Professional Documents
Culture Documents
Article 2
Article 2
تعيش األقليات المسلمة وسط أكثرية غير مسلمة عاشت على إيقاع صيرورة علمنة عميقة
امتدت لقرون ،أعادت تشكيل هوية اإلنسان في الغرب .وهو اليوم متوجس على ما حققه
طوال هذه األزمنة من انفجار ال عقالني يعيد إلى الذاكرة مآسي تجربة الدين خالل عصر
ما قبل العلمانية الليبرالية.
أدى ذلك إلى سن سياسات جديدة لتقنين وضع األقليات المسلمة ،التي ظلت مترددة بين
العزلة واالندماج ،والخوف على هويتها اإلسالمية من الذوبان .هذه الهوية التي أمست
تشكل اليوم بالنسبة للغرب ،خطرا يهدد مشروعها العقالني التنويري الليبرالي والحداثي،
إن الغرب اليوم يتحدث عن المسلمين من خالل وجهة نظر متمكنة من أذهانهم تضحي
بمعطيات الواقع لصالح كيليشهات العصر الوسيط ،بقولبة المسلمين واألقليات المسلمة
بالغرب في صورة جماعة واحدة متجانسة ال تَ ُهمها الحداثة ،بل معرضة عنها ،راغبة عن
صرة ،وكل ما يشغلها هو الحفاظ على الصالة والصيام وارتداء الحجاب وتطبيق
المعا َ
قوانين الثواب والعقاب التي ترجع من وجهة نظرهم إلى زمن العصور الوسطى ،ويقلقهم
البناء ويؤذيهم التقدم ألنهم بكل بساطة غير مؤهلين له .بل إن وجهة النظر هذه تذهب بهم
بعيدا لتقول أن وجود المسلمين في الغرب كان من قبيل المصادفة وحدها ،أو هو وجود في
غير محله على أقل تقدير ،وهو أمر يتجاوز أن يكون مجرد كسل معرفي.
)( 1محاولة تسييس للرموز والتقاليد الدينية واستخدامها إيديولوجيا إذ يدعى األصوليون الراديكاليون احتكارهم للحقيقة
المطلقة الكاملة ،وال يتسامحون مع تفسير بديل للواقع،األمر الذي يفضي إلى تطور طابع شمولي سلطوي للنظام المجتمعي
الذي يحلوا للراديكاليون تطبيقه(.بومدين بوزيد و وآخرون،قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر،مركز الوحدة
العربية ،بيروت ،لبنان ،الطبعة األولى،1999 ،ص ). 183
وورقة ضغط و تهديد في يد ما يسمى بالجماعات اإلسالموية ،كشكل من أشكال االرتداد
االجتماعي ،الذي بعث معه أشكاال اجتماعية أخرى تفضي إلى التفكك االجتماعي
والضعف االقتصادي وظهور تجليات أخرى مختلفة "لألنومية الالمعيارية" 2التي هي
أرض خصبة لتشكل الثقافات الفرعية والطوائف الدينية نتيجة تغريب ممنهج ومنظم.
يقع الغربيون في الخطأ حين يسيئون فهم المسلمين الذين يعيشون في أوروبا ،وحين
يظنون أن تلك األفعال الثقافية الفرعية والطائفية التي تصدر من مسلم هنا أو هناك هي
القاعدة ،أو أنها إشارة إلى حال المسلمين في كل مكان ،أو أن المسلمين في الغر ب قد جبلوا
على العنف ،وأن اإلر هاب كامن في طبيعتهم ،هذا ضرب من التفكير الذي يجافي الذوق
السليم ويتضاد مع الطبيعة البشرية السمحة ويتناقض مع الفطرة.
هذا األمر يأخذنا إلى قضية التفرقة بين الحقيقة والوهم والتمييز ،إذ يكفينا شر المبالغة
في الحديث عن الدين كنتيجة لسلوك اجتماعي ،ومن اإلفراط في دور المثاقفة والنظر إليها
على أنها شيفرة جينية تحكم حياة المسلم ،مما يحول الثقافة إلى دين ويتحول الدين إلى مجرد
كتاب مقدس.
ولقد زادت حادثة سلمان رشدي في تعزيز هذه الصورة لدى العوام ،وعملت حادثة
الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية وغيرها من الحوادث على تأكيد هذه الصورة .وتصادف
هذا عند العوام باالنتقال من عدم الفهم النابع من اإلهمال وعدم اإلكتراث ،ومرورا بتلك
الموجة اإلرهابية العدمية ،وانتهاء بسوء الفهم المتعمد أحيانا والمتأصل في كثير من
األحيان.
")( 2األنومية الالمعيارية" كلمة فرنسية تشير إلى حالة انهيار البناء الثقافي ،وتظهر بصفة خاصة عندما تنحل الروابط
بين المعايير واألهداف الثقافية وبين القدرات االجتماعية عند األفراد للقيام بسلوك ينسق معها،ولهذا فإن األنومية هي الحالة
المقابلة للتضامن االجتماعي،فإذا كان التماسك االجتماعي يشير إلى نوع من التكامل اإليديولوجي الجماعي،فإن األنومية
هي حالة الفوضى وانعدام األمن وفقدان المعايير(.أحمد زكي بدوي،معجم مصطلحات العلوم االجتماعية،مكتبة لبنان
ناشرون،الطبعة األولى 1982،ص .)20
أصبح اليوم األوروبي واألمريكي المنحدر من أصول مسلمة في أمس الحاجة إلى من
يحسن فهمه ويقف على هويته الحقيقية ،ويضعه في الصورة الحقيقية ،وليس الصورة
المزيفة التي يتورط فيها أحيانا ممثلو المسلمين في الغرب أنفسهم ،بدافع الجهل أو بدافع
الجبن ،ويتورط فيها أحيانا المؤمنون بالتعددية الثقافية من الغربيين أنفسهم.
وللتقليل من سمك الشرخ والهوة بين الغرب وأقلياته المسلمة ،أصبح مطلوبا أن
يتخلى الغرب عن مركزيته الذاتية الضيقة واالعتراف باآلخر بعيدا عن كل نظرة إقصائية،
ومعالجة المعضالت االجتماعية بشئ من الروية واألناة ،وبدون إفراط في الحديث عن
المسلمين سلبا أو إيجابا ،فكالهما مرآة لآلخر .كما أن تاريخ العلمانية لم يكن خطا مستقيما،
فغياب السعي وراء استكشاف االختالفات والعادات الثقافية بين مواطنيها المسلمين وغير
المسلمين يشكل مركب نقص في مسارها .ولعل التسامح والتعارف المتبادل -كما حدث في
أجزاء كثيرة من أوروبا وغيرها -ألقصر الطرق نحو التعايش السلمي وقد يكون التبادل
الثقافي أحد الوسائل التي تحقق هذا التعايش السلمي ،وتلهم العقول والقلوب في الجانبين
معا.
إن التصدي للسلبيات هو الخطوة األولى لتبديد هذه الصور النمطية ،والحد من وطأة
التوترات والصراعات غير المجدية .فعلى الرغم من الوزن التاريخي والثقافي للمشكالت
التي أثرت طويال في التصورات على جانبي الفجوة الثقافية ،فإن التصميم على السعي إلى
مسار من التفاع ل اإلنساني لم يفشل ،وسواء كان ذلك مثاال على التعايش السلمي المشترك
في الماضي أو محاوالت تبذل هذه األيام لتبديد الصور النمطية في وسائل اإلعالم الشعبية،
أو حماية األقليات من سلوك الكراهية ....فإن المجتمع يدرك بصورة غريزية ،أن هناك
المزيد الذي يمكن أن نتقاسمه ،والمزيد من األشياء المشتركة ،أكثر من أي شيء يفرقنا،
وأن هذا وحده يمكن أن يشكل قاعدة لالحترام المتبادل والتقدم والتعايش السلمي المشترك.