Professional Documents
Culture Documents
كل القصص تنتهي ليلاً - زكرياء بلقاسم PDF
كل القصص تنتهي ليلاً - زكرياء بلقاسم PDF
هكذا ولدت كاثرين ،تحت بؤس أب سكير ،و حضن أم مذلولة ،ولدت في حضن
البؤس و الذل معا حين اجتمعا ،استقبلها اﻷب ثمال و استقبلتها اﻷم خوفا ،هكذا
ولدت يا كاثرين غير مرغوب فيك .كان والدك يدخل الحانة مساءا و يعود
أدراجه منتصف الليل ثمال يلتوي و يصيح ويلوح باﻷواني ،كان يضربني كل
يوم ،ثمنا لما أنجبت ،جزاءا لي ﻷنني أنجبتك بنتا و لم أنجبك ولدا ،فعلت ما
بوسعي ،كي تكملي دراستك ،و كان ذاك حلي الوحيد ،أنا و والدك لسنا من الطبقة
التي ستعيلك ،و ستؤمن لك الطعام و الشراب ،و لو فعلنا لن تستطيعي إتمام
دراستك ،وسط كوخ ملؤه التعاسة و الشقاء ،حاول والدك التخلص منك حين كنت
ﻻ تزالين مولودة صغيرة ،لقد أرادك والدك ولدا كي تعينيه ،وأنا أردتك بنتا كي
تعلميه ،لكي تعلميه أن المرأة مستقلة ،ذكية هي اﻷخرى ،و قادرة على العمل
خارج المنزل.
حين بلغت الثانية من عمرك ،أخدك والدك مني ،كنت تبكي حد الموت ،و هو
يأخذك إلى صديقه السكير ،كنت أبكي أنا أيضا ،و أتبعه راغبة مترجية ،أن يبقيك
في المنزل يوما فقط ،و سأتكلف أنا بالباقي ،لست أدري إن كنت تتذكرين هذه
الذكريات اﻻليمة بنيتي ،لكنني أتمنى أن تنسيها إلى اﻷبد ،فنحن عائلة فقيرة،
أنجبناك دون وعي منا بما قد نتسبب لك فيه ،من أزمات نفسية ،وما قد يضيع من
عمرك بسبب الفقر ،لهذا حبيبتي ،ترجيت والدك أن ﻻ يأخذك من فقر إلى فقر ،و
أخدنك أنا وأنت صغيرة إلى عائلة غنية ،و تركت لهم رسالة ترج ،لكي يعتنوا بك
وقد فعلوا.
كان عمر ميليسا خمسة وعشرين سنة حينما قرأت الرسالة وتساءلت :فيكتور من
هي كاثرين؟
تصببت قطرة عرق باردة و صامتة من إبط فيكتور وقد زادته توثرا ثم أمسك
بيدها بدفء وهو يطلب منها أن تجلس معه قرب المدفأة ﻷن ما سيخبرها به أمر
مهم للغاية :أنت اﻵن ناضجة بما يكفي لكي تعرفي الحقيقة
-حقيقة ؟
-نعم الحقيقة- ،استجمع قواه كأنه على وشك اإلفصاح عن أسد ثائر -ميليسا أمك
لم تمت في حادث ،أمك ﻻ تزال حية ،وقد طلبت..
-ما هذا الهراء...أخبرني أنك تمزح...أمي ماتت ...وزرت قبرها البارحة فيكتور
مالذي تقوله؟
-تلك ليست أمك ميليسا ،كريستي أدمس- ،ثم وهو ينهض من مكانه -مجرد قبر
امرأة مجهولة النسب ،ﻻ يزورها أحد ،تزورينها أنت فقط
-ماذا؟ -حاولت أن تنهض ثم سقطت على ركبتيها …-و كاثرين..ماذا عن كاثرين
؟ -استرسلت باكية -هل اسمي الحقيقي كاثرين؟
-نعم اسمك كاثرين ،اسمك الحقيقي هو كاثرين ،وقد طلبت أمك من عائلتي أن
تعتني بك و..
-و عائلتك قررت أن تزوجني بك ،استغليتموني لكي أتزوجك ،أقنعتني
عمتي...أمك أن أتزوجك رغم فارق السن الكبير بيننا..تبا لكم جميعكم..
-ميليسا عودي إلى هنا
-ليس بعد اﻵن ،سأخرج من هذا المنزل لألبد
لقد مرت سنون طوال على هذه الحادثة ،وميليسا أو كاثرين ﻻ تدري أي اسم
أصح ،تتذكر ماضيها البائس ،العقيم من ذكرى والدتها الحقيقية ،امها البيولوجية
التي انجبتها ،والدها التي هي من صلبه أتت ،تاهت وحيدة في متاهة الذكريات
بحثا عن وجه امها ،مالمحه ...جزءا و بصيصا من نحته ،لكن ذاكرتها لم تعنها،
يبدو ان امها محقة حين تساءلت هل تتذكرين يا كاثرين ،يبدو ان امنية امها قد
تحققت بعد فراق دام لسنوات عجاف من حضنها الدافئ ونظراتها الخائفة و عبقها
المليء بفيح الفقر وبؤس الحياة ،اتمنى انك نسيتي يا كاثرين ،نعم نسيت… نسيت
رحم امها الذي أمضت فيه تسعة أشهر ،و نسيت شكل المنزل الذي ذاقت فيه
مالمح البؤس ،وعصارة اﻻلم طيلة العامين البئيستين ،خبر سار و مفرح انها
نسيت ،لكنه مر ومؤلم ،خصوصا انها نسيت اسرتها الفقيرة ،و مالمح وجهها
الكئيبة ،ذكريات ضمآنة وقاحلة ملؤها السواد والعدم كأنها لم تكن أبدا ،ولم
تصادفها بدءا ،تشتاق إليها وهي ﻻتدري قساوتها… انه مغناطيس اﻻمومة يجدبها
الى رحم اﻻم التي استغنت عن ابنتها من اجل المستقبل الزاهر الذي تمنته لها،
لكن أي مستقبل هذا بدون حضن أم قاست و عانت و كدت من أجل سعادة
مولودتها الوحيدة ،مولودتها التي تمنتها مدرسة تدرس والدها و تعلمه مالم تعلمه
الحانات ،و القنينات الرخيصة التي فاحت فوح تعاسة عليه و على أمها ،والحياة
الليلة التي قضاها بعيدا عنها ،وعن ابنته الوحيدة والتي لم تزد اﻻوضاع إﻻ تأزما.
خرجت ميليسا من منزل فيكور وهي ﻻتدري مالذها ،أين تبيت و أين تشفي غليل
غياهبها ،تجر أرجلها بخطوات متسارعة ،وتدخل مبنى حيث الكل يلتوي ،كأس
جن مع تونيك من فضلك
تفضلي آنستي
شكرا
جن مع تونيك ،يبدو أنك في حال سيئة ،قال أحد رواد الحانة ،وهو يحك شعر
رأسه ،ثم يمد يده ،اسمي مايكل و ينادونني ماركيز دي سادي ،وبامكاني أن أقدم
لك نصيحة في ما يخص..
ﻻ شكرا
اغرورقت عينا مايكل حقدا وهو يعيد يده إلى مكانها ،بينما احتست ميليسا
مشروبها دفعة واحدة ،وبدت على مالمحها المرارة ،فرغم حالوة جن اﻻ أن قشر
الليمون يعطيه طعما مرا ،و نسبة اﻻيثانول المرتفعة فيه تجعل منه مشروبا يقرح
البلعم ،وضعت الكأس بقوة انتبه لها النادل وقالت ،مزيد من فضلك
تفضلي ،هذه آخر كأس لك سيدتي
أنا من يقرر أيها السافل ،شربت الكأس بسرعة و أحست بدوار شديد ،رباه،
أحاطت رأسها براحتي يدها ثم أجهشت بالبكاء ،بكاء تهاطلت فيه الدموع أمطارا،
و ترامت فوق رأسها حجارة الشقاء كأنها القدر ،وكأن القدر طير من طيور
أبابيل ،أحس الرجل المدعو مايكل الجالس بجانبها بالمرارة و الهم المخبآن في
قفص هذه اﻷنثى.
مابك؟ هل كل شيء على مايرام؟ قال مايكل وهو يحك على كتفها بدفئ أشعرها
بالحنان فأزاحت خيوطا من شعرها بللتها دموع الذكريات خلف أذنها ،ورمقته
بنظرات تطفو بين هم و غم ،ﻻشيء أشعر بدوار ش..د…
آنستي؟ آنستي؟ سحقا
الفصل الثالث
استيقظ ستيفن قبل ميليسا بدقائق ،ثم بدأ يرتدي مالبسه ،كانت ليلة البارحة مليئة
بمشاهد هوليوودية ،فبعد سنين طوال لم يحضى ستيفن بليلة حمراء كهذه ،إلى أين
أنت ذاهب؟ قالت ميليسا وقد أيقظتها برودة السرير.
-عندي عمل اليوم ،نلتقي غدا -حمل هاتفه ،ثم خرج من الغرفة التي احتضنتهما
طيلة الليلة وتبعته ميليسا مهرولة
-ستيفن ،ابقى معي أرجوك ،ابقى حتى نأكل وجبة الفطور على اﻻقل -توقف
ستيفن ثم استدار ووضع يديه على وجنتيها-
-لقد فعلت ،الفطور فوق الطاولة ميليسا ،سأتصل بك فور انتهائي من العمل ،قبل
جبينها ثم غادر ،بينما بقيت ميليسا واقفة ،تشاهده يغادر ثم يغلق الباب ،بينما
هرول هو مجريا اتصاﻻ بأحد زمالئه ،ألقاك بعد نصف ساعة ،نفس المكان،
سنغير الخطة!
أغلق الخط واستقل سيارة اﻷجرى ،شارع لونغ كوزواي ،مقهى ستاربوكس من
فضلك .
أخدت ميليسا حماما ساخنا سريعا ،ثم تناولت فطورها إلى غرفة المعيشة،
وأشعلت التلفاز ،اه كالعادة يتحدثون عن رمز بريطانيا ،الرسام اﻻسكتلندي ديفيد
روبرتس ،هذا الرسام الذي كان بداية ابن صانع أحدية ،ليتحول خالل سبع
سنوات من عمله في مكان للطالء إلى رسام محترف ،رسم من اللوحات الفنية
العديد ،ولعل أبرزها هي تلك التي رسمها عندما سافر إلى طنجة عام ،1832
لكن بالنسبة لي فإن أروع ما رسم هي لوحة معبد الكرنك ،التي صور فيها أكبر
معبد مسور على وجه اﻷرض ،هذا المعبد الذي يفصل بينه وبين المعبد اﻷقصى
ما يقارب الثالث كيلومترات أي 22ملعب كرة قدم تقريبا ،كل هذه المسافة
يتخللها على جانبي الطريق 1200تمثاﻻ بعضها تصور أكباش وأخرى أبي
الهول ،وتسمى هذه الطريق ،طريق اﻷكباش أو وات نثر بالمصرية القديمة ،وكل
كبش من هذه اﻷكباش يرمز إلى اﻻله آمون ،مما يعني أن المعبد قد أسس من
أجله ...كل هذه المعلومات باتت راسخة في ذهن ميليسا ،فهي متأثرة بالحضارة
المصرية والسومرية ،والحضارة اﻷكدية وغيرها من الحضارات القديمة التي
حيرت العلماء بألغاز بناياتها ،وفخامة معمارها ،وتعقيد هندستها ،لقد كتبت ميليسا
يوما مقاﻻ تقريريا لطلب من رئيس التحرير عن الحضارة السومرية ،حيث كان
الموضوع مركزا حول نظرية اﻷنوناكي وكيف أسست الحضارة السومارية إلى
هذا المفهوم الذي يعني الخمسون الذين نزلوا من السماء إلى اﻷرض قبل 445
ألف سنة ،وتقول اﻷسطورة السومرية أنهم جاؤوا من كوكب نيبيرو الذي يتموقع
بين كوكبي المريخ وزحل ،واليوم هذا الكوكب ،هو الكوكب الغازي المشتري اله
البرق والرعد عند الرومان ،لكننا ﻻ ندري هل كان السومريون يقصدون
المشتري أم أحد أقمار المشتري اﻷربع والستين .لحد اﻵن يعتبر اﻷنوناكي لغزا
محيرا ،خصوصا أن السومريين كانوا متطورين بحيث صنعوا العجالت
والسفن ...ومما يزيدنا حيرة أمام هذا اللغز هو اﻷلواح الطينية التي تشير بشكل
صريح إلى أن المعرفة الكبيرة التي توصلوا إليها قد نقلت إليهم من اﻷقوام
الفضائين.
وصل ستيفن إلى مقهى ستاربوكس ،وجلس ينتظر زميله بين حشد من الناس،
قهقهات تسافر عبر أشعة الشمس الصباحية ،لتطبع الجو بنسيم هادئ اﻷعصاب،
هكذا هم سكان المدينة ،هادؤون ،دمهم بارد كأنهم أفاعي أليفة ،على يمين ستيفن
يجلس شاب وشابة يتحدثان عن تطور اﻷديان ومدى تشابهها ،لقد شكل الوضوء
في المسيحية جزءا مهما في العبادة ،وﻻ شك أن الديانات التي اشتقت عنها لم
تفرط في هذا الطقس المهم ،فالوضوء حسب اﻷرثدوكس والبروتستانت
والكاثوليك ،فسر على أنه طهارة جسدية وروحية ومن تم عقلية وأدبية ،وبدون
هذه الطهارة المسيحية لن يتمكن اﻻنسان من التقرب إلى هللا ،وﻻ أعتقد أن
الديانات اﻷخرى قد فرطت في هذا اإلرث الديني ،فالوقوف أمام هللا يحتاج إلى
استعدادات وإجراءات تليق بمقامه.
أتفق معك تماما ،لكن عندي إضافة مهمة ،أﻻ وهي أنه ﻻ يجدر بنا أن ننسى
اإلجراءات اﻷولية ﻻعتناق الدين المسيحي كالسر المعمودي مثال ،هذا السر
الرمزي الذي يتطهر من خالله اإلنسان من الخطيئة اﻷولى ،والعماد هنا يعني
موت ياسوع من أجل مسح خطيئتنا ،وعودته إلى الحياة من جديد ،وبشكل رمزي
تطور هذا الطقس ،عبر العصور ،ليصبح غطس المعمد في الماء يعني اغتساله
من الخطيئة ودخوله إلى حياة جديدة ،صفحة بيضاء سيملؤها بالمحبة وحب
الخير...
جلس ستيفن يقتطف الكلمات من شفتي الشابين ،وعلى وجهه ابتسامة ساخرة ،آه
لو تعلمان أن أكبر خطيئة ارتكبتها الكنيسة ،هي أنها قتلت غاليليو ،وأثارت
الرعب في غياهب كوبرنيكوس ،لو تعلمان أن أكبر جريمة ارتكبتها الكنيسة هي
أنها حرقت ميخائيل سيرفيتوس حيا في جنيف ،تحت شعار ما يسمى بمحاكم
التفتيش ،التي اعتبرت نفسها محاربة للبدع الهرطوقية ،لكن بعد أن تمكن العلم من
فرض نفسه ،وتحققنا من صحة هذه التي سميت بدع ،أﻻ يسعنا القول أن ما
جاءت به الكنيسة هو الهرطقة؟ تساءل ستيفن وهو يشعل سيجارته ويلوح لصديقه
الذي يبعد عنه بياردات قليلة.
جعل هوبز يقترب من ستيفن شيئا فشيئا إلى أن استقر جالسا في كرسي خشبي
أسود يشبه السلة ،كيف الحال ستيفن؟
-ﻻ يهم ،ليس لدينا وقت للبوح بحالتنا النفسية ،أخبر فيكتور أن ....تسمر هوبز
مكانه يستمع إلى الخطة الجديدة ثم غادر حامال الخبر إلى فيكتور دون أي
اعتراض...سأفعل...لكن...ﻻ بد أنك جننت يا ستيفن !
الفصل الرابع
استفاقت كاثرين وقد استوطنت أشعة الشمس وجهها ،ثم بدأت ترمق الغرفة
بعيناها المخمورتين ،والخوف يتخلل جسدها ،أين أنا؟ كيف وصلت إلى هنا؟
نهضت من مكانها مشلولة اﻷطراف ،وراحت تتجول في الغرفة وتفتش في كل
ركن وزاوية ،عن أي شيء قد يشفي دوي أسئلتها ،ثم أخدت تبحث في دوﻻب من
خشب الزان اﻷروبي ،أخد أمام السرير القديم الطراز مكانا له ،ما هذا؟ أمسكت
كاثرين الصندوق مذهولة بجماله ،غير مدركة لمحتواه ،تتحسس خشب اﻵرو
اﻷمريكي الذي تحول إلى تحفة فنية ،كأنه صندوق إيملي المرعب ،أو صندوق
باندورا ،أي صندوق هذا؟ إنه صندوق يعود إلى القرون الوسطى- ،قال مايكل،
وهو يحمل معه سينية عليها بعض الطعام -هل راقك؟ لقد حصلت عليه من خالل
صديق مهووس بجمع التحف الفنية ،تقول اﻷسطورة أن هذا الصندوق استعمل
ﻷغراض دينية- ،وضع السينية على السرير ثم استرسل -ربما لطرد اﻷرواح
والزج بها بداخله.
صمتت كاثرين ،وهي تتحسس الخشب والنحوت التي نحتت بيد نحات مخضرم،
ﻻبد أن لهذه النقوش معنى! رفعت رأسها وصوبت نظرها نحو مايكل باحثة عن
جواب ،وهذه النقوش؟...هل تحمل معنى؟
-إنها مجرد زركشة يهودية ،ذات معنى ديني ما- ،رمق مايكل عينا كاثرين اللتان
انغمستا اعجابا بطريقة النحت ثم أضاف مكمال حديثه -ما ترينه يسمى النحت
البارز ،انها طريقة استعملها المصريون في لوحة نارمر ،قبل 3500سنة ،وهي
طريقة يتم خاللها نقش أو تجسيد الرموز بحيث تكون بارزة ،وكأنها قطع أو
مجسمات ملصقة على الخشب ،أما هذا على شمالك- ،أشار باصبعه إلى الجانب
اﻵخر من الصندوق -يسمى النحت الغائر ،وهو النحت الذي استعمل قديما من
طرف المصريين لنقش رأس أخناتون أي قبل أزيد من 1540سنة قبل الميالد،
وهي طريقة صعبة مقارنة مع النحت البارز ،أما هذه النجمة الخماسية التي تمثل
قفل الصندوق فقد نحثت بطريقة تسمى النحت البارز المجسم ،وهي طريقة
استعملها اﻵشوريون لنحت حارس باب خورساباد قبل 800سنة قبل الميالد.
-ماذا عن هذا النحت فوق السطح؟
-هذا ليس نحتا ،إنها فسيفساء...،طريقة استعملها السومريون ،كما استعملها
الرومان ،لغرض تزيين أغراضهم من خالل لصق قطع زجاجية أو أحجار
كريمة ،وغالبا ﻻ يكون الغرض منها إعطاء معنى للمجسمات ،فكما قلت الغرض
الوحيد من المزاييك -الفسيفساء -هو اعطاء لمسة فنية...
-يبدو هذا مثيرا لالهتمام
-نعم ...تفضلي أحضرت لك بعض الطعام
-اه ،شكرا...ﻻ أتذكر كيف وصلت إلى هنا ،لكنني متأكدة أنك لست بشخص سيء
ابتسم مايكل ساخرا وهو يخلع قبعته ،ليظهر شعره اﻷملس الكثيف ،ﻻ أظنني
كذلك ...البارحة ارتدت الحانة ،وكجميع الزبناء الجدد وقعت في الفخ!
-أي فخ ؟
-إنه فخ ينصبه النادل للزبناء الجدد ،لغرض المتعة ،بحيث يعطيهم مشروبهم
ويضيف إليه نسبة مهمة من اإلثانول وذلك لغرض افقادهم اﻻنسجام مع
عضالتهم ،فشرب كمية قليلة إلى معتدلة من اإلثانول ليست قاتلة لكنها قادرة على
جعلك بداية تفقدين القدرة على النطق ثم الوعي ،وحالما تفقدين الوعي تكونين قد
نسيتي نوع المشروب الذي احتسيته ،وكم كأسا احتسيت ،ولوﻻ أن الفخ يقتضي
شرب كأسين ،لكنت قد تسممت ،وﻻ أعتقد أننا كنا سنستمتع بهذا الحديث
-اه ،ﻻ أستطيع التركيز...
-سيفوتك اﻷمر ،فاﻻثانول يفقد شاربه القدرة على التركيز ،تناولي طعامك
وستصبحين على ما يرام
أخدت كاثرين تأكل الخبز المحمص بشراهة لم تعهدها ،إنه لديذ !
-هنيئا مريئا -نهض مايكل من فوق السرير وأخد يجر أقدامه صوب باب الغرفة
مغادرا
-هل يمكنني المكوث هنا لبعض الوقت؟ ليس لدي مكان أبيت فيه...ما إسمك؟
استدار مايكل وخطى خطوتين إلى الوراء ،نعم...واسمي مايكل ،مفاتيح المنزل
تجدينها على باب مكتبي ،أعاد قبعته إلى رأسه وغادر الغرفة تم المنزل.
سمعت ميليسا صرير الباب وقد أغلق ،فخرجت هي اﻷخرى من غرفتها
تستكشف المنزل الجديد ،هذا هو مكتبه إذن .
أخدت تتحسس خشب المكتب بأصابعها ذهابا وإيابا ،وهي تمسح بعينها مدهوشة
الكم الهائل من الكتب على المكتبة الجدارية التي تحيط بغرفة المكتب ،تم رمقت
كتابا غريب الشكل فوق المنضدة ،التي اخذت من بين كرسيين جلدين أسودين
مكانا لها ،ما هذا؟ كان قد كتب على الكتاب بخط مائل مخطوطة فوينيتش ،قرأت
كاثرين النص بصعوبة وفتحت الكتاب محاولة بذلك استكشاف هذه المخطوطة،
يبدو أنها قديمة جدا! قالت مخاطبة نفسها وهي تقلب اﻻوراق باستغراب،
فمخطوطة فوينيتش هي مخطوطة مكتوبة بلغة تشفيرية غير مفهومة ،ورسوم
عجيبة يصعب على القارئ استيعاب ما يرمي إليه الكاتب من خاللها ،ولحد اﻵن
تعتبر هذه المخطوطة لغزا محيرا ،وﻻ يزال كاتبها مجهوﻻ لحد الساعة ،إﻻ أن
هناك بعض الفرضيات تقول أن الراهب الفرانسيسكاني روجر بايكون هو كاتب
هذه المخطوطة ،لكن هناك من ذهب إلى غير ذلك وقال أن كاتب المخطوطة هو
إدوارد كيلي الخيميائي الذي زعم أنه يستطيع تحويل النحاس إلى ذهب من خالل
مسحوق سري أخده من قبر أحد اﻷساقفة ،تقول الحكاية أن إدوارد كيلي قد كتب
هذا الكتاب ليخدع اإلمبراطور ،إذ ربما كان يود إقناعه بلقائه مع المالئكة في
رحلة سماوية ،لذلك كتب المخطوطة بخط غير مفهوم حتى ينخدع اإلمبراطور
ويصدق أنه خط اللغة اإلدريسية أي لغة المالئكة .حاولت كاثرين أن تخمن أي
لغة هذه كتبت بها المخطوطة لكن دون جدوى ،رصيدها المعرفي خانها ،لكنها
أحست بأن أمامها الكثير لكي تتعلمه من مايكل ،فهذا القدر من الكتب ﻻ يمكن أن
يمتلكه إلى حكيم.
الفصل الخامس
في طريقه إلى الحانة أخد هوبز يفكر فيما قاله له ستيفن ،وهو يتمنى أن تخرج
عاقبة الخطة بسالم ،أخبر فيكتور أن المرأة التي يطاردها ليست ميليسا التي
يعتقد ،ميليسا ماتت في حادثة سير ...ﻻبد أن رئيسي جن ...ﻻ لقد جن بالفعل !
دخل هوبز بشعره اﻷشقر وعيناه الجاحظتين الحانة ،وبدأت عيناه تتثنى يمينا
فشماﻻ ،ثم أومأ برأسه ،وسار يتبع خطوات رجل أصلع يرتدي سترة سوداء
ونظارات تخفي مشاعره ،فالحراس ﻻبد أن يخفوا مشاعرهم أثناء مهماتهم لهذا
يرتدون مثل هذه النظارات السوداء ،أمال منهم أﻻ تنكشف مشاعر الخوف ،أو
ربما الذعر والتفاجؤ ،وتسمى هذه الطريقة ،طريقة البوكرفايس ،وهي طريقة
يستعملها المقامرون في لعبة البوكر ،حتى ﻻ تظهر عليهم أية مالمح قد تكشف
عن الورقة التي يحملونها ،أما النظارات فهي تخفف من التوتر الذي تسببه أعين
الناس ،دخل هوبز والحارس إلى مكان ما تحت الحانة دون أن ينبس أحد ببنت
شفة ،استمرا في المشي لمدة دقيقة حتى وصال إلى باب يحرسه رجلين أسودي
البشرة ،فتح الباب ،ودخل هوبز فاستوقفه حارس آخر بدأ بعمل روتيني لضمان
سالمة رئيسه ،هل تحمل أية أسلحة؟
-ﻻ عندي رسالة أود إيصالها إلى رئيسك
نبش الحارس جسد هوبز لكي يتأكد من صحة كالمه ،ثم تركه يتقدم إلى مكتب
فيكتور.
-إذا كان رئيسك يرغب في مال زيادة ،فأخبره أن فيكتور قد سئم من اللعب معك
-لست الوحيد الذي نعمل معه ،احفظ مالك عندك ،ميليسا ماتت في حادثة سير،
والمرأة التي نطارد ليست هي ميليسا التي تبحث عنها...
استدار فيكتور بكرسيه ووقف ثم وضع يديه على المكتب ،من اﻷفضل أن
تخبرني أنك تمزح !
-لقد أضعت وقتنا ،في المرة القادمة تأكد من ضحاياك ،انتهى عملنا معك
-كيف ليست ميليسا؟ ما الذي تقصده؟ أنا متأكد أنها هي!
رمق هوبز ساعة يده وأمسكها بطرفي سبابته وإبهامه ،ليس لدي وقت لشرح ما
تسببت فيه ،وضع ظرفا أبيض على المكتب المليء بديكورات صغيرة ،هذا
الظرف دليل على أن ميليسا ليست هي تلك المرأة التي كنا نطاردها.
تسمر فيكتور مكانه ،بينما استدار هوبز وخطى خمس خطوات ثقيلة ثم توقف
وهو يشير بيده إلى اﻷعلى ،آه نعم نسيت ،ستيفن ...تلقاه في المرآب حيث تضع
سيارتك على الساعة العاشرة ليال ،الحضور إجباري.
في هذه اﻷحيان ،غفت ميليسا أمام شاشة التلفاز ،وقد تعاقبت عليها البرامج
الخريفية التي تبثها القنوات المحلية ،لطالما أحست ميليسا بميوعة هذه البرامج،
ففي فصل الخريف ،وخصوصا شهر نوفمبر -نونبر -يقضي الناس معظم أوقاتهم
رفقة عائالتهم ،يستعدون لفصل شتوي جديد ربما يتبادلون القصص ،الذكريات,
ذلك يجعلهم ﻻ يقضون وقتا طويال أمام التلفاز ،وهذا يجعل الشركات التلفزية ﻻ
تجتهد في برامجها ،بل تبث ما بثته سنوات مضت ،نفس الوثائقيات ،نفس
السيمفونيات ،ونفس اﻷشخاص في نفس القنوات وبنفس البزات ،بل وفي نفس
البالطوهات ،ﻻ شيء جديد على اإلطالق ،حتى العمل بات ممال بالنسبة لميليسا،
التي توقفت هذا اﻻسبوع عن الكتابة ،أمال أن تقف على طلب رئيس التحرير الذي
طلب منها أن تكتب عن تطور الجنس عبر الحضارات ،وكان لها الشرف أن
حصلت على مجموعة كتب قيمة عن الحضارة الفرعونية السنتين الماضيتين من
أحد أصدقائها ،لتغرورق عيناها اندهاشا وحبا في تاريخ الحضارات ،واليوم هي
تحفظ تلك الكتب ظهرا عن قلب ،لكنها تود بحضورها تلك الجلسات أن تضيف
لمسة جديدة في الموضوع ،أﻻ وهي أن الميوﻻت الجنسية قد تطورت بتطور
الحضارات ،واليوم في عصر السرعة والحروب أصبح الجنس سريعا وعنيفا،
لكن يبدو أن البارحة كانت آخر جلسة ستحضرها ،لم تكن تعتقد أن دورها لكي
تأخد مكانهم في الحديث قد حان ،فاضطرت الكذب فقط ﻻنها لم تجد ماتقوله،
فماضيها ﻻ يليق بموضوع هذه الجلسات ،وحده ستيفن كان يدري حقيقة أمرها،
وحقيقة ماضيها.
استفاقت ميليسا من غفوتها ،علي أن أكمل المقال رئيس التحرير سيكون متشوقا
إذا علم أنني أتممته اليوم ،فالقراء ﻻ يتحملون اﻻنتظار ،بريدها اﻻلكتروني امتأل
برسائلهم ،والكل يطالبها بمقال عن تاريخ الجنس ،حتى رئيس التحرير خاصتها
وصلته رسائل من قراء يودون أن تضاف مقالة أو اثنتيتن عن الجنس ،فالجنس
على مر العصور كان هو الهم الوحيد الذي شغل بال المفكرين والعامة ،الديانات
والحضارات ،واختلف حوله الفالسفة ،وتضاربت أمامه اﻵراء ،حتى أن ميليسا
قرأت في إحدى الكتب أن شوبنهاور يعتبر الجنس خدعة أنشأتها الطبيعة لكي
نتكاثر ،وقد أعجبت بهذه الفكرة كثيرا ،فقد نددت في مقاﻻت كثيرة ،كانت قد
كتبتها في مجالت أخرى بل وجرائد ومواقع إلكترونية ،على ضرورة إيقاف
التكاثر ،وتحديد النسل ،وذلك ﻷنه حسب نظرها سيقلل من نسبة الجرائم ،الفقر
والمشاكل اإلجتماعية ،وسيزيد من جودة التعليم ،الذي هتفت بتطويره ،فبدل
استعمال اسلوب التلقين ،قالت ميليسا في أحد مقاﻻتها أنه يجب تعليم الطالب كيف
ينقد اﻷفكار ،ويبدع أفكار جديدة ،بدﻻ من تبني أفكار جاهزة ،لكنها تعرضت لنقد
ﻻدغ من طرف الكنيسة ،التي اعتبرتها شيطانة تود هدم اإلنسانية وتدعوا إلى
إيقاف التكاثر الشيء الذي تعتبره الكنيسة ضرورة أوصى بها يسوع ،أما بشأن
التعليم فقد رآى اﻷساقفة أنها تهدف إلى هدم الدين ،حتى أن بابا الكنيسة أردف في
لقاء صحفي في قناة دينية موجها الكالم إلى ميليسا :كنا نحسب المسيح الدجال
رجال ،وها قد تبين أنه كاتبة في مجلة مشهورة .حينها انتقلت اﻷضواء لتسلط
على ميليسا ،لترد على ماجاء على لسان البابا :أما نحن فقد حسبنا أن عصر
محاكم التفتيش قد ولى ،وطواه النسيان ،لكننا يوما بعد يوم نكتشف أن تجار
الميتافيزيقا ،يريدوننا عبيدا في كهف سقراط ..لقد حسبنا طيلة هذه السنين أن
المقيمين ببيوت الرب ﻻ يخشون العلم ،المنطق والعقل بل يحسبونهم وسيلة
للوصول إلى الحقيقة ،لكن ماذا لو كان المسيح الدجال وهما؟ حينها ستكونين أنت
ميليسا ،قال صحفي أشقر بين الحشد وهو يرمق ميليسا بنظرات إعجاب .
في هذه اللحظات التي باتت مجرى ذكريات لذا ميليسا ،يخطوا غبرائيل خطواته
نحو مكتبه ،وهو يتحدث عبر الهاتف الذكي خاصته ،وفي يده اليسرى ملف
ضخم ،سنعقد اجتماعا اﻷسبوع القادم ،ميليسا ستكون حاضرة سيد جيمي ،أنا
متأكد أن كتاباتها ستنال إعجابك .ضغط الهاتف بكتفه ثم ألقى بالملف فوق مكتب
أحد الموظفين دون أن ينبس له ببنت شفة ،وأكمل حديثه ،أنا متأكد أن صفقتنا هذه
تسنال إعجابها ،وستكون مربحة لنا ولكم- ،أعاد إحكام الهاتف بيده اليمنى بعد أن
فركها باليسرى وأكمل -وكما تعلم فمجلتنا ومجلتكم تهيمنان على ثلثي السوق ،معا
سنحتكر السوق بدون شك ...
الفصل السادس
كان مايكل قد استقل حافلة باتجاه الجامعة ،ليبدأ محاضرته حول تاريخ الرموز،
فتذكر المحاضرة التي أجراها العام الفارط حول رمزية القصص الدينية ،والتي
افتتحها بقصة آدم ،أتدرون أن قصة آدم هي قصة مستوحاة من ملحمة قديمة ،هي
ملحمة قهات ،وأن الهدف منها كان هو التقليل من شأن المرأة وقيمتها ،وذلك عبر
تحميلها مسؤولية نزول الجنس البشري من سماء الخلود والملذات إلى أرض
الفناء واﻷﻻم؟ تسمر الطالب اندهاشا بكالمه ،فقاطعه أحد الطالب ،أتقصد أن
المسيحية بذكرها لهذه القصة قد قللت من شأن المرأة؟ حافظ مايكل على ابتسامته
وهو يرد على هذا الطالب المشحون ،ألم تتساءل بدل ذلك لماذا يسوع وكل
اﻷنبياء هم ذكور ولسيوا إناثا؟ لقد قللت المسيحية من شأن المرأة وألقت عليها
ﻻئمة أكل تمرة الخلود ،وألم الوﻻدة كان جزاءا لها على فعلتها ،رمق مايكل وهو
يجري المحاضرة اندهاش الطالب وهم يسمعون هذه الحقائق ﻷول مرة ،لكن
قصة آدم ليست قصة رمزية في الدين المسيحي ،قالت إحدى الطالبات ،بلى هي
كذلك ،حتى الكنيسة نفسها أقرت بذلك ،ذلك أن معنى القصة الحقيقية التي رويت
قبل المسيحية كان هو أن المرأة ﻻ ترضى بالقليل ولو كان كثيرا ،وأنه ﻻ يجب
اتباع خطواتها ،ذلك أنها قوية في إغراء الرجال .لكن أين التقليل من شأنها هنا؟
كل ما ذكرته يعتبر من مميزات شخصيتها ،تلفظت فتاة شقراء ترتدي نظارات
تري فكس ،واضح من نظاراتك أنك رياضية ،وتحبين الرياضة ،لكن المرأة
للتديلك والمتعة ،هذا ما جاء في متى ،26بل خنزيرة كما ورد في اﻷمثال ،12
أنها منبع القذارة كما كتب في أيوب ،25فأين أنت من طموحك وسط كل هذا
اﻻحتقار؟ هذا غير معقول! قالت الفتاة والصدمة قد هزت مشاعرها ،بلى هو
كذلك ،فالمرأة يا تالميذي احتقرت بشكل كبير في كل الديانات التي اعتبرت
سماوية ...قاطعه طالب ملتح ،تنم مالمحه على أنه شاب مسلم ،لكن اﻻسالم
اعطى المرأة حقوقها وكرمها حق تكريم ،انا متأكد أنك لم تقرأ يوما عن مظاهر
تكريم المرأة فاﻻسالم ،ابتسم مايكل وقال :يبدو أن المحاضرة أخدت مجرا آخر،
لكن هل تعلم أن اإلسالم أوصى بضرب المرأة إن هي رفضت أن تشارك زوجها
الفراش ،لقد ورد هذا في سورة النساء ،وعززه حديث نبوي ،مفاده انها ان
رفضت ان تنام مع زوجها لعنتها المالئكة حتى تصبح ،هل تعلم أيضا أن اإلسالم
مثل المسيحية اعتبر المرأة أصل الفساد وقال أن طاعت النساء ندامة ،لقدد
عززت الديانات كراهية المرأة ،وحبستها بين أربعة جدران ،ذلك أن السائد آنذاك
كان هو سلطة الرجل.
استفاق مايكل من شروده عندما توقفت الحافلة قرب جامعة بيتربرة ،التي تشع
بلونها البرتقالي من بعيد ،ثم أخد يمشي في الممر بين العشب ،.حتى دخل
الجامعة ،ثم القسم حيث الطلبة في انتظاره ،كيف حالكم اليوم؟ يبدو أنكم تعلمون
عنوان محاضرة اليوم ،همس أحد الطلبة :تاريخ الرموز! هذا صحيح سنتحدث
اليوم عن تاريخ الرموز ،وسنبدأ المحاضرة بتعريف بسيط للرموز فكلمة رمز
تعني رسم ذو دﻻلة معينة ،بحيث تكون العالمة او الرسم ،بديال للكلمات ،وﻻ شك
ان المصريين واﻻغريق استعملوا الرموز للدﻻلة على عدد كبير من المعتقدات
وغيرها إﻻ أن الرومان استعملت عدد هائل من الرموز ،ققد دلت العنزة عند
الرومان على حانوت لبيع اللبن ،وزوج أحدية للدﻻلة على محل لبيع اﻷحدية،
واليوم نستعمل صولجان هرمس للدﻻلة على الصيدلية ،ورغم أن صولجان
هرمس ﻻ يمت للطب بصلة ،إﻻ أن هذا الخطأ أصبح شائعا ،حين اختلطت عصى
اسكيلوس وصولجان هرمس على ضابط بالجيس اﻷمريكي 100سنة مضت،
فعصى اسكيلوس كانت تدل منذ القدم على إله الطب عند الرومان ،أما صولجان
هرمس ،فال ناقة له وﻻ جمل في الطب ،لقد كان هرمس اليد اليمنى لالله زيوس،
حيث كان يتحكم في الريح والمطر في الحضارة اﻻغريقية .هل هناك رموز
اخرى قديمة نستعملها اليوم؟ قال شاب داكن البشرة ،إليك هذا الرمز ،قال مايكل
وهو يضغط زر تخطي الصور ،هذا الرمز هو عبارة عن زهرة ،إنها زهرة
الزنبق ،قال فتاة تدرس في قسم البيولوجيا ،ابتسم مايكل فعلى اﻻقل هناك من
يعرف هذه الزهرة ،فرغم اننا نراها كل يوم اﻻ ان قلة منا من يعلم بامرها ،او
حتى اسمها ،اكملت الفتاة بثقة ،أعتقد أنها ترمز إلى قوة الشخصية ،إنها حقا زهرة
رائعة ،هناك أكثر من 4000نوع من زهرة الزنبق ،وأكثر من 200جنس من
فصيلتها ،درست هذا في قسم البيولوجيا ،ﻻ شك أنني على حق أليس كذلك سيد
مايكل؟
نعم هو كذلك ،لكن زنبق الجالديلياس هو الذي يرمز إلى قوة الشخصية ،أما
زهرة الزنبق هذه على الشاشة ،صفراء ،تدل على النبل ،تسمى عادة زهرة
الليلي ،استعملها النبالء قديما للدﻻلة على مكانتهم اﻻجتماعية ،وليومنا هذا ،ﻻ
زالت رمزا يدل على النبل ،ستجدونها في علم فرنسا القديم وأعالم أخرى ،ورغم
أن دﻻلتها الشائعة هي هذه ،إﻻ أن الفن المسيحي اتخدها رمزا لمريم العذراء،
والديانة المسيحية ،ذاك أن لها ثالث رؤوس تشبه رؤوس الصليب ،أما لونها
اﻷصفر فقد كان دﻻلة على الهيبة والوقار ،والتميز ،نظرا ﻷنه لون بارز ويثير
اﻻنتباه ،كما دلت على المكانة اﻻجتماعية الرفيعة ﻷن لونها يرمز للثراء والمال،
والذهب بصفة خاصة ،أليس هذا رائعا؟
لكن سيد مايكل أﻻ يدل اللون اﻷصفر على المرض والصيق والشمس؟
ابتسم مايكل ابتسامة مكر ،وقال :يبدو أن القاعة تستقبل قسم علم النفس اللوني
أيضا وليس البيولوجيا فقط ،ابتسم الشاب وهو يرمق الطلبة كأنه يقول معك حق
أنا طالب علم النفس اللوني .معك حق صديقي ،اللون اﻷصفر يدل حسب هذا
العلم على الشمس والمرض والصيف ،لكنه يدل على الوضوح واﻷمانة أيضا،
أليس كذلك؟ لقد استعمله الصينيون قدسما للدﻻلة على اﻻمبراطور واﻻمباطورية،
أما المصريون القدماء فثد اتخدوه لونا ﻵلهة الشمس والوقاء من المرض ،وفي
الهندوسية يعتبر لونا مقدسا ،والى يومنا هذا يدل اللون اﻻصفر في الغرب على
الثراء .بدا الذهول على الحضور وهم يستمعون إليه بينما أكمل هو ،دعونا نرى
الرمز التالي ،إنه رمز مشهور ،مشهور للغاية ،أقدم لكم شمعدان مينورا .بدت
الغرابة على الطالب ،فرغم الشهرة الواسعة للرمز إﻻ أن مالمح وجههم جعلت
مايكل يشك أن شهرت الشمعدان لم تطأ يوما ساحة معرفتهم .هذا الرمز أعزائي
مشهور في الوسط اليهودي ،كما ترون فهو يتكون من 7أعمدة توضع في كل
واحدة فيهم شمعة ،واختيار الرقم 7ليس صدفة ،فلطالمت كان هذا الرقم هو رقم
الحظ عند اليهود ،والرقم المذكور في التوراة أكثر من مرة او اثنتين ،كالسماوات
السبع مثال ،واﻷراضي السبع ،وغيرها.
الفصل السابع
كانت كاثرين قد بدأت قراءة كتاب وجدته وسط الكم الهائل من الكتب على المكتبة
الجدارية ،كان الكتاب يتحدث عن السادية والمازوخية ،وكيفية ممارسة الجنس
على هذا النحو ،بدأت تقلب الصفحات ،التي كانت كل واحدة منها تحمل رسما
توضيحيا ،فتسمرت مكانها ،وقد تناقضت مشاعرها ،من هيجان إلى خوف وقلق
من مايكل ،لكنها سيطرت على أعصابها فأغلقت الكتاب ،ترى هل مايكل سادي،
أم مازوخي؟ كانت الضيفة تتساءل والمشاعر المتناقضة تهز قلبها كسيخ النار ،لم
تكن تعلم كيف تتصرف في حين عاد الى المنزل ،اية مشاعر تواجهه بها ،فقد
أصبح ﻻزما عليها أن تمكث عنده ،حتى تجد مكانا تمكث فيه بدل منزله ،ثم إنه
إذا علم بأنها قد دخلت مكانه الخاص فإن هذا لن يعجبه ،إنه الفضول سيد مايكل،
قالت في نفسها وهي تتجه صوب غرفة نومه.
يا للهول...
اتجه فيكتور نحو المرآب ،وعقله يسترجع ذكريات من ماضيه مع ميليسا ،هل
يعقل أن الكاتبة السريالية ليست هي ميليسا؟ فتح باب السيارة فسمع صوتا يناديه،
فالتفت واﻷلم يقطر دما من صدره.
-كيف الحال فيكتور ،أعلم أنك في حالة مزرية ،تعاني من ألم شديد ،لكن طبعا
هذا اﻷلم ﻻ يساوي شيئا أمام اﻷلم الذي عانيته بسببك ،قاسيت كثيرا ...أنت انسان
أناني ،أناني حقا.
-لكن ...ميليسا؟
-ميليسا ...ميليسا ...أﻻزلت ﻻ تفهم اﻷمر زوجي العزيز ،اسمي كاثرين ،ﻻ
ميليسا ،حين التقيت بستيفن ،أخبرته بالقصة كاملة- ،همست في أذنه قائلة -بعد أن
مارسنا الجنس بقوة.
انسلت الدموع من مقلتا فيكتور ،كيف حدث هذا؟ ميليسا التي أحبها ،رمته بسكين
في صدره ،تناقضت مشاعره ،بين حب واشتياق للماضي ،وكره وحقد للحاضر.
ميليسا لم تعد ميليسا.
-أتدري يا فيكتور ،لقد كنت غبيا حين أرسلت ستيفن إلى تلك الحلقيات ،كنت
مخطئا ،فأنا لم أكن أحضرها إﻻ من أجل جمع قصص وتجارب الناس ،ﻻتمام
عملي ،كنت أبحث عن أسماء اﻻعضاء ،وكان ستيفن ميدنز هو الشخص الذي
أثار انتباهي أكثر ،مختطف نساء ذو سوابق ،قاتل متسلسل ،يعذب ضحاياه ،لكن
المعلومة التي لم ترد في ملفه هي كونه يمارس الجنس أحسن من فيكتور ويليامز،
الطبيب البارع ،وصاحب أكبر عصابة حكومية ،أوبس! دعنا من التفاصيل ،أين
توقفت...؟ أوه ،نعم المجرم ستيفن ميدنز ،تتبعت أثره ،حتى علمت من خالل
مايكل جوهانس ،عميل مخابرات ،يعمل كأستاذ في الجامعة ،ﻻبعاد الشكوك،
علمت من خالله أن ميدنز كان يعمل لصالحك هذا اﻷسبوع ،فاستغليت الفرصة،
وقلبت الكفة لصالحي ،أقنعته أنك تريد أن تنصب له فخا لتزج به في السجن،
وحكيت له قصتي معك ،وهكذا اقتنع وفي الصباح تغيرت الخطة ،ميليسا التي
تبحث عنها ليست هي الكاتبة السريالية ،هكذا كانت خطتي ،ويبدو انها نجحت...
أليس كذلك حبيبي؟
الفصل الثامن
كانت كاثرين في المنزل حين عاد مايكل مرهقا من تلك المحاضرة ،وقد ﻻحظ
الخوف في عينيها.
-مابك كاثرين؟
-أنت لست أستاذ جامعي صح؟
-بال أنا كذلك!
-هل لك أن تفسر لي ما الذي تفعله هذه اﻷوراق هنا؟ هل تنصب لي فخا؟
-كاثرين ،من أين أتيت بهذه اﻷوراق؟
-من مكتبك!
-وهل أخذت اإلذن مني؟ كيف تجرأت على فعل هذا؟
-لن أنتظر اإلذن من شخص ينصب لي فخا
-اعطيني اﻷوراق وسأشرح لك
-اشرح لي أوﻻ
-حسنا لكن ليس قبل أن تعطيني أوراقي
-تفضل
-أنا أعمل مع المخابرات البريطانية ،وعملي الثاني مجرد درع ﻻبعاد الشكوك،
تلك الرسالة التي وجدتيها كانت ضمن خطتنا ،ﻻبعادك من فيكتور المجرم،
واحضارك في مأمن هنا.
-لكن كيف وصلت الرسالة إلى هناك؟
-صوفي كابلين
-الخادمة؟
-نعم هي أيضا تعمل معنا ..حين خرجت من المنزل اتصلت صوفي كابلين بي،
وأخبرتني بذلك ،كان تخميني في محله حين ذهبت إلى الحانة.
ماذا بشأن النبيذ؟ هل كان ذلك مدبرا؟ ثم لماذا أنا هنا؟
-نعم كل شيء كان مدبرا كاثرين ,وأنت هنا للعمل معنا ،نحتاجك بقوة لتسديد
ضربتنا ,لهذا أنا بحثت لك عن عمل وقد وجدته ,ستعملين في مجلة مشهورة ،غدا
صباحا ,قولي لهم فقط ميليسا ,وهم سيعطونك الموضوع الذي يرغبون أن تتحدثي
عنه ,سأساعدك في ذلك طبعا ,وحين ستحدثين ثورتك الفكرية ستزداد شهرتك
هكذا سيعثر عليك فيكتور ،عندها سننفذ خطتنا في القبض عليه
-يبدو هذا مثيرا ,لكن لدي طلب –نظر إليها باستغراب وكأنه يقول لها ,ﻻ تنسي
أننا المخابرات ,وليس فيكتور أيتها المدللة -أريد أن أقتله –قالتها وهي تنظر في
وجه مايكل بنظرات خفاش ,كأنها تقول له أتركني أمحي ذاك الماضي ,أتركني
أدفن ذاك الوحش الذي اغتصب مستقبلي-
-أتمزحين ؟
-وهل أبدو كذلك؟
-ﻻ لن تقتليه ,هذا ليس عملك ,أنت هنا لمساعدتنا فقط ,ﻻشيء غير ذلك
-أنا خارج اللعبة إذن
-كيف؟
-كما سمعت ,أنتم في آخر المطاف ستقتلونه كما قتلتم اﻷميرة ديانا وعشيقها دودي
الفايد بعد أن طلقت اﻷمير شارل ...
-تبا من أين لك بكل هذه المعلومات؟
-حسنا ,لقد تعلمت القراءة في الصف اﻷول ابتدائي ,وقد ساعدني ذلك كثيرا لكي
أقرأ بعض الملفات في مكتبك
-سحقا –ذهب يجمع اﻷوراق على مكتبه وهو يخاطبها -هذه آخر مرة تدخلين فيها
مكتبي دون إذني مفهوم؟
-ليس قبل أن نتفق حول مسألة قتل فيكتور
-حسنا أيتها الشقية سنتدبر اﻷمر
-تقصد سأتدبر اﻷمر
-حسنا لك ذلك ...شقية !
الفصل التاسع :
كان فيكتور يتألم وسط الظلمة التي طغت على مجال رؤيته ,ماض جميل مع هذه
الفاتنة ,تحول إلى رماد كئيب كأن إعصارا جائر ضرب مقر حياته ,ورماه بعيدا
حيث الوحدة ,اﻷلم ثم الموت.
يتساءل وهو غارق في دمائه ,كمهاجر سري يلتقط آخر أنفاسه ,هل هذا هو طعم
الفناء؟ سيخ نار صامت ,يسجنك في معرض حافل بماليين الصور ,أكل عليها
الدهر وشرب؟ ,سنوات من الماضي ...حياة طويلة تحولت إلى ألبوم صور ,إنها
حقا حياة طويلة,
حياة بطول إبرة !
حزن ما يعتصر قلبه ,كعصارة قهوة صدئة ,أ مازلت حيا؟
لطالما ظننا أن الحياة ممر ,نطأ فيه وجوه الضعفاء كي نحظى بالقوة ,السلطة
والسعادة ,ونسينا أن الحياة ساعة يد قد تتعطل بطاريتها يوما ما ,فنعود إلى الواقع
حيث الوحدة ,اﻷلم ...الموت.
كان ستيفن في الخارج ,حين وقفت ميليسا أمام نافذة السيارة على اليمين,
وابتسامة نصر تعلو محياها
-ستيفن –فتح النافذة أوتوماتيكيا ثم استرسلت -علي أن أفضي أمرا آخر ,ﻻ
تنتظرني
-هل أوصلك؟
-ﻻ داعي ,المكان ليس بعيدا
-حسنا إلى اللقاء
-إلى اللقاء
اختفت سيارة ستيفن بسرعة متهور ,بينما سحبت ميليسا هاتفها الذكي من جيبها.
-مايكل ,لقد أتممت العملية
-أية عملية؟
-ألقاك في المنزل
-حسنا
قطعت الخط ,واستقلت سيارة أجرة لتتجه إلى المنزل حيث تقطن هي ومايكل,
الذي ساعدها كثيرا في بناء مستقبلها ,لكنه أقحمها في معمعة المخابرات التي
تتميز بطابع السرية ,وقد كانت اﻷنشطة التي تقوم بها المخابرات اليوم كالتجسس,
من اﻷشياء التي اعتمدتها الحضارة الفرعونية سابقا ,فكان أول جهاز استخباراتي
في العالم قد أسس على يد الملك تحتمس الثالث وكان الغرض منه هو التجسس
وخلق البلبلة في مدينة يافا وإضعافها ,وربما هذا ما تسعى نحوه كل الدول,
إضعاف بعضها البعض بدل العيش بشكل متوازن ,كل تلك الشعارات التي
نرددها حول إنقاذ أفريقيا اﻷم مجرد قصة نقصها على سكانها كل ليلة قبل أن
يناموا ,هكذا كان يخبر مايكل ميليسا.
كان مايكل في المنزل حين دخلت ميليسا والفرحة تعلو محياها
-أية عملية –قال مايكل-
-لقد قتلت فيكتور
-ماذا ؟
-نعم ,لقد فعلت
-لكن كيف؟
-أتتذكر ستيفن ؟ ذاك المجرم الذي سألتك عنه
-نعم ستيفن ميدنز
-لقد استعنت به لكي أتمم خطتي
-هل جننت؟
-ﻻ تخف ,لقد أخبرته أن فيكتور ليس زوجي ,وأنه يريد فقط أن يوقع به ,وينصب
له خطة ,وأقنعته أن يخبر فيكتور أنني لست ميليسا التي يبحث عنها ,وأن يخبره
بأن يالقيه في المرآب ,وقد فعل ذلك بالحرف
-هل كان معك حين قتلته؟
-ﻻ طبعا ,كانت الخطة أن يخبره أن يالقيه هناك ,كي أفاجأه أنا وأسدد ضربتي
-هل رآك شخص ما؟
-ﻻ
-جيد ,ابقي في المنزل
-علي أن أقدم بحثي للمجلة
-ليس اليوم
-لماذا؟
-لن يقرأه أحد ,ﻷن اليوم هو يوم فيكتور كل المجالت ستتحدث عن مقتله
-رائع هذا ما كان ينقصنا
غادر مايكل جوهانس المنزل واتجه نحو مجلة امباير حيث التقى بغبرائيل
-سيد جوهانس
-سيد غبرائيل أتيت لكي أخبرك أن…
الفصل الحادي عشر
:
بدأت كاثرين العمل في مجلة إمباير فكان من الصعب عليها تحمل عناء قراءة
كتب علم الرموز القديمة ككتاب "ها العالمة-الرمزية القديمة "-للكاتب "رالف
م.لويس" وكتب أخرى قبيل كتب "رودمان ر.كاليسون"" ,هيلدا إيليس دافيدسون"
و "ج.س .كووبر" وغيرهم من الكتاب الذين كتبوا كتبا حول علم الرموز ,هذا
العلم الذي عرف بدايته على يد أستاذ العلوم اإلنسانية في جامعة كورنيل "فيكتور
تورنر" أيام السبعينات ,حيث درس الطرق التي تتعامل الشعوب فيها والجماعات
مع الرموز وكيف تستخدمها في الطقوس الدينية ,خاتما بذلك بحثه باستنتاج التأثير
الذي يتركه الرمز على المجتمع ,كالصليب مثال في الثقافة المسيحية ,أو الصليب
في الثقافة الفرعونية القديمة .رغم كل هذا العناء ,الذي ﻻقته كاثرين قي بحوثها
إﻻ أنها النتيجة قد ﻻقت إعجابا كبيرا ,خصوصا حين كتبت مقالها اﻷخير ,الذي
تحدثت فيه عن الرموز من بداية اإلنسان إلى اﻵن ,ذاكرة بذلك أن الرموز لم
تمت بعد بل غادية تتوسع ,ولعل رمز الوشاح اﻷحمر الذي يدل على التضامن مع
المصابين بمرض اإليدز أو الرمادي للتضامن مع المصابين بداء السكري دليل
على أن ثقافة الرموز ﻻ زالت تعيش بيننا.
كان مايكل فخورا بإنجازاتها واستنتاجاتها ,فالحياة التي لم تسمح له بأن يقع في
الحب قد ابتسمت له أخيرا ,لكن الخوف من شيء غريب كان يعتصر قلبه ,ذاك
التردد والخوف من السقوط في حوض خانة الصداقة كان من اﻷمور التي جعلته
يعزف عن مصارحتها بمشاعره.
كان وقع تصريح غبرائيل على ميليسا كوخز سيخ ,شل أطرافها لبضع ثوان ,لم
تكن تدري ما هذا الفيلم الذي تورطت فيه ,فاتصلت بمايكل على الخط الساخن,
كأن دبا جائع على وشك مهاجمتها ,جلست تنتظر رده لكن ﻻ يجيب ,بم يعد
بحوزتها حل غير أن تتظاهر بالموت وتجمد مشاعرها حتى يمر هذا الدب
الجائع ,هذا الخوف من التورط الذي طاردها دون أن تعلم أين أو كيف؟ منذ متى
كانت الكاتبة ميليسا متورطة في هذه اﻷشياء؟
حملت ميليسا حاسوبها ,وبدأت تفكر في حل لمشكلتها ,عندما نقتل شخصا ما تنته
مشاكله ,وتبدأ مشاكلنا ,حان الوقت لكي تبوح ميليسا بقدراتها الكتابية والتقريرية,
فرئيس التحرير غبرائيل ورطها لتوه في قضية ضخمة ,من القاتل؟ هي ,من
المجرم؟ هي ,من عيه أن يكتب عن القاتل؟ هي ,إنها سخرية اﻷقدار !
بدأت ميليسا تكتب وكلها اندفاع ,كأنها تحاول إبعاد التهمة ,وإلقائها على ستيفن :
خريف مليء باﻷحداث كان مجرد أسطورة في بريطانيا ,واﻵن أصبح حقيقة ,بعد
أن توفي مساء اليوم السيد فيكتور ,الذي كان ...
حان الوقت لكي أطلعهم على القاتل ,قالت ميليسا مخاطبة نفسها ,أنا أم ستيفن,
أخذت نفسا طويال ثم أكملت :
وقد توصلنا بتعاون من المخابرات البريطانية ,واﻷجهزة اﻷمنية إلى أن المعني
باﻷمر ,والمتهم اﻷول بالقضية هو رجل أربعيني اسمه ستيفن...
أكملت ميليسا كتابة المقال والندم يجرح هاجسها ,لم تكد تمسح دمعة انسلت من
مقلتاها كالنسيل ,حتى اتصل بها مايكل :
-ميليسا ,هذه فرصتك للشهرة الحقيقية ,اكتب مقاﻻ..
-لقد كتبته يا مايكل
-ما بك ,يبدو من صوتك اﻻنزعاج
-أشعر بالندم
-ليس عندك ما تندمين عليه اتبعي ما سأقوله لك وكل شيء سيكون على مايرام
-يكفيني شهرة ما أتعرض له يوميا من نقد من طرف الكنائس
-ميليسا ,أرسل المقال إلى غبرائيل سأشرح لك كل شيء ليال,
-حسنا أين ألقاك؟ ومتى؟
-تتذكرين تلك الحديقة التي كنا نجلس فيها سوية؟
-نعم
-ألقاك هناك مع العاشرة ليال
-حسنا ,كم الساعة اﻵن؟
-التاسعة ,معك ساعة ,ترسلين فيه المقال ,سينشر فور وصوله إلى غيرائيل
-فور وصوله؟ لما كل هذه السرعة؟
-الكل يريد معرفة القاتل
-حسنا,حسنا ,أراك هناك
قطعت ميليسا الخط ,وضغطت على زر اإلرسال ,ليهاجر مقالها في رمشة عين
إلى حساب غبرائيل ,كانت تعلم أنها لو فكرت في اﻷمر لمجرد ثانية ﻷصيبت
لنزلة ندم وتهافتت عليها هواجس الضمير المخيفة ,لذلك طبقت أوامر مايكل
بسرعة ,كأنها آلة مبرمجة ,ﻻ وقت لديها للتفكير ,فعل وردة فعل ,هكذا هي الحياة
اﻵن ,ﻻ شيء يستحق تفكيرا عميقا ,يكفينا أن نأخذ اﻷمور ببساطة ,بضمير ميت,
حتى نظن أننا نفعل الصواب ,أغلقت حاسوبها ,وشرعت في ارتداء مالبسها ,كان
عليها أن ترتدي زيا جميال ,فال بد أن مايكل سيحضر نبيذا أحمر ,ينسيها ما
حدث ,أو فقط لكي يحتفال بنخب النجاح واﻻنتقام من فيكتور ,لكن ماذا عن
ستيفن ,صورته البريئة ﻻ تكاد تترك ضميره مرتاحا.
بسرعة غير معتادة وجدت نفسها داخل زي عار من الخلف ,تظهر فيه أثرابها
كبرتقالتين ناضجتين ,من يراها يقل موناليزا القرن ,ﻻ شيء أكثر من هذا
الوصف أراه قادرا على وصف أناقتها.
حملت حقيبة يدها الحمراء المتناسبة مع لون الفستان اﻷحمر ,وخرجت من
المنزل لتشير إلى أول سيارة أجرة ترمقها.
كان مايكل آنذاك ينتظرها بفارغ الصبر ,اليوم هو يومه ,فقد وعد نفسه بأن
يخبرها بمشاعره الموءودة بداخله ,أن يرميها بورود حبه التي نضجت في بستان
قلبه ,ﻻ شيء أجمل من لحظة صمت تعتريها ومضة قبلة ,دافئة بطعم الفراولة,
إنها الحياة !
وصلت ميليسا الحديقة ,تبحث عن مايكل بين اﻷشجار ,فلطالما كان يختفي خلفها,
كأسطورة شجر الغرقد التي يختبئ خلفها اليهود ,بدأت تبحث بأعينها كفتاة
صغيرة ,حتى شعرت بأنفاس تطرق عنقها ,ثم التفتت بسرعة بعد أن سحبت نفسا
عميقا
-ميليسا
-مايكل؟
-تبدين جميلة
-شكرا
-لقد قمت بمحاضرات عديدة ,ولم أكن أشعر فيها بالتوتر لكن اليوم ...أمامك ..أنا
حقا متوتر
-ولماذا التوتر؟ لقد عشت معك كثيرا
-في ظل هذه المدة التي عشناها سوية ,كنت دائما أود أن أخبرك أنني..
-أنك تعمل في الخفاء من أجلي مثال هه ؟
-أنني أحبك
-لكن مايكل..
-كنت أعلم ﻻ تحبينني
-ﻻ ليس كذلك...
-ماذا إذن؟
-لماذا لم تخبرني من قبل؟
-لم تكن عندي الجرأة ,كنت أخشى أن ترفضيني
-ﻻ ..ف..
وقاطعها بقبلة ,ثم قاطعته
-قبل أن نكمل القبلة ,ماذا سيحدث لستيفن ,أشعر بتأنيب الضمير
-ﻻ تقلقي بشأن ستيفن فقد خططت لكل شيء ,سيتم إيهام الناس أننا ألقينا القبض
عليه ,ثم سيتم ترحيله إلى الوﻻيات المتحدة اﻷمريكية ,حيث سيعمل لصالحنا
-كجاسوس يعني؟
-حسنا لنقل كجاسوس ,لكن ليس جاسوس
-ماذا إذن؟
-هال قبلتني وصمتي ههه
هكذا اعترف مايكل لميليسا بحبه ,وهكذا حققت ميليسا نجاحها ,كل شيء تم ليال,
ففي الليل نتعلم الحب ,وفي الليل نتعلم النجاح ,وفي الليل يكون للعالم معنى آخر,
ﻻ لشيء سوى أن كل القصص تنتهي ليال ,فعندما يحل الليل ,إياك ثم إياك ..أن
تترك الفرص تفر منك ,فالفرص تأتينا ليال ,تأتينا حين يكون الناس نائمين
يحلمون بواقع غير واقعهم المرير ,تأتينا حين تكون الظلمة قد ألقت بغطائها على
أعين من هم حولك ,فاستغل فرصك ,ﻻ بأنانية كلب ,لكن بأنانية أسد.
النهاية.