Professional Documents
Culture Documents
5 6136264503584620688 PDF
5 6136264503584620688 PDF
تأليف
العالمة الشيخ محمد هاشم أشعرى
الرئيس األكبر لجمعية نهضة العلماء
عفا اهلل عنه وعن والديه وعن
مشايخه وعن جميع
المسلمين
آمين
مقدمة وتمهيد
بسم اهلل الرحمن الرحيم
حمدا وتمجيدا لمن قال في كتابه المبين ،وهو أصدق القائلينُ ) ،ه َو الَّ ِذي
ْح ِّق لِيُظْ ِه َرهُ َعلَى الدِّي ِن ُكلِّ ِه َولَ ْو َك ِرَه ال ُْم ْش ِرُكو َن) ،صالة ِ
أ َْر َس َل َر ُسولَهُ بِال ُْه َدى َودي ِن ال َ
وتسليما على سيدنا وشفيعنا ووسيلتنا إلى ربنا محمد القائلَّ { :أما بَ ْع ُد ،فَِإ َّن أ ْ
َص َد َق
ي ُم َح ّم ٍدَ ،و َش ّر األ ُُموِر ُم ْح َدثَاتُ َهاَ ،وُك ّل ِ
اب اللّهَ ،و َخ ْي ُر ال َْه ْد ِي َه ْد ُ
الْح ِد َ ِ
يث كتَ ُ َ
ضالَلَة في النّا ِر} ،وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ِ ٍ ،وُك ّل َ ٍ ٍ
ُم ْح َدثَة بِ ْد َعةٌَ ،وُك ّل بِ ْد َعة َ
ضالَلَةٌ َ
صالة وسالما دائمين متالزمين ما اختلف الليل والنهار.
وبعد ،فهذا كتاب جليل يحتوي على مقاصد مفيدة ومباحث عديدة ،تنفع
المسلمين المحتاجين إلى تحقيق العقائد الدينية ،وإلى اإلجتماع بالفرقة الناجية
الذين هم أهل اسنة والجماعة ،رد فيه مؤلفه على ضالالت المبتدعين الكاذبين،
وصرح فيه شبهات الملحدين الضالين.
فهو إذًا حجة وبرهان ،وتوضيح وبيان ،فيه للمسلمين عزة وكرامة ،ولهم فيه
نجاة وسالمة ،إذ حقق فيه مؤلفه العقائد الصحيحة على طريقة أهل السنة
والجماعة.
ومعشر المسلمين اليوم أشد حاجة إلى ذلك ،وقد اختلط فيهم األفاضل
باألراذل ،والتبس عليهم الحق بالباطل ،وتصدر للفتوى كل جاهل ،ممن يقصر
إدراكه عن فهم كتاب اهلل تعالى وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم ،فجاء الكتاب
باإليضاح والتدقيق ،بعيدا عن التلبيس والتزويق ،ليبتعدوا عن مواقع الجهل
والضالل ،ويكونوا موفقين في األقوال واألفعال.
وكيف ال ،وقد كان مؤلفه العالمة الشيخ محمد هاشم أشعري رحمه اهلل تعالى
من أكابر علماء إندونيسيا ومن مؤسسى جمعية نهضة العلماء ،وهي جمعية معروفة
بقوة تمسكهم بسنة خاتم النبيين وشدة اعتمادهم على خطة أسالفهم الصالحين.
فجزى اهلل تالى مؤلفه خيرا كثيرا ،وغفر له وألصوله وفروعه إنه كان غفارا،
ونفع به وبعلومه المسلمين ،وجعل عمله من إحياء سنة سيد المرسلين .هذا،
وصلى اهلل على سيدنا مجمد وعلى آله وصحبه وسلم ،والحمد هلل رب العالمين.
تبوئرنج 1 ،رجب 1111
كتبه سبط المؤلف
محمد عصام حاذق
(فصل) في بيان تمسك أهل جاوى بمذهب أهل السنة والجماعة ،وبيان ابتداء
ظهور البدع وانتشارها في أرض جاوى ،وبيان أنواع المبتدعين
الموجودين في هذا الزمان.
قد كان مسلموا األقطار الجاوية في األزمان السالفة الخالية متفقى اآلراء
والمذهب ،متحدى المأخذ والمشرب ،فكلهم في الفقه على المذهب النفيس
مذهب اإلمام محمد بن إدريس ،وفي أصول الدين على مذهب اإلمام أبي الحسن
األشعري ،وفي التصوف على مذهب اإلمام الغزالي واإلمام أبي الحسن الشاذلي
رضي اهلل عنهم أجمعين.
ثم إنه حدث في عام ألف وثالثمائة وثالثين أحزاب متنوعة ،وآراء متدافعة،
وأقوال متضاربة ،ورجال متجاذبة .فمنهم سلفيون قائمون على ما عليه أسالفهم من
التمذهب بالمذهب المعين والتمسك بالكتب المعتبرة المتداولة ،ومحبة أهل
البيت واألولياء والصالحين ،والتبرك بهم أحياء وأمواتا ،وزيارة القبور ،وتلقين
الميت ،والصدقة عنه ،واعتقاد الشفاعة ونفع الدعاء والتوسل وغير ذلك.
ومنهم فرقة يتبعون رأي محمد عبده ورشيد رضا ،ويأخذون من بدعة محمد
بن عبد الوهاب النجدي ،وأحمد بن تيمية وتلميذيه ابن اقيم وابن عبد الهادى،
فحرموا ما أجمع المسلمون على ندبه ،وهو السفر لزيارة قبر رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،والفوهم فيما ذكر وغيره .قال ابن تيمية في فتاويه :وإذا سافر العتقاده
أنها أي زيارة قبر النبي صلى اهلل عليه وسلم طاعة كان ذلك محرما بإجماع
المسلمين فصار التحريم من األمور المقطوع به .قال العالمة الشيخ محمد بخيت
الحنفي المطيعي في رسالته المسماة "تطهير الفؤاد من دنس اإلعتقاد" :وهذا
الفريق قد ابتلي المسلمون بكثير منهم سلفا وخلفا ،فكانوا وصمة وثلمة في
المسلمين وعضوا فاسدا يجب قطعه حتى ال يعدى الباقي ،فهو كالمجذوم يجب
الفرار منه ،فإنهم فريق يلعبون بدينهم ،يذمون العلماء سلفا وخلفا ،ويقولون إنهم
غير معصومين فال ينبغي تقليدهم ،ال فرق في ذلك بين األحياء واألموات،
ويطعنون عليهم ويلقون الشبهات ،ويذرونها في عيون بصائر الضعفاء لتعمى
أبصارهم عن عيوب هؤالء ،يقصدون بذلك إلقاء العداوة والبغضاء بحلولهم الجو
ويسعون في األرض فسادا ،يقولون على اهلل الكذب وهم يعلمون ،يزعمون أنهم
قائمون باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،حاضون الناس على اتباع الشرع
واجتناب البدع ،واهلل يشهد أنهم لكاذبون .قلت :ولعل وجهه أنهم من أهل البدع
واألهواء .قال القاضي عياض في الشفا :وكان معظم فسادهم على الدين وقد
يدخل في أمور الدنيا بما يلقون بين المسلمين من العداوة الدينية التي تسرى
لدنياهم .قال العالمة مال على القارى في شرحه :وقد حرم اهلل تعالى الخمر
الش ْيطَا ُن أَ ْن يُوقِ َع بَ ْي نَ ُك ُم ال َْع َد َاوةَ
والميسر لهذه العلة كما قال تعالى {إِنَّ َما يُ ِري ُد َّ
اء فِي الْ َخ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر }.
ضَ َوالْبَ غْ َ
ومنهم رافضيون يسبون سيدنا أبا يكر وعمر رضي اهلل عنهما ويكرهون
الصحابة رضي اهلل عنهم ويبالغون هوى سيدنا علي وأهل بيته رضوان اهلل عليهم.
قال السيد محمد في شرح القاموس :وبعضهم يرتقي إلى الكفر والزندقة أعاذنا اهلل
والمسلمين منها .قال القاضي عياض في الشفا :عن عبد اهلل بن مغ ّفل رضي اهلل
َص َحابِي الل َّه الل َّه في رسول الل ِّه صلى اهلل عليه وسلم{ :الل َّه الل َّه في أ ْ عنه قال :قال ُ
ِ ِ
ض ُه ْم َحبّ ُه ْم فَبِ ُحبّي أ َ
َحبّ ُه ْمَ ،وَم ْن أَبْ غَ َ ذوه ْم غَ َرضاً بَ ْعدي ،فَ َم ْن أ َ َص َحابِي ،ال تَ تّخ ُ أ ْ
اه ْم فَ َق ْد آذَانِيَ ،وَم ْن آذَانِي فَ َق ْد آذَى الل َّهَ ،وَم ْن آذَى ض ُه ْمَ ،وَم ْن آذَ ُ ضي أَبْ غَ َ فَبِب غْ ِ
ُ
سبُّوا ُ ِ ك أَ ْن يَأْ ُخ َذه} ،وقال الل َّه يُ ْو ِش ُ
رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم{ :الَ تَ ُ
ِ المالَئِ َك ِة َوالنَ ِ ِ
َج َم ِع ْي َن ،الَ يَ ْقبَ ُل اهللُ م ْنهُ
اس أ ْ ِ أ ْ ِ
َص َحابي ،فَ َم ْن َسبَّ ُه ْم فَ َعلَْيه لَ ْعنَةُ اهلل َو َ
َص َحابِي ،فإنهُ يَ ِج ْىءُ قَ ْوٌم سبُّوا أ ْ
ص ْرفاً والَ َع ْدالً} ،وقال صلى اهلل عليه وسلم{ :الَ تَ ُ َ
ِ ِ ِ
صلَ ّوا َم َع ُه ْمَ ،والَ لوا َعلَْي ِه ْمَ ،والَ تُ َ صَّص َحابِ ْي ،فَالَ تُ َ سبُّ ْو َن أ ْ
الزَمان يَ ُ ف ْي آخ ِر َ
ض ْوا فَالَ تَ عُ ْودُ ْو ُهم } ،وعنه صلى اهلل عليه س ْو ُه ْمَ ،وإِ ْن َم ِر ُ ِ ِ
تناك ُح ْو ُه ْمَ ،والَ تُ َجال ُ
ض ِربُ ْوه} ،وقد أعلم النبي صلى اهلل عليه وسلم أن َص َحابِ ْي فَا ْبأ ْ وسلمَ { :م ْن َس َّ
سبهم وأذاهم يؤذيه ،وآذى النبي صلى اهلل عليه وسلم حرام ،فقال{ :الَ تُ ْؤذُ ْوني فِ ْي
اه ْم فَ َق ْد آذَانِ ْي} ،وقال{ :ال تؤذوني في عائشة} ،وقال في َص َحابِ ْيَ ،وَم ْن آذَ ُ أ ْ
فاطمة رضي اهلل عنها{ :بضعة مني ،يؤذيني ما آذاها}.
ومنهم إباحيون يقولون :إن العبد إذا بلغ غاية لبمحبة وصفا قلبه من الغفلة،
واختار اإليمان على الكفر والكفران سقط عنه األمر والنهي ،وال يدخله اهلل النار
بارتكاب الكبائر .وبعضهم يقول :إنه تسقط عنه العبادات الظاهرة وتكون عبادته
التفكر وتحسين األخالق الباطنة .قال السيد محمد في شرح اإلحياء :وهذا كفر
وزندقة وضاللة ،ولكن اإلباحيون موجودون من قديم الزمان ،جهال ضالل ليس
لهم رأس يعلم العلم الشرعي كما ينبغي.
ومنهم من ق ال بتنلسخ األرواح وانتقالها أبد اآلباد في األشخاص تخرج من
بدن اآلخر من جنسه أو غيره .وزعم هؤالء أن تعذيبها وتنعيمها فيها بحسب
زكائها وخبثها .قال الشهاب الخفاجي في شرحه على الشفا :وقد كفرهم أهل
الشرع لما فيه من تكذيب اهلل ورسوله وكتبه.
ومنهم من قال بالحلول واإلتحاد ،وهم جهلة المتصوفة ،يقولون :إنه تعالى
الوجود المطلق ،وإن غيره ال يتصف بالوجود أصال ،حتى إذا قالوا :اإلنسان
موجود ،فمعناه أن له تعلقا بالوجود المطلق ،وهو اهلل تعالى .قال العالمة األمير في
حاشية عبد السالم :وهو كفر صريح ،وال حلول وال اتحاد ،فإن وقع من أكابر
األولياء ما يوهم ذلك ّأول بما يناسبه كما يقع منهم في وحدة الوجود ،كقول
بعضهم" :ما في الجبة إال اهلل" ،أراد أن ما في الجبة ،بل والكون كله ال وجود له
رب ،وكل عارف
إال باهلل .وقال في لواقح األنوار :من كمال العرفان شهود عبد و ّ
نفى شهود العبد في وقت ما فليس هو بعارف ،وإنما هو في ذلك الوقت صاحب
حال ،وصاحب الحال سكران ال تحقيق عنده ،فظهر مما ذكر أن المراد بوحدة
الوجود واإلتحاد في مذهب القوم ليس على الظاهر المتوهم .وإذا كانت عبدة
ليقربونا إلى اهلل ُزلْ َفى" ،ولم يقولوا" :هم اهلل" ،كيف
األوثان يقولون" :ما نعبدهم إال ّ
يظن ذلك بالعارفين ،وإنما المراد قول العارف:
وعلمك أن كل األمر أمري >< هو المعنى المسمى باتحاد
وال بد عند كل مسلم من حظ في هذا المقام وإن تفاوتوا .وإنما أطلت الكالم على
هذه الطائفة ألن ضررهم على المسلمين أكثر من ضرر جميع الكفرة والميتدعين،
فإن كثيرا من الناس يعظمونهم ويسمعون كالمهم مع جهلهم بأساليب الكالم
العربي .وقد روى األصمعي عن الخليل عن أبي عمرو بن العالء أنه قال :أكثر من
تزندق بالعراق لجهلهم بالعربية ،وهم باعتقادهم الحلول واإلتحاد كفرة.
قال القاضي العياض في الشفاء :إن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو
الوحدانية أو عبادة غير اهلل أو مع اهلل فهي كفر ،كمقالة الدهرية والنصارى
والمجوسي والذين أشركوا بعبادة األوثان أو المالئكة أو الشياطين أو الشمس أو
أحد غير اهلل .وكذلك أصحاب الحلول والتناسخ ،وكذلك من النجوم أو النار أو ٍ
حي أو غير قديم أو أنه محدثاعترف بإلهية اهلل ووحدلنيته ولكنه اعتقد أنه غير ّ
مصور أو ادعى له ولدا أو صاحبة أو أنه متولد من شيئ أو كائن عنه أو أن معه
أو ّ
في األزل شيئا قديما غيره أو أن ثَ َّم صانعا للعالَم سواه أو مدبرا غيره ،فذلك كله
كفر بإجماع المسلمين .وكذلك من ادعى مجالسة اهلل تعالى والعروج إليه ومكالمته
أو حلوله في أحد األشخاص ،كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى .وكذلك
نقطع على كفر من قال بقدم العالم أو بقائه أو قال بتناسخ األرواح وانتقالها أبد
اآلباد في األشخاص وتعذيبخا وتنعيمها بحسب زكائها وخبثها .وكذلك من اعترف
باإللهية والوحدانية ولكنه جحد النبوة من أصلها عموما أو نبوة نبينا خصوصا أو
أحدا من األنبياء الذين نص اهلل عليهم بعد علمه بذلك فهو كافر بال ريب.
وكذلك من قال :إن نبينا ليس الذي كان بمكة والحجاز .وكذلك من ادعى نبوة
أحد مع نبينا صلى اهلل عليه وسلم أو بعده أو من ادعى النبوة لنفسه .وكذلك من
ادعى من غالة المتصوفة أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة .قال في األنوار :ويقطع
بتكفير كل قائل قوال يتوصل به إلى تضليل األمة وتكفير الصحابة ،وكل فاعل فعال
ال يصدر إال من كافر كالسجود للصليب أو النار ،أو المشي إلى الكنائس مع
أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها .وكذا من أنكر مكة أو الكعبة أو المسجد الحرام
إن كان ممن يظن به علم ذلك وممن خالط المسلمين.
(فصل) في بيان افتراق أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم على ثالث
وسبعين فرقة ،وبيان أصول الفرق الضالة وبيان الفرقة
الناجية وهم أهل السنة والجماعة.
روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل
تإح َدى وس ْب ِعين فِرقَ ًة ،وتَ َفرقَ ِ صلى اهلل عليه وسلم قال{ :افْ تَ رقَ ِ
ود َعلَى ْ َ َ َ ْ َ ّ ت الْيَ ُه ُ َ
ِ
ين ف ْرقَ ًة ،كلها ِ ٍ ِ ِ النّصارى َعلَى اثِْنتَ ي ِن وسب ِع ِ
ين ف ْرقَ ًةَ ،وتَ َف ّرقَت أ ُّمتي علَى ثَالَث َو َس ْبع َ
ْ َ َْ َ ََ
في النار إال واحدة ،قالوا :ومن هم يا رسول اهلل؟ قال :هم الذي أنا عليه
وأصحابي}.
قال الشهاب الخفاجي رحمه اهلل تعالى في نسيم الرياض :والفرقة الناجية هم
أهل السنة والجماعة .وفي حاشية الشنواني على مختصر ابن أبي جمرة :هم أبو
الحسن األشعري وجماعته أهل السنة وأئمة العلماء ،ألن اهلل تعالى جعلهم حجة
على خلقه ،وإليهم تفزع العامة في دينهم ،وهم المعنيون بقوله صلى اهلل عليه
وسلم{ :إن اهلل ال يجمع أمتي على ضاللة}.
قال اإلمام أبو منصور بن طاهر التميمي في شرح هذا الحديث :قد علم
أصحاب هذه المقاالت أنه صلى اهلل عليه وسلم لم يرد بالفرق المذمومة
المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحالل والحرام ،وإنما قصد بالذم من خالف
أهل الحق في أصول التوحيد ،وفي تقدير الخير والشر ،وفي شروط النبوة
والرسالة ،وفي مواالة الصحابة وما جرى مجرى هذه األبواب ،ألن المختلفين فيها
قد كفر بعضهم بعضا بخالف النوع األول ،فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير وال
تفسيق للمخالف فيه ،فيرجع تأويل الحديث في افتراق األمة إلى هذا النوع من
اإلختالف.
وقد حدث في آخر أيام الصحابة خالف القدرية من معبد الجهني وأتباعه،
وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد اهلل بن عمر وجابر وأنس ونحوهم رضي
اهلل عنهم أجمعين .ثم حدث الخالف بعد ذلك شيئا سيئا إلى أن تكاملت الفرق
الضالة اثنين وسبعين فرقة ،والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة ،وهم الفرق
الناجية .فإن قيل :هذه الفرق معروفة؟ فالجواب :إنا نعرف اإلفتراق وأصول الفرق،
وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق
ومذاهبها.
وأصول الفرق الحرورية ،والقدرية ،والجهمية ،والمرجئة ،والرافضة ،والجبرية.
وقد قال بعض أهل العلم رحمهم اهلل تعالى :أصول الفرق الضالة هذه الست ،وقد
انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة فصارت إلى اثنتين وسبعين فرقة .قال ابن
رسالن رحمه اهلل تعالى :قيل إن تفصيلها عشرون ،منهم روافض ،وعشرون منهم
خوارج ،وعشرون قدرية ،وسبعة مرجئة ،وفرقة نجارية ،وهم أكثر من عشر فرق
ولكن يعدون واحدة ،وفرقة حرورية ،وفرقة جهمية ،وثالث فرق كرامية ،فهذه اثنتان
وسبعون فرقة.
(فصل) في ذكر أمارات اقتراب الساعة
وهي كثيرة ،منها عدم المساعد والمعاون على الدين ،وهو قوله صلى اهلل عليه
ْج ْمر} .رواه الصابِ ُر َعلَى ِدينِ ِه كال َقابِ ِ
ض َعلَى ال َ وسلم{ :يَأَتِي َعلَى النّ ِ
اس َزَما ٌن ّ
الترمذي عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه.
ومنها{ :يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة} .رواه أبو نعيم في
الحلية والحاكم في المستدرك عن أنس رضي اهلل عنه أيضا.
اهى النّاس في المس ِ
اجد} .رواه اإلمام أحمد الساعةُ َحتّى يَتَبَ َ
ََ ُ وم ّومنها {الَ تَ ُق ُ
في مسنده وأبو داود في سننه عن أنس رضي اهلل عنه.
ومنها {قطيعة الرحم ،وتخوين األمين وائتمان الخائن} رواه الطبراني في
األوسط عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه أيضا.
ومنها {انتفاخ األهلة ،وأن يرى الهالل قبال [بفتحتين أي سلعة ما يطلع]
فيقال :لليلتين} .رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي اهلل عنه.
ومنها { يذهب الصالحون األول فاألول ،وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو
التمر} .رواه اإلمام أحمد والبخاري.
ومنها {ال تقوم الساعة حتى يكون الزهد رواية ،والورع تصنعا} .رواه أبو نعيم
في الحلية.
ومنها {أن يكون الولد غيظا والمطر قيظا وتفيض اللئام فيضا} .رواه الطبراني
عن ابن مسعود رضي اهلل عنه.
ومنها { ال تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها ،وكان زعيم القوم
أرذلهم ،وساد القبيلة فاسقهم} .رواه الطبراني عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل
عنه ،والترمذي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه.
ومنها {أن تزخرف المحاريب ،وأن تخرب القلوب} رواه الطبراني عن ابن
مسعود رضي اهلل عنه.
ومنها { فشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة ،وقطع األرحام،
وفشو القلم ،وظهور الشهادات بالزور} .رواه اإلمام أحمد والبخاري عن ابن
مسعود رضي اهلل عنه .وفشو التجارة كناية عن كثرة الكتبة وقبة العلماء ،يعني
يكتفون بتعلم الخط ليخالطوا الحكام.
ومنها {أن يتخذ األمانة مغنماً ،والصدقة مغرماً ،ويتعلم العلم لغير دين} .رواه
الترمذي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه
ت وارتَ َف َع ْ الرج ُل ْام َراَتَهُ َو َع َّق أ َُّمهَُ ،وأ ْدنَى َ
صديْ َقهُ َو أَقصى أَبَاهُْ ، أطاع ُومنها {إذَا َ
اج ِد} رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أيضا. ات في المس ِ
َ َص َو ُ
األ ْ
ت الْ ُخمورُ ،ولَعن ِ
آخ ُر َه ِذ ِه األ ُّم ِة ف ،و ُش ِرب ِ
َ ََ ُ الم َعا ِز ُ َ َ ات َو َ ت ال َق ْي نَ ُ
ومنها {إذاَ ظَ َه َر ْ
أ َّولَ َها} رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أيضا.
ومنها { إن أيام الدجال سنين خداعة ،يكذب فيها الصادق ،ويصدق فيها الكاذب،
ويخون فيها األمين ،ويؤتمن فيها الخائن ،ويتكلم فيها الرويبضة .قيل :وما
الرويبضة؟ قال :الرجل التافه يتكلم في أمر العامة} .رواه اإلما أحمد والبزار عن
أنس بن مالك رضي اهلل عنه.
ومنها { ال تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تحدثوا بها أنفسكم ،يتفاقم
شأنها في أنفسكم ،وتسألون هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا ،وحتى تروا الجبال
تزول عن أماكنها} رواه اإلمام أحمد والطبراني عن سمرة بن جندب رضي اهلل عنه.
ِِ ِ
اعة} .رواه البخاري عن أبي الس َرو َّ ومنها {إِ َذا ُو ِّس َد ْاأل َْم ُر إِلَى غَْي ِر أ َْهله فَانْ تَظ ْ
هريرة رضي اهلل عنه.
غ َعلَْي ِه َويَ ُق َ
ول: الر ُج ُل َعلَى الْ َق ْب ِر ،فَ يَتَ َم َّر َ ب ُّ
الدنْ يَا َحتَّى يَ ُم َّر َّ ومنها {الَ تَ ْذ َه ُ
احب ه َذا الْ َق ْب ِر} رواه مسلم عن أبي هريرة أيضا. ص ِ ت َم َكا َن َ يَالَْيتَنِي ُك ْن ُ
ومنها { ال تقوم الساعة حتى يتسافد الناس تسافد البهائم في الطرق} رواه
الطبراني عن ابن عمر رضي اهلل عنهما.
ومنها {الَتفنى هذه األمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق
فيكون خيارهم يومئذ من يقول :لو واريناها وراء هذا الحائط} رواه أبو يعلى عن
أبي هريرة.
ومنها {ال تقوم الساعة حتى توجد المرأة نهارا تنكح [أي تجامع] وسط
الطريق ،ال ينكر ذلك ،فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول :لو نحيتها عن الطريق
قليال ،فذلك فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم} رواه الحاكم أبو عبد اهلل عن أبي
هريرة رضي اهلل عنه.
ومنها ما روى الطبراني عن أبي أمامة رضي اهلل عنه {وحتى تمر المرأة على
القوم ،فيقوم أحدهم ،فيرفع بذيلها كما يرفع ذنب النعجة ،فيقول بعضهم :أال
واريتها وراء الحائط ،فهو يومئذ فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم}.
ومنها {ال تقوم الساعة حتى تناكر القلوب ،وتختلف األقاويل ،ويختلف
اإلخوان من األب واألم في الدين} رواه الديلمي عن حذيفة رضي اهلل عنه
ومنها {ال تقوم الساعة حتى تتخذ المساجد قناطر ،فال يسجد هلل فيها ،
وحتى يبعث الغالم الشيخ بريدا بين األفقين ،وحتى يبلغ التاجر بين األفقين فال
يجد ربحا} رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي اهلل عنه .وهو كناية عن عدم الرغبة
الكبير ،وعدم البركة في التجارة لغلبة الكذب
َ في الصالة ،وعدم توقير الصغير
والغش على التجار.
ومنها { يأتي على الناس زمان همتهم بطونهم ،وشرفهم متاعهم ،وقبلتهم
نساؤهم ،ودينهم دارهمهم ودنانيرهم ،أولئك شر الخليق ال خالق لهم عند اهلل}.
ومنها { ال تذهب األيام والليالي حتى يخلق القرآن في صدور أقوام من هذه
األمة كما يخلق الثياب ،ويكون ما سواه أعجب لهم ،ويكون أمرهم طمعا كله ،ال
يخالطه خوف ،إن قصر في حق اهلل تعالى منته نفسه األماني ،وإن تجاوز إلى ما
نهى اهلل عنه ،قال :أرجو أن يتجاوز اهلل عني}.
ام َوالَ صالةٌ ومنها {ي ْدرس ا ِإل ْسالَم َكما ي ْدرس و ْشي الثَّوب .حتَّى الَي ْد ِري م ِ
اصيَ ٌ ُ َ ُ َ َ ُُ َ ُ ْ َ َ َ ُُ
الش ْي ُخ الْ َكبِ ُير َوال َْع ُج ُ
وز الكبيرةَ .و ص َدقَةٌَ .ويَ ْب َقى طََوائِف ِم َن الن ِ
َّاسَّ ، كَ .والَ َ سٌ َوالَ نُ ُ
هذ ِه الْ َكلِ َم ِة :الَ إِ َله إِالَّ اهللُ .فَ نَ ْح ُن نَ ُقولُ َها} رواه ابن
ي ُقولُو َن :أَ ْدرْكنَا آباءنَا َعلَى ِ
َ ََ َ
ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنه.
ال فِ ْي األ َْر ِ
ض الَ إِ َله إال اهلل} اعةُ َحتَّى الَ يُ َق َ
الس َ
ومنها {الَ تَ ُق ْو ُم َ
ومنها {الَ تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ،ويخون األمين ،ويؤتمن
الخائن ،وتهلك الوعول ،ويظهر التحوت .قالوا :يا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
وما التحوت؟ وما الوعول؟ قال :الوعول :وجوه الناس وأشرافهم ،والتحوت :الذين
كانوا تحت أقدام الناس} .رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي اهلل عنه.
ومنها {الَ تقوم الساعة حتى تخرج سبعون كذابا ،قلت :وما آيتهم؟ قال:
يأتونكم بسنة لم تكونوا عليها ،يغيرون بها سنتكم ،فإذا رأيتموهم فاجتنبوهم} .رواه
البخاري عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنها.
ومنها { إذا ظهر القول ،وخزن العمل ،وائتلفت األلسن ،واختلفت القلوب،
وقطع كل ذي رحم رحمه ،فعند ذلك "لعنهم اهلل فأصمهم وأعمى أبصارهم" }.
رواه اإلمام أحمد وعبد بن حميد عن سلمان الفارسي رضي اهلل عنه.
ومنها { إذا الناس أظهروا العلم ،وضيعوا العمل ،وتحابوا باأللسن ،وتباغضوا
بالقلوب ،وتقاطعوا في األرحام ،لعنهم اهلل عند ذلك "فأصمهم وأعمى أبصارهم"}.
رواه ابن أبي الدنيا عن الحسن رضي اهلل عنه
قال البيهقي وغيرهم رحمهم اهلل تعالى :األمارات منها صغار ،وقد مضى
أكثرها .ومنها كبار ستأتي.
ولنختم األحاديث المذكورات بما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أسيد
الغفاري رضي اهلل عنه قال{ :اطّلَ َع النّبِ ّي صلى اهلل عليه وسلم َعلَْي نَا َونَ ْح ُن نَتَ َذا َك ُر.
وم َحتّ َى تَ َرْو َن قَ ْب لَ َهاال" :إِنّ َها لَ ْن تَ ُق َ
اع َة .قَ َ
الس َ
الَ " :ما تَ َذا َك ُرو َن؟" ،قَالُوا :نَ ْذ ُك ُر ّ
فَ َق َ
س ِم ْن َمغْ ِربِ َهاَ ،ونُ ُز َ
ول ش ْم ِ
وع ال ّالَ ،وال ّدابّ َةَ ،وطُلُ َ
ات" .فَ َذَك َر ال ّد َخا َنَ ،وال ّد ّج ََع ْشر آي ٍ
َ َ
فوفَ :خ ْس ٌ ِعيسى اب ِن مريم صلى اهلل عليه وسلم ،ويأْجوج ومأْجوج ،وثَالَثَةَ ُخس ٍ
ُ ََ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َْ َ
ج ِم َن
ار تَ ْخ ُر ُ
ك نَ ٌ
ب .و ِ
آخ ُر ذَلِ َ ب ،و َخس ٌ ِ ِ
ف ب َج ِز َيرة ال َْع َر ِ َ ف بال َْمغْ ِر ِ َ ْ
بِالْم ْش ِر ِق ،و َخس ٌ ِ
َ ْ َ
اس إِلَ َى َم ْح َش ِرِه ْم}.
الْيَ َم ِن ،تَط ُْر ُد النّ َ
أما الدخان فقد ذكر العالمة الخازن في تفسيره فقال :قال حذيفة رضي اهلل
ان ُمبِي ٍن} ،يمأل السماء بِ ُد َخ ٍ ِ
عنه يا رسول اهلل ما الخان؟ فتال هذه اآلية { :يَ ْوَم تَأْتي َّ َ ُ
ما بين المشرق والمغرب ،يمكث أربعين يوما وليلة .أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة
الزكام ،وأما الكافر فهو كالسكران ،يخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
وأما الدجال ففي صحيح مسلم عن هشام بن عروة رضي اهلل عنه قالَ { :ما
اع ِة َخلْ ٌق أَ ْكبَ ُر ِم َن ال ّد ّجال} ،أكبر فتنة .وفي صحيح ِ
آد َم إِلَ َى قيَ ِام ّ
الس َ بَ ْي َن َخل ِْق َ
البخاري عن ابن عمر رضي اهلل عنهما :أن النبي صلى اهلل عليه وسلم ذكر
الدجال ،فقال{ :أَنَّهُ أَ ْع َوُر ال َْع ْي ِن الْيُ ْمنَ َىَ ،كأَ ّن َع ْي نَهُ ِعنَبَةٌ طَافِيَة} .وفيهما عن أنس
رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلمَ { :ما ِم ْن نَبِ ّي إِالّ َوقَ ْد أَنْ َذ َر
وب بَ ْي َن َع ْينِْي ِه
س بِأَ ْع َوَرَ .م ْكتُ ٌ ِ ِ أ ُّمتَهُ األَ ْع َوَر الْ َك ّذ َ
اب .أَالَ إنّهُ أَ ْع َوُرَ ،وإ ّن َربّ ُك ْم لَْي َ
كافر}.
وروى البغوي رحمه اهلل تعالى بسنده عن أسماء بنت يزيد األنصارية رضي اهلل
عنها{ :أن من أكبر فتنته أنه يأتى األعرابي فيقول :أريت إن أحييت إبلك ،ألست
تعلم أني ربك؟ ،فيقول :بلى ،فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون
ضروعا وأعظمه أسنمة .ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول :أرأيت إن
أحييت أخاك وأباك ،ألست تعلم أني ربك؟ فيقول :بلى ،فيتمثل له الشيطان نحو
أخيه و أبيه}.
صلَّى اللَّهُ ِ
َح ٌد َر ُس ْو َل اهلل َ وعن المغيرة بن شعبة رضي اهلل عنه قالَ { :ما َسأ ََل أ َ
ْت إنَّ ُه ْم يَ ُقولُو َن :إِ َّن ال لِيَ :ما يَ ُ
ض ُّر َك؟ قُ ل ُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم َع ْن َّ
الد َّجا ِل َما َسأَلْتُهَُ ،وإِنَّهُ قَ َ
ال ُه َو أ َْه َو ُن َعلَى اللَّ ِه ِم ْن َذلِك} .وروى الترمذي عن َم َعهُ َجبَ َل ُخ ْب ٍز َونَ َه َر َم ٍاء .قَ َ
أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه قال :حدثنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
وه ُه ْم
اسا َنْ ،يتبَ عُهُ أَق َْو ٌام كأَ ّن ُو ُج َ
ال َلها ُخر َ الم ْش ِر ِق ،يُ َق ُ
ض َ ج بِأ َْر ٍ
يخر ُ
ال ُ {ال ّد ّج ُ
ول الل ِّه صلى اهلل عليه قال َر ُس َ المط َْرقةُ ََ} .وعن أنس رضي اهلل عنه قالَ : الم َجا ّن ُ َ
َصبَ َها َنَ ،س ْب عُو َن أَلفاًَ ،علَْي ِه ُم الطّيَالِ َسةُ}. الِ ،من ي ُه ِ
ود أ ْ وسلم{ :يَ ْتبَ ُع ال ّد ّج َ ْ َ
قال اإلمام النووي رحمه اهلل تعالى :قال القاضي عياض :هذه األحاديث التي
وردت في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده ،وأنه شخص
بعينه ابتلى اهلل به عباده فأقدره على أشياء من المقدورات من إحياء الميت الذي
يقتله ،ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه ،وجنته وناره ،واتباع كنوز األرض له،
وأمره السماء أن تمطر فتمطر ،واألرض أن تنبت فتنبت ،فيقع كل ذلك بقدرة اهلل
تعالى ومشيئته ،ثم يعجزه اهلل تعالى بعد ذلك ،فال يقدر على قتل ذلك الرجل وال
غيره ،ويبطل أمره ،ويقتله عيسى بن مريم عليه السالم ،ويثبت اهلل الذين آمنوا
بالقول الثابت ،هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء ،خالفاً لمن
أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة.
وأما الدابة فقد ذكر العالمة الخازن في تفسيره بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن
اليمان رضي اهلل عنه ،ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الدابة ،قلت يا رسول
اهلل ،من أين تخرج؟ {قال :من أعظم المساجد حرمة على اهلل ،فبينما عيسى
يطوف بالبيت ومعه المسلمون ،إذ تضطرب األرض ،وينشق الصفا مما يلي
المسعى ،وتخرج الدابة من الصفا ،أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر
وريش ،لم يدركها طالب ،ولن يفوتها هارب ،تسم الناس مؤمنا وكافرا ،أما المؤمن
فتترك وجهه كأنه كوكب دري ،وتكتب بين عينيه مؤمن ،وأما الكفار فتنكت بين
عينيه نكتة سوداء ،وتكتب بين عينيه كافر} .وعن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنه
قال { :تخرج الدابة من شعب جياد ،فيمس رأسها السحاب ،ورجالها في
األرض}.
وأما طلوع الشمس من مغربها ففي كتاب بدء الخلق من صحيح البخاري عن
صلَّى اللَّهُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم ِح ْي َن غَ َربَ ْ
ت ال لي النبي َ
أبي ذر رضي اهلل عنه قال :قَ َ
الش ْمس{ :تَ ْد ِري أَيْ َن تَ ْذ َهب؟ قُ ل ُ َّ
ْت :اللهُ َوَر ُسولُهُ أَ ْعلَ ُم ،قَا َل :فَِإنَّ َها تَ ْذ َه ُ
ب َحتَّى ُ َّ ُ
ك أَ ْن تَ ْس ُج َد فَالَ يُ ْقبَ َل منها، ش ،فتَ ْستَأ ِْذ ُن فَ يُ ْؤذَ ُن لَ َهاَ ،ويُ ْو ِش ُ الع ْر ِ
ت َ تِ ْس ُج َد تَ ْح َ
ت ،فَ تَطْلُ ُع ِم ْن َمغْ ِربِ َها .فذلك قوله ث ِج ْئ َِوتَ ْستَأ ِْذ ُن فَالَ يُ ْؤ َذ ُن لَ َهاْ ،ارِج ِعي ِم ْن َح ْي ُ
يم} .قال في فتح ك تَ ْق ِد ُير ال َْع ِزي ِز ال َْعلِ ِس تَ ْج ِري لِ ُم ْستَ َق ٍّر لَ َها َذلِ َ تعالىَ { :و َّ
الش ْم ُ
الباري :يحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من المالئكة ،أو
تسجد بصورة الحال ،فيكون عبارة عن الزيادة في االنقياد والخضوع في ذلك
الحين .وقال النووي رحمه اهلل تعالى :وأما سجود الشمس فهو تمييز وإدراك يخلقه
اهلل تعالى فيها .واهلل أعلم.
وأما نزول عيسى عليه السالم وخروج يأجوج ومأجوج ففي صحيح مسلم عن
ول الل ِّه صلى اهلل عليه وسلم النواس بن سمعان رضي اهلل عنه قال{ :ذََك َر َر ُس ُ
ض فِ ِيه َوَرفّ َع َحتّ َى ظَنَ نّاهُ فِي طَائَِف ِة النّ ْخ ِل .فَ لَ ّما ُر ْحنَا إِلَْي ِه ال َذ َ ٍ
ات غَ َداة ،فَ َخ ّف َ ال ّد ّج َ
داة،ال غَ ٍ ت ال ّد ّج َ ول الل ِّه ذََك ْر َ الَ :ما َشأْنُ ُك ْم؟ ،قُ لْنَا :يَا َر ُس َ ك فِينَا ،فَ َق َ ف َذلِ َ َع َر َ
ت َحتّ َى ظَنَ نّاهُ فِي طَائَِف ِة النّ ْخ ِل ،فَ َقا َل :غَْي ُر ال ّد ّج ِال أَ ْخ َوفُنِي ت فِ ِيه َوَرفّ ْع َ ضَ فَ َخ ّف ْ
ت فِي ُك ْم، يجهُ ُدونَ ُك ْمَ ،وإِ ّن يَ ْخ ُر ْجَ ،ولَ ْس ُ ِ ِ
َعلَْي ُك ْم ،إِ ْن يَ ْخ ُر ْجَ ،وأَنَا في ُك ْم ،فَأَنَا َحج ُ
ِ ِ ِ
يج نَ ْفسهِ َ ،واللّهُ َخلي َفتِي َعلَ َى ُك ّل ُم ْسل ٍم .إِنّهُ َش ّ
اب قَطَطٌَ ،ع ْي نُهُ عنبة ِ
فَ ْام ُرٌؤ َحج ُ
ورِة ِ ِ ِ ِ ِ ِ
طَافئَةٌَ ،كأَنّي أُ َشبّ ُههُ ب َع ْبد الْعُ ّز َى بْ ِن قَطَ ٍن ،فَ َم ْن أَ ْد َرَكهُ م ْن ُك ْم فَ لْيَ ْق َرأْ َعلَْيه فَ َوات َح ُس َ
اد الل ِّه ِ
اث ِش َماالً .يَا عبَ َ اث يَ ِميناً َو َع َ اق ،فَ َع َ ش ِام وال ِْعر ِ
ِج َخلّ ًة بَ ْي َن ال ّ َ َ ف ،إِنّهُ َخار ٌ الْ َك ْه ِ
ال :أ َْربَعُو َن يَ ْوماً .يَ ْوٌم َك َسنَ ٍةَ ،ويَ ْوٌمض؟ قَ َ ول الل ِّه َوَما لَْبثُهُ فِي األ َْر ِ فَاثْ بُتُوا ،قُ لْنَا :يَا َر ُس َ
ّذي ك الْي وم ال ِ َك َش ْه ٍر ،وي وم َكجمع ٍة .وسائِر أَي ِام ِه َكأَي ِام ُكم ،قُ لْنَا :يا رس َ ِ ِ
ول اللّه فَ َذل َ َ ْ ُ َ َُ ّ ْ ََ ْ ٌ ُ ُ َ َ َ ُ ّ
ول الل ِّه َوَما ال :الَ ،اقْ ُد ُروا لَهُ قَ ْد َرهُ ،قُ لْنَا :يَا َر ُس َ صالَةُ يَ ْوٍم؟ قَ َ ِ ِِ
َك َسنَة ،أَتَ ْكفينَا فيه َ
ٍ
ِ إِ ْس َراعُهُ فِي األ َْر ِ
وه ْم، يح ،فَ يَأْتِي َعلَ َى الْ َق ْوم فَ يَ ْدعُ ُ الر ُاستَ ْدبَ َرتْهُ ّث ْ الَ :كالْغَْي ِ ض؟ قَ َ
وح َعلَْي ِه ْم ض فَ تُ ْنبِ ُ ِ ِ ِ ِِ
ت ،فَ تَ ُر ُ الس َما َء فَ تُ ْمط ُرَ ،واأل َْر َفَ يُ ْؤمنُو َن به َويَ ْستَجيبُو َن لَهُ ،فَ يَأ ُْم ُر ّ
اص َر ،ثُ ّم يَأْتِي الْ َق ْوَم، ضروعاً ،وأَم ّدهُ َخو ِ
َ ََ َسبَ غَهُ ُ ُ ت ذُراًَ ،وأ ْ َسا ِر َحتُ ُه ْم ،أَط َْو َل َما َكانَ ْ
س بِأَيْ ِدي ِه ْم ِِ ف َع ْن ُه ْم ،فَ يُ ْ ِ ص ِر ُ ِ
ين لَْي َ صب ُحو َن ُم ْمحل َ وه ْم فَ يَ ُر ّدو َن َعلَْيه قَ ْولَهُ ،فَ يَ ْن َ
فَ يَ ْدعُ ُ
اس ِ وزها َكي ع ِ ول لَها :أَ ْخ ِرِجي ُكنُ َ ِ َشيء ِمن أَموالِ ِهم ،ويمر بِال َ ِ
يب وزك .فَ تَْتبَ عُهُ ُكنُ ُ َ َ َ ْخ ِربَة فَ يَ ُق ُ َ ْ ٌ ْ ْ َ ْ ََُّ
ف فَ يَ ْقطَعُهُ َج ِزلَتَ ْي ِن َرْميَةَ الْغََر ِ ض ِربهُ بِالس ْي ِ ِ
ض، النّ ْح ِل ،ثُ ّم يَ ْدعُو َر ُجالً ُم ْمتَلئاً َشبَاباً ،فَ يَ ْ ُ ّ
يح ِ
ث اللّهُ ال َْمس َ ك إِ ْذ بَ َع َ ك ،فَ بَ ْي نَ َما ُه َو َك َذلِ َ ض َح ُ ّل َو ْج ُههُ ويَ ْ ِ
ثُ ّم يَ ْدعُوهُ فَ يُ ْقب ُل َويَتَ َهل ُ
ابن مريم عليه السالم ،فَ ي ْن ِز ُل ِع ْن َد الْمنارِة الْب ي َ ِ
ودتَ ْي ِن. ضاء َش ْرقِ ّي ِد َم ْش َق .بَ ْي َن َم ْه ُر َ ََ َ َ ْ َ ْ َ َ َْ َ
طرَ ،وإِ َذا َرفَ َعهُ تَ َح ّد َر ِم ْنهُ ُج َما ٌن ِ ِ
َجن َحة َملَ َك ْينن ،إ َذا طَأْطَأَ َرأْ َسهُ قَ َ
اضعاً َك ّفي ِه َعلَى أ ِ ِ
ْ َ ْ و ِ
َ
ث يَنْتَ ِهي سهُ يَنْتَ ِهي َح ْي ُ يح نَ َف ِس ِه إِالّ َم َ ِ ِ ِ ِ
اتَ ،ونَ َف ُ َكالل ّْؤلُ ِؤ ،فَالَ يَح ّل ل َكاف ٍر يَج ُد ِر َ
يسى ابْ َن َم ْريَ َم إلى قَ ْوٍم قَ ْد ِ ِ ِ ِ
طَ ْرفُهُ ،فَ يَطْلُبُهُ َحتّ َى يُ ْد ِرَكهُ ببَاب لُ َد ،فَ يَ ْقتُ لُهُ ،ثُ ّم يَأْتي ع َ
ْجنّ ِة ،فَ بَ ْي نَ َما ُه َو ِ ِ ِ ِ
ص َم ُه ُم اللّهُ م ْنهُ ،فَ يَ ْم َس ُح َع ْن ُو ُجوه ِه ْم َويُ َح ّدثُ ُه ْم بِ َد َر َجات ِه ْم في ال َ َع َ
ت ِعباداً لِي ،الَ ي َد ِ ِ ِ َك َذلِ َ ِ
ان َ يس َى عليه السالم :إِنّي قَ ْد أَ ْخ َر ْج ُ َ ك إ ْذ أ َْو َح َى اللّهُ إلَ َى ع َ
ب وج ِم ْن ُكل َح َد ٍ ْج َوج َوَمأ ُْج َ ث اللّهُ يَأ ُ َح ٍد بِِقتالِ ِه ْم ،فَ َح ّر ْز ِعبَ ِادي إِلَ َى الطّوِرَ .ويَ ْب َع ُ أل َ
ّ
آخ ُر ُه ْم فَ يَ ُقولُو َن: ي ْن ِسلُو َن .فَ يمر أَوائِلُهم علَى بحي رِة طَب ِري َة ،فَ ي ْشربو َن ما فِيها ،ويمر ِ
َ ُّ َ ُ ْ َ َ ُ َ ْ َ َ ّ َ َُ َ َ ََ ُّ َ
َص َحابُهُ َحتّ َى يَ ُكو َن ِ ِ لَ َق ْد َكا َن بِ َها َمرًة َماءٌ ،ويُ ْح َ ِ
يس َى عليه السالم َوأ ْ ص ُر نَب ّي اللّه ع َ َ ّ
ِ
ب نَبِ ّي الل ِّه عي َس َى ِ ِ
رأْس الثّوِر ألَح ِد ِهم َخيراً من مائَ ٍة ِدينَا ٍر أل ِ
َحد ُك ُم الْيَ ْوَم ،فَ يَ ْرغَ ُ َ َ ُ ْ َ ْ ْ ْ
صبِحو َن فَ رسى َكمو ِ َصحابهُ فَ ي ر ِسل اللّهُ َعلَي ِهم النّ غَ َ ِ
س ت نَ ْف ٍ ْ َ َ َْ ف في ِرقَابِ ِه ْم ،فَ يُ ْ ُ ْ ُ َوأ ْ َ ُ ُ ْ ُ
ض ،فَالَ يَ ِج ُدو َن َص َحابُهُ إِلَى األ َْر ِ ِ ِ اح َد ٍة ،ثُم يَ ْهبِ ُ ِ وِ
يس َى عليه السالم َوأ ْ ط نَب ّي اللّه ع َ ّ َ
ِ ِ ض َع ِش ْب ٍر إِالّ َمألَهُ َزَهم ُه ْم ونَ ْت نُ ُه ْم ،فَ يَ ْرغَ ِ ض مو ِ ِ
يس َى عليه ب نَب ّي اللّه ع َ ُ ُ َ في األ َْر ِ َ ْ
ت ،فَ تَ ْح ِملُ ُه ْم فَ تَط َْر ُح ُه ْم اق الْب ْخ ِ ِ ِ ِ
َص َحابُهُ إِلَ َى اللّه ،فَ يُ ْرس ُل اللّهُ طَْيراً َكأَ ْعنَ ُ السالم َوأ ْ
ض ِ
ت َم َد ٍر َوالَ َوبَ ٍر ،فَ يَ غْس ُل األ َْر َ اء اللّهُ ،ثُ ّم يُ ْر ِس ُل اللّهُ َمطَراً الَ يَ ُك ّن ِم ْنهُ بَ ْي ُ ث َش َ َح ْي ُ
ك ،فَ يَ ْوَمئِ ٍذ تَأْ ُك ُل ك ،ور ّدي ب رَكتَ ِ ِ ال لِألَر ِ ِِ حتّى ي تْ رَكها َك ِ
ض :أَنْبتي ثَ َم َرتَ َ ُ َ َ الزلََفة ،ثُ ّم يُ َق ُ ْ َ َ ََُ ّ
الر ْس ِلَ ،حتّ َى أَ ّن اللّ ْق َحةَ ِم َن ِ ِ ِِ ِ
الرّمانَةَ ،ويَ ْستَظلّو َن بق ْحف َهاَ ،ويُبَ َار ُك في ّ
ِ ِ
صابَةُ م َن ّ
ِ
الْع َ
اس َواللّ ْق َحةَ اسَ ،واللّ ْق َحةَ ِم َن الْبَ َق ِر لَتَ ْك ِفي الْ َقبِيلَةَ ِم َن النّ ِ ا ِإلبِ ِل لَتَ ْك ِفي ال ِْفئَ َام ِم َن النّ ِ
ث اللّهُ ِريحاً طَيّبَةً، ك إِ ْذ بَ َع َ اس ،فَ بَ ْي نَ َما ُه ْم َك َذلِ َ ِم َن الْغَنَ ِم لَتَ ْك ِفي الْ َف ِخ َذ ِم َن النّ ِ
اس،وح ُك ّل ُم ْؤِم ٍن َوُك ّل ُم ْسلِ ٍمَ ،ويَ ْب َقى ِش َر ُار النّ ِ ض ُر َ
ْخ ُذهم تَح َ ِ
ت آبَاط ِه ْم ،فَ تَ ْقبِ ُ فَ تَأ ُ ُ ْ ْ
َ
ِ
اعةُ}. الس َوم ّ ْح ُم ِر ،فَ َعلَْي ِه ْم تَ ُق ُار َج ال ُيَتَ َه َار ُجو َن ف َيها تَ َه ُ
وأما النار الخارجة من اليمن فهي الحاشرة للناس كما صرح به في الحديث.
قال العلماء :وأنواع الحشر أربعة ،اثنان في الدنيا ،أحدهما إجالؤه عليه الصالة
والسالم اليهود من المدينة إلى الشام ،وثانيهما سوق النار قرب الساعة إلى
المحشر الناس وغيرهم من كل حي قبل النفخة األولى ،وهؤالء الناس أحياء
الكفار .وأما المؤمن فيموتون قبل ذلك بريح لينة .واثنان في اآلخرة ،أحدهما
جمعهم إلى الموقف بعد إحيائهم ،والثاني صرفهم من الموقف إلى الجنة أو النار.
(فصل) في ذكر حدي ث الموتى في السماع والكالم ،ومعرفته بمن يغسله ومن
يحمله ومن يكفنه ومن يدليه في قبره ،واإلدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد.
أما السماع والكالم فقد رروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي اهلل عنه
ِ ِّ ِ ِ
ب َع ْنهُ ال{ :ال َْع ْب ُد إِ َذا ُوض َع في قَ ْب ِره َوتُ ُول َي َو َذ َه َ عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قَ َ
ْع َداهُ فَ يَ ُقوالَ ِن لَهَُ :ما ُك ْن َ ِ أَصحابه حتَّى إنَّه يسمع قَ ر َ ِ ِ
ولت تَ ُق ُ ع ن َعال ِه ْم أَتَاهُ َملَ َكان فَأَق َ ُ َ َُْ ْ ْ َ ُُ َ
ال انْظُْر إِلَى ول :أَ ْش َه ُد أَنَّهُ َع ْب ُد اللَّ ِه َوَر ُسولُهُ ،فَ يُ َق ُ الر ُج ِل ُم َح َّم ٍد؟ ،فَ يَ ُق ُ فِي َه َذا َّ
صلَّى اللَّهُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم: ْجن َِّة .قَ َ ِ ِ َم ْق َع ِد َك ِم ْن النَّا ِر أَبْ َدلَ َ
ال النَّبِ ُّي َ ك اللَّهُ بِه َم ْق َع ًدا م ْن ال َ
َّاس،
ول الن ُ ول َما يَ ُق ُ ت أَقُ ُ ول الَ أَ ْد ِري ُك ْن ُرآه َما َج ِم ًيعاَ .وأ ََّما الْ َكافِ ُر أ َْو ال ُْمنَافِ ُق فَ يَ ُق ُفَ ُ
ص ْي َح ًة ِ ِ ضر ِ ِ ٍ ِ ِ ٍ
يح َب بمط َْرقَة م ْن َحديد بَ ْي َن أُذُنَ ْيه ،فَ يَص ُ ت ،ثُ َّم يُ ْ َ ُ ت َوالَ تَ لَْي َ ال الَ َد َريْ َ
فَ يُ َق ُ
يَ ْس َمعُ َها َم ْن يَلِ ِيه إِالَّ الثَّ َقلَْي ِن}.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل
ت ال َعلَى أَ ْعنَاقِ ِه ْم ،فَِإ ْن َكانَ ْ الر َج ُ
احتَ َملَ َها ِّْجنَ َازةُ َو ْ
ت ال َ ض َع ْعليه وسلم قال{ :إِذَا و ِ
ُ
ت :يَا َويْ لَ َها أَيْ َن تَ ْذ َهبُو َن بِ َها، صالِ َح ٍة قَالَ ْ
ت غَْي َر َ ِّمونِيَ ،وإِ ْن َكانَ ْ ت :قَد ُ صالِ َحةً قَالَ ْ َ
ص ِع َق} .وروى البخاري أيضا عن اإلنْ َسا َنَ ،ولَ ْو َس ِم َعهُ َ ص ْوتَ َها ُك ُّل َشي ٍء إِالَّ ِْ يَ ْس َم ُع َ
ْ
ألهلِ َها :يَا َويْ لَ َها ،وقالَ :ولَ ْو َس ِم َع ت ْ الليث بن سعد ،فذكر بمثله ،وقال{ :قَالَ ْ
ص ِع َق}.اإلنْ َسا ُن لَ َ
وروى الطبراني في األوسط عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه أن النبي
ف من يغسله ويحمله و يكفنه ومن صلى اهلل عليه وسلم قال{ :إن الميت يَ ْع ِر ُ
يدليه في حفرته} ،وكان سعيد بن جبير رضي اهلل عنه يقول{ :إن األموات لتأتيهم
أخبار األحياء؟ ،فما من أحد له حميم} أي قريب {إال ويأتيه خبر أقاربه ،فإن كان
خيرا سر به وفرح ،وإن كان شرا عبس له وحزن} .وكان ابن منبه رحمه اهلل تعالى
يقول { :إن اهلل تعالى بنى دارا في السماء السابعة ،يقال لها البيضاء ،تجمع فيها
أرواح المؤمنين ،فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته األرواح فيسألونه عن أخبار
الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم من سفرعليهم} رواه أبو نعيم في الحلية.
وأما اإلدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد فقد ورد عن البراء بن عازب
رضي اهلل عنه حديث طويل جامع ألحكام الموتى ،وفيه التصريح بعود الروح إلى
الجسد .قال البراءَ { :خ َر ْجنَا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في جنازة رجل من
األنصار ،فانتهينا إلى القبر ،ولما يلحد ،فجلس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
وجلسنا حوله -كأنما على رؤوسنا الطير -فجعل يرفع بصره وينظر إلى السماء،
ويخفض بصره وينظر إلى األرض ،ثم قال" :أعوذ باهلل من عذاب القبر" ،قالها
مرارا ،ثم قال " :إن العبد المؤمن إذا كان في قبل من اآلخرة وانقطاع من الدنيا
جاءه ملك ،فجلس عند رأسه ،فيقول" :أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة
من اهلل ورضوان" ،فتخرج نفسه وتسيل كما تسيل قطرالسقاء ،وتنزل المالئكة من
الجنة ،بيض الوجوه ،كأن وجوههم الشمس ،معهم أكفان من أكفان الجنة ،وحنوط
من حنوطها ،فيجلسون منه مد البصر ،فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة
عين ،فذلك قوله تعالى عز وجل " :تَ َوفَّ تْهُ ُر ُسلُنَا َو ُه ْم ال يُ َف ِّرطُو َن" .قال :فتخرج
نفسه كأطيب ريح وجدت ،فتعرج به المالئكة ،فال يأتون على جند} .وفي رواية:
{ فال يزالون يمرون باألمم السابقة والقرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر بين
السماء واألرض إال قالوا :ما هذه الروح؟ ،فيقال :فالن بأحب أسمائه حتى ينتهوا
به إلى باب السماء الدنيا ،فتفتح له ،ويشيعه من كل سماء مقربوها ،حتى ينتهي
ِ إلى السماء السابعة ،فقول :اكتبوا كتابه في عليين" ،وما أَ ْدر َ ِ
اك َما علِّيُّو َن .كتَ ٌ
اب ََ َ
وم .يَ ْش َه ُدهُ ال ُْم َق َّربُو َن" ،فيكتب كتابه في عليين ،ثم يقال :ردوه إلى األرض،
َم ْرقُ ٌ
فإني وعدتهم إني منها خلقناهم ،وفيها نعيدهم ،ومنها نخرجهم تارة أخرى ،فترد
إلى األرض ،وتعاد روحه إلى جسده ،فيأتيه ملكان شديدان اإلنتهار ،فينتهرانه
ِ ك؟َ ،وَما ِديْ نُ َ
ك؟ فَ يَ ُق ْو ُلَ :ربِّ َي اهللُ ،وديْ ْني ا ِإل ْس ُ
الم، ويجلسانه ،فيقوالنَ :م ْن َربُّ َ
ث فِ ْي ُكم؟ ،فَ ي ُقو ُلُ :هو رسو ُل ِ
اهلل. الر ُج ِل الَّ ِذ ْي بُِع َ ِ ِ
َ َ ُْ ْ َ ْ فَ يَ ُق ْوالَن :فَ َما تَ ُق ْو ُل ف ْي َه َذا َ
ات ِمن ربِّنَا فآمنْ ُ ِ ك؟ فَ ي ُقو ُل :جاءنَا بِالب يِّ نَ ِ ِ
ال:
ْت} .قَ َ ت بِه َو َ
ص َّدق ُ َ ْ َ فَ يَ ُق ْوالَنَ :وَما يُ ْد ِريْ َ َ ْ َ َ َ
ْحيَ ِاة ُّ
الدنْ يَا َوفِي ِ ِ
آمنُوا بِالْ َق ْوِل الثَّابِت في ال َين َ
َّ ِ
ت اللَّهُ الذ َ ك قَ ْولهُ تَ َعالى" :يُثَبِّ ُ َوذَلِ َ
ص َد َق َع ْب ِد ْي .فالبسوه من الجنة، ِ ٍ ِ ِ ِ ِ
الس َماء :قَ ْد َ ْاآلخ َرة" .قالَ { :ويُنَادى ُمنَاد م َن َ
ويفرش منها ،ويرى منزله ويفسح له مد بصره ،ويمثل له عمله في صورة رجل حسن
الوجه ،طيب الريح حسن الثياب ،فيقول :أبشر بما أعد اهلل عز وجل لك ،أبشر
شرك اهلل بخير ،من أنت؟
برضوان من اهلل وجنات فيها نعيم مقيم ،فيقول :ب ّ
فوجهك الوجه الذي جاءنا بخير ،فيقول :هذا يومك الذي كنت توعد ،واألمر
الذي كنت توعد ،وأنا عملك الصالح ،فواهلل ما علمتك إال كنت سريعا في طاعة
اهلل ،بطيئا عن معصية اهلل ،فجزاك اهلل خيرا .فيقول :يا رب أقم الساعة كي أرجع
إلى أهلي ومالي .قال :وإن كان فاجرا ،فإذا كان في قبل من اآلخرة وانقطاع من
الدنيا جاءه ملك ،فجلس عند رأسه ،فيقول :اخرجي أيتها النفس الخبيثة ،أبشري
بسخط اهلل وغضبه .فتنزل مالئكة سود الوجوه ،معهم مسوح ،فإذا قيضها الملك
قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين .قال :فتفرق في جسده ،فيسخرجها تقطع
معها العروق والعصب ،كالسفود الكبير الشعب في الصوف المبلول ،فتؤخذ من
الملك فتخرج كأنتن ريح وجدت ،فال تمر على جند بين السماء واألرض إال قالوا:
ما هذه الروح الخبيث؟ فيقولون :هذا فالن بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى السماء
الدنيا ،فال يفتح له ،فيقول :ردوه إلى األرض ،إني وعدتهم أني منها خلقناهم،
وفيها نعيدهم ،ومنها نخرجهم تارة أخرى .قال :فيرمي به من السماء ،قال :فتال
هذه اآلية" :ومن يشرك باهلل فكأنما خر من السماء" اآلية .ويعاد إلى األرض ،وتعاد
فيه روحه ،ويأتيه ملكان شديدا اإلنتهار فينتهرانه ويجلسانه ،فيقول :من ربك؟ وما
يت ،فيضيق قبره
دينك؟ ،قال :ال أدري ،سمعت الناس يقولون ذلك ،فيقول :ال در َ
حتى تختلف أضالعه ،ويمثل له عمله في صورة رجل ،قبيح الوجه ومنتن الريح،
كفو ْج ُه َ
قبيح الثياب ،فيقول :أبشر بعذاب من اهلل وسخطه ،فيقول :من أنت؟ َ
الو ْجهُ الذي جاء بالشر ،فيقول :أنا عملك الخبيث ،واهلل ما علمتك إال كنت بطيئا
َ
عن طاعة اهلل ،سريعا إلى معصية اهلل ،فيقبض له ملك أصم أبكم معه مرزبة لو
ضربت بها جبل صار ترابا أو رميما ،فيضربه ضربة يسمعها الخالئق إال الثقلين ،ثم
تعاد فيه الروح ،فيضربه ضربة أخرى} .وهذا الحديث أخرجه جماعة من األئمة في
مسانيدهم ،منهم اإلمام أحمد.
وقال إمام الحرمين والفقيه أبو بكر بن العربي واإلمام سيف الدين اآلمدي:
اتفق سلف األمة قبل ظهور المخالف ،وأكثرهم بعد ظهوره على إثبات أحياء
الموتى في قبورهم ،ومسألة الملكين لهم ،وإثبات عذاب القبر للمجرمين
َحيَ ْيتَ نَا اثْ نَتَ ْي ِن} أي حياة المسألة في القبر وحياة
والكافرين ،وقوله تعالىَ { :وأ ْ
الحشر ،ألنهما حياتان عرفوا اهلل بهما ،والحياة األولى في الدنيا لم يعرفوا اهلل بها.
ثم اعلم أن ما تضمنه هذا الحديث ،من ملك الموت ومنكر ونكير وغيرهم
ومنازل اآلخرة من األمور المتشابهات وصفا ،ال طريق ألحد في إدراك شيء من
أوصافها بالعقل ،فيكون العبد به مبتلى بنفس اإلعتقاد ال غير ،وأن أهل السنة
اتفقوا على أن األموات ينتفعون من سعي األحياء بأمرين :أحدهما ما تسبب إليه
الميت في حياته ،والثاني دعاء المسلمين و استغفارهم له والصدقة والحج عنه.
واختلفوا في العبادات البدنية كالصوم والصالة وقراءة القرآن والذكر ،فذهب
جمهور السلف إلى وصولها ،وذهب أهل البدع إلى عدم وصول شيء البتة ،ال
س
الدعاء وال غيره .وقوله مردود بالكتاب والسنة ،و استدالله بقوله تعالىَ { :وأَ ْن لَْي َ
ان إَِّال َما َس َعى} مدفوع بأنه سبحانه وتعالى لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، لِ ِْإلنْس ِ
َ
وإنما نفى ملك غير سعيه .و أما سعي غيره فهو ملك لساعيه ،فإن شاء أن يبذله
لغيره ،و إن شاء أن يبقيه لنفسه ،وهو سبحانه وتعالى لم إنه ال ينتفع إال بما سعى.
و هذا آخر الكتاب .واهلل أعلم بالصواب ،وإليه المرجع و المآب ،وهو
حسبي ونعم الوكيل ،والحول وال قوة إال باهلل العلي العظيم .وصلى اهلل على سيدنا
محمد و على آله وأصحابه والتابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد هلل رب العالمين.