Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫األقلية المسلمة في الغرب‬

‫تعيش األقليات المسلمة وسط أكثرية غير مسلمة عاشت على إيقاع صيرورة علمنة عميقة‬
‫امتدت لقرون‪ ،‬أعادت تشكيل هوية اإلنسان في الغرب‪ .‬وهو اليوم متوجس على ما حققه‬
‫طوال هذه األزمنة من انفجار ال عقالني يعيد إلى الذاكرة مآسي تجربة الدين خالل عصر‬
‫ما قبل العلمانية الليبرالية‪.‬‬
‫أدى ذلك إلى سن سياسات جديدة لتقنين وضع األقليات المسلمة‪ ،‬التي ظلت مترددة بين‬
‫العزلة واالندماج‪ ،‬والخوف على هويتها اإلسالمية من الذوبان‪ .‬هذه الهوية التي أمست‬
‫تشكل اليوم بالنسبة للغرب‪ ،‬خطرا يهدد مشروعها العقالني التنويري الليبرالي والحداثي‪،‬‬
‫إن الغرب اليوم يتحدث عن المسلمين من خالل وجهة نظر متمكنة من أذهانهم تضحي‬
‫بمعطيات الواقع لصالح كيليشهات العصر الوسيط‪ ،‬بقولبة المسلمين واألقليات المسلمة‬
‫بالغرب في صورة جماعة واحدة متجانسة ال تَ ُهمها الحداثة‪ ،‬بل معرضة عنها‪ ،‬راغبة عن‬
‫صرة‪ ،‬وكل ما يشغلها هو الحفاظ على الصالة والصيام وارتداء الحجاب وتطبيق‬
‫المعا َ‬
‫قوانين الثواب والعقاب التي ترجع من وجهة نظرهم إلى زمن العصور الوسطى‪ ،‬ويقلقهم‬
‫البناء ويؤذيهم التقدم ألنهم بكل بساطة غير مؤهلين له ‪ .‬بل إن وجهة النظر هذه تذهب بهم‬
‫بعيدا لتقول أن وجود المسلمين في الغرب كان من قبيل المصادفة وحدها‪ ،‬أو هو وجود في‬
‫غير محله على أقل تقدير‪ ،‬وهو أمر يتجاوز أن يكون مجرد كسل معرفي‪.‬‬

‫ازدادت هذه النظرة رسوخا مع اقتحام المجتمعات األوروبية واألمريكية جدار‬


‫العولمة وما صاحب ذلك من توترات اجتماعية واقتصادية‪ ،‬وضروب من التمييز بين‬
‫الغربي والمسلم‪ ،‬ووقوع الكثير من المسلمين في شرك األيديولوجية‪1،‬وظهور توجهات‬
‫يمينية مغالية‪ ،‬ال تؤمن إال بفكرة أوروبا لألوروبيين‪ ،‬فأصبح الحديث في الغرب خاصة‬
‫أوروبا ال يدور رحاه سوى حول القومية والنقاء العرقي‪ ،‬في ثوب جديد يصطبغ بالصبغة‬
‫الثقافية‪ ،‬حتى بات سحب البساط من تحت أقدام دعاة القومية الهاجس المؤرق للغربي‪،‬‬

‫‪ )( 1‬محاولة تسييس للرموز والتقاليد الدينية واستخدامها إيديولوجيا إذ يدعى األصوليون الراديكاليون احتكارهم للحقيقة‬
‫المطلقة الكاملة‪ ،‬وال يتسامحون مع تفسير بديل للواقع‪،‬األمر الذي يفضي إلى تطور طابع شمولي سلطوي للنظام المجتمعي‬
‫الذي يحلوا للراديكاليون تطبيقه‪(.‬بومدين بوزيد و وآخرون‪،‬قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر‪،‬مركز الوحدة‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪،1999 ،‬ص ‪). 183‬‬
‫وورقة ضغط و تهديد في يد ما يسمى بالجماعات اإلسالموية‪ ،‬كشكل من أشكال االرتداد‬
‫االجتماعي‪ ،‬الذي بعث معه أشكاال اجتماعية أخرى تفضي إلى التفكك االجتماعي‬
‫والضعف االقتصادي وظهور تجليات أخرى مختلفة "لألنومية الالمعيارية"‪ 2‬التي هي‬
‫أرض خصبة لتشكل الثقافات الفرعية والطوائف الدينية نتيجة تغريب ممنهج ومنظم‪.‬‬

‫يقع الغربيون في الخطأ حين يسيئون فهم المسلمين الذين يعيشون في أوروبا‪ ،‬وحين‬
‫يظنون أن تلك األفعال الثقافية الفرعية والطائفية التي تصدر من مسلم هنا أو هناك هي‬
‫القاعدة‪ ،‬أو أنها إشارة إلى حال المسلمين في كل مكان‪ ،‬أو أن المسلمين في الغر ب قد جبلوا‬
‫على العنف‪ ،‬وأن اإلر هاب كامن في طبيعتهم‪ ،‬هذا ضرب من التفكير الذي يجافي الذوق‬
‫السليم ويتضاد مع الطبيعة البشرية السمحة ويتناقض مع الفطرة‪.‬‬

‫هذا األمر يأخذنا إلى قضية التفرقة بين الحقيقة والوهم والتمييز‪ ،‬إذ يكفينا شر المبالغة‬
‫في الحديث عن الدين كنتيجة لسلوك اجتماعي‪ ،‬ومن اإلفراط في دور المثاقفة والنظر إليها‬
‫على أنها شيفرة جينية تحكم حياة المسلم‪ ،‬مما يحول الثقافة إلى دين ويتحول الدين إلى مجرد‬
‫كتاب مقدس‪.‬‬

‫ولقد زادت حادثة سلمان رشدي في تعزيز هذه الصورة لدى العوام‪ ،‬وعملت حادثة‬
‫الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية وغيرها من الحوادث على تأكيد هذه الصورة‪ .‬وتصادف‬
‫هذا عند العوام باالنتقال من عدم الفهم النابع من اإلهمال وعدم اإلكتراث‪ ،‬ومرورا بتلك‬
‫الموجة اإلرهابية العدمية‪ ،‬وانتهاء بسوء الفهم المتعمد أحيانا والمتأصل في كثير من‬
‫األحيان‪.‬‬

‫‪")( 2‬األنومية الالمعيارية" كلمة فرنسية تشير إلى حالة انهيار البناء الثقافي‪ ،‬وتظهر بصفة خاصة عندما تنحل الروابط‬
‫بين المعايير واألهداف الثقافية وبين القدرات االجتماعية عند األفراد للقيام بسلوك ينسق معها‪،‬ولهذا فإن األنومية هي الحالة‬
‫المقابلة للتضامن االجتماعي‪،‬فإذا كان التماسك االجتماعي يشير إلى نوع من التكامل اإليديولوجي الجماعي‪،‬فإن األنومية‬
‫هي حالة الفوضى وانعدام األمن وفقدان المعايير‪(.‬أحمد زكي بدوي‪،‬معجم مصطلحات العلوم االجتماعية‪،‬مكتبة لبنان‬
‫ناشرون‪،‬الطبعة األولى‪ 1982،‬ص ‪.)20‬‬
‫أصبح اليوم األوروبي واألمريكي المنحدر من أصول مسلمة في أمس الحاجة إلى من‬
‫يحسن فهمه ويقف على هويته الحقيقية‪ ،‬ويضعه في الصورة الحقيقية‪ ،‬وليس الصورة‬
‫المزيفة التي يتورط فيها أحيانا ممثلو المسلمين في الغرب أنفسهم‪ ،‬بدافع الجهل أو بدافع‬
‫الجبن‪ ،‬ويتورط فيها أحيانا المؤمنون بالتعددية الثقافية من الغربيين أنفسهم‪.‬‬

‫وللتقليل من سمك الشرخ والهوة بين الغرب وأقلياته المسلمة‪ ،‬أصبح مطلوبا أن‬
‫يتخلى الغرب عن مركزيته الذاتية الضيقة واالعتراف باآلخر بعيدا عن كل نظرة إقصائية‪،‬‬
‫ومعالجة المعضالت االجتماعية بشئ من الروية واألناة‪ ،‬وبدون إفراط في الحديث عن‬
‫المسلمين سلبا أو إيجابا‪ ،‬فكالهما مرآة لآلخر‪ .‬كما أن تاريخ العلمانية لم يكن خطا مستقيما‪،‬‬
‫فغياب السعي وراء استكشاف االختالفات والعادات الثقافية بين مواطنيها المسلمين وغير‬
‫المسلمين يشكل مركب نقص في مسارها‪ .‬ولعل التسامح والتعارف المتبادل ‪ -‬كما حدث في‬
‫أجزاء كثيرة من أوروبا وغيرها ‪ -‬ألقصر الطرق نحو التعايش السلمي وقد يكون التبادل‬
‫الثقافي أحد الوسائل التي تحقق هذا التعايش السلمي‪ ،‬وتلهم العقول والقلوب في الجانبين‬
‫معا‪.‬‬

‫إن التصدي للسلبيات هو الخطوة األولى لتبديد هذه الصور النمطية‪ ،‬والحد من وطأة‬
‫التوترات والصراعات غير المجدية‪ .‬فعلى الرغم من الوزن التاريخي والثقافي للمشكالت‬
‫التي أثرت طويال في التصورات على جانبي الفجوة الثقافية‪ ،‬فإن التصميم على السعي إلى‬
‫مسار من التفاع ل اإلنساني لم يفشل‪ ،‬وسواء كان ذلك مثاال على التعايش السلمي المشترك‬
‫في الماضي أو محاوالت تبذل هذه األيام لتبديد الصور النمطية في وسائل اإلعالم الشعبية‪،‬‬
‫أو حماية األقليات من سلوك الكراهية‪ ....‬فإن المجتمع يدرك بصورة غريزية‪ ،‬أن هناك‬
‫المزيد الذي يمكن أن نتقاسمه‪ ،‬والمزيد من األشياء المشتركة‪ ،‬أكثر من أي شيء يفرقنا‪،‬‬
‫وأن هذا وحده يمكن أن يشكل قاعدة لالحترام المتبادل والتقدم والتعايش السلمي المشترك‪.‬‬

You might also like