجد لنا مكانًا
بثالث غرف بالسعر الذي أخبرته أنني أستطيع دفعه ،ثم ذهبت إلى مدرسة براء،
وقمت بسحب أوراقه ،وبعد أن اطمئننت أننا صرنا مهيئين لالنتقال وأوجدنا
كثيرا عند
مكانًا نذهب إليه ،اتصلت بدكتور حاتم وأخبرته بموافقتي والذي سعد ً
سماع هذا ،وأثنى على عقلي وحكمتي في اتخاذ قراراتي..
أخذت براء ومارية وذهبنا لبيت جدهما وجدتهما والدي هاشم؛ كي
كثيرا عندما أخبرتهما برحيلنا إلى يسلموا عليهما قبل أن نرحل ،تفاجئا ً
اإلسكندرية وتسأال عن السبب ..أخبرتهما أنني وجدت فرصة عمل أفضل
هناك ولن تتوفر مثل هذه الفرصة هنا ..أعلم أنهما سيغضبان من داخلهما بسبب
اتخاذي لقرار مثل هذا وحرمانهما من رؤية براء ومارية أسبوع ًّيا كما اعتادا،
ولكني ال أستطيع إخبارهما بالحقيقة؛ حتى ال يصيبهما الذعر على األطفال كما
أنهما لن يستطيعا فعل شيء لي ..فعائلة هاشم عائلة مسالمة وبسيطة وأخواه
االثنان سافرا منذ عدة أشهر؛ إلكمال دراستهما وال أريد إقحامهما في أمر قد
يعود عليهما بالمشاكل ..أخبرتهما أنني سأبلغهما بالعنوان فور تأكدي منه،
وأننا سنكون بانتظارهما هناك ليأتيا ويقضيا معنا بعض الوقت..
بدأت أمي بوضع األغطية البيضاء على األثاث حتى ال يكسوه التراب،
كنت أالحظها وهي تتأمل أعمدة البيت وأرضه وجدرانه وكأنها تشبع عينيها
منه ،شعرت باشتياقها له من قبل أن نرحل عنه ،حتى بقي يوم على رحيلنا،
233 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ذهبت إليها فوجدتها جالسة على طرف السرير صامتة تمسك إحدى
المحارم بيدها ،دلفت إلى غرفتها سائلة:
قمت بتحضير أغراضك المهمة يا أمي؟»« -هل ِ
أربت على
ُ وجلست بجانبها وأنا
ُ ذهبت
ُ أومأت برأسها لي ببطء،
ْ
وقامت بفرد المحرمة القماشية التي تمسكها،
ْ فتحت كلتا يديها
ْ كتفها،
كانت محرمة بيضاء اللون عليها تطريز بمنتصفها على شكل بيت صغير
بمدخنة بخيط لونه أحمر ،وحوله بعض النباتات المطرزة بخيط لونه
أخضر ،وطائران يحومان فوقه بخيط أسود..
قالت وهي تغالب بكاءها:
تعبيرا عن
« -قمت بتطريز هذا المنديل عندما قدمت إلى هذا البيت ً
فرحتي به ..أتذكر وأنا جالسة في مكاني هذا نفسه وأقوم بتطريزه ،كنت
وقتها في بداية ممارستي للتطريز ،وظللت عاكفة عليه طوال الليل حتى
كثيرا عند رؤيته إياه» ِ
انتهيت منه قرب الفجر ،وفرح أبوك ً
ثم قامت بضم المحرمة إلى صدرها تحتضنها وقد سقطت دموعها..
قلت مهونة عليها:
ِ
أرجوك ..أعلم أنني السبب في كل هذا ولكن « -ال تحزني يا أمي
أعدك عندما يزول هذا األمر سنعود إلى هنا ثانية ونعيش ببيتنا من جديد وال
نتركه أبدً ا»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 234
كم كنت حالمة وقتها كل ما يشغل بالي هو الحب وما يدور حوله من ألم
وفرحة وحزن ونشوة ..لم أكن أرى الدنيا بعيني التي أراها اآلن بها ..الدنيا
حينها كانت بسيطة نقية غير معقدة وخادعة مثل اآلن ،كلما كبرت تنضج
أحاسيسي ومشاعري معي وتزداد تعقيدً ا ،كل زمن يأتي علينا نترحم على
الذي قبله ،ونظل ننعي تلك األيام الراحلة ،وفي مراحل أعمارنا القادمة
سنترحم على األيام التي نمر بها اآلن وننعها كذلك ،ونظل هكذا حتى
الموت ..ما بين حنين ونعي ومحاولة الوصول لألفضل أو الرجوع ولكن
تأبى دائرة الحياة..
بقيت مستيقظة طوال الليل وأنا أنظر من النافذة إلى النجوم الالمعة
كالمصابيح في السماء أبثها شجوني تارة ،وأقرأ في دفتري الرمادي تارة
فأستعيد بعض الذكريات..
حتى بدأ الصباح في البزوغ واستيقظت أمي واألوالد ،تناولنا الفطور
سري ًعا وبدأنا في التحرك ،استقلينا سيارة أجرة أوصلتنا إلى محطة القطار،
وكان في انتظارنا هناك خالي وأم سعد ،جلسنا بإحدى األماكن الملحقة
بالمحطة فما زال على موعد القطار ساعة ،أخبرنا خالي أنه قام بإجراءات
نقل ورقه من عمله إلى فرع اإلسكندرية ومن الممكن أن يأخذ عشرة أيام
حتى يستطيع اللحاق بنا..
سألته عن موقف زوجته ولكن صمت ،فلم أسأل ثانية فأنا أعلم بموقفها
الغاضب بالتأكيد فلست بحاجة إلى إجابته ،كانت أم سعد تبكي طوال وقت
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 236
انتظارنا للقطار وتبكي معها أمي ،حاولت أن أخفف عنهما وأقول لهما إننا
سنرجع مرة أخرى إلى هنا إن شاء الله وستنصلح األحوال وأنا ال أعرف
على أي أساس أقول هذا الكالم ،ولكنني ال أملك غيره اآلن ألحاول أن
ألطف الجو ً
قليل..
متأخرا عن موعده بعشر دقائق ،تبادلنا السالم مع خالي وأمً جاء القطار
سعد وصعدنا إلى المقطورة ،بدأ القطار في التحرك شي ًئا فشي ًئا ونحن نلوح
لهما من خالل النافذة حتى اختفيا تما ًما..
كان براء ومارية في عالم آخر فهما يشعران باإلثارة فالقطار بالنسبة
لهما مغامرة جديدة لم يخوضاها من قبل ،الحظت ذلك الحماس بأعينهما
وهما يلصقان وجوههما بزجاج النافذة ويكتشفان كل شيء بالطريق..
كثيرا أن أنضم إليهما بشعورهما ..ال أحمل عبء شيء وال
تمنيت ً
أفكر في شيء سوى بتلك المغامرة التي أخوضها اآلن..
ولكن ال ضرر .يكفي اآلن أنهما يشعران بهذا الشعور ،يجب أن يأخذا
دورهما في تلك المشاعر البريئة الخالية من المتاعب ،فستدور عليهما
الدنيا بالتأكيد يو ًما ما ويرونها على حقيقتها..
لفح الهواء البارد وجوهنا بقوة عندما وصلنا وترجلنا عن القطار..
كنا نرتدي المالبس الشتوية الثقيلة؛ لعلمنا أن اإلسكندرية هذه األيام تمر
بموجة صقيع ،كانت السماء مليئة بالغيوم التي تنذر بمطر غزير ،وبانتظارنا
أحد أقارب دكتور سيد بالمحطة بجلبابه الصعيدي ،أخذنا بسيارته إلى
237 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
مكان البيت حتى وقفنا أمام مبنى قديم قد تصدعت جدرانه مكون من أربعة
طوابق وأخبرنا بوصولنا ،بدأنا في التحرك إلى بوابة البناية وصعدنا على
وصول إلى الطابق الرابع ،فتح الباب ببطء فانتشرً السلم المتهالكة درجاته
أزيزا قو ًّيا ،أضاء النور وهو يدعونا للولوج ،كانت
الغبار في الجو وأصدر ً
جدران الشقة لبنية اللون تنتشر عليها البقع الخضراء وبعضها قد تساقط
عنها الطالء وظهر اللون الرمادي بطبقة بيضاء رخوة ،وبالط األرضية باهت
اللون يحتاج إلى كثير من التنظيف حتى يظهر لونه الحقيقي ،ونوافذها
الخشبية مفتوحة يضربها الهواء فتتحرك ذها ًبا وإيا ًبا..
صدمني هذا المنظر بالرغم من أن دكتور سيد أخبرني أن الشقة ستكون
متواضعة ولكن لم أكن أتخيل أنها بهذه الدرجة ،أما أمي َ
فش َع ْر ُت أنها ستفقد
وعيها من تأثير ما رأت..
خرجت مع صاحب البيت خارج الشقة وأنا أطلب منه أن يجد لنا شقة
مستنكرا أن المال الذي لدينا يكفي لتأجير
ً مناسبة أكثر من هذه ولكنه رد
غرفة على السطح وليست شقة مثل تلك ،وأنه وافق على إعطائنا هذه الشقة
تحت إلحاح دكتور سيد ،ولن يطالبنا باإليجار أول ثالثة أشهر ألنه يعلم
بظروفنا..
وأخبرني أن األثاث سيأتي اليوم ً
ليل ولكنني شكرته ،وأخبرته أنه ال حاجة
لذلك ،وسأتصرف أنا باألمر ،فوضع الشقة يوحي بالوضع الذي سيكون عليه
األثاث ولم أرد ألمي أن تحزن أكثر من هذا ..لذلك قررت سحب المبلغ البسيط
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 238
المتبقي بالبنك وشراء عفش مستعمل لنا وإن كنت أحاول الحفاظ على تلك
األموال لوقت الحاجة الشديدة ،ذهبت إلى إحدى المحال المجاورة للمنزل لشراء
بعض الحاجات وسألته عن أماكن بيع األثاث المستعمل بالمدينة فدلني عليها..
أخذت أمي وبراء ومارية وذهبنا إلى المكان بسيارة أجرة ،وجعلت
أمي هي التي تختار جميع األثاث ،وأنا أمازحها أنه من فوائد انتقالنا إلى هنا
أنني جعلتها تختار األثاث للمرة الثانية في حياتها..
بدأنا بنقله على عربة مخصصة للنقل ،وبدأنا التحرك ،ووصلنا إلى
المنزل ،وما إن انتهى العمال من وضع األثاث بالشقة وأغلقوا الباب
وراءهم حتى بدأت قطرات المطر تدق على زجاج النوافذ بغزارة ..انتقل
براء ومارية إلى الشرفة وهما يقفزان ويصيحان؛ فرح ًة بالمطر فهما لم يعتادا
وقفزت معهما
ُ على رؤية المطر بهذا الشكل في القاهرة ،انضممت إليهما
وبلل ثيابنا المطر ونحن نخرج ألسنتنا؛ لنرتوي منها..
عال صوت أمي بالضحك مما نفعل ،وهي تقول:
ً
أطفال» « -طفلة أنجبت
ثم رفعت يديها وبدأت تدعو« ..اللهم اجعل هذا المكان فاتحة خير
علينا وسب ًبا لسعادتنا واطرح فيه البركة»
أمنت على دعائها بداخلي وأنا أدعو «اللهم اجعل األيام القادمة تمر
على خير»..
239 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
مر يومان كنا انتهينا خاللهما من فرش أثاث البيت ،وأخذت أمي
غرفتها ،وأخذت أنا واألوالد غرفتنا ،أما الغرفة الثالثة فتركناها مجهزة
لحضور خالي وزوجته..
اتصلت بي رحاب؛ لتطمئن على أحوالنا وتخبرني أنها ال تعرف ماذا تقول
لي وكيف تشكرني على موقفي هذا وأن مثلي ندر بهذا الزمن ..وودت أن
زورا لوال أن
بشر ،وضعفت ،وكنت سأشهد ً أخبرها أنني لست كذلك وأنني ٌ
الله أرسل لي رسالة ،ولوال أسرتي بجانبي التي تدعمني بقراراتي لطغى ضعفي
على روحي واستسلمت ..أكدت في نهاية المكالمة على موعدنا غدً ا ،وذهابها
إلى قسم الشرطة؛ لتحرير المحضر ،وأنها أخبرت أسامة كذلك بالموعد ،لم
أرد أن أخبرها طوال هذا الوقت موقف أسامة الذي أخبرني به دكتور حاتم
فربما أيقظه ضميره خالل هذا الوقت فيقول غدً ا شهادته الحقيقية..
صباحا واتجهت للخارج في طريقي لمحطة القطار بعد أن
ً استيقظت
أوصيت أمي بعدم فتح الباب ألي أحد ،وإذا احتاجوا أي شيء يقومون
باالتصال بي..
اتخذت القطار المتجه إلى القاهرة وأنا أدعو الله طوال طريق سفري
مكرا،
أن يمر اليوم على خير ،ويجنبنا أنا وأمي وأوالدي كل من يريد بنا ً
استقليت إحدى سيارات األجرة عند وصولي وذهبت إلى قسم الشرطة،
ألقى المكان رهبته بداخلي عندما دخلت إليه ،فهو مزدحم للغاية ..الجميع
يتحرك في الوقت نفسه ،الكثيرون أيديهم مصفدة باألغالل نتيجة جرائمهم..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 240
ِ
«رأيت ماذا فعل أسامة ..ك ََّذ َب كل ما حدث» -
أجبتها متعجبة:
« -وماذا ِ
كنت تنتظرين من أسامة!! وهو كالخاتم في إصبع دكتور
حاتم من زمن»
قالت بتأفف:
« -لكن لم أكن أعلم أنه من الممكن أن يبيع نخوته مقابل حفنة من المال»
«دائما تضعين ثقتك باألشخاص الخطأ»
ً -
هزت رأسها موافقة وهي تقول:
ِ
«معك حق» -
ثم توجهت إلى ابن عمتها المحامي وسألته:
« -وماذا سيحدث اآلن؟»
أجاب:
« -سيرسلون إليه ويطلبونه للتحقيق ،وسيجمعون األدلة ويرون
بعدها ..ولكن شهادة زميلكما أضعفت الموقف»
تمتمت رحاب:
« -حقير مثله»
ثم توجهت إلي بالحديث:
« -أين ستذهبين اآلن؟»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 242
هل سيبحث عني؛ لينتقم مني ويلحق األذية بي وبأوالدي؟ وإِ ْن وجدني،
ماذا سأفعل حينها؟ ماذا سأفعل إِ ْن عرف مكاننا الجديد؟ ماذا سـ...
« -تذكرتك يا أستاذة ..تذكرتك يا أستاذة»
انتبهت على صوت محصل التذاكر ،أعطيته تذكرتي فوضع عالمة
تأكيدً ا على صحتها وانصرف..
أخذتها منه ووضعت طرفها على شفتي ،وأنا أفكر ناظرة إلى النافذة،
ماذا لو اكتشف مكاننا؟ إلى أين سنذهب بعدها؟....
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 244
()19
سحبت أطراف أكمامي إلى أصابعي ،وأنا أنفث الهواء في يدي
بعضا؛ كي أدفأ ً
قليل.. وأحكهما ببعضهما ً
تناولت كوب المشروب الساخن من على الطاولة المجاورة لي ،واحتضنته
بأناملي؛ ليصل الدفء لهما ،وأنا أراقب من النافذة قطرات المطر الخفيفة وهي
فجرا..
تدور حول مصابيح اإلنارة بالطريق وقد قاربت الساعة الرابعة ً
حجب رؤيتي بخار تنفسي المتصاعد على الزجاج ففتحت إحدى
ضلفتيها ً
قليل؛ ألتمتع برؤية الشتاء ،وأشتم رائحة البحر الممزوجة برائحة
المطر عبر تلك الرياح الرطبة..
جميع البنايات حولنا قصيرة ال تتعدى األربعة طوابق قد بنيت منذ زمن
بعيد مما يساعد على نقل رائحة البحر إلينا بالرغم من ابتعاده عنا بعشرة بنايات..
سكان المدينة يقولون إن فصل الشتاء أطال البقاء هذا العام ،وأن
أمطاره تأبى وداعنا ،مضى شهران ونصف منذ مجيئنا إلى اإلسكندرية،
استطاع خاللها حب هذه المدينة أن يخترق قلبي بسرعة كبيرة ،ارتبطت
مازالت تحتفظ
ْ ببحرها ،وجوها الماطر ،وشوارعها ،ومبانيها ،ومحالها،
بجمال روحها الراقية بعيدً ا عن الماديات الزائلة ،اعتدت عليها وصرت
245 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
كثيرا من األشياء هنا ،فأنا أقوم بشراء احتياجات البيت بنفسي مما
أعرف ً
ساعدني في معرفة أماكن عدة ،وكيفية الذهاب إليها فمن مزايا اإلسكندرية
سهولة التنقل بين المناطق..
أمي لم تعتد عليها بعد؛ ربما لطقسها البارد الذي يفت في عضدها ،أو
لوضع الشقة مقارنة ببيتنا القديم ،آخذها هي واألوالد أحيانًا لنتمشى ً
قليل
على الكورنيش ،وأريها جمال هذه المدينة؛ ً
أمل في أن تشعر بالراحة..
أتمنى أن تحبها وتعتاد عليها عندما يهل فصل الربيع بنسائمه اللطيفة
ويذهب فصل الشتاء ويزول البرد..
التحق براء بمدرسة قريبة من البيت وبالرغم من شخصيته االجتماعية
وسرعة تعرفه على اآلخرين فإنه لم ينسجم مع أقرانه بصفه حتى اآلن،
أحاول أن أصل إلى سبب المشكلة وال أجد شي ًئا سوى أنه ربما ال يستوعب
مؤخرا التي تحدث بشكل متالحق.. ً تلك التغييرات الكثيرة بحياتنا
أخذت رشفة من الكوب وأنا أفكر كيف يمكنني إصالح هذا األمر..
فليس لدينا هنا جيران نعرفهم أو أصدقاء لديهم أوالد بسنه نذهب إليهم
ويأتون إلينا حتى يألف العيش هنا بجانب أنني أخشى تكوين عالقات
جديدة مع َم ْن حولنا ،وقد يتطلعون إلى معرفة سبب مجيئنا كما أنني ال
أستطيع أن أسمح ألحد بزيارتنا دون أن أعرفه جيدً ا..
تناهى إلى مسامعي ذلك الصوت المكتوم الخارج من الغرفة الثانية
بالرواق وقد حجبه ً
قليل غلق الباب..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 246
إنه صوت زوجة خالي وعراكها المعتاد معه يوم ًّيا فعندما تشعر بالبرد
وهي تتقلب ال تعرف كيف تعبر عن شعورها إال بالعراك مع خالي وكيف
أنها انتقلت إلى هذه الخرابة وتريد العودة إلى ما كانت عليه فهي ال تحب
هذه المدينة قط..
أتذكر أول مرة عندما وطأت قدمها أرض الشقة وكيف وقعت الحقائب
من يديها عند رؤية الجدران واألرض والنوافذ ،كانت تستشيط غض ًبا
ونظرات االشمئزاز ال تترك عينيها وهي تتطلع إلى كل شيء بالشقة بالرغم
من محاوالتنا بالترحاب الجم بها..
أنا ال ألومها على هذا ..فلو كنت مكانها ربما ال أوافق على ما فعله خالي
وأفعل مثلها وأكثر لكن هي ال تفهم أن وجود خالي يحدث فر ًقا بالتأكيد
فمجرد شعوري أنه يوجد رجل بالبيت معنا يمنحني السكينة واالطمئنان..
انتهيت من مشروبي واتجهت إلى المطبخ؛ ألنجز بعض األعمال به..
فاليوم السبت وهو عطلة والجميع نائمون أما أنا فوضعي مختلف..
مضى الوقت سري ًعا حتى سمعت جرس منبه هاتفي ينبئني عن قدوم
السادسة والنصف ،وكنت قد انتهيت من غسيل األطباق واألواني وتنظيف
المطبخ فزوجة خالي دو ًما تخبرني أنها تشعر باالختناق عند دخولها إلى
هذا المطبخ الضيق فهي معتادة على المطابخ الواسعة ..فأحاول أال أزيد
ً
ومتسخا في الوقت نفسه. اختناقها برؤيته ضي ًقا
247 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ما زال على موعدي ساعة إال قليل إال إنني قمت بكي مالبسي وارتدائها
وهممت بالنزول ،فاليوم أتخذ طريق البحر عكس كل أيام األسبوع الباقية
التي أتخذ بها الطريق المختصر..
مشيت بطريقي وأنا أرى زرقة البحر من بعيد تظهر شي ًئا فشي ًئا كلما تقدمت،
السماء صافية ،واألرض ما زالت رطبة من أثر المطر ،وقد تجمعت بعض برك
المياه الصغيرة على الجانبين ،اجتزت العشر بنايات وقطعت الطريق ألصل
إلى جهة الكورنيش..
ضممت ياقة معطفي إلى رقبتي أكثر؛ حتى أقيها لسعة البرد التي زادت
باالقتراب من البحر ،كل يوم أريد الذهاب إلى إحدى المحال لشراء كوفية
صوفية تدفئني ولكن ال يسعفني الوقت فمنذ أن عملت بتلك الروضة
عصرا..
ً صباحا حتى الثالثة
ً األهلية أصبحت أعمل من السابعة والنصف
أتذكر عندما وجدت ذلك اإلعالن المعلق على إحدى الفلل ويعلنون عن
حاجتهم لمعلمات للعمل بالروضة التي تقبع بتلك الفيال ترددت في البداية،
كثيرا ولكن لم أعمل بهذا المجال من قبل ،وال أتقن أينعم أحب األطفال ً
التعامل مع عدد كبير من األطفال ،فكرت أنه حان وقت أمي واالستعانة بخبرتها
ومجالها وحلمها القديم في مساعدتي وإرشادي عن أفضل الطرق للتعامل
معهم والتقرب منهم ..أعطيت نفسي فترة اختبار لألمر إن نجحت سأكمل
وإن فشلت سأتركه ،كما أن هذه الفرصة جيدة بالنسبة لي فلم يكن لدي وقت
للبحث عن عمل أو شركة أخرى لدعاية األدوية فقد مر شهر إال أيام قليلة ،ولم
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 248
أجد فرصة عمل وأصابني القلق فاأليام تجري وكما مر شهر سيمر الشهران
الباقيان سري ًعا ،وسأجد صاحب البيت يأتي ويطالبني باإليجار.
اعترض خالي على العمل بالروضة وأنها ليست تخصصي فأنا دكتورة
فكيف أعمل بالروضة؟! تلك القوالب التي يضعها مجتمعنا ،وكأن الطبيب
أو المهندس إذا حاول العمل بأي شيء آخر سيحط هذا من مكانته ،ولكنني
أبديت رغبتي التامة بالذهاب إلى تلك الروضة وخوض التجربة ،أخذت
رقمهم وتمت المقابلة وأخبروني بالموافقة ..كانت الروضة بمنطقة راقية
جنيها،
ً تبعد عن البيت خمسة وعشرين دقيقة مش ًيا ..كان راتبهم سبعمائة
في البداية سعدت بسماعه ولم يكن لدي أسباب لالعتراض؛ فأنا ال أملك
شي ًئا من األساس ولكن بمرور األيام والجهد المبذول شعرت أنه ضئيل كما
أنه ال يسد إال بعض األشياء بالبيت ،كان خالي يشاركنا بمبلغ بسيط ولكن
لم أحب أن أثقل عليه؛ لعلمي أن راتبه يضعه بيد زوجته فكنت ال أعتمد
كثيرا لذلك اضطررت إلى أن أبحث عن عمل آخر أساند براتبه ذلك عليه ً
الراتب الضعيف ولم أجد إال تلك الوظيفة التي فررت منها دو ًما وهي العمل
عصرا وحتى الثامنة مسا ًء..
ً بإحدى الصيدليات القريبة من البيت من الرابعة
فكرت في ترك العمل بالروضة والذهاب ألعمل عدد ساعات أكثر
بالصيدلية فالعمل هناك مريح وسأحصل على راتب أفضل..
كثيرا وتعلقت بها ..فعالم
ولكن مع مرور األيام لي بالروضة أحببتها ً
األطفال برئ للغاية ،أشعر وأنا بجوارهم وكأني بجوار المالئكة ..يتعاملون
249 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
بطبيعتهم ،يخبرون الجميع بما يريدونه بحرية ،إذا أحبوا أظهروا ،وإذا غضبوا
أظهروا ،وإذا تعبوا ناموا ،وإذا حزنوا بكوا ..ال خداع وال نفاق وال تلون..
أرى هذا في براء ومارية ولكنني كنت بحاجة لرؤيته في مجتمع أكبر
من األطفال خاصة بعد ما مررت به..
أشعر وأنا أجلس وسطهم بالرجوع إلى ذاتي ،إلى فطرتي التي نشأت
عليها ،إلى مبادئي التي ُغرست بداخلي وأحاول أن أبثها فيهم ..كنت كلما
رجعت إلى العمل بالصيدلية مسا ًء ورأيت الواقفين بها ،أتذكر شركتي القديمة
وزمالئي هناك ودكتور حاتم والمواقف التي حدثت معي ،مع االختالف الكبير
بين الشخصيات فجميع العاملين بالصيدلية أشهد لهم باالحترام واألخالق
أيضا الشرور في أي عمل مهما الحسنة ،ولكنه عالم الكبار الذي ستجد فيه ً
كان فيثنيني هذا عن ترك الروضة وأتمسك بها أكثر..
وصلت إلى الروضة وقد تجمد وجهي بفعل هواء البحر ،استقبلتني صديقتي
أماني وهي إحدى المشرفات هناك ..ق ّبلتني على خدي وابتعدت ً
قليل قائلة:
« -وجهك بارد للغاية»
قلت وأنا أتصنع االرتعاش:
« -نعم مشيت من طريق البحر اليوم»
ضحكت وقالت:
« -مجنونة»
سألتها:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 250
بدأنا في لعب لعبة المغامرات وهي أننا نتخيل أننا رجعنا بآلة الزمن
إلى العصور القديمة ،فنستكشف ما بها ،جلست مريم على مقعدها ال تريد
المشاركة كعادتها لكن كانت أحيانًا تبتسم من ردة فعل إحدى األطفال،
وأحيانا أخرى تنسجم معنا بمالمح وجهها فقط..
كانت عقارب الساعة قد قاربت الواحدة والربع ..أتت أماني ووقفت
على الباب ،وأشارت إلى مريم ثم أشارت للخارج ،فهمت من إشارتها أن
إحدى والديها قد قدم ،أخبرتها أن تبقى معهم حتى أنتهي..
شرحت لها
ُ وكنت قد
ُ خرجت مع األستاذة هدى إلى صالة االستقبال
الوضع من قبل ولماذا طلبت إحدى والديها..
رجل واق ًفا يعطينا ظهره وينظر من خالل النافذة..
دلفنا ووجدنا ً
بادرت بسؤالي إياه:
« -هل حضرتك والد الطفلة مريم؟»
لف بجسده إلينا ببطء..
وبدأت دقات قلبي تتزايد وتتصاعد الدماء إلى وجهي..
ْ شعرت باالضطراب
ُ
شاهدت تلك العينين البنيتين خلف نظارته الزجاجية ولحيته الخفيفة
ُ
البنية المائلة للسواد..
إنه حمزة.
●●●
253 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()20
وأسندت ذقني باليد األخرى وأنا
ُ وضعت يدي على عجلة القيادة،ُ
ٌ
مشوش للغاية وتتصارع المشاعر أنظر إلى الطريق أمامي وال أراه ،أشعر أني
بداخلي..
تنهدت وأنا أتعجب مما حدث اليوم ،أراها بعد مضي كل هذه السنين
ُ
ونلتقي ثانية!!
شعرت عندما رأيتها بكمية كبيرة من األحاسيس المتناقضة بداخلي ،ما
ُ
بين اشتياق جارف إليها وزجر شديد لنفسي على ذلك؛ فأنا أعلم أنها امرأة
متزوجة..
لو أن األمور جرت كما ينبغي ،لو أن األحداث سارت كما كان ُمخطط
لها لصارت حنين اآلن زوجتي..
أنس أبدً ا نظرة عينيها
أتذكر آخر يوم رأيتها فيه بعد صالة العيد ،لم َ
وافقت على الزواج بي على الرغم من ظروفي وقتها ..لم
ْ الخجولة المحبة،
تخلت عن كثير من األشياء
ْ تنظر إلى رفيقاتها وتطمح أن تنال فرصة مثلهن،
وقابلت كل هذه التضحيات بخذالنها وجرح قلبها..
ُ من أجلي
قائل ..كفى جلدً ا لنفسك حككت جبهتي بضيق وأنا أحاول أن أتوقف ً
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 254
كنت تستطيع أن تفعل أنت اآلخر؟ ُوضعت في موقف صعب يا حمزة ماذا َ
ولم يكن لديك أي خيار حينها ..ولكن ما الجديد؟! فحياتك كعادتها تموج
بكثير من الصعاب ولم تكن حياتك سهلة يو ًما..
زفرت زفرة طويلة ُ ساخرا ثم
ً وابتسمت
ُ يدي على عجلة القيادةوضعت كلتا ّ
ُ
ٍ
وأنا أراقب ضوء اإلشارة األحمر وأذهب معها إلى زمن بعيد ..بعيد جدًّ ا ..منذ
طفل ،نشأت بمحافظة المنيا وكانت حياتي مليئة بالترف والتدليل؛ أن كنت ً
حرصا
ً لكوني االبن الوحيد ،أحاطني أبي وأمي بسياج من الخوف الشديد؛
أحد غيرهما إال قليل على حياتي مما جعلني بمعزل عن الناس ،ال أتعامل مع ٍ
وال أحب أحدً ا غيرهما ،وكان لهذا فائدة كبيرة فعزلتي ساعدتني على التأمل في
األشياء من حولي والتفكير بها والبحث عن أصولها ..ال أتقبل أي شيء دون
أن أفهمه ويتقبله عقلي ،لكن شعور الوحدة كان يرهقني بين الحين واآلخر،
كنت أرغب في التواصل مع عدد أكبر من الناس فيحول خجلي دون ذلك.. ُ
أتذكر أول حب في حياتي بعد أبي وأمي لم يكن لفتاة بل كان لصديقي عمر،
كان عمر بصفي الدراسي نفسه وكان يتمتع بشخصية مغناطيسية يجذب كل من
حوله إليه ،فهو اجتماعي ومحبوب من الجميع حتى المعلمين ،ربما كان هذا
رغبت أن أكون عليها دو ًما،
ُ هو سبب حبي له؛ فشخصية عمر هي الشخصية التي
وليست تلك الشخصية االنطوائية قليلة الكالم التي ال ينتبه إليها أحدٌ ،لم يصنع
حيزا في أي مكان ولم يشكل حضوري أو غيابي فر ًقا ألحدهم، وجودي يو ًما ً
مقربون ..أقرب الناس لي هم أبي وأمي وباألخص أبي.. لم يكن لدي أصدقاء َّ
255 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
قادرا على التقرب من عمر فهو كما أسمع من بقية األصدقاء لم أكن ً
صغارا وأنا أراه يصليً شخص متدين ولم يكن يخفى عني هذا؛ فمنذ أن كنا
دائما بكتاب المسلمين (القرآن) مما خلق بمسجد المدرسة ،وممسك ً
حاجزا بداخلي بيني وبينه.. ً
كبرنا م ًعا عا ًما بعد عام ..أنقط ُع عنه في فصل الصيف وأعو ُد أراه مجد ًدا مع
قليل مع بعضنا البعض؛ لنطمئن على أحوالنا وكيف بداية العام الدراسي فنقف ً
كان صيف كل منا ،وأعود بعدها لقوقعتي من جديد ..لم يذهب عن ذاكرتي
أصعب موقف مررت به في حياتي وهو وفاة والدي وكان ذلك قبيل امتحانات
شعرت حينها أن الدنيا اسودت أمام عيني فقد كان أبي هو صديقي ُ الثانوية العامة،
انعزلت
ُ أثرت وفاة أبي على نفسي بشكل كبير،المقرب وأحب الخلق إلى قلبيْ ..
وصرت مالز ًما لغرفتي ..لم أرغب في عمل أي شيء سوى النوم؛ ُ عن الناس أكثر
ألغيب عن تلك الحقيقة المرة ..حقيقة ذهاب أبي عن الحياة..
وانخرطت في مشاعر الحزن حتى ظهر ُ لم أفكر بمستقبلي أو المذاكرة،
عمر وألول مرة بهذا الشكل في حياتي ،طلب زيارتنا ،وأتى لبيتنا ،وجلس
حل وأن لو كان أبي هنا لحزن مما أفعل ،وأنه معي ،أخبرني أن هذا ليس ًّ
يجب أن أعود إلى دروسي ومذاكرتي ومجموعات التقوية التي كانت تجمعنا
م ًعا ،كان الشخص الوحيد الذي وقف بجانبي بتلك الفترة ،وشجعني على
خصيصا ليتأكد أنني أتابع مذاكرتيً المذاكرة من جديد ،فكان يأتي إلى البيت
بشكل جيد وأنني على ما يرام حتى جاءت االختبارات وحصلت على مجموع
يؤهلني لتحقيق حلمي وااللتحاق بكلية الحاسبات والمعلومات..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 256
أطعمة عدة ومشروبات مختلفة ،ومسلسالت وبرامج جديدة تُعرض فيه ال
أكثر من هذا..
ثالث سنوات وأنا يشدني استعدادهم وإصرارهم مع اقتراب موعده،
وأنسحب عند حديثهم بحجة الذهاب لشراء أي شيء يروي عطشي حتى
ال يزداد فضولي وتكثر األسئلة بداخلي..
بقيت هكذا حتى أتى رمضان في عامنا الرابع بالكلية ،وطلب مني عمرُ
على استحياء ككل عام مع اقتراب الشهر أنه لو كان في إمكاني أن أكتب
المحاضرات التي سيتغيبون عنها ؛ ألنهم لن يستطيعوا الحضور بانتظام خالل
وافقت بكل ترحيب على طلبه..
ُ العشرة أيام األخيرة من الشهر وبالطبع
شعرت بالحزن لعلمي بانشغالهم عني ككل عام ،فهم ُ أتذكر حينها كيف
إما في المحاضرات وإما جالسون في الجامعة يمسك ٌّ
كل منهم بمصحفه ليقرأ
فيه ،وال يوجد لديهم وقت للحديث أو المسامرة كعادتنا ،كل منهم يحاول
استغالل كل دقيقة تمر عليه ،لم أكن أجد ما أفعله في هذا الوقت سوى
الذهاب لشراء أي شيء يسد جوعي ويروي عطشي وأذهب به إلى الحمام
لتناوله؛ مراعاة لشعورهم وهم صائمون ،حتى تغ َّيب عامل النظافة بإحدى
فكرت أين
ُ األيام لمرضه ،وكانت رائحة الحمام غير مشجعة لتناول الطعام،
يمكنني أن أذهب ،فدار بخلدي ٌ
سؤال وهو لماذا ال آكل في جو نظيف فهذا من
مسلما ،لم يجبرهم أحد على فعل
ً حقي ،ولن يستطيع أحد معاتبتي فأنا لست
هذا حتى أراعي شعورهمَ ،م ْن شاء منهم أن يفطر فليفطر..
259 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وجلست على أريكة خشبية كانت بالقرب من ُ أخذت طعامي حينها
ُ
إلي قط ،ولم
وبدأت بتناوله ،وعلى عكس ما تخيلته لم ينظروا ّ
ُ مجموعتي،
ٌ
منهمك بشدة إلي باشمئزاز ،لم يعاتبني أحدهم على فعلي هذاٌ ،
كل منهم يتطلعوا ّ
شعرت وكأنهم في عالم آخر ..غير عالمي الذي أجلس فيه..
ُ في ذلك الكتاب..
وددت أن أطرح عليه السؤال
ُ واقتربت من عمر،
ُ وضعت الطعام جان ًبا
ُ
الذي يتردد بداخلي منذ ثالث سنوات ،كان يقرأ بكتابه فجلست بجانبه
حتى ينتهي..
وفكرت أن أسأله أي
ُ شعرت بالتردد ً
قليل ُ مبتسما،
ً انتهى وتوجه لى
جئت به ،لكن ابتسامته طمأنتني ،فقلت له سائًال:
سؤال آخر غير الذي ُ
« -لماذا أنتم بهذا الشغف يا عمر؟ لماذا لستم كالبقية تهتمون بالطعام
وأصنافه وبالتلفاز فقط؟»
إلي عمر ً
قائل: نظر ّ
« -كثير من المسلمين لألسف ال يشعرون بقيمة هذا الشهر ويضيعونه
في مثل هذه األشياء»
متحمسا:
ً صمت برهة ،وقال
َ
«هذا الشهر فرصة لنا للبدء من جديد ..تزيد رحمة الله فيه بنا ..كل
ليلة ُينجى أناس من النار ويكتبون من أهل الجنة؛ لذلك نحن نسعى لنفوز
بهذه النجاة»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 260
شعرت وقتها وكأن مشكاة نور ُألقيت بقلبي ،وأحسست بميل إلىُ
اإلسالم ولكن رأسي يموج بالكثير من األسئلة التي تعصف بفكري ،وأريد
رغما عني..
اإلجابة عنها ..كما أن شعور الخوف يجتاحني ً
َأ ْن تُغير معتقدً ا تؤمن به منذ صغرك ونشأت عليه ليس باألمر السهل
كنت معج ًبا ببعض تعاليم اإلسالم منذ صغري وزاد أبدً ا ،ال أنكر أنني ُ
إعجابي بها عندما اقتربت من ُعمر ،لكن لم أفكر قط في اعتناقه يو ًما..
صباحا فتوجهت إلى الجامعة؛ بح ًثا عن عمر
ً انتظرت حتى حانت العاشرة
ُ
شعرت أن سبب ذهابي إليه لرغبتي في االطمئنان أكثر من إجابة
ُ حتى وجدته،
أسئلتي ،أخبرته بما حدث معي منذ األمس وأن لدي الكثير من األمور أريد
اإلجابة عنها..
ترك عمر كل شيء بيده وجلس معي ،جاوب عن جميع أسئلتي بنفسه
تارة وباالستعانة بشبكة اإلنترنت أو أحد أصدقائه تارة أخرى..شعر بخوفي
فحاول أن يهدئني وهو يخبرني أنه لن يجبرني أحدٌ في هذا العالم على فعل
وشعرت بالراحة بعد جلستي معه..
ُ شيء ال أريده؛ فال داعي لخوفي،
رجعت إلى البيت بعدها ،لم أستطع حضور محاضرات هذا اليوم، ُ
اتخذت قراري واتصلت بعمر الساعة السادسة مسا ًء
ُ كثيرا حتى
فكرت ًُ
وأخبرته أنني أريد اعتناق اإلسالم..
كثيرا ،وأخبرني أنه كلما
لم أنس سعادته وقتها ،وتكبيره وحمده لله ً
رأى حسن خلقي وطيب سريرتي كان يدعو الله لي أن يكمل هذا بإسالمي
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 262
حتى استجاب الله دعوته ،وأعطاني عنوان أحد المساجد القريبة من بيته،
وقال إنه سيكون بانتظاري..
وصلت إلى هناك،
ُ وأخذت طريقي إليه حتى
ُ خرجت من البيت،
ُ
فشعرت بضربات قلبي تتزايد ،وألقى الموقف
ُ اقتربت من باب المسجد
ُ
هيبته في نفسي..
ووطأت
ُ خلعت حذائي،
ُ رآني عمر من الداخل فدعاني للدخول،
بقدمي أرض المسجد ألول مرة في حياتي ،استقبلني عمر وأخذني لجمع
صغيرا
ً من الناس يجلسون بإحدى الزوايا ،كانوا أصدقاءنا المقربين وعد ًدا
من المصلين في انتظار الصالة..
صوت أنفاسي يتصاعد ،بدأ عمر بحمد اللهُ جلست أمام عمر ،وقد بدأ
ُ
وشكره ،وسألني إذا كنت ما أزال متأكدً ا من قراري ،فأجبته بنعم..
مرتجف ٍ
باك من فرط ٍ قال الشهادتين ببطء ورددتهما وراءه بصوت
أحسست به في تلك اللحظة..
ُ شعوري الذي
َك َّب َر جميع الحاضرين وتقدموا نحوي وهم يسلمون ّ
علي ويحتضنوني
ويهنئوني بدخولي اإلسالم ،أخذني عمر بعدها إلى بيت أحد أصدقائه
القريب من المسجد الذي كان يعيش به بمفرده؛ ألغتسل وأتوضأ..
ووقفت بجانبهم في الصف،
ُ رجعنا إلى المسجد ثانية وقد أذن العشاء،
وأقمت أول صالة في حياتي ،لم أكن أحفظ الفاتحة أو أي شيء من القرآن
ُ
بعد ،ولكنني كنت أعرف ترتيب الصالة..
263 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أصدقائي ،وهذا األمر ُيوجب أن أكون بجانبه حتى تستطيع الشركة أن تقف
ورفضت ابتعادي..
ْ استنكرت تما ًما حينها
ْ على قدميها في وقت قصير..
أخذت أيا ًما بعدها في محاوالت عدة إلقناعها أنني كبرت ويجب أن أشقُ
طريقي بالحياة وحدي وطمأنتها أنني سأكون على اتصال دائم بها ،وسآتي
باكرا
وخرجت ً
ُ حزمت حقائبي
ُ أخيرا على مضض،
وافقت ً
ْ إليها كل فترة حتى
كبير لحياتي الجديدة.. ٌ
وشوق ٌ فرح ً
متخذا طريقي إليه ،وبداخلي ٌ
تخبطت ً
قليل ُ نجحت في الوصول إلى منطقته في نهاية األمر بعد أن
ُ
فوجدت جميع أهل منطقته يعرفونه على
ُ وسألت عنه
ُ بين المناطق والطرق،
وتعجبت من سؤالهم:
ُ الفور،
« -هل تريد منه ً
مال أو أي شيء؟»
قلت:
ُ
« -ال ..أريد أن تدلوني على بيته فقط وسأذهب إليه»
ظهر الحزن على وجوههم ،وقال واحدٌ منهم:
« -لن تستطيع»
سألت مستغر ًبا:
ُ
« -ولماذا؟»
« -لقد توفي في حادث منذ عشرة أيام»
تسمرت في مكاني من مفاجأة الخبر ،فلم أكن أتوقع أن يكون هذا سبب
ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 266
وبدأت في
ُ واتخذت جان ًبا،
ُ وجدت باب مسجد أمامي فهرولت إليه ُ اختفائه،
إلي ،حتى إن كنا نتواصل على فترات متباعدة البكاء ،كان عمر من أقرب الناس ّ
قمت بمهاتفته بأي وقت سأجده يمنحني لكن مجرد شعوري بوجوده أو أنني إذا ُ
محتارا في أمري ال أدريً وبقيت بالمسجد
ُ شعرت بحزن كبير عليه،
ُ االطمئنان،
فكرت في االتصال بأصدقائنا والذهاب إلى أي واحد منهم ..فلقد ُ ماذا أفعل..
أيضا ،لكن عالقتي بهم جمي ًعا ليست بتلك القوة التي انتقل بعضهم إلى القاهرة ً
تسمح لي بالمكوث عندهم كما أنني ال أعلم هل ظروفهم مهيأة الستقبالي أم
فكرت في الرجوع إلى أمي مرة أخرى ولكن ال أريد هذا؟..
ُ ال،
ظلت الحيرة تعصف بي وما أنقذني حينها إال عرض عم عثمان حارس
المسجد بعدما الحظ بكائي وحزني ،وهو أنه يمكنني أن أبقى بالمسجد إذا
أردت ،فأرتب أوراقي وأنظر ماذا أفعل..
ُ
َم َّر أسبوع وأنا على هذا الحال ال جديد يطرأ وال أعرف أي قرار
يجب أن أتخذ ،وزاد األمر على نفسي عندما أخبرني عم عثمان أنه يجب
حل أمامي غير الرجوع مرة أخرى إلى شعرت أنه ال يوجد ٌّ
ُ أن أرحل غدً ا،
وجدت عم طارق يدخل من باب المسجد ُ وعزمت على العودة حتى
ُ أمي،
علي االستضافة في
ويخبرني أنه سمع حوار عم عثمان اليوم ويعرض ّ
وأحببت عائلته..خالة مديحة وآسر وحنين..
ُ كثيرا
أحببت عم طارق ً ُ بيته..
حنين التي تعلق قلبي بها مرة بعد مرة في كل صدفة رأيتها فيها..
267 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
هذا الوقت حتى إن كنت على اتصال بها بالهاتف فهذا ال يغنني عن رؤيتها..
وشعرت بتأنيب الضمير ..نعم كنت
ُ تأثرت جدًّ ا بدموعها وكالمها،
ُ
على اتصال بها طوال فترة بعدي عنها ،ولكن كان يجب أن أزورها بين
الحين واآلخر ،أن أبقى بجانبها وقت مرضها المفاجئ ،أال أتركها هكذا
وحيدة تستعين بالغرباء لمساعدتها وابنها على قيد الحياة..
جلست بجانبها تلك الليلة ،وأنا أرعاها ،وأضاحكها؛ كي أخفف عنها ُ
صباحا وسآتي لزيارتها في أقرب وقت ً غيابي حتى أخبرتها أنني سأذهب غدً ا
وبدأت في البكاء..
ْ وأقسمت أنها لن تتركني أبدً ا
ْ تشبثت بي
ْ بالتأكيد لكنها
فكرت أن أخبرها
ُ ب هذا موقفي ،فيجب أن أذهب فالخطبة بعد غد.. َص َّع َ
شعرت أن الوقت غير مناسب لهذا اآلن؛ فلو قلت لها سيزيد
ُ باألمر كله ،لكنني
حتما ،ولو علمت أن خطبتي بعد يومين من الممكن أن تتوفى هذا من مرضها ً
حزنًا إلحساسها أنها آخر من يعلم بأمر زواج ابنها الوحيد..
أمرا ضرور ًّيا وال أستطيع الغياب عنه ،وسآتي لزيارتها
أخبرتها أن هناك ً
قسما بهذا..
قليل بعد أن أخذت مني ً ثانية بعد يومين ،اقتنعت ً
نمت ليلتها بغرفتي ،واستلقيت على سريري ،وأنا أحمد الله أنني
واستسلمت للنوم وأنا أتخيل مراسم
ُ أخيرا بالذهاب
نجحت في إقناع أمي ًُ
الخطبة غدً ا ووجه حنين المالئكي وهي بجانبي وتبتسم لي..
وأشعلت
ُ فمددت يدي
ُ قلقت من نومي على صوت حركة ما بالغرفة
ُ
269 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
بعدها ستهدأ بالتأكيد عندما ترى راحتي في هذه الحياة وتسعد لسعادة ابنها؛ فهي
أم بالنهاية تتمنى راحة ولدها وما ُيفرحه ُيفرحها ..كما أن موضوع حنين سيسعدها،
علي في موضوع االرتباط وتأتي لي بالفتيات وتخبرني عن فكثيرا ما كانت تلح ّ
ً
أمنيتها التي ترجوها قبل مماتها وهي أن تحمل أبنائي وأن تكبر عائلتنا..
مؤخرا ..عن عمر ،وفترة الكلية،
ً أخبرتُها جميع ما حدث في حياتي
تغيرت حياتي ،وعن إسالمي ،وعم طارق ،وحنين وتعلقي بها..
ْ وكيف
فقامت
ْ انتهيت،
ُ كانت المفاجأة تتملكها وهي فاغرة فاها مما أقوله لها حتى
فقدت صوابي ألفعل هذا،
ُ وهي تصيح وتنعتني بالمجنون األبله وأنني بالتأكيد
صمتت برهة تفكر ،ثم قالت بغضب:
ْ حاولت أن أهدئها لكنها لم تكن تسمعني،
ُ
« -هذه الفتاة ..هذه الفتاة هي السبب وأهلها ..من المؤكد أنهم علموا
بميراثك الكبير من أبيك لذلك أوقعوك في شباكهم»
قلت وأنا أنفي بشدة:
ُ
« -ال يا أمي ،ال عالقة لهم بما فعلت ..هم ال يعلمون أي شيء عن
أردت
ُ خرجت من هنا لم آخذ شي ًئا من أموال أبي؛ ألنني
ُ أموالنا ،عندما
وجدت ً
عمل يدر لي ُ االعتماد على نفسي ،واستضافوني في بيتهم حتى
فقيرا ،وهذا
المال ،ولم يسألوني يو ًما عن أموال أبي بالعكس هم يظنوني ً
من ضمن أسباب احترامي لهم»
خارجا وهي تضرب بيدها على صدرها وتدعو على من لعب
ً اتجهت
ْ
271 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وراءها حرمانًا عاطف ًّيا بداخلك جعل كل من أمامك يستغل هذه النقطة
بك ،ونحن أخطأنا أننا لم نفهم هذا األمر ،وسنصلحه اآلن وسنحاوطك
ونكون بجانبك»
قالت أمي:
« -اسمع كالم خالك يا بني فهو يريد مصلحتنا جمي ًعا»
« -ولكن يا أمي …»
عال: ٍ
بصوت ٍ قاطعني
« -ال يوجد لكن ..ستأتي معنا اآلن»
إلي بسبباته:
ثم قال مهد ًدا وهو يشير ّ
« -وال تجعل األمر يأخذ منحنى آخر بعنادك ..إذا صممت على
الذهاب سأتبعك وأصعد الموضوع وأورطهم بمشكلة لن يستطيعوا
الخروج منها»
خرجت
ُ شعرت بالخوف بعد سماع جملته؛ فتسلط خالي وشعوره أنني
ُ
عن طاعة أوامره قد يدفعه ذلك لفعل أي شيء..
قلت راج ًيا:
« -ال ..أرجوك يا خالي دعهم وشأنهم ..سأفعل ما تريد ولكن ال
تؤذهم وتسبب لهم المشاكل؛ فهم لم يؤذوني قط»
صمت برهة وتابع:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 274
« -إِ ْن كنت تحب هذه الفتاة ح ًّقا انس أمرها..ألننا لن نوافق عن هذه الزيجة،
وسنفعل أي شيء للوقوف أمامها وأمام ما تفعله حتى ترجع إلى صوابك»
نظرت إلى األرض وأنا أشعر ببركان من الغضب يغلي بداخلي..
ُ
نظر إلينا وقال:
« -هيا السائق بانتظارنا بالخارج»
قالت أمي:
« -سأحضر بعض األشياء الخاصة بي وآتي»
إلي وقال:
نظر ّ
« -هيا ،نحن للسيارة حتى تأتي أمك»
جلست في األريكة
ُ ذهبت معه إلى السيارة وأنا أشعر بالقهر والعجز،ُ
وأغلقت حسابي على موقع الـ ،Facebookُ وأخرجت هاتفي ببطء،
ُ الخلفية،
وقمت بإعادة ضبط إعدادات الهاتف؛ ليرجع جديدً ا كما كان وتُمحى جميع ُ
بياناته ..فبالتأكيد سيأخذه خالي مني وال أريد أن يكون وسيلة للوصول لعم
طارق وأسرته..
إلي خالي بعد دقائق وكأنه تذكر شي ًئا ،ثم مد يده لي ً
قائل: نظر ّ
« -أعطني هاتفك»
أعطيته إياه بعد أن استراح قلبي أنني محوت كل شيء ،جاءت أمي
وانضمت إلينا في السيارة وانطلقنا..
275 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ظللت طوال الطريق أفكر في حنين ،وكيف أن األمور صارت بهذا ُ
الشكل بعد أن كان ُّ
كل شيء ُم َعدًّ ا ورائ ًعا..
بسور ٍ
عال وتبدو عليها الفخامة ،أمامها ٍ المحاطة وصلنا إلى فيال خالي ُ
وكلب أسود شرس مدرب لمهاجمة اللصوص.. ٌ حارسان ضخما الجثة،
شعرت وأنا أتجه داخلها
ُ ُفتحت بوابتها ،وتابعنا التحرك بالسيارة إلى الداخل..
أنني متجه لسجن كبير؛ ألقضي به فترة عقوبتي التي ال أعلم متى ستنقضي..
أعطاني خالي أنا وأمي إحدى الغرف الكبيرة بطابق الغرف وكان يتعمد
وجود أمي معي بالغرفة نفسها حتى تراقبني طوال الوقت ،سحب مني كل
شيء يمكنني التواصل من خالله بالعالم الخارجي من باب التأديب ،فال
هاتف ،وال حاسوب ،ومسموح لي الخروج برفقتهم فقط حتى بعدما
ورجعت عن قراراتي كلها..
ُ اقتنعت بكالمه
ُ أظهرت له أنني
ُ
تحسنت
ُ كانت تطلب منه أمي أحيانًا الرجوع إلى بيتنا فهي تالحظ أنني
ونسيت أمر تلك الفتاة ،فيخبرها أنه ما زال
ُ ونسيت كل ما كنت عليه،
ُ كثيرا،
ً
ال يطمئن لي بعد ،ويجب أن أبقى تحت عينيه..
شعرت بمرور كل دقيقة فيها ولم تغب ُ مرت الشهور ثقيلة على قلبي،
حنين عن تفكيري خاللها ،أتذكر كل شيء ..كالمنا ..مواقفنا ،وجلساتنا م ًعا..
فقدت
ُ كثيرا بعد أن
أحسست بالوحشة ً
ُ أتذكر عم طارق وخالة مديحة وآسر..
ً
منعزل صرت وحيدً ا حزينًا
ُ كنت أشعر به وأنا بينهم..
ذلك الدفء الجميل الذي ُ
كنت..
كما ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 276
كانت أمي حزينة لرؤيتي هكذا ،ولكنها كانت تقول لي إن هذا كله
تهللت
ْ من أجل مصلحتي ،حتي وجدتُها ذات يوم تدخل إلى الغرفة ،وقد
أساريرها قائلة:
« -سيذهب حزنك من اليوم يا حبيبي»
قلت بشغف:
قمت وقد مأل األمل قلبي أننا سنخرج من هناُ ،
ُ
« -كيف؟»
تابعت قائلة:
ْ
« -وعد ابنة خالك قادمة اليوم من أمريكا بعد انتهاء دراستها»
وقلت:
ُ نظرت إليها مستغر ًبا،
ُ
« -وما عالقتي بهذا؟!»
قالت متحمسة وهي تبتسم:
شاب ال ينقصك شي ٌء ،وهي فتاة ال مثيل لها ،فلماذا
« -عالقتك أنك ٌّ
ال تتزوجها ويذهب حزنك وتجد َم ْن يؤنسك»
أشحت بوجهي بعيدً ا بعد أن أصابتني خيبة األمل ،وأنا أقول:
ُ
أرجوك ال تورطيني بأي شيء ،وانسي هذا األمر تما ًما»ِ « -أمي
قالت مستنكرة:
« -ولماذا أنساه؟! لن أدع تلك الفرصة تفلت من بين أيدينا ..فتاة
جميلة ومتعلمة ومثقفة»
277 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وتابعت:
ْ أخفضت صوتها
ْ ثم
« -كما أنها سترث كل هذا بمفردها ،وإِ ْن تزوجتها سيكون هذا لك
أيها األبله ..ال تكن أحم ًقا..أنا أفكر بمصلحتك»
قلت بتأفف:
ُ
مللت من تلك الكلمة»
ُ « -مصلحتي ..مصلحتي..
غادرت الغرفة وهي تقول بسعادة:
ْ
« -نعم مصلحتك ..سأرتب األمر أنا وخالك ..فهو اآلخر يتمنى
ذلك ..وسنتمه»
شعرت بداخلي بالحنق الشديد؛ لما تفعله أمي ،أصبح بها الكثير من
ُ
طباع خالي المتسلطة..
حت لها بأمري ..ال أعرف أين كان عقلي حينها
أكثر ما أندم عليه أنني ُب ُ
ألفعل ذلك..
جاءت وعد ليلتها ،ولم أخرج للسالم عليها ،غضبت أمي لفعلي وعاتبتني
بقسوة ،ولكن لم ألق ً
بال لعتابها ..التقيتها صدفة على الغداء ثاني يوم من
مجيئها..
فتحت أمي وخالي كعادتهما الكثير من المواضيع التي يقوالن فيها آراءهما
وكنت ألتزم الصمت خالل حديثهما حتى ال أشترك معهما بأي نقاش ُ الغريبة،
قد يجلب عراكًا ،فأنا أعد األيام؛ كي أخرج من هنا وال أريد أن أثير غضب
خالي..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 278
لكن وعد هذا اليوم ظلت تناقشهما وتعبر عن رأيها وتخبرهما أنهما
يجب أن يغيرا مفاهيمهما العقيمة تلك ،كانت صريحة وجريئة ،وتعبر
كثيرا فأصبحت أشترك معها
عن رأيها ورغبتها بمنتهى القوة ،أعجبني هذا ً
في اعتراضها على بعض األمور ،ويعلو صوتي ً
قليل بعد شهور كثيرة من
انعدامه..
ولم تكن أمي أو خالي يعترضان بل بالعكس كان ُيفرحهما هذا األمر؛
ألن هذا يدل على اتفاق تفكيرنا وشخصيتنا أنا ووعد..
لم يكن يخفى علينا حركاتهما المصطنعة من أجل التقريب بيننا ..كأن
مبكرا
يجعال مقاعدنا على المائدة بجانب بعضها البعض ،أو يتناوالن العشاء ً
فنتعشى أنا وهي بمفردنا ،ولكننا كنا ال نلقي ً
بال لهذه األمور وال نهتم بها..
وسمعت صوته هو
ُ مررت يو ًما بجانب مكتب خالي
ُ أتذكر عندما
ووعد عال ًيا ،وهما يتناقشان في أمر ما ..قالت وعد بشكل حازم:
«انس هذا األمر يا أبي لن تجبرني على شيء ال أريده ..أو أن أتزوج
َ -
إنسانًا ال أحبه»
فصاح خالي:
« -أنا أعرف مصلحتك هذا أنسب شخص ِ
لك»
أيضا أعرف مصلحتي ،وأعرف أنه ليس الشخص المناسب لي»
« -وأنا ً
ً
منفعل: قال
279 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ِ
«صرت عنيدة ..الدراسة بهذه البالد علمتك التمرد ،هذا خطأي من -
البداية أنني وافقت على ذهابك»
وأغلقت الباب
ْ خرجت من الغرفة بعد هذه الجملة وهي غاضبة،
ْ
وراءها بقوة ،رفعت رأسها ألعلى فوجدتني واق ًفا أمامها ،فنظرت ّ
إلي
بغضب ،ثم انصرفت..
شعرت بالسعادة بعد سماع عراكهما فهي األخرى ال توافق على
ُ
فكرتهما بأمر الزواج ،وهذا سيعزز موقفي أكثر..
تجنبتنا وعد بشكل كبير بعد هذه المناقشة وتجنبتني أنا بشكل خاص
صرت أتحاشى مقابلتها ،ولم يكن هذا يعجب خالي
ُ وساعدتها في ذلك..
وأمي بالتأكيد ..كلما حدثتني أمي في األمر بعدها ألقي بالكرة في ملعب
وعد ً
قائل:
« -يا أمي كيف أرتبط بفتاة ال تتقبلني ..هذا ضد رجولتي»
فتصمت وتذهب لخالي تخبره أن يجلس مع وعد إلقناعها؛ ألنني محق
فيما أقول مما يجعل خالي يختلي بوعد في مكتبه لمدد طويلة لمحاورتها
حتى ينتهي األمر كالعادة بصوتهما العالي ،وانسحاب وعد من المناقشة..
حتى تلك الليلة التي احتل فيها األرق رأسي وأذهب النوم عني فقررت
تمشيت بذلك الرواق الطويل وأنا أطل
ُ قليل خارج غرفتي، أن أتمشى ً
توقفت
ُ بعيني إلى األسفل إلى تلك النافورة التي تتوسط مدخل البيت..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 280
مكاني متفاج ًئا وأنا أشاهد وعد وهي تحمل حقيبتها وتنتقل بخطوات
نزلت سري ًعا
إزعاجا حتى خرجت من باب البيتُ ،ً خفيفة؛ خشية أن تحدث
مشيت حتى وصلت إلى آخر حديقة ْ على الدرج ألتبعها وأعرف ماذا تفعل،
وانحنت لفعل شيء ما ،ثم
ْ وأزاحت بعض الحشائش من األرض،
ْ الفيال،
تقدمت سري ًعا
ُ وقفت وهي تسحب ذلك الغطاء الحديدي وتهم بالنزول.. ْ
وزفرت بضيق..
ْ تفاجأت عند رؤيتي
ْ وأوقفتها..
سألتُها مستغر ًبا:
« -ماذا تفعلين؟»
قالت:
ْ
« -سأعود من حيث أتيت»
« -أمريكا؟!»
« -نعم»
« -ولماذا؟»
« -لن أبقى هنا حتى يصبح أمر هذا الزواج واق ًعا وأتفاجأ ذات يوم
بخبر من أبي أن الزفاف غدً ا»
« -لن يحدث هذا»
قالت مستنكرة:
« -وما أدراك؟»
281 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -هذا المخرج ال يعلم أحد عنه شي ًئا ،كنا نستخدمه ونحن صغار
لالختباء أنا وأصدقائي ..وبعدما كبرت تجمعت عليه الحشائش ونسي
الجميع أمره ..أتمنى أن تكون أنت التالي الذي يخرج منه»
قالت وهي تنزل من خالله:
صباحا ..ال أعلم متى سأعود ..أتمنى أنا أراك على
ً « -طائرتي غدً ا
خير ..أو ال أراك إطال ًقا وتكون بحياتك مستمت ًعا بجوار حبيبتك ..سالم»
نزلت ببطء حتى استقرت على األرض ،واتجهت يمينًا واختفت..
ووضعت فوقه الحشائش..
ُ وضعت الغطاء الحديدي فوق الفوهة ثانية،
ُ
رجعت إلى غرفتي ولم أستطع النوم بقية تلك الليلة ،ظل كالمها يتردد
ُ
شعرت بالخزي من نفسي ..هي فتاة واستطاعت أن تفعل ُ صداه داخل عقلي..
استسلمت لهما كل هذه المدة بهذه الطريقة ..لماذا
ُ ما لم أقدر على فعله ..لماذا
لم أقف أمام خالي حينها ،لو شعر بإصراري لما استطاع أن يمنعني من الذهاب،
كنت ضعي ًفا أمام تهديده ،وانسحبت من أولأو أن يؤذي حنين وأسرتها ،لكنني ُ
جولة..
خرجت
ُ ظهر نور الصباح واستيقظ الجميع وأنا بسريري لم أنم بعد..
متجها لغرفة الطعام ،كان خالي وأمي يجلسان ويتناوالن ً من غرفتي
ألقيت تحية الصباح..
ُ انضممت إليهما بعد أن
ُ فطورهما..
قال خالي إلحدى الخادمات:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 284
هيأت نفسي لتقبل أي فعل منهم ،ولكن لن ُ طارق والخالة مديحة وآسر،
أتركها أبدً ا هذه المرة ،حتى إِ ْن أغلقوا األبواب في وجهي ،حتي إِ ْن نعتوني
بأقذع األلفاظ سأصبر حتى أفوز بها..
وذهبت للجلوس في المسجد حتى تحين صالة المغرب ُ وصلت إلى هناك
ُ
وجدت
ُ وأقابل عم طارق وأشرح له األمر وأبدي رغبتي بالتقدم لحنين ثانية..
إمام المسجد يقرأ القرآن بإحدى الزوايا فذهبت إليه وسلمت عليه ،فسألني أين
فشرحت له ظروفي وماذا حدث لي ،وأنني آتي اليوم إلصالح ما أفسدتهُ غبت
من قبل ،فأخبرني وخيبة األمل بادية على وجهه أنه قد فات األوان فحنين تمت
خطبتها منذ أسبوعين لشاب يسمع عنه من الخير الكثير..
شعرت بوجع بالغ في قلبي حينها واجتاحني الندم ،من المؤكد أنه شاب
ُ
تعويضا عما عاشته من خذالني لها..
ً جيد؛ كي يفوز بقلبها وحبها ..ويكون
كنت ضعي ًفا،
خرجت من المسجد والهم جاثم على صدري ،نعم ُ ُ
وأخيرا؛ خو ًفا عليهم من توريطهم بأية مشاكل..
ً ولكنني فعلت كل هذا ً
أول
لكن لن يشفع لي هذا اآلن فلقد انتهى األمر..
انتبهت من إبحاري العميق في الذاكرة على صوت أبواق السيارات
ُ
التي خلفي؛ لكي أتحرك بعد تحول لون اإلشارة إلى األخضر..
ومريم تجذبني من أطراف قميصي وهي تقول:
« -هيا..هيا»
289 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
انطلقت سري ًعا بسيارتي على الطريق ،وأنا أفكر في كل ما جرى وفي ما
ُ
حدث اليوم وأتساءل متعج ًبا عن سبب مجئ حنين إلى هنا ،وسبب عملها
بالروضة ،ولماذا لم تعمل في مجالها ..وهل انتقلت جميع العائلة إلى هنا
أم هي وزوجها فقط؟ ..ال أعلم إن كانت أنجبت أم ال؟ ..وهل....
حاولت
ُ وزجرت نفسي وأنا أحاول أن أتوقف عن التفكير..
ُ انتبهت فجأة
ُ
رغما عني منذ رؤيتها فيجب أن أنساها
أن أحدّ من ذلك الشعور المتدفق بقلبي ً
تما ًما وأنسى تلك المشاعر ،فليس من حقي أن أشعر تجاهها بهذا اآلن..
ليس من حقي أن أقترب من زهرة جميلة ُوضعت بحديقة أحدهم
ليرعاها ويخفيها عن الناظرين..
ليس هذا من شيمي ..فأنا لست ممن يختلس النظر.
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 290
()21
قال:
ِ
أردت ولن ُيخصم شي ٌء من راتبك» « -يمكنك أن تذهبي وتستريحي إذا
أومأت له برأسي موافقة وشكرته..
دكتور حسن هو صاحب الصيدلية التي أقف بها ،في األربعينيات
من عمره ..يعده الجميع هنا األب الروحي للمكان؛ فهو ال يزعج أحدً ا،
وال يتدخل بشئون أحد إال إذا ُطلب منه التدخل ويستشيرونه في أمورهم
كنت أتجنبه تما ًما وهذه المرة خو ًفا
لما يعرفون عنه من الحكمة ،ولكنني ُ
أكثر من أي شيء آخر ،ربما رسب موقف دكتور حاتم داخلي بعض العقد
حاجزا بيني وبين التعامل مع أي غرباء ،وأظن أنها
ً النفسية التي خلقت
ستأخذ وقتًا حتى تزول..
اتخذت جانب الطريق،
ُ واتجهت خارج الصيدلية،
ُ التقطت حقيبتي
ُ
وبدأت أمشي ببطء عاقدة ذراعي أمامي ناظرة إلى األرض ،ال أريد ُ
قليل حتى يزول ما بي والأن أذهب إلى البيت سري ًعا ..أريد أن أتمشى ً
تالحظه أمي وتصر على معرفة ما حدث ،فرؤية حمزة اليوم مفاجأة كبيرة
أيضا؛ فلقد الحظت ذلك في عينيه، لي ،وأظن أنها كانت مفاجأة كبيرة له ً
وبدأت أتحدث وأنا أشيح ببصري بعيدً ا
ُ شعرت باالضطراب عند رؤيته
حتى أتحكم بانفعاالتي وال تظهر معرفتي المسبقة له أمام أستاذة هدى،
ٍ
بشكل سري ٍع أمر مريم وفي جملتين فقط: أخبرتُه
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 292
سمعت رنين هاتفي فأخرجته سري ًعا فمع كل رنين يصعد من هاتفي
يتجدد األمل بداخلي أن يكون المتصل آسر ،فمنذ أن رحل غاض ًبا يومها من
البيت لم يتصل بنا قط ،وال يعلم عنا شي ًئا حتى إنه ال يعلم بانتقالنا ،وجدت
وأجبت مسرعة..
ُ مسجل بالهاتف فازداد األمل بداخلي ً رقما غري ًبا ليس
ً
أتاني صوتها قائلة:
« -كيف حال الجو عندكم؟»
أجبت بفرحة:
غبت أيتها النذلة؟ ..من حوالي« -رحاااب ..كيف حالك؟ أفتقدك ..أين ِ
شهرين لم تهاتفيني وعندما كنت أقوم باالتصال ِ
بك كان هاتفك دو ًما مغل ًقا»
« -انشغلت بكثير من األمور حبيبتي اعذريني وقمت بتغيير رقم هاتفي»
عليك المهم أن تكوني بخير»ِ « -ال
ِ -
«لك عندي خبران ساران»
قلت متلهفة:
« -ح ًّقا؟ أنا بالفعل في حاجة شديدة لسماع أي خبر سار»
قالت:
« -أي خبر تريدين أن تعرفي ً
أول؟»
سرورا»
ً « -أكثرهما
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 294
« -حسنًا ..هل تتذكرين عندما هاتفتك وأخبرتك أن حاتم تمت تبرئته
من واقعة تحرشه بي؛ لعدم كفاية ثبوت األدلة وكان السبب في ذلك أسامة
كما أن حاتم قام برشوة بعض القائمين على المحضر وانتهى األمر؟»
« -نعم أتذكر ..وأتذكر بكاءك الشديد حينها ،وكيف أنني أخبرتك أال
ِ
ويكفيك قول «حسبنا الله ونعم الوكيل» تجعلي اعتمادك الكلي على البشر
ِ
سيأتيك بحقك» وسترين أن الله
« -نعم وأنا قمت بوصيتك ومنذ أيام علمت أن الله أتى لي بحقي»
قلت باستغراب:
« -وكيف؟»
قالت:
« -بعد أسبوعين من تبرئته أتت له امرأة جميلة وكعادته -كما تعلمين-
بدل أن يخاف مما حدث فال يفعل ذلك ثانية حاول معها؛ فمثل هذا النوع ً
بعد أن كاد ُيسجن ،بل إنه بغبائه توهم أن كل مرة ستمر على خير مثل التي
قبلها ..المهم أنه كان يحاول أن يصل إليها في كل مرة كانت تأتيه لمناقشة
عمل بينهما وال يفلح حتى إنه في إحدى المرات تجرأ وفعل معها مثلما
فعل معي ،فقامت غاضبة وذهبت متوعدة إياه ،ومن حظه العاثر أنها كانت
ابنة صديق حماه ،فذهبت إلى أبيها واشتكت له ،وذهب أبوها فاشتكى
لحماه ،وذهب حماه على الفور إلى ابنته لكي يفهم منها هل حاتم الوسيم
295 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
األنيق يفعل ذلك ح ًّقا ،وما كاد يسألها حتى انفجرت ابنته في البكاء وبدأت
سرد وقائع خيانته لها مرات عدة ،وأنها تعلم جيدً ا أن قضية تحرشه بي
صادقة ولكنه خرج منها بسبب رشوته ،وكانت تصبر على كل هذا لعله يندم
ويرجع ،ويمنعها حبها له من تركه ..أصر أبوها بعد سماع هذه المصائب
كلها على ذهابها معه وأخذها بالفعل ،ثم ذهب إليه في الشركة وقام بسبه
أمام الجميع ،وطلب منه طالق ابنته دون إزعاج ،وأنه سيعرف كيف يأخذ
حقه وحق ابنته ،وسيعيده إلى الشارع مرة أخرى بعد ما جلبه منه وجعل منه
رجل مهند ًما صاحب شركة» ً
« -ثم؟»
« -ال شيء ..بالفعل طلق ابنته ،و َف َقدَ مصدر تمويل كبير ،للشركة..
كثيرا من الشركات من التعامل معه؛ ألن سمعته بجانب أن حماه حذر ً
سيئة وال يجب أن يثقوا به ،وكما تعلمين أن حماه رجل أعمال كبير وكثير
من شركات األدوية تخاف من معاداته وتطمع في تمويله ..مما جعلهم
يستجيبون شركة وراء شركة ويسحبون دعاياتهم من عند حاتم إلى شركات
دعاية أخرى»
زادت وصوتها يملؤه النشوة:
« -ومنذ قليل أتاني خبر أنه أغلق الشركة منذ ثالثة أيام وأصبح كما
كانَ ..ف َقدَ كل شيء وانتهى أمره»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 296
سألتها:
« -ألم يكن معه أموال احتياطية في رصيد الشركة؟»
قالت:
« -وهذه كانت مفاجأة أخرى ،فلم يكن لديه أية أموال احتياطية ،وكان
يتعامل أن األموال تأتيه باستمرار ،وهو مبذر كما تعلمين ولم يكن يخطر
بباله كل هذا»
أكملت مندهشة:
ْ
« -ال أصدق بالفعل كل ما حدث ،لو حكى لي أحدهم أن هذا
سيحدث له يو ًما لم أكن أصدقه»
قلت:
ُ
عليك وعلى ظلمك وعلى ظلم الكثير ِ « -ربك يا رحاب مطلع
غيرك ..هذا الرجل تجبر ..كان يفعل ما يشاء غير ٍ
مبال ..يغازل ويتحرش
ويهدد و ُيرشي..كان ال بد له يو ًما من سقوط؛ ليرد الله له تلك المظالم كلها
ويشفي صدور المظلومين»
صدقت ،ونِ ْع َم بالله»
ِ « -نَعم ح ًّقا
سألتها:
« -وسيد وأسامة ماذا فعال؟»
297 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أجابت:
« -أسامة عندما رأى حماه وما فعله معه بالمكتب ذهب إليه في الخفاء
وأخبره أنه بخدمته إذا أراد أي شيء ضد حاتم ..ثعبانه الذي كان يسمنه
طوال الوقت َب َّخ سمه فيه بالنهاية»
« -وماذا فعل حماه؟»
فعل وطلب منه أدلة ضد حاتم يهدده بها إذا حاول فعل أي « -استخدمه ً
مليما واحدً ا
خارجا دون أن يعطي له ً
ً شيء ،وبعد ما حصل على ما يريده ألقاه
أو حتى يجلب له وظيفة ،وعلم حاتم بما فعله أسامة فتوعد له مما جعل أسامة
يلوذ بالفرار إلى إحدى المحافظات البعيدة وما زال يبحث عن عمل وال يجد»
ابتسمت ساخرة:
ُ
« -ما حدث معي نفسه حدث معه»
قالت:
« -مع الفارق بينكما بالتأكيد»
سألتها:
« -وسيد؟»
صغيرا،
ً كثيرا ..فتح مكت ًّبا
« -سيد -ما شاء الله -واضح أنه أتقن اللعبة ً
بدأ به فكرة الدعاية نفسها ولكن على مساحة أضيق ،ويعمل معه اثنان»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 298
« -ما شاء الله فتح الله عليه ..هو شخص محترم ويستحق من الخير الكثير»
قالت:
« -وددت أن أخبرك تلك األخبار السعيدة فور علمي بها»
« -وما الخبر الثاني؟»
وقالت بصوت حيي:
ْ تنحنحت ً
قليل ْ
« -الخبر الثاني هو أنه تمت خطبتي األسبوع الماضي»
كثيرا يا رحاب» ُ ِ « -ياإااالهي ..هذا الخبر السعيد ح ًّقا..
فرحت لك ً
قالت بخجل:
« -الحمد لله ..أتى األمر بشكل غريب وسريع»
« -وكيف حدث؟»
أخذت عهدً ا على
ُ « -عندما حصلت على عمل منذ شهر ونصف..
نفسي أن أغير مبادئي بعدما حدث لي ،واكتشافي أنها كانت جميعها خاطئة
كثيرا ..لم ِ وأنك ِ
ِ
تغيرت ًُ نصائحك لي يا حنين.. كنت محقة في جميع
أصبحت ألبس مالبس ال تصف تفاصيل جسدي وال ُ أتحجب بعد ولكن
أبالغ بوضع الكثير من أدوات التجميل ..مجرد أشياء بسيطة ..ال أمزح مع
كثيرا ..كالمي كله مرتبط بالعمل فقط ..حتى جاء يوم وأتاني
أحد وال أختلط ً
مازن زميلي في العمل وأخبرني أنه تعجبه أخالقي وشخصيتي ومعاملتي
299 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
المتحفظة مع الشباب بالشركة وأنه كان ينتظر فتاة بهذه المواصفات منذ
زمن ويود خطبتي ،وكانت الخطبة في البيت األسبوع الماضي بحضور
بعض األقارب»..
قلت بفرحة عارمة:
ُ
« -رحاب ال تعلمين حجم سعادتي بسماع كالمك هذا ،بالفعل يهون
على نفسي أي تعب القيته في الفترة الماضية ..أتم الله زواجك على خير
ياحبيبتي»
« -اللهم آمين ..وأكرمك الله يا حنين ِ
أنت وأوالدك على جميع ما
فعلتِه معي»
« -اللهم آمين»
قالت:
« -الزفاف سيكون بعد ستة أشهر من اآلن إن شاء الله ..ستحضرين
أليس كذلك؟»
ِ
وأنت ترتدين ثوب زفافك « -بلى ،بالتأكيد ..كيف أفوت رؤيتك
األبيض»
أغلقت رحاب الهاتف وهي تودعني على أمل أن نتحدث ثانية قري ًبا؛
أثلجت
ْ شعرت أن أخبار رحاب
ُ لتحكي لي مزيدً ا من تفاصيل ارتباطها،
صدري وذهبت بكل ضيق اعتراني منذ الظهيرة..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 300
وصلت إلى البيت وأنا منتشية أخبر أمي سري ًعا بما أخبرتني به رحاب،
ُ
َف شر حاتم عن الفتيات ،وتدعو لرحاب بكل خير.. فتسعد وتحمد الله أن ك َّ
لم أخبرها بما حدث معي اليوم وبرؤيتي لحمزة وأن ابنته عندي
بالروضة ،ال أريد أن أخبر أمي أي شيء متعلق بهذا الموضوع ..فبالتأكيد
ستسألني في كثير من التفاصيل ،وتتذكر معي ما حدث ،وأنا ال أريد أن
أخرب شعوري بالسعادة اآلن..
أريد أن أضع رأسي على الوسادة فقط واستسلم بهدوء لنوم عميق..
ناسية كل ما حدث في أول اليوم...
***
قالت:
ِ
عليك يا دكتورة حنين ولكن لماذا هذا القرار « -ال أريد أن أضغط
المفاجئ؟ هل يوجد أحد قام بمضايقتك هنا؟»
قلت:
« -ال ال بالعكس يا أستاذة هدى فالجميع هنا يحسن معاملتي جدًّ ا
أصبحت أشعر بالتعب»
ُ ولكن
قالت:
« -أتت معلمة جديدة منذ يومين وستساعدك في األمر»
« -وأنا كنت بانتظارها حتى تشغل مكاني وال أترككم هكذا فجأة،
وأتت لتحمل عني وتبدأ مهمتها وأنسحب أنا»
301 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -أنا أعلم أن الراتب ليس بالكثير ولكن مع بداية الصيف يأتي المزيد
من األطفال وسأقوم بزيادة راتبك»
أشرت إليها بيدي نافية:
ُ
« -صدقيني يا أستاذة هدى األمر ليس له عالقة بالراتب إطال ًقا ،ولكن
أشعر أنه القرار المناسب لي في هذا التوقيت»
صمتت برهة وقد ظهر عليها االستسالم:
ْ
« -أليس هناك أي أمل في إقناعك وتنحيتك عن قرارك هذا؟»
« -إِ ْن رجعت عن قراري هذا يو ًما ..صدقيني لن أرجع إال لهذا
المكان»
قالت بصوت حزين:
كثيرا.. ِ
« -ال أدري كيف سيتقبل األطفال عدم وجودك وقد تعلقوا بك ً
إِ ْن كنا نحن الكبار نشعر بالحزن لقرارك ..فكيف سيكون حالهم»
ابتسمت قائلة:
ُ
« -األطفال ينسون سري ًعا ..سيتأثرون بغيابي حتى يتعودوا على
المعلمة الجديدة فيحبونها وينسون أمري بعدها»
قامت أستاذة هدى من مقعدها واحتضنتني بقوة ،ودعتها وفتحت
الباب فوجدت أماني تقف أمامي وهي تقول ناظرة ألستاذة هدى:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 302
استدرت وأنا أنظر من خالل باب الصيدلية الزجاجي إلى زرقة البحر
ُ
في الجهة األخرى من الطريق وأنا أفكر ..تُرى أين ستكون المحطة التالية؟
أيضا؟ لم
هل يا ترى سيحدث شي ٌء جديدٌ في حياتي يجعلني أترك الصيدلية ً
أعد أستبعد حدوث أي شيء يجعلني أفر من اإلسكندرية جميعها إلى مكان
آخر ..وليس من الصيدلية فقط …
***
قاربت عقارب الساعة السابعة مسا ًء ..كانت الرياح تهز األشجار
ٍ
شديد. ٍ
بمطر بشدة ،وتزداد ظلمة السماء الملبدة بالغيوم التي تنذر
جلسنا نراقب سرعة بعض األوراق الطائرة ،والسيارات المسرعة على
الطريق وكل واحدة منها تحاول الوصول إلى مبتغاها قبل هطول المطر..
تعجب مصطفى ً
قائل:
كثيرا هذا العام»
« -ال أعرف لماذا يأبى الشتاء مغادرتنا ..أطال ً
« -ليس العجيب أنه أطال ..العجيب أن يكون الطقس بهذا الشكل
ومن المفترض أننا اقتربنا على فصل الربيع» قالت فريدة ذلك..
علق تامر:
« -يقولون باألرصاد الجوية إن هذا آخر طقس سيء َسن َُم ُّر به،
وسيتحسن الجو ابتدا ًء من الغد»
305 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
مصطفى وفريدة وتامر يقفون معي في الصيدلية ،ما زالوا طلبة بالكلية
كثيرا أنني أختهم الكبرى؛ فقد سبقتهم فيويقضون فترة تكليفهم ،أشعر ً
التخرج منذ أعوام وأكبرهم سنًّا..
أبتسم عندما يتحدثون عن الكلية وصعوبة بعض المواد وطباع
األساتذة المختلفة ،وأسترجع معهم ذكريات تلك الفترة ،أتخيل فيهم آسر،
وكيف سيكون حالنا لو لم يتغير واستمرت عالقتنا كما كانت في الماضي،
لو كان كما هو ألصبح كل شيء رائ ًعا..
يصرحا
أالحظ إعجاب تامر وفريدة لبعضهما البعض ولكنهما لم ِّ
بذلك.
ثالثتهم يحترمونني ويقدرونني ويأخذون بقراراتي ..تزامن قدومهم
شعرت
ُ مع استالمي لحصة كاملة من الساعات بالوقوف في الصيدلية،
بالراحة معهم خاصة بعد قرار دكتور حسن بنقل َم ْن كانوا يقفون معي ساب ًقا
كثيرا كما أرتاح بين هؤالء الصغار..
للفترة الليلية ،فلم أكن أرتاح لهم ً
توقفوا عن الحديث فجأة عند رؤية ذلك البرق الخاطف وهو يشطر
التأمت
ْ السماء إلى نصفين ،وتبعه صوت هادر خفقت له القلوب خو ًفا،
السماء مرة أخرى مع تدافع قطرات المطر وقد أصابها الجنون..
جلس ٌّ
كل منا أمام كوبه الدافئ في انتظار تحسن الجو؛ لكي نستطيع
الخروج والعودة إلى منازلنا فقد أصبحت الثامنة وعشر دقائق..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 306
هاتفنا دكتور حسن وأبلغنا أنه اقترب منا ولكن الطريق سيء للغاية
لذلك يمشي بحذر شديد؛ خو ًفا من انزالق عجل سيارته ،وطلب منا البقاء،
وقال إنه سيوصل كل شخص منا إلى منزله ،اتصلت بأمي وأخبرتها باألمر؛
كي ال تقلق من تأخري..
وصل دكتور حسن عند الثامنة والنصف وخمس دقائق ودخل َج ْر ًيا
قائل: إلى الصيدلية وهو ينفض قطرات المطر سري ًعا قبل أن يتشربها معطفه ً
« -الطقس سيء للغاية والطريق غير آمن»
قلت:
ُ
« -يمكنك أخذ مصطفى وفريدة وتوصيلهما؛ فبيوتهما بعيدة عن هنا..
أما أنا وتامر منازلنا قريبة»
أومأ دكتور حسن وهو يقول:
« -حسنًا ..معي صديقي بالسيارة كان من المفترض أن يسافر ولكني
ألححت عليه بالمبيت عندي هذه الليلة حتى يستقر الطقس ..سيجلس
بالصيدلية معكما حتى عودتي وآخذكم جمي ًعا»
ثم نظر إلى ساعته وقال:
« -كان من المفترض أن يأتي َم ْن يقفون بالفترة المسائية منذ نصف
ساعة ولكن ربما عطلهم الطريق»
307 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أخذت فريدة حقيبتها وارتدى مصطفى معطفه وخرجا مع دكتور حسن ْ
ترجل صديقه من السيارة وهو يعدو صوب باب الصيدلية..
واستقلوا السيارة ،بينما َّ
اتجهت إلى الداخل ألعد مشرو ًبا آخر داف ًئا بعد أن انتهى األول،
وسمعت ترحيب تامر بصديق دكتور حسن وهو يدعوه للجلوس ويسأله ُ
ووضعت الكوب أمامي ،وما
ُ وألقيت السالم
ُ خرجت
ُ ماذا يحب أن يشرب،
عيني حتى تجمدتا واتسعت حدقتاهما ..كان صديق ّ ورفعت
ُ جلست
ُ إن
دكتور حسن الذي يجلس أمامي هو دكتور حاتم!!
كثيرا فهو يرتدي ز ًّيا عاد ًّيا على غير عادته مجرد قميص
ذهبت أناقته ً
وبنطال ،ومالمح الهم الظاهرة على وجهه ،وذقنه المنبتة بالشعر أظهرته
أكبر من سنه..
ظهرت المفاجأة بعينيه أول ما رآني وما لبثت حتى تحولت سري ًعا إلى
نظرات غضب وشزر ووعيد..
تذكرت عندما رأيت نظرة الوعيد بعينيه ،نظرته يوم أن هددني بمكتبه ً
قائل: ُ
« -أنا ال أسامح أبدً ا َم ْن حاول أذيتي»
قمت ببطء وأنا أنظر بعيدً ا وأسحب معطفي وحقيبتي متجهة للخارج..
ُ
مستنكرا:
ً صاح تامر
« -دكتورة حنين إلى أين؟! ألن تنتظري دكتور حسن حتى يوصلنا؟!»
ألتفت إليه:
ُ ابتلعت ريقي دون أن
ُ قلت بعد أن
ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 308
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 310
()22
« -السيد حمزة ينتظرك بهذا المكان»
جذبت مقبضُ نظرت من النافذة إلى المكان الذي أشار إليه السائق، ُ
وترجلت من السيارة بعد أن شكرته ..بدأ في التحرك وانضم إلى ُ الباب
صعدت على الرصيف وأنا أنظر
ُ صفوف السيارات السائرة على الطريق،
إلى األعلى ،وقد صفيت السماء بعد أن أسقطت عن كاهلها عبء الغيوم
وتوقفت األمطار مخلفة وراءها هوا ًء بار ًدا..
اتجهت إلى المطعم المرتفع عن األرض بسلم مكون من خمس درجات، ُ
صعدتها ببطء حتى وصلت إلى الباب فانفتحت إحدى دفتيه الزجاجية المحاطة
بإطار خشبي بواسطة رجل يرتدي ز ًّيا أني ًقا يضع يده اليمنى خلف ظهره ويده
اليسرى تشد مقبض الباب وينحني ً
قليل؛ ترحي ًبا بالزبائن..
دلفت إلى الداخل وأنا أنظر في أرجاء المطعم ذي الطراز الكالسيكي ،كان
ُ
واضحا أن األناقة وضعت لمستها على كل شيء بداخله ،فالطاوالت جميعها ً
مغطاة بشراشف بيضاء ويتوسطها شمعدانات فضية اللون تحمل شمو ًعا
بيضا َء مشتعلة ،والمقاعد خشبية مبطنة بأقمشة حمراء مخملية ،وترتكز بإحدى
الحوائط مدفأة تشتعل النار بداخلها وتبعث الدفء بالمكان ،الحوائط بها نقوش
بسيطة تقليدية وعليها مصابيح نحاسية تحمل لمبات ذات إضاءة برتقالية هادئة..
311 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -ال أدري كيف يمكنك المساعدة ولكن لتستطيع فهم المشكلة جيدً ا
يجب أن أشرح لك األمر من البداية»
رجع بجسده للخلف وما زال االهتمام باد ًيا عليه ،وقال:
« -كلي آذان صاغية»
بدأت أقص األحداث جميعها عليه من بداية التحاقي بالشركة ،ووفاة ُ
أبي ،وتهديد دكتور حاتم لي وأنه السبب الرئيس النتقالنا إلى اإلسكندرية ،كان
في أثناء حديثي تتسع حدقتا عينيه من مفاجأة األحداث تارة ويقطب حاجبيه
ويظهر الضيق على وجهه تارة ،حتى وصلت إلى ما حدث اليوم قائلة:
« -المشكلة اآلن أنني رأيته اليوم ورآني مجد ًدا!!»
مستنكرا:
ً سأل حمزة
« -كيف؟!»
قلت:
« -أخبرنا دكتور حسن صاحب الصيدلية التي أعمل بها أنه صديقه
وأتى به إلى الصيدلية ،وال أعرف ماذا سيقول له بعد أن رآني ،ربما يتهمني
إلي»
بشيء ،ويطلب من دكتور حسن المساعدة ليستطيع الوصول ّ
مفكرا..
ً وضع يده على ذقنه
أردفت:
ُ
خرجت سري ًعا من الصيدلية وأنا أنظر ورائي؛ خو ًفا أن
ُ « -عندما رأيته
315 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
قال:
ِ
الحظت أن اسم أبيها ليس اسمي» « -نعم ..تخيلتك
قلت:
« -لم أنظر إلى اسم أبيها من قبل ،فمريم الطفلة الوحيدة التي تحمل
هذا االسم بالروضة ،فلم نكن بحاجة أن نناديها باسم والدها كي نميزها عن
طفلة أخرى»
أكمل:
تعرفت عليه في أثناء سفري إلى الخارج،
ُ « -مريم ابنة صديقي المقرب
متزوجا ورزقه الله بمريم ،وأوصاني عليها قبل مماته هو وزوجته»
ً وكان
شعرت بنغز في قلبي ،وقلت مشفقة:
ُ
« -هل توفي والداها؟»
طأطأ رأسه بأسف وهو يقول:
« -نعم وتركاها لي»
سألت باهتمام:
ُ
« -أليس لها أقارب؟ أين أجدادها؟»
« -أجدادها وأقاربها معيشتهم ال تصلح الستقبالها وتربيتها؛ لذلك
أوصاني أبوها عليها»
« -وكيف مات والداها؟»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 318
ِ
طلبت مساعدته؟ ما هذا الذي فعلته؟!! ما هذا الذي فعلتِه يا حنين؟ لماذا
ِ
جعلت لماذا أدخلتِه في األمر من األساس؟ لماذا هذا التسرع؟ لماذا
ِ
عليك إلى هذا الحد؟ الخوف يسيطر
ِ
مازلت طفلة كان يمكنك الصبر حتى تري كيف تجري األمور..
تتعاملين بحمق وال تعرفين كيف تتصرفين بأمورك ،ويصيبك العمى في
شعرت بالضيق
ُ كثير من األوقات فتتسرعين في تصرفاتك مثل البلهاء..
نفضت الغطاء من على
ُ يزداد في صدري ويجتاحني شعور الندم لما فعلت،
خرجت من الغرفة متجهة إلى الحمام فوجدتُ جسدي وأنا أتمتم «غبية»
خالي يفتح باب غرفته وينظر إلي ً
قائل:
« -صباح الخير يا حنين»
ابتسمت له ورددت:
« -صباح الخير يا خالي ،كيف حالك اليوم؟»
كثيرا باألمس» ِ
« -بخير الحمد لله ..تأخرت ً
وانتظرت حتى يتحسن؛ ألتمكن من المجئ»
ُ « -نعم كان الطقس سي ًئا
أشرت بيدي تجاه الحمام وقلت:
ُ ثم
أول ،وسأذهب أنا إلعداد الفطور لك حتى « -تفضل أنت يا خالي ً
أيقظت براء حتى يذهب
ُ وقمت بإعداد الفطور،
ُ ذهبت إلى المطبخ
ُ تنتهي»
ألقيت
ُ إلى المدرسة وساعدته في ارتداء زيه وتحضير حقيبته وتناول فطوره،
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 324
كثيرا من األمور»
يستطيع فعل شيء ،كما أن سفره للخارج سيحل ً
قال:
« -حسنًا ولكننا يجب أن نتوخى الحذر حتى نتأكد من سفره ،سأتابع
مع أصدقائي خطواته ،ويوجد اآلن رجالن من األمن يتبادالن مراقبة بنايتكم»
قلت باقتضاب:
« -ال داعي لذلك ..ال تشغل بالك باألمر ال نريد أن نعطيه أكبر من
حجمه ،وأبلغ رجالك أن يذهبوا من أمام البناية لم نعد في حاجة لهذا»
صمت برهة وهو متفاجئ من طريقتي في التحدث ،ثم قال:
« -أال ترين أنه يجب أن ننتظر ً
قليل حتى سفره؟»
قلت بحزم:
« -ال ..ال أرى ذلك ،كما أنني أتأسف على اإلزعاج الذي سببته ،سيطر
الخوف على نفسي ولم أحسن تقدير األمور ووضعها في نصابها الحقيقي»
شعرت باإلحراج في صوته ،وهو يقول:
ُ
« -حسنًا سأخبرهم بالرحيل اآلن وإذا حدث أي شيء ال تتردي في
االتصال»
«شكرا»
ً -
« -حسنا ،ال أريد أن أطيل أكثر ..مع السالمة»
« -سالم»
331 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أغلقت الخط وأنا أشعر بالضيق ،لم أعتد أن أكون قليلة الذوق في
ُ
أخطأت منذ البداية ويجب أن أصلح خطأي هذا ُ تعاملي هكذا ،ولكنني
حتى إن كان يسبني اآلن وينعتني بالمجنونة التي طلبت مساعدته باألمس
وتكلمه اليوم بهذا الشكل ،على أية حال ال يعنيني رأيه فليقل ما يقول..
وأصلحت
ُ أخطأت أنني أدخلته من األساس في حياتي بهذا الشكل.. ُ
خطأي اآلن...
***
أتى خالي بعد صالة الجمعة وهو يشمشم بأنفه ً
قائل:
« -ما هذه الرائحة الشهية ،أشعر بالجوع»
قلت ضاحكة:
« -هذه وصفة من ابتكار أمي ومن صنع يدي ،كنت أعدها لهاشم
كثيرا»
رحمه الله بأستراليا وكان يحبها ً
خرجت زوجة خالي من غرفتها على حديثنا ،وهي تنظر بتأفف،
وقالت:
« -ومتي ستنتهي؟»
أجبتها:
« -أمامها ربع ساعة ال أكثر»
أدارت ظهرها وهي تقول:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 332
قام خالي من مكانه لفتح الباب ،كنت أتابعه بخوف وأفكر بمائة
احتمال في الوقت نفسه ،نظر خالي من عين الباب وقال لنا بصوت هامس:
«شاب يرتدي نظارة ولديه لحية قصيرة»
ٌّ -
اتسعت حدقتا عيني؛ خو ًفا من تأكد ظني ،قام خالي بفتح الباب ً
قليل
خارجا وهو يقول:
ً وأطل برأسه
َ « -م ْن تريد؟»
سمعت صوت يقول بود:
« -أنا حمزة يا عم محمود ..أال تتذكرني؟»
شعرت بالتوتر واالندهاش الممزوج بالغضب وأنا أسأل نفسي «ما
ُ
الذي أتى به إلى هنا؟!!!»
وطلبت مني أمي أن أناولها حجابها،
ْ قمت سري ًعا الرتداء حجابي،
ُ
قائما حتى تذكره في
فوجدت خالي ما زال الحوار بينه وبين حمزة ً
ُ رجعت
ُ
النهاية ً
قائل:
« -حمزة ..نعم ..نعم تذكرتك»
فتح خالي الباب أكثر وهو يقول:
« -تفضل»
باسما:
دخل حمزة مطأطأ رأسه وقال ً
« -السالم عليكم ..كيف حالكم جمي ًعا؟»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 334
« -المهم أنني في يوم ما طلبت استدعاء ولي أمرها حتى أناقش
مشكلتها معه»
صمت برهة وأكملت:
ُّ
« -وكانت المفاجأة يومها أنني اكتشفت أن حمزة هو ولي أمرها»
ثم قلت مسرعة:
ونسيت األمر»
ُ وتركت الروضة
ُ « -لكننا لم نتحدث مطل ًقا حينها،
تابعت بصوت متقطع:
« -لكن ..لكن منذ خمسة أيام أتى حاتم إلى الصيدلية ورآني»
ضربت أمي على صدرها بيدها قائلة:
« -حاتم!! حاتم ثانية!! تركنا كل شيء بسببه وأتينا إلى هنا وأتى
وراءنا!!»
نفيت قائلة:
يأت من أجلنا ،هو صديق دكتور حسن صاحب« -ال يا أمي ال ..لم ِ
أيضا يومها برؤيتي ووجدت في عينيه الوعيد»
الصيدلية وتفاجأ هو ً
هززت رأسي قائلة:
ُ ثم
توهمت أنا بذلك»
ُ « -أو ربما
نظرت إليهم وأكملت:
ُ
« -خرجت فور رؤيته هائمة على وجهي ..ال أدري ماذا أفعل ..خفت
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 336
عليكم جمي ًعا ،خفت أن يالحقني ويلحق األذى بأي أحد فيكم ،وهذا الذي
فكرت في محادثة دكتور حسن ولكن لم أعرف مدى ُ لن أتحمله أبدً ا،
صداقتهما ومن الممكن أن يخبره حاتم أي أمر عني ويصدقه أكثر مني»
وقلت:
ُ نظرت إلى خالي،
ُ ثم
« -ومع احترامي لك يا خالي ،ولكن إِ ْن حدثتك فماذا َ
كنت ستفعل
فمثلك مثلي ال نقوى على فعل شيء»
عاودت النظر إليهم قائلة:
ُ
« -ولن أستطيع إخبار الشرطة ..ماذا سأقول في البالغ؟ رجل ينظر
شزرا؟!! لم يكن أمامي سوى الذهاب إلى الشخص الوحيد الذي إلي ً ّ
أعرفه بهذه المدينة ربما يمكنه المساعدة»
ثم قلت مسرعة:
تسرعت في هذا ،الخوف تملكني ولم ِ
أدر ماذا أفعل، ُ « -وأعترف أنني
بالغت في تقدير األمر»
ُ كان يجب أن أنتظر ربما قد
وزدت:
ُ صمت برهة
ُّ
« -يومها أخبرني حمزة أنه سيساعدني ،وأوصلني إلى هنا بسائقه،
وأرسل حارسه كي يراقب بنايتنا ،واتصل بي اليوم التالي وأخبرني أنه قام
باتصاالته وتأكد أن حاتم لم يعد كما سبق ولن يستطيع إيذاء أي أحد»
وقلت:
ُ نظرت إلى حمزة بغضب،
ُ ثم
337 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -وشكرته يومها على مساعدته وأخبرته أن األمر انتهى ،وال أعرف
سبب وجوده هنا اآلن؟!»
نظر حمزة إلينا جمي ًعا ،وقال بصوت يغلبه الحزن:
كثيرا اليوم برؤيتي،
« -أعتذر لكم جمي ًعا فمن الواضح أنني أزعجتكم ً
علي ماذا حدث لكم من تحت رأس حاتم هذا،ولكن بعد أن قصت حنين ّ
علي
شعرت أنه حان وقت رد الجميل ،فعائلة عم طارق رحمه الله فضلهم ّ
ُ
لن أستطيع رده بأي شيء»
مفتاحا من جيبه ووضعه على الطاولة ،وقال:
ً ثم أخرج
« -هذا مفتاح لشقة أمتلكها تبعد عن هنا نصف ساعة ..مجهزة بالكامل
كثيرا»
وستشعرون بالراحة بها ،وهي أفضل من هنا ً
لمعت عينا زوجة خالي وهي تتناول المفتاح من على الطاولة ،ثم سألته:
ْ
« -كم عدد غرف الشقة؟»
أجابها:
« -أربع غرف»
« -وهل يمكننا االنتقال إليها مباشرة؟»
« -اآلن إذا أردتم»
قطعت عليها
ُ تهلل وجهها بعد سماع جملته األخيرة ،ولكن سرعان ما
وقلت:
ُ سعادتها،
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 338
« -من الممكن أن أقبل عتابك يا أمي ،أما اتهامات باطلة فلن أقبل بها
كنت أريد محادثته لفعلت ذلك بعد رؤيتي له مباشرة في الروضة، أبدً ا ..إِ ْن ُ
وكان عندي أكثر من حجة لذلك»
وأكملت:
ْ صمتت أمي برهة،
« -حدث ما حدث والعتاب لن يصلح شي ًئا ،أرجو أن يكون فهم
رسالتك وال يأتي إلى هنا ثانية»
وقالت:
ْ نظرت إلى خالي
ْ ثم
« -اذهب إلى زوجتك وهدئها ً
قليل ،فأنا أقدر شعورها وأتفهمه»
ذهب خالي بخطى متثاقلة إلى غرفتهما فهو يعلم جيدً ا أن محاوالته
ستبوء بالفشل..
خارجا؛ لتصبر فلربما نرجع جميعنا
ً وددت أن أخبره بقرار حاتم للسفر
إلى القاهرة من جديد قري ًبا ،ولكن خفت أن أعلق آمالهم بهذا الخبر ويحدث
أي شيء لحاتم فال يسافر..
مضت نصف ساعة ونحن نسمع محاوالت خالي مع زوجته لتبقى
ولكنها ترفض أي حديث منه حتى خرجت في النهاية وهي تحمل حقيبتها
متجهة إلى باب الشقة ،أدارت المقبض ،ثم نظرت إلينا بتأفف ،وخرجت
بعدها ،وأغلقت الباب وراءها بقوة..
قالت أمي مسرعة:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 342
« -اتبعها يا محمود ..ال تتركها ،وحاول أن ترجعها ،وإِ ْن سافرت سافر
معها ،وال تشغل بالك بنا يا أخي ،سنتدبر أمورنا ال تقلق»
أخيرا
بدت الحيرة على وجهه حتى اتخذ قراره ً
وقف خالي دقيقة وقد ْ
ففتح الباب وذهب وراءها..
أشاحت أمي وجهها عني ،وقامت بخطاها البطيئة حتى وصلت إلى
غرفتها ،وأغلقت الباب بشدة..
بقيت واقفة في الصالة وحدي ،وأنا أحاول استيعاب ما حدث..
التهت مارية ببعض المكعبات الموجودة على األرض ،بينما جذبني
ْ
براء من طرف ثوبي وهو يقول:
« -ما الذي يحدث يا أمي؟ لماذا تتعاركون؟»
كنت أود أن أجيبه ولكن أنا نفسي ال أعرف كيف تطور األمر هكذا، ُ
ً
وجميل ،واآلن خرب كل شيء.. كان اليوم في بدايته رائ ًعا
احتضنته قائلة وقد اغرورقت عيناي بالدموع:
« -ال شيء حبيبي ..ال شيء»
نظرت إلى األعلى وأنا أتنهد ،وأمسح على شعره من الخلف ،وأفكر
ُ
ماذا أفعل فأنا السبب في كل ما حدث اليوم ..وكل ما حدث من قبل ..أنا
السبب في كل شيء…
●●●
343 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
()23
« -أعطني إياه»
« -هو معك»
لحظة صمت..
« -نعم يا أمي»
« -براء ماذا بك؟! هذه المرة الثانية التي تتصل بها جدتك وتشتكي
منك؟ لماذا ال تطيعها وتزعج مارية؟»
لم يرد..
تابعت:
ُ
« -كن مطي ًعا يا حبيبي حتى ال تغضب منك جدتك ،ودع مارية وشأنها
والعب أنت بألعابك»
قال بصوت منخفض:
« -حسنًا يا أمي»
تناولت منه أمي الهاتف وسألتني:
ْ
« -متى ستأتين؟»
نظرت إلى الساعة المعلقة على إحدى حوائط الصيدلية ،وقلت:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 344
« -إنها الخامسة والنصف ..أمامي ساعتان ونصف وآتي إن شاء الله»
زفرت أمي بضيق ثم قالت:
« -حسنًا مع السالمة» وأغلقت الخط..
ما زالت أمي تعاملني بحدة بعض الشيء منذ ما حدث من أسبوعين..
غادر خالي يومها مع زوجته وشجعناه أنا وأمي على الرجوع معها إلى
بيتهما ،ذهب معها لمدة يومين وعاد ثانية الرتباطه بالعمل..
حاول خالي أن يظهر الالمباالة وعدم االهتمام بذهاب زوجته ،وقرر
الجلوس معنا ،والرجوع إليها يوم الجمعة من كل أسبوع ،لكن قلة كالمه
وانعزاله بعض الشيء عنا ،كل ذلك عكس حزنه الذي يحاول أن يخفيه
لذهاب زوجته ،فبالرغم من كل ما تفعله فإن حبها مستقر في قلبه ،ووضح
ذلك لي جل ًّيا عندما عاشا معنا ورأيت صبره على كالمها ،وعصبية مزاجها،
الفظة..ألحت أمي في طلبها لتحويل أوراق عمله إلى القاهرة مرة
ْ ومواقفها
أخرى؛ فهكذا ال يستقيم األمر ويجب أن يكون بجوار زوجته ..تملكته الحيرة
فهو ال يريد أن يتركنا بمفردنا ببلد غريب ال نعرف به أحدً ا وفي الوقت ذاته
يريد الرجوع إلى زوجته ..كنت أسمعه ً
ليل وهو يهاتفها راج ًيا إياها أن تعود
ويعدها أن األمور ستنصلح قري ًبا فتقابل هذا بالرفض التام ،ولما فشلت جميع
محاوالته في إقناعها اتخذ قراره وشرع منذ خمسة أيام في نقل أوراق عمله
شعرت بحزن أمي عندما علمت أن خالي أمامه أسبوعان ُ إلى القاهرة ثانية،
على األكثر وسيغادرنا بالرغم من إلحاحها عليه ليأخذ تلك الخطوة..
345 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
أتذكر كالمها لي بعد أن أخبرها خالي بذهابه ،وهي تقول بصوت حزين:
« -يرحل األحبة من حولي واحدً ا تلو اآلخر في البداية هاشم ثم ِ
أبوك
وبعده آسر واآلن خالك»
قلت لها:
« -لكنني سأظل ِ
معك يا أمي مهما حدث ..أنا وبراء ومارية»
قالت نافية:
« -ال تجزمي بأي شيء يا حنين فبعد ما مررنا به ،ال يمكنني توقع ما
الذي من الممكن أن يحدث لنا بعد ساعة»
كنت أشعر بالحزن أنا األخرى لذهاب خالي ولكن ماذا سنفعل ،يكفي ُ
أيضا..
ما سببناه له من مشاكل ،لن نكون سب ًبا في حزنه ً
وشعرت بالحنق من زوجة خالي ..ماذا كان سيضيرها ُ زفرت بضيق ُ
لو أنها بقيت ولم تفتعل هذه المشكلة ،كان اآلن كل شيء يسير على ما يرام
كما كنا ،ولكن ال أريد أن أكون أنانينة وأنظر إلى األمور بمنظور مصلحتي
أنا فقط ،فلو وضعت نفسي مكانها ربما أفعل مثلها..
فقيرا وزال
فكرت أن نرجع مع خالي فإن لم يسافر حاتم فقد أصبح ً ُ
تراجعت ً
قليل وأنا أرد على نفسي نافية.. ُ خطره ولن يستطيع إيذاءنا ،ولكنني
ال ..ال أريد أن أتسرع يجب أن أتريث قبل اتخاذ أي قرار فإن حدث أي شيء
لن أستطيع ترك القاهرة ثانية وال أريد أن أحمل أمي عناء مشاكل أخرى ،وإن
بقينا هنا ستظل أمي على حزنها بل من المؤكد أنه سيزداد بعد ذهاب خالي..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 346
فكرت في محاولة
ُ مسحت وجهي وأنا أتنهد وأريح رأسي للخلف، ُ
نظرت إلى تامر قائلة:
ُ ربما تنجح وت ِ
ُحدث اختال ًفا..
« -دكتور تامر سأذهب عشر دقائق وسأعود»
« -حسنًا دكتورة حنين»
خرجت من الصيدلية متجهة إلى المحل الذي يقبع بعد الصيدلية بثالثة ُ
وقلت للرجل الجالس خلف ذلك الصندوق الخشبي: دفعت بابه الزجاجي ُ محالُ ،
ً
اتصال» « -أريد أن أجري
وبدأت بنقل الرقم من هاتفي
ُ أخرجت هاتفي
ُ ناولني أحد الهواتف،
واتخذت جان ًبا من المحل وأنا أضع الهاتف على ُ إلى الهاتف اآلخر،
أذني ..بدأ اليأس يتسلل إلى نفسي مع طول صوت الرنين المتكرر حتى كاد
أن ينتهي االتصال لوال أن أجاب في آخر لحظة:
« -نعم»
تهلل وجهي عند سماع صوته ،فقلت:
« -آسر»
قال بصوت ناعس:
َ « -م ْن معي؟»
« -أنا حنين»
فبادرت بالسؤال:
ُ ظل صامتًا
كثيرا»
« -كيف حالك؟ اشتقنا إليك ً
347 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -ولكن يا آسر هذا ليس اختال ًفا ..هذه أساسيات دين ومبادئ»
فأكملت:
ُ صمت برهة..
ُّ
« -لو كنا غير مؤهلين لالختالف كما تقول ،لكان أمي وأبي رفضاك
منذ أن تغيرت وتجنبتهما منذ زمن»
زدت: ُ
مؤخرا
ً « -ثم ألم تفكر أن طبيعة عملك هي السبب في كل ما حدث
وليس أي شيء آخر؟»
قلت راجية: تنهدت ثم ُ
ُ
« -أرجوك يا آسر فكر في األمر ..ليس هذا ما ر ّبانا عليه أبي وأمي..
أنا متأكدة أنك إذا نحيت العناد جان ًبا وفكرت في األمر بفطرتك ستتخذ
كثيرا»
قرارات صائبة وستتغير حياتك وستختلف األمور ً
قال:
« -ربما ،ولكن ما أنا متأكد منه اآلن جيدً ا أنني أحتاج إلى هذا العمل بالوقت
الحالي»
أصابتني خيبة األمل بعد سماع جملته األخيرة ،قلت وأنا أتعلق بأطراف
أمل:
« -ألن تجرب حتى المحاولة وتطل علينا ربما تخيب ظنونك؟»
« -سأحاول بالتأكيد ولكن ليس اآلن ..سآتي عندما أشعر أن الوقت
مناسب لزيارتكم وأن أمي لن تغضب لرؤيتي»
349 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
شخصا آخر»
ً « -ال ..ليس هناك شيء ..كل ما في األمر أنني ظننته
« -ال أظن» قالها وكانت عيناه تحمل بين طياتها اتها ًما ضايقني مما
جعلني أتخذ قراري بالتحدث مباشرة..
بصوت هادئ:ٍ قلت
ُ
« -حسنًا ..هل تعرف صديقك هذا جيدً ا يا دكتور حسن؟»
بدا االستغراب على وجهه ،وقال:
« -ماذا تقصدين؟»
« -هل تعرفه جيدً ا؟ عاشرته؟ تعلم طباعه؟»
قال وما زال االستغراب على وجهه:
« -أنا وحاتم خريجو دفعة واحدة ..كنا نذاكر م ًعا وعندما تخرجنا
أخذت قراري بنقل معيشتي إلى ُ فكرنا أن نفتح صيدلية م ًعا ،ولكن وقتها
وافتتحت أنا الصيدلية
ُ اإلسكندرية وبقي هو في القاهرة ،مرت السنون
هنا وافتتح هو شركته هناك ..كنا نتبادل أخبارنا كل فترة ونطمئن على
بعضنا»
ثم نظر إلي متمعنًا:
« -ما سبب سؤالك؟»
قلت وأنا أنظر إلى المكتب: ُ
«كنت أعمل عند دكتور حاتم بشركته» ُ -
ض َّيق عينيه متفاج ًئا:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 354
براء ومارية باستقبالهما الحافل كعادة كل يوم وخطفا كيس الحلوى من
يدي وجريا بعيدً ا..
وجدت أمي وخالي وهما يجلسان قرب الشرفة وأمامهما كوبان من ُ
الشاي تتصاعد منهما األبخرة المتراقصة..
وانضممت إلى مجلسهما
ُ وألقيت السالم عليهما،
ُ وضعت حقيبتي جان ًبا،ُ
توجهت إلى خالي سائلة:
ُ وبعد أن سألتني أمي عن يومي وكيف كان العمل،
« -وما آخر األخبار يا خالي؟»
قال:
«كنت لتوي أقول ألمك إن صدي ًقا لي أخبرني أنه ربما يتم االنتقال ُ -
خالل عشرة أيام من اآلن»
نظرت أمي إلى زجاج النافذة وهي تتنهد ،فتابع مسر ًعا: ْ
« -ولكنني سآتي إليكم يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع وأقضهما
معكم إن شاء الله»
نظرت أمي إلى خالي مبتسمة: ْ
« -ال تقوى صحتك على هذا يا محمود ،نحن نكبر وال نصغر
والمجهود يتعبنا ،ال تشغل بالك بي يا أخي سأكون بخير ..ما يحزنني هو
فراقك ال أكثر وما يهمني هو راحتك وراحة زوجتك»
قطعت حديثهما وأنا أبتسم بشدة: ُ
357 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
لست في حاجة للمجئ هنا ثانية» « -عامة يا خالي أنت بالفعل َ
قالت أمي مستنكرة:
لك هذا تلك السعادة كلها البادية على وجهك؟!!» « -وهل يسبب ِ
واقتربت منها وأنا أجلس على المسند الخشبي ُ ضحكت من قولها، ُ
للمقعد الجالسة عليه وأضع يدي على كتفها قائلة:
« -ال يا أمي ليس هذا سبب سعادتي بالتأكيد»
وقلت:
ُ صمت برهة ُّ
« -لن نكون بحاجة لمجئ خالي إلى هنا ألننا»...
وقفت وأنا أنظر إليهما وأقول بحماس: ُ ثم
« -سنعود جمي ًعا إلى القاهرة»
***
أثبت الربيع حضوره بطقسه الساحر ،وشمسه الدافئة على اإلسكندرية،
السماء صافية إال من بعض السحب الصغيرة المتقاربة التي تتحرك ببطء
بعضا..
وتعانق بعضها ً
تأبطت ذراع خالي ونحن نمشيان على طريق الكورنيش م ًعا ونتأمل ُ
السماء وتداعبنا نسمات البحر المنعشة..
نفسا عمي ًقا قائلة:
سحبت ً ُ
« -رائحة البحر تلك سحر ..تصنع بالنفس ما ال يصنعه شيء»
قال خالي:
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 358
« -نعم ..كان بعض أصدقائي يأتون إلى اإلسكندرية ويذهبون إلى
خصيصا؛ الستنشاق رائحة اليود القوية المنبعثة من البحر»
ً
((*
منطقة المكس
« -وهل هذا المكان بعيد عن هنا؟»
« -نعم أظن ذلك»
مبكرا ونذهب إلى هناك قبل رحيلنا» « -من الممكن أن نستيقظ يو ًما ً
« -إن شاء الله»
وقلت لخالي سائلة:
ُ صمت برهةُّ
« -ولكن يا خالي أال ترى أنه يجب أن ترجع اآلن؟ فما زال أمامنا شهر
ونصف حتى ينتهي براء من عامه الدراسي ونستطيع بعدها االنتقال»
أجابني:
« -ال ..سيمرون سري ًعا ،سأظل أذهب إلى العمل هنا وإذا تم نقلي
سأقتطع من أجازتي وأبقى معكم حتى نرحل جمي ًعا م ًعا»
ثم نظر تجاه البحر وقال:
« -سأقضي هذه األجازة في وداع اإلسكندرية»
« -وزوجتك؟»
ابتسم ابتسامة ساخرة تحمل بين طياتها مرارة وهو يقول:
كثيرا حضوري من غيابي، « -أنا فقط َم ْن يهمني أمرها ،ال يشغل بالها ً
ما دمت أرسل إليها األموال لن يؤثر عليها غيابي شهر ونصف»
منطقة باإلسكندرية مطلة عىل البحر شهرية بقوة رائحة اليود هبا. *
359 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
غضبت من موقفك األخير؛ ألنه أحرجني أمام ُ « -مخطئ ..نعم أنا
عائلتي ،وغضبي األكثر كان من نفسي لتسرعي ،أما أي شيء بالماضي فال،
فأنا لم يعد يهمني أمرك كي أغضب منك»
قال:
ِ
تعرضت للكثير ِ
مررت به جيدً ا فلقد ِ
أرجوك ..أعلم صعوبة ما « -حنين
ِ
وتحملت الكثير ،وأظن أنه أتى الوقت المناسب ألوضح لك بعض األمور» ِ
صمت برهة وتابع:
َ
« -وأوضح سبب اختفائي يومها»
قلت: ُ
« -لم يعد يشغل بالي البتة تلك األمور كلها»
قال بقليل من االنفعال:
« -ولكن من حقي أن أقوم بتوضيح األمر»
نظرت إليه ،وقلت وأنا غاضبة:
ُ
« -حقك؟! عن أي حق تتحدث؟ وما فائدة اإليضاح اآلن؟!! تركتني
يوم خطبتنا والحيرة تنهش بعقلي ،لم تتصل حتى لتوضح أمرك ،ألم تفكر
لحظة في موقفي أمام الناس؟ في شعوري باختفائك المفاجئ حينها؟
واآلن تطلب مني االستماع؛ ألنه من حقك أن توضح األمر!! صدقني لم
أعد بحاجة إلى هذا اإليضاح ..لم يعد له فائدة»
إلي:
أكمل بصوت هادئ ،وهو ما زال ينظر ّ
365 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -صدقينى األمر كان صع ًبا جدًّ ا ،مرضت أمي فجأة مما اضطرني
وكنت أنوي العودة لحضور خطبتنا ،لكن عند خروجي من ُ للذهاب إليها
وجدت خالي وقد أخبرتْه أمي بأمري فحبسني في بيته وأخذ مني ُ المنزل
هاتفي ومنع عني أية وسيلة أستطيع التواصل بها معكم»
وأشحت بوجهي بعيدً ا ،فأكمل:ُ صمت ُّ
استسلمت له ،ولم أكن شجا ًعا بالدرجة الكافية ألقف ُ «أعترف أنني ربما
أمامه وأصر على ذهابي بقوة ،ولكن السبب في ذلك هو خوفي عليكم فلقد
صممت على الرحيل ،ولم أدرك حينها ُ هددني أنه سيلحق بكم المشاكل إِ ْن
وأدركت هذا الح ًقا لألسف»
ُ أنه لن يقدر على فعل شيء إذا واجهته بقوة،
إلي وتابع:
نظر ّ
لك وعلى كل ما إليك على كل ما سببته ِ « -وأنا قادم اليوم ألعتذر ِ
حدث ساب ًقا ،وسأفعل كل ما بوسعي إلصالح ما أفسدته ،كل ما أطلبه أن
تعطيني فرصة لذلك»
ضيقت عيني مستغربة ،وقلت: ُ
« -ماذا تقصد؟»
قال وقد ظهر الحماس بعينه:
« -أريد أن نكمل ما وقفنا عنده منذ عشر سنوات ..أريد أن نتزوج»
رجعت بظهري إلى المقعد وأنا أنظر بعيدً ا: ُ
مزاحا»
« -أرجوك كفى ً
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 366
«أنا ال أستطيع أن أعدك أنك ستجدينني مثل هاشم زوجك رحمة الله
عليه ،ولكن أستطيع أن أعدك أن تجدي حمزة أحسن مما تتوقعين»
صمت برهة ،ووضع ذراعيه على الطاولة واقترب ً
قليل: َ
أنسك لحظة ..لم أستطع أن أرتبط بأية فتاة بعدك؛ِ « -حنين ..أنا لم
بك بك بالرغم من معرفتي بزواجك وأنه من المستحيل أن أجتمع ِ لتعلقي ِ
رجعتُ أنت أنني بعد أن مضى عام ونصف من اختفائي ثانية ،وما ال تعلمينه ِ
فانسحبت من
ُ إليك ولكن عرفت بأمر خطبتك،إليكم مرة أخرى ألتقدم ِ
دفعت ثمن بعدي عنك ُ حياتك واأللم يعتصر قلبي ،صدقينى أنا اآلخر
تدفقت ْ ليال وليال من التحسر والوجع ،وعندما رأيتُك أول مرة بالروضة
كنت أزجر نفسي على هذا لعلمي أنك مشاعري نحوك بشكل كبير ،ولكنني ُ
معك بأية طريقة ،ولكن رجولتي منعتني متزوجة ،راودتني نفسي أن أتحدث ِ
ِ
وجلست ِ
اتصلت بي من هذا فما ال أرضاه لنفسي ال أرضاه لغيري ،حتى
تغيرت األمور تما ًما بداخلي ،وبالرغم من أنك
ْ ِ
زوجك وعلمت بوفاة
ُ معي
كثيرا على هذا ،لكنه من وجهة تشعرين بالندم التصالك بي وتلومين نفسك ً
قمت به على اإلطالق» نظري هذا أجمل فعل ِ
زاد بصوت يملؤه األمل:
« -اآلن جميع أموري تغيرت ..سافرت بعد علمي بخطبتك ثم رجعت
وجئت إلى هنا فلم يعد أحد لي في المنيا فقد ماتت ُ إلى البلد منذ سنتين،
ونجحت بفضل الله في وقت ُ وافتتحت شركتي الخاصة
ُ أمي خالل سفري،
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 368
●●●
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 370
()24
«الهاتف الذي تحاول االتصال به ربما يكون مغل ًقا أو غير متاح..
حاول االتصال في وقت الحق»
وضعت الهاتف على قدمي وأنا أفرك بيدي ،مسكته ثانية ،وأنا ألمس
ُ
أخيرا صوت رنينً سمعت
ُ شاشته مسرعة محاولة االتصال مرة أخرى،
الهاتف المتقطع وردت أمي:
« -السالم عليكم»
استطعت أن أصل ِ
إليك.. أخيرا
ُ « -وعليكم السالم يا أمي ..حمدً ا لله ً
الشبكة اليوم سيئة للغاية ..طمئنيني على حالكم؟»
« -نحن جمي ًعا بخير يا حنين ..ال تقلقي يا حبيبتي»
« -واألطفال؟»
« -يلعبون ويستمتعون بوقتهم للغاية»
« -الحمد لله»
« -وكيف الحال عندك؟»
« -األمور تسير على ما يرام»
371 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ِ
عليك ..اعتنيا بنفسيكما جيدً ا» « -حسنًا ال أريد أن أطيل
« -حاضر يا أمي ..في أمان الله ..مع السالمة»
« -مع السالمة»
أنزلت الهاتف من على أذني؛ ألرفعه سري ًعا مرة أخرى وأقول:
ُ
« -أمي ..هل ما ِ
زلت معي؟»
أجابت أمى:
كنت على وشك أن أغلق الهاتف ،هل هناك شيء؟»
« -نعم يا حنينُ ..
قلت:
« -نعم ..نسيت أن أخبرك أن حمزة وجد فرصة عمل براتب جيد جدًّ ا آلسر،
وسنحاول أن نقنعه بها ،ربما يوافق ويترك ما هو فيه ويعيش بيننا من جديد»
زفرت أمي بحزن وقالت:
« -أرجو ذلك ..وإِ ْن ُ
كنت أشك بقبوله ،فمن الواضح أن الموضوع
خرج عن دائرة احتياجه إلى المال لحب تلك الحياة التي يعيشها»
قلت:
ُ
« -ادعي له يا أمي فال مستحيل مع الدعاء»
« -يعلم الله يا بنيتي أدعو له ليل نهار أن يرده الله إلى ما كان عليه
ويرده إلينا»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 372
سألتها:
« -و ما أخبار مريم هل تنسجم مع براء ومارية؟»
قالت:
« -في البداية كانت تهاب الوضع ً
قليل ولكن بعد بضعة أيام اندمجت
معهما ،وأصبحت تستمتع باللعب ،وأصبحوا جمي ًعا مرتبطين ببعضهم
البعض ،كما أنني أقوم بسرد الحكايات عليهم ،وصنع األلعاب لهم،
بعضا»
وأجعلهم يتعاونون مع بعضهم ً
قلت ضاحكة:
ُ
« -تمارسين معهم هوايتك القديمة»
ضحكت وهي تقول:
ْ
« -بالتأكيد»
قلت:
« -وهل تساعدك المربية؟»
« -نعم تساعدني وتقوم بمهامها»
« -وهل ترتاحين بغرفتك؟»
« -نعم ..ولكن أخبرك بشيء؟»
« -تفضلي»
373 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -بالرغم من رحابة هذا البيت واتساعه وشرفاته المطلة على الحدائق
من جهة ،وظهور جزء كبير من البحر من جهته األخرى فإنني أشتاق أحيانًا
لشقتنا المتهالكة»
ضحكت وأنا أقول:
ُ
مازلت أتذكر نظرتك عندما دخلنا إليها أول مرة»
ُ « -ح ًّقا!!
تنهدت أمي وقالت:
ْ
« -وما يبقى على حاله يا حنين ..القلوب بين يدي الرحمن ،وما تكرهه اليوم
ربما تحبه غدً ا وما تحبه اليوم ربما تكرهه غدً ا ..كنت أكره تلك الشقة واآلن بقلبي
حنين إليها ..كنا نستضيف حمزة عندنا بغرفة فوق السطح وهو يستضيفنا اآلن في
كنت أعيب عليه في يوم من األيام فقره وقلة يده فتجري األيام ونسير
بيته الواسعُ ..
كثيرا»
نحن الفقراء ويغتني هو ..كنت ال أتقبله لسنوات طويلة واآلن أحبه ً
قلت ضاحكة:
ُ
« -هو يشعر بذلك وأظن أنه سعيد بشعورك نحوه أكثر من سعادته
بزواجي منه»
عال صوت أمي بالضحك بعد جملتي ،وصمتت برهة ثم أكملت:
« -سيظل اإلنسان يتعلم ويتعلم مهما جرى به السن ،وستظل تتغير
أحواله حتى الموت»
قلت:
ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 374
« -على العموم ال تشغلي بالك اآلن بهذه األمور ،س ُيحل كل شيء ال
تقلقي ،وسأكلم أنا والدة هاشم وأؤكد عليها الزيارة وأطمئنها ..فنحن الكبار
لنا كالمنا الذي نستطيع به وضع األمور في نصابها الصحيح ،استمتعي بوقتك
وبأجازتك ..فاختراع شهر العسل ُو ِجدَ من أجل االستمتاع ال التفكير»
متجها
ً لوح لي حمزة من وسط البحر ،وبدأ يتحرك ويقترب من الرمال
لوحت له أنا األخرى وقلت:
ُ ناحيتي..
ِ
سأتركك اآلن ونكمل حديثنا فيما بعد ..وإِ ْن حدث « -حسنًا يا أمي
شيء اتصلي بي على الفور وال تتردي»
« -حسنًا يا حنين في أمان الله»
خطى حمزة بقدميه تاركًا أثرها العميق على الرمال واقترب مني ،نفض
أطراف أنامله على وجهي ببعض قطرات المياه التي تتصبب منه..
ناولته المنشفة فمسح جسده ،ثم جلس بجانبي وتناول يدي ً
قائل:
«اشتقت لحبيبتي»
ضحكت وأنا أنظر إليه متعجبة:
ُ
إلي؟!»
«لم تغب في المياه سوى نصف ساعة واشتقت ّ
نظر إلى عيني وقال:
«في قلبي اشتياق لن يرويه شيء سوى قربك لبقية العمر»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 376
« -كانت تقوم بالرد عليك ومناقشتك في بعض األمور على حسابك
على موقع الـ Facebookوكانت تضع عالمة إعجاب على جميع
منشوراتك التي تنشرها»
متذكرا:
ً هز رأسه
«نعم ..نعم ..هي أخت عمر -رحمه الله -الكبرى الذي حدثتك
عنه من قبل ،عمر كان يحدثها عني ،وعندما أتيت إلى منطقتكم أرشدني
بعض الناس إلى منزلها ألذهب إليها وأعزيها وتفاجأت أنها تعرفني ،كانت
تتواصل معي وتقول لي إنني أذكرها بأخيها»
ابتسمت له ثم صمت ،أكمل وكأنه أدرك سبب سؤالي الرئيس:
ُ
« -هي كبيرة بالسن ومتزوجة منذ زمن ولديها أوالد أصغر من عمري ً
قليل»
باسما:
ثم ضغط على يدي بحنو واقترب مني ً
« -حنينِ ..
أنت أول حب دخل قلبي وال حب بعدك»
ابتسمت له بخجل ،قام حمزة ً
قائل: ُ
« -بقيت ساعة على غروب الشمس سأذهب ألسبح ً
قليل ،فالبحر
اليوم رائع»
أومأت له برأسي موافقة ،عاد إلى البحر بخطى مسرعة حتى توارى ُ
يتبق غير رأسه والجزء األعلى من كتفيه..
جسده شي ًئا فشي ًئا داخل المياه ولم َ
379 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
نظرت باتجاه الشمس وقد اتخذت من السحب الكبيرة برق ًعا لحجب ُ
جمالها مرسلة أشعتها الذهبية من بينها في دالل ،التي ما إِ ْن المست البحر
بأناملها الساحرة حتى انفرطت كحبات اللؤلؤ الالمعة على سطحه..
مرت أحداث حياتي جميعها أمامي كشريط تسجيلي..
عملت رغبة في
ُ أحببت حمزة وافترقنا ،وتزوجت هاشم وفارقني،
وهددنا ورحلنا من بيتنا إلى اإلسكندرية،
زيادة المال وافتقرنا ،مات أبي ُ
واآلن عدت إلى حمزة من جديد..
كنت أتخيل أنه سيبتعد عني بعد جلستي معه ورفضي لعرضه ،لكنه ُ
لم يستسلم ظل يحاول ويحاول ،تحمل صدي له ،وردودي الجافة ،وحدة
معاملتي ،وقسوة عتابي وهو يردد أمام كل هذا جملة واحدة..
«فقدت ِ
ُك من قبل ولن أفقدك ثانية»..
استطاع حمزة أن يجدد حبه في قلبي ويكسب ثقتي فيه مرة أخرى ،فعل
الكثير حتى أقتنع بفكرة الزواج بعد أن كانت مرفوضة من قبلي ألسباب عدة..
أحسست بصدقه وحسن نيته ،واألهم من ذلك بحبه المخلص لي ..حبه ُ
الذي دفعه لإلصرار والصبر على أفعالي بالرغم من استطاعته بالزواج من أخرى
كثيرا ،ويريح نفسه هذا العناء ،حبه الذي بث دفأه في قلبي من جديد
أفضل مني ً
فمنحه األمان بعد أن فقده تما ًما ،حبه الذي أعطاني األمل أنه من الممكن أن
أنسى ما حدث وأن أعود ثانية لتلك الطفلة الحالمة المفعمة بالمشاعر..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 380
تصيبنا الجراح فتترك في قلوبنا ندو ًبا نظن بعدها أن ال شفاء ،فيرزقنا
الله ولو بعد حين ح ًّبا صاد ًقا يكون بلسم العالج..
عندما أنظر إلى حياتي ..تصيبني الغصة أحيانًا عند تذكر بعض
أصبحت أدرك جيدً ا أن
ُ المواقف ،ولكني أراها اآلن بمنظور آخر..
ً
عامل أساس ًّيا لتربية قلبي؛ فلقد جميع المواقف التي مررت بها كانت
وتعبت
ُ بكيت
ُ كانت تنقصني الثقة التامة في تدابير الله لي ..فلكم
وتذمرت ولم أحسن التوكل ،ولم أحسن الدعاء ،ولم ُ وفقدت األمل
ُ
أحسن الظن به ،ومع ذلك أرى جميل صنعه ولطف أمره أجمل مما
أتوقع ،وأستشعر برسالة فأجد صداها في نفسي في كل مرة ﴿ﮧ ﮨ
ﮩﮪﮫﮬ ﴾
فقط لو كنت أحسنت التوكل ألرحت نفسي من عناء جميع المشاعر
التي مررت بها من خوف وعجز وقهر..
كنت أجزع وأتألم عند تذكر بعض ما مررت به ،واآلن أحمد الله
عليها؛ فلقد أوصلتني لغاية كنت ال أستطيع أن أصل إليها لوال مروري بها..
رضيت عن تدابير الله فسيرضني بما يسرني..
ُ وهي إِ ْن
تعلقت به وحده..
ُ وستتشبث بي السعادة كلما
بالله …
***
381 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -حسنًا وخالل هذا الوقت سأستحمى سري ًعا ألزيل الماء المالح
عن جسدي»
أومأت له برأسي ،دخل حمزة إلى الحمام بينما بدأت أنا بجمع بقية
األغراض بحقائبنا ،كنت أجمعها وأنا أبتسم شو ًقا القتراب رؤية براء ومارية
كثيرا ،أتخيلهما وهما يريان مفاجأة حمزة سيسعدان بها فلقد اشتقت إليهما ً
جدًّ ا ،ولكن يجب أن أراعي أفعالي من هنا وصاعدً ا تجاههما ،وال ُأشعر
أيضا تلك الصغيرة تحتل مكانة كبيرة مريم بأي فرق في المعاملة ،فمريم ً
بقلبي..
أفرغت الدرج األول والثاني ُ فتحت األدراج ألتناول ما بداخلها،
ُ
ودفعته لوال أنني الحظت في آخره أطراف خيوط مجمعة فسحبته ثانية..
أخرجتها ببطء وأنا أضعها على يدي وأتحسس ملمسها وأهمس لنفسي
بسؤال مستغربة «ما الذي أتى بها إلى هنا؟» كانت كوفية فلسطينية خشنة
الملمس بعض الشيء ،ويبرز تطريزها األسود ..دفعتني أمنيتي القديمة
بامتالك واحدة إلى أخذها وارتدائها حول عنقي أمام المرآة وأنا أنظر إليها
يمنة ويسرة..
خرج حمزة من الحمام وهو يضع منشفة على رأسه ويحركها بسرعة؛
ليجفف شعره ،ثم أرخاها على كتفيه ورآني ،وقف ورائي وهو يفرق بأنامله
خصالت شعره المتجمعة من آثار المياه الباقية بها ً
سائل:
383 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ِ
أعجبتك؟» « -هل
أجبته:
« -نعم ..كانت إحدى أمنياتي القديمة أن أمتلك واحدة»
تابعت:
ُ
« -ولكن ما الذي أتى بها إلى هنا؟ أيكون نساها َم ْن كان يقطن الغرفة
قبلنا؟»
باسما:
قال ً
«هذه الكوفية ملكي ..آخذها معي إذا سافرت إلى أي مكان»
ظهرت عالمات السعادة على وجهي ،وقلت بلهجة مسيطرة:
ْ
« -إ ًذا فقد صارت ملكي بالتبعية»
نظرت إلى نفسي في المرآة وأنا أضبطها ،قربتها من أنفي وشممتها
بعمق ،وقلت:
« -رائحتها غريبة»
قال:
« -رائحة فلسطين»
حاجبي إلى أعلى وأنا أنظر إليه ساخرة:
ّ رفعت
ُ
َ « -م ْن يسمعك وأنت تتكلم هكذا يقول إنك تعرف رائحة فلسطين»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 384
« -ألم يخبرك َم ْن هو؟ حسنًا سأرى هذا األمر عندما أعود ..مع السالمة»
إلي ً
سائل: أغلق الهاتف واتجه ّ
« -موعد زيارة خالة مديحة للطبيب غدً ا ..أليس كذلك؟»
« -بلى»
قال:
« -حسنًا سنذهب للطبيب ً
أول ،ثم نرجع إلى الشركة ألطمئن على
أمورها كيف كانت في غيابي ،ثم نعود»
قلت:
« -ال تشغل بالك باألمر ،اذهب أنت إلى الشركة وسيوصلنا السائق أنا
وأمي إلى الطبيب»
مرورا سري ًعا غدً ا ،وسأبدأ العمل من
ً « -ال ال سأذهب معكما ،سأمر
بداية األسبوع القادم إن شاء الله ،أريد أن أقضي بقية هذا األسبوع معك
ومع خالة مديحة واألوالد»
« -فكرة جيدة ..فاألوالد يفتقدونك بالتأكيد خاصة مريم»
« -نعم أشعر أنها غاضبة مني؛ ألني تركتها كل هذا الوقت»
أكملت كالمه:
ُ
أيضا ..فعم حمزة صار لديه حبيبة تشغله عنها،
« -وتشعر بالغيرة ً
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 386
ويجب أن نراعي هذا األمر ،وال تشعرها أن اهتمامك َق َّل بها ..بل تزداد
بها اهتما ًما»
مبتسما ،ويحتضنهما بين يديه..
ً أومأ لي برأسه مواف ًقا ،وهو يلتقط ّ
يدي
قطب حاجبيه ،وكأنه تذكر شي ًئا ،وقال:
« -ال أعلم َم ْن الرجل الذي حدثني عنه هيثم»
« -أي رجل؟»
« -قال لي إنه أتى رجل إلى الشركة منذ ثالثة أيام أعرج ولكنته غريبة
يسأل عني ،ورفض إخبارهم باسمه ،ويأتي كل يوم في الموعد نفسه،
وعندما ال يجدني يرحل»
قلت:
ُ
« -ربما يكون أحد أصدقائك القدامى»
« -ليس لدي أصدقاء بهذه المواصفات»
« -ربما يكون أحد المحتاجين»
محتاجا سيطلب من أي شخص
ً « -ومن أين يعرفني؟ وإذا كان
بالشركة وال يطلبني تحديدً ا»
اتجه برأسه نحو النافذة:
« -عامة لن أشغل بالي باألمر ..سأنتظر حتى أذهب إلى الشركة
وأعرف َم ْن هو»
387 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -لقد علق الرجل اآللي ويجب الضغط على الزر حتى يتوقف»
متحمسا:
ً قال براء
« -وأين هو الزر؟»
همست بصوت مسموع:
ُ
« -ما دام علق وهو ينادي اسم مريم فيجب هي َم ْن تضغط عليه»
ابتسمت مريم ونظرت إلى حمزة الذي ما زال يردد اسمها ..أخذت
تلمس بيدها شعره وكتفه وعينه حتى لمست أذنه فتوقف..
هللت فرحة:
ُ
« -لقد وجدت مريم الزر» فهلل براء ومارية معي وبدأت مريم في
ً
احتفال بها الكتشافها الزر.. الضحك ،وحمزة يدور بها ،ونحن وراءه
قطع احتفالنا جرس الباب ..فقال حمزة:
« -حان موعد المفاجأة»
خارجا ،وأنزل حمزة مريم التي
ً انطلق براء ومارية كالصاروخين
عدوا ..خرجنا وراءهم ونحن نضحك من سرعتهم..
تبعتهما ً
استلمت الخادمة طر ًدا كبير الحجم ساعدها حمزة في نقله إلى منتصف
الصالة ووضعه على األرض..
كان الشغف يقفز من عين األطفال وهم ينظرون إليه حتى بدأ حمزة في
389 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
فتحه ،فظهرت ثالث علب كبيرة الحجم متراصة بجانب بعضها ..تطلعوا
إليها بشغف والفرحة تجتاح وجوههم..
أمرهم حمزة بفتح العلب وإخراج لعبهم ،ففتحوها سري ًعا وبدأوا في اكتشاف
اللعب ،لكن حمزة طلب منهم النظر جيدً ا داخل العلب ،فنظروا مرة أخرى وأخرج
كل واحد منهم مظرو ًفا َ
وه َّم بفتحه فوجدوا بداخلها بطاقة ..علق حمزة:
« -هذه هي المفاجأة ..تذاكر لمدينة األلعاب المائية وسنذهب إليها
السبت القادم»
فرحا وهم يقفزون ويعدون على أصابعهم األيام؛ ليعرفوا
صاح األوالد ً
كم بقي على يوم السبت..
كثيرا ،وأنا أرى تلك السعادة العارمة على وجوههم
شعرت بالفرحة ً
ُ
وباالمتنان إلى حمزة الذي نجح في تعويضهم عن فترة غيابنا عنهم..
قضينا ذلك اليوم وحمزة يالعب األطفال ويشاغبهم ،وجلست أنا بجانب
كثيرا ولجلستنا اليومية التي اعتدت عليها..
أمي أحدثها ،كنت مشتاقة لها ً
أخبرتني أن خالي أتى لزيارتها هو وزوجته مرتين خالل شهر أجازتنا
،وأن زوجة خالي تحسنت معاملتها خالل هاتين الزيارتين ،وكيف أنها
كثيرا لتحويل أوراقه إلى القاهرة ،فكان بإمكانهما أن
المت على خالي ً
يعيشا معنا بهذا البيت الواسع ،وطلبت من أمي وهي ذاهبة أن توصي حمزة
بإيجاد أي عمل مناسب لخالي في شركته براتب أفضل مما هو عليه اآلن
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 390
مما دفع خالي للعراك معها وإخبارها أنه لن يترك عمله ..وعلقت أمي قائلة:
« -ال أفهم ما يدور برأس تلك المرأة ..هداها الله»
تأخرنا في النوم جمي ًعا ليلتها ،فلم يرغب األوالد في النوم تلك الليلة؛
لكي يستمروا في اللعب مع حمزة ولكنهم استسلموا من التعب في النهاية
باكرا صباح اليوم التالي لكي نذهب إلى
وغطوا في نوم عميق ،استيقظنا ً
طبيب أمي الذي قام بفصحها وطمأننا أنها بخير ،ولكنها تعاني من بعض
االضطراب في الضغط ،وهمس لي أنا وحمزة دون أن تسمع هي أنه يشك
أن السبب هو نفسيتها غير المستقرة ..عرفت السبب فور إخباري الطبيب
بهذا ،فبالرغم من استقرار أمورنا وتغيرها لألفضل فإن موضوع آسر ما زال
يحزنها ويؤثر بقلبها..
رجعنا مع حمزة إلى الشركة ليطمئن على أمورها ونرحل جمي ًعا م ًعا..
بقيت أمي بالسيارة وذهبت أنا معه..
دخلنا مكتبه وأخبره هيثم ،الذراع األيمن لحمزة بالشركة أنه سيجد
مل ًفا به بعض األوراق التي تحتاج إلى اإلمضاء ،ومل ًفا آخر به بعض األعمال
المتوقفة على اتصاالت يجب أن يجريها حمزة بنفسه..
بدأ حمزة باالطالع على الملفات والقيام بعمله بشكل سريع حتى
كنت أراقبه
سكت ولم أنطق ببنت شفةُ ،
ُ انغمس تما ًما ولم يشعر بوجودي،
بشغف فهذه أول مرة أراه وهو يعمل..
391 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -نعم»
« -لذلك رجعت إلى هنا؟»
« -ال ..تقابلنا صدفة ..وكان سبب لقائنا مريم»
قفز الشوق إلى عيني الرجل وقال بصوت حاني:
« -مريم»
« -ال تقلق ..هي في الحفظ والصون»
ثم سأله حمزة مسر ًعا وكأنه تذكر شي ًئا:
« -ولكن أين أسيل؟»
طأطأ الرجل رأسه إلى األرض أس ًفا ،وقال:
« -توفيت»
وربت على كتفه ،وقال:
َ ظهر الحزن على وجه حمزة،
« -هون عليك يا صديقي»
ثم قال له:
« -هيا لنخرج من هنا ..فأنا أحتاج لسماع الكثير منك كي أفهم»
متجها إلى الخارج ،أخذني حمزة من يدي وسرنا ً تقدمنا الرجل
ِ
وراءه ..لم أكن أفهم شي ًئا مما جرىَ ..م ْن هذا الرجل؟ وم ْن أين أتى؟ و َم ْن
أسيل التي يسأل عنها حمزة؟..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 394
أن غسان يحب علم البرمجيات مثلي فأنشأنا أنا وهو شركة صغيرة هناك،
وأثبتنا نجاحنا بوقت قصير ،وبدأنا بجمع األموال لتكبير شركتنا وتزويد
العمالة بها ،وفي هذه األثناء ُرزق غسان وأسيل بمريم ،وكانت من أجمل
األشياء التي حدثت لنا»
أكمل حمزة:
وصرت مالز ًما لها في كثير من الوقت، ُ «ارتبطت بمريم جدًّ ا،
ُ -
وأحبتني هي وتعلقت بي ،كانت ال تهدأ إال مع أبيها وأمها وأنا ..اختلف
كل شيء بعدما ُولدت وحلت بركة مجيئها على حياتنا ..كان كل شيء يسير
ً
جمال، على ما يرام ..الشركة تدر األموال ومريم تكبر شي ًئا فشي ًئا ،وتزداد
وأزداد تعل ًقا بها ،تحسنت معيشتنا»
تنهد حمزة وتابع:
« -حتى ذلك اليوم عندما شاهدنا تلك الغارات الجوية على سوريا،
وازداد عدد القتلى والجرحى بهاَ ،ج َّن جنون أسيل حينها فالقصف كان
على القرية التي تعيش بها أسرتها ،وانقطعت الخطوط فلم تتمكن من
االتصال بهم لالطمئنان عليهم ،اتصل بها ابن عمها الذي يعيش بالخارج
أيضا وأخبرها أنه تمكن من التوصل إليهم ومعرفة أحوالهم وأن أباهً
ُأصيب إصابة بالغة جراء القصف ويشعر باقتراب األجل ويريد أن يراها،
هرولت أسيل بجمع أشيائها ورفضت االنتظار حتى تهدأ األمور وتنتهي
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 396
الغارات بتلك المنطقة ،أخبرني غسان أنه لن يتركها تسافر إلى هناك وحدها
وسيسافر معها ،ولكنهما سيتركان معي مريم؛ خو ًفا عليها من أن يحدث أي
شيء مفاجئ كما أنهما لن يستغرقا أكثر من أسبوع وسيعودان»
زاد ،وهو ينظر تجاه غسان:
« -سافرا وتركا لي مريم ،تابعتهما طوال الطريق حتى وصال إلى
هناك وانقطعت االتصاالت ..مر أسبوع ثم الثاني والثالث ،شهر ولم
يعودا واختفى أثرهما ..اتصلت بابن عم أسيل فأخبرني أنه ال يعلم شي ًئا
وطلب مني أن أعطيه يومين ،وسيحاول خاللهما أن يصل إلى أية معلومات
عنهما ..مرت أربعة أيام واتصل بي بعدها وأخبرني بصوت يشوبه الحزن
أنه في أثناء مرورهما بإحدى القرى القريبة من قرية أسيل وهما في طريقهما
إلى المطار ،تعرضت تلك القرية للقصف و ُقصفت شاحنتهما ومات السائق
وكل من فيها»
بدأ صوت حمزة يتغير إثر تذكره لشعوره حينها ً
قائل:
وأقسمت
ُ « -بكيت وقتها كما لم ِ
أبك من قبل ،احتضنت مريم بقوة
أن ُأحسن تربيتها وأحافظ عليها ًّبرا ووفا ًء لغسان وأسيل وما فعاله معي،
ولكن مع مرور الوقت بدأت أشعر بالوحشة الشديدة في غربتي خاصة بعد
ورجعت بالفعل منذ
ُ رحيلهما ،فقررت حينها أن آخذ مريم وأعود إلى هنا،
سنتين وبضعة أشهر وافتتحت شركتنا»
397 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ربت
اغرورقت عينا غسان بالدموع بعد أن انتهى حمزة من كالمهَ ..
حمزة على كتفه وقال:
« -واليوم كانت المفاجأة أن غسان ما زال ح ًّيا ُيرزق»
ثم سأله:
« -واآلن أخبرني يا صديقي ماذا حدث معك؟ وكيف أخبرني ابن عم
أسيل أنكما ُقتلتما وأنت مازلت على قيد الحياة؟ وكيف ماتت أسيل؟»
َخ َّي َم الصمت لدقائق ،ثم أكمل غسان ً
متأثرا:
«بالفعل تم قصفنا كما أخبرك ابن عم أسيل رحمها الله في أثناء مرورنا
بإحدى القرى المؤدية إلى طريق المطار ،ماتت أسيل ومات كل َم ْن كان
في الشاحنة إال أنا وشخص آخر كانت إصابتنا خطيرة ..أنقذنا أهل القرية
واستطاعوا نقلنا إلى مكان آخر به مشفى ،ولكن كانت االتصاالت منقطعة
عن هذا المكان ،نجحوا في إسعافنا بالرغم من إمكاناتهم المتواضعة وكانوا
متعجبين من نجاتنا وأخبرونا أننا ِ
حيينا فقط؛ ألن الله أراد لنا ذلك ،بقينا
قليل وهدأت األوضاع لكن فترة طويلة بذلك المشفى حتى تحسنت حالتنا ً
أصيبت قدمي إصابة بالغة ولم أستطع المشي ،فتم نقلي إلى مشفى آخر بإحدى
حل لذلك ،وهناك أخبروني أنه األماكن إمكانياته الطبية أفضل حتى يجدوا ًّ
يجب إجراء عملية ،وسيرون بعدها هل أستطيع أن أمشي عليها مرة أخرى
مع العالج الطبيعي أم الُ ..أجريت العملية الحمد لله ونجحت وبقيت بعدها
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 398
سنة أمارس العالج الطبيعي حتى استطعت المشي عليها ثانية ،وخالل هذه
الفترة كنت أقوم باالتصال عليك كلما ُأتيحت االتصاالت فأجد هاتفك
خارج الخدمة ،اتصلت بابن عم أسيل وأخبرني أنه قال لك نبأ وفاتنا ومن
كثيرا وما من إجابة ،ولم
اتصلت بهواتف الشركة ً ُ وقتها ال يعلم عنك شي ًئا،
أستطع إرسال رسالة إلى بريدك اإللكتروني فحاسوبي وهاتفي الذكي ذهبا
مع الحادث ،بقيت حتى أخبرني األطباء أنني اآلن أستطيع التحرك بمفردي،
وكان أول ما فعلته تحركي إلى المطار مباشرة فأخذت طائرة العودة ،حمدت
الله أن جواز سفري كان بجيبي في أثناء الحادث وإال كان ذهب مع بقية
عدت إلى بنايتنا وتفاجأ صاحبها ُ األشياء ولم أستطع السفر ،وفور وصولي
تركت المكان فلم تعد
َ عند رؤيتي حتى كاد أن يغشى عليه ،وأخبرني أنك
ظننت أنك من الممكن ُ طلبت منه أن أستخدم حاسوبه..ُ تتحمله بعد رحيلنا،
أن تعيد افتتاح شركتنا في المكان الذي ذهبت إليه ..وصدق حدسي عندما
تنويها أن جميع نشاطات الشركة تحولت ً دخلت إلى موقع الشركة وجدت
وذهبت
ُ عرفت حينها أنك جئت إلى هنا،
ُ إلى مصر ومكتوب عنوانها الجديد،
بعدها إلى البنك فأخبروني عندما تأكدوا من هو َّيتي أنه تم عمل حساب باسم
مريم وتحولت جميع أموالي إليه ،ونصيبي من الشركة ،أما حساب الشركة
مصر..حجزت تذكرة في أول طائرة قادمة
ُ األساسي فقد تم تحويله إلى فرع
وذهبت إلى شركتك ..لم أشأ أن أخبرهم َم ْن أنا ،وأحببت أن ألتقيك ُ إلى هنا
بنفسي ،والحمد لله أنني وجدتك اليوم»
399 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
كثيرا ..أوحشتني
« -هل سنذهب اآلن إلى البيت؟ أشتاق لرؤية مريم ً
تلك الصغيرة»
قال حمزة بحماس:
كثيرا عند رؤيتك وستفرح»
« -بالتأكيد ستتفاجأ ً
قاطعتهما:
« -مع احترامي لرغبتك يا سيد غسان ..أنا أعلم مدى اشتياقك
لمريم ..ولكنها لم ترك منذ عامين ،بالتأكيد ستتعجب من ظهورك المفاجئ
مرة أخرى ،وربما لن تتذكرك ولن يستوعب عقلها هذه األحداث كلها ،ولو
كثيرا»
أخذتها من بيننا فجأة سيؤثر هذا على نفسيتها ً
علقت أمي:
« -إِ ْن كنا نحن الكبار لم نستوعب بعد فما بالها الصغيرة»
وأكد حمزة:
ِ
«معك حق فيما تقولين» -
مستنكرا:
ً قال غسان
« -هل معنى هذا أنني لن أستطيع أخذها اليوم؟!»
قلت:
ُ
« -ال لألسف»
401 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
جدوى من السفر بعد أن تزوجنا ..سأتابع أنا فرع الشركة هنا وتهتم أنت
بالشركة هناك ونتواصل م ًعا»
قلت:
ُ
« -لن ُعد إلى موضوعنا األساسي مريم ..أرى أنه ما دام اقترب موعد
سفرك يا سيد غسان ،إ ًذا يجب أن تبدأ بالمجئ إلى بيتنا من اليوم ..فاليوم
األربعاء وبقي أقل من أسبوع على سفرك ،وأتمنى أن يكون هذا وقتًا كاف ًيا
لتستوعب مريم األمر ،وتذهب ونحن مطمئنين أنها ستكون بخير»
قالت أمي:
« -نعم يجب أن نطمئن عليها أنها لن تشعر بالخوف من هذه التغيرات
المفاجئة ..يكفيها يا حبيبتي أنها فقدت والدتها»
قمنا متجهين إلى البيت بعد أن اتفق الجميع على اقتراحي ..أتى حمزة
ببعض الحلوى قبل وصولنا إلى البيت وأعطاها لغسان لكي يعطيها لألوالد،
فهذا مدخل جيد ليتقبلوه ويقبلوا عليه ،وصلنا إلى البيت وكان بانتظارنا
قليل عند رؤية غسان ..اغرورقت عين األوالد كعادتهم لكنهم انكمشوا ً
غسان بالدموع عند رؤية مريمَ ..مدَّ ذراعيه لها وناداها بحنو:
« -مريم»
بقيت في مكانها وهي تتمعنه وتحاول أن تتذكره ،لكنها اختبأت خلف
رجل حمزة عندما ناداها ثانية ،حملها حمزة واقترب بها إلى غسان ،فأعطاها
403 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
شي ًئا من الحلوى التي معه فأخذتها منه وابتسمت له ،مسح غسان على شعرها
كنت أوصيته قبل أن نصعد أن يعاملها بلطف وال ينكب بمشاعره عليها وقبلهاُ ،
فتخاف ،وستعتاد عليه رويدً ا رويدً ا ،ظل براء ومارية بمكانهما وهما يتابعان
الموقف وتبدو عليهما عالمات التساؤل مما يحدث ،أخبرتهما بصوت
منخفض أنه والد مريم ..ظهرت الدهشة على مالمحهما دون أن ينطقا..
بقي غسان معنا طوال هذا اليوم يالعب األطفال هو وحمزة وكان سعيدً ا
دخلت إلى المطبخ لمساعدة ُ للغاية أن مريم بدأت تعتاد عليه وتالعبه،
الخادمة سمر في تحضير العشاء ،أتى براء بجانبي وأنا أقطع الخضروات
على اللوح الخشبي لتحضير السلطة ،وقال:
« -أمي»
« -نعم»
« -هل ستذهب مريم اليوم مع والدها؟»
« -ال ليس اليوم ..بعد عدة أيام إن شاء الله»
« -ولكن كيف عاد والدها؟ ألم تخبريني أن أباها وأمها ذهبا إلى الله»
« -اممم ،كان من المفترض أن يكون ذهب إلى الله ولكن تفاجأنا
اليوم أنه ما زال بيننا»
أيضا؟»« -وهل هذا يعني أنه من الممكن أن يفاجئنا أبي ذات يوم ويأتي ً
علت المفاجأة وجهي من كالمه ،تابع: نظرت إليه وقد ْ ُ
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 404
« -ألم تخبريني أن أبي ذهب إلى الله إ ًذا يمكنه أن يعود كما عاد والد مريم»
ركبتي لتكون عيني بعينه وقلت: ّ تركت ما في يدي ونزلت على ُ
أبوك وضع مختلف ..فأبوك لن يعود ألنه اآلن بمكان « -براء حبيبيَ ،
أفضل إن شاء الله فلماذا يعود ..نحن َم ْن سنذهب إليه»
قال متفاج ًئا:
« -ح ًّقا؟»
أومأت له برأسي قائلة:
« -نعم ..سنذهب جميعنا إلى هناك إن شاء الله وسنلعب ونمرح
وسنأكل رقائق البطاطس كما يحلو لنا فلن تكون وقتها مضرة واآليس كريم
أيضا فلن يكون هناك شتاء قارص» ً
اتسعت حدقتا براء ولمعت عيناه حماسة وهو يقول:
« -ح ًّقا؟»
« -نعم ..أرأيت ،أليس من األفضل أن نذهب نحن له بدل أن يأتي هو»
كثيرا»
« -نعم ذلك أفضل ً
سألني:
« -ومتى سنذهب إليه؟»
« -عندما يشاء الله»
قليل ،فقاطعته قائلة: سرح براء بخياله ً
« -هيا اآلن اذهب وامرح معهم ريثما ُيوضع طعام العشاء»
405 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
ستكون بجانبه ،كما أنها اعتادت عليه في األيام السابقة ،وأظنها لن تشعر
بالخوف إِ ْن ذهبت معه وسنقوم بتبديل األداور ،ونحن َم ْن سنأتي لزيارتها
بالفندق»
ظهر الضيق على وجه حمزة وهو يومئ برأسه مواف ًقا ،أخذ غسان
مريم وقمنا بوداعهما وإخبارها أننا سنأتي لزيارتها غدً ا ،رجعنا إلى البيت،
فورا من فرط اإلرهاق ،وأخبرتني الخادمة أن أمي ذهبت ونام براء ومارية ً
للنوم منذ ساعة ،دخلنا إلى الفراش بعد أن بدلنا مالبسنا ،ومازالت عالمات
الضيق على وجه حمزة وهو ينظر إلى السقف..
قلت وأنا أنظر إليه:
ُ
« -أظن أن أحدً ا هنا متضايق من ذهاب مريم وكان يرفض ذهابها ليس
ألنها لم تعتد كما ادعى ولكن ألنه ال يريد ذلك من األساس»
أشاح حمزة بنظره بعيدً ا ً
قائل:
« -ال أتخيل فراقها يا حنين فجأة هكذا ،الزمتني آخر سنتين من
اعتدت على وجودها ُ عمري ..نفطر م ًعا ونأكل م ًعا وننام م ًعا ونسافر م ًعا..
بحياتي»
وربت عليها:
ُّ التقطت يديه
ُ
« -أعلم جيدً ا ما تمر به يا حمزة ،ولكن أال ترى معي أن غسان ظهر
كثيرا ..كنت تنام بجانب بالوقت المناسب ..فبعد زواجنا تغيرت األمور ً
مريم ستنام اآلن بجانبي ..كنتما تأكالن بمفردكما اآلن سنأكل جمي ًعا م ًعا..
407 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
هذه التغيرات الكبيرة كانت ستؤثر عليها بالتأكيد بشكل سلبي ،وأنا أرى
أن الله أرسل إليها غسان بهذا الوقت لنبقى بذاكرتها ذكرى طيبة جميلة لم
تجرحها أو تؤذيها يو ًما»
زدت:
هز رأسه مؤيدً ا لكالميُ ..
« -كما أننا سنتواصل معهما دو ًما وسنكلمهما باستمرار فاإلنترنت
اآلن َق َّر َب كل شيء فلم يعد أحدٌ بعيدً ا»
نظر إلي ثم قال:
كثيرا ِ
كنت سأتأثر ً« -الحمد لله أنك معي ..فلو تركتني مريم وأنا وحدي ُ
أنت وبراء ومارية والخالة مديحة»فما يخفف عني ذهابها هو وجودك بجانبي ِ
مسحت بيدي على وجنته ولحيته ببطء ،وأنا أبتسم له قائلة: ُ
أيضا نشعر بالسعادة ألنك معنا» « -نحن ً
تابعت وأنا يغلبني التثاؤب:
ُ
« -يجب أن ننام اآلن حتى نريح أجسادنا من إرهاق اليوم حتى نستطيع
باكرا للذهاب إلى مريم» االستيقاظ غدً ا ً
أومأ لي برأسه وقال:
« -تصبحين على خير»
« -وأنت من أهله»
أطفأنا األباجورات المجاورة للسرير ،وغططنا في نوم عميق ..مرت
األيام بعدها سري ًعا ونحن نذهب إلى مريم ونقضي معها اليوم بأكمله ..لم
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 408
شعرت بسعادتها واختالفها بجوار غسان حتى ُ أشعر بخوفها بل بالعكس
أتى يوم سفرهما ،أوصلنا غسان ومريم إلى المطار ،وكانت تلك المرة
األولى التي أرى فيها دموع حمزة وهي تجري على وجهه وهو يحتضنها،
و َّدعناهما على وعد من غسان أن يأتيا لزيارتنا مرة أخرى قري ًبا ،وأنه سيبقى
على تواصل معنا كي نطمئن عليهما باستمرار ..بدءا باالبتعاد شي ًئا فشي ًئا
فلوحا لنا
ونحن نراقبهما من وراء الحاجز الزجاجي حتى وقفا أمام بوابة َّ
واختفيا من أمام أعيننا متجهين لليمين..
رجعنا إلى البيت ،ودخل حمزة إلى غرفته ،وأغلق عليه الباب ..لم
أحب أن أقتحمه وتركته؛ فمن حقه أن تأخذ مشاعره وقتها في الحزن..
حال ..احتضنته فور خروجه، خرج حمزة بعد بضع ساعات وقد بدا أفضل ً
ثم قلت له باسمة:
« -اشتقنا إليك»
وأكملت:
ُ تصنعت الغضب
ُ
« -بالمناسبة بدأت أغير من مريم»
تابعت:
ُ فضحك حتى بدت نواجذه،
جاهزا»
ً « -هيا انضم إليهم على المائدة ،دقائق وسيكون العشاء
أومأ لي حمزة برأسه واتجه إليهم ..سمعت أمي وهي تحكي له عن
بعض ذكرياتها مع أبي رحمه الله عند أول زواجهما ،وكم مرة أحرقت
رغما عنه لكي ال تغضب حتى جاء يو ًما فيها الطعام ،وكان أبي يتناوله ً
409 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وصارحها أنه لن يغامر بصحته بأكل هذا األكل ثانية وبدأ يعلو صوت
حمزة بالضحك..
وأخذت أنا
ُ انتهينا أنا والخادمة من وضع األطباق على المائدة،
األخرى في سرد بعض المواقف المضحكة التي حدثت لي عندما كنت
صغيرة مع أبي وأمي..
جوا من المرح يشترككنا نحاول أنا وأمي أن نخفف عن حمزة فنصنع ًّ
أيضا بذهاب مريم.. فيه الجميع فبراء ومارية تأثرا ً
انتهينا من الطعام وتوجهنا إلى غرفة المعيشة ..أتت الخادمة بالعصائر وبدأت
بصبها في األكواب ..توقفت فجأة عند سماع جرس البيت ..قلت مستغربة:
َ « -م ْن يأتينا بهذه الساعة؟»
نظرت إلى حمزة سائلة: ُ
« -أتنتظر أحدً ا ما؟»
أجاب حمزة وهو ينظر إلى ساعة يده:
« -أظنه قد حان وقت المفاجأة»
فرحا لوال أن حمزة قطع عليهما قفز براء ومارية وهما يصيحان ً
حماسهما ً
قائل:
« -هذه المفاجأة ليست لكما»
إلي وأكمل:نظر ّ
« -هذه مفاجأة لمن لم يحظوا بمفاجأة بعد ..أمكما وجدتكما»
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 410
تعجبت أمي:
« -مفاجأة لي أنا!!»
نظرت إليه سائلة: ْ
« -أيوجد مدينة ألعاب مائية لمن هم في سني؟»
عال صوتنا بالضحك من سؤال أمي ..وقال حمزة:
« -ال ..مفاجأة أحلى من األلعاب المائية»
وضعت الكوب منُ رن الجرس ثانية فاتجهت الخادمة لفتح الباب..
يدي وأنا أحدق بالباب غير مصدقة وأقول بفرح:
« -آسر»
عبس وجه أمي وأشاحت بوجهها بعيدً ا ..جريت نحوه واحتضنته..
كان يعاملني بشيء من التكلف ،دخل واتجه صوب أمي التي لم تتحرك من
مكانها ،وألقى عليها السالم ،فردت باقتضاب شديد ،جلس بجانبها وقال:
وقدمت إلى هنا فال تصعبي
ُ تركت عملي ُ ِ
أرجوك كفى ..لقد « -أمي
الموضوع على نفسي»
نظرت إليه أمي متشككة قائلة: ْ
تركت عملك ح ًّقا؟»
َ « -هل
قال مؤكدً ا:
وتركت كل شيء وأتيت»
ُ تركت عملي
ُ لك« -أقسم ِ
اقتربت منه أمي واحتضنته وهي تقول:
411 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
« -الحمد لله ..الحمد لله يا بني أن َم َّن الله عليك بترك هذا العمل..
كنت أدعو الله ليل نهار أن يهديك ويردك إلينا»
ق َّبل آسر يد أمي وظل بقربها..
قال حمزة:
« -أظن آسر يشعر باإلجهاد من السفر ..ستقوم سمر بتحضير غرفته
لينام ويرتاح ريثما يتناول العشاء»
بقينا تلك الليلة حول آسر ونحن نرحب به ونعبر عن سعادتنا بقدومه..
كان يرد ببعض الكلمات البسيطة وأحيانًا يكتفي بإيماءات رأسه..
استأذن آسر للنوم ،وقامت أمي معه وأخبرتنا أنها ستنام بجواره الليلة..
وبقيت مستيقظة أفكر بشأن
ُ نام براء ومارية واستسلم حمزة للنوم سري ًعا..
كنت أحاول أن ُأذهبهاآسر ومجيئه ..راودتني الكثير من األفكار والظنون ُ
من رأسي و ُأطمئن نفسي أن األمور ستكون بخير ويكفي أنني على تأكد تام
أن أمي تنام الليلة وهي بكامل سعادتها لعودة آسر إلى أحضانها مرة أخرى..
بقيت أتقلب في السرير حتى سمعت أذان الفجر ،أيقظت حمزة
للصالة وأيقظت أمي..
صلت أمي وعادت للنوم ثانية ،وعاد حمزة من المسجد إلى مكتبه
وقال إنه سيراجع بعض األوراق التي يحتاجها في اجتماع اليوم للشركة
وسيذهب للنوم بعدها حتى يحين موعد ذهابه.
ذهبت إلى السرير مجد ًدا ولكن تمكّن األرق مني فلم أستطع النوم..
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 412
قمت إلى المطبخ وأعددت كو ًبا من الشاي باللبن وارتديت حجابي ودلفت ُ
إلى الشرفة ،جلست على إحدى المقاعد البالستيكية وأنا أنظر لزرقة البحر
بدأت تلمع بنور الصباح..
ْ البعيدة ،وأتأمل السماء وقد
أحسست بيد تلتف حول
ُ تناولت رشفة من الكوب وأنا احتضنه بكلتا يدي، ُ
رقبتي بحنان من الخلف ،ثم طبع قبلة على وجنتي ،وقال بصوت منخفض:
« -لماذا لم تكملي نومك؟»
ابتسمت له قائلة:
« -لم أذق النوم من األساس ألكمله»
بدت عالمات االستغراب على وجه حمزة ،وهو يجذب المقعد ْ
ويجلس أمامي ً
قائل:
« -ولِ َم؟»
قلت:ُ
ممزوج بكثير من التفكير»
ٌ ٌ -
«أرق
«وفيم تفكرين؟»
َ -
تنهدت ثم نظرت إليه: ُ
مضطرا» ِ
« -أشعر أن آسر لم يأت بكامل إرادته وكأنه أتى
ً
سألته:
« -كم الراتب الذي عرضته عليه لإلتيان والعمل معك؟»
قال:
413 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
وقلت:
توجهت إليه باسمة ُ
ُ وشعرت أنه الوقت المناسب..
ُ َخ َّي َم الصمت ً
قليل
«قمت بالعديد من المفاجأت الفترة الماضية لألوالد ولي وألمي» َ -
قال:
« -أتمنى أن يكون كل شخص قد فرح بمفاجأته»
« -نعم جميعنا ِ
فرحنا»
قلت بحماس: ثم ُ
« -وبقي أنت وحان وقت مفاجأتك اآلن»
اندهش ،وهو مبتسم ،وقال:
« -مفاجأتي؟»
« -نعم مفاجأتك ..دقيقة وسآتي بها»
وفتحت أحد أدراج الخزانة،
ُ واتجهت إلى غرفة النوم،
ُ قمت من مكاني ُ
وعدت إليه..
ُ التقطت منه مظرو ًفا
ُ
وضعته أمامه على الطاولة ..التقطه وهو يقلبه مستغر ًبا ويقول:
« -أهذه مفاجأتي؟!»
« -نعم»
ساخرا:
ً بدأ بفتح المظروف وهو يقول
« -أتمنى أال تكون تذكرة لمدينة األلعاب المائية»
ضحكت قائلة:
ُ
« -ال ..ال ..اطمئن»
415 َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن
(تمت)
حا
3:09صبا ً
ا لسبت
- 26ديسمبر 2015 -
َح ـ ـنـ ِـ ـيـ ـ ْـن 416
صفحة الرواية
https://www.facebook.com/YasmineQandil