Professional Documents
Culture Documents
مقولة التقسيم وتصحيح النحو العربي
مقولة التقسيم وتصحيح النحو العربي
الجزء األول
رشيد بلواد
2
8 مقدمة
الباب األول:
01 -2الدليل االستقرائي في الكتاب :الصيغ الخطابية لدعوة الرسل واألنبياء عليهم السالم
34 الفصل الرابع :البرهان اللساني في بطالن إسناد لفظ 'التوحيد' السم الجالل
22 -1بطالن إسناد لفظ 'التوحيد' السم الجالل وشروط االصطالح والعرف اللغوي
3
الباب الثالث:
4
031 الفصل األول :ضالل مقولة التقسيم وقولتهم< :قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية>
الباب الرابع
211 {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}(آل عمران)87
220 الفصل الثالث :الضوابط والمؤطرات المنهاجية أو الفصل بين السنة والنمطية
الباب الخامس:
الفصل الرابع :االختالق المفاهيمي أداة في الصراع والتحكم :نموذج 'اإلرهاب' و'العولمة' 218
الباب السادس:
238 الفصل الثاني' :األلوهية' و'الربوبية' :تباين القسائم شرط في صحة التقسيم
242 الفصل الخامس :معنى 'الفناء عن شهود السّوى' عند ابن تيمية
6
242 الفصل السادس :التأطير الخاطئ لمعنى الربوبية عند ابن تيمية
242 الفصل السابع :اختالف ابن تيمية في قوله تعالى{:إياك نعبد وإياك نستعين}
مقدمة:
الحمد هلل الذي ال إله إال هو ،أرسل رسوله صلى هللا عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله ،وأنزل معه الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين ،والصالة والسالم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ،أما بعد..
سنام العلم هو علم ما به يتحقق إيمان العبد ،اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقدر
خيره وشره ،والعلم هو علم الشيء كما هو في الحق ،ليس بمرجع غير مرجع الحق.
و ال تتم حقيقة اإلدراك للصفة التبيانية للكتاب والسنة حتى تتم ويحصل في هذا اإلدراك الضبط
والتصور الصحيح لبيان قوله تعالى{:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
اإلسالم دينا'}(المائدة ،)3اإلدراك الذي أدلى بفقهه اإلمام مالك بقوله رحمه هللا <<:قبض رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم وقد تم هذا األمر واستكمل>>.
هذه المقولة األثر ،وهذا الفقه األقوم الصحيح ،هي الحقيقة التي رفعها عن يقين بحجيتها العالم الجليل
محمد بن علي الشوكاني رحمه هللا في وجه المقلدين ،وفي وجه من سلك من هذه األمة وحذا حذو من
اتخذوا أحبارهم أربابا من دون هللا تعالى ،الذين يبتدرون كل قول ،بل وكل لفظة لعلمائهم وشيوخهم
فيجعلونها بدال للكتاب والسنة ،عليها يتحدد تصورهم للدين ،ويجعلون ذلك هو البيان كل البيان
للتنزيل.
إن أول ما يقوم عليه علم الكتاب وهدى الحق ،وعليه تتأسس المشروعية للحقيقة العلمية لدى المؤمنين
وغير المؤمنين ممن يأخذ بالحق في سلم المعارف والحقائق الكونية ،هو أن التحديد للدين ليس ينبغي
له مرجع غير الوحي والكتاب المبين ،ومن نقض أو سعى لنقض هذا المبدإ واألصل للحق في بناء
العلم والمعارف فإنما هو ممن يبني على شفا جرف هار ،يبني بناء باطال ولو خاله كان من كان علما
أو شيئا قبيال من العلم ،وإنه ليس دون الحق إال الضالل.
إن مقولة أقسام التوحيد تهم بشكل مباشر تحديد الدين ،فهذا أول ما يدرك ويتحتم أن نقر به ،ثم إنه
ل شأن ليس للعلماء وال للمخلوقين به كفل ،ذلك أمر هللا تعالى الذي قال في محكم الوحي والقرآن
العظيم {:شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه' كبر على المشركين ما تدعوهم إليه' هللا يجتبي إليه من يشاء
ويهدي إليه من ينيب' وما تفرقوا إال من بعد ما جاءهم العلم' بغيا بينهم' ولوال كلمة سبقت من ربك إلى
أجل مسمى لقضي بينهم' وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب'}(الشورى)02-00
9
الموضوع الذي عزمنا التصدي له ،موضوع مقولة التقسيم أو ما أريد به أقساما للتوحيد ،ليس كما
يرى موضوعا كغيره من المواضيع؛ هو في الحال والواقع وعلى كل بعد من أبعاده ،ال ريب
موضوع شائك غير هين .وليس يغرب عن مختص النظر وعمومه أن مرد ذلك باألساس هو درجة
وعلو شأن ما يختص به مما هو في العلم يعتبر سنام األصول.
ولما كان هذا هو الموضوع في خطره وشأنه العظيم ،وكانت هذه درجته في العلم وأمر الدين ،فليس
ينبغي في هذا المقام غير المكين من األساس ،والقويم من العلم والثابت من العزم ،فال بناء إال على
متين الدليل ومحقق البرهان ،وكليات العلم والمرجع بناء واقتضاء لما نتلوه في قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم' فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى
هللا والرسول إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر' ذلك خير وأحسن تأويال'}(النساء)28
{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين'}(البقرة)001
على هللا توكلنا وهو حسبنا ،وهو جل وعال ربنا سبحانه ولي التوفيق.
10
الباب األول
الفصل األول
أصولية البيان
-1سؤال مشروع :لم لم يرد لفظ (التوحيد) في القرآن المبين؟
حقيقة عربية القرآن حقيقة كبرى ،تعتبر أصال من أصول العلم في تحقيقها والعمل على مقتضياتها.
ولما كانت أعلى درجات التفسير هي تفسير القرآن ببعضه لعدم جواز االختالف ولكمال الدين وتمام
بيانه ،فالدالالت اللغوية لأللفاظ ،والتراكيب والنسق ،هي مكون من مكونات التفسير وموضوعه،
ليستنبط من ذلك أن أصح المعاني للعناصر المعجمية وسياقاتها ،هو المطابق والموافق لقاموس
القرآن الحكيم ،والمستمد منه ،ومن بيانه وأسلوبه.
باعتبار هذا األصل العلمي ،وباعتبار األمر بعبادة هللا تعالى واجتناب الطاغوت المحور األساس،
والشأن األول في الدين الذي أرسل به هللا سبحانه الرسل جميعا:
{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت'} (النحل)14
وباعتبار محمد صلى هللا عليكم وسلم آخر النبيئين والرسل ،أرسله تعالى رحمة للعالمين:
{وما أرسلناك إال رحمة للعالمين'}(األنبياء)014
{قل يا أيها الناس إني رسول هللا إليكم جميعا' الذي له ملك السماوات واألرض' ال إله إال هو' يحيي
ويميت' فآمنوا باهلل ورسوله النبي األمي الذي يؤمن باهلل وكلماته' واتبعوه لعلكم تهتدون'}
(األعراف.) 028
وباعتبار قوله عز وجل:
{وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه'}(المائدة)21
12
وقوله سبحانه:
{ق' والقرآن المجيد'}(ق)0
باعتبار ذلكم أضحى من الحق الذي ال مماراة فيه أن نتساءل ونطرح السؤال:
لماذا لم يرد لفظ (التوحيد) ال في صيغة المصدر وال في صيغه الفعلية ،لم لم يرد ذلك في حديث
القرآن أحسن الحديث ،وعلى لسان النبي صلى هللا عليه وسلم فيما حق وصح عنه من الحديث وهو
عليه الصالة والسالم أفصح من نطق بالضاد وبلسان العرب المبين؟؟؟
وأخرى أنه ال يصح في الحق مطلقا أن نسمي حقائق األصول في الدين بغير ما اختار لها هللا سبحانه
وتعالى ،وال يجوز التصرف فيها بتبديل!!!
13
لينظر هؤالء الذين يبتدعون من عند أنفسهم ثم بسبيل من التقليد ،يبتدعون ويقحمون في الدين
وقاموسه المحكم ما ليس منه !
لينظروا وهذا القرآن العظيم مصطفى بيانه أفضل الكلم وأحسن الحديث وحديث الرسول صلى هللا
عليه وسلم ! هل يجدون فيه كلمة ولفظة"التوحيد" مرادا بها الحقيقة والمسمى الذي هو الحقيقة
والمسمى الذي أرسل به هللا تعالى أنبياءه ورسله عليهم وعلى رسولنا الصالة والسالم؟!
هذا المسمى وهذه الحقيقة هي محور التنزيل التي يثنى ذكرها ويؤكد في كل القرآن الحكيم ،وفي كل
سوره وآياته؛ ونستطيع على المعنى العلمي والدراسي أن نجملها أو نحددها في خمس أو ست صيغ،
تؤول كلها إلى حقيقة واحدة ،حقيقة أن ال إله إال هللا .فلينظر هؤالء إلى هذه الصيغ التي نزل بها الحق
أحسن الحديث ،ثم هم يستدركون ! لينظروا إلى اللسان وما نزل من البيان الحق الذي ال يكفيهم بيانا
وتفسيرا!..
الصيغة األولى :شهادة الحق بأن ال إله إال هو سبحانه ،وأن ما من إله إال إله واحد؛ وذلك كقوله عز
وجل:
{شهد هللا أنه ال إله إال هو والمالئكة وأولو العلم قائما بالقسط' ال إله إال هو' العزيز الحكيم'}(آل
عمران)08
{وإلهكم إله واحد' ال إله إال هو' الرحمان الرحيم'}(البقرة)042
{الم' هللا ال إله إال هو' الحي القيوم'}(آل عمران)0
{قل أي شيء أكبر شهادة قل هللا' شهيد بيني وبينكم' وأوحي إلي هذا القرآن ألنذركم به ومن بلغ' أئنكم
لتشهدون أن مع هللا آلهة أخرى قل ال أشهد' إنما هو إله واحد' وإنني بريء مما
تشركون'}(األنعام)21
14
{فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم هللا وأن ال إله إال هو' فهل أنتم مسلمون'}(هود)03
{هذا بالغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو األلباب'}(إبراهيم)23
{إلهكم إله واحد' فالذين ال يؤمنون باآلخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون'}(النحل)22
{وقال هللا ال تتخذوا إلهين اثنين' إنما هو إله واحد' فإياي فارهبون'}(النحل)20
{ال تجعل مع هللا إلها آخر فتقعد مذموما مخذوال'}(اإلسراء)22
{إنما إلهكم هللا الذي ال إله إال هو' وسع كل شيء علما'}(طه)42
{إنني أنا هللا ال إاله إال أنا فاعبدني وأقم الصالة لذكري'}(طه)01
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إال يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء)22
{قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد' فهل أنتم مسلمون'}(األنبياء)017
{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم هللا على ما رزقهم من بهيمة األنعام' فإلهكم إله واحد' فله أسلموا'
وبشر المخبتين}(الحج)12
{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره' أفال تتقون'}(المؤمنون)21
{ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض' سبحان
هللا عما يصفون'}(المؤمنون)22
{فتعالى هللا الملك الحق' ال إله إال هو رب العرش الكريم' ومن يدع مع هللا إلها آخر ال برهان له به
فإنما حسابه عند ربه' إنه ال يفلح الكافرون' وقل رب اغفر وارحم وأنت خير
الراحمين'}(المؤمنون)002 ..007
{والذين ال يدعون مع هللا إلها آخر وال يقتلون النفس التي حرم هللا إال بالحق وال
يزنون'}(الفرقان)202
15
{قل الحمد هلل وسالم على عباده الذين اصطفى' أهللا خير أما يشركون' أ ّمن خلق السماوات
واألرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها' أإله
مع هللا' بل هم قوم يعدلون'}(النمل)42
{وهو هللا ال إله إال هو' له الحمد في األولى واآلخرة' وله الحكم ' وإليه ترجعون' قل أرأيتم إن جعل
هللا عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير هللا يأتيكم بضياء' أفال تسمعون' قل أرأيتم إن جعل
هللا عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير هللا يأتيكم بليل تسكنون فيه' أفال
تبصرون'}(القصص)72
{وال تدع مع هللا إلها آخر' ال إله إال هو' كل شيء هالك إال وجهه' له الحكم وإليه
ترجعون'}(القصص)88
{ وال تجادلوا أهل الكتاب إال بالتي هي أحسن إال الذين ظلموا منهم' وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا
وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون'}(العنكبوت)34
{ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن هللا هو العلي الكبير'}(لقمان)22
{قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كال' بل هو هللا العزيز الحكيم'}(سبإ)27
{إن إلهكم لواحد'}(الصافات)3
{ إنهم كانوا إذا قيل لهم ال إله إال هللا يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون' بل جاء
بالحق وصدق المرسلين'}(الصافات)17 ..12
{قل إنما أنا منذر' وما من إله إال هللا الواحد القهار'}(ص)43
{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد' فاستقيموا إليه واستغفروه' وويل
للمشركين}(فصلت)2
{وهو الذي في السماء إله وفي األرض إله' وهو الحكيم العليم'}(الزخرف)83
{فاعلم أنه ال إله إال هللا واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات' وهللا يعلم متقلبكم ومثواكم'}(محمد)21
{وال تجعلوا مع هللا إلها آخر إني لكم منه نذير مبين'}(الذاريات)20
16
هذه الشهادة واإلثبات للحق ،كما هو الشأن بالنسبة للصيغ األخرى ،نجده يذكر في القرآن ذكرا متتاليا
ومحكما ،مقترنا وغير مقترن ،فهي حقائق يستلزم بعضها البعض؛ كلها تدل وتعبر عن نفس األمر
وذات الشأن ،بأن ال إله إال هللا.
الصيغة الثانية:
وتفيد شهادة الحق ببطالن وبفساد القول بإله أو آلهة غير هللا تعالى الذي ال إله إال هو .وهي صيغة ال
في درجة استلزام سابقتها فحسب ،بل مكافئة لها ،تسم نقيض الحق باإلفك والضالل واالفتراء .وقسم
هذه الصيغة فيه قوله سبحانه:
{أال إن هلل من في السماوات ومن في األرض' وما يتبع الذين يدعون من دون هللا شركاء' إن يتبعون
إال الظن' وإن هم إال يخرصون'}(يونس)44
{وإذ قال إبراهيم ألبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة' إني أراك وقومك في ضالل مبين'}(األنعام)73
{ما ت عبدون من دونه إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر
أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف)31
{قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب' أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل بها
من سلطان' فانتظروا' إني معكم من المنتظرين'}(األعراف)71
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم' قالوا يا موسى اجعل لنا إلها
كما لهم آلهة' قال إنكم قوم تجهلون' إن هؤالء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون' قال أغير هللا
أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين'}(األعراف)031 ..018
{أم جعلوا هلل شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم' قل هللا خالق كل شيء' وهو الواحد
القهار'}(الرعد)01
17
{له دعوة الحق' والذين يدعون من دونه ال يستجيبون لهم بشيء إال كباسط كفيه ليبلغ فاه وما هو
ببالغه' وما دعاء الكافرين إال في ضالل'}(الرعد)02
{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت' وجعلوا هلل شركاء قل سموهم' أم تنبئونه بما ال يعلم في
األرض أم بظاهر من القول' بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل' ومن يضلل هللا فما له
من هاد'}(الرعد)13
{إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع هللا إلها آخر' فسوف يعلمون'}(الحجر)24-22
{وقال هللا ال تتخذوا إلهين اثنين' إنما هو إله واحد' فإياي فارهبون' وله ما في السماوات واألرض'
وله الدين واصبا' أفغير هللا تتقون'}(النحل)22-20
{ال تجعل مع هللا إلها آخر فتقعد مذموما مخذوال'}(اإلسراء)22
{قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا البتغوا إلى ذي العرش سبيال' سبحانه وتعالى عما يقولون علوا
كبيرا'}(اإلسراء)31
{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فال يملكون كشف الضر عنكم وال تحويال'}(اإلسراء)24
{أم اتخذوا آلهة من األرض هم ينشرون' لو كان فيهما آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب العرش
عما يصفون' ال يسأل عما يفعل' وهو يسألون' أم اتخذوا من دونه آلهة' قل هاتوا برهانكم' هذا ذكر من
معي وذكر من قبلي' بل أكثرهم ال يعلمون الحق فهم معرضون' وما أرسلنا من قبلك من رسول إال
يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء)22 ..20
{ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما تدعون من دونه هو الباطل وأن هللا هو العلي الكبير'}(الحج)41
{ما اتخذ من ولد وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض' سبحان هللا
عما يصفون'}(المؤمنون)22
{ومن يدع مع هللا إلها آخر ال برهان له به فإنما حسابه عند ربه' إنه ال يفلح الكافرون'}
(المؤمنون)008
{فال تدع مع هللا إلها آخر فتكون من المعذبين'}(الشعراء)202
18
{أ ّم ن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء واألرض' أإله مع هللا' قل هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين'}(النمل)44
{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون' ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم
فعلموا أن الحق هلل وضل عنهم ما كانوا يفترون'}(القصص)72-73
{ وال تدع مع هللا إلها آخر' ال إله إال هو' كل شيء هالك إال وجهه' له الحكم' وإليه
ترجعون'}(القصص)88
{وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا هللا واتقوه' ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون' إنما تعبدون من دون هللا
أوثانا وتخلقون إفكا' إن الذين تعبدون من دون هللا ال يملكون لكم رزقا' فابتغوا عند هللا الرزق'
واعبدوه' واشكروا له' إليه ترجعون'}(العنكبوت)04-02
{مثل الذين اتخذوا من دون هللا أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا' وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت
لو كانوا يعلمون' إن هللا يعلم ما تدعون من دونه من شيء' وهو العزيز الحكيم' وتلك األمثال نضربها
للناس' وما يعقلها إال العالمون'})العنكبوت)31 ..30
{ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن هللا هو العلي الكبير'}(لقمان)22
{قل ادعوا الذين زعمتم من دون هللا' ال يملكون مثقال ذرة في السماوات وال في األرض' وما لهم
فيهما من شرك' وما له منهم من ظهير'}(سبإ)22
{أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر ال تغن عني شفاعتهم شيئا وال ينقذون' إني إذا لفي
ضالل مبين'}(يس)21-22
{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون هللا فاهدوهم إلى صراط
الجحيم'}(الصافات)21
{وإن من شيعته إلبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال ألبيه وقومه ماذا تعبدون' أإفكا آلهة دون هللا
تريدون' فما ظنكم برب العالمين'}(الصافات)87 ..81
{فراغ إلى آلهتهم قال أال تأكلون'}(الصافات)0
19
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله هللا على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة
فمن يهديه من بعد هللا' أفال تذكرون'}(الجاثية)22
{فلوال نصرهم الذين اتخذوا من دون هللا قربانا آلهة' بل ضلوا عنهم' وذلك إفكهم وما كانوا
يفترون'}(األحقاف)27
{ألقيا في جهنم كل كفار عنيد' مناع للخير معتد مريب' الذي جعل مع هللا إلها آخر' فألقياه في العذاب
الشديد'}(ق)24
{أم لهم إله غير هللا' سبحان هللا عما يشركون'}(الطور)30
الصيغة الثالثة:
لما كان الحق يشهد أن ال إله إال هللا ،وأنه سبحانه هو الحق ،وأن ما يدعون من دونه الباطل ،كان
لزاما وحقا أال يعبد إال هو سبحانه وتعالى؛ وهذا هو الذي تفيده الصيغة الثالثة مما جاء في قوله
سبحانه:
{وإلى عاد أخاهم هودا' قال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره' إن أنتم إال مفترون'}(هود)21
{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار' ما تعبدون من دونه إال أسماء
سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم'
ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف)31-12
{فال تجعلوا هلل أندادا وأنتم تعلمون'}(البقرة)22
{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ال تعبدون إال هللا'}(البقرة)81
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا هلل إن كنتم إياه تعبدون'}(البقرة)072
{إن هللا ربي وربكم فاعبدوه' هذا صراط مستقيم'}(آل عمران)20
{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به شيئا وال يتخذ
بعضنا بعضا أربابا من دون هللا' فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون'}(آل عمران)41
20
{قل إنما أمرت أن أعبد هللا وال أشرك به' إليه أدعو' وإليه مئاب'}(الرعد)17
{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت' فمنهم من هدى هللا' ومنهم من حقت
عليه الضاللة' فسيروا في األرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين'}(النحل)14
{ال تجعل مع هللا إلها آخر فتقعد مذموما مخذوال'}(اإلسراء)22
{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة' وال تجعل مع هللا إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما
مدحورا'}(اإلسراء)12
{إنني أنا هللا ال إله إال أنا فاعبدني وأقم الصالة لذكري'}(طه)01
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إال يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء)22
{إن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاعبدون'}(األنبياء)20
{ وإذ بوأنا إلبراهيم مكان البيت أن ال تشرك بي شيئا' وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع
السجود'}(الحج)23
{وأن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاتقون'}(المؤمنون)21
{وعد هللا الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في األرض كما استخلف الذين من قبلهم
وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا' يعبدونني ال يشركون بي شيئا'
ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون'}(النور)21
{يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون' كل نفس ذائقة الموت' ثم إلينا
ترجعون'}(العنكبوت)27-24
{وما لي ال أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون' أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر ال تغن
عني شفاعتهم شيئا وال ينقذون' إني إذا لفي ضالل مبين'}(يس)21 ..20
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ال تعبدوا الشيطان' إنه لكم عدو مبين' وأن اعبدوني' هذا صراط
مستقيم'}(يس)41-22
22
{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون هللا فاهدوهم إلى صراط
الجحيم'}(الصافات)21
{وإن من شيعته إلبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال ألبيه وقومه ماذا تعبدون' أئفكا آلهة دون هللا
تريدون' فما ظنكم برب العالمين'}(الصافات)83 ..82
{إنه من عبادنا المؤمنين'}(الصافات)000
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد هللا مخلصا له الدين' أال هلل الدين الخالص' والذين اتخذوا من دونه
أولياء ما نعبدهم إال ليقربونا إلى هللا زلفى' إن هللا يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون' إن هللا ال يهدي
من هو كاذب كفار'}(الزمر)3 ..2
{قل إني أمرت أن أعبد هللا مخلصا له الدين وأمرت ألن أكون أول المسلمين' قل إني أخاف إن
عصيت ربي عذاب يوم عظيم' قل هللا أعبد مخلصا له ديني' فاعبدوا ما شئتم من دونه' قل إن
الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة' أال ذلك هو الخسران المبين'}(الزمر)03 ..02
{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى هللا لهم البشرى' فبشر عباد الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه' أولئك الذين هداهم هللا' وأولئك هم أولو األلباب'}(الزمر)07-04
{ضرب هللا مثال رجال فيه شركاء متشاكسون ورجال سلما لرجل' هل يستويان مثال' الحمد' بل
أكثرهم ال يعلمون'}(الزمر)28
{قل أفغير هللا تأمروني أعبد أيها الجاهلون'}(الزمر)40
{بل هللا فاعبد وكن من الشاكرين'}(الزمر)41
{فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود' إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن
خلفهم أال تعبدوا إال هللا' قالوا لو شاء ربنا ألنزل مالئكة فإنا بما أرسلتم به كافرون'}(فصلت)01-02
{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر' ال تسجدوا للشمس وال للقمر' واسجدوا هلل الذي خلقهن إن
كنتم إياه تعبدون'}(فصلت)14
{وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون'}(الذاريات)24
23
قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون
هللا' كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبد ا حتى تؤمنوا باهلل وحده إال قول إبراهيم ألبيه
ألستغفرن لك وما أملك لك من هللا من شيء' ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك
المصير'}(الممتحنة)3
{قل إنما أدعو ربي وال أشرك به أحدا'}(الجن)21
{وما أمروا إال ليعبدوا هللا مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة' وذلك دين
القيمة'}(البينة)2
{إليالف قريش إيالفه م رحلة الشتاء والصيف' فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم
من خوف'}(سورة قريش)
{إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر' إن شانئك هو األبتر'}(سورة الكوثر)
{قل يا أيها الكافرون ال أعبد ما تعبدون وال أنتم عابدون ما أعبد' وال أنا عابد ما عبدتم وال أنتم
عابدون ما أعبد ' لكم دينكم ولي دين'}(سورة الكافرون)
الصيغة :الرابعة:
إن الحق ال يتبعض وال يختلف؛ ولدرء أي لبس فإننا نعني بالتبعض هنا حصول الصدق في جزء منه
دون غيره ،وباالختالف اختالف التناقض والتضاد.
لقد رأينا في عدد من اآليات إفادة النسق الواحد من التركيب البياني واللغوي أكثر من صيغة واحدة.
هذا وإن حق رده إلى اآلية الكبرى والمعجزة األعظم للقرآن في حديثه و بيانه ،فهو ال ينقض ما سبق
أن أشرنا إليه من استلزام هذه الحقائق المحكمة بعضها لبعض .وما من شك أن الصيغة الجامعة
للصيغ جميعا هي التي تصل الشهادة بالحق بأمر الطاعة وحقيقة العبادة كما نتلوه في قوله تعالى:
{ومن يبتغ غير اإلسالم دينا فلن يقبل منه وهو في اآلخرة من الخاسرين'}(آل عمران)82
{بلى من أسلم وجهه هلل وهو محسن فله أجره عند ربه وال خوف عليهم وال هم
يحزنون'}(البقرة)000
24
{ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك' وأرنا مناسكنا' وتب علينا' إنك أنت التواب
الرحيم'}(البقرة)027
{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إال من سفه نفسه' ولقد اصطفيناه في الدنيا' وإنه في اآلخرة لمن
الصالحين' إذ قال له ربه أسلم' قال أسلمت لرب العالمين' ووصى بها إبراهيم بنيه' ويعقوب يا بني إن
هللا اصطفى لكم الدين فال تموتن إال وأنتم مسلمون'}(البقرة)012 ..022
{فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي هلل ومن اتبعن' وقل للذين أوتوا الكتاب واألميين أأسلمتم' فإن أسلموا
فقد اهتدوا' وإن تولوا فإنما عليك البالغ' وهللا بصير بالعباد'}(آل عمران)21
{قل يا أهل الكتاب تعالوا إل ى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به شيئا وال يتخذ
بعضنا بعضا أربابا من دون هللا' فإن تولوا فقل اشهدوا بأنا مسلمون'}(آل عمران)41
{ما كان إبراهيم يهوديا وال نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما' وما كان من المشركين'}(آل عمران)44
{ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه هلل وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا' واتخذ هللا إبراهيم
خليال'}(النساء )022
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا'}(المائدة)3
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون واألحبار
بما استحفظوا من كتاب هللا وكانوا عليه شهداء' فال تخشوا الناس واخشون' وال تشتروا بآياتي ثمنا
قليال' ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الكافرون'}(المائدة)33
{قل أغير هللا أتخذ وليا فاطر السماوات واألرض' وهو يطعم وال يطعم' قل إني أمرت أن أكون أول
من أسلم' وال تكونن من المشركين'}(األنعام)02
{قل إن هدى هللا هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين'}(األنعام)70
{فمن يرد هللا أن يهديه يشرح صدره لإلسالم' ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما
يصعد في السماء' كذلك يجعل هللا الرجس على الذين ال يؤمنون'}(األنعام)024
{قل إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له' وبذلك أمرت وأنا أول
المسلمين'}(األنعام)042-043
25
{فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم هللا وأن ال إله إال هو' فهل أنتم مسلمون'}(هود)03
{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤالء' ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل
شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين'}(النحل)82
{قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد' فهل أنتم مسلمون'}(األنبياء)017
{فإلهكم إله واحد' فله أسلموا'}(الحج)12
{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون' وجاهدوا في هللا حق
جهاده' هو اجتباكم' وما جعل عليكم في الدين من حرج' ملة أبيكم إبراهيم' هو سماكم المسلمين من
قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس' فأقيموا الصالة وآتوا الزكاة'
واعتصموا باهلل' هو موالكم' فنعم المولى' ونعم النصير'}(الحج)74-72
{إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء' وأمرت أن أكون من
المسلمين'}(النمل)21
{وال تجادلوا أهل الكتاب إال بالتي هي أحسن' إال الذين ظلموا منهم' وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا
وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون'}(العنكبوت)34
{وما أنت بهاد العمي عن ضاللتهم' إن تسمع إال من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون'}(الروم)22
{إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات
والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات
والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين هللا كثيرا والذاكرات أعد هللا لهم مغفرة وأجرا
عظيما'}(األحزاب)12
{قل إني أمرت أن أعبد هللا مخلصا له الدين وأمرت ألن أكون أول المسلمين'}(الزمر)02
{ومن أحسن قوال ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين'}(فصلت)12
باقي الصيغ:
26
وكما اتحدت هذه الصيغ وهذه النسق اللغوية والبيانية في داللتها على أمر واحد ،األمر الحق بعبادة
هللا واجتناب الطاغوت ،فكذلك الصيغ األخرى التي جاءت على غاية التناسق والحكمة في مواضعها
كقوله تعالى وهو العلي الحكيم:
{فإذا ركبوا في الفلك دعوا هللا مخلصين له الدين' فلما نجاهم إلى البر إذا هم
يشركون}(العنكبوت)44
{وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل' فإن انتهوا فإن هللا بما يعملون بصير'}(األنفال)12
{إن المنافقين في الدرك األسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا' إال الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا
باهلل وأخلصوا دينهم هلل فأولئك مع المؤمنين' وسوف يؤت هللا المؤمنين أجرا عظيما'}(النساء)032
{قل أمر ربي بالقسط' وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد' وادعوه مخلصين له الدين' كما بدأكم
تعودون'}(األعراف)28
{فإن تابوا وأقاموا الصالة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين' ونفصل اآليات لقوم يعلمون'}(التوبة)00
{وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين هلل' فإن انتهوا فال عدوان إال على الظالمين'}(البقرة)021
{إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف)31
{وله ما في السماوات واألرض' وله الدين واصبا' أفغير هللا تتقون'}(النحل)22
{وله من في السماوات واألرض' كل له قانتون'}(الروم)22
{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة هللا التي فطر الناس عليها ال تبديل لخلق هللا ذلك الدين القيم ولكن أكثر
الناس ال يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصالة وال تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا' كل حزب بما لديهم فرحون'}(الروم)10 ..22
{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا هللا مخلصين له الدين' فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد' وما يجحد
بآياتنا إال كل ختار كفور'}(لقمان)10
27
{ذلكم بأنه إذا دعي هللا وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا' فالحكم هلل العلي الكبير' هو الذي يريكم آياته
وينزل لكم من السماء رزقا' وما يتذكر إال من ينيب' فادعوا هللا مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون'}(غافر)01 ..00
{إن الذين قالوا ربنا هللا ثم استقاموا فال خوف عليهم وال هم يحزنون'}(األحقاف)02
{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار'}(يوسف)12
{وما أمروا إال ليعبدوا هللا مخلصين له الدين ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة' وذلك دين
القيمة'}(البينة)2
{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم' دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا' وما كان من المشركين' قل إن
صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له' وبذلك أمرت' وأنا أول
المسلمين'}(األنعام)042 ..042
{إنه من عبادنا المؤمنين'}(الصافات)80
{إنهما من عبادنا المؤمنين'}(الصافات)022
{رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات' وال تزد الظالمين إال
تبارا'}(نوح)21
{قل إنما أدعو ربي وال أشرك به أحدا'}(الجن)21
{قل هو هللا أحد' هللا الصمد' لم يلد ولم يولد' ولم يكن له كفؤا أحد'}(سورة اإلخالص)
هذا وقد سلف ذكره واإلشارة إليه ،قد تأتي الصيغتان أو أكثر مقترنة القتران حاصل في غرض
البيان .ولعل األوضح واألبرز في هذا الباب من حيث الدرس والتبيان قوله عز وجل:
{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار' ما تعبدون من دونه إال أسماء
سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل هللا بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين
القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف)31-12
28
{تنزيل الكتاب من هللا العزيز الحكيم' إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد هللا مخلصا له الدين' أال هلل
الدين الخالص' والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إال ليقربونا إلى هللا زلفى' إن هللا يحكم بينهم
في ما هم فيه يختلفون' إن هللا ال يهدي من هو كاذب كفار' لو أراد هللا أن يتخذ ولدا الصطفى مما
يخلق ما يشاء' سبحانه' هو هللا الواحد القهار'}(الزمر)2 ..0
وكذلك اآليات األخيرة ،وما يصطلح عليه أحيانا بالغاية ،من سورة األنعام.
هذا بيان القرآن العظيم وصيغ حديثه أحسن الحديث ،ومن أحسن من هللا حديثا !
الصيغ هاته هي من لدن حكيم حميد ،خطابها يفي باألمر كله ،بيانا للحق والدعوة إليه؛ فما لهؤالء
القوم ال يكادون يفقهون حديثا؟!
ذلك ،وإن كان حقا أننا لم نأت بكل اآليات في كل قسم من هاتيك األقسام ولم نحط بها ذكرا ،فإن ما لم
نذكره ليس بأكثر عددا وال أرجح مما ذكر .فإن هللا جل وعال ،وهو أعلم وهو أحكم الحاكمين ،اختار
لكالمه وكلمه كما اختار واصطفى الصفوة ألمره ورسالته ،وما كان لهم الخيرة من بعده؛ ومن لم
يجعل هللا له نورا فما له من نور .ومن أشرب وأعماه التقليد ،تقليد الشيوخ فيما يلفظونه حقا وغير
حق ،فإنما هم كالذين من قبلهم {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم
مقتدون'}(الزخرف)22؛ إنهم مثلهم ويحذون حذوهم ويحسبون أنهم الفرقة الناجية والعياذ باهلل .ولقد
ذم سبحانه وتعالى من جعل عالما وحبرا من العلماء واألحبار هو عقله ،أي قلبه ،الذي يعقل به ،وإن
بدل في النهج أ مرا كما هو الحال هنا فاحش في مقول التقسيم التوحيدي كما يزعمون ،وإن قدم من
بين يدي هللا ورسوله وبدل في بيان الوحي وأسماء األصول العليا للدين وصيغ الدعوة إليه ،التي ال
حق للتصرف فيه وتبديلها ،إن بدل تبعه على أمره ذلك.
إن الذي يزعمون التدليل عليه وتسميته بالتوحيد لهو أعلى األمر وأصله كله؛ وقد أجمع العلماء
الراسخون أنه ال يحق أن يطلق على حقيقة هذه درجتها وال على أسماء أركان اإلسالم وما كان من
حقائق الشرع العليا ،ال يجوز بحال من األحوال حتما ومطلقا تبديلها وتغييرها .أوال يكفي هؤالء أن
يخلو القرآن العظيم وهو كالم ذي العزة والجبروت وهو أحسن الحديث ،أن يخلو من كلمة ولفظ
(التوحيد) مطلقا؟!
هذا بالغ وليعلموا أن مشروعية طرح السؤال مشروعية ثابتة .هذا أول البرهان ،ثم إنه كما سوف
يستبين أمره ،أن هذا اللفظ ال يحق البتة أن يسند مطلقا لذات هللا األحد الصمد؛ وسبحان هللا عما
يصفون !
29
الفصل الثاني
الدليل االستقرائي في السنة
السنة النبوية يكون اعتبارها ووجه النظر إليها من خالل قوله عز وجل:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون'}(النحل )33
وقوله سبحانه:
{فاتقوا هللا يا أولي األلباب' الذين آمنوا قد أنزل هللا إليكم ذكرا' رسوال يتلو عليكم آيات هللا مبينات
ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور' ومن يؤمن باهلل ويعمل صالحا ندخله
جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن هللا له رزقا' هللا الذي خلق سبع سماوات
ومن األرض مثلهن' يتنزل األمر بينهن لتعلموا أن هللا على كل شيء قدير وأن هللا قد أحاط بكل شيء
علما'}(الطالق )02 ..01
{والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى' وما ينطق عن الهوى إن هو إال وحي يوحى'}(النجم
)3 ..0
السنة بيان وتبليغ لما أنزل من الكتاب ،والرسول صلى هللا عليه وسلم ،في حديثه وسيرته ،وفي لسانه
ومعجمه ،هو على ذات اللسان والنهج في الخطاب الحكيم الذي نزل به القرآن .فكلمه وخطابه عليه
الصالة والسالم هو من ذات اللسان والكلم والمعجم الذي نزل به القرآن ،لسانا وكلما محكما ،أتى
للعالمين خطابا مجيدا وحديثا معجزا .ومن تمة فإن الناظر لمعجم الحديث سيلفيه للمعجم القرآني سيا
ال يخرج عنه .وأخص ما في ذلك التعبير عن األصول والحقائق العليا للدين ،التي منها وأهمها ال
مرية التعبير والداللة عن مسمى وحقيقة عبادة هللا واجتناب الطاغوت ،الحقيقة التي بعث بها هللا
تعالى الرسل جميعا.
إن ما جاء في حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من الحديث والكلم ،ليس فيه كما هو الشأن في
القرآن العظيم الذي في الكفاء للبيان ،ليس في حديثه عليه الصالة والسالم من هذا اإلسناد لكلمة
30
واللفظ اللغوي التوحيد تعبيرا عن هذه الحقيقة الكبرى لرسالة هللا عز وجل .وما كان ينبغي للحق أن
يختلف .والحق إ ن هذا اإلسناد في اللغة الصحيحة وفي ميزان الرحمان واألفئدة بمعنى العقول السوية
إسناد ال يصح وال يحق البتة؛ وهذا ما سيأتي بيانه والتدليل عليه وبرهانه بالغا مبينا ،لئال يكون للمقلد
فيما ال يصح بعده حجة.
فهذه فيما يلي جل وغالب ما ثبت من الصيغ واأللفاظ والمعجم في حديثه وبيانه صلى هللا عليه وسلم،
وهو القائل عليه الصالة والسالم :بعثت بجوامع الكلم:
روى اإلمام البخاري رحمه هللا في صحيحه قال:
(" حدثنا مسدد قال :حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،أخبرنا أبو حيان التيمي ،عن أبي زرعة ،عن أبي
هريرة قال :كان صلى هللا عليه وسلم بارزا يوما للناس ،فأتاه رجل فقال :ما اإليمان؟ قال :اإليمان أن
تؤمن باهلل ومالئكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث .قال :ما اإلسالم؟ قال :اإلسالم أن تعبد هللا وال
تشرك به ،وتقيم الصالة ،وتؤدي الزكاة المفروضة ،وتصوم رمضان .قال :ما اإلحسان؟ قال :أن تعبد
هللا كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك .قال :متى الساعة؟ قال :ما المسؤول عنها بأعلم بالسائل،
وسأخبرك عن أشراطها :إذا ولدت األمة ربها ،وإذا تطاول رعاة اإلبل البهم في البنيان ،في خمس ال
يعلمهن إال هللا ،ثم تال النبي صلى هللا عليه وسلم{:إن هللا عنده علم الساعة}(لقمان )13ثم أدبر ،فقال
:ردوه ،فلم يروا شيئا ،فقال :هذا جبريل ،جاء يعلم الناس دينهم".
عن أبي هريرة :قال النبي صلى هللا عليه وسلم لبالل" :أخبرني بأرجى عمل عملته في اإلسالم؟ قال:
ما عملت عمال أرجى عندي أني لم أتطهر إال صليت ،وسئل أي العمل أفضل؟ قال :إيمان باهلل
ورسوله ثم الجهاد ثم حج مبرور"
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي هللا عنه" :هل تدري ما حق هللا على
عباده؟ قلت :هللا ورسوله أعلم ،قال :حق هللا على عباده أن يعبدوه وال يشركوا به شيئا".
الحديث -7321حدثنا إبراهيم بن المنذر ،حدثني محمد بن فليح قال :حدثني أبي ،حدثني هالل عن
عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال:
"من آمن باهلل ورسوله وأقام الصالة وصام رمضان كان حقا على هللا أن يدخله الجنة ،هاجر في
سبيل هللا أو جلس في أرضه التي ولد فيها"
قالوا :يا رسول هللا أفال ننبئ الناس بذلك؟
31
قال" :إن في الجنة مائة درجة أعدها هللا للمجاهدين في سبيله ،كل درجتين ما بينهما كما بين السماء
واألرض؛ فإذا سألتم هللا فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ،وفوقه عرش الرحمان،
ومنه تفجر أنهار الجنة".
وفي الباب -031قال النبي عليه السالم لعلي رضي هللا عنه يوم خيبر:
"أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ،ثم ادعهم إلى اإلسالم ،وأخبرهم بما يجب عليهم ،فوهللا ألن
يهدي هللا بك رجال خير لك من أن يكون لك حمر النعم".
ح -2784حدثنا أبو اليمان :أخبرنا شعيب عن الزهري قال :حدثني عطاء بن يزيد الليتي :أن أبا
سعيد الخدري رضي هللا عنه حدثه قال :قيل يا رسول هللا ،أي الناس أفضل؟ فقال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم:
"مؤمن يجاهد في سبيل هللا بنفسه وماله"
قالوا :ثم من؟
قال" :مؤمن في شعب من الشعاب يتقي هللا ويدع الناس من شره".
:2432-2430عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال:
"ما يصيب المسلم من نصب وال وصب ،وال هم وال حزن ،وال أذى وال غم ،حتى الشوكة يشاكها،
إال كفر هللا بها من خطاياه".
-2431عن عبد هللا بن كعب عن أبيه عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال:
"مثل المؤمن كالخامة من الزرع ،تفيئها الريح مرة وتعدلها مرة ،ومثل المنافق كاألرزة ال تزال حتى
يكون انجعافها مرة واحدة"
-4130عن أنس بن مالك رضي هللا عنه قال :قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
"ال يجد أحد حالوة اإليمان حتى يحب المرء ال يحبه إال هلل ،وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن
يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه هللا ،وحتى يكون هللا ورسوله أحب إليه مما سواهما''.
وأفرد البخاري رحمه هللا في صحيحه في كتاب اإليمان بابا أسماه:
32
إن هللا تعالى لم يذكر ولم يأت سبحانه ،وهو أعلم ،والناس ال يعلمون؛ لم يذكر ولم يأت سبحانه بذكر
لفظ التوحيد وال صيغه الفعلية مسندا إلى ذاته العلية ألن هذا اإلسناد ال يصح؛ أال إن الواحد ال يتعدد
فيتوحد! وهللا سبحانه هو األحد الصمد .وكل ما اعتمده الشيطان وليجة وتلبيسا في هذا الشأن البياني
العظيم ،الذي هو من صميم وجوهر الدين والتنزيل ،كل أولئك داحض مما سيأتي دحضه بعون هللا
العليم ،ببرهان الحق والعلم المكين في هذا السفر عبر أبوابه وفصوله.
ثم هل يجد هؤالء المقلدون في القول لكل ما يلفظه أحبارهم ال يلوون على نور من الدين قد كمل
ضياؤه ،محجة ب معالم الدين محكما بيانها ممن نزل الكتاب والقرآن المبين ،هل يجدون في بيان
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لفظ المو ّحد بدل المسلم أو لفظ نفس مو ّحدة بدل نفس مؤمنة؟؟!
إنهم لن يجدوا ذلك يقينا ،ألن الحق ال يختلف وهللا أحد صمد ال يتعدد؛ وإنه ال يو ّحد إال المتعدد .ولكن
الناس جبلوا على التقليد إال بقية من أهل العلم يؤمنون ويعلمون ويقدرون األمور منازلها وقدرها؛
فليس حقا من القول ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه إال الوحي الكريم.
34
الفصل الثالث
التقييم االستداللي
بغير فقه وال إدراك .أما هذه الدرجة من البيان فهي من صميم وجوهر الدين والتنزيل؛ ومن لم يتسع
إدراكه ويسمو تصوره وميزانه وقلبه بمعنى عقله لهذا ،فقمن به أن يصغي ،عساه بإذن العزيز
الوهاب أن يهتدي ويرزق سلما أعلى؛ أما التكبر والتقليد فذلك وقر في اآلذان ،وحجاب دون العلم،
وأكنة دون نور العلم الحق.
يقول هللا تعالى في القرآن العظيم:
{حم' والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون' وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي
حكيم'}(الزخرف)1 ..0
{حم' تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون}(فصلت)2-0
أال تفيدنا هذه اآليات البينات بأن كتاب هللا مبين حقا ،وأنه كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا؟
وهل يحق لنا أن نستبدل تعبيرنا القاصر واألدنى بالتعبير الذي نزل به القرآن العظيم ،التعبير العلي
الحكيم ،والمجيد المعجز بإحاطته الكاملة لمجال وأحوال العالمين إلى يوم الدين؟
ال جرم أن من ابتغى البيان والتعبير للدين وأعلى أصوله في غير تعبير القرآن والسنة أنه على غير
الصواب؛ والرجوع إلى الحق أحب عند هللا تعالى وآية بينة قوية على العلمية والرسوخ في العلم.
يقول الحق سبحانه:
{هللا نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني' تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم
وقلوبهم إلى ذكر هللا' ذلك هدى هللا يهدي به من يشاء' ومن يضلل هللا فما له من هاد'}(الزمر)22
فالضالل كل الضالل أن نستبدل لفظ التوحيد أو أي لفظ غيره ،مما لم يذكر في القرآن وال في كالم
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أو ذكر على غير درجة وقدر ما يراد أن يسمى به من الشأن ،أن
نستبدل هذا اللفظ مما لم يختره هللا ذو العزة والجبروت بما جاء في أحسن الحديث ،الذي ال مرية وال
عقل لمن يجادل في أنه أصح األسماء والكلم ألعلى البيان في الدين والرسالة؛ ومن لم يجعل هللا له
نورا فما له من نور .فوربك ال يؤمن أحد حتى يكون هللا ورسوله أحب إليه مما وجد نفسه عليه من
التقليد ،ومن ترديد أقوال يعلم أنها ليست بقرآن وال سنة ثابتة صحيحة!
36
إننا ال زلنا ننظر إلى السؤال في جانبه الذي ال ينبغي التقديم عليه من ناحية التأصيل{ :يا أيها الذين
آمنوا ال تقدموا بين يدي هللا ورسوله' واتقوا هللا' إن هللا سميع عليم'}(الحجرات )0ننظر إليه على
وصل وارتكازا مفسرا ومؤوال بمقولة السلم أو ثنائية (أصل -فرع).
المعنى إذا من هذه الناحية وهذا الجانب ،يمثل بوضوح أكثر فيجليه على صريح وفصيح القول كون
األمر البياني ها هنا على هذه الدرجة العلية الحكيمة تنزيل شأنه شأن توقيفي؛ فال تصرف فيه .كما
ال يجوز التصرف في ألفاظ وبيان التنزيل ،الذي هو من جوهره ،كالصالة والزكاة والصيام و صيغ
التكبير واألذان .فمن أذن لهم بهذا التحوير والتبديل في تسمية والتدليل على أعظم حقيقة في الدين
والوحي بلفظ التوحيد ،وهو لم يذكر في القرآن وال في السنة ؟! والسر في عدم وروده نسبة لعقول
هؤالء هو باليقين عدم سالمته لغة وعقال ،ذلك ما سيأتي بيانه ببرهان الحق أجلى من جلوة الشمس
بالنهار.
في هذا اإلطار ،سنحاول أن نعرض للدليل اإلحصائي (الكمي) الذي يبقى تبعا لالنتماء الموضوعاتي
أقوى حجة وأسطع برهان{:قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين'}(البقرة .)001ودرءا ألية شبهة
كانت في سؤال المصداقية المعيارية لهذا المؤشر الحق ،المؤشر المرتكز باألساس لطبيعة أمر هللا
سبحانه وخلقه ،من أجل ذلك نذكر أن هذا المعيار أساس ال بناء لعلمي الفقه و الحديث من دونه.
فيكفي لعلم الفقه قيامه على مفهوم الترجيح تالوة للحق في قوله عز وجل{:يسألونك عن الخمر
والميسر' قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس' وإثمهما أكبر من نفعهما'}(البقرة )207فالرائز والعامل
هنا هو العامل الكمي؛ وفي علم الحديث يكفي استحضار مفهوم التواتر في المكون اإلسنادي.
1
-2المؤشر اإلحصائي (الكمي) في القرآن
العدد اللفظ
42 أشرك مصرفا
2 مشرك
33 المشركون (م .ونكرة) معربة
2 مشركة
1 المشركات
1 شريك
14 شركاء مسندا
3 الشرك
1المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم -وضعه محمد فؤاد عبد الباقي -دار الحديث -القاهرة
38
47 واحدا
4 وحده
0 وحيدا
من خالل دليل معجم القرآن العظيم ،ليس يظهر لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد ،ليس يظهر
فحسب عدم تناسب عدد ذكر مادة (وحّد) ولفظها في القرآن ،وال القدر العظيم لما تدل عليه في الوحي
الكريم والرسالة خاتمة رساالت هللا الحميد المجيد للعالمين ،بل عدمها وخلوه منها مطلقا ،سواء في
صيغة المصدر (التوحيد) أو في مطلق صيغه الفعلية .وإن لم يكفهم أن هللا تعالى اختار وأنزل أحسن
الحديث فبأي عقل بعده يفقهون؟ ومن لم يفقه هذا المقتضى في ميزان الحق قسطاسا مستقيما ،فلن
يكون أهال لضبط وفقه معيارية وثنائية األصول والفروع في الدين؛ ثم ال يكون بعدها حظ في العلمية
ولو ادعي ما ادعي من األسماء واأللقاب.
إن حرمة التصرف في ما أنزل هللا تعالى من األلفاظ المسمى بها الحقائق العليا واألركان في الدين
وبيانه األعلى وأركانه وشعائره ،لم يكن من أمره تشديد وما كان إصرا ،إن هو إال مقتضى في الحق
عظيم ،من كنه الرسالة وشرطها العلمي جوهرا حقيقا بالسعة العلمية المطلقة ،التي اختص بها هللا
جلت قدره ووسع علمه السماوات واألرض وما بينهما.
إن هللا تعالى اختار لرسالته المجيدة ،وهو أحكم الحاكمين ما علمه سبحانه واسعا للمجال الخطابي.
وإنما الكلم والبيان هو من ذات الحامل لهذه الرسالة العظيمة المجيدة ،وإنما معنى المجيد من السعة.
ولعل أعظم أو من أعظم وجوه اإلعجاز لكتاب هللا العزيز الحكيم هو في القوة والنور الوهاج الحكيم
والمجيد لخطابه؛ فهو أعظم من أن تؤثر فيه العوامل الزمنية والتاريخية ،العوامل الحضارية
والحيوية المختلفة ،التي يراها علماء األلسنية واالجتماع ذات تأثير في تحديد المناحي اللغوية في
أساليبها ،بل وفي ألفاظها كذلك.
وجل الدراسات الحديثة في هذا المجال تؤكد هذه النظرية .ويعلم الراسخون في العلم أن اللغة العربية
لم تصمد أمام هذه العوامل ،ولم تزل صامدة أمام هذه الغزوات المتتالية ،والكيد والمحاوالت الماكرة،
خصوصا تلك التي صاحبت المرحلة االستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين ،لم تصمد إال
بفضل هللا تعالى رب العالمين أن جعلها لغة القرآن الكريم ،الكتاب المجيد؛ يقول سبحان وتعالى{:إنا
نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون'}(الحجر)2
40
كما أن داللة المحكم لزم اعتبارها بمعناها الثبوتي ،وعلى مستوى األصل والحقائق العليا في الدين
أيضا بالنسبة للفظ ،ألنها من حفظ الوصل االتباعي والعلمي باألصل ،واالجتهادات والدراسات التي
يقوم بها المصطفون من هذه األمة على مسار المحور التاريخي والشهودي .فهذا ال شك من حكمة
حرمة التصرف في المحكم من لفظ القرآن والصيغ الدالة على الحقائق العليا واألصول في الدين،
ناهيك عن المحدودية المسلم بها في علم اإلنسان وآلياته المعرفية والبيانية ،التي تعتبر اللغة
واألساليب والمفاهيم أهمها.
للمؤشر الكمي واإلحصائي في السنة ،في اللسان والكلم الذي ورد عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
وهو عليه الصالة والسالم أفصح من نطق بالضاد ،أرسله هللا رب العالمين لبين للناس ما نزل إليهم
ولعلهم يتذكرون.
إن هذه المادة وهذا اللفظ ،لفظ (التوحيد) بالمعنى المراد به ،وكل مشتقاته وصيغه الصرفية على
تصريف هذه الداللة ،ليس يلفى منها في صحيح البخاري إال لفظة واحدة .وهذا العدد بالطبع ،عدد
ورود المادة ليس مطلقا على قدر الشأن الذي تدل عليه وقدر وظيفته في بيان الرسالة والكتاب .ثم هو
وإن ثبت أو اعتبر على احتمال األقصى ما يعتبر سنة صحيحة بالمعنى واالصطالح الحديثي ،فينبغي
لزاما أن ينبه ويحتاط من المزج والخلط بين حقيقة الصحيح وحقيقة الثابت الحق بمعنى الواقع؛ إذ
رب حديث يصح اصطالحا ال أثر لمحموله من الوجود والواقع؛ ورب ما ضعف من الخبر واألثر
وهو عند هللا تعالى وفي الحق المبين حق وواقع وثابت .كذلك فهذه اللفظة الواردة مرة واحدة في
حديث واحد ،وليس في صيغة المصدر ،وإنما في صيغة فعلية ،قوتها العددية يردها قطعا باعتبار
األمر مرتبطا ومتصال ببيان الشأن األعلى المنزل في الدين والرسالة ،يردها عدم ورود المادة في
جميع صيغها ال المصدرية وال الفعلية في القرآن العظيم ،عدم ورودها البتة؛ لذلك فإنكارها مرجح
على قبولها؛ وقد تظاهرت الحجج على هذا الحكم؛ ولقد أشار ابن حجر العسقالني إلى هذا المعيار
بقوله:
<<تنبيهان:
أحدهما :الذي يظهر من تصرف البخاري في كتاب "التوحيد" أنه يسوق األحاديث التي وردت في
الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب ويؤيده بآية من القرآن لإلشارة إلى خروجها عن
أخبار اآلحاد على طريق التنزل في ترك االحتجاج بها في االعتقاديات ،وأن من أنكرها خالف الكتاب
والسنة جميعا .وقد أخرج اب ن حاتم في "كتاب الرد على الجهمية" بسند صحيح عن سالم بن أبي
مطيع ،وهو شيخ من شيوخ البخاري ،أنه ذكر المبتدعة فقال :ويلهم ماذا ينكرون من هذه األحاديث؟
وهللا ما في الحديث شيء إال وفي القرآن مثله>>...
إن قول وذكر سالم بن أبي مطيع المبتدعة كونهم ينكرون من األحاديث ما في القرآن مثله ،فكذلك
البناء على ما لم يرد في القرآن وليس فيه مثله خصوصا في االعتقاديات واألصول هو من حقيقة
البدعة واالبتداع.
أما الحديث الذي وردت فيه هذه اللفظة فهو ما رواه البخاري في صحيحه:
42
(ح" )7170حدثنا أبو عاصم :حدثنا زكرياء بن إسحاق ،عن يحيى بن عبد هللا ابن صيفي ،عن أبي
معبد عن ابن عباس رضي هللا عنهما :أن النبي صلى هللا عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن.
(ح )7172وحدثني عبد هللا بن أبي األسود:حدثنا الفضل بن العالء :حدثنا إسماعيل بن أمية ،عن
يحي بن عبد هللا بن صيفي :أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول:
سمعت ابن عباس يقول :لما بعث النبي صلى هللا عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له:
"إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ،فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا هللا تعالى ،فإذا عرفوا ذلك،
فأخبرهم أن هللا فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ،فإذا صلوا فأخبرهم أن هللا افترض
عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم ،فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ،وتوق كرائم أموال
الناس".
هذه الرواية الوحيدة التي ذكر فيها شيء من هذا اللفظ ،وهو لفظ (يوحدوا) ،ولم يذكر في غيرها من
صحيح البخاري ،ال لفظ التوحيد وال صيغه الفعلية ،نعني مسندا أو إسنادا للفظ الجالل.
لكن الحديث له روايات عدة؛ وقد يجوز الحكم على قيمة ذكر هذا اللفظ في رواية من هذه الروايات
بما بينه ابن حجر العسقالني في كالمه عن ورود لفظ "فإذا عرفوا هللا" في رواية من روايات نفس
الحديث إذ قال رحمه هللا بالحرف ما نصه:
<< واستدل بقوله( :يعني هنا رحمه هللا استدالل البيهقي رحمه هللا في كتابه االعتقاد كما هو مستفاد
من الجوار القبلي للكالم) "فإذا عرفوا هللا" بأن معرفة هللا بحقيقة كنهه ممكنة للبشر ،فإن كان ذلك
مقيدا بما عرف به نفسه من وجوده وصفاته الالئقة من العلم والقدرة واإلرادة مثال ،وتنزيهه عن كل
نقيصة كالحدوث فال بأس به ،فأما ما عدا ذلك فإنه غير معلوم للبشر ،وإليه اإلشارة بقوله تعالى{:وال
يحيطون به علما'}فإذا حمل قوله "فإذا عرفوا هللا" على ذلك كان واضحا مع أن االحتجاج به يتوقف
على الجزم بأنه صلى هللا عليه وسلم نطق بهذه اللفظة ،وفيه نظر ،ألن القصة واحدة ورواة هذا
الحديث اختلفوا :هل ورد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره؟ فلم يقل صلى هللا عليه وسلم إال بلفظ منها،
ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة ال يتم االستدالل .وقد بينت في أواخر (كتاب
الزكاة) أن األكثر رووه بلفظ "فادعهم إلى شهادة أن ال إله إال هللا وأن محمدا رسول هللا ،فإن هم
أطاعوا لك بذلك"؛ ومنهم من رواه بلفظ "فادعهم إلى أن يوحدوا هللا ،فإن هم عرفوا ذلك"؛ ومنهم من
رواه بلفظ "فادعهم إلى عبادة هللا ،فإذا عرفوا هللا" .ووجه الجمع بينها أن المراد بالعبادة التوحيد،
والمراد بالت وحيد اإلقرار بالشهادتين .واإلشارة بقوله ذلك إلى التوحيد ،وقوله" :فإذا عرفوا هللا أي
43
عرفوا توحيد هللا .والمراد بالمعرفة اإلقرار والطواعية .فبذلك يجمع بين هذه األلفاظ المختلفة في
2
القصة الواحدة؛ وباهلل التوفيق>>.
هكذا نجد في (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) 3رواية لهذا الحديث:
قال" :وعن ابن عباس رضي هللا عنهما أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن
قال:
" إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ،فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ال إله إال هللا -وفي رواية :أن
يوحدوا هللا -فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن هللا افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على
فقرائهم .فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم .واتق دعوة المظلوم ،فإنه ليس بينها وبين هللا
4
حجاب"
ولننتبه جيدا إلى قول ابن حجر:
<< وقد بينت في أواخر " كتاب الزكاة " أن األكثر رووه بلفظ :فادعهم إلى شهادة أن ال إله إال هللا
وأن محمدا رسول هللا>>.
كذلك فليعلم أننا هنا ال ننظر في ترجيح صحة اإلسناد ألنه قد علم بطالنه ،وذلك الفتقاد التناسب في
قدر الورود عددا مع قدر و درجة الموضوع وشأن اإلسناد ،بل لخلو القرآن الكريم من ذلك بتاتا ،وهللا
تعالى جعل لكل شيء قدرا .إذن فنحن ننظر في صدق وصحة صدور هذه األلفاظ ألنها تخالف القرآن
باعتبار موضوعها ودرجته وشأنه ،كما أن داللتها اللغوية ،كما سنرى ذلك الحقا ،ال يحق إسنادها أو
إضافتها إلى اسم الجالل ،إذ في هذا التركيب اللفظي (توحيد هللا)! مناقضة للحق واألمر األعلى في
الدين وكلمة أن ال إله إال هللا؛ فالواحد ال يو ّحد ،وإنما يو ّحد المتعدد والجمع لعلهم يتذكرون .والبرهان
كما أشرنا من بعد عدم ذكرها في القرآن هو الدليل اللغوي والعلمي .فها نحن نوجه تفكيرنا بفضل هللا
2فتح الباري بشرح صحيح البخاري -اإلمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقالني(822 -771ه) -دار الحديث -القاهرة-كتاب التوحيد-
ص-111
–4أخرجاه-
44
تعالى أوال ،ثم بهذه الكلمات الوازنة لعلماء راسخين ما نظنهم يطلقون األحكام دون إدراك أثرها
وقيمتها ،نوجهه صوب ما نراه الحق بدليله وحجته.
في فتح الباري أيضا استدالل نجعله آخر الكالم في ما ذكر من هذه األلفاظ في مجمل الحديث النبوي
الشريف ،نعني في رواياته مع اختالفها وتناقضها مع الحكمة ووجوب التناسق مع الشأن األعلى في
الدين ،المراد لها في التعبير بذكره في القرآن من دون ذكرها هي؛ قال الحافظ فيما ورد عند البخاري
رحمه هللا في باب قوله تعالى " :لما خلقت بيدي":
<< وقال الخطابي لم يقع ذكر األصبع في القرآن وال في حديث مقطوع به ،وقد تقرر أن اليد ليست
بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت األصابع ،بل هو توقيف أطلقه الشارع فال يكيف وال يشبه ،ولعل
ذكر األصابع من تخليط اليهودي ،فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب
التشبيه وال تدخل في مذاهب المسلمين .وأما ضحكه صلى هللا عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل
الرضا واإلنكار .وأما قول الراوي " تصديقا له " فظن منه وحسبان ،وقد جاء الحديث من عدة طرق
ليس فيها هذه الزيادة>>.
وقال أيضا في باب قول النبي صلى هللا عليه وسلم " :ال شخص أغير من هللا":
<< وأما الخطابي فبنى على أن هذا التركيب يقتضي إثبات هذا الوصف هلل تعالى فبالغ في اإلنكار
وتخطئة الراوي؛ فقال :إطالق الشخص في صفات هللا تعالى غير جائز ألن الشخص ال يكون إال
جسما مؤلفا ،فخليق أن ال تكون هذه اللفظة صحيحة ،وأن تكون تصحيفا من الراوي ،ودليل ذلك أن
أبا عوانة روى هذا الخبر عن عبد الملك فلم يذكرها ،ووقع في حديث أبي هريرة وأسماء بنت أبي
بكر بلفظ "شيء" ،والشيء والشخص في الوزن سواء؛ فمن لم يمعن في االستماع لم يأمن الوهم.
وليس كل من الرواة يراعي لفظ الحديث حتى ال يتعداه ،بل كثير منهم يحدث بالمعنى؛ وليس كلهم
فهما بل في كالم بعضهم جفاء وتعجرف ،فلعل لفظ شخص جرى على هذا السبيل وإن لم يكن غلطا
5
من قبيل التصحيف يعني السمعي>>.
إن كان هذا من شهادات كبار العلماء والراسخين في العلم وهو يعرض لقضية ورود وذكر ألفاظ ال
يجادل أحد أنها دون خطر إسناد لفظ التوحيد مضافا ومسندا هلل تعالى سبحانه ،ألن التوحيد يقتضي في
معناه وحقيقته شرط التعدد؛ إن كان ذلك ،فاألولى واألحرى أن تعمل هذه الشهادات واألحكام على
التركيب الباطل ،ألنه يراد به التعبير عن األصل األعلى في الدين يقول سبحانه وتعالى:
{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت'}(النحل.)14
46
الفصل الرابع
البرهان اللساني في بطالن إسناد لفظ التوحيد السم الجالل
تقول :دخل وخرج وجلس ،فإذا أخبرت أن غيره صيره إلى شيء من هذا قلت :أخرجه وأدخله
وأجلسه.
وتقول :فزع وأفزعته ،وخاف وأخفته ،وجال وأجلته [،وجاء وأجأته] ،فأكثر ما يكون على فًعل إذا
أردت أن غيره أدخله في ذلك يبنى الفعل منه على أفعلت .ومن ذلك أيضا مكث وأمكثته.
وقد يجيء الشيء على فعّلت فيشرك أفعلت ،كما أنهما قد يشتركان في غير هذا؛ وذلك قولك فرح
وفرّحته ،وإن شئت قلت أفرحته ،وغرم وغرّمته ،وأغرمته إن شئت ،كما تقول :ف ّزعته وأفزعته.
ويقول رحمه هللا:
هذا باب دخول فعّلت على فعلت ال يشركه في ذلك أفعلت
تقول كسرتها وقطعتها ،فإذا أردت كثرة العمل قلت :كسّرته وقطّعته وم ّزقته ،ومما يدلك على ذلك
قولهم :علّطت البعير وإبل معلّطة وبعير معلوط .وجرّحته وجرّحتهم .وجرّحته أكثرت الجراحات في
جسده.
وقالوا :ظل يفرّسها السبع ويؤ ّكلها ،إذا أكثر ذلك فيها .وقالوا م ّوتت وق ّومت ،إذا أردت جماعة اإلبل
وغيرها .وقالوا :يج ّول أي يكثر الجوالن ،ويط ّوف أي يكثر الجوالن ،ويطوف أي يكثر التطويف.
واعلم أن التخفيف في هذا جائز ،كله عربي ،إال أن فعّلت إدخالها ههنا لتبيين الكثير .وقد يدخل في
هذا التخفيف .كما أن ال ّركبة والجلسة قد يكون معناهما في الركوب والجلوس ،ولكن بينوا بها هذا
الضرب فصار بناء له خاصا كما أن هذا بناء خاص للتكثير ،وكما أن الصوف والريح قد يكون فيه
معنى صوفة ورائحة.
قال الفرزدق:
حتى أتيت أبا عمرو بن عمار ما زلت أفْتْح أبوابا وأغلقها
49
وفتّحت في هذا أحسن ،كما أن قعدة في ذلك أحسن ،وقد قال جل ذكره{:جنات مفتَّحة لهم األبواب}
وقال تعالى{:وفجّرنا األرض عيونا} .فهذا وجه فعلت وفعّلت مبينا في هذه األبواب ،وهكذا
7
صفته>>.
في النص أو الباب األول يعطي سيبويه تعريفا وجيزا وجامعا لعلية الفعل ،وذلك بقوله:
<<يقول :دخل وخرج وجلس ،فإذا أخبرت أن غيره صيره إلى الشيء من هذا قلت :أخرجه وأدخله
وأجلسه>>.
فالفاعل في خرج ودخل وجلس يصبح بعامل العلية مفعوال به ،وهو ما يفيد بالقاموس األلسني الحديث
توسيع المحالتية بإضافة عدد المحموالت؛ واالنتقال من الصيغة األولى إلى الثانية بهذا العامل تمثيله
كالتالي:
أفعل الفاعل( )2الفاعل()0 فعل الفاعل()0
فهذه أبسط صيغ عامل العلية.
كذلك وإن اشتركت الصيغتان أفعل وفعّل في أداء العامل العلي ،فهما ال ينطبقان .وهو األمر والغاية
التي حاول سيبويه في هذين البابين من الدرس إيضاحه وبيانه بتوظيف واعتماد مبدإ االختالف؛ فلم
يكن النص الثاني إال تأكيدا وتقريرا بتصريف المثل على متعدد مختلف من الصيغ بغرض استنباط
تعميم صحة المبدإ ،وذلك بقوله:
<<ولكن بينوا بها هذا الضرب فصار بناء له خاصا (يعني صيغة الفعلة) كما أن هذا بناء خاص
للتكثير (يعني بذلك فعّلت) ،وكما أن الصوف والريح قد يكون فيه معنى صوفة ورائحة>>.
ثم أشار إلى عدم سالمة القول والتعبير في بيت الفرزدق وإن بتعبير ولفظ أراده لينا منه غير فج ،إذ
ال ينبغي حمل قوله (وفتّحت في هذا أحسن) إال على ذلك ،ألن البيت وإن استقام نظما ،فإنه من حيث
البيان وبنية المعنى في ذلك مختلف ،لعلة عدم التناسق بين صيغة الفعل والمعنى المراد لدى الشاعر؛
ففي الشطر األول( :ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها) يدل على أن مراد الشاعر المعنى االستغراقي لقوله
7كتاب سيبويه -تحقيق وشرح عبد السالم محمد هارون -ج -3ص-24 .22ط -2مكتبة الخانجي -القاهرة
50
(ما زلت) ،بيد أن صيغة (أفتح) حمولتها الداللية غير ذلك؛ ولذا أوجز اإلمام سيبويه التصحيح
والتقويم بقوله:
<<وفتّحت في هذا أحسن كما أن قعدة في ذلك أحسن ،وقد قال جل ذكره{:جنات مفتّحة لهم
األبواب} ،وقال تعالى{:وفجّرنا األرض عيونا}>>.
هكذا نكون ال شك قد حددنا ولو على نحو موجز ومجمل مفهوم العلِّيّة في صيغة الفعل .ولعلنا كذلك
قد أخذنا فكرة أولية عن مبدإ االختالف من خالل المثال.
كذلك قد تم لنا الضبط واإلدراك ،أن تمة بين اللغة والواقع عالقة وصلة تناسق وتصوير بالحق قائم؛
فقولنا :أشرقت الشمس ال تدل وال تعبر في الحق إال أنها في الواقع والوجود قد أشرقت ،وقولك
تصدقت بأربعين درهما ابتغاء مرضاة هللا وتصديقا بحقيقة الثواب والدين والجزاء ال يدل إال أنه في
الواقع كان بحوزتك أربعون درهما تملكها فتصدقت بها.
هذا القانون والعالقة التي ليست إال من ذات قانون وميزان الرحمان في البيان ،هي التي توجب من
قولنا" :فرّق رجال األمن المتظاهرين" وجود عدد من الناس متظاهرين يفوق الواحد حتما ،إذ أن
حقيقة التفريق ال تحصل إال في شرط العدد المجتمع؛ فال يحق وال يعقل أن يف ّرق الواحد .إن هذا هو
ما نعبر عنه وما نريد به الحقيقة اللغوية ،الحقيقة التي تنتظم معبرا مقوالت ومفاهيم وشبه مفاهيم
عديدة وشتى ،كعالقة اللغة بالواقع ،وعالقة اللغة بالفكر ،وثنائية المعنى والمبنى ،مما يمثل تقعيدات
وصيغ قوانين مؤطرة ،ومفسرة في اآلن ذاته لهذه العالقة ولهذا الميزان الحق.
وبغية فهم وضبط واف للحقيقة اللغوية ،في بعدها الحق والموزون بين المعنى والمبنى ،نسوق هنا
أمثلة للبيان:
فقولنا أو التركيب :خرّجه بدون مقاومة -تركيب لغوي غير سليم ،ألن لفظ (مقاومة) ال يتناسق
والصيغة العلية (خرّج) ،إنما الصحيح :أخرجه دون مقاومة-
ومثل هذا االختالف عند من يقول :اجتمع الناس عن غير اتفاق -ألن التاء المزيدة في (افتعل) إنما
تفيد وممثلة لإلرادة والسعي كما يفقه من قوله سبحانه وتعالى{:فما اسطاعوا أن يظهروه وما
استطاعوا له نقبا'}(الكهف ،)21إذ هم استيأسوا أصال من أن يظهروه فما سعوا لذلك بخالف النقب،
وقوله عز وجل{:والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم'}(محمد.)08
51
من أجل هذا كله يقضي الحق والعلم بحكم البطالن على إسناد لفظ التوحيد إلى إسم الجالل ،ألنه
سبحانه أحد صمد ،والتوحيد في البيان والسماء واألرض وفي الميزان شرطه التعدد؛ ويرى بالحق أن
هذا هو المفسر العلمي لعدم ورود هذه المادة بالمعنى المراد لها في الكتاب والسنة؛ فأنى يصرفون؟
وإنه ليعلم يقينا أن ليس لهم من سلطان في هذا المنكر من القول والزلل الكبير والضالل المبين ،ما
لهم في ذلك إال التقليد ،وترديد ما وجدوا عليه قوما قد ضلوا وزلوا من قبل في تبديل أعلى قاموس
الكتاب والقرآن العظيم ،بتقديم لفظ دخيل من قاموس نسبي مخل بالميزان على ما اختاره الحق
سبحانه من أحسن اللفظ والحديث. .
أال إنه يكفي أن لم يأت هذا اللفظ ،لفظ (التوحيد) ال في القرآن وال في السنة؛ ومن أذهب هللا نور قلبه-
بمعنى عقله -فكيف له أن يفقه الحق ويتلقى البرهان؟!
ولو نظرنا إلى الصيغ المستقرأة فيما تقدم ،لعلم أن هذا التعدد ليس حكمه في الحق سوى اإلفك والوهم
واالفتراء ،أي مما ال حقيقة له وال وجود؛ والقاموس القرآني الموظف في نسق الكالم مما أشار إلى
التعدد قد عزز هذا الحكم بما نتلوه في اآلية وقوله جل وعال األحد الصمد:
{فلوال نصرهم الذين اتخذوا من دون هللا قربانا آلهة' بل ضلوا عنهم' وذلك إفكهم وما كانوا
يفترون'}(األحقاف)27
وفي قوله سبحانه:
{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون'}(القصص)2
يقول محمد شلتوت:
<<إنكار اإلسالم لتعدد اآللهة:
وقد نعى القرآن كثيرا على من ع ّدد اإلله فاتخذ إلهين اثنين ،أو اتخذ التثليث أو عبد شيئا من الخلق،
كالشمس ،والقمر ،واألصنام ...وحرك عقول المع ّددين لإلله على النظر فيما يوجب وحدة المعبود
وحدة تامة كاملة {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا البتغوا إلى ذي العرش
سبيال'}(اإلسراء{،)32لو كان فيهم آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب العرش عما
يصفون'}(األنبياء{،)22ما اتخذ هللا من ولد' وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال
بعضهم على بعض' سبحان هللا عما يصفون' عالم الغيب والشهادة فتعالى عما
52
يشركون'}(المؤمنون{،)22-20قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا
وال نشرك به شيئا وال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا'}(آل عمران{،)43إني وجهت وجهي
8
للذي فطر السماوات واألرض حنيفا' وما أنا من المشركين'} (األنعام>>)72
9ديوان المتنبي.
10التجديد في دراسة علم التوحيد -الدكتور محمد بنيعيش أستاذ التعليم العالي بجامعة القرويين – المغرب -دار الكتب العلمية -بيروت
54
وكذلك ال يمكن على الداللة العلمية الحديث عن االصطالح في الكتاب والسنة ،ألن االصطالح جمع
واتفاق ،وإنما سار التعبير كذلك تجويزا في عموم الخطاب.
من وجه آخر عرض للدكتور األستاذ خلط وتداخل على مستوى المعنى واللفظ في (علم التوحيد) بين
العلم كحقل اهتمام للدراسة والفكر ،وموضوعه وظاهرة نظره واهتمامه؛
< -فمصطلح علم التوحيد ال يوجد حوله خالف من حيث مدلوله أو سبب تسميته ألنه من
11
أساسيات الدين اإلسالمي>.
< -وحينما ندرس واقع علم التوحيد عند المسلمين نجد أنه يأخذ صورتين متباينتين ومتكاملتين
في آن واحد من حيث نشأته وعواملها ،فهو من جهة تأصيله قد عرف كماله منذ وروده ألنه
وارد في القرآن والحديث جملة وتفصيال ،بل هو روح العلوم اإلسالمية ورأسها ،وبدونه ال
يعتبر المسلم مسلما ،ومن جهة أخرى فإن هذا العلم قد تطور من حيث صياغة مفاهيمه
12
وطرق االستدالل على تقريراته الواردة في الكتاب والسنة>.
. . < -فالغزالي كان أدرى بواقع مصطلح علم الكالم وأبعاده ،ولهذا فإنه بعدما أدرك خصوصية
وعدم مجاراته لشمولية علم التوحيد وغاياته ألف كتابا سماه (إلجام العوام عن علم الكالم) ،ولو
كان الغزالي يفسر عل م الكالم بعلم التوحيد كمرادف تام وكامل األركان لما تجرأ على طرحه هذا
والمتمثل في حظر علم الكالم على فئة عريضة من المسلمين ،ولو فرضنا أن علم الكالم مرادف
لعلم التوحيد فهذا يعني أن الغزالي يمنع علم التوحيد على العامة من المسلمين ،وهذا لم
13
يقصده>.
يقول ابن حجر العسقالني رحمه هللا:
11نفس المصدر-ص02
12نفس المصدر-ص20
13نفس المصدر-ص02
55
<<وقد سمى المعتزلة أنفسهم (أهل العدل والتوحيد) .وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات
اإللهية العتقادهم أن إثباتهم يستلزم التشبيه ،ومن شبه هللا بخلقه أشرك .وهم في النفي موافقون
للجهمية.
وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل؛ ومن تم قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم
القشيري:
<التوحيد إفراد القديم من المحدث>.
وقال أبو القاسم التميمي في 'كتاب الحجة':
<التوحيد مصدر و ّحد يو ّحد ،ومعنى وحدت هللا اعتقدته منفردا بذاته وصفاته ،ال نظير له وال شبيه>
وقيل معنى وحدته علمته واحدا؛ وقيل سلبت عنه الكيفية والكمية ،فهو واحد في ذاته ال انقسام له،
14
وفي صفاته ال شبيه له في إلهيته وملكه وتدبيره ،وال شريك له ،وال رب سواه ،وال خالق غيره>>.
أال إنه ههنا يتبين لكل ذي قلب يعقل به أن هذا اللفظ وهذه المادة ،مادة (التوحيد) ،بتوظيفها هذا ،ليس
له أصل في الحق ،وإنما هو محض عرف لغوي واصطالح ،بل اصطالحات تعددها واختالفها هو
دليل على وجوب ردها ،ألنها ال تعني باللفظ نفس الحقيقة؛ هي تعاريف وعرف قاموسي مختلف.
وإنه لما يزيد في بعدها ويؤكد بطالنها مخالفة جلها للحقيقة اللغوية؛ فإن التوحيد يشترط التعدد ،وهللا
تعالى إنما هو أحد صمد.
أما تعدد المراد بها فظاهر ،إذ التعريفات ليس تعريفا واحدا ،بل هي تعني مسميات جد متباينة
وبعضها أضداد؛ أحيانا يراد بالتوحيد السلب ،وأخرى يراد بها اإليجاب .فكيف يقبل من له قلب يعقل
به أن يقلد غيره في تداول لفظة إن كان يعلم أنها مبتدع بياني ومحض عرف واصطالح بحت ،كل
فرقة يحملها مسمى وحقيقة غير التي في قاموس وعرف الفرقة والطائفة األخرى؟!
وإن أهم ما يلزم إثباته والتسطير عليه بكل قوة وتأكيد ،أن في اللغة مندوحة عن هذه االصطالحات
والتعريفات الباطلة من الناحية األلسنية ،لنقضها انحفاظ الحقيقة اللغوية أوال ،ومن جهة ثانية لكون
التفسير الجلي لخلفيتها هو اإلغراض واللغو في بيان التنزيل .إن في اللغة مندوحة ومتسعا معجميا
علميا ودقيقا لتعريف هذه الحقائق والمعاني ،سواء بإيحائها وسيميائيتها السطحية أو مناحيها الفلسفية
وغيرها .فهذه إلى ما سبق كلها أدلة ،وحجج داحضة لهذا التداخل المغرض من سعي وشاكلة من
عناهم هللا عز وجل في اآلية البينة:
{وقال الذين كفروا ال تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون'}(فصلت)23
فإفراد القديم من المحدث على عباراتهم ليس له مع حقيقة التوحيد صلة وعالقة إال في طرف المعنى
الواقعي لإلفراد والتوحيد ،ألن اإلفراد ينطبق بحالة الواقع الثاني لالنتقال من التعدد إلى الواحد؛ وهذا
اإلطباق هو ذو صفة سفسطائية ال غبار عليها وال لبس ،ذلك أن اإلفراد لغة ال يستلزم االنتقال من
التعدد إلى الواحد ،وإنما هو تمييز وفصل ال تحول فيه؛ فنقول مثال :أفردت كتب اللغة في جناح
خاص -بمعنى ميزتها عن غيرها .ومن الفروق الجوهرية افتراق الصيغتين أفرد وو ّحد .وموجز
القول في التمييز بينهما :اإلفراد يخص العالقة ،والتوحيد يخص الحال والطبيعة.
اإلفراد الذي أرادوه هنا أقرب العناصر المعجمية إليه داللة وتعبيرا هو كلمة ولفظ (التنزيه) ،وهو
المتضمن في التسبيح.
أما عبارتهم :معنى و ّحدته علمته واحدا -فهو أيضا وكما بيناه مخالف للحق وميزان البيان ،ذلك أن
التوحيد بمعناه العلي موجب لحقيقة االستغراق ،مما ليس بمتضمن في حمولة وداللة (علمته) ،حيث
أن وزن فعل (بكسر العين) ال تحمل هذا المعنى البتة؛ فغالب جريانه إفادة الحصول والكسب؛ كما
يكون المعنى جامعا بين الحصول واالتصاف ونحوه إذا كان الفعل الزما .كذلك فاالعتقاد في عبارتهم
وتعريفهم ليس يختلف عن العلم إذا أريد به معناه ،أي في عدم تناسقه مع العلية وإن كانا متباينين من
حيث اإلسقاط على البعد الزمني .ولهذا لم يسم المنكرون من النصارى لعقيدة التثليث الذين يؤمنون
باهلل سبحانه وتعالى إلها واحدا بالموحدين ،فهذا خطأ وال يوافق الحق ،وإنما يسمون بالوحدانيين
.Unitarians15
يقول ابن تيمية رحمه هللا:
15د .سالمة عبد الجبار :الدين والسياسة -السلسلة الفكرية -0منشورات المؤسسة العربية للنشر واإلبداع -ص087
57
<< وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل ألنهم أعرضوا عن هذا الطريق وصاروا يبنون دين اإلسالم
على مقدمات يظنون صحتها إما في داللة األلفاظ وإما في المعاني المعقولة ،وال يتأملون بيان هللا
16
ورسوله ،وكل مقدمات تخالف بيان هللا ورسوله فإنها تكون ضالال>>.
جلي وبيّن أن هذا الحكم ال يخص فحسب األلفاظ الواردة في القرآن الكريم لكيال تحرف عن مراد
الشرع منها ،ولكن أيضا التعبير عن معانيها ودالالتها بألفاظ دخيلة ،لم ترد في الشرع إطالقا ،ويراد
بها جهال وتقليدا متبعا التعبير عن أعلى حقائق التنزيل ومرجع أصول الدين ،مما هو حال واألمر
بالنسبة لقولتهم الخاطئة والتعبير المتخذ عن تقليد ما أنزل هللا به من سلطان ،قولتهم( :توحيد هللا)
وسبحان هللا عما يصفون !
وإنه يكفي هؤالء أن التسبيح عما وصفوا به هللا الذي ال إله إال هو هنا حق واجب ،ألن هذا التركيب
فحش من القول وتركيب من الكلم باطل عند هللا لو يفقهون .وأشدد بضاللهم أنهم ال يجدوه في الكتاب
وال في السنة وهم يريدون به أعظم حقيقة من العلم في السماوات واألرض ،وإن هللا اختار وما كان
لهم الخيرة من بعده ،وإن ربك لم يكن نسيا ،وإنه سبحانه وتعالى أنزل أحسن الحديث؛ فأنى يؤفكون؟
أال فليعلم أن هذا مقام من البيان ال يحق فيه التصرف في اللفظ وال االستدراك ،وإنه ال سريان هنا
لمقولة عدم المشاحاة في االصطالح .ثم إن االصطالح ال ينبغي له أبدا أن يشذ ويخرج عن ضوابط
الحق والميزان الذي يقوم عليه توازن أمر األرض والسماء؛ فالحق متوافق البنية ،ال ينبغي له
التناقض وال االختالف.
وعودا إلى الركن من الحق الممثل في علم البيان ،فإن أعالم اللسان العربي سيبويه والكسائي رحمهما
هللا وغيرهما ،يؤولون في تأصيل وتحديد الجذر البياني السم الجالل (هللا) في لفظ وكلمة (اإلله)،
فيرون على منحى النحت اللفظي حذف األلف وإدغام الالمين ،بمعنى أن (ال) في اسم الجالل (هللا)
إفادتها التحديد والتعريف الجليل ،بمعنى (اإلله الحق) أو (اإلله الذي ال إله إال هو) ،ولذا فإنه سبحانه
وتعالى وله المثل األعلى واحد وأول المعارف.
هكذا ،وبناء على ما تبين وتجلى ،فإن تركيب (توحيد هللا) وسبحان هللا! تركيب باطل ،وهذه حجة
ظاهرة وبرهان من الحق مبين؛ ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ،ومن ضل فإنما يضل عليها ،وإن هللا
لغني عن العالمين.
16كتاب "اإليمان"-ص234
58
السماع ،فلقد كان ذلك معلوما للكل ،وكان العلم بالقرآن هو العلم كله ،وكان التوحيد عندهم عبارة عن
أمر آخر ال يفهمه أكثر المتكلمين ،وإن فهموه لم يتصفوا به ،وهو أن يرى األمور كلها من هللا عز
وجل رؤية تقطع التفاته عن األسباب والوسائط فال يرى الخير والشر كله إال منه جالله؛ فهذا مقام
شريف إحدى ثمراته التوكل ،ومن ثمراته أيضا ترك شكاية الخلق ،وترك الغضب عليهم ،والرضا
والتسليم لحكم هللا تعالى؛ وكانت إحدى ثمراته قول أبي بكر الصديق رضي هللا عنه لما قيل له في
مرضه :أنطلب لك طبيبا؟ فقال :الطبيب أمرضني؛ وقول آخر لما مرض فقيل له :ماذا قال لك الطبيب
17
في مرضك؟ فقال :قال لي :إني فعال لما أريد>>.
هذا النص له قيمته على البعد التحليلي للحمولة التي حملها وشحن بها لفظ (التوحيد)؛ وهذه القيمة
ممثلة باألساس في التحديد التاريخي لهذا المفهوم وجوار بؤرته التوليدية؛ هذا ما يسطر عليه في
قوله:
<<وقد جعل اآلن عبارة عن صناعة الكالم>>...
<<وس ّمي المتكلمون العلماء بالتوحيد>>...
كما أن وجه المفارقة المشار إليه آنفا ،وهي من غير شك مفارقة أخص ارتباطا بزمننا هذا ،ذلك أن
العالم من السلف وسالف التاريخ اإلسالمي والقرون ،بخالف تصور وواقع العلمية اليوم ،كان ال
يفوته أمر من المعرفة والعلم اإلنساني ،مسايرا للفكر جامعا للمعارف محققا للربانية ،ال يني في الرد
على أهل الشبه والمغرضين والمبتدعة بذات لسانهم ،مفحما ومبطال ألباطيلهم وسعيهم في استجهال
الناس واستغفالهم بمختلف ضروب الحيل وشتى سبل اإلغواء والتضليل ،خاصة زعمهم أنهم أهل
الحق والسنة دون غيرهم؛ وهذا ما مثله على نحو بارز الغزالي وابن تيمية رحمهما هللا.
المفارقة أن موضع االعتراض وأحقيته وجوازه بالمعايير السليمة والسوية هو في إمكان وجواز
التوظيف للفظ (التوحيد) كمفهوم في إطار فكري وتفكيري خاص ،أي إطار الفلسفة وعلم الكالم ،وال
جرم أن هذا اإلطار مستبعد كلية عن المحور الرسمي الممثل حاليا بالمحور (السلفي) ،كما أن طبيعة
عالقة هذا المحور بحقيقة ومفهوم (العقل) األولي والظاهر هي كذلك بمثابة حجة قائمة ودليل واضح.
لكن الرد العلمي القائم على سابغ البرهان هو بطالن وعدم الجواز لهذا التوظيف الخاص والنسبي،
أي ولو في إطار بياني مختص بحقل الفلسفة وعلم الكالم وال غيره من القاموس واالصطالح
الصوفي ،ألن التداخل البياني هنا من شأنه إحداث حقيقة اللغو في القرآن العظيم من خالل اللغو
والتداخل والتأثير على بيانه أحسن البيان .والذي كما هو الحال هنا في مقام الحديث عن أعلى أمر في
الوحي والتنزيل ،ال يحق ألحد وأي كان أن يتصرف أو يبدل في لفظه وفي ما عبر به هللا تعالى وهو
الحميد المجيد .ومن لم يفقه هذا القانون العلمي والمعرفي ،فال شأن له بهذا الحيز الذي تزل فيه
األقدام.
61
الباب الثاني
الفصل األول
الداللة اللسانية من المعجم إلى السياق
معنى معنى
عالقة اللفظ بالمعنى من أهم المكونات المؤسسة ألول المستويات اللسانية ،المستوى المعجمي ،واللفظ
هنا باعتباره المستقل ما قبل التركيب.
ب -الداللة المعجمية:
هي الصورة أو اتحاد الصور المسندة للفظ في حالته السكونية .من تم فإن الحقل الداللي المعجمي
للفظ معين ،وإن تعددت عناصره ،يبقى محددا .وفي إطار هذا المستوى نوظف عدة مفاهيم
كالترادف :وهو تساوي الداللة مع اختالف اللفظ ،واالشتراك :وهو اختالف الداللة مع تساوي اللفظ،
وغيرها من المفاهيم.
كما كتب الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم إلى أهل همدان كتابا يقول فيه:
"إن لكم فراعها ،ووهاطها ،وقزازها ،تأكلون عالفها ،وترعون عفاءها ،لنا من دفئهم وصرامهم ما
سلموا بالميثاق واألمانة ،ولهم من الصدقة الثلب ،والناب والفصيل ،والفارض ،والداجن والكبش
19
الحوري ،وعليهم فيها الصالغ والقارح">
ويردف صاحب المقال:
<وكان لقبيلة قريش الفضل األكبر في التوحيد اللغوي ،والتقريب بين اللهجات العربية المختلفة .ذلك
20
وأن لهجة قريش البليغة هي التي كتب لها البقاء واالستمرار>.
نقل السيوطي قول أبي بصر الفارابي في كتابه المسمى باأللفاظ والحروف:
< وكانت قريش أجود العرب انتقاء لألفصح من األلفاظ وأسهلها على اللسان في النطق ،وأحسنها
مسموعا ،وأبينها إبانة عما في النفس.
والذين عنهم نقلت اللغة العربية ،وبهم اقتدي ،وعنهم أخذ اللسان العربي من قبائل العرب هم :قيس
وتميم وأسد ،فإن هؤالء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه ،وعليهم اتكل في الغريب ،وفي
اإلعراب والتصريف؛ ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين .ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر
21
قبائلهم>
< وضح الفارابي بدقة أهمية قريش في الوحدة اللغوية ،فذكر أن هذه القبيلة ذات فكر ثاقب في اختيار
أفصح األلفاظ ،وأسهلها ،وأحسنها ،وأقدرها على التعبير عن مكنونات النفس اإلنسانية .هذه هي
الصفات األربع التي أهلت لهجة قريش ،فطبعت اللغة العربية بطابعها الخاص ،ونعتت باللغة العربية
22
الفصحى ،لكون لهجة قريش أفصح اللهجات ،فغدت اللغة العالية ،ويقصد عادة باللغة اللهجة>.
19د .عمر باشا-جامعة دمشق -رئيس قسم اللغة العربية وآدابها -مقال إشكاليات اللغة العربية بين األصالة واإلعجاز والحداثة-مجلة الفكر
العربي -العدد-41ص01
20عن دراسات فنية في األدب العربي -يافي عبد الكريم -مطبعة دار الحياة بدمشق 0120ه0272-م-ص1
و< خص الرافعي اإلعجاز القرآني بكتاب بليغ أشار فيه إلى إعجازه وقدسيته ،ووضح أثره في توحيد
اللغة العربية بقوله:
< .. .إن القرآن قد جمع أولئك العرب على لغة واحدة بما استجمع فيها من محاسن هذه الفطرة اللغوية
التي جعلت أهل كل لسان يأخذون بها وال يجدون لهم عنها مرغبا ،إذ يرونها كماال في أنفسهم من
23
أصول تلك الفطرة البيانية>.
واستطرد بعد ذلك موضحا األثر القرآني في ضم اللهجات المتفرقة وتوحيدها في لغة قريش:
< لوال القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته ،ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم باالختالط
الذي وقع فيه ،ولم يكن منه بد حتى تنتقص الفطرة وتختبل الطباع ،ثم يكون مصير هذه اللغات إلى
24
العفاء>.
ووضح بعد هذا االستطراد سياسة القرآن في توحيد اللغة العربية بقوله:
< تلك سياسة القرآن في جمع العرب ،رأى ألسنتهم تقود أرواحهم ،فقادهم من ألسنتهم ،وبذلك نزل
منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبد بالتكوين العقلي في كل أمة ،فتجعل األمة كأنما تحمل من هذا
25
العقل مفتاح الباب الذي تلج منه إلى مستقبلها>.
ثم يعبر صاحب المقال الدكتور عمر موسى عن االستقرار اللغوي العربي بقوله:
" وهكذا آضت اللغة العربية المضرية ،بيد أنها احتفظت بما استساغته من األلفاظ التعبيرية،
واستعذبته من اللهجات القبلية ،كما توضح لنا ذلك في القراءات القرآنية على اختالف حروفها
ووجوهها ،فكان الناس يقرؤون في الشام بقراءة ابن عامر ،ويقرؤون في العراق بقراءات عاصم،
وحمزة ،والكسائي ،وأبي عمرو>.
ويضيف موضحا:
24نفس المصدر-ص73
25نفس المصدر-ص78
66
< والمالحظ من خالل المسائل التي أوردها (يعني أبا علي الفارسي-ت 177ه -في كتابه 'الحجة في
علل القراءات السبع') وناقشها واحتج لها أنه كان يضع في الحسبان ما يسميه بقياس العربية .قال أبو
علي:
< ما رواه الكسائي في إمالة مثل (األبرار) و(األشرار) ،ونحو ذلك مما تكرر فيه الراء مستقيم في
26
قياس العربية ظاهر الوجه>.
وقال أبو علي:
< وما ذهب إليه الكسائي من ترك الفصل بين الفعل الذي قبله واو أو فاء ،بين ما ليس له قبله من ذلك
27
شيء هو الوجه في قياس العربية>.
هذا ما يؤكد أن اللغة العربية كانت تحرص على األخذ مما تختاره وتجده مستساغا في قياس العربية،
ظاهر الوجه موثوق الرواية>.
. . .
هكذا يتقرر لدينا أننا حينما نعبر بلفظي اللسان العربي والمعجم العربي ،فإننا نعبر عن لسان القرآن
وعن معجم القرآن .ومن البديهي أننا ال ندرك وال نلمس من مشترك بين حديث الوحي الكريم
وخطابه وحديث المخلوق وخطابه إال ما هو داخل في أبعاد إدراك اإلنسان .فالقرآن العظيم هو كالم
رب العالمين نزل به الروح األمين .ثم انظر إلى هذه السماء وشساعتها وإلى الكواكب وانتظامها،
والنجوم ومواقعها ،وهاالت الفضاء والمجرات في عظمها وتوازنها ،فإن العقل البشري ال يقوى
لحظة أن يحيط ولو بالتفكر في ذلك ،وإن القرآن المجيد ألعظم من ذلك؛ يقول سبحانه وتعالى:
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية هللا' وتلك األمثال نضربها للناس
لعلهم يتفكرون'}(الحشر)20
يقول د.علي زيتون عن بالغة وإعجاز القرآن:
26كتاب الحجة-ص42
27نفس المصدر-ص118
67
<< واإلعجاز القرآني هو التعبير اإلسالمي عن المعجزة التي وجد كل نبي نفسه مضطرا الجتراحها
لكي يصدقه النا س ويقبلوا بأن ما يأتيهم به هو من عند هللا .وإذا ما بهر موسى قومه بعصا سحرية،
وعيسى بشفاء األكمه واألبرص وإحياء الميت ،كان النص القرآني من الناحية األدبية هو المعجزة
التي واجه محمد (صلى هللا عليه وسلم) بها العرب .ولقد ورد ذلك في عدة سور من سور القرآن:
{قل لئن اجتمعت اإلنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ال يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا'}(اإلسراء)88
وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله:
{أم يقولون افتراه' قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون هللا إن كنتم
صادقين'}(هود)01
وكان أعلى درجة من درجات تحديه لهم أن طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله:
{أم يقولون افتراه' قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون هللا إن كنتم
28
صادقين'}(يونس>>)18
وأقوال كثيرة لجم من كبار أهل اللغة وعلماء التفسير بشأن الحروف المقطعة التي نزل بها القرآن
العظيم في أول أكثر من سورة من السور تأسست على هذه الحقيقة؛ قال قطرب والفراء وغيرهما في
ذلك:
< هي إشارة على حروف الهجاء أعلم هللا بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي
29
التي بناء كالمهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كالمهم>
طبعا فإننا ال نجزم بهذا القول والمنحى في التأويل ،وإنما نورده للقيمة التي يحملها ذات مضمونه.
وكذلك كان ال بد لنا من هذه الكلمة بقصد التمهيد في اآللية العلمية لما يستوجب من قدر أكبر وأمكن
من الضبط والتحديد؛ فالتحفظ التوظيفي المشترك في الداللة على خطاب الوحي وكالم المخلوق
28الفكر العربي -العدد-21ص -020د .علي زيتون (كلية اآلداب -الجامعة اللبنانية) :البالغة العربية بين لغتي التراث والحداثة
للفظي وكلمتي المعجم واللسان مشتركين ،ال شك وال مماراة يستلزم هذا التمهيد في نهج الدرس
ومكوناته.
-3الداللة والسياق:
مع هذا التحفظ الذي أشرنا إليه ،ومع اعتبار المعجمي وإهمال العامل اللهجاتي ،يمكن لنا أن نعرض
لتحليل ودرس الحقول الداللية ،وخاصة في عالقتها وارتباطها بما يسمى بالسياق ،الذي من خالله يتم
التعيين من متعدد من عناصر الحقل الداللي لصورة اللفظ ومعناه المراد في الخطاب والكالم .وال
شك أننا هنا ال زلنا خارج إطار ثنائية الحقيقة والمجاز ،ألن ذلك ال يحصل إال بقوة وأس تمددي
للحقل الداللي في عناصره ،وكأنه بهذا األس يكتسب بعدا حركيا ما بعد -معجمي ضرورة لالستيعابية
التعبيرية ،إذ أن المفكر فيه والمعبر عنه كفضاء ،هو أكثر اتساعا من المستوى المعجمي وأقوى منه
أبعادا.
كما أننا نعني هنا بالسياق سياق النص والخطاب المتصل أساسا بالتركيب المعجمي ،وهو أول
درجات اللغة واللسان؛ فتعيين داللة اللفظ تتم من خالل أبسط الموجهات اللغوية ،حيث تكون الداللة
على بعد أول محددة بمعنيين أو محددين هما معنى السياق أو الكالم ،والمحدد الثاني هو معلوم
الدالالت أللفاظ الكالم والسياق.
مثال في هذا العنصر المعجمي (أمة) :الحقل الداللي للفظ (أمة) غير أحادي؛ ففي الحالة السكونية
للفظ ،أي ما قبل التركيب ،يحمل على محتمل متعدد من المعاني والدالالت؛ فقد يعني الجماعة
واالجتماع من الناس على أي من الصفات المختلفة ،دينية أو قومية أو فكرية حزبية (إيديولوجية) أو
غير ذلك ،وقد يعني األمد من الزمن؛ وقد يعني غير تينك الداللتين من المعاني ،التي كلها تنضوي
وتجتمع في كونها من المعنى اللغوي الحقيقي للفظ.
هذه الدالالت األولية عناصر الحقل الداللي للفظ سي وسواء من جهة قيمتها اللغوية؛ فهي متساوية
االحتمالية وقيمتها هو مقلوب عدد عناصر الحقل الداللي .أما نسبيتها فيعود إلى اعتبار تفاضل
وشيوع استعمال اللفظ على معنى أو معاني أكثر من غيرها ،كما هو الحال والمثال في لفظ (أمة)
المصرفة داللته في غالب الكالم واالستعمال على المعنى األول من المعاني التي ذكرنا .وهذا
االرتباط بين االحتماالت الداللية والكالم ،إطاره وموضعه هو حيز ومجال ما يسمى باألسلوبية ،الذي
ينظر في طبيعة المعبر عنه ،وكذلك في طبيعة ومستوى الخطاب ،وفي الغاية منه .والمستويات
69
الهامة هنا هي األجناس الخطابية ،من نثر وشعر ،وخطاب علمي سياسي أو طبيعي ،أو اجتماعي أو
غير ذلك.
إذا اعتبرنا المعجم القرآني ،فال يجوز لنا في أية حال التحكم في اعتبار وفرض داللة دون أخرى،
ذلك أن التساوي في احتماالت الدالالت والمعاني المنتمية للحقل الداللي المعجمي ،يفرضه استلزام
وإيجاب اإليمان بالقرآن ،اإليمان بكل آياته{:والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا'
وما يذكر إال أولو األلباب'}(آل عمران)7
إن هذا التمثيل اللفظي لحقله الداللي كامال غير مستثنى منه هو من أهم الخصائص والمبادئ العلمية
الثابتة ،التي عليها يتأسس ويقوم عموم اللسان وعلم اللسان العربي خاصة ،الذي هو لسان القرآن
العظيم{:لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين'}(النحل)011
فلننظر إذا إلى تمثيل لفظ (أمة) لحقله الداللي كما يبرزه وتوضحه سياقات آيات وسياقات القرآن
الحكيم:
{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت'}(النحل)04
{كان الناس أمة واحدة فبعث هللا النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين
الناس فيما اختلفوا فيه' وما اختلف فيه إال الذين أوتوه' من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم' فهدى هللا
الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه' وهللا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم'}(البقرة)200
{ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك' وأرنا مناسكنا' وتب علينا' إنك أنت التواب
الرحيم'}(البقرة)028
{إن إبراهيم كان أمة قانتا هلل حنيفا ولم يك من المشركين' شاكرا ألنعمه' اجتباه وهداه إلى صراط
مستقيم'}(النحل)020-021
{وكذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمان'
قل هو ربي' ال إله إال هو' عليه توكلت' وإليه متاب'}الرعد)10
{وقال الذي نجا وا ّدكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون'}(يوسف)32
{ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون}(القصص)22
70
{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما هللا مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا' قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم
يتقون'}(األعراف)043
{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون'}(األنبياء)20
نحن ال نود أن ندخل في الحديث عن العناصر التكوينية للداللة ،وعن الجذر المشترك لهذه الدالالت،
والذي يحتم وجوده وتضمنه في اللفظ ما يمثل حجة داحضة حاسمة للقائلين أصحاب فرضية ومقولة
العقد وال تواضع في جذر اللغة وأصلها األول ،الفرضية هاته التي ال نكاد نجد عند أصحابها درسا
تحليليا وال سؤاال جديا يطرح على بعد عالقة الصوت في مكوناته وبنيته ،وعالقته بالمعنى الذي جعل
للداللة عليه .إن هذا السؤال وهذه العالقة الثابتة تحقيقا لمبدإ التناسق الكوني ليمثل في العقل آية بينة
ليست دون آيتي الليل والنهار والشمس والقمر حتما في أحادية الحكم والملكية والتدبير؛ وعدم التناسق
يعني الخلل والفساد .يقول الحق سبحانه وتعالى{:قل لو كان فيهما آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب
العرش عما يصفون'}(األنبياء)22
وحكم الخطاب لهؤالء المعرضين عن آيات هللا تعالى ،الذين يصدون عن سبيل هللا ويبغونها عوجا،
وإن مكرهم يتمثل في الصفة التي يتكلمون بها للناس وألقابهم العلمية ،ومكر أوالء يبور ،حكم القول
فيهم قوله تعالى الذي جعل لهم أجال ال ريب فيه:
{سأصرف عن آياتي الذ ين يتكبرون في األرض بغير الحق وإن يروا كل آية ال يؤمنوا بها وإن يروا
سبيل الرشد ال يتخذوه سبيال وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيال' ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها
غافلين' والذين كذبوا بآياتنا ولقاء اآلخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إال ما كانوا
يعملون'}(األعراف)037-034
نظرنا إذا نوجهه انطالقا من المعجم وليس من أصله وفقهه .فالسياق كما تدل عليه اآليات من القرآن،
كاب هللا العزيز الحكيم ،السياق شرط في تعيين المعنى وتحديده حال تعدد عناصر الحقل الداللي
للفظ ،وكل تحكم قراءاتي تفسيري غير موجه بالسياق في هذه الحالة يكون مخالفا للحق باطال.
وبغاية تبسيط الدرس وسلوك أوضح المسالك ،ال بد من التنبيه كون هذه الدالالت والمعاني التي تمثل
عناصر الحقل الداللي المعجمي كما في مثل لفظ (أمة) وكما تلونا في اآليات القرآنية فيما سبق ،هذه
المعاني والدالالت ليست من المجاز ،وال يجوز فيها معنى التأويل المراد به ما هو خارج عن حقيقة
اللفظ في اللغة واألصل الموضوع له كما هو في شائع تعبير البالغيين؛ إنما هي كلها حقيقية وأصلية
لغويا ومعجميا ،وشيوع وغلبة تداول بعضها أكثر من غيرها ال يفقدها أبدا حقيقتها الحقة وحقيقتها
71
العلمية .وإن عدم االعتبار لهذا القانون ال شك ينحو باللغة واللسان المتداول نحو االنحراف والتبديل.
والقانون ذاته يوجب ويتضمن وجوب الفصل بين الدالالت الخاصة لما اعتبر من األلفاظ مترادفا ألن
الترادف ال ينبني في غالبه وال يعبر على التطابق واالنطباق ،وإنما على مكونات مشتركة في الداللة،
التي قد تكون غالبة ،ولكنها ال تمثل حقيقة اللفظ كاملة؛ والمثال في هذا كلمتا :مقبل وآت.
في المثال هذا ،الترادف يعتمد ويقوم من حيث اعتباره على الخاصة المتصلة بطرف الحدوث ،بيد أن
طبيعة هذا الحدوث بين العنصرين والفعلين (أقبل) و(أتى) طبيعة من حيث الحقيقة والواقع مختلفة.
فأول مستوى مبرز وموضح لهذا الفرق هو اختالف الحمولة الزمنية للحدثين؛ ذلك أن الفعل (أتى)
هو فعل وحدث آني ،بخالف (أقبل) ذي الحدث المكوثي االستغراقي .هكذا إذن يتضح أن الترادف هنا
هو بالنظر أو هو مستمد فقط من منتهى الحدث وطرفه ،وال يعبر البتة عن الترادف في معناه الذي
يتبادر بحسب حقيقة اللفظ ،وإنما هو على وجه السعة ،وعلى وجه التسديد والتقريب كمعيار بياني.
ومما يعتبر مترادفا وهو ليس معنى واحدا أسماؤه الحسنى جل وعال( :الخالق) و(البارئ) و(الفاطر)
من قوله سبحانه{فاطر السماوات واألرض} و{بديع السماوات واألرض} ،فإن الفاطر الخالق من ال
شيء ،وبديع السماوات واألرض خالقهما على غير مثال سبق ،والبارئ المخرج الخلق من عالم
الغيب إلى عالم الشهادة مما يفقه من قوله تعالى{:ما أصاب من مصيبة في األرض وال في أنفسكم إال
في كتاب من قبل أن نبرأها' إن ذلك على يسير لكيال تأسوا على ما فاتكم وال تفرحوا بما آتاكم' وهللا ال
يحب كل مختال فخور'}(الحديد.)22-20
فهذه إذا ألفاظ ومعاني اشتركت في مكون داللي الذي هو الخلق ،لكنها لسانا وحقيقة ليست منطبقة.
يقول عمرو بن بحر الجاحظ كما نقل عنه د .عمر موسى باشا في مقاله المشار إليه آنفا:
<< وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها ،وغيرها أحق بذكرها منها .أال ترى أن هللا تبارك وتعالى
لم يذكر في القرآن (الجوع) إال في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر؟
30
والناس ال يذكرون (السغب) ،ويذكرون (الجوع) في حال القدرة والسالمة>>...
ويضيف صاحب المقال:
<كما أورد الجاحظ ذكر (المطر) ،وأشار إلى أن القرآن ال يلفظ به إال في موضع االنتقام ،والعامة
وأكثر الخاصة ال يفصلون بين ذكر(المطر) وذكر (الغيث) .وذكر (األبصار) ،و(األسماع)،
و(السماوات) ،و(األرضين) ،وقال:
<<والجاري على أفواه العامة غير ذلك ،ال يتفقدون من األلفاظ من هو أحق بالذكر وأولى
باالستعمال .والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما ،وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة
31
استعماال ،وتدع ما هو أظهر وأكثر>>...
هذه (يقول صاحب المقال) هي بواكير فساد اللسان اللغوي ،وظواهر اللحن اللغوي ،كما الحظ
الجاحظ ،وأدى هذا التطور الطارئ من استخدام العامة األلفاظ في غير ما وضعت له ،وإهمال
32
اإلعراب والحركات ،إلى فشو الخلل اللغوي في اللسان العربي>.
هذا الذي ذكره صاحب المقال ومن قبله عمرو الجاحظ وغيرهما من رجال اللغة وعلمائها والمهتمين
بشأنها كالزمخشري رحمه هللا وكذلك ابن خلدون رحمه هللا في ذوده ودفاعه عن األصل :لغة قريش
المضرية ،هذا ويا لألسف ما نراه قد اشتد اليوم واستشرى بعوامل مختلفة التأثير بدءا بالتبعية الفكرية
االستعمارية وبفعل الترجمة ،انتهاء لما أفضى إليه التخلف الشامل السياسي واألدبي والعلمي من
ضمور حضور اللغة العربية الفصيحة ،التي ال تنبغي في الواقع إال لتحقق اجتماعي سليم متوازن.
وإذا نظرنا إلى واقع اللسان المتداول والسائد اليوم في عموم البالد العربية بالمعايير األلسنية العلمية
ألفينا باستثناءات قليلة ،كل هذه العوامل مجتمعة وآثارها قد أضحت كأنها قدر محسوم ،فاللهجات
القطرية التي تتصل قريبا أو بعيدا باللغة األم أصبحت مجاال سائبا لمولد من األلفاظ منحوتة ال من
أصل لغوي وال هي بميزان أو قياس ،وال هي بالسوقية كما يفهم صفة من هذا اللفظ ،وإنما هي بنات
نفث الشياطين والجن على ألسنة مدمني المخدرات ومجامعهم وما شابهم ،ثم ما تلبث هذه األلفاظ
رويدا رويدا حتى تلج على غفلة دور الناس وبيوتهم ،فتصبح كأنها من لهجتهم ولغتهم ،تجري مجرى
غيرها من األلفاظ على ألسنتهم.
31نفس المصدر
وعودا إلى أثر الترجمة خاصة على المعجم اللغوي فيما نحن بصدده من التطرق لما بدل من اللفظ
والتعبير نجد كلمة (العقيدة) التي أصبح لها من التعبير العلمي والشرعي ما ال يحق وال يجوز ،تارة
موضع الدين وأخرى يراد بها الداللة على اإليمان من غير أساس موثوق وال أصل ثابت لهذا
التوظيف واالستعمال إال الصور الترجمية التي ال تبلغ بحال درجة النقل التام للنظمة اللسانية المنقول
عنها .وطبعا هناك فرق بين حقيقة اللفظ وجواز التعبير به كمادة بيانية وأن ينزل منزلة ليست له
كاصطالح شرعي تعيينا.
لعل هذا الذي مهدنا به في الجانب المعجمي هو األحق واألهم درايته ومعرفته بالنسبة لغير
المتخصص.
وإذا كان االشتراك يراد به االنتماء إلى نفس الحقل الداللي المعجمي ،فضبطه ومعرفته يجمع
ويختزل في القول :ال حقيقة لالشتراك مع السياق.
إدراكنا لهذا يجعلنا نميز بين الداللة المعجمية األصلية أو الحقيقية والمجاز ،ذلك أن السياق في الواقع
وصحيح األمر إن كان قد مثل مآل االشتراك وطرف مساره ومنتهاه ،فهو في اآلن ذاته مبدأ االنتقال
من االعتماد على اللفظ إلى االعتماد على التركيب ،ومن تم الدخول في حقل األسلوبية ،الذي يتجاوز
الوحدة المعجمية إلى ما هو أعلى منها .لكن الذي يهمنا نحن في حديثنا وموضوعنا هو ما اتصل من
اللسان والمعجم بحديث الشرع وخطابه المجيد ودراسته .وهو األمر الذي يحتم علينا الكالم والتطرق
إلى أقسام الداللة المعجمية.
أمكن تصنيف الداللة غير المجازية إلى صنفين ،صنف معجمي أصلي وصنف اصطالحي .فاألصلي
هو ما كان من عناصر الحقل الداللي المعجمي كما رأينا في مثل لفظ (أمة)؛ أما االصطالحي فهو
ينطلق من إحدى هذه الدالالت الحقيقية ،ويكون في غالبه على سبيل إما التخصيص أو التعميم بضابط
شرط عدم نقض الحقيقة المعجمية وعدم مخالفة األصل ،فتكون إما متضمنة فيه أو متضمنة إياه .هي
إذا تنتقل وتتحول من صبغة المعجم إلى صبغة القاموس ،كما هو في الحيزات والمجاالت العلمية
المختصة االهتمامات والتقنيات وفي ألفاظها وتعبيراتها.
عالوة على هذا تبقى النقطة الرئيسة هنا في درجة فصل السياق بين الحقيقة والمجاز ،نعني من جانب
األهمية ،هي كون االصطالح في مجاله يمتد بحمولة اللفظ المعرفية ،ويتسع بها أحيانا لتتجاوز
المعنى األولي للداللة اللغوية؛ فكأن اللفظ بات وكأنه ال يمثل إال عنوانا أو محددا لكتلة وطيف فكري،
74
قد يبلغ ويمثل حقال فكريا ومعرفيا برمته مما يعبر عنه ويصطلح عليه في الفكر والمناهجية
ب(المفهوم).
المفهوم إذا هو ممثل لجزء متصل ومنتظم من المعرفة ،ومنه مقول (المفهوم شطر المعرفة) الذي
يعني تحقق اإلدراك واإللمام بما مت بارتباط ،من معارف ومبادئ ،بالمادة البيانية الذي يمثلها اللفظ.
وإذا كان االصطالح داال على معين محدد كما هو شأن االصطالحات الشرعية ،كالصالة والزكاة،
فال يتناسق به اصطالح المفهوم ،كما ذات لفظ االصطالح ال تطلق على الشرعي إال شيوعا ،ألن
االصطالح يعني االجتماع على القبول واالتفاق.
األهم والحقيق هو أن داللة االصطالح ال تنفصل عن فضائه ومجاله ،كما أنه مبدئيا ال تخالف وال
تناقض أصلها التي استمدت منه ،المتمثل في حقلها الداللي المعجمي وفي حقيقتها اللسانية واللغوية.
يمكن لنا أن نمثل ونوضح ما سبق بالرسم التالي الواصل بين البعد المعجمي ،أي مجموعة األلفاظ
المعجمية والحقل الداللي ،مجموعة الدالالت اللغوية للفظ ،والسياق كمحدد ،والترادف ،واالصطالح
أو الحمولة االصطالحية:
ل~ 1ل2
لفظ ل2 ل1 لفظ البعد المعجمي
اصطالح أو حمولة
75
س:سياق
د:داللة
ل:لفظ
~:ترادف
إن علم الداللة من خالل لوحتي وبعدي المعجم والسياق هو الركن األول في بناء العالقة باللغة؛ وهو
الشرط األساس المتالك الحد األدنى لعتبة الحقيقة البيانية .وال شك البتة أنه دون هذا الشرط ليس من
الموضوعي وال من الواقعية والحقيقة العلمية التكلم عن الدخول إلى أي حقل من الحقول العلمية
والمعرفية ،ذلك أن الوسيط واآللية في فضاء العلم والمعرفة إنما مادته ومطيته اللغة والبيان .يقول
سبحانه وتعالى:
{وعلم آدم األسماء كلها ثم عرضهم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤالء إن كنتم صادقين' قالوا
سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا' إنك أنت العليم الحكيم' قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم' فلما أنبأهم
بأسمائهم' قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات واألرض وأعلم ما تبدون وما كنتم
تكتمون'}(البقرة)12..11
فشأن البيان من حيث خطره وأبعاده مرده مرجع الخلق إلى علم هللا تعالى الخالق العليم ،وحامل
حقيقة العلم عند اإلنسان هو األسماء.
76
الفصل الثاني
تحقيق المجاز
إثراء للحديث وتدعيما لموضوعيته وعلميته ،نحبذ بصدد التطرق إلى التحليل الخطابي اإلفادة من
مقال جامع قيم تضمنه العدد السابع والستون لمجلة الفكر العربي في ملف -0الجماليات العربية ،تحت
عنوان (األبعاد الجمالية في نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني) ل.د.خليل أبو جهجه من الجامعة
اللبنانية -كلية اآلداب -الفرع الخامس.
ونظن أن ما جاء في هذا المقال ،قد ألم بصفة جامعة وموجزة بأهم ما يستوجب معرفته من حقائق
وأمور محددة لعالقة النظم ،كدالة منتظمة لعناصر لسانية متباينة األبعاد والطبيعة ،عالقتها
بالمضمون الخطابي كصورة تتعين بتحديد علمي ال اعتباطية فيه ،وهو ما عبر عنه الجرجاني كما
أشار إليه الكاتب بانتفاء الترادف والتماثل كما سيأتي ذكره بعد حين.
هذا القول للجرجاني والحكم ،هو في حقيقته إعمال لمبدإ االختالف أحد أبرز وأول المبادئ الكونية
العامة .ذلك وال يعلم من جهة النظر الفاحص مدخل أمثل وقانون أقوى للفيلولوجيا من قانون ومبدإ
االختالف أو المغايرة .ويكفي عاملية وتحققا لهذا المبدإ سريانه وتطبيقاته في مجال الفقه وبيانه
وقراءة نصوصه وتشريعاته خاصة في مسألة المتعاطفين .ومما يعلم فالفقه نظام متسقة أحكامه،
بعضها لبعض متم ومتناسق ،وموجه له حكما وقراءة.
من جهة ثانية يكون الرد إلى هذه القاعدة أو القانون عند الجرجاني بعدم الترادف في داللة ومضمون
الكالم باعتبارها صورة ونتاجا لتأليف ونظمة لسانية معينة ومرتبة ،يكون ردا وتصحيحا لمن قال
بانتفاء المجاز في اللغة كابن تيمية رحمه هللا.
إن مفهوم النظم وحقيقته عند عبد القاهر الجرجاني ال توليان للمعنى أي وجود إال أن يعتبر ضمن
عالقته بالسياق والكالم؛ فاللفظ ال يكاد يؤثر أو ينظر إليه عنصرا مستقال ،ليتم اعتبار وتضمين
القرائن والقيود التي عليها تقوم عليها حقيقة المجاز ضمن عنصر النظم والسياق .يقول ابن تيمية:
<< ...هذا التقسيم (يعني به التقسيم إلى الحقيقة والمجاز) ال حقيقة له ،وليس لمن فرق بينهما حد
صحيح يميز به بين هذا وهذا .فعلم أن هذا التقسيم باطل ،وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول ،بل يتكلم
77
بال علم ،فهم مبتدعة في الشرع ،مخالفون للعقل ،وذلك أنهم قالوا :الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع
له ،والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له ،احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على االستعمال
وهذا يتعذر>>.
لئن عرض لنا هنا الكالم في الحقيقة والمجاز فليس بأس في بسط وتوضيح على ما أمكن من القدر
من خالل قراءة وإمعان النظر تحليال وفصل خطاب لما جاء على لسان ابن تيمية هاهنا؛ فنلفيه في
واقع األمر والحقيقة يجمع بين أمرين ،كالهما له قيمته التحليلية والدراسية ،خصوصا في األصل
المعتبر أساسا مبعدا ومنافيا للمجاز من الحقائق التعبيرية واللغوية .وهو ما يستحق التوقف ألن
صاحب هذا المدى التفكيري ،وفي هذه النقطة بالذات قد المس وبلغ مستوى لم يذكر وما كان من
المفكر في العقل والتفكير اللساني قديما وحديثا .وليس هذا القصور مرده افتقاد القدر المتناسب
المساير لألطوار الفكرية واتساع فضاء مادتها وآلياتها وتشعباتها ،ولكن الحق أن ابن تيمية إنما ألهم
خطا تفكيريا تجذيريا مما ساد التعبير عنه بالصفة الفلسفية ،الذي سيبقى دوما له صفة التميز في كل
العصور والحقب الفكرية ،ذلك أنه يتأسس ويشترط في تحققه العقل النظري ،الذي معناه العقل القادر
على وزن األفكار وتنظيمها ليعلم الصحيح منها مما هو دونه.
هذا من جهة األمر األول المثير في هذا النص والكالم ،أي درجة ومستوى القول ،بيد أنه وهذه من
أهم أصناف اإلشكال الحقائقي ،وهي على كل حال ليست مفارقة وال اختالفا من األمر وال تناقضا؛
فقيمة هذه الدرجة في عالقتها مع مجال الخطاب والمتلقي ،وليس فحسب بالنسبة لعصر ابن تيمية وما
قبله ،بل لكل العصور إلى يومنا هذا ،هي قيمة ال تتوافق وهذا المجال ،ألنها درجة وحدة إدراكية
واعتبارية في التصور للحقائق والمدركات ،ال تنبغي للناس وليس لعقلهم طاقة ونظمة للتوافق وإياها،
توافقا يكسبهم هذه الصيغة في التصور والضبط للمشهود ،سواء للمعقول أو المحسوس؛ فينبغي شرط
االنتقال من طور التفكير التدرجي والتراتبي ،إلى طور وصيغة االختزال .هذا الطور وإن ارتبط
بالزمن باعتباره بعدا وفضاء للسير والحركة العلمية وتراكمها ،فهو على نحو أصح ،يرتبط
بمستويات التفكير وسلمها .وإنما عالقتها بالتاريخ وحقبه وأطواره مرجعها والعامل فيها الشرط
الزمني المؤكد في االرتقاء ،من درجة إلى أخرى أعلى منها .إذن فلعلك تبينت أن قيمة قول ابن تيمية
في المجاز هي في مستوى تفكيره ،وأن عدم صحته هي في عدم صحة وصل هذا السؤال بهذا
المستوى ،من حيث بنية اللغة وبنية اإلدراك اإلنساني العام ،وهما بنيتان متناسقتان.33
Gerard Genette Figures III- LA RHETORIQUE RESTREINTE- p 33- collection Poetique – auxانظر
Editions du Seuil - Paris33
78
اإلنسان لظهوره وبطن اإلنسان بطنا لبطونه .فإذا قيل إن هذا حقيقة وذاك مجاز ،لم يكن هذا أولى من
العكس.
وأيضا من األسماء ما تكلم به أهل اللغة مفردا كلفظ اإلنسان ونحوه ،ثم قد يستعمل مقيدا باإلضافة
كقولهم إنسان العين وإبرة الذراع ونحو ذلك .وبتقدير أن يكون في اللغة حقيقة ومجاز ،فقد ادعى
بعضهم ن هذا من المجاز وهو غلط؛ فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أوال ،وهذا
لم يستعمل اللفظ بل ركب مع لفظ آخر فصار وضعا آخر باإلضافة .فلو استعمل مضافا في معنى ثم
استعمل بتلك اإلضافة في غيره كان مجازا؛ بل إذا كان بعلبك وحضرموت ونحوهما مما يركب
تركيب مزج بعد أن كان األصل فيه اإلضافة ال يقال إنه مجاز .فما لم ينطق به إال مضافا أولى أن ال
يكون مجازا.
وأما من فرق بين الحقيقة والمجاز بأن الحقيقة ما يفيد المعنى مجردا عن القرائن والمجاز ما ال يفيد
ذلك المعنى إال مع قرينة ،أو قال الحقيقة ما يفيده اللفظ المطلق ،والمجاز ما ال يفيد إال مع التقييد ،أو
قال الحقيقة هو المعنى الذي يسبق إلى الذهن عند اإلطالق ،والمجاز ما ال يسبق إلى الذهن ،أو قال
المجاز ما صح نفيه ،والحقيقة ما لم يصح نفيها ،فإنه يقال :ما تعني بالتجريد عن القرائن ،واالقتران
بالقرائن؟ إن عنى بذلك القرائن اللفظية مثل كون اإلسم يستعمل مقرونا باإلضافة أو الم التعريف،
ويقيد بكونه فاعال ومفعوال ومبتدءا وخبرا ،فال يوجد قط في الكالم المؤلف اسم إال مقيدا .وكذلك
الفعل إن عني بتقييده أنه ال بد له من فاعل ،وقد يقيد بالمفعول به وظرفي الزمان والمكان والمفعول
له ومعه والحال ،فالفعل ال يستعمل قط إال مقيدا ،وأما الحرف فأبلغ ،فإن الحرف أتي به لمعنى في
34
غيره>>
من خالل النظر والتحليل لهذا النص والقول يستنبط ويخلص إلى األصل الذي استند إليه ابن تيمية
واعتمد عليه في رده ونفيه للمجاز اللغوي؛ وهو ما أمكن تعيينا تسميته بالنسبية الداللية ،حيث أن
اللفظ عنده ليس يثبت له معنى وال داللة إال من حيث نسبته إلى معين .فهو ينظر إلى المعجم مجاوزا
به اإلطار النسبي الخاص بالبيئة اإلنسانية .وبمنظور آخر يتجاوز مستوى التوظيفية والداللة
االستعمالية داخل هذه البيئة إلى مستوى أعلى هو مستوى األصول أو الجذور ،والذي ينطبق
بالفيلولوجيا كحيز تأصيلي للداللة من خالل تحليل المادة اللغوية في مكوناتها وأبعادها ،سواء من
جهة الصوت أو التأليف أو ما سواهما .وبتعبير أدق وأقوم ،نجد ابن تيمية بنظره الشمولي للمعجم
يعتبره مجموعة دوال ،كل لفظ وعنصر معجمي هو دالة تسند إلى ما تضاف إليه صورة هي التي
تكتسب حقيقة المعنى ،أي أن العناصر المعجمية ليست دالالت ومعاني؛ والنتاج يكون طبعا أصنافا
داللية ،لكل لفظ صنفه الداللي ،وهو المجموعة الصورة لألشياء بدالته .وفيما يلي التمثيل البياني ألهم
ما سطرنا عليه وتم إبرازه وتوضيحه:
صور األشياء بدالة اللفظ وهي المعاني وحقيقتها األشياء المعجم
وفي قوله:
( ..فإذا قيل هذا حقيقة وذاك مجاز ،لم يكن هذا أولى من العكس)
وكما بينا ذلك في هذه النظرة ينتقل المعجم من مجموعة ألفاظ لها معاني إلى دوال لفظية تسند إلى
أشياء محددة معاني ودالالت؛ وهذا المميز من جهة درجة التفكير.
بيد أن الذي يجب تصحيحه أو إضافته على أصح التعبير إلى قول ابن تيمية ونظرته إلى المعجم إلى
مسألة الحقيقة والمجاز نجمله في بعدين:
البعد األول يتصل بما أسميناه في موضع آخر بالمسألة البعدية التي تنتظمها المبادئ الكونية العامة،
التي أهمها مبدأ االختالف ومبدأ التناسق ومبادئ التغير واالتصال والتوازن والوحدة؛ فاهلل تعالى وهو
أحكم الحاكمين جعل لكل شيء قدرا ،وخلق كل شيء فقدره تقديرا؛ حكمته جل وعال جعلت
المخ لوقات ماديها ومعنويها متناسقة ومرتبة تجمع بين البسيط والمركب من دون اختالل وال فطور؛
وكل ذلك بيئة لإلنسان ولفكره ولفؤاده ،الذي يحس به ويدرك ويعقل؛ يتعامل معها بسلم ودرجات من
مهده إلى لحده ،ومن أدنى نقطة وحظ له من الخلقة ونصيب العلم؛ يقول سبحانه وتعالى:
{إنا كل شيء خلقناه بقدر'}(القمر)32
{نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديال'}(اإلنسان)28
إن هذا األسر الخلقي هو المحدد في واقع الحال والوجود لكفاءة اإلنسان وطاقته في هذا الكون
والتعامل داخله ،وحدود هذا التعامل وأبعاده ،وسبحان هللا الذي يختار لمخلوقاته عوالم وجودها .هذا
األسر الخلقي ليس لإلنسان من بعده على مستوى أبعاد اإلدراك أبعادا أخرى ،وال أن يسلك مسلكا في
اإلدراك على مناحي ووسع آخر ال في طبيعة معرفته وأسبابها وصيغتها ،وال هو بقادر على اختزال
أمر من ذلك كله ،وعلى وجه الخصوص بعدي الجهد والزمن ،واألمد الذي يتطلب هذا الجهد سبيال
لهذا اإلدراك المعرفة؛ يقول هللا سبحانه وتعالى{:الرحمان علّم القرآن' خلق اإلنسان علّمه
البيان'}(الرحمان )2-0فالصيغة في فعل (علّم) صيغة علية بها حمولة االستغراق للحدوث .إذن
فاالختزال خاصة في طرق المعرفة التي أهمها اللغة في معجمها ،والنظر إليها بهذا المستوى الذي
هو النظر الذي يمثل وينظر به ابن تيمية في كالمه عن المجاز ،هذا النظر يستعصي على التعميل ،ال
لعامة الناس ممن لم يكتب لهم حظ كبير من العلم والتحصيل وسعة اإلدراك ،بل لمن يعتبر لدى هؤالء
من أولي العلم والعلماء.
82
هاهنا لعله تبين واتضح موضع اإلشكال ،وما هي العلة في عدم صحة هذا االختزال؛ فهو وإن صح
في ذاته ال يصح وال يتناسق مع النظمة الخلقية والسعة اإلدراكية لهدف الخطاب ،الذي هو في نهاية
األمر المقصد والمآل لكل العملية الخطابية .وبقول جامع ،فإن انتفاء شرط الحكمة والتناسق بين
طرفي العالقة التواصلية يبطلها إما نفيا أوتحريفا؛ وهنا يستحضر األثر القيم< :خاطبوا الناس على
قدر عقولهم ،أتريدون أن يكذب هللا ورسوله؟>
كان هذا البعد األول ،وهو بعد مرتبط بالمناهج المعرفية وبفلسفة العلوم والمعرفة أو ما يسمى
باالبستمولوجيا .أما البعد الثاني فهو مرتبط بمجال صحة األصل ،ذلك أن ابن تيمية لم ينظر إلى
المجاز ولم يعتبره إال في جزئه ال في كليته .فاألصل والحكم أعاله ليس يصح ويقبل إال على هذا القيد
وعلى هذا االعتبار ،وليس على المجاز كما هو مدرك ومعلوم لدى فقهاء اللغة وعلماء البيان.إن ما
اعتبره هنا هو االستعارة التصريحية كمجاز عالقته المشابهة مع حذف المشبه .ولئن جاز قبول حكم
انتفاء هذا المجاز نظريا بإهمال الجانب التعميلي والتطبيقي ،فالحكم بانتفائه في االستعارة التمثيلية
مثال ،ال يصح مطلقا ،وليس له قطمير من الصواب وال مثقال ذرة ،ألن المجاز هنا ليس مؤسسا على
اللفظ الواحد بل على تركيب داللي ،بمعنى أنه أكثر أبعادا من المعجم ذي البعد الواحد .فالمجاز في
االستعارة التمثيلية أقرب إلى التشبيه الضمني ،ليصبح التعبير على حدث أو ظاهرة معينة في نسقه
التركيبي مقتبسا ليعبر به عنه مجموعة من الظواهر ،تتماثل وإياه في العالقات التي يتسق فيها
وتتألف بواسطتها مكونات وعناصر الحدث .ولنأخذ مثاال بسيطا واضحا :رميت عصفورين بحجر
واحد.
أوال :يمكن البرهنة على كون هذا التعبير ليس مما يتحكم فيه األصل السابق؛ فاأللفاظ كلها هنا محددة
المعاني ،وليست بدالالت مسندة إلى أشياء في عالقة منتجة للمعاني .لكن المضمون والمعنى الذي
يحمله هذا التركيب يعبر عن صنف من األحداث والظواهر التي نسقها تحقيق غايتين وهدفين بأثر
إحداثي وسعي واحد؛ وهذا ما يجعل القول بانتفاء المجاز قوال مردودا غير صحيح ،وحكمه بالتالي
محسوم في أمره.
وجماع القول وخالصته :إن نظرة ابن تيمية ورؤيته لمسألة ثنائية الحقيقة والمجاز في البيان ،وإن
هي تميزت في طرف تركيبي للقول بقوة وبصدقية من منظور أعلى من العقل والتنظير ،ودرجة
الشك هي درجة عليا مما يناله اإلدراك ومستوى التفكير ،فإعمالها غير وارد على مستوى البعد
اللساني األولي ،البعد المعجمي ،الذي يعتبر اللفظ وحدته.
83
أما حل هذا اإلشكال والتعارض ،فيتوخى في االعتبار والنظر في إطار ما بعد -المعجمي ،الذي
يتوجه إلى اللسان ممثال تحديدا في تراكيبه وأسلوبه ،حيث تنتقل الوحدة المعنوية من اللفظ إلى
الجملة ومن بعد اإلشارة والرمز المعتمد على نظرية االستبدال إلى بعد الداللة ونظرية التوتر وحقل
التولد الداللي 35وذاك ما نحن من أجله بصدد الحديث عما سمي في المقال على سبيل المجاز
والتوسعة في التعبير ب(نظرية النظم) عند عبد القاهر الجرجاني رحمه هللا.
كتب الدكتور خليل أبو جهجه:
<<نظرية (النظم) أو التعليق:
لغويا النظم هو التأليف ،ونظمت اللؤلؤ جمعته في السلك ،والتنظيم مثله ،ومنه نظمت الشعر ونظمته،
ونظم األمر على المثل ،وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته ،والنظم:
المنظوم ،وصف بالمصدر .ومجازا نقول نظم الكالم ،ويقال نظم القرآن أي عبارته صيغة ولغة.
وقد اشتد الجدال حول القرآن في القرن الرابع الهجري ،وكثرت الدراسات البالغية التي نهجت
مسلكين:
)0يقوم على تفكيك النص بغية عزل العناصر التي تمثل مظاهر البالغة وجمالياتها.
)2يعتمد وحدة النص ولحمته ،ومن خاللهما تبرز البالغة التي ال تكون إال داخل النص.
وقد اعتمد الجرجاني نظرية النظم أساسا لعلم المعاني في كتابه (دالئل اإلعجاز) ،ولعلم البيان في
كتابه اآلخر (أسرار البالغة) .ومما يجدر ذكره أن فكرة (النظم) قديمة في الدراسات البالغية
واللغوية ،تبدأ جذورها مع أرسطو ،وتمتد رحلتها الطويلة ،لتشمل أدباءنا ونقادنا قبل الجرجاني،
وتكتسي حلال متنوعة ،لدى ابن المقفع والجاحظ وسيبويه وبشر بن المعتمر وابن رشيق وغيرهم،
حتى تصل إلى عبد القاهر الجرجاني ،فاقترنت بإسمه وعرفت به وعرف بها ،فعمق آثارها وطورها،
ونقلها من مفاهيم مبتسرة إلى نظرية منهجية كاملة ،أقام على أساسها دراسات نقدية تحليلية لألدب
بفنيه الشعر والنثر ،وبخاصة ما يعود إلظهار دالئل إعجاز القرآن وأسرار بالغته.
Paul Ricœur La métaphore vive – L ordre philosophique- collection dirigée par Paul Ricœur etانظر
François Wahl- aux Editions du Seuil Paris-Préface35
84
بعد أن تبين له أن ليس اإلعجاز قائما في األلفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة ،وليس في مقاطع
الكلمات وفواصلها ،وليس في معاني الكلم المفردة ،وليس في تركيب الحركات والسكنات ،وليس في
غياب الحروف التي تثقل اللسان أو في وفرة االستعارات وارتقاء نوعها ،بل القرآن -في رأيه -معجز
في نفسه ،معجز في نظمه ،معجز في تأليفه ،والنظم والتأليف هما االحتماالن المرجحان بعد إبطال
االحتماالت األخرى>>
ليس ينبغي وال يحق بحال من األحوال أن نمر على هذا الكالم مر الكرام وقد لفظ بين ثناياه من القول
ما ال يصح؛ فهو كالم يريد به صاحبه وقد خاله بديعا أتى بجديد لم يك قبل ،فإذا هي في الواقع زلة
تذكر أولي األلباب بلزوم الحيطة وإمساك اللسان عن اإلطناب في هذا الشأن العظيم.
إذا كان حقا أن القرآن معجز في نفسه وفي نظمه وفي تأليفه ،فما كان أبدا بحق أن ينفى بدءا أو على
سبيل التوطئة الخطابية حتى ،كما يرجح هنا ببينات التحليل الخطابي ،ما كان أن يذهب اللسان
بصاحبه حتى يفضي لباطل من القول مبين بنفي اإلعجاز عن المعجم القرآني ،أي عن اللفظ المستقل،
وعن موجات وعقد الصوت في حديثه أحسن الحديث .وإنه ما كان أحسن الحديث حقا إال وهو منزه
عما يعيب الكالم وما يشوب ما دونه من عدم التوزيع غير الموزون ،أو انسياب في منتهى التجانس
التركيبي والصوتي بين مطلق وجميع مكوناته على ما يدرك وما ال يدرك من األبعاد .بل كما سيأتي
في جزء وموضع آخر إن في هذا بالذات آليات بينات ،وشاهدا وبرهانا ألولي البصائر والرشاد،
على أنه وحي يوحى ،ليس الجن واإلنس بقادرين على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
أما بخصوص ما اعتبر وأسماه صاحب المقال على سبيل التوسعة والمجاز بنظرية النظم عند
الجرجاني ،فيمكن أن نقدمها من خالل ذكر خصائصها المميزة كما هي مستنبطة أتى تحديدها في
النص:
<< ..وقد أرست هذه النظرية عدة مفاهيم تدخل في صميم النقد بقسميه النظري والتطبيقي\التحليلي،
أهمها:
-0إبطال ثنائية اللفظ والمعنى.
-2المزية في الكالم ،وسبيله التصوير والصياغة.
-1ال تماثل في الكالم وال ترادف إذا تغيرت المفردات.
-3الفصاحة نظيرة البالغة ومثيلتها.
85
-2األلفاظ المفردة هي أوضاع اللغة ،وال اعتبار لها إال من خالل النظم.
-4األلفاظ خدم المعاني وأوعيتها.
-7ال لفظ بال معنى ،وال معنى بال لفظ.
-8نطلب المعاني ،وعندما نجدها تحضر األلفاظ تلقائيا.
-2أهمية علم النحو ،وإعطاؤه أبعادا جديدة في الصياغة األدبية.
-01عدم الرضى عمن يقف على ظواهر المجاز والتمثيل في تفسير آيات القرآن ،ألن في ذلك إفساد
المعنى وإبطال الغرض.
-00مناقشة المزية بين المفسر والتفسير ،والتفاضل بينهما ،وإعطاء الفضل لألول ،إذ له داللتان،
داللة اللفظ على المعنى وداللة المعنى الذي دل اللفظ عليه على معنى آخر؛ بينما للتفسير داللة واحدة
هي داللة اللفظ .ولما كان المفسر هو داللة معنى على معنى كقولنا :هو كثير رماد القدرة ،وتفسيره:
هو كثير القرى .والتفسير هو داللة لفظ على معنى كأن يقال في الشرجب أنه الطويل فإن في المفسر
كما أوضحنا أعاله داللة اللفظ على المعنى وداللة معنى على معنى آخر.
-02ال يكون المفسر والتفسير في ألفاظ اللغة بل في المعاني.
تحدد هذه القضايا مالمح منهج عبد القاهر الجرجاني النظرية والتطبيقية .فمن الناحية النظرية تكتسب
معاني األلفاظ قيمتها من مجموع العالقات التي تنسج فيما بينها بما يتناسب مع الروابط النحوية ،وكل
تغير في النظم يلحقه تغيير في المعنى؛ ينتج عن ذلك:
"أن اللغة عنده وحدة ال تنفصل فيها الصورة الشعرية عن التعبير األدبي ،بل هي جزء ال يتجزأ منه،
ال تستمد قيمتها إال من النظم ،وال تكتسب فضيلتها إال من السياق .بل إن تفسيرها وفهم معناها ال
يمكن تحقيقه إال بعد العلم بالنظم ،والوقوف على حقيقته ،اعتمادا على ذوق لغوي رائع يكشف عن
الفروق والدقائق واألسرار التي تكون بين استعمال وآخر داخل نطاق االستعارة الواحدة">>
بالنظر لما بين أيدينا مما تحمل الباحث جهد جمعه من المراجع حتى كان هذا المقال القيم الجامع،
لنحاول على ما قدر لنا ذلك أن نبين ونبسط ما جاء تحديدا في ختام المقال ،وذلك طبعا مع حسبان
المعايير والمرجعية التي استمد منها المقال؛ لنحاول جرد وتعيين الخاصات المميزة لهذا المنظوم
86
الفكري من خالل تحديد موضوعاتها ومقولها ،والتي أمكن تمثيلها على أربعة أقسام خاصات
(قضايا) ،كل قسم منها مختزل لمشترك موضوعاتي كما يلي:
)0القسم األول{:خ( ،)0خ( ،)2خ( ،)4خ(})7
)2القسم الثاني{:خ( ،)2خ( ،)3خ(})8
)1القسم الثالث{:خ( ،)1خ(})2
)3القسم الرابع{:خ( ،)01خ( ،)00خ(})02
نالحظ أن خ( )0وخ( )4وخ( )7متكافئة وتؤول إلى خ( ،)0أي إبطال ثنائية اللفظ والمعنى ،وخ()2
تجعلها تمثيل حقيقة البعد المعجمي ،وتجلي مداه الوظيفي الذي ال يعتبر إال بوصله بالبعد التأليفي ،بعد
النظم؛ وهو ما يدل عليه القسم الثاني الذي يؤول إلى خ( )3بجعل الفصاحة والبالغة غير منفصلتين،
أساسهما استيفاء التصوير وصحة الصياغة ،وجماليتها مادة وتركيبا.
القسم الثالث يرى محددا ألهم القوانين البيانية ،وهي قوانين تتحكم في المادة المعجمية ،مادة الصناعة
اللغوية والكالم بتحقق وإعمال لمبدإ االختالف المعبر عنه ب خ()1؛ وفي ترتيب هذه المادة على كل
األبعاد تبعا لحقيقة وأحكام علم النحو خ(.)2
المستوى التفسيري ،مستوى الهدف من الكالم وصناعته ،أي تحديد المعاني والمضامين ،يتطرق إليه
ويؤطره القسم الرابع ،الذي أمكن تمثيله ب خ(.)02
هكذا ،ومن خالل المنظور المعتبر في تحليل المقال يتوصل إلى اختصار وإجمال الخصائص المميزة
في اآلتي:
-إبطال ثنائية اللفظ والمعنى.
-الفصاحة نظيرة البالغة ومثيلتها.
-ال تماثل في الكالم وال ترادف إذا تغيرت المفردات.
-أهمية علم النحو ،وإعطاؤه أبعادا جديدة في الصياغة األدبية.
-ال يكون المفسر والتفسير في ألفاظ اللغة بل في المعاني.
87
إذا نظرنا إلى هذه الخاصات بغية تأصيلها نلفيها ترتبط ببعدين أو محورين اثنين :األول بعد تركيبي،
قانونه أحكام المبادئ الكونية العامة ،خاصة منها مبدأي التناسق واالختالف .والبعد الثاني ،كمجال
مولد من خالل الحقل التركيبي .وهذا التأصيل يؤكده د .محمد رمضان الجربي في مؤلفه (ابن قتيبة
ومقاييسه البالغية واألدبية) إذ يقول:
<< ..وقد بنى نظريته (أي الجرجاني) على أساسين:
األساس األول :ال فصاحة وال بالغة إال بالنظم وتوخي معاني النحو فيها بين الكلم ،وأن هذا هو سر
اإلعجاز في القرآن الكريم.
36
األساس الثاني :أن النظم يتفاوت بما يشتمل عليه من تشبيه رائع ،واستعارة مصيبة>>
األساس األول يقابل أو يمثل المحور التركيبي ومكوناته .أما الثاني ،فهو الحمولة الداللية وحقلها
المولد .وإنعام النظر والدقة في القول وضبطه يريان أن حقيقتي التفسير والمفسر ليسا إال عملية
تحليلية للتركيب قصد استخراج مكوناته والغاية منه باعتبار شرطي الحال أو البيئة الخطابية من
جهة ،وأحكام ومعايير علوم البيان والنحو كذلك .واعتبار الحال أو البيئة الخطابية ال تعني فحسب
المعنى المراد بمطابقة الكالم لمقتضى الحال تبعا لمبدإ التناسق ،ولكن بالعناصرية والتكوينية في
التركيب .وأقرب االستدالل في ذلك مناط واستعمال (أسماء) اإلشارة والضمائر ،وغيرها من أدوات
البناء والتركيب في الكالم ،وفي الصياغة التعبيرية والبيانية.
ال بد هنا من أن يكون لنا منحى جدي في الدراسة واإليضاح؛ وال مندوحة عن إبراز وإفهام التجليات
القوية للمبادئ الكونية العامة بخصوص إطار حديثنا وموضوعنا ،موضوع اللغة وعلوم اللسان
والبيان .وسوف ندرك األفق ،ومدى القدرة واالستيعابية لهذه المرجعية القانونية. .
لنبدأ أوال بإعطاء تعريف ،أو لنقل تحديد ألهم هذه المبادئ ،التي أسميناها كما هي في حقيقتها المبادئ
الكونية العامة .ثم ال غرو والبيان حامل كلية الفكر اإلنساني وعلمه ،وهو شرط بنيويته ،أن يكون له
هذا التأصيل واالرتباط بهذا اإلطار والمستوى القانوني؛ فنفس نظمة البيان هي نظمة التفكير اإلنساني
الذي توافق على بنائه بناء العقل وهيئة العلوم البحثة ،وخاصة منها التفكير والعلم الرياضي؛ وهذه
المشكاة نراها ونتلوها بالحق تذكرة في ما أنزل من الوحي والقرآن العظيم في أول سورة الرحمان:
36ابن قتيبة ومقاييسه البالغية واألدبية والنقدية .ص -027د .محمد رمضان الجربي
88
{الرحمان علم القرآن' خلق اإلنسان علمه البيان' الشمس والقمر بحسبان' والنجم والشجر يسجدان'
والسماء رفعها ووضع الميزان أال تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط وال تخسروا الميزان'}
ولنذكر هنا بغاية تيسير الدرس وتقريب إطار مضمونه للفكر واألفهام ،لنذكر قوله عز وجل الذي
خلق كل شيء وقدره تقديرا:
{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضال من ربكم
ولتعلموا عدد السنين والحساب' وكل شيء فصلناه تفصيال'}(اإلسراء)02
فهذه إذا لمن كان يتدبر القول تذكرة في سؤال ما عالقة البيان بالعقل والميزان.
. . .
هذه اآلية البينة من كتاب هللا والقرآن المجيد قد أحاطت أكثر مما يحيط ويبلغ نور الشمس بكل
المفاهيم التي يدعيها المؤمنون بالعقل وسلطان الفلسفة القائمة بالخصوص على المنهاج التجريبي.
وما من إنسان عالم حقيق بصفة العلم هاته إال وينتهي ويستقر علمه على قول الحق المبين وقوله
سبحانه األول واآلخر والظاهر والباطن:
{ما خلق هللا ذلك إال بالحق}
وهذا ما تلوناه من قوله تعالى من سورة اإلسراء:
{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضال من ربكم
ولتعلموا عدد السنين والحساب' وكل شيء فصلناه تفصيال'}(اإلسراء)02
ونتلوه في قوله سبحانه:
{وألقى في األرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبال لعلكم تهتدون وعالمات' وبالنجم هم يهتدون'
أفمن يخلق كمن ال يخلق' أفال تذكرون' وإن تعدوا نعمة هللا ال تحصوها' إن هللا لغفور
رحيم'}(النحل)08..02
فإذا كان التفكير اإلنساني والتفكير الرياضي منه على وجه الخصوص كأعلى فكر إنساني ممنهج،
والذي هو أساس الحضارة الصناعية اإلنسانية ،إن كان كل ذلك مبدأه العقل في تطبيقيته ومعناه
التفكيري ،وال تفكير من غير مفكر فيه ،وال حركية إال في مجال أو فضاء متسع غير منعدم مما
يشترط االختالف كوعاء شرطي للتعدد ،فإن هذا كله لتحققه لتدبير عظيم ،ومنه يحصل وينفتح أفق
تالوة وفقه قوله سبحانه ذي الجالل واإلكرام:
{أفمن يخلق كمن ال يخلق؟ أفال تذكرون؟}
فهذا لمبدإ االختالف تحديد وبيان مؤصل ،ومن حيث أبسط التعبير في تعريفه هو كون كل شيء ال
يساوي إال نفسه وأن ال تعدد بدون اختالف.
مبدأ التناسق:
المبدأ الكوني الثاني ،والذي يلي في أهميته تجليا في الخلق تركيبا وتكوينا هو مبدأ التناسق المنافي
تحققه وسريانه للتفاوت؛ يقول هللا تعالى:
90
{الذي خلق سبع سماوات طباقا' ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت' فارجع البصر هل ترى من
فطور' ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير'}(الملك)3-1
فالتناسق بمثابة اتساق تركيبي حكيم في الخلق والتكوين لمطلق عناصر هذا التركيب وأبعاده ،مادة
وكما ،وصيغة وغاية وظيفية.
مبادئ التغير -االتصال -التوازن -الوحدة:
باعتبار ترجمة االختالف في فضاء الخلق يستحيل تغيرا على مستوى الحال وجودا وشروطا،
فالعالقة بحسب الالفطور البنيوي على مطلق األبعاد تتمثل مبدءا قائما هو مبدأ االتصال .وهذا
الالفطور المتحقق في كل آن هو المعبر عنه بمفهوم ومبدإ التوازن.
الجامع لهذه المبادئ المختزل فحسب لصيغها ال مبتسرا لقانونيتها ،والمعبر عن مظهر ووجه الحق
ساريا في السماء واألرض قانونا ال تجد له بدال وال تحويال ،قانونا به القلب مهيمنا على العقل يتمثل
على أعلى وأحق صورة هذا الوجود والكون ،وممثال في أصح الصياغة في معادالت الكينونة
والعالقات الرياضية والفيزيائية والطبيعية بين األشياء ،في متراكب من األبعاد ومتعدد متباين من
الزوايا ،ذلكم هو مبدأ الوحدة ،وهو ال ريب دليل حاسم ال ينكر إال بإنكار الحق مطلقا ،إما سفها وإما
جحودا.
ولئن شاء القلب أن يشهد بيانا من نور الحق في هذه المبادئ الكونية العامة عالوة على ما أسلفنا من
الذكر يتلى لسانا عربيا مبينا ،فهذه آيات هللا نتلوها في القرآن العظيم:
{وإلهكم إله واحد' ال إله إال هو' الرحمان الرحيم' إن في خلق السماوات واألرض واختالف الليل
والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل هللا من السماء من ماء فأحيا به األرض
بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء واألرض آليات لقوم
يعقلون'}(البقرة)041
{المر' تلك آيات الكتاب' والذي أنزل إليك من ربك الحق' ولكن أكثر الناس ال يؤمنون' هللا الذي رفع
السماوات بغير عمد' ترونها' ثم استوى على العرش' وسخر الشمس والقمر' كل يجري ألجل مسمى'
يدبر األمر' يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون' وهو الذي مد األرض وجعل فيها رواسي وأنهارا'
ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين' يغشي الليل النهار' إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون' وفي
91
األرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد'
ونفضل بعضها على بعض في األكل' إن في ذلك آليات لقوم يعقلون'}(الرعد)3..0
. . .
عودا إلى محور حديثنا فنظرية النظم كما تناولها عبد القاهر الجرجاني ،ليست إال محاولة جادة غير
مسبوقة عندنا في إكساب اللسان علميته ،ال على مستوى التركيب فحسب ،بل على مستوى المعاني
كذلك .وهي كما رأينا ليست ببعيدة في تأسيسها عن جوهر الهيكلة النظرية األولية ،وذلك باالهتداء
والبناء على مقوالت بدرجة المبادئ ،وتحديدا على مقولة أن ال تماثل وال ترادف في الكالم إذا
تغيرت المفردات ،المكافئة إلعمال مبدإ االختالف ،عالوة على األخذ واالعتبار للبعد الترتيبي في
النظم ،الذي يعني ويستلزم التناسق بإبطال ثنائية اللفظ والمعنى ،وكذلك ارتباط الفصاحة بالبالغة.
أما البعد القانوني ،فيمثله ويجسده في هذا البناء جعل وإيالء علم النحو عامل ومكون الوسيط
الوحدوي والتوحيدي ،جامعا لألبعاد الكلية للكالم.
وأما الحقل الداللي وفحوى المعاني بأ ّسيه ،أس اللفظ المنطبق بالتفسير ،وأس السياق الذي هو
المفسر ،فهذه حقل عملية التحليل لبنية الكالم ،التي موضوعها ووظيفتها وهدفها عين الداللة والمعنى.
وجدير تنبيها وذكرا أن النظر إلى مقولة عبد القاهر الجرجاني بإبطال ثنائية اللفظ والمعنى من
منظور مبدأي التناسق واالختالف ،يذهب إلى حد بعيد من العلمية والموضوعية في حل إشكال
وسؤال الوضعية أو التوقيفية في أصل اللغات ومبدئها .فالعلوم اللغوية الحديثة ،أو األلسنية ،أكدت
وتؤكد أن مبدأ التناسق سار مطلق السريان في اللغة ،ويتجاوز عالقة اللفظ بالمعنى إلى تناسبهما
وتناسقهما مع المكون الصوتي على مستوى اللفظ وبنائه ،وكذلك األسلوب أو اللغة واللهجات بصفة
عامة .فهذا إذن كفيل للحسم في خطإ من يقول باألصل الوضعي للغة؛ يقول هللا تعالى وهو سبحانه
الذي خلق وهو العليم الحكيم:
{ومن آياته خلق السماوات واألرض واختالف ألسنتكم وألوانكم' إن في ذلك آليات
للعالمين'}(الروم)20
وجوب هذا الشرط في المعجم واللسان يحتم وجود الحقيقة في الداللة اللغوية؛ فإن وجد لفظ واحد له
ذلك ،واستعمل للداللة على غيره ،فذاك عين ما يسمى بالمجاز ،والحقيقة بالوضع اللغوي األول .فهذا
دليل اإلثبات وبرهانه.
92
وإذا تحدثنا وأشرنا من قبل إلى قيمة نظر ابن تيمية في ما ظنه بحسب أفق هذا النظر وزاويته ردا
للمجاز ،وبينا موضع الخلل والخطإ فيه في االعتبار الوظيفي للمعجم كمجموعة دوال ،مما ال يصدق
في الواقع والحقيقة إال على جزء من المعجم ،وليس على عمومه وكليته ،الجزء الذي يمثل تعبيرا عن
وظيفة أو عنصر ال اعتبار له إال داخل مجموع ومركب وظيفي ،كتعبيرنا وقولنا :يد اإلنسان ويد
الحيوان ،ويد الكرم ويد البطش ،ويد الدولة ويد اآللة ،ورأس اإلنسان ورأس األمر ،ورأس الدولة،
إلى غير ذلك؛ فهذا مثل ما يسند إلى المثلث من ضلعيه ووتره ،وللدائرة من مركزها وشعاعها،
وللطائرة من محركها وقمرتها وجناحيها .لكن الذي ال يصدق عليه هذا االعتبار هو ما كان إسم ذات
كالطائرة والدائرة والمثلث واإلنسان واألسد ،باعتبارها منظورا إليها وحدة غير منفصلة .فإذا طلب
منا أن نحدد معنى لفظة بقرة أو نملة أو نحلة لن نفتقر لقرينة ولن يعوزنا قيد للتحديد.
< أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وعلم آدم األسماء كلها} قال:
علمه إسم الصحفة والقدر وكل شيء .وأخرج ابن جرير نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في تفسير اآلية قال:
37
عرض عليه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب ،فقيل هذا الجمل ،هذا الحمار ،هذا الفرس>.
ثم ليعلم أن ابن تيمية قد أهمل أمرا ثابتا وحقيقة أكبر من قوله وهي أن المجاز إنما هو التشبيه سنخا
وأصال ،ولئن نفى المجاز فقد نفى المشابهة من اللغة وفي األشياء والطبيعة أصال؛ وهذا ال جدال وال
شك أمر ال يعقل وال يصح .وإنما الحال هنا أن ابن تيمية أخطأ كما يخطئ الناس ،والعالم مهما نال
من حظوة الذكر بالرفعة والعلو العلمي ،فإنه في الحق ال يخرج عن مخلوقيته في ضآلة ومحدودية
سعته المعرفية؛ ومن نبذ هذا المعيار المعرفي والمنهاجي فإنما هو مبتور عن الحق ال ينتظم عنده علم
وال فقه له لما يعلم.
إذا كان المجاز يستمد وجوده وأصله من التشبيه ،سواء نظر اقتصارا إليه في ظاهره ليختص
ويقتصر تصنيفا وتعليما على االستعارة ،صريحها ومكنيها ،وعلى ما كان منها تمثيال ،أو اعتبر في
كل أبعاده ،إذ المجاز المرسل أو العقلي ما هو إال تشبيه للشيء وتمثيله بما له عالقة به على البعدين،
بعد التواجد أو التركيب وبعد السببية .هذا ويفهم معنى التشبيه هنا من خالل الغاية المتوخاة من
اختزال الشيء في عنصر منه أو ما له صلة به وارتباط؛ فهي إما غاية يراد بها االهتمام ،أو الدقة ،أو
المبالغة ،كما في قوله سبحانه وهو العزيز الحكيم{:ومنهم الذين يؤذون النبيء ويقولون هو أذن' قل
أذن خير لكم يؤمن باهلل ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم' والذين يؤذون رسول هللا لهم عذاب
أليم'}(التوبة)40
والكناية هي التعبير عن حدث أو ظاهرة بما يالزمها ويسايرها ارتباطا وحدوثا؛ وهي ليست خروجا
عن حقيقة وظاهر المعجم ،وإنما تعبير بها للداللة على الزم لها.
إذن فالمجاز أساسه ومحوره الغالب والمؤسس هو التشبيه .يقول د .محمد رمضان الجربي في نفس
مؤلفه المذكور:
<<فالقرآن كله معجز لجمال نظمه ومالءمة ألفاظه لمعانيه ،وحسن رصفه وسمو تأليفه ،وبراعة
تصويره ،وسحر بيانه ،فهو يخاطب العقل ويقنعه ،والعاطفة ويثيرها ،وهو باإلضافة إلى ذلك حلو
المذاق ،جميل النغم ،جديد ال يبلى ،عجيب ال تنقضي عجائبه ،مفيد ال تنقطع فوائده ،صالح لكل زمان
ومكان ،عربي ال تجوز ترجمته ونقله حرفيا إلى لغة أخرى .ويؤكد ابن قتيبة أنه إذا ترجم إلى لغة
أخرى انتفت عنه صفة اإلعجاز البالغي ،ألن اللغة العربية تمتاز عن غيرها من لغات العالم األخرى
باتساع المجاز ،والتفنن في التعبير ،اسمعه يقول:
<وللعرب المجازات في الكالم ،ومعناها طرق القول ومآخذه ،ففيها االستعارة والتمثيل ،والقلب
والتقديم والتأخير ،والحذف والتكرار ،واإلخفاء واإلظهار ،والتعريض واإلفصاح ،والكناية واإليضاح
. . .وبكل هذه المذاهب نزل القرآن ،ولذلك ال يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من
األلسنة –اللغات األخرى -كما نقل اإلنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية ،وترجمت التوراة
38
والزبور وسائر كتب هللا تعالى بالعربية ،ألن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب>
ويعلل ابن قتيبة عدم جواز ترجمة القرآن حرفيا إلى لغة أخرى باتساع العرب في المجاز وفنون
التعبير دون غيرهم ،فاللغة العربية محيط ال ساحل له كما يقولون ،مرنة ،واسعة المدى ،فيها من
األلفاظ الجميلة ،والمعاني اللطيفة واإليحاءات الخاصة ما ال يوجد في غيرها من لغات العالم
األخرى>>
البد هنا من التنبيه على عدم سداد وصحة هذا التعليل البن قتيبة ،فليس انتفاء اإلعجاز القرآني
بترجمته مرجعه امتياز العربية عن غيرها بضروب ومآخذ ليس لغيرها من اللغات في التعبير
والبالغة ،وإن هذا القول فيه من الشطط ما فيه ،ألن اللغات هذه كلها تبقى لسانا إنسانيا لها كلها هذه
الصفة ،وما يختلف فيها إال النظمات اللسانية؛ وإنما مرد ذهاب اإلعجاز القرآني بالترجمة هو أن
القرآن أنزل عربيا وأن عربيته من ذات التنزيل؛ وكل وحي أنزل بلسان معين فلسانه منه ،إذا ترجم
لغيره افتقد صفته األولى وبالتالي إعجازه.
وفي عرضه للتشبيه عند ابن قتيبة يسوق المؤلف ما جاء من قول المبرد –المتوفي سنة 182
هجرية:-
<<التشبيه جار كثيرا في كالم العرب حتى لو قال القائل :هو أكثر كالمهم ،لم يبعد>> (الكامل
للمبرد-ج-2ص )42وعن ابن طباطبا العلوي -المتوفى سنة -122قوله:
<< واعلم أن العرب أودعت أشعارها من األوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها،
وأدركه عيانها ،ومرت به تجاربها .وهم أهل وبر . . .إلى أن يقول :فضمنت أشعارها من التشبيهات
ما أدركه من ذلك عيانها وحسها ،إلى ما في طبائعها وأنفسها محمود األخالق ومذمومها . .فشبهت
الشيء بمثله تشبيها صادقا على ما ذهب إليه في معانيها التي أرادتها>>(عيار الشعر البن طباطبا
العلوي-ص)00-01
وقبل أن يسوق القولين هذين صدر كالم المؤلف بقوله:
<<التشبيه من فنون البالغة ،له مكانته الرفيعة في األساليب البالغية ،يبرز الصور الغامضة
(البالغة التطبيقية لألستاذ أحمد موسى-ص -0للسنة الثالثة-كلية اللغة العربية بالجامعة الليبية.70-
،)0272ويجعلها ملموسة محسوسة ،وال غرو فهو قطب من األقطاب التي تدور عليها المعاني في
متصرفاتها ،وأنه يتدرج في البالغة إلى أن يصل بها إلى أعلى درجة تناسب طاقته ،وتالئم طبيعته.
فهو أصل لالستعارة البتنائها على التشبيه .ولذا كان ميدان التسابق بين األدباء والشعراء منذ العصر
39
الجاهلي>>.
وإذا كان المجاز وكما جاء تعريفه عند ابن قتيبة كونه طرق القول ومآخذه ،وهذه قطب الرحى فيها
ومحورها التشبيه ،كما هو عند أرسطو مرجع علم البالغة والبيان عند الغرب إلى اليوم ،فيكون
حينها النفي للمجاز نفيا للتشبيه ،وهذا خالف الواقع والحق ،بل وناقض للمعجم وللغة في مادتها وكلية
ما داللته ومعناه من معنى التشبيه كلفظ الشبه ذاته واألدوات المتوسل بها في التعبير عنه ،بل وأسلوبه
كذلك ،ليس للسان العربي فحسب ،ولكن لعموم البيان اإلنساني ككل.
96
الفصل الثالث
نقد النحو العربي
لنعد إذا إلى محور الموضوع والحديث ،فإذا كنا قد تطرقنا إلى نظرية النظم بغاية اعتبار الطبيعة
التركيبية للكالم ،وأهمية هذا التركيب من حيث مكوناته في تحديد المضمون والمعنى ،وأشرنا معه
إلى العامل النحوي كمحدد أساس في هذا الجانب ،فإن هذا العامل بالذات هو الذي حتم علينا في
الترتيب األولي ومسار التحليل لهذا الكتاب والبناء المتسلسل ألفكاره ،حتم علينا في إطار سبر داللة
لفظ (الرب) في القرآن الكريم ،التحليل البنيوي على البعد الداللي للتركيب اإلخباري المؤكد في قوله
تعالى في سورتي األعراف ويونس:
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يغشي الليل النهار
يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره' أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب
العالمين'}(األعراف)21
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يدبر األمر' ما من
شفيع إال من بعد إذنه' ذلكم هللا ربكم' فاعبدوه' أفال تذكرون'}(يونس)1
لقد تبين لنا على وجه يقين ال يحتمل مثقال ذرة من الشك عدم توافق ،أو لنقل بتعبير آخر صريح:
اختالف وتناقض المقول النحوي المنطبق تعيينا في نسق الناسخ واسمه وخبره مع القول البالغي في
تدريجه وسلمه اإلخباري :االبتدائي والطلبي واإلنكاري؛ فرأينا أن هاهنا موضع الرجوع إلى ما كنا
قد صنفناه منذ بضع سنين 40في شأن نقد وتصحيح النحو العربي ،في مشروع كامل بدليل علمي على
درجة حجاج مصعب بن عمير ألسيد بن خضير رضي هللا عنهما قبل إسالم هذا األخير ،والذي
فحواه :اسمع غير ملزم ثم احكم! وحاولنا قدر اإلمكان الحصول على دعم ما من شأنه تيسير هذا
الجهد وتمهيده العملي؛ فقصدنا األشخاص وبعض المنابر العلمية؛ وإنما هي ذوات مستعلية
مسترضعة بلبان الطبقية واإلقطاعية وإن لبست مسوح الرهبان ،ال ترضى وال تظاهر بالتواضع
واللين إال لمن تراه في قرارة نفسها أنه دونها؛ ومنابر يوجزها قول أحدهم وهو مدير لمركز ثقافي
عربي هام؛ لقد رد علي هذا حين سمع كلمة نقد وتصحيح العربي بقوله:
كيف تقول هذا والقرآن لم يفسر إال بالنحو؟!
فلما استيأست أعرضت عن األمر كله؛ فكان أن قمت ليلة فأحرقت كل ما له من صلة بذلك موقنا
وقائال أن إذا كان شرا فقد أذهبه هللا تعالى عني ،وإن يكن فيه خير فسيكتبه هللا تعالى ويقدره فيما بعد،
فهو جل وعال عليم قدير؛ حتى كان هذا الكتاب والموضوع ،كتاب وموضوع مقولة أقسام التوحيد،
فألزمت العودة والرجوع إليه وإن بإيجاز يقارب نسبة الجزء الواحد من العشرة.
ونستهل القول أوال بسؤال المشروعية ،مشروعية إثارة موضوع نقد النحو العربي بدءا ،حتى يحق
القول ويحل لنا الكالم عن التصحيح بكامل المعنى للفظ التصحيح.
ولألمانة الوجودية والعلمية ،فإن استشعار االختالف في قواعد النحو وفي نسق اإلعراب تعيينا قد
تولد عندي منذ الصف االبتدائي للدراسة ،وتحديدا في عدم وحدة النسق اإلعرابي للوحدات التعبيرية
المتصلة سلبا وإيجابا بالضمير .هذا وإن قدر هللا تعالى لي ووفقني أن أضطلع على مجمل أو محور
ما ص نف في علم النحو العربي بموازاة مع االهتمام المتصل بفقه اللغة وتاريخها ،فإن هذه المكونات
التي نجعلها هنا بمثابة الواقع والظاهر من المبرر في مشروعية طرح قضية نقد النحو العربي ،لم
أقف على غالبها بما تمثله من حقيقة وموقف أو مواقف علمية ماثلة لها اعتبارها ،لم أقف عليها إال
من بعد كمال وتحرير النقد والتحليل ،وبلفظ ال تجاوز فيه للحقيقة وصدق القيمة العلمية ،إال من بعد
التصحيح للنسق اإلعرابية ،بدليل على درجة دليل علم الحساب المؤصل على اختالف الليل والنهار
ومقدر منازل القمر.
هذه المكونات التي تعطينا المشروعية العلمية في طرح قضية النقد للنحو العربي خاصة ،وكذلك
تمثل في نفس الوقت مرتكزات المنظار الموضوعي مادة وتوجيها ،نجملها في أربعة مكونات؛ لكل
مكون منها جزء مقسوم داخل الموقف الكلي اتجاه قضية اللغة واللسان.
المكونان أو القسمان األول والثاني كالهما غال في موقفه ،أحدهما صنيع سياسة تكوينية تبشيرية
بالمعنى القدحي ،يدعو إلى هدم صرح البيان العربي ،بيان رسالة اإلسالم ،بيان القرآن المجيد وسنة
النبي محمد صلى هللا عليه وسلم ،والبيان الحامل للفكر العربي والمجسد تحقيقا بقوة للهوية العربية؛
وما الهوية كما جاء في قوله صلى هللا عليه وسلم إال اللسان .فهذا الفريق يدعو أكثر ما يدعو إلى جعل
98
اللغة العامية محل الفصحى ،ويزعم أن مصير اللغة العربية الموت والتفرق إلى لهجات كما ماتت
الالتينية وآلت إلى لهجات ،هي هذه اللغات الغربية التي يتكلم بها األوروبيون اليوم.
والفريق أو المكون الثاني يذهب في غلوه مذهبا آخر على نقيض األول .فإن كان األول في حكمه
العام فاقدا من سنخه لذاته الفكرية؛ بينه وبين الحق كنان العمه الوجودي،؛ فال يفكر وال ينظر إال بما
شب عليه وأشربه من األدلوجة .وإنك لتجده على غير هدى من منهج الحوار العلمي ويحسب أنه ،بل
يخص ذاته دون غيره ،أنه العلماني التقدمي .وقد ال يكون مدركا للبس الداللي المؤصل عليه هذا
المفهوم للعلمانية ،حتى أنه أعظم وأخطر المفاهيم التباسا على الناس وهم ال يعلمون .الفريق والصنف
الثاني كفر عقله وحجبه ،وعطله حتى أمسى وأنه قد انتهى من وظيفته وما خلق له ،يرى ويفكر
بنمطية السمع واألبصار واألفئدة الموؤودة ،دينه محض النمطية كلها ،ويخالها بغير علم وال هدى وال
كتاب منير أنها الوسيلة والتحقق لإليمان باهلل ورسوله وتوقيره وتعزيره ،وتعظيم حرمات هللا تعالى
وشعائره تقوى للقلوب .وليدرك هؤالء وليتذكروا أن هللا تعالى ال يستحيي من الحق ،فإن للعلم حقا
وشرائط ال يغني عنها ما سواها؛ ولنذكر هنا كما ينبغي إعالما وتذكرة ،لنذكر ما قاله إمام المدينة
اإلمام مالك بن أنس رحمه هللا ومعياره الحق المبين ،الذي أثبته عنوانا لمنهج الصدق والحق في
موطئه ،أنه لقي رجاال يستسقى الغمام بهم ،وما أخذ عنهم؛ إنما هو شأن وأمر ينبغي له أناس ورجال
يعرفون ويدركون ما يخرج من أفواههم .ولو تفكر الناس قليال ونظروا إلى الحوادث في تاريخ
المسلمين بغاية أخذ العبرة واستخالص الحقائق ،لو فعلوا ذلك ألدركوا أن هذا المعيار الذي اعتمده
اإلمام مالك ضابطا فارقا في تصنيفه هو الترجمة أو القيمة المعيارية أو أهمها في حديث الخوارج،
وفيه أنكم تحقرون صالتكم عند صالتهم؛ وكذلك منه يقينا األثر الوارد في مقولهم عن علي رضي هللا
عنه :حق يراد به باطل .فإنه ال ينبغي أن يقف ما ليس به علم من األمور واإلشكاالت كما هو صريح
في قوله تعالى{:وال تقف ما ليس لك به علم'}(اإلسراء )14وكما يقول عز وجل{:وإذا جاءهم أمر
من األمن أو الخوف أذاعوا به' ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم' ولوال فضل هللا عليكم ورحمته التبعتم الشيطان إال قليال'}(النساء.)82
المستنبط الجلي هنا أن ال استلزام في دعوى التقوى وصالح الحال في الحق ومصادرة األحكام؛ وإن
كان حقا للتقوى ثمرات والنفع الكثير ،وهي عماد األمر كله ،فإنه ينبغي أن يعلم ويتذكر فال يهمل أن
للحق سننا ال تتخلف أبدا وعالمات يهتدى بها؛ من ضل عنها ضل الصواب ووقع في الخطإ؛ ثم إن
الواو في قوله تعالى من الغاية في سورة البقرة{:واتقوا هللا' ويعلمكم هللا'}(البقرة )280ووفاقا من
غير اختالف مع الحق في السياق هي واو استئنافية ،ومنه يحكم بجهالة وضالل من يقفو ويردد
االستشهاد به في تقرير االستلزام المشار إليه والقول الخاطئ.
99
هذا الصنف بدعوى الحرص على اللغة العربية وإجاللها ،فالعربية مكون جوهري من التنزيل
والقرآن العظيم ،هذا أمر ال اختالف عليه ،بدعوى حرصه هذا وبعدم إدراكه لتمايز جوهرها عن
منال النظر الدراسي والعلمي من حقيقتها ،مما يتصل بها من علوم واجتهادات ،موضوعها اللغة
ومقصدها التقعيد والتصنيف التعليمي ذو األهداف العلمية والعملية المحضة؛ لهذين السببين أصبح
النظر النقدي للعلوم ،أو باألصح التصنيفات العلمية المرتبطة باللغة العربية وعلم النحو منها خاصة،
أصبح ذلك على داللة النقد لجوهر اللغة مما ال يستطاع علميا وفلسفيا لو كانوا يعلمون .يقول األستاذ
أنور الجندي ضمن مقاله بمجلة الدوحه القطرية :41اللغة العربية متى تواجه التحديات؟ :
<< إصالح اللغة
ثالثا :هناك بدعة (إصالح اللغة) وقد ظن البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة األداء .فالمصطلح خادع
وماكر وسيئ النية أيضا.
وقد كشف هذه المؤامرة الدكتور علي العناني حين قال :إن اإلصالح في األلفاظ والتراكيب
واألساليب ال يكون إال بتغيير قواعد أبنية اللغة وهي (الصرف) وتحوير ضوابط إعرابها واألحوال
العارضة على األلفاظ باختالف الوضع في الجملة وهو (النحو) وتبديل الموضع اللفظي في المفرد
والمركب من حيث الحقيقة والمجاز واالستعارة والكناية وهو (البيان) وبتغيير وإهمال ضوابط
الفصاحة والبالغة وهي (المعاني) ومعنى إصالح قواعد الصرف انتقاال من الصعب إلى السهل إنما
يعني أن نهدم علم الصرف من أساسه وننسخه نسخا تاما لتعدد قواعده وتنوع ضوابطه .وبعد أن يتم
الهدم يبني المصلحون على أنقاضه صرفا جديدا محدود القواعد قليل التنويع ،خفيفا على العقل
والفكر ،سهال على الذهن والفهم .وكذلك األمر في إصالح قواعد النحو وإصالح علوم البالغة.
وبهذا يكون معنى (اإلصالح) في اللغة نسخ العقلية العربية وما فيها من ثقافة نظرية وعملية ،ذلك أن
اإلصالح هو التغيير ،والتغيير يعني اإلزالة والوضع .يقول الدكتور العناني :إن تغيير قواعد اللغة
العربية صرفا ونحوا بالوضع فقط أو بالوضع واإلزالة معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة .وهذه
اللغة الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة باألم فإنها تبتعد عنها شيئا فشيئا
حتى تختفي معالم الصالت بينهما أو تكاد ،وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة.
41مجلة الدوحه القطرية -السنة الخامسة -العدد -21جمادى الثانية 0311ه مايو 0281م
100
هذا الذي صوره الدكتور علي العناني هو خلفية الصورة البراقة التي نراها اليوم يحملها مجموعة من
أعداء اإلسالم واللغة العربية ويدافعون عنها وينقلونها من أسلوب إلى أسلوب ،وكلما انكشف لهم
جانب أعادوا تشكيلها في صورة أخرى وهم اآلن على أبواب التعليم .وهي خطوة خطيرة إذا سمح بها
وأعين عليها ،على النحو الذي كشفت عنه مؤامرة مشروع العربية األساسية الذي وصفه الدكتور
عبد الحليم محمود بأن هدفه واضح في هدم معالم اللغة العربية ،وتبعا لذلك البعد بها وبأهلها عن
القرآ ن الكريم ثم ما ينتج عن ذلك من مساس باإلسالم وأصوله كما هي مصونة في كتاب هللا وسنة
رسوله الكريم ،ذلك إلى إيجاد الهوة الواسعة بين ما تؤول إليه اللغة (ال قدر هللا) وما احتوته من تراث
في صورتها السليمة يمتد نحو أربعة عشر قرنا من نحو أربعة عشر إقليما .ومن ذلك نتبين أن
المشروع يرمي إلى قطع الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الفقهي الذي يعتمد فيما يعتمد
على داللة المفهوم والمنطوق وأساليب القصر والتقديم والتأخير وما إلى ذلك مما ال يتحقق في لغة
أساسها العامية ،بل إنه يقطع صلة المسلم بالتراث العلمي اإلسالمي بصفة شاملة.
العلوم القاصرة
(رابعا) اللغة العربية الفصحى لغة القرآن هي لغة ألف مليون هم المسلمون وليس مائة مليون هم
العرب وحدهم .لذلك فإن من الخطإ تطبيق علم اللغات الحديث عليها ،ذلك ألنه علم قامت نظرياته
ومستخلصاته على أساس دراسة واسعة للغات األورويبة .هذه اللغات لها تاريخ وتحديات وطرق .أما
تاريخها فإنها مشتقة من اللغة الالتينية ولغات أخرى ،وقد كانت في أول األمر لهجات عامية ثم
استقلت بنفسها تحت تأثير عوامل كثيرة .أما التحديات فإن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات القومية
األوروبية جعل الموقف جد مختلف بينها وبين العربية .أما الطريق فهو أن اللغة العربية ارتبطت
بكتاب منزل أعطاها وحماها وجعلها ليست لغة العرب وحدهم وإنما لغة الثقافة اإلسالمية عامة منذ
ارتبطت بالقرآن الكريم وثقافة المسلمين جميعا الذين يبلغ عددهم في مطلع القرن الخامس عشر ألف
مليون>>.
هذا المقال في عمقه وروحه يمثل المكون الثاني مبرزا المكون األول ذي النزعات الهدامة ،الشعوبية
والتمصيرية على مختلف مشاربها االستشراقية التبشيرية والكولونيالية ،النقيض الحضاري لألمة
العربية اإلسالمية ممثل بطابور خامس على شاكلة العمالء السياسيين واالقتصاديين ،وطائفة
مستجهلة فاقدة وقاصرة عن االستبصار العلمي بذاتها وهويتها وإن تسمت مكرا ولبسا مرادا
بالعلمانية .ولعل هذا الموقف للمكون الثاني قد يجد له مبررا كردة فعل وجودية لتطرف ،بل لعدوان
سافر ،كاشف عن وجهه ،مفصح عن حربه للوجود الحضاري العربي اإلسالمي ،الذي تمثل فيه اللغة
العربية محوره وقوامه؛ فإن ذهب لسان قوم ذهبوا ،وما العربية هوية وحضارة ووجودا إال اللسان!
101
هذا من جهة التفسير للمواقف؛ لكن هللا سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيء قدرا؛ والتبريرات السلوكية
ال يبنى عليها في العلم كبناء إال بما لها من قيمة المصداقية والحق .ولذلك كان لعدة حقائق ومفاهيم
وزنها واعتبارها في مطلق علم السلوك من مستوى الفرد إلى الجماعة سياسة وتوجيها .ولعل أبرزها
مفهوم االستفزاز ،كآلية معتمدة ،أهم غاياتها التحكم بنسب معينة في سلوك اآلخر ،وتوجيهه
اضطرارا لدافع نفسي في الغالب لوضع غير سليم ليس بصحيح؛ يقول سبحانه وتعالى{:واستفزز من
استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في األموال واألوالد وعدهم' وما
يعدهم الشيطان إال غرورا' إن عبادي ليس لك عليهم سلطان' وكفى بربك وكيال'}(اإلسراء)42-43
فمقولة أن كل تطرف يتولد عنه تطرف مقابل ليس ينبغي حملها إال على الغالب وعلى البعد االنفعالي
المباشر ،الذي يكون هو المستهدف أصال حين تكون الحالة حالة استفزازية .وهو بعد سلوكي
ميكانيكي ال يمثل اإلطار العلمي الصحيح للموقف ،حيث أوال أن التطرف المولَّد إنما هو بالنسبة
للتطرف األول ،وهو نتيجة حتمية لبناء الحكم ومن ثمة السلوك ،بقصر النظر على الطرف المناوئ
ال على الموضوع مادة وإطار النظر والتنازع .وهذا بالضبط ما نسميه عادة بالحكم والتصرف
االنفعالي والعاطفي المغيب لالعتبار الموضوعي والعلمي للقضية ،أي التصرف والحكم المعقلن،
وإنما القوة في السداد والسداد يكون بالعقل والسلوك الحق .يقول الدكتور عمر موسى باشا0221( 42
رئيس قسم اللغة العربية وآدابها -جامعة دمشق -كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية) تحت عنوان جزئي
(الحداثة واإلصالح) في مقاله (إشكاليات اللغة العربية بين األصالة واإلعجاز والحداثة):
<< إن دعاة الشعوبية المستحدثة يختلفون بين معتدل ومتطرف ،بعضهم في موضع المسؤولية
الفكرية ،منهم أحمد لطفي السيد ،وسعيد عقل ،واألب مارون غصن ،ويوسف الخال ،وشعراء الزجل
بشكل عام ،وعلى رأسهم ميشال طراد ،ومؤيدو األدب الشعبي وعلى رأسهم الدكتور عبد الحميد
يونس ،وعبد الرحمان بشناق.
وكما وضحنا فإن تيار العامية الذي توضحت بواكيره في مطلع هذا القرن قد عارضه تيار عربي أشد
منه وأقوى ،وذلك بظهور األعالم الكبار من المصلحين الذين كانوا ينادون باإلصالح السياسي
واالجتماعي والديني ،واقترن الفكر القومي باللغة العربية الفصحى ،من هؤالء المصلحين الذين
جعلوا العربية الدعامة األساسية لبناء المجتمع العربي واإلسالمي ،محمد بن عبد الوهاب ،وجمال
الدين األفغاني ،والسيد أمير علي ،وخير الدين باشا التونسي ،وعلي باشا المبارك ،وعبد الرحمان
42الفكر العربي -نيسان -حزيران/أبريل -يونيو -0221العدد الستون -السنة الحادية عشرة 2
102
الكواكبي ،والشيخ محمد عبده ،وتكلل جهد هؤالء المصلحين في هذا العصر بظهور كثير من العلماء
واللغويين واألدباء الذين تصدوا للشعوبية الجديدة في الطعن على اللغة العربية ونعتها بالجمود،
والمناداة لتقبل العامية كظاهرة موجودة في الحياة االجتماعية ،والمناداة بتقبل العامية ومؤاخاتها
لتكون على قدم المساواة مع العربية الفصحى.
تمثل لنا ذلك كله في مصر والشام معا في وقت واحد ومنطلق واحد ،وتكمن وراءه عوامل خارجية
لتمزيق األمة العربية في هذه المرحلة الخطيرة من تطوراتها السياسية واالجتماعية والحضارية>>.
حاولنا أن نبرز خاصة من خالل ما تقدم المكونين األول والثاني؛ وكما أشار إليه األستاذ أنور الجندي
أو يوحي إليه عنوان مقاله ،فإن للغة العربية كشرط وجودي تحديات تاريخية موضوعية ،تفرضها
المسايرة وربانية الفكر والعقل الذي ليس له من وجود وتحقق إال من خالل اللغة ،أو لنقل إن اللغة
هي أخطر األبعاد والشروط لهذا الوجود وهذه المسايرة .هاهنا يبرز قصور االنكفاء في المواجهة
على النأي باللغة العربية بدعوى الحرص عليها عن آليات النظر العلمي المستجدة تبعا لسنة هللا تعالى
في التطور والتغير في المستخلف فيه ،المعبر عنه في نص القرآن العظيم على أنحاء مختلفة ،فمن
حيث المادة المعجمية المؤصلة لمشروعية اللفظ قوله تعالى{:ما لكم ال ترجون هلل وقارا وقد خلقكم
أطوارا'}(نوح )03-01ومن جهة الفضاء التواجدي قوله تعالى وهو الخالق العليم{:والسماء بنيناها
بأييد' وإنا لموسعون' واألرض فرشناها' فنعم الماهدون'}(الذاريات .)38-37بخصوص هذا الشأن
ذي األثر الخطير في مسار األمة يقول مالك لن نبي رحمه هللا ... < :فقد نتج عن ذلك أن صارت
العربية مؤلهة ال تقبل التطور ،وأحال تقديس أهلها لها تصريفها إلى شيء ال يمسه التطويع ،مقتصر
على خمس عشرة صيغة ،حتى ليعد من الكفر خلق صيغ جديدة بإضافة زوائد مناسبة ،على الرغم
43
من أن ذلك ممكن جدا في روح اللغة نفسه>.
وفي إطار االستخالف والتحذير من االنكفاء داخل نمط منحفظ محجور ال يبغي عن نمطيته خروجا
وال تبديال ،ولو كان ذلك بزعم اإليمان وزعم االتباع لألنبياء والرسل عليهم السالم ،وما هو باتباع
حق؛ يقول هللا تعالى{:ما كان لبشر أن يؤتيه هللا الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا
لي من دون هللا' ولكن كونوا ربانيين بما كمنم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون' وال يأمركم أن
تتخذوا المالئكة والنبيئين أربابا' أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون'}(آل عمران)72-78
43مككتبة خالدية - PDFمالك بن نبي :مشكالت الحضارة -وجهة العالم اإلسالمي -ترجمة بد الصبور شاهين -دار الفكر -ص22
103
قلنا إن للغة العربية تحديات ،منها وجوب المسايرة للعلم اإلنساني في مساره التطوري؛ فالمعرفة
اإلنسانية هي أبدا في تطور واتساع على مستوى األبعاد الدراسية لمختلف مواضيع الحقل اإلنساني
واهتماماته العلمية والدراسية .ونعني هنا بتحديات اللغة تحديات قومها وتحديات األمة التي تتواجد
بها .وال يحمل ذلك على ذات اللغة وجوهرها ،وعلى العربية خاصة ولها ما تختص به من الخاصات
ما يتجاوز حدود التعريف والمحددات لعموم اللغات واأللسن ،فشأنها من شأن الوحي الكريم الذي هو
محور التاريخ البشري .وحفظها مكفول كفل حفظ الكتاب والقرآن المجيد آخر رساالت هللا تعالى
وحجته سبحانه على العالمين .وهذا ما يعبر عنه المستشرق األلماني يوهان فك بقوله:
<<وإن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسيا لهذه الحقيقة الثابتة ،وهي أنها
قد قامت في جميع البلدان العربية ،وما عداها من األقاليم الدارجة في المحيط اإلسالمي ،رمزا لغويا
44
لوحدة عالم اإلسالم في الثقافة والمدنية>>
هكذا ال يمكن للغة العربية إذا ما أريد حقا الحفاظ أو باألصح االرتكاز على قوتها المستمدة من
وظيفتها التاريخية ،وما كان لغير هللا تعالى الخيرة في ذلك ،وال يمكن النهل من معينها وإمكانها الذي
ال ينضب ،إال بما يالئم حقلها الخطابي ،وعلى قدر وسعة طورها اآللياتي والعلمي ،الذي يعرف اليوم
توسعا على مختلف أبعاد الموضوع اللغوي الممثل في الدراسات اللغوية الحديثة أو ما يصطلح عليه
باأللسنيات أو علم األلسنية .لكن هاهنا أيضا يطرح إشكال اللغة والحداثة ،ليس من جهة ذات اللغة،
ولكن في القائمين على شأنها أو لنقل المتصدين لهذا الشأن ،وهذا ما تضمنه النص أو المقال األول
لألستاذ أنور الجندي تحت عنوان (العلوم القاصرة) ،العنوان الذي ال يعبر عن الحقيقة إال باعتبار
سياق النص ككل ومقام القول وإطاره ،وإال فإن لكل علم حيزا هو فيه علم حقيقة ال يمكن وصفها
بالقصور؛ وإنما باإلثبات لهذه الحقيقة العلمية أو نفيها .وال يوصف بالقصور إال العلم المضاف بمعنى
المعرفة المضافة؛ وذلك تحديدا ما يمثل المكون الثالث من الموقف العام للعقل العربي اإلسالمي اتجاه
القضية اللغوية وإشكال المسايرة أو ما شاع التعبير أكثر عنه بالحداثة.
فهذه الحيزات والمناحي العلمية التي لها كامل الصفة والحقيقة العلمية في غالبها ،سواء إن نظر إليها
في مواضيعها وحيزاتها المختصة بها ،أو في النظريات المعتمدة فيها والتي هي الهيكلة الحقيقية لها،
إنما هي اقتطاعية وجهاتية بالمعنى الصناعي الهندسي .بل إن مستوياتها المستجدة بالنسبة للنظر
المعرفي للعلم اإلنساني مرجعه البعد التكنولوجي خاصة ،إال قليال من التعميل لبعض من النظريات
واألنساق العلمية من طرف علماء رياضيين أو مهندسين أنعم هللا عليهم باالهتمام بهذا الشأن العظيم
في حياة اإلنسانية اجتماعا وثقافة وحضارة الذي هو اللغة .وبمعنى آخر فإن األلسنية الحديثة ال يمكن
لها حقيقة أن تمس من الموضوع اللغوي إال األبعاد والمستويات الخارجية .ومنه يستنبط مدى الجهل
بواقع وإطار الدرس اللغوي لدى الجم الكثير ممن وجدوا أنفسهم بعد تكوين جامعي لبضع سنوات،
وجدوا أنفسهم من األلسنيين .ومنهم الذين يزعمون ويمنون أنهم أول من أدخل هذا الدرس الحديث في
جامعة هذا البلد أو الجامعة العربية ككل ،وكتاباتهم أو نقولهم تدل بداللة يسيرة غير عسيرة أنهم لم
يتمثلوا ما يزعمون ويظنون أنهم على شيء منه؛ هؤالء هم الذين ال يحسون بغضاضة ،وال يكادون
يفقهون أن لقولهم أثرا حين يسجون الرصيد اللغوي والنحوي العربي لكل التاريخ العربي اإلسالمي،
فيصفونه بالنحو التقليدي وينعتون المهتمين به بالتقليدانيين.
إن هذا الشأن لشأن عظيم ،والعلوم الحديثة واأللسنية منها أكيدا ،هي من شروط الدرس اللغوي ،بيد
أن التصدي لهذا الشأن ينبغي له كذلك الكفاءة العلمية العليا؛ فالربانية كما هو مسطر في القرآن العظيم
جامعة بين شرطي األصول والدراسة ،األصول :التكوين العلمي المؤهل لصاحبه تجاوز الشعور
بالدونية العلمية في شتى أو أهم الحقول العلمية ذات التأثير المباشر في البناء المعرفي للذات العلمية،
كما هي وصية شينطارو إيشيهارا لبني قومه في كتابه الذي أحدث ضجة كبرى وأربك امريكا
والغرب جميعا< :إذا ما استمررنا بهذا الشعور بالدونية ،فإن اليابان ال يمكن لها أن تكون نواة هذا
الطور الجديد (يعني الطور التكويني التاريخي ) .فلكي نتحمل هذه المسؤولية الكبرى الملقاة على
عاتقنا حقيق علينا أن نغير هذه النظرة وهذه الصورة اتجاه أنفسنا 45>.وكما سطر عليه ريتشارد
داوكينز من هذه الخاصة لإلنسان ن غيره من المخلوقات في قدرته من خالل السلوك الثقافي وبالتالي
من خالل اإلرادة التواجدية ،قدرته على التأثير في الجينوم وتغييره و<كون قواعد سلوكنا محددة
46
وموجهة من خالل الثقافي أكثر مما هو من الجيني>
والدراسة :شرطها األهم الحكمة التي ال تؤثر مع وجودها إال بالشرط األول .وهذا المكون الثالث هو
الذي يبرز أن القضية ليست في اللغة العربية ،ولكن في أهلها وفي شروطهم التواجدية والتاريخية،
التي من خاللها ومدى قوتها وعلميتها ينظرون إليها ويكون وجه نصحهم لها.
فالمواكبة العلمية بكل شروطها و< عدم التهاون في البنية التركيبية أي تكن الذرائع (التجديد،
التحديث ،مواكبة العصر إلخ )..وبيان أن أساليب التعبير تتطور شأنها في ذلك شأن غيرها من
الظواهر اللغوية – داخل بنية اللغة نفسها ،ال بالخروج عنها وتدميرها ،47>.هذه المواكبة والمسايرة
كحكم وموقف هي المكون الرابع في هذا اإلشكال الهام ،إشكال وقضية اللغة العربية وسؤال تحدياتها.
كذلك مما يلزم التوقف عنده وتصحيحه من الرأي الذي ال يقوم على الحقيقة العلمية ،القول باالرتباط
البنيوي بين األساليب واللغة في قوانينها؛ هذا ليس من الحق في شيء ألن هذه القوانين النحوية
واالشتقاقية والصرفية ال ينبغي لها التبدل لتكون ولتبقى لها الحقيقة العلمية للغة .وبمعنى آخر،
فالقوانين البنيوية للغة ،أية لغة كانت ،هي قوانين وجودية وجوهرية ،قائمة بقانون الحقيقة الوجودية
مما يمثله قوله تعالى{:ما خلق هللا السماوات واألرض وما بينهما إال بالحق وأجل مسمى'}(الروم)7
مما يعني أن بنيتها التركيبية والصوتية (الفونولوجية) على الفضاء الهندسي الذي يمثله اإلعراب
والصرف واالشتقاق ،هي مثلها مثل أبنية المادة وجزيئياتها وذراتها وحقولها وأطيافها ،سنة هللا تعالى
في خلقه ولن تجد لسنة تحويال؛ فهذا الحق ولكن أكثر الناس ال يعلمون .وإنما الخوف كل الخوف أن
ينشأ في غفلة من سياسة القوم وعلى ضعف في التواجد العولمي االستعماري الكاسح ،أن ينشأ نشء
منبت الصلة عن لسان قومه ،فيصبح انتماؤه حتى إال رسما وادعاء كاذبا ووثيقة كاذبة ليست لها
حقيقة ،وال تسألن حينها عن فساد اللغة في هاتيك الذوات السليبة عن هويتها وذهاب اللسنة وفشو
اللحن.
هذه المكونات التي يمثل كل منها موقفا محددا له مرجعه الذي يعلله وقناعاته ،قناعات ليست في بعد
االنتماء والفكر فقط ،وإنما هي هنا ولطبيعة الموضوع األكثر صبغة علمية ذات تعليل معاييري
وحقائقي ،أي ترجع بحد كبير إلى األفق المعرفي والعلمي الذي يختلف من مكون إلى آخر .هذا
المشهد وهذه المكونات جميعها قد نجد لها إشارة وتمثيال في فصل من فصول القول والحديث لطه
حسين وهو يدلي بموقفه حين بلغ السجال بين أكبر فرقاء المشهد الفكري واألدبي في مصر حول
قضية البيان واللغة أشده؛ يقول طه حسين وهو يعرض لهذا اإلشكال في كليته:
<<فاللغة الالتينية لم تمت فجأة ،واللغات الحديثة لم تقم مقامها فجأة ،واللغة الالتينية لم تمت ألن
الشبان من أبنائها قضوا عليها الموت في يوم من األيام ،وقرروا أن تقوم اللهجات العامية مقامها،
وإنما ماتت اللغة الالتينية في بطء بطيء جدا بعد خطوب طوال ليس هنا موضع الحديث عنها .وقد
تعرضت اللغة العربية الفصحى لخطوب طوال ثقال أيضا حفظتها كتب التاريخ ولكنها انتصرت إلى
اآلن على هذه الخطوب فلم تمت ولم يدركها فتور أو قصور ،وإنما قاومت وغالبت وأتيح لها الغلب
واالنتصار ،فظلت حية قوية متطورة وظلت اللهجات العامية ضعيفة ضئيلة ال تصلح لألداء األدبي
قليال أو كثيرا .وآية ذلك أننا ال نعرف أثرا أدبيا رائعا خالدا ،كتب في لهجة من هذه اللهجات إلى اآلن.
وليس يكفي أن نقرر أن لغة من اللغات قد ماتت لتموت ،وليس يكفي أن نقضي الموت على لغة من
اللغات ليصبح قضاؤنا ضربة الزمة ولتموت هذه اللغة ألننا أردنا لها الموت.
كل هذا عبث من العبث ،واضطراب فيما ال ينفع وال يفيد وال يغني عن الناس شيئا ،واستجابة للكسل
الذي يثبط الهمم ويفل الحديد ويميت القلوب .وخير من هذا كله أن نستقبل أمور اللغة العربية
الفصحى ومشكالتها كما نستقبل غيرها من األمور والمشكالت ،فنلتمس لها ما يالئمها من الحلول وال
نستيئس من الظفر بهذه الحلول.
وللغة العربية الفصحى مشكالت خطيرة ليس في ذلك شك .وقد تنبهنا لهذه المشكالت منذ أواخر
القرن الماضي ،ولكنا لم نجد الشجاعة إلى اآلن لحلها في غير تردد وال تلكؤ ،وإنما صانع منا
المصانعون ،وداور منا المداورون ،وتركنا األمور تمضي كما تستطيع فعرضنا لغتنا وأدبنا لشر
عظيم.
ولست أذكر اآلن من هذه المشكالت إال اثنتين ،كلتاهما خطيرة أشد الخطورة .فأما أوالهما فهي
الكتابة العربية التي طالب الناس بإصالحها منذ أواخر القرن الماضي فيما أذكر دون أن يظفروا
بشيء .والثانية هي علم النحو الذي حاول الناس إصالحه منذ أوائل القرن فلم يظفروا بشيء أيضا.
واألصل الذي يجب أن ينتبه إليه الناس هو أن الكتابة فيما مضى كما كان النحو مقصورة على قلة
قليلة من الناس فأصبحت بحكم النظم الحديثة مفروضة على الشعوب كلها .كانت أرستقراطية
فأصبحت ديموقراطية إن صح هذا التعبير .وإذا كانت األرستقراطية تستتبع الصعوبة والعسر
والضيق ألنها تصور االستئثار واالحتكار وإقامة الحواجز والمصاعب دون ما يستأثر به السادة
الممتازون ،فإن الديموقراطية تستتبع السهولة واليسر واإلسماح وإزالة المصاعب وتذليل العقاب.
وإذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع .ونحن نريد أن يكون الشعب كله كاتبا قارئا فلنيسر له الكتابة
والقراءة حتى يبلغ حاجته في سعة ودعة ،وفي يسر ولين.
107
ونحن نكتب اآلن كما كنا نكتب منذ أكثر من ألف سنة حين كانت الكتابة امتيازا تستأثر به قلة من
الناس.فإذا ألغيت هذا االمتياز فألغ ما كان يقتضيه من ضروب المصاعب والعقاب ،ويسر الكتابة
والقراءة ليستطيع الناس جميعا أن يكتبوا ويقرأوا دون أن يضيعوا من الجهد والوقت ما ال يملكون.
ومن الحمق األحمق والجهالة الجاهلة حقا أن تطلب إلى عامة الشعب أن تحسن الفهم لتحسن الكتابة
والقراءة .فاألصل أن يكتب الناس ويقرأوا أوال وأن يفهموا بعد ذلك ،وقل مثل هذا بالقياس إلى
النحو ،فنحن نعلم صبيتنا وشبابنا أصول اللغة العربية وخصائصها كما كانت تعلم منذ اثني عشر قرنا
في البصرة والكوفة وبغداد ،وقد تغيرت الحياة وتغيرت العقول وأصبح النحو القديم تاريخا يدرسه
األخصائيون ولم يبق بد من نحو ميسر ،قريب لتفهمه هذه الماليين الكثيرة من التالميذ.
والصبية والشباب يتعلمون اللغات األوروبية ،فال يجدون مشقة وال عسرا في فهم النحو لهذه اللغات،
ألن نحوها قد تطور حتى الءم الحياة الجديدة والعقل الجديد.
وأغرب من هذا أن اللغة الالتينية الميتة تدرس للصبية والشباب في أوروبا ،وال يجد الصبية والشباب
مشقة وال عسرا في فهم النحو الالتيني ألنه قد يسر حتى الءم الحياة الجديدة والعقل الجديد .وقد مثل
ذلك بالقياس إلى اللغة اليونانية القديمة .فاعجب للغات ميتة يدرس نحوها اآلن في يسر أي يسر،
وللغة حية هي لغتنا العربية يدرس نحوها في عسر عسير ،وال ينتهي بتالميذه إال إلى جهله وبغضه
وبغض اللغة العربية كلها من أجله.
وأنا مطمئن كل االطمئنان إلى أن إصالح الكتابة العربية وتيسير النحو العربي كفيالن بإراحة الجيل
الناشئ من شبابنا من هذا العناء الثقيل الذي ينوء بالكتاب المعاصرين من شبابنا األدباء الذين تعلموا
اللغة العربية في أساليب ال تالئم عقولهم وأمزجتهم فلم يحسنوها ولم يطمئنوا إليها ،واضطرهم ذلك
آخر األمر إلى ما يشقون به ويشقى به معهم قراؤهم من هذا اإلنتاج األدبي الذي يجمع بين الجمال
والقبح والجودة والرداءة في وقت واحد ،ومن هذه الشكوى التي ال تنقضي من صعوبة اللغة الفصحى
واستعصائها ،ومن هذه المطالبة الممضة بااللتجاء إلى اللهجات العامية وإقامتها مقام اللغة العربية
الفصحى التي تشقى بأساتذتها ومعلميها.
وأحب آخر األمر أن ألفت أدباءنا الذين يطالبون بااللتجاء إلى اللهجات العامية إلى شيء خطير ما
أرى أنهم قد فكروا فيه فأحسنوا التفكير وهو أن العالم العربي اآلن وكثيرا من أهل العالم الشرقي كله
يفهم اللغة العربية الفصحى ويتخذها وسيلة للتعبير عن ذات نفسه وللتواصل الصحيح القوي بين
أقطاره المتباعدة.
108
فلنحذر أن نشجع الكتابة باللهجات العامية فيمضي كل قطر في لهجته وتمعن هذه اللهجات في التباعد
والتدابر ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم إلى لهجته كتب السوريين واللبنانيين
والعراقيين ،ويحتاج أهل سوريا ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون من ترجمة الكتب
المصرية إلى لهجاتهم كما يترجم الفرنسيون عن اإليطاليين واإلسبانيين ،وكما يترجم هؤالء عن
الفرنسيين.
ولنسأل أنفسنا آخر األمر أيهما خير أن تكون للعالم العربي كله لغة واحدة هي اللغة الفصحى يفهمها
أهل مراكش كما يفهمها أهل العراق؟ أم تكون لهذا العالم لغات بعدد األقطار التي يأتلف منها ،وأن
يترجم بعضه عن بعض كما يترجم بعض األوروبيون عن بعض؟ أما أنا فأوثر وحدة اللغة وأثق الثقة
كلها بأن لها النصر آخر األمر ،وأرى غير متردد أن وحدة اللغة هذه حقيقة بأن يجاهد في سبيلها
48
المؤمنون بها وبأن يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون>>.
إن لفظ اإلصالح للنحو العربي الذي يعنيه طه حسين هنا كما غيره ،ليس يحمل إال على ما يتوافق
والحق والعلمية .فالقوانين البنيوية للغة العربية ال تتبدل ،فطرة الخلق واللسان ،ألم تتل قوله
تعالى{:ومن آياته خلق السماوات واألرض واختالف ألسنتكم وألوانكم' إن في ذلك آليات
للعالمين'}(الروم .)20إن لفظ اإلصالح هنا بحسب مقام اإلشكال كله ،وبحسب الذوات الخطابية
والمفكر فيه لديها ،ليس يراد به إال الصيغة التقعيدية ،التي هي بالبداهة مرتبطة بالمناهجية أو علم
المناهج؛ وهذا أمر مستطاع بل حتمي الزب حتى تتحقق للعرب وألمة العربية مسايرتهم البيانية
واللسانية؛ وكذلك هو من متطلبات المنهاجية التعليمية ،ذات األهداف المخصوصة للحقول العلمية
والمستويات اإلدراكية والتعليمية .والذي يدلك على هذا أن طه حسين نفسه هو الذي يشدد في الشرط
اللغوي على مستوى الكتابة األدبية فيقول:
<< ورحم هللا أياما كان الشرط األول فيها ألي محاولة أدبية هو إتقان العلم باللغة ال االكتفاء بظاهر
منها . .وقد قلت ذلك ألف مرة ومرة حتى سئمت العودة إليه .ولكن ماذا نصنع والمتأدبون من شبابنا
يؤمنون بأنفسهم أكثر مما ينبغي لهم ،ويؤثرون السهل على الصعب ويكرهون أشد الكره أن يتكلفوا
49
مشقة أو عناء في الدرس والتعمق >>..
48طه حسين –خصام ونقد ص– 023..082دار العلم للماليين –بيروت -لبنان – الطبعة الحادية عشرة – مارس0282
لعلك اآلن قد وقفت على حقيقة هذا المشهد بكل أطيافه وفرقائه؛ فمنهم مسلوب فاقد لهويته ال يكاد
يدرك لها وجودا وال عدما ،أو جهول بشروطها التي ال تكون وال يحق لها وجود إال حين تتحقق به
ويحققها ،ومنهم من ال يرى الحصن الحصين إال في بعد التواجد االنفعالي الذي ال يرى سوى الطرف
المناوئ ويذهل عن الموضوع الذي هو اللغة العربية ،ويهمل ويخل بوجه النصح الدراسي والعلمي
بها .وطائفة أخرى ،ومن خالل موقفها يستدل على تخلف الشرط الموضوعي عندها ألن تتصدى
ألمر عظيم ال يغني فيه حمولة صدى لتوسعات لغوية حديثة ،حمولة صدى مفتقدة أوال للشرط
األصولي في اللغة العربية ،الذي يا للمفارقة ال تلفيه في كتاباتهم المفتقدة لوهج فصاحة العربية إال
مقترنا بمعاني القديم المتجاوز ،وهي في ذلك كله وفي الغالب دون العقل العلمي القادر على القراءة
االستيعابية لهذه التوسعات والدراسات اللغوية الحديثة ،إنما تعرضت لدرس أو نصوص دروس
تنتهي برسائل جامعية جلها ليس لصاحبها منها شيء مادة وتأطيرا.
. . .
إن معايير العلمية الكفيلة لسالمة الطرح في أي حقل من الحقول والمواضيع المعرفية معلومة
واضحة ،فليس علينا إال أن نحيل ما طفق القول بشأنه إلى التفصيل .والذي ينبغي اإلعالم به أننا
بصدد ليس فحسب اإلصالح بمعنى التبسيط للقاعدة النحوية للدرس اللغوي العربي ،بل اإلصالح
بمعنى التصحيح والتقويم.
ليس من الصعب حصول القناعة واليقين إال أن يكون اعتصاما بالتقليد تقديسا لقول البشر ،نحلة
أشربتها روح المقلد حتى أضحى يرى الخروج عنها أمرا عجبا ،ليس من الصعب وليس بين منافذ
العلم والحقائق الجديدة إال عدم تكبيل العقل وإصر البصائر ،كما هو حال من يقدس قول البشر ممن
ليسوا برسل وال أنبياء.
إن مجرد العلم بأن البناء العلمي الحق إنما ينبني على أساس وهيكلة محددة تحديدا هي الهيكلة
النظرية ،واإليمان اليقين والعلمي بأن ال عصمة إال للوحي الكريم كتابا وسنة ،وأن ما دونه محتمل
للخطإ كما الصواب .من خالل هذا الشرط والنظر به إلى كثير من مقوالت النحو العربي ،والتي هي
مادة العلم والتعليم إلى يومنا هذا ،بل وهي منظار التفكير العربي والمشكلة لصيغه ونسيجه ،من هذا
يظهر ويتبين بكامل الوضوح وفي صورة ال يبقى بعدها شك ،أنها مقوالت تستحث وضعها موضع
التمحيص والنظر ،مستوجبة لتحيين حقيق على مستوى المجال الحقائقي.
110
هكذا وبعدم اعتبارنا لمجموع المعارف والقواعد النحوية ،بالمعنى الواسع للفظ النحو علما ،ألن العلم
حقيقة هو بناء معرفي منفتح يتأسس على الهيكلة النظرية؛ لنحاول انطالقا من هذه المقدمة ،مستعينين
بحول هللا وعونه سبحانه وتعالى في عرض أهم المقوالت الممثلة في اعتبار العقل والفكر العربيين
لمسمى علم النحو العربي .ولنبدأ بأبرز هذه المقوالت مناط وعصب كل مجموع النحو العربي ،مقولة
البناء واإلعراب.
ما نعلمه وما هو مستنبط ظاهر ثابت من هذا التقرير والنص ،أن كل ما هو مقدم في شأن البناء
واإلعراب ،سواء عند الكوفيين أو البصريين أو غيرهما ،إن هو إال محض الرأي وخالص الخرص،
ليس لها إن أمعنت و نظرت مليا مثقال ذرة وال أساس من العلمية وسلطان العلم .ثم إنه إذا كان العقل
البشري قد توصل إلى أن العلم له أركان ال يكون علما حقيقة إال بها ،حتى كاد علمها وشأن معرفتها
واإللمام بها أو هو كذلك يقوم علما مستقال بذاته ،فإنه كذلك مما تواطأت القلوب العاقلة العلمية على
معرفته وتقريره ،هو أنه ال يحق وال يقبل في الحق وسوي الحال أن تختلف أو تتناقض الحقائق
المعبرة عن نفس الظاهرة والموضوع المالحظ والمدروس ،إال لعلتين وعاملين ال ثالث لهما ،إما
اختالف النظريتين أو النظريات المؤسس عليهما البناء العلمي إطار الحكم والنظر ،وإما توجيه هذا
العلم داخل منظومة فلسفية أو أدلوجية مهيمنة ،ولكن في كل ذلك مع شرط عدم حصول اختالل في
تماسك المجموع والبناء المعرفي من شأنه سلبه درجته وصفته العلمية .هذان الشرطان والعامالن ال
تواجد لهما هاهنا ،وإذا فليس هو إال الرأي ،ال قول البصريين وال قول الكوفيين وال غيرهما ،ينبني
على أمر من العلم وال على شيء مما يقبل ويستحق حقيقة وصبغة القول العلمي .ولسوف يستبين أن
هذا الذي عاش به العقل العربي باعتباره علما للنحو ،بإمالئه وصرفه وإعرابه ،قرونا عديدة ودهرا
طويال ،إنما هو في الحق تبعة جزاء للتقليد المفضي حتما باستحالته منهاجا ونحلة إلى الجمود ،هو في
الحقيقة والحق عالة على فكر الحقبة والطور العلمي األول ،وعامل سلبي ال شك في ذلك؛ فإن سنة
االجتماع التاريخي والعلمي اإلنساني ،التطور والربانية المسايرة ألطوار التاريخ ،وللعقل اإلنساني
في مجال تفكيره وآلياته العلمية .إن سيبويه رحمه هللا في حقل العلم اللغوي ،وبالتقييم التاريخي ،ليس
بأية حال أدنى من حيث العطاء والذكاء العلمي من البخاري رحمه هللا في حقل علم الحديث ،بيد أن
علم الحديث معتمده الجمع والتحقيق ،أما النحو فهو أكثر ارتباطا باألبعاد التحليلية التي ال تنفك
متصلة بتطور آليات الفكر والعلم اإلنسانيين .هذا االرتباط لن يجعل هذا المجموع المعرفي
والمقوالتي كقواعد معبرة لمدى استيعاب قانونية اللسان واللغة في صرفها وإعرابها وصحيح تركيبها
وجائز أسلوبها ،لن يجعله بمفازة عن الحتمية من حيث النظر والمراجعة .وليكف هنا حجة حاسمة في
تقرير هذا الحكم أن يتفق ويقرر كون كل المعارف والمنظومات المعرفية ،بمتباين ومختلف درجاتها
في سلم العلمية ،كلها إال الوحي الكريم كتابا وسنة ،منطبق عليها هذا الحكم ،ومجرد تاريخ علم
الفيزياء وتطوريته من مفاهيم الفيزياء الكالسيكية المنبثقة في طورها ،والتي ساهمت تحقيقا لعلميتها
وصدقيتها على مستوى الواقع والوجود ،ساهمت في بناء الطود الحضاري الغربي ونهضته ،وفي
ثورته الصناعية التي ارتكزت أساسا على علم الصلب والحديد ،الحديد الذي جعل فيه الخالق الغني
الحميد سبحانه بأسا شديدا ومنافع للناس ،وليسبق هؤالء اآلخرون في تسخير ما خلقه هللا تعالى وما
أنزله من قوة في ثنايا وصحف العلم المشهود ،وليغيروا غارة واحدة حتى أتوا على كل بالد العرب
112
والمسلمين ،الذين خرجوا بجهلهم التاريخي والعلمي عن كفاءة التحكم في ما استخلفوا فيه تقتيال وسلبا
واستعمارا؛ العقل الغربي تجاوز هذا المفاهيم وإطارها إلى إطار نسق الفيزياء بالنظرية النسبياتية
وتعميالتها ،ولم يقل بعصمتها أبدا ،ألنه يعلم يقينا أن أصلها ومصدر إنتاجها غير مطلق .فأي
النتاجين الفكريين أحق بالثبوت لو كانوا يعلمون؟!
فبالبداهة هذا دليل باألحرى واضح وجلي.
يقول ابن مالك في ألفيته:
لشبه من الحروف مدني واإلسم منه معرب ومبني
والمعنوي في متى وهنا كالشبه الوصفي في اسمي جئتنا
تأثر وكافتقار أصال وكنيابة عن الفعل بال
من شبه الحرف كأرض وسما ومعرب األسماء ما قد سلما
وأعربوا مضارعا إن عريا وفعل أمر ومضي بنيا
نون إناث كيرعن من فتن من نون توكيد مباشر ومن
من المعلوم أن المقوالت العلمية ال ينبغي لها أن تنبثق إال على الصيغة القانونية للتقعيد؛ والتقعيد إنما
هو تمثيل ألحكام وقوانين مضبوطة ينحصر سريانها على قيمتي اإلثبات والنفي .ومن ثمة ال يجوز
أن يتضمن تعبيرها ألفاظا منافية ومخلة بمعنى اليقين والتحديد في الحكم ،فال يستعمل في صيغتها
وتعبيرها ما هو من قبيل ألفاظ الظن والشبه المخالف لواقع التعيين والتحديد.
مقولة البناء واإلعراب هاته كما هي في حال وواقع العقل والفكر العربيين ،هي مثل صارخ وبرهان
جلي صادع كون هذا المجموع الذي بني عليها ،مفتقد لروح وحقيقة العلمية ،التي لألسف ال زال
يعتبر ويلبس إياها وقد حان الوقت بالحسم فيها .أوال لم يكن العلم أبدا مؤسسا في شيء منه على
المبهم والالمحدد ،وأخرى أن هذه المقولة ،مقولة البناء واإلعراب ،من تالها ونسج فكره على منوالها
فإنما يؤسسه على واه من القواعد ومبهم من التصور غير محدد ،فيصبح عنده القريب من المعرفة
مما هو من عالمه وبيئته هالميا ،ال يقدر من تثبيته وإدراكه فيها على شيء.
113
إن الحكمة من التفكير إنتاج الحقائق وبلورتها تحديدا وبيانا .والدرجة العليا فيه الوصول إلى بناء
ممنهج متناسق .هذا الذي نسميه البناء العلمي أو العلم ،على منطلق وأساس مثبت ومحدد ،هو الذي
نسميه بالهيكلة النظرية ،كنظمة تحدد وتعين لعلماء المعرفة ومدارك الفؤاد مكوناتها وأركانها من
المسلمات والتعريفات والتقعيدات والمبرهنات ،وصوال إلى مجاالت التطبيق .والعلم ليس في حد ذاته
هدفا للممارسة الفكرية ،إنما هو وسيلة عقلية لغاية عملية.
ولئن ذهبنا نتحقق ما في جوهر هذه المقولة ،مقولة البناء واإلعراب ،لم نجدها وإن وجدت لها دهرا
من الزمان موضعا واعتبارا ،من نجدها إال جبا من الالمعنى ،كأنه ثقب أسود يعدم السؤال والمعنى.
وال جرم أن يكون كل ما اتصل به كأنه في عالم الالمعنى والوهم .ولو حاولنا بغاية إيجاد نفع عملي
لهذه المقولة وعلى كل زوايا التقييم والنظر ،ومن مختلف المنطلقات المنظور منها إلى اللغة ،كإطار
ما يطلق عليه تجاوزا بنظرية العامل ،أو إطار المنحى البنياني ،أو إطار االتجاه الوظيفي ،أو النظرية
التحويلية التوليدية ،لو بحثنا في كل ذلك ومن زواياه كلها ،ما وجدنا في هذه المقولة غير الالمعنى
والالشيء .بل األنكى أنها حاجز عاقل للعقل ،مانعته دون الفكر السوي حقائق وتفكيرا .ومن كان
يرجو ويسأل حججا نوافل تزيده بيقين الحقائق واآليات علما ،فلينظر إلى إشكال أقسام الكلم الذي
يجسد حقيقة هذا السؤال ،سؤال مسايرة العقل اللغوي للتوسع االستخالفي على األرض وعلى التاريخ
المعرفي والعلمي ،الذي ال يعرف النمطية وقد خلقه الخالق العليم أمما وأطوارا؛ وسيبويه رحمه هللا
تعالى لم يكن نبيا فنثبت العصمة ألقواله .فهذه المقولة ،من حيث مج َّوفها ومغي َّبها والجواب فيها تعقيبا
حكما وعلما ،سوف يأتي ويثبت على مسار ما يتبع من المقوالت واالستنباط المبرهن.
إن أول ما يرى ويشهد خاصة وظيفية لهذه المقولة هو ما سلف بخصوص المقولة األولى وعموم هذا
المجموع من األقوال واألحكام ،من وضع العقل ومن بعده الفكر في حقل الالمعنى والمبهم وفي
الالشيء .ولنبدأ هذا التبيان بأوضح التفسير:
حينما ننظر إلى مقول النحو ممثال في إعراب قولنا" :أشهد أن ال إله إال هللا وأشهد أن محمدا رسول
هللا " نجده قد قال قوال هو عنده غير قابل للجدل كون الفاعل هاهنا ضميرا مستترا .ولو نظر أحدهم
قريبا منه علما موقنا باحتمال الخطإ والصواب معا في قول البشر ،ألبصر حتما أن هذا القول وهذا
الحكم اإلعرابي الذي يقحم إقحاما ويفرض على أفئدة األطفال في فصول الدرس -وكم كان من خصم
في نقاط االمتحان -هو قول مفارقة مناقض لحال البيان؛ وإنه ليكفي لمن ألقى السمع وهو شهيد أن
يقابل معنى الشهادة لغة وحكمها بيانا وشرعا في الظاهر والباطن والدنيا واآلخرة ليجزم موقنا يقينا ال
ريب فيه أن هذا الحكم اإلعرابي بعيد كل البعد عن الحق ،ألن االستتار والضمور هو ضد ونقيض
الشهادة واإلشهاد ،الذي أول ما يفيده هو الشهود والحضور؛ فأنى يصرفون؟! فالبيان ما سمي بيانا إال
ألنه صورة وترجمة حافظة ناقلة للمعبر عنه.
التوازن إذن كحقيقة لمبدإ كوني في المجال اللغوي تظهر قيمته باستيعابه القطعي ،أي في جزء
متضمن في إطاره ألساس ومنطلق مجموع الفكر النحوي الذي كان وما زال العين والسمع والعقل
الذي يعتبر به الكالم العربي .وإشارتنا إلى قطعية التضمن نقصد منها إبراز الجزئية ،التي وإن
أسهمت في انطالقة وانبثاق الزخم األول للتفكير العلمي اللغوي ،وقد مثلت إبداعا وعمال كبيرا بحسب
واعتبار طورها التاريخي ،فإنها في ثبوتيتها كسقف وكمرجعية مثالية ،وكأنها منزهة ترتفع عن
نسبيتها الحقائقية بصفتها ومصدرها البشري ،هي محكومة بالقصور والمحدودية في مجالها
التأثيري ،وفي أبعادها الدراسية ،واألهم تبعا لذلك في أحكامها ،على االفتقار وافتقاد النظر الواسع
والكامل ،مسايرة للغة كحامل للفكر ،ولإلنتاج الواصل لسلسلة األطوار المنبني والمتصل باالرتباط
والتسلسل والتكامل.
فاللغة بوظيفتها التاريخية هاته ،كحاملة وقاطرة لفكر األمة وثقافتها ،لن يتحقق لها األداء األقوم
واألخذ بقوة في مسار األطوار التاريخية التي ال تعرف الجمود والتخلف أبدا إال باستمرارية مسايرتها
الدراسية ،ال على المجاالت الحقائقية لمقوالتها وأحكامها ،بل بقاموسها التقعيدي الذي ال مرية هو
اإلسقاط الواضح الموضح ألول مستويات وشروط ومظاهر علميتها.
لنعد إذا للنظر إلى الكالم والتركيب اللغوي من خالل مبدإ التوازن .فالكالم على البعد المعنوي وحدة
متوازنة ،هي وحدة انتظمت كل مكونات التركيب عناصريا وترتيبا وأوصاال ،بمعنى كون هذا
العنصر المعنوي الممثل بهذا الكالم والجملة على مرجعيته ليس نقص وال زيادة فيه وال اختالل.
فالكالم بيان تركيبي وصورة لحدث متوازن تام غير خداج.
هكذا إذا قلنا في إعراب (قاتل الرجل حتى نال الشهادة) كون الفاعل في فعل (نال) ضميرا مستترا،
كان ذلك مكافئا لقولنا بعدم التمام في الصورة بالنسبة ألصلها؛ وهذا ليس بحق وال يصح أبدا .ولو
قبلنا هذا التفاقم لخالفنا وعطلنا الحق الذي يفقه من األصل في حقيقة بيان اإلنسان واألسماء .ذلكم أول
البسط للمسألة عصبة المسائل في نقد النحو العربي ،مسألة الضمير المستتر.
ولننظر بخصوص مقولة الضمير المستتر إلى ما هو أعظم من هذا اإلعضال ،الذي يكبل ويعوق
العقل العربي عن التواجد الصحيح من حقول الوعي واإلدراك .إن اإلعراب فرع المعنى؛ هو تعبير
تحليلي لمكوناته ،مما يلزم تضمن المحتوى اإلعرابي للمعنى المعرب كما هو ،غير مزيد وال
منقوص ،ألن المعنى قد تم حقا بحصول التوازن .وعليه فالحكم حاسم في بطالن مكون فضلة ممثل
هنا تحديدا في الضمير المستتر ،مما هو جلي وواضح في مقول وكلمة الشهادة "أشهد أن ال إله إال هللا
116
وأشهد أن محمدا رسول هللا" وإعراب الفاعل في فعل وحدث الشهادة (أشهد) ضميرا مستترا تقديره
ضمير المتكلم (أنا).
يقول األستاذ عمران عبد السالم شعيب مؤلف (منهج ابن هشام من خالل كتابه 'المغني') حين حديثه
عن رعاية واهتمام ابن هشام بالمعنى:
<< إذا كان الناس قد تواردوا على القول بأن اإلعراب فرع المعنى ،فإني لم أجد بين النحاة من طبقه
كما طبقه ابن هشام ،وال من دعا إليه كما دعا هو إليه ،فإنا نجد شواهد ذلك مبثوثة في ثنايا كتابه
بصورة ال تدع مجاال للشك في أن هذا كان له عنده أهمية بالغة.
ولعل من أبرز ما يوضح ذلك عنده أن الجهة األولى من الجهات التي يدخل االعتراض على المعرب
من قبلها والتي جعلها مضمون الباب الخامس من كتابه هي أن يراعي المعرب ما يقتضيه ظاهر
الصناعة النحوية ويهمل المعنى ،وجعل ابن هشام ذلك سببا تزل به األقدام في مواطن كثيرة (المغني-
51
ص 282وما بعدها)>>
ليس هناك شك أن ابن هشام رحمه هللا أراد هنا بقوله وتنبيهه الجزئيات أو االحتماالت اإلعرابية
وحاالتها ومواضعها ،كأن يعرب اللفظ مبتدءا أو خبرا أو صفة أو غير ذلك ،وقد أوضح ذلك بأمثلة
كما أشار إليه وذكره مؤلف (منهج ابن هشام):
<<ويسوق للتدليل على هذا ما حكي له من أن بعض مشايخ اإلقراء أعرب لتلميذه قول الشاعر:
غارات إذ قال الخميس نعم ال يبعد هللا التلبب وال
فقال :نعم حرف جواب ،ثم نظر إلى معنى البيت ،فلم يجد فيه ما يدل على صحة هذا اإلعراب ،ألن
52
(نعم) في البيت واحد األنعام.
وينقل قول الشلوبين :إنه حكى له أن نحويا من كبار طلبة الجزولي سئل عن إعراب كلمة (كاللة) في
قول هللا سبحانه{:وإن كان رجل يورث كاللة أو امرأة} فقال :أخبروني ما الكاللة؟ وبعد أن وقف
على معناها بدأ في اإلعراب . .
52المغني-ص282
117
. .وينقل في ذلك أيضا ما حكاه بعضهم من أنه سمع شيخا يعرب لتلميذه (قيما) من قوله تعالى{:ولم
يجعل له عوجا قيما}(الكهف )2-0صفة لعوجا ،قال :فقلت له :يا هذا كيف يكون العوج قيما؟
وترحمت على من وقف من القراء على ألف التنوين في (عوجا) وقفة لطيفة دفعا لهذا التوهم ،وإنما
53
(قيما) حال(.المغني-ص>>)282
53المنهج-ص243
118
< ولم يكونوا ليحذفوا األلف (يعني لمثنى المضارع) ألنها عالمة اإلضمار والتثنية في قول من
54
قال":أكلوني البراغيث" ،وبمنزلة التاء في "قلت" و"قالت">
إذن فالخطأ بين وواضح ،وكل قول البشر مهما كان ومهما اعتقد وترجح هذا االعتقاد في سلم العلمية
وحقيقتها وواقعيتها ،كل ذلك تعتريه وتنطبق عليه سنة التغير في مجال سريانه الحقائقي ،إن على
البعد األول بعد الخطإ والصواب ،أو على مستوى المسايرة لألطوار األرضية العلمية التاريخية ،التي
هي أبدا متغيرة ومتسعة سنة هللا تعالى في خلقه ،ولن تجد لسنة تبديال .فليس مطلقا من الحقائق في
الصحة قيمة وسريانا إال الوحي الكريم .وفيما يلي سيأتي التأكيد الحق والبرهان اليقين لمن تردد في
صدره من أثر وغشاوة تنزيل أقوال البشر شيوخا وعلماء منزلة التقديس ،وذلك مناف للحق ولما
يفقهه ويدركه العالمون.
54الكتاب :ص32
إن آن العناصر الخطابية هو اآلن الخطابي؛ وبالتالي فالتمثيل للحدث أتى كامال ،إذ بالنسبة للماضي
تكون ممثالت هذه العناصر في طرف الصيغ الفعلية بإسكانها تعبيرا عن تمام الحدث ،وتكون في
أصلها حال الفعل المضارع مع حركة دالة على استمرارية الحدوث ،وهي الرفع بالضمة أو المد
بالياء أو األلف أو الواو اتصاال بالنون.
هكذا فوجه هذا اإلسقاط لمبدإ التناسق يعطينا صورة كاملة وظاهرة للممثالت الفاعالتية متصلة
بالصيغ الفعلية ،وأيضا دليال داحضا على فساد مقولة البناء واإلعراب كما تم اعتبارها وإعمالها في
منظومة النحو العربي .أما بالنسبة لألمر األول فالفاعل في الصيغ المخصصة للمضارع حاضرا
ومستقبال ممثل في صدر هذه الصيغ كما مثل في آخرها بالنسبة للمضي .والحجج المؤكدة نافلة ال
تعدم ،أبرزها وأهمها أنها جميعا تعود إلى أصل واحد ،وهو الضمير المنفصل بمكونه المكمل لمادة
(أن) باستثناء استبدال التاء بالهمزة في فعلت للتغليب .أما الياء واأللف والواو والنون في تفعلين
وتفعالن وتفعلون وتفعلن فوظيفتها تمييزية ،كمؤشرات للجنس والعدد ،تطابق وظيفة الكسرة والميم
مقرونة باأللف والميم مجردا ،والنون في فعلت وفعلتما وفعلتم وفعلتن .وأمكن تمثيل هذه المطابقة
كالتالي:
121
وإذن يتبين أن حق الممثالت الفاعلية والضمائر بالنسبة لحقل الحضور أن تسبق تبعا وتحققا لتناسق
اللغة العربية وبيانها مع البعد الزمني ،وتأتي في أول الصيغ المخصصة للمضارع ،ألن آنها الزمني
هو أصل الوعاء الزمني للحدوث ،بل وكان األولى حقا النظر بهذا السلم بخصوص التقعيد ،ولو تم
ذلك لما اضطر النحويون سدا لفراغ معرفي وعلمي اللجوء إلى مقولة التقدير والضمير المستتر .هذه
المقولة التي أوصدت دون العقل العربي وفكره مساحة ومجاال غير يسير من اإلدراك الواقعي
والموضوعي للكائن والموجود ،مما هو ظاهر ترجمته إهمال وحسبان حقيقة التمثيل الفاعالتي في
بيان صيغة واقع الحدوث المضارع ،واعتبارها مجرد حروف أسموها حروف المضارعة ،كما
أبصر به وأثاره ابن جني رحمه هللا ،لكن لم يلتفت لقوله فأهمل ولم يؤخذ بقيمته وكونه الصواب
الممهد للبناء العلمي الصحيح ،ولم يراعوا أن يكون للتقدير عندهم هذه الركنية الواهية ،التي من شأنها
أن تؤسس قواعد علم خطير كعلم اللغة ،أن تؤسسه على الالكائن وعلى المبهم .وهذا القول البن جني
هو ذاته الذي نجده في طيات محدث المقول األلسني كما هو عند الدكتور عبد العزيز هليلي:
<<تبين الدراسة التصريفية أن الفعل يعرف شكلين أساسيين في العربية أحدهما تسبقه عالمة الضمير
والثاني تليه هذه العالمة ،التي تلصق بجذره وتؤثر في بنيته المقطعية .ويسمي نحاة العربية الشكل
56
األول 'المضارع' لمضارعته اإلسم .ويسميه الغربيون 'غير التام' أو 'الناقص'>>
56الدكتور عبد العزيز خليلي – قضايا لسانية –السوسيولسانيات .التصريف .أقسام الكلم –ص -001ط -0مطبعة أنفو برانت -فاس
122
لكن هذا القول وإن صح ووافق الحق في هذه النقطة القريبة لإلدراك ،وكأين من آية في السماء
واألرض ي مر عليها اإلنسان وهو غير آبه بها وال مدرك بحقيقتها ،فإنه يفتقد للصبغة العلمية التي ال
تكون إال بإطار علمي كامل ومنتظم .والدليل هو التناقض أو عدم االعتبار العلمي المدرك للنسق
اإلعرابي والتصريفي باالصطالح المنقول ،النسق الذي هو برهان وشرط العلمية للقول على هذا
البعد ومنه القول المعني ،ذلك أنه أوال لم يميز بين حقلي الحضور والغياب ،ثم إنه اعتبر 'الواو' في
'يلعبون' وهو فعل مضارع ضمير الفاعل ،وذلك بزعمه واعتباره االختالف كما يقول بين التركيبين،
مقررا قول دافيد كوهن :57األوالد يلعبون –:Les enfants jouent
<<المقارنة بين هذين النصين توضح هذا األمر ،في النص العربي يمكن حذف 'األوالد' دون أن
يختل بنيان هذه الجملة ودون حاجة إلى اإلتيان بلفظة ما للقيام مقام المحذوف .أما في النص الفرنسي
فحذف عبارة » « Les enfantsتفرض بالضرورة جعل ضمير معين أو لفظة مناسبة أخرى مكان
المحذوف ،وإال اختل بنيان هذه الجملة.
السر في هذا كما نعلم هو أن "يلعبون" مؤلفة من طرفي اإلسناد وهما المسند والمسند إليه في حين أن
» « jouentال يمثل إال المسند.
"يلعبون" في العربية إذن جملة تامة نحويا أما مقابلها الشكلي في الفرنسية » « jouentفال يمثل
سوى أحد طرفي اإلسناد وهو المسند.
يمكن إذن لشكل الفعل المتصرف في العربية أن يؤلف بمفرده جملة نووية تامة صحيحة" ،أحد
عنصريها والذي (يعين عادة ظروف شيء أو حدثا نثير إليه االنتباه) يسمى المحمول أو المسند (وهو
المونيم الفعلي) واآلخر المسمى الموضوع أو المسند إليه يعين عادة مشاركا مؤثرا أو متأثرا أو
مفعوال نبرز دوره هو مونيم الضمير">>58
بغض النظر ومع تجاوز إشكال التوظيف المعجمي لأللفاظ والكلمات ،وقد وصف الدكتور مفهوم أو
لفظ (الكلمة) في موضع آخر بالعنصر والمفهوم الغامض ،59ولم ينتبه كونها المرتكز البياني لكل ما
58 A. Martinet :Syntaxe generale . Armand Colin . Paris. 1985. P 60.
يليها من مفاهيم مختلقة حديثة على اختالف ما لها قيمة علمية حقيقية ،ونعني هنا التوظيف غير السليم
والالموفق تأكيدا للفظتي (المقارنة) و(النص) إن أصال أو ترجمة ،فالحكم كون شكل (حسب تعبيره)
الفعل المتصرف في العربية يمكن له أن يؤلف بمفرده جملة نووية تامة صحيحة ،هذا الحكم متصال
بسياقه الذي يجليه ما أسماه بالمقارنة بين البنيتين اللغويتين ،من خالل المثال أعاله ،هو حكم ليس
صحيحا ،ليس له موضع من السماوات واألرض إال في خلد صاحب النص ومن تبعه فيه يردده ال
يكلف عقله عناء التمحيص لما يلقن له.
الحكم ال يصح بسياق التمثيل الذي بين يديه ألن العنصرين أو المادتين البيانيين ()jouent
و(يلعبون) متكافئان بيانيا بالتأصيل األرسطي المنطقي والعقلي المهيمن على كل االتجاهات الدراسية
لأللسنية الحديثة ،التي في جلها باستثناء النحو التوليدي والتحويلي بمفهوم البنية العميقة ،ال تنال من
اللغة وال تهتم إال بمستوياتها الخارجية .وااللتباس مرده األول هنا لدى صاحب أو صاحبي النص
والحكم ،هو إهمال كون اللغة هي باعتبار معين تنظيم من اإلشارات المفارقة ،المقولة األهم لفردينان
دي سوسور ( ،)Ferdinand De Saussureوالتنظيم أو المنظومة أبرز ما يتجلى فيه اختالفها
هو البنية ،ولهذا كان لفظ (المقارنة) في غير موضعه مما يدل على افتقاد التصور والمرجع
الصحيحين.
فتركيب (يلعبون) كذلك ال يمثل جملة وكالما تاما ،ألنه ال يصح ابتداء واستقالال .ومن اختلط عليه
األمر هاهنا فإنما هو من عدم االستبصار -ال فحسب االعتبار -بمكونات الحقل الخطابي وأبعاد
موضو ع البيان والبالغة .إن الحكم أعاله ال يصح إال بتواجد المسند إليه ممثال في التركيب ،أي
الضمير الجوهري ،ضمير الحقل الحضوري للخطاب .وكما سيأتي فيما يلي ،فال الياء في التركيب
وال الواو وال النون جميعا ،ليست جميعها بضمائر األشخاص جواهرية :الياء ضمير زمني ،والواو
مؤشر جنسي عددي غير جوهري ،والنون مؤشر إعرابي مكافئ للضمة دال على االستمرارية
الحدوثية .ومنه يتبين وبكل وضوح مدى البعد عن العلمية ومحض الخرص في قول السيرافي رحمه
هللا وهو يشرح قول سيبويه في 'هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية'[ :فالرفع والجر والنصب
والجزم لحروف اإلعراب .وحروف اإلعراب لألسماء المتمكنة ،ولألفعال المضارعة ألسماء
الفاعلين التي في أوائلها األربع :الهمزة ،والتاء ،والياء ،والنون .وذلك نحو :أنا أفعل ،وتفعل أنت أو
هي ،ويفعل هو ،ونفعل نحن]؛ قال السيرافي بصدد الهمزة < :قوله :الهمزة ...ألف أفعل ،ألن األلف
ال تكون متحركة في حال ،وإنما سميت الهمزة ألفا ألنها تص ّور بصورتها ،ألن الهمزة ال صورة لها،
وإنما تص ّور بصورة غيرها ،وصارت هذه الحروف يعني :نفعل ،ويفعل ،وأفعل أولى باألفعال من
غيرها ألن أولى الحروف بذلك حروف المد واللين المأخوذ منها الحركات .فلما كانت ال تكون إال
124
ساكنة ،ولم يصح االبتداء بساكن ،جعل عوضها أقرب الحروف منها ،وهو الهمزة ،لقربها من األلف
ولكثرة وقوعها زائدة أ ّوال .ولما كانت الواو ال تقع زائدة أ ّوال ،أبدل منها حرف يبدل كثيرا وهو التاء،
مثل :وهللا ،وتاهلل .أما الياء ،فال يحتاج إليه ،ألن أخذ الكسرة من الياء واضح ال يحتاج إلى تفسير.
وكان الرابع النون ،ألنها غنة في الخيشوم تجري فيه ،كما تجري حروف المد واللين في مواضعها،
ويكون إعرابا في يفعالن ونحوه ،وضميرا لجماعة المؤنث :فعلن ،وبدال منها األلف في الوقف في
60
قولك :رأيت زيدا>.
-6جوهرية الضمائر
دليل آخر بالحق يدلى به وحجة ال يبقى من بعدها شك في بطالن وعدم صحة من قال ويقول
بضمائرية األلف والواو على وجه التخصيص ،ألنهما ذات األلف والواو في الفاعالن والفاعلون؛
ذلكم وأن الحق ومبدأ االختالف الكوني ال يجيز البتة اجتماع جوهرين في جوهر واحد .يقول األستاذ
روبنز في كتابه "تاريخ موجز لعلوم اللغة" -61يقول بصدد حديثه عن عالم اإلسكندرية أبولونيوس
ديسكلوس (القرن الثاني ق.م):
<< ولقد عرف الضمير ليس بوصفه بديال لإلسم فحسب كما هو الشأن في (التخني) ،بل إضافة لهذا
بوصفه ممثال لجوهر من دون خصائص ،وهي المقولة التي رددها برشيان ،وذات األهمية الكبيرة
فيما بعد في التفكير اللغوي للعصور الوسطى>>
عند هذا المستوى تحديدا ،ال بد من التنبيه إلى أشياء وأمور ذات أهمية قصوى في اللسان العربي.
وذكرنا لعموم اللسان يرجع إلى عموم أهمية الفعل ،والمضارع فيه بوجه أخص .هذا التنبيه يرتبط
أساسا وفي مرتكزه المالحظاتي والتحليلي ،بدرجة التمثيلية وعالقتها بحقيقة الضمير .والدارس
المحلل لهذا الجانب والشأن ،يخرج بإثبات ثالثة أصناف تتبع في تعيينها لإلحداثيات والقيم الزمنية
واالنتمائية للمسند إليه الفعل .فالحقل الحضوري كل عناصره تنتمي جوهرا وزمنا للحقل المحدد بها
في كلتا الصيغتين ،الماضي والحاضر أو المضارع؛ أما العناصر الغائبة حين المضي فهي خارج
60الكتاب سيبويه -علق عليه ووضع حواشيه وفهارسه د .إميل بديع يعقوب -المجلد-0ص -30دار الكتب العلمية -بيروت
61المترجم تحت عنوان "مقتطفات من تاريخ العلم اللغوي في الغرب" ل د.أحمد عوض -إصدار عالم المعرفة-ص 77
125
الحقل الحضوري جوهرا وزمنا ،وانتماؤها يكون جزئيا ،أي زمنيا حال المضارع .فهذه األصناف
الثالثة .ومن ثمة فلئن كان الضمير يمثل الجوهر فهو ال يحصل حقيقة إال في العناصر الحضورية.
ويتأكد هنا التذكير بكون هذا التمثيل إنما يتم باتساق ،ومن الحدث أو الحدوث ،وجهته بالنسبة لآلن
الخطابي ،أي أن الضمير يكون في الطرف الثاني ونهاية الصيغة في فعلت وفعلت وفعلت وفعلنا
وفعلتما وفعلتم وفعلتن ،ويكون في صدرها وأولها في أفعل وتفعل ونفعل وتفعلين وتفعالن وتفعلون
وتفعلن ،مع الجوهرية الوظيفية للياء واأللف والواو كمؤشرات دالة على العدد والجنس.
هكذا إذن يستبين ويتضح أن ال أساس وال موضع لمقولة الضمير المستتر ولتقديره في الحقل
الحضوري ،كما أنه ال سداد للقول بضمائرية الياء واأللف والواو.
هذا وإن مبد أ التناسق الكوني بتجلياته وتحققه بمقتضى الداللة الزمنية للفعل من حيث أفصوله
وتمامه ،ومبدئه بمعنى منطلقه واستمراريته ،كل ذلك بحسم يدحض مقولة البناء واإلعراب ويردها
ردا غير مستعتب حين الحديث وتحليل الحدث والفعل .يقول ابن مالك في ألفيته:
وأعربوا مضارعا إن عريا وفعل أمر ومضي بنيا
نون إناث كيرعن من فتن من نون توكيد مباشر ومن
حتى ال يكون حكمنا رجما بالغيب ،نقول إنه من المرجح ترجيحا ،كون مفهوم ثنائية البناء واإلعراب
لدى منتجيه والقائلين به تبعية وتقليدا ،أساسه االتصال أو االنفصال عن اللواحق سواء كانت ضمائر
أو مؤشرات.
هكذا نالحظ أن البناء فيما اتصل ،واإلعراب في غيره ،وكفى المفهوم عناء المزيد من التفكير
والتحليل! بيد أن الذي تنوسي في هذا الشأن والحيز من الموضوع اللغوي ،هو أن البناء معناه البقاء
على الحال والثبوث ،وذلك مما يتناقض وكون الفعل واإلسم يتميزان عما سواهما من أقسام الكلم
بتصريف الحالة بخصوص األول ،وتصريف الزمن بالنسبة للفعل ،ولتكون الصفات من بعده تجمع
وفاعل وفاعالن وفاعلون وفاعالت ومفعِّل ومفعال
ٍ بين تصريفي الحالة والزمن كقولنا :فاعل وفاعال
ومفعل ومفعالن ومفعلون ومفعالت؛ وهذا يعني بحسب الموضوع اللغوي وحقيقته أن هذا المعنى ٍ
للبناء ال يحق وال يصح إسناده لهذه األقسام الثالثة من الكلم .وكذلك ،وحتى ال نبخس الناس أشياءهم
نذكر بأن هذا التمييز والعمل به قد بدأ أول ما بدأ وظهر عند الرواقيين ومدرستهم اللغوية والنحوية
الشهيرة لدى علماء األفكار عموما والنحو خاصة ،المدرسة التي أسسها زينون حوالي المائة الثالثة
126
قبل الميالد في حاضرة أثينا ،وتابع من بعدهم اإلسكندريون هذا الجهد على منحيي الدراسة والتحليل
خاصة مع صاحب التخني جراماتيكي ديونسيوس ثراكس ،تلميذ مؤسس الدراسة الهومرية
أرستارخوس في القرن الثاني قبل الميالد؛ بل إن تقسيم الكلم في التخني جراميتيكي اتخذ له من
العامل التصريفي المعيار التصنيفي األساس ،مما هو جلي ظاهر في عناصر هذا التقسيم الذي اعتمده
مدرس اإلسكندرية حوالي المائة قبل الميالد:62.
-0اإلسم "األونوما" :هو قسم من الكالم يتصرف حسب الحالة ،ويدل على كيان محسوس أو مجرد.
-2الفعل "الريما" :وهو قسم من الكالم ال يتصرف حسب الحالة ،ولكنه يتصرف حسب الزمن
والشخص والعدد ،ويدل على نشاط أو عملية تنجز أو ينفعل بها.
-1البرتسبل "ميتوشي" :وهو قسم من الكالم يشترك في مالمح الفعل واإلسم.
-3األداة "أورترون" :هي قسم من الكالم يتصرف حسب الحالة ويسبق األسماء أو يليها.
-2الضمير "أونتونيميا" :هو قسم من الكالم يستبدل باإلسم ويتميز باإلشارة للشخص.
-4حرف الجر "بروتيزيس" :هو قسم من الكالم يقع قبل كلمات أخرى في تأليف وتركيب الجمل.
-7الظرف "إبريما" :هو قسم من الكالم من دون تصريف ،يقيد الفعل أو يضاف إليه.
-8الرابطة "سينديزمو" :هي قسم من الكالم يربط أجزاء الحديث معا ويمأل الفجوات في تفسيره.
إذن فتصريف الحالة والزمن تناسقا بالنسبة لإلسم والفعل يناقض معنى البناء .ومرد قولهم بما
اصطلحوا عليه من عندهم وسمي بناء ،مرده أنهم لم يدركوا ولم يبصروا كون السكون والنصب
بالنسبة للماضي في صيغته واألمر ،هو نظير متوافق تناسقيا للرفع والضم في المضارع داللة على
استمرارية الحدث بمعنى الحدوث ،وللنصب استقباال ،وللسكون حال النهي.
وهذا كله إن هو إال تحقق الحق وتجلي الميزان إعماال هنا لمبدأي التناسق واالختالف؛ فاألصل
القانوني في أحوال الصيغ كلها مضيا وحاضرا أو استقباال وأمرا أصل واحد ذاتا ومضمونا .هذا
األصل القانوني أو القانون ينبرئ ويظهر بوضوح في حالة الفعل البسيط الثالثي المجرد (فعل)؛ ففي
62نفس المصدر-ص72-70
127
طرف ونهاية الحدث بالنسبة إلى أفصول الزمن للمسند إليه حال انطباقه باآلن الخطابي يكون معبرا
عنه وممثال باإلسكان ،وكذلك أصله وطرفه األول إعالنا لبدء الحدث؛ والرفع فيه ممثل لالستمرارية
في اآلن .أما إذا كان األفصول الزمني للمسند إليه غير محدد في المضي ،وهو حالة اإلسناد إلى
الغائب ،فيعبر عنه لعدم تحديده بالنصب؛ واألمر نفسه في طرف المستقبل من الفعل والحدث .وأقرب
التمثيل لهذه القاعدة القانونية والتجلي لتحققها هو كالتالي:
اآلن الخطابي
ل ع ف ل ع ف
[____________~~~ _________]
ل ع ف ل ع ف
[____________ _________
ل ع ف
[____________]
هكذا إن نحن الحظنا أن تمثيل نهاية الحدث ومنطلقه يكون في اللسان العربي بالسكون ،استنبطنا أن
صيغة (افعل) تعبر عن انعدام الحدث؛ وهو الصحيح .هذا يؤدي حتما إلى تقرير خطإ من يقول ويعبر
اصطالحا تقعيديا نحويا بتعبير "فعل أمر"؛ وإنما الصحيح هو أمر بالفعل .ومنه على التو يقطع بخطإ
المقوالت اإلعرابية ،أو المقولة المتصلة بذلك كإعراب تراكيب وصيغ (افعل) و(افعلي) و(افعال)
و(افعلوا) باعتبار ما تقدم.
يقول أبو الفتح عثمان بن جني (المتوفي سنة 122هجرية) رحمه هللا في كتابه القيم الخصائص:
128
<< . .وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل ،إذ كن دالئل على الفاعلين :من هم وما
63
هم وكم عدتهم ،نحو أفعل ونفعل وتفعل ويفعل >>. .
فقوله( :من هم) يفيد تمثيل الجوهر؛ وهذا هو معنى الضمير وماهيته .لكن تضمينه صيغة (يفعل) هنا
ليس صحيحا ،فقولنا أكتب ونكتب وتكتب يفيد معنى تاما غير مفتقر إلى مستند في التركيب والكالم؛
أما قولنا :يكتب ،فهو ال يفيد ذلك إال استنادا إلى ما قبله عموما ،وهذه صورة وترجمة بيانية ولسانية
لال-انتماء الغائب للحقل الحضوري اقتضاء للعالقة الوثيقة في التصوير والتمثيل بين الواقع واللغة.
وإن أول ما يستنبط منطقا وعلما هو وجوب التصحيح والتقويم لكل ما مت بهذا في العقل العربي،
والمثال التوضيحي كتاب فقه الفلسفة لطه عبد الرحمان في الشطر األهم للجزء األول حين أعياه
64
البحث عن الضمير في الترجمة للكوجيتو الديكارتي.
<< -قولهم في (لو) إنها حرف امتناع المتناع .وقد فند رأيهم في ذلك (أي ابن هشام) عند الحديث
عن (لو) بين الحروف واألدوات ،وذكر أن العبارة الجيدة قول سيبويه :حرف لما كان سيقع لوقوع
غيره ،وقول ابن مالك :حرف يدل على امتناع تال ويلزم لثبوته ثبوت تاليه؛ ولكنه يختار عبارة يراها
أجود العبارات وهي قوله( :لو) حرف يقتضي في الماضي امتناع ما يليه [المغني.ص .]287وهذا
فيما أرى أصح تعبير في الموضوع.
-قولهم في (إذا غير الفجائية) إنها ظرف لما يستقبل من الزمان ،وفيها معنى الشرط غالبا .ويعيب
ابن هشام عليهم كالمهم هذا من جوانب ذكرها؛ منها إن فيها تطويال ،فبدال من قولهم (لما يستقبل من
الزمان) يحسن أن يقولوا :مستقبل .ومعه الحق في هذا أيضا.
-قولهم :النعت يتبع المنعوت في أربعة من عشرة؛ وإنما ذلك في النعت الحقيقي ،فأما السببي فإنما
يتبع في اثنين من خمسة.
-وقولهم (الفاء جواب الشرط) .ويذكر ابن هشام أن الصواب أن تقول إنها رابطة لجواب الشرط.
-وقولهم :العطف على عاملين .والصواب :على معمول عاملين.
-وقولهم :بل حرف إضراب .والصواب أنها حرف استدراك وإضراب ،ذلك أنها بعد النفي والنهي
بمنزلة لكن.
-وقولهم في نحو قوله تعالى{:فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثالث ورباع} (النساء :)1إن
الواو نائبة عن أو .ويعقب على ذلك بأنه غير معروف في اللغة ،وإنما يقوله بعض ضعفاء المعربين
والمفسرين .وينقل عن بعض أئمة النحو تفنيده على أساس أن األعداد التي يضم بعضها إلى بعض
هي األعداد األصول؛ وأما األعداد المعدولة هذه فال يضم بعضها إلى بعض ،وإنما يراد بها االنفراد
ال االجتماع .ثم يشير إلى وقوع الخطإ فيها للجهل باستعمالها ،ويجعل من ذلك استعمال المتنبي لها
في قوله [المغني.ص:]711
لييلتنا المنوطة بالتنادي أحاد أم سداس في أحاد
[شرح ديوان المتنبي]281\0
وينبه في خاتمة كالمه إلى ما ينبغي للمعرب ،هو أن يتخير للعبارات التي هي أكثر إيجازا وجمعا
للمعنى المراد من غيرها؛ ويضرب لهذا أمثلة يطبق عليها ذلك [المغني.ص.]731
130
فالعامل األول إسقاطه وترجمته في كالم ونقد ابن هشام ،كما غيره من محللي الخطاب القانوني
والعلمي عموما ،هو كل ما خالف فيه التعبير أصله وحقيقة المعبر عنه .وهذا من دون مرية حق
للحق الذي تقوم عليه السماء واألرض أال يختل وأال يسمح فيه بشيء من عدم السداد ،بله أن يكون
مخالفا منكرا من القول وزورا كما رأيناه ،وهو محور العطب والباطل الذي نريد أن نثيره وننبه
عليه ،حجة للحق بالغة بأبلغ الحجاج والبرهان في ما يخص هذا اإلسناد الباطل كل البطالن للفظة
(التوحيد) ،التوحيد لذاته سبحانه عما يقولون! وهو األحد الصمد .هذا العامل هو المحمول الظاهر في
قول الكاتب( :اتجاهات بعيدة عن واقع اللغة) وذلك باعتبار السياق ،وأيضا باعتبار القسيم في فحواه
ومعناه.
هذا القسيم هو الصيغة القانونية أو مكونها المكمل على المستوى التركيبي الكمي ،ال المعنى الذي قد
يتبادر ويسبق إلى الذهن ،معنى الجمع والمنع ،فهذا من ضمن الحقيقة اللغوية في إدراك وضبط
المعبر عنه .فالعامل الثاني هو شرط االقتصاد اللفظي في المقولة والقاعدة النحوية باعتبارها صيغة
قانونية بكامل وتام الصفة القانونية.
حفظ األثر وكتبه ونقله كما في قوله تعالى الحق المبين{:إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا
وآثارهم' وكل شيء أحصيناه في إمام مبين'}(يس)00
الداللة الثانية إذا هي المتوافق مع سياق وحقل المقول النحوي الذي نحن بصدد النظر إليه موضوعا.
وإن هذا المقول باعتباره المفهوماتي ،ليكفي القول بجزئية زوايا ووجوه النظر للعقل المتبني لهذا
المفهوم للسان وللغة كهدف للمقوالت والقواعد النحوية .هذه الجزئية في تصور الموضوع اللغوي
تتمثل في االعتماد كلية وأساسا على ما يسمى مجازا بنظرية العامل ،التي ال شك وال مرية هي
اعتبار للغة قاصر ،ليس يدرك وينال من خالله إال وجه واحد من الوجوه المتعددة للغة واللسان؛ وال
يمكن والحال هاته أن نقول بأنه يفي ببسط وبيان الموضوع اللغوي ووتوضيحه وإعرابه .فالعامل
كمنظار دراسي ألسني منظار جزئي أولي ،ليس له في حدود ما يستطيع أن ينال من الموضوع
اللغوي سوى العالقة السببية كمكون بنيوي في الواقع ،وهو كما قلنا ليس سوى أحد المكونات ضمن
مكونات عدة وعديدة ،ال على مستوى الواقع ذاته كأصل مصور معبر عنه ،وال كذلك على مستوى
اآللية اإلدراكية اإلنسانية ،التي تعتمد وتتوسل أبعادا ومنظومة من العالئق في تصورها وضبطها
للظواهر واألشياء ،من خالل بنية وقوانين العقل والمنطق ،التي تتجلى أكثر ما تتجلى في البيان وفي
المادة المعجمية.
اعتماد مفهوم العامل يجعل النظر قاصرا على المحددات والعلل في مواضع وحركات عناصر
التركيب .بيد أن موضوع النحو والقواعد اللغوية وجب أن يهم الظاهرة اللغوية من جميع زوايا النظر
ومن كل أنحائها ومستوياتها ،واألخص منها إعراب وتوضيح المراد الخطابي والتواصلي ،وتبيان
أدائها ووظائفها المتبعة لتصاريف النظم واختالف بنياته وتكويناته وتشكيالته .ونحن من أجل هذا
الغرض تحديدا ،وحين بلغنا موضع الحديث وفصل خطاب إسناد لفظ (الرب) إلى ضمير الجمع
المخاطب ،أي التركيب والمادة البيانية (ربكم) في السبر الداللي للفظ (الرب) في القرآن كأهم ما
اعتمدنا عليه في هذا الجزء والدراسة ،حينها الح لنا وظهر من بعدها أن مستحبا االستحضار لحقيقة
ومفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني ،ومن ثم تحتم علينا الرجوع والتطرق لمقوالت النحو
العربي ومفاهيمه المحورية بالنقد والتمحيص ،وأساسا في بعدها الوظيفي ومداها االستيعابي للحقيقة
العلمية .يقول ديونسيوس ثراكس صاحب التخني:
<<القواعد هي المعرفة العملية باستعماالت كتاب الشعر والنثر لأللفاظ ،وتشتمل على ستة أقسام:
-األول عن القراءة الصحيحة (بصوت مرتفع) مع وجوب مراعاة األوزان العروضية.
133
66مقتطفات من تاريخ العلم اللغوي في الغرب :ترجمة د .أحمد عوض -إصدار عالم المعرفة-ص47
134
المستتر ،فبقاعدة الناسخ وإسمه وخبره يكون نظره ورؤيته لهذا الواقع والوجود رؤية ونظرا مقلوبا،
كما هي تبعية التمثل الوجودي لألنموذج التقعيدي العلمي.67
كما أن المرتكزية والمحورية للناسخ في هذه المقول ،ينقضها ذات معناه المستمد تحديدا من نسخ
الحالة الحركية للموضوع والمحمول أو المسند والمسند إليه أو الحكم والمحكوم عليه .وهذا ليس
يرتبط إال ببعد واحد ضمن عدد من األبعاد والعالئق البنيوية للظاهرة والحدث الواقعي المعبر عنه،
من المادي والسببي ،والفضائي الزمني ،والمكاني ،والحقائقي ،وغيره من األوصال واألبعاد .فهذا
المعنى يدل ابتداء على سبق موضوع النسخ المنطبق بالمبتدإ وخبره ،وما هذا المسمى ناسخا هنا إال
مؤطر ومحدد زمني.
على هذا البعد الدراسي للتصنيف االصطالحي والتقعيدي في أقسام التعبير والجمل يقول ابن هشام
ويشير معترضا كما نقله كاتب (منهج ابن هشام) بقوله:
<< ثم يقول بأن الزمخشري – ومعه غيره – زاد بين أقسام الجمل الجملة الشرطية (انظر المفصل
مع شرح ابن يعيش ،88\0والمغني ص .)320والصواب أنها من قبيل الجملة الفعلية.
ويوضح في تنبيه أن المراد بصدر الجملة المسند أو المسند إليه ،فال عبرة بما تقدم عليهما من
68
الحروف ،ويضرب لذلك أمثلة توضيحية أكثرها من آيات الكتاب العزيز>>.
إن الدراسة العلمية والتحليل الموضوعي من غير التفات إلى مسبق األحكام ،وال تقديس لقول من
سبق ومن غير شك ،سيستبين معه خطأ مقولة الناسخ أوال باعتبارها مقوال تقعيديا ،حيث ال استيفاء
لها لشروط ومكونات القاعدة العلمية ،المنطبقة هنا بنسق إعرابي وظيفته فصل الخطاب معنى
وتركيبا ،ثم تصورها البعيد كل البعد عن الواقع ،تصورها الذي يقلب سلم الواقع ويعدم الحقيقة .هي
مقولة تفرغ الكالم من الداللة على معنى ،إلى أن تجعله أجوف في عالم الالشيء.
ثم هاهي أقسام الخبر لدى البالغيين إبتدائي وطلبي وإنكاري ،فهل يا ترى يقبل على أي من وجوه
العلم ومطلق معايير الموضوعية أن نجعل أداة ومؤشرا في السلم الحقائقي لإلخبار كأداة التوكيد (إن)
67Bernard d’Espagnat- Penser la science ou les enjeux du savoir- p148- La bibliotheque GAUTHIER-
VILLARS- Dunod
68المنهج ص013
135
مثال ،أن نجعلها أساسا ومرتكزا تقعيديا وهي في األصل والواقع المعبر عنه ليست كذلك ،إنما هي
مجرد قيمة حقائقية على بعد ضمن أبعاد عديدة مؤطرة لظاهرة وحدث واقعي معين؟!
ليس نافلة من القول وليس يغرب عن القارئ والقارئة ،أن تطرقنا للجانب اللغوي بدءا بالحديث عن
الداللة بإرساء حقيقة الحقل الداللي وتصريف المعاني ،في عالقته بالسياق بالتعريج على الطرح
البالغي المستجد في طوره لعبد القاهر الجرجاني ،ونهاية بالجامع لكل ذلك بالطرح العلمي المجرد
إلنتاج العقل العربي النحوي ،أن ذلك كله كان من مقتضى اللزوم تبعا إليجاب ما ال يحصل الواجب
إال به .ولست هنا بصدد إثارة اإلشكال البياني في التصور الوجودي وعالقة اللغة اإلنسانية بإطارها
المخلوقاتي المحدود ،وتحديدا باتصالها باإلنسان كمخلوق كلية خلقا وإدراكا ،وبما تكون عليه هذه
الصلة البيانية بين المحدود والمطلق ،والمشهود والالمشهود الذي ال يخطر لإلدراك والتصور ،فهذا
له حيزه الخاص ،وقد عرض له علماء أجالء راسخون كابن قيم الجوزية رحمه هللا تعالى .لكن الذي
يعرض لنا هنا تعيينا هو ارتباط النتاج والبيان اللغوي بالتوجيه النحوي ،أي بمقوالته نسقا
واصطالحا .والمثال البارز والذي كان األصل النواة في هذا االهتمام هو ما الحظناه بحق وبمعيار
من العلم ،ما الحظناه من بعد وفرق بعيد بين حقيقة ما نزل من قوله تعالى{:إن ربكم هللا} وما هو
مقروء منها ومتصور بيانا في عقل وعين مقولة الناسخ الحرفي وإسمه وخبره.
وفي خص وص هذه العالقة ذات الخطر والشأن بين مقوالت النحو واإلعراب خاصة والمعاني
المستخلصة والبيان ،يشير مؤلف منهج ابن هشام:
<< وبين أن من الحذف والتقدير ما يكون فضوال في علم ،وإنما هو للمفسر ،نحو{سرابيل تقيكم
الحر}(النحل الآلية )80حين يقولون إن التقدير :والبرد؛ ونحو {وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني
69
إسرائيل}(الشعراء )22حين يقولون إن التقدير :ولم تعبّدني>>.
<< ثم يستدرك فيقول إنه حين أقدم على شيء من ذلك لم يقدم عليه مقلدا لهم ،بل فعله ألنه وضع
70
الكتاب إلفادة متعاطي التفسير والعربية جميعا(.المغني .ص>>)722
ونذكر هنا أيضا ما أكده ونبه عليه ابن تيمية رحمه هللا من قول اإلمام أحمد بن حنبل رحمه هللا:
<< يحذر المتكلم في الفقه هذين األصلين :المجمل والقياس ،وقال :أكثر ما يخطئ الناس من جهة
التأويل والقياس>>..
69نفس المصدر-ص014
والتأويل كما يعلمه مؤصلو المعرفة والمعاني إنما هو قراءة للفظ ولنظمه؛ وإذا كان النظم هو تأليف
للكلم وأدوات اللغة والبيان ،فذلك معناه أنه يؤول ويؤصل إلى العلوم اللغوية التي عصبها علم النحو.
139
الباب الثالث
الفصل األول
ضالل مقولة تقسيم التوحيد وقولتهم :قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية!
71كتاب اإليمان.ص237-234
141
إنه لجلي أن هذا االعتراض الدليل به من الحسم والفصل ما ال يستنكف عنه وال يرده إال لجوج معاند.
وكذلك على نحو منه يستمد بأبسط التعريف والتحديد ما هو األصل من الدين ،المنطبق بمفهوم العلم
في حقائق منه ومستوى ،وأن منه شطرا ليس بالضروري وال كل مسلم مكلف بإدراكه ،وهو ال
ينقض كونه م ن األصل الثابت ومن حقيقة الدين الكامل كما هو داللة اآلية الكريمة وقوله
سبحانه{:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا'}(المائدة.)3
هاهنا يظهر لنا أن حجة ابن تيمية ومناط تعليله في خطإ المرجئة وانحرافهم عن سواء السبيل ،هذه
الحجة ومناط الدليل لم يكن سوى القانون الحق الذي ال جدال فيه ،الذي هو حرمة التصرف نقصا أو
زيادة أو تبديال للغة القرآن ،وأللفاظ المسميات والحقائق العليا في الدين.
إن الحقول الداللية للعناصر المعجمية واأللفاظ ليست قصرا أحادية ،وهذا دون الكالم والدخول في
حيز المجاز؛ فالغالب في الداللة إنما يشكل ويحدد بحسب مقام الكالم وسياقه .إن اللفظ الذي قد يدل
على معنى ما في سياق معين تلفيه في موضع كالم وسياق غيره قد صار بمعنى وداللة غير التي
كانت له.
ولو شئنا وذهبنا أكثر في التحديد وتشخيص محل التلبيس أللفيناه في استبدال داللة لسانية بالداللة
الشرعية واالصطالح الشرعي .وهذا ال شك سبيل مضل ونهج محرف .وهو كما يعلم من أشهر
وأكثر التعميالت السفسطائية تحريفا للحق وإضالال للقلوب.
العنصر المعجمي ولفظ (الرب) في اللسان العربي حقله الداللي غير أحادي ،أي أن دالالته ليس
تنحصر في داللة واحدة ال تعدوها .فمن دالالته المربي ،والمطاع ،والسيد ،وغيرها .فال جرم أن
الذين يحصرون ويقصرون هذا الحقل الداللي لهذه الدالالت المتعددة في داللة واحدة ،واألمر هنا
خطير وليس بالهين لشأن هذا التصرف في توجيه كالم هللا تعالى والقرآن المجيد ،ال جرم أنهم في
زيغ وضالل مبين .ذلك والمؤمن باهلل العظيم الذي يتقي هللا جل وعال ويخشاه ال تأخذه العزة باإلثم،
فال عصمة إال للوحي الكريم ،والمؤمن اللبيب الكيس من دار مع الحق ،أينما ولى فهو دليله ،ال تأخذه
في هللا مواله لومة الئم ،يستمع القول ،كما أسيد بن خضير رضي هللا عنه ،فيتبع أحسنه ،وإن الناس
سواسية أكرمهم عند هللا تعالى أتقاهم.
عليه وسلم بمكة ،هذه اآليات اإلخبارية الدعوية من جهة التحديد الخطابي التي علمها وخبرها أن هللا
تعالى هو الرب كما في قوله تعالى:
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يغشي الليل النهار
يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره' أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب
العالمين'}(األعراف)21
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يدبر األمر' ما من
شفيع إال من بعد إذنه' ذلكم هللا ربكم' فاعبدوه' أفال تذكرون'}(يونس)1
أيظن هؤالء أن هذه اآليات المثاني من القرآن العظيم وهذا التذكير المستمر ليس إال حشوا ال يفيد ما
أجمع عليه علماء البيان من اإلخبار المؤكد المثنى إفادة لعظم اإلخبار وشأنه؟ فتعالى هللا عما يصفون!
أال إن هللا تعالى أحكم الحاكمين! وإن مواضع اللفظ وتصريف البيان كلما وأسلوبا ألحكم في مواضعه
ومقاصده من مواضع النجوم! وما يفقه مشكاة القوانين للخلق األمر إال أولو األلباب!
وإذ لم يبصر أصحاب التقسيم الخاطئ الذي ليس له أثارة من علم حق وال أصل مكين ،أصحاب
المقولة المنكرة التي يكذبها القرآن ومن أصدق من هللا قيال ،إذ لم يبصروا فنذكرهم بقوله تعالى وقوله
سبحانه الحق:
{الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إال أن يقولوا ربنا هللا'}(الحج)18
ّ
فليكف هؤالء إذا عن قولهم المنكر! ألنه قول في حقيقته ،ولكنهم ال يبصرون ،قول يه ّون ما لقيه
الرسول صلى هللا عليه وسلم وصحابته رضي هللا عنهم من صنوف األذى والتنكيل والعذاب من
مشركي قريش. .
إنه ما أشنع قول القائل في معرض حديثه وهو يزعم نفسه عالما ،يقول باللفظ ،ولو كان مرددا لقول
بشر قد يكون أخطأ كما يخطئ الخلق من البشر ،يقول باللفظ(:كفار قريش خير من كفارنا وشركهم
أخف من شرك أهل زماننا!) ،فيكفي في رد هذا الخطإ وتبيان ضالله قوله تعالى العليم الحليم:
{كيف وإن يظهروا عليكم ال يرقبوا فيكم إال وال ذمة'}(التوبة)8
{ال يرقبون في مؤمن إال وال ذمة' وأولئك هم المعتدون'}(التوبة)01
144
أولئك أعداء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وآذوا أصحابه رضي هللا عنهم وحاصروهم في شعاب
مكة.
فهل يا ترى لهؤالء من حظ من الحكمة ومن المنطق الذي هو نسيج القلوب الذي بها يعقل؟
بربك هل يعقل من يقول وهو يجلس مجلس العالم الواعظ ،يقول( :تبا لمن كان أبو جهل أعلم منه
بمعنى كلمة ال إله إال هللا)؟
إنه ال يجوز البتة ولو على وجه ضرب المثل ،وال بأي سبيل كان ،ال يحق له أن يرفع ما وضعه هللا
تعالى وما وسمه سبحانه وجعل حكمه النجس .ومن ال يملك لنفسه ملكة تقيه سيء القول وباطله،
ويميز بها الخبيث من الطيب ،وتحجزه عن استحسان خالل أهل الشرك والكفر ،فإنه ال جرم ال يفقه
وال يدري ما يقول.
إن أول ما يجب على كل من يخوض في هذا الشأن العظيم من العلم أن يكون منظاره وسلمه لتقييم
الحقائق ،مطلق الحقائق ،أن يكون سلمه الحق ،الذي أولى معالمه تلك التي كانت حياة رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم وصحابته رضي هللا عنهم تبيانه وحقل تنزيله وتثبيته في األرض ،مشكاة للحق
على األرض للعالمين إلى يوم الدين .ليستحضر هؤالء وليجعل كل عالم وكل دارس الموجه األول له
الوقائع الكبرى لبدر وأحد واألحزاب ومؤتة! ليجعلها معين لكل مستويات الواقع الحقة ،وللعالقات
والمواقف الصحيحة التي غالبا ما نعبر عنها اختزاال بمبدأ الوالء والبراء!
روى اإلمام الحافظ أبو عبد هللا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري رحمه
هللا في صحيحه قال:
-حدثنا أح مد بن إسحاق السوماري قال :حدثنا عبيد هللا بن موسى قال :حدثنا إسرائيل ،عن أبي
إسحاق ،عن عمرو بن ميمون ،عن عبد هللا قال :بينما رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قائم يصلي في
الكعبة ،وجمع قريش في مجالسهم ،إذ قال قائل منهم :أال تنظرون إلى هذا المرائي ،أيكم يقوم إلى
جزور آل فالن ،فيعمد إلى فرثها ودمها وسالها ،فيجيء به ،ثم يمهله ،حتى إذا سجد وضعه بين
كتفيه؟ فانبعث أشقاهم ،فلما سجد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وضعه بين كتفيه ،وثبت النبي صلى
هللا عليه وسلم ساجدا ،فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك ،فانطلق منطلق إلى فاطمة
عليها السالم – وهي جويرية -فأقبلت تسعى ،وثبت النبي صلى هللا عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه،
وأقبلت تسبهم .فلما قضى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الصالة قال:
145
"اللهم عليك بقريش ،اللهم عليك بقريش ،اللهم عليك بقريش" ثم سمى" :اللهم عليك بعمرو بن هشام،
وعقبة بن أبي معيط ،وعمارة بن الوليد"
قال عبد هللا :فوهللا لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ،ثم سحبوا إلى القليب ،قليب بدر ،ثم قال رسول هللا
72
صلى هللا عليه وسلم" :وأتبع أصحاب القليب لعنة"
-حدثنا علي بن عبد هللا ،حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثنا األوزاعي قال :حدثني يحيى بن كثير قال:
حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال :حدثني عروة بن الزبير قال :قلت لعبد هللا بن عمرو بن العاص:
أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،قال بينا رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فخنقه
خنقا شديدا ،فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقال{:أتقتلون رجال
73
أن يقول ربي هللا وقد جاءكم بالبينات من ربكم'}(غافر)01
هذا الحديث ساقه البخاري في تفسيره لسورة المؤمن (غافر).
وفي الصحيح أيضا في باب ما أصاب النبي صلى هللا عليه وسلم من الجراح يوم أحد:
-حدثنا إسحاق بن نصر ،حدثنا عبد الرزاق ،عن معمر ،عن ه ّمام سمع أبا هريرة رضي هللا عنه
قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:
" اشتد غضب هللا على قوم فعلوا بنبيه – يشير إلى رباعيته – اشتد غضب هللا على رجل يقتله رسول
74
هللا صلى هللا عليه وسلم في سبيل هللا"
-حدثني مخلد بن مالك ،حدثنا يحيى بن سعيد األموي ،حدثنا ابن جريج ،عن عمرو بن دينار ،عن
عكرمة ،عن ابن عباس رضي هللا عنهما قال:
- 72الحديث221
-73الحديث .3802
–74الحديث.3171
146
" اشتد غضب هللا على من قتله النبي صلى هللا عليه وسلم في سبيل هللا ،اشتد غضب هللا على قوم
75
د ّموا وجه نبي هللا صلى هللا عليه وسلم"
وفي الصحيح أيضا:
-حدثنا حجاج بن منهال ،حدثنا هشيم ،عن أبي بشر ،عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي هللا
عنهما قال:
" كان النبي صلى هللا عليه وسلم متواريا بمكة ،وكان يرفع صوته ،فإذا سمع المشركون سبوا القرآن
ومن جاء به ،فقال هللا عز وجل لنبيه صلى هللا عليه وسلم{ :وال تجهر بصالتك وال تخافت
بها'}(اإلسراء)001
. . .
نعيد التذكير مرة أخرى أن كل ما استهللنا به من تفصيل معرفي للغة ،بدءا من المعجم وصوال إلى
األسلوبية من خالل عتبتها الممثلة تحديدا في السياق ،هذا المسار العلمي والمساحة المعرفية ،التي ال
تهم اللسان العربي لوحده ،وال لسانا دون آخر ،بل عموم اللغة والبيان اإلنساني ممثال ومختزال في
االعتبار والتقرير بما أصطلح عليه األلسنيون بالخاصة اإلبداعية للغة اإلنسانية..
وكذلك مما هو أقوى توجيها وتأطيرا ،من خالل الواقع الذي عاشه رسول هللا صلى هللا عليه وسالمه
وأصحابه الكرام رضي هللا عنهم ،وغطرسة قريش وتكذيبها وحجم وجرم الشنآن الذي أكثر ما
يصوره وينقله ما هو محفوظ ذكرا يتلى للعالمين إلى يوم الدين{:أتقتلون رجال أن يقول ربي هللا وقد
جاءكم البينات من ربكم'}(غافر )01وكأن هذا الذي يزعمونه ويرددونه تقليدا وجهال أن قريشا كانت
تقر بتوحيد الربوبية ،إنما كان في الحق وبيان القرآن العظيم الذي هو الحق وغيره الباطل ال ريب
فيه ،كأن ذلكم هو مدار الصراع والقضية الكبرى..
لقد كان كل ذلك مبدءا توجبه الضرورة العملية لتوضع المفاهيم واألسس موضعها ،وليعلم أنما العلم
ليس الكالم مجرد الكالم ،وإنما ما سدد بالحق في البيان ،وتأسس على بينات من الحق والميزان ،فإن
–75الحديث.3173
147
القرآن عظيم وكل لفظ وكلمة منه من حيث السياق واألسلوب شأنه عظيم ،وما المعراج في علم
القرآن إال البيان.
148
الفصل الثاني
السبر الداللي للفظ (الرب) في القرآن الكريم
من خالل ما تقدم وبمنظاره العلمي ،لنصوب قلوبنا وجهة الحق الذي ال يشوبه اختالف ،وتلقاء النور
الذي يبدد الظلمات ،وتنزاح به الشكوك والشبهات ،ويهتدى به إلى السداد الذي دونه الظن والجدل
بغير علم والمماراة.
إنه لما كان هذا التقسيم الذي زعموه للتوحيد قد جمع بين كل صنوف االختالف والخطإ ،فأضاف إلى
خلطه وخطئه العظيم الذي مس لفظا محوريا في بيان وتالوة القرآن العظيم ،فتجلى تحقيق ما نزل به
من عند هللا الحق المبين تصديقا لقوله تعالى{:إنا نحن نزلنا الذكر' وإنا له لحافظون'}(الحجر ،)2أي
بحق وقوة المناعة الذاتية للحق تجلى إخالل هذا التقسيم ومقولته الخاطئة بالحق والميزان ،تجلى
ظاهرا فاحشا في إخالله بشرط مباينة القسائم الالزم لصحة أي تقسيم ،وليقوم على الفصل في ما هو
في الحق والحقيقة ال ينفصل.
الخطأ الداللي إذا هو أصل ومكمن خطإ وضالل هذا التقسيم ،تقسيم التوحيد على لغتهم وزعمهم.
من أجل هذا ،ولتبيانه ال مندوحة من القيام بدراسة واعية مستوعبة لعناصر الداللة قي هذا التركيب،
وتحديدا في سبر ودراسة تصريف لفظ (الرب) في القرآن ،حتى تتضح حقيقة األقوال ويتبين الحق
من الباطل ،فيكون لكل مؤمن ومؤمنة من قلبه بصيرة وحجة ،من بعد ما جاءه العلم قائما بالبينات
وبالبرهان.
ونذكر ونؤكد مرة أخرى معذرة إلى هللا تعالى ذي الحجة البالغة ،أن القرآن والسنة النبوية الشريفة
كإطار تبيانا للتنزيل ،يردان هذا التقسيم كلية ،ومن أية جهة نظرت إليه .وما كان هذا الذي ندلي به
هنا إال إحقاقا للحق ،مستمدا من كتاب هللا العزيز الحكيم ،وتسطيرا للنهج والسبيل العلمي القويم .وإن
اآلية البينة التي جعلها الصديق رضي هللا عنه البيان لموقفه الكريم" :أتقتلون رجال أن يقوب ربي
هللا!" لتكفي ،ولهي أصدق من قول البشر جميعا ،وهي األصل واضحا ،يرد إفك هذه الكلمة الخاطئة
149
(قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية)! ويرد كل ما هو مستلزم وجودا وعدما بها ،وتحديدا هذا التقسيم
للتوحيد كما يزعمونه؛ فتعالى الحق عما يصفون !
سيكون المناط في هذا السبر والمرجع بسلم ومعيار ثنائي واضح ،محددا في االنتماء والالنتماء لداللة
كلمة (الرب) للحقيقة والمعنى الدال على العبادة هلل تعالى.
. . .
أتى لفظ (الرب) في القرآن الحكيم بمختلف أحواله الصرفية واإلعرابية واإلسنادية ألف مرة إال ستا
وثالثين( . )243ولئن كان التوظيف اللغوي يجلي كما بيناه في الفصول السابقة ،يجلي حقيقة قوله
سبحانه وتعالى{:إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون'}(الزخرف ،)2حيث نجد ذلك في انتقال معاني
اللفظ من معنى إلى آخر من المعاني المختلفة ،معجميها واصطالحيها المنطبقة هنا بالداللة الشرعية؛
لئن كان ذلك اقتضاء للسان القرآن ،اللسان العربي المبين ،فإن الغالب هو المعنى والداللة الشرعية؛
بل هي الداللة إذا جرد اللفظ في سياقه عن قرينة تصرفه عن العام الشرعي ،كما هو الشأن والحال
في الوحي الكريم كتابا وسنة ،كما سيأتي بيانه ويتضح بعد حين.
ولعل أنجع منحى على مستوى التحليل مناسب لهدف هذه الدراسة ومقصدها ،في تحديد معنى هذا
اللفظ المحوري في القرآن العظيم ،لفظ (الرب) ،وبغاية سبر أصناف السياق باعتبار الحقيقتين :عالقة
وحال العبودية ،وهي حال لحقيقة مستمرة ،والحقيقة الثانية :الصلة التي تصل بين العابد والمعبود؛
هذا المنحى يتحقق بجعل اإلسناد واالنتماء للحقل الخطابي مستندا ومرجعا أوليا في التصنيف .وذلك
مع بداهة عدم االختالف وال الجدل فيما هو جلي واضح من السياق والمعنى كقوله تعالى في سورة
يوسف{:يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما اآلخر فتأكل الطير من رأسه' قضي
األمر الذي فيه تستفتيان' وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك' فأنساه الشيطان ذكر ربه
فلبث في السجن بضع سنين'}(يوسف.)32-30
نعني بهذه المرجعية فصل التوظيف الخطابي بالمعنى الصرفي للخطاب ،أي ما كان مسندا إلى
ضمير من ضمائر الخطاب عما هو خارج عنه ،كالمسند إلى ضمير الغائب ،أو ما أضيف وأسند في
اإلخبار والقول إلى إسم ظاهر.
لماذا هذا التوجه التصنيفي وهذا المعيار في التحليل بالذات؟
150
الجواب بخصوصه قريب بالمثال :فلو تلونا عليك اآلية الكريمة وقوله سبحانه وتعالى{:رب اغفر لي
ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات' وال تزد الظالمين إال تبارا'}(نوح )11ثم طلب
منك وسئلت عن توظيف ومعنى لفظ (الرب) في سياقها أكان للداللة االصطالحية الشرعية
المتضمنة لحقيقة العبادة ،أم لغيرها من الدالالت المعجمية غير المنطبقة بالمعنى الشرعي؟ فإن
جوابك سيكون وال شك :إنه بالطبع للداللة الشرعية .ولئن سئلت عن حجتك ودليلك في ما ذهبت إليه
من القول لبادرت على التو غير متردد ،مبرزا حجتك بأن هذه اآلية تحكي قول نبي ،وقول النبي:
(ربي) مطلقا من غير قرينة صارفة ظاهرة ال ينبغي حمله إال على المعنى الشرعي بمعنى المعبود.
. . .
ثم لتحقق الوضوح وجلوة العلم في هذه الدراسة ال بد من إعادة وفصل القول في مسألة أثيرت قبل،
والتي اختزلناها باإلحالة إلى الحق من قوله سبحانه{:أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج
مشيدة' وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند هللا' وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك' قل كل من
عند هللا' فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'}(النساء.)77
إن في قوله جل وعال{:قل كل من عند هللا'} الكفاية في البيان لمن يعقل ،وتقويما وردا للعقيم من
التفكير الذي خاض به أصحابه في مسألة الجبر واالختيار والقضاء والقدر .وصلة هذا بموضوعنا
ودراستنا هو ضرورة العلم والمعرفة بما يتصل باألبعاد الوجودية وفضاء كينونة اإلنسان .وما يلزم
ضبطه واالتفاق بشأنه ،أن الدنيا دار عمل واآلخرة دار جزاء .فما الذي يمكن إذا ميزه وفصله من
جهة أبعاد ودرجات الوجود؟
إن قوله تعالى المبين{:الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمال' وهو العزيز
الغفور'}(الملك ،)2قوله سبحانه{:ليبلوكم أحسن عمال} يفيد درجة غير منعدمة من التواجد في هذا
الوجود ،بمعنى أن هناك مجال تخيير لإلنسان بأكثر من سبيل وإمكان واحد.
أما الضابط الثاني الذي يجب اعتباره هو أن هذه القوانين المدبرة والمتحكمة في األسباب والمسببات،
والمواد والنتاجات على مختلف درجات حرية الوجود كسبا واكتسابا ،على هدي الحق في الشريعة أو
ضالال ،كل ذلك سائر وقائم بالحق:
{خلق هللا السماوات واألرض بالحق' إن في ذلك آلية للمؤمنين'}(العنكبوت)33
{ما خلقنا السماوات واألرض وما بينهما إال بالحق وأجل مسمى'}(األحقاف)2
{من عمل صالحا فلنفسه' ومن أساء فعليها' وما ربك بظالم للعبيد'}(فصلت)32
{ذلك بما قدمت يداك وأن هللا ليس بظالم للعبيد'}(الحج)01
{قل ك ّل من عند هللا' فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'}(النساء)72
هكذا فالحيز الذي يخص ويعمل فيه التمييز اإلسنادي والخطابي هو حيز ومجال التكليف ،حيز العمل
واالبتالء في اختيار العمل:
153
{إن الذين يلحدون في آياتنا ال يخفون علينا' أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة'
اعملوا ما شئتم' إنه بما تعملون بصير'}(فصلت)31
{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن' وهللا بما تعملون بصير' خلق السماوات واألرض بالحق
وصوركم فأحسن صوركم' وإليه المصير' يعلم ما في السماوات واألرض ويعلم ما تسرون وما
تعلنون' وهللا عليم بذات الصدور'}(التغابن)3..2
وهذا الحيز يخص الثقلين من اإلنس والجن إبان التكليف ،أما الخلق مما وجوده ليس تواجدا بدرجة
اكتسابية غير منعدمة ،وسواء في إطار دنيوي غير تكليفي أو باالنتقال للدار اآلخرة وحصول اليقين
حيث ال ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ،فذلك ال يقع فيه اكتساب
عملي أو قولي بمعنى خطابي من شأنه التمييز .لذلك نجعل مرجعية الخطاب من أجل هذا التمييز
داخل حيز التكليف ،فنقول إما (منطلق إيماني) أو (منطلق غير إيماني) .وخارج هذا الحيز فإنما هي
عبودية تامة{:كل قد علم صالته وتسبيحه'} (النور ،)31وهذا ما ينحو به البيان والداللة في{:رب
العالمين}{،رب المشارق والمغارب} .وهكذا فحين نقول(:خارج هذا الحيز) ال نعني به الخروج عن
القهر اإللهي ،وإنما باعتبار ما تقدم وما تحتم علمه وفقهه.
والحقيقة الثانية التي يلزم كل من نشد كسب فقه الخطاب القرآني أن يعلمها شرطا الزما أكيدا هي أن
ال خاصة تمييز إلسناد لفظ (الرب) خارج شرط التكليف وإطاره .ونسوق هنا كلمة مفيدة تلخص على
نحو محكم وصورة بديعة سؤال عالقة اللغوي باالصطالحي ،مع اتصال وتماس موضوعي بإشكالية
تأثير هذا اإلسناد ،واعتبار خاصته التي تحدده وتميزه؛ قال اإلمام الفقيه محمد بن علي الشوكاني
رحمه هللا في معرض تفسيره لقوله عز وجل{:فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة هللا التي فطر الناس
عليها ال تبديل لخلق هللا ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس ال يعلمون}(الروم:)11
<< . .الفطرة في األصل الخلقة ،والمراد بها هنا الملة ،وهي اإلسالم والتوحيد .قال الواحدي :هذا
قول المفسرين في فطرة هللا ،والمراد بالناس هنا الذين فطرهم هللا على اإلسالم ،ألن المشرك لم يفطر
على اإلسالم ،وهذا الخطاب وإن كان خاصا برسول هللا فأمته داخلة معه فيه .قال القرطبي باتفاق من
أهل الت أويل :واألولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم ،وأنهم جميعا
مفطورون على ذلك لوال عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة
الثابت في الصحيح قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم(( :ما من مولود إال يولد على الفطرة-
وفي رواية :على هذه الملة -ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء
هل تحسون فيها من جدعاء؟)) ثم يقول أبو هريرة :واقرأوا إن شئتم {فطرة هللا التي فطر الناس
154
عليها ال تبديل لخلق هللا} .وفي رواية" :حتى تكونوا أنتم تجدعونها" .وسيأتي في آخر البحث ما ورد
معاضدا لحديث أبي هريرة هذا .فكل فرد من أفراد الناس مفطور أي مخلوق على ملة اإلسالم ،ولكن
ال اعتبار باإليمان واإلسالم الفطريين ،وإنما يعتبر اإليمان واإلسالم الشرعيان ،وهذا قول جماعة من
الصحابة ومن بعدهم ،وقول جماعة من المفسرين ،وهو الحق.
والقول بأن المراد بالفطرة هنا اإلسالم هو مذهب جمهور السلف .وقال آخرون :هي البداءة التي
ابتدأهم هللا عليها ،فإنه ابتدأهم للحياة والموت ،والسعادة والشقاوة .والفاطر في كالم العرب هو
المبتدئ،وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة وإهمال معناها شرعا ،والمعنى الشرعي
مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع ،وال ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في
بعض المواضع مرادا بها المعنى اللغوي كقوله تعالى{:الحمد هلل فاطر السماوات واألرض} أي
خالقهما ومبتديهما ،وكقوله{:وما لي ال أعبد الذي فطرني} إذ ال نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا،
76
ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة ،وهو ما ذكره األولون كما بيناه>>. .
الشاهد عندنا هو هذا الحكم المعرفي العلمي الجلي الراسخ:
<< ولكن ال اعتبار باإليمان واإلسالم الفطريين ،وإنما يعتبر اإليمان واإلسالم الشرعيان .وهذا قول
جماعة من الصحابة ومن بعدهم وقول جماعة من المفسرين ،وهو الحق>>.
<<والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع ،وال ينافي ذلك ورود الفطرة في
الكتاب والسنة في بعض المواضع مرادا بها المعنوي اللغوي>>.
إذا عدنا إذا إلى اآليات المستثناة في المجال الخطابي للفظ (رب !) محل الدعاء والنداء ،فكونها خارج
حيز التكليف ال خاصة تمييز لها ،وهي ضمن المعنى الداللي في كلمته وقوله سبحانه{:رب
العالمين} أي بمعنى هذا اللفظ والتركيب .فلفظ (رب) هنا له من المعاني والحقائق ما العبودية مكون
فيه وحقيقة .وإن نحن ذهبنا نتدبر و نتلو جوار وسياق اآليات من قوله تعالى:
{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون'}(الحجر -14ص' )72
{قال رب بما أغويتني ألزينن لهم في األرض وألغوينهم أجمعين}(الحجر)12
76فتح القدير
155
لعلم منه ومن بيانه وفقهه أن المعنى والمضمون يفيد الحكم والقضاء ،أي أن هللا تعالى قضى ،كما هو
ماثل لغة في قوله تعالى{:وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في األرض مرتين ولتعلن علوا
كبيرا'}(اإلسراء ،)3وأن الشيطان الرجيم هذه سبيله وجبلته أبدا ،الغواية واإلضالل ،يمني أتباعه
ويعدهم وما يعدهم إال غرورا ،إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ،وأن ذلك كله إنما هو
سنن وقانون ال يتخلف وال يحيد:
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان' وكفى بربك وكيال'}(اإلسراء)42
{والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم'}(محمد)08
{وما ربك بظالم للعبيد'}(الحج.)01
كذلك بخصوص اإلسناد فإن اآليات:
{حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كال'}(المؤمنون)22
{وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لوال أخرتني إلى أجل قريب
فأصدق وأكن من الصالحين'}(المنافقون)01
{قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا'}(طه)021
فهذا كله خارج اإلطار التكليفي كذلك ،والبيان المقرر لفقهه يكفي فيه قوله جل وعال:
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا
موقنون' ولو شئنا آلتينا كل نفس هداها' ولكن حق القول مني ألمألن جهنم من الجنة والناس
أجمعين'}(السجدة)01-02
ويقول سبحانه وهو الحق أحكم الحاكمين:
{قل يوم الفتح ال ينفع الذين كفروا إيمانهم وال هم ينظرون'}(السجدة.)22
فهذا بيان ناصح بليغ تفصيل الحكم< :إنما يعتبر اإليمان واإلسالم الشرعيان>.
. . .
156
0 والمغربين
في هذه المعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي :نرمز له برمز ص.0
. . .
1 آبائكم األولين
حيز إيماني 2 موسى وهارون
حيز إيماني 0 هارون وموسى
ص0 0 الفلق
0 الناس
ص0 0 الشعرى
ص0 0 البلدة
ص0 0 هذا البيت
ص0 0 العزة
أمكن اعتبار حد أدنى للداللة الشرعية في كل اإلسنادات هذه إال أربعا مع اعتبار حقيقة "حد أدنى"
ومعيار التسديد والتقريب.
هكذا نرى أن شطر هذا اإلسناد في القرآن الحكيم ،إسناد لفظ (رب) إلى الظاهر من اإلسم تركيب
(رب العالمين) .وإذا كان معناه وإسناده يفيد معنى العبودية المطلقة هلل تعالى الواحد القهار ،فما بقي
من هذا القسم والصنف ال يخرج عن هذا المعنى .ولئن رمنا الدقة والتسديد أكثر ،والصرامة والتحفظ
العلمي ،استثنينا سبعة سياقات يؤول الحكم فيها لمعنى غير منطبق حصرا بالعبودية والملكية أو
المالكية ،وإنما مع تضمنه هذا المعنى فهو يتجاوزه إلى معنى العبادة في ثالثة إسنادات ،وهي الواردة
في قوله سبحانه:
158
{قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤالء الذي أغوينا أغويناهم كما غوينا' تبرأنا إليك ما كانوا إيانا
يعبدون'}القصص)41
{وقال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضالل بعيد'}(ق')27
واآليات األخر هي:
{ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من اإلنس' وقال أولياؤهم من اإلنس ربنا استمتع
بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا' قال النار مثواكم خالدين فيها إال ما شاء هللا' إن ربك حكيم
عليم'}(األنعام)028
{ ..حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم ألوالهم ربنا هؤالء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من
النار'}(األعراف)18
{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤالء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك' فألقوا إليهم
القول إنكم لكاذبون'}النحل)14
{ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لوال أرسلت إلينا رسوال فنتبع آياتك من قبل أن نذل
ونخزى'}(طه)013
{قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين' ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا
ظالمون'}(المؤمنون)017-014
{ولوال أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لوال أرسلت إلينا رسوال فنتبع آياتك ونكون
من المؤمنين'}(القصص)37
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا
موقنون'}(السجدة)02
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيال' ربنا آتهم ضعفا من العذاب والعنهم لعنا
كثيرا'}(األحزاب)48-47
{وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل' أولم نعمركم ما يتذكر فيه من
تذكر وجاءكم النذير' فذوقوا فما للظالمين من نصير'}فاطر)17
160
-2الحقل المخاطباتي
اإلسناد للمخاطب في مختلف تصريفاته له من الناحية الدراسية بعض الميزات التي إلسناد المتكلم،
خاصة في بيانه االنفعالي .فإذا كان أبرز ما يميز أسلوب الدعاء والنداء عن غيره هو لغوية التواجد
والسلوك ،أي يكون حينها السلوك التواجدي والبياني منطبقين ،فاللغة في األسلوب الخطابي تعتمد
على التعدد في طرفي الخطاب كونه عملية تواصلية .من ثمة فهذا التعدد حين اإلسناد للفظ (رب)
يعني ويصبح مكافئا لالختالف ،ذلك أنه إما دال على االختالف األول أي اختالف الخالق سبحانه عن
المخلوق والعابد عن المعبود جل عاله ،وإما أنه يدل على اختالف المعبود حال مخلوقية كال طرفي
الخطاب ،إال أن يكون من ضروب من البالغة وطرق البيان بتقدير وبداللة إيحائية .وبالطبع فهذا أمر
ومستوى ثان من مستويات التحليل في بيان بطالن المقولة التقسيمية وإبطال المعنى الخاطئ للربوبية
الذي يقوم عليه بناؤها.
163
المخاطب المفرد:
نبدأ إذا بالمسند للمفرد المخاطب .فقد ورد إسناد (ربك) بنوعيه المذكر والمؤنث إثنتي وأربعين
ومائتي مرة ( .)232وإذا اعتبرنا أن مقام خطاب مريم عليها السالم مقامه في درجة الخطاب لمقام
النبوة ،وقد جاء ذلك في أربع آيات من الوحي الكريم:
{يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين'}(آل عمران)31
{قال إنما أنا رسول ربك ألهب لك غالما زكيا'}(مريم)02
{قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا' وكان أمرا مقضيا'}(مريم)20
{فناداها من تحتها أال تحزني قد جعل ربك تحتك سريا'}(مريم)23
على هذا االعتبار ،وبالتسديد والتقريب معيارا دراسيا عمليا ،فإن مائتين وعشرين ( )221من هذا
اإلسناد هو من المقام األعلى خطابا إلى مقام النبوة ودرجة مقام خطابها .وإن يكن أمر له قيمة
المعطى العلمي المكين الوازن الثابت في تحديد وتأطير داللة ومعنى الرب في القرآن الكريم وشرعه
المنزل حكما عربيا ولسانا مبينا ،إن يكن فهو هذا اإلسناد كما نزل بيانه ولسانه في الكتاب ،ولن نبالغ
أو نجنح عن الحق إن قلنا لهو أبلغ في التدليل على هذا التنزيل الداللي من سابقه خطاب وسياق
الدعاء والنداء ،مما سيأتي توضيحه أكثر بعد قليل بإذن هللا تعالى.
أيضا نجد ثمان آيات وسياقات على موضع مقام النبوة طرفاها الخطابيان موسى عليه السالم وبنو
إسرائيل ،وهي:
{فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت األرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها'}(البقرة)40
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي'}(البقرة)48
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها'}(البقرة)42
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء هللا لمهتدون'}(البقرة)71
{فاذهب أنت وربك فقاتال إنا ها هنا قاعدون'}(المائدة)23
164
فأهم ما يميز القرآن العظيم ويجلي بعدا من أبعاد إعجازه التي ال يحصيها اإلدراك اإلنساني ،هو
درجة تغيير مآخذ القول وتصريف لمنحى الخطاب مما يعبر عنه بااللتفات ،وهذا من أهم وجوه
اإلعجاز وأهم ما يميز الخطاب القرآني؛ فاهلل تعالى هو الحق ،وال نحيط به سبحانه علما ،وهللا واسع
عليم .إذن فال يجزم بكون الخطاب في هذه السياقات أنه خطاب لمقام النبوة .يقول اإلمام الشوكاني
بهذا الصدد في تفسيره وبيانه لآلية من سورة الرحمان {ويبقى وجه ربك ذي الجالل واإلكرام'}،
يقول بخصوص اإلسناد والخطاب (ربك):
<<والخطاب في قوله (ربك) للنبي صلى هللا عليه وسلم أو لكل من يصلح له>>
إسنادان أو آيتان يصنفان حسب معيار التصنيف والسبر هنا ويلحقان بصنف إسناد (رب العالمين)
هما:
{ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلال'}(النحل)42
{يا أيها اإلنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فمالقيه'}(االنشقاق)4
وأما بخصوص اآلية واإلسناد في قوله عز وجل:
{يا أيها اإلنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء
ركبك'}(االنفطار)8. .4
فقد قال الشوكاني:
<<هذا خطاب الكفار :أي ما الذي غرك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في
الدنيا بإكمال خلقك وحواسك ،وجعلك عاقال فاهما ،رزقك وأنعم عليك بنعمه التي ال تقدر على جحد
شيء منها .قال قتادة :غره شيطانه المسلط عليه .وقال الحسن :غره شيطانه الخبيث .وقيل حمقه
77
وجهله .وقيل غره عفو هللا إذا لم يعاجله بالعقوبة أول مرة ،كذا قال مقاتل>>.
وفي اآلية من سورة االنشقاق في داللة الخطاب {يا أيها اإلنسان} جاء قوله:
77فتح القدير
166
<<{يا أيها اإلنسان} المراد جنس اإلنسان ،فيشمل المؤمن والكافر؛ وقيل هو اإلنسان الكافر ،واألول
أولى لما سيأتي من التفصيل>>.
هكذا يتبين جواز إلحاق إسناد اآلية الكريمة من سورة االنفطار إلى صنف ما خطابه موجه إلى غير
مقام اإليمان ،كما يجوز إلحاقه بصنف داللة إسناد (رب العالمين) باعتباره بيانا وأسلوبا في التعبير
عن الوعيد ،أو باعتبار صرف داللة اإلخبار واالستفهام الدال على اإلنكار إلى معنى النهي والوعيد،
وهللا تعالى هو أعلم بالتأويل.
يتجلى لنا إذن في إسناد (ربك) بيانا في القرآن العظيم وبالتسديد والتقريب أن ثالثة وثالثين ومائتين
( )211من جملة ( )232كلها موجهة إلى مقام اإليمان ،بل إن ثمانية وعشرين ومائتين ( )228منها
كله إلى مقام النبوة الكريم .وإذا اعتبرنا اآليتين اللتين جاء خطابهما بمتعلق اإلسناد خارج حيز
التكليف .بهذا كله وبنسبة الداللة الشرعية التي نزل بها هذا اإلسناد في بيان القرآن العربي المبين،
فإن الحكم الذي يجب القضاء به بتا جازما وحسما هو خطأ وبطالن المقولة التقسيمية ،مقولة أقسام
التوحيد كما يزعمون ويصفون ،ألن الداللة التي جعلوها للفظ (الرب) ،والتي هي الركن األساس
وقاعدة هذا التقسيم ،هي داللة ومفهوم خاطئ ال يصح.
إن البعد التحليلي هنا بالنسبة لضمائر الخطاب بالمعنى الصرفي ،وكما أشرنا إليه ،يجد أهميته في
داللة النسبة التي تؤديها وتوظف فيها الضمائر ،أي فيما عبرنا كحقيقة ومبدإ معرفي باالختالف.
فاالختالف األول ،اختالف المعبود الخالق سبحانه جل عاله عن العابد (المخلوق) .ومطلق الخطاب
والسياق الذي ليس به قرينة دالة على إنحاء بالمعنى إلى داللة معجمية محددة كما في اآليتين من
سورة يوسف ،فال يحمل المعنى إال على الداللة الشرعية للرب بمعنى الخالق المعبود .فهذا المعتبر
في قراءة منحى الخطاب الذي منطلقه المقام األعلى ومقام الرسالة والنبوة الكريم.
االختالف الثاني أو اآلخر تكون فيه داللة النسبة لها حقيقتها البيانية ،وذلك كما في قوله سبحانه في
اآلية من سورة طه{ :قال فمن ربكما يا موسى'}
ولقد جاء من المقام األعلى ومقام الرسالة والنبوة في المنحى والمنطلق من الخطاب في إسناد (ربك)
ثالثون ومائتان ( .)211وإذا استثني منه أربعة ،إثنان خارج التكليف وإثنان معجميان ،فإن الثمانية
المكملة لمجموع اإلسناد كله الذي هو ( )232إنما طرفا الخطاب فيها موسى عليه السالم وبنو
إسرائيل ،مما يعني تحقق ووجوب إعمال االختالف.
اإلسناد للمخاطب المثنى:
167
اإلسناد لضمير التثنية (ربكما) في القرآن الحكيم عدده ثالثة وثالثون ( ،)11اجتمع كله في سورة
واحدة ،سورة الرحمان ،قوال حكيما مثنى{:فبأي آالء ربكما تكذبان'} ،إال إسنادين في آيتين اثنتين
هما:
{وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إال أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين'}(األعراف)21
{قال فمن ربكما يا موسى'}(طه)32
أول الموجهات التحليلية بالنسبة آليات سورة الرحمان المثناة آيات بينات قوال حكيما هو عامل
االختالف األول .إن الخطاب منطلقه الجليل الرب جل وعال ،رب السماوات واألرض وما فيهن،
خطاب إلى المخلوق الفقير من خالقه .بل وهذا المعطى هو في توافق وموازاة بيانية مع موضوع
السورة ،ومع هذا السرد الحكيم في سياقات وذكر النعم والتذكير المستمر بهذه اآليات الحكيمة،
المتعددة جوهرا وداللة بمقتضى الحكمة ،المشتركة والمتحدة في مادتها المعجمية ولفظها.
وإن هذا بالضبط هو الممثل للمعطى الثاني لقراءة اإلسناد (ربكما) .وإذا قلنا بالموازاة البيانية ،فإن
أول السورة يتوخى ويرى كأنه تنبيه وتوجيه للقلب واإلدراك للحقيقة المطلقة على كل أبعاد الكون
والوجود ،حقيقة عبودية ما في السماوات واألرض من خلق وكائنات لخالقها سبحانه:
{الشمس والقمر بحسبان'} الدالة على حقيقة القهر وسنن الخلق واألمر.
{والنجم والشجر يسجدان'} األوبة واالنقياد الوجودي للمولى الخالق األحد الصمد تبارك إسمه وجل
عاله.
إذن فافتقار المخلوق إلى خالقه أصل دائم وهو القراءة الحقة للوجود ،ألنه سبحانه خالق كل شيء
وهو الحي القيوم به قوام كل أمر وخلق ،وهو الرحمان الرحيم الذي يمسك السماوات واألرض أن
تزوال ،ولنتل قوله سبحانه:
{أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن' ما يمسكهن إال الرحمان' إنه بكل شيء
بصير'}(الملك)02
{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين'}(الملك)11
168
الحقل البياني إذا لسورة الرحمان يرى في صنف مثاني الحقائق المحورية لقوله سبحانه وهو العليم
الحكيم:
{قل أغير هللا أبغي ربا وهو رب كل شيء'}(األنعام)044
فمعنى ومادة البيان (أبغي) هنا في اآلية الكريمة على منحى مادة (أتخذ) باعتبار التاء المزيدة الدالة
على السعي واإلرادة ،وداللة (يسأله) في قوله تعالى:
{يسأله من في السماوات واألرض كل يوم هو في شأن'}(الرحمان.)22
وهذا المعنى والحقيقة يكفيان لمن كان له قلب يعقل به ويفقه به معان الكلم واأللفاظ ،هذا يكفي لدحض
القاموس اللغوي الذي تقوم عليه مقولة التقسيم ،والذي ال يصح إال عند أصحابه وما هو في الحق
بصحيح؛ فالمعنى الصحيح للرب هو الذي نزل به القرآن ،ال المعنى الذي جعلوه جهال وضالال،
وحجة هللا ذي العزة والجبروت حجة بالغة وإليه المصير.
<<أخرج الترمذي وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة ،والحاكم وصححه ،وابن مردويه والبيهقي في
الدالئل ،عن جابر بن عبد هللا قال:
((خرج رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم على أصحابه ،فقرأ عليهم سورة الرحمان من أولها إلى
آخرها فسكتوا ،فقال ما لي أراكم سكوتا؟ لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم،
كلما أتيت على قوله {فبأي آالء ربكما تكذبان'} قالوا :الشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)).
قال التر مذي بعد إخراجه :هذا حديث غريب ال نعرفه إال من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن
محمد .وحكي عن اإلمام أحمد أنه كان يستنكر روايته عن زهير .وقال البزار :ال نعرفه يروى إال من
هذا الوجه .وأخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في اإلفراد وابن مردويه والخطيب
في تاريخه ،من حديث ابن عمر وصحح السيوطي إسناده .وقال البزار :ال نعلمه يروى عن النبي
صلى هللا عليه وآله وسلم إال من هذا الوجه بهذا اإلسناد>>.
من الناحية أو المعيار العلمي ،ولفصل القصر الداللي على المعنى التقسيمي ،ننقل ونورد هنا ما
ذكره في فتح القدير بشأن المخاطب في قوله تعالى من سورة النجم{:فبأي آالء ربك تتمارى'} ،قال:
<<هذا خطاب لإلنسان المكذب ،أي فبأي نعم ربك أيها اإلنسان المكذب تشكك وتمتري ،وقيل
الخطاب لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم تعريضا لغيره ،وقيل لكل من يصلح له>>.
169
إجماال ،فإن إعمال االختالف كاف لفصل الحصر على الداللة التقسيمية؛ فاآليتان األوليان اختالف
السبل والمعبود؛ واآليات التي من سورة الرحمان االختالف األول؛ الخطاب مصدره ومنطلقه رب
السماوات واألرض جل وعال ما من شيء إال يسبح بحمده وكل له قانتون .فالخلق والوجود جميعا في
كل بعد ما من أبعاده منقاد ألمره ،يدبر األمر فيكون؛ هو األول ،ما من شيء إال بتدبيره سبحانه
وأمره؛ وهذا ما جاء مولى له بيانه في صدر سورة الرحمان:
{الشمس والقمر بحسبان' والنجم والشجر يسجدان'}
ها هنا ال بد أو لنقل من المستحسن التنبيه على أمر يخص القول التفسيري في قوله تعالى الحكيم مثنى
لفظا آيات عددا من سورة الرحمان{ :فبأي آال ء ربكما تكذبان'} بمن يعترض على قصر أو جعل
(آالء) بمعنى النعم ،فهذا االعتراض ليس واهنا ،وإنما يلزم اعتباره بمعيار الحق في النظر.
اإلسناد إلى المخاطب الجمع:
اإلسناد إلى ضمير الجمع (ربكم) ورد في القرآن العظيم تسع عشرة ومائة مرة ( ،)002جميعها من
مقام الجاللة والعزة أو من مقام المالئكة واألنبياء عليهم السالم والرسل ،إال ثمان آيات ،منها اثنتان
على مشهد من اآلخرة وهي:
{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا'
قالوا نعم' فأذن مؤذن بينهم أن لعنة هللا على الظالمين}(األعراف)31
{وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب'}(غافر)32
وأربع آيات منطلقها منطلق اإليمان:
{قالوا معذرة على ربكم ولعلهم يتقون'}(األعراف)043
{قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}(الكهف)02
{إني آمنت بربكم فاسمعون'}(يس')22
{أتقتلون رجال أن يقول ربي هللا وقد جاءكم بالبينات من ربكم}(غافر)28
وآية واحدة منطلقها ووجهتها كالهما بنو إسرائيل:
170
وبخهم هللا سبحانه {أوال يعلمون أن هللا يعلم ما يسرون وما يعلنون} من جميع أنواع اإلسرار وأنواع
اإلعالن ،ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعالنهم اإليمان>>.
كذلك فإن جوار اآلية الحكيم مما هو موجه بالحق لحكمنا في السبر الداللي وتصنيفه على منظور
الدراسة ،أهم متضمنه لفظ (الكتاب) من قوله جل وعال{ :ال يعلمون الكتاب إال أماني} وحمولة
المعنى في مادة البيان {كالم هللا} كجوار قبلي لآلية ،وقوله سبحانه في الجوار البعدي{ :فويل للذين
يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند هللا ليشتروا به ثمنا قليال' فويل لهم مما كتبت أيديهم'
وويل لهم مما يكسبون'}.
فهذا إذن هو كذلك من الحقائق العلمية البينة التي توجب التورع أو في حد أدنى التحفظ من إطباق
داللة (الرب) بالداللة التقسيمية.
إذا كان االنتماء إلى الحقل الخطابي بإيجاب خاصته اإليمانية أو سلبها عامال ورائزا محوريا في
السبر الداللي موضوع تحليلنا ودراستنا ،فقد تبين ورأينا كيف انضاف عامل ومبدأ االختالف مع
وضع اإلسناد للمخاطب المفرد .وال شك أن هذا أصله أو هو مفسر بحقيقة كون مبدإ االختالف ذاته
هو أساس عملية التفكير عند اإلنسان وحركته العقلية؛ التفكير حركة الفكر ،وال حركة بدون مجال
غير منعدم .هذا يلزم ومعناه الشرط التعددي لنقاط التواجد .كما يلزم التذكير بأن االنتماء في حقيقته
وتأويله إنما هو إعمال لمبدإ االختالف ،وغالبا ما ال يذهب العقل اإلنساني ويفكر في تعليل وتفسير
أقرب الحقائق ليعتبرها بديهية.
كما رأينا أن خاصات اإلسنادين (ربي) و(ربنا) مختلفة ،وكذلك بالنسبة لإلسنادين (ربك) و(ربكم).
من ثمة فالتحليل الخطابي يستوجب إعمال رائز االختالف على المستوى اآلخر ،مستوى المادة
الخطابية ،بدءا واعتمادا على الجوهري واألساس منها ،المنطبق هنا بالمادة البيانية (رب) وجوارها
على بعدي اللفظ والسياق .هكذا قمنا بتفصيل ذي مستويين ،مستوى الخطاب في طرفه الثاني ،أي
المخاطب (االتجاه) ،ومستوى المادة اللغوية وجوارها أو منحاها الداللي.
172
~ 1 8منها 4إخبارية منها 0إخبارية منها 3لمعنى العبادة بنو إسرائيل 23
و 3لمعنى العبادة
2 02 27 1 04~ 43 الناس
األولى ،نعني تحديدا اصطالح (مقام اإليمان) ،واصطالح (المؤمنون) في البيان أعاله ،وكذلك ربط
هذا كله بمعنى (الداللة الشرعية).
الفئة من اإلسناد المخاطب بها (الناس) بالمعنى التفسيري ،الذي يعني ويدل على معنى العموم ،فقد
يراد به أحيانا الكل في المجال الخطابي ،مؤمنهم ومشركهم وأميهم ،وقد يعني المجال الخطابي ما قبل
التصنيف بحقيقة الطاعة والعصيان ،لكن مع الحمولة والداللة المتضمنة في الدعوة لعبادة هللا تعالى
رب الناس ،رب العالمين .ومن تمة وإن يكن المخاطب ما قبل تصنيفي فهو مدعو بالمعنى الديني
والقصد الشرعي.
هكذا ،وإذا تم االعتبار في تأطير الداللة وتحديدها من خالل جوار اللفظ والكلمة (رب) وسياقها ،ألفينا
في هذه الفئة ثالثة أقسام هامة محددة:
-0قسم إخباري وهو بدوره ينقسم إلى قسمين:
ا -انطباقي معتمد على الذوات ،كقوله سبحانه وتعالى{:إن ربكم هللا(}...األعراف.)23
ب -خواصي المعتمد على الخاصيات ،كقوله جل وعال{:بل ربكم رب السماوات واألرض
الذي فطرهن}(األنبياء)24
-2قسم تشريعي وعباداتي :وهو ما كان جوهره الدعوة للعبادة.
-1قسم تبشيري وإنذاري :وهو ما جاء به ذكر الوعد والوعيد ،والجزاء والحساب.
هناك مناحي داللية أخرى ،منها ما هو متصل بمعنى البرهان والبينات كما في قوله سبحانه:
{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم}(النساء)071
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}(النساء)073
وقسم خاصته ومراد بيانه ذكر ما أنعم هللا الخالق الوهاب به على خلقه من اآلالء والنعم ،كما في اآلية
الكريمة:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له' بلدة طيبة ورب غفور'}(سبإ)02
174
الذي استوجب التحديد هو األقسام الثالثة األولى ،ألنها هي التي توجه الداللة لتصريف لفظ "رب"
في إسناده إلى المعنى الشرعي .وقبل أن نسوق ونورد تذكيرا بالحق اآليات اإلخبارية خاصة،
ألهميتها ولدحضها البياني للمزاعم التي يرددها الجاهلون مقولة (قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية)
بما ضلوا بها ضالال فاحشا بعيدا في معنى الربوبية ،قبل ذلك ال بأس من إجمال ضابط في جدول
متضمن للجدول السابق ومكمل له ،نجعله مرجعا على التسديد والتقريب لما يلي من الدرس والنظر.
بشرا نذرا آالء العدد اإلخبار بينات دعوة للعبادة المخاطب
عمال خوفا ط خ
2 0 2 2 1 0 1 2 ~ 24 المومنون
3 8 3 0 2 3 1 8 بنو إسرائيل 23
01 14 08 2 08 2 1 04 43 الناس
والبالغة والمنطق .فتعميل هذا البعد هو الكفيل بحسب درجات العلم في تحقق وحصول دراسة قوية
متينة للوظيفة البيانية للغة من خالل تحليل ودراسة مستويي المعجم والتركيب.
نعود إذا إلى ما نحن بصدده ،وهو محاولة التحديد بمعيار التسديد والتقريب للداللة الشرعية في
اإلسناد (ربكم) مخاطبا به فئة (الناس) .فاآليات من هذا اإلسناد بجوار وظيفي حامل لمعنى الدعوة
للعبادة هي:
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون'}(البقرة)20
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}(النساء)0
واآليتان كما أسلفنا ذكره إخباريتان كذلك إخبارا خواصيا.
{قد جاءكم بصائر من ربكم' فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها' وما أنا عليكم
بحفيظ'}(األنعام)013
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم'}(األنعام)020
{فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة}(األنعام)027
{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وال تتبعوا من دونه أولياء'}(األعراف)1
{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه ال يحب المعتدين'}(األعراف)22
{قد جاءتكم بينة من ربكم' فأوفوا الكيل والميزان'}(األعراف)82
{هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون'}(األعراف)211
{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل
فضله'}(هود)1
{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم وال تتولوا
مجرمين'}(هود)22
{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه' إن ربي رحيم ودود'}(هود)21
177
{وال ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان هللا يريد أن يغويكم' هو ربكم' وإليه
ترجعون'}(هود )13وهي إخبارية وحاملة لمعنى العبادة كذلك.
{يدبر األمر' يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون'}(الرعد)2
{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم'}(اإلسراء)23
{يا أيها الناس اتقوا ربكم' إن زلزلة الساعة شيء عظيم'}(الحج )0وأمكن اعتبارها حاملة لمعنى
العبادة.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم}(لقمان )11وهي متضمنة لمعنى العبادة.
(الزمر )7وهي لمعنى العبادة كذلك.
{ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون'}(الزمر)10
(الزمر )23وهي لمعنى العبادة حاملة كذلك.
(الشورى )37وهي لمعنى العبادة حاملة كذلك.
مما هو جدير بالتنبيه والتذكير أن دراستنا وتحليلنا كله قائم على التسديد والتقريب .هذا ومن الناحية
المنهجية في وظيفة المكون العددي اإلحصائي ،وتوافقا مع الحقائق المراد إثباتها وتقريرها ،ليس ينال
أقصى ما يكون من التفاوت العملي في الحقيقة الكمية والعددية من سداد المقاربة؛ بل هي في الواقع
أنجع المعايير والمقاربات ،ذلك أن الغاية ليست في ذات األرقام والكميات ،ولكن فيما تدل عليه
حيزاتها وإطاراتها .فالترجيح مثال ال يقتصر أو ينحصر في كم وعدد بذاته ،ولكن في حيز ربما ال
يعتبر سوى شرط أو حالة من الحاالت.
إن الغاية والمقصد هنا هو إثبات عدم صحة البناء الذي انبنى وتأسس عليه منكر القول< :قريش
كانت تقر بتوحيد الربوبية>! ولقد أوردنا حكم العلماء بشأن المعجم المحوري واأللفاظ المحورية في
الشرع؛ فالصالة بما هي عبادة وشرع ال يحق تبديل اللفظ الدال عليها شرعا ،وكذلك كل األلفاظ
كالزكاة واإليمان واإلسالم ،وغيرها مما ال يحمل معناها مطلقا بغير قيد وقرينة واضحة إال على
المعنى الشرعي .ولعله ولحفظ هذا التخصيص البياني الحكيم جاء قول النبي صلى هللا عليه وسلم:
((ال يقل أحدكم :أطعم ربك! وضئ ربك! اسق ربك! وليقل :سيدي موالي .وال يقل أحدكم :عبدي
180
نستنتج إذن أن عدد اإلسناد بالداللة الشرعية في اإلسناد (ربكم) وتبعا لمرجعية الدراسة هو مجموع
24و 23و 23أي 013
وذلك باعتبار حيز التكليف فقط ،وكذلك بمعطى أن اإلسناد إلى فئتي (المؤمنون) و(بنو إسرائيل)
يعتبر على البيان والداللة الشرعية.
هكذا نصل بشأن إسناد لفظ "رب" إلى عموم الحقل المخاطباتي إلى ما يلي:
بخصوص اإلسناد (ربك):
-عدد اإلسناد 232
-إسنادان اثنان ( )2خارج التكليف.
-عدد ما يعتبر إسنادا لمقام اإليمان 211
-منه 228لمقام النبوة.
-منه 221منطلقه المقام األعلى.
-عدد ما يعتبر داللة شرعية 218
يسجدان} وحقيقة الشرعة والمنهاج{:القرآن} واألمر{:وأقيموا الوزن بالقسط}..؛ فهذا كله يجعل
راجح الحكم بمعايير العلم والفقه أن هذه الداللة للفظ وإسناده إلى المخاطب المثنى في سورة
الرحمان ،وهو عدد ما ورد في القرآن الحكيم ،كله على الداللة الشرعية.
بخصوص اإلسناد (ربكم):
-عدد اإلسناد 002
-إسنادان إثنان ( )2خارج مجال التكليف.
-العدد المعتبر داللة شرعية هو 013
{فأما اإلنسان إذا ما ابتاله ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن'}(الفجر)02
{وما ألحد عنده من نعمة تجزى إال ابتغاء وجه ربه األعلى'}(الليل)21
من بعد هذا التقسيم األولي بخصوص هذا اإلسناد ،قد يعمل قانون ومبدأ االختالف بالنظر واالعتبار
لطرفي اإلسناد ،أي منطلق الخطاب والمسند إليه:
{وقالوا لوال أنزل عليه آية من ربه'}(األنعام)17
{قال المأل ا لذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من
ربه'}(األعراف)72
{ويقولون لوال نزل عليه آية من ربه'}(يوسف)21
{ويقول الذين كفروا لوال أنزل عليه آية من ربه'}(الرعد )7و(الرعد)27
{وقالوا لوال يأتينا بآية من ربه'}(طه)011
{قالوا لوال أنزل عليه آيات من ربه'}(العنكبوت)21
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم ون يظهر في األرض
الفساد'}(غافر)24
فليعتبر ولينظر منطلق الخطاب ،إن الوحي الكريم يحكي حال ومقول الكافرين ،وبصيغة أبلغ في
توصيف ذينك الحال والمقال ،معتمدة أو نراها كذلك في اتصال مقول القول بمصدره:
ويقول الذين كفروا..
وقالوا..
ويقولون..
مما هو جدير بالمالحظة هنا هو أن هذا اإلسناد ،أي إلى ضمير الغائب المفرد ،إبرازه للتمايز
واالختالف الداللي للفظ "الرب" عن الداللة المعجمية المقصورة على معنى الملكية .ومن هذا يبرز
أيضا مدلول الحد األدنى المعتبر لعدد اإلسناد بداللة اللفظ الشرعية.
185
هكذا فاتخاذ حيز اإليمان رائزا ومرجعا ال يعني البتة أن كل ما أسند خارجه داللته ليست شرعية .فلو
نظرنا مثال أو تحديدا إلى سياقات اإلسناد (ربه) المتصلة بحيز الكفر وجدناها متضمنة لموجهات
ومؤطرات بيانية ال تخرج السياق واللفظ عن الداللة الشرعية ،وهكذا نقرأ:
{ ..ففسق عن أمر ربه}
{ ..ثم يرد إلى ربه}
{ ..ولم يؤمن بآيات ربه}
{ ..ذكر بآيات ربه فأعرض عنها}
{ ..ذكر ربه}..
هذا مما يجعل لفظ "الرب" محمال في جوهره بمعنى والحمولة الداللية للدين الممثل بمادة األمر في
قوله {:أمر ربه} وفي اإلشارة وذكر الحساب واآليات؛ فنرى معنى اإللزام والوجوب في العالقة
والصلة السابقة لكل موجود بين المسند إليه الذي هو الضمير والمسند (الرب) الكريم؛ وهذا ما تجليه
وبينه اآلية الكريمة:
{ومن يدع مع هللا إلها آخر ال برهان له به فإنما حسابه عند ربه' إنه ال يفلح
الكافرون'}(المؤمنون)007
وكذلك فهذه هي الحقيقة الكبرى واألمر الوجودي العظيم الذي تذكره ونزل به الوحي آيات وقرآنا
مثاني في قوله تعالى:
{إن ربكم هللا}..
كما ألجله تم عرض الدرس اللغوي في هذا الكتاب ،وكما سيأتي من بعد التعرض ألبعاد لغوية
وبيانية أخرى ،مما يهم الجانب التوظيفي في تصريف واستعمال هذا اللفظ المحوري في علم الكتاب
والقرآن العظيم.
. . .
اإلسناد إلى ضمير الغائبة:
186
جاء هذا اإلسناد في القرآن في تسع آيات ،خمسة منها بمعنى السياق في قوله سبحانه:
{يسبح هلل ما في السماوات وما في األرض الملك القدوس العزيز الحكيم'}(الجمعة)0
واثنان الضمير فيهما يعود على مريم عليها السالم:
{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا'}(آل عمران)17
{وصدقت بكلمات ربها وكتابه وكانت من القانتين'}(التحريم)02
وإسناد واحد خارج التكليف:
{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة'}(القيامة)21
وإسناد واحد إلى حيز الكفر:
{وكأي من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا}(الطالق)8
. . .
اإلسناد إلى ضمير المثنى للغائب:
أتى اإلسناد (ربهما) في القرآن الحكيم ثالثا ،كلها لمقام اإليمان ،ومواضع ذلك في آيات هللا تعالى
العزيز العليم هي:
{وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين'}(األعراف)20
{فلما أثقلت دعوا هللا ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين'}(األعراف)082
{فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما'}(الكهف)81
. . .
اإلسناد إلى ضمير الجمع الغائب:
187
عدد ورود إسناد لفظ "رب" لضمير الغائبين في كتاب هللا تعالى خمسة وعشرون ومائة .022جاء
منها لحيز اإليمان على التسديد والتقريب ثمانون ،81وسبعة 7خارج حيز التكليف .كذلك أحد عشر
00إسنادا إلى فئة (الناس) بالمعنى الموجه بالسياق وقوله تعالى{:وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم
الهدى ويستغفروا ربهم إال أن تأتيهم سنة األولين أو يأتيهم العذاب قبال'}(الكهف.)23
وخارج هذه الدالالت ،أي ما اعتبر إسنادا خطابيا لحيز الكفر ،يالحظ تمايزه بما سبق أن أشرنا إليه
بخصوص اإلسناد إلى ضمير الغائب المفرد لذات الحيز؛ فقرائن السياق هي ضابط وموجه البيان
والداللة كما في قوله عز وجل:
{فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها'}(الشمس)03
نجد كذلك في هذا القسم من اإلسناد (ربهم) مما هو مسند لحيز الكفر سياقات تمثل فيها حقيقة الجزاء
الداللة المحورية:
{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق'}(األنعام)11
{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا'}(األعراف)022
{أولئك يعرضون على ربهم ويقول األشهاد هؤالء الذين كذبوا على ربهم'}(هود)08
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم}(السجدة)02
{ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم}(سبإ)10
{ونفخ في الصور فإذا هم من األجداث إلى ربهم ينسلون'}(يس')20
{حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد'}(الشورى)04
{كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون'}(المطففين)02
نلفي في هذا القسم أيضا سياقات جامعة مضيفة إلى جانب اإلسناد إلى حيز الكفر حيز العموم ومجاله.
ولعله كان من األقرب اعتبار اآلية "يس' "20ضمن الفئة السابقة ،اعتبارها ضمن هذه الفئة األخيرة
التي أمكن بالتسديد والتقريب كمعيار أساس في هذا التصنيف والدراسة أن تشمل اآليات التالية:
188
{ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون}(النحل)23
{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إال استمعوه وهم يلعبون'}(األنبياء)2
{بل هم عن ذكر ربهم معرضون'}(األنبياء)32
{ثم الذين كفروا بربهم يعدلون'}(األنعام)0
{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إال كانوا عنها معرضين'}(األنعام)3
{وهم بربهم يعدلون}(األنعام)021
{فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم'}(األعراف)77
{كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون'}(األنفال)23
{وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد'}(هود)22
{أال إن عادا كفروا ربهم' أال بعدا لعاد قوم هود'}(هود)41
{أال إن ثمودا كفروا ربهم' أال بعدا لثمود'}(هود)48
{أولئك الذين كفروا بربهم' وأولئك األغالل في أعناقهم' وأولئك أصحاب النار هم فيه
خالدون'}(الرعد)2
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف ال يقدرون مما كسبوا على
شيء' ذلك هو الضالل البعيد'}(إبراهيم)08
{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم'}(الكهف)012
{ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون'}(المؤمنون)74
{بل هم بلقاء ربهم كافرون'}(السجدة)01
{وال يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إال مقتا'}(فاطر)12
189
ولما كانت الن سبة إنما هي في إطار التكليف إال ما اختص به اإلسناد لإلسم الظاهر كما أشرنا إليه،
وكذلك لما كان التعبير اللغوي والبيان أقرب تمثيال للسلوك التواجدي بحسب قرب مسافته للسلوك
اللغوي االنفعالي ،فإنه يلزم ويتأكد في مطلق النظر والقراءة العلمية اعتبار التوافق مع هذا المعطى
والسلم مما هو مختزل وموجز في ما يلي:
193
كذلك وكما أشرنا إليه فصيغة الجمع (أرباب) نزل جميعها بالداللة الشرعية.
هكذا ومهما تم اعتبار أي معيار بخصوص العدد الشرعي في إسناد اإلسم الظاهر ،سواء بنسبة 7\1
أو ،87\78أو تم األخذ بالمعيار التكليفي والمرجعية العددية األولى بهذه الصفة ،فإن ذلك ال يغير
من النتاج المكافئ والمعبر عن الحقيقة كون الداللة التي نزل بها الوحي الكريم كتابا وسنة بخصوص
كلمة ولفظ (الرب) هي الداللة الشرعية ،وغيرها من الدالالت المعجمية يؤطر بسياقه؛ وكل ذلك
عربي مبين .كما أن غير الشرعي من المعجمي ،مما تحدد مؤشره اإلحصائي من خالل هذه الدراسة،
يعتبر في العلم والعمل مهمال.
194
الفصل الثالث
بنية اإلخبار في القرآن ناقضة لمقولة أقسام التوحيد
لئن كان البعد الخطابي بتمثيله للشروط والموجهات البيانية قد أفاد في التصنيف األولي في تصريف
داللة لفظ (رب) في القرآن الكريم ،فإن ذلك ال يمثل كل العامل وكل حقيقة عربية القرآن في تحليل
وفصل خطابه المجيد ،على األقل في القدر الممكن والمستطاع.
البعد الخطابي يعتمد على منحى و حمولة النص من دون النظر إلى بعد المكونات البنيوية الداخلية.
هذا البعد األخير الذي عليه يتشكل الخطاب وتوزيعه الركني ،بواسطة المحددات الحقائقية وغيرها
من األدوات واآلليات البيانية ،هو البعد األهم إذا نظرنا واعتبرنا الخطاب بطبيعته وصفته اإلخبارية.
إذا نظرنا مثال بقصد فقه وتحليل الكالم اإلخباري( :هللا ربي وربكم) ،فالقصد منه اإلخبار واإلعالم؛
وكذلك بالبناء ابتداء وانطالقا بالموضوع ،تكون احتماالت متعددة في اإلخبار .إذن فالموضوع سابق،
وأصل أول محدد يبنى عليه .كذلك فالتركيب الداللي والوظيفي ال يبقى نفسه إذا تغير النظم ترتيبا.
وهذا من القوانين الرئيسة التي تنبني وتتأسس عليها اللسانيات الحديثة؛ كذلك جاء ذكرها وذكر
خطرها وأهميتها كما سلفت اإلشارة إليه عند الجرجاني .فعلى هذا األساس وبمقتضاه في فصل
الخطاب ننحو في استكناه وفقه ما نزل من القرآن المبين:
{إن هللا ربي وربكم فاعبدوه' هذا صراط مستقيم'}(آل عمران)20
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يغشي الليل النهار
يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره' أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب
العالمين'}(األعراف.)23
ثم هناك أيضا العامل التوزيعي للحمولة الخطابية ،مما أسميناه بالمحددات الحقائقية عالوة على
المحددات الزمنية ،واالهتمام واالعتبار لطبيعة الخبر من حيث كونه جوهرا أو عرضا أو ما دونه؛
ذلك كله بلزوم شرط االقتصاد ،ومراعاة خطر مقام القول وشرف الخطاب ،بما يقتضيه من التحفظ
والورع العلمي.
195
الكالم في موضوع الخبر عند النحويين والبالغيين ال يعدو مستوى النظر األولي من غير إحاطة
دراسة وصفية؛ لم يتم االهتمام فيه إال بالصيغة كونها لفظا مفردا أو جملة أو شبه جملة ،وجعله محددا
بمقابلته للكالم اإلنشائي ،أي متضمنا فيه مميزا له.
والحق إ ن الدراسة األكثر أهمية والجانب التحليلي الالزم باألدنى والضرورة هو ما مثل شطرا مما
اختص واعتبر من علم المنطق ،الهتمامه واعتنائه أساسا بمضمون اللغة وجوهرها ،وببنيتها وتوزيع
هذه البنية ،الذي هو الغاية في اللسان كبيان وإفصاح؛ ذلك أنه في تأويله وحقيقته حقائق ممثلة
مترجمة صورة لسانية للوسيط التواجدي والوجودي ككل بجميع مكوناته ومستويات؛ هذا الذي يعبر
عنه وبقدر متفاوت من الفقه وسبر األبعاد ،يعبر عنه بعالقة الواقع والفكر والبيان .وليس يغيب عنا
أن تعدد التخصصات األلسنية ،إنما هو تعبير وتجلي لتعدد في الظواهر والمستويات المنظور إليها.
إن المقول النحوي في الخبر ليس يفيد إال في حدود اإلطار األولي للتعلي؛ فتحديد صيغه التي يكون
عليها هو فقط يهم شكله التركيبي؛ والشكل ال يمثل وليس هو المحتوى الذي ينبغي القيام بتحليله
واستيفاء دراسته.
أما المقول والدراسة البالغية للخبر ،فما هو في صحيح الحكم والنظر ،وتسمية الحقائق ووصفها بما
هي عليه إال مدخل وعتبة نحو المنطق.
يتم اعتبار الخبر في المنطق والنظر إليه ممثال ومؤطرا بمفاهيم ومقوالت هامة وعديدة ،أساسها
مفهوم القضية الحملية بثنائية الموضوع والمحمول ،والنسب التصديقية ،والمعرف والحد والرسم،
وغيرها من المفاهيم المكونة لمنظومة وقاموس علم المنطق.
وإذا كانت اللغة بيانا ،فهي بذلك ترجمة وصورة للواقع ،الذي أهم ما يختص به سبكه وهيكلته البنائية
مكونان أساسان ،هما التحديد والعالقة .وهذا هو المدرك الذي ينبني عليه الفكر ،وبالتالي التفكير
الجماعي الذي نسيجه ووسيطه اللغة واللسان؛ كل من جانب اعتبار معين .على هذا البعد يتم التمييز
بين قسمين أو باألصح ضربين من اإلخبار :أول غايته التحديد والتعريف .وهذا أعاله ما كان بناؤه
على الذاتيات؛ ويليه ما أخبر عن عالقة بخاصيات وأعراض .وهذا أيضا يفيد في التحديد .ثم القسم
الثاني :الذي موضوعه اإلخبار عن عالقات بين المحددات .فالقسم األول هو اإلخبار المحدد
للموضوع وللشيء؛ وعند النحويين والبالغيين لم يميز كقسم خاص .وغياب هذا التمييز يدل داللة
واضحة على قصور في التحليل ،ذلك أنه هو المترجم لمستوى اإلدراك لفحوى الكالم .فقولنا مثال:
(المنطق علم يدرس الفكر في قيمه الحقائقية أو المنطق هو الميزان الحقائقي للفكر)
196
{وجعلوا هلل شركاء الجن وخلقهم' وخرقوا له بنين وبنات بغير علم' سبحانه وتعالى عما يصفون' بديع
السماوات واألرض' أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة' وخلق كل شيء' وهو بكل شيء
عليم'}(األنعام)012-010
وبعد التحديد وتعريف ذات الرب الحق جل عاله وتبارك إسمه ،ومن بعد اإلنكار المشنع والمسفه لمن
جعل له سبحانه الشريك والبنات والبنين افتراء وإفكا ،يأتي األمر الحق بما يقتضي أنه تعالى الرب
بأن ال يعبد إال إياه:
{ذلكم هللا ربكم' ال إله إال هو خالق كل شيء' فاعبدوه' وهو على كل شيء وكيل'} (األنعام)011
بمعنى أنه اقتضاء للسان العربي ولقواعد النظم وتفصيال لمبادئ الحق وتنزيال هنا أساسا لمبدإ
االختالف ،يكون جائزا جعل{ذلكم هللا ربكم'} و{هو هللا'} على نفس النسق التشكيلي ،أي أن مادتي
وعنصري (ذلكم) و(هو) بإعمال مبدإ التوافق هما على نفس الخط االستبدالي .والتعبيران معا
أي{ذلكم هللا'} و{وهو هللا'} متوازنان تامان.
يستتبع ويتلوه إذن أن من فحوى قراءة قوله تعالى{ذلكم هللا ربكم'} أن المحدد بالصفات والخصائص
الجليلة هذه هو ربكم الذي ال إله إال هو .ولو تدبر القرآن حق تدبره وتليت آيات الكتاب ودرست حق
الدراسة لتبين أن القرآن كله يرسخ هذا النسق الواصل لألمر بالتحديد واإلعالم والتذكير كما في
سورة يونس المكية:
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يدبر األمر' ما من
شفيع إال من بعد إذنه' ذلكم هللا ربكم' فاعبدوه' أفال تذكرون'}(يونس)1
{قل من يرزقكم من السماء واألرض' أ ّمن يملك السمع واألبصار ومن يخرج الحي من الميت
ويخرج الميت من الحي ومن يدبر األمر' فسيقولون هللا' فقل أفال تتقون' فذلكم هللا ربكم الحق' فماذا
بعد الحق إال الضالل' فأنى تصرفون'}(يونس)12-10
ثم هذا التأطير والموجه البياني الذي سطرنا عليه وعامل الجوار البعدي ضمن مكونات السياق:
{كذلك حقت كلمات ربك على الذين فسقوا أنهم ال يؤمنون' قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم
يعيده' قل هللا يبدأ الخلق ثم يعيده' فأنى تؤفكون' قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق' قل هللا يهدي
للحق' أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أ ّمن ال يه ّدي إال أن يهدى' فما لكم' كيف تحكمون' وما يتبع
أكثرهم إال ظنا' إن الظن ال يغني من الحق شيئا' إن هللا عليم بما يفعلون'}(يونس)14..11
199
فالمعنى المتسق بحسب الميزان وبيان عربية القرآن ولسانه على سبيل من االستفهام اإلنكاري
المتتالي ،يكاد يكون معنى وحقيقة واحدة في كل السياق ،هي إبطال أن يكون غير هللا ربا ،فهو هللا
الذي ال إله إال هو الرب الحق.
. . .
هكذا إذن يكون فقه اللغة وعلم الخطاب آية أخرى وبرهانا مبينا ينضاف عضدا وحجة قائمة للبرهان
االستقرائي واإلحصائي للتوظيف البياني والتصريف اللغوي للفظ (الرب) في القرآن الحكيم .وإنه
ليكفي ذا القلب السوي والحظ األدنى من بيان اللغة واللسان العربي ،يكفي هذا اعتبار توافق العناصر
أو األطراف الخطابية ،وتحديدا اآليات التحديدية للرب جل وعال مخاطبا بها قريشا ليعلم علم اليقين
ضالل وخطأ من يقول( :قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية)!! .فيلزم التأكيد على وجوب األخذ بحقيقة
البيان لآليات اإلخبارية المخاطب بها قريشا التي تصل وتعتمد في خطابها تعريف وتحديد الرب جل
جالله انطالقا بتعيين وتحديد خصائصه وصفاته تبارك إسمه؛ فالواصل والجامع البياني هو قوله
سبحانه الحق المبين{:ذلكم هللا ربكم'} ،وهو نفس التركيب من حيث البعد الداللي ،وإن بمنحى
معاكس أو شبه معاكس في اآليات التي تلونا من قبل وقوله تعالى:
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش( }...األعراف)23
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام(}...يونس)1
كذلك فاآليات غير االنطباقية ،ومن خالل تغيير التركيب في مادته خصوصا ،يفيد التعريف والتحديد
من دون تعدد المستويات ،ومن غير واصل كالذي في سياق اآليات األولى.
200
الباب الرابع
الفصل األول
مفهوم الحكمة
روى اإلمام الحافظ أبو عبد هللا محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه قال:
" حدثنا قتيبة بن سعيد :حدث نا جرير ،عن حصين ،عن زيد بن وهب قال :مررت على أبي ذر بالربذة
فقلت :ما أنزلك بهذه األرض؟ قال :كنا بالشام :فقرأت{:والذين يكنزون الذهب والفضة وال ينفقونها
في سبيل هللا فبشرهم بعذاب أليم'} قال معاوية :ما هذه فينا؛ ما هذه إال في أهل الكتاب .قال فقلت :إنها
لفينا وفيهم".
ذكر لفظ (الحكمة) في القرآن عشرين مرة ،شطرها جاء مقرونا بلفظ (الكتاب) .هذا االقتران إذا وال
مماراة يكسب هذا اللفظ والمفهوم أهمية بيانية وعلمية قصوى .وهذه مواضع وآيات القرآن الحكيم
التي ورد فيها هذا اللفظ المفهوم:
{ربنا وابعث فيهم رسوال منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز
الحكيم'}(البقرة)028
{كما أرسلنا فيكم رسوال منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم
تكونوا تعلمون'}(البقرة)021
{واذكروا نعمة هللا عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به'}البقرة)222
{وقتل داوود جالوت وآتاه هللا الملك والحكمة وعلمه مما يشاء'}(البقرة)232
{وهللا واسع عليم' يؤتي الحكمة من يشاء' ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا' وما يذكر إال أولو
األلباب'}(آل عمران)248-247
{ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة واإلنجيل ورسوال إلى بني إسرائيل}(آل عمران)78
{وإذ أخذ هللا ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به
ولتنصرنه'}(آل عمران)81
{لقد من هللا على ا لمؤمنين إذ بعث فيهم رسوال من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضالل مبين'}(آل عمران)043
{أم يحسدون الناس على ما آتاهم هللا من فضله' فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا
عظيما'}(النساء)21
{وأنزل هللا عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم' وكان فضل هللا عليك
عظيما'}(النساء)002
{وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة واإلنجيل'}(المائدة)002
203
{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن' إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله' وهو أعلم بالمهتدين'}(النحل)022
{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة' وال تجعل مع هللا إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما
مدحورا'}(اإلسراء)12
{ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر هلل' ومن شكر فإنما يشكر لنفسه' ومن كفر فإن هللا غني
حميد'}(لقمان)00
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات هللا والحكمة' إن هللا كان لطيفا خبيرا'}(األحزاب)13
{وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب'}(ص')02
{ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة وألبين لكم بعض الذي تختلفون فيه' فاتقوا هللا
وأطيعون'}(الزخرف)41
{حكمة بالغة' فما تغن النذر'}(القمر)2
{هو الذي بعث في األميين رسوال منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا
من قبل لفي ضالل مبين'}(الجمعة)2
<< والمراد بالكتاب القرآن ،والمراد بالحكمة المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم للشريعة.
وقوله{يزكيهم} أي يطهرهم من الشرك وسائر المعاصي .وقيل إن المراد باآليات تظاهر األلفاظ،
والكتاب معانيها ،والحكمة الحكم ،وهو مراد هللا بالخطاب ،والعزيز الذي ال يعجزه شيء ،قاله ابن
78
كيسان>>.
وعند ابن كثير 79في قوله سبحانه{يؤتي الحكمة من يشاء' ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا'
وما يذكر إال أولو األلباب'}:
<< وقوله{يؤتي الحكمة من يشاء} قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :يعني المعرفة بالقرآن،
ناسخه ومنسوخه ،ومحكمه ومتشابهه ،ومقدمه ومؤخره ،وحالله وحرامه ،وأمثاله.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا :الحكمة القرآن ،يعني تفسيره .قال ابن عباس:
فإنه قد قرأه البر والفاجر .ورواه ابن مردويه.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد :يعني بالحكمة اإلصابة في القول.
وقال ليث بن أبي سليم :وقال أبو العالية :الحكمة خشية هللا؛ فإن خشية هللا رأس كل حكمة.
وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني ،عن أبي عمار األسدي ،عن ابن
مسعود مرفوعا< :رأس الحكمة مخافة هللا> .وقال أبو العالية في رواية عنه :الحكمة الكتاب والفهم.
وقال إبراهيم النخعي :الحكمة الفهم.
وقال أبو مالك :الحكمة السنة.
وقال ابن وهب ،عن مالك ،قال زيد بن أسلم :الحكمة العقل.
78فتح القدير
قال مالك :وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين هللا ،وأمر يدخله هللا في القلوب من رحمته
وفضله ،ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقال في أمر الدنيا إذا نظر فيها ،وتجد آخر ضعيفا في أمر
دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به ،يؤتيه هللا إياه ويحرمه هذا؛ فالحكمة الفقه في دين هللا.
وقال السدي :الحكمة النبوة.
والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور ال تختص بالنبوة بل هي أعم منها .وأعالها النبوة ،والرسالة
أخص .ولكن ألتباع األنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض األحاديث:
"من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه ال يوحى إليه" رواه وكيع بن الجراح في
تفسيره عن إسماعيل بن رافع ،عن رجل لم يسمه ،عن عبد هللا بن عمر.
وقوله:
وقال اإلمام أحمد :حدثنا وكيع ويزيد قاال :حدثنا إسماعيل ،يعني ابن أبي خالد ،عن قيس ،وهو ابن
أبي حازم ،عن ابن مسعود ،قال :سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول:
" ال حسد إال في اثنتين :رجل آتاه هللا ماال فسلطه على هلكته في الحق ،ورجل آتاه هللا حكمة فهو
يقضي بها ويعلمها" وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق متعددة عن إسماعيل
بن أبي خالد به.
وقوله{وما يذكر إال أولو األلباب} أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إال من له لب وعقل يعي به
80
الخطاب ومعنى الكالم>>.
وفي فتح القدير مثل ما أورده ابن كثير إال اختالفا طفيفا في األقوال وطرقها مع إضافة قولين،
أحدهما البن عباس أخرجه عنه ابن المنذر أن الحكمة هي النبوة .والثاني ألبي الدرداء ،قال هي
قراءة القرآن والفكرة فيه ،أخرجه ابن حاتم.
كذلك عند الشوكاني قوله:
<< قوله{يؤتي الحكمة} هي العلم؛ وقيل الفهم ،وقيل اإلصابة في القول؛ وال مانع من الحمل على
الجميع شموال أو بدال؛ وقيل إنها النبوة؛ وقيل العقل؛ وقيل الخشية؛ وقيل الورع .وأصل الحكمة ما
يمنع من السفه ،وهو كل قبيح>>.
207
الفصل الثاني
الحكمة أساس المنهاج
<< (فائدة) :اقتصر المصنف في هذا الباب على ما أورده من غير أن يورد حديثا موصوال على
شرطه؛ فإما أن يكون بيض له ليورد فيه ما يثبت على شرطه ،أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر>>
لو تدبرنا وأمعنا النظر في المنظومة المرصعة ،التي جعل فيها اإلمام البخاري رحمه هللا الكفاية
والغناء في هذا الباب ،لبصرنا بترتيب محكم ،فيبدأ بأصل العلم وحقيقته واصال إياه بمقام النبوة،
ومبرزا أهم دالئل هذه الحقيقة من خشية هللا تعالى وفقه األحاديث واألمثال ،ليخلص لغاية الشرعة
والمنوال مذكرا أنه طريق الجنة والفالح ،والفوز الذي دونه الخسران المبين .فمن طرق التحديد
والتعريف ضبط وتعيين خاصيات الشيء .وهذا يحد من تساؤل البعض من العلماء حول بدء البخاري
وتقديمه لمصنفه بذكر فضل العلم .فهذا الفضل هو أهم ميزاته وخواصه .وأي شيء أعظم شأنا من
إبصار نور الحق وسبيله ،والسير على منواله وصراطه المستقيم؟ وما المستقر إال الجنة وإما
السعير ! يقول تعالى{:فريق في الجنة وفريق في السعير'}(الشورى .)2وطريق الناس والعالمين إلى
هذه المشكاة واألصل هم العلماء المأمورون بنص العلم ذاته بالعمل به وتبليغه ،وذلك على نهج أصله
الكتاب وفروعه العمل على أحكامه وبمقتضاه ،في مواكبة الحياة ومسايرة التاريخ ،تحقيقا لالستخالف
وامتثاال للعبودية .وهذا كله هو اإلصابة في السلوك التواجدي اعتقادا ،وقوال وعمال ،وهو الحكمة
الجامعة بين العلم والفقه؛ العلم بالكتاب قرآنا وسنة ،بقصد التطبيق والتحكيم في أي زمن وأية بيئة
وحال.
هذا هو المتضمن والمحتوى في لفظ (الحكمة) ومدلول الربانية ،وهو الغاية من العلم والقصد من
تبليغه .وذلك هو المفسر المرجح على غيره لترتيب البخاري كتابه ومصنفه؛ وهو األمر الذي نبه إليه
العسقالني وأشار إليه في (باب ما كان النبي صلى هللا عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي ال
ينفروا) إذ يقول:
<<قوله (:لئال ينفروا) استعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما وتضمن ذلك تفسير السآمة
بالنفور وهما متقاربان .ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني ،كمناسبة
الذي قبله من تشديد أب ي ذر في أمر التبليغ لما قبله من األمر بالتبليغ .وغالب أبواب هذا الكتاب لمن
أمعن النظر فيها والتأمل ال يخلو عن ذلك>>
كذلك وجب النظر إلى هذا المحور المتنزل من مقام النبوة والرسالة ،ثم الوسيط العلمي الذي قوامه
علم الحديث الذي يصل الفروع باألصل إلى يوم الدين ،وذلك بأخذ العلم وتبليغه بالحال والمقال .من
أجل ذلك نرى ونفسر هذا التأكيد والترسيخ للبخاري لهذه الحقيقة؛ فقد جعل مفهوم الرباني ضمن
المحور الذي أصله النبوة ومحدده العلم .وقوة هذا الحسم عند البخاري والقول تكمن في كون هذا
209
اللفظ والمادة البيانية (الرباني) تحتم اعتبار وتالوة المرجع من اآليات من سورة آل عمران ،ووجوب
تدبرها وتالوتها حق التالوة .وإن فيها للبيان والحل لجميع ما يطرح من اإلشكاالت على مستوى
المنهاج ،الحل الذي يفرق ويفصل بين الحق والباطل ،ويميز بين عبادة هللا تعالى وعبادة الطاغوت،
وبين السنة والتقليد الملبس لبوس االتباع ،وما هو إال اتباع السبل واألهواء والعبودية لغير هللا تعالى.
أال فليحذر الذين يتلفظون ويرددون من األسماء والمفاهيم بغير حق إال أن وجدوا عالما من علمائهم،
أو يحسبون أنهم علماؤهم لوحدهم دون الناس واألمة ،تلفظ بها أو درجت على لسانه في درس أو
حديث من أحاديثه ،فأصبح ذلك اللفظ بديال لما هو عند هللا تعالى محكم في القرآن أو مثبت صحيح من
السنة!
إن اللفظ الدال على الدين عند هللا هو (اإلسالم) ،هذا لفظ محكم وجامع ال يفرق ،وإن أمة اإلسالم أمة
واحدة ،وإن حزب هللا هم المفلحون ،وإن حزب هللا هم الغالبون.
الحكمة إذا هي األساس في المنهاج ،إذ تستلزم الكتاب وتقتضي اإلصابة والفقه للعمل بهذا العلم .وإذا
ضمن البخاري رحمه هللا هذا الباب هذه المادة الهامة للفظ (الرباني) ليجعل تحققها من العلم كتعميل
له ،وأشار إلى أساس الحكمة فيه بمعنى أنها مكون وشرط ،فقد بوأها ذات الدرجة والقيمة سواء في
مقام التعليم والتبليغ ،أو مقام التعلم والتلقي فيما يلي هذا الباب من األبواب.
ها هنا ال مندوحة من التذكير بلزوم االستحضار الدائم وعدم إغفال تبعية األقوال لدرجات
مصادرها؛ فالمفسر مهما بلغ من العلم ما بلغ فهو في حكم العلم المحدود ال على المطلق ،بل على
اإلمكان والمتاح المحصل؛ فلزم الفصل بين وجوب التقدير واإلجالل للعالم أو العلماء وبداهة اإلدراك
لعدم ترفع أقوالهم عن عوارض الخطإ والقصور .فلفظا (الكتاب) و(الحكمة) على الحاصل من العلم
لدينا وعلى نور من الدراسة الحقة ،وخالف ما ذهب إليه البعض كما رأينا من المفسرين ،هما لفظان
مختلفان .و عالوة على ما يحتمه القول بالترادف وحكمه المنطقي المستنبط في العالقة الجواهرية،
هناك من المعطيات ومن دالئل العلم الحق ما يقرر هذا التمايز ويثبته إثباتا .فكلمات وألفاظ (الكتاب)
و(القرآن) و(الحكمة) و(الحكم) و(النبوة) كلها ألفاظ في الكتاب ثابتة وفي الوحي منزلة بيانا محكما
من لدن عليم حكيم.
العلم كتحصيل معرفي كنز ثمين ليس لإلنسان من مكتسب وغنى أفضل منه ،لكن ترتيب هذه المعرفة
كحقائق ومدركات هي الوسيلة والسبيل في اإلفادة منه .هذه الوسيلة والعامل الترتيبي ،المنظم
والمنسق للمجموع المعرفي ،كمعطيات ومعلومات متعلمة ،ومحصلة بسبيل التنزيل التطبيقي والعملي
القويم والسديد ،هو من أهم المكونات الداللية للحكمة؛ روى اإلمام الحكيم الحافظ البخاري رحمه هللا
في صحيحه قال:
-حدثنا أبو عاصم ،عن يزيد بن أبي عبيد ،عن سلمة بن األكوع قال :قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
" من ضحى منكم فال يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء" فلما كان العام المقبل قالوا :يا رسول هللا
نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال" :كلوا وأطعموا وادخروا ،فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت
81
أن تعينوا فيها"
-حدثنا مس َّدد قال :حدثنا إسماعيل قال :أخبرني عبد الحميد صاحب الزيادي قال :حدثنا عبد هللا بن
الحارث ابن عم محمد بن سيرين ،قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير< :إذا قلت أشهد أن محمدا
رسول هللا فال تقل حي على الصالة ،قل صلوا في بيوتكم> ،فكأن الناس استنكروا ،قال< :فعله من
هو خير مني ،إن الجمعة عزمة ،وإني كرهت أن أخرجكم ،فتمشون في الطين والدحض>.82
-عندما أخبر رسول هللا صلى هللا عله وسلم عن صيام وقيام عبد هللا بن عمرو بن العاص وقوله له
عليه السالم<:إني أطيق أفضل منه يا رسول هللا> ،يعني بذلك صيام داود ،فقال له النبي عليه السالم:
83
"ال أفضل من ذلك"
-حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع عن إسماعيل بن زكرياء :حدثنا عاصم عن مورق العجلي ،عن
أنس رضي هللا عنه قال < :كنا مع النبي صلى هللا عليه وسلم أكثر ظال الذي يستظل بكسائه ،وأما
الذين صاموا فلم يعملوا شيئا ،وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا؛ فقال النبي صلى
84
هللا عليه وسلم" :ذهب المفطرون اليوم باألجر"
81الحديث2242
82ح210
83ح1113
84ح2821
211
-حدثنا آدم :حدثنا شعبة :حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال :سمعت أبا العباس الشاعر -وكان ال يتهم في
حديثه -قال :سمعت عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنه يقول :جاء رجل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم
85
فاستأذنه في الجهاد فقال" :أحي والداك؟" قال<:نعم> قال" :ففيهما فجاهد"
-عن ابن عباس رضي هللا عنهما أنه سمع النبي صلى هللا عليه وسلم يقول" :ال يخلون رجل بامرأة،
وال تسافرن امرأة إال ومعها محرم" فقام رجل فقال" :يا رسول هللا ،اكتتبت في غزوة كذا وكذا،
86
وخرجت امرأتي حاجة" فقال" :اذهب فاحجج مع امرأتك"
-حدثنا أبو الوليد قال :حدثنا شعبة عن سليمان عن عمارة بن عمير عن األسود قال :قال عبد هللا" :ال
يجعل أحدكم للشيطان شيئا من صالته يرى أن حقا عليه أن ال ينصرف إال عن يمينه ،لقد رأيت النبي
87
صلى هللا عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره"
-قال عليه الصالة والسالم" :عليكم بالصالة في بيوتكم ،فإن خير صالة المرء في بيته إال الصالة
المكتوبة".88
هذا إذن بيان لمكون إصابة القول وإنزاله مقامه ومواضعه في مدلول الحكمة ،ال على اآلن التنزيلي
الواحد من حيث وجوب السداد في مناسبة النص للحال والمقام ،بل على البعد التنزيلي للكتاب كله،
مما يدل عليه الوجه البياني للحكمة مرادا بها البيان المختص لكل قوم على لسان وسيرة كل نبي
لقومه الذين أرسل إليهم.
كذلك ليس يخرج من مدلول ومتضمن الحكمة التوافق مع شروط الحال النفسية ،التي هي في نهاية
األمر هدف الخطاب واألمر الشرعي ،وهذا المكون شطر من الكتاب والسنة يؤكده ويثيره على نحو
واضح جاعال منه أمرا ثابتا من الشرعة الحنيفة لإلسالم ،وهو ما عبر عنه الفقه الشرعي بأصل
وقاعدة رفع الحرج في الدين .ضمن هذه الحقيقة الجليلة واألمر العظيم لحقيقة الفقه في دين هللا تعالى
يأتي قول ابن عباس رضي هللا عنه كما رواه البخاري في صحيحه:
85ح1113
86ح1114
87ح822
ح4001 88
212
"حدث الناس في كل جمعة مرة ،فإن أبيت فمرتين ،فإن أكثرت فثالث مرار ،وال تمل الناس هذا
القرآن ،وال ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم،
ولكن أنصت ،فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه ،فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه ،فإني عهدت
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه ال يفعلون إال ذلك" يعني ال يفعلون إال ذلك االجتناب-89
لعل ما هو خارج الالمتين من قول البخاري.
-حدثنا محمد بن يوسف قال :أخبرنا سفيان عن األعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال ":كان
90
النبي صلى هللا عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في األيام كراهة السآمة علينا"
قال ابن حجر رحمه هللا:
<< ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية المالل ،وإن كانت
المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين :إما كل يوم مع عدم التكلف ،وإما يوما بعد يوم ،فيكون يوم الترك
ألجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط ،وإما يوما في الجمعة .ويختلف باختالف األحوال واألشخاص،
والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط>> ثم قال<<:وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهية
تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائما>>
89ح4117
90ح48
213
-حدثنا محمد بن العالء قال :حدثنا حماد بن أسامة عن بريد بن عبد هللا عن أبي بردة عن أبي موسى
عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال:
" مثل ما بعثني هللا به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ،فكان منها نقية قبلت الماء
فأنبتت الكأل والعشب الكثير ،وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع هللا بها الناس فشربوا وسقوا
وزرعوا ،وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ال تمسك ماء وال تنبت كأل .فذلك مثل من فقه في
دين هللا ونفعه ما بعثني هللا به فعلم وعلّم ،ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى هللا الذي أرسلت
به" قال أبو عبد هللا :قال إسحاق :وكان منها طائفة قبلت الماء ،قاع يعلوه الماء .والصفصف المستوي
91
من األرض.
قال ابن حجر:
<<قوله (قاع يعلوه الماء ،والصفصف المستوي من األرض) هذا ثابت عند المستملي ،وأراد به أن
قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع ،وأنها األرض التي يعلوها الماء وال يستقر فيها .وإنما ذكر
الصفصف معه جريا على عادته في االعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من األلفاظ الواقعة في القرآن
وقد يستطرد .ووقع في بعض النسخ المصطف بدل الصفصف ،وهو تصحيف>>
كما أشار إلى احتمال صحة لفظي بقية وبقعة بدل نقية وقال :والمراد بها (أي بقية) القطعة الطيبة كما
يقال فالن بقية الناس ،ومنه {فلوال كان من القرون من قبلكم أولو بقية} ،ولكن هذين اللفظين لم يردا
في روايات الصحيحين.
وغايتنا نحن من سوق وذكر هذا الحديث فيدل عليه بأبلغ الكفاء واالستيفاء قول الشارح الموجز
والجامع؛ قال رحمه هللا:
<< . .ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه ،غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع ،لكنه
أداه لغيره ،فهو بمنزلة األرض التي يستقر فيها الماء فينتفع به ،وهو المشار إليه بقوله ":نضّر هللا
امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها">>
هذا المعنى هو ما تم ذكره في سياق اآلية الكريمة وقوله تعالى {:ولكن كونوا ربانيين بما كنتم
تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'} ذلك في معرض الحديث عن تحديد المنهاج اإلسالمي جامعا
91ح72
214
لجناحي ومكوني علم الكتاب األصل الشامل للقرآن الكريم وبيانه وفقهه وتفسيره ،والدراسة على
ضوء هذا األصل العظيم ونوره المجيد .هذا الركن الثاني هو المتضمن لمكون االجتهاد كعامل
استخالفي ،قصد تحقيق الحق بمراد الحق ونوره المجيد وإحاطته بالعالمين.
إن هذا هو ما جاء في تفسير حبر األمة وفقه البيان الذي أنزل به اللفظ المحوري {ربانيين} ،التفسير
والفقه والبيان الذي أبى البخاري رحمه هللا بحصافته وحكمته إال أن يسطر عليه ترسيخا وتنبيها على
حقيقة من أمر المنهاج والدين ،ال ينبغي بحال إهمالها وال تحصل حقيقة الفقه إال باإللمام بها وإدراك
مدلولها؛ قال ابن عباس في{ربانيين} :حكماء فقهاء علماء .المقول القانوني لهذا هو أنه مع الفضل
العظيم لألصول من حفظ لفظ القرآن العظيم واالضطالع على السيرة النبوية الشريفة ،فإن هذا ليس
يحصل به حقيقة الربانية إال بفه م وفقه منفتح االستنباط ،يصل التنزيل وتبيانه بفروع ومطلق أحوال
وشروط االستخالف .فهذا هو منهاج اإلسالم ومن يبتغ ويسلك غير صراط الحق فقد ضل سواء
السبيل.
ونجده رحمه هللا يؤكد على وجوب تعميل مبدإ التناسق بين األلفاظ والمعاني؛ فالفصاحة والحكمة في
مضمونها تستوجب توازنا وظيفيا بينهما ،فيقول في قوله تعالى {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو
ضعيفا} في آية الدين من سورة البقرة:
<< أما السفيه ففيه أربعة أقوال:
األول – أنه الجاهل؛ قاله مجاهد .الثاني – أنه الصبي .الثالث – أنه المرأة والصبي؛ قاله الحسن.
الرابع – المبذر لماله ،المفسد لدينه؛ قاله الشافعي.
وأما الضعيف فقيل هو األحمق ،وقيل هو األخرس أو الغبي ،واختاره الطبري.
وأما الذي ال يستطيع أن يمل ففيه ثالثة أقوال:
أحدها – أنه الغبي؛ قاله ابن عباس .الثاني – أنه الممنوع بحبسة أو عي .الثالث – أنه المجنون .وهذا
فيه نظر طويل نخبته أن هللا سبحانه جعل الذي عليه الحق أربعة أصناف :مستقل بنفسه يمل ،وثالثة
أصناف ال يملون ،وال يصح أن تكون هذه األصناف الثالثة صنفا واحدا أو صنفين ،ألن تعديد الباري
سبحانه كأنه يخلو عن الفائدة ،ويكون من فن المثبّج من القول الركيك من الكالم ،وال ينبغي هذا في
كالم حكيم ،فكيف في كالم أحكم الحاكمين.
فتعين والحالة هذه أن يكون لكل صنف من هذه األصناف الثالثة معنى ليس لصاحبه حتى تتم
البالغة ،وتكمل الفائدة ،ويرتفع التداخل الموجب للتقصير ،وذلك بأن يكون السفيه والضعيف والذي
ال يستطيع ،قريبا بعضه من بعض في المعنى؛ فإن العرب تطلق السفيه على ضعيف العقل تارة
وعلى ضعيف البدن أخرى ،وأنشدوا:
أعاليها مر الرياح النواسم مشين كما اهتزت رماح تسفهت
(وفي نسخة :فسفهت)
أي استضعفتها واستالنتها فحركتها.
وكذلك يطلق الضعيف على ضعيف العقل وعلى ضعيف البدن .وقد قالوا :الضعف – بضم الضاد في
البدن ،وفتحها ف الرأي؛ وقيل هما لغتان .وكل ضعيف ال يستطيع ما يستطيعه القوي؛ فثبت التداخل
في معنى هذه األلفاظ.
216
وتحريرها الذي يستقيم به الكالم ويصح معه النظام أن السفيه هو المتناهي في ضعف العقل وفساده
كالمجنون والمحجور عليه ،نظيره الشاهد له قوله تعالى {وال تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل هللا لكم
قيما} على ما سيأتي في سورة النساء إن شاء هللا تعالى.
وأما الضعيف فهو الذي يغلبه قلة النظر لنفسه كالطفل ،نظيره ويشهد له قوله تعالى {وليخش الذين لو
تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم}.
وأما الذي ال يستطيع أن يمل فهو الغبي الذي يفهم منفعته لكن ال يلفق العبارة عنه ،واألخرس الذي ال
يتبين منطقه عن غرضه ،ويشهد لذلك أنه لم ينف عنه أنه ال يستطيع أن يمل خاصة>>
هذا بيان ،واالعتبار على وجه تخصيص الشاهد قوله:
<<وال يصح أن تكون هذه األصناف الثالثة صنفا واحدا أو صنفين ،ألن تعديد الباري سبحانه كأنه
يخلو عن الفائدة ويكون من فن المثبج من القول الركيك من الكالم ،وال ينبغي هذا في كالم حكيم،
فكيف في كالم أحكم الحاكمين؟>>
المعجمية المتجلية بحدة ووضوح في ذاتية اإلدراك والتصور لحقيقة األلفاظ ومعانيها ،فلفظ (الحكمة)
من أوضح األمثلة في ذلك ،مما يمثل ال شك خطأ وانحرافا كبيرا ،على مستوى البيان الشرعي
خاصة والفكري عموما؛ يقول الشهرستاني (238-372هجرية) في الملل والنحل:
<<الفلسفة باليونانية :محبة الحكمة والفيلسوف هو (فيال) و(سوفا) ،وفيال هو المحب ،وسوفا:
الحكمة ،أي محب الحكمة .والحكمة قولية وفعلية.
أما الحكمة القولية ،وهي العقلية أيضا ،فهي كل ما يعقله العاقل بالحد ،وما يجري مجراه مثل الرسم،
والبرهان وما يجري مجراه مثل االستقراء ،فيعبر عنه بهما.
92
وأما الحكمة الفعلية فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية>>
من جانب االصطالح ليس هنا بادئ األمر من نقض لشرطه ،لكن اإلشكال هو في التعريف للفلسفة
وللحقل الفلسفي بحمولته ومحوريته اليونانية كما هي في تمثل وتصور التاريخ والفكر الغربيين.
أما عدم االختالف ،بالرغم من هذا اإلشكال الظاهر والبين ،فمن ثبوت العالقة والوصل بين
االصطالح واألصل بالمعنى الدال عليه تعيينا في قول مجاهد بأنها اإلصابة في القول؛ وهذا تعريف
جزئي ،فال اختالف مع حقيقة الحكمة إذا ما لم نفصلها عن معنى وداللة الحق بالبعد القانوني
والعالئقي تأثيرا وتركيبا .يقول الشهرستاني:
<<ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية.
ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط :أن الحكمة قبل الحق ،أم أن الحق قبل الحكمة؟
وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة إال أنه يكون جليا ،وقد يكون خفيا .وأما الحكمة فهي
أخص من الحق إال أنها ال تكون إال جلية .فإذن :الحق مبسوط في العالم مشتمل على الحكمة
المستفيضة في العالم ،والحكمة موضحة للحق المبسوط في العالم .والحق ما به الشيء ،والحكمة ما
93
ألجله الشيء>>
صرح في وصف أهل الحق بأنهم {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه'}(الزمر )08فوصفهم
بتمييز ما يقال من غير فرق بين القائلين ليأخذوا بما عرفوا حسنه ويطرحوا ما لم يتبينوا صحته
ونفعه .ومال على الرؤساء فأنزلهم من مستوى كانوا فيه يأمرون وينهون ،ووضعهم تحت أنظار
مرؤوسيهم يخبرونهم كما يشاءون ويمتحنون مزاعمهم حسبما يحكمون ويقضون فيها بما يعلمون
94
ويتيقنون ،ال بما يظنون ويتوهمون>>...
العالقة هاته بين مجال صدق الحكم ومصدره حجة قائمة ظاهرة أبدا ،داحضة في وجه من يتخذ
ويزعم المجد والديمومة لقول البشر ممن ليسوا برسل وال أنبياء ،فاإلنسان عالما أو غير عالم ال
يحيط بكل معطيات وشروطه الوجودية هو ذاته ولو في لحظة واحدة ،فكيف له أن يحيط بما هو
أوسع وأكبر من ذلك؟ فإنه من البديهيات األولى أنه من ال يعلم ما بين قدميه ال يصح أن يسند إليه
صفة اإلحاطة في العلم وعلم ما وراءه وعلم ما في غد .ولنذكر هنا ولنستحضر من أثارات العلم خير
الدروس وأحسن العبر وما كان من موقف صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رضي هللا عنهم
يوم الحديبية حين رأوا بادئ الرأي بحسب ظواهر األمور أن في بنود صيغة وعقد الصلح هذا تنازال
لم يستسيغوه ،كيف وهم أهل الحق أن يقبلوا ما حسبوه بظاهر المعطيات والحكم أنه اإلعطاء والتسليم
بالدنية؟
لم يكن الموقف هذا صادرا عن شيء من الشك في الدين وال تلكؤا من الصحابة رضي هللا عنهم،
ولكنه كما شأن السيرة النبوية الشريفة ووظيفتها البيانية للتنزيل ،حقيقتها تفصيل للكتاب وللحق في
أعلى وأشرف العبر وصور التدريس والبيان .لقد كان الموقف في ذلكم المشهد البارز في السيرة وفي
تاريخ المسلمين ككل منطلقه اإليمان باهلل ورسوله وحب هللا ورسوله ،وزاد عليه الصفة العظيمة
للصحابة رضي هللا عنهم ،صفة الصدق المستغرقة لكل وجودهم وأفعالهم وأقوالهم {رجال صدقوا ما
عاهدوا هللا عليه} ،فالموقف كان دليل هذا الصدق العظيم وترجمة صادقة لصادق ما ناله إدراكهم
البشري المحدود من علم الواقع ومشهود معطياته ...ثم قال هللا تعالى{:هو الذي أنزل السكينة في
قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم' وهلل جنود السماوات واألرض' وكان هللا عليما
حكيما'}(الفتح )32وقال سبحانه{:لقد صدق هللا رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء
هللا آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين ال تخافون' فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا
قريبا'}(الفتح)27
فليحذر المقلدون الذين يخالفون عن أمر الحق بإنزال قول عالم ما منزلة القول المجيد ،فاهلل جل وعال
يخاطب السابقين من المهاجرين واألنصار{:فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا} ويبرز
سبحانه ما اختص به جل جالله من مطلق العلم والحكمة{:وكان هللا عليما حكيما} وهؤالء يؤبدون
أقوال من دونهم من البشر والقرون ،ثم هم يزعمون أنهم أهدى الناس سبيال .فذلك وربك جهل عظيم
بالحق ناقض لحقيقة الفقه في الدين !
لئن تقرر ما رأينا من كون اإلحاطة العلمية بالمجال الوجودي مما هو متعلق الفقه والتشريع ال يحق
إال هلل سبحانه وتعالى الذي وسع كل شيء علما ،فكذلك قيم صدقية األقوال واألحكام اقتضاء .فال
األئمة األربعة وال غيرهم بمعجزين وال خارجين عن األسر الخلقي في أبعاده ومحدودية سعة وأفق
ما يعلم ،وهذا من لزوم الصفة العالمية إذا ما أسندت للبشر ولزيد من الناس كأي من كان ،ليس أحد
منهم معصوما منزها عن الخطإ ،وال ألحد أن يزعم ويدعي لهم العصمة .ثم ترى هؤالء المقلدين
يتلقفون الكلمة قد نطق بها عالم من العلماء وشيخ من الشيوخ في درس ومجلس من مجالسه
ومواعظه ،وقد تكون محورية في تفكير ذلك الشيخ أو العالم ،لكنها في كل ذلك ال تنفصل عن نسبية
هذا التفكير وتحتمل الصحة والخطأ على السواء ،فيبتدرها هؤالء وينزلونها ويجعلونها وكأنها أصل
ووحي من السماء .فكفى بهذا بيانا ودليال على ضالل المذاهبيين والمقلدين !!
إن مالكا والشافعي و أبا حنيفة وأحمد بن حنبل ،أوالء العلماء وغيرهم ومن أتى بعدهم كابن تيمية
ومحمد بن عبد الوهاب والمودودي وسيد قطب رحمة هللا عليهم جميعا ،هؤالء ليسوا برسل وال أنبياء
حتى ال نقبل الخطأ عليهم وندعي بموقفنا التعظيمي لهم كأنما كتب هللا العصمة لهم .إنهم في غناء عن
ب اطل هذا الزعم فحسبهم شرفا منزلتهم عند هللا وأنهم ورثة األنبياء ومن خير البريئة من بعدهم .الحق
غني أبدا وما كان له أن يتخذ من مواقف الجهل بالحق عضدا ،فمن يقدس ابن تيمية وابن عبد الوهاب
ويجعل من أقوالهما الدين كله ،وقد تجدهم كثيرا منهم ال يذكرون من آيات هللا تعالى وأحاديث رسوله
صلى هللا عليه وسلم إال نزرا ،إنما هؤالء قد سلبوا نور الحكمة والفقه ،يحذون حذو من قبلهم من أهل
الكتاب في نحلة التقليد وعبادة علمائهم.
221
الفصل الثالث
الضوابط والمؤطرات المنهاجية أو الفصل بين السنة والنمطية
مثل هاتيك اإلشكاالت وااللتباسات ،والتي سوف تظهر بكل وضوح في تطرقنا لبقية مستند ومكونات
المقولة التقسيمية من قولهم ب(توحيد الربوبية)! و(توحيد األلوهية)! ،ال ريب تمثل عامال سلبيا أمام
السير الشهودي لألمة اإلسالمية ،الذي ال ينفك مرتبطا على مستوى استقامته وصحته بمدى تقنينه
واعتماده على قانون ومنهاج الحق ،الموجب لشرط العلمية واالجتهاد ،وكذلك االعتبار الصحيح
لبشرية الصفة العلمية ،الذي بعدمه وبفعل تراكمات وصلة النتاجات بالمقدمات قد يؤدي إلى انحرافات
واختالالت ولو بعد أطوار زمنية وفكرية ،نعني هنا تحديدا ما يعبر عنه ويختزل فقهيا بوجوب
وحقيقة التحذير من زلة العالم.
إن المفهوم الشائع بدءا ،أي ما يفهم لدى الناس من علمية اإلنسان العالم ،مع دافع العلم ودواعي
االتباع وما جبلت عليه النفوس من إجالل للعلم وحب العلماء ،كل هذا قد يجر الخطأ لفكر الناس
ومعتمد أحكامهم وأقوالهم ،ألنهم ال يتصورون الخطأ على شيوخهم وعلمائهم؛
هذه إذا حقائق ثابتة وأمور ماثلة!
أال إن مبدأ ضالل قوم نوح كان بدءا إجاللهم لعلمائهم فانتهى المآل عبادة لهم ،وكذلك كان دأب أهل
الكتاب يهودا ونصارى مع أحبارهم ورهبانهم .ذلك وكما قدمنا دليله وبرهانه ال يحق المجد والدوام
لسريان األحكام واألقوال إ ال بشرط المجد واإلحاطة في العلم ،وإنما ذلك هلل وحده العليم الحكيم .روى
اإلمام البخاري في صحيحه في كتاب االعتصام بالكتاب والسنة عن أبي سعيد الخدري رضي هللا
عنه ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:
"لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة ،حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ،قالوا :يا رسول هللا،
اليهود والنصارى؟ قال :فمن؟".
<<حكى ابن عبد البر عن معن بن عيسى بإسناد متصل به قال :سمعت مالكا يقول :إنما أنا بشر
أخطئ وأصيب ،فانظروا في رأيي ،فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ،وكل ما لم يوافق الكتاب
والسنة فاتركوه.
222
وحكى ابن القيم في أعالم الموقعين أن الربيع قال :سمعت الشافعي يقول :كل مسألة يصح فيها الخبر
عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عند أهل النقل بخالف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي
وبعد مماتي.
وقال صاحب الهداية في روضة العلماء أنه قيل ألبي حنيفة :إذا قلت قوال وكتاب هللا يخالفه؟ قال:
اتركوا قولي بكتاب هللا؛ فقيل له إذا كان خبر الرسول صلى هللا عليه وسلم يخالفه؟ قال :اتركوا قولي
بخبر الرسول صلى هللا عليه وسلم؛ فقيل له إذا كان قول الصحابي يخالفه؟ فقال :اتركوا قولي بقول
الصحابي.
وأما اإلمام أحمد بن حنبل فهو أشد األئمة األربعة تنفيرا عن الرأي وأبعدهم عنه وألزمهم إلى
95
السنة>>
ويخلص الشوكاني إلى قوله:
<<وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب األربعة على تقديم النص على آرائهم عرفت أن العالم الذي
عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب ،والمقلد الذي قدم أقوال أهل
المذاهب على النص هو المخالف هلل ولرسوله وإلمام مذهبه ولغيره من سائر علماء اإلسالم>>
هذا ال شك يقرر المعطى األول الذي يثبت االحتمال الوارد الذي ال يرتفع أبدا في جواز خطإ العالم
والبشرية الصرفة لصفته العلمية ،التي منها يستنبط ولو استقالال عما أنف البرهان عليه المعطى
الثاني في محدودية وقصور السعة العلمية للعالم ،وكل من سعى في تمديد وتأبيد النتاج الدراسي
لطور علمائي ما ،فهو معطل لناموس الحق في الشريعة واالستخالف ،يسعى لجعل األطوار
الوجودية طورا واحدا ،ذلك أن السعة العلمية البشرية ومهما بلغ حدها لن تتجاوز سعتها هذه حدود
طورها ،فإن الذي يعلم ويحيط بعلم الخلق كله ما كان وما لم يكن بعد هو الخالق سبحانه الحكيم
الخبير .والفقه لهذا األمر العظيم في بيان تشريعات العبادة وأحكام األطوار واالستخالف في متطور
األحقاب أنزل قرآنا مبينا يتلى في قوله عز وجل ذي العزة والجبروت الواحد القهار:
{ما كان لبشر أن يؤتيه هللا الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون هللا' ولكن
كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون' وال يأمركم أن تتخذوا المالئكة والنبيئين
أربابا' أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون'}(آل عمران)72-78
اآلية الكريمة هاته أو اآليتان الكريمتان أمكن من حيث القاموس العلمي والدراسي وصفهما
وتسميتهما على غرار ما جاز من أسامي لبعض اآليات كآية الدين أن نسميها آية أو آيتي المنهاج ،وال
غرو فكأنها والسياق الذي أتت فيه بيانا حكيما وخاصة جوارها البعدي هذا غرضها وغايتها.
فبالبناء على ما سبق ،وتحديدا على الكلمة التفسيرية الجامعة للمادة واللفظ المحوري في فقه هذا
السياق ،كلمة حبر األمة وترجمان القرآن عبد هللا بن عباس في معنى{ربانيين} :علماء حكماء ،مع
اعتبار الفصل وعدم الترادف ،فقد جاء حكم القرآن العظيم –وليس حكمنا نحن -ونحن بما قال ربنا
مؤمنون ،من أن الجمود واالنحصار في إطار الحال والشرط الطوري في صيغة التواجد ولو كان
الطور الموافق لرسول ونبي ،فقد جاء الحكم في ذلك على التضمين في االستفهام اإلنكاري المبين
والبليغ{:أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟} ليعقبه الحكم واألمر الحكيم باستلزام وإيجاب المسايرة
الطورية ألطوار وشروط االستخالف التاريخية ،المنطبقة أساسا ومحوريا بحقيقة مناسبة كل رسالة
لطورها ،وما يقتضيه ذلك من حكم النسخ ووجوب اإليمان واالتباع {:وإذ أخذ هللا ميثاق النبيئين لما
آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه' قال أأقرتم وأخذتم
على ذلكم إصري' قالوا أقررنا ' قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين' فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم
الفاسقون' } فهذا الحكم من ذات الداللة والمصدر القانوني والتفسيري في قيام المنهاج على شرطي
العلم والدراسة الذي نقيضه الجمود والنمطية وتوقيف سريان الشريعة والحق في مسار التاريخ
المستخلف فيه .هذا إذا بيان وبالغ أعظم بحاجة العلماء المسؤولين يوم القيامة عن هذه األمة باألخذ
به بقوة ،وهللا تعالى غني عن العالمين.
فالسنة أصل في الدين ،وهي األساس المأمور اتباعه؛ أما النمطية فهي جمود مخالف لسنة هللا
الطورية في الخلق والتاريخ وإن تلبست بلبوس االتباع وما هو باتباع حق .ذلك وإن لم يكفهم هاتان
أو هذه اآلية المحددة على أتم وأفصح ما يكون التحديد لمنهاج الدين واالستخالف الحق في األرض
وأطوار التاريخ ،فلنذكرهم عساهم أن يذكروا ويستعتبوا ،ومن يستنكف عن الحق وسننه فلن يضر هللا
تعالى شيئا ،لنذكرهم بالسياق العلمي العظيم من سورة المائدة الجامع على أحسن وأوفى البيان لهذه
الحقيقة العظيمة والخاصة الثابتة للتشريع ،لقد نزل من السماء قوله وهو القول الحق المبين قوله
تعالى:
224
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون و األحبار
بما استحفظوا من كتاب هللا وكانوا عليه شهداء' فال تخشوا الناس واخشون' وال تشتروا بآياتي ثمنا
قليال' ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الكافرون' وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين
بالعين واألنف باألنف واألذن باألذن والسن بالسن والجروح قصاص' فمن تصدق به فهو كفارة له'
ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الظالمون' وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين
يديه من التوراة' وآتيناه اإلنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة
للمتقين' وليحكم أهل اإلنجيل بما أنزل هللا فيه' ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الفاسقون' وأنزلنا
إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه' فاحكم بينهم بما أنزل هللا وال تتبع
أهواءهم عما جاءك من الحق' لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا' ولو شاء هللا لجعلكم أمة واحدة' ولكن
ليبلوكم في ما آتاكم' فاستبقوا الخيرات' إلى هللا مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'}
(المائدة)21..34
فقوله تعالى{ولو شاء هللا لجعلكم أمة واحدة} يفصح عن سنة هللا تعالى في اختالف األطوار البشرية
التاريخية ،لكل طور شروطه الممتحن والمستخلف فيها مما هو مشار ويدل عليه باللسان العربي
المبين قوله سبحانه{ليبلوكم في ما آتاكم} فالتعدد في األمم يناسبه حكمة بالغة اختالف شروط
االمتحان والشرائع.
ولئن كان البخاري قد رسخ في تبويبه حقيقة كبرى ال خالف فيها عند الفقهاء والعلماء من لزوم العلم
قبل القول والعمل ،فها هنا مقام ليس أوجب منه لهذا الركن واألمر .إنه من لم يحصل له التصور
الصحيح للمنظومة المفاهيمية ومعاني العلم والسنة ولمعنى ولحقيقة العالم وما يحق له وما ال يحق،
من لم يحصل له التصور السليم لذلك ال شك هو مفتقد لإلدراك الحق للدين ولمنهاجه الحق في الفقه
والتشريع ،ولئن ذم هللا تعالى الذين ال يعلمون الكتاب إال أماني ،فهؤالء يتوجه ذمهم ألنهم يفقدون
حقيقة اإلدراك للدين لجهلهم بمنهاجه الحق.
أخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث عبد هللا بن عمرو بن العاص أن رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم قال:
" العلم ثالثة ،فما سوى ذلك فضل :آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة"
وفي إسناده عبد الرحمان بن زياد اإلفريقي وعبد الرحمان بن رافع وفيهما مقال.
225
قال ابن عبد البر :السنة القائمة :الثابتة الدائمة المحافظ عليها ،معموال بها لقيام إسنادها .والفريضة
العادلة :المساوية للقرآن في وجوب العمل بها وفي كونها صدقا وصوابا.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس وأبو نعيم والطبراني في األوسط والخطيب والدارقطني وابن عبد
البر عن عبد هللا بن عمر بن الخطاب رضي هللا عنهما موقوفا:
96
" العلم ثالثة أشياء :كتاب ناطق ،وسنة ماضية ،وال أدري"
ك ذلك ليس االتباع عند هللا تعالى وفي منهاج اإلسالم الجمود على نمط طوري ولو كان هذا الطور
كما بينا ذلك وتم الدليل وإفاضة البرهان والدليل عليه طور وصيغة الحياة ونمطها لعصر النبوة ،كأن
يمتنع من ركوب الطائرة أو تحريم المسرح على أساس أوحد وهو عدم ركوب الرسول صلى هللا
عليه وسلم الطائرة وعدم وجود المسرح في ذات صورته الحالية في عهده صلى هللا عليه وسلم .ومن
ه ذين الدليلين والركنين األساسين يستشف لمن ينعم بسوي التقدير وصائب الحكم على المعايير أن
اتباع العلماء المأمور به شرعا ال ينطبق مطلقا وبعيد كل البعد عن استبدال أقوالهم وعلمهم بنصوص
الشرع المجيد وعلم هللا العليم الخبير؛ فما كان من حق قول العالم مهما كان من البشر أن يدعي ذلك
ويدعي ما ليس له بحق إال أن يكون جاهال حقا .وهذا هو القاصم المدحض بقوة ال يبقي ألصحاب
المذاهب حجة وال سلطانا ،الذين اتخذوا أئمة مذاهبهم أربابا من دون هللا ولو لم يدركوا حقيقة أمرهم،
فليس العبرة باألسماء واالدعاء ،ولكن العبرة عند هللا تعالى بالواقع والحال .يقول العالم الرباني
صاحب الرسائل السلفية محمد بن علي الشوكاني رحمه هللا وبارك في آثاره:
<<فالحاصل أنا لم نأخذ بسنة الخلفاء وال اقتدينا بأبي بكر وعمر إال امتثاال لقوله صلى هللا عليه وآله
وسلم" :عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وبقوله ":اقتدوا بالذين من بعدي أبو
بكر وعمر" ،فكيف يسوغ لكم أن تستدلوا بهذا الذي ورد فيه النص على ما لم يرد فيه؟ فهل تزعمون
أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال :عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل حتى
يتم لكم ما تريدون؟
فإن قلتم نحن نقيس أئمة المذاهب على هؤالء الخلفاء الراشدين ،فيا عجبا لكم كيف ترتقون إلى هذا
المرتقى الصعب وتقدمون هذا اإلقدام في مقام اإلحجام؟ فإن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إنما
خص الخلفاء الراشدين وجعل سنتهم كسنته في اتباعها ألمر يختص بهم وال يتعداهم إلى غيرهم ،ولو
كان اإللحاق بالخلفاء الراشدين سائغا لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدما على من لم
يشاركهم في مزية من المزايا ،بل النسبة بينه وبينهم كالنسبة بين الثرى والثريا>>.
ويقول رحمه هللا في تفسيره لقوله عز وجل{:اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا والمسيح
ابن مريم' وما أمروا إال ليعبدوا إلها واحدا' ال إله إال هو' سبحانه عما يشركون'}(التوبة:)10
<< وفي هذه اآلية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين هللا وتأثير ما
يقوله األسالف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة؛ فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله
ويستن بسنته من علماء هذه األمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج هللا وبراهينه
ونطقت به كتبه وأنبياؤه ،وهو كاتخاذ اليهود والنصارى لألحبار والرهبان أربابا من دون هللا ،.للقطع
بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا ،وهذا هو صنيع المقلدين من هذه
األمة ،وهو أشبه من شبه البيضة بالبيضة ،والتمرة بالتمرة ،والماء بالماء .فيا عباد هللا ويا أتباع محمد
بن عبد هللا ما بالك م تركتم الكتاب والسنة جانبا ،وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد هللا لهم بهما،
وطلبه منهم للعمل بما دال عليه وأفاداه ،فعلتم بما جاءوا به من اآلراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم
تعضد بعضد الدين ،ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك
ويباينه ،فأعرتموهما آذانا صما وقلوبا غلفا ،وأفهاما مريضة وعقوال مهيضة ،وأذهانا كليلة وخواطر
عليلة ،وأنشدتم بلسان الحال:
غويت وإن ترشد غزية أرشد وما أنا إال من غزية إن غوت
فدعوا أرشدكم هللا وإياي كتبا كتبها لكم األموات من أسالفكم واستبدلوا بها كتاب خالقهم وخالقكم،
ومتعبدهم ومتعبدكم ،ومعبودهم ومعبودكم ،واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من
الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم ،وهو اإلمام محمد بن عبد هللا صلى هللا عليه وآله
97
وسلم !>>
97فتح القدير
227
الباب الخامس
الفصل األول
محورية اللفظ والمصطلحات األربعة عند المودودي
ما تقدم في هذا الجزء بدءا بالتمهيد والتوطئة مما يستلزمه تحليل ودراسة المادة األلسنية وفصل
الخطاب ،ووصوال إلى أهم مرتكزات هذا البحث والدراسة المتمثل في السبر الداللي للفظ (الرب) في
القرآن الحكيم ،هذا الجهد المتواضع الذي ندرك يقينا أنه في عرضه ال يحصي ولم يسع الممكن
والمتاح كله جميعا ،لكن الذي يتأكد ويتعين الحكم به أنه لغرضه قد استوفى الحاجة وأوفى غايتها ،من
تبيان وإقامة البرهان الدامغ والدليل الساطع على الخطإ الفاحش ،والمنكر العظيم الذي تلوكه وتردده
ألسنة المقلدين بغير علم ،ويحسبونه من نصوص األصول وما هو بذلك ،قولهم( :قريش كانت تقر
بتوحيد الربوبية)! ،وخطإ تصريفهم لهذا اللفظ المحوري على معنى ال يصح ،وما هو يقينا بالمعنى
الذي نزل به القرآن العظيم.
يقول األستاذ أليف الدين الترابي في عمله المتميز الذي نرجو له من هللا تعالى القبول في صالح العمل
ونسأله جل وعال أن يجزيه به عظيم الجزاء ،مؤلفه (أبو األعلى المودودي ،حياته ودعوته) يقول في
عرضه لكتابه (المصطلحات األربعة في القرآن :اإلله ،والرب ،والعبادة ،والدين):
<< والحقيقة إن هذه المصطلحات هي مفاتيح القرآن ،ألن كل ما جاء به القرآن يدور حول هذه
المصطلحات األربعة ،أي أن هللا وحده هو اإلله والرب فإياه ينبغي أن يعبد اإلنسان ،وله وحده ينبغي
أن يخلص الدين .وإذا كانت هذه هي الحقيقة ،فيمكننا أن نقول إن الفهم الصحيح للقرآن ينحصر على
الفهم الصحيح لهذه المصطلحات األربعة .فلذلك البد لمن يقوم إلحياء الدعوة اإلسالمية أن يعتني
بالتفسير ،كالداعية اإلسالمي الكبير ،كان البد له أن يهتم بذلك فجاء بالتفسير الصحيح لها .وبين أن
كلمة اإلله ليس المراد منها المعبود بمفهومه العام فحسب ،بل يشمل مفهومها المالك والحاكم والشارع
أيضا .وهكذا كلمة الرب ليس المراد منها المربي فحسب ،بل يشمل مفهومها كل تلك المعاني التي
تشملها كلمة اإلله .وكلمة العبادة ليس المراد منها أداء الطقوس فحسب ،بل في الحقيقة تتسع دائرتها
إلى كل ناحية من نواحي الحياة الفردية واالجتماعية .وكذلك كلمة الدين ليس المراد بها المعاملة
229
الشخصية بين اإلنسان واإلله كما يفهم بعض الناس ،بل يشمل مفهومها كل دائرة من دوائر الحياة
الفردية واالجتماعية.
والحقيقة التي البد أن نشير إليها أن هذه المعاني لتلك المصطلحات األربعة األساسية لم تكن جديدة،
بل كما بين األستاذ المودودي باألدلة من القرآن والسنة ،وبالشواهد من األدب الجاهلي ،بأنها كانت
معروفة لدى أهل اللغة العربية في القرون األولى ،ولكن مع األسف نسي المسلمون أو تناسوا هذه
المعاني في القرون األخيرة ،فكانت النتيجة أن المفهوم الصحيح لإلسالم قد اختفى من العيون.
فاألستاذ المودودي حينما قرر أن يقوم إلحياء الدعوة اإلسالمية كان البد أن يعتني بإحياء المفهوم
الصحيح لهذه المصطلحات األربعة األساسية التي ينحصر فيها إحياء التصور الصحيح لإلسالم.
وجدير بالذكر أن بعضا من العلماء والمشايخ لهم بعض المالحظات على هذا التفسير لتلك
المصطلحات األربعة األساسية؛ ولكن الحقيقة بأن األدلة التي جاء بها هؤالء العلماء ال تساوي وال
تنال من األدلة التي جاء بها األستاذ المودودي؛ فأدلة األستاذ المودودي ال تزال متفوقة حتى
98
اليوم>>.
تنبيه[:أشار المؤلف إلى أن كتاب (المصطلحات األربعة في القرآن صدر ألول مرة عام
0141الموافق ل ،0230في نفس السنة التي تأسست فيه الجماعة اإلسالمية ،وهو من أهم ما كتبه
المودودي رحمه هللا].
من أجل ذلك ،ولألهمية التي تكتسيها هذه المصطلحات ،كان أكبر االهتمام وجله موجها نحو الجانب
اللغوي وأثره الغالب والمحوري في حقيقة العلم .والدارس للمسار الفكري واالجتهادي للعقل
اإلسالمي يعلم ويدرك أكثر أن أصل كل االختالفات ،والخالفات أيضا ،هو نتاج لالختالف البدئي في
التأويل والقراءة ،جراء عدم االنطباق الكلي للدالالت الموظفة والنسبية بالصحيح منها والحق.
إذن فجهدنا المتواضع الذي جمع بين المكونات الضرورية المحققة ألدنى االئتمار بالرد إلى هللا تعالى
ورسوله صلى هللا عليه وسلم ،المكونات الواصلة بين اآلليات العلمية اللسانية انطالقا وعمال باألصل
العلمي والشرعي الممثل في عربية القرآن الكريم ،واالستقراء الداللي من خالل هذا الشرط العلمي؛
هذا الجهد في صبغته يتوخى ويحاول الحسم في عدة قضايا أقل ما يمكن القول فيها إنها سلبية ،وإنها
ال تخدم الفرد والمجتمع اإلسالميين في شيء ،وإنما علتها ومستندها غلبة الجهل على العلم،
98أبو األعلى المودودي ،حياته ودعوته ،أليف الدين الترابي ،دار القلم للنشر والتوزيع ،ط ،0ص223
230
والمستوى المتدني للعلم والتعليم على السواء ،مما ال يليق باألمة اإلسالمية ،التي يمثل فيها العلم
والمعرفة الشرط األساس لقيامها وأداء وظيفتها الخيرية والشهودية ،ذلكم الشرط المرسخ والمؤكد
ضمن األصول المنصوص عليها في الشرع الحكيم.
هذا الحسم يعتمد بصفة خاصة على أولية الحجة وشخوص الدليل ،ألننا وكما أومأنا إليه وأشرنا لم
نأت ببديع من األفكار وال مستجد لم يك من قبل من حقائق العلم ،وإنما هي أمور تأتي استنباطا لعمل
واجتهاد طبيعي على مسلك وتحقيق لقوله سبحانه وأمره الجليل{:يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا
وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم' فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى هللا والرسول إن كنتم تؤمنون
باهلل واليوم اآلخر' ذلك خير وأحسن تأويال'}(النساء)28
فالمعاني التي نزلت بها األلفاظ في القرآن العظيم أصح المعاني ،وتحديدها على أصل الحقل الداللي
لمعجم اللسان يتم ويحصل على قانون السياق؛ فهذا هو القويم الصحيح في عزل المعاني بعاملي
المعجم والسياق ،ليس في اللسان العربي فحسب ،بل في مطلق أنظمة اللسان؛ يقول ابن تيمية رحمه
هللا:
<< فإن العربي الذي يفهم كالم العرب يسبق إلى ذهنه من اللفظ ما ال يسبق إلى النبطي الذي صار
يستعمل األلفاظ في غير معانيها؛ ومن هنا غلط كثير من الناس ،فإنهم تعودوا ما اعتادوه إما من
خطاب عامتهم وإما من خطاب علمائهم باستعمال اللفظ في معنى ،فإذا سمعوه في القرآن والحديث
ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى ،فيحملون كالم هللا ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة،
وهذا مما دخل به الغلط على طوائف .بل الواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به
القرآن والسنة وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك األلفاظ؛ فبتلك اللغة والعادة
99
والعرف خاطبهم هللا ورسوله ال بما حدث بعد ذلك>>
األلفاظ واالصطالحات والمفاهيم لها إذا شأن خطير في مدى صحة أو خطإ ومدى قرب أو بعد أي
كيان معرفي ،مهما كانت درجته العلمية اإلسمية الرسمية ،من حقيقة األشياء وتصورات المعارف
كما هي في الحق .فحقيق إذا على كل من نصب نفسه مختصا بأمر العلم والشرع أن يولي قصارى
األهمية للشأن اللغوي؛ هذا الشأن والشرط الذي يفرض نفسه بسلطان النص مكونا جوهريا للكتاب
والقرآن المجيد:
99كتاب اإليمان-ص20
231
والكفر والبدعة وغير ذلك؛ ومنها ما هو محدث كالسلفية واأللوهية والربوبية؛ ونعني هنا باإلحداث
ما لم يأت به الشرع قرآنا وسنة .وهذا الصنف األخير من المفاهيم إن يكن قد انبثق عن ضرورة
دراسية تاريخية ،فحمله على الثابت والمطلق المحكم خطابا وموضوعا ليس له مشروعية ،ألنه يدخل
في إطار التحريف والتبديل للحقائق واألسماء التي هي الممثلة للموضوع وسبل مقاربته والنظر إليه.
لقد أشرنا من قبل في حديثنا عن انتقال الداللة اللسانية من المعجم إلى السياق إلى حقيقة التحول
الوظيفي لأللفاظ من الطبيعة المعجمية إلى الطبيعة والصفة المفهوماتية كصنف ما بعد -اصطالحي؛
هذا التحول في جانب مساره يجيز لنا أن نعتبر المفهوم كمعنى داخل إطار المجاز أو بإيجاز كداللة
مجازية .لكن المفهوم ال ينبغي له أن يؤخذ في عالقته المجازية كممثل لجوهر موضوعاتي في درجة
الموضوعات الممثلة بصورها في المعجم أو القاموس.
233
الفصل الثاني
إشكالية المفهوم وماهيته
إشكالية المفهوم تكمن في كونه ذا ماهية غير لغوية ،بمعنى أن الخطاب المتضمن للمفهوم يستوجب
مخاطبا فكريا ،وغياب هذا الشرط هو العلة الغالبة والسبب الرئيس في السجاالت الالمنتجة .هنا
نواجه مقولة :المفهوم شطر المعرفة . .
إن المفهوم ال يمكن وال يحق بحال اعتباره عنصرا معجميا .وتصوره واعتباره كذلك هو هدم لحقيقة
المعرفة ولطبيعتها المختزلة في المفاهيم ،كنظمات ومنظومات مكثفة وجامعة لكم معرفي يعبر بها
عنه وعن اإلحاطة بمضامينه .من تمة ،وبناء على هذا واستنباطا حقائقيا ،يرى أن ال حقيقة المتالك
واكتساب المفهوم إال في مستوى التفكير ومستوى ما بعد-المعجم ،الذي هو المركب اللبناتي للعملية
التفكيرية والممارسة العلمية.
إن كل النظريات المؤطرة للمعرفة وللعلم ،وفي تعددها ،وبصرف النظر عن ثرائها الوظيفي
والفكري المستمد منها ،جميعها تتفق في أمرين وخاصتين ،هما االستيعاب واالقتصاد اللذان يكفالن
وبهما يتحدد المدى اإلعمالي ونجاعته ،وبمعنى آخر تتحدد بهما درجة النسبية في سريان النظرية.
ولئن كان شرط االستيعابية يرتبط في كل مناحيه وأبعاده بالمبادئ والمسلمات ،فإن االقتصادية
تتحصل وتتم من خالل االستناد واعتماد الحد األدنى من المادة الهيكلية المنطبقة بالنسق ،ومن المادة
البيانية المتمثلة في اللغة .هذه البنية وتلكم العالقات التركيبية هي التي تكسب المفهوم تميزه وأهميته،
وتجعل منه في حسبان المفكر عنصر اإلغناء بالنظر إلى وظيفته هاته االختزالية؛ فهو من جهة كونه
أعلى درجات االصطالح ،نعني االصطالح في قاموس المفكر الواعي ،إنما يختزل ويمثل ظاهرة
كاملة بكل محدداتها ،وليكون بؤرة تجميعية ولبنة فكرية لها قيمة وازنة في العلم والمعرفة.
الماهية البنياتية للمفهوم ،أي تمثيله لحيز بنيوي وفضاء عالئقي فكري ،أو بأصح القول معرفي ،ال
يجعل من تعدد طرق تحليله احتماال واردا ،ألن معنى البنية وحقيقتها يتشكالن من مدلول موضوعي
وواقعي ،مكوناته العضوية ومركباته العالئقية تنتظم في أبعاد محددة وعلى نحو وشكل محدد . .
ولن نكون بحال مجانبين للسداد إن نحن قلنا كون دراسة المفاهيم هي من أصعب الحيزات الفكرية
والعلمية؛ وال غرو فهي المعيار والمؤشر في ميز حقيقة المفكر عن غيره .وكذلك أو لعلنا أدركنا أن
234
األمر في هذه الوظيفة المعيارية للمفهوم يرد باألساس إلى علو مستوى موقعه وتناوله كعنصر بياني
فكري ،مستوى أهم ما يتميز به عالوة على علوه النسبي أنه مستوى النتاجات والحصيلة للعمليات
والجهود الجدية ،ذات الموضوعات المتميزة ،والخاصة والتفكيرية طويلة األمد .لهذا كله ال يمكن لنا
أن ننتظر وصفا حقيقيا وتعريفا صحيحا لشيء ممن ال عالقة له وال صلة في التواجد تجمعه به.
وسوف نستبين ونرى صحة هذا الحكم حين التعرض لمفهومي العلم والنظرية من خالل صورتيهما
الداللية ،ليس فحسب لدى إدراك التلميذ والطالب ،بل في إدراك من هم باالعتبار نموذج المفكر
والمثقف. .
على سبيل بيان ذلك ننقل هنا ما جاء في تحديد المفهوم في (مجلة المناظرة) بركن قاموس المجلة:
المفهوم <
بالفرنسية Conceptواإلنجليزية Conceptباأللمانية .Begriff
إن» المفهوم « من المفاهيم التي يعسر كثيرا تحديدها بسبب تعدد معانيه واختالفها ،كما تدخل عدة
اعتبارات فلسفية في تحليله ،وذلك أيضا شأن األلفاظ المرادفة له.
ويطلق على التصور الذهني العام ،أو المعنى المجرد والعام.
وقد جرى في العربية اليوم استخدام لفظ » المفهوم « للداللة عليه.
أما المناطقة العرب فقد سموه » الكلي « ،أو » المعنى الكلي « أو (المعنى العام) أو (المعنى
العامي) ،واكتفوا أحيانا باسم (المعنى) .يقول ابن سينا ،بعد أن ذكر الوحدة والكثرة والعلة والمعلول:
»وما أشبه هذه المعاني « .
ويطلقون اسم (المفهوم) على فحوى األلفاظ أو ما يفهم منها ،أي مجموع الصفات أو الخصائص التي
يتكون منها المعنى العام ،وهذا في مقابل الماصدق ،الذي هو مجموعة األفراد التي يصدق عليه
الكلي.
وبهذا االعتبار نقول إن (المفهوم) في استعماله الحديث له مفهوم وماصدق .وتستعمل اللغة الفرنسية
مثال ،كألفاظ مترادفة على العموم ،للداللة على المفهوم أو المعنى العامConcept, notion, idée :
générale , idée
235
لعل أول ما ينجلي ويصلح ليكون توضيحا ومثاال ملموسا في بيان صعوبة طرح إشكالية المفهوم هو
ذاته هذا التحديد الذي أبت مجلة (المناظرة) إال أن يكون وشاحا لعددها األول وتحديدا في ركن
قاموسها ،وهي مجلة وهو ركن أولي التخصص.
فإذا كان للعلم ضوابط ومعايير ،فأولها ما يسلم به أساسه وأركانه األولى التي ال يقوم بناؤه إال بها،
والتي ألزمها وهي معيار وضابط الضوابط والمعايير كلها ألنها تحيط بكفل حقيقة البناء وبيانه
كليهما ،معيار وضابط التحديد ،الممثل في شرطي الوضوح والتبسيط (شرط االقتصاد).
فالموضوع المعني والمستهدف بالدراسة ،أي المفهوم ،والمؤطر من خالل هذا التعريف الذي تعرف
به المجلة نفسها والوارد على غالفها(:مجلة فصلية تعنى بالمفاهيم والمناهج الفلسفية) ،ليس له من
عالقة وال صلة بالموصول بالماصدق سوى االشتراك اللفظي؛ هذا من جهة .ومن جهة ثانية فال
ترادف كذلك في اللسان الفرنسي بين notionو ،idéeذلك أن اللفظ األول له إمكانية االنطباق
236
بالتعريف بالمعنى المنطقي واالنطالق منه ،األمر الذي ال يجوز بالنسبة للمفهوم Conceptالذي ال
يعبر به إال عن المجال المعرفي .أما لفظ idéeفهي تخالف notionو Conceptألنها ال تمثل
وحدة كاملة في التمثيل.
ولو نظرنا إلى – أو في كلمة الكاتب نفسها التي ختم بها مقالته في محور (المناظرة) فإن فيها أحسن
مما ورد في التحديد ،يقول الطاهر وعزيز:
<< إننا في ضوء المفاهيم نعرف األشياء ونسلط أفعالنا عليها ،كما أن الميزان األمثل للعمل الفكري
الخالق هو معالجة المفاهيم .وال تأتي قيمة هذه األدوات المعرفية من أنها تعكس بأمانة معطى سابقا،
وإنما بفضل ما تسبغه على الظاهرات من وحدة>>.
األهم أكثر هنا هو قوله( :وال تأتي . .من وحدة) فذلك هو المؤطر والخاصة للمفهوم :التمثيل للظاهرة
أو النسق الفكريين؛ وهو المراد من قوله :تعكس معطى سابقا .فالمفهوم ال يكون أمرا ،وإنما يمثله.
وهذا هو ما يميزه عن باقي وغيره من الدالالت األخرى مما جاء في تحديد المجلة وقاموسها.
237
الفصل الثالث
النتاجية والتمثيلية أهم خصائص المفهوم
إن المفهوم هو تمثيل ونتاج ،وليس سابقا لما يمثله ويعبر عنه؛ هذا هو المعنى الذي يتداول به في
اإلطار العلمي والفكري الصحيح .أما عالقته بالتجريد ،أي بالدراسات التحليلية للظواهر والقضايا
الفكرية ،فال يصح البدء به انطالقا ،وإنما يكون الحقا لتحديد معين يتم رصده وتعيينه من خالل هذه
الدراسة .وأما الوظيفة التي بمقتضاها أضحى المفهوم له هذه القيمة والدرجة المتميزة في الممارسة
الفكرية ،فهو البناء الكلي في التنسيق والهيكلة للمجموع والكل المعارفي.
بيد أنه في هذا كله يبقى السؤال األهم فيما يخص المفاهيم هو تقريبها وضبطها بالنسبة لآلخر
الخطابي .وليست هذه المسؤولية في الحقيقة إال صورة كاملة وتجسيدا تاما إلشكالية المفهوم في حد
ذاته ،ذلك أن الوحدة في الطبيعة تعطي الوحدة في التركيب والتحليل ،وهما الطوران اللذان ال
مندوحة لمن يبغي تحليل المفهوم من سلوكهما .فمن خالل التحليل يتم جرد المكونات وترتيبها من كل
وجوه تناسقها .هذه العملية هي المنحى األول المجلي والمجسد لشرط وأهلية المفكر ،وهو األساس
للمنحى الثاني ،الذي الغاية منه تقديم المفهوم لآلخر الخطابي عبر عملية التركيب ،المبرزة للمكونات
واللبنات الرئيسة ،التي أهمها الشروط الموضوعية في نشأة وانبثاق المفهوم.
هنا يتم ويقع طرح السؤال حول المصداقية والمشروعية .فالمفاهيم ال تختلف فقط من حيث مدى ما
تتوفر عليه من مصداقية ،وما تعبر عنه من نسبة الواقع والحقائق ،فإن منها ما يفتقد وما هو خلو من
ذلك كله جميعا ،إنما هو مصطنع اصطناعا ،ومختلق اختالقا ،لغايات وأغراض مضللة للمجال
الخطابي ،ومحرفة في نقل الواقع.
238
الفصل الرابع
االختالق المفاهيمي أداة في الصراع والتحكم
نموذج':اإلرهاب' و'العولمة'
إن كنا هنا في غير موضع التفصيل إلشكالية أو لنقل إشكاليات المفهوم ،ننقل هنا مقاال قد يفيد ويسلط
بعض الضوء على بعض من أبرز الجوانب وأشدها خطرا وأجدرها باإلثارة والتعريف .هذا المقال
ورد في جريدة الشرق األوسط لعددها 8183الصادر بتاريخ 2110\00\00لصاحبه السيد حامد
الطيب إبراهيم ،تحت عنوان :الوجه العولمي لإلرهاب يطمس حقيقة الظلم .وهذا نصه:
<< بعد التفجيرات التي شهدتها أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر الماضي ،توقف الحديث عن
ظاهرة العولمة وحل محلها الحديث عن ظاهرة اإلرهاب ،فهل ثمة عالقة بين العولمة واإلرهاب
الدولي؟
قبل الدخول في عالقة العولمة واإلرهاب الدولي يجب أن نقف عند ضبابية التعريف وما تحققه من
أغراض سياس ية فيها كثير من االبتزاز ،العولمة ينظر لها العالم الثالث بتوجس .وآخر تعريف لها
حتى اآلن أنها حرية الحركة للمعلومات والسلع والخدمات وحتى اإلنسان بثقافته ومعتقداته من دون
قيود .بينما اإلرهاب الدولي هو ضلوع دولة أو شخص أو جهة في إحداث أعمال تخريبية أو عدائية
لدولة أخرى .وهذا التعريف لإلرهاب كما العولمة لم يكتمل بعد .ولرسم عالقة بين العولمة واإلرهاب
نجد أن هناك وجهين مختلفين لهذه العالقة .الوجه األول هو أن اإلرهاب خاصة ما حدث من تفجير
في نيويورك وواشنطن يمثل انتكاسة في مسيرة العولمة .أما الوجه الثاني فيقر أن اإلرهاب الدولي
هو ظاهرة من ظواهر العولمة ينبغي أن يؤخذ في االعتبار والعالم مقبل على العولمة لتكون المعالجة
على قدر الحدث اإلرهابي مهما كان حجمه.
بالحديث عن الوجه األول ،وهو أن اإلرهاب وشن الحرب ضده قد أوقف أو أجل عجلة العولمة التي
انطلقت بسرعة االنفالت ،إال أن حدوث التفجيرات قلل من سرعة العولمة.
فما تم من تخطيط وتنفيذ دقيق في أكبر دول العالم والمحصنة بأحدث األجهزة االستخباراتية
واألمنية ،مثل نيويورك وواشنطن ،فماذا سيكون حال المدن األخرى في باقي أنحاء العالم .هذا
239
الحادث حتما سيقلل من تدفق األموال إلى دول العالم ،خاصة الثالث منها مما يوقف أو يؤخر حركة
العولمة.
كذلك يرى الكثيرون من مناهضي العولمة أن عولمة بدون عدالة مرفوضة ،وبالتالي يمكن مواجهة
ذلك بالعنف واإلرهاب حتى ال تسحقهم إفرازات العولمة .هذا السبب سيدفع بمنظمة التجارة العالمية
بجدية لمعالجة اإلفرازات السلبية لظاهرة العولمة ،وهذا يحتاج ربما لوقت طويل تكون العولمة في
حالة انتظار.
أما الوجه اآلخر فهو أن اإلرهاب الدولي مظهر من مظاهر العولمة وأن أشكاله ووسائله ونتائجه
متعددة ،وتتنوع وتتطور كلما اتسعت مساحة العولمة .فالتكنولوجيا وثورة المعلومات واالتصاالت
التي هي أهم أدوات العولمة تجد هذه الثورة هي نفسها متاحة لإلرهابيين .وإن العقلية العالمية التي
خلقتها العولمة لتجاوز الحدود السياسية هي أيضا أصبحت عقلية اإلرهاب الدولي .كذلك من السمات
العولمية لإلرهاب الدولي أن العملية اإلرهابية يمكن أن يخطط لها في بلد وتنفذ في بلد آخر ،ومن
خالل جنسيات متعددة للمنفذين.
دراسة ظاهرة العولمة مع ظاهرة اإلرهاب الدولي توضح تشابه األحوال في نيويورك أو واشنطن
وغيرها من دول العالم في ما يتعلق بغياب األمن ،وبقدر ما تسعى العولمة باستنهاض المدن النائمة
بعد مدها بسبل التقنية ،فهاهي العولمة بيدها اإلرهابية من عظمة المدن األولى في العالم لتكون مثل
صويحباتها في العالم الثالث.
كذلك فإن ضبابية العولمة في معناها ومغزاها ،وهل هي نتاج تلقائي للتطور العالمي أم مخلوق
غربي ،وهل تسير العولمة من ذاتيتها أم تدفع من جهة معينة متحدية الواقع لتلد العولمة مخلوقا غريبا
مثلها فهو غير محدد المعالم وبجسم هالمي ،وأحيانا كثيرة غير مرئي .ولذلك فالحرب ضده هي
األخرى لغز من ألغاز العولمة.
إن معالجة اإلرهاب في إطار العولمة تبدأ من معالجة العوامل التي تؤدي إلى هذا اإلرهاب .وهذا يتم
بتصحيح مسار العولمة حتى تخدم جميع البشر ،ومعالجة كل أشكال الظلم ،وتعميم ثقافة السالم
واإلخاء.
إن شعور الظلم والغبن من سلوك دولة أو شعب أو حتى شركات أو أفراد يقود إلى رد فعل ما قد
يتمثل في عمل إرهابي يكون أفدح وأكبر من انفجارات مانهاتن والبنتاغون في أميركا .ولذلك فمن
األجدى للتحالف الذي يتشكل لمكافحة اإلرهاب أن يتحول إلى مؤتمر عالمي ليس لمكافحة اإلرهاب،
240
وإنما لدراسة ظاهرة اإلرهاب وأسبابها وأسباب تزايدها ،خاصة في ظل العولمة كإفراز لسلبياتها أو
مجرد تنامي العولمة وتقارب البشر باختالف ثقافاتهم وعقائدهم في ما يعرف بالقرية الكونية>>
الحديث عن العولمة وعن اإلرهاب هو إعطاء الرؤية األكثر قربا وعلمية في تحديد جواب ما هو
المفهوم؟ أصوله ،مؤطراته؟
أما من حيث األصول ،واالنبثاق والنشأة األولى خاصة ،فألن اإلرهاب مثال لم يأخذ ولم يختص بهذا
الصدى والمدى كظاهرة إال من قوة مستمدة من قوة واقعيته ،أي حصول الفعل واألثر بغض النظر
عن مصداقية وصحة اللفظ ابتداء لنسبية االعتبار .فاللبس واإلشكالية الحقة نراها منطبقة أو لنقل
مركزها ومناطها األساس هو عالقة اللفظ من جهة الصحة وعدمها بالظاهرة .لهذا السبب والتعليل
فاألمر ليس كما أريد له وأضفي عليه من االعتبار من جهة وأطراف معينة معلومة ،الجهة المعتبرة
في ظاهر الموازين وفي نفسها أنها األقوى على مستوى ومشهد الفعل واألثر العالمي في بعد القوة
العسكرية وهيمنة الفعل والتوجيه .وحجة نذكر بالغارات األمريكية المباشرة على أقطار هي إسالمية
عربية تحديدا ،السودان والعراق وليبيا ،وهي غارات همجية بالتوصيف التاريخي اإلنساني بكل
معنى هذا الوصف .ناهيك عن المظاهرة والدعم للعدوان على المستضعفين ،الممثل في كل ما يرتكبه
الصهاينة بأبشع الصور ،كما شهد بذلك أهل األرض والسماء في مشهد الجريمة على أعين ومشهد
كل الناس ،القتل الهول لطفل أعزل ،محمد الدرة ،العنوان الشاهد للبقية اآلدمية في الحضارة الغربية
السائدة.
إذن فالمفهوم له والدته وانبثاقه األول؛ فهو كما قلنا بميزان الحق والموضوعية سابق لمرحلة اإلدراك
عند اآلخر ،أي في الفكر .االنبثاق هو فرض الواقعية؛ وهذه النقطة هي ملتقى لموضوعين ومرحلتين
معا ،التكوين واالنتشار ،ذلك وإن كان في عموم األحوال ال يحصل الفقه الكافي لحمولة المفاهيم إال
لذوي المسايرة واالحتكاك التفاعلي ببيئتها .فإن نفع الحديث عن العولمة واإلرهاب بالخصوص ييسر
لمن دون مستوى المفكر اإلحاطة أو التعرف على بنية المفهوم ومسألة المصداقية فيه ،حيث أن هذين
المفهومين باتا السائدين والساريي التأثير على مجموع الفضاء والرأي الكوني ،أوال للواقعية ،وثانيا
اللتقاء العامل الدعائي أو الحرب الدعائية ،أو لنقل باألصح االكتساح والهيمنة الدعائية لطرف واحد
في الصراع ،وهو هنا الطاغوت بالحمولة التامة للفظ ،التي ليس ينحصر مدلولها على ما يحمل إليه
عادة ،أي المعنى الشرعي والفقهي المختص ،ولكن بمطلق ظالل الداللة في الحقل والمعنى الفلسفي؛
وهي تمثل مدخال أوليا لفهم القاموس الشرعي على حقيقته؛ فالحق يعلو وال يعلى عليه؛ قلنا حال أو
241
باألصح ولألسف وإنا هلل وإنا إليه راجعون! شرط التقاء هذا العامل بحالة الوهن العظيم والواقع
المأساوي لألمة اإلسالمية وضعفها في جانب البأس وقوة الحديد.
نحن في نظرنا وحديثنا عن هذين المفهومين نكون متواجدين داخلهما بالتحديد؛ وهذا ما يعطينا نظرة
موضوعية وعلمية في انتقال الظاهرة إلى مفهوم؛ وكل الجدليات الحاصلة بين شتى الثنائيات
المتصارعة وأحيانا المتناقضة وكأنها شعب مختلفة ،جميعها تساهم في تكوين وتنشئة المفهوم ،وفي
انتشاره بالحمولة والداللة التي يكون بها .هذه الداللة تتبع في قربها وبعدها عن الحقيقة والحق بحسب
وتبعا للنسب المحققة لهذه المفعالت والمنشئات من الشعب بين أقطاب الثنائيات .وذلك ما ينتج عنه
ويتحدد به مدى المصداقية والمشروعية ،التي قد تصل حد االنعدام واالفتقاد الكلي ،حيث تتسم
الصراعات في الغالب باصطناع واختالق مفاهيم مغلوطة ،يعتمد في صناعتها على اإلبهام واللبس
التركيبي ،ألنها ال وجود لها وال معنى لها تدل عليه في الواقع إال الباطل الذي ال يحق وال يصح وال
يوجد ،وإن هو إال محض االختالق.
لنعد إلى فحوى ونص المقال ،ولنقف مليا عند قول الكاتب:
<< قبل الدخول في عالقة العولمة واإلرهاب يجب أن نقف عند ضبابية التعريف وما تحققه من
أغراض سياسية فيها كثير من االبتزاز .فالعولمة ينظر لها العالم الثالث بتوجس .وآخر تعريف لها
حتى اآلن أنها حرية الحركة للمعلومات والسلع والخدمات وحتى اإلنسان بثقافته ومعتقداته من دون
قيود .بينما اإلرهاب الدولي هو ضلوع دولة أو شخص أو جهة في إحداث أعمال تخريبية أو عدائية
لدولة أخرى .وهذا التعريف لإلرهاب كما العولمة لم يكتمل بعد>>
إن قضية تحديد المفهوم وتعريفه لها ارتباط بالمصداقية التي يكتسيها هذا المفهوم ذاته؛ إذ التعريف
أصله ومعناه الحد بالمعنى المنطقي المنطبق االنطباق التام بالمعنى والداللة المعرفية والعلمية .لذا
فنحن عندما نعرض ونتحدث عن مفهوم ما إنما نريد ونعني شيئا محددا تحديدا علميا ومعرفيا .ومن
ثمة فكل ما لم يتم الفصل منه أو فيه من المواضيع هو مفتقد لصفة المفهوماتية؛ وهذا تحديدا ما حاولنا
إثارة حقيقته والتنبيه عليه عندما أدرجنا تعريف المفهوم الذي قررته واعتبرته مجلة المناظرة .كما أن
هذا ال يعني وال يفيد بحال الحكم والقول بانعدام حقيقة العولمة واإلرهاب كظاهرتين حقيقتين بصفة
المفهوماتية ،ولكن الحق واحد وأجزاؤه بالمعنى المكوناتي والتضمني ال اختالف بينها وال تناقض.
بناء على هذا وتأسيسا على واقعه ،يلزم اعتبار المفهوم داال على حقيقة ومدلول معين ،وشرط هذه
الداللة األحادية يحدد من خالل أمرين أو شرطين اثنين:
242
أولهما تمام المفهوم في طبيعته نشوءا وانتشارا مما يطابقه القول بتمام تحديد المفهوم .وذلك ما تمثله
المفاهيم التي تمت نشأتها في أطوار فكرية سابقة ،فاستقر مضمونها وتعريفها.
والشرط الثاني هو الترجيح الموضوعي والعلمي للتحديد رغم معاصرة الظاهرة؛ فال يضير حينها
العوامل المغرضة التي رأينا ونرى مثلها في النموذجين لمفهومي اإلرهاب والعولمة رغم التحوير
والتحريف الظاهر المبين المتوسل إليه بتسمية الوقائع والظاهر بغير أسمائها.
243
الباب السادس
(الربوبية)
من انبثاق المفهوم ونشأته
إلى الضالل والخطإ في التوظيف
244
الفصل األول
انبثاق مفهوم 'الربوبية' والتأطير الشرعي
<< قال الربيع بن أنس :قلت ألبي العالية :كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟
قال :كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب هللا ما أمروا به ونهوا عنه ،فقالوا لن نسبق أحبارنا بشيء
فما أمروا به ائتمرنا وما نهوا عنه انتهينا ،فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء ظهورهم؛ فقد
بين النبي صلى هللا عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحالل ،ال أنهم صلوا
لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون هللا ،فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة لألموال قد بينها النبي صلى
100
هللا عليه وسلم ،وقد ذكر هللا تعالى أن ذلك شرك بقوله{:ال إله إال هو سبحانه عما يشركون}>>
وفي (فتح المجيد) ورد شرحا وتعليقا قوله:
<< األحبار هم العلماء ،والرهبان هم العباد .قال السدي :استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء
ظه ورهم .ولهذا قال تعالى{:اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا} فصار ذلك عبادة لهم،
وجعلوا أحبارهم ورهبانهم أربابا مشرعين في تحليل ما حرم هللا وتحريم ما أحل هللا ،فاتخذوهم بذلك
أربابا ،ألن التشريع من خصائص الربوبية كما أن العبادة من مستحقات الربوبية ،وقال
تعالى{1:::وال يأمركم أن تتخذوا المالئكة والنبيئين أربابا ،أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم
101
مسلمون}أ.ه>>.
ليس بعد هذا صورة أوضح في الدليل وال تفسيرا أكثر تبسيطا للتعليل ،من كون أولئك أو هؤالء
العلماء والعباد أربابا أن التشريع من خصائص الربوبية .وإن هذه اآلية حجة داحضة مبطلة ومسفهة
لقولتهم المنكرة :قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية!
نجد كذلك في نفس المؤلف في قوله تعالى{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرابا من دون هللا -اآلية} وبعد
إيراد قول السدي يأتي قوله:
<< فظهر بهذا أن اآلية دلت على أن من أطاع غير هللا ورسوله ،وأعرض عن األخذ بالكتاب والسنة
في تحليل ما حرم هللا أو تحريم ما أحله هللا ،وأطاعه في معصية هللا ،واتبعه فيما لم يأذن به هللا ،فقد
اتخذه ربا ومعبودا وجعله هلل شريكا؛ وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين هللا الذي دلت عليه كلمة
اإلخالص (ال إله إال هللا) فإن اإلله هو المعبود ،وقد سمى تعالى طاعتهم عبادة لهم ،وسماهم أربابا،
كما قال تعالى{)1:8(:وال يأمركم أن تتخذوا المالئكة والنبيئين أربابا} أي شركاء هلل تعالى في العبادة
{أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وهذا هو الشرك .فكل معبود رب وكل مطاع ومتبع على غير
ما شرعه هللا تعالى و رسوله فقد اتخذه المطيع المتبع ربا ومعبودا كما قال تعالى في آية األنعام
({) 4:020وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وهذا هو وجه مطابقة اآلية للترجمة .وشبه هذه اآلية في
المعنى قوله تعالى{)20:32(:أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به هللا} وهللا
102
أعلم.أ.ه>>
هذا البيان قد أتى على أعلى درجات العلم وحدود التأويل ،على لسان وثيق للثلة األئمة األعالم ،الرد
فيه هلل تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم؛ فمعنى (الربوبية) وإن حوى في حقله الداللي معاني
الملكية والرازقية والخالقية والقهر واالختصاص بالتدبير والشأن ،فالمعنى الذي تأكد ونزل به الكتاب
داللة به للدعوة لعبادة هللا سبحانه وتعالى{:وما أمروا إال ليعبدوا إلها واحدا' ال إله إال هو' سبحانه عما
يشركون'}(التوبة )10هو معنى التالوة واالتباع واالحتكام ،انتهاء وائتمارا ،والطاعة واالنقياد.
وقول أبي العالية لم يأت على قبيل القول بالظن وال كان قوال بالرأي ،إنما هو وعاء من أوعية العلم
أمن العلم بها وحفظ؛ فالسنة النبوية قد بينت الكتاب وفصلت مجمله ،وتلك كما أعلمنا هللا تعالى
وظيفتها وأول وكمال حكمتها{:وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم
يتفكرون'}(النحل)33
وأبلغ البيان وأثقله زنة على معيار التأصيل الشرعي ثم هو أيسر فهما وأحسن تفسيرا ،والذي مثلت
كلمات رفيع الرياحي (أبي العالية) وعاءه ،هو الخبر الصحيح الذي مفاده أن رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم تال على عدي بن حاتم الطائي قوله تعالى{:اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا
والمسيح ابن مريم}(التوبة ) 10فقال :لسنا نعبدهم ،قال :أليس يحلون لكم ما حرم هللا فتحلونه،
103
ويحرمون ما أحل هللا فتحرمونه؟ قال :بلى؛ قال النبي صلى هللا عليه وسلم :فتلك عبادتهم>>
هذا أصل وبيان من العلم بالحق بلسان عربي مبين ،وما يزيده على منحى البيان حجة وقوة هو
اعتماده على ذكر وتأكيد التذكير بأخص الخاصات وأبرز ميزات ،العبودية التي هي التشريع،
وبأسلوب االستفهام اإلنكاري الذي هو أعلى درجات التوكيد واإلخبار .كذلك يأتي هذا األصل ليقر
التكافؤ االنطباقي لحقيقة العبادة باتخاذ األرباب ،ذلك ما تسطره ونتلوه في اآليتين البينتين وقوله تعالى
العليم الحكيم {:يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إال
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل هللا بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك
الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف)31-12
إن علم الكتاب وبيان السنة ليس فيهما من أثارة مستند وال أصل في فصل العبادة عن الربوبية كما
يزعمه أوالء الذين ال يعلمون الكتاب إال أماني ،وإن هم إال متبعون مرددون لكلمات قد تلفظ بها
علماء بشر يخطئون ويصيبون ،ولم يثبت لها أصل ال في كتاب وال في سنة ،وقد أنزلوهم وصنعوا ما
صنع من قبلهم بأحبارهم ورهبانهم ،ال يتصورون عليهم الزلل ،كالمهم في حسبانهم كله حق،
وتصنيفاتهم وتقسيماتهم حق كلها ،حتى أمست في اعتبارهم وفكرهم ونهجهم ،وهم ال يشعرون،
أمست مقدمة في فكرهم ونهجهم على الكتاب والسنة ،يذكرونها أكثر من ذكرهم القرآن وحديث
رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،وبها يتم االعتبار والقراءة للقرآن العظيم وسنة رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم ،ومن أراد أن يوقن من هذا الحكم وال يرتاب فلينظر وليتفحص الواقع والحال ،وما
كان هللا ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ،وإنه ليس اإليمان وال العلم باألماني والتمني
ولكنه الحقيقة والحال.
هذا الفصل للعبادة عن الربوبية الذي أقروه بغير سلطان أتاهم وال أصل من الشرع وال اللغة على
السواء ،أودى بهم لحال أسوأ ،وحاق بهم من بعده عين الضالل إذ قالوا :األلوهية والربوبية حقيقتان
عالقتهما التباين؛ والحق أن هذه المباينة محددة ومشخصة علتها في قراءتهم الضالة المجانبة للسداد
آليات من القرآن كما سيتبين بكل وضوح بعد حين.
وحفاظا على ترتيب ما انبنى عليه هذا الكتاب حقيق علينا التذكير بأن كل مواد وفصوله غايتها
واحدة ،هي اإلدالء بالبرهان القاطع الذي ال يبقي من بعده جدال في بطالن مقولة تقسيم التوحيد،
التقسيم الذي يؤول ويرتكز على مرتكز خاطئ ينطبق تحديدا في المعجمية الخاطئة للفظ (الربوبية).
وإن من أهم هذه المواد والفصول وأقواها من حيث كونها موضع ثقل الدليل والغاية األولى لما دونها
هي حقيقة الداللة التنزيلية للفظ (الرب) في القرآن العظيم ،وبأعلى وأقوى ما يناسب المقام
والموضوع من طرق االستدالل والبرهان ،وذلك من خالل سلوك واعتماد السبر واالستقراء .هذا
وقد بين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن هذه هي الداللة الحق التي نزل بها الوحي وعليها يتوجه
البيان؛ فبئس مثال الذين اتخذوا علماءهم مرجع القول كله ،القول ما قالوا ال يتصورون عليهم الخطأ
والزلل.
فهذا الكتاب والسنة وفيهما معنى (الرب) (والربوبية) قد جاء بينا محكما ،وقد نزل قوله عز
وجل{:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم الدين'}(المائدة )3ومن
أعظم ما حفظ عن اإلمام مالك رحمه هللا قوله الجامع البليغ<:قبض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
وقد تم هذا األمر واستكمل> وإنه من لم يعد البيان من التنزيل ال جرم ال قلب له ليفقه به ،ومن يضلل
هللا فما له من سبيل.
248
الفصل الثاني
'األلوهية' و'الربوبية'
تباين القسائم شرط في صحة التقسيم
لنعرض اآلن لضالل المقسمة البعيد وخطئهم الفاحش ،الممثل في قولهم بالمباينة بين األلوهية
والربوبية ،وهو الضالل والخطأ الذي مرجعه األساس وأدى إليه تصورهم وتمثلهم الخاطئ لمعنى
الربوبية.
على سبيل اإليضاح والدرس ،نسوق هنا النص الكامل ألشهر ما بات يدرس ويقدم على غيره ،وتجد
حفاظه ال يحفظون قدرا من القرآن مثله ،ذلك ما يجلي على أوضح ما تكون الصورة والتصور الذي
أصبح للعلم والفقه عند هؤالء ،هذا النص للرسالة المسماة برسالة (التوحيد ومعنى الشهادتين):
<< أقسام التوحيد:
ينقسم التوحيد إلى ثالثة أقسام :توحيد الربوبية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتوحيد األلوهية.
( )0توحيد الربوبية:
وهو اإلقرار بأن ال رب للعالمين إال هللا الذي خلقهم ،ورزقهم ،وهذا النوع من التوحيد قد أقر به
المشركون األوائل ،فهم يشهدون أن هللا هو الخالق والمالك والمدبر والمحيي والمميت وحده ال شريك
له ،قال تعالى{:ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض وسخر الشمس والقمر ليقولن هللا' فأنى
يؤفكون'}(العنكبوت آية )40ولكن إقرارهم هذا وشهادتهم تلك لم تدخلهم في اإلسالم ،ولم تنجهم من
النار ولم تعصم دماءهم وأموالهم ،ألنهم لم يحققوا توحيد األلوهية ،بل أشركوا مع هللا في عبادته
بصرفهم شيئا منها لغيره.
( )2توحيد األسماء والصفات:
249
وهو اإليمان بأن هلل تعالى ذاتا ال تشبه الذوات وصفات ال تشبه الصفات وأن أسماءه دالة داللة قطعية
على ما له –سبحانه -من صفات الكمال المطلق كما قال تعالى{:ليس كمثله شيء' وهو السميع
البصير'}(الشورى آية)01
وأيضا إثبات ما أثبته هللا لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى هللا عليه وسلم إثباتا يليق بجالله من
غير تشبيه ،وال تمثيل وال تعطيل ،وال تحريف ،وال تأويل وال تكييف ،وال نحاول بقلوبنا وتصوراتنا
وال بألسنتنا أن نكيف شيئا من صفاته وال أن نمثلها بصفات المخلوقين.
( )1توحيد األلوهية:
وهو توحيد العبادة أي إفراد هللا –سبحانه وتعالى -بجميع أنواع العبادة التي أمر بها كالدعاء والخوف
والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية ،واإلنابة ،واالستعانة ،واالستغاثة والذبح
والنذر وغير ذلك من العبادات التي أمر هللا بها كلها ،والدليل قوله تعالى{:وأن المساجد هلل فال تدعوا
مع هللا أحدا}(الجن آية )08بحيث ال يصرف اإلنسان شيئا من هذه العبادات لغير هللا –سبحانه
وتعالى -ال لملك مقرب ،وال لنبي مرسل وال لولي صالح ،وال ألي أحد من المخلوقين ،ألن العبادة ال
تصح إال هلل ،فمن صرف شيئا منها لغير هللا فقد أشرك باهلل شركا أكبر وحبط عمله.
وحاصله هو البراءة من عبادة ما سوى هللا ،واإلقبال بالقلب والعبادة على هللا ،وال يكفي في التوحيد
دعواه والنطق ب كلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين وما هم عليه من دعاء غير هللا من
األموات ونحوهم واالستشفاع بهم إلى هللا في كشف الضر وتحويله وطلب المدد والغوث منه إلى غير
ذلك من األعمال الشركية التي تنافي التوحيد تماما.
وتحقيق التوحيد :هو بمعرفته واالطالع على حقيقته والقيام بها علما وعمال ،وحقيقة ذلك هو انجذاب
الروح أو القلب إلى هللا محبة وخوفا ،وإنابة وتوكال ودعاء وإخالصا وإجالال وهيبة وتعظيما وعبادة،
وبالجملة فال يكون في قلب العبد شيء لغير هللا ،وال إرادة لما حرم هللا من الشركيات والبدع
والمعاصي كبيرها وصغيرها ،وال كراهة لما أمر به وذلك هو حقيقة التوحيد وحقيقة ال إله إال
104
هللا>>ا.ه.
104دار ابن خزيمة -التوحيد ومعنى الشهادتين -دار القمة للنشر .الدار البيضاء
250
ليكفهم أو ليكف أن نسألهم ما هو موضع أمر هللا تعالى الذي هو الغاية التي من أجلها أنزل الكتاب
وأرسل سبحانه مالئكته ورسله ،ما موضع ذلك في هذا النص والتقسيم؟ يقول هللا تعالى وقوله الحق
وما دونه الباطل يقينا:
{كان الناس أمة واحدة فبعث هللا النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين
الناس فيما اختلفوا فيه'}(البقرة)200
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه' فاحكم بينهم بما أنزل هللا
وال تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق' لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا' ولو شاء هللا لجعلكم أمة
واحدة' ولكن ليبلوكم في ما آتاكم' فاستبقوا الخيرات' إلى هللا مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه
تختلفون' وأن احكم بينهم بما أنزل هللا' وال تتبع أهواءهم' واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل هللا
إليك' فإن تولوا فاعلم أنما يريد هللا أن يصيبهم ببعض ذنوبهم' وإن كثيرا من الناس لفاسقون' أفحكم
الجاهلية يبغون' ومن أحسن من هللا حكما لقوم يوقنون'}(المائدة)22..21
فلينظر وليتدبر من ال يرين قلبه ران ولم تغشه غشاوة التقليد كلية فلم يعد يلوي على تذكرة ! لينظر
وليمعن عسى أن يذهب هللا تعالى عن قلبه وبصره الران والغشاوة ،ليقرأ وليتدبر قوله الحق
المبين{:أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من هللا حكما لقوم يوقنون؟}!
إن كل ما حوته كلمات الرسالة أعاله من تقبيح وتذكير بنهي الشرع وتحديد لما هو في الحق اليقين
من الشرك ،من استغاثة بغير هللا تعالى ،ونذر واستشفاع بالمخلوق أحياء وأمواتا ،كل ذلك أمر عظيم
لمن وصى بعلمه وبصر العباد بشأنه .لكن إذا لم يعلم ولم يعلم غيره سواء أكان ذلك مرادا كدأب الذين
من قبلهم جعلوا الدين عضين فآمنوا ببعضه وكفروا ببعض ،آمنوا بما ال يمس أمر ما يأكلونه من
أموال الناس وما أنزل هللا من رزق لعموم الخلق في األرض فجعلوه حكرا لهم من دون الناس ،أو
غير مراد لجهل عارض قد يجلو وينزاح باستماع القول واتباع أحسنه ،فهو قطعا ال يتلو وليس في
حقل التحقق والعمل بهذه اآلية التي تنص بصريح بيان الوحي أن أي تحييد لتحكيم الكتاب هو عين
حكم الجاهلية وليس عبادة هلل وحكما ،وال يوجل من هللا تعالى إال الموقنون .يقول هللا تعالى:
{ وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين' فوربك لنسألنهم
أجمعين عما كانوا يعملون' فاصدع بما تؤمر' وأعرض عن المشركين' إنا كفيناك المستهزئين الذين
يجعلون مع هللا إلها آخر' فسوف يعلمون' ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون' فسبح بحمد ربك
وكن من الساجدين' واعبد ربك حتى يأتيك اليقين'}(الحجر)21..82
251
الفصل الثالث
مماثلة خطإ المقسمة لخطإ المرجئة
الصريح للقرآن المبين؟! ومتى بربك الذي خلق فسوى ،وجعل السمع واألبصار واألفئدة ،متى كان
ومتى وجد معيار في الحق يجيز تحديد أصول العقيدة ،بل وتعديدها مما هو دون الكتاب والسنة؟!
أال إن التحديد للدين تكفل به العليم الخبير الذي اختص باألمر كله ،وإنه كما قال مالك بن أنس رحمه
هللا وكما سلف ذكره أنه قد تم هذا األمر واستكمل ،يعني أمر الدين وبيانه ،قد تم واستكمل بوفاة
الرسول صلى هللا عليه وسلم .وعلى صلة بالمستويات الحقائقية وضوابط القول في هذا الشأن العظيم
يقول اإلمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقالني في كتابه( :إعجاز القرآن) في قوله
تعالى{:أفال يتدبرون القرآن' ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء:)80
<< فأخبر أن الكالم اآلدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه االختالف>>
وليس البتة من شك في كون العالم ومهما نال من درجات العلم ومهما بلغ من الشأو والشأن فيه ،فإنه
ال يخرج عن بشريته وآدميته ،وليس يسطيع أبدا تجاوز حدود اإلدراك في خلقته وسعة ما تناله هذه
الخلقة من المدركات ،وما هو مما ال ينتهي وال حدود له من موضوعات وأبعاد اإلدراك ،ولعل أهم ما
يلزم التسطير وتخصيصه بالذكر والتحديد هاهنا هو هذه النظمة في اإلدراك المحدودة جدا في سعة
وأبعاد إمكانها من جهة ضبط ميزة السداد والصدقية الحقائقية ،إن على مستوى النسق أو على مستوى
التعبير كما أثار بعده ونبه إليه الباقالني رحمه هللا .ثم ال يكون منا إغفال أن تصنيفات جل هؤالء
العلماء ال يجمعها السفر والسفران .فهذا ال محاجة نضيفه نافلة وعضدا في الحجاج .وهو لعمرك أول
ما وجب أن يلقن لطالب العلم والراغب في االنتماء واالنخراط حقيقة ألهل العلم والعرفان ،ال أن
يخبط فيه خبط عشواء ،ويكون من بعد أمة زاعما لنفسه اإلمامة والرشاد؛ فأول ما يتحتم ويلزم تلقينه
هو اإلدراك لمفاهيم الحقيقة المعرفية ومصادرها ،ودرجاتها ،وللقيم الحقائقية وحقول سريانها؛ فهذا
هو أساس ومدخل اإلدراك القويم لمفهوم العلم والعالم ،ومن لم يبن ولم يتأسس كيانه المعرفي
واإلدراكي على هذا السلم واألساس فإنه ال يفقه مما يعلم شيئا ،وال يعلم إال كمن ال يعلمون الكتاب إال
أماني.
وتسليما منهم واقتضاء لهذا السلم والمنظوم من ضوابط المعرفة ومستوياتها ،وحقول سريانها ،وتبع
قيمها وكل ذلك لمصادرها ،فإن العلماء جميعهم قد ذكروا به لئال يبقى من بعده حجة في مقاربة األخذ
عنهم؛ فاتفق قولهم جميعا أن ما صح من العلم هو مذهبهم ،وما خالف ذلك من أقوالهم فليضرب به
عرض الحائط!
يقول ابن تيمية رحمه هللا وهو يوضح ويجلي مكمن الضالل ومنزع الخالف في مسمى اإليمان:
254
<< فليس ألحد أن يقول بخالف قول هللا ورسوله ال سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكالم
من أهل اإلرجاء وغير هم إلى ظهور الفسق ،فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطإ عظيم في
105
العقائد واألعمال>>
ذلك وأن الخطأ المحدث في تصريف لفظ (الرب) ومعنى الربوبية ليس دون خطإ المرجئة في لفظ
(اإليمان) ومسماه؛ وليس أدل عليه مما آلوا إليه من قولتهم الشنيعة المنكرة وزعمهم أن قريش كانت
تقر بتوحيد الربوبية!..
ثم إن نفس الخطإ هو الذي تولد عنه بتبع االنحراف على قبيله والباطل على الباطل ،تولد عنه
الضالل البعيد ،ضالل التقسيم الذي يزعم ويدعي لنفسه تحديد الدين مما ليس للمخلوق دخل به أصال،
وإنما هو أمر أعلى وأسمى اختص به هللا تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم تحديدا وتبيانا .وهو
الشأن الذي نعيد الكرة في التذكير به وحفظ عن اإلمام مالك قوله مما كان أثرا قويا من العلم لم ينفك
اإلمام الشوكاني رحمه هللا يجرده في وجه المقلدة ،هؤالء الذين يرمون غيرهم بالبدعة وهم مغمورون
بها ،لقد قال اإلمام مالك ،إمام دار الهجرة والمدينة :قبض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقد تم هذا
األمر واستكمل ،أي تحديد الدين ،ومن لم يكفه هذا البيان والحجج المتراكبات فإن هللا تعالى يقول في
وحي محكم مبين{:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا}(المائدة)3
فال يكن مرية في كون هؤالء ما يدعون إال ما ليس لهم بحق ،ثم إن تقسيمهم هذا كله خلط في البيان
وخطأ في اللغة وال يصح في المعنى يقينا .وقد تبين لنا من األبواب السابقة وفصولها عدم الصحة
والبطالن الذي الشك فيه في إسناد لفظ ومعنى(التوحيد) هلل الواحد الصمد ،ألن الحق والميزان الذي
تقوم عليه السماوات واألرضون ال يقبل وال يحق فيه أن يسند التوحيد إال للمتعدد ،وأنه ال يوحد إال
المتعدد ،فأنى يؤفكون؟! فهذا التقسيم باطل يقينا ،ومحدث ليس من الدين ،لم يأت بها قرآن وال سنة،
بل هو في تمام المناقضة لهما والمخالفة .وكونه بدءا ليس من الدين محدثا فحكمه الرد .وما كان هللا
ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ،وهلل الحجة البالغة وهو العزيز الحكيم.
والحديث عما جاء في هذا التقسيم الضال من المباينة بين األلوهية والربوبية التي تأسس عليه ،هو
عرض وحديث عن تبديل ظاهر فاحش لمعنى لفظ (الرب) والربوبية عن المعنى الصحيح .وهو
تحريف لو يعلم عظيم ،ألنه قبل أن يعتبر في صبغته العلمية فهو يهم رسالة هللا تعالى للعالمين؛ وإن
كل ما يمس الحق ويسعى في خالف ما عليه تنزيله وبيانه ال جرم سيؤدي ويفضي إلى فساد على
مستوى قراءته وفقهه ،وسينعكس تأثره على نسق ومضامين العلم كله.
<< وهذه هي القضية األساسية الكبرى في العقيدة ،قضية الربوبية ..فقضية األلوهية لم تكن محل
إنكار جدي من المشركين ،فهم كانوا يعتقدون بوجود هللا ألن الفطرة البشرية ال تستطيع التخلي عن
االعتقاد بوجود إله لهذا الكون إال في حاالت نادرة شديدة االنحراف ..ولكنهم كانوا يشركون مع هللا
أربابا يتوجهون إليهم بالعبادة ،إما ليقربوهم إلى هللا زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون
خصائص الربوبية فيشرعون ألنفسهم ما لم يأذن به هللا.
والقرآن الكريم ال يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية األلوهية والربوبية – كالذي جد فيما بعد
بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة اإلغريقية -إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر :إن
هللا هو الذي خلق السماوات واألرض وما فيهن ،وجعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل،
وقدر اختالف الليل والنهار ..هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها
تدبر الواعي المدرك ..إن هللا الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون ربا يدين له البشر
بالعبودية وال يشركون به شيئا من خلقه ..أليست قضية منطقية حية وواقعية ،ال تحتاج إلى كد ذهن،
وال إلى بحث وراء األقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة ،وال تدفئ القلب مرة وال تستجيش
الوجدان؟
إن هذا الكون الهائل بسماواته وأرضه ،وشمسه وقمره ،ليله ونهاره ،وما في السماوات واألرض من
خلق ،ومن أمم ومن سنن ،ومن نبات ومن طير ومن حيوان ،كلها تجري على تلك السنن>>..
ثم يتبع ويردف قائال:
<< ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دالئل األلوهية في السماوات واألرض :ذلكم هللا ربكم
فاعبدوه..
وقد قلنا إن قضية األلوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين ،فقد كانوا يعترفون بأن هللا -
سبحانه -هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء ..ولكن هذا
االعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته ،فلقد كان من مقتضى هذا االعتراف بألوهية هللا على هذا المستوى
أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم ..والربوبية تتمثل له وحده؛ فال يتقدمون بالشعائر التعبدية إال
106
له؛ وال يحكمون في أمرهم كله غيره ..وهذا مقتضى قوله{:ذلكم هللا ربكم فاعبدوه'} >>. .
الفصل الرابع
إبطال القول بالمباينة بين األلوهية والربوبية
تحدد المباينة كونها عالقة جواهرية بين كلين -ويفهم القارئ اللبيب أننا نتحاشى قاموسا ما لضرورة
المقام وشرط الخطاب ليس إال -فتكون باالختالف القطعي ال اشتراك بينها وال تقاطع في عناصرهما
وما صدقهما ،فهي مفارقة الجوهرين الكليين أحدهما لآلخر ،ليس يشتركان في شيء أو عنصر ما.
ويلزم المقسمة ،أي القائلين بمقولة أقسام التوحيد ،بالمباينة بين األلوهية والربوبية ألنها شرط الزم
في التقسيم حتى يكون تقسيما حقيقة ،وفي أمر وشأن عظيم هذا الذي هو موضوع التقسيم ،شأن أعلى
ما ينبني عليه أمر وفقه الدين ،ال ينبغي االعتبار ألي تلفظ وال كالم إال بميزان للقول والمعاني
ممحص دقيق.
إذا كنا قد أدلينا بدلو الحق وأشرنا من غير إسهاب وتفصيل إلى الدليل الساطع ،دليل أن هذا التقسيم
الذي لم يرد في القرآن وال في حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أنه يفرغ الدين من أهم ما ال
يعتبر في الحق إال به ،ذاك األمر الذي صدع به الصديق رضي هللا عنه جاهرا به غير مسر وال
هياب من أن يرده تصور أو فهم خاطئ ألمر هللا العزيز الجبار ،كلمته رضي هللا عنه المحفوظة حفظ
هذا الدين والقرآن المجيد ،تبيانا محفوظا للحق ،ودرءا لمحدثات وبدع األمور مما تردده ألسنة الذين
تقادم عليهم التقليد فأصبحوا ال تراهم متبعين إال ألقوال الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء ظهورهم؛ لقد
قال أبو بكر الصديق:
"وهللا ألقاتلن من فرق بين ما جمع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم!"
ذلك وأن الحق واسع ويأبى إال أن تستبين األمور ببعضها ،فيهتدي ويسلم أولو البصائر ،ويبقى من
غشيته غاشية التقليد على نحلته ال يكاد يبصر من الحق شيئا وقد يحسب أنه من الطائفة المنصورة
وأهدى سبيال.
الوجه ا آلخر لهذه التفرقة التي ال تخطئها الرؤية النافذة الواعية هو قولتهم المضلة التي قال في قبيلها
ومثلها اإلمام علي رضي هللا عنه أنها حق يراد به باطل ،قولتهم(:كفر دون كفر) ،فشبه المفهوم هذا
ومقولة التقسيم غايتهما وترجمتهما اإلبستملوجية واحدة ،هي بناء تصور الدين عند الناس في القلوب
واألعمال والمجتمع والمؤسسات والمال والسلطة بناء ال يعنى إال بما يرضي كسرى وفرعون،
258
واألمر كله إليهم ،الملك وما أنزل هللا من رزق للعباد لهم ولذريتهم من بعدهم ال ينازعهم فيه إال
خوارجي مارق عن الدين (دينهم وليس دين هللا يقينا) .إن هذا هو ما يبنى وبني عن ذلك الخطأ
الفاحش المنكر العظيم ،الخطأ في لفظ ومعنى (الرب) والربوبية الذي هو من أهم األلفاظ الموجهة
لبيان وخطاب القرآن العظيم ،وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ولئن كان األمر كذلك على هذا الشكل في الموضوع أو المواضيع ،فإن إشكال الصياغة والتحليل ال
شك تبقى أشد تعقيدا وأصعب توليفا .فلنبدأ بحول هللا تعالى ،مستعينين به سبحانه ،سائلين توفيقه في
إبطال وتفنيد المباينة ،المباينة التي ال تصح إال في مزاعم المقسمة وتصورهم ،ومنظارهم الخاطئ
الفاسد من أية جهة ونحو نظرت إليه ،شرعا ولغة ،وحقيقة ومعنى.
بنا ء على اقتضاء المباينة للمفارقة وعدم االشتراك ،فإن نقضها بميزان الحق الذي به قوام األرض
والسماء يكفله أن ندلي ونثبت وجود اشتراك ما؛ وحيثما كان هذا المشترك إن وجد مما اعتمده في
تأسيسه البناء فذلك أقوى حجاجا ،ليس لذات اإلثبات فإنه قيمة وحكم ال يتجزأ وال يتفاوت ،وإنما من
جهة الوضوح وجلوة البرهان بالنسبة لمدارك المخاطب بالبرهان.
إن هذا بالضبط هو ما نجده ونلفيه قائما ماثال في حالتنا هاته؛ إننا نجد مفهوم الربوبية لدى أصحاب
التقسيم الذي لم يرد في الكتاب وال في السنة قد ح ّدد وميزوه بخاصة وميزة الخلق أو الخالقية،
وا لتدبير والملك أو المالكية (مع تحفظ نسبي يهم الصيغ الواردة) .وإذن فصحة التقسيم تستوجب قطعا
خلو مفهوم وحقيقة األلوهية من هاتيك الميزات والخاصات المميزة والمحددة ،والتي بها على
االختصاص والقصر والتمايز تحدد مفهوم الربوبية.
هاهنا نذكر على وجه المسايرة اإلدراكي ة ونحن في هذا النقد والتحليل أن كل ما دون الوحي الكريم ال
يرتفع البتة عن الخطإ والزلل؛ والتقسيم شكال ومضمونا هو حكم وقول محض بشري ،مصدره ال
يتجاوز وال يعدو في الحق هذه الدرجة من األحكام واألقوال .ذلك واألصل والحق أن أقوال العلماء
والبشر جميعا تابعة ،يعلم صحتها وسدادها من قول هللا تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم ،ال
العكس.
قلنا لئن كان من شأن ما ذكرنا من الصفات والخصائص مميزا ومحددا تمايزيا للربوبية في البناء
التقسيمي وعند أصحاب التقسيم فإننا نجد في كتاب هللا تعالى وهو الحق من ربك ،من بنى عليه
اهتدى ورشد وكان بناؤه قائما على أساس من الحق سويا ،ومن نقضه في قوله وشيء من تقسيماته
259
وتصنيفاته كان بناؤه وكأنه في كل لحظة يرى منهارا يتساقط متهاويا؛ إننا نجد والقرآن العظيم بين
أيدينا نتلو فيه قوله جل وعال:
{ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض' سبحان
هللا عما يصفون' عالم الغيب والشهادة' فتعالى عما يشركون'}(المؤمنون)22-20
فهل يجرؤ أحد من بعد هذا أو يكون له في الحق موضع صدق أن يدعي أن لمقولة التقسيم مثقال ذرة
من الحق؟؟
إن كل ذي لسان عربي ،وقلب سليم سوي ،يعقل المعاني وتتراتب به ،وتنتظم المدركات والحروف
والكلمات ،والقرآن عربي مبين ،والرسالة أنزلت لسانا عربيا مبينا ،والعقل شرط ومناط التكليف
والخطاب ،كل من يحقق هذا الشرط ،وهو عتبة التكليف وتلقي الخطاب ،يحكم حكم الحق بميزان
الرحمان في العقل والبيان أن من أبرز وأهم ما ذكر من خاصات التميز والتحديد لحقيقة األلوهية في
هذه اآلية الكريمة من القرآن العظيم الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم
حميد هي إسناد خاصة الخلق أو الخالقية{:إذا لذهب كل إله بما خلق'} كما جاء في قوله سبحانه{:أم
جعلوا هلل شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم' قل هللا خالق كل شيء' وهو الواحد
القهار'}(الرعد )04وقوله عز وجل{:أيشركون ما ال يخلق شيئا وهم يخلقون'}(األعراف )002ومع
هذا الخطاب العظيم ال يعزب عنا غاية ما مهدنا به وبدأنا به من التذكير اللغوي والبالغي في هذا
الحجاج والبرهان ،الذي حرصنا كل الحرص مستمدين أوال وآخرا من هللا تعالى العزيز الوهاب
تحري الحق والسداد ،يلزم استحضار التأصيل المعجمي السم الجالل (هللا) ،التأصيل الذي اتفق عليه
األئمة األعالم في اللغة العربية ،وذكره بالدرس سيبوبه والكسائي رحمهما هللا ،أنه من جذر كلمة
ولفظ (إله)؛ فبذلكم يتم الوصل المتين وتتم الحجة البالغة لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد،
وصل اآليتين باآلية األولى ،وهللا تعالى واسع حكيم.
وإن القرآن العظيم ونوره المجيد المبدد للظلمات والمزيح لما يعرض لعقل العبد من شبهات
وعوارض زالت االجتهاد ومختلف الرؤى واألقوال ،وهو كتاب هللا العليم الخبير ،وفيه السعة
المطلقة والحكم الحق في كل سؤال واختالف ،المنزل بالحق وبالحق نزل ،الحق في كل آن وكل
سؤال ،نور آياته عمت اآلفاق ،فأتت واسعة وبرهانا مبينا مفصال ،داحضة لما جعلوه من باقي
الصفات من الملكية والتدبير للربوبية اختصاصا من دون األلوهية مما هو شرط في صحة بناء
تقسيمهم؛ يقول الحق سبحانه وتعالى:
260
{أم اتخذوا آلهة من األرض هم ينشرون' لو كان فيهما آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب العرش
عما يصفون' ال يسأل عما يفعل' وهم يسألون' أم اتخذوا من دونه آلهة' قل هاتوا برهانكم' هذا ذكر من
معي وذكر من ق بلي' بل أكثرهم ال يعلمون الحق فهم معرضون' وما أرسلنا من قبلك من رسول إال
نوحي إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء)22..20
فليتدبروا قوله تعالى وهو الحق ،وما يخالف الحق فهو باطل!
وهل يحق لنا وهذه آيات هللا بينات أن نزعم أو نقول للناس أن الملك والتدبير من خصائص الربوبية
دون األلوهية حتى يتم لنا ما نريد ونؤسس هذه المقولة المنكرة الخاطئة ،مقولة أقسام التوحيد ؟!
وهللا الذي ال إله إال هو ال يسعنا في هذا الحال والمقام إال نذكر ونتلو قوله تعالى:
{ولقد أضل منكم جبال كثيرا' أفلم تكونوا تعقلون'}(يس')40
ونذكر بما جاء من قوله سبحانه نذارة حكاية لقول إبليس لعنه هللا:
{قال فبما أغويتني ألقعدن لهم صراطك المستقيم ثم آلتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم
وعن شمائلهم' وال تجد أكثرهم شاكرين'}(األعراف)04-02
فهم يخالون أنفسهم يبينون للناس كما يزعمون العقيدة الصحيحة ،وبجهلهم لمعايير القول وما ينبغي
للعالم القول فيه وما ال ينبغي له ،وما ليس له بحق فكان الرسوخ في العلم وحقيقته اإلحجام عنه؛ وإنما
هذا موضع زلت به أقدامهم وأتاهم اللعين عن أيمانهم وهم ال يشعرون!
وما يزيح هذه المقولة ،مقولة أقسام التوحيد ويجهز عليها وينسفها نسفا ،فال يبقي لها في سوي القلوب
صدقا موضعا ،هو التماثل الداللي الذي ال نجد له ما ينقضه في الكتاب والسنة ويدحض الفصل
والمباينة وحقيقته المثناة في القرآن في قوله تعالى{:اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا
والمسيح ابن مريم' وما أمروا إال ليعبدوا إلها واحدا' ال إله إال هو' سبحانه عما يشركون'}(التوبة)10
فما بعد الواو من قوله سبحانه{وما أمروا إال لعبدوا إلها واحدا' }..بيان موصول بما قبله .ولهذا جاء
فيما ذكر من قوله في (فتح المجيد) بصدد هذه اآلية <:فإن اإلله هو المعبود> .وباستحضارنا للمفهوم
والمعنى الذي أقره النبي صلى هللا عليه وسلم للربوبية ولمعنى األرباب الذي قال به عدي بن حاتم
والمتضمن في قوله <:ما عبدناهم>؛ بهذا يحصل ويتبين أن كل معبود رب.
261
فهذا إذن هو المعنى الذي أقره النبي صلى هللا عليه وسلم للربوبية ولفظ (الرب) و(األرباب) ،وهو
المعنى الصحيح ال غيره؛ يقول سبحانه وتعالى:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون'}(النحل)33
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم' فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى
هللا والرسول إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر' ذلك خير وأحسن تأويال'}(النساء)28
فال وجه إذن وكما أشار إليه صاحب (فتح المجيد) في فصل حقيقتي األلوهية والربوبية ،وبأدق
التعبير بين مفهومي وحقيقتي (اإلله) و(الرب) ،ألنه إذا كان اإلله هو المعبود وكل معبود رب،
فالتماثل أو التكافؤ الوظيفي في المعنى البياني واللسان بين هذين اللفظين المحوريين في خطاب
الوحي الكريم يكاد يكون بمعيار التسديد والتقريب أقرب من غيره إلى مفهوم الترادف؛ لكننا نذكر أن
رد التباين يكفي فيه االشتراك ،وهو ما بيناه وأثبتناه.
262
الفصل الخامس
سوى عند ابن تيمية
معنى الفناء عن شهود ال ِّ
لئن كان ابن تيمية قد ق ال أقواال ولم يصب في بعضها فإنه لم يكن نبيئا وال رسوال حتى تجب له
العصمة كما تجب لألنبياء عليهم والرسل جميعا ،وإنما كان في مواجهة وعاش في زمن كان سالح
القوم فيه وقاموسهم المعاني الصوفية وألفاظها ،فكان عليه لزاما إن هو أراد التصدي لهم وتسفيه
أباطيلهم أن يتوسل اللفظ الذي به يلفظون وأن يخاطبهم بالتعبير الذي به يعبرون ،فيكون ذلك له أقوى
سالحا وقوال بليغا لهم في أنفسهم وأشد وقعا .فلم يكن والحال هذه أن وقع كما هو األصل في قول
البشر جميعا وأن يصيبه أمر من االختالف وعوارض الخطإ ،وليس في ذلك أمر مما يعيب العالم أو
يقدح في قيمته العلمية ،وإنما هي طبيعة البشرية وحالة غير العصمة التي تعترض وتعتري الناس
جميعا؛ لكن السوء والخطر كله فيمن يعد قول شيخه وعالم من العلماء كأنه معصوم وقوله بمنزلة
القول الذي ال احتمال لورود الخطإ عليه.
لم يكن أمرا عجبا إذا أن تتخلل تصانيف وتفصيل القول في كالم ابن تيمية ضروب مما يعترض قول
البشر من الخطإ واالختالف ،وهو في كل ذلك مأجور في اجتهاده إنشاء هللا تعالى بنص الخبر
المحفوظ عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن العالم إذا اجتهد وأصاب فله أجران ،وإن أخطأ فله
أجر.
إن ما سارت به بدعة تقديس العلماء بهذه األخطاء واالختالف في ثنايا أقوال المشايخ عامة وأقوال
ابن تيمية خاصة أنها قد جعلت مقدمة على غيرها وهي النصوص التي يؤخذ فهم الدين منها ،بل ولم
يعتبر فيها شرط طوريتها وحدود مجال خطابها؛ ذلك وأن الحكم الحق في هذا وقانونه المحكم الثابت
مضمن فيما يستنبطه أولو العلم والفقهاء من قوله تعالى{:ق' والقرآن المجيد'}(ق' )0وهذه خاصة
للوحي ال يشرك فيها.
فحب ابن تيمية رحمه هللا وإجالل العلماء ليس ينبغي بحال من األحوال أن يكون مظنة ووليجة يؤتى
منها فيتم الوقوع فيما وقع فيه من قبلنا من أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا
بتقديم وتمجيد بمعنى تأبيد قولهم ،وهم بشر ال ينبغي لهم مطلق العلم والخبرة حتى يطلق مجال قولهم
ويسطر لمن قبلهم ولمن بعدهم.
263
إن الرجوع إلى قول ومفهوم (الربوبية) الذي قال به وصاغ عليه أقواله ابن تيمية هو أمر يلزمه
وتحتمه الضرورة العلمية وشرط الموضوعية في كون المقولة التقسيمية التي تفتقد افتقادا منبثا عن
أي أصل يربطها بالكتاب والسنة ،وال هي تؤثر في كالم الصحابة رضي هللا عنهم وال من يليهم من
المصطفين من العلماء والفقهاء حفظة العلم ونور الحق األبلج المبين ،إن كان هذا حقا وهذا مسار
العلم وآثاره والحمد هلل محفوظ حجة ثابتة لمن لم يحصل له اليقين ،فإن المنزع الذي يلوح للدارس
المتفحص ألوصال هذا القاموس التقسيمي ببوثقته يتحدد من خالل البؤرة المشكلة األدنى المنطبقة
في الشخصية والعلم العلمي ،هذا الذي هو ابن تيمية رحمه هللا تعالى ،أحد أكبر وأبرز علماء اإلسالم
قاطبة؛ وإن كال إال يؤخذ من قوله ويرد إال الرسول صلى هللا عليه وسلم.
يقول ابن تيمية:
<< ومن الناس من يجعل هذا (أي الفناء عن شهود السِّوى) من السلوك ،ومنهم من يجعله غاية
السلوك حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية ،فال يفرقون بين المأمور والمحظور،
والمحبوب والمكروه .وهذا غلط عظيم ،غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع
واألمر والنهي ،وعبادة هللا وحده وطاعة رسوله .فمن طلب رفع إنيته بهذا االعتبار لم يكن محمودا
على هذا ،ولكن قد يكون معذورا.
وأما النوع الثالث :وهو الفناء عن عبادة السوى – فهذا حال النبيين وأتباعهم ،وهو أن يفنى بعبادة هللا
عن عبادة ما سواه ،وبحبه عن حب ما سواه ،وبخشيته عن خشية ما سواه ،وطاعته عن طاعة ما
سواه ،وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه؛ فهذا تحقيق عبادة هللا وحده ال شريك له ،وهو الحنيفية
107
ملة إبراهيم>>
ليس من بد حتى نواصل حديثنا ،ولفهم مضمون الخطاب وفحوى الكالم ،من شرح وتقريب معاني
هذه التعابير واأللفاظ الواردة هنا ،التعابير التي قد يكون أكثرنا ال عهد له بها من قبل:
أما (الفناء عن شهود السوى) فهو كما يرى مركب من خمسة عناصر ،وباالصطالح األلسني خمسة
مؤلفات مباشرة ،من دون أن نعني بها حتما معنى وحقيقة المورفومات ،هذه المؤلفات هي:
الفناء -عن -شهود -ال -سوى.
107مجموع فتاوى شيخ اإلسالم أحمد بن تيمية -المجلد الثاني :توحيد الربوبية.ص103
264
بيد أن االتجاه والمنحى األنجع في استخالص الداللة التركيبية ،مادة واقتصادا ،هو االنطالق من
تحديد معنى السوى .وهذا التحديد إنما يتم باإلشارة إلى االنتقال الوظيفي لمادة (سوى) كأداة إلى
داللتها على اسم ذات باقترانها ب(ال).
والتعبير بصفته التخصيصية لقاموسه الصوفي متضمن لحذف أو تقدير لفظي ومعنوي .فالسوى هنا
يكافئ تركيب (سوى هللا)–سبحانه وتعالى علوا كبيرا-
على ضوء هذا ومنه نشرف على الداللة التركيبية ،خصوصا إذا أبصرنا بالتجانس الداللي للمؤلفات
الثالثة( :الفناء -عن – شهود) المدعم أساسا باألداة (عن) الدالة على المفارقة.
نخلص إذا أن قولهم( :الفناء عن شهود السّوى) هو الحال التي ال نرى فيها الوجود والمخلوقات كلها
والكون إال أثرا لحول هللا وقوته وكأنها ال وجود لها.
وأما التركيب الثاني فداللته من داللة التركيب األول مستنبطة ،ومنوال التحديد لها باستبدال مؤلف
(الشهود) ب(العبادة).
265
الفصل السادس
التأطير الخاطئ لمعنى الربوبية عند ابن تيمية
والمناقض لألمر والنهي الشرعيين ،وذلك في قوله<< :فال يفرقون بين المأمور والمحظور ،أي في
ذات الحال ،حال شهود الفناء في توحيد الربوبية>>.
فتعالى هللا الحق! وهل الربوبية نقيض للعبادة التي حقيقتها وجوهرها االئتمار واالنتهاء الشرعيان؟!
كال! إن القرآن ال يفتأ يذكر بهذه الحقيقة الكبرى وهذه الصلة التأصيلية والبيانية جميعا لداللة
الربوبية ،وإن كان لخطإ العالم مستساغ ألنه بشر يجري عليه ما يجري على البشر ،فإن المستبشع
المنكر هو عدم تصور الخطإ والزلل عليهم مما هو من خالل ودأب االتباع غير الصحيح والتقليد
الغالي في أقوال الشيوخ والعلماء مما سلكه من قبلنا؛ قلنا فالقرآن يرسخ ويجعل من هذه الحقيقة نصا
وعلما مسطورا في مواضع كثيرة ،وآيات بينات مثاني عدة ،كقوله تعالى:
{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار' ما تعبدون من دونه إال أسماء
سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل هللا بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين
القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف)31-12
كما ذكرناه وأومأنا إليه من قبل فهذا المعنى والتمثل الخاطئ الذي زل فيه ابن تيمية يؤكده ويشهد
عليه الجوار البعدي ،وفيه تعبيره الواضح كل الوضوح <<:بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود
الشرع>>.
فداللة المفارقة البارزة والقوية المجسدة هنا والممثلة ب(عن) بالغة وتغني عن غيره في الدليل.
ثم إنه لما كان بفعل التراكم والتسلسل أن ال يؤدي الخطأ إال إلى الخطإ ،فإن ما تم تأسيسه وبناؤه على
هذا الخطإ الواضح في اعتبار داللة الربوبية ولفظ (الرب) اللفظ المحوري في التنزيل ،لم يؤد ولم
يتولد عنه إال أحكام وأقوال خاطئة بين خطؤها وظاهر من أي وجه نظرت إليها عوجها ومخالفتها
للحق والميزان؛ وفي كل ذلك فإن أعظم هذه األخطاء وأشدها بعدا عن الحق والميزان ،الذي أبى
الحق إال يكون به البيان والجلوة لذوي البصائر والنهى في خطإ األصل الذي تمخضت عنه
وتأسست ،كان أشدها وأعظمها نكارة قولتهم :قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية!
إن القرآن العظيم براء من هذا القول وإنه لو يعلمون منكر من القول عظيم!!
وللرد على المقسمة هؤالء الذين جعلوا القرآن عضين ،والذين يحرفون الرسالة والتنزيل وهم ال
يشعرون ،ألن من يحرف المعاني واأللفاظ المحورية للتنزيل وخطابه فإنه ال محالة في حاله محرف
للخطاب كله ،لنرد عليهم وليعلموا أنهم ال مرية قد زلوا وضلوا الضالل البعيد ولعلهم من بعده
267
يرجعون؛ لنسأل أصحاب مقولة التقسيم والمقولة الشنعاء :قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية ! لنسألهم:
أهم أم هللا العزيز الحكيم أصدق قيال؟
إننا نذكرهم عساهم يذكرون أنه مما نزل من القرآن المحكم الصريح قوله تعالى:
{الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إال أن يقولوا ربنا هللا'}(الحج)18
أو تخرج قريش أناسا رجاال ونساء إال أن يقولوا ربنا هللا وهي تقر بذلك؟!
إن الحق ال يختلف وإن القرآن ال اختالف فيه؛ وإنما االختالف من عوارض المخلوق؛ وأصله هنا هو
التأطير األول الذي قال به ابن تيمية رحمه هللا؛ وهو لم ينبثق ولم يقل به إال في شروط تاريخية
محددة ،كما أنه ال يمكن لنا أن نسلك الحق وننهج طريقه ومنواله في نقد ودراسة أي نتاج علمي
وفكري إنساني من غير االعتبار الملم بالبيئة التاريخية التي احتضنت وأعطت هذا النتاج.
فإذا كان التناسق سنة وقانونا كونيا ساريا ،مترجما في كل الخلق ومستوياته جميعا وأبعاده ،فال يجوز
ألي توجه علمي ودراسي ،ال يجوز له تجزيء المواضيع والظواهر موضوع الدراسة ،وال يحق بتر
هذه األجزاء عن بعضها أو عن كلها ،ألن حقيقتها ومكوناتها ال تدرك كما هي إال في إطار وداخل
وحدتها الكلية ،وباعتبار وإطار الشروط المحددة لهذه الوحدة ،التي تعتبر بحق مكافئا لها وجوديا
وقيميا .فكما ال يجوز الحديث ودراسة نبات ما دون اعتبار بيئته الجغرافية على أدنى الشروط ،وال
يتم وال يحصل الضبط الصحيح للتفاعالت البيولوجية والكيميائية إال بالضبط الدقيق للشروط
الفيزيائية المحيطة كعامل موجه؛ فكذلك األفكار والمقوالت ،والنتاجات الفكرية والعلمية.
ولننظر إلى ما هو أهم ،لننظر إلى أحد أهم معايير التنزيل التشريعي ،وهو أقرب إلى حقيقة وصلب
قضيتنا وموضوعنا ،لننظر إلى حقيقة وقانون الناسخ والمنسوخ من وجه التناسق بين األحكام ومجال
سريانها ،فهذا يجعلنا نعود إلى مضمون الحكمة وجوهرها كونها العامل المرتب للحقائق ومكونات
هذه الحقائق ،ودرء ما إن افتقدت فيه عد إشكاال ولبسا مستعصيا على الحل أو اختالفا جائزا ال فصل
فيه ،واألمر والحقيقة غير ذلك. .
ولننظر كذلك إلى ما هو مبتدؤه وأصله يحتوي بالحق على الجائز من االختالف ،لننظر إلى مآخذ
القول عند األئمة األربعة ،فإنه اختالف قولي ليس بالفقهي على المعنى الذي للفقه واألصول ،ألن
القول والحكم ال ينظر إليه وال اعتبار له إال بمناطه وسببه .وهذا ليس إال عين الحكمة واإلعمال لمبدإ
268
التناسق باعتبار الوحدة الجوهرية والوظيفية ،التي تكون بها الحقائق واألشياء من غير بتر وال
ابتسار.
والتقليد والتعصب يخالف هذا من كل هاتيك الوجوه ،ألنه يفتقد اإلدراك الصحيح لمعنى االتباع وال
يتصور حقيقة العلم التصور الحق .وإن هذا الخلط بين االختالف الفقهي ،أي الذي ليس المختلف فيه
منطبقا إال باألحكام المرتبطة أساسا بمحدداتها وشروطها كمكون فقهي إلى جانب األصل الثابت
والمحكم ،وبين االختالف بالمعنى المخالف والمعارض ،أي بالمعنى المنطقي والعقلي الكلي ،هذا
الخلط هو اإلشكال الحقيقي والعقبة الكؤود في وجه االعتراض ورد التفرقة المذهبية ،ذلك أن
االختالف األول باعتبار نظمته كوحدة فقهية ال يؤول إال إلى التوافق واألصل األول.
269
الفصل السابع
اختالف ابن تيمية في قوله تعالى{:إياك نعبد وإياك نستعين'}
الفصل نلفيه مؤكدا عند ابن تيمية رحمه هللا وواردا في أقواله جميعا ،تلك التي أراد من خاللها تفصيل
ما سمي ب(التوحيد) ،هذا اللفظ الذي ال يصح وال يجوز في حقه سبحانه وتعالى ألن هللا واحد أحد،
سبحانه وتعالى عما يصفون! وإنه كما أقمنا الدليل عليه وأتممنا بنعمة هللا العليم الحكيم بيانه ال يصح
لغة ،وإنه ال يعقل من يبغي ويزعم توحيد الواحد ،ألنه ال يوحد إال المتعدد والجمع ،فأنى يصرفون؟!
وإنما يجوز هاهنا الكالم عن توحيد العبادة ألنه قد يشرك فيها غير هللا تعالى ،فيجوز إسناد اللفظ هذا
والمصدر إلى لفظها ،ال إلى لفظ واسم الجالل سبحانه.
فقول ابن تيمية( :إياك نعبد) من معنى األلوهية ،والثاني ،أي (إياك نستعين) ،من معنى الربوبية-
(الفتاوى .المجلد األول .األلوهية .ص -)22هذا القول يرسخ الفصل ويثبته.
والمثير هنا هو التفاقم الجلي والكلي ،ليس فحسب من الزاوية المرجعية للحق الفاحصة والممحصة
للكلم ولتراكيبه وصلة النسق والتركيب بالمعانى ،وهي في الحق دليل وحجة كافية للحسم؛ بل إننا
نالحظ ونرى أن هذا الكالم والقول التفصيلي والتفسيري ال يتوافق وال يتناسق والقاموس الذي عليه
تأسس ومثل قاعدة البناء الباطل للتقسيم .ألم يجعل هذا التقسيم ،تقسيم التوحيد كما يزعمون ،الذي ما
أنزل به من سلطان وما جاء به هللا تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم يقينا ،ألم يجعل معنى الدعاء
واالستعانة وحقيقته ويض ّمنهما في مسمى األلوهية؟!
ثم يظهر ويستبين هذا التفاقم الذي ليس يرى إال مثال وتجليا واضحا لقوله عز وجل ومن أصدق من
هللا حديثا{:أفال يتدبرون القرآن' ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'} (النساء،)80
وهو مثل لالعتبار وتبصرة لمن هم دون ابن تيمية ودون شخصيته العلمية الحكيمة ممن يرتقون
منابر العلم والفتوى والقول في الدين؛ يقول ابن تيمية:
270
<< إما أن يعبده ويستعين غيره ،مثل كثير من أهل الدين ،يقصدون طاعة هللا ورسوله وعبادته وحده
ال شريك له ،وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم ،ورزقهم ،وهدايتهم ،من جهته من الملوك
108
واألغنياء والمشايخ>>
فالضمير في قوله (يعبده) و(غيره) مرجعه اسم الجالل .وإذا الحظنا نفس الالتناسق مع جزء من
البناء ،أي مع الزم القسمة وقاموسها ،فإنه يظهر جليا أن هذه الكلمة مختلة البنيان ال تستقيم على
معنى ،إذ م ن حقيقة العبادة استلزام الخضوع الحقيقي ،وما كان غير ذلك فال يصح أن يطلق عليه
عبادة وال أن يسمى في اللسان وال التعبير عنه كذلك.
فقولنا( :إما أن يعبده) و(يستعين غيره) قول يسند إليه المعنى البياني المتولد عما تفيده األلفاظ حقيقة،
وكما هو صحيح في لسان العرب ،ال بما تحمله األلفاظ من معاني ودالالت نسبية ومن اصطالحات
ال تعم ،وغيرها ،نعني لمن ال يحقق معناها ،كما هو حال الذين يدعون عبادة هللا تعالى وهم يعبدون
غيره ،بل وجب تحاشي واجتناب كل قول من شأنه أو قد يؤدي إلى تخصيص داللة العطف في قوله
تعالى{:إياك نعبد وإياك نستعين'} كما أفاده مثالنا على المباينة.
إن االستعانة لغة طلب العون ،والطلب دعاء؛ وقد جاء في الخبر أن الدعاء مخ العبادة ،بمعنى صلب
حقيقتها ومحورها وعمدتها .ومنه يثبت ثبوتا غير مشكوك فيه خطأ من يقول ويجعل االستعانة مباينة
للعبادة كما أخطأ فيه ابن تيمية فيه هاهنا .وهو لم يكن رسوال وال نبيا يوحى إليه حتى تحق له العصمة
ويستحيل في حقه الخطأ .وهذه أحاديث واردة محققة نسوقها من فتح المجيد:
"-الدعاء مخ العبادة"– لفظ حديث ضعيف أخرجه الترمذي :كتاب الدعوات ( :)1170باب ما جاء
في فضل الدعاء ،وقال الترمذي :هذا حديث غريب .وضعفه األلباني في تخريج المشكاة ()2110
وضعيف الجامع ( .) 1111ورواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا
عليه وسلم.
"-ادعوا هللا وأنتم موقنون باإلجابة"– أحمد والترمذي وابن ماجة والبخاري في األدب المفرد من
حديث أبي هريرة .وقال ابن كثير في تفسير( :)82\3إسناده ال بأس به .وحسنه األرناؤؤط في تخريج
جامع األصول .وصححه األلباني في صحيح الجامع .ورواه الحاكم.
108نفس المصدر.ص14
271
" -من لم يسأل هللا يغضب عليه" – الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة ،وحسنه األلباني في
شواهده.
"-ليس أكرم على هللا من الدعاء"– رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه.
"-الدعاء سالح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات واألرض"– رواه الحاكم وصححه.
"-سلوا هللا كل شيء حتى الشسع إذا انقطع" الحديث -رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة عن
عائشة رضي هللا عنها موقوفا ،وسنده حسن ،وعزاه الحسن في المجمع إلى أبي يعلى عن عائشة
موقوفا ،وقال :رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد هللا بن المنادي وهو ثقة – .أفاده الدوسري
في النهج السديد.
-وقال ابن عباس رضي هللا عنهما" :أفضل العبادة الدعاء" وقرأ{41-31:وقال ربكم ادعوني
أستجب لكم'}– رواه ابن المنذر والحاكم وصححه.
"-اللهم أسألك بأن لك الحمد ال إله إال أنت المنان"
"-اللهم إني أسألك بأنك أنت هللا ال إله إال أنت األحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد"
قال في فتح المجيد:
<< وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ،في الدعاء الذي هو السؤال والطلب ،ومن
جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال األئمة سلفا
109
وخلفا>>
وإذا وكما أشار إليه الشيخ عبد الرحمان بن حسن فالدليل قائم ثابت ،وإنما ابن تيمية بشر من البشر
جميعا ليسوا ممن ال يصيبهم سنة وال غفلة فال ينسون وال يخطئون أبدا .وهذا كتاب هللا تعالى لسانا
عربيا يتلى وفيه قوله تعالى كما ذكره الشيخ في هذا المقام والسياق:
{قل أتعبدون من دون هللا ما ال يملك لكم ضرا وال نفعا وهللا هو السميع العليم'}72:2
109فتح المجيد.ص202
272
{قل أندعو من دون هللا ما ال ينفعنا وال يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا هللا كالذي استهوته
الشي اطين في األرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدي ائتنا' قل إن هدى هللا هو الهدى وأمرنا
لنسلم لرب العالمين'}80:4
ولنمعن ولنتدبر قوله تعالى:
{وأعتزلكم وما تدعون من دون هللا وأدعو ربي عسى أال أكون بدعاء ربي شقيا' فلما اعتزلهم وما
يعبدون من دون هللا وهبنا له إسحاق ويعقوب وكال جعلنا نبيئا'}38:02،32
قال عبد الرحمان بن حسن :فصار الدعاء من أنواع العبادة .ونضيف هنا لئال يكون علينا به تبعة ،أن
هذا اللفظ الذي قال به وعبر به الشيخ وإن كان صوابا صحيحا النحو الذي نحاه ،فإنه ال ينطبق بعين
وذات الحق ،فإن التكافؤ في الحقيقتين وانطباقهما هو المعنى والحكم المستنبط ،ال كون الدعاء فحسب
نوعا؛ وإنما العبادة عالقة وجودية وقيمة وحكم؛ فمعناها هنا مكافئ للدين ،ال لداللة ما يفي به اللفظ
ويصرف إليه في القاموس التعليمي بصيغ الجمع (العبادات).
من أجل هذا كله وبه لزم الحكم حكما باتا ال رجعة فيه أن قول ابن تيمية رحمه هللا بمباينة (إياك نعبد)
عن (إياك نستعين) هذا القول في المباينة ال يصح ويخالف الحق ،وهللا هو الحق ويهدي إلى صراط
مستقيم.
273
الفصل الثامن
معنى الكلمات الكونية عند ابن تيمية
أما البرهان الواضح الثابت بدليله على أن األصل في مخالفة التقسيم وما انبنى عليه من أقوال وفقه
مجزئ ،ومن تفاصيل ال زالت وامتدت إلى زماننا ،هو البناء على الحيز الداللي الذي ال ينطبق
بالداللة الصحيحة للفظ (الرب) ولمعنى الربوبية في اللسان العربي ،وذلك مما نستجليه في كالم
وقاموس ابن تيمية رحمه هللا ،والذي نؤكد مرة أخرى على طبيعته الجدلية ،أي المولدة ضرورة
جدلية اقتضاء لمناسبة الرد والحجاج ،القاموس االصطالحي والمفاهيمي الذي ال ينفك متصال
ومرتبطا بالتشعبات الفكرية التي كان رضي هللا عنه في مواجهتها .فمفهوم الكلمات الكونية وما هو
من حمولتها يحدد لنا مفهوم الربوبية وتأطيره وتصوره الداللي عند ابن تيمية ،وهو مفهوم وتصور
أكثر أو يكاد يكون تأطيره تحديدا بمعنى السيادة والتدبير وداللة التصرف والقهر؛ وبقول وتعبير
آخر :مفهوم يرتبط بعالقة علوية قهرية أحادية المنحى ،من حقيقة أن هلل سبحانه وتعالى الخلق
واألمر ،وله المثل األعلى سبحانه ،اتجاه المخلوق .هذا االرتباط والتأطير لداللة الربوبية هو الذي
أدى من دون شك إلى مباينتها عن األلوهية.
ومما ال يمكن بأية حال تجاوزه وإهماله هو أن البيئة التاريخية كانت محددا خطابيا ،ال في عنصر
المفكر فيه وقضاياه فحسب ،وإنما تحديدا في أسلوب هذا الخطاب وصيغ تشكيله وقاموسه.
والموضوعية في قراءة ودراسة أي خطاب وعموم النتاج البشري الفكري يمثل هذا فيها شرطا أكيدا،
ومن ثمة فليس من علمية إال بهذا الشرط؛ فالعلم إنما هو إدراك الشيء كما هو بالحق ،وال يتم الوقوف
على ذلك إال ب في إطار الواقعية والموضوعية.
هذا هو المعيار في المقاربة الذي يتم به ها هنا النقد والدراسة ،أي بنسبية معيارية كي تدرك ضرورة
االعتبار لعالقة ومعنى الخطإ واالختالف بالنسبة للعام بما هو بيئة تاريخية وفكرية .والمثل الواضح
الذي يثبت ويحكم بهذه التبعية واالرتباط العضوي للعالم بطوره وبيئته التاريخية هو الحقل والطور
التاريخي الذي ولّد ونشأ فيه علم الكالم ،بكل زخمه ونوعية مواضيعه ،واختالف طروحاته وجدة
قاموسه.
274
لنعد إذا إلى ما نحن بغايته من تبيان واستجالء هذا الوصل إلى حد شبه التطابق في التمثيل المعرفي
بين تحديد وتصور معنى (الربوبية) والمعنى الذي تردد وبه صاغ فكره ابن تيمية من خالل معنى
(كلمات هللا التامات) كما هو ثابت ومسطر في قوله:
<< وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية والقيومية الشاملة لكل مخلوق من
األعيان والصفات .وهذه األمور قائمة بكلمات هللا الكونية التي كان النبي صلى هللا عليه وسلم يستعيذ
بها في قول <:أعوذ بكلمات هللا التامات التي ال يجاوزهن بر وال فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ،
ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ،ومن شر كل طارق إال طارقا يطرق بخير يا رحمان>
فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضا ومطلوب منه ،وهو محبوب الحق
ومرضيه من التوحيد اإللهي ،الذي هو عبادته وحده ال شريك له ،وطاعته وطاعة رسوله ،واألمر بما
أمر به ،والنهي عما نهى عنه ،والحب فيه والبغض فيه .ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ باألول،
فهو يشبه القدرية المشركة الذين قالوا{:لو شاء هللا ما أشركنا وال آباؤنا} .ومن أخذ بالثاني دون األول
فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن هللا لم يخلق أفعال العباد ،وال شاء جميع الكائنات كما
110
تقول المعتزلة والرافضة ،ويقع في كالم كثير من المتكلمة والمتفقهة>>
أوال البد من التنبيه إلى شيء ال يحق بحال إهماله وال تجاوزه ،هو هذا االنحالل واالختالل في حفظ
مقام البيان ،نظنه عن غير إدراك؛ فالضمير في قوله(الذي هو عبادته إلى قوله والبغض فيه) ليس
مستحسنا أبدا؛ وليس يعني هذا طبعا عدم الجواز في الضمير العائد على ذات الجالل سبحانه ،وإنما
مع الزم وضوابط التعظيم ،من غير إخالل لمقام اإلجالل هلل تعالى العلي العظيم والتوقير المجل
لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
محتوى هذه الكلمة أو هذا الكالم البن تيمية هو المحتوى ذاته والحمولة التي تعبر عنها هذه السلسلة
من المعاني وتراكيب األلفاظ الصوفية ،التي وكما سطرنا عليه وذكرناه لم يتوسلها ابن تيمية إال
ضرورة وجدال؛ هذه التراكيب واأللفاظ من قبيل مفاهيم وأشباه مفاهيم(الفناء عن شهود السوى)
و(الفناء عن عبادة السوى) .أال إن األمر هنا يهم اليقين والمحكم من المسلمات التي إن اختل شرطها
اختل علم ومقول العالم بعدها مهما بلغ علمه وشأوه! أال إن بيان الدين وتعبير هذا البيان وألفاظه هو
من األصول العليا للكتاب والسنة! فاهلل تعالى اختار للفظه من سائر األلفاظ كما اختار أنبياءه ورسله
من خلقه وهو العليم الحكيم .وهللا تعالى نزل أحسن الحديث ،وما كان ألحد الخيرة من بعد هللا تعالى
ورسوله األمين الكريم في هذه الشأن العظيم .فإنما هؤالء يستدركون على الحق وهم ال يشعرون!
ونعيد التذكير مرة أخرى أن كال يؤخذ منه ويرد إال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وأن هذا مما يرد
من قول ابن تيمية رحمه هللا ال شبهة في ذلك.
إن الداللة التي للفظ (الربوبية) عند ابن تيمية ال تتضمن معنى العبادة كصلة وعالقة بين العبد وربه،
بل قصرها على معنى القهر نحوا ومعنى متصال كونه تعالى األول واآلخر والظاهر والباطن،
وبحقيقة أن ال حول وال قوة إال به عز وجل .لكن االعتراض قائم بالحق كون هذه الداللة ليست هي
الداللة الشرعية كما تبين.
والكالم حول هذا كله إنما هو من باب الدراسة المأمور بها شرعا ونصا ومن باب النقد المبتغى به
وجه هللا تعالى وتحري الحق ،وكما جاء في الخبر أن ال يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بحق إذا
علمه؛ فالعصمة إنما هي هلل ولرسوله صلى هللا عليه وسلم ،ومن خالف هذا األصل والمسلمة فإنما هو
ناكص عن الحق أو جاهل به ،ولن يضر هللا شيئا .وشيمة العلماء التواضع هلل سبحانه ذي العزة
والجالل وقرب العتبى للحق وعدم حال ادعاء العصمة بحال .هذا ومع إجازة توظيف هذه األلفاظ
ك(الربوبية) و(األلوهية) لسانا كما هو بالطبع والبداهة ألنها معجم عربي فصيح ،فحفظ مقامات القول
من مسطور الميزان والحكمة .ثم إن حفظ المحور العلمي لنور الكتاب المجيد في كل ألفاظه وقاموسه
لهو الذروة المثال ،ال نظير له في أي من محاور وبناءات الفكر على مستوى التاريخ كله ،من جهة
االستمرارية الذي يكفلها هذا االنحفاظ البياني ،وهذا االتصال بضوابط من العلم متين.
لقد وجب العلم أن خطأ التقسيم ،وقصر داللة الربوبية كما جاء في توظيف ابن تيمية رحمه هللا في
رده على الزيغ والضالل الصوفي وانحرافاته ،قصرها على مدلول القهر بمعنى الملكية والتدبير من
دون تضمنه واعتباره لصلة العبد بربه ،نعني العبادة ،هذا الخطأ والتصرف في اللفظ لهو أشد بعدا
عن الصواب اللغوي والسداد العلمي من خطإ المرجئة في تصرفهم الخاطئ في لفظ (اإليمان)؛
فالمرجئة لبسوا وسلكوا سبيل الخلط واإلضالل باعتبار اإليمان بداللته المعجمية غير الشرعية ،ولقد
بينا في أول هذا الكتاب وألجل هذه اإلشكاالت البانية تحديدا ،ولرفع الغطاء وكشف مكمن اللبس فيها،
بينا وأشرنا أن االصطالح يبنى على الحقل الداللي المعجمي ليتسع في داللته وحمولته تبعا لمجاله
وحقله؛ ومن تمة فهو بالرغم من تضمنه للمعنى اللغوي أو المعجمي فهو ال ينطبق به ،بل داللته
تكون من قاموس الحيز أو الحقل والمجال.
276
المرجئة كان تلبيسهم باعتبار اللغوي دون الشرعي ،أما خطأ التقسيم فهو االعتبار التحكمي لعنصر
من الحقل الداللي الالأحادي وجعله محل الداللة الشرعية ،وجلل الخطإ وعظم الخطر هنا يرجع
باألساس في أن اللفظ لفظ محوري في كتاب هللا العزيز الحكيم.
يقول أبو بكر بن العربي رحمه هللا في كتابه (أحكام القرآن) في قوله تعالى{:والذين يكنزون الذهب
والفضة اآليتان}(التوبة:)12-13
<<الكنز في اللغة هو المال المجموع ،كان فوق األرض أو تحتها ،يقال :كنزه يكنزه إذا جمعه ،فأما
في الشرع ،وهي:
المسألة الرابعة -فنحن ال نقول :إن الشرع غير اللغة ،وإنما نقول :إنه تصرف فيها تصرفها في نفسها
بتخصيص بعض مسمياتها ،وقصر بعض متناوالتها لألسماء ،كالقارورة والدابة في بعض العقار
111
والدواب>>.
فالداللة الشرعية إذا وإن اختلفت عن اللغوية ،فهي ال تنقضها ،بل إننا قد نجد كل العناصر أو ما
اختلف منها عن االصطالح الشرعي جاء وورد ذكره في خطاب الشرع ،وقد يأتيان ويردان معا في
ذات الكالم والسياق كما في اآلية من سورة يوسف{:وقال الملك ائتوني به' فلما جاءه الرسول قال
ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الالتي قطعن أيديهن' إن ربي بكيدهن عليم'}.
واألصل في الصرف الداللي أن إذا ذكر لفظ (الرب) في خطاب وحيز العلم الشرعي عنصرا معجميا
ما قبل السياق أي من غير سياق ،فداللته تنصرف إلى الداللة الشرعية حتما ال إلى غيرها ،وكما قال
وأوضحه ابن العربي رحمه هللا فهذا ال يعني أن الشرع غير اللغة.
كما أن الحكمة ومقتضاها أن يرسخ عموم البيان واالصطالح الشرعي في األذهان ترسيخا دائما
مستمرا بإقامة الم يزان في البيان فصال بين التداول اللغوي والتداول الشرعي ،ويتأكد ذلك ويلزم
شرعا إذا ما اختص وارتبط بالتنزيه والتعظيم من البيان واأللفاظ كلفظ (الرب) .وروى اإلمام
البخاري رحمه هللا في الصحيح قال:
حدثنا محمد :حدثنا عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،عن همام بن منبّه :أنه سمع أبا هريرة رضي هللا عنه
يحدث عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال:
"ال يقل أحدكم :أطعم ربك! وضئ ربك! اسق ربك! وليقل :سيدي موالي؛ وال يقل أحدكم :عبدي
أمتي ،وليقل :فتاي وفتاتي وغالمي"
هذا بيان في التصريف الخاطئ للفظ (الرب) ومعنى الربوبية الذي يقوم عليه مقول تقسيم التوحيد
الخاطئ ،ذلك التصريف الذي رددناه إلى أصله األدنى المنطبق تحديدا في الخطاب والقاموس الجدلي
الذي توسله ابن تيمية رحمه هللا وهو يواجه الضالل واالنحراف الصوفي.
اآلن وتدعيما للحجة نتناول القضية من جهة أخرى ومن جانب آخر غير جانب هذا التوظيف
للفظ(الرب)ولمعنى الربوبية ،الذي استبان خطؤه واتضح ببين الدالئل ومثبت البرهان مخالفته للغة
والشرع جميعا؛ سننظر من جانب حقيقة المعبر عنه أو المراد التعبير عنه ب(الربوبية).
إن التحليل والنظر المدقق الحصيف على مساحة وأبعاد مكوني اللغة والفكر ،يجد أن هذا المعنى
والحقيقة الجوهرية المحسوسة والمرصودة في الفكر المراد التعبير عنها ،موضعها وموقعها ينطبق
بذات موضع ومعنى كلمات هللا التامات أو التامة ،والتي تتصل في اإلدراك اتصاال جوهريا في
المدركات والحقائق بمعنى الملكوت ،ملكوت السماوات واألرض ،لتعبر عما أراد عنه التعبير ابن
تيمية رحمه هللا إن باستعماله وتعبيره بألفاظ أو مفاهيم (القدر) و(القيومية) و(الربوبية) و(الفناء في
شهودها) وغيرها؛ فهذا كله يترجم وفي ظالل داللة وحقيقة معنى(:ال حول وال قوة إال باهلل) وأن
األمر هلل كله والحكم ،جميعه داللته وبؤرته أصل واحد وحقيقة في الفكر منفصلة عن الشرع بمعناه
وكونه عبادة وطاعة ائتمارا وانتهاء.
أما القول الصحيح والحق في هذا هو أن ال تعارض بين قيومية هللا الحي القيوم رب العالمين وبين
الشرع؛ فكل من عند هللا رب العرش العظيم ،وكل باهلل جل عاله .وبيان هذا قريب من الحديث
والبيان في اإلرادة والمشيئة .وهو كذلك وبالضبط ما معناه وحقيقته أن هللا سبحانه وتعالى هو رب
العالمين ،ال يكون شيء ولم يكن إال بمشيئته ومن بعد إذنه سبحانه؛ وفي ذات األمر واالعتبار ليس
هذا هو ذات المعنى الشرعي ،الذي جاء واضحا محددا تحديدا بينا كما في قوله تعالى في آخر سورة
األنعا م{:قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا' وما كان من المشركين'
قل إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له' وبذلك أمرت' وأنا أول
المسلمين' قل أغير هللا أبتغي ربا وهو رب كل شيء' وال تكسب كل نفس إال عليها وال تزر وازرة
وزر أخرى' ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'}
278
فهذا تحديد واضح للمعنى الشرعي في قوله تعالى{:قل أغير هللا أبغي ربا وهو رب كل شيء؟}
وتحقيقه{:إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له'} ،وهذا هو المعنى الذي
قاله وبينه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لعدي بن حاتم حين تال قوله عز وجل{:اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون هللا والمسيح ابن مريم – اآلية} كما سبق ذكره واإلشارة إليه ،وللحسم في
هذا كله يكفي بالحق المبين وأحسن السياق في التفسير وقوله تعالى العزيز الحكيم{:يا صاحبي السجن
أأرباب م تفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما
أنزل بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال
يعلمون'}(يوسف)31-12
فسياق الحق في هاتين اآليتين من القرآن العظيم ،الذي بالحق أنزل وبالحق نزل ،جامع لكل
التفصيالت والحجج التي تبين وتجلي الداللة الحقة للرب والربوبية ،والتي هي الداللة الصحيحة ليس
غيرها ،وال تنطبق تحديدا بالداللة المعجمية التي في معنى وسياق مقولة أقسام التوحيد ،المقولة
الخاطئة ،والقول الذي لم يتردد ولم يعمر هذا األمد إال بالتقليد الملبس لبوس األخذ بالعلم ،وإنما العلم
في هذا الشأن العظيم هو ما اختاره هللا تعالى وبينه وبلغه رسوله ونبيه األمين محمد صلى هللا عليه
وسلم؛ وما كان ابن تيمية رحمه هللا ليستنكف عن الحق لو بلغته الحجة واطلع على برهان الحق
المبين ،فإن العلماء أقرب الناس أوبة للحق إذا علموه وحصل لهم به اليقين.
المعنى الشرعي للربوبية الذي جاء به القرآن العظيم ،وكما يتلى وهو واضح مبين في اآليتين
الكريمتين ،وكما جاء في األثر المحفوظ ألبي العالية حين استفسره أنس بن الربيع ،هذا المعنى
جوهره العبادة ائتمارا وانتهاء؛ والفصل الذي في التقسيم جاء ليبين مكمن اللبس الذي ذكرناه ،الذي
اعتمده من جمع وهو ال يعلم بين النقيضين ،الشرك ونقيضه ،اللبس والتأويل الخاطئ الذي ال يصح
لقوله تعالى{:ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض وسخر الشمس والقمر ليقولن هللا' فأنى
يوفكون'}(العنكبوت )40ولجميع اآليات التي جاء فيها لفظ (الرب) بداللة من الحقل المعجمي ال
تنطبق بالداللة واالصطالح الشرعي .هذا الفصل يجلي ويوضح أن هذه الداللة المنطبقة بمعنى
الملكية والقهر والخالقية ،وهي في ما تعنيه من حقيقة ملزمة وموجبة إطالقا لما يحقق معنى الداللة
الشرعية ،فه ي ال تنطبق بها ،وال تناقض وال استحالة في الحقيقة الجامعة بينهما ،وهذا كما في قوله
تعالى{:قال لها ولألرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين'}(فصلت )01وقوله سبحانه{:قل كل
من عند هللا' فمال هؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'}(النساء.)77
فاستلزام حقيقة الم عنى اللغوي الخاص للحقيقة الثانية ،أي الشرعية ،هو من مقتضى الحق الثابت في
قوله تعالى{:أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟}؛ والفصل إنما يدرك بجواز تعدد األرباب
279
مع أن الرب بالمعنى اللغوي الخاص هنا المنطبق بالقهر والتصرف هو هللا سبحانه وتعالى الواحد ال
شريك له .هذا االستلزام الحق هو كما قي قول هللا تعالى المبين{:قل أرأيتم ما تدعون من دون هللا
أروني ماذا خلقوا من األرض أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم
إن كنتم صادقين'}(األحقاف)1
فاالستدالل بهذه الصيغة جاء مثله في سياق قوله تعالى في اآلية الثانية من اآليتين األوليين{:ما
تدعون من دونه إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان-اآلية}.
أما عن عدم التناقض في الوجود والحصول ،أي ال استحالة كون الحقيقتين ،الشرع بأمره ونهيه من
جهة ،والقهر والقيومية وما في معنييهما ،فالرد القوي على المجادلين والخائضين فيما هذا إطاره فهو
اآلية من قوله سبحانه وتعالى{:قل كل من عند هللا' فمال هؤالء القوم ال يكادون يفقهون
حديثا'}(النساء )77كما أثبتناه.
جاء عند ابن حجر العسقالني رحمه هللا في فتح البارئ في باب المشيئة واإلرادة:
<<قوله( :باب في المش يئة واإلرادة) قال الراغب :المشيئة عند األكثر كاإلرادة سواء ،وعند بعضهم
أن المشيئة في أصل إيجاد الشيء وإصابته ،فمن هللا اإليجاد ،ومن الناس اإلصابة .وفي العرف
تستعمل موضع اإلرادة.
قوله( :وقول هللا تعالى :تؤتي الملك من تشاء ،وقوله :وما تشاءون إال أن يشاء هللا ،وقوله :وال تقولن
لشيء إني فاعل ذلك غدا إال أن يشاء هللا ،وقوله :إنك ال تهدي من أحببت ولكن هللا يهدي من يشاء)
قال البيهقي بعد أن ساق بسنده إلى الربيع بن سليمان قال الشافعي( :المشيئة) إرادة هللا ،وقد أعلم خلقه
أن المشيئة له دونهم فقال{:وما تشاءون إال أن يشاء هللا'} فليست للخلق مشيئة إال أن يشاء هللا ،وبه
إلى الربيع قال :سئل الشافعي عن القدر فقال:
وما شئت إن لم تشأ لم يكن ما شئت كان وإن لم أشأ
األبيات ،...ثم ساق مما تكرر من ذكر المشيئة في الكتاب العزيز أكثر من أربعين موضعا منها غير
ما ذكر في الترجمة قوله تعالى في البقرة{:ولو شاء هللا لذهب بسمعهم وأبصارهم'} وقوله{:يختص
برحمته من يشاء'} وقوله{:ولو شاء هللا ألعنتكم'} وقوله{:وعلمه مما يشاء'} وقوله في آل
عمران{:قل كل إن الفضل بيد هللا يؤتيه من يشاء'} وقوله{:ويجتبي من رسله من يشاء'} وقوله في
النساء{:إن هللا ال يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء'}؛ وأما قوله في األنعام{:سيقول
280
الذين أشركوا لو شاء هللا ما أشركنا وال آباؤنا} اآلية ،فقد تمسك بها المعتزلة وقالوا إن فيها ردا على
أهل السنة؛ والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين ،وهو أن هللا خالق كل مخلوق
ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئا ،واإلرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط دون شرطه،
فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا
بالمشيئة والقدر السابق ،وهي حجة مردودة ألن القدر ال تبطل به الشريعة وجريان األحكام على
العباد بأكسابهم؛ فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك عالمة على أنه قدر عليه العقاب إال أن يشاء هللا-
لم يرد لفظ الجالل في النص -أن يغفر له من غير المشركين ،ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك عالمة
112
على أنه قدر عليه بالثواب .وحرف المسالة أن المعتزلة قاسوا الخالق بالمخلوق ،وهو باطل>>.
لنعد اآلن إلى كالم وقول ابن تيمية في الحديثين والنصين اآلنف ذكرهما من أجل تحديد وضبط
المعنى الذي وظف فيه لفظة (القدر) في سياق متصل بما أراد به من تركيب ومعنى شهود الربوبية،
وكذلك تأطير وتحديد المعبر عنه من وراء لفظ (الربوبية) ذاته؛ فقد جاء وتضمن النص األول قوله:
<< ومن الناس من يجعل هذا (يريد ويعني الفناء عن شهود السوى) من السلوك ،ومنهم من يجعله
غاية السلوك حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية ،فال يفرقون بين المأمور والمحظور،
والمحبوب والمكروه .وهذا غلط عظيم ،غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع
واألمر واالنهي>>.
وثبت في النص والحديث الثاني قوله:
<< وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية ،والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق
من األعيان والصفات>>. .
هاهنا ينجلي ويتضح أن المعنى الذي للفظ (القدر) في هذا الكالم والسياق ليس هو الحقيقة والمعنى
التام والكامل الذي هو حقيقته في بيان الشرع ،الذي يعبر عنه ركنا من أركان اإليمان كما في الحديث
الجبريلي وقوله عليه الصالة والسالم" :اإليمان أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر
وتؤمن بالقدر خيره وشره"(رواه مسلم)
فتعبيره وقوله <<:وهذا غلط عظيم ،غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع
واألمر والنهي ،قول ال يصح في الحق والمعنى الشرعي للقدر ،ألن الشهود ،وسواء لغة حقيقية أو
قاموسا صوفيا اصطالحيا ،ال يعني غير التمثيل والتجسيد؛ وإنما الذي يشهده أولئك أثر القدر وكأن
ليس موجودا وال كائنا سوى هللا سبحانه األول واآلخر والظاهر والباطن .وبالطبع فليس هذا المعنى
الدقيق والمتطابق حق التطابق بالمعنى الشرعي للقدر؛ هذا المعنى ال ينفصل عن عمل المخلوق
وسعيه وعن الحق في قوله سبحانه وتعالى{:فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره' ومن يعمل مثقال ذرة
شرا يره'}(الزلزلة )2-8وقوله جل وعال{:وما ربك بظالم للعبيد'}(فصلت )34وقوله سبحانه{:إن
سعيكم لشتى' فأما من أعطى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى' وأما من بخل واستغنى وكذب
بالحسنى فسنيسره للعسرى'}(الليل)01..3
فلعله اآلن قد استبان وانجلى اللبس وظهر اختالف الداللتين ،وبه جاز القول كون شهود القدر عند ابن
تيمية يرتبط بالربوبية حمال على معناها اللغوي غير الشرعي ،كمظهر وترجمة لها وتجلي ،وال
يصلها ذلك وصال دالليا ولسانيا وفقهيا بحقيقة العلم ليسع معنى القدر الحال اآلني ،حال اإلبصار
والفناء ،ويتجاوزه إلى ما كان وما هو كائن وما سيكون .ومن زاوية القول والتعبير أخرى ،فالقدر
وجب اعتباره من منظور المخلوق وإيمانه وأبعاده من بعد الحال اآلني وأحكامه ،ال إبانه أو قبله،
وليس هنا وال نحن في موضع التفصيل لذلك؛ يقول هللا سبحانه وتعالى وهو خالق كل شيء{:نحن
خلقناهم وشددنا أسرهم اآلية}(اإلنسان) فالمخلوق مأسور خلقا وأبعادا ،فليس له إال ما قدر له من سعة
في الطاقة والقدرة.
أما الحجة الظاهرة البالغة نسبيا فهي ما ورد وجاء بلفظ واضح فصيح في النص األخير البن حجر
العسقالني وقوله <<:فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا
الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق ،وهي حجة مردودة ألن القدر ال تبطل به الشريعة
وجريان األحكام على العباد بأكسابهم>>. .
فالقدر في كالم ابن تيمية في النص األول مؤطر بقوله وتعبيره(:شهود القدر وأحكام الربوبية)،
والربوبية عنده مؤطرة ب(القيومية وكلمات هللا التامات) ،هذا هو القدر كما وظفه وتمثله بيانه
وحديثه؛ بيد أن القدر في الشرع فمعناه هو الذي يؤطر بسياق نص ابن حجر العسقالني في
قوله(:تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق) وكذلك قوله(:القدر ال تبطل به الشريعة)..
فانظر إ لى السياقين واإلطارين تجد بينهما فرقا بينا في المعنى المراد من القدر؛ وهذا الفرق ،وعدم
مجاوزة معنى الربوبية وقصر داللتها على القيومية والمالكية ،والذي هو معنى لغوي ،وإن هو
282
تضمن في المعنى الشرعي ،فليس هو إياه ال يطابقه ،ألن الشرعي يخصص المعنى باتساعه في العلم
الشرعي وما جاء به الوحي الكريم والسنة النبوية الشريفة من األحكام والحقائق.
283
الفصل التاسع
معنى اإليمان في قوله تعالى{:وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم
مشركون'}(يوسف)106
يقول اإلمام أحمد بن حنبل رحمه هللا فيما نقله عنه ابن تيمية في كتاب اإليمان:
<< يحذر المتكلم في الفقه هذين األصلين :المجمل والقياس؛ وقال أكثر ما يخطئ الناس من جهة
113
التأويل والقياس>>. .
والتأويل يؤول إلى ذكر القراءة بمعناها التفسيري والبياني ،واستخالص الحمولة الداللية للنصوص
كأصول شرعية فقهية ،سواء بالمعنى االصطالحي الخاص أو بالمعنى المرادف للعلمية ،المعنى
الشامل والعام .وإذا كنا بيقين الرجاء آملين أن يكون ما حصل في خصوص الخطإ العظيم لمقولة
التقسيم والتصرف غير الحق في لفظ (الرب) ومعنى الربوبية على أتم ما يحصل به البرهان عند
القلوب السوية التي من هللا تعالى بها تميز الباطل من الحق ،وأي استدالل يعلو استقراء الداللة في
خطاب القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة؟
فنافلة وذكرى نسوق ختاما ما جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري في قوله تعالى{:فال تجعلوا
هلل أندادا} وقوله جل ذكره{:وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين}:
<< قوله(:وقال عكرمة ..إلخ) وصله الطبري عن هناد بن السري عن أبي األحوص عن سماك بن
حرب عن عكرمة في قوله تعالى{:وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون} قال يسألهم من خلقهم
ومن خلق السماوات واألرض؟ فيقولون :هللا؛ فذلك إيمانهم وهو يعبدون غيره!
ومن طريق يزيد بن الفضل الثماني عن عكرمة في هذه اآلية{:وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم
مشركون} قال هو قول هللا{:ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض ليقولن هللا} ،فإذا سئلوا عن
صفته وصفوه بغير صفته وجعلوا له ولدا وأشركوا به .وبأسانيد صحيحة عن عطاء وعن مجاهد
نحوه .وبسند حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق
114
السماوات واألرض ومن خلق الجبال قالوا هللا وهم به مشركون>>.
المطلوب منا هنا في هذه النقطة من زوايا الرؤية واالستبصار هو الجمع بين المعطيات الثالثة هاته،
قول اإلمام أحمد في حكم عالقة الخطإ بالتأويل ،والعنصر أو المعطى الثاني هو األساس المفهوماتي
للربوبية ،والمنطبق بالقراءة التقسيمية لعدد من اآليات الدالة على صنف حقائقي من الحقائق المثاني
في القرآن العظيم وقوله تعالى{:ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض وسخر الشمس والقمر
ليقولن هللا' فأنى يؤفكون'}(العنكبوت .)40أما المعطى الثالث فهو الفهم الراسخ عن رسوخ في العلم
وهدى وكتاب منير ،فهم السلف الصالح أولي العلم والبصائر خاصة منهم الصحابة رضي هللا عنهم،
الفهم المرتقي درجة التفسير والمكافئ للترجمة والبيان الدالليين لآلية أو اآليات التي تلونا ،باعتبار
اعتماد هذا التفسير على الحق والبيان في ذات القرآن كتاب هللا العزيز الحكيم .وهذا االعتبار هو الذي
يفيد المعطى الثالث قوة ودرجة في القيمة الحقائقية ألن الصحابي ومن يليه انتماء إلى خير القرون
ليسوا معصومين وال منزهين عن الزلل والخطإ في ذات أقوالهم ،فإن ذلك خاصة ليست إال للوحي
الكريم.
فصل الخطاب يستخرج فهم اآلية ويستنبطه من موضع االستشهاد بها ،الذي هو تفسير وفقه قوله عز
وجل{:وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون'} ،وانتظام هاتين اآليتين معا انتظاما متصال بباب
قوله تعالى{:فال تجعلوا هلل أندادا} وقوله سبحانه{:وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين'}.
االحتجاج بقول عكرمة وبيان ترجمان القرآن عبد هللا بن عباس جعل هاهنا من باب وغاية رفع اللبس
واستجالء ما قد يشوب المعنى المراد من قوله عز وجل{:وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون'}
،ما قد يشوبه من خلط أو تحريف ،ومظنته هاهنا أن يحمل اإليمان في اآلية على المعنى الشرعي.
وإذا كان هذا هو المستند في الحجاج وكان أساسه اآلية األولى ،فقد تم الفصل إذا في مفهومها عند من
جعلها أصال في كالمه واحتجاجه .كما أن الميزة البالغية الظاهرة للمعطى الممثلة تحديدا لذوي
الصناعة وأهل البيان في تعبيره(:فذلك إيمانهم!) تكفي لوحدها في بيان اختالف الداللتين ،إذ مكافئها
أن المعنى لإليمان في هذا السياق ،سياق اآلية الكريمة ،ليس هو الذي يخال ويسبق ألول الوهلة على
المعنى الشرعي .ومثله وما يرسخ منحاه من تركيب اللفظ والتعبير قوله :فإذا ، . .وأيضا قوله :من
إيمانهم .. .
فلله الحمد والمنة رب العالمين وله الكبرياء في السماوات واألرض وهو العزيز الحكيم .وإذا كان
عنوان أول الحجاج والحوار الكلمة الحكيمة لمصعب بن عمير رضي هللا عنه ألسيد بن خضير
رضي هللا عنه قبل أن يزيح عارض اإلعراض عن سماع كلمة الحق ،فإننا نختم الحديث بأمر حقيق
أن يعلم وهو قول المتنبي غفر هللا له وجزاه سبحانه بخير ما عمل وتجاوز عن سيآته ورحمه:
إذا احتاج النهار إلى دليل وليس يصح في األفهام شيء
286
المصادر والمراجع
-القرآن الكريم
-المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم -محمد فؤاد عبد الباقي -دار الحديث -القاهرة
-أبو األعلى المودودي -حياته ودعوته :أليف الدين الترابي -دار العلم للنشر والتوزيع -ط0
-التجديد في دراسة علم التوحيد :الدكتور محمد بنيعيش -أستاذ التعليم العالي بجامعة -القرويين -المغرب -دار الكتب
العلمية -بيروت
-الدين والسياسة :د .سالمة عبد الجبار -السلسلة الفكرية -منشورات المؤسسة العربية للنشر واإلبداع -الدار البيضاء-
المغرب
-السعادة األبدية في الشريعة اإلسالمية :أحمد الهاشمي بك -دار الكتب العلمية -ط0
-كتاب سيبويه -تحقيق وشرح عبد السالم محمد هارون -مكتبة الخانجي -القاهرة
-كتاب سيبويه -علق عليه ووضع حواشيه وفهرسته د .إميل بديع يعقوب -دار الكتب العلمية -بيروت
-المزهر للسيوطي
-إعجاز القرآن والبالغة النبوية :مصطفى صادق الرافعي -دار صبح -بيروت -لبنان 2117
-خصام ونقد :طه حسين -دار العلم للماليين -بيروت -لبنان -ط -00مارس 0282
-مالك بن نبي -مشكالت الحضارة -وجهة العالم اإلسالمي -ترجمة عبد الصبور شاهين
-ديوان المتنبي
-منهج ابن هشام من خالل كتابه المغني :عمران عبد السالم شعيب -الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع واإلعالن-
ط0122-0ه0284-م -دار الكتب الوطنية -بنغازي
-قضايا لسانية -السوسيولسانيات .التصريف .أقسام الكلم :الدكتور عبد العزيز خليلي-ط -0مطبعة أنفو برانت-فاس
-مقتطفات من تاريخ العلم اللغوي في الغرب . :روبنز -ترجمة د .أحمد عوض -إصدار عالم المعرفة
288
م0281 مايو-ه0311 جمادى الثانية-21 العدد- السنة الخامسة- مجلة الدوحة القطرية-
2110\00\00 -8183 العدد- جريدة الشرق األوسط-
0 العدد- المغرب- مجلة المناظرة-
-A. Martinet : Syntaxe générale Armand colin. Paris. 1985
-Gérard Genette : Figures 3- LA RHETORIQUE RESTREINTE- Collection
Poétique- aux Editions du Seuil Paris
-Paul Ricœur : La métaphore vive- L’ordre philosophique- Collection
dirigée par Paul Ricœur et François Wahl- aux Editions du Seuil Paris