الكلمة تدمي مرتين عند اختزانها وعند البوح بها، محمد عبدالكريك يوسف

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫يحكى أن‬

‫بقلم محمد عبد الكريم يوسف‬

‫الكلمة تدمي مرتين عند اختزانها وعند البوح بها‬

‫ثقافة البوح تكثر في المالحم األدبية والقصائد الشعرية واألدب‬


‫الصوفي ولكنها تقل أو تكاد تنعدم في الحياة اليومية وخاصة بين‬
‫أشقاء الروح ‪ ،‬ويجتهد المجتهدون في تبرير البرودة العاطفية بين‬
‫األحبة بأقنعة وأشكال شتى يأتي في مقدمتها كبرنا على هذا الكالم وفي‬
‫حقيقة األمر ما كبرنا وعلينا دائما أن نعود للبدء والعود أحمد ‪ .‬هي‬
‫الحياة بقواعدها واستدامتها إن أحسنا القراءة واالستخالص من بين‬
‫السطور ‪.‬‬
‫وضع الشاعر التركي ناظم حكمت األمور في نصابها في أجمل أبيات‬
‫من الشعر الجميل حيث تفوح رائحة السوسنة وعطر الزهور حين‬
‫قال‪:‬‬
‫منذ أن وطأت قدماك أرض غرفتي‬
‫أورق البيتون وصار أخضرا‬
‫بعد أربعين عاما ‪ ،‬أورق البيتون وصار أخضرا ‪.‬‬
‫عندما قرأت هذه السطور في ديوان ناظم حكمت شعرت وكأنه‬
‫يتحدث بلساني وكينونتي إلى األبد ‪ ،‬لو لم يكتب ناظم حكمت هذه‬
‫األبيات لكنت بادرت بكتابتها رغم أن الفارق في السن بيني وبين‬
‫حكمت يقارب السبعين عاما ‪.‬‬
‫عندما دخلت السوسنة في حياتي أورق البيتون المسلح وصار أخضرا‬
‫وبدأت الحياة تدب في عروقي فهي الصديقة والحبيبة وهي شريكتي‬
‫في كل المحن ‪ .‬الحياة سجن كبير ال يمكن االنعتاق منه إال بحب الحياة‬
‫واالستدامة في الحب واالنسياب الطوعي في لجج المحبة ‪ .‬األنثى في‬
‫حياتي نسغ حياة وعصير من روح اإلله تدخل ردهات عقلي وتفاصيله‬
‫وترفعه في لمحات استغراقية طويلة ال أستفيق منها ‪ .‬االستغراق بعد‬
‫فلسفي رابع ‪ ،‬ومن يمتلك ثقافة االستغراق يحول المستحيل إلى ممكن‬
‫‪.‬‬
‫عندما دخلت السوسنة في حياتي برعم الزهر واخضرت األرض فهي‬
‫تؤمن أن الذهب الخالص يكون في العقل وليس في اليد وأن الحلي‬
‫الحقيقية هي ما يمتلكه اإلنسان من خير ومحبة وعرفان بجميل ‪ .‬عندما‬
‫أعود للبيت مساء أبوح لها بتجربتي خالل النهار فتلملم كلماتي بأبعادها‬
‫في مسافة تناظرية قلما يمتلكها شريك في الحياة ‪.‬‬
‫عندما دخلت السوسنة في حياتي تعلمت احتساء األحالم وتعلمت‬
‫االستغراق وصار المونولوج الدرامي جزءا من هواجسي اليومية ‪.‬‬
‫كنت أصيغ األحالم قصصا ورؤى مستقبلية وكنت أنزف الكلمات‬
‫فتتولد المعرفة كغصن ريحان وجزع سنديان ‪ .‬قلت لها ذات مرة ‪:‬‬
‫" أنت جذري في األرض " فأجابتني ‪ " :‬وأنت أغصاني الممتدة عاليا‬
‫في السماء " ‪ .‬صرت أرى فيها السنديانة التي أستريح بظلها ‪ ،‬أغفو‬
‫كطفل ينام في حضن أمه تداعب النسمات شعره فيهفو ويغفو ويحلم في‬
‫طقوس عبادة ال تنتهي وال يريد لها أن تنتهي ‪.‬‬
‫عندما دخلت السوسنة في حياتي صارت األلوان أكثر زهوا فهي‬
‫تتمنطق بالحب وسكينة الروح واألمل وتستنطقني كل مساء فال أنام‬
‫على هم قديم وزرعت في رأسي أن كل صباح بداية جديدة وأنني يجب‬
‫هم قديم ‪.‬‬
‫أن أكون ابن اللحظة فال أنام على ِّ‬
‫عندما دخلت السوسنة في حياتي بدأ الكون يتغير في عيني وصرت‬
‫أطمح للتغيير والتحسين وصرنا نتجه صوب قرفيص مسقط رأسنا‬
‫لنعيش اللحظة فأنجزنا بالتصميم بيتنا الريفي وحديقتنا التي ال ننساها‬
‫وتلفت نظر من يمر بجوارنا فيسرق لحظة جميلة يخلدها بصورة‬
‫وصارت محجتنا ومركز استجمامنا فالبيت الريفي في نظر السوسنة‬
‫قيمة فكرية ال تباع وال تشترى فيه نمارس جنوننا والتصاقنا بأمنا‬
‫األولى األرض ‪ ،‬نقلب حياتنا ‪ ،‬نبتعد عن المجتمع والتقنية والتكنولوجيا‬
‫لنستمتع ببوح الزهور ونستخلص دروس الحياة وعبقها فالحياة في‬
‫المدينة وبسبب البيتون تجعلك قصير النظر أما في الريف وبسبب‬
‫االنعتاق الروحي والبعد الشاسع تتعلم بعد النظر تنظر للكون الفسيح‬
‫وتتشارك مع الناس حب الحياة ‪.‬‬
‫برعمت حياتي مرتين وتجدد خضارها تماما كما يتجدد الربيع في‬
‫بالدي ‪ .‬األولى عندما دخلت السوسنة في حياتي ‪ ،‬والثانية عندما‬
‫صار توأمنا شبابا ‪ .‬نور تشبه أمها في كثير من األمور وهي أشد منها‬
‫في مراقبتي وتدقيق تفاصيل حياتي أما كرم فيشبهني كثيرا في الكثير‬
‫من األشياء ‪ .‬يتحدث األولون عن شجرة العائلة وأنا شجرتي ال زالت‬
‫صغيرة تبرعم في الربيع وتهفو نحو الغد ‪.‬‬
‫أسأل السوسنة دائما ‪ :‬أنعيش حتى نصير جدا وجدة ؟ فتبتسم وتقول ‪:‬‬
‫"من يدري ‪ .‬كل شيء ممكن‪ " .‬أروي لها الحكايات المستقبلية وأقرأ‬
‫لها الكثير من ترجماتي ومقاالتي وكتبي وهي أول من يقرأ وآخر من‬
‫يعلق وتصدقني دائما فيتحول الحلم إلى واقع وتتحول األحرف إلى‬
‫أفكار أصوغها بلهفة العاشق فتنتشر على الصفحات في كل دول العالم‬
‫وبثالث لغات هي العربية واالنكليزية والفرنسية ‪ .‬السوسنة آخر من‬
‫يدقق صياغة الكلمات وأول من يقرأها على الصفحات البيضاء‬
‫والصفحات االلكترونية ‪.‬‬
‫هي المعافاة ورجعة الروح وعودة الوعي هي استقراء سليم غير‬
‫ارتجالي للمكونات النبيلة في هذا الوطن الجميل – السوسنة –‬
‫والمعافاة إنما تكون باالستنطاق الحي للكلمة ‪ .‬الكلمة تدمي مرتين عند‬
‫اختزانها في قلوبنا وعند البوح بها ‪ .‬ألستم معي في ذلك ؟‬

You might also like