Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 162

‫نسخة إلكترونية مجانية إهداءً للقراء‬

‫من الجزائر تقرأ‬


‫نتمنى أن يعجبكم الكتاب‬
‫ال تنسوا أن تكتبوا لنا عن الكتاب بعد‬
‫أن تتموا قراءته‬
‫ننتظر آراءكم‬
‫سفيان مقنين‬
‫جزائري في األندلس‬
‫ردمك‪978-9931-677-25-3 :‬‬
‫اإليداع القانوني‪ :‬السداسي الثاني ‪2018‬‬

‫الطبعة األولى‪ :‬أكتوبر ‪2018‬‬


‫الطبعة الثانية‪ :‬جانفي ‪2019‬‬
‫مقدمة املؤلف‬

‫عندما قصدت مكة املكرمة ب ّرا ذات شهر أوت من سنة ‪ 2005‬مل أكن‬
‫أعرف أن الخربشات التي دونتها حول الرحلة لتوزيعها فيام بعد عىل‬
‫بعض األصدقاء ممن رافقوين يف السفر ستصبح سببا إضافيا لقبول‬
‫توظيفي يف محطة ورقلة للتلفزيون‪ ،‬بعد أن قال يل مديرها آنذاك‬
‫أحمد بن صبان‪ :‬إن من يكتب هذا الكالم ويبحث عن مكان داخل أسوار‬
‫يصح أن يبقى يف الجزء اآلخر من السور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املؤسسة ال‬
‫وحني د ّونت بعضا من مشاهدايت وأفكاري أثناء أول رحلة يل إىل‬
‫مدن جنوب إسبانيا ألقتسمها فيام بعد مع األصدقاء عىل الفيسبوك‬
‫مل أكن أدري أنها ستتحول بهذه الرسعة إىل كتاب مطبوع هو اآلن بني‬
‫يديك بعد أن حاز ثقة دار نرش أشهد ألصحابها أنّهم ال ي ّدخرون جهدا‬
‫يف تجسيد فكرة الجزائر تقرأ وحتى الجزائر تكتب‪..‬‬
‫فعل الكتابة كان بالنسبة يل طريقة ممتعة ومفيدة للسفر ثالث مرات‬
‫يف رحلة واحدة‪ .‬مرة عند القيام بها‪ ،‬ومرة عند تدوين أحداثها‪ ،‬ومرة‬
‫أخرى عند إعادة قراءتها‪ ،‬ورمبا انتابني إحساس رابع بالسفر مجددا كلام‬
‫اقتسمتها مع أحد القراء عرب فضاءات النرش والتواصل االلكرتونية‪ ،‬مع‬
‫االعرتاف أن املرة األوىل أحسن من الحقاتها ألن رائحة شواء اللحم يف‬
‫النهاية ال تعوض تناول قطعة اللحم ذاتها‪..‬‬
‫إذا أخذك هذا الكتاب يف جولة مثرية وأحسست أنك فعال مسافر‬
‫عرب صفحاته وفقراته فأنت قد حققت نصف الهدف من اقتناءه أو‬
‫استعارته‪ ،‬وإن حفّزك ما جاء فيه عىل حزم حقائبك واالنطالق نحو السفر‬
‫أيا كانت وجهتك فقد حققت الهدف كامال‪ ،‬أما إن سافرت وعدت‬
‫إلينا بانطباعات وأفكار ومشاهدات وأحداث عايشتها أثناء رحلتك مهام‬
‫كانت بسيطة فأنت قد حققت هديف الشخيص من هذا العمل ولك‬
‫مني كل االمتنان والتقدير‪.‬‬
‫اإلنسان مل يخلق ليتحدث بلغة واحدة فقط وال ليعيش يف مكان واحد‬
‫فقط‪ ..‬سيعلمك السفر أنك أحسن وأقوى وأذىك بكثري مام تعتقده يف‬
‫نفسك أو يعتقده الناس فيك‪ .‬جرب أن تقرتب من حقيقتك‪ ،‬باالبتعاد‬
‫ولو قليال عن ح ّيك‪ ،‬بلدتك أو مدينتك‪ ..‬جرب أيضا أن تسافر وتكتب‬
‫ألن أضعف أنواع الحرب أقوى من أي ذاكرة‪.‬‬
‫إىل والدي الكرميني اللذين أدين لهام بكل يشء جميل يحصل يل‬
‫يف الحياة‪..‬‬
‫إىل زوجتي العزيزة سهام وابنتي ياسمني ومن هو قادم يف الطريق‪..‬‬
‫إىل كل أصدقايئ عرب الفيسبوك الذين ح ّرضوين كثريا عىل ارتكاب‬
‫فعل الكتابة‪.‬‬
‫إىل كل مسافر يأخذنا معه عرب حكاياته وصوره وكتاباته ويقتسمها مع‬
‫الجميع دون استئذان وعن طيب خاطر‬
‫إىل كل قارئ‪ ..‬أهدي هذا الكتاب‪.‬‬
‫وهران ليست ملن يسكنها‪ ،‬وهران ملن تسكنه‬

‫‪On ne naît pas Oranais ..on le devient‬‬

‫هــذا هــو تقريبــا شــعور أي ســاكن يف هــذه املدينــة مهــا كانــت أصولــه‬
‫بعيــدة عنهــا‪ ،‬شــعور يجعلــك يف راحــة واطمئنــان ال تتــاح لــك بســهولة‬
‫يف مــدن أخــرى مــن الوطــن‪ ،‬أيــن تضعــك لهجتــك ورقــم ترقيــم الواليــة يف‬
‫ســيارتك يف بعــض املواقــف تجعلــك مرتابــا فيمــن حولــك أحيانــا‪ ،‬كــا‬
‫تجعــل مــن حولــك مرتابــن فيــك أيضــا‪.‬‬

‫قبــل عامــن مــن اآلن كنــت قــد ضقــت ذرعــا بزحــام الســيارات يف‬
‫العاصمة رغم اتساعها وأتعبني ضيق أفق البعض فيها رغم عل ّو مراتبهم‬
‫يف الس ـلّم االجتامعــي واملهنــي‪ ،‬ف ُرحــت أســتعني بــرودة األعصــاب‬
‫ملواجهــة متاعــب النــاس‪ ،‬وبدراجتــي الناريــة الختصــار املســافات والقفــز‬
‫عــى الزحــام‪ ،‬إىل أن اســتيقظت ذات صبــاح ومل أجدهــا يف مكانهــا يف‬
‫الســاحة الداخليــة للعــارة التــي أســكنها‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫كانــت تلــك قطــرة أخــرة‪ ،‬أفاضــت كأس صــري عــى مــا تبذلــه أكــر‬
‫مدينــه يف البلــد مــن أجــل إشــعار ســكانها بالتعاســة والتعــب واليــأس‬
‫وامللــل والوحــدة رغــم املاليــن الســتة مــن الســكان الذيــن تعــج بهــم‬
‫املحروســة‪ ،‬والذيــن ال يزيدونــك أحيانــا إال وحــدة وانعــزاال‪.‬‬

‫يف وهــران التــي انتقلــت للعيــش والعمــل بهــا (بعــد تجربــة قصــرة‬
‫يف العاصمــة مل تتجــاوز الســنتني وأخــرى يف ورقلــة مل يــزد عمرهــا عــن‬
‫األربــع ســنوات) ال أحــد يســألك مــن أيــن أنــت أو مــن أيــن أتيــت‪ ،‬فالجميــع‬
‫كــا يبــدو ليســوا مــن هنــا وال فضــل لقديــم عــى جديــد‪ ،‬املدينــة تتســع‬
‫للجميــع دون اســتثناء‪ .‬بــل إنهــا يف الســنوات األخــرة ازدادت منــوا يف‬
‫العمــران والتجــارة وحركــة النــاس منهــا وإليهــا‪ ،‬لتصبــح اليــوم ثــاين مدينــة‬
‫يف البلــد مبيناءهــا الكبــر ومطارهــا الــدويل قيــد التوســعة‪ .‬كــا وتبعــد‬
‫بســاعة فقــط عــن مســتغانم ومعســكر ومتوشــنت وبلعبــاس وغيليــزان‬
‫وســاعتني عــن الشــلف وســعيدة وتلمســان وثــاث ســاعات عــن تيــارت‬
‫بالســيارة‪ .‬وحاليــا تفصلهــا ثــاث ســنوات فقــط عــن موعــد هــام جــدا وهــو‬
‫ألعــاب البحــر املتوســط املقــررة يف ‪.2021‬‬

‫املواعيــد الرياضيــة الدوليــة يف العــادة فرصــة لدفــع عجلــة التنميــة‬


‫االقتصاديــة يف أي بلــد أو مدينــة تحتضــن املوعــد‪ ،‬عــى األقــل مــن‬
‫حيــث تجديــد البنيــة التحتيــة وتدعيــم الحضــرة الفندقيــة وإطــاق مزيــد‬
‫مــن املشــاريع الكــرى‪ ،‬أو كــا يحــدث حاليــا يف الباهيــة وهــران‪ .‬مــع أنــه‬
‫مــن املهــم أيضــا (وهــو مــا تعمــد لــه دول كــرى) دفــع املواطنــن نحــو‬

‫‪7‬‬
‫مامرسة أكرب للنشاط الريايض بكل فئاتهم العمرية وعرب كل الفضاءات‬
‫العموميــة والخاصــة يف املدينــة‪ ،‬وفوائــد ذلــك عــى الصحــة النفســية‬
‫والجســدية واالقتصــاد والســلوك العــام ألفــراد املجتمــع أكــر مــن أن تعـ ّد‬
‫أو تحــى‪..‬‬

‫يف العامــن الذيــن أمضيتهــا يف وهــران اكتشــفت مدينــة ال تشــبه‬


‫املــدن الجزائريــة األخــرى التــي أعرفهــا‪ ،‬مدينــة تســهر إىل وقــت متأخــر‬
‫ليــا‪ ،‬وتســتيقظ بكســل مبالــغ فيــه صباحــا‪ ،‬ســكانها طيبــون عمومــا‬
‫وبداخلهــم طاقــة وحــرارة كبــرة يف التعامــل والحديــث‪ ،‬يتكلمــون بصــوت‬
‫مرتفــع جــدا حتــى عندمــا يح ّيــون بعضهــم البعــض يف ســاعات الصبــح‬
‫ويبســطون الكثــر مــن‬
‫ّ‬ ‫األوىل‪ ،‬يعيشــون الحــارض بــكل مــا أوتــوا مــن شــغف‬
‫األمور يف الحياة إىل درجة املغاالة أحيانا‪ ،‬لكن الطيبة والكرم والتلقائية‬
‫والعفويــة يف الــكالم والتعامــل هــي الســمة الغالبــة عــى طباعهــم‪.‬‬

‫اللهجــة الوهرانيــة بهــا عديــد الكلــات مــن أصــل إســباين فاألســبوع هــو‬
‫الســيامنة والكيــس هــو البولصــة والطابــور هــو الكــوال والخزانــة هــي املاريــو‬
‫ومــاء الجافيــل هــو الليخيــا‪.‬‬

‫ووهــران هــي أكــر املــدن إســبانية يف الجزائــر‪ ،‬فقــد مكــث فيهــا‬


‫اإلســبان قرنــن وســتني عامــا مل تنقطــع إال خمســة وعرشيــن ســنة إبــان‬
‫القــرن الثامــن عــر حــن حارصهــم البــاي بوشــاغم ملــدة طويلــة نفــذ‬
‫معهــا مخزونهــم مــن الطعــام مــا اضطرهــم الخــراع طبــق مــن طحــن‬
‫الحمــص ســيصبح فيــا بعــد أشــهر طبــق يف منطقــة الغــرب الجزائــري‬

‫‪8‬‬
‫بكاملــه وهــو الكرنتيكــة واملشــتقة مــن الكلمــة اإلســبانية كلنتيتــة وتعنــي‬
‫باإلســبانية حرفيــا «الســاخنة»‪ .‬غــر أن وهــران عــادت لتســقط مــن جديــد‬
‫يف يــد اإلســبان الذيــن مل يرتكوهــا يف يــد العثامنيــن نهائيــا ســوى ســنة‬
‫‪ 1792‬بعــد زلــزال مدمــر أهلــك خلقــا كثــرا مبــن فيهــم حاكمهــا اإلســباين‬
‫وزوجتــه‪ ،‬وخــرب أجــزاء كبــرة مــن املدينــة وهــي التــي كانــت أكــر الحــوارض‬
‫تحصينــا يف الشــال اإلفريقــي‪.‬‬

‫مل تغب إسبانيا أبدا عن وهران حتى بعد سقوطها يف يد الفرنسيني‬


‫سنة ‪ ،1832‬فقد كان سكانها بعد االحتالل الفرنيس يف معظمهم من‬
‫أصل إســباين‪ ،‬وال تزال القالع والحصون وحلبة مصارعة الثريان وأســاء‬
‫األســاك البحريــة شــاهدة عــى وجودهــم املبــارش أو غــر املبــارش تحــت‬
‫االستعامر الفرنيس‪.‬‬

‫ومثلــا كان اإلســبان متشــبثني بوهــران لعــرات الســنني حتــى يكــون‬


‫لهــم موطــئ قــدم يف شــال إفريقيــا كــا هــو الحــال يف ســبتة ومليليــة‬
‫والجــزر الجعفريــة وجزيــرة الربهــان وجــزر النكــور وصخــرة باديــس وجزيــرة‬
‫ليــى يف املغــرب‪ ،‬فــإن فرنســا مل تخــرج هــي األخــرى مــن املــرىس الكبــر‬
‫بوهران إال يف فيفري ‪ 1968‬بعد احتفاظها بالقاعدة البحرية العسكرية‬
‫آنــذاك يف إطــار اتفاقيــات إيفيــان وذلــك لضــان عــدم وقوعهــا تحــت‬
‫ســيطرة االتحــاد الســوفيايت يف ســياق الحــرب البــاردة‪ ،‬وأيضــا ألن جــزءا‬
‫كبــرا منهــا مبنــي داخــل جبــال صخريــة تحــوي بداخلهــا طرقــا ومبــاين‬
‫ومخــازن ضخمــة لتكــون عصيــة االخــراق عــى أي هجــوم نــووي محتمــل‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫لكــن تطــور القــدرات التدمرييــة للقنابــل النوويــة مــع الوقــت أفقــد املــرىس‬
‫الكبــر أهميتــه االســراتيجية لفرنســا خاصــة وأن مصاريفهــا كانــت مكلفــة‬
‫فتــم نقلهــا إىل ســيطرة القــوات الجزائريــة قبــل املوعــد املتفــق عليــه‪،‬‬
‫لتكــون رســميا آخــر مــكان غــادره جنــدي فرنــي بعــد أكــر مــن قــرن مــن‬
‫االحتــال‪.‬‬

‫اإلقليــم الوهــراين إبّــان الوجــود الفرنــي كان مــن أغنــى األقاليــم يف‬
‫الجزائــر قبــل ظهــور آبــار النفــط يف الجنــوب‪ ،‬وكانــت املنتوجــات الزراعيــة‬
‫يف املنطقــة الوهرانيــة ذات جــودة عاليــة ومصنفــة عامليــا مــن «زيتــون»‬
‫ســيق إىل «طومســون» باريقــو إىل «كليمونتــن» مرسغــن إىل «عنــب»‬
‫معســكر دون الحديــث عــن أفخــم أصنــاف الكــروم التــي كانــت تنتــج أجــود‬
‫أنــواع الخمــور والتــي جعلــت مــن وهــران بدايــة الســتينيات واحــدة مــن‬
‫أكــر عــر مــدن فرنســية وأول مدينــة أوروبيــة يف الجزائــر‪ ،‬ولعــل ذلــك مــا‬
‫يفــر أيضــا النشــاط الكبــر ملنظمــة الجيــش الــري اإلرهابيــة بوهــران بــن‬
‫شــهر مــارس وجــوان ‪ 1962‬والتــي ترجمــت بوضــوح عــدم قبــول األوروبيــن‬
‫التخــي عــن وجــود تعــود جــذوره إىل بدايــات القــرن الســادس عــر‪،‬‬
‫ولــو أنهــا وقّعــت يف نفــس الوقــت شــهادة وفــاة أي تعايــش ســلمي بــن‬
‫الجزائريني املســلمني والجزائريني من أصل أورويب بعد االســتقالل جراء‬
‫األحــداث الدمويــة التــي تســببت فيهــا هــذه املنظمــة والتــي امتــدت حتــى‬
‫للــراب الفرنــي (ولــو أنهــا مل تســاهم يف النهايــة إال يف زيــادة شــهرة‬
‫ســيارة الديــاص بــاالص لســيرتوان بعــد فشــل محاولــة اغتيــال ديغــول عــى‬
‫متنهــا)‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وهــران تعشــق أصــوات املوســيقى وتحــب زرقــة البحــر وتغــرق يف‬
‫أشــعة الشــمس وتســتأنس بأضــواء الليــل طيلــة فــرة ال بــأس بهــا مــن‬
‫الســنة‪ .‬يتنــزه النــاس يف شــوارعها وحدائقهــا يف أي وقــت مــن اليــوم‪،‬‬
‫ويفتخــرون بجولتهــم املفضلــة التــي يتمشــون فيهــا فــوق ممــر واجهــة البحــر‬
‫الــذي تزينــه النخيــل‪ ،‬ويطلــون مــن هنــاك عــى املينــاء التجــاري والبحــر‬
‫املتوســط‪.‬‬

‫مــن املعقــول أن يتطلــع ســكان املوانــئ والســواحل دومــا إىل ضفــاف‬


‫أخــرى غــر تلــك التــي يطلــون عليهــا يوميــا‪ ،‬وقــد تكــون تلــك الضفــاف‬
‫الشــالية مــن هــذا البحــر قريبــة مــن مخيلــة النــاس ووجدانهــم لدرجــة‬
‫أن بعضهــم يتصــور أنــه ميكــن أن يــرى مــن وهــران أضــواء إســبانيا إن صعــد‬
‫فــوق ســطح عــارة شــاهقة بعــد غــروب الشــمس وكان الجــو صافيــا‪.‬‬

‫لذلــك يحتــل هــذا البلــد هنــا بعيــدا عــن حكايــات الريــال والبارصــا‬
‫والليغــا مكانــة خاصــة يف النفــوس يصعــب فهمهــا دون أن تعيــش يف‬
‫مدينــة الباهيــة ‪.‬فــإىل وقــت قريــب يف الثامنينيــات وقبــل غــزو الهوائيــات‬
‫املقعــرة كان الســكان يلتقطــون القنــوات التلفزيــة اإلســبانية ويشــاهد‬
‫األطفــال الرســوم املتحركــة باللغــة اإلســبانية‪ .‬القنــوات اإلذاعيــة إىل يومنــا‬
‫هــذا أوضــح يف راديــو الســيارة مــن قنــوات اإلذاعــات املحليــة وكان مــن‬
‫املتــاح قضــاء عطــات عائليــة صيفيــة يف الضفــة املقابلــة كل ذلــك‬
‫يضــاف إىل أســباب أخــرى ال يتســع املجــال لذكرهــا جميعــا هنــا‪ ،‬تجعــل‬
‫أقــرب مدينــة إىل الباهيــة يف الضفــة املقابلــة مثــا هــي أليكانتــي‪ ،‬التــي‬

‫‪11‬‬
‫تعيــش بهــا أعــداد كبــرة مــن الجزائريــن والذيــن تضاعفــت أعدادهــم‬
‫هنــاك أيــام األزمــة املاليــة اإلســبانية وانهيــار أســعار العقــارات‪ ،‬ليبلغــوا‬
‫أكــر مــن عرشيــن ألــف مهاجــر‪ ،‬وهــو ثلــث عــدد الجاليــة املقيمــة يف‬
‫إســبانيا (بصفــة قانونيــة طبعــا)‪.‬‬

‫ســبق يل أن مــررت بإســبانيا يف رحلــة خاطفــة قبــل خمــس ســنوات‬


‫ومل تنضــج يف رأيس فكــرة أن أزورهــا مــرة ثانيــة إال بعــد أن اقرتبــت منهــا‬
‫جغرافيا باســتقراري يف وهران واقرتبت مني وجدانيا عرب عديد الكتب‬
‫التــي أصبحــت أجــد متســعا مــن الوقــت ملطالعتهــا هنــا‪ ،‬واملتعلقــة‬
‫بتاريــخ الفــردوس املفقــود كــا تســميه أدبياتنــا‪ .‬لذلــك قــررت أن أســافر‬
‫لزيــارة بلــد نشــرك معــه يف تاريــخ طويــل رمبــا كان برائحــة الدمــاء والبــارود‬
‫أحيانا‪ ،‬لكنه جدير بالزيارة عىل األقل من الناحية الســياحية وهو الغرض‬
‫مــن الســفر يف النهايــة‪.‬‬

‫تنطلق البواخر نحو إسبانيا من ميناء مستغانم نحو برشلونة وبلنسية‪،‬‬


‫ومــن مينــاء وهــران نحــو أليكانتــي وأملريــة‪ ،‬ومــن الغــزوات اتجــاه أملريــة‬
‫فقــط‪ .‬ملــدة أســابيع وعــر االنرتنيــت املتدفقــة برسعــة ســيارة يف زحــام‬
‫العاصمــة‪ ،‬بــدأت يف تخطيــط مســار رحلتــي يف ذلــك البلــد الســياحي‬
‫والتــي اخــرت أن تكــون يف شــهر ســبتمرب حيــث الحــرارة ال هــي باملرتفعــة‬
‫الشــاقة وال باملنخفضــة البــاردة‪ ،‬وأيــن يكــون االنطــاق مــن وهــران إىل‬
‫أملريــة ثــم العــودة إليهــا بعــد عــرة أيــام أو يزيــد‪..‬‬

‫مــا الــذي رأيتــه واكتشــفته وعشــته يف أطــوار هــذه الرحلــة القصــرة؟‬

‫‪12‬‬
‫كيــف تســافر إىل بلــد توقفــت معرفتنــا بــه مــع آخــر زفــرة أطلقهــا عبــد اللــه‬
‫الصغــر وهــو يغــادر ملكــه؟ وملــاذا يعلمــك ركــوب البحــر نحــو الشــال أن‬
‫قــر الحمــراء أقــرب إليــك مســافة مــن مقــام الشــهيد انطالقــا مــن وهــران؟‬
‫حكايــة لــن يأخــذ منــك هــذا الكتــاب أكــر مــن جلســة واحــدة‪ ،‬يف حافلــة أو‬
‫قطــار‪ ،‬يف حديقــة أو يف مطــار‪ ،‬يف مركــز للربيــد أو يف قاعــة انتظــار‪ ،‬يف‬
‫مكتبــة أو حتــى يف وســط الــدار‪ ،‬ملطالعــة مــا جــاء عــر صفحاتــه والســفر‬
‫إىل جنــوب إســبانيا دون تأشــرة لكــن بتذكــرة ذهــاب وعــودة‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وتنطلق السفينة‪..‬‬

‫‪Rester,c’est exister.voyager ,c’est vivre‬‬

‫يعتــر جــواز الســفر الجزائــري مــن أضعــف الجــوازات يف العــامل ولكنــه‬


‫ليــس األســوء‪ ،‬فهــو يــأيت يف املرتبــة الثامنــن عامليــا وهــو أفضــل مــن‬
‫جــوازات مــر واألردن ولبنــان وســوريا والســودان شــاله وجنوبــه ودولــة‬
‫الصومــال (علــا أن التصنيــف ســنوي وميكــن أن يتقــدم ويتأخــر)‪.‬‬

‫أكــر مــن ســتني دولــة يف العــامل ال تعــرف بجــواز بلدنــا كوثيقــة وحيــدة‬
‫للســفر‪ ،‬ومــا عــدا بعــض الــدول اإلفريقيــة والــدول الصغــرة يف أمريــكا‬
‫الالتينيــة ودول أذربيجــان وجورجيــا وأرمينيــا وألبانيــا يف أوروبــا التــي‬
‫رمبــا تغازلنــا بخفــة اإلجــراءات طمعــا لتنشــيط مواســمها الســياحية‪ ،‬فــإن‬
‫باقــي الــدول تفــرض عــى الجزائريــن الراغبــن يف الســفر إليهــا ماراطونــا‬
‫طويــا وحمــا ثقيــا مــن الوثائــق التــي رمبــا تســمع بوجودهــا ألول مــرة‪،‬‬
‫وزمنــا مخيفــا مــن الرتقــب واالنتظــار‪ .‬بــل إن الرتقــب سيســافر معــك إىل‬
‫غايــة وصولــك عنــد رشطــي الحــدود يف الدولــة األوروبيــة التــي حصلــت‬

‫‪14‬‬
‫عــى تأشــرتها‪ ،‬فرمبــا أعــادك مــن حيــث أتيــت لســبب أو آلخــر‪ .‬وطبعــا‬
‫لــن أتحــدث هنــا عــن دول أوقيانوســيا التــي تعــرف بجوازنــا األخــر ألن‬
‫معظمنــا ال يعــرف وجودهــا عــى الخريطــة مــن األســاس لصغــر حجمهــا‪،‬‬
‫كجــزر بــاالوس وكــوك وســاموا ونيــو وتيفالــو وميكرونيزيــا (هــذه األخــرة‬
‫تعنــي أصــا باللغــة اإلغريقيــة الجــزر املتناهيــة الصغــر)‪.‬‬

‫يف فصل الصيف كانت باخرة ترانسميديتريانيا تبحر من ميناء وهران‬


‫ليــا مبعــدل مرتــن إىل ثــاث أســبوعيا وذلــك مــا شــجعني عــى اختيــار‬
‫أملريــة كوجهــة أوىل يف رحلتــي‪ .‬عرفــت بعــد استفســار هاتفــي أنــه بدايــة‬
‫مــن شــهر ســبتمرب ينخفــض ضغــط املســافرين عــى هــذا الخــط البحــري‬
‫وينخفــض بالتــايل مبلــغ التذكــرة (ليــس هــذا صالحــا مــع رشكات النقــل‬
‫الوطنيــة والفنــادق مبختلــف نجومهــا وأنواعهــا التــي ال تعــرف أســعارها‬
‫بالفصــول والنواميــس الكونيــة للعــرض والطلــب) وهكــذا اقتنيــت تذكــرة‬
‫بأربعــة عــر ألــف دينــار جزائــري‪ ،‬حيــث تكــون املغــادرة يف الحــادي‬
‫عــر ســبتمرب والعــودة يــوم الثالــث والعرشيــن منــه‪ ،‬وكنــت قبلهــا قــد‬
‫قصــدت وكالــة ســياحية متعاقــدة مــع املؤسســة التــي أشــتغل بهــا يك‬
‫أحجــز بعــض الليــايل يف فنــادق صغــرة مــن نجمــة أو نجمتــن عــر مــدن‬
‫إقليــم األندلــس املعروفــة (وذلــك قبــل عطلتــي بشــهرين كاملــن) تبــدأ‬
‫بأملريــة وتنتهــي مبالقــة مــرورا بغرناطــة وقرطبــة وإشــبيلية ورنــدة‪..‬‬

‫وكاالت الســفر متلــك قاعــدة بيانــات فيهــا عــدد كبــر مــن الفنــادق عــر‬
‫العــامل وميكنهــا أن تحجــز لــك يف أي فنــدق تريــده ويف التواريــخ التــي‬

‫‪15‬‬
‫تحددها ســلفا‪ .‬إذ ما عليك إال أن تختار وقتا معينا من الســنة يكون فيه‬
‫اإلقبــال ضعيفــا وتقــوم باختياراتــك وســتجد أســعارا مذهلــة ستنســيك‬
‫يف أســعار تركيــا واملغــرب وتونــس ومــر رشط أن تحجــز بشــكل مســبق‬
‫(وهــذا صعــب أحيانــا ألن التخطيــط لســاعة مواليــة يف بلدنــا صعــب‬
‫جــدا‪ ،‬فــا بالــك بالتخطيــط ألشــهر مقبلــة؟!)‬

‫مــع أســعار الــرف امللتهبــة حاليــا ومســتقبال كــا يبــدو‪ ..‬يكــون مــن‬
‫األحســن أن تقــوم بحجوزاتــك بالدينــار الجزائــري وتحصــل عــى وصــوالت‬
‫تأكيــد الحجــز مــن الــوكاالت هنــا ثــم تســتعمل اليــورو الــذي تأخــذه معــك‬
‫لدفــع مصاريــف األكل والتنقــل ورشاء املقتنيــات املختلفــة يف أوروبــا‪.‬‬

‫اختــار يل الشــاب يف الوكالــة الســياحية التــي قصدتهــا فندقــا وســط‬


‫مدينــة أملريــة عــى اعتبــار أنهــا مدينــة الوصــول وال بــد مــن قضــاء يــوم كامــل‬
‫بهــا قبــل االنطــاق إىل باقــي املــدن ومنحنــي يف نفــس اليــوم وصــوالت‬
‫تأكيــد الحجــز (‪ )vouchers‬عــر فنــادق املــدن الخمــس التــي ســأزورها‬
‫فيــا بعــد‪.‬‬

‫مل أكــن أعــرف عــن أملريــة أكــر مــن كونهــا املدينــة أو املنطقــة األوىل‬
‫يف العــامل التــي تضــم أكــر عــدد مــن البيــوت البالســتيكية الزراعيــة‪ ،‬وقــد‬
‫اكتشــفت ذلــك مــن خــال سلســلة وثائقيــة جميلــة (بتقنيــة التصويــر‬
‫الجــوي) تتحــدث عــن ســواحل دول أوروبــا ومكوناتهــا الطبيعيــة ومعــامل‬
‫املــدن املطلــة عليهــا‪ .‬كنــت أيضــا قــد بــدأت يف تعلــم بعــض الكلــات‬
‫والرتاكيــب اإلســبانية مــن خــال تطبيــق عــى األندرويــد أنصــح بــه القــراء‬

‫‪16‬‬
‫اســمه «‪ »DUOLINGO‬وميكــن مــن خاللــه تعلــم لغــات أخــرى أيضــا‪.‬‬

‫اكتشــفت مــع مــرور الوقــت والتعــود عــى التعلــم عــر الهاتــف الــذيك‬
‫أن اإلســبانية ليســت صعبــة ملــن يعــرف الفرنســية بشــكل مقبــول ثــم‬
‫إنــك ستشــعر باإلثــارة والدهشــة وأنــت تكتشــف أن األر ّز والســكر والزيــت‬
‫والزعفــران واللوبيــا والربكــة والقبــة والقــر والقلعــة والقميــص والصبــاط‬
‫كلهــا كلــات مشــركة بيننــا وســيفهمك اإلســبان لــو نطقــت بهــا هنــاك‬
‫بالعربيــة دون أدىن مشــكلة‪.‬‬

‫بعدهــا قصــدت وكالــة ســياحية يف وهــران وحجــزت يف واحــد مــن‬


‫بيــوت الشــباب يف مدينــة ملقــا التــي ســتكون آخــر مدينــة يف برنامــج‬
‫الرحلــة وكانــت الليلــة بــ‪ 4000 :‬آالف دينــار‪.‬‬

‫الحجــز يف مرقــد بأوروبــا‪ ،‬يعنــي أنــك ستقتســم غرفتــك مــع مجموعــة‬


‫مــن الشــباب ولكــن ذلــك مل يكــن يهمنــي كثــرا فأنــا ال أتذكــر حتــى لــون‬
‫طــاء الغرفــة التــي نزلــت فيهــا بربشــلونة املــرة الســابقة ألن الســائح‬
‫الجزائــري عــادة ال يحتــاج مــن الفنــدق إال مكانــا للنــوم ليــا‪.‬‬

‫صبــاح العــارش مــن ســبتمرب ‪ 2017‬بــدأت برتتيــب أغــرايض يف حقيبــة‬


‫الظهــر الكبــرة التــي مل أســتعملها مــن قبــل رغــم أننــي اقتنيتهــا منــذ ثــاث‬
‫ســنوات‪ .‬كنــت أغــار مــن صــور املســافرين عــى النــت وهــم يحملــون‬
‫حقائبهــم ويتجولــون يف كل أنحــاء العــامل فرحــن كاألطفــال الذيــن‬
‫يكتشــفون ألعابــا جديــدة‪ .‬وهــا قــد حــان الوقــت يك أســافر أنــا كذلــك كــا‬

‫‪17‬‬
‫يفعلــون وأقــوم بتصويــر مــا أندهــش لرؤيتــه كــا يصــورون‪ ،‬وأروي تجربتــي‬
‫الصغــرة عــر الكتابــة كــا يــروون‪ ،‬خاصــة وأننــا يف قــرن شــعاره االقتســام‬
‫واملشــاركة و«البارطــاج»‪.‬‬

‫اإلبحــار مــن وهــران كــا كتــب يف التذكــرة ســيكون يف منتصــف الليــل‬


‫وقــد كنــت هنــاك عــى الســاعة الســابعة مســا ًء بعــد أن أوصلنــي زميــي‬
‫يف العمــل إىل املينــاء‪ .‬يف املدخــل انتصبــت رشطيــة عنــد إحــدى‬
‫الطــاوالت لتفتيــش األمتعــة وكان مجموعــة مــن األشــخاص يقفــون‬
‫يف طابــور قبــي وكلهــم يحملــون حقائــب وأكيــاس فارغــة‪ ،‬وال يبــدو‬
‫مــن مظهرهــم أنهــم يقصــدون الضفــة األخــرى للســياحة‪ ،‬فهــم مــن تجــار‬
‫الحقائــب الذيــن يســافرون أكــر مــن مــرة شــهريا القتنــاء بعــض الســلع مــن‬
‫هنــاك‪ ،‬أغلبهــا خــردوات وأشــياء مســتعملة لتعظيــم هوامــش ربحهــم يف‬
‫كل ســلعة‪ .‬اقــرب دوري وكان الشــخص الــذي قبــي يجــادل الرشطيــة‬
‫حــول خراطيــش التبــغ التــي يف حقيبتــه فقــد كان يحمــل معــه ثــاث‬
‫خراطيــش وقــد طلبــت منــه الرشطيــة أن يتخلــص مــن الثالثــة بــأي طريقــة‬
‫قبــل أن تســمح لــه بالدخــول‪.‬‬

‫«ص ّدقهــا أو بيعهــا‪ ..‬واللــه مــا ت ّديهــا معــاك‪ »..‬هكــذا رصخــت يف‬
‫وجهــه الرشطيــة قبــل أن ينســحب ذلــك الشــخص مستســلام نحــو‬
‫مقهــى مقابــل‪ .‬يقــول القانــون إن مــن حقــك أن تأخــذ معــك خرطوشــتني‬
‫لالســتعامل الشــخيص‪ ،‬لكــن معظــم املســافرين يحملــون معهــم علــب‬
‫التبــغ إلعــادة بيعهــا هنــاك فأســعار التبــغ يف أوروبــا مرتفعــة بفعــل‬

‫‪18‬‬
‫الرضائــب املفروضــة عــى هــذا املنتــج واســع االســتهالك‪.‬‬

‫دخلت امليناء ومررت ثانية عرب سكانري للرشطة ولكنهم مل يفتشوين‪،‬‬


‫وتوجهــت إىل وكالــة ترانســميديتريانيا للحصــول عــى بطاقــة الركــوب‪،‬‬
‫وبعدهــا ارمتيــت عــى كــريس يف قاعــة االنتظــار وكلمــة االنتظــار يف‬
‫مطاراتنــا وموانئنــا ال زالــت تحتفــظ لســوء الحــظ بــكل معانيهــا وتجلياتهــا‬
‫الطويلــة واململّــة‪.‬‬

‫مينــاء وهــران عــى ضخامتــه ال ميلــك إال رصيفــا واحــدا ملغــادرة بواخــر‬
‫املســافرين (يف انتظــار اســتكامل بنــاء الرصيــف الثــاين) واملشــكلة أن‬
‫باخــرة طــارق بــن زيــاد كانــت متواجــدة هنــاك للتوجــه إىل أليكانتــي‪ ،‬مــا‬
‫يعنــي أن باخرتنــا لــن تدخــل الرصيــف حتــى تغــادر باخــرة طــارق‪ .‬هــذه‬
‫األخــرة مل تحــرم موعــد الوصــول وطبعــا لــن تحــرم موعــد املغــادرة وذلــك‬
‫ســيكون عــى حســابنا‪.‬‬

‫ســبعة ســاعات كاملــة قضيتهــا يف االنتظــار قبــل الركــوب عــى مــن‬


‫الســفينة‪ ،‬لذلــك يقــول يل بعــض األصدقــاء املتعوديــن عــى الســفر‪ ،‬إن‬
‫ســفرك لــن يبــدأ إال حــن تحــط رجليــك يف الوجهــة األخــرى ومادمــت هنــا‬
‫ـي بالصــر وطــول النفــس‪.‬‬
‫فــا عليــك إال بالتحـ ّ‬

‫كنــت قــد قمــت بتحميــل بعــض الكتــب باللغتــن عــن إســبانيا أطالعهــا‬
‫يف هاتفــي ألخفــف عــن نفــي مشــقة االنتظــار‪ ،‬القاعــة كانــت فســيحة‬
‫بعــض الــيء‪ ،‬تحتــوي عــى كل الرضوريــات مــن مصــى وكافيترييــا‬

‫‪19‬‬
‫وبيــت للراحــة‪ ،‬كــا علقــت يف جدرانهــا صــور قدميــة ملدينــة وهــران يف‬
‫الحقبــة االســتعامرية والتــي لــن تعطيــك حتــا أي فكــرة عــن شــكل املدينــة‬
‫الحــايل‪ .‬مــن املعــروف وطنيــا أن صــور مدننــا وبلداتنــا الحاليــة أكــر أناقــة‬
‫وترتيبــا وانســجاما حــن تكــون باألبيــض واألســود لكــن ذلــك موضــوع آخــر‪.‬‬

‫قبــل منتصــف الليــل بســاعة انتقلنــا إىل قاعــة الركــوب وتــم ختــم جوازاتنــا‬
‫ومراقبــة أمتعتنــا مــن طــرف الجــارك‪ .‬ســألني الجمــريك عــن اليــورو فقلــت‬
‫لــه عنــدي‪ :‬قيمــة املنحــة الســياحية فقــط‪ .‬مل يعلــق عــى األمــر ومتنــى يل‬
‫عطلــة طيبة‪.‬‬

‫املحنــة الســياحية الجزائريــة (ألنهــا ال ترقــى إىل مســتوى املنحــة) تعتــر‬


‫مــن بــن أخفــض املنــح الســياحية عامليــا لألســف الشــديد ويبــدو أن‬
‫الجمــريك يعــرف أيضــا أنــه مــن العبــث أن يســألني إن كنــت أحمــل معــي‬
‫املزيــد مــن العملــة الصعبــة ألن جميــع مــن يســافر خــارج البلــد مضطــر‬
‫لحمــل األوراق النقديــة معــه‪ ،‬فمنظومتنــا البنكيــة متخلفــة وباليــة‪ ،‬ثــم إن‬
‫الجمــريك نفســه حــن يــود الســفر يقتنــي الــرف مــن الســوق الســوداء‬
‫باألســعار التــي نعرفهــا جميعــا‪ .‬فــا داعــي إذن لضحــك املســلوخة عــى‬
‫املذبوحــة‪.‬‬

‫ركبنــا الباخــرة بعــد منتصــف الليــل وهــي باخــرة متوســطة الحجــم مقارنــة‬
‫مبثيالتهــا التابعــة للرشكــة الوطنيــة للنقــل البحــري‪ ،‬الطاقــم كان مــن‬
‫جنســيات مختلفــة واملضيفــون كانــوا مغاربــة باألســاس‪ .‬جلســت يف‬
‫قاعــة اصطفــت فيهــا الكــرايس ووضعــت أغــرايض بالقــرب منــي‪ .‬كنــت‬

‫‪20‬‬
‫أشــاهد مــن النافــذة الزجاجيــة الكبــرة أضــواء املينــاء ومبــاين وهــران وال‬
‫أدري ملــاذا انتابنــي شــعور ُمدغــدغ بأنهــا أضــواء ملدينــة أخــرى غــر تلــك‬
‫ر يف تبـ ّدل إحســاس املســافر‬
‫التــي أعيــش فيهــا‪ .‬أتســاءل دامئــا عــن الـ ّ‬
‫اتجــاه األشــخاص واألماكــن حــن يهــم مبغادرتهــا‪ ،‬فيصبــح مســاملا ودودا‬
‫متســامحا عطوفــا ومتأمــا نحوهــا كــا مل يكــن مــن قبــل‪.‬‬

‫كانــت بعــض البواخــر التجاريــة تغــادر املينــاء ليــا لتذهــب إىل بحــار‬
‫ومحيطــات وســواحل وجــزر أخــرى‪ .‬كنــت أرى تلــك البواخــر مــن النافــذة‬
‫ومــرة أخــرى رحــت أفكــر وأتأمــل يف أننــا نطـ ّـل عــى عــامل أكــر وأوســع مــن‬
‫خــال هــذا البحــر الــذي منحــه اللــه لنــا بابــا نحــو آفــاق جغرافيــة مغايــرة‪،‬‬
‫لكننــا تصورنــاه بابــا صليبيــا ال يدخــل منــه إال الغــزاة واملحتلّــون يف‬
‫املــايض‪ ،‬وال تزورنــا عــره يف الحــارض إال بواخــر حديديــة بكــاء ص ـاّء‬
‫بشــعة‪ ،‬بألــوان بــاردة قاســية يســكنها فيليبينيــون وأجنــاس ال يتكلمــون‬
‫لغتنــا‪ ،‬يفرغــون ســلعا ويغــادرون برسعــة‪ ،‬قبــل أن تتوجــه تلــك الســلع لتقــع‬
‫يف براثــن اســتهالكنا األبلــه الــذي يبتلــع مــا أفرغتــه بطــون تلــك الســفن يف‬
‫بالدنــا‪ ،‬دون حتــى أن نفكــر يف التنقــل ذات يــوم إىل هــذه األمكنــة التــي‬
‫تنطلــق منهــا تلــك املنتوجــات لــرى ونكتشــف كيــف يســتطيع النــاس‬
‫هنــاك إنتــاج كل تلــك الخــرات‪.‬‬

‫حتــى شــعار دولتنــا الجزائريــة وقــد نبهنــي إىل ذلــك أحــد الضبــاط‬
‫املتقاعدين من ســاح البحرية ذات يوم‪ ،‬ال يحوي عىل أي إشــارة للبحر‬
‫أو الساحل مع أنه يعج برموز أخرى متثل كل واحدة منها بعدا من أبعاد‬

‫‪21‬‬
‫الدولــة (الشــمس املرشقــة مــن وراء الجبــال‪ ،‬الســنابل‪ ،‬ســعفة النخــل‪،‬‬
‫املصنــع‪ ،‬الحاممــة التــي تحمــل غصــن الزيتــون‪ ،‬صنــدوق االقــراع‪)...‬‬

‫عنــد الثانيــة والنصــف صباحــا دارت محــركات الباخــرة بقــوة‪ ،‬وبــدأت‬


‫تتحــرك بنــا لتخــرج مــن حــوض املينــاء الضيــق إىل رحابــة البحــر املتوســط‪،‬‬
‫الــذي عــى شســاعته أمــام أعيننــا ووعينــا‪ ،‬ال يشــكل إال واحــد يف املئــة‬
‫مــن رحابــة بحــار الكوكــب األزرق‪ .‬وبينــا بــدأت الســفينة يف اإلبحــار أخــرا‬
‫نحــو الوجهــة‪ ،‬كنــت أغالــب األرق بحثــا عــن نعــاس ال يــكاد يقــرب مــن‬
‫جفــوين حتــى يغادرهــا‪ ،‬كمــوج يزحــف عــى الشــاطئ ثــم ينســحب رسيعــا‪.‬‬

‫التكييــف داخــل الباخــرة كان عاليــا جــدا وكأننــا يف غرفــة تربيــد للحــوم‪،‬‬
‫واملتعــودون عــى الســفر جــاؤوا معهــم بأفرشــة وأغطيــة ودخلــوا يف نــوم‬
‫وشــخري عميقــن‪ .‬رحــت أتجــول قليــا يف الســفينة وقــد كان الصمــت‬
‫يلــف املــكان‪ ،‬صعــدت إىل الســطح أللقــي نظــرة عــى البحــر وبقيــت‬
‫أتأمــل قليــا يف الســواد املحيــط يب حيــث ال ضــوء يف األفــق وال إضــاءة‬
‫يف األعــى عــدا تلــك التــي تتكــرم بهــا النجــوم املتوهجــة يف ســاء ليلــة‬
‫صيفيــة صافيــة‪.‬‬

‫حــن أرشقــت شــمس صبــاح اليــوم املــوايل (ومــا أجمــل أن تشــاهد‬


‫رشوق الشــمس وســط البحــر) عــادت الحركــة إىل أرجــاء الســفينة‬
‫وانشــغل كل مســافر بالحديــث للثــاين‪ ،‬أو التنقــل مــن مــكان آلخــر أو‬
‫تنــاول االفطــار أو مشــاهدة التلفزيــون يف الكافيترييــا‪ .‬وبــدأت أرى مــن‬
‫حــويل أطفــاال صغــارا يقفــزون مــن مــكان آلخــر ويتكلمــون اإلســبانية بطالقــة‬

‫‪22‬‬
‫مــع أنهــم جزائريــون‪ .‬زاد ذلــك مــن حــريت عــى عــدم تعلــم هــذه اللغــة‬
‫فيــا مــى‪..‬‬

‫م ـ ّر الوقــت رسيعــا صبــاح اإلثنــن الحــادي عــر مــن ســبتمرب ‪،2017‬‬


‫وكنــت فــوق الجــر (املصطلــح الــذي يطلــق عــى ســطح الباخــرة) أرقــب‬
‫منظــر الزبــد األبيــض الكثيــف الــذي يتشــكل يف مؤخــرة الســفينة‪ ،‬وهــو‬
‫يشــبه منظــر طريــق معبــد يــزداد اتســاعا كلــا تقدمــت بنــا نحــو وجهتنــا‬
‫قبــل أن يتــاىش برسعــة تحــت أمــواج كثــرا مــا التهمــت أجســاد شــباب‬
‫كانــوا يسرتشــدون يف عــرض البحــر مبــا ترتكــه حركــة ســفن املســافرين‬
‫مثــل هــذه‪ ،‬قبــل ظهــور أجهــزة تحديــد املواقــع‪.‬‬

‫قبــل ســاعتني مــن منتصــف النهــار تــراءت لنــا يف األفــق جبــال شــبه‬
‫الجزيــرة اإليبرييــة‪ ،‬جبــال جــرداء ال تختلــف عــن جبــال األطلــس الصحــراوي‬
‫عندنــا‪ ،‬فجنــوب إســبانيا مــن الناحيــة الجيولوجيــة صفيحــة تكتونيــة مرتبطــة‬
‫بإفريقيا ومن الناحية التاريخية صفحة مشــركة مع ســكان شــال إفريقيا‬
‫اســمها األندلــس‪ ..‬ومــن الناحيــة الزمنيــة وجهــة ســياحية مثــرة‪ ،‬مل تعــد‬
‫تفصلنــي عــن الوصــول إليهــا إال ســاعة ونصــف مــن الزمــن‪..‬‬

‫‪23‬‬
‫أملرية محطة وصول وانطالق‬

‫‪Qui prend garde à chaque nuage ne fait jamais‬‬


‫‪voyage‬‬

‫ـر ســفره مــن قبــل‬


‫يف العــادة حــن يســافر املــرء إىل دولــة مــا وقــد حـ ّ‬
‫وقام بحجوزات الفندق ووثيقة التأمني ومعه جواز سفر ساري املفعول‬
‫وتأشــرة شــنغن صالحــة‪ ،‬ويحمــل معــه مــا تيــر مــن أوراق العملــة الصعبــة‬
‫(والتــي تحولــت مؤخــرا إىل مســتحيلة) فإنــه ســيفكر فقــط يف كيفيــة‬
‫قضــاء عطلتــه ومــا هــي املواقــع الطبيعيــة واألثريــة التــي ســيزورها ويأخــذ‬
‫فيهــا صــورا وســيلفات للذكــرى وإغاظــة األصدقــاء عــى الفيســبوك‪،‬‬
‫ورمبــا اتســع وقتــه ملراجعــة بعــض الكلــات والتعابــر األساســية بلغــة‬
‫الدولــة التــي ســيزورها والتــي ســيحتاجها يف تعامالتــه اليوميــة طيلــة فــرة‬
‫العطلــة‪.‬‬

‫لكــن الجزائــري منــا يظــل فكــره منشــغال ومعلقــا بذلــك الشــباك الصغــر‬
‫الــذي يفصــل بينــه وبــن أوروبــا‪ ،‬ذلــك الحيــز الضيــق مــن املــكان الــذي‬

‫‪24‬‬
‫يقبــع بداخلــه رشطــي حــدود يســتطيع أن يختــم جــوازك لتم ـ ّر إىل العــامل‬
‫خــارج وطنــك وخــارج حــدود نفســك (التــي ضاقــت بــك وضقــت بهــا‬
‫تحــت ســاء بلــدك) كــا يســتطيع أن يفســد كل مخططاتــك (وكــم هــي‬
‫مكلفــة خططنــا التــي متتــد أحيانــا مــن مغافلــة املســؤول يف العمــل إىل‬
‫باقــي املحيطــن مــن أصدقــاء وأقربــاء للحصــول عــى عطلــة بعيــدة عــن‬
‫فضــول األعــن وثرثــرة األلســنة) ويرفــض مــرورك فتنتهــي قصــة عطلتــك‬
‫وســفرك قبــل أن تبــدأ‪.‬‬

‫حــن اقرتبــت الباخــرة مــن دخــول مينــاء أملريــة كنــت أشــاهد مــن وراء‬
‫النافــذة شــاطئ املدينــة وبعــض العــارات والفنــادق التــي تطــل عــى‬
‫البحــر‪ .‬يف شــهر ســبتمرب وتحــت حــرارة تقــارب الثالثــن درجــة‪ ،‬ال تــزال‬
‫هــذه املدينــة الســاحلية مســتلقية يف كســل تحــت أشــعة الشــمس‬
‫لينعــم الســياح فيهــا بالراحــة والهــدوء‪.‬‬

‫بعــد الســاعات الســبع التــي قضيتهــا يف مينــاء وهــران ليلــة البارحــة‬


‫والتعــب الــذي نــال مــن جســدي جــراء ذلــك‪ ،‬كنــت مســتعدا بــكل أريحيــة‬
‫لجولــة ومراطــون جديــد يف هــذا املينــاء‪ ،‬لكــن األمــر مل يكــن متامــا كــا‬
‫توقعــت‪.‬‬

‫رســت الســفينة أمــام الرصيــف وتجمعنــا أمــام البــاب للخــروج‪،‬‬


‫برسعــة تــم فتــح البــاب ومررنــا عــر ممــر طويــل للراجلــن يقودنــا مبــارشة‬
‫إىل مبنــى صغــر يف املينــاء‪ ،‬كنــت رابــع شــخص يخــرج مــن الســفينة‪،‬‬
‫ووقفنــا قبالــة شــباكني لرشطــة الحــدود يف قاعــة مرتبــة وهادئــة ومليئــة‬

‫‪25‬‬
‫بالالفتــات املكتوبــة حتــى باللغــة العربيــة لتســهيل املهمــة عــى األعــوان‬
‫واملســافرين‪ ،‬مــع مالحظــة أن عــدد األعــوان هنــا وأصحــاب الب ـ ّزة األمنيــة‬
‫قليــل جــدا‪.‬‬

‫يف الطابــور كنــت أشــاهد مــن خــال الزجــاج شــارعا يف الخــارج وبعــض‬
‫النــاس التــي تتجــول خاللــه‪ ،‬ورمبــا هــذا مــا يجعلنــي أفضــل البواخــر عــى‬
‫الطائــرات التــي تحــط بــك يف أمكنــة بعيــدة عــن وجهتــك النهائيــة نســبيا‬
‫بينــا املوانــئ األوروبيــة تقــع عــى بعــد أمتــار مــن وســط املدينــة ثــم إن‬
‫هنــاك فرقــا محسوســا بــن وســيلة الســفر التــي متكنــك مــن الوصــول إىل‬
‫األمكنــة فقــط والوســيلة التــي متكنــك مــن رؤيتهــا ومبارشتهــا بــذوق وتــأين‪.‬‬

‫وصــل دوري فوقفــت أمــام الرشطــي وناولتــه جــواز الســفر (كانــت لــدي‬
‫تأشــرة شــنغن فرنســية متتــد صالحيتهــا ألكــر مــن ســنة) وضــع الرشطــي‬
‫الجــواز يف آلــة صغــرة أمامــه ثــم طبعــه وأرجعــه يل (ال أتذكــر أنــه نظــر‬
‫يف وجهــي) كنــت قــد وضعــت وثيقــة تأمــن الســفر وبيانــات حجــوزات‬
‫الفنــادق يف قفتــي الصغــرة الســتظهارها عنــد الطلــب لكــن ال يشء مــن‬
‫ذلــك حــدث‪ ،‬تقدمــت ناحيــة الجمــريك الــذي كان ينتظــرين عــى بعــد‬
‫ثالثــة أمتــار بعــد شــباك رشطــي الحــدود‪ ،‬وضعــت كامــل متاعــي يف جهاز‬
‫الســكانري ثــم حملتــه مــره أخــرى بعــد عبــوره إىل الجهــة األخــرى‪ ،‬وواصلــت‬
‫طريقــي نحــو بــاب الخــروج مــن القاعــة ألجــد نفــي تقريبــا وســط املدينــة‪،‬‬
‫فليس يفصل امليناء عن أملرية سوى سور قصري مزين ببعض النباتات‬
‫املتســلقة‪ ،‬وال وجــود لذلــك القــدر مــن األســوار والحواجــز الحديديــة‬

‫‪26‬‬
‫واألســاك الشــائكة والخزانــات الصدئــة والروائــح واألغــرة واألدخنــة التــي‬
‫متيــز مشــاهد موانئنــا التــي كأنهــا تحتــل مدننــا احتــاال‪ ،‬بــدل أن تكــون‬
‫امتــدادا منســجام معهــا ولهــا نحــو ســاحل البحــر املتوســط الــذي نطــل‬
‫عليــه يف المبــاالة مطلقــة‪.‬‬

‫متشــيت وســط مدينــة أملريــة التــي تطأهــا قدمــاي ألول مــرة‪ ،‬ومبــارشة‬
‫وجــدت نفــي عنــد بدايــة شــارع طويــل وواســع يخــرق املدينــة مــن‬
‫الجنــوب إىل الشــال تتوســطه مســاحة مبلطــة ومزينــة طويلــة اصطفــت‬
‫فيهــا أشــجار النخيــل والــورود والنباتــات ويســر فيهــا النــاس راجلــن أو‬
‫عــى مــن الدراجــات يف ممــرات خاصــة‪ ،‬وعــى جانبــي هــذه املســاحة‬
‫املهيــأة امتــد طريقــان للســيارات بشــكل متــواز‪.‬‬

‫أخــذت صــورة تذكاريــة أمــام أول معلــم قابلنــي وهــو عبــارة عــن أحــرف‬
‫التينيــة يف حجمــي وطــول قامتــي (مــر وخمســة وســبعون) وضعــت‬
‫وســط املدينــة مشـكّلة كلمــة ‪ ALMERIA‬وبجانبهــا حبــة طامطــم حمــراء‬
‫مصنوعــة مــن البالســتيك‪ .‬فمدينــة أملريــة تحديــدا وإقليــم األندلــس عامــة‬
‫هــو املزرعــة التــي تغــذي إســبانيا بأكملهــا وجــزءا كبــرا مــن أوروبــا وســأرجع‬
‫إىل ذلــك فيــا بعــد‪.‬‬

‫اســتعنت بقوقــل مــاب عــى هاتفــي النقــال للتوجــه إىل فنــدق ‪LA‬‬
‫‪ PERLA‬وهــو فنــدق صغــر متواجــد وســط املدينــة وصلتــه بعــد نصــف‬
‫ـأن‪ .‬كنــت أحمــل حقيبــة ظهــر كبــرة وضعــت فيهــا‬
‫ســاعة مــن املــي املتـ ّ‬
‫أهــم األمتعــة وحقيبــة ظهــر أصغــر حجــا خ ّبــأت فيهــا مــا أحتاجــه مــن أمــور‬

‫‪27‬‬
‫خفيفــة (علقتهــا عــى كتفــي لكــن ناحيــة البطــن) وأمســك قفتــي الصغــرة‬
‫بيمينــي التــي أضــع فيهــا آلــه التصويــر وقــارورة املــاء والكنــاش الــذي أدون‬
‫فيــه مالحظــايت وأفــكاري‪ .‬التمــي يف مــكان ال تعرفــه مــن قبــل يجعلــك‬
‫تتحــرك بنشــاط وشــغف وفضــول‪.‬‬

‫وصلت الفندق واستقبلتني موظفة االستقبال‪ ،‬أعطيتها جواز السفر‬


‫وبيــان حجــز الغرفــة‪ ،‬فقالــت يل إن جــواز الســفر لوحــده يكفــي وقامــت‬
‫برسعــة بتســجيل معلومــايت عــى كمبيوترهــا‪ ،‬ثــم ناولتنــي ورقــة صغــرة‬
‫ألقــوم بإمضاءهــا‪ ،‬ويف الورقــة رقــم الغرفــة والقانــون الداخــي للفنــدق‬
‫ورمــز الويفــي‪ ،‬كــا أعطتنــي بطاقــة مغناطيســية لفتــح الغرفــة ومتنــت يل‬
‫إقامــة مريحــة‪.‬‬

‫دخلــت غرفتــي الصغــرة يف الفنــدق‪ ،‬كانــت ضيقــة نوعــا مــا لكنــي ال‬
‫أحتــاج ألكــر مــن رسيــر وحــام ومســاحة صغــرة للصــاة‪ ،‬وكل ذلــك كان‬
‫متوفرا وأكرث‪ .‬بعد نصف ساعة نزلت إىل قاعة استقبال الفندق‪ ،‬حيث‬
‫زودتنــي املوظفــة بخريطــة للمدينــة وفيهــا أهــم املعــامل التــي تســتحق‬
‫الزيــارة‪ ،‬وعــى ظهــر الخريطــة جــدول مفصــل بأســاء املواقــع ومواقيــت‬
‫زيارتهــا وأرقــام الهواتــف لالتصــال والحجــز‪ .‬مــن خــال قــراءة رسيعــة‬
‫لجــدول املواقــع تبــن يل أننــي اخــرت يومــا غــر مناســب للوصــول‪ ،‬عــى‬
‫اعتبــار أن جـ ّـل املتاحــف واألبنيــة األثريــة مغلقــة يــوم االثنــن ألنهــا تشــتغل‬
‫يومــي العطلــة األســبوعية (الســبت واألحــد) فاكتفيــت بجولــة مشــيا عــى‬
‫األقــدام يف أرجــاء املدينــة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫الحــرارة يف الشــارع كانــت مرتفعــة لكنهــا يف نفــس الوقــت لطيفــة‬
‫محتملــة‪ ،‬أبنيــة وســط املدينــة جميلــة ومنســجمة واألرصفــة نظيفــة‪،‬‬
‫الحركــة كانــت بطيئــة نوعــا مــا والســبب أن اإلســبان يعشــقون مامرســة‬
‫القيلولــة‪ ،‬وهــم يتجولــون عنــد حلــول املســاء‪ ،‬خاصــة يف هــذا الوقــت‬
‫مــن الســنة أيــن يكــون النهــار طويــا‪ ،‬والهــواء عنــد حلــول الظــام منعشــا‪.‬‬

‫أول مــا ال حظتــه أثنــاء جولتــي أن األضــواء تنظــم حركــة مــرور الســيارات‬
‫والراجلــن يف كل شــوارع املدينــة‪ ،‬فالســيارات تقــف عنــد الضــوء األحمــر‬
‫حتــى لــو خــا الطريــق مــن املــارة‪ ،‬والراجلــون يقفــون عنــد ضــوء املــرور‬
‫حتــى لــو خلــت الطريــق مــن الســيارات‪ ،‬ثــم إن الرصيــف ليــس ملــكا‬
‫للراجلــن فقــط وال الطريــق خــاص تحديــدا بالســيارات‪ ،‬إذ أن هنــاك‬
‫ممــرات ملونــة باالحمــر األرجــواين مخصصــة ألصحــاب الدراجــات الذيــن‬
‫يتنقلون بدراجاتهم دون فوىض يف السري والتعدي عىل حقوق الراجل‬
‫أو صاحــب الســيارة‪.‬‬

‫مل ميــي عــى مغــادريت للبلــد أربــع وعــرون ســاعة‪ ،‬لكنــي فهمــت‬
‫برسعــة هنــا أنــك كإنســان تســاوي قيمــة معتــرة يف الفضــاء العمومــي‬
‫وأن كل مــا يف الشــارع موجــود حقــا لحاميتــك وحفــظ حقوقــك وتســهيل‬
‫فــرة تجوالــك‪ .‬األضــواء للتنظيــم والالفتــات لإلرشــاد (مكتوبــة أساســا‬
‫باإلســبانية) واملســاحات الخــراء للراحــة والرشطــة إلشــعارك باألمــن‬
‫واالطمئنــان ال لــزرع أحاســيس الخــوف والتوجــس‪.‬‬

‫توجهــت إىل محطــة الحافــات باملدينــة (وهــي تقــع بجانــب املينــاء‬

‫‪29‬‬
‫ومحطــة القطــارات أيضــا) لــراء تذكــرة للذهــاب يف اليــوم املــوايل إىل‬
‫مدينــة غرناطــة‪ .‬بداخــل املحطــة وجــدت شــباكا كبــرا مغطــى بالزجــاج‪،‬‬
‫وامــرأة تجلــس بالداخــل وطابــورا صغــرا‪ ،‬فســألت عــن حافــات غرناطــة‬
‫وتــم توجيهــي إىل مــا يشــبه الرصافــة اآلليــة ويبــدو أن التكنولوجيــا هنــا قــد‬
‫قلصــت عــدد العــال بشــكل ملحــوظ‪ .‬اخــرت اللغــة الفرنســية وكتبــت‬
‫وجهــة الســفر عــى الشاشــة‪ ،‬ثــم انتقلــت إىل صفحــة اختيــار توقيــت‬
‫االنطــاق وقــد كانــت هنــاك حافلــة تنطلــق إىل غرناطــة كل ســاعتني‬
‫فاخــرت حافلــة الواحــدة بعــد الــزوال مــن اليــوم املــوايل ووضعــت ورقــة‬
‫مــن فئــة عرشيــن يــورو داخــل اآللــة ألحصــل عــى التذكــرة والفكــة (مثــن‬
‫التذكــرة ‪ 14‬يــورو)‪.‬‬

‫الجميــل يف األمــر أن الشاشــة تعــرض أمامــك موعــد االنطــاق وموعــد‬


‫الوصــول بالتحديــد وهكــذا ميكنــك برمجــة أمــورك بشــكل مســبق ومرتــب‬
‫دون مفاجئــات غــر ســارة (إال يف الحــاالت النــادرة)‪.‬‬

‫خرجــت مــن محطــة الحافــات أللقــى نظــرة عــى الشــاطئ ثــم متشــيت‬
‫عائــدا نحــو الفنــدق‪ ،‬مدينــة أملريــة هادئــة متامــا مــع إمكانيــة ســاع صــوت‬
‫عنيــف مفاجــئ لدراجــة ناريــة تعــر الشــارع بأقــى رسعــة‪ ،‬لكــن رسعــان مــا‬
‫يعــود الهــدوء وتســتمر الحركــة بكســل ورتابــة‪ .‬لــن تســمع هنــا صوتــا ألبــواق‬
‫الســيارات وإن خ ّيــل لــك ذلــك فهــو حتــا مــا علــق بأذنــك مبينــاء وهــران‪،‬‬
‫حيــث مل تتوقــف الســيارات هنــاك عــن تشــغيل أبواقهــا وهــي تســتعد‬
‫لولــوج بطــن الســفينة‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫داخــل غرفتــي‪ ،‬اســتلقيت عــى الرسيــر‪ ،‬وبــدأت ابحــث يف النــت عــن‬
‫بعــض املعلومــات الســياحية‪ .‬كنــت قــد خططــت يف اليــوم املــوايل أن‬
‫أزور قصبــة املدينــة (وهــي مــن أكــر القــاع اإلســامية الباقيــة آثارهــا يف‬
‫إســبانيا) وأن أســتغل الوقــت أيضــا لزيــارة معلــم مميــز يف أملريــة‪ ،‬هــو‬
‫امللجــأ الــذي تــم حفــره يف ثالثينيــات القــرن املــايض تحــت املدينــة‬
‫لالختبــاء مــن غــارات الوطنيــن يف حربهــم األهليــة ضــد الجمهورريــن‬
‫والتــي دامــت ثــاث ســنوات ‪ 1939-36‬وخلّفــت مقتــل مئــات اآلالف‬
‫مــن الضحايــا‪.‬‬

‫خرجت يف املساء لتناول العشاء يف مطعم باكستاين يقدم وجبات‬


‫حــال غــر بعيــد عــن الفنــدق (اكتشــفته مــن خــال تطبيــق الهاتــف) وبعــد‬
‫العشــاء متشــيت قليــا يف الشــارع الرئيــي للمدينــة وقــد بــدأت أفــواج‬
‫الســياح والســكان بالخروج للتنزه‪.‬‬

‫صبــاح يــوم الثالثــاء ‪ 2017-09-12‬اســتيقظت باكــرا وتوجهــت نحــو‬


‫ســوق املدينــة القديــم املغطــى بعــد أن قــرأت عنــه يف الدليــل الســياحي‬
‫للمدينــة‪ .‬لقــد كان أشــبه باملتحــف مــن حيــث النظافــة واالتقــان (ال‬
‫يشرتك يف يشء مع أسواقنا املغطاة املوروثة عن الوجود االستعامري‬
‫إال يف شــكل الســقف)‪.‬‬

‫يف الطابــق األريض مــن الســوق والــذي تنــزل إليــه بســامل ميكانيكيــة‪،‬‬
‫كل يف مكانــه وحيّــزه‬
‫انتــر باعــة الســمك ينــادون عــى ســلعهم‪ّ ،‬‬
‫املخصــص لــه‪ .‬كان منظــر األســاك هنــاك مغريــا جــدا حتــى وهــي‬

‫‪31‬‬
‫مقســمة إىل قطــع صغــرة‪ ،‬واملثــر أن ال رائحــة قويــة أو نتنــة يف املــكان‪،‬‬
‫إال مبقــدار مــا يــراود األنــف والعــن بالــراء وتجربــة مــذاق أســاك‬
‫املتوســط اللذيــذة‪.‬‬

‫مل يكــن مدخــل «ملجــأ الحــرب األهليــة» يبعــد عــن الفنــدق إال بعــرة‬
‫أمتــار وهــو عبــارة عــن كشــك مضــاء مــن الزجــاج‪ ،‬وبداخلــه مجموعــة مــن‬
‫املقاعــد وضعــت تحتهــا حصيــات بيضــاء يف ديكــور عــري جــذاب‪.‬‬
‫وقفــت أمــام املدخــل عــى العــارشة إال عــر دقائــق بعــد عــوديت مــن‬
‫الســوق لكنــي مل أجــد أحــدا فتوجهــت ماشــيا إىل أحــد املعــامل األخــرى‬
‫يف املدينــة‪ ،‬وهــو عبــارة عــن خــزان قديــم للميــاه بنــاه املســلمون وتحــول‬
‫اليــوم إىل رواق لعــرض اللوحــات الفنيــة بعــد ترميمــه‪ ،‬لكنــي حــن عــدت‬
‫إىل مدخل امللجأ عىل الساعة العارشة وخمس دقائق وجدت الستائر‬
‫مســدلة وأمكننــي رؤيــة أرجــل الســياح الذيــن جلســوا عــى املقاعــد فيــا‬
‫يبــدو لرؤيــة فيلــم وثائقــي قبــل النــزول تحــت األرض ملبــارشة الزيــارة ويبــدو‬
‫أن الوقــت هنــا محــرم ومقــدس‪.‬‬

‫يف وجــود تطبيقــات مثــل تريــب أدفايــزر وقوقــل مــاب ســتعرف الكثــر‬
‫مــن تفاصيــل املعــامل التــي ســتزورها وأراء النــاس فيهــا مســبقا‪ ،‬كــا‬
‫ميكنــك رؤيــة فيديوهــات وصــور عنهــا ســتقتل كل عنــارص املفاجــأة‬
‫لديــك (وهــذا أمــر لــه مزايــاه وعيوبــه)‪.‬‬

‫عرفــت مــن خــال تصفحــي يف النــت أن الزيــارة ســتتضمن مشــاهدة‬


‫رشيــط وثائقــي مــن ثالثــة عــر دقيقــة عــن قصــف أملريــة بالطائــرات وبنــاء‬

‫‪32‬‬
‫امللجــأ تحــت األرض يليهــا النــزول والتجــول رفقــة مرشــد ســياحي يتكلــم‬
‫اإلســبانية فقــط (الكثــر مــن اآلراء التــي قرأتهــا عـ ّـرت عــن ســلبية هــذه‬
‫النقطــة)‪.‬‬

‫طرقــت البــاب فخــرج إيل شــاب وســيم ودعــاين للدخــول‪ ،‬أعطيتــه‬


‫ثــاث يوروهــات وجلســت مــع بقيــة الــزوار ملشــاهدة الفيلــم‪..‬‬

‫‪33‬‬
‫أملرية تاريخ تحت األرض وتاريخ فوقها‬

‫‪Il voyage plus vite celui qui voyage seul‬‬

‫النفــق املوجــود تحــت مدينــة أملريــة يعتــر حقــا قطعــة مــن التاريــخ‬
‫مخبــأة ومحفوظــة بشــكل جيــد‪ ،‬كــا أنــه الوحيــد مــن نوعــه الــذي ميكــن‬
‫زيارتــه يف كامــل أوروبــا وقــد تــم ترميمــه وفتحــه أمــام الســياح ابتــدا ًء مــن‬
‫‪.2012‬‬

‫قادنــا املرشــد اإلســباين الشــاب عــر ســامل ضيقــة هبوطــا قبــل أن‬
‫نصــل إىل األســفل‪ ،‬حيــث ميتــد أمامنــا نفــق طويــل ينتهــي بجــدار‪ ،‬وبدأنــا‬
‫يف التمــي إىل أن وصلنــا إىل الجــدار بعــد ســبعني مــرا لنجــد مدخــا‬
‫إىل اليســار يقودنــا إىل مقطــع آخــر مــن النفــق‪.‬‬

‫الجــو بالداخــل كان رطبــا بــاردا واألضــواء خافتــة‪ .‬املرشــد اإلســباين‬


‫ســألنا إن كنــا جميعــا نفهــم اإلســبانية‪ ،‬فأجبتــه أننــي ال أفهــم‪ ،‬فقــال يل‬
‫تعــال بجانبــي وســوف أرشح باإلنجليزيــة عنــد كل نقطــة نتوقــف فيهــا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫وهكــذا رحنــا نســر عــر مــا يشــبه متاهــة مــن األنفــاق‪ ،‬وكان املرشــد‬
‫يتوقــف أحيانــا أمــام الفتــة أو مــكان مــا ليــرح ملجموعــة الســياح الذيــن‬
‫مل يتجــاوز عددهــم العــرة بعضــا مــن تاريــخ هــذا امللجــأ الــذي كان يعــج‬
‫بالنــاس مــن كل األعــار‪ ،‬والذيــن كانــوا يهرعــون لالختبــاء بداخلــه كلّــا‬
‫د ّوت صافــرات اإلنــذار التــي كانــت تســبق الغــارات الجويــة ببضــع دقائــق‪.‬‬

‫الشح كان مرشدنا الشاب يأخذين إىل جواره ليرتجم يل ماقاله‬


‫بعد ّ‬
‫تــوا ّ بإنجليزيــة جيــدة‪ .‬وفهمــت مــن كالمــه أن هــذا امللجــأ ســاهم يف بنــاءه‬
‫جميــع ســكان املدينــة مبختلــف أعامرهــم وأن بعــض األطفــال ومبــا أنهــم ال‬
‫ربــا حجــم الخطــر الــذي يته ّددهــم كانــوا يتس ـلّون برســم أشــكال‬
‫يدركــون ّ‬
‫الطائرات الحربية (التي تقصف مدينتهم) عىل الحيطان حني يجلســون‬
‫بجانــب أوليائهــم (وقــد شــاهدت بعــض تلــك الرســومات)‪.‬‬

‫ـى خاللــه مصطبتــان (واحــدة‬


‫امتــدت عــى طــول املمـ ّر الــذي كنــا نتمـ ّ‬
‫عــى اليمــن وأخــرى عــى اليســار) بحيــث يجلــس عليهــا الالجئــون‬
‫والهاربــون مــن املــوت‪ ،‬وكنــا نجلــس عليهــا أيضــا لالســتامع لرشوحــات‬
‫املرشــد الــذي طلــب منــا أن نخلّــد هــذه اللحظــات وأن ال نحــرم أنفســنا‬
‫مــن التقــاط الصــور الفوتوغرافيــة فيــا ذكّرنــا بلطــف أن تصويــر لقطــات‬
‫الفيديــو ممنــوع‪.‬‬

‫كان النفــق بطــول ألــف مــر تقريبــا ويف بعــض أجــزاءه انتــرت غــرف‬
‫صغــرة‪ ،‬الظاهــر أنهــا كانــت أمكنــة لتخزيــن األغذيــة واألغطيــة وقــد‬
‫تحولــت اآلن إىل غــرف مضــاءة وضعــت فيهــا بعــض التحــف التــي تعــود‬

‫‪35‬‬
‫لتلــك الحقبــة‪ ،‬وميكــن للســائح رؤيــة بعــض األواين وعلــب الطعــام وحتــى‬
‫بعــض ألعــاب األطفــال الخشــبية التــي يبــدو أن ســكان املدينــة تربعــوا بهــا‬
‫لعرضهــا يف هــذا املعلــم التاريخــي الــذي يجعلــك بحــق تعيــش أجــواء‬
‫تلــك الفــرة التاريخيــة والتــي كانــت عبــارة عــن مقدمــة وصــورة مص ّغــرة ملــا‬
‫ســيحدث بعدهــا مــن حــرب مدمــرة ابتــداء مــن ‪ 1939‬والتــي ستســتمر‬
‫إىل ‪ 1945‬وتغــر وجــه العــامل والبرشيــة (فيــا ســتبتعد إســبانيا عــن‬
‫الحــرب العامليــة الثانيــة وكأنهــا نالــت مــا يكفيهــا مــن ال ّدمــار املركّــز)‪.‬‬

‫يف نهايــة النفــق قادنــا املرشــد إىل غرفــة أوســع قليــا مــن ســابقاتها‪،‬‬
‫وقــد انتصبــت فيهــا خزانــة أدويــة باليــة‪ ،‬ورسيــر طبــي‪ ،‬وبعــض اآلالت‬
‫الجراحيــة التــي كانــت أقــرب ألدوات التعذيــب منهــا إىل أدوات العــاج‪.‬‬
‫وهنــا دخــل املرشــد يف رشح طويــل نســبيا خاصــة وأنــه كان يســتمع‬
‫أيضــا إىل إحــدى الســائحات التــي راحــت تتكلــم باإلســبانية مــع كامــل‬
‫املجموعــة قبــل أن تغلبهــا دموعهــا‪ .‬عرفــت مــن املرشــد فيــا بعــد أن‬
‫والدتهــا رأت النــور تحــت األرض يف هــذا املستشــفى الصغــر‪ .‬وأخــرين‬
‫ونحــن نصعــد الســلم نحــو املخــرج أنــه كثــرا مــا يحــر مواقــف مثــل هــذه‬
‫وأن اآلثــار النفســية لتلــك الحــرب ال زالــت موجــودة إىل اليــوم يف إســبانيا‬
‫وستســتم ّر ‪.‬‬

‫خرجنــا مــن النفــق أخــرا بعــد أن قضينــا بداخلــه خمســا وأربعــن دقيقــة‬
‫كاملــة مل نشــعر بهــا أبــدا‪ ،‬وأعجبنــي كيــف يعمــل اإلســبان عــى الحفــاظ‬
‫عــى ذاكرتهــم الحيــة رغــم تبايــن آرائهــم إىل يومنــا هــذا يف تلــك الحــرب‬

‫‪36‬‬
‫املدمــرة التــي قســمت املجتمــع إىل نصفــن متناحريــن واســتعملت‬
‫فيهــا أبشــع أنــواع القتــل والتنكيــل وجربــت فيهــا الــدول املتناحــرة فــوق‬
‫األرايض اإلســبانية كل أنــواع األســلحة التــي امتلكوهــا (بروفــة حقيقيــة‬
‫متهيــدا للحــرب العامليــة الثانيــة)‪.‬‬

‫بالعــودة إىل مدينــة وهــران‪ ،‬فهــي األخــرى لديهــا أوجــه شــبه مشــركة‬
‫مــع هــذا املعلــم الــذي زرتــه‪ ،‬أوال ألنهــا احتضنــت الكثــر مــن أنصــار‬
‫الجمهوريــة الذيــن فــروا إليهــا مــن بطــش فرانكــو نهايــة الثالثينيــات (إبّــان‬
‫الحــرب األهليــة) وقــد كان لذلــك تأثــرات دميوغرافيــة واقتصاديــة عــى‬
‫املدينــة بحاجــة إىل مزيــد مــن الدراســة واالهتــام‪ ،‬وثانيــا ألن وهــران أيضــا‬
‫تضــم هــي األخــرى متاهــة حقيقــة مــن األنفــاق تحــت شــوارعها وأحيائهــا‬
‫ومعاملهــا تشــبه جبنــة القرويــار الفرنســية‪ ،‬منهــا مــا حفــره اإلســبان ومنهــا‬
‫مــا حفــره العثامنيــون ومنهــا مــا حفــره الفرنســيون يف القــرن العرشيــن‬
‫اتقــا ًء لغــارات املحــور يف الحــرب العامــة الثانيــة وقــد أتيحــت يل فرصــة‬
‫زيــارة هــذه األخــرة والتجــول بداخلهــا يف جولــة مثــرة‪ ،‬ولــو أن أشــد‬
‫مــا أثــار اســتغرايب هنــاك هــو مــدى احــرام الفرنســيني آنــذاك لقوانــن‬
‫جمهوريتهــم حتــى تحــت األرض‪ ،‬حيــث تــم تخصيــص مالجــئ مبلطــة‬
‫ومســقفة ومجهــزة بوســائل اإلضــاءة والتهويــة للمواطنــن األوروبيــن‪ ،‬بينــا‬
‫كان ملجــأ املواطنــن املســلمني (األنديجــان) عبــارة عــن كهــف ضيــق‬
‫وخانــق يدخلونــه مــن بــاب آخــر‪ .‬هــذا دون الحديــث طبعــا عــن حالــة هــذه‬
‫األنفــاق حاليــا والتــي ال زال أمــام هيئاتنــا الثقافيــة والســياحية عمــل كبــر‬
‫قبــل أن نصــل إىل مرحلــة تليــق باســتقبال أفــواج الســياح بهــا‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫كانــت الســاعة تشــر إىل الحاديــة عــر إال الربــع حــن عدنــا إىل ســطح‬
‫الشــارع الــذي ال يبعــد كثــرا عــن الســوق املركــزي ألملريــة‪ ،‬وكان أمــام‬
‫مرشــدنا الشــاب ربــع ســاعة يك يلتحــق رسيعــا باملدخــل الرئيــي للنفــق‬
‫عــى بعــد كيلومــر يك يقــود زيــارة أخــرى ملجموعــة أخــرى مــن الســياح‬
‫تنتظــره هنــاك‪ .‬أمــا أنــا فبقــي أمامــي ســاعتان وربــع قبــل اإلقــاع نحــو مدينــة‬
‫غرناطــة يف حافلــة الواحــدة زواال‪ .‬وبقــي يل يف الربنامــج أن أزور قصبــة‬
‫أملريــة وهــي واحــدة مــن أكــر التحصينــات اإلســامية الباقيــة يف أوروبــا إن‬
‫مل تكــن أكربهــا عــى االطــاق‪.‬‬

‫القصبــة ترتبــع عــى مســاحة ‪ 35‬ألــف مــر مربــع وتطــل بشــكل مبــارش‬
‫عــى مرفــأ املدينــة‪ ،‬وقــد وصلتهــا بعــد عــر دقائــق مــن املــي صعــودا‬
‫ومــرورا عــر حــي قديــم يبــدو أنــه مســتوطن مــن قبــل الغجــر حيــث أن مبانيــه‬
‫قدميــة وبســيطة جــدا‪ .‬قبــل الوصــول إىل املدخــل الرئيــي للقصبــة‬
‫التقطــت صــورة لتمثــال خــران العامــري الــذي وضعتــه بلديــة أملريــة‬
‫مبناســبة مــرور ألــف عــام عــى تأســيس الطائفــة التــي اســتقلت بشــؤون‬
‫أملريــة آنــذاك بعــد ســقوط الدولــة األمويــة‪.‬‬

‫طبعــا حــن يكــون املــرء يف عطلــة صيفيــة ويتجــول تحــت درجــة حــرارة‬
‫تالمــس عتبــة الثالثــن مــع كميــة رطوبــة محسوســة بســبب القــرب مــن‬
‫البحــر‪ ،‬فإنــه لــن يســتحرض حــاال كل املعلومــات التاريخيــة التــي طالعهــا‬
‫قبــل زيــارة املدينــة‪ ،‬لكــن مــن املفيــد التذكــر أن أملريــة مــن املــدن‬
‫املحدثــة التــي اســتحدثها املســلمون عنــد فتــح األندلــس وأنهــا مل تكــن‬

‫‪38‬‬
‫موجــودة قبــل قدومهــم‪ ،‬كــا أن أصــل التســمية قــد اختلــف فيــه املؤرخــون‬
‫بــن مــن يقــول أنهــا مــن «املرئيــة» أي التــي ميكــن رؤيتهــا مــن كل الجهــات‬
‫إىل مــن يقــول أن أصلهــا مــن «املرايــا» والتــي كانــت تســتعمل لإلنــذار‬
‫بقــدوم خطــر طبيعــي أو غــارة بريــة أو ظهــور ســفينة معاديــة يف األفــق‪.‬‬
‫وطبعــا كانــت هــذه الحــارضة رغــم جبالهــا العاريــة مــن األشــجار والغطــاء‬
‫النبــايت والشــبيهة بتضاريــس األغــواط أو حتــى شــبكة وادي ميــزاب يف‬
‫صحــراء الجزائــر‪ ،‬مدينــة عامــرة ومينــاء مهــا عــى الســاحل األندلــي‬
‫حيــث تأخــر ســقوطها النهــايئ يف يــد امللكــن الكاثولكيــن إىل ‪.1487‬‬

‫عنــد املدخــل وقبــل أن تصعــد األدراج لدخــول القصبــة ســتجد كشــكا‬


‫صغــرا‪ ،‬ميكــن أن يســألك الشــاب العامــل بداخلــه عــن جنســيتك‪ ،‬فقــط‬
‫ليعــرف إن كان عليــك أن تدفــع رســم الدخــول املقــدر بيــورو ونصــف‬
‫للسياح من خارج االتحاد األورويب‪ .‬أما إن كلمته بفرنسية سليمة وقلت‬
‫إنــك فرنــي فإنــه يرحــب بــك بابتســامة ومتنيــات حــارة بزيــارة ممتعــة‪،‬‬
‫عــى اعتبــار أن الدخــول مجــاين لجميــع مواطنــي االتحــاد‪.‬‬

‫تجولــت يف أرجــاء هــذه القصبــة التــي انتــرت بهــا بعــض النافــورات‬


‫واألشــجار واســتمتعت مبنظــر املدينــة يف األســفل والتــي تعلوهــا هــذه‬
‫القصبــة مبائــة مــر كاملــة‪ ،‬كــا ميكنــك مــن هنــاك رؤيــة منظــر جميــل‬
‫وملهــم للبحــر املتوســط والســفن الراســية يف املينــاء‪.‬‬

‫كانــت الســاعة قــد قاربــت منتصــف النهــار والنصــف حــن هبطــت مــن‬
‫القصبــة متجهــا نحــو الفنــدق الســرجاع أمتعتــي مــن مــكان حفــظ األمتعــة‬

‫‪39‬‬
‫وهــو عــادة غرفــة صغــرة أو مــكان مغلــق تحــت الــدرج‪ ،‬يســتعمل لحفــظ‬
‫أمتعــة النــزالء الذيــن يخلــون غرفهــم قبــل منتصــف النهــار ويحتاجون لحفظ‬
‫أمتعتهــم إىل وقــت املســاء‪.‬‬

‫تأكــدت مــن ســامة األمتعــة وتحسســت تذكــرة الحافلــة يف جيبــي‬


‫ثــم انطلقــت مشــيا نحــو محطــة حافــات أملريــة وهــي ال تبعــد كثــرا عــن‬
‫املينــاء ومالصقــة متامــا ملحطــة القطــارات‪ ،‬ويبــدو أن الحــال هكــذا يف‬
‫جــل املــدن األوروبيــة‪ ،‬وذلــك يشء مريــح جــدا للســائح واملســافر بصفــة‬
‫عامــة‪.‬‬

‫وصلــت املحطــة ربــع ســاعة قبــل الواحــدة ووقفــت مــع بعــض النــاس‬
‫بانتظــار الســائق الــذي ظهــر خمــس دقائــق قبــل موعــد االنطــاق ليفتــح لنــا‬
‫األبــواب وندخــل الحافلــة لالســتلقاء عــى كــرايس مريحــة وواســعة‪.‬‬

‫كانــت الســاعة تشــر إىل الواحــدة متامــا حــن بــدأت الحافلــة يف‬
‫التحــرك خــارج املحطــة‪ ،‬الرحلــة بــن أملريــة وغرناطــة ســتدوم ثــاث‬
‫ســاعات كاملــة مــع أن املســافة بينهــا ال تتجــاوز املائــة والســبعني‬
‫كيلومــرا والســبب أن الحافلــة ســتمر بــكل القــرى والبلــدات التــي تقــع‬
‫بــن املدينتــن‪ .‬طبعــا هنــاك حافــات تذهــب مبــارشة إىل غرناطــة (مثــن‬
‫التذكــرة املبــارشة ‪ 17‬يــورو) لكــن الســائح الــذي يــزور شــبه الجزيــرة اإليبرييــة‬
‫ألول مــرة ال يزعجــه أن يحتفــظ بثــاث يوروهــات يف جيبــه مــع إمكانيــة‬
‫اكتشــاف املزيــد مــن هــذه األرايض التــي عربهــا أجــداده قبــل ثالثــة عــر‬
‫قرنــا أو يزيــد‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫مــا إن خرجنــا مــن أملريــة حتــى أصبحــت املناظــر عــى اليمــن والشــال‬
‫مجــرد جبــال جــرداء ووديــان جافــة وتــال مقفــرة تعطيــك إحساســا غريبــا‬
‫أنــك تتجــه جنوبــا يف بلــدك األم‪ ،‬مــع أنــك غــادرت شــاله منــذ مثــان‬
‫وأربعــن ســاعة‪ .‬إنهــا صحــراء تابرينــاس القاحلــة التــي تبعــد عــن شــال‬
‫أملريــة بثالثــن كيلومــرا والتــي تعتــر الصحــراء الوحيــدة يف القــارة‬
‫األوروبيــة التــي متتــد عــى مســاحة ‪ 280‬كيلومــرا مربعــا وهــي محميــة‬
‫طبيعيــة منــذ ‪.1989‬‬

‫مــن املثــر أن تشــاهد مــن خــال نافــذة الحافلــة التــي كانــت تســر‬
‫برسعــة محــددة ال تزيــد وال تنقــص‪ ،‬منظــرا نوســتالجيا إلحــدى قــرى‬
‫الويســترين األمريكيــة‪ ،‬ففــي هــذه الربــوع ذات املنظــر املقفــر جــرت أطــوار‬
‫تصويــر أفــام عامليــة مشــهورة جــدا‪ ،‬كلورنــس العــريب ومغامــرات إنديانــا‬
‫جونــز والفيلــم الــذي يعرفــه الجزائريــون جميعــا للبطــل كلينــت إيســتوورد‪.‬‬

‫«‪»le bon le brute et le truand‬‬

‫طبعــا ال أحــد اليــوم يتفــرج هــذه النوعيــة مــن أفــام «الويســترين‬


‫ســباغيتي» كــا تســمى يف عــامل الســينام‪ ،‬ولذلــك فكــر اإلســبان رسيعــا‬
‫يف وضــع واحــدة مــن أكــر محطــات الطاقــة الشمســية عــى املســتوى‬
‫األورويب يف منتصــف الطريــق إىل غرناطــة أيــن تصــل درجــات الحــرارة إىل‬
‫أربعــن درجــة وأيــن تســطع الشــمس مبعــدل ثالثــة آالف ســاعة ســنويا‪.‬‬
‫فاملهــم هــو اســتدرار مــا أمكــن مــن املــوارد مــن هــذا املوقــع الطبيعــي‪ ،‬إن‬
‫مل يكــن مــن أرضــه فمــن ج ـ ّوه‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫مل تكــن املناظــر بذلــك الجــال املمتــع الــذي مينعــك مــن النــوم‪،‬‬
‫لكــن رؤيــة تلــك املــراوح الضخمــة أيضــا عــى رؤوس الجبــال والتــي تجنــي‬
‫الطاقــة الكهربائيــة مــن الريــاح ليــل ونهــارا لتضــع إســبانيا يف املرتبــة الرابعــة‬
‫عامليــا يف كميــة الكهربــاء التــي يتــم توليدهــا مــن الريــاح وتلبّــي الطلــب‬
‫الطاقــوي الداخــي بنســبة عرشيــن املئــة‪ ،‬تجعلــك مبــارشة تفكــر يف نعــم‬
‫الطبيعــة التــي يكتنزهــا بلدنــا دون أن ينتفــع بهــا البــر عندنــا وال البرشيــة‬
‫يف هــذا الكوكــب‪ ،‬وتقــول يف نفســك متــى وكيــف اســتطاع هــؤالء الذيــن‬
‫كانــوا يف مســتوانا بدايــة الســتينيات أن يقطعــوا كل هــذه األشــواط يف‬
‫غفلــة منــا ومــن الجميــع‪.‬‬

‫نصــف ســاعة قبــل الســاعة الخامســة‪ ،‬بــدأت التضاريــس يف التغــر‬


‫شــيئا فشــيئا لتفســح املجــال أمــام ظهــور غطــاء نبــايت وأشــجار‪ ،‬ثــم بعــض‬
‫البيــوت املتناثــره هنــا وهنــاك لتتجمــع البيــوت يف قــرى بأكملهــا ويظهــر‬
‫عــى يســارنا ولــو عــى مســافة هائلــة سلســلة جبــال ضخمــة البــد أنهــا‬
‫تحمــي لؤلــؤة مل تنجــح كل الحــروب والصدامــات والفــن واملؤامــرات يف‬
‫النيــل مــن جاملهــا الرسمــدي‪ ،‬لؤلــؤة بحجــم مدينــة قالــت فيهــا الحكمــة‬
‫األبديــة‪:‬‬

‫ال يوجد يشء أكرث أملا يف الحياة‬

‫من أن تكون أعمى يف غرناطة‪..‬‬

‫‪42‬‬
‫غرناطة‪ ..‬أو حني ي ّتسع املعنى وتضيق العبارة‬

‫‪The world is a book and those who do not travel‬‬


‫‪read only one page‬‬

‫الســاعة كانــت تشــر إىل الخامســة حــن اقــرب دخولنــا ملحطــة‬


‫غرناطــة‪ ،‬ومــن نافــذة الحافلــة كنــت أتصيــد منظــر قــر الحمــراء‪ ،‬هــذا‬
‫الــذي ألهــم خيــاالت البــر وفــن قلــوب النــاس وجعــل الســياح مــن‬
‫كل حــدب وصــوب يشــدون الرحــال لهــذا املــكان يك يقفــوا عــى آثــار‬
‫نــر كاثوليــي أو بقايــا عــر التوهــج اإلســامي أو إبــداع االنســان الفنــي‬
‫ـن بعدهــا أن املحطــة‬ ‫املعــاري أو الجــال اآلرس الطبيعــي‪ .‬لكــن تبـ ّ‬
‫الربيــة بعيــدة نســبيا عــن وســط املدينــة التاريخــي وأنــه ال بــد عــي أن‬
‫أركــب حافلــة حرضيــة مــن أمــام املحطــة للوصــول إىل وجهتــي النهائيــة‪.‬‬

‫نزلــت يف محطــة الحافــات العرصيــة بغرناطــة والتــي كانــت تعـ ّـج‬


‫بعــدد كبــر مــن الشــباب مــن مختلــف األعــار‪ ،‬فغرناطــة مدينــة جامعيــة‬
‫كــا فهمــت مــن بعــض املواقــع عــى االنرتنيــت والتــي تصفحتهــا عــى‬

‫‪43‬‬
‫عجــل لتكويــن صــورة جديــدة عــن هــذه الحــارضة التــي ال تــزال يف مخيلتنــا‬
‫العتيقــة غرناطــة الحمــراء والبيازيــن والحاممــات ونهــر حـ ّدرة وزفــرة العــريب‬
‫األخــرة‪.‬‬

‫أول يشء قمت به هو رشاء تذكرة الذهاب إىل قرطبة بعد يومني من‬
‫اآلن‪ ،‬قبــل أن أركــب أول بــاص يأخــذين إىل وســط املدينــة‪ .‬مل أســتطع‬
‫الجلــوس يف مقعــد الحافلــة وبقيــت واقفــا أمــام الزجــاج األمامــي بجنــب‬
‫الســائق‪ ،‬ال أعــرف هــل أتــذوق مــا أراه فقــط بعينــي فقــط‪ ،‬أم أســتعني‬
‫بكامــرا الهاتــف يك يشــرك معــي اآلخــرون يف لحظــات الســعادة هــذه‪.‬‬

‫كانــت الشــوارع نظيفــة تصطــف فيهــا األشــجار والــورود الحمــراء‪ ،‬أمــا‬


‫واجهــات املبــاين فهــي متناســقة وجميلــة‪ ،‬املدينــة هادئــة وســكانها‬
‫ينعمــون باطمئنــان بــاد عــى الوجــوه رغــم أنهــا تعــج بأكــر مــن مائتــي ألــف‬
‫نســمة حاليــا‪.‬‬

‫اســتعنت بتطبيــق قوقــل لتحديــد موقعــي وموقــع الفنــدق وتوجهــت‬


‫مبــارشة بعــد نــزويل مــن الحافلــة إىل الفنــدق الــذي كنــت قــد حجــزت بــه‬
‫قبــل شــهرين وهــو نــزل مــن نجمتــن متواجــد يف شــارع جانبــي ضيــق وخــال‬
‫مــن النــاس‪ .‬ربــع ســاعة كانــت كافيــة يك أحصــل عــى مفتــاح الغرفــة مــع‬
‫خريطــة للمدينــة واســتحم‪ ،‬ألنــزل مبــارشة للشــارع الرئيــي وســط املدينــة‬
‫وأتوجــه إىل ســاحة كارمــن أيــن يتواجــد مكتــب الديــوان الســياحي ملدينــة‬
‫غرناطــة للحصــول عــى تذكــرة دخــول أجمــل وأعظــم موقــع تاريخــي يف‬
‫إســبانيا كلهــا «قــر الحمــراء»‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫تذاكــر الحمــراء صــداع مزمــن للســياح مــن كل البلــدان لســبب بســيط‪،‬‬
‫وهــو أن التذاكــر مقســمة إىل أصنــاف ع ـ ّدة‪ ،‬فمنهــا مــن متكنــك مــن‬
‫دخــول قصبــة الحمــراء وجنــة العريــف والحدائــق دون إمكانيــة الدخــول‬
‫لقصــور بنــي نــر (مثــن هــذه التذكــرة ســبعة يــورو) وهنــاك أيضــا تذاكــر‬
‫للزيــارات الليليــة ولكنهــا غــر مغريــة بالنســبة يل‪ ،‬عــى اعتبــار أن القــر‬
‫مهــا كانــت رومانســية الليــل وهــدوءه ال ميكــن تأملــه واالســتمتاع برؤيــة‬
‫كل مكونــات جاملــه الطبيعيــة واألثريــة إال تحــت ضــوء شــمس النهــار‪ .‬أمــا‬
‫تذكــرة الزيــارة العامــة والتــي متكنــك مــن زيــارة كل أقســام الحمــراء مبــا يف‬
‫ذلــك قصــور ســاطني بنــي نــر املبهــرة‪ ،‬فــا ميكــن الحصــول عليهــا إال‬
‫عــر الحجــز املســبق عــر النــت أو بالذهــاب املب ّكــر إىل مدخــل الحمــراء‬
‫واالنتظــار يف طابــور طويــل لعــل الحــظ يســاعفك للحصــول عــى التذاكــر‬
‫التــي تطــرح للبيــع يوميــا يف عــن املــكان وعددهــا محــدود عــى كل حــال‪.‬‬

‫ومبــا أن املعامــات املاليــة عندنــا الزالــت تســلك الطــرق االجتنابيــة‬


‫الرتابيــة املهــرأة وال تريــد أن تنتقــل إىل الطــرق املعبــدة الرسيعــة‪ ،‬أيــن‬
‫ميكــن للمــرء أن يقتنــي تذكرتــه عــر االنرتنيــت‪ .‬فقــد اضطــررت للذهــاب‬
‫إىل الديــوان الســياحي لتجريــب حظــي يف اقتنــاء تذكــرة زيــارة عامــة مــن‬
‫هنــاك والدفــع «كاش»‪.‬‬

‫يف املكتــب وجــدت مجموعــة مرشــدين شــباب جالســن أمــام‬


‫الكمبيوتــر ويحملــون شــارات يف صدورهــم عليهــا أعــام البلــدان التــي‬
‫يتحدثــون لغتهــا (ال وجــود ألي علــم عــريب) وقصــدت الشــابة التــي‬

‫‪45‬‬
‫كانــت تعلــق علــم فرنســا إىل جانــب علــم إنجلــرا وإســبانيا وســألتها عــن‬
‫كيفيــة الحصــول عــى تذكــرة لزيــارة قــر الحمــراء بكاملــه مبــا يف ذلــك‬
‫القصــور اإلســامية ونافــورة األســود فأجابتنــي مبــا أعرفــه ســلفا مــن خــال‬
‫آراء الســياح وخرباتهــم التــي شــاركوها عــر مواقــع االنرتنيــت مــن أن تلــك‬
‫التذاكــر قــد نفــذت ومــا عليــك إال النهــوض املبكــر للتوجــه إىل الطابــور‬
‫واالنتظــار هنــاك إىل غايــة طلــوع الشــمس وفتــح األبــواب‪.‬‬

‫خرجــت مــن الديــوان الســياحي شــبه محبــط محــاوال االحتفــاظ‬


‫مبعنويــايت التــي اهتــزت نوعــا مــا‪ ،‬عــى اعتبــار أن زيــارة الحمــراء دون‬
‫دخــول القصــور النرصيــة كمــن يتنــاول كأســا ســاخنا مــن الشــاي لكــن دون‬
‫ســكر‪ .‬ورحــت أمتــى صعــودا نحــو هــذا املعلــم الــذي كثــرا مــا قرأنــا‬
‫وســمعنا ورأينــا صــوره يف الكتــب التاريخيــة واملدرســية وأيضــا يف عــامل‬
‫االنرتنيــت الواســع‪.‬‬

‫طبعــا‪ ،‬لــن ينالــك التعــب وأنــت تتجــه مــرع الخطــى‪ ،‬إىل مــكان كان‬
‫ميكــن أن يبقــى مجــرد حلــم يــراودك أو مجــرد صــورة جميلــة انطبعــت يف‬
‫ذهنــك دون أن تصــل إىل إدراكهــا مشــيا عــى األقــدام والوصــول إىل‬
‫أســوارها لرؤيتهــا أمامــك‪ ،‬متامــا كــا تــرى يف باقــي أيــام الســنة مدخــل‬
‫املنــزل أو مبنــى مقــر العمــل‪.‬‬

‫طريق ملتوية وأدراج عالية ومسالك ضيقة عرب منازل صغرية وجميلة‪،‬‬
‫كانــت كلهــا تــؤدي إىل ذلــك التــاج األحمــر العــايل الــذي يرتبــع يف شــموخ‬
‫فوق املدينة‪ ،‬تحيط به األشــجار والظالل وترسي وســط كل ذلك نســائم‬

‫‪46‬‬
‫منعشــة تحملهــا ســواقي امليــاه الجاريــة‪ ،‬تنســيك حــرارة شــهر ســبتمرب‬
‫وتعــب الســفر وكل مــا يخطــر عــى بالــك أو جســدك مــن مشــقة أو عنــاء‪.‬‬

‫عنــد نهايــة الطريــق الضيقــة صعــودا والتــي تســلكها بعــض الســيارات‬


‫والحافــات الصغــرة لنقــل الســياح نحــو الحمــراء‪ ،‬ســتصل بــك قدمــاك‬
‫املنهكتــان إىل مــكان طبيعــي جميــل تظللّــه أشــجار كثيفــة متشــابكة‬
‫األغصــان واألوراق لدرجــة أنهــا تحجــب أشــعة الشــمس وتشــعرك‬
‫بالــرودة‪ ،‬هنالــك ســرى جريــان امليــاه وتســتمع إىل خريرهــا مرفوقــا‬
‫بزقزقــة العصافــر التــي تل ّحــن هــذه الصــورة فتحســبها لوحــة فنيــة ناطقــة‬
‫تغمــرك براحــة نفســية وســعادة غريبــة‪.‬‬

‫لــن تحتــاج إىل أكــر مــن خمــس دقائــق بعدهــا يك تصــل إىل مدخــل‬
‫قــر الحمــراء وتكتشــف ذلــك العــدد الهائــل مــن الســياح الــذي ينتــر‬
‫يف املــكان‪ .‬فالحمــراء تســتقبل يوميــا أكــر مــن مثانيــة آالف ســائح عــى‬
‫فرتتــن (صباحيــة ومســائية) وهــو أكــر املعــامل التــي يزورهــا الســياح يف‬
‫إســبانيا‪ ،‬حيــث يعــد ترمومــرا حقيقيــا لقيــاس نجــاح املوســم الســياحي‬
‫يف بــاد األندلــس مــن عدمــه (كرتمومــر بــرج إيفــل يف فرنســا)‪.‬‬

‫مــن قــر الحمــراء رحــت أتتبــع األســوار العظيمــة نــازال ألصــل إىل حــي‬
‫البيازيــن (البائســن) يف املرتفــع املقابــل ملوقــع الحمــراء‪ ،‬وهــو الحــي‬
‫الــذي الزال محتفظــا بطابعــه املعــاري املميــز الــذي يشــعرك بألفــة‬
‫غريبــة مــع هــذه املدينــة الســاحرة (تــم إنشــاء الحـ ّـي أصــا الســتقبال‬
‫املســلمني النازحــن مــن مختلــف املناطــق اإلســبانية التــي ســقطت‬

‫‪47‬‬
‫بأيــدي املســيحيني يف حــروب االســرداد)‪.‬‬

‫يبــدو يل أن املــرء حــن يــزور غرناطــة إمنــا يســرجع قطعــا مــن ذاتــه أو‬
‫يعــود إىل مــكان مــا نســيه بداخلــه منــذ مــدة‪ .‬إ ّن أي عــريب يتجــول يف‬
‫غرانــادا اليــوم إمنــا يؤثــث ذاكرتــه التاريخيــة التــي اختزنــت عديــد القصــص‬
‫حــول الفــردوس املفقــود‪ ،‬فــرى ويشــاهد ويلمــس ويستنشــق ذلــك‬
‫العبــق الــذي يجعلــه منتشــيا وهــو يتجــول يف حــي البيازيــن تــاركا لرجليــه‬
‫حريــة التحليــق بــدل املــي يف أزقــة ضيقــة تقــودك إىل أعــى نقطــة يف‬
‫الحــي وأجمــل إطاللــة ممكنــة عــى قــر الحمــراء املهيــب‬

‫رشفــة ســان نيكــوالس هــي املــكان الــذي ت ُلتقــط منــه جـ ّـل الصــور‬
‫املشهورة التي نعرفها لقرص الحمراء‪ ،‬حيث تبدو جبال سيريانيفادا يف‬
‫الخلفيــة‪ .‬صحيــح أن املنظــر أجمــل بكثــر حــن تكــون تلــك الجبــال مكسـ ّوة‬
‫بالثلــج يف فصــل الشــتاء والربيــع‪ ،‬لكــن مشــاهدة غــروب الشــمس مــن‬
‫هــذه الرشفــة (املكتظــة بالســياح يف هــذا الوقــت بالــذات) ســيضعك‬
‫أمام أجمل منظر ميكن أن تشاهده يف غرناطة بل ويف إسبانيا بكاملها‪.‬‬

‫حــن وصلــت إىل هــذه الرشفــة مل أمتكــن مــن أحجــز لنفــي مكانــا‬
‫ملشــاهده قــر الحمــراء بســبب جلــوس صــف كامــل مــن الســياح (جــاؤوا‬
‫مــن كل دول العــامل) عــى الحافــة والذيــن مل ميلّــوا مــن التأمــل والتقــاط‬
‫الصــور التذكاريــة الواحــدة تلــوى األخــرى‪.‬‬

‫انتــر باملــكان أيضــا فنانــون وعازفــوا القيتــارة والرســامون وقــارؤوا الكـ ّـف‬

‫‪48‬‬
‫وكل أنــواع املجانــن واملبدعــن واملعتوهــن الذيــن يرتــدون ألبســة غريبــة‬
‫وميلكــون ترسيحــات شــعر أغــرب وكل واحــد منهــم ميــارس طقســا خاصــا‬
‫جــاء بــه مــن بــاده البعيــدة‪ .‬كان منهــم أحــد الشــباب الــذي أمســك‬
‫ســيالة زرقــاء وراح يرســم أهــم املعــامل األثريــة للمدينــة يف قطــع صغــرة‬
‫مــن األوراق ألصقهــا يف قطعــة خشــبية وعلقهــا يف جــذع شــجرة هنــاك‪.‬‬
‫وقفت أتأمل تلك الرسومات الجميلة فاقرتب مني هذا الرسام وناولني‬
‫ورقــة صغــرة رســم عليهــا قــر الحمــراء كــا تــراه العــن مــن رشفــة ســان‬
‫نيكــوالس فاعتــذرت منــه عــى عــدم رشاءهــا ومتنيــت لــه حظــا موفقــا‪.‬‬
‫لكنــه ابتســم وقــال يل‪ :‬إنهــا مجانيــة خذهــا هديــة مــن عنــدي‪ .‬ســألته‬
‫حينهــا عــن الهــدف مــن ذلــك فقــال يل‪ :‬نحــن شــباب مبدعــون ليــس لنــا‬
‫مــن نصيــب يف الحيــاة غــر هــذه املوهبــة‪ ،‬وقــد رأيــت أن األغنيــاء فقــط‬
‫يف هــذا العــامل مــن يســتطيعون رشاء اللوحــات والتحــف فــأردت أن أعــر‬
‫عــن معارضتــي لهــذا الظلــم والتناقــض برســومات أمنحهــا مجانــا للســياح‪،‬‬
‫فمــن حـ ّـق كل النــاس أن يتذوقــوا الفــن ويحتفظــوا بقطــع منــه حتــى لــو مل‬
‫يكونــوا أغنيــاء‪ ..‬الفــن ليــس شــيئا نتملّكــه بــل أشــياء نقتســمها‪.‬‬

‫التقطــت بعــض الصــور لهــذا الشــاب برفقــة بعــض أصدقــاءه وشــكرته‬


‫عــى مبادرتــه (وعدتــه بــأن أتحــدث عــن فكرتــه وهــا قــد فعلــت) ثــم غــادرت‬
‫الرشفــة الصاخبــة إىل مــكان آخــر غــر بعيــد عنهــا وميكــن منــه أن تشــاهد‬
‫قــر الحمــراء يف كامــل جاللــه وجاملــه‪ ،‬إنهــا رشفــة أخــرى قليلــة االكتظاظ‬
‫وأصغــر حجــا لكنهــا أكــر جــاال وتنســيقا‪ ،‬وميكــن فيهــا أن أجلــس متكئــا‬
‫إىل عمــود صغــر وأن أتأمــل الحمــراء مبــارشة وجــزءا مــن مدينــة غرناطــة يف‬

‫‪49‬‬
‫األســفل دون إزعــاج وزحــام‪.‬‬

‫مل تكــن هــذه الرشفــة إال عبــارة عــن حديقــة صغــرة هادئــة فيهــا بعــض‬
‫الشــجريات والــورود ونافــورة مــاء تصــدر أصواتــا رقيقــة‪ ،‬هــذه الحديقــة‬
‫بـ�كل بسـ�اطة هـ�ي السـ�احة الخارجيـ�ة لجامـ�ع غرناطـ�ة‪..‬‬

‫‪50‬‬
‫األندلس‪ ..‬الفردوس املوجود‬

‫‪Qui na pas quitté son pays est plein de préjugés‬‬

‫مســجد غرناطــة الجامــع (هكــذا تســميته الرســمية) آيــة يف الروعــة‬


‫والنظافــة والتنســيق والرتتيــب بجدرانــه البيضــاء وســقفه األحمــر وحديقتــه‬
‫التــي تتوســطها نافــورة جميلــة‪ .‬هــذا املســجد الــذي أعــاد اآلذان مــن‬
‫جديــد إىل ســاء املدينــة بعــد منــع دام خمســة قــرون كاملــة مل يــأيت‬
‫بالســهولة التي يدخل بها الســائح املســلم اليوم ليصيل بداخله يف كل‬
‫اطمئنــان ويلتقــط بعــض الصــور للذكــرى ويتمكــن مــن البقــاء بالحديقــة‬
‫للتمتــع مبنظــر قــر الحمــراء املضــاء ليــا (فيــا يخــرج بقيــة الســياح ألن‬
‫البــاب الخارجــي يتــم غلقــه أمــام الفضوليــن وال يفتــح لغــر املصلــن بعــد‬
‫صــاة املغــرب)‪.‬‬

‫قصــة مســجد غرناطــة بــدأت يف نهايــة الثامنينيــات حــن اشــرى‬


‫املســلمون قطعــة أرض أرادوا أن يبنــوا عليهــا مســجدا لهــم‪ ،‬وقــد قضــوا‬
‫ســنوات طويلــة يف معــارك قضائيــة للحصــول عــى ترخيــص البنــاء‪ ،‬ثــم‬

‫‪51‬‬
‫يف الحصــول عــى التمويــل (بعــد أن اشــرطت عليهــم الــدول اإلســامية‬
‫تســيري املســجد وتعيــن اإلمــام والخطيــب ومواضيــع خطــب الجمعــة‬
‫مقابــل التمويــل) كــا اضطــروا لبنــاء نســخة كاملــة عــن املســجد يف‬
‫مــكان آخــر فقــط يك يطمــن مجلــس املدينــة إىل تطابــق وانســجام بنــاءه‬
‫مــع النمــط املعــاري لحــي البيازيــن‪ ،‬وهنــا اضطــر املســلمون لتصغــر‬
‫حجــم وطــول املئذنــة ليفتــح املســجد أبوابــه أخــرا أمــام املصلــن ســنة‬
‫‪ 2003‬ويكــون أول مســجد بكامــل مكوناتــه يبنــى يف غرناطــة منــذ حــروب‬
‫االســرداد (هنــاك مصليــات أخــرى باملدينــة لكنهــا عبــارة عــن مســاحة‬
‫للصــاة ليــس إال)‪.‬‬

‫ســاهم الشــيخ القاســمي حاكــم إمــارة الشــارقة يف بنــاء املســجد‬


‫وكذلــك فعلــت ســلطنة برونــاي وممكلــة املغــرب (كــا تقــول املطويــات‬
‫املوجــودة مبدخــل املســجد والتــي تدعــوك للتــرع يف صنــدوق‬
‫مخصــص لذلــك) لكــن أهــم مــا يف األمــر هــو أن املســلمني مــن أصــل‬
‫إســباين هــم الذيــن بــادروا ببنــاءه ويســاهمون يف تســيريه‪ ،‬ومــادام األمــر‬
‫كذلــك فهــو أحســن ألن إســبانيا اليــوم وإن كانــت تجيــز تعــد ّد األديــان يف‬
‫مجتمعهــا فإنهــا غــر مســتعدة لتف ّهــم تعــدد مفهــوم اإلســام عنــد مختلــف‬
‫الجامعات اإلســامية التي فاق عددها يف البلد اليوم ‪ 1500‬جمعية‪.‬‬
‫وإن كان ذلك دليال عىل الصحوة والربكة فإنه مؤرش أيضا عىل الترشذم‬
‫واالنقســام الــذي جعــل الحــي الواحــد يف املدينــة اإلســبانية الواحــدة‬
‫يضــم جمعيتــن إســاميتني مختلفتــن ومتناحرتــن لألســف الشــديد‪.‬‬
‫لذلــك فأفضــل يشء ميكــن أن يخــدم اإلســام واملســلمني هــو أن نــرك‬

‫‪52‬‬
‫هــذا املســجد يف يــد أصحابــه مــن اإلســبان الذيــن اعتنقــوا اإلســام (وهــم‬
‫عــادة ينحــدرون مــن عائــات كاثوليكيــة) فرمبــا كان ذلــك أحســن وأنفــع‬
‫لألمــة مــن االنقســام إىل ســني وشــيعي وصــويف ومرشقــي ومغــريب‪.‬‬

‫صليــت املغــرب يف املســجد ثــم نزلــت عــر دروب حــي البيازيــن‬


‫الضيقــة متجهــا إىل أحــد املطاعــم الحــال املتواجــدة بقــرب بــازا نويفــا‬
‫(الســاحة الجديــدة) وهــي ســاحة جميلــة تنتــر فيهــا املطاعــم ومحــات‬
‫بيــع التحــف التذكاريــة‪.‬‬

‫التمــي يف ليلــة صيفيــة عــر األزقــة والشــوارع املضــاءة والعامــرة يف‬


‫غرناطــة ممتــع جــدا‪ .‬لكــن الجــوع ســرمي بــك عنــد أول طاولــة يف املطعــم‬
‫الحــال الــذي كنــت قــد اكتشــفت وجــوده مــن خــال مطويــة أخذتهــا قبــل‬
‫الخــروج مــن املســجد ‪.‬‬

‫طلبــت سندويتشــا وعبــوة صــودا وجلســت أتأمــل حصيلــة اليــوم مــن‬


‫الصــور التــي التقطتهــا بهاتفــي‪ ،‬جــاءين النــادل مبــا طلبــت ثــم ســألني‬
‫عــن البلــد الــذي أتيــت منــه فقلــت لــه إننــي مــن الجزائــر‪ ..‬ر ّحــب يب‬
‫مــرة أخــرى وبــدأ يكلمنــي متح ّمســا عــن اتحــاد املغــرب العــريب والوضــع‬
‫الجيوســراتيجي يف املنطقــة وأهميــة فتــح الحــدود والتنســيق الســيايس‬
‫والتكامــل االقتصــادي شــارحا األســباب ومحصيــا النتائــج‪ ..‬وأتذكــر أين‬
‫ى فيــك‪،‬‬
‫قلــت لــه مــا معنــاه‪ :‬رانــا يف بــاد بـ ّرة مذابيــك‪ ،‬اتهــى فيّــا ونتهـ ّ‬
‫واخطينــا مــن تكســار الــراس والبوليتيــك‪..‬‬

‫‪53‬‬
‫حــن أنهيــت الســندويتش الــذي كان معطّــرا بأل ـ ّذ توابــل الدنيــا وهــي‬
‫ي ومــرة أخــرى قابلنــي‬
‫الجــوع‪ ،‬تقدمــت إىل داخــل املحـ ّـل يك أدفــع مــا عـ ّ‬
‫أي البلــدان أنــا‪ ،‬فأجبتــه مــرة أخــرى‪ :‬أخوكــم مــن‬
‫شــاب عــريب وســألني مــن ّ‬
‫الجزائــر‪.‬‬

‫وملــا ســألني مــن أي املناطــق أنــا مــن الجزائــر‪ ،‬قلــت لــه أن املغاربــة‬
‫عمومــا يعرفــون مــن الجزائــر عاصمتهــا ومدينــة وهــران فقــط وإن كنــت‬
‫أنتمــي للمدينتــن بحكــم االســتقرار والعمــل‪ ،‬إال أن أصــويل مــن الصحــراء‪.‬‬
‫وهنــا قــال يل إنــه جزائــري وأيضــا مــن الصحــراء‪ .‬تبــن يل بعدهــا أنــه مــزايب‬
‫مــن بلــدة القــرارة (الدنيــا صغــرة) ودعــاين إىل كأس مــن الشــاي عــى‬
‫حســابه بينــا انــرف هــو للعمــل فــا مجــال هنــا للتكاســل أو التهــاون‬
‫يف لحظــات وســاعات الشــغل حتــى وإن كان الزائــر مــن أفــراد عائلتــك‬
‫املقربــن‪ ،‬أمــا أنــا فقــد غــادرت املحــل بعــد ثــاث كــؤوس صغــرة مــن‬
‫الشــاي (وفــق مــا تقتضيــه العــادة امليزابيــة) يك ال أحرجــه أكــر‪.‬‬

‫دخلــت الفنــدق ليــا واســتلقيت أفكــر يف يــوم الغــد وكيــف سأســتيقظ‬


‫يف الصبــاح املبكــر للتوجــه نحــو قــر الحمــراء والتجــول يف حدائقــه‬
‫وآثــاره‪ .‬ورحــت اســتجلب النعــاس عــر التجــول يف حدائــق التاريــخ‬
‫وقصصــه و ِعــره‪ ،‬مــن خــال هاتفــي الــذي كنــت قــد ح ّملــت فيــه معظــم‬
‫الكتــب التــي تتحــدث عــن القــرون الثامنيــة التــي اقتســمها املســلمون‬
‫يف هــذه الربــوع مــع الســكان األصليــن‪ ،‬والتــي تتجــاوز إىل يــوم النــاس‬
‫هــذا املــدة التــي قضاهــا اإلســبان الكاثوليــك لوحدهــم يف الســيطرة عــى‬

‫‪54‬‬
‫البــاد اإلســبانية وللــه األمــر مــن قبــل ومــن بعــد وتلــك األيــام نداولهــا بــن‬
‫النــاس‪.‬‬

‫كنــت ال أزال يف املرحلــة االبتدائيــة حــن تعرفــت عــى طــارق بــن‬


‫زيــاد وفتــح األندلــس‪ ،‬فقــد كان يف غرفتــي كتــاب صغــر يتحــدث عــن‬
‫الفتوحــات اإلســامية طالعتــه أكــر مــن مــرة‪ ،‬وفيــه قصــص عــن معــارك‬
‫صــاح الديــن ضــد الصليبيــن والظاهــر بيــرس وقطــز ضــد املغــول‬
‫وطــارق ومــوىس بــن نصــر يف فتــح األندلــس‪ .‬ومل أنتبــه إىل ِقــر املــدة‬
‫التــي تــم فيهــا فتــح األندلــس إال يف فــرة متأخــرة‪ ،‬مــا دفعنــي لتكثيــف‬
‫مطالعــايت حــول هــذا املوضــوع والــذي بــدأ فضــويل يتشــكل اتجاهــه‬
‫خاصــة‪ ،‬منــذ أن طالعــت كتابــا مثــرا للجــدل حــول حقيقــة إحــراق طــارق‬
‫للســفن التــي عــر بهــا املضيــق لفتــح األندلــس‪ .‬وخالصــة الكتــاب أن‬
‫طــارق كان أمازيغيــا وأن تلــك الخطبــة البليغــة املثــرة كانــت مــن إضافــات‬
‫«التاريــخ يكتبــه املنتــرون» وأن الســفن أصــا مل تكــن ملــكا لــه بــل أعارهــا‬
‫لهــم الكونــت يوليــان حاكــم ســبته (تقــع جغرافيــا يف املغــرب لكنهــا تابعــة‬
‫اليــوم إلســبانيا)‪.‬‬

‫التعمــق يف تاريــخ فتــح األندلــس وقــراءة مــا حــدث طيلــة هــذه الفــرة‬
‫الطويلــة جــدا ســيفتح عقولنــا الكســولة (التــي تغذيهــا املعلومــات العامــة‬
‫والحقائــق الجاهــزة) عــى قــراءات مثــرة ومذهلــة‪ ،‬ومنهــا أن الفتــح مل يكــن‬
‫غــزوا عســكريا بقــدر مــا كان شــبه ثــورة داخليــة يف إســبانيا نفســها عــى‬
‫اعتبــار أنهــا كانــت تديــن باملســيحية اآلريوســية وهــو مذهــب ال يعــرف‬

‫‪55‬‬
‫بالتثليــث وال بألوهيــة املســيح عيــى بــن مريــم‪ ،‬مــع تواجــد كبــر لطوائــف‬
‫ـرب واحــد كــا يؤمــن املســلمون أيضــا‪ .‬وهــذا مــا يفــر‬
‫يهوديــة يؤمنــون بـ ّ‬
‫رسعــة وشــكل التوســع اإلســامي يف إســبانيا‪ ،‬خاصــة وأن الوحــي يع ـ ّرف‬
‫اإلســام ليــس كديــن جديــد ناشــئ مــع نبــوة الرســول محمــد (ص) ولكــن‬
‫كالديــن األســايس واألول منــذ أن نفــخ اللــه يف االنســان مــن روحــه «قــل مــا‬
‫كنــت بدعــا مــن الرســل»‪.‬‬

‫وقد لخص كاتب إسبانيا الكبري بالسكو ايبانيز كل املشهد يف قوله‪:‬‬


‫يف إسبانيا‪ ،‬مل يأت اإلحياء من الشامل‪ ،‬مع الجامعات الرببرية‪ ،‬بل إنه‬
‫جــاء مــن الجنــوب مــع العــرب الفاتحــن‪ ،‬فتلــك كانــت حملــة متدينيــة أكــر‬
‫منهــا فت ًحــا‪ ،‬دخلــت بهــا إىل بالدنــا تلــك الثقافــة الفتيــة القويــة املســتنفرة‬
‫بتطوراتهــا املذهلــة برسعتهــا‪ ،‬التــي مــاكادت تولــد حتــى انتــرت‪ ،‬وتلــك‬
‫الحضــارة التــي خلقهــا حــاس النبــي‪ ،‬متثّلــت أفضــل مــايف اليهوديــة‬
‫والعلــم البيزنطــي والتــي كانــت فضـ ًـا عــن ذلــك تحمــل معهــا التقليــد‬
‫را مــن األشــياء املقتبســة مــن الصــن‬
‫الهنــدي العظيــم‪ ،‬وذخائــر فــارس وكثـ ً‬
‫التــي تكتنفهــا األرسار‪ .‬كان الــرق ينفــذ إىل أوروبــا ليــس كــا كان شــأن‬
‫دارويس وكزركس بطريق اليونان التي كانت تصدهم ليك تنقذ حريّتها‪،‬‬
‫ولكــن مــن الطــرف اآلخــر بطريــق إســبانيا التــي كانــت مســتبعدة مللــوك‬
‫الهوتيــن وأســاقفة متقشّ ــفني للحــرب‪ ،‬اســتقبلت بالرتحــاب غزاتهــا‬
‫هــوالء” ويضيــف قائــا‪« :‬ففــي عامــن اســتوىل هــؤالء عــى مــا اســتلزم‬
‫ســبعة قــرون إلســرداده منهــم‪ .‬فلــم تكــن تلــك غــزوة تفــرض بقــوة الســاح‪،‬‬
‫بــل كانــت مجتم ًعــا جدي ـ ًدا ين ّمــي جــذوره القويــة يف جميــع الجهــات‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫كان مبــدأ حريــة العقيــدة‪ ،‬الركــن األســايس الــذي ترتكــز إليــه عظمــة األمــم‬
‫الحقيقــة غال ًيــا عليهــم ففــي املــدن التــي كانــوا أســيا ًدا فيهــا كانــوا يقبلــون‬
‫بكنيســة املســيحي وكنيــس اليهــودي»‪.‬‬

‫أمــا حــروب االســرداد (الريكونكيســتا) التــي انتهــت بتســليم غرناطــة يف‬


‫‪ 1492‬فهــي يف الحقيقــة مل تكــن حربــا لطــرد غــزاة مســتعمرين يختلفــون‬
‫عــن النصــارى بقــدر ماكانــت حربــا أهليــة تــم فيهــا بالنهايــة طــرد ســكان‬
‫أصليــن للبلــد ذنبهــم الوحيــد أنهــم كانــوا يشــكلون مــع العــرب واألمازيــغ‬
‫والصقالبــة مــا يســمى باملســلمني‪ ،‬بــل إن بعــض املوريســكيني الذيــن‬
‫نزلــوا ببعــض ســواحل املغــرب هربــا مــن بطــش اإلســبان تعرضــوا للســلب‬
‫والقتــل مــن طــرف الســكان املحليــن بعــد أن ظ ّنوهــم غــزاة أوروبيــن‬
‫(كانــوا ذوي بــرة بيضــاء وشــعر أشــقر) ثــم إن اإلســام مل ينتــه يف إســبانيا‬
‫بسقوط غرناطة‪ ،‬بل تواصلت ثورات املسلمني هنا وهناك لتتوج بثورة‬
‫جبــال البــرات يف جنــوب غرناطــة يف أواخــر القــرن الســادس عرش‪،‬كــا‬
‫تشــر املصــادر إىل إعــدام مســلمني يف غرناطــة يف القــرن الثامــن عــر‪.‬‬
‫هــذا دون الحديــث عــن أن أوروبــا بكاملهــا ومبباركــة مــن البابــا‪ ،‬كانــت‬
‫تشــارك يف تلــك الحــرب املخزيــة خاصــة بعــد أن قــام العثامنيــون بابتــاع‬
‫أجــزاء واســعة مــن رشق القــارة العجــوز وكانــوا ســيصلون إىل التهــام فيينــا‬
‫ذاتهــا بعــد ذلــك‪.‬‬

‫اإلســبان مــن جهتهــم وتلــك دورة الحضــارة‪ ،‬بــدأوا يف تلــك الفــرة‬


‫بالتحــول إىل قــوة بحريــة واســتعامرية عظيمــة بعــد أن أضــاف كريســتوف‬

‫‪57‬‬
‫كولومبــس العــامل الجديــد إىل خريطــة العــامل والتــاج اإلســباين‪ ،‬وانطلقــوا‬
‫بأســاطيلهم يســتعمرون مدنــا وحــوارضا وجــزرا يف البحــر املتوســط‬
‫والشــال اإلفريقــي الزالــوا يحتفظــون ببعــض منهــا إىل يــوم النــاس هــذا‪.‬‬
‫ولــو أنهــم أصيبــوا بخيبــة أمــل يف الفليبــن حــن وصلوهــا ووجــدوا اإلســام‬
‫منتــرا هنــاك وهــم الذيــن كانــوا يعتقــدون أنهــم بصــدد اكتشــاف أراض‬
‫جديــدة مل تســبقها إليهــم حضــارات أخــرى‪.‬‬

‫زيــارة إســبانيا ولــو لغــرض ســياحي محــض‪ ،‬هــي بالــرورة زيــارة للتاريــخ‬
‫بــكل مــا فيــه ومــا لــه ومــا عليــه‪ ،‬وإطاللــة بديعــة مــن نافــذة التاريــخ عــى‬
‫معــامل الحــارض‪ ،‬تجلعنــا نكتشــف أشــياء كثــرة يف واقعنــا املعــاش‪،‬‬
‫ورمبــا نســترشف أحداثــا ســتقع يف مســتقبلنا‪ ،‬ألن التاريــخ دورات كــا‬
‫رشح ذلــك ابــن خلــدون يف مقدمــة تجعلنــا نكتشــف العــرض والخامتــة‬
‫يف كل حضــارة‪.‬‬

‫وألن الوقــت كان متأخــرا فقــد غططــت يف نــوم عميــق ألســتيقظ عــى‬
‫صــوت املنبــه عــى الســاعة الخامســة والنصــف صباحــا يــوم األربعــاء ‪13‬‬
‫ســبتمرب ‪.2017‬خرجــت مــن الفنــدق دون إفطــار وتوجهــت مشــيا إىل‬
‫مرتفــع الســبيكة الــذي يقبــع فوقــه قــر الحمراء‪.‬الشــوارع كانــت خاليــة‬
‫مــن النــاس والقطــط والســيارات‪،‬لكن بعــض عــال النظافــة كانــوا بكامــل‬
‫ع ّدتهم وج ّديتهم يغســلون األرصفة والســاحات ســويعات قبل اســتيقاظ‬
‫الســكان صباحــا ليتوجهــوا إىل أعاملهــم‪ ،‬يف مدينــة نظيفــة تحافــظ عــى‬
‫أناقتهــا وزينتهــا ويهمهــا أن تجعــل معنويــات مواطنيهــا مرتفعــة دومــا‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫رحــت أتتبــع مجــرى امليــاه النقيــة أســفل ربــوة البيازيــن قبــل أن أتجــه‬
‫صعــودا إىل الحمــراء‪ ،‬الــرودة كانــت تنبعــث مــن ميــاه نهــر حـ ّدرة أو الـ ّدارو‬
‫كــا يســميه اإلســبان‪ ،‬وتس ـلّيت مبســابقة خيــايل الــذي راح يتمــد ّد يف‬
‫درب صاعــد تســاعده يف ذلــك بعــض األضــواء العموميــة الخافتــة‪ .‬أبــراج‬
‫الحمــراء الخارجيــة التــي أمتــى عنــد أقدامهــا توحــى بالهيبــة والعظمــة‬
‫ككل تحــت ضــوء القمــر يزيــده شــموخا وجــاال‪.‬‬
‫ومظهــر القــر ّ‬

‫الســاعة السادســة والربــع‪ ،‬الظــام كان حالــكا حــن وصلــت إىل‬


‫املدخــل‪ ،‬ألتفاجــئ بعــدد املوجوديــن هنــاك مــن ســياح مــن كل‬
‫األجنــاس‪ ،‬جــاؤوا يف هــذا الوقــت املبكــر للظفــر بالتذكــرة الثمينــة ‪.‬لقــد‬
‫اصطفــوا جامعــات وفــرادى يف انتظــار الســاعة الثامنــة‪ ،‬منهــم مــن يطالــع‬
‫كتابــا عــى ضــوء مصبــاح صغــر ومنهــم مــن جلــس عــى األرض يســمع‬
‫املوســيقى ومنهــم مــن ك ـ ّون صداقــات جديــدة داخــل الطابــور وقــد زاد‬
‫الــرد املوجــود يف املــكان مــن دفــئ املحادثــات وتبــادل األحاديــث‪.‬‬

‫أشــعلت هاتفــي ورحــت أكمــل قــراءة كتــاب «حكايــات الحمــراء»‬


‫لواشــنطن ايرفينــغ وهــو كتــاب لذيــذ وممتــع‪ ،‬جمــع فيــه هــذا الدبلوماســيي‬
‫والــروايئ األمريــي حكايــات عديــدة عــن القــر وســاكنيه واألســاطري‬
‫املتوارثــة املرتبطــة بــه‪.‬‬

‫ملــا بــدأت خيــوط أشــعة الشــمس ترســم أضواءهــا األوىل فــوق املــكان‬
‫انتبهــت إىل زوجــن كانــوا قبــي يف الطابــور‪ ،‬وكانــت الزوجــة املتحجبــة‬
‫تتكلــم مــع إحــدى الشــابات بجانبــي عــن العطلــة يف إســبانيا وعــن تربيــة‬

‫‪59‬‬
‫األوالد واألجــواء البــاردة يف جنــوب إفريقيــا‪ ..‬التحــدث يف أي يشء‬
‫ميكــن أن يدفــع عقــارب الســاعة للــدوران برسعــة أكــر كــا يقــال‪ ،‬لذلــك‬
‫انضممــت للحديــث وســألتهام عــن رأيهــا يف صعوبــة اللغــة اإلســبانية‬
‫عــى الســياح‪ ،‬خاصــة وأنهــا كنــا تتكلــان بلغــة إنجليزيــة ســليمة ورفيعــة‬
‫جــدا‪..‬‬

‫‪60‬‬
‫وال غالب إال الله‪..‬‬

‫‪Quien no ha visto Granada ,no ha visto nada‬‬

‫انضــم إلينــا ال ـ ّزوج ورحنــا نتحــدث أربعتنــا عــن مــا الــذي ينتظرنــا خلــف‬
‫هــذه األســوار ومــا الــذي نتوقّــع أن نــراه ونكتشــفه بداخــل هــذا القــر‬
‫املهيــب الغــارق يف حدائقــه وزهــوره وأســاطريه‪ .‬كان الزوجــان اللذيــن‬
‫قدمــا مــن جنــوب إفريقيــا لحضــور ملتقــى علمــي مبدريــد قــد اســتغال‬
‫الفرصــة لزيــارة غرناطــة وفشــا قبــل يــوم يف الحصــول عــى تذكــرة لدخــول‬
‫القــر العــريب‪ ،‬وهــا يعــاودان الك ـ ّرة اليــوم‪ .‬انبهــر الرجــل لطــول الطابــور‬
‫وعــدد الســياح الذيــن يريــدون الدخــول فقلــت لــه أن هنــاك جنــة بالداخــل‬
‫والجنــة الحقيقيــة غــدا ســتقف أمامهــا أعــداد أكــر مــن هــذه بكثــر‪.‬‬

‫دق جــرس الثامنــة وبــدأ صــف الســياح بالتحــرك نحــو األكشــاك‪ ،‬كنــت‬
‫أراقــب مــن مــكاين ســر األمــور التــي كانــت منظمــة بشــكل جيــد‪ ،‬لكــن‬
‫قبــل أن يصلنــا الــدور ارتفــع صــوت إعــان مبكــر الصــوت يعلــم الجميــع‬
‫أن تذاكــر الزيــارة العامــة قــد نفــذت وأن الزائريــن بإمكانهــم فقــط اقتنــاء‬

‫‪61‬‬
‫التذاكــر املتبقيــة لزيــارة الحمــراء بأكملهــا ماعــدا القصــور النرصيــة ‪.‬‬

‫خيبة األمل ارتسمت عىل وجوه جميع من كانوا ورايئ‪ ،‬ورحت أوايس‬
‫أصدقــايئ الجــدد مبــا معنــاه أن اإلنســان يجــب أن يــرك أشــياء مل يرهــا‬
‫يك يتشــجع عــى العــودة لرؤيتهــا مــن جديــد أو كــا تقــول الحكمــة عندنــا‬
‫ـول‪ .‬وقــد اقتنعــوا مبــا قلــت بــل وأعجبــوا‬
‫ـي بــاش تـ ّ‬
‫وبــكل اختصــار ‪ :‬خـ ّ‬
‫كثــرا بهــذه املقولــة التــي رفعــت مــن معنوياتهــم ‪.‬‬

‫يف مدخــل القــر شــبابيك لــراء التذاكــر نقــدا‪ ،‬وشــبابيك إلكرتونيــة‬


‫وكشــك صغــر الكــراء ســاعات تــرح لــك بــكل لغــات العــامل مــا الــذي‬
‫يحويــه هــذا املعلــم‪ .‬دخلــت مبــارشة إىل الحديقــة وبــدأت يف املــي‬
‫واالســتمتاع منــذ اللحظــات األوىل بالجــو املنعــش الــذي تعطّــره أزهــار مــن‬
‫كل لون وأشــجار من كل نوع‪ ،‬تفتح شــهيتك الســتقبال يوم بطعم التاريخ‬
‫وتوابــل الجغرافيــا داخــل مبــاين الحمــراء‪.‬‬

‫أول مــا زرتــه مــن الحمــراء هــو القصبــة أو الحصــن العســكري بأبراجــه‬
‫املرتفعــة والتــي ميكــن مــن أعالهــا أن تشــاهد منظــرا جميــا ألحيــاء غرناطــة‬
‫املســتلقية يف دالل واطمئنــان أســفل القــر‪ ،‬تزينهــا األشــجار املخــرة‬
‫ر جذورهــا ح ـ ّر الصيــف‪ .‬بعدهــا‬
‫التــي ال ينــال مــن ألوانهــا الخريــف وال ي ـ ّ‬
‫توجهــت إىل موقــع القصــور النرصيــة لكــن دون أن أدخلهــا وقــد كانــت‬
‫هنالــك طوابــر مصطفــة يف نظــام للدخــول ومشــاهدة نافــورة األســود‬
‫وقاعــة الســفراء وقاعــة األختــن وبــرج قــارش واملشــور والقــر امللــي‬
‫وغريهــا مــن اآلثــار اإلســامية التــي ألهمــت ألســنة الشــعراء وأقــام األدبــاء‬

‫‪62‬‬
‫عــر كل العصــور وحتــى عقــول رجــال العلــم والرياضيــات املعارصيــن‪.‬‬
‫ففــي قصــور املســلمني هنــا عجائــب هندســية ورياضيــة ال زالــت قيــد‬
‫الدراســة واالكتشــاف لدرجــة أن مبنــى املعهــد األمريــي للرياضيــات يف‬
‫كاليفورنيــا اليــوم هــو نســخة طبــق األصــل عــن قــر الحمــراء باألندلــس‬
‫وقــد فعــل األمريكيــون ذلــك تكرميــا للعقــل الريــايض الــذي اســتطاع يف‬
‫تلــك القــرون الخــوايل أن يهنــدس هــذه التحفــة بينــا شــيد أحــد األمــراء‬
‫الســعوديني الــذي أعجــب بالحمــراء قــرا يحــايك هــذه الــدرة يف كل‬
‫تفاصيلهــا يف اململكــة‪.‬‬

‫مــن املبــاين الحديثــة نوعــا مــا (مقارنــة بتاريــخ بنــاء القصــور العربيــة‬
‫املتواجــدة داخــل الحمــراء) مبنــي ضخــم مربــع الشــكل بنــي يف القــرن‬
‫الســادس عــر‪ ،‬يعطيــك االحســاس أنــه وضــع هنــا عنــوة دون اســتئذان‪.‬‬
‫ذلــك هــو قــر شــارل الخامــس والــذي أراد بعــض حاشــيته أن يتقربــوا‬
‫إليــه فزعمــوا أنهــم ســيبنون لــه قــرا أفخــم مــا هــو موجــود‪ ،‬وقامــوا‬
‫لألســف بهــدم جــزء مــن قصــور الســاطني املســلمني ووضعــوا مكانــه‬
‫هــذا املبنــى املربــع الــذي يحــوي ســاحة ورشفــة دائريــة بداخلــه كإشــارة‬
‫عــى ســيطرة مملكتــه املربعــة عــى العــامل الدائــري أجمــع‪ ،‬وقــد ســمعت‬
‫أحــد املرشــدين الســياحيني يقــول ملجموعــة ســياح أمريكيــن إن مـ ّـاك‬
‫القــر بعــد طــرد املســلمني أرادوا أن يخبئــوا جــال القصــور النرصيــة وراء‬
‫هــذا الــرح الكبــر‪ ،‬فأجابــه أحــد الســياح ببداهــة‪ :‬إن الفــرق بــن البنائــن‬
‫كالفــرق بــن الزيــت واملــاء لــن يلتقيــا مهــا تجــاورا‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫دخلــت هــذا املبنــى وتجولــت داخــل ســاحته الدائريــة ثــم وجــدت يف‬
‫أحــد صاالتــه متحفــا فدخلــت أكتشــف مــا فيــه وأتجــول بقاعاتــه ألصــل‬
‫يف إحــدى أركان تلــك القاعــات إىل حاجــز زجاجــي كبــر ومزخــرف‪،‬‬
‫ومــن ورائــه ميكنــك أن تطــل مبــارشة عــى ســاحة املشــور وبــرج قــارش‬
‫العــايل الــذي تنعكــس صورتــه عــى بركــة املــاء وهــذا املنظــر املهيــب‬
‫هــو مــن أجمــل مــا تخفيــه قصــور بنــي نــر إضافــة إىل نافــورة األســود‪.‬‬
‫هنــاك وجــدت ســائحة إنجليزيــة ظلــت تتأمــل املنظــر وتــردد عــى مســامع‬
‫صديقتهــا التــي كانــت برفقتهــا الروايــة املشــهورة حــول زفــرة العــريب األخرية‬
‫وحكايــة «إبــي كالنســاء ملــكا مل تحافــظ عليــه كالرجــال»‪ .‬فســألتها مــا‬
‫الــذي كانــت ســتفعله هــي لــو كانــت يف مــكان عائشــة الحــرة وهــل كانــت‬
‫ســتقول نفــس الــكالم ألبوعبــد اللــه الصغــر‪ ،‬ولكنهــا أجابتنــي بــكل ثقــة‬
‫أنهــا كانــت ســتعمل عــى تربيتــه عــى الشــجاعة والتضحيــة يك يقــاوم إىل‬
‫النهايــة وميــوت مقاتــا بــن أســوار حصنــه وأشــاء جنــوده‪ .‬لكــن بعيــدا عــن‬
‫بطــوالت وليــام واالس االنجلوساكســونية يــرى بعــض اإلســبان املعارصيــن‬
‫أن أبــو عبــد اللــه الصغــر تحــى بقــدر كبــر مــن الشــجاعة والحكمــة حــن‬
‫أهــدى للعــامل قــرا مهيبــا دون أن يحرقــه أو يهدمــه‪ ،‬وبفضلــه أصبحــت‬
‫الحمــراء اليــوم ملــكا لــكل اإلنســانية‪ .‬أمــا إن أردنــا كعــامل عــريب وإســامي‬
‫أن نأخــذ عــرة مــا مــن الحمــراء فهــي االنتبــاه إىل أهميــة املعلــم التاريخــي‬
‫والثقــايف الــذي يبقــى رغــم مــرور قــرون طويلــة أهــم وأغــى مــن أكــر آبارنــا‬
‫النفطيــة حجــا وإنتاجــا‪ ،‬فــإذا كانــت الحمــراء إلســبانيا كالنفــط بالنســبة‬
‫لنــا فاإلســبان عــى األقــل لــن يصيبهــم تلويــث وال يخشــون نضــوب املــورد‬

‫‪64‬‬
‫يف املســتقبل املنظــور‪.‬‬

‫الغالــب إال اللــه جملــة ســتقرؤها يف كل قــوس وبــاب وســقف وجــدار‬


‫متــر بــه يف الحمــراء وهــي جملــة أصبحــت شــعارا لغرناطــة وتجدهــا بكــرة‬
‫يف التحــف التذكاريــة بــكل أنواعهــا‪ :‬أقمصــة‪ ،‬صحــون‪ ،‬ملصقــات‪ ،‬صــور‪..‬‬

‫ورس هــذه الجملــة التــي أصبحــت عالمــة مميــزة لدولــة بنــي األحمــر يف‬
‫غرناطــة هــو أن محمــد بــن يوســف بــن نــر مؤســس دولــة بنــي األحمــر التــي‬
‫اســتمرت ملــدة قرنــن ونصــف بعــد ســقوط أهــم املــدن االندلســية‪ ،‬كان‬
‫متحالفــا مــع ملــوك قشــتالة وســاهم يف حصــار وإســقاط إشــبيلية ســنة‬
‫‪ 1248‬بعــد أن تــم للنصــارى االســتحواذ عــى طليطلــة ورسقســطة وقرطبــة‬
‫قبــل ذلــك‪ .‬وحــن عــاد إىل غرناطــة خرجــت بعــض الغوغــاء تحتفــل بنــره‬
‫وراحــوا ينــادون يف الشــوارع الغالــب ‪..‬الغالــب‪ ..‬الغالــب‪ .‬فقــال قولتــه‬
‫املشــهورة «والغالــب إال اللــه» وعكــس تلــك الجملــة عــى جميــع جــدران‬
‫الحمــراء وكذلــك فعــل أبنــاؤه مــن بعــده‪.‬‬

‫صحيــح أن مملكــة غرناطــة قامــت بجمــع شــتات مــا تبقــى يف جنــوب‬


‫األندلــس مــن إمــارات كأملريــة ومالقــة ورنــدة وقــادش وصــوال إىل ماربيــا‬
‫وجبــل طــارق وانتهجــت سياســة التحالــف مــع النصــارى ودفــع الهدايــا‬
‫والجزيــة للحفــاظ عــى وجودهــا‪ ،‬واســتفادت كثــرا مــن تقاتــل املاملــك‬
‫املســيحية فيــا بينهــم مــا أخــر ســقوطها كل تلــك املــدة‪ ،‬لكنهــا كانــت‬
‫كالثــور األســود تنتظــر مصريهــا املحتــوم بعــد مقتــل الثــور األبيــض‪ ،‬خاصــة‬
‫وأنهــا بلغــت يف آخــر الســنوات قبــل الســقوط حالــة مــن االنقســام‬

‫‪65‬‬
‫والتــرذم جعلــت للمدينــة أحيانــا أمــرا يحكــم الحمــراء وأمــرا آخــر يحكــم‬
‫البيازيــن وأمــرا ثالثــا يحــر النقــاب آخــر عــى ع ّمــه أو أخيــه مــن جاريــة‬
‫نرصانيــة ‪..‬‬

‫لقــد ذهبــت اليــوم دولــة بنــي األحمــر وذهبــت كل املاملــك والطوائــف‬


‫وذهــب الجــادون والســجانون ور ّحــل املوريســكيون ومنعــت اللغــة‬
‫العربيــة واللبــاس واملــأكل والتســميات وأقيمــت محاكــم التفتيــش وأحــرق‬
‫النــاس والكتــب ونشــأت لغــة األلخميــادو (إســبانية ركيكــة مكتوبــة بأحــرف‬
‫عربيــة) ثــم اندثــرت ومــات مــن مــات وهاجــر مــن هاجــر وبقيــت جــدران‬
‫الحمــراء وحدهــا كعــرة حيــة تقــول لــكل مــن يزورهــا‪ :‬إن البقــاء والغلبــة‬
‫والقــوة للــه جميعــا‪.‬‬

‫جريــان امليــاه يف قــر الحمــراء عالمــة مســجلة باســم املســلمني‪ ،‬فلــن‬


‫تجــد يف الحمــراء بركــة آســنة أو مــاء راكــدا وهــذه مالحظــة يشــدد عليهــا‬
‫جميــع املرشــدين الســياحيني هنــا الذيــن تتعــر أذنــاي مبعلوماتهــم يف‬
‫كل ركــن مــن القــر‪ ،‬فألتقــط منهــا أحيانــا مــا ميكــن أن أتعلّمــه‪ ،‬باإلضافــة‬
‫إىل مــا طالعتــه عــن املــكان‪ .‬إنهــم يخــرون الســواح أن عالقــة املســلمني‬
‫باملــاء عالقــة متينــة دينيــة ودنيويــة‪.‬‬

‫فبعيــدا عــن الحاممــات التــي عــرف بهــا املســلمون يف األندلــس‬


‫والســواقي التــي حفرهــا هــؤالء يف جبــال الســرانيفادا والتــي تبلــغ مئــات‬
‫الكيلومــرات لســقاية وري املزروعــات وإحيــاء القــرى والبلــدات‪ ،‬فــإن‬
‫مهنــديس الحمــراء قامــوا باســتجالب امليــاه عــر قنــوات طويلــة مــن‬

‫‪66‬‬
‫الجبــال والبحــرات لتوزيعهــا يف أرجــاء القــر‪ .‬إن امليــاه مبثابــة الرشيــان‬
‫الــذي مينــح املــكان شــبابا ونــرة دامئــة ســواء عــر االخــرار الــذي يع ـ ّم‬
‫املــكان أو عــر انعــكاس بريقهــا وحركتهــا عــى األســقف والجــدران فيخيــل‬
‫للناظــر أنهــا حيــة تتحــرك وتومــض وتتفاعــل مــع نظــرات إعجابــه ‪..‬‬

‫الحدائــق املوجــودة يف الحمــراء أشــكال وألــوان‪ ،‬منهــا األوروبيــة‬


‫املنســقة واملشــذبة‪ ،‬ومنهــا اإلســامية العتيقــة كجنــة العريــف‪ ،‬وهــي‬
‫املســكن الصيفــي للملــوك واألمــراء‪ ،‬وتقــع يف قســم آخــر مــن املــكان‬
‫ومعروفــة بنافوراتهــا التــي تنطلــق يف الهــواء لتصــب يف الربكــة الرئيســية‬
‫مشــكلة عقــدا كحبــات اللؤلــؤ املنهمــر‪ .‬كل الصــور التــي تلتقــط لهــذه‬
‫الحديقــة ال تســاوي لحظــة حقيقيــة تقضيهــا يف تأمــل جاملهــا يف عــن‬
‫املــكان‪ ،‬فاملــرء ميكــن أن يرســم الــوردة لكنــه ال يســتطيع أن يرســم عبريهــا‪.‬‬

‫مل أشــعر بإزعــاج ذلــك العــدد الهائــل مــن الســياح الذيــن يتجولــون يف‬
‫كل أرجــاء الحمــراء‪ ،‬فجميعهــم منظمــون بشــكل جيــد‪ ،‬يحملــون ســاعات‬
‫ويتمشــون برسعــة‪ ،‬يتابعــون باهتــام مــا يقولــه املرشــد قائــد املجموعــة‪.‬‬
‫أحيانــا أســمع ضحكاتهــم وقهقهاتهــم بعــد أن يكــون هــذا األخــر قــد ألقــى‬
‫نكتــة أو تعليقــا طريفــا حــول املــكان‪.‬‬

‫هناك أيضا مرشــد خاص تجده رفقة ســائح أو اثنني يحيك لهم بهدوء‬
‫وتركيــز عــن كل كبــرة وصغــرة يف املوقــع‪ ،‬وتبــدو هــذه الفكــرة أحســن‬
‫وأفيــد للمهتمــن بفهــم تاريــخ املــكان بشــكل أفضــل‪ .‬ولــو أنــه عليــك أوال‬
‫أن تفهــم كيــف ميكنــك أن تتدبّــر املبلــغ الــذي يجــب أن تدفعــه بعــد‬

‫‪67‬‬
‫ذلــك‪ ،‬فســعر اليــورو اليــوم ال يغريــك حتــى بدخــول بعــض املعــامل فضــا‬
‫عــن اكتشــاف أهميتهــا بهــذه الطريقــة الفعالــة واملرتفــة يف آن‪.‬‬

‫بالقــرب مــن قــر يوســف الثالــث وهــو املبنــى اإلســامي املفتــوح‬


‫للجميــع واملطــل عــى حديقــة متدرجــة يقــع القــر يف نهايتهــا مطــا‬
‫عــى حــي البيازيــن‪ ،‬التقيــت مبجموعــة ســياح أمريكيــن يتجولــون دون‬
‫مرشــد وقالــت إحداهــم للمجموعــة ‪:‬يــا للخســارة‪ ،‬متنيــت لــو أن اإلســبان‬
‫تركــوا املســلمني يف هــذا القــر حتــى يحتفــظ القــر بــكل كنــوزه وأثاثــه‪،‬‬
‫وميكنهــم بعدهــا العيــش بســام‪ ،‬خاصــة مــع مداخيــل الســياحة هنــا‪ .‬لكــن‬
‫ـس دعابــة الذع‪،‬‬
‫أحــد مرافقيهــا ويبــدو مــن مالبســه الصيفيــة أنــه ميلــك حـ ّ‬
‫قــال لهــا ‪ :‬يــا إلهــي هــل أنــت مجنونــة‪ ،‬كيــف ترتكــن مــن يحتجــز يف قــره‬
‫مائــة امــرأة مــن الحريــم رمبــا كنــت أنــت واحــدة منهــم‪ ..‬فقالــت املــرأة‪:‬‬
‫صحيــح‪ ،‬مل أفهــم إىل يومنــا هــذا كيــف يســتطيع رجــل أن يجمــع يف بيــت‬
‫واحــد كل هــذا العــدد‪ ..‬زوجــي العزيــز ال يحتمــل أحيانــا وجــودي إىل‬
‫جانبــه مبفــردي فكيــف مبائــة مثــي‪..‬‬

‫الغربيــون كــا ال حظــت مــن خــال جولتــي (التــي مل أشــعر بحاجتــي‬


‫فيها إىل إلقاء نظرة عىل الساعة إال بعد مرور خمس ساعات كاملة من‬
‫التنــزه) يعطــون أهميــة كبــرة يف هــذا املــكان لســاع القصــص التاريخيــة‬
‫لكنهــم يهتمــون أيضــا باألزهــار والحدائــق واألشــجار وهــم يعرفــون أســاء‬
‫النباتــات عــى اختــاف أنواعهــا ويعرفــون تســميات الــورود عــى اختــاف‬
‫أحجامهــا وروائحهــا بينــا أصدقكــم القــول أننــي أعتــر الشــجرة شــجرة‬

‫‪68‬‬
‫والعصفــور عصفــورا والــوردة وردة دون الدخــول يف التفاصيــل‪ .‬رمبــا ألن‬
‫تفاصيــل البيــوت واملــدن والشــوارع التــي نعيــش فيهــا‪ ،‬والحيــاة التــي‬
‫نحياهــا بصفــة عامــة‪ ،‬ال تعطينــا هــذه امليــزة واإلمكانيــة والفرصــة للتمييــز‬
‫والتفصيــل وتكتفــي مبنحنــا عموميــات الحــد األدىن مــن كل يشء‪.‬‬

‫قضيــت ســبع ســاعات مــن التجــول والتأمــل يف قــر الحمــراء‪ ،‬كانــت‬


‫مبثابــة جرعــة كافيــة لشــحن طاقــة إيجابيــة أكمــل بهــا بقيــة الجولــة املســائية‬
‫يف حــي البيازيــن‪ ،‬عــى أمــل عــودة مقبلــة إىل نفــس املــكان واكتشــاف مــا‬
‫مل أمتكــن مــن زيارتــه مــن قصــور وغــرف قــرأت عنهــا يف الكتــب وشــاهدتها‬
‫يف الصــور دون أن تتــاح يل فرصــة دخولهــا وتأملهــا عــن قــرب‪.‬‬

‫خرجت من الحمراء يف املساء وقد بلغ مني التعب مبلغه وتوجهت‬


‫نحــو الفنــدق مبــارشة يك أنعــم بقســط مــن الراحــة وأيضــا لتدويــن بعــض‬
‫املعلومــات واالنطباعــات قبــل نســيانها‪ .‬فاملــرء يجــب أن يكتــب عنــد‬
‫التجربــة األوىل ألن األحاســيس األوىل أصــدق وأعمــق وأجمــل بكثــر مــن‬
‫األحاســيس التــي تعـ ّودت عــى تكــرار التواجــد يف املــكان‪ ،‬ولذلــك نجــد‬
‫أجمــل القصائــد واألشــعار التــي قيلــت يف مكــة قــد كتبهــا شــعراء مــن بــاد‬
‫املغــرب اإلســامي زاروهــا مــرة واحــدة فقــط‪.‬‬

‫يف نهايــة األمســية رحــت أتجــول قليــا يف املدينــة قبــل أن أصعــد‬


‫مــرة أخــرى لحــي البيازيــن‪ ،‬الــذي أصبــح مــكاين املفضــل‪ ،‬وأتوجــه إىل‬
‫املســجد الجامــع ألنتظــر يف هــدوء غــروب الشــمس عــى الحمــراء قبــل‬
‫الصــاة‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫يحــدث أحيانــا أن تكــون فكرتــك عــن املــكان أكــر وأجمــل مــن املــكان‬
‫ذاتــه‪ ،‬ويحــدث أن يكــون املعلــم الــذي زرتــه أصغــر مــن الصــورة الذهنيــة‬
‫التــي ك ّونتهــا عنــه‪ ،‬فتقــول يف نفســك أنــك كنــت تــراه يف الصــور‬
‫واملجــات والكتــب كبــرا ومهيبــا وضخــا وبديعــا لكــن ظنــك خــاب يف‬
‫النهايــة‪.‬‬

‫اطمــن متامــا‪ ،‬فذلــك لــن يحــدث معــك يف حمــراء غرناطــة وال يف‬
‫غرناطــة الحمــراء‪ ،‬فهــذه األخــرة أجمــل بكثــر مــا تبــدو عليــه يف أي رشيــط‬
‫وثائقــي رأيتــه مــن قبــل‪ .‬وســتدرك كــا يقــول املثــل هنــا‪ ،‬أنــه ال ميكــن أن‬
‫يتشــابه يف الحيــاة شــخصان‪ ،‬أحدهــا رأى غــروب الشــمس يف غرناطــة‪،‬‬
‫وآخــر مل يــره بعــد‪.‬‬

‫ســتتأكد الحقــا أيضــا أن هــذه املقولــة أحيانــا تنطبــق حتــى عــى‬


‫الشــخص الواحــد‪ ،‬فاملــرء هنــا ال يشــبه نفســه التــي أيت بهــا مــن بلــده‪ ،‬بــل‬
‫ســيصبح شــخصا آخر ســتتمنى أن تكونه دوما‪ ،‬لكن هذا اآلخر ســيغادرك‬
‫حتــا‪ ،‬يف ذات اللحظــة‪ ..‬التــي ســتغادر أنــت فيهــا املدينــة‪ ..‬أو هكــذا‬
‫اكتشــفت بعــد ذلــك‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ليس سهال أن تغادر غرناطة إال إذا دعتك قرطبة‬

‫‪VOYAGER EST LA SEULE CHOSE QU’ON‬‬


‫‪ACHÈTE QUI NOUS REND PLUS RICHE‬‬

‫خرجــت مــن جامــع غرناطــة وتركتــه غارقــا يف هدوئــه وإضاءتــه الخافتــة‬


‫ألنــزل مــن جديــد ألســفل املدينــة بعــد إطاللــه رسيعــة عــى رشفــة ســان‬
‫نيكوال‪ ،‬أين جلس السياح يف هدوء الليل ملشاهدة أضواء الحمراء يف‬
‫املرتفــع املقابــل‪ .‬الجميــل يف املعــامل األثريــة والتاريخيــة يف إســبانيا أنهــا‬
‫مضــاءة ليــا بطريقــة تجعلهــا تبــدو للعيــان مــن مســافة بعيــدة‪ ،‬ومتنحهــا‬
‫هيبــة وفخامــة وجــاال‪ ،‬كــا تعطــي للّيــل بصفــة عامــة ملســة فنيــة حاملــة‬
‫تــروق للناظــر مهــا كان موقعــه‪.‬‬

‫نزلــت إىل أســفل حــي البيازيــن ألعــر إىل حــي آخــر بــه شــوارع ضيقــة‬
‫وقــد انتــرت بــه دكاكــن لبيــع التحــف التذكاريــة واملأكــوالت الرشقيــة‬
‫ويبــدو أن أصحابهــا مــن العــرب املغاربــة وحتــى مــن املشــارقة‪.‬‬

‫دخلــت أحــد محــات بيــع السندويتشــات الحــال وكان صاحبــه‬

‫‪71‬‬
‫فلســطينيا وقــد رحــب يب كثــرا حــن علــم أننــي مــن الجزائــر ومل أنــس أن‬
‫أتــرك لــه بعــض حبيبــات التمــر التــي حملتهــا معــي‪ ،‬وكنــت أســتعني بهــا‬
‫عــى إســكات عصافــر البطــن التــي أحيانــا مــا تفاجئنــي بزقزقــة خفيفــة بــن‬
‫األوقــات‪.‬‬

‫الشــارع ليــا كان عامــرا وكذلــك كانــت املقاهــي والحانــات والســاحات‬


‫لكني فضلت التوجه مبارشة إىل النوم بالفندق‪ ،‬خاصة وأنني مستيقظ‬
‫منــذ الخامســة صباحــا والرابعــة صباحــا بتوقيــت الجزائــر ووهــران التــي ال‬
‫تبعــد عــن غرناطــة إال بأربعامئــة كيلومــر‪.‬‬

‫مــن األشــياء التــي تكتشــفها هنــا بعــد أيــام مــن تواجــدك بإســبانيا أو‬
‫أوروبــا عمومــا هــي أهميــة التوقيــت الصيفــي‪ ،‬فنحــن صيفــا يف الجزائــر‬
‫نذهــب للعمــل عــى الســاعة الثامنــة صباحــا كــا نفعــل يف فصــل‬
‫الشــتاء لكــن املثــر يف األمــر أن الشــمس تــرق قبــل الخامســة صباحــا‬
‫أحيانــا‪ ،‬والفــرق بــن الخامســة والثامنــة صباحــا ثــاث ســاعات كاملــة وهــي‬
‫تقريبــا نصــف يــوم عمــل يذهــب هــدرا لألســف‪.‬‬

‫صبــاح يــوم الخميــس ‪ 14‬ســبتمرب ‪ 2017‬اســتيقظت عــى الثامنــة‬


‫والنصــف ونزلــت كأي ســائح كســول إىل مطعــم الفنــدق لتنــاول وجبــة‬
‫اإلفطــار وهــي عبــارة عــن حليــب وقهــوة وعصــر وبعــض الفواكــه واألجبــان‬
‫قبــل أن أخــرج للشــارع يف نشــاط وحيويــة للتجــول فيــا تبقــى مــن هــذه‬
‫املدينــة أو باألحــرى فيــا تبقــى يل مــن وقــت هنــا‪ ،‬إذ مــن املفــرض أن‬
‫أقلــع يف حافلــة الواحــدة زواال املتجهــة إىل قرطبــة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫مــا الحظتــه أن النــاس تســتيقظ مبكــرا جــدا ملبــارشة أعاملهــا‪ ،‬عكــس‬
‫مــا يــروج عــن اإلســبان مــن كســل وحــب للقيلولــة واالحتفــال (ولــو أن‬
‫هــذه املظاهــر موجــودة أيضــا) وقــد شــاهدت كيــف أن عــازف القيتــارة‬
‫يف الشــارع اتخــذ مكانــه املعتــاد عــى الســاعة الثامنــة إال خمــس دقائــق‬
‫متهيــدا لعــزف مقاطــع صباحيــة ملهمــة ميكــن أن تنعــش صندوقــه الصغــر‬
‫املوضــوع بجانبــه ببعــض املالليــم‪.‬‬

‫شــاهدت أيضــا عــددا مــن املتســولني الذيــن ينتــرون هنــا وهنــاك‪،‬‬


‫لكنهم وإن كانوا يحملون قططا وكالبا‪ ،‬ويج ّرون بعض العربات ويحملون‬
‫حقائــب ظهــر ضخمــة إال أنهــم ال يحملــون أطفــاال صغــارا (أمــا مــن أيــن يــأيت‬
‫املتســولون عندنــا بأطفــال رضّ ــع ال يكــرون أبــدا فهــذا مــا ال أعرفــه)‪.‬‬

‫مــا أثــار انتباهــي أيضــا هــو أن بعــض شــوارع مدينــة غرناطــة أضيــق بكثــر‬
‫من شــوارع مدننا‪ ،‬بل إن هناك بعض الطرق وســط املدينة ال مت ّر عربها‬
‫إال ســيارة يف اتجــاه وحيــد لكــن املدهــش يف األمــر هــو عــدد املواقــف‬
‫املوجــودة تحــت كل بنايــة وســاحة‪ ،‬لدرجــه أن املــرء يتســاءل متــى تــم‬
‫حفــر كل هــذا العــدد منهــا‪.‬‬

‫ويبــدو جل ّيــا أن النــاس يف أوروبــا عمومــا ال تســتعمل الســيارة للتســكع‬


‫وحــرق البنزيــن بأنواعــه‪ ،‬بــل للعمــل وقضــاء الحوائــج ال غــر‪ ،‬وميكنــك‬
‫مشــاهدة عديــد النــاس مــن مختلــف األعــار املســتويات االجتامعيــة‬
‫يقــودون الدراجــات الهوائيــة يف مســالك خاصــة عــر الشــوارع واألرصفــة‪،‬‬
‫وهــي باملناســبة تعطيهــم لياقــة بدنيــة جيــدة وتخفــف الزحــام والتلــوث‬

‫‪73‬‬
‫عــن مدنهــم الجميلــة‪.‬‬

‫ذهبــت إىل ســاحة بــاب الرملــة أوبيــب رومبلــة كــا تســمى هنــا بغرناطــة‬
‫(ســاحة تــم فيهــا إحــراق عــرات اآلالف مــن كتــب الحضــارة االندلســية‬
‫سنة ‪ 1501‬بإرشاف من الراهب سينريوس) وهي مكان فسيح انترشت‬
‫بــه املحــات واملطاعــم حيــث اقتنيــت بعــض التحــف التذكاريــة‪ .‬الجميــل‬
‫يف التحــف أنــك تجــد منتوجــات مــن كل األلــوان واالشــكال ولــكل األذواق‬
‫الذكوريــة واألنثويــة وذلــك مــا يســهل عليــك إيجــاد هديــة مناســبة لــكل‬
‫فــرد مــن األصدقــاء والعائلــة وليــس مــن صعوبــة يف األمــر عــدا االختيــار‬
‫واالنتقــاء‪.‬‬

‫زرت أيضــا كاتدرائيــة غرناطــة الفخمــة والتــي بنيــت مــكان املســجد‬


‫الجامــع (الــذي مل يبقــى منــه يشء يذكــر) وهــي بنــاء عظيــم وفخــم يــكاد‬
‫يحجــب الشــمس عــن الســاحة املجــاورة ملدخلهــا‪ ،‬وزرت باملــرة ســوق‬
‫القيرصيــة وهــو متواجــد بنفــس موقــع الســوق القدميــة التــي أحرقــت‬
‫عــام ‪ 1843‬وكانــت تشــبه األســواق الشــعبية باملغــرب األقــى‪ .‬لفــظ‬
‫القيســارية الزال يطلــق إىل اآلن عــى األســواق بصفــة عامــة يف املــدن‬
‫العتيقــة يف بلــدان املغــرب العــريب كتلمســان أمــا أصــل التســمية فيقــال‬
‫إن العــرب تداولوهــا عــن عهــد أحــد القيــارصة الرومــان الــذي أعطاهــم‬
‫امتيــاز تجــارة الحريــر فأطلقــت التســمية عــى أســواق الحريــر ثــم انتــرت‬
‫لتشــمل األســواق عمومــا‪.‬‬

‫لقــد احتفظــت غرناطــة مبعاملهــا األصليــة لوقــت طويــل جــدا مقارنــة‬

‫‪74‬‬
‫بباقــي املــدن اإلســبانية‪ ،‬قبــل أن تطــرأ عليهــا التغيــرات التــي مل تتمكــن‬
‫مــن طمــس كل مــا تركــه املســلمون يف القــرون الســابقة‪ ،‬والســبب كــا‬
‫يقــال إن امللــوك الكاثوليــك حــن اســتحوذوا عــى هــذه الجوهــرة حافظــوا‬
‫عىل مظاهرها الجميلة وتبنوها بكل مظاهرها‪ ،‬كام يرتدي صياد رشس‬
‫جلــد منــر نــادر تغلــب عليــه وراح يتباهــى بذلــك أمــام الجميــع‪.‬‬

‫وقــد ســمعت يف إحــدى الحصــص اإلذاعيــة الفرنســية بروفيســورا‬


‫إســبانيًا يقــول يف حــواره إن غرناطــة لــو ســقطت يف معركــة داخليــة بــن‬
‫املســلمني لتم تخريبها كام خربت املدينة الزهراء من قبل بعد ســقوط‬
‫الخالفــة األمويــة يف قرطبــة‪ ،‬وأن الحــروب الداخليــة بــن ملــوك الطوائــف‬
‫دمــرت الكثــر مــن املعــامل ومل يكــن املســلمون يســتثنون مــن التحطيــم‬
‫ســوى املســاجد والجوامــع عــدا ذلــك فهــم ال يهتمــون بالحفــاظ عــى‬
‫املعــامل الدنيويــة مــن قصــور وحدائــق للدولــة الســابقة‪.‬‬

‫بغــض النظــر عــن موضوعيــة هــذه القــراءة مــن عدمهــا يبقــى تاريــخ‬
‫األندلــس الــذي شــغل مثانيــة قــرون كاملــة مــن عمــر البرشيــة والعامل وشــبه‬
‫الجزيــرة اإليبرييــة طبعــا‪ ،‬يحتمــل الكثــر مــن الروايــات والتفســرات وهــو‬
‫جديــر بالقــراءة املتأنيــة البعيــدة عــن التنزيــه والتقديــس وعقــد االســتصغار‬
‫أو االســتكبار‪.‬‬

‫نســيت نفــي أثنــاء جولتــي الصباحيــة ومــر الوقــت برسعــة‪ ،‬كانــت‬


‫الســاعة تشــر إىل منتصــف النهــار وخمــس وثالثــن دقيقــة حــن تذكــرت‬
‫أن محطــة الحافــات تبعــد عــن وســط املدينــة بعرشيــن دقيقــة كاملــة‪،‬‬

‫‪75‬‬
‫وبــدأت ســباقا ضــد الســاعة للتوجــه إىل الفنــدق وحمــل أغــرايض ثــم‬
‫انتظــار الحافلــة الحرضيــة التــي متــر عــر الشــارع الرئيــي يف وقــت‬
‫محــدد تأكــدت منــه عــر تطبيــق خريطــة القوقــل‪ .‬وانتابنــي يشء مــن‬
‫القلــق ألن الوقــت هنــا كالســيف إن مل تقطعــه قطعــك فعــا‪ ،‬وجــاءت‬
‫الحافلــة يف وقتهــا وركبــت برسعــة ورحــت أســتعجل الوصــول لكــن ســائق‬
‫الحافلــة كان يتوقــف عنــد كل إشــارة ضوئيــة وموقــف كــا يفعــل دومــا‬
‫وكأن األمــر اليهمــه‪ ،‬ومل أصــل إىل املحطــة إال وكانــت الواحــدة زواال قــد‬
‫دقــت‪ .‬قفــزت برسعــة مــن الحافلــة ودخلــت إىل املحطــة ركضــا ثــم نزلــت‬
‫بأقــى رسعــة إىل أرصفــة انطــاق الحافــات ألجــد ســائقنا لحســنا الحــظ‬
‫يتحــاور بإنجليزيــة مكــرة مــع ســائحني اثنــن قبــل صعودهــا‪ ،‬تنفســت‬
‫قليــا وأعطيتــه تذكــريت‪ ،‬ففتــح يل صنــدوق الحقائــب مــن جديــد أســفل‬
‫الحافلــة ألضــع أمتعتــي وأصعــد إىل مــكاين بالداخــل أيــن انطلقنــا بعــد‬
‫دقيقتــن مــن جلــويس مبقعــدي‪.‬‬

‫انطلقــت بنــا الحافلــة نحــو قرطبــة ورحــت أشــاهد مــن النافــذة تلــك‬
‫املناظــر التــي ال تختلــف كثــرا عــن جغرافيــة بلدنــا‪ .‬لوقــت طويــل كنــت‬
‫أتعجــب مــن تربــع إســبانيا عــى عــرش أول منتــج ومصــدر للزيتــون وزيــت‬
‫الزيتــون يف العــامل‪ ،‬رغــم منافســة ايطاليــا واليونــان وتونــس أيضــا‪ ،‬لكــن‬
‫حــن رأيــت أشــجار هــذه الثمــرة ممتــدة عــى مــد البــر خــارج نافــذة‬
‫الحافلــة‪ ،‬وتلــك الشــجريات الصغــرة منهــا التــي وكأنهــا زرعــت لت ّوهــا‪،‬‬
‫تكســوا التــال الصغــرة والكبــرة ويتــم ســقيها بتقنيــة التقطــر‪ ،‬فهمــت‬
‫أن هــذا البلــد الــذي ينتــج نصــف احتياجــات العــامل مــن الزيــت بفضــل‬

‫‪76‬‬
‫أكــر مــن ثالمثائــة مليــون شــجرة زيتــون تنتــر يف ســهوله وجبالــه ووديانــه‬
‫ســوف لــن يتخــى عــن ريادتــه يف وقــت قريــب‪.‬‬

‫جلست بجانبي يف الحافلة شابة إسبانية يف مقتبل العمر يبدو أنها‬


‫طالبــة يف الثانويــة‪ ،‬ســألتها عــن التعليــم يف إســبانيا وعــن ســوق العمــل‬
‫والتخصصــات الجامعيــة وكيــف تعيــش الطبقــة املتوســطة اإلســبانية يف‬
‫القــرى واملــدن واألريــاف ووجــدت عندهــا الكثــر مــن األجوبــة رغــم حداثــة‬
‫ســنها‪.‬‬

‫حــن يكــون املــرء صحفيــا فضوليــا‪ ،‬ســيامرس رياضــة طــرح األســئلة‬


‫أمــام كل شــخص يصادفــه دون مقدمــات طويلــة‪ .‬ويف وســائل النقــل‬
‫أثنــاء الســفر تصبــح هــذه الرياضــة ممتعــة جــدا‪ ،‬ألنهــا أجمــل فرصــة تتــاح‬
‫لــك للتنــزه والســياحة يف عقــول مــن تلتقيهــم مــن النــاس‪ ،‬فضــا عــن أنهــا‬
‫أحســن طريقــة لتقصــر الطريــق‪ ،‬وفقــدان اإلحســاس بطــول املســافة‪.‬‬

‫مــا حدثتنــي بــه جــاريت يف الحافلــة (إضافــة إىل مواضيــع متشــعبة‬


‫أخــرى) إشــكالية مصاريــف الدراســة الجامعيــة يف إســبانيا‪ ،‬وقــد‬
‫اندهشــت كثــرا حــن قلــت لهــا إننــا يف الجزائــر نــدرس مجانــا إىل غايــة‬
‫الحصــول عــى الشــهادة الجامعيــة واعتــرت ذلــك شــيئا محفــزا وخارقــا‬
‫للعــادة‪ ،‬ولــو أن مــا يــراه اآلخــرون فينــا ليــس بالــرورة مــا نشــعر بــه (النفــط‬
‫الــذي يجــري تحــت أقدامنــا لــن يجعــل وتــرة التنميــة لدينــا أرسع بقــدر مــا‬
‫ميكــن أن يكــون ســببا يف تحطيمهــا إىل أن تجــف آخــر آبــاره)‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫خالصــة الحديــث مــع هــذه الفتــاة الهادئــة التــي تطــرق أبــواب املراهقــة‬
‫باطمئنــان ورزانــة مقارنــة مبــن هــم يف مثــل ســنها عندنــا أو عندهــم‪ ،‬هــو‬
‫أن الشــباب األورويب الــذي يــرك املنــزل طوعــا أو كرهــا حــن املغــادرة‬
‫إىل الجامعــة يف ســن الثامنــة عــر يتعلــم الكثــر مــن األمــور يف الحيــاة‬
‫بشــكل مب ّكــر‪ ،‬بينــا ال زال أبنــاء الثالثــن عندنــا مراهقــن ال ميكــن أن‬
‫تعتمــد عليهــم حتــى يف إطعــام خــروف صغــر فكيــف بإطعــام أفــراد عائلــة‬
‫كاملــة كــا يقــول أحــد أصدقــايئ (هــاذ الــيء مــا هدرنــاش عــى الذبيــح‬
‫والســليخ نهــار العيــد)‪.‬‬

‫وصلــت إىل قرطبــة وقــت القيلولــة وكانــت الحــرارة شــديدة‪ ،‬فشــهر‬


‫سبتمرب يف إقليم األندلس كشهر سبتمرب يف الجزائر لوال أن األجواء هنا‬
‫منعشــة بعــد وقــت الغروب‪.‬قصــدت فنــدق ســرانو الــذي حجــزت فيــه‬
‫ليلتــن ووجدتــه بســهولة ألنــه مل يكــن بعيــدا كثــرا عــن محطــة الحافــات‪،‬‬
‫مل يبــق أمامــي اآلن إال وضــع أمتعتــي ثــم االســتحامم قبــل الخــروج يف أول‬
‫جولــة استكشــافية ملدينــة قرطبــة هــذه املدينــة التــي تحتفــظ مبعلــم هــو‬
‫الوحيــد مــن نوعــه يف العــامل‬

‫املسجد الكاتدرائية‪..‬‬

‫‪78‬‬
‫عند أسوار قرطبة‬

‫‪Le voyage est le meilleur moyen de se perdre et‬‬


‫‪de se retrouver en même temps‬‬

‫ال يحتاج من يزور أوروبا مرتني كل عرش سنوات أو أكرث‪ ،‬إىل غرفة مؤثثة‬
‫واســعة‪ ،‬أو مطلــة عــى الشــارع أو نوافــذ تدخــل منهــا أشــعة الشــمس‪،‬‬
‫فقــد كان كل مبتغــاي حــن دخلــت غرفتــي أن أجــد رسيــرا صغــرا وحاممــا‬
‫نظيفــا ومناشــف جديــدة‪ ،‬وقــد وجــدت كل ذلــك باإلضافــة إىل مكتــب‬
‫صغــر كان ســيكون مفيــدا لــو كنــا يف عــر الورقــة والقلــم حتــى أمتكــن‬
‫مــن تدويــن بعــض املشــاهدات واملالحظــات يف الســفر عنــد نهايــة‬
‫املســاء‪ ،‬لكــن ومبــا أن زمننــا اليــوم هــو زمــن الويفــي واالنرتنيــت والهاتــف‬
‫الــذيك‪ ،‬فــإن االســتلقاء عــى الفــراش وتصفــح الشاشــة الهاتفيــة املضيئــة‬
‫كفيــل بــأن يأخــذك يف أي رحلــة تــود الذهــاب إليهــا دون أن يتحــرك أي‬
‫جــزء مــن جســدك عــدا مــا يلزمــه مــن حركــة بســيطة عنــد الشــهيق أو الزفــر‪.‬‬

‫وقــت القيلولــة عنــد اإلســبان مهــم جــدا‪ ،‬وهــم يؤدونهــا كفريضــة يوميــة‬

‫‪79‬‬
‫واجبة‪ ،‬خاصة يف الفصول شديدة الحرارة‪ ،‬حيث تقل الحركة يف وقت‬
‫الظهــر وتغلــق أبــواب املتاجــر‪ ،‬لكنــي وفــور دخــويل إىل الغرفــة وضعــت‬
‫أغــرايض وأخــذت حاممــا بــاردا ألتخلــص مــن تعــب الســفر ثــم قفــزت خــارج‬
‫الفنــدق متجهــا نحــو موقــع املســجد الكاتدرائيــة‪ ،‬فقدمــاي ال تســتطيعان‬
‫أن تنعــا بالراحــة عــى بعــد عــرات األمتــار مــن ذلــك املعلــم‪ ،‬الــذي‬
‫نشــاهده يف األرشطــة والصــور بأقواســه الحمــراء والبيضــاء البديعــة التــي‬
‫تنتصــب فــوق غابــة مــن األعمــدة داخــل جامــع قرطبــة وتعتــر أيقونــة أبديــة‬
‫للحضــارة األندلســية بصفــة خاصــة واإلســامية بصفــة عامــة‪.‬‬

‫أعتقــد أن أول مــرة قــرأت فيهــا عــن هــذا املســجد عــدا مــا نعرفــه عــن‬
‫حضــارة األندلــس وطــارق بــن زيــاد والبحــر مــن ورائكــم‪ ..‬هــو مــا جــاء يف‬
‫كتــاب موســوعي عنوانــه «قــل يل أيــن يوجــد» وهــو كتــاب رائــع كنــت‬
‫استعرته من أحد األصدقاء يف سنتي الدراسية السابعة‪ ،‬لقد كان عبارة‬
‫عــن موســوعة ملونــة تجــد بداخلهــا صــورا مرســومة للمــدن والحضــارات‬
‫القدميــة واملعــامل الطبيعيــة أو األثريــة أو املعامريــة وأمامهــا فقــرة مكتوبــة‬
‫بشــكل مختــر عــن تلــك املواقــع‪ ..‬كان ذلــك الكتــاب نافــذة مذهلــة يل‬
‫عــى العــامل‪ ،‬اكتشــفت عــر صفحاتــه أن العــامل املحيــط بنــا أكــر بكثــر‬
‫مــن الحــي الــذي أســكنه يف مدينــة غردايــة‪.‬‬

‫وحيــث أننــا آنــذاك ال منلــك إال قنــاة وطنيــة واحــدة وجهــازا تلفزيونــا‬
‫واحــدا نضطــر إىل تحمــل رداءة صورتــه (وصوتــه الــذي يرتفــع أحيانــا فجــأة‬
‫ودون ســابق إنــذار) فقــد كان ذلــك الكتــاب خــر مؤنــس يل وكنــا ال أمـ ّـل‬

‫‪80‬‬
‫مــن قراءتــه وإعــادة قراءتــه كلــا أنهيتــه‪.‬‬

‫يف تلــك املوســوعة امللونــة اكتشــفت شــاالت نياجــارا وقــر‬


‫باكينغهــام واملزيــد عــن بــرج إيفــل وقــوس النــر ومعابــد حتشبســوت‬
‫والكرنــك وأبــو ســمبل وبعــض املعــامل الطبيعيــة التــي ميكــن أن تكــون‬
‫معروفــة للجميــع اليــوم عــر االنرتنيــت‪ ،‬لكنهــا يف ذلــك الوقــت كانــت‬
‫فتحــا مبينــا لتلميــذ يف ســني‪ ،‬مثــل كثيــب «بيــات» أعــى كثيــب رمــي‬
‫يف فرنســا وأوروبــا‪ ،‬أو نخيــل ألــش يف إســبانيا‪ ،‬تلــك الواحــة األكــر مــن‬
‫نوعهــا يف القــارة األوروبيــة‪ ،‬وال أدري ملــاذا أتذكــر تلــك الفقــرة بالــذات‬
‫حــول نخيــل ألــش والتــي عرفــت مؤخــرا أن اســمها باإلســبانية «إلتــي»‬
‫وأنهــا مدينــة جــد معروفــة للبزناســة (تجــار الشــنطة) عندنــا ألنهــا قريبــة مــن‬
‫مدينــة أليكانتــي وتشــتهر بجــودة األحذيــة فيهــا عــى حــد قولهــم‪.‬‬

‫ال زلــت أديــن بالكثــر لبعــض الكتــب التــي صادفتهــا يف مرحلــة مــا مــن‬
‫العمــر‪ ،‬والتــي كان لهــا عظيــم األثــر يف تغذيــة فضــويل وشــغفي بــكل مــا‬
‫هــو تاريــخ إنســاين وجغرافيــة طبيعيــة‪ ،‬وقــد أردت هنــا أن أر ّد دينــي لهــذا‬
‫الكتــاب بالــذات الــذي الزلــت أبحــث عــن نســخته الورقيــة إىل اليــوم‬
‫وأمتنــى أننــي قــد فعلــت‪.‬‬

‫مــن خــال تصفحــي لبعــض املواقــع والفيديوهــات حــول مدينــة قرطبــة‬


‫قبــل أن أزورهــا تشــكلت يف ذهنــي فكــرة عــن مدينــة ميكــن أن نختــر‬
‫آثارهــا وجاملهــا يف معلمــن أثريــن بارزيــن‪ ،‬هــا املســجد الكاتدرائيــة‬
‫والجــر الرومــاين عــى نهــر الــوادي الكبــر‪ ،‬لكــن وأنــا أمتــى تائهــا يف‬

‫‪81‬‬
‫أزقــة املدينــة القدميــة التــي ال أدري كيــف انتقلــت إليهــا بعــد عــر‬
‫دقائــق مــن املــي (وقــد كنــت للتــو يف مدينــة أوروبيــة عرصيــة بشــوارعها‬
‫الواســعة وأشــجارها ومحالتهــا الكبــرة عنــد خروجــي مــن بــاب الفنــدق‬
‫الــذي نســيت حتــى موقعــه ) وجدتنــي يف قلــب بلــدة عتيقــة بأزقــة ضيقــة‬
‫ومنــازل صغــرة مطليــة باألبيــض وتتــدىل منهــا شــجريات الياســمني وكل‬
‫أنــواع الــورود وقــد أعجبتنــي هــذه األجــواء كثــرا‪.‬‬

‫تحثنــا الكتــب ومواقــع الويــب الســياحية عــى عــدم حرمــان أنفســنا مــن‬
‫لــذة املــي عــى غــر هــدى ودون هــدف يف أزقــة قرطبــة الجميلــة‪ ،‬وأن‬
‫ال نســتعجل لحظــة الوصــول إىل املعلــم الرئيــي يف املدينــة‪ ،‬ويبــدو أن‬
‫يف هــذه النصيحــة الكثــر مــن الصــدق‪ .‬لكــن األمــر كان مختلفــا بالنســبة‬
‫يل فهــذه أول مــرة ســأمتكن فيهــا مــن رؤيــة جامــع قرطبــة خــارج صفحــات‬
‫الكتــب ومواقــع النــت‪ ..‬وتلــك لحظــات حاســمة لــكل ســائح‪ ،‬فهــو مــن‬
‫جهــة قــد أحــب تلــك الصــور التــي رســمها عــن املــكان يف ذهنــه ومــن جهــة‬
‫أخــرى نجــده ســيضطر لتعويضهــا وإىل األبــد بالصــورة الحقيقيــة التــي ال‬
‫يبعــد عنهــا ســوى بخطــوات ولحظــات معــدودة‪.‬‬

‫كنــت أترقــب نهايــة كل شــارع لعــي أخــرج إىل املــكان الفســيح الــذي‬
‫يســتقر فيــه هــذا البنــاء العظيــم أو أرســل نظــرايت إىل الســاء لعلهــا تعــود‬
‫يل بصــورة عــن املئذنــة التــي تحولــت إىل بــرج لألجــراس قبــل قــرون مــن‬
‫اليــوم‪.‬‬

‫عــرون دقيقــة بطيئــة كانــت املســافة الزمنيــة الفاصلــة بــن خروجــي‬

‫‪82‬‬
‫مــن بــاب الفنــدق ووقــويف عنــد الســور الخارجــي لجامــع قرطبــة أللتقــط‬
‫الصــور األوىل ألبوابــه وزخرفاتــه‪ ،‬وأشــاهد أمامــي جحافــل الســياح التــي‬
‫تلفظهــا شــوارع املدينــة القدميــة التــي تنتهــي يف مجملهــا نحــو املســجد‬
‫الكاتدرائيــة‪ ،‬أو التســمية الرســمية لجامــع قرطبــة حاليــا‪.‬‬

‫دخلــت املســجد مــن بوابتــه الكبــرة ووجــدت فنــاء كبــرا انتــر فيــه‬
‫الســياح يلتقطــون الصــور التذكاريــة بجانــب النافــورات وأشــجار النارنــج‪،‬‬
‫رســم الدخــول كــا قــرأت يف الالفتــة هــو عــرة يوروهــات كاملــة‪ ،‬لكنــي‬
‫كنــت أعــرف مــن خــال تحضــري للزيــارة أن الجامــع يفتــح أبوابــه مجانــا‬
‫للــزوار مــن الســاعة الثامنــة والنصــف إىل التاســعة والنصــف صباحــا‪.‬‬
‫لذلــك واقتصــادا للنفقــات ومتديــدا للحظــات الشــغف والتمنــي عزمــت‬
‫عــى العــودة إليــه يف صبــاح اليــوم املــوايل وخرجــت مــرة أخــرى أتتبــع‬
‫الســور الخارجــي وصــوال إىل القنطــرة الشــهرية التــي تعــر نهــر الــوادي‬
‫الكبــر‪.‬‬

‫ال ينتابــك أبــدا اإلحســاس بالغربــة أو البعــد عــن البلــد وأنــت تتجــول بــن‬
‫مبــاين وأزقــة مدينــة قرطبــة فليــس هنــاك شــارع ومنــزل وســقف وحديقــة‬
‫ونافــورة وبــاب وســور متُ ـ ّر بجانبــه إال وتستشــعر قربــك مــن معانيــه وقربــه‬
‫مــن جوارحــك‪ ،‬وهــو إحســاس ســيظل ســاكنا بداخلــك مــا دمــت مســافرا‬
‫يف ربــوع إقليــم األندلــس بصفــة عامــة أو هــذا عــى األقــل مــا شــعرت بــه‬
‫طيلــة أطــوار الرحلــة التــي قادتنــي إىل تلــك املــدن ماعــدا مالقــة وبدرجــة‬
‫أقــل إشــبيلية عاصمــة اإلقليــم‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫غــر بعيــد عــن جامــع قرطبــة والقنطــرة ميكــن للســائح أيضــا زيــارة حــي‬
‫ســان باســيليو وهــو حــي جميــل بطــراز معــاري يشــبه كثــرا األحيــاء‬
‫العربيــة‪ ،‬خاصــة يف باحــات منازلــه التــي بنيــت كــا يبنــى املنــزل العــريب‪،‬‬
‫حيــث تطــل كل غــرف املنــزل عــى فنــاء مركــزي‪ ،‬مزيــن بأجمــل النباتــات‬
‫وأنــواع الــورود‪ ،‬وتتوســطه نافــورة ميــاه تنعــش األجــواء‪ ،‬يف مدينــة معروفــة‬
‫بدرجــات حرارتهــا املرتفعــة يف فصــل الصيــف‪.‬‬

‫هــذا الحــي يشــهد مســابقة فريــدة مــن نوعهــا يف شــهر مــاي مــن كل‬
‫ســنة حيــث يقــوم أصحــاب املنــازل بتزيينهــا بــكل أشــكال وألــوان الــورود‬
‫واألزهــار وفتحهــا أمــام الســياح والفضوليــن الذيــن ســيمنحون أصواتهــم‬
‫الختيــار أجمــل باحــة منــزل مزينــة يف أجــواء احتفاليــة تــدوم طيلــة عــرة‬
‫أيــام كاملــة‪ .‬لكــن ذلــك ال مينــع بعــض أصحــاب هــذه الــدور العتيقــة مــن‬
‫فتحهــا يوميــا أمــام الــزوار باقــي أيــام الســنة‪ ،‬حيــث ميكنــك أن تتجــول‬
‫لبعــض الوقــت يف فنــاء املنــزل الــذي تجــد بابــه مفتوحــا‪ ،‬وأن تــرك‬
‫بعــض القطــع النقديــة لصاحــب الــدار قبــل الخــروج‪.‬‬

‫درجــة الحــرارة املرتفعــة والتعــب الــذي بــدأ يتمكــن مــن جســدي دفعنــي‬
‫للجلــوس قليــا أمــام بركــة مــاء نظيفــة خــارج أســوار املدينــة القدميــة‬
‫(والتــي ذكرتنــي بأســوار قصبــة األودايــة بالربــاط) حيــث وضعــت أرجــي‬
‫يف مياههــا البــاردة ألخــذ قســط مــن الراحــة وتجديــد البطاريــات وســاع‬
‫بعــض املوســيقى األندلســية للمطربــة املغربيــة نبيلــة معــن التــي إن كان‬
‫هنــاك لحــن وصــوت وأداء يــود املــرء أن يســمعه الســتحضار روح العصــور‬

‫‪84‬‬
‫األندلســية إىل حارضنــا فلــن يكــون إال صوتهــا يف موشــحات أبدعــت يف‬
‫أدائهــا مثــل موشــح ‪:‬ملــا بــدا يتثنــى وشــمس العشــية وأحســنت يــا ليــل‪...‬‬
‫الخ‪.‬‬

‫يف نهايــة املســاء توجهــت نحــو أحــد املحــات الرتكيــة الــذي يبيــع‬
‫سندويتشــات الكبــاب والشــاوارما وكنــت قــد حــددت موقعــه مــن خــال‬
‫تطبيــق القوقــل مــاب الــذي يســاهم يف تســهيل وتيســر ســفرك إىل‬
‫أي مــكان يف العــامل مــن خــال إفادتــك بــكل املعلومــات الالزمــة حــول‬
‫مواقــع مطاعــم الحــال وأســعارها وآراء الزبائــن يف خدماتهــا‪ .‬حصلــت‬
‫عــى كلمــة رس الويفــي الخاصــة باملطعــم ورحــت أتصفــح بعــض املواقــع‬
‫الكتشــاف املزيــد عــن تاريــخ املدينــة وبعــض املعلومــات املفيــدة يف‬
‫مــا تبقــى يل مــن الرحلــة‪ ،‬التهمــت الســندويتش مــع عبــوة صــودا بثمــن ال‬
‫يزيــد عــن ســتة يوروهــات قبــل أن أعــود إىل الفنــدق وأخلــد للنــوم املبكــر‪،‬‬
‫اســتعدادا ليــوم حافــل‪ ،‬مبــارشة بعــد طلــوع شــمس الغــد‪..‬‬

‫‪85‬‬
‫حارض قرطبة الذي يتعطر مباضيها‬

‫‪Le véritable voyage de découverte ne consiste pas‬‬


‫‪à chercher de nouveaux paysages ,mais à avoir de‬‬
‫‪nouveaux yeux.‬‬

‫اســتيقظت صبــاح الجمعــة ‪ 15‬ســبتمرب ‪ 2017‬ونزلــت لتنــاول الفطــور‬


‫الصباحــي يف املطعــم‪ ،‬قبــل أن أتوجــه إىل جامــع قرطبــة الكبــر‪ ،‬هــذا‬
‫الــرح الــذي اســتمر يف الوجــود رغــم كل محــاوالت الطمــس والتعديــل‬
‫الــذي طالتــه منــذ ســقوط املدينــة ســنة ‪.1236‬‬

‫وصلــت إىل الجامــع وعــرت فنــاء النارنــج إىل داخــل املســجد‪ ،‬كان‬
‫املنظــر مهيبــا جــدا منــذ البدايــة‪ ،‬أعمــدة وأقــواس متشــابكة وظــام مثــر‬
‫يعــم املــكان‪ ،‬تبــدده بعــض الرثيــات الخافتــة اإلضــاءة‪ ،‬حيــث يتعمــد‬
‫املســيحيون خلــق هــذه األجــواء املظلمــة بداخــل معابدهــم ملزيــد مــن‬
‫الرهبــة والخشــوع‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫منظــر الســياح وهــم يتجولــون بــن أعمــدة املســجد كان غريبــا للوهلــة‬
‫األوىل‪ ،‬فمــن الصعــب أن تنــزع مــن ذهنــك صــورة املســجد املفــروش‬
‫بالــزرايب والحصائــر ومنظــر املصلــن وهــم راكعــون أو ســاجدون يف‬
‫جنباتــه‪ .‬أمــا حــن انطلــق عــزف آلــة األرغــان العظيمــة داخــل الكنســية‬
‫املزروعــة يف قلــب املســجد منــذ القــرن الســادس عــر‪ ،‬فذلــك‬
‫جعلنــي أرسع الخطــى نحــو املحــراب بحثــا عــن القطعــة املفقــودة يف‬
‫املشــهد ألقــف عــى بعــد أمتــار منــه عنــد قضبــان حديديــة وضعــت عــى‬
‫األرجــح ملنــع مــن تســول لــه نفســه بإقامــة الصــاة مــن جديــد‪ ،‬بداخــل هــذا‬
‫املحــراب املزخــرف الجميــل‪ ،‬الحزيــن‪ ،‬الصامــت‪ ،‬املســجون‪ ،‬أو كــا‬
‫قــال أبــو البقــاء الرنــدي يف مرثيتــه الشــهرية‪:‬‬

‫حيث املساجد صارت كنائس ‪ ..‬مافيهن إال نواقيس وصلبان‬


‫حتى املحاريب تبيك وهي جامدة ‪ ..‬حتى املنابر تريث وهي عيدان‬

‫صحيــح أن شــارل الخامــس قــال ملهندســيه الذيــن بنــوا الكاتدرائيــة‬


‫داخــل املســجد آنــذاك ‪« :‬لقــد بنيتــم هنــا مــا كان ميكــن بنــاؤه يف أي‬
‫مــكان آخــر وقضيتــم عــى مــا كان أثــرا وحيــدا يف العــامل»‪ ،‬وموثّــق أن‬
‫محمــد إقبــال الشــاعر الهنــدي (مل تكــن باكســتان قــد نشــأت بعــد) قــد‬
‫عــاد للصــاة يف الجامــع ســنة ‪ 1932‬بعــد ســتة قــرون مــن ســقوطه (كأول‬
‫مســلم يفعل ذلك) وكتب حينها قصيدة خاطب فيها املســجد بقوله‪:‬‬

‫‪87‬‬
‫إ ّن أرضا أنت فيها ‪ ...‬لسامء للعيون‬
‫كيف مل يسمع آذانا ‪ ...‬أهلها منذ قرون ؟‬

‫الثابــت أيضــا أن صــدام حســن صــى ســنة ‪ 1974‬يف هــذا الجامــع‬


‫بالــذات رفقــة الوفــد املرافــق لــه وقــد كان حينهــا نائبــا للرئيــس العراقــي‪،‬‬
‫والراجــح أن امللــك فيصــل يف نفــس الفــرة تقريبــا عــرض عــى فرانكــو‬
‫رشاء الجامــع أو تفكيــك الكنســية ونقلهــا خــارج املبنــى مهــا كلــف ذلــك‬
‫مــن ماليــن الــدوالرات‪ ،‬إال أن التاريــخ قــد قــال كلمتــه منــذ زمــن‪ ،‬وقوانــن‬
‫اللــه يف الكــون ويف أســباب الســقوط والنهــوض ال تجامــل أحــدا‪ ،‬وال‬
‫تنظــر إىل ألــوان وصــور وأديــان أي كان‪ ،‬بــل هــي ثابتــة ومعروفــة كــا كان‬
‫الحال يف ‪ 711‬عند الفتح أو يف ‪ 1236‬عند سقوط قرطبة أو حتى يف‬
‫‪ 1492‬عنــد تســليم مفاتيــح غرناطــة وتلــك هــي دورة الحضــارة‪.‬‬

‫لقــد حطــم املســيحيون بعــد حــرب االســرداد معظــم املســاجد وبنــوا‬


‫عــى أنقاضهــا كاتدرائياتهــم كــا حــدث يف غرناطــة‪ ،‬أو اســتعملوا جــزءا‬
‫مــن أبنيــة املســجد كــا هــو الحــال مــع الخريالــدا يف إشــبيلية‪ ،‬لكنهــم يف‬
‫قرطبــة عجــزوا عــن تحطيــم الجامــع بكاملــه‪ ،‬خصوصــا وســط معارضــة أهــل‬
‫املدينــة أنفســهم لعمليــة اإلزالــة كــا تقــول كتــب التاريــخ‪.‬‬

‫زيــارة جامــع قرطبــة كانــت مــن أجمــل ذكريــات الرحلــة وقــد مــرت الســاعة‬
‫داخله برسعة محسوســة‪ ،‬وبدأ الســياح بالخروج من املبنى يك يفســحوا‬
‫املجــال أمــام بقيــة املجموعــات الســياحية للدخــول بدورهــا وقضــاء‬
‫الوقــت الــذي تــراه مناســبا وكافيــا بالداخــل (بعــد دفــع اليوروهــات‬

‫‪88‬‬
‫العــر)‪.‬‬

‫عنــد الخــروج كانــت الســاعة التاســعة والنصــف بالتوقيــت الصيفــي أي‬


‫مــا يقابلــه عندنــا الســاعة الثامنــة والنصــف وهــو وقــت مبكــر جــدا يضــع‬
‫أمامك متسعا من الوقت ملبارشة زيارة بقية املعامل يف نشاط وهمة‪.‬‬

‫توجهــت مبــارشة إىل قــر امللــوك املســيحيني بقرطبــة وهــو القــر‬


‫الذي بني عىل أنقاض القرص اإلسالمي بجوار نهر الوادي الكبري والذي‬
‫ال يــزال يحتفــظ بطابعــه اإلســامي يف الكثــر مــن جنباتــه عــى اعتبــار أن‬
‫أمهــر البنائــن يف ذلــك الوقــت كانــوا مــن املدجنــن أو املوديخــار الذيــن‬
‫بقــوا يف املــدن اإلســامية بعــد ســقوطها وهــم الذيــن قامــوا بتشــييد‬
‫القــر والكثــر مــن املبــاين لصالــح األســياد الجــدد أيضــا‪.‬‬

‫رســم الدخــول كان خمــس يوروهــات وهــو مبلــغ رمــزي مقارنــة بجــال‬
‫الحدائــق التــي يضمهــا القــر‪ .‬طبعــا ال تنتظــر أن تجــد ســحر الحمــراء يف‬
‫هــذا املعلــم الســياحي وال حتــى يف آلــكازار بإشــبيلية‪ ،‬ألن الحمــراء معلــم‬
‫فريــد مــن نوعــه يف العــامل وهــو قــد بقــي قرنــن كاملــن يف يــد املســلمني‬
‫بعــد ســقوط إشــبيلية وقرطبــة مــا زاد يف رونقــه وتعتيقــه لكــن والحــق‬
‫يقــال إن أجمــل مــا يف قــر امللــوك املســيحيني بقرطبــة ملــن يريــد زيارتــه‬
‫هــو حدائقــه وأزهــاره وبــرك امليــاه ألن البنــاء أقــرب إىل الحصــن الدفاعــي‬
‫منــه إىل القــر املزخــرف أو الفنــي الجميــل‪.‬‬

‫بعــد جولــة مل تكــون طويلــة جــدا يف القــر خر جــت للتمــي يف‬

‫‪89‬‬
‫املدينــة القدميــة وبالضبــط إىل الحــي اليهــودي أو مــا يســمى بالخودريــة‬
‫والــذي ال يتوقــف عــن االزدهــار والتج ّمــل منــذ مــدة‪ ،‬حيــث تنتــر بــه‬
‫املطاعــم والفنــادق التــي تقــدم أطباقــا وخدمــات خاصــة تتــاىش‬
‫والعــادات اليهوديــة‪.‬‬

‫عدد اليهود يف إسبانيا كلها يزيد ببضع آالف عن أربعني ألفا وهو أقل‬
‫قليال من عدد املســلمني اإلســبان املعتنقني لالســام (املنحدرين من‬
‫عائالت كاثوليكية إســبانية) وال يكاد يقارن مع عدد املســلمني عامة يف‬
‫إســبانيا‪ ،‬والــذي يتجــاوز املليــون ونصــف املليــون نســمة‪ .‬ومــع ذلــك فهــم‬
‫منظمــون بشــكل جيــد ضمــن شــبكة األحيــاء اليهوديــة عــر مــدن البلــد‪،‬‬
‫وقــد متكنــوا بعــد خمــس قــرون مــن ســقوط غرناطــة واكتشــاف أمريــكا مــن‬
‫انتــزاع اعتــذار امللــك اإلســباين خــوان كارلــوس ســنة ‪ 1992‬عــن الطــرد‬
‫والتهجــر الــذي مــورس يف حقهــم بعــد اندحــار الوجــود اإلســامي الــذي‬
‫عاشــوا يف كنفــه طيلــة مثانيــة قــرون‪.‬‬

‫اليــوم ومــن خــال تجــويل يف الحــي اليهــودي بقرطبــة وزيــاريت لكنيســهم‬


‫املتــاح دخولــه بشــكل مجــاين (وهــو عبــاره عــن مصــى مل يبــق منــه الكثــر‬
‫مــن اآلثــار والشــواهد) ميكنــك وأنــت الســائح البســيط‪ ،‬أن تالحــظ كيــف‬
‫أن اليهــود الســفارديم يســعون للحصــول عــى مكانــة أكــر يف املشــهد‬
‫التاريخــي اإلســباين يــكاد يلتهــم الوجــود العــريب اإلســامي‪ ،‬الــذي وبالرغــم‬
‫مــن إهــداءه إلســبانيا منظومــة حضاريــة متكاملــة إال أنــه ال يــزال كبديــل‬
‫حضــاري رشيــدا طريــدا خــارج كل حســابات السياســة واالقتصــاد وال‬

‫‪90‬‬
‫يجــد مــن يدافــع عنــه ويــروج لــه‪ ،‬بينــا يعمــل أبنــاء إســحاق بجهــود موحــدة‬
‫يف إعــادة االعتبــار لوجودهــم الحضــاري يف املــايض اإلســباين بصفــة‬
‫عامــة‪ ،‬ويف املســتقبل اإلســباين بصفــة خاصــة‪.‬‬

‫لقــد فوجئــت بعــدد الســياح مــن كل بقــاع العــامل الذيــن يقفــون ألخــذ‬
‫صــور تذكاريــة أمــام متثــال الفيلســوف األندلــي مــوىس بــن ميمــون أو‬
‫مــوىس الثــاين كــا يعتــره اليهــود (نســبة إىل أهميتــه بعــد النبــي مــوىس)‬
‫بينــا نجهــل نحــن كعــرب ومســلمني أهميــة إشــعاعنا الحضــاري يف هــذه‬
‫الربــوع عــر أســاء علــاء وأدبــاء وأطبــاء ذاع صيتهــم عنــد غرينــا‪ ،‬ورســموا‬
‫ألوروبــا طريــق نهضتهــا نحــو التطــور واالزدهــار املــادي املســتمر إىل يومنــا‬
‫هــذا‪.‬‬

‫كثريا ما كنا نتغنى بشعور أو من غري شعور باألندلس‪ ،‬ذلك الفردوس‬


‫املفقــود والحلــم املــوؤود‪ ،‬لكنــي رأيــت مــن خــال جولــة ســياحية بســيطة‬
‫(ال أعتقــد أنهــا كافيــة لتثبيــت هــذا الحكــم) أن الفــردوس األندلــي ال‬
‫يــزال موجــودا ومســتمرا‪ ،‬ومــا عــى املــرء إال أن يعــرف كيــف يحييــه ويطــرق‬
‫أبوابــه مــن جديــد‪ .‬فكــا عــاد اليهــود المتــاك البيــوت يف مــدن وبلــدات‬
‫إســبانيا مــن شــالها إىل جنوبهــا‪ ،‬يســتطيع العــرب أيضــا أن يفعلــوا ذلــك‬
‫(وليــس يعوزهــم مــال أو جــاه) عــر رســالة حضاريــة وثقافيــة واضحــة‬
‫املعــامل‪ ،‬تعيــد ألحيــاء غرناطــة وقرطبــة ورنــدة وغريهــا عبقهــا الرشقــي‬
‫الســاحر‪ .‬ولــو أن ذلــك ميــر أوال عــر التحــرر مــن العقيــدة االســتهالكية‬
‫واالنفعاليــة التــي زرعــت فينــا منــذ مــدة والتــي تجعــل بســطاءنا يشــغلون‬

‫‪91‬‬
‫ليلهــم ونهارهــم بأخبــار نــوادي برشــلونة ومدريــد وتوهــم أغنيائنــا أن إســبانيا‬
‫تبــدأ وتنتهــي يف شــواطئ بينيــدورم وماربيــا وأليكانتــي وكان اللــه يف‬
‫عــون معتنقــي اإلســام مــن اإلســبان‪ ،‬الــذي ال يــرون أيــا مــن مظاهــر دينهــم‬
‫يف ترصفــات أثريــاء العــرب‪ ،‬وال يف ســلوكات فقراءهــم‪.‬‬

‫يف منتصــف النهــار اســتلقيت عــى الحشــيش خــارج ســور املدينــة‬


‫القدميــة ألنعــم ببعــض الراحــة مــع تنــاول قليــل مــن التمــر والفواكــه وكميــة‬
‫مــن املــاء يك أحافــظ عــى حاجــة الجســد مــن الطاقــة‪ .‬مــن الجيــد طبعــا‬
‫أن تتــذوق األطبــاق املحليــة ألي مدينــة تزورهــا وتجلــس يف مطاعمهــا‬
‫الشــهرية ثم تنقل ألصدقائك شــعورك بلذة تلك األمكنة واألطباق‪ ،‬لكن‬
‫ليــس حــن يســاوي اليــورو الواحــد مائتــي دينــار كاملــة‪ .‬لذلــك أصطحــب‬
‫معــي قفتــي الصغــرة إىل كل مــكان‪ ،‬حيــث ال أنــى أن أضــع فيهــا قــارورة‬
‫مــاء أملؤهــا عنــد كل نافــورة هنــا (ومــا أكــر النافــورات يف إســبانيا) وبعــض‬
‫حبــات التمــر‪ ،‬وطبعــا أقــوم بــراء الفواكــه التــي يبقــى ســعرها هنــا يف‬
‫املتنــاول‪ ،‬بينــا أقــوم يف املســاء بالجلــوس يف مطعــم لإلخــوة املغاربــة‬
‫أو األتــراك أو الباكســتانيني مــن أجــل رســم خطــة اليــوم املــوايل بهــدوء‬
‫وتركيــز يف توفــر تدفــق عــايل لالنرتنيــت‪.‬‬

‫حــن اشــتدت حــرارة وقــت القيلولــة عــدت أدراجــي إىل الفنــدق آلخــذ‬
‫حاممــا شــبه بــارد ثــم أنطلــق إىل محطــة الحافــات لــراء تذكــرة إىل مدينــة‬
‫إشــبيلية والتــي تبعــد عــن مدينــة قرطبــة مبائــة وأربعــن كيلومــرا إىل‬
‫الغــرب ومثــن التذكــرة ‪ 12‬يــورو‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫بعــد العــر ذهبــت للتجــول يف بعــض املحــات الكبــرة باملدينــة‬
‫كالكورتيــس انقليــز دون أن أنــى رشاء بعــض األقمصــة بأســعار مغريــة‬
‫مــن محــل ديكاتلــون املتخصــص يف املالبــس الرياضيــة‪ .‬نشــاط التســوق‬
‫مقرر رسمي يف كل رحلة سياحية خارج الوطن لكنه ال يحتل من التجول‬
‫واالكتشــاف إال مقــدار مــا يحتاجــه امللــح يف صحــن الطعــام (علــا أنــه ال‬
‫املســوس)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مشــكلة لــدي مــع‬

‫يف نهايــة املســاء وحــن يتلطــف الجــو يخــرج ســكان قرطبــة للتجــول‬
‫والتنزه يف أزقة وساحات املدينة القدمية‪ ،‬ويجلسون يف أفنية املنازل‬
‫مــن أجــل تنــاول عشــاء خفيــف عــى رقصــات وأنغــام الفالمينكــو‪ ،‬تحيــط‬
‫بهــم األزهــار والــورود املتدليــة مــن الرشفــات واملتســلقة عــر الجــدران‪،‬‬
‫أمــا أجمــل مــكان يصلــح للتمــي قبيــل وقــت العشــاء أو بعــده فهــو قنطــرة‬
‫الــوادي الكبــر‪ ،‬أيــن تنعشــك النســائم التــي يحملهــا الــوادي وتتذكــر وأنــت‬
‫املولــع واملوجــوع مبــا مــى مــن تاريــخ األندلــس أن عــى هــذه القنطــرة‬
‫أيضــا كان يتمــى صاحــب رائعــة طــوق الحاممــة ابــن حــزم وصاحــب‬
‫كتــاب تهافــت التهافــت ابــن رشــد ومستشــار صــاح الديــن األيــويب‬
‫صاحــب كتــاب دليــل الحائريــن الطبيــب والفيلســوف األندلــي مــوىس‬
‫بــن ميمــون وبعــض الســيارات أيضــا إىل وقــت قريــب قبــل أن يتــم منعهــا‬
‫مــن املــرور عــر الجــر‪..‬‬

‫‪93‬‬
‫غبار التاريخ العالق يف نافذة املستقبل‬

‫‪Les voyages forment l’esprit et rectifient les idées..‬‬

‫بعــد تجربــة األمــس تبــن أن فكــرة الذهــاب لزيــارة جامــع قرطبــة أكــر‬
‫جاذبيــة مــن فكــرة النــوم اللذيــذ الــذي ينتــاب املــرء يف صبــاح العطلــة‪..‬‬
‫عــى الســاعة التاســعة إال ربــع كنــت أســتعد مــن جديــد لدخــول جامــع‬
‫قرطبــة للمــرة الثانيــة واألخــرة يف هــذه الزيــارة األندلســية املمتعــة بعــد‬
‫أن غــادرت فــرايش قبــل نصــف ســاعة صبــاح يــوم الســبت ‪ 16‬ســبتمرب‬
‫‪.2017‬‬

‫كان منظــر املحــراب الحزيــن يف نهايــة الجامــع يجــذب فضــول جميــع‬


‫الســياح اللتقــاط صــور لــه ومعــه‪ ،‬رغــم القضبــان التــي متنــع الوصــول إليــه‪.‬‬
‫قبــل ســبع ســنوات مــن اآلن تحدثــت تقاريــر صحفيــة عــن مواجهــات بــن‬
‫الرشطــة اإلســبانية وســياح مســلمني مــن بلــد عــريب يف هــذا املــكان‬
‫بالذات‪ ،‬بعد محاولتهم إقامة الصالة يف مكان الزالت الذاكرة اإلسبانية‬
‫تعتــره رمــزا الندحــار الوجــود اإلســامي عــن شــبه الجزيــرة اإليبرييــة‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ال شــك أن الكثري منا ولو تفاؤال‪ ،‬يســعى الســرجاع ما فقدناه يف هذه‬
‫األرض‪ .‬والجميــع مي ّنــي نفســه بحــق العــودة إليهــا وإقامــة دولــة اإلســام‬
‫املجيــدة يف هــذه الربــوع‪ ،‬التــي تــرك فيهــا الوجــود الثقــايف العــريب‬
‫واإلســامي حضارة ال متحيها الســنون والقرون ‪.‬لكن املشــكلة أننا نفتخر‬
‫بديننــا ونبينــا ورســالتنا أينــا كنــا وهــذا مطلــوب ومحمــود‪ ،‬لكــن هــل يفتخــر‬
‫بنــا ديننــا ونبينــا ورســالتنا ونحــن عــى هــذه الصــورة مــن التخلــف والتفــرق؟‬
‫هــل ميكننــا تحريــر املحــراب بعــودة جحافلنــا إىل هنــا وانتصارنــا الحــريب‬
‫عــى الكفــار‪ ،‬أم أن املحــراب ســيتحول طوعــا إىل ســكان قرطبــة مثــا‬
‫لــو انتــر اإلســام كرســالة إنســانية يعتنقهــا اإلســبان أو غريهــم بقناعــة‬
‫واقتنــاع؟ ثــم كيــف يقتنــع هــؤالء بجــدوى ورشف دعوانــا‪ ،‬وأننــا ســنحمل‬
‫لهــم مجــدا أضاعــوه‪ ،‬ونحــن ال تحملنــا إليهــم ســوى قــوارب متهالكــة ال تــكاد‬
‫تتحمــل حتــى أضعــف آمالنــا يف الوصــول إىل الضفــة األخــرى؟‬

‫كانــت هــذه األســئلة تــدور يف رأيس وأنــا أتأمــل رمــزا ســيظل موجــودا‬
‫لتذكرينــا‪ ،‬بــأن طريــق العــودة ال نســلكه إال عــر التفــوق العلمــي والحضــاري‬
‫والصناعــي والثقــايف‪ ،‬وأن باقــي األســباب التــي نتخذهــا عــدا ذلــك‪ ،‬لــن‬
‫تخــرج عــن نطــاق العواطــف والتمنيــات‪ ،‬التــي يبقــى أنهــا تعطينــا أحاســيس‬
‫جميلــة‪ ،‬لكــن علينــا يف يــوم مــن األيــام أن نســتيقظ منهــا إن أردنــا فعــا‬
‫القيــام بــيء مفيــد للبرشيــة‪ ،‬دون الحاجــة للتذكــر مبآثرنــا وأحقيتنــا‬
‫وبطوالتنــا املاضيــة‪ .‬فالعــامل كــا يقــول الدكتــور النابلــي يصلــح للعيش‬
‫بالكفــر والعــدل ال باإلميــان والظلــم‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫خرجــت مــن جامــع قرطبــة بعــد وداع أخــر وذهبــت لزيــارة أحــد‬
‫املتاحــف املعروفــة بعــد أن تــرددت يف زيارتــه يــوم أمــس‪ ،‬عــى اعتبــار أنــه‬
‫مــكان رهيــب وقــاس‪ ،‬وميكــن أن يفســد عــي أجــواء البهجــة واملتعــة التــي‬
‫أجدهــا يف قرطبــة‪ .‬لكــن تشــجيع صديقــي الصحفــي فخــار ابراهيــم الــذي‬
‫ســبق لــه وأن زار هــذه األماكــن‪ ،‬زاد يف كميــة الفضــول بداخــي ألدخــل‬
‫متحــف «محاكــم التفتيــش» وهــو متحــف ال يغريــك يشء بزيارتــه عــدا‬
‫رســم الدخــول (‪ 3‬يــورو) واســتغالل فرصــة الفــرة الصباحيــة املتبقيــة يل‬
‫يف قرطبــة قبــل مغادرتهــا مســاء نحــو إشــبيلية‪.‬‬

‫املتحــف متواجــد قــرب الحــي اليهــودي باملدينــة‪ ،‬ومجمــل مســاحته ال‬


‫تتعــدي الخمــس غــرف‪ ،‬لكــن آالت التعذيــب املوجــودة بداخلــه تكشــف‬
‫عــن وحشــية ال مثيــل لهــا‪ ،‬وتقــودك إىل حقبــة مظلمــة مــن تاريــخ القــرون‬
‫الوســطى األوروبيــة‪ ،‬أيــن انقســمت القــارة إىل كاثوليــك وبروتيســتانت‬
‫وبــدأت حــروب اإلبــادة الدينيــة مــن الطرفــن‪ ،‬والتــي فهــم األوروبيــون أخــرا‬
‫أنه ال طائل منها لكن بعد أن ذهب ضحاياها عرشات اآلالف من األبرياء‪.‬‬

‫محاكــم التفتيــش اإلســبانية ذهــب ضحيتهــا عــدد مــن املســيحيني‬


‫طبعــا‪ ،‬لكنهــا متيــزت بوحشــيتها الســادية ضــد املســلمني واليهــود مبــن‬
‫يف ذلــك مــن تحــول منهــم إىل الديــن املســيحي‪ .‬بداخــل املتحــف‬
‫ميكنــك مشــاهدة أقفــاص وكــرايس مســننة وســيوف وأغــال حديديــة‬
‫وأدوات رهيبــة مــع رشح مفصــل ومصــور باللغــات الخمســة‪ ،‬حــول‬
‫تقنيــات التعذيــب والقتــل التــي كانــت متارســه هــذا املحاكــم التــي ظلــت‬

‫‪96‬‬
‫محارقهــا موقــدة يف أوروبــا إىل حــدود القــرن الثامــن عــر‪.‬‬

‫أجــواء مــن الرعــب ســتنتابك حتــا داخــل هــذا املتحــف صغــر‬


‫املســاحة عميــق التاريــخ‪ ،‬والــذي ســتحمد اللــه عنــد خروجــك منــه عــى‬
‫نعمــة اإلســام والســامة‪.‬‬

‫بالرغــم مــن أن الالفتــات بداخــل املتحــف ال تشــر أبــدا إىل الضحايــا‬


‫املوريســكيني املســلمني‪ ،‬إال أن آخــر الفتــة تقرؤهــا قبــل خروجــك مــن‬
‫الــرواق املــؤدي إىل خارجــه‪ ،‬قــد جــاء فيهــا ذكــر للضحايــا اليهــود (رمبــا‬
‫لرتســخ املعلومــة يف ذهــن الزائــر‪ ،‬أو هكــذا خمــن عقــي العــريب املؤمــن‬
‫بنظريــة املؤامــرة)‪.‬‬

‫عدت أدراجي إىل الفندق وحزمت جميع أمتعتي التي كانت خفيفة‬
‫بعــض الــيء‪ ،‬ووضعتهــا عنــد عامــل االســتقبال كالعــادة وخرجــت‬
‫للتســكع يف آخــر جولــة يل بقرطبــة‪.‬‬

‫الجميــل يف شــوارع املدينــة وســاحاتها وجــود عيــون للميــاه يــرب‬


‫منهــا املــارة‪ ،‬حيــث يكفــي أن تضغــط برجلــك عــى زر يف األرض لينطلــق‬
‫املــاء بشــكل عمــودي إىل فمــك‪ ،‬وتــرب مــن النافــورة الصغــرة إىل أن‬
‫ترتــوي‪ ،‬مــع إمكانيــة أن متــأ قــارورة املــاء الخــاص بــك‪ ،‬وهــي القــارورة التــي‬
‫مل تفارقنــي طيلــة جولتــي‪ .‬أمــا فكــرة الذهــاب إىل املرحــاض (الــذي ال‬
‫زال يشــكل لدينــا هاجســا يســكننا حتــى بعــد مغــادرة الحــدود) فهــي مــن‬
‫أســهل األمــور هنــا عــى اعتبــار أن كل املواقــع الســياحية تتوفــر عــى هــذه‬

‫‪97‬‬
‫الخدمــة‪ ،‬إضافــة إىل الرتحيــب والتفهــم الــذي ســتجده لــدى أصحــاب‬
‫املطاعــم وقاعــات الشــاي حــن تطلــب منهــم اســتعامل بيــت الراحــة‪،‬‬
‫حيــث ســتجد بالداخــل دون شــك كل الراحــة والنظافــة املطلوبــة ولــو‬
‫كنــت عــى كــريس متحــرك‪.‬‬

‫أثنــاء تجــويل يف املدينــة القدميــة وجــدت بيتــا للشــباب‪ ،‬ودخلــت‬


‫ألســأل عــن إمكانيــة املبيــت يف هــذا النــزل باســتعامل البطاقــة الدوليــة‬
‫التــي ميكــن أن تحصــل عليهــا مــن الجزائــر بخمســائة دينــار جزائــري وصــورة‬
‫شمســية مــن أي بيــت للشــباب‪ ،‬وهنــا أخــرين العامــل يف االســتقبال أن‬
‫الســعر هنــا للشــباب دون ‪ 25‬ســنة هــو ‪ 17‬يــورو والســعر العــادي ملــن‬
‫هــو فــوق هــذه الســن هــو ‪ 23‬يــورو لكــن مــع اســتظهار البطاقــة ميكــن أن‬
‫تحصــل عــى رسيــر بواحــد وعرشيــن يــورو‪.‬‬

‫ال أدري ملــا أردت أن اقتســم معكــم هــذه املعلومــة‪ ،‬رمبــا ألننــي يف‬
‫كل مــرة ألتقــي فيهــا بعضــا مــن العاملــن يف مجــال الشــباب والرياضــة‬
‫يؤكــدون يل فعاليــة هــذه البطاقــة خــارج الوطــن ويتباهــون بصالحيتهــا‬
‫الدوليــة‪ ،‬رغــم أن جميعهــم أكــدوا يل أنهــم مل يســتعملوها شــخصيا‪.‬‬

‫كان عــي أن أصــي قبــل الذهــاب إىل إشــبيلية‪ ،‬لكنــي مل أجــد يف‬
‫خريطــة املدينــة مــا يشــر إىل وجــود مســجد أو مصــى يف ضواحيهــا‪.‬‬
‫دعــك مــن أنــك تتواجــد يف مدينــة تحتضــن أكــر مســجد يف العــامل‬
‫رك ذلــك لكنــه لــن ينفعــك يف هــذه الحالــة‪.‬‬
‫الغــريب‪ ،‬قــد ي ـ ّ‬

‫‪98‬‬
‫كنــت قــد ملحــت غــر بعيــد عــن الفنــدق حديقــة صغــرة ال يرتادهــا‬
‫الكثــر مــن النــاس وفكــرت يف أنهــا ســتكون مناســبة إلقامــة الصــاة بعيــدا‬
‫عــن االزدحــام وحركــة الذهــاب واإليــاب‪.‬‬
‫دخلــت الحديقــة بحثــا عــن مــكان مناســب‪ ،‬لكــن دهشــتي كانــت كبــرة‬
‫حــن وجــدت مبنــى صغــرا مربــع الشــكل وبــه مدخــل مقــوس‪ ،‬اقرتبــت‬
‫مــن املبنــى فــإذا هــو مســجد صغــر وبــه قاعــة للوضــوء وأخــرى للصــاة‪.‬‬
‫كانــت املفاجــأة ســارة جــدا يل‪ ،‬خاصــة وأن اإلمــام املغــريب الشــاب‬
‫أخــرين أنــه تأخــر اليــوم فقــط‪ ،‬ويف العــادة فاملســجد مغلــق يف هــذا‬
‫الوقــت بعــد صــاة الظهــر‪ .‬فــأي صدفــة أحســن مــن هــذه؟‬
‫أقمــت الصــاة وجلســت مــع اإلمــام للدردشــة قليــا‪ ،‬قبــل أن يلتحــق‬
‫بنــا رجــل ثالــث يبــدو أنــه مغــريب أيضــا‪ ،‬وانطلقنــا يف حديــث حميــم‬
‫ومتشــعب حــول إســبانيا واملغــرب والجزائــر ومســتقبل اإلســام يف أوروبــا‬
‫كأي مواطنــن عــرب وأشــقاء ال تنهــار بيننــا الحــدود السياســية والرتابيــة إال‬
‫حــن نكــون خــارج بلداننــا األصليــة‪.‬‬
‫عرفــت مــن الرجــل املغــريب والــذي كان أكربنــا ســنا أن هــذه الحديقــة‬
‫كانــت ثكنــة عســكرية تــم تحويلهــا إىل حديقــة عموميــة منــذ ســنوات‪،‬‬
‫وأن هــذا املســجد كان مخصصــا لجنــود الفيلــق املغــريب أو مــا يعــرف‬
‫بفرقــة «الريغوالريــس» وهــم جنــود مغاربــة خدمــوا يف صفــوف الجيــش‬
‫اإلســباين يف الريــف املحتــل أوال قبــل أن يتحولــوا إىل جنــود الصفــوة‬
‫والقــوة الضاربــة التــي اســتعملها فرانكــو يف الحــرب األهليــة اإلســبانية‬
‫لســحق خصومــه مــن الجمهوريــن‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫بعــد تحويــل الثكنــة إىل حديقــة تــم اســرجاع هــذا املصــى مــن قبــل‬
‫الجاليــة اإلســامية بقرطبــة إلقامــة شــعائر الصــاة‪.‬‬

‫قمــت بالتقــاط بعــض الصــور للمصــى ووضعهــا يف قوقــل مــاب‪،‬‬


‫يك يجدهــا مــن يــزور املدينــة يف املــرة املقبلــة‪ ،‬ويــو ّد أداء الصــاة‪.‬‬
‫ميــزة مشــاركة الصــور والتجــارب عــى النــت ســاعدتني كثــرا يف إيجــاد‬
‫عناويــن عديــد املحــات واملواقــع يف الرحلــة‪ .‬وأحســن املعلومــات التــي‬
‫أجدهــا تلــك التــي تضــع صــورا لألطبــاق والئحــة األســعار يف املطاعــم‬
‫أو الئحــة أســعار املتاحــف‪ ،‬ألنهــا معلومــات مهمــة‪ ،‬عــى ضوئهــا يتحــدد‬
‫مســار امليزانيــة واألولويــات عنــد الســفر‪ .‬طبعــا ال داعــي للتذكــر بــأن هــذه‬
‫املعلومــات ســتجدها بكــرة يف املواقــع الفرنســية واإلنجليزيــة بينــا لــن‬
‫تجــد يف منتديــات الســفر العربيــة غــر بعــض املعلومــات التــي ال تفــي‬
‫بالغــرض والتــي تحتــاج إىل إثــراء أكــر وتوثيــق أدق‪.‬‬

‫و ّدعــت اإلخــوة يف املســجد وقصــدت الفنــدق‪ ،‬يك أحمــل أغــرايض‬


‫واتجــه إىل رابــع محطــة يل يف الرحلــة‪ ،‬مدينــة إشــبيلية عاصمــة إقليــم‬
‫األندلــس ورابــع املــدن اإلســبانية أيضــا مــن حيــث عــدد الســكان بعــد‬
‫مدريــد برشــلونة وبلنســية‪.‬‬

‫انطلقــت الحافلــة مــن قرطبــة عــى الســاعة الرابعــة والنصــف لتقطــع‬


‫مســافة ‪ 140‬كيلومــرا عــى مــدى ســاعتني مــن الزمــن ســتكون يل فيهــا‬
‫فرصــة االســتمتاع بإغفــاءة صغــرة عــى الكــريس املريــح لحافــات رشكــة‬
‫‪ ALSA‬اإلســبانية‪..‬‬

‫‪100‬‬
‫تحت سامء إشبيلية‪ ..‬بُعد واقرتاب‬

‫‪L’homme qui veut s’instruire doit lire d’abord ,et‬‬


‫‪puis voyager pour rectifier ce qu’il a appris.‬‬

‫وصلــت إىل مدينــة إشــبيلية عــى الســاعة السادســة والنصــف متامــا‪،‬‬


‫نزلــت يف املحطــة الرئيســية التــي كانــت تشــهد زحامــا معتــرا‪ ،‬وتوجهــت‬
‫نحــو الشــارع الكبــر مشــيا‪ ،‬تــاركا الــوادي الكبــر عــى يســاري‪ ،‬املدينــة‬
‫كبــرة جــدا لدرجــة أن قرطبــة تبــدو أمامهــا كــا تبــدو عــن متوشــنت أمــام‬
‫وهــران‪.‬‬

‫اكتشــفت فــورا أننــي ارتكبــت خطــأ كبــرا عنــد الحجــز‪ ،‬ألن الفنــدق أو‬
‫باألحــرى الشــقة التــي اكرتيتهــا تبعــد عــن املدينــة بخمســة كيلومــرات‬
‫كاملــة‪ .‬صحيــح أننــي طلبــت مــن صاحــب الوكالــة الســياحية يف جويليــة‬
‫املايض أن يحجز يل يف الفنادق التي تكون قريبة من املدينة القدمية‬
‫حتــى يكــون األمــر ســهال للتنقــل والتجــول يف املواقــع التاريخيــة الرئيســية‪،‬‬
‫لكنــي ال أدري كيــف قبلــت عرضــه بــأن أكــري شــقة مــن غرفتــن بســعر‬

‫‪101‬‬
‫غرفــة صغــرة يف نــزل‪ ،‬مــع أننــي ال أحتــاج إال لرسيــر للنــوم‪ ،‬لــن أعــرف حتــى‬
‫لــون أغطيتــه حــن أرمتــي فوقــه آخــر اليــوم‪.‬‬

‫اســتغرق منــي الوقــت ســاعتني كاملتــن مــن التنقــل مشــيا وعــر مــرو‬
‫األنفــاق قبــل أن أقــف أمــام بــاب الفنــدق الــذي انفتــح بابــه الزجاجــي‬
‫أمامــي عنــد وصــويل‪ ،‬ألجــد شــابا يف االســتقبال يبــدو أنــه طالــب جامعــي‬
‫ويعمــل هنــا يف أوقــات فراغــه‪.‬‬

‫البنــاء الضخــم عبــارة مــن مجموعــة مــن الشــقق‪ ،‬ومبنــي عــى طريقــة‬
‫البنــاءات الجاهــزة التــي ميكــن إنشــاؤها وتفكيكهــا بســهولة عنــد الحاجــة‪.‬‬
‫وجــدت بانتظــاري غرفتــان ومطبــخ بكامــل تجهيزاتــه‪ ،‬وحامم واســع وموقف‬
‫ســيارات مجــاين‪ ،‬وهــدوء تــام داخــل وخــارج الفنــدق‪ .‬باختصــار‪ ،‬كل مــا ال‬
‫أحتاجــه يف عطلتــي ســيتوفر يل يف هذيــن اليومــن بإشــبيلية‪.‬‬

‫حاولــت اســتعادة معنويــايت بأخــذ حــام دافــئ خفيــف قبــل أن أخــرج‬


‫الستكشــاف املــكان الــذي عرفــت أنــه عبــارة عــن منطقــة فســيحة‪ ،‬تنتــر‬
‫فيهــا املســاحات التجاريــة الكــرى واملــوالت مبختلــف عالماتهــا‪ .‬هــذه‬
‫األمكنــة يف أوروبــا بعيــدة عــن املــدن وخاليــة مــن الحركــة وتوحــي بانعــدام‬
‫األمــن‪ ،‬لكــن مــا يــري عندنــا ليــس بالــرورة مــا يــري عنــد غرينــا‪.‬‬

‫ذهبــت إىل أحــد هــذه املســاحات التجاريــة الكــرى واشــريت بعضــا‬


‫مــن الجــن ورشائــح الســمك والعصــر لتناولهــا كعشــاء ينســيني وحشــة‬
‫املــكان الخــايل الــذي أتواجــد بــه‪ ،‬واســتلقيت يف الرسيــر الواســع‬

‫‪102‬‬
‫رب النعــاس إىل جفــوين‪ ،‬حتــى اســتيقظ يف اليــوم املــوايل‬
‫اســتعجل تـ ّ‬
‫للذهــاب إىل مدينــة إشــبيلية مــن جديــد‪.‬‬

‫صبــاح األحــد ‪ 17‬ســبتمرب‪ 2017‬يف أوروبــا مشــابه لجمعــة رمضــان يف‬


‫الجزائــر‪ ،‬فاملــرء يجــد نفســه وحيــدا يتمــى يف الشــوارع كأنــه الناجــي‬
‫الوحيــد مــن كارثــة طبيعيــة أهلكــت كل ســكان األرض‪.‬‬

‫توجهــت إىل ســاحة إســبانيا الشــهرية‪ ،‬هــذا املعلــم الــذي بنــي ســنة‬
‫‪ 1929‬مبناســبة املعــرض الــدويل الــذي ربــط بــن شــبه الجزيــرة اإليبرييــة‬
‫وأمريــكا اإلســبانية‪ .‬إنهــا ســاحة ضخمــة يحيــط بهــا بنــاء نصــف دائــري وفيــه‬
‫اصطفــت مقاعــد مــن املرمــر عددهــا مثانيــة وأربعــون مقعــدا بعــدد‬
‫املقاطعــات اإلســبانية وفــوق كل مقعــد لوحــة ترمــز ألهــم حــدث تاريخــي‬
‫وقــع يف عاصمــة املقاطعــة‪ ،‬غنــي عــن الذكــر أن مثــا أن مقاطعــة غرناطــة‬
‫وضــع يف مقعدهــا صــورة تســليم مفاتيحهــا الشــهرية‪ ،‬والتــي تجمــع أبــو‬
‫عبــد اللــه الصغــر رفقــة امللــكان فرينانــدو وإيزابيــا‪.‬‬

‫أخــذت كامــل وقتــي للوقــوف أمــام كل لوحــة كــا يفعــل كبــار املهتمــن‬
‫بالفــن‪ ،‬ثــم غــادرت الســاحة متجهــا نحــو آلــكازار أو قــر إشــبيلية الشــهري‬
‫والــذي يقــع بالقــرب مــن كاتدرائيــة إشــبيلية‪ ،‬األكــر مــن نوعهــا يف إســبانيا‬
‫ومــن بــن أكــر الكاتدرائيــات يف العــامل‪ .‬كان الطابــور الــذي ينتظــر أمــام‬
‫مدخــل القــر طويــا ومشــكال مــن أفــواج طويلــة مــن الســياح‪ ،‬لكــن‬
‫الجميــع يحــرم مكانــه يف الصــف وهــو أمــر يخفــف عنــك عنــاء االنتظــار‬
‫الطويــل ويطمــن عقليتــك املتشــككة بــأن ال أحــد ســيأخذ دورك ألن‬

‫‪103‬‬
‫اليشء يدمــر نظــام الطابــور كانعــدام الثقــة‪.‬‬

‫تحركنــا يف يــر ورسعــة بعــد فتــح البــاب الرئيســية للقــر‪ ،‬ووجــدت‬


‫نفــي أهــرول إىل الداخــل بعــد دفــع رســم الدخــول (‪ 10‬يــورو) اللتقــاط‬
‫بعــض الصــور بداخــل ســاحات القــر وقاعاتــه‪ ،‬قبــل أن تكتــظ باألعــداد‬
‫الهائلــة للســياح الذيــن البــد أن يــزوروا هــذا املــكان إن هــم أرادوا إقنــاع‬
‫أصدقائهــم وأنفســهم أنهــم حقــا كانــوا يف إشــبيلية‪.‬‬

‫ألــكازار مشــتقة مــن اللفــظ العــريب «القــر» وتطلــق يف إســبانيا عــى‬


‫كل بنــاء فخــم‪ .‬الزائــر لقــر إشــبيلية الــذي بنــي عــى أنقــاض الحصــن‬
‫اإلســامي بعــد ســقوط املدينــة ســيالحظ ذلــك التنــوع يف الطبــوع‬
‫الهندســية بــن عــريب وقوطــي وطابــع عــر النهضــة‪ .‬أمــا أشــهر قاعــة يف‬
‫القــر دون شــك فهــي «قاعــة الســفراء» املزينــة أســقفها بــكل مــا يخطــر‬
‫عــى بالــك مــن نقــوش مذهبــة‪ ،‬وأيــن اســتقبل بــن جدرانهــا املغامــر‬
‫الجنــوي كريســتوف كوملبــس مــن طــرف امللــكان فرنانــدو وإيزابيــا حيــث‬
‫منحــاه املوافقــة عــى متويــل رحلتــه نحــو الهنــد‪ ،‬لتبــدأ مــن هــذا املــكان‬
‫بالــذات قصــة والدة العــامل الجديــد‪.‬‬

‫بعــد اكتشــاف األمريكيتــن عــام ‪ ،1492‬أصبحــت مدينــة إشــبيلية‬


‫مركــزا اقتصاديــا لإلمرباطوريــة اإلســبانية تصــب فيــه الــروات القادمــة‬
‫مــن املســتعمرات األمريكيــة الجديــدة‪ ،‬وشــهدت خــال القــرن الســادس‬
‫عــر منــوا عمرانيــا كبــرا مــا تــزال آثــاره قامئــة‪ .‬فقــد أصبحــت مركــزا متعــدد‬
‫الثقافــات مــا ســاعد عــى ازدهــار الفنــون فيهــا يف الفــرة املعروفــة‬

‫‪104‬‬
‫باســم «القــرن الذهبــي» يف التاريــخ اإلســباين‪.‬‬

‫بالعــودة إىل الحدائــق ونافــورات امليــاه داخــل القــر فمناظرهــا ال متــل‬


‫منهــا العــن أبــدا‪ ،‬لــن أقــول إنهــا ذكرتنــي بحديقــة التجــارب يف الحامــة‬
‫ولكنهــا نســخة مصغــرة منهــا لكــن مــع اعتنــاء وفخامــة أوضــح‪.‬‬

‫اســتغرقت جولتــي بالقــر ســاعتني كاملتــن ولــو أن ذاتيتــي املفرطــة‬


‫الزالــت تجادلنــي يف أن أحســن القصــور وأبدعهــا يف إســبانيا يبقــى‬
‫الحمــراء دون منــازع‪ ،‬ال يف الجــال وال يف املوقــع وال يف الوقــع عــى‬
‫الــذات والــروح والذاكــرة‪.‬‬

‫القــر الــذي بنــي بعــد ســقوط املدينــة يف يــد ملــك قشــتالة يعــج‬
‫بالزخــارف اإلســامية والنقــوش العربيــة‪ ،‬ألن البنائــن مــرة أخــرى كانــوا‬
‫مــن املوريســكيني الذيــن تركــوا بصامتهــم يف القــر‪ ،‬وكان ذلــك الطــراز‬
‫أجمــل مــا توصلــت إليــه هندســة ذلــك الزمــن‪.‬‬

‫خــروج الســياح مــن هــذا املعلــم الســياحي الفريــد يكــون مــن بــاب آخــر‬
‫لتفــادي االزدحــام ومبــارشة بعــد خروجــي توجهــت مــرة أخــرى إىل ســاحة‬
‫إســبانيا نصــف الدائريــة ومنهــا دخلــت حديقــة مــاري لويــز العظيمــة التــي‬
‫تشــبه حقــا حديقــة تجاربنــا هــذه املــرة‪ ،‬ووجدتهــا عامــرة بالســياح وســكان‬
‫املدينــة معــا‪ ،‬خاصــة يف يــوم إجــازة كهــذا‪.‬‬

‫ملحــت بداخــل الحديقــة الفســيحة مبنـ ًـى جميــا بطــراز أندلــي‬


‫خالــص‪ ،‬العجــب أن يكــون هــو متحــف األندلــس ذاتــه الــذي ارتســم عــى‬

‫‪105‬‬
‫خريطــة هاتفــي النقــال ليلــة أمــس حــن كنــت أخطــط لربنامــج اليــوم‪.‬‬

‫بداخــل املبنــى الــذي ال يتجــاوز رســم دخولــه ثالثــة يوروهــات‪ ،‬أجنحــة‬


‫تعرض كل ما تعلق بالثقافة والهوية األندلسية من ألبسة ومهن وعادات‬
‫وتقاليــد وأثــاث البيــت وألعــاب األطفــال واملالبــس وأدوات املطبــخ‪..‬‬
‫الــخ وقــد أعجبتنــي جــدا طريقــة عــرض تلــك التحــف التــي يخيــل للمــرء‬
‫أنهــا تنظــف يوميــا وتســلط عليهــا إضــاءة مدروســة تبــن كل تفاصيلهــا‪،‬‬
‫وتحــرت عــى املعروضــات املوجــودة يف بعــض متاحفنــا عــر الوطــن‪،‬‬
‫والتــي يعلوهــا الغبــار أحيانــا أو تلتصــق بهــا األوســاخ مــن فــرط اإلهــال‬
‫املقصــود أو غــر املقصــود‪.‬‬

‫تجربتــي يف قرطبــة علمتنــي أن أبحــث يف الخريطــة عــن مســجد‬


‫املدينــة باللفــظ اإلســباين «مزكيتــة» مــا جعلنــي أتوجــه بســهولة نحــو‬
‫مســجد إشــبيلية الجامــع بعــد وقــت الظهــر‪ ،‬يتواجــد املســجد قــرب‬
‫محطــة لحافــات النقــل داخــل املدينــة‪ ،‬وهــو يبــدو مــن الخــارج كمتجــر‬
‫مهجــور بســتائر حديديــة مســدلة لــوال وجــود البــاب الخشــبي املزخــرف‬
‫الــذي يدخــل منــه املصلــون‪.‬‬

‫فتــح يل أحــد الشــباب امللتحــن البــاب ودخلــت للصــاة وأخــذ قســط‬


‫مــن الراحــة يف مصــى بــدا يل صغــرا جــدا مقارنــة بضخامــة املدينــة‪.‬‬
‫دعــاين الشــاب بعــد الصــاة لتنــاول الغــذاء برفقتــه يف قبــو املصــى‬
‫ونزلــت األدراج إىل األســفل ألجــد طاولــة يجلــس إليهــا بعــض اإلخــوة‪.‬‬
‫عرفتهــم بنفــي وعرفــوين بأنفســهم واحــدا بعــد آخــر‪ .‬إنهــم مــن ســكان‬

‫‪106‬‬
‫املدينــة املرشفــن عــى أنشــطة املســجد‪،‬أحدهم إســباين مســلم منــذ‬
‫ســنة ‪ 2007‬وآخــر أكــر ســنا مــن مدينــة تطــوان والثالــث شــاب مغــريب‬
‫أيضــا يســكن إشــبيلية ويبــدو أنــه مــن طلبــة العلــم‪ .‬ال أدري إن كان طبــق‬
‫اللحــم املم ـ ّرق الــذي دعــوين إليــه شــهي جــدا‪ ،‬أو أن اشــتياقي للمــرق‬
‫جعلنــي أســتل ّذ الطبــق‪ ،‬لكــن الغــذاء كان مــن أحســن مــا تناولــت منــذ‬
‫غــادرت وهــران قبــل أســبوع‪.‬‬

‫أخــرين الجامعــة أنهــم كانــوا يكــرون املحــل مببلــغ ســتامئة يــورو شــهريا‪،‬‬
‫وأنهــم كانــوا يجــد ّدون اإليجــار يف كل مــرة ويجــدون صعوبــة يف توفــر‬
‫املبلــغ‪ .‬إىل أن جــاء فريديريــك كانــويت الالعــب الــدويل املــايل إىل‬
‫فريــق بيتيــس إشــبيلية وكان مــن املواظبــن عــى الصــاة هنــا‪ ،‬وهــو الــذي‬
‫اشــرى هــذا املحــل مــن حــر مالــه ووقفــه للمســلمني منــذ ذلــك الوقــت‪.‬‬

‫تبادلــت عناويــن الفيســبوك رفقــة أخينــا اإلســباين املســلم لكنــي‬


‫الحظــت بعــد مــدة لألســف‪ ،‬أن الكثــر مــن منشــوراته كانــت موجهــة ضــد‬
‫الشــيعة والصوفيــة وأهــل البــدع والضاللــة حســب فهمــه وقــد حســبت‬
‫أن املســلم األورويب مطالــب بأولويــات دينيــة أخــرى‪ ،‬تقــع مثــل هــذه‬
‫املنشــورات الفيســبوكية التــي يضعهــا أخونــا يف آخــر قامئتهــا‪.‬‬

‫توجهــت بعــد أن ودعــت جامعــة املســجد إىل أهــم معلــم يف‬


‫إشــبيلية‪ ،‬لكــن رســم الدخــول إىل الكاتدرائيــة كان عــر يوروهــات كاملــة‬
‫ونفــس املبلــغ يجــب أن يدفــع حــن تــود تســلق منــارة الخريالــدا التابعــة‬
‫للكاتدرائيــة أو هكــذا قــرأت يف الالفتــة التــي علّقــت عنــد مدخــل أشــهر‬

‫‪107‬‬
‫معلــم يف املدينــة يقصــده الــزوار مــن كل حــدب وصــوب‪ .‬وقفــت لبعــض‬
‫اللحظــات متمعنــا يف ماكُتــب‪ ،‬لكــن ومبــا أننــي أزور املدينــة ألول مــرة فــا‬
‫يجــب أن أمــر عــى مــكان كهــذا دون دخولــه‪ ،‬ثــم إننــي ال أســتطيع أن أزور‬
‫الكاتدرائيــة دون أن أصعــد لقمــة املئذنــة وأشــاهد بداخلهــا ذلــك املمــر‬
‫املرصــوف الــذي كان املــؤذن يصعــده عــى ظهــر دابتــه لنــداء اآلذان‪.‬‬
‫لذلــك كان قــراري غــر قابــا للنقــض بإخــراج ورقــة العرشيــن يــورو مــن‬
‫جيبــي ونســأل اللــه التعويــض فاملــرء ال يخــر أبــدا عنــد أول تجربــة كــا‬
‫يقــال‪.‬‬

‫أكــر يشء يخطــف األبصــار داخــل الكاتدرائيــة هــو لوحــة مجســمة مــن‬
‫حيــاة املســيح (يف ديانــة املســيحيني) مصنوعــة مــن الذهــب الخالــص‬
‫بطــول أربعــن مــرا‪ ،‬وضعوهــا داخــل قفــص حديــدي ضخــم (يبــدو أنهــا‬
‫تختــزن كميــة كبــرة مــن ذهــب األمريكيتــن الــذي اســتحوذ عليــه اإلســبان‬
‫يف بدايــة غزوهــم للعــامل الجديــد) وغــر بعيــد عــن اللوحــة يرقــد جثــان‬
‫مهنــدس هــذه الرحلــة كريســتوف كولومبــس تحــت نفــس الســقف‪ .‬أتذكــر‬
‫أن أول مرة ســمعت فيها بهذا االســم كان يف ســنتي اإلبتدائية السادســة‬
‫مــن خــال رســوم متحركــة تتحــدث عــن هــذا الشــاب الجنــوي املغامــر‬
‫الــذي انطلــق بســفنه نحــو الهنــد ليكتشــف أمريــكا بالخطــأ يف نفــس ســنة‬
‫ســقوط غرناطــة‪ ،‬وأتذكــر أننــي منــذ ذلــك الوقــت مل أكــن أتعاطــف كثــرا‬
‫مــع هــذا املكتشــف‪ ،‬الــذي رافقــه يف الرســوم املتحركــة بحــار عــريب اســمه‬
‫مــوىس الريّــاش‪ ،‬وال أعــرف إن كان يف ذلــك جــز ًءا مــن الحقيقــة‪ ،‬علــا أن‬
‫الكثــر مــن الشــواهد اليــوم تؤكــد أن أقوامــا كثــرة ومنهــم العــرب قــد وصلــوا‬

‫‪108‬‬
‫إىل أمريــكا قبــل مجــيء الــي كولومبــس هــذا‪.‬‬

‫بعــد جولــة تحــت أســقف هــذه الكاتدرائيــة الشــاهقة العلــو‪ ،‬اتجهــت‬


‫مرسعــا نحــو املئذنــة الشــامخة التــي تشــق ســاء املدينــة عموديــا بطــول‬
‫أكــر مــن تســعني مــرا والتــي يتــم ولوجهــا مــن داخــل الكاتدرائيــة‪ ،‬وبــدأت‬
‫الصعــود رفقــة مجموعــة مــن الســياح كانــوا يبــدون اندهاشــهم مــن وجــود‬
‫مبنــى بهــذه الصفــة قبــل تســعة قــرون مــن اآلن‪.‬‬

‫أجمــل منظــر ميكــن للمــرء أن يــراه ملدينــة إشــبيلية القدميــة هــو مــن‬
‫عــى هــذا الــرج‪ ،‬والــذي ســمي بالجريالــدا نســبة للتمثــال املنتصــب يف‬
‫األعــى والــذي يــدور مــع حركــة الريــاح منــذ ‪ 1568‬واســمه الخريالديــو أو‬
‫دوارة الريــاح‪.‬‬

‫الــرج يف األصــل مئذنــة لجامــع املوحديــن بنــاه أبــو يوســف يعقــوب‬


‫املنصــور ســنة ‪ ،1197‬ويقــال إن زالزل مدمــرة تعاقبــت عــى املدينــة‬
‫ســاهمت يف تدمــر قمتهــا‪ ،‬قبــل أن يحولهــا اإلســبان بدايــة القــرن‬
‫الخامــس عــر إىل الشــكل الــذي هــي عليــه اآلن‪.‬‬

‫مــن عــى قمــة بــرج الخريالــدا أمكننــي رؤيــة أســطح منــازل إشــبيلية وقــد‬
‫تحولــت بعضهــا إىل مســابح وحدائــق ومطاعــم راقيــة كــا رأيــت أجراســا‬
‫ضخمــة منتصبــة يف أعــاه يصعــب التصديــق واإلقــرار أنهــا تعتــي مئذنــة‬
‫يف األســاس‪.‬‬

‫قضيــت وقتــا ليــس بالقصــر يف قمــة الخريالــدا اللتقــاط أنفــايس‬

‫‪109‬‬
‫والتمتــع برؤيــة مزيــد مــن املناظــر يف األســفل قبــل الخــروج مــن املبنــى‬
‫والعــودة إىل شــوارع إشــبيلية العامــرة يف املســاء‪.‬‬

‫ال أعــرف ملــاذا أحجمــت عــن الدخــول إىل بــرج الذهــب الــذي ينتصــب‬
‫كربج شامخ عىل ضفة نهر الوادي الكبري‪ ،‬ويشكل رفقة الجريالدا ثنائية‬
‫أيقونــة إشــبيلية لــكل األوقــات‪ .‬واكتفيــت بالذهــاب ملحطــة حافــات‬
‫صغــرة غــر بعيــد عــن ســاحة إســبانيا لــراء تذكــرة الذهــاب غــدا إىل‬
‫مدينــة رنــدة يف مقاطعــة مالقــة‪.‬‬

‫كان ذلــك إشــارة يل عــى انطــاق العــداد العكــي لنهايــة رحلتــي‬


‫ودخولها مراحلها األخرية رغم أن مازال أمامي املزيد ألتعلمه وأكتشفه‪..‬‬

‫‪110‬‬
‫إشبيلية وجه إسبانيا القديم‪ ..‬والجديد أيضا‬

‫‪Voyager est un triple plaisir : l’attente ,l’éblouisse-‬‬


‫‪ment et le souvenir‬‬

‫بعــد الحصــول عــى تذكــرة الحافلــة املنطلقــة إىل رنــدة يف اليــوم‬


‫املــوايل‪ ،‬ذهبــت للجلــوس عــى ضفــة نهــر الــوادي الكبــر والتمتــع مبناظر‬
‫الســفن التــي تنزلــق عــى ســطح النهــر جيئــة وذهابــا‪ ،‬وعــى ظهرهــا ســياح‬
‫جــاؤوا الكتشــاف املدينــة مــن خــال هــذا املجــرى املــايئ الــذي يزيّنهــا‬
‫ويزيــد يف جــال جوهــا املنعــش‪ .‬مــن حــظ الســكان يف أوروبــا أن تطــل‬
‫مدنهــم عــى أنهــار مائيــة جميلــة ودامئــة الجريــان‪ ،‬بينــا الزالــت املــدن‬
‫عندنــا تتوســع يف قلــب أوديــة نامئــة تســتيقظ عــى حــن غــرة لتجــرف‬
‫معهــا األخــر واليابــس‪.‬‬

‫مل أنــس يف طريقــي أيضــا زيــارة واحـ ٍـد مــن أجمــل وأفخــم الفنــادق يف‬
‫إســبانيا ورمبــا يف العــامل كلــه; فنــدق ألفونســو الســادس الــذي بُنــي‬
‫يف العرشينــات عــى الطــراز النيوموديخــاري األندلــي‪ ،‬والــذي يعتــر‬

‫‪111‬‬
‫جوهــرة املعــار يف زمانــه‪ .‬ال داعــي للقــول أن الفنــادق هنــا مهــا كانــت‬
‫قيمتهــا فــإن قيمــة الداخــل إليهــا أكــر وأهــم‪ ،‬ألنهــا يف النهايــة بنيــت مــن‬
‫أجلــه‪ ،‬ولذلــك كان ولوجــي إىل الداخــل ســهال جــدا ودون أن يســألني‬
‫أحــد مــن أيــن جئــت وإىل أيــن تغــدو‪.‬‬

‫الحظــت باملناســبة أن املبــاين يف إشــبيلية تتميــز ببــذخ هنــديس‬


‫متكلــف‪ ،‬وتصميــات معامريــة فريــدة‪ ،‬حيــث تتزيــن واجهتهــا بأشــكال‬
‫وألــوان وزينــة مثــرة لالعجــاب واالنتبــاه‪ ،‬أمــا جــذور كل ذلــك فتعــود إىل‬
‫بدايــات االكتشــافات الجغرافيــة األمريكيــة التــي بــدأت مــن هــذا املــكان‪،‬‬
‫والتــي جعلــت مــن املدينــة مركــزا يتحكــم يف دواليــب التجــارة مــع العــامل‬
‫الجديــد‪ .‬وقــد أعطاهــا موقعهــا عــى ضفــة الــوادي الكبــر (تبعــد بثامنــن‬
‫كيلومــرا عــن مصبــه يف املحيــط األطلــي) حصانــة طبيعيــة جعلتهــا‬
‫يف مأمــن مــن غــارات األســاطيل املعاديــة (اإلنجليزيــة بالخصــوص) ومــا‬
‫تســمية بــرج املراقبــة العــريب الشــهري يف إشــبيلية بــرج الذهــب إال دليــل‬
‫آخــر عــى كميــة املعــادن الثمينــة التــي وجــدت طريقهــا إىل املدينــة‬
‫وســكانها بدايــة مــن القــرن الســادس عــر‪ ،‬والــرج اليــوم عبــارة عــن متحــف‬
‫بحــري‪ ،‬بينــا يعــد مينــاء إشــبيلية املينــاء النهــري الوحيــد يف إســبانيا‬
‫اليــوم‪.‬‬

‫الــوادي الكبــر هــو اســم خامــس أطــول نهــر يف بــاد األندلــس‪ ،‬وقمــة‬
‫مــوالي الحســن هــي أعــى قمــة جبليــة بشــبه الجزيــرة اإليبرييــة كلهــا‪ ،‬فيــا‬
‫تعتــر قمــة املنصــور أعــى القمــم يف وســط إســبانيا‪ .‬التأثــر العــريب ظــل‬

‫‪112‬‬
‫يســكن املــاء والحجــر واالنســان والتاريــخ والجغرافيــا واللســان اإلســباين‬
‫رغــم كل األحــداث املأســاوية التــي عرفتهــا األندلــس لتطهــر هــذا‬
‫الوجــود العــريب واإلســامي‪ .‬لقــد أرادت اإلمرباطوريــة اإلســبانية حاملــة‬
‫لــواء املســيحية يف العــامل أن متحــو هــذا الوجــود بأكــر الطــرق قســوة‬
‫ومأســاوية‪ ،‬لكنهــا مل تنجــح إال مبقــدار مــا يجعــل األندلــس كمريــض‬
‫الزهاميــر‪ ،‬الــذي يــرى نفســه يف املــرآة وال يعرفهــا‪ ،‬بينــا يعرفــه اآلخــرون‬
‫فيســتمر موجــودا لديهــم باســمه وأصلــه ومكانتــه‪.‬‬

‫عرفــت إشــبيلية ســنة ‪ 1992‬حدثــا مهــا‪ ،‬جعلهــا تســتقبل يف ســنة‬


‫واحــدة أزيــد مــن أربعــن مليــون زائــر‪ ،‬مبناســبة املعــرض الــدويل الــذي‬
‫نظــم بهــا بعــد مــرور خمســائة عــام عــى اكتشــاف أمريــكا‪ .‬لقــد أعطــى‬
‫هــذا املعــرض الــذي شــاركت فيــه أكــر مــن مائــة دولــة دفعــة قويــة للتنميــة‬
‫غــرت مــن شــكل عاصمــة إقليــم األندلــس‪ ،‬حيــث اســتفادت مــن طــرق‬
‫وشــبكات ســكك حديديــة رسيعــة نحــو العاصمــة مدريــد‪ ،‬وتوســيع‬
‫للمطــار‪ ،‬وتهيئــة مجــرى نهــر الــوادي الكبــر مــع تشــييد ســتة جســور كاملــة‬
‫تعــر النهــر‪ ،‬إضافــة إىل منشــآت قاعديــة أخــرى زادت مــن شــهرة املدينــة‬
‫قاريــا ودوليــا وجعلتهــا تتصــدر أغلفــة املجــات والنــرات االخباريــة‬
‫آنــذاك (إضافــة إىل األلعــاب األوملبيــة بربشــلونة)‪.‬‬

‫مثــل هــذه املناســبات الضخمــة‪ ،‬تعطينــا فكــرة عــن الفــرص التــي ميكــن‬
‫أن نجنيها من تنظيم تظاهرات دولية ندعو إليها أناســا من خارج الوطن‪،‬‬
‫ال يك نثقــل كاهــل الخزينــة العموميــة مبزيــد مــن املصاريــف‪ ،‬بــل مــن أجــل‬

‫‪113‬‬
‫أن نســتثمر كل ذلــك بحكمــة يف جلــب مزيــد مــن االســتثامرات واألربــاح‪.‬‬
‫وأتذكــر هنــا إجابــة أحــد األصدقــاء الــذي ســألته عــن التغيــر الــذي الحظــه‬
‫كمواطــن يف ع ـ ّز تظاهــرة عاصمــة الثقافــة اإلســامية بتلمســان حيــث‬
‫أخربين مازحا أن أهم ما تغري هو ســعر القميص الذي كان يقتنيه بألف‬
‫دينــار آنــذاك وأصبــح بعــد إقامــة التظاهــرة بألــف وخمســائة‪.‬‬

‫يف نهايــة املســاء ركبــت ميــرو األنفــاق عائــدا إىل حــي كامــاس يف‬
‫الضاحية الغربية للمدينة‪ ،‬أين تتمىش مبفردك مبحاذاة الطرق الرسيعة‬
‫دون أن تصادف شــخصا واحدا‪ .‬وصلت إىل فندقي واستســلمت لنوم‬
‫رسيع هذه املرة‪ ،‬عىل أمل أن أســتيقظ مبكرا صباح اإلثنني ‪ 18‬ســبتمرب‬
‫‪ 2017‬للمغادرة يف حافلة الواحدة زواال نحو مقاطعة مالقة املجاورة‪.‬‬
‫حزمــت أمتعتــي ووضعتهــا عنــد موظــف االســتقبال قبــل أن أتوجــه خــارج‬
‫الفنــدق راجــا نحــو املســاحات التجاريــة الكــرى املحيطــة بــه‪ ،‬أيــن تنتــر‬
‫محــات بيــع األثــاث والســراميك والســيارات واأللبســة وكل أنــواع الســلع‬
‫التــي تخطــر عــى بــال‪ .‬زرت مــرة أخــرى املحــل الضخــم للــوازم الرياضيــة‬
‫(ديكاتلــون) لــراء بعــض املقتنيــات‪ ،‬فمــن ُس ـ ّنة املســافر عندنــا أن‬
‫يعــود ببعــض الهدايــا مــن ســفره حتــى لــو كانــت نفــس املشــريات متوفــرة‬
‫بالجزائــر‪ ،‬لكــن مجــرد حملهــا يف حقيبــة الســفر يعطــي لهــا نكهــة وطعــا‬
‫آخــر عنــد الوصــول ملســتحقيها يف أرض الوطــن‪.‬‬

‫أصبحــت اآلن مثقــا بثــاث حقائــب وقفــة صغــرة‪ ،‬لكــن الحمولــة مل‬
‫تكــن تزيــد عــن املعقــول‪ ،‬وكل املحتويــات كانــت مرتبــة بشــكل مناســب‪،‬‬

‫‪114‬‬
‫ورغــم أننــي أعــاين مــن أعــراض الفــوىض وســوء التنظيــم يف حيــايت‬
‫اليوميــة‪ ،‬إال أن هــذه العطلــة كانــت فرصــة يل للتحــي بــيء مــن الجديــة‬
‫يف موضــوع ترتيــب األمتعــة‪.‬‬

‫صحيــح أننــي تجولــت قليــا يف شــوارع إشــبيلية الرئيســية التــي‬


‫أحسســت أننــي مل أزرهــا مبــا فيــه الكفايــة‪ ،‬لكــن عــزايئ دامئــا يف جملــة‬
‫ـول» فمــن املســتحيل أن نكتشــف كل مــا تحويــه هــذه‬
‫ـي بــاش تـ ّ‬
‫«خـ ّ‬
‫الحــارضة مــن كنــوز هندســية وفنيــة وجامليــة إال إن عدنــا إليهــا مــن جديــد‬
‫يف مناســبة أخــرى‪.‬‬

‫قبــل الســفر إىل إســبانيا حاولــت أن أتعلــم بعضــا مــن مفــردات هــذه‬
‫اللغــة‪ ،‬كــا قمــت بتحميــل عــدد مــن األرشطــة الوثائقيــة اإلســبانية يك‬
‫أدخــل يف أجــواء الســفر قبــل بدايتــه‪ ،‬وطبعــا كان النصيــب األكــر مــن‬
‫التحضــر هــو قــراءة أكــر عــدد ممكــن مــن الكتــب حــول األندلــس ماضيــا‬
‫وحــارضا‪ ،‬واكتشــفت مــن خــال ذلــك عديــد األشــياء التــي كنــت أجهلهــا‪،‬‬
‫ومنهــا أن املــدن الســياحية اإلســبانية املعروفــة ليســت الوحيــدة التــي‬
‫تغــري املســافر بزيارتهــا‪ ،‬بــل إن هنــاك مجموعــة مــن البلــدات األندلســية‬
‫الصغــرة ليســت أقــل جــاال وإثــارة مــن الحــوارض الكــرى‪ ،‬وميكــن أن‬
‫يقــي فيهــا الســائح أوقاتــا جميلــة‪.‬‬

‫عــدد كبــر مــن هــذه البلــدات أو القــرى البيضــاء (نســبة للــون األبيــض‬
‫الــذي يكســو منازلهــا) تتواجــد مبقاطعــة مالقــة أمــا أروعهــا عــى اإلطــاق‬
‫كــا بــدا يل فهــي ‪ :‬رن ــدة‪..‬‬

‫‪115‬‬
‫رندة‪ ..‬العلو والعمق‬

‫‪A man does not belong to the place where he was‬‬


‫‪born ,but where he chooses to die‬‬

‫قبــل ســت ســنوات مــن اآلن عملــت يف قســنطينة ضمــن فريــق إنتــاج‬
‫تلفزيــوين‪ ،‬وكان معنــا مديــر تصويــر شــاب مــن إســبانيا‪ .‬املصــور أعجــب‬
‫كثــرا باملدينــة وقــال يل أنهــا تشــبه بشــكل كبــر بلــدة صغــرة يف جنــوب‬
‫إســبانيا لكنــه نــي اســمها‪.‬‬

‫بحــث صغــر يف األنرتنيــت مكننــي مــن اكتشــاف هــذه املدينــة التــي‬


‫بنيــت عــى صخــرة كبــرة وتطــل عــى واد عميــق متامــا كمدينــة الجســور‬
‫عندنــا‪ ،‬لــوال أن قســنطينة أكــر بكثــر وال مجــال ملقارنــة املدينتــن مــن‬
‫حيــث الحجــم‪.‬‬

‫ـر اللــه‬
‫كنــت أتشــوق لزيــارة هــذه البلــدة يف يــوم مــن األيــام‪ ،‬إىل أن يـ ّ‬
‫يل هــذه الرحلــة أيــن اكتشــفت قبــل الوصــول إىل بلــدة رنــدة أن هــذه‬

‫‪116‬‬
‫األخــرة هــي مســقط العــامل العــريب وصاحــب أول محاولــة طــران يف‬
‫التاريــخ عبــاس بــن فرنــاس‪ ،‬كــا ينســب إليهــا الشــاعر أبــو البقــاء الرنــدي‬
‫صاحــب املرثيــة الشــهرية لألندلــس والتــي نحفــظ جميعــا أوىل أبياتهــا‪:‬‬

‫لكل يشء إذا ما تم نقصان ‪ ..‬فال يغرن بطيب العيش إنسان‬


‫رسه زمن ساءته أزمان‬
‫هي األمور كام شاهدتها دول ‪ ..‬من ّ‬

‫علــا أن أبــا البقــاء تــويف قبــل قرنــن مــن ســقوط رنــدة يف يــد فرنانــدو‬
‫وايزابيال ســنة ‪ 1485‬وأن القصيدة التي نظمها ويكاد ال يشــتهر بســواها‪،‬‬
‫جــاءت الســتنصار املرينيــن ضــد التوســع املســيحي يف الشــال‪ ،‬بعــد‬
‫ســقوط قرطبــة وإشــبيلية (صحيــح أن مــن يقــرأ قصيدتــه بكاملهــا يظنهــا‬
‫تصــف مــا وقــع للمســلمني غــداة ســقوط غرناطــة بــل ونحــن مــن الهــوان مــا‬
‫يجعلهــا تصــف حالنــا اليــوم دون مبالغــة)‪.‬‬

‫مثــن التذكــرة مــن إشــبيلية إىل رنــدة ال يتجــاوز ‪ 13‬يــورو‪ ،‬والطريــق إليهــا‬
‫يعــر مناظــر طبيعيــة ال تخلــو مــن انتشــار منــازل املزارعــن هنــا وهنــاك‪،‬‬
‫مــع بعــض القــرى الصغــرة التــي تســتقر يف ســفوح الجبــال آمنــة مطمئنــة‪،‬‬
‫يأتيهــا رزقهــا رغــدا مــن األرايض املزروعــة املجــاورة‪.‬‬

‫عنــد االقــراب مــن موقــع البلــدة بــدأت الحافلــة يف تســلق طريــق‬


‫مليئــة باملنعرجــات‪ ،‬وكنــت أســتمتع أحيانــا برؤيــة املناظــر عــر النافــذة‬
‫وأســتعجل تــارة أخــرى لحظــة الوصــول‪ ،‬عــر متابعــة ســر الحافلــة عــى‬
‫شاشــة هاتفــي الــذيك‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫وصلــت قبــل مغيــب الشــمس إىل رنــدة‪ ،‬وكانــت محطــة الحافــات‬
‫صغــرة وتقــع تحــت بنايــة ســكنية مــن خمــس طوابــق رمبــا كانــت األعــى‬
‫يف كل البلــدة‪ .‬توجهــت مبــارشة إىل الفنــدق لوضــع األمتعــة وخرجــت‬
‫يف جولــة صغــرة يف الجــوار‪.‬‬

‫كانــت الشــمس تقــرب مــن موعــد املغــادرة عنــد وصــويل للجــر‬


‫الجديــد كــا يســمى‪ ،‬والــذي يعتــر أهــم معلــم برنــدة‪ ،‬ومنــه ميكنــك أن‬
‫تطــل عــى أخــدود عميــق يقســم املدينــة إىل نصفــن‪.‬‬

‫البلــدة هادئــة جــدا واإلضــاءة فيهــا تعطيــك جــوا مــن الرومانســية‬


‫والنشــوة مل أجــده يف أي مدينــة قبــا‪ .‬متشــيت دون هــدف عــر شــوارع‬
‫البلــدة الضيقــة التــي أشــعرتني أنهــا تحتضــن هــذا الزائــر ألول مــرة بــيء‬
‫مــن األلفــة والحميميــة واالهتــام‪ .‬والحقيقــة أننــي أحببــت رنــدة حتــى قبــل‬
‫أن أراهــا لكــن مــن يراهــا ســيحبها أكــر دون شــك‪ ،‬فرنــدة ال تطلــب منــك‬
‫أن تكــون إرنســت هيمينغــواي شــخصيا حتــى تقــع يف غرامهــا (ســبق‬
‫لصاحــب روايــة الرجــل والبحــر أن أقــام بهــا مــدة مــن الزمــن)‪.‬‬

‫تنــام البلــدة كــا يبــدو باكــرا جــدا (بالنســبة ملوقــع ســياحي) ووجــدت‬
‫نفــي بعــد مــرور زمــن مل أدري كيــف مــر برسعــة‪ ،‬أين شــبه وحيــد أتجــول‬
‫يف قريــة حــان األوان أن أطــرق بــاب أحــد مطاعمهــا مــن أجــل تنــاول وجبــة‬
‫العشــاء‪ .‬مل تكــن املســافة بعيــدة بــن الفنــدق ووســط املدينــة ومطعــم‬
‫الحــال الــذي توجهــت إليــه اللتهــام بســطيلة مغربيــة شــهية قدمتهــا‬
‫يل صاحبــة املطعــم التــي كانــت تعمــل رفقــة زوجهــا الباكســتاين‪ ،‬وكان‬

‫‪118‬‬
‫أوالدهــا يلعبــون يف أرجــاء املطعــم املتواضــع‪ .‬ارتحــت كثــرا لهــذا‬
‫الوضع شــبه العائيل‪ ،‬بعد معانايت كســائح مترشد يف إشــبيلية‪ ،‬بســبب‬
‫بعــد املســافة وتعــب التنقــل‪.‬‬

‫عــدت إىل الفنــدق واســتلقيت عــى فــرايش منتظــرا رشوق شــمس‬


‫الغــد حتــى أبــارش جولتــي الصباحيــة‪ ،‬واســتفدت قليــا مــن مراجعــة‬
‫بعــض املواقــع الســياحية عــى االنرتنيــت عــر الهاتــف‪ ،‬حتــى أدرك‬
‫الخلفيــة التاريخيــة واإلنســانية لألماكــن التــي ســأزورها‪.‬‬

‫اســتيقظت صبــاح الثالثــاء ‪ 19‬ســبتمرب ‪ 2017‬يف خفــة ونشــاط‬


‫ونزلــت إىل مطعــم النــزل‪.‬كان الفنــدق صغــرا ومتواضعــا وقــد زينــت‬
‫جدرانــه بصــور مــن كل األحجــام واأللــوان ألبطــال مصارعــة الثــران والثــران‬
‫ذاتهــم‪ ،‬وكل مــا تعلــق بهــذه الرياضــة اإلســبانية املثــرة للجــدل‪.‬‬

‫ال تفتخــر رنــدة مبوقعهــا الطبيعــي االســتثنايئ يف الجغرافيــة األندلســية‬


‫وحســب‪ ،‬بــل تفتخــر أيضــا باحتضانهــا ألقــدم حلبــة ثــران يف إســبانيا‬
‫كلهــا تــم تشــييدها ‪ 1784‬ولعــل هــذا مــا يفــر تحــول ال ّنــزل إىل مــا يشــبه‬
‫املتحــف املصغــر لرياضــة مصارعــة الثــران‪ ،‬مــن خــال امللصقــات‬
‫والصــور التــي تضــج بهــا جدرانــه‪ .‬علــا أن أكــر مــن أربعامئــة حلبــة عــر‬
‫إســبانيا تشــهد مامرســة هــذه النشــاط الجامهــري عــدا حلبــات إقليــم‬
‫كتالونيــا وجــزر الكنــاري‪ .‬بينــا ال يتواجــد يف القــارة اإلفريقيــة إال حلبتــان‬
‫ملصارعــة الثــران األوىل يف وهــران بحــي األمــر خالــد‪ ،‬والثانيــة بطنجــة‬
‫املغربيــة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫قاعــة املطعــم كانــت ضيقــة جــدا ال تحــوى ســوى أربــع طــاوالت صغــرة‬
‫مــن األثــاث العتيــق وبجوارهــا كان هنــاك مطبــخ صغــر وجــدت نفــي‬
‫مضطــرا لدخولــه وتحضــر فطــوري بنفــي‪ ،‬بعــد تأخــر صاحــب النــزل عــن‬
‫املجيــئ‪ ،‬كــا قمــت بتقديــم املســاعدة لبعــض النــزالء مــن األمريــكان‬
‫(مــن كبــار الســن) ظنــوا أننــي املكلــف بهــذه املهمــة‪ ،‬ومل أمانــع يف‬
‫تقمــص الــدور لبعــض الوقــت‪.‬‬

‫خرجــت بعــد اإلفطــار يف جولــة صباحيــة قبيــل رشوق الشــمس بقليــل‬


‫وكان الجــو منعشــا جــدا‪ ،‬توجهــت إىل حافــة البلــدة التــي تســتقر فــوق‬
‫صخــرة ضخمــة ورحــت أطــل مــن فــوق هــذه الرشفــة الطبيعيــة عــى مشــهد‬
‫ريفــي بديــع‪.‬‬

‫مــن املعــروف أن الســائح الحــايل ال يــرى املناظــر بعدســة عينيــه بقــدر‬


‫مــا يحــب مشــاهدتها مــن وراء عدســة الكامــرا لتخليــد مــا يعتقــده لحظــة‬
‫مهمــة أو معلــا جميــا أو منظــرا طبيعيــا جديــرا بالتصويــر‪ .‬صحيــح أن‬
‫الصــورة قصيــدة دون كلــات وحكايــة دون رسد تحبــس شــيئا مــن الزمــن‬
‫يف لحظــة وتثــر الحنــن ملــاض قــد ال يعــود‪ ،‬لكــن هــل يجعلنــا ذلــك‬
‫التوثيــق املســتمر لــكل لحظاتنــا يف األمكنــة الجديــدة أكــر إحساســا بهــا‬
‫أم أنــه يوهمنــا بســعادة مكذوبــة نتق ّمصهــا دون شــعور بحقيقتهــا؟ يخيــل‬
‫يل أحيانــا واللــه أعلــم أننــا كنــا نعيــش أجمــل اللحظــات بــدون أن نوثقهــا‪،‬‬
‫وأصبحنــا اآلن نوثــق أجمــل اللحظــات بــدون أن نعيشــها‪..‬‬

‫ســتجد يف املــدن اإلســبانية متاثيــل حجريــة لبعــض الشــخصيات‬

‫‪120‬‬
‫املهمــة‪ ،‬يف مفرتقــات الطــرق أو يف الحدائــق العامــة‪ ،‬منتصبــة فــوق‬
‫منصــات عاليــة‪ .‬لكنهــم يضعــون بعــض التامثيــل أيضــا لشــخصيات‬
‫معــارصة قــد تجدهــا واقفــة بجانبــك يف ســاحة عامــة (الحظــت ذلــك‬
‫يف أملريــة أيضــا) أو تتفاجــئ بجلوســها عــى مقعــد يف وســط حديقــة‬
‫عموميــة إمعانــا يف جعلهــا أقــرب إىل النــاس ومــن تلــك التامثيــل مجســم‬
‫لشخصية أندلسية معارصة شهرية جدا يف هذه الربوع‪ ،‬وتحمل اسمها‬
‫العديــد مــن الســاحات والشــوارع عــر املــدن األندلســية التــي زرتهــا‪ ،‬وقــد‬
‫وجــدت متثالــه واقفــا كــا يقــف الراجلــون واملتجولــون يف ســاحة البلديــة‬
‫برنــدة‪ .‬إنــه الشــهيد بــاس إينفانتــي‪.‬‬

‫قصــة هــذه الشــخصية مثــرة جــدا مل أســمع بهــا يف أي مقــرر تاريخــي‬


‫عندنــا‪ ،‬رغــم أهميتــه املصرييــة يف تاريــخ األندلــس املعــارص‪ ،‬الــذي أرى‬
‫مــرة أخــرى أننــا ال نحســن ســوى التغنــي بلوعــة فراقــه دون البحــث يف‬
‫بدائــل بعثــه مــن جديــد‪ .‬فقــد كان كان إينفانتــي واحــدا ممــن أحيــوا اآلمــال‬
‫يف بعــث القوميــة األندلســية مــن رمــاد التاريــخ‪ ،‬لكــن الرصاصــات التــي‬
‫أنهــت حياتــه مل تســعفه لــرى تجســيد مــا ناضــل مــن أجلــه ولــو أنهــا خلدتــه‬
‫لألبــد أبــا دون منــازع للهويــة األندلســية‪.‬‬

‫أصيل بلدة قرشيش مبقاطعة مالقة ناضل طيلة بداية القرن العرشين‬
‫يف جــو مشــحون بالتقلبــات السياســية واإليديولوجيــة يف إســبانيا مــن‬
‫أجــل قوميــة أندلســية متصالحــة مــع جذورهــا اإلســامية وهويتهــا العربيــة‪،‬‬
‫وكان هــو مــن اقــرح العلــم األندلــي الحــايل الــذي يتكــون مــن حاشــيتان‬

‫‪121‬‬
‫خــراوان تتوســطهام حاشــية بيضــاء‪ ،‬اســتوحاه مــن رايــة املوحديــن التــي‬
‫تــم رفعهــا فــوق مئذنــة إشــبيلية بعــد انتصارهــم يف معركــة األرك‪.‬‬

‫أســلم بــاس إينفانتــي لــدى زيارتــه للمغــرب ســنة ‪( 1924‬رغــم إنــكار‬


‫عائلتــه لذلــك) ومل يكــن مــن املتعاطفــن مــع الكنيســة لدورهــا املقيــت‬
‫يف حــروب االســرداد‪ ،‬وال متفقــا مــع الشــيوعية لتعــارض بعــض مبادئهــا‬
‫مــع الديــن الحنيــف‪ ،‬وكان يعتقــد أن األندلــس مــن حقهــا أن تعــود كوحــدة‬
‫دينيــة ولغويــة كــا كانــت عليــه يف العــر اإلســامي‪ ،‬وتتمتــع باســتقالل‬
‫كامــل كدولــة حــرة‪ ،‬بــل وحــث أنصــاره عــى النضــال املســتمر كــا فعــل‬
‫أجدادهــم املوريســكيون املســلمون‪.‬‬

‫لقــي بــاس إينفانتــي نفــس مصــر الشــاعر األندلــي فيديريكــو لــوركا‪،‬‬


‫حيث اغتالته عصابات الفالنجا رميا بالرصاص يف بدايات عهد فرانكو‪،‬‬
‫لكــن التاريــخ الحديــث اإلســباين وحتــى دســتور منطقــة الحكــم الــذايت‬
‫لألندلــس خلّــد هــذا املحامــي كأب روحــي للقوميــة االندلســية‪ ،‬رغــم أن‬
‫بعــض مؤرخــي إســبانيا كانــوا يفضلــون لــو كان إنفانتــي قوميــا كاثوليكيــا أو‬
‫شــيوعيا ماركســيا أو حتــى ملحــدا‪ ،‬ومل يهتمــوا كثــرا بإســامه الــذي جنــى‬
‫عليــه آنــذاك معارضــة اليمــن واليســار‪ ،‬وأرجعــوا عالقتــه بالهويــة العربيــة‬
‫واإلســامية إىل مجــرد حــب اطــاع عــى الثقافــات املجــاورة ليــس إالّ‪.‬‬

‫الســياح العرب يف إســبانيا يف العادة‪ ،‬ال يهمهم من تاريخ البلد وآثاره‬


‫سوي ما حدث ما بني ‪ 711‬تاريخ الفتح اإلسالمي و‪ 1492‬تاريخ سقوط‬
‫غرناطــة وبــكاء أيب عبــد اللــه وجــواب أمــه عائشــة ببيتــي الشــعر الشــهريين‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫رغــم أن هنــاك عديــد األحــداث والشــخصيات الجديــرة باإلطــاع ولــو‬
‫بشــكل ســطحي‪ ،‬ليــس أولهــا ثــورة جبــال البشــارات نهايــة القــرن الســادس‬
‫عــر مــن طــرف املوريســكيني (روايــة البــرات نبضــة األندلــس األخــرة‬
‫إلبراهيــم أحمــد عيــى مــن أحســن مــا كتــب يف هــذا املوضــوع بشــكل‬
‫روايئ) وليــس آخرهــا اســتحواذ الجــرال فرانكــو عــى مقاليــد األمــور‬
‫يف إســبانيا بعــد انتصــاره بفضــل جيــش مــن املغاربــة املســلمني أو‬
‫الريغوالريــس (جلّهــم مــن الريــف اإلســباين آنــذاك) والذيــن ســاهموا مــرة‬
‫أخــرى يف النيــل مــن صــورة املوريســي لــدى املخيلــة الشــعبية اإلســبانية‬
‫وكل هــذه األحــداث جديــرة باالطــاع واالهتــام ملعرفــة كثــر مــن األمــور‬
‫املعــارصة‪.‬‬

‫كان أمامــي نصــف يــوم ملشــاهدة أهــم معــامل رنــدة قبــل التوجــه مســاء‬
‫إىل مدينــة مالقــة‪ ،‬وكان ذلــك وقتــا كافيــا جــدا‪ ..‬أمــا أول معلــم قمــت‬
‫بزيارتــه فهــو حاممــات املدينــة املوروثــة مــن العهــد اإلســامي والتــي تتميــز‬
‫بأنهــا الوحيــدة يف بــاد األندلــس التــي حافظــت عــى شــكلها القديــم‬
‫وكل مكوناتهــا الهندســية والهيدروليكيــة‪..‬‬

‫‪123‬‬
‫وداعا رندة‪ ..‬أهال مالقة‬

‫‪Chaque voyage est le rêve d’une nouvelle nais-‬‬


‫‪sance‬‬

‫تقــع الحاممــات العربيــة برنــدة يف الجــزء القديــم مــن املدينــة‪ ،‬بالقــرب مــن‬
‫القنطــرة العربيــة األوىل التــي ال تــزال عــى حالهــا اليــوم‪ .‬جديــر بالذكــر أن مــا‬
‫تركــه العــرب هنــا مــن آثــار الزال صامــدا رغــم مـ ّر الســنني‪ .‬ورغــم أننــا ورثنــا (نحــن‬
‫» والــذي‬ ‫الجزائريــون) مــن املســتعمر الفرنــي تعبــر‬
‫يقرتن يف مخيلتنا بالكســل وســوء اإلتقان وانعدام اللمســة الفنية‪ ،‬إال أن‬
‫العمــل العــريب يف إســبانيا عكــس ذلــك متامــا‪ ،‬فــكل مــا تركــه املســلمون‬
‫هنــاك يتميــز بالصالبــة والدقــة والحــس الفنــي‪ .‬وذلــك مــا يشــعرك بالفخــر‬
‫واالعتــزاز يف كل مــرة تشــاهد فيهــا اآلثــار اإلســامية الباقيــة هنــا‪ ،‬مــع‬
‫االعــراف أيضــا مبجهــودات اإلســبان الكبــرة يف الحفــاظ عــى هــذه اآلثــار‬
‫وترميامتهــم املوفقــة للعديــد منهــا بتعــاون وتنســيق كبــر مــع الحرفيــن‬
‫املغاربــة‪ ،‬ولــو لــدواع ســياحية رصفــة أحيانــا‪.‬‬

‫حاممــات رنــدة أحســن مــن حافظــت عــى هندســتها األصليــة يف‬

‫‪124‬‬
‫إســبانيا كلهــا‪ ،‬وال يتجــاوز رســم الدخــول إليهــا أربعــة يوروهــات‪ ،‬وهــو مبلــغ‬
‫معقــول نســبيا‪ .‬أمــا مــن الناحيــة األثريــة فتــكاد تكــون أكــر أهميــة مــن حلبــة‬
‫مصارعــة الثــران والجــر الجديــد الــذي يربــط الجــزء القديــم مــن املدينــة‬
‫بالجــزء الحديــث‪ ،‬وهــي معلــم مميــز جــدا للوجــود اإلســامي يف األندلــس‬
‫عمومــا ورنــدة عــى وجــه الخصــوص‪.‬‬

‫بداخــل القاعــات املتبقيــة مــن الحاممــات وضعــت شاشــة عــرض‬


‫كبــرة أمــام الســياح ملتابعــة عــرض ثــايث األبعــاد يوضــح كيــف كان‬
‫النــاس يســتخدمون الحــام يف ذلــك الوقــت‪ ،‬حيــث كانــت الحاممــات‬
‫اإلســامية تختلــف عــن مثيلتهــا الرومانيــة يف أنهــا كانــت تســتخدم البخــار‬
‫إلزالــة أوســاخ الجســد بــدل حــام الســباحة املشــرك‪ .‬جلســنا أمــام‬
‫الشاشــة ملــدة عــر دقائــق قبــل بــدء الجولــة (كــا فعلــت مــن قبــل يف‬
‫نفــق الحــرب األهليــة بأملريــة) وبعدهــا رحنــا نتجــول يف أرجــاء الحــام‬
‫العتيــق‪ ،‬قبــل أن نخــرج إىل حديقــة مجــاورة الزالــت آثــار الناعــورة العربيــة‬
‫التــي تجلــب امليــاه مــن مجــرى النهــر موجــودة فيهــا‪ ،‬وقــد ســاعدنا العــرض‬
‫املقــدم قبــل قليــل يف تصــور وفهــم ميكانيزمــات كل ذلــك‪ .‬مــن املفيــد‬
‫أن يف عــر الصــورة أن نعيــد محــاكاة مشــهد اآلثــار املندثــرة ووظيفتهــا‬
‫حتــى نق ـ ّرب الفهــم للســياح الذيــن يــزورون املــكان ألول مــرة‪ ،‬وهــو مــا‬
‫الحظتــه مثــا يف قصبــة أملريــة‪ ،‬حيــث أعــاد القامئــون عــى املوقــع بعــث‬
‫أجــواء خزانــات امليــاه عــن طريــق محــاكاة صوتيــة وضوئيــة تســافر بــك إىل‬
‫زمــن املــايض دون شــعور منــك‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫بعد الحاممات واصلت طريقي ناحية املدينة القدمية حيث الزالت‬
‫البلــدة تحتفــظ بجــزء مــن أســوارها وإحــدى بواباتهــا العربيــة التــي تحيــط بها‬
‫أبــراج الحراســة‪ .‬مل يكــن املنظــر غريبــا جــدا عــى مــن نشــأ مثــي يف بلــدة‬
‫بــن يزقــن التــي الزالــت تحتفــظ بســورها كامــا بأبوابــه وأبــراج حراســته‪ ،‬لكــن‬
‫مــن املؤســف أن مثــل هــذه اآلثــار يف بلدنــا ال تلقــى االهتــام الــكايف‪،‬‬
‫ورمبــا ألن صاحــب املنــزل ال ينتبــه لجــال وقيمــة مــا ميلكــه إال إذا نبهــه‬
‫الضيــف إىل ذلــك‪ ،‬لكــن مــا العمــل ولســان حــال بعــض املســؤولني عــن‬
‫االســتضافة يقــول «مدخــول بابــور النفــط خــر مــن مداخيــل بابــورات‬
‫الســياح»‪.‬‬

‫يف رنــدة عليــك أن تــزور أيضــا قــر امللــك العــريب (قــر يطــل عــى‬
‫أخــدود رنــدة الــذي نــراه يف كل صورهــا) مــع أن القــر ال يكتنــز حاليــا‬
‫مــن تاريــخ العــرب ســوى بــرج محفــور داخــل الصخــر ويهبــط إىل أســفل‬
‫األخــدود‪ ،‬كان يســتعمل قدميــا لجلــب امليــاه وللمراقبــة العســكرية أيضــا‬
‫املثــر أنــه يف مدخــل الــرج علقــت الفتــة كتــب عليهــا بعربيــة خالصــة‬
‫«وجعلنــا مــن املــاء كل يشء حيــا»‪.‬‬

‫نزلــت داخــل الــرج عــر أدراج ضيقــة‪ ،‬ووســط جــو يبعــث عــى‬
‫القشــعريرة‪ ،‬بســبب قطــرات امليــاه التــي تســيل مــن كل مــكان‪ ،‬محدثــة‬
‫أصواتــا يــردد صداهــا داخــل املبنــى‪ ،‬إىل أن وصلــت إىل أســفل‬
‫األخــدود وأمكننــي رؤيــة املنــازل البيضــاء للبلــدة تســرخي تحــت أشــعة‬
‫الشــمس يف األعــى‪ .‬رحلــة صعــود الــرج مل تكــن أقــل إرهاقــا‪ ،‬ولكنهــا‬

‫‪126‬‬
‫رضوريــة ملواصلــة استكشــاف جوانــب البلــدة الظاهــرة منهــا والخفيــة‪.‬‬
‫كان فضــويل كبــرا للهبــوط تحــت الجــر الجديــد (‪)nuevo ponte‬‬
‫ورحــت أتتبــع خــط ســر مجموعــة مــن الســياح الشــباب راحــوا ينزلــون‬
‫أســفل الجــر ملشــاهدة الشــاالت وجريــان امليــاه يف أســفل الــوادي‪.‬‬
‫مــا أثــار انتباهــي يف قــاع األخــدود هــو خل ـ ّوه مــن األوســاخ والروائــح‪ ،‬وقــد‬
‫أحســن اإلســبان بحاميــة هــذا املــكان مــن امليــاه املســتعملة للمنــازل‪،‬‬
‫التــي كان مــن الســهل أن يتــم التخلــص منهــا يف هــذا الــوادي‪،‬أو كــا‬
‫يجــري األمــر يف مدينــة الصخــر العتيــق عندنــا‪.‬‬

‫لحســن الحــظ أو لســوءه (ال أدري بعــد) يعجــز عقلــك كجزائــري بســيط‬
‫أن يتوقــف عــن التفكــر واملقارنــة بــن البلديــن بصفــة عامــة وبــن رنــدة‬
‫وقســنطينة بصفــة خاصــة‪ ،‬وكيــف أن اللــه منحنــا واحــدة مــن أجمــل مــدن‬
‫العــامل يف الــرق الجزائــري‪ ،‬لكننــا ضيعناهــا بأنانيتنــا وحســنا البيئــي‬
‫والجــايل املنعــدم‪ .‬بينــا ينعــم الســواح هنــا بأجمــل إطاللــة مــن ارتفــاع‬
‫شــاهق وهــم يجلســون يف هــدوء واطمئنــان عــر املطاعــم املنتــرة فــوق‬
‫صخرتهــم التــي أجــادوا الحفــاظ عليهــا واكتملــت بفضلهــم لوحــة بلدتهــم‬
‫الجميلــة امللهمــة لــكل زائــر رآهــا أو قــرأ عنهــا‪.‬‬

‫عــدد الســياح هنــا كبــر جــدا وهــم يتدفقــون كل يــوم عــى رنــدة قادمــن‬
‫إليهــا مــن شــاطئ الشــمس الشــهري (ال يبعــد عــن هنــا إال بأقــل مــن مائــة‬
‫كيلومــر) والــذي تنتــر بــه مــدن تورميولينــوس وماربيــا وفوانخــروال ونريخا‬
‫وهــي مــدن ســياحية ضخمــة تعــج باملصطافــن الباحثــن عــن املتعــة‬

‫‪127‬‬
‫واالســتجامم والذيــن ال ميانعــون أحيانــا يف أخــذ جولــة إىل املرتفعــات‬
‫األندلســية التاريخيــة قبــل النــزول إىل الشــاطئ يك يعيشــوا ويبــددوا‬
‫حارضهــم مــرة أخــرى‪.‬‬

‫احتفظــت بذكريــات جميلــة جــدا مــن هــذه البلــدة‪ ،‬وكنــت أمتنــى‬


‫املكــوث بهــا أكــر مــن ليلــة‪ ،‬لكــن اإلنســان عــدو مــا يجهــل‪ ،‬وبرنامجــي‬
‫املســطر ســلفا مل يأخــذ يف الحســبان أن أقــع يف شــباك حــب هــذا‬
‫املــكان ألغــادره بــأرسع مــا يجــب (وهــذا مــن ســلبيات الحجــز املســبق‬
‫عــى كل حــال)‪.‬‬

‫ســاعة ونصــف كانــت املــدة التــي قطعتهــا الحافلــة مــن رنــدة إىل مالقــة‬
‫(ســادس محطة يل يف الرحلة وللمصادفة أيضا ســادس مدينة إســبانية‬
‫مــن حيــث األهميــة وعــدد الســكان) وقــد قمــت باســتغالل نصــف هــذه‬
‫املــدة يف أخــذ إغفــاءة رضوريــة‪ .‬خاصــة بعــد أن أصبحــت املناظــر التــي‬
‫أراهــا مــن نوافــذ الحافــات متشــابهة‪ ،‬وال مانــع مــن أن أمــر عليهــا بجفــون‬
‫مطبقــة‪.‬‬

‫تركــت يف رنــدة رائحــة األندلــس وعبــق التاريــخ ووصلــت إىل مالقــة‬


‫عاصمــة شــاطئ الشــمس الشــهري (‪ )sol del costa‬مســتقبل إســبانيا‬
‫ووجه األندلس الحديث مببانيها املضيئة‪ ،‬وشــوارعها الواســعة ومينائها‬
‫الكبــر‪.‬‬

‫ذهبــت مبــارشة إىل فندقــي الصغــر ومل يكــن يبعــد كثــرا عــن محطــة‬

‫‪128‬‬
‫الحافالت‪ ،‬وضعت أمتعتي وألقيت نظرة صغرية عىل الغرفة وشــكلها‪،‬‬
‫مــن املؤكــد أننــي لــن أراهــا كثــرا ألين ســأخرج بعــد قليــل لتنــاول العشــاء‬
‫ثــم أعــود إليهــا للنــوم ألغادرهــا صباحــا نحــو الهوســتيل‪ ،‬الــذي حجــزت بــه‬
‫ثــاث ليــال إضافيــة‪.‬‬

‫تناولــت العشــاء يف مطعــم باكســتاين غــر بعيــد وأعجبنــي كثــرا‬


‫حجــم الســندويتش والصلصــة البيضــاء املرافقــة لــه‪ .‬لــوال هــذا النــوع مــن‬
‫املطاعــم الــذي يقــدم الوجبــات الحــال الرسيعــة وبســعر يف املتنــاول‬
‫لكانــت الرحلــة انتهــت ماديــا قبــل أوانهــا بكثــر‪.‬‬

‫مل أغامــر كثــرا بالتجــول ليــا يف عاصمــة ســاحل الشــمس وأنــا مل‬
‫أرهــا تحــت الشــمس بعــد‪ ،‬وقضيــت وقتــا أطــول عــى طاولــة املطعــم‬
‫أدردش مــع شــقيقي عــر الفايــر ونعقــد املقارنــات بــن إســبانيا وفرنســا‬
‫التــي يســتقر بهــا منــذ ســنوات‪ .‬يبــدو أن الثانيــة أغــى وأصعــب مــن‬
‫الناحيــة املعيشــية لكــن الفرصــة متوفــرة دومــا ملــن يحــب العمــل ويســعى‬
‫لالســتقرار وتطويــر الــذات وال يغريــه افتعــال املشــاكل واختــاق مــررات‬
‫الفشــل‪.‬‬

‫وأنا أطالع كل ما تظهره شاشة هاتفي من محتوى عريب حول األندلس‬


‫طيلــة رحلتــي هنــا‪ ،‬الحظــت أن أكــر العــرب الذيــن يزورونهــا ويقتســمون‬
‫تجاربهــم املصــورة واملكتوبــة فيهــا يأتونهــا مــن دول الــرق األوســط‬
‫والخليــج تحديــدا‪ ،‬بينــا يغيــب أبنــاء املغــرب اإلســامي عــن املشــهد إال‬
‫القلــة منهــم‪ ،‬ورمبــا كان تفســر ذلــك (بغــض النظــر عــن املعطــى املــادي‬

‫‪129‬‬
‫الــذي يجعــل أبنــاء الخليــج يف يــر مــن أمرهــم عنــد الســفر) أن عــرب‬
‫املــرق بحكــم بعــد املســافة يستشــعرون القــرب الوجــداين لألندلــس‬
‫أكــر مــن املغاربــة الذيــن ينتــرون بهــا بأعــداد كبــرة للعمــل وكســب لقمــة‬
‫العيــش أكــر مــن يشء آخــر‪.‬‬

‫املهــم أننــي أنصــح كل مــن يريــد زيــارة إســبانيا أن يشــاهد فيديوهــات‬


‫األجانــب واألوروبيــن ويأخــذ أهــم املعلومــات مــن املواقــع األجنبيــة‬
‫خصوصــا يف موضــوع امليزانيــة ألن مواقعنــا العربيــة للســفر والتــي‬
‫يغذّيها الخليجيون باملعلومات عموما ســتعطيك االنطباع أن كل يشء‬
‫رخيــص هنــا مــن كــراء الســيارة إىل الحجــز يف فنــدق متواضــع مبائــة يــورو‬
‫لليلــة الواحــدة إىل أخــذ تاكــي مــن وإىل املطــار بســعر ممتــاز ‪...‬الــخ‪.‬‬

‫يــوم األربعــاء ‪ 20‬ســبتمرب ‪ 2017‬اســتيقظت باكــرا كعــاديت لالســتمتاع‬


‫هــذه املــرة بــأول جولــة صباحيــة يل عــى شــاطئ البحــر منــذ قدومــي‪،‬‬
‫ومنهــا التوجــه إىل متحــف تحــول يف وقــت قصــر إىل محطــة رضوريــة‬
‫لــكل زائــر هنــا‪ ..‬إنــه متحــف الســيارات القدميــة مبالقــة‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫متحف تحت سقف‪ ..‬وآخر تحت السامء‬

‫‪voyager, c’est gagner son procés contre l’habitude‬‬

‫عندمــا نتجــول يف مدننــا الكــرى تصادفنــا بعــض املصانــع أو‬


‫املســتودعات القدميــة التــي بنيــت يف عهــود مضــت‪ ،‬وقــد أصابهــا‬
‫اإلهــال وتحولــت إىل مــا يشــبه الحطــام املهجــور الــذي فقــد علــة وجــوده‬
‫األساســية بعــد أن أصبــح خاليــا مــن كل حركــة ونشــاط‪.‬‬

‫مصنــع التبــغ القديــم يف مالقــة والــذي يعــود تاريــخ ازدهــاره إىل بدايــة‬
‫العرشينــات مــن القــرن املــايض‪ ،‬كان ســيلقى نفــس املصــر الــذي تلقــاه‬
‫املصانــع القدميــة عندنــا وســط املدينــة‪ ،‬لــوال أن إســبانيا بلــد ســياحي‬
‫عريــق (الثانيــة عامليــا بعــد فرنســا) وال يفوتهــا اســتغالل كل مــر مربــع‬
‫لجلــب مزيــد مــن الســياح (ومنهــم العبــد الضعيــف) وهكــذا كُتــب‬
‫للمصنــع القديــم حيــاة ثانيــة‪ ،‬بعــد أن تحــول منــذ ســنة ‪ 2010‬إىل واحــد‬
‫مــن أهــم متاحــف الســيارات يف جنــوب أوروبــا‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫وصلــت إىل املتحــف املذكــور بعــد عرشيــن دقيقــة مــن املــي‬
‫الصباحــي عــى كورنيــش املدينــة والــذي ال تفصلــه إال أمتــار قليلــة عــى‬
‫شــاطئ البحر‪ .‬يف طريقي صادفت شــبابا وكهوال وأناســا من كل األعامر‬
‫ميارســون طقــوس رياضــة الركــض بــكل أريحيــة ومتعــة‪ .‬ال أعــرف ملــاذا‬
‫أغبــط األوروبيــن عــى قدرتهــم يف جعــل شــاطئ البحــر متنفســا إضافيــا‬
‫ملدنهم عىل األفق املتوســطي الجميل‪ ،‬ميارســون فيه ما يحلوا لهم من‬
‫أنشــطة وهوايــات‪ .‬بينــا يكــون البحــر عندنــا ســببا إلغــاق املنافــذ نحــوه‪،‬‬
‫وحاميــة املواطــن مــن البحــر‪ ،‬أو البحــر مــن املواطــن (مل نعــد نفهــم)‪.‬‬

‫رســم الدخــول ال يتجــاوز تســعة يوروهــات‪ ،‬وهــو مبلــغ معقــول ملــن يــزور‬
‫املتحــف ألول وآخــر مــرة‪ ،‬ويــود اكتشــاف ســيارات البينتــي والفــراري‬
‫والجاغــوار واملرســيديس أمــام عينيــه وليــس عــر الشاشــات والصــور‪.‬‬

‫الجميل يف املتحف أيضا أنه يضم أكرث من مثانني سيارة‪ ،‬ستعطيك‬


‫اإلحســاس وأنــت تتجــول بــن أشــكالها املختلفــة وتقــف أمــام كل واحــدة‬
‫منهــا لتأمــل تفاصيلهــا املتقنــة الصنــع‪ ،‬أنــك أمــام كتــاب تاريخــي مفتــوح‬
‫عــى تطــور هــذا االخــراع‪ ،‬الــذي بــدأ خطواتــه األوىل نهايــة القــرن التاســع‬
‫عــر‪ ،‬ليجعــل القــرن العرشيــن والواحــد والعرشيــن بالصــورة التــي وصلتنــا‬
‫اليــوم‪.‬‬

‫األجمــل مــن كل ذلــك أن املتحــف يضــم أيضــا أزيــاء ومالبــس قدميــة‪،‬‬


‫تــم وضعهــا بجانــب الســيارات‪ ،‬وتــؤرخ لتطــور موضــة اللبــاس عــر عقــود‬
‫مــن الزمــن يف عــرض ثنــايئ يبــدو للوهلــة األوىل غــر متجانــس‪ ،‬لكــن مــع‬

‫‪132‬‬
‫تقدمــك يف أرجــاء املتحــف ســتعجب كثــرا بفكــرة هــذا الــزواج الناجــح‪.‬‬

‫مل أكــن مــن املهووســن بحفــظ مــاركات الســيارات يف أي وقــت‬


‫مــن األوقــات‪ ،‬ومل يحــدث أن اقتنيــت ســيارة مــن أي نــوع يف حيــايت‪،‬‬
‫لكنــي اســتمتعت كثــرا بزيــارة هــذا املعــرض الــذي زينــه القامئــون‬
‫عليــه بديكــورات مبتكــرة‪ ،‬وأضافــوا لــكل محــرك وعجلــة ومحطــة بنزيــن‬
‫قدميــة ملســة فنيــة وجامليــة‪ ،‬تجعلــك محــارصا بقــوة ناعمــة داخــل عــامل‬
‫الســيارات‪ ،‬وتعــود بــك رغــا عــن شــبابك إىل أجــواء طفولتــك‪ ،‬حــن‬
‫كنــت تندهــش مــن رؤيــة أي جديــد يشء مل تألفــه عينــاك‪ .‬كــا ستنشــط‬
‫هــذه الزيــارة ذاكرتــك باســتعادة صــور ســيارات صادفتهــا مــن قبــل يف‬
‫أفــام قدميــة‪ ،‬أو يف رســوم متحركــة‪ ،‬أو يف صــور الرزمانــات الصغــرة‬
‫والكبــرة التــي كنــا نعلقهــا يف جــدران املنــازل واألقســام بعــد الحصــول‬
‫عليهــا بدايــة كل ســنة‪ ،‬قبــل أن تحرمنــا هواتفنــا الذكيــة مــن تلــك العــادة‬
‫الســليمة‪.‬‬

‫اســتغرقت منــي الجولــة ثــاث ســاعات عــى األقــل‪ ،‬مل أشــعر مبرورهــا‬
‫إطالقــا‪ ،‬وخرجــت مــن جديــد نحــو الشــارع‪ ،‬متوجهــا إىل الفنــدق لحــزم‬
‫أمتعتــي واالنتقــال إىل الهوســتيل‪ .‬يف الطريــق مــررت ببعــض املســاحات‬
‫الخــراء واملبلطــة عــى شــاطئ البحــر‪ ،‬والتــي وضعــت فيهــا بعــض‬
‫اآلالت الرياضيــة‪ ،‬املســاعدة عــى تقويــة العضــات والحفــاظ عــى لياقــة‬
‫الجســم‪ .‬النــاس هنــا مهووســة ببعــض التفاصيــل التــي رصنــا ال نلقــي لهــا‬
‫بــاال يف حياتنــا اليوميــة يف بلدنــا‪ ،‬بعــد أن أصبحنــا يف قبضــة آلــة روتينيــة‬

‫‪133‬‬
‫ضخمــة تطحــن أجســادنا ومعنوياتنــا يوميــا‪ ،‬يك تجعــل منــا مجــرد غبــار‪،‬‬
‫ال ميلــك مــن أمــره شــيئا أمــام ريــاح الواقــع التــي تدفــع بــه نحــو كل اتجــاه‪.‬‬

‫قبــل ســنوات التقيــت أحــد الفلســطينيني الذيــن اســتقروا يف الجزائــر‬


‫منــذ الثامنينيــات‪ ،‬وقــد أخــرين أنــه الحــظ تغــرا يف الهيئــة الجســدية‬
‫للجزائريــن‪ ،‬بعــد أن أصبــح فيهــا البطــن منتفخــا أكــر‪ ،‬لــدى مواطنينــا‬
‫مــن جميــع األعــار‪ .‬ال أعــرف إن كان لهــذه املالحظــة عالقــة بعــدم‬
‫مامرســتنا الرياضــة (مــع أن الجميــع يتابــع املقابــات الرياضيــة) أو أن‬
‫عاداتنــا الغذائيــة تدهــورت إىل الحــد الــذي أصبحنــا ال نفــرق فيــه بــن‬
‫الغــذاء للبقــاء عــى قيــد الحيــاة والتغذيــة الســليمة للحصــول عــى جســم‬
‫صحــي وعقــل منتبــه‪ .‬لكــن املؤكــد أن عديــد األوروبيــن ميارســون الرياضــة‬
‫بشــكل دوري يف حياتهــم العاديــة‪ ،‬وذلــك مــا يســاهم يف وصــول أكــر‬
‫كميــة مــن االكســجني نحــو الذهــن والعضالت‪.‬أمــا كيــف يســتطيعون‬
‫تنظيــم برنامجهــم اليومــي لتنفيــذ مــا تتطلبــه أعاملهــم وهواياتهــم فذلــك‬
‫مــا نعجــز عــن فهمــه إىل يومنــا هــذا‪ ،‬ولــو أننــا أردنــا تقليدهــم ليــوم واحــد‬
‫فقــط ألدركنــا آذان املغــرب قبــل ننفــذ نصــف الربنامــج كــا يــردد ذلــك‬
‫أحــد أصدقــايئ‪.‬‬

‫انتقلــت بعــد عــوديت مــن املتحــف يف عمليــة ترحيــل أخــرى للحقائــب‬


‫نحــو الهوســتيل‪ ،‬الــذي كان يقــع بالقــرب مــن وســط مدينــة مالقــة القديــم‪،‬‬
‫وقــد أصبحــت أمتعتــي أكــر ثقــا بعــد املقتنيــات التــي حملتهــا معــي‬
‫مــن إشــبيلية‪ ،‬كــا ســاهمت حــرارة الجــو يف جعــل خطــاي متثاقلــة بعــض‬

‫‪134‬‬
‫الــيء‪ ،‬لكنــي كنــت أم ّنــي النفــس بغرفــة مريحــة تزيــل عنــي التعــب عنــد‬
‫الوصــول‪.‬‬

‫بعــد نصــف ســاعة مــن املــي وصلــت إىل املــكان‪ ،‬ووجــدت عنــد‬
‫االســتقبال امــرأة يبــدو أنهــا متــارس هــذا العمــل للمــرة األوىل‪ ،‬حيــث‬
‫قبعــت أمــام شاشــة كمبيوترهــا لوقــت طويــل (بعــد أن أخــذت منــي جــواز‬
‫الســفر) وراحــت تكتــب ومتحــي وتبحــث وتســأل وتتعجــب‪ ،‬قبــل أن‬
‫يــأيت أحــد الشــباب الــذي ال أعــرف مــن أيــن خــرج لتقديــم يــد املســاعدة‬
‫وإطــاق رساحــي نحــو غرفتــي‪.‬‬

‫مل يكــن الهوســتيل بتلــك الفخامــة والجــال الــذي يبــدو عليــه يف‬
‫الصــور‪ ،‬صحيــح أنــه نظيــف لكنــه عتيــق وقديــم جــدا‪ .‬دخلــت الغرفــة وكان‬
‫بابهــا خشــبيا مطليــا باللــون األبيــض وينفتــح بصعوبــة رميــت أمتعتــي عنــد‬
‫أول رسيــر وجلســت متأمــا الوضــع‪ ،‬والــذي ذك ـ ّرين مبــارشة بإحــدى‬
‫الغــرف يف منــزل جــديت القديــم‪ ،‬كانــوا يحبســوننا فيــه نحــن األطفــال يف‬
‫وقــت الظهــرة بدايــة التســعينيات‪ ،‬حتــى نــرك الكبــار ينامــون يف هــدوء‪.‬‬

‫رسة لوضــع األمتعــة كانــت‬


‫الخزانــات الخشــبية التــي تفصــل بــن األ ّ‬
‫مغلقــة يف معظمهــا عــدا تلــك الفارغــة‪ ،‬والتــي كانــت أبوابهــا مفتوحــة‪،‬‬
‫وعليــك أن تتدبــر قفــا حديديــا إلغالقهــا‪ ،‬وإن مل متلــك واحــدا فعليــك‬
‫رشاءه (بعــر أضعــاف مثنــه يف الجزائــر طبعــا)‪.‬‬

‫لحســن الحــظ وجــدت شــخصا يبــدو أنــه مــن أبنــاء قارتنــا العزيــزة يهــم‬

‫‪135‬‬
‫باملغــادرة‪ ،‬فســألته باالنجليزيــة وأجابنــي باإلســبانية‪ ،‬وحــن عرفــت‬
‫أنــه كامــروين‪ ،‬أدركــت أننــا كنــا تحــت اســتعامر واحــد‪ ،‬ورحنــا نتحــدث‬
‫بالفرنســية الفصيحــة املريحــة لكلينــا‪.‬‬

‫أخــرين أنــه يســكن مالقــا منــذ خمــس ســنوات فتعجبــت مــن ذلــك‬
‫واســتفرسته عــن ســبب وجــوده هنــا مــادام مــن ســكان املدينــة‪ ،‬فقــال أنــه‬
‫يف الصيــف يعــرض منزلــه الصغــر للكــراء بصيغــة ‪ BNB AIR‬مقابــل‬
‫ثالثــن يــورو لليــوم الواحــد‪ ،‬ويــأيت هنــا للمبيــت بخمســة عــر يــورو لليلــة‪،‬‬
‫فيوفــر مرصوفــا إضافيــا لنفســه‪ .‬متنيــت لــه حظــا موفقــا وأثنيــت عــى هــذا‬
‫ـس الحاجــة إليــه يف قا ّرتنــا األم‪ ،‬أمــا هــو‬
‫الــذكاء اإلفريقــي الــذي نحــن بأمـ ّ‬
‫فــكان لطيفــا وتــرك يل خزانتــه مــع القفــل الحديــدي ألوفّــر عــى نفــي‬
‫أربعــة يوروهــات مثينــة‪.‬‬

‫الرسيــر مل يكــن مريحــا عــى اإلطــاق‪ ،‬وكان يُحــدث رصيــرا مزعجــا عنــد‬
‫أدىن حركــة لكنــي اخرتتــه بســبب املقبــس الكهربــايئ الــذي كان بجانبــه‬
‫(لشــحن بطاريــة الهاتــف الــذيك)‪.‬‬

‫بعدمــا وضعــت جميــع األمتعــة يف الخزانــة الخشــبية الصغــرة بجانــب‬


‫فــرايش‪ ،‬خرجــت أللقــي نظــرة عــى النــزل‪ .‬وجــدت أن مراحيــض الرجــال‬
‫يف الطابق األول‪ ،‬مام يعني وجوب التنقل بني الطوابق يف كل مرة يود‬
‫املرء فيها قضاء حاجة من حاجاته‪ ،‬بينام يتواجد يف طابقي الرابع مطبخ‬
‫جامعــي‪ ،‬بــه ثالجــة وفــرن وطاولــة مــن أربــع مقاعــد ملــن يريــد طبــخ عشــائه‬
‫أو فطــور صباحــه بنفســه وتناولــه هنــاك‪ .‬النــزل كان يحــوي أيضــا بعــض‬

‫‪136‬‬
‫الديكــورات اللطيفــة املعلقــة عــى الجــدران واألســقف‪ ،‬واملصنوعــة مــن‬
‫مــواد بســيطة جــدا كاألواين القدميــة واألســاك واألخشــاب والبالســتيك‬
‫واألوراق والزجــاج‪ .‬لقــد اكتشــفت يف أوروبــا أن كل املــواد املحيطــة بنــا‬
‫ميكــن أن تكــون عجينــة لفكــرة مبدعــة تفتــح شــهيتنا لالنبهــار مبــا تــراه‪ ،‬رشط‬
‫أن متنــح لذاتــك تــرف عنــاء التأمــل واالبتــكار‪.‬‬

‫عــدت إىل غرفتــي التــي يدخلهــا نــور ســاطع مــن خــال إحــدى النوافــذ‬
‫الزجاجيــة يف الســقف‪ ،‬واســتلقيت عــى الرسيــر ألخــذ إغفــاءة صغــرة‪،‬‬
‫كانــت املروحــة الهوائيــة املوجــودة يف ركــن الغرفــة تــدور مينــة ويــرة‬
‫لتوزيــع الهــواء املنعــش‪ ،‬وتصــدر لحنــا ذكــرين بلحــن قيلــوالت الصحــراء‬
‫يف طفولتــي‪ ،‬مــا جعلنــي اســتغرق يف نــوم عميــق ‪.‬‬

‫اســتيقظت قبــل وقــت العــر بقليــل‪ ،‬رتبــت أمــوري‪ ،‬وقفــزت نحــو‬


‫الشــارع للتجــول يف حيــي الجديــد مبالقــة الكتشــاف معاملــه مــن أزقــة‬
‫ومطاعــم وحدائــق وســاحات‪ ،‬ويبــدو أننــي مــن ناحيــة املوقــع‪ ،‬قــد‬
‫أحســنت اختيــار مــكان املبيــت‪..‬‬

‫‪137‬‬
‫مالقة‪..‬حسناء األندلس‬

‫‪Quiconque voyage beaucoup ,s’instruit‬‬

‫حيـن تكــون يف مدينــة س�اـحلية كاملق��ة فــإن أول عنــوان قــد تفكــر يف‬
‫زيارتــه ســيكون املينــاء دون شــك‪ ،‬ولحســن الحــظ فــإن املرقــد الــذي‬
‫حجزــت ب�هـ ال يبع��د ع��ن مينــاء املدينــة إال مبقــدار مــا تبعــد ســاحة أول‬
‫مــاي عــن ســاحة الربيــد املركــزي بالعاصمــة الجزائريــة‪.‬‬

‫قبــل الوصــول إىل وجهتــي وجــدت شــارعا طويــا يفصــل بشــكل أفقــي‬
‫املدينــة عــن ميناءهــا‪ ،‬وهــذا الشــارع عبــارة عــن صــف طويــل مــن األشــجار‬
‫والنخيــل والنباتــات التــي زرعــت بعنايــة يف املــكان‪ ،‬لتوفــر ظــاال بــاردة‬
‫تلطــف األجــواء الحــارة بشــكل ملحــوظ‪ .‬اإلســبان يولــون عنايــة فائقــة لتهيئــة‬
‫الحدائــق داخــل املــدن‪ ،‬ومكانــة الشــجر عمومــا وشــجر النخيــل تحديــدا‪،‬‬
‫بــارزة يف كل املالمــح الحرضيــة يف اإلقليــم األندلــي‪.‬‬

‫مينــاء مالقــة واســع جــدا وفضــاء مفتــوح‪ ،‬تنتــر بــه املحــات واملقاهــي‬

‫‪138‬‬
‫واملطاعــم‪ ،‬كــا أنــه يضــم فضــاءات واســعة للراجلــن تســمح مبامرســة‬
‫هوايــات الركــض وســياقة الدراجــات والنزهــات املســائية‪.‬‬

‫دخلــت بعــض محــات العطــور بجانــب مينــاء النزهــة‪ ،‬بعــد أن ســمعت‬


‫إحــدى الســائحات تقــول لصديقتهــا إن أســعار العطــور هنــا أحســن مــن‬
‫أســعارها يف فرنســا‪ .‬كنــت أظــن أن محــا يف مــكان اســراتيجي كهــذا‬
‫ال بــد أن يجعــل أســعاره يف مســتوى اإليجــار املرتفــع الــذي يدفعــه‪،‬‬
‫لكــن هــذه املقاربــة ليســت صحيحــة دومــا (وإن كانــت ال تــزال عندنــا‬
‫مــن القواعــد املحرتمــة) والدليــل أننــي اقتنيــت زجاجــة عطــر مــن هنــاك‬
‫بنصــف مثنهــا يف الجزائــر‪.‬‬

‫رأيــت ســواحا مــن كل األقطــار يف هــذا املــكان يصطحبــون أبنائهــم‬


‫ويلهــون ويلعبــون برفقتهــم يف ســعادة واســتمتاع‪ .‬لكــن مــا شــد انتباهــي‬
‫مــرة أخــرى (وال أدري ملــاذا أجــد متســعا مــن الوقــت لالنتبــاه ملثــل هــذه‬
‫اللقطــات والحــركات يف العطلــة) هــو أن الكبــر هنــا حــن يلعــب مــع‬
‫الطف��ل الصغيـر يتح��ول بس��هولة (أي الكب�ير) إىل مهــرج يقــوم بحــركات‬
‫صبيانيــة ينــزل بهــا إىل مســتوى الطفــل ليزيــد يف التجــاوب املــرح لهــذا‬
‫األخــر‪.‬‬

‫تســاءلت يف نفــي عــن الســبب الــذي يجعلنــا نحــن نقــوم بعكــس‬


‫ذلــك مــع أطفالنــا حــن نداعبهــم ونلعــب معهــم‪ ،‬حيــث نطلــب منهــم‬
‫دون شــعور منــا أحيانــا أن يصبحــوا كبــارا مثلنــا‪ ،‬فنقــوم بإغاظتهــم ونرفزتهــم‬
‫نعيهــم بالقبــح أو نعبــث يف‬
‫واســتفزازهم بــأن نســلبهم أشــيائهم أو ّ‬

‫‪139‬‬
‫مالبســهم وشــعرهم ونســتمتع برؤيتهــم يرصخــون أو يقاومــون بأيديهــم‬
‫الصغــرة‪ ،‬بــل وتجــد أوليــا ًء يداعبــون أبنائهــم أو أبنــاء أصدقائهــم بكلــات‬
‫مثــل ‪ :‬ناموســة‪ ،‬خانــزة‪ ،‬حلــوف‪ ،‬شــيطان ‪...‬الــخ وكل ذلــك يبــدو يل اآلن‬
‫شــيئا غريبــا ومقيتــا بعــد أن أتيحــت يل فرصــة املقارنــة واملفاضلــة‪.‬‬

‫التمــي يف املينــاء ورؤيــة أنــواع الســفن واملراكــب واليخــوت عــى‬


‫بعــد أمتــار منــك يعطيــك إحساســا غريبــا باالنطــاق واالنــراح واالنفتــاح‬
‫عــى العــامل‪ ،‬لــرى البحــر بابــا للحريــة بــدل أن يكــون حاجــزا دونهــا‪.‬‬
‫البحــر بالنســبة ألي مدينــة ســاحلية هــو موقــع قوتهــا ال موقــع الضعــف‬
‫يف نســيجها الحــري أو كــا يعتقــد أصحــاب املقاربــة األمنيــة يف كل‬
‫تفاصيــل حياتنــا‪.‬‬

‫توجهــت ليــا نحــو مجموعــة مــن مطاعــم الحــال التــي تقــع بالقــرب مــن‬
‫محطــة الحافــات الرئيســية للمدينــة وتناولــت بعــض الطعــام‪ ،‬طبعــا بعــد‬
‫أن طلبــت مــن النــادل كلمــة الويفــي الرسيــة‪ ،‬وهــو إجــراء أقــوم بــه أوال وقبــل‬
‫كل يشء عند جلويس يف أي مطعم بإسبانيا‪ .‬أخذت وقتي يف تصفح‬
‫بعــض املواقــع التــي تــرح للســائح أهــم املعــامل واملواقــع الجديــرة‬
‫بالزيــارة يف املدينــة أو ضواحيهــا‪ ،‬حيــث ومبجــرد أن تكتــب يف محــرك‬
‫البحــث‪ :‬مــا الــذي ميكــن أن تفعلــه يف مالقــا‪ ،‬أو ‪ 10‬نشــاطات يجــب أن‬
‫تقــوم بهــا يف مالقــة‪ ،‬حتــى تتزاحــم يف واجهــة الصفحــة األوىل للقوقــل‬
‫املواقــع الســياحية التــي تجيبــك بالكتابــة والصــوت والصــورة والخريطــة‬
‫عــن أســئلة مــاذا وكيــف وأيــن وكــم الســعر وآراء املجربــن؟ لذلــك ال تتوقــع‬

‫‪140‬‬
‫أن يــركك اإلســبان ملصــرك تائهــا‪ ،‬وهــم يســتقبلون ســنويا أكــر مــن‬
‫مثانــن مليــون ســائ ٍح مثلــك (تقريبــا ضعــف عــدد ســكان البلــد املقيمــن)‬
‫فاملقــة عاصمــة شــاطئ الشــمس ســتكلمك بــكل لغــات األرض حــن‬
‫تكلمه��ا بلغ��ة السـ�ائح دافـ�ع املـ�ال مقابـ�ل خدمـ�ات الراحـ�ة واالسـ�تجامم‪.‬‬

‫يف صبــاح الخميــس ‪ 21‬ســبتمرب ‪ 2017‬ذهبــت لزيــارة أهــم موقــع‬


‫أندلــي يف مدينــة مالقــة وهــو حصــن القصبــة املنيــع الــذي يطــل عــى‬
‫املدينــة واملينــاء‪ ،‬كنــت مــن أوائــل الداخلــن إىل املوقــع بعــد أن دفعــت‬
‫ثــاث يوروهــات كثمــن للتذكــرة الواحــدة‪ ،‬علــا أن الدخــول مجــاين أيــام‬
‫األحــد مــن كل أســبوع‪.‬‬

‫مدينــة مالقــة كانــت مــن أهــم الواجهــات البحريــة ململكــة غرناطــة يف‬
‫آخــر أيــام الوجــود اإلســامي بإســبانيا‪ ،‬وعنــد ســقوطها ســنة ‪ 1487‬بعــد‬
‫حصــار مريــر ومعــارك رشســة‪ ،‬رفــع العلــم الصليبــي عــى أســوارها ألول‬
‫مــرة منــذ بناءهــا يف القــرن الحــادي عــر‪ ،‬وأصبــح الطريــق ممهــدا البتــاع‬
‫غرناطــة بعــد خمــس ســنوات مــن ذلــك‪.‬‬

‫لقــد متيــزت هــذه املدينــة مبناعــة طبيعيــة جعلــت اإلســبان يحرســونها‬


‫عــن قــرب لفــرة مــن الزمــن بعــد اســرجاعها‪ ،‬خوفــا مــن وقوعهــا يف يــد‬
‫املغاربــة إن هــم عــروا املتوســط نحوهــا وتحصنــوا بهــا مــن جديد‪،‬عــى‬
‫غــرار مــا فعــل اإلســبان عنــد احتاللهــم لبعــض الثغــور يف أرض املغــرب‬
‫ذاتــه‪ ،‬وذلــك الحبــاط معنويــات املســلمني والدفــاع عنــد خطــوط‬
‫هجومهــم األوىل‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫تجولــت بداخــل حصــن القصبــة صعــودا‪ ،‬ملــدة أكــر مــن ســاعة‪ ،‬وهــو‬
‫مــن أمنــع الحصــون األندلســية التــي حافظــت عــى شــكلها الهنــديس‬
‫األول‪ ،‬وأمكننــي مــن فــوق أســواره وأبراجــه إلقــاء أجمــل نظــرة عــى مينــاء‬
‫املدينــة وبواخــره الضخمــة الراســية‪ ،‬ثــم واصلــت الصعــود نحــو حصــن‬
‫«‪ »Gibrilfaro‬أو جبــل الفــارة‪ ،‬وهــو حصــن إســامي قديــم يتصــل‬
‫بالقصبــة‪ ،‬أســواره متينــة جــدا وبداخلــه معــرض جميــل‪ ،‬ميكــن أن تشــاهد‬
‫بداخلــه مجموعــة مــن التحــف واألواين واألســلحة والخرائــط القدميــة‪،‬‬
‫ومجســات املدينــة اإلســامية يف عــر ملــوك الطوائــف‪.‬‬

‫بعــد خروجــي مــن القصبــة نزلــت مبــارشة إىل الســوق املركزيــة للمدينــة‬
‫وهــو ســوق قديــم مغطــى تــم ترميمــه وجعلــه مكانــا مفضــا لهــواة أكل‬
‫الســمك الطــازج بــكل أنواعــه‪ ،‬ميكنــك يف الســوق أن تــرى أنواعــا وأشــكاال‬
‫وألوانــا مــن املنتجــات البحريــة ستشــب ُع عينــاك مــن رؤيتهــا قبــل أن‬
‫تســتقبل معدتك أدىن لقمة منها‪ .‬جلســت يف أحد الطاوالت الصغرية‬
‫ذات الكــرايس الطويلــة لتنــاول طبــق بايــا شــهي‪ ،‬وهــو أشــهر طبــق شــعبي‬
‫يف إســبانيا يتكون من قليل من األرز‪ ،‬مع قطع من األســاك وما يســمى‬
‫بالفواكــه البحريــة‪.‬‬

‫طعــم امللــح ورائحــة بحــر املتوســط التــي تســتقر يف كل خليــة عصبيــة‬


‫منــك بعــد هــذه الوجبــة الدســمة ســتجعلك تغــادر املطعــم رسيعــا‬
‫نحــو غرفتــك بالهوســتيل‪ ،‬يك تحمــل بعــض اللــوازم وتهــرول نحــو شــاطئ‬
‫املدينــة مــن أجــل مامرســة الســباحة واالســتلقاء تحــت أشــعة شــمس‬

‫‪142‬‬
‫ســبتمرب الدافئــة‪.‬‬

‫يشــتهر شــاطئ ماالقيتــا (مشــتق مــن مالقــة) بوجــود اختصاصيــي شــواء‬


‫الرسديــن‪ ،‬حيــث ينتــرون عــى طــول الشــاطئ لعــرض أعــواد شــواء‬
‫لذيــذة لهــذه الســمكة‪ ،‬التــي يقــال أنهــا لــو كانــت نــادرة لكانــت أغــى أنــواع‬
‫الســمك يف البحــر‪ ،‬بالنظــر لقيمتهــا الغذائيــة التــي تكتنزهــا‪ ،‬بغــض النظــر‬
‫طبعــا عــن طعمهــا املمتــاز‪ ،‬خاصــة حــن تطهــى عــى جمــر الفحــم‪ ،‬وتقــدم‬
‫مــع رشائــح الليمــون‪.‬‬

‫مل يكــن الشــاطئ مزدحــا كثــرا‪ ،‬كان البعــض يقــرأ كتابــا والبعــض اآلخــر‬
‫مســتلقيا مستســلام ألشــعة الشــمس‪ ،‬وطبعا مل أكن ألقيض عىل الرمل‬
‫وقتــا أكــر مــن الــذي أقضيــه يف البحــر‪ ،‬وتوجهــت للغطــس مبــارشة يف‬
‫امليــاه ألســبح ســاعة كاملــة مــن الزمــن قبــل املغــادرة‪.‬‬

‫يف املســاء كانــت يل جولــة يف شــوارع املدينــة وســاحاتها املزدحمــة‬


‫واملفعمــة بالحركــة‪ ،‬أيــن تســمع كل اللغــات وتلتقــي بــكل الجنســيات‪،‬‬
‫لكن رغبتي كانت أكرب يف أن أشــاهد غروب الشــمس عىل مدينة مالقة‬
‫مــن البحــر‪ ،‬وهــي رغبــة ميكنــك تحقيقهــا بســهولة هنــا‪ ،‬عــر جولــة بحريــة‬
‫يف مراكــب خاصــة تنطلــق بــك مــن مينــاء املدينــة نحــو عــرض البحــر‪ ،‬ثــم‬
‫تعــود بــك لتعطيــك فرصــة االســتمتاع بهــذا املنظــر‪.‬‬

‫آخــر مــرة اســتطعت فهــا مشــاهدة العاصمــة الجزائريــة مــن البحــر كانــت‬
‫حــن غادرتهــا إىل مرســيليا قبــل خمــس ســنوات مــن اآلن‪ ،‬ويــا للمفارقــة‬

‫‪143‬‬
‫الزلنــا نحتــاج إىل تأشــرة مــن بلــد أجنبــي‪ ،‬يك تتــاح لنــا فرصــة رؤيــة عاصمــة‬
‫بلدنــا مــن البحــر‪.‬‬

‫اصطفــت املراكــب يف رصيــف صغــر باملينــاء كــا تصطــف حافــات‬


‫النقــل عندنــا باملحطــة الربيــة يف انتظــار الــركاب‪ ،‬وركبــت يف إحداهــا‬
‫لتنطل��ق بن��ا يف التوقي��ت املح��دد عــى التذكرــة (مثنهــا ‪ 8‬ي�وـرو) رغــم‬
‫عــدم امتــاء مقاعــد املركــب عــن آخرهــا‪.‬‬

‫أبحــر بنــا الربــان خــارج املينــاء‪ ،‬وكانــت املدينــة تبتعــد عــن ناظرنــا شــيئا‬
‫فشــيئا‪ ،‬بينــا تتوســع زاويــة رؤيتنــا لشــواطئها الرشقيــة والغربيــة‪ .‬كان‬
‫املركــب مــن طابقــن‪ ،‬وفيــه عــدد مــن املقاعــد الخشــبية التــي جلــس فيها‬
‫الســياح لتأمــل مشــهد غــروب الشــمس وجــال اللــون الربتقــايل‪ ،‬الــذي‬
‫حـ ّول بُقــع الســحاب عــى صفحــة الســاء‪ ،‬إىل لوحــة فنيــة طبيعيــة تزيــد‬
‫روعته��ا حـين تراه��ا وأن��ت ف��وق أموــاج البحرــ املتحرك��ة م��ن تحتـ�ك‪ .‬دامــت‬
‫رحلتنــا ســاعة مــن الزمــن عــى أنغــام موســيقى العطــل واملــرح املنبعثــة‬
‫مــن املركــب‪ ،‬قبــل أن نعــود وقــد اكتســبنا نفســا جديــدا مــن داخــل البحــر‬
‫ندخــل بــه إىل املدينــة بــكل ثقــة‪.‬‬

‫بعــد وجبــة عشــاء شــهية يف مطعــم اإلخــوة الباكســتانيني‪ ،‬ارتحــت يف‬


‫طاولتي مبا فيه الكفاية يك أخطط لربنامج اليوم املوايل‪ ،‬ووجدت عىل‬
‫النــت أن بلــدة ميخــاس وجهــة جديــرة بالزيــارة واالكتشــاف ملــن يقــي‬
‫عطلتــه يف مالقـ�ة‪ .‬خرجتــ م��ن املطعــم مب��ارشة إىل محطــة الحافــات‬
‫املجــاورة إللقــاء نظــرة عــى مواعيــد انطالقــة الباصــات نحــو ميخــاس‪،‬‬

‫‪144‬‬
‫وصــورت بهاتفــي النقــال كل مــا وجدتــه مــن ملصقــات ومعلومــات معلقــة‬
‫داخــل املحطــة قبــل العــودة مجــددا لقضــاء الليلــة يف رسيــري املزعــج‬
‫برصيــره بعــد يــوم طويــل أراح النفــس وأتعــب الجســد‪ ،‬فالعطلــة يف‬
‫النهايةــ‪ ..‬ليس��ت بحثـ�ا عنــ راحــة جسـ�دية وفق��ط بقــدر مــا هــي ارتيــاح‬
‫نفــي يدركــه املــرء كلــا ابتعــد عــن معاملــه الروتينيــة‪..‬‬

‫‪145‬‬
‫ساحل الشمس‪ ..‬مكان للعيش والتأمل‬

‫‪Voyager , c’est partir a la decouverte de l’autre et‬‬


‫‪le premier inconnu a decouvrir c’est vous‬‬

‫القــرى البيضــاء أو «‪ »blancos pueblos‬عالمــة مميــزة إلقليــم‬


‫األندلــس‪ ،‬وهــي مــن بقايــا الوجــود اإلســامي بشــبه الجزيــرة االيبرييــة‬
‫(خاصــة يف تــراب مقاطعتــي مالقــة وقــادس) والدليــل أنهــا الزالــت‬
‫تحتفــظ بنفــس مميــزات القــرى األمازيغيــة يف الشــال اإلفريقــي مــن‬
‫حيــث مواقعهــا يف أعــايل الجبــال وأزقتهــا الضيقــة واللــون األبيــض الــذي‬
‫يطبــع منازلهــا الصغــرة‪ ،‬كــا أنهــا كثــرا مــا تســتمد تســمياتها مــن ألــكاال‬
‫(القلعــة) أو الفرونتــرا (الحــدود) وهــو مــا يــدل عــى أنهــا كانــت يف مواقــع‬
‫متــاس بــن النصــارى واملســلمني ممــن كانــوا يف مملكــة غرناطــة قبــل‬
‫الســقوط‪.‬‬

‫تعتــر ميخــاس مــن أجمــل القــرى التــي تجســد هــذا الجــال األندلــي‬
‫األصيل‪ ،‬وهي املعلقة يف قمة مرتفع جبيل عىل علو أكرث من أربعامئة‬

‫‪146‬‬
‫مــر فــوق ســطح البحــر غــرب مالقــة‪ .‬الطريــق إىل هــذه القريــة ميــر عــر‬
‫مــدن تورميولينــوس وبنيلمدينــة وفوانخــروال وهــي مــدن ســياحية كبــرة‪،‬‬
‫عرفــت توســعا ضخــا يف الخمســن ســنة األخــرة بعــد أن اســتقر بهــا‬
‫عــدد هائــل مــن األجانــب‪ ،‬وخاصــة مــن متقاعــدي النصــف الشــايل مــن‬
‫القــارة العجــوز‪ ،‬حيــث تجذبهــم أشــعة الشــمس الــودودة وتكلفــة املعيشــة‬
‫املنخفضــة إىل متضيــة مــا تبقــى لهــم مــن أعــار بهــذه الربــوع‪.‬‬

‫صبــاح الجمعــة ‪ 22‬ســبتمرب ‪ 2017‬انطلقنــا نحــو بلــدة ميخــاس يف‬


‫بــاص كان جــل ركابــه مــن كبــار الســن‪ ،‬وكنــت تقريبــا الشــاب الوحيــد‬
‫مــن بينهــم‪ .‬ال يعنــي ذلــك أنهــم كانــوا متعبــن أو مهمومــن‪ ،‬بــل كانــوا‬
‫مفعمــن بالحيويــة والنشــاط‪ ،‬ومل يكفــوا عــن الرثثــرة طيلــة الطريــق‪ ،‬كــا‬
‫أنهــم يلبســون بــذالت صيفيــة أنيقــة ويحملــون كتيبــات صغــرة وخرائــط‬
‫تســاعدهم يف التنــزه بفهــم ودرايــة‪.‬‬

‫يقــوم الغربيــون بتحضــر تقاعدهــم بشــكل مســبق‪ ،‬وتعتــر مرحلــة مــا‬


‫بعــد الســتني بالنســبة لهــم حيــاة ثانيــة‪ ،‬يقومــون أثناءهــا بأســفار وجــوالت‬
‫مســتمرة عــر العــامل ‪.‬صحيــح أنهــم يراعــون فيهــا ســنهم املتقدمــة‪ ،‬لكنهــم‬
‫يقبلــون عــى هــذا النشــاط مبــرح وحيويــة نفتقدهــا حتــى عنــد شــبابنا‪،‬‬
‫ودعــك مــن الحديــث طبعــا عــن نظرائهــم مــن نفــس الســن عندنــا‪.‬‬

‫البلــدة كانــت موقعــا ســياحيا مثــرا‪ ،‬تتميــز بنظافــة مثاليــة‪ ،‬وكل شــيئ‬
‫كان فيهــا مهيئــا الســتقبال العــدد الــذي أفرغــه البــاص الــذي أوصلنــا إليهــا‬
‫وعــرات الباصــات التــي ميكــن أن تــأيت بعــده‪ .‬أول محطــة يل كانــت‬

‫‪147‬‬
‫الديــوان الســياحي للبلــدة‪ ،‬حيــث حصلــت عــى خريطــة بأهــم معاملهــا‬
‫الجديــرة بالزيــارة‪ .‬خرجــت بعدهــا ألجــد عــددا مــن الحمــر املزينــة يف‬
‫انتظــار الســياح‪ ،‬وهــي حمــر يركبــون عليهــا للتجــول الجامعــي فــوق‬
‫ظهورهــا رفقــة دليــل ســياحي‪ .‬الحــار يف إســبانيا ال يقــل رمزيــة عــن الثــور‬
‫األســود‪ ،‬فكالهــا أيقونــات مميــزة للعالمــة الســياحية اإلســبانية التــي يتــم‬
‫تســويقها يف العــامل‪ ،‬إنهــا صناعــة متكاملــة األركان واملعــامل وال مــكان‬
‫فيهــا لالرتجــال واملناســباتية‪.‬‬

‫بداخــل قريــة ميخــاس شــوارع مزينــة بــكل أنــواع الــورود واألزهــار التــي‬
‫تبــدو لــك أنهــا زرعــت منــذ لحظــات‪ ،‬كــا يخيــل إليــك أن منازلهــا قــد‬
‫طليــت للتــو‪ .‬املنظــر أشــبه باســتوديو تصويــر تــم ضبــط إضاءتــه وديكوراتــه‬
‫بدقــة مــن أجــل إعطــاء صــورة فائقــة الجــال للســائح‪ ،‬الــذي ســيحتفظ‬
‫دون شــك ولوقــت طويــل‪ ،‬بوقــع هــذه الصــور يف ذاكرتــه الشــخصية أو‬
‫الذاكــرة االلكرتونيــة لهاتفــه أو آلــة تصويــره‪.‬‬

‫من أجمل ما وجدت يف هذه البلدة رشفة ظليلة ميكنك من خاللها‬


‫أن تطــل عــى البحــر والقــرى الســياحية‪ ،‬مــع خريطــة تبــن لــك موقعــك‬
‫وأســاء املناطــق التــي تطــل عليهــا‪ ،‬مــن النقطــة التــي تقــف فيهــا‪.‬‬

‫التجــول يف أزقــة ميخــاس متعــة للعــن وراحــة للبــر‪ ،‬فــكل يشء‬


‫أمامــك متناســق األلــوان واألشــكال‪ ،‬حيــث التناغــم بــن مــا خلقــه اللــه‬
‫وصنعــه اإلنســان يجعلــك منتشــيا مبــا تــراه‪ ،‬بغــض النظــر عــن امتــاكك‬
‫للــذوق الفنــي أو الحــس الجــايل‪ .‬املظهــر األندلــي الفريــد للقــرى‬

‫‪148‬‬
‫البيضــاء التــي تتســلق النباتــات الخــراء جدرانهــا ويغطــي القرميــد‬
‫األحمــر أســقفها تعكــس بحــق لــون العلــم األندلــي األبيــض واألخــر‪،‬‬
‫واللــون األحمــر أيضــا يف الرايــة اإلســبانية‪.‬‬

‫كان أمامــي متســع مــن الوقــت أيضــا لصعــود قمــة البلــدة‪ ،‬وإلقــاء نظــرة‬
‫منهــا عــى كل املســاكن يف األســفل وكذلــك رؤيــة ســاحل البحــر يف‬
‫األفــق ولــو أن نســبة بخــار املــاء يف الجــو خصوصــا يف يــوم حــار كهــذا‪،‬‬
‫حالــت دون رؤيتــي لجبــل طــارق الــذي يقــال إنــك ميكــن أن تــراه مــن هــذا‬
‫املــكان (مل يتســنى يل التأكــد مــن ذلــك لكننــا يف الجزائــر نســتطيع مثــا‬
‫رؤية رأس بوقارون بســكيكدة من رأس كربون ببجاية يف األجواء الصافية‬
‫واملســافة بينهــا بعيــدة حقــا)‪.‬‬

‫كنــت قــد راســلت املكتــب الســياحي إلقليــم جبــل طــارق قبــل ســفري‪،‬‬
‫أســألهم عــن إمكانيــة زيــاريت لهــذا املوقــع االســراتيجي الــذي يقــع تحــت‬
‫الســيادة الربيطانيــة منــذ ‪ .1713‬لكنهــم أجابــوين بعــد مثــان وأربعــن‬
‫ســاعة بإميايــل يشــكرونني فيــه عــى التفكــر يف الزيــارة‪ ،‬ويدعــوين إىل‬
‫االتصــال بالجهــة املســؤولة عــن تســهيل مثــل هــذه املهمــة للســياح‪،‬‬
‫واملتمثلــة يف الســفارة الربيطانيــة بالجزائــر‪ ،‬كــا أعربــوا يل مــرة أخــرى‬
‫عــن امتنانهــم لهــذه املبــادرة يف التفكــر بوضعهــم يف برنامــج رحلتــي‬
‫الســياحية (قتلــوين بالقــدر)‪.‬‬

‫جبــل الفتــح أو جبــل طــارق‪ ،‬مســتعمرة إنجليزيــة مثــرة لنفــس الجــدل‬


‫الــذي تثــره مســتعمرتا ســبتة ومليليــة وباقــي الجــزر الصخريــة التــي تســيطر‬

‫‪149‬‬
‫عليها إسبانيا يف الساحل املغريب املقابل‪ ،‬وقد نظم أكرث من استفتاء‬
‫لعــودة الصخــرة إىل الحضــن اإلســباين لكــن يبــدو أن الســكان يقولــون «ال»‬
‫يف كل مــرة (آخرهــا ســنة ‪ )2003‬واملصوتــون بنعــم ال ميلئــون مقاعــد‬
‫كنيســة واحــدة‪ ،‬كــا يعلــق بعــض اإلعالميــن اإلنجليــز تهكــا‪.‬‬

‫ال داعــي للتذكــر أن اإلقليــم منطقــة تجاريــة حــرة ونقطــة اقتصاديــة‬


‫مضيئــة تــد ّر عــى املضيــق والدائــرة املحيطــة بــه أرباحــا ماليــة كبــرة‪ ،‬ليــس‬
‫مــن مصلحــة طــريف النــزاع التفريــط فيهــا‪ ،‬متامــا كــا يســتفيد املغــرب‬
‫اقتصاديــا مــن وجــود ســبتة ومليليــة فــوق أراضيــه الجغرافيــة بشــكل أو‬
‫بآخــر‪.‬‬

‫أخــذت عــر جولتــي يف ميخــاس جرعــة أكســجني منعشــة للجســد‬


‫والعقــل قبــل أن أركــب البــاص مــن جديــد نحــو مالقــة حيــث قــررت أن‬
‫أتوجــه مــرة أخــرى إىل شــاطئ البحــر‪.‬‬

‫للســباحة يف شــهر ســبتمرب لــذة خاصــة‪ ،‬لــن تجدهــا يف جويليــة أو‬


‫أغســطس‪ ،‬وللســباحة يف وســط املدينــة وعنــد أقــدام العــارات‬
‫والســكنات طعــم خــاص أيضــا‪ ،‬يجعلــك تصــدق مــن جديــد أن البحــر‬
‫ميكــن أن يكــون نظيفــا بالقــرب مــن تجمــع ســكاين حــري متامــا كــا‬
‫صدقــت أن مراســلتك لجبــل طــارق ال ميكــن أن تبقــى دون إجابــة‪ .‬جميــل‬
‫أن يكتشــف املــرء أن الواقــع هــو مــا قبلنــاه كواقــع وليــس مــا هــو مفــروض‬
‫علينا كقضاء وقدر‪ .‬ومدرســة الســفر أحيانا‪ ،‬أحســن من يرشح لنا ذلك‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫قضيــت فــرة القيلولــة يف شــاطئ املدينــة بــن ســباحة وتعــرض ألشــعة‬
‫الشــمس‪ ،‬كان الشــاطئ من االتســاع مبا يجعلك تختار مكانا تجلس فيه‬
‫شــبه وحيــدا تتأمــل الســاء التــي يع ّكــر صفوهــا كل عــر دقائــق انطــاق‬
‫للطائــرات مــن مطــار مالقــة القريــب‪ .‬لســت بحاجــة إىل عــداد لتعــرف‬
‫حجــم النشــاط الســياحي واالقتصــادي الــذي يتدفــق مــن وإىل هــذه‬
‫الحــارضة املتوســطية‪ ،‬التــي عرفــت كيــف تجــذب (عــدا األعــداد الكبــرة‬
‫مــن الســياح املوســميني) جحافــل املتقاعديــن مــن كل مــكان‪ ،‬يك توفــر‬
‫لهــم أجــواء حياتيــة مريحــة‪ ،‬مقابــل االســتحواذ عــى معاشــاتهم‪.‬‬

‫يحــدث ذلــك أيضــا يف املغــرب‪ ،‬أيــن بنيــت قريــة عرصيــة كاملــة‬


‫ومجهــزة لهــذه الفئــة العمريــة انعكســت آثارهــا اإليجابيــة عــى البلــدات‬
‫املجــاورة هنــاك‪ ،‬خصوصــا يف قطاعــي التجــارة والنقــل‪ .‬أعــرف رجــل‬
‫أعــال عندنــا درس الصيدلــة والسياســات الصحيــة‪ ،‬وكان مهتــا بإنشــاء‬
‫مــروع مامثــل يف الجزائــر‪ ،‬لكــن حجــم املعوقــات واملثبطــات التــي بــدأ‬
‫يكتشــفها كلــا تعمــق يف دراســة املــروع حتــى ال أقــول إنجــازه‪ ،‬جعلــه‬
‫يــرف النظــر عــن الفكــرة إىل حــن‪.‬‬

‫يف املســاء رحــت أتجــول يف ســاحات املدينــة دون هــدف محــدد‬


‫قبــل أن أعــود إىل الفنــدق وأقــوم برتتيــب أمتعتــي جيــدا وأنظــم محتوياتهــا‬
‫تحضــرا لرحلــة العــودة‪ .‬أمــا يف الليــل فقصــدت مطعمــي املعتــاد‬
‫لتنــاول العشــاء‪ ،‬وهنــاك جلــس بجــوار طاولتــي ثــاث شــبان مــن أصــل‬
‫عــريب (ســعودي ولبنــاين يحــاوالن مســاعدة أحــد اليمنيــن عــى االســتقرار‬

‫‪151‬‬
‫مبالقــة كــا فهمــت مــن حوارهــم) ويبــدو أن الوحــدة العربيــة أقــرب‬
‫للتجســيد والتطويــر كلــا ابتعــدت عــن ســجنها الجغــرايف‪.‬‬

‫بــادرت الشــاب الســعودي بالحديــث وســألته عــن عملــه هنــا‪ ،‬فقــال إنــه‬
‫مديــر املركــز اإلســامي التابــع لرابطــة العــامل اإلســامي والتــي تسـ ّـر أربــع‬
‫مســاجد يف إســبانيا‪ ،‬أحدهــا مســجد الســلطان إبراهيــم يف جبــل طــارق‪.‬‬
‫ســألته باملناســبة عــن رس بنــاء املســجد الضخــم يف ذلــك اإلقليــم‪،‬‬
‫فقــال إنــه كبــر حقــا مقارنــة بعــدد املصلــن الذيــن ال ميلئــون صفــا واحــد‬
‫بداخلــه‪ ،‬ولكــن يبــدو أن الســلطات هنــاك منحتهــم أرضــا فقامــوا بتشــييد‬
‫جامــع عليهــا حتــى ال تبقــى فارغــة‪ .‬عــى كل منظــر املســجد بــاد للعيــان‬
‫يف كل الصــور التــي تلتقــط لصخــرة جبــل طــارق العظيمــة‪ ،‬وهــو أيقونــة‬
‫مهمــة تذكــر العــامل عــى األقــل بهويــة الرجــل الــذي أعطــى اســمه للجبــل ‪.‬‬

‫خرجــت مــن املطعــم راجعــا إىل املرقــد وســط املدينــة‪ ،‬عــر طريــق‬
‫ألفــت شــوارعه وأضوائــه ومحالتــه املفتوحــة واملغلقــة‪ ..‬اللحظــات‬
‫األخــرة مــن فــرة الســفر عــادة مــا يســتثقلها املــرء ويستســلم فيهــا إىل‬
‫الرغبــة يف العــودة بأقــى رسعــة مــن حيــث أىت‪ ،‬كــا يفقــد فيهــا القــدرة‬
‫عــى التحفــز والتحمــس للمزيــد مــن التجــوال أو االســتمتاع‪ ..‬مل يبــق‬
‫أمامــي يف اليــوم املــوايل ســوى االســتيقاظ الباكــر للتوجــه نحــو محطــة‬
‫الحافــات والعــودة إىل مالقــة عــر الســاحل الجنــويب إلســبانيا يف رحلــة‬
‫متعبــة دون شــك‪..‬‬

‫‪152‬‬
‫العودة‪..‬‬

‫‪Le voyage c’est aller de soi a soi en passant par les‬‬


‫‪autres‬‬

‫آخــر يــوم يل يف مالقــة وإســبانيا ككل كان يــوم ســبت ‪ 23‬ســبتمرب‬


‫‪ 2017‬حيــث بدأتــه صباحــا باســتكامل ترتيــب أغــرايض داخــل الحقائــب‬
‫ومراقبــة جــواز ســفري وهاتفــي والشــاحن ومبلــغ املــال املتبقــي معــي‪..‬‬
‫إنهــا األشــياء التــي ال يجــب أن تنســاها يف بلــد أجنبــي‪ ،‬وإال تحولــت‬
‫رحلتك إىل ذكرى سيئة جدا‪ ،‬وال أريد تكرار ما حصل معي يف برشلونة‬
‫قبــل خمــس ســنوات‪ ،‬حــن خرجــت تحــت جنــح الظــام مبكــرا ومل أشــعل‬
‫أضــواء الغرفــة ألتأكــد مــن أخــذ كل أغــرايض مراعــاة لعــدم إزعــاج النامئــن‪،‬‬
‫فنســيت نصفهــا هنالــك‪.‬‬

‫دخلــت أحــد املقاهــي يف مالقــة لتنــاول قهــوة صباحيــة أخــرة وتوديــع‬


‫الشارع من موقع الجالس املتأمل يف حركة الناس والسيارات واملدينة‬
‫ككل‪ ..‬تناولــت إفطــاري يف هــدوء ثــم واصلــت الطريــق متجــوال آلخــر مــرة‬

‫‪153‬‬
‫عــر املحــات لــراء بعــض التحــف التذكاريــة‪ ،‬وبعدهــا قصــدت محطــة‬
‫الحافــات لركــوب حافلتــي املتوجهــة إىل أملريــة ومثــن تذكرتهــا (‪18‬‬
‫يــورو)‪.‬‬

‫وصلــت املحطــة خمــس دقائــق قبــل موعــد انطــاق الحافلة‪ ،‬ووضعت‬


‫أمتعتــي يف مكانهــا املخصــص‪ ،‬ثــم صعــدت إىل الداخــل ألجلــس يف‬
‫ـن عــى التذكــرة‪ .‬وانطلقــت الحافلــة بعــد دقيقيــن يف‬ ‫مــكاين املبـ ّ‬
‫موعدهــا املحــدد متامــا‪ .‬كــم جميــل أن يتفــق كل هــؤالء القــوم هنــا عــى‬
‫احرتام مواعيد االنطالق والوصول يف كل وسائل النقل املتوفرة‪ ،‬حيث‬
‫يجعلــك ذلــك تســافر يف طأمنينــة وراحــة بعيــدا عــن القلــق والرتقــب‪.‬‬

‫كالعــادة يف الحافــات األوروبيــة قــد يضــع القــدر أمامــك لقــا ًء غــر‬


‫متوقــع مــع شــخص تقاطــع مشــوارك مــع مشــواره ولــو لبعــض الوقــت‬
‫وال بــأس عندئــذ مــن اســتغالل لحظــات التقاطــع تلــك يف يشء مــن‬
‫الدردشــة وتبــادل األفــكار والحديــث‪.‬‬

‫كانــت الطالبــة الكنديــة التــي جلســت بجانبــي قــد أكملــت تربصهــا‬


‫يف مدريــد وجــاءت إىل مالقــة يف عطلــة نهايــة األســبوع لتمضيــة بعــض‬
‫الوقت يف مدينة نريخا عىل ســاحل الشــمس‪ .‬ســألتها عن الدراســة يف‬
‫كنــدا فقالــت إنهــم يدفعــون أمــواال مقابــل الدراســة يف الجامعــة لكنهــا‬
‫أمــوال يقرتضونهــا دون فوائــد ويرجعونهــا بعــد حصولهــم عــى العمل (كام‬
‫يحــدث مــع األونســاج عندنــا لكــن بشــكل آخــر وأكــر فعاليــة كــا يبــدو)‬
‫أخربتنــي أيضــا أنهــا تعمــل بعــض الســاعات يف صالــة للعــرض خــارج‬

‫‪154‬‬
‫أوقــات الدراســة وذلــك لتوفــر مصاريفهــا ومصاريــف الســفر كذلــك‪.‬‬

‫الســفر عنــد الغربيــن مهــم جــدا يف الحيــاة وهــم ال يرونــه مــن الكامليــات‬
‫غــر الرضوريــة‪ ،‬بــل يعملــون ألجلــه طيلــة عــام كامــل ألنــه نافذتهــم عــى‬
‫اإلنســان ومدرســتهم التــي يتعلمــون ويكتشــفون فيهــا شــخصيتهم‬
‫وحقيقتهــم فالذهــاب عنــد اآلخــر هــو زيــارة صادقــة للــذات‪.‬‬

‫ســألتها عــن اللغــة الفرنســية قــي مقاطعــة الكيبيــك التــي تســكنها‬


‫ومكانتهــا عنــد الســكان‪ ،‬فقالــت يل أن ســكان الكيبيــك يحبــون هــذه‬
‫اللغــة لذاتهــا ويبذلــون الكثــر مــن أجــل الحفــاظ عليهــا‪ ،‬بغــض النظــر‬
‫عــن عالقتهــم بفرنســا أو الفرنســيني‪ ،‬وأنهــم يفتخــرون بفرنكوفونيتهــم رغــم‬
‫نطقهــم املضحــك بكلامتهــا وحروفهــا‪.‬‬

‫ســارت بنــا الحافلــة مبحــاذاة الســاحل املشــمس‪ ،‬ويف كل مــرة كنــا‬


‫ندخــل بلــدة ســياحية صغــرة أو كبــرة ينــزل أفــراد ويصعــد آخــرون‪ ،‬فــرى‬
‫الحيــاة يف الوجــوه‪ ،‬وتســمع العــامل عــر ألســنة مختلفــة ال تكــف عــن‬
‫الــكالم تحــت شــمس كانــت تدخــل برفــق مــن النوافــذ وتجعــل الســاحل‬
‫يف الخــارج يبــدو جميــا يف كل تفاصيلــه‪.‬‬

‫دخلــت حافلتنــا بعــد ســاعتني مــن الســر محطــة مدينــة موتريــل يك‬
‫نأخــذ قســطا مــن الراحــة ونتنــاول شــيئا مــن األكل ونقــي حوائجنــا‬
‫املختلفــة يف ظــرف نصــف ســاعة‪ ،‬وهــذا التوقــف القانــوين يــري‬
‫عــى أغلــب الحافــات يف أوروبــا‪ .‬التكييــف أثنــاء الرحلــة كان مناســبا‬

‫‪155‬‬
‫واملقعــد مريــح أيضــا‪ .‬الحظــت أن كل الظــروف هنــا مســخرة وميــرة‬
‫لخدمــة اإلنســان وليــس العكــس‪ ،‬وأن هــذا األخــر هــو مــن يصنــع ويضــع‬
‫نظامــه وليــس النظــام مــن يكبلــه طوعــا أو كرهــا‪.‬‬

‫واصلنــا ســرنا واقرتبنــا مــن مدينــة أملريــة بعــد أكــر مــن ثــاث ســاعات‬
‫ونصــف مــن الســر‪ .‬كنــت أرى مــن نافــذيت أحيانــا أقفاصــا دائريــة كبــرة‬
‫داخــل البحــر لرتبيــة األســاك‪ ،‬وعــى شــايل جبــال انتصبــت فوقهــا‬
‫مروحــات شــديدة العلــو تــدور مــع الريــاح لجنــي الطاقــة‪ .‬لكــن ومــع اقرتابنــا‬
‫مــن مدينــة «اليخيــدو» املتاخمــة ألملريــة انتظــرت أن أرى مشــهدا لطاملــا‬
‫التقيــت بــه يف األرشطــة والوثائقيــات قبــل أن تتــاح يل الفرصــة ألراه‬
‫أمامــي‪ .‬فهنــا أيــن ينتهــي شــاطئ البحــر املتوســط يبــدأ بحــر مــن نــوع آخــر‬
‫لكنــه بلــون أبيــض ومــن غــر أمــواج أو بواخــر‪ .‬إنــه أكــر تجمــع يف العــامل‬
‫بــأرسه للبيــوت البالســتيكية التــي تــزرع فيهــا كل أنــواع الخــر والفواكــه‪.‬‬
‫هنــا ميكنــك مشــاهدة شــاحنات مــن كل األحجــام وغــرف تربيــد وخزانــات‬
‫ومســتودعات يف كل مكان‪ .‬إنها مصنع ضخم يغذي أوروبا بأكملها يف‬
‫كل الفصــول (يشــتغل داخــل هــذه البيــوت البالســتيكية عــدد كبــر مــن‬
‫املهاجريــن األفارقــة واملغاربــة عــى الخصــوص يف ظــروف أقــل مــا يقــال‬
‫عنهــا أنهــا صعبــة وشــاقة)‪.‬‬

‫هــذه هــي إســبانيا بعيــدا عــن ســطحية ألــوان أقمصــة الريــال والبارصــة‪،‬‬
‫إنهــا بلــد مجتهــد يف العمــل يســتثمر كل مــر مكعــب أو مربــع منــه‪ ،‬يف‬
‫الســاء أو األرض أو املــاء لجنــي األربــاح وتحصيــل املداخيــل‪ ،‬وهــو مــا‬

‫‪156‬‬
‫يجــب أن نتعلمــه نحــن الذيــن نســكن يف أكــر بلــد مطــل عــى املتوســط‬
‫وأكــر بلــد إفريقــي وعــريب وعــارش بلــد مــن حيــث املســاحة عامليــا (علــا‬
‫أن كل البلــدان التــي تفوقنــا مســاحة هــي دول كــرى بالــرورة مــا عــدا‬
‫كازاخســتان أو الربازيــل بتحفــظ)‪.‬‬

‫وصلــت إىل أملريــة يف الوقــت املبــن عــى التذكــرة متامــا‪ ،‬فكانــت‬


‫بالنســبة يل (هــذه املــرة) مجــرد عــودة إىل مدينــة أعرفهــا ســلفا‪ ،‬حيــث‬
‫خرجــت مبــارشة مــن محطــة الحافــات قاصــدا أول فنــدق نزلــت بــه حــن‬
‫وطــأت قدمــاي األرض اإلســبانية قبــل اثنــا عــر يومــا مــن اآلن‪.‬‬

‫طلبــت مــن عاملــة االســتقبال يف الفنــدق أن أتــرك أمتعتــي عندهــا‬


‫لبعــض الوقــت‪ ،‬وقــد وافقــت عــى األمــر مشــكورة (هــذه الخدمــة يف‬
‫أوروبــا ليســت مجانيــة وتتــم مبقابــل مــايل لكــن مــا خــر مــن طلــب)‪.‬‬

‫كانــت املدينــة شــبه خاليــة مــن النــاس بســبب عطلــة نهايــة األســبوع‬
‫لكــن املحــات الكــرى مفتوحــة وفيهــا حركــة ال بــأس بهــا للبيــع والــراء‪.‬‬
‫اســتغليت وقــت املســاء يف رشاء بعــض املقتنيــات مبــا تبقــى يل مــن‬
‫قطــع نقديــة‪.‬‬

‫تناولــت عشــايئ عنــد مطعــم باكســتاين‪ ،‬قبــل أن أتوجــه إىل الفنــدق‬


‫الســرجاع أمتعتــي والهبــوط إىل مينــاء املدينــة لركــوب الباخــرة نحــو وهــران‬
‫مــن جديــد‪ .‬أجمــل مــا يف مينــاء املدينــة شــعورك حــن تدخلــه‪ ،‬أنــك‬
‫تلــج مجــرد مركــز بريــدي أو حديقــة عموميــة حيــث ال وجــود لذلــك العــدد‬

‫‪157‬‬
‫الهائــل مــن أعــوان وقــوات األمــن (التــي تشــعرك بعــدم األمــن مــن حيــث‬
‫تريــد أن تزيــد يف إحســاس املواطــن باألمــن) ويقابلــك بالداخــل مطعــم‬
‫ومصــى صغــر وقاعــة انتظــار نظيفــة وجميلــة‪ ،‬تصعــد منهــا بعــد إجــراءات‬
‫خفيفــة (حتــى ال أقــول ســخيفة) إىل ســفينة تأخــذك إىل جنــوب ضفــة‬
‫هــذا البحــر‪.‬‬

‫صحيــح أن هــذه املظاهــر عاديــة جــدا وال تســتحق كل هــذا التنويــه‪،‬‬


‫لكــن معاناتنــا املعتــادة مــع إجــراءات الســفر وقاعــات االنتظــار وظــروف‬
‫االســتقبال ونوعيــة الخدمــات تجعلنــا ننتبــه إىل الفــارق املوجــود‪ ،‬متامــا‬
‫كــا نقــوم بروبورتــاج متلفــز حــول األحيــاء الســكنية حــن يقــوم املواطنــون‬
‫بالحفــاظ عــى نظافتهــا‪ ،‬أو الشــباب الذيــن يتنازلــون عــن كرامتهــم‬
‫ويتجهــون للعمــل يف جنــي املحاصيــل الزراعيــة‪ ،‬أو عــن قطــار الســابعة‬
‫صباحــا حــن ينطلــق مــن املحطــة عــى الســابعة صباحــا يــوم عيــد الفطــر‬
‫أو األضحــى‪.‬‬

‫عنــد دخــويل إىل املينــاء كان الهــدوء النســبي يعــم املــكان‪ ،‬رمبــا ألن‬
‫شــهر ســبتمرب ليــس شــهر ذروة للمســافرين والحركــة والتنقــل‪ .‬صليــت‬
‫املغــرب والعشــاء قــرا يف مصــى صغــر ميكنــك أن تقصــده حتــى‬
‫وأنــت مقيــم يف وســط املدينــة (لقــرب املســافة ويــر الدخــول) ثــم‬
‫توجهــت لقاعــة االنتظــار‪.‬‬

‫كانــت القاعــة خاليــة مــن املســافرين تقريبــا‪ ،‬وكانــت يف املينــاء‬


‫ســفينتان لنفــس الرشكــة اإلســبانية‪ ،‬إحداهــا تتجــه إىل مدينــة الناظــور‬

‫‪158‬‬
‫واألخــرى تتجــه إىل وهــران‪ .‬مــرت الســاعة مــن التاســعة إىل العــارشة ببطــئ‬
‫شــديد قبــل أن يتــم فتــح أبــواب الســفينة للراجلــن مثــي‪ ،‬ودخلنــا لنأخــذ‬
‫أماكننــا يف مقاعــد الســفينة‪ ،‬حيــث اســتلقيت فــوق أربــع منهــا واتخــذت‬
‫منهــا شــبه رسيــر‪ ،‬لعلّــه يصيبنــي فوقــه شــبه نــوم أو نعــاس‪.‬‬

‫بعــد ســاعتني تقريبــا‪ ،‬بــدأت محــركات الســفينة الضخمــة يف الــدوران‪،‬‬


‫وخرجــت إىل ظهــر الســفينة أللتقــط آخــر صــورة للمدينــة التــي كانــت‬
‫ترقــد يف ســكون تحــت أســوار قصبتهــا املضــاءة يف ليلــة صيفيــة مرصعــة‬
‫بالنجــوم خاليــة مــن الغيــوم‪.‬‬

‫كان عــدد املطلّــن مــن جــر الســفينة قليــا‪ ،‬ورمبــا كنــت الوحيــد‬
‫مــن بينهــم الــذي لــن أعــود إىل هنــا قبــل وقــت طويــل‪ ،‬فجــل الراكبــن‬
‫كانــوا مــن املغرتبــن أو البزناســة الذيــن يأتــون املدينــة بشــكل دوري‪ ،‬وهــو‬
‫مــا يجعلهــم يرونهــا بنظــارات أخــرى قــد تكــون أقــرب إىل امللــل والتعــود‬
‫الروتينــي‪.‬‬

‫عــدت إىل القاعــة ألضــع رأيس فــوق حقيبــة الظهــر وأستســلم ملــرور‬
‫بعــض الذكريــات بذهنــي‪ ،‬حيــث تعرفــت عــى مناظــر وتجولــت يف‬
‫أماكــن مل يخطــر ببــايل أننــي ســأزورها بهــذه الرسعــة والســهولة‪ ،‬بعدمــا‬
‫كنــت أقــرأ عنهــا وأتخيلهــا‪ ،‬أو يف أحســن األحــوال أشــاهدها عــر األرشطــة‬
‫الوثائقيــة‪ ،‬والواقــع أنهــا بقــدر مــا كانــت ســاحرة يف الصــور فقــد كانــت‬
‫أجمــل يف الواقــع‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫تحركــت الســفينة مبتعــدة عــن الضفــة اإلســبانية‪ ،‬وأبحــرت كــا تصورتهــا‬
‫فوق خريطة صغرية‪ ،‬عىل مسافة ال تزيد عن تلك التي تفصل العاصمة‬
‫عــن واد الفضــة أو وهــران عــن مغنيــة‪.‬‬

‫مل أمتكــن مــن النــوم طيلــة الســاعات التــي كانــت تفصلنــا عــن أضــواء‬
‫الفجــر فــوق بحــر البــوران‪ ،‬لكــن وقبــل ثــاث ســاعات مــن الوصــول بــدأت‬
‫تــراىئ لنــا أضــواء اليابســة الجزائريــة ومدينــة بنــي صــاف تحديــدا‪ ،‬وقــد‬
‫خرجــت إىل جــر الســفينة لرؤيــة املنظــر‪ ،‬وبقيــت هنــاك ألشــاهد ضــوء‬
‫منــارة جزيــرة ليــى برشــقون‪ ،‬وبعدهــا مدينــة عيــون الــرك التــي يبــدو لــك‬
‫ســاحلها كبــرا وواســعا مــن البحــر قبــل أن يفصــح ضــوء النهــار عــن ظهــور‬
‫مبــاين مدينــة وهــران يف األفــق ومــن فوقهــا حصــن ســانتا كــروز املســتقر‬
‫فــوق جبــل املرجاجــو‪.‬‬

‫رســت الســفينة يف مينــاء وهــران بســام وانتظــرت أن تخــرج الســيارات‬


‫مــن جــوف الســفينة إىل رصيــف املينــاء بينــا توضــع لنــا ســامل خاصــة‬
‫بنــا نحــن الراجلــون يك نخــرج منهــا‪ ،‬لكــن إن كان األمــر هكــذا يف فرنســا‬
‫وإســبانيا حيــث يخــرج املــرء مــن البــاب الضيــق‪ ،‬فإنــك يف البلــد ســتخرج‬
‫مــن البــاب الكبــرة الواســعة ‪ ..‬مــع الســيارات وضجيــج محركاتهــا وأصــوات‬
‫أبواقهــا ودخانهــا‪.‬‬

‫كنــت أول مــن خــرج مــن الســفينة وأول مــن م ـ ّر عــر الرشطــة وتفتيــش‬
‫الجــارك ألجــد نفــي خــارج املينــاء بعــد عــر دقائــق‪ ،‬ويف مواجهتــي‬
‫عــرات الســائقني مــن أصحــاب ســيارات األجــرة يهتفــون ويصيحــون يب‬

‫‪160‬‬
‫يك أركــب معهــم‪ .‬طبعــا لــن يخــرك أي منهــم بســعر التوصيلــة‪ ،‬فهــم‬
‫يريــدون أوال االســتفراد بــك ووضــع أمتعتــك داخــل الســيارة‪ ،‬وبعدهــا‬
‫ســيقنعونك بالســعر الــذي يناســبهم ســواء بالدفــع الطوعــي أو بالتخــي‬
‫املكــره عــن املبلــغ املطلــوب بعــد مامرســة تقنيــات اإللحــاح التــي‬
‫يجيدونهــا‪.‬‬

‫وضعــت ألول ســائق هــب ناحيتــي رشطــا مســبقا قبــل أي حديــث‬


‫وقلــت لــه ال أملــك إال خمســائة دينــار خذهــم أو دعنــي أذهــب إىل‬
‫املنــزل ســرا عــى األقــدام‪.‬‬

‫بعــد عــر دقائــق‪ ،‬كنــت أمــام بــاب منــزيل وقــد نزلــت مــن الســيارة‬
‫وناولــت صاحبهــا املبلــغ املوجــود‪ ،‬وكان ذلــك آخــر مشــهد دونتــه حــول‬
‫رحلتــي إىل مــا يســمى بالفــردوس املفقــود قبــل العــودة إىل أجــواء حيــايت‬
‫وعمــي الروتينــي يف بلــدي العزيــز أو الفــردوس املوعــود‪..‬‬

‫انتهى‬

‫‪161‬‬
9 789931 677253
162

You might also like