Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 12

‫دعوى أن شيخ اإلسالم يرى فناء النار‬

‫الكتاب‪ :‬دعاوى المناوئين لشيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ -‬عرض ونقد‬


‫المؤلف‪ :‬د‪ .‬عبد هللا بن صالح بن عبد العزيز الغصن‬
‫ص‪623-608 /‬‬
‫يذكر المناوئون البن تيمية رحمه هللا مسألة فناء النار حين يذكرون المسائل‬
‫المنتقدة عليه‪.‬‬
‫ويجعلون القول بفناء النار هو قول ابن تيمية رحمه هللا الذي ال يقول بغيره في‬
‫هذه المسألة‪ ،‬يقول الحصني (ت ‪829 -‬هـ) ‪( :‬واعلم أنه مما انتقد عليه زعمه‬
‫أن النار تفنى‪ ،‬وأن هللا ‪ -‬تعالى ‪ -‬يفنيها‪ ،‬وأنه جعل لها أمدا ً تنتهي إليه‪ ،‬وتفنى‪،‬‬
‫عز وجل وأين قال رسول هللا صلّى‬ ‫ويزول عذابها‪ ،‬وهو مطالب أين قال هللا ّ‬
‫هللا عليه وسلّم وصح عنه) (‪. )1‬‬
‫وذكر أن القول بفناء النار بعد أمد نزعة يهودية (‪ ، )2‬مستدالً بقول هللا تعالى‪:‬‬
‫ار ِإ َّال أَيَّاما ً َم ْعدُودَةً} ‪.‬‬ ‫{وقَالُوا لَ ْن ت َ َم َّ‬
‫سنَا النَّ ُ‬ ‫َ‬
‫وقال المناوئون عنه‪ :‬إنه يتابع الجهمية في شطر معتقدهم‪ ،‬فالجهمية يقولون‬
‫بفناء الجنة والنار‪ ،‬وأما ابن تيمية رحمه هللا فهو يقول بفناء النار (‪. )3‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن القول بفناء النار كفر(‪.)4‬‬
‫وأشار ابن حجر (ت ‪852 -‬هـ) إلى ميل ابن تيمية رحمه هللا إلى القول بفناء‬
‫النار‪ ،‬فبعد أن ذكر األقوال في فناء النار عن ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا‬
‫ذكر القول السابع الذي هو القول بفناء النار ثم قال بعد ذلك‪( :‬وقد مال بعض‬
‫المتأخرين إلى هذا القول السابع‪ ،‬ونصره بعدة أوجه من جهة النظر‪ ،‬وهو‬
‫مذهب رديء مردود على قائله‪ ،‬وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه‬
‫فأجاد) (‪. )5‬‬
‫ويقصد ابن حجر (ت ‪852 -‬هـ) رحمه هللا بهذا كتاب (االعتبار ببقاء الجنة‬
‫والنار) (‪. )6‬‬
‫مناقشة الدعوى‬
‫اعلم ‪ -‬وفقك هللا لطاعته ‪ -‬أن الناس بعد ابن تيمية رحمه هللا من محبيه ومن‬
‫مناوئيه قد اختلفوا في بيان موقف شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا من هذه‬

‫(‪ )1‬دفع شبه من شبه وتمرد ص‪ ،58‬وانظر‪ :‬التوفيق الرباني لجماعة من العلماء ص‪.29‬‬
‫(‪)2‬انظر‪ :‬دفع شبه من شبه وتمرد ص‪.59‬‬
‫(‪)3‬انظر‪ :‬السيف الصقيل‪ ،‬حاشية الكوثري ص‪ ،24‬الفتاوى الحديثية البن حجر الهيتمي ص‪.116‬‬
‫(‪)4‬انظر‪ :‬المقاالت للكوثري ص‪ ،439 - 437‬تأنيب الخطيب له ص‪.109‬‬
‫(‪)5‬فتح الباري البن حجر ‪ ،422/11‬وانظر‪ :‬الفتوحات اإللهية للجمل ‪.425/2‬‬
‫(‪)6‬انظر‪ :‬لالستزادة المقاالت للكوثري ص‪ ،415 ،396‬المقاالت السنية للحبشي ص‪.15‬‬
‫المسألة إلى ثالثة أقوال‪:‬‬
‫األول‪ :‬القائلون بأنه يقول بفناء النار‪ ،‬وهذا قول عامة مناوئيه‪ ،‬وهو قول بعض‬
‫من يوافقه في االعتقاد‪ ،‬ويثني عليه في المسائل األخرى(‪ ،)1‬وقد قال الصنف‬
‫الثاني بهذا القول ومالوا إليه تأثرا ً بأقوال المناوئين‪ ،‬وقوة عرضهم للمسألة‪،‬‬
‫وصاحب ذلك عدم بحث وتدقيق وتحقيق لهذه المسألة في كتب شيخ اإلسالم في‬
‫مظانها وغير مظانها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬القائلون بأنه ال يقول بفناء النار‪ ،‬وأنه يرى خلودها كالجنة؛ اعتمادا ً‬
‫على أن هذا قول السلف‪ ،‬وهو يقول به؛ إذ هو يعد من أكبر شراح عقيدة‬
‫السلف‪ ،‬هذا إضافة إلى اعتمادهم على نصوص من كتب ابن تيمية رحمه هللا‬
‫تثبت أبدية النار‪.‬‬
‫وكذلك‪ :‬عدم وقوفهم على نصوص أخرى تقابل هذه النصوص في أنه يرى‬
‫فناء النار‪ ،‬ولو ذُكر لهم بعض النصوص المجملة المتشابهة لشككوا في داللتها‬
‫على المراد‪ ،‬أو في صحة نسبتها إلى ابن تيمية رحمه هللا(‪.)2‬‬
‫الثالث‪ :‬وقالت طائفة ثالثة بأن ابن تيمية رحمه هللا يميل إلى القول بفناء النار‪،‬‬
‫لكنه ال يصرح بذلك‪ ،‬وقالوا بهذا القول لما وقفوا على بعض أقوال له رحمه هللا‬
‫ال تنص على فناء النار‪ ،‬إال أن مجمل الكالم يشعر بأنه يرتضي هذا القول‪،‬‬
‫وإن لم يصرح به‪ ،‬مع وقوفهم على أقوال له أخرى تدل على أنه يرى أبدية‬
‫النار‪ ،‬فخرجوا بهذا القول ويرون أنه وسط بين األقوال وهو الحكم بميل ابن‬
‫تيمية رحمه هللا إلى القول بفناء النار(‪.)3‬‬
‫وسيركز البحث هنا على استقراء النصوص الواردة عن شيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية رحمه هللا حول هذه المسألة من كتبه‪ ،‬سواء أكانت نصوصا ً تشعر بالقول‬
‫بفناء النار‪ ،‬أم النصوص الصريحة في عدم فناء النار‪ ،‬ثم دراسة داللة هذه‬
‫النصوص‪.‬‬
‫وتنقسم هذه النصوص إلى قسمين‪:‬‬
‫أ ‪ -‬نصوص يستدل بها القائلون بأنه يقول بفناء النار‪ ،‬أو يميل إلى القول به‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ونصوص يستدل بها القائلون بأن ابن تيمية رحمه هللا يرى أبدية النار‬
‫موافقا ً بذلك أئمة المسلمين في القول الصواب في هذه المسألة‪.‬‬
‫فأما القسم األول من هذه النصوص‪ :‬فمنها قوله رحمه هللا‪( :‬لم أجد نقالً‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬على سبيل المثال‪ :‬رفع األستار للصنعاني ص‪ ،63‬الحجة في بيان المحجة لألصبهاني‬
‫حاشية التحقيق لمحمد أبو رحيم ‪.263/2‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬بيان تلبيس الجهمية حاشية ابن قاسم ‪ ،157/1‬كشف األستار للحربي ص‪ 6‬وأغلب‬
‫الرسالة‪ ،‬شبهات أهل الفتنة لدمشقية ص‪.479‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬لوامع األنوار البهية للسفاريني ‪ ،235/2‬الجنة والنار لعمر األشقر ص‪.44‬‬
‫مشهورا ً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك‪ ،‬بل أبو سعيد وأبو هريرة هما رويا‬
‫حديث ذبح الموت‪ ،‬وأحاديث الشفاعة‪ ،‬وخروج أهل التوحيد‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬قاال‬
‫في فناء النار ما قاال)(‪ ، )1‬وقال رحمه هللا‪( :‬لكن إذا انقضى أجلها‪ ،‬وفنيت كما‬
‫تفنى الدنيا‪ ،‬لم يبق فيها عذاب)(‪.)2‬‬
‫وقال‪( :‬وحينئذ‪ ،‬فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة‪ ،‬وأقوال الصحابة ‪ -‬مع أن‬
‫القائلين ببقائها ليس معهم كتاب‪ ،‬وال سنة‪ ،‬وال أقوال الصحابة‪. )3()..‬‬
‫وقال‪( :‬ليس في القرآن ما يدل على أنها تفنى‪ ،‬بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن‬
‫أنهم خالدون فيها أبدا ً ‪.)4() ...‬‬
‫وقال ‪ -‬أيضا ً ‪( :-‬أحدها‪ :‬أن هللا أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه‪ ،‬وأنه ال نفاد له‬
‫وال انقطاع في غير موضع من كتابه‪ ،‬كما أخبر أن أهل الجنة ال يخرجون‬
‫منها‪ ،‬وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك‪ ،‬بل أخبر أن أهلها ال يخرجون‬
‫منها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤبد في عدة آيات‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن النار لم يذكر فيها شيء يدل على الدوام)(‪.)5‬‬
‫وقال ‪ -‬أيضا ً ‪( :-‬فإذا قدر عذاب ال آخر له‪ ،‬لم يكن هناك رحمة ألبته)(‪.)6‬‬
‫ويالحظ في هذه النصوص أنها جميعا ً منقولة من كتاب واحد فقط‪ ،‬وهو (الرد‬
‫على من قال بفناء الجنة والنار) ‪ ،‬ويالحظ ‪ -‬أيضا ً ‪ -‬من قراءة الكتاب أن ابن‬
‫تيمية رحمه هللا كان يظن صحة اآلثار الواردة عن بعض السلف في فناء النار‪،‬‬
‫ولذا حاول توجيه داللة اآليات القرآنية‪ ،‬واألحاديث النبوية إلى معنى اآلثار‬
‫التي ظن رحمه هللا صحتها‪.‬‬
‫وأما القسم الثاني من هذه النصوص‪ :‬وهي التي وافق فيها ابن تيمية رحمه هللا‬
‫القول الصواب في المسألة‪ ،‬وهو القول بأبدية النار‪ ،‬وعدم فنائها فمنها(‪:)7‬‬

‫(‪)1‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص‪.62 - 61‬‬


‫(‪)2‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص‪.56‬‬
‫(‪)3‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص ‪.67‬‬
‫(‪)4‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص‪.72‬‬
‫(‪)5‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص‪.80‬‬
‫(‪)6‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص‪.82‬‬
‫(‪ )7‬ذكر علي الحربي في كشف األستار ص‪ 69 - 60‬خمسة عشر نقالً من كالم ابن تيمية رحمه هللا‬
‫يؤيد فيه القول بأبدية النار‪ ،‬وقد وفق للصواب في النقل العاشر‪ ،‬والحادي عشر‪ ،‬ويالحظ في‬
‫النص الثاني عشر أنه عزاه البن تيمية وهو ألبي الحسن األشعري‪ ،‬وفي النص الثالث عشر أنه‬
‫هو النص الذي قبله‪.‬‬
‫وأما بقية النصوص فلم يوفق فيها؛ ذلك أنها تعنى بالرد على الجهمية القائلين بفناء الجنة والنار‬
‫جميعاً‪ ،‬وهذا القول مخالف لما عليه أهل اإلسالم‪ ،‬ولم يقل أحد بأن ابن تيمية رحمه هللا يقول‬
‫بفنائهما جميعاً‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫‪ - 1‬حين سئل رحمه هللا عن حديث فيه ذكر األمور التي ال تفنى‪ ،‬أجاب بأن‬
‫هذا من كالم بعض العلماء‪ ،‬وليس من كالم النبي صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ثم قال‬
‫في نص صريح‪( :‬وقد اتفق سلف األمة‪ ،‬وأئمتها‪ ،‬وسائر أهل السنة والجماعة‬
‫على أن من المخلوقات ما ال يعدم‪ ،‬وال يفنى بالكلية كالجنة والنار‪ ،‬والعرش‬
‫وغير ذلك)(‪ ، )1‬فهذه حكاية لإلجماع‪ ،‬واتفاق من إجماعه حجة‪ ،‬وال يسوغ‬
‫مخالفة هذا االتفاق‪ ،‬ولذا قال رحمه هللا في الميته‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫والنار يصالها الشقي بحكمة ‪ ...‬وكذا التقي إلى الجنان سيدخل‬
‫‪ - 2‬حكى ابن حزم (ت ‪456 -‬هـ) رحمه هللا اإلجماع على أن النار ال تفنى‬
‫كالجنة‪ ،‬في قوله‪( :‬وأن النار حق‪ ،‬وأنها دار عذاب أبدا ً ال تفنى‪ ،‬وال يفنى أهلها‬
‫أبداً‪ ،‬بال نهاية‪ ،‬وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين اإلسالم‪ ،‬ولمن خالف‬
‫األنبياء السالفين قبل مبعث رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وعليهم الصالة‬
‫والتسليم‪ ،‬وبلوغ خبره إليه)(‪ ، )3‬ولم يتعقبه ابن تيمية رحمه هللا ‪ ،-‬ولو كان‬
‫يرى فناء النار لتعقبه‪ ،‬ونقده في كتابه (نقد مراتب اإلجماع البن حزم) ‪ ،‬فلما لم‬
‫يتعقبه دل ذلك بداللة المفهوم أنه رحمه هللا يرى ما يراه ابن حزم (ت ‪-‬‬
‫‪456‬هـ) رحمه هللا من القول بأبدية النار‪.‬‬
‫‪ - 3‬في مناقشة مسألة (التسلسل) ذكر أن التسلسل في المستقبل جائز عند‬
‫جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل‪ ،‬وغير أهل الملل‪ ،‬ثم قال‪( :‬فإن نعيم‬
‫الجنة‪ ،‬وعذاب النار دائمان‪ ،‬مع تجدد الحوادث فيهما)(‪، )4‬‬
‫فتقريره رحمه هللا وجزمه بدوام عذاب أهل النار‪ ،‬كدوام نعيم أهل الجنة دليل‬
‫على أنه يرى في النار من حيث األبدية كما يرى في الجنة‪ ،‬وعقب على ذلك‬
‫بتجدد الحوادث فيهما‪ ،‬واستمرارها إلى ماال نهاية‪.‬‬
‫‪ - 4‬ناقش رحمه هللا المتكلمين القائلين بأن أجسام العالم تفنى حتى الجنة‪ ،‬والنار‬
‫‪ -‬أيضا ً ‪ ،-‬وحكم على هذا القول بأنه ‪ -‬بدعة باطلة باتفاق سلف األمة وأئمتها‪،‬‬
‫فقال‪( :‬وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكالم الجهمية‪ ،‬ونحوه في االبتداء نظير‬
‫ما يذكرونه في االنتهاء من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار‪ ،‬أو‬
‫الحركات ‪ ...‬وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف األمة وأئمتها)(‪.)5‬‬
‫‪ - 5‬قرر رحمه هللا أن القرآن الكريم قد أخبر ببقاء الجنة‪ ،‬وبقاء النار بقاءا ً‬
‫مطلقاً‪ ،‬يمتنع معه الفناء‪ ،‬وأما الذي لم يرد في القرآن فهو تفاصيل ما سيكون‬

‫(‪)1‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪ ،307/18‬وقد نقل النص نفسه ابن تيمية رحمه هللا في بيان تلبيس‬
‫الجهمية ‪.581/1‬‬
‫(‪)2‬المية ابن تيمية (ضمن شرحها الآلليء البهية للمرداوي ص‪. )107‬‬
‫(‪)3‬مراتب اإلجماع ص‪ ،173‬وبهامشه نقد مراتب اإلجماع البن تيمية‪.‬‬
‫(‪)4‬منهاج السنة النبوية ‪.146/1‬‬
‫(‪)5‬بيان تلبيس الجهمية ‪.153 - 152/1‬‬
‫بعد استقرار أهل الجنة في الجنة‪ ،‬وأهل النار في النار‪ ،‬قال رحمه هللا‪( :‬ثم‬
‫أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءا ً مطلقاً‪ ،‬ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد‬
‫ذلك‪.)1()..‬‬
‫‪ - 6‬نقل رحمه هللا عن األشعري (ت ‪324 -‬هـ) الخالف في أفعال هللا هل لها‬
‫آخر أم ال آخر لها؟ وقد ذكر األشعري (ت ‪324 -‬هـ) رحمه هللا قول الجهمية‬
‫في هذه المسألة وهو قولهم بأن لها آخراً‪ ،‬وهذا هو الذي بنوا عليه مذهبهم في‬
‫أن الجنة والنار تفنيان‪ ،‬ويفنى أهلهما‪ ،‬حتى بيقى هللا ‪ -‬سبحانه ‪ -‬آخرا ً ال شيء‬
‫معه‪ ،‬ثم قال بعد ذلك‪:‬‬
‫(وقال أهل اإلسالم جميعاً‪ :‬ليس للجنة والنار آخر‪ ،‬وإنهما ال تزاالن باقيتين‪،‬‬
‫وكذلك أهل الجنة ال يزالون في الجنة يتنعمون‪ ،‬وأهل النار ال يزالون في النار‬
‫يعذبون‪ ،‬وليس لذلك آخر)(‪ ،)2‬وقد نقل هذا النص ابن تيمية رحمه هللا مقرا ً له‬
‫ومؤيداً‪ ،‬ولم يتعقبه‪ ،‬أو يرد عليه فدل على أنه يرى ما يراه أهل اإلسالم‬
‫جميعا ً(‪. )3‬‬
‫‪ - 7‬نقل ابن تيمية رحمه هللا عن ابن خفيف(‪ )4‬رحمه هللا من كتابه (اعتقاد‬
‫التوحيد بإثبات األسماء والصفات)(‪ )5‬نقوالً كثيرة في الفتوى الحموية(‪ ،)6‬وقد‬
‫نقل عنه مرتضيا ً كالمه قوله‪( :‬ونعتقد أن هللا خلق الجنة والنار‪ ،‬وأنهما‬
‫مخلوقتان للبقاء ال للفناء)(‪.)7‬‬
‫َيءٍ هَا ِل ٌك ِإ َّال َو ْج َههُ} [القصص‪:‬‬
‫عز وجل‪ُ { :‬ك ُّل ش ْ‬
‫‪ - 8‬نقل في تفسير قول هللا ّ‬
‫‪ ]88‬قول الضحاك ‪ -‬مرتضيا ً له ‪ -‬في أن كل شيء يهلك إال هللا والجنة والنار‬
‫والعرش(‪.)8‬‬
‫فرق رحمه هللا بين الكفار‪ ،‬وعصاة المؤمنين في المآل‪ ،‬فالكفار محلهم‬ ‫‪ّ -9‬‬
‫النار‪ ،‬وال يخرجون منها‪ ،‬وأما عصاة المؤمنين فيدخلون النار‪ ،‬ثم يخرجون‬
‫من النار‪ ،‬قال رحمه هللا‪( :‬ومما يبين الفرق ‪ -‬أيضا ً ‪ -‬أنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬قال هناك‪:‬‬
‫{وأ َ َعدَّ لَ ُه ْم َعذَابا ً ُم ِهيناً} [األحزاب‪ ، ]57 :‬والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن‬
‫َ‬

‫(‪)1‬بيان تلبيس الجهمية ‪.157/1‬‬


‫(‪)2‬مقاالت اإلسالميين ‪.244/1‬‬
‫(‪)3‬انظر‪ :‬درء تعارض العقل والنقل ‪.358 - 357/2‬‬
‫(‪)4‬ابن خفيف‪ :‬محمد بن خفيف الشيرازي‪ ،‬أبو عبد هللا‪ ،‬صوفي متقدم‪ ،‬صاحب رحلة‪ ،‬وكان على‬
‫مذهب األشاعرة‪ ،‬ت سنة ‪371‬هـ‪ .‬انظر في ترجمته‪ :‬كشف المحجوب للهجويري ‪ ،370/1‬سيرة‬
‫الشيخ الكبير أبي عبد هللا محمد بن خفيف للديلمي‪.‬‬
‫(‪)5‬انظر في صحة نسبه الكتاب للمؤلف‪ :‬الحموية البن تيمية ص‪ ،74‬سيرة ابن خفيف للديلمي‬
‫ص‪.257‬‬
‫(‪ )6‬انظر‪ :‬ص‪.87 - 74‬‬
‫(‪)7‬انظر‪ :‬الحموية ص‪.80 - 79‬‬
‫(‪)8‬انظر‪ :‬الرد األقوم على ما في فصوص الحكم (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية ‪. )428/2‬‬
‫جهنم لهم خلقت؛ ألنهم البد أن يدخلوها‪ ،‬وما هم منها بمخرجين‪ ،‬وأهل الكبائر‬
‫من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر هللا لهم‪ ،‬وإذا دخلوها فإنهم يخرجون‬
‫َّت ِل ْل َكافِ ِرينَ } [آل‬‫ار الَّتِي أ ُ ِعد ْ‬
‫{واتَّقُوا النَّ َ‬‫منها ولو بعد حين‪ ،‬قال سبحانه‪َ :‬‬
‫عمران‪ ، ]131 :‬فأمر ‪ -‬سبحانه ‪ -‬المؤمنين أن ال يأكلوا الربا‪ ،‬وأن يتقوا هللا‪،‬‬
‫وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين‪ ،‬فعُلم أنهم يُخاف عليهم من دخول النار إذا‬
‫أكلوا الربا وفعلوا المعاصي‪ ،‬مع أنها معدة للكافرين ال لهم)(‪. )1( )1‬‬
‫ار ْال ُكب َْرى‬
‫صلَى النَّ َ‬ ‫{ويَت َ َجنَّبُ َها ْاأل َ ْشقَى * الَّذِي َي ْ‬
‫‪ - 10‬في تفسير قول هللا تعالى‪َ :‬‬
‫سم الصلي إلى قسمين‪:‬‬ ‫* ث ُ َّم َال يَ ُموتُ فِي َها َو َال يَ ْحيَى} [األعلى‪ ، ]13 - 11 :‬ق ّ‬
‫صلي خلود وهو صلي مطلق‪ ،‬وصلي مؤقت وهم الذين يدخلون النار ثم‬
‫يخرجون منها‪.‬‬
‫فقال رحمه هللا‪( :‬وتحقيقه‪ :‬أن الصلي هنا هو الصلي المطلق‪ ،‬وهو المكث فيها‬
‫والخلود على وجه يصل العذاب إليهم دائماً‪.‬‬
‫فأما من دخل وخرج فإنه نوع من الصلي‪ ،‬ليس هو الصلي المطلق)(‪. )2‬‬
‫ب َوت َ َولَّى *‬‫ص َالهَا إِ َّال ْاأل َ ْشقَى * الَّذِي َكذَّ َ‬ ‫وفي تفسير قوله تعالى‪َ :‬‬
‫{ال يَ ْ‬
‫سيُ َجنَّبُ َها ْاألَتْقَى} [الليل‪ ]17 - 15 :‬ذكر قولين للمفسرين ارتضى قول‪( :‬ال‬ ‫َو َ‬
‫(‪)3‬‬
‫يصلونها صلي خلود) قال‪( :‬وهذا أقرب) ‪.‬‬
‫فدل على أن غير المتقين من الكفار يصلونها صلي خلود دائم‪ ،‬يتجدد معه‬
‫العذاب إلى ما ال نهاية‪.‬‬
‫هذه النصوص تدل داللة ظاهرة على أن ابن تيمية رحمه هللا يقول بأبدية النار‪،‬‬
‫واستمرار عذابها‪ ،‬ويبقى بعد عرض هذه النصوص‪ ،‬والنصوص التي قبلها‬
‫تمييز القول الذي يمكن أن يُعد قوالً البن تيمية رحمه هللا في مسألة فناء النار‬
‫أو أبديتها‪ ،‬ولترجيح أحد األقوال على غيرها يمكن أن أضع بعض المقدمات‬
‫والمالحظات التي تساعد في الترجيح‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬أن جميع األقوال التي استدل بها القائلون بأنه يرى فناء النار‪ ،‬إنما‬
‫استندوا إلى كتاب واحد‪ ،‬وهو (الرد على من قال بفناء الجنة والنار) ‪ ،‬ولم تكن‬
‫المعلومات متوفرة عن الكتاب ‪ -‬سابقا ً ‪ ،-‬حتى ظن البعض أن الردود على ابن‬
‫تيمية رحمه هللا كانت ردودا ً على ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا في (حادي‬
‫األرواح)(‪ )4‬؛ ذلك أن ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا قد نقل أغلب كتاب ابن‬

‫(‪)1‬مجموع فتاوى اين تيمية ‪.368/15‬‬


‫(‪)2‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.197/16‬‬
‫(‪)3‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.197/16‬‬
‫(‪)4‬انظر‪ :‬على سبيل المثال مقدمة طه الدسوقي لالعتبار ببقاء الجنة والنار للسبكي ص‪ ،4‬وبقية‬
‫المقدمة إلى ص‪29‬‬
‫تيمية رحمه هللا آنف الذكر في كتاب (حادي األرواح) ‪ ،‬إضافة إلى أن‬
‫المطبوع من كتاب ابن تيمية رحمه هللا لم يخل ‪ -‬أيضا ً ‪ -‬من بعض الملحوظات‬
‫‪ -‬كما سيأتي ‪.-‬‬
‫وأما قول القائلين بأنه يقول بأبدية النار‪ ،‬فينقلون نصوصا ً مبثوثة في أغلب‬
‫كتب ابن تيمية رحمه هللا كمنهاج السنة‪ ،‬ودرء تعارض العقل والنقل‪ ،‬وبيان‬
‫تلبيس الجهمية‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وهذا مظنة تأييده ونصرته لهذا القول‪ ،‬بخالف القول‬
‫األول الذي لم تكن مادته إال من كتاب واحد‪ ،‬قد يكون لتأليفه‪ ،‬وكتابته‪ ،‬ثم‬
‫مخطوطاته‪ ،‬و َمن نَسخها ظروف قد تضعف من داللة هذه النصوص ‪ -‬كما‬
‫سيأتي ‪.-‬‬
‫ثانياً‪ :‬أن النصوص التي يستدل بها القائلون بأن ابن تيمية رحمه هللا يرى فناء‬
‫النار مجملة‪ ،‬غير صريحة في أنه يرى فناء النار‪ ،‬أما النصوص التي يستدل‬
‫بها القائلون بأنه يرى أبدية النار‪ ،‬فهي مبينة صريحة في أنه يرى أبديتها‪ ،‬ومن‬
‫القواعد المقررة عند أهل العلم أن المجمل مما في نصوص الكتاب والسنة يرد‬
‫إلى المحكم‪ ،‬وال يتعلق بالمتشابه والمجمل ويترك المحكم والمبين إال أهل‬
‫الزيغ والضالل كما قال تعالى‪{ :‬فَأ َ َّما الَّذِينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَتَّبِعُونَ َما تَشَابَهَ‬
‫ِم ْنهُ} [آل عمران‪ ]7 :‬ويؤيد هذا القول حكايته اتفاق سلف األمة‪ ،‬وأئمتها‪،‬‬
‫وسائر أهل السنة والجماعة على أبدية النار(‪ ،)1‬وهذا كافٍ في أنه يقول بهذا‬
‫القول وينصره‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬أن كتاب ابن تيمية رحمه هللا الموجود (الرد على من قال بفناء الجنة‬
‫والنار) ‪ ،‬لم يخل من بعض الخروم ‪ -‬في نظري ‪ -‬ومن الملحوظات عليه ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن بداية الكتاب لم يفتتح بالبسملة والحمدلة‪ ،‬كغيره من كتب شيخ اإلسالم‬
‫ابن تيمية رحمه هللا بل ابتدأ بكالم معطوف على ما قبله‪ ،‬وهو قوله‪( :‬وللناس‬
‫في ذلك أقوال‪ )2()..‬ثم ذكرها‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن المخطوط ابتدأ بذكر‪( :‬فصل في فناء الجنة والنار)(‪ ، )3‬وهذه قرينة‬
‫على أن هذا ليس أول كالمه رحمه هللا في الرسالة‪ ،‬خاصة وأن االعتماد في‬
‫الصفحات األولى في الكتاب على نسخة واحدة‪ ،‬وهي المقطع األول من نسخة‬
‫دار الكتب المصرية(‪.)4‬‬

‫(‪)1‬انظر‪ :‬بيان تلبيس الجهمية ‪ ،581/1‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.307/18‬‬


‫(‪)2‬انظر‪ :‬ص‪ ،41‬وهي الصفحة األولى من أصل الكتاب‪.‬‬
‫(‪)3‬لم يرد له ذكر في النص محققا ص‪ ،42‬وهو موجود في المخطوط‪ ،‬انظر‪ :‬صورة الصفحة األولى‬
‫من المخطوط ص‪ 34‬من الكتاب‪.‬‬
‫(‪)4‬انظر‪ :‬ص‪ 31 - 30‬من مقدمة الكتاب‪.‬‬
‫ساخ في صلب الرسالة‪ ،‬فقالوا‪( :‬وقد تكلم الشيخ رحمه هللا على‬ ‫ج ‪ -‬تدخل النُ َّ‬
‫الجهمية والهذيلية(‪ ...)1‬ورجح أدلة أهل السنة‪ ،‬وهدم شبه أهل البدعة‪ ،‬وأشار‬
‫إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب‪ ، )2()..‬وهذا كله ليس من كالم ابن‬
‫تيمية رحمه هللا ‪.-‬‬
‫د ‪ -‬أن ابن تيمية رحمه هللا قال في الكتاب‪( :‬والفرق بين بقاء الجنة والنار‪:‬‬
‫شرعا ً وعقالً‪ ،‬فأما شرعا ً فمن وجوه)(‪ ، )3‬ثم ذكر ثمانية أوجه شرعية‪ ،‬ولم‬
‫يذكر األوجه العقلية‪ ،‬حيث انتهت نسخة المكتب اإلسالمي‪ ،‬وأكمل من نسخة‬
‫دار الكتب المصرية في موضوع آخر قد ذُكر في بداية الكتاب حين رد على‬
‫الجهمية وهو آيات بقاء الجنة وقد ذكرها بحرف العطف على ما قبلها (وأما‬
‫آيات بقاء الجنة)(‪ ، )4‬ولم يكن ما قبلها يصح أن يعطف عليه ما بعده‪ ،‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬أن اإلمام الصنعاني (ت ‪1182 -‬هـ) رحمه هللا في رده على ابن تيمية‬
‫رحمه هللا ذكر بعض النصوص‪ ،‬واألحاديث التي لم ترد في الكتاب المطبوع‪،‬‬
‫وهي النصوص التي فيها تغليب جانب الرحمة‪ ،‬قال الصنعاني (ت ‪-‬‬
‫‪1182‬هـ) رحمه هللا‪( :‬ثم استدل شيخ اإلسالم على سعة رحمة هللا ‪ -‬تعالى ‪،-‬‬
‫وأنها أدركت أقواما ً ما فعلوا خيراً‪ ،‬وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت‬
‫ساخ لكتاب ابن تيمية‬‫من كان من عصاة الموحدين‪ )5()..‬وقد نقلت كالم النُ ّ‬
‫رحمه هللا في ذكرهم أن ابن تيمية رحمه هللا أشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا‬
‫على الغضب(‪.)6‬‬
‫وقد ذكر الصنعاني (ت ‪1182 -‬هـ) رحمه هللا بعض األدلة التي استدل بها ابن‬
‫تيمية رحمه هللا ومنها حديث الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه إذا مات(‪،)7‬‬
‫وأحاديث أخرى(‪ ،)8‬ولم يرد ذكر هذه األحاديث في الكتاب المطبوع‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬أن كتاب ابن تيمية رحمه هللا ال يدل على أنه يقول بفناء النار‪ ،‬وذلك‬
‫ألمور‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا تعالى ‪ -‬وهو الذي نقل أغلب أجزاء‬

‫(‪)1‬أي اتباع أبي الهذيل العالف‪.‬‬


‫(‪)2‬انظر‪ :‬ص‪.42‬‬
‫(‪)3‬انظر‪ :‬ص‪.80‬‬
‫(‪)4‬انظر‪ :‬ص‪.83‬‬
‫(‪)5‬رفع األستار ص‪.111‬‬
‫(‪)6‬انظر‪ :‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص‪.42‬‬
‫(‪)7‬الحديث أخرجه البخاري في صحيحه ‪ 515 - 514/6‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب حدثنا أبو‬
‫اليمان‪ ،‬ومسلم في صحيحه ‪ 2109/4‬كتاب التوبة‪ ،‬باب سعة رحمة هللا تعالى وأنها سبقت‬
‫غضبه‪.‬‬
‫(‪)8‬انظر‪ :‬رفع األستار ص‪.116 - 111‬‬
‫كتاب ابن تيمية رحمه هللا في كتاب (حادي األرواح) ‪ ،‬وهو يرتضي ما يقول‬
‫به‪ ،‬لم‬
‫يصرح بالقول بفناء النار‪ ،‬إنما اكتفى بذكر قول هللا ‪ -‬تعالى ‪{ :-‬إِ َّن َرب ََّك فَعَّا ٌل‬
‫ِل َما يُ ِريدُ} [هود‪ ، ]107 :‬ولو كان قال ابن تيمية رحمه هللا غير ذلك لقاله‪ ،‬أو‬
‫لناقشه ورد عليه‪ ،‬لكنه لم يفعل‪ ،‬فصار ذلك قرينة على أن ابن تيمية رحمه هللا‬
‫لم يصرح بالقول بفناء النار في هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن الكتاب قائم على حكاية قول القائلين بفناء النار على هيئة مناظرة‬
‫وحوار‪ ،‬فذكر أدلة الطائفتين‪ ،‬وحين ذكر أدلة القائلين بفناء النار عرضها‬
‫عرضا ً يوحي بأنه منهم‪ ،‬ويستند هذا التعليل إلى أمور منها‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا حين ذكر أدلة القائلين بأبدية النار‬
‫صرح بأنه يحكي هذا القول فقال‪( :‬قال‬ ‫ودوامها وبدأ مناقشة هذه األدلة‪ّ ،‬‬
‫أصحاب الفناء‪ :‬الكالم على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة)(‪.)1‬‬
‫وحين انتهى من ذكر مناقشاتهم قال‪( :‬فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه‬
‫المسألة)(‪.)2‬‬
‫ب ‪ -‬أن ابن تيمية رحمه هللا ذكر في أبدية النار اتفاق سلف األمة‪ ،‬وأئمتها‪،‬‬
‫وسائر أهل السنة والجماعة على هذا‪ ،‬وال يسع ابن تيمية رحمه هللا وأمثاله أن‬
‫يخالف هذا االتفاق‪ ،‬وال سيما أنه حكى قول القائلين بالفناء بأنه يحتج على فناء‬
‫النار بالكتاب والسنة‪ ،‬وأقوال الصحابة‪ ،‬مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب‬
‫وال سنة‪ ،‬وال أقوال الصحابة(‪ ،)3‬فكيف يحكي االتفاق واإلجماع على مسألة‪،‬‬
‫ويركز عليها في كتبه المتعددة‪ .‬ثم هو يقول بهذا النص‪ ،‬ال شك أن هذا النص‬
‫هو حكاية لقول القائلين بالفناء ال أنه يرتضيه‪.‬‬
‫ج ‪ -‬يتفق ابن تيمية رحمه هللا وابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا أنهما حكيا‬
‫قول القائلين بالفناء‪ ،‬وذلك؛ ألن ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا نقل أغلب‬
‫كالم ابن تيمية رحمه هللا الذي ذكره في كتابه (الرد على من قال بفناء الجنة‬
‫والنار) ‪ ،‬وذلك بعدما سأل ابن القيم (ت ‪761 -‬هـ) شيخه ابن تيمية رحمه هللا‬
‫عن هذه المسألة(‪ ،)4‬ثم يجمعهما ‪ -‬أيضا ً ‪ -‬أنهما قاال بقول أهل السنة والجماعة‬
‫في أبدية النار في مواضع متعددة من كتبهما‪.‬‬
‫أما ابن تيمية رحمه هللا فقد ذكرت في هذا المبحث ما وقفت عليه من كالمه‬
‫الصريح في أبدية النار‪ ،‬وأما ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا فهو ‪ -‬أيضا ً ‪-‬‬

‫(‪)1‬حادي األرواح ص‪.255‬‬


‫(‪)2‬حادي األرواح ص‪.283‬‬
‫(‪)3‬انظر‪ :‬الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص‪.67‬‬
‫(‪)4‬انظر‪ :‬شفاء العليل البن القيم ص‪.552 - 551‬‬
‫له كالم صريح في أبدية النار في بعض كتبه‪ ،‬فقد قال رحمه هللا‪( :‬وأما النار‬
‫فإنها دار الخبث في األقوال واألعمال والمآكل والمشارب‪ ،‬ودار الخبيثين‪ ،‬فاهلل‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكب‬
‫بعضه على بعض‪ ،‬ثم يجعله في جهنم مع أهله‪ ،‬فليس فيها إال خبيث‪ ،‬ولما كان‬
‫الناس على ثالث طبقات‪:‬‬
‫طيب ال يشوبه خبث‪ ،‬وخبيث ال طيب فيه‪ ،‬وآخرون فيهم خبث وطيب‪ ،‬كانت‬
‫دورهم ثالثة‪ :‬دار الطيب المحض‪ ،‬ودار الخبث المحض‪ ،‬وهاتان الداران ال‬
‫تفنيان‪ .‬ودار لمن معه خبث وطيب‪ ،‬وهي الدار التي تفنى‪ ،‬وهي دار العصاة‪،‬‬
‫فإنه ال يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد)(‪. )1‬‬
‫ونقل ابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه هللا عقيدة ابن الحداد(‪)2‬رحمه هللا وفيها‬
‫(الجنة حق والنار حق وأنهما مخلوقتان ال يبيدان وال يفنيان)(‪ ، )3‬وقد أقره على‬
‫ذلك ووافقه(‪.)4‬‬
‫خامساً‪ :‬مما يدل على أن ابن تيمية رحمه هللا وابن القيم (ت ‪751 -‬هـ) رحمه‬
‫هللا لم يقوال بفناء النار أنه لم ينقل أحد من تالمذتهما عنهما هذا القول‪ ،‬ولم يقل‬
‫به أحد منهم‪ ،‬وتالميذهما علماء محققون وهم ُكثُر‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك أن‬
‫اإلمام الذهبي (ت ‪748 -‬هـ) رحمه هللا لما ذكر سيرة ابن برهان(‪ ،)5‬وهو من‬
‫القائلين بفناء النار من علماء القرن الخامس(‪ ،)6‬ردّ عليه وقال‪ :‬قلت‪( :‬حجته في‬
‫خروج الكفار هو مفهوم العدد من قوله‪{ :‬ال ِب ِثينَ ِفي َها أ َ ْحقَاباً} [النبأ‪ ، ]23 :‬وال‬
‫ار} [البقرة‪ ]167 :‬ولقوله‪:‬‬ ‫َار ِجينَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫{و َما ُه ْم ِبخ ِ‬
‫يتفق ذلك لعموم قوله‪َ :‬‬
‫{خَا ِلدِينَ فِي َها أَبَداً} [النساء‪ ]169 :‬إلى غير ذلك) ثم ذكر أنه أفرد بحث هذه‬
‫المسألة في جزء(‪. )7‬‬
‫وكذلك الحافظ ابن كثير (ت ‪774 -‬هـ) رحمه هللا لما ذكر في ترجمة ابن‬

‫(‪)1‬الوابل الصيب ص‪.49‬‬


‫(‪)2‬ابن الحداد‪ :‬عبد هللا بن أبي الحسن بن أحمد بن الحسن األصبهاني الحداد‪ ،‬أبو نعيم‪ ،‬محدث حافظ‪،‬‬
‫مؤلف أطراف الصحيحين‪ ،‬صاحب زهد وعبادة‪ ،‬ت سنة ‪517‬هـ‪.‬‬
‫انظر في ترجمته‪ :‬سير أعالم النبالء للذهبي ‪ ،486/19‬شذرات الذهب البن العماد ‪.56/4‬‬
‫(‪)3‬اجتماع الجيوش اإلسالمية ص‪.177‬‬
‫(‪)4‬انظر في رأي ابن القيم في مسألة فناء النار‪ :‬ابن القيم وموقفه من التفكير اإلسالمي لعوض هللا‬
‫حجازي ص‪ ،245 - 229‬ابن قيم الجوزية ودفاعه عن عقيدة السلف لعبد هللا بن محمد ص‪567‬‬
‫‪ ،575 -‬مجلة الحكمة ‪.137 - 127/5‬‬
‫(‪)5‬ابن برهان‪ :‬عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬العالمة‪ ،‬شيخ العربية‪ ،‬كان يميل‬
‫إلى مذهب مرجئة المعتزلة‪ ،‬ت سنة ‪456‬هـ‪.‬‬
‫انظر في ترجمته‪ :‬سير أعالم النبالء للذهبي ‪ ،124/18‬شذرات الذهب البن العماد ‪.297/3‬‬
‫(‪)6‬وهذه المعلومة من فوائد الشيخ بكر أبو زيد ‪ -‬حفظه هللا ‪.-‬‬
‫(‪)7‬سير أعالم النبالء ‪.126/18‬‬
‫برهان (ت ‪456 -‬هـ) قوله بفناء النار‪ ،‬نقل كالما ً البن الجوزي (ت ‪597 -‬هـ)‬
‫مرتضيا ً له في أن القول بهذا يخالف اعتقاد المسلمين(‪. )1‬‬
‫وقال الحافظ ابن رجب (ت ‪795 -‬هـ) رحمه هللا‪( :‬وعذاب الكفار في النار ال‬
‫يفتر عنهم‪ ،‬وال ينقطع‪ ،‬وال يخفف بل هو متواصل أبداً)(‪. )2‬‬
‫وقال‪( :‬وال يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت‪ ،‬فحينئذ يقع‬
‫منهم اإلياس‪ ،‬وتعظم عليهم الحسرة والحزن)(‪. )3‬‬
‫وفي مقابل ذلك لم نجد من التالمذة من يذكر قوالً البن تيمية رحمه هللا في فناء‬
‫النار‪ ،‬وال ردا ً عليه في أي من كتبهم‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬على التسليم بأن كتاب ابن تيمية رحمه هللا (الرد على من قال بفناء‬
‫الجنة والنار) فيه تأييد ونصرة للقول بفناء النار‪ ،‬فإن الذي يغلب على ظني‬
‫وتقديري أن هذا الكتاب ليس من آخر ما كتب ابن تيمية رحمه هللا ‪ ،-‬فإن‬
‫الكتب المتأخرة هي التي ذكر فيها ابن تيمية رحمه هللا أبدية النار‪ ،‬فدرء‬
‫تعارض العقل والنقل‪ ،‬تم تأليفه في السنوات من عام ‪713‬هـ إلى عام‬
‫‪717‬هـ(‪ ،)4‬وكتاب (منهاج السنة النبوية) كان تأليفه عام ‪710‬هـ تقريبا ً(‪ ،)5‬وفي‬
‫تأريخ قريب منه كتاب (بيان تلبيس الجهمية) فقد أُلف هذان الكتابان مع‬
‫غيرهما في مصر من عام (‪712 - 705‬هـ)(‪ ،)6‬وهذه الكتب قد ذكر فيها ابن‬
‫تيمية رحمه هللا القول بأبدية النار‪ ،‬وصرح بوضوح برأيه في هذه المسألة‪،‬‬
‫وتعد هذه الكتب من مؤلفات ابن تيمية رحمه هللا المتأخرة؛ فقد بدأ التأليف في‬
‫مرحلة مبكرة‪ ،‬أي ‪ -‬تقريبا ً ‪ -‬قبل تأليف (درء تعارض العقل والنقل) بثالثين‬
‫سنة فأكثر‪ ،‬كما يقول ابن تيمية رحمه هللا في درء تعارض العقل والنقل‪( :‬وقد‬
‫كنا صنفنا في فساد هذا الكالم مصنفا ً قديما ً من نحو ثالثين سنة)(‪ )7‬؛ ولذا‬
‫فالغالب على الظن أن تكون الكتب التي يصرح فيها بأبدية النار هي المتأخرة‬
‫زمناً‪ ،‬إذ هي من أواخر مؤلفات شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا ‪ ،-‬وأما‬
‫الكتاب الذي يحوي في طياته ألفاظا ً مجملة عن الموضوع فالذي يغلب على‬
‫الظن أنه قد تم تأليفه في مرحلة مبكرة من وقت ابن تيمية رحمه هللا الطويل‬

‫(‪)1‬انظر‪ :‬البداية والنهاية ‪.92/12‬‬


‫(‪)2‬التخويف من النار ص‪.194‬‬
‫(‪)3‬التخويف من النار ص‪.208‬‬
‫(‪)4‬انظر‪ :‬مقدمة تحقيق درء تعارض العقل والنقل لمحمد رشاد سالم ‪ ،11 - 7/1‬مقدمة تحقيق‬
‫الصفدية لمحمد رشاد سالم ‪.10/1‬‬
‫(‪)5‬انظر‪ :‬مقدمة تحقيق منهاج السنة النبوية لمحمد رشاد سالم ‪.87/1‬‬
‫(‪)6‬انظر‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة البن رجب ‪.403/2‬‬
‫(‪..22/1 )7‬‬
‫الذي قضاه في التأليف(‪ ،)1‬وهذا قول بعض المحققين(‪.)2‬‬
‫وفي الجملة فالذي يترجح لدي ‪ -‬وهللا أعلم ‪ -‬أن ابن تيمية رحمه هللا يقول بما‬
‫قال به سلف األمة‪ ،‬وأئمتها‪ ،‬وسائر أهل السنة والجماعة من أن النار ال تفنى‬
‫وال تبيد كالجنة‪ ،‬وهذا هو الذي يصرح به في عامة كتبه وهللا أعلم وأحكم‪.‬‬
‫وإذا كان هذا هو قول ابن تيمية رحمه هللا ‪ ،-‬فلست في حاجة ‪ -‬بعد ذلك ‪ -‬أن‬
‫أبين أقوال المعتذرين البن تيمية رحمه هللا عن مقاالته التي يظنون أنه بها‬
‫يقول بفناء النار‪ ،‬أو مناقشة أقوال المكفرين له(‪)3‬؛ ألجل قوله بهذه المسألة(‪،)4‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬

‫(‪)1‬حاولت بالبحث والسؤال معرفة تاريخ تأليف ابن القيم كتابيه (شفاء العليل‪ ،‬وحادي األرواح) ‪ ،‬فقد‬
‫نقل أغلب المواضع من كتاب ابن تيمية في هذه المسألة‪ ،‬وذكر أن له مصنفا ً مشهوراً‪ ،‬فلو كان‬
‫ألفهما في مرحلة مبكرة لكان ذلك دليالً على أن تأليف كتاب ابن تيمية كان ‪ -‬أيضا ً ‪ -‬في مرحلة‬
‫مبكرة؛ ألنه لم ترد أية معلومات عن تاريخ تصنيف ابن تيمية رحمه هللا كتابه في هذه المسألة‪.‬‬
‫(‪)2‬انظر‪ :‬مقدمة األلباني في كتاب رفع األستار للصنعاني ص‪.25‬‬
‫(‪)3‬ومن قال بأن القول بفناء النار كفر ال يسلم له‪ ،‬فإن هذه المسألة فيها اشتباه‪ ،‬اشتبهت على بعض‬
‫العلماء‪ ،‬وقالوا بفناء النار‪ ،‬واستندوا إلى آثار‪ ،‬فاجتهدوا في هذه المسألة‪ ،‬وإن كانوا مخطئين‬
‫لكنهم ال يكفرون بذلك‪( ،‬السيما وأن هذا القول نسب إلى بعض الصحابة والتابعين) ‪.‬‬
‫(‪)4‬انظر‪ :‬إيثار الحق على الخلق البن الوزير ص‪ ،203‬مقدمة األلباني لكتاب رفع األستار للصنعاني‬
‫ص‪.32 - 21‬‬

You might also like