Professional Documents
Culture Documents
جزائري في الأندلس- سفيان مقنين
جزائري في الأندلس- سفيان مقنين
عندما قصدت مكة املكرمة ب ّرا ذات شهر أوت من سنة 2005مل أكن
أعرف أن الخربشات التي دونتها حول الرحلة لتوزيعها فيام بعد عىل
بعض األصدقاء ممن رافقوين يف السفر ستصبح سببا إضافيا لقبول
توظيفي يف محطة ورقلة للتلفزيون ،بعد أن قال يل مديرها آنذاك
أحمد بن صبان :إن من يكتب هذا الكالم ويبحث عن مكان داخل أسوار
يصح أن يبقى يف الجزء اآلخر من السور.
ّ املؤسسة ال
وحني د ّونت بعضا من مشاهدايت وأفكاري أثناء أول رحلة يل إىل
مدن جنوب إسبانيا ألقتسمها فيام بعد مع األصدقاء عىل الفيسبوك
مل أكن أدري أنها ستتحول بهذه الرسعة إىل كتاب مطبوع هو اآلن بني
يديك بعد أن حاز ثقة دار نرش أشهد ألصحابها أنّهم ال ي ّدخرون جهدا
يف تجسيد فكرة الجزائر تقرأ وحتى الجزائر تكتب..
فعل الكتابة كان بالنسبة يل طريقة ممتعة ومفيدة للسفر ثالث مرات
يف رحلة واحدة .مرة عند القيام بها ،ومرة عند تدوين أحداثها ،ومرة
أخرى عند إعادة قراءتها ،ورمبا انتابني إحساس رابع بالسفر مجددا كلام
اقتسمتها مع أحد القراء عرب فضاءات النرش والتواصل االلكرتونية ،مع
االعرتاف أن املرة األوىل أحسن من الحقاتها ألن رائحة شواء اللحم يف
النهاية ال تعوض تناول قطعة اللحم ذاتها..
إذا أخذك هذا الكتاب يف جولة مثرية وأحسست أنك فعال مسافر
عرب صفحاته وفقراته فأنت قد حققت نصف الهدف من اقتناءه أو
استعارته ،وإن حفّزك ما جاء فيه عىل حزم حقائبك واالنطالق نحو السفر
أيا كانت وجهتك فقد حققت الهدف كامال ،أما إن سافرت وعدت
إلينا بانطباعات وأفكار ومشاهدات وأحداث عايشتها أثناء رحلتك مهام
كانت بسيطة فأنت قد حققت هديف الشخيص من هذا العمل ولك
مني كل االمتنان والتقدير.
اإلنسان مل يخلق ليتحدث بلغة واحدة فقط وال ليعيش يف مكان واحد
فقط ..سيعلمك السفر أنك أحسن وأقوى وأذىك بكثري مام تعتقده يف
نفسك أو يعتقده الناس فيك .جرب أن تقرتب من حقيقتك ،باالبتعاد
ولو قليال عن ح ّيك ،بلدتك أو مدينتك ..جرب أيضا أن تسافر وتكتب
ألن أضعف أنواع الحرب أقوى من أي ذاكرة.
إىل والدي الكرميني اللذين أدين لهام بكل يشء جميل يحصل يل
يف الحياة..
إىل زوجتي العزيزة سهام وابنتي ياسمني ومن هو قادم يف الطريق..
إىل كل أصدقايئ عرب الفيسبوك الذين ح ّرضوين كثريا عىل ارتكاب
فعل الكتابة.
إىل كل مسافر يأخذنا معه عرب حكاياته وصوره وكتاباته ويقتسمها مع
الجميع دون استئذان وعن طيب خاطر
إىل كل قارئ ..أهدي هذا الكتاب.
وهران ليست ملن يسكنها ،وهران ملن تسكنه
هــذا هــو تقريبــا شــعور أي ســاكن يف هــذه املدينــة مهــا كانــت أصولــه
بعيــدة عنهــا ،شــعور يجعلــك يف راحــة واطمئنــان ال تتــاح لــك بســهولة
يف مــدن أخــرى مــن الوطــن ،أيــن تضعــك لهجتــك ورقــم ترقيــم الواليــة يف
ســيارتك يف بعــض املواقــف تجعلــك مرتابــا فيمــن حولــك أحيانــا ،كــا
تجعــل مــن حولــك مرتابــن فيــك أيضــا.
قبــل عامــن مــن اآلن كنــت قــد ضقــت ذرعــا بزحــام الســيارات يف
العاصمة رغم اتساعها وأتعبني ضيق أفق البعض فيها رغم عل ّو مراتبهم
يف الس ـلّم االجتامعــي واملهنــي ،ف ُرحــت أســتعني بــرودة األعصــاب
ملواجهــة متاعــب النــاس ،وبدراجتــي الناريــة الختصــار املســافات والقفــز
عــى الزحــام ،إىل أن اســتيقظت ذات صبــاح ومل أجدهــا يف مكانهــا يف
الســاحة الداخليــة للعــارة التــي أســكنها.
6
كانــت تلــك قطــرة أخــرة ،أفاضــت كأس صــري عــى مــا تبذلــه أكــر
مدينــه يف البلــد مــن أجــل إشــعار ســكانها بالتعاســة والتعــب واليــأس
وامللــل والوحــدة رغــم املاليــن الســتة مــن الســكان الذيــن تعــج بهــم
املحروســة ،والذيــن ال يزيدونــك أحيانــا إال وحــدة وانعــزاال.
يف وهــران التــي انتقلــت للعيــش والعمــل بهــا (بعــد تجربــة قصــرة
يف العاصمــة مل تتجــاوز الســنتني وأخــرى يف ورقلــة مل يــزد عمرهــا عــن
األربــع ســنوات) ال أحــد يســألك مــن أيــن أنــت أو مــن أيــن أتيــت ،فالجميــع
كــا يبــدو ليســوا مــن هنــا وال فضــل لقديــم عــى جديــد ،املدينــة تتســع
للجميــع دون اســتثناء .بــل إنهــا يف الســنوات األخــرة ازدادت منــوا يف
العمــران والتجــارة وحركــة النــاس منهــا وإليهــا ،لتصبــح اليــوم ثــاين مدينــة
يف البلــد مبيناءهــا الكبــر ومطارهــا الــدويل قيــد التوســعة .كــا وتبعــد
بســاعة فقــط عــن مســتغانم ومعســكر ومتوشــنت وبلعبــاس وغيليــزان
وســاعتني عــن الشــلف وســعيدة وتلمســان وثــاث ســاعات عــن تيــارت
بالســيارة .وحاليــا تفصلهــا ثــاث ســنوات فقــط عــن موعــد هــام جــدا وهــو
ألعــاب البحــر املتوســط املقــررة يف .2021
7
مامرسة أكرب للنشاط الريايض بكل فئاتهم العمرية وعرب كل الفضاءات
العموميــة والخاصــة يف املدينــة ،وفوائــد ذلــك عــى الصحــة النفســية
والجســدية واالقتصــاد والســلوك العــام ألفــراد املجتمــع أكــر مــن أن تعـ ّد
أو تحــى..
اللهجــة الوهرانيــة بهــا عديــد الكلــات مــن أصــل إســباين فاألســبوع هــو
الســيامنة والكيــس هــو البولصــة والطابــور هــو الكــوال والخزانــة هــي املاريــو
ومــاء الجافيــل هــو الليخيــا.
8
بكاملــه وهــو الكرنتيكــة واملشــتقة مــن الكلمــة اإلســبانية كلنتيتــة وتعنــي
باإلســبانية حرفيــا «الســاخنة» .غــر أن وهــران عــادت لتســقط مــن جديــد
يف يــد اإلســبان الذيــن مل يرتكوهــا يف يــد العثامنيــن نهائيــا ســوى ســنة
1792بعــد زلــزال مدمــر أهلــك خلقــا كثــرا مبــن فيهــم حاكمهــا اإلســباين
وزوجتــه ،وخــرب أجــزاء كبــرة مــن املدينــة وهــي التــي كانــت أكــر الحــوارض
تحصينــا يف الشــال اإلفريقــي.
9
لكــن تطــور القــدرات التدمرييــة للقنابــل النوويــة مــع الوقــت أفقــد املــرىس
الكبــر أهميتــه االســراتيجية لفرنســا خاصــة وأن مصاريفهــا كانــت مكلفــة
فتــم نقلهــا إىل ســيطرة القــوات الجزائريــة قبــل املوعــد املتفــق عليــه،
لتكــون رســميا آخــر مــكان غــادره جنــدي فرنــي بعــد أكــر مــن قــرن مــن
االحتــال.
اإلقليــم الوهــراين إبّــان الوجــود الفرنــي كان مــن أغنــى األقاليــم يف
الجزائــر قبــل ظهــور آبــار النفــط يف الجنــوب ،وكانــت املنتوجــات الزراعيــة
يف املنطقــة الوهرانيــة ذات جــودة عاليــة ومصنفــة عامليــا مــن «زيتــون»
ســيق إىل «طومســون» باريقــو إىل «كليمونتــن» مرسغــن إىل «عنــب»
معســكر دون الحديــث عــن أفخــم أصنــاف الكــروم التــي كانــت تنتــج أجــود
أنــواع الخمــور والتــي جعلــت مــن وهــران بدايــة الســتينيات واحــدة مــن
أكــر عــر مــدن فرنســية وأول مدينــة أوروبيــة يف الجزائــر ،ولعــل ذلــك مــا
يفــر أيضــا النشــاط الكبــر ملنظمــة الجيــش الــري اإلرهابيــة بوهــران بــن
شــهر مــارس وجــوان 1962والتــي ترجمــت بوضــوح عــدم قبــول األوروبيــن
التخــي عــن وجــود تعــود جــذوره إىل بدايــات القــرن الســادس عــر،
ولــو أنهــا وقّعــت يف نفــس الوقــت شــهادة وفــاة أي تعايــش ســلمي بــن
الجزائريني املســلمني والجزائريني من أصل أورويب بعد االســتقالل جراء
األحــداث الدمويــة التــي تســببت فيهــا هــذه املنظمــة والتــي امتــدت حتــى
للــراب الفرنــي (ولــو أنهــا مل تســاهم يف النهايــة إال يف زيــادة شــهرة
ســيارة الديــاص بــاالص لســيرتوان بعــد فشــل محاولــة اغتيــال ديغــول عــى
متنهــا).
10
وهــران تعشــق أصــوات املوســيقى وتحــب زرقــة البحــر وتغــرق يف
أشــعة الشــمس وتســتأنس بأضــواء الليــل طيلــة فــرة ال بــأس بهــا مــن
الســنة .يتنــزه النــاس يف شــوارعها وحدائقهــا يف أي وقــت مــن اليــوم،
ويفتخــرون بجولتهــم املفضلــة التــي يتمشــون فيهــا فــوق ممــر واجهــة البحــر
الــذي تزينــه النخيــل ،ويطلــون مــن هنــاك عــى املينــاء التجــاري والبحــر
املتوســط.
لذلــك يحتــل هــذا البلــد هنــا بعيــدا عــن حكايــات الريــال والبارصــا
والليغــا مكانــة خاصــة يف النفــوس يصعــب فهمهــا دون أن تعيــش يف
مدينــة الباهيــة .فــإىل وقــت قريــب يف الثامنينيــات وقبــل غــزو الهوائيــات
املقعــرة كان الســكان يلتقطــون القنــوات التلفزيــة اإلســبانية ويشــاهد
األطفــال الرســوم املتحركــة باللغــة اإلســبانية .القنــوات اإلذاعيــة إىل يومنــا
هــذا أوضــح يف راديــو الســيارة مــن قنــوات اإلذاعــات املحليــة وكان مــن
املتــاح قضــاء عطــات عائليــة صيفيــة يف الضفــة املقابلــة كل ذلــك
يضــاف إىل أســباب أخــرى ال يتســع املجــال لذكرهــا جميعــا هنــا ،تجعــل
أقــرب مدينــة إىل الباهيــة يف الضفــة املقابلــة مثــا هــي أليكانتــي ،التــي
11
تعيــش بهــا أعــداد كبــرة مــن الجزائريــن والذيــن تضاعفــت أعدادهــم
هنــاك أيــام األزمــة املاليــة اإلســبانية وانهيــار أســعار العقــارات ،ليبلغــوا
أكــر مــن عرشيــن ألــف مهاجــر ،وهــو ثلــث عــدد الجاليــة املقيمــة يف
إســبانيا (بصفــة قانونيــة طبعــا).
12
كيــف تســافر إىل بلــد توقفــت معرفتنــا بــه مــع آخــر زفــرة أطلقهــا عبــد اللــه
الصغــر وهــو يغــادر ملكــه؟ وملــاذا يعلمــك ركــوب البحــر نحــو الشــال أن
قــر الحمــراء أقــرب إليــك مســافة مــن مقــام الشــهيد انطالقــا مــن وهــران؟
حكايــة لــن يأخــذ منــك هــذا الكتــاب أكــر مــن جلســة واحــدة ،يف حافلــة أو
قطــار ،يف حديقــة أو يف مطــار ،يف مركــز للربيــد أو يف قاعــة انتظــار ،يف
مكتبــة أو حتــى يف وســط الــدار ،ملطالعــة مــا جــاء عــر صفحاتــه والســفر
إىل جنــوب إســبانيا دون تأشــرة لكــن بتذكــرة ذهــاب وعــودة.
13
وتنطلق السفينة..
أكــر مــن ســتني دولــة يف العــامل ال تعــرف بجــواز بلدنــا كوثيقــة وحيــدة
للســفر ،ومــا عــدا بعــض الــدول اإلفريقيــة والــدول الصغــرة يف أمريــكا
الالتينيــة ودول أذربيجــان وجورجيــا وأرمينيــا وألبانيــا يف أوروبــا التــي
رمبــا تغازلنــا بخفــة اإلجــراءات طمعــا لتنشــيط مواســمها الســياحية ،فــإن
باقــي الــدول تفــرض عــى الجزائريــن الراغبــن يف الســفر إليهــا ماراطونــا
طويــا وحمــا ثقيــا مــن الوثائــق التــي رمبــا تســمع بوجودهــا ألول مــرة،
وزمنــا مخيفــا مــن الرتقــب واالنتظــار .بــل إن الرتقــب سيســافر معــك إىل
غايــة وصولــك عنــد رشطــي الحــدود يف الدولــة األوروبيــة التــي حصلــت
14
عــى تأشــرتها ،فرمبــا أعــادك مــن حيــث أتيــت لســبب أو آلخــر .وطبعــا
لــن أتحــدث هنــا عــن دول أوقيانوســيا التــي تعــرف بجوازنــا األخــر ألن
معظمنــا ال يعــرف وجودهــا عــى الخريطــة مــن األســاس لصغــر حجمهــا،
كجــزر بــاالوس وكــوك وســاموا ونيــو وتيفالــو وميكرونيزيــا (هــذه األخــرة
تعنــي أصــا باللغــة اإلغريقيــة الجــزر املتناهيــة الصغــر).
وكاالت الســفر متلــك قاعــدة بيانــات فيهــا عــدد كبــر مــن الفنــادق عــر
العــامل وميكنهــا أن تحجــز لــك يف أي فنــدق تريــده ويف التواريــخ التــي
15
تحددها ســلفا .إذ ما عليك إال أن تختار وقتا معينا من الســنة يكون فيه
اإلقبــال ضعيفــا وتقــوم باختياراتــك وســتجد أســعارا مذهلــة ستنســيك
يف أســعار تركيــا واملغــرب وتونــس ومــر رشط أن تحجــز بشــكل مســبق
(وهــذا صعــب أحيانــا ألن التخطيــط لســاعة مواليــة يف بلدنــا صعــب
جــدا ،فــا بالــك بالتخطيــط ألشــهر مقبلــة؟!)
مــع أســعار الــرف امللتهبــة حاليــا ومســتقبال كــا يبــدو ..يكــون مــن
األحســن أن تقــوم بحجوزاتــك بالدينــار الجزائــري وتحصــل عــى وصــوالت
تأكيــد الحجــز مــن الــوكاالت هنــا ثــم تســتعمل اليــورو الــذي تأخــذه معــك
لدفــع مصاريــف األكل والتنقــل ورشاء املقتنيــات املختلفــة يف أوروبــا.
مل أكــن أعــرف عــن أملريــة أكــر مــن كونهــا املدينــة أو املنطقــة األوىل
يف العــامل التــي تضــم أكــر عــدد مــن البيــوت البالســتيكية الزراعيــة ،وقــد
اكتشــفت ذلــك مــن خــال سلســلة وثائقيــة جميلــة (بتقنيــة التصويــر
الجــوي) تتحــدث عــن ســواحل دول أوروبــا ومكوناتهــا الطبيعيــة ومعــامل
املــدن املطلــة عليهــا .كنــت أيضــا قــد بــدأت يف تعلــم بعــض الكلــات
والرتاكيــب اإلســبانية مــن خــال تطبيــق عــى األندرويــد أنصــح بــه القــراء
16
اســمه « »DUOLINGOوميكــن مــن خاللــه تعلــم لغــات أخــرى أيضــا.
اكتشــفت مــع مــرور الوقــت والتعــود عــى التعلــم عــر الهاتــف الــذيك
أن اإلســبانية ليســت صعبــة ملــن يعــرف الفرنســية بشــكل مقبــول ثــم
إنــك ستشــعر باإلثــارة والدهشــة وأنــت تكتشــف أن األر ّز والســكر والزيــت
والزعفــران واللوبيــا والربكــة والقبــة والقــر والقلعــة والقميــص والصبــاط
كلهــا كلــات مشــركة بيننــا وســيفهمك اإلســبان لــو نطقــت بهــا هنــاك
بالعربيــة دون أدىن مشــكلة.
17
يفعلــون وأقــوم بتصويــر مــا أندهــش لرؤيتــه كــا يصــورون ،وأروي تجربتــي
الصغــرة عــر الكتابــة كــا يــروون ،خاصــة وأننــا يف قــرن شــعاره االقتســام
واملشــاركة و«البارطــاج».
«ص ّدقهــا أو بيعهــا ..واللــه مــا ت ّديهــا معــاك »..هكــذا رصخــت يف
وجهــه الرشطيــة قبــل أن ينســحب ذلــك الشــخص مستســلام نحــو
مقهــى مقابــل .يقــول القانــون إن مــن حقــك أن تأخــذ معــك خرطوشــتني
لالســتعامل الشــخيص ،لكــن معظــم املســافرين يحملــون معهــم علــب
التبــغ إلعــادة بيعهــا هنــاك فأســعار التبــغ يف أوروبــا مرتفعــة بفعــل
18
الرضائــب املفروضــة عــى هــذا املنتــج واســع االســتهالك.
مينــاء وهــران عــى ضخامتــه ال ميلــك إال رصيفــا واحــدا ملغــادرة بواخــر
املســافرين (يف انتظــار اســتكامل بنــاء الرصيــف الثــاين) واملشــكلة أن
باخــرة طــارق بــن زيــاد كانــت متواجــدة هنــاك للتوجــه إىل أليكانتــي ،مــا
يعنــي أن باخرتنــا لــن تدخــل الرصيــف حتــى تغــادر باخــرة طــارق .هــذه
األخــرة مل تحــرم موعــد الوصــول وطبعــا لــن تحــرم موعــد املغــادرة وذلــك
ســيكون عــى حســابنا.
كنــت قــد قمــت بتحميــل بعــض الكتــب باللغتــن عــن إســبانيا أطالعهــا
يف هاتفــي ألخفــف عــن نفــي مشــقة االنتظــار ،القاعــة كانــت فســيحة
بعــض الــيء ،تحتــوي عــى كل الرضوريــات مــن مصــى وكافيترييــا
19
وبيــت للراحــة ،كــا علقــت يف جدرانهــا صــور قدميــة ملدينــة وهــران يف
الحقبــة االســتعامرية والتــي لــن تعطيــك حتــا أي فكــرة عــن شــكل املدينــة
الحــايل .مــن املعــروف وطنيــا أن صــور مدننــا وبلداتنــا الحاليــة أكــر أناقــة
وترتيبــا وانســجاما حــن تكــون باألبيــض واألســود لكــن ذلــك موضــوع آخــر.
قبــل منتصــف الليــل بســاعة انتقلنــا إىل قاعــة الركــوب وتــم ختــم جوازاتنــا
ومراقبــة أمتعتنــا مــن طــرف الجــارك .ســألني الجمــريك عــن اليــورو فقلــت
لــه عنــدي :قيمــة املنحــة الســياحية فقــط .مل يعلــق عــى األمــر ومتنــى يل
عطلــة طيبة.
ركبنــا الباخــرة بعــد منتصــف الليــل وهــي باخــرة متوســطة الحجــم مقارنــة
مبثيالتهــا التابعــة للرشكــة الوطنيــة للنقــل البحــري ،الطاقــم كان مــن
جنســيات مختلفــة واملضيفــون كانــوا مغاربــة باألســاس .جلســت يف
قاعــة اصطفــت فيهــا الكــرايس ووضعــت أغــرايض بالقــرب منــي .كنــت
20
أشــاهد مــن النافــذة الزجاجيــة الكبــرة أضــواء املينــاء ومبــاين وهــران وال
أدري ملــاذا انتابنــي شــعور ُمدغــدغ بأنهــا أضــواء ملدينــة أخــرى غــر تلــك
ر يف تبـ ّدل إحســاس املســافر
التــي أعيــش فيهــا .أتســاءل دامئــا عــن الـ ّ
اتجــاه األشــخاص واألماكــن حــن يهــم مبغادرتهــا ،فيصبــح مســاملا ودودا
متســامحا عطوفــا ومتأمــا نحوهــا كــا مل يكــن مــن قبــل.
كانــت بعــض البواخــر التجاريــة تغــادر املينــاء ليــا لتذهــب إىل بحــار
ومحيطــات وســواحل وجــزر أخــرى .كنــت أرى تلــك البواخــر مــن النافــذة
ومــرة أخــرى رحــت أفكــر وأتأمــل يف أننــا نطـ ّـل عــى عــامل أكــر وأوســع مــن
خــال هــذا البحــر الــذي منحــه اللــه لنــا بابــا نحــو آفــاق جغرافيــة مغايــرة،
لكننــا تصورنــاه بابــا صليبيــا ال يدخــل منــه إال الغــزاة واملحتلّــون يف
املــايض ،وال تزورنــا عــره يف الحــارض إال بواخــر حديديــة بكــاء ص ـاّء
بشــعة ،بألــوان بــاردة قاســية يســكنها فيليبينيــون وأجنــاس ال يتكلمــون
لغتنــا ،يفرغــون ســلعا ويغــادرون برسعــة ،قبــل أن تتوجــه تلــك الســلع لتقــع
يف براثــن اســتهالكنا األبلــه الــذي يبتلــع مــا أفرغتــه بطــون تلــك الســفن يف
بالدنــا ،دون حتــى أن نفكــر يف التنقــل ذات يــوم إىل هــذه األمكنــة التــي
تنطلــق منهــا تلــك املنتوجــات لــرى ونكتشــف كيــف يســتطيع النــاس
هنــاك إنتــاج كل تلــك الخــرات.
حتــى شــعار دولتنــا الجزائريــة وقــد نبهنــي إىل ذلــك أحــد الضبــاط
املتقاعدين من ســاح البحرية ذات يوم ،ال يحوي عىل أي إشــارة للبحر
أو الساحل مع أنه يعج برموز أخرى متثل كل واحدة منها بعدا من أبعاد
21
الدولــة (الشــمس املرشقــة مــن وراء الجبــال ،الســنابل ،ســعفة النخــل،
املصنــع ،الحاممــة التــي تحمــل غصــن الزيتــون ،صنــدوق االقــراع)...
التكييــف داخــل الباخــرة كان عاليــا جــدا وكأننــا يف غرفــة تربيــد للحــوم،
واملتعــودون عــى الســفر جــاؤوا معهــم بأفرشــة وأغطيــة ودخلــوا يف نــوم
وشــخري عميقــن .رحــت أتجــول قليــا يف الســفينة وقــد كان الصمــت
يلــف املــكان ،صعــدت إىل الســطح أللقــي نظــرة عــى البحــر وبقيــت
أتأمــل قليــا يف الســواد املحيــط يب حيــث ال ضــوء يف األفــق وال إضــاءة
يف األعــى عــدا تلــك التــي تتكــرم بهــا النجــوم املتوهجــة يف ســاء ليلــة
صيفيــة صافيــة.
22
مــع أنهــم جزائريــون .زاد ذلــك مــن حــريت عــى عــدم تعلــم هــذه اللغــة
فيــا مــى..
قبــل ســاعتني مــن منتصــف النهــار تــراءت لنــا يف األفــق جبــال شــبه
الجزيــرة اإليبرييــة ،جبــال جــرداء ال تختلــف عــن جبــال األطلــس الصحــراوي
عندنــا ،فجنــوب إســبانيا مــن الناحيــة الجيولوجيــة صفيحــة تكتونيــة مرتبطــة
بإفريقيا ومن الناحية التاريخية صفحة مشــركة مع ســكان شــال إفريقيا
اســمها األندلــس ..ومــن الناحيــة الزمنيــة وجهــة ســياحية مثــرة ،مل تعــد
تفصلنــي عــن الوصــول إليهــا إال ســاعة ونصــف مــن الزمــن..
23
أملرية محطة وصول وانطالق
لكــن الجزائــري منــا يظــل فكــره منشــغال ومعلقــا بذلــك الشــباك الصغــر
الــذي يفصــل بينــه وبــن أوروبــا ،ذلــك الحيــز الضيــق مــن املــكان الــذي
24
يقبــع بداخلــه رشطــي حــدود يســتطيع أن يختــم جــوازك لتم ـ ّر إىل العــامل
خــارج وطنــك وخــارج حــدود نفســك (التــي ضاقــت بــك وضقــت بهــا
تحــت ســاء بلــدك) كــا يســتطيع أن يفســد كل مخططاتــك (وكــم هــي
مكلفــة خططنــا التــي متتــد أحيانــا مــن مغافلــة املســؤول يف العمــل إىل
باقــي املحيطــن مــن أصدقــاء وأقربــاء للحصــول عــى عطلــة بعيــدة عــن
فضــول األعــن وثرثــرة األلســنة) ويرفــض مــرورك فتنتهــي قصــة عطلتــك
وســفرك قبــل أن تبــدأ.
حــن اقرتبــت الباخــرة مــن دخــول مينــاء أملريــة كنــت أشــاهد مــن وراء
النافــذة شــاطئ املدينــة وبعــض العــارات والفنــادق التــي تطــل عــى
البحــر .يف شــهر ســبتمرب وتحــت حــرارة تقــارب الثالثــن درجــة ،ال تــزال
هــذه املدينــة الســاحلية مســتلقية يف كســل تحــت أشــعة الشــمس
لينعــم الســياح فيهــا بالراحــة والهــدوء.
25
بالالفتــات املكتوبــة حتــى باللغــة العربيــة لتســهيل املهمــة عــى األعــوان
واملســافرين ،مــع مالحظــة أن عــدد األعــوان هنــا وأصحــاب الب ـ ّزة األمنيــة
قليــل جــدا.
يف الطابــور كنــت أشــاهد مــن خــال الزجــاج شــارعا يف الخــارج وبعــض
النــاس التــي تتجــول خاللــه ،ورمبــا هــذا مــا يجعلنــي أفضــل البواخــر عــى
الطائــرات التــي تحــط بــك يف أمكنــة بعيــدة عــن وجهتــك النهائيــة نســبيا
بينــا املوانــئ األوروبيــة تقــع عــى بعــد أمتــار مــن وســط املدينــة ثــم إن
هنــاك فرقــا محسوســا بــن وســيلة الســفر التــي متكنــك مــن الوصــول إىل
األمكنــة فقــط والوســيلة التــي متكنــك مــن رؤيتهــا ومبارشتهــا بــذوق وتــأين.
وصــل دوري فوقفــت أمــام الرشطــي وناولتــه جــواز الســفر (كانــت لــدي
تأشــرة شــنغن فرنســية متتــد صالحيتهــا ألكــر مــن ســنة) وضــع الرشطــي
الجــواز يف آلــة صغــرة أمامــه ثــم طبعــه وأرجعــه يل (ال أتذكــر أنــه نظــر
يف وجهــي) كنــت قــد وضعــت وثيقــة تأمــن الســفر وبيانــات حجــوزات
الفنــادق يف قفتــي الصغــرة الســتظهارها عنــد الطلــب لكــن ال يشء مــن
ذلــك حــدث ،تقدمــت ناحيــة الجمــريك الــذي كان ينتظــرين عــى بعــد
ثالثــة أمتــار بعــد شــباك رشطــي الحــدود ،وضعــت كامــل متاعــي يف جهاز
الســكانري ثــم حملتــه مــره أخــرى بعــد عبــوره إىل الجهــة األخــرى ،وواصلــت
طريقــي نحــو بــاب الخــروج مــن القاعــة ألجــد نفــي تقريبــا وســط املدينــة،
فليس يفصل امليناء عن أملرية سوى سور قصري مزين ببعض النباتات
املتســلقة ،وال وجــود لذلــك القــدر مــن األســوار والحواجــز الحديديــة
26
واألســاك الشــائكة والخزانــات الصدئــة والروائــح واألغــرة واألدخنــة التــي
متيــز مشــاهد موانئنــا التــي كأنهــا تحتــل مدننــا احتــاال ،بــدل أن تكــون
امتــدادا منســجام معهــا ولهــا نحــو ســاحل البحــر املتوســط الــذي نطــل
عليــه يف المبــاالة مطلقــة.
متشــيت وســط مدينــة أملريــة التــي تطأهــا قدمــاي ألول مــرة ،ومبــارشة
وجــدت نفــي عنــد بدايــة شــارع طويــل وواســع يخــرق املدينــة مــن
الجنــوب إىل الشــال تتوســطه مســاحة مبلطــة ومزينــة طويلــة اصطفــت
فيهــا أشــجار النخيــل والــورود والنباتــات ويســر فيهــا النــاس راجلــن أو
عــى مــن الدراجــات يف ممــرات خاصــة ،وعــى جانبــي هــذه املســاحة
املهيــأة امتــد طريقــان للســيارات بشــكل متــواز.
أخــذت صــورة تذكاريــة أمــام أول معلــم قابلنــي وهــو عبــارة عــن أحــرف
التينيــة يف حجمــي وطــول قامتــي (مــر وخمســة وســبعون) وضعــت
وســط املدينــة مشـكّلة كلمــة ALMERIAوبجانبهــا حبــة طامطــم حمــراء
مصنوعــة مــن البالســتيك .فمدينــة أملريــة تحديــدا وإقليــم األندلــس عامــة
هــو املزرعــة التــي تغــذي إســبانيا بأكملهــا وجــزءا كبــرا مــن أوروبــا وســأرجع
إىل ذلــك فيــا بعــد.
اســتعنت بقوقــل مــاب عــى هاتفــي النقــال للتوجــه إىل فنــدق LA
PERLAوهــو فنــدق صغــر متواجــد وســط املدينــة وصلتــه بعــد نصــف
ـأن .كنــت أحمــل حقيبــة ظهــر كبــرة وضعــت فيهــا
ســاعة مــن املــي املتـ ّ
أهــم األمتعــة وحقيبــة ظهــر أصغــر حجــا خ ّبــأت فيهــا مــا أحتاجــه مــن أمــور
27
خفيفــة (علقتهــا عــى كتفــي لكــن ناحيــة البطــن) وأمســك قفتــي الصغــرة
بيمينــي التــي أضــع فيهــا آلــه التصويــر وقــارورة املــاء والكنــاش الــذي أدون
فيــه مالحظــايت وأفــكاري .التمــي يف مــكان ال تعرفــه مــن قبــل يجعلــك
تتحــرك بنشــاط وشــغف وفضــول.
دخلــت غرفتــي الصغــرة يف الفنــدق ،كانــت ضيقــة نوعــا مــا لكنــي ال
أحتــاج ألكــر مــن رسيــر وحــام ومســاحة صغــرة للصــاة ،وكل ذلــك كان
متوفرا وأكرث .بعد نصف ساعة نزلت إىل قاعة استقبال الفندق ،حيث
زودتنــي املوظفــة بخريطــة للمدينــة وفيهــا أهــم املعــامل التــي تســتحق
الزيــارة ،وعــى ظهــر الخريطــة جــدول مفصــل بأســاء املواقــع ومواقيــت
زيارتهــا وأرقــام الهواتــف لالتصــال والحجــز .مــن خــال قــراءة رسيعــة
لجــدول املواقــع تبــن يل أننــي اخــرت يومــا غــر مناســب للوصــول ،عــى
اعتبــار أن جـ ّـل املتاحــف واألبنيــة األثريــة مغلقــة يــوم االثنــن ألنهــا تشــتغل
يومــي العطلــة األســبوعية (الســبت واألحــد) فاكتفيــت بجولــة مشــيا عــى
األقــدام يف أرجــاء املدينــة.
28
الحــرارة يف الشــارع كانــت مرتفعــة لكنهــا يف نفــس الوقــت لطيفــة
محتملــة ،أبنيــة وســط املدينــة جميلــة ومنســجمة واألرصفــة نظيفــة،
الحركــة كانــت بطيئــة نوعــا مــا والســبب أن اإلســبان يعشــقون مامرســة
القيلولــة ،وهــم يتجولــون عنــد حلــول املســاء ،خاصــة يف هــذا الوقــت
مــن الســنة أيــن يكــون النهــار طويــا ،والهــواء عنــد حلــول الظــام منعشــا.
أول مــا ال حظتــه أثنــاء جولتــي أن األضــواء تنظــم حركــة مــرور الســيارات
والراجلــن يف كل شــوارع املدينــة ،فالســيارات تقــف عنــد الضــوء األحمــر
حتــى لــو خــا الطريــق مــن املــارة ،والراجلــون يقفــون عنــد ضــوء املــرور
حتــى لــو خلــت الطريــق مــن الســيارات ،ثــم إن الرصيــف ليــس ملــكا
للراجلــن فقــط وال الطريــق خــاص تحديــدا بالســيارات ،إذ أن هنــاك
ممــرات ملونــة باالحمــر األرجــواين مخصصــة ألصحــاب الدراجــات الذيــن
يتنقلون بدراجاتهم دون فوىض يف السري والتعدي عىل حقوق الراجل
أو صاحــب الســيارة.
مل ميــي عــى مغــادريت للبلــد أربــع وعــرون ســاعة ،لكنــي فهمــت
برسعــة هنــا أنــك كإنســان تســاوي قيمــة معتــرة يف الفضــاء العمومــي
وأن كل مــا يف الشــارع موجــود حقــا لحاميتــك وحفــظ حقوقــك وتســهيل
فــرة تجوالــك .األضــواء للتنظيــم والالفتــات لإلرشــاد (مكتوبــة أساســا
باإلســبانية) واملســاحات الخــراء للراحــة والرشطــة إلشــعارك باألمــن
واالطمئنــان ال لــزرع أحاســيس الخــوف والتوجــس.
29
ومحطــة القطــارات أيضــا) لــراء تذكــرة للذهــاب يف اليــوم املــوايل إىل
مدينــة غرناطــة .بداخــل املحطــة وجــدت شــباكا كبــرا مغطــى بالزجــاج،
وامــرأة تجلــس بالداخــل وطابــورا صغــرا ،فســألت عــن حافــات غرناطــة
وتــم توجيهــي إىل مــا يشــبه الرصافــة اآلليــة ويبــدو أن التكنولوجيــا هنــا قــد
قلصــت عــدد العــال بشــكل ملحــوظ .اخــرت اللغــة الفرنســية وكتبــت
وجهــة الســفر عــى الشاشــة ،ثــم انتقلــت إىل صفحــة اختيــار توقيــت
االنطــاق وقــد كانــت هنــاك حافلــة تنطلــق إىل غرناطــة كل ســاعتني
فاخــرت حافلــة الواحــدة بعــد الــزوال مــن اليــوم املــوايل ووضعــت ورقــة
مــن فئــة عرشيــن يــورو داخــل اآللــة ألحصــل عــى التذكــرة والفكــة (مثــن
التذكــرة 14يــورو).
خرجــت مــن محطــة الحافــات أللقــى نظــرة عــى الشــاطئ ثــم متشــيت
عائــدا نحــو الفنــدق ،مدينــة أملريــة هادئــة متامــا مــع إمكانيــة ســاع صــوت
عنيــف مفاجــئ لدراجــة ناريــة تعــر الشــارع بأقــى رسعــة ،لكــن رسعــان مــا
يعــود الهــدوء وتســتمر الحركــة بكســل ورتابــة .لــن تســمع هنــا صوتــا ألبــواق
الســيارات وإن خ ّيــل لــك ذلــك فهــو حتــا مــا علــق بأذنــك مبينــاء وهــران،
حيــث مل تتوقــف الســيارات هنــاك عــن تشــغيل أبواقهــا وهــي تســتعد
لولــوج بطــن الســفينة.
30
داخــل غرفتــي ،اســتلقيت عــى الرسيــر ،وبــدأت ابحــث يف النــت عــن
بعــض املعلومــات الســياحية .كنــت قــد خططــت يف اليــوم املــوايل أن
أزور قصبــة املدينــة (وهــي مــن أكــر القــاع اإلســامية الباقيــة آثارهــا يف
إســبانيا) وأن أســتغل الوقــت أيضــا لزيــارة معلــم مميــز يف أملريــة ،هــو
امللجــأ الــذي تــم حفــره يف ثالثينيــات القــرن املــايض تحــت املدينــة
لالختبــاء مــن غــارات الوطنيــن يف حربهــم األهليــة ضــد الجمهورريــن
والتــي دامــت ثــاث ســنوات 1939-36وخلّفــت مقتــل مئــات اآلالف
مــن الضحايــا.
يف الطابــق األريض مــن الســوق والــذي تنــزل إليــه بســامل ميكانيكيــة،
كل يف مكانــه وحيّــزه
انتــر باعــة الســمك ينــادون عــى ســلعهمّ ،
املخصــص لــه .كان منظــر األســاك هنــاك مغريــا جــدا حتــى وهــي
31
مقســمة إىل قطــع صغــرة ،واملثــر أن ال رائحــة قويــة أو نتنــة يف املــكان،
إال مبقــدار مــا يــراود األنــف والعــن بالــراء وتجربــة مــذاق أســاك
املتوســط اللذيــذة.
مل يكــن مدخــل «ملجــأ الحــرب األهليــة» يبعــد عــن الفنــدق إال بعــرة
أمتــار وهــو عبــارة عــن كشــك مضــاء مــن الزجــاج ،وبداخلــه مجموعــة مــن
املقاعــد وضعــت تحتهــا حصيــات بيضــاء يف ديكــور عــري جــذاب.
وقفــت أمــام املدخــل عــى العــارشة إال عــر دقائــق بعــد عــوديت مــن
الســوق لكنــي مل أجــد أحــدا فتوجهــت ماشــيا إىل أحــد املعــامل األخــرى
يف املدينــة ،وهــو عبــارة عــن خــزان قديــم للميــاه بنــاه املســلمون وتحــول
اليــوم إىل رواق لعــرض اللوحــات الفنيــة بعــد ترميمــه ،لكنــي حــن عــدت
إىل مدخل امللجأ عىل الساعة العارشة وخمس دقائق وجدت الستائر
مســدلة وأمكننــي رؤيــة أرجــل الســياح الذيــن جلســوا عــى املقاعــد فيــا
يبــدو لرؤيــة فيلــم وثائقــي قبــل النــزول تحــت األرض ملبــارشة الزيــارة ويبــدو
أن الوقــت هنــا محــرم ومقــدس.
يف وجــود تطبيقــات مثــل تريــب أدفايــزر وقوقــل مــاب ســتعرف الكثــر
مــن تفاصيــل املعــامل التــي ســتزورها وأراء النــاس فيهــا مســبقا ،كــا
ميكنــك رؤيــة فيديوهــات وصــور عنهــا ســتقتل كل عنــارص املفاجــأة
لديــك (وهــذا أمــر لــه مزايــاه وعيوبــه).
32
امللجــأ تحــت األرض يليهــا النــزول والتجــول رفقــة مرشــد ســياحي يتكلــم
اإلســبانية فقــط (الكثــر مــن اآلراء التــي قرأتهــا عـ ّـرت عــن ســلبية هــذه
النقطــة).
33
أملرية تاريخ تحت األرض وتاريخ فوقها
النفــق املوجــود تحــت مدينــة أملريــة يعتــر حقــا قطعــة مــن التاريــخ
مخبــأة ومحفوظــة بشــكل جيــد ،كــا أنــه الوحيــد مــن نوعــه الــذي ميكــن
زيارتــه يف كامــل أوروبــا وقــد تــم ترميمــه وفتحــه أمــام الســياح ابتــدا ًء مــن
.2012
قادنــا املرشــد اإلســباين الشــاب عــر ســامل ضيقــة هبوطــا قبــل أن
نصــل إىل األســفل ،حيــث ميتــد أمامنــا نفــق طويــل ينتهــي بجــدار ،وبدأنــا
يف التمــي إىل أن وصلنــا إىل الجــدار بعــد ســبعني مــرا لنجــد مدخــا
إىل اليســار يقودنــا إىل مقطــع آخــر مــن النفــق.
34
وهكــذا رحنــا نســر عــر مــا يشــبه متاهــة مــن األنفــاق ،وكان املرشــد
يتوقــف أحيانــا أمــام الفتــة أو مــكان مــا ليــرح ملجموعــة الســياح الذيــن
مل يتجــاوز عددهــم العــرة بعضــا مــن تاريــخ هــذا امللجــأ الــذي كان يعــج
بالنــاس مــن كل األعــار ،والذيــن كانــوا يهرعــون لالختبــاء بداخلــه كلّــا
د ّوت صافــرات اإلنــذار التــي كانــت تســبق الغــارات الجويــة ببضــع دقائــق.
كان النفــق بطــول ألــف مــر تقريبــا ويف بعــض أجــزاءه انتــرت غــرف
صغــرة ،الظاهــر أنهــا كانــت أمكنــة لتخزيــن األغذيــة واألغطيــة وقــد
تحولــت اآلن إىل غــرف مضــاءة وضعــت فيهــا بعــض التحــف التــي تعــود
35
لتلــك الحقبــة ،وميكــن للســائح رؤيــة بعــض األواين وعلــب الطعــام وحتــى
بعــض ألعــاب األطفــال الخشــبية التــي يبــدو أن ســكان املدينــة تربعــوا بهــا
لعرضهــا يف هــذا املعلــم التاريخــي الــذي يجعلــك بحــق تعيــش أجــواء
تلــك الفــرة التاريخيــة والتــي كانــت عبــارة عــن مقدمــة وصــورة مص ّغــرة ملــا
ســيحدث بعدهــا مــن حــرب مدمــرة ابتــداء مــن 1939والتــي ستســتمر
إىل 1945وتغــر وجــه العــامل والبرشيــة (فيــا ســتبتعد إســبانيا عــن
الحــرب العامليــة الثانيــة وكأنهــا نالــت مــا يكفيهــا مــن ال ّدمــار املركّــز).
يف نهايــة النفــق قادنــا املرشــد إىل غرفــة أوســع قليــا مــن ســابقاتها،
وقــد انتصبــت فيهــا خزانــة أدويــة باليــة ،ورسيــر طبــي ،وبعــض اآلالت
الجراحيــة التــي كانــت أقــرب ألدوات التعذيــب منهــا إىل أدوات العــاج.
وهنــا دخــل املرشــد يف رشح طويــل نســبيا خاصــة وأنــه كان يســتمع
أيضــا إىل إحــدى الســائحات التــي راحــت تتكلــم باإلســبانية مــع كامــل
املجموعــة قبــل أن تغلبهــا دموعهــا .عرفــت مــن املرشــد فيــا بعــد أن
والدتهــا رأت النــور تحــت األرض يف هــذا املستشــفى الصغــر .وأخــرين
ونحــن نصعــد الســلم نحــو املخــرج أنــه كثــرا مــا يحــر مواقــف مثــل هــذه
وأن اآلثــار النفســية لتلــك الحــرب ال زالــت موجــودة إىل اليــوم يف إســبانيا
وستســتم ّر .
خرجنــا مــن النفــق أخــرا بعــد أن قضينــا بداخلــه خمســا وأربعــن دقيقــة
كاملــة مل نشــعر بهــا أبــدا ،وأعجبنــي كيــف يعمــل اإلســبان عــى الحفــاظ
عــى ذاكرتهــم الحيــة رغــم تبايــن آرائهــم إىل يومنــا هــذا يف تلــك الحــرب
36
املدمــرة التــي قســمت املجتمــع إىل نصفــن متناحريــن واســتعملت
فيهــا أبشــع أنــواع القتــل والتنكيــل وجربــت فيهــا الــدول املتناحــرة فــوق
األرايض اإلســبانية كل أنــواع األســلحة التــي امتلكوهــا (بروفــة حقيقيــة
متهيــدا للحــرب العامليــة الثانيــة).
بالعــودة إىل مدينــة وهــران ،فهــي األخــرى لديهــا أوجــه شــبه مشــركة
مــع هــذا املعلــم الــذي زرتــه ،أوال ألنهــا احتضنــت الكثــر مــن أنصــار
الجمهوريــة الذيــن فــروا إليهــا مــن بطــش فرانكــو نهايــة الثالثينيــات (إبّــان
الحــرب األهليــة) وقــد كان لذلــك تأثــرات دميوغرافيــة واقتصاديــة عــى
املدينــة بحاجــة إىل مزيــد مــن الدراســة واالهتــام ،وثانيــا ألن وهــران أيضــا
تضــم هــي األخــرى متاهــة حقيقــة مــن األنفــاق تحــت شــوارعها وأحيائهــا
ومعاملهــا تشــبه جبنــة القرويــار الفرنســية ،منهــا مــا حفــره اإلســبان ومنهــا
مــا حفــره العثامنيــون ومنهــا مــا حفــره الفرنســيون يف القــرن العرشيــن
اتقــا ًء لغــارات املحــور يف الحــرب العامــة الثانيــة وقــد أتيحــت يل فرصــة
زيــارة هــذه األخــرة والتجــول بداخلهــا يف جولــة مثــرة ،ولــو أن أشــد
مــا أثــار اســتغرايب هنــاك هــو مــدى احــرام الفرنســيني آنــذاك لقوانــن
جمهوريتهــم حتــى تحــت األرض ،حيــث تــم تخصيــص مالجــئ مبلطــة
ومســقفة ومجهــزة بوســائل اإلضــاءة والتهويــة للمواطنــن األوروبيــن ،بينــا
كان ملجــأ املواطنــن املســلمني (األنديجــان) عبــارة عــن كهــف ضيــق
وخانــق يدخلونــه مــن بــاب آخــر .هــذا دون الحديــث طبعــا عــن حالــة هــذه
األنفــاق حاليــا والتــي ال زال أمــام هيئاتنــا الثقافيــة والســياحية عمــل كبــر
قبــل أن نصــل إىل مرحلــة تليــق باســتقبال أفــواج الســياح بهــا.
37
كانــت الســاعة تشــر إىل الحاديــة عــر إال الربــع حــن عدنــا إىل ســطح
الشــارع الــذي ال يبعــد كثــرا عــن الســوق املركــزي ألملريــة ،وكان أمــام
مرشــدنا الشــاب ربــع ســاعة يك يلتحــق رسيعــا باملدخــل الرئيــي للنفــق
عــى بعــد كيلومــر يك يقــود زيــارة أخــرى ملجموعــة أخــرى مــن الســياح
تنتظــره هنــاك .أمــا أنــا فبقــي أمامــي ســاعتان وربــع قبــل اإلقــاع نحــو مدينــة
غرناطــة يف حافلــة الواحــدة زواال .وبقــي يل يف الربنامــج أن أزور قصبــة
أملريــة وهــي واحــدة مــن أكــر التحصينــات اإلســامية الباقيــة يف أوروبــا إن
مل تكــن أكربهــا عــى االطــاق.
القصبــة ترتبــع عــى مســاحة 35ألــف مــر مربــع وتطــل بشــكل مبــارش
عــى مرفــأ املدينــة ،وقــد وصلتهــا بعــد عــر دقائــق مــن املــي صعــودا
ومــرورا عــر حــي قديــم يبــدو أنــه مســتوطن مــن قبــل الغجــر حيــث أن مبانيــه
قدميــة وبســيطة جــدا .قبــل الوصــول إىل املدخــل الرئيــي للقصبــة
التقطــت صــورة لتمثــال خــران العامــري الــذي وضعتــه بلديــة أملريــة
مبناســبة مــرور ألــف عــام عــى تأســيس الطائفــة التــي اســتقلت بشــؤون
أملريــة آنــذاك بعــد ســقوط الدولــة األمويــة.
طبعــا حــن يكــون املــرء يف عطلــة صيفيــة ويتجــول تحــت درجــة حــرارة
تالمــس عتبــة الثالثــن مــع كميــة رطوبــة محسوســة بســبب القــرب مــن
البحــر ،فإنــه لــن يســتحرض حــاال كل املعلومــات التاريخيــة التــي طالعهــا
قبــل زيــارة املدينــة ،لكــن مــن املفيــد التذكــر أن أملريــة مــن املــدن
املحدثــة التــي اســتحدثها املســلمون عنــد فتــح األندلــس وأنهــا مل تكــن
38
موجــودة قبــل قدومهــم ،كــا أن أصــل التســمية قــد اختلــف فيــه املؤرخــون
بــن مــن يقــول أنهــا مــن «املرئيــة» أي التــي ميكــن رؤيتهــا مــن كل الجهــات
إىل مــن يقــول أن أصلهــا مــن «املرايــا» والتــي كانــت تســتعمل لإلنــذار
بقــدوم خطــر طبيعــي أو غــارة بريــة أو ظهــور ســفينة معاديــة يف األفــق.
وطبعــا كانــت هــذه الحــارضة رغــم جبالهــا العاريــة مــن األشــجار والغطــاء
النبــايت والشــبيهة بتضاريــس األغــواط أو حتــى شــبكة وادي ميــزاب يف
صحــراء الجزائــر ،مدينــة عامــرة ومينــاء مهــا عــى الســاحل األندلــي
حيــث تأخــر ســقوطها النهــايئ يف يــد امللكــن الكاثولكيــن إىل .1487
كانــت الســاعة قــد قاربــت منتصــف النهــار والنصــف حــن هبطــت مــن
القصبــة متجهــا نحــو الفنــدق الســرجاع أمتعتــي مــن مــكان حفــظ األمتعــة
39
وهــو عــادة غرفــة صغــرة أو مــكان مغلــق تحــت الــدرج ،يســتعمل لحفــظ
أمتعــة النــزالء الذيــن يخلــون غرفهــم قبــل منتصــف النهــار ويحتاجون لحفظ
أمتعتهــم إىل وقــت املســاء.
وصلــت املحطــة ربــع ســاعة قبــل الواحــدة ووقفــت مــع بعــض النــاس
بانتظــار الســائق الــذي ظهــر خمــس دقائــق قبــل موعــد االنطــاق ليفتــح لنــا
األبــواب وندخــل الحافلــة لالســتلقاء عــى كــرايس مريحــة وواســعة.
كانــت الســاعة تشــر إىل الواحــدة متامــا حــن بــدأت الحافلــة يف
التحــرك خــارج املحطــة ،الرحلــة بــن أملريــة وغرناطــة ســتدوم ثــاث
ســاعات كاملــة مــع أن املســافة بينهــا ال تتجــاوز املائــة والســبعني
كيلومــرا والســبب أن الحافلــة ســتمر بــكل القــرى والبلــدات التــي تقــع
بــن املدينتــن .طبعــا هنــاك حافــات تذهــب مبــارشة إىل غرناطــة (مثــن
التذكــرة املبــارشة 17يــورو) لكــن الســائح الــذي يــزور شــبه الجزيــرة اإليبرييــة
ألول مــرة ال يزعجــه أن يحتفــظ بثــاث يوروهــات يف جيبــه مــع إمكانيــة
اكتشــاف املزيــد مــن هــذه األرايض التــي عربهــا أجــداده قبــل ثالثــة عــر
قرنــا أو يزيــد.
40
مــا إن خرجنــا مــن أملريــة حتــى أصبحــت املناظــر عــى اليمــن والشــال
مجــرد جبــال جــرداء ووديــان جافــة وتــال مقفــرة تعطيــك إحساســا غريبــا
أنــك تتجــه جنوبــا يف بلــدك األم ،مــع أنــك غــادرت شــاله منــذ مثــان
وأربعــن ســاعة .إنهــا صحــراء تابرينــاس القاحلــة التــي تبعــد عــن شــال
أملريــة بثالثــن كيلومــرا والتــي تعتــر الصحــراء الوحيــدة يف القــارة
األوروبيــة التــي متتــد عــى مســاحة 280كيلومــرا مربعــا وهــي محميــة
طبيعيــة منــذ .1989
مــن املثــر أن تشــاهد مــن خــال نافــذة الحافلــة التــي كانــت تســر
برسعــة محــددة ال تزيــد وال تنقــص ،منظــرا نوســتالجيا إلحــدى قــرى
الويســترين األمريكيــة ،ففــي هــذه الربــوع ذات املنظــر املقفــر جــرت أطــوار
تصويــر أفــام عامليــة مشــهورة جــدا ،كلورنــس العــريب ومغامــرات إنديانــا
جونــز والفيلــم الــذي يعرفــه الجزائريــون جميعــا للبطــل كلينــت إيســتوورد.
41
مل تكــن املناظــر بذلــك الجــال املمتــع الــذي مينعــك مــن النــوم،
لكــن رؤيــة تلــك املــراوح الضخمــة أيضــا عــى رؤوس الجبــال والتــي تجنــي
الطاقــة الكهربائيــة مــن الريــاح ليــل ونهــارا لتضــع إســبانيا يف املرتبــة الرابعــة
عامليــا يف كميــة الكهربــاء التــي يتــم توليدهــا مــن الريــاح وتلبّــي الطلــب
الطاقــوي الداخــي بنســبة عرشيــن املئــة ،تجعلــك مبــارشة تفكــر يف نعــم
الطبيعــة التــي يكتنزهــا بلدنــا دون أن ينتفــع بهــا البــر عندنــا وال البرشيــة
يف هــذا الكوكــب ،وتقــول يف نفســك متــى وكيــف اســتطاع هــؤالء الذيــن
كانــوا يف مســتوانا بدايــة الســتينيات أن يقطعــوا كل هــذه األشــواط يف
غفلــة منــا ومــن الجميــع.
42
غرناطة ..أو حني ي ّتسع املعنى وتضيق العبارة
43
عجــل لتكويــن صــورة جديــدة عــن هــذه الحــارضة التــي ال تــزال يف مخيلتنــا
العتيقــة غرناطــة الحمــراء والبيازيــن والحاممــات ونهــر حـ ّدرة وزفــرة العــريب
األخــرة.
أول يشء قمت به هو رشاء تذكرة الذهاب إىل قرطبة بعد يومني من
اآلن ،قبــل أن أركــب أول بــاص يأخــذين إىل وســط املدينــة .مل أســتطع
الجلــوس يف مقعــد الحافلــة وبقيــت واقفــا أمــام الزجــاج األمامــي بجنــب
الســائق ،ال أعــرف هــل أتــذوق مــا أراه فقــط بعينــي فقــط ،أم أســتعني
بكامــرا الهاتــف يك يشــرك معــي اآلخــرون يف لحظــات الســعادة هــذه.
44
تذاكــر الحمــراء صــداع مزمــن للســياح مــن كل البلــدان لســبب بســيط،
وهــو أن التذاكــر مقســمة إىل أصنــاف ع ـ ّدة ،فمنهــا مــن متكنــك مــن
دخــول قصبــة الحمــراء وجنــة العريــف والحدائــق دون إمكانيــة الدخــول
لقصــور بنــي نــر (مثــن هــذه التذكــرة ســبعة يــورو) وهنــاك أيضــا تذاكــر
للزيــارات الليليــة ولكنهــا غــر مغريــة بالنســبة يل ،عــى اعتبــار أن القــر
مهــا كانــت رومانســية الليــل وهــدوءه ال ميكــن تأملــه واالســتمتاع برؤيــة
كل مكونــات جاملــه الطبيعيــة واألثريــة إال تحــت ضــوء شــمس النهــار .أمــا
تذكــرة الزيــارة العامــة والتــي متكنــك مــن زيــارة كل أقســام الحمــراء مبــا يف
ذلــك قصــور ســاطني بنــي نــر املبهــرة ،فــا ميكــن الحصــول عليهــا إال
عــر الحجــز املســبق عــر النــت أو بالذهــاب املب ّكــر إىل مدخــل الحمــراء
واالنتظــار يف طابــور طويــل لعــل الحــظ يســاعفك للحصــول عــى التذاكــر
التــي تطــرح للبيــع يوميــا يف عــن املــكان وعددهــا محــدود عــى كل حــال.
45
كانــت تعلــق علــم فرنســا إىل جانــب علــم إنجلــرا وإســبانيا وســألتها عــن
كيفيــة الحصــول عــى تذكــرة لزيــارة قــر الحمــراء بكاملــه مبــا يف ذلــك
القصــور اإلســامية ونافــورة األســود فأجابتنــي مبــا أعرفــه ســلفا مــن خــال
آراء الســياح وخرباتهــم التــي شــاركوها عــر مواقــع االنرتنيــت مــن أن تلــك
التذاكــر قــد نفــذت ومــا عليــك إال النهــوض املبكــر للتوجــه إىل الطابــور
واالنتظــار هنــاك إىل غايــة طلــوع الشــمس وفتــح األبــواب.
طبعــا ،لــن ينالــك التعــب وأنــت تتجــه مــرع الخطــى ،إىل مــكان كان
ميكــن أن يبقــى مجــرد حلــم يــراودك أو مجــرد صــورة جميلــة انطبعــت يف
ذهنــك دون أن تصــل إىل إدراكهــا مشــيا عــى األقــدام والوصــول إىل
أســوارها لرؤيتهــا أمامــك ،متامــا كــا تــرى يف باقــي أيــام الســنة مدخــل
املنــزل أو مبنــى مقــر العمــل.
طريق ملتوية وأدراج عالية ومسالك ضيقة عرب منازل صغرية وجميلة،
كانــت كلهــا تــؤدي إىل ذلــك التــاج األحمــر العــايل الــذي يرتبــع يف شــموخ
فوق املدينة ،تحيط به األشــجار والظالل وترسي وســط كل ذلك نســائم
46
منعشــة تحملهــا ســواقي امليــاه الجاريــة ،تنســيك حــرارة شــهر ســبتمرب
وتعــب الســفر وكل مــا يخطــر عــى بالــك أو جســدك مــن مشــقة أو عنــاء.
لــن تحتــاج إىل أكــر مــن خمــس دقائــق بعدهــا يك تصــل إىل مدخــل
قــر الحمــراء وتكتشــف ذلــك العــدد الهائــل مــن الســياح الــذي ينتــر
يف املــكان .فالحمــراء تســتقبل يوميــا أكــر مــن مثانيــة آالف ســائح عــى
فرتتــن (صباحيــة ومســائية) وهــو أكــر املعــامل التــي يزورهــا الســياح يف
إســبانيا ،حيــث يعــد ترمومــرا حقيقيــا لقيــاس نجــاح املوســم الســياحي
يف بــاد األندلــس مــن عدمــه (كرتمومــر بــرج إيفــل يف فرنســا).
مــن قــر الحمــراء رحــت أتتبــع األســوار العظيمــة نــازال ألصــل إىل حــي
البيازيــن (البائســن) يف املرتفــع املقابــل ملوقــع الحمــراء ،وهــو الحــي
الــذي الزال محتفظــا بطابعــه املعــاري املميــز الــذي يشــعرك بألفــة
غريبــة مــع هــذه املدينــة الســاحرة (تــم إنشــاء الحـ ّـي أصــا الســتقبال
املســلمني النازحــن مــن مختلــف املناطــق اإلســبانية التــي ســقطت
47
بأيــدي املســيحيني يف حــروب االســرداد).
يبــدو يل أن املــرء حــن يــزور غرناطــة إمنــا يســرجع قطعــا مــن ذاتــه أو
يعــود إىل مــكان مــا نســيه بداخلــه منــذ مــدة .إ ّن أي عــريب يتجــول يف
غرانــادا اليــوم إمنــا يؤثــث ذاكرتــه التاريخيــة التــي اختزنــت عديــد القصــص
حــول الفــردوس املفقــود ،فــرى ويشــاهد ويلمــس ويستنشــق ذلــك
العبــق الــذي يجعلــه منتشــيا وهــو يتجــول يف حــي البيازيــن تــاركا لرجليــه
حريــة التحليــق بــدل املــي يف أزقــة ضيقــة تقــودك إىل أعــى نقطــة يف
الحــي وأجمــل إطاللــة ممكنــة عــى قــر الحمــراء املهيــب
رشفــة ســان نيكــوالس هــي املــكان الــذي ت ُلتقــط منــه جـ ّـل الصــور
املشهورة التي نعرفها لقرص الحمراء ،حيث تبدو جبال سيريانيفادا يف
الخلفيــة .صحيــح أن املنظــر أجمــل بكثــر حــن تكــون تلــك الجبــال مكسـ ّوة
بالثلــج يف فصــل الشــتاء والربيــع ،لكــن مشــاهدة غــروب الشــمس مــن
هــذه الرشفــة (املكتظــة بالســياح يف هــذا الوقــت بالــذات) ســيضعك
أمام أجمل منظر ميكن أن تشاهده يف غرناطة بل ويف إسبانيا بكاملها.
حــن وصلــت إىل هــذه الرشفــة مل أمتكــن مــن أحجــز لنفــي مكانــا
ملشــاهده قــر الحمــراء بســبب جلــوس صــف كامــل مــن الســياح (جــاؤوا
مــن كل دول العــامل) عــى الحافــة والذيــن مل ميلّــوا مــن التأمــل والتقــاط
الصــور التذكاريــة الواحــدة تلــوى األخــرى.
انتــر باملــكان أيضــا فنانــون وعازفــوا القيتــارة والرســامون وقــارؤوا الكـ ّـف
48
وكل أنــواع املجانــن واملبدعــن واملعتوهــن الذيــن يرتــدون ألبســة غريبــة
وميلكــون ترسيحــات شــعر أغــرب وكل واحــد منهــم ميــارس طقســا خاصــا
جــاء بــه مــن بــاده البعيــدة .كان منهــم أحــد الشــباب الــذي أمســك
ســيالة زرقــاء وراح يرســم أهــم املعــامل األثريــة للمدينــة يف قطــع صغــرة
مــن األوراق ألصقهــا يف قطعــة خشــبية وعلقهــا يف جــذع شــجرة هنــاك.
وقفت أتأمل تلك الرسومات الجميلة فاقرتب مني هذا الرسام وناولني
ورقــة صغــرة رســم عليهــا قــر الحمــراء كــا تــراه العــن مــن رشفــة ســان
نيكــوالس فاعتــذرت منــه عــى عــدم رشاءهــا ومتنيــت لــه حظــا موفقــا.
لكنــه ابتســم وقــال يل :إنهــا مجانيــة خذهــا هديــة مــن عنــدي .ســألته
حينهــا عــن الهــدف مــن ذلــك فقــال يل :نحــن شــباب مبدعــون ليــس لنــا
مــن نصيــب يف الحيــاة غــر هــذه املوهبــة ،وقــد رأيــت أن األغنيــاء فقــط
يف هــذا العــامل مــن يســتطيعون رشاء اللوحــات والتحــف فــأردت أن أعــر
عــن معارضتــي لهــذا الظلــم والتناقــض برســومات أمنحهــا مجانــا للســياح،
فمــن حـ ّـق كل النــاس أن يتذوقــوا الفــن ويحتفظــوا بقطــع منــه حتــى لــو مل
يكونــوا أغنيــاء ..الفــن ليــس شــيئا نتملّكــه بــل أشــياء نقتســمها.
49
األســفل دون إزعــاج وزحــام.
مل تكــن هــذه الرشفــة إال عبــارة عــن حديقــة صغــرة هادئــة فيهــا بعــض
الشــجريات والــورود ونافــورة مــاء تصــدر أصواتــا رقيقــة ،هــذه الحديقــة
بـ�كل بسـ�اطة هـ�ي السـ�احة الخارجيـ�ة لجامـ�ع غرناطـ�ة..
50
األندلس ..الفردوس املوجود
51
يف الحصــول عــى التمويــل (بعــد أن اشــرطت عليهــم الــدول اإلســامية
تســيري املســجد وتعيــن اإلمــام والخطيــب ومواضيــع خطــب الجمعــة
مقابــل التمويــل) كــا اضطــروا لبنــاء نســخة كاملــة عــن املســجد يف
مــكان آخــر فقــط يك يطمــن مجلــس املدينــة إىل تطابــق وانســجام بنــاءه
مــع النمــط املعــاري لحــي البيازيــن ،وهنــا اضطــر املســلمون لتصغــر
حجــم وطــول املئذنــة ليفتــح املســجد أبوابــه أخــرا أمــام املصلــن ســنة
2003ويكــون أول مســجد بكامــل مكوناتــه يبنــى يف غرناطــة منــذ حــروب
االســرداد (هنــاك مصليــات أخــرى باملدينــة لكنهــا عبــارة عــن مســاحة
للصــاة ليــس إال).
52
هــذا املســجد يف يــد أصحابــه مــن اإلســبان الذيــن اعتنقــوا اإلســام (وهــم
عــادة ينحــدرون مــن عائــات كاثوليكيــة) فرمبــا كان ذلــك أحســن وأنفــع
لألمــة مــن االنقســام إىل ســني وشــيعي وصــويف ومرشقــي ومغــريب.
53
حــن أنهيــت الســندويتش الــذي كان معطّــرا بأل ـ ّذ توابــل الدنيــا وهــي
ي ومــرة أخــرى قابلنــي
الجــوع ،تقدمــت إىل داخــل املحـ ّـل يك أدفــع مــا عـ ّ
أي البلــدان أنــا ،فأجبتــه مــرة أخــرى :أخوكــم مــن
شــاب عــريب وســألني مــن ّ
الجزائــر.
وملــا ســألني مــن أي املناطــق أنــا مــن الجزائــر ،قلــت لــه أن املغاربــة
عمومــا يعرفــون مــن الجزائــر عاصمتهــا ومدينــة وهــران فقــط وإن كنــت
أنتمــي للمدينتــن بحكــم االســتقرار والعمــل ،إال أن أصــويل مــن الصحــراء.
وهنــا قــال يل إنــه جزائــري وأيضــا مــن الصحــراء .تبــن يل بعدهــا أنــه مــزايب
مــن بلــدة القــرارة (الدنيــا صغــرة) ودعــاين إىل كأس مــن الشــاي عــى
حســابه بينــا انــرف هــو للعمــل فــا مجــال هنــا للتكاســل أو التهــاون
يف لحظــات وســاعات الشــغل حتــى وإن كان الزائــر مــن أفــراد عائلتــك
املقربــن ،أمــا أنــا فقــد غــادرت املحــل بعــد ثــاث كــؤوس صغــرة مــن
الشــاي (وفــق مــا تقتضيــه العــادة امليزابيــة) يك ال أحرجــه أكــر.
54
البــاد اإلســبانية وللــه األمــر مــن قبــل ومــن بعــد وتلــك األيــام نداولهــا بــن
النــاس.
التعمــق يف تاريــخ فتــح األندلــس وقــراءة مــا حــدث طيلــة هــذه الفــرة
الطويلــة جــدا ســيفتح عقولنــا الكســولة (التــي تغذيهــا املعلومــات العامــة
والحقائــق الجاهــزة) عــى قــراءات مثــرة ومذهلــة ،ومنهــا أن الفتــح مل يكــن
غــزوا عســكريا بقــدر مــا كان شــبه ثــورة داخليــة يف إســبانيا نفســها عــى
اعتبــار أنهــا كانــت تديــن باملســيحية اآلريوســية وهــو مذهــب ال يعــرف
55
بالتثليــث وال بألوهيــة املســيح عيــى بــن مريــم ،مــع تواجــد كبــر لطوائــف
ـرب واحــد كــا يؤمــن املســلمون أيضــا .وهــذا مــا يفــر
يهوديــة يؤمنــون بـ ّ
رسعــة وشــكل التوســع اإلســامي يف إســبانيا ،خاصــة وأن الوحــي يع ـ ّرف
اإلســام ليــس كديــن جديــد ناشــئ مــع نبــوة الرســول محمــد (ص) ولكــن
كالديــن األســايس واألول منــذ أن نفــخ اللــه يف االنســان مــن روحــه «قــل مــا
كنــت بدعــا مــن الرســل».
56
كان مبــدأ حريــة العقيــدة ،الركــن األســايس الــذي ترتكــز إليــه عظمــة األمــم
الحقيقــة غال ًيــا عليهــم ففــي املــدن التــي كانــوا أســيا ًدا فيهــا كانــوا يقبلــون
بكنيســة املســيحي وكنيــس اليهــودي».
57
كولومبــس العــامل الجديــد إىل خريطــة العــامل والتــاج اإلســباين ،وانطلقــوا
بأســاطيلهم يســتعمرون مدنــا وحــوارضا وجــزرا يف البحــر املتوســط
والشــال اإلفريقــي الزالــوا يحتفظــون ببعــض منهــا إىل يــوم النــاس هــذا.
ولــو أنهــم أصيبــوا بخيبــة أمــل يف الفليبــن حــن وصلوهــا ووجــدوا اإلســام
منتــرا هنــاك وهــم الذيــن كانــوا يعتقــدون أنهــم بصــدد اكتشــاف أراض
جديــدة مل تســبقها إليهــم حضــارات أخــرى.
زيــارة إســبانيا ولــو لغــرض ســياحي محــض ،هــي بالــرورة زيــارة للتاريــخ
بــكل مــا فيــه ومــا لــه ومــا عليــه ،وإطاللــة بديعــة مــن نافــذة التاريــخ عــى
معــامل الحــارض ،تجلعنــا نكتشــف أشــياء كثــرة يف واقعنــا املعــاش،
ورمبــا نســترشف أحداثــا ســتقع يف مســتقبلنا ،ألن التاريــخ دورات كــا
رشح ذلــك ابــن خلــدون يف مقدمــة تجعلنــا نكتشــف العــرض والخامتــة
يف كل حضــارة.
وألن الوقــت كان متأخــرا فقــد غططــت يف نــوم عميــق ألســتيقظ عــى
صــوت املنبــه عــى الســاعة الخامســة والنصــف صباحــا يــوم األربعــاء 13
ســبتمرب .2017خرجــت مــن الفنــدق دون إفطــار وتوجهــت مشــيا إىل
مرتفــع الســبيكة الــذي يقبــع فوقــه قــر الحمراء.الشــوارع كانــت خاليــة
مــن النــاس والقطــط والســيارات،لكن بعــض عــال النظافــة كانــوا بكامــل
ع ّدتهم وج ّديتهم يغســلون األرصفة والســاحات ســويعات قبل اســتيقاظ
الســكان صباحــا ليتوجهــوا إىل أعاملهــم ،يف مدينــة نظيفــة تحافــظ عــى
أناقتهــا وزينتهــا ويهمهــا أن تجعــل معنويــات مواطنيهــا مرتفعــة دومــا.
58
رحــت أتتبــع مجــرى امليــاه النقيــة أســفل ربــوة البيازيــن قبــل أن أتجــه
صعــودا إىل الحمــراء ،الــرودة كانــت تنبعــث مــن ميــاه نهــر حـ ّدرة أو الـ ّدارو
كــا يســميه اإلســبان ،وتس ـلّيت مبســابقة خيــايل الــذي راح يتمــد ّد يف
درب صاعــد تســاعده يف ذلــك بعــض األضــواء العموميــة الخافتــة .أبــراج
الحمــراء الخارجيــة التــي أمتــى عنــد أقدامهــا توحــى بالهيبــة والعظمــة
ككل تحــت ضــوء القمــر يزيــده شــموخا وجــاال.
ومظهــر القــر ّ
ملــا بــدأت خيــوط أشــعة الشــمس ترســم أضواءهــا األوىل فــوق املــكان
انتبهــت إىل زوجــن كانــوا قبــي يف الطابــور ،وكانــت الزوجــة املتحجبــة
تتكلــم مــع إحــدى الشــابات بجانبــي عــن العطلــة يف إســبانيا وعــن تربيــة
59
األوالد واألجــواء البــاردة يف جنــوب إفريقيــا ..التحــدث يف أي يشء
ميكــن أن يدفــع عقــارب الســاعة للــدوران برسعــة أكــر كــا يقــال ،لذلــك
انضممــت للحديــث وســألتهام عــن رأيهــا يف صعوبــة اللغــة اإلســبانية
عــى الســياح ،خاصــة وأنهــا كنــا تتكلــان بلغــة إنجليزيــة ســليمة ورفيعــة
جــدا..
60
وال غالب إال الله..
انضــم إلينــا ال ـ ّزوج ورحنــا نتحــدث أربعتنــا عــن مــا الــذي ينتظرنــا خلــف
هــذه األســوار ومــا الــذي نتوقّــع أن نــراه ونكتشــفه بداخــل هــذا القــر
املهيــب الغــارق يف حدائقــه وزهــوره وأســاطريه .كان الزوجــان اللذيــن
قدمــا مــن جنــوب إفريقيــا لحضــور ملتقــى علمــي مبدريــد قــد اســتغال
الفرصــة لزيــارة غرناطــة وفشــا قبــل يــوم يف الحصــول عــى تذكــرة لدخــول
القــر العــريب ،وهــا يعــاودان الك ـ ّرة اليــوم .انبهــر الرجــل لطــول الطابــور
وعــدد الســياح الذيــن يريــدون الدخــول فقلــت لــه أن هنــاك جنــة بالداخــل
والجنــة الحقيقيــة غــدا ســتقف أمامهــا أعــداد أكــر مــن هــذه بكثــر.
دق جــرس الثامنــة وبــدأ صــف الســياح بالتحــرك نحــو األكشــاك ،كنــت
أراقــب مــن مــكاين ســر األمــور التــي كانــت منظمــة بشــكل جيــد ،لكــن
قبــل أن يصلنــا الــدور ارتفــع صــوت إعــان مبكــر الصــوت يعلــم الجميــع
أن تذاكــر الزيــارة العامــة قــد نفــذت وأن الزائريــن بإمكانهــم فقــط اقتنــاء
61
التذاكــر املتبقيــة لزيــارة الحمــراء بأكملهــا ماعــدا القصــور النرصيــة .
خيبة األمل ارتسمت عىل وجوه جميع من كانوا ورايئ ،ورحت أوايس
أصدقــايئ الجــدد مبــا معنــاه أن اإلنســان يجــب أن يــرك أشــياء مل يرهــا
يك يتشــجع عــى العــودة لرؤيتهــا مــن جديــد أو كــا تقــول الحكمــة عندنــا
ـول .وقــد اقتنعــوا مبــا قلــت بــل وأعجبــوا
ـي بــاش تـ ّ
وبــكل اختصــار :خـ ّ
كثــرا بهــذه املقولــة التــي رفعــت مــن معنوياتهــم .
أول مــا زرتــه مــن الحمــراء هــو القصبــة أو الحصــن العســكري بأبراجــه
املرتفعــة والتــي ميكــن مــن أعالهــا أن تشــاهد منظــرا جميــا ألحيــاء غرناطــة
املســتلقية يف دالل واطمئنــان أســفل القــر ،تزينهــا األشــجار املخــرة
ر جذورهــا ح ـ ّر الصيــف .بعدهــا
التــي ال ينــال مــن ألوانهــا الخريــف وال ي ـ ّ
توجهــت إىل موقــع القصــور النرصيــة لكــن دون أن أدخلهــا وقــد كانــت
هنالــك طوابــر مصطفــة يف نظــام للدخــول ومشــاهدة نافــورة األســود
وقاعــة الســفراء وقاعــة األختــن وبــرج قــارش واملشــور والقــر امللــي
وغريهــا مــن اآلثــار اإلســامية التــي ألهمــت ألســنة الشــعراء وأقــام األدبــاء
62
عــر كل العصــور وحتــى عقــول رجــال العلــم والرياضيــات املعارصيــن.
ففــي قصــور املســلمني هنــا عجائــب هندســية ورياضيــة ال زالــت قيــد
الدراســة واالكتشــاف لدرجــة أن مبنــى املعهــد األمريــي للرياضيــات يف
كاليفورنيــا اليــوم هــو نســخة طبــق األصــل عــن قــر الحمــراء باألندلــس
وقــد فعــل األمريكيــون ذلــك تكرميــا للعقــل الريــايض الــذي اســتطاع يف
تلــك القــرون الخــوايل أن يهنــدس هــذه التحفــة بينــا شــيد أحــد األمــراء
الســعوديني الــذي أعجــب بالحمــراء قــرا يحــايك هــذه الــدرة يف كل
تفاصيلهــا يف اململكــة.
مــن املبــاين الحديثــة نوعــا مــا (مقارنــة بتاريــخ بنــاء القصــور العربيــة
املتواجــدة داخــل الحمــراء) مبنــي ضخــم مربــع الشــكل بنــي يف القــرن
الســادس عــر ،يعطيــك االحســاس أنــه وضــع هنــا عنــوة دون اســتئذان.
ذلــك هــو قــر شــارل الخامــس والــذي أراد بعــض حاشــيته أن يتقربــوا
إليــه فزعمــوا أنهــم ســيبنون لــه قــرا أفخــم مــا هــو موجــود ،وقامــوا
لألســف بهــدم جــزء مــن قصــور الســاطني املســلمني ووضعــوا مكانــه
هــذا املبنــى املربــع الــذي يحــوي ســاحة ورشفــة دائريــة بداخلــه كإشــارة
عــى ســيطرة مملكتــه املربعــة عــى العــامل الدائــري أجمــع ،وقــد ســمعت
أحــد املرشــدين الســياحيني يقــول ملجموعــة ســياح أمريكيــن إن مـ ّـاك
القــر بعــد طــرد املســلمني أرادوا أن يخبئــوا جــال القصــور النرصيــة وراء
هــذا الــرح الكبــر ،فأجابــه أحــد الســياح ببداهــة :إن الفــرق بــن البنائــن
كالفــرق بــن الزيــت واملــاء لــن يلتقيــا مهــا تجــاورا.
63
دخلــت هــذا املبنــى وتجولــت داخــل ســاحته الدائريــة ثــم وجــدت يف
أحــد صاالتــه متحفــا فدخلــت أكتشــف مــا فيــه وأتجــول بقاعاتــه ألصــل
يف إحــدى أركان تلــك القاعــات إىل حاجــز زجاجــي كبــر ومزخــرف،
ومــن ورائــه ميكنــك أن تطــل مبــارشة عــى ســاحة املشــور وبــرج قــارش
العــايل الــذي تنعكــس صورتــه عــى بركــة املــاء وهــذا املنظــر املهيــب
هــو مــن أجمــل مــا تخفيــه قصــور بنــي نــر إضافــة إىل نافــورة األســود.
هنــاك وجــدت ســائحة إنجليزيــة ظلــت تتأمــل املنظــر وتــردد عــى مســامع
صديقتهــا التــي كانــت برفقتهــا الروايــة املشــهورة حــول زفــرة العــريب األخرية
وحكايــة «إبــي كالنســاء ملــكا مل تحافــظ عليــه كالرجــال» .فســألتها مــا
الــذي كانــت ســتفعله هــي لــو كانــت يف مــكان عائشــة الحــرة وهــل كانــت
ســتقول نفــس الــكالم ألبوعبــد اللــه الصغــر ،ولكنهــا أجابتنــي بــكل ثقــة
أنهــا كانــت ســتعمل عــى تربيتــه عــى الشــجاعة والتضحيــة يك يقــاوم إىل
النهايــة وميــوت مقاتــا بــن أســوار حصنــه وأشــاء جنــوده .لكــن بعيــدا عــن
بطــوالت وليــام واالس االنجلوساكســونية يــرى بعــض اإلســبان املعارصيــن
أن أبــو عبــد اللــه الصغــر تحــى بقــدر كبــر مــن الشــجاعة والحكمــة حــن
أهــدى للعــامل قــرا مهيبــا دون أن يحرقــه أو يهدمــه ،وبفضلــه أصبحــت
الحمــراء اليــوم ملــكا لــكل اإلنســانية .أمــا إن أردنــا كعــامل عــريب وإســامي
أن نأخــذ عــرة مــا مــن الحمــراء فهــي االنتبــاه إىل أهميــة املعلــم التاريخــي
والثقــايف الــذي يبقــى رغــم مــرور قــرون طويلــة أهــم وأغــى مــن أكــر آبارنــا
النفطيــة حجــا وإنتاجــا ،فــإذا كانــت الحمــراء إلســبانيا كالنفــط بالنســبة
لنــا فاإلســبان عــى األقــل لــن يصيبهــم تلويــث وال يخشــون نضــوب املــورد
64
يف املســتقبل املنظــور.
ورس هــذه الجملــة التــي أصبحــت عالمــة مميــزة لدولــة بنــي األحمــر يف
غرناطــة هــو أن محمــد بــن يوســف بــن نــر مؤســس دولــة بنــي األحمــر التــي
اســتمرت ملــدة قرنــن ونصــف بعــد ســقوط أهــم املــدن االندلســية ،كان
متحالفــا مــع ملــوك قشــتالة وســاهم يف حصــار وإســقاط إشــبيلية ســنة
1248بعــد أن تــم للنصــارى االســتحواذ عــى طليطلــة ورسقســطة وقرطبــة
قبــل ذلــك .وحــن عــاد إىل غرناطــة خرجــت بعــض الغوغــاء تحتفــل بنــره
وراحــوا ينــادون يف الشــوارع الغالــب ..الغالــب ..الغالــب .فقــال قولتــه
املشــهورة «والغالــب إال اللــه» وعكــس تلــك الجملــة عــى جميــع جــدران
الحمــراء وكذلــك فعــل أبنــاؤه مــن بعــده.
65
والتــرذم جعلــت للمدينــة أحيانــا أمــرا يحكــم الحمــراء وأمــرا آخــر يحكــم
البيازيــن وأمــرا ثالثــا يحــر النقــاب آخــر عــى ع ّمــه أو أخيــه مــن جاريــة
نرصانيــة ..
66
الجبــال والبحــرات لتوزيعهــا يف أرجــاء القــر .إن امليــاه مبثابــة الرشيــان
الــذي مينــح املــكان شــبابا ونــرة دامئــة ســواء عــر االخــرار الــذي يع ـ ّم
املــكان أو عــر انعــكاس بريقهــا وحركتهــا عــى األســقف والجــدران فيخيــل
للناظــر أنهــا حيــة تتحــرك وتومــض وتتفاعــل مــع نظــرات إعجابــه ..
مل أشــعر بإزعــاج ذلــك العــدد الهائــل مــن الســياح الذيــن يتجولــون يف
كل أرجــاء الحمــراء ،فجميعهــم منظمــون بشــكل جيــد ،يحملــون ســاعات
ويتمشــون برسعــة ،يتابعــون باهتــام مــا يقولــه املرشــد قائــد املجموعــة.
أحيانــا أســمع ضحكاتهــم وقهقهاتهــم بعــد أن يكــون هــذا األخــر قــد ألقــى
نكتــة أو تعليقــا طريفــا حــول املــكان.
هناك أيضا مرشــد خاص تجده رفقة ســائح أو اثنني يحيك لهم بهدوء
وتركيــز عــن كل كبــرة وصغــرة يف املوقــع ،وتبــدو هــذه الفكــرة أحســن
وأفيــد للمهتمــن بفهــم تاريــخ املــكان بشــكل أفضــل .ولــو أنــه عليــك أوال
أن تفهــم كيــف ميكنــك أن تتدبّــر املبلــغ الــذي يجــب أن تدفعــه بعــد
67
ذلــك ،فســعر اليــورو اليــوم ال يغريــك حتــى بدخــول بعــض املعــامل فضــا
عــن اكتشــاف أهميتهــا بهــذه الطريقــة الفعالــة واملرتفــة يف آن.
68
والعصفــور عصفــورا والــوردة وردة دون الدخــول يف التفاصيــل .رمبــا ألن
تفاصيــل البيــوت واملــدن والشــوارع التــي نعيــش فيهــا ،والحيــاة التــي
نحياهــا بصفــة عامــة ،ال تعطينــا هــذه امليــزة واإلمكانيــة والفرصــة للتمييــز
والتفصيــل وتكتفــي مبنحنــا عموميــات الحــد األدىن مــن كل يشء.
69
يحــدث أحيانــا أن تكــون فكرتــك عــن املــكان أكــر وأجمــل مــن املــكان
ذاتــه ،ويحــدث أن يكــون املعلــم الــذي زرتــه أصغــر مــن الصــورة الذهنيــة
التــي ك ّونتهــا عنــه ،فتقــول يف نفســك أنــك كنــت تــراه يف الصــور
واملجــات والكتــب كبــرا ومهيبــا وضخــا وبديعــا لكــن ظنــك خــاب يف
النهايــة.
اطمــن متامــا ،فذلــك لــن يحــدث معــك يف حمــراء غرناطــة وال يف
غرناطــة الحمــراء ،فهــذه األخــرة أجمــل بكثــر مــا تبــدو عليــه يف أي رشيــط
وثائقــي رأيتــه مــن قبــل .وســتدرك كــا يقــول املثــل هنــا ،أنــه ال ميكــن أن
يتشــابه يف الحيــاة شــخصان ،أحدهــا رأى غــروب الشــمس يف غرناطــة،
وآخــر مل يــره بعــد.
70
ليس سهال أن تغادر غرناطة إال إذا دعتك قرطبة
نزلــت إىل أســفل حــي البيازيــن ألعــر إىل حــي آخــر بــه شــوارع ضيقــة
وقــد انتــرت بــه دكاكــن لبيــع التحــف التذكاريــة واملأكــوالت الرشقيــة
ويبــدو أن أصحابهــا مــن العــرب املغاربــة وحتــى مــن املشــارقة.
71
فلســطينيا وقــد رحــب يب كثــرا حــن علــم أننــي مــن الجزائــر ومل أنــس أن
أتــرك لــه بعــض حبيبــات التمــر التــي حملتهــا معــي ،وكنــت أســتعني بهــا
عــى إســكات عصافــر البطــن التــي أحيانــا مــا تفاجئنــي بزقزقــة خفيفــة بــن
األوقــات.
مــن األشــياء التــي تكتشــفها هنــا بعــد أيــام مــن تواجــدك بإســبانيا أو
أوروبــا عمومــا هــي أهميــة التوقيــت الصيفــي ،فنحــن صيفــا يف الجزائــر
نذهــب للعمــل عــى الســاعة الثامنــة صباحــا كــا نفعــل يف فصــل
الشــتاء لكــن املثــر يف األمــر أن الشــمس تــرق قبــل الخامســة صباحــا
أحيانــا ،والفــرق بــن الخامســة والثامنــة صباحــا ثــاث ســاعات كاملــة وهــي
تقريبــا نصــف يــوم عمــل يذهــب هــدرا لألســف.
72
مــا الحظتــه أن النــاس تســتيقظ مبكــرا جــدا ملبــارشة أعاملهــا ،عكــس
مــا يــروج عــن اإلســبان مــن كســل وحــب للقيلولــة واالحتفــال (ولــو أن
هــذه املظاهــر موجــودة أيضــا) وقــد شــاهدت كيــف أن عــازف القيتــارة
يف الشــارع اتخــذ مكانــه املعتــاد عــى الســاعة الثامنــة إال خمــس دقائــق
متهيــدا لعــزف مقاطــع صباحيــة ملهمــة ميكــن أن تنعــش صندوقــه الصغــر
املوضــوع بجانبــه ببعــض املالليــم.
مــا أثــار انتباهــي أيضــا هــو أن بعــض شــوارع مدينــة غرناطــة أضيــق بكثــر
من شــوارع مدننا ،بل إن هناك بعض الطرق وســط املدينة ال مت ّر عربها
إال ســيارة يف اتجــاه وحيــد لكــن املدهــش يف األمــر هــو عــدد املواقــف
املوجــودة تحــت كل بنايــة وســاحة ،لدرجــه أن املــرء يتســاءل متــى تــم
حفــر كل هــذا العــدد منهــا.
73
عــن مدنهــم الجميلــة.
ذهبــت إىل ســاحة بــاب الرملــة أوبيــب رومبلــة كــا تســمى هنــا بغرناطــة
(ســاحة تــم فيهــا إحــراق عــرات اآلالف مــن كتــب الحضــارة االندلســية
سنة 1501بإرشاف من الراهب سينريوس) وهي مكان فسيح انترشت
بــه املحــات واملطاعــم حيــث اقتنيــت بعــض التحــف التذكاريــة .الجميــل
يف التحــف أنــك تجــد منتوجــات مــن كل األلــوان واالشــكال ولــكل األذواق
الذكوريــة واألنثويــة وذلــك مــا يســهل عليــك إيجــاد هديــة مناســبة لــكل
فــرد مــن األصدقــاء والعائلــة وليــس مــن صعوبــة يف األمــر عــدا االختيــار
واالنتقــاء.
74
بباقــي املــدن اإلســبانية ،قبــل أن تطــرأ عليهــا التغيــرات التــي مل تتمكــن
مــن طمــس كل مــا تركــه املســلمون يف القــرون الســابقة ،والســبب كــا
يقــال إن امللــوك الكاثوليــك حــن اســتحوذوا عــى هــذه الجوهــرة حافظــوا
عىل مظاهرها الجميلة وتبنوها بكل مظاهرها ،كام يرتدي صياد رشس
جلــد منــر نــادر تغلــب عليــه وراح يتباهــى بذلــك أمــام الجميــع.
بغــض النظــر عــن موضوعيــة هــذه القــراءة مــن عدمهــا يبقــى تاريــخ
األندلــس الــذي شــغل مثانيــة قــرون كاملــة مــن عمــر البرشيــة والعامل وشــبه
الجزيــرة اإليبرييــة طبعــا ،يحتمــل الكثــر مــن الروايــات والتفســرات وهــو
جديــر بالقــراءة املتأنيــة البعيــدة عــن التنزيــه والتقديــس وعقــد االســتصغار
أو االســتكبار.
75
وبــدأت ســباقا ضــد الســاعة للتوجــه إىل الفنــدق وحمــل أغــرايض ثــم
انتظــار الحافلــة الحرضيــة التــي متــر عــر الشــارع الرئيــي يف وقــت
محــدد تأكــدت منــه عــر تطبيــق خريطــة القوقــل .وانتابنــي يشء مــن
القلــق ألن الوقــت هنــا كالســيف إن مل تقطعــه قطعــك فعــا ،وجــاءت
الحافلــة يف وقتهــا وركبــت برسعــة ورحــت أســتعجل الوصــول لكــن ســائق
الحافلــة كان يتوقــف عنــد كل إشــارة ضوئيــة وموقــف كــا يفعــل دومــا
وكأن األمــر اليهمــه ،ومل أصــل إىل املحطــة إال وكانــت الواحــدة زواال قــد
دقــت .قفــزت برسعــة مــن الحافلــة ودخلــت إىل املحطــة ركضــا ثــم نزلــت
بأقــى رسعــة إىل أرصفــة انطــاق الحافــات ألجــد ســائقنا لحســنا الحــظ
يتحــاور بإنجليزيــة مكــرة مــع ســائحني اثنــن قبــل صعودهــا ،تنفســت
قليــا وأعطيتــه تذكــريت ،ففتــح يل صنــدوق الحقائــب مــن جديــد أســفل
الحافلــة ألضــع أمتعتــي وأصعــد إىل مــكاين بالداخــل أيــن انطلقنــا بعــد
دقيقتــن مــن جلــويس مبقعــدي.
انطلقــت بنــا الحافلــة نحــو قرطبــة ورحــت أشــاهد مــن النافــذة تلــك
املناظــر التــي ال تختلــف كثــرا عــن جغرافيــة بلدنــا .لوقــت طويــل كنــت
أتعجــب مــن تربــع إســبانيا عــى عــرش أول منتــج ومصــدر للزيتــون وزيــت
الزيتــون يف العــامل ،رغــم منافســة ايطاليــا واليونــان وتونــس أيضــا ،لكــن
حــن رأيــت أشــجار هــذه الثمــرة ممتــدة عــى مــد البــر خــارج نافــذة
الحافلــة ،وتلــك الشــجريات الصغــرة منهــا التــي وكأنهــا زرعــت لت ّوهــا،
تكســوا التــال الصغــرة والكبــرة ويتــم ســقيها بتقنيــة التقطــر ،فهمــت
أن هــذا البلــد الــذي ينتــج نصــف احتياجــات العــامل مــن الزيــت بفضــل
76
أكــر مــن ثالمثائــة مليــون شــجرة زيتــون تنتــر يف ســهوله وجبالــه ووديانــه
ســوف لــن يتخــى عــن ريادتــه يف وقــت قريــب.
77
خالصــة الحديــث مــع هــذه الفتــاة الهادئــة التــي تطــرق أبــواب املراهقــة
باطمئنــان ورزانــة مقارنــة مبــن هــم يف مثــل ســنها عندنــا أو عندهــم ،هــو
أن الشــباب األورويب الــذي يــرك املنــزل طوعــا أو كرهــا حــن املغــادرة
إىل الجامعــة يف ســن الثامنــة عــر يتعلــم الكثــر مــن األمــور يف الحيــاة
بشــكل مب ّكــر ،بينــا ال زال أبنــاء الثالثــن عندنــا مراهقــن ال ميكــن أن
تعتمــد عليهــم حتــى يف إطعــام خــروف صغــر فكيــف بإطعــام أفــراد عائلــة
كاملــة كــا يقــول أحــد أصدقــايئ (هــاذ الــيء مــا هدرنــاش عــى الذبيــح
والســليخ نهــار العيــد).
املسجد الكاتدرائية..
78
عند أسوار قرطبة
ال يحتاج من يزور أوروبا مرتني كل عرش سنوات أو أكرث ،إىل غرفة مؤثثة
واســعة ،أو مطلــة عــى الشــارع أو نوافــذ تدخــل منهــا أشــعة الشــمس،
فقــد كان كل مبتغــاي حــن دخلــت غرفتــي أن أجــد رسيــرا صغــرا وحاممــا
نظيفــا ومناشــف جديــدة ،وقــد وجــدت كل ذلــك باإلضافــة إىل مكتــب
صغــر كان ســيكون مفيــدا لــو كنــا يف عــر الورقــة والقلــم حتــى أمتكــن
مــن تدويــن بعــض املشــاهدات واملالحظــات يف الســفر عنــد نهايــة
املســاء ،لكــن ومبــا أن زمننــا اليــوم هــو زمــن الويفــي واالنرتنيــت والهاتــف
الــذيك ،فــإن االســتلقاء عــى الفــراش وتصفــح الشاشــة الهاتفيــة املضيئــة
كفيــل بــأن يأخــذك يف أي رحلــة تــود الذهــاب إليهــا دون أن يتحــرك أي
جــزء مــن جســدك عــدا مــا يلزمــه مــن حركــة بســيطة عنــد الشــهيق أو الزفــر.
وقــت القيلولــة عنــد اإلســبان مهــم جــدا ،وهــم يؤدونهــا كفريضــة يوميــة
79
واجبة ،خاصة يف الفصول شديدة الحرارة ،حيث تقل الحركة يف وقت
الظهــر وتغلــق أبــواب املتاجــر ،لكنــي وفــور دخــويل إىل الغرفــة وضعــت
أغــرايض وأخــذت حاممــا بــاردا ألتخلــص مــن تعــب الســفر ثــم قفــزت خــارج
الفنــدق متجهــا نحــو موقــع املســجد الكاتدرائيــة ،فقدمــاي ال تســتطيعان
أن تنعــا بالراحــة عــى بعــد عــرات األمتــار مــن ذلــك املعلــم ،الــذي
نشــاهده يف األرشطــة والصــور بأقواســه الحمــراء والبيضــاء البديعــة التــي
تنتصــب فــوق غابــة مــن األعمــدة داخــل جامــع قرطبــة وتعتــر أيقونــة أبديــة
للحضــارة األندلســية بصفــة خاصــة واإلســامية بصفــة عامــة.
أعتقــد أن أول مــرة قــرأت فيهــا عــن هــذا املســجد عــدا مــا نعرفــه عــن
حضــارة األندلــس وطــارق بــن زيــاد والبحــر مــن ورائكــم ..هــو مــا جــاء يف
كتــاب موســوعي عنوانــه «قــل يل أيــن يوجــد» وهــو كتــاب رائــع كنــت
استعرته من أحد األصدقاء يف سنتي الدراسية السابعة ،لقد كان عبارة
عــن موســوعة ملونــة تجــد بداخلهــا صــورا مرســومة للمــدن والحضــارات
القدميــة واملعــامل الطبيعيــة أو األثريــة أو املعامريــة وأمامهــا فقــرة مكتوبــة
بشــكل مختــر عــن تلــك املواقــع ..كان ذلــك الكتــاب نافــذة مذهلــة يل
عــى العــامل ،اكتشــفت عــر صفحاتــه أن العــامل املحيــط بنــا أكــر بكثــر
مــن الحــي الــذي أســكنه يف مدينــة غردايــة.
وحيــث أننــا آنــذاك ال منلــك إال قنــاة وطنيــة واحــدة وجهــازا تلفزيونــا
واحــدا نضطــر إىل تحمــل رداءة صورتــه (وصوتــه الــذي يرتفــع أحيانــا فجــأة
ودون ســابق إنــذار) فقــد كان ذلــك الكتــاب خــر مؤنــس يل وكنــا ال أمـ ّـل
80
مــن قراءتــه وإعــادة قراءتــه كلــا أنهيتــه.
ال زلــت أديــن بالكثــر لبعــض الكتــب التــي صادفتهــا يف مرحلــة مــا مــن
العمــر ،والتــي كان لهــا عظيــم األثــر يف تغذيــة فضــويل وشــغفي بــكل مــا
هــو تاريــخ إنســاين وجغرافيــة طبيعيــة ،وقــد أردت هنــا أن أر ّد دينــي لهــذا
الكتــاب بالــذات الــذي الزلــت أبحــث عــن نســخته الورقيــة إىل اليــوم
وأمتنــى أننــي قــد فعلــت.
81
أزقــة املدينــة القدميــة التــي ال أدري كيــف انتقلــت إليهــا بعــد عــر
دقائــق مــن املــي (وقــد كنــت للتــو يف مدينــة أوروبيــة عرصيــة بشــوارعها
الواســعة وأشــجارها ومحالتهــا الكبــرة عنــد خروجــي مــن بــاب الفنــدق
الــذي نســيت حتــى موقعــه ) وجدتنــي يف قلــب بلــدة عتيقــة بأزقــة ضيقــة
ومنــازل صغــرة مطليــة باألبيــض وتتــدىل منهــا شــجريات الياســمني وكل
أنــواع الــورود وقــد أعجبتنــي هــذه األجــواء كثــرا.
تحثنــا الكتــب ومواقــع الويــب الســياحية عــى عــدم حرمــان أنفســنا مــن
لــذة املــي عــى غــر هــدى ودون هــدف يف أزقــة قرطبــة الجميلــة ،وأن
ال نســتعجل لحظــة الوصــول إىل املعلــم الرئيــي يف املدينــة ،ويبــدو أن
يف هــذه النصيحــة الكثــر مــن الصــدق .لكــن األمــر كان مختلفــا بالنســبة
يل فهــذه أول مــرة ســأمتكن فيهــا مــن رؤيــة جامــع قرطبــة خــارج صفحــات
الكتــب ومواقــع النــت ..وتلــك لحظــات حاســمة لــكل ســائح ،فهــو مــن
جهــة قــد أحــب تلــك الصــور التــي رســمها عــن املــكان يف ذهنــه ومــن جهــة
أخــرى نجــده ســيضطر لتعويضهــا وإىل األبــد بالصــورة الحقيقيــة التــي ال
يبعــد عنهــا ســوى بخطــوات ولحظــات معــدودة.
كنــت أترقــب نهايــة كل شــارع لعــي أخــرج إىل املــكان الفســيح الــذي
يســتقر فيــه هــذا البنــاء العظيــم أو أرســل نظــرايت إىل الســاء لعلهــا تعــود
يل بصــورة عــن املئذنــة التــي تحولــت إىل بــرج لألجــراس قبــل قــرون مــن
اليــوم.
82
مــن بــاب الفنــدق ووقــويف عنــد الســور الخارجــي لجامــع قرطبــة أللتقــط
الصــور األوىل ألبوابــه وزخرفاتــه ،وأشــاهد أمامــي جحافــل الســياح التــي
تلفظهــا شــوارع املدينــة القدميــة التــي تنتهــي يف مجملهــا نحــو املســجد
الكاتدرائيــة ،أو التســمية الرســمية لجامــع قرطبــة حاليــا.
دخلــت املســجد مــن بوابتــه الكبــرة ووجــدت فنــاء كبــرا انتــر فيــه
الســياح يلتقطــون الصــور التذكاريــة بجانــب النافــورات وأشــجار النارنــج،
رســم الدخــول كــا قــرأت يف الالفتــة هــو عــرة يوروهــات كاملــة ،لكنــي
كنــت أعــرف مــن خــال تحضــري للزيــارة أن الجامــع يفتــح أبوابــه مجانــا
للــزوار مــن الســاعة الثامنــة والنصــف إىل التاســعة والنصــف صباحــا.
لذلــك واقتصــادا للنفقــات ومتديــدا للحظــات الشــغف والتمنــي عزمــت
عــى العــودة إليــه يف صبــاح اليــوم املــوايل وخرجــت مــرة أخــرى أتتبــع
الســور الخارجــي وصــوال إىل القنطــرة الشــهرية التــي تعــر نهــر الــوادي
الكبــر.
ال ينتابــك أبــدا اإلحســاس بالغربــة أو البعــد عــن البلــد وأنــت تتجــول بــن
مبــاين وأزقــة مدينــة قرطبــة فليــس هنــاك شــارع ومنــزل وســقف وحديقــة
ونافــورة وبــاب وســور متُ ـ ّر بجانبــه إال وتستشــعر قربــك مــن معانيــه وقربــه
مــن جوارحــك ،وهــو إحســاس ســيظل ســاكنا بداخلــك مــا دمــت مســافرا
يف ربــوع إقليــم األندلــس بصفــة عامــة أو هــذا عــى األقــل مــا شــعرت بــه
طيلــة أطــوار الرحلــة التــي قادتنــي إىل تلــك املــدن ماعــدا مالقــة وبدرجــة
أقــل إشــبيلية عاصمــة اإلقليــم.
83
غــر بعيــد عــن جامــع قرطبــة والقنطــرة ميكــن للســائح أيضــا زيــارة حــي
ســان باســيليو وهــو حــي جميــل بطــراز معــاري يشــبه كثــرا األحيــاء
العربيــة ،خاصــة يف باحــات منازلــه التــي بنيــت كــا يبنــى املنــزل العــريب،
حيــث تطــل كل غــرف املنــزل عــى فنــاء مركــزي ،مزيــن بأجمــل النباتــات
وأنــواع الــورود ،وتتوســطه نافــورة ميــاه تنعــش األجــواء ،يف مدينــة معروفــة
بدرجــات حرارتهــا املرتفعــة يف فصــل الصيــف.
هــذا الحــي يشــهد مســابقة فريــدة مــن نوعهــا يف شــهر مــاي مــن كل
ســنة حيــث يقــوم أصحــاب املنــازل بتزيينهــا بــكل أشــكال وألــوان الــورود
واألزهــار وفتحهــا أمــام الســياح والفضوليــن الذيــن ســيمنحون أصواتهــم
الختيــار أجمــل باحــة منــزل مزينــة يف أجــواء احتفاليــة تــدوم طيلــة عــرة
أيــام كاملــة .لكــن ذلــك ال مينــع بعــض أصحــاب هــذه الــدور العتيقــة مــن
فتحهــا يوميــا أمــام الــزوار باقــي أيــام الســنة ،حيــث ميكنــك أن تتجــول
لبعــض الوقــت يف فنــاء املنــزل الــذي تجــد بابــه مفتوحــا ،وأن تــرك
بعــض القطــع النقديــة لصاحــب الــدار قبــل الخــروج.
درجــة الحــرارة املرتفعــة والتعــب الــذي بــدأ يتمكــن مــن جســدي دفعنــي
للجلــوس قليــا أمــام بركــة مــاء نظيفــة خــارج أســوار املدينــة القدميــة
(والتــي ذكرتنــي بأســوار قصبــة األودايــة بالربــاط) حيــث وضعــت أرجــي
يف مياههــا البــاردة ألخــذ قســط مــن الراحــة وتجديــد البطاريــات وســاع
بعــض املوســيقى األندلســية للمطربــة املغربيــة نبيلــة معــن التــي إن كان
هنــاك لحــن وصــوت وأداء يــود املــرء أن يســمعه الســتحضار روح العصــور
84
األندلســية إىل حارضنــا فلــن يكــون إال صوتهــا يف موشــحات أبدعــت يف
أدائهــا مثــل موشــح :ملــا بــدا يتثنــى وشــمس العشــية وأحســنت يــا ليــل...
الخ.
يف نهايــة املســاء توجهــت نحــو أحــد املحــات الرتكيــة الــذي يبيــع
سندويتشــات الكبــاب والشــاوارما وكنــت قــد حــددت موقعــه مــن خــال
تطبيــق القوقــل مــاب الــذي يســاهم يف تســهيل وتيســر ســفرك إىل
أي مــكان يف العــامل مــن خــال إفادتــك بــكل املعلومــات الالزمــة حــول
مواقــع مطاعــم الحــال وأســعارها وآراء الزبائــن يف خدماتهــا .حصلــت
عــى كلمــة رس الويفــي الخاصــة باملطعــم ورحــت أتصفــح بعــض املواقــع
الكتشــاف املزيــد عــن تاريــخ املدينــة وبعــض املعلومــات املفيــدة يف
مــا تبقــى يل مــن الرحلــة ،التهمــت الســندويتش مــع عبــوة صــودا بثمــن ال
يزيــد عــن ســتة يوروهــات قبــل أن أعــود إىل الفنــدق وأخلــد للنــوم املبكــر،
اســتعدادا ليــوم حافــل ،مبــارشة بعــد طلــوع شــمس الغــد..
85
حارض قرطبة الذي يتعطر مباضيها
وصلــت إىل الجامــع وعــرت فنــاء النارنــج إىل داخــل املســجد ،كان
املنظــر مهيبــا جــدا منــذ البدايــة ،أعمــدة وأقــواس متشــابكة وظــام مثــر
يعــم املــكان ،تبــدده بعــض الرثيــات الخافتــة اإلضــاءة ،حيــث يتعمــد
املســيحيون خلــق هــذه األجــواء املظلمــة بداخــل معابدهــم ملزيــد مــن
الرهبــة والخشــوع.
86
منظــر الســياح وهــم يتجولــون بــن أعمــدة املســجد كان غريبــا للوهلــة
األوىل ،فمــن الصعــب أن تنــزع مــن ذهنــك صــورة املســجد املفــروش
بالــزرايب والحصائــر ومنظــر املصلــن وهــم راكعــون أو ســاجدون يف
جنباتــه .أمــا حــن انطلــق عــزف آلــة األرغــان العظيمــة داخــل الكنســية
املزروعــة يف قلــب املســجد منــذ القــرن الســادس عــر ،فذلــك
جعلنــي أرسع الخطــى نحــو املحــراب بحثــا عــن القطعــة املفقــودة يف
املشــهد ألقــف عــى بعــد أمتــار منــه عنــد قضبــان حديديــة وضعــت عــى
األرجــح ملنــع مــن تســول لــه نفســه بإقامــة الصــاة مــن جديــد ،بداخــل هــذا
املحــراب املزخــرف الجميــل ،الحزيــن ،الصامــت ،املســجون ،أو كــا
قــال أبــو البقــاء الرنــدي يف مرثيتــه الشــهرية:
87
إ ّن أرضا أنت فيها ...لسامء للعيون
كيف مل يسمع آذانا ...أهلها منذ قرون ؟
زيــارة جامــع قرطبــة كانــت مــن أجمــل ذكريــات الرحلــة وقــد مــرت الســاعة
داخله برسعة محسوســة ،وبدأ الســياح بالخروج من املبنى يك يفســحوا
املجــال أمــام بقيــة املجموعــات الســياحية للدخــول بدورهــا وقضــاء
الوقــت الــذي تــراه مناســبا وكافيــا بالداخــل (بعــد دفــع اليوروهــات
88
العــر).
رســم الدخــول كان خمــس يوروهــات وهــو مبلــغ رمــزي مقارنــة بجــال
الحدائــق التــي يضمهــا القــر .طبعــا ال تنتظــر أن تجــد ســحر الحمــراء يف
هــذا املعلــم الســياحي وال حتــى يف آلــكازار بإشــبيلية ،ألن الحمــراء معلــم
فريــد مــن نوعــه يف العــامل وهــو قــد بقــي قرنــن كاملــن يف يــد املســلمني
بعــد ســقوط إشــبيلية وقرطبــة مــا زاد يف رونقــه وتعتيقــه لكــن والحــق
يقــال إن أجمــل مــا يف قــر امللــوك املســيحيني بقرطبــة ملــن يريــد زيارتــه
هــو حدائقــه وأزهــاره وبــرك امليــاه ألن البنــاء أقــرب إىل الحصــن الدفاعــي
منــه إىل القــر املزخــرف أو الفنــي الجميــل.
89
املدينــة القدميــة وبالضبــط إىل الحــي اليهــودي أو مــا يســمى بالخودريــة
والــذي ال يتوقــف عــن االزدهــار والتج ّمــل منــذ مــدة ،حيــث تنتــر بــه
املطاعــم والفنــادق التــي تقــدم أطباقــا وخدمــات خاصــة تتــاىش
والعــادات اليهوديــة.
عدد اليهود يف إسبانيا كلها يزيد ببضع آالف عن أربعني ألفا وهو أقل
قليال من عدد املســلمني اإلســبان املعتنقني لالســام (املنحدرين من
عائالت كاثوليكية إســبانية) وال يكاد يقارن مع عدد املســلمني عامة يف
إســبانيا ،والــذي يتجــاوز املليــون ونصــف املليــون نســمة .ومــع ذلــك فهــم
منظمــون بشــكل جيــد ضمــن شــبكة األحيــاء اليهوديــة عــر مــدن البلــد،
وقــد متكنــوا بعــد خمــس قــرون مــن ســقوط غرناطــة واكتشــاف أمريــكا مــن
انتــزاع اعتــذار امللــك اإلســباين خــوان كارلــوس ســنة 1992عــن الطــرد
والتهجــر الــذي مــورس يف حقهــم بعــد اندحــار الوجــود اإلســامي الــذي
عاشــوا يف كنفــه طيلــة مثانيــة قــرون.
90
يجــد مــن يدافــع عنــه ويــروج لــه ،بينــا يعمــل أبنــاء إســحاق بجهــود موحــدة
يف إعــادة االعتبــار لوجودهــم الحضــاري يف املــايض اإلســباين بصفــة
عامــة ،ويف املســتقبل اإلســباين بصفــة خاصــة.
لقــد فوجئــت بعــدد الســياح مــن كل بقــاع العــامل الذيــن يقفــون ألخــذ
صــور تذكاريــة أمــام متثــال الفيلســوف األندلــي مــوىس بــن ميمــون أو
مــوىس الثــاين كــا يعتــره اليهــود (نســبة إىل أهميتــه بعــد النبــي مــوىس)
بينــا نجهــل نحــن كعــرب ومســلمني أهميــة إشــعاعنا الحضــاري يف هــذه
الربــوع عــر أســاء علــاء وأدبــاء وأطبــاء ذاع صيتهــم عنــد غرينــا ،ورســموا
ألوروبــا طريــق نهضتهــا نحــو التطــور واالزدهــار املــادي املســتمر إىل يومنــا
هــذا.
91
ليلهــم ونهارهــم بأخبــار نــوادي برشــلونة ومدريــد وتوهــم أغنيائنــا أن إســبانيا
تبــدأ وتنتهــي يف شــواطئ بينيــدورم وماربيــا وأليكانتــي وكان اللــه يف
عــون معتنقــي اإلســام مــن اإلســبان ،الــذي ال يــرون أيــا مــن مظاهــر دينهــم
يف ترصفــات أثريــاء العــرب ،وال يف ســلوكات فقراءهــم.
حــن اشــتدت حــرارة وقــت القيلولــة عــدت أدراجــي إىل الفنــدق آلخــذ
حاممــا شــبه بــارد ثــم أنطلــق إىل محطــة الحافــات لــراء تذكــرة إىل مدينــة
إشــبيلية والتــي تبعــد عــن مدينــة قرطبــة مبائــة وأربعــن كيلومــرا إىل
الغــرب ومثــن التذكــرة 12يــورو.
92
بعــد العــر ذهبــت للتجــول يف بعــض املحــات الكبــرة باملدينــة
كالكورتيــس انقليــز دون أن أنــى رشاء بعــض األقمصــة بأســعار مغريــة
مــن محــل ديكاتلــون املتخصــص يف املالبــس الرياضيــة .نشــاط التســوق
مقرر رسمي يف كل رحلة سياحية خارج الوطن لكنه ال يحتل من التجول
واالكتشــاف إال مقــدار مــا يحتاجــه امللــح يف صحــن الطعــام (علــا أنــه ال
املســوس).
ّ مشــكلة لــدي مــع
يف نهايــة املســاء وحــن يتلطــف الجــو يخــرج ســكان قرطبــة للتجــول
والتنزه يف أزقة وساحات املدينة القدمية ،ويجلسون يف أفنية املنازل
مــن أجــل تنــاول عشــاء خفيــف عــى رقصــات وأنغــام الفالمينكــو ،تحيــط
بهــم األزهــار والــورود املتدليــة مــن الرشفــات واملتســلقة عــر الجــدران،
أمــا أجمــل مــكان يصلــح للتمــي قبيــل وقــت العشــاء أو بعــده فهــو قنطــرة
الــوادي الكبــر ،أيــن تنعشــك النســائم التــي يحملهــا الــوادي وتتذكــر وأنــت
املولــع واملوجــوع مبــا مــى مــن تاريــخ األندلــس أن عــى هــذه القنطــرة
أيضــا كان يتمــى صاحــب رائعــة طــوق الحاممــة ابــن حــزم وصاحــب
كتــاب تهافــت التهافــت ابــن رشــد ومستشــار صــاح الديــن األيــويب
صاحــب كتــاب دليــل الحائريــن الطبيــب والفيلســوف األندلــي مــوىس
بــن ميمــون وبعــض الســيارات أيضــا إىل وقــت قريــب قبــل أن يتــم منعهــا
مــن املــرور عــر الجــر..
93
غبار التاريخ العالق يف نافذة املستقبل
بعــد تجربــة األمــس تبــن أن فكــرة الذهــاب لزيــارة جامــع قرطبــة أكــر
جاذبيــة مــن فكــرة النــوم اللذيــذ الــذي ينتــاب املــرء يف صبــاح العطلــة..
عــى الســاعة التاســعة إال ربــع كنــت أســتعد مــن جديــد لدخــول جامــع
قرطبــة للمــرة الثانيــة واألخــرة يف هــذه الزيــارة األندلســية املمتعــة بعــد
أن غــادرت فــرايش قبــل نصــف ســاعة صبــاح يــوم الســبت 16ســبتمرب
.2017
94
ال شــك أن الكثري منا ولو تفاؤال ،يســعى الســرجاع ما فقدناه يف هذه
األرض .والجميــع مي ّنــي نفســه بحــق العــودة إليهــا وإقامــة دولــة اإلســام
املجيــدة يف هــذه الربــوع ،التــي تــرك فيهــا الوجــود الثقــايف العــريب
واإلســامي حضارة ال متحيها الســنون والقرون .لكن املشــكلة أننا نفتخر
بديننــا ونبينــا ورســالتنا أينــا كنــا وهــذا مطلــوب ومحمــود ،لكــن هــل يفتخــر
بنــا ديننــا ونبينــا ورســالتنا ونحــن عــى هــذه الصــورة مــن التخلــف والتفــرق؟
هــل ميكننــا تحريــر املحــراب بعــودة جحافلنــا إىل هنــا وانتصارنــا الحــريب
عــى الكفــار ،أم أن املحــراب ســيتحول طوعــا إىل ســكان قرطبــة مثــا
لــو انتــر اإلســام كرســالة إنســانية يعتنقهــا اإلســبان أو غريهــم بقناعــة
واقتنــاع؟ ثــم كيــف يقتنــع هــؤالء بجــدوى ورشف دعوانــا ،وأننــا ســنحمل
لهــم مجــدا أضاعــوه ،ونحــن ال تحملنــا إليهــم ســوى قــوارب متهالكــة ال تــكاد
تتحمــل حتــى أضعــف آمالنــا يف الوصــول إىل الضفــة األخــرى؟
كانــت هــذه األســئلة تــدور يف رأيس وأنــا أتأمــل رمــزا ســيظل موجــودا
لتذكرينــا ،بــأن طريــق العــودة ال نســلكه إال عــر التفــوق العلمــي والحضــاري
والصناعــي والثقــايف ،وأن باقــي األســباب التــي نتخذهــا عــدا ذلــك ،لــن
تخــرج عــن نطــاق العواطــف والتمنيــات ،التــي يبقــى أنهــا تعطينــا أحاســيس
جميلــة ،لكــن علينــا يف يــوم مــن األيــام أن نســتيقظ منهــا إن أردنــا فعــا
القيــام بــيء مفيــد للبرشيــة ،دون الحاجــة للتذكــر مبآثرنــا وأحقيتنــا
وبطوالتنــا املاضيــة .فالعــامل كــا يقــول الدكتــور النابلــي يصلــح للعيش
بالكفــر والعــدل ال باإلميــان والظلــم.
95
خرجــت مــن جامــع قرطبــة بعــد وداع أخــر وذهبــت لزيــارة أحــد
املتاحــف املعروفــة بعــد أن تــرددت يف زيارتــه يــوم أمــس ،عــى اعتبــار أنــه
مــكان رهيــب وقــاس ،وميكــن أن يفســد عــي أجــواء البهجــة واملتعــة التــي
أجدهــا يف قرطبــة .لكــن تشــجيع صديقــي الصحفــي فخــار ابراهيــم الــذي
ســبق لــه وأن زار هــذه األماكــن ،زاد يف كميــة الفضــول بداخــي ألدخــل
متحــف «محاكــم التفتيــش» وهــو متحــف ال يغريــك يشء بزيارتــه عــدا
رســم الدخــول ( 3يــورو) واســتغالل فرصــة الفــرة الصباحيــة املتبقيــة يل
يف قرطبــة قبــل مغادرتهــا مســاء نحــو إشــبيلية.
96
محارقهــا موقــدة يف أوروبــا إىل حــدود القــرن الثامــن عــر.
عدت أدراجي إىل الفندق وحزمت جميع أمتعتي التي كانت خفيفة
بعــض الــيء ،ووضعتهــا عنــد عامــل االســتقبال كالعــادة وخرجــت
للتســكع يف آخــر جولــة يل بقرطبــة.
97
الخدمــة ،إضافــة إىل الرتحيــب والتفهــم الــذي ســتجده لــدى أصحــاب
املطاعــم وقاعــات الشــاي حــن تطلــب منهــم اســتعامل بيــت الراحــة،
حيــث ســتجد بالداخــل دون شــك كل الراحــة والنظافــة املطلوبــة ولــو
كنــت عــى كــريس متحــرك.
ال أدري ملــا أردت أن اقتســم معكــم هــذه املعلومــة ،رمبــا ألننــي يف
كل مــرة ألتقــي فيهــا بعضــا مــن العاملــن يف مجــال الشــباب والرياضــة
يؤكــدون يل فعاليــة هــذه البطاقــة خــارج الوطــن ويتباهــون بصالحيتهــا
الدوليــة ،رغــم أن جميعهــم أكــدوا يل أنهــم مل يســتعملوها شــخصيا.
كان عــي أن أصــي قبــل الذهــاب إىل إشــبيلية ،لكنــي مل أجــد يف
خريطــة املدينــة مــا يشــر إىل وجــود مســجد أو مصــى يف ضواحيهــا.
دعــك مــن أنــك تتواجــد يف مدينــة تحتضــن أكــر مســجد يف العــامل
رك ذلــك لكنــه لــن ينفعــك يف هــذه الحالــة.
الغــريب ،قــد ي ـ ّ
98
كنــت قــد ملحــت غــر بعيــد عــن الفنــدق حديقــة صغــرة ال يرتادهــا
الكثــر مــن النــاس وفكــرت يف أنهــا ســتكون مناســبة إلقامــة الصــاة بعيــدا
عــن االزدحــام وحركــة الذهــاب واإليــاب.
دخلــت الحديقــة بحثــا عــن مــكان مناســب ،لكــن دهشــتي كانــت كبــرة
حــن وجــدت مبنــى صغــرا مربــع الشــكل وبــه مدخــل مقــوس ،اقرتبــت
مــن املبنــى فــإذا هــو مســجد صغــر وبــه قاعــة للوضــوء وأخــرى للصــاة.
كانــت املفاجــأة ســارة جــدا يل ،خاصــة وأن اإلمــام املغــريب الشــاب
أخــرين أنــه تأخــر اليــوم فقــط ،ويف العــادة فاملســجد مغلــق يف هــذا
الوقــت بعــد صــاة الظهــر .فــأي صدفــة أحســن مــن هــذه؟
أقمــت الصــاة وجلســت مــع اإلمــام للدردشــة قليــا ،قبــل أن يلتحــق
بنــا رجــل ثالــث يبــدو أنــه مغــريب أيضــا ،وانطلقنــا يف حديــث حميــم
ومتشــعب حــول إســبانيا واملغــرب والجزائــر ومســتقبل اإلســام يف أوروبــا
كأي مواطنــن عــرب وأشــقاء ال تنهــار بيننــا الحــدود السياســية والرتابيــة إال
حــن نكــون خــارج بلداننــا األصليــة.
عرفــت مــن الرجــل املغــريب والــذي كان أكربنــا ســنا أن هــذه الحديقــة
كانــت ثكنــة عســكرية تــم تحويلهــا إىل حديقــة عموميــة منــذ ســنوات،
وأن هــذا املســجد كان مخصصــا لجنــود الفيلــق املغــريب أو مــا يعــرف
بفرقــة «الريغوالريــس» وهــم جنــود مغاربــة خدمــوا يف صفــوف الجيــش
اإلســباين يف الريــف املحتــل أوال قبــل أن يتحولــوا إىل جنــود الصفــوة
والقــوة الضاربــة التــي اســتعملها فرانكــو يف الحــرب األهليــة اإلســبانية
لســحق خصومــه مــن الجمهوريــن.
99
بعــد تحويــل الثكنــة إىل حديقــة تــم اســرجاع هــذا املصــى مــن قبــل
الجاليــة اإلســامية بقرطبــة إلقامــة شــعائر الصــاة.
100
تحت سامء إشبيلية ..بُعد واقرتاب
اكتشــفت فــورا أننــي ارتكبــت خطــأ كبــرا عنــد الحجــز ،ألن الفنــدق أو
باألحــرى الشــقة التــي اكرتيتهــا تبعــد عــن املدينــة بخمســة كيلومــرات
كاملــة .صحيــح أننــي طلبــت مــن صاحــب الوكالــة الســياحية يف جويليــة
املايض أن يحجز يل يف الفنادق التي تكون قريبة من املدينة القدمية
حتــى يكــون األمــر ســهال للتنقــل والتجــول يف املواقــع التاريخيــة الرئيســية،
لكنــي ال أدري كيــف قبلــت عرضــه بــأن أكــري شــقة مــن غرفتــن بســعر
101
غرفــة صغــرة يف نــزل ،مــع أننــي ال أحتــاج إال لرسيــر للنــوم ،لــن أعــرف حتــى
لــون أغطيتــه حــن أرمتــي فوقــه آخــر اليــوم.
اســتغرق منــي الوقــت ســاعتني كاملتــن مــن التنقــل مشــيا وعــر مــرو
األنفــاق قبــل أن أقــف أمــام بــاب الفنــدق الــذي انفتــح بابــه الزجاجــي
أمامــي عنــد وصــويل ،ألجــد شــابا يف االســتقبال يبــدو أنــه طالــب جامعــي
ويعمــل هنــا يف أوقــات فراغــه.
البنــاء الضخــم عبــارة مــن مجموعــة مــن الشــقق ،ومبنــي عــى طريقــة
البنــاءات الجاهــزة التــي ميكــن إنشــاؤها وتفكيكهــا بســهولة عنــد الحاجــة.
وجــدت بانتظــاري غرفتــان ومطبــخ بكامــل تجهيزاتــه ،وحامم واســع وموقف
ســيارات مجــاين ،وهــدوء تــام داخــل وخــارج الفنــدق .باختصــار ،كل مــا ال
أحتاجــه يف عطلتــي ســيتوفر يل يف هذيــن اليومــن بإشــبيلية.
102
رب النعــاس إىل جفــوين ،حتــى اســتيقظ يف اليــوم املــوايل
اســتعجل تـ ّ
للذهــاب إىل مدينــة إشــبيلية مــن جديــد.
توجهــت إىل ســاحة إســبانيا الشــهرية ،هــذا املعلــم الــذي بنــي ســنة
1929مبناســبة املعــرض الــدويل الــذي ربــط بــن شــبه الجزيــرة اإليبرييــة
وأمريــكا اإلســبانية .إنهــا ســاحة ضخمــة يحيــط بهــا بنــاء نصــف دائــري وفيــه
اصطفــت مقاعــد مــن املرمــر عددهــا مثانيــة وأربعــون مقعــدا بعــدد
املقاطعــات اإلســبانية وفــوق كل مقعــد لوحــة ترمــز ألهــم حــدث تاريخــي
وقــع يف عاصمــة املقاطعــة ،غنــي عــن الذكــر أن مثــا أن مقاطعــة غرناطــة
وضــع يف مقعدهــا صــورة تســليم مفاتيحهــا الشــهرية ،والتــي تجمــع أبــو
عبــد اللــه الصغــر رفقــة امللــكان فرينانــدو وإيزابيــا.
أخــذت كامــل وقتــي للوقــوف أمــام كل لوحــة كــا يفعــل كبــار املهتمــن
بالفــن ،ثــم غــادرت الســاحة متجهــا نحــو آلــكازار أو قــر إشــبيلية الشــهري
والــذي يقــع بالقــرب مــن كاتدرائيــة إشــبيلية ،األكــر مــن نوعهــا يف إســبانيا
ومــن بــن أكــر الكاتدرائيــات يف العــامل .كان الطابــور الــذي ينتظــر أمــام
مدخــل القــر طويــا ومشــكال مــن أفــواج طويلــة مــن الســياح ،لكــن
الجميــع يحــرم مكانــه يف الصــف وهــو أمــر يخفــف عنــك عنــاء االنتظــار
الطويــل ويطمــن عقليتــك املتشــككة بــأن ال أحــد ســيأخذ دورك ألن
103
اليشء يدمــر نظــام الطابــور كانعــدام الثقــة.
104
باســم «القــرن الذهبــي» يف التاريــخ اإلســباين.
القــر الــذي بنــي بعــد ســقوط املدينــة يف يــد ملــك قشــتالة يعــج
بالزخــارف اإلســامية والنقــوش العربيــة ،ألن البنائــن مــرة أخــرى كانــوا
مــن املوريســكيني الذيــن تركــوا بصامتهــم يف القــر ،وكان ذلــك الطــراز
أجمــل مــا توصلــت إليــه هندســة ذلــك الزمــن.
خــروج الســياح مــن هــذا املعلــم الســياحي الفريــد يكــون مــن بــاب آخــر
لتفــادي االزدحــام ومبــارشة بعــد خروجــي توجهــت مــرة أخــرى إىل ســاحة
إســبانيا نصــف الدائريــة ومنهــا دخلــت حديقــة مــاري لويــز العظيمــة التــي
تشــبه حقــا حديقــة تجاربنــا هــذه املــرة ،ووجدتهــا عامــرة بالســياح وســكان
املدينــة معــا ،خاصــة يف يــوم إجــازة كهــذا.
105
خريطــة هاتفــي النقــال ليلــة أمــس حــن كنــت أخطــط لربنامــج اليــوم.
106
املدينــة املرشفــن عــى أنشــطة املســجد،أحدهم إســباين مســلم منــذ
ســنة 2007وآخــر أكــر ســنا مــن مدينــة تطــوان والثالــث شــاب مغــريب
أيضــا يســكن إشــبيلية ويبــدو أنــه مــن طلبــة العلــم .ال أدري إن كان طبــق
اللحــم املم ـ ّرق الــذي دعــوين إليــه شــهي جــدا ،أو أن اشــتياقي للمــرق
جعلنــي أســتل ّذ الطبــق ،لكــن الغــذاء كان مــن أحســن مــا تناولــت منــذ
غــادرت وهــران قبــل أســبوع.
أخــرين الجامعــة أنهــم كانــوا يكــرون املحــل مببلــغ ســتامئة يــورو شــهريا،
وأنهــم كانــوا يجــد ّدون اإليجــار يف كل مــرة ويجــدون صعوبــة يف توفــر
املبلــغ .إىل أن جــاء فريديريــك كانــويت الالعــب الــدويل املــايل إىل
فريــق بيتيــس إشــبيلية وكان مــن املواظبــن عــى الصــاة هنــا ،وهــو الــذي
اشــرى هــذا املحــل مــن حــر مالــه ووقفــه للمســلمني منــذ ذلــك الوقــت.
107
معلــم يف املدينــة يقصــده الــزوار مــن كل حــدب وصــوب .وقفــت لبعــض
اللحظــات متمعنــا يف ماكُتــب ،لكــن ومبــا أننــي أزور املدينــة ألول مــرة فــا
يجــب أن أمــر عــى مــكان كهــذا دون دخولــه ،ثــم إننــي ال أســتطيع أن أزور
الكاتدرائيــة دون أن أصعــد لقمــة املئذنــة وأشــاهد بداخلهــا ذلــك املمــر
املرصــوف الــذي كان املــؤذن يصعــده عــى ظهــر دابتــه لنــداء اآلذان.
لذلــك كان قــراري غــر قابــا للنقــض بإخــراج ورقــة العرشيــن يــورو مــن
جيبــي ونســأل اللــه التعويــض فاملــرء ال يخــر أبــدا عنــد أول تجربــة كــا
يقــال.
أكــر يشء يخطــف األبصــار داخــل الكاتدرائيــة هــو لوحــة مجســمة مــن
حيــاة املســيح (يف ديانــة املســيحيني) مصنوعــة مــن الذهــب الخالــص
بطــول أربعــن مــرا ،وضعوهــا داخــل قفــص حديــدي ضخــم (يبــدو أنهــا
تختــزن كميــة كبــرة مــن ذهــب األمريكيتــن الــذي اســتحوذ عليــه اإلســبان
يف بدايــة غزوهــم للعــامل الجديــد) وغــر بعيــد عــن اللوحــة يرقــد جثــان
مهنــدس هــذه الرحلــة كريســتوف كولومبــس تحــت نفــس الســقف .أتذكــر
أن أول مرة ســمعت فيها بهذا االســم كان يف ســنتي اإلبتدائية السادســة
مــن خــال رســوم متحركــة تتحــدث عــن هــذا الشــاب الجنــوي املغامــر
الــذي انطلــق بســفنه نحــو الهنــد ليكتشــف أمريــكا بالخطــأ يف نفــس ســنة
ســقوط غرناطــة ،وأتذكــر أننــي منــذ ذلــك الوقــت مل أكــن أتعاطــف كثــرا
مــع هــذا املكتشــف ،الــذي رافقــه يف الرســوم املتحركــة بحــار عــريب اســمه
مــوىس الريّــاش ،وال أعــرف إن كان يف ذلــك جــز ًءا مــن الحقيقــة ،علــا أن
الكثــر مــن الشــواهد اليــوم تؤكــد أن أقوامــا كثــرة ومنهــم العــرب قــد وصلــوا
108
إىل أمريــكا قبــل مجــيء الــي كولومبــس هــذا.
أجمــل منظــر ميكــن للمــرء أن يــراه ملدينــة إشــبيلية القدميــة هــو مــن
عــى هــذا الــرج ،والــذي ســمي بالجريالــدا نســبة للتمثــال املنتصــب يف
األعــى والــذي يــدور مــع حركــة الريــاح منــذ 1568واســمه الخريالديــو أو
دوارة الريــاح.
مــن عــى قمــة بــرج الخريالــدا أمكننــي رؤيــة أســطح منــازل إشــبيلية وقــد
تحولــت بعضهــا إىل مســابح وحدائــق ومطاعــم راقيــة كــا رأيــت أجراســا
ضخمــة منتصبــة يف أعــاه يصعــب التصديــق واإلقــرار أنهــا تعتــي مئذنــة
يف األســاس.
109
والتمتــع برؤيــة مزيــد مــن املناظــر يف األســفل قبــل الخــروج مــن املبنــى
والعــودة إىل شــوارع إشــبيلية العامــرة يف املســاء.
ال أعــرف ملــاذا أحجمــت عــن الدخــول إىل بــرج الذهــب الــذي ينتصــب
كربج شامخ عىل ضفة نهر الوادي الكبري ،ويشكل رفقة الجريالدا ثنائية
أيقونــة إشــبيلية لــكل األوقــات .واكتفيــت بالذهــاب ملحطــة حافــات
صغــرة غــر بعيــد عــن ســاحة إســبانيا لــراء تذكــرة الذهــاب غــدا إىل
مدينــة رنــدة يف مقاطعــة مالقــة.
110
إشبيلية وجه إسبانيا القديم ..والجديد أيضا
مل أنــس يف طريقــي أيضــا زيــارة واحـ ٍـد مــن أجمــل وأفخــم الفنــادق يف
إســبانيا ورمبــا يف العــامل كلــه; فنــدق ألفونســو الســادس الــذي بُنــي
يف العرشينــات عــى الطــراز النيوموديخــاري األندلــي ،والــذي يعتــر
111
جوهــرة املعــار يف زمانــه .ال داعــي للقــول أن الفنــادق هنــا مهــا كانــت
قيمتهــا فــإن قيمــة الداخــل إليهــا أكــر وأهــم ،ألنهــا يف النهايــة بنيــت مــن
أجلــه ،ولذلــك كان ولوجــي إىل الداخــل ســهال جــدا ودون أن يســألني
أحــد مــن أيــن جئــت وإىل أيــن تغــدو.
الــوادي الكبــر هــو اســم خامــس أطــول نهــر يف بــاد األندلــس ،وقمــة
مــوالي الحســن هــي أعــى قمــة جبليــة بشــبه الجزيــرة اإليبرييــة كلهــا ،فيــا
تعتــر قمــة املنصــور أعــى القمــم يف وســط إســبانيا .التأثــر العــريب ظــل
112
يســكن املــاء والحجــر واالنســان والتاريــخ والجغرافيــا واللســان اإلســباين
رغــم كل األحــداث املأســاوية التــي عرفتهــا األندلــس لتطهــر هــذا
الوجــود العــريب واإلســامي .لقــد أرادت اإلمرباطوريــة اإلســبانية حاملــة
لــواء املســيحية يف العــامل أن متحــو هــذا الوجــود بأكــر الطــرق قســوة
ومأســاوية ،لكنهــا مل تنجــح إال مبقــدار مــا يجعــل األندلــس كمريــض
الزهاميــر ،الــذي يــرى نفســه يف املــرآة وال يعرفهــا ،بينــا يعرفــه اآلخــرون
فيســتمر موجــودا لديهــم باســمه وأصلــه ومكانتــه.
مثــل هــذه املناســبات الضخمــة ،تعطينــا فكــرة عــن الفــرص التــي ميكــن
أن نجنيها من تنظيم تظاهرات دولية ندعو إليها أناســا من خارج الوطن،
ال يك نثقــل كاهــل الخزينــة العموميــة مبزيــد مــن املصاريــف ،بــل مــن أجــل
113
أن نســتثمر كل ذلــك بحكمــة يف جلــب مزيــد مــن االســتثامرات واألربــاح.
وأتذكــر هنــا إجابــة أحــد األصدقــاء الــذي ســألته عــن التغيــر الــذي الحظــه
كمواطــن يف ع ـ ّز تظاهــرة عاصمــة الثقافــة اإلســامية بتلمســان حيــث
أخربين مازحا أن أهم ما تغري هو ســعر القميص الذي كان يقتنيه بألف
دينــار آنــذاك وأصبــح بعــد إقامــة التظاهــرة بألــف وخمســائة.
يف نهايــة املســاء ركبــت ميــرو األنفــاق عائــدا إىل حــي كامــاس يف
الضاحية الغربية للمدينة ،أين تتمىش مبفردك مبحاذاة الطرق الرسيعة
دون أن تصادف شــخصا واحدا .وصلت إىل فندقي واستســلمت لنوم
رسيع هذه املرة ،عىل أمل أن أســتيقظ مبكرا صباح اإلثنني 18ســبتمرب
2017للمغادرة يف حافلة الواحدة زواال نحو مقاطعة مالقة املجاورة.
حزمــت أمتعتــي ووضعتهــا عنــد موظــف االســتقبال قبــل أن أتوجــه خــارج
الفنــدق راجــا نحــو املســاحات التجاريــة الكــرى املحيطــة بــه ،أيــن تنتــر
محــات بيــع األثــاث والســراميك والســيارات واأللبســة وكل أنــواع الســلع
التــي تخطــر عــى بــال .زرت مــرة أخــرى املحــل الضخــم للــوازم الرياضيــة
(ديكاتلــون) لــراء بعــض املقتنيــات ،فمــن ُس ـ ّنة املســافر عندنــا أن
يعــود ببعــض الهدايــا مــن ســفره حتــى لــو كانــت نفــس املشــريات متوفــرة
بالجزائــر ،لكــن مجــرد حملهــا يف حقيبــة الســفر يعطــي لهــا نكهــة وطعــا
آخــر عنــد الوصــول ملســتحقيها يف أرض الوطــن.
أصبحــت اآلن مثقــا بثــاث حقائــب وقفــة صغــرة ،لكــن الحمولــة مل
تكــن تزيــد عــن املعقــول ،وكل املحتويــات كانــت مرتبــة بشــكل مناســب،
114
ورغــم أننــي أعــاين مــن أعــراض الفــوىض وســوء التنظيــم يف حيــايت
اليوميــة ،إال أن هــذه العطلــة كانــت فرصــة يل للتحــي بــيء مــن الجديــة
يف موضــوع ترتيــب األمتعــة.
قبــل الســفر إىل إســبانيا حاولــت أن أتعلــم بعضــا مــن مفــردات هــذه
اللغــة ،كــا قمــت بتحميــل عــدد مــن األرشطــة الوثائقيــة اإلســبانية يك
أدخــل يف أجــواء الســفر قبــل بدايتــه ،وطبعــا كان النصيــب األكــر مــن
التحضــر هــو قــراءة أكــر عــدد ممكــن مــن الكتــب حــول األندلــس ماضيــا
وحــارضا ،واكتشــفت مــن خــال ذلــك عديــد األشــياء التــي كنــت أجهلهــا،
ومنهــا أن املــدن الســياحية اإلســبانية املعروفــة ليســت الوحيــدة التــي
تغــري املســافر بزيارتهــا ،بــل إن هنــاك مجموعــة مــن البلــدات األندلســية
الصغــرة ليســت أقــل جــاال وإثــارة مــن الحــوارض الكــرى ،وميكــن أن
يقــي فيهــا الســائح أوقاتــا جميلــة.
عــدد كبــر مــن هــذه البلــدات أو القــرى البيضــاء (نســبة للــون األبيــض
الــذي يكســو منازلهــا) تتواجــد مبقاطعــة مالقــة أمــا أروعهــا عــى اإلطــاق
كــا بــدا يل فهــي :رن ــدة..
115
رندة ..العلو والعمق
قبــل ســت ســنوات مــن اآلن عملــت يف قســنطينة ضمــن فريــق إنتــاج
تلفزيــوين ،وكان معنــا مديــر تصويــر شــاب مــن إســبانيا .املصــور أعجــب
كثــرا باملدينــة وقــال يل أنهــا تشــبه بشــكل كبــر بلــدة صغــرة يف جنــوب
إســبانيا لكنــه نــي اســمها.
ـر اللــه
كنــت أتشــوق لزيــارة هــذه البلــدة يف يــوم مــن األيــام ،إىل أن يـ ّ
يل هــذه الرحلــة أيــن اكتشــفت قبــل الوصــول إىل بلــدة رنــدة أن هــذه
116
األخــرة هــي مســقط العــامل العــريب وصاحــب أول محاولــة طــران يف
التاريــخ عبــاس بــن فرنــاس ،كــا ينســب إليهــا الشــاعر أبــو البقــاء الرنــدي
صاحــب املرثيــة الشــهرية لألندلــس والتــي نحفــظ جميعــا أوىل أبياتهــا:
علــا أن أبــا البقــاء تــويف قبــل قرنــن مــن ســقوط رنــدة يف يــد فرنانــدو
وايزابيال ســنة 1485وأن القصيدة التي نظمها ويكاد ال يشــتهر بســواها،
جــاءت الســتنصار املرينيــن ضــد التوســع املســيحي يف الشــال ،بعــد
ســقوط قرطبــة وإشــبيلية (صحيــح أن مــن يقــرأ قصيدتــه بكاملهــا يظنهــا
تصــف مــا وقــع للمســلمني غــداة ســقوط غرناطــة بــل ونحــن مــن الهــوان مــا
يجعلهــا تصــف حالنــا اليــوم دون مبالغــة).
مثــن التذكــرة مــن إشــبيلية إىل رنــدة ال يتجــاوز 13يــورو ،والطريــق إليهــا
يعــر مناظــر طبيعيــة ال تخلــو مــن انتشــار منــازل املزارعــن هنــا وهنــاك،
مــع بعــض القــرى الصغــرة التــي تســتقر يف ســفوح الجبــال آمنــة مطمئنــة،
يأتيهــا رزقهــا رغــدا مــن األرايض املزروعــة املجــاورة.
117
وصلــت قبــل مغيــب الشــمس إىل رنــدة ،وكانــت محطــة الحافــات
صغــرة وتقــع تحــت بنايــة ســكنية مــن خمــس طوابــق رمبــا كانــت األعــى
يف كل البلــدة .توجهــت مبــارشة إىل الفنــدق لوضــع األمتعــة وخرجــت
يف جولــة صغــرة يف الجــوار.
تنــام البلــدة كــا يبــدو باكــرا جــدا (بالنســبة ملوقــع ســياحي) ووجــدت
نفــي بعــد مــرور زمــن مل أدري كيــف مــر برسعــة ،أين شــبه وحيــد أتجــول
يف قريــة حــان األوان أن أطــرق بــاب أحــد مطاعمهــا مــن أجــل تنــاول وجبــة
العشــاء .مل تكــن املســافة بعيــدة بــن الفنــدق ووســط املدينــة ومطعــم
الحــال الــذي توجهــت إليــه اللتهــام بســطيلة مغربيــة شــهية قدمتهــا
يل صاحبــة املطعــم التــي كانــت تعمــل رفقــة زوجهــا الباكســتاين ،وكان
118
أوالدهــا يلعبــون يف أرجــاء املطعــم املتواضــع .ارتحــت كثــرا لهــذا
الوضع شــبه العائيل ،بعد معانايت كســائح مترشد يف إشــبيلية ،بســبب
بعــد املســافة وتعــب التنقــل.
119
قاعــة املطعــم كانــت ضيقــة جــدا ال تحــوى ســوى أربــع طــاوالت صغــرة
مــن األثــاث العتيــق وبجوارهــا كان هنــاك مطبــخ صغــر وجــدت نفــي
مضطــرا لدخولــه وتحضــر فطــوري بنفــي ،بعــد تأخــر صاحــب النــزل عــن
املجيــئ ،كــا قمــت بتقديــم املســاعدة لبعــض النــزالء مــن األمريــكان
(مــن كبــار الســن) ظنــوا أننــي املكلــف بهــذه املهمــة ،ومل أمانــع يف
تقمــص الــدور لبعــض الوقــت.
120
املهمــة ،يف مفرتقــات الطــرق أو يف الحدائــق العامــة ،منتصبــة فــوق
منصــات عاليــة .لكنهــم يضعــون بعــض التامثيــل أيضــا لشــخصيات
معــارصة قــد تجدهــا واقفــة بجانبــك يف ســاحة عامــة (الحظــت ذلــك
يف أملريــة أيضــا) أو تتفاجــئ بجلوســها عــى مقعــد يف وســط حديقــة
عموميــة إمعانــا يف جعلهــا أقــرب إىل النــاس ومــن تلــك التامثيــل مجســم
لشخصية أندلسية معارصة شهرية جدا يف هذه الربوع ،وتحمل اسمها
العديــد مــن الســاحات والشــوارع عــر املــدن األندلســية التــي زرتهــا ،وقــد
وجــدت متثالــه واقفــا كــا يقــف الراجلــون واملتجولــون يف ســاحة البلديــة
برنــدة .إنــه الشــهيد بــاس إينفانتــي.
أصيل بلدة قرشيش مبقاطعة مالقة ناضل طيلة بداية القرن العرشين
يف جــو مشــحون بالتقلبــات السياســية واإليديولوجيــة يف إســبانيا مــن
أجــل قوميــة أندلســية متصالحــة مــع جذورهــا اإلســامية وهويتهــا العربيــة،
وكان هــو مــن اقــرح العلــم األندلــي الحــايل الــذي يتكــون مــن حاشــيتان
121
خــراوان تتوســطهام حاشــية بيضــاء ،اســتوحاه مــن رايــة املوحديــن التــي
تــم رفعهــا فــوق مئذنــة إشــبيلية بعــد انتصارهــم يف معركــة األرك.
122
رغــم أن هنــاك عديــد األحــداث والشــخصيات الجديــرة باإلطــاع ولــو
بشــكل ســطحي ،ليــس أولهــا ثــورة جبــال البشــارات نهايــة القــرن الســادس
عــر مــن طــرف املوريســكيني (روايــة البــرات نبضــة األندلــس األخــرة
إلبراهيــم أحمــد عيــى مــن أحســن مــا كتــب يف هــذا املوضــوع بشــكل
روايئ) وليــس آخرهــا اســتحواذ الجــرال فرانكــو عــى مقاليــد األمــور
يف إســبانيا بعــد انتصــاره بفضــل جيــش مــن املغاربــة املســلمني أو
الريغوالريــس (جلّهــم مــن الريــف اإلســباين آنــذاك) والذيــن ســاهموا مــرة
أخــرى يف النيــل مــن صــورة املوريســي لــدى املخيلــة الشــعبية اإلســبانية
وكل هــذه األحــداث جديــرة باالطــاع واالهتــام ملعرفــة كثــر مــن األمــور
املعــارصة.
كان أمامــي نصــف يــوم ملشــاهدة أهــم معــامل رنــدة قبــل التوجــه مســاء
إىل مدينــة مالقــة ،وكان ذلــك وقتــا كافيــا جــدا ..أمــا أول معلــم قمــت
بزيارتــه فهــو حاممــات املدينــة املوروثــة مــن العهــد اإلســامي والتــي تتميــز
بأنهــا الوحيــدة يف بــاد األندلــس التــي حافظــت عــى شــكلها القديــم
وكل مكوناتهــا الهندســية والهيدروليكيــة..
123
وداعا رندة ..أهال مالقة
تقــع الحاممــات العربيــة برنــدة يف الجــزء القديــم مــن املدينــة ،بالقــرب مــن
القنطــرة العربيــة األوىل التــي ال تــزال عــى حالهــا اليــوم .جديــر بالذكــر أن مــا
تركــه العــرب هنــا مــن آثــار الزال صامــدا رغــم مـ ّر الســنني .ورغــم أننــا ورثنــا (نحــن
» والــذي الجزائريــون) مــن املســتعمر الفرنــي تعبــر
يقرتن يف مخيلتنا بالكســل وســوء اإلتقان وانعدام اللمســة الفنية ،إال أن
العمــل العــريب يف إســبانيا عكــس ذلــك متامــا ،فــكل مــا تركــه املســلمون
هنــاك يتميــز بالصالبــة والدقــة والحــس الفنــي .وذلــك مــا يشــعرك بالفخــر
واالعتــزاز يف كل مــرة تشــاهد فيهــا اآلثــار اإلســامية الباقيــة هنــا ،مــع
االعــراف أيضــا مبجهــودات اإلســبان الكبــرة يف الحفــاظ عــى هــذه اآلثــار
وترميامتهــم املوفقــة للعديــد منهــا بتعــاون وتنســيق كبــر مــع الحرفيــن
املغاربــة ،ولــو لــدواع ســياحية رصفــة أحيانــا.
124
إســبانيا كلهــا ،وال يتجــاوز رســم الدخــول إليهــا أربعــة يوروهــات ،وهــو مبلــغ
معقــول نســبيا .أمــا مــن الناحيــة األثريــة فتــكاد تكــون أكــر أهميــة مــن حلبــة
مصارعــة الثــران والجــر الجديــد الــذي يربــط الجــزء القديــم مــن املدينــة
بالجــزء الحديــث ،وهــي معلــم مميــز جــدا للوجــود اإلســامي يف األندلــس
عمومــا ورنــدة عــى وجــه الخصــوص.
125
بعد الحاممات واصلت طريقي ناحية املدينة القدمية حيث الزالت
البلــدة تحتفــظ بجــزء مــن أســوارها وإحــدى بواباتهــا العربيــة التــي تحيــط بها
أبــراج الحراســة .مل يكــن املنظــر غريبــا جــدا عــى مــن نشــأ مثــي يف بلــدة
بــن يزقــن التــي الزالــت تحتفــظ بســورها كامــا بأبوابــه وأبــراج حراســته ،لكــن
مــن املؤســف أن مثــل هــذه اآلثــار يف بلدنــا ال تلقــى االهتــام الــكايف،
ورمبــا ألن صاحــب املنــزل ال ينتبــه لجــال وقيمــة مــا ميلكــه إال إذا نبهــه
الضيــف إىل ذلــك ،لكــن مــا العمــل ولســان حــال بعــض املســؤولني عــن
االســتضافة يقــول «مدخــول بابــور النفــط خــر مــن مداخيــل بابــورات
الســياح».
يف رنــدة عليــك أن تــزور أيضــا قــر امللــك العــريب (قــر يطــل عــى
أخــدود رنــدة الــذي نــراه يف كل صورهــا) مــع أن القــر ال يكتنــز حاليــا
مــن تاريــخ العــرب ســوى بــرج محفــور داخــل الصخــر ويهبــط إىل أســفل
األخــدود ،كان يســتعمل قدميــا لجلــب امليــاه وللمراقبــة العســكرية أيضــا
املثــر أنــه يف مدخــل الــرج علقــت الفتــة كتــب عليهــا بعربيــة خالصــة
«وجعلنــا مــن املــاء كل يشء حيــا».
نزلــت داخــل الــرج عــر أدراج ضيقــة ،ووســط جــو يبعــث عــى
القشــعريرة ،بســبب قطــرات امليــاه التــي تســيل مــن كل مــكان ،محدثــة
أصواتــا يــردد صداهــا داخــل املبنــى ،إىل أن وصلــت إىل أســفل
األخــدود وأمكننــي رؤيــة املنــازل البيضــاء للبلــدة تســرخي تحــت أشــعة
الشــمس يف األعــى .رحلــة صعــود الــرج مل تكــن أقــل إرهاقــا ،ولكنهــا
126
رضوريــة ملواصلــة استكشــاف جوانــب البلــدة الظاهــرة منهــا والخفيــة.
كان فضــويل كبــرا للهبــوط تحــت الجــر الجديــد ()nuevo ponte
ورحــت أتتبــع خــط ســر مجموعــة مــن الســياح الشــباب راحــوا ينزلــون
أســفل الجــر ملشــاهدة الشــاالت وجريــان امليــاه يف أســفل الــوادي.
مــا أثــار انتباهــي يف قــاع األخــدود هــو خل ـ ّوه مــن األوســاخ والروائــح ،وقــد
أحســن اإلســبان بحاميــة هــذا املــكان مــن امليــاه املســتعملة للمنــازل،
التــي كان مــن الســهل أن يتــم التخلــص منهــا يف هــذا الــوادي،أو كــا
يجــري األمــر يف مدينــة الصخــر العتيــق عندنــا.
لحســن الحــظ أو لســوءه (ال أدري بعــد) يعجــز عقلــك كجزائــري بســيط
أن يتوقــف عــن التفكــر واملقارنــة بــن البلديــن بصفــة عامــة وبــن رنــدة
وقســنطينة بصفــة خاصــة ،وكيــف أن اللــه منحنــا واحــدة مــن أجمــل مــدن
العــامل يف الــرق الجزائــري ،لكننــا ضيعناهــا بأنانيتنــا وحســنا البيئــي
والجــايل املنعــدم .بينــا ينعــم الســواح هنــا بأجمــل إطاللــة مــن ارتفــاع
شــاهق وهــم يجلســون يف هــدوء واطمئنــان عــر املطاعــم املنتــرة فــوق
صخرتهــم التــي أجــادوا الحفــاظ عليهــا واكتملــت بفضلهــم لوحــة بلدتهــم
الجميلــة امللهمــة لــكل زائــر رآهــا أو قــرأ عنهــا.
عــدد الســياح هنــا كبــر جــدا وهــم يتدفقــون كل يــوم عــى رنــدة قادمــن
إليهــا مــن شــاطئ الشــمس الشــهري (ال يبعــد عــن هنــا إال بأقــل مــن مائــة
كيلومــر) والــذي تنتــر بــه مــدن تورميولينــوس وماربيــا وفوانخــروال ونريخا
وهــي مــدن ســياحية ضخمــة تعــج باملصطافــن الباحثــن عــن املتعــة
127
واالســتجامم والذيــن ال ميانعــون أحيانــا يف أخــذ جولــة إىل املرتفعــات
األندلســية التاريخيــة قبــل النــزول إىل الشــاطئ يك يعيشــوا ويبــددوا
حارضهــم مــرة أخــرى.
ســاعة ونصــف كانــت املــدة التــي قطعتهــا الحافلــة مــن رنــدة إىل مالقــة
(ســادس محطة يل يف الرحلة وللمصادفة أيضا ســادس مدينة إســبانية
مــن حيــث األهميــة وعــدد الســكان) وقــد قمــت باســتغالل نصــف هــذه
املــدة يف أخــذ إغفــاءة رضوريــة .خاصــة بعــد أن أصبحــت املناظــر التــي
أراهــا مــن نوافــذ الحافــات متشــابهة ،وال مانــع مــن أن أمــر عليهــا بجفــون
مطبقــة.
ذهبــت مبــارشة إىل فندقــي الصغــر ومل يكــن يبعــد كثــرا عــن محطــة
128
الحافالت ،وضعت أمتعتي وألقيت نظرة صغرية عىل الغرفة وشــكلها،
مــن املؤكــد أننــي لــن أراهــا كثــرا ألين ســأخرج بعــد قليــل لتنــاول العشــاء
ثــم أعــود إليهــا للنــوم ألغادرهــا صباحــا نحــو الهوســتيل ،الــذي حجــزت بــه
ثــاث ليــال إضافيــة.
مل أغامــر كثــرا بالتجــول ليــا يف عاصمــة ســاحل الشــمس وأنــا مل
أرهــا تحــت الشــمس بعــد ،وقضيــت وقتــا أطــول عــى طاولــة املطعــم
أدردش مــع شــقيقي عــر الفايــر ونعقــد املقارنــات بــن إســبانيا وفرنســا
التــي يســتقر بهــا منــذ ســنوات .يبــدو أن الثانيــة أغــى وأصعــب مــن
الناحيــة املعيشــية لكــن الفرصــة متوفــرة دومــا ملــن يحــب العمــل ويســعى
لالســتقرار وتطويــر الــذات وال يغريــه افتعــال املشــاكل واختــاق مــررات
الفشــل.
129
الــذي يجعــل أبنــاء الخليــج يف يــر مــن أمرهــم عنــد الســفر) أن عــرب
املــرق بحكــم بعــد املســافة يستشــعرون القــرب الوجــداين لألندلــس
أكــر مــن املغاربــة الذيــن ينتــرون بهــا بأعــداد كبــرة للعمــل وكســب لقمــة
العيــش أكــر مــن يشء آخــر.
130
متحف تحت سقف ..وآخر تحت السامء
مصنــع التبــغ القديــم يف مالقــة والــذي يعــود تاريــخ ازدهــاره إىل بدايــة
العرشينــات مــن القــرن املــايض ،كان ســيلقى نفــس املصــر الــذي تلقــاه
املصانــع القدميــة عندنــا وســط املدينــة ،لــوال أن إســبانيا بلــد ســياحي
عريــق (الثانيــة عامليــا بعــد فرنســا) وال يفوتهــا اســتغالل كل مــر مربــع
لجلــب مزيــد مــن الســياح (ومنهــم العبــد الضعيــف) وهكــذا كُتــب
للمصنــع القديــم حيــاة ثانيــة ،بعــد أن تحــول منــذ ســنة 2010إىل واحــد
مــن أهــم متاحــف الســيارات يف جنــوب أوروبــا.
131
وصلــت إىل املتحــف املذكــور بعــد عرشيــن دقيقــة مــن املــي
الصباحــي عــى كورنيــش املدينــة والــذي ال تفصلــه إال أمتــار قليلــة عــى
شــاطئ البحر .يف طريقي صادفت شــبابا وكهوال وأناســا من كل األعامر
ميارســون طقــوس رياضــة الركــض بــكل أريحيــة ومتعــة .ال أعــرف ملــاذا
أغبــط األوروبيــن عــى قدرتهــم يف جعــل شــاطئ البحــر متنفســا إضافيــا
ملدنهم عىل األفق املتوســطي الجميل ،ميارســون فيه ما يحلوا لهم من
أنشــطة وهوايــات .بينــا يكــون البحــر عندنــا ســببا إلغــاق املنافــذ نحــوه،
وحاميــة املواطــن مــن البحــر ،أو البحــر مــن املواطــن (مل نعــد نفهــم).
رســم الدخــول ال يتجــاوز تســعة يوروهــات ،وهــو مبلــغ معقــول ملــن يــزور
املتحــف ألول وآخــر مــرة ،ويــود اكتشــاف ســيارات البينتــي والفــراري
والجاغــوار واملرســيديس أمــام عينيــه وليــس عــر الشاشــات والصــور.
132
تقدمــك يف أرجــاء املتحــف ســتعجب كثــرا بفكــرة هــذا الــزواج الناجــح.
اســتغرقت منــي الجولــة ثــاث ســاعات عــى األقــل ،مل أشــعر مبرورهــا
إطالقــا ،وخرجــت مــن جديــد نحــو الشــارع ،متوجهــا إىل الفنــدق لحــزم
أمتعتــي واالنتقــال إىل الهوســتيل .يف الطريــق مــررت ببعــض املســاحات
الخــراء واملبلطــة عــى شــاطئ البحــر ،والتــي وضعــت فيهــا بعــض
اآلالت الرياضيــة ،املســاعدة عــى تقويــة العضــات والحفــاظ عــى لياقــة
الجســم .النــاس هنــا مهووســة ببعــض التفاصيــل التــي رصنــا ال نلقــي لهــا
بــاال يف حياتنــا اليوميــة يف بلدنــا ،بعــد أن أصبحنــا يف قبضــة آلــة روتينيــة
133
ضخمــة تطحــن أجســادنا ومعنوياتنــا يوميــا ،يك تجعــل منــا مجــرد غبــار،
ال ميلــك مــن أمــره شــيئا أمــام ريــاح الواقــع التــي تدفــع بــه نحــو كل اتجــاه.
134
الــيء ،لكنــي كنــت أم ّنــي النفــس بغرفــة مريحــة تزيــل عنــي التعــب عنــد
الوصــول.
بعــد نصــف ســاعة مــن املــي وصلــت إىل املــكان ،ووجــدت عنــد
االســتقبال امــرأة يبــدو أنهــا متــارس هــذا العمــل للمــرة األوىل ،حيــث
قبعــت أمــام شاشــة كمبيوترهــا لوقــت طويــل (بعــد أن أخــذت منــي جــواز
الســفر) وراحــت تكتــب ومتحــي وتبحــث وتســأل وتتعجــب ،قبــل أن
يــأيت أحــد الشــباب الــذي ال أعــرف مــن أيــن خــرج لتقديــم يــد املســاعدة
وإطــاق رساحــي نحــو غرفتــي.
مل يكــن الهوســتيل بتلــك الفخامــة والجــال الــذي يبــدو عليــه يف
الصــور ،صحيــح أنــه نظيــف لكنــه عتيــق وقديــم جــدا .دخلــت الغرفــة وكان
بابهــا خشــبيا مطليــا باللــون األبيــض وينفتــح بصعوبــة رميــت أمتعتــي عنــد
أول رسيــر وجلســت متأمــا الوضــع ،والــذي ذك ـ ّرين مبــارشة بإحــدى
الغــرف يف منــزل جــديت القديــم ،كانــوا يحبســوننا فيــه نحــن األطفــال يف
وقــت الظهــرة بدايــة التســعينيات ،حتــى نــرك الكبــار ينامــون يف هــدوء.
لحســن الحــظ وجــدت شــخصا يبــدو أنــه مــن أبنــاء قارتنــا العزيــزة يهــم
135
باملغــادرة ،فســألته باالنجليزيــة وأجابنــي باإلســبانية ،وحــن عرفــت
أنــه كامــروين ،أدركــت أننــا كنــا تحــت اســتعامر واحــد ،ورحنــا نتحــدث
بالفرنســية الفصيحــة املريحــة لكلينــا.
أخــرين أنــه يســكن مالقــا منــذ خمــس ســنوات فتعجبــت مــن ذلــك
واســتفرسته عــن ســبب وجــوده هنــا مــادام مــن ســكان املدينــة ،فقــال أنــه
يف الصيــف يعــرض منزلــه الصغــر للكــراء بصيغــة BNB AIRمقابــل
ثالثــن يــورو لليــوم الواحــد ،ويــأيت هنــا للمبيــت بخمســة عــر يــورو لليلــة،
فيوفــر مرصوفــا إضافيــا لنفســه .متنيــت لــه حظــا موفقــا وأثنيــت عــى هــذا
ـس الحاجــة إليــه يف قا ّرتنــا األم ،أمــا هــو
الــذكاء اإلفريقــي الــذي نحــن بأمـ ّ
فــكان لطيفــا وتــرك يل خزانتــه مــع القفــل الحديــدي ألوفّــر عــى نفــي
أربعــة يوروهــات مثينــة.
الرسيــر مل يكــن مريحــا عــى اإلطــاق ،وكان يُحــدث رصيــرا مزعجــا عنــد
أدىن حركــة لكنــي اخرتتــه بســبب املقبــس الكهربــايئ الــذي كان بجانبــه
(لشــحن بطاريــة الهاتــف الــذيك).
136
الديكــورات اللطيفــة املعلقــة عــى الجــدران واألســقف ،واملصنوعــة مــن
مــواد بســيطة جــدا كاألواين القدميــة واألســاك واألخشــاب والبالســتيك
واألوراق والزجــاج .لقــد اكتشــفت يف أوروبــا أن كل املــواد املحيطــة بنــا
ميكــن أن تكــون عجينــة لفكــرة مبدعــة تفتــح شــهيتنا لالنبهــار مبــا تــراه ،رشط
أن متنــح لذاتــك تــرف عنــاء التأمــل واالبتــكار.
عــدت إىل غرفتــي التــي يدخلهــا نــور ســاطع مــن خــال إحــدى النوافــذ
الزجاجيــة يف الســقف ،واســتلقيت عــى الرسيــر ألخــذ إغفــاءة صغــرة،
كانــت املروحــة الهوائيــة املوجــودة يف ركــن الغرفــة تــدور مينــة ويــرة
لتوزيــع الهــواء املنعــش ،وتصــدر لحنــا ذكــرين بلحــن قيلــوالت الصحــراء
يف طفولتــي ،مــا جعلنــي اســتغرق يف نــوم عميــق .
137
مالقة..حسناء األندلس
حيـن تكــون يف مدينــة س�اـحلية كاملق��ة فــإن أول عنــوان قــد تفكــر يف
زيارتــه ســيكون املينــاء دون شــك ،ولحســن الحــظ فــإن املرقــد الــذي
حجزــت ب�هـ ال يبع��د ع��ن مينــاء املدينــة إال مبقــدار مــا تبعــد ســاحة أول
مــاي عــن ســاحة الربيــد املركــزي بالعاصمــة الجزائريــة.
قبــل الوصــول إىل وجهتــي وجــدت شــارعا طويــا يفصــل بشــكل أفقــي
املدينــة عــن ميناءهــا ،وهــذا الشــارع عبــارة عــن صــف طويــل مــن األشــجار
والنخيــل والنباتــات التــي زرعــت بعنايــة يف املــكان ،لتوفــر ظــاال بــاردة
تلطــف األجــواء الحــارة بشــكل ملحــوظ .اإلســبان يولــون عنايــة فائقــة لتهيئــة
الحدائــق داخــل املــدن ،ومكانــة الشــجر عمومــا وشــجر النخيــل تحديــدا،
بــارزة يف كل املالمــح الحرضيــة يف اإلقليــم األندلــي.
مينــاء مالقــة واســع جــدا وفضــاء مفتــوح ،تنتــر بــه املحــات واملقاهــي
138
واملطاعــم ،كــا أنــه يضــم فضــاءات واســعة للراجلــن تســمح مبامرســة
هوايــات الركــض وســياقة الدراجــات والنزهــات املســائية.
139
مالبســهم وشــعرهم ونســتمتع برؤيتهــم يرصخــون أو يقاومــون بأيديهــم
الصغــرة ،بــل وتجــد أوليــا ًء يداعبــون أبنائهــم أو أبنــاء أصدقائهــم بكلــات
مثــل :ناموســة ،خانــزة ،حلــوف ،شــيطان ...الــخ وكل ذلــك يبــدو يل اآلن
شــيئا غريبــا ومقيتــا بعــد أن أتيحــت يل فرصــة املقارنــة واملفاضلــة.
توجهــت ليــا نحــو مجموعــة مــن مطاعــم الحــال التــي تقــع بالقــرب مــن
محطــة الحافــات الرئيســية للمدينــة وتناولــت بعــض الطعــام ،طبعــا بعــد
أن طلبــت مــن النــادل كلمــة الويفــي الرسيــة ،وهــو إجــراء أقــوم بــه أوال وقبــل
كل يشء عند جلويس يف أي مطعم بإسبانيا .أخذت وقتي يف تصفح
بعــض املواقــع التــي تــرح للســائح أهــم املعــامل واملواقــع الجديــرة
بالزيــارة يف املدينــة أو ضواحيهــا ،حيــث ومبجــرد أن تكتــب يف محــرك
البحــث :مــا الــذي ميكــن أن تفعلــه يف مالقــا ،أو 10نشــاطات يجــب أن
تقــوم بهــا يف مالقــة ،حتــى تتزاحــم يف واجهــة الصفحــة األوىل للقوقــل
املواقــع الســياحية التــي تجيبــك بالكتابــة والصــوت والصــورة والخريطــة
عــن أســئلة مــاذا وكيــف وأيــن وكــم الســعر وآراء املجربــن؟ لذلــك ال تتوقــع
140
أن يــركك اإلســبان ملصــرك تائهــا ،وهــم يســتقبلون ســنويا أكــر مــن
مثانــن مليــون ســائ ٍح مثلــك (تقريبــا ضعــف عــدد ســكان البلــد املقيمــن)
فاملقــة عاصمــة شــاطئ الشــمس ســتكلمك بــكل لغــات األرض حــن
تكلمه��ا بلغ��ة السـ�ائح دافـ�ع املـ�ال مقابـ�ل خدمـ�ات الراحـ�ة واالسـ�تجامم.
مدينــة مالقــة كانــت مــن أهــم الواجهــات البحريــة ململكــة غرناطــة يف
آخــر أيــام الوجــود اإلســامي بإســبانيا ،وعنــد ســقوطها ســنة 1487بعــد
حصــار مريــر ومعــارك رشســة ،رفــع العلــم الصليبــي عــى أســوارها ألول
مــرة منــذ بناءهــا يف القــرن الحــادي عــر ،وأصبــح الطريــق ممهــدا البتــاع
غرناطــة بعــد خمــس ســنوات مــن ذلــك.
141
تجولــت بداخــل حصــن القصبــة صعــودا ،ملــدة أكــر مــن ســاعة ،وهــو
مــن أمنــع الحصــون األندلســية التــي حافظــت عــى شــكلها الهنــديس
األول ،وأمكننــي مــن فــوق أســواره وأبراجــه إلقــاء أجمــل نظــرة عــى مينــاء
املدينــة وبواخــره الضخمــة الراســية ،ثــم واصلــت الصعــود نحــو حصــن
« »Gibrilfaroأو جبــل الفــارة ،وهــو حصــن إســامي قديــم يتصــل
بالقصبــة ،أســواره متينــة جــدا وبداخلــه معــرض جميــل ،ميكــن أن تشــاهد
بداخلــه مجموعــة مــن التحــف واألواين واألســلحة والخرائــط القدميــة،
ومجســات املدينــة اإلســامية يف عــر ملــوك الطوائــف.
بعــد خروجــي مــن القصبــة نزلــت مبــارشة إىل الســوق املركزيــة للمدينــة
وهــو ســوق قديــم مغطــى تــم ترميمــه وجعلــه مكانــا مفضــا لهــواة أكل
الســمك الطــازج بــكل أنواعــه ،ميكنــك يف الســوق أن تــرى أنواعــا وأشــكاال
وألوانــا مــن املنتجــات البحريــة ستشــب ُع عينــاك مــن رؤيتهــا قبــل أن
تســتقبل معدتك أدىن لقمة منها .جلســت يف أحد الطاوالت الصغرية
ذات الكــرايس الطويلــة لتنــاول طبــق بايــا شــهي ،وهــو أشــهر طبــق شــعبي
يف إســبانيا يتكون من قليل من األرز ،مع قطع من األســاك وما يســمى
بالفواكــه البحريــة.
142
ســبتمرب الدافئــة.
مل يكــن الشــاطئ مزدحــا كثــرا ،كان البعــض يقــرأ كتابــا والبعــض اآلخــر
مســتلقيا مستســلام ألشــعة الشــمس ،وطبعا مل أكن ألقيض عىل الرمل
وقتــا أكــر مــن الــذي أقضيــه يف البحــر ،وتوجهــت للغطــس مبــارشة يف
امليــاه ألســبح ســاعة كاملــة مــن الزمــن قبــل املغــادرة.
آخــر مــرة اســتطعت فهــا مشــاهدة العاصمــة الجزائريــة مــن البحــر كانــت
حــن غادرتهــا إىل مرســيليا قبــل خمــس ســنوات مــن اآلن ،ويــا للمفارقــة
143
الزلنــا نحتــاج إىل تأشــرة مــن بلــد أجنبــي ،يك تتــاح لنــا فرصــة رؤيــة عاصمــة
بلدنــا مــن البحــر.
أبحــر بنــا الربــان خــارج املينــاء ،وكانــت املدينــة تبتعــد عــن ناظرنــا شــيئا
فشــيئا ،بينــا تتوســع زاويــة رؤيتنــا لشــواطئها الرشقيــة والغربيــة .كان
املركــب مــن طابقــن ،وفيــه عــدد مــن املقاعــد الخشــبية التــي جلــس فيها
الســياح لتأمــل مشــهد غــروب الشــمس وجــال اللــون الربتقــايل ،الــذي
حـ ّول بُقــع الســحاب عــى صفحــة الســاء ،إىل لوحــة فنيــة طبيعيــة تزيــد
روعته��ا حـين تراه��ا وأن��ت ف��وق أموــاج البحرــ املتحرك��ة م��ن تحتـ�ك .دامــت
رحلتنــا ســاعة مــن الزمــن عــى أنغــام موســيقى العطــل واملــرح املنبعثــة
مــن املركــب ،قبــل أن نعــود وقــد اكتســبنا نفســا جديــدا مــن داخــل البحــر
ندخــل بــه إىل املدينــة بــكل ثقــة.
144
وصــورت بهاتفــي النقــال كل مــا وجدتــه مــن ملصقــات ومعلومــات معلقــة
داخــل املحطــة قبــل العــودة مجــددا لقضــاء الليلــة يف رسيــري املزعــج
برصيــره بعــد يــوم طويــل أراح النفــس وأتعــب الجســد ،فالعطلــة يف
النهايةــ ..ليس��ت بحثـ�ا عنــ راحــة جسـ�دية وفق��ط بقــدر مــا هــي ارتيــاح
نفــي يدركــه املــرء كلــا ابتعــد عــن معاملــه الروتينيــة..
145
ساحل الشمس ..مكان للعيش والتأمل
تعتــر ميخــاس مــن أجمــل القــرى التــي تجســد هــذا الجــال األندلــي
األصيل ،وهي املعلقة يف قمة مرتفع جبيل عىل علو أكرث من أربعامئة
146
مــر فــوق ســطح البحــر غــرب مالقــة .الطريــق إىل هــذه القريــة ميــر عــر
مــدن تورميولينــوس وبنيلمدينــة وفوانخــروال وهــي مــدن ســياحية كبــرة،
عرفــت توســعا ضخــا يف الخمســن ســنة األخــرة بعــد أن اســتقر بهــا
عــدد هائــل مــن األجانــب ،وخاصــة مــن متقاعــدي النصــف الشــايل مــن
القــارة العجــوز ،حيــث تجذبهــم أشــعة الشــمس الــودودة وتكلفــة املعيشــة
املنخفضــة إىل متضيــة مــا تبقــى لهــم مــن أعــار بهــذه الربــوع.
البلــدة كانــت موقعــا ســياحيا مثــرا ،تتميــز بنظافــة مثاليــة ،وكل شــيئ
كان فيهــا مهيئــا الســتقبال العــدد الــذي أفرغــه البــاص الــذي أوصلنــا إليهــا
وعــرات الباصــات التــي ميكــن أن تــأيت بعــده .أول محطــة يل كانــت
147
الديــوان الســياحي للبلــدة ،حيــث حصلــت عــى خريطــة بأهــم معاملهــا
الجديــرة بالزيــارة .خرجــت بعدهــا ألجــد عــددا مــن الحمــر املزينــة يف
انتظــار الســياح ،وهــي حمــر يركبــون عليهــا للتجــول الجامعــي فــوق
ظهورهــا رفقــة دليــل ســياحي .الحــار يف إســبانيا ال يقــل رمزيــة عــن الثــور
األســود ،فكالهــا أيقونــات مميــزة للعالمــة الســياحية اإلســبانية التــي يتــم
تســويقها يف العــامل ،إنهــا صناعــة متكاملــة األركان واملعــامل وال مــكان
فيهــا لالرتجــال واملناســباتية.
بداخــل قريــة ميخــاس شــوارع مزينــة بــكل أنــواع الــورود واألزهــار التــي
تبــدو لــك أنهــا زرعــت منــذ لحظــات ،كــا يخيــل إليــك أن منازلهــا قــد
طليــت للتــو .املنظــر أشــبه باســتوديو تصويــر تــم ضبــط إضاءتــه وديكوراتــه
بدقــة مــن أجــل إعطــاء صــورة فائقــة الجــال للســائح ،الــذي ســيحتفظ
دون شــك ولوقــت طويــل ،بوقــع هــذه الصــور يف ذاكرتــه الشــخصية أو
الذاكــرة االلكرتونيــة لهاتفــه أو آلــة تصويــره.
148
البيضــاء التــي تتســلق النباتــات الخــراء جدرانهــا ويغطــي القرميــد
األحمــر أســقفها تعكــس بحــق لــون العلــم األندلــي األبيــض واألخــر،
واللــون األحمــر أيضــا يف الرايــة اإلســبانية.
كان أمامــي متســع مــن الوقــت أيضــا لصعــود قمــة البلــدة ،وإلقــاء نظــرة
منهــا عــى كل املســاكن يف األســفل وكذلــك رؤيــة ســاحل البحــر يف
األفــق ولــو أن نســبة بخــار املــاء يف الجــو خصوصــا يف يــوم حــار كهــذا،
حالــت دون رؤيتــي لجبــل طــارق الــذي يقــال إنــك ميكــن أن تــراه مــن هــذا
املــكان (مل يتســنى يل التأكــد مــن ذلــك لكننــا يف الجزائــر نســتطيع مثــا
رؤية رأس بوقارون بســكيكدة من رأس كربون ببجاية يف األجواء الصافية
واملســافة بينهــا بعيــدة حقــا).
كنــت قــد راســلت املكتــب الســياحي إلقليــم جبــل طــارق قبــل ســفري،
أســألهم عــن إمكانيــة زيــاريت لهــذا املوقــع االســراتيجي الــذي يقــع تحــت
الســيادة الربيطانيــة منــذ .1713لكنهــم أجابــوين بعــد مثــان وأربعــن
ســاعة بإميايــل يشــكرونني فيــه عــى التفكــر يف الزيــارة ،ويدعــوين إىل
االتصــال بالجهــة املســؤولة عــن تســهيل مثــل هــذه املهمــة للســياح،
واملتمثلــة يف الســفارة الربيطانيــة بالجزائــر ،كــا أعربــوا يل مــرة أخــرى
عــن امتنانهــم لهــذه املبــادرة يف التفكــر بوضعهــم يف برنامــج رحلتــي
الســياحية (قتلــوين بالقــدر).
149
عليها إسبانيا يف الساحل املغريب املقابل ،وقد نظم أكرث من استفتاء
لعــودة الصخــرة إىل الحضــن اإلســباين لكــن يبــدو أن الســكان يقولــون «ال»
يف كل مــرة (آخرهــا ســنة )2003واملصوتــون بنعــم ال ميلئــون مقاعــد
كنيســة واحــدة ،كــا يعلــق بعــض اإلعالميــن اإلنجليــز تهكــا.
150
قضيــت فــرة القيلولــة يف شــاطئ املدينــة بــن ســباحة وتعــرض ألشــعة
الشــمس ،كان الشــاطئ من االتســاع مبا يجعلك تختار مكانا تجلس فيه
شــبه وحيــدا تتأمــل الســاء التــي يع ّكــر صفوهــا كل عــر دقائــق انطــاق
للطائــرات مــن مطــار مالقــة القريــب .لســت بحاجــة إىل عــداد لتعــرف
حجــم النشــاط الســياحي واالقتصــادي الــذي يتدفــق مــن وإىل هــذه
الحــارضة املتوســطية ،التــي عرفــت كيــف تجــذب (عــدا األعــداد الكبــرة
مــن الســياح املوســميني) جحافــل املتقاعديــن مــن كل مــكان ،يك توفــر
لهــم أجــواء حياتيــة مريحــة ،مقابــل االســتحواذ عــى معاشــاتهم.
151
مبالقــة كــا فهمــت مــن حوارهــم) ويبــدو أن الوحــدة العربيــة أقــرب
للتجســيد والتطويــر كلــا ابتعــدت عــن ســجنها الجغــرايف.
بــادرت الشــاب الســعودي بالحديــث وســألته عــن عملــه هنــا ،فقــال إنــه
مديــر املركــز اإلســامي التابــع لرابطــة العــامل اإلســامي والتــي تسـ ّـر أربــع
مســاجد يف إســبانيا ،أحدهــا مســجد الســلطان إبراهيــم يف جبــل طــارق.
ســألته باملناســبة عــن رس بنــاء املســجد الضخــم يف ذلــك اإلقليــم،
فقــال إنــه كبــر حقــا مقارنــة بعــدد املصلــن الذيــن ال ميلئــون صفــا واحــد
بداخلــه ،ولكــن يبــدو أن الســلطات هنــاك منحتهــم أرضــا فقامــوا بتشــييد
جامــع عليهــا حتــى ال تبقــى فارغــة .عــى كل منظــر املســجد بــاد للعيــان
يف كل الصــور التــي تلتقــط لصخــرة جبــل طــارق العظيمــة ،وهــو أيقونــة
مهمــة تذكــر العــامل عــى األقــل بهويــة الرجــل الــذي أعطــى اســمه للجبــل .
خرجــت مــن املطعــم راجعــا إىل املرقــد وســط املدينــة ،عــر طريــق
ألفــت شــوارعه وأضوائــه ومحالتــه املفتوحــة واملغلقــة ..اللحظــات
األخــرة مــن فــرة الســفر عــادة مــا يســتثقلها املــرء ويستســلم فيهــا إىل
الرغبــة يف العــودة بأقــى رسعــة مــن حيــث أىت ،كــا يفقــد فيهــا القــدرة
عــى التحفــز والتحمــس للمزيــد مــن التجــوال أو االســتمتاع ..مل يبــق
أمامــي يف اليــوم املــوايل ســوى االســتيقاظ الباكــر للتوجــه نحــو محطــة
الحافــات والعــودة إىل مالقــة عــر الســاحل الجنــويب إلســبانيا يف رحلــة
متعبــة دون شــك..
152
العودة..
153
عــر املحــات لــراء بعــض التحــف التذكاريــة ،وبعدهــا قصــدت محطــة
الحافــات لركــوب حافلتــي املتوجهــة إىل أملريــة ومثــن تذكرتهــا (18
يــورو).
154
أوقــات الدراســة وذلــك لتوفــر مصاريفهــا ومصاريــف الســفر كذلــك.
الســفر عنــد الغربيــن مهــم جــدا يف الحيــاة وهــم ال يرونــه مــن الكامليــات
غــر الرضوريــة ،بــل يعملــون ألجلــه طيلــة عــام كامــل ألنــه نافذتهــم عــى
اإلنســان ومدرســتهم التــي يتعلمــون ويكتشــفون فيهــا شــخصيتهم
وحقيقتهــم فالذهــاب عنــد اآلخــر هــو زيــارة صادقــة للــذات.
دخلــت حافلتنــا بعــد ســاعتني مــن الســر محطــة مدينــة موتريــل يك
نأخــذ قســطا مــن الراحــة ونتنــاول شــيئا مــن األكل ونقــي حوائجنــا
املختلفــة يف ظــرف نصــف ســاعة ،وهــذا التوقــف القانــوين يــري
عــى أغلــب الحافــات يف أوروبــا .التكييــف أثنــاء الرحلــة كان مناســبا
155
واملقعــد مريــح أيضــا .الحظــت أن كل الظــروف هنــا مســخرة وميــرة
لخدمــة اإلنســان وليــس العكــس ،وأن هــذا األخــر هــو مــن يصنــع ويضــع
نظامــه وليــس النظــام مــن يكبلــه طوعــا أو كرهــا.
واصلنــا ســرنا واقرتبنــا مــن مدينــة أملريــة بعــد أكــر مــن ثــاث ســاعات
ونصــف مــن الســر .كنــت أرى مــن نافــذيت أحيانــا أقفاصــا دائريــة كبــرة
داخــل البحــر لرتبيــة األســاك ،وعــى شــايل جبــال انتصبــت فوقهــا
مروحــات شــديدة العلــو تــدور مــع الريــاح لجنــي الطاقــة .لكــن ومــع اقرتابنــا
مــن مدينــة «اليخيــدو» املتاخمــة ألملريــة انتظــرت أن أرى مشــهدا لطاملــا
التقيــت بــه يف األرشطــة والوثائقيــات قبــل أن تتــاح يل الفرصــة ألراه
أمامــي .فهنــا أيــن ينتهــي شــاطئ البحــر املتوســط يبــدأ بحــر مــن نــوع آخــر
لكنــه بلــون أبيــض ومــن غــر أمــواج أو بواخــر .إنــه أكــر تجمــع يف العــامل
بــأرسه للبيــوت البالســتيكية التــي تــزرع فيهــا كل أنــواع الخــر والفواكــه.
هنــا ميكنــك مشــاهدة شــاحنات مــن كل األحجــام وغــرف تربيــد وخزانــات
ومســتودعات يف كل مكان .إنها مصنع ضخم يغذي أوروبا بأكملها يف
كل الفصــول (يشــتغل داخــل هــذه البيــوت البالســتيكية عــدد كبــر مــن
املهاجريــن األفارقــة واملغاربــة عــى الخصــوص يف ظــروف أقــل مــا يقــال
عنهــا أنهــا صعبــة وشــاقة).
هــذه هــي إســبانيا بعيــدا عــن ســطحية ألــوان أقمصــة الريــال والبارصــة،
إنهــا بلــد مجتهــد يف العمــل يســتثمر كل مــر مكعــب أو مربــع منــه ،يف
الســاء أو األرض أو املــاء لجنــي األربــاح وتحصيــل املداخيــل ،وهــو مــا
156
يجــب أن نتعلمــه نحــن الذيــن نســكن يف أكــر بلــد مطــل عــى املتوســط
وأكــر بلــد إفريقــي وعــريب وعــارش بلــد مــن حيــث املســاحة عامليــا (علــا
أن كل البلــدان التــي تفوقنــا مســاحة هــي دول كــرى بالــرورة مــا عــدا
كازاخســتان أو الربازيــل بتحفــظ).
كانــت املدينــة شــبه خاليــة مــن النــاس بســبب عطلــة نهايــة األســبوع
لكــن املحــات الكــرى مفتوحــة وفيهــا حركــة ال بــأس بهــا للبيــع والــراء.
اســتغليت وقــت املســاء يف رشاء بعــض املقتنيــات مبــا تبقــى يل مــن
قطــع نقديــة.
157
الهائــل مــن أعــوان وقــوات األمــن (التــي تشــعرك بعــدم األمــن مــن حيــث
تريــد أن تزيــد يف إحســاس املواطــن باألمــن) ويقابلــك بالداخــل مطعــم
ومصــى صغــر وقاعــة انتظــار نظيفــة وجميلــة ،تصعــد منهــا بعــد إجــراءات
خفيفــة (حتــى ال أقــول ســخيفة) إىل ســفينة تأخــذك إىل جنــوب ضفــة
هــذا البحــر.
عنــد دخــويل إىل املينــاء كان الهــدوء النســبي يعــم املــكان ،رمبــا ألن
شــهر ســبتمرب ليــس شــهر ذروة للمســافرين والحركــة والتنقــل .صليــت
املغــرب والعشــاء قــرا يف مصــى صغــر ميكنــك أن تقصــده حتــى
وأنــت مقيــم يف وســط املدينــة (لقــرب املســافة ويــر الدخــول) ثــم
توجهــت لقاعــة االنتظــار.
158
واألخــرى تتجــه إىل وهــران .مــرت الســاعة مــن التاســعة إىل العــارشة ببطــئ
شــديد قبــل أن يتــم فتــح أبــواب الســفينة للراجلــن مثــي ،ودخلنــا لنأخــذ
أماكننــا يف مقاعــد الســفينة ،حيــث اســتلقيت فــوق أربــع منهــا واتخــذت
منهــا شــبه رسيــر ،لعلّــه يصيبنــي فوقــه شــبه نــوم أو نعــاس.
كان عــدد املطلّــن مــن جــر الســفينة قليــا ،ورمبــا كنــت الوحيــد
مــن بينهــم الــذي لــن أعــود إىل هنــا قبــل وقــت طويــل ،فجــل الراكبــن
كانــوا مــن املغرتبــن أو البزناســة الذيــن يأتــون املدينــة بشــكل دوري ،وهــو
مــا يجعلهــم يرونهــا بنظــارات أخــرى قــد تكــون أقــرب إىل امللــل والتعــود
الروتينــي.
عــدت إىل القاعــة ألضــع رأيس فــوق حقيبــة الظهــر وأستســلم ملــرور
بعــض الذكريــات بذهنــي ،حيــث تعرفــت عــى مناظــر وتجولــت يف
أماكــن مل يخطــر ببــايل أننــي ســأزورها بهــذه الرسعــة والســهولة ،بعدمــا
كنــت أقــرأ عنهــا وأتخيلهــا ،أو يف أحســن األحــوال أشــاهدها عــر األرشطــة
الوثائقيــة ،والواقــع أنهــا بقــدر مــا كانــت ســاحرة يف الصــور فقــد كانــت
أجمــل يف الواقــع.
159
تحركــت الســفينة مبتعــدة عــن الضفــة اإلســبانية ،وأبحــرت كــا تصورتهــا
فوق خريطة صغرية ،عىل مسافة ال تزيد عن تلك التي تفصل العاصمة
عــن واد الفضــة أو وهــران عــن مغنيــة.
مل أمتكــن مــن النــوم طيلــة الســاعات التــي كانــت تفصلنــا عــن أضــواء
الفجــر فــوق بحــر البــوران ،لكــن وقبــل ثــاث ســاعات مــن الوصــول بــدأت
تــراىئ لنــا أضــواء اليابســة الجزائريــة ومدينــة بنــي صــاف تحديــدا ،وقــد
خرجــت إىل جــر الســفينة لرؤيــة املنظــر ،وبقيــت هنــاك ألشــاهد ضــوء
منــارة جزيــرة ليــى برشــقون ،وبعدهــا مدينــة عيــون الــرك التــي يبــدو لــك
ســاحلها كبــرا وواســعا مــن البحــر قبــل أن يفصــح ضــوء النهــار عــن ظهــور
مبــاين مدينــة وهــران يف األفــق ومــن فوقهــا حصــن ســانتا كــروز املســتقر
فــوق جبــل املرجاجــو.
كنــت أول مــن خــرج مــن الســفينة وأول مــن م ـ ّر عــر الرشطــة وتفتيــش
الجــارك ألجــد نفــي خــارج املينــاء بعــد عــر دقائــق ،ويف مواجهتــي
عــرات الســائقني مــن أصحــاب ســيارات األجــرة يهتفــون ويصيحــون يب
160
يك أركــب معهــم .طبعــا لــن يخــرك أي منهــم بســعر التوصيلــة ،فهــم
يريــدون أوال االســتفراد بــك ووضــع أمتعتــك داخــل الســيارة ،وبعدهــا
ســيقنعونك بالســعر الــذي يناســبهم ســواء بالدفــع الطوعــي أو بالتخــي
املكــره عــن املبلــغ املطلــوب بعــد مامرســة تقنيــات اإللحــاح التــي
يجيدونهــا.
بعــد عــر دقائــق ،كنــت أمــام بــاب منــزيل وقــد نزلــت مــن الســيارة
وناولــت صاحبهــا املبلــغ املوجــود ،وكان ذلــك آخــر مشــهد دونتــه حــول
رحلتــي إىل مــا يســمى بالفــردوس املفقــود قبــل العــودة إىل أجــواء حيــايت
وعمــي الروتينــي يف بلــدي العزيــز أو الفــردوس املوعــود..
انتهى
161
9 789931 677253
162