Professional Documents
Culture Documents
شرح الاربعين وتتمة الخمسين
شرح الاربعين وتتمة الخمسين
تأليف
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
5 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
الحمد هلل مجزل ال َعطاء ومسبغ النِّعم ،وأشهد أن ال إله إالَّ هللا وحده
أن محمدا ً
ال شريك له ذو الفضل واإلحسان والجود والكرم ،وأشهد َّ
عبده ورسوله سيِّد العرب والعجم ،المخصوص من ربِّه بجوامع الكلم،
والش َيم ،وعلى
ِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله أهل المكارم
ِّ صل
ِّ اللَّه َّم
ُّ
والظلَم ،الذين أكرمهم هللا فجعلهم خير أ َّمة هي أصحابه مصابيح ال ُّد َجى
خير األمم ،وعلى كل َمن جاء بعدهم مقتفيا ً آثارهم ،وقد خال قلبُه من
الغل للمؤمنين وس ِّلم.
ِّ
فإن من الموضوعات التي ألَّف فيها العلماء في حديثأ َّما بعدَّ ،
أحاديث األربعين ،وهي جمع أربعين حديثا ً من أحاديث رسول هللا
رسول هللا ؛ لحديث ورد في فضل حفظ أربعين حديثا ً من أحاديث
رسول هللا ،ذكر النووي في مقدمة األربعين له وروده عن تسعة
س َّماهم ،وقال (( :وات َّفق الحفاظ على أنَّه من أصحاب رسول هللا
أن اعتما َده في تأليف حديث ضعيف وإن كثُرت طرقُه )) ،وذكر َّ
ليبلغ
ِّ (( :
األربعين ليس عليه ،بل على أحاديث أخرى ،مثل قوله
الشاهد منكم الغائب )) ،وقوله (( :نضَّر هللا امرءا ً سمع مقالتي فوعاها
)) الحديث ،وذكر ثالثة عشر من العلماء ألَّفوا في األربعين ،أولهم عبد
هللا بن المبارك ،وآخرهم أبو بكر البيهقي ،وقال بعد ذكرهم (( :وخالئق
ثم ِّمن العلماء َمن (( ال يُحصون من المتقدِّمين والمتأخرين )) ،وقال:
جمع األربعين في أصول الدِّين ،وبعضهم في الفروع ،وبعضهم في
الجهاد ،وبعضهم في الزهد ،وبعضهم في اآلداب ،وبعضهم في
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 6
استفدت في هذا الشرح من شروح النووي وابن دقيق العيد وابن رجب
وابن عثيمين لألربعين ،ومن فتح الباري البن حجر العسقالني،
وس َّميتُه :فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين للنووي
وابن رجب رحمهما هللا ،والمتين من أسماء هللا ،قال هللا َّ
عز وج َّل في
الذاريات: سورة
***
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 8
الحديث األول
كل شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع ِّ
أنواعها )).
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( (( :)61/1واتَّفق العلماء
على ص َّحته وتلقيه بالقبول ،وبه ص َّدر البخاري كتا َبه الصحيح ،وأقامه
مقام ال ُخطبة له؛ إشارة منه إلى َّ
أن ك َّل عمل ال يُراد به وجه هللا فهو
باطل ،ال ثمرة له في الدنيا وال في اآلخرة )).
3ـ قال ابن رجب (( :وهذا الحديث أحد األحاديث التي يدور الدِّين
عليها ،فروي عن الشافعي أنَّه قال :هذا الحديث ثلث العلم ،ويدخل في
سبعين بابا ً من الفقه ،وعن اإلمام أحمد قال :أصول اإلسالم على ثالثة
أحاديث :حديث عمر (األعمال بالنيات) ،وحديث عائشة (من أحدث
في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ،وحديث النعمان بن بشير( :الحالل ِّبين
والحرام ِّبين) )).
فإن الدِّين كلَّه
وقال أيضا ً ( )71/1في توجيه كالم اإلمام أحمدَّ (( :
يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات ،والتوقف عن الشبهات،
وهذا كلُّه تض َّمنه حديث النعمان بن بشير ،وإنَّما يت ُّم ذلك بأمرين:
أحدهما :أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنَّة ،وهذا هو
الذي تض َّمنه حديث عائشة( :من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
والثاني :أن يكون العمل في باطنه يُقصد به وجه هللا َّ
عز وج َّل ،كما
تض َّمنه حديث عمر( :األعمال بالنيات).
وأورد بن رجب نقوالً ( 61/1ـ )63عن بعض العلماء في
وأن منهم من قال :إنَّها اثنان،
األحاديث التي يدور عليها اإلسالمَّ ،
11 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
ومنهم َمن قال :أربعة ،ومنهم من قال :خمسة ،واألحاديث التي ذكرها
إن أحدكم يُجمع خلقُه في
عنهم باإلضافة إلى الثالثة األولى حديثَّ (( :
بطن ِّأمه )) ،وحديث (( :من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه ))،
طيب ال يقبل إالَّ ِّ
طيبا ً )) ،وحديث (( :ال يؤمن أحدكم وحديثَّ (( :
إن هللا ِّ
حتى يحبَّ ألخيه ما يحبُّ لنفسه )) ،وحديث (( :ال ضرر وال ضرار ))،
وحديث (( :إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم )) ،وحديث (( :ازهد
(( في الدنيا يحبك هللا ،وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )) ،وحديث:
الدِّين النصيحة )).
4ـ قوله (( :إنَّما األعمال بالنيَّات ))( ،إنَّما) :أداة حصر ،و(الـ) في
كل عمل،(األعمال) قيل :إنَّها خاصة في القُ َرب ،وقيل :إنَّها للعموم في ِّ
فما كان منها قُربة أثيب عليه فاعله ،وما كان منها من أمور العادات
التقوي على
ِّ صاحبَه يُثاب عليه إذا نوى به كاألكل والشرب والنوم َّ
فإن َ
الطاعة ،واأللف والالَّم بـ(النيات) بدالً من الضمير (ها) ،أي :األعمال
بنيَّاتها ،ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره معتبرة ،أيَّ :
أن
األعمال معتبرة بنيَّاتها ،والنيَّة في اللغة :القصد ،وتأتي للتمييز بين
العبادات ،كتمييز فرض عن فرض ،أو فرض عن نفل ،وتمييز
ُّ
والتنظف. للتبرد
ُّ العبادات عن العادات ،كالغسل من الجنابة والغسل
لكل امرئ ما نوى )) ،قال ابن رجب (:)65/1 5ـ قوله (( :وإنَّما ِّ
إخبار أنَّه ال يحصل له من عمله إالَّ ما نواه ،فإن نوى خيرا ً حصلٌ ((
المثال )).
أن هذه الهجرة تختلف َّ وقال أيضا ً ( (( :)73/1فأخبر النَّب ُّ
ي
باختالف النيَّات والمقاصد بها ،ف َمن هاجر إلى دار اإلسالم حبًّا هلل
ورسوله ،ورغبةً في تعلم دين اإلسالم وإظهار دينه حيث كان يعجز
المهاجر إلى هللا ورسوله حقًّا ،وكفاه
ُ عنه في دار الشرك ،فهذا هو
شرفا ً وفخرا ً أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى هللا ورسوله ،ولهذا َ
ألن حصو َل المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ َّ
ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدنيا واآلخرة.
و َمن كانت هجرت ُه من دار الشرك إلى دار اإلسالم لطلب دنيا
يُصيبها أو امرأة ينكحها في دار اإلسالم ،فهجرته إلى ما هاجر إليه
تاجر ،والثاني خاطب ،وليس واحد منهما بمهاجر.
ٌ فاألول
َّ من ذلك،
تحقير ِّل َما طلبه من أمر الدنيا
ٌ وفي قوله( :إلى ما هاجر إليه)
واستهانة به ،حيث لم يذكره بلفظه ،وأيضا ً فالهجرة ُ إلى هللا ورسوله
الجواب فيها بلفظ الشرط ،والهجرة ُ
َ واحدة ٌ ،فال تع ُّد َد فيها ،فلذلك أعاد
ُ
اإلنسان لطلب دنيا مباحة تارة يهاجر
ُ ألمور الدنيا ال ت َنحصر ،فقد
ومحرمة أخرى ،وأفراد ما يُقصد بالهجرة من أمور الدنيا ال تنحصر،َّ
فلذلك قال (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائنا ً ما كان )).
أن قصةَ مهاجر 7ـ قال ابن رجب ( 74/1ـ (( :)75وقد اشتهر َّ
سبب قو ِّل النبَّي ِّ ( :من كانت هجرته إلى دنيا َ ِّأم قيس هي كانت
كثير من المتأخرين في ُكتُبهم ،ولَم
يصيبها أو امرأة ينكحها) وذكر ذلك ٌ
نر لذلك أصالً بإسناد يَص ُّح ،وهللا أعلم )).
َ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 14
8ـ النيَّة محلُّها القلب ،والتلفُّظ بها بدعة ،فال يجوز التلفُّظ بالنيَّة في
ُسمي في تلبيته ما الحج والعمرة ،فله أن ي ِّ
ِّ أي ِّ قُربة من القُ َرب ،إالَّ في
نواه من قران أو إفراد أو تمتُّع ،فيقول :لبَّيك عمرة وح ًّجا ،أو لبَّيك
ح ًّجا ،أو لبَّيك عمرة؛ لثبوت السنَّة في ذلك دون غيره.
9ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ أنَّه ال عمل إالَّ بنيَّة.
2ـ َّ
أن األعمال معتبرة بنيَّاتها.
3ـ َّ
أن ثواب العامل على عمله على حسب نيَّته.
4ـ ضرب العالم األمثال للتوضيح والبيان.
بها ،وقد جاء في صحيح مسلم 5ـ فضل الهجرة لتمثيل النَّبي ِّ
علمت
َ قال (( :أ َما ،عن النَّبي ِّ ( )192عن عمرو بن العاص
وأن الهجرة َ تهدم ما كان قبلهاَّ ،
وأن الح َّج اإلسالم يهدم ما كان قبلهَّ ،
َ َّ
أن
يهدم ما كان قبله؟ )).
ُؤجر أو يؤزر أو يُحرم بحسب نيَّته. 6ـ َّ
أن اإلنسانَ ي ُ
أن األعمال بحسب ما تكون وسيلة له ،فقد يكون الشيء المباح 7ـ َّ
في األصل يكون طاعةً إذا نوى به اإلنسان خيراً ،كاألكل والشرب إذا
التقوي على العبادة.
ِّ نوى به
أن العمل الواحد يكون إلنسان أجراً ،ويكون إلنسان حرماناً.
8ـ َّ
15 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 16
الحديث الثاني
أيضا قال (( :بينما نحن جلوس عند رسول هللا عن عمر
ذات يوم إذ َط َل َع علينا رجل شديد بياض الثياب ،شديد سواد الشعر،
أثر السفر وال يعرفه منَّا أحد ،حتى جلس إلى النَّبي ِّ
ال يُرى عليه ُ
،فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه ،ووضع كفَّيه على فخذيه ،وقال :يا محمد
:اإلسال ُم أن تشه َد أن ال إله
أخبرني عن اإلسالم؟ فقال رسول هللا
إال هللا َّ
وأن محمدا رسول هللا ،وتقيم الصالة ،وتؤتي الزكاة ،وتصوم
رمضان ،وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيال ،قال :صدقت ،فعجبنا
ويصدقه ،قال :فأخبرني عن اإليمان؟ قال :أن تؤم َن باهلل
ِّ له يسأله
ومالئكته و ُكتبه ورسله واليوم اآلخر ،وتؤمن بالقدر خيره وشره،
قال :صدقتَ ،فأخبرني عن اإلحسان؟ قال :أن تعب َد هللا كأنَّك تراه ،فإن
لَم تكن تراه فإنَّه يراك ،قال :فأخبرني عن الساعة؟ قال :ما المسئول
عنها بأعل َم من السائل ،قال :فأخبرني عن أ َماراتِّها؟ قال :أن تل َد األ َ َمةُ
الشاء يتطاولون في
ِّ ربَّت َها ،وأن ترى ال ُحفاةَ العُراة العالة ِّرعاء
البُنيان ،ث َّم انطلق فلبث مليا ثم قال :يا عمر أتدري َمن السائل؟ قلت:
يعل ُمكم دينَكم )) رواه مسلم.
هللا ورسوله أعلم ،قال :فإنَّه جبريل أتاكم ِّ
انفرد بإخراجه مسلم عن 1ـ حديث جبريل هذا عن عمر
،واإلمام البخاري ،وات َّفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة
النووي ـ رحمه هللا ـ بدأ أحاديث األربعين بحديث عمر (( إنَّما األعمال
بالنيات )) ،وهو أ َّول حديث في صحيح البخاري ،وثنَّى بحديث عمر
،وهو َّأول حديث في صحيح في قصة مجيء جبريل إلى النَّبي ِّ
17 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
مسلم ،وقد سبقه إلى ذلك اإلمام البغوي في كتابيه شرح السنة ومصابيح
السنَّة ،فقد افتتحهما بهذين الحديثين.
وقد أفردت هذا الحديث بشرح مستقل أوسع من شرحه هنا.
2ـ هذا الحديث هو َّأول حديث في كتاب اإليمان من صحيح مسلم،
وقد ح َّدث به عبد هللا بن عمر ،عن أبيه ،ولتحديثه به قصة ذكرها مسلم
بين يدي هذا الحديث بإسناده عن يحيى بن يَعمر قال:
(( كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ،فانطلقت أنا وحميد
ابن عبد الرحمن الحميري حا َّجين أو معتمرين ,،فقلنا :لو لقينا أحدا ً من
فوفِّق لنافسألناه ع َّما يقول هؤالء في القدرُ ، أصحاب رسول هللا
عبد هللا بن عمر بن الخطاب داخالً المسجد ،فاكتنفته أنا وصاحبي،
أن صاحبي سيكل الكالم أحدنا عن يمينه واآلخر عن شماله ،فظننت َّ
ناس يقرؤون القرآن ي ،فقلت :أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قبلنا ٌ إل َّ
ويتقفَّرون العلم ،وذكر من شأنهم ،وأنَّهم يزعمون أن ال قَدر َّ
وأن األمر
فأخبرهم أنِّي بريء منهم ،وأنَّهم بُرآء منِّي،
ْ أُنُف ،قال :فإذا لقيت أولئك
أن ألحدهم مثل أ ُ ُحد ذهبا ً فأنفقه
والذي يحلف به عبد هللا بن عمر! لو َّ
ما قبل هللا منه حتى يؤمنَ بالقدر ،ثم قال :حدَّثني أبي عمر بن الخطاب
)) ،وساق الحديث من أجل االستدالل به على اإليمان بالقدر ،وفي هذه
أن ظهور بدعة القدرية كانت في زمن الصحابة ،في حياة ابن القصة َّ
َّ ،
وأن التابعين يرجعون إلى عمر ،وكانت وفاته سنة (73هـ)
في معرفة أمور الدِّين ،وهذا هو الواجب ،وهو أصحاب الرسول
ل : كل وقت؛ لقول هللا َّ
عز وج َّ الرجوع إلى أهل العلم في ِّ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 18
و ُكتبه ورسله واليوم اآلخر ،وتؤمن بالقدر خيره وشره )) ،هذا الجواب
وأول هذه األركان اإليمان باهلل، مشتم ٌل على أركان اإليمان الستةَّ ،
بكل ما يجب اإليمان به ،ولهذا أُضيف إليه المالئكة وهو أساس لإليمان ِّ
والكتب والرسل ،و َمن لَم يؤمن باهلل ال يؤمن ببقيَّة األركان ،واإليمان
باهلل يشمل اإليمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته ،وأنَّه
كل نقص ،فيجب بكل كمال يليق به ،من ََّزهٌ عن ِّ
صف ِّ سبحانه وتعالى مت َّ ٌ
توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.
اإلقرار بأنَّه واحد في أفعاله ،ال شريك له فيها،
ُ وتوحيده بربوبيَّته
والرزق واإلحياء واإلماتة ،وتدبير األمور والتصرف في َّ كالخَلق
الكون ،وغير ذلك ِّم َّما يتعلَّق بربوبيَّته.
والرجاء
َّ وتوحيد األلوهيَّة توحيده بأفعال العباد ،كالدعاء والخوف
والتو ُّكل واالستعانة واالستعاذة واالستغاثة والذَّبح والنَّذر ،وغيرها من
أنواع العبادة التي يجب إفراده بها ،فال يُصرف منها شيء لغيره ،ولو
سالً ،فضالً ع َّمن سواهما.
مقربا ً أو نبيًّا مر َ
كان ملَكا ً َّ
كل ما أثبته لنفسه وأثبته
وأ َّما توحيد األسماء والصفات ،فهو إثبات ِّ
من األسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجالله، له رسوله
دون تكييف أو تمثيل ،ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل ،وتنزيهه عن
ل : َّ
عز وج َّ كل ما ال يليق به ،كما قال هللا ِّ
))، الضياء
و(( الذِّكر )).
وم َّما يمتاز به القرآن على غيره من الكتب السابقة كونه المعجزة
ِّ
الخالدة ،وتكفُّل هللا بحفظه ،وسالمته من التحريف ،ونزوله من َّجما ً
مفرقاً.
َّ
واإلقرار َّ
بأن هللا اصطفى من البشر ُ بالرسل التصديق ُ
واإليمان ُّ
الحق ،ويُخرجونهم من الظلمات إلى
ِّ الناس إلى
َ سالً وأنبياء يهدون
ر ُ
النور ،قال هللا َّ
عز وج َّل:
25 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
.
َّ كما قال هللا، بل فيهم النُّذُر،سل
:عز وج َّل ُّ
ُ والجن ليس فيهم ر
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 26
وقد قام الرسل واألنبياء بتبليغ ما أُمروا بتبليغه، اآلية
:ل َّ كما قال هللا،على التمام والكمال
َّ عز وج
: وقال،
(( من: قال الزهري،
)) وعلينا التسليم،البالغ َّ هللا
وعلى رسول هللا،عز وج َّل الرسالة
َّ باب قول هللا،أورده البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد
:عز وج َّل
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 28
.) ـ مع الفتح503/13( ساالَتِّه
َ ِّر
َّ ُوالرس ُل منهم من ق
كما قال، ومنهم من لم يُقصص،ص في القرآن
:وج َّل َّ
عز هللا
َّ وقال هللا،
:عز وج َّل
، والذين قُصوا في القرآن خمسة وعشرون،
:منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في سورة األنعام في قوله تعالى
29 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
.
والسبعة الباقون :آدم ،وإدريس ،وهود ،وصالح ،وشعيب ،وذو
الكفل ،ومحمد صلوات هللا وسالمه وبركاته عليهم أجمعين.
بكل ما جاء في الكتاب ُ
التصديق واإلقرار ِّ ُ
واإليمان باليوم اآلخر
ُّور دارين :دار والسنَّة عن ِّ
كل ما يكون بعد الموت ،وقد جعل هللا الد َ
الدنيا والدار اآلخرة ،والح ُّد الفاصل بين هاتين الدارين الموت والنفخ
في الصور الذي يحصل به موت َمن كان حيًّا في آخر الدنيا ،وك ُّل َمن
مات قامت قيامته ،وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء ،والحياة بعد
الموت حياتان :حياة برزخية ،وهي ما بين الموت والبعث ،والحياة بعد
الموت ،والحياة البرزخية ال يعلم حقيقتها إالَّ هللا ،وهي تابعة للحياة بعد
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 30
كل منهما الجزاء على األعمال ،وأهل السعادة منعمون الموت؛ َّ
ألن في ٍّ
في القبور بنعيم الجنَّة ،وأهل الشقاوة مع َّذبون فيها بعذاب النار.
ويدخل في اإليمان باليوم اآلخر اإليمان بالبعث والحشر والشفاعة
والحوض والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك ِّم َّما
جاء في الكتاب والسنَّة.
ٌ
كائن إلى يوم القيامة، اإليمان َّ
بأن هللا قدَّر ك َّل ما هو ُ واإليمان بالقدر
وله مراتب أربعة:
ـ علم هللا أزالً ِّ
بكل ما هو كائن.
ـ وكتابته المقادير قبل خلق السموات واألرض بخمسين ألف سنة.
ـ ومشيئته كل مقدَّر.
لكل ما ق َّدره طبقا ً ِّل َما علمه وكتبه وشاءه.
ـ وخلق هللا وإيجاده ِّ
اإليمان بهذه المراتب واعتقاد َّ
أن ك َّل شيء شاءه هللا ال ب َّد ُ فيجب
من وجودهَّ ،
وأن ك َّل شيء لم يشأه هللا ال يُمكن وجوده ،وهذا معنى قوله
واعلم َّ
أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك ،وما أخطأك لم يكن (( :
ليُصيبك )) ،وسيأتي في الحديث التاسع عشر.
8ـ قوله (( :فأخبرني عن اإلحسان؟ قال :أن تعب َد هللا كأنَّك تراه،
فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك )) ،اإلحسان أعلى الدرجات ،ودونه درجة
اإليمان ،ودون ذلك درجة اإلسالم ،وك ُّل مؤمن مسلم ،وك ُّل محسن
مؤمن مسلم ،وليس ك ُّل مسلم مؤمنا ً محسناً ،ولهذا جاء في سورة
الحجرات:
31 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
علو درجة
، وجاء في هذا الحديث بيان ِّ
واقف
ٌ اإلحسان في قوله (( :أن تعبد هللا كأنَّك تراه )) أي :تعب َده كأنَّك
بين يديه تراه ،و َمن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال،
أن هللا َّ
مطل ٌع عليه ال وإن لَم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر َّ
فيحذر أن يراه حيث نهاه ،ويعمل على أن يراه حيث َ يخفى منه خافية،
أمره.
َ
9ـ قوله (( :قال :فأخبرني عن الساعة؟ قال :ما المسئول عنها بأعلم
اختص هللا بعلم الساعة ،فال يعلم متى تقوم الساعة إالَّ
َّ من السائل ))،
ل : هللا سبحانه وتعالى ،قال هللا َّ
عز وج َّ
مفاتي ُح الغيب خمسة ،ثمعن عبد هللا بن عمر قال :قال النَّب ُّ
ي (( :
قرأ
تعالى: وقال ))،
أصحابَه عن السائل بأنَّه جبريل عقب يمليًّا :زماناً ،فقد أخبر النَّب ُّ
ألن النَّب َّ
ي انطالقه ،وجاء أنَّه أخبر عمر بعد ثالث ،وال تنافي بين ذلك؛ َّ
معهم ،بل يكون انصرف من أخبر الحاضرين ولم يكن عمر
بعد ثالث فأخبره. المجلس ،واتَّفق له أنَّه لقي النَّب َّ
ي
12ـ ِّم َّما يُستفا ُد من الحديث:
أن السائ َل كما يسأل للتعلُّم ،فقد يسأل للتعليم ،فيسأل َمن عنده
1ـ َّ
علم بشيء من أجل أن يسمع الحاضرون الجواب.
دميين ،وليس تتحول عن ِّخلقتِّها ،وتأتي بأشكال اآل ِّ
َّ أن المالئكةَ
2ـ َّ
في هذا دليل على جواز التمثيل الذي اشتهر في هذا الزمان؛ فإنَّه نو ٌ
ع
من الكذب ،وما حصل لجبريل فهو بإذن هللا وقدرته.
المعلم.
ِّ المتعلم عند
ِّ 3ـ بيان آداب
4ـ أنَّه عند اجتماع اإلسالم واإليمان يُف َّ
سر اإلسالم باألمور
الظاهرة ،واإليمان باألمور الباطنة.
فاألهم؛ ألنَّه بُدىء بالشها َدتين في تفسير اإلسالم،
ِّ باألهم
ِّ 5ـ البدء
وبدىء باإليمان باهلل في تفسير اإليمان.
أن أركان اإلسالم خمسةَّ ،
وأن أصو َل اإليمان ستة. 6ـ َّ
7ـ َّ
أن اإليمان بأصول اإليمان الستة من جملة اإليمان بالغيب.
8ـ بيان التفاوت بين اإلسالم واإليمان واإلحسان.
علو درجة اإلحسان.
9ـ بيان ِّ
10ـ َّ
أن علم الساعة ِّم َّما استأثر هللا بعلمه.
35 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
الحديث الثالث
عن أبي عبد الرحمن عبد هللا بن عمر بن الخطاب رضي هللا عنهما
يقول (( :بُني اإلسالم على خمس :شهادة قال :سمعت رسول هللا
أن ال إله إالَّ هللا ،وأ َّن محمدا رسول هللا ،وإقام الصالة ،وإيتاء الزكاة،
وحجِّ البيت ،وصوم رمضان )) رواه البخاري ومسلم.
بُني اإلسالم على خمس )) :فيه بيان عظم شأن هذه 1ـ قوله:
((
أن محمدا ً رسول هللا مع شهادة أن ال وهما متالزمتان ،ال ب َّد من شهادة َّ
إله إالَّ هللا ،و مقتضى شهادة (أن ال إله إالَّ هللا) أالَّ يُعبد إالَّ هللا ،ومقتضى
(أن محمدا ً رسول هللا) أن تكون العبادة ُ وفقا ً ِّل َما جاء به رسول
شهادة َّ
هللا ،وهذان أصالن ال ب َّد منهما في قبول أي ِّ عمل يعمله اإلنسان،
فال ب َّد من تجريد اإلخالص هلل وحده ،وال ب َّد من تجريد المتابعة لرسول
. هللا
فإن قيل :لم يذكر اإليمان (( 4ـ قال الحافظ في الفتح (:)50/1
باألنبياء والمالئكة وغير ذلك ِّم َّما تض َّمنه سؤال جبريل عليه السالم؟
بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به ،فيستلزم جميع أُ َ
جيب َّ
ما ذكر من المعتقدات ،وقال اإلسماعيلي ما محصله :هو من باب تسمية
الشيء ببعضه ،كما تقول :قرأت الحمد ،وتريد به جميع الفاتحة ،وكذا
تقول مثالً :شهدت برسالة محمد ،وتريد جميع ما ذكر ،وهللا أعلم )).
5ـ أه ُّم أركان اإلسالم الخمسة بعد الشهادتين الصالة ،وقد وصفها
لمعاذ بأنَّها عمو ُد اإلسالم ،كما في حديث وصيَّته رسول هللا
بن جبل ،وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه األربعين ،وأخبر أنَّها
سب عليه العبد يوم القيامة ،انظر:
وأول ما يُحا َ
آخر ما يُفقد من الدِّينَّ ،
السلسلة الصحيحة لأللباني (َّ ،)1748( ،)1358( ،)1739
وأن بها
التمييز بين المسلم والكافر ،رواه مسلم ( ،)134وإقامتها تكون على
أقل ما يحصل به فعل الواجب
حالتين :إحداهما واجبة ،وهو أداؤها على ِّ
بكل ما هو
الذ َّمة ،ومستحبَّة ،وهو تكميلها وتتميمها باإلتيان ِّ
وتبرأ به ِّ
مستحبٌّ فيها.
37 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
، 6ـ الزكاة هي قرينة الصالة في كتاب هللا وسنة رسوله
ل : َّ
عز وج َّ كما قال هللا
،وقال:
وقال: ،
، وهي عبادة ٌ مالية نفعها
يضر
ُّ متعدٍّ ،وقد أوجبها هللا في أموال األغنياء على وجه ينفع الفقير وال
ي؛ ألنَّها شيء يسير من مال كثير. الغن َّ
ربه ،ال
سر بين العبد وبين ِّ
7ـ صو ُم رمضان عبادة بدنية ،وهي ٌّ
ألن من الناس َمن يكون في شهر َّ
يطلع عليه إالَّ هللا سبحانه وتعالى؛ َّ
اإلنسان صائما ً في
ُ يظن أنَّه صائم ،وقد يكون
ُّ وغيره
ُ رمضان مفطرا ً
يظن أنَّه ُمفطر ،ولهذا ورد في الحديث الصحيح َّ
أن اإلنسانَ وغيره ُّ
ُ نفل
يُجازَ ى على عمله ،الحسنة بعشر أمثالها ،إلى سبعمائة ضعف ،قال هللا
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 38
عز وج َّل (( :إالَّ الصوم فإنَّه لي ،وأنا أجزي به )) رواه البخاري
َّ
( ،)1894ومسلم ( ،)164أي :بغير حساب ،واألعمال كلُّها هلل َّ
عز
ل : وج َّل ،كما قال هللا َّ
عز وج َّ
ص ، وإنَّما ُخ َّ
الصوم في هذا الحديث بأنَّه هلل ِّل َما فيه من خفاء هذه العبادة ،وأنَّه ال
َّ
يطلع عليها إالَّ هللا.
8ـ ح ُّج بيت هللا الحرام عبادة ماليَّة بدنية ،وقد أوجبها هللا في العمر
البيت ف َلم
َ ي فضلَها بقوله َ (( :من ح َّج هذا مرة واحدة ،وبيَّن النَّب ُّ
َّ
يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أ ُّمه )) رواه البخاري (،)1820
ومسلم ( ،)1350وقوله (( :العمرة إلى العمرة كفَّارة ِّلما بينهما،
والح ُّج المبرور ليس له جزاء إالَّ الجنَّة )) رواه مسلم (.)1349
9ـ هذا الحديث بهذا اللفظ جاء فيه تقديم الحجِّ على الصوم ،وهو
بهذا اللفظ أورده البخاري في أول كتاب اإليمان من صحيحه ،وبنى
عليه ترتيب كتابه الجامع الصحيح ،فقدَّم كتاب الحجِّ فيه على كتاب
الصيام.
وقد ورد الحديث في صحيح مسلم ( )19بتقديم الصيام على الحجِّ،
وتقديم الحجِّ على الصيام ،وفي الطريق األولى تصريح ابن عمر َّ
بأن
39 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
تقديم الصوم على الحجِّ ،وعلى هذا الذي سمعه من رسول هللا
تصرف
ُّ يكون تقديم الحجِّ على الصوم في بعض الروايات من قبيل
بعض الرواة والرواية بالمعنى ،وسياقه في صحيح مسلم عن ابن عمر
عن النَّبي ِّ
قال (( :بُني اإلسالم على خمسة :على أن يو َّحد هللا ،وإقام
الصالة ،وإيتاء الزكاة ،وصيام رمضان ،والحجِّ ،فقال رجل :الحج
وصيام رمضان؟ قال :ال! صيام رمضان والحج ،هكذا سمعته من
)). رسول هللا
10ـ هذه األركان الخمسة وردت في الحديث مرتَّبة حسب أهميَّتها،
ُتقرب به إلى هللا وبدىء فيها بالشهادتين اللَّتين هما أساس ِّ
لكل عمل ي َّ
مرات ،فهي
تتكرر في اليوم والليلة خمس َّ
َّ َّ
عز وج َّل ،ثم بالصالة التي
ربه ،ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى
صلة وثيقة بين العبد وبين ِّ
ألن نفعَها متعدٍّ ،ثم الصيام الذي يجب شهرا ً في السنة،
عليه َحو ٌل؛ َّ
وهو عبادة بدنيَّة نفعها غير متعدٍّ ،ثم الحج الذي ال يجب في العمر إالَّ
مرة واحدة.
َّ
11ـ ورد في صحيح مسلم َّ
أن ابن عمر رضي هللا عنهما حدَّث
بالحديث عندما سأله رجل ،فقال له :أال تغزو؟ ثم ساق الحديث ،وفيه
أن الجهاد ليس من أركان اإلسالم ،وذلك َّ
أن هذه الخمس اإلشارة إلى َّ
لكل مكلَّف ،بخالف الجهاد ،فإنَّه فرض كفاية وال
الزمة باستمرار ِّ
كل وقت.
يكون في ِّ
12ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ بيان أهميَّة هذه الخمس لكون اإلسالم بُني عليها.
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 40
***
الحديث الرابع
عن أبي عبد الرحمن عبد هللا بن مسعود رضي اله تعالى عنه
قال :حدَّثنا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وهو الصادق
المصدوق:
أمه أربعين يوما نطفة ،ثم يكون إن أحدَكم يُجمع خلقُه في بطن ِّ
(( َّ
علقة مثل ذلك ،ثم يكون مضغة مثل ذلك ،ثم يُرسل إليه الملَك فينفخ
فيه الروح ،ويُؤمر بأربع كلمات :بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو
إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنَّة ،حتى
سعيد ،فوهللا الذي ال إله غيرهَّ ،
ما يكون بينه وبينها إالَّ ذراع ،فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل
النار فيدخلها ،وإن أح َدكم ليعمل بعمل أهل النار ،حتى ما يكون بينه
وبينها إالَّ ذراع ،فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها
)) رواه البخاري ومسلم.
41 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
،مصورة
َّ مصورة وغير
َّ وأكثر ما جاء فيه بيان أطوار خلق اإلنسان قول هللا
عز وج َّل في سورة
:المؤمنون
.
ـ في الحديث أنَّه بعد مضي ِّ هذه األطوار الثالثة ـ وقدرها مائة4
وقبل ذلك هو، فيكون إنسانا ً حيًّا،وعشرون يوما ً ـ تُنفخ فيه الروح
َّ وقد جاء في القرآن الكريم،ميت
كما،أن اإلنسانَ له حياتان وموتتان
:ل عن الكفَّار َّ عز وج َّ قال هللا
، فالموتة األولى ما كان قبل نفخ الروح،
43 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
والحياة األولى من نفخ الروح إلى بلوغ األجل ،والموتة الثانية من بعد
الموت إلى البعث ،وهذه الموتة ال تنافي الحياة البرزخية الثابتة بالكتاب
ومستمرة
َّ والسنة ،والحياة الثانية الحياة بعد البعث ،وهي حياة دائمة
إلى غير نهاية ،وهذه األحوال األربع لإلنسان بيَّنها هللا بقوله :
، وقوله:
،
وإذا ُولد بعد نفخ الروح فيه ميتا ً تجري عليه أحكام الوالدة ،من تغسيله
والصالة عليه والخروج من العدة وكون األ َمة أم ولد ،وكون ِّأمه نفساء،
وإذا سقط قبل ذلك فال تجري عليه هذه األحكام.
5ـ بعد كتابة الملَك رزقه وأجله وذكر أو أنثى وشقي أو سعيد ،ال
يختص هللا تعالى
ُّ تكون معرفة الذكورة واألنوثة من علم الغيب الذي
ألن الملَك قد علم ذلك ،فيكون من الممكن معرفة كون الجنين ذكرا ً
به؛ َّ
أو أنثى.
المعتبر في السعادة
َ بكل ما هو كائنَّ ،
وأن قدر هللا سبق ِّ
أن َ 6ـ َّ
والشقاوة ما يكون عليه اإلنسان عند الموت.
7ـ أحوال الناس بالنسبة للبدايات والنهايات أربع:
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 44
، ظاهر اآلية َّ
أن العم َل
الصالح من المخلص يُقبل ،وإذا حصل القبول بوعد الكريم أمن مع
ذلك من سوء الخاتمة ،فالجواب من وجهين:
أحدهما :أن يكون ذلك معلَّقا ً على شروط القبول وحسن الخاتمة،
ويُحتمل أن من آمن وأخلص العمل ال يُختم له دائما ً إالَّ بخير.
حق من أساء العمل أو خلطهأن خاتمة السوء إنَّما تكون في ِّ
ثانيهماَّ :
بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة ،ويد ُّل عليه الحديث
اآلخرَّ :
(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) ،أي فيما
يظهر لهم من إصالح ظاهره مع فساد سريرته وخبثها ،وهللا تعالى أعلم
)).
11ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ بيان أطوار خلق اإلنسان في بطن ِّأمه.
أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً ،وبذلك يكون
2ـ َّ
إنساناً.
مو َّكل باألرحام. 3ـ َّ
أن من المالئكة َمن هو َ
4ـ اإليمان بالغيب.
5ـ اإليمان بالقدر ،وأنَّه سبق في ِّ
كل ما هو كائن.
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 46
***
الحديث الخامس
عن أم المؤمنين أم عبد هللا عائشة رضي هللا عنها قالت :قال رسول
رواه هللا َ (( :من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر ٌّد
))
البخاري ومسلم ،وفي رواية لمسلمَ (( :من عمل عمال ليس عليه أمرنا
فهو ر ٌّد )).
1ـ هذا الحديث أصل في وزن األعمال الظاهرة ،وأنَّه ال يُعت ُّد بها
)) إنَّما األعمال بالنيات (( إالَّ إذا كانت موافقة للشرع ،كما َّ
أن حديث
وأن كل عم ٍّل يتقرب فيه إلى هللا ال ب َّد أنأص ٌل في األعمال الباطنةَّ ،
يكون خالصا ً هلل ،وأن يكون معتبرا ً بنيته.
2ـ إذا فُعلت العبادات كالوضوء والغسل من الجنابة والصالة وغير
ذلك ،إذا فُعلت على خالف الشرع فإنَّها تكون مردودة على صاحبها
غير معتبرةَّ ،
وأن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه وال
47 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
ألبيه (( :أ َّما الوليدة يُملك ،ويد ُّل لذلك قصةُ العسيف الذي قال النَّب ُّ
ي
والغنم فر ٌّد عليك )) رواه البخاري ( )2695ومسلم (.)1697
أن من ابتدع بدعة ليس لها أصل في الشرع ُ
الحديث على َّ 3ـ ويد ُّل
في المدينة: فهي مردودة ،وصاحبها مستحق للوعيد ،فقد قال النَّب ُّ
ي
(( من أحدث فيها ح َدثا ً أو آوى محدثا ً فعليه لعنة هللا والمالئكة والناس
أجمعين )) رواه البخاري ( )1870ومسلم (.)1366
4ـ الرواية الثانية التي عند مسلم أعم من الرواية التي في
الصحيحين؛ ألنها تشمل من عمل البدعة ،سواء كان هو المحدث لها
أو مسبوقا ً إلى إحداثها وتابع من أحدثها.
5ـ معنى قوله في الحديث (( :رد )) أي مردو ٌد عليه ،وهو من
إطالق المصدر وإرادة اسم المفعول ،مثل :خ َْلق بمعنى مخلوق ،ونَسْخ
بمعنى منسوخ ،والمعنى :فهو باطل غير معتد به.
6ـ ال يدخل تحت الحديث ما كان من المصالح في حفظ الدين ،أو
موصالً إلى فهمه ومعرفته ،كجمع القرآن في المصاحف ،وتدوين علوم
اللغة والنحو ،وغير ذلك.
كل عم ٍّل مخالفٍّ للشرع ،ولو
رد ِّ
7ـ الحديث يدل بإطالقه على ِّ
كان قص ُد صاحبه حسناً ،ويدل عليه قصة الصحابي الذي ذبح أضحيته
ي (( :شاتُك شاة لحم )) رواه البخاريقبل صالة العيد ،وقال له النَّب ُّ
( )955ومسلم (.)1961
8ـ هذا الحديث يدل بمنطوقه على َّ
أن ك َّل عمل ليس عليه أمر
الشارع فهو مردود ،ويدل بمفهومه على َّ
أن ك َّل عمل عليه أمره فهو
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 48
***
49 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
الحديث السادس
عن أبي عبد هللا النعمان بن بشير رضي هللا عنهما قال :سمعت
بين ،وإ َّن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقولَّ (( :
إن الحال َل ِّ
َّ
يعلمهن كثير من الناس ،ف َمن الحرا َم بيِّن ،وبينهما أمور مشتبهات ال
اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ،و َمن وقع في الشبهات وقع
الح َمى يوشك أن يرتع فيه ،أال َّ
وإن في الحرام ،كالراعي يرعى حول ِّ
وإن ِّحمى هللا محارمه ،أال َّ
وإن في الجسد ُمضغة، لكل م ِّلك ِّحمى ،أال َّ
ِّ
إذا صلحت صلح الجسد كلُّه ،وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه ،أال وهي
القلب )) رواه البخاري ومسلم.
أمور
ٌ الحرام ِّبين ،وبينهما
َ َّ
وإن 1ـ قولهَّ (( :
إن الحال َل ِّبين،
كثير من الناس )) ،فيه تقسيم األشياء إلى ثالثةٌ َّ
يعلمهن مشتبهات ال
أقسام:
األول :الحال ُل البيِّن ،كالحبوب والثمار وبهيمة األنعام ،إذا لم تصل
إلى اإلنسان بطريق الحرام.
الثاني :الحرا ُم البيِّن ،كشرب الخمر وأكل الميتة ونكاح ذوات
الخاص والعام.
ُ المحارم ،وهذان يعلمهما
الحل والحرمة ،فليست من الحالل
ِّ الثالث :المشتبهات المتردِّدة بين
البيِّن وال من الحرام البيِّن ،وهذه ال يعلمها كثير من الناس ،ويعلمها
ضهم.
بع ُ
ف َمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ،و َمن (( 2ـ قوله:
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 50
***
الحديث السابع
الحق
ِّ والنصيحة ألئمة المسلمين ،أي لخلفائهم وقادتهم :معاونت ُهم على
وطاعت ُهم فيه ،وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف ،ومجانبة الخروج
وحث األغيار على ذلك ،والنصيحة ُّ عليهم ،والدعا ُء لهم بالتوفيق،
لعامة المسلمين ،وهم ها هنا َمن عدا أولى األمر منهم :إرشا ُدهم إلى
مصالحهم ،وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم ،وستر عوراتهم ،وس ُّد
خالتهم ،ونصرتهم على أعدائهم ،والذَّبُّ عنهم ،ومجانبة ال ِّغش والحسد
لهم ،وأن يُحبَّ لهم ما يُحب لنفسه ،ويكره لهم ما يكرهه لنفسه ،وما
شابه ذلك )).
3ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ بيان عظم شأن النصيحة وعظيم منزلتها من الدِّين.
2ـ بيان ِّل َمن تكون النصيحة.
ُّ
الحث على النصيحة في الخمس المذكورة في الحديث. 3ـ
4ـ حرص الصحابة على معرفة أمور الدِّين ،وذلك بسؤالهم ِّل َمن
تكون النصيحة.
أن الدِّينَ يُطلق على العمل؛ لكونه س َّمى النصيحة ديناً.
5ـ َّ
***
الحديث الثامن
أن رسول هللا صلى هللا عن ابن عمر رضي هللا تعالى عنهماَّ :
تعالى عليه وآله وسلم قال (( :أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
وأن محمدا رسول هللا ،ويُقيموا الصالةَ ،ويؤتوا الزكاةَ،
ال إله إالَّ هللاَّ ،
55 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
بحق اإلسالم،
ِّ مني دماءهم وأموالهم إالَّ فإذا فعلوا ذلك عصموا ِّ
وحسابُهم على هللا تعالى )) رواه البخاري ومسلم.
هو هللا؛ ألنَّه ال آمر له اآلمر لرسول هللا
ُ 1ـ قوله (( :أُمرت ))
غيره ،وإذا قال الصحابي :أُمرنا بكذا ،أو نُهينا عن كذا ،فاآلمر والناهي
. لهم رسول هللا
،وارت َّد َمن 2ـ َل َّما توفي رسول هللا ،واستُخلف أبو بكر
ارت َّد من العرب ،وامتنع َمن امتنع من دفع الزكاة ،عزم أبو بكر
حق الشهادتين أداء الزكاة ،ولم يكن عنده أن من ِّ على قتالهم؛ بنا ًء على َّ
الحديث بإضافة الصالة والزكاة إلى الشهادتين ،كما في هذا الحديث،
فناظره عمر في ذلك ،وجاءت المناظرة بينهما في حديث أبي هريرة
في صحيح مسلم ( ،)20قال (( :لَ َّما توفي رسول هللا ،واستُخلف
أبو بكر بعده ،وكفر من كفر من العرب ،قال عمر بن الخطاب ألبي
الناس وقد قال رسول هللا ( :أُمرت أن أقاتل الناس َ بكر :كيف تقاتل
حتى يقولوا ال إله إالَّ هللا ،فمن قال ال إله إالَّ هللا فقد عصم منِّي مالَه
َّ
ألقاتلن بحقه ،وحسابهم على هللا تعالى) ،فقال أبو بكر :وهللا! ونفسه إالَّ ِّ
حق المال ،وهللا! لو َمنَعوني فإن الزكاة ُّ
فرق بين الصالة والزكاة؛ َّ َمن َّ
لقاتلتهم على منعه ،فقال عمر عقاالً كانوا يؤدُّونه إلى رسول هللا
عز وج َّل قد شرح صدر بن الخطاب :فوهللا! ما هو إالَّ أن رأيت هللا َّ
ُّ
الحق )). أبي بكر للقتال ،فعرفت أنَّه
َ
الحديث قال الحافظ في الفتح ( (( :)76/1وقد استبعد قو ٌم صحته َّ
بأن
لو كان عند ابن عمر لَ َما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة،
ولو كانوا يعرفونه لَما كان أبو بكر ي ُّ
ُقر عمر على االستدالل بقوله عليه
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 56
الصالة والسالم( :أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ال إله إالَّ هللا)
فرق َّ
ألقاتلن َمن َّ وينتقل عن االستدالل بهذا النص إلى القياس؛ إذ قال:
بين الصالة والزكاة؛ ألنَّها قرينت ُها في كتاب هللا ،والجواب :أنَّه ال يلزم
من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك
الحالة ،ولو كان مستحضرا ً له فقد يحتمل أن ال يكون َح َ
ضر المناظرة َ
ذكره لهما بعد ،ولَم يستد َّل أبو بكر في
المذكورة ،وال يمتنع أن يكون َ
قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط ،بل أخذه أيضا ً من قوله عليه الصالة
بحق اإلسالم) ،قال أبو بكر:
ِّ والسالم في الحديث الذي رواه( :إالَّ
حق اإلسالم ،ولَم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور ،بل رواه والزكاة ُّ
أبو هريرة أيضا ً بزيادة الصالة والزكاة فيه ،كما سيأتي الكالم عليه إن
أن السنَّةَ قد
صة دلي ٌل على َّشاء هللا تعالى في كتاب الزكاة ،وفي الق َّ
َّ
ويطلع عليها آحا ُدهم ،ولهذا ال يُلتفت تخفي على بعض أكابر الصحابة
إلى اآلراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها ،وال يقال كيف َخفي ذا
على فالن ،وهللا الموفق )).
3ـ يُستثنى من عموم مقاتلة الناس حتى اإلتيان بما ذ ِّكر في
الحديث :أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية لداللة القرآن ،وغيرهم إذا دفعها
لداللة السنَّة على ذلك ،كما في حديث بريدة بن ال ُحصيب الطويل في
إذا أ َّمر أميرا ً كان رسول هللا (( صحيح مسلم ( ،)1731وأوله:
على جيش أو سريَّة أوصاه في خاصته بتقوى هللا ،و َمن معه من
المسلمين خيرا ً )) ..الحديث.
4ـ يكفي للدخول في اإلسالم الشهادتان ،وهما َّأول واجب على
57 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
الحديث التاسع
عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي هللا تعالى عنه قال:
سمعتُ رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول (( :ما نهيتُكم عنه
فاجتنبوه ،وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنَّما أهلك َمن كان
قبلكم كثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم )) رواه البخاري ومسلم.
1ـ اتَّفق الشيخان على إخراج هذا الحديث ،وهو بهذا اللفظ عند
مسلم في كتاب الفضائل ( ،)1737وقد جاء بيان سبب الحديث عنده
في كتاب الحج ( )1337عن أبي هريرة قال (( :خطبنا رسول هللا
فقال :أيُّها الناس! قد فرض هللا عليكم الح َّج ف ُح ُّجوا ،فقال رجل :أك َّل
عام يا رسول هللا؟ فسكت ،حتى قالها ثالثاً ،فقال رسول هللا :لو
قلت نعم لوجبت ،ولَ َما استطعتم ،ثم قال :ذروني ما تركتُكم؛ فإنَّما هلك
َمن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم ،فإذا أمرتكم بشيء
فأتوا منه ما استطعتم ،وإذا نهيتُكم عن شيء فدعوه )).
2ـ قوله (( :ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه ،وما أمرتكم به فأتوا منه ما
استطعتم )) فيه تقييد امتثال األمر باالستطاعة دون النهي؛ وذلك َّ
أن
فاإلنسان مستطي ٌع أالَّ يفعل،
ُ النهي من باب التروك ،وهي مستطاعة،َ
59 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
وأ َّما األمر فقد قُ ِّيد باالستطاعة؛ ألنَّه تكليف بفعل ،فقد يستطاع ذلك
الفعل ،وقد ال يُستطاع ،فالمأمور يأتي بالمأمور به حسب استطاعته،
فمثالً َل َّما نهي عن شرب الخمر ،والمنهي مستطيع عدم شربها،
والصالة مأمور بها ،وهو يصليها على حسب استطاعته من قيام وإالَّ
فعن جلوس ،وإالَّ فهو مضطجعِّ ،
وم َّما يوضحه في الحسيَّات ما لو قيل
إلنسان :ال تدخل من هذا الباب ،فإنَّه مستطيع أالَّ يدخل؛ ألنَّه ترك ،ولو
قيل له :احمل هذه الصخرة ،فقد يستطيع حملها وقد ال يستطيع؛ ألنَّه
فعل.
3ـ ترك المنهيات باق على عمومه ،وال يُستثنى منه إالَّ ما تدعو
صة بشرب قليل من
الضرورة إليه ،كأكل الميتة لحفظ النفس ،ودفع الغ َّ
الخمر.
4ـ النهي الذي يجب اجتنابه ما كان للتحريم ،وما كان للكراهة
يجوز فعله ،وتركه أولى من فعله.
5ـ المأمور به يأتي به المكلَّف على قدر طاقته ،ال ِّ
يكلف هللا نفسا ً
إالَّ وسعها ،فإذا كان ال يستطيع اإلتيان بالفعل على الهيئة الكاملة ،أتى
به على ما دونها ،فإذا لم يستطع أن يصلي قائما ً صلَّى جالساً ،وإذا لم
يستطع اإلتيان بالواجب كامالً أتى بما يقدر عليه منه ،فإذا لَم يكن عنده
من الماء ما يكفي للوضوء توضَّأ بما عنده وت َي َّمم للباقي ،وإذا لم يستطع
إخراج صاع لزكاة الفطر ،وقدر على إخراج بعضه أخرجه.
6ـ قوله (( :فإنَّما أهلك َمن كان قبلكم كثرة سؤالهم واختالفهم على
ي عنه في الحديث ما كان من المسائل قي زمنه يترتَّب أنبيائهم )) المنه ُّ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 60
عليه تحريم شيء على الناس بسبب مسألته ،وما يترتَّب عليه إيجاب
شيء فيه مشقَّة كبيرة وقد ال يُستطاع ،كالحجِّ ك َّل عام ،والمنه ُّ
ي عنه
ُّ
وتنطع واشتغال به ع َّما هو أهم منه. بعد زمنه ما كان فيه تكلُّف
7ـ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( 248/1ـ :)249
فمن أتباع أهل الحديث َمن (( وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساما ًِّ :
باب المسائل حتى ق َّل فق ُهه وعل ُمه بحدود ما أنزل هللا على رسوله، س َّد َ َ
س َع في توليد ومن فقهاء أهل الرأي َمن تو َّ غير فقيهِّ ،
وصار حام َل فقه َ
المسائل قبل وقوعها ،ما يقع في العادة منها وما ال يقع ،واشتغلوا بتكلُّف
الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجدال عليه ،حتى يتولَّد من
ويستقر فيها بسببه األهوا ُء والشحناء والعداوة َّ افتراق القلوبُ ذلك
العلو والمباهاة
ِّ والبغضاء ،ويقترن ذلك كثيرا ً بنيَّة المغالبة وطلب
وصرف وجوه الناس ،وهذا ِّم َّما ذ َّمه العلما ُء الربَّانيُّون ،ودلَّت السنَّةُ
معظم
َ على قُبحه وت َحريمه ،وأما فقها ُء أهل الحديث العاملون بهَّ ،
فإن
يفسره من السنن عز وج َّل وما ِّ همهم البحث عن معاني كتاب هللا َّ ِّ
الصحيحة وكالم الصحابة والتابعين لهم بإحسان ،وعن سنَّة رسول هللا
ومعرفة صحيحها وسقيمها ،ثم التفقه فيها وتف ُّهمها والوقوف على
معانيها ،ثم معرفة كالم الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم
من التفسير والحديث ومسائل الحالل والحرام ،وأصول السنة والزهد
والرقائق وغير ذلك ،وهذا هو طريقة اإلمام أحمد و َمن وافقه ِّمن علماء
الحديث الربانيِّين ،وفي معرفة هذا شغ ٌل شاغ ٌل عن الت َّشاغل بما أحدث
يورث الت َّجاد ُل فيه الخصومات ُ من الرأي ِّم َّما ال ينتفع به وال يقع ،وإنَّما
سئل عن والجدال ،وكثرة القيل والقال ،وكان اإلمام أحمد كثيرا ً إذا ُ
61 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
شيء من المسائل المولَّدات التي ال تقع يقول :دعونا من هذه المسائل
المحدثة )).
إلى أن قال (( :و َمن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه ت َم َّكن
ألن أصو َلها توجد في تلك من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا ً؛ َّ
األصول المشار إليها ،وال ب َّد أن يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة
أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم ،كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي
فإن َمن ا َّدعى سلوك هذا الطريق على غيرعبيد و َمن سلك مسلكهمَّ ،
طريقهم وقع في مفاوز ومهالك ،وأخذ بما ال يجوز األخ ُذ به ،وترك ما
ب
والتقر َ
ُّ كله أن يقصد بذلك وجهَ هللا يجب العم ُل به ،ومالك األمر ُِّ
إليه ،بمعرفة ما أنزل على رسوله ،وسلوك طريقه والعمل بذلك ودعاء
الخلق إليه ،و َمن كان كذلك وفَّقه هللا وس َّدده ْ
وأل َه َمه رش َده وعلَّمه ما لَم
يكن يعلم ،وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى:
ومن
الراسخين في العلم )).
في هذا إلى أن قال (( :وفي الجملة ف َمن امتثل ما أمر به النبي
الحديث ،وانتهى ع َّما نهى عنه ،وكان مشتغالً بذلك عن غيره ،حصل
له النجاة ُ في الدنيا واآلخرة ،و َمن خالف ذلك ،واشتغل بخواطره وما
من حال أهل الكتاب الذين يستحسنه ،وقع فيما حذَّر منه النبي
هلكوا بكثرة مسائلهم واختالفهم على أنبيائهم ،وعدم انقيادهم وطاعتهم
لرسلهم )).
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 62
عن أبي هريرة رضي هللا تعالى عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا
وإن هللا أمر طيب ال يقبل إالَّ ِّ
طيباَّ ، عليه وآله وسلم (( :إ َّن هللا تعالى ِّ
سلين ،فقال:
المؤمنين بما أمر به المر َ
َّ
وأن ذلك من أسباب عدم قبول دعائه ،مع كونه أتى بأسباب قبول
الدعاء ،وهي في هذا الحديث أربعة :السفر مع إطالته ،وكونه أشعث
أغبر ،وكونه َيم ُّد يديه بالدعاء ،وكونه ينادي هللا بربوبيَّته ،مع إلحاحه
ربه بتكرار ذلك ،ومعنى قوله (( :فأنَّى يُستجاب لذلك )) استبعاد على ِّ
حصول اإلجابة لوجود األسباب المانعة من قبول الدعاء.
4ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
وأن منأن من أسماء هللا الطيِّب ،ومعناه المن ََّزه عن النقائصَّ ،
1ـ َّ
ألن أسماء هللا كلَّها مشتقَّة ،وتد ُّل على صفات مشتقَّةصفاته الطيب؛ َّ
منها.
أن على المسلم أن يأتي بالطيب من األعمال والمكاسب. 2ـ َّ
أن الصدقة ال تُقبل إالَّ من مال حالل ،وقد ثبت عن النَّبي ِّ
3ـ َّ
أنَّه قال (( :ال يقبل هللا صالة بغير طهور ،وال صدقة من غلول )) رواه
مسلم (.)224
4ـ تفضُّل هللا على عباده بالنِّعم ،وأ ْمرهم بأن يأكلوا من الطيبات.
5ـ َّ
أن أكل الحرام من أسباب عدم قبول الدعاء.
6ـ َّ
أن من أسباب قبول الدعاء السفر ،وكون الداعي أشعث أغبر.
أن من أسباب قبوله أيضا ً رفع اليدين بالدعاء.
7ـ َّ
أن من أسبابه أيضا ً التوسل باألسماء.
8ـ َّ
9ـ َّ
أن من أسبابه اإللحاح على هللا فيه.
الحديث الحادي عشر
65 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول هللا
(( :دَع ما وريحانته رضي هللا عنهما قال :حفظت من رسول هللا
رواه الترمذي والنسائي ،وقال الترمذي: )) يريبُك إلى ما ال يريبك
(( حديث حسن صحيح )).
األمر بترك ما يرتاب المر ُء فيه وال تطمئن
ُ 1ـ هذا الحديث فيه
إليه نفسه ،ويحدث قلقا ً واضطرابا ً في النفس ،وأن يصير إلى ما يرتاح
إليه قلبُه وتطمئن إليه نفسه.
وهذا الحديث شبيه بما تقدَّم في حديث النعمان بن بشير (( :فمن
اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ،ومن وقع في الشبهات فقد
أن المتَّقي ينبغي له أالَّ يأكل المال
وقع في الحرام )) ،وهما يدالَّن على َّ
الذي فيه شبهة ،كما يحرم عليه أكل الحرام.
2ـ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( (( :)280/1ومعنى
واتقائها؛ َّ
فإن الحال َل هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات ِّ
المحض ال يحص ُل للمؤمن في قلبه منه ريب ،والريب بمعنى القلق َ
واالضطراب ،بل تسكن إليه النفس ،ويطمئن به القلب ،وأ َّما المشتبهات
للشك )).
ِّ فيحصل بها للقلوب القلق واالضطراب الموجب
أن ُّ
التفطن له ،وهو َّ وقال أيضا ً ( (( :)283/1وها هنا ٌ
أمر ينبغي
التدقيق في التوقف عن الشبهات إنَّما يصلح ِّل َمن استقامت أحواله كلُّها،
المحرمات
َّ وتشابهت أعماله في التقوى والورع ،فأ َّما َمن يقع في انتهاك
شبَه ،فإنَّه ال يحتمل
يتورع عن شيء من دقائق ال ُّ
َّ الظاهرة ،ثم يريد أن
له ذلك ،بل يُنكر عليه ،كما قال ابن عمر ِّل َمن سأله عن دم البعوض
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 66
***
الحديث الثاني عشر
عن أبي هريرة رضي هللا تعالى عنه قال :قال رسول هللا :
((
ِّمن ُحسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه )) حديث حسن ،رواه الترمذي
وغيره هكذا.
المسلم يترك ما ال يه ُّمه من أمر الدِّين
َ 1ـ معنى هذا الحديث َّ
أن
والدنيا في األقوال واألفعال ،ومفهومه أنَّه يجتهد فيما يعنيه في ذلك.
2ـ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( 288/1ـ :)289
سنَ إسال ُمه ترك ما ال يعنيه من قول (( ومعنى هذا الحديث َّ
أن َمن َح ُ
وفعل ،واقتصر على ما يعنيه من األقوال واألفعال ،ومعنى (يعنيه) أنَّه
تتعلق عنايته به ،ويكون من مقصده ومطلوبه ،والعناية ش َّدة االهتمام
بالشيء ،يُقال عناه يعنيه إذا اهت َّم به وطلبه ،وليس المراد أنَّه يترك ما
ال عناية له وال إرادة بحكم الهوى وطلب النفس ،بل بحكم الشرع
سن إسال ُم المرء ترك واإلسالم ،ولهذا جعله ِّمن حسن اإلسالم ،فإذا َح ُ
اإلسالم يقتضي فع َل
َ ما ال يعنيه في اإلسالم من األقوال واألفعالَّ ،
فإن
67 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السالمَّ ،
وإن
: حرمات ،كما قال اإلسالم الكامل الممدوح يدخل فيه ترك الم َّ َ
(المسلم َمن سلم المسلمون من لسانه ويده) ،وإذا حسن اإلسالم اقتضى
ترك ما ال يعني كلَّه من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول
فإن هذا كلَّه ال يعني المسلم إذا ك ُمل
المباحات التي ال يحتاج إليهاَّ ،
إسال ُمه وبلغ إلى درجة اإلحسان ،وهو أن يعبد هللا تعالى كأنَّه يراه،
فإن لم يكن يراه فإن هللا يراه ،ف َمن عبَ َد هللا على استحضار قربه
ومشاهدته بقلبه ،أو على استحضار قرب هللا منه واطالعه عليه ،فقد
حسن إسالمه ،ولزم من ذلك أن يترك ك َّل ما ال يعنيه في اإلسالم،
ويشتغل بما يعنيه فيه ،فإنَّه يتولَّد من هذين المقامين االستحياء من هللا،
كل ما يُستحيى منه )). وترك ِّ
3ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ ترك اإلنسان ما ال يعنيه في أمور الدِّين والدنيا.
2ـ اشتغال اإلنسان بما يعنيه من أمور دينه ودنياه.
أن في ترك ما ال يعنيه راحةً لنفسه وحفظا ً لوقته وسالمة
3ـ َّ
لعرضه.
4ـ تفاوت الناس في اإلسالم.
***
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 68
عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي هللا تعالى عنه خادم رسول
يحب ألخيه ما
َّ قال (( :ال يُؤم ُن أحدُكم حتى هللا ،عن النَّبي ِّ
يحب لنفسه )) رواه البخاري ومسلم.
ُّ
نفي كمال اإليمان الواجب عن المسلم حتى 1ـ في هذا الحديث ُ
يحبَّ ألخيه المسلم ما يُحبُّ لنفسه ،وذلك في أمور الدنيا واآلخرة،
الناس بمثل ما يحبُّ أن يُعاملوه به ،فقد جاء
َ ويدخل في ذلك أن يُعام َل
في صحيح مسلم ( )1844عن عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي
هللا عنهما في حديث طويل (( :ف َمن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل
الجنَّة ،فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن باهلل واليوم اآلخر ،وليأت إلى الناس الذي
ل : َّ
عز وج َّ يحبُّ أن يُؤتَى إليه )) ،وقال هللا
.
2ـ قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (:)306/1
يسر أخاه المؤمن ،ويريد سره ما ُّ (( وحديث أنس يد ُّل على َّ
أن المؤمنَ َي ُّ
ألخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير ،وهذا كلُّه إنَّما يأتي من كمال
فإن الحس َد يقتضي أن يكره الغل وال ِّغ ِّش والحسدَّ ،
ِّ سالمة الصدر من
الحاس ُد أن يفوقَه أح ٌد في خير ،أو يساويه فيه؛ ألنَّه يُحبُّ أن يَمتاز على
69 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
الحديث الرابع عشر
(( :عن ابن مسعود رضي هللا تعالى عنه قال :قال رسول هللا
والنفس
ُ ال يح ُّل د ُم امرئ مسلم إالَّ بإحدى ثالث :الثيِّب الزاني،
بالنفس ،والتاركُ لدينه المفارق للجماعة )) رواه البخاري ومسلم.
الرجم كما
صن ،وحكمه َّ الثيب هو المح َ
الثيب الزاني )) ِّ
1ـ قولهِّ (( :
ثبتت به السنَّة عن رسول هللا ،وكما دلَّت عليه آيةُ الرجم التي
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 70
***
71 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
الحديث الخامس عشر
قالَ (( :من كان يؤمن باهلل عن أبي هريرة َّ :
أن رسول هللا
واليوم اآلخر فليَقُل خيرا أو ليصمت ،و َمن كان يؤمن باهلل واليوم
كرم ضيفَهجاره ،و َمن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليُ ِّ
كرم َ
اآلخر فليُ ِّ
)) رواه البخاري ومسلم.
بين ذكر اإليمان باهلل واإليمان باليوم اآلخر 1ـ جمع رسول هللا
كل شيء يجب األساس في ِّ
ُ في هذه األمور الثالثة؛ َّ
ألن اإليمانَ باهلل هو
ي شيء يجب اإليمان به تاب ٌع لإليمان باهلل ،وأ َّما اإليمان بهَّ ،
فإن أ َّ ُ
اإليمان باليوم اآلخر ففيه التذكير بالم َعاد والجزاء على األعمال ،إن ُ
فشر.
شرا ٌّ وإن ًّ فخيرْ ،
ٌ خيرا ً
2ـ قولهَ (( :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فل َيقُل خيرا ً أو ليصمت
)) ،هذه كلمةٌ جامعةٌ من جوامع َك ِّلمه ،مقتضاها وجوب حفظ اللسان
من الكالم إالَّ في خير ،قال النووي في شرح هذا الحديث (( :قال
الشافعي رحمه هللا تعالى :معنى الحديث إذا أراد أن يتكلَّم فلي ِّ
ُفكر ،فإن
شك فيه أمسك، أن فيه ضررا ً و َّ ظهر أنَّه ال ضرر عليه تكلَّم ،وإن ظهر َّ
وقال اإلمام الجليل أبو محمد بن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في
تتفرع من أربعة أحاديث :قول النَّبي ِّ ( :من زمنه :جمي ُع آداب الخير َّ
كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرا ً أو ليصمت) ،وقوله ( :من
للذي اختصر له حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه) ،وقوله
الوصيَّة( :ال تغضب) ،وقوله( :ال يؤمن أحدُكم حتَّى يُحبَّ ألخيه ما
يُحبُّ لنفسه) )) ،ونقل النووي عن بعضهم أنَّه قال (( :لو كنتم تشترون
الكاغَد للحفظة لسكتُّم عن كثير من الكالم )).
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 72
***
الحديث السادس عشر
***
الحديث السابع عشر
75 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
قالَّ (( :
إن ،عن رسول هللا عن أبي يعلى شدَّاد بن أوس
كل شيء ،فإذا قتلتُم فأحسنوا ال ِّقت َلة ،وإذا َ
اإلحسان على ِّ هللا كتب
شفرتَه ،وليُرح ذبيحتَه )) رواه َ ذبحتُم فأحسنوا ِّ
الذبحة ،وليح َّد أحدُكم
مسلم.
ُ
اإلحسان ض ُّد كل شيء ))، 1ـ قولهَّ (( :
إن هللا كتب اإلحسانَ على ِّ
اإلساءة ،وكتب بمعنى شرع وأوجب ،فالكتابة دينية شرعيَّة ،واإلحسان
فيها يكون عا ًّما لإلنسان والحيوان.
والذبحة ،وإحداد الشفرة
بإحسان ال ِّقتلة ِّ 2ـ ث َّم أمر الرسول
وإراحة الذبيحة ،وهذا مثال من أمثلة إيقاع اإلحسان عند قتل اإلنسان
المستحق للقتل وذبح الحيوان ،وذلك بسلوك أسهل الطرق التي يكونِّ
بها إزهاق النفس من غير تعذيب.
3ـ قال ابن رجب في جامع العلوم الحكم ( 381/1ـ :)382
كل شيء من األعمال،(( وهذا الحديث يد ُّل على وجوب اإلحسان في ِّ
ُ
فاإلحسان في اإلتيان بالواجبات الظاهرة كل شيء بحسبه،لكن إحسان ِّ
ُ
اإلتيان بها على وجه كمال واجباتها ،فهذا القدر من اإلحسان والباطنة
فيها واجب ،وأ َّما اإلحسان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب،
حرمات ،االنتها ُء عنها وتركُ ظاهرها وباطنها، ُ
واإلحسان في ترك الم َّ
كما قال تعالى:
القدر
ُ ، فهذا
اإلحسان في الصبر على المقدورات، ُ واجب ،وأ َّما
ٌ من اإلحسان فيها
س ُّخط وال َجزَ عٍّ،
فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه ،من غير ت َ َ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 76
ُ
واإلحسان الواجب في معاملة ال َخلق ومعاشرتهم ،القيا ُم بما أوجب هللا
كله ،واإلحسان الواجب في والية ال َخلق وسياستهم، من حقوق ذلك ِّ
كله
والقدر الزائد على الواجب في ذلك ِّ
ُ كلها،
القيا ُم بواجبات الوالية ِّ
إحسان ليس بواجب ،واإلحسان في قتل ما يَجوز قتله من الناس ٌ
إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسه ِّلها وأوحاها ـ يعني ُ وال َّدواب،
أسرعها ـ من غير زيادة في التعذيب ،فإنَّه إيال ٌم ال حاجة إليه ،وهذا
في هذا الحديث ،ولعلَّه ذ َكره على سبيل ع هو الذي ذكره النَّب ُّ
ي النو ُ
المثال ،أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال ،فقال( :إذا قتلتم فأحسنوا
الذبحة) ،وال ِّقتلةُ والذِّبحة بالكسر ،أي:
ال ِّقتْلة ،وإذا ذ َبحتم فأحسنوا ِّ
الهيئة ،والمعنى :أحسنوا َهيئة الذَّبح وهيئةَ القتل ،وهذا يد ُّل على وجوب
اإلسراعِّ في إزهاق النفوس التي يُباح إزهاقُها على أسهل الوجوه )).
اإلحسان في القتل مطلوب بدون تعذيب أو تمثيل ،سواء كان ُ 4ـ
في قتال الكفار أو القتل قصاصا ً أو حدًّا ،إالَّ أنَّه عند القتل قصاصا ً
يُفعل بالقاتل كما فَعَ َل بالمقتول ،كما جاء عن النَّبي ِّ في قتل اليهودي ِّ
رض رأس جارية بين َحجرين ،رواه البخاري ( ،)2413ومسلم َّ الذي
رنيين ،رواه البخاري (،)6802 ( ،)1672وكما جاء في قصة العُ ِّ
الرجم،
صن ،وهو َّحد الزاني ال ُمح َ ومسلم ( ،)1671وأ َّما ما جاء في ِّ
فهو إ َّما مستثنَى من عموم هذا الحديث ،أو محمول على َّ
أن اإلحسانَ
صن منه. يكون في موافقة الشرع ،ورجم المح َ
5ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
كل شيء.
1ـ وجوب اإلحسان في ِّ
77 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
2ـ وجوب اإلحسان عند القتل بسلوك أيسر سبيل إلزهاق النفس.
3ـ وجوب اإلحسان عند ذبح الحيوان كذلك.
4ـ تفقد آلة ال َّذبح قبل مباشرته؛ لقوله (( :ولي ِّ
ُحد أحدُكم شفرته،
وليُرح ذبي َحتَه )).
***
الحديث الثامن عشر
عن أبي ذر ُجندب بن ُجنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي
قال (( :اتَّق هللا حيثما كنت ،وأتبع هللا تعالى عنهما ،عن رسول هللا
الناس ب ُخلُق حسن )) رواه الترمذي،َ السيِّئةَ الحسنةَ ت َم ُحها ،وخا ِّلق
وقال (( :حديث حسن )) ،وفي بعض النسخ (( :حسن صحيح )).
1ـ هذا الحديث اشتمل ب ُجم ِّله الثالث على ما هو مطلوب من المسلم
لربه ولنفسه ولغيره.
ِّ
2ـ قوله (( :اتَّق هللا حيثما كنت )) ،أص ُل التقوى في اللغة :أن يجعل
بينه وبين الذي يخافه وقاية تقيه منه ،مثل اتِّخاذ النِّعال والخفاف للوقاية
التقاء حرارة
وكاتخاذ البيوت والخيام ِّ
ِّ ِّم َّما يكون في األرض من ضرر،
ُ
اإلنسان بينه وبين الشمس ،ونحو ذلك ،والتقوى في الشرع :أن يجع َل
غضب هللا وقاية تقيه منه ،وذلك بفعل المأمورات وترك المنهيات،
وتصديق األخبار ،وعبادة هللا وفقا ً للشرع ،ال بالبدع والمحدثات،
وتقوى هللا مطلوبةٌ في جميع األحوال واألماكن واألزمنة ،فيتَّقي هللا في
السر والعلن ،وبروزه للناس واستتاره عنهم ،كما جاء في هذا الحديث:
ِّ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 78
***
الحديث التاسع عشر
عن أبي العباس عبد هللا بن عباس رضي هللا تعالى عنهما قال
أعلمك كلمات: يوما فقال لي (( :يا غالم! ِّإني ِّ كنت :خلف النَّبي ِّ
هللا تَجده تجاهك ،إذا سألتَ فاسأل َ
هللا ،وإذا هللا يَحفظك ،احفظ َ احفظ َ
أن األ َّمة لو اجتمعت على أن ينفعوك استعنتَ فاست ِّعن باهلل ،واعلم َّ
بشيء لَم ينفعوك إالَّ بشيء قد كتبه هللا لك ،وإن اجتمعوا على أن
يضروك بشيء لَم يضروك إالَّ بشيء قد كتبه هللا عليكُ ،رفعت األقال ُم ُّ
صحف )) رواه الترمذي وقال (( :حديث حسن صحيح )) ،وفي و َجفَّت ال ُّ
تعرف إلى هللا في رواية غير الترمذي (( :احفظ هللا تَجده أما َمكَّ ،
أن ما أخطأك لَم يكن ليصيبَك ،وما الشدَّة ،واعلم َّالرخاء يعرفك في ِّ َّ
وأن الفَ َر َج مع
صر مع الصبرَّ ، أن النَّ َ
أصابَك لَم يكن ِّليُخطئك ،واعلم َّ
وأن مع العُسر يُسرا )). بَّ ، الكَر ِّ
1ـ قوله (( :احفظ هللا يحفظك )) ،أي :احفظ حدود هللا بامتثال أوامره
واجتناب نواهيه ،وتصديق األخبار ،وعبادته وفقا ً ِّل َما شرع ،ال
باألهواء والبدع ،يحفظك هللا في أمور دينك ودُنياك جزا ًء وفاقاً ،أي:
ٌ
حفظ. ٌ
حفظ والجزا ُء َّ
أن الجزا َء من جنس العمل ،فالعم ُل
2ـ قوله (( :احفظ هللا تجده تجاهك )) تُجاهك بمعنى أمامك ،كما في
الرواية األخرى (( :احفظ هللا تجده أمامك )) ،والمعنى :تجده يحو ُ
طك
ويرعاك في أمور دينك ودنياك.
3ـ قوله (( :إذا سألت فاسأل هللا ،وإذا استعنت فاستعن باهلل )) ،هذا
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 80
وجبلَّةً غير مكتسب ،وهو ِّمن أجل األخالق التي َيمنحها هللا كان ُخلُقا ً ِّ
العبد ويجبله عليها ،ولهذا قال ( :الحيا ُء ال يأتي إالَّ بخير)؛ فإنَّه
حث على استعمال مكارم ف عن ارتكاب القبائح ودناءة األخالق ،ويَ ُّ يَ ُك ُّ
األخالق ومعاليها ،فهو ِّمن خصال اإليمان بهذا االعتبار ...
85 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
قال :قلت: عن أبي عَمرو وقيل أبي عَمرة سفيان بن عبد هللا
يا رسول هللا! قُل لي في اإلسالم قوال ال أسأل عنه أحدا غيرك؟ قال:
(( قل آمنتُ باهلل ،ثم استقم )) رواه مسلم.
أش ُّد الناس حرصا ً على معرفة الدِّين، أصحاب رسول هللا
ُ 1ـ
واض ٌح كل خير ،وهذا السؤال من سفيان بن عبد هللا ُ
أسبق إلى ِّ وهم
هذا السؤال العظيم ،الذي يريد جوابه جامعا ً في ذلك؛ إذ سأل النَّب َّ
ي
. واضحا ً ال يحتاج فيه إلى أحد بعد رسول هللا
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 86
دوموا على طاعة هللا وطاعة رسوله ،حتى إذا وافاكم األجل يوافيكم
وأنتم على حال حسنة ،وقد بيَّن هللا َّ
عز وج َّل في كتابه ثواب َمن آمن
واستقام ،فقال:
عن أبي عبد هللا جابر بن عبد هللا األنصاري ِّ رضي هللا عنهماَّ :
أن
،فقال (( :أرأيتَ إذا صلَّيتُ المكتوبات، رجال سأل رسول هللا
وحرمتُ الحرا َم ،ولَم أزد على ذلك
َّ صمتُ رمضان ،وأحللتُ الحالل،
و ُ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 88
الجنَّة ،لكن اإلتيان بالنوافل مع الفرائض يك َّمل بها الفرائض إذا لم يكن
أت َ َّمها ،وجاء بذلك حديث صحيح عن رسول هللا ،رواه أبو داود
( ،)864والترمذي ( ،)413وابن ماجه ( ،)1425وأيضا ً فالنوافل
هي كالسياج للفرائض ،و َمن كان محافظا ً عليها كان أش َّد محافظة على
يجره ذلك إلى اإلخالل بالفرائض.
الفرائض ،و َمن تساهل بها قد ُّ
5ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ حرص الصحابة على معرفة األعمال التي ت ُ ِّ
دخل الجنَّة.
أن األعمال سبب في دخول الجنَّة.
2ـ َّ
3ـ بيان أهميَّة الصلوات الخمس ،وقد جاء في الحديث أنَّها عمود
اإلسالم.
4ـ بيان أهميَّة صيام رمضان.
المسلم يُح ُّل الحال َل معتقدا ً حلَّه ،ويجتنب الحرام معتقدا ً
َ 5ـ َّ
أن
حرمته.
6ـ بيان بطالن قول من زعم من الصوفية َّ
أن اإلنسانَ ال يعبد هللا
رغبة في الجنَّة وخوفا ً من النار ،وقد قال عن خليله :
***
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 90
ويرج ُح
ِّ أي :صالتكم إلى بيت المقدس،
تفسير (( ُّ
الطهور )) بالوضوء روايةُ الترمذي للحديث ( ،)3517وفيه َ
((بدل (( الطهور )) (( الوضوء )) ،ورواية ابن ماجه ( )280بلفظ:
إسباغ الوضوء )) ،والشطر فُ ِّسر بالنصفِّ ،
وفسر بالجزء ،وإن لم يكن
نصفاً ،وشرط الصالة الوضوء كما جاء في الحديث (( :ال تُقبل صالة
ُّ
والطهور بغير طهور ،وال صدقة من غلول )) رواه مسلم (،)224
بالضم اس ٌم للفعل وهو التط ُّهر ،وبالفتح اس ٌم للماء الذي ي َّ
ُتطهر به ،ومثل ِّ
ذلك لفظ الوضوء والسحور والوجور والسعوط.
2ـ قوله (( :والحمد هلل تمأل الميزان ،وسبحان هللا والحمد هلل ت َمآلن
أو تَمأل ما بين السماء واألرض )) ،الميزان :هو ميزان األعمال ،وهو
يد ُّل على فضل التحميد والتسبيح ،والتسبيح هو تنزيه هللا عن ِّ
كل نقص،
91 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
لإلنسان إذا قام بما يجب عليه وما هو مطلوب منه في القرآن ،من
تصديق األخبار ،وامتثال األوامر ،واجتناب النواهي ،وتالوته َّ
حق
تالوته ،وإ َّما ُح َّجة عليه إذا أعرض عنه ولم يقُم بما هو مطلوب منه،
في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ومثل هذا الحديث قوله
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 92
(:)817
إن هللا يرفع بهذا الكتاب أقواما ً وي َ
ضع به آخرين )). (( َّ
7ـ قوله (( :ك ُّل الناس يغدو ،فبائ ٌع نفسه ف ُمعتقها أو موبقها )) ،معناه:
سه على الناس يغدون ويسعون ،فينقسمون إلى قسمين؛ قسم يبيع نف َ
َ َّ
أن
هللا ،بفعل الطاعات واجتناب المعاصي ،فيُعتقُها بذلك من النار ،ويُبعدها
عن إضالل الشيطان وإغوائه ،وقس ٌم يُوبقها بارتكاب الذنوب
المحرمة التي توصله إلى
َّ والمعاصي؛ وذلك بوقوعه في الشهوات
النار.
8ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ بيان فضل ُّ
الطهور.
2ـ بيان فضل التحميد والتسبيح.
3ـ إثبات الميزان ووزن األعمال.
4ـ فضل الصالة ،وأنَّها ٌ
نور في الدنيا واآلخرة.
5ـ فضل الصدقة ،وأنَّها عالمةٌ على إيمان صاحبها.
6ـ فضل الصبر ،وأنَّه ضيا ٌء للصابرين.
الحث على العناية بالقرآن تعلُّما ً وتدبُّرا ً وعمالً؛ ليكون ُح َّجة
ُّ 7ـ
لإلنسان.
التحذير من اإلخالل بما يجب نحو القرآن؛ لئالَّ يكون ح َّجة
ُ 8ـ
عليه.
كل عمل صالح يُعتق اإلنسا ُن نف َ
سه به من خزي ُّ
الحث على ِّ 9ـ
93 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
وج َّل أن يُث ِّبتَهم على الهداية الحاصلة ،وأن يزيدهم هدى على هدى.
4ـ قوله (( :يا عبادي! كلُّكم جائ ٌع إالَّ َمن أطعمته ،فاستطعموني
أُ ْ
طعمكم ،يا عبادي! كلُّكم عار إالَّ َمن َكسوته ،فا ْستكسوني أ َ ْك ُ
س ُكم ))،
في هاتَين الجملتين بيان ش َّدة افتقار العباد إلى ربِّهم ،وحاجتهم إليه في
وأن عليهم أن يسألوه سبحانه وتعالى َّ تحصيل أرزاقهم وكسوتهم،
طعامهم وكسوتهم.
أغفر
ُ 5ـ قوله (( :يا عبادي! إنَّكم تُخطئون بالليل والنهار ،وأنا
عز وج َّل علىأغفر لكم )) ،أوجب هللا َّ
ْ الذنوب جميعاً ،فاستغفروني
َ
العباد امتثال األوامر واجتناب المنهيات ،والعباد يحصل منهم التقصير
في أداء ما وجب عليهم ،والوقوع في شيء ِّم َّما نُهوا عنه ،وطريق
السالمة من ذلك رجوعهم إلى هللا ،وتوبتهم من ذنوبهم ،وسؤال هللا َّ
عز
97 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
َّ
خطاء ،وخير ك ُّل بني آدم وج َّل أن يغفرها لهم ،وفي الحديث:
((
وغيره.
ُ التوابون )) حديث حسن ،أخرجه ابن ماجه ()4251 َّ
الخطائين َّ
6ـ قوله (( :يا عبادي! إنَّكم لن تَبلُغوا ُ
ض ِّري فتضروني ،ولن تبلغوا
نفعي فتنفعوني )) ،قال ابن رجب ( (( :)43/2يعني َّ
أن العبا َد ال يقدرون
ي حميد ،ال حاجة فإن هللا تعالى في نفسه غن ٌّ أن يوصلوا نفعا ً وال ًّ
ضرا؛ َّ
له بطاعات العباد ،وال يعود نفعها إليه ،وإنَّما هم ينتفعون بها ،وال
يتضررون بها ،قال هللا تعالى : َّ يتضرر بمعاصيهم ،وإنَّما هم
َّ
،وقال:
.))
وجنَّكم كانوا
سكم ِّ وآخركم وإن َ
َ أن َّأو َلكم
7ـ قوله (( :يا عبادي! لو َّ
ب رجل واحد منكم ،ما زاد ذلك في ُملكي شيئا ً ،يا عبادي! على أتقى قل ِّ
وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد سكم ِّ
وآخركم وإن َ
َ أن َّأولَكم
لو َّ
منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ً )) ،في هاتين الجملتين بيان كمال
وأن العبا َد لو كانوا كلُّهم
عز وج َّل ،وكمال غناه عن خلقهَّ ، ملك هللا َّ
على أتقى ما يكون أو أفجر ما يكون ،لَم يزد ذلك في ملكه شيئاً ،ولم
وفجور
َ وأن تقوى كل إنسان إنَّما تكون نافعةً لذلك المتَّقي،ينقص شيئاًَّ ،
ضرره عليه.
ُ كل فاجر إنَّما يكون
وجنَّكم قامواسكم ِّ
وآخركم وإن َ
َ أن َّأو َلكم
8ـ قوله (( :يا عبادي! لو َّ
في صعيد واحد فسألوني ،فأعطيتُ ك َّل واحد مسألتَه ،ما نقص ذلك ِّم َّما
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 98
الم ْخ َيط إذا أُدخل البحر )) ،هذا يد ُّل على كمال عندي إالَّ كما ينقص ِّ
واإلنس لو
َ َّ
الجن غنى هللا سبحانه وتعالى وافتقار عباده إليهَّ ،
وأن
وآخرهم ،وسأل ك ٌّل ما يريد ،وحقَّق هللا لهم ذلك ،لم ُ اجتمعوا َّأولُهم
المخيَط إذا أُدخل البحر ،والمعنى ينقص ذلك ِّم َّما عند هللا إالَّ كما ينقص ِّ
ألن ما يعلق بالمخ َيط ـ وهو اإلبرة ـ من نقص أصالً؛ َّ ٌ أنَّه ال يحصل
الماء ال يُعتبَر شيئاً ،ال في الوزن وال في رأي العين.
9ـ قوله (( :ياعبادي! إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم ،ث َّم َأوفِّيكم
غير ذلك فال يَلُ َّ
ومن إالَّ إيَّاها ،ف َمن َو َج َد خيرا ً فليح َمد هللا ،و َمن َو َج َد َ
الناس في هذه الحياة مكلَّفون بامتثال األوامر واجتناب ُ نفسه ))،
صى شرا فهو ُمح ً النواهي ،وك ُّل ما يحصل منهم من عمل خيرا ً أو ًّ
عليهم ،وسيج ُد ك ٌّل أمامه ما قدَّم ،إن خيرا ً فخير ،وإن ًّ
شرا فشر ،قال هللا
ل : َّ
عز وج َّ
، ف َمن قدَّم خيرا ً وجد ثوابه أمامه ،والثواب
من فضل هللا على العبد ،وفعل الخير في الدنيا هو من توفيق هللا َّ
عز
وج َّل للعبد ،فله الفضل أ َّوالً وآخراً ،و َمن َو َج َد أمامه غير الخير فإنَّما
لربه وجنايته على نفسه ،فإذا وجد أُتي العبد من قبل نفسه ومعصيته ِّ
يلومن إالَّ نفسه.
َّ أمامه العذاب فال
10ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
ربه يشتمل على
عن ِّ أن من األحاديث ما يرويه الرسول 1ـ َّ
ضمائر التكلُّم ترجع إلى هللا ،ويُقال له الحديث القدسي.
99 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
2ـ تحريم هللا الظلم على نفسه وتنزيهه عنه ،مع إثبات كمال ضدِّه
وهو العدل.
3ـ تحريم هللا الظلم على العباد ألنفسهم ولغيرهم.
4ـ شدَّة حاجة العباد إلى سؤال ربِّهم ال ُهدى والطعام والكسوة وغير
ذلك من أمور دينهم ودنياهم.
5ـ َّ
أن هللا يحبُّ من عباده أن يسألوه ك َّل ما يحتاجون إليه من أمور
الدنيا والدِّين.
وضره ،بل
َّ وأن العبا َد ال يبلغون نفعه 6ـ كمال ملك هللا َّ
عز وج َّلَّ ،
وضرهم إلى أنفسهم.
ُّ يعود نفعُهم
أن العباد ال يسلمون من الخطأَّ ،
وأن عليهم التوبة من ذلك 7ـ َّ
واالستغفار.
8ـ َّ
أن التقوى والفجور يكونان في القلوب؛ لقوله (( :على أتقى قلب
رجل )) ،و(( على أفجر قلب رجل )).
ملك هللا ال تزيده طاعة المطيعين ،وال تنقصه معاصي العاصين.
أن َ 9ـ َّ
10ـ كمال غنى هللا وكمال ملكه ،وأنَّه لو أعطى عبا َده أ َّولَهم
عز وج َّل وخزائنه شيئاً.
وآخرهم ك َّل ما سألوه لم ينقص من ملك هللا َّ
َ
حث العباد على الطاعة ،وتحذيرهم من المعصيةَّ ،
وأن ك َّل 11ـ ُّ
ذلك محصى عليهم.
أن من وفَّقه هللا لطريق الخير ظفر بسعادة الدنيا واآلخرة،
12ـ َّ
والفضل هلل للتوفيق لسلوك سبيل ال ُهدى ،ولحصول الثواب على ذلك.
فرط وأساء العمل ظفر بالخسران ،وندم حيث ال ينفع 13ـ َّ
أن َمن َّ
النَّدم.
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 100
قالوا أن أناسا من أصحاب رسول هللا أيضاَّ : عن أبي ذر
نصلي،
ِّ (( :ذهب أه ُل ال ُّدثور باألجور ،يُصلُّون كما للنَّبي ِّ
ويصومون كما نصوم ،ويتصدَّقون بفضول أموالهم ،قال :أوليس قد
وكل تكبيرة صدقة،
بكل تسبيحة صدقةِّ ،
إن ِّ جعل هللا لكم ما تص َّدقون؟ َّ
وكل تهليلة صدقة ،وأمر بمعروف صدقة ،ونهي
وكل تحميدة صدقةِّ ،
ِّ
عن المنكر صدقة ،وفي بُضع أحدكم صدقة ،قالوا :يا رسول هللا!
أيأتي أح ُدنا شهوت َه ويكون له فيها أجر؟ قال :أرأيتم لو وضعها في
)) حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحالل كان له أجر
رواه مسلم.
كل خير ،وأسبقهم أحرص الناس على ِّ ُ أصحاب رسول هللا
ُ 1ـ
ضهم أن يلحق كل خير ،يتنافسون في األعمال الصالحة ،ويحبُّ بع ُ إلى ِّ
في األجر بمن سبقه منهم ،ولهذا ذكر جماعة من فقراء أصحاب رسول
مشاركتهم لألغنياء بالصالة والصيام ،وكون األغنياء تميَّزوا هللا
أن هناك إلى َّ يعليهم بالصدقة بفضول أموالهم ،وقد أرشدهم النَّب ُّ
أنواعا ً من الصدقات يقدر الفقراء على اإلتيان بها ،كاألذكار واألمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفقراء إلى اإلتيان بها تنقسم 2ـ الصدقات التي أرشد النَّب ُّ
ي
إلى قسمين:
قسم يقتصر نفعه عليهم ،وهو التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل،
وقسم يتعدَّاهم إلى غيرهم ،يكون نفعه لهم ولغيرهم ،وهو األمر
101 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
الحديث السادس والعشرون
سالمى من
ك ُّل ُ (( : قال :قال رسول هللا عن أبي هريرة
الناس عليه صدقة ك َّل يوم تطلع فيه الشمس ،ت َعد ُل بين اثنين صدقة،
عه صدقة، الرجل في دابَّته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متا َ
وتعين َّ
وبكل خطوة ت َمشيها إلى الصالة صدقة ،وتُميط
ِّ والكلمةُ الطيِّبة صدقة،
األذى عن الطريق صدقة )) رواه البخاري ومسلم.
سالمى من الناس عليه صدقة ك َّل يوم تطلع فيه
ك ُّل ُ (( 1ـ قوله:
الشمس )) السالمى المفاصل ،وهي ستون وثالثمائة ،جاء تفسيرها بذلك
في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي هللا عنها ( ،)1007والمعنى
َّ
أن ك َّل يوم تطلع فيه الشمس فعلى جميع تلك السالمى صدقة في ذلك
اليوم ،ثم ذكر بعد ذلك أمثلة ِّم َّما تحصل به الصدقة ،وهي فعلية وقولية،
ومتعدية ،وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر (:)720
ِّ وقاصرة
ويُجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ))؛ وذلك َّ
أن صالة َ ((
الرجل في حمله على دابَّته أو حمل ي متعدٍّ ،وإعانة َّ بالعدل ،وهو قول ٌّ
الطيبة يدخل تحته ك ُّل كالم
ِّ ي متعدٍّ ،وقول الكلمة
متاعه عليها هو فعل ٌّ
طيب من الذِّكر والدعاء والقراءة والتعليم واألمر والمعروف والنهي
ِّ
قاصر ومتعدٍّ ،وك ُّل خطوة يمشيها
ٌ ي
عن المنكر وغير ذلك ،وهو قول ٌّ
ي قاصر،المسلم إلى الصالة صدقة من المسلم على نفسه ،وهو فعل ٌّ
وإماطة األذى عن الطريق من شوك أو حجر أو زجاج وغير ذلك،
ي متعدٍّ.
وهو فعل ٌّ
3ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
كل سالمى من اإلنسان ك َّل يوم صدقة ،سواء كانت
أن على ِّ 1ـ َّ
متعدية.
ِّ قاصرة أو
ُّ
الحث على اإلصالح بين متنازعين بالعدل. 2ـ
3ـ ُّ
حث المسلم على إعانة غيره بما يحتاج إليه ،كحمله على دابَّته
أو حمل متاع عليها.
طيب من ذكر وقراءة وتعليم ودعوة
كل كالم ِّ
4ـ الترغيب في ِّ
وغير ذلك.
5ـ فضل المشي إلى المساجد ،وقد جاء في حديث آخر أنَّه يُكتب
له َممشاه في ذهابه وإيابه ،رواه مسلم (.)663
6ـ فضل إماطة األذى عن الطريق ،وقد جاء في حديث آخر أنَّه
من شعب اإليمان ،رواه مسلم (.)58
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 104
***
105 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
الحديث السابع والعشرون
البر ُحسن
قالُّ (( : ،عن النَّبي ِّ عن النواس بن سمعان
ال ُخلق ،واإلث ُم ما حاك في النفس وكرهتَ أن ي َّ
طلع عليه الناس )) رواه
مسلم.
(( ،فقال: قال :أتيت رسول هللا وعن وابصة بن معبَد
البر ما
البر واإلثم؟ قلت :نعم! قال :استفت قل َبكُّ ،
جئتَ تسأل عن ِّ
َّ
واطمان إليه القلب ،واإلث ُم ما حاك في النفس اطمأنت إليه النفس
حديث حسن ،رويناه )) وتردَّد في الصدر ،وإن أفتاك الناس وأفتوك
في مسندي اإلما َمين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن.
1ـ حديث النواس رواه مسلم ،وحديث وابصة رواه أحمد والدارمي
جيدة ،ذكرها الحافظ ابن رجب
وفي إسناده مقال ،لكن له شواهد بأسانيد ِّ
في جامع العلوم والحكم ،وهو في الجملة ُمماثل لحديث النواس بن
سمعان.
البر كلمةٌ جامعة تشمل األمور الباطنة التي في القلب واألمور
2ـ ُّ
الظاهرة التي تكون على اللسان والجوارح ،وآية
فإن َّأولَها مشتمل
واضحة الداللة على ذلك؛ َّ
وآخرها مشتمل على األمور الظاهرة ،ويُطلق َ على األمور الباطنة،
بر الوالدين ،ال سيما إذا قُرن بالصلة ،فإنَّه يُراد
البر على خصوص ِّ ُّ
البر مقرونا ً بالتقوى ،كما في
بهما بر الوالدين وصلة األرحام ،ويأتي ُّ
قول هللا َّ
عز وج َّل:
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 106
البر بفعل الطاعات ،والتقوى بتركسر ُّاجتماعهما كما في هذه اآلية يُف َّ
المنهيات ،فإذا أُفرد أحدهما عن اآلخر بالذِّكر شمل المعنيين جميعاً،
وهذا نظير اإلسالم واإليمان ،والفقير والمسكين.
سن ال ُخلُق
البر حسن الخلق )) و ُح ُ
3ـ جاء في حديث النواس (( ُّ
يحتمل أن يكون المراد به خصوص الخلق الكريم المعروف بهذا االسم،
البر به ألهميَّته وعظيم شأنه ،وهو نظير (( الدِّين النصيحة
ويكون تفسير ِّ
لكل ما هو )) ،و(( الح ُّج عرفة )) ،ويُمكن أن يُراد به العموم والشمول ِّ
خير ،ويد ُّل عليه وصف أ ِّم المؤمنين عائشة رضي هللا عنها ِّل ُخلق
بأنَّه القرآن ،والمعنى أنَّه يتأدَّب بآدابه ،ويمتثل أوامره، الرسول
ويجتنب نواهيه.
يطلع عليه الناس ))، 4ـ قوله (( :واإلث ُم ما حاك في نفسك وكرهت أن َّ
ُّ
تطمئن من اإلثم ما يكون واضحا ً جليًّا ،ومنه ما يحوك في الصدر وال
اإلنسان أن َّ
يطلع عليه الناس؛ ألنَّه ِّم َّما يُستحيا من ُ إليه النفس ،ويكره
فعله ،فيخشى صاحبُه ألسنةَ الناس في نيلهم منه ،وهو شبيه بما جاء
في األحاديث الثالثة الماضية (( :ف َمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه
وعرضه )) ،و(( دع ما يريبُك إلى ما ال يريبك )) ،و(( َّ
إن ِّم َّما أدرك
الناس من كالم النبوة األولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت )).
واإلث ُم يُراد به عموم المعاصي الواضحة والمشتبهة ،ويأتي مقترنا ً
وج َّل: َّ
عز هللا قول في كما بالعدوان،
107 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
الحديث الثامن والعشرون
ذلك يحمل على تولية الخليفة عبدا ً على قرية أو جماعة ،أو أنَّه كان
حرا ،وأُطلق عليه عبد باعتبار ما كان ،أو على َّ
أن العب َد عند التولية ًّ
تغلَّب على الناس بشوكته واس َّ
تقرت األمور واستتبَّ األمن؛ ِّل َما في
منازعته من حصول ما هو أنكر من واليته.
5ـ قوله (( :فإنَّه َمن ي ِّعش منكم فسيرى اختالفا ً كثيرا ً )) ،هذا من
نبوته ،حيث أخبر عن أمر مستقبَل وقع طبقا ً ِّل َما أخبر به دالئل َّ
أدركوا اختالفا ً أعمارهم من أصحاب النَّبي ِّ
ُ فإن الذين طالت ؛ َّ
وأصحابه ،وذلك بظهور كثيرا ً ومخالفة ِّل َما كان عليه رسول هللا
بعض فرق الضالل ،كالقدرية والخوارج وغيرهم.
6ـ قوله (( :فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين ،ع ُّ
ضوا
التفرق وكثرته ،أرشد إلى ُّ بحصول عليها بالنَّواجذ )) ،لَ َّما أخبر
سك بسنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين، طريق السالمة والنجاة ،وذلك بالتم ُّ
وخلفاؤه الراشدون هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي هللا عنهم،
نبوة ،كما جاء في خالفتَهم بأنَّها خالفةُ َّ وقد وصف رسول هللا
الملك أو
َ (( :خالفة النبوة ثالثون سنة ،ثم يؤتي هللاُ حديث سفينة
وغيره ،وهو حديث صحيح، ُ مل َكه من يشاء )) رواه أبو داود ()4646
أورده األلباني في السلسلة الصحيحة ( ،)460ونقل تصحيحه عن
تسعة من العلماء ،قال ابن رجب ( (( :)120/2والسنَّة هي الطريقة
سك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من المسلوكة ،فيشمل ذلك التم ُّ
االعتقادات واألعمال واألقوال ،وهذه هي السنَّة الكاملة ،ولهذا كان
السلف قديما ً ال يطلقون اسم السنَّة إالَّ على ما يشمل ذلك كلَّه ،وروي
معنى ذلك عن الحسن واألوزاعي والفضيل بن عياض ،وكثير من
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 112
أن محمدا ً خان َمن ابتدع في اإلسالم بدعة يراها حسنة فقد زعم َّ
ألن هللا يقول: َّ الرسالة؛
، فما لم يكن
يومئذ دينا ً فال يكون اليوم دينا ً )) ،وقال أبو عثمان النيسابوريَ (( :من
أ َّمر السنَّة على نفسه قوالً وفعالً نطق بالحكمة ،و َمن أ َّمر الهوى على
نفسه قوالً وفعالً نطق بالبدعة )) ،انظر :حلية األولياء (،)244/10
سن في وأ َّما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (َ (( :)1017من َّ
113 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
اإلسالم سنَّة حسنة فله أجرها وأجر َمن عمل بها )) فهو محمو ٌل على
القدوة الحسنة في الخير ،كما هو واضح من سبب الحديث ،وهو َّ
أن
ص َّرة َّ
حث على الصدقة ،فأتى رج ٌل من األنصار ب ُ رسول هللا
ما قال، الناس على الصدقة ،فعند ذلك قال رسول هللا
ُ كبيرة ،فتابعه
وأحياها ،كما وهو محمو ٌل أيضا ً على َمن أظهر سنَّة الرسول
في جمع الناس على صالة التراويح في رمضان، حصل من عمر
صلَّى بالناس قيام رمضان في بعض إظهار لسنَّته ؛ ألنَّه
ٌ فإنَّه
الليالي ،وتركه خشية أن يُفرض عليهم ،كما في صحيح البخاري
ذهب ما كان يُخشى من الفرض ( ،)2012فل َّما توفي رسول هللا
، النقطاع التشريع بوفاته ،فبقي االستحباب ،فأظهره عمر
من قوله(( : وهو أيضا ً من سنَّة الخلفاء الراشدين ،وما جاء عنه
نعم البدعة )) ،كما في صحيح البخاري ( )2010يريد إظهار صالة
األذان التراويح ،يُراد به البدعة اللغوية ،ومثل ذلك زيادة عثمان
يوم الجمعة ،وقد وافقه عليه الصحابةُ رضي هللا عنهم ،فهو من سنَّة
الخلفاء الراشدين ،وما جاء عن ابن عمر رضي هللا عنهما أنَّه بدعة،
فهو محمو ٌل ـ إن ص َّح ـ على البدعة اللغوية.
8ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ استحباب الموعظة والتذكير في بعض األحيان؛ ِّل َما في ذلك
من التأثير على القلوب.
2ـ حرص الصحابة رضي هللا عنهم على الخير؛ لطلبهم الوصيَّة
. منه
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 114
***
115 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
الحديث التاسع والعشرون
قال :قلت :يا رسول هللا! أخبرني بعمل عن معاذ بن جبل
يُدخلني الجنَّة ويُباعدني عن النار ،قال (( :لقد سألتَ عن عظيم ،وإنَّه
هللا ال تشرك به شيئا،
يسره هللا تعالى عليه؛ تعبد ََّ ليسير على َمن
وتقيم الصالة ،وتؤتي الزكاة ،وتصوم رمضان ،وتحج البيت ،ثم قال:
أالَ أدلُّك على أبواب الخير؟ الصو ُم ُجنَّة ،والصدقةُ تطفئ الخطيئة كما
جوف الليل ،ثم تال : يطفئ الما ُء النار ،وصالةُ الرجل في َ
بلغ حتى
رأس
ُ س َنامه؟ قلت :بلى يا رسول هللا! قال: األمر وعمو ِّده وذروة َ
سنَامه الجهاد ،ثم قال :أالَ
األمر اإلسال ُم ،وعمو ُده الصالة ،وذروة َ
كله؟ قلت :بلى يا رسول هللا! فأخذ بلسانه ،وقال: الك ذلك ِّ
بم ِّ
أخبرك ِّ
ي هللا! وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال:
ف عليك هذا ،قلت :يا نب َُّك َّ
الناس في النَّار على وجوههم أو قال :على
َ كب
ث ِّكلتك أ ُّمك! وهل يَ ُّ
مناخرهم إالَّ حصائ ُد ألسنتهم؟ )) رواه الترمذي وقال (( :حديث حسن
صحيح )).
1ـ قوله (( :قلت :يا رسول هللا! أخبرني بعمل يُدخلني الجنَّة
ويُباعدني عن النار )) يد ُّل على حرص الصحابة على الخير ومعرفة
األعمال التي بها حصول الجنَّة والسالمة من النار ،ويد ُّل على وجود
وأن أولياء هللا يعملون الصالحات ليظفروا بالجنَّة ويسلموا
الجنَّة والنارَّ ،
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 116
ألن عبادة َ هللا ال تُعرف إالَّ بتصديقه ،والعمل بما جاء رسول هللا؛ َّ
ُتقرب به إلى هللا ال ينفع صاحبَه إالَّ إذا كان خالصا ً هللبه ،وك ُّل عمل ي َّ
ومبنيًّا على اتِّباع سنَّة رسول هللا ،والشهادتان متالزمتان ،ال ب َّد مع
أن محمدا ً رسول هللا ،وقد ذ ِّكرت شهادة أن ال إله إالَّ هللا من شهادة َّ
في الحديث هذه األركان مرت َّبة حسب أهميَّتها ،وقُدِّمت الصالة لكونها
مرات، كر ِّرها في اليوم والليلة خمس َّصلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه؛ لت ُّ
مرة واحدة ،ونفعها وذكر بعدها الزكاة؛ ألنَّها ال تأتي في العام إالَّ َّ
يحصل لدافع الزكاة والمدفوعة إليه ،ثم بعد ذلك الصيام؛ لتك ُّرره في
مرة واحدة.كل عام ،وبعده الحج؛ ألنَّه ال يجب في العمر إالَّ َّ ِّ
4ـ قوله (( :أالَ أدلُّك على أبواب الخير؟ الصو ُم ُجنَّة ،والصدقةُ
تطفئ الخطيئة كما يطفئ الما ُء النار ،وصالة ُ الرجل في َجوف الليل،
ثم تال :
الفرائض التي
َ ،)) لَ َّما بيَّن
إلى جملة من هي سبب في دخول الجنَّة والسالمة من النار ،أرشد
النوافل التي يحصل للمسلم بها زيادة اإليمان وزيادة الثواب وتكفير
الذنوب ،وهي الصدقة والصيام وقيام الليل ،وقال عن الصوم (( :الصو ُم
ُجنَّة )) ،وال ُجنَّة هي الوقاية ،والصوم وقاية في الدنيا واآلخرة ،فهو
وقاية في الدنيا من الوقوع في المعاصي ،فعن عبد هللا ابن مسعود
قال (( :يا معشر الشباب! َمن استطاع منكم الباءة أن رسول هللا َّ
تزوج ،فإنَّه أحصن للفرج وأغض للبصر ،و َمن لم يستطع فعليه فلي َّ
بالصوم؛ فإنَّه له ِّوجاء )) رواه البخاري ( ،)1905ومسلم (،)1400
119 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
صام يوما ً في سبيل هللا بعَّد هللا وجهه عن النار سبعين خريفا ً )) رواه
البخاري (.)2840
وقوله (( :والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار )) ،فيه بيان
ُّ
يحط بها الخطايا ويُطفئها بها عظم شأن الصدقة النافلةَّ ،
وأن هللا تعالى
النار ،والخطايا هي الصغائر ،وكذلك الكبائر مع التوبة كما يُطفئ الما ُء َ
إطفاء الصدقة للخطايا بإطفاء الماء النار يد ُّل منها ،وتشبيه النَّبي ِّ
فإن المشاهد في الماء إذا وقع على النار أنَّه على زوال الخطايا كلها؛ َّ
يزيلها حتى ال يبقى لها وجود.
الرجل في جوف الليل )) هذا هو األمر الثالث من وقوله (( :وصالة َّ
ُتقرب إلى هللا َّ
عز وج َّل بها ،وقد تال رسول هللا أبواب الخير ،التي ي َّ
تعالى: قوله ذلك عند
، وقد
أن أفض َل الصالة بعد المكتوبة صالة الليل ،رواه مسلم َّ أخبر النَّب ُّ
ي
لبيان أبواب الخير هذه باالستفهام ،وذلك ( ،)1163وقد م َّهد النَّب ُّ
ي
في قوله لمعاذ (( :أالَ أدلُّك على أبواب الخير؟ ))؛ ِّل َما في ذلك من لفت
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 120
نظر معاذ إلى أهميَّة ما يُلقَى عليه ،ليتهيَّأ لذلك ويستع َّد لوعي ِّ
كل ما
يُلقَى عليه.
سنامه؟ قلت: 5ـ قوله (( :أالَ أخبرك برأس األمر وعموده وذروة َ
بلى يا رسول هللا! قال :رأس األمر اإلسالم ،وعموده الصالة ،وذروة
سنامه الجهاد )) ،المراد باألمر الشأن الذي هو أعظم الشؤون ،وهو
الدِّين الذي بُعث به رسول هللا ،رأسه اإلسالم وهو عام ،يشمل
الصالة والجهاد وغيرهما ،وقد ذكر الصالة ووصفها بأنَّها عمود
اإلسالم ،شبَّه ذلك بالبناء الذي يقوم على أعمدته ،وهي أه ُّم العبادات
البدنية القاصر نفعها على صاحبها ،ثم ذكر الجهاد الذي يشمل جهاد
النفس وجهاد األعداء من كفَّار ومنافقين ،ووصفه بأنَّه ذروة سنام
وعلوه على
َّ وظهور دينهم
َ اإلسالم؛ وذلك َّ
أن في الجهاد قوة َ المسلمين
غيره من األديان.
كله؟ قلت :بلى يا رسول هللا! الك ذلك ِّ 6ـ قوله (( :أالَ أخبرك ِّ
بم ِّ
ي هللا! وإنَّا لمؤاخذون
ف عليك هذا ،قلت :يا نب َّ فأخذ بلسانه ،ثم قالُ :ك َّ
الناس في النَّار على وجوههمَ بما نتكلَّم به؟ فقال :ث ِّكلتك أ ُّمك! وهل يَكبُّ
أو قال :على مناخرهم إالَّ حصائ ُد ألسنتهم؟! )) ،في هذا بيان خطر
الك الخير في حفظه ،حتى اللسان ،وأنَّه الذي يوقع في المهالكَّ ،
وأن ِّم َ
ال يصدر منه إالَّ ما هو خير ،كما قال َ (( :من يضمن لي ما بين
: ورجليه أضمن له الجنَّة )) رواه البخاري ( ،)6474وقال لحيَيْه ِّ
ْ
(( من كان يؤمن باهلل اليوم اآلخر فليقل خيرا ً أو ليصمت )) ،قال ابن
رجب في شرح هذا الحديث في جامع العلوم والحكم ( 146/2ـ
سه هو أص ُل الخير ف اللسان وضب َ
طه و َحب َ (( :)147هذا يد ُّل على َّ
أن َك َّ
121 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
َ
حديث ابن عباس رضي هللا عنهما صحيحه أنَّه أورد عقب هذا الحديث
ال أشبع هللاُ بطنَه )) ،فيكون دعا ًء له ،وليس (( في قوله في معاوية:
دعاء عليه.
7ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ حرص الصحابة رضي هللا عنهم على الخير ومعرفة ما يوصل
إلى الجنَّة ويُباعد من النار.
أن الجنَّة والنار موجودتان ،وهما باقيتان ال تفنيان.
2ـ َّ
أن عبادة هللا يُرجى فيها دخول الجنَّة والسالمة من النار ،وليس
3ـ َّ
كما يقول بعض الصوفية إ َّن هللا ال يُعبد رغبة في جنَّته وال خوفا ً من
ناره.
4ـ بيان أهميَّة العمل المسئول عنه ،وأنَّه عظيم.
5ـ َّ
أن الطريقَ الموصل إلى النجاة شاق ،وسلوكه يحصل بتيسير
هللا.
عز وج َّل ،وقد أُنزلت
أن أه َّم شيء ُك ِّلف به الثقالن عبادة هللا َّ
6ـ َّ
الكتب وأُرسلت الرسل لذلك.
أن عبادة َ هللا ال تُعتبر إالَّ إذا بُنيت على الشهادتين ،وهما 7ـ َّ
متالزمتان ،وال يُقبل العمل إالَّ إذا كان خالصا ً هلل ،ومطابقا ً ِّلما جاء به
. رسول هللا
معاذا ً عليها 8ـ بيان عظم شأن أركان اإلسالم؛ حيث د َّل النَّب ُّ
ي
من بين الفرائض التي فرضها هللا.
123 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
الحديث الثالثون
ومحارم ،وحدود ،ومسكوت عنه ،وذلك يجمع أحكام الدِّين كلَّها ،قال
أبو بكر ابن السمعاني :هذا الحديث أصل كبير من أصول الدِّين ،قال:
ٌ
حديث واحد و ُحكي عن بعضهم أنَّه قال ليس في أحاديث رسول هللا
أجم َع بانفراده ألصول العلم وفرو ِّعه من حديث أبي ثعلبة ،قال :و ُحكي
الدِّين في أربع كلمات، عن واثلة المزني أنَّه قال :جمع رسول هللا
ثم ذكر حديث أبي ثعلبة ،قال ابن السمعاني :ف َمن عمل بهذا الحديث فقد
المحارم،
َ الفرائض ،واجتنب
َ حاز الثواب ،وأمن العقاب؛ َّ
ألن َمن أ َّدى
أقسام
َ ووقف عند الحدود ،وترك البحث عما غاب عنه ،فقد استوفى
الدين؛ َّ
ألن الشرائ َع ال تخرج عن هذه األنواع الفضل ،وأوفى حقوق ِّ
المذكورة في هذا الحديث ،انتهى )).
إن هللا فرض فرائض فال تضيِّعوها )) ،أي :أوجب 3ـ قولهَّ (( :
أشياء وجعل فرضها حتما ً الزماً ،كالصالة والزكاة والصيام والحجِّ،
كل مسلم اإلتيان بها كما أمر هللا ،دون ترك لها أو حصول فيجب على ِّ
إخالل في فعلها.
4ـ قوله (( :وح َّد حدودا ً فال تعتدوها )) ،أي :شرع أمورا ً هي واجبة
أو مستحبَّة أو مباحة ،فال يتجاوز تلك الحدود إلى غيرها ،فيقع في أمر
125 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
عز وج َّل في كتابه ،فال يجوزحرام ،وذلك كالمواريث التي بيَّنها هللا َّ
ألحد أن يتعدَّاها وأن يأتي بقسمة تخالفها ،وتأتي الحدود مرادا ً بها ما
قربها ،كما قال هللا َّ
عز حرم هللا ،فيكون الواجب على المسلم أن ال ي َ َّ
ل : وج َّ
.
حرمه هللا ال وحرم أشياء فال تنتهكوها )) ،أيَّ :
أن ما َّ َّ 5ـ قوله(( :
(( : يجوز للمسلمين أن يقعوا فيه ،بل يتعيَّن عليهم تركه ،كما قال
ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه )).
6ـ قوله (( وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان ،فال تبحثوا
النص عليها في الكتاب والسنَّة ،فال
ُّ عنها )) ،أي :هناك أمور لم يأت
يُشتغل في البحث عنها والسؤال عنها ،وذلك مثل السؤال عن الحجِّ في
على السائل ،وقال (( :ذروني ما كل عام الذي أنكره الرسول ِّ
تركتكم؛ فإنَّما أهلك َمن كان قبلكم كثرة مسائلهم واختالفهم على أنبيائهم
)) ،وكالسؤال عن تحريم شيء لم يحرم ،فيترتَّب عليه التحريم بسبب
السؤال ،كما ثبت بيان خطورته في الحديث عن رسول هللا ،وبعد
تنطع وتكلُّف ،والمعنى سكت عن ال يسأل األسئلة التي فيها ُّ زمنه
أشياء فلم يفرضها ولم يوجبها ولم يحرمها ،فال يُسأل عنها ،وقد قال
هللا تعالى :
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 126
جاء رجل (( قال: سعد الساعدي سهل بن َ عن أبي العباس َ
إلى النَّبي ِّ ،فقال :يا رسول هللا! ُدلَّني على عمل إذا عملته أحبَّني
الناس ،فقال (( :ازهد في الدنيا يُحبك هللا ،وازهد فيما عند
ُ هللا وأحبَّني
حديث حسن ،رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد )) الناس يُحبك الناس
127 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
حسنة.
ُ
وأسبق كل خير،
أحرص الناس على ِّ
ُ أصحاب رسول هللا
ُ 1ـ
يجلب
ُ ي على معرفة ماكل خير ،وقد حرص هذا الصحاب ُّ الناس إلى ِّ
هذا السؤال. له محبَّةَ هللا ومحبَّة الناس ،فسأل النَّب َّ
ي
عزأن محبَّة هللا َّ
َّ 2ـ قوله (( :ازهد في الدنيا يُحبك هللا )) ،بيَّن
ص ُل بالزهد في الدنيا ،وأحسن ما قيل في بيان المراد بالزهد وج َّل تُح َّ
في الدنيا ترك اإلنسان ك َّل ما يشغله عن هللا ،كما نقله الحافظ ابن رجب
في شرحه جامع العلوم الحكم ( )186/2عن أبي سليمان الداراني،
فقال (( :وقال أبو سليمان الداراني :اختلفوا علينا في الزهد بالعراق،
فمنهم َمن قال :الزهد في ترك لقاء الناس ،ومنهم َمن قال :في ترك
ضه من الشبع ،وكالمهم قريب بع ُ الشهوات ،ومنهم َمن قال :في ترك ِّ
أن الزه َد في ترك ما يشغلك عن هللا َّ
عز بعض ،قال :وأنا أذهب إلى َّ
وج َّل .وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن؛ وهو يجمع جميع معاني الزهد
وأقسامه وأنواعه )).
الناس حريصون
ُ 3ـ قوله (( :وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس ))،
على المال والمتاع في الحياة الدنيا ،والغالب عليهم إمساكُ ما في أيديهم
وعدم الجود به ،قال هللا تعالى:
َّ :
أن رسول سعد بن مالك بن سنان الخدري
عن أبي سعيد َ
حديث حسن ،رواه ابن ماجه )) ال ضرر وال ِّضرار (( قال: هللا
والدارقطني وغيرهما مسندا ،ورواه مالك في الموطأ مرسال عن
عمرو بن يحيى ،عن أبيه ،عن النَّبي ِّ ،فأسقط أبا سعيد ،وله طرق
يقوي بعضُها بعضا.
ِّ
1ـ هذا الحديث مشتم ٌل على قاعدة من قواعد الشريعة ،وهي رفع
خبر بمعنى النهي عن الضرر والضرار، ٌ الضرر والضرار ،وهو
129 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
رر قد يحصل من اإلنسان بقصد أو بغير قصد ،والضرار يكون ض ُ وال َّ
مع القصد ،قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (:)212/2
(( واختلفوا هل بين اللَّفظتين ـ أعني الضر َر والضرار ـ فرق أم ال؟
أن بينهما فمنهم َمن قال :هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ،والمشهور َّ
والضرار الفعل ،فالمعنى َّ
أن َ إن الضرر هو االسم، فرقا ً ،ثم قيلَّ :
حق كذلك ،وقيل: الضر َر نفسه منتف في الشرع ،وإدخال الضرر بغير ٍّ َ
الضرر أن يُدخل على غيره ضررا ً بما ينتفع هو به ،والضرار أن ُ
يضره، ُّ يُدخل على غيره ضررا ً بما ال منفعة له به ،ك َمن منع ما ال
ويتضرر به الممنوع ،ور َّجح هذا القو َل طائفةٌ منهم ابن عبد البر وابن
يضر
َّ يضر ب َمن ال يضره ،والضرار أن َّ الضرر أن
ُ الصالح ،وقيل:
إنَّما نفي وبكل حال فالنبي
ِّ أضر به على وجه غير جائز، َّ بمن قد
بحق ،إ َّماٍّ حق ،فأ َّما إدخا ُل الضرر على أحدار بغير ٍّ والض َر َ
ِّ الضر َر َ
وغيره،َ سه لكونه تع َّدى حدو َد هللا ،فيُعاقَب بقدر جريمته ،أو كونه َ
ظلَم نف َ
غير مراد قطعا ً ،وإنَّما المراد ُ فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل ،فهذا
حق ،وهذا على نوعين:إلحاق الضرر بغير ٍّ
رض سوى الضرر بذلك الغير،أحدهما :أن ال يكون في ذلك َغ ٌ
النهي عن
ُ فهذا ال ريب في قُبحه وتحريمه ،وقد ورد في القرآن
المضارة في مواضع ،منها في الوصية ،قال هللا تعالى:
َّ
فيتضرر
َّ غيره من االنتفاع بملكه توفيرا ً له،
َ ضرر غيره ،أو يمنع
الممنوع بذلك )).
2ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ بيان كمال الشريعة وحسنها في رفع الضرر واإلضرار.
يضر غيره وال يضاره.
َّ أن على المسلم أالَّ
2ـ َّ
***
الحديث الثالث والثالثون
لو (( قال: عن ابن عباس رضي هللا عنهما ،عن رسول هللا
البينة
الناس بدعواهم ،ال َّدعى رجال أموا َل قوم ودماءهم ،لكن ِّ
ُ يُع َطى
حديث حسن ،رواه البيهقي )) على المدَّعي ،واليمين على َمن أنكر
وغيره هكذا ،وبعضه في الصحيحين.
1ـ حديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري ( ،)4552ومسلم
( ،)1711وأكثره في الصحيحين ،والذي ليس فيهما (( :البيِّنة على
المدَّعي )) ،لكن ثبتت هذه الجملة فيهما من حديث األشعث بن قيس عند
عم له ،قال لهالبخاري ( ،)4550ومسلم ( )138في قصة له مع ابن ٍّ
النَّب ُّ
ي ِّ (( :بينتك أو َيمينه )).
2ـ قال ابن دقيق العيد في شرح األربعين (( :وهذا الحديث أصل
من أصول األحكام ،وأعظم مرجع عند التنازع والخصام ،ويقتضي أن
فيه أنَّه لو أجيب ك ُّل مدَّع يال يُحكم ألحد بدعواه )) ،وقد بيَّن النَّب ُّ
على غيره شيئا ً أل َّدى ذلك إلى ادِّعاء أموال الناس ودمائهم ،لكن النَّب َّ
ي
131 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
البينة
أوضح ما يكون فيه الفصل بين الناس في ذلك ،وهو طلب ِّ
الحق ويد ُّل عليه ،من شهود أو قرائن َّ من المدَّعي ،وهي ك ُّل ما يبين
أو غيرها ،فإذا أتى بالبيِّنة قُضي بها على الم َّد َعى عليه ،وإن لم توجد
طلب من الم َّد َعى عليه اليمين ،فإن حلف برئت ساحتُه ،وإن نكل البينة ُ
ِّ
عن اليمين قُضي عليه بالنُّكول ،وأُلزم بما ا َّدعاه عليه خص ُمه ،وقال
النووي في شرح األربعين (( :إنَّما كانت البيِّنة على المدَّعي؛ ألنَّه يدَّعي
الذ َّمة )) ،ثم ذكر أنَّه يُستثنى مسائل خالف الظاهر ،واألصل براءة ِّ
كثيرة يُقبل فيها قول الم َّدعي بال ِّبينة ،منها دعوى األب حاجته إلى
اإلعفاف ،ودعوى السفيه الت َّ َوقان إلى النكاح مع القرينة ،ودعوى
خروج المرأة من العدَّة باألقراء ووضع الحمل ،ودعوى الطفل البلوغ
باالحتالم ،ودعوى المودع تلف الوديعة أو ضياعها بسرقة ونحوها،
والمدَّعي هو الطالب الذي لو سكت تُرك ،والم َّد َعى عليه هو المطلوب
الذي لو سكت لم يُترك ،قال ابن المنذر كما في جامع العلوم والحكم
أن البيِّنة على المدَّعي واليمين على ( (( :)230/2أجمع أهل العلم على َّ
ُّ
يستحق الم َّد َعى عليه ،قال :ومعنى قوله( :البيِّنة على المدَّعي) يعني:
بها ما ادَّعى؛ ألنَّها واجبة عليه يؤخذ بها ،ومعنى قوله( :اليمين على
كل حال الم َّد َعى عليه) ،أي :يبرأ بها؛ ألنَّها واجبة عليه ،يؤخذ بها على ِّ
)).
أن المدَّعي عليه البيِّنة فيما يدَّعيه من األمور الدنيوية، 3ـ وكما َّ
فإن على المدَّعي البيِّنة في األمور األخرويَّة ،ف َمن ادَّعى محبَّةَ هللا
َّ
يكون صادقا ً في دعواه إذا اتَّبع الرسول ،كما قال هللا ورسوله
وج َّل: عز َّ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 132
***
الحديث الرابع والثالثون
(( :ال تحاسدوا ،وال قال :قال رسول هللا عن أبي هريرة
تناجشوا ،وال تباغضوا ،وال تدابروا ،وال يبع بعضُكم على بيع بعض،
وكونوا عباد هللا إخوانا ،المسل ُم أخو المسلم ،ال يظلمه وال يخذله ،وال
مرات،
يكذبه ،وال يحقره ،التقوى ههنا ،ويشير إلى صدره ثالث َّ
حقر أخاه المسلم ،ك ُّل المسلم على المسلم
الشر أن يَ َ
ِّ بحسب امرئ من
حرام :دمه وماله وعرضه )) رواه مسلم.
1ـ قوله (( :ال تحاسدوا ،وال تناجشوا ،وال تباغضوا ،وال تدابروا،
ضكم على بيع بعض )) ،الحس ُد يكون في األمور الدنيوية وال يبع بع ُ
واألخروية ،ويدخل تحته كراهة الحاسد النعمة التي أنعم هللا بها على
مني زوال هذه النعمة عنه ،وسواء ت َمنَّى انتقالها غيره ،ويدخل فيه ت َ ِّ
إليه أو عدم انتقالها ،وأ َّما إذا ت َمنَّى مث َل ما أنعم هللا به على غيره دون
135 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
الشر أن
قبح احتقار المسلم أخاه بقوله (( :بحسب امرئ من ٍّ ثم بيَّن
الشر احتقار أخيه لو لم يكن عنده
ِّ يحقر أخاه المسلم )) ،أي :يكفيه من
َ
شره قوله
عظم ِّ
َ بين النهي عن االحتقار وبيان سطشر غيره ،وو َّ ٌّ
:
(( التقوى ههنا )) مشيرا ً إلى صدره ثالث َّ
مرات ،أي إلى القلب؛ لبيان
أن العبرة بما يقوم في القلوب من اإليمان والتقوى ،وأنَّه قد يكون ُ
قلب َّ
َمن احتُقر معمورا ً بالتقوى ،ويكون ُ
قلب َمن احتقره وتكبَّر عليه بخالف
بعض َمن يقع في المعاصي الظاهرة إذا ِّنبه علىُ ذلك ،وأ َّما ما يقوله
شيء منها أشار إلى صدره ،وقال (( :التقوى ههنا )) ،فيُقال لهَّ :
إن
أثرها على الجوارح باالستقامة التقوى إذا صارت في القلب ظهر ُ
إن في الجسد ُمضغة إذا صلحت وترك المعصية ،وقد قال (( :أال َّ
صلح الجسد كلُّه وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه ،أال وهي القلب )) ،وقال
صوركم وأموالكم ،ولكن ينظر إلى قلوبكم َّ (( :
إن هللا ال ينظر إلى َ
وأعمالكم )) رواه مسلم ( ،)2564وجاء عن بعض السلف أنَّه قال(( :
***
الحديث السادس والثالثون
قالَ (( :من نَفَّس عن مؤمن ،عن النَّبي ِّ عن أبي هريرة
ب يوم القيامة ،و َمن كُربة ِّمن ك َُرب الدنيا نَفَّس هللا عنه كُربة من ك َُر ِّ
ست َ َر مسلما
س َر هللاُ عليه في الدنيا واآلخرة ،و َمن َ س ٍر َي َّ
سر على ُمع ِّ
َي َّ
ستره هللاُ في الدنيا واآلخرة ،وهللاُ في عَون العبد ما كان العب ُد في
س َّه َل هللاُ له به طريقا سلَكَ طريقا َيلتمس فيه علما َ عون أخيه ،و َمن َ
كتاب هللا
َ إلى الجنة ،وما اجتمع قوم في بيت من بيوت هللا يتلون
غشيتهم الرحمةُ، ويتدارسونه بينهم إال َّ نزلت عليهم السكينةُ ،و َ
طأ َ به عملُه لَم يُسرع وحفَّتهم المالئكةُ ،وذك ََرهم هللا في َمن عنده ،و َمن بَ َّ
به نسبُه )) رواه مسلم بهذا اللفظ.
1ـ قولهَ (( :من نَفَّس عن مؤمن ُكربةً ِّمن ُك َرب الدنيا نَفَّس هللاٌ عنه
ب يوم القيامة )) ،ال ُكربةُ هي الش َّدة والضيق ،وتنفيسها ُكربةً من ُك َر ِّ
إزالتُها ،والجزاء على تنفيس كربة في الدنيا أن ينفَّس عنه ُكربة من
أن الجزا َء فيه ُكرب يوم القيامة ،والجزا ُء من جنس العمل ،وال َّ
شك َّ
أعظم؛ لشدَّة ُك َرب يوم القيامة وعظم الفائدة للمكروب في تنفيسها.
س َر هللاُ عليه في الدنيا واآلخرة
سر على ُم ْع ِّس ٍّر يَ َّ
2ـ قوله (( :و َمن يَ َّ
139 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
)) ،وهذا أيضا ً الجزا ُء فيه من جنس العمل ،والعمل هو التيسير على
عسرته ،فإن كان َمدينا ً ساعده
ال ُمعسر ،وذلك بإعانته على إزالة ُ
بإعطائه ما يقضي به دينه ،وإن كان الدَّين له أنظره إن لم يُبْرئه منه،
ل : خير من اإلنظار؛ لقول هللا َّ
عز وج َّ ٌ واإلبراء
الحث على طلب العلم الشرعي ِّ وسلوك الطرق ُّ إلى الجنَّة )) ،فيه
الموصلة إلى تحصيله ،سواء كان ذلك بالسفر لطلبه؛ أو باألخذ بأسباب
تحصيله ،من اقتناء الكتب المفيدة وقراءتها واالستفادة منها ،ومالزمة
العلماء واألخذ عنهم وغير ذلك ،والجزاء على ذلك من هللا تسهيل
الطريق التي يصل بها طالب العلم إلى الجنَّة ،وذلك يكون بإعانته على
محصالً للعلم ،ويكون أيضا ً بإعانته على
ِّ تحصيل ما قصد ،فيكون بذلك
العمل بما علمه من أحكام الشريعة ،وذلك يفضي به إلى دخول الجنَّة.
6ـ قوله (( :وما اجتمع قوم في بيت من بيوت هللا يتلون كتاب هللا
الرحمة ،وحفَّتهم ويتدارسونه بينهم إالَّ نزلت عليهم السكينة ،وغشيتهم َّ
المالئكة ،وذكرهم هللا في َمن عنده )) ،بيوتُ هللا هي المساجد ،وإضافتها
إلى هللا إضافة تشريف ،والمساجد هي أحبُّ البالد إلى هللا؛ لقوله :
(( أحبُّ البالد إلى هللا مساجدها ،وأبغض البالد إلى هللا أسواقها )) رواه
الحث على االجتماع في المساجد لتالوة القرآن ُّ مسلم ( ،)671وفيه
وتدارسه ،ويكون ذلك بقراءة أحد المجتمعين والباقون يسمعون،
ضهم بعضا ً في القراءة ،ويستفيد ك ُّل واحد
ليقوم بع ُ وبقراءتهم بالتناوب ِّ
يحصل به إجادة القراءة وتدارك الخطأ إن ُوجد ،وإذا ِّ منهم من غيره ما
كان فيهم عالم بتفسيره علَّمهم ،وإن كانوا من أهل العلم فيه تدارسوا
معانيه ،ورجعوا في ذلك إلى كتب التفسير في الرواية والدراية المبنية
على ما كان عليه سلف هذه األ َّمة ،والجزاء على االجتماع في المساجد
لتالوة القرآن وتدارسه أربعة أمور ،هي :نزول السكينة عليهم
وتغطيهم ،وأ َّن المالئكة
ِّ وأن الرحمةَ تغشاهم ،أي تشملهم والطمأنينةَّ ،
تحفُّهم أي :تحيط بهم ،وأ َّن هللا تعالى يذكرهم عند المالئكة.
141 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
بطأ به عمله لم يسرع به نسبه )) ،المعنىَ :من 7ـ قوله (( :و َمن َّ
أ َّخره عملُه عن دخول الجنَّة لم يسرع به نسبه إلى دخول الجنَّة؛ َّ
ألن
ل : المعت َبر في ذلك اإليمان والتقوى ،كما قال هللا َّ
عز وج َّ
2ـ َّ
أن الجزاء من جنس العمل ،فالعمل تنفيس كربة ،والجزاء
تنفيس كربة.
3ـ الترغيب في التيسير على المعسرين ،و َّ
أن الجزاء عليه تيسير
في الدنيا واآلخرة.
4ـ الترغيب في ستر العيوب حين تكون المصلحة في سترها،
َّ
وأن الجزاء عليها ستر في الدنيا واآلخرة.
الحث على إعانة المسلم أخاه المسلم ،وأنَّه كلَّما حصل منه
ُّ 5ـ
يحصل بذلك عون هللا وتسديده.
ِّ العون إلخوانه فإنَّه
6ـ بيان فضل طلب العلم الشرعي.
7ـ فضل االجتماع في المساجد لتالوة القرآن وتدارسه.
أن اإليمانَ والعمل الصالح سبب دخول الجنَّة وبلوغ الدرجات
8ـ َّ
العالية عند هللا َّ
عز وج َّل.
أن شرف النَّسب بدون عمل صالح ال يفيد صاح َبه عند هللا.
9ـ َّ
***
الحديث السابع والثالثون
فيما يرويه عن ابن عباس رضي هللا عنهما ،عن رسول هللا
عن ربِّه تبارك وتعالى قالَّ (( :
إن هللا كتب الحسنات والسيِّئات ،ثم بيَّن
ذلك ،ف َمن َه َّم بحسنة ف َلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة كاملة ،وإن ه َّم
بها فعملها كتبها هللا عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ،إلى
بسيئة ف َلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة كاملة،
أضعاف كثيرة ،وإن ه َّم ِّ
143 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
وإن ه َّم بها فعملها كتبها هللا سيِّئة واحدة )) رواه البخاري ومسلم في
صحيحهما بهذه الحروف.
والسيئات ،ثم بيَّن ذلك )) ...إلخ،
ِّ إن هللا كتب الحسنات 1ـ قولهَّ (( :
عز وج َّل لألعمال والجزاء يُحتمل أن يكون المراد بالكتابة تقدير هللا َّ
عليها على هذا التفصيل ،ويُحتمل أن يُراد به كتابة المالئكة للحسنات
ل ،كما قال : والسيِّئات بأمر هللا َّ
عز وج َّ
، ويد ُّل لهذا ما جاء في حديث أبي هريرة
في كتاب التوحيد من صحيح البخاري (( :إذا أراد عبدي أن يعمل سيِّئة
فال تكتبوها عليه حتى يعملها ،فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ،وإن تركها
فإن كالًّ منهما
من أجلي فاكتبوها له حسنة )) ،وال تنافي بين الكتابَتين؛ َّ
حاصل.
2ـ قوله (( :ف َمن َه َّم بحسنة فلَم يعملها كتبها هللا عنده حسنةً كاملة،
وإن ه َّم بها فعملها كتبها هللا عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف،
إلى أضعاف كثيرة )) ،أ َّكد كتابة الحسنة إذا ه َّم بها ولم يعملها بأنَّها
الهم ال في العمل ،وبيَّن َّ
أن كاملة؛ لئالَّ يُتو َّهم نقصانها؛ ألنَّها في ِّ
المضاعفة في الفعل إلى عشرة أضعاف ،وإلى ما هو أكثر من ذلك،
وذلك من فضل هللا َّ
عز وج َّل وإحسانه إلى عباده ،وفيه مضاعفة الجزاء
العمل، على
الهم ،وهو واضح ،وأ َّما حديث (( :نيَّةُ المؤمن ٌ
خير دون الجزاء على ِّ
من عمله )) فهو ضعيف ،ذكر ذلك الحافظ في الفتح ( ،)219/4وانظر
السلسلة الضعيفة لأللباني (.)2789
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 144
3ـ قوله (( :وإن ه َّم بسيِّئة فلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة كاملة،
سيئة واحدة ))ُ ،وصفت الحسنةُ على ترك وإن ه َّم بها فعملها كتبها هللا ِّ
المعصية المهموم بها بأنَّها كاملة؛ لئالَّ يُتو َّهم نقصانها ،و ُوصفت ِّ
السيئة
المعمولة بواحدة؛ لئالَّ يُتو َّهم زيادتها ،وهذا من فضل هللا وعدله،
السيئة التي ه َّم بها يحصل إذا كان تركها من أجل
والثواب على ترك ِّ
صمم
تعلق بها ،وهو ُم ِّ هللا ،أ َّما إذا كان حريصا ً على فعل ِّ
السيئة وقلبه م ِّ
على فعلها لو قدر على ذلك ،فهو مؤا َخذٌ على ذلك ،قال ابن كثير في
تفسيره عند تفسير قوله تعالى من سورة األنعام:
هللا! هذا القاتل ،فما بال المقتول؟ قال :إنَّه كان حريصا ً على قتل صاحبه
)).
4ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ إثبات كتابة الحسنات والسيِّئات.
أن من فضل هللا َّ
عز وج َّل مضاعفة ثواب الحسنات. 2ـ َّ
عز وج َّل أالَّ يُزاد في ِّ
السيئات. 3ـ من عدل هللا َّ
الهم بالحسنة إذا لم يعملها بكتابتها حسنة كاملة. 4ـ َّ
أن هللا يُثيب على ِّ
5ـ َّ
أن َمن ه َّم بسيِّئة وتركها من أجل هللا يكتب له بتركها حسنة كاملة.
6ـ الترغيب في فعل الحسنات والترهيب من فعل السيِّئات.
***
الحديث الثامن والثالثون
َّ (( :
إن هللا تعالى قال: قال :قال رسول هللا عن أبي هريرة
ي عبدي بشيء َمن عادى لي وليا فقد آذنتُه بالحرب ،وما َّ
تقرب إل َّ
ي بالنوافل حتى يتقرب إل َّ
َّ ي ِّم َّما افترضته ،وال يزال عبدي أحب إل َّ
وبصره الذي يُبصر به، َ أحبَّه ،فإذا أح َببت ُه كنتُ سم َعه الذي َيسمع به،
ورج َله التي يَمشي بها ،ولئن سألني ألعطينَّه، بطش بهاِّ ،
ُ ويدَه التي يَ
ولئن استعاذني ألعيذنَّه )) رواه البخاري.
من عادى لي وليًّا فقد آذنت ُه بالحرب )) ،هذا الحديث (( 1ـ قوله:
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 146
عن ربِّه ،وقد أفرد من األحاديث القدسية التي يرويها الرسول
الو ْلي بشرح حديث الولي ))،
الشوكاني شرحه في كتاب س َّماه (( قطر َ
ل هم المؤمنون المتَّقون ،كما قال تعالى : وأولياء هللا َّ
عز وج َّ
***
الحديث التاسع والثالثون
قالَّ (( :
إن هللا عن ابن عباس رضي هللا عنهماَّ :
أن رسول هللا
حديث )) تجاوز لي عن أ َّمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه
حسن ،رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.
أ َّمتان :أ َّمة دعوة وأ َّمة إجابة ،فأ َّمة الدعوة 1ـ أ َّمةُ ِّ
نبينا محمد
هم ك ُّل إنسي ٍّ وجني ٍّ من حين بعثته إلى قيام الساعة ،وأ َّمة اإلجابة هم
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 148
وإذا أُكره على الزنا أو قَتْل معصوم فال يجوز له ذلك؛ فال يستبقي
حياته بقتل غيره.
2ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ بيان سعة رحمة هللا وفضله وإحسانه إلى عباده؛ حيث رفع
عنهم اإلثم في هذه الثالثة.
2ـ رفع المؤاخذة على الخطأ ،فإن كان الخطأ في ترك واجب
فَ َعلَه ،وإن كان في إتالف ٍّ
حق لغيره ضمنه.
***
الحديث األربعون
بمنكبي، عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال (( :أخذ رسول هللا
فقال :كن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل ،وكان ابن عمر رضي
هللا تعالى عنهما يقول :إذا أمسيتَ فال تنتظر الصباح ،وإذا أصبحتَ
)) فال تنتظر المساء ،وخذ من ص َّحتك لمرضك ،ومن حياتك لموتك
رواه البخاري.
ٌّ
وحث بمنكب عبد هللا بن عمر تنبيه 1ـ في أخذ رسول هللا
له على وعي ما يُلقى عليه في هذه الحال ،وإخبار عبد هللا بن عمر
رضي هللا عنهما بذلك يد ُّل على ضبطه وإتقانه ما سمعه من رسول هللا
ألن فيه تذ ُّكر الحالة التي حصلت عند سماعه هذا الحديث من ؛ َّ
رسول هللا .
كن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل )) ،الغريب (( 2ـ قوله:
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 150
هو المقيم في غير بلده لقضاء حاجة ،يستع ُّد لمغادرة ذلك البلد متى
مر بالبالد مرورا ً دون ت َم َّكن من ذلك ،وعابر السبيل هو المسافر الذي يَ ُّ
إقامة بها حتى ينتهي من سفره ،ودار الغربة وعبور السبيل في هذا
الحديث هي الدنيا ،والسير فيها لآلخرة ،وذلك إنَّما يكون بتذ ُّكر الموت
وقصر األمل واالستعداد فيها لآلخرة باألعمال الصالحة ،كما قال هللا
ل : عز وج َّ َّ
، وقد ذكر
البخاري في صحيحه ( 235/11ـ مع الفتح) عن علي بن أبي طالب
ولكل
ِّ أنَّه قال (( :ارتحلت الدنيا مدبرة ،وارتحلت اآلخرة مقبلة،
واحدة منهما بَنون ،فكونوا من أبناء اآلخرة وال تكونوا من أبناء الدنيا؛
فإن اليوم عمل وال حساب ،وغدا ً حساب وال عمل )) ،وقد أوضح النَّب ُّ
ي َّ
مثل هذه الحياة الدنيا وانتهائها ،وأنَّها ليست بدار قرار بقوله :
(( ما لي وللدنيا ،ما أنا في الدنيا إالَّ كراكب استظ َّل تحت شجرة ثم راح
حديث حسن (( رواه الترمذي ( )2377وغيره ،وقال: )) وتركها
صحيح )).
3ـ قوله (( :وكان ابن عمر رضي هللا تعالى عنهما يقول :إذا
يت فال تنتظر الصباح ،وإذا أصبحت فال تنتظر المساء )) ،فيه أمس َ
إلى تنفيذ وصايا الرسول ،وفيه مبادرة أصحاب رسول هللا
صاه به رسول هللا؛ فإنَّه مع تنفيذه ما و َّ فضل عبد هللا بن عمر
المسلم يكون مترقِّبا ً الموت،
َ غيره إلى تنفيذ ذلك ،والمعنى َّ
أن يرشد َ
فهو يستع ُّد له بالعمل الصالح دون كسل أو تأخير ،ويعمل الصالحات
في نهاره كأنَّه ال يُدرك المساء ،وفي ليله كأنَّه ال يدرك الصباح ،وفي
151 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
ترجمة منصور بن زاذان في تهذيب الكمال :قال ُهشيم بن َبشير
إن م َلك الموت على الباب ما
الواسطي (( :لو قيل لمنصور بن زاذانَّ :
كان عنده زيادة في العمل )).
وخذ من ص َّحتك لمرضك ،ومن حياتك لموتك ))، 4ـ قوله:
((
متمكنا منها،
ِّ المسلم يُبادر إلى األعمال الصالحة ،حيث يكون
َ المعنى َّ
أن
وذلك في حال ص َّحته قبل أن يأتيه ما يعوقه من ذلك كالمرض والكبر،
وأن يع ُمر حياتَه باألعمال الصالحة قبل أن يفجأه الموت ،فينتقل من
دار العمل إلى دار الجزاء.
5ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
ُّ
الحث على استشعار الغربة في هذه الحياة؛ ليستع َّد فيها 1ـ
باألعمال الصالحة.
المتعلم إلى وعي ما يلقى عليه؛ لقول
ِّ المعلم ما يلفت نظر
ِّ 2ـ فعل
بمنكبي )). عبد هللا بن عمر (( :أخذ رسول هللا
. 3ـ مبادرة الصحابة إلى تنفيذ وصايا رسول هللا
وحث غيره عليها. 4ـ فضل عبد هللا بن عمر بأخذه بوصية النَّبي ِّ
ُّ
الحث على المبادرة إلى األعمال الصالحة دون كسل أو تأخير. 5ـ
***
الحديث الواحد واألربعون
عن أبي محمد عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما قال:
قال رسول هللا (( :ال يُؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تَبَعا ِّل َما جئتُ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 152
ما قال أبو بكر ،ولَم يهو ما قلتُ ) وهذا الحديث (فهوي رسول هللا
ِّم َّما جاء استعمال الهوى فيه بمعنى المحبة المحمودة )).
4ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
فيما جاء به. 1ـ وجوب اتِّباع الرسول
2ـ تفاوت الناس في اإليمان.
***
الحديث الثاني واألربعون
يقول (( :قال هللا تعالى: قال :سمعتُ رسول هللا عن أنس
يا ابن آدم! إنَّك ما دعوتَني ورجوتنِّي غفرتُ لك على ما كان منك وال
أبالي ،يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبُك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ
لك ،يا ابن آدم! إنَّك لو أتيتني بقُراب األرض خطايا ثم لقيتني ال تشرك
بي شيئا ألتيتُك بقُرابها مغفرة )) رواه الترمذي وقال (( :حديث صحيح
)).
1ـ هذا الحديث هو آخر األحاديث التي أوردها النووي ـ رحمه
هللا ـ في كتابه األربعين ،وقد زادت على األربعين حديثين ،فيكون
إطالق األربعين عليها من تغليب اللفظ وحذف الكسر الزائد في العدد،
عن ربِّه تبارك وهو من األحاديث القدسية التي يرويها رسول هللا
وتعالى.
الخطاب في الحديث لبني آدم ،وهو مشتم ٌل على َّ
أن من أسباب ُ 2ـ
مغفرة الذنوب دعاء هللا ورجاءه مغفرة َ الذنوب واالستغفار منها
155 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
5ـ قوله (( :يا ابن آدم! إنَّك لو أتيتني بقُراب األرض خطايا ثم
لقيتني ال تشرك بي شيئا ً ألتيت ُك بقُرابها مغفرة )) ،الشركُ باهلل َّ
عز وج َّل
هو الذنب الذي ال يغفره هللا ،وك ُّل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة
هللا ،إن شاء عفا عن صاحبه ولم يعذبه ،وإن شاء عذَّبه وأدخله النار،
ولكنه ال يُخلَّد فيها خلود الكفار ،بل ال ب َّد أن يخرج منها ويدخل الجنَّة،
ل : كما قال هللا َّ
عز وج َّ
الذنوب
َ ، في آيتين من سورة النساء ،وفي هذا الحديث بيان َّ
أن
ولو بلغت في الكثرة ما بلغتَّ ،
فإن هللا يتجاوز عنها ،بشرط كون العبد
مخلصا ً عبادته هلل ،سليما ً من اإلشراك به.
6ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ سعة فضل هللا َّ
عز وج َّل ومغفرة ذنوب عباده.
2ـ من أسباب مغفرة الذنوب دعاء هللا ورجاؤه من غير يأس.
3ـ فضل االستغفار مع التوبةَّ ،
وأن هللا يغفر للمستغفر ذنوبه ولو
بلغت في الكثرة ما بلغت.
الشرك باهلل هو الذنب الذي ال يُغفرَّ ،
وأن ما سواه تحت َ 4ـ َّ
أن
مشيئة هللا.
ُكفر به الذنوب. 5ـ فضل اإلخالصَّ ،
وأن هللا ي ِّ
الحديث الثالث واألربعون
157 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
(( :ألحقوا عن ابن عباس رضي هللا عنهما قال :قال رسول هللا
خرجه
َّ )) الفرائض بأهلها ،فما أبقت الفرائض فألولى رجل ذكَر
البخاري ومسلم.
1ـ هذا الحديث هو أ َّو ُل األحاديث الثمانية التي زادها الحافظ ابن
رجب رحمه هللا ،فأكمل العدة خمسين على ما جمعه اإلمام النووي ـ
رحمه هللا ـ في األحاديث األربعين ،ويُالحظ َّ
أن الحافظ ابن رجب عند ذكر
(( ُعبر أيضا ً بـ
خرجه )) ،وي ِّ
الذين رووا األحاديث من األئمة يُعبر بـ (( َّ
رواه )) ،وأ َّما النووي فكان تعبيره بـ (( رواه )) ،وال فرق بين التعبيرين؛
ألن معناهما واحد. َّ
2ـ هذا الحديث أص ٌل في قسمة المواريث ،والمراد بالفرائض
الفرائض المقدَّرة في كتاب هللا ،وهي ستة ،وهي :الثلثان ،والثلث،
والسدس ،والنصف ،والربع ،والثمن ،ويُقال فيها اختصاراً :الثلثان،
والنصف ،ونصفهما ،ونصف نصفهما ،أو يُقال :الثمن ،والسدس،
كل،
وضعفهما ،وضعف ضعفهما ،أو يُقال :الثلث ،والربع ،وضعف ٍّ
ونصفه ،والمراد الفروض المقدَّرة وما جاء معها في القرآن من اإلرث
بغير تقدير ،في حال اجتماع األوالد واإلخوة لغير أم ،ففي حال اجتماع
األوالد إذا كانوا ذكورا ً وإناثا ً فللذَّ َكر مثل ِّ
حظ األنثيين ،وإن كانوا إناثا ً
معهن ،فللثنتين فأكثر الثلثان ،وللبنت الواحدة النصف ،هذا إذا َّ ال ذكور
كن في درجتين وكان كن في درجة واحدة ،كالبنات وبنات األبناء ،فإن َّ َّ
البنات ثنتين فأكثر لم يكن لبنات االبن شيء؛ الستيعاب البنات الثلثين،
وإن كانت البنت واحدة فلها النصف ،والبنة االبن أو بناته السدس تكملة
،رواه البخاري الثلثين؛ لثبوت السنة في ذلك عن رسول هللا
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 158
( ،)6736أ َّما إذا كان األوالد ذكورا ً ُخلَّصاً ،سواء كانوا أبناء أو أبناء
فإن الواح َد منهم يحوز الميراث كلَّه ،والجمع بنين عند فقد األبناءَّ ،
يقتسمونه بينهم بالسوية ،ويُقال أيضا ً في ميراث اإلخوة األشقاء
واإلخوة ألب ما قيل في ميراث األوالد من تقديم اإلخوة األشقَّاء على
اإلخوة ألب ،فيقتسم الذكور ال ُخلَّص الميراث بالسوية ،فإن كانوا ذكورا ً
منهن لها النصف ،واالثنتان َّ وإناثا ً فللذَّكر مثل ِّ
حظ األنثيين ،والواحدة
فأكثر لهما الثلثان ،ويكون ميراث اإلخوة ألب مثل ميراث اإلخوة
األشقاء عند فقدهم ،وإذا ُوجد أخت شقيقة أخذت النصف ،ولألخوات
ألب معها السدس تكملة الثلثين ،سواء َّ
كن واحدة أو أكثر ،وأ َّما األبوان
فلكل واحد منهما السدس إذا كان للميت ولد ،وإن كان الولد إناثا ً َّ
فإن ِّ
األب يأخذ الباقي تعصيباً ،وإذا لم يكن للميت ولد َّ
فإن األ َّم تأخذ الثلث، َ
والباقي لألب ،إالَّ أنَّه في هذه الحالة إذا كان مع األبوين أحد الزوجين
فإن األ َّم تأخذ ثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين ،ويُقال لهاتين َّ
المسألتين العُمريتان؛ لقضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
بذلك.
فإن ميراث وإذا كان للميت إخوة ،سواء كانوا أشقَّاء أو ألب أو ألمَّ ،
األم يكون السدس ،والجد أبو األب يرث ميراث األب عند فقده ،والج َّدة
عند فقد األم ترث السدس ،سواء كانت الجدة من قبل األم أو من قبل
األب ،وعند اجتماع الج َّدات الوارثات يشتركن في ال ُ
سدُس ،وأ َّما اإلخوة
سدس إذا لم يكن للميت فرع وارث أو أصل ألم فميراث الواحد منهم ال ُ
من الذكور وارث ،وإن كانوا أكثر من واحد ،سواء كانوا ذكورا ً خلَّصاً،
أو إناثا ً خلَّصا ً ،أو ذكورا ً وإناثا ً ،اشتركوا في الثلث بالسوية ،ال فرق
159 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
في ذلك بين ذكورهم وإناثهم ،وأ َّما ميراث الزوجين ،فالزوج يرث
النصف إذا لم يكن للميت فرع وارث ،فإن ُوجد كان له الربع ،والزوجة
ترث الربع إذا لم يكن للميت فرع وارث ،فإن ُوجد كان لها الثمن ،وإن
كن أكثر من زوجة اشتركن في الربع أو الثمن.َّ
قد ذكر هللا َّ
عز وج َّل في كتابه العزيز قسمة المواريث في ثالث
آيات :اآلية األولى قوله تعالى:
اآلية ،وهي في ميراث
واإلخوة ألم ،واآلية الثالثة قوله تعالى في آخر آية من سورة النساء:
الرجل هو الذي يكون كبيرا ً وفيه نجدة وقوة ،فأضيف إليه لفظ (( َّ
أن َّ
ٌ
منوط بالذكورة ال بالرجولة والقوة ،فيتساوى ذكر )) لبيان َّ
أن الميراث
في ذلك َمن يكون كبيرا ً جدًّا ومن يكون صغيرا ً جدًّا.
5ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ كمال الشريعة واشتمالها على قواعد كليَّة عامة ،كما جاء في هذا
الحديث.
2ـ تقديم من يرث بالفرض فيُعطى ميراثه ،وما بقي يكون ِّل َمن
يرث بغير تقدير.
3ـ بناء على هذا الحديث يكون الراجح في مسألة الجد واإلخوة
الجد بالميراث دون اإلخوة؛ ألنَّه أصل ،واإلخوة يرثون ِّ اختصاص
كاللة ،والج ُّد مثل األب ،فيستق ُّل بالميراث دونهم ،وأيضا ً يكون الراجح
المشركة؛ َّ
ألن اإلخوة َّ تقديم اإلخوة ألم على اإلخوة األشقاء في مسألة
161 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
***
الحديث الرابع واألربعون
تحرم
الرضاعة ِّ
قالَّ (( : عن عائشة رضي هللا عنها ،عن النَّبي ِّ
خرجه البخاري ومسلم. تحرم الوالدة )) َّ
ما ِّ
1ـ جاء في القرآن الكريم تحريم األ َّمهات المرضعات واألخوات
من الرضاعة في قوله تعالى:
***
الحديث الخامس واألربعون
عام الفتح وهو عن جابر بن عبد هللا أنَّه سمع رسول هللا
حرم بيع الخمر والميتة والخنزير إن هللا ورسوله َّ بمكة يقولَّ (( :
واألصنام ،فقيل :يا رسول هللا أرأيتَ شحوم الميتة ،فإنَّه يُطلى بها
163 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
السفن ،ويُدهن بها الجلود ،ويستصبح بها الناس؟ قال :ال! هو حرام،
حرم عليهم الشحوم، ثم قال رسول هللا :قات َل هللا اليهودَ؛ َّ
إن هللا َّ
خرجه البخاري ومسلم.
فأجملوه ،ثم باعوه ،فأكلوا ثمنه )) َّ
)) حرم
َّ (( حرم )) ،جاء لفظ الفعلإن هللا ورسوله َّ 1ـ قولهَّ (( :
حرم )) ،وجاءت التثنية في باإلفراد ،وجاء بالتثنية ،وجاء (( َّ
إن هللا َّ
الضمير الذي يعود إلى هللا ورسوله في حديث (( :ثالث َمن َّ
كن فيه
بهن حالوة اإليمان :أن يكون هللا ورسوله أحبَّ إليه ِّم َّما سواهماوجد َّ
)) ...الحديث أخرجه البخاري ( ،)16ومسلم ( ،)67وعلى هذا يُحمل
حرم )) على أنَّه يعود إلى الرسول ما جاء هنا من إفراد الفعل (( َّ
حرم ،ويكون التحريم المضاف إلى هللا محذوفاً ،والتقديرَّ :
إن هللا َّ
حرم ،وهو نظير قول هللا َّ
عز وج َّل: ورسوله َّ
أحق أن يُرضوه ،ورسوله ُّ
أحق أن ُّ ، أي :وهللا
يرضوه ،ومثله قول الشاعر:
مختلف
ُ دك راض والرأي نحن بما عندنا وأنت بما عنـ
أي :نحن بما عندنا راضون ،وأنت بما عندك راض.
يحرم هذه األشياء عام
ِّ أنَّه سمع رسول هللا 2ـ بيَّن جابر
الفتح بمكة ،ويكون هذا البيان في هذا الوقت وفي هذا المكان بمناسبة
المحرمات ،فأعلمهم أنَّها
َّ دخول الكفار في اإلسالم ،وهم يتعاطون هذه
حرام ،وهذا ال يمنع أن يكون تحريمها قد حصل من قبل.
المحرمات األربع الخمر ،وهي أ ُّم الخبائث؛ َّ
ألن َّ 3ـ األول من هذه
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 164
شاربَها يسعى بشربها إللحاق نفسه بالمجانين ،فيحصل نتيجة لذلك أنَّه
كل حرام ،وقد يكون من ذلك االعتداء على المحارم ،وهي يقع في ِّ
كل بالء ،ولهذا أُطلق عليها أ ُّم الخبائث. تجلب ك َّل ٍّ
شر وتوقع في ِّ
والثانية الميتة ،فيحرم أكلها إالَّ لضرورة إبقاء الحياة حيث ال يجد
غيرها ،ويُستثنى من ذلك جلدها إذا دُبغ؛ لثبوت السنَّة بذلك عن رسول هللا
َ
،رواه البخاري ( ،)2221ومسلم (.)366
والثالث :الخنزير ،فال يجوز أكله وال بيعه ،وك ُّل ما يحرم أكله من
الدواب فالميتة والمذ َّكى منه سواء.
صنعتوالرابع :األصنام ،فال يجوز بيعها وال اقتناؤها؛ ألنَّها ُ
لعبادتها ،بل يجب تحطيمها وكسرها ،وال بأس باالنتفاع بها بعد
التكسير في البناء ونحوه؛ ألنَّها لم تبق أصناماً.
(أرأيت شحوم الميتة،َ 4ـ قال الحافظ في الفتح ( (( :)425/4قوله:
فإنَّه يُطلى بها السفن ،ويُدهن بها الجلود ،ويستصبح بها الناس؟) أي:
فهل يح ُّل بيعُها ِّل َما ذكر من المنافع؛ فإنَّها مقتضية لصحة البيع ،قوله:
سره بعض العلماء كالشافعي (فقال :ال ،هو حرام) ،أي :البيع ،هكذا ف َّ
و َمن اتَّبعه ،ومنهم من حمل قوله( :هو حرام) على االنتفاع ،فقال:
يحرم االنتفاع بها ،وهو قول أكثر العلماء ،فال يُنتفع من الميتة أصالً
ص بالدليل ،وهو الجلد المدبوغ )). عندهم إالَّ ما ُخ َّ
حرم عليهم الشحوم ،فأجملوه، إن هللا َّ 5ـ قوله (( :قاتل هللا اليهود؛ َّ
حرم عليهمفإن هللا لَ َّما َّ
ثم باعوه ،فأكلوا ثمنه )) ،هذا من حيل اليهود؛ َّ
حرم
الشحوم أجملوها أي :أذابوها ،وباعوها وأكلوا أثمانها ،وهللا إذا َّ
حرم ثمنه ،ولهذا دعا عليهم رسول هللا . شيئا ً َّ
165 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
6ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
هذه األمور األربعة. 1ـ بيان تحريم النَّبي ِّ
2ـ بيان النَّبي ِّ هذا التحريم بمكة عام الفتح؛ ليُبادر الذين أسلموا
إلى االمتناع من هذه األربعة ،انتفاعا ً وبيعاً.
حرم هللا فبيعُه حرام وثمنه حرام. 3ـ َّ
أن ما َّ
حرم هللا.
صل بها إلى استحالل ما َّ
4ـ تحريم الحيل التي يُتو َّ
5ـ ذ ُّم اليهود وبيان أنَّهم أه ُل حيَل للوصول إلى استباحة الحرام.
6ـ تحذير هذه األ َّمة أن تقع فيما وقعت فيه اليهود من هذه الحيَل.
***
الحديث السادس واألربعون
يقول (( :ما عن المقدام بن معد يكرب قال :سمعتُ رسول هللا
ي وعاء شرا من بطن ،بحسب ابن آدم أكالت يُقمن صلبَه، مأل آدم ٌّ
فإن كان ال محالة ،فثُلث لطعامه ،وثلث لشرابه ،وثلث لنفَ ِّ
سه )) رواه
أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ،وقال الترمذي (( :حديث حسن
)).
شرا من بطن )) ،الوعاء هو ي وعاء ًّ 1ـ قوله (( :ما مأل آدم ٌّ
وشر وعاء ُملئ هو البطن؛ ِّل َما في
ُّ ضع فيه الشيء، الظرف الذي يُو َ
ذلك من التُّخمة ،والتسبُّب في حصول األمراض ،و ِّل َما يورثه من الكسل
والفتور واإلخالد إلى الراحة.
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 168
2ـ قوله (( :بحسب ابن آدم أكالت يُقمن صل َبه )) ،المعنى :يكفي
د من األكالت التي تحصل بها حياته ،وهو معنى قوله(( : ابن آدم عد ٌ
حث على التقليل من األكل وعدم يُقمن صلبَه )) ،أي :ظهره ،وفي ذلك ٌّ
التعرض
ُّ سع فيه؛ ليحص َل لإلنسان الخفَّة والنشاط والسالمة من التو ُّ
لألمراض واألسقام التي تنتج عن كثرة األكل.
ٌ
وثلث ٌ
وثلث لشرابه، لث لطعامه، 3ـ قوله (( :فإن كان ال محالة ،فث ُ ٌ
ُ
اإلنسان بأكالت يُقمن صلبَه ،وكان ال لنفَ ِّسه )) ،المعنى :إذا لم يكتف
محالة زائدا ً عن هذا المقدار فليكن مقدار ما يُؤكل ويُشرب في حدود
ثلثي البطن؛ ليبقى ٌ
ثلث يُمكن معه التنفس بسهولة.
4ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
1ـ بيان األدب الشرعي الذي ينبغي أن يكون عليه اآلك ُل في مقدار
أكله.
2ـ التحذير من ملء البطن؛ ِّل َما يجلبه من األمراض والكسل والخمول.
3ـ أ َّن الكفايةَ تحصل بما يكون به بقاء الحياة.
4ـ أنَّه إن كان ال ب َّد من الزيادة على الكفاية ،فليكن في حدود ثلثي
البطن.
***
الحديث الثامن واألربعون
((قال: عن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما ،عن النَّبي ِّ
َّ
منهن فيه كانت فيه أر َبع َمن َّ
كن فيه كان منافقا ،وإن كانت خصلة
169 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
خصلة من النفاق حتى يدَعها؛ إذا حدَّث كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا
خرجه البخاري ومسلم. خاص َم فجر ،وإذا عاهد غدر )) َّ
َّ
منهن كن فيه كان منافقاً ،وإن كانت خصلةٌ 1ـ قوله (( :أربَ ٌع َمن َّ
فيه كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى ي َدعها )) ،المعنى َّ
أن َمن ُوجدت
موصوف بالنفاق العملي ،و َمن كان عنده
ٌ فيه هذه الخصال األربع فهو
واحدة منها كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى ي َدع هذه الخصلة ،وهذا
من كمال بيانه ؛ حيث يذكر العدد َّأوالً ،ثم يأتي بتفصيل المعدود؛
ِّل َما في ذلك من حفز السامع إلى االستعداد والتهيؤ لوعي ما سيُلقى عليه
سه بالمعدود ،فإن لم يُطابق علم أنَّه فاته
من هذه الخصال ،وليطالب نف َ
شيء.
غيره
َ 2ـ الخصلة األولى الكذب في الحديث ،وذلك أن يحدِّث
بحديث هو كاذب فيه ،فيخبر بالشيء على غير حقيقته ،وفي ذلك إساءة ُ
صاحب الحديث إلى نفسه؛ التِّصافه بهذا ال ُخلق الذميم ،وإساءة ٌ إلى َمن
(( :عليكم يحدِّثه بإيهامه أنَّه صادق في حديثه معه ،وقد قال
البر يهدي إلى الجنَّة ،وما الصدقَ يهدي إلى البرَّ ،
وإن َّ بالصدق؛ َّ
فإن ِّ ِّ
الصدقَ حتى يُكتب عند هللا صديقاً ،وإيَّاكم
الرجل يصدق ويتح َّرى ِّ
يزال َّ
الفجور يهدي إلى النار،َ الكذب يهدي إلى الفجورَّ ،
وإن َ والكذب؛ َّ
فإن
رى الكذب حتى يُكتب عند هللا كذَّابا ً ))الرجل يكذب ويتح َّ
وما يزال َّ
رواه مسلم (.)2607
الخصلةُ الثانية :إخالف الوعد ،وذلك بأن َي ِّع َد ِّعدة ً وفي نيَّته أالَّ يفي
بها ،أ َّما إذا وعد وهو عاز ٌم على الوفاء بالوعد ،فطرأ له ما يَمنعه من
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 170
الوفاء فهو معذور ،وقد روى أبو داود ( )4991عن عبد هللا بن عامر
قاعد في بيتنا ،فقالت :ها، أنَّه قال (( :دعتني ِّأمي يوما ً ورسول هللا
ت أن تعطيه؟ قالت: تعال أعطيك ،فقال لها رسول هللا :وما أرد ِّ
أعطيه تمراً ،فقال لها رسول هللا :أ َما إنَّك لو لم تعطه شيئا ً ُكتبت
عليك كذبة )) .انظر :الصحيحة لأللباني (.)748
ُ
اإلنسان الخصلةُ الثالثة :الفجور في الخصومة ،والمعنى أن يكون
عند الخصومة مع غيره يغضب فيتجاوز العدل إلى الظلم ،وقد قال هللا
وج َّل: َّ
عز
وقال: ،
،
الحق واالحتيال
ِّ والفجور المي ُل عن
ُ قال الحافظ في الفتح ((( :)90/1
في ردِّه )) ،وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( (( :)486/2فإذا
كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة ـ سواء كانت خصومته في الدِّين أو
ينتصر للباطل ،ويخيل للسامع أنَّه حق ،ويوهن َ في الدنيا ـ على أن
المحرمات ،ومن َّ الحق ويخرجه في صورة الباطل ،كان ذلك من أقبح َّ
أخبث خصال النفاق )).
َّ
عز وج َّل: الخصلة الرابعة :الغدر في العهد ،قال هللا
171 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
ولو كان المعاهَد كافراً ،ولهذا في حديث عبد هللا بن عمرو عن النَّبي ِّ
وإن ريحها َ ( :من قتل نفسا ً معا َهدا ً بغير ِّ
حقها لم يَ َرح رائحة الجنةَّ ،
خرجه البخاري ،وقد أمر هللا تعالى في ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) َّ
كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها
ضها أعظ ُم شيئاً ،وأ َّما عهود المسلمين فيما بينهم فالوفاء بها أشد ،ونق ُ
إثماً ،ومن أعظمها نقض عهد اإلمام على َمن بايعه ورضي به ،وفي
الصحيحين عن أبي هريرة عن النَّبي ِّ قال( :ثالثةٌ ال ِّ
يكلمهم هللاُ يوم
يزكيهم ولهم عذاب أليم )...فذكر منهم( :ورج ٌل بايع إماما ً القيامة وال ِّ
ف له) ،ويدخل ال يُبايعه إالَّ لدنيا ،فإن أعطاه ما يريد وفَّى له ،وإالَّ َلم َي ِّ
الغدر فيها جمي ُع عقود المسلمين
ُ في العهود التي يجب الوفا ُء بها ويحرم
فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من
العقود الالزمة التي يجب الوفاء بها ،وكذلك ما يجب الوفا ُء به هلل َّ
عز
وج َّل ِّم َّما يعاهد العب ُد ربَّه عليه من نذر التبرر ونحوه )).
3ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 172
***
الحديث التاسع واألربعون
قال (( :لو أنَّكم تو َّكلون ،عن النَّبي ِّ عن عمر بن الخطاب
ق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ،تغدو خماصا ،وترو ُح على هللا ح َّ
بطانا )) رواه اإلمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان
في صحيحه والحاكم ،وقال الترمذي (( :حسن صحيح )).
عز وج َّل ،مع األخذ 1ـ هذا الحديث أص ٌل في التو ُّكل على هللا َّ
باألسباب المشروعة ،واألخذ بها ال يُنافي التوك َل ،ورسول هللا
المتوكلين قد دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ،وقد أرشد ِّ سي ُد
ِّ
إلى الجمع بين األخذ باألسباب واالعتماد على هللا بقوله رسول هللا
في الحديث في صحيح مسلم ( (( :)2664احرص على ما ينفعك
هذا فيه الجمع بين األخذ باألسباب واستعن باهلل )) ،وحديث عمر
والتوكل على هللا ،واألخذ باألسباب فيما ذكر عن الطير؛ ألنَّها تغدو
خماصاً ،أي خالية البطون لطلب الرزق ،وتروح بطاناً ،أي ُممتلئة
173 وتتمة
َّ فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين
الخمسين
البطون ،ومع أخذ المرء باألسباب ال يعتمد عليها ،بل يعتمد على هللا
متوكل ،وهللا قدر األسباب
ِّ وال يُهمل األخذ باألسباب ثم يزعم أنَّه
والمسبَّبات ،قال ابن رجب في جامع العلوم الحكم ( 496/2ـ :)497
(( وهذا الحديث أص ٌل في التوكل ،وأنَّه من أعظم األسباب التي يستجلب
بها الرزق ،قال هللا عز وجل :
)) ... إلى أن
عز وج َّل في ب على هللا َّ ُ
صدق اعتماد القل ِّ قال (( :وحقيقةُ التوكل هو
كلها ،و ِّكلَةُ
استجالب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا واآلخرة ِّ
كلها إليه ،وتحقيق اإليمان بأنَّه ال يعطي وال يَمنع وال يضر وال األمور ِّ
ينفع سواه )).
2ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث:
كل مطلوب،
1ـ وجوب التوكل على هللا واالعتماد عليه في جلب ِّ
كل مرهوب.
ودفع ِّ
2ـ األخذ باألسباب مع التوكل على هللا ،وذلك ال يُنافي التوكل.
الحديث الخمسون
رجل ،فقال :يا رسول ي عن عبد هللا بن بُسر قال (( :أتى النَّب َّ
سك به جامع؟ قال: إن شرائ َع اإلسالم قد كثُرت علينا ،فباب نتم َّ هللا! َّ
خرجه اإلمام أحمد بهذاعز وج َّل )) َّ ال يزال لسانك رطبا من ذكر هللا َّ
فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين 174
***