Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 289

‫تذكرة العلماء في الربانية والمنهاج‬

‫الجزء األول‬

‫نقض مقولة التقسيم‬


‫وتصحيح النحو العربي‬
‫نظرية التناسق في اإلعراب المنطقي وتقعيد النحو العربي‬

‫رشيد بلواد‬
‫‪2‬‬

‫بسم هللا الرحمان الرحيم‬


‫الفهرست‬

‫‪8‬‬ ‫مقدمة‬

‫الباب األول‪:‬‬

‫‪01‬‬ ‫المناط التأصيلي للفظ 'التوحيد'!‬

‫‪00‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬أصولية البيان‬

‫‪00‬‬ ‫‪ -0‬لم لم يرد لفظ 'التوحيد' في القرآن المبين؟‬

‫‪01‬‬ ‫‪ -2‬الدليل االستقرائي في الكتاب‪ :‬الصيغ الخطابية لدعوة الرسل واألنبياء عليهم السالم‬

‫‪22‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬الدليل االستقرائي في السنة‬

‫‪13‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬التقييم االستداللي‬

‫‪13‬‬ ‫‪ -0‬درجة الموضوع والدليل اإلحصائي‬

‫‪17‬‬ ‫‪ -2‬المؤشر اإلحصائي (الكمي) في القرآن‬

‫‪31‬‬ ‫‪ -1‬المؤشر اإلحصائي في السنة‬

‫‪34‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬البرهان اللساني في بطالن إسناد لفظ 'التوحيد' السم الجالل‬

‫‪34‬‬ ‫‪ -0‬مفهوم الحقيقة اللغوية‬

‫‪37‬‬ ‫‪ -2‬الحقيقة اللغوية ومبدأ االختالف‪ :‬مفهوم العلّية‬

‫‪22‬‬ ‫‪ -1‬بطالن إسناد لفظ 'التوحيد' السم الجالل وشروط االصطالح والعرف اللغوي‬
‫‪3‬‬

‫‪28‬‬ ‫‪ -3‬المقاربة الشرعية أو لفظ 'التوحيد' من الفلسفي إلى الشرعي‬

‫الباب الثاني‪ :‬تصحيح النحو العربي‬

‫نظرية التناسق في اإلعراب المنطقي وتقعيد النحو العربي ‪40‬‬

‫‪42‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الداللة اللسانية من المعجم إلى السياق‬

‫‪42‬‬ ‫‪ -0‬الخاصة التواصلية للسان والداللة المعجمية‬

‫‪41‬‬ ‫‪ -2‬الصيغة المعجمية للهجات والتوحيد اللغوي‬

‫‪48‬‬ ‫‪ - 1‬الداللة والسياق‬

‫‪74‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬تحقيق المجاز‬

‫‪88‬‬ ‫المبادئ الكونية العامة‬

‫‪24‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬نقد النحو العربي‬

‫‪001‬‬ ‫‪ -0‬مقولة البناء واإلعراب‬

‫‪001‬‬ ‫‪ -2‬مقولة الضمير المستتر‬

‫‪003‬‬ ‫‪ -1‬الضمير المستتر ومبدأ التوازن‬

‫‪007‬‬ ‫‪ -3‬الضمير المستتر ومبدأ التناسق‬

‫‪002‬‬ ‫‪ -2‬اللغة العربية والبعد الزمني‬

‫‪023‬‬ ‫‪ -4‬جوهرية الضمائر‬

‫‪028‬‬ ‫‪ -7‬اعتراضات ابن هشام على االصطالحات اإلعرابية‬

‫‪010‬‬ ‫‪ -8‬مفهوم الناسخ والتقعيد‬

‫‪012‬‬ ‫‪ -2‬المؤطرات الحقائقية والمؤطرات الزمنية‬

‫الباب الثالث‪:‬‬
‫‪4‬‬

‫‪012‬‬ ‫'الربوبية' بين الحقل الداللي والداللة الشرعية‬

‫‪031‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬ضالل مقولة التقسيم وقولتهم‪< :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية>‬

‫‪031‬‬ ‫‪ -0‬الخطأ المرجئي في اإليمان وضالل النمطية‬

‫‪030‬‬ ‫‪ -2‬مماثلة الخطأ التقسيمي لمسمى التوحيد للخطإ المرجئي‬

‫‪032‬‬ ‫‪ -1‬ضالل قولتهم‪< :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية>‬

‫‪038‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬السبر الداللي للفظ 'الرب' في القرآن الكريم‬

‫‪021‬‬ ‫‪ -0‬اإلسناد لحقل المتكلم وللظاهر من اإلسم‬

‫‪042‬‬ ‫‪ -2‬الحقل المخاطباتي‬

‫‪082‬‬ ‫‪ -1‬اإلسناد إلى حقل الغياب‬

‫‪023‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬بنية اإلخبار في القرآن ناقضة لمقولة التقسيم‬

‫الباب الرابع‬

‫مفهوم الحكمة والمنهاج‪:‬‬

‫‪211‬‬ ‫{ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}(آل عمران‪)87‬‬

‫‪210‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬مفهوم الحكمة‬

‫‪210‬‬ ‫‪ -0‬ارتباط العلم بالحكمة‬

‫‪210‬‬ ‫‪ -2‬لفظ 'الحكمة' في القرآن‬

‫‪211‬‬ ‫‪' -1‬الحكمة' في أقوال المفسرين‬

‫‪217‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬الحكمة أساس المنهاج‬

‫‪217‬‬ ‫‪ -0‬من الحكمة إلى الربانية‬

‫‪212‬‬ ‫‪ -2‬الحكمة تحققا في السيرة النبوية‬


‫‪5‬‬

‫‪202‬‬ ‫‪ -1‬مفهوم الرباني والمنهاج‬

‫‪203‬‬ ‫‪ -3‬دليل البيان واللسان في شرط الحكمة‬

‫‪204‬‬ ‫‪ -2‬الحكمة بين الداللة الحق والتخصيص الفلسفي السائد‬

‫‪208‬‬ ‫‪ -4‬التقليد المذهبي ناقض لحقيقة الحكمة‬

‫‪220‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬الضوابط والمؤطرات المنهاجية أو الفصل بين السنة والنمطية‬

‫الباب الخامس‪:‬‬

‫‪227‬‬ ‫المحورية في اللفظ والمفهوم‬

‫‪228‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬محورية اللفظ والمصطلحات األربعة عند المودودي‬

‫‪211‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬إشكالية المفهوم وماهيته‬

‫‪217‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬النتاجية والتمثيلية أهم خصائص المفهوم‬

‫الفصل الرابع‪ :‬االختالق المفاهيمي أداة في الصراع والتحكم‪ :‬نموذج 'اإلرهاب' و'العولمة' ‪218‬‬

‫الباب السادس‪:‬‬

‫‪231‬‬ ‫'الربوبية من انبثاق ونشأة المفهوم إلى الضالل والخطإ في التوظيف‬

‫‪233‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬انبثاق مفهوم 'الربوبية' والتأطير الشرعي‬

‫‪238‬‬ ‫الفصل الثاني‪' :‬األلوهية' و'الربوبية'‪ :‬تباين القسائم شرط في صحة التقسيم‬

‫‪222‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬مماثلة خطإ المقسمة لخطإ المرجئة‬

‫‪222‬‬ ‫‪ -0‬سفسطائية القول‪< :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية>‬

‫‪222‬‬ ‫‪ -2‬الخطأ التقسيمي أعظم ضالال من الخطإ المرجئي‬

‫‪227‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬إبطال القول بالمباينة بين األلوهية والربوبية‬

‫‪242‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬معنى 'الفناء عن شهود السّوى' عند ابن تيمية‬
‫‪6‬‬

‫‪242‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬التأطير الخاطئ لمعنى الربوبية عند ابن تيمية‬

‫‪242‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬اختالف ابن تيمية في قوله تعالى‪{:‬إياك نعبد وإياك نستعين}‬

‫‪271‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬معنى الكلمات الكونية عند ابن تيمية‬

‫الفصل التاسع‪ :‬معنى اإليمان في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪281‬‬ ‫{وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون'}(يوسف‪)014‬‬

‫‪284‬‬ ‫المصادر والمراجع‬


7
‫‪8‬‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫الحمد هلل الذي ال إله إال هو‪ ،‬أرسل رسوله صلى هللا عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين‬
‫كله‪ ،‬وأنزل معه الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا محمد‬
‫وعلى آله وصحبه وسلم تسليما‪ ،‬أما بعد‪..‬‬
‫سنام العلم هو علم ما به يتحقق إيمان العبد‪ ،‬اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقدر‬
‫خيره وشره‪ ،‬والعلم هو علم الشيء كما هو في الحق‪ ،‬ليس بمرجع غير مرجع الحق‪.‬‬
‫و ال تتم حقيقة اإلدراك للصفة التبيانية للكتاب والسنة حتى تتم ويحصل في هذا اإلدراك الضبط‬
‫والتصور الصحيح لبيان قوله تعالى‪{:‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم‬
‫اإلسالم دينا'}(المائدة‪ ،)3‬اإلدراك الذي أدلى بفقهه اإلمام مالك بقوله رحمه هللا‪ <<:‬قبض رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم وقد تم هذا األمر واستكمل>>‪.‬‬
‫هذه المقولة األثر‪ ،‬وهذا الفقه األقوم الصحيح‪ ،‬هي الحقيقة التي رفعها عن يقين بحجيتها العالم الجليل‬
‫محمد بن علي الشوكاني رحمه هللا في وجه المقلدين‪ ،‬وفي وجه من سلك من هذه األمة وحذا حذو من‬
‫اتخذوا أحبارهم أربابا من دون هللا تعالى‪ ،‬الذين يبتدرون كل قول‪ ،‬بل وكل لفظة لعلمائهم وشيوخهم‬
‫فيجعلونها بدال للكتاب والسنة‪ ،‬عليها يتحدد تصورهم للدين‪ ،‬ويجعلون ذلك هو البيان كل البيان‬
‫للتنزيل‪.‬‬
‫إن أول ما يقوم عليه علم الكتاب وهدى الحق‪ ،‬وعليه تتأسس المشروعية للحقيقة العلمية لدى المؤمنين‬
‫وغير المؤمنين ممن يأخذ بالحق في سلم المعارف والحقائق الكونية‪ ،‬هو أن التحديد للدين ليس ينبغي‬
‫له مرجع غير الوحي والكتاب المبين‪ ،‬ومن نقض أو سعى لنقض هذا المبدإ واألصل للحق في بناء‬
‫العلم والمعارف فإنما هو ممن يبني على شفا جرف هار‪ ،‬يبني بناء باطال ولو خاله كان من كان علما‬
‫أو شيئا قبيال من العلم‪ ،‬وإنه ليس دون الحق إال الضالل‪.‬‬
‫إن مقولة أقسام التوحيد تهم بشكل مباشر تحديد الدين‪ ،‬فهذا أول ما يدرك ويتحتم أن نقر به‪ ،‬ثم إنه‬
‫ل شأن ليس للعلماء وال للمخلوقين به كفل‪ ،‬ذلك أمر هللا تعالى الذي قال في محكم الوحي والقرآن‬
‫العظيم‪ {:‬شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى‬
‫وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه' كبر على المشركين ما تدعوهم إليه' هللا يجتبي إليه من يشاء‬
‫ويهدي إليه من ينيب' وما تفرقوا إال من بعد ما جاءهم العلم' بغيا بينهم' ولوال كلمة سبقت من ربك إلى‬
‫أجل مسمى لقضي بينهم' وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب'}(الشورى‪)02-00‬‬
‫‪9‬‬

‫الموضوع الذي عزمنا التصدي له‪ ،‬موضوع مقولة التقسيم أو ما أريد به أقساما للتوحيد‪ ،‬ليس كما‬
‫يرى موضوعا كغيره من المواضيع؛ هو في الحال والواقع وعلى كل بعد من أبعاده‪ ،‬ال ريب‬
‫موضوع شائك غير هين‪ .‬وليس يغرب عن مختص النظر وعمومه أن مرد ذلك باألساس هو درجة‬
‫وعلو شأن ما يختص به مما هو في العلم يعتبر سنام األصول‪.‬‬
‫ولما كان هذا هو الموضوع في خطره وشأنه العظيم‪ ،‬وكانت هذه درجته في العلم وأمر الدين‪ ،‬فليس‬
‫ينبغي في هذا المقام غير المكين من األساس‪ ،‬والقويم من العلم والثابت من العزم‪ ،‬فال بناء إال على‬
‫متين الدليل ومحقق البرهان‪ ،‬وكليات العلم والمرجع بناء واقتضاء لما نتلوه في قوله تعالى‪:‬‬
‫{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم' فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى‬
‫هللا والرسول إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر' ذلك خير وأحسن تأويال'}(النساء‪)28‬‬
‫{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين'}(البقرة‪)001‬‬
‫على هللا توكلنا وهو حسبنا‪ ،‬وهو جل وعال ربنا سبحانه ولي التوفيق‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫الباب األول‬

‫المناط التأصيلي للفظ 'التوحيد' !‬


‫‪11‬‬

‫الفصل األول‬
‫أصولية البيان‬
‫‪ -1‬سؤال مشروع‪ :‬لم لم يرد لفظ (التوحيد) في القرآن المبين؟‬

‫حقيقة عربية القرآن حقيقة كبرى‪ ،‬تعتبر أصال من أصول العلم في تحقيقها والعمل على مقتضياتها‪.‬‬
‫ولما كانت أعلى درجات التفسير هي تفسير القرآن ببعضه لعدم جواز االختالف ولكمال الدين وتمام‬
‫بيانه‪ ،‬فالدالالت اللغوية لأللفاظ‪ ،‬والتراكيب والنسق‪ ،‬هي مكون من مكونات التفسير وموضوعه‪،‬‬
‫ليستنبط من ذلك أن أصح المعاني للعناصر المعجمية وسياقاتها‪ ،‬هو المطابق والموافق لقاموس‬
‫القرآن الحكيم‪ ،‬والمستمد منه‪ ،‬ومن بيانه وأسلوبه‪.‬‬
‫باعتبار هذا األصل العلمي‪ ،‬وباعتبار األمر بعبادة هللا تعالى واجتناب الطاغوت المحور األساس‪،‬‬
‫والشأن األول في الدين الذي أرسل به هللا سبحانه الرسل جميعا‪:‬‬
‫{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت'} (النحل‪)14‬‬
‫وباعتبار محمد صلى هللا عليكم وسلم آخر النبيئين والرسل‪ ،‬أرسله تعالى رحمة للعالمين‪:‬‬
‫{وما أرسلناك إال رحمة للعالمين'}(األنبياء‪)014‬‬
‫{قل يا أيها الناس إني رسول هللا إليكم جميعا' الذي له ملك السماوات واألرض' ال إله إال هو' يحيي‬
‫ويميت' فآمنوا باهلل ورسوله النبي األمي الذي يؤمن باهلل وكلماته' واتبعوه لعلكم تهتدون'}‬
‫(األعراف‪.) 028‬‬
‫وباعتبار قوله عز وجل‪:‬‬
‫{وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه'}(المائدة‪)21‬‬
‫‪12‬‬

‫وقوله سبحانه‪:‬‬
‫{ق' والقرآن المجيد'}(ق‪)0‬‬
‫باعتبار ذلكم أضحى من الحق الذي ال مماراة فيه أن نتساءل ونطرح السؤال‪:‬‬
‫لماذا لم يرد لفظ (التوحيد) ال في صيغة المصدر وال في صيغه الفعلية‪ ،‬لم لم يرد ذلك في حديث‬
‫القرآن أحسن الحديث‪ ،‬وعلى لسان النبي صلى هللا عليه وسلم فيما حق وصح عنه من الحديث وهو‬
‫عليه الصالة والسالم أفصح من نطق بالضاد وبلسان العرب المبين؟؟؟‬
‫وأخرى أنه ال يصح في الحق مطلقا أن نسمي حقائق األصول في الدين بغير ما اختار لها هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وال يجوز التصرف فيها بتبديل!!!‬
‫‪13‬‬

‫‪ -2‬الدليل االستقرائي في الكتاب‬


‫الصيغ الخطابية لدعوة الرسل واألنبياء عليهم السالم‬

‫لينظر هؤالء الذين يبتدعون من عند أنفسهم ثم بسبيل من التقليد‪ ،‬يبتدعون ويقحمون في الدين‬
‫وقاموسه المحكم ما ليس منه !‬
‫لينظروا وهذا القرآن العظيم مصطفى بيانه أفضل الكلم وأحسن الحديث وحديث الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم ! هل يجدون فيه كلمة ولفظة"التوحيد" مرادا بها الحقيقة والمسمى الذي هو الحقيقة‬
‫والمسمى الذي أرسل به هللا تعالى أنبياءه ورسله عليهم وعلى رسولنا الصالة والسالم؟!‬
‫هذا المسمى وهذه الحقيقة هي محور التنزيل التي يثنى ذكرها ويؤكد في كل القرآن الحكيم‪ ،‬وفي كل‬
‫سوره وآياته؛ ونستطيع على المعنى العلمي والدراسي أن نجملها أو نحددها في خمس أو ست صيغ‪،‬‬
‫تؤول كلها إلى حقيقة واحدة‪ ،‬حقيقة أن ال إله إال هللا‪ .‬فلينظر هؤالء إلى هذه الصيغ التي نزل بها الحق‬
‫أحسن الحديث‪ ،‬ثم هم يستدركون ! لينظروا إلى اللسان وما نزل من البيان الحق الذي ال يكفيهم بيانا‬
‫وتفسيرا‪!..‬‬
‫الصيغة األولى ‪ :‬شهادة الحق بأن ال إله إال هو سبحانه‪ ،‬وأن ما من إله إال إله واحد؛ وذلك كقوله عز‬
‫وجل‪:‬‬
‫{شهد هللا أنه ال إله إال هو والمالئكة وأولو العلم قائما بالقسط' ال إله إال هو' العزيز الحكيم'}(آل‬
‫عمران‪)08‬‬
‫{وإلهكم إله واحد' ال إله إال هو' الرحمان الرحيم'}(البقرة‪)042‬‬
‫{الم' هللا ال إله إال هو' الحي القيوم'}(آل عمران‪)0‬‬
‫{قل أي شيء أكبر شهادة قل هللا' شهيد بيني وبينكم' وأوحي إلي هذا القرآن ألنذركم به ومن بلغ' أئنكم‬
‫لتشهدون أن مع هللا آلهة أخرى قل ال أشهد' إنما هو إله واحد' وإنني بريء مما‬
‫تشركون'}(األنعام‪)21‬‬
‫‪14‬‬

‫{فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم هللا وأن ال إله إال هو' فهل أنتم مسلمون'}(هود‪)03‬‬
‫{هذا بالغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو األلباب'}(إبراهيم‪)23‬‬
‫{إلهكم إله واحد' فالذين ال يؤمنون باآلخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون'}(النحل‪)22‬‬
‫{وقال هللا ال تتخذوا إلهين اثنين' إنما هو إله واحد' فإياي فارهبون'}(النحل‪)20‬‬
‫{ال تجعل مع هللا إلها آخر فتقعد مذموما مخذوال'}(اإلسراء‪)22‬‬
‫{إنما إلهكم هللا الذي ال إله إال هو' وسع كل شيء علما'}(طه‪)42‬‬
‫{إنني أنا هللا ال إاله إال أنا فاعبدني وأقم الصالة لذكري'}(طه‪)01‬‬
‫{وما أرسلنا من قبلك من رسول إال يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء‪)22‬‬
‫{قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد' فهل أنتم مسلمون'}(األنبياء‪)017‬‬
‫{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم هللا على ما رزقهم من بهيمة األنعام' فإلهكم إله واحد' فله أسلموا'‬
‫وبشر المخبتين}(الحج‪)12‬‬
‫{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره' أفال تتقون'}(المؤمنون‪)21‬‬
‫{ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض' سبحان‬
‫هللا عما يصفون'}(المؤمنون‪)22‬‬
‫{فتعالى هللا الملك الحق' ال إله إال هو رب العرش الكريم' ومن يدع مع هللا إلها آخر ال برهان له به‬
‫فإنما حسابه عند ربه' إنه ال يفلح الكافرون' وقل رب اغفر وارحم وأنت خير‬
‫الراحمين'}(المؤمنون‪)002 ..007‬‬
‫{والذين ال يدعون مع هللا إلها آخر وال يقتلون النفس التي حرم هللا إال بالحق وال‬
‫يزنون'}(الفرقان‪)202‬‬
‫‪15‬‬

‫{قل الحمد هلل وسالم على عباده الذين اصطفى' أهللا خير أما يشركون' أ ّمن خلق السماوات‬
‫واألرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها' أإله‬
‫مع هللا' بل هم قوم يعدلون'}(النمل‪)42‬‬
‫{وهو هللا ال إله إال هو' له الحمد في األولى واآلخرة' وله الحكم ' وإليه ترجعون' قل أرأيتم إن جعل‬
‫هللا عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير هللا يأتيكم بضياء' أفال تسمعون' قل أرأيتم إن جعل‬
‫هللا عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير هللا يأتيكم بليل تسكنون فيه' أفال‬
‫تبصرون'}(القصص‪)72‬‬
‫{وال تدع مع هللا إلها آخر' ال إله إال هو' كل شيء هالك إال وجهه' له الحكم وإليه‬
‫ترجعون'}(القصص‪)88‬‬
‫{ وال تجادلوا أهل الكتاب إال بالتي هي أحسن إال الذين ظلموا منهم' وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا‬
‫وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون'}(العنكبوت‪)34‬‬
‫{ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن هللا هو العلي الكبير'}(لقمان‪)22‬‬
‫{قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كال' بل هو هللا العزيز الحكيم'}(سبإ‪)27‬‬
‫{إن إلهكم لواحد'}(الصافات‪)3‬‬
‫{ إنهم كانوا إذا قيل لهم ال إله إال هللا يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون' بل جاء‬
‫بالحق وصدق المرسلين'}(الصافات‪)17 ..12‬‬
‫{قل إنما أنا منذر' وما من إله إال هللا الواحد القهار'}(ص‪)43‬‬
‫{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد' فاستقيموا إليه واستغفروه' وويل‬
‫للمشركين}(فصلت‪)2‬‬
‫{وهو الذي في السماء إله وفي األرض إله' وهو الحكيم العليم'}(الزخرف‪)83‬‬
‫{فاعلم أنه ال إله إال هللا واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات' وهللا يعلم متقلبكم ومثواكم'}(محمد‪)21‬‬
‫{وال تجعلوا مع هللا إلها آخر إني لكم منه نذير مبين'}(الذاريات‪)20‬‬
‫‪16‬‬

‫{أم لهم إله غير هللا' سبحان هللا عما يشركون'}(الطور‪)30‬‬


‫{قل هو هللا أحد' هللا الصمد' لم يلد ولم يولد' ولم يكن له كفؤا أحد'}(سورة اإلخالص)‬

‫هذه الشهادة واإلثبات للحق‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة للصيغ األخرى‪ ،‬نجده يذكر في القرآن ذكرا متتاليا‬
‫ومحكما‪ ،‬مقترنا وغير مقترن‪ ،‬فهي حقائق يستلزم بعضها البعض؛ كلها تدل وتعبر عن نفس األمر‬
‫وذات الشأن‪ ،‬بأن ال إله إال هللا‪.‬‬
‫الصيغة الثانية‪:‬‬
‫وتفيد شهادة الحق ببطالن وبفساد القول بإله أو آلهة غير هللا تعالى الذي ال إله إال هو‪ .‬وهي صيغة ال‬
‫في درجة استلزام سابقتها فحسب‪ ،‬بل مكافئة لها‪ ،‬تسم نقيض الحق باإلفك والضالل واالفتراء‪ .‬وقسم‬
‫هذه الصيغة فيه قوله سبحانه‪:‬‬
‫{أال إن هلل من في السماوات ومن في األرض' وما يتبع الذين يدعون من دون هللا شركاء' إن يتبعون‬
‫إال الظن' وإن هم إال يخرصون'}(يونس‪)44‬‬
‫{وإذ قال إبراهيم ألبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة' إني أراك وقومك في ضالل مبين'}(األنعام‪)73‬‬
‫{ما ت عبدون من دونه إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر‬
‫أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف‪)31‬‬
‫{قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب' أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل بها‬
‫من سلطان' فانتظروا' إني معكم من المنتظرين'}(األعراف‪)71‬‬
‫{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم' قالوا يا موسى اجعل لنا إلها‬
‫كما لهم آلهة' قال إنكم قوم تجهلون' إن هؤالء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون' قال أغير هللا‬
‫أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين'}(األعراف‪)031 ..018‬‬
‫{أم جعلوا هلل شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم' قل هللا خالق كل شيء' وهو الواحد‬
‫القهار'}(الرعد‪)01‬‬
‫‪17‬‬

‫{له دعوة الحق' والذين يدعون من دونه ال يستجيبون لهم بشيء إال كباسط كفيه ليبلغ فاه وما هو‬
‫ببالغه' وما دعاء الكافرين إال في ضالل'}(الرعد‪)02‬‬
‫{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت' وجعلوا هلل شركاء قل سموهم' أم تنبئونه بما ال يعلم في‬
‫األرض أم بظاهر من القول' بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل' ومن يضلل هللا فما له‬
‫من هاد'}(الرعد‪)13‬‬
‫{إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع هللا إلها آخر' فسوف يعلمون'}(الحجر‪)24-22‬‬
‫{وقال هللا ال تتخذوا إلهين اثنين' إنما هو إله واحد' فإياي فارهبون' وله ما في السماوات واألرض'‬
‫وله الدين واصبا' أفغير هللا تتقون'}(النحل‪)22-20‬‬
‫{ال تجعل مع هللا إلها آخر فتقعد مذموما مخذوال'}(اإلسراء‪)22‬‬
‫{قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا البتغوا إلى ذي العرش سبيال' سبحانه وتعالى عما يقولون علوا‬
‫كبيرا'}(اإلسراء‪)31‬‬
‫{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فال يملكون كشف الضر عنكم وال تحويال'}(اإلسراء‪)24‬‬
‫{أم اتخذوا آلهة من األرض هم ينشرون' لو كان فيهما آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب العرش‬
‫عما يصفون' ال يسأل عما يفعل' وهو يسألون' أم اتخذوا من دونه آلهة' قل هاتوا برهانكم' هذا ذكر من‬
‫معي وذكر من قبلي' بل أكثرهم ال يعلمون الحق فهم معرضون' وما أرسلنا من قبلك من رسول إال‬
‫يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء‪)22 ..20‬‬
‫{ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما تدعون من دونه هو الباطل وأن هللا هو العلي الكبير'}(الحج‪)41‬‬
‫{ما اتخذ من ولد وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض' سبحان هللا‬
‫عما يصفون'}(المؤمنون‪)22‬‬
‫{ومن يدع مع هللا إلها آخر ال برهان له به فإنما حسابه عند ربه' إنه ال يفلح الكافرون'}‬
‫(المؤمنون‪)008‬‬
‫{فال تدع مع هللا إلها آخر فتكون من المعذبين'}(الشعراء‪)202‬‬
‫‪18‬‬

‫{أ ّم ن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء واألرض' أإله مع هللا' قل هاتوا برهانكم إن كنتم‬
‫صادقين'}(النمل‪)44‬‬
‫{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون' ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم‬
‫فعلموا أن الحق هلل وضل عنهم ما كانوا يفترون'}(القصص‪)72-73‬‬
‫{ وال تدع مع هللا إلها آخر' ال إله إال هو' كل شيء هالك إال وجهه' له الحكم' وإليه‬
‫ترجعون'}(القصص‪)88‬‬
‫{وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا هللا واتقوه' ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون' إنما تعبدون من دون هللا‬
‫أوثانا وتخلقون إفكا' إن الذين تعبدون من دون هللا ال يملكون لكم رزقا' فابتغوا عند هللا الرزق'‬
‫واعبدوه' واشكروا له' إليه ترجعون'}(العنكبوت‪)04-02‬‬
‫{مثل الذين اتخذوا من دون هللا أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا' وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت‬
‫لو كانوا يعلمون' إن هللا يعلم ما تدعون من دونه من شيء' وهو العزيز الحكيم' وتلك األمثال نضربها‬
‫للناس' وما يعقلها إال العالمون'})العنكبوت‪)31 ..30‬‬
‫{ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن هللا هو العلي الكبير'}(لقمان‪)22‬‬
‫{قل ادعوا الذين زعمتم من دون هللا' ال يملكون مثقال ذرة في السماوات وال في األرض' وما لهم‬
‫فيهما من شرك' وما له منهم من ظهير'}(سبإ‪)22‬‬
‫{أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر ال تغن عني شفاعتهم شيئا وال ينقذون' إني إذا لفي‬
‫ضالل مبين'}(يس‪)21-22‬‬
‫{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون هللا فاهدوهم إلى صراط‬
‫الجحيم'}(الصافات‪)21‬‬
‫{وإن من شيعته إلبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال ألبيه وقومه ماذا تعبدون' أإفكا آلهة دون هللا‬
‫تريدون' فما ظنكم برب العالمين'}(الصافات‪)87 ..81‬‬
‫{فراغ إلى آلهتهم قال أال تأكلون'}(الصافات‪)0‬‬
‫‪19‬‬

‫{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله هللا على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة‬
‫فمن يهديه من بعد هللا' أفال تذكرون'}(الجاثية‪)22‬‬
‫{فلوال نصرهم الذين اتخذوا من دون هللا قربانا آلهة' بل ضلوا عنهم' وذلك إفكهم وما كانوا‬
‫يفترون'}(األحقاف‪)27‬‬
‫{ألقيا في جهنم كل كفار عنيد' مناع للخير معتد مريب' الذي جعل مع هللا إلها آخر' فألقياه في العذاب‬
‫الشديد'}(ق‪)24‬‬
‫{أم لهم إله غير هللا' سبحان هللا عما يشركون'}(الطور‪)30‬‬
‫الصيغة الثالثة‪:‬‬
‫لما كان الحق يشهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬وأنه سبحانه هو الحق‪ ،‬وأن ما يدعون من دونه الباطل‪ ،‬كان‬
‫لزاما وحقا أال يعبد إال هو سبحانه وتعالى؛ وهذا هو الذي تفيده الصيغة الثالثة مما جاء في قوله‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫{وإلى عاد أخاهم هودا' قال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره' إن أنتم إال مفترون'}(هود‪)21‬‬
‫{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار' ما تعبدون من دونه إال أسماء‬
‫سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم'‬
‫ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف‪)31-12‬‬
‫{فال تجعلوا هلل أندادا وأنتم تعلمون'}(البقرة‪)22‬‬
‫{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ال تعبدون إال هللا'}(البقرة‪)81‬‬
‫{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا هلل إن كنتم إياه تعبدون'}(البقرة‪)072‬‬
‫{إن هللا ربي وربكم فاعبدوه' هذا صراط مستقيم'}(آل عمران‪)20‬‬
‫{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به شيئا وال يتخذ‬
‫بعضنا بعضا أربابا من دون هللا' فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون'}(آل عمران‪)41‬‬
‫‪20‬‬

‫{واعبدوا هللا وال تشركوا به شيئا'}(النساء‪)14‬‬


‫{إن المنافقين في الدرك األسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إال الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا‬
‫باهلل وأخلصوا دينهم هلل فأولئك مع المؤمنين' وسوف يؤت هللا المؤمنين أجرا عظيما'}(النساء‪-032‬‬
‫‪)034‬‬
‫{إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات واألرض حنيفا' وما أنا من المشركين'}(األنعام‪)81‬‬
‫{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم األمن وهم مهتدون'}(األنعام‪)81‬‬
‫{قل تعالوا أتل ما حرم رب كم عليكم أال تشركوا به شيئا' وبالوالدين إحسانا' وال تقتلوا أوالدكم من‬
‫إمالق' نحن نرزقكم وإياهم' وال تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن' وال تقتلوا النفس التي حرم‬
‫هللا إال بالحق' ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون' وال تقربوا مال اليتيم إال بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده'‬
‫وأوفوا الكيل والميزان بالقسط' ال نكلف نفسا إال وسعها' وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى' وبعهد هللا‬
‫أوفوا' ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون' وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه' وال تتبعوا السبل فتفرق بكم‬
‫عن سبيله' ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون'}(األنعام‪)023 ..022‬‬
‫{ق ل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم' دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا' وما كان من المشركين' قل إن‬
‫صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين' ال شريك له' وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين' قل‬
‫أغير هللا أبغي ربا وهو رب كل شيء' وال تكسب كل نفس إال عليها' وال تزر وازرة وزر أخرى' ثم‬
‫إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'}(األنعام‪)044 ..042‬‬
‫{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره' إني أخاف عليكم عذاب يوم‬
‫عظيم'}(األعراف‪)28‬‬
‫{وإلى عاد أخاهم هودا' قال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره أفال تتقون'}(األعراف‪)43‬‬
‫{قالوا أجئتنا لنعبد هللا وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من‬
‫الصادقين'}(األعراف‪)42‬‬
‫{وإلى ثمود أخاهم صالحا' قال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره'}(األعراف‪)72‬‬
‫{وإلى مدين أخاهم شعيبا' قال يا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله غيره'}(األعراف‪)83‬‬
‫‪21‬‬

‫{قل إنما أمرت أن أعبد هللا وال أشرك به' إليه أدعو' وإليه مئاب'}(الرعد‪)17‬‬
‫{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت' فمنهم من هدى هللا' ومنهم من حقت‬
‫عليه الضاللة' فسيروا في األرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين'}(النحل‪)14‬‬
‫{ال تجعل مع هللا إلها آخر فتقعد مذموما مخذوال'}(اإلسراء‪)22‬‬
‫{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة' وال تجعل مع هللا إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما‬
‫مدحورا'}(اإلسراء‪)12‬‬
‫{إنني أنا هللا ال إله إال أنا فاعبدني وأقم الصالة لذكري'}(طه‪)01‬‬
‫{وما أرسلنا من قبلك من رسول إال يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء‪)22‬‬
‫{إن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاعبدون'}(األنبياء‪)20‬‬
‫{ وإذ بوأنا إلبراهيم مكان البيت أن ال تشرك بي شيئا' وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع‬
‫السجود'}(الحج‪)23‬‬
‫{وأن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاتقون'}(المؤمنون‪)21‬‬
‫{وعد هللا الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في األرض كما استخلف الذين من قبلهم‬
‫وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا' يعبدونني ال يشركون بي شيئا'‬
‫ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون'}(النور‪)21‬‬
‫{يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون' كل نفس ذائقة الموت' ثم إلينا‬
‫ترجعون'}(العنكبوت‪)27-24‬‬
‫{وما لي ال أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون' أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر ال تغن‬
‫عني شفاعتهم شيئا وال ينقذون' إني إذا لفي ضالل مبين'}(يس‪)21 ..20‬‬
‫{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ال تعبدوا الشيطان' إنه لكم عدو مبين' وأن اعبدوني' هذا صراط‬
‫مستقيم'}(يس‪)41-22‬‬
‫‪22‬‬

‫{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون هللا فاهدوهم إلى صراط‬
‫الجحيم'}(الصافات‪)21‬‬
‫{وإن من شيعته إلبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال ألبيه وقومه ماذا تعبدون' أئفكا آلهة دون هللا‬
‫تريدون' فما ظنكم برب العالمين'}(الصافات‪)83 ..82‬‬
‫{إنه من عبادنا المؤمنين'}(الصافات‪)000‬‬
‫{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد هللا مخلصا له الدين' أال هلل الدين الخالص' والذين اتخذوا من دونه‬
‫أولياء ما نعبدهم إال ليقربونا إلى هللا زلفى' إن هللا يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون' إن هللا ال يهدي‬
‫من هو كاذب كفار'}(الزمر‪)3 ..2‬‬
‫{قل إني أمرت أن أعبد هللا مخلصا له الدين وأمرت ألن أكون أول المسلمين' قل إني أخاف إن‬
‫عصيت ربي عذاب يوم عظيم' قل هللا أعبد مخلصا له ديني' فاعبدوا ما شئتم من دونه' قل إن‬
‫الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة' أال ذلك هو الخسران المبين'}(الزمر‪)03 ..02‬‬
‫{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى هللا لهم البشرى' فبشر عباد الذين يستمعون القول‬
‫فيتبعون أحسنه' أولئك الذين هداهم هللا' وأولئك هم أولو األلباب'}(الزمر‪)07-04‬‬
‫{ضرب هللا مثال رجال فيه شركاء متشاكسون ورجال سلما لرجل' هل يستويان مثال' الحمد' بل‬
‫أكثرهم ال يعلمون'}(الزمر‪)28‬‬
‫{قل أفغير هللا تأمروني أعبد أيها الجاهلون'}(الزمر‪)40‬‬
‫{بل هللا فاعبد وكن من الشاكرين'}(الزمر‪)41‬‬
‫{فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود' إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن‬
‫خلفهم أال تعبدوا إال هللا' قالوا لو شاء ربنا ألنزل مالئكة فإنا بما أرسلتم به كافرون'}(فصلت‪)01-02‬‬
‫{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر' ال تسجدوا للشمس وال للقمر' واسجدوا هلل الذي خلقهن إن‬
‫كنتم إياه تعبدون'}(فصلت‪)14‬‬
‫{وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون'}(الذاريات‪)24‬‬
‫‪23‬‬

‫قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون‬
‫هللا' كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبد ا حتى تؤمنوا باهلل وحده إال قول إبراهيم ألبيه‬
‫ألستغفرن لك وما أملك لك من هللا من شيء' ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك‬
‫المصير'}(الممتحنة‪)3‬‬
‫{قل إنما أدعو ربي وال أشرك به أحدا'}(الجن‪)21‬‬
‫{وما أمروا إال ليعبدوا هللا مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة' وذلك دين‬
‫القيمة'}(البينة‪)2‬‬
‫{إليالف قريش إيالفه م رحلة الشتاء والصيف' فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم‬
‫من خوف'}(سورة قريش)‬
‫{إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر' إن شانئك هو األبتر'}(سورة الكوثر)‬
‫{قل يا أيها الكافرون ال أعبد ما تعبدون وال أنتم عابدون ما أعبد' وال أنا عابد ما عبدتم وال أنتم‬
‫عابدون ما أعبد ' لكم دينكم ولي دين'}(سورة الكافرون)‬
‫الصيغة‪ :‬الرابعة‪:‬‬
‫إن الحق ال يتبعض وال يختلف؛ ولدرء أي لبس فإننا نعني بالتبعض هنا حصول الصدق في جزء منه‬
‫دون غيره‪ ،‬وباالختالف اختالف التناقض والتضاد‪.‬‬
‫لقد رأينا في عدد من اآليات إفادة النسق الواحد من التركيب البياني واللغوي أكثر من صيغة واحدة‪.‬‬
‫هذا وإن حق رده إلى اآلية الكبرى والمعجزة األعظم للقرآن في حديثه و بيانه‪ ،‬فهو ال ينقض ما سبق‬
‫أن أشرنا إليه من استلزام هذه الحقائق المحكمة بعضها لبعض‪ .‬وما من شك أن الصيغة الجامعة‬
‫للصيغ جميعا هي التي تصل الشهادة بالحق بأمر الطاعة وحقيقة العبادة كما نتلوه في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ومن يبتغ غير اإلسالم دينا فلن يقبل منه وهو في اآلخرة من الخاسرين'}(آل عمران‪)82‬‬
‫{بلى من أسلم وجهه هلل وهو محسن فله أجره عند ربه وال خوف عليهم وال هم‬
‫يحزنون'}(البقرة‪)000‬‬
‫‪24‬‬

‫{ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك' وأرنا مناسكنا' وتب علينا' إنك أنت التواب‬
‫الرحيم'}(البقرة‪)027‬‬
‫{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إال من سفه نفسه' ولقد اصطفيناه في الدنيا' وإنه في اآلخرة لمن‬
‫الصالحين' إذ قال له ربه أسلم' قال أسلمت لرب العالمين' ووصى بها إبراهيم بنيه' ويعقوب يا بني إن‬
‫هللا اصطفى لكم الدين فال تموتن إال وأنتم مسلمون'}(البقرة‪)012 ..022‬‬
‫{فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي هلل ومن اتبعن' وقل للذين أوتوا الكتاب واألميين أأسلمتم' فإن أسلموا‬
‫فقد اهتدوا' وإن تولوا فإنما عليك البالغ' وهللا بصير بالعباد'}(آل عمران‪)21‬‬
‫{قل يا أهل الكتاب تعالوا إل ى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به شيئا وال يتخذ‬
‫بعضنا بعضا أربابا من دون هللا' فإن تولوا فقل اشهدوا بأنا مسلمون'}(آل عمران‪)41‬‬
‫{ما كان إبراهيم يهوديا وال نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما' وما كان من المشركين'}(آل عمران‪)44‬‬
‫{ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه هلل وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا' واتخذ هللا إبراهيم‬
‫خليال'}(النساء ‪)022‬‬
‫{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا'}(المائدة‪)3‬‬
‫{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون واألحبار‬
‫بما استحفظوا من كتاب هللا وكانوا عليه شهداء' فال تخشوا الناس واخشون' وال تشتروا بآياتي ثمنا‬
‫قليال' ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الكافرون'}(المائدة‪)33‬‬
‫{قل أغير هللا أتخذ وليا فاطر السماوات واألرض' وهو يطعم وال يطعم' قل إني أمرت أن أكون أول‬
‫من أسلم' وال تكونن من المشركين'}(األنعام‪)02‬‬
‫{قل إن هدى هللا هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين'}(األنعام‪)70‬‬
‫{فمن يرد هللا أن يهديه يشرح صدره لإلسالم' ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما‬
‫يصعد في السماء' كذلك يجعل هللا الرجس على الذين ال يؤمنون'}(األنعام‪)024‬‬
‫{قل إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له' وبذلك أمرت وأنا أول‬
‫المسلمين'}(األنعام‪)042-043‬‬
‫‪25‬‬

‫{فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم هللا وأن ال إله إال هو' فهل أنتم مسلمون'}(هود‪)03‬‬
‫{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤالء' ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل‬
‫شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين'}(النحل‪)82‬‬
‫{قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد' فهل أنتم مسلمون'}(األنبياء‪)017‬‬
‫{فإلهكم إله واحد' فله أسلموا'}(الحج‪)12‬‬
‫{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون' وجاهدوا في هللا حق‬
‫جهاده' هو اجتباكم' وما جعل عليكم في الدين من حرج' ملة أبيكم إبراهيم' هو سماكم المسلمين من‬
‫قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس' فأقيموا الصالة وآتوا الزكاة'‬
‫واعتصموا باهلل' هو موالكم' فنعم المولى' ونعم النصير'}(الحج‪)74-72‬‬
‫{إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء' وأمرت أن أكون من‬
‫المسلمين'}(النمل‪)21‬‬
‫{وال تجادلوا أهل الكتاب إال بالتي هي أحسن' إال الذين ظلموا منهم' وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا‬
‫وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون'}(العنكبوت‪)34‬‬
‫{وما أنت بهاد العمي عن ضاللتهم' إن تسمع إال من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون'}(الروم‪)22‬‬
‫{إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات‬
‫والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات‬
‫والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين هللا كثيرا والذاكرات أعد هللا لهم مغفرة وأجرا‬
‫عظيما'}(األحزاب‪)12‬‬
‫{قل إني أمرت أن أعبد هللا مخلصا له الدين وأمرت ألن أكون أول المسلمين'}(الزمر‪)02‬‬
‫{ومن أحسن قوال ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين'}(فصلت‪)12‬‬
‫باقي الصيغ‪:‬‬
‫‪26‬‬

‫وكما اتحدت هذه الصيغ وهذه النسق اللغوية والبيانية في داللتها على أمر واحد‪ ،‬األمر الحق بعبادة‬
‫هللا واجتناب الطاغوت‪ ،‬فكذلك الصيغ األخرى التي جاءت على غاية التناسق والحكمة في مواضعها‬
‫كقوله تعالى وهو العلي الحكيم‪:‬‬
‫{فإذا ركبوا في الفلك دعوا هللا مخلصين له الدين' فلما نجاهم إلى البر إذا هم‬
‫يشركون}(العنكبوت‪)44‬‬
‫{وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل' فإن انتهوا فإن هللا بما يعملون بصير'}(األنفال‪)12‬‬
‫{إن المنافقين في الدرك األسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا' إال الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا‬
‫باهلل وأخلصوا دينهم هلل فأولئك مع المؤمنين' وسوف يؤت هللا المؤمنين أجرا عظيما'}(النساء‪)032‬‬
‫{قل أمر ربي بالقسط' وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد' وادعوه مخلصين له الدين' كما بدأكم‬
‫تعودون'}(األعراف‪)28‬‬
‫{فإن تابوا وأقاموا الصالة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين' ونفصل اآليات لقوم يعلمون'}(التوبة‪)00‬‬
‫{وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين هلل' فإن انتهوا فال عدوان إال على الظالمين'}(البقرة‪)021‬‬
‫{إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف‪)31‬‬
‫{وله ما في السماوات واألرض' وله الدين واصبا' أفغير هللا تتقون'}(النحل‪)22‬‬
‫{وله من في السماوات واألرض' كل له قانتون'}(الروم‪)22‬‬
‫{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة هللا التي فطر الناس عليها ال تبديل لخلق هللا ذلك الدين القيم ولكن أكثر‬
‫الناس ال يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصالة وال تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم‬
‫وكانوا شيعا' كل حزب بما لديهم فرحون'}(الروم‪)10 ..22‬‬
‫{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا هللا مخلصين له الدين' فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد' وما يجحد‬
‫بآياتنا إال كل ختار كفور'}(لقمان‪)10‬‬
‫‪27‬‬

‫{ذلكم بأنه إذا دعي هللا وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا' فالحكم هلل العلي الكبير' هو الذي يريكم آياته‬
‫وينزل لكم من السماء رزقا' وما يتذكر إال من ينيب' فادعوا هللا مخلصين له الدين ولو كره‬
‫الكافرون'}(غافر‪)01 ..00‬‬
‫{إن الذين قالوا ربنا هللا ثم استقاموا فال خوف عليهم وال هم يحزنون'}(األحقاف‪)02‬‬
‫{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار'}(يوسف‪)12‬‬
‫{وما أمروا إال ليعبدوا هللا مخلصين له الدين ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة' وذلك دين‬
‫القيمة'}(البينة‪)2‬‬
‫{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم' دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا' وما كان من المشركين' قل إن‬
‫صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له' وبذلك أمرت' وأنا أول‬
‫المسلمين'}(األنعام‪)042 ..042‬‬
‫{إنه من عبادنا المؤمنين'}(الصافات‪)80‬‬
‫{إنهما من عبادنا المؤمنين'}(الصافات‪)022‬‬
‫{رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات' وال تزد الظالمين إال‬
‫تبارا'}(نوح‪)21‬‬
‫{قل إنما أدعو ربي وال أشرك به أحدا'}(الجن‪)21‬‬
‫{قل هو هللا أحد' هللا الصمد' لم يلد ولم يولد' ولم يكن له كفؤا أحد'}(سورة اإلخالص)‬
‫هذا وقد سلف ذكره واإلشارة إليه‪ ،‬قد تأتي الصيغتان أو أكثر مقترنة القتران حاصل في غرض‬
‫البيان‪ .‬ولعل األوضح واألبرز في هذا الباب من حيث الدرس والتبيان قوله عز وجل‪:‬‬
‫{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار' ما تعبدون من دونه إال أسماء‬
‫سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل هللا بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين‬
‫القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف‪)31-12‬‬
‫‪28‬‬

‫{تنزيل الكتاب من هللا العزيز الحكيم' إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد هللا مخلصا له الدين' أال هلل‬
‫الدين الخالص' والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إال ليقربونا إلى هللا زلفى' إن هللا يحكم بينهم‬
‫في ما هم فيه يختلفون' إن هللا ال يهدي من هو كاذب كفار' لو أراد هللا أن يتخذ ولدا الصطفى مما‬
‫يخلق ما يشاء' سبحانه' هو هللا الواحد القهار'}(الزمر‪)2 ..0‬‬
‫وكذلك اآليات األخيرة‪ ،‬وما يصطلح عليه أحيانا بالغاية‪ ،‬من سورة األنعام‪.‬‬
‫هذا بيان القرآن العظيم وصيغ حديثه أحسن الحديث‪ ،‬ومن أحسن من هللا حديثا !‬
‫الصيغ هاته هي من لدن حكيم حميد‪ ،‬خطابها يفي باألمر كله‪ ،‬بيانا للحق والدعوة إليه؛ فما لهؤالء‬
‫القوم ال يكادون يفقهون حديثا؟!‬
‫ذلك‪ ،‬وإن كان حقا أننا لم نأت بكل اآليات في كل قسم من هاتيك األقسام ولم نحط بها ذكرا‪ ،‬فإن ما لم‬
‫نذكره ليس بأكثر عددا وال أرجح مما ذكر‪ .‬فإن هللا جل وعال‪ ،‬وهو أعلم وهو أحكم الحاكمين‪ ،‬اختار‬
‫لكالمه وكلمه كما اختار واصطفى الصفوة ألمره ورسالته‪ ،‬وما كان لهم الخيرة من بعده؛ ومن لم‬
‫يجعل هللا له نورا فما له من نور‪ .‬ومن أشرب وأعماه التقليد‪ ،‬تقليد الشيوخ فيما يلفظونه حقا وغير‬
‫حق‪ ،‬فإنما هم كالذين من قبلهم {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم‬
‫مقتدون'}(الزخرف‪)22‬؛ إنهم مثلهم ويحذون حذوهم ويحسبون أنهم الفرقة الناجية والعياذ باهلل‪ .‬ولقد‬
‫ذم سبحانه وتعالى من جعل عالما وحبرا من العلماء واألحبار هو عقله‪ ،‬أي قلبه‪ ،‬الذي يعقل به‪ ،‬وإن‬
‫بدل في النهج أ مرا كما هو الحال هنا فاحش في مقول التقسيم التوحيدي كما يزعمون‪ ،‬وإن قدم من‬
‫بين يدي هللا ورسوله وبدل في بيان الوحي وأسماء األصول العليا للدين وصيغ الدعوة إليه‪ ،‬التي ال‬
‫حق للتصرف فيه وتبديلها‪ ،‬إن بدل تبعه على أمره ذلك‪.‬‬
‫إن الذي يزعمون التدليل عليه وتسميته بالتوحيد لهو أعلى األمر وأصله كله؛ وقد أجمع العلماء‬
‫الراسخون أنه ال يحق أن يطلق على حقيقة هذه درجتها وال على أسماء أركان اإلسالم وما كان من‬
‫حقائق الشرع العليا‪ ،‬ال يجوز بحال من األحوال حتما ومطلقا تبديلها وتغييرها‪ .‬أوال يكفي هؤالء أن‬
‫يخلو القرآن العظيم وهو كالم ذي العزة والجبروت وهو أحسن الحديث‪ ،‬أن يخلو من كلمة ولفظ‬
‫(التوحيد) مطلقا؟!‬
‫هذا بالغ وليعلموا أن مشروعية طرح السؤال مشروعية ثابتة‪ .‬هذا أول البرهان‪ ،‬ثم إنه كما سوف‬
‫يستبين أمره‪ ،‬أن هذا اللفظ ال يحق البتة أن يسند مطلقا لذات هللا األحد الصمد؛ وسبحان هللا عما‬
‫يصفون !‬
‫‪29‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫الدليل االستقرائي في السنة‬

‫السنة النبوية يكون اعتبارها ووجه النظر إليها من خالل قوله عز وجل‪:‬‬
‫{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون'}(النحل ‪)33‬‬
‫وقوله سبحانه‪:‬‬
‫{فاتقوا هللا يا أولي األلباب' الذين آمنوا قد أنزل هللا إليكم ذكرا' رسوال يتلو عليكم آيات هللا مبينات‬
‫ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور' ومن يؤمن باهلل ويعمل صالحا ندخله‬
‫جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن هللا له رزقا' هللا الذي خلق سبع سماوات‬
‫ومن األرض مثلهن' يتنزل األمر بينهن لتعلموا أن هللا على كل شيء قدير وأن هللا قد أحاط بكل شيء‬
‫علما'}(الطالق ‪)02 ..01‬‬
‫{والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى' وما ينطق عن الهوى إن هو إال وحي يوحى'}(النجم‬
‫‪)3 ..0‬‬
‫السنة بيان وتبليغ لما أنزل من الكتاب‪ ،‬والرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬في حديثه وسيرته‪ ،‬وفي لسانه‬
‫ومعجمه‪ ،‬هو على ذات اللسان والنهج في الخطاب الحكيم الذي نزل به القرآن‪ .‬فكلمه وخطابه عليه‬
‫الصالة والسالم هو من ذات اللسان والكلم والمعجم الذي نزل به القرآن‪ ،‬لسانا وكلما محكما‪ ،‬أتى‬
‫للعالمين خطابا مجيدا وحديثا معجزا‪ .‬ومن تمة فإن الناظر لمعجم الحديث سيلفيه للمعجم القرآني سيا‬
‫ال يخرج عنه‪ .‬وأخص ما في ذلك التعبير عن األصول والحقائق العليا للدين‪ ،‬التي منها وأهمها ال‬
‫مرية التعبير والداللة عن مسمى وحقيقة عبادة هللا واجتناب الطاغوت‪ ،‬الحقيقة التي بعث بها هللا‬
‫تعالى الرسل جميعا‪.‬‬
‫إن ما جاء في حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من الحديث والكلم‪ ،‬ليس فيه كما هو الشأن في‬
‫القرآن العظيم الذي في الكفاء للبيان‪ ،‬ليس في حديثه عليه الصالة والسالم من هذا اإلسناد لكلمة‬
‫‪30‬‬

‫واللفظ اللغوي التوحيد تعبيرا عن هذه الحقيقة الكبرى لرسالة هللا عز وجل‪ .‬وما كان ينبغي للحق أن‬
‫يختلف‪ .‬والحق إ ن هذا اإلسناد في اللغة الصحيحة وفي ميزان الرحمان واألفئدة بمعنى العقول السوية‬
‫إسناد ال يصح وال يحق البتة؛ وهذا ما سيأتي بيانه والتدليل عليه وبرهانه بالغا مبينا‪ ،‬لئال يكون للمقلد‬
‫فيما ال يصح بعده حجة‪.‬‬
‫فهذه فيما يلي جل وغالب ما ثبت من الصيغ واأللفاظ والمعجم في حديثه وبيانه صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وهو القائل عليه الصالة والسالم‪ :‬بعثت بجوامع الكلم‪:‬‬
‫روى اإلمام البخاري رحمه هللا في صحيحه قال‪:‬‬
‫(" حدثنا مسدد قال‪ :‬حدثنا إسماعيل بن إبراهيم‪ ،‬أخبرنا أبو حيان التيمي‪ ،‬عن أبي زرعة‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال‪ :‬كان صلى هللا عليه وسلم بارزا يوما للناس‪ ،‬فأتاه رجل فقال‪ :‬ما اإليمان؟ قال‪ :‬اإليمان أن‬
‫تؤمن باهلل ومالئكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث‪ .‬قال‪ :‬ما اإلسالم؟ قال‪ :‬اإلسالم أن تعبد هللا وال‬
‫تشرك به‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤدي الزكاة المفروضة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ .‬قال‪ :‬ما اإلحسان؟ قال‪ :‬أن تعبد‬
‫هللا كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك‪ .‬قال‪ :‬متى الساعة؟ قال‪ :‬ما المسؤول عنها بأعلم بالسائل‪،‬‬
‫وسأخبرك عن أشراطها‪ :‬إذا ولدت األمة ربها‪ ،‬وإذا تطاول رعاة اإلبل البهم في البنيان‪ ،‬في خمس ال‬
‫يعلمهن إال هللا‪ ،‬ثم تال النبي صلى هللا عليه وسلم‪{:‬إن هللا عنده علم الساعة}(لقمان ‪ )13‬ثم أدبر‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬ردوه‪ ،‬فلم يروا شيئا‪ ،‬فقال‪ :‬هذا جبريل‪ ،‬جاء يعلم الناس دينهم‪".‬‬
‫عن أبي هريرة‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم لبالل‪" :‬أخبرني بأرجى عمل عملته في اإلسالم؟ قال‪:‬‬
‫ما عملت عمال أرجى عندي أني لم أتطهر إال صليت‪ ،‬وسئل أي العمل أفضل؟ قال‪ :‬إيمان باهلل‬
‫ورسوله ثم الجهاد ثم حج مبرور"‬
‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي هللا عنه‪" :‬هل تدري ما حق هللا على‬
‫عباده؟ قلت‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬حق هللا على عباده أن يعبدوه وال يشركوا به شيئا‪".‬‬
‫الحديث‪ -7321‬حدثنا إبراهيم بن المنذر‪ ،‬حدثني محمد بن فليح قال‪ :‬حدثني أبي‪ ،‬حدثني هالل عن‬
‫عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"من آمن باهلل ورسوله وأقام الصالة وصام رمضان كان حقا على هللا أن يدخله الجنة‪ ،‬هاجر في‬
‫سبيل هللا أو جلس في أرضه التي ولد فيها"‬
‫قالوا‪ :‬يا رسول هللا أفال ننبئ الناس بذلك؟‬
‫‪31‬‬

‫قال‪" :‬إن في الجنة مائة درجة أعدها هللا للمجاهدين في سبيله‪ ،‬كل درجتين ما بينهما كما بين السماء‬
‫واألرض؛ فإذا سألتم هللا فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة‪ ،‬وفوقه عرش الرحمان‪،‬‬
‫ومنه تفجر أنهار الجنة‪".‬‬
‫وفي الباب ‪ -031‬قال النبي عليه السالم لعلي رضي هللا عنه يوم خيبر‪:‬‬
‫"أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم‪ ،‬ثم ادعهم إلى اإلسالم‪ ،‬وأخبرهم بما يجب عليهم‪ ،‬فوهللا ألن‬
‫يهدي هللا بك رجال خير لك من أن يكون لك حمر النعم‪".‬‬
‫ح‪ -2784‬حدثنا أبو اليمان‪ :‬أخبرنا شعيب عن الزهري قال‪ :‬حدثني عطاء بن يزيد الليتي‪ :‬أن أبا‬
‫سعيد الخدري رضي هللا عنه حدثه قال‪ :‬قيل يا رسول هللا‪ ،‬أي الناس أفضل؟ فقال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪:‬‬
‫"مؤمن يجاهد في سبيل هللا بنفسه وماله"‬
‫قالوا‪ :‬ثم من؟‬
‫قال‪" :‬مؤمن في شعب من الشعاب يتقي هللا ويدع الناس من شره‪".‬‬
‫‪ :2432-2430‬عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"ما يصيب المسلم من نصب وال وصب‪ ،‬وال هم وال حزن‪ ،‬وال أذى وال غم‪ ،‬حتى الشوكة يشاكها‪،‬‬
‫إال كفر هللا بها من خطاياه‪".‬‬
‫‪ -2431‬عن عبد هللا بن كعب عن أبيه عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"مثل المؤمن كالخامة من الزرع‪ ،‬تفيئها الريح مرة وتعدلها مرة‪ ،‬ومثل المنافق كاألرزة ال تزال حتى‬
‫يكون انجعافها مرة واحدة"‬
‫‪ -4130‬عن أنس بن مالك رضي هللا عنه قال‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"ال يجد أحد حالوة اإليمان حتى يحب المرء ال يحبه إال هلل‪ ،‬وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن‬
‫يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه هللا‪ ،‬وحتى يكون هللا ورسوله أحب إليه مما سواهما‪''.‬‬
‫وأفرد البخاري رحمه هللا في صحيحه في كتاب اإليمان بابا أسماه‪:‬‬
‫‪32‬‬

‫باب‪ :‬الدين يسر‪ ،‬وقول النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬


‫"أحب الدين إلى هللا الحنيفية السمحة"‬
‫‪ -4311‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال أبو القاسم صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"في يوم الجمعة ساعة ال يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل هللا خيرا إال أعطاه"‬
‫‪ -2232‬قال مطرف عن عامر عن البراء‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"من ذبح بعد الصالة تم نسكه وأصاب سنة المسلمين"‬
‫‪ -1724‬حدثنا مكي بن إبراهيم‪ :‬حدثنا هاشم بن هاشم‪ ،‬عن عامر بن سعد عن أبيه قال‪:‬‬
‫<لقد رأيتني وأنا ثلث اإلسالم>‬
‫ساق البخاري هذا الحديث في باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ -4228‬حدثني محمد بن بشار‪ :‬حدثنا غندر‪ :‬حدثنا شعبة‪ ،‬عن أبي إسحاق‪ ،‬عن عمر ابن ميمون‪،‬‬
‫عن عبد هللا قال‪:‬‬
‫كنا مع النبي في قبة فقال‪" :‬أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم‪ ،‬قال‪" :‬أترضون أن تكونوا‬
‫ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم‪ ،‬قال‪" :‬أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قلنا نعم‪ ،‬قال‪" :‬والذي نفسي‬
‫بيده إني ألرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة‪ ،‬وذلك أن الجنة ال يدخلها إال نفس مسلمة‪ ،‬وما أنتم في‬
‫أهل الشرك إال كالشعرة البيضاء في جلد الثور األسود‪ ،‬أو الشعرة السوداء في جلد الثور األحمر‪".‬‬
‫وعن أبي هريرة أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا‪ ،‬وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها‪ ،‬فإنه يرجع من‬
‫األجر بقيراطين‪ ،‬كل قيراط مثل أحد‪ ،‬ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط"‬
‫ويقول هللا ذو الجالل واإلكرام الذي نزل القرآن العظيم أحسن الحديث وأرسل رسوله محمدا صلى هللا‬
‫عليه وسلم بلسن عربي مبين‪ ،‬يقول سبحانه ومن أصدق من هللا قيال‪:‬‬
‫{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا'}(المائدة ‪)3‬‬
‫‪33‬‬

‫إن هللا تعالى لم يذكر ولم يأت سبحانه‪ ،‬وهو أعلم‪ ،‬والناس ال يعلمون؛ لم يذكر ولم يأت سبحانه بذكر‬
‫لفظ التوحيد وال صيغه الفعلية مسندا إلى ذاته العلية ألن هذا اإلسناد ال يصح؛ أال إن الواحد ال يتعدد‬
‫فيتوحد! وهللا سبحانه هو األحد الصمد‪ .‬وكل ما اعتمده الشيطان وليجة وتلبيسا في هذا الشأن البياني‬
‫العظيم‪ ،‬الذي هو من صميم وجوهر الدين والتنزيل‪ ،‬كل أولئك داحض مما سيأتي دحضه بعون هللا‬
‫العليم‪ ،‬ببرهان الحق والعلم المكين في هذا السفر عبر أبوابه وفصوله‪.‬‬
‫ثم هل يجد هؤالء المقلدون في القول لكل ما يلفظه أحبارهم ال يلوون على نور من الدين قد كمل‬
‫ضياؤه‪ ،‬محجة ب معالم الدين محكما بيانها ممن نزل الكتاب والقرآن المبين‪ ،‬هل يجدون في بيان‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لفظ المو ّحد بدل المسلم أو لفظ نفس مو ّحدة بدل نفس مؤمنة؟؟!‬
‫إنهم لن يجدوا ذلك يقينا‪ ،‬ألن الحق ال يختلف وهللا أحد صمد ال يتعدد؛ وإنه ال يو ّحد إال المتعدد‪ .‬ولكن‬
‫الناس جبلوا على التقليد إال بقية من أهل العلم يؤمنون ويعلمون ويقدرون األمور منازلها وقدرها؛‬
‫فليس حقا من القول ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه إال الوحي الكريم‪.‬‬
‫‪34‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫التقييم االستداللي‬

‫‪ -1‬درجة الموضوع والدليل اإلحصائي‪:‬‬


‫روى البخاري في صحيحه في كتاب االعتصام بالكتاب والسنة قال‪:‬‬
‫حدثنا الحميدي‪ :‬حدثنا سفيان‪ ،‬عن مسهر وغيره‪ ،‬عن قيس بن مسلم‪ ،‬عن طارق بن شهاب قال‪ :‬قال‬
‫رجل من اليهود لعمر‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لو أن علينا نزلت هذه اآلية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت‬
‫عل يكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا'} التخذنا ذلك اليوم عيدا؛ فقال عمر‪ :‬إني ألعلم أي يوم نزلت‬
‫هذه اآلية‪ ،‬نزلت يوم عرفة‪ ،‬في يوم الجمعة‪)7248(.‬‬
‫ثم ال مندوحة ‪ ،‬ونحن بهذا الصدد في شأن من الدين واألصول عظيم‪ ،‬شأن البيان العلي الحكيم‪ ،‬ال‬
‫مندوحة عن ذكر لزوم ووجوب رد ما تنوزع فيه إلى هللا ورسوله؛ فذلك خير وأحسن تأويال‪ .‬ومن‬
‫يبتغ غير بيان هللا ورسوله في أصول الدين وشعائره ومسمياته الكبرى فقد ضل ضالال مبينا‪ ،‬ولو‬
‫كان في حسبان نفسه يظن أنه أعلم الناس بالدين‪ ،‬أو اعتبره عامتهم كذلك بما أشربوه‪ ،‬من حب التقليد‬
‫المنبوذ شرعا‪ ،‬ومن سوء التصور واإلدراك للمعنى السليم والسوي للشيخ‪ .‬فكيف يقحمون لفظ‬
‫التوحيد‪ ،‬ونراهم أكيدا ال يعلمون منفطره وأصله البياني الذي انبثق فيه‪ ،‬يقحمونه ويستبدلونه بما هو‬
‫من األصل البياني واألصل في الدين‪ ،‬الذي كمل واختاره من له الخيرة سبحانه وله العلم؟ يستبدلون‬
‫لفظ التوحيد بما هللا تعالى أعلمنا أنه أحسن الحديث وأحكم البيان والكلم‪ ،‬وأصح صيغ الخطاب‪ .‬إن هللا‬
‫تعالى لم يقل الموحد والموحدون والموحدات بل المسلم والمسلمون والمسلمات والمؤمن والمؤمنون‬
‫والمؤمنات‪ .‬وإن هللا ذا العزة والجبروت لم يقل في تسمية والداللة على أعظم شأن وحقيقة في الدين‪،‬‬
‫لم يقل سبحانه التوحيد‪ ،‬بل اإلسالم واإليمان؛ فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا؟! ومن قال‬
‫واستدرك أو خال وحسب نفسه على شيء مستدركا‪ ،‬من قال‪ :‬إنما هو بيان وال مشاحة في‬
‫االصطالح‪ .‬قلنا له يا هذا! إن هذه المقولة في قدر ما تسري به‪ ،‬وقدر هذا الشأن من البيان ألعظم مما‬
‫بين الثرى والثريا وما بين األرض والسماء! إن هذه مساحتها فيما له أصال جواز التصرف واالتفاق‬
‫مما هو جلي من معنى االصطالح ذاته؛ فال ينبغي أن نأخذ كل ما يلفظه الناس على عواهنه فنردده‬
‫‪35‬‬

‫بغير فقه وال إدراك‪ .‬أما هذه الدرجة من البيان فهي من صميم وجوهر الدين والتنزيل؛ ومن لم يتسع‬
‫إدراكه ويسمو تصوره وميزانه وقلبه بمعنى عقله لهذا‪ ،‬فقمن به أن يصغي‪ ،‬عساه بإذن العزيز‬
‫الوهاب أن يهتدي ويرزق سلما أعلى؛ أما التكبر والتقليد فذلك وقر في اآلذان‪ ،‬وحجاب دون العلم‪،‬‬
‫وأكنة دون نور العلم الحق‪.‬‬
‫يقول هللا تعالى في القرآن العظيم‪:‬‬
‫{حم' والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون' وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي‬
‫حكيم'}(الزخرف‪)1 ..0‬‬
‫{حم' تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون}(فصلت‪)2-0‬‬
‫أال تفيدنا هذه اآليات البينات بأن كتاب هللا مبين حقا‪ ،‬وأنه كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا؟‬
‫وهل يحق لنا أن نستبدل تعبيرنا القاصر واألدنى بالتعبير الذي نزل به القرآن العظيم‪ ،‬التعبير العلي‬
‫الحكيم‪ ،‬والمجيد المعجز بإحاطته الكاملة لمجال وأحوال العالمين إلى يوم الدين؟‬
‫ال جرم أن من ابتغى البيان والتعبير للدين وأعلى أصوله في غير تعبير القرآن والسنة أنه على غير‬
‫الصواب؛ والرجوع إلى الحق أحب عند هللا تعالى وآية بينة قوية على العلمية والرسوخ في العلم‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{هللا نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني' تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم‬
‫وقلوبهم إلى ذكر هللا' ذلك هدى هللا يهدي به من يشاء' ومن يضلل هللا فما له من هاد'}(الزمر‪)22‬‬
‫فالضالل كل الضالل أن نستبدل لفظ التوحيد أو أي لفظ غيره‪ ،‬مما لم يذكر في القرآن وال في كالم‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أو ذكر على غير درجة وقدر ما يراد أن يسمى به من الشأن‪ ،‬أن‬
‫نستبدل هذا اللفظ مما لم يختره هللا ذو العزة والجبروت بما جاء في أحسن الحديث‪ ،‬الذي ال مرية وال‬
‫عقل لمن يجادل في أنه أصح األسماء والكلم ألعلى البيان في الدين والرسالة؛ ومن لم يجعل هللا له‬
‫نورا فما له من نور‪ .‬فوربك ال يؤمن أحد حتى يكون هللا ورسوله أحب إليه مما وجد نفسه عليه من‬
‫التقليد‪ ،‬ومن ترديد أقوال يعلم أنها ليست بقرآن وال سنة ثابتة صحيحة!‬
‫‪36‬‬

‫إننا ال زلنا ننظر إلى السؤال في جانبه الذي ال ينبغي التقديم عليه من ناحية التأصيل‪{ :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا ال تقدموا بين يدي هللا ورسوله' واتقوا هللا' إن هللا سميع عليم'}(الحجرات‪ )0‬ننظر إليه على‬
‫وصل وارتكازا مفسرا ومؤوال بمقولة السلم أو ثنائية (أصل‪ -‬فرع)‪.‬‬
‫المعنى إذا من هذه الناحية وهذا الجانب‪ ،‬يمثل بوضوح أكثر فيجليه على صريح وفصيح القول كون‬
‫األمر البياني ها هنا على هذه الدرجة العلية الحكيمة تنزيل شأنه شأن توقيفي؛ فال تصرف فيه‪ .‬كما‬
‫ال يجوز التصرف في ألفاظ وبيان التنزيل‪ ،‬الذي هو من جوهره‪ ،‬كالصالة والزكاة والصيام و صيغ‬
‫التكبير واألذان ‪ .‬فمن أذن لهم بهذا التحوير والتبديل في تسمية والتدليل على أعظم حقيقة في الدين‬
‫والوحي بلفظ التوحيد‪ ،‬وهو لم يذكر في القرآن وال في السنة ؟! والسر في عدم وروده نسبة لعقول‬
‫هؤالء هو باليقين عدم سالمته لغة وعقال‪ ،‬ذلك ما سيأتي بيانه ببرهان الحق أجلى من جلوة الشمس‬
‫بالنهار‪.‬‬
‫في هذا اإلطار‪ ،‬سنحاول أن نعرض للدليل اإلحصائي (الكمي) الذي يبقى تبعا لالنتماء الموضوعاتي‬
‫أقوى حجة وأسطع برهان‪{:‬قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين'}(البقرة‪ .)001‬ودرءا ألية شبهة‬
‫كانت في سؤال المصداقية المعيارية لهذا المؤشر الحق‪ ،‬المؤشر المرتكز باألساس لطبيعة أمر هللا‬
‫سبحانه وخلقه‪ ،‬من أجل ذلك نذكر أن هذا المعيار أساس ال بناء لعلمي الفقه و الحديث من دونه‪.‬‬
‫فيكفي لعلم الفقه قيامه على مفهوم الترجيح تالوة للحق في قوله عز وجل‪{:‬يسألونك عن الخمر‬
‫والميسر' قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس' وإثمهما أكبر من نفعهما'}(البقرة‪ )207‬فالرائز والعامل‬
‫هنا هو العامل الكمي؛ وفي علم الحديث يكفي استحضار مفهوم التواتر في المكون اإلسنادي‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬


‫‪37‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -2‬المؤشر اإلحصائي (الكمي) في القرآن‬

‫العدد‬ ‫اللفظ‬
‫‪42‬‬ ‫أشرك مصرفا‬
‫‪2‬‬ ‫مشرك‬
‫‪33‬‬ ‫المشركون (م‪ .‬ونكرة) معربة‬
‫‪2‬‬ ‫مشركة‬
‫‪1‬‬ ‫المشركات‬
‫‪1‬‬ ‫شريك‬
‫‪14‬‬ ‫شركاء مسندا‬
‫‪3‬‬ ‫الشرك‬

‫‪214‬‬ ‫آمن مصرفا‬


‫‪211‬‬ ‫مؤمن (م‪ .‬ونكرة مصرفا معربا)‬
‫‪32‬‬ ‫‪...‬‬ ‫اإليمان‬

‫‪022‬‬ ‫عبد مصرفا‬

‫‪ 1‬المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم‪ -‬وضعه محمد فؤاد عبد الباقي‪ -‬دار الحديث‪ -‬القاهرة‬
‫‪38‬‬

‫‪010‬‬ ‫عبد (م‪ .‬ونكرة مصرفا ومعربا)‬


‫‪02‬‬ ‫‪...‬‬ ‫عابد‬
‫‪2‬‬ ‫‪...‬‬ ‫عبادة‬

‫‪22‬‬ ‫أسلم مصرفا‬


‫‪32‬‬ ‫مسلم م‪ .‬ونكرة مصرفا ومعربا‬
‫‪8‬‬ ‫اإلسالم ‪...‬‬
‫‪2‬‬ ‫سلم مصرفا‬

‫‪2‬‬ ‫أخلص مصرفا‬


‫‪21‬‬ ‫مخلص (م‪ .‬ونكرة مصرفا ومعربا)‬

‫‪47‬‬ ‫واحدا‬
‫‪4‬‬ ‫وحده‬
‫‪0‬‬ ‫وحيدا‬

‫‪ : 1‬ال شيء‬ ‫وحّد مصرفا‬


‫‪ : 1‬ال شيء‬ ‫مو ّحد (م‪ .‬ونكرة مصرفا ومعربا)‬
‫‪39‬‬

‫‪ : 1‬ال شيء‬ ‫توحيد م‪ .‬ونكرة‬


‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫من خالل دليل معجم القرآن العظيم‪ ،‬ليس يظهر لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد‪ ،‬ليس يظهر‬
‫فحسب عدم تناسب عدد ذكر مادة (وحّد) ولفظها في القرآن‪ ،‬وال القدر العظيم لما تدل عليه في الوحي‬
‫الكريم والرسالة خاتمة رساالت هللا الحميد المجيد للعالمين‪ ،‬بل عدمها وخلوه منها مطلقا‪ ،‬سواء في‬
‫صيغة المصدر (التوحيد) أو في مطلق صيغه الفعلية‪ .‬وإن لم يكفهم أن هللا تعالى اختار وأنزل أحسن‬
‫الحديث فبأي عقل بعده يفقهون؟ ومن لم يفقه هذا المقتضى في ميزان الحق قسطاسا مستقيما‪ ،‬فلن‬
‫يكون أهال لضبط وفقه معيارية وثنائية األصول والفروع في الدين؛ ثم ال يكون بعدها حظ في العلمية‬
‫ولو ادعي ما ادعي من األسماء واأللقاب‪.‬‬
‫إن حرمة التصرف في ما أنزل هللا تعالى من األلفاظ المسمى بها الحقائق العليا واألركان في الدين‬
‫وبيانه األعلى وأركانه وشعائره‪ ،‬لم يكن من أمره تشديد وما كان إصرا‪ ،‬إن هو إال مقتضى في الحق‬
‫عظيم‪ ،‬من كنه الرسالة وشرطها العلمي جوهرا حقيقا بالسعة العلمية المطلقة‪ ،‬التي اختص بها هللا‬
‫جلت قدره ووسع علمه السماوات واألرض وما بينهما‪.‬‬
‫إن هللا تعالى اختار لرسالته المجيدة‪ ،‬وهو أحكم الحاكمين ما علمه سبحانه واسعا للمجال الخطابي‪.‬‬
‫وإنما الكلم والبيان هو من ذات الحامل لهذه الرسالة العظيمة المجيدة‪ ،‬وإنما معنى المجيد من السعة‪.‬‬
‫ولعل أعظم أو من أعظم وجوه اإلعجاز لكتاب هللا العزيز الحكيم هو في القوة والنور الوهاج الحكيم‬
‫والمجيد لخطابه؛ فهو أعظم من أن تؤثر فيه العوامل الزمنية والتاريخية‪ ،‬العوامل الحضارية‬
‫والحيوية المختلفة‪ ،‬التي يراها علماء األلسنية واالجتماع ذات تأثير في تحديد المناحي اللغوية في‬
‫أساليبها‪ ،‬بل وفي ألفاظها كذلك‪.‬‬
‫وجل الدراسات الحديثة في هذا المجال تؤكد هذه النظرية‪ .‬ويعلم الراسخون في العلم أن اللغة العربية‬
‫لم تصمد أمام هذه العوامل‪ ،‬ولم تزل صامدة أمام هذه الغزوات المتتالية‪ ،‬والكيد والمحاوالت الماكرة‪،‬‬
‫خصوصا تلك التي صاحبت المرحلة االستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين‪ ،‬لم تصمد إال‬
‫بفضل هللا تعالى رب العالمين أن جعلها لغة القرآن الكريم‪ ،‬الكتاب المجيد؛ يقول سبحان وتعالى‪{:‬إنا‬
‫نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون'}(الحجر‪)2‬‬
‫‪40‬‬

‫كما أن داللة المحكم لزم اعتبارها بمعناها الثبوتي‪ ،‬وعلى مستوى األصل والحقائق العليا في الدين‬
‫أيضا بالنسبة للفظ‪ ،‬ألنها من حفظ الوصل االتباعي والعلمي باألصل‪ ،‬واالجتهادات والدراسات التي‬
‫يقوم بها المصطفون من هذه األمة على مسار المحور التاريخي والشهودي‪ .‬فهذا ال شك من حكمة‬
‫حرمة التصرف في المحكم من لفظ القرآن والصيغ الدالة على الحقائق العليا واألصول في الدين‪،‬‬
‫ناهيك عن المحدودية المسلم بها في علم اإلنسان وآلياته المعرفية والبيانية‪ ،‬التي تعتبر اللغة‬
‫واألساليب والمفاهيم أهمها‪.‬‬

‫‪ -3‬المؤشر اإلحصائي (الكمي) في السنة‬


‫إذا علم أن كتاب هللا تعالى ليس فيه لفظ (التوحيد) وال صيغه الفعلية تصريفا في الداللة على إفراد هللا‬
‫بالعبادة وعدم اإلشراك به‪ ،‬وذلكم ال شك يكفي لذوي القلوب التي يعقلون بها اقتضاء لزاما لعدم التقديم‬
‫بين يدي هللا ورسوله أوال‪ .‬ثم إنه من بعد التسليم والتوقف في هذا الحيز من األمر فإن هللا تعالى هو‬
‫الذي يعلم‪ ،‬والناس مهما نال إدراكهم من المعرفة ال يعلمون؛ فهو جل وعال الذي يختار‪ ،‬وكان عز‬
‫وجل عليما حكيما‪ ،‬ب ما به تبليغ الدعوة والخطاب مجاال واسعا مجيدا‪ .‬فبيان األصول من األصول؛‬
‫ومن يفرق بين األصول وبيانها فليس له من إدراك معنى الجوهر والحقيقة وفقه اختالف الليل والنهار‬
‫آية‪ ،‬ليس له من ذلك مثقال ذرة وال ظل شعاع قبس‪..‬‬
‫إذا كان هذا في ميزان الرحمان كافيا وكفيال للحكم والحسم في حكم زلل وخطإ من بسبيل باتباع من‬
‫قبله‪ ،‬وبالتقليد‪ ،‬أصبح عنده لفظ التوحيد لفظ البيان والتدليل على أعلى حقيقة نزل بها القرآن العظيم‬
‫مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه‪ . .‬أال إن هللا تعالى‪ ،‬وما كان لهم الخيرة من بعده‪ ،‬اختار‬
‫وهو أحكم الحاكمين اإلشارة والداللة على هذا األمر العظيم بما اصطفاه سبحانه وتعالى من اللفظ‬
‫والكلم‪ ،‬باإليمان واإلسالم واإلحسان واإلخالص وعبادة هللا وعدم اإلشراك به‪ ،‬وبالمؤمن والمسلم‬
‫والمخلص دينه هلل والعابد هلل غير مشرك به‪ ،‬إلى غير هاته الصيغ المنزلة بعلم من لدن حكيم عليم ‪..‬‬
‫لئن كان فيه الكفاء يقينا لمن ال زال ينعم بنعمة الفكر السوي ونعمة القلب‪ ،‬أي العقل الذي وهبه إياه‬
‫ربه وخالقه سبحانه وتعالى‪ ،‬ولم يطمس نوره التقليد المذموم شرعا وتقديم قول الشيوخ على قول هللا‬
‫ذي العزة والجبروت وقول رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فإسباغا للنهج العلمي ومقتضاه وترسيخا‬
‫لإليمان وكسبا لليقين العلمي‪ ،‬الذي هو حجة القلوب الحية التي ال تقول كما قال األولون إنهم مقتدون‬
‫بشيوخهم وأن في آذانه م وقر وبينهم وبين البرهان بالحق المبين حجاب‪ ،‬من أجل ذلكم نعرض‬
‫‪41‬‬

‫للمؤشر الكمي واإلحصائي في السنة‪ ،‬في اللسان والكلم الذي ورد عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫وهو عليه الصالة والسالم أفصح من نطق بالضاد‪ ،‬أرسله هللا رب العالمين لبين للناس ما نزل إليهم‬
‫ولعلهم يتذكرون‪.‬‬
‫إن هذه المادة وهذا اللفظ‪ ،‬لفظ (التوحيد) بالمعنى المراد به‪ ،‬وكل مشتقاته وصيغه الصرفية على‬
‫تصريف هذه الداللة‪ ،‬ليس يلفى منها في صحيح البخاري إال لفظة واحدة‪ .‬وهذا العدد بالطبع‪ ،‬عدد‬
‫ورود المادة ليس مطلقا على قدر الشأن الذي تدل عليه وقدر وظيفته في بيان الرسالة والكتاب‪ .‬ثم هو‬
‫وإن ثبت أو اعتبر على احتمال األقصى ما يعتبر سنة صحيحة بالمعنى واالصطالح الحديثي‪ ،‬فينبغي‬
‫لزاما أن ينبه ويحتاط من المزج والخلط بين حقيقة الصحيح وحقيقة الثابت الحق بمعنى الواقع؛ إذ‬
‫رب حديث يصح اصطالحا ال أثر لمحموله من الوجود والواقع؛ ورب ما ضعف من الخبر واألثر‬
‫وهو عند هللا تعالى وفي الحق المبين حق وواقع وثابت‪ .‬كذلك فهذه اللفظة الواردة مرة واحدة في‬
‫حديث واحد‪ ،‬وليس في صيغة المصدر‪ ،‬وإنما في صيغة فعلية‪ ،‬قوتها العددية يردها قطعا باعتبار‬
‫األمر مرتبطا ومتصال ببيان الشأن األعلى المنزل في الدين والرسالة‪ ،‬يردها عدم ورود المادة في‬
‫جميع صيغها ال المصدرية وال الفعلية في القرآن العظيم‪ ،‬عدم ورودها البتة؛ لذلك فإنكارها مرجح‬
‫على قبولها؛ وقد تظاهرت الحجج على هذا الحكم؛ ولقد أشار ابن حجر العسقالني إلى هذا المعيار‬
‫بقوله‪:‬‬
‫<<تنبيهان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬الذي يظهر من تصرف البخاري في كتاب "التوحيد" أنه يسوق األحاديث التي وردت في‬
‫الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب ويؤيده بآية من القرآن لإلشارة إلى خروجها عن‬
‫أخبار اآلحاد على طريق التنزل في ترك االحتجاج بها في االعتقاديات‪ ،‬وأن من أنكرها خالف الكتاب‬
‫والسنة جميعا‪ .‬وقد أخرج اب ن حاتم في "كتاب الرد على الجهمية" بسند صحيح عن سالم بن أبي‬
‫مطيع‪ ،‬وهو شيخ من شيوخ البخاري‪ ،‬أنه ذكر المبتدعة فقال‪ :‬ويلهم ماذا ينكرون من هذه األحاديث؟‬
‫وهللا ما في الحديث شيء إال وفي القرآن مثله‪>>...‬‬
‫إن قول وذكر سالم بن أبي مطيع المبتدعة كونهم ينكرون من األحاديث ما في القرآن مثله‪ ،‬فكذلك‬
‫البناء على ما لم يرد في القرآن وليس فيه مثله خصوصا في االعتقاديات واألصول هو من حقيقة‬
‫البدعة واالبتداع‪.‬‬
‫أما الحديث الذي وردت فيه هذه اللفظة فهو ما رواه البخاري في صحيحه‪:‬‬
‫‪42‬‬

‫(ح‪" )7170‬حدثنا أبو عاصم‪ :‬حدثنا زكرياء بن إسحاق‪ ،‬عن يحيى بن عبد هللا ابن صيفي‪ ،‬عن أبي‬
‫معبد عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪ :‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن‪.‬‬
‫(ح‪ )7172‬وحدثني عبد هللا بن أبي األسود‪:‬حدثنا الفضل بن العالء‪ :‬حدثنا إسماعيل بن أمية‪ ،‬عن‬
‫يحي بن عبد هللا بن صيفي‪ :‬أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول‪:‬‬
‫سمعت ابن عباس يقول‪ :‬لما بعث النبي صلى هللا عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له‪:‬‬
‫"إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب‪ ،‬فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا هللا تعالى‪ ،‬فإذا عرفوا ذلك‪،‬‬
‫فأخبرهم أن هللا فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم‪ ،‬فإذا صلوا فأخبرهم أن هللا افترض‬
‫عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم‪ ،‬فإذا أقروا بذلك فخذ منهم‪ ،‬وتوق كرائم أموال‬
‫الناس‪".‬‬
‫هذه الرواية الوحيدة التي ذكر فيها شيء من هذا اللفظ‪ ،‬وهو لفظ (يوحدوا)‪ ،‬ولم يذكر في غيرها من‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬ال لفظ التوحيد وال صيغه الفعلية‪ ،‬نعني مسندا أو إسنادا للفظ الجالل‪.‬‬
‫لكن الحديث له روايات عدة؛ وقد يجوز الحكم على قيمة ذكر هذا اللفظ في رواية من هذه الروايات‬
‫بما بينه ابن حجر العسقالني في كالمه عن ورود لفظ "فإذا عرفوا هللا" في رواية من روايات نفس‬
‫الحديث إذ قال رحمه هللا بالحرف ما نصه‪:‬‬
‫<< واستدل بقوله‪( :‬يعني هنا رحمه هللا استدالل البيهقي رحمه هللا في كتابه االعتقاد كما هو مستفاد‬
‫من الجوار القبلي للكالم) "فإذا عرفوا هللا" بأن معرفة هللا بحقيقة كنهه ممكنة للبشر‪ ،‬فإن كان ذلك‬
‫مقيدا بما عرف به نفسه من وجوده وصفاته الالئقة من العلم والقدرة واإلرادة مثال‪ ،‬وتنزيهه عن كل‬
‫نقيصة كالحدوث فال بأس به‪ ،‬فأما ما عدا ذلك فإنه غير معلوم للبشر‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله تعالى‪{:‬وال‬
‫يحيطون به علما'}فإذا حمل قوله "فإذا عرفوا هللا" على ذلك كان واضحا مع أن االحتجاج به يتوقف‬
‫على الجزم بأنه صلى هللا عليه وسلم نطق بهذه اللفظة‪ ،‬وفيه نظر‪ ،‬ألن القصة واحدة ورواة هذا‬
‫الحديث اختلفوا‪ :‬هل ورد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره؟ فلم يقل صلى هللا عليه وسلم إال بلفظ منها‪،‬‬
‫ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة ال يتم االستدالل‪ .‬وقد بينت في أواخر (كتاب‬
‫الزكاة) أن األكثر رووه بلفظ "فادعهم إلى شهادة أن ال إله إال هللا وأن محمدا رسول هللا‪ ،‬فإن هم‬
‫أطاعوا لك بذلك"؛ ومنهم من رواه بلفظ "فادعهم إلى أن يوحدوا هللا‪ ،‬فإن هم عرفوا ذلك"؛ ومنهم من‬
‫رواه بلفظ "فادعهم إلى عبادة هللا‪ ،‬فإذا عرفوا هللا"‪ .‬ووجه الجمع بينها أن المراد بالعبادة التوحيد‪،‬‬
‫والمراد بالت وحيد اإلقرار بالشهادتين‪ .‬واإلشارة بقوله ذلك إلى التوحيد‪ ،‬وقوله‪" :‬فإذا عرفوا هللا أي‬
‫‪43‬‬

‫عرفوا توحيد هللا‪ .‬والمراد بالمعرفة اإلقرار والطواعية‪ .‬فبذلك يجمع بين هذه األلفاظ المختلفة في‬
‫‪2‬‬
‫القصة الواحدة؛ وباهلل التوفيق‪>>.‬‬
‫هكذا نجد في (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)‪ 3‬رواية لهذا الحديث‪:‬‬
‫قال‪" :‬وعن ابن عباس رضي هللا عنهما أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن‬
‫قال‪:‬‬
‫" إنك تأتي قوما من أهل الكتاب‪ ،‬فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ال إله إال هللا‪ -‬وفي رواية‪ :‬أن‬
‫يوحدوا هللا‪ -‬فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن هللا افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على‬
‫فقرائهم‪ .‬فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم‪ .‬واتق دعوة المظلوم‪ ،‬فإنه ليس بينها وبين هللا‬
‫‪4‬‬
‫حجاب"‬
‫ولننتبه جيدا إلى قول ابن حجر‪:‬‬
‫<< وقد بينت في أواخر " كتاب الزكاة " أن األكثر رووه بلفظ ‪:‬فادعهم إلى شهادة أن ال إله إال هللا‬
‫وأن محمدا رسول هللا>>‪.‬‬
‫كذلك فليعلم أننا هنا ال ننظر في ترجيح صحة اإلسناد ألنه قد علم بطالنه‪ ،‬وذلك الفتقاد التناسب في‬
‫قدر الورود عددا مع قدر و درجة الموضوع وشأن اإلسناد‪ ،‬بل لخلو القرآن الكريم من ذلك بتاتا‪ ،‬وهللا‬
‫تعالى جعل لكل شيء قدرا‪ .‬إذن فنحن ننظر في صدق وصحة صدور هذه األلفاظ ألنها تخالف القرآن‬
‫باعتبار موضوعها ودرجته وشأنه‪ ،‬كما أن داللتها اللغوية‪ ،‬كما سنرى ذلك الحقا‪ ،‬ال يحق إسنادها أو‬
‫إضافتها إلى اسم الجالل‪ ،‬إذ في هذا التركيب اللفظي (توحيد هللا)! مناقضة للحق واألمر األعلى في‬
‫الدين وكلمة أن ال إله إال هللا؛ فالواحد ال يو ّحد‪ ،‬وإنما يو ّحد المتعدد والجمع لعلهم يتذكرون‪ .‬والبرهان‬
‫كما أشرنا من بعد عدم ذكرها في القرآن هو الدليل اللغوي والعلمي‪ .‬فها نحن نوجه تفكيرنا بفضل هللا‬

‫‪2‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪ -‬اإلمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقالني(‪822 -771‬ه)‪ -‬دار الحديث‪ -‬القاهرة‪-‬كتاب التوحيد‪-‬‬
‫ص‪-111‬‬

‫‪ 3‬فتح المجيد شرح كتاب التوحيد‪ -‬عبد الرحمان بن حسن‬

‫‪–4‬أخرجاه‪-‬‬
‫‪44‬‬

‫تعالى أوال‪ ،‬ثم بهذه الكلمات الوازنة لعلماء راسخين ما نظنهم يطلقون األحكام دون إدراك أثرها‬
‫وقيمتها‪ ،‬نوجهه صوب ما نراه الحق بدليله وحجته‪.‬‬
‫في فتح الباري أيضا استدالل نجعله آخر الكالم في ما ذكر من هذه األلفاظ في مجمل الحديث النبوي‬
‫الشريف‪ ،‬نعني في رواياته مع اختالفها وتناقضها مع الحكمة ووجوب التناسق مع الشأن األعلى في‬
‫الدين‪ ،‬المراد لها في التعبير بذكره في القرآن من دون ذكرها هي؛ قال الحافظ فيما ورد عند البخاري‬
‫رحمه هللا في باب قوله تعالى‪ " :‬لما خلقت بيدي"‪:‬‬
‫<< وقال الخطابي لم يقع ذكر األصبع في القرآن وال في حديث مقطوع به‪ ،‬وقد تقرر أن اليد ليست‬
‫بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت األصابع‪ ،‬بل هو توقيف أطلقه الشارع فال يكيف وال يشبه‪ ،‬ولعل‬
‫ذكر األصابع من تخليط اليهودي‪ ،‬فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب‬
‫التشبيه وال تدخل في مذاهب المسلمين‪ .‬وأما ضحكه صلى هللا عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل‬
‫الرضا واإلنكار‪ .‬وأما قول الراوي " تصديقا له " فظن منه وحسبان‪ ،‬وقد جاء الحديث من عدة طرق‬
‫ليس فيها هذه الزيادة‪>>.‬‬
‫وقال أيضا في باب قول النبي صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬ال شخص أغير من هللا"‪:‬‬
‫<< وأما الخطابي فبنى على أن هذا التركيب يقتضي إثبات هذا الوصف هلل تعالى فبالغ في اإلنكار‬
‫وتخطئة الراوي؛ فقال‪ :‬إطالق الشخص في صفات هللا تعالى غير جائز ألن الشخص ال يكون إال‬
‫جسما مؤلفا‪ ،‬فخليق أن ال تكون هذه اللفظة صحيحة‪ ،‬وأن تكون تصحيفا من الراوي‪ ،‬ودليل ذلك أن‬
‫أبا عوانة روى هذا الخبر عن عبد الملك فلم يذكرها‪ ،‬ووقع في حديث أبي هريرة وأسماء بنت أبي‬
‫بكر بلفظ "شيء"‪ ،‬والشيء والشخص في الوزن سواء؛ فمن لم يمعن في االستماع لم يأمن الوهم‪.‬‬
‫وليس كل من الرواة يراعي لفظ الحديث حتى ال يتعداه‪ ،‬بل كثير منهم يحدث بالمعنى؛ وليس كلهم‬
‫فهما بل في كالم بعضهم جفاء وتعجرف‪ ،‬فلعل لفظ شخص جرى على هذا السبيل وإن لم يكن غلطا‬
‫‪5‬‬
‫من قبيل التصحيف يعني السمعي‪>>.‬‬
‫إن كان هذا من شهادات كبار العلماء والراسخين في العلم وهو يعرض لقضية ورود وذكر ألفاظ ال‬
‫يجادل أحد أنها دون خطر إسناد لفظ التوحيد مضافا ومسندا هلل تعالى سبحانه‪ ،‬ألن التوحيد يقتضي في‬

‫‪ 5‬فتح الباري‪ -‬كتاب التوحيد‪ -‬ص‪128‬‬


‫‪45‬‬

‫معناه وحقيقته شرط التعدد؛ إن كان ذلك‪ ،‬فاألولى واألحرى أن تعمل هذه الشهادات واألحكام على‬
‫التركيب الباطل‪ ،‬ألنه يراد به التعبير عن األصل األعلى في الدين يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت'}(النحل‪.)14‬‬
‫‪46‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫البرهان اللساني في بطالن إسناد لفظ التوحيد السم الجالل‬

‫‪ -1‬مفهوم الحقيقة اللغوية‬


‫ذكرنا في بدء حديثنا أن عربية القرآن الكريم أصل أولي من أصول العلم والدين‪ .‬وقد نزل اإلعالم‬
‫بهذا وورد ذكره في القرآن العظيم مؤكدا بمختلف ضروب األسلوب وبشتى أنحاء البيان؛ يقول هللا‬
‫تعالى‪:‬‬
‫{إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون'}(يوسف‪)2‬‬
‫{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون'}(الزخرف‪)2‬‬
‫{كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون}(فصلت‪)2‬‬
‫{وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا}(الشورى‪)2‬‬
‫الحقيقة اللغوية هي التي تجعلنا ال نطابق وال نفهم ذات الشيء والمعنى من قوله تعالى‪{:‬إنا أنزلناه في‬
‫ليلة القدر'}(القدر‪ )0‬وقوله‪{:‬إنا نحن ن َّزلنا عليك القرآن تنزيال'}(اإلنسان‪ .)21‬والحقيقة اللغوية هي‬
‫كذلك التي تلزم حفظ سالمة النطق ولزوم الضبط في اإلعراب عند تالوة اآلية الثالثة من سورة‬
‫براءة‪{:‬وأذان من هللا ورسوله إلى الناس يوم الحج األكبر أن هللا بريء من المشركين ورسوله'} حتى‬
‫ال يؤدي اللفظ بلحن إعرابي إلى تحريف القول‪ ،‬بل هنا يفضي إلى فاحش من القول عظيم وخالف‬
‫للحق مبين‪ .‬فلئن كان هذا خطر وتبعة اإلخالل واللحن في حركة إعرابية‪ ،‬فما بالك وإنه الحق ال‬
‫مرية أن الخطأ والزلة هاته في لفظ محوري يراد به ويزعمون التعبير به عن شيء عظيم في الدين‪،‬‬
‫ليس في حيز فقه وتفسير آية واحدة أو خبر واحد‪ ،‬وهو أمر أيضا كذلك ليس هينا‪ ،‬بل شأن هذا الخطإ‬
‫والزلة آيل إلى تحريف على مستوى البيان الكلي‪ ،‬المحدد ألهم وأعظم ما يؤسس عليه إطار الدين كله‬
‫والفقه الحق للتنزيل‪.‬‬
‫‪47‬‬

‫‪ -2‬الحقيقة اللغوية ومبدأ االختالف‪ -‬مفهوم العلية‪:6‬‬


‫التوحيد صيغة المصدر من فعل وحّد‪ ،‬على وزن فعّل‪ ،‬من األفعال العلية التي تحمل معنى الجهة‬
‫الممثل هنا بالحمولة الحدثية االستغراقية‪ ،‬أي أن الفعل غير متحقق بحدث آني‪ ،‬ومثل هذا فعل ن ّزل‬
‫االستغراقي المقابل ألنزل اآلني‪ .‬ولما كانت اللغة ترجمة للواقع وبيانا له‪ ،‬فعلية األفعال تكون في‬
‫تحقيقها وحقيقتها استغراقا واقعيا؛ ولو كان غير هذا النتفت وظيفة اللغة واختل نظام البيان‪ .‬فالمعاني‬
‫المستفادة من مختلف في األوزان والصيغ واأللفاظ هي تبعا للحقيقة اللغوية مختلفة لزاما وحتما‪.‬‬
‫فقولنا قتل وقتّل وقاتل وتقاتل ال تطابق في معاني صيغه‪ .‬التقتيل مثال يفيدنا علية الفعل بالمعنى‬
‫االستغراقي للحدث وكثافته‪ .‬ولهذا غالبا ما يلحق صنف هذه األفعال بالمفعول المطلق للداللة على‬
‫االستغراق واالنتشار أو الكثافة الحدثية‪ .‬ويمكن أن ننظر إلى الحقيقة اللغوية وتأصيلها انطالقا من‬
‫مبدإ االختالف الكوني‪ ،‬الذي جعله هللا تعالى أحكم الحاكمين سنة كونية وخلقية‪ .‬المبدأ هذا هو من‬
‫أوليات كل النظريات الرياضية‪ ،‬إذ جميعها تقوم وتنبني على مفهوم العنصر‪ ،‬الذي بدوره ال ينضبط‬
‫وال يقوم جوهرا إال من خالل عالقة ومفهوم االختالف؛ يقول الحق سبحانه‪{:‬وجعلنا الليل والنهار‬
‫آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضال من ربكم ولتعلموا عدد السنين‬
‫والحساب' وكل شيء فصلناه تفصيال'}(اإلسراء‪ .)02‬فلذلك كان هذا المبدأ أصال حقيقا مؤسسا عليه‬
‫التفكير والعلم اإلنسانيان‪.‬‬
‫ال مناص إذا من رد لفظ "التوحيد"‪ ،‬وتحديد معناه ومعنى صيغته الفعلية "وحّد"‪ ،‬إلى فقه اللغة‬
‫وميزانها‪ ،‬حتى ينجلي من خالله ويتم الوقوف على السبب المفسر لعدم مجيء هذا اللفظ أو هذه المادة‬
‫البيانية معنى ومبنى‪ ،‬تفسير عدم ورودها ومجيئها في الكتاب والسنة‪.‬‬
‫مما يعلم كون علية صيغة "فعّل" أقوى منها في صيغة "أفعل"؛ بيد أن هذا االنتقال الداللي من فعل‬
‫إلى أفعل ثم فعّل هو الذي يوضح بالفعل تبعية المعنى واختالفه بحسب اختالف الصيغ ومبانيها‪،‬‬
‫وكذلك معنى االستغراق والكثافة الحدوثية المميزة لصيغة "فعّل" بالنسبة لصيغة "أفعل"‪ .‬يقول‬
‫اإلمام سيبويه رحمه هللا‪:‬‬
‫هذا باب افتراق فعلت وأفعلت في الفعل للمعنى‬ ‫<<‬

‫‪ 6‬انظر‪ :‬أحمد المتوكل‪ -‬قضايا معجمية‬


‫‪48‬‬

‫تقول‪ :‬دخل وخرج وجلس‪ ،‬فإذا أخبرت أن غيره صيره إلى شيء من هذا قلت‪ :‬أخرجه وأدخله‬
‫وأجلسه‪.‬‬
‫وتقول‪ :‬فزع وأفزعته‪ ،‬وخاف وأخفته‪ ،‬وجال وأجلته‪ [،‬وجاء وأجأته]‪ ،‬فأكثر ما يكون على فًعل إذا‬
‫أردت أن غيره أدخله في ذلك يبنى الفعل منه على أفعلت‪ .‬ومن ذلك أيضا مكث وأمكثته‪.‬‬
‫وقد يجيء الشيء على فعّلت فيشرك أفعلت‪ ،‬كما أنهما قد يشتركان في غير هذا؛ وذلك قولك فرح‬
‫وفرّحته‪ ،‬وإن شئت قلت أفرحته‪ ،‬وغرم وغرّمته‪ ،‬وأغرمته إن شئت‪ ،‬كما تقول‪ :‬ف ّزعته وأفزعته‪.‬‬
‫ويقول رحمه هللا‪:‬‬
‫هذا باب دخول فعّلت على فعلت ال يشركه في ذلك أفعلت‬
‫تقول كسرتها وقطعتها‪ ،‬فإذا أردت كثرة العمل قلت‪ :‬كسّرته وقطّعته وم ّزقته‪ ،‬ومما يدلك على ذلك‬
‫قولهم‪ :‬علّطت البعير وإبل معلّطة وبعير معلوط‪ .‬وجرّحته وجرّحتهم‪ .‬وجرّحته أكثرت الجراحات في‬
‫جسده‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬ظل يفرّسها السبع ويؤ ّكلها‪ ،‬إذا أكثر ذلك فيها‪ .‬وقالوا م ّوتت وق ّومت‪ ،‬إذا أردت جماعة اإلبل‬
‫وغيرها‪ .‬وقالوا‪ :‬يج ّول أي يكثر الجوالن‪ ،‬ويط ّوف أي يكثر الجوالن‪ ،‬ويطوف أي يكثر التطويف‪.‬‬
‫واعلم أن التخفيف في هذا جائز‪ ،‬كله عربي‪ ،‬إال أن فعّلت إدخالها ههنا لتبيين الكثير‪ .‬وقد يدخل في‬
‫هذا التخفيف‪ .‬كما أن ال ّركبة والجلسة قد يكون معناهما في الركوب والجلوس‪ ،‬ولكن بينوا بها هذا‬
‫الضرب فصار بناء له خاصا كما أن هذا بناء خاص للتكثير‪ ،‬وكما أن الصوف والريح قد يكون فيه‬
‫معنى صوفة ورائحة‪.‬‬
‫قال الفرزدق‪:‬‬
‫حتى أتيت أبا عمرو بن عمار‬ ‫ما زلت أفْتْح أبوابا وأغلقها‬
‫‪49‬‬

‫وفتّحت في هذا أحسن‪ ،‬كما أن قعدة في ذلك أحسن‪ ،‬وقد قال جل ذكره‪{:‬جنات مفتَّحة لهم األبواب}‬
‫وقال تعالى‪{:‬وفجّرنا األرض عيونا}‪ .‬فهذا وجه فعلت وفعّلت مبينا في هذه األبواب‪ ،‬وهكذا‬
‫‪7‬‬
‫صفته‪>>.‬‬
‫في النص أو الباب األول يعطي سيبويه تعريفا وجيزا وجامعا لعلية الفعل‪ ،‬وذلك بقوله‪:‬‬
‫<<يقول‪ :‬دخل وخرج وجلس‪ ،‬فإذا أخبرت أن غيره صيره إلى الشيء من هذا قلت‪ :‬أخرجه وأدخله‬
‫وأجلسه‪>>.‬‬
‫فالفاعل في خرج ودخل وجلس يصبح بعامل العلية مفعوال به‪ ،‬وهو ما يفيد بالقاموس األلسني الحديث‬
‫توسيع المحالتية بإضافة عدد المحموالت؛ واالنتقال من الصيغة األولى إلى الثانية بهذا العامل تمثيله‬
‫كالتالي‪:‬‬
‫أفعل الفاعل(‪ )2‬الفاعل(‪)0‬‬ ‫فعل الفاعل(‪)0‬‬
‫فهذه أبسط صيغ عامل العلية‪.‬‬
‫كذلك وإن اشتركت الصيغتان أفعل وفعّل في أداء العامل العلي‪ ،‬فهما ال ينطبقان‪ .‬وهو األمر والغاية‬
‫التي حاول سيبويه في هذين البابين من الدرس إيضاحه وبيانه بتوظيف واعتماد مبدإ االختالف؛ فلم‬
‫يكن النص الثاني إال تأكيدا وتقريرا بتصريف المثل على متعدد مختلف من الصيغ بغرض استنباط‬
‫تعميم صحة المبدإ‪ ،‬وذلك بقوله‪:‬‬
‫<<ولكن بينوا بها هذا الضرب فصار بناء له خاصا (يعني صيغة الفعلة) كما أن هذا بناء خاص‬
‫للتكثير (يعني بذلك فعّلت)‪ ،‬وكما أن الصوف والريح قد يكون فيه معنى صوفة ورائحة‪>>.‬‬
‫ثم أشار إلى عدم سالمة القول والتعبير في بيت الفرزدق وإن بتعبير ولفظ أراده لينا منه غير فج‪ ،‬إذ‬
‫ال ينبغي حمل قوله (وفتّحت في هذا أحسن) إال على ذلك‪ ،‬ألن البيت وإن استقام نظما‪ ،‬فإنه من حيث‬
‫البيان وبنية المعنى في ذلك مختلف‪ ،‬لعلة عدم التناسق بين صيغة الفعل والمعنى المراد لدى الشاعر؛‬
‫ففي الشطر األول‪( :‬ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها) يدل على أن مراد الشاعر المعنى االستغراقي لقوله‬

‫‪ 7‬كتاب سيبويه‪ -‬تحقيق وشرح عبد السالم محمد هارون‪ -‬ج‪ -3‬ص‪-24 .22‬ط‪ -2‬مكتبة الخانجي‪ -‬القاهرة‬
‫‪50‬‬

‫(ما زلت)‪ ،‬بيد أن صيغة (أفتح) حمولتها الداللية غير ذلك؛ ولذا أوجز اإلمام سيبويه التصحيح‬
‫والتقويم بقوله‪:‬‬
‫<<وفتّحت في هذا أحسن كما أن قعدة في ذلك أحسن‪ ،‬وقد قال جل ذكره‪{:‬جنات مفتّحة لهم‬
‫األبواب}‪ ،‬وقال تعالى‪{:‬وفجّرنا األرض عيونا}‪>>.‬‬
‫هكذا نكون ال شك قد حددنا ولو على نحو موجز ومجمل مفهوم العلِّيّة في صيغة الفعل‪ .‬ولعلنا كذلك‬
‫قد أخذنا فكرة أولية عن مبدإ االختالف من خالل المثال‪.‬‬
‫كذلك قد تم لنا الضبط واإلدراك‪ ،‬أن تمة بين اللغة والواقع عالقة وصلة تناسق وتصوير بالحق قائم؛‬
‫فقولنا‪ :‬أشرقت الشمس ال تدل وال تعبر في الحق إال أنها في الواقع والوجود قد أشرقت‪ ،‬وقولك‬
‫تصدقت بأربعين درهما ابتغاء مرضاة هللا وتصديقا بحقيقة الثواب والدين والجزاء ال يدل إال أنه في‬
‫الواقع كان بحوزتك أربعون درهما تملكها فتصدقت بها‪.‬‬
‫هذا القانون والعالقة التي ليست إال من ذات قانون وميزان الرحمان في البيان‪ ،‬هي التي توجب من‬
‫قولنا‪" :‬فرّق رجال األمن المتظاهرين" وجود عدد من الناس متظاهرين يفوق الواحد حتما‪ ،‬إذ أن‬
‫حقيقة التفريق ال تحصل إال في شرط العدد المجتمع؛ فال يحق وال يعقل أن يف ّرق الواحد‪ .‬إن هذا هو‬
‫ما نعبر عنه وما نريد به الحقيقة اللغوية‪ ،‬الحقيقة التي تنتظم معبرا مقوالت ومفاهيم وشبه مفاهيم‬
‫عديدة وشتى‪ ،‬كعالقة اللغة بالواقع‪ ،‬وعالقة اللغة بالفكر‪ ،‬وثنائية المعنى والمبنى‪ ،‬مما يمثل تقعيدات‬
‫وصيغ قوانين مؤطرة‪ ،‬ومفسرة في اآلن ذاته لهذه العالقة ولهذا الميزان الحق‪.‬‬
‫وبغية فهم وضبط واف للحقيقة اللغوية‪ ،‬في بعدها الحق والموزون بين المعنى والمبنى‪ ،‬نسوق هنا‬
‫أمثلة للبيان‪:‬‬
‫فقولنا أو التركيب‪ :‬خرّجه بدون مقاومة‪ -‬تركيب لغوي غير سليم‪ ،‬ألن لفظ (مقاومة) ال يتناسق‬
‫والصيغة العلية (خرّج)‪ ،‬إنما الصحيح‪ :‬أخرجه دون مقاومة‪-‬‬
‫ومثل هذا االختالف عند من يقول‪ :‬اجتمع الناس عن غير اتفاق‪ -‬ألن التاء المزيدة في (افتعل) إنما‬
‫تفيد وممثلة لإلرادة والسعي كما يفقه من قوله سبحانه وتعالى‪{:‬فما اسطاعوا أن يظهروه وما‬
‫استطاعوا له نقبا'}(الكهف‪ ،)21‬إذ هم استيأسوا أصال من أن يظهروه فما سعوا لذلك بخالف النقب‪،‬‬
‫وقوله عز وجل‪{:‬والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم'}(محمد‪.)08‬‬
‫‪51‬‬

‫من أجل هذا كله يقضي الحق والعلم بحكم البطالن على إسناد لفظ التوحيد إلى إسم الجالل‪ ،‬ألنه‬
‫سبحانه أحد صمد‪ ،‬والتوحيد في البيان والسماء واألرض وفي الميزان شرطه التعدد؛ ويرى بالحق أن‬
‫هذا هو المفسر العلمي لعدم ورود هذه المادة بالمعنى المراد لها في الكتاب والسنة؛ فأنى يصرفون؟‬
‫وإنه ليعلم يقينا أن ليس لهم من سلطان في هذا المنكر من القول والزلل الكبير والضالل المبين‪ ،‬ما‬
‫لهم في ذلك إال التقليد‪ ،‬وترديد ما وجدوا عليه قوما قد ضلوا وزلوا من قبل في تبديل أعلى قاموس‬
‫الكتاب والقرآن العظيم‪ ،‬بتقديم لفظ دخيل من قاموس نسبي مخل بالميزان على ما اختاره الحق‬
‫سبحانه من أحسن اللفظ والحديث‪. .‬‬
‫أال إنه يكفي أن لم يأت هذا اللفظ‪ ،‬لفظ (التوحيد) ال في القرآن وال في السنة؛ ومن أذهب هللا نور قلبه‪-‬‬
‫بمعنى عقله‪ -‬فكيف له أن يفقه الحق ويتلقى البرهان؟!‬
‫ولو نظرنا إلى الصيغ المستقرأة فيما تقدم‪ ،‬لعلم أن هذا التعدد ليس حكمه في الحق سوى اإلفك والوهم‬
‫واالفتراء‪ ،‬أي مما ال حقيقة له وال وجود؛ والقاموس القرآني الموظف في نسق الكالم مما أشار إلى‬
‫التعدد قد عزز هذا الحكم بما نتلوه في اآلية وقوله جل وعال األحد الصمد‪:‬‬
‫{فلوال نصرهم الذين اتخذوا من دون هللا قربانا آلهة' بل ضلوا عنهم' وذلك إفكهم وما كانوا‬
‫يفترون'}(األحقاف‪)27‬‬
‫وفي قوله سبحانه‪:‬‬
‫{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون'}(القصص‪)2‬‬
‫يقول محمد شلتوت‪:‬‬
‫<<إنكار اإلسالم لتعدد اآللهة‪:‬‬
‫وقد نعى القرآن كثيرا على من ع ّدد اإلله فاتخذ إلهين اثنين‪ ،‬أو اتخذ التثليث أو عبد شيئا من الخلق‪،‬‬
‫كالشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬واألصنام‪ ...‬وحرك عقول المع ّددين لإلله على النظر فيما يوجب وحدة المعبود‬
‫وحدة تامة كاملة {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا البتغوا إلى ذي العرش‬
‫سبيال'}(اإلسراء‪{،)32‬لو كان فيهم آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب العرش عما‬
‫يصفون'}(األنبياء‪{،)22‬ما اتخذ هللا من ولد' وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال‬
‫بعضهم على بعض' سبحان هللا عما يصفون' عالم الغيب والشهادة فتعالى عما‬
‫‪52‬‬

‫يشركون'}(المؤمنون‪{،)22-20‬قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا‬
‫وال نشرك به شيئا وال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا'}(آل عمران‪{،)43‬إني وجهت وجهي‬
‫‪8‬‬
‫للذي فطر السماوات واألرض حنيفا' وما أنا من المشركين'} (األنعام‪>>)72‬‬

‫‪ -3‬بطالن إسناد لفظ التوحيد السم الجالل‬


‫وشروط االصطالح والعرف اللغوي‪:‬‬
‫لسان القرآن لسان عربي مبين؛ وهذا األصل أصل عربية القرآن أمر من العلم مسطر ومؤكد تأكيدا‬
‫في التنزيل‪ .‬وإن كان اإلدراك لمعنى الحكم العربي الوارد في قوله تعالى‪ -‬وهو العليم الحكيم‪-‬‬
‫‪{:‬وكذلك أنزلناه حكما عربيا'}(الرعد‪ ،)18‬وقد يكون هذا فيه مستساغ من حيث تجزيئية هذا اإلدراك‬
‫عند اإلنسان‪ ،‬لئن كان هذا إنما يدرك منه التشريع واألحكام المتناسقة وبيئة التنزيل وشروطه‬
‫التواجدية والتاريخية‪ ،‬فإنه في الحق ال ريب يمتد وجه الحكمة والتناسق إلى اللسان أيضا‪ .‬فكل من‬
‫الميزان‪ ،‬وكل انتظام للحق الحكيم واحد؛ وهذا هو الوزن أو المفسر للوزن البنيوي في المشروعات‬
‫والبناءات الفكرية الكبرى‪ ،‬التي يمثلها المرتكز والموجه البنيوي للبيان كموجه ومرتكز في االجتماع‬
‫والتاريخ‪.‬‬
‫هذا إذا ما جعلنا‪ ،‬أو فرض علينا اعتبار هذه العالقة وهذا الميزان الممثل في عربية اللسان على نحو‬
‫تام التحقق‪ ،‬وليس لفظا شعريا غير مقيد بسلم ما أو تدقيق؛ ومنه أيضا اتضح لنا‪ ،‬واستبان العلم بالحق‬
‫والتفسير األقرب‪ ،‬لعدم ذكر لفظ "التوحيد" ومادته في القرآن الحكيم‪ ،‬وفي سنة رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم وحديثه وهو صلى هللا عليه وسلم أفصح الناس في لسان العرب‪.‬‬
‫هذا حكم منجز وقول بالحق‪ ،‬وبرهان جلي لمن كان له قلب‪ -‬بمعنى عقل‪ -‬وألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬
‫وليعلم أنه بالتقريب والتسديد كل الناس في قوة القلب والعقل سواء؛ وإنما هي نشئات تختلف وخلق‬
‫يقرب من العلم ويؤدي إليه‪ ،‬وآخر بعيد عنه ينأى عن استحياء‪ ،‬أو تكبر‪ ،‬أو تقليد متمكن من صاحبه‬
‫ليس عنه ينفك‪.‬‬

‫‪8‬اإلسالم عقيدة وشريعة‪-‬ص‪—28 -27‬محمد شلتوت‬


‫‪53‬‬

‫هذا الحكم والبيان والبرهان فيه الكفاء وهلل الحمد والمنة‪.‬‬


‫وإننا لو انتقلنا من باب التفصيل لهذا الحكم ومتجاله إلى المستوى البياني ما دون الكتاب والسنة؛‬
‫ونعني طبعا بحسب الموضوع واإلشكال القاموس الذي منه أقحم هذا اللفظ وانسلت مادته البيانية حتى‬
‫أن قال المتنبي رحمه هللا في مدحه لسيف الدولة أمير حلب‪:‬‬
‫‪9‬‬
‫ولكنك التوحيد للشرك هازم‬ ‫ولست مليكا هازما لنظيره‬
‫إذا انتقلنا إلى هذا المستوى واإلطار‪ ،‬إلى حقل القاموس أو القواميس الفلسفية والصوفية تعيينا‪ ،‬وإلى‬
‫لغة العرف واالصطالح عموما‪ ،‬فههنا ليس من مناص من االتفاق بدءا بأهم وأعظم ضابط علمي‬
‫حقيق بأن ال ينقض بحال‪ ،‬وهو أن كل بيان نسبي قاموس‪ ،‬وكل لفظ واصطالح يخالف األصل‬
‫اللغوي‪ ،‬هو لفظ باطل ال يصح مردود‪ .‬وإنما يجوز ما خص من معاني الحقل الداللي للفظ دون نقض‬
‫لهاتيك المعاني‪ ،‬ولحقيقة والمعنى األصل للفظ‪.‬‬
‫لفظ "التوحيد" في توظيفه البياني السائد هو من أقصى ما يمثل هذه التوظيفات الخاطئة‪ .‬وإنه يكفي أن‬
‫يعلم ما مصدر هذا اللفظ وتوظيفه بهذه الداللة التي اختار لها الحق سبحانه كلما وحديثا هو أحسن‬
‫الحديث‪ ،‬ومن أصدق من هللا قيال؟‬
‫في هذا يقول السيد محمد بن يعيش ناقضا ما خاله نفسه تأصيال ل(مصطلح التوحيد)!‪:‬‬
‫< ‪ . .‬ال يمكن للغة أن تؤصل معنى الغيب كامال وسليما إلى المخاطبين المكلفين إال اللغة التي لها‬
‫صلة بالغيب كواسطة مختارة من عند هللا تعالى اكتسبت قوتها في إيصال المعاني الغيبية إلى العقول‬
‫والقلوب بنفس اإلضافة التي اكتسبت بها الروح قوة تحريك الجسد وإيصال الحياة إلى كل أجزائه‪.‬‬
‫وبهذا كانت هذه اللغة المختارة باعتبارها كالم هللا إضافة ال تقوم مقامها لغة أخرى وال ينوب عن‬
‫‪10‬‬
‫مصطلحها الخاص بذات هللا وصفاته مصطلح غير الذي ورد في سياق النص المخاطب به‪>.‬‬
‫إنما الكلمة الحقة الجامعة التي لزم أن ترسخ في أذهان أهل الفكر والعلم جميعا أن أصولية اللفظ ال‬
‫تكون إال بوروده‪.‬‬

‫‪ 9‬ديوان المتنبي‪.‬‬

‫‪ 10‬التجديد في دراسة علم التوحيد‪ -‬الدكتور محمد بنيعيش أستاذ التعليم العالي بجامعة القرويين – المغرب‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت‬
‫‪54‬‬

‫وكذلك ال يمكن على الداللة العلمية الحديث عن االصطالح في الكتاب والسنة‪ ،‬ألن االصطالح جمع‬
‫واتفاق‪ ،‬وإنما سار التعبير كذلك تجويزا في عموم الخطاب‪.‬‬
‫من وجه آخر عرض للدكتور األستاذ خلط وتداخل على مستوى المعنى واللفظ في (علم التوحيد) بين‬
‫العلم كحقل اهتمام للدراسة والفكر‪ ،‬وموضوعه وظاهرة نظره واهتمامه؛‬
‫‪< -‬فمصطلح علم التوحيد ال يوجد حوله خالف من حيث مدلوله أو سبب تسميته ألنه من‬
‫‪11‬‬
‫أساسيات الدين اإلسالمي‪>.‬‬
‫‪< -‬وحينما ندرس واقع علم التوحيد عند المسلمين نجد أنه يأخذ صورتين متباينتين ومتكاملتين‬
‫في آن واحد من حيث نشأته وعواملها‪ ،‬فهو من جهة تأصيله قد عرف كماله منذ وروده ألنه‬
‫وارد في القرآن والحديث جملة وتفصيال‪ ،‬بل هو روح العلوم اإلسالمية ورأسها‪ ،‬وبدونه ال‬
‫يعتبر المسلم مسلما‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن هذا العلم قد تطور من حيث صياغة مفاهيمه‬
‫‪12‬‬
‫وطرق االستدالل على تقريراته الواردة في الكتاب والسنة‪>.‬‬
‫‪ . . < -‬فالغزالي كان أدرى بواقع مصطلح علم الكالم وأبعاده‪ ،‬ولهذا فإنه بعدما أدرك خصوصية‬
‫وعدم مجاراته لشمولية علم التوحيد وغاياته ألف كتابا سماه (إلجام العوام عن علم الكالم)‪ ،‬ولو‬
‫كان الغزالي يفسر عل م الكالم بعلم التوحيد كمرادف تام وكامل األركان لما تجرأ على طرحه هذا‬
‫والمتمثل في حظر علم الكالم على فئة عريضة من المسلمين‪ ،‬ولو فرضنا أن علم الكالم مرادف‬
‫لعلم التوحيد فهذا يعني أن الغزالي يمنع علم التوحيد على العامة من المسلمين‪ ،‬وهذا لم‬
‫‪13‬‬
‫يقصده‪>.‬‬
‫يقول ابن حجر العسقالني رحمه هللا‪:‬‬

‫‪ 11‬نفس المصدر‪-‬ص‪02‬‬

‫‪ 12‬نفس المصدر‪-‬ص‪20‬‬

‫‪ 13‬نفس المصدر‪-‬ص‪02‬‬
‫‪55‬‬

‫<<وقد سمى المعتزلة أنفسهم (أهل العدل والتوحيد)‪ .‬وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات‬
‫اإللهية العتقادهم أن إثباتهم يستلزم التشبيه‪ ،‬ومن شبه هللا بخلقه أشرك‪ .‬وهم في النفي موافقون‬
‫للجهمية‪.‬‬
‫وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل؛ ومن تم قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم‬
‫القشيري‪:‬‬
‫<التوحيد إفراد القديم من المحدث>‪.‬‬
‫وقال أبو القاسم التميمي في 'كتاب الحجة'‪:‬‬
‫<التوحيد مصدر و ّحد يو ّحد‪ ،‬ومعنى وحدت هللا اعتقدته منفردا بذاته وصفاته‪ ،‬ال نظير له وال شبيه>‬
‫وقيل معنى وحدته علمته واحدا؛ وقيل سلبت عنه الكيفية والكمية‪ ،‬فهو واحد في ذاته ال انقسام له‪،‬‬
‫‪14‬‬
‫وفي صفاته ال شبيه له في إلهيته وملكه وتدبيره‪ ،‬وال شريك له‪ ،‬وال رب سواه‪ ،‬وال خالق غيره‪>>.‬‬
‫أال إنه ههنا يتبين لكل ذي قلب يعقل به أن هذا اللفظ وهذه المادة‪ ،‬مادة (التوحيد)‪ ،‬بتوظيفها هذا‪ ،‬ليس‬
‫له أصل في الحق‪ ،‬وإنما هو محض عرف لغوي واصطالح‪ ،‬بل اصطالحات تعددها واختالفها هو‬
‫دليل على وجوب ردها‪ ،‬ألنها ال تعني باللفظ نفس الحقيقة؛ هي تعاريف وعرف قاموسي مختلف‪.‬‬
‫وإنه لما يزيد في بعدها ويؤكد بطالنها مخالفة جلها للحقيقة اللغوية؛ فإن التوحيد يشترط التعدد‪ ،‬وهللا‬
‫تعالى إنما هو أحد صمد‪.‬‬
‫أما تعدد المراد بها فظاهر‪ ،‬إذ التعريفات ليس تعريفا واحدا‪ ،‬بل هي تعني مسميات جد متباينة‬
‫وبعضها أضداد؛ أحيانا يراد بالتوحيد السلب‪ ،‬وأخرى يراد بها اإليجاب‪ .‬فكيف يقبل من له قلب يعقل‬
‫به أن يقلد غيره في تداول لفظة إن كان يعلم أنها مبتدع بياني ومحض عرف واصطالح بحت‪ ،‬كل‬
‫فرقة يحملها مسمى وحقيقة غير التي في قاموس وعرف الفرقة والطائفة األخرى؟!‬
‫وإن أهم ما يلزم إثباته والتسطير عليه بكل قوة وتأكيد‪ ،‬أن في اللغة مندوحة عن هذه االصطالحات‬
‫والتعريفات الباطلة من الناحية األلسنية‪ ،‬لنقضها انحفاظ الحقيقة اللغوية أوال‪ ،‬ومن جهة ثانية لكون‬
‫التفسير الجلي لخلفيتها هو اإلغراض واللغو في بيان التنزيل‪ .‬إن في اللغة مندوحة ومتسعا معجميا‬

‫‪ 14‬فتح الباري‪-‬كتاب التوحيد‪ -‬ص‪220‬‬


‫‪56‬‬

‫علميا ودقيقا لتعريف هذه الحقائق والمعاني‪ ،‬سواء بإيحائها وسيميائيتها السطحية أو مناحيها الفلسفية‬
‫وغيرها‪ .‬فهذه إلى ما سبق كلها أدلة‪ ،‬وحجج داحضة لهذا التداخل المغرض من سعي وشاكلة من‬
‫عناهم هللا عز وجل في اآلية البينة‪:‬‬
‫{وقال الذين كفروا ال تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون'}(فصلت‪)23‬‬
‫فإفراد القديم من المحدث على عباراتهم ليس له مع حقيقة التوحيد صلة وعالقة إال في طرف المعنى‬
‫الواقعي لإلفراد والتوحيد‪ ،‬ألن اإلفراد ينطبق بحالة الواقع الثاني لالنتقال من التعدد إلى الواحد؛ وهذا‬
‫اإلطباق هو ذو صفة سفسطائية ال غبار عليها وال لبس‪ ،‬ذلك أن اإلفراد لغة ال يستلزم االنتقال من‬
‫التعدد إلى الواحد‪ ،‬وإنما هو تمييز وفصل ال تحول فيه؛ فنقول مثال‪ :‬أفردت كتب اللغة في جناح‬
‫خاص‪ -‬بمعنى ميزتها عن غيرها‪ .‬ومن الفروق الجوهرية افتراق الصيغتين أفرد وو ّحد‪ .‬وموجز‬
‫القول في التمييز بينهما‪ :‬اإلفراد يخص العالقة‪ ،‬والتوحيد يخص الحال والطبيعة‪.‬‬
‫اإلفراد الذي أرادوه هنا أقرب العناصر المعجمية إليه داللة وتعبيرا هو كلمة ولفظ (التنزيه)‪ ،‬وهو‬
‫المتضمن في التسبيح‪.‬‬
‫أما عبارتهم‪ :‬معنى و ّحدته علمته واحدا‪ -‬فهو أيضا وكما بيناه مخالف للحق وميزان البيان‪ ،‬ذلك أن‬
‫التوحيد بمعناه العلي موجب لحقيقة االستغراق‪ ،‬مما ليس بمتضمن في حمولة وداللة (علمته)‪ ،‬حيث‬
‫أن وزن فعل (بكسر العين) ال تحمل هذا المعنى البتة؛ فغالب جريانه إفادة الحصول والكسب؛ كما‬
‫يكون المعنى جامعا بين الحصول واالتصاف ونحوه إذا كان الفعل الزما‪ .‬كذلك فاالعتقاد في عبارتهم‬
‫وتعريفهم ليس يختلف عن العلم إذا أريد به معناه‪ ،‬أي في عدم تناسقه مع العلية وإن كانا متباينين من‬
‫حيث اإلسقاط على البعد الزمني‪ .‬ولهذا لم يسم المنكرون من النصارى لعقيدة التثليث الذين يؤمنون‬
‫باهلل سبحانه وتعالى إلها واحدا بالموحدين‪ ،‬فهذا خطأ وال يوافق الحق‪ ،‬وإنما يسمون بالوحدانيين‬
‫‪.Unitarians15‬‬
‫يقول ابن تيمية رحمه هللا‪:‬‬

‫‪ 15‬د‪ .‬سالمة عبد الجبار‪ :‬الدين والسياسة‪ -‬السلسلة الفكرية‪ -0‬منشورات المؤسسة العربية للنشر واإلبداع‪ -‬ص‪087‬‬
‫‪57‬‬

‫<< وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل ألنهم أعرضوا عن هذا الطريق وصاروا يبنون دين اإلسالم‬
‫على مقدمات يظنون صحتها إما في داللة األلفاظ وإما في المعاني المعقولة‪ ،‬وال يتأملون بيان هللا‬
‫‪16‬‬
‫ورسوله‪ ،‬وكل مقدمات تخالف بيان هللا ورسوله فإنها تكون ضالال‪>>.‬‬
‫جلي وبيّن أن هذا الحكم ال يخص فحسب األلفاظ الواردة في القرآن الكريم لكيال تحرف عن مراد‬
‫الشرع منها‪ ،‬ولكن أيضا التعبير عن معانيها ودالالتها بألفاظ دخيلة‪ ،‬لم ترد في الشرع إطالقا‪ ،‬ويراد‬
‫بها جهال وتقليدا متبعا التعبير عن أعلى حقائق التنزيل ومرجع أصول الدين‪ ،‬مما هو حال واألمر‬
‫بالنسبة لقولتهم الخاطئة والتعبير المتخذ عن تقليد ما أنزل هللا به من سلطان‪ ،‬قولتهم‪( :‬توحيد هللا)‬
‫وسبحان هللا عما يصفون !‬
‫وإنه يكفي هؤالء أن التسبيح عما وصفوا به هللا الذي ال إله إال هو هنا حق واجب‪ ،‬ألن هذا التركيب‬
‫فحش من القول وتركيب من الكلم باطل عند هللا لو يفقهون‪ .‬وأشدد بضاللهم أنهم ال يجدوه في الكتاب‬
‫وال في السنة وهم يريدون به أعظم حقيقة من العلم في السماوات واألرض‪ ،‬وإن هللا اختار وما كان‬
‫لهم الخيرة من بعده‪ ،‬وإن ربك لم يكن نسيا‪ ،‬وإنه سبحانه وتعالى أنزل أحسن الحديث؛ فأنى يؤفكون؟‬
‫أال فليعلم أن هذا مقام من البيان ال يحق فيه التصرف في اللفظ وال االستدراك‪ ،‬وإنه ال سريان هنا‬
‫لمقولة عدم المشاحاة في االصطالح‪ .‬ثم إن االصطالح ال ينبغي له أبدا أن يشذ ويخرج عن ضوابط‬
‫الحق والميزان الذي يقوم عليه توازن أمر األرض والسماء؛ فالحق متوافق البنية‪ ،‬ال ينبغي له‬
‫التناقض وال االختالف‪.‬‬
‫وعودا إلى الركن من الحق الممثل في علم البيان‪ ،‬فإن أعالم اللسان العربي سيبويه والكسائي رحمهما‬
‫هللا وغيرهما‪ ،‬يؤولون في تأصيل وتحديد الجذر البياني السم الجالل (هللا) في لفظ وكلمة (اإلله)‪،‬‬
‫فيرون على منحى النحت اللفظي حذف األلف وإدغام الالمين‪ ،‬بمعنى أن (ال) في اسم الجالل (هللا)‬
‫إفادتها التحديد والتعريف الجليل‪ ،‬بمعنى (اإلله الحق) أو (اإلله الذي ال إله إال هو)‪ ،‬ولذا فإنه سبحانه‬
‫وتعالى وله المثل األعلى واحد وأول المعارف‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬وبناء على ما تبين وتجلى‪ ،‬فإن تركيب (توحيد هللا) وسبحان هللا! تركيب باطل‪ ،‬وهذه حجة‬
‫ظاهرة وبرهان من الحق مبين؛ ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‪ ،‬ومن ضل فإنما يضل عليها‪ ،‬وإن هللا‬
‫لغني عن العالمين‪.‬‬

‫‪16‬كتاب "اإليمان"‪-‬ص‪234‬‬
‫‪58‬‬

‫‪ -3‬المقاربة الشرعية أو لفظ (التوحيد) من الفلسفي إلى الشرعي‪:‬‬


‫علميا وباالعتبار التام للعلمية‪ ،‬فإن ما سبق قوله واإلدالء به يرى الطرح األصوب للمسألة؛ ذلك أن‬
‫هذا الطرح أو المقاربة إذا ما أريد لها العلو في المرتبة‪ ،‬فإن المرجعية هي العلم الحق المنطبق‬
‫بالمرجعية العليا للكتاب والسنة‪ ،‬ثم يأتي من بعد ذلك المستوى التالي الذي أمكن تسمية وبحد كبير من‬
‫الصحة بالمستوى الجدلي للدراسة‪ ،‬ألنه في محوره وطبيعته يهم ويختص بالمحاجاة والردود‪ ،‬وليس‬
‫األصل فيه البرهان‪ ،‬ألن البرهان من الحق والحق يعلو على ما دونه‪.‬‬
‫المفارقة هنا تكمن في كون أهم االعتراضات منطلقها ال صلة له‪ ،‬أو لنقل هو بعيد من حيث المستوى‬
‫الفكري والكفاءة واألهلية عن هؤالء الذين بوأوا لفظ (التوحيد) منزلة الرأس في البيان عن أعلى‬
‫حقيقة وأعظم شأن في الدين‪ .‬االعتراض يأتي باالعتبار المفهوماتي الفلسفي في نواته وأصله‪ ،‬وهو ما‬
‫أشار إليه النص الوارد آنفا البن حجر العسقالني‪ ،‬وإن تخلله بعض من عدم الدقة والخطإ‪ ،‬كقوله‬
‫باستبعاد التشبيه أصال‪ ،‬أو تعليال بنفي الصفات عند المعتزلة‪ ،‬وإنما كان ذلك بغاية درء ونفي التعدد‬
‫في القدم‪.‬‬
‫كذلك بينا االختالفات بين الحقائق والدالالت اللغوية‪ ،‬وأشرنا بشأنها إلى وجوه اإلمكان والسداد‬
‫الوظيفي‪ ،‬خاصة االنتقال والجمع الوظيفي بين العام والخاص في المعنى والداللة؛ فاالصطالح ال‬
‫يصح له أن يخالف األصل وينقضه‪ .‬ناهيك عن مظان االلتباس والزلل في المساواة بين المطلق من‬
‫البيان في صيغه من جهة الصدق والصواب‪ ،‬وما هو دونه من غير المعصوم سواء في الصيغة أو‬
‫في قيمته الحقائقية‪ .‬فال ينبغي أن نسلك مسلك من يزيد على بيان التنزيل في هذا المقام‪ ،‬ألن ما أنزل‬
‫هو بمطلق العلم أحسن الحديث من لدن حكيم عليم‪ ،‬مستوعب البيان والتعبير‪.‬‬
‫لنسمع إلى أحد كبار وأبرز علماء المسلمين حجة اإلسالم أبي حامد الغزالي رحمه هللا وهو يقول‬
‫تحت عنوان (في بيان ما بدل من ألفاظ العلوم)‪ ،‬وذلك بعد حديثه وعرضه للفظي الفقه والعلم‪:‬‬
‫<< اللفظ الثالث‪( :‬التوحيد)‪:‬‬
‫وقد جعل اآلن عبارة عن صناعة الكالم ومعرفة طريق المجادلة واإلحاطة بطرق مناقضات الخصم‬
‫والقدرة على التشدق فيها بتكثير األسئلة وإثارة الشبهات وتأليف اإللزامات حتى لقب طوائف منهم‬
‫أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وس ّمي المتكلمون العلماء بالتوحيد مع أن جميع ما هو خاصة هذه‬
‫الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر األول بل كان يشتد منهم النكير على من يفتح بابا من‬
‫الجدل والمماراة؛ فأما ما يشتمل عليه القرآن من األدلة الظاهرة التي تسبق األذهان إلى قبولها في أول‬
‫‪59‬‬

‫السماع‪ ،‬فلقد كان ذلك معلوما للكل‪ ،‬وكان العلم بالقرآن هو العلم كله‪ ،‬وكان التوحيد عندهم عبارة عن‬
‫أمر آخر ال يفهمه أكثر المتكلمين‪ ،‬وإن فهموه لم يتصفوا به‪ ،‬وهو أن يرى األمور كلها من هللا عز‬
‫وجل رؤية تقطع التفاته عن األسباب والوسائط فال يرى الخير والشر كله إال منه جالله؛ فهذا مقام‬
‫شريف إحدى ثمراته التوكل‪ ،‬ومن ثمراته أيضا ترك شكاية الخلق‪ ،‬وترك الغضب عليهم‪ ،‬والرضا‬
‫والتسليم لحكم هللا تعالى؛ وكانت إحدى ثمراته قول أبي بكر الصديق رضي هللا عنه لما قيل له في‬
‫مرضه‪ :‬أنطلب لك طبيبا؟ فقال‪ :‬الطبيب أمرضني؛ وقول آخر لما مرض فقيل له‪ :‬ماذا قال لك الطبيب‬
‫‪17‬‬
‫في مرضك؟ فقال‪ :‬قال لي‪ :‬إني فعال لما أريد‪>>.‬‬
‫هذا النص له قيمته على البعد التحليلي للحمولة التي حملها وشحن بها لفظ (التوحيد)؛ وهذه القيمة‬
‫ممثلة باألساس في التحديد التاريخي لهذا المفهوم وجوار بؤرته التوليدية؛ هذا ما يسطر عليه في‬
‫قوله‪:‬‬
‫<<وقد جعل اآلن عبارة عن صناعة الكالم‪>>...‬‬
‫<<وس ّمي المتكلمون العلماء بالتوحيد‪>>...‬‬
‫كما أن وجه المفارقة المشار إليه آنفا‪ ،‬وهي من غير شك مفارقة أخص ارتباطا بزمننا هذا‪ ،‬ذلك أن‬
‫العالم من السلف وسالف التاريخ اإلسالمي والقرون‪ ،‬بخالف تصور وواقع العلمية اليوم‪ ،‬كان ال‬
‫يفوته أمر من المعرفة والعلم اإلنساني‪ ،‬مسايرا للفكر جامعا للمعارف محققا للربانية‪ ،‬ال يني في الرد‬
‫على أهل الشبه والمغرضين والمبتدعة بذات لسانهم‪ ،‬مفحما ومبطال ألباطيلهم وسعيهم في استجهال‬
‫الناس واستغفالهم بمختلف ضروب الحيل وشتى سبل اإلغواء والتضليل‪ ،‬خاصة زعمهم أنهم أهل‬
‫الحق والسنة دون غيرهم؛ وهذا ما مثله على نحو بارز الغزالي وابن تيمية رحمهما هللا‪.‬‬
‫المفارقة أن موضع االعتراض وأحقيته وجوازه بالمعايير السليمة والسوية هو في إمكان وجواز‬
‫التوظيف للفظ (التوحيد) كمفهوم في إطار فكري وتفكيري خاص‪ ،‬أي إطار الفلسفة وعلم الكالم‪ ،‬وال‬
‫جرم أن هذا اإلطار مستبعد كلية عن المحور الرسمي الممثل حاليا بالمحور (السلفي)‪ ،‬كما أن طبيعة‬
‫عالقة هذا المحور بحقيقة ومفهوم (العقل) األولي والظاهر هي كذلك بمثابة حجة قائمة ودليل واضح‪.‬‬

‫‪ 17‬إحياء علوم الدين‪ -‬الجزء األول‪-‬ص‪11‬‬


‫‪60‬‬

‫لكن الرد العلمي القائم على سابغ البرهان هو بطالن وعدم الجواز لهذا التوظيف الخاص والنسبي‪،‬‬
‫أي ولو في إطار بياني مختص بحقل الفلسفة وعلم الكالم وال غيره من القاموس واالصطالح‬
‫الصوفي‪ ،‬ألن التداخل البياني هنا من شأنه إحداث حقيقة اللغو في القرآن العظيم من خالل اللغو‬
‫والتداخل والتأثير على بيانه أحسن البيان‪ .‬والذي كما هو الحال هنا في مقام الحديث عن أعلى أمر في‬
‫الوحي والتنزيل‪ ،‬ال يحق ألحد وأي كان أن يتصرف أو يبدل في لفظه وفي ما عبر به هللا تعالى وهو‬
‫الحميد المجيد‪ .‬ومن لم يفقه هذا القانون العلمي والمعرفي‪ ،‬فال شأن له بهذا الحيز الذي تزل فيه‬
‫األقدام‪.‬‬
‫‪61‬‬

‫الباب الثاني‬

‫تصحيح النحو العربي‬

‫نظرية التناسق في اإلعراب المنطقي وتقعيد النحو العربي‬


‫‪62‬‬

‫الفصل األول‬
‫الداللة اللسانية من المعجم إلى السياق‬

‫‪ -1‬الخاصة التواصلية للسان والداللة المعجمية‪:‬‬


‫ا‪ -‬الخاصة التواصلية للسان‪:‬‬
‫لمكانة اللغة من الفقه والعلم الشرعي‪ ،‬وتوطئة للتصدي لما يرى ويعتبر األصل والنواة للمقولة الخطإ‬
‫مما يزعمونه أقساما للتوحيد‪ ،‬والممثل في التصور واالعتبار الخاطئ وغير الصحيح لمفهوم ولمعنى‬
‫الربوبية‪ ،‬يتحتم علينا أن نستحضر ونعرض ألهم وأبرز مكونات الدرس اللغوي واأللسني‪ ،‬وتحديدا‬
‫المرتبطة منها بالداللة‪ ،‬ولو بشكل جد مختزل نتوخى من خالله التبسيط والقصد‪ ،‬مراعاة ولغاية‬
‫تعميم مجال الخطاب‪.‬‬
‫أهم الخاصات اللسانية خاصة التواصل المشهور تمثيلها كما يلي‪:18‬‬
‫التواصل أو الخطاب‬
‫المخاطب‬ ‫المخاطب‬

‫معنى‬ ‫معنى‬

‫تسمع أو قراءة‬ ‫تلفظ أو كتابة‬

‫‪ 18‬ميشال زكرياء‪ -‬األلسنية‪ :‬المبادئ واألعالم‪.‬‬


‫‪63‬‬

‫عالقة اللفظ بالمعنى من أهم المكونات المؤسسة ألول المستويات اللسانية‪ ،‬المستوى المعجمي‪ ،‬واللفظ‬
‫هنا باعتباره المستقل ما قبل التركيب‪.‬‬
‫ب‪ -‬الداللة المعجمية‪:‬‬
‫هي الصورة أو اتحاد الصور المسندة للفظ في حالته السكونية‪ .‬من تم فإن الحقل الداللي المعجمي‬
‫للفظ معين‪ ،‬وإن تعددت عناصره‪ ،‬يبقى محددا‪ .‬وفي إطار هذا المستوى نوظف عدة مفاهيم‬
‫كالترادف‪ :‬وهو تساوي الداللة مع اختالف اللفظ‪ ،‬واالشتراك‪ :‬وهو اختالف الداللة مع تساوي اللفظ‪،‬‬
‫وغيرها من المفاهيم‪.‬‬

‫‪ -2‬الصيغة المعجمية للهجات والتوحيد اللغوي‪:‬‬


‫نحن بالطبع لن نتحدث عن اللهجات التي يمثل فيها التباين واالختالف المعجمي أبرز وأخص‬
‫ميزاتها كما بين ذلك وأشار إليه مصطفى صادق الرافعي رحمه هللا في مؤلفه (تحت راية القرآن) من‬
‫خالل سوقه وذكره لقول الرسول صلى هللا عليه وسلم ألبي تميمة الهجيمي‪:‬‬
‫" إياك والمخيلة‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬نحن قوم عرب‪ ،‬فما المخيلة؟ فقال عليه الصالة والسالم‪ :‬سبل‬
‫اإلزار"‬
‫وكما قال علي رضي هللا عنه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد‪ " :‬يا‬
‫رسول هللا ! نحن بنو أب واحد‪ ،‬ونراك تكلم وفود العرب بما ال نفهم أكثره‪ ،‬فقال‪ :‬أدبني ربي فأحسن‬
‫تأديبي"‬
‫< فال نستغرب بعد هذا كله إن رأينا الرسول الكريم يخاطب قبائل العرب بلهجاتهم الخاصة بهم‪ .‬كتب‬
‫إلى وائل بن حجر الكندي‪ ،‬أحد أقيال حضرموت الكتاب التالي‪:‬‬
‫" إلى األقيال العباهلة واألرواع المشابيب‪...‬‬
‫وفي التيعة شاة‪ ،‬ال مقورة األلياط‪ ،‬وال ضناك‪ ،‬وانطوا الثبجة‪ ،‬وفي السميوب الخمس‪ ،‬ومن زنى مم‬
‫بكر فاصعقوه مائة‪ ،‬واستوفضوه عاما‪ ،‬ومن زنى ممن ثيب فضرجوه باألضاميم‪ ،‬وال توصيم في‬
‫الدين‪ ،‬وال غمة في فرائض هللا تعالى‪ ،‬وكل مسكر حرام‪ ،‬ووائل بن حجر يترفل على األقيال"‬
‫ولهذا الكتاب ‪ -‬يقول ورد في المقال‪ -‬روايات أخرى فيها زيادات غريبة‪.‬‬
‫‪64‬‬

‫كما كتب الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم إلى أهل همدان كتابا يقول فيه‪:‬‬
‫"إن لكم فراعها‪ ،‬ووهاطها‪ ،‬وقزازها‪ ،‬تأكلون عالفها‪ ،‬وترعون عفاءها‪ ،‬لنا من دفئهم وصرامهم ما‬
‫سلموا بالميثاق واألمانة‪ ،‬ولهم من الصدقة الثلب‪ ،‬والناب والفصيل‪ ،‬والفارض‪ ،‬والداجن والكبش‬
‫‪19‬‬
‫الحوري‪ ،‬وعليهم فيها الصالغ والقارح">‬
‫ويردف صاحب المقال‪:‬‬
‫<وكان لقبيلة قريش الفضل األكبر في التوحيد اللغوي‪ ،‬والتقريب بين اللهجات العربية المختلفة‪ .‬ذلك‬
‫‪20‬‬
‫وأن لهجة قريش البليغة هي التي كتب لها البقاء واالستمرار‪>.‬‬
‫نقل السيوطي قول أبي بصر الفارابي في كتابه المسمى باأللفاظ والحروف‪:‬‬
‫< وكانت قريش أجود العرب انتقاء لألفصح من األلفاظ وأسهلها على اللسان في النطق‪ ،‬وأحسنها‬
‫مسموعا‪ ،‬وأبينها إبانة عما في النفس‪.‬‬
‫والذين عنهم نقلت اللغة العربية‪ ،‬وبهم اقتدي‪ ،‬وعنهم أخذ اللسان العربي من قبائل العرب هم‪ :‬قيس‬
‫وتميم وأسد‪ ،‬فإن هؤالء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه‪ ،‬وعليهم اتكل في الغريب‪ ،‬وفي‬
‫اإلعراب والتصريف؛ ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين‪ .‬ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر‬
‫‪21‬‬
‫قبائلهم>‬
‫< وضح الفارابي بدقة أهمية قريش في الوحدة اللغوية‪ ،‬فذكر أن هذه القبيلة ذات فكر ثاقب في اختيار‬
‫أفصح األلفاظ‪ ،‬وأسهلها‪ ،‬وأحسنها‪ ،‬وأقدرها على التعبير عن مكنونات النفس اإلنسانية‪ .‬هذه هي‬
‫الصفات األربع التي أهلت لهجة قريش‪ ،‬فطبعت اللغة العربية بطابعها الخاص‪ ،‬ونعتت باللغة العربية‬
‫‪22‬‬
‫الفصحى‪ ،‬لكون لهجة قريش أفصح اللهجات‪ ،‬فغدت اللغة العالية‪ ،‬ويقصد عادة باللغة اللهجة‪>.‬‬

‫‪ 19‬د‪ .‬عمر باشا‪-‬جامعة دمشق‪ -‬رئيس قسم اللغة العربية وآدابها‪ -‬مقال إشكاليات اللغة العربية بين األصالة واإلعجاز والحداثة‪-‬مجلة الفكر‬
‫العربي‪ -‬العدد‪-41‬ص‪01‬‬

‫‪ 20‬عن دراسات فنية في األدب العربي‪ -‬يافي عبد الكريم‪ -‬مطبعة دار الحياة بدمشق ‪0120‬ه‪0272-‬م‪-‬ص‪1‬‬

‫‪ 21‬كتاب المزهر‪-‬الجزء األول‪-‬ص‪03‬‬

‫‪ 22‬مجلة الفكر العربي –العدد‪-21‬ص‪03‬‬


‫‪65‬‬

‫و< خص الرافعي اإلعجاز القرآني بكتاب بليغ أشار فيه إلى إعجازه وقدسيته‪ ،‬ووضح أثره في توحيد‬
‫اللغة العربية بقوله‪:‬‬
‫<‪ .. .‬إن القرآن قد جمع أولئك العرب على لغة واحدة بما استجمع فيها من محاسن هذه الفطرة اللغوية‬
‫التي جعلت أهل كل لسان يأخذون بها وال يجدون لهم عنها مرغبا‪ ،‬إذ يرونها كماال في أنفسهم من‬
‫‪23‬‬
‫أصول تلك الفطرة البيانية‪>.‬‬
‫واستطرد بعد ذلك موضحا األثر القرآني في ضم اللهجات المتفرقة وتوحيدها في لغة قريش‪:‬‬
‫< لوال القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته‪ ،‬ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم باالختالط‬
‫الذي وقع فيه‪ ،‬ولم يكن منه بد حتى تنتقص الفطرة وتختبل الطباع‪ ،‬ثم يكون مصير هذه اللغات إلى‬
‫‪24‬‬
‫العفاء‪>.‬‬
‫ووضح بعد هذا االستطراد سياسة القرآن في توحيد اللغة العربية بقوله‪:‬‬
‫< تلك سياسة القرآن في جمع العرب‪ ،‬رأى ألسنتهم تقود أرواحهم‪ ،‬فقادهم من ألسنتهم‪ ،‬وبذلك نزل‬
‫منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبد بالتكوين العقلي في كل أمة‪ ،‬فتجعل األمة كأنما تحمل من هذا‬
‫‪25‬‬
‫العقل مفتاح الباب الذي تلج منه إلى مستقبلها‪>.‬‬
‫ثم يعبر صاحب المقال الدكتور عمر موسى عن االستقرار اللغوي العربي بقوله‪:‬‬
‫" وهكذا آضت اللغة العربية المضرية‪ ،‬بيد أنها احتفظت بما استساغته من األلفاظ التعبيرية‪،‬‬
‫واستعذبته من اللهجات القبلية‪ ،‬كما توضح لنا ذلك في القراءات القرآنية على اختالف حروفها‬
‫ووجوهها‪ ،‬فكان الناس يقرؤون في الشام بقراءة ابن عامر‪ ،‬ويقرؤون في العراق بقراءات عاصم‪،‬‬
‫وحمزة‪ ،‬والكسائي‪ ،‬وأبي عمرو‪>.‬‬
‫ويضيف موضحا‪:‬‬

‫‪ 23‬إعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي‪-‬ص‪72‬‬

‫‪ 24‬نفس المصدر‪-‬ص‪73‬‬

‫‪ 25‬نفس المصدر‪-‬ص‪78‬‬
‫‪66‬‬

‫< والمالحظ من خالل المسائل التي أوردها (يعني أبا علي الفارسي‪-‬ت ‪ 177‬ه‪ -‬في كتابه 'الحجة في‬
‫علل القراءات السبع') وناقشها واحتج لها أنه كان يضع في الحسبان ما يسميه بقياس العربية‪ .‬قال أبو‬
‫علي‪:‬‬
‫< ما رواه الكسائي في إمالة مثل (األبرار) و(األشرار)‪ ،‬ونحو ذلك مما تكرر فيه الراء مستقيم في‬
‫‪26‬‬
‫قياس العربية ظاهر الوجه‪>.‬‬
‫وقال أبو علي‪:‬‬
‫< وما ذهب إليه الكسائي من ترك الفصل بين الفعل الذي قبله واو أو فاء‪ ،‬بين ما ليس له قبله من ذلك‬
‫‪27‬‬
‫شيء هو الوجه في قياس العربية‪>.‬‬
‫هذا ما يؤكد أن اللغة العربية كانت تحرص على األخذ مما تختاره وتجده مستساغا في قياس العربية‪،‬‬
‫ظاهر الوجه موثوق الرواية‪>.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫هكذا يتقرر لدينا أننا حينما نعبر بلفظي اللسان العربي والمعجم العربي‪ ،‬فإننا نعبر عن لسان القرآن‬
‫وعن معجم القرآن‪ .‬ومن البديهي أننا ال ندرك وال نلمس من مشترك بين حديث الوحي الكريم‬
‫وخطابه وحديث المخلوق وخطابه إال ما هو داخل في أبعاد إدراك اإلنسان‪ .‬فالقرآن العظيم هو كالم‬
‫رب العالمين نزل به الروح األمين‪ .‬ثم انظر إلى هذه السماء وشساعتها وإلى الكواكب وانتظامها‪،‬‬
‫والنجوم ومواقعها‪ ،‬وهاالت الفضاء والمجرات في عظمها وتوازنها‪ ،‬فإن العقل البشري ال يقوى‬
‫لحظة أن يحيط ولو بالتفكر في ذلك‪ ،‬وإن القرآن المجيد ألعظم من ذلك؛ يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية هللا' وتلك األمثال نضربها للناس‬
‫لعلهم يتفكرون'}(الحشر‪)20‬‬
‫يقول د‪.‬علي زيتون عن بالغة وإعجاز القرآن‪:‬‬

‫‪ 26‬كتاب الحجة‪-‬ص‪42‬‬

‫‪ 27‬نفس المصدر‪-‬ص‪118‬‬
‫‪67‬‬

‫<< واإلعجاز القرآني هو التعبير اإلسالمي عن المعجزة التي وجد كل نبي نفسه مضطرا الجتراحها‬
‫لكي يصدقه النا س ويقبلوا بأن ما يأتيهم به هو من عند هللا‪ .‬وإذا ما بهر موسى قومه بعصا سحرية‪،‬‬
‫وعيسى بشفاء األكمه واألبرص وإحياء الميت‪ ،‬كان النص القرآني من الناحية األدبية هو المعجزة‬
‫التي واجه محمد (صلى هللا عليه وسلم) بها العرب‪ .‬ولقد ورد ذلك في عدة سور من سور القرآن‪:‬‬
‫{قل لئن اجتمعت اإلنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ال يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض‬
‫ظهيرا'}(اإلسراء‪)88‬‬
‫وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله‪:‬‬
‫{أم يقولون افتراه' قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون هللا إن كنتم‬
‫صادقين'}(هود‪)01‬‬
‫وكان أعلى درجة من درجات تحديه لهم أن طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله‪:‬‬
‫{أم يقولون افتراه' قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون هللا إن كنتم‬
‫‪28‬‬
‫صادقين'}(يونس‪>>)18‬‬
‫وأقوال كثيرة لجم من كبار أهل اللغة وعلماء التفسير بشأن الحروف المقطعة التي نزل بها القرآن‬
‫العظيم في أول أكثر من سورة من السور تأسست على هذه الحقيقة؛ قال قطرب والفراء وغيرهما في‬
‫ذلك‪:‬‬
‫< هي إشارة على حروف الهجاء أعلم هللا بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي‬
‫‪29‬‬
‫التي بناء كالمهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كالمهم>‬
‫طبعا فإننا ال نجزم بهذا القول والمنحى في التأويل‪ ،‬وإنما نورده للقيمة التي يحملها ذات مضمونه‪.‬‬
‫وكذلك كان ال بد لنا من هذه الكلمة بقصد التمهيد في اآللية العلمية لما يستوجب من قدر أكبر وأمكن‬
‫من الضبط والتحديد؛ فالتحفظ التوظيفي المشترك في الداللة على خطاب الوحي وكالم المخلوق‬

‫‪ 28‬الفكر العربي‪ -‬العدد‪-21‬ص‪ -020‬د‪ .‬علي زيتون (كلية اآلداب‪ -‬الجامعة اللبنانية)‪ :‬البالغة العربية بين لغتي التراث والحداثة‬

‫‪ 29‬محمد بن علي الشوكاني‪ :‬فتح القدير‪ -‬تفسير سورة البقرة‬


‫‪68‬‬

‫للفظي وكلمتي المعجم واللسان مشتركين‪ ،‬ال شك وال مماراة يستلزم هذا التمهيد في نهج الدرس‬
‫ومكوناته‪.‬‬

‫‪ -3‬الداللة والسياق‪:‬‬
‫مع هذا التحفظ الذي أشرنا إليه‪ ،‬ومع اعتبار المعجمي وإهمال العامل اللهجاتي‪ ،‬يمكن لنا أن نعرض‬
‫لتحليل ودرس الحقول الداللية‪ ،‬وخاصة في عالقتها وارتباطها بما يسمى بالسياق‪ ،‬الذي من خالله يتم‬
‫التعيين من متعدد من عناصر الحقل الداللي لصورة اللفظ ومعناه المراد في الخطاب والكالم‪ .‬وال‬
‫شك أننا هنا ال زلنا خارج إطار ثنائية الحقيقة والمجاز‪ ،‬ألن ذلك ال يحصل إال بقوة وأس تمددي‬
‫للحقل الداللي في عناصره‪ ،‬وكأنه بهذا األس يكتسب بعدا حركيا ما بعد‪ -‬معجمي ضرورة لالستيعابية‬
‫التعبيرية‪ ،‬إذ أن المفكر فيه والمعبر عنه كفضاء‪ ،‬هو أكثر اتساعا من المستوى المعجمي وأقوى منه‬
‫أبعادا‪.‬‬
‫كما أننا نعني هنا بالسياق سياق النص والخطاب المتصل أساسا بالتركيب المعجمي‪ ،‬وهو أول‬
‫درجات اللغة واللسان؛ فتعيين داللة اللفظ تتم من خالل أبسط الموجهات اللغوية‪ ،‬حيث تكون الداللة‬
‫على بعد أول محددة بمعنيين أو محددين هما معنى السياق أو الكالم‪ ،‬والمحدد الثاني هو معلوم‬
‫الدالالت أللفاظ الكالم والسياق‪.‬‬
‫مثال في هذا العنصر المعجمي (أمة)‪ :‬الحقل الداللي للفظ (أمة) غير أحادي؛ ففي الحالة السكونية‬
‫للفظ‪ ،‬أي ما قبل التركيب‪ ،‬يحمل على محتمل متعدد من المعاني والدالالت؛ فقد يعني الجماعة‬
‫واالجتماع من الناس على أي من الصفات المختلفة‪ ،‬دينية أو قومية أو فكرية حزبية (إيديولوجية) أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬وقد يعني األمد من الزمن؛ وقد يعني غير تينك الداللتين من المعاني‪ ،‬التي كلها تنضوي‬
‫وتجتمع في كونها من المعنى اللغوي الحقيقي للفظ‪.‬‬
‫هذه الدالالت األولية عناصر الحقل الداللي للفظ سي وسواء من جهة قيمتها اللغوية؛ فهي متساوية‬
‫االحتمالية وقيمتها هو مقلوب عدد عناصر الحقل الداللي‪ .‬أما نسبيتها فيعود إلى اعتبار تفاضل‬
‫وشيوع استعمال اللفظ على معنى أو معاني أكثر من غيرها‪ ،‬كما هو الحال والمثال في لفظ (أمة)‬
‫المصرفة داللته في غالب الكالم واالستعمال على المعنى األول من المعاني التي ذكرنا‪ .‬وهذا‬
‫االرتباط بين االحتماالت الداللية والكالم‪ ،‬إطاره وموضعه هو حيز ومجال ما يسمى باألسلوبية‪ ،‬الذي‬
‫ينظر في طبيعة المعبر عنه‪ ،‬وكذلك في طبيعة ومستوى الخطاب‪ ،‬وفي الغاية منه‪ .‬والمستويات‬
‫‪69‬‬

‫الهامة هنا هي األجناس الخطابية‪ ،‬من نثر وشعر‪ ،‬وخطاب علمي سياسي أو طبيعي‪ ،‬أو اجتماعي أو‬
‫غير ذلك‪.‬‬
‫إذا اعتبرنا المعجم القرآني‪ ،‬فال يجوز لنا في أية حال التحكم في اعتبار وفرض داللة دون أخرى‪،‬‬
‫ذلك أن التساوي في احتماالت الدالالت والمعاني المنتمية للحقل الداللي المعجمي‪ ،‬يفرضه استلزام‬
‫وإيجاب اإليمان بالقرآن‪ ،‬اإليمان بكل آياته‪{:‬والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا'‬
‫وما يذكر إال أولو األلباب'}(آل عمران‪)7‬‬
‫إن هذا التمثيل اللفظي لحقله الداللي كامال غير مستثنى منه هو من أهم الخصائص والمبادئ العلمية‬
‫الثابتة‪ ،‬التي عليها يتأسس ويقوم عموم اللسان وعلم اللسان العربي خاصة‪ ،‬الذي هو لسان القرآن‬
‫العظيم‪{:‬لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين'}(النحل‪)011‬‬
‫فلننظر إذا إلى تمثيل لفظ (أمة) لحقله الداللي كما يبرزه وتوضحه سياقات آيات وسياقات القرآن‬
‫الحكيم‪:‬‬
‫{ولقد بعثنا في كل أمة رسوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت'}(النحل‪)04‬‬
‫{كان الناس أمة واحدة فبعث هللا النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين‬
‫الناس فيما اختلفوا فيه' وما اختلف فيه إال الذين أوتوه' من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم' فهدى هللا‬
‫الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه' وهللا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم'}(البقرة‪)200‬‬
‫{ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك' وأرنا مناسكنا' وتب علينا' إنك أنت التواب‬
‫الرحيم'}(البقرة‪)028‬‬
‫{إن إبراهيم كان أمة قانتا هلل حنيفا ولم يك من المشركين' شاكرا ألنعمه' اجتباه وهداه إلى صراط‬
‫مستقيم'}(النحل‪)020-021‬‬
‫{وكذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمان'‬
‫قل هو ربي' ال إله إال هو' عليه توكلت' وإليه متاب'}الرعد‪)10‬‬
‫{وقال الذي نجا وا ّدكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون'}(يوسف‪)32‬‬
‫{ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون}(القصص‪)22‬‬
‫‪70‬‬

‫{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما هللا مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا' قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم‬
‫يتقون'}(األعراف‪)043‬‬
‫{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون'}(األنبياء‪)20‬‬
‫نحن ال نود أن ندخل في الحديث عن العناصر التكوينية للداللة‪ ،‬وعن الجذر المشترك لهذه الدالالت‪،‬‬
‫والذي يحتم وجوده وتضمنه في اللفظ ما يمثل حجة داحضة حاسمة للقائلين أصحاب فرضية ومقولة‬
‫العقد وال تواضع في جذر اللغة وأصلها األول‪ ،‬الفرضية هاته التي ال نكاد نجد عند أصحابها درسا‬
‫تحليليا وال سؤاال جديا يطرح على بعد عالقة الصوت في مكوناته وبنيته‪ ،‬وعالقته بالمعنى الذي جعل‬
‫للداللة عليه‪ .‬إن هذا السؤال وهذه العالقة الثابتة تحقيقا لمبدإ التناسق الكوني ليمثل في العقل آية بينة‬
‫ليست دون آيتي الليل والنهار والشمس والقمر حتما في أحادية الحكم والملكية والتدبير؛ وعدم التناسق‬
‫يعني الخلل والفساد‪ .‬يقول الحق سبحانه وتعالى‪{:‬قل لو كان فيهما آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب‬
‫العرش عما يصفون'}(األنبياء‪)22‬‬
‫وحكم الخطاب لهؤالء المعرضين عن آيات هللا تعالى‪ ،‬الذين يصدون عن سبيل هللا ويبغونها عوجا‪،‬‬
‫وإن مكرهم يتمثل في الصفة التي يتكلمون بها للناس وألقابهم العلمية‪ ،‬ومكر أوالء يبور‪ ،‬حكم القول‬
‫فيهم قوله تعالى الذي جعل لهم أجال ال ريب فيه‪:‬‬
‫{سأصرف عن آياتي الذ ين يتكبرون في األرض بغير الحق وإن يروا كل آية ال يؤمنوا بها وإن يروا‬
‫سبيل الرشد ال يتخذوه سبيال وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيال' ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها‬
‫غافلين' والذين كذبوا بآياتنا ولقاء اآلخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إال ما كانوا‬
‫يعملون'}(األعراف‪)037-034‬‬
‫نظرنا إذا نوجهه انطالقا من المعجم وليس من أصله وفقهه‪ .‬فالسياق كما تدل عليه اآليات من القرآن‪،‬‬
‫كاب هللا العزيز الحكيم‪ ،‬السياق شرط في تعيين المعنى وتحديده حال تعدد عناصر الحقل الداللي‬
‫للفظ‪ ،‬وكل تحكم قراءاتي تفسيري غير موجه بالسياق في هذه الحالة يكون مخالفا للحق باطال‪.‬‬
‫وبغاية تبسيط الدرس وسلوك أوضح المسالك‪ ،‬ال بد من التنبيه كون هذه الدالالت والمعاني التي تمثل‬
‫عناصر الحقل الداللي المعجمي كما في مثل لفظ (أمة) وكما تلونا في اآليات القرآنية فيما سبق‪ ،‬هذه‬
‫المعاني والدالالت ليست من المجاز‪ ،‬وال يجوز فيها معنى التأويل المراد به ما هو خارج عن حقيقة‬
‫اللفظ في اللغة واألصل الموضوع له كما هو في شائع تعبير البالغيين؛ إنما هي كلها حقيقية وأصلية‬
‫لغويا ومعجميا‪ ،‬وشيوع وغلبة تداول بعضها أكثر من غيرها ال يفقدها أبدا حقيقتها الحقة وحقيقتها‬
‫‪71‬‬

‫العلمية‪ .‬وإن عدم االعتبار لهذا القانون ال شك ينحو باللغة واللسان المتداول نحو االنحراف والتبديل‪.‬‬
‫والقانون ذاته يوجب ويتضمن وجوب الفصل بين الدالالت الخاصة لما اعتبر من األلفاظ مترادفا ألن‬
‫الترادف ال ينبني في غالبه وال يعبر على التطابق واالنطباق‪ ،‬وإنما على مكونات مشتركة في الداللة‪،‬‬
‫التي قد تكون غالبة‪ ،‬ولكنها ال تمثل حقيقة اللفظ كاملة؛ والمثال في هذا كلمتا‪ :‬مقبل وآت‪.‬‬
‫في المثال هذا‪ ،‬الترادف يعتمد ويقوم من حيث اعتباره على الخاصة المتصلة بطرف الحدوث‪ ،‬بيد أن‬
‫طبيعة هذا الحدوث بين العنصرين والفعلين (أقبل) و(أتى) طبيعة من حيث الحقيقة والواقع مختلفة‪.‬‬
‫فأول مستوى مبرز وموضح لهذا الفرق هو اختالف الحمولة الزمنية للحدثين؛ ذلك أن الفعل (أتى)‬
‫هو فعل وحدث آني‪ ،‬بخالف (أقبل) ذي الحدث المكوثي االستغراقي‪ .‬هكذا إذن يتضح أن الترادف هنا‬
‫هو بالنظر أو هو مستمد فقط من منتهى الحدث وطرفه‪ ،‬وال يعبر البتة عن الترادف في معناه الذي‬
‫يتبادر بحسب حقيقة اللفظ‪ ،‬وإنما هو على وجه السعة‪ ،‬وعلى وجه التسديد والتقريب كمعيار بياني‪.‬‬
‫ومما يعتبر مترادفا وهو ليس معنى واحدا أسماؤه الحسنى جل وعال‪( :‬الخالق) و(البارئ) و(الفاطر)‬
‫من قوله سبحانه{فاطر السماوات واألرض} و{بديع السماوات واألرض}‪ ،‬فإن الفاطر الخالق من ال‬
‫شيء‪ ،‬وبديع السماوات واألرض خالقهما على غير مثال سبق‪ ،‬والبارئ المخرج الخلق من عالم‬
‫الغيب إلى عالم الشهادة مما يفقه من قوله تعالى‪{:‬ما أصاب من مصيبة في األرض وال في أنفسكم إال‬
‫في كتاب من قبل أن نبرأها' إن ذلك على يسير لكيال تأسوا على ما فاتكم وال تفرحوا بما آتاكم' وهللا ال‬
‫يحب كل مختال فخور'}(الحديد‪.)22-20‬‬
‫فهذه إذا ألفاظ ومعاني اشتركت في مكون داللي الذي هو الخلق‪ ،‬لكنها لسانا وحقيقة ليست منطبقة‪.‬‬
‫يقول عمرو بن بحر الجاحظ كما نقل عنه د‪ .‬عمر موسى باشا في مقاله المشار إليه آنفا‪:‬‬
‫<< وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها‪ ،‬وغيرها أحق بذكرها منها‪ .‬أال ترى أن هللا تبارك وتعالى‬
‫لم يذكر في القرآن (الجوع) إال في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر؟‬
‫‪30‬‬
‫والناس ال يذكرون (السغب)‪ ،‬ويذكرون (الجوع) في حال القدرة والسالمة‪>>...‬‬
‫ويضيف صاحب المقال‪:‬‬

‫‪ 30‬الجاحظ‪ :‬البيان والتبيين‪-‬ج‪ -0‬ص‪21‬‬


‫‪72‬‬

‫<كما أورد الجاحظ ذكر (المطر)‪ ،‬وأشار إلى أن القرآن ال يلفظ به إال في موضع االنتقام‪ ،‬والعامة‬
‫وأكثر الخاصة ال يفصلون بين ذكر(المطر) وذكر (الغيث)‪ .‬وذكر (األبصار)‪ ،‬و(األسماع)‪،‬‬
‫و(السماوات)‪ ،‬و(األرضين)‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫<<والجاري على أفواه العامة غير ذلك‪ ،‬ال يتفقدون من األلفاظ من هو أحق بالذكر وأولى‬
‫باالستعمال‪ .‬والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما‪ ،‬وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة‬
‫‪31‬‬
‫استعماال‪ ،‬وتدع ما هو أظهر وأكثر‪>>...‬‬
‫هذه (يقول صاحب المقال) هي بواكير فساد اللسان اللغوي‪ ،‬وظواهر اللحن اللغوي‪ ،‬كما الحظ‬
‫الجاحظ‪ ،‬وأدى هذا التطور الطارئ من استخدام العامة األلفاظ في غير ما وضعت له‪ ،‬وإهمال‬
‫‪32‬‬
‫اإلعراب والحركات‪ ،‬إلى فشو الخلل اللغوي في اللسان العربي‪>.‬‬
‫هذا الذي ذكره صاحب المقال ومن قبله عمرو الجاحظ وغيرهما من رجال اللغة وعلمائها والمهتمين‬
‫بشأنها كالزمخشري رحمه هللا وكذلك ابن خلدون رحمه هللا في ذوده ودفاعه عن األصل‪ :‬لغة قريش‬
‫المضرية‪ ،‬هذا ويا لألسف ما نراه قد اشتد اليوم واستشرى بعوامل مختلفة التأثير بدءا بالتبعية الفكرية‬
‫االستعمارية وبفعل الترجمة‪ ،‬انتهاء لما أفضى إليه التخلف الشامل السياسي واألدبي والعلمي من‬
‫ضمور حضور اللغة العربية الفصيحة‪ ،‬التي ال تنبغي في الواقع إال لتحقق اجتماعي سليم متوازن‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إلى واقع اللسان المتداول والسائد اليوم في عموم البالد العربية بالمعايير األلسنية العلمية‬
‫ألفينا باستثناءات قليلة‪ ،‬كل هذه العوامل مجتمعة وآثارها قد أضحت كأنها قدر محسوم‪ ،‬فاللهجات‬
‫القطرية التي تتصل قريبا أو بعيدا باللغة األم أصبحت مجاال سائبا لمولد من األلفاظ منحوتة ال من‬
‫أصل لغوي وال هي بميزان أو قياس‪ ،‬وال هي بالسوقية كما يفهم صفة من هذا اللفظ‪ ،‬وإنما هي بنات‬
‫نفث الشياطين والجن على ألسنة مدمني المخدرات ومجامعهم وما شابهم‪ ،‬ثم ما تلبث هذه األلفاظ‬
‫رويدا رويدا حتى تلج على غفلة دور الناس وبيوتهم‪ ،‬فتصبح كأنها من لهجتهم ولغتهم‪ ،‬تجري مجرى‬
‫غيرها من األلفاظ على ألسنتهم‪.‬‬

‫‪ 31‬نفس المصدر‬

‫‪ 32‬مجلة الفكر العربي‪-‬ع‪ -41‬ص‪22‬‬


‫‪73‬‬

‫وعودا إلى أثر الترجمة خاصة على المعجم اللغوي فيما نحن بصدده من التطرق لما بدل من اللفظ‬
‫والتعبير نجد كلمة (العقيدة) التي أصبح لها من التعبير العلمي والشرعي ما ال يحق وال يجوز‪ ،‬تارة‬
‫موضع الدين وأخرى يراد بها الداللة على اإليمان من غير أساس موثوق وال أصل ثابت لهذا‬
‫التوظيف واالستعمال إال الصور الترجمية التي ال تبلغ بحال درجة النقل التام للنظمة اللسانية المنقول‬
‫عنها‪ .‬وطبعا هناك فرق بين حقيقة اللفظ وجواز التعبير به كمادة بيانية وأن ينزل منزلة ليست له‬
‫كاصطالح شرعي تعيينا‪.‬‬
‫لعل هذا الذي مهدنا به في الجانب المعجمي هو األحق واألهم درايته ومعرفته بالنسبة لغير‬
‫المتخصص‪.‬‬
‫وإذا كان االشتراك يراد به االنتماء إلى نفس الحقل الداللي المعجمي‪ ،‬فضبطه ومعرفته يجمع‬
‫ويختزل في القول‪ :‬ال حقيقة لالشتراك مع السياق‪.‬‬
‫إدراكنا لهذا يجعلنا نميز بين الداللة المعجمية األصلية أو الحقيقية والمجاز‪ ،‬ذلك أن السياق في الواقع‬
‫وصحيح األمر إن كان قد مثل مآل االشتراك وطرف مساره ومنتهاه‪ ،‬فهو في اآلن ذاته مبدأ االنتقال‬
‫من االعتماد على اللفظ إلى االعتماد على التركيب‪ ،‬ومن تم الدخول في حقل األسلوبية‪ ،‬الذي يتجاوز‬
‫الوحدة المعجمية إلى ما هو أعلى منها‪ .‬لكن الذي يهمنا نحن في حديثنا وموضوعنا هو ما اتصل من‬
‫اللسان والمعجم بحديث الشرع وخطابه المجيد ودراسته‪ .‬وهو األمر الذي يحتم علينا الكالم والتطرق‬
‫إلى أقسام الداللة المعجمية‪.‬‬
‫أمكن تصنيف الداللة غير المجازية إلى صنفين‪ ،‬صنف معجمي أصلي وصنف اصطالحي‪ .‬فاألصلي‬
‫هو ما كان من عناصر الحقل الداللي المعجمي كما رأينا في مثل لفظ (أمة)؛ أما االصطالحي فهو‬
‫ينطلق من إحدى هذه الدالالت الحقيقية‪ ،‬ويكون في غالبه على سبيل إما التخصيص أو التعميم بضابط‬
‫شرط عدم نقض الحقيقة المعجمية وعدم مخالفة األصل‪ ،‬فتكون إما متضمنة فيه أو متضمنة إياه‪ .‬هي‬
‫إذا تنتقل وتتحول من صبغة المعجم إلى صبغة القاموس‪ ،‬كما هو في الحيزات والمجاالت العلمية‬
‫المختصة االهتمامات والتقنيات وفي ألفاظها وتعبيراتها‪.‬‬
‫عالوة على هذا تبقى النقطة الرئيسة هنا في درجة فصل السياق بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬نعني من جانب‬
‫األهمية‪ ،‬هي كون االصطالح في مجاله يمتد بحمولة اللفظ المعرفية‪ ،‬ويتسع بها أحيانا لتتجاوز‬
‫المعنى األولي للداللة اللغوية؛ فكأن اللفظ بات وكأنه ال يمثل إال عنوانا أو محددا لكتلة وطيف فكري‪،‬‬
‫‪74‬‬

‫قد يبلغ ويمثل حقال فكريا ومعرفيا برمته مما يعبر عنه ويصطلح عليه في الفكر والمناهجية‬
‫ب(المفهوم)‪.‬‬
‫المفهوم إذا هو ممثل لجزء متصل ومنتظم من المعرفة‪ ،‬ومنه مقول (المفهوم شطر المعرفة) الذي‬
‫يعني تحقق اإلدراك واإللمام بما مت بارتباط‪ ،‬من معارف ومبادئ‪ ،‬بالمادة البيانية الذي يمثلها اللفظ‪.‬‬
‫وإذا كان االصطالح داال على معين محدد كما هو شأن االصطالحات الشرعية‪ ،‬كالصالة والزكاة‪،‬‬
‫فال يتناسق به اصطالح المفهوم‪ ،‬كما ذات لفظ االصطالح ال تطلق على الشرعي إال شيوعا‪ ،‬ألن‬
‫االصطالح يعني االجتماع على القبول واالتفاق‪.‬‬
‫األهم والحقيق هو أن داللة االصطالح ال تنفصل عن فضائه ومجاله‪ ،‬كما أنه مبدئيا ال تخالف وال‬
‫تناقض أصلها التي استمدت منه‪ ،‬المتمثل في حقلها الداللي المعجمي وفي حقيقتها اللسانية واللغوية‪.‬‬
‫يمكن لنا أن نمثل ونوضح ما سبق بالرسم التالي الواصل بين البعد المعجمي‪ ،‬أي مجموعة األلفاظ‬
‫المعجمية والحقل الداللي‪ ،‬مجموعة الدالالت اللغوية للفظ‪ ،‬والسياق كمحدد‪ ،‬والترادف‪ ،‬واالصطالح‬
‫أو الحمولة االصطالحية‪:‬‬

‫االشتراك واالصطالح‬ ‫الترادف‬ ‫الداللة تبعا للسياق‬


‫س‪1‬‬ ‫س‪2‬‬ ‫س‪0‬‬

‫ل‪~ 1‬ل‪2‬‬
‫لفظ‬ ‫ل‪2‬‬ ‫ل‪1‬‬ ‫لفظ‬ ‫البعد المعجمي‬

‫د‪2‬‬ ‫د‪1‬‬ ‫د‪~1‬د‪2‬‬ ‫د‪3‬‬ ‫د‪2‬‬ ‫د‪1‬‬

‫اصطالح أو حمولة‬
‫‪75‬‬

‫س‪:‬سياق‬
‫د‪:‬داللة‬
‫ل‪:‬لفظ‬
‫~‪:‬ترادف‬
‫إن علم الداللة من خالل لوحتي وبعدي المعجم والسياق هو الركن األول في بناء العالقة باللغة؛ وهو‬
‫الشرط األساس المتالك الحد األدنى لعتبة الحقيقة البيانية‪ .‬وال شك البتة أنه دون هذا الشرط ليس من‬
‫الموضوعي وال من الواقعية والحقيقة العلمية التكلم عن الدخول إلى أي حقل من الحقول العلمية‬
‫والمعرفية‪ ،‬ذلك أن الوسيط واآللية في فضاء العلم والمعرفة إنما مادته ومطيته اللغة والبيان‪ .‬يقول‬
‫سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{وعلم آدم األسماء كلها ثم عرضهم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤالء إن كنتم صادقين' قالوا‬
‫سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا' إنك أنت العليم الحكيم' قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم' فلما أنبأهم‬
‫بأسمائهم' قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات واألرض وأعلم ما تبدون وما كنتم‬
‫تكتمون'}(البقرة‪)12..11‬‬
‫فشأن البيان من حيث خطره وأبعاده مرده مرجع الخلق إلى علم هللا تعالى الخالق العليم‪ ،‬وحامل‬
‫حقيقة العلم عند اإلنسان هو األسماء‪.‬‬
‫‪76‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫تحقيق المجاز‬

‫إثراء للحديث وتدعيما لموضوعيته وعلميته‪ ،‬نحبذ بصدد التطرق إلى التحليل الخطابي اإلفادة من‬
‫مقال جامع قيم تضمنه العدد السابع والستون لمجلة الفكر العربي في ملف‪ -0‬الجماليات العربية‪ ،‬تحت‬
‫عنوان (األبعاد الجمالية في نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني) ل‪.‬د‪.‬خليل أبو جهجه من الجامعة‬
‫اللبنانية‪ -‬كلية اآلداب‪ -‬الفرع الخامس‪.‬‬
‫ونظن أن ما جاء في هذا المقال‪ ،‬قد ألم بصفة جامعة وموجزة بأهم ما يستوجب معرفته من حقائق‬
‫وأمور محددة لعالقة النظم‪ ،‬كدالة منتظمة لعناصر لسانية متباينة األبعاد والطبيعة‪ ،‬عالقتها‬
‫بالمضمون الخطابي كصورة تتعين بتحديد علمي ال اعتباطية فيه‪ ،‬وهو ما عبر عنه الجرجاني كما‬
‫أشار إليه الكاتب بانتفاء الترادف والتماثل كما سيأتي ذكره بعد حين‪.‬‬
‫هذا القول للجرجاني والحكم‪ ،‬هو في حقيقته إعمال لمبدإ االختالف أحد أبرز وأول المبادئ الكونية‬
‫العامة‪ .‬ذلك وال يعلم من جهة النظر الفاحص مدخل أمثل وقانون أقوى للفيلولوجيا من قانون ومبدإ‬
‫االختالف أو المغايرة‪ .‬ويكفي عاملية وتحققا لهذا المبدإ سريانه وتطبيقاته في مجال الفقه وبيانه‬
‫وقراءة نصوصه وتشريعاته خاصة في مسألة المتعاطفين‪ .‬ومما يعلم فالفقه نظام متسقة أحكامه‪،‬‬
‫بعضها لبعض متم ومتناسق‪ ،‬وموجه له حكما وقراءة‪.‬‬
‫من جهة ثانية يكون الرد إلى هذه القاعدة أو القانون عند الجرجاني بعدم الترادف في داللة ومضمون‬
‫الكالم باعتبارها صورة ونتاجا لتأليف ونظمة لسانية معينة ومرتبة‪ ،‬يكون ردا وتصحيحا لمن قال‬
‫بانتفاء المجاز في اللغة كابن تيمية رحمه هللا‪.‬‬
‫إن مفهوم النظم وحقيقته عند عبد القاهر الجرجاني ال توليان للمعنى أي وجود إال أن يعتبر ضمن‬
‫عالقته بالسياق والكالم؛ فاللفظ ال يكاد يؤثر أو ينظر إليه عنصرا مستقال‪ ،‬ليتم اعتبار وتضمين‬
‫القرائن والقيود التي عليها تقوم عليها حقيقة المجاز ضمن عنصر النظم والسياق‪ .‬يقول ابن تيمية‪:‬‬
‫<< ‪ ...‬هذا التقسيم (يعني به التقسيم إلى الحقيقة والمجاز) ال حقيقة له‪ ،‬وليس لمن فرق بينهما حد‬
‫صحيح يميز به بين هذا وهذا‪ .‬فعلم أن هذا التقسيم باطل‪ ،‬وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول‪ ،‬بل يتكلم‬
‫‪77‬‬

‫بال علم‪ ،‬فهم مبتدعة في الشرع‪ ،‬مخالفون للعقل‪ ،‬وذلك أنهم قالوا‪ :‬الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع‬
‫له‪ ،‬والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له‪ ،‬احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على االستعمال‬
‫وهذا يتعذر‪>>.‬‬
‫لئن عرض لنا هنا الكالم في الحقيقة والمجاز فليس بأس في بسط وتوضيح على ما أمكن من القدر‬
‫من خالل قراءة وإمعان النظر تحليال وفصل خطاب لما جاء على لسان ابن تيمية هاهنا؛ فنلفيه في‬
‫واقع األمر والحقيقة يجمع بين أمرين‪ ،‬كالهما له قيمته التحليلية والدراسية‪ ،‬خصوصا في األصل‬
‫المعتبر أساسا مبعدا ومنافيا للمجاز من الحقائق التعبيرية واللغوية‪ .‬وهو ما يستحق التوقف ألن‬
‫صاحب هذا المدى التفكيري‪ ،‬وفي هذه النقطة بالذات قد المس وبلغ مستوى لم يذكر وما كان من‬
‫المفكر في العقل والتفكير اللساني قديما وحديثا‪ .‬وليس هذا القصور مرده افتقاد القدر المتناسب‬
‫المساير لألطوار الفكرية واتساع فضاء مادتها وآلياتها وتشعباتها‪ ،‬ولكن الحق أن ابن تيمية إنما ألهم‬
‫خطا تفكيريا تجذيريا مما ساد التعبير عنه بالصفة الفلسفية‪ ،‬الذي سيبقى دوما له صفة التميز في كل‬
‫العصور والحقب الفكرية‪ ،‬ذلك أنه يتأسس ويشترط في تحققه العقل النظري‪ ،‬الذي معناه العقل القادر‬
‫على وزن األفكار وتنظيمها ليعلم الصحيح منها مما هو دونه‪.‬‬
‫هذا من جهة األمر األول المثير في هذا النص والكالم‪ ،‬أي درجة ومستوى القول‪ ،‬بيد أنه وهذه من‬
‫أهم أصناف اإلشكال الحقائقي‪ ،‬وهي على كل حال ليست مفارقة وال اختالفا من األمر وال تناقضا؛‬
‫فقيمة هذه الدرجة في عالقتها مع مجال الخطاب والمتلقي‪ ،‬وليس فحسب بالنسبة لعصر ابن تيمية وما‬
‫قبله‪ ،‬بل لكل العصور إلى يومنا هذا‪ ،‬هي قيمة ال تتوافق وهذا المجال‪ ،‬ألنها درجة وحدة إدراكية‬
‫واعتبارية في التصور للحقائق والمدركات‪ ،‬ال تنبغي للناس وليس لعقلهم طاقة ونظمة للتوافق وإياها‪،‬‬
‫توافقا يكسبهم هذه الصيغة في التصور والضبط للمشهود‪ ،‬سواء للمعقول أو المحسوس؛ فينبغي شرط‬
‫االنتقال من طور التفكير التدرجي والتراتبي‪ ،‬إلى طور وصيغة االختزال‪ .‬هذا الطور وإن ارتبط‬
‫بالزمن باعتباره بعدا وفضاء للسير والحركة العلمية وتراكمها‪ ،‬فهو على نحو أصح‪ ،‬يرتبط‬
‫بمستويات التفكير وسلمها‪ .‬وإنما عالقتها بالتاريخ وحقبه وأطواره مرجعها والعامل فيها الشرط‬
‫الزمني المؤكد في االرتقاء‪ ،‬من درجة إلى أخرى أعلى منها‪ .‬إذن فلعلك تبينت أن قيمة قول ابن تيمية‬
‫في المجاز هي في مستوى تفكيره‪ ،‬وأن عدم صحته هي في عدم صحة وصل هذا السؤال بهذا‬
‫المستوى‪ ،‬من حيث بنية اللغة وبنية اإلدراك اإلنساني العام‪ ،‬وهما بنيتان متناسقتان‪.33‬‬

‫‪ Gerard Genette Figures III- LA RHETORIQUE RESTREINTE- p 33- collection Poetique – aux‬انظر‬
‫‪Editions du Seuil - Paris33‬‬
‫‪78‬‬

‫يقول ابن تيمية رحمه هللا‪:‬‬


‫<<‪ ...‬وإن قالوا‪ :‬نعني بما وضع له ما استعملت فيه أوال‪ ،‬فيقال من أين يعلم أن هذه األلفاظ التي‬
‫كانت العرب تتخاطب بها عند نزول القرآن وقبله لم تستعمل قبل ذلك في معنى شيء آخر؟ وإذا لم‬
‫يعلموا هذا النفي فال يعلم أنها حقيقة‪ ،‬وهذا خالف ما اتفقوا عليه‪ .‬وأيضا فيلزم من هذا أن ال يقطع‬
‫بشيء من األلفاظ أنه حقيقة‪ ،‬وهذا ال يقوله عاقل‪.‬‬
‫ثم هؤالء الذين يقولون هذا نجدهم (أو نجد أحدهم) يأتي إلى ألفاظ لم يعلم أنها استعملت إال مقيدة‬
‫فينطق بها مجردة عن جميع القيود‪ ،‬ثم يدعي أن ذلك هو قيمتها من غير أن يعلم أنها نطق بها مجردة‬
‫وال وضعت مجردة مثل أن يقول حقيقة العين هو العضو المبصر ثم سميت به عين الشمس والعين‬
‫النابعة وعين الذهب للمشابهة‪ ،‬لكن أكثر يقولون إن هذا من باب المشترك ال من باب الحقيقة والمجاز‬
‫فيمثل بغيره‪ ،‬مثل لفظ الرأس يقولون هو حقيقة في رأس اإلنسان‪ ،‬ثم قالوا رأس الدرب ألوله‪ ،‬ورأس‬
‫العين لمنبعها‪ ،‬ورأس القوم لسيدهم ورأس األمر ألوله‪ ،‬ورأس الشهر ورأس الحول‪ ،‬وأمثال ذلك على‬
‫طريق المجاز‪ .‬وهم ال يجدون قط أن لفظ الرأس استعمل مجردا بل يجدون أنه استعمل بالقيود في‬
‫رأس اإلنسان كقوله تعالى‪{:‬وامسحوا برؤوسكم' وأرجلكم إلى الكعبين'} ونحوه‪ .‬وهذا القيد يمنع أن‬
‫يدخل فيه تلك المعاني؛ فإذا قيل رأس العين ورأس الدرب ورأس الناس ورأس األمر‪ ،‬فهذا المقيد غير‬
‫ذاك المقيد‪ ،‬ومجموع اللفظ الدال غير مجموع اللفظ الدال هناك‪ ،‬لكن اشتركا في بعض اللفظ كاشتراك‬
‫كل األسماء المعرفة في الم التعريف‪ .‬ولو قدر أن الناطق باللغة نطق بلفظ رأس اإلنسان أوال ألن‬
‫اإلنسان يتصور رأسه قبل غيره‪ ،‬والتعبير أوال هو عما يتصوره أوال‪ ،‬فالنطق بهذا المضاف أوال ال‬
‫يمنع أن ينطق بمضاف إلى غيره ثانيا‪ ،‬وال يكون هذا من المجاز كما في سائر المضافات‪ .‬فإذا قيل‬
‫ابن آدم أوال لم يكن قولنا ابن الفرس وابن الحمار (مجازا)‪ ،‬وكذلك إذا قيل بنت اإلنسان لم يكن قولنا‬
‫بنت الفرس مجازا‪ ،‬وكذلك إذا قيل رأس اإلنسان أوال لم يكن قولنا رأس الفرس مجازا‪ ،‬وكذلك في‬
‫سائر المضافات إذا قيل يده أو رجله‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬هو حقيقة فيما أضيف إلى الحيوان‪ ،‬قيل ليس جعل هذا هو الحقيقة بأولى من أن يجعل ما‬
‫أضيف إلى رأس اإلنسان‪ .‬ثم قد يضاف إلى ما يتصوره أكثر الناس من الحيوانات الصغار التي لم‬
‫تخطر ببال عامة الناطقين باللغة‪ .‬فإذا قيل إنه حقيقة في هذا فلماذا ال يكون حقيقة في رأس الجبل‬
‫والطريق والعين‪ ،‬وكذلك سائر ما يضاف إلى اإلنسان من أعضائه وأوالده ومساكنه يضاف إلى‬
‫غيره‪ ،‬ويضاف ذلك إلى الجمادات‪ ،‬فيقال رأس الجبل ورأس العين وخطم الجبل أي أنفه‪ ،‬وفم الوادي‬
‫وبطن الوادي وظهر الجبل‪ ،‬وبطن األرض وظهرها‪ .‬ويستعمل مع األلف وهو لفظ الظاهر والباطن‬
‫في أمور كثيرة‪ ،‬والمعنى في الجميع أن الظاهر لما ظهر فتبين‪ ،‬والباطن لما بطن فخفي‪ ،‬وسمي ظهر‬
‫‪79‬‬

‫اإلنسان لظهوره وبطن اإلنسان بطنا لبطونه‪ .‬فإذا قيل إن هذا حقيقة وذاك مجاز‪ ،‬لم يكن هذا أولى من‬
‫العكس‪.‬‬
‫وأيضا من األسماء ما تكلم به أهل اللغة مفردا كلفظ اإلنسان ونحوه‪ ،‬ثم قد يستعمل مقيدا باإلضافة‬
‫كقولهم إنسان العين وإبرة الذراع ونحو ذلك‪ .‬وبتقدير أن يكون في اللغة حقيقة ومجاز‪ ،‬فقد ادعى‬
‫بعضهم ن هذا من المجاز وهو غلط؛ فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أوال‪ ،‬وهذا‬
‫لم يستعمل اللفظ بل ركب مع لفظ آخر فصار وضعا آخر باإلضافة‪ .‬فلو استعمل مضافا في معنى ثم‬
‫استعمل بتلك اإلضافة في غيره كان مجازا؛ بل إذا كان بعلبك وحضرموت ونحوهما مما يركب‬
‫تركيب مزج بعد أن كان األصل فيه اإلضافة ال يقال إنه مجاز‪ .‬فما لم ينطق به إال مضافا أولى أن ال‬
‫يكون مجازا‪.‬‬
‫وأما من فرق بين الحقيقة والمجاز بأن الحقيقة ما يفيد المعنى مجردا عن القرائن والمجاز ما ال يفيد‬
‫ذلك المعنى إال مع قرينة‪ ،‬أو قال الحقيقة ما يفيده اللفظ المطلق‪ ،‬والمجاز ما ال يفيد إال مع التقييد‪ ،‬أو‬
‫قال الحقيقة هو المعنى الذي يسبق إلى الذهن عند اإلطالق‪ ،‬والمجاز ما ال يسبق إلى الذهن‪ ،‬أو قال‬
‫المجاز ما صح نفيه‪ ،‬والحقيقة ما لم يصح نفيها‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬ما تعني بالتجريد عن القرائن‪ ،‬واالقتران‬
‫بالقرائن؟ إن عنى بذلك القرائن اللفظية مثل كون اإلسم يستعمل مقرونا باإلضافة أو الم التعريف‪،‬‬
‫ويقيد بكونه فاعال ومفعوال ومبتدءا وخبرا‪ ،‬فال يوجد قط في الكالم المؤلف اسم إال مقيدا‪ .‬وكذلك‬
‫الفعل إن عني بتقييده أنه ال بد له من فاعل‪ ،‬وقد يقيد بالمفعول به وظرفي الزمان والمكان والمفعول‬
‫له ومعه والحال‪ ،‬فالفعل ال يستعمل قط إال مقيدا‪ ،‬وأما الحرف فأبلغ‪ ،‬فإن الحرف أتي به لمعنى في‬
‫‪34‬‬
‫غيره>>‬
‫من خالل النظر والتحليل لهذا النص والقول يستنبط ويخلص إلى األصل الذي استند إليه ابن تيمية‬
‫واعتمد عليه في رده ونفيه للمجاز اللغوي؛ وهو ما أمكن تعيينا تسميته بالنسبية الداللية‪ ،‬حيث أن‬
‫اللفظ عنده ليس يثبت له معنى وال داللة إال من حيث نسبته إلى معين‪ .‬فهو ينظر إلى المعجم مجاوزا‬
‫به اإلطار النسبي الخاص بالبيئة اإلنسانية‪ .‬وبمنظور آخر يتجاوز مستوى التوظيفية والداللة‬
‫االستعمالية داخل هذه البيئة إلى مستوى أعلى هو مستوى األصول أو الجذور‪ ،‬والذي ينطبق‬
‫بالفيلولوجيا كحيز تأصيلي للداللة من خالل تحليل المادة اللغوية في مكوناتها وأبعادها‪ ،‬سواء من‬
‫جهة الصوت أو التأليف أو ما سواهما‪ .‬وبتعبير أدق وأقوم‪ ،‬نجد ابن تيمية بنظره الشمولي للمعجم‬

‫‪34‬كتاب اإليمان‪ -‬ص‪ -87..83‬طباعة دار الفكر‬


‫‪80‬‬

‫يعتبره مجموعة دوال‪ ،‬كل لفظ وعنصر معجمي هو دالة تسند إلى ما تضاف إليه صورة هي التي‬
‫تكتسب حقيقة المعنى‪ ،‬أي أن العناصر المعجمية ليست دالالت ومعاني؛ والنتاج يكون طبعا أصنافا‬
‫داللية‪ ،‬لكل لفظ صنفه الداللي‪ ،‬وهو المجموعة الصورة لألشياء بدالته‪ .‬وفيما يلي التمثيل البياني ألهم‬
‫ما سطرنا عليه وتم إبرازه وتوضيحه‪:‬‬
‫صور األشياء بدالة اللفظ وهي المعاني وحقيقتها‬ ‫األشياء‬ ‫المعجم‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫اإلنسان‬


‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫القوم‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫األمر‬ ‫الرأس‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫الدرب‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫العين‬

‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫اإلنسان‬


‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫الشمس‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫الماء أو النبع‬ ‫عين‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫الذهب‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫الرقيق‬

‫النظرة الشمولية عند ابن تيمية للمعجم يظهر تأكيدها في قوله‪:‬‬


‫(‪..‬ألن اإلنسان يتصور رأسه قبل غيره والتعبير أوال هو عما يتصوره أوال)‬
‫‪81‬‬

‫وفي قوله‪:‬‬
‫(‪ ..‬فإذا قيل هذا حقيقة وذاك مجاز‪ ،‬لم يكن هذا أولى من العكس)‬
‫وكما بينا ذلك في هذه النظرة ينتقل المعجم من مجموعة ألفاظ لها معاني إلى دوال لفظية تسند إلى‬
‫أشياء محددة معاني ودالالت؛ وهذا المميز من جهة درجة التفكير‪.‬‬
‫بيد أن الذي يجب تصحيحه أو إضافته على أصح التعبير إلى قول ابن تيمية ونظرته إلى المعجم إلى‬
‫مسألة الحقيقة والمجاز نجمله في بعدين‪:‬‬
‫البعد األول يتصل بما أسميناه في موضع آخر بالمسألة البعدية التي تنتظمها المبادئ الكونية العامة‪،‬‬
‫التي أهمها مبدأ االختالف ومبدأ التناسق ومبادئ التغير واالتصال والتوازن والوحدة؛ فاهلل تعالى وهو‬
‫أحكم الحاكمين جعل لكل شيء قدرا‪ ،‬وخلق كل شيء فقدره تقديرا؛ حكمته جل وعال جعلت‬
‫المخ لوقات ماديها ومعنويها متناسقة ومرتبة تجمع بين البسيط والمركب من دون اختالل وال فطور؛‬
‫وكل ذلك بيئة لإلنسان ولفكره ولفؤاده‪ ،‬الذي يحس به ويدرك ويعقل؛ يتعامل معها بسلم ودرجات من‬
‫مهده إلى لحده‪ ،‬ومن أدنى نقطة وحظ له من الخلقة ونصيب العلم؛ يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{إنا كل شيء خلقناه بقدر'}(القمر‪)32‬‬
‫{نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديال'}(اإلنسان‪)28‬‬
‫إن هذا األسر الخلقي هو المحدد في واقع الحال والوجود لكفاءة اإلنسان وطاقته في هذا الكون‬
‫والتعامل داخله‪ ،‬وحدود هذا التعامل وأبعاده‪ ،‬وسبحان هللا الذي يختار لمخلوقاته عوالم وجودها‪ .‬هذا‬
‫األسر الخلقي ليس لإلنسان من بعده على مستوى أبعاد اإلدراك أبعادا أخرى‪ ،‬وال أن يسلك مسلكا في‬
‫اإلدراك على مناحي ووسع آخر ال في طبيعة معرفته وأسبابها وصيغتها‪ ،‬وال هو بقادر على اختزال‬
‫أمر من ذلك كله‪ ،‬وعلى وجه الخصوص بعدي الجهد والزمن‪ ،‬واألمد الذي يتطلب هذا الجهد سبيال‬
‫لهذا اإلدراك المعرفة؛ يقول هللا سبحانه وتعالى‪{:‬الرحمان علّم القرآن' خلق اإلنسان علّمه‬
‫البيان'}(الرحمان‪ )2-0‬فالصيغة في فعل (علّم) صيغة علية بها حمولة االستغراق للحدوث‪ .‬إذن‬
‫فاالختزال خاصة في طرق المعرفة التي أهمها اللغة في معجمها‪ ،‬والنظر إليها بهذا المستوى الذي‬
‫هو النظر الذي يمثل وينظر به ابن تيمية في كالمه عن المجاز‪ ،‬هذا النظر يستعصي على التعميل‪ ،‬ال‬
‫لعامة الناس ممن لم يكتب لهم حظ كبير من العلم والتحصيل وسعة اإلدراك‪ ،‬بل لمن يعتبر لدى هؤالء‬
‫من أولي العلم والعلماء‪.‬‬
‫‪82‬‬

‫هاهنا لعله تبين واتضح موضع اإلشكال‪ ،‬وما هي العلة في عدم صحة هذا االختزال؛ فهو وإن صح‬
‫في ذاته ال يصح وال يتناسق مع النظمة الخلقية والسعة اإلدراكية لهدف الخطاب‪ ،‬الذي هو في نهاية‬
‫األمر المقصد والمآل لكل العملية الخطابية‪ .‬وبقول جامع‪ ،‬فإن انتفاء شرط الحكمة والتناسق بين‬
‫طرفي العالقة التواصلية يبطلها إما نفيا أوتحريفا؛ وهنا يستحضر األثر القيم‪< :‬خاطبوا الناس على‬
‫قدر عقولهم‪ ،‬أتريدون أن يكذب هللا ورسوله؟>‬
‫كان هذا البعد األول‪ ،‬وهو بعد مرتبط بالمناهج المعرفية وبفلسفة العلوم والمعرفة أو ما يسمى‬
‫باالبستمولوجيا‪ .‬أما البعد الثاني فهو مرتبط بمجال صحة األصل‪ ،‬ذلك أن ابن تيمية لم ينظر إلى‬
‫المجاز ولم يعتبره إال في جزئه ال في كليته‪ .‬فاألصل والحكم أعاله ليس يصح ويقبل إال على هذا القيد‬
‫وعلى هذا االعتبار‪ ،‬وليس على المجاز كما هو مدرك ومعلوم لدى فقهاء اللغة وعلماء البيان‪.‬إن ما‬
‫اعتبره هنا هو االستعارة التصريحية كمجاز عالقته المشابهة مع حذف المشبه‪ .‬ولئن جاز قبول حكم‬
‫انتفاء هذا المجاز نظريا بإهمال الجانب التعميلي والتطبيقي‪ ،‬فالحكم بانتفائه في االستعارة التمثيلية‬
‫مثال‪ ،‬ال يصح مطلقا‪ ،‬وليس له قطمير من الصواب وال مثقال ذرة‪ ،‬ألن المجاز هنا ليس مؤسسا على‬
‫اللفظ الواحد بل على تركيب داللي‪ ،‬بمعنى أنه أكثر أبعادا من المعجم ذي البعد الواحد‪ .‬فالمجاز في‬
‫االستعارة التمثيلية أقرب إلى التشبيه الضمني‪ ،‬ليصبح التعبير على حدث أو ظاهرة معينة في نسقه‬
‫التركيبي مقتبسا ليعبر به عنه مجموعة من الظواهر‪ ،‬تتماثل وإياه في العالقات التي يتسق فيها‬
‫وتتألف بواسطتها مكونات وعناصر الحدث‪ .‬ولنأخذ مثاال بسيطا واضحا‪ :‬رميت عصفورين بحجر‬
‫واحد‪.‬‬
‫أوال‪ :‬يمكن البرهنة على كون هذا التعبير ليس مما يتحكم فيه األصل السابق؛ فاأللفاظ كلها هنا محددة‬
‫المعاني‪ ،‬وليست بدالالت مسندة إلى أشياء في عالقة منتجة للمعاني‪ .‬لكن المضمون والمعنى الذي‬
‫يحمله هذا التركيب يعبر عن صنف من األحداث والظواهر التي نسقها تحقيق غايتين وهدفين بأثر‬
‫إحداثي وسعي واحد؛ وهذا ما يجعل القول بانتفاء المجاز قوال مردودا غير صحيح‪ ،‬وحكمه بالتالي‬
‫محسوم في أمره‪.‬‬
‫وجماع القول وخالصته‪ :‬إن نظرة ابن تيمية ورؤيته لمسألة ثنائية الحقيقة والمجاز في البيان‪ ،‬وإن‬
‫هي تميزت في طرف تركيبي للقول بقوة وبصدقية من منظور أعلى من العقل والتنظير‪ ،‬ودرجة‬
‫الشك هي درجة عليا مما يناله اإلدراك ومستوى التفكير‪ ،‬فإعمالها غير وارد على مستوى البعد‬
‫اللساني األولي‪ ،‬البعد المعجمي‪ ،‬الذي يعتبر اللفظ وحدته‪.‬‬
‫‪83‬‬

‫أما حل هذا اإلشكال والتعارض‪ ،‬فيتوخى في االعتبار والنظر في إطار ما بعد‪ -‬المعجمي‪ ،‬الذي‬
‫يتوجه إلى اللسان ممثال تحديدا في تراكيبه وأسلوبه‪ ،‬حيث تنتقل الوحدة المعنوية من اللفظ إلى‬
‫الجملة ومن بعد اإلشارة والرمز المعتمد على نظرية االستبدال إلى بعد الداللة ونظرية التوتر وحقل‬
‫التولد الداللي‪ 35‬وذاك ما نحن من أجله بصدد الحديث عما سمي في المقال على سبيل المجاز‬
‫والتوسعة في التعبير ب(نظرية النظم) عند عبد القاهر الجرجاني رحمه هللا‪.‬‬
‫كتب الدكتور خليل أبو جهجه‪:‬‬
‫<<نظرية (النظم) أو التعليق‪:‬‬
‫لغويا النظم هو التأليف‪ ،‬ونظمت اللؤلؤ جمعته في السلك‪ ،‬والتنظيم مثله‪ ،‬ومنه نظمت الشعر ونظمته‪،‬‬
‫ونظم األمر على المثل‪ ،‬وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته‪ ،‬والنظم‪:‬‬
‫المنظوم‪ ،‬وصف بالمصدر‪ .‬ومجازا نقول نظم الكالم‪ ،‬ويقال نظم القرآن أي عبارته صيغة ولغة‪.‬‬
‫وقد اشتد الجدال حول القرآن في القرن الرابع الهجري‪ ،‬وكثرت الدراسات البالغية التي نهجت‬
‫مسلكين‪:‬‬
‫‪ )0‬يقوم على تفكيك النص بغية عزل العناصر التي تمثل مظاهر البالغة وجمالياتها‪.‬‬
‫‪ )2‬يعتمد وحدة النص ولحمته‪ ،‬ومن خاللهما تبرز البالغة التي ال تكون إال داخل النص‪.‬‬
‫وقد اعتمد الجرجاني نظرية النظم أساسا لعلم المعاني في كتابه (دالئل اإلعجاز)‪ ،‬ولعلم البيان في‬
‫كتابه اآلخر (أسرار البالغة)‪ .‬ومما يجدر ذكره أن فكرة (النظم) قديمة في الدراسات البالغية‬
‫واللغوية‪ ،‬تبدأ جذورها مع أرسطو‪ ،‬وتمتد رحلتها الطويلة‪ ،‬لتشمل أدباءنا ونقادنا قبل الجرجاني‪،‬‬
‫وتكتسي حلال متنوعة‪ ،‬لدى ابن المقفع والجاحظ وسيبويه وبشر بن المعتمر وابن رشيق وغيرهم‪،‬‬
‫حتى تصل إلى عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬فاقترنت بإسمه وعرفت به وعرف بها‪ ،‬فعمق آثارها وطورها‪،‬‬
‫ونقلها من مفاهيم مبتسرة إلى نظرية منهجية كاملة‪ ،‬أقام على أساسها دراسات نقدية تحليلية لألدب‬
‫بفنيه الشعر والنثر‪ ،‬وبخاصة ما يعود إلظهار دالئل إعجاز القرآن وأسرار بالغته‪.‬‬

‫‪ Paul Ricœur La métaphore vive – L ordre philosophique- collection dirigée par Paul Ricœur et‬انظر‬
‫‪François Wahl- aux Editions du Seuil Paris-Préface35‬‬
‫‪84‬‬

‫بعد أن تبين له أن ليس اإلعجاز قائما في األلفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة‪ ،‬وليس في مقاطع‬
‫الكلمات وفواصلها‪ ،‬وليس في معاني الكلم المفردة‪ ،‬وليس في تركيب الحركات والسكنات‪ ،‬وليس في‬
‫غياب الحروف التي تثقل اللسان أو في وفرة االستعارات وارتقاء نوعها‪ ،‬بل القرآن ‪-‬في رأيه‪ -‬معجز‬
‫في نفسه‪ ،‬معجز في نظمه‪ ،‬معجز في تأليفه‪ ،‬والنظم والتأليف هما االحتماالن المرجحان بعد إبطال‬
‫االحتماالت األخرى>>‬
‫ليس ينبغي وال يحق بحال من األحوال أن نمر على هذا الكالم مر الكرام وقد لفظ بين ثناياه من القول‬
‫ما ال يصح؛ فهو كالم يريد به صاحبه وقد خاله بديعا أتى بجديد لم يك قبل‪ ،‬فإذا هي في الواقع زلة‬
‫تذكر أولي األلباب بلزوم الحيطة وإمساك اللسان عن اإلطناب في هذا الشأن العظيم‪.‬‬
‫إذا كان حقا أن القرآن معجز في نفسه وفي نظمه وفي تأليفه‪ ،‬فما كان أبدا بحق أن ينفى بدءا أو على‬
‫سبيل التوطئة الخطابية حتى‪ ،‬كما يرجح هنا ببينات التحليل الخطابي‪ ،‬ما كان أن يذهب اللسان‬
‫بصاحبه حتى يفضي لباطل من القول مبين بنفي اإلعجاز عن المعجم القرآني‪ ،‬أي عن اللفظ المستقل‪،‬‬
‫وعن موجات وعقد الصوت في حديثه أحسن الحديث‪ .‬وإنه ما كان أحسن الحديث حقا إال وهو منزه‬
‫عما يعيب الكالم وما يشوب ما دونه من عدم التوزيع غير الموزون‪ ،‬أو انسياب في منتهى التجانس‬
‫التركيبي والصوتي بين مطلق وجميع مكوناته على ما يدرك وما ال يدرك من األبعاد‪ .‬بل كما سيأتي‬
‫في جزء وموضع آخر إن في هذا بالذات آليات بينات‪ ،‬وشاهدا وبرهانا ألولي البصائر والرشاد‪،‬‬
‫على أنه وحي يوحى‪ ،‬ليس الجن واإلنس بقادرين على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‪.‬‬
‫أما بخصوص ما اعتبر وأسماه صاحب المقال على سبيل التوسعة والمجاز بنظرية النظم عند‬
‫الجرجاني‪ ،‬فيمكن أن نقدمها من خالل ذكر خصائصها المميزة كما هي مستنبطة أتى تحديدها في‬
‫النص‪:‬‬
‫<<‪ ..‬وقد أرست هذه النظرية عدة مفاهيم تدخل في صميم النقد بقسميه النظري والتطبيقي\التحليلي‪،‬‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -0‬إبطال ثنائية اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫‪ -2‬المزية في الكالم‪ ،‬وسبيله التصوير والصياغة‪.‬‬
‫‪ -1‬ال تماثل في الكالم وال ترادف إذا تغيرت المفردات‪.‬‬
‫‪ -3‬الفصاحة نظيرة البالغة ومثيلتها‪.‬‬
‫‪85‬‬

‫‪ -2‬األلفاظ المفردة هي أوضاع اللغة‪ ،‬وال اعتبار لها إال من خالل النظم‪.‬‬
‫‪ -4‬األلفاظ خدم المعاني وأوعيتها‪.‬‬
‫‪ -7‬ال لفظ بال معنى‪ ،‬وال معنى بال لفظ‪.‬‬
‫‪ -8‬نطلب المعاني‪ ،‬وعندما نجدها تحضر األلفاظ تلقائيا‪.‬‬
‫‪ -2‬أهمية علم النحو‪ ،‬وإعطاؤه أبعادا جديدة في الصياغة األدبية‪.‬‬
‫‪ -01‬عدم الرضى عمن يقف على ظواهر المجاز والتمثيل في تفسير آيات القرآن‪ ،‬ألن في ذلك إفساد‬
‫المعنى وإبطال الغرض‪.‬‬
‫‪ -00‬مناقشة المزية بين المفسر والتفسير‪ ،‬والتفاضل بينهما‪ ،‬وإعطاء الفضل لألول‪ ،‬إذ له داللتان‪،‬‬
‫داللة اللفظ على المعنى وداللة المعنى الذي دل اللفظ عليه على معنى آخر؛ بينما للتفسير داللة واحدة‬
‫هي داللة اللفظ‪ .‬ولما كان المفسر هو داللة معنى على معنى كقولنا‪ :‬هو كثير رماد القدرة‪ ،‬وتفسيره‪:‬‬
‫هو كثير القرى‪ .‬والتفسير هو داللة لفظ على معنى كأن يقال في الشرجب أنه الطويل فإن في المفسر‬
‫كما أوضحنا أعاله داللة اللفظ على المعنى وداللة معنى على معنى آخر‪.‬‬
‫‪ -02‬ال يكون المفسر والتفسير في ألفاظ اللغة بل في المعاني‪.‬‬
‫تحدد هذه القضايا مالمح منهج عبد القاهر الجرجاني النظرية والتطبيقية‪ .‬فمن الناحية النظرية تكتسب‬
‫معاني األلفاظ قيمتها من مجموع العالقات التي تنسج فيما بينها بما يتناسب مع الروابط النحوية‪ ،‬وكل‬
‫تغير في النظم يلحقه تغيير في المعنى؛ ينتج عن ذلك‪:‬‬
‫"أن اللغة عنده وحدة ال تنفصل فيها الصورة الشعرية عن التعبير األدبي‪ ،‬بل هي جزء ال يتجزأ منه‪،‬‬
‫ال تستمد قيمتها إال من النظم‪ ،‬وال تكتسب فضيلتها إال من السياق‪ .‬بل إن تفسيرها وفهم معناها ال‬
‫يمكن تحقيقه إال بعد العلم بالنظم‪ ،‬والوقوف على حقيقته‪ ،‬اعتمادا على ذوق لغوي رائع يكشف عن‬
‫الفروق والدقائق واألسرار التي تكون بين استعمال وآخر داخل نطاق االستعارة الواحدة">>‬
‫بالنظر لما بين أيدينا مما تحمل الباحث جهد جمعه من المراجع حتى كان هذا المقال القيم الجامع‪،‬‬
‫لنحاول على ما قدر لنا ذلك أن نبين ونبسط ما جاء تحديدا في ختام المقال‪ ،‬وذلك طبعا مع حسبان‬
‫المعايير والمرجعية التي استمد منها المقال؛ لنحاول جرد وتعيين الخاصات المميزة لهذا المنظوم‬
‫‪86‬‬

‫الفكري من خالل تحديد موضوعاتها ومقولها‪ ،‬والتي أمكن تمثيلها على أربعة أقسام خاصات‬
‫(قضايا)‪ ،‬كل قسم منها مختزل لمشترك موضوعاتي كما يلي‪:‬‬
‫‪ )0‬القسم األول‪{:‬خ(‪ ،)0‬خ(‪ ،)2‬خ(‪ ،)4‬خ(‪})7‬‬
‫‪ )2‬القسم الثاني‪{:‬خ(‪ ،)2‬خ(‪ ،)3‬خ(‪})8‬‬
‫‪ )1‬القسم الثالث‪{:‬خ(‪ ،)1‬خ(‪})2‬‬
‫‪ )3‬القسم الرابع‪{:‬خ(‪ ،)01‬خ(‪ ،)00‬خ(‪})02‬‬
‫نالحظ أن خ(‪ )0‬وخ(‪ )4‬وخ(‪ )7‬متكافئة وتؤول إلى خ(‪ ،)0‬أي إبطال ثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬وخ(‪)2‬‬
‫تجعلها تمثيل حقيقة البعد المعجمي‪ ،‬وتجلي مداه الوظيفي الذي ال يعتبر إال بوصله بالبعد التأليفي‪ ،‬بعد‬
‫النظم؛ وهو ما يدل عليه القسم الثاني الذي يؤول إلى خ(‪ )3‬بجعل الفصاحة والبالغة غير منفصلتين‪،‬‬
‫أساسهما استيفاء التصوير وصحة الصياغة‪ ،‬وجماليتها مادة وتركيبا‪.‬‬
‫القسم الثالث يرى محددا ألهم القوانين البيانية‪ ،‬وهي قوانين تتحكم في المادة المعجمية‪ ،‬مادة الصناعة‬
‫اللغوية والكالم بتحقق وإعمال لمبدإ االختالف المعبر عنه ب خ(‪)1‬؛ وفي ترتيب هذه المادة على كل‬
‫األبعاد تبعا لحقيقة وأحكام علم النحو خ(‪.)2‬‬
‫المستوى التفسيري‪ ،‬مستوى الهدف من الكالم وصناعته‪ ،‬أي تحديد المعاني والمضامين‪ ،‬يتطرق إليه‬
‫ويؤطره القسم الرابع‪ ،‬الذي أمكن تمثيله ب خ(‪.)02‬‬
‫هكذا‪ ،‬ومن خالل المنظور المعتبر في تحليل المقال يتوصل إلى اختصار وإجمال الخصائص المميزة‬
‫في اآلتي‪:‬‬
‫‪ -‬إبطال ثنائية اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫‪ -‬الفصاحة نظيرة البالغة ومثيلتها‪.‬‬
‫‪ -‬ال تماثل في الكالم وال ترادف إذا تغيرت المفردات‪.‬‬
‫‪ -‬أهمية علم النحو‪ ،‬وإعطاؤه أبعادا جديدة في الصياغة األدبية‪.‬‬
‫‪ -‬ال يكون المفسر والتفسير في ألفاظ اللغة بل في المعاني‪.‬‬
‫‪87‬‬

‫إذا نظرنا إلى هذه الخاصات بغية تأصيلها نلفيها ترتبط ببعدين أو محورين اثنين‪ :‬األول بعد تركيبي‪،‬‬
‫قانونه أحكام المبادئ الكونية العامة‪ ،‬خاصة منها مبدأي التناسق واالختالف‪ .‬والبعد الثاني‪ ،‬كمجال‬
‫مولد من خالل الحقل التركيبي‪ .‬وهذا التأصيل يؤكده د‪ .‬محمد رمضان الجربي في مؤلفه (ابن قتيبة‬
‫ومقاييسه البالغية واألدبية) إذ يقول‪:‬‬
‫<<‪ ..‬وقد بنى نظريته (أي الجرجاني) على أساسين‪:‬‬
‫األساس األول‪ :‬ال فصاحة وال بالغة إال بالنظم وتوخي معاني النحو فيها بين الكلم‪ ،‬وأن هذا هو سر‬
‫اإلعجاز في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫األساس الثاني‪ :‬أن النظم يتفاوت بما يشتمل عليه من تشبيه رائع‪ ،‬واستعارة مصيبة>>‬
‫األساس األول يقابل أو يمثل المحور التركيبي ومكوناته‪ .‬أما الثاني‪ ،‬فهو الحمولة الداللية وحقلها‬
‫المولد‪ .‬وإنعام النظر والدقة في القول وضبطه يريان أن حقيقتي التفسير والمفسر ليسا إال عملية‬
‫تحليلية للتركيب قصد استخراج مكوناته والغاية منه باعتبار شرطي الحال أو البيئة الخطابية من‬
‫جهة‪ ،‬وأحكام ومعايير علوم البيان والنحو كذلك‪ .‬واعتبار الحال أو البيئة الخطابية ال تعني فحسب‬
‫المعنى المراد بمطابقة الكالم لمقتضى الحال تبعا لمبدإ التناسق‪ ،‬ولكن بالعناصرية والتكوينية في‬
‫التركيب‪ .‬وأقرب االستدالل في ذلك مناط واستعمال (أسماء) اإلشارة والضمائر‪ ،‬وغيرها من أدوات‬
‫البناء والتركيب في الكالم‪ ،‬وفي الصياغة التعبيرية والبيانية‪.‬‬
‫ال بد هنا من أن يكون لنا منحى جدي في الدراسة واإليضاح؛ وال مندوحة عن إبراز وإفهام التجليات‬
‫القوية للمبادئ الكونية العامة بخصوص إطار حديثنا وموضوعنا‪ ،‬موضوع اللغة وعلوم اللسان‬
‫والبيان‪ .‬وسوف ندرك األفق‪ ،‬ومدى القدرة واالستيعابية لهذه المرجعية القانونية‪. .‬‬
‫لنبدأ أوال بإعطاء تعريف‪ ،‬أو لنقل تحديد ألهم هذه المبادئ‪ ،‬التي أسميناها كما هي في حقيقتها المبادئ‬
‫الكونية العامة‪ .‬ثم ال غرو والبيان حامل كلية الفكر اإلنساني وعلمه‪ ،‬وهو شرط بنيويته‪ ،‬أن يكون له‬
‫هذا التأصيل واالرتباط بهذا اإلطار والمستوى القانوني؛ فنفس نظمة البيان هي نظمة التفكير اإلنساني‬
‫الذي توافق على بنائه بناء العقل وهيئة العلوم البحثة‪ ،‬وخاصة منها التفكير والعلم الرياضي؛ وهذه‬
‫المشكاة نراها ونتلوها بالحق تذكرة في ما أنزل من الوحي والقرآن العظيم في أول سورة الرحمان‪:‬‬

‫‪ 36‬ابن قتيبة ومقاييسه البالغية واألدبية والنقدية‪ .‬ص‪ -027‬د‪ .‬محمد رمضان الجربي‬
‫‪88‬‬

‫{الرحمان علم القرآن' خلق اإلنسان علمه البيان' الشمس والقمر بحسبان' والنجم والشجر يسجدان'‬
‫والسماء رفعها ووضع الميزان أال تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط وال تخسروا الميزان'}‬
‫ولنذكر هنا بغاية تيسير الدرس وتقريب إطار مضمونه للفكر واألفهام‪ ،‬لنذكر قوله عز وجل الذي‬
‫خلق كل شيء وقدره تقديرا‪:‬‬
‫{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضال من ربكم‬
‫ولتعلموا عدد السنين والحساب' وكل شيء فصلناه تفصيال'}(اإلسراء‪)02‬‬
‫فهذه إذا لمن كان يتدبر القول تذكرة في سؤال ما عالقة البيان بالعقل والميزان‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫المبادئ الكونية العامة‬


‫مبدأ االختالف‪:‬‬
‫أول هذه المبادئ وأسبقها كلها على بعد بناء العقل اإلنساني وهيئة خلقه التفكيري‪ ،‬المبدأ أم المبادئ‬
‫جميعا والذي إليه ترد قاطبة القوانين لظواهر الوجود والكون هو مبدأ االختالف‪ .‬فاهلل سبحانه وتعالى‬
‫فاطر السماوات واألرض جاعل المالئكة أولي أجنحة مثنى وثالث ورباع‪ ،‬يزيد في الخلق ما يشاء‪،‬‬
‫جعل هذا المبدأ لبنة تشكل وقام الخلق عليها وآية من آياته جل وعال جاء ذكرها مؤكدا ومثنى في‬
‫القرآن الحكيم‪ .‬إن هذا المبدأ من حيث تأصيل الفكر والعقل اإلنسانين هو الواصل بين اإلنسان كخلق‬
‫وهذا الكون والوجود بيئته الوجودية واألنطلوجية؛ فالكون ينبني على الفضاء واالتساع‪ ،‬وأن ال تحقق‬
‫لكليهما من دون تحقق شرط التعدد‪ ،‬والتعدد ال يكون إال بشرط وتحقق االختالف‪.‬‬
‫التعدد هنا شامل للماهية ولسلم الترتيب والتفاضل‪ .‬ومن اآليات القرآنية التي تبرز وتبين هذه العالقة‬
‫البنائية التشكيلية والمنشئة لآللية الخلقية للعقل وهيئة التواجد اإلنساني ككائن مدرك ما نتلوه في أول‬
‫سورة يونس‪:‬‬
‫{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب' ما خلق هللا‬
‫ذلك إال بالحق' نفصل اآليات لقوم يعلمون'}(يونس‪)2‬‬
‫‪89‬‬

‫هذه اآلية البينة من كتاب هللا والقرآن المجيد قد أحاطت أكثر مما يحيط ويبلغ نور الشمس بكل‬
‫المفاهيم التي يدعيها المؤمنون بالعقل وسلطان الفلسفة القائمة بالخصوص على المنهاج التجريبي‪.‬‬
‫وما من إنسان عالم حقيق بصفة العلم هاته إال وينتهي ويستقر علمه على قول الحق المبين وقوله‬
‫سبحانه األول واآلخر والظاهر والباطن‪:‬‬
‫{ما خلق هللا ذلك إال بالحق}‬
‫وهذا ما تلوناه من قوله تعالى من سورة اإلسراء‪:‬‬
‫{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضال من ربكم‬
‫ولتعلموا عدد السنين والحساب' وكل شيء فصلناه تفصيال'}(اإلسراء‪)02‬‬
‫ونتلوه في قوله سبحانه‪:‬‬
‫{وألقى في األرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبال لعلكم تهتدون وعالمات' وبالنجم هم يهتدون'‬
‫أفمن يخلق كمن ال يخلق' أفال تذكرون' وإن تعدوا نعمة هللا ال تحصوها' إن هللا لغفور‬
‫رحيم'}(النحل‪)08..02‬‬
‫فإذا كان التفكير اإلنساني والتفكير الرياضي منه على وجه الخصوص كأعلى فكر إنساني ممنهج‪،‬‬
‫والذي هو أساس الحضارة الصناعية اإلنسانية‪ ،‬إن كان كل ذلك مبدأه العقل في تطبيقيته ومعناه‬
‫التفكيري‪ ،‬وال تفكير من غير مفكر فيه‪ ،‬وال حركية إال في مجال أو فضاء متسع غير منعدم مما‬
‫يشترط االختالف كوعاء شرطي للتعدد‪ ،‬فإن هذا كله لتحققه لتدبير عظيم‪ ،‬ومنه يحصل وينفتح أفق‬
‫تالوة وفقه قوله سبحانه ذي الجالل واإلكرام‪:‬‬
‫{أفمن يخلق كمن ال يخلق؟ أفال تذكرون؟}‬
‫فهذا لمبدإ االختالف تحديد وبيان مؤصل‪ ،‬ومن حيث أبسط التعبير في تعريفه هو كون كل شيء ال‬
‫يساوي إال نفسه وأن ال تعدد بدون اختالف‪.‬‬
‫مبدأ التناسق‪:‬‬
‫المبدأ الكوني الثاني‪ ،‬والذي يلي في أهميته تجليا في الخلق تركيبا وتكوينا هو مبدأ التناسق المنافي‬
‫تحققه وسريانه للتفاوت؛ يقول هللا تعالى‪:‬‬
‫‪90‬‬

‫{الذي خلق سبع سماوات طباقا' ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت' فارجع البصر هل ترى من‬
‫فطور' ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير'}(الملك‪)3-1‬‬
‫فالتناسق بمثابة اتساق تركيبي حكيم في الخلق والتكوين لمطلق عناصر هذا التركيب وأبعاده‪ ،‬مادة‬
‫وكما‪ ،‬وصيغة وغاية وظيفية‪.‬‬
‫مبادئ التغير‪ -‬االتصال‪ -‬التوازن‪ -‬الوحدة‪:‬‬
‫باعتبار ترجمة االختالف في فضاء الخلق يستحيل تغيرا على مستوى الحال وجودا وشروطا‪،‬‬
‫فالعالقة بحسب الالفطور البنيوي على مطلق األبعاد تتمثل مبدءا قائما هو مبدأ االتصال‪ .‬وهذا‬
‫الالفطور المتحقق في كل آن هو المعبر عنه بمفهوم ومبدإ التوازن‪.‬‬
‫الجامع لهذه المبادئ المختزل فحسب لصيغها ال مبتسرا لقانونيتها‪ ،‬والمعبر عن مظهر ووجه الحق‬
‫ساريا في السماء واألرض قانونا ال تجد له بدال وال تحويال‪ ،‬قانونا به القلب مهيمنا على العقل يتمثل‬
‫على أعلى وأحق صورة هذا الوجود والكون‪ ،‬وممثال في أصح الصياغة في معادالت الكينونة‬
‫والعالقات الرياضية والفيزيائية والطبيعية بين األشياء‪ ،‬في متراكب من األبعاد ومتعدد متباين من‬
‫الزوايا‪ ،‬ذلكم هو مبدأ الوحدة‪ ،‬وهو ال ريب دليل حاسم ال ينكر إال بإنكار الحق مطلقا‪ ،‬إما سفها وإما‬
‫جحودا‪.‬‬
‫ولئن شاء القلب أن يشهد بيانا من نور الحق في هذه المبادئ الكونية العامة عالوة على ما أسلفنا من‬
‫الذكر يتلى لسانا عربيا مبينا‪ ،‬فهذه آيات هللا نتلوها في القرآن العظيم‪:‬‬
‫{وإلهكم إله واحد' ال إله إال هو' الرحمان الرحيم' إن في خلق السماوات واألرض واختالف الليل‬
‫والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل هللا من السماء من ماء فأحيا به األرض‬
‫بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء واألرض آليات لقوم‬
‫يعقلون'}(البقرة‪)041‬‬
‫{المر' تلك آيات الكتاب' والذي أنزل إليك من ربك الحق' ولكن أكثر الناس ال يؤمنون' هللا الذي رفع‬
‫السماوات بغير عمد' ترونها' ثم استوى على العرش' وسخر الشمس والقمر' كل يجري ألجل مسمى'‬
‫يدبر األمر' يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون' وهو الذي مد األرض وجعل فيها رواسي وأنهارا'‬
‫ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين' يغشي الليل النهار' إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون' وفي‬
‫‪91‬‬

‫األرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد'‬
‫ونفضل بعضها على بعض في األكل' إن في ذلك آليات لقوم يعقلون'}(الرعد‪)3..0‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫عودا إلى محور حديثنا فنظرية النظم كما تناولها عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬ليست إال محاولة جادة غير‬
‫مسبوقة عندنا في إكساب اللسان علميته‪ ،‬ال على مستوى التركيب فحسب‪ ،‬بل على مستوى المعاني‬
‫كذلك‪ .‬وهي كما رأينا ليست ببعيدة في تأسيسها عن جوهر الهيكلة النظرية األولية‪ ،‬وذلك باالهتداء‬
‫والبناء على مقوالت بدرجة المبادئ‪ ،‬وتحديدا على مقولة أن ال تماثل وال ترادف في الكالم إذا‬
‫تغيرت المفردات‪ ،‬المكافئة إلعمال مبدإ االختالف‪ ،‬عالوة على األخذ واالعتبار للبعد الترتيبي في‬
‫النظم‪ ،‬الذي يعني ويستلزم التناسق بإبطال ثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬وكذلك ارتباط الفصاحة بالبالغة‪.‬‬
‫أما البعد القانوني‪ ،‬فيمثله ويجسده في هذا البناء جعل وإيالء علم النحو عامل ومكون الوسيط‬
‫الوحدوي والتوحيدي‪ ،‬جامعا لألبعاد الكلية للكالم‪.‬‬
‫وأما الحقل الداللي وفحوى المعاني بأ ّسيه‪ ،‬أس اللفظ المنطبق بالتفسير‪ ،‬وأس السياق الذي هو‬
‫المفسر‪ ،‬فهذه حقل عملية التحليل لبنية الكالم‪ ،‬التي موضوعها ووظيفتها وهدفها عين الداللة والمعنى‪.‬‬
‫وجدير تنبيها وذكرا أن النظر إلى مقولة عبد القاهر الجرجاني بإبطال ثنائية اللفظ والمعنى من‬
‫منظور مبدأي التناسق واالختالف‪ ،‬يذهب إلى حد بعيد من العلمية والموضوعية في حل إشكال‬
‫وسؤال الوضعية أو التوقيفية في أصل اللغات ومبدئها‪ .‬فالعلوم اللغوية الحديثة‪ ،‬أو األلسنية‪ ،‬أكدت‬
‫وتؤكد أن مبدأ التناسق سار مطلق السريان في اللغة‪ ،‬ويتجاوز عالقة اللفظ بالمعنى إلى تناسبهما‬
‫وتناسقهما مع المكون الصوتي على مستوى اللفظ وبنائه‪ ،‬وكذلك األسلوب أو اللغة واللهجات بصفة‬
‫عامة‪ .‬فهذا إذن كفيل للحسم في خطإ من يقول باألصل الوضعي للغة؛ يقول هللا تعالى وهو سبحانه‬
‫الذي خلق وهو العليم الحكيم‪:‬‬
‫{ومن آياته خلق السماوات واألرض واختالف ألسنتكم وألوانكم' إن في ذلك آليات‬
‫للعالمين'}(الروم‪)20‬‬
‫وجوب هذا الشرط في المعجم واللسان يحتم وجود الحقيقة في الداللة اللغوية؛ فإن وجد لفظ واحد له‬
‫ذلك‪ ،‬واستعمل للداللة على غيره‪ ،‬فذاك عين ما يسمى بالمجاز‪ ،‬والحقيقة بالوضع اللغوي األول‪ .‬فهذا‬
‫دليل اإلثبات وبرهانه‪.‬‬
‫‪92‬‬

‫وإذا تحدثنا وأشرنا من قبل إلى قيمة نظر ابن تيمية في ما ظنه بحسب أفق هذا النظر وزاويته ردا‬
‫للمجاز‪ ،‬وبينا موضع الخلل والخطإ فيه في االعتبار الوظيفي للمعجم كمجموعة دوال‪ ،‬مما ال يصدق‬
‫في الواقع والحقيقة إال على جزء من المعجم‪ ،‬وليس على عمومه وكليته‪ ،‬الجزء الذي يمثل تعبيرا عن‬
‫وظيفة أو عنصر ال اعتبار له إال داخل مجموع ومركب وظيفي‪ ،‬كتعبيرنا وقولنا‪ :‬يد اإلنسان ويد‬
‫الحيوان‪ ،‬ويد الكرم ويد البطش‪ ،‬ويد الدولة ويد اآللة‪ ،‬ورأس اإلنسان ورأس األمر‪ ،‬ورأس الدولة‪،‬‬
‫إلى غير ذلك؛ فهذا مثل ما يسند إلى المثلث من ضلعيه ووتره‪ ،‬وللدائرة من مركزها وشعاعها‪،‬‬
‫وللطائرة من محركها وقمرتها وجناحيها‪ .‬لكن الذي ال يصدق عليه هذا االعتبار هو ما كان إسم ذات‬
‫كالطائرة والدائرة والمثلث واإلنسان واألسد‪ ،‬باعتبارها منظورا إليها وحدة غير منفصلة‪ .‬فإذا طلب‬
‫منا أن نحدد معنى لفظة بقرة أو نملة أو نحلة لن نفتقر لقرينة ولن يعوزنا قيد للتحديد‪.‬‬
‫< أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وعلم آدم األسماء كلها} قال‪:‬‬
‫علمه إسم الصحفة والقدر وكل شيء‪ .‬وأخرج ابن جرير نحوه‪.‬‬
‫وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في تفسير اآلية قال‪:‬‬
‫‪37‬‬
‫عرض عليه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب‪ ،‬فقيل هذا الجمل‪ ،‬هذا الحمار‪ ،‬هذا الفرس‪>.‬‬
‫ثم ليعلم أن ابن تيمية قد أهمل أمرا ثابتا وحقيقة أكبر من قوله وهي أن المجاز إنما هو التشبيه سنخا‬
‫وأصال‪ ،‬ولئن نفى المجاز فقد نفى المشابهة من اللغة وفي األشياء والطبيعة أصال؛ وهذا ال جدال وال‬
‫شك أمر ال يعقل وال يصح‪ .‬وإنما الحال هنا أن ابن تيمية أخطأ كما يخطئ الناس‪ ،‬والعالم مهما نال‬
‫من حظوة الذكر بالرفعة والعلو العلمي‪ ،‬فإنه في الحق ال يخرج عن مخلوقيته في ضآلة ومحدودية‬
‫سعته المعرفية؛ ومن نبذ هذا المعيار المعرفي والمنهاجي فإنما هو مبتور عن الحق ال ينتظم عنده علم‬
‫وال فقه له لما يعلم‪.‬‬
‫إذا كان المجاز يستمد وجوده وأصله من التشبيه‪ ،‬سواء نظر اقتصارا إليه في ظاهره ليختص‬
‫ويقتصر تصنيفا وتعليما على االستعارة‪ ،‬صريحها ومكنيها‪ ،‬وعلى ما كان منها تمثيال‪ ،‬أو اعتبر في‬
‫كل أبعاده‪ ،‬إذ المجاز المرسل أو العقلي ما هو إال تشبيه للشيء وتمثيله بما له عالقة به على البعدين‪،‬‬
‫بعد التواجد أو التركيب وبعد السببية‪ .‬هذا ويفهم معنى التشبيه هنا من خالل الغاية المتوخاة من‬
‫اختزال الشيء في عنصر منه أو ما له صلة به وارتباط؛ فهي إما غاية يراد بها االهتمام‪ ،‬أو الدقة‪ ،‬أو‬

‫‪ 37‬فتح القدير‪-‬تفسير سورة البقرة‬


‫‪93‬‬

‫المبالغة‪ ،‬كما في قوله سبحانه وهو العزيز الحكيم‪{:‬ومنهم الذين يؤذون النبيء ويقولون هو أذن' قل‬
‫أذن خير لكم يؤمن باهلل ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم' والذين يؤذون رسول هللا لهم عذاب‬
‫أليم'}(التوبة‪)40‬‬
‫والكناية هي التعبير عن حدث أو ظاهرة بما يالزمها ويسايرها ارتباطا وحدوثا؛ وهي ليست خروجا‬
‫عن حقيقة وظاهر المعجم‪ ،‬وإنما تعبير بها للداللة على الزم لها‪.‬‬
‫إذن فالمجاز أساسه ومحوره الغالب والمؤسس هو التشبيه‪ .‬يقول د‪ .‬محمد رمضان الجربي في نفس‬
‫مؤلفه المذكور‪:‬‬
‫<<فالقرآن كله معجز لجمال نظمه ومالءمة ألفاظه لمعانيه‪ ،‬وحسن رصفه وسمو تأليفه‪ ،‬وبراعة‬
‫تصويره‪ ،‬وسحر بيانه‪ ،‬فهو يخاطب العقل ويقنعه‪ ،‬والعاطفة ويثيرها‪ ،‬وهو باإلضافة إلى ذلك حلو‬
‫المذاق‪ ،‬جميل النغم‪ ،‬جديد ال يبلى‪ ،‬عجيب ال تنقضي عجائبه‪ ،‬مفيد ال تنقطع فوائده‪ ،‬صالح لكل زمان‬
‫ومكان‪ ،‬عربي ال تجوز ترجمته ونقله حرفيا إلى لغة أخرى‪ .‬ويؤكد ابن قتيبة أنه إذا ترجم إلى لغة‬
‫أخرى انتفت عنه صفة اإلعجاز البالغي‪ ،‬ألن اللغة العربية تمتاز عن غيرها من لغات العالم األخرى‬
‫باتساع المجاز‪ ،‬والتفنن في التعبير‪ ،‬اسمعه يقول‪:‬‬
‫<وللعرب المجازات في الكالم‪ ،‬ومعناها طرق القول ومآخذه‪ ،‬ففيها االستعارة والتمثيل‪ ،‬والقلب‬
‫والتقديم والتأخير‪ ،‬والحذف والتكرار‪ ،‬واإلخفاء واإلظهار‪ ،‬والتعريض واإلفصاح‪ ،‬والكناية واإليضاح‬
‫‪ . . .‬وبكل هذه المذاهب نزل القرآن‪ ،‬ولذلك ال يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من‬
‫األلسنة –اللغات األخرى‪ -‬كما نقل اإلنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية‪ ،‬وترجمت التوراة‬
‫‪38‬‬
‫والزبور وسائر كتب هللا تعالى بالعربية‪ ،‬ألن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب>‬
‫ويعلل ابن قتيبة عدم جواز ترجمة القرآن حرفيا إلى لغة أخرى باتساع العرب في المجاز وفنون‬
‫التعبير دون غيرهم‪ ،‬فاللغة العربية محيط ال ساحل له كما يقولون‪ ،‬مرنة‪ ،‬واسعة المدى‪ ،‬فيها من‬
‫األلفاظ الجميلة‪ ،‬والمعاني اللطيفة واإليحاءات الخاصة ما ال يوجد في غيرها من لغات العالم‬
‫األخرى>>‬

‫‪ 38‬ابن قتيبة ومقاييسه البالغية واألدبية والنقدية‪-‬ص‪28‬‬


‫‪94‬‬

‫البد هنا من التنبيه على عدم سداد وصحة هذا التعليل البن قتيبة‪ ،‬فليس انتفاء اإلعجاز القرآني‬
‫بترجمته مرجعه امتياز العربية عن غيرها بضروب ومآخذ ليس لغيرها من اللغات في التعبير‬
‫والبالغة‪ ،‬وإن هذا القول فيه من الشطط ما فيه‪ ،‬ألن اللغات هذه كلها تبقى لسانا إنسانيا لها كلها هذه‬
‫الصفة‪ ،‬وما يختلف فيها إال النظمات اللسانية؛ وإنما مرد ذهاب اإلعجاز القرآني بالترجمة هو أن‬
‫القرآن أنزل عربيا وأن عربيته من ذات التنزيل؛ وكل وحي أنزل بلسان معين فلسانه منه‪ ،‬إذا ترجم‬
‫لغيره افتقد صفته األولى وبالتالي إعجازه‪.‬‬
‫وفي عرضه للتشبيه عند ابن قتيبة يسوق المؤلف ما جاء من قول المبرد –المتوفي سنة ‪182‬‬
‫هجرية‪:-‬‬
‫<<التشبيه جار كثيرا في كالم العرب حتى لو قال القائل‪ :‬هو أكثر كالمهم‪ ،‬لم يبعد>> (الكامل‬
‫للمبرد‪-‬ج‪-2‬ص‪ )42‬وعن ابن طباطبا العلوي‪ -‬المتوفى سنة ‪ -122‬قوله‪:‬‬
‫<< واعلم أن العرب أودعت أشعارها من األوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها‪،‬‬
‫وأدركه عيانها‪ ،‬ومرت به تجاربها‪ .‬وهم أهل وبر ‪ . . .‬إلى أن يقول‪ :‬فضمنت أشعارها من التشبيهات‬
‫ما أدركه من ذلك عيانها وحسها‪ ،‬إلى ما في طبائعها وأنفسها محمود األخالق ومذمومها ‪ . .‬فشبهت‬
‫الشيء بمثله تشبيها صادقا على ما ذهب إليه في معانيها التي أرادتها>>(عيار الشعر البن طباطبا‬
‫العلوي‪-‬ص‪)00-01‬‬
‫وقبل أن يسوق القولين هذين صدر كالم المؤلف بقوله‪:‬‬
‫<<التشبيه من فنون البالغة‪ ،‬له مكانته الرفيعة في األساليب البالغية‪ ،‬يبرز الصور الغامضة‬
‫(البالغة التطبيقية لألستاذ أحمد موسى‪-‬ص‪ -0‬للسنة الثالثة‪-‬كلية اللغة العربية بالجامعة الليبية‪.70-‬‬
‫‪ ،)0272‬ويجعلها ملموسة محسوسة‪ ،‬وال غرو فهو قطب من األقطاب التي تدور عليها المعاني في‬
‫متصرفاتها‪ ،‬وأنه يتدرج في البالغة إلى أن يصل بها إلى أعلى درجة تناسب طاقته‪ ،‬وتالئم طبيعته‪.‬‬
‫فهو أصل لالستعارة البتنائها على التشبيه‪ .‬ولذا كان ميدان التسابق بين األدباء والشعراء منذ العصر‬
‫‪39‬‬
‫الجاهلي‪>>.‬‬

‫‪39‬نفس المرجع‪ .‬ص‪012‬‬


‫‪95‬‬

‫وإذا كان المجاز وكما جاء تعريفه عند ابن قتيبة كونه طرق القول ومآخذه‪ ،‬وهذه قطب الرحى فيها‬
‫ومحورها التشبيه‪ ،‬كما هو عند أرسطو مرجع علم البالغة والبيان عند الغرب إلى اليوم‪ ،‬فيكون‬
‫حينها النفي للمجاز نفيا للتشبيه‪ ،‬وهذا خالف الواقع والحق‪ ،‬بل وناقض للمعجم وللغة في مادتها وكلية‬
‫ما داللته ومعناه من معنى التشبيه كلفظ الشبه ذاته واألدوات المتوسل بها في التعبير عنه‪ ،‬بل وأسلوبه‬
‫كذلك‪ ،‬ليس للسان العربي فحسب‪ ،‬ولكن لعموم البيان اإلنساني ككل‪.‬‬
‫‪96‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫نقد النحو العربي‬

‫لنعد إذا إلى محور الموضوع والحديث‪ ،‬فإذا كنا قد تطرقنا إلى نظرية النظم بغاية اعتبار الطبيعة‬
‫التركيبية للكالم‪ ،‬وأهمية هذا التركيب من حيث مكوناته في تحديد المضمون والمعنى‪ ،‬وأشرنا معه‬
‫إلى العامل النحوي كمحدد أساس في هذا الجانب‪ ،‬فإن هذا العامل بالذات هو الذي حتم علينا في‬
‫الترتيب األولي ومسار التحليل لهذا الكتاب والبناء المتسلسل ألفكاره‪ ،‬حتم علينا في إطار سبر داللة‬
‫لفظ (الرب) في القرآن الكريم‪ ،‬التحليل البنيوي على البعد الداللي للتركيب اإلخباري المؤكد في قوله‬
‫تعالى في سورتي األعراف ويونس‪:‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يغشي الليل النهار‬
‫يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره' أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب‬
‫العالمين'}(األعراف‪)21‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يدبر األمر' ما من‬
‫شفيع إال من بعد إذنه' ذلكم هللا ربكم' فاعبدوه' أفال تذكرون'}(يونس‪)1‬‬
‫لقد تبين لنا على وجه يقين ال يحتمل مثقال ذرة من الشك عدم توافق‪ ،‬أو لنقل بتعبير آخر صريح‪:‬‬
‫اختالف وتناقض المقول النحوي المنطبق تعيينا في نسق الناسخ واسمه وخبره مع القول البالغي في‬
‫تدريجه وسلمه اإلخباري‪ :‬االبتدائي والطلبي واإلنكاري؛ فرأينا أن هاهنا موضع الرجوع إلى ما كنا‬
‫قد صنفناه منذ بضع سنين‪ 40‬في شأن نقد وتصحيح النحو العربي‪ ،‬في مشروع كامل بدليل علمي على‬
‫درجة حجاج مصعب بن عمير ألسيد بن خضير رضي هللا عنهما قبل إسالم هذا األخير‪ ،‬والذي‬
‫فحواه‪ :‬اسمع غير ملزم ثم احكم! وحاولنا قدر اإلمكان الحصول على دعم ما من شأنه تيسير هذا‬
‫الجهد وتمهيده العملي؛ فقصدنا األشخاص وبعض المنابر العلمية؛ وإنما هي ذوات مستعلية‬

‫‪ 40‬بحسب تاريخ معالجة هذا الجزء‬


‫‪97‬‬

‫مسترضعة بلبان الطبقية واإلقطاعية وإن لبست مسوح الرهبان‪ ،‬ال ترضى وال تظاهر بالتواضع‬
‫واللين إال لمن تراه في قرارة نفسها أنه دونها؛ ومنابر يوجزها قول أحدهم وهو مدير لمركز ثقافي‬
‫عربي هام؛ لقد رد علي هذا حين سمع كلمة نقد وتصحيح العربي بقوله‪:‬‬
‫كيف تقول هذا والقرآن لم يفسر إال بالنحو؟!‬
‫فلما استيأست أعرضت عن األمر كله؛ فكان أن قمت ليلة فأحرقت كل ما له من صلة بذلك موقنا‬
‫وقائال أن إذا كان شرا فقد أذهبه هللا تعالى عني‪ ،‬وإن يكن فيه خير فسيكتبه هللا تعالى ويقدره فيما بعد‪،‬‬
‫فهو جل وعال عليم قدير؛ حتى كان هذا الكتاب والموضوع‪ ،‬كتاب وموضوع مقولة أقسام التوحيد‪،‬‬
‫فألزمت العودة والرجوع إليه وإن بإيجاز يقارب نسبة الجزء الواحد من العشرة‪.‬‬
‫ونستهل القول أوال بسؤال المشروعية‪ ،‬مشروعية إثارة موضوع نقد النحو العربي بدءا‪ ،‬حتى يحق‬
‫القول ويحل لنا الكالم عن التصحيح بكامل المعنى للفظ التصحيح‪.‬‬
‫ولألمانة الوجودية والعلمية‪ ،‬فإن استشعار االختالف في قواعد النحو وفي نسق اإلعراب تعيينا قد‬
‫تولد عندي منذ الصف االبتدائي للدراسة‪ ،‬وتحديدا في عدم وحدة النسق اإلعرابي للوحدات التعبيرية‬
‫المتصلة سلبا وإيجابا بالضمير‪ .‬هذا وإن قدر هللا تعالى لي ووفقني أن أضطلع على مجمل أو محور‬
‫ما ص نف في علم النحو العربي بموازاة مع االهتمام المتصل بفقه اللغة وتاريخها‪ ،‬فإن هذه المكونات‬
‫التي نجعلها هنا بمثابة الواقع والظاهر من المبرر في مشروعية طرح قضية نقد النحو العربي‪ ،‬لم‬
‫أقف على غالبها بما تمثله من حقيقة وموقف أو مواقف علمية ماثلة لها اعتبارها‪ ،‬لم أقف عليها إال‬
‫من بعد كمال وتحرير النقد والتحليل‪ ،‬وبلفظ ال تجاوز فيه للحقيقة وصدق القيمة العلمية‪ ،‬إال من بعد‬
‫التصحيح للنسق اإلعرابية‪ ،‬بدليل على درجة دليل علم الحساب المؤصل على اختالف الليل والنهار‬
‫ومقدر منازل القمر‪.‬‬
‫هذه المكونات التي تعطينا المشروعية العلمية في طرح قضية النقد للنحو العربي خاصة‪ ،‬وكذلك‬
‫تمثل في نفس الوقت مرتكزات المنظار الموضوعي مادة وتوجيها‪ ،‬نجملها في أربعة مكونات؛ لكل‬
‫مكون منها جزء مقسوم داخل الموقف الكلي اتجاه قضية اللغة واللسان‪.‬‬
‫المكونان أو القسمان األول والثاني كالهما غال في موقفه‪ ،‬أحدهما صنيع سياسة تكوينية تبشيرية‬
‫بالمعنى القدحي‪ ،‬يدعو إلى هدم صرح البيان العربي‪ ،‬بيان رسالة اإلسالم‪ ،‬بيان القرآن المجيد وسنة‬
‫النبي محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والبيان الحامل للفكر العربي والمجسد تحقيقا بقوة للهوية العربية؛‬
‫وما الهوية كما جاء في قوله صلى هللا عليه وسلم إال اللسان‪ .‬فهذا الفريق يدعو أكثر ما يدعو إلى جعل‬
‫‪98‬‬

‫اللغة العامية محل الفصحى‪ ،‬ويزعم أن مصير اللغة العربية الموت والتفرق إلى لهجات كما ماتت‬
‫الالتينية وآلت إلى لهجات‪ ،‬هي هذه اللغات الغربية التي يتكلم بها األوروبيون اليوم‪.‬‬
‫والفريق أو المكون الثاني يذهب في غلوه مذهبا آخر على نقيض األول‪ .‬فإن كان األول في حكمه‬
‫العام فاقدا من سنخه لذاته الفكرية؛ بينه وبين الحق كنان العمه الوجودي‪،‬؛ فال يفكر وال ينظر إال بما‬
‫شب عليه وأشربه من األدلوجة‪ .‬وإنك لتجده على غير هدى من منهج الحوار العلمي ويحسب أنه‪ ،‬بل‬
‫يخص ذاته دون غيره‪ ،‬أنه العلماني التقدمي‪ .‬وقد ال يكون مدركا للبس الداللي المؤصل عليه هذا‬
‫المفهوم للعلمانية‪ ،‬حتى أنه أعظم وأخطر المفاهيم التباسا على الناس وهم ال يعلمون‪ .‬الفريق والصنف‬
‫الثاني كفر عقله وحجبه‪ ،‬وعطله حتى أمسى وأنه قد انتهى من وظيفته وما خلق له‪ ،‬يرى ويفكر‬
‫بنمطية السمع واألبصار واألفئدة الموؤودة‪ ،‬دينه محض النمطية كلها‪ ،‬ويخالها بغير علم وال هدى وال‬
‫كتاب منير أنها الوسيلة والتحقق لإليمان باهلل ورسوله وتوقيره وتعزيره‪ ،‬وتعظيم حرمات هللا تعالى‬
‫وشعائره تقوى للقلوب‪ .‬وليدرك هؤالء وليتذكروا أن هللا تعالى ال يستحيي من الحق‪ ،‬فإن للعلم حقا‬
‫وشرائط ال يغني عنها ما سواها؛ ولنذكر هنا كما ينبغي إعالما وتذكرة‪ ،‬لنذكر ما قاله إمام المدينة‬
‫اإلمام مالك بن أنس رحمه هللا ومعياره الحق المبين‪ ،‬الذي أثبته عنوانا لمنهج الصدق والحق في‬
‫موطئه‪ ،‬أنه لقي رجاال يستسقى الغمام بهم‪ ،‬وما أخذ عنهم؛ إنما هو شأن وأمر ينبغي له أناس ورجال‬
‫يعرفون ويدركون ما يخرج من أفواههم‪ .‬ولو تفكر الناس قليال ونظروا إلى الحوادث في تاريخ‬
‫المسلمين بغاية أخذ العبرة واستخالص الحقائق‪ ،‬لو فعلوا ذلك ألدركوا أن هذا المعيار الذي اعتمده‬
‫اإلمام مالك ضابطا فارقا في تصنيفه هو الترجمة أو القيمة المعيارية أو أهمها في حديث الخوارج‪،‬‬
‫وفيه أنكم تحقرون صالتكم عند صالتهم؛ وكذلك منه يقينا األثر الوارد في مقولهم عن علي رضي هللا‬
‫عنه ‪ :‬حق يراد به باطل‪ .‬فإنه ال ينبغي أن يقف ما ليس به علم من األمور واإلشكاالت كما هو صريح‬
‫في قوله تعالى‪{:‬وال تقف ما ليس لك به علم'}(اإلسراء‪ )14‬وكما يقول عز وجل‪{:‬وإذا جاءهم أمر‬
‫من األمن أو الخوف أذاعوا به' ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه‬
‫منهم' ولوال فضل هللا عليكم ورحمته التبعتم الشيطان إال قليال'}(النساء‪.)82‬‬
‫المستنبط الجلي هنا أن ال استلزام في دعوى التقوى وصالح الحال في الحق ومصادرة األحكام؛ وإن‬
‫كان حقا للتقوى ثمرات والنفع الكثير‪ ،‬وهي عماد األمر كله‪ ،‬فإنه ينبغي أن يعلم ويتذكر فال يهمل أن‬
‫للحق سننا ال تتخلف أبدا وعالمات يهتدى بها؛ من ضل عنها ضل الصواب ووقع في الخطإ؛ ثم إن‬
‫الواو في قوله تعالى من الغاية في سورة البقرة‪{:‬واتقوا هللا' ويعلمكم هللا'}(البقرة‪ )280‬ووفاقا من‬
‫غير اختالف مع الحق في السياق هي واو استئنافية‪ ،‬ومنه يحكم بجهالة وضالل من يقفو ويردد‬
‫االستشهاد به في تقرير االستلزام المشار إليه والقول الخاطئ‪.‬‬
‫‪99‬‬

‫هذا الصنف بدعوى الحرص على اللغة العربية وإجاللها‪ ،‬فالعربية مكون جوهري من التنزيل‬
‫والقرآن العظيم‪ ،‬هذا أمر ال اختالف عليه‪ ،‬بدعوى حرصه هذا وبعدم إدراكه لتمايز جوهرها عن‬
‫منال النظر الدراسي والعلمي من حقيقتها‪ ،‬مما يتصل بها من علوم واجتهادات‪ ،‬موضوعها اللغة‬
‫ومقصدها التقعيد والتصنيف التعليمي ذو األهداف العلمية والعملية المحضة؛ لهذين السببين أصبح‬
‫النظر النقدي للعلوم‪ ،‬أو باألصح التصنيفات العلمية المرتبطة باللغة العربية وعلم النحو منها خاصة‪،‬‬
‫أصبح ذلك على داللة النقد لجوهر اللغة مما ال يستطاع علميا وفلسفيا لو كانوا يعلمون‪ .‬يقول األستاذ‬
‫أنور الجندي ضمن مقاله بمجلة الدوحه القطرية‪ :41‬اللغة العربية متى تواجه التحديات؟ ‪:‬‬
‫<< إصالح اللغة‬
‫ثالثا‪ :‬هناك بدعة (إصالح اللغة) وقد ظن البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة األداء‪ .‬فالمصطلح خادع‬
‫وماكر وسيئ النية أيضا‪.‬‬
‫وقد كشف هذه المؤامرة الدكتور علي العناني حين قال‪ :‬إن اإلصالح في األلفاظ والتراكيب‬
‫واألساليب ال يكون إال بتغيير قواعد أبنية اللغة وهي (الصرف) وتحوير ضوابط إعرابها واألحوال‬
‫العارضة على األلفاظ باختالف الوضع في الجملة وهو (النحو) وتبديل الموضع اللفظي في المفرد‬
‫والمركب من حيث الحقيقة والمجاز واالستعارة والكناية وهو (البيان) وبتغيير وإهمال ضوابط‬
‫الفصاحة والبالغة وهي (المعاني) ومعنى إصالح قواعد الصرف انتقاال من الصعب إلى السهل إنما‬
‫يعني أن نهدم علم الصرف من أساسه وننسخه نسخا تاما لتعدد قواعده وتنوع ضوابطه‪ .‬وبعد أن يتم‬
‫الهدم يبني المصلحون على أنقاضه صرفا جديدا محدود القواعد قليل التنويع‪ ،‬خفيفا على العقل‬
‫والفكر‪ ،‬سهال على الذهن والفهم‪ .‬وكذلك األمر في إصالح قواعد النحو وإصالح علوم البالغة‪.‬‬
‫وبهذا يكون معنى (اإلصالح) في اللغة نسخ العقلية العربية وما فيها من ثقافة نظرية وعملية‪ ،‬ذلك أن‬
‫اإلصالح هو التغيير‪ ،‬والتغيير يعني اإلزالة والوضع‪ .‬يقول الدكتور العناني‪ :‬إن تغيير قواعد اللغة‬
‫العربية صرفا ونحوا بالوضع فقط أو بالوضع واإلزالة معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة‪ .‬وهذه‬
‫اللغة الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة باألم فإنها تبتعد عنها شيئا فشيئا‬
‫حتى تختفي معالم الصالت بينهما أو تكاد‪ ،‬وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة‪.‬‬

‫‪41‬مجلة الدوحه القطرية‪ -‬السنة الخامسة‪ -‬العدد‪ -21‬جمادى الثانية ‪0311‬ه مايو ‪0281‬م‬
‫‪100‬‬

‫هذا الذي صوره الدكتور علي العناني هو خلفية الصورة البراقة التي نراها اليوم يحملها مجموعة من‬
‫أعداء اإلسالم واللغة العربية ويدافعون عنها وينقلونها من أسلوب إلى أسلوب‪ ،‬وكلما انكشف لهم‬
‫جانب أعادوا تشكيلها في صورة أخرى وهم اآلن على أبواب التعليم‪ .‬وهي خطوة خطيرة إذا سمح بها‬
‫وأعين عليها‪ ،‬على النحو الذي كشفت عنه مؤامرة مشروع العربية األساسية الذي وصفه الدكتور‬
‫عبد الحليم محمود بأن هدفه واضح في هدم معالم اللغة العربية‪ ،‬وتبعا لذلك البعد بها وبأهلها عن‬
‫القرآ ن الكريم ثم ما ينتج عن ذلك من مساس باإلسالم وأصوله كما هي مصونة في كتاب هللا وسنة‬
‫رسوله الكريم‪ ،‬ذلك إلى إيجاد الهوة الواسعة بين ما تؤول إليه اللغة (ال قدر هللا) وما احتوته من تراث‬
‫في صورتها السليمة يمتد نحو أربعة عشر قرنا من نحو أربعة عشر إقليما‪ .‬ومن ذلك نتبين أن‬
‫المشروع يرمي إلى قطع الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الفقهي الذي يعتمد فيما يعتمد‬
‫على داللة المفهوم والمنطوق وأساليب القصر والتقديم والتأخير وما إلى ذلك مما ال يتحقق في لغة‬
‫أساسها العامية‪ ،‬بل إنه يقطع صلة المسلم بالتراث العلمي اإلسالمي بصفة شاملة‪.‬‬
‫العلوم القاصرة‬
‫(رابعا) اللغة العربية الفصحى لغة القرآن هي لغة ألف مليون هم المسلمون وليس مائة مليون هم‬
‫العرب وحدهم‪ .‬لذلك فإن من الخطإ تطبيق علم اللغات الحديث عليها‪ ،‬ذلك ألنه علم قامت نظرياته‬
‫ومستخلصاته على أساس دراسة واسعة للغات األورويبة‪ .‬هذه اللغات لها تاريخ وتحديات وطرق‪ .‬أما‬
‫تاريخها فإنها مشتقة من اللغة الالتينية ولغات أخرى‪ ،‬وقد كانت في أول األمر لهجات عامية ثم‬
‫استقلت بنفسها تحت تأثير عوامل كثيرة‪ .‬أما التحديات فإن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات القومية‬
‫األوروبية جعل الموقف جد مختلف بينها وبين العربية‪ .‬أما الطريق فهو أن اللغة العربية ارتبطت‬
‫بكتاب منزل أعطاها وحماها وجعلها ليست لغة العرب وحدهم وإنما لغة الثقافة اإلسالمية عامة منذ‬
‫ارتبطت بالقرآن الكريم وثقافة المسلمين جميعا الذين يبلغ عددهم في مطلع القرن الخامس عشر ألف‬
‫مليون‪>>.‬‬
‫هذا المقال في عمقه وروحه يمثل المكون الثاني مبرزا المكون األول ذي النزعات الهدامة‪ ،‬الشعوبية‬
‫والتمصيرية على مختلف مشاربها االستشراقية التبشيرية والكولونيالية‪ ،‬النقيض الحضاري لألمة‬
‫العربية اإلسالمية ممثل بطابور خامس على شاكلة العمالء السياسيين واالقتصاديين‪ ،‬وطائفة‬
‫مستجهلة فاقدة وقاصرة عن االستبصار العلمي بذاتها وهويتها وإن تسمت مكرا ولبسا مرادا‬
‫بالعلمانية‪ .‬ولعل هذا الموقف للمكون الثاني قد يجد له مبررا كردة فعل وجودية لتطرف‪ ،‬بل لعدوان‬
‫سافر‪ ،‬كاشف عن وجهه‪ ،‬مفصح عن حربه للوجود الحضاري العربي اإلسالمي‪ ،‬الذي تمثل فيه اللغة‬
‫العربية محوره وقوامه؛ فإن ذهب لسان قوم ذهبوا‪ ،‬وما العربية هوية وحضارة ووجودا إال اللسان!‬
‫‪101‬‬

‫هذا من جهة التفسير للمواقف؛ لكن هللا سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيء قدرا؛ والتبريرات السلوكية‬
‫ال يبنى عليها في العلم كبناء إال بما لها من قيمة المصداقية والحق‪ .‬ولذلك كان لعدة حقائق ومفاهيم‬
‫وزنها واعتبارها في مطلق علم السلوك من مستوى الفرد إلى الجماعة سياسة وتوجيها‪ .‬ولعل أبرزها‬
‫مفهوم االستفزاز‪ ،‬كآلية معتمدة‪ ،‬أهم غاياتها التحكم بنسب معينة في سلوك اآلخر‪ ،‬وتوجيهه‬
‫اضطرارا لدافع نفسي في الغالب لوضع غير سليم ليس بصحيح؛ يقول سبحانه وتعالى‪{:‬واستفزز من‬
‫استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في األموال واألوالد وعدهم' وما‬
‫يعدهم الشيطان إال غرورا' إن عبادي ليس لك عليهم سلطان' وكفى بربك وكيال'}(اإلسراء‪)42-43‬‬
‫فمقولة أن كل تطرف يتولد عنه تطرف مقابل ليس ينبغي حملها إال على الغالب وعلى البعد االنفعالي‬
‫المباشر‪ ،‬الذي يكون هو المستهدف أصال حين تكون الحالة حالة استفزازية‪ .‬وهو بعد سلوكي‬
‫ميكانيكي ال يمثل اإلطار العلمي الصحيح للموقف‪ ،‬حيث أوال أن التطرف المولَّد إنما هو بالنسبة‬
‫للتطرف األول‪ ،‬وهو نتيجة حتمية لبناء الحكم ومن ثمة السلوك‪ ،‬بقصر النظر على الطرف المناوئ‬
‫ال على الموضوع مادة وإطار النظر والتنازع‪ .‬وهذا بالضبط ما نسميه عادة بالحكم والتصرف‬
‫االنفعالي والعاطفي المغيب لالعتبار الموضوعي والعلمي للقضية‪ ،‬أي التصرف والحكم المعقلن‪،‬‬
‫وإنما القوة في السداد والسداد يكون بالعقل والسلوك الحق‪ .‬يقول الدكتور عمر موسى باشا‪0221( 42‬‬
‫رئيس قسم اللغة العربية وآدابها‪ -‬جامعة دمشق‪ -‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية) تحت عنوان جزئي‬
‫(الحداثة واإلصالح) في مقاله (إشكاليات اللغة العربية بين األصالة واإلعجاز والحداثة)‪:‬‬
‫<< إن دعاة الشعوبية المستحدثة يختلفون بين معتدل ومتطرف‪ ،‬بعضهم في موضع المسؤولية‬
‫الفكرية‪ ،‬منهم أحمد لطفي السيد‪ ،‬وسعيد عقل‪ ،‬واألب مارون غصن‪ ،‬ويوسف الخال‪ ،‬وشعراء الزجل‬
‫بشكل عام‪ ،‬وعلى رأسهم ميشال طراد‪ ،‬ومؤيدو األدب الشعبي وعلى رأسهم الدكتور عبد الحميد‬
‫يونس‪ ،‬وعبد الرحمان بشناق‪.‬‬
‫وكما وضحنا فإن تيار العامية الذي توضحت بواكيره في مطلع هذا القرن قد عارضه تيار عربي أشد‬
‫منه وأقوى‪ ،‬وذلك بظهور األعالم الكبار من المصلحين الذين كانوا ينادون باإلصالح السياسي‬
‫واالجتماعي والديني‪ ،‬واقترن الفكر القومي باللغة العربية الفصحى‪ ،‬من هؤالء المصلحين الذين‬
‫جعلوا العربية الدعامة األساسية لبناء المجتمع العربي واإلسالمي‪ ،‬محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬وجمال‬
‫الدين األفغاني‪ ،‬والسيد أمير علي‪ ،‬وخير الدين باشا التونسي‪ ،‬وعلي باشا المبارك‪ ،‬وعبد الرحمان‬

‫‪ 42‬الفكر العربي‪ -‬نيسان‪ -‬حزيران‪/‬أبريل‪ -‬يونيو ‪ -0221‬العدد الستون‪ -‬السنة الحادية عشرة ‪2‬‬
‫‪102‬‬

‫الكواكبي‪ ،‬والشيخ محمد عبده‪ ،‬وتكلل جهد هؤالء المصلحين في هذا العصر بظهور كثير من العلماء‬
‫واللغويين واألدباء الذين تصدوا للشعوبية الجديدة في الطعن على اللغة العربية ونعتها بالجمود‪،‬‬
‫والمناداة لتقبل العامية كظاهرة موجودة في الحياة االجتماعية‪ ،‬والمناداة بتقبل العامية ومؤاخاتها‬
‫لتكون على قدم المساواة مع العربية الفصحى‪.‬‬
‫تمثل لنا ذلك كله في مصر والشام معا في وقت واحد ومنطلق واحد‪ ،‬وتكمن وراءه عوامل خارجية‬
‫لتمزيق األمة العربية في هذه المرحلة الخطيرة من تطوراتها السياسية واالجتماعية والحضارية‪>>.‬‬
‫حاولنا أن نبرز خاصة من خالل ما تقدم المكونين األول والثاني؛ وكما أشار إليه األستاذ أنور الجندي‬
‫أو يوحي إليه عنوان مقاله‪ ،‬فإن للغة العربية كشرط وجودي تحديات تاريخية موضوعية‪ ،‬تفرضها‬
‫المسايرة وربانية الفكر والعقل الذي ليس له من وجود وتحقق إال من خالل اللغة‪ ،‬أو لنقل إن اللغة‬
‫هي أخطر األبعاد والشروط لهذا الوجود وهذه المسايرة‪ .‬هاهنا يبرز قصور االنكفاء في المواجهة‬
‫على النأي باللغة العربية بدعوى الحرص عليها عن آليات النظر العلمي المستجدة تبعا لسنة هللا تعالى‬
‫في التطور والتغير في المستخلف فيه‪ ،‬المعبر عنه في نص القرآن العظيم على أنحاء مختلفة‪ ،‬فمن‬
‫حيث المادة المعجمية المؤصلة لمشروعية اللفظ قوله تعالى‪{:‬ما لكم ال ترجون هلل وقارا وقد خلقكم‬
‫أطوارا'}(نوح‪ )03-01‬ومن جهة الفضاء التواجدي قوله تعالى وهو الخالق العليم‪{:‬والسماء بنيناها‬
‫بأييد' وإنا لموسعون' واألرض فرشناها' فنعم الماهدون'}(الذاريات‪ .)38-37‬بخصوص هذا الشأن‬
‫ذي األثر الخطير في مسار األمة يقول مالك لن نبي رحمه هللا‪ ... < :‬فقد نتج عن ذلك أن صارت‬
‫العربية مؤلهة ال تقبل التطور‪ ،‬وأحال تقديس أهلها لها تصريفها إلى شيء ال يمسه التطويع‪ ،‬مقتصر‬
‫على خمس عشرة صيغة‪ ،‬حتى ليعد من الكفر خلق صيغ جديدة بإضافة زوائد مناسبة‪ ،‬على الرغم‬
‫‪43‬‬
‫من أن ذلك ممكن جدا في روح اللغة نفسه‪>.‬‬
‫وفي إطار االستخالف والتحذير من االنكفاء داخل نمط منحفظ محجور ال يبغي عن نمطيته خروجا‬
‫وال تبديال‪ ،‬ولو كان ذلك بزعم اإليمان وزعم االتباع لألنبياء والرسل عليهم السالم‪ ،‬وما هو باتباع‬
‫حق؛ يقول هللا تعالى‪{:‬ما كان لبشر أن يؤتيه هللا الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا‬
‫لي من دون هللا' ولكن كونوا ربانيين بما كمنم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون' وال يأمركم أن‬
‫تتخذوا المالئكة والنبيئين أربابا' أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون'}(آل عمران‪)72-78‬‬

‫‪43‬مككتبة خالدية ‪ - PDF‬مالك بن نبي‪ :‬مشكالت الحضارة‪ -‬وجهة العالم اإلسالمي‪ -‬ترجمة بد الصبور شاهين‪ -‬دار الفكر‪ -‬ص‪22‬‬
‫‪103‬‬

‫قلنا إن للغة العربية تحديات‪ ،‬منها وجوب المسايرة للعلم اإلنساني في مساره التطوري؛ فالمعرفة‬
‫اإلنسانية هي أبدا في تطور واتساع على مستوى األبعاد الدراسية لمختلف مواضيع الحقل اإلنساني‬
‫واهتماماته العلمية والدراسية‪ .‬ونعني هنا بتحديات اللغة تحديات قومها وتحديات األمة التي تتواجد‬
‫بها‪ .‬وال يحمل ذلك على ذات اللغة وجوهرها‪ ،‬وعلى العربية خاصة ولها ما تختص به من الخاصات‬
‫ما يتجاوز حدود التعريف والمحددات لعموم اللغات واأللسن‪ ،‬فشأنها من شأن الوحي الكريم الذي هو‬
‫محور التاريخ البشري‪ .‬وحفظها مكفول كفل حفظ الكتاب والقرآن المجيد آخر رساالت هللا تعالى‬
‫وحجته سبحانه على العالمين‪ .‬وهذا ما يعبر عنه المستشرق األلماني يوهان فك بقوله‪:‬‬
‫<<وإن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسيا لهذه الحقيقة الثابتة‪ ،‬وهي أنها‬
‫قد قامت في جميع البلدان العربية‪ ،‬وما عداها من األقاليم الدارجة في المحيط اإلسالمي‪ ،‬رمزا لغويا‬
‫‪44‬‬
‫لوحدة عالم اإلسالم في الثقافة والمدنية>>‬
‫هكذا ال يمكن للغة العربية إذا ما أريد حقا الحفاظ أو باألصح االرتكاز على قوتها المستمدة من‬
‫وظيفتها التاريخية‪ ،‬وما كان لغير هللا تعالى الخيرة في ذلك‪ ،‬وال يمكن النهل من معينها وإمكانها الذي‬
‫ال ينضب‪ ،‬إال بما يالئم حقلها الخطابي‪ ،‬وعلى قدر وسعة طورها اآللياتي والعلمي‪ ،‬الذي يعرف اليوم‬
‫توسعا على مختلف أبعاد الموضوع اللغوي الممثل في الدراسات اللغوية الحديثة أو ما يصطلح عليه‬
‫باأللسنيات أو علم األلسنية‪ .‬لكن هاهنا أيضا يطرح إشكال اللغة والحداثة‪ ،‬ليس من جهة ذات اللغة‪،‬‬
‫ولكن في القائمين على شأنها أو لنقل المتصدين لهذا الشأن‪ ،‬وهذا ما تضمنه النص أو المقال األول‬
‫لألستاذ أنور الجندي تحت عنوان (العلوم القاصرة)‪ ،‬العنوان الذي ال يعبر عن الحقيقة إال باعتبار‬
‫سياق النص ككل ومقام القول وإطاره‪ ،‬وإال فإن لكل علم حيزا هو فيه علم حقيقة ال يمكن وصفها‬
‫بالقصور؛ وإنما باإلثبات لهذه الحقيقة العلمية أو نفيها‪ .‬وال يوصف بالقصور إال العلم المضاف بمعنى‬
‫المعرفة المضافة؛ وذلك تحديدا ما يمثل المكون الثالث من الموقف العام للعقل العربي اإلسالمي اتجاه‬
‫القضية اللغوية وإشكال المسايرة أو ما شاع التعبير أكثر عنه بالحداثة‪.‬‬
‫فهذه الحيزات والمناحي العلمية التي لها كامل الصفة والحقيقة العلمية في غالبها‪ ،‬سواء إن نظر إليها‬
‫في مواضيعها وحيزاتها المختصة بها‪ ،‬أو في النظريات المعتمدة فيها والتي هي الهيكلة الحقيقية لها‪،‬‬
‫إنما هي اقتطاعية وجهاتية بالمعنى الصناعي الهندسي‪ .‬بل إن مستوياتها المستجدة بالنسبة للنظر‬
‫المعرفي للعلم اإلنساني مرجعه البعد التكنولوجي خاصة‪ ،‬إال قليال من التعميل لبعض من النظريات‬

‫‪ 44‬الفكر العربي‪ -‬العدد السابق‪ -‬ص‪14‬‬


‫‪104‬‬

‫واألنساق العلمية من طرف علماء رياضيين أو مهندسين أنعم هللا عليهم باالهتمام بهذا الشأن العظيم‬
‫في حياة اإلنسانية اجتماعا وثقافة وحضارة الذي هو اللغة‪ .‬وبمعنى آخر فإن األلسنية الحديثة ال يمكن‬
‫لها حقيقة أن تمس من الموضوع اللغوي إال األبعاد والمستويات الخارجية‪ .‬ومنه يستنبط مدى الجهل‬
‫بواقع وإطار الدرس اللغوي لدى الجم الكثير ممن وجدوا أنفسهم بعد تكوين جامعي لبضع سنوات‪،‬‬
‫وجدوا أنفسهم من األلسنيين‪ .‬ومنهم الذين يزعمون ويمنون أنهم أول من أدخل هذا الدرس الحديث في‬
‫جامعة هذا البلد أو الجامعة العربية ككل‪ ،‬وكتاباتهم أو نقولهم تدل بداللة يسيرة غير عسيرة أنهم لم‬
‫يتمثلوا ما يزعمون ويظنون أنهم على شيء منه؛ هؤالء هم الذين ال يحسون بغضاضة‪ ،‬وال يكادون‬
‫يفقهون أن لقولهم أثرا حين يسجون الرصيد اللغوي والنحوي العربي لكل التاريخ العربي اإلسالمي‪،‬‬
‫فيصفونه بالنحو التقليدي وينعتون المهتمين به بالتقليدانيين‪.‬‬
‫إن هذا الشأن لشأن عظيم‪ ،‬والعلوم الحديثة واأللسنية منها أكيدا‪ ،‬هي من شروط الدرس اللغوي‪ ،‬بيد‬
‫أن التصدي لهذا الشأن ينبغي له كذلك الكفاءة العلمية العليا؛ فالربانية كما هو مسطر في القرآن العظيم‬
‫جامعة بين شرطي األصول والدراسة‪ ،‬األصول‪ :‬التكوين العلمي المؤهل لصاحبه تجاوز الشعور‬
‫بالدونية العلمية في شتى أو أهم الحقول العلمية ذات التأثير المباشر في البناء المعرفي للذات العلمية‪،‬‬
‫كما هي وصية شينطارو إيشيهارا لبني قومه في كتابه الذي أحدث ضجة كبرى وأربك امريكا‬
‫والغرب جميعا‪< :‬إذا ما استمررنا بهذا الشعور بالدونية‪ ،‬فإن اليابان ال يمكن لها أن تكون نواة هذا‬
‫الطور الجديد (يعني الطور التكويني التاريخي )‪ .‬فلكي نتحمل هذه المسؤولية الكبرى الملقاة على‬
‫عاتقنا حقيق علينا أن نغير هذه النظرة وهذه الصورة اتجاه أنفسنا‪ 45>.‬وكما سطر عليه ريتشارد‬
‫داوكينز من هذه الخاصة لإلنسان ن غيره من المخلوقات في قدرته من خالل السلوك الثقافي وبالتالي‬
‫من خالل اإلرادة التواجدية‪ ،‬قدرته على التأثير في الجينوم وتغييره و<كون قواعد سلوكنا محددة‬
‫‪46‬‬
‫وموجهة من خالل الثقافي أكثر مما هو من الجيني>‬
‫والدراسة‪ :‬شرطها األهم الحكمة التي ال تؤثر مع وجودها إال بالشرط األول‪ .‬وهذا المكون الثالث هو‬
‫الذي يبرز أن القضية ليست في اللغة العربية‪ ،‬ولكن في أهلها وفي شروطهم التواجدية والتاريخية‪،‬‬
‫التي من خاللها ومدى قوتها وعلميتها ينظرون إليها ويكون وجه نصحهم لها‪.‬‬

‫‪45‬‬ ‫‪Le Japon sans complexe – Shintaro Ishihara –p39- DUNOD‬‬


‫‪46‬‬‫‪Ervin Laszlo – La coherence du reel- Evolution ; cœur du savoir- Preface de Federico Mayor-‬‬
‫‪Preface XIII- gathiers-villars‬‬
‫‪105‬‬

‫فالمواكبة العلمية بكل شروطها و< عدم التهاون في البنية التركيبية أي تكن الذرائع (التجديد‪،‬‬
‫التحديث‪ ،‬مواكبة العصر إلخ ‪ )..‬وبيان أن أساليب التعبير تتطور شأنها في ذلك شأن غيرها من‬
‫الظواهر اللغوية – داخل بنية اللغة نفسها‪ ،‬ال بالخروج عنها وتدميرها‪ ،47>.‬هذه المواكبة والمسايرة‬
‫كحكم وموقف هي المكون الرابع في هذا اإلشكال الهام‪ ،‬إشكال وقضية اللغة العربية وسؤال تحدياتها‪.‬‬
‫كذلك مما يلزم التوقف عنده وتصحيحه من الرأي الذي ال يقوم على الحقيقة العلمية‪ ،‬القول باالرتباط‬
‫البنيوي بين األساليب واللغة في قوانينها؛ هذا ليس من الحق في شيء ألن هذه القوانين النحوية‬
‫واالشتقاقية والصرفية ال ينبغي لها التبدل لتكون ولتبقى لها الحقيقة العلمية للغة‪ .‬وبمعنى آخر‪،‬‬
‫فالقوانين البنيوية للغة‪ ،‬أية لغة كانت‪ ،‬هي قوانين وجودية وجوهرية‪ ،‬قائمة بقانون الحقيقة الوجودية‬
‫مما يمثله قوله تعالى‪{:‬ما خلق هللا السماوات واألرض وما بينهما إال بالحق وأجل مسمى'}(الروم‪)7‬‬
‫مما يعني أن بنيتها التركيبية والصوتية (الفونولوجية) على الفضاء الهندسي الذي يمثله اإلعراب‬
‫والصرف واالشتقاق‪ ،‬هي مثلها مثل أبنية المادة وجزيئياتها وذراتها وحقولها وأطيافها‪ ،‬سنة هللا تعالى‬
‫في خلقه ولن تجد لسنة تحويال؛ فهذا الحق ولكن أكثر الناس ال يعلمون‪ .‬وإنما الخوف كل الخوف أن‬
‫ينشأ في غفلة من سياسة القوم وعلى ضعف في التواجد العولمي االستعماري الكاسح‪ ،‬أن ينشأ نشء‬
‫منبت الصلة عن لسان قومه‪ ،‬فيصبح انتماؤه حتى إال رسما وادعاء كاذبا ووثيقة كاذبة ليست لها‬
‫حقيقة‪ ،‬وال تسألن حينها عن فساد اللغة في هاتيك الذوات السليبة عن هويتها وذهاب اللسنة وفشو‬
‫اللحن‪.‬‬
‫هذه المكونات التي يمثل كل منها موقفا محددا له مرجعه الذي يعلله وقناعاته‪ ،‬قناعات ليست في بعد‬
‫االنتماء والفكر فقط‪ ،‬وإنما هي هنا ولطبيعة الموضوع األكثر صبغة علمية ذات تعليل معاييري‬
‫وحقائقي‪ ،‬أي ترجع بحد كبير إلى األفق المعرفي والعلمي الذي يختلف من مكون إلى آخر‪ .‬هذا‬
‫المشهد وهذه المكونات جميعها قد نجد لها إشارة وتمثيال في فصل من فصول القول والحديث لطه‬
‫حسين وهو يدلي بموقفه حين بلغ السجال بين أكبر فرقاء المشهد الفكري واألدبي في مصر حول‬
‫قضية البيان واللغة أشده؛ يقول طه حسين وهو يعرض لهذا اإلشكال في كليته‪:‬‬
‫<<فاللغة الالتينية لم تمت فجأة‪ ،‬واللغات الحديثة لم تقم مقامها فجأة‪ ،‬واللغة الالتينية لم تمت ألن‬
‫الشبان من أبنائها قضوا عليها الموت في يوم من األيام‪ ،‬وقرروا أن تقوم اللهجات العامية مقامها‪،‬‬
‫وإنما ماتت اللغة الالتينية في بطء بطيء جدا بعد خطوب طوال ليس هنا موضع الحديث عنها‪ .‬وقد‬

‫‪ 47‬الفكر العربي‪ -‬العدد السابق‪ -‬تقديم المحرر‪ -‬ص‪4‬‬


‫‪106‬‬

‫تعرضت اللغة العربية الفصحى لخطوب طوال ثقال أيضا حفظتها كتب التاريخ ولكنها انتصرت إلى‬
‫اآلن على هذه الخطوب فلم تمت ولم يدركها فتور أو قصور‪ ،‬وإنما قاومت وغالبت وأتيح لها الغلب‬
‫واالنتصار‪ ،‬فظلت حية قوية متطورة وظلت اللهجات العامية ضعيفة ضئيلة ال تصلح لألداء األدبي‬
‫قليال أو كثيرا‪ .‬وآية ذلك أننا ال نعرف أثرا أدبيا رائعا خالدا‪ ،‬كتب في لهجة من هذه اللهجات إلى اآلن‪.‬‬
‫وليس يكفي أن نقرر أن لغة من اللغات قد ماتت لتموت‪ ،‬وليس يكفي أن نقضي الموت على لغة من‬
‫اللغات ليصبح قضاؤنا ضربة الزمة ولتموت هذه اللغة ألننا أردنا لها الموت‪.‬‬
‫كل هذا عبث من العبث‪ ،‬واضطراب فيما ال ينفع وال يفيد وال يغني عن الناس شيئا‪ ،‬واستجابة للكسل‬
‫الذي يثبط الهمم ويفل الحديد ويميت القلوب‪ .‬وخير من هذا كله أن نستقبل أمور اللغة العربية‬
‫الفصحى ومشكالتها كما نستقبل غيرها من األمور والمشكالت‪ ،‬فنلتمس لها ما يالئمها من الحلول وال‬
‫نستيئس من الظفر بهذه الحلول‪.‬‬
‫وللغة العربية الفصحى مشكالت خطيرة ليس في ذلك شك‪ .‬وقد تنبهنا لهذه المشكالت منذ أواخر‬
‫القرن الماضي‪ ،‬ولكنا لم نجد الشجاعة إلى اآلن لحلها في غير تردد وال تلكؤ‪ ،‬وإنما صانع منا‬
‫المصانعون‪ ،‬وداور منا المداورون‪ ،‬وتركنا األمور تمضي كما تستطيع فعرضنا لغتنا وأدبنا لشر‬
‫عظيم‪.‬‬
‫ولست أذكر اآلن من هذه المشكالت إال اثنتين‪ ،‬كلتاهما خطيرة أشد الخطورة‪ .‬فأما أوالهما فهي‬
‫الكتابة العربية التي طالب الناس بإصالحها منذ أواخر القرن الماضي فيما أذكر دون أن يظفروا‬
‫بشيء‪ .‬والثانية هي علم النحو الذي حاول الناس إصالحه منذ أوائل القرن فلم يظفروا بشيء أيضا‪.‬‬
‫واألصل الذي يجب أن ينتبه إليه الناس هو أن الكتابة فيما مضى كما كان النحو مقصورة على قلة‬
‫قليلة من الناس فأصبحت بحكم النظم الحديثة مفروضة على الشعوب كلها‪ .‬كانت أرستقراطية‬
‫فأصبحت ديموقراطية إن صح هذا التعبير‪ .‬وإذا كانت األرستقراطية تستتبع الصعوبة والعسر‬
‫والضيق ألنها تصور االستئثار واالحتكار وإقامة الحواجز والمصاعب دون ما يستأثر به السادة‬
‫الممتازون‪ ،‬فإن الديموقراطية تستتبع السهولة واليسر واإلسماح وإزالة المصاعب وتذليل العقاب‪.‬‬
‫وإذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع‪ .‬ونحن نريد أن يكون الشعب كله كاتبا قارئا فلنيسر له الكتابة‬
‫والقراءة حتى يبلغ حاجته في سعة ودعة‪ ،‬وفي يسر ولين‪.‬‬
‫‪107‬‬

‫ونحن نكتب اآلن كما كنا نكتب منذ أكثر من ألف سنة حين كانت الكتابة امتيازا تستأثر به قلة من‬
‫الناس‪.‬فإذا ألغيت هذا االمتياز فألغ ما كان يقتضيه من ضروب المصاعب والعقاب‪ ،‬ويسر الكتابة‬
‫والقراءة ليستطيع الناس جميعا أن يكتبوا ويقرأوا دون أن يضيعوا من الجهد والوقت ما ال يملكون‪.‬‬
‫ومن الحمق األحمق والجهالة الجاهلة حقا أن تطلب إلى عامة الشعب أن تحسن الفهم لتحسن الكتابة‬
‫والقراءة‪ .‬فاألصل أن يكتب الناس ويقرأوا أوال وأن يفهموا بعد ذلك‪ ،‬وقل مثل هذا بالقياس إلى‬
‫النحو‪ ،‬فنحن نعلم صبيتنا وشبابنا أصول اللغة العربية وخصائصها كما كانت تعلم منذ اثني عشر قرنا‬
‫في البصرة والكوفة وبغداد‪ ،‬وقد تغيرت الحياة وتغيرت العقول وأصبح النحو القديم تاريخا يدرسه‬
‫األخصائيون ولم يبق بد من نحو ميسر‪ ،‬قريب لتفهمه هذه الماليين الكثيرة من التالميذ‪.‬‬
‫والصبية والشباب يتعلمون اللغات األوروبية‪ ،‬فال يجدون مشقة وال عسرا في فهم النحو لهذه اللغات‪،‬‬
‫ألن نحوها قد تطور حتى الءم الحياة الجديدة والعقل الجديد‪.‬‬
‫وأغرب من هذا أن اللغة الالتينية الميتة تدرس للصبية والشباب في أوروبا‪ ،‬وال يجد الصبية والشباب‬
‫مشقة وال عسرا في فهم النحو الالتيني ألنه قد يسر حتى الءم الحياة الجديدة والعقل الجديد‪ .‬وقد مثل‬
‫ذلك بالقياس إلى اللغة اليونانية القديمة‪ .‬فاعجب للغات ميتة يدرس نحوها اآلن في يسر أي يسر‪،‬‬
‫وللغة حية هي لغتنا العربية يدرس نحوها في عسر عسير‪ ،‬وال ينتهي بتالميذه إال إلى جهله وبغضه‬
‫وبغض اللغة العربية كلها من أجله‪.‬‬
‫وأنا مطمئن كل االطمئنان إلى أن إصالح الكتابة العربية وتيسير النحو العربي كفيالن بإراحة الجيل‬
‫الناشئ من شبابنا من هذا العناء الثقيل الذي ينوء بالكتاب المعاصرين من شبابنا األدباء الذين تعلموا‬
‫اللغة العربية في أساليب ال تالئم عقولهم وأمزجتهم فلم يحسنوها ولم يطمئنوا إليها‪ ،‬واضطرهم ذلك‬
‫آخر األمر إلى ما يشقون به ويشقى به معهم قراؤهم من هذا اإلنتاج األدبي الذي يجمع بين الجمال‬
‫والقبح والجودة والرداءة في وقت واحد‪ ،‬ومن هذه الشكوى التي ال تنقضي من صعوبة اللغة الفصحى‬
‫واستعصائها‪ ،‬ومن هذه المطالبة الممضة بااللتجاء إلى اللهجات العامية وإقامتها مقام اللغة العربية‬
‫الفصحى التي تشقى بأساتذتها ومعلميها‪.‬‬
‫وأحب آخر األمر أن ألفت أدباءنا الذين يطالبون بااللتجاء إلى اللهجات العامية إلى شيء خطير ما‬
‫أرى أنهم قد فكروا فيه فأحسنوا التفكير وهو أن العالم العربي اآلن وكثيرا من أهل العالم الشرقي كله‬
‫يفهم اللغة العربية الفصحى ويتخذها وسيلة للتعبير عن ذات نفسه وللتواصل الصحيح القوي بين‬
‫أقطاره المتباعدة‪.‬‬
‫‪108‬‬

‫فلنحذر أن نشجع الكتابة باللهجات العامية فيمضي كل قطر في لهجته وتمعن هذه اللهجات في التباعد‬
‫والتدابر ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم إلى لهجته كتب السوريين واللبنانيين‬
‫والعراقيين‪ ،‬ويحتاج أهل سوريا ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون من ترجمة الكتب‬
‫المصرية إلى لهجاتهم كما يترجم الفرنسيون عن اإليطاليين واإلسبانيين‪ ،‬وكما يترجم هؤالء عن‬
‫الفرنسيين‪.‬‬
‫ولنسأل أنفسنا آخر األمر أيهما خير أن تكون للعالم العربي كله لغة واحدة هي اللغة الفصحى يفهمها‬
‫أهل مراكش كما يفهمها أهل العراق؟ أم تكون لهذا العالم لغات بعدد األقطار التي يأتلف منها‪ ،‬وأن‬
‫يترجم بعضه عن بعض كما يترجم بعض األوروبيون عن بعض؟ أما أنا فأوثر وحدة اللغة وأثق الثقة‬
‫كلها بأن لها النصر آخر األمر‪ ،‬وأرى غير متردد أن وحدة اللغة هذه حقيقة بأن يجاهد في سبيلها‬
‫‪48‬‬
‫المؤمنون بها وبأن يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون‪>>.‬‬
‫إن لفظ اإلصالح للنحو العربي الذي يعنيه طه حسين هنا كما غيره‪ ،‬ليس يحمل إال على ما يتوافق‬
‫والحق والعلمية‪ .‬فالقوانين البنيوية للغة العربية ال تتبدل‪ ،‬فطرة الخلق واللسان‪ ،‬ألم تتل قوله‬
‫تعالى‪{:‬ومن آياته خلق السماوات واألرض واختالف ألسنتكم وألوانكم' إن في ذلك آليات‬
‫للعالمين'}(الروم‪ .)20‬إن لفظ اإلصالح هنا بحسب مقام اإلشكال كله‪ ،‬وبحسب الذوات الخطابية‬
‫والمفكر فيه لديها‪ ،‬ليس يراد به إال الصيغة التقعيدية‪ ،‬التي هي بالبداهة مرتبطة بالمناهجية أو علم‬
‫المناهج؛ وهذا أمر مستطاع بل حتمي الزب حتى تتحقق للعرب وألمة العربية مسايرتهم البيانية‬
‫واللسانية؛ وكذلك هو من متطلبات المنهاجية التعليمية‪ ،‬ذات األهداف المخصوصة للحقول العلمية‬
‫والمستويات اإلدراكية والتعليمية‪ .‬والذي يدلك على هذا أن طه حسين نفسه هو الذي يشدد في الشرط‬
‫اللغوي على مستوى الكتابة األدبية فيقول‪:‬‬
‫<< ورحم هللا أياما كان الشرط األول فيها ألي محاولة أدبية هو إتقان العلم باللغة ال االكتفاء بظاهر‬
‫منها ‪ . .‬وقد قلت ذلك ألف مرة ومرة حتى سئمت العودة إليه‪ .‬ولكن ماذا نصنع والمتأدبون من شبابنا‬
‫يؤمنون بأنفسهم أكثر مما ينبغي لهم‪ ،‬ويؤثرون السهل على الصعب ويكرهون أشد الكره أن يتكلفوا‬
‫‪49‬‬
‫مشقة أو عناء في الدرس والتعمق ‪>>..‬‬

‫‪ 48‬طه حسين –خصام ونقد ص‪– 023..082‬دار العلم للماليين –بيروت‪ -‬لبنان – الطبعة الحادية عشرة – مارس‪0282‬‬

‫‪ 49‬طه حسين – كلمات‪ .‬ص‪ – 44‬دار العلم للماليين ‪-‬بيروت‬


‫‪109‬‬

‫لعلك اآلن قد وقفت على حقيقة هذا المشهد بكل أطيافه وفرقائه؛ فمنهم مسلوب فاقد لهويته ال يكاد‬
‫يدرك لها وجودا وال عدما‪ ،‬أو جهول بشروطها التي ال تكون وال يحق لها وجود إال حين تتحقق به‬
‫ويحققها‪ ،‬ومنهم من ال يرى الحصن الحصين إال في بعد التواجد االنفعالي الذي ال يرى سوى الطرف‬
‫المناوئ ويذهل عن الموضوع الذي هو اللغة العربية‪ ،‬ويهمل ويخل بوجه النصح الدراسي والعلمي‬
‫بها‪ .‬وطائفة أخرى‪ ،‬ومن خالل موقفها يستدل على تخلف الشرط الموضوعي عندها ألن تتصدى‬
‫ألمر عظيم ال يغني فيه حمولة صدى لتوسعات لغوية حديثة‪ ،‬حمولة صدى مفتقدة أوال للشرط‬
‫األصولي في اللغة العربية‪ ،‬الذي يا للمفارقة ال تلفيه في كتاباتهم المفتقدة لوهج فصاحة العربية إال‬
‫مقترنا بمعاني القديم المتجاوز‪ ،‬وهي في ذلك كله وفي الغالب دون العقل العلمي القادر على القراءة‬
‫االستيعابية لهذه التوسعات والدراسات اللغوية الحديثة‪ ،‬إنما تعرضت لدرس أو نصوص دروس‬
‫تنتهي برسائل جامعية جلها ليس لصاحبها منها شيء مادة وتأطيرا‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫إن معايير العلمية الكفيلة لسالمة الطرح في أي حقل من الحقول والمواضيع المعرفية معلومة‬
‫واضحة‪ ،‬فليس علينا إال أن نحيل ما طفق القول بشأنه إلى التفصيل‪ .‬والذي ينبغي اإلعالم به أننا‬
‫بصدد ليس فحسب اإلصالح بمعنى التبسيط للقاعدة النحوية للدرس اللغوي العربي‪ ،‬بل اإلصالح‬
‫بمعنى التصحيح والتقويم‪.‬‬
‫ليس من الصعب حصول القناعة واليقين إال أن يكون اعتصاما بالتقليد تقديسا لقول البشر‪ ،‬نحلة‬
‫أشربتها روح المقلد حتى أضحى يرى الخروج عنها أمرا عجبا‪ ،‬ليس من الصعب وليس بين منافذ‬
‫العلم والحقائق الجديدة إال عدم تكبيل العقل وإصر البصائر‪ ،‬كما هو حال من يقدس قول البشر ممن‬
‫ليسوا برسل وال أنبياء‪.‬‬
‫إن مجرد العلم بأن البناء العلمي الحق إنما ينبني على أساس وهيكلة محددة تحديدا هي الهيكلة‬
‫النظرية‪ ،‬واإليمان اليقين والعلمي بأن ال عصمة إال للوحي الكريم كتابا وسنة‪ ،‬وأن ما دونه محتمل‬
‫للخطإ كما الصواب‪ .‬من خالل هذا الشرط والنظر به إلى كثير من مقوالت النحو العربي‪ ،‬والتي هي‬
‫مادة العلم والتعليم إلى يومنا هذا‪ ،‬بل وهي منظار التفكير العربي والمشكلة لصيغه ونسيجه‪ ،‬من هذا‬
‫يظهر ويتبين بكامل الوضوح وفي صورة ال يبقى بعدها شك‪ ،‬أنها مقوالت تستحث وضعها موضع‬
‫التمحيص والنظر‪ ،‬مستوجبة لتحيين حقيق على مستوى المجال الحقائقي‪.‬‬
‫‪110‬‬

‫هكذا وبعدم اعتبارنا لمجموع المعارف والقواعد النحوية‪ ،‬بالمعنى الواسع للفظ النحو علما‪ ،‬ألن العلم‬
‫حقيقة هو بناء معرفي منفتح يتأسس على الهيكلة النظرية؛ لنحاول انطالقا من هذه المقدمة‪ ،‬مستعينين‬
‫بحول هللا وعونه سبحانه وتعالى في عرض أهم المقوالت الممثلة في اعتبار العقل والفكر العربيين‬
‫لمسمى علم النحو العربي‪ .‬ولنبدأ بأبرز هذه المقوالت مناط وعصب كل مجموع النحو العربي‪ ،‬مقولة‬
‫البناء واإلعراب‪.‬‬

‫‪ -1‬مقولة البناء واإلعراب‬


‫يقول سيبويه رحمه هللا‪:‬‬
‫<< فالرفع والجر والنصب والجزم لحروف اإلعراب‪ .‬وحروف اإلعراب لألسماء المتمكنة‪،‬‬
‫ولألفعال المضارعة ألسماء الفاعلين التي في أوائلها الزوائد األربع‪ :‬الهمزة‪ ،‬والتاء‪ ،‬والياء‪ ،‬والنون‪.‬‬
‫وذلك نحو "أفعل أنا"‪ ،‬و"تفعل أنت أو هي"‪ ،‬و"يفعل هو"‪ ،‬و"نفعل نحن"‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫وأما الفتح والكسر والضم والوقف فلألسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس بإسم وال فعل‬
‫مما جاء لمعنى ليس غير‪ ،‬نحو‪":‬سوف" و"قد"‪ ،‬ولألفعال التي لم تجر مجرى المضارعة‪ ،‬وللحروف‬
‫‪50‬‬
‫التي ليست بأسماء وال أفعال ولم تجئ إال لمعنى‪>.‬‬
‫ويقول ابن عقيل رحمه هللا (‪742-428‬هجرية) في شرحه على ألفية ابن مالك رحمه هللا (‪-411‬‬
‫‪472‬هجرية)‪:‬‬
‫<< ‪ . .‬ومذهب البصريين أن اإلعراب أصل في األسماء‪ ،‬فرع في األفعال‪ ،‬فاألصل في الفعل البناء‬
‫عندهم‪ .‬وذهب الكوفيون إلى أن اإلعراب أصل في األسماء واألفعال‪ .‬واألول هو الصحيح‪ .‬وذهب‬
‫ضياء الدين بن العلج في البسيط أن بعض النحويين ذهب إلى أن اإلعراب أصل في األفعال‪ ،‬فرع في‬
‫األسماء‪>>.‬‬

‫‪ 50‬الكتاب‪ :‬عمرو بن عثمان بن قنبرالملقب بسيبويه‪ -‬المجلد األول‪-‬دار الكتب العلمية‪-‬بيروت‪-‬ص‪31.30‬‬


‫‪111‬‬

‫ما نعلمه وما هو مستنبط ظاهر ثابت من هذا التقرير والنص‪ ،‬أن كل ما هو مقدم في شأن البناء‬
‫واإلعراب‪ ،‬سواء عند الكوفيين أو البصريين أو غيرهما‪ ،‬إن هو إال محض الرأي وخالص الخرص‪،‬‬
‫ليس لها إن أمعنت و نظرت مليا مثقال ذرة وال أساس من العلمية وسلطان العلم‪ .‬ثم إنه إذا كان العقل‬
‫البشري قد توصل إلى أن العلم له أركان ال يكون علما حقيقة إال بها‪ ،‬حتى كاد علمها وشأن معرفتها‬
‫واإللمام بها أو هو كذلك يقوم علما مستقال بذاته‪ ،‬فإنه كذلك مما تواطأت القلوب العاقلة العلمية على‬
‫معرفته وتقريره‪ ،‬هو أنه ال يحق وال يقبل في الحق وسوي الحال أن تختلف أو تتناقض الحقائق‬
‫المعبرة عن نفس الظاهرة والموضوع المالحظ والمدروس‪ ،‬إال لعلتين وعاملين ال ثالث لهما‪ ،‬إما‬
‫اختالف النظريتين أو النظريات المؤسس عليهما البناء العلمي إطار الحكم والنظر‪ ،‬وإما توجيه هذا‬
‫العلم داخل منظومة فلسفية أو أدلوجية مهيمنة‪ ،‬ولكن في كل ذلك مع شرط عدم حصول اختالل في‬
‫تماسك المجموع والبناء المعرفي من شأنه سلبه درجته وصفته العلمية‪ .‬هذان الشرطان والعامالن ال‬
‫تواجد لهما هاهنا‪ ،‬وإذا فليس هو إال الرأي‪ ،‬ال قول البصريين وال قول الكوفيين وال غيرهما‪ ،‬ينبني‬
‫على أمر من العلم وال على شيء مما يقبل ويستحق حقيقة وصبغة القول العلمي‪ .‬ولسوف يستبين أن‬
‫هذا الذي عاش به العقل العربي باعتباره علما للنحو‪ ،‬بإمالئه وصرفه وإعرابه‪ ،‬قرونا عديدة ودهرا‬
‫طويال‪ ،‬إنما هو في الحق تبعة جزاء للتقليد المفضي حتما باستحالته منهاجا ونحلة إلى الجمود‪ ،‬هو في‬
‫الحقيقة والحق عالة على فكر الحقبة والطور العلمي األول‪ ،‬وعامل سلبي ال شك في ذلك؛ فإن سنة‬
‫االجتماع التاريخي والعلمي اإلنساني‪ ،‬التطور والربانية المسايرة ألطوار التاريخ‪ ،‬وللعقل اإلنساني‬
‫في مجال تفكيره وآلياته العلمية‪ .‬إن سيبويه رحمه هللا في حقل العلم اللغوي‪ ،‬وبالتقييم التاريخي‪ ،‬ليس‬
‫بأية حال أدنى من حيث العطاء والذكاء العلمي من البخاري رحمه هللا في حقل علم الحديث‪ ،‬بيد أن‬
‫علم الحديث معتمده الجمع والتحقيق‪ ،‬أما النحو فهو أكثر ارتباطا باألبعاد التحليلية التي ال تنفك‬
‫متصلة بتطور آليات الفكر والعلم اإلنسانيين‪ .‬هذا االرتباط لن يجعل هذا المجموع المعرفي‬
‫والمقوالتي كقواعد معبرة لمدى استيعاب قانونية اللسان واللغة في صرفها وإعرابها وصحيح تركيبها‬
‫وجائز أسلوبها‪ ،‬لن يجعله بمفازة عن الحتمية من حيث النظر والمراجعة‪ .‬وليكف هنا حجة حاسمة في‬
‫تقرير هذا الحكم أن يتفق ويقرر كون كل المعارف والمنظومات المعرفية‪ ،‬بمتباين ومختلف درجاتها‬
‫في سلم العلمية‪ ،‬كلها إال الوحي الكريم كتابا وسنة‪ ،‬منطبق عليها هذا الحكم‪ ،‬ومجرد تاريخ علم‬
‫الفيزياء وتطوريته من مفاهيم الفيزياء الكالسيكية المنبثقة في طورها‪ ،‬والتي ساهمت تحقيقا لعلميتها‬
‫وصدقيتها على مستوى الواقع والوجود‪ ،‬ساهمت في بناء الطود الحضاري الغربي ونهضته‪ ،‬وفي‬
‫ثورته الصناعية التي ارتكزت أساسا على علم الصلب والحديد‪ ،‬الحديد الذي جعل فيه الخالق الغني‬
‫الحميد سبحانه بأسا شديدا ومنافع للناس‪ ،‬وليسبق هؤالء اآلخرون في تسخير ما خلقه هللا تعالى وما‬
‫أنزله من قوة في ثنايا وصحف العلم المشهود‪ ،‬وليغيروا غارة واحدة حتى أتوا على كل بالد العرب‬
‫‪112‬‬

‫والمسلمين‪ ،‬الذين خرجوا بجهلهم التاريخي والعلمي عن كفاءة التحكم في ما استخلفوا فيه تقتيال وسلبا‬
‫واستعمارا؛ العقل الغربي تجاوز هذا المفاهيم وإطارها إلى إطار نسق الفيزياء بالنظرية النسبياتية‬
‫وتعميالتها‪ ،‬ولم يقل بعصمتها أبدا‪ ،‬ألنه يعلم يقينا أن أصلها ومصدر إنتاجها غير مطلق‪ .‬فأي‬
‫النتاجين الفكريين أحق بالثبوت لو كانوا يعلمون؟!‬
‫فبالبداهة هذا دليل باألحرى واضح وجلي‪.‬‬
‫يقول ابن مالك في ألفيته‪:‬‬
‫لشبه من الحروف مدني‬ ‫واإلسم منه معرب ومبني‬
‫والمعنوي في متى وهنا‬ ‫كالشبه الوصفي في اسمي جئتنا‬
‫تأثر وكافتقار أصال‬ ‫وكنيابة عن الفعل بال‬
‫من شبه الحرف كأرض وسما‬ ‫ومعرب األسماء ما قد سلما‬
‫وأعربوا مضارعا إن عريا‬ ‫وفعل أمر ومضي بنيا‬
‫نون إناث كيرعن من فتن‬ ‫من نون توكيد مباشر ومن‬

‫من المعلوم أن المقوالت العلمية ال ينبغي لها أن تنبثق إال على الصيغة القانونية للتقعيد؛ والتقعيد إنما‬
‫هو تمثيل ألحكام وقوانين مضبوطة ينحصر سريانها على قيمتي اإلثبات والنفي‪ .‬ومن ثمة ال يجوز‬
‫أن يتضمن تعبيرها ألفاظا منافية ومخلة بمعنى اليقين والتحديد في الحكم‪ ،‬فال يستعمل في صيغتها‬
‫وتعبيرها ما هو من قبيل ألفاظ الظن والشبه المخالف لواقع التعيين والتحديد‪.‬‬
‫مقولة البناء واإلعراب هاته كما هي في حال وواقع العقل والفكر العربيين‪ ،‬هي مثل صارخ وبرهان‬
‫جلي صادع كون هذا المجموع الذي بني عليها‪ ،‬مفتقد لروح وحقيقة العلمية‪ ،‬التي لألسف ال زال‬
‫يعتبر ويلبس إياها وقد حان الوقت بالحسم فيها‪ .‬أوال لم يكن العلم أبدا مؤسسا في شيء منه على‬
‫المبهم والالمحدد‪ ،‬وأخرى أن هذه المقولة‪ ،‬مقولة البناء واإلعراب‪ ،‬من تالها ونسج فكره على منوالها‬
‫فإنما يؤسسه على واه من القواعد ومبهم من التصور غير محدد‪ ،‬فيصبح عنده القريب من المعرفة‬
‫مما هو من عالمه وبيئته هالميا‪ ،‬ال يقدر من تثبيته وإدراكه فيها على شيء‪.‬‬
‫‪113‬‬

‫إن الحكمة من التفكير إنتاج الحقائق وبلورتها تحديدا وبيانا‪ .‬والدرجة العليا فيه الوصول إلى بناء‬
‫ممنهج متناسق‪ .‬هذا الذي نسميه البناء العلمي أو العلم‪ ،‬على منطلق وأساس مثبت ومحدد‪ ،‬هو الذي‬
‫نسميه بالهيكلة النظرية‪ ،‬كنظمة تحدد وتعين لعلماء المعرفة ومدارك الفؤاد مكوناتها وأركانها من‬
‫المسلمات والتعريفات والتقعيدات والمبرهنات‪ ،‬وصوال إلى مجاالت التطبيق‪ .‬والعلم ليس في حد ذاته‬
‫هدفا للممارسة الفكرية‪ ،‬إنما هو وسيلة عقلية لغاية عملية‪.‬‬
‫ولئن ذهبنا نتحقق ما في جوهر هذه المقولة‪ ،‬مقولة البناء واإلعراب‪ ،‬لم نجدها وإن وجدت لها دهرا‬
‫من الزمان موضعا واعتبارا‪ ،‬من نجدها إال جبا من الالمعنى‪ ،‬كأنه ثقب أسود يعدم السؤال والمعنى‪.‬‬
‫وال جرم أن يكون كل ما اتصل به كأنه في عالم الالمعنى والوهم‪ .‬ولو حاولنا بغاية إيجاد نفع عملي‬
‫لهذه المقولة وعلى كل زوايا التقييم والنظر‪ ،‬ومن مختلف المنطلقات المنظور منها إلى اللغة‪ ،‬كإطار‬
‫ما يطلق عليه تجاوزا بنظرية العامل‪ ،‬أو إطار المنحى البنياني‪ ،‬أو إطار االتجاه الوظيفي‪ ،‬أو النظرية‬
‫التحويلية التوليدية‪ ،‬لو بحثنا في كل ذلك ومن زواياه كلها‪ ،‬ما وجدنا في هذه المقولة غير الالمعنى‬
‫والالشيء‪ .‬بل األنكى أنها حاجز عاقل للعقل‪ ،‬مانعته دون الفكر السوي حقائق وتفكيرا‪ .‬ومن كان‬
‫يرجو ويسأل حججا نوافل تزيده بيقين الحقائق واآليات علما‪ ،‬فلينظر إلى إشكال أقسام الكلم الذي‬
‫يجسد حقيقة هذا السؤال‪ ،‬سؤال مسايرة العقل اللغوي للتوسع االستخالفي على األرض وعلى التاريخ‬
‫المعرفي والعلمي‪ ،‬الذي ال يعرف النمطية وقد خلقه الخالق العليم أمما وأطوارا؛ وسيبويه رحمه هللا‬
‫تعالى لم يكن نبيا فنثبت العصمة ألقواله‪ .‬فهذه المقولة‪ ،‬من حيث مج َّوفها ومغي َّبها والجواب فيها تعقيبا‬
‫حكما وعلما‪ ،‬سوف يأتي ويثبت على مسار ما يتبع من المقوالت واالستنباط المبرهن‪.‬‬

‫‪ -2‬مقولة الضمير المستتر‬


‫مقولة الضمير المستتر‪ ،‬هي بحق فيما يؤول إليه التحليل البرهان القاطع‪ ،‬الذي ال يبقى بعده أثر‬
‫للريب في شأن هذا المجموع الذي الزال يدرس في كلية وشمول المدارس والجامعات على أنه النحو‬
‫العربي أو علم النحو العربي‪ ،‬وكذلك في افتقاد األساس العلمي لهذه الهالة التي تعطى لأللسنية الحديثة‬
‫عن بياض‪ ،‬وبغير نظر راسخ وكتاب منير‪ ،‬خاصة في اعتمادها في البعد التركيبي والتصريفي على‬
‫مفهوم الصرفة الصفر أو الصرفة المستترة‪ .‬ونهجنا في هذا التحليل قائم على ما اتفقت عليه عقول‬
‫العالمين على أنه ميزان الحق والقسطاس المستقيم‪ ،‬الذي هو روح المبادئ الكونية العامة‪ ،‬المحتضنة‬
‫لمطلق العلم والمعرفة اإلنسانية بسلم من الحق يقين‪.‬‬
‫‪114‬‬

‫إن أول ما يرى ويشهد خاصة وظيفية لهذه المقولة هو ما سلف بخصوص المقولة األولى وعموم هذا‬
‫المجموع من األقوال واألحكام‪ ،‬من وضع العقل ومن بعده الفكر في حقل الالمعنى والمبهم وفي‬
‫الالشيء‪ .‬ولنبدأ هذا التبيان بأوضح التفسير‪:‬‬
‫حينما ننظر إلى مقول النحو ممثال في إعراب قولنا‪" :‬أشهد أن ال إله إال هللا وأشهد أن محمدا رسول‬
‫هللا " نجده قد قال قوال هو عنده غير قابل للجدل كون الفاعل هاهنا ضميرا مستترا‪ .‬ولو نظر أحدهم‬
‫قريبا منه علما موقنا باحتمال الخطإ والصواب معا في قول البشر‪ ،‬ألبصر حتما أن هذا القول وهذا‬
‫الحكم اإلعرابي الذي يقحم إقحاما ويفرض على أفئدة األطفال في فصول الدرس ‪-‬وكم كان من خصم‬
‫في نقاط االمتحان‪ -‬هو قول مفارقة مناقض لحال البيان؛ وإنه ليكفي لمن ألقى السمع وهو شهيد أن‬
‫يقابل معنى الشهادة لغة وحكمها بيانا وشرعا في الظاهر والباطن والدنيا واآلخرة ليجزم موقنا يقينا ال‬
‫ريب فيه أن هذا الحكم اإلعرابي بعيد كل البعد عن الحق‪ ،‬ألن االستتار والضمور هو ضد ونقيض‬
‫الشهادة واإلشهاد‪ ،‬الذي أول ما يفيده هو الشهود والحضور؛ فأنى يصرفون؟! فالبيان ما سمي بيانا إال‬
‫ألنه صورة وترجمة حافظة ناقلة للمعبر عنه‪.‬‬

‫‪ -3‬الضمير المستتر ومبدأ التوازن‬


‫ندرك ونعلم أن الكالم هو نظم من الكلم أنتج معنى عبر تعلق عناصر تركيبه بعضها ببعض‪ .‬وإذا كان‬
‫هذا التعلق المنتج أساسه وذات هدفه أن يكون وحدة وكائنا معنويا‪ ،‬فالتعبير عن ذلك مستوجب لمفهوم‬
‫يتجاوز داللة وبعد التناسق‪ ،‬الداللة التي نريد بها مجموع الشروط واالرتباطات واألحكام‪ ،‬سواء أو‬
‫على كل مستويات التركيب للمادة البيانية‪ .‬هذا المفهوم يختص بالضرورة العلمية والتحليلية المسايرة‬
‫لمناحي الدراسة التي تتوخى التحديد وفصل األركان واألجزاء بالنظر إلى تمايزها الموضوعي‪ .‬فلئن‬
‫كان التناسق قاعدة وأساسا بنيويا وتركيبيا في النظم‪ ،‬فإن الحالة المنتجة بحصول هذا التناسق أبرز‬
‫وأكثر ميزاتها أهمية التوازن‪ ،‬توازن البنية المنظور إليه على الخصوص في المحور السببي الذي‬
‫يؤطر ما يسمى بنظرية العامل برمتها‪ ،‬وارتباطه أو تناسبه مع المؤشر العددي أو الكمي‪ .‬وإنه ليس‬
‫مستبعدا البتة‪ ،‬وال أمرا عجبا‪ ،‬أن يطلع يوم وقد استقام النحو العربي واستوى بناؤه على ما قامت‬
‫عليه واستوى بناء المعادالت التوازنية لألحوال الميكانيكية الثابتة (الستاتيكية) والحركية وللدارات‬
‫الكهربائية‪ ،‬على المبدإ الكوني للتوازن‪ ،‬في صيغة وإسقاط هندسي منتج ومحدد للعناصر والمفاهيم‬
‫البنيوية لهذه الوحدات‪ ،‬التي ال تختلف فضائيا عن الوحدات البيانية للسان اإلنساني‪.‬‬
‫‪115‬‬

‫التوازن إذن كحقيقة لمبدإ كوني في المجال اللغوي تظهر قيمته باستيعابه القطعي‪ ،‬أي في جزء‬
‫متضمن في إطاره ألساس ومنطلق مجموع الفكر النحوي الذي كان وما زال العين والسمع والعقل‬
‫الذي يعتبر به الكالم العربي‪ .‬وإشارتنا إلى قطعية التضمن نقصد منها إبراز الجزئية‪ ،‬التي وإن‬
‫أسهمت في انطالقة وانبثاق الزخم األول للتفكير العلمي اللغوي‪ ،‬وقد مثلت إبداعا وعمال كبيرا بحسب‬
‫واعتبار طورها التاريخي‪ ،‬فإنها في ثبوتيتها كسقف وكمرجعية مثالية‪ ،‬وكأنها منزهة ترتفع عن‬
‫نسبيتها الحقائقية بصفتها ومصدرها البشري‪ ،‬هي محكومة بالقصور والمحدودية في مجالها‬
‫التأثيري‪ ،‬وفي أبعادها الدراسية‪ ،‬واألهم تبعا لذلك في أحكامها‪ ،‬على االفتقار وافتقاد النظر الواسع‬
‫والكامل‪ ،‬مسايرة للغة كحامل للفكر‪ ،‬ولإلنتاج الواصل لسلسلة األطوار المنبني والمتصل باالرتباط‬
‫والتسلسل والتكامل‪.‬‬
‫فاللغة بوظيفتها التاريخية هاته‪ ،‬كحاملة وقاطرة لفكر األمة وثقافتها‪ ،‬لن يتحقق لها األداء األقوم‬
‫واألخذ بقوة في مسار األطوار التاريخية التي ال تعرف الجمود والتخلف أبدا إال باستمرارية مسايرتها‬
‫الدراسية‪ ،‬ال على المجاالت الحقائقية لمقوالتها وأحكامها‪ ،‬بل بقاموسها التقعيدي الذي ال مرية هو‬
‫اإلسقاط الواضح الموضح ألول مستويات وشروط ومظاهر علميتها‪.‬‬
‫لنعد إذا للنظر إلى الكالم والتركيب اللغوي من خالل مبدإ التوازن‪ .‬فالكالم على البعد المعنوي وحدة‬
‫متوازنة‪ ،‬هي وحدة انتظمت كل مكونات التركيب عناصريا وترتيبا وأوصاال‪ ،‬بمعنى كون هذا‬
‫العنصر المعنوي الممثل بهذا الكالم والجملة على مرجعيته ليس نقص وال زيادة فيه وال اختالل‪.‬‬
‫فالكالم بيان تركيبي وصورة لحدث متوازن تام غير خداج‪.‬‬
‫هكذا إذا قلنا في إعراب (قاتل الرجل حتى نال الشهادة) كون الفاعل في فعل (نال) ضميرا مستترا‪،‬‬
‫كان ذلك مكافئا لقولنا بعدم التمام في الصورة بالنسبة ألصلها؛ وهذا ليس بحق وال يصح أبدا‪ .‬ولو‬
‫قبلنا هذا التفاقم لخالفنا وعطلنا الحق الذي يفقه من األصل في حقيقة بيان اإلنسان واألسماء‪ .‬ذلكم أول‬
‫البسط للمسألة عصبة المسائل في نقد النحو العربي‪ ،‬مسألة الضمير المستتر‪.‬‬
‫ولننظر بخصوص مقولة الضمير المستتر إلى ما هو أعظم من هذا اإلعضال‪ ،‬الذي يكبل ويعوق‬
‫العقل العربي عن التواجد الصحيح من حقول الوعي واإلدراك‪ .‬إن اإلعراب فرع المعنى؛ هو تعبير‬
‫تحليلي لمكوناته‪ ،‬مما يلزم تضمن المحتوى اإلعرابي للمعنى المعرب كما هو‪ ،‬غير مزيد وال‬
‫منقوص‪ ،‬ألن المعنى قد تم حقا بحصول التوازن‪ .‬وعليه فالحكم حاسم في بطالن مكون فضلة ممثل‬
‫هنا تحديدا في الضمير المستتر‪ ،‬مما هو جلي وواضح في مقول وكلمة الشهادة "أشهد أن ال إله إال هللا‬
‫‪116‬‬

‫وأشهد أن محمدا رسول هللا" وإعراب الفاعل في فعل وحدث الشهادة (أشهد) ضميرا مستترا تقديره‬
‫ضمير المتكلم (أنا)‪.‬‬
‫يقول األستاذ عمران عبد السالم شعيب مؤلف (منهج ابن هشام من خالل كتابه 'المغني') حين حديثه‬
‫عن رعاية واهتمام ابن هشام بالمعنى‪:‬‬
‫<< إذا كان الناس قد تواردوا على القول بأن اإلعراب فرع المعنى‪ ،‬فإني لم أجد بين النحاة من طبقه‬
‫كما طبقه ابن هشام‪ ،‬وال من دعا إليه كما دعا هو إليه‪ ،‬فإنا نجد شواهد ذلك مبثوثة في ثنايا كتابه‬
‫بصورة ال تدع مجاال للشك في أن هذا كان له عنده أهمية بالغة‪.‬‬
‫ولعل من أبرز ما يوضح ذلك عنده أن الجهة األولى من الجهات التي يدخل االعتراض على المعرب‬
‫من قبلها والتي جعلها مضمون الباب الخامس من كتابه هي أن يراعي المعرب ما يقتضيه ظاهر‬
‫الصناعة النحوية ويهمل المعنى‪ ،‬وجعل ابن هشام ذلك سببا تزل به األقدام في مواطن كثيرة (المغني‪-‬‬
‫‪51‬‬
‫ص‪ 282‬وما بعدها)>>‬
‫ليس هناك شك أن ابن هشام رحمه هللا أراد هنا بقوله وتنبيهه الجزئيات أو االحتماالت اإلعرابية‬
‫وحاالتها ومواضعها‪ ،‬كأن يعرب اللفظ مبتدءا أو خبرا أو صفة أو غير ذلك‪ ،‬وقد أوضح ذلك بأمثلة‬
‫كما أشار إليه وذكره مؤلف (منهج ابن هشام)‪:‬‬
‫<<ويسوق للتدليل على هذا ما حكي له من أن بعض مشايخ اإلقراء أعرب لتلميذه قول الشاعر‪:‬‬
‫غارات إذ قال الخميس نعم‬ ‫ال يبعد هللا التلبب وال‬
‫فقال‪ :‬نعم حرف جواب‪ ،‬ثم نظر إلى معنى البيت‪ ،‬فلم يجد فيه ما يدل على صحة هذا اإلعراب‪ ،‬ألن‬
‫‪52‬‬
‫(نعم) في البيت واحد األنعام‪.‬‬
‫وينقل قول الشلوبين‪ :‬إنه حكى له أن نحويا من كبار طلبة الجزولي سئل عن إعراب كلمة (كاللة) في‬
‫قول هللا سبحانه‪{:‬وإن كان رجل يورث كاللة أو امرأة} فقال‪ :‬أخبروني ما الكاللة؟ وبعد أن وقف‬
‫على معناها بدأ في اإلعراب ‪. .‬‬

‫‪51‬منهج ابن هشام‪-‬ص‪241‬‬

‫‪ 52‬المغني‪-‬ص‪282‬‬
‫‪117‬‬

‫‪ . .‬وينقل في ذلك أيضا ما حكاه بعضهم من أنه سمع شيخا يعرب لتلميذه (قيما) من قوله تعالى‪{:‬ولم‬
‫يجعل له عوجا قيما}(الكهف‪ )2-0‬صفة لعوجا‪ ،‬قال‪ :‬فقلت له‪ :‬يا هذا كيف يكون العوج قيما؟‬
‫وترحمت على من وقف من القراء على ألف التنوين في (عوجا) وقفة لطيفة دفعا لهذا التوهم‪ ،‬وإنما‬
‫‪53‬‬
‫(قيما) حال‪(.‬المغني‪-‬ص‪>>)282‬‬

‫‪ -4‬الضمير المستتر ومبدأ التناسق‬

‫قانون التناسق والحيزات التصريفية األربعة‪:‬‬


‫نحن هنا بصدد تصويب عالقة اإلعراب بتبعيته للمعنى صوب المقوالت الكلية‪ ،‬وما ذكرنا إن هو إال‬
‫توطئة وبرهانا في استلزام هذه العالقة ووجوبها في أي بناء يراد منه أن يكون بناء لعلم النحو‬
‫العربي‪.‬‬
‫ولنعد مرة أخرى إلى التركيب العلي لكلمة الشهادة‪ ،‬هذا التركيب الحامل لشهادة الحق‪ ،‬وهي ال ريب‬
‫حكم شرعي وقانوني أشرف األحكام وأثبتها معنى وصيغة‪ ،‬فكيف إذا يستساغ في القلوب التي تعقل‬
‫القول باالستتار في الفاعل الشاهد وهو متعلق الحكم‪ ،‬وإن الشهادة واإلشهاد يشترط لزوما الظهور‬
‫والشخوص والحضور؟!!‬
‫ثم لننظر من زاوية أخرى إلى المجال الخطابي إطار القول والكالم‪ ،‬فإسناداته التصريفية للفعل‬
‫حيزان قسمان‪ ،‬وباصطالح عملي حقالن اثنان‪ ،‬حقل الحضور وحقل الغياب‪ .‬كذلك زمن الحدث‬
‫نعتبره باعتبار ما هو للفعل مضارعا وماضيا وأمرا‪ ،‬مع اعتراضنا كما سيأتي الجواب عنه في هذه‬
‫التسمية األخيرة لفعل األمر‪ .‬وإعماال لمبدإ التناسق الكوني استوجب وحقت الوحدة في النسق‬
‫اإلعرابي للحدث الفعلي المسند لنفس الحقل الخطابي‪ .‬وطبعا فهذا أول ما يقتضيه ويوجبه ميزان‬
‫الرحمان الذي عليه تقوم السماء واألرض والقطع المتجاورات والنجم والشجر‪ ،‬وال علمية قطعا ألي‬
‫قول وأي بناء دون هذا الشرط‪.‬‬

‫‪ 53‬المنهج‪-‬ص‪243‬‬
‫‪118‬‬

‫هذا مفاده تبعا لعاملي االنتماء والزمن أن يكون لكل من الحيزات‪:‬‬


‫الحيز األول‪ :‬أفعل‪ -‬تفعل‪ -‬تفعلين‪ -‬نفعل‪ -‬تفعالن‪ -‬تفعلون‪ -‬تفعلن‪.‬‬
‫الحيز الثاني‪ :‬فعلت‪ -‬فعلت‪ -‬فعلت‪ -‬فعلنا‪ -‬فعلتما‪ -‬فعلتم‪ -‬فعلتن‪.‬‬
‫الحيز الثالث‪ :‬يفعل‪ -‬تفعل‪ -‬يفعالن‪ -‬تفعالن‪ -‬يفعلون‪ -‬يفعلن‪.‬‬
‫الحيز الرابع‪ :‬فعل‪ -‬فعلت‪ -‬فعال‪ -‬فعلتا‪ -‬فعلوا‪ -‬فعلن‪.‬‬
‫حق في ميزان السماوات واألرض أن يكون لكل من هذه الحيزات واألقسام المميزة الموحدة نفس‬
‫اإلعراب الواحد‪ ،‬وكل اختالف وخلل في هذا إنما يدل ببرهان السماء واألرض أن هذه المقولة وهذا‬
‫البناء ولو سمي واعتبر عند الناس علما ويدرسونه لصغارهم وكبارهم في مدارسهم وجامعاتهم‪،‬‬
‫ويبنون عليه كثيرا من أقوالهم‪ ،‬هي مقولة خاطئة وبناء لزمه التصويب والتصحيح‪ .‬وإنه ليس بمرتفع‬
‫عن المراجعة وال منزه عن الخطإ إال الوحي الكريم كتابا وسنة‪ .‬وهللا يهدي من يشاء إلى صراط‬
‫مستقيم‪.‬‬
‫هذا الشرط ليس متحققا‪ .‬ومنه يستنبط لزاما خطأ البناء اإلعرابي الذي بحق هو صلب النحو‪ ،‬وهو‬
‫المتصور المدرك علما وقواعد للغة في العقل العربي‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫أما جلوة األمر‪ ،‬فإننا نجد في نفس الشروط الخطابية الممثلة لحقيقة الواقع‪ ،‬الذي ليست اللغة إال بيانه‬
‫وصورته المعنوية‪ ،‬ليكون اإلعراب جردا قانونيا لنسقه ومكوناته‪ ،‬كحيز شروط المضارع للحضور‪،‬‬
‫إننا نجد في هذا اختالفا بينا وتوافقا مفقودا‪ ،‬إذ يعتبر الفاعل في أفعل ونفعل وتفعل ضميرا مستترا‬
‫تقديره أنا ونحن وأنت تباعا‪ ،‬أما في تفعلين وتفعالن وتفعلون وتفعلن‪ ،‬فهو ممثل لفظا ورسما مكتوبا‬
‫في الياء واأللف والواو والنون‪ ،‬ونفس االختالف نلفيه أيضا في حقل الغياب في الصيغتين معا‪ .‬وهذا‬
‫هو ما يفسر االضطراب الذي حصل لسيبويه في هذا الحيز والركن‪ ،‬االضطراب والخلط الذي نوجز‬
‫التدليل عليه بما يقتضيه البرهان‪ ،‬ومن كون علم النحو واإلعراب خاصة نسقه الحق والميزان بناء‬
‫من القول واألحكام بدالة التناسق والتوافق من غير تناقض وال اختالف‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫‪119‬‬

‫< ولم يكونوا ليحذفوا األلف (يعني لمثنى المضارع) ألنها عالمة اإلضمار والتثنية في قول من‬
‫‪54‬‬
‫قال‪":‬أكلوني البراغيث"‪ ،‬وبمنزلة التاء في "قلت" و"قالت">‬
‫إذن فالخطأ بين وواضح‪ ،‬وكل قول البشر مهما كان ومهما اعتقد وترجح هذا االعتقاد في سلم العلمية‬
‫وحقيقتها وواقعيتها‪ ،‬كل ذلك تعتريه وتنطبق عليه سنة التغير في مجال سريانه الحقائقي‪ ،‬إن على‬
‫البعد األول بعد الخطإ والصواب‪ ،‬أو على مستوى المسايرة لألطوار األرضية العلمية التاريخية‪ ،‬التي‬
‫هي أبدا متغيرة ومتسعة سنة هللا تعالى في خلقه‪ ،‬ولن تجد لسنة تبديال‪ .‬فليس مطلقا من الحقائق في‬
‫الصحة قيمة وسريانا إال الوحي الكريم‪ .‬وفيما يلي سيأتي التأكيد الحق والبرهان اليقين لمن تردد في‬
‫صدره من أثر وغشاوة تنزيل أقوال البشر شيوخا وعلماء منزلة التقديس‪ ،‬وذلك مناف للحق ولما‬
‫يفقهه ويدركه العالمون‪.‬‬

‫‪ -5‬اللغة العربية والبعد الزمني‬


‫إذا أبصرنا بهذا المعيار العلمي والحقائقي متجردين عن تقديس ما ال ينبغي له التقديس‪ ،‬وكذلك من‬
‫خالل التحرر من أغالل وإصر التقليد واالستبداد العلموي التراتبي أو ما يسمى باإلقطاعية العلمية‪،55‬‬
‫التي تئد العقل وتقتل ملكة التفكير ليبقى الناس تبعا‪ ،‬العلم عندهم التكرير وحفظ المتون‪ ،‬ال يتلونها إال‬
‫أماني فال يدركون معانيها فيفقهونها ومجال سريانها فينقدونها؛ إذا تم ذلك واتسع مجال النظر وأفق‬
‫الرؤية‪ ،‬فسوف نكتشف أمرا له قيمته الكبرى ليس لها س ّي على مستوى ما تتيحه من أبعاد في دراسة‬
‫النحو العربية لم تكن من قبل‪ ،‬ذلكم هو شأن اإلبصار لخاصة التوافق المتناسق للسان العرب ببعد‬
‫الزمن‪ .‬وفي هذه الخاصة جاء النبأ والحل اليقين‪ ،‬المفسر على أحسن وأوضح ما يكون التفسير لمسألة‬
‫الضمير المستتر‪ ،‬والحسم في مقولة البناء واإلعراب بكفاية هائلة واستيعابية مثالية‪ ،‬بحيث ال يبقى‬
‫لتينك المقولتين إال داللة واحدة‪ ،‬هي وجوب نبذ التقليد ولزوم األخذ بقوة بمبدإ وقانون الدراسة‬
‫المستمرة ما دام التاريخ متسعا‪ ،‬والعلم أبدا يسيرْْ‪ .‬ولنقدم هنا هذا البيان بخصوص الحقل‬
‫الحضوري على الرسم المبسط التالي‪:‬‬

‫‪ 54‬الكتاب‪ :‬ص‪32‬‬

‫‪ 55‬انظر المهدي المنجرة‪ :‬عولمة العولمة – منشورات الزمن‬


‫‪120‬‬

‫المضارع‬ ‫اآلن الخطابي‬ ‫الماضي‬


‫[___________~~~‬ ‫______________]‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫ت أ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬
‫ت ت‬
‫ين‬ ‫ت ت‬
‫نا ن‬
‫ان‬ ‫تما ت‬
‫ون‬ ‫تم ت‬
‫ن‬ ‫تن ت‬

‫إن آن العناصر الخطابية هو اآلن الخطابي؛ وبالتالي فالتمثيل للحدث أتى كامال‪ ،‬إذ بالنسبة للماضي‬
‫تكون ممثالت هذه العناصر في طرف الصيغ الفعلية بإسكانها تعبيرا عن تمام الحدث‪ ،‬وتكون في‬
‫أصلها حال الفعل المضارع مع حركة دالة على استمرارية الحدوث‪ ،‬وهي الرفع بالضمة أو المد‬
‫بالياء أو األلف أو الواو اتصاال بالنون‪.‬‬
‫هكذا فوجه هذا اإلسقاط لمبدإ التناسق يعطينا صورة كاملة وظاهرة للممثالت الفاعالتية متصلة‬
‫بالصيغ الفعلية‪ ،‬وأيضا دليال داحضا على فساد مقولة البناء واإلعراب كما تم اعتبارها وإعمالها في‬
‫منظومة النحو العربي‪ .‬أما بالنسبة لألمر األول فالفاعل في الصيغ المخصصة للمضارع حاضرا‬
‫ومستقبال ممثل في صدر هذه الصيغ كما مثل في آخرها بالنسبة للمضي‪ .‬والحجج المؤكدة نافلة ال‬
‫تعدم‪ ،‬أبرزها وأهمها أنها جميعا تعود إلى أصل واحد‪ ،‬وهو الضمير المنفصل بمكونه المكمل لمادة‬
‫(أن) باستثناء استبدال التاء بالهمزة في فعلت للتغليب‪ .‬أما الياء واأللف والواو والنون في تفعلين‬
‫وتفعالن وتفعلون وتفعلن فوظيفتها تمييزية‪ ،‬كمؤشرات للجنس والعدد‪ ،‬تطابق وظيفة الكسرة والميم‬
‫مقرونة باأللف والميم مجردا‪ ،‬والنون في فعلت وفعلتما وفعلتم وفعلتن‪ .‬وأمكن تمثيل هذه المطابقة‬
‫كالتالي‪:‬‬
‫‪121‬‬

‫ت‪ :‬أ‬ ‫‪...........‬‬ ‫أنا‪ :‬أن ‪ -‬أ‬


‫ت‪ :‬ت‬ ‫أنت‪ :‬أن ‪ -‬ت ‪...........‬‬
‫ت‪ :‬ت ‪ -‬ي‬ ‫أنت‪ :‬أن ‪ -‬ت ‪...........‬‬
‫تما‪ :‬ت‪ -‬ا‬ ‫أنتما‪ :‬أن‪ -‬تما ‪...........‬‬
‫تم‪ :‬ت‪ -‬و‬ ‫أنتم‪ :‬أن‪ -‬تم ‪............‬‬
‫أنتن‪ :‬أن‪ -‬تن ‪ .............‬تن‪ :‬ت‪ -‬ن‬

‫وإذن يتبين أن حق الممثالت الفاعلية والضمائر بالنسبة لحقل الحضور أن تسبق تبعا وتحققا لتناسق‬
‫اللغة العربية وبيانها مع البعد الزمني‪ ،‬وتأتي في أول الصيغ المخصصة للمضارع‪ ،‬ألن آنها الزمني‬
‫هو أصل الوعاء الزمني للحدوث‪ ،‬بل وكان األولى حقا النظر بهذا السلم بخصوص التقعيد‪ ،‬ولو تم‬
‫ذلك لما اضطر النحويون سدا لفراغ معرفي وعلمي اللجوء إلى مقولة التقدير والضمير المستتر‪ .‬هذه‬
‫المقولة التي أوصدت دون العقل العربي وفكره مساحة ومجاال غير يسير من اإلدراك الواقعي‬
‫والموضوعي للكائن والموجود‪ ،‬مما هو ظاهر ترجمته إهمال وحسبان حقيقة التمثيل الفاعالتي في‬
‫بيان صيغة واقع الحدوث المضارع‪ ،‬واعتبارها مجرد حروف أسموها حروف المضارعة‪ ،‬كما‬
‫أبصر به وأثاره ابن جني رحمه هللا‪ ،‬لكن لم يلتفت لقوله فأهمل ولم يؤخذ بقيمته وكونه الصواب‬
‫الممهد للبناء العلمي الصحيح‪ ،‬ولم يراعوا أن يكون للتقدير عندهم هذه الركنية الواهية‪ ،‬التي من شأنها‬
‫أن تؤسس قواعد علم خطير كعلم اللغة‪ ،‬أن تؤسسه على الالكائن وعلى المبهم‪ .‬وهذا القول البن جني‬
‫هو ذاته الذي نجده في طيات محدث المقول األلسني كما هو عند الدكتور عبد العزيز هليلي‪:‬‬
‫<<تبين الدراسة التصريفية أن الفعل يعرف شكلين أساسيين في العربية أحدهما تسبقه عالمة الضمير‬
‫والثاني تليه هذه العالمة‪ ،‬التي تلصق بجذره وتؤثر في بنيته المقطعية‪ .‬ويسمي نحاة العربية الشكل‬
‫‪56‬‬
‫األول 'المضارع' لمضارعته اإلسم‪ .‬ويسميه الغربيون 'غير التام' أو 'الناقص'>>‬

‫‪ 56‬الدكتور عبد العزيز خليلي – قضايا لسانية –السوسيولسانيات‪ .‬التصريف‪ .‬أقسام الكلم –ص ‪ -001‬ط‪ -0‬مطبعة أنفو برانت ‪ -‬فاس‬
‫‪122‬‬

‫لكن هذا القول وإن صح ووافق الحق في هذه النقطة القريبة لإلدراك‪ ،‬وكأين من آية في السماء‬
‫واألرض ي مر عليها اإلنسان وهو غير آبه بها وال مدرك بحقيقتها‪ ،‬فإنه يفتقد للصبغة العلمية التي ال‬
‫تكون إال بإطار علمي كامل ومنتظم‪ .‬والدليل هو التناقض أو عدم االعتبار العلمي المدرك للنسق‬
‫اإلعرابي والتصريفي باالصطالح المنقول‪ ،‬النسق الذي هو برهان وشرط العلمية للقول على هذا‬
‫البعد ومنه القول المعني‪ ،‬ذلك أنه أوال لم يميز بين حقلي الحضور والغياب‪ ،‬ثم إنه اعتبر 'الواو' في‬
‫'يلعبون' وهو فعل مضارع ضمير الفاعل‪ ،‬وذلك بزعمه واعتباره االختالف كما يقول بين التركيبين‪،‬‬
‫مقررا قول دافيد كوهن‪ :57‬األوالد يلعبون –‪:Les enfants jouent‬‬
‫<<المقارنة بين هذين النصين توضح هذا األمر‪ ،‬في النص العربي يمكن حذف 'األوالد' دون أن‬
‫يختل بنيان هذه الجملة ودون حاجة إلى اإلتيان بلفظة ما للقيام مقام المحذوف‪ .‬أما في النص الفرنسي‬
‫فحذف عبارة » ‪ « Les enfants‬تفرض بالضرورة جعل ضمير معين أو لفظة مناسبة أخرى مكان‬
‫المحذوف‪ ،‬وإال اختل بنيان هذه الجملة‪.‬‬
‫السر في هذا كما نعلم هو أن "يلعبون" مؤلفة من طرفي اإلسناد وهما المسند والمسند إليه في حين أن‬
‫» ‪ « jouent‬ال يمثل إال المسند‪.‬‬
‫"يلعبون" في العربية إذن جملة تامة نحويا أما مقابلها الشكلي في الفرنسية » ‪ « jouent‬فال يمثل‬
‫سوى أحد طرفي اإلسناد وهو المسند‪.‬‬
‫يمكن إذن لشكل الفعل المتصرف في العربية أن يؤلف بمفرده جملة نووية تامة صحيحة‪" ،‬أحد‬
‫عنصريها والذي (يعين عادة ظروف شيء أو حدثا نثير إليه االنتباه) يسمى المحمول أو المسند (وهو‬
‫المونيم الفعلي) واآلخر المسمى الموضوع أو المسند إليه يعين عادة مشاركا مؤثرا أو متأثرا أو‬
‫مفعوال نبرز دوره هو مونيم الضمير"‪>>58‬‬
‫بغض النظر ومع تجاوز إشكال التوظيف المعجمي لأللفاظ والكلمات‪ ،‬وقد وصف الدكتور مفهوم أو‬
‫لفظ (الكلمة) في موضع آخر بالعنصر والمفهوم الغامض‪ ،59‬ولم ينتبه كونها المرتكز البياني لكل ما‬

‫‪ 57‬نفس المصدر – ص‪002‬‬

‫‪58‬‬ ‫‪A. Martinet :Syntaxe generale . Armand Colin . Paris. 1985. P 60.‬‬

‫‪ 59‬الدكتور عبد العزيز هليلي –قضايا لسانية –ص‪012‬‬


‫‪123‬‬

‫يليها من مفاهيم مختلقة حديثة على اختالف ما لها قيمة علمية حقيقية‪ ،‬ونعني هنا التوظيف غير السليم‬
‫والالموفق تأكيدا للفظتي (المقارنة) و(النص) إن أصال أو ترجمة‪ ،‬فالحكم كون شكل (حسب تعبيره)‬
‫الفعل المتصرف في العربية يمكن له أن يؤلف بمفرده جملة نووية تامة صحيحة‪ ،‬هذا الحكم متصال‬
‫بسياقه الذي يجليه ما أسماه بالمقارنة بين البنيتين اللغويتين‪ ،‬من خالل المثال أعاله‪ ،‬هو حكم ليس‬
‫صحيحا‪ ،‬ليس له موضع من السماوات واألرض إال في خلد صاحب النص ومن تبعه فيه يردده ال‬
‫يكلف عقله عناء التمحيص لما يلقن له‪.‬‬
‫الحكم ال يصح بسياق التمثيل الذي بين يديه ألن العنصرين أو المادتين البيانيين (‪)jouent‬‬
‫و(يلعبون) متكافئان بيانيا بالتأصيل األرسطي المنطقي والعقلي المهيمن على كل االتجاهات الدراسية‬
‫لأللسنية الحديثة‪ ،‬التي في جلها باستثناء النحو التوليدي والتحويلي بمفهوم البنية العميقة‪ ،‬ال تنال من‬
‫اللغة وال تهتم إال بمستوياتها الخارجية‪ .‬وااللتباس مرده األول هنا لدى صاحب أو صاحبي النص‬
‫والحكم‪ ،‬هو إهمال كون اللغة هي باعتبار معين تنظيم من اإلشارات المفارقة‪ ،‬المقولة األهم لفردينان‬
‫دي سوسور (‪ ،)Ferdinand De Saussure‬والتنظيم أو المنظومة أبرز ما يتجلى فيه اختالفها‬
‫هو البنية‪ ،‬ولهذا كان لفظ (المقارنة) في غير موضعه مما يدل على افتقاد التصور والمرجع‬
‫الصحيحين‪.‬‬
‫فتركيب (يلعبون) كذلك ال يمثل جملة وكالما تاما‪ ،‬ألنه ال يصح ابتداء واستقالال‪ .‬ومن اختلط عليه‬
‫األمر هاهنا فإنما هو من عدم االستبصار‪ -‬ال فحسب االعتبار‪ -‬بمكونات الحقل الخطابي وأبعاد‬
‫موضو ع البيان والبالغة‪ .‬إن الحكم أعاله ال يصح إال بتواجد المسند إليه ممثال في التركيب‪ ،‬أي‬
‫الضمير الجوهري‪ ،‬ضمير الحقل الحضوري للخطاب‪ .‬وكما سيأتي فيما يلي‪ ،‬فال الياء في التركيب‬
‫وال الواو وال النون جميعا‪ ،‬ليست جميعها بضمائر األشخاص جواهرية‪ :‬الياء ضمير زمني‪ ،‬والواو‬
‫مؤشر جنسي عددي غير جوهري‪ ،‬والنون مؤشر إعرابي مكافئ للضمة دال على االستمرارية‬
‫الحدوثية‪ .‬ومنه يتبين وبكل وضوح مدى البعد عن العلمية ومحض الخرص في قول السيرافي رحمه‬
‫هللا وهو يشرح قول سيبويه في 'هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية'‪[ :‬فالرفع والجر والنصب‬
‫والجزم لحروف اإلعراب‪ .‬وحروف اإلعراب لألسماء المتمكنة‪ ،‬ولألفعال المضارعة ألسماء‬
‫الفاعلين التي في أوائلها األربع‪ :‬الهمزة‪ ،‬والتاء‪ ،‬والياء‪ ،‬والنون‪ .‬وذلك نحو‪ :‬أنا أفعل‪ ،‬وتفعل أنت أو‬
‫هي‪ ،‬ويفعل هو‪ ،‬ونفعل نحن]؛ قال السيرافي بصدد الهمزة‪ < :‬قوله‪ :‬الهمزة ‪ ...‬ألف أفعل‪ ،‬ألن األلف‬
‫ال تكون متحركة في حال‪ ،‬وإنما سميت الهمزة ألفا ألنها تص ّور بصورتها‪ ،‬ألن الهمزة ال صورة لها‪،‬‬
‫وإنما تص ّور بصورة غيرها‪ ،‬وصارت هذه الحروف يعني‪ :‬نفعل‪ ،‬ويفعل‪ ،‬وأفعل أولى باألفعال من‬
‫غيرها ألن أولى الحروف بذلك حروف المد واللين المأخوذ منها الحركات‪ .‬فلما كانت ال تكون إال‬
‫‪124‬‬

‫ساكنة‪ ،‬ولم يصح االبتداء بساكن‪ ،‬جعل عوضها أقرب الحروف منها‪ ،‬وهو الهمزة‪ ،‬لقربها من األلف‬
‫ولكثرة وقوعها زائدة أ ّوال‪ .‬ولما كانت الواو ال تقع زائدة أ ّوال‪ ،‬أبدل منها حرف يبدل كثيرا وهو التاء‪،‬‬
‫مثل‪ :‬وهللا‪ ،‬وتاهلل‪ .‬أما الياء‪ ،‬فال يحتاج إليه‪ ،‬ألن أخذ الكسرة من الياء واضح ال يحتاج إلى تفسير‪.‬‬
‫وكان الرابع النون‪ ،‬ألنها غنة في الخيشوم تجري فيه‪ ،‬كما تجري حروف المد واللين في مواضعها‪،‬‬
‫ويكون إعرابا في يفعالن ونحوه‪ ،‬وضميرا لجماعة المؤنث‪ :‬فعلن‪ ،‬وبدال منها األلف في الوقف في‬
‫‪60‬‬
‫قولك‪ :‬رأيت زيدا‪>.‬‬

‫‪ -6‬جوهرية الضمائر‬
‫دليل آخر بالحق يدلى به وحجة ال يبقى من بعدها شك في بطالن وعدم صحة من قال ويقول‬
‫بضمائرية األلف والواو على وجه التخصيص‪ ،‬ألنهما ذات األلف والواو في الفاعالن والفاعلون؛‬
‫ذلكم وأن الحق ومبدأ االختالف الكوني ال يجيز البتة اجتماع جوهرين في جوهر واحد‪ .‬يقول األستاذ‬
‫روبنز في كتابه "تاريخ موجز لعلوم اللغة"‪ -61‬يقول بصدد حديثه عن عالم اإلسكندرية أبولونيوس‬
‫ديسكلوس (القرن الثاني ق‪.‬م)‪:‬‬
‫<< ولقد عرف الضمير ليس بوصفه بديال لإلسم فحسب كما هو الشأن في (التخني)‪ ،‬بل إضافة لهذا‬
‫بوصفه ممثال لجوهر من دون خصائص‪ ،‬وهي المقولة التي رددها برشيان‪ ،‬وذات األهمية الكبيرة‬
‫فيما بعد في التفكير اللغوي للعصور الوسطى>>‬
‫عند هذا المستوى تحديدا‪ ،‬ال بد من التنبيه إلى أشياء وأمور ذات أهمية قصوى في اللسان العربي‪.‬‬
‫وذكرنا لعموم اللسان يرجع إلى عموم أهمية الفعل‪ ،‬والمضارع فيه بوجه أخص‪ .‬هذا التنبيه يرتبط‬
‫أساسا وفي مرتكزه المالحظاتي والتحليلي‪ ،‬بدرجة التمثيلية وعالقتها بحقيقة الضمير‪ .‬والدارس‬
‫المحلل لهذا الجانب والشأن‪ ،‬يخرج بإثبات ثالثة أصناف تتبع في تعيينها لإلحداثيات والقيم الزمنية‬
‫واالنتمائية للمسند إليه الفعل‪ .‬فالحقل الحضوري كل عناصره تنتمي جوهرا وزمنا للحقل المحدد بها‬
‫في كلتا الصيغتين‪ ،‬الماضي والحاضر أو المضارع؛ أما العناصر الغائبة حين المضي فهي خارج‬

‫‪ 60‬الكتاب سيبويه‪ -‬علق عليه ووضع حواشيه وفهارسه د‪ .‬إميل بديع يعقوب‪ -‬المجلد‪-0‬ص‪ -30‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت‬

‫‪ 61‬المترجم تحت عنوان "مقتطفات من تاريخ العلم اللغوي في الغرب" ل د‪.‬أحمد عوض‪ -‬إصدار عالم المعرفة‪-‬ص ‪77‬‬
‫‪125‬‬

‫الحقل الحضوري جوهرا وزمنا‪ ،‬وانتماؤها يكون جزئيا‪ ،‬أي زمنيا حال المضارع‪ .‬فهذه األصناف‬
‫الثالثة‪ .‬ومن ثمة فلئن كان الضمير يمثل الجوهر فهو ال يحصل حقيقة إال في العناصر الحضورية‪.‬‬
‫ويتأكد هنا التذكير بكون هذا التمثيل إنما يتم باتساق‪ ،‬ومن الحدث أو الحدوث‪ ،‬وجهته بالنسبة لآلن‬
‫الخطابي‪ ،‬أي أن الضمير يكون في الطرف الثاني ونهاية الصيغة في فعلت وفعلت وفعلت وفعلنا‬
‫وفعلتما وفعلتم وفعلتن‪ ،‬ويكون في صدرها وأولها في أفعل وتفعل ونفعل وتفعلين وتفعالن وتفعلون‬
‫وتفعلن‪ ،‬مع الجوهرية الوظيفية للياء واأللف والواو كمؤشرات دالة على العدد والجنس‪.‬‬
‫هكذا إذن يستبين ويتضح أن ال أساس وال موضع لمقولة الضمير المستتر ولتقديره في الحقل‬
‫الحضوري‪ ،‬كما أنه ال سداد للقول بضمائرية الياء واأللف والواو‪.‬‬
‫هذا وإن مبد أ التناسق الكوني بتجلياته وتحققه بمقتضى الداللة الزمنية للفعل من حيث أفصوله‬
‫وتمامه‪ ،‬ومبدئه بمعنى منطلقه واستمراريته‪ ،‬كل ذلك بحسم يدحض مقولة البناء واإلعراب ويردها‬
‫ردا غير مستعتب حين الحديث وتحليل الحدث والفعل‪ .‬يقول ابن مالك في ألفيته‪:‬‬
‫وأعربوا مضارعا إن عريا‬ ‫وفعل أمر ومضي بنيا‬
‫نون إناث كيرعن من فتن‬ ‫من نون توكيد مباشر ومن‬
‫حتى ال يكون حكمنا رجما بالغيب‪ ،‬نقول إنه من المرجح ترجيحا‪ ،‬كون مفهوم ثنائية البناء واإلعراب‬
‫لدى منتجيه والقائلين به تبعية وتقليدا‪ ،‬أساسه االتصال أو االنفصال عن اللواحق سواء كانت ضمائر‬
‫أو مؤشرات‪.‬‬
‫هكذا نالحظ أن البناء فيما اتصل‪ ،‬واإلعراب في غيره‪ ،‬وكفى المفهوم عناء المزيد من التفكير‬
‫والتحليل! بيد أن الذي تنوسي في هذا الشأن والحيز من الموضوع اللغوي‪ ،‬هو أن البناء معناه البقاء‬
‫على الحال والثبوث‪ ،‬وذلك مما يتناقض وكون الفعل واإلسم يتميزان عما سواهما من أقسام الكلم‬
‫بتصريف الحالة بخصوص األول‪ ،‬وتصريف الزمن بالنسبة للفعل‪ ،‬ولتكون الصفات من بعده تجمع‬
‫وفاعل وفاعالن وفاعلون وفاعالت ومفعِّل ومفعال‬
‫ٍ‬ ‫بين تصريفي الحالة والزمن كقولنا‪ :‬فاعل وفاعال‬
‫ومفعل ومفعالن ومفعلون ومفعالت؛ وهذا يعني بحسب الموضوع اللغوي وحقيقته أن هذا المعنى‬ ‫ٍ‬
‫للبناء ال يحق وال يصح إسناده لهذه األقسام الثالثة من الكلم‪ .‬وكذلك‪ ،‬وحتى ال نبخس الناس أشياءهم‬
‫نذكر بأن هذا التمييز والعمل به قد بدأ أول ما بدأ وظهر عند الرواقيين ومدرستهم اللغوية والنحوية‬
‫الشهيرة لدى علماء األفكار عموما والنحو خاصة‪ ،‬المدرسة التي أسسها زينون حوالي المائة الثالثة‬
‫‪126‬‬

‫قبل الميالد في حاضرة أثينا‪ ،‬وتابع من بعدهم اإلسكندريون هذا الجهد على منحيي الدراسة والتحليل‬
‫خاصة مع صاحب التخني جراماتيكي ديونسيوس ثراكس‪ ،‬تلميذ مؤسس الدراسة الهومرية‬
‫أرستارخوس في القرن الثاني قبل الميالد؛ بل إن تقسيم الكلم في التخني جراميتيكي اتخذ له من‬
‫العامل التصريفي المعيار التصنيفي األساس‪ ،‬مما هو جلي ظاهر في عناصر هذا التقسيم الذي اعتمده‬
‫مدرس اإلسكندرية حوالي المائة قبل الميالد‪:62.‬‬
‫‪ -0‬اإلسم "األونوما"‪ :‬هو قسم من الكالم يتصرف حسب الحالة‪ ،‬ويدل على كيان محسوس أو مجرد‪.‬‬
‫‪ -2‬الفعل "الريما"‪ :‬وهو قسم من الكالم ال يتصرف حسب الحالة‪ ،‬ولكنه يتصرف حسب الزمن‬
‫والشخص والعدد‪ ،‬ويدل على نشاط أو عملية تنجز أو ينفعل بها‪.‬‬
‫‪ -1‬البرتسبل "ميتوشي"‪ :‬وهو قسم من الكالم يشترك في مالمح الفعل واإلسم‪.‬‬
‫‪ -3‬األداة "أورترون"‪ :‬هي قسم من الكالم يتصرف حسب الحالة ويسبق األسماء أو يليها‪.‬‬
‫‪ -2‬الضمير "أونتونيميا"‪ :‬هو قسم من الكالم يستبدل باإلسم ويتميز باإلشارة للشخص‪.‬‬
‫‪ -4‬حرف الجر "بروتيزيس"‪ :‬هو قسم من الكالم يقع قبل كلمات أخرى في تأليف وتركيب الجمل‪.‬‬
‫‪ -7‬الظرف "إبريما"‪ :‬هو قسم من الكالم من دون تصريف‪ ،‬يقيد الفعل أو يضاف إليه‪.‬‬
‫‪ -8‬الرابطة "سينديزمو"‪ :‬هي قسم من الكالم يربط أجزاء الحديث معا ويمأل الفجوات في تفسيره‪.‬‬
‫إذن فتصريف الحالة والزمن تناسقا بالنسبة لإلسم والفعل يناقض معنى البناء‪ .‬ومرد قولهم بما‬
‫اصطلحوا عليه من عندهم وسمي بناء‪ ،‬مرده أنهم لم يدركوا ولم يبصروا كون السكون والنصب‬
‫بالنسبة للماضي في صيغته واألمر‪ ،‬هو نظير متوافق تناسقيا للرفع والضم في المضارع داللة على‬
‫استمرارية الحدث بمعنى الحدوث‪ ،‬وللنصب استقباال‪ ،‬وللسكون حال النهي‪.‬‬
‫وهذا كله إن هو إال تحقق الحق وتجلي الميزان إعماال هنا لمبدأي التناسق واالختالف؛ فاألصل‬
‫القانوني في أحوال الصيغ كلها مضيا وحاضرا أو استقباال وأمرا أصل واحد ذاتا ومضمونا‪ .‬هذا‬
‫األصل القانوني أو القانون ينبرئ ويظهر بوضوح في حالة الفعل البسيط الثالثي المجرد (فعل)؛ ففي‬

‫‪ 62‬نفس المصدر‪-‬ص‪72-70‬‬
‫‪127‬‬

‫طرف ونهاية الحدث بالنسبة إلى أفصول الزمن للمسند إليه حال انطباقه باآلن الخطابي يكون معبرا‬
‫عنه وممثال باإلسكان‪ ،‬وكذلك أصله وطرفه األول إعالنا لبدء الحدث؛ والرفع فيه ممثل لالستمرارية‬
‫في اآلن‪ .‬أما إذا كان األفصول الزمني للمسند إليه غير محدد في المضي‪ ،‬وهو حالة اإلسناد إلى‬
‫الغائب‪ ،‬فيعبر عنه لعدم تحديده بالنصب؛ واألمر نفسه في طرف المستقبل من الفعل والحدث‪ .‬وأقرب‬
‫التمثيل لهذه القاعدة القانونية والتجلي لتحققها هو كالتالي‪:‬‬
‫اآلن الخطابي‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬
‫[____________~~~‬ ‫_________]‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬
‫[____________‬ ‫_________‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬
‫[____________]‬

‫هكذا إن نحن الحظنا أن تمثيل نهاية الحدث ومنطلقه يكون في اللسان العربي بالسكون‪ ،‬استنبطنا أن‬
‫صيغة (افعل) تعبر عن انعدام الحدث؛ وهو الصحيح‪ .‬هذا يؤدي حتما إلى تقرير خطإ من يقول ويعبر‬
‫اصطالحا تقعيديا نحويا بتعبير "فعل أمر"؛ وإنما الصحيح هو أمر بالفعل‪ .‬ومنه على التو يقطع بخطإ‬
‫المقوالت اإلعرابية‪ ،‬أو المقولة المتصلة بذلك كإعراب تراكيب وصيغ (افعل) و(افعلي) و(افعال)‬
‫و(افعلوا) باعتبار ما تقدم‪.‬‬
‫يقول أبو الفتح عثمان بن جني (المتوفي سنة ‪ 122‬هجرية) رحمه هللا في كتابه القيم الخصائص‪:‬‬
‫‪128‬‬

‫<< ‪ . .‬وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل‪ ،‬إذ كن دالئل على الفاعلين‪ :‬من هم وما‬
‫‪63‬‬
‫هم وكم عدتهم‪ ،‬نحو أفعل ونفعل وتفعل ويفعل ‪>>. .‬‬
‫فقوله‪( :‬من هم) يفيد تمثيل الجوهر؛ وهذا هو معنى الضمير وماهيته‪ .‬لكن تضمينه صيغة (يفعل) هنا‬
‫ليس صحيحا‪ ،‬فقولنا أكتب ونكتب وتكتب يفيد معنى تاما غير مفتقر إلى مستند في التركيب والكالم؛‬
‫أما قولنا‪ :‬يكتب‪ ،‬فهو ال يفيد ذلك إال استنادا إلى ما قبله عموما‪ ،‬وهذه صورة وترجمة بيانية ولسانية‬
‫لال‪-‬انتماء الغائب للحقل الحضوري اقتضاء للعالقة الوثيقة في التصوير والتمثيل بين الواقع واللغة‪.‬‬
‫وإن أول ما يستنبط منطقا وعلما هو وجوب التصحيح والتقويم لكل ما مت بهذا في العقل العربي‪،‬‬
‫والمثال التوضيحي كتاب فقه الفلسفة لطه عبد الرحمان في الشطر األهم للجزء األول حين أعياه‬
‫‪64‬‬
‫البحث عن الضمير في الترجمة للكوجيتو الديكارتي‪.‬‬

‫‪ -8‬اعتراضات ابن هشام على االصطالحات اإلعرابية‬


‫قبل أن ننتقل ونعرض ألهم ما يعترض به على مقوالت النحو واإلعراب‪ ،‬مقوالت أخر إلى جانب‬
‫مقولة الضمير المستتر وما تقدم مما تبين ببرهان الحق عدم صحته واختالله‪ ،‬ولو أنه ال زال يدرس‬
‫للصغار في المدارس وللكبار في الكليات على السواء‪ ،‬يلقن على أنه علم وقواعد للنحو العربي؛ قبل‬
‫ذلك ولصلة بالموضوع وتوطئة له‪ ،‬نذكر ونسوق إسهام وأثر ابن هشام رحمه هللا؛ هذا اإلسهام‬
‫واألقوال المتميزة التي تنم عن روح علمية حقيقية لهذا الرجل الذي أبى أن يكون فؤاده وبصيرته كلية‬
‫شيئا تبعيا ال يشرك في اإلبصار‪ ،‬وال يعرف النقد لما يقدم له تاريخيا وبيئيا أنه علم مسلم به؛ وكأني‬
‫به رحمه هللا كان يؤمن موقنا أن هذه ال تحق إال للوحي المجيد المبرهن على مطلقية مجاله الحقائقي‬
‫باآليات والمعجزات البينات‪ ،‬أما اإلنتاج البشري فليس له ذلك إال عند الذين أشربوا التقليد وعطلوا‬
‫قلوبهم‪ ،‬يعيشون من حيث التفكير والعقل عالة على غيرهم من أطوار التاريخ ومن األمم‪.‬‬
‫يقول ابن هشام في كتابه "المغني" كما نقل عنه مؤلف "منهج ابن هشام"‪ ،‬يقول معترضا ناقدا‬
‫الصطالحات وتعبيرات واردة في مقوالت لقواعد نحوية وإعرابية‪:‬‬

‫‪ 63‬ابن جني‪ :‬الخصائص الجزء األول‪-‬ص‪222‬‬

‫‪ 64‬فقه الفلسفة‪ :‬الفلسفة والترجمة‪ -‬طه عبد الرحمن‬


‫‪129‬‬

‫<<‪ -‬قولهم في (لو) إنها حرف امتناع المتناع‪ .‬وقد فند رأيهم في ذلك (أي ابن هشام) عند الحديث‬
‫عن (لو) بين الحروف واألدوات‪ ،‬وذكر أن العبارة الجيدة قول سيبويه‪ :‬حرف لما كان سيقع لوقوع‬
‫غيره‪ ،‬وقول ابن مالك‪ :‬حرف يدل على امتناع تال ويلزم لثبوته ثبوت تاليه؛ ولكنه يختار عبارة يراها‬
‫أجود العبارات وهي قوله‪( :‬لو) حرف يقتضي في الماضي امتناع ما يليه [المغني‪.‬ص‪ .]287‬وهذا‬
‫فيما أرى أصح تعبير في الموضوع‪.‬‬
‫‪ -‬قولهم في (إذا غير الفجائية) إنها ظرف لما يستقبل من الزمان‪ ،‬وفيها معنى الشرط غالبا‪ .‬ويعيب‬
‫ابن هشام عليهم كالمهم هذا من جوانب ذكرها؛ منها إن فيها تطويال‪ ،‬فبدال من قولهم (لما يستقبل من‬
‫الزمان) يحسن أن يقولوا‪ :‬مستقبل‪ .‬ومعه الحق في هذا أيضا‪.‬‬
‫‪ -‬قولهم‪ :‬النعت يتبع المنعوت في أربعة من عشرة؛ وإنما ذلك في النعت الحقيقي‪ ،‬فأما السببي فإنما‬
‫يتبع في اثنين من خمسة‪.‬‬
‫‪ -‬وقولهم (الفاء جواب الشرط)‪ .‬ويذكر ابن هشام أن الصواب أن تقول إنها رابطة لجواب الشرط‪.‬‬
‫‪ -‬وقولهم‪ :‬العطف على عاملين‪ .‬والصواب‪ :‬على معمول عاملين‪.‬‬
‫‪ -‬وقولهم‪ :‬بل حرف إضراب‪ .‬والصواب أنها حرف استدراك وإضراب‪ ،‬ذلك أنها بعد النفي والنهي‬
‫بمنزلة لكن‪.‬‬
‫‪ -‬وقولهم في نحو قوله تعالى‪{:‬فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثالث ورباع} (النساء‪ :)1‬إن‬
‫الواو نائبة عن أو‪ .‬ويعقب على ذلك بأنه غير معروف في اللغة‪ ،‬وإنما يقوله بعض ضعفاء المعربين‬
‫والمفسرين‪ .‬وينقل عن بعض أئمة النحو تفنيده على أساس أن األعداد التي يضم بعضها إلى بعض‬
‫هي األعداد األصول؛ وأما األعداد المعدولة هذه فال يضم بعضها إلى بعض‪ ،‬وإنما يراد بها االنفراد‬
‫ال االجتماع‪ .‬ثم يشير إلى وقوع الخطإ فيها للجهل باستعمالها‪ ،‬ويجعل من ذلك استعمال المتنبي لها‬
‫في قوله [المغني‪.‬ص‪:]711‬‬
‫لييلتنا المنوطة بالتنادي‬ ‫أحاد أم سداس في أحاد‬
‫[شرح ديوان المتنبي‪]281\0‬‬
‫وينبه في خاتمة كالمه إلى ما ينبغي للمعرب‪ ،‬هو أن يتخير للعبارات التي هي أكثر إيجازا وجمعا‬
‫للمعنى المراد من غيرها؛ ويضرب لهذا أمثلة يطبق عليها ذلك [المغني‪.‬ص‪.]731‬‬
‫‪130‬‬

‫ويضيف كاتب "منهج ابن هشام" قائال‪:‬‬


‫<< وقبل أن أ نهي الكالم في هذا المبحث ألمح إلى أن ابن هشام جمع في هذا الباب‪-‬على قصره‪-‬‬
‫(الباب السادس من المغني الذي موضوعه التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين وجانبوا الصواب‬
‫فيها‪.‬ص‪-724‬ص‪ )]731‬أمورا لها أهميتها‪ ،‬فقد صحح مفاهيم كثيرة خاطئة‪ ،‬واتجاهات بعيدة عن‬
‫واقع اللغة من جهة‪ ،‬وعن الصناعة النحوية من جهة أخرى‪.‬‬
‫ولعل من أهم األمور ما دحضه من قولهم‪ (:‬ينوب بعض حروف الجر عن بعض)‪ ،‬وسنده في رد هذا‬
‫الكالم هو واقع اللغة نفسها‪ ،‬إذ ال يصح أن يقال‪ :‬مررت في يزيد‪ ،‬ودخلت من عمرو‪ ،‬وكتبت إلى‬
‫القلم‪ .‬ويرى ابن هشام تصحيح هذا القول بإدخال (قد) فتكون العبارة‪ :‬قد ينوب بعض حروف الجر‬
‫عن بعض؛ فهذا تصحيح لمفهوم خاطئ ساد بين الكثيرين من المشتغلين بالنحو‪ ،‬وكثيرا ما تجده على‬
‫األلسنة اآلن؛ فهو خطأ مشهور حجب الصواب وراءه‪ ،‬وساعده اإللف على الذيوع‪ ،‬ولكن هذا اإلمام‬
‫‪65‬‬
‫المحقق وضع األمور موضعها في كثير من هذه المسائل‪>>.‬‬
‫هذا النقد العلمي الكبير بكل مقاييس العلمية‪ ،‬الذي لألسف ولرسوخ نحلة التقليد في االجتماع التواجدي‬
‫اإلسالمي عموما والعربي خاصة‪ ،‬على كل أبعاده وشرايين الحياة ونفس التاريخ‪ ،‬الذي لم يجد له‬
‫إمكان التلقي وشروطه‪ ،‬هذه الشروط التي سيفسر أو باألصح سيثبت غيابها بما سيليها من تخلف‬
‫تاريخي وعمراني سافر‪ ،‬أفضى إلى التولي والهزيمة عنوانا ألمة وظيفتها اإلرشاد والقيادة‪ ،‬ال أن‬
‫تكون عالة على غيرها في متاع االستخالف‪ ،‬تقتني من غيرها كل شيء‪ ،‬من عدة القنا والحديد حتى‬
‫الخف والسرابيل؛ قلنا إن هذا النقد الملفت والمميز من حيث مضمونه العلمي البحث‪ ،‬خالصته هي‬
‫في قول الكاتب صاحب المبحث‪:‬‬
‫<< فقد صحح مفاهيم كثيرة خاطئة‪ ،‬وا تجاهات بعيدة عن واقع اللغة من جهة‪ ،‬وعن الصناعة النحوية‬
‫من جهة أخرى>>‬
‫هاهنا يبرز العامالن أساس القاعدة النحوية‪ ،‬عامل وشرط ومكون ما أسميناه بالحقيقة اللغوية‪،‬‬
‫والعامل الثاني مكون الصيغة القانونية بما هي مقول قانوني‪.‬‬

‫‪ 65‬منهج ابن هشام‪.‬ص‪032‬‬


‫‪131‬‬

‫فالعامل األول إسقاطه وترجمته في كالم ونقد ابن هشام‪ ،‬كما غيره من محللي الخطاب القانوني‬
‫والعلمي عموما‪ ،‬هو كل ما خالف فيه التعبير أصله وحقيقة المعبر عنه‪ .‬وهذا من دون مرية حق‬
‫للحق الذي تقوم عليه السماء واألرض أال يختل وأال يسمح فيه بشيء من عدم السداد‪ ،‬بله أن يكون‬
‫مخالفا منكرا من القول وزورا كما رأيناه‪ ،‬وهو محور العطب والباطل الذي نريد أن نثيره وننبه‬
‫عليه‪ ،‬حجة للحق بالغة بأبلغ الحجاج والبرهان في ما يخص هذا اإلسناد الباطل كل البطالن للفظة‬
‫(التوحيد)‪ ،‬التوحيد لذاته سبحانه عما يقولون! وهو األحد الصمد‪ .‬هذا العامل هو المحمول الظاهر في‬
‫قول الكاتب‪( :‬اتجاهات بعيدة عن واقع اللغة) وذلك باعتبار السياق‪ ،‬وأيضا باعتبار القسيم في فحواه‬
‫ومعناه‪.‬‬
‫هذا القسيم هو الصيغة القانونية أو مكونها المكمل على المستوى التركيبي الكمي‪ ،‬ال المعنى الذي قد‬
‫يتبادر ويسبق إلى الذهن‪ ،‬معنى الجمع والمنع‪ ،‬فهذا من ضمن الحقيقة اللغوية في إدراك وضبط‬
‫المعبر عنه‪ .‬فالعامل الثاني هو شرط االقتصاد اللفظي في المقولة والقاعدة النحوية باعتبارها صيغة‬
‫قانونية بكامل وتام الصفة القانونية‪.‬‬

‫‪ -7‬مفهوم الناسخ والتقعيد‬


‫رؤيتنا لمقولة الناسخ في النحو العربي ولما سواها من المقوالت هي من نفس رؤية ومنظور قول‬
‫المؤلف‪< :‬فقد صحح مفاهيم كثيرة خاطئة‪ ،‬واتجاهات بعيدة عن واقع اللغة من جهة‪ ،‬وعن الصناعة‬
‫النحوية من جهة أخرى‪>.‬‬
‫خطأ مفهوم الناسخ كما تبناه العقل اللغوي العربي‪ ،‬وبعده عن الواقعية اللغوية في اتجاهه وعن‬
‫الصناعة النحوية‪ ،‬هذا ما سنعرض له وسيأتي هاهنا بيانه بجلي الحجة وأوضح البرهان‪.‬‬
‫إن الحقل الداللي للفظ النسخ في اللسان والمعجم العربي حقل ال أحادي‪ ،‬أي أنه متعدد العناصر‪.‬‬
‫والداللتان الغالبتان في استعماله اللغوي أوالهما ما في سياق قوله سبحانه‪{:‬ما ننسخ من آية أو ننسها‬
‫نأت بخير منها أو مثلها' ألم تعلم أن هللا على كل شيء قدير'}(البقرة‪ ،)012‬والداللة الثانية التي في‬
‫قوله تعالى‪{:‬إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون'}(الجاثية‪ .)28‬الداللة األولى تفيد معنى اإلزالة واإلبطال‬
‫والتغيير كقوله تعالى‪{:‬وما أرسلنا من قبلك من رسول وال نبيء إال إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته‬
‫فينسخ هللا ما يلقي الشيطان ثم يحكم هللا آياته وهللا عليم حكيم}(الحج‪)21‬؛ ومعنى الداللة الثانية هي‬
‫‪132‬‬

‫حفظ األثر وكتبه ونقله كما في قوله تعالى الحق المبين‪{:‬إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا‬
‫وآثارهم' وكل شيء أحصيناه في إمام مبين'}(يس‪)00‬‬
‫الداللة الثانية إذا هي المتوافق مع سياق وحقل المقول النحوي الذي نحن بصدد النظر إليه موضوعا‪.‬‬
‫وإن هذا المقول باعتباره المفهوماتي‪ ،‬ليكفي القول بجزئية زوايا ووجوه النظر للعقل المتبني لهذا‬
‫المفهوم للسان وللغة كهدف للمقوالت والقواعد النحوية‪ .‬هذه الجزئية في تصور الموضوع اللغوي‬
‫تتمثل في االعتماد كلية وأساسا على ما يسمى مجازا بنظرية العامل‪ ،‬التي ال شك وال مرية هي‬
‫اعتبار للغة قاصر‪ ،‬ليس يدرك وينال من خالله إال وجه واحد من الوجوه المتعددة للغة واللسان؛ وال‬
‫يمكن والحال هاته أن نقول بأنه يفي ببسط وبيان الموضوع اللغوي ووتوضيحه وإعرابه‪ .‬فالعامل‬
‫كمنظار دراسي ألسني منظار جزئي أولي‪ ،‬ليس له في حدود ما يستطيع أن ينال من الموضوع‬
‫اللغوي سوى العالقة السببية كمكون بنيوي في الواقع‪ ،‬وهو كما قلنا ليس سوى أحد المكونات ضمن‬
‫مكونات عدة وعديدة‪ ،‬ال على مستوى الواقع ذاته كأصل مصور معبر عنه‪ ،‬وال كذلك على مستوى‬
‫اآللية اإلدراكية اإلنسانية‪ ،‬التي تعتمد وتتوسل أبعادا ومنظومة من العالئق في تصورها وضبطها‬
‫للظواهر واألشياء‪ ،‬من خالل بنية وقوانين العقل والمنطق‪ ،‬التي تتجلى أكثر ما تتجلى في البيان وفي‬
‫المادة المعجمية‪.‬‬
‫اعتماد مفهوم العامل يجعل النظر قاصرا على المحددات والعلل في مواضع وحركات عناصر‬
‫التركيب‪ .‬بيد أن موضوع النحو والقواعد اللغوية وجب أن يهم الظاهرة اللغوية من جميع زوايا النظر‬
‫ومن كل أنحائها ومستوياتها‪ ،‬واألخص منها إعراب وتوضيح المراد الخطابي والتواصلي‪ ،‬وتبيان‬
‫أدائها ووظائفها المتبعة لتصاريف النظم واختالف بنياته وتكويناته وتشكيالته‪ .‬ونحن من أجل هذا‬
‫الغرض تحديدا‪ ،‬وحين بلغنا موضع الحديث وفصل خطاب إسناد لفظ (الرب) إلى ضمير الجمع‬
‫المخاطب‪ ،‬أي التركيب والمادة البيانية (ربكم) في السبر الداللي للفظ (الرب) في القرآن كأهم ما‬
‫اعتمدنا عليه في هذا الجزء والدراسة‪ ،‬حينها الح لنا وظهر من بعدها أن مستحبا االستحضار لحقيقة‬
‫ومفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬ومن ثم تحتم علينا الرجوع والتطرق لمقوالت النحو‬
‫العربي ومفاهيمه المحورية بالنقد والتمحيص‪ ،‬وأساسا في بعدها الوظيفي ومداها االستيعابي للحقيقة‬
‫العلمية‪ .‬يقول ديونسيوس ثراكس صاحب التخني‪:‬‬
‫<<القواعد هي المعرفة العملية باستعماالت كتاب الشعر والنثر لأللفاظ‪ ،‬وتشتمل على ستة أقسام‪:‬‬
‫‪ -‬األول عن القراءة الصحيحة (بصوت مرتفع) مع وجوب مراعاة األوزان العروضية‪.‬‬
‫‪133‬‬

‫‪ -‬الثاني عن تفسير التعابير األدبية في المؤلفات‪.‬‬


‫‪ -‬الثالث عن تقديم المالحظات حول أسلوب ومادة الموضع‪.‬‬
‫‪ -‬الرابع عن اكتشاف أصول الكلمات (اإلتميلوجيا)‪.‬‬
‫‪ -‬الخامس عن استنباط أنواع االطراد القياسي‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫‪ -‬السادس عن تقدير قيمة التأليف األدبي‪ ،‬الذي هو أشرف أقسام القواعد‪>>.‬‬
‫فالقواعد إذن يلزم أن يكون من متضمناتها كذلك تفسير المادة اللغوية وفصل الخطاب‪ .‬وعلى سبيل‬
‫التمثيل مقولة الناسخ على مستوى مكونات الماهية في القاعدة يمكن أن نعرض لها ونبينها من وجه‬
‫مقارنة مضمونها وفحواها مع مقوالت أقرب منها إلى الصحة‪ .‬فمقوالت المبتدأ والخبر أو الفعل‬
‫والفاعل والمفعول به‪ ،‬إضافة إلى إفادتها إعمال مفهوم العامل واعتبار مواضع األلفاظ في الخط‬
‫األفقي الركني‪ ،‬فهي تحمل وتمثل ترجمة وتفسيرا للواقع المعبر عنه‪ .‬بيد أنه بقولنا في‪(:‬أصبحت‬
‫الصناعة الثقيلة والطاقة النووية فرضا على األمة) كون (أصبحت) ناسخا فعليا والمكونيين التاليين‬
‫في التركيب على التبع إسمها وخبرها‪ ،‬فإن هذه القاعدة في عناصر لفظها التقعيدي ال تفيد شيئا من‬
‫مقصد التقعيد‪ ،‬وال هي على حقيقة ومعنى اإلعراب كتوضيح وفرع للمعنى على التنزيل الصوري‬
‫والترجمي‪ ،‬بل نلفيها عكس ذلك تماما تعمي المعنى‪ ،‬وتفرغ الكالم من حقيقته لتنحو به إلى التحييد‬
‫والزوال والنسخ الوجودي للواقع المعبر عنه‪ .‬هذا كله مرتكزه الموضوع‪ ،‬وكل ماسواه معلق به‬
‫موصول على مختلف األبعاد والعالئق‪ ،‬البنيوي‪ ،‬والمواضعي األيني‪ ،‬والزمني‪ ،‬والحقائقي‪ ،‬وغيرها‬
‫من المناحي واألبعاد‪.‬‬
‫والحال هذه نرى أن هذه المقولة‪ ،‬مقولة الناسخ وإسمه وخبره‪ ،‬ليس فحسب تخل بشرط االنحفاظ على‬
‫مستوى نقل الواقع‪ ،‬بل تنقل موضع االرتكاز من الموضوع الحق إلى مسمى الناسخ‪ ،‬الذي هو في‬
‫الحقيقة ليس إال أداة ومحددا حقائقيا أو زمنيا‪.‬‬
‫فواقع األمر هنا بشأن هذه القاعدة المزعومة هو نسخ الواقع المعبر عنه برمته تحييدا وتبديال‪ .‬فإن بعد‬
‫العقل العربي اللغوي بفكره عن الواقع لينزل عالم المبهم بمقولة البناء واإلعراب ومقولة الضمير‬

‫‪ 66‬مقتطفات من تاريخ العلم اللغوي في الغرب‪ :‬ترجمة د‪ .‬أحمد عوض‪ -‬إصدار عالم المعرفة‪-‬ص‪47‬‬
‫‪134‬‬

‫المستتر‪ ،‬فبقاعدة الناسخ وإسمه وخبره يكون نظره ورؤيته لهذا الواقع والوجود رؤية ونظرا مقلوبا‪،‬‬
‫كما هي تبعية التمثل الوجودي لألنموذج التقعيدي العلمي‪.67‬‬
‫كما أن المرتكزية والمحورية للناسخ في هذه المقول‪ ،‬ينقضها ذات معناه المستمد تحديدا من نسخ‬
‫الحالة الحركية للموضوع والمحمول أو المسند والمسند إليه أو الحكم والمحكوم عليه‪ .‬وهذا ليس‬
‫يرتبط إال ببعد واحد ضمن عدد من األبعاد والعالئق البنيوية للظاهرة والحدث الواقعي المعبر عنه‪،‬‬
‫من المادي والسببي‪ ،‬والفضائي الزمني‪ ،‬والمكاني‪ ،‬والحقائقي‪ ،‬وغيره من األوصال واألبعاد‪ .‬فهذا‬
‫المعنى يدل ابتداء على سبق موضوع النسخ المنطبق بالمبتدإ وخبره‪ ،‬وما هذا المسمى ناسخا هنا إال‬
‫مؤطر ومحدد زمني‪.‬‬
‫على هذا البعد الدراسي للتصنيف االصطالحي والتقعيدي في أقسام التعبير والجمل يقول ابن هشام‬
‫ويشير معترضا كما نقله كاتب (منهج ابن هشام) بقوله‪:‬‬
‫<< ثم يقول بأن الزمخشري – ومعه غيره – زاد بين أقسام الجمل الجملة الشرطية (انظر المفصل‬
‫مع شرح ابن يعيش ‪ ،88\0‬والمغني ص‪ .)320‬والصواب أنها من قبيل الجملة الفعلية‪.‬‬
‫ويوضح في تنبيه أن المراد بصدر الجملة المسند أو المسند إليه‪ ،‬فال عبرة بما تقدم عليهما من‬
‫‪68‬‬
‫الحروف‪ ،‬ويضرب لذلك أمثلة توضيحية أكثرها من آيات الكتاب العزيز‪>>.‬‬
‫إن الدراسة العلمية والتحليل الموضوعي من غير التفات إلى مسبق األحكام‪ ،‬وال تقديس لقول من‬
‫سبق ومن غير شك‪ ،‬سيستبين معه خطأ مقولة الناسخ أوال باعتبارها مقوال تقعيديا‪ ،‬حيث ال استيفاء‬
‫لها لشروط ومكونات القاعدة العلمية‪ ،‬المنطبقة هنا بنسق إعرابي وظيفته فصل الخطاب معنى‬
‫وتركيبا‪ ،‬ثم تصورها البعيد كل البعد عن الواقع‪ ،‬تصورها الذي يقلب سلم الواقع ويعدم الحقيقة‪ .‬هي‬
‫مقولة تفرغ الكالم من الداللة على معنى‪ ،‬إلى أن تجعله أجوف في عالم الالشيء‪.‬‬
‫ثم هاهي أقسام الخبر لدى البالغيين إبتدائي وطلبي وإنكاري‪ ،‬فهل يا ترى يقبل على أي من وجوه‬
‫العلم ومطلق معايير الموضوعية أن نجعل أداة ومؤشرا في السلم الحقائقي لإلخبار كأداة التوكيد (إن)‬

‫‪67‬‬‫‪Bernard d’Espagnat- Penser la science ou les enjeux du savoir- p148- La bibliotheque GAUTHIER-‬‬
‫‪VILLARS- Dunod‬‬

‫‪ 68‬المنهج ص‪013‬‬
‫‪135‬‬

‫مثال‪ ،‬أن نجعلها أساسا ومرتكزا تقعيديا وهي في األصل والواقع المعبر عنه ليست كذلك‪ ،‬إنما هي‬
‫مجرد قيمة حقائقية على بعد ضمن أبعاد عديدة مؤطرة لظاهرة وحدث واقعي معين؟!‬

‫‪ -9‬المؤطرات الحقائقية والمؤطرات الزمنية‬


‫هذا التعدد األبعادي والتأثير الجزئي لهذه المسماة نواسخ حرفية وفعلية‪ ،‬هو ال شك من الحجج الكافية‬
‫في رد مقولة والنسق اإلعرابي للناسخ‪ .‬فما يسمى بالناسخ الفعلي إنما هو مؤطر فقط للحدث على‬
‫البعد الزمني‪ ،‬ومسمى الناسخ الحرفي إنما يؤطر فقط ويحدد المؤشر الحقائقي‪ ،‬وبالتالي ال يجوز‬
‫للجزئي أن يكون مرتكزا حامال للكل‪ ،‬فهو ال يؤثر إال جزئيا‪ .‬فاألول يراد به تأطير المسند أو الحكم‬
‫زمنيا‪ ،‬أما الثاني فإثبات وتوكيد اإلسناد دون اعتبار للبعد الزمني‪ .‬وعلى هذا بالضبط ارتكز قول ابن‬
‫هشام في الحكم على الجملة الشرطية‪ ،‬فكل األدوات البيانية الملحقة باألصل وظيفتها قيم ومؤشرات‬
‫مؤطرة ومحددة لمختلف من المعاني المحتملة والقابلة لإلنتاج‪.‬‬
‫إن هذه الجزئ ية أكثر ما تظهر وتصبح جلية من خالل وصلها في االعتبار بمالحظة شمولية التأثير‬
‫في أفعال القلوب وقبيلها‪.‬‬
‫وكذلك من خالل هذا يظهر خطأ نسق تعدد المفاعيل‪ ،‬كقولهم في (علمت القرآن مباركا) مفعول به‬
‫أول ومفعول به ثان ألن المفعول ال يكون إال جوهرا؛ وكذلك في (حسبت السراب ماء) إذ أصلها‬
‫إخبار‪ ،‬وأيضا في (أعطيت المسكين خمسة دراهم) فالسديد واألصوب في المسكين المفعول له‪.‬‬
‫من زاوية أخرى أمكن التدليل على جزئية التأثير لكال مسميي الناسخ بإمكان القول في (كان الجو‬
‫صحوا) (الجو كان صحوا)‪ ،‬فهذا يستنبط منه محورية ومرتكزية األصل أي المسند والمسند إليه‪،‬‬
‫ومالحظة تداخل التأثيرين بإمكان قولنا (إن الجو كان صحوا) ليتبين أن (إن) ال تعمل إال في المسند‬
‫إليه‪ ،‬ومن ثم فكالهما ليس مرتكزا وحامال كليا للتركيب‪ .‬وهذا تمثيل بسيط وخالصة‪:‬‬
‫‪136‬‬

‫المؤطرات الزمنية والحقائقية‬


‫كان‬ ‫إن‬

‫الج َّو صحواً‬ ‫صحو‬ ‫الجو‬ ‫ظن‬

‫صحواً‬ ‫الج َّو‬

‫هكذا إذن يتضح ونخلص إلى ما يلي‪:‬‬


‫حكم‪ -0‬خطأ محورية األداة بالبناء عليها؛ فقولنا ناسخ وإسمه وخبره يبطل الوظيفة اللسانية والبيانية‬
‫التي جوهرها المعنى‪ .‬فاألداة ال وظيفة لها سوى التأطير الزمني أو الحقائقي‪.‬‬
‫حكم‪ -2‬بمقولة الناسخ وإسمه وخبره يصبح تواجد الفكر والعقل في الالشيء ألن هذا النسق مرتكز‬
‫المفكر فيه محله الناسخ مما هو مخالف للواقع الذي اللغة تعبير عنه وصورة له وبيان‪ ،‬الذي حقيقته‬
‫كما هو معبر عنه باإلخبار أو الكالم اإلخباري المنبني على الثنائية الركنية‪ :‬الموضوع – الخبر أو‬
‫المسند إليه – المسند أو المحكوم عليه – الحكم (المحكوم به)‪.‬‬
‫حكم‪ -1‬من جهة ما يسمى مجازا بنظرية العامل‪ ،‬وهو في الحقيقة ليس إال نظر للغطاء الحركاتي‬
‫للكالم الذي ال يهم إال المستوى الظاهر للغة‪ ،‬فعمل الناسخ على هذا المستوى ليس إال جزئيا مما‬
‫يستدل به على بقاء األصل أي حقيقة اإلخبار كمحور للكالم‪.‬‬
‫حكم‪ -3‬خطأ مقولة تعدد المفاعيل‪ ،‬ألن األصل كالم إخباري‪ ،‬واألدوات واألفعال التي ترتكز عليها‬
‫هذه المقوالت التعددية للمفاعيل‪ ،‬ال تعدو في حقيقتها ووظيفتها سوى مؤطرات حقائقية‪ ،‬إن إثباتا ونفيا‬
‫أو ظنا ومقاربة أو ما سوى ذلك‪ .‬كما أن المفعول ال يكون إال جوهرا‪ ،‬واإلخبار االنطباقي ليس كل‬
‫اإلخبار‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫‪137‬‬

‫ليس نافلة من القول وليس يغرب عن القارئ والقارئة‪ ،‬أن تطرقنا للجانب اللغوي بدءا بالحديث عن‬
‫الداللة بإرساء حقيقة الحقل الداللي وتصريف المعاني‪ ،‬في عالقته بالسياق بالتعريج على الطرح‬
‫البالغي المستجد في طوره لعبد القاهر الجرجاني‪ ،‬ونهاية بالجامع لكل ذلك بالطرح العلمي المجرد‬
‫إلنتاج العقل العربي النحوي‪ ،‬أن ذلك كله كان من مقتضى اللزوم تبعا إليجاب ما ال يحصل الواجب‬
‫إال به‪ .‬ولست هنا بصدد إثارة اإلشكال البياني في التصور الوجودي وعالقة اللغة اإلنسانية بإطارها‬
‫المخلوقاتي المحدود‪ ،‬وتحديدا باتصالها باإلنسان كمخلوق كلية خلقا وإدراكا‪ ،‬وبما تكون عليه هذه‬
‫الصلة البيانية بين المحدود والمطلق‪ ،‬والمشهود والالمشهود الذي ال يخطر لإلدراك والتصور‪ ،‬فهذا‬
‫له حيزه الخاص‪ ،‬وقد عرض له علماء أجالء راسخون كابن قيم الجوزية رحمه هللا تعالى‪ .‬لكن الذي‬
‫يعرض لنا هنا تعيينا هو ارتباط النتاج والبيان اللغوي بالتوجيه النحوي‪ ،‬أي بمقوالته نسقا‬
‫واصطالحا‪ .‬والمثال البارز والذي كان األصل النواة في هذا االهتمام هو ما الحظناه بحق وبمعيار‬
‫من العلم‪ ،‬ما الحظناه من بعد وفرق بعيد بين حقيقة ما نزل من قوله تعالى‪{:‬إن ربكم هللا} وما هو‬
‫مقروء منها ومتصور بيانا في عقل وعين مقولة الناسخ الحرفي وإسمه وخبره‪.‬‬
‫وفي خص وص هذه العالقة ذات الخطر والشأن بين مقوالت النحو واإلعراب خاصة والمعاني‬
‫المستخلصة والبيان‪ ،‬يشير مؤلف منهج ابن هشام‪:‬‬
‫<< وبين أن من الحذف والتقدير ما يكون فضوال في علم‪ ،‬وإنما هو للمفسر‪ ،‬نحو{سرابيل تقيكم‬
‫الحر}(النحل الآلية‪ )80‬حين يقولون إن التقدير‪ :‬والبرد؛ ونحو {وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني‬
‫‪69‬‬
‫إسرائيل}(الشعراء‪ )22‬حين يقولون إن التقدير‪ :‬ولم تعبّدني‪>>.‬‬
‫<< ثم يستدرك فيقول إنه حين أقدم على شيء من ذلك لم يقدم عليه مقلدا لهم‪ ،‬بل فعله ألنه وضع‬
‫‪70‬‬
‫الكتاب إلفادة متعاطي التفسير والعربية جميعا‪(.‬المغني‪ .‬ص‪>>)722‬‬
‫ونذكر هنا أيضا ما أكده ونبه عليه ابن تيمية رحمه هللا من قول اإلمام أحمد بن حنبل رحمه هللا‪:‬‬
‫<< يحذر المتكلم في الفقه هذين األصلين‪ :‬المجمل والقياس‪ ،‬وقال‪ :‬أكثر ما يخطئ الناس من جهة‬
‫التأويل والقياس‪>>..‬‬

‫‪ 69‬نفس المصدر‪-‬ص‪014‬‬

‫‪ 70‬نفس المصدر‪ -‬ص‪017‬‬


‫‪138‬‬

‫والتأويل كما يعلمه مؤصلو المعرفة والمعاني إنما هو قراءة للفظ ولنظمه؛ وإذا كان النظم هو تأليف‬
‫للكلم وأدوات اللغة والبيان‪ ،‬فذلك معناه أنه يؤول ويؤصل إلى العلوم اللغوية التي عصبها علم النحو‪.‬‬
‫‪139‬‬

‫الباب الثالث‬

‫الربوبية بين الحقل الداللي والداللة الشرعية‬


‫‪140‬‬

‫الفصل األول‬
‫ضالل مقولة تقسيم التوحيد وقولتهم‪ :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية!‬

‫‪ -1‬الخطأ المرجئي في اإليمان وضالل النمطية‬


‫يقول ابن تيمية رحمه هللا‪:‬‬
‫<< فيقال لهم‪ :‬إسم اإليمان قد تكرر ذكره في القرآن أكثر من ذكر سائر األلفاظ وهو أصل الدين‪،‬‬
‫وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬ويفرق بين السعداء واألشقياء‪ ،‬ومن يوالي ومن يعادي‪،‬‬
‫والدين كله تبع لهذا‪ ،‬وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك‪ .‬أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا‬
‫ووكله إلى هاتين المقدمتين؟‬
‫ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن اإليمان هو التصديق أنه من القرآن‪ ،‬ونقل معنى اإليمان‬
‫متواتر عن النبي صلى هللا عليه وسلم أعظم من تواتر لفظ الكلمة‪ ،‬فإن اإليمان يحتاج إلى معرفة‬
‫جميع األمة فينقلونه بخالف كلمة من سورة‪ ،‬فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة‪ ،‬فال‬
‫يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات‪ ،‬ولهذا كثر النزاع واالضطراب بين‬
‫الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا‪ ،‬ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات‪ .‬فهذا كالم عام‬
‫‪71‬‬
‫مطلق‪>>.‬‬
‫أمكن لنا أو قد يجوز اعتبار جوهر هذه الكلمة قوله‪ < :‬والدين كله تبع لهذا‪ ،‬وكل مسلم محتاج إلى‬
‫معرفة ذلك‪ .‬أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا ووكله إلى هاتين المقدمتين؟>‬

‫‪71‬كتاب اإليمان‪.‬ص‪237-234‬‬
‫‪141‬‬

‫إنه لجلي أن هذا االعتراض الدليل به من الحسم والفصل ما ال يستنكف عنه وال يرده إال لجوج معاند‪.‬‬
‫وكذلك على نحو منه يستمد بأبسط التعريف والتحديد ما هو األصل من الدين‪ ،‬المنطبق بمفهوم العلم‬
‫في حقائق منه ومستوى‪ ،‬وأن منه شطرا ليس بالضروري وال كل مسلم مكلف بإدراكه‪ ،‬وهو ال‬
‫ينقض كونه م ن األصل الثابت ومن حقيقة الدين الكامل كما هو داللة اآلية الكريمة وقوله‬
‫سبحانه‪{:‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا'}(المائدة‪.)3‬‬
‫هاهنا يظهر لنا أن حجة ابن تيمية ومناط تعليله في خطإ المرجئة وانحرافهم عن سواء السبيل‪ ،‬هذه‬
‫الحجة ومناط الدليل لم يكن سوى القانون الحق الذي ال جدال فيه‪ ،‬الذي هو حرمة التصرف نقصا أو‬
‫زيادة أو تبديال للغة القرآن‪ ،‬وأللفاظ المسميات والحقائق العليا في الدين‪.‬‬

‫‪ -2‬مماثلة الخطأ التقسيمي لمسمى التوحيد للخطإ المرجئي في اإليمان‬


‫نعود إذا إلى مقولة (أقسام التوحيد) الخاطئة لننظر ما يكون األصل ونواة الخطإ فيها‪ .‬إن التحليل‬
‫الموضوعي يخرج بأمر ونتيجة مستخلصة أكيدة أن مكمن الخطإ وأصله ليس يبعد في طبيعته عن‬
‫الخطإ المرجئي‪ ،‬وتحديدا في البناء والتأسيس المغلوط باعتبار الجزء محل ومكافئ الكل‪ ،‬مما سيؤدي‬
‫حتما إلى االنحراف بحسبان المستنبط من األحكام واألقوال حقا وهي باطلة‪ ،‬ألن كل ما انبنى على‬
‫غير الحق فهو باطل ال يصح‪ .‬وصعوبة هذه األنساق التفكيرية المنطقية على كثير من الناس ولو‬
‫اعتبروا في أنفسهم ولدى العامة علماء‪ ،‬هذه الحقيقة العلمية وهذا الواقع‪ ،‬هو الذي من أجله جاء‬
‫التحذير عن التمادي في التطرق للمجمل والتأويل والقياس‪ ،‬ألنها مظان ومواضع الزلل‪.‬‬
‫إنه إذا كان خطأ المرجئة في اإليمان يختزل تدريسا في القراءة المغرضة لقوله تعالى‪{:‬قالوا يا أبانا‬
‫إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب' وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا‬
‫صادقين'}(يوسف‪ )07‬بجعل التصديق مكافئا لإليمان ومساويا له‪ ،‬وباعتبار هذا النسق األغلوطي في‬
‫العقل والمنطق وباعتبار خلفية المخالفة للخالف واالختالف مما هو محدد بإطار الخطاب‪ ،‬فإن مقولة‬
‫(توحيد الربوبية) ‪-‬نستعمل هنا هذا التركيب للضرورة البيانية‪ -‬فإنه أتى على شاكلته في قراءتهم غير‬
‫الصحيحة والمجانبة للحق كما أنزل لآلية الكريمة‪{:‬ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض وسخر‬
‫الشمس والقمر ليقولن هللا' فأنى يؤفكون'}(العنكبوت‪ )40‬ولمثلها من آيات هللا عز وجل الدالة على‬
‫إقرار المشركين بأنه سبحانه تعالى هو الخالق والرازق والحافظ ورب السماوات واألرض وما فيهن‪،‬‬
‫وأنه سبحانه مالك كل شيء ومليكه‪..‬‬
‫‪142‬‬

‫إن الحقول الداللية للعناصر المعجمية واأللفاظ ليست قصرا أحادية‪ ،‬وهذا دون الكالم والدخول في‬
‫حيز المجاز؛ فالغالب في الداللة إنما يشكل ويحدد بحسب مقام الكالم وسياقه‪ .‬إن اللفظ الذي قد يدل‬
‫على معنى ما في سياق معين تلفيه في موضع كالم وسياق غيره قد صار بمعنى وداللة غير التي‬
‫كانت له‪.‬‬
‫ولو شئنا وذهبنا أكثر في التحديد وتشخيص محل التلبيس أللفيناه في استبدال داللة لسانية بالداللة‬
‫الشرعية واالصطالح الشرعي‪ .‬وهذا ال شك سبيل مضل ونهج محرف‪ .‬وهو كما يعلم من أشهر‬
‫وأكثر التعميالت السفسطائية تحريفا للحق وإضالال للقلوب‪.‬‬
‫العنصر المعجمي ولفظ (الرب) في اللسان العربي حقله الداللي غير أحادي‪ ،‬أي أن دالالته ليس‬
‫تنحصر في داللة واحدة ال تعدوها‪ .‬فمن دالالته المربي‪ ،‬والمطاع‪ ،‬والسيد‪ ،‬وغيرها‪ .‬فال جرم أن‬
‫الذين يحصرون ويقصرون هذا الحقل الداللي لهذه الدالالت المتعددة في داللة واحدة‪ ،‬واألمر هنا‬
‫خطير وليس بالهين لشأن هذا التصرف في توجيه كالم هللا تعالى والقرآن المجيد‪ ،‬ال جرم أنهم في‬
‫زيغ وضالل مبين‪ .‬ذلك والمؤمن باهلل العظيم الذي يتقي هللا جل وعال ويخشاه ال تأخذه العزة باإلثم‪،‬‬
‫فال عصمة إال للوحي الكريم‪ ،‬والمؤمن اللبيب الكيس من دار مع الحق‪ ،‬أينما ولى فهو دليله‪ ،‬ال تأخذه‬
‫في هللا مواله لومة الئم‪ ،‬يستمع القول‪ ،‬كما أسيد بن خضير رضي هللا عنه‪ ،‬فيتبع أحسنه‪ ،‬وإن الناس‬
‫سواسية أكرمهم عند هللا تعالى أتقاهم‪.‬‬

‫‪ -3‬ضالل قولتهم‪< :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية>‬


‫إنه ليكفي لتبيان الخطإ بل لجلل وعظم خطبه أن يجر أصحابه لقول منكر عظيم‪ ،‬قولهم (قريش كانت‬
‫تقر بتوحيد الربوبية)‪ .‬وهي قولة منكرة يعارضها الحق قرآنا وسنة‪ .‬أال إنه يكفي أن ننظر ونتلو‬
‫سورتي األنعام ويونس المكيتين ما موضوعهما ومن المخاطب فيهما‪ .‬فسبحان هللا كيف يعقل هؤالء!‬
‫وهل يسيغ ذو الحجا أن هللا سبحانه وتعالى يخاطب قريشا ويدعوهم إلى أمر هم محققوه واقعا‬
‫وأصال؟! وليصغ هؤالء المقسمة الذين يرددون ما ال يعقلون ويقولون قريش كانت تقر بتوحيد‬
‫الربوبية؛ ليصغوا ولينظروا إلى قوله عز وجل وهو العليم الحكيم‪ {:‬فذلكم هللا ربكم‬
‫الحق'}(يونس‪ )12‬وإلى كل ما نزل من الحق والقرآن الحكيم وفيه اإلعالم المرسل تارة ابتدائيا‬
‫وأخرى طلبيا وإنكاريا حتى‪ ،‬محموله وعلمه الذي شكل القضية األولى لدعوة رسول هللا صلى هللا‬
‫‪143‬‬

‫عليه وسلم بمكة‪ ،‬هذه اآليات اإلخبارية الدعوية من جهة التحديد الخطابي التي علمها وخبرها أن هللا‬
‫تعالى هو الرب كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يغشي الليل النهار‬
‫يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره' أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب‬
‫العالمين'}(األعراف‪)21‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يدبر األمر' ما من‬
‫شفيع إال من بعد إذنه' ذلكم هللا ربكم' فاعبدوه' أفال تذكرون'}(يونس‪)1‬‬
‫أيظن هؤالء أن هذه اآليات المثاني من القرآن العظيم وهذا التذكير المستمر ليس إال حشوا ال يفيد ما‬
‫أجمع عليه علماء البيان من اإلخبار المؤكد المثنى إفادة لعظم اإلخبار وشأنه؟ فتعالى هللا عما يصفون!‬
‫أال إن هللا تعالى أحكم الحاكمين! وإن مواضع اللفظ وتصريف البيان كلما وأسلوبا ألحكم في مواضعه‬
‫ومقاصده من مواضع النجوم! وما يفقه مشكاة القوانين للخلق األمر إال أولو األلباب!‬
‫وإذ لم يبصر أصحاب التقسيم الخاطئ الذي ليس له أثارة من علم حق وال أصل مكين‪ ،‬أصحاب‬
‫المقولة المنكرة التي يكذبها القرآن ومن أصدق من هللا قيال‪ ،‬إذ لم يبصروا فنذكرهم بقوله تعالى وقوله‬
‫سبحانه الحق‪:‬‬
‫{الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إال أن يقولوا ربنا هللا'}(الحج‪)18‬‬
‫ّ‬
‫فليكف هؤالء إذا عن قولهم المنكر! ألنه قول في حقيقته‪ ،‬ولكنهم ال يبصرون‪ ،‬قول يه ّون ما لقيه‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم وصحابته رضي هللا عنهم من صنوف األذى والتنكيل والعذاب من‬
‫مشركي قريش‪. .‬‬
‫إنه ما أشنع قول القائل في معرض حديثه وهو يزعم نفسه عالما‪ ،‬يقول باللفظ‪ ،‬ولو كان مرددا لقول‬
‫بشر قد يكون أخطأ كما يخطئ الخلق من البشر‪ ،‬يقول باللفظ‪(:‬كفار قريش خير من كفارنا وشركهم‬
‫أخف من شرك أهل زماننا!)‪ ،‬فيكفي في رد هذا الخطإ وتبيان ضالله قوله تعالى العليم الحليم‪:‬‬
‫{كيف وإن يظهروا عليكم ال يرقبوا فيكم إال وال ذمة'}(التوبة‪)8‬‬
‫{ال يرقبون في مؤمن إال وال ذمة' وأولئك هم المعتدون'}(التوبة‪)01‬‬
‫‪144‬‬

‫أولئك أعداء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وآذوا أصحابه رضي هللا عنهم وحاصروهم في شعاب‬
‫مكة‪.‬‬
‫فهل يا ترى لهؤالء من حظ من الحكمة ومن المنطق الذي هو نسيج القلوب الذي بها يعقل؟‬
‫بربك هل يعقل من يقول وهو يجلس مجلس العالم الواعظ‪ ،‬يقول‪( :‬تبا لمن كان أبو جهل أعلم منه‬
‫بمعنى كلمة ال إله إال هللا)؟‬
‫إنه ال يجوز البتة ولو على وجه ضرب المثل‪ ،‬وال بأي سبيل كان‪ ،‬ال يحق له أن يرفع ما وضعه هللا‬
‫تعالى وما وسمه سبحانه وجعل حكمه النجس‪ .‬ومن ال يملك لنفسه ملكة تقيه سيء القول وباطله‪،‬‬
‫ويميز بها الخبيث من الطيب‪ ،‬وتحجزه عن استحسان خالل أهل الشرك والكفر‪ ،‬فإنه ال جرم ال يفقه‬
‫وال يدري ما يقول‪.‬‬
‫إن أول ما يجب على كل من يخوض في هذا الشأن العظيم من العلم أن يكون منظاره وسلمه لتقييم‬
‫الحقائق‪ ،‬مطلق الحقائق‪ ،‬أن يكون سلمه الحق‪ ،‬الذي أولى معالمه تلك التي كانت حياة رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم وصحابته رضي هللا عنهم تبيانه وحقل تنزيله وتثبيته في األرض‪ ،‬مشكاة للحق‬
‫على األرض للعالمين إلى يوم الدين‪ .‬ليستحضر هؤالء وليجعل كل عالم وكل دارس الموجه األول له‬
‫الوقائع الكبرى لبدر وأحد واألحزاب ومؤتة! ليجعلها معين لكل مستويات الواقع الحقة‪ ،‬وللعالقات‬
‫والمواقف الصحيحة التي غالبا ما نعبر عنها اختزاال بمبدأ الوالء والبراء!‬
‫روى اإلمام الحافظ أبو عبد هللا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري رحمه‬
‫هللا في صحيحه قال‪:‬‬
‫‪ -‬حدثنا أح مد بن إسحاق السوماري قال‪ :‬حدثنا عبيد هللا بن موسى قال‪ :‬حدثنا إسرائيل‪ ،‬عن أبي‬
‫إسحاق‪ ،‬عن عمرو بن ميمون‪ ،‬عن عبد هللا قال‪ :‬بينما رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قائم يصلي في‬
‫الكعبة‪ ،‬وجمع قريش في مجالسهم‪ ،‬إذ قال قائل منهم‪ :‬أال تنظرون إلى هذا المرائي‪ ،‬أيكم يقوم إلى‬
‫جزور آل فالن‪ ،‬فيعمد إلى فرثها ودمها وسالها‪ ،‬فيجيء به‪ ،‬ثم يمهله‪ ،‬حتى إذا سجد وضعه بين‬
‫كتفيه؟ فانبعث أشقاهم‪ ،‬فلما سجد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وضعه بين كتفيه‪ ،‬وثبت النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم ساجدا‪ ،‬فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك‪ ،‬فانطلق منطلق إلى فاطمة‬
‫عليها السالم – وهي جويرية‪ -‬فأقبلت تسعى‪ ،‬وثبت النبي صلى هللا عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه‪،‬‬
‫وأقبلت تسبهم‪ .‬فلما قضى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الصالة قال‪:‬‬
‫‪145‬‬

‫"اللهم عليك بقريش‪ ،‬اللهم عليك بقريش‪ ،‬اللهم عليك بقريش" ثم سمى‪" :‬اللهم عليك بعمرو بن هشام‪،‬‬
‫وعقبة بن أبي معيط‪ ،‬وعمارة بن الوليد"‬
‫قال عبد هللا‪ :‬فوهللا لقد رأيتهم صرعى يوم بدر‪ ،‬ثم سحبوا إلى القليب‪ ،‬قليب بدر‪ ،‬ثم قال رسول هللا‬
‫‪72‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬وأتبع أصحاب القليب لعنة"‬
‫‪ -‬حدثنا علي بن عبد هللا‪ ،‬حدثنا الوليد بن مسلم‪ ،‬حدثنا األوزاعي قال‪ :‬حدثني يحيى بن كثير قال‪:‬‬
‫حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال‪ :‬حدثني عروة بن الزبير قال‪ :‬قلت لعبد هللا بن عمرو بن العاص‪:‬‬
‫أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال بينا رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فخنقه‬
‫خنقا شديدا‪ ،‬فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقال‪{:‬أتقتلون رجال‬
‫‪73‬‬
‫أن يقول ربي هللا وقد جاءكم بالبينات من ربكم'}(غافر‪)01‬‬
‫هذا الحديث ساقه البخاري في تفسيره لسورة المؤمن (غافر)‪.‬‬
‫وفي الصحيح أيضا في باب ما أصاب النبي صلى هللا عليه وسلم من الجراح يوم أحد‪:‬‬
‫‪ -‬حدثنا إسحاق بن نصر‪ ،‬حدثنا عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن ه ّمام سمع أبا هريرة رضي هللا عنه‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫" اشتد غضب هللا على قوم فعلوا بنبيه – يشير إلى رباعيته – اشتد غضب هللا على رجل يقتله رسول‬
‫‪74‬‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم في سبيل هللا"‬
‫‪ -‬حدثني مخلد بن مالك‪ ،‬حدثنا يحيى بن سعيد األموي‪ ،‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن‬
‫عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس رضي هللا عنهما قال‪:‬‬

‫‪ - 72‬الحديث‪221‬‬

‫‪ -73‬الحديث ‪.3802‬‬

‫‪ –74‬الحديث‪.3171‬‬
‫‪146‬‬

‫" اشتد غضب هللا على من قتله النبي صلى هللا عليه وسلم في سبيل هللا‪ ،‬اشتد غضب هللا على قوم‬
‫‪75‬‬
‫د ّموا وجه نبي هللا صلى هللا عليه وسلم"‬
‫وفي الصحيح أيضا‪:‬‬
‫‪ -‬حدثنا حجاج بن منهال‪ ،‬حدثنا هشيم‪ ،‬عن أبي بشر‪ ،‬عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي هللا‬
‫عنهما قال‪:‬‬
‫" كان النبي صلى هللا عليه وسلم متواريا بمكة‪ ،‬وكان يرفع صوته‪ ،‬فإذا سمع المشركون سبوا القرآن‬
‫ومن جاء به‪ ،‬فقال هللا عز وجل لنبيه صلى هللا عليه وسلم‪{ :‬وال تجهر بصالتك وال تخافت‬
‫بها'}(اإلسراء‪)001‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫نعيد التذكير مرة أخرى أن كل ما استهللنا به من تفصيل معرفي للغة‪ ،‬بدءا من المعجم وصوال إلى‬
‫األسلوبية من خالل عتبتها الممثلة تحديدا في السياق‪ ،‬هذا المسار العلمي والمساحة المعرفية‪ ،‬التي ال‬
‫تهم اللسان العربي لوحده‪ ،‬وال لسانا دون آخر‪ ،‬بل عموم اللغة والبيان اإلنساني ممثال ومختزال في‬
‫االعتبار والتقرير بما أصطلح عليه األلسنيون بالخاصة اإلبداعية للغة اإلنسانية‪..‬‬
‫وكذلك مما هو أقوى توجيها وتأطيرا‪ ،‬من خالل الواقع الذي عاشه رسول هللا صلى هللا عليه وسالمه‬
‫وأصحابه الكرام رضي هللا عنهم‪ ،‬وغطرسة قريش وتكذيبها وحجم وجرم الشنآن الذي أكثر ما‬
‫يصوره وينقله ما هو محفوظ ذكرا يتلى للعالمين إلى يوم الدين‪{:‬أتقتلون رجال أن يقول ربي هللا وقد‬
‫جاءكم البينات من ربكم'}(غافر‪ )01‬وكأن هذا الذي يزعمونه ويرددونه تقليدا وجهال أن قريشا كانت‬
‫تقر بتوحيد الربوبية‪ ،‬إنما كان في الحق وبيان القرآن العظيم الذي هو الحق وغيره الباطل ال ريب‬
‫فيه‪ ،‬كأن ذلكم هو مدار الصراع والقضية الكبرى‪..‬‬
‫لقد كان كل ذلك مبدءا توجبه الضرورة العملية لتوضع المفاهيم واألسس موضعها‪ ،‬وليعلم أنما العلم‬
‫ليس الكالم مجرد الكالم‪ ،‬وإنما ما سدد بالحق في البيان‪ ،‬وتأسس على بينات من الحق والميزان‪ ،‬فإن‬

‫‪ –75‬الحديث‪.3173‬‬
‫‪147‬‬

‫القرآن عظيم وكل لفظ وكلمة منه من حيث السياق واألسلوب شأنه عظيم‪ ،‬وما المعراج في علم‬
‫القرآن إال البيان‪.‬‬
‫‪148‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫السبر الداللي للفظ (الرب) في القرآن الكريم‬

‫من خالل ما تقدم وبمنظاره العلمي‪ ،‬لنصوب قلوبنا وجهة الحق الذي ال يشوبه اختالف‪ ،‬وتلقاء النور‬
‫الذي يبدد الظلمات‪ ،‬وتنزاح به الشكوك والشبهات‪ ،‬ويهتدى به إلى السداد الذي دونه الظن والجدل‬
‫بغير علم والمماراة‪.‬‬
‫إنه لما كان هذا التقسيم الذي زعموه للتوحيد قد جمع بين كل صنوف االختالف والخطإ‪ ،‬فأضاف إلى‬
‫خلطه وخطئه العظيم الذي مس لفظا محوريا في بيان وتالوة القرآن العظيم‪ ،‬فتجلى تحقيق ما نزل به‬
‫من عند هللا الحق المبين تصديقا لقوله تعالى‪{:‬إنا نحن نزلنا الذكر' وإنا له لحافظون'}(الحجر‪ ،)2‬أي‬
‫بحق وقوة المناعة الذاتية للحق تجلى إخالل هذا التقسيم ومقولته الخاطئة بالحق والميزان‪ ،‬تجلى‬
‫ظاهرا فاحشا في إخالله بشرط مباينة القسائم الالزم لصحة أي تقسيم‪ ،‬وليقوم على الفصل في ما هو‬
‫في الحق والحقيقة ال ينفصل‪.‬‬
‫الخطأ الداللي إذا هو أصل ومكمن خطإ وضالل هذا التقسيم‪ ،‬تقسيم التوحيد على لغتهم وزعمهم‪.‬‬
‫من أجل هذا‪ ،‬ولتبيانه ال مندوحة من القيام بدراسة واعية مستوعبة لعناصر الداللة قي هذا التركيب‪،‬‬
‫وتحديدا في سبر ودراسة تصريف لفظ (الرب) في القرآن‪ ،‬حتى تتضح حقيقة األقوال ويتبين الحق‬
‫من الباطل‪ ،‬فيكون لكل مؤمن ومؤمنة من قلبه بصيرة وحجة‪ ،‬من بعد ما جاءه العلم قائما بالبينات‬
‫وبالبرهان‪.‬‬
‫ونذكر ونؤكد مرة أخرى معذرة إلى هللا تعالى ذي الحجة البالغة‪ ،‬أن القرآن والسنة النبوية الشريفة‬
‫كإطار تبيانا للتنزيل‪ ،‬يردان هذا التقسيم كلية‪ ،‬ومن أية جهة نظرت إليه‪ .‬وما كان هذا الذي ندلي به‬
‫هنا إال إحقاقا للحق‪ ،‬مستمدا من كتاب هللا العزيز الحكيم‪ ،‬وتسطيرا للنهج والسبيل العلمي القويم‪ .‬وإن‬
‫اآلية البينة التي جعلها الصديق رضي هللا عنه البيان لموقفه الكريم‪" :‬أتقتلون رجال أن يقوب ربي‬
‫هللا!" لتكفي‪ ،‬ولهي أصدق من قول البشر جميعا‪ ،‬وهي األصل واضحا‪ ،‬يرد إفك هذه الكلمة الخاطئة‬
‫‪149‬‬

‫(قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية)! ويرد كل ما هو مستلزم وجودا وعدما بها‪ ،‬وتحديدا هذا التقسيم‬
‫للتوحيد كما يزعمونه؛ فتعالى الحق عما يصفون !‬
‫سيكون المناط في هذا السبر والمرجع بسلم ومعيار ثنائي واضح‪ ،‬محددا في االنتماء والالنتماء لداللة‬
‫كلمة (الرب) للحقيقة والمعنى الدال على العبادة هلل تعالى‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫أتى لفظ (الرب) في القرآن الحكيم بمختلف أحواله الصرفية واإلعرابية واإلسنادية ألف مرة إال ستا‬
‫وثالثين(‪ . )243‬ولئن كان التوظيف اللغوي يجلي كما بيناه في الفصول السابقة‪ ،‬يجلي حقيقة قوله‬
‫سبحانه وتعالى‪{:‬إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون'}(الزخرف‪ ،)2‬حيث نجد ذلك في انتقال معاني‬
‫اللفظ من معنى إلى آخر من المعاني المختلفة‪ ،‬معجميها واصطالحيها المنطبقة هنا بالداللة الشرعية؛‬
‫لئن كان ذلك اقتضاء للسان القرآن‪ ،‬اللسان العربي المبين‪ ،‬فإن الغالب هو المعنى والداللة الشرعية؛‬
‫بل هي الداللة إذا جرد اللفظ في سياقه عن قرينة تصرفه عن العام الشرعي‪ ،‬كما هو الشأن والحال‬
‫في الوحي الكريم كتابا وسنة‪ ،‬كما سيأتي بيانه ويتضح بعد حين‪.‬‬
‫ولعل أنجع منحى على مستوى التحليل مناسب لهدف هذه الدراسة ومقصدها‪ ،‬في تحديد معنى هذا‬
‫اللفظ المحوري في القرآن العظيم‪ ،‬لفظ (الرب)‪ ،‬وبغاية سبر أصناف السياق باعتبار الحقيقتين‪ :‬عالقة‬
‫وحال العبودية‪ ،‬وهي حال لحقيقة مستمرة‪ ،‬والحقيقة الثانية‪ :‬الصلة التي تصل بين العابد والمعبود؛‬
‫هذا المنحى يتحقق بجعل اإلسناد واالنتماء للحقل الخطابي مستندا ومرجعا أوليا في التصنيف‪ .‬وذلك‬
‫مع بداهة عدم االختالف وال الجدل فيما هو جلي واضح من السياق والمعنى كقوله تعالى في سورة‬
‫يوسف‪{:‬يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما اآلخر فتأكل الطير من رأسه' قضي‬
‫األمر الذي فيه تستفتيان' وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك' فأنساه الشيطان ذكر ربه‬
‫فلبث في السجن بضع سنين'}(يوسف‪.)32-30‬‬
‫نعني بهذه المرجعية فصل التوظيف الخطابي بالمعنى الصرفي للخطاب‪ ،‬أي ما كان مسندا إلى‬
‫ضمير من ضمائر الخطاب عما هو خارج عنه‪ ،‬كالمسند إلى ضمير الغائب‪ ،‬أو ما أضيف وأسند في‬
‫اإلخبار والقول إلى إسم ظاهر‪.‬‬
‫لماذا هذا التوجه التصنيفي وهذا المعيار في التحليل بالذات؟‬
‫‪150‬‬

‫الجواب بخصوصه قريب بالمثال‪ :‬فلو تلونا عليك اآلية الكريمة وقوله سبحانه وتعالى‪{:‬رب اغفر لي‬
‫ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات' وال تزد الظالمين إال تبارا'}(نوح‪ )11‬ثم طلب‬
‫منك وسئلت عن توظيف ومعنى لفظ (الرب) في سياقها أكان للداللة االصطالحية الشرعية‬
‫المتضمنة لحقيقة العبادة‪ ،‬أم لغيرها من الدالالت المعجمية غير المنطبقة بالمعنى الشرعي؟ فإن‬
‫جوابك سيكون وال شك‪ :‬إنه بالطبع للداللة الشرعية‪ .‬ولئن سئلت عن حجتك ودليلك في ما ذهبت إليه‬
‫من القول لبادرت على التو غير متردد‪ ،‬مبرزا حجتك بأن هذه اآلية تحكي قول نبي‪ ،‬وقول النبي‪:‬‬
‫(ربي) مطلقا من غير قرينة صارفة ظاهرة ال ينبغي حمله إال على المعنى الشرعي بمعنى المعبود‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫‪ -1‬اإلسناد لحقل المتكلم وللظاهر من اإلسم‬


‫الدعاء والنداء‬
‫نبدأ إذا هذا التحليل الداللي المعجمي على مسارات سياق القرآن العظيم‪ ،‬كتاب هللا المبين‪ ،‬الذي لئن‬
‫اجتمعت اإلنس والجن على أن يأتوا بمثله ال يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‪. .‬‬
‫نبدأ بالقسم األول المنطبق بمقام الدعاء والنداء‪ ،‬فهو األقرب من غيره من مقامات البيان في عالقة‬
‫اللغة بالواقع‪ ،‬ذلك أنه هاهنا يكون ويصبح هو الواقع نفسه‪ ،‬ألن السلوك التواجدي اإلنساني يصبح هو‬
‫ذاته وكلية سلوكا لغويا‪ ،‬وهذا بالضبط ما حدا بفريق من علماء اللغة وكبار المختصين بعلم البالغة‬
‫والبيان وحتم عليهم اعتبار قسم آخر ثالثا مباين لإلنشاء واإلخبار‪ ،‬أسموه واشتهر أكثر بالقسم‬
‫االنفعالي للكالم‪ .‬والحق أنك لو تأملت وعرضت ما عرضوه من األسس والدالئل‪ ،‬وخاصة أنه إذا‬
‫كان ما يم يز اإلخبار هو موضوعيته للقيمة الحقائقية والنفي واإلثبات‪ ،‬وأن ما يميز اإلنشاء هو عدم‬
‫اإلخبار‪ ،‬مع ارتباط البيان كحدث بصفة بينة بين طرفي الخطاب‪ ،‬فإن الدعاء والندبة والتعجب خارج‬
‫ذينك القسمين‪ ،‬موضعه النفس ال يخرج عنها‪ ،‬فإنك ستقر بما أقروه‪ ،‬وسيتبين لك أن هذا قسم له من‬
‫الخصائص ما ليس من خصائص اإلخبار واإلنشاء‪.‬‬
‫إذن فأبرز ما يختص به هذا المقام والتوظيف للفظ (الرب) هو انطباق التواجد بالسلوك اللغوي‪.‬‬
‫‪151‬‬

‫الدعاء والنداء للمفرد المتكلم‪:‬‬


‫ورد لفظ (الرب) في القرآن العظيم في سياق النداء والدعاء وقسمهما للمتكلم المفرد سبعا وستين مرة‬
‫(‪ ،)47‬جاءت جميعها في مقام األنبياء إال تسعا (‪ ،)2‬ثالث (‪ )1‬منها من قلب اإليمان وإطاره‪ ،‬أما‬
‫الست البواقي فهي‪:‬‬
‫{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون'}(الحجر‪ )14‬و(ص‪)72‬‬
‫{قال رب بما أغويتني ألزينن لهم في األرض وألغوينهم أجمعين'}الحجر‪)12‬‬
‫حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون}(المؤمنون‪)22‬‬
‫{رب لوال أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين'}(المنافقون‪)01‬‬
‫{قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا'}(طه‪)022‬‬
‫كذلك نعني بالمنطلق اإليماني في تعبيرنا اإليمان في حيز التكليف ودار العمل واالبتالء؛ وهو ال‬
‫ريب اإليمان القلبي والعملي من دون فصل؛ فهذا المجمل‪ ،‬ومن قال في مستوى المجمل غير هذا فهو‬
‫دون ريب مجانب للصواب ولم يقف سلوك الحكمة في أحكامه‪ ،‬ذلك أن ما ورد فيه اعتبار التصديق‬
‫القلبي دون العمل إنما هو مقيد بقيود‪ ،‬ال تنال من صحة وصدق كون اإليمان تصديقا قلبيا وعمليا‪ .‬أما‬
‫الذين يقولون عكس هذا ومثله‪ ،‬من إغراض في مقولة (كفر دون كفر) فإنما هم في ضالل؛ ضلوا‬
‫وأضلوا‪ .‬ثم إنه ما من عالم إال ويبتلى‪ ،‬فإن اهتدى ولم يداهن ولم يخش في هللا لومة الئم زاده هللا‬
‫تعالى علما ورزقه هداه وتقواه‪ ،‬وأراه تعالى الحق حقا وألهمه اتباعه‪ ،‬وأراه الباطل باطال وألهمه‬
‫اجتنابه؛ وإن داهن وأرضى المشاقين هلل ورسوله أضله هللا العزيز الحكيم‪ ،‬وأذهب نوره وغشيه العمه‬
‫ولو خال نفسه أنه على نهج السلف وادعى ما ادعى مما ابتليت به األمة في هذا الزمان‪.‬‬
‫المنطلق اإليماني اصطالحا في هذا السبر الداللي هو كما أشرنا باعتبار داخلي ضمن دار العمل حين‬
‫ينفع اإليمان ويميزه‪ ،‬أو بلغة صحيحة بالنسبة إليه يتمايز الحزبان‪ ،‬حزب هللا وحزب الطاغوت‪ ،‬ألن‬
‫تبعات المسؤولية والسؤال عن القول والعمل لها حجتها الحقة ما دامت من الحق ومن مناط اإليمان‬
‫وحقيقته‪ .‬ومن تم فاإليمان ترجمته أو يطابقه ويكافئه معنى 'سمعنا وأطعنا'‪ ،‬والكفر يقابله ومترجمه‬
‫'سمعنا وعصينا'‪ ،‬وال يكون لمعنيي الطاعة والعصيان من مجال إال في الدنيا‪ ،‬فما بعدها إنما هو‬
‫جزاء وثواب‪.‬‬
‫‪152‬‬

‫ثم لتحقق الوضوح وجلوة العلم في هذه الدراسة ال بد من إعادة وفصل القول في مسألة أثيرت قبل‪،‬‬
‫والتي اختزلناها باإلحالة إلى الحق من قوله سبحانه‪{:‬أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج‬
‫مشيدة' وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند هللا' وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك' قل كل من‬
‫عند هللا' فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'}(النساء‪.)77‬‬
‫إن في قوله جل وعال‪{:‬قل كل من عند هللا'} الكفاية في البيان لمن يعقل‪ ،‬وتقويما وردا للعقيم من‬
‫التفكير الذي خاض به أصحابه في مسألة الجبر واالختيار والقضاء والقدر‪ .‬وصلة هذا بموضوعنا‬
‫ودراستنا هو ضرورة العلم والمعرفة بما يتصل باألبعاد الوجودية وفضاء كينونة اإلنسان‪ .‬وما يلزم‬
‫ضبطه واالتفاق بشأنه‪ ،‬أن الدنيا دار عمل واآلخرة دار جزاء‪ .‬فما الذي يمكن إذا ميزه وفصله من‬
‫جهة أبعاد ودرجات الوجود؟‬
‫إن قوله تعالى المبين‪{:‬الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمال' وهو العزيز‬
‫الغفور'}(الملك‪ ،)2‬قوله سبحانه‪{:‬ليبلوكم أحسن عمال} يفيد درجة غير منعدمة من التواجد في هذا‬
‫الوجود‪ ،‬بمعنى أن هناك مجال تخيير لإلنسان بأكثر من سبيل وإمكان واحد‪.‬‬
‫أما الضابط الثاني الذي يجب اعتباره هو أن هذه القوانين المدبرة والمتحكمة في األسباب والمسببات‪،‬‬
‫والمواد والنتاجات على مختلف درجات حرية الوجود كسبا واكتسابا‪ ،‬على هدي الحق في الشريعة أو‬
‫ضالال‪ ،‬كل ذلك سائر وقائم بالحق‪:‬‬
‫{خلق هللا السماوات واألرض بالحق' إن في ذلك آلية للمؤمنين'}(العنكبوت‪)33‬‬
‫{ما خلقنا السماوات واألرض وما بينهما إال بالحق وأجل مسمى'}(األحقاف‪)2‬‬
‫{من عمل صالحا فلنفسه' ومن أساء فعليها' وما ربك بظالم للعبيد'}(فصلت‪)32‬‬
‫{ذلك بما قدمت يداك وأن هللا ليس بظالم للعبيد'}(الحج‪)01‬‬
‫{قل ك ّل من عند هللا' فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'}(النساء‪)72‬‬
‫هكذا فالحيز الذي يخص ويعمل فيه التمييز اإلسنادي والخطابي هو حيز ومجال التكليف‪ ،‬حيز العمل‬
‫واالبتالء في اختيار العمل‪:‬‬
‫‪153‬‬

‫{إن الذين يلحدون في آياتنا ال يخفون علينا' أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة'‬
‫اعملوا ما شئتم' إنه بما تعملون بصير'}(فصلت‪)31‬‬
‫{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن' وهللا بما تعملون بصير' خلق السماوات واألرض بالحق‬
‫وصوركم فأحسن صوركم' وإليه المصير' يعلم ما في السماوات واألرض ويعلم ما تسرون وما‬
‫تعلنون' وهللا عليم بذات الصدور'}(التغابن‪)3..2‬‬
‫وهذا الحيز يخص الثقلين من اإلنس والجن إبان التكليف‪ ،‬أما الخلق مما وجوده ليس تواجدا بدرجة‬
‫اكتسابية غير منعدمة‪ ،‬وسواء في إطار دنيوي غير تكليفي أو باالنتقال للدار اآلخرة وحصول اليقين‬
‫حيث ال ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا‪ ،‬فذلك ال يقع فيه اكتساب‬
‫عملي أو قولي بمعنى خطابي من شأنه التمييز‪ .‬لذلك نجعل مرجعية الخطاب من أجل هذا التمييز‬
‫داخل حيز التكليف‪ ،‬فنقول إما (منطلق إيماني) أو (منطلق غير إيماني)‪ .‬وخارج هذا الحيز فإنما هي‬
‫عبودية تامة‪{:‬كل قد علم صالته وتسبيحه'} (النور‪ ،)31‬وهذا ما ينحو به البيان والداللة في‪{:‬رب‬
‫العالمين}‪{،‬رب المشارق والمغارب}‪ .‬وهكذا فحين نقول‪(:‬خارج هذا الحيز) ال نعني به الخروج عن‬
‫القهر اإللهي‪ ،‬وإنما باعتبار ما تقدم وما تحتم علمه وفقهه‪.‬‬
‫والحقيقة الثانية التي يلزم كل من نشد كسب فقه الخطاب القرآني أن يعلمها شرطا الزما أكيدا هي أن‬
‫ال خاصة تمييز إلسناد لفظ (الرب) خارج شرط التكليف وإطاره‪ .‬ونسوق هنا كلمة مفيدة تلخص على‬
‫نحو محكم وصورة بديعة سؤال عالقة اللغوي باالصطالحي‪ ،‬مع اتصال وتماس موضوعي بإشكالية‬
‫تأثير هذا اإلسناد‪ ،‬واعتبار خاصته التي تحدده وتميزه؛ قال اإلمام الفقيه محمد بن علي الشوكاني‬
‫رحمه هللا في معرض تفسيره لقوله عز وجل‪{:‬فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة هللا التي فطر الناس‬
‫عليها ال تبديل لخلق هللا ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس ال يعلمون}(الروم‪:)11‬‬
‫<<‪ . .‬الفطرة في األصل الخلقة‪ ،‬والمراد بها هنا الملة‪ ،‬وهي اإلسالم والتوحيد‪ .‬قال الواحدي‪ :‬هذا‬
‫قول المفسرين في فطرة هللا‪ ،‬والمراد بالناس هنا الذين فطرهم هللا على اإلسالم‪ ،‬ألن المشرك لم يفطر‬
‫على اإلسالم‪ ،‬وهذا الخطاب وإن كان خاصا برسول هللا فأمته داخلة معه فيه‪ .‬قال القرطبي باتفاق من‬
‫أهل الت أويل‪ :‬واألولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم‪ ،‬وأنهم جميعا‬
‫مفطورون على ذلك لوال عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة‬
‫الثابت في الصحيح قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ما من مولود إال يولد على الفطرة‪-‬‬
‫وفي رواية ‪:‬على هذه الملة‪ -‬ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء‬
‫هل تحسون فيها من جدعاء؟)) ثم يقول أبو هريرة‪ :‬واقرأوا إن شئتم {فطرة هللا التي فطر الناس‬
‫‪154‬‬

‫عليها ال تبديل لخلق هللا}‪ .‬وفي رواية‪" :‬حتى تكونوا أنتم تجدعونها"‪ .‬وسيأتي في آخر البحث ما ورد‬
‫معاضدا لحديث أبي هريرة هذا‪ .‬فكل فرد من أفراد الناس مفطور أي مخلوق على ملة اإلسالم‪ ،‬ولكن‬
‫ال اعتبار باإليمان واإلسالم الفطريين‪ ،‬وإنما يعتبر اإليمان واإلسالم الشرعيان‪ ،‬وهذا قول جماعة من‬
‫الصحابة ومن بعدهم‪ ،‬وقول جماعة من المفسرين‪ ،‬وهو الحق‪.‬‬
‫والقول بأن المراد بالفطرة هنا اإلسالم هو مذهب جمهور السلف‪ .‬وقال آخرون‪ :‬هي البداءة التي‬
‫ابتدأهم هللا عليها‪ ،‬فإنه ابتدأهم للحياة والموت‪ ،‬والسعادة والشقاوة‪ .‬والفاطر في كالم العرب هو‬
‫المبتدئ‪،‬وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة وإهمال معناها شرعا‪ ،‬والمعنى الشرعي‬
‫مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع‪ ،‬وال ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في‬
‫بعض المواضع مرادا بها المعنى اللغوي كقوله تعالى‪{:‬الحمد هلل فاطر السماوات واألرض} أي‬
‫خالقهما ومبتديهما‪ ،‬وكقوله‪{:‬وما لي ال أعبد الذي فطرني} إذ ال نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا‪،‬‬
‫‪76‬‬
‫ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة‪ ،‬وهو ما ذكره األولون كما بيناه‪>>. .‬‬
‫الشاهد عندنا هو هذا الحكم المعرفي العلمي الجلي الراسخ‪:‬‬
‫<< ولكن ال اعتبار باإليمان واإلسالم الفطريين‪ ،‬وإنما يعتبر اإليمان واإلسالم الشرعيان‪ .‬وهذا قول‬
‫جماعة من الصحابة ومن بعدهم وقول جماعة من المفسرين‪ ،‬وهو الحق‪>>.‬‬
‫<<والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع‪ ،‬وال ينافي ذلك ورود الفطرة في‬
‫الكتاب والسنة في بعض المواضع مرادا بها المعنوي اللغوي‪>>.‬‬
‫إذا عدنا إذا إلى اآليات المستثناة في المجال الخطابي للفظ (رب !) محل الدعاء والنداء‪ ،‬فكونها خارج‬
‫حيز التكليف ال خاصة تمييز لها‪ ،‬وهي ضمن المعنى الداللي في كلمته وقوله سبحانه‪{:‬رب‬
‫العالمين} أي بمعنى هذا اللفظ والتركيب‪ .‬فلفظ (رب) هنا له من المعاني والحقائق ما العبودية مكون‬
‫فيه وحقيقة‪ .‬وإن نحن ذهبنا نتدبر و نتلو جوار وسياق اآليات من قوله تعالى‪:‬‬
‫{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون'}(الحجر‪ -14‬ص' ‪)72‬‬
‫{قال رب بما أغويتني ألزينن لهم في األرض وألغوينهم أجمعين}(الحجر‪)12‬‬

‫‪ 76‬فتح القدير‬
‫‪155‬‬

‫لعلم منه ومن بيانه وفقهه أن المعنى والمضمون يفيد الحكم والقضاء‪ ،‬أي أن هللا تعالى قضى‪ ،‬كما هو‬
‫ماثل لغة في قوله تعالى‪{:‬وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في األرض مرتين ولتعلن علوا‬
‫كبيرا'}(اإلسراء‪ ،)3‬وأن الشيطان الرجيم هذه سبيله وجبلته أبدا‪ ،‬الغواية واإلضالل‪ ،‬يمني أتباعه‬
‫ويعدهم وما يعدهم إال غرورا‪ ،‬إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير‪ ،‬وأن ذلك كله إنما هو‬
‫سنن وقانون ال يتخلف وال يحيد‪:‬‬
‫{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان' وكفى بربك وكيال'}(اإلسراء‪)42‬‬
‫{والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم'}(محمد‪)08‬‬
‫{وما ربك بظالم للعبيد'}(الحج‪.)01‬‬
‫كذلك بخصوص اإلسناد فإن اآليات‪:‬‬
‫{حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كال'}(المؤمنون‪)22‬‬
‫{وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لوال أخرتني إلى أجل قريب‬
‫فأصدق وأكن من الصالحين'}(المنافقون‪)01‬‬
‫{قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا'}(طه‪)021‬‬
‫فهذا كله خارج اإلطار التكليفي كذلك‪ ،‬والبيان المقرر لفقهه يكفي فيه قوله جل وعال‪:‬‬
‫{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا‬
‫موقنون' ولو شئنا آلتينا كل نفس هداها' ولكن حق القول مني ألمألن جهنم من الجنة والناس‬
‫أجمعين'}(السجدة‪)01-02‬‬
‫ويقول سبحانه وهو الحق أحكم الحاكمين‪:‬‬
‫{قل يوم الفتح ال ينفع الذين كفروا إيمانهم وال هم ينظرون'}(السجدة‪.)22‬‬
‫فهذا بيان ناصح بليغ تفصيل الحكم‪< :‬إنما يعتبر اإليمان واإلسالم الشرعيان>‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫‪156‬‬

‫اإلسناد إلى الظاهر من اإلسم‪:‬‬


‫تفصيال للدرس على مواضع البيان نعرض هنا لهذا القسم والصنف ذي اإلسناد إلى الظاهر من‬
‫اإلسم‪ ،‬والذي ينتمي إليه تركيب وإسناد (رب العالمين)‪ ،‬وذلك من خالل الجدل التالي‪:‬‬

‫المجموع ‪82‬‬ ‫عدد وروده‬ ‫المسند إليه‬


‫‪32‬‬ ‫العالمين‬
‫‪00‬‬ ‫السماوات واألرض‬
‫‪0‬‬ ‫السماء واألرض‬
‫‪0‬‬ ‫السماوات‬
‫واألرض‬
‫‪0‬‬ ‫السماوات السبع‬
‫‪0‬‬ ‫والعرش العظيم‬
‫‪2‬‬ ‫العرش‬
‫‪0‬‬ ‫كل شيء‬
‫‪2‬‬ ‫المشرق والمغرب‬
‫‪0‬‬ ‫المشارق والمغارب‬
‫‪0‬‬ ‫المشارق‬
‫‪0‬‬ ‫المشرقين‬
‫‪157‬‬

‫‪0‬‬ ‫والمغربين‬
‫في هذه المعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي‪ :‬نرمز له برمز ص‪.0‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫آبائكم األولين‬
‫حيز إيماني‬ ‫‪2‬‬ ‫موسى وهارون‬
‫حيز إيماني‬ ‫‪0‬‬ ‫هارون وموسى‬
‫ص‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫الفلق‬
‫‪0‬‬ ‫الناس‬
‫ص‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫الشعرى‬
‫ص‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫البلدة‬
‫ص‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫هذا البيت‬
‫ص‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫العزة‬

‫أمكن اعتبار حد أدنى للداللة الشرعية في كل اإلسنادات هذه إال أربعا مع اعتبار حقيقة "حد أدنى"‬
‫ومعيار التسديد والتقريب‪.‬‬
‫هكذا نرى أن شطر هذا اإلسناد في القرآن الحكيم‪ ،‬إسناد لفظ (رب) إلى الظاهر من اإلسم تركيب‬
‫(رب العالمين) ‪ .‬وإذا كان معناه وإسناده يفيد معنى العبودية المطلقة هلل تعالى الواحد القهار‪ ،‬فما بقي‬
‫من هذا القسم والصنف ال يخرج عن هذا المعنى‪ .‬ولئن رمنا الدقة والتسديد أكثر‪ ،‬والصرامة والتحفظ‬
‫العلمي‪ ،‬استثنينا سبعة سياقات يؤول الحكم فيها لمعنى غير منطبق حصرا بالعبودية والملكية أو‬
‫المالكية‪ ،‬وإنما مع تضمنه هذا المعنى فهو يتجاوزه إلى معنى العبادة في ثالثة إسنادات‪ ،‬وهي الواردة‬
‫في قوله سبحانه‪:‬‬
‫‪158‬‬

‫{رب موسى وهارون}(األعراف‪ -022‬الشعراء‪)38‬‬


‫{رب هارون وموسى}(طه‪)71‬‬
‫أما اآليات األربعة األخرى فالمعنى فيها أيضا يتجاوز الملكية إلى معنى التحكم والقهر والتصرف‪،‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫{قال ربكم ورب آبائكم األولين}(الشعراء‪)24‬‬
‫{هللا ربكم ورب آبائكم األولين}(الصافات‪)024‬‬
‫{ال إله إال هو يحيي ويميت' ربكم ورب آبائكم األولين}(الدخان‪)8‬‬
‫{قل أعوذ برب الناس}(الناس‪)0‬‬
‫الحكم المجمل إذا بخصوص هذا الصنف من اإلسناد يؤطر بتالوة ومن خالل فقه وتدبر قوله تعالى‬
‫وآياته البينات‪:‬‬
‫{وله من في السماوات واألرض' كل له قانتون'}(الروم‪)22‬‬
‫{يسبح له السماوات السبع واألرض ومن فيهن' وإن من شيء إال يسبح بحمده' ولكن ال تفقهون‬
‫تسبيحهم' إنه كان حليما غفورا'}(اإلسراء‪)33‬‬
‫{وهلل يسجد من في السماوات واألرض طوعا وكرها وظاللهم بالغدو واآلصال'}(الرعد‪.)04‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫الدعاء والنداء للجمع المتكلم‪:‬‬
‫الذي رأيناه مميزا لقسم الدعاء والنداء مسندا منطلقه المفرد المتكلم نجده أيضا مالزما لقسم دعاء‬
‫الجمع المتكلم دعاء ونداء‪ .‬فإن ما أسند لغير حيز اإليمان باالصطالح والمعنى الشرعي لم يأت إال‬
‫خارج مجال التكليف‪ ،‬وعدده ‪( 08‬ثمانية عشر) من مجموع ‪( 42‬تسعة وستين)‪ .‬فمنطلق غير‬
‫اإليمان في هذا القسم‪ ،‬قسم دعاء ونداء الجماعة (ربنا !) جله في موقف ما بعد الحياة الدنيا؛ آيتان‬
‫تحكيان تكلم الشيطان والقرين لعنه هللا وهو يتبرأ‪:‬‬
‫‪159‬‬

‫{قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤالء الذي أغوينا أغويناهم كما غوينا' تبرأنا إليك ما كانوا إيانا‬
‫يعبدون'}القصص‪)41‬‬
‫{وقال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضالل بعيد'}(ق'‪)27‬‬
‫واآليات األخر هي‪:‬‬
‫{ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من اإلنس' وقال أولياؤهم من اإلنس ربنا استمتع‬
‫بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا' قال النار مثواكم خالدين فيها إال ما شاء هللا' إن ربك حكيم‬
‫عليم'}(األنعام‪)028‬‬
‫{‪ ..‬حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم ألوالهم ربنا هؤالء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من‬
‫النار'}(األعراف‪)18‬‬
‫{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤالء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك' فألقوا إليهم‬
‫القول إنكم لكاذبون'}النحل‪)14‬‬
‫{ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لوال أرسلت إلينا رسوال فنتبع آياتك من قبل أن نذل‬
‫ونخزى'}(طه‪)013‬‬
‫{قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين' ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا‬
‫ظالمون'}(المؤمنون‪)017-014‬‬
‫{ولوال أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لوال أرسلت إلينا رسوال فنتبع آياتك ونكون‬
‫من المؤمنين'}(القصص‪)37‬‬
‫{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا‬
‫موقنون'}(السجدة‪)02‬‬
‫{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيال' ربنا آتهم ضعفا من العذاب والعنهم لعنا‬
‫كثيرا'}(األحزاب‪)48-47‬‬
‫{وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل' أولم نعمركم ما يتذكر فيه من‬
‫تذكر وجاءكم النذير' فذوقوا فما للظالمين من نصير'}فاطر‪)17‬‬
‫‪160‬‬

‫{قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار'}(ص'‪)40‬‬


‫{قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل'}(غافر‪)00‬‬
‫{وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضالنا من الجن واإلنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من‬
‫األسفلين'}(فصلت‪)22‬‬
‫{ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون'}(الدخان‪)02‬‬
‫اآلية الوحيدة التي تستوجب توقفا في هذا القسم من اإلسناد هي قوله سبحانه من سورة ص'‪:‬‬
‫{وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب'}(ص'‪)04‬‬
‫اآلية هاته لها مثلها آيتان من حيث الداللة والمنطلق في قسم اإلخبار (ربنا)‪:‬‬
‫{لوال أنزل علينا المالئكة أو نرى ربنا'}(الفرقان‪)14‬‬
‫{قالوا لو شاء ربنا ألنزل مالئكة فإنا بما أرسلتم به كافرون'}(فصلت‪)03‬‬
‫وآيتان في قسم اإلسناد اإلخباري (ربي)‪:‬‬
‫{ولئن رددت إلى ربي ألجدن خيرا منها منقلبا'}(الكهف‪)14‬‬
‫{لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى'}(فصلت‪.)21‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫التكلم اإلخباري‬
‫اإلسناد للجمع المتكلم‪:‬‬
‫اإلسناد (ربنا) إخبارا أربعون آية‪ ،‬ما يفوق الثالثين منها في مقام اإليمان‪ ،‬ومكمله خارج مجال‬
‫التكليف‪ ،‬وذلك مع اعتبار اآليتين اللتين السابقتين وبيانهما المشار إليه آنفا‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫‪161‬‬

‫اإلسناد إلى ضمير المتكلم المفرد‪:‬‬


‫اإلسناد البياني (ربي) ذكر في القرآن العظيم إحدى ومائة مرة (‪ .)010‬كل هذا اإلسناد باستثناء‬
‫اآليتين المشار إليهما أعاله‪ ،‬واآلية الكريمة التي جاء فيها توظيف اللفظ بالداللة المعجمية وهي قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫{قال معاذ هللا' إنه ربي أحسن مثواي' إنه ال يفلح الظالمون'}(يوسف‪)21‬‬
‫فباستثناء هذه اآليات الثالثة نجد كل اإلسناد أتى من منطلق إيماني‪ ،‬بل إن اثنين وتسعين (‪ )22‬كله‬
‫من مقام النبوة؛ وهذا باعتبار اآليتين اللتين جاء بيانهما الخطابي خارج حيز التكليف‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫{قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين'}يس'‪)27‬‬
‫{ولوال نعمة ربي لكنت من المحضرين'}(الصافات‪)27‬‬
‫أما اآليات من اإلسناد اإلخباري (ربنا) التي جاء خطابها خارج حيز ومجال التكليف‪ ،‬وذلك بالطبع‬
‫أخذا بالمعيار العملي والعلمي للتسديد والتقريب‪ ،‬فهي‪:‬‬
‫{ثم لم تكن فتنتهم إال أن قالوا وهللا ربنا ما كنا مشركين'}(األنعام‪)21‬‬
‫{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد' وال نكذب بآيات ربنا ونكون من‬
‫المؤمنين'}(األنعام‪)27‬‬
‫{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا' قال فذوقوا العذاب بما كنتم‬
‫تكفرون'}(األنعام‪)11‬‬
‫{لقد جاءت رسل ربنا بالحق'}(األعراف‪)31‬‬
‫{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا'‬
‫قالوا نعم' فأذن مؤذن بينهم أن لعنة هللا على الظالمين}(األعراف‪)33‬‬
‫{هل ينظرون إال تأويله' يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا‬
‫من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل' قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا‬
‫يفترون'}(األعراف‪)21‬‬
‫‪162‬‬

‫{فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون}(الصافات‪)10‬‬


‫{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق' قالوا بلى وربنا' قال فذوقوا العذاب بما كنتم‬
‫تكفرون'}(األحقاف‪)13‬‬
‫هكذا نخلص بخصوص هذا الشطر للحقل الحضوري من أقسام اإلسناد للمتكلم والمتكلمين للجدول‬
‫البياني التالي‪:‬‬
‫ميزته‬ ‫مقام اإليمان‬ ‫حيز التكليف‬ ‫العدد‬ ‫اإلسناد‬
‫‪ 28‬من مقام النبوة‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫رب ! (دعاء ونداء) ‪47‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪20‬‬ ‫ربنا !(دعاء ونداء) ‪42‬‬
‫‪ 22‬من مقام النبوة‬ ‫‪27‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪010‬‬ ‫ربي (إخبارا)‬
‫‪11‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪32‬‬ ‫ربنا (إخبارا)‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫‪ -2‬الحقل المخاطباتي‬
‫اإلسناد للمخاطب في مختلف تصريفاته له من الناحية الدراسية بعض الميزات التي إلسناد المتكلم‪،‬‬
‫خاصة في بيانه االنفعالي‪ .‬فإذا كان أبرز ما يميز أسلوب الدعاء والنداء عن غيره هو لغوية التواجد‬
‫والسلوك‪ ،‬أي يكون حينها السلوك التواجدي والبياني منطبقين‪ ،‬فاللغة في األسلوب الخطابي تعتمد‬
‫على التعدد في طرفي الخطاب كونه عملية تواصلية‪ .‬من ثمة فهذا التعدد حين اإلسناد للفظ (رب)‬
‫يعني ويصبح مكافئا لالختالف‪ ،‬ذلك أنه إما دال على االختالف األول أي اختالف الخالق سبحانه عن‬
‫المخلوق والعابد عن المعبود جل عاله‪ ،‬وإما أنه يدل على اختالف المعبود حال مخلوقية كال طرفي‬
‫الخطاب‪ ،‬إال أن يكون من ضروب من البالغة وطرق البيان بتقدير وبداللة إيحائية‪ .‬وبالطبع فهذا أمر‬
‫ومستوى ثان من مستويات التحليل في بيان بطالن المقولة التقسيمية وإبطال المعنى الخاطئ للربوبية‬
‫الذي يقوم عليه بناؤها‪.‬‬
‫‪163‬‬

‫المخاطب المفرد‪:‬‬
‫نبدأ إذا بالمسند للمفرد المخاطب‪ .‬فقد ورد إسناد (ربك) بنوعيه المذكر والمؤنث إثنتي وأربعين‬
‫ومائتي مرة (‪ .)232‬وإذا اعتبرنا أن مقام خطاب مريم عليها السالم مقامه في درجة الخطاب لمقام‬
‫النبوة‪ ،‬وقد جاء ذلك في أربع آيات من الوحي الكريم‪:‬‬
‫{يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين'}(آل عمران‪)31‬‬
‫{قال إنما أنا رسول ربك ألهب لك غالما زكيا'}(مريم‪)02‬‬
‫{قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا' وكان أمرا مقضيا'}(مريم‪)20‬‬
‫{فناداها من تحتها أال تحزني قد جعل ربك تحتك سريا'}(مريم‪)23‬‬
‫على هذا االعتبار‪ ،‬وبالتسديد والتقريب معيارا دراسيا عمليا‪ ،‬فإن مائتين وعشرين (‪ )221‬من هذا‬
‫اإلسناد هو من المقام األعلى خطابا إلى مقام النبوة ودرجة مقام خطابها‪ .‬وإن يكن أمر له قيمة‬
‫المعطى العلمي المكين الوازن الثابت في تحديد وتأطير داللة ومعنى الرب في القرآن الكريم وشرعه‬
‫المنزل حكما عربيا ولسانا مبينا‪ ،‬إن يكن فهو هذا اإلسناد كما نزل بيانه ولسانه في الكتاب‪ ،‬ولن نبالغ‬
‫أو نجنح عن الحق إن قلنا لهو أبلغ في التدليل على هذا التنزيل الداللي من سابقه خطاب وسياق‬
‫الدعاء والنداء‪ ،‬مما سيأتي توضيحه أكثر بعد قليل بإذن هللا تعالى‪.‬‬
‫أيضا نجد ثمان آيات وسياقات على موضع مقام النبوة طرفاها الخطابيان موسى عليه السالم وبنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫{فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت األرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها'}(البقرة‪)40‬‬
‫{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي'}(البقرة‪)48‬‬
‫{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها'}(البقرة‪)42‬‬
‫{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء هللا لمهتدون'}(البقرة‪)71‬‬
‫{فاذهب أنت وربك فقاتال إنا ها هنا قاعدون'}(المائدة‪)23‬‬
‫‪164‬‬

‫{هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء'}(المائدة‪)002‬‬


‫{ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك‬
‫ولنرسلن معك بني إسرائيل'}(األعراف‪)013‬‬
‫{وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون'}(الزخرف‪)32‬‬
‫وجاء خارج التكليف إسنادان‪:‬‬
‫{ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك' قال إنكم ماكثون'}(الزخرف‪)77‬‬
‫{ارجعي إلى ربك راضية مرضية}(الفجر‪)28‬‬
‫وبالداللة المعجمية غير االصطالحية والشرعية إسنادان‪:‬‬
‫{وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك'}(يوسف‪)32‬‬
‫{فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الالتي قطعن أيديهن'}(يوسف‪)21‬‬
‫وأتى موجها إلى غير مقام اإليمان ثالثة إسنادات لكن بأسلوب دعوي وإيحاءاته القرآنية البليغة‪:‬‬
‫{فأتياه فقوال إنا رسوال ربك فأرسل معنا بني إسرائيل وال تعذبهم قد جئناك بآية من ربك' والسالم‬
‫على من اتبع الهدى'}(طه‪)37‬‬
‫{وأهديك إلى ربك فتخشى'}(النازعات‪)02‬‬
‫ثالثة سياقات آليات ثالث تستوجب التوقف عندها على اعتبار التصرف المعجز للقرآن العظيم في‬
‫البيان‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫{وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قوال ميسورا'}(اإلسراء‪)28‬‬
‫{إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر' إنه كان بعباده خبيرا بصيرا'}اإلسراء‪)11‬‬
‫{كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها'}(اإلسراء‪)18‬‬
‫‪165‬‬

‫فأهم ما يميز القرآن العظيم ويجلي بعدا من أبعاد إعجازه التي ال يحصيها اإلدراك اإلنساني‪ ،‬هو‬
‫درجة تغيير مآخذ القول وتصريف لمنحى الخطاب مما يعبر عنه بااللتفات‪ ،‬وهذا من أهم وجوه‬
‫اإلعجاز وأهم ما يميز الخطاب القرآني؛ فاهلل تعالى هو الحق‪ ،‬وال نحيط به سبحانه علما‪ ،‬وهللا واسع‬
‫عليم‪ .‬إذن فال يجزم بكون الخطاب في هذه السياقات أنه خطاب لمقام النبوة‪ .‬يقول اإلمام الشوكاني‬
‫بهذا الصدد في تفسيره وبيانه لآلية من سورة الرحمان {ويبقى وجه ربك ذي الجالل واإلكرام'}‪،‬‬
‫يقول بخصوص اإلسناد والخطاب (ربك)‪:‬‬
‫<<والخطاب في قوله (ربك) للنبي صلى هللا عليه وسلم أو لكل من يصلح له>>‬
‫إسنادان أو آيتان يصنفان حسب معيار التصنيف والسبر هنا ويلحقان بصنف إسناد (رب العالمين)‬
‫هما‪:‬‬
‫{ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلال'}(النحل‪)42‬‬
‫{يا أيها اإلنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فمالقيه'}(االنشقاق‪)4‬‬
‫وأما بخصوص اآلية واإلسناد في قوله عز وجل‪:‬‬
‫{يا أيها اإلنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء‬
‫ركبك'}(االنفطار‪)8. .4‬‬
‫فقد قال الشوكاني‪:‬‬
‫<<هذا خطاب الكفار‪ :‬أي ما الذي غرك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في‬
‫الدنيا بإكمال خلقك وحواسك‪ ،‬وجعلك عاقال فاهما‪ ،‬رزقك وأنعم عليك بنعمه التي ال تقدر على جحد‬
‫شيء منها‪ .‬قال قتادة‪ :‬غره شيطانه المسلط عليه‪ .‬وقال الحسن‪ :‬غره شيطانه الخبيث‪ .‬وقيل حمقه‬
‫‪77‬‬
‫وجهله‪ .‬وقيل غره عفو هللا إذا لم يعاجله بالعقوبة أول مرة‪ ،‬كذا قال مقاتل‪>>.‬‬
‫وفي اآلية من سورة االنشقاق في داللة الخطاب {يا أيها اإلنسان} جاء قوله‪:‬‬

‫‪ 77‬فتح القدير‬
‫‪166‬‬

‫<<{يا أيها اإلنسان} المراد جنس اإلنسان‪ ،‬فيشمل المؤمن والكافر؛ وقيل هو اإلنسان الكافر‪ ،‬واألول‬
‫أولى لما سيأتي من التفصيل‪>>.‬‬
‫هكذا يتبين جواز إلحاق إسناد اآلية الكريمة من سورة االنفطار إلى صنف ما خطابه موجه إلى غير‬
‫مقام اإليمان‪ ،‬كما يجوز إلحاقه بصنف داللة إسناد (رب العالمين) باعتباره بيانا وأسلوبا في التعبير‬
‫عن الوعيد‪ ،‬أو باعتبار صرف داللة اإلخبار واالستفهام الدال على اإلنكار إلى معنى النهي والوعيد‪،‬‬
‫وهللا تعالى هو أعلم بالتأويل‪.‬‬
‫يتجلى لنا إذن في إسناد (ربك) بيانا في القرآن العظيم وبالتسديد والتقريب أن ثالثة وثالثين ومائتين‬
‫(‪ )211‬من جملة (‪ )232‬كلها موجهة إلى مقام اإليمان‪ ،‬بل إن ثمانية وعشرين ومائتين (‪ )228‬منها‬
‫كله إلى مقام النبوة الكريم‪ .‬وإذا اعتبرنا اآليتين اللتين جاء خطابهما بمتعلق اإلسناد خارج حيز‬
‫التكليف‪ .‬بهذا كله وبنسبة الداللة الشرعية التي نزل بها هذا اإلسناد في بيان القرآن العربي المبين‪،‬‬
‫فإن الحكم الذي يجب القضاء به بتا جازما وحسما هو خطأ وبطالن المقولة التقسيمية‪ ،‬مقولة أقسام‬
‫التوحيد كما يزعمون ويصفون‪ ،‬ألن الداللة التي جعلوها للفظ (الرب)‪ ،‬والتي هي الركن األساس‬
‫وقاعدة هذا التقسيم‪ ،‬هي داللة ومفهوم خاطئ ال يصح‪.‬‬
‫إن البعد التحليلي هنا بالنسبة لضمائر الخطاب بالمعنى الصرفي‪ ،‬وكما أشرنا إليه‪ ،‬يجد أهميته في‬
‫داللة النسبة التي تؤديها وتوظف فيها الضمائر‪ ،‬أي فيما عبرنا كحقيقة ومبدإ معرفي باالختالف‪.‬‬
‫فاالختالف األول‪ ،‬اختالف المعبود الخالق سبحانه جل عاله عن العابد (المخلوق)‪ .‬ومطلق الخطاب‬
‫والسياق الذي ليس به قرينة دالة على إنحاء بالمعنى إلى داللة معجمية محددة كما في اآليتين من‬
‫سورة يوسف‪ ،‬فال يحمل المعنى إال على الداللة الشرعية للرب بمعنى الخالق المعبود‪ .‬فهذا المعتبر‬
‫في قراءة منحى الخطاب الذي منطلقه المقام األعلى ومقام الرسالة والنبوة الكريم‪.‬‬
‫االختالف الثاني أو اآلخر تكون فيه داللة النسبة لها حقيقتها البيانية‪ ،‬وذلك كما في قوله سبحانه في‬
‫اآلية من سورة طه‪{ :‬قال فمن ربكما يا موسى'}‬
‫ولقد جاء من المقام األعلى ومقام الرسالة والنبوة في المنحى والمنطلق من الخطاب في إسناد (ربك)‬
‫ثالثون ومائتان (‪ .)211‬وإذا استثني منه أربعة‪ ،‬إثنان خارج التكليف وإثنان معجميان‪ ،‬فإن الثمانية‬
‫المكملة لمجموع اإلسناد كله الذي هو (‪ )232‬إنما طرفا الخطاب فيها موسى عليه السالم وبنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬مما يعني تحقق ووجوب إعمال االختالف‪.‬‬
‫اإلسناد للمخاطب المثنى‪:‬‬
‫‪167‬‬

‫اإلسناد لضمير التثنية (ربكما) في القرآن الحكيم عدده ثالثة وثالثون (‪ ،)11‬اجتمع كله في سورة‬
‫واحدة‪ ،‬سورة الرحمان‪ ،‬قوال حكيما مثنى‪{:‬فبأي آالء ربكما تكذبان'}‪ ،‬إال إسنادين في آيتين اثنتين‬
‫هما‪:‬‬
‫{وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إال أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين'}(األعراف‪)21‬‬
‫{قال فمن ربكما يا موسى'}(طه‪)32‬‬
‫أول الموجهات التحليلية بالنسبة آليات سورة الرحمان المثناة آيات بينات قوال حكيما هو عامل‬
‫االختالف األول‪ .‬إن الخطاب منطلقه الجليل الرب جل وعال‪ ،‬رب السماوات واألرض وما فيهن‪،‬‬
‫خطاب إلى المخلوق الفقير من خالقه‪ .‬بل وهذا المعطى هو في توافق وموازاة بيانية مع موضوع‬
‫السورة‪ ،‬ومع هذا السرد الحكيم في سياقات وذكر النعم والتذكير المستمر بهذه اآليات الحكيمة‪،‬‬
‫المتعددة جوهرا وداللة بمقتضى الحكمة‪ ،‬المشتركة والمتحدة في مادتها المعجمية ولفظها‪.‬‬
‫وإن هذا بالضبط هو الممثل للمعطى الثاني لقراءة اإلسناد (ربكما)‪ .‬وإذا قلنا بالموازاة البيانية‪ ،‬فإن‬
‫أول السورة يتوخى ويرى كأنه تنبيه وتوجيه للقلب واإلدراك للحقيقة المطلقة على كل أبعاد الكون‬
‫والوجود‪ ،‬حقيقة عبودية ما في السماوات واألرض من خلق وكائنات لخالقها سبحانه‪:‬‬
‫{الشمس والقمر بحسبان'} الدالة على حقيقة القهر وسنن الخلق واألمر‪.‬‬
‫{والنجم والشجر يسجدان'} األوبة واالنقياد الوجودي للمولى الخالق األحد الصمد تبارك إسمه وجل‬
‫عاله‪.‬‬
‫إذن فافتقار المخلوق إلى خالقه أصل دائم وهو القراءة الحقة للوجود‪ ،‬ألنه سبحانه خالق كل شيء‬
‫وهو الحي القيوم به قوام كل أمر وخلق‪ ،‬وهو الرحمان الرحيم الذي يمسك السماوات واألرض أن‬
‫تزوال‪ ،‬ولنتل قوله سبحانه‪:‬‬
‫{أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن' ما يمسكهن إال الرحمان' إنه بكل شيء‬
‫بصير'}(الملك‪)02‬‬
‫{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين'}(الملك‪)11‬‬
‫‪168‬‬

‫الحقل البياني إذا لسورة الرحمان يرى في صنف مثاني الحقائق المحورية لقوله سبحانه وهو العليم‬
‫الحكيم‪:‬‬
‫{قل أغير هللا أبغي ربا وهو رب كل شيء'}(األنعام‪)044‬‬
‫فمعنى ومادة البيان (أبغي) هنا في اآلية الكريمة على منحى مادة (أتخذ) باعتبار التاء المزيدة الدالة‬
‫على السعي واإلرادة‪ ،‬وداللة (يسأله) في قوله تعالى‪:‬‬
‫{يسأله من في السماوات واألرض كل يوم هو في شأن'}(الرحمان‪.)22‬‬
‫وهذا المعنى والحقيقة يكفيان لمن كان له قلب يعقل به ويفقه به معان الكلم واأللفاظ‪ ،‬هذا يكفي لدحض‬
‫القاموس اللغوي الذي تقوم عليه مقولة التقسيم‪ ،‬والذي ال يصح إال عند أصحابه وما هو في الحق‬
‫بصحيح؛ فالمعنى الصحيح للرب هو الذي نزل به القرآن‪ ،‬ال المعنى الذي جعلوه جهال وضالال‪،‬‬
‫وحجة هللا ذي العزة والجبروت حجة بالغة وإليه المصير‪.‬‬
‫<<أخرج الترمذي وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة‪ ،‬والحاكم وصححه‪ ،‬وابن مردويه والبيهقي في‬
‫الدالئل‪ ،‬عن جابر بن عبد هللا قال‪:‬‬
‫((خرج رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم على أصحابه‪ ،‬فقرأ عليهم سورة الرحمان من أولها إلى‬
‫آخرها فسكتوا‪ ،‬فقال ما لي أراكم سكوتا؟ لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم‪،‬‬
‫كلما أتيت على قوله {فبأي آالء ربكما تكذبان'} قالوا‪ :‬الشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‪)).‬‬
‫قال التر مذي بعد إخراجه‪ :‬هذا حديث غريب ال نعرفه إال من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن‬
‫محمد ‪ .‬وحكي عن اإلمام أحمد أنه كان يستنكر روايته عن زهير‪ .‬وقال البزار‪ :‬ال نعرفه يروى إال من‬
‫هذا الوجه‪ .‬وأخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في اإلفراد وابن مردويه والخطيب‬
‫في تاريخه‪ ،‬من حديث ابن عمر وصحح السيوطي إسناده‪ .‬وقال البزار‪ :‬ال نعلمه يروى عن النبي‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم إال من هذا الوجه بهذا اإلسناد‪>>.‬‬
‫من الناحية أو المعيار العلمي‪ ،‬ولفصل القصر الداللي على المعنى التقسيمي‪ ،‬ننقل ونورد هنا ما‬
‫ذكره في فتح القدير بشأن المخاطب في قوله تعالى من سورة النجم‪{:‬فبأي آالء ربك تتمارى'}‪ ،‬قال‪:‬‬
‫<<هذا خطاب لإلنسان المكذب‪ ،‬أي فبأي نعم ربك أيها اإلنسان المكذب تشكك وتمتري‪ ،‬وقيل‬
‫الخطاب لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم تعريضا لغيره‪ ،‬وقيل لكل من يصلح له‪>>.‬‬
‫‪169‬‬

‫إجماال‪ ،‬فإن إعمال االختالف كاف لفصل الحصر على الداللة التقسيمية؛ فاآليتان األوليان اختالف‬
‫السبل والمعبود؛ واآليات التي من سورة الرحمان االختالف األول؛ الخطاب مصدره ومنطلقه رب‬
‫السماوات واألرض جل وعال ما من شيء إال يسبح بحمده وكل له قانتون‪ .‬فالخلق والوجود جميعا في‬
‫كل بعد ما من أبعاده منقاد ألمره‪ ،‬يدبر األمر فيكون؛ هو األول‪ ،‬ما من شيء إال بتدبيره سبحانه‬
‫وأمره؛ وهذا ما جاء مولى له بيانه في صدر سورة الرحمان‪:‬‬
‫{الشمس والقمر بحسبان' والنجم والشجر يسجدان'}‬
‫ها هنا ال بد أو لنقل من المستحسن التنبيه على أمر يخص القول التفسيري في قوله تعالى الحكيم مثنى‬
‫لفظا آيات عددا من سورة الرحمان‪{ :‬فبأي آال ء ربكما تكذبان'} بمن يعترض على قصر أو جعل‬
‫(آالء) بمعنى النعم‪ ،‬فهذا االعتراض ليس واهنا‪ ،‬وإنما يلزم اعتباره بمعيار الحق في النظر‪.‬‬
‫اإلسناد إلى المخاطب الجمع‪:‬‬
‫اإلسناد إلى ضمير الجمع (ربكم) ورد في القرآن العظيم تسع عشرة ومائة مرة (‪ ،)002‬جميعها من‬
‫مقام الجاللة والعزة أو من مقام المالئكة واألنبياء عليهم السالم والرسل‪ ،‬إال ثمان آيات‪ ،‬منها اثنتان‬
‫على مشهد من اآلخرة وهي‪:‬‬
‫{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا'‬
‫قالوا نعم' فأذن مؤذن بينهم أن لعنة هللا على الظالمين}(األعراف‪)31‬‬
‫{وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب'}(غافر‪)32‬‬
‫وأربع آيات منطلقها منطلق اإليمان‪:‬‬
‫{قالوا معذرة على ربكم ولعلهم يتقون'}(األعراف‪)043‬‬
‫{قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}(الكهف‪)02‬‬
‫{إني آمنت بربكم فاسمعون'}(يس'‪)22‬‬
‫{أتقتلون رجال أن يقول ربي هللا وقد جاءكم بالبينات من ربكم}(غافر‪)28‬‬
‫وآية واحدة منطلقها ووجهتها كالهما بنو إسرائيل‪:‬‬
‫‪170‬‬

‫{أتحدثونهم بما فتح هللا عليكم ليحاجوكم به عند ربكم'}(البقرة‪)74‬‬


‫وآية واحدة تحكي قول فرعون وإسرافه وتجبره‪:‬‬
‫{فحشر فنادى فقال أنا ربكم األعلى}(النازعات‪.)23‬‬
‫على ذات المنوال الذي سلكناه في النظر والتصنيف‪ ،‬أي باعتبار مرجع الميز طرفي الخطاب‬
‫ومنطلقاته من حيث هي منطلق إيمان أو ليست كذلك‪ ،‬فال مثار للتوقف هنا إال بخصوص اآليتين‬
‫(غافر‪ )28‬و(البقرة‪.)74‬‬
‫اآلية األولى‪ ،‬فلكون حيز المخاطب ليس حيزا إيمانيا‪ ،‬وإن كان األصل تبعا لعربية القرآن أن ال يكون‬
‫االنطباق بالداللة الشرعية حتما مقضيا؛ فهي غير مستبعدة بل أقرب وأرجح خاصة وأن السياق‬
‫والمقام مقام دعوة لشروطها وتحققها‪ .‬وهذا يعلم منحى من مناحي األسلوب في عموم اللسان اإلنساني‬
‫والعربي منه تخصيصا‪ ،‬ناهيك عن أنه أبلغ هذه المناحي األسلوبية كلها‪ ،‬تجمع في مكونها التعبيري‬
‫بين اإلخبار واإلنشاء معا‪.‬‬
‫هذه الحمولة االصطالحية الشرعية ذات الصبغة والمعنى المتصل بحقيقة الدينونة واالتباع‪ ،‬يدل‬
‫عليها في اإلسناد من آية (غافر‪ )28‬بيان اللفظ {أن يقول ربي هللا} الدال على معنى القول بالسلوك‬
‫التواجدي‪ ،‬عبادة هللا تعالى صالة ونسكا وحياة‪ ،‬كلها له سبحانه وتعالى ال شريك له‪.‬‬
‫أما اآلية (البقرة‪ )74‬المستثناة بمنظور التصنيف لكون طرفي الخطاب فيها بني إسرائيل‪ ،‬فقد ورد‬
‫عند الشوكاني في تفسيره قوله‪:‬‬
‫<<{أتحدثونهم بما فتح هللا عليكم} أي حكم عليكم من العذاب‪ ،‬وذلك أن ناسا من اليهود أسلموا ثم‬
‫نافقوا‪ ،‬فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم‪ ،‬وقيل إن المراد ما فتح هللا عليهم في‬
‫التوراة من صفة محمد‪ .‬والفتح عند العرب‪ :‬القضاء والحكم‪ ،‬والفتاح‪ :‬القاضي بلغة اليمن‪ ،‬والفتح‬
‫‪:‬النصر‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪{:‬يستفتحون على الذين كفروا} وقوله‪{:‬إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}‪،‬‬
‫ومن األول‪{ :‬ثم يفتح بيننا بالحق وهو خير الفاتحين} أي الحاكمين‪ .‬ويكون الفتح بمعنى الفرق بين‬
‫الشيئين‪ .‬والمحاجة‪ :‬إبراز الحجة‪ ،‬أي ال تخبروهم بما فتح هللا عليكم من العذاب فيكون ذلك حجة لهم‬
‫عليكم فيقولون‪ :‬نحن أكرم على هللا منكم وأحق بالخير منه‪ .‬والحجة الكالم المستقيم‪ ،‬وحاججت فالنا‬
‫فحججته أي غلبته بالحجة‪{ .‬أفال تعقلون} ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم‪ .‬ثم‬
‫‪171‬‬

‫وبخهم هللا سبحانه {أوال يعلمون أن هللا يعلم ما يسرون وما يعلنون} من جميع أنواع اإلسرار وأنواع‬
‫اإلعالن‪ ،‬ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعالنهم اإليمان‪>>.‬‬
‫كذلك فإن جوار اآلية الحكيم مما هو موجه بالحق لحكمنا في السبر الداللي وتصنيفه على منظور‬
‫الدراسة‪ ،‬أهم متضمنه لفظ (الكتاب) من قوله جل وعال‪{ :‬ال يعلمون الكتاب إال أماني} وحمولة‬
‫المعنى في مادة البيان {كالم هللا} كجوار قبلي لآلية‪ ،‬وقوله سبحانه في الجوار البعدي‪{ :‬فويل للذين‬
‫يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند هللا ليشتروا به ثمنا قليال' فويل لهم مما كتبت أيديهم'‬
‫وويل لهم مما يكسبون'}‪.‬‬
‫فهذا إذن هو كذلك من الحقائق العلمية البينة التي توجب التورع أو في حد أدنى التحفظ من إطباق‬
‫داللة (الرب) بالداللة التقسيمية‪.‬‬
‫إذا كان االنتماء إلى الحقل الخطابي بإيجاب خاصته اإليمانية أو سلبها عامال ورائزا محوريا في‬
‫السبر الداللي موضوع تحليلنا ودراستنا‪ ،‬فقد تبين ورأينا كيف انضاف عامل ومبدأ االختالف مع‬
‫وضع اإلسناد للمخاطب المفرد‪ .‬وال شك أن هذا أصله أو هو مفسر بحقيقة كون مبدإ االختالف ذاته‬
‫هو أساس عملية التفكير عند اإلنسان وحركته العقلية؛ التفكير حركة الفكر‪ ،‬وال حركة بدون مجال‬
‫غير منعدم‪ .‬هذا يلزم ومعناه الشرط التعددي لنقاط التواجد‪ .‬كما يلزم التذكير بأن االنتماء في حقيقته‬
‫وتأويله إنما هو إعمال لمبدإ االختالف‪ ،‬وغالبا ما ال يذهب العقل اإلنساني ويفكر في تعليل وتفسير‬
‫أقرب الحقائق ليعتبرها بديهية‪.‬‬
‫كما رأينا أن خاصات اإلسنادين (ربي) و(ربنا) مختلفة‪ ،‬وكذلك بالنسبة لإلسنادين (ربك) و(ربكم)‪.‬‬
‫من ثمة فالتحليل الخطابي يستوجب إعمال رائز االختالف على المستوى اآلخر‪ ،‬مستوى المادة‬
‫الخطابية‪ ،‬بدءا واعتمادا على الجوهري واألساس منها‪ ،‬المنطبق هنا بالمادة البيانية (رب) وجوارها‬
‫على بعدي اللفظ والسياق‪ .‬هكذا قمنا بتفصيل ذي مستويين‪ ،‬مستوى الخطاب في طرفه الثاني‪ ،‬أي‬
‫المخاطب (االتجاه)‪ ،‬ومستوى المادة اللغوية وجوارها أو منحاها الداللي‪.‬‬
‫‪172‬‬

‫اإلخبار‬ ‫العدد‬ ‫المخاطب‬


‫ط ص‬
‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪24‬‬ ‫المؤمنون‬

‫~‪ 1 8‬منها ‪ 4‬إخبارية منها ‪0‬إخبارية منها ‪ 3‬لمعنى العبادة‬ ‫بنو إسرائيل ‪23‬‬
‫و‪ 3‬لمعنى العبادة‬
‫‪2‬‬ ‫‪02‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪1 04~ 43‬‬ ‫الناس‬

‫بمعنى البينات‬ ‫الجزاء والحساب‬ ‫دعوة للعبادة‬

‫~‪ :‬التسديد والتقريب‬


‫ط‪ :‬انطباقي‬
‫ص‪ :‬خواصي‬
‫كما ننبه كون اإلخبارين للمخاطب (المؤمنون)‪ ،‬وهما انطباقيان‪ ،‬غير محوريين؛ كما أمكن نفس‬
‫االعتبار بخصوص اإلخبارين االنطباقي والخواصي للمخاطب (الناس)‪.‬‬
‫اإلسناد (ربكم) مخاطبا به فئة (المؤمنون) باالصطالح القرآني والتفسيري‪ ،‬ال صواب في نفي داللته‬
‫الشرعية‪ .‬أما ما خوطب به (بنو إسرائيل) فالداللة الشرعية مستمدة من دالالت البيان القرآني ذاته‬
‫المتصل بهذا اإلسناد‪ ،‬من مثل ما تحمله العناصر البيانية‪ ،‬كمادة (الميثاق) و(الرسالة) و(النبوة)‬
‫و(العهد) ونحوه؛ فهي ال تنفصل عن معنى الشريعة والدين والمنهاج‪ .‬من هنا نفهم ونصل إلى رفع‬
‫اللبس الممكن حصوله بين االصطالح أو القاموس الدراسي الذي اعتمدناه وبدأنا به في اإلسنادات‬
‫‪173‬‬

‫األولى‪ ،‬نعني تحديدا اصطالح (مقام اإليمان)‪ ،‬واصطالح (المؤمنون) في البيان أعاله‪ ،‬وكذلك ربط‬
‫هذا كله بمعنى (الداللة الشرعية)‪.‬‬
‫الفئة من اإلسناد المخاطب بها (الناس) بالمعنى التفسيري‪ ،‬الذي يعني ويدل على معنى العموم‪ ،‬فقد‬
‫يراد به أحيانا الكل في المجال الخطابي‪ ،‬مؤمنهم ومشركهم وأميهم‪ ،‬وقد يعني المجال الخطابي ما قبل‬
‫التصنيف بحقيقة الطاعة والعصيان‪ ،‬لكن مع الحمولة والداللة المتضمنة في الدعوة لعبادة هللا تعالى‬
‫رب الناس‪ ،‬رب العالمين‪ .‬ومن تمة وإن يكن المخاطب ما قبل تصنيفي فهو مدعو بالمعنى الديني‬
‫والقصد الشرعي‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬وإذا تم االعتبار في تأطير الداللة وتحديدها من خالل جوار اللفظ والكلمة (رب) وسياقها‪ ،‬ألفينا‬
‫في هذه الفئة ثالثة أقسام هامة محددة‪:‬‬
‫‪ -0‬قسم إخباري وهو بدوره ينقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫ا‪ -‬انطباقي معتمد على الذوات‪ ،‬كقوله سبحانه وتعالى‪{:‬إن ربكم هللا‪(}...‬األعراف‪.)23‬‬
‫ب‪ -‬خواصي المعتمد على الخاصيات‪ ،‬كقوله جل وعال‪{:‬بل ربكم رب السماوات واألرض‬
‫الذي فطرهن}(األنبياء‪)24‬‬
‫‪ -2‬قسم تشريعي وعباداتي‪ :‬وهو ما كان جوهره الدعوة للعبادة‪.‬‬
‫‪ -1‬قسم تبشيري وإنذاري‪ :‬وهو ما جاء به ذكر الوعد والوعيد‪ ،‬والجزاء والحساب‪.‬‬
‫هناك مناحي داللية أخرى‪ ،‬منها ما هو متصل بمعنى البرهان والبينات كما في قوله سبحانه‪:‬‬
‫{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم}(النساء‪)071‬‬
‫{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}(النساء‪)073‬‬
‫وقسم خاصته ومراد بيانه ذكر ما أنعم هللا الخالق الوهاب به على خلقه من اآلالء والنعم‪ ،‬كما في اآلية‬
‫الكريمة‪:‬‬
‫{كلوا من رزق ربكم واشكروا له' بلدة طيبة ورب غفور'}(سبإ‪)02‬‬
‫‪174‬‬

‫الذي استوجب التحديد هو األقسام الثالثة األولى‪ ،‬ألنها هي التي توجه الداللة لتصريف لفظ "رب"‬
‫في إسناده إلى المعنى الشرعي‪ .‬وقبل أن نسوق ونورد تذكيرا بالحق اآليات اإلخبارية خاصة‪،‬‬
‫ألهميتها ولدحضها البياني للمزاعم التي يرددها الجاهلون مقولة (قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية)‬
‫بما ضلوا بها ضالال فاحشا بعيدا في معنى الربوبية‪ ،‬قبل ذلك ال بأس من إجمال ضابط في جدول‬
‫متضمن للجدول السابق ومكمل له‪ ،‬نجعله مرجعا على التسديد والتقريب لما يلي من الدرس والنظر‪.‬‬
‫بشرا نذرا آالء‬ ‫العدد اإلخبار بينات دعوة للعبادة‬ ‫المخاطب‬

‫عمال خوفا‬ ‫ط خ‬
‫‪2‬‬ ‫‪0 2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪1 2 ~ 24‬‬ ‫المومنون‬
‫‪3‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪1 8‬‬ ‫بنو إسرائيل ‪23‬‬
‫‪01‬‬ ‫‪14 08‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪08‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1 04 43‬‬ ‫الناس‬

‫اآليات اإلخبارية االنطباقية أي المحددة بانطباق الذوات هي‪:‬‬


‫{ذلكم هللا ربكم' ال إله إال هو' خالق كل شيء' فاعبدوه' وهو على كل شيء وكيل'}(األنعام‪)012‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش'}(األعراف‪)23‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام' ثم استوى على العرش' يدبر‬
‫األمر'}(يونس‪)1‬‬
‫{فذلكم هللا ربكم الحق' فماذا بعد الحق إال الضالل' فأنى تصرفون'}(يونس‪)12‬‬
‫{إني توكلت على هللا ربي وربكم' ما من دابة إال هو آخذ بناصيتها' إن ربي على صراط‬
‫مستقيم'}(هود‪)24‬‬
‫{وال ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان هللا يريد أن يغويكم' هو ربكم' وإليه‬
‫ترجعون'}(هود‪)13‬‬
‫‪175‬‬

‫{قال بل ربكم رب السماوات واألرض الذي فطرهن'}(األنبياء‪)24‬‬


‫{إن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاعبدون'}(األنبياء‪)22‬‬
‫{قال ربكم ورب آبائكم األولين'}(الشعراء‪)24‬‬
‫{ذلكم هللا ربكم له الملك'}(فاطر‪)01‬‬
‫{هللا ربكم ورب آبائكم األولين'}(الصافات‪)024‬‬
‫{ذلكم هللا ربكم له الملك' ال إله إال هو' فأنى تصرفون'}(الزمر‪)4‬‬
‫{ذلكم هللا ربكم' خالق كل شيء' ال إله إال هو' فأنى توفكون'}(غافر‪)42‬‬
‫{ذلكم هللا ربكم' فتبارك هللا رب العالمين'}(غافر‪)43‬‬
‫{وأن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاتقون'}(المؤمنون‪)22‬‬
‫اآليات الخاصاتية غير االنطباقية تحديدا هي‪:‬‬
‫{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون'}(البقرة‪)20‬‬
‫{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}(النساء‪)0‬‬
‫{ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله' إنه كان بكم رحيما'}(اإلسراء‪)44‬‬
‫هذا مع مالحظة إمكان اعتباراإلخبارين األولين هنا غير محوريين‪.‬‬
‫وقد يجمع السياق بين اإلخبارين االنطباقي والخاصاتي‪ ،‬ومنه النسق الصيغوي الذي واسطته قوله‬
‫سبحانه العليم الحكيم‪{:‬فذلكم هللا ربكم}‪ .‬كما أن بعض االنطباقات لم تأت جوهرية في الداللة‬
‫والتركيب كقوله تعالى في اآليتين (هود‪ )13‬و(هود‪ .)24‬كذلك (األنبياء‪ )24‬يمكن وصلها‬
‫باإلخبارين كليهما معا باعتبار النظر‪ ،‬حيث أن لفظ (رب) في السياق له إمكان االعتبار صفة‪.‬‬
‫الحديث أو التحليل البياني لإلخبار المؤكد وغير المؤكد‪ ،‬أي االبتدائي وغيره على مختلف درجاته‪،‬‬
‫جاء أيضا في سياق الحديث عن البعد العلمي األقوى في الدراسات اللغوية‪ ،‬نعني به حقل النحو‬
‫‪176‬‬

‫والبالغة والمنطق‪ .‬فتعميل هذا البعد هو الكفيل بحسب درجات العلم في تحقق وحصول دراسة قوية‬
‫متينة للوظيفة البيانية للغة من خالل تحليل ودراسة مستويي المعجم والتركيب‪.‬‬
‫نعود إذا إلى ما نحن بصدده‪ ،‬وهو محاولة التحديد بمعيار التسديد والتقريب للداللة الشرعية في‬
‫اإلسناد (ربكم) مخاطبا به فئة (الناس)‪ .‬فاآليات من هذا اإلسناد بجوار وظيفي حامل لمعنى الدعوة‬
‫للعبادة هي‪:‬‬
‫{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون'}(البقرة‪)20‬‬
‫{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}(النساء‪)0‬‬
‫واآليتان كما أسلفنا ذكره إخباريتان كذلك إخبارا خواصيا‪.‬‬
‫{قد جاءكم بصائر من ربكم' فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها' وما أنا عليكم‬
‫بحفيظ'}(األنعام‪)013‬‬
‫{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم'}(األنعام‪)020‬‬
‫{فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة}(األنعام‪)027‬‬
‫{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وال تتبعوا من دونه أولياء'}(األعراف‪)1‬‬
‫{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه ال يحب المعتدين'}(األعراف‪)22‬‬
‫{قد جاءتكم بينة من ربكم' فأوفوا الكيل والميزان'}(األعراف‪)82‬‬
‫{هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون'}(األعراف‪)211‬‬
‫{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل‬
‫فضله'}(هود‪)1‬‬
‫{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم وال تتولوا‬
‫مجرمين'}(هود‪)22‬‬
‫{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه' إن ربي رحيم ودود'}(هود‪)21‬‬
‫‪177‬‬

‫{قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيال'}(اإلسراء‪)83‬‬


‫{وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم' بل أنتم قوم عادون'}(الشعراء‪)044‬‬
‫{ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما ال يجزي والد عن ولده وال مولود هو جاز عن والده شيئا' إن‬
‫وعد هللا حق' فال تغرنكم الحياة الدنيا' وال يغرنكم باهلل الغرور'}(لقمان‪)11‬‬
‫{لقد كان لسبإ في مساكنهم آية' جنتان عن يمين وشمال' كلوا من رزق ربكم واشكروا له' بلدة طيبة‬
‫ورب غفور'}(سبإ‪)02‬‬
‫{ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون'}(الزمر‪)7‬‬
‫{وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم ال تنصرون'}(الزمر‪)20‬‬
‫{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم ال تشعرون'}(الزمر‪)22‬‬
‫{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم' إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم‬
‫داخرين'}(غافر‪)41‬‬
‫{استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم ال مرد له من هللا' ما لكم من ملجإ يومئذ' وما لكم من‬
‫نكير'}(الشورى‪)37‬‬
‫{لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما‬
‫كنا له مقرنين}(الزخرف‪)01‬‬
‫{من عمل صالحا فلنفسه' ومن أساء فعليها' ثم إلى ربكم ترجعون'}(الجاثية‪)02‬‬
‫كذلك إنه ليس من الصحيح أن نسلب الداللة الشرعية للفظ (الرب) في سياق اآليات الدالة والمراد بها‬
‫البرهان والبينات‪ ،‬ألن البينات والبرهان إنما يكون لهدف ومستهدف مبرهن عليه وعلى وجوبه‪ .‬لقد‬
‫جاء من هذا تسديدا وتقريبا في االعتبار والنظر تسع آيات‪ ،‬أربع ذكرت في قسم داللة العبادة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫(األنعام‪( )013‬األنعام‪( )027‬األعراف‪( )82‬األعراف‪ ،)211‬والخمس آيات التالية‪:‬‬
‫{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم'}(النساء‪)071‬‬
‫‪178‬‬

‫{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم'}(النساء‪)073‬‬


‫{قد جاءتكم بينة من ربكم' هذه ناقة هللا لكم آية'}(األعراف‪)71‬‬
‫{قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل'}(األعراف‪)012‬‬
‫{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضال من ربكم‬
‫ولتعلموا عدد السنين والحساب' وكل شيء فصلناه تفصيال'}(اإلسراء‪)02‬‬
‫كما أن اآليات الدالة والمتضمنة لمعنى العبادة بحسب منحى البيان والسياق‪ ،‬اآليات التي أشرنا إليها‬
‫وذكرناها هنا‪ ،‬يجب أن نضيف إليها ما كان إخباريا وذكر مع صنفه‪ ،‬وهي اآليات‪( :‬األنعام‪)012‬‬
‫(يونس‪( )1‬األنبياء‪( )22‬المؤمنون‪.)22‬‬
‫أتى كذلك قسم من اإلسناد في سياقات حاملة لمعنى الجزاء والحساب‪ .‬وبالطبع فالجزاء ال يكون إال‬
‫بعد العمل؛ ومن تمة فهذا القسم محدد أيضا بالمعايير الموضوعية والعلمية للداللة الشرعية لإلسناد‪.‬‬
‫وآياته بالتسديد والتقريب هي‪:‬‬
‫{ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'}(األنعام‪)043‬‬
‫فالحكم بين العباد على شتى أبعاد االختالف داخل في الحساب؛ فكأين من خلق وعباد هلل الحق سبحانه‬
‫ينتهي بهم أمر الدنيا ولم ينالوا الجزاء األكمل وفاقا ألعمالهم إن خيرا أو شرا‪ .‬فهذا دليل للبعث حتى‬
‫يوفى الناس أجورهم‪ ،‬ويستقر الفعل برد الفعل نتاجه وعاقبته مما جاء بيانه في قوله تعالى الحق‬
‫المبين‪{:‬وأقسموا باهلل جهد أيمانهم ال يبعث هللا من يموت' بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس ال‬
‫يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين'}(النحل‪ )12-18‬وقوله‬
‫سبحانه‪{:‬إليه مرجعكم جميعا' وعد هللا حقا' إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات بالقسط' والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون'}(يونس‪)3‬‬
‫ثم اآليات‪:‬‬
‫{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون'}(األعراف‪)41‬‬
‫{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم'}(األعراف‪)42‬‬
‫‪179‬‬

‫{وال ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان هللا يريد أن يغويكم' هو ربكم' وإليه‬
‫ترجعون'}(هود‪ )13‬وهي إخبارية وحاملة لمعنى العبادة كذلك‪.‬‬
‫{يدبر األمر' يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون'}(الرعد‪)2‬‬
‫{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم'}(اإلسراء‪)23‬‬
‫{يا أيها الناس اتقوا ربكم' إن زلزلة الساعة شيء عظيم'}(الحج‪ )0‬وأمكن اعتبارها حاملة لمعنى‬
‫العبادة‪.‬‬
‫{يا أيها الناس اتقوا ربكم}(لقمان‪ )11‬وهي متضمنة لمعنى العبادة‪.‬‬
‫(الزمر‪ )7‬وهي لمعنى العبادة كذلك‪.‬‬
‫{ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون'}(الزمر‪)10‬‬
‫(الزمر‪ )23‬وهي لمعنى العبادة حاملة كذلك‪.‬‬
‫(الشورى‪ )37‬وهي لمعنى العبادة حاملة كذلك‪.‬‬
‫مما هو جدير بالتنبيه والتذكير أن دراستنا وتحليلنا كله قائم على التسديد والتقريب‪ .‬هذا ومن الناحية‬
‫المنهجية في وظيفة المكون العددي اإلحصائي‪ ،‬وتوافقا مع الحقائق المراد إثباتها وتقريرها‪ ،‬ليس ينال‬
‫أقصى ما يكون من التفاوت العملي في الحقيقة الكمية والعددية من سداد المقاربة؛ بل هي في الواقع‬
‫أنجع المعايير والمقاربات‪ ،‬ذلك أن الغاية ليست في ذات األرقام والكميات‪ ،‬ولكن فيما تدل عليه‬
‫حيزاتها وإطاراتها‪ .‬فالترجيح مثال ال يقتصر أو ينحصر في كم وعدد بذاته‪ ،‬ولكن في حيز ربما ال‬
‫يعتبر سوى شرط أو حالة من الحاالت‪.‬‬
‫إن الغاية والمقصد هنا هو إثبات عدم صحة البناء الذي انبنى وتأسس عليه منكر القول‪< :‬قريش‬
‫كانت تقر بتوحيد الربوبية>! ولقد أوردنا حكم العلماء بشأن المعجم المحوري واأللفاظ المحورية في‬
‫الشرع؛ فالصالة بما هي عبادة وشرع ال يحق تبديل اللفظ الدال عليها شرعا‪ ،‬وكذلك كل األلفاظ‬
‫كالزكاة واإليمان واإلسالم‪ ،‬وغيرها مما ال يحمل معناها مطلقا بغير قيد وقرينة واضحة إال على‬
‫المعنى الشرعي‪ .‬ولعله ولحفظ هذا التخصيص البياني الحكيم جاء قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫((ال يقل أحدكم‪ :‬أطعم ربك! وضئ ربك! اسق ربك! وليقل‪ :‬سيدي موالي‪ .‬وال يقل أحدكم‪ :‬عبدي‬
‫‪180‬‬

‫أمتي‪ ،‬وليقل‪ :‬فتاي وفتاتي وغالمي‪()).‬البخاري‪-‬الحديث‪-2222‬كتاب العتق‪ -‬باب كراهية التطاول‬


‫على الرقيق وقوله عبدي أو أمتي‪).‬‬
‫هكذا وإذا اعتبرنا الحد األدنى بحسب المعيار المعتمد مما يجب إسناده للداللة الشرعية‪ ،‬وأخذا‬
‫بالحسبان المشترك من اآليات بين مختلف الفئات‪ ،‬أمكن اعتبار العدد من الداللة الشرعية في إسناد‬
‫(ربكم) مخاطبا به (الناس) مجموع أعداد الفئات مخصوما منها العدد المشترك‪ ،‬فيكون لدينا ونستنتج‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬داللة إخبارية انطباقية‪08 :‬‬
‫‪ -‬داللة إخبارية خواصية‪1 :‬‬
‫‪ -‬داللة الدعوة للعبادة‪ 27 :‬منها ‪ 4‬إخبارية‪.‬‬
‫‪ -‬داللة البينات‪ 2 :‬منها أربعة بداللة الدعوة للعبادة‪.‬‬
‫‪ -‬داللة النذارة والجزاء‪ 02 :‬منها ‪ 0‬إخبارية و‪ 3‬لمعنى العبادة‪.‬‬
‫المجموع القطعي هو مجموع ‪ 08‬و‪ 1‬و‪ 27‬و‪ 2‬و‪ 02‬مخصوم منه مجموع ‪ 4‬و‪ 3‬و‪ 2‬فيكون هو‬
‫‪.23‬‬
‫فهذا إذن بالتسديد والتقريب ما أمكن اعتباره عدد الداللة الشرعية في اإلسناد (ربكم) مخاطبا به فئة‬
‫(الناس) على قاموس التحليل والدراسة‪.‬‬
‫أما المشترك في تضمن السياقات لمختلف األقسام والفئات الثالثة (المؤمنون)‪( ،‬بنو إسرائيل)‪،‬‬
‫(الناس) ضمن هذا اإلسناد‪ ،‬أي (ربكم)‪ ،‬فبالتسديد والتقريب هو مجموع اآليات‪( :‬اإلسراء‪،)02‬‬
‫(اإلسراء‪( ،)83‬الكهف‪( ،)22‬لقمان‪( ،)11‬الزخرف‪( ،)01‬الجاثية‪.)02‬‬
‫وليعلم أن اعتبار هذا المشترك في تضمن المجال الخطابي ال يؤثر على المؤشر الكمي‪ ،‬ألن هللا‬
‫سبحانه جعل التناسب وعدمه في ثنايا ناموسه وقوانينه في الخلق والطبيعة؛ وهذا هو معنى وحقيقة‬
‫التقدير والحكمة‪ .‬نذكر بهذا لئال تلتبس األمور أو يلبس بعضها ببعض‪ ،‬سواء عن خلفية سوء أو عن‬
‫عدم ضبط مدرك للمستويات وخلط المادة والموضوع المعرفي المدروس بمنهجه؛ فصفاء وبراءة‬
‫النيات ينبغي أن يصحبها شرط العلم والحكمة‪.‬‬
‫‪181‬‬

‫نستنتج إذن أن عدد اإلسناد بالداللة الشرعية في اإلسناد (ربكم) وتبعا لمرجعية الدراسة هو مجموع‬
‫‪ 24‬و‪ 23‬و‪ 23‬أي ‪013‬‬
‫وذلك باعتبار حيز التكليف فقط‪ ،‬وكذلك بمعطى أن اإلسناد إلى فئتي (المؤمنون) و(بنو إسرائيل)‬
‫يعتبر على البيان والداللة الشرعية‪.‬‬
‫هكذا نصل بشأن إسناد لفظ "رب" إلى عموم الحقل المخاطباتي إلى ما يلي‪:‬‬
‫بخصوص اإلسناد (ربك)‪:‬‬
‫‪ -‬عدد اإلسناد ‪232‬‬
‫‪ -‬إسنادان اثنان (‪ )2‬خارج التكليف‪.‬‬
‫‪ -‬عدد ما يعتبر إسنادا لمقام اإليمان ‪211‬‬
‫‪ -‬منه ‪ 228‬لمقام النبوة‪.‬‬
‫‪ -‬منه ‪ 221‬منطلقه المقام األعلى‪.‬‬
‫‪ -‬عدد ما يعتبر داللة شرعية ‪218‬‬

‫بخصوص اإلسناد (ربكما)‪:‬‬


‫أهم ضابط فيه ومحدد لداللة اإلسناد هو الجوار والسياق بيانا وفقها‪ .‬بل إن ورود الحديث الذي رواه‬
‫اإلمام الترمذي مع ما ذكر من غرابته بحسب التقييم الحديثي وتعبير الغرابة االصطالحي؛ فإن ذلك‬
‫ال يجيز إبعاد الداللة الشرعية‪ ،‬وذلك مع وارد القول المروي عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ((:‬فكانوا‬
‫أحسن مردودا منكم))؛ فالمخاطب يرى هنا داخل مقام اإليمان؛ ناهيك عن إعمال مبدإ االختالف‬
‫ب حسب منطلق الخطاب وما يتلى من قوله عز وجل‪{:‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون' ما أريد‬
‫منهم من رزق وما أريد أن يطعمون' إن هللا هو الرزاق ذو القوة المتين'}(الذاريات‪.)28 .. 24‬‬
‫وفي ذلك كله يبقى الجوار والسياق هنا أقوى ضابط ومحدد لمنحى تصريف اللفظ المعجمي‪ ،‬وتحديدا‬
‫صدر السورة وما فيه من إيالء أكثر من غيره لمعنى االنقياد القاهر واالئتمار‪{:‬النجم والشجر‬
‫‪182‬‬

‫يسجدان} وحقيقة الشرعة والمنهاج‪{:‬القرآن} واألمر‪{:‬وأقيموا الوزن بالقسط‪}..‬؛ فهذا كله يجعل‬
‫راجح الحكم بمعايير العلم والفقه أن هذه الداللة للفظ وإسناده إلى المخاطب المثنى في سورة‬
‫الرحمان‪ ،‬وهو عدد ما ورد في القرآن الحكيم‪ ،‬كله على الداللة الشرعية‪.‬‬
‫بخصوص اإلسناد (ربكم)‪:‬‬
‫‪ -‬عدد اإلسناد ‪002‬‬
‫‪ -‬إسنادان إثنان (‪ )2‬خارج مجال التكليف‪.‬‬
‫‪ -‬العدد المعتبر داللة شرعية هو ‪013‬‬

‫هكذا نخلص إلى االستنتاج التالي‪:‬‬


‫األعداد المعتبرة داللتها شرعية هي‪:‬‬
‫‪ -‬إسناد (ربك)‪ 218 :‬من ‪231‬‬
‫‪ -‬إسناد (ربكما)‪ 11 :‬من ‪11‬‬
‫‪ -‬إسناد (ربكم)‪ 013 :‬من ‪007‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬

‫‪ -3‬اإلسناد إلى حقل الغياب‬


‫اإلسناد إلى ضمير الغائب المفرد‪:‬‬
‫ذكر لفظ (رب) في القرآن العظيم مسندا لضمير الغائب المفرد ‪ 74‬مرة‪ ،‬منه على وجه التسديد‬
‫والتقريب ‪ 28‬لمقام اإليمان‪ 18 ،‬منه أي شطر اإلسناد كله أتى لمقام النبوة‪.‬‬
‫إسنادان اثنان أتيا معجميين بمعنى السيد في آيتين متصلتين من سورة يوسف‪:‬‬
‫‪183‬‬

‫{يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا‪(}..‬يوسف‪)30‬‬


‫{فأنساه الشيطان ذكر ربه ‪(}..‬يوسف‪)32‬‬
‫وإلى نقيض حيز اإليمان ‪ 01‬أسانيد وهي‪:‬‬
‫{وكان الشيطان لربه كفورا'}(اإلسراء‪)27‬‬
‫{فسجدوا إال إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه'}(الكهف‪)21‬‬
‫{وكان الكافر على ربه ظهيرا'}(الفرقان‪)22‬‬
‫{قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا'}(الكهف‪)87‬‬
‫{إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم ال يموت فيها وال يحيى'}(طه‪)73‬‬
‫{وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه'}(طه‪)027‬‬
‫{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه'}(الكهف‪)27‬‬
‫{ومن يدع مع هللا إلها آخر ال برهان له به فإنما حسابه عند ربه'}(المؤمنون‪)007‬‬
‫{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها' إنا من المجرمين منتقمون'}(السجدة‪)22‬‬
‫{ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا'}(الجن‪)07‬‬
‫والبضعة أسانيد المتمة والمكملة للعدد الكلي لإلسناد هي‪:‬‬
‫{والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث ال يخرج إال نكدا'}(األعراف‪)28‬‬
‫{بلى إن ربه كان به بصيرا'}(االنشقاق‪)02‬‬
‫{إن اإلنسان لربه لكنود'}(العاديات‪)4‬‬
‫{وإذا مس اإلنسان ضر دعا ربه منيبا إليه'}(الزمر‪)8‬‬
‫‪184‬‬

‫{فأما اإلنسان إذا ما ابتاله ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن'}(الفجر‪)02‬‬
‫{وما ألحد عنده من نعمة تجزى إال ابتغاء وجه ربه األعلى'}(الليل‪)21‬‬
‫من بعد هذا التقسيم األولي بخصوص هذا اإلسناد‪ ،‬قد يعمل قانون ومبدأ االختالف بالنظر واالعتبار‬
‫لطرفي اإلسناد‪ ،‬أي منطلق الخطاب والمسند إليه‪:‬‬
‫{وقالوا لوال أنزل عليه آية من ربه'}(األنعام‪)17‬‬
‫{قال المأل ا لذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من‬
‫ربه'}(األعراف‪)72‬‬
‫{ويقولون لوال نزل عليه آية من ربه'}(يوسف‪)21‬‬
‫{ويقول الذين كفروا لوال أنزل عليه آية من ربه'}(الرعد‪ )7‬و(الرعد‪)27‬‬
‫{وقالوا لوال يأتينا بآية من ربه'}(طه‪)011‬‬
‫{قالوا لوال أنزل عليه آيات من ربه'}(العنكبوت‪)21‬‬
‫{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم ون يظهر في األرض‬
‫الفساد'}(غافر‪)24‬‬
‫فليعتبر ولينظر منطلق الخطاب‪ ،‬إن الوحي الكريم يحكي حال ومقول الكافرين‪ ،‬وبصيغة أبلغ في‬
‫توصيف ذينك الحال والمقال‪ ،‬معتمدة أو نراها كذلك في اتصال مقول القول بمصدره‪:‬‬
‫ويقول الذين كفروا‪..‬‬
‫وقالوا‪..‬‬
‫ويقولون‪..‬‬
‫مما هو جدير بالمالحظة هنا هو أن هذا اإلسناد‪ ،‬أي إلى ضمير الغائب المفرد‪ ،‬إبرازه للتمايز‬
‫واالختالف الداللي للفظ "الرب" عن الداللة المعجمية المقصورة على معنى الملكية‪ .‬ومن هذا يبرز‬
‫أيضا مدلول الحد األدنى المعتبر لعدد اإلسناد بداللة اللفظ الشرعية‪.‬‬
‫‪185‬‬

‫هكذا فاتخاذ حيز اإليمان رائزا ومرجعا ال يعني البتة أن كل ما أسند خارجه داللته ليست شرعية‪ .‬فلو‬
‫نظرنا مثال أو تحديدا إلى سياقات اإلسناد (ربه) المتصلة بحيز الكفر وجدناها متضمنة لموجهات‬
‫ومؤطرات بيانية ال تخرج السياق واللفظ عن الداللة الشرعية‪ ،‬وهكذا نقرأ‪:‬‬
‫{‪ ..‬ففسق عن أمر ربه}‬
‫{‪ ..‬ثم يرد إلى ربه}‬
‫{‪ ..‬ولم يؤمن بآيات ربه}‬
‫{‪ ..‬ذكر بآيات ربه فأعرض عنها}‬
‫{‪ ..‬ذكر ربه‪}..‬‬
‫هذا مما يجعل لفظ "الرب" محمال في جوهره بمعنى والحمولة الداللية للدين الممثل بمادة األمر في‬
‫قوله ‪{:‬أمر ربه} وفي اإلشارة وذكر الحساب واآليات؛ فنرى معنى اإللزام والوجوب في العالقة‬
‫والصلة السابقة لكل موجود بين المسند إليه الذي هو الضمير والمسند (الرب) الكريم؛ وهذا ما تجليه‬
‫وبينه اآلية الكريمة‪:‬‬
‫{ومن يدع مع هللا إلها آخر ال برهان له به فإنما حسابه عند ربه' إنه ال يفلح‬
‫الكافرون'}(المؤمنون‪)007‬‬
‫وكذلك فهذه هي الحقيقة الكبرى واألمر الوجودي العظيم الذي تذكره ونزل به الوحي آيات وقرآنا‬
‫مثاني في قوله تعالى‪:‬‬
‫{إن ربكم هللا‪}..‬‬
‫كما ألجله تم عرض الدرس اللغوي في هذا الكتاب‪ ،‬وكما سيأتي من بعد التعرض ألبعاد لغوية‬
‫وبيانية أخرى‪ ،‬مما يهم الجانب التوظيفي في تصريف واستعمال هذا اللفظ المحوري في علم الكتاب‬
‫والقرآن العظيم‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫اإلسناد إلى ضمير الغائبة‪:‬‬
‫‪186‬‬

‫جاء هذا اإلسناد في القرآن في تسع آيات‪ ،‬خمسة منها بمعنى السياق في قوله سبحانه‪:‬‬
‫{يسبح هلل ما في السماوات وما في األرض الملك القدوس العزيز الحكيم'}(الجمعة‪)0‬‬
‫واثنان الضمير فيهما يعود على مريم عليها السالم‪:‬‬
‫{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا'}(آل عمران‪)17‬‬
‫{وصدقت بكلمات ربها وكتابه وكانت من القانتين'}(التحريم‪)02‬‬
‫وإسناد واحد خارج التكليف‪:‬‬
‫{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة'}(القيامة‪)21‬‬
‫وإسناد واحد إلى حيز الكفر‪:‬‬
‫{وكأي من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا}(الطالق‪)8‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫اإلسناد إلى ضمير المثنى للغائب‪:‬‬
‫أتى اإلسناد (ربهما) في القرآن الحكيم ثالثا‪ ،‬كلها لمقام اإليمان‪ ،‬ومواضع ذلك في آيات هللا تعالى‬
‫العزيز العليم هي‪:‬‬
‫{وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين'}(األعراف‪)20‬‬
‫{فلما أثقلت دعوا هللا ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين'}(األعراف‪)082‬‬
‫{فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما'}(الكهف‪)81‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫اإلسناد إلى ضمير الجمع الغائب‪:‬‬
‫‪187‬‬

‫عدد ورود إسناد لفظ "رب" لضمير الغائبين في كتاب هللا تعالى خمسة وعشرون ومائة ‪ .022‬جاء‬
‫منها لحيز اإليمان على التسديد والتقريب ثمانون ‪ ،81‬وسبعة ‪ 7‬خارج حيز التكليف‪ .‬كذلك أحد عشر‬
‫‪ 00‬إسنادا إلى فئة (الناس) بالمعنى الموجه بالسياق وقوله تعالى‪{:‬وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم‬
‫الهدى ويستغفروا ربهم إال أن تأتيهم سنة األولين أو يأتيهم العذاب قبال'}(الكهف‪.)23‬‬
‫وخارج هذه الدالالت‪ ،‬أي ما اعتبر إسنادا خطابيا لحيز الكفر‪ ،‬يالحظ تمايزه بما سبق أن أشرنا إليه‬
‫بخصوص اإلسناد إلى ضمير الغائب المفرد لذات الحيز؛ فقرائن السياق هي ضابط وموجه البيان‬
‫والداللة كما في قوله عز وجل‪:‬‬
‫{فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها'}(الشمس‪)03‬‬
‫نجد كذلك في هذا القسم من اإلسناد (ربهم) مما هو مسند لحيز الكفر سياقات تمثل فيها حقيقة الجزاء‬
‫الداللة المحورية‪:‬‬
‫{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق'}(األنعام‪)11‬‬
‫{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا'}(األعراف‪)022‬‬
‫{أولئك يعرضون على ربهم ويقول األشهاد هؤالء الذين كذبوا على ربهم'}(هود‪)08‬‬
‫{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم}(السجدة‪)02‬‬
‫{ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم}(سبإ‪)10‬‬
‫{ونفخ في الصور فإذا هم من األجداث إلى ربهم ينسلون'}(يس'‪)20‬‬
‫{حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد'}(الشورى‪)04‬‬
‫{كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون'}(المطففين‪)02‬‬
‫نلفي في هذا القسم أيضا سياقات جامعة مضيفة إلى جانب اإلسناد إلى حيز الكفر حيز العموم ومجاله‪.‬‬
‫ولعله كان من األقرب اعتبار اآلية "يس'‪ "20‬ضمن الفئة السابقة‪ ،‬اعتبارها ضمن هذه الفئة األخيرة‬
‫التي أمكن بالتسديد والتقريب كمعيار أساس في هذا التصنيف والدراسة أن تشمل اآليات التالية‪:‬‬
‫‪188‬‬

‫{ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون}(النحل‪)23‬‬
‫{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إال استمعوه وهم يلعبون'}(األنبياء‪)2‬‬
‫{بل هم عن ذكر ربهم معرضون'}(األنبياء‪)32‬‬
‫{ثم الذين كفروا بربهم يعدلون'}(األنعام‪)0‬‬
‫{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إال كانوا عنها معرضين'}(األنعام‪)3‬‬
‫{وهم بربهم يعدلون}(األنعام‪)021‬‬
‫{فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم'}(األعراف‪)77‬‬
‫{كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون'}(األنفال‪)23‬‬
‫{وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد'}(هود‪)22‬‬
‫{أال إن عادا كفروا ربهم' أال بعدا لعاد قوم هود'}(هود‪)41‬‬
‫{أال إن ثمودا كفروا ربهم' أال بعدا لثمود'}(هود‪)48‬‬
‫{أولئك الذين كفروا بربهم' وأولئك األغالل في أعناقهم' وأولئك أصحاب النار هم فيه‬
‫خالدون'}(الرعد‪)2‬‬
‫{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف ال يقدرون مما كسبوا على‬
‫شيء' ذلك هو الضالل البعيد'}(إبراهيم‪)08‬‬
‫{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم'}(الكهف‪)012‬‬
‫{ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون'}(المؤمنون‪)74‬‬
‫{بل هم بلقاء ربهم كافرون'}(السجدة‪)01‬‬
‫{وال يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إال مقتا'}(فاطر‪)12‬‬
‫‪189‬‬

‫{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إال كانوا عنها معرضين'}(يس'‪)34‬‬


‫{أال إنهم في مرية من لقاء ربهم' أال إنه بكل شيء محيط'}(فصلت‪)23‬‬
‫{والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم'}(الجاثية‪)00‬‬
‫{فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون'}(الذاريات‪)33‬‬
‫{ولقد جاءهم من ربهم الهدى'}(النجم‪)21‬‬
‫{وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم' وبئس المصير'}(الملك‪)4‬‬
‫{فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية'}(الحاقة‪)01‬‬
‫{وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون'}(الروم‪)8‬‬
‫{ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون}(الروم‪)11‬‬
‫المالحظ في هذا القسم أننا ذكرنا من اآليات ما هو من حيز خارج التكليف‪ ،‬فالغاية من ذلك إيضاح‬
‫وتبيان القرائن الداللية‪.‬‬
‫هكذا تكون خالصة اإلسناد لحقل الغياب في نسبة الداللة الشرعية‪:‬‬
‫لضمير الغائب المفرد (ربه) ‪ 28‬على األدنى من ‪74‬‬
‫لضمير الغائبة (ربها) ‪ 7‬على األدنى من ‪8‬‬
‫لضمير الغائبين اإلثنين (ربهما) ‪ 1‬من ‪1‬‬
‫لضمير الجمع الغائب (ربهم) ‪ 81‬على األدنى من ‪008‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫كذلك قد ورد لفظ (رب) في القرآن العظيم على صيغة الجمع أربع مرات في أربع آيات يستبان من‬
‫سياقها جميعا أنها كلها دالالت للفظ شرعية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪190‬‬

‫{أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار'}(يوسف‪)12‬‬


‫{وال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا'}(آل عمران‪)43‬‬
‫{وال يأمركم أن تتخذوا المالئكة أربابا'}(آل عمران‪)81‬‬
‫{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا والمسيح ابن مريم'}(التوبة‪.)10‬‬
‫وإن هذه اآليات األربعة لو يعلم تكفي‪ ،‬بل كل واحدة منها‪ ،‬في الحكم من غير تردد وال مماراة في‬
‫خطإ وضالل مقولة تقسيم (التوحيد)‪ ،‬التي مرجعها وركنها التي تقوم عليه ركن باطل‪ ،‬وقاعدة واهية‬
‫خاطئة‪ ،‬منطبقة بتحريف معنى الربوبية إلى غير المعنى الحق‪.‬‬
‫كذلك قد ورد في القرآن العظيم ثالثة ألفاظ بالجذر مادة (ر‪ -‬ب)‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫{ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}(آل عمران‪)78‬‬
‫{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون واألحبار‬
‫بما استحفظوا من كتاب هللا وكانوا عليه شهداء' فال تخشوا الناس واخشون'}(المائدة‪)34‬‬
‫{وكأين من نبيء قتل ' معه ربيون كثير' فما وهنوا لما أصابهم في سبيل هللا وما ضعفوا وما استكانوا'‬
‫وهللا يحب الصابرين'}(آل عمران‪)034‬‬
‫قال ابن عباس رضي هللا عنهما‪< :‬كونوا ربانيين‪ :‬حكماء فقهاء علماء>‪ .‬ويقال الرباني الذي يربي‬
‫الناس بصغار العلم قبل كباره‪ .‬وسيأتي الحديث بإسهاب وتفصيل علميين عن هذا فيما يلي من‬
‫األبواب بإذن هللا تعالى‪.‬‬
‫وبشأن مادة وكلمة (ربيون) في اآلية من آل عمران‪ ،‬قال الشوكاني رحمه هللا‪:‬‬
‫<< الربيون بكسر الراء قراءة الجمهور‪ .‬وقرأ علي بضمها‪ ،‬وابن عباس بفتحها‪ .‬وواحده ربي بالفتح‬
‫منسوب إلى الرب‪ .‬والربي بضم الراء وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء وضمها‪ ،‬وهي‬
‫الجماعة‪ ،‬ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة؛ وقيل هم األتباع؛ وقيل هم العلماء‪.‬‬
‫قال الخليل‪ :‬الربي‪ :‬الواحد من العباد الذين صبروا مع األنبياء‪ ،‬وهم الربانيون‪ ،‬نسبوا إلى التأله‬
‫والعبادة ومعرفة الربوبية‪.‬‬
‫‪191‬‬

‫وقال الزجاج‪ :‬الربيون بالضم الجماعات‪>>.‬‬


‫ثم أضاف‪:‬‬
‫<<‪ ..‬وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني‪ ،‬عن ابن مسعود في‬
‫قوله {ربيون} قال‪ :‬ألوف‪.‬‬
‫وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال‪ :‬الربة الواحدة ألف‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عباس {ربيون} قال‪ :‬جموع‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير عنه قال‪ :‬علماء كثير‪>>.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫لقد كان لنا حقا في هذا السبر الداللي قيمة ونهجا تحليليا مميزا‪ ،‬لم نقف على أهميته إال من ذات‬
‫مساره‪ ،‬ومن خالل االنتقال من إسناد إلى غيره ومن آية إلى أخرى‪ .‬وإذا كان البعد والمؤشر الكمي له‬
‫حجته وسلطانه على مستوى معايير األحكام العلمية‪ ،‬مما هو مؤصل بمعيار الترجيح على األصل‬
‫الصريح الثابت في قوله تعالى‪{:‬يسألونك عن الخمر والميسر' قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس'‬
‫وإثمهما أكبر من نفعهما'}(البقرة‪)207‬‬
‫فكذلك إلى جانب هذا العامل الكمي واإلحصائي فقد تبين ما للتحليل الخطابي من قوة وقيمة في تحديد‬
‫حمولة النص وداللته‪ ،‬وإبراز أهم خطوط االختالف والتمايز للخطاب في معناه ووظيفته‪ ،‬مما أنتج‬
‫لنا الجدول السابق الخاص باإلسناد للجمع المخاطب‪ ،‬الذي اكتفينا بقراءته األولية دون استيفاء دراسته‬
‫وتحليله‪.‬‬
‫من خالل ما قد سبق‪ ،‬وبحسب الغاية والهدف المنطلق المنطبق في تحديد نسبة الداللة الشرعية في‬
‫وظيفة وبيان لفظ (الرب) في القرآن العظيم‪ ،‬الدالة على المعبود ال اقتصارا على معنى المالكية‪ ،‬فقد‬
‫خلص التحليل والدراسة إلى ما يلي‪:‬‬
‫‪192‬‬

‫ح‪ .‬التكليف مقام اإليمان المعتبر شرعيا خصائص‬ ‫العدد‬ ‫اإلسناد‬


‫كل القسم شرعي إال ‪3‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪7‬‬ ‫لإلسم الظاهر ‪82‬‬
‫‪ - 28‬مقام النبوة‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫رب! نداء ود‪47 .‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪42‬‬ ‫ربنا! نداء ‪..‬‬
‫‪ - 22‬مقام النبوة‬ ‫‪27‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪010‬‬ ‫ربي‬
‫‪11‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪32‬‬ ‫ربنا‬
‫‪ -228‬مقام النبوة‬ ‫‪211‬‬ ‫‪211‬‬ ‫‪231‬‬ ‫‪232‬‬ ‫ربك‬
‫‪11‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪11‬‬ ‫ربكما‬
‫‪013‬‬ ‫‪007‬‬ ‫‪002‬‬ ‫ربكم‬
‫‪ - 18‬مقام النبوة‬ ‫‪28‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪74‬‬ ‫‪74‬‬ ‫ربه‬
‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪2‬‬ ‫ربها‬
‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫ربهما‬
‫‪81‬‬ ‫‪81‬‬ ‫‪008‬‬ ‫‪022‬‬ ‫ربهم‬

‫ولما كانت الن سبة إنما هي في إطار التكليف إال ما اختص به اإلسناد لإلسم الظاهر كما أشرنا إليه‪،‬‬
‫وكذلك لما كان التعبير اللغوي والبيان أقرب تمثيال للسلوك التواجدي بحسب قرب مسافته للسلوك‬
‫اللغوي االنفعالي‪ ،‬فإنه يلزم ويتأكد في مطلق النظر والقراءة العلمية اعتبار التوافق مع هذا المعطى‬
‫والسلم مما هو مختزل وموجز في ما يلي‪:‬‬
‫‪193‬‬

‫نسبة الداللة الشرعية‬ ‫اإلسناد‬


‫‪40\40‬‬ ‫رب! (دعاء ونداء)‬
‫‪20\21‬‬ ‫ربنا ! (د‪.‬ونداء)‬
‫‪22\27‬‬ ‫ربي‬
‫‪12\11‬‬ ‫ربنا‬
‫‪231\211‬‬ ‫ربك‬
‫‪11\11‬‬ ‫ربكما‬
‫‪007\013‬‬ ‫ربكم‬
‫‪74\28‬‬ ‫ربه‬
‫‪8\7‬‬ ‫ربها‬
‫‪1\1‬‬ ‫ربهما‬
‫‪008\81‬‬ ‫ربهم‬

‫كذلك وكما أشرنا إليه فصيغة الجمع (أرباب) نزل جميعها بالداللة الشرعية‪.‬‬
‫هكذا ومهما تم اعتبار أي معيار بخصوص العدد الشرعي في إسناد اإلسم الظاهر‪ ،‬سواء بنسبة ‪7\1‬‬
‫أو ‪ ،87\78‬أو تم األخذ بالمعيار التكليفي والمرجعية العددية األولى بهذه الصفة‪ ،‬فإن ذلك ال يغير‬
‫من النتاج المكافئ والمعبر عن الحقيقة كون الداللة التي نزل بها الوحي الكريم كتابا وسنة بخصوص‬
‫كلمة ولفظ (الرب) هي الداللة الشرعية‪ ،‬وغيرها من الدالالت المعجمية يؤطر بسياقه؛ وكل ذلك‬
‫عربي مبين‪ .‬كما أن غير الشرعي من المعجمي‪ ،‬مما تحدد مؤشره اإلحصائي من خالل هذه الدراسة‪،‬‬
‫يعتبر في العلم والعمل مهمال‪.‬‬
‫‪194‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫بنية اإلخبار في القرآن ناقضة لمقولة أقسام التوحيد‬

‫لئن كان البعد الخطابي بتمثيله للشروط والموجهات البيانية قد أفاد في التصنيف األولي في تصريف‬
‫داللة لفظ (رب) في القرآن الكريم‪ ،‬فإن ذلك ال يمثل كل العامل وكل حقيقة عربية القرآن في تحليل‬
‫وفصل خطابه المجيد‪ ،‬على األقل في القدر الممكن والمستطاع‪.‬‬
‫البعد الخطابي يعتمد على منحى و حمولة النص من دون النظر إلى بعد المكونات البنيوية الداخلية‪.‬‬
‫هذا البعد األخير الذي عليه يتشكل الخطاب وتوزيعه الركني‪ ،‬بواسطة المحددات الحقائقية وغيرها‬
‫من األدوات واآلليات البيانية‪ ،‬هو البعد األهم إذا نظرنا واعتبرنا الخطاب بطبيعته وصفته اإلخبارية‪.‬‬
‫إذا نظرنا مثال بقصد فقه وتحليل الكالم اإلخباري‪( :‬هللا ربي وربكم)‪ ،‬فالقصد منه اإلخبار واإلعالم؛‬
‫وكذلك بالبناء ابتداء وانطالقا بالموضوع‪ ،‬تكون احتماالت متعددة في اإلخبار‪ .‬إذن فالموضوع سابق‪،‬‬
‫وأصل أول محدد يبنى عليه‪ .‬كذلك فالتركيب الداللي والوظيفي ال يبقى نفسه إذا تغير النظم ترتيبا‪.‬‬
‫وهذا من القوانين الرئيسة التي تنبني وتتأسس عليها اللسانيات الحديثة؛ كذلك جاء ذكرها وذكر‬
‫خطرها وأهميتها كما سلفت اإلشارة إليه عند الجرجاني‪ .‬فعلى هذا األساس وبمقتضاه في فصل‬
‫الخطاب ننحو في استكناه وفقه ما نزل من القرآن المبين‪:‬‬
‫{إن هللا ربي وربكم فاعبدوه' هذا صراط مستقيم'}(آل عمران‪)20‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يغشي الليل النهار‬
‫يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره' أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب‬
‫العالمين'}(األعراف‪.)23‬‬
‫ثم هناك أيضا العامل التوزيعي للحمولة الخطابية‪ ،‬مما أسميناه بالمحددات الحقائقية عالوة على‬
‫المحددات الزمنية‪ ،‬واالهتمام واالعتبار لطبيعة الخبر من حيث كونه جوهرا أو عرضا أو ما دونه؛‬
‫ذلك كله بلزوم شرط االقتصاد‪ ،‬ومراعاة خطر مقام القول وشرف الخطاب‪ ،‬بما يقتضيه من التحفظ‬
‫والورع العلمي‪.‬‬
‫‪195‬‬

‫الكالم في موضوع الخبر عند النحويين والبالغيين ال يعدو مستوى النظر األولي من غير إحاطة‬
‫دراسة وصفية؛ لم يتم االهتمام فيه إال بالصيغة كونها لفظا مفردا أو جملة أو شبه جملة‪ ،‬وجعله محددا‬
‫بمقابلته للكالم اإلنشائي‪ ،‬أي متضمنا فيه مميزا له‪.‬‬
‫والحق إ ن الدراسة األكثر أهمية والجانب التحليلي الالزم باألدنى والضرورة هو ما مثل شطرا مما‬
‫اختص واعتبر من علم المنطق‪ ،‬الهتمامه واعتنائه أساسا بمضمون اللغة وجوهرها‪ ،‬وببنيتها وتوزيع‬
‫هذه البنية‪ ،‬الذي هو الغاية في اللسان كبيان وإفصاح؛ ذلك أنه في تأويله وحقيقته حقائق ممثلة‬
‫مترجمة صورة لسانية للوسيط التواجدي والوجودي ككل بجميع مكوناته ومستويات؛ هذا الذي يعبر‬
‫عنه وبقدر متفاوت من الفقه وسبر األبعاد‪ ،‬يعبر عنه بعالقة الواقع والفكر والبيان‪ .‬وليس يغيب عنا‬
‫أن تعدد التخصصات األلسنية‪ ،‬إنما هو تعبير وتجلي لتعدد في الظواهر والمستويات المنظور إليها‪.‬‬
‫إن المقول النحوي في الخبر ليس يفيد إال في حدود اإلطار األولي للتعلي؛ فتحديد صيغه التي يكون‬
‫عليها هو فقط يهم شكله التركيبي؛ والشكل ال يمثل وليس هو المحتوى الذي ينبغي القيام بتحليله‬
‫واستيفاء دراسته‪.‬‬
‫أما المقول والدراسة البالغية للخبر‪ ،‬فما هو في صحيح الحكم والنظر‪ ،‬وتسمية الحقائق ووصفها بما‬
‫هي عليه إال مدخل وعتبة نحو المنطق‪.‬‬
‫يتم اعتبار الخبر في المنطق والنظر إليه ممثال ومؤطرا بمفاهيم ومقوالت هامة وعديدة‪ ،‬أساسها‬
‫مفهوم القضية الحملية بثنائية الموضوع والمحمول‪ ،‬والنسب التصديقية‪ ،‬والمعرف والحد والرسم‪،‬‬
‫وغيرها من المفاهيم المكونة لمنظومة وقاموس علم المنطق‪.‬‬
‫وإذا كانت اللغة بيانا‪ ،‬فهي بذلك ترجمة وصورة للواقع‪ ،‬الذي أهم ما يختص به سبكه وهيكلته البنائية‬
‫مكونان أساسان‪ ،‬هما التحديد والعالقة‪ .‬وهذا هو المدرك الذي ينبني عليه الفكر‪ ،‬وبالتالي التفكير‬
‫الجماعي الذي نسيجه ووسيطه اللغة واللسان؛ كل من جانب اعتبار معين‪ .‬على هذا البعد يتم التمييز‬
‫بين قسمين أو باألصح ضربين من اإلخبار‪ :‬أول غايته التحديد والتعريف‪ .‬وهذا أعاله ما كان بناؤه‬
‫على الذاتيات؛ ويليه ما أخبر عن عالقة بخاصيات وأعراض‪ .‬وهذا أيضا يفيد في التحديد‪ .‬ثم القسم‬
‫الثاني‪ :‬الذي موضوعه اإلخبار عن عالقات بين المحددات‪ .‬فالقسم األول هو اإلخبار المحدد‬
‫للموضوع وللشيء؛ وعند النحويين والبالغيين لم يميز كقسم خاص‪ .‬وغياب هذا التمييز يدل داللة‬
‫واضحة على قصور في التحليل‪ ،‬ذلك أنه هو المترجم لمستوى اإلدراك لفحوى الكالم‪ .‬فقولنا مثال‪:‬‬
‫(المنطق علم يدرس الفكر في قيمه الحقائقية أو المنطق هو الميزان الحقائقي للفكر)‬
‫‪196‬‬

‫وقولنا‪( :‬المنطق مفيد وضرورة في التفكير)‬


‫قوالن كالهما إخباري لكن المخبر عنه مختلف‪ .‬وأساس هذا االختالف هو مركز الثقل في الحمولة‬
‫الواقعية للكالم‪ .‬أما أن نكتفي بالقول‪ :‬إن الخبر جملة أو مفرد أو سوى ذلك‪ ،‬فهذا ال جرم أجوف ليس‬
‫فيه ما يفيد المضمون جوهرا وتحديدا‪ .‬إن التحديد شيء والوصف شيء آخر‪ ،‬اشتركا من حيث صيغة‬
‫التركيب في جهة معينة كما التعبير كله مشترك في المادة اللسانية‪ .‬وكما تمت اإلشارة إليه فهذا‬
‫االختالف نجده على صلة وفي عالقة بالسؤال‪ :‬من؟ في قوله تعالى‪{:‬إن ربكم هللا ‪(}...‬اآليات) وقوله‬
‫جل وعال‪{:‬وهللا غفور رحيم}(الحجرات‪.)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫اقتضاء لمقولة النظم وما تدل عليه من تمايزات على مختلف ومتعدد مناحي الدراسة اللسانية‬
‫واللغوية‪ ،‬وقراءة تحليلية لجدول قسم اإلسناد (ربكم)‪ ،‬الجدول الهام الذي سطرنا عليه‪ ،‬وأيضا باعتبار‬
‫الداللة والحمولة المنطقية متضمنة في ذات البيان والخطاب‪ ،‬بناء على كل هذا نالحظ بما يخص‬
‫سياقات هذا اإلسناد المالحظات والحقائق التالية‪:‬‬
‫‪ -0‬الخطاب اإلخباري في إسناد لفظ (رب) إلى ضمير الجمع المخاطب (ربكم) كغاية محورية في‬
‫الخطاب والبيان يقتصر فقط على فئتي (بنو إسرائيل) و(الناس) على االصطالح الدراسي‪.‬‬
‫‪ -2‬الخطاب اإلخباري لهذا اإلسناد موجها إلى فئة (الناس) خاصته التحديد للرب (وسبحان هللا رب‬
‫العالمين)؛ وهذا ال يدع للمقولة التقسيمية موضع قدم صدق في الحق وينسفها نسفا‪ ،‬مما سيأتي على‬
‫نحو أكثر توضيحه وبيانه‪.‬‬
‫‪ -1‬الموجه من هذا اإلسناد إلى فئة (بنو إسرائيل) خاصته وميزته إعالم اإلفراد ونفي التعدد‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫لننظر إذا ما تفيده هذه المعطيات وما هي القراءة التحليلية للجدول أعاله‪ .‬ونشير كون معاني البشارة‬
‫والنذارة واإلعالم بأنباء الغيب واآلالء والبينات‪ ،‬ليس ذلك مقتصرا خاصا بسياقات هذا اإلسناد‪ .‬ولكن‬
‫كان الهدف هو تأطير سياقاته بدالالتها كجوار يتم من خالله التحديد لألغراض البيانية‪.‬‬
‫على ضوء هذا التحليل نجد إخبارين انطباقيين غير محورين مخاطبا في إسناده لفئة (المؤمنون)‬
‫وذلك في اآليتين‪:‬‬
‫‪197‬‬

‫{يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا باهلل ربكم}(الممتحنة‪)0‬‬


‫{فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا هللا ربكم'}(الطالق‪)0‬‬
‫وبغرض تقريب وضبط ما يفهم من التحديد اإلخباري في هذا اإلسناد مخاطبا به فئة (الناس) نقرأ‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{إن هللا فالق الحب والنوى' يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي' ذلكم هللا' فأنى‬
‫تؤفكون'}(األنعام‪)24‬‬
‫وذلك باعتبار وتدبر الوقف عند قوله سبحانه‪{:‬ذلكم هللا'} كونه كالما تاما مستوفيا لمعنى وداللة‬
‫الحقيقة التامة؛ مما هو مؤكد ومرسخ البيان في الجوار والسياق البعدي لآلية‪:‬‬
‫{فالق اإلصباح وجاعل الليل سكنا' والشمس والقمر حسبانا' ذلك تقدير العزيز العليم' وهو الذي جعل‬
‫لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر' قد فصلنا اآليات لقوم يعلمون' وهو الذي أنشأكم من‬
‫نفس واحدة فمستقر ومستودع' قد فصلنا اآليات لقوم يفقهون' وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا‬
‫به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية‬
‫وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه' انظروا إلى ثمره وينعه' إن في ذلكم‬
‫آليات لقوم يؤمنون'}(األنعام‪)011..27‬‬
‫فهذه خاصات جليلة في التحديد المبين{ذلكم هللا'}‪.‬‬
‫ومن ذات ونفس النسق قوله جل وعال في أول السورة‪:‬‬
‫{وهو هللا' في السماوات واألرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون'}(األنعام‪)3‬‬
‫أي بالوقف على اسم الجالل في أول اآلية‪.‬‬
‫ويأتي بعد التعريف الجليل‪{:‬ذلكم هللا'}‪ ،‬يأتي بوصل غير منفصل التسفيه واإلنكار لمن جعل هلل‬
‫سبحانه من خلقه شركاء وبنين وبنات بغير علم‪ .‬فلفظة (خرقوا) أبلغ داللة على سفاهة هذا المسعى‬
‫في اإلفك واالختالق‪:‬‬
‫‪198‬‬

‫{وجعلوا هلل شركاء الجن وخلقهم' وخرقوا له بنين وبنات بغير علم' سبحانه وتعالى عما يصفون' بديع‬
‫السماوات واألرض' أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة' وخلق كل شيء' وهو بكل شيء‬
‫عليم'}(األنعام‪)012-010‬‬
‫وبعد التحديد وتعريف ذات الرب الحق جل عاله وتبارك إسمه‪ ،‬ومن بعد اإلنكار المشنع والمسفه لمن‬
‫جعل له سبحانه الشريك والبنات والبنين افتراء وإفكا‪ ،‬يأتي األمر الحق بما يقتضي أنه تعالى الرب‬
‫بأن ال يعبد إال إياه‪:‬‬
‫{ذلكم هللا ربكم' ال إله إال هو خالق كل شيء' فاعبدوه' وهو على كل شيء وكيل'} (األنعام‪)011‬‬
‫بمعنى أنه اقتضاء للسان العربي ولقواعد النظم وتفصيال لمبادئ الحق وتنزيال هنا أساسا لمبدإ‬
‫االختالف‪ ،‬يكون جائزا جعل{ذلكم هللا ربكم'} و{هو هللا'} على نفس النسق التشكيلي‪ ،‬أي أن مادتي‬
‫وعنصري (ذلكم) و(هو) بإعمال مبدإ التوافق هما على نفس الخط االستبدالي‪ .‬والتعبيران معا‬
‫أي{ذلكم هللا'} و{وهو هللا'} متوازنان تامان‪.‬‬
‫يستتبع ويتلوه إذن أن من فحوى قراءة قوله تعالى{ذلكم هللا ربكم'} أن المحدد بالصفات والخصائص‬
‫الجليلة هذه هو ربكم الذي ال إله إال هو‪ .‬ولو تدبر القرآن حق تدبره وتليت آيات الكتاب ودرست حق‬
‫الدراسة لتبين أن القرآن كله يرسخ هذا النسق الواصل لألمر بالتحديد واإلعالم والتذكير كما في‬
‫سورة يونس المكية‪:‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يدبر األمر' ما من‬
‫شفيع إال من بعد إذنه' ذلكم هللا ربكم' فاعبدوه' أفال تذكرون'}(يونس‪)1‬‬
‫{قل من يرزقكم من السماء واألرض' أ ّمن يملك السمع واألبصار ومن يخرج الحي من الميت‬
‫ويخرج الميت من الحي ومن يدبر األمر' فسيقولون هللا' فقل أفال تتقون' فذلكم هللا ربكم الحق' فماذا‬
‫بعد الحق إال الضالل' فأنى تصرفون'}(يونس‪)12-10‬‬
‫ثم هذا التأطير والموجه البياني الذي سطرنا عليه وعامل الجوار البعدي ضمن مكونات السياق‪:‬‬
‫{كذلك حقت كلمات ربك على الذين فسقوا أنهم ال يؤمنون' قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم‬
‫يعيده' قل هللا يبدأ الخلق ثم يعيده' فأنى تؤفكون' قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق' قل هللا يهدي‬
‫للحق' أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أ ّمن ال يه ّدي إال أن يهدى' فما لكم' كيف تحكمون' وما يتبع‬
‫أكثرهم إال ظنا' إن الظن ال يغني من الحق شيئا' إن هللا عليم بما يفعلون'}(يونس‪)14..11‬‬
‫‪199‬‬

‫فالمعنى المتسق بحسب الميزان وبيان عربية القرآن ولسانه على سبيل من االستفهام اإلنكاري‬
‫المتتالي‪ ،‬يكاد يكون معنى وحقيقة واحدة في كل السياق‪ ،‬هي إبطال أن يكون غير هللا ربا‪ ،‬فهو هللا‬
‫الذي ال إله إال هو الرب الحق‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫هكذا إذن يكون فقه اللغة وعلم الخطاب آية أخرى وبرهانا مبينا ينضاف عضدا وحجة قائمة للبرهان‬
‫االستقرائي واإلحصائي للتوظيف البياني والتصريف اللغوي للفظ (الرب) في القرآن الحكيم‪ .‬وإنه‬
‫ليكفي ذا القلب السوي والحظ األدنى من بيان اللغة واللسان العربي‪ ،‬يكفي هذا اعتبار توافق العناصر‬
‫أو األطراف الخطابية‪ ،‬وتحديدا اآليات التحديدية للرب جل وعال مخاطبا بها قريشا ليعلم علم اليقين‬
‫ضالل وخطأ من يقول‪( :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية)!!‪ .‬فيلزم التأكيد على وجوب األخذ بحقيقة‬
‫البيان لآليات اإلخبارية المخاطب بها قريشا التي تصل وتعتمد في خطابها تعريف وتحديد الرب جل‬
‫جالله انطالقا بتعيين وتحديد خصائصه وصفاته تبارك إسمه؛ فالواصل والجامع البياني هو قوله‬
‫سبحانه الحق المبين‪{:‬ذلكم هللا ربكم'}‪ ،‬وهو نفس التركيب من حيث البعد الداللي‪ ،‬وإن بمنحى‬
‫معاكس أو شبه معاكس في اآليات التي تلونا من قبل وقوله تعالى‪:‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش‪( }...‬األعراف‪)23‬‬
‫{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام‪(}...‬يونس‪)1‬‬
‫كذلك فاآليات غير االنطباقية‪ ،‬ومن خالل تغيير التركيب في مادته خصوصا‪ ،‬يفيد التعريف والتحديد‬
‫من دون تعدد المستويات‪ ،‬ومن غير واصل كالذي في سياق اآليات األولى‪.‬‬
‫‪200‬‬

‫الباب الرابع‬

‫مفهوم الحكمة والمنهاج‬


‫{ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}‬
‫(آل عمران‪)78‬‬
‫‪201‬‬

‫الفصل األول‬
‫مفهوم الحكمة‬

‫روى اإلمام الحافظ أبو عبد هللا محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه قال‪:‬‬
‫" حدثنا قتيبة بن سعيد‪ :‬حدث نا جرير‪ ،‬عن حصين‪ ،‬عن زيد بن وهب قال‪ :‬مررت على أبي ذر بالربذة‬
‫فقلت‪ :‬ما أنزلك بهذه األرض؟ قال‪ :‬كنا بالشام‪ :‬فقرأت‪{:‬والذين يكنزون الذهب والفضة وال ينفقونها‬
‫في سبيل هللا فبشرهم بعذاب أليم'} قال معاوية‪ :‬ما هذه فينا؛ ما هذه إال في أهل الكتاب‪ .‬قال فقلت‪ :‬إنها‬
‫لفينا وفيهم‪".‬‬

‫‪ -1‬ارتباط العلم بالحكمة‪:‬‬


‫العامل اللغوي‪ ،‬وأهمية المفاهيم واأللفاظ المحورية‪ ،‬ال تقدر قدرها وال يعلم خطرها إال إذا تم وحصل‬
‫اإلدراك الحق لآللية والوظيفة اللغوية في المعرفة والعلم‪ .‬فاللغة هي التعبير المرسل والنسيج العقلي‬
‫للمدركات ولألفكار‪ ،‬وهي الواصل التاريخي والحامل للثقافة والفكر‪ .‬الوظيفة الوجودية للغة هذه‬
‫تجعل منها الشرط األهم واألسبق عن غيره من الشروط في جوهر وحقيقة العلم‪ .‬وبمعنى من القول‬
‫وتعبير أفصح يكون حظ العلم وقدر اإلنسان منه بحسب مدى فقهه وضبطه للغة‪ ،‬وال غرو فإن اللسان‬
‫ترجمان العقل‪.‬‬
‫من المفاهيم ذات القيمة واألثر التوجيهي لغيرها من المفاهيم المحورية التي على أساسها يقوم البناء‬
‫والنسيج العلمي‪ ،‬ال كمضمون وسعة معرفية ومعلوماتية‪ ،‬بل في مدى مطابقته ودرجة مدركه في‬
‫البعد أو القرب من واقع المدركات وحقيقتها‪ ،‬ذلكم المفهوم هو (الحكمة)‪ ،‬المفهوم الذي من دون‬
‫إدراكه ال يمكن حصول تصور صحيح لمفاهيم العلم والسنة واالتباع والتقليد واالجتهاد‪.‬‬

‫‪ -2‬لفظ (الحكمة) في القرآن‪:‬‬


‫‪202‬‬

‫ذكر لفظ (الحكمة) في القرآن عشرين مرة‪ ،‬شطرها جاء مقرونا بلفظ (الكتاب)‪ .‬هذا االقتران إذا وال‬
‫مماراة يكسب هذا اللفظ والمفهوم أهمية بيانية وعلمية قصوى‪ .‬وهذه مواضع وآيات القرآن الحكيم‬
‫التي ورد فيها هذا اللفظ المفهوم‪:‬‬
‫{ربنا وابعث فيهم رسوال منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز‬
‫الحكيم'}(البقرة‪)028‬‬
‫{كما أرسلنا فيكم رسوال منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم‬
‫تكونوا تعلمون'}(البقرة‪)021‬‬
‫{واذكروا نعمة هللا عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به'}البقرة‪)222‬‬
‫{وقتل داوود جالوت وآتاه هللا الملك والحكمة وعلمه مما يشاء'}(البقرة‪)232‬‬
‫{وهللا واسع عليم' يؤتي الحكمة من يشاء' ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا' وما يذكر إال أولو‬
‫األلباب'}(آل عمران‪)248-247‬‬
‫{ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة واإلنجيل ورسوال إلى بني إسرائيل}(آل عمران‪)78‬‬
‫{وإذ أخذ هللا ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به‬
‫ولتنصرنه'}(آل عمران‪)81‬‬
‫{لقد من هللا على ا لمؤمنين إذ بعث فيهم رسوال من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب‬
‫والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضالل مبين'}(آل عمران‪)043‬‬
‫{أم يحسدون الناس على ما آتاهم هللا من فضله' فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا‬
‫عظيما'}(النساء‪)21‬‬
‫{وأنزل هللا عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم' وكان فضل هللا عليك‬
‫عظيما'}(النساء‪)002‬‬
‫{وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة واإلنجيل'}(المائدة‪)002‬‬
‫‪203‬‬

‫{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن' إن ربك هو أعلم بمن ضل‬
‫عن سبيله' وهو أعلم بالمهتدين'}(النحل‪)022‬‬
‫{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة' وال تجعل مع هللا إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما‬
‫مدحورا'}(اإلسراء‪)12‬‬
‫{ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر هلل' ومن شكر فإنما يشكر لنفسه' ومن كفر فإن هللا غني‬
‫حميد'}(لقمان‪)00‬‬
‫{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات هللا والحكمة' إن هللا كان لطيفا خبيرا'}(األحزاب‪)13‬‬
‫{وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب'}(ص'‪)02‬‬
‫{ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة وألبين لكم بعض الذي تختلفون فيه' فاتقوا هللا‬
‫وأطيعون'}(الزخرف‪)41‬‬
‫{حكمة بالغة' فما تغن النذر'}(القمر‪)2‬‬
‫{هو الذي بعث في األميين رسوال منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا‬
‫من قبل لفي ضالل مبين'}(الجمعة‪)2‬‬

‫‪( -3‬الحكمة) في أقوال المفسرين‪:‬‬


‫قال الحافظ ابن كثير رحمه هللا في تفسيره لقوله تعالى{ربنا وابعث فيهم رسوال منهم يتلو عليهم آياتك‬
‫ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم'}‪:‬‬
‫<< وقوله تعالى{ويعلمهم الكتاب} يعني القرآن‪ ،‬و{الحكمة} يعني السنة‪ ،‬قاله الحسن وقتادة ومقاتل‬
‫بن حيان وأبو مالك وغيرهم‪ ،‬وقيل الفهم في الدين‪ ،‬وال منافاة‪>>.‬‬
‫وقال محمد الشوكاني رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫‪204‬‬

‫<< والمراد بالكتاب القرآن‪ ،‬والمراد بالحكمة المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم للشريعة‪.‬‬
‫وقوله{يزكيهم} أي يطهرهم من الشرك وسائر المعاصي‪ .‬وقيل إن المراد باآليات تظاهر األلفاظ‪،‬‬
‫والكتاب معانيها‪ ،‬والحكمة الحكم‪ ،‬وهو مراد هللا بالخطاب‪ ،‬والعزيز الذي ال يعجزه شيء‪ ،‬قاله ابن‬
‫‪78‬‬
‫كيسان‪>>.‬‬
‫وعند ابن كثير‪ 79‬في قوله سبحانه{يؤتي الحكمة من يشاء' ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا'‬
‫وما يذكر إال أولو األلباب'}‪:‬‬
‫<< وقوله{يؤتي الحكمة من يشاء} قال علي بن أبي طلحة‪ ،‬عن ابن عباس‪ :‬يعني المعرفة بالقرآن‪،‬‬
‫ناسخه ومنسوخه‪ ،‬ومحكمه ومتشابهه‪ ،‬ومقدمه ومؤخره‪ ،‬وحالله وحرامه‪ ،‬وأمثاله‪.‬‬
‫وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا‪ :‬الحكمة القرآن‪ ،‬يعني تفسيره‪ .‬قال ابن عباس‪:‬‬
‫فإنه قد قرأه البر والفاجر‪ .‬ورواه ابن مردويه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد‪ :‬يعني بالحكمة اإلصابة في القول‪.‬‬
‫وقال ليث بن أبي سليم‪ :‬وقال أبو العالية‪ :‬الحكمة خشية هللا؛ فإن خشية هللا رأس كل حكمة‪.‬‬
‫وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني‪ ،‬عن أبي عمار األسدي‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود مرفوعا‪< :‬رأس الحكمة مخافة هللا>‪ .‬وقال أبو العالية في رواية عنه‪ :‬الحكمة الكتاب والفهم‪.‬‬
‫وقال إبراهيم النخعي‪ :‬الحكمة الفهم‪.‬‬
‫وقال أبو مالك‪ :‬الحكمة السنة‪.‬‬
‫وقال ابن وهب‪ ،‬عن مالك‪ ،‬قال زيد بن أسلم‪ :‬الحكمة العقل‪.‬‬

‫‪ 78‬فتح القدير‬

‫‪ 79‬تفسير ابن كثير‪ -‬تفسير سورة البقرة‬


‫‪205‬‬

‫قال مالك‪ :‬وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين هللا‪ ،‬وأمر يدخله هللا في القلوب من رحمته‬
‫وفضله‪ ،‬ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقال في أمر الدنيا إذا نظر فيها‪ ،‬وتجد آخر ضعيفا في أمر‬
‫دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به‪ ،‬يؤتيه هللا إياه ويحرمه هذا؛ فالحكمة الفقه في دين هللا‪.‬‬
‫وقال السدي‪ :‬الحكمة النبوة‪.‬‬
‫والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور ال تختص بالنبوة بل هي أعم منها‪ .‬وأعالها النبوة‪ ،‬والرسالة‬
‫أخص‪ .‬ولكن ألتباع األنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض األحاديث‪:‬‬
‫"من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه ال يوحى إليه" رواه وكيع بن الجراح في‬
‫تفسيره عن إسماعيل بن رافع‪ ،‬عن رجل لم يسمه‪ ،‬عن عبد هللا بن عمر‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا وكيع ويزيد قاال‪ :‬حدثنا إسماعيل‪ ،‬يعني ابن أبي خالد‪ ،‬عن قيس‪ ،‬وهو ابن‬
‫أبي حازم‪ ،‬عن ابن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪:‬‬
‫" ال حسد إال في اثنتين‪ :‬رجل آتاه هللا ماال فسلطه على هلكته في الحق‪ ،‬ورجل آتاه هللا حكمة فهو‬
‫يقضي بها ويعلمها" وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق متعددة عن إسماعيل‬
‫بن أبي خالد به‪.‬‬
‫وقوله{وما يذكر إال أولو األلباب} أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إال من له لب وعقل يعي به‬
‫‪80‬‬
‫الخطاب ومعنى الكالم‪>>.‬‬
‫وفي فتح القدير مثل ما أورده ابن كثير إال اختالفا طفيفا في األقوال وطرقها مع إضافة قولين‪،‬‬
‫أحدهما البن عباس أخرجه عنه ابن المنذر أن الحكمة هي النبوة‪ .‬والثاني ألبي الدرداء‪ ،‬قال هي‬
‫قراءة القرآن والفكرة فيه‪ ،‬أخرجه ابن حاتم‪.‬‬
‫كذلك عند الشوكاني قوله‪:‬‬

‫‪ 80‬جاء في النص‪ -‬يعني‪ -‬بدل – يعي‪ -‬ونظنه خطأ مطبعيا أو تصحيفا‬


‫‪206‬‬

‫<< قوله{يؤتي الحكمة} هي العلم؛ وقيل الفهم‪ ،‬وقيل اإلصابة في القول؛ وال مانع من الحمل على‬
‫الجميع شموال أو بدال؛ وقيل إنها النبوة؛ وقيل العقل؛ وقيل الخشية؛ وقيل الورع‪ .‬وأصل الحكمة ما‬
‫يمنع من السفه‪ ،‬وهو كل قبيح‪>>.‬‬
‫‪207‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫الحكمة أساس المنهاج‬

‫‪ -1‬من الحكمة إلى الربانية‪:‬‬


‫الحقل الداللي للفظ (الحكمة) يتضمن إذا كل هذه المعاني التي وردت على لسان هؤالء العلماء‪،‬‬
‫منارات العلم الواصلة لتفكير األمة بمشكاة الحق والنور المنزل هدى للعالمين‪ .‬هذه المعاني ال‬
‫تعارض بينها وال اختالف‪ ،‬هي تتكامل لتشكل حقيقة ما أشرنا إليه في كالمنا بصدد المنهاج وذكرنا‬
‫لآليات الكريمة من سورة آل عمران‪ .‬ولنا في اكتفاء واقتصار البخاري رحمه هللا بما أورده في‬
‫صحيحه في (باب العلم قبل القول والعمل لقول هللا تعالى‪{:‬فاعلم أنه ال إله إال هللا} فبدأ بالعلم) دليل‬
‫وازن وحجة بالغة؛ قال البخاري‪:‬‬
‫<<وإن العلماء هم ورثة األنبياء‪ ،‬ورثوا العلم‪ ،‬من أخذه أخذ بحظ وافر‪ ،‬ومن سلك طريقا يطلب به‬
‫علما سهل هللا له طريقا إلى الجنة‪ .‬وقال جل ذكره‪{:‬إنما يخشى هللا من عباده العلماء} وقال‪{:‬وما‬
‫يعقلها إال العالمون}‪{،‬وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}‪ ،‬وقال‪{:‬هل يستوي‬
‫الذين يعلمون والذين ال يعلمون}‪،‬وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪":‬من يرد هللا به خيرا يفقهه؛ وإنما‬
‫العلم التعلم"‪ ،‬وقال أبو ذر‪ <:‬لو وضعتم الصمصامة على هذه ‪ -‬وأشار إلى قفاه – ثم ظننت أني أنفذ‬
‫كلمة سمعتها من النبي صلى هللا عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي ألنفذتها>‪ .‬وقال ابن عباس‪{<:‬كونوا‬
‫ربانيين}‪ :‬حكماء فقهاء علماء‪ .‬ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره‪>>.‬‬
‫وأضاف الحافظ ابن حجر العسقالني رحمه هللا تعالى وجزاه عن اإلسالم والمسلمين خير الجزاء‪،‬‬
‫أضاف في بيانه وشرحه لهذا الباب‪:‬‬
‫<<قوله‪( :‬وقال ابن عباس) هذا التعليق وصله ابن أبي عاصم أيضا بإسناد حسن‪ ،‬والخطيب بإسناد‬
‫آخر حسن‪ .‬وقد فسر ابن عباس(الرباني) بأنه الحكيم الفقيه‪ ،‬ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم‬
‫الجربي في غريبه عنه بإسناد صحيح>>‬
‫ثم قفى عليه بقوله‪:‬‬
‫‪208‬‬

‫<< (فائدة) ‪ :‬اقتصر المصنف في هذا الباب على ما أورده من غير أن يورد حديثا موصوال على‬
‫شرطه؛ فإما أن يكون بيض له ليورد فيه ما يثبت على شرطه‪ ،‬أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر>>‬
‫لو تدبرنا وأمعنا النظر في المنظومة المرصعة‪ ،‬التي جعل فيها اإلمام البخاري رحمه هللا الكفاية‬
‫والغناء في هذا الباب‪ ،‬لبصرنا بترتيب محكم‪ ،‬فيبدأ بأصل العلم وحقيقته واصال إياه بمقام النبوة‪،‬‬
‫ومبرزا أهم دالئل هذه الحقيقة من خشية هللا تعالى وفقه األحاديث واألمثال‪ ،‬ليخلص لغاية الشرعة‬
‫والمنوال مذكرا أنه طريق الجنة والفالح‪ ،‬والفوز الذي دونه الخسران المبين ‪ .‬فمن طرق التحديد‬
‫والتعريف ضبط وتعيين خاصيات الشيء‪ .‬وهذا يحد من تساؤل البعض من العلماء حول بدء البخاري‬
‫وتقديمه لمصنفه بذكر فضل العلم‪ .‬فهذا الفضل هو أهم ميزاته وخواصه‪ .‬وأي شيء أعظم شأنا من‬
‫إبصار نور الحق وسبيله‪ ،‬والسير على منواله وصراطه المستقيم؟ وما المستقر إال الجنة وإما‬
‫السعير ! يقول تعالى‪{:‬فريق في الجنة وفريق في السعير'}(الشورى‪ .)2‬وطريق الناس والعالمين إلى‬
‫هذه المشكاة واألصل هم العلماء المأمورون بنص العلم ذاته بالعمل به وتبليغه‪ ،‬وذلك على نهج أصله‬
‫الكتاب وفروعه العمل على أحكامه وبمقتضاه‪ ،‬في مواكبة الحياة ومسايرة التاريخ‪ ،‬تحقيقا لالستخالف‬
‫وامتثاال للعبودية‪ .‬وهذا كله هو اإلصابة في السلوك التواجدي اعتقادا‪ ،‬وقوال وعمال‪ ،‬وهو الحكمة‬
‫الجامعة بين العلم والفقه؛ العلم بالكتاب قرآنا وسنة‪ ،‬بقصد التطبيق والتحكيم في أي زمن وأية بيئة‬
‫وحال‪.‬‬
‫هذا هو المتضمن والمحتوى في لفظ (الحكمة) ومدلول الربانية‪ ،‬وهو الغاية من العلم والقصد من‬
‫تبليغه‪ .‬وذلك هو المفسر المرجح على غيره لترتيب البخاري كتابه ومصنفه؛ وهو األمر الذي نبه إليه‬
‫العسقالني وأشار إليه في (باب ما كان النبي صلى هللا عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي ال‬
‫ينفروا) إذ يقول‪:‬‬
‫<<قوله‪ (:‬لئال ينفروا) استعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما وتضمن ذلك تفسير السآمة‬
‫بالنفور وهما متقاربان‪ .‬ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني‪ ،‬كمناسبة‬
‫الذي قبله من تشديد أب ي ذر في أمر التبليغ لما قبله من األمر بالتبليغ‪ .‬وغالب أبواب هذا الكتاب لمن‬
‫أمعن النظر فيها والتأمل ال يخلو عن ذلك>>‬
‫كذلك وجب النظر إلى هذا المحور المتنزل من مقام النبوة والرسالة‪ ،‬ثم الوسيط العلمي الذي قوامه‬
‫علم الحديث الذي يصل الفروع باألصل إلى يوم الدين‪ ،‬وذلك بأخذ العلم وتبليغه بالحال والمقال‪ .‬من‬
‫أجل ذلك نرى ونفسر هذا التأكيد والترسيخ للبخاري لهذه الحقيقة؛ فقد جعل مفهوم الرباني ضمن‬
‫المحور الذي أصله النبوة ومحدده العلم‪ .‬وقوة هذا الحسم عند البخاري والقول تكمن في كون هذا‬
‫‪209‬‬

‫اللفظ والمادة البيانية (الرباني) تحتم اعتبار وتالوة المرجع من اآليات من سورة آل عمران‪ ،‬ووجوب‬
‫تدبرها وتالوتها حق التالوة‪ .‬وإن فيها للبيان والحل لجميع ما يطرح من اإلشكاالت على مستوى‬
‫المنهاج‪ ،‬الحل الذي يفرق ويفصل بين الحق والباطل‪ ،‬ويميز بين عبادة هللا تعالى وعبادة الطاغوت‪،‬‬
‫وبين السنة والتقليد الملبس لبوس االتباع‪ ،‬وما هو إال اتباع السبل واألهواء والعبودية لغير هللا تعالى‪.‬‬
‫أال فليحذر الذين يتلفظون ويرددون من األسماء والمفاهيم بغير حق إال أن وجدوا عالما من علمائهم‪،‬‬
‫أو يحسبون أنهم علماؤهم لوحدهم دون الناس واألمة‪ ،‬تلفظ بها أو درجت على لسانه في درس أو‬
‫حديث من أحاديثه‪ ،‬فأصبح ذلك اللفظ بديال لما هو عند هللا تعالى محكم في القرآن أو مثبت صحيح من‬
‫السنة!‬
‫إن اللفظ الدال على الدين عند هللا هو (اإلسالم)‪ ،‬هذا لفظ محكم وجامع ال يفرق‪ ،‬وإن أمة اإلسالم أمة‬
‫واحدة‪ ،‬وإن حزب هللا هم المفلحون‪ ،‬وإن حزب هللا هم الغالبون‪.‬‬
‫الحكمة إذا هي األساس في المنهاج‪ ،‬إذ تستلزم الكتاب وتقتضي اإلصابة والفقه للعمل بهذا العلم‪ .‬وإذا‬
‫ضمن البخاري رحمه هللا هذا الباب هذه المادة الهامة للفظ (الرباني) ليجعل تحققها من العلم كتعميل‬
‫له‪ ،‬وأشار إلى أساس الحكمة فيه بمعنى أنها مكون وشرط‪ ،‬فقد بوأها ذات الدرجة والقيمة سواء في‬
‫مقام التعليم والتبليغ‪ ،‬أو مقام التعلم والتلقي فيما يلي هذا الباب من األبواب‪.‬‬
‫ها هنا ال مندوحة من التذكير بلزوم االستحضار الدائم وعدم إغفال تبعية األقوال لدرجات‬
‫مصادرها؛ فالمفسر مهما بلغ من العلم ما بلغ فهو في حكم العلم المحدود ال على المطلق‪ ،‬بل على‬
‫اإلمكان والمتاح المحصل؛ فلزم الفصل بين وجوب التقدير واإلجالل للعالم أو العلماء وبداهة اإلدراك‬
‫لعدم ترفع أقوالهم عن عوارض الخطإ والقصور‪ .‬فلفظا (الكتاب) و(الحكمة) على الحاصل من العلم‬
‫لدينا وعلى نور من الدراسة الحقة‪ ،‬وخالف ما ذهب إليه البعض كما رأينا من المفسرين‪ ،‬هما لفظان‬
‫مختلفان‪ .‬و عالوة على ما يحتمه القول بالترادف وحكمه المنطقي المستنبط في العالقة الجواهرية‪،‬‬
‫هناك من المعطيات ومن دالئل العلم الحق ما يقرر هذا التمايز ويثبته إثباتا‪ .‬فكلمات وألفاظ (الكتاب)‬
‫و(القرآن) و(الحكمة) و(الحكم) و(النبوة) كلها ألفاظ في الكتاب ثابتة وفي الوحي منزلة بيانا محكما‬
‫من لدن عليم حكيم‪.‬‬

‫‪ -2‬الحكمة تحققا في السيرة النبوية‪:‬‬


‫‪210‬‬

‫العلم كتحصيل معرفي كنز ثمين ليس لإلنسان من مكتسب وغنى أفضل منه‪ ،‬لكن ترتيب هذه المعرفة‬
‫كحقائق ومدركات هي الوسيلة والسبيل في اإلفادة منه‪ .‬هذه الوسيلة والعامل الترتيبي‪ ،‬المنظم‬
‫والمنسق للمجموع المعرفي‪ ،‬كمعطيات ومعلومات متعلمة‪ ،‬ومحصلة بسبيل التنزيل التطبيقي والعملي‬
‫القويم والسديد‪ ،‬هو من أهم المكونات الداللية للحكمة؛ روى اإلمام الحكيم الحافظ البخاري رحمه هللا‬
‫في صحيحه قال‪:‬‬
‫‪ -‬حدثنا أبو عاصم‪ ،‬عن يزيد بن أبي عبيد‪ ،‬عن سلمة بن األكوع قال‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫" من ضحى منكم فال يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء" فلما كان العام المقبل قالوا‪ :‬يا رسول هللا‬
‫نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال‪" :‬كلوا وأطعموا وادخروا‪ ،‬فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت‬
‫‪81‬‬
‫أن تعينوا فيها"‬
‫‪ -‬حدثنا مس َّدد قال‪ :‬حدثنا إسماعيل قال‪ :‬أخبرني عبد الحميد صاحب الزيادي قال‪ :‬حدثنا عبد هللا بن‬
‫الحارث ابن عم محمد بن سيرين‪ ،‬قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير‪< :‬إذا قلت أشهد أن محمدا‬
‫رسول هللا فال تقل حي على الصالة‪ ،‬قل صلوا في بيوتكم>‪ ،‬فكأن الناس استنكروا‪ ،‬قال‪< :‬فعله من‬
‫هو خير مني‪ ،‬إن الجمعة عزمة‪ ،‬وإني كرهت أن أخرجكم‪ ،‬فتمشون في الطين والدحض>‪.82‬‬
‫‪ -‬عندما أخبر رسول هللا صلى هللا عله وسلم عن صيام وقيام عبد هللا بن عمرو بن العاص وقوله له‬
‫عليه السالم‪<:‬إني أطيق أفضل منه يا رسول هللا>‪ ،‬يعني بذلك صيام داود‪ ،‬فقال له النبي عليه السالم‪:‬‬
‫‪83‬‬
‫"ال أفضل من ذلك"‬
‫‪ -‬حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع عن إسماعيل بن زكرياء‪ :‬حدثنا عاصم عن مورق العجلي‪ ،‬عن‬
‫أنس رضي هللا عنه قال‪ < :‬كنا مع النبي صلى هللا عليه وسلم أكثر ظال الذي يستظل بكسائه‪ ،‬وأما‬
‫الذين صاموا فلم يعملوا شيئا‪ ،‬وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا؛ فقال النبي صلى‬
‫‪84‬‬
‫هللا عليه وسلم‪" :‬ذهب المفطرون اليوم باألجر"‬

‫‪ 81‬الحديث‪2242‬‬

‫‪ 82‬ح‪210‬‬

‫‪ 83‬ح‪1113‬‬

‫‪ 84‬ح‪2821‬‬
‫‪211‬‬

‫‪ -‬حدثنا آدم‪ :‬حدثنا شعبة‪ :‬حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال‪ :‬سمعت أبا العباس الشاعر‪ -‬وكان ال يتهم في‬
‫حديثه‪ -‬قال‪ :‬سمعت عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنه يقول‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫‪85‬‬
‫فاستأذنه في الجهاد فقال‪" :‬أحي والداك؟" قال‪<:‬نعم> قال‪" :‬ففيهما فجاهد"‬
‫‪ -‬عن ابن عباس رضي هللا عنهما أنه سمع النبي صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬ال يخلون رجل بامرأة‪،‬‬
‫وال تسافرن امرأة إال ومعها محرم" فقام رجل فقال‪" :‬يا رسول هللا‪ ،‬اكتتبت في غزوة كذا وكذا‪،‬‬
‫‪86‬‬
‫وخرجت امرأتي حاجة" فقال‪" :‬اذهب فاحجج مع امرأتك"‬
‫‪ -‬حدثنا أبو الوليد قال‪ :‬حدثنا شعبة عن سليمان عن عمارة بن عمير عن األسود قال‪ :‬قال عبد هللا‪" :‬ال‬
‫يجعل أحدكم للشيطان شيئا من صالته يرى أن حقا عليه أن ال ينصرف إال عن يمينه‪ ،‬لقد رأيت النبي‬
‫‪87‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره"‬
‫‪ -‬قال عليه الصالة والسالم‪" :‬عليكم بالصالة في بيوتكم‪ ،‬فإن خير صالة المرء في بيته إال الصالة‬
‫المكتوبة"‪.88‬‬
‫هذا إذن بيان لمكون إصابة القول وإنزاله مقامه ومواضعه في مدلول الحكمة‪ ،‬ال على اآلن التنزيلي‬
‫الواحد من حيث وجوب السداد في مناسبة النص للحال والمقام‪ ،‬بل على البعد التنزيلي للكتاب كله‪،‬‬
‫مما يدل عليه الوجه البياني للحكمة مرادا بها البيان المختص لكل قوم على لسان وسيرة كل نبي‬
‫لقومه الذين أرسل إليهم‪.‬‬
‫كذلك ليس يخرج من مدلول ومتضمن الحكمة التوافق مع شروط الحال النفسية‪ ،‬التي هي في نهاية‬
‫األمر هدف الخطاب واألمر الشرعي‪ ،‬وهذا المكون شطر من الكتاب والسنة يؤكده ويثيره على نحو‬
‫واضح جاعال منه أمرا ثابتا من الشرعة الحنيفة لإلسالم‪ ،‬وهو ما عبر عنه الفقه الشرعي بأصل‬
‫وقاعدة رفع الحرج في الدين‪ .‬ضمن هذه الحقيقة الجليلة واألمر العظيم لحقيقة الفقه في دين هللا تعالى‬
‫يأتي قول ابن عباس رضي هللا عنه كما رواه البخاري في صحيحه‪:‬‬

‫‪ 85‬ح‪1113‬‬

‫‪ 86‬ح‪1114‬‬

‫‪ 87‬ح‪822‬‬

‫ح‪4001‬‬ ‫‪88‬‬
‫‪212‬‬

‫"حدث الناس في كل جمعة مرة‪ ،‬فإن أبيت فمرتين‪ ،‬فإن أكثرت فثالث مرار‪ ،‬وال تمل الناس هذا‬
‫القرآن‪ ،‬وال ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم‪،‬‬
‫ولكن أنصت‪ ،‬فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه‪ ،‬فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه‪ ،‬فإني عهدت‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه ال يفعلون إال ذلك" يعني ال يفعلون إال ذلك االجتناب‪-89‬‬
‫لعل ما هو خارج الالمتين من قول البخاري‪.‬‬
‫‪ -‬حدثنا محمد بن يوسف قال‪ :‬أخبرنا سفيان عن األعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال‪ ":‬كان‬
‫‪90‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في األيام كراهة السآمة علينا"‬
‫قال ابن حجر رحمه هللا‪:‬‬
‫<< ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية المالل‪ ،‬وإن كانت‬
‫المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين‪ :‬إما كل يوم مع عدم التكلف‪ ،‬وإما يوما بعد يوم‪ ،‬فيكون يوم الترك‬
‫ألجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط‪ ،‬وإما يوما في الجمعة‪ .‬ويختلف باختالف األحوال واألشخاص‪،‬‬
‫والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط>> ثم قال‪<<:‬وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهية‬
‫تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائما>>‬

‫‪ -3‬مفهوم الرباني والمنهاج‪:‬‬


‫اإلشكال المفاهيمي فيما يتصل خاصة بالعالقة الجوهرية بين الكتاب والحكمة وبفقهها‪ ،‬وبناء على ما‬
‫تقدم من وجوه داللة الحكمة والمعنى األبرز في المالءمة العملية لنصوص وأمر الشريعة توافقا مع‬
‫الوقائع والنوازل‪ ،‬مما هو مكون مكين في وظيفة السنة وحقيقتها كونها تبيانا لما أنزل من الكتاب؛ هذا‬
‫السؤال واإلشكال موصول بسبيل االستنباط بالحديث الذي خص به البخاري باب فضل من علم‬
‫وعلّم‪:‬‬

‫‪ 89‬ح‪4117‬‬

‫‪ 90‬ح‪48‬‬
‫‪213‬‬

‫‪ -‬حدثنا محمد بن العالء قال‪ :‬حدثنا حماد بن أسامة عن بريد بن عبد هللا عن أبي بردة عن أبي موسى‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫" مثل ما بعثني هللا به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا‪ ،‬فكان منها نقية قبلت الماء‬
‫فأنبتت الكأل والعشب الكثير‪ ،‬وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع هللا بها الناس فشربوا وسقوا‬
‫وزرعوا‪ ،‬وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ال تمسك ماء وال تنبت كأل‪ .‬فذلك مثل من فقه في‬
‫دين هللا ونفعه ما بعثني هللا به فعلم وعلّم‪ ،‬ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى هللا الذي أرسلت‬
‫به" قال أبو عبد هللا‪ :‬قال إسحاق‪ :‬وكان منها طائفة قبلت الماء‪ ،‬قاع يعلوه الماء‪ .‬والصفصف المستوي‬
‫‪91‬‬
‫من األرض‪.‬‬
‫قال ابن حجر‪:‬‬
‫<<قوله (قاع يعلوه الماء‪ ،‬والصفصف المستوي من األرض) هذا ثابت عند المستملي‪ ،‬وأراد به أن‬
‫قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع‪ ،‬وأنها األرض التي يعلوها الماء وال يستقر فيها‪ .‬وإنما ذكر‬
‫الصفصف معه جريا على عادته في االعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من األلفاظ الواقعة في القرآن‬
‫وقد يستطرد‪ .‬ووقع في بعض النسخ المصطف بدل الصفصف‪ ،‬وهو تصحيف>>‬
‫كما أشار إلى احتمال صحة لفظي بقية وبقعة بدل نقية وقال‪ :‬والمراد بها (أي بقية) القطعة الطيبة كما‬
‫يقال فالن بقية الناس‪ ،‬ومنه {فلوال كان من القرون من قبلكم أولو بقية}‪ ،‬ولكن هذين اللفظين لم يردا‬
‫في روايات الصحيحين‪.‬‬
‫وغايتنا نحن من سوق وذكر هذا الحديث فيدل عليه بأبلغ الكفاء واالستيفاء قول الشارح الموجز‬
‫والجامع؛ قال رحمه هللا‪:‬‬
‫<< ‪ . .‬ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه‪ ،‬غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع‪ ،‬لكنه‬
‫أداه لغيره‪ ،‬فهو بمنزلة األرض التي يستقر فيها الماء فينتفع به‪ ،‬وهو المشار إليه بقوله‪ ":‬نضّر هللا‬
‫امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها">>‬
‫هذا المعنى هو ما تم ذكره في سياق اآلية الكريمة وقوله تعالى‪ {:‬ولكن كونوا ربانيين بما كنتم‬
‫تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'} ذلك في معرض الحديث عن تحديد المنهاج اإلسالمي جامعا‬

‫‪ 91‬ح‪72‬‬
‫‪214‬‬

‫لجناحي ومكوني علم الكتاب األصل الشامل للقرآن الكريم وبيانه وفقهه وتفسيره‪ ،‬والدراسة على‬
‫ضوء هذا األصل العظيم ونوره المجيد‪ .‬هذا الركن الثاني هو المتضمن لمكون االجتهاد كعامل‬
‫استخالفي‪ ،‬قصد تحقيق الحق بمراد الحق ونوره المجيد وإحاطته بالعالمين‪.‬‬
‫إن هذا هو ما جاء في تفسير حبر األمة وفقه البيان الذي أنزل به اللفظ المحوري {ربانيين}‪ ،‬التفسير‬
‫والفقه والبيان الذي أبى البخاري رحمه هللا بحصافته وحكمته إال أن يسطر عليه ترسيخا وتنبيها على‬
‫حقيقة من أمر المنهاج والدين‪ ،‬ال ينبغي بحال إهمالها وال تحصل حقيقة الفقه إال باإللمام بها وإدراك‬
‫مدلولها؛ قال ابن عباس في{ربانيين}‪ :‬حكماء فقهاء علماء‪ .‬المقول القانوني لهذا هو أنه مع الفضل‬
‫العظيم لألصول من حفظ لفظ القرآن العظيم واالضطالع على السيرة النبوية الشريفة‪ ،‬فإن هذا ليس‬
‫يحصل به حقيقة الربانية إال بفه م وفقه منفتح االستنباط‪ ،‬يصل التنزيل وتبيانه بفروع ومطلق أحوال‬
‫وشروط االستخالف‪ .‬فهذا هو منهاج اإلسالم ومن يبتغ ويسلك غير صراط الحق فقد ضل سواء‬
‫السبيل‪.‬‬

‫‪ -3‬دليل البيان واللسان في شرط الحكمة‪:‬‬


‫يقول اإلمام الحافظ ابن حجر العسقالني رحمه هللا في معرض حديثه وهو يشرح باب قول النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬رب مبلّغ أوعى من سامع"‪:‬‬
‫<< وفي هذا الحديث من الفوائد –غير ما تقدم‪ -‬الحث على تبليغ العلم‪ ،‬وجواز التحمل قبل كمال‬
‫األهلية‪ ،‬وأن الفهم ليس شرطا في األداء>>‬
‫فهذا تقرير في الفصل بين األصل وفهم األصل‪ ،‬بين الحافظ والفقيه‪ ،‬وأن ليس كل حافظ فقيها‪ ،‬والفقيه‬
‫مع شرط الحفظ مستلزم لشرط الفهم بقصد التمديد العملي مما جاء التعبير عنه في القرآن بالدراسة‪.‬‬
‫من تمة يلزم اعتبار الواو في ما يتلى من قوله تعالى {الكتاب والحكمة} على داللة الفصل ال عطف‬
‫الشيء على نفسه‪ .‬يقول أبو بكر محمد بن عبد هللا المعروف بابن العربي اإلشبيلي (‪– 348‬‬
‫‪231‬هجرية) في كتابه (أحكام القرآن) في قوله تعالى‪{:‬غير باغ وال عاد} (البقرة‪:)071‬‬
‫<< وتحقيق القول في ذلك أن العادي باغ‪ ،‬فلما أفرد هللا تعالى كل واحد منهما بالذكر تعين له معنى‬
‫غير معنى اآلخر لئال يكون تكرارا يخرج عن الفصاحة الواجبة للقرآن>>‬
‫‪215‬‬

‫ونجده رحمه هللا يؤكد على وجوب تعميل مبدإ التناسق بين األلفاظ والمعاني؛ فالفصاحة والحكمة في‬
‫مضمونها تستوجب توازنا وظيفيا بينهما‪ ،‬فيقول في قوله تعالى {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو‬
‫ضعيفا} في آية الدين من سورة البقرة‪:‬‬
‫<< أما السفيه ففيه أربعة أقوال‪:‬‬
‫األول – أنه الجاهل؛ قاله مجاهد‪ .‬الثاني – أنه الصبي‪ .‬الثالث – أنه المرأة والصبي؛ قاله الحسن‪.‬‬
‫الرابع – المبذر لماله‪ ،‬المفسد لدينه؛ قاله الشافعي‪.‬‬
‫وأما الضعيف فقيل هو األحمق‪ ،‬وقيل هو األخرس أو الغبي‪ ،‬واختاره الطبري‪.‬‬
‫وأما الذي ال يستطيع أن يمل ففيه ثالثة أقوال‪:‬‬
‫أحدها – أنه الغبي؛ قاله ابن عباس‪ .‬الثاني – أنه الممنوع بحبسة أو عي‪ .‬الثالث – أنه المجنون‪ .‬وهذا‬
‫فيه نظر طويل نخبته أن هللا سبحانه جعل الذي عليه الحق أربعة أصناف‪ :‬مستقل بنفسه يمل‪ ،‬وثالثة‬
‫أصناف ال يملون‪ ،‬وال يصح أن تكون هذه األصناف الثالثة صنفا واحدا أو صنفين‪ ،‬ألن تعديد الباري‬
‫سبحانه كأنه يخلو عن الفائدة‪ ،‬ويكون من فن المثبّج من القول الركيك من الكالم‪ ،‬وال ينبغي هذا في‬
‫كالم حكيم‪ ،‬فكيف في كالم أحكم الحاكمين‪.‬‬
‫فتعين والحالة هذه أن يكون لكل صنف من هذه األصناف الثالثة معنى ليس لصاحبه حتى تتم‬
‫البالغة‪ ،‬وتكمل الفائدة‪ ،‬ويرتفع التداخل الموجب للتقصير‪ ،‬وذلك بأن يكون السفيه والضعيف والذي‬
‫ال يستطيع‪ ،‬قريبا بعضه من بعض في المعنى؛ فإن العرب تطلق السفيه على ضعيف العقل تارة‬
‫وعلى ضعيف البدن أخرى‪ ،‬وأنشدوا‪:‬‬
‫أعاليها مر الرياح النواسم‬ ‫مشين كما اهتزت رماح تسفهت‬
‫(وفي نسخة‪ :‬فسفهت)‬
‫أي استضعفتها واستالنتها فحركتها‪.‬‬
‫وكذلك يطلق الضعيف على ضعيف العقل وعلى ضعيف البدن‪ .‬وقد قالوا‪ :‬الضعف – بضم الضاد في‬
‫البدن‪ ،‬وفتحها ف الرأي؛ وقيل هما لغتان‪ .‬وكل ضعيف ال يستطيع ما يستطيعه القوي؛ فثبت التداخل‬
‫في معنى هذه األلفاظ‪.‬‬
‫‪216‬‬

‫وتحريرها الذي يستقيم به الكالم ويصح معه النظام أن السفيه هو المتناهي في ضعف العقل وفساده‬
‫كالمجنون والمحجور عليه‪ ،‬نظيره الشاهد له قوله تعالى {وال تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل هللا لكم‬
‫قيما} على ما سيأتي في سورة النساء إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫وأما الضعيف فهو الذي يغلبه قلة النظر لنفسه كالطفل‪ ،‬نظيره ويشهد له قوله تعالى {وليخش الذين لو‬
‫تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم}‪.‬‬
‫وأما الذي ال يستطيع أن يمل فهو الغبي الذي يفهم منفعته لكن ال يلفق العبارة عنه‪ ،‬واألخرس الذي ال‬
‫يتبين منطقه عن غرضه‪ ،‬ويشهد لذلك أنه لم ينف عنه أنه ال يستطيع أن يمل خاصة>>‬
‫هذا بيان‪ ،‬واالعتبار على وجه تخصيص الشاهد قوله‪:‬‬
‫<<وال يصح أن تكون هذه األصناف الثالثة صنفا واحدا أو صنفين‪ ،‬ألن تعديد الباري سبحانه كأنه‬
‫يخلو عن الفائدة ويكون من فن المثبج من القول الركيك من الكالم‪ ،‬وال ينبغي هذا في كالم حكيم‪،‬‬
‫فكيف في كالم أحكم الحاكمين؟>>‬

‫‪ -5‬الحكمة بين الداللة الحق والتخصيص الفلسفي‪:‬‬


‫باالنتقال من الحقل المعجمي في داللة لفظ (الحكمة) إلى حيز االصطالح ال ينتظر أن يخرج تصريف‬
‫المعنى عن متضمن األصل‪ ،‬ألن ذلك كما قدمنا شرط في صحة مطلق التخصيص واالصطالح‪.‬‬
‫والذي يتأكد البناء والتأسيس عليه ليس فحسب في مثل لفظ (الحكمة) بل في عموم التوجيه والمرجعية‬
‫البيانية‪ ،‬إن على المستوى المعجمي أو التركيبي واألسلوبي كما أخذ به كبار أئمة اللغة والنحو‬
‫كسيبويه رحمه هللا‪ ،‬هو كون المرجع األعلى في ذلك هو بيان القرآن العظيم‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فداللة مادة‬
‫ولفظ (الحكمة) إنما إطار حقيقتها وأصلها وسنخها األول هو الذي يحدد بنظمة الحق من المرتكزين‬
‫البيانيين‪ ،‬األول‪ :‬االقتران المؤكد وروده وذكره في التنزيل الحكيم‪ ،‬اقتران{الكتاب والحكمة}؛‬
‫والثاني‪ :‬اآلية المحددة للمنهاج وقوله تعالى في سورة آل عمران‪{:‬ولكن كونوا ربانيين بما كنتم‬
‫تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}‪.‬‬
‫لكن الذي نود اإلشارة إليه هاهنا تحديدا هو إن يكن من األلفاظ ما قد غلب في استعماله العرف أو‬
‫االصطالح على األصل‪ ،‬بغض النظر عن العامل فيه‪ ،‬والذي يبقى أبرزه التقليد الكلي لآلخر والنسبية‬
‫‪217‬‬

‫المعجمية المتجلية بحدة ووضوح في ذاتية اإلدراك والتصور لحقيقة األلفاظ ومعانيها‪ ،‬فلفظ (الحكمة)‬
‫من أوضح األمثلة في ذلك‪ ،‬مما يمثل ال شك خطأ وانحرافا كبيرا‪ ،‬على مستوى البيان الشرعي‬
‫خاصة والفكري عموما؛ يقول الشهرستاني (‪238-372‬هجرية) في الملل والنحل‪:‬‬
‫<<الفلسفة باليونانية‪ :‬محبة الحكمة والفيلسوف هو (فيال) و(سوفا)‪ ،‬وفيال هو المحب‪ ،‬وسوفا‪:‬‬
‫الحكمة‪ ،‬أي محب الحكمة‪ .‬والحكمة قولية وفعلية‪.‬‬
‫أما الحكمة القولية‪ ،‬وهي العقلية أيضا‪ ،‬فهي كل ما يعقله العاقل بالحد‪ ،‬وما يجري مجراه مثل الرسم‪،‬‬
‫والبرهان وما يجري مجراه مثل االستقراء‪ ،‬فيعبر عنه بهما‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫وأما الحكمة الفعلية فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية>>‬
‫من جانب االصطالح ليس هنا بادئ األمر من نقض لشرطه‪ ،‬لكن اإلشكال هو في التعريف للفلسفة‬
‫وللحقل الفلسفي بحمولته ومحوريته اليونانية كما هي في تمثل وتصور التاريخ والفكر الغربيين‪.‬‬
‫أما عدم االختالف‪ ،‬بالرغم من هذا اإلشكال الظاهر والبين‪ ،‬فمن ثبوت العالقة والوصل بين‬
‫االصطالح واألصل بالمعنى الدال عليه تعيينا في قول مجاهد بأنها اإلصابة في القول؛ وهذا تعريف‬
‫جزئي‪ ،‬فال اختالف مع حقيقة الحكمة إذا ما لم نفصلها عن معنى وداللة الحق بالبعد القانوني‬
‫والعالئقي تأثيرا وتركيبا‪ .‬يقول الشهرستاني‪:‬‬
‫<<ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية‪.‬‬
‫ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط‪ :‬أن الحكمة قبل الحق‪ ،‬أم أن الحق قبل الحكمة؟‬
‫وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة إال أنه يكون جليا‪ ،‬وقد يكون خفيا‪ .‬وأما الحكمة فهي‬
‫أخص من الحق إال أنها ال تكون إال جلية‪ .‬فإذن‪ :‬الحق مبسوط في العالم مشتمل على الحكمة‬
‫المستفيضة في العالم‪ ،‬والحكمة موضحة للحق المبسوط في العالم‪ .‬والحق ما به الشيء‪ ،‬والحكمة ما‬
‫‪93‬‬
‫ألجله الشيء>>‬

‫‪ 92‬الملل والنحل‪ -‬ج‪ -0‬ص‪ -28‬دار مصعب –بيروت‬

‫‪ 93‬الملل والنحل‪ .‬ج‪ – 2‬ص‪84‬‬


‫‪218‬‬

‫‪ -6‬التقليد المذهبي ناقض لحقيقة الحكمة‪:‬‬


‫ذلك‪ ،‬وال بد من التذكير أن ضالل وباطل عبادة العلماء والرجال بتأبيد اجتهاداتهم وأقوالهم‪ ،‬وتنزيلها‬
‫وجعلها محل األصل‪ ،‬ال يقتصر فحسب في مخالفة الشرع الحكيم واألمر المنزل بالنهي عن التقليد‬
‫وأهله وذم نحلته‪ ،‬وال كذلك في التعليل بقصور العالم عن اإلحاطة بالعلم والحق‪ ،‬وال بكفل الصدق في‬
‫مطلق أقواله وما يتلفظ به‪ ،‬بل في ما هو أعظم من ذلك وأكثر مدعاة لوسم المقلد باالفتقاد ألدنى حظ‬
‫من الفطنة والحكمة؛ ذلك أن من يعتبر وينزل كلمة عالم من الناس وقد استمرت الحياة واألطوار من‬
‫بعده أمدا بعيدا وأحقابا‪ ،‬من ينزلها منزلة األصل بأي حال كان هذا اإلنزال واالعتبار‪ ،‬فإنما هو‬
‫مستدرك‪ ،‬أدرك أم لم يدرك‪ ،‬مستدرك على حقيقة وأصل من العلم معلوم‪ ،‬على حقيقة وأصل كمال‬
‫الدين وتمام البيان‪ .‬ثم هو من بعد ذلك وقد ال يدرك حقيقة أمره وال يفطن له‪ ،‬إنما يسد بعدا من حياة‬
‫الناس بل أبعادا‪ ،‬ويحيل سريان االستخالف وأحكام الحق فيها حكما واحدا جامدا‪ ،‬وإنما الحق أنه ال‬
‫ينبغي وال يتصور للعالم أن يدعي وال من يقلده أبدا أنه يحيط بعلم الخلق واألمر‪ ،‬فذلك إنما علمه هلل‬
‫الحميد المجيد‪ ،‬وتلكم حجة الحق البالغة في دمغ زعم ومسلك من جعل نفسه مشرعا من دون هللا‬
‫تعالى‪ ،‬فإنما مجال سريان األحكام تابعة للسعة العلمية لمصدرها‪ ،‬يقول تعالى‪{:‬إن هللا يعلم' وأنتم ال‬
‫تعلمون'}(البقرة‪ )203‬ويقول سبحانه‪{:‬وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل هللا وإلى الرسول قالوا حسبنا‬
‫ما وجدنا عليه آباءنا' أو لو كان آباؤهم ال يعلمون شيئا وال يهتدون'}(المائدة‪.)014‬‬
‫فمطلقية سريان الحكم والقول ومجده ال ينبغي إال لحكم وقول هللا تعالى الحميد المجيد‪.‬‬
‫يقول السيد أحمد الهاشمي بك في كتابه (السعادة األبدية في الشريعة اإلسالمية)‪:‬‬
‫<<أنحى اإلسالم على التقليد‪ ،‬وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر‪ ،‬فبددت فيالقه المتغلبة على‬
‫النفوس‪ ،‬واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك‪ ،‬ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد األمم‪،‬‬
‫وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به من نومة طال عليه الغيب فيها‪ ،‬كلما نفذ إليه شعاع‬
‫من نور الحق خلصت إليه هيمنة من سدنة هياكل الوهم‪<:‬نم فإن الليل حالك والطريق وعرة والغاية‬
‫بعيدة والراحلة كليلة واألزواد قليلة !>‪.‬‬
‫عال صوت اإلسالم على وساوس الطغام‪ ،‬وجهر بأن اإلسالم لم يخلق ليقاد بالزمام‪ ،‬ولكنه فطر على‬
‫أن يهتدي بالعلم واألعالم‪ ،‬والكون ودالئل الحوادث‪ ،‬وإنما المعلمون منبهون ومرشدون‪ ،‬وإلى طريق‬
‫البحث هادون‪.‬‬
‫‪219‬‬

‫صرح في وصف أهل الحق بأنهم {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه'}(الزمر‪ )08‬فوصفهم‬
‫بتمييز ما يقال من غير فرق بين القائلين ليأخذوا بما عرفوا حسنه ويطرحوا ما لم يتبينوا صحته‬
‫ونفعه‪ .‬ومال على الرؤساء فأنزلهم من مستوى كانوا فيه يأمرون وينهون‪ ،‬ووضعهم تحت أنظار‬
‫مرؤوسيهم يخبرونهم كما يشاءون ويمتحنون مزاعمهم حسبما يحكمون ويقضون فيها بما يعلمون‬
‫‪94‬‬
‫ويتيقنون‪ ،‬ال بما يظنون ويتوهمون‪>>...‬‬
‫العالقة هاته بين مجال صدق الحكم ومصدره حجة قائمة ظاهرة أبدا‪ ،‬داحضة في وجه من يتخذ‬
‫ويزعم المجد والديمومة لقول البشر ممن ليسوا برسل وال أنبياء‪ ،‬فاإلنسان عالما أو غير عالم ال‬
‫يحيط بكل معطيات وشروطه الوجودية هو ذاته ولو في لحظة واحدة‪ ،‬فكيف له أن يحيط بما هو‬
‫أوسع وأكبر من ذلك؟ فإنه من البديهيات األولى أنه من ال يعلم ما بين قدميه ال يصح أن يسند إليه‬
‫صفة اإلحاطة في العلم وعلم ما وراءه وعلم ما في غد‪ .‬ولنذكر هنا ولنستحضر من أثارات العلم خير‬
‫الدروس وأحسن العبر وما كان من موقف صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رضي هللا عنهم‬
‫يوم الحديبية حين رأوا بادئ الرأي بحسب ظواهر األمور أن في بنود صيغة وعقد الصلح هذا تنازال‬
‫لم يستسيغوه‪ ،‬كيف وهم أهل الحق أن يقبلوا ما حسبوه بظاهر المعطيات والحكم أنه اإلعطاء والتسليم‬
‫بالدنية؟‬
‫لم يكن الموقف هذا صادرا عن شيء من الشك في الدين وال تلكؤا من الصحابة رضي هللا عنهم‪،‬‬
‫ولكنه كما شأن السيرة النبوية الشريفة ووظيفتها البيانية للتنزيل‪ ،‬حقيقتها تفصيل للكتاب وللحق في‬
‫أعلى وأشرف العبر وصور التدريس والبيان‪ .‬لقد كان الموقف في ذلكم المشهد البارز في السيرة وفي‬
‫تاريخ المسلمين ككل منطلقه اإليمان باهلل ورسوله وحب هللا ورسوله‪ ،‬وزاد عليه الصفة العظيمة‬
‫للصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬صفة الصدق المستغرقة لكل وجودهم وأفعالهم وأقوالهم {رجال صدقوا ما‬
‫عاهدوا هللا عليه}‪ ،‬فالموقف كان دليل هذا الصدق العظيم وترجمة صادقة لصادق ما ناله إدراكهم‬
‫البشري المحدود من علم الواقع ومشهود معطياته ‪ ...‬ثم قال هللا تعالى‪{:‬هو الذي أنزل السكينة في‬
‫قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم' وهلل جنود السماوات واألرض' وكان هللا عليما‬
‫حكيما'}(الفتح‪ )32‬وقال سبحانه‪{:‬لقد صدق هللا رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء‬
‫هللا آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين ال تخافون' فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا‬
‫قريبا'}(الفتح‪)27‬‬

‫‪ 94‬السعادة األبدية في الشريعة اإلسالمية‪ -‬ط‪ -0‬دار الكتب العلمية‪ -‬ص‪8‬‬


‫‪220‬‬

‫فليحذر المقلدون الذين يخالفون عن أمر الحق بإنزال قول عالم ما منزلة القول المجيد‪ ،‬فاهلل جل وعال‬
‫يخاطب السابقين من المهاجرين واألنصار‪{:‬فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا} ويبرز‬
‫سبحانه ما اختص به جل جالله من مطلق العلم والحكمة‪{:‬وكان هللا عليما حكيما} وهؤالء يؤبدون‬
‫أقوال من دونهم من البشر والقرون‪ ،‬ثم هم يزعمون أنهم أهدى الناس سبيال‪ .‬فذلك وربك جهل عظيم‬
‫بالحق ناقض لحقيقة الفقه في الدين !‬
‫لئن تقرر ما رأينا من كون اإلحاطة العلمية بالمجال الوجودي مما هو متعلق الفقه والتشريع ال يحق‬
‫إال هلل سبحانه وتعالى الذي وسع كل شيء علما‪ ،‬فكذلك قيم صدقية األقوال واألحكام اقتضاء‪ .‬فال‬
‫األئمة األربعة وال غيرهم بمعجزين وال خارجين عن األسر الخلقي في أبعاده ومحدودية سعة وأفق‬
‫ما يعلم‪ ،‬وهذا من لزوم الصفة العالمية إذا ما أسندت للبشر ولزيد من الناس كأي من كان‪ ،‬ليس أحد‬
‫منهم معصوما منزها عن الخطإ‪ ،‬وال ألحد أن يزعم ويدعي لهم العصمة‪ .‬ثم ترى هؤالء المقلدين‬
‫يتلقفون الكلمة قد نطق بها عالم من العلماء وشيخ من الشيوخ في درس ومجلس من مجالسه‬
‫ومواعظه‪ ،‬وقد تكون محورية في تفكير ذلك الشيخ أو العالم‪ ،‬لكنها في كل ذلك ال تنفصل عن نسبية‬
‫هذا التفكير وتحتمل الصحة والخطأ على السواء‪ ،‬فيبتدرها هؤالء وينزلونها ويجعلونها وكأنها أصل‬
‫ووحي من السماء‪ .‬فكفى بهذا بيانا ودليال على ضالل المذاهبيين والمقلدين !!‬
‫إن مالكا والشافعي و أبا حنيفة وأحمد بن حنبل‪ ،‬أوالء العلماء وغيرهم ومن أتى بعدهم كابن تيمية‬
‫ومحمد بن عبد الوهاب والمودودي وسيد قطب رحمة هللا عليهم جميعا‪ ،‬هؤالء ليسوا برسل وال أنبياء‬
‫حتى ال نقبل الخطأ عليهم وندعي بموقفنا التعظيمي لهم كأنما كتب هللا العصمة لهم‪ .‬إنهم في غناء عن‬
‫ب اطل هذا الزعم فحسبهم شرفا منزلتهم عند هللا وأنهم ورثة األنبياء ومن خير البريئة من بعدهم‪ .‬الحق‬
‫غني أبدا وما كان له أن يتخذ من مواقف الجهل بالحق عضدا‪ ،‬فمن يقدس ابن تيمية وابن عبد الوهاب‬
‫ويجعل من أقوالهما الدين كله ‪ ،‬وقد تجدهم كثيرا منهم ال يذكرون من آيات هللا تعالى وأحاديث رسوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم إال نزرا‪ ،‬إنما هؤالء قد سلبوا نور الحكمة والفقه‪ ،‬يحذون حذو من قبلهم من أهل‬
‫الكتاب في نحلة التقليد وعبادة علمائهم‪.‬‬
‫‪221‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫الضوابط والمؤطرات المنهاجية أو الفصل بين السنة والنمطية‬

‫مثل هاتيك اإلشكاالت وااللتباسات‪ ،‬والتي سوف تظهر بكل وضوح في تطرقنا لبقية مستند ومكونات‬
‫المقولة التقسيمية من قولهم ب(توحيد الربوبية)! و(توحيد األلوهية)!‪ ،‬ال ريب تمثل عامال سلبيا أمام‬
‫السير الشهودي لألمة اإلسالمية‪ ،‬الذي ال ينفك مرتبطا على مستوى استقامته وصحته بمدى تقنينه‬
‫واعتماده على قانون ومنهاج الحق‪ ،‬الموجب لشرط العلمية واالجتهاد‪ ،‬وكذلك االعتبار الصحيح‬
‫لبشرية الصفة العلمية‪ ،‬الذي بعدمه وبفعل تراكمات وصلة النتاجات بالمقدمات قد يؤدي إلى انحرافات‬
‫واختالالت ولو بعد أطوار زمنية وفكرية‪ ،‬نعني هنا تحديدا ما يعبر عنه ويختزل فقهيا بوجوب‬
‫وحقيقة التحذير من زلة العالم‪.‬‬
‫إن المفهوم الشائع بدءا‪ ،‬أي ما يفهم لدى الناس من علمية اإلنسان العالم‪ ،‬مع دافع العلم ودواعي‬
‫االتباع وما جبلت عليه النفوس من إجالل للعلم وحب العلماء‪ ،‬كل هذا قد يجر الخطأ لفكر الناس‬
‫ومعتمد أحكامهم وأقوالهم‪ ،‬ألنهم ال يتصورون الخطأ على شيوخهم وعلمائهم؛‬
‫هذه إذا حقائق ثابتة وأمور ماثلة!‬
‫أال إن مبدأ ضالل قوم نوح كان بدءا إجاللهم لعلمائهم فانتهى المآل عبادة لهم‪ ،‬وكذلك كان دأب أهل‬
‫الكتاب يهودا ونصارى مع أحبارهم ورهبانهم‪ .‬ذلك وكما قدمنا دليله وبرهانه ال يحق المجد والدوام‬
‫لسريان األحكام واألقوال إ ال بشرط المجد واإلحاطة في العلم‪ ،‬وإنما ذلك هلل وحده العليم الحكيم‪ .‬روى‬
‫اإلمام البخاري في صحيحه في كتاب االعتصام بالكتاب والسنة عن أبي سعيد الخدري رضي هللا‬
‫عنه‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة‪ ،‬حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪،‬‬
‫اليهود والنصارى؟ قال‪ :‬فمن؟"‪.‬‬
‫<<حكى ابن عبد البر عن معن بن عيسى بإسناد متصل به قال‪ :‬سمعت مالكا يقول‪ :‬إنما أنا بشر‬
‫أخطئ وأصيب‪ ،‬فانظروا في رأيي‪ ،‬فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه‪ ،‬وكل ما لم يوافق الكتاب‬
‫والسنة فاتركوه‪.‬‬
‫‪222‬‬

‫وحكى ابن القيم في أعالم الموقعين أن الربيع قال‪ :‬سمعت الشافعي يقول‪ :‬كل مسألة يصح فيها الخبر‬
‫عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عند أهل النقل بخالف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي‬
‫وبعد مماتي‪.‬‬
‫وقال صاحب الهداية في روضة العلماء أنه قيل ألبي حنيفة‪ :‬إذا قلت قوال وكتاب هللا يخالفه؟ قال‪:‬‬
‫اتركوا قولي بكتاب هللا؛ فقيل له إذا كان خبر الرسول صلى هللا عليه وسلم يخالفه؟ قال‪ :‬اتركوا قولي‬
‫بخبر الرسول صلى هللا عليه وسلم؛ فقيل له إذا كان قول الصحابي يخالفه؟ فقال‪ :‬اتركوا قولي بقول‬
‫الصحابي‪.‬‬
‫وأما اإلمام أحمد بن حنبل فهو أشد األئمة األربعة تنفيرا عن الرأي وأبعدهم عنه وألزمهم إلى‬
‫‪95‬‬
‫السنة>>‬
‫ويخلص الشوكاني إلى قوله‪:‬‬
‫<<وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب األربعة على تقديم النص على آرائهم عرفت أن العالم الذي‬
‫عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب‪ ،‬والمقلد الذي قدم أقوال أهل‬
‫المذاهب على النص هو المخالف هلل ولرسوله وإلمام مذهبه ولغيره من سائر علماء اإلسالم>>‬
‫هذا ال شك يقرر المعطى األول الذي يثبت االحتمال الوارد الذي ال يرتفع أبدا في جواز خطإ العالم‬
‫والبشرية الصرفة لصفته العلمية‪ ،‬التي منها يستنبط ولو استقالال عما أنف البرهان عليه المعطى‬
‫الثاني في محدودية وقصور السعة العلمية للعالم‪ ،‬وكل من سعى في تمديد وتأبيد النتاج الدراسي‬
‫لطور علمائي ما‪ ،‬فهو معطل لناموس الحق في الشريعة واالستخالف‪ ،‬يسعى لجعل األطوار‬
‫الوجودية طورا واحدا‪ ،‬ذلك أن السعة العلمية البشرية ومهما بلغ حدها لن تتجاوز سعتها هذه حدود‬
‫طورها‪ ،‬فإن الذي يعلم ويحيط بعلم الخلق كله ما كان وما لم يكن بعد هو الخالق سبحانه الحكيم‬
‫الخبير‪ .‬والفقه لهذا األمر العظيم في بيان تشريعات العبادة وأحكام األطوار واالستخالف في متطور‬
‫األحقاب أنزل قرآنا مبينا يتلى في قوله عز وجل ذي العزة والجبروت الواحد القهار‪:‬‬

‫‪ 95‬الشوكاني‪ :‬الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية‪ -‬ص‪23-21-04‬‬


‫‪223‬‬

‫{ما كان لبشر أن يؤتيه هللا الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون هللا' ولكن‬
‫كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون' وال يأمركم أن تتخذوا المالئكة والنبيئين‬
‫أربابا' أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون'}(آل عمران‪)72-78‬‬
‫اآلية الكريمة هاته أو اآليتان الكريمتان أمكن من حيث القاموس العلمي والدراسي وصفهما‬
‫وتسميتهما على غرار ما جاز من أسامي لبعض اآليات كآية الدين أن نسميها آية أو آيتي المنهاج‪ ،‬وال‬
‫غرو فكأنها والسياق الذي أتت فيه بيانا حكيما وخاصة جوارها البعدي هذا غرضها وغايتها‪.‬‬
‫فبالبناء على ما سبق‪ ،‬وتحديدا على الكلمة التفسيرية الجامعة للمادة واللفظ المحوري في فقه هذا‬
‫السياق‪ ،‬كلمة حبر األمة وترجمان القرآن عبد هللا بن عباس في معنى{ربانيين}‪ :‬علماء حكماء‪ ،‬مع‬
‫اعتبار الفصل وعدم الترادف‪ ،‬فقد جاء حكم القرآن العظيم –وليس حكمنا نحن‪ -‬ونحن بما قال ربنا‬
‫مؤمنون‪ ،‬من أن الجمود واالنحصار في إطار الحال والشرط الطوري في صيغة التواجد ولو كان‬
‫الطور الموافق لرسول ونبي‪ ،‬فقد جاء الحكم في ذلك على التضمين في االستفهام اإلنكاري المبين‬
‫والبليغ‪{:‬أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟} ليعقبه الحكم واألمر الحكيم باستلزام وإيجاب المسايرة‬
‫الطورية ألطوار وشروط االستخالف التاريخية‪ ،‬المنطبقة أساسا ومحوريا بحقيقة مناسبة كل رسالة‬
‫لطورها‪ ،‬وما يقتضيه ذلك من حكم النسخ ووجوب اإليمان واالتباع ‪{:‬وإذ أخذ هللا ميثاق النبيئين لما‬
‫آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه' قال أأقرتم وأخذتم‬
‫على ذلكم إصري' قالوا أقررنا ' قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين' فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم‬
‫الفاسقون' } فهذا الحكم من ذات الداللة والمصدر القانوني والتفسيري في قيام المنهاج على شرطي‬
‫العلم والدراسة الذي نقيضه الجمود والنمطية وتوقيف سريان الشريعة والحق في مسار التاريخ‬
‫المستخلف فيه‪ .‬هذا إذا بيان وبالغ أعظم بحاجة العلماء المسؤولين يوم القيامة عن هذه األمة باألخذ‬
‫به بقوة‪ ،‬وهللا تعالى غني عن العالمين‪.‬‬
‫فالسنة أصل في الدين‪ ،‬وهي األساس المأمور اتباعه؛ أما النمطية فهي جمود مخالف لسنة هللا‬
‫الطورية في الخلق والتاريخ وإن تلبست بلبوس االتباع وما هو باتباع حق‪ .‬ذلك وإن لم يكفهم هاتان‬
‫أو هذه اآلية المحددة على أتم وأفصح ما يكون التحديد لمنهاج الدين واالستخالف الحق في األرض‬
‫وأطوار التاريخ‪ ،‬فلنذكرهم عساهم أن يذكروا ويستعتبوا‪ ،‬ومن يستنكف عن الحق وسننه فلن يضر هللا‬
‫تعالى شيئا‪ ،‬لنذكرهم بالسياق العلمي العظيم من سورة المائدة الجامع على أحسن وأوفى البيان لهذه‬
‫الحقيقة العظيمة والخاصة الثابتة للتشريع‪ ،‬لقد نزل من السماء قوله وهو القول الحق المبين قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫‪224‬‬

‫{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون و األحبار‬
‫بما استحفظوا من كتاب هللا وكانوا عليه شهداء' فال تخشوا الناس واخشون' وال تشتروا بآياتي ثمنا‬
‫قليال' ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الكافرون' وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين‬
‫بالعين واألنف باألنف واألذن باألذن والسن بالسن والجروح قصاص' فمن تصدق به فهو كفارة له'‬
‫ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الظالمون' وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين‬
‫يديه من التوراة' وآتيناه اإلنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة‬
‫للمتقين' وليحكم أهل اإلنجيل بما أنزل هللا فيه' ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الفاسقون' وأنزلنا‬
‫إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه' فاحكم بينهم بما أنزل هللا وال تتبع‬
‫أهواءهم عما جاءك من الحق' لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا' ولو شاء هللا لجعلكم أمة واحدة' ولكن‬
‫ليبلوكم في ما آتاكم' فاستبقوا الخيرات' إلى هللا مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'}‬
‫(المائدة‪)21..34‬‬
‫فقوله تعالى{ولو شاء هللا لجعلكم أمة واحدة} يفصح عن سنة هللا تعالى في اختالف األطوار البشرية‬
‫التاريخية‪ ،‬لكل طور شروطه الممتحن والمستخلف فيها مما هو مشار ويدل عليه باللسان العربي‬
‫المبين قوله سبحانه{ليبلوكم في ما آتاكم} فالتعدد في األمم يناسبه حكمة بالغة اختالف شروط‬
‫االمتحان والشرائع‪.‬‬
‫ولئن كان البخاري قد رسخ في تبويبه حقيقة كبرى ال خالف فيها عند الفقهاء والعلماء من لزوم العلم‬
‫قبل القول والعمل‪ ،‬فها هنا مقام ليس أوجب منه لهذا الركن واألمر‪ .‬إنه من لم يحصل له التصور‬
‫الصحيح للمنظومة المفاهيمية ومعاني العلم والسنة ولمعنى ولحقيقة العالم وما يحق له وما ال يحق‪،‬‬
‫من لم يحصل له التصور السليم لذلك ال شك هو مفتقد لإلدراك الحق للدين ولمنهاجه الحق في الفقه‬
‫والتشريع‪ ،‬ولئن ذم هللا تعالى الذين ال يعلمون الكتاب إال أماني‪ ،‬فهؤالء يتوجه ذمهم ألنهم يفقدون‬
‫حقيقة اإلدراك للدين لجهلهم بمنهاجه الحق‪.‬‬
‫أخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث عبد هللا بن عمرو بن العاص أن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪:‬‬
‫" العلم ثالثة‪ ،‬فما سوى ذلك فضل‪ :‬آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة"‬
‫وفي إسناده عبد الرحمان بن زياد اإلفريقي وعبد الرحمان بن رافع وفيهما مقال‪.‬‬
‫‪225‬‬

‫قال ابن عبد البر ‪ :‬السنة القائمة‪ :‬الثابتة الدائمة المحافظ عليها‪ ،‬معموال بها لقيام إسنادها‪ .‬والفريضة‬
‫العادلة‪ :‬المساوية للقرآن في وجوب العمل بها وفي كونها صدقا وصوابا‪.‬‬
‫وأخرج الديلمي في مسند الفردوس وأبو نعيم والطبراني في األوسط والخطيب والدارقطني وابن عبد‬
‫البر عن عبد هللا بن عمر بن الخطاب رضي هللا عنهما موقوفا‪:‬‬
‫‪96‬‬
‫" العلم ثالثة أشياء‪ :‬كتاب ناطق‪ ،‬وسنة ماضية‪ ،‬وال أدري"‬
‫ك ذلك ليس االتباع عند هللا تعالى وفي منهاج اإلسالم الجمود على نمط طوري ولو كان هذا الطور‬
‫كما بينا ذلك وتم الدليل وإفاضة البرهان والدليل عليه طور وصيغة الحياة ونمطها لعصر النبوة‪ ،‬كأن‬
‫يمتنع من ركوب الطائرة أو تحريم المسرح على أساس أوحد وهو عدم ركوب الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم الطائرة وعدم وجود المسرح في ذات صورته الحالية في عهده صلى هللا عليه وسلم‪ .‬ومن‬
‫ه ذين الدليلين والركنين األساسين يستشف لمن ينعم بسوي التقدير وصائب الحكم على المعايير أن‬
‫اتباع العلماء المأمور به شرعا ال ينطبق مطلقا وبعيد كل البعد عن استبدال أقوالهم وعلمهم بنصوص‬
‫الشرع المجيد وعلم هللا العليم الخبير؛ فما كان من حق قول العالم مهما كان من البشر أن يدعي ذلك‬
‫ويدعي ما ليس له بحق إال أن يكون جاهال حقا‪ .‬وهذا هو القاصم المدحض بقوة ال يبقي ألصحاب‬
‫المذاهب حجة وال سلطانا‪ ،‬الذين اتخذوا أئمة مذاهبهم أربابا من دون هللا ولو لم يدركوا حقيقة أمرهم‪،‬‬
‫فليس العبرة باألسماء واالدعاء‪ ،‬ولكن العبرة عند هللا تعالى بالواقع والحال‪ .‬يقول العالم الرباني‬
‫صاحب الرسائل السلفية محمد بن علي الشوكاني رحمه هللا وبارك في آثاره‪:‬‬
‫<<فالحاصل أنا لم نأخذ بسنة الخلفاء وال اقتدينا بأبي بكر وعمر إال امتثاال لقوله صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪" :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وبقوله‪ ":‬اقتدوا بالذين من بعدي أبو‬
‫بكر وعمر"‪ ،‬فكيف يسوغ لكم أن تستدلوا بهذا الذي ورد فيه النص على ما لم يرد فيه؟ فهل تزعمون‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪ :‬عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل حتى‬
‫يتم لكم ما تريدون؟‬
‫فإن قلتم نحن نقيس أئمة المذاهب على هؤالء الخلفاء الراشدين‪ ،‬فيا عجبا لكم كيف ترتقون إلى هذا‬
‫المرتقى الصعب وتقدمون هذا اإلقدام في مقام اإلحجام؟ فإن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إنما‬
‫خص الخلفاء الراشدين وجعل سنتهم كسنته في اتباعها ألمر يختص بهم وال يتعداهم إلى غيرهم‪ ،‬ولو‬

‫‪ 96‬إسناده حسن‪ :-‬الرسائل السلفية ص‪17-14‬‬


‫‪226‬‬

‫كان اإللحاق بالخلفاء الراشدين سائغا لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدما على من لم‬
‫يشاركهم في مزية من المزايا‪ ،‬بل النسبة بينه وبينهم كالنسبة بين الثرى والثريا‪>>.‬‬
‫ويقول رحمه هللا في تفسيره لقوله عز وجل‪{:‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا والمسيح‬
‫ابن مريم' وما أمروا إال ليعبدوا إلها واحدا' ال إله إال هو' سبحانه عما يشركون'}(التوبة‪:)10‬‬
‫<< وفي هذه اآلية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين هللا وتأثير ما‬
‫يقوله األسالف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة؛ فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله‬
‫ويستن بسنته من علماء هذه األمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج هللا وبراهينه‬
‫ونطقت به كتبه وأنبياؤه‪ ،‬وهو كاتخاذ اليهود والنصارى لألحبار والرهبان أربابا من دون هللا‪ ،.‬للقطع‬
‫بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا‪ ،‬وهذا هو صنيع المقلدين من هذه‬
‫األمة‪ ،‬وهو أشبه من شبه البيضة بالبيضة‪ ،‬والتمرة بالتمرة‪ ،‬والماء بالماء‪ .‬فيا عباد هللا ويا أتباع محمد‬
‫بن عبد هللا ما بالك م تركتم الكتاب والسنة جانبا‪ ،‬وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد هللا لهم بهما‪،‬‬
‫وطلبه منهم للعمل بما دال عليه وأفاداه‪ ،‬فعلتم بما جاءوا به من اآلراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم‬
‫تعضد بعضد الدين‪ ،‬ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك‬
‫ويباينه‪ ،‬فأعرتموهما آذانا صما وقلوبا غلفا‪ ،‬وأفهاما مريضة وعقوال مهيضة‪ ،‬وأذهانا كليلة وخواطر‬
‫عليلة‪ ،‬وأنشدتم بلسان الحال‪:‬‬
‫غويت وإن ترشد غزية أرشد‬ ‫وما أنا إال من غزية إن غوت‬
‫فدعوا أرشدكم هللا وإياي كتبا كتبها لكم األموات من أسالفكم واستبدلوا بها كتاب خالقهم وخالقكم‪،‬‬
‫ومتعبدهم ومتعبدكم‪ ،‬ومعبودهم ومعبودكم‪ ،‬واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من‬
‫الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم‪ ،‬وهو اإلمام محمد بن عبد هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫‪97‬‬
‫وسلم !>>‬

‫‪ 97‬فتح القدير‬
‫‪227‬‬

‫الباب الخامس‬

‫المحورية في اللفظ والمفهوم‬


‫‪228‬‬

‫الفصل األول‬
‫محورية اللفظ والمصطلحات األربعة عند المودودي‬

‫ما تقدم في هذا الجزء بدءا بالتمهيد والتوطئة مما يستلزمه تحليل ودراسة المادة األلسنية وفصل‬
‫الخطاب‪ ،‬ووصوال إلى أهم مرتكزات هذا البحث والدراسة المتمثل في السبر الداللي للفظ (الرب) في‬
‫القرآن الحكيم‪ ،‬هذا الجهد المتواضع الذي ندرك يقينا أنه في عرضه ال يحصي ولم يسع الممكن‬
‫والمتاح كله جميعا‪ ،‬لكن الذي يتأكد ويتعين الحكم به أنه لغرضه قد استوفى الحاجة وأوفى غايتها‪ ،‬من‬
‫تبيان وإقامة البرهان الدامغ والدليل الساطع على الخطإ الفاحش‪ ،‬والمنكر العظيم الذي تلوكه وتردده‬
‫ألسنة المقلدين بغير علم‪ ،‬ويحسبونه من نصوص األصول وما هو بذلك‪ ،‬قولهم‪( :‬قريش كانت تقر‬
‫بتوحيد الربوبية)!‪ ،‬وخطإ تصريفهم لهذا اللفظ المحوري على معنى ال يصح‪ ،‬وما هو يقينا بالمعنى‬
‫الذي نزل به القرآن العظيم‪.‬‬
‫يقول األستاذ أليف الدين الترابي في عمله المتميز الذي نرجو له من هللا تعالى القبول في صالح العمل‬
‫ونسأله جل وعال أن يجزيه به عظيم الجزاء‪ ،‬مؤلفه (أبو األعلى المودودي‪ ،‬حياته ودعوته) يقول في‬
‫عرضه لكتابه (المصطلحات األربعة في القرآن‪ :‬اإلله‪ ،‬والرب‪ ،‬والعبادة‪ ،‬والدين)‪:‬‬
‫<< والحقيقة إن هذه المصطلحات هي مفاتيح القرآن‪ ،‬ألن كل ما جاء به القرآن يدور حول هذه‬
‫المصطلحات األربعة‪ ،‬أي أن هللا وحده هو اإلله والرب فإياه ينبغي أن يعبد اإلنسان‪ ،‬وله وحده ينبغي‬
‫أن يخلص الدين‪ .‬وإذا كانت هذه هي الحقيقة‪ ،‬فيمكننا أن نقول إن الفهم الصحيح للقرآن ينحصر على‬
‫الفهم الصحيح لهذه المصطلحات األربعة‪ .‬فلذلك البد لمن يقوم إلحياء الدعوة اإلسالمية أن يعتني‬
‫بالتفسير‪ ،‬كالداعية اإلسالمي الكبير‪ ،‬كان البد له أن يهتم بذلك فجاء بالتفسير الصحيح لها‪ .‬وبين أن‬
‫كلمة اإلله ليس المراد منها المعبود بمفهومه العام فحسب‪ ،‬بل يشمل مفهومها المالك والحاكم والشارع‬
‫أيضا‪ .‬وهكذا كلمة الرب ليس المراد منها المربي فحسب‪ ،‬بل يشمل مفهومها كل تلك المعاني التي‬
‫تشملها كلمة اإلله‪ .‬وكلمة العبادة ليس المراد منها أداء الطقوس فحسب‪ ،‬بل في الحقيقة تتسع دائرتها‬
‫إلى كل ناحية من نواحي الحياة الفردية واالجتماعية‪ .‬وكذلك كلمة الدين ليس المراد بها المعاملة‬
‫‪229‬‬

‫الشخصية بين اإلنسان واإلله كما يفهم بعض الناس‪ ،‬بل يشمل مفهومها كل دائرة من دوائر الحياة‬
‫الفردية واالجتماعية‪.‬‬
‫والحقيقة التي البد أن نشير إليها أن هذه المعاني لتلك المصطلحات األربعة األساسية لم تكن جديدة‪،‬‬
‫بل كما بين األستاذ المودودي باألدلة من القرآن والسنة‪ ،‬وبالشواهد من األدب الجاهلي‪ ،‬بأنها كانت‬
‫معروفة لدى أهل اللغة العربية في القرون األولى‪ ،‬ولكن مع األسف نسي المسلمون أو تناسوا هذه‬
‫المعاني في القرون األخيرة‪ ،‬فكانت النتيجة أن المفهوم الصحيح لإلسالم قد اختفى من العيون‪.‬‬
‫فاألستاذ المودودي حينما قرر أن يقوم إلحياء الدعوة اإلسالمية كان البد أن يعتني بإحياء المفهوم‬
‫الصحيح لهذه المصطلحات األربعة األساسية التي ينحصر فيها إحياء التصور الصحيح لإلسالم‪.‬‬
‫وجدير بالذكر أن بعضا من العلماء والمشايخ لهم بعض المالحظات على هذا التفسير لتلك‬
‫المصطلحات األربعة األساسية؛ ولكن الحقيقة بأن األدلة التي جاء بها هؤالء العلماء ال تساوي وال‬
‫تنال من األدلة التي جاء بها األستاذ المودودي؛ فأدلة األستاذ المودودي ال تزال متفوقة حتى‬
‫‪98‬‬
‫اليوم‪>>.‬‬
‫تنبيه‪[:‬أشار المؤلف إلى أن كتاب (المصطلحات األربعة في القرآن صدر ألول مرة عام‬
‫‪0141‬الموافق ل‪ ،0230‬في نفس السنة التي تأسست فيه الجماعة اإلسالمية‪ ،‬وهو من أهم ما كتبه‬
‫المودودي رحمه هللا‪].‬‬
‫من أجل ذلك‪ ،‬ولألهمية التي تكتسيها هذه المصطلحات‪ ،‬كان أكبر االهتمام وجله موجها نحو الجانب‬
‫اللغوي وأثره الغالب والمحوري في حقيقة العلم‪ .‬والدارس للمسار الفكري واالجتهادي للعقل‬
‫اإلسالمي يعلم ويدرك أكثر أن أصل كل االختالفات‪ ،‬والخالفات أيضا‪ ،‬هو نتاج لالختالف البدئي في‬
‫التأويل والقراءة‪ ،‬جراء عدم االنطباق الكلي للدالالت الموظفة والنسبية بالصحيح منها والحق‪.‬‬
‫إذن فجهدنا المتواضع الذي جمع بين المكونات الضرورية المحققة ألدنى االئتمار بالرد إلى هللا تعالى‬
‫ورسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬المكونات الواصلة بين اآلليات العلمية اللسانية انطالقا وعمال باألصل‬
‫العلمي والشرعي الممثل في عربية القرآن الكريم‪ ،‬واالستقراء الداللي من خالل هذا الشرط العلمي؛‬
‫هذا الجهد في صبغته يتوخى ويحاول الحسم في عدة قضايا أقل ما يمكن القول فيها إنها سلبية‪ ،‬وإنها‬
‫ال تخدم الفرد والمجتمع اإلسالميين في شيء‪ ،‬وإنما علتها ومستندها غلبة الجهل على العلم‪،‬‬

‫‪ 98‬أبو األعلى المودودي‪ ،‬حياته ودعوته‪ ،‬أليف الدين الترابي‪ ،‬دار القلم للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،0‬ص‪223‬‬
‫‪230‬‬

‫والمستوى المتدني للعلم والتعليم على السواء‪ ،‬مما ال يليق باألمة اإلسالمية‪ ،‬التي يمثل فيها العلم‬
‫والمعرفة الشرط األساس لقيامها وأداء وظيفتها الخيرية والشهودية‪ ،‬ذلكم الشرط المرسخ والمؤكد‬
‫ضمن األصول المنصوص عليها في الشرع الحكيم‪.‬‬
‫هذا الحسم يعتمد بصفة خاصة على أولية الحجة وشخوص الدليل‪ ،‬ألننا وكما أومأنا إليه وأشرنا لم‬
‫نأت ببديع من األفكار وال مستجد لم يك من قبل من حقائق العلم‪ ،‬وإنما هي أمور تأتي استنباطا لعمل‬
‫واجتهاد طبيعي على مسلك وتحقيق لقوله سبحانه وأمره الجليل‪{:‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا‬
‫وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم' فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى هللا والرسول إن كنتم تؤمنون‬
‫باهلل واليوم اآلخر' ذلك خير وأحسن تأويال'}(النساء‪)28‬‬
‫فالمعاني التي نزلت بها األلفاظ في القرآن العظيم أصح المعاني‪ ،‬وتحديدها على أصل الحقل الداللي‬
‫لمعجم اللسان يتم ويحصل على قانون السياق؛ فهذا هو القويم الصحيح في عزل المعاني بعاملي‬
‫المعجم والسياق‪ ،‬ليس في اللسان العربي فحسب‪ ،‬بل في مطلق أنظمة اللسان؛ يقول ابن تيمية رحمه‬
‫هللا‪:‬‬
‫<< فإن العربي الذي يفهم كالم العرب يسبق إلى ذهنه من اللفظ ما ال يسبق إلى النبطي الذي صار‬
‫يستعمل األلفاظ في غير معانيها؛ ومن هنا غلط كثير من الناس‪ ،‬فإنهم تعودوا ما اعتادوه إما من‬
‫خطاب عامتهم وإما من خطاب علمائهم باستعمال اللفظ في معنى‪ ،‬فإذا سمعوه في القرآن والحديث‬
‫ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى‪ ،‬فيحملون كالم هللا ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة‪،‬‬
‫وهذا مما دخل به الغلط على طوائف‪ .‬بل الواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به‬
‫القرآن والسنة وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك األلفاظ؛ فبتلك اللغة والعادة‬
‫‪99‬‬
‫والعرف خاطبهم هللا ورسوله ال بما حدث بعد ذلك>>‬
‫األلفاظ واالصطالحات والمفاهيم لها إذا شأن خطير في مدى صحة أو خطإ ومدى قرب أو بعد أي‬
‫كيان معرفي‪ ،‬مهما كانت درجته العلمية اإلسمية الرسمية‪ ،‬من حقيقة األشياء وتصورات المعارف‬
‫كما هي في الحق‪ .‬فحقيق إذا على كل من نصب نفسه مختصا بأمر العلم والشرع أن يولي قصارى‬
‫األهمية للشأن اللغوي؛ هذا الشأن والشرط الذي يفرض نفسه بسلطان النص مكونا جوهريا للكتاب‬
‫والقرآن المجيد‪:‬‬

‫‪ 99‬كتاب اإليمان‪-‬ص‪20‬‬
‫‪231‬‬

‫{إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون'}(يوسف‪)2‬‬


‫{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون'}(الزخرف‪)2‬‬
‫{كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون}(فصلت‪)2‬‬
‫{وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع ال ريب فيه' فريق في‬
‫الجنة' وفريق في السعير'}(الشورى‪)2‬‬
‫الخطاب الشرعي إذا في داللته‪ ،‬وفهمه وفقهه‪ ،‬واأللفاظ المحورية‪ ،‬هذه منظومة ليس بد من اعتبارها‬
‫على ما هي بالحق حتى نكون على الشرط واألصل المتصل والمنطبق بعربية القرآن والرسالة‪ ،‬ألن‬
‫أي إخالل بهذا الشرط بالبناء على دالالت ومعاني للمعجم واأللفاظ غير التي لها في اللسان العربي‬
‫لسان القرآن‪ ،‬يعتبر حكما إحداثا في الدين ما ليس منه‪ ،‬كما قلنا ألن العربية من ذات وجوهر التنزيل‬
‫والتنزيل األصل األعلى واألول للدين‪ ،‬وهذا هو مدلول وما يحمل عليه لفظ البدعة المنهي عنها في‬
‫الشرع وقاموس العلم والفقه‪ .‬فليس إذا ألحد ما أخل بهذا الشرط أن يدعي لنفسه ولشاكلة من يذهب‬
‫مذهبه وطريقته أنه أه دى الناس وأن جماعته هم دون سواهم الفرقة الناجية‪ ،‬وغيرهم مبتدعة كما‬
‫يتوهمه‪ ،‬فيجعل فهمه الخاطئ من قاعدة بيانه ومن ثمة إدراكه منظارا‪ ،‬وال يدرك من مركب جهله أن‬
‫فساد منظاره ال يرجى منه سداد النظر‪ ،‬بل قد تعكس القيم واألحكام تقابال‪ .‬يقول تعالى‪:‬‬
‫{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون‬
‫الكتاب' كذلك قال الذين ال يعلمون مثل قولهم' فاهلل يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه‬
‫يختلفون'}(البقرة‪)002‬‬
‫فكل يدعي أنه وحده على الطريقة الحق والمنهاج الصواب وغيره ضال مبتدع‪ .‬والغريب في هذا‬
‫القاموس الموظف لدى كل فرقة وجماعة‪ ،‬أنك تجد كال منهم يزعم لنفسه دون غيره فهم السلف‬
‫الصالح للكتاب والسنة‪ ،‬وأحيانا بحدة ومماراة ليس لهما من داللة إال افتقاد الحد األدنى من نور الفقه‬
‫وملكة العلمية‪ ،‬وتعبر من وجه جلي على ما أشربه القوم من حب التميز المذموم وروح العصبية‪.‬‬
‫ومهما يكن‪ ،‬فإن التحليل للسائد من األفكار التي هي مكمن وعلة االختالف في جسم األمة‪ ،‬وألبرز‬
‫وأخص ما تعتمد عليه هذه الجماعات وبصحيح التسمية والوصف الفرق واألحزاب‪ ،‬يلفيها كلها ذات‬
‫صبغة فقهية‪ ،‬أصلها القراءة والفهم المختلف للخطاب القرآني‪ ،‬مما يختزل في االعتبار الداللي النسبي‬
‫لمفاهيم محورية‪ ،‬منها ما هو ذو مصداقية وأصل شرعي كمفاهيم السنة والتقليد واالجتهاد واإليمان‬
‫‪232‬‬

‫والكفر والبدعة وغير ذلك؛ ومنها ما هو محدث كالسلفية واأللوهية والربوبية؛ ونعني هنا باإلحداث‬
‫ما لم يأت به الشرع قرآنا وسنة‪ .‬وهذا الصنف األخير من المفاهيم إن يكن قد انبثق عن ضرورة‬
‫دراسية تاريخية‪ ،‬فحمله على الثابت والمطلق المحكم خطابا وموضوعا ليس له مشروعية‪ ،‬ألنه يدخل‬
‫في إطار التحريف والتبديل للحقائق واألسماء التي هي الممثلة للموضوع وسبل مقاربته والنظر إليه‪.‬‬
‫لقد أشرنا من قبل في حديثنا عن انتقال الداللة اللسانية من المعجم إلى السياق إلى حقيقة التحول‬
‫الوظيفي لأللفاظ من الطبيعة المعجمية إلى الطبيعة والصفة المفهوماتية كصنف ما بعد‪ -‬اصطالحي؛‬
‫هذا التحول في جانب مساره يجيز لنا أن نعتبر المفهوم كمعنى داخل إطار المجاز أو بإيجاز كداللة‬
‫مجازية‪ .‬لكن المفهوم ال ينبغي له أن يؤخذ في عالقته المجازية كممثل لجوهر موضوعاتي في درجة‬
‫الموضوعات الممثلة بصورها في المعجم أو القاموس‪.‬‬
‫‪233‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫إشكالية المفهوم وماهيته‬

‫إشكالية المفهوم تكمن في كونه ذا ماهية غير لغوية‪ ،‬بمعنى أن الخطاب المتضمن للمفهوم يستوجب‬
‫مخاطبا فكريا‪ ،‬وغياب هذا الشرط هو العلة الغالبة والسبب الرئيس في السجاالت الالمنتجة‪ .‬هنا‬
‫نواجه مقولة‪ :‬المفهوم شطر المعرفة ‪. .‬‬
‫إن المفهوم ال يمكن وال يحق بحال اعتباره عنصرا معجميا‪ .‬وتصوره واعتباره كذلك هو هدم لحقيقة‬
‫المعرفة ولطبيعتها المختزلة في المفاهيم‪ ،‬كنظمات ومنظومات مكثفة وجامعة لكم معرفي يعبر بها‬
‫عنه وعن اإلحاطة بمضامينه‪ .‬من تمة‪ ،‬وبناء على هذا واستنباطا حقائقيا‪ ،‬يرى أن ال حقيقة المتالك‬
‫واكتساب المفهوم إال في مستوى التفكير ومستوى ما بعد‪-‬المعجم‪ ،‬الذي هو المركب اللبناتي للعملية‬
‫التفكيرية والممارسة العلمية‪.‬‬
‫إن كل النظريات المؤطرة للمعرفة وللعلم‪ ،‬وفي تعددها‪ ،‬وبصرف النظر عن ثرائها الوظيفي‬
‫والفكري المستمد منها‪ ،‬جميعها تتفق في أمرين وخاصتين‪ ،‬هما االستيعاب واالقتصاد اللذان يكفالن‬
‫وبهما يتحدد المدى اإلعمالي ونجاعته‪ ،‬وبمعنى آخر تتحدد بهما درجة النسبية في سريان النظرية‪.‬‬
‫ولئن كان شرط االستيعابية يرتبط في كل مناحيه وأبعاده بالمبادئ والمسلمات‪ ،‬فإن االقتصادية‬
‫تتحصل وتتم من خالل االستناد واعتماد الحد األدنى من المادة الهيكلية المنطبقة بالنسق‪ ،‬ومن المادة‬
‫البيانية المتمثلة في اللغة‪ .‬هذه البنية وتلكم العالقات التركيبية هي التي تكسب المفهوم تميزه وأهميته‪،‬‬
‫وتجعل منه في حسبان المفكر عنصر اإلغناء بالنظر إلى وظيفته هاته االختزالية؛ فهو من جهة كونه‬
‫أعلى درجات االصطالح‪ ،‬نعني االصطالح في قاموس المفكر الواعي‪ ،‬إنما يختزل ويمثل ظاهرة‬
‫كاملة بكل محدداتها‪ ،‬وليكون بؤرة تجميعية ولبنة فكرية لها قيمة وازنة في العلم والمعرفة‪.‬‬
‫الماهية البنياتية للمفهوم‪ ،‬أي تمثيله لحيز بنيوي وفضاء عالئقي فكري‪ ،‬أو بأصح القول معرفي‪ ،‬ال‬
‫يجعل من تعدد طرق تحليله احتماال واردا‪ ،‬ألن معنى البنية وحقيقتها يتشكالن من مدلول موضوعي‬
‫وواقعي‪ ،‬مكوناته العضوية ومركباته العالئقية تنتظم في أبعاد محددة وعلى نحو وشكل محدد ‪. .‬‬
‫ولن نكون بحال مجانبين للسداد إن نحن قلنا كون دراسة المفاهيم هي من أصعب الحيزات الفكرية‬
‫والعلمية؛ وال غرو فهي المعيار والمؤشر في ميز حقيقة المفكر عن غيره‪ .‬وكذلك أو لعلنا أدركنا أن‬
‫‪234‬‬

‫األمر في هذه الوظيفة المعيارية للمفهوم يرد باألساس إلى علو مستوى موقعه وتناوله كعنصر بياني‬
‫فكري‪ ،‬مستوى أهم ما يتميز به عالوة على علوه النسبي أنه مستوى النتاجات والحصيلة للعمليات‬
‫والجهود الجدية‪ ،‬ذات الموضوعات المتميزة‪ ،‬والخاصة والتفكيرية طويلة األمد‪ .‬لهذا كله ال يمكن لنا‬
‫أن ننتظر وصفا حقيقيا وتعريفا صحيحا لشيء ممن ال عالقة له وال صلة في التواجد تجمعه به‪.‬‬
‫وسوف نستبين ونرى صحة هذا الحكم حين التعرض لمفهومي العلم والنظرية من خالل صورتيهما‬
‫الداللية‪ ،‬ليس فحسب لدى إدراك التلميذ والطالب‪ ،‬بل في إدراك من هم باالعتبار نموذج المفكر‬
‫والمثقف‪. .‬‬
‫على سبيل بيان ذلك ننقل هنا ما جاء في تحديد المفهوم في (مجلة المناظرة) بركن قاموس المجلة‪:‬‬
‫المفهوم‬ ‫<‬
‫بالفرنسية ‪ Concept‬واإلنجليزية ‪ Concept‬باأللمانية ‪.Begriff‬‬
‫إن» المفهوم « من المفاهيم التي يعسر كثيرا تحديدها بسبب تعدد معانيه واختالفها‪ ،‬كما تدخل عدة‬
‫اعتبارات فلسفية في تحليله‪ ،‬وذلك أيضا شأن األلفاظ المرادفة له‪.‬‬
‫ويطلق على التصور الذهني العام‪ ،‬أو المعنى المجرد والعام‪.‬‬
‫وقد جرى في العربية اليوم استخدام لفظ » المفهوم « للداللة عليه‪.‬‬
‫أما المناطقة العرب فقد سموه » الكلي « ‪ ،‬أو » المعنى الكلي « أو (المعنى العام) أو (المعنى‬
‫العامي)‪ ،‬واكتفوا أحيانا باسم (المعنى)‪ .‬يقول ابن سينا‪ ،‬بعد أن ذكر الوحدة والكثرة والعلة والمعلول‪:‬‬
‫»وما أشبه هذه المعاني « ‪.‬‬
‫ويطلقون اسم (المفهوم) على فحوى األلفاظ أو ما يفهم منها‪ ،‬أي مجموع الصفات أو الخصائص التي‬
‫يتكون منها المعنى العام‪ ،‬وهذا في مقابل الماصدق‪ ،‬الذي هو مجموعة األفراد التي يصدق عليه‬
‫الكلي‪.‬‬
‫وبهذا االعتبار نقول إن (المفهوم) في استعماله الحديث له مفهوم وماصدق‪ .‬وتستعمل اللغة الفرنسية‬
‫مثال‪ ،‬كألفاظ مترادفة على العموم‪ ،‬للداللة على المفهوم أو المعنى العام‪Concept, notion, idée :‬‬
‫‪générale , idée‬‬
‫‪235‬‬

‫ولكننا نالحظ ما يلي‪:‬‬


‫‪ -0‬إن األول من األلفاظ‪ ،‬وإن استعمله ديكارت مثال‪ ،‬لم يفرض نفسه إال عندما وقعت ترجمة أعمال‬
‫كانط وأتباعه‪ .‬فقد حاول صاحب نقد العقل الخالص أن يجعل لكل واحد من األلفاظ المذكورة معنى‬
‫خاصا‪ .‬إن المعرفة عنده إما حدس أو مفهوم (‪ .)Begriff‬ويتعلق الحدس بالموضوع مباشرة‪ .‬أما‬
‫المفهوم فال يتعلق به إال بكيفية غير مباشرة‪ ،‬وهو إما تجريبي أو خالص‪ .‬ويسمى المفهوم الخالص‬
‫من حيث إن مصدره من الذهن فقط‪ ،notion :‬أما المفهوم المركب من عدة معان ‪notions‬‬
‫ويتجاوز إمكانية التجربة فهو المفهوم العقلي‪.idée :‬‬
‫‪ -2‬إن لفظة ‪ idée‬تنتمي إلى اللغة العادية‪ ،‬بينما ‪ Concept‬لفظ تقني فلسفي‪ ،‬ولذا كان ذا معنى‬
‫مضبوط وأكثر موضوعية‪.‬‬
‫‪ -1‬إن ‪ idée‬تذكر بصور أفالطون التي هي مثل ألفكارنا وموجودة في ذاتها خارج عقولنا‪.‬‬
‫وهذا ما أعطى لمصطلح ‪ ،notion‬بهذا الصدد‪ ،‬حظوة في اللغة الفلسفية‪ ،‬وإن كان ذا داللة أعم‪،‬‬
‫وبالتالي أكثر غموضا‪>>.‬‬
‫‪-‬الطاهر وعزيز‪-‬‬

‫لعل أول ما ينجلي ويصلح ليكون توضيحا ومثاال ملموسا في بيان صعوبة طرح إشكالية المفهوم هو‬
‫ذاته هذا التحديد الذي أبت مجلة (المناظرة) إال أن يكون وشاحا لعددها األول وتحديدا في ركن‬
‫قاموسها‪ ،‬وهي مجلة وهو ركن أولي التخصص‪.‬‬
‫فإذا كان للعلم ضوابط ومعايير‪ ،‬فأولها ما يسلم به أساسه وأركانه األولى التي ال يقوم بناؤه إال بها‪،‬‬
‫والتي ألزمها وهي معيار وضابط الضوابط والمعايير كلها ألنها تحيط بكفل حقيقة البناء وبيانه‬
‫كليهما‪ ،‬معيار وضابط التحديد‪ ،‬الممثل في شرطي الوضوح والتبسيط (شرط االقتصاد)‪.‬‬
‫فالموضوع المعني والمستهدف بالدراسة‪ ،‬أي المفهوم‪ ،‬والمؤطر من خالل هذا التعريف الذي تعرف‬
‫به المجلة نفسها والوارد على غالفها‪(:‬مجلة فصلية تعنى بالمفاهيم والمناهج الفلسفية)‪ ،‬ليس له من‬
‫عالقة وال صلة بالموصول بالماصدق سوى االشتراك اللفظي؛ هذا من جهة‪ .‬ومن جهة ثانية فال‬
‫ترادف كذلك في اللسان الفرنسي بين ‪ notion‬و‪ ،idée‬ذلك أن اللفظ األول له إمكانية االنطباق‬
‫‪236‬‬

‫بالتعريف بالمعنى المنطقي واالنطالق منه‪ ،‬األمر الذي ال يجوز بالنسبة للمفهوم ‪ Concept‬الذي ال‬
‫يعبر به إال عن المجال المعرفي‪ .‬أما لفظ ‪ idée‬فهي تخالف ‪ notion‬و‪ Concept‬ألنها ال تمثل‬
‫وحدة كاملة في التمثيل‪.‬‬
‫ولو نظرنا إلى – أو في كلمة الكاتب نفسها التي ختم بها مقالته في محور (المناظرة) فإن فيها أحسن‬
‫مما ورد في التحديد‪ ،‬يقول الطاهر وعزيز‪:‬‬
‫<< إننا في ضوء المفاهيم نعرف األشياء ونسلط أفعالنا عليها‪ ،‬كما أن الميزان األمثل للعمل الفكري‬
‫الخالق هو معالجة المفاهيم‪ .‬وال تأتي قيمة هذه األدوات المعرفية من أنها تعكس بأمانة معطى سابقا‪،‬‬
‫وإنما بفضل ما تسبغه على الظاهرات من وحدة‪>>.‬‬
‫األهم أكثر هنا هو قوله‪( :‬وال تأتي ‪ . .‬من وحدة) فذلك هو المؤطر والخاصة للمفهوم‪ :‬التمثيل للظاهرة‬
‫أو النسق الفكريين؛ وهو المراد من قوله‪ :‬تعكس معطى سابقا‪ .‬فالمفهوم ال يكون أمرا‪ ،‬وإنما يمثله‪.‬‬
‫وهذا هو ما يميزه عن باقي وغيره من الدالالت األخرى مما جاء في تحديد المجلة وقاموسها‪.‬‬
‫‪237‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫النتاجية والتمثيلية أهم خصائص المفهوم‬

‫إن المفهوم هو تمثيل ونتاج‪ ،‬وليس سابقا لما يمثله ويعبر عنه؛ هذا هو المعنى الذي يتداول به في‬
‫اإلطار العلمي والفكري الصحيح‪ .‬أما عالقته بالتجريد‪ ،‬أي بالدراسات التحليلية للظواهر والقضايا‬
‫الفكرية‪ ،‬فال يصح البدء به انطالقا‪ ،‬وإنما يكون الحقا لتحديد معين يتم رصده وتعيينه من خالل هذه‬
‫الدراسة‪ .‬وأما الوظيفة التي بمقتضاها أضحى المفهوم له هذه القيمة والدرجة المتميزة في الممارسة‬
‫الفكرية‪ ،‬فهو البناء الكلي في التنسيق والهيكلة للمجموع والكل المعارفي‪.‬‬
‫بيد أنه في هذا كله يبقى السؤال األهم فيما يخص المفاهيم هو تقريبها وضبطها بالنسبة لآلخر‬
‫الخطابي‪ .‬وليست هذه المسؤولية في الحقيقة إال صورة كاملة وتجسيدا تاما إلشكالية المفهوم في حد‬
‫ذاته‪ ،‬ذلك أن الوحدة في الطبيعة تعطي الوحدة في التركيب والتحليل‪ ،‬وهما الطوران اللذان ال‬
‫مندوحة لمن يبغي تحليل المفهوم من سلوكهما‪ .‬فمن خالل التحليل يتم جرد المكونات وترتيبها من كل‬
‫وجوه تناسقها‪ .‬هذه العملية هي المنحى األول المجلي والمجسد لشرط وأهلية المفكر‪ ،‬وهو األساس‬
‫للمنحى الثاني‪ ،‬الذي الغاية منه تقديم المفهوم لآلخر الخطابي عبر عملية التركيب‪ ،‬المبرزة للمكونات‬
‫واللبنات الرئيسة‪ ،‬التي أهمها الشروط الموضوعية في نشأة وانبثاق المفهوم‪.‬‬
‫هنا يتم ويقع طرح السؤال حول المصداقية والمشروعية‪ .‬فالمفاهيم ال تختلف فقط من حيث مدى ما‬
‫تتوفر عليه من مصداقية‪ ،‬وما تعبر عنه من نسبة الواقع والحقائق‪ ،‬فإن منها ما يفتقد وما هو خلو من‬
‫ذلك كله جميعا‪ ،‬إنما هو مصطنع اصطناعا‪ ،‬ومختلق اختالقا‪ ،‬لغايات وأغراض مضللة للمجال‬
‫الخطابي‪ ،‬ومحرفة في نقل الواقع‪.‬‬
‫‪238‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫االختالق المفاهيمي أداة في الصراع والتحكم‬
‫نموذج‪':‬اإلرهاب' و'العولمة'‬

‫إن كنا هنا في غير موضع التفصيل إلشكالية أو لنقل إشكاليات المفهوم‪ ،‬ننقل هنا مقاال قد يفيد ويسلط‬
‫بعض الضوء على بعض من أبرز الجوانب وأشدها خطرا وأجدرها باإلثارة والتعريف‪ .‬هذا المقال‬
‫ورد في جريدة الشرق األوسط لعددها ‪ 8183‬الصادر بتاريخ ‪ 2110\00\00‬لصاحبه السيد حامد‬
‫الطيب إبراهيم‪ ،‬تحت عنوان‪ :‬الوجه العولمي لإلرهاب يطمس حقيقة الظلم‪ .‬وهذا نصه‪:‬‬
‫<< بعد التفجيرات التي شهدتها أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر الماضي‪ ،‬توقف الحديث عن‬
‫ظاهرة العولمة وحل محلها الحديث عن ظاهرة اإلرهاب‪ ،‬فهل ثمة عالقة بين العولمة واإلرهاب‬
‫الدولي؟‬
‫قبل الدخول في عالقة العولمة واإلرهاب الدولي يجب أن نقف عند ضبابية التعريف وما تحققه من‬
‫أغراض سياس ية فيها كثير من االبتزاز‪ ،‬العولمة ينظر لها العالم الثالث بتوجس‪ .‬وآخر تعريف لها‬
‫حتى اآلن أنها حرية الحركة للمعلومات والسلع والخدمات وحتى اإلنسان بثقافته ومعتقداته من دون‬
‫قيود‪ .‬بينما اإلرهاب الدولي هو ضلوع دولة أو شخص أو جهة في إحداث أعمال تخريبية أو عدائية‬
‫لدولة أخرى‪ .‬وهذا التعريف لإلرهاب كما العولمة لم يكتمل بعد‪ .‬ولرسم عالقة بين العولمة واإلرهاب‬
‫نجد أن هناك وجهين مختلفين لهذه العالقة‪ .‬الوجه األول هو أن اإلرهاب خاصة ما حدث من تفجير‬
‫في نيويورك وواشنطن يمثل انتكاسة في مسيرة العولمة‪ .‬أما الوجه الثاني فيقر أن اإلرهاب الدولي‬
‫هو ظاهرة من ظواهر العولمة ينبغي أن يؤخذ في االعتبار والعالم مقبل على العولمة لتكون المعالجة‬
‫على قدر الحدث اإلرهابي مهما كان حجمه‪.‬‬
‫بالحديث عن الوجه األول‪ ،‬وهو أن اإلرهاب وشن الحرب ضده قد أوقف أو أجل عجلة العولمة التي‬
‫انطلقت بسرعة االنفالت‪ ،‬إال أن حدوث التفجيرات قلل من سرعة العولمة‪.‬‬
‫فما تم من تخطيط وتنفيذ دقيق في أكبر دول العالم والمحصنة بأحدث األجهزة االستخباراتية‬
‫واألمنية‪ ،‬مثل نيويورك وواشنطن‪ ،‬فماذا سيكون حال المدن األخرى في باقي أنحاء العالم‪ .‬هذا‬
‫‪239‬‬

‫الحادث حتما سيقلل من تدفق األموال إلى دول العالم‪ ،‬خاصة الثالث منها مما يوقف أو يؤخر حركة‬
‫العولمة‪.‬‬
‫كذلك يرى الكثيرون من مناهضي العولمة أن عولمة بدون عدالة مرفوضة‪ ،‬وبالتالي يمكن مواجهة‬
‫ذلك بالعنف واإلرهاب حتى ال تسحقهم إفرازات العولمة‪ .‬هذا السبب سيدفع بمنظمة التجارة العالمية‬
‫بجدية لمعالجة اإلفرازات السلبية لظاهرة العولمة‪ ،‬وهذا يحتاج ربما لوقت طويل تكون العولمة في‬
‫حالة انتظار‪.‬‬
‫أما الوجه اآلخر فهو أن اإلرهاب الدولي مظهر من مظاهر العولمة وأن أشكاله ووسائله ونتائجه‬
‫متعددة‪ ،‬وتتنوع وتتطور كلما اتسعت مساحة العولمة‪ .‬فالتكنولوجيا وثورة المعلومات واالتصاالت‬
‫التي هي أهم أدوات العولمة تجد هذه الثورة هي نفسها متاحة لإلرهابيين‪ .‬وإن العقلية العالمية التي‬
‫خلقتها العولمة لتجاوز الحدود السياسية هي أيضا أصبحت عقلية اإلرهاب الدولي‪ .‬كذلك من السمات‬
‫العولمية لإلرهاب الدولي أن العملية اإلرهابية يمكن أن يخطط لها في بلد وتنفذ في بلد آخر‪ ،‬ومن‬
‫خالل جنسيات متعددة للمنفذين‪.‬‬
‫دراسة ظاهرة العولمة مع ظاهرة اإلرهاب الدولي توضح تشابه األحوال في نيويورك أو واشنطن‬
‫وغيرها من دول العالم في ما يتعلق بغياب األمن‪ ،‬وبقدر ما تسعى العولمة باستنهاض المدن النائمة‬
‫بعد مدها بسبل التقنية‪ ،‬فهاهي العولمة بيدها اإلرهابية من عظمة المدن األولى في العالم لتكون مثل‬
‫صويحباتها في العالم الثالث‪.‬‬
‫كذلك فإن ضبابية العولمة في معناها ومغزاها‪ ،‬وهل هي نتاج تلقائي للتطور العالمي أم مخلوق‬
‫غربي‪ ،‬وهل تسير العولمة من ذاتيتها أم تدفع من جهة معينة متحدية الواقع لتلد العولمة مخلوقا غريبا‬
‫مثلها فهو غير محدد المعالم وبجسم هالمي‪ ،‬وأحيانا كثيرة غير مرئي‪ .‬ولذلك فالحرب ضده هي‬
‫األخرى لغز من ألغاز العولمة‪.‬‬
‫إن معالجة اإلرهاب في إطار العولمة تبدأ من معالجة العوامل التي تؤدي إلى هذا اإلرهاب‪ .‬وهذا يتم‬
‫بتصحيح مسار العولمة حتى تخدم جميع البشر‪ ،‬ومعالجة كل أشكال الظلم‪ ،‬وتعميم ثقافة السالم‬
‫واإلخاء‪.‬‬
‫إن شعور الظلم والغبن من سلوك دولة أو شعب أو حتى شركات أو أفراد يقود إلى رد فعل ما قد‬
‫يتمثل في عمل إرهابي يكون أفدح وأكبر من انفجارات مانهاتن والبنتاغون في أميركا‪ .‬ولذلك فمن‬
‫األجدى للتحالف الذي يتشكل لمكافحة اإلرهاب أن يتحول إلى مؤتمر عالمي ليس لمكافحة اإلرهاب‪،‬‬
‫‪240‬‬

‫وإنما لدراسة ظاهرة اإلرهاب وأسبابها وأسباب تزايدها‪ ،‬خاصة في ظل العولمة كإفراز لسلبياتها أو‬
‫مجرد تنامي العولمة وتقارب البشر باختالف ثقافاتهم وعقائدهم في ما يعرف بالقرية الكونية>>‬

‫الحديث عن العولمة وعن اإلرهاب هو إعطاء الرؤية األكثر قربا وعلمية في تحديد جواب ما هو‬
‫المفهوم؟ أصوله‪ ،‬مؤطراته؟‬
‫أما من حيث األصول‪ ،‬واالنبثاق والنشأة األولى خاصة‪ ،‬فألن اإلرهاب مثال لم يأخذ ولم يختص بهذا‬
‫الصدى والمدى كظاهرة إال من قوة مستمدة من قوة واقعيته‪ ،‬أي حصول الفعل واألثر بغض النظر‬
‫عن مصداقية وصحة اللفظ ابتداء لنسبية االعتبار‪ .‬فاللبس واإلشكالية الحقة نراها منطبقة أو لنقل‬
‫مركزها ومناطها األساس هو عالقة اللفظ من جهة الصحة وعدمها بالظاهرة‪ .‬لهذا السبب والتعليل‬
‫فاألمر ليس كما أريد له وأضفي عليه من االعتبار من جهة وأطراف معينة معلومة‪ ،‬الجهة المعتبرة‬
‫في ظاهر الموازين وفي نفسها أنها األقوى على مستوى ومشهد الفعل واألثر العالمي في بعد القوة‬
‫العسكرية وهيمنة الفعل والتوجيه‪ .‬وحجة نذكر بالغارات األمريكية المباشرة على أقطار هي إسالمية‬
‫عربية تحديدا‪ ،‬السودان والعراق وليبيا‪ ،‬وهي غارات همجية بالتوصيف التاريخي اإلنساني بكل‬
‫معنى هذا الوصف‪ .‬ناهيك عن المظاهرة والدعم للعدوان على المستضعفين‪ ،‬الممثل في كل ما يرتكبه‬
‫الصهاينة بأبشع الصور‪ ،‬كما شهد بذلك أهل األرض والسماء في مشهد الجريمة على أعين ومشهد‬
‫كل الناس‪ ،‬القتل الهول لطفل أعزل‪ ،‬محمد الدرة‪ ،‬العنوان الشاهد للبقية اآلدمية في الحضارة الغربية‬
‫السائدة‪.‬‬
‫إذن فالمفهوم له والدته وانبثاقه األول؛ فهو كما قلنا بميزان الحق والموضوعية سابق لمرحلة اإلدراك‬
‫عند اآلخر‪ ،‬أي في الفكر‪ .‬االنبثاق هو فرض الواقعية؛ وهذه النقطة هي ملتقى لموضوعين ومرحلتين‬
‫معا‪ ،‬التكوين واالنتشار‪ ،‬ذلك وإن كان في عموم األحوال ال يحصل الفقه الكافي لحمولة المفاهيم إال‬
‫لذوي المسايرة واالحتكاك التفاعلي ببيئتها‪ .‬فإن نفع الحديث عن العولمة واإلرهاب بالخصوص ييسر‬
‫لمن دون مستوى المفكر اإلحاطة أو التعرف على بنية المفهوم ومسألة المصداقية فيه‪ ،‬حيث أن هذين‬
‫المفهومين باتا السائدين والساريي التأثير على مجموع الفضاء والرأي الكوني‪ ،‬أوال للواقعية‪ ،‬وثانيا‬
‫اللتقاء العامل الدعائي أو الحرب الدعائية‪ ،‬أو لنقل باألصح االكتساح والهيمنة الدعائية لطرف واحد‬
‫في الصراع‪ ،‬وهو هنا الطاغوت بالحمولة التامة للفظ‪ ،‬التي ليس ينحصر مدلولها على ما يحمل إليه‬
‫عادة‪ ،‬أي المعنى الشرعي والفقهي المختص‪ ،‬ولكن بمطلق ظالل الداللة في الحقل والمعنى الفلسفي؛‬
‫وهي تمثل مدخال أوليا لفهم القاموس الشرعي على حقيقته؛ فالحق يعلو وال يعلى عليه؛ قلنا حال أو‬
‫‪241‬‬

‫باألصح ولألسف وإنا هلل وإنا إليه راجعون! شرط التقاء هذا العامل بحالة الوهن العظيم والواقع‬
‫المأساوي لألمة اإلسالمية وضعفها في جانب البأس وقوة الحديد‪.‬‬
‫نحن في نظرنا وحديثنا عن هذين المفهومين نكون متواجدين داخلهما بالتحديد؛ وهذا ما يعطينا نظرة‬
‫موضوعية وعلمية في انتقال الظاهرة إلى مفهوم؛ وكل الجدليات الحاصلة بين شتى الثنائيات‬
‫المتصارعة وأحيانا المتناقضة وكأنها شعب مختلفة‪ ،‬جميعها تساهم في تكوين وتنشئة المفهوم‪ ،‬وفي‬
‫انتشاره بالحمولة والداللة التي يكون بها‪ .‬هذه الداللة تتبع في قربها وبعدها عن الحقيقة والحق بحسب‬
‫وتبعا للنسب المحققة لهذه المفعالت والمنشئات من الشعب بين أقطاب الثنائيات‪ .‬وذلك ما ينتج عنه‬
‫ويتحدد به مدى المصداقية والمشروعية‪ ،‬التي قد تصل حد االنعدام واالفتقاد الكلي‪ ،‬حيث تتسم‬
‫الصراعات في الغالب باصطناع واختالق مفاهيم مغلوطة‪ ،‬يعتمد في صناعتها على اإلبهام واللبس‬
‫التركيبي‪ ،‬ألنها ال وجود لها وال معنى لها تدل عليه في الواقع إال الباطل الذي ال يحق وال يصح وال‬
‫يوجد‪ ،‬وإن هو إال محض االختالق‪.‬‬
‫لنعد إلى فحوى ونص المقال‪ ،‬ولنقف مليا عند قول الكاتب‪:‬‬
‫<< قبل الدخول في عالقة العولمة واإلرهاب يجب أن نقف عند ضبابية التعريف وما تحققه من‬
‫أغراض سياسية فيها كثير من االبتزاز‪ .‬فالعولمة ينظر لها العالم الثالث بتوجس‪ .‬وآخر تعريف لها‬
‫حتى اآلن أنها حرية الحركة للمعلومات والسلع والخدمات وحتى اإلنسان بثقافته ومعتقداته من دون‬
‫قيود‪ .‬بينما اإلرهاب الدولي هو ضلوع دولة أو شخص أو جهة في إحداث أعمال تخريبية أو عدائية‬
‫لدولة أخرى‪ .‬وهذا التعريف لإلرهاب كما العولمة لم يكتمل بعد>>‬
‫إن قضية تحديد المفهوم وتعريفه لها ارتباط بالمصداقية التي يكتسيها هذا المفهوم ذاته؛ إذ التعريف‬
‫أصله ومعناه الحد بالمعنى المنطقي المنطبق االنطباق التام بالمعنى والداللة المعرفية والعلمية‪ .‬لذا‬
‫فنحن عندما نعرض ونتحدث عن مفهوم ما إنما نريد ونعني شيئا محددا تحديدا علميا ومعرفيا‪ .‬ومن‬
‫ثمة فكل ما لم يتم الفصل منه أو فيه من المواضيع هو مفتقد لصفة المفهوماتية؛ وهذا تحديدا ما حاولنا‬
‫إثارة حقيقته والتنبيه عليه عندما أدرجنا تعريف المفهوم الذي قررته واعتبرته مجلة المناظرة‪ .‬كما أن‬
‫هذا ال يعني وال يفيد بحال الحكم والقول بانعدام حقيقة العولمة واإلرهاب كظاهرتين حقيقتين بصفة‬
‫المفهوماتية‪ ،‬ولكن الحق واحد وأجزاؤه بالمعنى المكوناتي والتضمني ال اختالف بينها وال تناقض‪.‬‬
‫بناء على هذا وتأسيسا على واقعه‪ ،‬يلزم اعتبار المفهوم داال على حقيقة ومدلول معين‪ ،‬وشرط هذه‬
‫الداللة األحادية يحدد من خالل أمرين أو شرطين اثنين‪:‬‬
‫‪242‬‬

‫أولهما تمام المفهوم في طبيعته نشوءا وانتشارا مما يطابقه القول بتمام تحديد المفهوم‪ .‬وذلك ما تمثله‬
‫المفاهيم التي تمت نشأتها في أطوار فكرية سابقة‪ ،‬فاستقر مضمونها وتعريفها‪.‬‬
‫والشرط الثاني هو الترجيح الموضوعي والعلمي للتحديد رغم معاصرة الظاهرة؛ فال يضير حينها‬
‫العوامل المغرضة التي رأينا ونرى مثلها في النموذجين لمفهومي اإلرهاب والعولمة رغم التحوير‬
‫والتحريف الظاهر المبين المتوسل إليه بتسمية الوقائع والظاهر بغير أسمائها‪.‬‬
‫‪243‬‬

‫الباب السادس‬

‫(الربوبية)‬
‫من انبثاق المفهوم ونشأته‬
‫إلى الضالل والخطإ في التوظيف‬
‫‪244‬‬

‫الفصل األول‬
‫انبثاق مفهوم 'الربوبية' والتأطير الشرعي‬

‫<< قال الربيع بن أنس‪ :‬قلت ألبي العالية‪ :‬كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟‬
‫قال‪ :‬كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب هللا ما أمروا به ونهوا عنه‪ ،‬فقالوا لن نسبق أحبارنا بشيء‬
‫فما أمروا به ائتمرنا وما نهوا عنه انتهينا‪ ،‬فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء ظهورهم؛ فقد‬
‫بين النبي صلى هللا عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحالل‪ ،‬ال أنهم صلوا‬
‫لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون هللا‪ ،‬فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة لألموال قد بينها النبي صلى‬
‫‪100‬‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وقد ذكر هللا تعالى أن ذلك شرك بقوله‪{:‬ال إله إال هو سبحانه عما يشركون}>>‬
‫وفي (فتح المجيد) ورد شرحا وتعليقا قوله‪:‬‬
‫<< األحبار هم العلماء‪ ،‬والرهبان هم العباد‪ .‬قال السدي‪ :‬استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء‬
‫ظه ورهم‪ .‬ولهذا قال تعالى‪{:‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا} فصار ذلك عبادة لهم‪،‬‬
‫وجعلوا أحبارهم ورهبانهم أربابا مشرعين في تحليل ما حرم هللا وتحريم ما أحل هللا‪ ،‬فاتخذوهم بذلك‬
‫أربابا‪ ،‬ألن التشريع من خصائص الربوبية كما أن العبادة من مستحقات الربوبية‪ ،‬وقال‬
‫تعالى‪{1:::‬وال يأمركم أن تتخذوا المالئكة والنبيئين أربابا‪ ،‬أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم‬
‫‪101‬‬
‫مسلمون}أ‪.‬ه‪>>.‬‬

‫‪ 100‬مؤلف اإليمان البن تيمية‪ -‬ص‪28‬‬

‫‪ 101‬فتح المجيد‪ -‬ص‪000‬‬


‫‪245‬‬

‫ليس بعد هذا صورة أوضح في الدليل وال تفسيرا أكثر تبسيطا للتعليل‪ ،‬من كون أولئك أو هؤالء‬
‫العلماء والعباد أربابا أن التشريع من خصائص الربوبية‪ .‬وإن هذه اآلية حجة داحضة مبطلة ومسفهة‬
‫لقولتهم المنكرة‪ :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية!‬
‫نجد كذلك في نفس المؤلف في قوله تعالى{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرابا من دون هللا‪ -‬اآلية} وبعد‬
‫إيراد قول السدي يأتي قوله‪:‬‬
‫<< فظهر بهذا أن اآلية دلت على أن من أطاع غير هللا ورسوله‪ ،‬وأعرض عن األخذ بالكتاب والسنة‬
‫في تحليل ما حرم هللا أو تحريم ما أحله هللا‪ ،‬وأطاعه في معصية هللا‪ ،‬واتبعه فيما لم يأذن به هللا‪ ،‬فقد‬
‫اتخذه ربا ومعبودا وجعله هلل شريكا؛ وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين هللا الذي دلت عليه كلمة‬
‫اإلخالص (ال إله إال هللا) فإن اإلله هو المعبود‪ ،‬وقد سمى تعالى طاعتهم عبادة لهم‪ ،‬وسماهم أربابا‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪{)1:8(:‬وال يأمركم أن تتخذوا المالئكة والنبيئين أربابا} أي شركاء هلل تعالى في العبادة‬
‫{أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وهذا هو الشرك‪ .‬فكل معبود رب وكل مطاع ومتبع على غير‬
‫ما شرعه هللا تعالى و رسوله فقد اتخذه المطيع المتبع ربا ومعبودا كما قال تعالى في آية األنعام‬
‫(‪{) 4:020‬وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وهذا هو وجه مطابقة اآلية للترجمة‪ .‬وشبه هذه اآلية في‬
‫المعنى قوله تعالى‪{)20:32(:‬أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به هللا} وهللا‬
‫‪102‬‬
‫أعلم‪.‬أ‪.‬ه>>‬
‫هذا البيان قد أتى على أعلى درجات العلم وحدود التأويل‪ ،‬على لسان وثيق للثلة األئمة األعالم‪ ،‬الرد‬
‫فيه هلل تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم؛ فمعنى (الربوبية) وإن حوى في حقله الداللي معاني‬
‫الملكية والرازقية والخالقية والقهر واالختصاص بالتدبير والشأن‪ ،‬فالمعنى الذي تأكد ونزل به الكتاب‬
‫داللة به للدعوة لعبادة هللا سبحانه وتعالى‪{:‬وما أمروا إال ليعبدوا إلها واحدا' ال إله إال هو' سبحانه عما‬
‫يشركون'}(التوبة‪ )10‬هو معنى التالوة واالتباع واالحتكام‪ ،‬انتهاء وائتمارا‪ ،‬والطاعة واالنقياد‪.‬‬
‫وقول أبي العالية لم يأت على قبيل القول بالظن وال كان قوال بالرأي‪ ،‬إنما هو وعاء من أوعية العلم‬
‫أمن العلم بها وحفظ؛ فالسنة النبوية قد بينت الكتاب وفصلت مجمله‪ ،‬وتلك كما أعلمنا هللا تعالى‬
‫وظيفتها وأول وكمال حكمتها‪{:‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم‬
‫يتفكرون'}(النحل‪)33‬‬

‫‪ 102‬نفس المرجع ص‪004‬‬


‫‪246‬‬

‫وأبلغ البيان وأثقله زنة على معيار التأصيل الشرعي ثم هو أيسر فهما وأحسن تفسيرا‪ ،‬والذي مثلت‬
‫كلمات رفيع الرياحي (أبي العالية) وعاءه‪ ،‬هو الخبر الصحيح الذي مفاده أن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم تال على عدي بن حاتم الطائي قوله تعالى‪{:‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا‬
‫والمسيح ابن مريم}(التوبة‪ ) 10‬فقال‪ :‬لسنا نعبدهم‪ ،‬قال‪ :‬أليس يحلون لكم ما حرم هللا فتحلونه‪،‬‬
‫‪103‬‬
‫ويحرمون ما أحل هللا فتحرمونه؟ قال‪ :‬بلى؛ قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬فتلك عبادتهم>>‬
‫هذا أصل وبيان من العلم بالحق بلسان عربي مبين‪ ،‬وما يزيده على منحى البيان حجة وقوة هو‬
‫اعتماده على ذكر وتأكيد التذكير بأخص الخاصات وأبرز ميزات‪ ،‬العبودية التي هي التشريع‪،‬‬
‫وبأسلوب االستفهام اإلنكاري الذي هو أعلى درجات التوكيد واإلخبار‪ .‬كذلك يأتي هذا األصل ليقر‬
‫التكافؤ االنطباقي لحقيقة العبادة باتخاذ األرباب‪ ،‬ذلك ما تسطره ونتلوه في اآليتين البينتين وقوله تعالى‬
‫العليم الحكيم ‪{:‬يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إال‬
‫أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل هللا بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك‬
‫الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف‪)31-12‬‬
‫إن علم الكتاب وبيان السنة ليس فيهما من أثارة مستند وال أصل في فصل العبادة عن الربوبية كما‬
‫يزعمه أوالء الذين ال يعلمون الكتاب إال أماني‪ ،‬وإن هم إال متبعون مرددون لكلمات قد تلفظ بها‬
‫علماء بشر يخطئون ويصيبون‪ ،‬ولم يثبت لها أصل ال في كتاب وال في سنة‪ ،‬وقد أنزلوهم وصنعوا ما‬
‫صنع من قبلهم بأحبارهم ورهبانهم‪ ،‬ال يتصورون عليهم الزلل‪ ،‬كالمهم في حسبانهم كله حق‪،‬‬
‫وتصنيفاتهم وتقسيماتهم حق كلها‪ ،‬حتى أمست في اعتبارهم وفكرهم ونهجهم‪ ،‬وهم ال يشعرون‪،‬‬
‫أمست مقدمة في فكرهم ونهجهم على الكتاب والسنة‪ ،‬يذكرونها أكثر من ذكرهم القرآن وحديث‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وبها يتم االعتبار والقراءة للقرآن العظيم وسنة رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬ومن أراد أن يوقن من هذا الحكم وال يرتاب فلينظر وليتفحص الواقع والحال‪ ،‬وما‬
‫كان هللا ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‪ ،‬وإنه ليس اإليمان وال العلم باألماني والتمني‬
‫ولكنه الحقيقة والحال‪.‬‬
‫هذا الفصل للعبادة عن الربوبية الذي أقروه بغير سلطان أتاهم وال أصل من الشرع وال اللغة على‬
‫السواء‪ ،‬أودى بهم لحال أسوأ‪ ،‬وحاق بهم من بعده عين الضالل إذ قالوا‪ :‬األلوهية والربوبية حقيقتان‬

‫‪ 103‬رواه الترمذي قريبا من لفظه‬


‫‪247‬‬

‫عالقتهما التباين؛ والحق أن هذه المباينة محددة ومشخصة علتها في قراءتهم الضالة المجانبة للسداد‬
‫آليات من القرآن كما سيتبين بكل وضوح بعد حين‪.‬‬
‫وحفاظا على ترتيب ما انبنى عليه هذا الكتاب حقيق علينا التذكير بأن كل مواد وفصوله غايتها‬
‫واحدة‪ ،‬هي اإلدالء بالبرهان القاطع الذي ال يبقي من بعده جدال في بطالن مقولة تقسيم التوحيد‪،‬‬
‫التقسيم الذي يؤول ويرتكز على مرتكز خاطئ ينطبق تحديدا في المعجمية الخاطئة للفظ (الربوبية)‪.‬‬
‫وإن من أهم هذه المواد والفصول وأقواها من حيث كونها موضع ثقل الدليل والغاية األولى لما دونها‬
‫هي حقيقة الداللة التنزيلية للفظ (الرب) في القرآن العظيم‪ ،‬وبأعلى وأقوى ما يناسب المقام‬
‫والموضوع من طرق االستدالل والبرهان‪ ،‬وذلك من خالل سلوك واعتماد السبر واالستقراء‪ .‬هذا‬
‫وقد بين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن هذه هي الداللة الحق التي نزل بها الوحي وعليها يتوجه‬
‫البيان؛ فبئس مثال الذين اتخذوا علماءهم مرجع القول كله‪ ،‬القول ما قالوا ال يتصورون عليهم الخطأ‬
‫والزلل‪.‬‬
‫فهذا الكتاب والسنة وفيهما معنى (الرب) (والربوبية) قد جاء بينا محكما‪ ،‬وقد نزل قوله عز‬
‫وجل‪{:‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم الدين'}(المائدة‪ )3‬ومن‬
‫أعظم ما حفظ عن اإلمام مالك رحمه هللا قوله الجامع البليغ‪<:‬قبض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫وقد تم هذا األمر واستكمل> وإنه من لم يعد البيان من التنزيل ال جرم ال قلب له ليفقه به‪ ،‬ومن يضلل‬
‫هللا فما له من سبيل‪.‬‬
‫‪248‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫'األلوهية' و'الربوبية'‬
‫تباين القسائم شرط في صحة التقسيم‬

‫لنعرض اآلن لضالل المقسمة البعيد وخطئهم الفاحش‪ ،‬الممثل في قولهم بالمباينة بين األلوهية‬
‫والربوبية‪ ،‬وهو الضالل والخطأ الذي مرجعه األساس وأدى إليه تصورهم وتمثلهم الخاطئ لمعنى‬
‫الربوبية‪.‬‬
‫على سبيل اإليضاح والدرس‪ ،‬نسوق هنا النص الكامل ألشهر ما بات يدرس ويقدم على غيره‪ ،‬وتجد‬
‫حفاظه ال يحفظون قدرا من القرآن مثله‪ ،‬ذلك ما يجلي على أوضح ما تكون الصورة والتصور الذي‬
‫أصبح للعلم والفقه عند هؤالء‪ ،‬هذا النص للرسالة المسماة برسالة (التوحيد ومعنى الشهادتين)‪:‬‬
‫<< أقسام التوحيد‪:‬‬
‫ينقسم التوحيد إلى ثالثة أقسام‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد األسماء والصفات‪ ،‬وتوحيد األلوهية‪.‬‬
‫(‪ )0‬توحيد الربوبية‪:‬‬
‫وهو اإلقرار بأن ال رب للعالمين إال هللا الذي خلقهم‪ ،‬ورزقهم‪ ،‬وهذا النوع من التوحيد قد أقر به‬
‫المشركون األوائل‪ ،‬فهم يشهدون أن هللا هو الخالق والمالك والمدبر والمحيي والمميت وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬قال تعالى‪{:‬ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض وسخر الشمس والقمر ليقولن هللا' فأنى‬
‫يؤفكون'}(العنكبوت آية‪ )40‬ولكن إقرارهم هذا وشهادتهم تلك لم تدخلهم في اإلسالم‪ ،‬ولم تنجهم من‬
‫النار ولم تعصم دماءهم وأموالهم‪ ،‬ألنهم لم يحققوا توحيد األلوهية‪ ،‬بل أشركوا مع هللا في عبادته‬
‫بصرفهم شيئا منها لغيره‪.‬‬
‫(‪ )2‬توحيد األسماء والصفات‪:‬‬
‫‪249‬‬

‫وهو اإليمان بأن هلل تعالى ذاتا ال تشبه الذوات وصفات ال تشبه الصفات وأن أسماءه دالة داللة قطعية‬
‫على ما له –سبحانه‪ -‬من صفات الكمال المطلق كما قال تعالى‪{:‬ليس كمثله شيء' وهو السميع‬
‫البصير'}(الشورى آية‪)01‬‬
‫وأيضا إثبات ما أثبته هللا لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى هللا عليه وسلم إثباتا يليق بجالله من‬
‫غير تشبيه‪ ،‬وال تمثيل وال تعطيل‪ ،‬وال تحريف‪ ،‬وال تأويل وال تكييف‪ ،‬وال نحاول بقلوبنا وتصوراتنا‬
‫وال بألسنتنا أن نكيف شيئا من صفاته وال أن نمثلها بصفات المخلوقين‪.‬‬
‫(‪ )1‬توحيد األلوهية‪:‬‬
‫وهو توحيد العبادة أي إفراد هللا –سبحانه وتعالى‪ -‬بجميع أنواع العبادة التي أمر بها كالدعاء والخوف‬
‫والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية‪ ،‬واإلنابة‪ ،‬واالستعانة‪ ،‬واالستغاثة والذبح‬
‫والنذر وغير ذلك من العبادات التي أمر هللا بها كلها‪ ،‬والدليل قوله تعالى‪{:‬وأن المساجد هلل فال تدعوا‬
‫مع هللا أحدا}(الجن آية‪ )08‬بحيث ال يصرف اإلنسان شيئا من هذه العبادات لغير هللا –سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬ال لملك مقرب‪ ،‬وال لنبي مرسل وال لولي صالح‪ ،‬وال ألي أحد من المخلوقين‪ ،‬ألن العبادة ال‬
‫تصح إال هلل‪ ،‬فمن صرف شيئا منها لغير هللا فقد أشرك باهلل شركا أكبر وحبط عمله‪.‬‬
‫وحاصله هو البراءة من عبادة ما سوى هللا‪ ،‬واإلقبال بالقلب والعبادة على هللا‪ ،‬وال يكفي في التوحيد‬
‫دعواه والنطق ب كلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين وما هم عليه من دعاء غير هللا من‬
‫األموات ونحوهم واالستشفاع بهم إلى هللا في كشف الضر وتحويله وطلب المدد والغوث منه إلى غير‬
‫ذلك من األعمال الشركية التي تنافي التوحيد تماما‪.‬‬
‫وتحقيق التوحيد‪ :‬هو بمعرفته واالطالع على حقيقته والقيام بها علما وعمال‪ ،‬وحقيقة ذلك هو انجذاب‬
‫الروح أو القلب إلى هللا محبة وخوفا‪ ،‬وإنابة وتوكال ودعاء وإخالصا وإجالال وهيبة وتعظيما وعبادة‪،‬‬
‫وبالجملة فال يكون في قلب العبد شيء لغير هللا‪ ،‬وال إرادة لما حرم هللا من الشركيات والبدع‬
‫والمعاصي كبيرها وصغيرها‪ ،‬وال كراهة لما أمر به وذلك هو حقيقة التوحيد وحقيقة ال إله إال‬
‫‪104‬‬
‫هللا>>ا‪.‬ه‪.‬‬

‫‪ 104‬دار ابن خزيمة‪ -‬التوحيد ومعنى الشهادتين‪ -‬دار القمة للنشر‪ .‬الدار البيضاء‬
‫‪250‬‬

‫ليكفهم أو ليكف أن نسألهم ما هو موضع أمر هللا تعالى الذي هو الغاية التي من أجلها أنزل الكتاب‬
‫وأرسل سبحانه مالئكته ورسله‪ ،‬ما موضع ذلك في هذا النص والتقسيم؟ يقول هللا تعالى وقوله الحق‬
‫وما دونه الباطل يقينا‪:‬‬
‫{كان الناس أمة واحدة فبعث هللا النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين‬
‫الناس فيما اختلفوا فيه'}(البقرة‪)200‬‬
‫{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه' فاحكم بينهم بما أنزل هللا‬
‫وال تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق' لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا' ولو شاء هللا لجعلكم أمة‬
‫واحدة' ولكن ليبلوكم في ما آتاكم' فاستبقوا الخيرات' إلى هللا مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه‬
‫تختلفون' وأن احكم بينهم بما أنزل هللا' وال تتبع أهواءهم' واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل هللا‬
‫إليك' فإن تولوا فاعلم أنما يريد هللا أن يصيبهم ببعض ذنوبهم' وإن كثيرا من الناس لفاسقون' أفحكم‬
‫الجاهلية يبغون' ومن أحسن من هللا حكما لقوم يوقنون'}(المائدة‪)22..21‬‬
‫فلينظر وليتدبر من ال يرين قلبه ران ولم تغشه غشاوة التقليد كلية فلم يعد يلوي على تذكرة ! لينظر‬
‫وليمعن عسى أن يذهب هللا تعالى عن قلبه وبصره الران والغشاوة‪ ،‬ليقرأ وليتدبر قوله الحق‬
‫المبين‪{:‬أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من هللا حكما لقوم يوقنون؟}!‬
‫إن كل ما حوته كلمات الرسالة أعاله من تقبيح وتذكير بنهي الشرع وتحديد لما هو في الحق اليقين‬
‫من الشرك‪ ،‬من استغاثة بغير هللا تعالى‪ ،‬ونذر واستشفاع بالمخلوق أحياء وأمواتا‪ ،‬كل ذلك أمر عظيم‬
‫لمن وصى بعلمه وبصر العباد بشأنه‪ .‬لكن إذا لم يعلم ولم يعلم غيره سواء أكان ذلك مرادا كدأب الذين‬
‫من قبلهم جعلوا الدين عضين فآمنوا ببعضه وكفروا ببعض‪ ،‬آمنوا بما ال يمس أمر ما يأكلونه من‬
‫أموال الناس وما أنزل هللا من رزق لعموم الخلق في األرض فجعلوه حكرا لهم من دون الناس‪ ،‬أو‬
‫غير مراد لجهل عارض قد يجلو وينزاح باستماع القول واتباع أحسنه‪ ،‬فهو قطعا ال يتلو وليس في‬
‫حقل التحقق والعمل بهذه اآلية التي تنص بصريح بيان الوحي أن أي تحييد لتحكيم الكتاب هو عين‬
‫حكم الجاهلية وليس عبادة هلل وحكما‪ ،‬وال يوجل من هللا تعالى إال الموقنون‪ .‬يقول هللا تعالى‪:‬‬
‫{ وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين' فوربك لنسألنهم‬
‫أجمعين عما كانوا يعملون' فاصدع بما تؤمر' وأعرض عن المشركين' إنا كفيناك المستهزئين الذين‬
‫يجعلون مع هللا إلها آخر' فسوف يعلمون' ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون' فسبح بحمد ربك‬
‫وكن من الساجدين' واعبد ربك حتى يأتيك اليقين'}(الحجر‪)21..82‬‬
‫‪251‬‬

‫ويقول سبحانه تعالى‪:‬‬


‫{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط' وأنزلنا الحديد فيه بأس‬
‫شديد ومنافع للناس' وليعلم هللا من ينصره ورسله بالغيب' إن هللا قوي عزيز'}(الحديد‪)23‬‬
‫‪252‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫مماثلة خطإ المقسمة لخطإ المرجئة‬

‫‪ -1‬سفسطائية القول‪< :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية>!‪:‬‬


‫أما قولهم كون المشركين األوائل قد أقروا بنوع من التوحيد بزعمهم‪ ،‬وبهذه األلفاظ وبهذا البيان الذي‬
‫ال يصح‪ ،‬فال يخلو من مفارقة ظاهرة وتناقض صارخ؛ فالعبارة بما هي حاملة لمعنى تجمع بين‬
‫نقيضين‪ ،‬ما عنوا به بالتوحيد ونقيضه الشرك‪ .‬فهذا من قبيل وكمن يقول في نفس الشيء وفي اآلن‬
‫نفسه‪ :‬كائن وغير كائن؛ وذلك أعم وأشهر المقدمات السفسطائية التي ال تنتج وال يرجى منها إال‬
‫الباطل من األحكام الملبس لبوس الصحيح‪ ،‬وما هو بصحيح في الحق يقينا‪.‬‬
‫وبرهانه أن الحق يقول‪ :‬إما توحيد بالمعنى السديد‪ ،‬أي توحيد العبادة (وليس توحيد هللا سبحانه ألنه أ‬
‫صال وفي الحق واحد أحد ال يتعدد)‪ ،‬وإما شرك‪ ،‬ألن وجهة الشيء ال تتعدد في حدث أو آن معين‪.‬‬
‫سيقولون إن هذا التعبير وهذا القول قد قاله من قبلنا من العلماء والمصلحين والدعاة إلى هللا تعالى‬
‫كمحمد بن عبد الوهاب وابن تيمية رحمهما هللا وغيرهما من أهل العلم‪.‬‬
‫ثم إنه ال بد من تذكير هؤالء وتنبيهم على أمر من الحق حكم الجميع وأهل العلم فيه سواء‪ ،‬هو أن‬
‫هؤالء العلماء الذين يزعمون حبهم واقتفاء آثارهم واالقتداء بنهجهم وسلوك طريقتهم‪ ،‬هؤالء الرجال‬
‫والعلماء حسبهم شرفا ومنزلة أن نوه هللا تعالى بهم وأثنى جل جالله عليهم في كتابه المجيد آيات تتلى‬
‫إلى يوم الدين‪{:‬شهد هللا أنه ال إله إال هو والمالئكة وأولو العلم قائما بالقسط' ال إله إال هو العزيز‬
‫الحكيم'}(آل عمران‪)08‬‬
‫فهم في غناء عمن يزعم حبهم وأنه يسلك في الدين على فهمهم‪ ،‬وما هو في واقع أمره إال على خطى‬
‫اختالق ربوبية األحبار والرهبان فيمن قبلهم‪ ،‬فإنه ليس من إنحاء وتوجيه لحقيقة تعظيم أقوال الشيوخ‬
‫وإنزال أقوال الرجال والعلماء منزلة التنزيه عن الزلل والخطإ إال هذه الحقيقة وهذا الحكم في السقوط‬
‫في الربوبية التي كانت في بني إسرائيل‪ .‬وهذه آية أبلج ليس بعدها لمن استرشد واهتدى من علم وال‬
‫دليل‪ .‬أالقول هذا والرسالة هاته الموسومة برسالة التوحيد وما بني عليها من توصيفات للعقيدة‪،‬‬
‫توصيفات ال تحل بدءا على معيار الحق واألصول‪ ،‬أهذا القول أحق باالتباع واألخذ أم الخطاب‬
‫‪253‬‬

‫الصريح للقرآن المبين؟! ومتى بربك الذي خلق فسوى‪ ،‬وجعل السمع واألبصار واألفئدة‪ ،‬متى كان‬
‫ومتى وجد معيار في الحق يجيز تحديد أصول العقيدة‪ ،‬بل وتعديدها مما هو دون الكتاب والسنة؟!‬
‫أال إن التحديد للدين تكفل به العليم الخبير الذي اختص باألمر كله‪ ،‬وإنه كما قال مالك بن أنس رحمه‬
‫هللا وكما سلف ذكره أنه قد تم هذا األمر واستكمل‪ ،‬يعني أمر الدين وبيانه‪ ،‬قد تم واستكمل بوفاة‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وعلى صلة بالمستويات الحقائقية وضوابط القول في هذا الشأن العظيم‬
‫يقول اإلمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقالني في كتابه‪( :‬إعجاز القرآن) في قوله‬
‫تعالى‪{:‬أفال يتدبرون القرآن' ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء‪:)80‬‬
‫<< فأخبر أن الكالم اآلدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه االختالف>>‬
‫وليس البتة من شك في كون العالم ومهما نال من درجات العلم ومهما بلغ من الشأو والشأن فيه‪ ،‬فإنه‬
‫ال يخرج عن بشريته وآدميته‪ ،‬وليس يسطيع أبدا تجاوز حدود اإلدراك في خلقته وسعة ما تناله هذه‬
‫الخلقة من المدركات‪ ،‬وما هو مما ال ينتهي وال حدود له من موضوعات وأبعاد اإلدراك‪ ،‬ولعل أهم ما‬
‫يلزم التسطير وتخصيصه بالذكر والتحديد هاهنا هو هذه النظمة في اإلدراك المحدودة جدا في سعة‬
‫وأبعاد إمكانها من جهة ضبط ميزة السداد والصدقية الحقائقية‪ ،‬إن على مستوى النسق أو على مستوى‬
‫التعبير كما أثار بعده ونبه إليه الباقالني رحمه هللا‪ .‬ثم ال يكون منا إغفال أن تصنيفات جل هؤالء‬
‫العلماء ال يجمعها السفر والسفران‪ .‬فهذا ال محاجة نضيفه نافلة وعضدا في الحجاج‪ .‬وهو لعمرك أول‬
‫ما وجب أن يلقن لطالب العلم والراغب في االنتماء واالنخراط حقيقة ألهل العلم والعرفان‪ ،‬ال أن‬
‫يخبط فيه خبط عشواء‪ ،‬ويكون من بعد أمة زاعما لنفسه اإلمامة والرشاد؛ فأول ما يتحتم ويلزم تلقينه‬
‫هو اإلدراك لمفاهيم الحقيقة المعرفية ومصادرها‪ ،‬ودرجاتها‪ ،‬وللقيم الحقائقية وحقول سريانها؛ فهذا‬
‫هو أساس ومدخل اإلدراك القويم لمفهوم العلم والعالم‪ ،‬ومن لم يبن ولم يتأسس كيانه المعرفي‬
‫واإلدراكي على هذا السلم واألساس فإنه ال يفقه مما يعلم شيئا‪ ،‬وال يعلم إال كمن ال يعلمون الكتاب إال‬
‫أماني‪.‬‬
‫وتسليما منهم واقتضاء لهذا السلم والمنظوم من ضوابط المعرفة ومستوياتها‪ ،‬وحقول سريانها‪ ،‬وتبع‬
‫قيمها وكل ذلك لمصادرها‪ ،‬فإن العلماء جميعهم قد ذكروا به لئال يبقى من بعده حجة في مقاربة األخذ‬
‫عنهم؛ فاتفق قولهم جميعا أن ما صح من العلم هو مذهبهم‪ ،‬وما خالف ذلك من أقوالهم فليضرب به‬
‫عرض الحائط!‬
‫يقول ابن تيمية رحمه هللا وهو يوضح ويجلي مكمن الضالل ومنزع الخالف في مسمى اإليمان‪:‬‬
‫‪254‬‬

‫<< فليس ألحد أن يقول بخالف قول هللا ورسوله ال سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكالم‬
‫من أهل اإلرجاء وغير هم إلى ظهور الفسق‪ ،‬فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطإ عظيم في‬
‫‪105‬‬
‫العقائد واألعمال>>‬
‫ذلك وأن الخطأ المحدث في تصريف لفظ (الرب) ومعنى الربوبية ليس دون خطإ المرجئة في لفظ‬
‫(اإليمان) ومسماه؛ وليس أدل عليه مما آلوا إليه من قولتهم الشنيعة المنكرة وزعمهم أن قريش كانت‬
‫تقر بتوحيد الربوبية‪!..‬‬
‫ثم إن نفس الخطإ هو الذي تولد عنه بتبع االنحراف على قبيله والباطل على الباطل‪ ،‬تولد عنه‬
‫الضالل البعيد‪ ،‬ضالل التقسيم الذي يزعم ويدعي لنفسه تحديد الدين مما ليس للمخلوق دخل به أصال‪،‬‬
‫وإنما هو أمر أعلى وأسمى اختص به هللا تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم تحديدا وتبيانا‪ .‬وهو‬
‫الشأن الذي نعيد الكرة في التذكير به وحفظ عن اإلمام مالك قوله مما كان أثرا قويا من العلم لم ينفك‬
‫اإلمام الشوكاني رحمه هللا يجرده في وجه المقلدة‪ ،‬هؤالء الذين يرمون غيرهم بالبدعة وهم مغمورون‬
‫بها‪ ،‬لقد قال اإلمام مالك‪ ،‬إمام دار الهجرة والمدينة‪ :‬قبض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقد تم هذا‬
‫األمر واستكمل‪ ،‬أي تحديد الدين‪ ،‬ومن لم يكفه هذا البيان والحجج المتراكبات فإن هللا تعالى يقول في‬
‫وحي محكم مبين‪{:‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا}(المائدة‪)3‬‬
‫فال يكن مرية في كون هؤالء ما يدعون إال ما ليس لهم بحق‪ ،‬ثم إن تقسيمهم هذا كله خلط في البيان‬
‫وخطأ في اللغة وال يصح في المعنى يقينا‪ .‬وقد تبين لنا من األبواب السابقة وفصولها عدم الصحة‬
‫والبطالن الذي الشك فيه في إسناد لفظ ومعنى(التوحيد) هلل الواحد الصمد‪ ،‬ألن الحق والميزان الذي‬
‫تقوم عليه السماوات واألرضون ال يقبل وال يحق فيه أن يسند التوحيد إال للمتعدد‪ ،‬وأنه ال يوحد إال‬
‫المتعدد‪ ،‬فأنى يؤفكون؟! فهذا التقسيم باطل يقينا‪ ،‬ومحدث ليس من الدين‪ ،‬لم يأت بها قرآن وال سنة‪،‬‬
‫بل هو في تمام المناقضة لهما والمخالفة‪ .‬وكونه بدءا ليس من الدين محدثا فحكمه الرد‪ .‬وما كان هللا‬
‫ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‪ ،‬وهلل الحجة البالغة وهو العزيز الحكيم‪.‬‬
‫والحديث عما جاء في هذا التقسيم الضال من المباينة بين األلوهية والربوبية التي تأسس عليه‪ ،‬هو‬
‫عرض وحديث عن تبديل ظاهر فاحش لمعنى لفظ (الرب) والربوبية عن المعنى الصحيح‪ .‬وهو‬
‫تحريف لو يعلم عظيم‪ ،‬ألنه قبل أن يعتبر في صبغته العلمية فهو يهم رسالة هللا تعالى للعالمين؛ وإن‬

‫‪ 105‬كتاب اإليمان ‪.‬ص‪131‬‬


‫‪255‬‬

‫كل ما يمس الحق ويسعى في خالف ما عليه تنزيله وبيانه ال جرم سيؤدي ويفضي إلى فساد على‬
‫مستوى قراءته وفقهه‪ ،‬وسينعكس تأثره على نسق ومضامين العلم كله‪.‬‬

‫‪ -2‬الخطأ التقسيمي أعظم ضالال من الخطإ المرجئي‬


‫نؤكد هنا وقد وجب التسطير عليه إذا ما أريد لهذه الدراسة صدقيتها وموضوعيتها أن الخطأ‬
‫التقسيمي‪ ،‬أي خطأ زعمهم تقسيم التوحيد عندهم‪ ،‬وفي تصورهم الذي ال حظ له من الحقيقة لهذا‬
‫اللفظ‪ ،‬تقسيمه إلى أقسام ألوهي وربوبي وتوحيد األسماء والصفات‪ ،‬لهو أعظم ضالال وأشد خطرا‬
‫وسوءا من خطإ المرجئة في اعتبارهم لمعنى اإليمان من خالل اإلغراض في القراءة على غرار‬
‫هؤالء أو كما فعل أوالء على غرارهم‪.‬‬
‫والحق أن هذا الحكم قد يستبينه كل عقل سوي لم يعقله إصر تقليد يمنعه من سماع أي قول ولو كان‬
‫قول الحق‪ ،‬وهي خصلة ال تشين المرء أبدا‪ ،‬وإنما هي دليل سوية العقل وعلوه‪ ،‬فإن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم والصحابة رضي هللا عنهم في كأي من مشهد قد فعلوا ذلك وما عد في الحق ذلك سفها في‬
‫العقل وال قصورا‪ .‬والعتبى للحق خلق رفيع وسجية أهل الحق‪.‬‬
‫إن موضع الخطإ التقسيمي‪ ،‬موضع لفظ (الرب) أعظم األلفاظ المحورية التي بها يتراتب وينتظم كل‬
‫القرآن وحديثه المنزل بالحق مثاني أحسن الحديث‪ ،‬إذ من مسلمات الحق وعلم المنطق بما هو عند هللا‬
‫العليم الحكيم‪ ،‬ال كما يتصوره من يجهل حقيقته ويردد قول قوم لم يحسنوا التعبير عن مواقفهم‬
‫العلمية‪ ،‬وكل الناس خطاءون وال تنبغي العصمة لبشر إال األنبياء عليهم السالم‪ ،‬قلنا من مسلمات‬
‫الحق والمنطق كترجمة للحق أنساقا وبيانا أن خطر اللبنة والعنصر بقدر ما ينبني عليه وفاقا‪ ،‬كما هو‬
‫خطر القلب عند اإلنسان وصالته عند العرض والحساب‪ .‬فالخطأ في التصور لمعنى (الرب)‬
‫والربوبية ال محالة مفض إلى عوج في إدراك وقراءة القرآن العظيم الذي بنوره حق المسار الصحيح‬
‫في فضاء االستخالف إيمانا وعلما‪ ،‬وأحكاما واتباعا‪ ،‬وهو جماع األمر كله‪ ،‬وعليه مدار الهدى‬
‫والضالل؛ ومن يستنكف عن براهين الحق الواضحات البينات فلن يضر الحق شيئا‪ ،‬وإنما يخشى هللا‬
‫من عباده العلماء‪.‬‬
‫يقول سيد قطب رحمه هللا وتحديدا في شأن هذه القضية المحورية‪:‬‬
‫‪256‬‬

‫<< وهذه هي القضية األساسية الكبرى في العقيدة‪ ،‬قضية الربوبية‪ ..‬فقضية األلوهية لم تكن محل‬
‫إنكار جدي من المشركين‪ ،‬فهم كانوا يعتقدون بوجود هللا ألن الفطرة البشرية ال تستطيع التخلي عن‬
‫االعتقاد بوجود إله لهذا الكون إال في حاالت نادرة شديدة االنحراف‪ ..‬ولكنهم كانوا يشركون مع هللا‬
‫أربابا يتوجهون إليهم بالعبادة‪ ،‬إما ليقربوهم إلى هللا زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون‬
‫خصائص الربوبية فيشرعون ألنفسهم ما لم يأذن به هللا‪.‬‬
‫والقرآن الكريم ال يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية األلوهية والربوبية – كالذي جد فيما بعد‬
‫بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة اإلغريقية‪ -‬إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر‪ :‬إن‬
‫هللا هو الذي خلق السماوات واألرض وما فيهن‪ ،‬وجعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل‪،‬‬
‫وقدر اختالف الليل والنهار‪ ..‬هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها‬
‫تدبر الواعي المدرك‪ ..‬إن هللا الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون ربا يدين له البشر‬
‫بالعبودية وال يشركون به شيئا من خلقه‪ ..‬أليست قضية منطقية حية وواقعية‪ ،‬ال تحتاج إلى كد ذهن‪،‬‬
‫وال إلى بحث وراء األقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة‪ ،‬وال تدفئ القلب مرة وال تستجيش‬
‫الوجدان؟‬
‫إن هذا الكون الهائل بسماواته وأرضه‪ ،‬وشمسه وقمره‪ ،‬ليله ونهاره‪ ،‬وما في السماوات واألرض من‬
‫خلق‪ ،‬ومن أمم ومن سنن‪ ،‬ومن نبات ومن طير ومن حيوان‪ ،‬كلها تجري على تلك السنن‪>>..‬‬
‫ثم يتبع ويردف قائال‪:‬‬
‫<< ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دالئل األلوهية في السماوات واألرض‪ :‬ذلكم هللا ربكم‬
‫فاعبدوه‪..‬‬
‫وقد قلنا إن قضية األلوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين‪ ،‬فقد كانوا يعترفون بأن هللا ‪-‬‬
‫سبحانه‪ -‬هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء‪ ..‬ولكن هذا‬
‫االعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته‪ ،‬فلقد كان من مقتضى هذا االعتراف بألوهية هللا على هذا المستوى‬
‫أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم‪ ..‬والربوبية تتمثل له وحده؛ فال يتقدمون بالشعائر التعبدية إال‬
‫‪106‬‬
‫له؛ وال يحكمون في أمرهم كله غيره‪ ..‬وهذا مقتضى قوله‪{:‬ذلكم هللا ربكم فاعبدوه'} ‪>>. .‬‬

‫‪ 106‬في ظالل القرآن –تفسير اآلية ‪ 1‬من سورة يونس‬


‫‪257‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫إبطال القول بالمباينة بين األلوهية والربوبية‬

‫تحدد المباينة كونها عالقة جواهرية بين كلين‪ -‬ويفهم القارئ اللبيب أننا نتحاشى قاموسا ما لضرورة‬
‫المقام وشرط الخطاب ليس إال‪ -‬فتكون باالختالف القطعي ال اشتراك بينها وال تقاطع في عناصرهما‬
‫وما صدقهما‪ ،‬فهي مفارقة الجوهرين الكليين أحدهما لآلخر‪ ،‬ليس يشتركان في شيء أو عنصر ما‪.‬‬
‫ويلزم المقسمة‪ ،‬أي القائلين بمقولة أقسام التوحيد‪ ،‬بالمباينة بين األلوهية والربوبية ألنها شرط الزم‬
‫في التقسيم حتى يكون تقسيما حقيقة‪ ،‬وفي أمر وشأن عظيم هذا الذي هو موضوع التقسيم‪ ،‬شأن أعلى‬
‫ما ينبني عليه أمر وفقه الدين‪ ،‬ال ينبغي االعتبار ألي تلفظ وال كالم إال بميزان للقول والمعاني‬
‫ممحص دقيق‪.‬‬
‫إذا كنا قد أدلينا بدلو الحق وأشرنا من غير إسهاب وتفصيل إلى الدليل الساطع‪ ،‬دليل أن هذا التقسيم‬
‫الذي لم يرد في القرآن وال في حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أنه يفرغ الدين من أهم ما ال‬
‫يعتبر في الحق إال به‪ ،‬ذاك األمر الذي صدع به الصديق رضي هللا عنه جاهرا به غير مسر وال‬
‫هياب من أن يرده تصور أو فهم خاطئ ألمر هللا العزيز الجبار‪ ،‬كلمته رضي هللا عنه المحفوظة حفظ‬
‫هذا الدين والقرآن المجيد‪ ،‬تبيانا محفوظا للحق‪ ،‬ودرءا لمحدثات وبدع األمور مما تردده ألسنة الذين‬
‫تقادم عليهم التقليد فأصبحوا ال تراهم متبعين إال ألقوال الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء ظهورهم؛ لقد‬
‫قال أبو بكر الصديق‪:‬‬
‫"وهللا ألقاتلن من فرق بين ما جمع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم!"‬
‫ذلك وأن الحق واسع ويأبى إال أن تستبين األمور ببعضها‪ ،‬فيهتدي ويسلم أولو البصائر‪ ،‬ويبقى من‬
‫غشيته غاشية التقليد على نحلته ال يكاد يبصر من الحق شيئا وقد يحسب أنه من الطائفة المنصورة‬
‫وأهدى سبيال‪.‬‬
‫الوجه ا آلخر لهذه التفرقة التي ال تخطئها الرؤية النافذة الواعية هو قولتهم المضلة التي قال في قبيلها‬
‫ومثلها اإلمام علي رضي هللا عنه أنها حق يراد به باطل‪ ،‬قولتهم‪(:‬كفر دون كفر)‪ ،‬فشبه المفهوم هذا‬
‫ومقولة التقسيم غايتهما وترجمتهما اإلبستملوجية واحدة‪ ،‬هي بناء تصور الدين عند الناس في القلوب‬
‫واألعمال والمجتمع والمؤسسات والمال والسلطة بناء ال يعنى إال بما يرضي كسرى وفرعون‪،‬‬
‫‪258‬‬

‫واألمر كله إليهم‪ ،‬الملك وما أنزل هللا من رزق للعباد لهم ولذريتهم من بعدهم ال ينازعهم فيه إال‬
‫خوارجي مارق عن الدين (دينهم وليس دين هللا يقينا)‪ .‬إن هذا هو ما يبنى وبني عن ذلك الخطأ‬
‫الفاحش المنكر العظيم‪ ،‬الخطأ في لفظ ومعنى (الرب) والربوبية الذي هو من أهم األلفاظ الموجهة‬
‫لبيان وخطاب القرآن العظيم‪ ،‬وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‪.‬‬
‫ولئن كان األمر كذلك على هذا الشكل في الموضوع أو المواضيع‪ ،‬فإن إشكال الصياغة والتحليل ال‬
‫شك تبقى أشد تعقيدا وأصعب توليفا‪ .‬فلنبدأ بحول هللا تعالى‪ ،‬مستعينين به سبحانه‪ ،‬سائلين توفيقه في‬
‫إبطال وتفنيد المباينة‪ ،‬المباينة التي ال تصح إال في مزاعم المقسمة وتصورهم‪ ،‬ومنظارهم الخاطئ‬
‫الفاسد من أية جهة ونحو نظرت إليه‪ ،‬شرعا ولغة‪ ،‬وحقيقة ومعنى‪.‬‬
‫بنا ء على اقتضاء المباينة للمفارقة وعدم االشتراك‪ ،‬فإن نقضها بميزان الحق الذي به قوام األرض‬
‫والسماء يكفله أن ندلي ونثبت وجود اشتراك ما؛ وحيثما كان هذا المشترك إن وجد مما اعتمده في‬
‫تأسيسه البناء فذلك أقوى حجاجا‪ ،‬ليس لذات اإلثبات فإنه قيمة وحكم ال يتجزأ وال يتفاوت‪ ،‬وإنما من‬
‫جهة الوضوح وجلوة البرهان بالنسبة لمدارك المخاطب بالبرهان‪.‬‬
‫إن هذا بالضبط هو ما نجده ونلفيه قائما ماثال في حالتنا هاته؛ إننا نجد مفهوم الربوبية لدى أصحاب‬
‫التقسيم الذي لم يرد في الكتاب وال في السنة قد ح ّدد وميزوه بخاصة وميزة الخلق أو الخالقية‪،‬‬
‫وا لتدبير والملك أو المالكية (مع تحفظ نسبي يهم الصيغ الواردة)‪ .‬وإذن فصحة التقسيم تستوجب قطعا‬
‫خلو مفهوم وحقيقة األلوهية من هاتيك الميزات والخاصات المميزة والمحددة‪ ،‬والتي بها على‬
‫االختصاص والقصر والتمايز تحدد مفهوم الربوبية‪.‬‬
‫هاهنا نذكر على وجه المسايرة اإلدراكي ة ونحن في هذا النقد والتحليل أن كل ما دون الوحي الكريم ال‬
‫يرتفع البتة عن الخطإ والزلل؛ والتقسيم شكال ومضمونا هو حكم وقول محض بشري‪ ،‬مصدره ال‬
‫يتجاوز وال يعدو في الحق هذه الدرجة من األحكام واألقوال‪ .‬ذلك واألصل والحق أن أقوال العلماء‬
‫والبشر جميعا تابعة‪ ،‬يعلم صحتها وسدادها من قول هللا تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ال‬
‫العكس‪.‬‬
‫قلنا لئن كان من شأن ما ذكرنا من الصفات والخصائص مميزا ومحددا تمايزيا للربوبية في البناء‬
‫التقسيمي وعند أصحاب التقسيم فإننا نجد في كتاب هللا تعالى وهو الحق من ربك‪ ،‬من بنى عليه‬
‫اهتدى ورشد وكان بناؤه قائما على أساس من الحق سويا‪ ،‬ومن نقضه في قوله وشيء من تقسيماته‬
‫‪259‬‬

‫وتصنيفاته كان بناؤه وكأنه في كل لحظة يرى منهارا يتساقط متهاويا؛ إننا نجد والقرآن العظيم بين‬
‫أيدينا نتلو فيه قوله جل وعال‪:‬‬
‫{ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله' إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض' سبحان‬
‫هللا عما يصفون' عالم الغيب والشهادة' فتعالى عما يشركون'}(المؤمنون‪)22-20‬‬
‫فهل يجرؤ أحد من بعد هذا أو يكون له في الحق موضع صدق أن يدعي أن لمقولة التقسيم مثقال ذرة‬
‫من الحق؟؟‬
‫إن كل ذي لسان عربي‪ ،‬وقلب سليم سوي‪ ،‬يعقل المعاني وتتراتب به‪ ،‬وتنتظم المدركات والحروف‬
‫والكلمات‪ ،‬والقرآن عربي مبين‪ ،‬والرسالة أنزلت لسانا عربيا مبينا‪ ،‬والعقل شرط ومناط التكليف‬
‫والخطاب‪ ،‬كل من يحقق هذا الشرط‪ ،‬وهو عتبة التكليف وتلقي الخطاب‪ ،‬يحكم حكم الحق بميزان‬
‫الرحمان في العقل والبيان أن من أبرز وأهم ما ذكر من خاصات التميز والتحديد لحقيقة األلوهية في‬
‫هذه اآلية الكريمة من القرآن العظيم الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم‬
‫حميد هي إسناد خاصة الخلق أو الخالقية‪{:‬إذا لذهب كل إله بما خلق'} كما جاء في قوله سبحانه‪{:‬أم‬
‫جعلوا هلل شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم' قل هللا خالق كل شيء' وهو الواحد‬
‫القهار'}(الرعد‪ )04‬وقوله عز وجل‪{:‬أيشركون ما ال يخلق شيئا وهم يخلقون'}(األعراف‪ )002‬ومع‬
‫هذا الخطاب العظيم ال يعزب عنا غاية ما مهدنا به وبدأنا به من التذكير اللغوي والبالغي في هذا‬
‫الحجاج والبرهان‪ ،‬الذي حرصنا كل الحرص مستمدين أوال وآخرا من هللا تعالى العزيز الوهاب‬
‫تحري الحق والسداد‪ ،‬يلزم استحضار التأصيل المعجمي السم الجالل (هللا)‪ ،‬التأصيل الذي اتفق عليه‬
‫األئمة األعالم في اللغة العربية‪ ،‬وذكره بالدرس سيبوبه والكسائي رحمهما هللا‪ ،‬أنه من جذر كلمة‬
‫ولفظ (إله)؛ فبذلكم يتم الوصل المتين وتتم الحجة البالغة لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد‪،‬‬
‫وصل اآليتين باآلية األولى‪ ،‬وهللا تعالى واسع حكيم‪.‬‬
‫وإن القرآن العظيم ونوره المجيد المبدد للظلمات والمزيح لما يعرض لعقل العبد من شبهات‬
‫وعوارض زالت االجتهاد ومختلف الرؤى واألقوال‪ ،‬وهو كتاب هللا العليم الخبير‪ ،‬وفيه السعة‬
‫المطلقة والحكم الحق في كل سؤال واختالف‪ ،‬المنزل بالحق وبالحق نزل‪ ،‬الحق في كل آن وكل‬
‫سؤال‪ ،‬نور آياته عمت اآلفاق‪ ،‬فأتت واسعة وبرهانا مبينا مفصال‪ ،‬داحضة لما جعلوه من باقي‬
‫الصفات من الملكية والتدبير للربوبية اختصاصا من دون األلوهية مما هو شرط في صحة بناء‬
‫تقسيمهم؛ يقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫‪260‬‬

‫{أم اتخذوا آلهة من األرض هم ينشرون' لو كان فيهما آلهة إال هللا لفسدتا' فسبحان هللا رب العرش‬
‫عما يصفون' ال يسأل عما يفعل' وهم يسألون' أم اتخذوا من دونه آلهة' قل هاتوا برهانكم' هذا ذكر من‬
‫معي وذكر من ق بلي' بل أكثرهم ال يعلمون الحق فهم معرضون' وما أرسلنا من قبلك من رسول إال‬
‫نوحي إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون'}(األنبياء‪)22..20‬‬
‫فليتدبروا قوله تعالى وهو الحق‪ ،‬وما يخالف الحق فهو باطل!‬
‫وهل يحق لنا وهذه آيات هللا بينات أن نزعم أو نقول للناس أن الملك والتدبير من خصائص الربوبية‬
‫دون األلوهية حتى يتم لنا ما نريد ونؤسس هذه المقولة المنكرة الخاطئة‪ ،‬مقولة أقسام التوحيد ؟!‬
‫وهللا الذي ال إله إال هو ال يسعنا في هذا الحال والمقام إال نذكر ونتلو قوله تعالى‪:‬‬
‫{ولقد أضل منكم جبال كثيرا' أفلم تكونوا تعقلون'}(يس'‪)40‬‬
‫ونذكر بما جاء من قوله سبحانه نذارة حكاية لقول إبليس لعنه هللا‪:‬‬
‫{قال فبما أغويتني ألقعدن لهم صراطك المستقيم ثم آلتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم‬
‫وعن شمائلهم' وال تجد أكثرهم شاكرين'}(األعراف‪)04-02‬‬
‫فهم يخالون أنفسهم يبينون للناس كما يزعمون العقيدة الصحيحة‪ ،‬وبجهلهم لمعايير القول وما ينبغي‬
‫للعالم القول فيه وما ال ينبغي له‪ ،‬وما ليس له بحق فكان الرسوخ في العلم وحقيقته اإلحجام عنه؛ وإنما‬
‫هذا موضع زلت به أقدامهم وأتاهم اللعين عن أيمانهم وهم ال يشعرون!‬
‫وما يزيح هذه المقولة‪ ،‬مقولة أقسام التوحيد ويجهز عليها وينسفها نسفا‪ ،‬فال يبقي لها في سوي القلوب‬
‫صدقا موضعا‪ ،‬هو التماثل الداللي الذي ال نجد له ما ينقضه في الكتاب والسنة ويدحض الفصل‬
‫والمباينة وحقيقته المثناة في القرآن في قوله تعالى‪{:‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا‬
‫والمسيح ابن مريم' وما أمروا إال ليعبدوا إلها واحدا' ال إله إال هو' سبحانه عما يشركون'}(التوبة‪)10‬‬
‫فما بعد الواو من قوله سبحانه{وما أمروا إال لعبدوا إلها واحدا'‪ }..‬بيان موصول بما قبله‪ .‬ولهذا جاء‬
‫فيما ذكر من قوله في (فتح المجيد) بصدد هذه اآلية‪ <:‬فإن اإلله هو المعبود>‪ .‬وباستحضارنا للمفهوم‬
‫والمعنى الذي أقره النبي صلى هللا عليه وسلم للربوبية ولمعنى األرباب الذي قال به عدي بن حاتم‬
‫والمتضمن في قوله‪ <:‬ما عبدناهم>؛ بهذا يحصل ويتبين أن كل معبود رب‪.‬‬
‫‪261‬‬

‫فهذا إذن هو المعنى الذي أقره النبي صلى هللا عليه وسلم للربوبية ولفظ (الرب) و(األرباب)‪ ،‬وهو‬
‫المعنى الصحيح ال غيره؛ يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون'}(النحل‪)33‬‬
‫{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم' فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى‬
‫هللا والرسول إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر' ذلك خير وأحسن تأويال'}(النساء‪)28‬‬
‫فال وجه إذن وكما أشار إليه صاحب (فتح المجيد) في فصل حقيقتي األلوهية والربوبية‪ ،‬وبأدق‬
‫التعبير بين مفهومي وحقيقتي (اإلله) و(الرب)‪ ،‬ألنه إذا كان اإلله هو المعبود وكل معبود رب‪،‬‬
‫فالتماثل أو التكافؤ الوظيفي في المعنى البياني واللسان بين هذين اللفظين المحوريين في خطاب‬
‫الوحي الكريم يكاد يكون بمعيار التسديد والتقريب أقرب من غيره إلى مفهوم الترادف؛ لكننا نذكر أن‬
‫رد التباين يكفي فيه االشتراك‪ ،‬وهو ما بيناه وأثبتناه‪.‬‬
‫‪262‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫سوى عند ابن تيمية‬
‫معنى الفناء عن شهود ال ِّ‬

‫لئن كان ابن تيمية قد ق ال أقواال ولم يصب في بعضها فإنه لم يكن نبيئا وال رسوال حتى تجب له‬
‫العصمة كما تجب لألنبياء عليهم والرسل جميعا‪ ،‬وإنما كان في مواجهة وعاش في زمن كان سالح‬
‫القوم فيه وقاموسهم المعاني الصوفية وألفاظها‪ ،‬فكان عليه لزاما إن هو أراد التصدي لهم وتسفيه‬
‫أباطيلهم أن يتوسل اللفظ الذي به يلفظون وأن يخاطبهم بالتعبير الذي به يعبرون‪ ،‬فيكون ذلك له أقوى‬
‫سالحا وقوال بليغا لهم في أنفسهم وأشد وقعا‪ .‬فلم يكن والحال هذه أن وقع كما هو األصل في قول‬
‫البشر جميعا وأن يصيبه أمر من االختالف وعوارض الخطإ‪ ،‬وليس في ذلك أمر مما يعيب العالم أو‬
‫يقدح في قيمته العلمية‪ ،‬وإنما هي طبيعة البشرية وحالة غير العصمة التي تعترض وتعتري الناس‬
‫جميعا؛ لكن السوء والخطر كله فيمن يعد قول شيخه وعالم من العلماء كأنه معصوم وقوله بمنزلة‬
‫القول الذي ال احتمال لورود الخطإ عليه‪.‬‬
‫لم يكن أمرا عجبا إذا أن تتخلل تصانيف وتفصيل القول في كالم ابن تيمية ضروب مما يعترض قول‬
‫البشر من الخطإ واالختالف‪ ،‬وهو في كل ذلك مأجور في اجتهاده إنشاء هللا تعالى بنص الخبر‬
‫المحفوظ عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن العالم إذا اجتهد وأصاب فله أجران‪ ،‬وإن أخطأ فله‬
‫أجر‪.‬‬
‫إن ما سارت به بدعة تقديس العلماء بهذه األخطاء واالختالف في ثنايا أقوال المشايخ عامة وأقوال‬
‫ابن تيمية خاصة أنها قد جعلت مقدمة على غيرها وهي النصوص التي يؤخذ فهم الدين منها‪ ،‬بل ولم‬
‫يعتبر فيها شرط طوريتها وحدود مجال خطابها؛ ذلك وأن الحكم الحق في هذا وقانونه المحكم الثابت‬
‫مضمن فيما يستنبطه أولو العلم والفقهاء من قوله تعالى‪{:‬ق' والقرآن المجيد'}(ق'‪ )0‬وهذه خاصة‬
‫للوحي ال يشرك فيها‪.‬‬
‫فحب ابن تيمية رحمه هللا وإجالل العلماء ليس ينبغي بحال من األحوال أن يكون مظنة ووليجة يؤتى‬
‫منها فيتم الوقوع فيما وقع فيه من قبلنا من أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا‬
‫بتقديم وتمجيد بمعنى تأبيد قولهم‪ ،‬وهم بشر ال ينبغي لهم مطلق العلم والخبرة حتى يطلق مجال قولهم‬
‫ويسطر لمن قبلهم ولمن بعدهم‪.‬‬
‫‪263‬‬

‫إن الرجوع إلى قول ومفهوم (الربوبية) الذي قال به وصاغ عليه أقواله ابن تيمية هو أمر يلزمه‬
‫وتحتمه الضرورة العلمية وشرط الموضوعية في كون المقولة التقسيمية التي تفتقد افتقادا منبثا عن‬
‫أي أصل يربطها بالكتاب والسنة‪ ،‬وال هي تؤثر في كالم الصحابة رضي هللا عنهم وال من يليهم من‬
‫المصطفين من العلماء والفقهاء حفظة العلم ونور الحق األبلج المبين‪ ،‬إن كان هذا حقا وهذا مسار‬
‫العلم وآثاره والحمد هلل محفوظ حجة ثابتة لمن لم يحصل له اليقين‪ ،‬فإن المنزع الذي يلوح للدارس‬
‫المتفحص ألوصال هذا القاموس التقسيمي ببوثقته يتحدد من خالل البؤرة المشكلة األدنى المنطبقة‬
‫في الشخصية والعلم العلمي‪ ،‬هذا الذي هو ابن تيمية رحمه هللا تعالى‪ ،‬أحد أكبر وأبرز علماء اإلسالم‬
‫قاطبة؛ وإن كال إال يؤخذ من قوله ويرد إال الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪:‬‬
‫<< ومن الناس من يجعل هذا (أي الفناء عن شهود السِّوى) من السلوك‪ ،‬ومنهم من يجعله غاية‬
‫السلوك حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية‪ ،‬فال يفرقون بين المأمور والمحظور‪،‬‬
‫والمحبوب والمكروه‪ .‬وهذا غلط عظيم‪ ،‬غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع‬
‫واألمر والنهي‪ ،‬وعبادة هللا وحده وطاعة رسوله‪ .‬فمن طلب رفع إنيته بهذا االعتبار لم يكن محمودا‬
‫على هذا‪ ،‬ولكن قد يكون معذورا‪.‬‬
‫وأما النوع الثالث‪ :‬وهو الفناء عن عبادة السوى – فهذا حال النبيين وأتباعهم‪ ،‬وهو أن يفنى بعبادة هللا‬
‫عن عبادة ما سواه‪ ،‬وبحبه عن حب ما سواه‪ ،‬وبخشيته عن خشية ما سواه‪ ،‬وطاعته عن طاعة ما‬
‫سواه‪ ،‬وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه؛ فهذا تحقيق عبادة هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وهو الحنيفية‬
‫‪107‬‬
‫ملة إبراهيم>>‬
‫ليس من بد حتى نواصل حديثنا‪ ،‬ولفهم مضمون الخطاب وفحوى الكالم‪ ،‬من شرح وتقريب معاني‬
‫هذه التعابير واأللفاظ الواردة هنا‪ ،‬التعابير التي قد يكون أكثرنا ال عهد له بها من قبل‪:‬‬
‫أما (الفناء عن شهود السوى) فهو كما يرى مركب من خمسة عناصر‪ ،‬وباالصطالح األلسني خمسة‬
‫مؤلفات مباشرة‪ ،‬من دون أن نعني بها حتما معنى وحقيقة المورفومات‪ ،‬هذه المؤلفات هي‪:‬‬
‫الفناء‪ -‬عن‪ -‬شهود‪ -‬ال‪ -‬سوى‪.‬‬

‫‪107‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم أحمد بن تيمية‪ -‬المجلد الثاني‪ :‬توحيد الربوبية‪.‬ص‪103‬‬
‫‪264‬‬

‫بيد أن االتجاه والمنحى األنجع في استخالص الداللة التركيبية‪ ،‬مادة واقتصادا‪ ،‬هو االنطالق من‬
‫تحديد معنى السوى‪ .‬وهذا التحديد إنما يتم باإلشارة إلى االنتقال الوظيفي لمادة (سوى) كأداة إلى‬
‫داللتها على اسم ذات باقترانها ب(ال)‪.‬‬
‫والتعبير بصفته التخصيصية لقاموسه الصوفي متضمن لحذف أو تقدير لفظي ومعنوي‪ .‬فالسوى هنا‬
‫يكافئ تركيب (سوى هللا)–سبحانه وتعالى علوا كبيرا‪-‬‬
‫على ضوء هذا ومنه نشرف على الداللة التركيبية‪ ،‬خصوصا إذا أبصرنا بالتجانس الداللي للمؤلفات‬
‫الثالثة‪( :‬الفناء ‪ -‬عن – شهود) المدعم أساسا باألداة (عن) الدالة على المفارقة‪.‬‬
‫نخلص إذا أن قولهم‪( :‬الفناء عن شهود السّوى) هو الحال التي ال نرى فيها الوجود والمخلوقات كلها‬
‫والكون إال أثرا لحول هللا وقوته وكأنها ال وجود لها‪.‬‬
‫وأما التركيب الثاني فداللته من داللة التركيب األول مستنبطة‪ ،‬ومنوال التحديد لها باستبدال مؤلف‬
‫(الشهود) ب(العبادة)‪.‬‬
‫‪265‬‬

‫الفصل السادس‬
‫التأطير الخاطئ لمعنى الربوبية عند ابن تيمية‬

‫نعود اآلن إلى النص السابق أعاله وإلى قوله‪:‬‬


‫<<‪ . .‬حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية‪ ،‬فال يفرقون بين المأمور والمحظور‪،‬‬
‫والمحبوب والمكروه>>‬
‫هذا التأطير‪ ،‬وبشكل جلي وصورة واضحة ال تقبل المماراة وال احتمال فيها للجدل‪ ،‬ال يفصل‬
‫الربوبية وال يفارقها؛ وبلفظ أدق ال يباينها عن المحظور وعن المكروه‪ .‬وهو تأطير يؤكده بكل‬
‫وضوح الجوار البعدي وقوله‪:‬‬
‫<<‪ . .‬وهذا غلط عظيم غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع واألمر والنهي‪،‬‬
‫وعبادة هللا وحده وطاعة رسوله>>‬
‫إننا هنا تاهلل الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان‪ ،‬وأرسل رسوله صلى هللا عليه وسلم ليبين للناس ما‬
‫نزل إليهم‪ ،‬إننا هنا ال جرم أمام معنى خاطئ لمفهوم الربوبية!‬
‫ولئن كان لكل قول من غير عند هللا تعالى اختالف كثير كما أخبرنا سبحانه وتعالى‪ ،‬فهذا منه يقينا؛‬
‫فإن الحق ما جاء به الوحي وبينه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو الحق من ربك وأحسن تفسيرا؛‬
‫إن النقيضين ال يجتمعان‪ ،‬فالرسول صلى هللا عليه وسلم بين لعدي بن حاتم وخطابا مجيدا لمن آمن‬
‫من الناس إلى يوم الدين بلسان عربي مبين أن التحليل والتحريم من حقيقة الربوبية‪ ،‬ولم تتحدد في هذا‬
‫الخبر وسياقه ومقامه إال بذلك؛ وإذا ليس تصور تقاطع الربوبية والفناء في توحيدها بالمحظور‬
‫والمكروه‪ ،‬وشهود أحكامها من غير شهود الشرع واألمر والنهي كما هو ثابت وذات ما جاء على‬
‫لسان ابن تيمية فهو خالف الحق ونقيضه‪ ،‬ولسنا نعتبر ذلك إال من أخطاء العلماء وزلة العالم‪ .‬وإن‬
‫ابن تيمية رحمه هللا لم يكن نبيا حتى يقال بعصمته‪.‬‬
‫ولنعد مرة أخرى لقراءة متأنية وتحليل أدق‪ ،‬فإننا نلفي الصورة الجلية المحددة والواضحة لمعنى‬
‫وداللة الربوبية المتفقة والمتسقة‪ ،‬بالمعنى التركيبي والفقهي والعقلى كذلك‪ ،‬مع الوضع التعارضي‬
‫‪266‬‬

‫والمناقض لألمر والنهي الشرعيين‪ ،‬وذلك في قوله‪<< :‬فال يفرقون بين المأمور والمحظور‪ ،‬أي في‬
‫ذات الحال‪ ،‬حال شهود الفناء في توحيد الربوبية>>‪.‬‬
‫فتعالى هللا الحق! وهل الربوبية نقيض للعبادة التي حقيقتها وجوهرها االئتمار واالنتهاء الشرعيان؟!‬
‫كال! إن القرآن ال يفتأ يذكر بهذه الحقيقة الكبرى وهذه الصلة التأصيلية والبيانية جميعا لداللة‬
‫الربوبية‪ ،‬وإن كان لخطإ العالم مستساغ ألنه بشر يجري عليه ما يجري على البشر‪ ،‬فإن المستبشع‬
‫المنكر هو عدم تصور الخطإ والزلل عليهم مما هو من خالل ودأب االتباع غير الصحيح والتقليد‬
‫الغالي في أقوال الشيوخ والعلماء مما سلكه من قبلنا؛ قلنا فالقرآن يرسخ ويجعل من هذه الحقيقة نصا‬
‫وعلما مسطورا في مواضع كثيرة‪ ،‬وآيات بينات مثاني عدة‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار' ما تعبدون من دونه إال أسماء‬
‫سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل هللا بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين‬
‫القيم' ولكن أكثر الناس ال يعلمون'}(يوسف‪)31-12‬‬
‫كما ذكرناه وأومأنا إليه من قبل فهذا المعنى والتمثل الخاطئ الذي زل فيه ابن تيمية يؤكده ويشهد‬
‫عليه الجوار البعدي‪ ،‬وفيه تعبيره الواضح كل الوضوح‪ <<:‬بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود‬
‫الشرع>>‪.‬‬
‫فداللة المفارقة البارزة والقوية المجسدة هنا والممثلة ب(عن) بالغة وتغني عن غيره في الدليل‪.‬‬
‫ثم إنه لما كان بفعل التراكم والتسلسل أن ال يؤدي الخطأ إال إلى الخطإ‪ ،‬فإن ما تم تأسيسه وبناؤه على‬
‫هذا الخطإ الواضح في اعتبار داللة الربوبية ولفظ (الرب) اللفظ المحوري في التنزيل‪ ،‬لم يؤد ولم‬
‫يتولد عنه إال أحكام وأقوال خاطئة بين خطؤها وظاهر من أي وجه نظرت إليها عوجها ومخالفتها‬
‫للحق والميزان؛ وفي كل ذلك فإن أعظم هذه األخطاء وأشدها بعدا عن الحق والميزان‪ ،‬الذي أبى‬
‫الحق إال يكون به البيان والجلوة لذوي البصائر والنهى في خطإ األصل الذي تمخضت عنه‬
‫وتأسست‪ ،‬كان أشدها وأعظمها نكارة قولتهم‪ :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية!‬
‫إن القرآن العظيم براء من هذا القول وإنه لو يعلمون منكر من القول عظيم!!‬
‫وللرد على المقسمة هؤالء الذين جعلوا القرآن عضين‪ ،‬والذين يحرفون الرسالة والتنزيل وهم ال‬
‫يشعرون‪ ،‬ألن من يحرف المعاني واأللفاظ المحورية للتنزيل وخطابه فإنه ال محالة في حاله محرف‬
‫للخطاب كله‪ ،‬لنرد عليهم وليعلموا أنهم ال مرية قد زلوا وضلوا الضالل البعيد ولعلهم من بعده‬
‫‪267‬‬

‫يرجعون؛ لنسأل أصحاب مقولة التقسيم والمقولة الشنعاء‪ :‬قريش كانت تقر بتوحيد الربوبية ! لنسألهم‪:‬‬
‫أهم أم هللا العزيز الحكيم أصدق قيال؟‬
‫إننا نذكرهم عساهم يذكرون أنه مما نزل من القرآن المحكم الصريح قوله تعالى‪:‬‬
‫{الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إال أن يقولوا ربنا هللا'}(الحج‪)18‬‬
‫أو تخرج قريش أناسا رجاال ونساء إال أن يقولوا ربنا هللا وهي تقر بذلك؟!‬
‫إن الحق ال يختلف وإن القرآن ال اختالف فيه؛ وإنما االختالف من عوارض المخلوق؛ وأصله هنا هو‬
‫التأطير األول الذي قال به ابن تيمية رحمه هللا؛ وهو لم ينبثق ولم يقل به إال في شروط تاريخية‬
‫محددة‪ ،‬كما أنه ال يمكن لنا أن نسلك الحق وننهج طريقه ومنواله في نقد ودراسة أي نتاج علمي‬
‫وفكري إنساني من غير االعتبار الملم بالبيئة التاريخية التي احتضنت وأعطت هذا النتاج‪.‬‬
‫فإذا كان التناسق سنة وقانونا كونيا ساريا‪ ،‬مترجما في كل الخلق ومستوياته جميعا وأبعاده‪ ،‬فال يجوز‬
‫ألي توجه علمي ودراسي‪ ،‬ال يجوز له تجزيء المواضيع والظواهر موضوع الدراسة‪ ،‬وال يحق بتر‬
‫هذه األجزاء عن بعضها أو عن كلها‪ ،‬ألن حقيقتها ومكوناتها ال تدرك كما هي إال في إطار وداخل‬
‫وحدتها الكلية‪ ،‬وباعتبار وإطار الشروط المحددة لهذه الوحدة‪ ،‬التي تعتبر بحق مكافئا لها وجوديا‬
‫وقيميا‪ .‬فكما ال يجوز الحديث ودراسة نبات ما دون اعتبار بيئته الجغرافية على أدنى الشروط‪ ،‬وال‬
‫يتم وال يحصل الضبط الصحيح للتفاعالت البيولوجية والكيميائية إال بالضبط الدقيق للشروط‬
‫الفيزيائية المحيطة كعامل موجه؛ فكذلك األفكار والمقوالت‪ ،‬والنتاجات الفكرية والعلمية‪.‬‬
‫ولننظر إلى ما هو أهم‪ ،‬لننظر إلى أحد أهم معايير التنزيل التشريعي‪ ،‬وهو أقرب إلى حقيقة وصلب‬
‫قضيتنا وموضوعنا‪ ،‬لننظر إلى حقيقة وقانون الناسخ والمنسوخ من وجه التناسق بين األحكام ومجال‬
‫سريانها‪ ،‬فهذا يجعلنا نعود إلى مضمون الحكمة وجوهرها كونها العامل المرتب للحقائق ومكونات‬
‫هذه الحقائق‪ ،‬ودرء ما إن افتقدت فيه عد إشكاال ولبسا مستعصيا على الحل أو اختالفا جائزا ال فصل‬
‫فيه‪ ،‬واألمر والحقيقة غير ذلك‪. .‬‬
‫ولننظر كذلك إلى ما هو مبتدؤه وأصله يحتوي بالحق على الجائز من االختالف‪ ،‬لننظر إلى مآخذ‬
‫القول عند األئمة األربعة‪ ،‬فإنه اختالف قولي ليس بالفقهي على المعنى الذي للفقه واألصول‪ ،‬ألن‬
‫القول والحكم ال ينظر إليه وال اعتبار له إال بمناطه وسببه‪ .‬وهذا ليس إال عين الحكمة واإلعمال لمبدإ‬
‫‪268‬‬

‫التناسق باعتبار الوحدة الجوهرية والوظيفية‪ ،‬التي تكون بها الحقائق واألشياء من غير بتر وال‬
‫ابتسار‪.‬‬
‫والتقليد والتعصب يخالف هذا من كل هاتيك الوجوه‪ ،‬ألنه يفتقد اإلدراك الصحيح لمعنى االتباع وال‬
‫يتصور حقيقة العلم التصور الحق‪ .‬وإن هذا الخلط بين االختالف الفقهي‪ ،‬أي الذي ليس المختلف فيه‬
‫منطبقا إال باألحكام المرتبطة أساسا بمحدداتها وشروطها كمكون فقهي إلى جانب األصل الثابت‬
‫والمحكم‪ ،‬وبين االختالف بالمعنى المخالف والمعارض‪ ،‬أي بالمعنى المنطقي والعقلي الكلي‪ ،‬هذا‬
‫الخلط هو اإلشكال الحقيقي والعقبة الكؤود في وجه االعتراض ورد التفرقة المذهبية‪ ،‬ذلك أن‬
‫االختالف األول باعتبار نظمته كوحدة فقهية ال يؤول إال إلى التوافق واألصل األول‪.‬‬
‫‪269‬‬

‫الفصل السابع‬
‫اختالف ابن تيمية في قوله تعالى‪{:‬إياك نعبد وإياك نستعين'}‬

‫الفصل نلفيه مؤكدا عند ابن تيمية رحمه هللا وواردا في أقواله جميعا‪ ،‬تلك التي أراد من خاللها تفصيل‬
‫ما سمي ب(التوحيد)‪ ،‬هذا اللفظ الذي ال يصح وال يجوز في حقه سبحانه وتعالى ألن هللا واحد أحد‪،‬‬
‫سبحانه وتعالى عما يصفون! وإنه كما أقمنا الدليل عليه وأتممنا بنعمة هللا العليم الحكيم بيانه ال يصح‬
‫لغة‪ ،‬وإنه ال يعقل من يبغي ويزعم توحيد الواحد‪ ،‬ألنه ال يوحد إال المتعدد والجمع‪ ،‬فأنى يصرفون؟!‬
‫وإنما يجوز هاهنا الكالم عن توحيد العبادة ألنه قد يشرك فيها غير هللا تعالى‪ ،‬فيجوز إسناد اللفظ هذا‬
‫والمصدر إلى لفظها‪ ،‬ال إلى لفظ واسم الجالل سبحانه‪.‬‬
‫فقول ابن تيمية‪( :‬إياك نعبد) من معنى األلوهية‪ ،‬والثاني‪ ،‬أي (إياك نستعين)‪ ،‬من معنى الربوبية‪-‬‬
‫(الفتاوى‪ .‬المجلد األول‪ .‬األلوهية‪ .‬ص‪ -)22‬هذا القول يرسخ الفصل ويثبته‪.‬‬
‫والمثير هنا هو التفاقم الجلي والكلي‪ ،‬ليس فحسب من الزاوية المرجعية للحق الفاحصة والممحصة‬
‫للكلم ولتراكيبه وصلة النسق والتركيب بالمعانى‪ ،‬وهي في الحق دليل وحجة كافية للحسم؛ بل إننا‬
‫نالحظ ونرى أن هذا الكالم والقول التفصيلي والتفسيري ال يتوافق وال يتناسق والقاموس الذي عليه‬
‫تأسس ومثل قاعدة البناء الباطل للتقسيم‪ .‬ألم يجعل هذا التقسيم‪ ،‬تقسيم التوحيد كما يزعمون‪ ،‬الذي ما‬
‫أنزل به من سلطان وما جاء به هللا تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم يقينا‪ ،‬ألم يجعل معنى الدعاء‬
‫واالستعانة وحقيقته ويض ّمنهما في مسمى األلوهية؟!‬
‫ثم يظهر ويستبين هذا التفاقم الذي ليس يرى إال مثال وتجليا واضحا لقوله عز وجل ومن أصدق من‬
‫هللا حديثا‪{:‬أفال يتدبرون القرآن' ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'} (النساء‪،)80‬‬
‫وهو مثل لالعتبار وتبصرة لمن هم دون ابن تيمية ودون شخصيته العلمية الحكيمة ممن يرتقون‬
‫منابر العلم والفتوى والقول في الدين؛ يقول ابن تيمية‪:‬‬
‫‪270‬‬

‫<< إما أن يعبده ويستعين غيره‪ ،‬مثل كثير من أهل الدين‪ ،‬يقصدون طاعة هللا ورسوله وعبادته وحده‬
‫ال شريك له‪ ،‬وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم‪ ،‬ورزقهم‪ ،‬وهدايتهم‪ ،‬من جهته من الملوك‬
‫‪108‬‬
‫واألغنياء والمشايخ>>‬
‫فالضمير في قوله (يعبده) و(غيره) مرجعه اسم الجالل‪ .‬وإذا الحظنا نفس الالتناسق مع جزء من‬
‫البناء‪ ،‬أي مع الزم القسمة وقاموسها‪ ،‬فإنه يظهر جليا أن هذه الكلمة مختلة البنيان ال تستقيم على‬
‫معنى‪ ،‬إذ م ن حقيقة العبادة استلزام الخضوع الحقيقي‪ ،‬وما كان غير ذلك فال يصح أن يطلق عليه‬
‫عبادة وال أن يسمى في اللسان وال التعبير عنه كذلك‪.‬‬
‫فقولنا‪( :‬إما أن يعبده) و(يستعين غيره) قول يسند إليه المعنى البياني المتولد عما تفيده األلفاظ حقيقة‪،‬‬
‫وكما هو صحيح في لسان العرب‪ ،‬ال بما تحمله األلفاظ من معاني ودالالت نسبية ومن اصطالحات‬
‫ال تعم‪ ،‬وغيرها‪ ،‬نعني لمن ال يحقق معناها‪ ،‬كما هو حال الذين يدعون عبادة هللا تعالى وهم يعبدون‬
‫غيره‪ ،‬بل وجب تحاشي واجتناب كل قول من شأنه أو قد يؤدي إلى تخصيص داللة العطف في قوله‬
‫تعالى‪{:‬إياك نعبد وإياك نستعين'} كما أفاده مثالنا على المباينة‪.‬‬
‫إن االستعانة لغة طلب العون‪ ،‬والطلب دعاء؛ وقد جاء في الخبر أن الدعاء مخ العبادة‪ ،‬بمعنى صلب‬
‫حقيقتها ومحورها وعمدتها‪ .‬ومنه يثبت ثبوتا غير مشكوك فيه خطأ من يقول ويجعل االستعانة مباينة‬
‫للعبادة كما أخطأ فيه ابن تيمية فيه هاهنا‪ .‬وهو لم يكن رسوال وال نبيا يوحى إليه حتى تحق له العصمة‬
‫ويستحيل في حقه الخطأ‪ .‬وهذه أحاديث واردة محققة نسوقها من فتح المجيد‪:‬‬
‫‪"-‬الدعاء مخ العبادة"– لفظ حديث ضعيف أخرجه الترمذي‪ :‬كتاب الدعوات (‪ :)1170‬باب ما جاء‬
‫في فضل الدعاء‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث غريب‪ .‬وضعفه األلباني في تخريج المشكاة (‪)2110‬‬
‫وضعيف الجامع (‪ .) 1111‬ورواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫‪"-‬ادعوا هللا وأنتم موقنون باإلجابة"– أحمد والترمذي وابن ماجة والبخاري في األدب المفرد من‬
‫حديث أبي هريرة‪ .‬وقال ابن كثير في تفسير(‪ :)82\3‬إسناده ال بأس به‪ .‬وحسنه األرناؤؤط في تخريج‬
‫جامع األصول‪ .‬وصححه األلباني في صحيح الجامع‪ .‬ورواه الحاكم‪.‬‬

‫‪ 108‬نفس المصدر‪.‬ص‪14‬‬
‫‪271‬‬

‫‪" -‬من لم يسأل هللا يغضب عليه" – الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة‪ ،‬وحسنه األلباني في‬
‫شواهده‪.‬‬
‫‪"-‬ليس أكرم على هللا من الدعاء"– رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه‪.‬‬
‫‪"-‬الدعاء سالح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات واألرض"– رواه الحاكم وصححه‪.‬‬
‫‪"-‬سلوا هللا كل شيء حتى الشسع إذا انقطع" الحديث‪ -‬رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة عن‬
‫عائشة رضي هللا عنها موقوفا‪ ،‬وسنده حسن‪ ،‬وعزاه الحسن في المجمع إلى أبي يعلى عن عائشة‬
‫موقوفا‪ ،‬وقال‪ :‬رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد هللا بن المنادي وهو ثقة‪ – .‬أفاده الدوسري‬
‫في النهج السديد‪.‬‬
‫‪-‬وقال ابن عباس رضي هللا عنهما‪" :‬أفضل العبادة الدعاء" وقرأ‪{41-31:‬وقال ربكم ادعوني‬
‫أستجب لكم'}– رواه ابن المنذر والحاكم وصححه‪.‬‬
‫‪"-‬اللهم أسألك بأن لك الحمد ال إله إال أنت المنان"‬
‫‪"-‬اللهم إني أسألك بأنك أنت هللا ال إله إال أنت األحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد"‬
‫قال في فتح المجيد‪:‬‬
‫<< وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر‪ ،‬في الدعاء الذي هو السؤال والطلب‪ ،‬ومن‬
‫جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال األئمة سلفا‬
‫‪109‬‬
‫وخلفا>>‬
‫وإذا وكما أشار إليه الشيخ عبد الرحمان بن حسن فالدليل قائم ثابت‪ ،‬وإنما ابن تيمية بشر من البشر‬
‫جميعا ليسوا ممن ال يصيبهم سنة وال غفلة فال ينسون وال يخطئون أبدا‪ .‬وهذا كتاب هللا تعالى لسانا‬
‫عربيا يتلى وفيه قوله تعالى كما ذكره الشيخ في هذا المقام والسياق‪:‬‬
‫{قل أتعبدون من دون هللا ما ال يملك لكم ضرا وال نفعا وهللا هو السميع العليم'}‪72:2‬‬

‫‪ 109‬فتح المجيد‪.‬ص‪202‬‬
‫‪272‬‬

‫{قل أندعو من دون هللا ما ال ينفعنا وال يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا هللا كالذي استهوته‬
‫الشي اطين في األرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدي ائتنا' قل إن هدى هللا هو الهدى وأمرنا‬
‫لنسلم لرب العالمين'}‪80:4‬‬
‫ولنمعن ولنتدبر قوله تعالى‪:‬‬
‫{وأعتزلكم وما تدعون من دون هللا وأدعو ربي عسى أال أكون بدعاء ربي شقيا' فلما اعتزلهم وما‬
‫يعبدون من دون هللا وهبنا له إسحاق ويعقوب وكال جعلنا نبيئا'}‪38:02،32‬‬
‫قال عبد الرحمان بن حسن‪ :‬فصار الدعاء من أنواع العبادة‪ .‬ونضيف هنا لئال يكون علينا به تبعة‪ ،‬أن‬
‫هذا اللفظ الذي قال به وعبر به الشيخ وإن كان صوابا صحيحا النحو الذي نحاه‪ ،‬فإنه ال ينطبق بعين‬
‫وذات الحق‪ ،‬فإن التكافؤ في الحقيقتين وانطباقهما هو المعنى والحكم المستنبط‪ ،‬ال كون الدعاء فحسب‬
‫نوعا؛ وإنما العبادة عالقة وجودية وقيمة وحكم؛ فمعناها هنا مكافئ للدين‪ ،‬ال لداللة ما يفي به اللفظ‬
‫ويصرف إليه في القاموس التعليمي بصيغ الجمع (العبادات)‪.‬‬
‫من أجل هذا كله وبه لزم الحكم حكما باتا ال رجعة فيه أن قول ابن تيمية رحمه هللا بمباينة (إياك نعبد)‬
‫عن (إياك نستعين) هذا القول في المباينة ال يصح ويخالف الحق‪ ،‬وهللا هو الحق ويهدي إلى صراط‬
‫مستقيم‪.‬‬
‫‪273‬‬

‫الفصل الثامن‬
‫معنى الكلمات الكونية عند ابن تيمية‬

‫أما البرهان الواضح الثابت بدليله على أن األصل في مخالفة التقسيم وما انبنى عليه من أقوال وفقه‬
‫مجزئ‪ ،‬ومن تفاصيل ال زالت وامتدت إلى زماننا‪ ،‬هو البناء على الحيز الداللي الذي ال ينطبق‬
‫بالداللة الصحيحة للفظ (الرب) ولمعنى الربوبية في اللسان العربي‪ ،‬وذلك مما نستجليه في كالم‬
‫وقاموس ابن تيمية رحمه هللا‪ ،‬والذي نؤكد مرة أخرى على طبيعته الجدلية‪ ،‬أي المولدة ضرورة‬
‫جدلية اقتضاء لمناسبة الرد والحجاج‪ ،‬القاموس االصطالحي والمفاهيمي الذي ال ينفك متصال‬
‫ومرتبطا بالتشعبات الفكرية التي كان رضي هللا عنه في مواجهتها‪ .‬فمفهوم الكلمات الكونية وما هو‬
‫من حمولتها يحدد لنا مفهوم الربوبية وتأطيره وتصوره الداللي عند ابن تيمية‪ ،‬وهو مفهوم وتصور‬
‫أكثر أو يكاد يكون تأطيره تحديدا بمعنى السيادة والتدبير وداللة التصرف والقهر؛ وبقول وتعبير‬
‫آخر‪ :‬مفهوم يرتبط بعالقة علوية قهرية أحادية المنحى‪ ،‬من حقيقة أن هلل سبحانه وتعالى الخلق‬
‫واألمر‪ ،‬وله المثل األعلى سبحانه‪ ،‬اتجاه المخلوق‪ .‬هذا االرتباط والتأطير لداللة الربوبية هو الذي‬
‫أدى من دون شك إلى مباينتها عن األلوهية‪.‬‬
‫ومما ال يمكن بأية حال تجاوزه وإهماله هو أن البيئة التاريخية كانت محددا خطابيا‪ ،‬ال في عنصر‬
‫المفكر فيه وقضاياه فحسب‪ ،‬وإنما تحديدا في أسلوب هذا الخطاب وصيغ تشكيله وقاموسه‪.‬‬
‫والموضوعية في قراءة ودراسة أي خطاب وعموم النتاج البشري الفكري يمثل هذا فيها شرطا أكيدا‪،‬‬
‫ومن ثمة فليس من علمية إال بهذا الشرط؛ فالعلم إنما هو إدراك الشيء كما هو بالحق‪ ،‬وال يتم الوقوف‬
‫على ذلك إال ب في إطار الواقعية والموضوعية‪.‬‬
‫هذا هو المعيار في المقاربة الذي يتم به ها هنا النقد والدراسة‪ ،‬أي بنسبية معيارية كي تدرك ضرورة‬
‫االعتبار لعالقة ومعنى الخطإ واالختالف بالنسبة للعام بما هو بيئة تاريخية وفكرية‪ .‬والمثل الواضح‬
‫الذي يثبت ويحكم بهذه التبعية واالرتباط العضوي للعالم بطوره وبيئته التاريخية هو الحقل والطور‬
‫التاريخي الذي ولّد ونشأ فيه علم الكالم‪ ،‬بكل زخمه ونوعية مواضيعه‪ ،‬واختالف طروحاته وجدة‬
‫قاموسه‪.‬‬
‫‪274‬‬

‫لنعد إذا إلى ما نحن بغايته من تبيان واستجالء هذا الوصل إلى حد شبه التطابق في التمثيل المعرفي‬
‫بين تحديد وتصور معنى (الربوبية) والمعنى الذي تردد وبه صاغ فكره ابن تيمية من خالل معنى‬
‫(كلمات هللا التامات) كما هو ثابت ومسطر في قوله‪:‬‬
‫<< وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية والقيومية الشاملة لكل مخلوق من‬
‫األعيان والصفات‪ .‬وهذه األمور قائمة بكلمات هللا الكونية التي كان النبي صلى هللا عليه وسلم يستعيذ‬
‫بها في قول‪ <:‬أعوذ بكلمات هللا التامات التي ال يجاوزهن بر وال فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ‪،‬‬
‫ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها‪ ،‬ومن شر كل طارق إال طارقا يطرق بخير يا رحمان>‬
‫فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضا ومطلوب منه‪ ،‬وهو محبوب الحق‬
‫ومرضيه من التوحيد اإللهي‪ ،‬الذي هو عبادته وحده ال شريك له‪ ،‬وطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬واألمر بما‬
‫أمر به‪ ،‬والنهي عما نهى عنه‪ ،‬والحب فيه والبغض فيه‪ .‬ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ باألول‪،‬‬
‫فهو يشبه القدرية المشركة الذين قالوا‪{:‬لو شاء هللا ما أشركنا وال آباؤنا}‪ .‬ومن أخذ بالثاني دون األول‬
‫فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن هللا لم يخلق أفعال العباد‪ ،‬وال شاء جميع الكائنات كما‬
‫‪110‬‬
‫تقول المعتزلة والرافضة‪ ،‬ويقع في كالم كثير من المتكلمة والمتفقهة>>‬
‫أوال البد من التنبيه إلى شيء ال يحق بحال إهماله وال تجاوزه‪ ،‬هو هذا االنحالل واالختالل في حفظ‬
‫مقام البيان‪ ،‬نظنه عن غير إدراك؛ فالضمير في قوله(الذي هو عبادته إلى قوله والبغض فيه) ليس‬
‫مستحسنا أبدا؛ وليس يعني هذا طبعا عدم الجواز في الضمير العائد على ذات الجالل سبحانه‪ ،‬وإنما‬
‫مع الزم وضوابط التعظيم‪ ،‬من غير إخالل لمقام اإلجالل هلل تعالى العلي العظيم والتوقير المجل‬
‫لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫محتوى هذه الكلمة أو هذا الكالم البن تيمية هو المحتوى ذاته والحمولة التي تعبر عنها هذه السلسلة‬
‫من المعاني وتراكيب األلفاظ الصوفية‪ ،‬التي وكما سطرنا عليه وذكرناه لم يتوسلها ابن تيمية إال‬
‫ضرورة وجدال؛ هذه التراكيب واأللفاظ من قبيل مفاهيم وأشباه مفاهيم(الفناء عن شهود السوى)‬
‫و(الفناء عن عبادة السوى)‪ .‬أال إن األمر هنا يهم اليقين والمحكم من المسلمات التي إن اختل شرطها‬
‫اختل علم ومقول العالم بعدها مهما بلغ علمه وشأوه! أال إن بيان الدين وتعبير هذا البيان وألفاظه هو‬
‫من األصول العليا للكتاب والسنة! فاهلل تعالى اختار للفظه من سائر األلفاظ كما اختار أنبياءه ورسله‬
‫من خلقه وهو العليم الحكيم‪ .‬وهللا تعالى نزل أحسن الحديث‪ ،‬وما كان ألحد الخيرة من بعد هللا تعالى‬

‫‪ 110‬الفتاوى‪ .‬المجلد األول‪ .‬ص‪327-324‬‬


‫‪275‬‬

‫ورسوله األمين الكريم في هذه الشأن العظيم‪ .‬فإنما هؤالء يستدركون على الحق وهم ال يشعرون!‬
‫ونعيد التذكير مرة أخرى أن كال يؤخذ منه ويرد إال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأن هذا مما يرد‬
‫من قول ابن تيمية رحمه هللا ال شبهة في ذلك‪.‬‬
‫إن الداللة التي للفظ (الربوبية) عند ابن تيمية ال تتضمن معنى العبادة كصلة وعالقة بين العبد وربه‪،‬‬
‫بل قصرها على معنى القهر نحوا ومعنى متصال كونه تعالى األول واآلخر والظاهر والباطن‪،‬‬
‫وبحقيقة أن ال حول وال قوة إال به عز وجل‪ .‬لكن االعتراض قائم بالحق كون هذه الداللة ليست هي‬
‫الداللة الشرعية كما تبين‪.‬‬
‫والكالم حول هذا كله إنما هو من باب الدراسة المأمور بها شرعا ونصا ومن باب النقد المبتغى به‬
‫وجه هللا تعالى وتحري الحق‪ ،‬وكما جاء في الخبر أن ال يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بحق إذا‬
‫علمه؛ فالعصمة إنما هي هلل ولرسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومن خالف هذا األصل والمسلمة فإنما هو‬
‫ناكص عن الحق أو جاهل به‪ ،‬ولن يضر هللا شيئا‪ .‬وشيمة العلماء التواضع هلل سبحانه ذي العزة‬
‫والجالل وقرب العتبى للحق وعدم حال ادعاء العصمة بحال‪ .‬هذا ومع إجازة توظيف هذه األلفاظ‬
‫ك(الربوبية) و(األلوهية) لسانا كما هو بالطبع والبداهة ألنها معجم عربي فصيح‪ ،‬فحفظ مقامات القول‬
‫من مسطور الميزان والحكمة‪ .‬ثم إن حفظ المحور العلمي لنور الكتاب المجيد في كل ألفاظه وقاموسه‬
‫لهو الذروة المثال‪ ،‬ال نظير له في أي من محاور وبناءات الفكر على مستوى التاريخ كله‪ ،‬من جهة‬
‫االستمرارية الذي يكفلها هذا االنحفاظ البياني‪ ،‬وهذا االتصال بضوابط من العلم متين‪.‬‬
‫لقد وجب العلم أن خطأ التقسيم‪ ،‬وقصر داللة الربوبية كما جاء في توظيف ابن تيمية رحمه هللا في‬
‫رده على الزيغ والضالل الصوفي وانحرافاته‪ ،‬قصرها على مدلول القهر بمعنى الملكية والتدبير من‬
‫دون تضمنه واعتباره لصلة العبد بربه‪ ،‬نعني العبادة‪ ،‬هذا الخطأ والتصرف في اللفظ لهو أشد بعدا‬
‫عن الصواب اللغوي والسداد العلمي من خطإ المرجئة في تصرفهم الخاطئ في لفظ (اإليمان)؛‬
‫فالمرجئة لبسوا وسلكوا سبيل الخلط واإلضالل باعتبار اإليمان بداللته المعجمية غير الشرعية‪ ،‬ولقد‬
‫بينا في أول هذا الكتاب وألجل هذه اإلشكاالت البانية تحديدا‪ ،‬ولرفع الغطاء وكشف مكمن اللبس فيها‪،‬‬
‫بينا وأشرنا أن االصطالح يبنى على الحقل الداللي المعجمي ليتسع في داللته وحمولته تبعا لمجاله‬
‫وحقله؛ ومن تمة فهو بالرغم من تضمنه للمعنى اللغوي أو المعجمي فهو ال ينطبق به‪ ،‬بل داللته‬
‫تكون من قاموس الحيز أو الحقل والمجال‪.‬‬
‫‪276‬‬

‫المرجئة كان تلبيسهم باعتبار اللغوي دون الشرعي‪ ،‬أما خطأ التقسيم فهو االعتبار التحكمي لعنصر‬
‫من الحقل الداللي الالأحادي وجعله محل الداللة الشرعية‪ ،‬وجلل الخطإ وعظم الخطر هنا يرجع‬
‫باألساس في أن اللفظ لفظ محوري في كتاب هللا العزيز الحكيم‪.‬‬
‫يقول أبو بكر بن العربي رحمه هللا في كتابه (أحكام القرآن) في قوله تعالى‪{:‬والذين يكنزون الذهب‬
‫والفضة اآليتان}(التوبة‪:)12-13‬‬
‫<<الكنز في اللغة هو المال المجموع‪ ،‬كان فوق األرض أو تحتها‪ ،‬يقال‪ :‬كنزه يكنزه إذا جمعه‪ ،‬فأما‬
‫في الشرع‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫المسألة الرابعة‪ -‬فنحن ال نقول‪ :‬إن الشرع غير اللغة‪ ،‬وإنما نقول‪ :‬إنه تصرف فيها تصرفها في نفسها‬
‫بتخصيص بعض مسمياتها‪ ،‬وقصر بعض متناوالتها لألسماء‪ ،‬كالقارورة والدابة في بعض العقار‬
‫‪111‬‬
‫والدواب‪>>.‬‬
‫فالداللة الشرعية إذا وإن اختلفت عن اللغوية‪ ،‬فهي ال تنقضها‪ ،‬بل إننا قد نجد كل العناصر أو ما‬
‫اختلف منها عن االصطالح الشرعي جاء وورد ذكره في خطاب الشرع‪ ،‬وقد يأتيان ويردان معا في‬
‫ذات الكالم والسياق كما في اآلية من سورة يوسف‪{:‬وقال الملك ائتوني به' فلما جاءه الرسول قال‬
‫ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الالتي قطعن أيديهن' إن ربي بكيدهن عليم'}‪.‬‬
‫واألصل في الصرف الداللي أن إذا ذكر لفظ (الرب) في خطاب وحيز العلم الشرعي عنصرا معجميا‬
‫ما قبل السياق أي من غير سياق‪ ،‬فداللته تنصرف إلى الداللة الشرعية حتما ال إلى غيرها‪ ،‬وكما قال‬
‫وأوضحه ابن العربي رحمه هللا فهذا ال يعني أن الشرع غير اللغة‪.‬‬
‫كما أن الحكمة ومقتضاها أن يرسخ عموم البيان واالصطالح الشرعي في األذهان ترسيخا دائما‬
‫مستمرا بإقامة الم يزان في البيان فصال بين التداول اللغوي والتداول الشرعي‪ ،‬ويتأكد ذلك ويلزم‬
‫شرعا إذا ما اختص وارتبط بالتنزيه والتعظيم من البيان واأللفاظ كلفظ (الرب)‪ .‬وروى اإلمام‬
‫البخاري رحمه هللا في الصحيح قال‪:‬‬
‫حدثنا محمد‪ :‬حدثنا عبد الرزاق‪ :‬أخبرنا معمر‪ ،‬عن همام بن منبّه‪ :‬أنه سمع أبا هريرة رضي هللا عنه‬
‫يحدث عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪:‬‬

‫‪ 111‬أبو بكر بن العربي ‪ -‬أحكام القرآن‪ -‬الجزء الثاني‪-‬ص‪228‬‬


‫‪277‬‬

‫"ال يقل أحدكم‪ :‬أطعم ربك! وضئ ربك! اسق ربك! وليقل‪ :‬سيدي موالي؛ وال يقل أحدكم‪ :‬عبدي‬
‫أمتي‪ ،‬وليقل‪ :‬فتاي وفتاتي وغالمي"‬
‫هذا بيان في التصريف الخاطئ للفظ (الرب) ومعنى الربوبية الذي يقوم عليه مقول تقسيم التوحيد‬
‫الخاطئ‪ ،‬ذلك التصريف الذي رددناه إلى أصله األدنى المنطبق تحديدا في الخطاب والقاموس الجدلي‬
‫الذي توسله ابن تيمية رحمه هللا وهو يواجه الضالل واالنحراف الصوفي‪.‬‬
‫اآلن وتدعيما للحجة نتناول القضية من جهة أخرى ومن جانب آخر غير جانب هذا التوظيف‬
‫للفظ(الرب)ولمعنى الربوبية‪ ،‬الذي استبان خطؤه واتضح ببين الدالئل ومثبت البرهان مخالفته للغة‬
‫والشرع جميعا؛ سننظر من جانب حقيقة المعبر عنه أو المراد التعبير عنه ب(الربوبية)‪.‬‬
‫إن التحليل والنظر المدقق الحصيف على مساحة وأبعاد مكوني اللغة والفكر‪ ،‬يجد أن هذا المعنى‬
‫والحقيقة الجوهرية المحسوسة والمرصودة في الفكر المراد التعبير عنها‪ ،‬موضعها وموقعها ينطبق‬
‫بذات موضع ومعنى كلمات هللا التامات أو التامة‪ ،‬والتي تتصل في اإلدراك اتصاال جوهريا في‬
‫المدركات والحقائق بمعنى الملكوت‪ ،‬ملكوت السماوات واألرض‪ ،‬لتعبر عما أراد عنه التعبير ابن‬
‫تيمية رحمه هللا إن باستعماله وتعبيره بألفاظ أو مفاهيم (القدر) و(القيومية) و(الربوبية) و(الفناء في‬
‫شهودها) وغيرها؛ فهذا كله يترجم وفي ظالل داللة وحقيقة معنى‪(:‬ال حول وال قوة إال باهلل) وأن‬
‫األمر هلل كله والحكم‪ ،‬جميعه داللته وبؤرته أصل واحد وحقيقة في الفكر منفصلة عن الشرع بمعناه‬
‫وكونه عبادة وطاعة ائتمارا وانتهاء‪.‬‬
‫أما القول الصحيح والحق في هذا هو أن ال تعارض بين قيومية هللا الحي القيوم رب العالمين وبين‬
‫الشرع؛ فكل من عند هللا رب العرش العظيم‪ ،‬وكل باهلل جل عاله‪ .‬وبيان هذا قريب من الحديث‬
‫والبيان في اإلرادة والمشيئة‪ .‬وهو كذلك وبالضبط ما معناه وحقيقته أن هللا سبحانه وتعالى هو رب‬
‫العالمين‪ ،‬ال يكون شيء ولم يكن إال بمشيئته ومن بعد إذنه سبحانه؛ وفي ذات األمر واالعتبار ليس‬
‫هذا هو ذات المعنى الشرعي‪ ،‬الذي جاء واضحا محددا تحديدا بينا كما في قوله تعالى في آخر سورة‬
‫األنعا م‪{:‬قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا' وما كان من المشركين'‬
‫قل إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له' وبذلك أمرت' وأنا أول‬
‫المسلمين' قل أغير هللا أبتغي ربا وهو رب كل شيء' وال تكسب كل نفس إال عليها وال تزر وازرة‬
‫وزر أخرى' ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'}‬
‫‪278‬‬

‫فهذا تحديد واضح للمعنى الشرعي في قوله تعالى‪{:‬قل أغير هللا أبغي ربا وهو رب كل شيء؟}‬
‫وتحقيقه‪{:‬إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ال شريك له'}‪ ،‬وهذا هو المعنى الذي‬
‫قاله وبينه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لعدي بن حاتم حين تال قوله عز وجل‪{:‬اتخذوا أحبارهم‬
‫ورهبانهم أربابا من دون هللا والمسيح ابن مريم – اآلية} كما سبق ذكره واإلشارة إليه‪ ،‬وللحسم في‬
‫هذا كله يكفي بالحق المبين وأحسن السياق في التفسير وقوله تعالى العزيز الحكيم‪{:‬يا صاحبي السجن‬
‫أأرباب م تفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما‬
‫أنزل بها من سلطان' إن الحكم إال هلل' أمر أال تعبدوا إال إياه' ذلك الدين القيم' ولكن أكثر الناس ال‬
‫يعلمون'}(يوسف‪)31-12‬‬
‫فسياق الحق في هاتين اآليتين من القرآن العظيم‪ ،‬الذي بالحق أنزل وبالحق نزل‪ ،‬جامع لكل‬
‫التفصيالت والحجج التي تبين وتجلي الداللة الحقة للرب والربوبية‪ ،‬والتي هي الداللة الصحيحة ليس‬
‫غيرها‪ ،‬وال تنطبق تحديدا بالداللة المعجمية التي في معنى وسياق مقولة أقسام التوحيد‪ ،‬المقولة‬
‫الخاطئة‪ ،‬والقول الذي لم يتردد ولم يعمر هذا األمد إال بالتقليد الملبس لبوس األخذ بالعلم ‪ ،‬وإنما العلم‬
‫في هذا الشأن العظيم هو ما اختاره هللا تعالى وبينه وبلغه رسوله ونبيه األمين محمد صلى هللا عليه‬
‫وسلم؛ وما كان ابن تيمية رحمه هللا ليستنكف عن الحق لو بلغته الحجة واطلع على برهان الحق‬
‫المبين‪ ،‬فإن العلماء أقرب الناس أوبة للحق إذا علموه وحصل لهم به اليقين‪.‬‬
‫المعنى الشرعي للربوبية الذي جاء به القرآن العظيم‪ ،‬وكما يتلى وهو واضح مبين في اآليتين‬
‫الكريمتين‪ ،‬وكما جاء في األثر المحفوظ ألبي العالية حين استفسره أنس بن الربيع‪ ،‬هذا المعنى‬
‫جوهره العبادة ائتمارا وانتهاء؛ والفصل الذي في التقسيم جاء ليبين مكمن اللبس الذي ذكرناه‪ ،‬الذي‬
‫اعتمده من جمع وهو ال يعلم بين النقيضين‪ ،‬الشرك ونقيضه‪ ،‬اللبس والتأويل الخاطئ الذي ال يصح‬
‫لقوله تعالى‪{:‬ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض وسخر الشمس والقمر ليقولن هللا' فأنى‬
‫يوفكون'}(العنكبوت‪ )40‬ولجميع اآليات التي جاء فيها لفظ (الرب) بداللة من الحقل المعجمي ال‬
‫تنطبق بالداللة واالصطالح الشرعي‪ .‬هذا الفصل يجلي ويوضح أن هذه الداللة المنطبقة بمعنى‬
‫الملكية والقهر والخالقية‪ ،‬وهي في ما تعنيه من حقيقة ملزمة وموجبة إطالقا لما يحقق معنى الداللة‬
‫الشرعية‪ ،‬فه ي ال تنطبق بها‪ ،‬وال تناقض وال استحالة في الحقيقة الجامعة بينهما‪ ،‬وهذا كما في قوله‬
‫تعالى‪{:‬قال لها ولألرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين'}(فصلت‪ )01‬وقوله سبحانه‪{:‬قل كل‬
‫من عند هللا' فمال هؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'}(النساء‪.)77‬‬
‫فاستلزام حقيقة الم عنى اللغوي الخاص للحقيقة الثانية‪ ،‬أي الشرعية‪ ،‬هو من مقتضى الحق الثابت في‬
‫قوله تعالى‪{:‬أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟}؛ والفصل إنما يدرك بجواز تعدد األرباب‬
‫‪279‬‬

‫مع أن الرب بالمعنى اللغوي الخاص هنا المنطبق بالقهر والتصرف هو هللا سبحانه وتعالى الواحد ال‬
‫شريك له‪ .‬هذا االستلزام الحق هو كما قي قول هللا تعالى المبين‪{:‬قل أرأيتم ما تدعون من دون هللا‬
‫أروني ماذا خلقوا من األرض أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم‬
‫إن كنتم صادقين'}(األحقاف‪)1‬‬
‫فاالستدالل بهذه الصيغة جاء مثله في سياق قوله تعالى في اآلية الثانية من اآليتين األوليين‪{:‬ما‬
‫تدعون من دونه إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان‪-‬اآلية}‪.‬‬
‫أما عن عدم التناقض في الوجود والحصول‪ ،‬أي ال استحالة كون الحقيقتين‪ ،‬الشرع بأمره ونهيه من‬
‫جهة‪ ،‬والقهر والقيومية وما في معنييهما‪ ،‬فالرد القوي على المجادلين والخائضين فيما هذا إطاره فهو‬
‫اآلية من قوله سبحانه وتعالى‪{:‬قل كل من عند هللا' فمال هؤالء القوم ال يكادون يفقهون‬
‫حديثا'}(النساء‪ )77‬كما أثبتناه‪.‬‬
‫جاء عند ابن حجر العسقالني رحمه هللا في فتح البارئ في باب المشيئة واإلرادة‪:‬‬
‫<<قوله‪( :‬باب في المش يئة واإلرادة) قال الراغب‪ :‬المشيئة عند األكثر كاإلرادة سواء‪ ،‬وعند بعضهم‬
‫أن المشيئة في أصل إيجاد الشيء وإصابته‪ ،‬فمن هللا اإليجاد‪ ،‬ومن الناس اإلصابة‪ .‬وفي العرف‬
‫تستعمل موضع اإلرادة‪.‬‬
‫قوله‪( :‬وقول هللا تعالى‪ :‬تؤتي الملك من تشاء‪ ،‬وقوله‪ :‬وما تشاءون إال أن يشاء هللا‪ ،‬وقوله‪ :‬وال تقولن‬
‫لشيء إني فاعل ذلك غدا إال أن يشاء هللا‪ ،‬وقوله‪ :‬إنك ال تهدي من أحببت ولكن هللا يهدي من يشاء)‬
‫قال البيهقي بعد أن ساق بسنده إلى الربيع بن سليمان قال الشافعي‪( :‬المشيئة) إرادة هللا‪ ،‬وقد أعلم خلقه‬
‫أن المشيئة له دونهم فقال‪{:‬وما تشاءون إال أن يشاء هللا'} فليست للخلق مشيئة إال أن يشاء هللا‪ ،‬وبه‬
‫إلى الربيع قال‪ :‬سئل الشافعي عن القدر فقال‪:‬‬
‫وما شئت إن لم تشأ لم يكن‬ ‫ما شئت كان وإن لم أشأ‬
‫األبيات‪ ،...‬ثم ساق مما تكرر من ذكر المشيئة في الكتاب العزيز أكثر من أربعين موضعا منها غير‬
‫ما ذكر في الترجمة قوله تعالى في البقرة‪{:‬ولو شاء هللا لذهب بسمعهم وأبصارهم'} وقوله‪{:‬يختص‬
‫برحمته من يشاء'} وقوله‪{:‬ولو شاء هللا ألعنتكم'} وقوله‪{:‬وعلمه مما يشاء'} وقوله في آل‬
‫عمران‪{:‬قل كل إن الفضل بيد هللا يؤتيه من يشاء'} وقوله‪{:‬ويجتبي من رسله من يشاء'} وقوله في‬
‫النساء‪{:‬إن هللا ال يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء'}؛ وأما قوله في األنعام‪{:‬سيقول‬
‫‪280‬‬

‫الذين أشركوا لو شاء هللا ما أشركنا وال آباؤنا} اآلية‪ ،‬فقد تمسك بها المعتزلة وقالوا إن فيها ردا على‬
‫أهل السنة؛ والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين‪ ،‬وهو أن هللا خالق كل مخلوق‬
‫ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئا‪ ،‬واإلرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط دون شرطه‪،‬‬
‫فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا‬
‫بالمشيئة والقدر السابق‪ ،‬وهي حجة مردودة ألن القدر ال تبطل به الشريعة وجريان األحكام على‬
‫العباد بأكسابهم؛ فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك عالمة على أنه قدر عليه العقاب إال أن يشاء هللا‪-‬‬
‫لم يرد لفظ الجالل في النص‪ -‬أن يغفر له من غير المشركين‪ ،‬ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك عالمة‬
‫‪112‬‬
‫على أنه قدر عليه بالثواب‪ .‬وحرف المسالة أن المعتزلة قاسوا الخالق بالمخلوق‪ ،‬وهو باطل‪>>.‬‬
‫لنعد اآلن إلى كالم وقول ابن تيمية في الحديثين والنصين اآلنف ذكرهما من أجل تحديد وضبط‬
‫المعنى الذي وظف فيه لفظة (القدر) في سياق متصل بما أراد به من تركيب ومعنى شهود الربوبية‪،‬‬
‫وكذلك تأطير وتحديد المعبر عنه من وراء لفظ (الربوبية) ذاته؛ فقد جاء وتضمن النص األول قوله‪:‬‬
‫<< ومن الناس من يجعل هذا (يريد ويعني الفناء عن شهود السوى) من السلوك‪ ،‬ومنهم من يجعله‬
‫غاية السلوك حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية‪ ،‬فال يفرقون بين المأمور والمحظور‪،‬‬
‫والمحبوب والمكروه‪ .‬وهذا غلط عظيم‪ ،‬غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع‬
‫واألمر واالنهي‪>>.‬‬
‫وثبت في النص والحديث الثاني قوله‪:‬‬
‫<< وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية‪ ،‬والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق‬
‫من األعيان والصفات‪>>. .‬‬
‫هاهنا ينجلي ويتضح أن المعنى الذي للفظ (القدر) في هذا الكالم والسياق ليس هو الحقيقة والمعنى‬
‫التام والكامل الذي هو حقيقته في بيان الشرع‪ ،‬الذي يعبر عنه ركنا من أركان اإليمان كما في الحديث‬
‫الجبريلي وقوله عليه الصالة والسالم‪" :‬اإليمان أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‬
‫وتؤمن بالقدر خيره وشره"(رواه مسلم)‬

‫‪ 112‬فتح البارئ –كتاب التوحيد‪ -‬ص‪ -373‬المجلد‪02‬‬


‫‪281‬‬

‫فتعبيره وقوله‪ <<:‬وهذا غلط عظيم‪ ،‬غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع‬
‫واألمر والنهي‪ ،‬قول ال يصح في الحق والمعنى الشرعي للقدر‪ ،‬ألن الشهود‪ ،‬وسواء لغة حقيقية أو‬
‫قاموسا صوفيا اصطالحيا‪ ،‬ال يعني غير التمثيل والتجسيد؛ وإنما الذي يشهده أولئك أثر القدر وكأن‬
‫ليس موجودا وال كائنا سوى هللا سبحانه األول واآلخر والظاهر والباطن‪ .‬وبالطبع فليس هذا المعنى‬
‫الدقيق والمتطابق حق التطابق بالمعنى الشرعي للقدر؛ هذا المعنى ال ينفصل عن عمل المخلوق‬
‫وسعيه وعن الحق في قوله سبحانه وتعالى‪{:‬فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره' ومن يعمل مثقال ذرة‬
‫شرا يره'}(الزلزلة‪ )2-8‬وقوله جل وعال‪{:‬وما ربك بظالم للعبيد'}(فصلت‪ )34‬وقوله سبحانه‪{:‬إن‬
‫سعيكم لشتى' فأما من أعطى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى' وأما من بخل واستغنى وكذب‬
‫بالحسنى فسنيسره للعسرى'}(الليل‪)01..3‬‬
‫فلعله اآلن قد استبان وانجلى اللبس وظهر اختالف الداللتين‪ ،‬وبه جاز القول كون شهود القدر عند ابن‬
‫تيمية يرتبط بالربوبية حمال على معناها اللغوي غير الشرعي‪ ،‬كمظهر وترجمة لها وتجلي‪ ،‬وال‬
‫يصلها ذلك وصال دالليا ولسانيا وفقهيا بحقيقة العلم ليسع معنى القدر الحال اآلني‪ ،‬حال اإلبصار‬
‫والفناء‪ ،‬ويتجاوزه إلى ما كان وما هو كائن وما سيكون‪ .‬ومن زاوية القول والتعبير أخرى‪ ،‬فالقدر‬
‫وجب اعتباره من منظور المخلوق وإيمانه وأبعاده من بعد الحال اآلني وأحكامه‪ ،‬ال إبانه أو قبله‪،‬‬
‫وليس هنا وال نحن في موضع التفصيل لذلك؛ يقول هللا سبحانه وتعالى وهو خالق كل شيء‪{:‬نحن‬
‫خلقناهم وشددنا أسرهم اآلية}(اإلنسان) فالمخلوق مأسور خلقا وأبعادا‪ ،‬فليس له إال ما قدر له من سعة‬
‫في الطاقة والقدرة‪.‬‬
‫أما الحجة الظاهرة البالغة نسبيا فهي ما ورد وجاء بلفظ واضح فصيح في النص األخير البن حجر‬
‫العسقالني وقوله‪ <<:‬فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا‬
‫الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق‪ ،‬وهي حجة مردودة ألن القدر ال تبطل به الشريعة‬
‫وجريان األحكام على العباد بأكسابهم‪>>. .‬‬
‫فالقدر في كالم ابن تيمية في النص األول مؤطر بقوله وتعبيره‪(:‬شهود القدر وأحكام الربوبية)‪،‬‬
‫والربوبية عنده مؤطرة ب(القيومية وكلمات هللا التامات)‪ ،‬هذا هو القدر كما وظفه وتمثله بيانه‬
‫وحديثه؛ بيد أن القدر في الشرع فمعناه هو الذي يؤطر بسياق نص ابن حجر العسقالني في‬
‫قوله‪(:‬تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق) وكذلك قوله‪(:‬القدر ال تبطل به الشريعة)‪..‬‬
‫فانظر إ لى السياقين واإلطارين تجد بينهما فرقا بينا في المعنى المراد من القدر؛ وهذا الفرق‪ ،‬وعدم‬
‫مجاوزة معنى الربوبية وقصر داللتها على القيومية والمالكية‪ ،‬والذي هو معنى لغوي‪ ،‬وإن هو‬
‫‪282‬‬

‫تضمن في المعنى الشرعي‪ ،‬فليس هو إياه ال يطابقه‪ ،‬ألن الشرعي يخصص المعنى باتساعه في العلم‬
‫الشرعي وما جاء به الوحي الكريم والسنة النبوية الشريفة من األحكام والحقائق‪.‬‬
‫‪283‬‬

‫الفصل التاسع‬
‫معنى اإليمان في قوله تعالى‪{:‬وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم‬
‫مشركون'}(يوسف‪)106‬‬

‫يقول اإلمام أحمد بن حنبل رحمه هللا فيما نقله عنه ابن تيمية في كتاب اإليمان‪:‬‬
‫<< يحذر المتكلم في الفقه هذين األصلين‪ :‬المجمل والقياس؛ وقال أكثر ما يخطئ الناس من جهة‬
‫‪113‬‬
‫التأويل والقياس‪>>. .‬‬
‫والتأويل يؤول إلى ذكر القراءة بمعناها التفسيري والبياني‪ ،‬واستخالص الحمولة الداللية للنصوص‬
‫كأصول شرعية فقهية‪ ،‬سواء بالمعنى االصطالحي الخاص أو بالمعنى المرادف للعلمية‪ ،‬المعنى‬
‫الشامل والعام‪ .‬وإذا كنا بيقين الرجاء آملين أن يكون ما حصل في خصوص الخطإ العظيم لمقولة‬
‫التقسيم والتصرف غير الحق في لفظ (الرب) ومعنى الربوبية على أتم ما يحصل به البرهان عند‬
‫القلوب السوية التي من هللا تعالى بها تميز الباطل من الحق‪ ،‬وأي استدالل يعلو استقراء الداللة في‬
‫خطاب القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة؟‬
‫فنافلة وذكرى نسوق ختاما ما جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري في قوله تعالى‪{:‬فال تجعلوا‬
‫هلل أندادا} وقوله جل ذكره‪{:‬وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين}‪:‬‬
‫<< قوله‪(:‬وقال عكرمة‪ ..‬إلخ) وصله الطبري عن هناد بن السري عن أبي األحوص عن سماك بن‬
‫حرب عن عكرمة في قوله تعالى‪{:‬وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون} قال يسألهم من خلقهم‬
‫ومن خلق السماوات واألرض؟ فيقولون‪ :‬هللا؛ فذلك إيمانهم وهو يعبدون غيره!‬
‫ومن طريق يزيد بن الفضل الثماني عن عكرمة في هذه اآلية‪{:‬وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم‬
‫مشركون} قال هو قول هللا‪{:‬ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض ليقولن هللا}‪ ،‬فإذا سئلوا عن‬
‫صفته وصفوه بغير صفته وجعلوا له ولدا وأشركوا به‪ .‬وبأسانيد صحيحة عن عطاء وعن مجاهد‬

‫‪ 113‬ابن تيمية‪ -‬كتاب اإليمان‬


‫‪284‬‬

‫نحوه‪ .‬وبسند حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‪ :‬من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق‬
‫‪114‬‬
‫السماوات واألرض ومن خلق الجبال قالوا هللا وهم به مشركون‪>>.‬‬
‫المطلوب منا هنا في هذه النقطة من زوايا الرؤية واالستبصار هو الجمع بين المعطيات الثالثة هاته‪،‬‬
‫قول اإلمام أحمد في حكم عالقة الخطإ بالتأويل‪ ،‬والعنصر أو المعطى الثاني هو األساس المفهوماتي‬
‫للربوبية‪ ،‬والمنطبق بالقراءة التقسيمية لعدد من اآليات الدالة على صنف حقائقي من الحقائق المثاني‬
‫في القرآن العظيم وقوله تعالى‪{:‬ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض وسخر الشمس والقمر‬
‫ليقولن هللا' فأنى يؤفكون'}(العنكبوت‪ .)40‬أما المعطى الثالث فهو الفهم الراسخ عن رسوخ في العلم‬
‫وهدى وكتاب منير‪ ،‬فهم السلف الصالح أولي العلم والبصائر خاصة منهم الصحابة رضي هللا عنهم‪،‬‬
‫الفهم المرتقي درجة التفسير والمكافئ للترجمة والبيان الدالليين لآلية أو اآليات التي تلونا‪ ،‬باعتبار‬
‫اعتماد هذا التفسير على الحق والبيان في ذات القرآن كتاب هللا العزيز الحكيم‪ .‬وهذا االعتبار هو الذي‬
‫يفيد المعطى الثالث قوة ودرجة في القيمة الحقائقية ألن الصحابي ومن يليه انتماء إلى خير القرون‬
‫ليسوا معصومين وال منزهين عن الزلل والخطإ في ذات أقوالهم‪ ،‬فإن ذلك خاصة ليست إال للوحي‬
‫الكريم‪.‬‬
‫فصل الخطاب يستخرج فهم اآلية ويستنبطه من موضع االستشهاد بها‪ ،‬الذي هو تفسير وفقه قوله عز‬
‫وجل‪{:‬وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون'}‪ ،‬وانتظام هاتين اآليتين معا انتظاما متصال بباب‬
‫قوله تعالى‪{:‬فال تجعلوا هلل أندادا} وقوله سبحانه‪{:‬وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين'}‪.‬‬
‫االحتجاج بقول عكرمة وبيان ترجمان القرآن عبد هللا بن عباس جعل هاهنا من باب وغاية رفع اللبس‬
‫واستجالء ما قد يشوب المعنى المراد من قوله عز وجل‪{:‬وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون'}‬
‫‪ ،‬ما قد يشوبه من خلط أو تحريف‪ ،‬ومظنته هاهنا أن يحمل اإليمان في اآلية على المعنى الشرعي‪.‬‬
‫وإذا كان هذا هو المستند في الحجاج وكان أساسه اآلية األولى‪ ،‬فقد تم الفصل إذا في مفهومها عند من‬
‫جعلها أصال في كالمه واحتجاجه‪ .‬كما أن الميزة البالغية الظاهرة للمعطى الممثلة تحديدا لذوي‬
‫الصناعة وأهل البيان في تعبيره‪(:‬فذلك إيمانهم!) تكفي لوحدها في بيان اختالف الداللتين‪ ،‬إذ مكافئها‬
‫أن المعنى لإليمان في هذا السياق‪ ،‬سياق اآلية الكريمة‪ ،‬ليس هو الذي يخال ويسبق ألول الوهلة على‬
‫المعنى الشرعي‪ .‬ومثله وما يرسخ منحاه من تركيب اللفظ والتعبير قوله‪ :‬فإذا ‪ ، . .‬وأيضا قوله‪ :‬من‬
‫إيمانهم ‪.. .‬‬

‫‪ 114‬نفس المصدر ص‪342-348‬‬


‫‪285‬‬

‫فلله الحمد والمنة رب العالمين وله الكبرياء في السماوات واألرض وهو العزيز الحكيم‪ .‬وإذا كان‬
‫عنوان أول الحجاج والحوار الكلمة الحكيمة لمصعب بن عمير رضي هللا عنه ألسيد بن خضير‬
‫رضي هللا عنه قبل أن يزيح عارض اإلعراض عن سماع كلمة الحق‪ ،‬فإننا نختم الحديث بأمر حقيق‬
‫أن يعلم وهو قول المتنبي غفر هللا له وجزاه سبحانه بخير ما عمل وتجاوز عن سيآته ورحمه‪:‬‬
‫إذا احتاج النهار إلى دليل‬ ‫وليس يصح في األفهام شيء‬
‫‪286‬‬

‫المصادر والمراجع‬

‫‪ -‬القرآن الكريم‬

‫‪ -‬صحيح اإلمام البخاري‬

‫‪ -‬المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم‪ -‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ -‬دار الحديث‪ -‬القاهرة‬

‫‪ -‬أحكام القرآن‪ :‬أبو بكر بن العربي‬

‫‪ -‬تفسير ابن كثير‬

‫‪ -‬فتح القدير‪ :‬محمد بن علي الشوكاني‬

‫‪ -‬الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية‪ :‬محمد بن علي الشوكاني‬

‫‪ -‬في ظالل القرآن‪ :‬سيد قطب‬

‫‪ -‬فتح الباري شرح صحيح البخاري البن حجر العسقالني‬

‫‪ -‬إحياء علوم الدين‪ :‬أبو حامد الغزالي‬

‫‪ -‬أبو األعلى المودودي‪ -‬حياته ودعوته‪ :‬أليف الدين الترابي‪ -‬دار العلم للنشر والتوزيع‪ -‬ط‪0‬‬

‫‪ -‬فتح المجيد شرح كتاب التوحيد‪ :‬عبد الرحمان بن حسن‬

‫‪ -‬التوحيد ومعنى الشهادتين‪ :‬رسالة‪ -‬دار القمة للنشر‪ -‬الدار البيضاء‬

‫‪ -‬مجموع الفتاوى البن تيمية‪ -‬المجلد‪2‬‬

‫‪ -‬التجديد في دراسة علم التوحيد‪ :‬الدكتور محمد بنيعيش‪ -‬أستاذ التعليم العالي بجامعة ‪-‬القرويين‪ -‬المغرب‪ -‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ -‬بيروت‬

‫‪ -‬الدين والسياسة‪ :‬د‪ .‬سالمة عبد الجبار‪ -‬السلسلة الفكرية‪ -‬منشورات المؤسسة العربية للنشر واإلبداع‪ -‬الدار البيضاء‪-‬‬
‫المغرب‬

‫‪ -‬عولمة العولمة‪ :‬الدكتور المهدي المنجرة‪ -‬منشورات الزمن‪ -‬المغرب‬


‫‪287‬‬

‫‪ -‬اإلسالم عقيدة وشريعة‪ :‬محمد شلتوت‬

‫‪ -‬السعادة األبدية في الشريعة اإلسالمية‪ :‬أحمد الهاشمي بك‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬ط‪0‬‬

‫‪ -‬كتاب اإليمان‪ :‬ابن تيمية‬

‫‪ -‬الملل والنحل‪ :‬الشهرستاني‪ -‬دار مصعب‪ -‬بيروت‬

‫‪ -‬كتاب سيبويه‪ -‬تحقيق وشرح عبد السالم محمد هارون‪ -‬مكتبة الخانجي‪ -‬القاهرة‬

‫‪ -‬كتاب سيبويه‪ -‬علق عليه ووضع حواشيه وفهرسته د‪ .‬إميل بديع يعقوب‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت‬

‫‪ -‬شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك‬

‫‪ -‬الخصائص البن جني‬

‫‪ -‬المزهر للسيوطي‬

‫‪ -‬إعجاز القرآن والبالغة النبوية‪ :‬مصطفى صادق الرافعي‪ -‬دار صبح‪ -‬بيروت‪ -‬لبنان ‪2117‬‬

‫‪ -‬خصام ونقد‪ :‬طه حسين‪ -‬دار العلم للماليين‪ -‬بيروت‪ -‬لبنان‪ -‬ط‪ -00‬مارس ‪0282‬‬

‫‪ -‬كلمات‪ :‬طه حسين‪ -‬دار العلم للماليين‪ -‬بيروت‬

‫‪ -‬مالك بن نبي‪ -‬مشكالت الحضارة‪ -‬وجهة العالم اإلسالمي‪ -‬ترجمة عبد الصبور شاهين‬

‫‪ -‬فقه الفلسفة‪ :‬الفلسفة والترجمة‪ -‬طه عبد الرحمن‬

‫‪ -‬ديوان المتنبي‬

‫‪ -‬منهج ابن هشام من خالل كتابه المغني‪ :‬عمران عبد السالم شعيب‪ -‬الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع واإلعالن‪-‬‬
‫ط‪0122-0‬ه‪0284-‬م‪ -‬دار الكتب الوطنية‪ -‬بنغازي‬

‫‪-‬قضايا معجمية‪ :‬أحمد المتوكل‬

‫‪ -‬األلسنية‪ -‬المبادئ واألعالم‪ :‬ميشال زكرياء‬

‫‪ -‬قضايا لسانية‪ -‬السوسيولسانيات‪ .‬التصريف‪ .‬أقسام الكلم‪ :‬الدكتور عبد العزيز خليلي‪-‬ط‪ -0‬مطبعة أنفو برانت‪-‬فاس‬

‫‪ -‬مقتطفات من تاريخ العلم اللغوي في الغرب‪ . :‬روبنز‪ -‬ترجمة د‪ .‬أحمد عوض‪ -‬إصدار عالم المعرفة‬
288

21 -41 ‫ العددان‬-‫ مجلة الفكر العربي‬-

‫م‬0281‫ مايو‬-‫ه‬0311‫ جمادى الثانية‬-21‫ العدد‬-‫ السنة الخامسة‬-‫ مجلة الدوحة القطرية‬-
2110\00\00 -8183 ‫ العدد‬-‫ جريدة الشرق األوسط‬-
0‫ العدد‬-‫ المغرب‬-‫ مجلة المناظرة‬-
-A. Martinet : Syntaxe générale Armand colin. Paris. 1985
-Gérard Genette : Figures 3- LA RHETORIQUE RESTREINTE- Collection
Poétique- aux Editions du Seuil Paris
-Paul Ricœur : La métaphore vive- L’ordre philosophique- Collection
dirigée par Paul Ricœur et François Wahl- aux Editions du Seuil Paris

- Le Japon sans complexe- Shintaro Ishihara- DUNOD


- Ervin Laszlo – La coherence du reel Evolution; Coeur du savoir
Preface de Federico Mayor – gauthier-villars

- Bernard d’Espagnat – Penser la science ou les enjeux du savoir –


La bibliotheque GAUTHIER-VILLARS Dunod
289

You might also like