Professional Documents
Culture Documents
17madkhal Ousssol PDF
17madkhal Ousssol PDF
1
-
2
-
المحتويات
الموضوع
المقدمة
موضوع أصول الفقه
روافد علم األصول
فائدة علم األصول وحكمه
نشأة علم األصول
التدوين األصولي ومدارسه
مباحث الحكم الشرعي
تعريف الحكم الشرعي وأقسامه
أقسام الحكم الشرعي
أقسام الحكم التكليفي
الواجب وأقسامه
أقسام الواجب
تقسيم الواجب باعتبار وقت أدائه
أنواع الواجب المقيد
تقسيم الواجب باعتبار تقديره وعدم تقديره
تقسيم الواجب باعتبار تعيّن المطلوب وعدم تعيّنه
تقسيم الواجب باعتبار المكلف ال ُمطالب به
مقدمة الواجب
المندوب
الحرام
المكروه
المباح
الرخصة والعزيمة
الحكم الوضعي
السبب
الشرط
المانع
الصحة والبطالن
الحاكم
المحكوم فيه
أنواع المحكوم فيه
المحكوم عليه
األهلية وأنواعها
عوارض األهلية
عوارض األهلية السماوية
3
-
عوارض األهلية المكتسبة
4
-
بسم هللا الرحمن الرحيم
مقدمة:
شريعة اإلسالم نظام شامل لكل مناحي الحياة ،وقدد أرادهدا د دسدتورا يضدبا حيداة المسدلم الااصدة والعامدة ،فدي
عالقته باالقه وبنفسه وبالناس جميعا.
وقد تضافرت جهود علماء اإلسالم في بيان خصائص هذا التشريع اإللهي الحكيم ،فكان من نتاج تلك الجهود
فيض غزير من المؤلفات في علوم التفسير والحديث والفقه واألصول وغيرها من العلوم.
ومن أهم العلوم التي نالت عناية متميزة من قبل علماء اإلسالم علم الفقه ،باعتباره قانون حياة المسدلم فدي كدل
مناحيها العامة والااصة .فد ّون فيه العلماء آالف المصنفات موجزة ومفصلة ،وليس عجيبا أن تُع ّرف بده حضدارة
المسلمين ،فيقال عنها إنها "حضارة فقه" ،ألنه احتل الصدارة بين منتجاتها الفكرية بدون منازع.
وهذا النتاج يقوم على علم يضبا حدوده ،ويوجه مساره ،ويرسم معالمه وغاياته .ذلكم هو علم أصدول الفقده .فهدو
دستور الفقه الذي قامت عليه أركانه ،واتضحت مسالكه ،وتحددت مجاالته.
فما هو علم أصول الفقه؟
ّ
يقول ابن خلدون« :اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية ،وأجلهدا قددرا ،وأكثرهدا فائددة ،وهدو النظدر فدي
األدلة الشرعية من حيث تؤخذ األحكام والتكاليف»(.)1
وحتى نتبين كالم ابن خلدون على حقيقته سنتناول التعريف بهذا العلم ،وتحديد مضمونه ،ونشأته ،ومدارسده وأهدم
مؤلفاته.
ويتناول مقررنا الدراسي ،محورين أساسين ،مقدمات في علم األصول ،ومباحث الحكم الشرعي.
أوال :مقدمات أساسية ،وتتضمن العناصر اآلتية:
تعريف علم أصول الفقه.
موضوعه وفائدته.
تارياه ،ومدارسه ،وأهم مؤلفاته.
ثانيا :مباحث الحكم الشرعي .وتشملها المحاور اآلتية:
تعريف الحكم الشرعي وأقسامه.
الحكم التكليفي والحكم الوضعي وأقسامهما.
الحاكم
المحكوم فيه
المحكوم عليه
األهلية وعوارضها ،السماوية والمكتسبة.
تعريف علم أصول الفقه
عرّف هذا العلم باعتبارين اثنين ،باعتبار اإلضافة والتركيب ،وباعتبار العلمية.
فمصطلح أصول الفقه مركب إضافي ،أضيف فيه لفظ "األصول" إلى لفظ "الفقه" ،وال يستقيم فهم المعنى المركب
إال بفهم أجزائه .ومن جهة أخرى فقد أصبح هذا اللفظ علما على علم خاص من علوم اإلسالم.
فالتعريف األول ينظر إلى مفرداته منفصلة ثم مركبة ،أما التعريف الثاني فينظر إلى االسم على أنه علم قائم بذاته.
وسنتناوله من الوجهين معا.
تعريف أصول الفقه بالمعنى اإلضافي:
أوال تعريف األصول،
- )1ابن منظور ،لسان العرب ،مادة :فقه ج/11ص ،11الفيروز أبادي ،القاموس المحيا ،ص .1020
( - ) 2أبو زهرة ،أصول الفقه ،ص ،5وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ج ،1ص.11
( - ) 3ابن السبكي ،اإلبهاج في شرح المنهاج ج ،1ص. 01-02
( - ) 4الفيومي ،المصباح المنير ،القاهرة :دار الحديث ،0223 ،ص .15
( - ) 5وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ج ،1ص.11
( - ) 6محمد مصطفى شلبي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ص 02 /02؛ عبد الكريم زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .2
( - ) 7ابن منظور :لسان العرب ،مادة :فقه .ج ،5ص.3252
- )8ابن القيم :إعالم الموقعين عن رب العالمين ،ج ،1ص.012
6
-
وصدهم عن هداية د.
ات ال َّسددب ُع واألرضُ ومددن فدديه َّن وإن مددن شدديء إالَّ يُسددب ُح بحمددده ولكددن الَّ تفقهُددون
وقددال تعددالى" تُسددب ُح ل دهُ ال َّسددماو ُ
تسبيحهُم إنَّهُ كان حليما غفُورا " اإلسراء .٢٢ :إشارة إلى لطف تسبيح ما في الكدون بمدا يعجدز البشدر عدن إدراكده
وفهمه.
ُ َّ ُ ُ ُ
وقال تعالى على لسان أهل مدين " قالوا يا شعيبُ مدا نفقدهُ كثيدرا م َّمدا تقدو ُل وإندا لندراك فيندا ضدعيفا ولدوال رهطدك
لرجمناك وما أنت علينا بعزيز" هود ١٩ :وهذا تهكم منهم وإرهار للعجز عن فهم دعوة شعيب لهم إلى توحيدد د
وعبادة الواحد الديان ،وعدم تطفيف الكيل والميزان.
الفقه في االصطالح:
للعلماء في تعريفهم للفقه عبارات متقاربةُ المعاني.
وقبل التعرض لهذه التعاريف يحسن بندا أن نشدير إلدى أن مصدطلح الفقده تطدورت داللتده مندذ صددر اإلسدالم حتدى
استقر على المعنى المتعارف عليه اليوم.
تطور مصطلح الفقه:
لم تكن كلمة الفقه في الصدر األول إال عنوانا على فهم الدين جملة ،بكدل مدا يتضدمنه مدن اعتقداد وأفعدال وأخدال ،
وهو الذي تفيده اآلية الكريمة ،في قوله تعالى " :وال يُنفقُون نفقة صغيرة وال كبيرة وال يقطعُون واديا إالَّ ُكتب لهُم
دُ أحسن ما كانُوا يعملُون" التوبة.٩٤٤ : ليجزيهُ ُم ّ
فكلمة الفقه هنا يراد بها العلم بأحكام الدين كلها ،ولكن أبا حنيفة خصص مجال العقيدة باسدم "الفقده األكبدر" ،بينمدا
جعل الغزالي الفقه مقصودا به العلم بطريق اآلخرة ،أو علم السلوك والتزكية ،ألنه المقصود األول من الدين.
ثم استقر الفقه عند جمهور فقهاء األمة بأنه "العلم باألحكام العملية من أدلتها التفصيلية" ،وذلك حين استقلت علدوم
الشريعة ،واستقامت فروعا قائمة بذاتها.
ويذكر الدكتور الدريني أن الفقه بهذا المعنى هو االجتهاد ،ألنه استنباط األحكام الشرعية مدن دالئلهدا التفصديلية الااصدة
صا أو داللة .وال يتمكن من ذلك إال المجتهد ،أما المقلد أو حافظ الفروع فال يعتبر فقيها على هذا المعنى. بها ،ن ّ
لكننا نجدد الفقهداء يطلقدون مصدطلح الفقده علدى معنيدين :حفدظ الفدروع كلهدا ،أو حفدظ طائفدة منهدا ،وعلدى األحكدام
الشرعية نفسها.
والتحقيق أن هذه األحكام ال يمكن تصورها دون وجود عقل يستوعبها ويحفظها ،وال تعتبر أحكاما بذاتها قبل العلم
بها .ألنه ال يوجد في الواقع علم خارج ذات عالمة به.
وأيّا ما كان فذن موضوع الفقه هو أفعال اإلنسان وتصدرفاته ،مدن حيدث وصدفها باألحكدام الشدرعية ،مدن الوجدوب
والندب واإلباحة والكراهة والحرمة ،والصحة والفساد والبطالن.
ومن هنا جاءت تعاريفه تحوم حول هذا المعنى على اإلجمال ،وإن اختلفت العبارات في التفصيل.
تعاريف الفقه:
قال اإلمام الجويني ":الفقه في اصطالح علماء الشريعة هو العلم بأحكام التكليف"(.)1
وقال الشوكاني "وفي االصطالح العل ُم باألحكام الشرعية عن أدلته التفصيلية باالستدالل
وقيل معرفة النفس مالها وما عليها عمال.
وقيل اعتقاد األحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية (. )2
ولكن أشهر التعاريف أنه ":العل ُم باألحكام ال َّشرعيَّة العمليَّة ،ال ُمكتسبُ من أدلَّتها التَّفصيليَّة(»)3
الفقه،ص .2
( - )1وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ج ،1ص.02
( - )2وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ج ،1ص.01
( -)3وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ج ،1ص.00
( - )4صحيح البااري ،كتاب بدء الوحي ،حديث ،1صحيح مسلم ،كتاب الجهاد ،حديث .2222
( – )5انظر :شعبان محمد إسماعيل ،أصول الفقه :تارياه ورجاله ،ص. ،11
8
-
مكتسبا فقد اكتسبه من قول إمامه ال من الدليل الشرعي .وقول إمامه في حقه بمرتبة الدليل (.)1
تعريف أصول الفقه بالمعنى اللقبي:
عرف العلماء أصول الفقه تعاريف عديدة ،نختار منها اثنين.
أوال :هو «العلم بالقواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط األحكام الشرعية العملية من أدلّتها التفصيلية» .
()2
شرح التعريف:
فالقواعددد :جمددع قاعدددة ،وهددي هنددا عبددارة عددن قضددية كلّيّدة ،تندددرج تحتهددا أحكددام جزئيّددات كثيددرة ،كدداألمر يفيددد
الوجوب ،والنهي يفيد التحريم.
وقيددد "اسددتنباط األحكددام" ،ياددرج القواعددد التددي يتوصددل بهددا إلددى اسددتنباط غيددر األحكددام ،مثددل قواعددد الهندسددة
والجبر؛ وقواعد النحو واإلعراب.
و"الشرعية" ،تارج االصطالحية والعقلية .كقواعد علم الحساب والهندسة.
ومعنى هذا أن الفقيه الذي ينظر في األدلة التفصيلية ال يسدتطيع أن يأخدذ الحكدم مدن الددليل الجزئدي قبدل أن يعدرف
حكم الكلي الذي يندرج تحته هذا الجزئي ،ودراسة األدلة اإلجمالية التي هي مصادر األحكام الشرعية(.)3
وعمل األصولي وضع القواعد الكلية العامة ،ثم يأخذها الفقيه ويطبقها على أفراد المسائل ،ليتوصل إلى الحكم
الشرعي المناسب لكل مسألة جزئية.
ُ
ومثال ذلك ،قاعدة :األمدر يفيدد الوجدوب ،يأخدذها الفقيده مدن األصدولي ،ليطبقهدا علدى قولده تعدالى ":وإذ قلندا للمالئكدة
اس ُجدُوا آلدم فسجدُوا إالَّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكدافرين" البقدرة .٢٤ :فديحكم بوجدوب إقامدة الصدالة وإخدراج
الزكاة؛ ويأخذ قاعدة :النهي يفيد التحريم ،ويطبّقها على قولده تعدالى " :وكدذلك نُصدرفُ اآليدات وليقُولُدوا درسدت ولنُبيندهُ
لقوم يعل ُمون "األنعام ،٩٥٩ :فيحكم بحرمة قتل النفس المعصومة.
( )4
ثانيا :تعريف اإلمام البيضاوي ،أنه":معرفة دالئل الفقه ،إجماال ،وكيفية االستفادة منها ،وحال المستفيد" .
شرح التعريف:
دالئل الفقه :جمع داللة ،والداللة بمعنى الدليل ،والدليل في اللغة المرشد للشيء.
وفي االصطالح :ما يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى حكم شرعي على سدبيل القطدع واليقدين ،أو علدى سدبيل غلبدة
الظن والرجحان.
ويراد بمعرفة دالئل الفقه العلم بها ثبوتا وداللة ،ويشمل ذلك ماتلف األدلدة األصدلية والتبعيدة ،ومدا يتعلدق بهدا مدن
مسائل ومباحث ماتلفة مبسوطة في علم األصول .ككون اإلجماع حجة ،وأن األمر للوجوب ،ونحو ذلك (. )5
وسميت أدلة أجمالية ألنها تعرف على سبيل اإلجمال دون التفصيل ،أو ألن مدلولها غير معيّن .وهي كليدة تتعلدق
بكددل األحكددام ال بمسددألة خاصددة بددذاتها .وهددي قيددد لتمييددز علددم األصددول عددن علددم الفقدده ،ألن الفقيدده يتندداول األدلددة
التفصيلية ،بينما يتناول األصولي األدلة الكلية.
وأما كيفية االستفادة منها فيتناول معرفة كيفية استفادة الفقه من تلك الدالئل اإلجمالية ،وهو ما يرجع إلى مباحدث
دالالت األدلدة ،ومعداني األلفدار ،وقواعدد الترتيدب بينهدا ،وإنمددا يكدون ذلدك بمعرفدة شدرائا االسدتدالل ،مثدل تقددديم
النص على الظاهر والمتواتر على اآلحاد ،وتمييز الدليل القوي من الدليل الضعيف ،ومعرفة أسباب ترجيح بعض
األدلة على بعض ،وهو ما تتناوله مباحث التعارض والترجيح.
( – )1محمد مصطفى شلبي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ص .31 ،32
- )2انظر ابن السبكي ،اإلبهاج ،ج ،1ص01؛ الزركشي ،البحر المحيا ،ج ،1ص.15
( - )3شلبي ،أصول الفقه اإلسالمي ،ص 32 ،33؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .10 ،11
( - )4البيضاوي ،منهاج الوصول إلى علم األصول ،ص.1
( - )5جمال الدين األسنوي ،نهاية السول شرح منهاج الوصول ،ج ،1ص.12
9
-
وأمدا حددال المسددتفيد ،فيعنددي معرفدة حددال المسددتفيد ،وهددو الباحدث فددي هددذه األدلددة ،الدذي يريددد الوصددول إلددى الحكددم
الشرعي من خاللها.
وهذا المستفيد قد يكون مجتهدا وقد يكون مقلدا .والمجتهد يستفيد األحكام من األدلة ،والمقلد يستفيدها من المجتهدد.
ولكل صنف شروط ومباحث مبسوطة في علم األصول.
ويتلاص لنا من تعريف البيضاوي ،مضمون علم األصول ،ويشمل محاور كبرى ثالثة:
أوال :معرفة أدلة الفقه إجماال ،بما فيه األدلة األصلية واألدلة التبعية.
ثانيا :معرفة كيفية داللة هذه األدلة ،وكيفية استفادة األحكام منها ،والترتيب بينها عند التعارض.
ثالثا :معرفة من يستفيد من هذه األدلة مجتهدا كان أم مقلدا ،وهو ما تضمنته مباحث االجتهاد والتقليد.
وعقب اإلسنوي على تعريف البيضاوي ":وإنما قال أصول الفقه بالجمع ولم يقدل أصدل الفقده بداإلفراد ،ليناسدب
حقيقة المركب ،إذ أن أصول الفقه عبارة عن :األدلة والتعارض والترجيح واالجتهاد"(.)1
ويتجلى لنا من هذا التعريف أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يمنحندا معرفدة مصدادر التشدريع اإلسدالمي ،ويبدين
لنا الدليل الصحيح المرشد إلى حكم د تعالى ،وسبب ترجيح حكم علدى آخدر ،وكيفيدة اسدتاراج األحكدام الشدرعية
من المصادر ،كما يبين لنا شروط االجتهاد ،وحكم من لم يبلغ درجة االجتهاد.
موضوع أصول الفقه
موضوع علم األصول :هو مجموع المسائل الكلية التي يتناولها هذا العلدم .وواضدح مدن تعريدف علدم األصدول أنده
يتناول أصول األحكام ،أو األدلة اإلجمالية .أو األدلة الشرعية الكلية من حيث ما يثبت بها من األحكام الكلية.
فعلم األصول هو الذي يبيّن حجية القرآن ،وأنه أصل الدين ومنبع األدلة كلهدا ،وتقدمده علدى السدنّة النبويدة ،وكدون
السنّة شارحة له ومبينة لمجمله .وأن الكتاب و السنّة مسدتند سدائر األدلدة مدن القيداس واإلجمداع والمصدادر التبعيدة
األخرى.
كما يبين هذا العلم قواعد تفسير النصوص ،بتمييز القطعي من الظني منها ،ويرتب بينها بحسدب قوتهدا مدن حيدث
الثبددوت والداللددة .ويضددع قواعددد التددرجيح بددين األدلددة ،ويحدددد مقاصددد الشددرع ،ويضددبا مصددالح المكلفددين ،وكيفيددة
إعمالها في مجال االجتهاد ،ويحدد من يؤهل لالجتهاد ومن يلزمه اتباع المجتهد .ممن ليس أهال لالستنباط(.)1
ويصور لنا اإلمام أبو حامد الغزالدي موضدوعات علدم األصدول تصدويرا تمثيليدا ُمشدبها هدذا العلدم بشدجرة مثمدرة،
فيقول« :إن األحكام ثمرات ،وكل ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها ،ولها مثمر ومستثمر وطريق في االستثمار.
والثمرة هي األحكام ،أعني الوجوب والحظر ،والندب ،والكراهة ،واإلباحة ،والحسن والقبح ،والقضاء واألداء،
والصحة والفساد ،وغيرها.
والمثمر هي األدلة ،وهي ثالثة :الكتاب والسنّة واإلجماع فقا.
وطر االستثمار هي وجوه داللة األدلة ،وهي أربعة ،إذ األقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها ،أو
بفحواها ومفهومها ،أو باقتضائها وضرورتها ،أو بمعقولها ومعناها المستنبا منه.
والمستثمر هو المجتهد ،والبد من معرفة صفاته ،وشروطه ،وأحكامه»(.)2
ويتجلى من خالل تعريف األصول أيضا أنه يتناول محاور كبرى خمسة ،هي:
-1األدلة التي توصل إلى األحكام الشرعية ،وفيها نوعان ،نوع متفق عليه ،ونوع فيه اختالف بين العلماء.
يعرف بالمصادر التبعية أو المصادر االجتهادية .أو المصادر غير المتفق عليها.
-2مباحث الدالالت ،أو تفسير النصوص ،وهذه تاص دليلي الكتاب والسنّة .وتشمل مباحث األمر والنهي
والعموم والاصوص والمنطو والمفهوم ،وغيرها.
( - )1أبو زهرة ،أصول الفقه ،ص 2 ،2؛ عبد الوهاب خالف ،علم أصول الفقه ص .13 ،10
( - )2الغزالي ،المستصفى ،بيروت :دار إحياء التراب العربي ،ط ،1ج /1ص .12
10
-
-3مباحث التعارض والترجيح.
-4مباحث االجتهاد ،وشروطه ،والتقليد وأحكامه.
-5مباحث الحكم الشرعي .باعتباره الثمرة العملية لعلم األصول.
ويلتقي األصولي مع الفقيه في الحكم الشرعي ،حيث يؤسسه األصولي عاما ،ويفصله الفقيه خاصا على مسألة
بذاتها.
ومن هنا يتميز علم األصول عن علم الفقه ،من حيث الموضوع ،إذ يتعلق موضوع الفقه بفعل المكلف من حيث
ما يثبت له من أحكام شرعية في عباداته ومعامالته ،بينما يدرس األصولي األدلة الكلية لتلك األحكام.
ونشير إلى أن آراء األصوليين قد تعددت حول تحديد المسائل األصلية لعلم األصول ،فرأى بعضهم أن موضوع
علم األصول هو األدلة التي تثبت بها األحكام ،فاألساس هو األدلة والثمرة هي األحكام ،وهذا رأي الجمهور.
بينما يرى آخرون عكس هذا وهو أن موضوعه األحكام التي تثبت باألدلة ،فتكون دراسة األدلة مقدمة ووسيلة
لدراسة األحكام ،وهو رأي بعض الحنفية.
وذهب فريق ثالث إلى أن موضوعه هو األدلة واألحكام معا ،وهو رأي صدر الشريعة وغيره من الحنفية .وتوسع
فريق رابع فجعل موضوعه األدلة والمرجحات وصفات المجتهد ،وهو رأي بعض الشافعية.
وكان لهذا االختالف أثره في ترتيب موضوعات هذا العلم .فبعضهم قدم الحكم الشرعي على سائر المباحث،
وبعضهم جعله آخرا باعتباره ثمرة لهذا العلم.
ولكنهم متفقون على مضمون تلك المباحث إجماال .وبااصة عندما نضج علم األصول واستقرت الكتابة فيه بعد
القرون الثالثة األولى.
ولئن كانت مباحث الحكم الشرعي ثمرة فعلية لعلم األصول ،والثمرة آخر ما يارج من الشجرة ،فذننا آثرندا البددء
بها في الدراسة حتى يتذو الدارس حالوتها فينشا للتعرف على هذه الشجرة التي آتت أكلها ،ويصبر على مشا
التعلم ،لدراسة أجل علم من علوم اإلسالم .أال وهو علم "أصول الفقه".
ونتساءل اآلن :ما فائدة علم األصول وأهميته؟ وما حكمه؟ ومن أين يستمد هذا العلم مباحثه؟
فائدة علم األصول وحكمه
فائدة علم أصول الفقه:
تتفاضل العلوم أهمية وشرفا بحسب موضوعها ،وعلم أصول الفقه من أشرف العلوم وأعظمها قدرا ،وأكثرها
نفعا.
وتتجلى هذه الميزة من غاية هذا العلم ،فغايته معرفة أحكام الشرع الحنيف ،سواء في مجال العبادات أم
المعامالت ،و في سائر مجاالت الحياة .والغرض من تلك المعرفة االلتزام بها ،والسير وفق هدي د في كل
شؤون اإلنسان الااصة والعامة.
ي بكل طالب لهذا العلم أن ال يغيب عن باله هذا الهدف ،حتى ولو استغرقته تفاصيل المسائل وشعابها ،حتى فحر ٌّ
يكون تعلمه نافعا ،ووسيلة لنيل مرضاة د.
ويمكن أن نوجز فوائد علم أصول الفقه في نقاط محددة:
-1علم األصول يرسم للمجتهد طريق االجتهاد القويم ،بما يحقق سالمة االستنباط ،ووضوح السبيل إليه ،مهما
تبدلت البيئات وتطورت المجتمعات وازدهرت وتعقدت أساليب الحياة .فال ينحرف عنه وال يكبو في مسيره،
وال يز ّل به الهوى أو النظر الضيق ،ويظل موصوال بحبل االجتهاد السديد الذي يقيمه علم األصول.
-2يبين علم األصول لألمة بعامة ،وألتباع المجتهدين ودارسي الفقه خاصة المنهج الذي سلكه األئمة المجتهدون،
ويرسم أمامهم معالم الطريق الذي سارت عليه عملية االستنباط واالجتهاد ،حتى تطمئن قلوبهم إلى سالمة
المسلك الذي سلكه أئمتهم ،ويبين لهم سبب االختالف وأساسه ،وأن غاية كل مجتهد تحري الحق ابتغاء وجه
11
-
د ،ال ابتغاء محمدة أو مغنم دنيوي زائل.
-3يك ّون لدى طالب العلم ملكة النظر والتمييز بين األقوال ،وفقه مستند اآلراء الفقهية ،ويمهد له طريق االستدالل
وإدراك مناط األحكام ،حتى يغدو في المستقبل من أهل االجتهاد.
-4يثري منظومة التشريع استعدادا للنوازل الحادثة ،وقد كان الفقه االفتراضي قديما مصدرا نافعا لكثير من
قضايا العصر ومسائله .علما بأن لكل حادثة حكما هلل عز وجل ،وما على المجتهدين إال الكشف عن حكم د.
-5يصون معالم الدين من التحريف والتضليل ،ويعرّف الناس بمصادر التشريع األصلية التي يجب االلتزام بها
والرجوع إليها ،كما يبين المصادر الفرعية والتبعية ،ويضع ضوابا وشروط االجتهاد للتص ّدي لحمالت
التشويه والتحريف التي تتعرض لها الشريعة من قبل المتأولين والمضلّلين ،ويقطع الطريق أمام القاصرين
الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ،تحت دعاوى التطوير وتجديد االجتهاد.
-6يمنح الدارس قدرة على استيعاب علوم اإلسالم األخرى ،من تفسير وحديث وفقه ،بما يؤهله إلدراك الحقائق
والكشف عن دقائق تلك العلوم ،واإلفادة منها على أكمل الوجوه.
-7يكشف علم األصول عن عظمة الشريعة اإلسالمية ،وصالحيتها لكل زمان ومكان.
وعلى اإلجمال فذن فائدة علم األصول كونه معتمدد األحكدام الشدرعية ،وأسداس االجتهداد ،لضدمان شدمول الشدريعة
الغراء ،واستيعابها لكل جوانب الحياة ،وبها تتحقق مصالح المكلفين في العاجل واآلجدل .وبده تصدان الشدريعة مدن
التبديل والتحريف ،فال يستغني عنه عالم مجتهد ،وال متعلم مبتدئ)1(.
حكم تعلم أصول الفقه:
تعلّم أصول الفقه فرض كفاية على اإلجمال ،قال في "شرح الكوكب المنير" :ومعرفة أصول الفقه فرض كفاية
كالفقه(.)2
وأما في حق من أراد االجتهاد واإلفتاء فذنه يصبح فرض عين ،ألنه الوسيلة لمعرفة حكم د في الحوادب النازلة،
وما ال يت ّم الواجب إال به فهو واجب.
والجدير بالذكر أنه ليست كل مسائل هذا العلم واجبة ،وإنما يجب القدر الكافي منها لفهم نصوص الشارع والقددرة
على االستدالل بها ،واستنباط الحكم منها ،والوقوف على مدارك األدلة والجمع بينهدا عندد التعددد ،والتدرجيح بينهدا
عند التعارض.
( – )1انظر :محمد الاضري ،أصول الفقه ،ص12؛ عبد الوهاب خالف ،علم أصول الفقه ،ص .12
( - )2ابن النجار :شرح الكوكب المنير ،ج ،1ص.22
12
-
روافد علم األصول
علم األصول علم أصيل مستقل بذاته ،نشأ في بيئة إسالمية صرف ،لم يتأثر في مجمله بدخيل من علوم اليونان أو
الفرس ،ورل معينه األكبر كتاب د وسنة رسوله ،ولغة العرب األصيلة .واجتهادات الصحابة وأئمة اإلسالم.
وقد مازجت بعض مباحثه روافد من علوم أخرى ،ولكنها لم تؤثر في جوهره ومضمونه ،وإن رهدر بعدض أثرهدا
على منهجية الكتابة والتدوين فدي مدوناتده المتدأخرة ،كداإلغرا فدي الصدنعة المنطقيدة الصدورية ،وإغفدال النظدرة
المقاصدية القرآنية.
وقد استقر لدى العلماء أن علم األصول يستمد من علوم ثالثة:
علم الكالم ،أو التوحيد ،وعلم اللغة ،وعلم الفقه.
أما علم الكالم فدوره إثبات أصول الشرائع من التوحيد وصدد الرسدول صدلى د عليده وسدلم المبلدغ عدن د عدز
وجل ،وأما اللغة فلبيان دالالت األلفار وتحديد القواعد اللغويدة الضدرورية السدتنباط األحكدام ،ألن الكتداب والسدنّة
جدداءا بلسددان عربددي مبددين ،فكددان لزامددا معرفددة قواعدددها مددن حقيقددة ومجدداز وعمددوم وخصددوص وإطددال وتقييددد،
ومنطو ومفهوم.
وأمددا اسددتمداده مددن الفقدده فألندده ميدددان عمددل األصددولي وتطبيددق قواعددده ،إثباتددا ونفيددا ،ومندده اسددتمداد األمثلددة الحيددة
إليضاح تلك القواعد(.)1
يقول اإلمام الشوكاني« :وأما استمداده فمن ثالثة أشياء؛ األول :علدم الكدالم ،لتوقدف األدلدة الشدرعية علدى معرفدة
الباري سبحانه ،وصد المبلغ .وهما مبينان فيه مقررة أدلتهما من مباحثه ،الثاني :اللغة العربية؛ ألن فهم الكتداب
والسددنة واالسددتدالل بهمددا متوقفددان عليهددا إذ همددا عربيددان ،والثالددث :األحكددام الشددرعية مددن حيددث تصددورها ،ألن
المقصود إثباتها أو نفيها ،كقولنا :األمر للوجوب والنهي للتحريم والصالة واجبة والربا حرام»(.)2
وثمة روافد ثانوية تمثلت في علم المنطق الذي دخل التراب اإلسالمي في فتدرة الحقدة ،وأصدبحت مقدماتده مددخال
لكثير من العلوم ،ومنها علم األصول .حتى عده الغزالي ضروريا لكل العلوم ،ومن ال علم له به فال ثقة بعلمه.
فمن علم المنطق استفاد األصوليون مقدمات كتبهم فيما يتعلق بمباحدث الددالالت اللفظيدة وأقسدامها ،وانقسدام اللفدظ
إلى تصور وتصديق ،ومباحدث التعريفدات والبدراهين ،وشدروطها ،واالعتراضدات عليهدا ،وكيفيدة اسدتادامها فدي
االحتجاج واالعتراض ونحو ذلك.
ومن علم الكالم عرّجوا إلى الحديث عن الحاكم وتحديده ،أهو الشرع أم العقل؟ ونتج عن ذلدك فديض مدن المباحدث
في التحسين والتقبيح ،وحكم شكر المنعم؟ وحكم األشياء قبل ورود الشدرع؟ وهدل النبدي متعبدد بشدرع قبدل البعثدة؟
ونحو ذلك.
أمددا المباحددث المسددتمدة مددن اللغددة فكانددت أصدديلة ألنهددا تناولددت وعدداء الكتدداب والسددنة وهددو اللغددة العربيددة ،وأثددرى
األصدوليون علددم اللغدة بمبدداحثهم حدول الحقيقددة والمجداز واالشددتراك واالشدتقا والتددرادف ،والعمدوم والاصددوص
ومعاني الحروف .وغيرها.
كما أفادوا من نصدوص الكتداب والسدنة قواعدد أصدولية هامدة ،وأمثلدة فقهيدة غزيدرة أثدروا بهدا الكتدب األصدولية،
تنظيرا وتطبيقا.
نشأة علم األصول
كيف نشأ هذا العلم؟ ومن هدو واضدعه؟ ومدا هدي أهدم مدارسده ،وأشدهر مؤلفاتده؟ وكيدف تطدورت الكتابدة فيده عبدر
القرون؟
نشأة علم األصول:
( - )1انظر :محمد الاضري ،أصول الفقه ،ص ،121محمد أبو زهرة ،تاريخ المذاهب اإلسالمية ،ج ،0ص.12
14
-
احتكموا إليه فزال ما بينهم من خصام دام عدد سنين.
واإلمام محمد بن إدريس الشافعي (ولد 151هص وتوفي 215هص)
وضع القواعد األساسية لتفسير النصوص ،وإثبات حجية األخبار ،واإلجماع ،في كتابه الرسالة.
والرسالة أنشأها الشافعي وهو بمكة ،وبعث بهدا إلدى عبدد الدرحمن بدن مهددي المحددب المشدهور ت 191هدص إجابدة
لطلبه أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ،ويجمع قبول األخبار فيه ،وحجية اإلجماع ،وبيان الناسخ والمنسوخ من
القرآن والسنة .كتبها في شكل رسالة منه إلى عبد الرحمن بن مهدي لذا سميت " الرسالة"(.)1
وال يعني هذا أن قواعد األصول أنشأها بنفسه ،بل استفادها من فهمه لنصوص الوحي ومبندى اجتهدادات الصدحابة
والتابعين ،وفقهه باللغة العربية وقد كان فيها حجة وإماما.
فبعلم اللسان استطاع أن يستنبا القواعد الستاراج األحكام الفقهية من نصوص القرآن والسنة ،وبدراسته في مكدة
_التي كان يتوارب فيها علم عبد د بن عباس الذي سُمي ترجمدان القدرآن_ عدرف الناسدخ والمنسدوخ ،وباطالعده
الواسع على السنة وتلقيه لها عن علمائها وموازنتها بالقرآن استطاع أن يعرف مقام السنة من القرآن ،وحالها عندد
معارضة بعض رواهرها لظواهر القرآن الكريم .وقد كانت دراسته لفقه الرأي وللمأثور من آراء الصحابة أساسدا
لما وضعه من ضوابا للقياس(.)2
ورغم وضوح دور الشافعي في تأسيس التددوين األصدولي المسدتقل ،فقدد ادعدى أوليدة التددوين األصدولي عددد مدن
المذاهب.
فذهب الحنفية إلى أن أبا حنيفة ،وأبا يوسف ،ومحمد بن الحسدن هدم السدابقون إلدى وضدع علدم األصدول ،كمدا ذكدر
ذلك اإلمام السرخسي(.)3
وذهب المالكية إلى نسبة ذلك لإلمام مالك أيضا ،فقد تكلم في أصول الفقه في رسالته لليث بن سدعد ،وفسّدر غريدب
الحديث في الموطذ ،ولكن لم ينشا فيه كتابا مستقال(.)4
ونسب الشيعة اإلمامية إلى إمامهم محمد الباقر أولية التدوين األصولي ،ثم إلى ابنه جعفر الصاد .
()5
وإن شكك الباحثون في صحة نسبة عدد من الكتب إلى اإلمام محمد الباقر
والواقع أن أول كتاب مستقل في أصول الفقه هو كتاب "الرسالة" لإلمام الشافعي ،وهذا محل إجماع من المحققدين
من العلماء ،أما الحديث عن القواعد األصولية ،فنجدها مبثوثة في ما كتب قبل الشافعي في كتب الحنفية وغيرهم.
يقول الدكتور نذير حمادو:
"لدديس موضدددع الادددالف فدددي أول مدددن تكلدددم فدددي أصددول الفقددده ،فدددالمتكلمون فدددي األصدددول قبدددل التددددوين كثيدددرون
-كما هو مقرر -فدي عهدد الصدحابة والتدابعين ومدن بعددهم ،رهدرت فدي نمداذج تطبيقيدة عمليدة فدي أحكدام الالفداء
الراشدين ،وغيرهم مدن القضداة وال ُح َّكدام ،ونمداذج نظريدة مدن أبرزهدا خطداب عمدر بدن الاطداب إلدى أبدي موسدى
األشعري ،والمكاتبة بين اإلمام مالك وفقيه مصر الليث بن سعد ،وغير هذا كثير.
كما أن الاالف ليس في رهور كتابة حول موضوع أصولي مستقل ،كداللة األلفار ،أو الرأي ،أو االستحسدان ،أو
الكتابة في األصول ضمن كتاب فقهي.
الاالف ينحصر في أولية التأليف في علم أصول الفقده بصدورة عامدة شداملة مسدتقلة ،وهدذا مدا اتصدفت بده رسدالة
( - )1مصطفى سعيد الان :دراسة تارياية للفقه وأصوله ص 122وما بعدها
( - )2محمد أبو زهرة :أصول الفقه ص 11وما بعدها.
17
-
والوطء معا ،ألنه جاء في سيا النهي(. )1
أشهر كتب األصول على مدرسة الفقهاء)2( :
-1رسالة الكرخي في األصول ألبي الحسن عبيد د بن الحسن الكرخي ت 341هص .
-3أصول الجصاص لإلمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي ت 371هص .
– 4تقويم األدلة ألبي زيد عبد د بن عمر بن عيسى القاضي الدبوسي ت 431هص.
" – 5أصول البزدوي" أو "كنز الوصول إلى معرفة األصول" لإلمام فار اإلسالم أبي الحسن علي بن محمد
البزدوي ت 412هص
– 6كشف األسرار لإلمام عالء الدين عبد العزيز البااري ت 731هص.وهو شرح على أصول البزدوي
– 7أصول السرخسي لإلمام شمس األئمة أبي بكر محمد بن أحمد بن سهل السرخسي ت 413هص
-1منار األنوار لإلمام أبي البركات عبد د بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي ت 711هص .
– 9كشف األسرار شرح المصنف على المنار للمؤلف نفسه .
-11شرح منار األنوار لإلمام عز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز بن ملك ت 115هص .وعليه شروح عديدة.
ثالثا :مدرسة المتأخرين:
وسلكت هذه الطريقة الجمع بين المدرستين السابقيتن ،سعيا الستيعاب محاسنهما معا ،وتفادي نقائصهما ،وذلك
بترسيخ مبدإ التقعيد الذي عرفت به مدرسة المتكلمين ،وتوطيد مبدإ التمثيل والتفريع الفقهي الذي اشتهرت به
مدرسة الفقهاء.
فهذه الطريقة تعنى بالفروع الفقهية بقدر ما تعني بذثبات األصول والقواعد الكلية ،فهي تنشا القواعد الكلية وتقيم
عليها األدلة والبراهين ،مع مالحظة ما ينضبا تحت هذه القاعدة من الفروع ،وبذلك يستغنون عن اللجوء إلى
كثير مما يضطر إليه غيرهم من االستثناءات من القواعد التي قعدوها عند التفريع.
ومن أشهر المؤلفات التي رهرت على هذه الطريقة:
– 1بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي واإلحكام لإلمام مظفر الدين أحمد بن علي البعلبكي الحنفي المعروف
بابن الساعاتي المتوفى عام 694هص .وقد جمع فيه صاحبه بين طريقتي اآلمدي في كتابه اإلحكام الذي عني فيه
بالقواعد الكلية ،وطريقة فار اإلسالم البزدوي في كتابه الذي عني فيه بالشواهد الجزئية الفرعية.
– 2التنقيح :للقاضي صدر الشريعة عبيد د بن مسعود المحبوبي البااري الحنفي المتوفى عام 747هص وقد
لاص كتابه هذا من عدة كتب منها ما هو على طريقة الفقهاء ،ومنها ما هو على طريقة المتكلمين
-3التوضيح شرح التنقيح للمؤلف نفسه .
– 4حاشية على التوضيح شرح التنقيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ت 797هص وقد أسماه التلويح.
– 5جمع الجوامع لإلمام تاج الدين السبكي ت 771هص
– 6التحرير لكمال الدين محمد بن عبد الواحد المشهور بابن الهمام الحنفي ت 161هص .
– 7مسلم الثبوت لإلمام محب الدين بن عبد الشكور الحنفي .ت 1119هص .
رابعا :مدرسة الشاطبي:
جاء اإلمدام أبدو إسدحا إبدراهيم بدن موسدى اللامدي الغرنداطي المدالكي( ،ت 791هدص) فدي القدرن الثدامن الهجدري،
وسلك مسلكا جديدا في التأليف األصولي في كتابه الشهير "الموافقات" ،لم يسبق إليده ،وتددارك الدنقص الدذي كدان
في المؤلفات األصولية السابقة.
إذ عرض مباحث علم األصول من خالل مقاصد الشريعة اإلسالمية ،وجعل أسس هدذا العلدم محصدورة فدي اللغدة
( - )1انظر :السرخسي ،أصول السرخسي ،ج ،1ص 102 ،101؛ علي حسب د :أصول التشريع اإلسالمي ص 2؛ محمد
مصطفى شلبي :أصول الفقه اإلسالمي ص .53
( - )2مصطفى سعيد الان :دراسة تارياية للفقه وأصوله ص 025وما بعدها.
18
-
العربية ،وفهم مقاصد الشارع.
وأفاض في إقامة علم المقاصد ،بصورة فريدة ،مبينا مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ،مثبتا باالستقراء كيفية
انبناء الشريعة على مراعاة المصالح ،وأنها نظام عام لجميع البشر ،وبسا ذلك في جزء خاص من كتابه ،بما فتح
الطريق أمام العلماء ليواصل بناء هذا العلم ،ويضبطوا به مسار االجتهاد في األعصر الالحقة .حتى غدا الحديث
عن المقاصد اليوم ،أهم ما يميز الدراسات األصولية الحديثة(.)1
خامسا :المؤلفات األصولية الحديثة:
من الالفت لالنتبداه أن معظدم كتدب أصدول الفقده التدي كتبهدا المتدأخرون ،عددا كتدب الشداطبي ،كاندت كتبدا
مضغوطة العبارة في جملتها ،كثرت فيها االختصارات والشروح والحواشي حتى غددا بعدض ألفارهدا علدى شدكل
ألغاز وأحاجي.
وأسباب هذا االختصدار واالعتصدار عديددة ،منهدا صدعوبة هدذا العلدم واعتمداده علدى علدم المنطدق كثيدرا،
ومنها انعدام الطباعة مما كان يضطر المؤلفين إلى اختصدار كتدبهم لكدي يتسدنى لهدا أن تتدداول بدين أيددي الطدالب
والمتفددرغين لهددذا العلددم ،ولكنهددا انقلبددت إلددى رمددوز وألغدداز ممددا اض دطر مؤلفيهددا أنفسددهم للعددودة عليهددا بالشددرح
والتفصيل ،إلزالدة غموضدها ،وتوضديح معانيهدا للطدالب مدن جديدد ،بعدد أن اسدتغلقت علديهم معانيهدا بسدبب ذلدك
االختصار الشديد.
نظرا لهذه المشكلة فقد اتجهت رغبة العلماء المحددثين إلدى إعدادة التدأليف فدي أصدول الفقده بلغدة العصدر،
تبسيطا للعبارة وتنظيما للمادة ،وتبويبا لهدا فدي كتدب ميسدورة التنداول واضدحة المدنهج ،وفّدرت عنداء بالغدا وجهددا
كبيرا على طلبة العلم .وأقبل عليها الناس باهتمام ،فأعادت لعلم األصول حياتده وحيويتده ،وحضدوره فدي المجدامع
والجامعات.
وكددان ذلددك تددأثرا بددالمنهج السددائد فددي التددأليف الحددديث ،الس داعي لتبليددغ الفكددرة واضددحة بأيسددر األسدداليب
وأوضح العبارات.
وإن كان هذا التيسير ال يغني عن العودة إلى المصادر األولى لمدا فيهدا مدن دقدة العبدارة وغزيدر المعداني،
وقوة اللغة وبالغتها بما تقصر عنه كثير من الكتابات المعاصرة.
( – )1الشاطبي ،الموافقات ،مقدمة عبد د دراز ،ج ،1دار المعرفة ،بيروت ،ص.1-5
19
-
أهم كتب األصول الحديثة:
-إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول ،للشوكاني ،المتوفى سنة1255هص.
-أصول الفقه للشيخ محمد الاضري ،المتوفىسنة1927م.
-أصول الفقه ،لألستاذ الشيخ عبد الوهاب خالف ،المتوفى سنة1955م.
-أصول الفقه ،لألستاذ الشيخ محمد أبو زهرة المتوفى سنة1974م.
-أصول الفقه لألستاذ الشيخ محمد زهير أبو النور ،والكتاب أربعة أجزاء ،وهو عبارة عن تلايص وتوضيح
لكتاب نهاية السُول في شرح منهاج الوصول لإلسنوي.
-أصول الفقه اإلسالمي ،للشيخ شاكر الحنبلي طبع سنة 1941م.
-أصول الفقه اإلسالمي ،لألستاذ الشيخ زكي شعبان وقد طبع سنة 1967م.
-أصول التشريع اإلسالمي ،لألستاذ علي حسب د ،طبع سنة1964م.
-أصول الفقه ،لألستاذ الشيخ محمد زكريا البرديسي.
-أصول الفقه اإلسالمي لألستاذ محمد مصطفى شلبي.
-مباحث الحكم ،لألستاذ محمد سالم مدكور.
-المدخل إلى علم أصول الفقه ،للدكتور معروف الدواليبي.
-نظرية الحكم ومصادر التشريع في أصول الفقه اإلسالمي ،لألستاذ الدكتور أحمد الحصري.
-مصادر التشريع اإلسالمي ،للدكتور محمد أديب صالح.
-الوسيا في أصول الفقه اإلسالمي ،د .وهبة الزحيلي.
-مباحث الكتاب والسنة ،للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
20
-
مباحث الحكم الشرعي
تمهيــــد:
تتركز موضوعات علم أصول الفقه في أربعة أبدواب أساسدية ،ويعتبدر مدا عدداها تابعدا لهدا أو ملحقدا بهدا،
وهذه األبواب األربعة هي :الحكم ،والحاكم ،والمحكوم فيه ،والمحكوم عليه(.)1
فالحكم الشرعي :هو ما نحن بصدده في هذا المبحث ،وهو الثمرة التي نجنيها من دراستنا لهذا العلم ،وتعريفه كما
سوف يأتي معنا هو( :خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أوتاييرا أو وضعا).
والحااكم :هدو د سددبحانه وتعدالى وحدده ،ويدددخل فدي هدذا المبحددث كدل مصدادر التشددريع اإلسدالمي األصدلية منهددا
والتبعية ومباحثها ،ألنهدا دالدة علدى حكدم د سدبحانه وتعدالى بطريدق القطدع أو الظدن .فمبحدث االجتهداد مدثال تدابع
لمبحث الحاكم وجزء منه ،وإن كان كثير من األصوليين يضعه في آخر مباحث هذا العلم.
والمحكااوم فيااه :هددو أفعددال العبدداد أو أفعددال المكلفددين التددي يتعلددق الحكددم بهددا ،مددن حيددث إنهددا مقدددورة لهددم أو غيددر
مقدورة ،ومن حيث إنها حق د تعالى أو حق العباد.
والمحكوم عليه :هو المكلدف بدالحكم الشدرعي ،ويبحدث فيده عدن معندى التكليدف وشدروطه ،مدن األهليدة وأنواعهدا
وعوارضها.
تعريف الحكم الشرعي وأقسامه
تعريف الحكم الشرعي:
تبيّن لنا مما سبق أن الهدف من دراسة علم األصول التعرف على حكم د في أفعال المكلفين.
فالحكم الشرعي هو الثمرة والغاية من علم األصول ابتداء وانتهاء.
الحكم لغة:
أما تعريف الحكم لغة ،فيطلق على عدة معان ،منها :القضاء ،والمنع ،والعلم.
فيقال :حكم القاضي إذا قضى بين اثنين في خصومة .والحاكم بمعنى القاضي.
وحكمت الرجل بمعنى منعته عن قصده ،ومنه حكمة اللجام ،حديدته التي تمنع الدابة عن السقوط.
والحكم بمعنى العلم والفقه ،ومنه قوله تعالى ":يا يحيى ُخذ الكتاب بقُ َّوة وآتيناهُ الحُكم صبيّا" مريم.)2(٩٤ :
تعريف الحكم الشرعي لدى األصوليين:
يعرّف علماء األصول الحكم الشرعي بأنه« :خطاب د المتعلق بأفعال المكلفين باالقتضاء ،أو التايير ،أو
الوضع»(.)3
شرح التعريف:
خطاب هللا :ويراد به كالم د مباشرة وهو القرآن الكريم .وقد يكون بواسطة :وهو ما جاءت به سنة رسوله صلى
د عليه وسلم ،وما استفيد من القرآن والسنة من أدلة األحكام ،كاإلجماع والقياس ،وسائر األدلة الشرعية التي
نصبها الشارع لمعرفة حكمه ،ومعلوم أن أدلة الشرع معرّفة لحكم الشارع ال مثبتة له ،ألن المثبت هو د وحده" .
د ويب ُغونها عوجا وهُم باآلخرة كافرُون "األعراف ,٥٢ :واألمر بمعنى الحكم الَّذين يصُدون عن سبيل ّ
والتشريع(.)4
فالسنّة وإن كانت من الرسول صلى د عليه وسلم فهي ثابتة بطريق الوحي ،واإلجماع ال يصح إال باستناده إلى
الكتاب أو السنّة أو غيرهما من األدلة الشرعية ،والقياس ليس مثبتا للحكم ،وإنما هو كاشف أو ُمظهر له ،وكذلك
( - )1خالف ،علم أصول الفقه ،ص 123؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .02
( - )2وهبة الزحيلي ،الوجيز في أصول الفقه ،ج ،1ص .103
( - )3للحنفية تقسيم خاص للحكم التكليفي ،سنورده في محله بذذن د.
( - )4الاضري ،أصول الفقه ،ص 33؛ خالف ،علم أصول الفقه ،ص 125؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .02
( - )5انظر:أبو زهرة ،المصدر نفسه .ص.05
25
-
تش ُكرُون " الحج ٤٦ :أي سقطت ،ووجبت الشمس إذا غربت .وجاء في القاموس :وجب يجب وجوبا ووجبا:
لزم ،ووجب يجب وجبة :سقا ،والشمس وجبت وجبا و وجوبا :غابت"(.)1
الواجب شرعا :هو ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم ،بحيث يُذم تاركه ،ومع الذم العقاب ،ويُمد ُح فاعله،
ومع المدح الثواب(.)2
صيغ الواجب:
يستفاد تحتّم األمر ولزومه من صيغة الطلب:
-صيغة األمر المجردة" .افعل" ،كقوله تعالى ":فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك وال تطغوا إنَّهُ بما
تعملُون بصير " هود.٩٩٤ :
-الفعل المضارع المقترن بالالم" .لتفعل" أو "ليفعل" قال تعالى " :ليُنفق ُذو سعة من سعته ومن قُدر عليه
دُ بعد عُسر يُسرا الطال .٨ :دُ نفسا إ َّال ما آتاها سيجع ُل َّ
دُ ال يُكلفُ َّ
رزقُهُ فليُنفق م َّما آتاهُ َّ
الواجب والفرض:
الواجب والفرض بمعنى واحد عند الجمهور ،فهما اسمان لمس ّمى واحد .بينما فر بينهما الحنفية ،فجعلوا الفرض
أشد توكيدا ،فما ثبت لزومه بالدليل القطعي سموه فرضا ،وما ثبت لزومه بالدليل الظني سموه واجبا.
فنصوص القرآن في لزوم الصالة قطعية ،فهي فرض .وخبر اآلحاد في ثبوت األضحية رنية فهو واجب.
والفر يظهر في لزوم العقاب على ترك أحدهما ،فعقاب تارك الفرض أشد من عقاب تارك الواجب عندهم.
بينما يرى الجمهور أن الجميع تكاليف الزمة ال يجوز التفريا فيها ،خوف الذم ،واتقاء عقاب د ،وعقابه أليم
شديد.
وربما يظهر أثر التفريق بينهما في منكر دليل الفرض ودليل الواجب ،فمنكر الدليل القطي يكفر ،باالف منكر
الدليل الظني .وهذه مسائل اعتقادية ال تؤثر في لزوم الفعل ووجوب االمتثال ،فالواجب والفرض كالهما يلزم
امتثالهما على حد سواء(.)3
أقسام الواجب
ينقسم الواجب إلى أقسام متعددة ،باعتبارات ماتلفة:
باعتبار وقت أدائه ،وباعتبار تقديره وعدم تقديره ،وباعتبار تعيينه وعدم تعيينه ،وباعتبار المطالب بأدائه.
تقسيم الواجب باعتبار وقت أدائه
وهو بهذا االعتبار ينقسم إلى :واجب مطلق ،وواجب مقيد ،والواجب المقيد ينقسم إلى ثالثة أقسام :الواجب
الموسع ،والواجب المضيق ،والواجب ذو الشبهين.
-الواجب المطلق :هو ما طلب الشارع فعله ،دون أن يقيد أداءه بوقت معين ،فللمكلف أن يفعله في أي وقت
شاء ،وتبرأ ذمته بهذا األداء ،وال إثم عليه في التأخير.
ومن هذا النوع قضاء رمضان لمن أفطر فيه بعذر مشروع ،فله أن يقضيه متى شاء( .والمسألة خالفية بين
الفقهاء)
والكفارة الواجبة على من حنث في يمينه ،فله أن يكفر بعد الحنث مباشرة ،أو بعد ذلك بحين.
وكالحج فهو واجب على المستطيع على التراخي ،ال على الفور ،فله أداؤه في أي عام شاء من سنين
عمره(.)4
( - )1خالف ،علم أصول الفقه ،ص 122؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .33
( - )2ابن الحاجب ،ماتصر ابن الحاجب ،ص.35
( - )3ابن الحاجب ،ماتصر ابن الحاجب ،ص.35
( -)4ابن الحاجب ،ماتصر ابن الحاجب ،ص.35
27
-
أنواع الواجب المقيد:
ينقسم الواجب المقيد إلى ثالثة أنواع :الواجب الموسع ،الواجب المضيّق ،والواجب ذو الشبهين:
ضيَّق: النوع األول :الواجب ال ُم َ
ويقال له " ال ُمساوي " :وهو الذي ال يس ُع زمنه غيره من جنسه ،كشهر رمضان؛ فذنه ال يسع غير صوم رمضدان
المفروض بقوله تعالى ":أُولئك الَّذين اشتر ُوا الضَّاللة بالهُدى والعذاب بالمغفرة فمدآ أصدبرهُم علدى النَّدار" البقدرة:
٩٧٥؛ إذ ال يُتص َّور أن وقوع صوم آخر يستوعبه شهر رمضان إال هذا الفرض .ولذلك سدم ّي مضديقا لضديقه عدن
فعل مثله يؤدى فيه ،ويسميه الحنفية " ِم ْعيَارا(.)1
ساع :وهدو مدا يتسدع وقتده ألدائده ،وأداء غيدره مدن جنسده المحددد لده ،مثدل وقدت صدالة النوع الثاني :الواجب ال ُم َو َّ
الظهر؛ فذنه يتسع ألداء صالة الظهر ،وأداء غيرها من نافلة أو قضاء؛ ويسمي الحنفية هذا الوقت ال ُموسَّع " ررفا
"(.)2
فدخول الوقت سبب لوجوب الصالة وشرط لصحتها ،فال تصح قبله ،كما ال تصح بعده إال قضاء.
واتفق الفقهاء على جواز فعل الواجب الموسع فدي أي جدزء مدن الوقدت شداء المكلدف .مدع وجدوب تعيدين الواجدب
بالنية حين أدائه .وإال لم يُجزه ذلك ،ألن الوقت يسع هذا الواجب وغيره من سنن ونوافدل .فدذن ندوى صدالة الظهدر
مثال كان ذلك أداء لها ،وإن لم ينوها وقعت نفال ،ولم يسقا عنه وجوب الظهر(.)3
والاالف حاصل بين العلماء في الجزء الذي يكون سببا لوجوب الظهر ،فالجمهور قالوا :الوقت كله بأجزائه سبب
للوجوب .والمكلف ماير بتحديد أي جزء من الوقت شاء .وهدو مدا تفيدده نصدوص القدرآن الواضدحة "أقدم الصدالة
لدددلوك الشددمس" ،ثددم بيّنددت السددنة أوائددل أوقددات الصددلوات وأواخرهددا ،وقددال صددلى د عليدده وسددلم "مددا بددين هدداتين
الصالتين وقت".
فذذا حصل للمكلف مانع بعد ما مضى من الوقت ما يكفي ألداء الواجب بقيت ذمته مشغولة به ،كامرأة حاضدت أو
نفست ،أو شاص نام بعد زوال الشمس بما يكفي ألداء الظهر .ولم يستفق حتدى غربدت الشدمس .فاطداب الشدارع
توجه إليه ولزمه أداء الواجب.
بينما ذهب الحنفية إلى أن وقت الوجوب هو آخر جزء من الوقت بما يسع أداء الصالة قبل انقضاء وقتها .وما قبل
ذلك فهو وقت نفل ،لكن إذا أداها فيه أجزأته.
ودليلهم أنه لو تعين األداء في أول الوقت لما جاز تركه ،وهذا يعارضه اإلجماع على جواز الترك.
وقااد ذهددب الكمددال بددن الهمددام إلددى تأييددد رأي الجمهددور فددي سددبب اإليجدداب ،فالصددالة تجددب بدددخول أول الوقددت،
والمكلف في سعة من أدائها في كامل الوقت ،كما بينته السنة النبوية .وال داعي لتضييق ما وسعه الشارع .وقد قال
تعالى " :أقم الصَّالة ل ُدلُوك ال َّشدمس إلدى غسدق اللَّيدل وقُدرآن الفجدر إ َّن قُدرآن الفجدر كدان مشدهُودا "اإلسدراء، ٨٧ :
فالدلوك عالمة وجوب األداء ،وقد بيَّنت السنَّةُ أن األداء على التوسع ال على الفور.
شبَ َه ْي ِن :هو ما كان وقته موسَّعا بحيث يسعه ويسع غيره ،ولكنه عند التحقيق ال يتم فيه النوع الثالث :الواجب ذو ال َّ
إال فعل واحد .وذلك مثل الحدج فدذن وقتده يمتدد شدهرين وبعدض الشدهر ،أو ثالثدة أشدهر ،هدي :شدوال ،وذو القعددة،
وعشددر مددن ذي الحجددة ،أو كامددل ذي الحجددة ،علددى خددالف بددين العلمدداء .وقددد قددال د فددي وقتدده ﴿:ال َح ا أَشْااهُر
َم ْعلُو َمات[ ﴾البقرة ،]196ولكنه في الواقع ال يسع غيره؛ باعتبار أن المكلف ال يؤدي في العدام إال حجدا واحددا،
فهو موسع من حهة ،إذ إن مناسدك الحدج وأعمالده ال تسدتغر إال أيامدا معددودة ،ولكنهدا مقيددة بأيدام محدددة ووقدت
محدد من أشهر الحج ،مثل الوقوف بعرفة يوم التاسع من شهر ذي الحجة ،وغيرها من مناسك الحج؛ فأشبه بدذلك
- )1خالف ،علم أصول الفقه ،ص ،112أبو زهرة ،أصول الفقه ،ص .30
- )2األسنوي ،نهاية السول ،ج1؛ ص ،22خالف ،علم أصول الفقه ،ص .112
( - )3انظر في تفاصيل المسألة :الغزالي ،المستصفى ،ج /1ص 21وما بعدها.
28
-
الواجب المضيق.
ويتفرع على التقسيم األخير :أن الحج إن نواه المكلف مطلقا غير معيَّن انصرف إلى الحج المفروض عليه؛ لشبهه
بالواجددب المضدديق ،وإن نددواه نفددال ،أو نددذرا انصددرف إلددى مددا نددواه؛ لشددبهه بالواجددب الموسددع .فس د ّمي لددذلك بددذي
الشبهين.
29
-
تقسيم الواجب باعتبار تقديره وعدم تقديره
ينقسم الواجب باعتبار المقدار المطلوب منه إلى :واجب محدد ،وواجب غير محدد.
-الواجب المحدد :هو ما عين الشارع منه مقدارا محددا :كالزكاة ،والديات ،والصلوات الامس ،والديون
المالية ،وأثمان المشتريات والمبيعات ،والنذور ،ونحو ذلك.
وهذا النوع يتعلق بالذمة ،وتصح المطالبة به من غير توقف على قضاء أو تراض ،ألنه محدد بنفسه ،وال
تبرأ ذمة المكلف منه إال بأدائه على الوجه الذي حدده الشارع ،وثبت في ذمته.
-الواجب غير المحدد :هو الذي لم يحدد الشارع مقداره ،بل طلبه الشارع من المكلف بغير تحديد :كاإلنفا
في سبيل د غير الزكاة ،فهذا ليس له ح ّد محدود ،وإنما يتحدد بمقدار حاجة المحتاج وقدرة المنفق ،فمن
تعيّن عليه س ّد حاجة فقير ،لزمه واجب غير محدد ،وعليه أن ينفق على هذا الفقير بما يدفع به حاجته.
-
وهذا النوع من الواجب ال يثبت دينا في الذمة ألن الشأن فيما يثبت في الذمة أن يكون محددا،
وعلى هذا ال تثبت النفقة للزوجة في ذمة الزوج قبل الحكم بها قضاء ،أو التراضي بها عند بعض الفقهاء،
ألنها حينئذ تكون محددة ،وأما قبل ذلك فتظل غير محددة ،بينما يرى الشافعية ثبوتها من حين امتناع الزوج
عنها ،وهي محددة بحال الزوج ،وال تحتاج إلى تحديد بواسطة قضاء أو تراض ،وللزوجة المطالبة بها مدة
امتناع الزوج عنها(.)1
تقسيم الواجب باعتبار تعين المطلوب وعدم تعينه
ينقسم الواجب باعتبار تعيّنه إلى واجب معيّن ،وواجب غير معيّن أو مايّر(:)2
-الواجب المعين :ما طلبه الشارع بعينه من غير تايير للمكلف بين أمور ماتلفة :كالصالة والصيام ور ّد
المغصوب ،وأجر المستأجر ،وال تبرأ ذمة المكلف إال بأدائه بعينه.
-الواجب غير المعين( :الواجب المايَّصر) ما طلب الشارع فعل واحد من أمور معينة ،فللمكلف أن ياتار
واحدا منها ألداء هذا الواجب.
-ومثال ذلك واجب الكفارة ،فقد ورد فيها خصال ثالثة على من حنث في يمينه ،إما إطعام عشرة مساكين
دُ باللَّغو في أيمان ُكم ولكن أو كسوتهم أو عتق رقبة .وهو ما نصت عليه اآلية الكريمة " :ال يُؤاخ ُذ ُك ُم ّ
يُؤاخ ُذ ُكم بما عقَّدت ُم األيمان فكفَّارتُهُ إطعا ُم عشرة مساكين من أوسا ما تُطع ُمون أهلي ُكم أو كسوتُهُم أو
دُ ل ُكمتحري ُر رقبة فمن لَّم يجد فصيا ُم ثالثة أيَّام ذلك كفَّارةُ أيمان ُكم إذا حلفتُم واحفظُوا أيمان ُكم كذلك يُبينُ ّ
آياته لعلَّ ُكم تش ُكرُون "المائدة.٧١ :
-وللمكلف الايار في تاصيص واحد بالفعل ،وتبرأ ذمته من الواجب بأداء أي واحد منها يشاء (. )3
تقسيم الواجب باعتبار المكلف ال ُمطالب به
إذا نظرنا إلى من توجه إليه الاطاب بأداء الواجب ،وهو المكلف وجدناه ينقسم إلى نوعين :واجب عين ّي ،وواجب
كفائي:
-الواجب العيني :هو ما توجه فيه الطلب الجازم إلى كل فرد من أفراد المكلفين ،وال يكفي فيه قيام البعض
مكان البعض اآلخر ،وال تبرأ ذمة المكلف إال بقيامه به بنفسه .وذلك وارد في معظم التكاليف ،فذنها عينية
على المكلفين .كأداء الواجبات المفروضة من الصالة والزكاة والحج والوفاء بالعقود ،واجتناب الامر
(- )1زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 32؛ الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،بيروت :دار المعرفة ،ج /1ص
152-151؛ الاضري ،أصول الفقه ،ص 22؛ خالف ،علم أصول الفقه ،ص .112
( - )2الغزالي ،المستصفى ،ج /1ص .12
( - )3عبد الكريم زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص.35
30
-
والميسر والزنا .وسائر الكبائر ،باعتبار اجتنابها واجبا ،وإتيانها محرما.
-واالعتبار هنا متجه إلى الفعل والفاعل معا .فيجب إتيان ذات الفعل من كل مكلف بعينه.
هل تجوز النيابة في الواجب العيني؟
إذا كان الواجب العيني متعلقا بالمكلف نفسه ،فهل تجوز النيابه فيه ،أم ال؟ وبااصة في حال العجز أو المرض أو
الموت؟
لإلجابة عن هذا اإلشكال نجد أن التكاليف الشرعية تنقسم بالنظر إلى النيابة فيها إلى ثالثة أقسام:
-1قسم يقبل النيابة ،وهو كل التكليفات المالية :كرد الودائع ،وقضاء الديون ،ورد الغصوبات ،وتفريق الزكوات
والكفارات ،ولحوم الهدايا واألضاحي ونحوها؛ ألنها تشتمل في ذاتها على مصلحة بقطع النظر عن فاعلها.
-2قسم ال يقبل النيابة ،وهو العبادات البدنية المحضة :كالصالة والصوم؛ ألن المقصود من الصالة _مثال_ هو
الاشوع والاضوع وإجالل الرب سبحانه وتعالى وتعظيمه ،ويحصل لفاعلها بنفسه ،فذذا فعلها غيره بدال منه لم
تتحقق المصلحة التي طلبها المشرع .والصيام كذلك لما فيه من تربية للنفس وحبسها عن الشهوات وإحساس
مراقبة د إياها ،وهذا ال يحصل إال لفاعله.
-3وقسم يقبل النيابة عند قيام العذر ،وهو ما له جانبان :أحدهما بدني ،واآلخر مالي كالحج؛ فتصح النيابة فيه عند
العجز البدني عن أدائه ،وهذا رأي الجمهور؛ ألنه ياتلف عن الصالة الشتماله على القربة المالية غالبا في اإلنفا
لكن مالكا ومحمد بن الحسن وجماعة من المتأخرين لم يجيزوا النيابة في الحج؛ ألن القصد منه في األسفارَّ .
_عندهم_ هو تأديب النفس بمفارقة األوطان وتهذيبها بالاروج عن المعتاد من لبس المايا وغيره لتذكر المعاد
واآلخرة والقبر ،وتعظيم شعائر د في تلك البقاع ،وإرهار االنقياد من اإلنسان لما لم يعلم حقيقته كرمي الجمار
والسعي بين الصفا والمروة ،ونحو ذلك ،وهذه مصالح ومقاصد ال تتحقق إال لمن باشرها بنفسه(.)1
-الواجب الكفائي :هو ما طلب الشارع حصوله من مجموع المكلفين ،ال من كل فرد منهم؛ ألن مقصود
الشارع حصوله في الجماعة ،فالمصلحة تتحقق بوجودها من بعض المكلفين ،وال تتوقف على قيام كل
مكلف بها.
كاألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والصالة على الموتى ،وبناء معاهد العلم ومراكز االستشفاء ،وإقامة
القضاء واإلفتاء ،وتعليم الصناعات وتوفيرها ،وما تحتاج إليه األمة من العلوم النافعة التي تقيم حياتها،
وتحفظ كيانها.
وإذا حصل تضييع تلك الفروض من مجموع المكلفين أثموا جميعا .لتفويتهم فرضا شرعيا ،وتضييعهم
مصلحة ضرورية قصدها الشارع من هذه التكاليف)2( .
وقد يصير الواجب الكفائي عينيا إذا تعيّن على شاص ولم يوجد من يتأهل له غيره .أو اقتضى الحال تجنيد
كل المكلفين للقيام به ،كحال الجهاد إذا داهم أرض اإلسالم عد ٌّو يريد أن يجتاحهم .وإذا رأى أحد منكرا بعينه
لزمه إنكاره قدر استطاعته ،وال يجوز أن يعرض عنه بحجة أن ذلك فرض كفائي .وإذا لم يوجد في بلدة إال
طبيب واحد لزمه مداواة أهلها ،إذ تعين عليه هذا الواجب الذي كان في أصله كفائيا.
مقدمة الواجب
يقصد بمقدمة الواجب ما يتوقف عليه الواجب ،وهي ما يعبر عنها بص" :ما ال يتم الواجب إال به" .وهي قسمان:
القسم األول :ما ال يتم الواجب إال به فليس بواجب :وهو ما ليس مقدورا للمكلف؛ أي ليس بقدرة المكلف وال في
وسعه وال طاقته تحصيله وال يقع تحت اختياره .فمثال :حضور اإلمام في الجمعة ،وحضور تمام العدد فيها
المندوب
تعريف المندوب
الندب في اللغة :الدعاء إلى أمر مه ّم ،والمندوب المدع ّو إلى ذلك األمر.
ومنه قول الشاعر:
()3
في النائبات على ما قال برهانا ال يسألون أخاهم حين يندبهم
المندوب اصطالحا:
ورد في تعريفه صيغ متعددة ،ليس بين معانيها كبير اختالف.
فقيل :هو الذي فعله خير من تركه ،من غير ذم يلحق بتركه.
وقيل هو :المأمور به الذي ال يلحق الذم بتركه(.)4
وقيل هو :ما طلب الشارع فعله من غير إلزام ،بحيث يمدح فاعله ويثاب ،وال يذم تاركه وال يعاقب(.)5
صيغ الندب:
ويدل على كون الفعل مندوبا صيغة الطلب ،إذا اقترن بها ما يدل على إرادة الندب ال اإللزام ،سواء كانت هذه
القرينة ن ّ
صا ،أو غيره ،كقرينة الحال أو الفعل.
( - )1اآلمدي ،اإلحكام في أصول األحكام .مج ،1ج ،1ص 152إلى .150
( - )2الغزالي ،المستصفى من علم األصول.ج ،1ص
( - )3البيت في ديوان الحماسة ألبي تمام .من مقطوعة فيها:
بنو اللقيطة من ُذهل ابن شيبانا لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
عند الحفيظة إن ذو لوثة النصا إذن لقام بنصري معشر خ ُشصن
في النائبات على ما قال برهانا. ال يسألون أخاهم حين يندبهم
( - )4الغزالي ،المستصفى ،ج/1ص .12
( - )5زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 32نقال عن المسودة البن تيمية ،ص .521
32
-
مثال:
قال تعالى " يا أيها الَّذين آمنُوا إذا تداينتُم بدين إلى أجل مس ّمى فاكتُبُوهُ وليكتُب بَّين ُكم كاتب بالعدل وال يأب
د ربَّهُ وال يباس منهُ شيئا فذن كان الَّذي دُ فليكتُب وليُملل الَّذي عليه الحق وليتَّق ّ كاتب أن يكتُب كما علَّمهُ ّ
عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو ال يستطي ُع أن يُم َّل هُو فليُملل وليهُ بالعدل واستشهدُوا شهيدين من رجال ُكم فذن
لَّم ي ُكونا رجُلين فرجُل وامرأتان م َّمن ترضون من الشهداء أن تض َّل إحداهُما فتُذكر إحداهُما األُخرى وال يأب
د وأقو ُم لل َّشهادة وأدنى الشهداء إذا ما ُدعُوا وال تسأ ُموا أن تكتُبُوهُ صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذل ُكم أقساُ عند ّ
أالَّ ترتابُوا إالَّ أن ت ُكون تجارة حاضرة تُديرُونها بين ُكم فليس علي ُكم جُناح أالَّ تكتُبُوها وأشهدُوا إذا تبايعتُم وال
دُ ب ُكل شيء عليم "البقرة٤٧٤ : دُ و ّد ويُعل ُم ُك ُم ّيُضآ َّر كاتب وال شهيد وإن تفعلُوا فذنَّهُ فُسُو ب ُكم واتَّقُوا ّ
واألمر بالكتابة هنا ال يحمل على الوجوب ،وال يدل على الطلب الجازم ،بقرينة ما جاء في سيا اآلية الحقا،
ض ُكم بعضا فليُؤد الَّذيوهو قوله تعالى ":وإن ُكنتُم على سفر ولم تجدُوا كاتبا فرهان َّمقبُوضة فذن أمن بع ُ
دُ بما تعملُون عليم" البقرة.٤٧٤ : د ربَّهُ وال تكتُ ُموا ال َّشهادة ومن يكتُمها فذنَّهُ آثم قلبُهُ و ّ اؤتُمن أمانتهُ وليتَّق ّ
فدل على أنه أمر إرشاد لتوثيق الناس معامالتهم ،حفظا ألموالهم وحقوقهم من الضياع واإلنكار ،فذذا توافر
عنصر الثقة واألمان كانت أدعى لحفظ الحقو .
وقال تعالى ":وليستعفف الَّذين ال يجدُون نكاحا حتى يُغنيهُم دُ من فضله والذين يبتغون الكتاب م َّما ملكت
ُ َّ َّ َّ
د الَّذي آتا ُكم وال تُكرهُوا فتيات ُكم على البغاء إن أردن أيمانُ ُكم فكاتبُوهُم إن علمتُم فيهم خيرا وآتُوهُم من َّمال َّ
د من بعد إكراهه َّن غفُور َّرحيم النور .٤٤ :واآلية تفيد تحصنا لتبت ُغوا عرض الحياة الدنيا ومن يُكرهه َّن فذ َّن َّ
اإلرشاد إلى مكاتبة العبيد ،ومساعدتهم على تحرير أنفسهم ،ال على سبيل اإللزام ،ألنه استقر في اإلسالم أن
اإلنسان ح ّر في ما يملك ،والعبد ملك لسيده.
وقال رسول د صلى د عليه وسلم{ :يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج}( ،)1فأمره هنا ال
يحمل على وجوب الزواج رغم ورود صيغة المضارع المقرون بالم األمر" ،؛ لما تواتر أنه صلى د عليه
وسلم لم يلزم أحدا بالزواج مع قدرته عليه.
أسماء المندوب:
يقال للمندوب :مرغوب فيه ،ومستحب ،ونفل ،وتطوع وإحسان ،وسنة.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه ال يقال له سنة إال إذا داوم عليه الشارع كالوتر ورواتب الفرائض(.)2
أقسام المندوب:
المندوب على مراتب متفاوتة من حيث تأكيد الطلب .وقد صنفه العلماء كاآلتي:
-السنة المؤكدة :وهي ما وارب عليها النبي صلى د عليه وسلم ،ولم يتركه إال نادرا ،ومنه :صالة
ركعتين قبل فريضة الصبح ،والمضمضة في الوضوء ،وقراءة سورة أو آية بعد الفاتحة في الصالة.
-وهذه سنة مؤكدة يالم تاركها وال يعاقب ،وال يجوز التهاون بها ،وربما أصبحت في مرتبة الواجب إذا
تواطأ الناس على تركها أثموا ،وذلك كشعائر اإلسالم التي تتعلق بها مصالح األمة.
-السنة غير المؤكدة :وهي دون سابقتها ،وهي التي لم يداوم عليها النبي صلى د عليه وسلم ،كصالة
أربع ركعات قبل الظهر ،وصدقة التطوع للقادر عليها ،إذا لم يكن من يتصد عليه في مامصة جوع
شديدة.
وهذه السنة يثاب فاعلها وال يستحق تاركها عقابا وال لوما.
-سنة األدب والفضيلة :وتتمثل في التأسي واالقتداء بالنبي صلى د عليه وسلم في شؤونه االعتيادية التي
( - )1رواه مسلم ،في كتاب النكاح ،باب :استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن
بالصوم ،رقم .1222 :انظر :النووي ،صحيح مسلم بشرح النووي ،ج /5ص .115
( - ) 2الشوكاني ،إرشاد الفحول ،ص .1
33
-
صدرت منه باعتباره بشرا ،ولكن متابعته في كيفيتها يعتبر مستحبا يؤجر عليه المكلف ،وذلك كآداب
األكل والشرب والنوم.
فمن فعل هذه السنة كان مأجورا ،ومن تركها لم يستحق لوما وال عتابا .ألنها تجري مجرى العادات ال مجرى
العبادات(.)1
مراتب العبادات بين الوجوب والندب:
ثمة أمور مهمة تذكر في ختام أحكام الندب .هي:
أوال :المندوب مقدمة للواجب ،وتمهيد له ،ويجب الحرص عليه توطئة للنفس لتح ّمل عبء الواجدب ،كمدا نبّده إلدى
ذلك اإلمام الشاطبي بقوله ":المندوب إذا اعتبرتهُ اعتبارا أع ّم من االعتبار المتق ّدم وجدتهُ خادما للواجدب؛ ألنده إ ّمدا
مق ّدمة له أو تذكار له ،كان من جنسه الواجب أو ال ( ،")2يعني أن المندوب بجملته يعتبر مقدمدة للواجدب ،ويُدذك ُر
به ،و يسهل على المكلف أداءه؛ ألن المكلف بأدائه المندوبات ودوامه عليها ،يسهل عليه أداء الواجبات و يعتادها.
ثانيا :إذا كا الفعل مندوبا بالجزء كا واجبا بالكل؛ كاآلذان فدي المسداجد الجوامدع أو غيرهدا ،وصدالة الجماعدة،
وصالة العيدين ،وصدقة التطوع ،والنكاح ،والوتر ،والفجر ،والعمرة ،فلدو تركهدا النداس جميعدا هلكدوا ،ألنهدا مدن
شعائر اإلسالم .قدال الشداطبي ":فدالترك لهدا جملدة ُمدؤثر فدي أوضداع الددين إذا كدان دائمدا ،أمدا إذا كدان فدي بعدض
األوقات فال تأثير له ،فال محظور في الترك "(.)3
وعليه فذنه ال يجوز االستهانة بالمندوبات ،أو إهمالها على الجملة ،فالمندوب وإن كان غير الزم باعتبار جزئه إال
أنه الزم باعتبار الكل ،فمن ترك المندوبات جملة واحدة؛ كان ذلك قادحدا فدي عدالتده ،واسدتحق التأديدب و الزجدر.
وقد تو ّعد الرسول صلى د عليه وسلم من داوم على ترك الجماعة فه َّم أن يحر عليهم بيوتهم(.)4
وكذلك األمر بالنسبة لما تعلقت به مصلحة األمة الدنيوية ،كالنكاح والبيوع والصنائع فتركها هالك لألمة كلها .فال
يصح تركها من قبل األُ َّمةكلها؛ فهي مندوبة بالنسبة ألفراد الناس ،وواجبة وجوبا كفائيّا بالنسبة للجماعة ،ألن فيهدا
()5
مصلحة ضرورية لأل ّمة
الحرام
تعريف الحرام
ُ ُ ُ ُ
الح َرا ُم ض ّد الحالل؛ إذ يقال :هذا حالل وهذا حرام ،مدن قولده تعدالى " :وال تقولدوا لمدا تصدفُ ألسدنتك ُم الكدذب هدذا
َ
ّ َّ َّ ّ
حالل وهذا حرام لتفترُوا على د الكذب إن الذين يفترُون على د الكذب ال يُفل ُحون "النحل.٩٩٦ :
وفي االصطالح :له عدة تعاريف ،منها:
ما يذم فاعله ويمدح تاركه(.)6
وقيل :هو ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم واإللزام(.)7
وذهب الحنفية إلى التفريق بين ما حرّم بدليل قطعي فس ّموه حراما ،وما ثبتت حرمته بدليل رن ّي فسدموه "مكروهدا
( - ) 1زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 32؛ الاضري ،أصول الفقه ،ص 22؛ خالف ،علم أصول الفقه ،ص .110
- )2الموافقات لإلمام الشاطبي .151/1
- )3الموافقات لإلمام الشاطبي .133/1
( - )4الشاطبي ،الموافقات ،ج /1ص .133 -130
( - )5الشاطبي؛ الموافقات؛ ج ،1ص151؛ خالف ،علم أصول الفقه ،ص 110؛ محمد أبو زهرة ،أصول الفقه؛ ص ،21
زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص ..22
( - )6الشوكاني ،إرشاد الفحول ،ص .1
( - )7زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 21نقال عن :ابن حزم الظاهري ،اإلحكام في أصول األحكام ،ج /3ص .301
34
-
تحريما" أو مكروها كراهة تحريمية" .وهو مقابل تقسيمهم الواجب إلى فرض وواجب ،كما تقدم.
أَ ْ
س َما ُء ال َح َر ِام:
يقال للحرام :المحظور ،الممنوع ،المعصدية ،الدذنب ،المزجدور عنده ،السدئية ،اإلثدم ،الفاحشدة ،القبديح .وهدي ألفدار
متقاربة المعنى ،والقدر المشترك بينها :أن الفعل مطلوب الترك على سبيل الحتم واإللزام.
صيغة التحريم:
يستفاد التحريم من استعمال األساليب اآلتية:
ُ ُ ُ ُ ُ ُ ُ ُ ُ ُ ُ ُ ُ
-1مادة التحريم ،كما في قوله تعالى " :حُرمت عليكم أ َّمهداتكم وبنداتكم وأخدواتكم وع َّمداتكم وخداالتكم وبندات األخ
ات نسآئ ُكم وربائبُ ُك ُم الالَّتي في ُحجُور ُكم من ات األُخت وأُ َّمهاتُ ُك ُم الالَّتي أرضعن ُكم وأخواتُ ُكم من الرَّضاعة وأُ َّمه ُ وبن ُ
نسآئ ُك ُم الالَّتي دخلتُم به َّن فذن لَّم ت ُكونُوا دخلتُم به َّن فال جُناح علي ُكم وحالئ ُل أبنائ ُك ُم الَّذين من أصالب ُكم وأن تجمعُدوا
د كان غفُورا رَّحيما "النساء.٤٤ : بين األُختين إالَّ ما قد سلف إ َّن ّ
د يأ ُم ُر بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء وال ُمنكدر والبغدي -2مادة النهي ،قال تعالى ":إ َّن ّ
يعظُ ُكم لعلَّ ُكم تذ َّكرُون " النحل١١. :
-3نفي ال ِحل ،قال تعالى :يا أيها الَّذين آمنُوا ال يحل ل ُكم أن ترثُدوا النسداء كرهدا وال تعضُدلُوه َُّن لتدذهبُوا بدبعض مدا
دُ فيدهآتيتُ ُموه َُّن إالَّ أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشرُوه َُّن بالمعرُوف فذن كرهتُ ُموه َُّن فعسى أن تكرهُوا شيئا ويجعل ّ
خيرا كثيرا" النساء٩١. :
َّ ّ ُ ُ َّ َّ
شر ،قال تعالى " :وال يحسبن الذين يبالون بما آتاه ُم دُ من فضله هُو خيرا لهُم بل هُو ش ٌّر -4وصف الشيء بأنه َ
دُ بما تعملُون خبير " آل عمران٩٧١. : اب السَّماوات واألرض و ّ لَّهُم سيُط َّوقُون ما بالُوا به يوم القيامة و ّهلل مير ُ
دُ عليه -5اقترانُ الفعل بالوعيد والعقوبة ،قال تعالى ":ومن يقتُل ُمؤمنا متعمدا فجزآ ُؤهُ جهنَّ ُم خالدا فيها وغضب ّ
ولعنهُ وأع َّد لهُ عذابا عظيما" النساء.١٤ :
ُ
-6صيغة النهي أو األمر بالتَّرك ،قال تعدالى "" :وال تقربُدوا الزندى إنَّدهُ كدان فاحشدة وسداء سدبيال ،وال تقتُلدوا الدنَّفس
دُ إالَّ بالحق ومن قُتل مظلُوما فقد جعلنا لوليه سُلطانا فال يُسرف فدي القتدل إنَّدهُ كدان منصُدورا اإلسدراء: الَّتي حرَّم ّ
،٤٤ - ٤٤وقال أيضا " :وذرُوا راهر اإلثم وباطنهُ إ َّن الَّدذين يكسدبُون اإلثدم سديُجزون بمدا كدانُوا يقترفُدون األنعدام:
.٩٤١
أقسام الحرام:
ثبت من استقراء الشريعة أن الشارع الحكيم لم يحرم أمرا إال لمفسدته الاالصة أو الغالبة ،وهذه المفسدة إما أن
ترجع إلى ذات الفعل المحرم ،وهذا هو المحرم لذاته ،وإما أن ترجع إلى أمر اتصل به ،وهذا هو المحرم لغيره.
-المحرم لذاته :هو ما حرمه الشارع ابتداء لما فيه من األضرار والمفاسد الذاتية ،مثل :الامر ،والزنا،
وأكل الميتة.
حكمه :ال يحل للمكلف فعله ،فهو غير مشروع أصالة ،وإذا فعله لحقه الذم والعقاب ،وال يصلح أن يكون سببا
شرعيا تترتب عليه أحكامه؛ فالميتة محظورة على المكلف ال يحل له أكلها؛ والزنا ال يصح أن يكون سببا
شرعيا لثبوت النسب والتوارب وسائر الحقو التي تثبت في النكاح الصحيح.
وقد يباح بعض المحرم لذاته عند الضرورة حفارا على الضروريات الامس ،كأكل الميتة وشرب الامر
لدفع خطر هالك النفس ،وهذا ما يعرف بالرخص الشرعية .فذن الضرورات تبيح المحظورات.
-المحرم لغيره:
هو ما يكون مشروعا في األصل ،إذ ال ضرر فيه أو مفسدة غالبة ،ولكن اقترن به عارض اقتضى تحريمه،
كالصالة في الثوب المسرو أو الدار المسروقة ،والبيع الذي فيه غش ،والبيع وقت النداء لصالة الجمعة،
وبيوع العينة للتحايل على الربا المحرم ،وزواج المحلل المقصود به مجرد تحليل الزوجة لمطلقها ثالثا،
35
-
والطال البدعي ،ونحو ذلك مما ُحرّم لعارض.
فالصالة بذاتها مشروعة ،بل واجبة والنكاح بأركانه وشروطه مباح ،والبيع أيضا إذا استوفى شروطه جائز،
ولكن حين اقترنت به تلك الصفات العارضة جعلتها محرمة .وهي أمر خارجي ال من ذات الفعل.
حكمه :أنه مشروع بأصله وذاته وغير مشروع بوصفه.
وهنا اختلف الفقهاء في آثار تلك األفعال والتصرفات.
فالحنفية يرونها صالحة إلنتاج ثمراتها وتترتب عنها آثارها ،فالصالة في الثوب المغصوب صحيحة ومسقطة
للفرض ،ولكن المصلي آثم ألنه ارتكب السرقة()1؛ فهم غلّبوا جهة مشروعية األصل على حرمة الوصف
العارض ،فأثبتوا النتيجة رغم لحو اإلثم للفاعل.
أما جمهور األصوليين فقد غلبوا جهة الوصف المحظور ،فأبطلوا آثار ونتائج تلك األفعال ،مع لحو اإلثم
بفاعله ،ألن جهة الفساد في نظرهم ال تبقي أثرا لمشروعية أصله(.)2
ومن هنا قالوا ببطالن الصالة في األرض المغصوبة ،ونكاح التحليل ،والطال البدعي .ونحو ذلك.
( - )1الزحيلي ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 130؛ عبد الوهاب خالف ،علم أصول الفقه ،ص .113
( - )2زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .22 -23
36
-
المكروه
تعريف المكروه:
وهو ما كان تركه أولى من فعله.
أو هو ما طلب الشارع تركه ،ال على وجه اإللزام.
صيغ الكراهة:
-لفظ كره :كما في قوله صلى د عليه وسلم {:إن د كرّه لكم ثالثا :قيل وقال ،وإضاعة المال ،وكثرة
السؤال}(.)1
-صيغة النهي المقترنة بقرينة صارفة من التحريم :كما في قوله تعالى :يا أيها الَّذين آمنُوا ال تسألُوا عن
دُ غفُور حليم "المائدة: دُ عنها و ّ أشياء إن تُبد ل ُكم تسُؤ ُكم وإن تسألُوا عنها حين يُن َّز ُل القُرآنُ تُبد ل ُكم عفا ّ
،٩١٩فالقرينة الصارفة هي تتمة اآلية في قوله تعالى :يا أيها الَّذين آمنُوا ال تسألُوا عن أشياء إن تُبد ل ُكم
دُ غفُور حليم" المائدة.٩١٩ : د ُ ع ن ها و ّتسُؤ ُكم وإن تسألُوا عنها حين يُن َّز ُل القُرآنُ تُبد ل ُكم عفا ّ
حكم المكروه:
أن فاعله ال يأثم ،وإن كان ملوما ،وتركه يمدح ويثاب ،إذا كان تركه هلل.
أقسام المكروه عند األحناف:
-المكروه تحريما ،أو كراهة تحريمية:
قطعي ،كاطبة المسلم على خطبة أخيه، ٍّ وهو ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم واإللزام بدليل رني ال
وبيعه على بيع أخيه ،الذي جاء النهي عنه في السنة النبوية في أخبار آحاد.
وياتلف عن الحرام الذي ثبت بدليل قطعي.
وحكمه :أن فاعل المكروه كراهة تحريم يستحق العقاب ،وإن كان ال يكفر منكره ألن دليله رني.
-المكروه تنزيها ،أو كراهة تنزيهية:
فهو ما طلب الشارع تركه ،ال على وجه اإللزام والحتم؛ مثل أكل لحوم الايل للحاجة إليها في الحروب،
والوضوء من سؤر الهرة ،وسؤر سباع الطير.
وحكمه :أن من أتى المكروه تنزيها لم يستحق عقابا وال ذ َّمًا ،ولكن فعله يكون على خالف األولى
واألفضل(.)2
المباح
تعريف المباح:
المباح ما خيّر المكلف بين فعله وتركه،
أو هو ما ورد اإلذن من د تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ،وال بذم تاركه ومدحه(.)3
كما قال الجويني "ّ:هو ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك من غير اقتضاء وال زجر"(.)4
بم تعرف اإلباحة:
تثبت إباحة األمر بعدة أمور .منها:
( - )1رواه مسلم في كتاب األقضية ،باب :النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة ،رقم .1215 :انظر :صحيح مسلم بشرح
النووي ،ج /1ص .032
( - )2الزحيلي ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 132-133؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 21-25؛ خالف ،علم أصول
الفقه ،ص.112
( - )3الغزالي ،المستصفى ،ج/1ص .12
( - )4الجويني ،البرهان ،ج /1ص .122
37
-
د علي ُكم وأُح َّل ات من النساء إالَّ ما ملكت أيمانُ ُكم كتاب ّ -النص على الحليّة ،مثل قوله تعالى " :وال ُمحصن ُ
ُ
ل ُكم َّما وراء ذل ُكم أن تبت ُغوا بأموال ُكم محصنين غير ُمسافحين فما استمتعتُم به منه َُّن فآتُوه َُّن أجُوره َُّن
د كان عليما حكيما النساء.٤٢ : فريضة وال جُناح علي ُكم فيما تراضيتُم به من بعد الفريضة إ َّن ّ
-نفي اإلثم والجناح أو الحرج :قال تعالى " :الطَّال ُ مرَّتان فذمساك بمعرُوف أو تسريح بذحسان وال يحل
د فال جُناح د فذن خفتُم أالَّ يُقيما ُحدُود ّل ُكم أن تأ ُخ ُذوا م َّما آتيتُ ُموه َُّن شيئا إالَّ أن ياافا أالَّ يُقيما ُحدُود ّ
د فأُولئك هُ ُم الظَّال ُمون "البقرة،٤٤١ : د فال تعتدُوها ومن يتع َّد ُحدُود ّ عليهما فيما افتدت به تلك ُحدُو ُد ّ
وقوله تعالى " :ليس على األعمى حرج وال على األعرج حرج وال على المريض حرج وال على أنفُس ُكم
أن تأ ُكلُوا من بُيُوت ُكم أو بُيُوت آبائ ُكم أو بُيُوت أُ َّمهات ُكم أو بُيُوت إخوان ُكم أو بُيُوت أخوات ُكم أو بُيُوت
أعمام ُكم أو بُيُوت ع َّمات ُكم أو بُيُوت أخوال ُكم أو بُيُوت خاالت ُكم أو ما ملكتُم َّمفاتحهُ أو صديق ُكم ليس علي ُكم
د ُمباركة طيبة كذلك جُناح أن تأ ُكلُوا جميعا أو أشتاتا فذذا دخلتُم بُيُوتا فسل ُموا على أنفُس ُكم تحيَّة من عند َّ
دُ ل ُك ُم اآليات لعلَّ ُكم تعقلُون"النور.٦٩ : يُبينُ َّ
-التعبير بصيغة األمر مع وجود القرينة الصارفة إلى اإلباحة ،مثل قوله تعال " فذذا قُضيت الصَّالةُ
د كثيرا لَّعلَّ ُكم تُفلحُون "الجمعة.٩١ : د واذ ُكرُوا َّ
فانتشرُوا في األرض وابت ُغوا من فضل َّ
-استصحاب البراءة األصلية ،إذ األصل في األشياء النافعة اإلباحة لقوله تعالى ":هُو الَّذي خلق ل ُكم َّما في
األرض جميعا ثُ َّم استوى إلى السَّماء فس َّواه َُّن سبع سماوات وهُو ب ُكل شيء عليم" البقرة.٤١ :
حكم المباح:
المباح ال ثواب فيه وال عقاب ،وإنما ينال صاحبه الثواب بالنية والقصد ،فمن أكل طعاما دون نية ،لم يؤجر على
ذلك ،وإن نوى التقوي على العبادة أُجر على نيته .ومن يمارس الرياضة البدنية لمجرد الحفار على لياقته
ورشاقته لم يؤجر ،وإن مارسها بنية التقوي لمحاربة األعداء والدفاع عن الحرمات أو المظلومين كان
مأجورا(.)1
هل المباح حكم تكليفي؟
فعل المباح من حيث أفراده ليس مطلوب الفعل وال مطلوب الكف ،ولذلك لم يعتبره بعض الدارسين من الحكم
التكليفي ،الستواء الفعل والترك فيه .فالمكلف مايّر بين الفعل والترك على حد سواء.
وقد نظر الشاطبي إليه نظرة مقاصدية ،واعتبره بالنسبة لغيره من األقسام ،إذ نجده دائما خادما ألصل ضروري
أو حاجي أو تكميلي .ولذلك كان مطلوبا ومحبوبا فعله ،وذلك أن التمتع بما أحل د من المأكل والمشرب ،ونحوها
مباح في نفسه ،وإباحته بالجزء .وهو خادم ألصل ضروري وهو إقامة الحياة .فهو مأمور به من هذه الجهة...
فالمباح يكون مباحا بالجزء ،مطلوبا بالكل على جهة الندب ،أو الوجوب؛ ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على
جهة الكراهة ،أو المنع(.)2
وأفاض الشاطبي في التمثيل لذلك بعدة أنواع:
-فالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والملبس مما سوى الواجب .كاإلسراف فهو مباح بالجزء ...فلو
ترك جملة لكان على خالف ما ندب الشرع إليه ،ففي الحديث {:إذا أوسع د عليكم فأوسعوا على
أنفسكم}( ،)3وقوله صلى د عليه وسلم {:إن د يحب أن يرى أثر نعمته على عبده}(.)4
( - )1الزحيلي ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 132؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 22-22؛ خالف ،علم أصول الفقه،
ص.115
( - )2الشاطبي ،الموافقات ،ج/1ص .130 -102
( - )3رواه مالك في الموطأ ،كتاب الجامع ،باب ما جاء في لبس الثياب للجمال بها ،رقم ،1255 :شرح الزرقاني على موطأ
اإلمام مالك ،ج /2ص .012
( - )4رواه الترمذي ،وقال :حديث حسن ،رقم.0202 :
38
-
-واألكل والشرب ،ووطء الزوجات ،والبيع والشراء ،فكل هذه األشياء مباحة بالجزء؛ أي إذا اختار أحد
هذه األشياء على ما سواها فذلك جائز ،أو تركها الناس في بعض األحوال أو األزمان لم يقدح في ذلك،
فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها ،فكان الدخول فيها واجبا
بالكل.
-والتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام ،والغناء المباح أو غيرها ،فمثل هذا مباح بالجزء ،فلو فعل يوما
ما ،أو في حالة ما ،فال حرج فيه ،فذن فعل دائما كان مكروها ،فالكراهة هنا منصبّة على الدوام
واالستمرار باللهو ،وقضاء الوقت عليه ،ال باعتبار الجزء ومباشرته في بعض األوقات.
-ووطء الزوجات مباح ،ولكن تركه بالكلية على الدوام حرام ،لما فيه من إضرار بالزوجة ،وتفويت
لمقاصد النكاح ،فالمباح منصب على الجزء ،والحرمة متجهة إلى ترك المباح جملة(.)1
الرخصة والعزيمة
اختلف في تصنيف الرخصة والعزيمة ،هل هما من الحكم التكليفي أم من الحكم الوضعي.
فبعض جعلهما ضمن الحكم التكليفي ،ألن العزيمة اسم لما طلبه الشارع أو أباحه على وجه العموم ،والرخصة
اسم لما أباحه الشارع عند الضرورة تافيفا عن المكلفين ،ودفعا للحرج عنهم .والطلب واإلباحة من أقسام الحكم
التكليفي.
بينما ذهب آخرون على أن العزيمة والرخصة من أقسام الحكم الوضعي ،باعتبار أن العزيمة ترجع إلى جعل د
األحوال العادية للمكلفين سببا لبقاء األحكام األصلية واستمرارهان وأن الرخصة ترجع إلى جعل الشارع األحوال
الطارئة غير االعتيادية سببا للتافيف عن المكلفين ،والسبب من أقسام الحكم الوضعي.
وأيّا ما كان فسنتناولهما بالشرح والبيان ،مع االختصار قدر اإلمكان.
أوال :العزيمة
العزيمة لغة :من العزم ،وهو القصد على وجه التأكيد( ،)2ومنه قوله تعالى :ولقد عهدنا إلى آدم من قب ُل فنسي
ولم نجد لهُ عزما" طه .٩٩٥ :فلم يكن من آدم قصد مؤكد على عصيان أمر ربه ،وإنما أغواه إبليس فأكل من
الشجرة.
اصطالحا :اسم لما طلبه الشارع أو أباحه على وجه العموم.
وقد عرفها البعض :بأنها اسم لما هو أصل من األحكام غير متعلق بالعوارض.
ومعنى هذا :أن العزيمة تطلق على األحكام الشرعية التي شرعت لعموم المكلفين ،دون نظر إلى ما قد يطرأ
عليهم من أعذار ،فهي أحكام أصلية ،شرعت ابتداء لتكون قانونا عاما لجميع المكلفين في أحوالهم العادية ،ولم
ينظر في تشريعها إلى ضرورة أو عذر كالصالة وسائر العبادات.
وهي تتنوع إلى أنواع الحكم التكليفي :من وجوب وندب وكراهة وإباحة ،وال تطلق عند المحققين إال إذا قابلتها
رخصة.
ثانيا :الرخصة
الرخصة لغة :السهولة واليسر واللين.
اصطالحا :ما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه ،مع قيام السبب المحرم.
أو هي :ما شرع من األحكام لعذر مع قيام المحرم ،لوال العذر لثبتت الحرمة.
كما عرفها بعضهم بأنها :اسم لما أباحه الشارع عند الضرورة تافيفا عن المكلفين ،ودفعا للحرج عنهم.
ويفيد هذا أن الرخصة هي األحكام التي شرعها الشارع ،بناء على أعذار المكلفين ،ولوالها لبقي الحكم األصلي،
( - )1انظر :الشاطبي ،الموافقات ،ج/1ص 130-132بتصرف؛ أنظر أيضا :ص .122 -122
( - )2الفيومي ،المصباح المنير ،ص .023
39
-
فهي حكم استثنائي من أصل كلّي .وسبب االستثناء مالحظة الضرورات واألعذار دفعا للحرج عن المكلف.
والرخصة في أكثر األحوال تنقل الحكم األصلي من مرتبة اللزوم إلى مرتبة اإلباحة ،وقد تنقله إلى مرتبة الندب
أو الوجوب.
أنواع الرخص:
أوال :إباحة المحرم عند الضرورة:
وفي هذه الحال تكون الرخصة كاملة بذباحة المحرم ،مع قيام سبب الحرمة وحكمها ،وذلك كالتلفظ بكلمة الكفر مع
اهلل من بعد إيمانه إالَّ اطمئنان القلب إذا أكره أحد على ذلك بالقتل ،وهذه الرخصة ثابتة بقوله تعالى " :من كفر ب ّ
د ولهُم عذاب عظيم "النحل: من أُكره وقلبُهُ ُمطمئ ٌّن باإليمان ولكن َّمن شرح بال ُكفر صدرا فعليهم غضب من ّ
.٩١٦
ومثله :أكل الميتة وشرب الامر ،للمضطر إلنقاذ نفسه من خطر الموت ،كما في قوله تعالى" حُرمت علي ُك ُم
الميتةُ وال َّد ُم ولح ُم الانزير وما أُه َّل لغير ّ
د به وال ُمنانقةُ والموقُوذةُ وال ُمترديةُ والنَّطيحةُ وما أكل ال َّسبُ ُع إالَّ ما
ذ َّكيتُم وما ُذبح على النصُب وأن تستقس ُموا باألزالم ذل ُكم فسق اليوم يئس الَّذين كفرُوا من دين ُكم فال تاشوهُم
يت ل ُك ُم اإلسالم دينا فمن اضطُ َّر في مامصة غير ت علي ُكم نعمتي ورض ُ ت ل ُكم دين ُكم وأتمم ُ
واخشون اليوم أكمل ُ
د غفور رَّحيم المائدة .٤ :ألن حفظ الحياة ضروري ،فأباح الشارع الحكيم أكل الميتة عند ُ ُمتجانف إلثم فذ َّن ّ
الجوع الشديد الذي يااف فيه تلف النفس ،ومثلها شرب الامر ،وإتالف مال الغير عند اإلكراه.
ثانيا :إباحة ترك الواجب:
يباح ترك الواجب إذا كان في فعله مشقة تلحق المكلف ،مثل الفطر في رمضان للمسافر والمريض دفعا للمشقة،
وثبتت هذه الرخصة بقوله تعالى"" :لبقرة.٩٧٢ :
صرُوا من الصَّالة إن واستباحة قصر الصالة من قوله تعالى ":وإذا ضربتُم في األرض فليس علي ُكم جُناح أن تق ُ
خفتُم أن يفتن ُك ُم الَّذين كفرُوا إ َّن الكافرين كانُوا ل ُكم ع ُد ّوا مبينا"النساء ، ٩١٩ :فالجمهور يرون أن قصر الصالة
في السفر رخصة ،بينما يراه الحنفية واإلباضية عزيمة ال رخصة أخذا من حديث عائشة رضي د عنها (فرضت
الصالة ركعتين ركعتين فزيدت صالة الحضر ،وأقرت صالة السفر)(.)1
واعتبروا من هذا الصنف أيضا ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان المرء بحضرة طاغية يوقن أنه
سيقتله إن قام بواجب األمر والنهي.
ثالثا :تصحيح بعض العقود التي يحتاجها الناس ،وإن لم تجر على القواعد العامة ،مثل بيع السلم ،فقد أباحه
الشارع الحكيم مع أنه بيع معدوم ،وبيع المعدوم باطل على قول الجمهور خالفا البن تيمية وتلميذه ابن قيم
الجوزية ،ولكن أجازه الشارع استثناء من القواعد العامة في البيوع ،تافيفا وتيسيرا على المكلفين .ومنها أيضا :
عقد االستصناع ،أباحه الشارع مع أنه بيع معدوم لحاجة الناس إليه ،وفي منعهم منه حرج وضيق(.)2
ومثله عقد االستصناع .ورجوع األب في هبته لولده ،خالفا لقاعدة عدم جواز الرجوع في الهبة.
حكم الرخصة:
-األصل في الرخصة اإلباحة ،فهي تنقل الحكم األصلي من اللزوم إلى التايير بين الفعل والترك ،ألن مبنى
الرخصة مالحظة عذر المكلف ،ورفع المشقة عنه ،وال يتأتى تحصيل هذا المقصود إال بذباحة فعل المحظور
وترك المأمور به.
ومثل هذا :الفطر في رمضان للمسافر والمريض ،فلكل منهما اإلفطار عمال بالرخصة ،والصيام عمال بالعزيمة
إذا لم يضرهما الصوم.
( -)1الحديث متفق عليه .
( -)2علي حسب د :أصول التشريع اإلسالمي ص ،321 ،325والوجيز لزيدان ص .50 ،51
40
-
ويس ّمي الحنفية هذه رخصة الترفيه ،إذ لم ينعدم الحكم األصلي معها ،ولكن رخص للمكلف تركه ترفيها وتافيفا
عنه.
-ولكن األخذ بالعزيمة أولى مع إباحة األخذ بالرخصة ،في بعض األحيان .وهذا مثل إباحة إجراء لفظ الكفر على
اللسان ،مع اطمئنان القلب ،عند اإلكراه عليه بالقتل أو تلف العضو ،ولكن األولى :األخذ بالعزيمة لما في ذلك من
إرهار االعتزاز بالدين والصالبة بالحق ،وإغارة الكافرين وإضعاف نفوسهم ،وتقوية معنويات المؤمنين ،كما
حدب ألسيرين أخذهما أعوان مسليمة وسألوأ أحدهما أن يقول إن مسليمة رسول ،فقالها وأطلقوا سراحه ،ثم
سألوا اآلخر مثل ذلك ،فقال إني أصم ،فقتلوه ،فبلغ خبرهما النبي صلى د عليه وسلم فقال" :أما األول فأخذ
برخصة د ،وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له الشهادة".
-كما قد يكون األخذ بالرخصة أحيانا واجبا ،مثل تناول الميتة عند الضرورة ،بحيث إذا لم يأكلها المضطر مات
جوعا ،فذذا لم يفعل كان آثما لتسببه في قتل نفسه ،لقوله تعالى " :يا أيها الَّذين آمنُوا ال تأ ُكلُوا أموال ُكم بين ُكم بالباطل
د كان ب ُكم رحيما لنساء .٤١ :وقوله " :وأنفقُوا في إالَّ أن ت ُكون تجارة عن تراض من ُكم وال تقتُلُوا أنفُس ُكم إ َّن ّ
د يُحب ال ُمحسنين "البقرة .٩١٥ :فاإلنسان ال يملك نفسه ،وال د وال تُلقُوا بأيدي ُكم إلى التَّهلُكة وأحسنُوا إ َّن ّسبيل ّ
يجوز له أن يهلكها ،وهي وديعة مسؤول عن الحفار عليها .وال يتصرف فيها إال وفق ما شرعه د خالقها
ومالكها.
41
-
الحكم الوضعي
مضى بنا في تعريف الحكم الوضعي أنه «هو خطاب د تعالى المتعلق بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو
صحيحا أو فاسدا أو عزيمة أو رخصة»(.)1
وسنتاول بالبيان كل قسم من هذه األقسام بذيجاز غير ما ّل بذذن د.
السبب
دُ في الدنيا السبب في اللغة :ما يتوصل به إلى مقصود ما ،ومنه قوله تعالى " :من كان يظُن أن لَّن ينصُرهُ َّ
واآلخرة فليمدُد بسبب إلى السَّماء ثُ َّم ليقطع فلينظُر هل يُذهب َّن كي ُدهُ ما يغيظُ "الحج.٩٥ :
وفي االصطالح :ما جعله الشرع معرّفا لحكم شرعي ،بحيث يوجد هذا الحكم عند وجوده ،وينعدم عند عدمه.
وعلى هذا يمكن تعريف السبب في االصطالح :بأنه كل أمر جعل الشارع وجوده عالمة على وجود الحكم،
وعدمه عالمة على عدمه :كالزنا لوجوب الحد ،والجنون لوجوب الحجر ،والغصب لوجوب رد المغصوب إن
كان قائما ومثله ،أو قيمته إن كان هالكا .فذذا انتفى الزنا والجنون والغصب :انتفى وجوب الحد (العقوبة) والحجر
والرد أو الضمان.
أقسام السبب:
ينقسم السبب باعتبارات كثيرة ،نذكر فيما يلي أهمها:
أوال :السبب باعتباره فعال للمكلف ،أو ليس فعال له :ينقسم إلى قسمين:
القسم األول :سبب ليس فعال للمكلف وال مقدورا له
فذذا وجد السبب وجد الحكم ،ألن الشارع ربا الحكم به وجودا وعدما ،فهو إمارة لوجود الحكم وعالمة لظهوره.
كدلوك الشمس لوجوب الصالة ،وشهر رمضان لوجوب الصيام ،واالضطرار إلباحة الميتة ،والجنون والصغر
لوجوب الحجر.
القسم الثاني :سبب هو فعل للمكلف وفي قدرته
كالسفر إلباحة الفطر ،والقتل العمد العدوان لوجوب القصاص ،والعقود والتصرفات الماتلفة لترتب آثارها:
كالبيع لملك المبيع من قبل المشتري ،وإباحة االنتفاع له به.
وهذا القسم من السبب ،أي ما كان فعال للمكلف ،ننظر إليه نظرين:
األول :باعتباره فعال للمكلف ،فيكون داخال في خطاب التكليف ،وتجري عليه أحكامه ،فيكون مطلوبا فعله ،أو
مطلوبا تركه ،أو مايرا فيه.
الثاني :باعتبار ما رتب عليه الشارع من أحكام أخرى ،فيعد من أقسام الحكم الوضعي.
-مثل النكاح ،يكون واجبا عند خوف الوقوع في الزنا ،والوجوب حكم تكليفي ،ويكون سببا تترتب عليه
جميع اآلثار الشرعية ،من وجوب المهر والنفقة وغيرها ،والسبب حكم وضعي.
-ومثل القتل العمد العدوان واجب الترك جزما ،وهذا حكم تكليفي ،وهو سبب لوجوب القصاص ،وهذا
حكم وضعي.
-البيع مباح ،وهذا حكم تكليفي ،وهو سبب لثبوت ملك البائع للثمن ،والثبوت المبيع للمشتري ،وهذا حكم
وضعي.
ثانيا :باعتبار ما يترتب عليه ،ينقسم السبب إلى:
القسم األول :سبب للحكم التكليفي
َّ ُ
كالوقت جعله الشارع سببا إليجاب إقامة الصالة لقوله تعالى " :أقم الصَّالة ل ُدلوك ال َّشمس إلى غسق الليل وقُرآن
الفجر إ َّن قُرآن الفجر كان مشهُودا "اإلسراء ،٨٧ :وكالسفر إلباحة الفطر ،وملك النصاب لوجوب الزكاة،
والسرقة جعلت سببا إليجاب قطع يد السار ،وشرك المشركة جعل سببا لتحريم زواج المسلم بها.
( - )1وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي .ج ،1ص.22
42
-
القسم الثاني :سبب لحكم هو أثر لفعل المكلف
أي يكون السبب سببا إلثبات ملك أو ح ّل أو إزالتهما؛ كالبيع لملك المبيع من قبل المشتري ،والوقف إلزالة الملك
من الواقف ،والنكاح سبب للحل بين الزوجين ،والقرابة الستحقا اإلرب ،والشركة أو الملك الستحقا الشفعة.
الشرط
الشرط لغة :الشرط بفتح الراء العالمة ،جمعه أشراط ،ومنه أشراط الساعة التي وردت في القرآن ،قال تعالى" :
فهل ينظُرُون إ َّال السَّاعة أن تأتيهُم بغتة فقد جاء أشراطُها فأنَّى لهُم إذا جاءتهُم ذكراهُم "محمد.٩٧ :
والشرط بسكون الراء جمعه شروط ،وهو بمعنى إلزام الشيء والتزامه.
اصطالحا :ما يتوقف عليه وجود الحكم ،وكان خارجا عن حقيقته ،وال يلزم من وجوده وجود األمر ،ولكن يلزم
من عدمه عدم األمر.
المراد بوجود األمر وجوده الشرعي الذي تترتب عليه آثاره الشرعية ،كالوضوء للصالة ،وحضور الشاهدين لعقد
النكاح؛ ولكن ليس بالضرورة أن أداء الوضوء يترتب عنه الصالة ،فقد نتوضأ لقراءة القرآن أو للاروج من
البيت ،أو عند النوم ،كما أن الشاهدين قد يحضرا وال ينعقد النكاح.
والزوجية شرط إليقاع الطال ،فذذا لم توجد زوجية لم يوجد طال ،وال يلزم من وجود الزوجية الطال .
والشروط الشرعية هي التي تكمل السبب وتجعل أثره يترتب عليه؛ فالقتل سبب إليجاب القصاص ولكن بشرط أن
يكون قتال عمدا وعدوانا.
الشرط والركن:
يتفق الشرط والركن في أن كال منهما :يتوقف عليه وجود الشيء وجودا شرعيا.
وياتلفان في أن :الشرط أمر خارج عن حقيقته وماهيته.أما الركن فهو جزء من حقيقة الشيء وماهيته.
43
-
مثال :الركوع في الصالة ،فهو ركن فيها إذ هو جزء من حقيقتها ،وال يتحقق وجودها الشرعي بدونه ،والوضوء
شرط لصحة الصالة إذ ال وجود لها بدونه ،ولكنه أمر خارج عن حقيقتها.
ومثل اإليجاب والقبول في عقد النكاح ،فكل منهما ركن فيه ،إذ هو جزء من حقيقته ،وحضور الشاهدين شرط
لصحته ،ولكنه خارج عن حقيقته.
الشرط والسبب:
يتفق الشرط والسبب من جهة ّأن كال منهما مرتبا بشيء آخر بحيث ال يوجد هذا الشيء بدونه ،وليس احدهما
بجزء من حقيقته.
وياتلفان في أن وجود السبب يستلزم وجود المسبب إال لمانع ،فالسبب يفضي إلى مسببه بجعل من الشارع ،أما
الشرط فال يلزم من وجوده وجود المشروط فيه.
أقسام الشرط:
أوال :من حيث تعلقه بالسبب أو المسبب:
ينقسم الشرط ،من حيث تعلقه بالسبب أو المسبب ،إلى شرط للسبب وشرط للمسبب.
-1شرط مكمل للسبب :هو الذي يكمل السبب ويقوي معنى السببية فيه ،ويجعل أثره مترتبا عليه ،كالعمد العدوان
شرط للقتل الذي هو سبب إيجاب القصاص من القاتل ،والحرز للمال المسرو شرط للسرقة التي هي سبب
لوجوب الحد على السار ،ومرور الحول على نصاب المال شرط للنصاب الذي هو سبب للزكاة ،والشهادة في
عقد النكاح شرط لجعل هذا العقد سببا لترتب اآلثار الشرعية عليه.
-2شرط للمسبب :مثل موت المورب حقيقة أو حكما ،وحياة الوارب وقت وفاة الموروب ،فهما شرطان لإلرب
الذي سببه القرابة أو الزوجية.
ثانيا :من حيث اعتبار مصدر اشتراطه:
ينقسم الشرط باعتبار مصدر اشتراطه إلى :شرط شرعي وشرط جعلي.
-1الشرط الشرعي :وهو ما كان مصدر اشتراطه الشارع ،أي أن الشارع هو الذي اشترطه لتحقيق الشيء،
ومثاله :بلوش الصغير سن الرشد لتسليم المال له ،ومثله سائر الشروط التي اشترطها الشارع الحكيم في العقود
والتصرفات والعبادات والجنايات.
-2الشرط الجعلي :وهو ما كان مصدر اشتراطه إرادة المكلف ،كالشروط التي يشترطها الناس بعضهم على
بعض في عقودهم وتصرفاتهم ،أو التي يشترطها المكلف في تصرفه الذي يتم بذرادته المنفردة كالوقف .وهذا
الشرط على نوعين؛
النوع األول :ما يتوقف عليه وجود العقد ،بمعنى أن المكلف يجعل تحقق العقد معلقا على تحقق الشرط الذي
اشترطه ،ولهذا فهو من شروط السبب ،مثل :تعليق الكفالة على عجز المدين عن الوفاء ،أو تعليق الطال على
أمر ،كأن يقول الزوج لزوجته :إن سرقت فأنت طالق.
ويسمى هذا النوع من الشروط :بالشرط المعلق ،والعقد المشتمل عليه :بالعقد المعلق.
وليس كل العقود والتصرفات تقبل التعليق ،فمنها ما يقبله ومنها ما ال يقبله كعقود التمليكات ويلحق بها عقد النكاح
والالع .ومنها ما يقبل التعليق كعقد الهبة والوصية.
النوع الثاني :الشرط المقترن بالعقد ،مثل :النكاح بشرط أن ال يارج الزوج زوجته من بلدتها ،أو بشرط أن يكون
لها حق الطال ،وكالبيع بشرط أن يقدم المشتري كفيال بالثمن ،أو بشرط أن يسكن البائع في الدار المبيعة لمدة
سنة( .)1فهذه شروط ال يقتضيها العقد وال تنافيه فهي لذلك تعد صحيحة عند الحنابلة واإلباضية ،بينما ذهب
( - )1الشاطبي ،الموافقات ،ج025 -010 /1؛ خالف ،علم أصول الفقه ،ص 102 -112؛ إرشاد الفحول ،ص 2؛ الزحيلي،
الوجيز في أصول الفقه ،ص 132؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .52
44
-
جمهور الفقهاء إلى ردها باعتبارها تقييدا إضافيا على أحد الطرفين ،وإلزام له بما لم يرد به نص في الشرع.
المانع
تعريف المانع:
هو ما رتب الشارع على وجوده عدم وجود الحكم ،أو عدم السبب أي بطالنه ،فقد يتحقق السبب الشرعي وتتوافر
جميع شروطه ولكن يوجد مانع يمنع ترتب الحكم عليه.
وهو نوعا :مانع للحكم ،ومانع للسبب.
أوال -مانع الحكم :وهو ما يترتب على وجوده عدم وجود الحكم ،بالرغم من وجود سببه المستوفي لشروطه.
وإنما كان المانع حائال دون وجود الحكم :ألن فيه معنى ال يتفق وحكمة الحكم ،أي ال يحقق الغرض المقصود من
الحكم :كاألبوة المانعة من القصاص ،فذذا قتل األب ابنه عمدا ،لم يقتص منه ،ألن األبوة مانعة من القصاص،
وإنما تلزمه الدية فقا .لما في األبوة من معاني الشفقة والرحمة التي يضفيها على ولده ،فال يجوز أن يعامل
بنقيضها فيقتل به .وألن األب سبب لحياة االبن فال يكون االبن سببا لموت األب وإعدامه.
ثانيا -مانع السبب :وهو الذي يؤثر في السبب بحيث يبطل عمله ،ويحول دون اقتضائه لمسبب ،ألن في المانع
معنى يعارض حكمة السبب .ومثاله :الدين المنقص للنصاب في باب الزكاة ،فالنصاب سبب لوجوب الزكاة ،ألن
ملكية النصاب مظنة الغنى ،والغني قادر على عون المحتاجين ،ولكن الدين يعارض هذا المعنى الملحور في
سبب الزكاة – وهو الغنى -ويهدمه.
ومثاله أيضا قتل الوارب مورثه ،فهو مانع للسبب أن يأخذ مجراه ،ليصل إلى مسببه وهو استحقا اإلرب ،فهذا
المانع معنى يهدم أساس اإلرب ،وهو اعتبار الوارب خليفة للمورب ،لما كان بينهما من لحمة الدم والنصرة
والمواالة ،فهذه المعاني كلها تنهدم بجناية القتل.
أخيرا:
فذن المانع من حيث هو مانع :ال يدخل في خطاب التكليف ،فليس للشارع قصد في تحصيله وال في عدم تحصيله،
وإنما مقصود الشارع :بيان ارتفاع حكم السبب ،أو بطالن المسبب إذا وجد المانع.
ولكن ال يجوز للمكلف أن يقصد إيجاد المانع للتهرب من األحكام الشرعية ،وهذا من باب الحيل ،والحيل ال تحل
في شرع د ،ويأثم صاحبها ،كالذي يهب زوجته ماله في تمام الحول فرارا من الزكاة ،ثم يسترده بعد الحول.
ونظائر هذا في فقه الحيل كثير ،لعدم بصر الناس بمقاصد األحكام .وغايات التشريع(.)1
الصحة والبطال
أفعال المكلفين إذا وقعت مستوفية أركانها وشروطها ،حكم الشارع بصحتها .وإذا لم تقع على هذا الوجه ،حكم
الشارع بعدم صحتها ،أي ببطالنها.
الصحة اصطالحا:
معنى صحة األحكام هي أنها تترتب عليها آثارها الشرعية ،فذذا كانت العبادات برئت ذمة المكلف منها :كالصالة
المستوفية ألركانها وشروطها.
وإذا كانت من العادات ،أي المعامالت :كعقود النكاح والبيع والهبة ،ترتب على كل عقد اآلثار المقررة له شرعا،
من إثبات الح ّل ،تبادل ملك البدلين ،أو الملك بغير عوض.
( - )1زيدان ،الوجيز في أصول الفقه11 -15 ،؛ الزحيلي ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .121-122
( - )2خالف ،علم أصول الفقه ،ص .101
( - )3زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 12؛ خالف ،علم أصول الفقه ،ص .101
46
-
الحاكم
انطلقنا في البداية من تعريف الحكم الشرعي ،بأنه " خطاب د المتعلق بأفعال المكلفين".
وفي هذا التعريف إشارة إلى ان مصدر األحكام هو د وحده .فالحاكم في الشريعة :هو د تعالى باتفا العلماء،
سواء عُرف حكمه عن طريق الوحي ،أو باالجتهاد ،ودليل ذلك قوله تعالى " :قُل إني على بينة من رَّبي وك َّذبتُم به
ق وهُو خي ُر الفاصلين "األنعام.٥٨ : ما عندي ما تستعجلُون به إن الحُك ُم إالَّ ّهلل يقُص الح َّ
قال اآلمدي" :اعلم أنه ال حاكم سوى د تعالى ،وال حُكم إال ما حكم به"(.)1
إذن ،ال خالف أن الحكم هلل وحده ،والمشرع على الحقيقة هو د وحده ،وأن ما سواه منفذ ومتبع لما حكم به في
وحيه وشرعه .فالرسول صلى د عليه وسلم مبلغ عن د ،ومتبع وحيه ،والعلماء في اإلسالم ال يشرعون من عند
أنفسهم ،بل ال يعدو اجتهادهم أن يكون كشفا لحكم د في المسائل الحادثة .يتوصلون إليها بواسطة مناهج
االستنباط وضوابا االجتهاد التي تقررت في علم أصول الفقه(.)2
د تعالى ،إذ قو ُل يقول اإلمام الغزالي" :واعلم أنَّا إذا حقَّقنا النَّظر بان أ َّن أصل األحكام واحد ،وهُو قو ُل َّ
د تعالى أنَّهُ حكم بكذا وكذا فَا ْل ُح ْك ُم ِ َّ ِ
لِل تَ َعالَى دُ عليه وسلَّم ليس بحُكم ، ...بل هُو ُمابر عن َّ ال َّرسُول صلَّى َّ
د تعالى"(.)3ع يدُل على السنَّة ،والسنَّةُ على حُكم َّ َو ْح َدهُ .واإلجما ُ
وإنما الاالف بين العلماء فيما يعرف به حكم د:
هل ال بد لذلك من الشرع ،أم إن العقل بذمكانه إدراك األحكام قبل بعثة النب ّي؟
هذا اإلشكال عرف لدى العلماء بموضوع التحسين والتقبيح؟ هل هو شرعي أم عقلي؟
وإذا أمكن للعقل أن يدرك حكم د دون وساطة الرسل ،فهل يكون هذا اإلدراك مناط التكليف ،وما يتبعه
من ثواب وعقاب؟ أم يظل العقل معزوال عن نتائج ما يتوصل إليه من تحسين وتقبيح؟
هل يستقل العقل بإدراك األحكام؟
تحدب علما ُء األصول في هذا المبحث عن مسألة العقل ،وهل له دخل في األحكام وموضع منها؟ وتحدثوا عن
مسألة التَّحسين والتقبيح العقليين ،وهل المكلفُ مؤاخذ بما يتوصل إليه العق ُل قبل ورود الشرع ،أوقبل بلوش الدعوة
إليه؟
واختلفوا في هذه القضايا على ثالثة مذاهب ،نشير إليها باختصار ،إذ ال كبير جدوى من وراء اإلسهاب
فيها ،ألننا على يقين أن الحكم هلل ،وأن العقل متبع ال مشرع وال متبوع .وأنه مقيد بمصدر الوحي في الكتاب
والسنة .ألنهما حق ال مرية فيه ،وعلم ال شبهة فيه
مذهب األشاعرة:
ذهب األشاعرة وجمهور األصوليين ،إلى أن الحُسن والقبح شرعيان ،فما أمر به الشارع كاإليمان والصالة والحج
فهو حسن ،وما نهى عنه كالكفر وغيره من المحرمات فهو قبيح .ولو فرضنا أنه أمر بالمحرمات ونهى عن
الطاعات المعروفة ،لكان ما أمر به حسنا وما نهى عنه قبيحا.
ُ
ومن هذا المنطلق فاإلنسان ال يطالب بفعل شيء أو تركه إذا أدرك بعقله حُسنه أو قبحه إال بعد بلوش الدعوة ،فال
حكم لألشياء قبل بعثة الرسل ،وما لم يأت رسول يبلغ للناس أحكام ربهم ،ال يثبت ألفعالهم شيء ،وال يحرم عليهم
فعل شيء ،وحيث ال حكم فال تكليف ،وال حساب وال عقاب.
ويترتب عليه أنه ال عقاب من د تعالى على ترك الشاص ما رآه حسنا أو فعل ما رآه قبيحا إال إذا بعث د
مذهب الماتريدية.
يرى أبو منصور الماتريدي ،ومحققو الحنفية واإلباضية وبعض اإلمامية ،أن الحُسن والقبح عقليان ،ال يتوقفان
على الشرع ،بل يُدركهما العقل .ومتقدمو الماتريدية ياالفون متأخريهم ،فيقول متقدموهم :إن العقل قد يستقل في
إدراك بعض أحكام د تعالى ،وذلك كاإليمان وحرمة الكفر وكل ما ال يليق باهلل تعالى ،وتعتبر ذ َّمةُ العبد مشغولة
بما يُدركه العق ُل ،فمن لم يؤمن مثال عاقبه د تعالى ،ما لم يعفُ عنه ،سواء بلغتهُ الدعوةُ أم ال .وهؤالء يوافقون
المعتزلة في األشياء الظاهر حسنُها وقبحُها ،ولكن ال يقولون بتحتيم العقاب كما يقول المعتزلة؛ لجواز العفو من
د تعالى.
ومتأخرو الماتريدية يقولون :إن الحُسن والقبح عقليان كما يقول المعتزلة ،لكنهم ياالفون المعتزلة في أن الحُسن
والقبح ال يستلزمان حكما في العبد ،بل يصير موجبا الستحقا الحكم من الحكيم الذي ال يُرجج المرجوح ،فما لم
يحكم ليس هناك حكم .ولهذا ،فذنهم اشترطوا بلوش الدعوة في التكليف باالف المعتزلة .وهذا رأي اإلباضية أيضا.
فالفر ُ بين هؤالء المتأخرين وبين المعتزلة هو في وقوع التكليف ،فعند متأخري الماتريدية :ال تُعتبر ذ ّمةُ العبد
مشغولة بطلب الشيء فعال أو تركا ،وال جزاء من د مطلقا قبل ورود الشرائع ،ويتفقون مع المعتزلة في أن
العقول صالحة إلدراك مناط الثواب أو العقاب في بعض األفعال(.)2
يقول اإلمام الشوكاني" :وبالجملة فالكالم في هذا البحث يطول ،وإنكا ُر مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنا أو
قبيحا مكابرة ومباهتة ،وأ َّما إدراكه لكون ذلك الفعل الحسن متعلقا للثواب وكون ذلك الفعل القبيح متعلقا للعقاب
فغير ُمسلَّم ،وغايةُ ما تُدركه العقو ُل أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله وهذا الفعل القبيح يذم فاعله ،وال تالزم بين
هذا وبين كونه متعلقا للثواب والعقاب .ومما يُستدل به على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانهَّ " :من اهتدى
فذنَّما يهتدي لنفسه ومن ض َّل فذنَّما يضل عليها وال تز ُر وازرة وزر أُخرى وما ُكنَّا ُمعذبين حتَّى نبعث رسُوال
"اإلسراء ، ٩٥ :وقوله تعالى أيضا " :ولو أنَّا أهلكناهُم بعذاب من قبله لقالُوا ربَّنا لوال أرسلت إلينا رسُوال فنتَّبع
( - )1وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي .ج1ص .112وانظر :أبو زهرة ،أصول الفقه .ص ،12واآلمدي ،المصدر نفسه.
مج ،1ج ،1ص.110
( - )2انظر :وهبة الزحيلي ،المصدر السابق .ج1ص112إلى ،102وأبو زهرة ،المصدر السابق .ص12إلى ،11واآلمدي،
المصدر السابق .مج ،1ج ،1ص.113
48
-
دآياتك من قبل أن نَّذ َّل ونازى "طه ، ٩٤٢ :وقوله سبحانه " :رسُال مبشرين و ُمنذرين لئالَّ ي ُكون للنَّاس على ّ
دُ عزيزا حكيما "النساء ٩٦٥ :ونحو هذا"(.)1 ُحجَّة بعد الرسُل وكان ّ
الرأي الراجح:
إن المذهب الثالث هو المذهب الوسا والمعقول ،فأصول األخال والفضائل يدرك العقل حسنها لما فيها من نفع،
وأصول الرذائل يدرك العقل قبحها لما فيها من ضرر.
ولكن اإلنسان ال يكلف ديانة بالتعبد بشيء حتى يقوم عليه دليل من المشرع ،فال تعد ذمة العبد قبل ورود الشريعة
مشغولة بطلب شيء فعال أو تركا ،وال جزاء من د تعالى مطلقا قبل ورود الشرائع ،وما أدرك العقل حسنه
وقبحه من األفعال واألشياء ،يظل مستندا لقضاء مصالح اإلنسان الدنيوية دون تعلق لذلك بالجزاء األخروي(.)2
المحكوم فيه
تعريف المحكوم فيه:
هو ما تعلق به خطاب الشارع.
أي هو :فعل المكلف الذي تعلق به حكم الشارع.
والمحكوم فيه قد يكون فعال ،أو غيره .فذذا كان خطاب الشارع حكما تكليفيا كان المحكوم فيه فعال ،وإن كان حكما
وضعيا فقد نجده فعال كما في العقود والجنايات ،إذ جعل د العقود سببا لنشأة الحقو ،والجنايات سببا للزوم
الحدود والعقوبات .وقد ال يعود إلى فعل المكلف أصال ،كاألوقات التي جعلها د رروفا وأسبابا لكثير من
العبادات ،مثل دخول شهر رمضان لوجوب الصوم ،وحوالن الحول لوجوب الزكاة ،وبلوش الصبي لوجوب
التكاليف ونحو ذلك.
توضيح:
َّ َّ
وقد نجد المحكوم فيه متعددا في مثال واحد ،فقوله تعالى 141 ":وهُو الذي أنشأ جنات َّمعرُوشات وغير
معرُوشات والنَّال وال َّزرع ُماتلفا أُ ُكلُهُ وال َّزيتُون والر َّمان ُمتشابها وغير ُمتشابه ُكلُوا من ثمره إذا أثمر وآتُوا حقَّهُ
يوم حصاده وال تُسرفُوا إنَّهُ ال يُحب ال ُمسرفين" األنعام .٩٢٩ :تعلق الاطاب بفعل المكلف وهو إخراج الزكاة،
فذخراجها واجب ،وهو حكم تكليفي ،وتعلق بموعد الحصاد ،وهو سبب لوجوبها ،وهو حكم وضعي.
وفي قوله عز وجل ":يا أيها الَّذين آمنُوا أوفُوا بال ُعقُود أُحلَّت ل ُكم بهيمةُ األنعام إالَّ ما يُتلى علي ُكم غير ُمحلي الصَّيد
د يح ُك ُم ما يُري ُد " المائدة ،٩ :تعلق الاطاب بالوفاء بالعقود ،فالوفاء بها واجب ،وهو حكم تكليفي، وأنتُم ُحرُم إ َّن ّ
وتعلق بسبب الوفاء وهو العقد ،والسبب حكم وضعي ،وهو فعل من المكلف أيضا ،ألنه ينشا العقود بمحض
إرادته واختياره.
( - )1الشوكاني ،إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول( .قرص :كتب إسالمية).
( - )2زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 23 -12؛ الشوكاني ،إرشاد الفحول ،ص 2-2؛ الزحيلي ،الوجيز في أصول الفقه،
ص 121-122؛ خالف ،علم أصول الفقه ،ص .22-21
49
-
شروط المحكوم فيه:
.1أ يكو معلوما للمكلف علما تاما:
فال يصح التكليف بالمجهول ،ولهذا فذن التكليفات التي جاءت في القرآن مجملة بيّنها الرسول صلى
د عليه وسلم على وجه ينفي إجمالها؛ كالصالة والصوم والحج وغيرها من أحكام الدين اإلسالمي،
وقد أوكل د إلى رسوله مهمة بيان الذكر ،فقال بالبينات والزبُر وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للنَّاس ما
نُزل إليهم ولعلَّهُم يتف َّكرُون "[سورة النحل.]44 :
والمراد بالعلم :علم المكلف فعال ،أو إمكان العلم؛ بأن يكون قادرا بنفسه ،فمتى بلغ اإلنسان عاقال
قادرا على أن يعرف األحكام الشرعية بنفسه ،أو بالواسطة ،بأن يسأل أهل العلم بما ُكلف به.
واألصل في اإلنسان الذي نشأ في بيئة إسالمية أن يعلم أحكام دينه ،إما ألنها معلومة للناس ،أو يسأل
عنها أهل العلم ،فال عذر في الجهل باألحكام في دار اإلسالم.
وأما من كان في غير دار اإلسالم فيعذر بحسب حاله ورروفه.
أ يكو الفعل المكلف به مقدورا:
أي أن يكون من األفعال التي يمكن للمكلف فعلها أو تركها؛ ألن المقصود من التكليف االمتثال ،فذذا
خرج الفعل عن قدرة المكلف وطاقته ،لم يتصور االمتثال ،فيكون التكليف به عبثا .وتنزه د الحكيم
عن العبث.
ويترتب على شرط القدرة عدة أمور:
= ال تكليف بالمستحيل :سواء أكان المستحيل لذاته ،كالجمع بين النقيضين ،بأن يكون الفعل واجبا
ومحرما في الوقت نفسه ،أم كان المستحيل لغيره ،وهو ما لم تجر العادة بوقوعه .كتكليف شاص
بنقل الجبال ،أو عد حصى الرمال .فالتكليف بالمستحيل تكليف بما ال يطا ،ولهذا لم يأت به الشرع.
= ال تكليف بما ال يدخل تحت إرادة المكلف :كتكليف المكلف أن يفعل غي ُره فعال معينا ،ألن هذا
الغير ال يدخل تحت إرادة المكلف وقدرته ،فكل ما يستطيعه هو أن يأمره بالفعل ،فقد يستجيب وقد
يرفض.
ومن هذا القبيل أيضا التكليف باألمور الوجدانية والقلبية التي تستولي على النفس ،وال يملك اإلنسان
دفعها؛ كما قوله صلى د عليه وسلم {:اللهم هذا قسمي فيما أملك ،فال تلمني فيما تملك وال
أملك}( ،)1يعني في الميل القلبي لبعض أزواجه أكثر من البعض اآلخر.
وقول النبي صلى د عليه وسلم للصحابي "ال تغضب" ،ليس معناه االمتناع عن الشعور بالغضب،
ولكن المراد عدم االسترسال فيه .لما يعقبه من نتائج وخيمة.
الشاق في األعمال:
تبيّن لنا أن من شروط الفعل المحكوم فيه أن يكون مقدورا عليه ،ولكن هل يشترط فيه أن ال يكون شاقا؟
الواقع أن أي فعل ال يالو من مشقة ،فالمشقة من لوازم التكليف؛ ولكن إذا كانت المشقة معتادة تطيقها النفس
البشرية ،فال يلتفت إليها وال تكون حائال دون التكليف .أما المشقة غير معتادة التي ال تطيقها النفس إال بعد
ضيق وعنت شديد ،ففي حكمها تفصيل:
.1مشقة غير معتادة تطرأ على الفعل بسبب ظرف خاص بالمكلف:
وذلك مثل الصيام في السفر والمرض ،واإلكراه على كلمة الكفر ،واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذا ترتب عليه هالك محقق للقائم بهما .ففي هذه األحوال دفع الشارع الحكيم هذه المشقات بالرخص،
فأباح للمكلف ترك األفعال الواجبة ،وارتكاب األفعال المحظورة ،دفعا للمشا ،ورفعا للحرج.
ولكن الشارع جعل تحمل بعض المشا غير المعتادة من قبيل المندوب أحيانا ،كما في المكره على كلم
( - )1رواه أبو داود في سننه ،كتاب :النكاح ،باب :القسم بين النساء ،رقم .0132
50
-
الكفر ،والمهدد بالقتل عند قوله كلمة الحق ،فمن صبر ولم يلفظ بالكفر ،وصبر ونطق بالحق ،ثم هلك كان
أفضل له ،لما في ذلك من عزة للدين ،وإذالل للكفر والظلم.
.2مشقة غير عادية ولكن البد من تحملها لضرورة القيام بالفرض الكفائي:
وذلك مثل الجهاد؛ فهو فرض كفاية ،وإن كان فيه قتل النفس وإزها الروح وإتعاب الجسد ،ونحو ذلك
من المشا غير االعتيادية ،ولكنه مطلوب ألنه البد منه لحماية البالد من األعداء وحفظ الدين ،فهو
مندوب إليه بالمندوب للجزء ،أي للفرد الواحد ،وواجبا للكل ،أي بالنسبة إلى مجموع األمة وإن ترتب
عليه أذى بالغ ،وألنه فرض كفائي يجب أن يوجد في األمة؛ رغم ما فيه من مشقات عظيمة غير معتادة.
وكذلك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فهو ضرب من ضروب الجهاد ،وفرض كفائي ،واجب على
المجموع لحماية حدود الدين وحرمات المسلمين.
.3مشقة غير عادية ال تتأتى من ذات الفعل وإنما بسبب ما ألزم المكلف به نفسه:
وهذا النوع من األفعال ال يجوز ،فقد روي أن الرسول صلى د عليه وسلم رأى رجال قائما في الشمس،
فسأل عنه ،فقالوا :يا رسول د إنه نذر أن يقوم في الشمس وال يقعد وال يستظل ،وال يتكلم ويصوم ،فقال
النبي صلى د عليه وسلم {:مروه فليتكلم وليقعد وليتم صومه} .والسبب واضح ،فذن تعذيب الجسد
وتحميله المشا بال غرض مشروع وال مصلحة يعد عبثا ،فليس للشارع مصلحة في إيذاء الجسد ،بل
دُ شاكرادُ بعذاب ُكم إن شكرتُم وآمنتُم وكان ّ
المصلحة في حفظه والعناية به ،وقد قال د تعالىَّ :ما يفع ُل ّ
عليما النساء.٩٢٨ :
ومثله أيضا خير الثالثة الذين أعرضوا عن ملذات الحياة المباحة ،فأخذ بعضهم نفسه بقيام الليل،
وبعضهم بصيام الدهر وعدم الفطر ،وبعضهم باعتزال النساء وعدم الزواج ،فقال لهم صلى د عليه
وسلم" :أما ود إني ألخشاكم هلل وأتقاكم له ،لكني أصوم وأفطر ،وأصلي وأنام ،وأتزوج النساء ،فمن
رغب عن سنتي فليس مني"(.)1
فما يأخذ به بعض الصالحين أنفسهم من المشا الشديدة سلوك خاص بهم ،ال يكون عاما للناس ،وال
يجوز أن يلزم به غيرهم ،وربما كان بعضهم في مقام القدوة فاشي أن يتبعه العامة في االسترسال في
ملذات الحياة ،فتورع بسبب ذلك .أو آثر بعضهم المحتاجين وفضلوهم على أنفسهم بما آتاهم د من نعم
ومال .وإنما لكل امرئ ما نوى .أما تعذيب النفس دون غرض إلى العنت فهذا مرفوض في شريعة
اإلسالم.
أنواع المحكوم فيه
قسم الحنفية فعل المكلف الذي تعلق به حكم د تعالى إلى أربعة أقسام؛ ألن أفعال المكلفين إما أن يكون المقصود
بها مصلحة عامة أو خاصة ،فذذا كان المقصود بها مصلحة المجتمع عامة فالفعل هو حق د تعالى ،وإن كان
المقصود بها مصلحة خاصة فالفعل هو حق العبد ،وقد يجتمع الحقان ويتغلب أحدهما على اآلخر ،فهذه أربعة
أقسام:
حق هللا
وهو ما تعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد ،فينسب إلى د تعالى لعظم خطره وشمول نفعه.
وهذا الحق ال يجوز إسقاطه وال يحق ألحد التنازل عنه أو الاروج عليه.
وقد استقرأ الباحثون أنواعه فوجدوها ال تارج عن ثمانية أنواع هي:
.1عبادات محضة :وذلك كاإليمان والصالة والزكاة والصيام والحج ،ونحوها مما يحصل به ضروري الدين،
حق العبد
ما يتعلق به مصلحة خاصة ،ومثاله سائر الحقو المالية لألفراد؛ كضمان المتلفات ،واستيفاء الديون والدية،
ونحو ذلك.
وحكمه :أنه يجوز لصاحبه التنازل عنه أو استيفاؤه.
اعتراضات وجوابها:
االعتراض األول :إن تكليف من ال يفهم الاطاب قد ورد في الشريعة اإلسالمية ،فقد قال د تعالى :يا أيها
الَّذين آمنُوا ال تقربُوا الصَّالة وأنتُم سُكارى حتَّى تعل ُموا ما تقُولُون وال ُجنُبا إالَّ عابري سبيل حتَّى تغتسلُوا
وإن ُكنتُم َّمرضى أو على سفر أو جاء أحد من ُكم من الغآئا أو المستُ ُم النساء فلم تجدُوا ماء فتي َّم ُموا
د كان عفُ ّوا غفُورا النساء .٢٤ :فالسكارى حال سكرهم صعيدا طيبا فامسحُوا ب ُوجُوه ُكم وأيدي ُكم إ َّن ّ
مكلفون بالكف عن الصالة ،وهم ال يفهمون الاطاب إذ ذاك ،فكيف يقال :إن شرط التكليف القدرة على
الفهم؟
الجواب :إن الاطاب في هذه اآلية ليس موجها إلى السكارى حال سكرهم ،وإنما هو موجه إلى المسلمين
حال صحوهم بأن ال يشربوا الامر إذا قرب وقت الصالة .كما أنه من الجدير بالذكر أن هذه اآلية نزلت
قبل تحريم الامر بقوله تعالى " :يا أيها الَّذين آمنُوا إنَّما الام ُر والميس ُر واألنصابُ واألزال ُم رجس من
عمل ال َّشيطان فاجتنبُوهُ لعلَّ ُكم تُفلحُون 91إنَّما يُري ُد ال َّشيطانُ أن يُوقع بين ُك ُم العداوة والبغضاء في الامر
د وعن الصَّالة فهل أنتُم منتهُون "المائدة.١١ : ص َّد ُكم عن ذكر ّ والميسر وي ُ
االعتراض الثاني :أن الشريعة اإلسالمية عامة لجميع البشر ،بدليل قوله تعالى :قُل أرُوني الَّذين ألحقتُم به
دُ العزي ُز الحكي ُم سبأ ،٤٧ :وفي الناس غير العربي الذي ال يفهم اللغة العربية ،لغة ُشركاء ك َّال بل هُو َّ
القرآن ،وبالتالي ال يفهم خطاب الشارع ،فكيف يوجه الاطاب باللسان العربي إلى من ال يفهمه ويكون
مكلفا؟ وهل هذا إال مصادمة لشرط التكليف وهو القدرة على فهم الاطاب؟
الجواب :إن القدرة على فهم الاطاب شرط لصحة التكليف ،فالذين ال يفهمون اللسان العربي ال يمكن
تكليفهم شرعا ،إال إذا كانوا قادرين على فهم خطاب الشارع ،وذلك إما بتعلمهم لغة القرآن ،أو بترجمة
النصوص الشرعية أو معناها إلى لغتهم ،أو بتعلم أقوام من المسلمين لغات األمم غير العربية ،وقيامهم
بنشر تعاليم اإلسالم وأحكامه بلغتهم.
والطريق األخير هو الطريق األمثل ،فمن الواجب الكفائي على المسلمين أن يتعلم فريق منهم لغات األمم
غير العربية ،ونشر الدعوة اإلسالمية بينهم ،وتبليغهم أحكام اإلسالم بلغتهم التي يتكلمون بها.
تعريف األهلية:
لغة :الصالحية ،يقال :فالن أهل لعمل كذا ،إذا كان صالحا للقيام به ،وفالن أهل للرئاسة :أي جدير بها.
في اصطالح األصوليين والفقهاء:
هي :صفة يقدرها الشارع في الشاص ،تجعله محال صالحا لاطاب تشريعي(.)2
أنواع األهلية:
تنقسم األهلية إلى قسمين:
.2أهلية وجوب.
.3أهلية أداء.
أوال :أهلية الوجوب:
هي صالحية اإلنسان لوجوب الحقو المشروعة له وعليه .أي صالحيته ألن تثبت له الحقو إلزاما وتجب عليه
الواجبات التزاما.
( - )1زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 22 -22؛ الشوكاني ،إرشاد الفحول ،ص .11
( - )2الزرقا ،المدخل الفقهي العام ،ج.232 /0
54
-
مناط أهلية الوجوب :مناط هذه األهلية هي الصفة اإلنسانية ،فال عالقة لها بالسن أو العقل أو الرشد ،بالذمة ،أي
تثبت هذه األهلية لإلنسان بناء على ثبوت الذمة له.
والذمة في اللغة :العهد ،قال تعالى" :التوبة.٩١ :
وهي في االصطالح :وصف شرعي يصير اإلنسان أهال لما له وعليه.
وهي بهذا المعنى االصطالحي تثبت لكل إنسان ،إذ ما من مولود يولد إال وله ذمة ،وعليه يكون أهال للوجوب له
وعليه .وعلى هذا يمكن القول :إن أساس ثبوت أهلية الوجوب لإلنسان هو الحياة.
ثانيا :أهلية األداء:
ومعناها :صالحية الشاص لممارسة األعمال التي يتوقف اعتبارها الشرعي على العقل.
فهي صالحية اإلنسان ألن يُطالب باألداء ،وألن تعتبر أقواله وأفعاله وتترتب عليها آثارها الشرعية.
ويتضح من ذلك أن أهلية األداء هذه ال وجود لها في الطفل قبل أن يصير مميزا قادرا على فهم خطاب التكليف،
بحيث إذا صدر من المكلف تصرف كان معتدا به شرعا ،وإذا أدى عبادة كان أداؤه معتبرا ومسقطا للواجب ،وإذا
جنا على غيره أُخذ بجنايته مؤاخذة كاملة ،وعوقب عليها بدنيا وماليا ،وأساس هذه األهلية هو التمييز ال الحياة.
مراحل أهلية اإلنسا بحسب أطوار حياته:
تم ّر أهلية اإلنسان بمراحل في طريقها إلى التكامل بحسب أطوار حياته ،منذ أن يكون جنينا حتى بلوغه سن
الرشد .فاألهلية ترافق حياته كلها ،فتبدأ أهلية وجوب ناقصة ،ثم تنتهي إلى أهلية أداء كاملة.
ومراحل التكامل في أهلية اإلنسان توزع على هذه األدوار:
.1دور الجنين.
.2دور االنفصال إلى التمييز.
.3دور التمييز إلى البلوش.
.4دور ما بعد البلوش .ويعرف بعالماته المشهورة ،اإلنبات أو االحتالم ،أو اإلنزال أو الحيض والنفاس ،أو
السن المعتادة.
الدور األول :دور الجنين.
الجنين في بطن أمه – من العلو إلى الوالدة -قد ينظر إليه على أنه جزء منها ،فنحكم بعدم ثبوت الذمة له،
وعليه تنتفي عنه أهلية الوجوب.
وقد ننظر إلى الجنين من جهة كونه نفسا مستقلة ،ومنفردا عن أمه بالحياة ،ومتهيئا لالنفصال عنها وصيرورته
إنسانا قائما بذاته ،فنحكم بوجود الذمة له ،فتثبت له أهلية الوجوب.
وبمالحظة الجهتين فذنه لم تثبت له ذمة كاملة ،كما لم تنف عنه الذمة مطلقا ،وإنما أثبتت له ذمة ناقصة صالحة
الكتساب بعض الحقو فقا ،وهي أربعة باستقراء الفقهاء :النسب ،واإلرب ،والوصية ،والوقف ،وال يثبت شيء
عليه ،وبذلك كانت للجنين أهلية وجوب ناقصة.
الدور الثاني :دور االنفصال إلى التمييز
متى انفصل الجنين عن أمه حيا تثبتت له ذمة كاملة ،فتثبت له أهلية وجوب كاملة ،فتجب الحقو له وعليه .غير
أن الحقو التي تجب عليه ال تؤدى مثلما يؤديها البالغ ،ولذا فذن كل حق يمكن أداؤه عن الصبي يجب عليه ،وما
ال يمكن أداؤه عنه ال يجب عليه ،فالطفل يبقى فاقدا ألهلية األداء ،على التفصيل التالي:
.1حقوق العباد:
ما كان منها حقوقا مالية كضمان المتلفات ،أو نفقة األقارب ،أو دفع ثمن ما اشتراه أو استأجره ،ونحو ذلك؛
فذن هذه الحقو تجب على الصبي ،ألن المقصود منها هو المال ،وأداؤه يحتمل النيابة ،فيؤديه الولي نيابة عن
الصبي.
وما كان من حقو العباد عقوبة كالقصاص ،ال يجب على الصبي ألنه ال يصلح لحكمه ،وال تجوز النيابة فيه،
55
-
فلو جنا الصبي جناية ولو قتال لم يعتبر فعله ذلك إجراما؛ فال يستحق العقوبة ،بل لو أنه قتل مورثه لم يحرم
الطفل القاتل من ميراثه لسقوط المؤاخذة عنه.
فوجب التفريق بين األفعال المدنية والجنائية.
.2حقوق هللا تعالى:
منها ما كان أصال للعبادات أو عبادات خالصة ،فال يجب على الصبي من ذلك شيء ،على اختالف
الفقهاء في زكاة مال الصبي؛ ألنها تجب في المال والمال موجود.
ومثلها العقوبات ،كما ال يترتب على أي من أقواله أو أفعاله أثر شرعي فهي باطلة.
الدور الثالث :دور التمييز إلى البلوغ.
ويبدأ هذا الدور ببلوش الصغير السنة السابعة وينتهي بالبلوش ،فهو يمتد من سن تمييزه حتى يبلغ جسما وعقال.
وفي هذا الدور تثبت لإلنسان أهلية وجوب كاملة ،ألنها تثبت للصغير غير المميز فثبوتها للصغير – وهو أحسن
حاال منه -أولى ،فتثبت الحقو له وعليه.
أما أهلية األداء ،فتثبت للصغير في هذا الدور ،ناقصة لنقصان عقله ،ويترتب على هذه األهلية الناقصة صحة
األداء منه ال الوجوب بالنسبة لإليمان وسائر العبادات البدنية ،ألن فيها نفعا محضا للصغير.
أما تصرفات الصبي المالية ،ففيها تفصيل كما يلي:
.1تصرفات نافعة نفعا محضا للصغير :كقبول الهبة والصدقة والوصية ،وهذه التصرفات تصح من الصغير
ممارستها ،وتكون نافذة منه دون توقف على إجازة الولي أو الوصي؛ ألن تصحيح مثل هذه التصرفات
إذا باشرها الصغير ،ممكن ،بناء على وجود األهلية القاصرة ،وفي تصحيحها مصلحة راهرة له.
.2التصرفات الضارة بالصغير ضررا محضا :وهي تلك التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه دون
مقابل :كالهبة والوقف والصدقة واإلعارة ونحوها ،وهذه التصرفات ال تصح من الصغير ،وال يملك
فعلها ،بل ال تنعقد أصال ،وال يملك الولي أو الوصي تصحيحها باإلجازة ،ألن مبنى الوالية :النظر
للصغير ورعاية مصلحته ،وليس من النظر في شيء مباشرة التصرفات الضارة به ،أو إجازتها إذا
باشرها الصغير.
.3التصرفات المترددة بين النفع والضرر :كالبيع واإلجارة والرهن ،وسائر المعاوضات المالية التي تحتمل
الربح والاسارة ،فذذا باشرها الصغير المميز وقعت صحيحة باعتبار تمتعه بأصل أهلية األداء ،إال أنها
تكون موقوفة على إجازة الولي لنقص أهليته ،فال يستقل فيها برأيه ،بل البد من لنفاذها من موافقة وليه
عليها ،فذذا أجازها الولي انجبر هذا النقص ،واعتبر التصرف كأنه صادر من ذي أهلية كاملة.
الدور الرابع :دور ما بعد البلوغ:
البلوش أهم المراحل الطبيعية التي تمر بها حياة اإلنسان ،ألنه ينتقل من طور الصغر إلى طور الكبر.
فذذا بلغ اإلنسان عاقال ثبتت له أهلية أداء كاملة ،وصار أهال لتوجيه الاطاب إليه ،وتكليفه بجميع التكليفات
الشرعية ،وصحّت منه جميع العقود والتصرفات دون توقف على إجازة أحد(.)1
عوارض األهلية
معنى عوارض األهلية:
قد يعرض ويطرأ على اإلنسان بعد إكمال أهليته من األمور الجسمية أو العقلية ،ما يزيل أهلية األداء أو ينقصها،
أو ال يؤثر فيها باإلزالة والنقصان ،ولكن يغيّر بعض األحكام بالنسبة لمن عرضت له ،وهذه تسمى بعوارض
األهلية.
( - )1خالف ،علم أصول الفقه ،ص 132 -132؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .22 -20
56
-
أنواع العوارض:
.1عوارض سماوية
.2عوارض مكتسبة
العوارض السماوية:
هي التي تثبت من قبل صاحب الشرع بدون اختيار اإلنسان ،ولهذا نسبت إلى السماء ،ألنها أمر خارج عن قدرته،
مثل :الجنون ،والعته ،والنسيان ،والنوم واإلغماء ،الحيض والنفاس ،والمرض ،والموت.
العوارض المكتسبة:
وهي التي تكون بسبب كسب اإلنسان لها إما باختياره ،أو بذرادة خارجة عنه.
فهي نوعان :ما كان من نفس اإلنسان كالجهل والسكر والهزل ،وما كان من غيره وهو اإلكراه.
وسنتاول هذين القسمين بشيء من التفصيل مع التمثيل واالختصار.
عوارض األهلية السماوية
أوال :الجنو
عرّف بعض األصوليين الجنون بأنه :اختالل العقل ،ينشأ عنه اضطراب أو هيجان ،بحيث يمنع جريان األفعال
واألقوال على نهج العقل إال نادرا ،وينافي شرط العبادات وهو النية فال تصح منه وال تجب عليه.
وهو نوعان :أصلي وطارئ.
فالجنو األصلي :أن يبلغ اإلنسان مجنونا.
والجنو الطارئ :أن يبلغ عاقال ،ثم يطرأ عليه الجنون.
وكل منهما إما ممتد ،أو غير ممتد.
والجنون بنوعيه ال يؤثر في أهلية الوجوب ألنها تثبت بالذمة ،والجنون ال ينافيها ،ألنها ثابتة على أساس الحياة في
اإلنسان .إال أنه يؤثر في أهلية األداء فيعدمها ،ألنها تثبت بالعقل والتمييز ،والمجنون فاسد العقل عديم التمييز،
ولهذا كان حكمه حكم الصغير غير المميز في جميع أحكامه الفعلية والقولية التي سبقت اإلشارة إليها.
أما في العبادات :فذن كان الجنون ممتدا ،فذنه يسقا العبادات.
أما إذا كان الجنون غير ممتد فذن األداء وإن كان غير ممكن في حال الجنون إال أنه ممكن بعد اإلفاقة
على سبيل القضاء بدون حرج ،فكان األداء ثابتا تقديرا فيبقى الوجوب(.)1
ثانيا :العته
العته :اختالل في العقل ،يجعل صاحبه قليل الفهم ،ماتلا الكالم ،فاسد التدبير .وقد يترتب عليه فق ُد اإلدراك
والتمييز.
والفر بينه وبين الجنون ،أن الجنون اختالل في العقل أما العته فهو ضعف في العقل ،ينشأ عنه ضعف في
الوعي واإلدراك(.)2
وهو نوعان:
األول :عته ال يبقى معه إدراك وال تمييز ،وصاحبه يكون كالمجنون ،فتنعدم فيه أهلية األداء دون أهلية
الوجوب ،ويكون في األحكام كالمجنون.
الثاني :عته يبقى معه إدراك وتمييز ،ولكن ليس كذدراك العقالء ،وبهذا النوع من العته يكون اإلنسان البالغ
كالصبي المميز في األحكام ،فتثبت له أهلية أداء ناقصة .أما أهلية الوجوب فتبقى له كاملة.
وعلى هذا ال تجب عليه العبادات ولكن يصح منه أداؤها ،وال تثبت في حقه العقوبات ،وتجب عليه حقو العباد
( - )1الاضري ،أصول الفقه ،ص 22؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص .120
( - )2الزرقا ،المدخل الفقهي العام ،ج.222 /0
57
-
التي يكون المقصود منها المال ،ويصح أداؤها من قبل الولي كضمان المتلفات ،وتكون تصرفاته صحيحة ناقصة
إذا كانت نافعة له نفعا محضا ،وباطلة إذا كانت مضرة له ضررا محضا ،وموقوفة على إجازة الولي إذا كانت
دائرة بين النفع والضرر(.)1
ثالثا :النسيا
وهو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه.
فهو عارض يعرض لإلنسان فال يجعله يتذكر ما كلف به ،وهو ال ينافي أهلية الوجوب وال أهلية األداء ،لبقاء
القدرة بكمال العقل ،وهو ال يكون عذرا في حقو العباد.
أما في حقو د تعالى ،فالنسيان يعد عذرا بالنسبة الستحقا اإلثم ،فالناسي ال إثم عليه ،قال عليه الصالة
والسالم{ :إن د وضع عن أمتي الاطأ والنسيان وما استكرهوا عليه}( ،)2أما أحكام الدنيا فقد يكون النسيان
عذرا مقبوال فال تفسد عبادته :كما في أكل الصائم ناسيا(.)3
رابعا :النوم واإلغماء
النوم :عارض يمنع فهم الاطاب.
واإلغماء :كذلك عارض يمنع فهم الاطاب فو منع النوم له.
فهما ينافيان أهلية األداء ال الوجوب .وما دام اإلنسان نائما أو مغمى عليه فليست له أهلية أداء ،ألنها تقوم على
التمييز بالعقل ،وال تمييز لإلنسان في حال نومه أو إغمائه.
وعلى هذا ال يعتد بشيء من أقواله مطلقا ،وال يؤاخذ بأفعاله مؤاخذة بدنية ،حتى لو انقلب على إنسان فقتله لم
يعاقب بدنيا النتفاء القصد منه لعدم تمييزه واختياره ،ولكن يؤاخذ مؤاخذة مالية ،فتجب عليه الدية ،كما يجب عليه
ضمان ما يتلفه من مال بفعله.
أما بالنسبة للعبادات :فذن األداء في الحال مرفوع عن النائم والمغمى عليه ،ألن كال من النوم واإلغماء يوجب
تأخير الاطاب باألداء إلى وقت االنتباه واإلفاقة ،المتناع الفهم واستحالة األداء في هاتين الحالتين.
إال أن وجوب العبادة ال يسقا .ألن العجز عن األداء في الحال ال يسقا أصل الوجوب ما دام القضاء ممكنا بال
حرج.
ومثله اإلغماء إذا لم يكن ممتدا ،أما إذا امتد فذن الوجوب يسقا .النعدام األداء حقيقة باإلغماء ،وتقديرا للحرج
بالقضاء بعد اإلغماء ،وإذا انعدم األداء سقا الوجوب ،إذ ال فائدة من بقائه(.)4
خامسا :المرض
المراد بالمرض هنا غير الجنون واإلغماء ،وهو ال ينافي األهليتين :أهلية الوجوب وأهلية األداء؛ ألنه ال خلل
في الذمة والعقل والنطق.
فللمريض أهلية كاملة بنوعيها ،ولهذا تثبت الحقو له وعليه ،إال أن المرض يؤثر في بعض األحكام بالنسبة
للمريض مع ثبوت األهلية الكاملة له.
من ذلك :عدم نفاذ بعض تصرفاته ،مثل النكاح والطال إذا وقعا في مرض الموت.
ولصيانة حق الوارب والدائن يثبت الحجر على المريض بالقدر الذي يتحقق به صيانة هذا الحق ،وهو مقدار
الثلثين بالنسبة للوارب ،وجميع المال في حق الدائن إن كان الدين مستغرقا للتركة ،أو بمقدار الدين إن لم يكن
مستغرقا.
( - )1الاضري ،أصول الفقه ،ص 21؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 122؛ الزرقا ،المدخل الفقهي العام ،ج.223 /0
( - )2الاضري ،أصول الفقه ،ص 21؛ الزرقا ،المدخل الفقهي العام ،ج.213/0
( - )3زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 110وما بعدها.
59
-
االحتماالت.
ثانيا :الخطأ:
الاطأ يطلق ويراد به ما قابل الصواب ،ويطلق ويراد به ما قابل العمد ،ومنه قوله عليه الصالة والسالم{ :إن د
وضع عن أمتي الاطأ والنسيان وما استكرهوا عليه} ،وهذا المعنى هو المراد في بحوب عوارض األهلية.
ويمكن تعريفه بأنه وقوع القول أو الفعل من اإلنسان على خالف ما يريده ،وهو ال ينافي األهلية بنوعيها ،ألن
العقل قائم مع الاطأ ،ولكنه يصلح أن يكون عذرا في سقوط حقو د تعالى :كاطأ المفتي ،أو خطأ الذي جهل
القبلة وصلّى باجتهاده .وكذلك يصلح شبهة تدرأ العقوبات المقررة حقا هلل تعالى :كالحدود ،مثل حد الزنا.
وفي حقو العباد ،إن كان الحق عقوبة :كالقصاص ،لم يجب بالاطأ ،وإنما تجب الدية ألنه بدل المحل المتلف.
أما في حقو العباد المالية :كذتالف مال الغير خطأ ،فذن الضمان يجب وال ينهض الاطأ عذرا لدفع الضمان.
وفي المعامالت ال يعتبر الاطأ عذرا لمنع انعقاد التصرف ،وهذا عند البعض كالحنفية ،ولو طلّق الرجل خطأ وقع
الطال عندهم .وكذا ينعقد بيع الماطا لوجود أصل االختيار ،ويكون فاسدا لفوات الرضا.
وعند الجمهور ،كالشافعية وغيرهم :ال يقع طال الماطا ،وال يعتد بسائر تصرفاته القولية(.)1
ثالثا :الهزل:
الهزل أن يراد بالشيء ما لم يوضع له.
فالكالم وضع عقال إلفادة معناه الحقيقي أو المجازي .والتصرف القولي الشرعي موضوع إلفادة حكمه ،وإذا أريد
بالكالم غير موضوعه العقلي ،وأريد بالتصرف القولي غير موضوعه الشرعي وهو إفادته الحكم أصال ،فهو
الهزل.
فالهازل يتكلم باختياره ،وهو عالم بمعناه من غير قصد لموجبه ،فهو يباشر العقود والتصرفات عن رضا
واختيار ،ولكن ال يريد الحكم المترتب عليها وال ياتاره وال يرضى بوقوعه.
وهو ال ينافي أهلية الوجوب وال أهلية األداء ،ولكنه يؤثر في بعض األحكام بالنسبة للهازل.
ويمكن القول أن التصرفات القولية التي تقترن بالهزل ثالثة أقسام :هي اإلخبارات ،واالعتقادات ،واإلنشاءات،
ولكل قسم منها حكم ياصه.
.1اإلخبارات :وهي اإلقرارات ،والهزل يبطلها مهما كان موضوع اإلخبار.
.2االعتقادات :وهي األقوال الدالة على عقيدة اإلنسان ،والهزل ال يمنع أثرها.
ولهذا لو تكلم بكلمة الكفر هازال ،صار مرتدا عن اإلسالم ،ألن التكلم بكلمة الكفر هزال استافاف باإلسالم،
واالستافاف به كفر ،فصار الناطق بكلمة الكفر مرتدا بنفس الهزل وإن لم يقصد حكمه ،قال تعالى :ولئن
اهلل وآياته ورسُوله ُكنتُم تستهزؤُون ،ال تعتذرُوا قد كفرتُم بعدسألتهُم ليقُولُ َّن إنَّما ُكنَّا ن ُاوضُ ونلعبُ قُل أب ّ
إيمان ُكم إن نَّعفُ عن طآئفة من ُكم نُعذب طآئفة بأنَّهُم كانُوا ُمجرمين التوبة.٦٦ - ٦٥ :
.3اإلنشاءات :ومعناها إيقاع األسباب التي تترتب عليها األحكام الشرعية المقررة لها :كالبيع وإجارة وسائر
العقود والتصرفات ،وهي نوعان:
النوع األول :ال يبطله الهزل :كالنكاح والطال والرجعة .لقوله عليه الصالة والسالم{ :ثالب ليس فيهن لعب:
النكاح والطال والرجعة}( .)2فهي تصرفات ال تحتمل الفسخ.
( - )1الاضري ،أصول الفقه ،ص 125وما بعدها؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 115وما بعدها.
( - )2رواه مالك في الموطأ ،كتاب النكاح ،جامع النكاح ،رقم .22أنظر :اإلمام مالك ،الموطأ ،مراجعة :فارو سعد ،بيروت:
دار اآلفا الجديدة /الدار البيضاء :دار الرشاد الحديثة ،ط1225/3م.
60
-
النوع الثاني :ما يؤثر فيه الهزل باإلبطال أو الفساد :كالبيع واإلجارة وسائر التصرفات التي تحتمل الفسخ(.)1
رابعا :السفه
السفه هو الافة في اإلنسان تبعثه على التصرف في ماله على خالف مقتضى الشرع والعقل ،مع قيام العقل.
و ُع َّد السفه من العوارض المكتسبة ألن السفيه يعمل باختياره ورضاه على خالف مقتضى العقل.
وهو ال ينافي األهلية ،فالسفيه كامل األهلية ،مااطب بجميع التكاليف ،إال أن السفه يؤثر في بعض األحكام.
ويظهر هذا األثر في منع المال عن الصبي إذا بلغ سفيها ،وفي الحجر على البالغ العاقل بسبب السفه(.)2
خامسا:السكر
السكر :زوال العقل بتناول الامر ،وما يلحق بها بحيث ياتلا الكالم ويحصل الهذيان.
فالسكر يعطل العقل ويمنعه من التمييز ،وكان ينبغي لذلك أن تنعدم به أهلية األداء ويسقا عن السكران
التكليف ،وال يكون مااطبا بشيء حال سكره.
ولكن الفقهاء لم يقولوا بهذا في جميع حاالت السكر ،وإنما قصروه على حالة سكره إذا كان بطريق مباح ،أما
إذا كان سكره بطريق محظور فقد جعلوه مكلفا ومؤاخذا بما يصدر عنه على تفصيل واختالف فيما بينهم.
.1السكر بطريق مباح :وذلك إذا شرب المسكر اضطرارا ،أو إكراها ،أو عن غير علم بكونه مسكرا ،أو
شرب دواء فأسكره ،ونحو ذلك.
وحكم السكران بهذا الطريق حكم المغمى عليه ،فال يكون مكلفا بأداء شيء من حقو د تعالى حال
سكره ،وإنما عليه القضاء بعد إفاقته إن لم يكن في القضاء حرج عليه.
أما تصرفاته الفعلية فيترتب عليها آثارها بالنسبة لحقو العباد المالية ،فيؤاخذ بضمان المتلفات نفوسا
كانت أو أمواال ،وال يؤاخذ بأفعاله وجرائمه مؤاخذة بدنية ،ألن العقاب البدني مبناه العقل والتمييز،
والسكران فاقد العقل معدوم التمييز.
.2السكر بطريق محظور :اختلف الفقهاء في حكم السكران ومدى االعتداد بتصرفاته .وسبب اختالفهم :هو
أن زوال العقل جاء بطريق محرّم ،وعلى هذا األساس اختلفت أقوالهم في حكم تصرفاته.
أ .فيما يخص تصرفاته القولية:
-ذهب بعض الفقهاء إلى أن عبارة السكران ساقطة ،فال يعتد بشيء من أقواله.
-تعتبر أقواله ويعتد بها وتترتب عليها آثارها الشرعية ،فيقع طالقه وسائر تصرفاته القولية ،وهذا مذهب
الحنفية والشافعية والمالكية ،على التفصيل في بعض التصرفات.
ب .فيما يخص أفعاله:
ال اختالف في أن أفعاله المتعلقة بحقو العباد يؤاخذ عليها مؤاخذة مالية .أما المؤاخذة البدنية فالجمهور على
أنه يؤاخذ بها مؤاخذة بدنية ،فيقتل إذا قتل ،ويقام عليه الحد إذا زنى ،وغيرها من األحكام(.)3
سادسا :اإلكراه:
اإلكراه من العوارض المكتسبة ،ألنه من فعل الغير به .وعرف األصوليون اإلكراه بتعاريف كثيرة ،منها أن
اإلكراه :حمل اإلنسان غيره على ما ال يرضاه قوال أو فعال ،بحيث لو خلى ونفسه لما باشره.
وعرّفوه بأنه :حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتاويف يقدر الحامل على إيقاعه ،ويصير الغير خائفا به.
األلفاظ ذات الصلة:
-االختيار :معناه ترجيح فعل الشيء على تركه.
( - )1الاضري ،أصول الفقه ،ص 22وما بعدها؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 111وما بعدها.
( - )2الاضري ،أصول الفقه ،ص 120؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 112وما بعدها.
( - )3الاضري ،أصول الفقه ،ص 22؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص 102وما بعدها.
61
-
-الرضا :االرتياح إلى فعل الشيء.
أقسام اإلكراه:
-إكراه ملجئ :وهو أن يكون السبب الذي به االضطرار إلى الفعل يفوت نفسا أو عضوا ،وغلب على
الفاعل حصوله.
وحكمه :أن يفسد االختيار ويعدم الرضا.
-إكراه غير ملجئ :وهو أن يكون السبب الذي به التهديد ضربا ال يفضي إلى تلف عضو أو حبسا.
وحكمه :أنه يعدم الرضا وال يفسد االختيار.
شروط تحقق اإلكراه:
-أن يكون "ال ُمكرهُ" متمكنا من إيقاع ما هدد به ،فذن لم يكن متمكنا من إيقاع ما هدد به ،وكان ال ُمكر ُه
عالما بعدم مقدرته كان تهديده لغوا ال عبرة به.
-أن يكون "المكره" خائفا من التهديد ،بأن يقع في نفسه :أن المكره سيوقع ما هدد به عاجال يقينا أو على
غلبة الظن ،وأن يفعل ما أُكره عليه تحت تأثير هذا الاوف.
-أن يكون "المكره به" ،أي ما هدد به ضررا يلحق النفس بذتالفها ،أو بذتالف عضو منها ،أو بما دون
ذلك :كالحبس والقيد والضرب.
أما التهديد بذتالف المال إذا لم يكن يسيرا ،فهو تهديد معتبر ،يتحقق به اإلكراه عند الشافعية والحنابلة.
هل ينافي اإلكراه األهلية:
اإلكراه سواء أكان ملجئا أو غير ملجا ال ينافي األهلية بنوعيها ،وال يوجب سقوط الاطاب عن ال ُمكره؛ ألن
األهلية ثابتة بالذمة والعقل والبلوش ،واإلكراه ال يال بشيء منها.
أثر اإلكراه على التصرفات :
تنقسم التصرفات من حيث تأثرها باإلكراه إلى قسمين :
-التصرفات القولية :ال يترتب على قول المكره حكم وال أثر ،بل تهدر أقواله ،فال يقع طالقه وال بيعه وال
أي تصرف قولي سواء كان من التصرفات القولية التي تحتمل الفسخ وال تبطل بالهزل ،كالنكاح والطال ،أو
من التصرفات القولية التي هي إنشاءات تحتمل الفسخ وال تصح مع الهزل كالبيع.
بينما ذهب الحنفية إلى القول بصحة نكاح المكره وطالقه ،ونفاذها ،أما التصرفات التي تقبل الفسخ كالبيع
فجعلوها فاسدة مع اإلكراه .ال باطلة.
-التصرفات الفعلية :أما التصرفات الفعلية إذا وقعت بناء على إكراه غير ملجيء وأتى المكره بالفعل
تحمل هو وحده مسؤولية فعله كاملة ،وترتب عليه أثره كامال.
-وأما إذا كان اإلكراه ملجئا ،فاألفعال بالنسبة إليه ثالثة أقسام :
األول :األفعال التي أباح الشارع إتيانها عند الضرورة ،كشرب الامر ،واكل الميتة ،فهذه يباح
للمكره(الفاعل) مباشرتها ،وقد يصل حكم اإلتيان للوجوب ،فذذا امتنع أثم .وهو ما ذكرناه في مبحث الرخصة.
الثاني :وهو الذي يرخص في فعله عند الضرورة ،فمنه ما يكون األخذ فيه بالعزيمة أفضل ،فذذا فعله فال إثم
عليه ،وإن امتنع حتى لحقه األذى كان مأجورا ،كذتيان أفعال الكفر وقلبه مطمئن باإليمان .وقد ألحقوا بهذا
النوع اإلكراه على إفساد صوم رمضان للمقيم.
ومنه أيضا :إتالف مال الغير إال أن الضمان يكون على الحامل ال على الفاعل ،ألن فعل اإلتالف يمكن أن
ينسب إلى الحامل ،بجعل الفاعل آلة له فيثبت الحكم في حقه.
الثالث :األفعال التي ال يحل فعلها :كقتل النفس ،فذن الفاعل يأثم بالفعل ،ويعتبر الحامل هو القاتل ،فهو الذي
يقتص منه إذا كان القتل عمدا وعدوانا ،ألن القتل يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلة له ،والقصاص
إنما يكون على القاتل ال على آلة القتل وهذا عند الحنفية .أما عند الجمهور :القصاص يكون على الفاعل؛ ألنه
62
-
فعل ما ال يحل له باإلكراه ،وعلى الحامل أيضا لكونه قاتال بالتسبب .ومثل القتل الزنا ،إال أن أهل العلم اتفقوا
على أن الحكم يثبت في حق الفاعل ،ألن فعل الزنا ال يمكن أن ينسب إلى الحامل .واختلفوا في سقوط
العقوبة ،فقال الحنفية بسقوط العقوبة على الزاني للشبهة خالفا لغيرهم ،فقد قالوا بذقامة الحد عليه(.)1
) - (1الاضري ،أصول الفقه ،ص 122وما بعدها؛ زيدان ،الوجيز في أصول الفقه ،ص132وما بعدها.
63
-
خاتمة
بهذا العرض الوجيز تعريفا بعلم األصول وأهميته ونشأته ومدارسه ،وبيانا ألهم مباحث الحكم الشرعي
وأقسامه ،وما تضمنت من مسائل وقضايا ،نحسب أننا أوفينا هذا الجانب المهم من علم األصول بعض حقه،
راجين من الطالب الجاد ،والباحث الطموح أن يستوعب المادة بالتمكن منها فهما دقيقا ،والتوسع فيها بحثا في
مصادرها الوفيرة ،لتحقيق مقاصد دراسة هذا العلم األصيل ،فيدرك األساس الذي قام عليه علم الفقه
اإلسالمي ،وإن سمت همته سعى ليتمكن من ناصية االجتهاد ،ويسهم في تجديد هذا العلم وإحياء معالمه في
العصر الحاضر ،وما ذلك على أولي العزم ببعيد .ود من وراء القصد وهو يهدي إلى النهج السديد.
د .مصطفى باجو
قسنطينة الجمعة 17شوال 1429هص 17أكتوبر 2111
64
-
أهم المصادر والمراجع
ابن القيم ،إعالم الموقعين عن رب العالمين1222 ،هص1222 /م ،المكتبة العصرية ،بيروت.
ابن قدامة المقدسي ،روضة الناظر وجنة المناظر .تحقيق ،عبد الكريم النملة .ط1425 ،7هص 2114 -م،
مكتبة الرشد ناشرون ،الرياض.
ابن منظور ،لسا العرب المحيط.
أبو حامد الغزالي ،المستصفى من علم األصول .دار إحياء التراب العربي ،طبعة مصورة عن طبعة
بوال 1332 ،هص ،.بيروت.
أبو زهرة ،أصول الفقه .القاهرة ،دار الفكر العربي .د.ط .و د.ت.
اآلمدي ،اإلحكام في أصول األحكام .تعليق ،عبد الرزا عفيفي .الرياض ،دار الصميعي .وبيروت ،دار
ابن حزم .الطبعة األولى1424 ،هص 2113 -م.
جالل الدين المحلي ،الشرح على" الورقات في األصول" للجويني ،مطبوع مع إرشاد الفحول ،دار
الفكر.
الجويني ،البرها في أصول الفقه ،تعليق ،صالح بن محمد بن عويضة ،بيروت ،دار الكتب العلمية،
ط.1997/1
السرخسي ،أصول السرخسي ،تحقيق ،أبو الوفا األفغاني ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،ط.1993 /1
الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،بيروت ،دار المعرفة.
الشافعي ،الرسالة .شرح وتعليق ،عبد الفتاح كبارة .بيروت ،دار النفائس .الطبعة األولى1419 ،هص -
1999م.
شعبان محمد إسماعيل ،أصول الفقه ،تاريخه ورجاله.
شعبان محمد إسماعيل ،المدخل لدراسة القرآ والسنة والعلوم اإلسالمية ،القاهرة ،دار األنصار.
الشنقيطي ،نشر البنود على مراقي السعود .الطبعة الثانية2115 ،م ،دار الكتب العلمية بيروت.
الشوكاني ،إرشاد الفحول ،دار الفكر.
عبد الحميد بن باديس ،مبادئ األصول ،تحقيق ،عمار طالبي ،المؤسسة الوطنية للكتاب1911 ،م.
الجزائر.
عبد الرحمن بن خلدون ،تاريخ ابن خلدو ،اعتنى به ،أبو صهيب الكرمي ،الرياض ،بيت األفكار
الدولية.
عبد الكريم زيدان ،الوجيز في أصول الفقه1991 ،م ،مؤسسة الرسالة ،بيروت.
عبد الوهاب خالف ،علم أصول الفقه ،ط1991 ،1م ،الزهراء للنشر والتوزيع ،الجزائر.
الفيومي ،المصباح المنير ،ط ،2113دار الحديث ،القاهرة.
مالك بن أنس ،الموطأ ،مراجعة ،فارو سعد ،ط1915 ،3م ،دار اآلفا الجديدة ،بيروت؛ دار الرشاد
الحديثة ،الدار البيضاء.
محمد الاضري بك ،أصول الفقه ،ط1917 ،1م ،دار القلم ،بيروت.
محمد محدة ،مختصر علم أصول الفقه اإلسالمي ،دار الشهاب ،باتنة.
محمد مصطفى شلبي ،أحكام المواريث بين الفقه والقانو ،ط1915م ،الدار الجامعية ،القاهرة.
مصطفى أحمد الزرقا ،المدخل الفقهي العام ،ط1961 ،11م .دار الفكر ،دمشق.
وهبة الزحيلي ،أصول الفقه اإلسالمي .الطبعة األولى1416 ،هص 1916 -م دار الفكر ،دمشق.
65
-
وهبة الزحيلي ،نظرية الضرورة الشرعية ،ط1915 ،4م ،مؤسسة الرسالة ،بيروت.
66
-