Professional Documents
Culture Documents
المتعدي أفضل من القاصر د. مسلم الدوسري PDF
المتعدي أفضل من القاصر د. مسلم الدوسري PDF
المتعدي أفضل من القاصر د. مسلم الدوسري PDF
�إعداد:
د .م�سلّم بن حممد الدو�رسي
الأ�ستاذ امل�شارك بق�سم �أ�صول الفقه
ال�سالمية
المام حممد بن �سعود إ كلية ال�رشيعة -جامعة إ
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
18
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
املقدمة
متهيدٌ
يف �أهمية املفا�ضلة بني الأعمال ،و�أ�سبابها
ال�شرائع ،وكمال ربوبيته على خلقه ،واكتمال عبودية اخللق خلالقهم عز
وجل ،وحتقيق العدل يف الأعمال والأ�شخا�ص.
كما �أن العمل وفق مقت�ضيات امل�صالح الراجحة �أو املفا�سد الغالبة هو
من �أعظم مقا�صد ال�شريعة ،ويتجلى هذا املق�صد من خالل مراعاة الوجوه
ال�شرعية للمفا�ضلة و�أ�سبابها املعتربة ،التي من خاللها ُتق ّدم امل�صالح
وتراعى املفا�سد الراجحة.
ُي�ضاف �إلى هذا �أن يف مراعاة �أحوال التفا�ضل حتقي ًقا ملق�صد رفع احلرج
والتي�سر على املكلفني؛ وذلك �أن اختالف �أحوال التفا�ضل باختالف الأحوال،
حال �أخرى ،بح�سب اختالف اً
مف�ضول يف ٍ حال قد يكون فما يكون اً
فا�ضل يف ٍ
الأزمنة �أو الأمكنة �أو الأ�شخا�ص ،وهذا من متام الي�سر ورفع احلرج؛ �إذ �إن
التفات �إلى اختالف الأحوال مدعا ٌة �إلى
ٍ املفا�ضلة املطلقة بني الأعمال دون
وقوع العنت والع�سر ،ويف هذا يقول �شيخ الإ�سالم ابن تيمية�“ :أكرث النا�س
وجه ال ينتفعون به،
يعجزون عن �أف�ضل الأعمال ،فلو �أمروا بها لفعلوها على ٍ
مرجوحا ،فيكون يف حق �أحد ه�ؤالء العمل الذي ينا�سبه
ً انتفاعا
ً �أو ينتفعون
الذكر لكثري من النا�سوينتفع به �أف�ضل له مما لي�س كذلك ،ولهذا يكون ِّ
�أف�ضل من قراءة القر�آن.)1(”...
الوجه الثاين :حتقيق كمال االمتثال بالوقوف عند حدود ال�شرع. 24
وذلك �أن النا�س جتاه الأعمال عند تزاحمها من يخطئ املق�صود ،فيقدم
املف�ضول و ُيهمل الفا�ضل� ،أو يبالغ يف تقدمي الفا�ضل متجاو ًزا به ما �شرع
اهلل ،اعتمادًا على رجحانه ،وقد يح�صل �أن ُيهمل املف�ضول بالكلية مع �إمكان
حال �أخرى ،ولذا ف�إن �إدراك وجوه الرتجيح واملفا�ضلة بني حت�صيله يف ٍ
�شرعا مما يعني على
الأعمال عند تزاحمها وفق �أ�سباب املفا�ضلة املعتربة ً
((( جمموع الفتاوى (.)237/24
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
القيام بالعمل وفق مراد ال�شرع ومق�صوده ،كما �أن �إدراك وجوه املفا�ضلة بني
الأعمال مما مينع ا�ضطراب اخللق وتفاوتهم يف تقدمي العمل الذي من حقه
التقدمي ،فتنتظم بذلك �أحوال اخللق.
الوجه الثالث :الأخذ بالراجح من الأعمال عند تزاحمها.
وذلك �أن الأعمال �إذا تعار�ضت وتزاحمت ف�إن املخرج من ذلك �أن
ُيق َّدم الفا�ضل على املف�ضول ،وهذا ال يكون �إال �إذا ح�صل متام الفقه بوجوه
مطلوب ،وما يو�صل
ٌ املفا�ضلة بني تلك الأعمال املتزاحمة ،ف�إن العمل بالراجح
مطلوب ،ف�إذا ح�صل �إدراك الفا�ضل من الأعمال يقي ًنا �أو
ٌ �إلى املطلوب فهو
ظ ًّنا ب�إدراك �أوجه املفا�ضلة و�أ�سبابها ،فقد حتقق مق�صود املفا�ضلة ،ومعلو ٌم
�أن املجتهد م�أمو ٌر بالأخذ بالراجح الفا�ضل ،فيكون جهله بوجوه التف�ضيل
مف�ض ًيا �إلى جمانبة احلق وال�صواب.
الوجه الرابع :حتقيق مبد�أ العدل والق�سط.
وذلك �أن �إدراك فقه املفا�ضلة بني الأعمال مما يعني على حتقيق العدل
والق�سط الذي �أمر اهلل به؛ ف�إن من غفل عن النظر يف وجوه التفا�ضل
و�أ�سبابه ف�إنه �سيقع يف اخلط�أ وتقدمي ما حقه الت�أخري ،وجعل الفا�ضل
جهل ،وقد يكون عن هوى ،وكال احلالني حك ٌم اً
مف�ضول ،وذلك قد يكون عن ٍ
25 بنقي�ض العدل والق�سط� ،إال �أن تقدمي املف�ضول على الفا�ضل عن هوى هو
يف�ضل املف�ضول مع علمه ب�أنه مف�ضو ٌل ،ويحكم
غاية الظلم� ،إذ �إن الظامل ّ
ب�أن املف�ضول ي�ستحق تلك املنزلة دون الفا�ضل ،وهذا غاية اجلهل والظلم(.)1
و�إذا تقرر هذا ف�إن للمفا�ضلة بني الأعمال �أ�سبا ًبا يح�سن �إدراكها ،لي�سهل
الوقوف على وجوه املفا�ضلة بني الأعمال املتزاحمة ،ولذا يقول ابن القيم:
“فعلى املتكلم يف هذا الباب �أن يعرف �أ�سباب الف�ضل � اًأول ،ثم درجاتها،
((( اجلواب ال�صحيح (.)133 ،131/5
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
بع�ض ،واملوازنة بينها ثان ًيا ،ثم ن�سبتها �إلى من قامت به
ون�سبة بع�ضها �إلى ٍ
ثال ًثا كرث ًة وقو ًة ،ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت حملها راب ًعا. ”...
()1
و�أكرث اخلط�أ الواقع يف التف�ضيل يرجع �إلى عدم �إدراك الأ�سباب ال�شرعية
ال�صحيحة للتف�ضيل� ،أو عدم التفريق بني وجوه التف�ضيل مقيدً ا �أو مطل ًقا
جن�سا �أو �أفرادًا(.)2
ً
وملا كان التف�ضيل بني الأعمال حك ًما �شرع ًّيا ،كان البد �أن تكون �أ�سباب
املفا�ضلة �شرعي ًة �أي�ضً ا ،ومل يرد يف ال�شرع حتديد �أ�سباب املفا�ضلة بني
منا�سبات خمتلف ٍة تف�ضيل بع�ض الأعمال علىٍ الأعمال� ،إال �أنه قد ورد يف
بع�ض ،ومن جمموع هذه املنا�سبات قد يح�صل تقريب هذه الأ�سباب ،ويف ٍ
هذا يقول ابن الزملكاين“ :العبادات والقربات فيها �أف�ضل ومف�ضول ،وقد
دل على ذلك املعقول واملنقول ،ومنها ما يو�صل �إلى املقام الأ�سنى ،لكن قد
ف�ضل ،فليف�صل ذلك ليتخذه � اً
أ�صل، يعر�ض للمف�ضول ما يك�سبه على غريه اً
ف�إن العبادة تف�ضل تار ًة بح�سب زمانها ،و�أخرى بح�سب مكانها ،وطو ًرا بح�سب
حال املت�صف بها ،و�آون ًة مبقت�ضى �سببها ،ومر ًة ترتجح لعموم االنتفاع،
و�أخرى بوقوعها يف بع�ض الأزمنة �أو البقاع”(.)3
وبا�ستقراء موا�ضع التف�ضيل يف �أحكام ال�شرع يتقرر منها �أن �أ�سباب
عام ،وهوِ :ع َظم امل�صلحة املرتتبة على القيام
واحد ٍ
�سبب ٍ
التف�ضيل ترجع �إلى ٍ 26
بالعمل.
وهذه امل�صلحة قد تعود على العمل �إذا كان العمل قا�صر النفع ،وقد تعود
على املعمول له �أو عليهما م ًعا �إذا كان العمل متعدي النفع ،ويف هذا يقول العز
ابن عبدال�سالم“ :فهذان الق�سمان()4مبنيان على رجحان م�صالح الأعمال،
بدائع الفوائد (.)126/3 (((
انظر :ق�ضاء الأرب يف �أ�سئلة حلب (�ص.)394 (((
في�ض القدير (.)7/4 (((
�أي تقدمي العمل املتعدي تار ًة وتقدمي العمل القا�صر تار ًة �أخرى. (((
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
ف�إنْ كانت م�صلحة القا�صر �أرجح من م�صلحة املتعدي فالقا�صر �أف�ضل من
املتعدي ،و�إنْ كانت م�صلحة املتعدي �أرجح ُقدمت على القا�صر”(.)1
وقال القرايف“ :قول الفقهاء :القربة املتعدية �أف�ضل من القا�صرة ال
بدرهم ،و�إمنا الف�ضل على
ٍ ي�صح ،لأن الإميان واملعرفة �أف�ضل من الت�صدق
قدر امل�صالح النا�شئة من القربات”(.)2
رجحان امل�صلحة التي هي �سبيل
ِ وهناك جهاتٌ عدة هي معرفاتُ
التف�ضيل بني الأعمال ،وهذه اجلهات ترجع �إلى العمل ذاته( ،)3وذلك قد
يكون من جهة الكيفية �أو من جهة الكمية �أو من جهة احلكم �أو من جهة
امل�شاق �أو من جهة نوع العمل وثمرته.
فمن �أمثلة املفا�ضلة بني الأعمال من جهة كيفية العمل تف�ضيل قراءة
الذكر ،وجن�س ال�صالة �أف�ضل من جن�س ال�صيام، القر�آن الكرمي على جن�س ِّ
ولذا يقول العز بن عبدال�سالم“ :فمن الأعمال ما يكون �شري ًفا بنف�سه وفيما
ُرتب عليه من جلب امل�صالح ودرء املفا�سد ،فيكون القليل منه �أف�ضل من
الكثري من غريه ،واخلفيف منه �أف�ضل من ال�شاق من غريه”(.)4
واملفا�ضلة بني الأعمال من جهة الكيفية التي ترجع �إلى العامل قد تكون
بالنظر �إلى باطن العامل ،وقد تكون بالنظر �إلى ظاهره.
27 أمر
وهذا التف�ضيل بني الأعمال من جهة كيفيتها �إما �أن يكون بنا ًء على � ٍ
ظاهر.
أمر ٍباطن ،وقد يكون بنا ًء على � ٍ
ٍ
فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص.)141 (((
الذخرية (.)357/13 (((
ذكر بع�ض الباحثني �أن املفا�ضلة بني الأعمال قد تكون من جهة العامل �أي�ضً ا �سوا ٌء يف الكيفية �أو الكمية. (((
انظر :املفا�ضلة يف العبادات (�ص .)137-100والذي �أراه �أن املفا�ضلة بني الأعمال ال تكون �إال من جهة
العمل ،وما مت �إيراده من �أن املفا�ضلة فيه كانت من جهة العامل فواقعها يرجع �إلى التفا�ضل من جهة
العمل ال العامل ،خا�صة ًو�أن ال�شرع مل يعهد عنه �إناطة الأحكام ب�أعيان الأ�شخا�ص حتى ميكن �أن يكونوا
حملاًّ للمفا�ضلة.
قواعد الأحكام (�ص.)28 (((
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
فمثال تف�ضيل الأعمال بالنظر �إلى باطنها :املفا�ضلة بينها بح�سب ما يف
القلوب من الإميان واملحبة والتعظيم والإجالل والإخال�ص ،ولذا يقول ابن
إخال�ص تكون �أعظم من و�صدق و� ٍٍ تيمية“ :والعبد قد ي�أتي باحل�سنة بني ٍة
�أ�ضعافها”( ،)1وقال ابن القيم“ :تفا�ضل الأعمال لي�س بكرثتها وعددها ،و�إمنا
ب�إكمالها و�إمتامها وموافقتها لر�ضا الرب و�شرعه”( ،)2وقال �أي�ضً ا“ :فتفا�ضل
الأعمال عند اهلل بتفا�ضل ما يف القلوب من الإميان والإخال�ص واملحبة وتوابعها،
كامل ،والناق�ص بح�سبه، وهذا العمل الكامل هو الذي يك ّفر الذنوب تكف ًريا اً
وبهاتني القاعدتني تزول �إ�شكاالتٌ كثري ٌة ،وهما :تفا�ضل الأعمال بتفا�ضل ما يف
القلوب يف حقائق الإميان ،وتكفري ال�سيئات بح�سب كماله ونق�صانه”(.)3
و�أما تف�ضيل الأعمال بالنظر �إلى ظواهرها فاملق�صود به �أن يقع العمل
وفق ما �أمر به اهلل عز وجل �أو ما �أمر به ر�سوله ،Sب�أن ال يتعمد املكلف
النق�ص من العبادة �أو الزيادة عليها خال ًفا ملا جاء به ال�شرع.
و�أما املفا�ضلة بني الأعمال من جهة كمية العمل فيعني �أن جن�س العمل
الكثري �أف�ضل من جن�س العمل القليل ،ف�إذا كانت ال�صالة �أف�ضل من ال�صيام
يوم
واحلج ،فال يعني هذا �أن تكون ركعتان �أف�ضل من حجة التطوع �أو �صيام ٍ
كامل ،و�إمنا املق�صود تف�ضيل جن�س ال�صالة على جن�س ال�صيام واحلج، ٍ
ولذا يقول النووي“ :لي�س املراد بقولهم ال�صالة �أف�ضل من ال�صوم �أن �صالة
ركعتني �أف�ضل من �صيام �أيام؛ ف�إن ال�صوم �أف�ضل من ركعتني بال�شك”(،)4 28
ويقول العز بن عبدال�سالم�“ :إذا احتد نوع امل�صلحة واملف�سدة كان التفاوت
وثوب وثوبني و�شا ٍة و�شاتني”(.)5
بدرهم ودرهمنيٍ ، ٍ بالقلة والكرثة ،كال�صدقة
وقد � ّأ�صل القرايف قاعد ًة يف هذا املعنى ،فقال“ :كرثة الثواب كرثة
جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (.)660/11 (((
املنار املنيف (�ص.)41 (((
الوابل ال�ص ّيب (�ص.)15 (((
املجموع (.)239/3 (((
الفوائد يف اخت�صار املقا�صد (�ص.)143 (((
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
الفعل ،وقلة الثواب قلة الفعل”( ،)1ثم ع ّلل لهذه القاعدة ب�أن كرثة الأفعال
يف القربات ت�ستلزم كرثة امل�صالح غال ًبا(.)2
فعل كان �أكرث اً
ف�ضل)( )3من �أجل وقد ق ّعد العلماء قاعدة (ما كان �أكرث اً
�ضبط �أحكام هذه املعاين.
و�أما املفا�ضلة بني الأعمال من جهة احلكم؛ فمن املعلوم �أن الأحكام
التكليفية خم�س ٌة ،وهي الوجوب ،والندب ،والتحرمي ،والكراهة ،والإباحة.
ففي جانب امل�أمورات يكون فعل الواجب �أف�ضل من فعل املندوب ،ويف
املنهيات يكون اجتناب املح ّرم �أف�ضل من توقي املكروه ،وعند تزاحم
امل�أمورات واملنهيات يكون ترك املحرم �أف�ضل من فعل الواجب �أو املندوب،
ويكون ترك املكروه �أف�ضل من فعل املندوب ،ولذا يقول العز بن عبدال�سالم:
وجه ،ويكون الأجر على مفرو�ضها �أف�ضل من “قد تت�ساوى امل�صالح من كل ٍ
نقد �أو قوت
درهم �أو بقر ٍة �أو بع ٍري �أو ٍ
الأجر على مندوبها ،فمن زكى ب�شا ٍة �أو ٍ
مع�شر ،ثم ت�صدق بنظريه ،ف�إن الزكاة �أف�ضل ،و�إن كانت م�صاحلها الدنيويةٍ
وجه” .
()4
مت�ساوي ًة من كل ٍ
و�أما املفا�ضلة بني الأعمال من جهة ما ي�صحبها من امل�شاق ،ف�إنه من
املتقرر �أن الق�صد من التكليف جلب امل�صلحة ودرء املف�سدة ،و�أن اهلل عز
29 وجل مل ي�شرع امل�شقة يف حق هذه الأمة كي ُيتقرب بها �إليه� ،إال �أن امل�شقة غري
�سبب
املق�صودة من املكلف التي تقع يف طريق القيام بالتكاليف ال�شرعية ٌ
ملفا�ضلة العمل على غريه ،ويف هذا جم ٌع بني الن�صو�ص الواردة يف ذم ق�صد
امل�شقة يف العمل والن�صو�ص الواردة يف ترتيب زيادة الأجر على ما ت�ضمنه
العمل من م�شق ٍة.
�أنوار الربوق (.)133/2 (((
انظر :املرجع ال�سابق. (((
الأ�شباه والنظائر لل�سيوطي (�ص.)268 (((
الفوائد يف اخت�صار املقا�صد (�ص.)142 (((
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
ففي ق�صة �أبي �إ�سرائيل عندما نذر �أن يقوم وال يقعد وال ي�ستظل
وال يتكلم وي�صوم ،فقال النبي ُ « :Sمره فليتكلم ولي�ستظل وليقعد وليتم
�صومه»( ،)1فنهاه النبي Sعن امل�شقة املجردة التي ال م�صلحة فيها ،و�أبقى
ما فيه م�صلحة.
�شيخا ُيهادى بني ابنيه ،قال« :ما ُ
بال هذا؟» ،قالوا: وملا ر�أى النبي ً S
لغني» و�أمره �أن يركب(.)2
نذر �أن مي�شي .قال�« :إن اهلل عن تعذيب هذا نف�سه ٌّ
ف�ألغى النبي Sامل�شقة التي ال م�صلحة فيها؛ ومل يجعل امل�شقة هنا
وج ًها من وجوه تف�ضيل العمل ،وذلك لأن امل�شقة يف هاتني الواقعتني جاءت
مق�صود ًة من املكلف ق�صدً ا ابتدائ ًّيا.
وملا �أمر النبي Sعائ�شة �أن تخرج �إلى التنعيم لت�أتي بعمر ٍة ،قال لها:
نفقتك» �أو« َن َ�ص ِب ِك»(.)3
«ولكنها على قدر ِ
قال النووي“ :هذا ظاه ٌر يف �أن الثواب والف�ضل يف العبادة يكرث بكرثة
ال َّن َ�صب والنفقة ،واملراد :ال َّن َ�صب الذي ال يذمه ال�شرع وكذا النفقة”(.)4
وقال �« :Sأال �أدلكم على ما ميحو اهلل به اخلطايا ،ويرفع به الدرجات؟»
قالوا :بلى يا ر�سول اهلل .قال�« :إ�سباغ الو�ضوء على املكاره ،وكرثة ا ُ
خلطا �إلى
امل�ساجد ،وانتظار ال�صالة بعد ال�صالة ،فذلكم الرباط»(.)5
30
�أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب الأميان والنذور ،باب النذر فيما ال ميلك ويف مع�صية ()164/22 (((
برقم (.)6704
�أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب جزاء ال�صيد ،باب من نذر امل�شي �إلى الكعبة ( )122/7برقم (((
وم�سلم يف �صحيحه يف كتاب النذور ،باب من نذر �أن مي�شي �إلى الكعبة ( )101/11برقم
ّ (،)1865
(.)4336
�أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب العمرة ،باب العمرة على قدر الن�صب( )488/6برقم (،)1787 (((
وم�سلم يف �صحيحه يف كتاب احلج ،باب بيان وجوه الإحرام و�أنه يجوز �إفراد احلج والتمتع والقران
ّ
()29/8برقم (.)2986
�شرح النووي على �صحيح م�سلم (.)123/8 (((
�أخرجه م�سل ٌم يف �صحيحه يف كتاب الطهارة ،باب ف�ضل �إ�سباغ الو�ضوء على املكاره ( )234/2برقم (((
(.)610
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
العمل �إذا كان مبا�شر ًة على العمل لو كان ت�سب ًبا ،ويف�ضل العمل ذي الأثر
النافع على فاعله على ما �سواه ،ويف�ضل العمل ذي النفع املتعدي �إلى الغري
على العمل ذي النفع القا�صر على فاعله.
ويف هذا املعنى يقول �شيخ الإ�سالم ابن تيمية مقر ًرا �أن العمل ذي الأثر
النافع على فاعله �أف�ضل من غريه ،ولو كان جن�س ذلك الغري �أف�ضل“ :وقد
يكون العمل املف�ضول �أف�ضل بح�سب حال ال�شخ�ص املعني؛ لكونه عاجزًا عن
الأف�ضل� ،أو لكون حمبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه باملف�ضول �أكرث ،فيكون
�أف�ضل يف حقه؛ ملا يقرتن به من مزيد عمله وحبه و�إرادته وانتفاعه ...و�إن
الذكر لبع�ض النا�س يف بع�ض كان جن�س ذلك �أف�ضل ،ومن هذا الباب �صار ِّ
الأوقات خ ًريا من القراءة ،والقراءة لبع�ضهم يف بع�ض الأوقات خ ًريا من
ال�صالة ،و�أمثال ذلك؛ لكمال انتفاعه ،ال لأنه يف جن�سه �أف�ضل”( ،)1وقال
�أي�ضً ا“ :وقد يكون �أف�ضل لبع�ض النا�س؛ لأن انتفاعه به �أمت ،وهذا حال �أكرث
النا�س قد ينتفعون باملف�ضول ملنا�سبته لأحوالهم الناق�صة ما ال ينتفعون
بالفا�ضل الذي ال ي�صلون �إلى �أن يكونوا من �أهله”(.)2
وقاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) تدخل يف هذا النوع من املفا�ضلة،
وذلك �أن مالحظة التعدي والق�صور يف �أثر العمل مما يندرج يف ثمرة العمل.
32
املبحث الأول
معنى القاعدة
•و�سي�أتي يف املطلب التايل ذكر ال�ضوابط التي متيز العمل املتعدي عن
العمل القا�صر.
•ولفظ (�أف�ضل) هو �أفعل التف�ضيل ،ويعني الداللة على �أن �شيئني
ا�شرتكا يف �صف ٍة وزاد �أحدهما على الآخر فيها ،وهو ٌ
لفظ �صري ٌح يف
التف�ضيل( ،)1وتقد ِمي �أحد العملني على الآخر ،والتفا�ضل �إمنا يقع بني
�شيئني ف�صاعدً ا ،وال يكون �إال �إذا ثبت للفا�ضل من اخل�صائ�ص ما ال
يوجد مثلها يف املف�ضول( ،)2بحيث ي�ستويان يف رتبة الطلب وينفرد
�أحدهما بخ�صائ�ص التف�ضيل؛ ذلك �أن الأمور امل�شرتكة ال توجب
التف�ضيل(.)3
•ولفظ (القا�صر) من الق�صور ،ويعني ال�شيء الذي يقف �أثره عند ٍّ
حد
مع ٍني وال يتجاوز حمله( ،)4واملق�صود به هنا :العمل الذي يقف نفعه
على �صاحبه وال يتجاوزه �إلى نفع غريه.
•ولي�س املق�صود بالق�صور هنا �أن ال يكون للعمل �أث ٌر ،بل املق�صود �أن
يكون له �أث ٌر لكنه ال يتعدى مو�ضعه ،وال ميتد �إلى غري �صاحبه ب�صور ٍة
مبا�شر ٍة؛ وهذا احرتا ٌز من الأعمال التي يكون �أثرها قا�ص ًرا على
فاعلها �إال �أن لها �أث ًرا على غريه ب�صور ٍة غري مبا�شر ٍة ،ف�إنها تبقى
مثل؛ ف�إنها معدود ٌة من الأعمالقا�صر ًة؛ وذلك كال�صالة وال�صيام اً 34
القا�صر �أث ُرها على فاعلها� ،إال �أن لها �أث ًرا على الغري؛ من جهة �أن
ِ
ما يح�صل لفاعلها من �آثا ٍر حميد ٍة كاال�ستقامة على اخلري وح�صول
التقوى متنعه من الوقوع يف الآثام وتحَ ْ ُج ُر ُه عن ارتكاب املعا�صي،
فيف�ضي ذلك �إلى ا�ستقرار املجتمع و�صالحه.
انظر� :شرح الر�ضي على الكافية ( ،)447/3والكليات (.)130/1 (((
انظر :جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (.)140/17( ،)414/4 (((
انظر :جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (.)286/26 (((
انظر :العني ( )378/1مادة (ق�صر) ،ول�سان العرب ( )95/5مادة (ق�صر). (((
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
35
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
املبحث الثاين
�ألفاظ القاعدة و�أركانها
هذه القاعدة تكرر ذكرها يف كتب الفقه يف جمال التعليل لعدد من
الفروع الفقهية ،ومل تربز يف كتب القواعد الفقهية باعتبارها قاعدة �إال يف
بع�ض كتب القواعد الفقهية ،وممن �أبرزها وعدها قاعدة �أبو عبداهلل املقري
املالكي (ت ٧٥٨هـ) يف كتابه (قواعد الفقه) ،والزرك�شي (ت 749هـ) يف
كتابه (املنثور) ،وال�سيوطي (ت 911هـ) يف كتابه (الأ�شباه والنظائر).
وهذا املطلب معقو ٌد لبيان الألفاظ التي وردت بها هذه القاعدة يف كتب
الفقه والقواعد الفقهية ،مع توثيق هذه الألفاظ من عدد من امل�صادر التي
جاءت فيها.
اللفظ الأول“ :القربة املتعدية �أف�ضل من القا�صرة”.
وهذا اللفظ ذكره املقري يف القاعدة الثالثة وال�ستني بعد املئة ،ون�سب
هذه القاعدة �إلى الفقهاء(.)1 36
اللفظ الثاين“ :العمل املتعدي �أف�ضل من القا�صر”.
وهذا اللفظ ذكره الزرك�شي �ضمن مباحث (العمل) ،وجعل احلديث
عنها �ضمن املبحث الثالث من تلك املباحث (.)2
اللفظ الثالث“ :املتعدي �أف�ضل من القا�صر”.
((( انظر :القواعد (�ص.)162
((( انظر :املنثور (.)420/2
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
38
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
املبحث الثالث
م�سالك تف�ضيل الأعمال املتعدية
معروف ي�صل
ٍ تف�ضيلها ا�ستقراء ن�صو�ص ال�شرع ،التي دلت على تف�ضيل كل
�أثره �إلى اخللق.
ثال ًثا :داللة العرف على تف�ضيل املتعدي على القا�صر.
عمل لكونه متعدي
واملق�صود بهذا �أن تدل عادة عامة النا�س على تف�ضيل ٍ
النفع.
وهذا يعني �أن العرف هنا م�ستن ٌد يف ن�ش�أته �إلى حتقق امل�صلحة املتعدية
واحل َرف التي تعزز ال�صناعة
يف العمل ،ومن �أمثلة هذا� :أن اال�شتغال باملهن ِ
والإنتاج ،وت�ؤدي �إلى اكتفاء البالد من العاملني فيها ،تعد من الأعمال
املتعدية ،وهذا بخالف اال�شتغال باملهن التي ال تعزز الإنتاج ،ويكون نفعها
قا�ص ًرا على �صاحبها ،وهذا التف�ضيل م�صدره العرف امل�ستند �إلى مراعاة
امل�صلحة الراجحة املتعدية النفع.
41
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
املبحث الرابع
�ضوابط التعدي يف الأعمال
هذه القاعدة تدور حول و�صفي التعدي والق�صور ،وهما من الألفاظ التي
يتبادر للذهن طرف من معناهما ،ومع ذلك �أرى �أن من املنا�سب عر�ض
متعد �أو
بع�ض ال�ضوابط التي ميكن من خاللها احلكم على العمل ب�أنه ٍّ
قا�ص ٌر ،وهذه ال�ضوابط لي�ست مطلوبة على �سبيل االجتماع ،ولكن املق�صود
منها تقريب احلكم بالتعدي �أو الق�صور ح�سب نوع امل�سائل الفقهية التي
تجُ رى فيها هذه القاعدة.
ال�ضابط الأول� :أن يت�ضمن العمل نف ًعا متعل ًقا بالغري.
فلو مل يت�ضمن العمل نف ًعا �-أي �أنه ت�ضمن مف�سد ًة� -أو ت�ضمن نف ًعا ال
يتعلق بالغري ف�إنه ال يدخل يف مفهوم العمل املتعدي املراد يف هذه القاعدة.
وحيث �إن الأ�صل فيما يقوم به املكلف من الأعمال �أن تت�ضمن نف ًعا؛ �إال �أن
هذا النفع �إن كان متعل ًقا ب�صاحب العمل فقط ف�إن العمل يكون قا�ص ًرا ،و�إن
42
كان ممتدً ا يف �أثره �إلى الغري كان العمل متعد ًيا.
ال�ضابط الثاين� :أن يكون عملاً بدن ًّيا ال عملاً قلب ًّيا.
وذلك �أن الأعمال القلبية ال تتعدى يف نفعها �صاحبها؛ �إذ ال يت�صور تعدي
النفع �إلى الغري يف عمل القلب ،وذلك كالإميان �أو التوحيد ،ولذا ف�إن ما ُيت�صور
فيه تعدي النفع البد �أن يكون اً
عمل بدن ًّيا ،واملق�صود بالعمل البدين ما ي�شمل
الأقوال والأفعال ،فيدخل يف ذلك العبادات البدنية والعبادات املالية و�سائر
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
املبحث اخلام�س
�شروط �إعمال القاعدة
وهنا يجدر التنبيه �إلى �أنه يف حال عدم تزاحم العملني املتعدي والقا�صر
ووجود اخليار للمكلف يف فعل � ٍأي منهما ف�إن الأف�ضلية تثبت لأحدهما
دليل مع ٍني يدل على تف�ضيل �أحدهما على الآخر� ،أو
باعتبارات �أخرى كوجود ٍ
ٍ
بح�سب رجحان م�صلحة �أحد العملني على الآخر.
ال�شرط الثاين :ا�ستواء العملني املتعدي والقا�صر يف الرتبة.
وهذا ال�شرط ي�شري �إلى �أن الأعمال قد تتفا�ضل بح�سب الرتبة باعتبار
احلكم� ،أو باعتبار حتقيقها للمقا�صد ال�شرعية.
وهذا يعني �أن املفا�ضلة بني املتعدي والقا�صر يف هذه القاعدة يجب �أن تكون
بني واجبني �أو بني مندوبني �أحدهما متعدٍّ والآخر قا�ص ٌر� ،أو بني عملني يقعان
يف مرتبة ال�ضروريات� ،أو يف مرتبة احلاجيات� ،أو يف مرتبة التح�سينيات.
متعد وقا�ص ٌر ،وحكمهما متفاوتٌ وبنا ًء عليه ف�إنه �إذا تزاحم عمالن ٍّ
ك�ضروري
ٍّ متعد وقا�ص ٌر ورتبتهما متفاوت ٌة
ومندوب� ،أو تزاحم عمالن ٍّ
ٍ كواجب
ٍ
التفات �إلى تعديه �أو ق�صوره.
ٍ وحاجي ،ف�إنه يقدم الأعلى رتب ًة منهما دون
ٍّ
حلجاج وتقد ُمي الفر�ض وخدم ُة ا ُ
ُ وهذا مثل ما لو تزاحم لدى املكلف احل ُّج
الإر�شاد والتوعي ِة الدينية لهم ،ف�إن حج الفر�ض مقد ٌم مع �أنه عم ٌل قا�صر
للحجاج مع �أنه عم ٌل متعدي النفع، النفع على �صاحبه على تقدمي اخلدمة ُ
45 وال يت�أتى �إعمال قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) هنا؛ لتفاوت مرتبة
احلكم يف العملني.
ومثل ما لو تزاحم لدى املكلف �صالة الفر�ض مع �إ�سعاف املري�ض عند
وجود من ي�سعفه �سواه ،ف�إن �صالة الفر�ض مقدم ٌة مع �أنها عم ٌل قا�صر النفع
على �صاحبه على �إ�سعاف املري�ض يف هذه احلالة مع �أنه عم ٌل متعدي النفع؛
وذلك الختالف رتبتهما ،فال�صالة الفر�ض تقع يف رتبة ال�ضروريات ،و�إ�سعاف
املري�ض يف هذه احلال يقع يف رتبة احلاجيات.
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
كما هو احلال يف الأذان والإقامة ورد ال�سالم والت�شميت( ،)1فهذه �أعما ٌل
حمدد؛ وذلك يف حال �إذا مل يوجد
�شخ�ص ٍ ٍ م�ستحب ٌة قد تتعني �سنيتها يف حق
من يقوم بها �سواه.
ووجه ا�شرتاط هذا ال�شرط �أن املفا�ضلة وجه من وجوه الرتجيح بني
الأعمال املتزاحمة كما تقدم ،وهذه املفا�ضلة ال تت�أتى حينما يكون للمكلف
خري ٌة يف الإقدام على العمل املتعدي �أو الإحجام عنه.
ف�إذا مل يكن العمل املتعدي متعي ًنا على املكلف ف�إنه ال تت�أتى املفا�ضلة بينه
وبني العمل القا�صر وفق اعتبار التعدي والق�صور ،بل تثبت الأف�ضلية لأحد
دليل مع ٍني يدل على تف�ضيلباعتبارات �أخرى كوجود ٍ
ٍ العملني املتعدي والقا�صر
�أحدهما على الآخر� ،أو بح�سب رجحان م�صلحة �أحد العملني على الآخر.
و�إذا تقرر هذا ف�إنه يجدر التنبيه �إلى �أن �أبا املعايل اجلويني قد ذهب �إلى
تف�ضيل فرو�ض الكفايات على فرو�ض الأعيان مطل ًقا كما هو ظاهر كالمه؛
لأن امل�صلحة املتح�صلة من القيام بفر�ض الكفاية م�صلح ٌة متعدي ٌة تعم الأمة
كلها ،بخالف فر�ض العني ،حيث قال“ :القيام مبا هو من فرو�ض الكفايات
�أحرى ب�إحراز الدرجات ،و�أعلى يف فنون القربات من فرائ�ض الأعيان ،ف�إن
ما تعني على املتعبداملكلف لو تركه ومل يقابل �أمر ال�شارع فيه باالرت�سام
47 فر�ض من فرو�ض اخت�ص الإثم به ،ولو �أقامه فهو املثاب ،ولو ُفر�ض تعطيل ٍ
لعم امل�أثم على الكافة على اختالف الرتب والدرجات ،فالقائم به الكفايات َّ
كاف نف�سه وكافة املخاطبني احلرج والعقاب ،و� ِآم ٌل �أف�ضل الثواب ،وال يهون ٍ
ملهم من مهمات الدين” .
()2
قدر من يحل حمل امل�سلمني �أجمعني يف القيام ٍ
وهذا التف�ضيل املطلق لفر�ض الكفاية على فر�ض العني باعتبار تعدي
مكلف ،بخالف النفع ال ي�صح �إطالقه� ،إذ �إن فر�ض العني متعني الأداء من كل ٍ
((( انظر :البحر املحيط (.)292/1
((( غياث الأمم (�ص.)359
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
مكلف ،وهذا يعني �أن فر�ض العنيفر�ض الكفاية الذي ال يتعني �أدا�ؤه على كل ٍ
مكلف ،بخالف فر�ض الكفاية الذي ترب�أ الذمة ال ترب�أ الذمة �إال بفعله من كل ٍ
كاف لتف�ضيل فر�ض العني منه بفعل بع�ض املكلفني ،وهذا وج ٌه للفرق بينهما ٍ
على فر�ض الكفاية على خالف ما �أطلقه �أبواملعايل اجلويني.
�إال �أنه ميكن �أن يكون لكالم �أبي املعايل اجلويني وج ٌه مقبو ٌل �إذا كان
مراده حال تعني فر�ض الكفاية؛ ف�إن فر�ض الكفاية يف حال تعينه �إذا تزاحم
عيني �آخر ف�إن فر�ض الكفاية املتعني �أف�ضل من فر�ض العني فر�ض ٍ مع ٍ
باعتبار وجه املفا�ضلة الذي �أ�شار �إليه اجلويني فيما نقلناه عنه.
48
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
املبحث ال�ساد�س
اال�ستدالل للقاعدة
فقد دل احلديث على تف�ضيل �إ�صالح ذات البني ،وهو عم ٌل متعدي النفع،
على التنفل بال�صيام والقيام ،وهما عمالن قا�صران على �إ�صالح النف�س،
حيث يتعدي �أثر �إ�صالح ذات البني �إلى الغري ،في�ؤدي �إلى ح�صول االجتماع
ونبذ التفرق.
الدليل الثالث:
ب�شعب فيه ُعيين ٌة من ماءٍ
رجل من �أ�صحاب ر�سول اهلل Sم ّر ٍ ما ورد �أن اً
اعتزلت النا�س ،ف�أقمت يف هذا ال�شعب،
ُ عذب ٍة ف�أعجبته لطيبها ،فقال :لو
ولن �أفعل حتى �أ�ست�أذن ر�سول اهلل ،Sفذكر ذلك لر�سول اهلل ،Sفقال:
«ال تفعل ،ف�إن مقام �أحدكم يف �سبيل اهلل �أف�ضل من �صالته يف بيته �سبعني
عاما� ،أال حتبون �أن يغفر اهلل لكم ويدخلكم اجلنة.)1(»...
ً
فقد دل احلديث على النهي عن التفريط يف امل�صالح املتعدية التي
حت�صل من اجلهاد يف �سبيل اهلل من �أجل �إدراك بع�ض امل�صالح التي يقت�صر
نفعها على الفاعل وحده باالنقطاع للعبادة واعتزال النا�س ،وهذا دلي ٌل على
�أن العمل الذي يتعدى نفعه �أف�ضل من العمل القا�صر.
الدليل الرابع:
�شهر
ري من �صيام ٍ يوم وليل ٍة خ ٌ
ما ورد �أن ر�سول اهلل Sقال« :رباط ٍ
وقيامه.)2(»... 50
فقد دل احلديث على تف�ضيل الرباط يف �سبيل اهلل على ال�صيام والقيام م ًعا،
وذلك �أن الرباط يتعدى نفعه ،فيح�صل به حماية الثغور واحلدود ،ومنع العدوان
على امل�سلمني ،ف�أما ال�صيام والقيام فنفعهما قا�ص ٌر على فاعلهما ،وذلك دلي ٌل
على �أن العمل املتعدي نفعه �أف�ضل من العمل القا�صر نفعه على الفاعل وحده.
((( �أخرجه �أحمد يف م�سنده( ،)458/16( ،)474-473/15والرتمذي يف �سننه ( ،)181/4واحلاكم يف
امل�ستدرك( ،)78/2وقال« :حديثٌ ح�سنٌ ».
((( �أخرجه م�سل ٌم يف �صحيحه (.)473/12
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
الدليل اخلام�س:
ما ورد �أن الر�سول Sقال« :ف�ضل العامل على العابد كف�ضل القمر ليلة
البدر على �سائر الكواكب»(.)1
فقد دل احلديث على تف�ضيل العلم على العبادة ،وذلك تف�ضي ٌل يف
اجلملة ،فالعلم نفعه يتعدى �إلى من �سوى املتعلم ،فينتفع منه جمهور النا�س،
حني ُيع ّلم اجلاهل ،و ُير�شد ال�ضال ،وي�صلح الفا�سد ،و ُي�ص ّوب املخطئ،
وتقام حدود اهلل و�شريعته ،و�أما العبادة فيقت�صر نفعها على العابد وحده،
فدل هذا على �أن العمل املتعدي النفع �أف�ضل من العمل الذي يق�صر نفعه
على �صاحبه.
الدليل ال�ساد�س:
اتفاق العلماء على �أن النفع املتعدي �أف�ضل من النفع القا�صر على املرء
نف�سه ،وقد نقل ابن احلاج هذا االتفاق ،فقال“ :وال خالف بني الأئمة يف �أن
اخلري املتعدي �أف�ضل من اخلري القا�صر على املرء نف�سه” ( ،)2وقال �أي�ضً ا:
“وال ُيختلف �أن النفع املتعدي �أف�ضل من القا�صر على املرء نف�سه ب�شرط
ال�سالمة من الآفات التي تعتوره يف ذلك” (.)3
وهذا االتفاق ُيق�صد به التف�ضيل يف حال التزاحم بني الأعمال املتعدية
51 والقا�صرة ،ولذا ف�إن ما �سي�أتي من وجود مواقف لبع�ض العلماء بخالف هذا
تحُ مل على املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية والقا�صرة يف حال عدم التزاحم بينها.
الدليل ال�سابع:
�أن تف�ضيل العمل الذي يتعدى نفعه على العمل الذي يقت�صر نفعه على
((( �أخرجه �أحمد يف م�سنده ( ،)46 ،45/36و�أبوداود يف �سننه ( ،)317/3والرتمذي يف �سننه (،)48/5
وابن ماجة يف �سننه ( ،)81/1والدارمي يف �سننه (.)83/1
((( املدخل (.)126/1
((( املدخل (.)218/2
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
عقل؛ ف�إن العمل الذي يتعدى نفعه تتحقق منه م�صالح�صاحبه هو املالئم اً
�أعم و�أكرث �أث ًرا ،و�أما العمل القا�صر فم�صلحته خا�ص ٌة ،وال �شك �أن حت�صيل
امل�صالح العامة �أولى من طلب وحت�صيل امل�صالح اخلا�صة.
الدليل الثامن:
�شرعا �أن الأعمال تتفا�ضل بقدر ما فيها من املنفعة وامل�صلحة
�أن املتقرر ً
والفائدة ،ولذا يكون املتعدي �أف�ضل من القا�صر؛ لأن املتعدي نفعه �أكرب،
وم�صلحته �أعظم ،وفائدته �أغلب.
52
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
املبحث ال�سابع
مواقف العلماء من القاعدة ،وجمال �إعمالها
املتعدي له ،فالعربة بحال نفع العمل ل�صاحبه ال بالعمل نف�سه ،وبنا ًء على
هذا القول ال ي�صح �إطالق التف�ضيل بني الأعمال باعتبار التعدي.
وهذا املوقف تبناه �شيخ الإ�سالم ابن تيمية فيما ظهر يل من جمموع كالمه
يف املوا�ضع التي حتدث فيها عن املفا�ضلة بني الأعمال؛ حيث �أ�شار يف �أكرث
من منا�سب ٍة �إلى هذا املعنى ،فقال“ :الأف�ضل يتنوع بتنوع �أحوال النا�س”(،)1
وقال“ :الأف�ضل يف حق ال�شخ�ص هو بح�سب حاجته ومنفعته”( ،)2وقال:
“تف�ضيل العمل على العمل قد يكون مطل ًقا...وقد يكون مقيدً ا...وقد يكونان
وقت �أف�ضل من الفا�ضل،
متماثلني يف حق ال�شخ�ص ،وقد يكون املف�ضول يف ٍ
وقد يكون املف�ضول يف حق من يقدر عليه وينتفع به �أف�ضل من الفا�ضل يف حق
من لي�س كذلك”( ،)3وقال“ :من الأعمال ما يكون جن�سه �أف�ضل ،ثم يكون
مرجوحا� ،أو منه ًيا عنه”(.)4
ً تار ًة
مو�ضع �آخر ب�أن الف�ضل
ٍ على �أن �شيخ الإ�سالم ابن تيمية قد �صرح يف
بح�سب كرثة م�صلحة الفعل( ،)5وهذا ال يناق�ض ما �أوردناه عنه فيما تقدم
بيانه يف موقفه يف اعتبارات املفا�ضلة؛ وذلك لأن كرثة م�صلحة الفعل �إمنا
تقدر بح�سب انتفاع املكلف بالعمل متعد ًيا �أو قا�ص ًرا.
ويف هذا ال�سبيل ق ّرر �شيخ الإ�سالم ابن تيمية �أن الأعمال ال تتفا�ضل
والقدر ،و�إمنا تتفا�ضل مبا يح�صل يف القلوب حال العمل ،حيث �إن بالكرثة ْ 54
الأعمال ت ْف ُ�ض ُل بنيات �أ�صحابها ،وح�سن االتباع ( ،)6ف ُر ّب ت�سبيح ٍة من � ٍ
إن�سان
�أف�ضل من ملء الأر�ض من عمل غريه(.)7
انظر :الفتاوى الكربى (.)500/2 (((
انظر :جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (.)55/23 (((
انظر :جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (.)399/11 (((
انظر :الفتاوى الكربى (.)500/2 (((
انظر :جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (.)37/26 (((
انظر :جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية ( ،)378/4ومنهاج ال�سنة ( ،)412/8ودقائق التف�سري (((
(.)170/2
انظر :الفتاوى الكربى (.)5/1 (((
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
والذي يظهر �أن �شيخ الإ�سالم ابن تيمية قد اعتمد يف مبد�أ املفا�ضلة بني
مرجحات تعود بالنفع على �صاحبه ،ولي�س
ٍ الأعمال على ما يحتف بالعمل من
�إلى ذات العمل وطبيعته وما يف�ضي �إليه من امل�صالح املتعلقة بغري فاعله.
املوقف الثالث:
من يرى التف�صيل بح�سب �أحوال التعدي والق�صور ،و�أن القاعدة لي�ست
على �إطالقها ،و�أنها لو �أُخذت بهذا الإطالق ف�إنها ال ت�صح ،و�إلى هذا ذهب
العز بن عبدال�سالم ،والقرايف ،واملقري (.)1
حال قد يكون العمل القا�صر �أف�ضل من املتعدي ،وذلك كالتوحيد ففي ٍ
والإميان والإ�سالم ،و�أركان الإ�سالم عدا الزكاة ،فقد قال « :Sخري �أعمالكم
و�سئل � :Sأي الأعمال �أف�ضل؟ فقال�« :إميا ٌن باهلل ور�سوله» قيلال�صالة» (ُ ،)2
ثم ماذا؟ قال« :جها ٌد يف �سبيل اهلل» قيل ثم ماذا؟ قال« :ح ٌج مربو ٌر»(.)3
ف�ضل النبي Sالإميان على اجلهاد ،والإميان عم ٌل قا�صر النفع على فقد ّ
�صاحبه.
الذكر والت�سبيح عقب ال�صالة على الت�صدق بف�ضول وف�ضل النبي ِّ S ّ
الذكر والت�سبيح عم ٌل قا�صر النفع ،بخالف الت�صدق الأموال( ،)4ومعلو ٌم �أن ِّ
بف�ضول الأموال ،فهو عم ٌل ٍّ
متعد.
55
حال �أخرى قد يكون العمل املتعدي �أف�ضل من العمل القا�صر ،كماويف ٍ
م َّر يف تف�ضيل اجلهاد يف �سبيل اهلل ،وهو عم ٌل ٍّ
متعد ،على احلج املربور ،وهو
عم ٌل قا�ص ٌر.
انظر :فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص ،)141 ،140والفوائد يف اخت�صار املقا�صد(�ص ،)122والذخرية (((
( ،)357/13والقواعد للمقري (�ص.)162
�أخرجه �أحمد يف م�سنده ( ،)282 ،276/5وابن ماجة يف �سننه ( ،)342/1وابن حبان يف (((
�صحيحه( ،)305/3والبيهقي يف �سننه ( ،)457/1واحلاكم يف امل�ستدرك(.)438-436/1
�أخرجه البخاري يف �صحيحه ( ،)55/6وم�سل ٌم يف �صحيحه (.)307/1 (((
�أخرجه البخاري يف �صحيحه ( ،)123/21( ،)423/3وم�سل ٌم يف �صحيحه (.)316/6( ،)134/4 (((
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
�أف�ضل من العمل الذي تكون م�صلحته مرجوح ًة� ،أو يكون �أثره قا�ص ًرا على
�صاحبه يف حال التعار�ض وعدم �إمكان اجلمع.
و�أما تف�ضيل العمل القا�صر على املتعدي بنا ًء على بع�ض الن�صو�ص الواردة
فيه ،فتحمل على التف�ضيل املطلق الذي ال يكون يف حال التعار�ض ،كتف�ضيل
ل�شخ�ص دون
ٍ وقت �أو
حال �أو ٍ
الإميان على اجلهاد يف �سبيل اهلل� ،أو تف�ضيله يف ٍ
ما عدا ذلك ،وذلك كتف�ضيل الذكر بعد ال�صالة على ال�صدقة باملال؛ حيث
�إن هذا التف�ضيل �إمنا هو لأولئك الذين �س�ألوا النبي Sومن كان مثلهم ممن
ال ميلك املال للت�صدق به ،و�أما من ميلك املال وال ميكنه الت�صدق به و�إي�صاله
الذكر ،ل�ضيق وقته وخوف فوات حت�صيل امل�ستحق، مل�ستحقيه �إال �إذا ترك ِّ
ف�إن الذي يظهر �أن حت�صيل بذل ال�صدقة �أف�ضل من الذكر يف حقه.
وهذا مثل تف�ضيل بع�ض الأعمال املتعدية على بع�ض ،فقد يح�صل �أن
ف�ضل عم ٌل ٍّ
متعد �آخر ،ويكون مو�ضع �آخر ُي ّ
ٍ يف�ضل عم ٌل ٍّ
متعد على غريه ،ويف ّ
ذلك بح�سب الأحوال �أو الأ�شخا�ص �أو املنا�سبات ،كما ورد يف تف�ضيل بر
الوالدين واجلهاد يف �سبيل اهلل( ،)1وورد تف�ضيل �إدخال ال�سرور على امل�ؤمن
وق�ضاء الدين عنه و�إطعامه( ،)2وورد تف�ضيل التودد �إلى النا�س على غريه(.)3
وبنا ًء على ما تقدم ف�إن الذي يظهر �أنه ال ُيحتاج �إلى تقييد �إطالق
57 القاعدة مب�ضمون ال�شرط املذكور -وهو رجحان م�صلحة العمل املتعدي-
لأن رجحان م�صلحة العمل من طبيعة العمل املتعدي ،و�صاحب العقل ال�سليم
يرجح العمل ذا النفع املتعدي على العمل ذي النفع القا�صر.
والنظر امل�ستقيم ّ
املبحث الثامن
تطبيقات القاعدة
�3.3أن �إنقاذ الغريق يف حال القدرة على �إنقاذه� ،أو من داهمه احلريق،
�أف�ضل من اال�شتغال بال�صالة ،ولو كانت فر�ضً ا ،ولو �ضاق وقتها ،لأن
�إنقاذ الغريق �أو من داهمه احلريق يتعدى نفعه �إلى الغري ،بخالف
ال�صالة ،فنفعها قا�ص ٌر على فاعلها وحده (.)1
حلجاج وتقدمي العون لهم �أو اال�شتغال ب�إر�شادهم�4.4أن اال�شتغال بخدمة ا ُ
يف �أحكام املنا�سك �أف�ضل من حج التطوع ،وذلك لأن اال�شتغال بخدمة
حلجاج وتقدمي العون لهم �أو اال�شتغال ب�إر�شادهم يف �أحكام املنا�سك ا ُ
حلجاج ،بخالف حج التطوع ،فنفعه قا�ص ٌر �أعما ٌل يتعدى نفعها �إلى ا ُ
على فاعله وحده.
�5.5أن �أعمال الرب التي ينتفع بها عامة امل�سلمني ،كن�شر العلم ،والإغاثة
بالإطعام والك�سوة� ،أف�ضل من نوافل العبادات التي يكون نفعها مق�صو ًرا
على �أ�صحابها ،كالتنفل بالعمرة �أو �أداء حج النافلة.
�6.6أن اال�شتغال بالأعمال التطوعية ك�إ�سعاف امل�صابني يف احلوادث �أو
الكوارث �أو احلروب� ،أو توعية النا�س ب�أخاطر الأمرا�ض و�سبل الوقاية
منها� ،أف�ضل من اال�شتغال بح�ضور امل�ؤمترات والندوات العلمية ،وذلك
�أن هذا العمل نفعه قا�ص ٌر على �صاحبه ،بخالف تلك الأعمال؛ ف�إن
نفعها يتعدى �إلى عموم اخللق.
59
�7.7أن توجيه �أعمال التربعات املالية وميزانيات امل�شاريع الإن�شائية
والت�شغيلية �إلى ما يتعدى نفعه �أف�ضل من توجيهها �إلى الأعمال
القا�صرة النفع �أو ما فيها �شائبة الق�صور ،فتوجيه �أعمال التربعات
املالية لدعم الأعمال الإن�سانية ك�إ�سعاف امل�صابني واملنكوبني يف
أعمال
احلروب �أو لدعم م�شاريع مكافحة الفقر �أف�ضل من توجيهها ل ٍ
تعود بالنفع على �صاحبها فقط.
((( انظر :فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص.)141
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
�8.8أن نزع ملكية العقار للم�صلحة العامة �أف�ضل من �إبقاء العقار يف ملك
�صاحبه ،لأن نزع العقار يف هذه احلالة يتعدى نفعه لعامة النا�س،
بخالف �إبقاء العقار يف ملك �صاحبه ف�إن نفعه قا�ص ٌر عليه.
�9.9أن الت�سعري على التجار و�إجبارهم على البيع بقيمة املثل يف حال
ُ�شح ال�سلع اال�ستهالكية يف ال�سوق ،وحب�س التجار ملا عندهم من هذه
ال�سلع� ،أف�ضل من تركهم يبيعون وفق ما ي�شا�ؤون؛ لأن الت�سعري يف
هذه احلال يتعدى نفعه لعموم النا�س بخالف ترك التجار يبيعون
كيف ي�شا�ؤون؛ حيث �إن نفع ذلك قا�ص ٌر عليهم.
�1010أن اال�شتغال بالأعمال التي يتعدى نفعها كالتعليم والق�ضاء بني النا�س
والإ�صالح بينهم والطب والتمري�ض وما يح�صل به �إنقاذ النا�س
والدفاع عنهم من الأعمال الع�سكرية �أف�ضل من اال�شتغال بالأعمال
التي يق�صر نفعها على �صاحبها كاال�شتغال ب�أعمال الرعي اً
مثل �إذا
كان لأجل نفع النف�س فح�سب.
60
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
املبحث التا�سع
املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية
ملا كان مو�ضوع هذه القاعدة متعل ًقا باملفا�ضلة بني الأعمال املتعدية
والأعمال القا�صرة ،وملا كانت بع�ض الأعمال القا�صرة مما ميكن �أن تلحقه
بوجه ما ،فقد نا�سب �أن نختم الكالم على هذه �شائبة التعدي يف النفع ٍ
القاعدة بالكالم على املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية يف حال تزاحمها.
فال يخفى �أن الأعمال تتفاوت عند اهلل عز وجل بح�سب ف�ضلها و�أجرها،
عمل
وذلك يختلف باختالف رتب م�صاحلها يف الف�ضل وال�شرف ،وكل ٍ
نفع �أو يدفعه من �ض ٍّر ،وعلى هذا تتقدر الأجور
يتفاوت بتفاوت ما يجلبه من ٍ
والآثام ،لأن ال�ش�أن يف ال�شريعة التقدمي بقوة امل�صلحة ،ولذا ف�إذا �أراد املكلف
حتقيق م�صالح ال�شريعة فيجب عليه �أن يختار من الأعمال �أف�ضلها و�أكملها.
فالأعمال املتعدية تتمايز وتتفا�ضل فيما بينها على ح�سب �شمول نفعها
اً
و�شمول يف ات�ساعا
ً وامتداده للآخرين ،فكلما كانت الأعمال املتعدية �أكرث
61 �أثرها حازت مزيدً ا من الف�ضل والرجحان؛ فالعمل الذي يتعدى نفعه �إلى
خا�ص �أو ُق ْط ٍر
بلد ٍّ�أهل البلد كلهم �أف�ضل من العمل الذي يتعدى نفعه �إلى ٍ
مع ٍني.
حجر يف معر�ض بيانه لقول الر�سول اهلل :S وهذا ما نبه �إليه ابن ٍ
تف�ضيل لتعليم
ٍ «خريكم من تعلم القر�آن وعلمه»( ،)1وما قد ُيفهم منه من
القر�آن على الأمر باملعروف والنهي عن املنكر واجلهاد يف �سبيل اهلل ،حيث
((( �أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب ف�ضائل القر�آن ،باب خريكم من تعلم القر�آن وعلمه ()27/17
برقم (.)5027
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
قال“ :ف�إن قيل :فيلزم �أن يكون املقرئ �أف�ضل ممن هو �أعظم َغنا ًء يف
الإ�سالم باملجاهدة والرباط والأمر باملعروف والنهي عن املنكر مثلاً .
قلنا :حرف امل�س�ألة يدور على النفع املتعدي ،فمن كان ح�صوله عنده �أكرث
كان �أف�ضل”(.)1
ويف هذا ال�ش�أن قرر العلماء �أنه �إذا احتد جن�س ال�صفات كان املت�صف
ب�أكرثها �أف�ضل من املت�صف ب�أقلها ،و�أنه كلما زادت ال�صفات زاد التف�ضيل،
والقدر الزائد يزداد به الف�ضل.
و�أما �إذا اختلفت الأو�صاف ف�إن التف�ضيل يكون ب�أ�شرف الأو�صاف قد ًرا
و�أجلها فائد ًة.
ولذا ف�إن الأعمال املتعدية ُيفا�ضل بينها �إذا تزاحمت مبقدار ما تت�صف
به من تعدي النفع ،ومعيار قيا�س تعدي النفع هنا هو العموم وال�شمول
اً
و�شمول يف النفع كان الذي يتحقق من خاللها ،فكلما كان العمل �أكرث تعد ًيا
�أف�ضل ،وقد ورد عن �شيخ الإ�سالم ابن تيمية �أنه قال“ :الف�ضل بح�سب كرثة
م�صلحة الفعل”(.)2
وبنا ًء عليه �سيكون ذلك املقدار والو�صف الزائد من الف�ضل بني الأعمال
عمل وتقدميه
عمل على ٍن�صو�ص بتف�ضيل ٍ
ٌ اجتهاد ،ما مل ترد
ٍ املتعدية حمل
62
عليه.
ري من الفروع الفقهية التي تتزاحم فيها الأعمال
وينبني على ما تقدم كث ٌ
املتعدية ،وتكون املفا�ضلة بينها بح�سب تعدي نفعها ،ومن ذلك اً
مثل:
املفا�ضلة بني بع�ض املهن امل�شروعة كال�صناعة والتجارة والزراعة ،ف�إنها
تتفا�ضل فيما بينها بح�سب تعدي نفعها للمجتمع ،فحيث تق ّل الأقوات ويحتاج
((( فتح الباري (.)76/9
((( جمموع الفتاوى (.)37/26
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
املجتمع �إلى الغذاء تكون الزراعة �أف�ضل ،وحيث تكرث الأقوات و ُيحتاج �إلى
ال�صناعة لتحقيق االكتفاء الذاتي للمجتمع تكون ال�صناعة �أف�ضل ،وعندما
تتوافر الزراعة وال�صناعة و ُيحتاج �إلى من ينقل ذلك الإنتاج �إلى البالد
الأخرى تكون التجارة �أف�ضل ،فتتفاوت رتب هذه الأعمال و�أف�ضليتها بح�سب
ما حتققه من النفع املتعدي.
63
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
اخلامتة
ات�ضح لنا مما تقدم جمل ٌة من الأمور التي تقررت من خالل ترديد النظر
يف مباحث هذه الدرا�سة ،ولذا ف�إنه ميكن القول �إن من �أهم النتائج التي
خل�صت �إليها هذه الدرا�سة ما يلي:
1.1تقررت لنا �أهمية قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) ،وتعدد
تطبيقاتها يف الزمن ال�سابق ،وجتدد احلاجة �إليها يف الزمن احلا�ضر.
2.2تبني لنا �أن هذه القاعدة مل ت�أخذ حقها من البحث والتحقيق لدى
من �ألفوا يف القواعد الفقهية ،كما مل حتظ بالدرا�سة والتدقيق لدى
الباحثني املعا�صرين.
�3.3أن من �أعظم فوائد العلم بحقيقة املفا�ضلة و�أنواعها وحترير �أ�سبابها
�أن تقي من اخللط بني الفا�ضل واملف�ضول ،فرمبا ُف ّ�ضل عم ٌل على 64
ترجيح �أو تف�ضيل ،ورمبا ُف ّ�ضلت بع�ض الأعمال
ٍ عمل ،و ُر ّجح دون وجه
ٍ
اً
تف�ضيل مطل ًقا ،وف�ضلها مقي ٌد� ،أو العك�س.
�4.4أن للمفا�ضلة بني الأعمال �أ�سبا ًبا يح�سن �إدراكها ،لي�سهل الوقوف
على وجوه املفا�ضلة بني الأعمال املتزاحمة ،و�أن �أكرث اخلط�أ الواقع يف
التف�ضيل يرجع �إلى عدم �إدراك الأ�سباب ال�شرعية ال�صحيحة للتف�ضيل،
�أو عدم التفريق بني وجوه التف�ضيل مقيدًا �أو مطل ًقا ً
جن�سا �أو �أفرادًا.
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
65 �9.9أن لتعدي النفع يف العمل واحلكم بكون العمل متعدي النفع معرفاتٌ
مت عر�ضها من خالل �ضوابط التعدي يف العمل.
ً
�شروطا يجب �1010أن لإعمال قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر)
حتققها ،وهذه ال�شروط مت ا�ستنباطها من واقع تطبيقات هذه
القاعدة ،ومل �أجد من ن�ص عليها من العلماء والباحثني الذين
تعر�ضوا لبحث هذه القاعدة.
�1111أن مالحظة �شروط �إعمال القاعدة لها �أث ٌر مبا�ش ٌر يف حتديد جمال
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
�إعمالها ،كما �أن ملالحظتها �أث ًرا يف التوفيق بني مواقف العلماء
جتاهها ،والتقريب بني �آرائهم يف �صحة اال�ستناد �إليها.
�1212أنه ي�شرتط لإعمال قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) �أن يتزاحم
العمالن املتعدي والقا�صر ،فال ميكن اجلمع بينهما ،و�أن ي�ستوي
العمالن يف الرتبة ،و�أن يتعني املكلف للقيام بالعمل املتعدي.
1313ات�ضح لدينا �أنه قد دل على معنى هذه القاعدة عد ٌد من الأدلة
النقلية والعقلية ،وجمموع هذه الأدلة يفيد تف�ضيل العمل املتعدي
على العمل القا�صر.
1414تقرر من خالل هذا البحث �أن العمل املتعدي �أف�ضل من العمل
القا�صر مطل ًقا يف حال تعار�ضهما ،وعدم �إمكان اجلمع بينهما ،وهو
�شرعا ،واملالئم اً
عقل ،و�أما تف�ضيل العمل القا�صر على املنا�سب ً
املتعدي بنا ًء على بع�ض الن�صو�ص الواردة فيه ،فتحمل على التف�ضيل
املطلق الذي ال يكون يف حال التعار�ض.
�1515أن الذي يظهر �أنه ال ُيحتاج �إلى تقييد �إطالق القاعدة مب�ضمون
�شرط رجحان م�صلحة العمل املتعدي؛ لأن تعدي النفع من طبيعة
يرجح العمل
العمل املتعدي ،و�صاحب العقل ال�سليم والنظر امل�ستقيم ّ 66
ذا النفع املتعدي على العمل ذي النفع القا�صر.
1616ات�ضح لنا �أن لهذه القاعدة تطبيقات يف املجال الفقهي قد ًميا
وحدي ًثا ،ولذا يكرث دوران هذه القاعدة على �أل�سنة العلماء والباحثني
يف مقام التعليل والتوجيه واال�ستدالل يف كثري من الق�ضايا املعا�صرة.
�1717أن حترير هذه القاعدة وحتقيق م�سائلها مما يفيد يف �إي�ضاح بع�ض
احلقائق املتعلقة مبا يعرف بفقه الأولويات �أو فقه املوازنات ،وهما
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
67
ّ
مسلم بن حممد الدوسري د.
3535القواعد والفوائد الأ�صولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية ،لعلي بن
عبا�س البعلي احلنبلي ال�شهري بابن اللحام ،حتقيق وت�صحيح حممد حامد
الفقي ،النا�شر دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط 1403 ،1 /هـ 1983 -م.
3636لب الأ�صول ،لأبي يحيى زكريا الأن�صاري ،مطبوع بهام�ش �شرحه غاية
الو�صول ،طبع مبطبعة عي�سى البابي احللبي و�شركاه مب�صر.
3737ل�سان العرب ،ملحمد بن مكرم الأن�صاري (ابن منظور) ،النا�شر امل�ؤ�س�سة
امل�صرية ،والدار امل�صرية ،طبعة م�صورة عن طبعة بوالق.
3838املجموع �شرح املهذب ،لأبي زكريا حميي الدين بن �شرف النووي،
املطبعة املنريية ،م�صر.
3939جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية ،لأبي العبا�س �أحمد بن
عبداحلليم ابن تيمية ،جمع وترتيب عبدالرحمن بن قا�سم وابنه
حممد ،مكتبة ابن تيمية ،القاهرة.
4040املدخل ،لأبي عبداهلل حممد بن حممد العبدري املعروف بابن احلاج،
النا�شر مكتبة الرتاث ،القاهرة.
4141امل�ستدرك على ال�صحيحني ،ملحمد بن عبداهلل احلاكم ،حتقيق م�صطفى
عبدالقادر عطا ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط 1411 ،1 /هـ 1990 -م.
4242امل�سند ،لأحمد بن حنبل ال�شيباين ،النا�شر م�ؤ�س�سة قرطبة ،م�صر.
4343املعجم الأو�سط ،للحافظ الطرباين ،حتقيق د .حممود الطحان ،النا�شر
72
مكتبة املعارف بالريا�ض ،ط 1405 ،1 /هـ 1985 -م.
4444املعجم ال�صغري ،للحافظ الطرباين ،حتقيق عبدالرحمن حممد عثمان،
النا�شر املكتبة ال�سلفية ،املدينة املنورة1388 ،هـ 1968-م.
4545املعجم الكبري ،للحافظ الطرباين ،حتقيق حمدي عبداملجيد ال�سلفي،
النا�شر مركز �إحياء الرتاث الإ�سالمي بوزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية
باجلمهورية العراقية ،ط .2 /
4646املفا�ضلة يف العبادات قواعد وتطبيقات ،ل�سليمان بن حممد النجران،
وتطبيقا
ً قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً
فهر�س املحتويات
املقدمة19 ................................................................
متهيد 23..................................................................
املبحث الأول :معنى القاعدة 33...........................................
املبحث الثاين� :ألفاظ القاعدة ،و�أركانها 36..............................
املبحث الثالث :م�سالك تف�ضيل الأعمال املتعدية 39.......................
املبحث الرابع� :ضوابط التعدي يف الأعمال 42............................
املبحث اخلام�س� :شروط �إعمال القاعدة 44..............................
املبحث ال�ساد�س :اال�ستدالل للقاعدة 49..................................
املبحث ال�سابع :مواقف العلماء من القاعدة ،وجمال �إعمالها 53..........
املبحث الثامن :تطبيقات القاعدة 58.....................................
املبحث التا�سع :املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية 61.........................
اخلامتة 64................................................................
فهر�س امل�صادر واملراجع 68..............................................
74