Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 177

‫فتح القوي المتين‬

‫في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬


‫للنووي وابن رجب رحمهما هللا‬

‫تأليف‬
‫عبد المحسن بن حمد العباد البدر‬
‫‪5‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫الحمد هلل مجزل ال َعطاء ومسبغ النِّعم‪ ،‬وأشهد أن ال إله إالَّ هللا وحده‬
‫أن محمدا ً‬
‫ال شريك له ذو الفضل واإلحسان والجود والكرم‪ ،‬وأشهد َّ‬
‫عبده ورسوله سيِّد العرب والعجم‪ ،‬المخصوص من ربِّه بجوامع الكلم‪،‬‬
‫والش َيم‪ ،‬وعلى‬
‫ِّ‬ ‫وسلم وبارك عليه وعلى آله أهل المكارم‬
‫ِّ‬ ‫صل‬
‫ِّ‬ ‫اللَّه َّم‬
‫ُّ‬
‫والظلَم‪ ،‬الذين أكرمهم هللا فجعلهم خير أ َّمة هي‬ ‫أصحابه مصابيح ال ُّد َجى‬
‫خير األمم‪ ،‬وعلى كل َمن جاء بعدهم مقتفيا ً آثارهم‪ ،‬وقد خال قلبُه من‬
‫الغل للمؤمنين وس ِّلم‪.‬‬
‫ِّ‬
‫فإن من الموضوعات التي ألَّف فيها العلماء في حديث‬‫أ َّما بعد‪َّ ،‬‬
‫أحاديث األربعين‪ ،‬وهي جمع أربعين حديثا ً من أحاديث‬ ‫رسول هللا‬
‫رسول هللا ؛ لحديث ورد في فضل حفظ أربعين حديثا ً من أحاديث‬
‫رسول هللا ‪ ،‬ذكر النووي في مقدمة األربعين له وروده عن تسعة‬
‫س َّماهم‪ ،‬وقال‪ (( :‬وات َّفق الحفاظ على أنَّه‬ ‫من أصحاب رسول هللا‬
‫أن اعتما َده في تأليف‬ ‫حديث ضعيف وإن كثُرت طرقُه ))‪ ،‬وذكر َّ‬
‫ليبلغ‬
‫ِّ‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬
‫األربعين ليس عليه‪ ،‬بل على أحاديث أخرى‪ ،‬مثل قوله‬
‫الشاهد منكم الغائب ))‪ ،‬وقوله‪ (( :‬نضَّر هللا امرءا ً سمع مقالتي فوعاها‬
‫)) الحديث‪ ،‬وذكر ثالثة عشر من العلماء ألَّفوا في األربعين‪ ،‬أولهم عبد‬
‫هللا بن المبارك‪ ،‬وآخرهم أبو بكر البيهقي‪ ،‬وقال بعد ذكرهم‪ (( :‬وخالئق‬
‫ثم ِّمن العلماء َمن‬ ‫((‬ ‫ال يُحصون من المتقدِّمين والمتأخرين ))‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫جمع األربعين في أصول الدِّين‪ ،‬وبعضهم في الفروع‪ ،‬وبعضهم في‬
‫الجهاد‪ ،‬وبعضهم في الزهد‪ ،‬وبعضهم في اآلداب‪ ،‬وبعضهم في‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪6‬‬

‫الخطب‪ ،‬وكلُّها مقاصد صالحة رضي هللا تعالى عن قاصديها‪ ،‬وقد‬


‫كله‪ ،‬وهي أربعون حديثا ً مشتملة على‬
‫رأيتُ جمع أربعين أهم من هذا ِّ‬
‫جميع ذلك‪ ،‬وك ُّل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدِّين‪ ،‬قد وصفه‬
‫العلماء َّ‬
‫بأن مدا َر اإلسالم عليه‪ ،‬أو هو نصف اإلسالم أو ثلثه أو نحو‬
‫ذلك‪ ،‬ثم التزمتُ في هذه األربعين أن تكون صحيحة‪ ،‬ومعظمها في‬
‫صحيحي البخاري ومسلم‪ ،‬وأذكرها محذوفة األسانيد ليسهل حفظها‬
‫لكل راغب في اآلخرة أن‬ ‫ويعم االنتفاع بها إن شاء هللا ‪ ...‬وينبغي ِّ‬
‫يعرف هذه األحاديث ِّل َما اشتملت عليه من المه َّمات‪ ،‬واحتوت عليه من‬
‫التنبيه على جميع الطاعات‪ ،‬وذلك ظاهر ِّل َمن تدبَّره ))‪.‬‬
‫واألحاديث التي جمعها النووي ـ رحمه هللا ـ اثنان وأربعون حديثاً‪،‬‬
‫قد أطلق عليها أربعين تغليبا ً مع حذف الكسر الزائد‪ ،‬وقد ُرزق هذا‬
‫القبول عند الناس‪،‬‬ ‫))‬ ‫رياض الصالحين‬ ‫((‬ ‫الكتاب للنووي مع كتابه‬
‫وأو ُل كتاب ينقدح في األذهان يُرشَد‬
‫وحصل اشتهارهما والعناية بهما‪َّ ،‬‬
‫المبتدئون في الحديث إليه هذه األربعون لإلمام النووي رحمه هللا‪ ،‬وقد‬
‫زاد ابن رجب الحنبلي ـ رحمه هللا ـ عليها ثمانية أحاديث من جوامع‬
‫جامع العلوم‬‫س َّماه‪:‬‬
‫((‬ ‫الكلم‪ ،‬فأكمل بها العدَّة خمسين‪ ،‬وشرحها بكتاب َ‬
‫والحكم في شرح خمسين حديثا ً من جوامع الكلم ))‪ ،‬وقد كثرت شروح‬
‫والمطول‪ ،‬وأوسع شروحها‬
‫َّ‬ ‫األربعين لإلمام النووي‪ ،‬وفيها المختصر‬
‫شرح ابن رجب الحنبلي رحمه هللا‪ ،‬وقد رأيتُ شرح هذه األربعين مع‬
‫متوسطا ً قريبا ً من االختصار‪ ،‬يشتمل شرح ِّ‬
‫كل‬ ‫ِّ‬ ‫زيادة ابن رجب شرحا ً‬
‫حديث على فقرات‪ ،‬وفي ختامه ذكر شيء ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪ ،‬وقد‬
‫‪7‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫استفدت في هذا الشرح من شروح النووي وابن دقيق العيد وابن رجب‬
‫وابن عثيمين لألربعين‪ ،‬ومن فتح الباري البن حجر العسقالني‪،‬‬
‫وس َّميتُه‪ :‬فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين للنووي‬
‫وابن رجب رحمهما هللا‪ ،‬والمتين من أسماء هللا‪ ،‬قال هللا َّ‬
‫عز وج َّل في‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫الذاريات‪:‬‬ ‫سورة‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،  ‬ومعناه‪ :‬شديد القوة‪ ،‬كما جاء‬


‫في كتب التفسير‪ ،‬وإنِّي أوصي طلبة العلم بحفظ هذه األحاديث‬
‫الخمسين‪ ،‬التي هي من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصالة‬
‫وأتم التسليم‪ ،‬وأسأل هللا َّ‬
‫عز وج َّل أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بأصله‪،‬‬
‫إنَّه سميع مجيب‪ ،‬وصلى هللا وسلم وبارك على عبده ِّ‬
‫ونبيه محمد وعلى‬
‫آله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫***‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪8‬‬

‫الحديث األول‬

‫قال‪ :‬سمعتُ‬ ‫عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب‬


‫يقول‪ (( :‬إنَّما األعمال بالنيَّات‪ ،‬وإنَّما ِّ‬
‫لكل امرئ ما‬ ‫رسول هللا‬
‫نوى‪ ،‬ف َمن كانت هجرتُه إلى هللا ورسوله فهجرتُه إلى هللا ورسوله‪،‬‬
‫ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر‬
‫إليه ))‪.‬‬
‫رواه إما َما المحدِّثين أبو عبد هللا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم‬
‫بن المغيرة بن بردزبه البخاري‪ ،‬وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن‬
‫مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أص ُّح الكتب‬
‫المصنَّفة‪.‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬وقد تف َّرد‬
‫ُ‬ ‫‪ 1‬ـ أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن‬
‫وتفرد به عنه محمد بن‬‫َّ‬ ‫بروايته عن عمر‪ :‬علقمة ُ‬
‫بن وقاص الليثي‪،‬‬
‫وتفرد عنه يحيى بن سعيد األنصاري‪ ،‬ثم كثر اآلخذون‬
‫َّ‬ ‫إبراهيم التيمي‪،‬‬
‫عنه‪ ،‬فهو من غرائب صحيح البخاري‪ ،‬وهو فاتحته‪ ،‬ومثله في ذلك‬
‫))‬ ‫كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ‪...‬‬ ‫خاتمته‪ ،‬وهو حديث أبي هريرة‬
‫((‬

‫الحديث‪ ،‬وهو أيضا ً من غرائب الصحيح‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ افتتح النووي أحاديث األربعين بهذا الحديث‪ ،‬وقد افتتح جماعة‬
‫من أهل العلم كتبَهم به‪ ،‬منهم اإلمام البخاري افتتح صحيحه به‪ ،‬وعبد‬
‫الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة األحكام به‪ ،‬والبغوي افتتح كتابيه‬
‫مصابيح السنة وشرح السنة به‪ ،‬وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير‬
‫‪9‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫به‪ ،‬وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصالً قال فيه‬
‫(‪ (( :)35/1‬فصل في اإلخالص والصدق وإحضار النية في جميع‬
‫األعمال البارزة والخفية ))‪ ،‬أورد فيه ثالث آيات من القرآن‪ ،‬ثم حديث‬
‫(( إنَّما األعمال بالنيَّات ))‪ ،‬وقال‪ (( :‬حديث صحيح متفق على صحته‪،‬‬
‫ومجمع على عظم موقعه وجاللته‪ ،‬وهو إحدى قواعد اإليمان وأول‬
‫دعائمه وآكد األركان‪ ،‬قال الشافعي رحمه هللا‪ :‬يدخل هذا الحديث في‬
‫غيره‪،‬‬‫سبعين بابا ً من الفقه‪ ،‬وقال أيضاً‪ :‬هو ثلث العلم‪ ،‬وكذا قاله أيضا ً ُ‬
‫عدها‪،‬‬ ‫وهو أحد األحاديث التي عليها مدار اإلسالم‪ ،‬وقد اختلف في ِّ‬
‫فقيل‪ :‬ثالثة‪ ،‬وقيل‪ :‬أربعة‪ ،‬وقيل‪ :‬اثنان‪ ،‬وقيل‪ :‬حديث‪ ،‬وقد جمعتها كلَّها‬
‫في جزء األربعين‪ ،‬فبلغت أربعين حديثاً‪ ،‬ال يستغني متديِّن عن‬
‫معرفتها؛ ألنَّها كلَّها صحيحة‪ ،‬جامعة قواعد اإلسالم‪ ،‬في األصول‬
‫والفروع والزهد واآلداب ومكارم األخالق وغير ذلك‪ ،‬وإنَّما بدأت بهذا‬
‫تقدمي أسالفنا من العلماء رضي هللا عنهم‪ ،‬وقد‬ ‫الحديث تأسيًّا بأئ َّمتنا وم ِّ‬
‫ابتدأ به إمام أهل الحديث بال مدافعة أبو عبد هللا البخاري صحيحه‪،‬‬
‫أن السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛‬ ‫ونقل جماعة َّ‬
‫تنبيها ً للطالب على تصحيح النيَّة وإرادته وجه هللا تعالى بجميع أعماله‬
‫وروينا عن اإلمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي‬ ‫البارزة والخفيَّة‪ُ ،‬‬
‫كل باب منه بهذا‬ ‫ـ رحمه هللا ـ قال‪ :‬لو صنَّفت كتابا ً بدأت في َّأول ِّ‬
‫وروينا عنه أيضا ً قال‪َ :‬من أراد أن يصنِّف كتابا ً فليبدأ بهذا‬ ‫الحديث‪ُ ،‬‬
‫الحديث‪ ،‬وقال اإلمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب‬
‫الخطابي الشافعي اإلمام في كتابه المعالم رحمه هللا تعالى‪ :‬كان‬
‫المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث (األعمال بالنيات) أمام‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪10‬‬

‫كل شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع‬ ‫ِّ‬
‫أنواعها ))‪.‬‬
‫وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ (( :)61/1‬واتَّفق العلماء‬
‫على ص َّحته وتلقيه بالقبول‪ ،‬وبه ص َّدر البخاري كتا َبه الصحيح‪ ،‬وأقامه‬
‫مقام ال ُخطبة له؛ إشارة منه إلى َّ‬
‫أن ك َّل عمل ال يُراد به وجه هللا فهو‬
‫باطل‪ ،‬ال ثمرة له في الدنيا وال في اآلخرة ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قال ابن رجب‪ (( :‬وهذا الحديث أحد األحاديث التي يدور الدِّين‬
‫عليها‪ ،‬فروي عن الشافعي أنَّه قال‪ :‬هذا الحديث ثلث العلم‪ ،‬ويدخل في‬
‫سبعين بابا ً من الفقه‪ ،‬وعن اإلمام أحمد قال‪ :‬أصول اإلسالم على ثالثة‬
‫أحاديث‪ :‬حديث عمر (األعمال بالنيات)‪ ،‬وحديث عائشة (من أحدث‬
‫في أمرنا ما ليس منه فهو رد)‪ ،‬وحديث النعمان بن بشير‪( :‬الحالل ِّبين‬
‫والحرام ِّبين) ))‪.‬‬
‫فإن الدِّين كلَّه‬
‫وقال أيضا ً (‪ )71/1‬في توجيه كالم اإلمام أحمد‪َّ (( :‬‬
‫يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات‪ ،‬والتوقف عن الشبهات‪،‬‬
‫وهذا كلُّه تض َّمنه حديث النعمان بن بشير‪ ،‬وإنَّما يت ُّم ذلك بأمرين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنَّة‪ ،‬وهذا هو‬
‫الذي تض َّمنه حديث عائشة‪( :‬من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يكون العمل في باطنه يُقصد به وجه هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪ ،‬كما‬
‫تض َّمنه حديث عمر‪( :‬األعمال بالنيات)‪.‬‬
‫وأورد بن رجب نقوالً (‪ 61/1‬ـ ‪ )63‬عن بعض العلماء في‬
‫وأن منهم من قال‪ :‬إنَّها اثنان‪،‬‬
‫األحاديث التي يدور عليها اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫‪11‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫ومنهم َمن قال‪ :‬أربعة‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬خمسة‪ ،‬واألحاديث التي ذكرها‬
‫إن أحدكم يُجمع خلقُه في‬
‫عنهم باإلضافة إلى الثالثة األولى حديث‪َّ (( :‬‬
‫بطن ِّأمه ))‪ ،‬وحديث‪ (( :‬من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه ))‪،‬‬
‫طيب ال يقبل إالَّ ِّ‬
‫طيبا ً ))‪ ،‬وحديث‪ (( :‬ال يؤمن أحدكم‬ ‫وحديث‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا ِّ‬
‫حتى يحبَّ ألخيه ما يحبُّ لنفسه ))‪ ،‬وحديث‪ (( :‬ال ضرر وال ضرار ))‪،‬‬
‫وحديث‪ (( :‬إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ))‪ ،‬وحديث‪ (( :‬ازهد‬
‫((‬ ‫في الدنيا يحبك هللا‪ ،‬وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ))‪ ،‬وحديث‪:‬‬
‫الدِّين النصيحة ))‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬إنَّما األعمال بالنيَّات ))‪( ،‬إنَّما)‪ :‬أداة حصر‪ ،‬و(الـ) في‬
‫كل عمل‪،‬‬‫(األعمال) قيل‪ :‬إنَّها خاصة في القُ َرب‪ ،‬وقيل‪ :‬إنَّها للعموم في ِّ‬
‫فما كان منها قُربة أثيب عليه فاعله‪ ،‬وما كان منها من أمور العادات‬
‫التقوي على‬
‫ِّ‬ ‫صاحبَه يُثاب عليه إذا نوى به‬ ‫كاألكل والشرب والنوم َّ‬
‫فإن َ‬
‫الطاعة‪ ،‬واأللف والالَّم بـ(النيات) بدالً من الضمير (ها)‪ ،‬أي‪ :‬األعمال‬
‫بنيَّاتها‪ ،‬ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره معتبرة‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫األعمال معتبرة بنيَّاتها‪ ،‬والنيَّة في اللغة‪ :‬القصد‪ ،‬وتأتي للتمييز بين‬
‫العبادات‪ ،‬كتمييز فرض عن فرض‪ ،‬أو فرض عن نفل‪ ،‬وتمييز‬
‫ُّ‬
‫والتنظف‪.‬‬ ‫للتبرد‬
‫ُّ‬ ‫العبادات عن العادات‪ ،‬كالغسل من الجنابة والغسل‬
‫لكل امرئ ما نوى ))‪ ،‬قال ابن رجب (‪:)65/1‬‬ ‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬وإنَّما ِّ‬
‫إخبار أنَّه ال يحصل له من عمله إالَّ ما نواه‪ ،‬فإن نوى خيرا ً حصل‬‫ٌ‬ ‫((‬

‫شر‪ ،‬وليس هذا تكريرا ً َمحضا ً للجملة‬


‫شرا حصل له ٌّ‬ ‫له خير ٌ‪ ،‬وإن نوى ًّ‬
‫أن صال َح العمل وفسا َده بحسب‬ ‫فإن الجملة األولى دلَّت على َّ‬
‫األولى‪َّ ،‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪12‬‬

‫ثواب العامل على‬


‫َ‬ ‫النية المقتضية إليجاده‪ ،‬والجملة الثانية دلَّت على َّ‬
‫أن‬
‫وأن عقابه عليه بحسب نيَّته الفاسدة‪ ،‬وقد‬ ‫عمله بحسب نيَّتِّه الصالحة‪َّ ،‬‬
‫ثواب وال عقاب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫تكون نيَّتُه مباحةً فيكون العم ُل مباحاً‪ ،‬فال يحصل له به‬
‫فالعم ُل في نفسه‪ :‬صالحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه‬
‫وثواب العامل وعقابُه وسالمته بحسب نيته التي بها‬‫ُ‬ ‫المقتضية لوجوده‪،‬‬
‫صار العم ُل صالحا ً أو فاسدا ً أو مباحا ً ))‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬ف َمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله فهجرته إلى هللا‬
‫ورسوله‪ ،‬و َمن كانت هجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتُه إلى‬
‫ما هاجر إليه ))‪.‬‬
‫الهجرة من ال َهجر وهو الترك‪ ،‬وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد‬
‫األمن‪ ،‬كالهجرة من مكة إلى الحبشة‪ ،‬وتكون من بالد الكفر إلى بالد‬
‫اإلسالم‪ ،‬كالهجرة من مكة إلى المدينة‪ ،‬وقد انتهت الهجرة إليها بفتح‬
‫مكة‪ ،‬والهجرة من بالد الشرك إلى بالد اإلسالم باقية إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫وقوله‪ (( :‬ف َمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله فهجرته إلى هللا ورسوله‬
‫)) ات َّحد فيه الشرط والجزاء‪ ،‬واألصل اختالفهما‪ ،‬والمعنى‪ :‬من كانت‬
‫هجرته إلى هللا ورسوله نيَّة وقصداً‪ ،‬فهجرته إلى هللا ورسوله ثوابا ً‬
‫َّ‬
‫أن األعما َل‬ ‫وأجراً‪ ،‬فافترقا‪ ،‬قال ابن رجب (‪ (( :)72/1‬لَ َّما ذكر‬
‫شر‪ ،‬وهاتان‬ ‫وأن َّ‬
‫حظ العامل من عمله نيته من خير أو ٍّ‬ ‫بحسب النيَّات‪َّ ،‬‬
‫كلمتان جامعتان وقاعدتان كليَّتان‪ ،‬ال يخرج عنهما شيء‪ ،‬ذكر بعد ذلك‬
‫مثاالً من أمثال األعمال التي صورتُها واحدة‪ ،‬ويختلف صال ُحها‬
‫وفسادُها باختالف النيَّات‪ ،‬وكأنَّه يقول‪ :‬سائر األعمال على حذو هذا‬
‫‪13‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫المثال ))‪.‬‬
‫أن هذه الهجرة تختلف‬ ‫َّ‬ ‫وقال أيضا ً (‪ (( :)73/1‬فأخبر النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫باختالف النيَّات والمقاصد بها‪ ،‬ف َمن هاجر إلى دار اإلسالم حبًّا هلل‬
‫ورسوله‪ ،‬ورغبةً في تعلم دين اإلسالم وإظهار دينه حيث كان يعجز‬
‫المهاجر إلى هللا ورسوله حقًّا‪ ،‬وكفاه‬
‫ُ‬ ‫عنه في دار الشرك‪ ،‬فهذا هو‬
‫شرفا ً وفخرا ً أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى هللا ورسوله‪ ،‬ولهذا‬ ‫َ‬
‫ألن حصو َل‬ ‫المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ َّ‬
‫ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫و َمن كانت هجرت ُه من دار الشرك إلى دار اإلسالم لطلب دنيا‬
‫يُصيبها أو امرأة ينكحها في دار اإلسالم‪ ،‬فهجرته إلى ما هاجر إليه‬
‫تاجر‪ ،‬والثاني خاطب‪ ،‬وليس واحد منهما بمهاجر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فاألول‬
‫َّ‬ ‫من ذلك‪،‬‬
‫تحقير ِّل َما طلبه من أمر الدنيا‬
‫ٌ‬ ‫وفي قوله‪( :‬إلى ما هاجر إليه)‬
‫واستهانة به‪ ،‬حيث لم يذكره بلفظه‪ ،‬وأيضا ً فالهجرة ُ إلى هللا ورسوله‬
‫الجواب فيها بلفظ الشرط‪ ،‬والهجرة ُ‬
‫َ‬ ‫واحدة ٌ‪ ،‬فال تع ُّد َد فيها‪ ،‬فلذلك أعاد‬
‫ُ‬
‫اإلنسان لطلب دنيا مباحة تارة‬ ‫يهاجر‬
‫ُ‬ ‫ألمور الدنيا ال ت َنحصر‪ ،‬فقد‬
‫ومحرمة أخرى‪ ،‬وأفراد ما يُقصد بالهجرة من أمور الدنيا ال تنحصر‪،‬‬‫َّ‬
‫فلذلك قال (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائنا ً ما كان ))‪.‬‬
‫أن قصةَ مهاجر‬ ‫‪ 7‬ـ قال ابن رجب (‪ 74/1‬ـ ‪ (( :)75‬وقد اشتهر َّ‬
‫سبب قو ِّل النبَّي ِّ ‪( :‬من كانت هجرته إلى دنيا‬ ‫َ‬ ‫ِّأم قيس هي كانت‬
‫كثير من المتأخرين في ُكتُبهم‪ ،‬ولَم‬
‫يصيبها أو امرأة ينكحها) وذكر ذلك ٌ‬
‫نر لذلك أصالً بإسناد يَص ُّح‪ ،‬وهللا أعلم ))‪.‬‬
‫َ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪14‬‬

‫‪ 8‬ـ النيَّة محلُّها القلب‪ ،‬والتلفُّظ بها بدعة‪ ،‬فال يجوز التلفُّظ بالنيَّة في‬
‫ُسمي في تلبيته ما‬ ‫الحج والعمرة‪ ،‬فله أن ي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫أي ِّ قُربة من القُ َرب‪ ،‬إالَّ في‬
‫نواه من قران أو إفراد أو تمتُّع‪ ،‬فيقول‪ :‬لبَّيك عمرة وح ًّجا‪ ،‬أو لبَّيك‬
‫ح ًّجا‪ ،‬أو لبَّيك عمرة؛ لثبوت السنَّة في ذلك دون غيره‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنَّه ال عمل إالَّ بنيَّة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫أن األعمال معتبرة بنيَّاتها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن ثواب العامل على عمله على حسب نيَّته‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ضرب العالم األمثال للتوضيح والبيان‪.‬‬
‫بها‪ ،‬وقد جاء في صحيح مسلم‬ ‫‪ 5‬ـ فضل الهجرة لتمثيل النَّبي ِّ‬
‫علمت‬
‫َ‬ ‫قال‪ (( :‬أ َما‬ ‫‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬ ‫(‪ )192‬عن عمرو بن العاص‬
‫وأن الهجرة َ تهدم ما كان قبلها‪َّ ،‬‬
‫وأن الح َّج‬ ‫اإلسالم يهدم ما كان قبله‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫أن‬
‫يهدم ما كان قبله؟ ))‪.‬‬
‫ُؤجر أو يؤزر أو يُحرم بحسب نيَّته‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫أن اإلنسانَ ي ُ‬
‫أن األعمال بحسب ما تكون وسيلة له‪ ،‬فقد يكون الشيء المباح‬‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫في األصل يكون طاعةً إذا نوى به اإلنسان خيراً‪ ،‬كاألكل والشرب إذا‬
‫التقوي على العبادة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫نوى به‬
‫أن العمل الواحد يكون إلنسان أجراً‪ ،‬ويكون إلنسان حرماناً‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫‪15‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫***‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪16‬‬

‫الحديث الثاني‬

‫أيضا قال‪ (( :‬بينما نحن جلوس عند رسول هللا‬ ‫عن عمر‬
‫ذات يوم إذ َط َل َع علينا رجل شديد بياض الثياب‪ ،‬شديد سواد الشعر‪،‬‬
‫أثر السفر وال يعرفه منَّا أحد‪ ،‬حتى جلس إلى النَّبي ِّ‬
‫ال يُرى عليه ُ‬
‫‪ ،‬فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه‪ ،‬ووضع كفَّيه على فخذيه‪ ،‬وقال‪ :‬يا محمد‬
‫‪ :‬اإلسال ُم أن تشه َد أن ال إله‬
‫أخبرني عن اإلسالم؟ فقال رسول هللا‬
‫إال هللا َّ‬
‫وأن محمدا رسول هللا‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصوم‬
‫رمضان‪ ،‬وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيال‪ ،‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬فعجبنا‬
‫ويصدقه‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني عن اإليمان؟ قال‪ :‬أن تؤم َن باهلل‬
‫ِّ‬ ‫له يسأله‬
‫ومالئكته و ُكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره‪،‬‬
‫قال‪ :‬صدقتَ ‪ ،‬فأخبرني عن اإلحسان؟ قال‪ :‬أن تعب َد هللا كأنَّك تراه‪ ،‬فإن‬
‫لَم تكن تراه فإنَّه يراك‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني عن الساعة؟ قال‪ :‬ما المسئول‬
‫عنها بأعل َم من السائل‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني عن أ َماراتِّها؟ قال‪ :‬أن تل َد األ َ َمةُ‬
‫الشاء يتطاولون في‬
‫ِّ‬ ‫ربَّت َها‪ ،‬وأن ترى ال ُحفاةَ العُراة العالة ِّرعاء‬
‫البُنيان‪ ،‬ث َّم انطلق فلبث مليا ثم قال‪ :‬يا عمر أتدري َمن السائل؟ قلت‪:‬‬
‫يعل ُمكم دينَكم )) رواه مسلم‪.‬‬
‫هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬فإنَّه جبريل أتاكم ِّ‬
‫انفرد بإخراجه مسلم عن‬ ‫‪ 1‬ـ حديث جبريل هذا عن عمر‬
‫‪ ،‬واإلمام‬ ‫البخاري‪ ،‬وات َّفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة‬
‫النووي ـ رحمه هللا ـ بدأ أحاديث األربعين بحديث عمر (( إنَّما األعمال‬
‫بالنيات ))‪ ،‬وهو أ َّول حديث في صحيح البخاري‪ ،‬وثنَّى بحديث عمر‬
‫‪ ،‬وهو َّأول حديث في صحيح‬ ‫في قصة مجيء جبريل إلى النَّبي ِّ‬
‫‪17‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫مسلم‪ ،‬وقد سبقه إلى ذلك اإلمام البغوي في كتابيه شرح السنة ومصابيح‬
‫السنَّة‪ ،‬فقد افتتحهما بهذين الحديثين‪.‬‬
‫وقد أفردت هذا الحديث بشرح مستقل أوسع من شرحه هنا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ هذا الحديث هو َّأول حديث في كتاب اإليمان من صحيح مسلم‪،‬‬
‫وقد ح َّدث به عبد هللا بن عمر‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬ولتحديثه به قصة ذكرها مسلم‬
‫بين يدي هذا الحديث بإسناده عن يحيى بن يَعمر قال‪:‬‬
‫(( كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني‪ ،‬فانطلقت أنا وحميد‬
‫ابن عبد الرحمن الحميري حا َّجين أو معتمرين‪ ,،‬فقلنا‪ :‬لو لقينا أحدا ً من‬
‫فوفِّق لنا‬‫فسألناه ع َّما يقول هؤالء في القدر‪ُ ،‬‬ ‫أصحاب رسول هللا‬
‫عبد هللا بن عمر بن الخطاب داخالً المسجد‪ ،‬فاكتنفته أنا وصاحبي‪،‬‬
‫أن صاحبي سيكل الكالم‬ ‫أحدنا عن يمينه واآلخر عن شماله‪ ،‬فظننت َّ‬
‫ناس يقرؤون القرآن‬ ‫ي‪ ،‬فقلت‪ :‬أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قبلنا ٌ‬ ‫إل َّ‬
‫ويتقفَّرون العلم‪ ،‬وذكر من شأنهم‪ ،‬وأنَّهم يزعمون أن ال قَدر َّ‬
‫وأن األمر‬
‫فأخبرهم أنِّي بريء منهم‪ ،‬وأنَّهم بُرآء منِّي‪،‬‬
‫ْ‬ ‫أُنُف‪ ،‬قال‪ :‬فإذا لقيت أولئك‬
‫أن ألحدهم مثل أ ُ ُحد ذهبا ً فأنفقه‬
‫والذي يحلف به عبد هللا بن عمر! لو َّ‬
‫ما قبل هللا منه حتى يؤمنَ بالقدر‪ ،‬ثم قال‪ :‬حدَّثني أبي عمر بن الخطاب‬
‫))‪ ،‬وساق الحديث من أجل االستدالل به على اإليمان بالقدر‪ ،‬وفي هذه‬
‫أن ظهور بدعة القدرية كانت في زمن الصحابة‪ ،‬في حياة ابن‬ ‫القصة َّ‬
‫‪َّ ،‬‬
‫وأن التابعين يرجعون إلى‬ ‫عمر‪ ،‬وكانت وفاته سنة (‪73‬هـ)‬
‫في معرفة أمور الدِّين‪ ،‬وهذا هو الواجب‪ ،‬وهو‬ ‫أصحاب الرسول‬
‫ل‪ :‬‬ ‫كل وقت؛ لقول هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫الرجوع إلى أهل العلم في ِّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪18‬‬

‫‪  ‬‬


‫وأن بدعةَ‬
‫َّ‬ ‫‪،    ‬‬
‫وأن المفتي‬‫القدرية من أقبح البدع؛ وذلك لش َّدة قول ابن عمر فيها‪َّ ،‬‬
‫عندما يذكر الحكم يذكر معه دليله‪.‬‬
‫أن المالئكةَ تأتي إلى البشر على‬
‫‪ 3‬ـ في حديث جبريل دليل على َّ‬
‫شكل البشر‪ ،‬ومثل ذلك ما جاء في القرآن من مجيء جبريل إلى مريم‬
‫في صورة بشر‪ ،‬ومجيء المالئكة إلى إبراهيم ولوط في صورة بشر‪،‬‬
‫يتحولون بقدرة هللا َّ‬
‫عز وج َّل عن الهيئة التي ُخلقوا عليها إلى هيئة‬ ‫َّ‬ ‫وهم‬
‫ل في خلق المالئكة‪ :‬‬ ‫عز وج َّ‬ ‫َّ‬ ‫البشر‪ ،‬وقد قال هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬‬


‫‪ ،    ‬وفي صحيح‬
‫رأى جبريل وله‬ ‫أن النَّب َّ‬
‫ي‬ ‫البخاري (‪ ،)4857‬ومسلم (‪َّ )280‬‬
‫ستمائة جناح‪.‬‬
‫وجلوسه بين يديه بيان‬ ‫‪ 4‬ـ في مجيء جبريل إلى رسول هللا‬
‫المعلم‪َّ ،‬‬
‫وأن السائ َل ال يقتصر سؤاله‬ ‫ِّ‬ ‫شيء من آداب طلبة العلم عند‬
‫على أمور يجهل حكمها‪ ،‬بل ينبغي له أن يسأل غيره وهو عالم بالحكم‬
‫في آخر‬ ‫ليسمع الحاضرون الجواب‪ ،‬ولهذا نسب إليه الرسول‬
‫‪19‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫الحديث التعليم‪ ،‬حيث قال‪ (( :‬فإنَّه جبريل أتاكم ِّ‬


‫يعلمكم دينكم ))‪ ،‬والتعليم‬
‫ألنَّه المباشر له‪ ،‬ومضاف إلى جبريل؛ لكونه‬ ‫حاصل من النَّبي ِّ‬
‫المتسبب فيه‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬قال‪ :‬يا محمد! أخبرني عن اإلسالم‪ .‬فقال رسول هللا‬
‫وأن محمدا ً رسول هللا‪ ،‬وتقيم‬
‫‪ :‬اإلسال ُم أن تشه َد أن ال إله إال هللا َّ‬
‫استطعت‬
‫َ‬ ‫الصالة‪ ،‬وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت إن‬
‫جبريل عندما سأله عن اإلسالم باألمور‬ ‫إليه سبيالً ))‪ ،‬أجاب النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫ظا‬ ‫الظاهرة‪ ،‬وعندما سأله عن اإليمان‪ ،‬أجابه باألمور الباطنة‪ ،‬ولف َ‬
‫اإلسالم واإليمان من األلفاظ التي إذا ُجمع بينها في الذِّكر فُ ِّرق بينها‬
‫في المعنى‪ ،‬وقد اجتمعا هنا‪ ،‬ففُ ِّسر اإلسالم باألمور الظاهرة‪ ،‬وهي‬
‫وفسر‬
‫ِّ‬ ‫مناسبة لمعنى اإلسالم‪ ،‬وهو االستسالم واالنقيا ُد هلل تعالى‪،‬‬
‫اإليمان باألمور الباطنة‪ ،‬وهي المناسبة لمعناه‪ ،‬وهو التصديق‬
‫واإلقرار‪ ،‬وإذا أُفرد أحدُهما عن اآلخر شمل المعنيين جميعاً‪ :‬األمور‬
‫‪‬‬ ‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬ومن مجيء اإلسالم مفردا ً قول هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬
‫‪   ‬‬

‫‪    ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،  ‬ومن مجيء اإليمان‬


‫ل‪   :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫مفردا ً قول هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪20‬‬

‫‪ ،‬ونظير ذلك‬ ‫‪  ‬‬

‫كلمتَا الفقير والمسكين‪ ،‬والبر والتقوى وغير ذلك‪.‬‬


‫وأول األمور التي فُ ِّسر بها اإلسالم شهادة أن ال إله إالَّ هللا‪ ،‬وشهادة‬
‫َّ‬
‫أن محمدا ً رسول هللا ‪ ،‬وهاتان الشهادتان متالزمتان‪ ،‬وهما الزمتان‬ ‫َّ‬
‫إلى قيام الساعة‪ ،‬ف َمن لم يؤمن به‬ ‫لكل إنسي ٍّ وجني ٍّ من حين بعثته‬
‫ِّ‬
‫والذي نفس محمد بيده! ال‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬ ‫كان من أصحاب النار؛ لقوله‬
‫يسمع بي أح ٌد من هذه األ َّمة يهودي وال نصراني‪ ،‬ثم يموت ولم يؤمن‬
‫بالذي أُرسلت به إالَّ كان من أصحاب النار )) رواه مسلم (‪.)240‬‬
‫حق إالَّ هللا‪ ،‬وكلمة‬
‫وشهادة أن ال إله إالَّ هللا معناها ال معبود ٌّ‬
‫اإلخالص تشتمل على ركنين‪ :‬نفي عام في أولها‪ ،‬وإثبات خاص في‬
‫كل من سوى هللا‪ ،‬وفي آخرها إثبات‬
‫آخرها‪ ،‬ففي َّأولها نفي العبادة عن ِّ‬
‫العبادة هلل وحده ال شريك له‪ ،‬وخبر (( ال )) النافية للجنس تقديره (( حق‬
‫ألن اآللهة الباطلة موجودة ٌ وكثيرة‪،‬‬
‫))‪ ،‬وال يصلح أن يُقدَّر (( موجود ))؛ َّ‬
‫ي األلوهية الحقَّة‪ ،‬فإنَّها منتفيَةٌ عن ِّ‬
‫كل من سوى هللا‪ ،‬وثابتة‬ ‫وإنَّما المنف ُّ‬
‫هلل وحده‪.‬‬
‫كل محبوب‬‫أن محمدا ً رسول هللا‪ ،‬أن يُحبَّ فوق محبَّة ِّ‬ ‫ومعنى شهادة َّ‬
‫كل ما نهى عنه‪،‬‬ ‫كل ما يأمر به‪ ،‬ويُنتهى عن ِّ‬ ‫من الخلق‪ ،‬وأن يُطاع في ِّ‬
‫وأن تُصدَّق أخباره كلُّها‪ ،‬سواء كانت ماضيةً أو مستقبلةً أو موجودةً‪،‬‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫وهي غير مشاهدة وال معاينة‪ ،‬وأن يُعبد هللا طبقا ً ِّل َما جاء به من‬
‫والهدى‪.‬‬
‫هما مقتضى‬ ‫الص العمل هلل واتباع ما جاء به رسول هللا‬
‫ُ‬ ‫وإخ‬
‫‪21‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫ُتقرب به إلى‬ ‫شهادة أن ال إله إالَّ هللا َّ‬
‫وأن محمدا ً رسول هللا‪ ،‬وك ُّل عمل ي َّ‬
‫هللا ال ب َّد أن يكون خالصا ً هلل ومطابقا ً لسنة رسول هللا ‪ ،‬فإذا فُقد‬
‫ل‪ :‬‬ ‫عز وج َّ‬ ‫َّ‬ ‫اإلخالص لم يُقبل العمل؛ لقول هللا‬ ‫ُ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ، ‬وقوله تعالى في الحديث القدسي‪ (( :‬أنا أغنى الشركاء‬
‫من عمل عمالً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ))‬ ‫عن الشرك‪َ ،‬‬
‫رواه مسلم (‪ ،)2985‬وإذا فُقد ِّ‬
‫االتباع ُر َّد العمل؛ لقوله ‪َ (( :‬من‬
‫أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) رواه البخاري (‪،)2697‬‬
‫ومسلم (‪ ،)1718‬وفي لفظ لمسلم‪ (( :‬من عمل عمالً ليس عليه أمرنا‬
‫فهو رد ))‪ ،‬وهذه الجملة أع ُّم من األولى؛ ألنَّها تشمل َمن فعل البدعة‬
‫ث لها‪ ،‬و َمن فعلَها متابعا ً لغيره فيها‪.‬‬
‫وهو ُمحد ٌ‬
‫وستأتي اإلشارة إلى شيء ِّم َّما يتعلَّق بالصالة والزكاة والصيام‬
‫والحج في حديث ابن عمر‪ (( :‬بُني اإلسالم على خمس ))‪ ،‬وهو الحديث‬
‫الذي يلي هذا الحديث‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬فعجبنا له يسأله ويصدِّقه! )) وجه التع ُّجب‬
‫الغالب على السائل كونه غير عا ِّلم بالجواب‪ ،‬فهو يسأل ليصل إلى‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫أن‬
‫صدقت؛ َّ‬
‫ألن السائ َل إذا‬ ‫َ‬ ‫الجواب‪ ،‬ومثله ال يقول للمسئول إذا أجابه‪:‬‬
‫أن عنده جوابا ً من قبل‪ ،‬ولهذا تع َّجب الصحابةُ‬‫صدَّق المسئول د َّل على َّ‬
‫من هذا التصديق من هذا السائل الغريب‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ قوله‪ (( :‬قال‪ :‬فأخبرني عن اإليمان؟ قال‪ :‬أن تؤمنَ باهلل ومالئكته‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪22‬‬

‫و ُكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره ))‪ ،‬هذا الجواب‬
‫وأول هذه األركان اإليمان باهلل‪،‬‬ ‫مشتم ٌل على أركان اإليمان الستة‪َّ ،‬‬
‫بكل ما يجب اإليمان به‪ ،‬ولهذا أُضيف إليه المالئكة‬ ‫وهو أساس لإليمان ِّ‬
‫والكتب والرسل‪ ،‬و َمن لَم يؤمن باهلل ال يؤمن ببقيَّة األركان‪ ،‬واإليمان‬
‫باهلل يشمل اإليمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته‪ ،‬وأنَّه‬
‫كل نقص‪ ،‬فيجب‬ ‫بكل كمال يليق به‪ ،‬من ََّزهٌ عن ِّ‬
‫صف ِّ‬ ‫سبحانه وتعالى مت َّ ٌ‬
‫توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته‪.‬‬
‫اإلقرار بأنَّه واحد في أفعاله‪ ،‬ال شريك له فيها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وتوحيده بربوبيَّته‬
‫والرزق واإلحياء واإلماتة‪ ،‬وتدبير األمور والتصرف في‬ ‫َّ‬ ‫كالخَلق‬
‫الكون‪ ،‬وغير ذلك ِّم َّما يتعلَّق بربوبيَّته‪.‬‬
‫والرجاء‬
‫َّ‬ ‫وتوحيد األلوهيَّة توحيده بأفعال العباد‪ ،‬كالدعاء والخوف‬
‫والتو ُّكل واالستعانة واالستعاذة واالستغاثة والذَّبح والنَّذر‪ ،‬وغيرها من‬
‫أنواع العبادة التي يجب إفراده بها‪ ،‬فال يُصرف منها شيء لغيره‪ ،‬ولو‬
‫سالً‪ ،‬فضالً ع َّمن سواهما‪.‬‬
‫مقربا ً أو نبيًّا مر َ‬
‫كان ملَكا ً َّ‬
‫كل ما أثبته لنفسه وأثبته‬
‫وأ َّما توحيد األسماء والصفات‪ ،‬فهو إثبات ِّ‬
‫من األسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجالله‪،‬‬ ‫له رسوله‬
‫دون تكييف أو تمثيل‪ ،‬ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل‪ ،‬وتنزيهه عن‬
‫ل‪  :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫كل ما ال يليق به‪ ،‬كما قال هللا‬ ‫ِّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪،‬‬ ‫‪  ‬‬

‫‪‬‬ ‫فجمع في هذه اآلية بين اإلثبات والتنزيه‪ ،‬فاإلثبات في قوله‪:‬‬


‫‪23‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪  ‬‬

‫‪  ‬‬ ‫‪ ،‬والتنزيه في قوله‪:‬‬


‫‪ ،  ‬فله سبحانه وتعالى سمع ال كاألسماع‪ ،‬وبصر‬
‫كل ما ثبت هلل من األسماء والصفات‪.‬‬
‫ال كاألبصار‪ ،‬وهكذا يُقال في ِّ‬
‫َلق من خلق هللا‪ُ ،‬خلقوا من نور‪،‬‬ ‫اإليمان بأنَّهم خ ٌ‬
‫ُ‬ ‫واإليمان بالمالئكة‬
‫قال‪ُ (( :‬خلقت المالئكةُ‬ ‫أن رسول هللا‬ ‫كما في صحيح مسلم (‪َّ )2996‬‬
‫الجان من مارج من نار‪ ،‬و ُخلق آدم ِّم َّما ُوصف لكم ))‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫من نور‪ ،‬و ُخلق‬
‫وهم ذوو أجنحة كما في اآلية األولى من سورة فاطر‪ ،‬وجبريل له‬
‫وتقدَّم قريباً‪ ،‬وهم ٌ‬
‫خلق‬ ‫ستمائة جناح‪ ،‬كما ثبت ذلك عن رسول هللا‬
‫البيت المعمور ـ‬
‫َ‬ ‫عز وج َّل‪ ،‬ويد ُّل لذلك َّ‬
‫أن‬ ‫كثير ال يعلم عد َدهم إالَّ هللا َّ‬
‫ٌ‬
‫وهو في السماء السابعة ـ يدخله ك َّل يوم سبعون ألف ملَك ال يعودون‬
‫إليه‪ ،‬رواه البخاري (‪ ،)3207‬ومسلم (‪ ،)259‬وروى مسلم في‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا‬ ‫صحيحه (‪ )2842‬عن عبد هللا بن مسعود‬
‫كل زمام سبعون‬ ‫‪ (( :‬يُؤتَى بجهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زمام‪ ،‬مع ِّ‬
‫ألف ملَك ُّ‬
‫يجرونها ))‪.‬‬
‫المو َّكلون بالوحي‪ ،‬والمو َّكلون بالقطر‪ ،‬والمو َّكلون‬ ‫والمالئكةُ منهم َ‬
‫بالموت‪ ،‬والمو َّكلون باألرحام‪ ،‬والمو َّكلون بالجنَّة‪ ،‬والمو َّكلون بالنار‪،‬‬
‫والمو َّكلون بغير ذلك‪ ،‬وكلُّهم مستسلمون منقادون ألمر هللا‪ ،‬ال يعصون‬
‫س ِّمي منهم في الكتاب والسنة‬ ‫هللا ما أمرهم ويفعلون ما يؤ َمرون‪ ،‬وقد ُ‬
‫جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ومنكر ونكير‪ ،‬والواجب اإليمان ب َمن‬
‫س ِّمي منهم و َمن لَم يس َّم‪ ،‬والواجب أيضا ً اإليمان والتصديق ِّ‬
‫بكل ما جاء‬ ‫ُ‬
‫في الكتاب العزيز وص َّحت به السنَّة من أخبار عن المالئكة‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪24‬‬

‫بكل كتاب أنزله هللا على رسول‬


‫واإليمان بالكتب التصديق واإلقرار ِّ‬ ‫ُ‬
‫حق‪ ،‬وأنَّها من ََّزلة غير مخلوقة‪ ،‬وأنَّها مشتملة‬
‫من رسله‪ ،‬واعتقاد أنَّها ٌّ‬
‫أن َمن أخذ بها سلم وظفر‪ ،‬ومن‬ ‫على ما فيه سعادة من أ ُنزلت إليهم‪ ،‬و َّ‬
‫س ِّمي في القرآن‪ ،‬ومنها‬
‫أعرض عنها خاب وخسر‪ ،‬ومن هذه الكتب ما ُ‬
‫س ِّمي منها في القرآن التوراة واإلنجيل والزبور‬
‫ما لم يُس َّم‪ ،‬والذي ُ‬
‫صحف إبراهيم وموسى‪ ،‬وقد جاء ذكر صحف إبراهيم وموسى في‬ ‫و ُ‬
‫موضعين من القرآن‪ ،‬في سورتَي النجم واألعلى‪ ،‬وزبور داود جاء في‬
‫القرآن في موضعين‪ ،‬في النساء واإلسراء‪ ،‬قال هللا َّ‬
‫عز وج َّل فيهما‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ، ‬وأ َّما التوراة واإلنجيل فقد جاء ذكرهما في‬


‫س َور القرآن‪ ،‬وأكثرهما ذكرا ً التوراة‪ ،‬فلَم يُذكر في القرآن‬
‫كثير من ُ‬
‫رسول مثل ما ذُكر موسى‪ ،‬ولم يُذكر فيه كتاب مثل ما ذُكر كتاب‬
‫موسى‪ ،‬ويأتي ذكره بلفظ (( التوراة ))‪ ،‬و(( الكتاب ))‪ ،‬و(( الفرقان))‪ ،‬و‬
‫((‬

‫))‪،‬‬ ‫الضياء‬
‫و(( الذِّكر ))‪.‬‬
‫وم َّما يمتاز به القرآن على غيره من الكتب السابقة كونه المعجزة‬
‫ِّ‬
‫الخالدة‪ ،‬وتكفُّل هللا بحفظه‪ ،‬وسالمته من التحريف‪ ،‬ونزوله من َّجما ً‬
‫مفرقاً‪.‬‬
‫َّ‬
‫واإلقرار َّ‬
‫بأن هللا اصطفى من البشر‬ ‫ُ‬ ‫بالرسل التصديق‬ ‫ُ‬
‫واإليمان ُّ‬
‫الحق‪ ،‬ويُخرجونهم من الظلمات إلى‬
‫ِّ‬ ‫الناس إلى‬
‫َ‬ ‫سالً وأنبياء يهدون‬
‫ر ُ‬
‫‪   ‬‬ ‫النور‪ ،‬قال هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬
25 ‫وتتمة‬
َّ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

  

.  
 َّ ‫ كما قال هللا‬،‫ بل فيهم النُّذُر‬،‫سل‬
:‫عز وج َّل‬ ُّ
ُ ‫والجن ليس فيهم ر‬
  
  
 
  
   
  
  
  
   
   
  
  
  
  
  
  
   
     
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪26‬‬

‫‪   ‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ،   ‬فلم يذكروا رسالً منهم‪،‬‬
‫وال كتبا ً أنزلت عليهم‪ ،‬وإنَّما ذكروا الكتابين المنزلين على موسى‬
‫ومحمد عليهما الصالة والسالم‪ ،‬ولم يأت ذكر اإلنجيل مع أنَّه من ََّز ٌل‬
‫أن كثيرا ً من األحكام التي في اإلنجيل قد جاءت‬ ‫من بعد موسى؛ وذلك َّ‬
‫في التوراة‪ ،‬قال ابن كثير في تفسير هذه اآليات‪ (( :‬ولم يذكروا عيسى؛‬
‫ألن عيسى عليه السالم أنزل عليه اإلنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل‬ ‫َّ‬
‫كالمتمم لشريعة التوراة‪ ،‬فالعمدة‬
‫ِّ‬ ‫من التحليل والتحريم‪ ،‬وهو في الحقيقة‬
‫هو التوراة‪ ،‬فلهذا قالوا‪    :‬‬
‫‪.))  ‬‬
‫والرس ُل هم المكلَّفون بإبالغ شرائع أنزلت عليهم‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز‬
‫‪   ‬‬ ‫وج َّل‪:‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫والكتاب اسم جنس يُراد به الكتب‪ ،‬واألنبياء هم الذين أوحي إليهم بأن‬
‫ل‪  :‬‬ ‫ي ُِّبلغوا شريعة سابقة‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
27 ‫وتتمة‬
َّ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

 
 
 
  
‫ وقد قام الرسل واألنبياء بتبليغ ما أُمروا بتبليغه‬،‫ اآلية‬ 
   :‫ل‬ َّ ‫ كما قال هللا‬،‫على التمام والكمال‬
َّ ‫عز وج‬
  
  :‫ وقال‬،  
  
    
 
  
  
  
  
 
   
   
 
‫ (( من‬:‫ قال الزهري‬،  
)) ‫ وعلينا التسليم‬،‫البالغ‬ َّ ‫هللا‬
‫ وعلى رسول هللا‬،‫عز وج َّل الرسالة‬
َّ ‫ باب قول هللا‬،‫أورده البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد‬
:‫عز وج َّل‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ 28

  
    
    
.)‫ ـ مع الفتح‬503/13(   ‫ساالَتِّه‬
َ ‫ِّر‬  

َّ ُ‫والرس ُل منهم من ق‬
‫ كما قال‬،‫ ومنهم من لم يُقصص‬،‫ص في القرآن‬
   :‫وج َّل‬ َّ
‫عز‬ ‫هللا‬
   
  
  َّ ‫ وقال هللا‬،
:‫عز وج َّل‬  
   
   
   
،‫ والذين قُصوا في القرآن خمسة وعشرون‬،  
 :‫منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في سورة األنعام في قوله تعالى‬
 
 
   
    
   
  
    
    
‫‪29‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪. ‬‬
‫والسبعة الباقون‪ :‬آدم‪ ،‬وإدريس‪ ،‬وهود‪ ،‬وصالح‪ ،‬وشعيب‪ ،‬وذو‬
‫الكفل‪ ،‬ومحمد صلوات هللا وسالمه وبركاته عليهم أجمعين‪.‬‬
‫بكل ما جاء في الكتاب‬ ‫ُ‬
‫التصديق واإلقرار ِّ‬ ‫ُ‬
‫واإليمان باليوم اآلخر‬
‫ُّور دارين‪ :‬دار‬ ‫والسنَّة عن ِّ‬
‫كل ما يكون بعد الموت‪ ،‬وقد جعل هللا الد َ‬
‫الدنيا والدار اآلخرة‪ ،‬والح ُّد الفاصل بين هاتين الدارين الموت والنفخ‬
‫في الصور الذي يحصل به موت َمن كان حيًّا في آخر الدنيا‪ ،‬وك ُّل َمن‬
‫مات قامت قيامته‪ ،‬وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء‪ ،‬والحياة بعد‬
‫الموت حياتان‪ :‬حياة برزخية‪ ،‬وهي ما بين الموت والبعث‪ ،‬والحياة بعد‬
‫الموت‪ ،‬والحياة البرزخية ال يعلم حقيقتها إالَّ هللا‪ ،‬وهي تابعة للحياة بعد‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪30‬‬

‫كل منهما الجزاء على األعمال‪ ،‬وأهل السعادة منعمون‬ ‫الموت؛ َّ‬
‫ألن في ٍّ‬
‫في القبور بنعيم الجنَّة‪ ،‬وأهل الشقاوة مع َّذبون فيها بعذاب النار‪.‬‬
‫ويدخل في اإليمان باليوم اآلخر اإليمان بالبعث والحشر والشفاعة‬
‫والحوض والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك ِّم َّما‬
‫جاء في الكتاب والسنَّة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫كائن إلى يوم القيامة‪،‬‬ ‫اإليمان َّ‬
‫بأن هللا قدَّر ك َّل ما هو‬ ‫ُ‬ ‫واإليمان بالقدر‬
‫وله مراتب أربعة‪:‬‬
‫ـ علم هللا أزالً ِّ‬
‫بكل ما هو كائن‪.‬‬
‫ـ وكتابته المقادير قبل خلق السموات واألرض بخمسين ألف سنة‪.‬‬
‫ـ ومشيئته كل مقدَّر‪.‬‬
‫لكل ما ق َّدره طبقا ً ِّل َما علمه وكتبه وشاءه‪.‬‬
‫ـ وخلق هللا وإيجاده ِّ‬
‫اإليمان بهذه المراتب واعتقاد َّ‬
‫أن ك َّل شيء شاءه هللا ال ب َّد‬ ‫ُ‬ ‫فيجب‬
‫من وجوده‪َّ ،‬‬
‫وأن ك َّل شيء لم يشأه هللا ال يُمكن وجوده‪ ،‬وهذا معنى قوله‬
‫واعلم َّ‬
‫أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك‪ ،‬وما أخطأك لم يكن‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬
‫ليُصيبك ))‪ ،‬وسيأتي في الحديث التاسع عشر‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ قوله‪ (( :‬فأخبرني عن اإلحسان؟ قال‪ :‬أن تعب َد هللا كأنَّك تراه‪،‬‬
‫فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك ))‪ ،‬اإلحسان أعلى الدرجات‪ ،‬ودونه درجة‬
‫اإليمان‪ ،‬ودون ذلك درجة اإلسالم‪ ،‬وك ُّل مؤمن مسلم‪ ،‬وك ُّل محسن‬
‫مؤمن مسلم‪ ،‬وليس ك ُّل مسلم مؤمنا ً محسناً‪ ،‬ولهذا جاء في سورة‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫الحجرات‪:‬‬
‫‪31‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪    ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫علو درجة‬
‫‪ ،  ‬وجاء في هذا الحديث بيان ِّ‬
‫واقف‬
‫ٌ‬ ‫اإلحسان في قوله‪ (( :‬أن تعبد هللا كأنَّك تراه )) أي‪ :‬تعب َده كأنَّك‬
‫بين يديه تراه‪ ،‬و َمن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال‪،‬‬
‫أن هللا َّ‬
‫مطل ٌع عليه ال‬ ‫وإن لَم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر َّ‬
‫فيحذر أن يراه حيث نهاه‪ ،‬ويعمل على أن يراه حيث‬ ‫َ‬ ‫يخفى منه خافية‪،‬‬
‫أمره‪.‬‬
‫َ‬
‫‪ 9‬ـ قوله‪ (( :‬قال‪ :‬فأخبرني عن الساعة؟ قال‪ :‬ما المسئول عنها بأعلم‬
‫اختص هللا بعلم الساعة‪ ،‬فال يعلم متى تقوم الساعة إالَّ‬
‫َّ‬ ‫من السائل ))‪،‬‬
‫ل‪   :‬‬ ‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬قال هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪    ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪،     ‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال تعالى‪:‬‬
‫‪   ‬‬

‫‪ ،  ‬ومنها علم الساعة‪ ،‬ففي صحيح البخاري (‪)4778‬‬


‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪32‬‬

‫مفاتي ُح الغيب خمسة‪ ،‬ثم‬‫عن عبد هللا بن عمر قال‪ :‬قال النَّب ُّ‬
‫ي‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫قرأ ‪   ‬‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫))‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪  ‬‬


‫‪    ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪.    ‬‬


‫أن الساعةَ تقوم يوم الجمعة‪ ،‬أ َّما من أي ِّ سنة؟ وفي‬
‫وجاء في السنَّة َّ‬
‫أي ِّ شهر من السنة؟ وفي أي ِّ جمعة من الشهر؟ فال يعلم ذلك إالَّ هللا‪،‬‬
‫ففي سنن أبي داود (‪ )1046‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫‪ (( :‬خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة‪ ،‬فيه ُخلق آدم‪ ،‬وفيه أُهبط‪،‬‬
‫وفيه تيب عليه‪ ،‬وفيه مات‪ ،‬وفيه تقوم الساعة‪ ،‬وما من دابة إالَّ وهي‬
‫مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقا ً من الساعة‬
‫إالَّ الجن واإلنس )) الحديث‪ ،‬وهو حديث صحيح رجاله رجال الكتب‬
‫‪33‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫الستة‪ ،‬إالَّ القعنبي فلم يخرج له ابن ماجه‪.‬‬
‫أن الخلق ال‬ ‫وقوله‪ (( :‬ما المسئول عنها بأعلم من السائل )) معناه َّ‬
‫ي مسئول سواء في عدم العلم بها‪.‬‬ ‫يعلمون متى تقوم‪َّ ،‬‬
‫وأن أي سائل وأ َّ‬
‫‪ 10‬ـ قوله‪ (( :‬قال‪ :‬فأخبرني عن أ َماراتِّها؟ قال‪ :‬أن تل َد األ َ َمةُ ربَّتَها‪،‬‬
‫الشاء يتطاولون في البُنيان ))‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وأن ترى ال ُحفاة َ العُراة العالة ِّرعاء‬
‫أماراتها‪ :‬عالماتها‪ ،‬وعالمات الساعة تنقسم إلى قسمين‪ :‬عالمات قريبة‬
‫من قيامها‪ ،‬كخروج الشمس من مغربها‪ ،‬وخروج الد َّجال‪ ،‬وخروج‬
‫يأجوج ومأجوج‪ ،‬ونزول عيسى بن مريم عليه الصالة والسالم من‬
‫السماء وغيرها‪ ،‬وعالمات قبل ذلك‪ ،‬ومنها العالمتان المذكورتان في‬
‫هذا الحديث‪.‬‬
‫ومعنى قوله‪ (( :‬أن تلد األ َ َمة ربَّتها )) فُ ِّسر بأنَّه إشارة إلى كثرة‬
‫الفتوحات وكثرة السبي‪ ،‬وأن من الم ْسبيات َمن يطؤها سيِّ ُدها فتلد له‪،‬‬
‫وفسر بتغير األحوال‬
‫ِّ‬ ‫سيدها‪،‬‬
‫فتكون أ َّم ولد‪ ،‬ويكون ولدها بمنزلة ِّ‬
‫وحصول العقوق من األوالد آلبائهم وأ َّمهاتهم وتسلُّطهم عليهم‪ ،‬حتى‬
‫يكون األوالد كأنَّهم سادة آلبائهم وأ َّمهاتهم‪.‬‬
‫الشاء يتطاولون‬
‫ِّ‬ ‫ومعنى قوله‪ (( :‬وأن ترى ال ُحفاة َ العُراة العالة ِّرعاء‬
‫أن الفقراء الذين يرعون الغنم وال يجدون ما يَكتسون به‬ ‫في البُنيان )) َّ‬
‫تتغيَّر أحوالهم وينتقلون إلى سكنى المدن ويتطاولون فيها بالبنيان‪،‬‬
‫وهاتان العالمتان قد وقعتَا‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ قوله‪ (( :‬ث َّم انطلق فلبث مليًّا ثم قال‪ :‬يا عمر أتدري َمن السائل؟‬
‫قلت‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬فإنَّه جبريل أتاكم ِّ‬
‫يعل ُمكم دينَكم )) معنى‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪34‬‬

‫أصحابَه عن السائل بأنَّه جبريل عقب‬ ‫ي‬‫مليًّا‪ :‬زماناً‪ ،‬فقد أخبر النَّب ُّ‬
‫ألن النَّب َّ‬
‫ي‬ ‫انطالقه‪ ،‬وجاء أنَّه أخبر عمر بعد ثالث‪ ،‬وال تنافي بين ذلك؛ َّ‬
‫معهم‪ ،‬بل يكون انصرف من‬ ‫أخبر الحاضرين ولم يكن عمر‬
‫بعد ثالث فأخبره‪.‬‬ ‫المجلس‪ ،‬واتَّفق له أنَّه لقي النَّب َّ‬
‫ي‬
‫‪ 12‬ـ ِّم َّما يُستفا ُد من الحديث‪:‬‬
‫أن السائ َل كما يسأل للتعلُّم‪ ،‬فقد يسأل للتعليم‪ ،‬فيسأل َمن عنده‬
‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫علم بشيء من أجل أن يسمع الحاضرون الجواب‪.‬‬
‫دميين‪ ،‬وليس‬ ‫تتحول عن ِّخلقتِّها‪ ،‬وتأتي بأشكال اآل ِّ‬
‫َّ‬ ‫أن المالئكةَ‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫في هذا دليل على جواز التمثيل الذي اشتهر في هذا الزمان؛ فإنَّه نو ٌ‬
‫ع‬
‫من الكذب‪ ،‬وما حصل لجبريل فهو بإذن هللا وقدرته‪.‬‬
‫المعلم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫المتعلم عند‬
‫ِّ‬ ‫‪ 3‬ـ بيان آداب‬
‫‪ 4‬ـ أنَّه عند اجتماع اإلسالم واإليمان يُف َّ‬
‫سر اإلسالم باألمور‬
‫الظاهرة‪ ،‬واإليمان باألمور الباطنة‪.‬‬
‫فاألهم؛ ألنَّه بُدىء بالشها َدتين في تفسير اإلسالم‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫باألهم‬
‫ِّ‬ ‫‪ 5‬ـ البدء‬
‫وبدىء باإليمان باهلل في تفسير اإليمان‪.‬‬
‫أن أركان اإلسالم خمسة‪َّ ،‬‬
‫وأن أصو َل اإليمان ستة‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫أن اإليمان بأصول اإليمان الستة من جملة اإليمان بالغيب‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ بيان التفاوت بين اإلسالم واإليمان واإلحسان‪.‬‬
‫علو درجة اإلحسان‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ بيان ِّ‬
‫‪ 10‬ـ َّ‬
‫أن علم الساعة ِّم َّما استأثر هللا بعلمه‪.‬‬
‫‪35‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪ 11‬ـ بيان شيء من أمارات الساعة‪.‬‬


‫‪ 12‬ـ قول المسئول ِّل َما ال يعلم‪ :‬هللا أعلم‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الثالث‬

‫عن أبي عبد الرحمن عبد هللا بن عمر بن الخطاب رضي هللا عنهما‬
‫يقول‪ (( :‬بُني اإلسالم على خمس‪ :‬شهادة‬ ‫قال‪ :‬سمعت رسول هللا‬
‫أن ال إله إالَّ هللا‪ ،‬وأ َّن محمدا رسول هللا‪ ،‬وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪،‬‬
‫وحجِّ البيت‪ ،‬وصوم رمضان )) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫بُني اإلسالم على خمس ))‪ :‬فيه بيان عظم شأن هذه‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪:‬‬
‫((‬

‫ي بالبناء الحسي‪،‬‬ ‫ي عليها‪ ،‬وهو تشبيه معنو ٌّ‬ ‫الخمس‪َّ ،‬‬


‫وأن اإلسالم مبن ٌّ‬
‫أن البنيان الحسي ال يقوم إالَّ على أعمدته‪ ،‬فكذلك اإلسالم إنَّما‬‫فكما َّ‬
‫يقوم على هذه الخمس‪ ،‬واالقتصار على هذه الخمس لكونها األساس‬
‫لغيرها‪ ،‬وما سواها فإنَّه يكون تابعا ً لها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أورد النووي هذا الحديث بعد حديث جبريل ـ وهو مشتم ٌل على‬
‫هذه الخمس ـ ِّل َما اشتمل عليه هذا الحديث من بيان أهميَّة هذه الخمس‪،‬‬
‫وأنَّها األساس الذي بُني عليه اإلسالم‪ ،‬ففيه معنى زائد على ما جاء في‬
‫حديث جبريل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ هذه األركان الخمسة التي بُني عليها اإلسالم‪ ،‬أولها الشهادتان‪،‬‬
‫سس‪ ،‬وبقية األركان وغيرها تابع لها‪ ،‬فال تنفع هذه‬ ‫أس األ ُ‬
‫وهما ُّ‬
‫األركان وغيرها من األعمال إذا لم تكن مبنيَّةً على هاتين الشهادتين‪،‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪36‬‬

‫أن محمدا ً رسول هللا مع شهادة أن ال‬ ‫وهما متالزمتان‪ ،‬ال ب َّد من شهادة َّ‬
‫إله إالَّ هللا‪ ،‬و مقتضى شهادة (أن ال إله إالَّ هللا) أالَّ يُعبد إالَّ هللا‪ ،‬ومقتضى‬
‫(أن محمدا ً رسول هللا) أن تكون العبادة ُ وفقا ً ِّل َما جاء به رسول‬
‫شهادة َّ‬
‫هللا ‪ ،‬وهذان أصالن ال ب َّد منهما في قبول أي ِّ عمل يعمله اإلنسان‪،‬‬
‫فال ب َّد من تجريد اإلخالص هلل وحده‪ ،‬وال ب َّد من تجريد المتابعة لرسول‬
‫‪.‬‬ ‫هللا‬
‫فإن قيل‪ :‬لم يذكر اإليمان‬ ‫((‬ ‫‪ 4‬ـ قال الحافظ في الفتح (‪:)50/1‬‬
‫باألنبياء والمالئكة وغير ذلك ِّم َّما تض َّمنه سؤال جبريل عليه السالم؟‬
‫بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به‪ ،‬فيستلزم جميع‬ ‫أُ َ‬
‫جيب َّ‬
‫ما ذكر من المعتقدات‪ ،‬وقال اإلسماعيلي ما محصله‪ :‬هو من باب تسمية‬
‫الشيء ببعضه‪ ،‬كما تقول‪ :‬قرأت الحمد‪ ،‬وتريد به جميع الفاتحة‪ ،‬وكذا‬
‫تقول مثالً‪ :‬شهدت برسالة محمد‪ ،‬وتريد جميع ما ذكر‪ ،‬وهللا أعلم ))‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أه ُّم أركان اإلسالم الخمسة بعد الشهادتين الصالة‪ ،‬وقد وصفها‬
‫لمعاذ‬ ‫بأنَّها عمو ُد اإلسالم‪ ،‬كما في حديث وصيَّته‬ ‫رسول هللا‬
‫بن جبل‪ ،‬وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه األربعين‪ ،‬وأخبر أنَّها‬
‫سب عليه العبد يوم القيامة‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫وأول ما يُحا َ‬
‫آخر ما يُفقد من الدِّين‪َّ ،‬‬
‫السلسلة الصحيحة لأللباني (‪َّ ،)1748( ،)1358( ،)1739‬‬
‫وأن بها‬
‫التمييز بين المسلم والكافر‪ ،‬رواه مسلم (‪ ،)134‬وإقامتها تكون على‬
‫أقل ما يحصل به فعل الواجب‬
‫حالتين‪ :‬إحداهما واجبة‪ ،‬وهو أداؤها على ِّ‬
‫بكل ما هو‬
‫الذ َّمة‪ ،‬ومستحبَّة‪ ،‬وهو تكميلها وتتميمها باإلتيان ِّ‬
‫وتبرأ به ِّ‬
‫مستحبٌّ فيها‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪،‬‬ ‫‪ 6‬ـ الزكاة هي قرينة الصالة في كتاب هللا وسنة رسوله‬
‫ل‪   :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫كما قال هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ،  ‬وهي عبادة ٌ مالية نفعها‬
‫يضر‬
‫ُّ‬ ‫متعدٍّ‪ ،‬وقد أوجبها هللا في أموال األغنياء على وجه ينفع الفقير وال‬
‫ي؛ ألنَّها شيء يسير من مال كثير‪.‬‬ ‫الغن َّ‬
‫ربه‪ ،‬ال‬
‫سر بين العبد وبين ِّ‬
‫‪ 7‬ـ صو ُم رمضان عبادة بدنية‪ ،‬وهي ٌّ‬
‫ألن من الناس َمن يكون في شهر‬ ‫َّ‬
‫يطلع عليه إالَّ هللا سبحانه وتعالى؛ َّ‬
‫اإلنسان صائما ً في‬
‫ُ‬ ‫يظن أنَّه صائم‪ ،‬وقد يكون‬
‫ُّ‬ ‫وغيره‬
‫ُ‬ ‫رمضان مفطرا ً‬
‫يظن أنَّه ُمفطر‪ ،‬ولهذا ورد في الحديث الصحيح َّ‬
‫أن اإلنسانَ‬ ‫وغيره ُّ‬
‫ُ‬ ‫نفل‬
‫يُجازَ ى على عمله‪ ،‬الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬قال هللا‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪38‬‬

‫عز وج َّل‪ (( :‬إالَّ الصوم فإنَّه لي‪ ،‬وأنا أجزي به )) رواه البخاري‬
‫َّ‬
‫(‪ ،)1894‬ومسلم (‪ ،)164‬أي‪ :‬بغير حساب‪ ،‬واألعمال كلُّها هلل َّ‬
‫عز‬
‫ل‪    :‬‬ ‫وج َّل‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪  ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫ص‬‫‪ ،  ‬وإنَّما ُخ َّ‬
‫الصوم في هذا الحديث بأنَّه هلل ِّل َما فيه من خفاء هذه العبادة‪ ،‬وأنَّه ال‬
‫َّ‬
‫يطلع عليها إالَّ هللا‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ ح ُّج بيت هللا الحرام عبادة ماليَّة بدنية‪ ،‬وقد أوجبها هللا في العمر‬
‫البيت ف َلم‬
‫َ‬ ‫ي فضلَها بقوله ‪َ (( :‬من ح َّج هذا‬ ‫مرة واحدة‪ ،‬وبيَّن النَّب ُّ‬
‫َّ‬
‫يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أ ُّمه )) رواه البخاري (‪،)1820‬‬
‫ومسلم (‪ ،)1350‬وقوله ‪ (( :‬العمرة إلى العمرة كفَّارة ِّلما بينهما‪،‬‬
‫والح ُّج المبرور ليس له جزاء إالَّ الجنَّة )) رواه مسلم (‪.)1349‬‬
‫‪ 9‬ـ هذا الحديث بهذا اللفظ جاء فيه تقديم الحجِّ على الصوم‪ ،‬وهو‬
‫بهذا اللفظ أورده البخاري في أول كتاب اإليمان من صحيحه‪ ،‬وبنى‬
‫عليه ترتيب كتابه الجامع الصحيح‪ ،‬فقدَّم كتاب الحجِّ فيه على كتاب‬
‫الصيام‪.‬‬
‫وقد ورد الحديث في صحيح مسلم (‪ )19‬بتقديم الصيام على الحجِّ‪،‬‬
‫وتقديم الحجِّ على الصيام‪ ،‬وفي الطريق األولى تصريح ابن عمر َّ‬
‫بأن‬
‫‪39‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫تقديم الصوم على الحجِّ‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫الذي سمعه من رسول هللا‬
‫تصرف‬
‫ُّ‬ ‫يكون تقديم الحجِّ على الصوم في بعض الروايات من قبيل‬
‫بعض الرواة والرواية بالمعنى‪ ،‬وسياقه في صحيح مسلم عن ابن عمر‬
‫عن النَّبي ِّ‬
‫قال‪ (( :‬بُني اإلسالم على خمسة‪ :‬على أن يو َّحد هللا‪ ،‬وإقام‬
‫الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصيام رمضان‪ ،‬والحجِّ‪ ،‬فقال رجل‪ :‬الحج‬
‫وصيام رمضان؟ قال‪ :‬ال! صيام رمضان والحج‪ ،‬هكذا سمعته من‬
‫))‪.‬‬ ‫رسول هللا‬
‫‪ 10‬ـ هذه األركان الخمسة وردت في الحديث مرتَّبة حسب أهميَّتها‪،‬‬
‫ُتقرب به إلى هللا‬ ‫وبدىء فيها بالشهادتين اللَّتين هما أساس ِّ‬
‫لكل عمل ي َّ‬
‫مرات‪ ،‬فهي‬
‫تتكرر في اليوم والليلة خمس َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّل‪ ،‬ثم بالصالة التي‬
‫ربه‪ ،‬ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى‬
‫صلة وثيقة بين العبد وبين ِّ‬
‫ألن نفعَها متعدٍّ‪ ،‬ثم الصيام الذي يجب شهرا ً في السنة‪،‬‬
‫عليه َحو ٌل؛ َّ‬
‫وهو عبادة بدنيَّة نفعها غير متعدٍّ‪ ،‬ثم الحج الذي ال يجب في العمر إالَّ‬
‫مرة واحدة‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪ 11‬ـ ورد في صحيح مسلم َّ‬
‫أن ابن عمر رضي هللا عنهما حدَّث‬
‫بالحديث عندما سأله رجل‪ ،‬فقال له‪ :‬أال تغزو؟ ثم ساق الحديث‪ ،‬وفيه‬
‫أن الجهاد ليس من أركان اإلسالم‪ ،‬وذلك َّ‬
‫أن هذه الخمس‬ ‫اإلشارة إلى َّ‬
‫لكل مكلَّف‪ ،‬بخالف الجهاد‪ ،‬فإنَّه فرض كفاية وال‬
‫الزمة باستمرار ِّ‬
‫كل وقت‪.‬‬
‫يكون في ِّ‬
‫‪ 12‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان أهميَّة هذه الخمس لكون اإلسالم بُني عليها‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪40‬‬

‫‪ 2‬ـ تشبيه األمور المعنوية بالحسيَّة لتقريرها في األذهان‪.‬‬


‫باألهم فاألهم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ 3‬ـ البدء‬
‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن الشهادتين أساس في نفسهما‪ ،‬وهما أساس لغيرهما‪ ،‬فال يُقبل‬
‫عمل إالَّ إذا بُني عليهما‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ تقديم الصالة على غيرها من األعمال؛ ألنَّها صلة وثيقة بين‬
‫ربه‪.‬‬
‫العبد وبين ِّ‬

‫***‬
‫الحديث الرابع‬

‫عن أبي عبد الرحمن عبد هللا بن مسعود رضي اله تعالى عنه‬
‫قال‪ :‬حدَّثنا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وهو الصادق‬
‫المصدوق‪:‬‬
‫أمه أربعين يوما نطفة‪ ،‬ثم يكون‬ ‫إن أحدَكم يُجمع خلقُه في بطن ِّ‬
‫(( َّ‬
‫علقة مثل ذلك‪ ،‬ثم يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم يُرسل إليه الملَك فينفخ‬
‫فيه الروح‪ ،‬ويُؤمر بأربع كلمات‪ :‬بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو‬
‫إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنَّة‪ ،‬حتى‬
‫سعيد‪ ،‬فوهللا الذي ال إله غيره‪َّ ،‬‬
‫ما يكون بينه وبينها إالَّ ذراع‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل‬
‫النار فيدخلها‪ ،‬وإن أح َدكم ليعمل بعمل أهل النار‪ ،‬حتى ما يكون بينه‬
‫وبينها إالَّ ذراع‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‬
‫)) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪41‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪ 1‬ـ قوله‪ (( :‬وهو الصادق المصدوق )) معناه الصادق في قوله‪،‬‬


‫المصدَّق فيما جاء به من الوحي‪ ،‬وإنَّما قال ابن مسعود هذا القول؛ َّ‬
‫ألن‬
‫الحديث عن أمور الغيب التي ال تُعرف إالَّ عن طريق الوحي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬يُجمع خلقه في بطن ِّأمه ))‪ ،‬قيل‪ :‬يُجمع ماء الرجل مع‬
‫الرحم‪ ،‬فيُخلق منهما اإلنسان‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬ ‫ماء المرأة في َّ‬
‫‪،      ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال‪:‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ،    ‬والمراد بخلقه ما‬
‫يكون منه خلق اإلنسان‪ ،‬وقد جاء في صحيح مسلم (‪ (( :)1438‬ما من‬
‫كل المني ِّ يكون الولد ))‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪ 3‬ـ في هذا الحديث ذكر أطوار خلق اإلنسان‪ ،‬وهي‪َّ :‬أوالً‪ :‬النطفة‪،‬‬
‫متجمد‪ ،‬وثالثاً‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫وهي الماء القليل‪ ،‬وثانياً‪ :‬العلقة‪ ،‬وهي دم غليظ‬
‫المضغة‪ ،‬وهي القطعة من اللحم على قدر ما يمضغه اآلكل‪ ،‬وقد ذكر‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫في‬ ‫الثالث‬ ‫هذه‬ ‫هللا‬
‫‪    ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬‬


‫‪    ‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫ومعنى‬ ‫‪,‬‬ ‫‪‬‬


‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ 42

،‫مصورة‬
َّ ‫ مصورة وغير‬  
َّ ‫وأكثر ما جاء فيه بيان أطوار خلق اإلنسان قول هللا‬
‫عز وج َّل في سورة‬
   :‫المؤمنون‬
   

   

    

  

  

 

  

  


   

  

.  
‫ ـ في الحديث أنَّه بعد مضي ِّ هذه األطوار الثالثة ـ وقدرها مائة‬4
‫ وقبل ذلك هو‬،‫ فيكون إنسانا ً حيًّا‬،‫وعشرون يوما ً ـ تُنفخ فيه الروح‬
َّ ‫ وقد جاء في القرآن الكريم‬،‫ميت‬
‫ كما‬،‫أن اإلنسانَ له حياتان وموتتان‬
  :‫ل عن الكفَّار‬ َّ ‫عز وج‬ َّ ‫قال هللا‬
 
 
،‫ فالموتة األولى ما كان قبل نفخ الروح‬، 
‫‪43‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫والحياة األولى من نفخ الروح إلى بلوغ األجل‪ ،‬والموتة الثانية من بعد‬
‫الموت إلى البعث‪ ،‬وهذه الموتة ال تنافي الحياة البرزخية الثابتة بالكتاب‬
‫ومستمرة‬
‫َّ‬ ‫والسنة‪ ،‬والحياة الثانية الحياة بعد البعث‪ ،‬وهي حياة دائمة‬
‫إلى غير نهاية‪ ،‬وهذه األحوال األربع لإلنسان بيَّنها هللا بقوله‪ :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ،   ‬وقوله‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪،    ‬‬
‫وإذا ُولد بعد نفخ الروح فيه ميتا ً تجري عليه أحكام الوالدة‪ ،‬من تغسيله‬
‫والصالة عليه والخروج من العدة وكون األ َمة أم ولد‪ ،‬وكون ِّأمه نفساء‪،‬‬
‫وإذا سقط قبل ذلك فال تجري عليه هذه األحكام‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ بعد كتابة الملَك رزقه وأجله وذكر أو أنثى وشقي أو سعيد‪ ،‬ال‬
‫يختص هللا تعالى‬
‫ُّ‬ ‫تكون معرفة الذكورة واألنوثة من علم الغيب الذي‬
‫ألن الملَك قد علم ذلك‪ ،‬فيكون من الممكن معرفة كون الجنين ذكرا ً‬
‫به؛ َّ‬
‫أو أنثى‪.‬‬
‫المعتبر في السعادة‬
‫َ‬ ‫بكل ما هو كائن‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫قدر هللا سبق ِّ‬
‫أن َ‬ ‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫والشقاوة ما يكون عليه اإلنسان عند الموت‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أحوال الناس بالنسبة للبدايات والنهايات أربع‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪44‬‬

‫األولى‪َ :‬من بدايتُه حسنة‪ ،‬ونهايته حسنة‪.‬‬


‫الثانية‪َ :‬من كانت بدايتُه سيِّئة‪ ،‬ونهايتُه سيِّئة‪.‬‬
‫الثالثة‪َ :‬من كانت بدايتُه حسنة‪ ،‬ونهايته ِّ‬
‫سيئة‪ ،‬كالذي نشأ على طاعة‬
‫هللا‪ ،‬وقبل الموت ارت َّد عن اإلسالم ومات على الردَّة‪.‬‬
‫الرابعة‪َ :‬من بدايتُه سيِّئة‪ ،‬ونهايتُه حسنة‪ ،‬كالسحرة الذين مع‬
‫برب هارون وموسى‪ ،‬وكاليهودي الذي يخدم‬ ‫ِّ‬ ‫فرعون‪ ،‬الذين آمنوا‬
‫في مرضه‪ ،‬وعرض عليه اإلسالم فأسلم‪،‬‬ ‫وعاده النَّب ُّ‬
‫ي‬ ‫ي‬‫النَّب َّ‬
‫ي ‪ (( :‬الحمد هلل الذي أنقذه من النار ))‪ ،‬وهو في صحيح‬ ‫فقال النَّب ُّ‬
‫البخاري (‪.)1356‬‬
‫والحالتان األخيرتان د َّل عليهما هذا الحديث‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ د َّل الحديث على َّ‬
‫أن اإلنسانَ يعمل العم َل الذي فيه سعادته أو‬
‫شقاوته بمشيئته وإرادته‪ ،‬وأنَّه بذلك ال يخرج عن مشيئة هللا وإرادته‪،‬‬
‫وهو مخي ٌَّر باعتبار أنَّه يعمل باختياره‪ ،‬ومسي ٌَّر بمعنى أنَّه ال يحصل‬
‫منه شيء لم يشأه هللا‪ ،‬وقد د َّل على األمرين ما جاء في هذا الحديث‬
‫من أنَّه قبل الموت يسبق عليه الكتاب‪ ،‬فيعمل بعمل أهل الجنَّة أو يعمل‬
‫بعمل أهل النار‪.‬‬
‫ألن من الناس‬ ‫أن اإلنسانَ يجب أن يكون على خوف ورجاء؛ َّ‬ ‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫َمن يعمل الخير في حياته ثم يختم له بخاتمة السوء‪ ،‬وأنَّه ال ينبغي له‬
‫فإن اإلنسان قد يعمل بالمعاصي طويالً‪ ،‬ثم يَ ُّ‬
‫من هللاُ‬ ‫أن يقطع الرجاء؛ َّ‬
‫عليه بالهدى فيهتدي في آخر عمره‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ قال النووي في شرح هذا الحديث‪ (( :‬فإن قيل‪ :‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫‪45‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،   ‬ظاهر اآلية َّ‬
‫أن العم َل‬
‫الصالح من المخلص يُقبل‪ ،‬وإذا حصل القبول بوعد الكريم أمن مع‬
‫ذلك من سوء الخاتمة‪ ،‬فالجواب من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون ذلك معلَّقا ً على شروط القبول وحسن الخاتمة‪،‬‬
‫ويُحتمل أن من آمن وأخلص العمل ال يُختم له دائما ً إالَّ بخير‪.‬‬
‫حق من أساء العمل أو خلطه‬‫أن خاتمة السوء إنَّما تكون في ِّ‬
‫ثانيهما‪َّ :‬‬
‫بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة‪ ،‬ويد ُّل عليه الحديث‬
‫اآلخر‪َّ :‬‬
‫(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)‪ ،‬أي فيما‬
‫يظهر لهم من إصالح ظاهره مع فساد سريرته وخبثها‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‬
‫))‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان أطوار خلق اإلنسان في بطن ِّأمه‪.‬‬
‫أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً‪ ،‬وبذلك يكون‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫إنساناً‪.‬‬
‫مو َّكل باألرحام‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن من المالئكة َمن هو َ‬
‫‪ 4‬ـ اإليمان بالغيب‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ اإليمان بالقدر‪ ،‬وأنَّه سبق في ِّ‬
‫كل ما هو كائن‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪46‬‬

‫‪ 6‬ـ الحلف من غير استحالف لتأكيد الكالم‪.‬‬


‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫أن األعمال بالخواتيم‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ الجمع بين الخوف والرجاء‪ ،‬وأ َّن على من أحسن أن يخاف‬
‫سوء الخاتمة‪َّ ،‬‬
‫وأن َمن أساء ال يقنط من رحمة هللا‪.‬‬
‫سبب دخول الجنة أو النار‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫أن األعما َل‬
‫‪ 10‬ـ أ َّن َمن ُكتب شقيًّا ال يُعلم حاله في الدنيا‪ ،‬وكذا عكسه‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الخامس‬

‫عن أم المؤمنين أم عبد هللا عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬قال رسول‬
‫رواه‬ ‫هللا ‪َ (( :‬من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر ٌّد‬
‫))‬

‫البخاري ومسلم‪ ،‬وفي رواية لمسلم‪َ (( :‬من عمل عمال ليس عليه أمرنا‬
‫فهو ر ٌّد ))‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ هذا الحديث أصل في وزن األعمال الظاهرة‪ ،‬وأنَّه ال يُعت ُّد بها‬
‫))‬ ‫إنَّما األعمال بالنيات‬ ‫((‬ ‫إالَّ إذا كانت موافقة للشرع‪ ،‬كما َّ‬
‫أن حديث‬
‫وأن كل عم ٍّل يتقرب فيه إلى هللا ال ب َّد أن‬‫أص ٌل في األعمال الباطنة‪َّ ،‬‬
‫يكون خالصا ً هلل‪ ،‬وأن يكون معتبرا ً بنيته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إذا فُعلت العبادات كالوضوء والغسل من الجنابة والصالة وغير‬
‫ذلك‪ ،‬إذا فُعلت على خالف الشرع فإنَّها تكون مردودة على صاحبها‬
‫غير معتبرة‪َّ ،‬‬
‫وأن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه وال‬
‫‪47‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫ألبيه‪ (( :‬أ َّما الوليدة‬ ‫يُملك‪ ،‬ويد ُّل لذلك قصةُ العسيف الذي قال النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫والغنم فر ٌّد عليك )) رواه البخاري (‪ )2695‬ومسلم (‪.)1697‬‬
‫أن من ابتدع بدعة ليس لها أصل في الشرع‬ ‫ُ‬
‫الحديث على َّ‬ ‫‪ 3‬ـ ويد ُّل‬
‫في المدينة‪:‬‬ ‫فهي مردودة‪ ،‬وصاحبها مستحق للوعيد‪ ،‬فقد قال النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫(( من أحدث فيها ح َدثا ً أو آوى محدثا ً فعليه لعنة هللا والمالئكة والناس‬
‫أجمعين )) رواه البخاري (‪ )1870‬ومسلم (‪.)1366‬‬
‫‪ 4‬ـ الرواية الثانية التي عند مسلم أعم من الرواية التي في‬
‫الصحيحين؛ ألنها تشمل من عمل البدعة‪ ،‬سواء كان هو المحدث لها‬
‫أو مسبوقا ً إلى إحداثها وتابع من أحدثها‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ معنى قوله في الحديث‪ (( :‬رد )) أي مردو ٌد عليه‪ ،‬وهو من‬
‫إطالق المصدر وإرادة اسم المفعول‪ ،‬مثل‪ :‬خ َْلق بمعنى مخلوق‪ ،‬ونَسْخ‬
‫بمعنى منسوخ‪ ،‬والمعنى‪ :‬فهو باطل غير معتد به‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ال يدخل تحت الحديث ما كان من المصالح في حفظ الدين‪ ،‬أو‬
‫موصالً إلى فهمه ومعرفته‪ ،‬كجمع القرآن في المصاحف‪ ،‬وتدوين علوم‬
‫اللغة والنحو‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫كل عم ٍّل مخالفٍّ للشرع‪ ،‬ولو‬
‫رد ِّ‬
‫‪ 7‬ـ الحديث يدل بإطالقه على ِّ‬
‫كان قص ُد صاحبه حسناً‪ ،‬ويدل عليه قصة الصحابي الذي ذبح أضحيته‬
‫ي ‪ (( :‬شاتُك شاة لحم )) رواه البخاري‬‫قبل صالة العيد‪ ،‬وقال له النَّب ُّ‬
‫(‪ )955‬ومسلم (‪.)1961‬‬
‫‪ 8‬ـ هذا الحديث يدل بمنطوقه على َّ‬
‫أن ك َّل عمل ليس عليه أمر‬
‫الشارع فهو مردود‪ ،‬ويدل بمفهومه على َّ‬
‫أن ك َّل عمل عليه أمره فهو‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪48‬‬

‫أن من كان عمله جاريا ً تحت أحكام الشرع موافقا ً‬


‫غير مردود‪ ،‬والمعنى َّ‬
‫لها فهو مقبول‪ ،‬ومن كان خارجا ً عن ذلك فهو مردود‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تحريم االبتداع في الدين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫أن العمل المبني على بدعة مردود على صاحبه‪.‬‬
‫أن النهي يقتضي الفساد‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن العمل الصالح إذا أُتي به على غير الوجه المشروع‪ ،‬كالتنفل‬‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫في وقت النهي بغير سبب‪ ،‬وصيام يوم العيد‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فإنَّه باطل ال‬
‫يُعت ُّد به‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن حكم الحاكم ال يُغير ما في باطن األمر؛ لقوله‪(( :‬ليس عليه‬
‫أمرنا ))‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫أن الصلح الفاسد باطل‪ ،‬والمأخوذ عليه مستحق الرد‪ ،‬كما في‬
‫حديث العسيف‪.‬‬

‫***‬
‫‪49‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫الحديث السادس‬

‫عن أبي عبد هللا النعمان بن بشير رضي هللا عنهما قال‪ :‬سمعت‬
‫بين‪ ،‬وإ َّن‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪َّ (( :‬‬
‫إن الحال َل ِّ‬
‫َّ‬
‫يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬ف َمن‬ ‫الحرا َم بيِّن‪ ،‬وبينهما أمور مشتبهات ال‬
‫اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬و َمن وقع في الشبهات وقع‬
‫الح َمى يوشك أن يرتع فيه‪ ،‬أال َّ‬
‫وإن‬ ‫في الحرام‪ ،‬كالراعي يرعى حول ِّ‬
‫وإن ِّحمى هللا محارمه‪ ،‬أال َّ‬
‫وإن في الجسد ُمضغة‪،‬‬ ‫لكل م ِّلك ِّحمى‪ ،‬أال َّ‬
‫ِّ‬
‫إذا صلحت صلح الجسد كلُّه‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه‪ ،‬أال وهي‬
‫القلب )) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫أمور‬
‫ٌ‬ ‫الحرام ِّبين‪ ،‬وبينهما‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وإن‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫إن الحال َل ِّبين‪،‬‬
‫كثير من الناس ))‪ ،‬فيه تقسيم األشياء إلى ثالثة‬‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫يعلمهن‬ ‫مشتبهات ال‬
‫أقسام‪:‬‬
‫األول‪ :‬الحال ُل البيِّن‪ ،‬كالحبوب والثمار وبهيمة األنعام‪ ،‬إذا لم تصل‬
‫إلى اإلنسان بطريق الحرام‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الحرا ُم البيِّن‪ ،‬كشرب الخمر وأكل الميتة ونكاح ذوات‬
‫الخاص والعام‪.‬‬
‫ُ‬ ‫المحارم‪ ،‬وهذان يعلمهما‬
‫الحل والحرمة‪ ،‬فليست من الحالل‬
‫ِّ‬ ‫الثالث‪ :‬المشتبهات المتردِّدة بين‬
‫البيِّن وال من الحرام البيِّن‪ ،‬وهذه ال يعلمها كثير من الناس‪ ،‬ويعلمها‬
‫ضهم‪.‬‬
‫بع ُ‬
‫ف َمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬و َمن‬ ‫((‬ ‫‪ 2‬ـ قوله‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪50‬‬

‫الح َمى يوشك‬


‫وقع في الشبهات وقع في الحرام‪ ،‬كالراعي يرعى حول ِّ‬
‫لكل م ِّلك ِّحمى‪ ،‬أال َّ‬
‫وإن ِّحمى هللا محارمه ))‪ ،‬هذا‬ ‫أن يرتع فيه‪ ،‬أال َّ‬
‫وإن ِّ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وفي ذلك‬ ‫يرجع إلى القسم الثالث‪ ،‬وهو المشتبهات‪ ،‬فيتجنَّبها‬
‫السالمة لدينه فيما بينه وبين هللا‪ ،‬والسالمة لعرضه فيما بينه وبين‬
‫الناس‪ ،‬فال يكون لهم سبيل إلى النَّيل من عرضه بسبب ذلك‪ ،‬وإذا‬
‫يجره ذلك إلى الوقوع في‬
‫ُّ‬ ‫تساهل في الوقوع في المشتبهات قد‬
‫لذلك المثل بالراعي‬ ‫المحرمات الواضحات‪ ،‬وقد ضرب النَّب ُّ‬
‫ي‬ ‫َّ‬
‫الحمى‪ ،‬فإنَّه إذا كان بعيدا ً من الحمى سلم من وقوع ماشيته‬
‫يرعى حول ِّ‬
‫في الحمى‪ ،‬وإذا كان قريبا ً منه أوشك أن تقع ماشيته فيه وهو ال يشعر‪.‬‬
‫وغيرهم من األراضي المخصبة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والمراد بالحمى ما يحميه الملوك‬
‫غيرهم من قربها‪ ،‬فالذي يرعى حولها يوشك أن يقع فيها‪،‬‬ ‫و َيمنعون َ‬
‫حرمها‪،‬‬ ‫وحمى هللا َّ‬
‫عز وج َّل المحارم التي َّ‬ ‫فيعرض نفسه للعقوبة‪ِّ ،‬‬
‫فيجب على المرء االبتعاد عنها‪ ،‬وعليه أن يبتعد عن المشتبهات التي‬
‫قد تؤدِّي إليها‪.‬‬
‫وإن في الجسد ُمضغة‪ ،‬إذا صلحت صلح الجسد‬ ‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬أالَ َّ‬
‫كلُّه‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه‪ ،‬أال وهي القلب ))‪ ،‬المضغة‪ :‬القطعة‬
‫من اللحم على قدر ما يمضغه اآلكل‪ ،‬وفي هذا بيان عظم شأن القلب‬
‫في الجسد‪ ،‬وأنَّه ملك األعضاء‪ ،‬وأنَّها تصلح بصالحه‪ ،‬وتفسد بفساده‪.‬‬
‫‪( :‬ف َمن وقع في الشبهات وقع في‬ ‫قوله‬ ‫((‬ ‫‪ 4‬ـ قال النووي‪:‬‬
‫الحرام) يحتمل أمرين‪:‬‬
‫يظن أنَّه ليس بحرام‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أحدهما‪ :‬أن يقع في الحرام وهو‬
‫‪51‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫والثاني‪ :‬أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام‪ ،‬وكما قال‪:‬‬


‫تدرجت من‬
‫النفس إذا وقعت في المخالفة َّ‬
‫َ‬ ‫المعاصي بريد الكفر؛ َّ‬
‫ألن‬
‫مفسدة إلى أخرى أكبر منها‪ ،‬قيل‪ :‬وإليه اإلشارة بقوله تعالى‪ :‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬‬

‫‪  ‬‬

‫‪ ، ‬يريد أنَّهم َّ‬


‫تدرجوا بالمعاصي إلى قتل األنبياء‪ ،‬وفي‬
‫الحديث‪( :‬لعن هللا السارق يسرق البيضة فتُقطع يده‪ ،‬ويسرق الحبل‬
‫يتدرج من البيضة والحبل إلى السرقة ))‪.‬‬
‫فتقطع يده)‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫‪ 5‬ـ النعمان بن بشير رضي هللا عنهما من صغار الصحابة‪ ،‬وقد‬
‫وعمره ثمان سنوات‪ ،‬وقد قال في روايته هذا‬ ‫توفي رسول هللا‬
‫يقول ))‪ ،‬وهو يد ُّل على ص َّحة تح ُّمل‬ ‫الحديث‪ (( :‬سمعت رسول هللا‬
‫المميز‪َّ ،‬‬
‫وأن ما تح َّمله في حال صغره‪ ،‬وأ َّداه في حال كبره‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الصغير‬
‫فهو مقبول‪ ،‬ومثله الكافر إذا تح َّمل في حال كفره‪ ،‬وأدَّى في حال‬
‫إسالمه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان تقسيم األشياء في الشريعة إلى حالل ِّبين‪ ،‬وحرام ِّبين‪،‬‬
‫ومشتبه متردد بينهما‪.‬‬
‫ضهم يعلم حك َمه‬ ‫أن المشتبه ال يعلمه كثير من الناس‪َّ ،‬‬
‫وأن بع َ‬ ‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫بدليله‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪52‬‬

‫‪ 3‬ـ ترك إتيان المشتبه حتى يُعلم حلُّه‪.‬‬


‫‪ 4‬ـ ضرب األمثال لتقرير المعاني المعنوية بتشبيهها بالحسيَّة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن اإلنسانَ إذا وقع في األمور المشتبهة هان عليه أن يقع في‬
‫األمور الواضحة‪.‬‬
‫وأن األعضا َء تابعةٌ له‪ ،‬تصلح بصالحه‬
‫‪ 6‬ـ بيان عظم شأن القلب‪َّ ،‬‬
‫وتفسد بفساده‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫أن فسا َد الظاهر دلي ٌل على فساد الباطن‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫أن في اتِّقاء الشبهات محافظة اإلنسان على دينه من النقص‪،‬‬
‫وعرضه من العيب والثلب‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث السابع‬

‫أن النَّب َّ‬


‫ي صلى هللا عليه‬ ‫َّ‬ ‫عن أبي رقية تَميم بن أوس الداري‬
‫وآله وسلم قال‪ (( :‬الدِّي ُن النصيحة‪ ،‬قلنا‪ِّ :‬ل َمن؟ قال‪ :‬هلل ولكتابه‬
‫ولرسوله وألئ َّمة المسلمين وعا َّمتهم )) رواه مسلم‪.‬‬
‫الدِّين النصيحة ))‪ ،‬هذه كلمة جامعة تد ُّل على أهميَّة‬ ‫((‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪:‬‬
‫النصيحة في الدِّين‪ ،‬وأنَّها أساسه وعماده‪ ،‬ويدخل تحتها ما جاء في‬
‫اإلسالم واإليمان واإلحسان‪ ،‬وأنَّه‬ ‫حديث جبريل من تفسير الرسول‬
‫س َّمى ذلك ديناً‪ ،‬وقال‪ (( :‬هذا جبريل أتاكم يع ِّلمكم دينكم ))‪ ،‬ويشبه هذه‬
‫‪ (( :‬الح ُّج عرفة ))؛ وذلك ألنَّه الركن األعظم في الحجِّ‪،‬‬ ‫الجملة قوله‬
‫‪53‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫الذي يفوت الح ُّج بفواته‪.‬‬


‫كرر هذه الجملة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫أن النَّب َّ‬
‫ي‬ ‫‪ 2‬ـ جاء في مستخرج أبي عوانة َّ‬
‫(( الدِّين النصيحة )) ثالثاً‪ ،‬وهي في صحيح مسلم بدون تكرار‪ ،‬ولَ َّما‬
‫سمع الصحابة هذه العناية واالهتمام بالنصيحة‪ ،‬وأنَّها بهذه المنزلة‬
‫العظيمة‪ ،‬قالوا‪ِّ :‬ل َمن يا رسول هللا؟ فأجابهم بالخمس المذكورة في‬
‫الحديث‪ ،‬وقد جاء عن جماعة من أهل العلم تفسير هذه الخمس‪ ،‬ومن‬
‫أحسن ذلك ما جاء عن أبي عمرو بن الصالح في كتابه صيانة صحيح‬
‫سقط‪ ،‬قال‬‫مسلم من اإلخالل والغلط‪ ،‬وحمايته من اإلسقاط وال َّ‬
‫(ص‪ 223:‬ـ ‪ (( :)224‬والنصيحة كلمةٌ جامعةٌ تتض َّمن قيام الناصح‬
‫للمنصوح له بوجوه الخير إرادة ً وفعالً‪ ،‬فالنصيحة هلل تبارك وتعالى‪:‬‬
‫توحي ُده ووصفه بصفات الكمال والجالل جمع‪ ،‬وتنزيهه ع َّما يُضا ُّدها‬
‫حابه بوصف‬ ‫ويخالفها‪ ،‬وتجنُّب معاصيه‪ ،‬والقيام بطاعاته و َم ِّ‬
‫والحب فيه والبغض فيه‪ ،‬وجهاد َمن َكفَ َر به تعالى‪ ،‬وما‬
‫ِّ‬ ‫اإلخالص‪،‬‬
‫والحث عليه‪ ،‬والنصيحة لكتابه‪ :‬اإليما ُن‬
‫ِّ‬ ‫ضاهى ذلك‪ ،‬والدعاء إلى ذلك‬
‫حق تالوته‪ ،‬والوقوف مع أوامره‬ ‫َّ‬ ‫به وتعظيمه وتنزيهه‪ ،‬وتالوته‬
‫ونواهيه‪ ،‬وتف ُّهم علومه وأمثاله‪ ،‬وتدبُّر آياته والدعاء إليه‪ ،‬وذبُّ تحريف‬
‫قريب من ذلك‪:‬‬ ‫الغالين وطعن الملحدين عنه‪ ،‬والنصيحة لرسوله‬
‫سك بطاعته‪ ،‬وإحياء‬ ‫ُ‬
‫اإليمان به وبما جاء به‪ ،‬وتوقيره وتبجيله‪ ،‬والتم ُّ‬
‫سنَّته‪ ،‬واستشارة (كذا وفيما نقله عنه ابن رجب‪ :‬استثارة) علومها‬
‫ونشرها‪ ،‬ومعاداة َمن عاداه وعاداها‪ ،‬ومواالة من وااله وواالها‪،‬‬
‫والتخلُّق بأخالقه‪ ،‬والتأ ُّدب بآدابه‪ ،‬ومحبةُ آله وصحابته ونحو ذلك‪،‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪54‬‬

‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫والنصيحة ألئمة المسلمين‪ ،‬أي لخلفائهم وقادتهم‪ :‬معاونت ُهم على‬
‫وطاعت ُهم فيه‪ ،‬وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف‪ ،‬ومجانبة الخروج‬
‫وحث األغيار على ذلك‪ ،‬والنصيحة‬ ‫ُّ‬ ‫عليهم‪ ،‬والدعا ُء لهم بالتوفيق‪،‬‬
‫لعامة المسلمين‪ ،‬وهم ها هنا َمن عدا أولى األمر منهم‪ :‬إرشا ُدهم إلى‬
‫مصالحهم‪ ،‬وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم‪ ،‬وستر عوراتهم‪ ،‬وس ُّد‬
‫خالتهم‪ ،‬ونصرتهم على أعدائهم‪ ،‬والذَّبُّ عنهم‪ ،‬ومجانبة ال ِّغش والحسد‬
‫لهم‪ ،‬وأن يُحبَّ لهم ما يُحب لنفسه‪ ،‬ويكره لهم ما يكرهه لنفسه‪ ،‬وما‬
‫شابه ذلك ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان عظم شأن النصيحة وعظيم منزلتها من الدِّين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ بيان ِّل َمن تكون النصيحة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الحث على النصيحة في الخمس المذكورة في الحديث‪.‬‬ ‫‪3‬ـ‬
‫‪ 4‬ـ حرص الصحابة على معرفة أمور الدِّين‪ ،‬وذلك بسؤالهم ِّل َمن‬
‫تكون النصيحة‪.‬‬
‫أن الدِّينَ يُطلق على العمل؛ لكونه س َّمى النصيحة ديناً‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫***‬
‫الحديث الثامن‬

‫أن رسول هللا صلى هللا‬ ‫عن ابن عمر رضي هللا تعالى عنهما‪َّ :‬‬
‫تعالى عليه وآله وسلم قال‪ (( :‬أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن‬
‫وأن محمدا رسول هللا‪ ،‬ويُقيموا الصالةَ‪ ،‬ويؤتوا الزكاةَ‪،‬‬
‫ال إله إالَّ هللا‪َّ ،‬‬
‫‪55‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫بحق اإلسالم‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مني دماءهم وأموالهم إالَّ‬ ‫فإذا فعلوا ذلك عصموا ِّ‬
‫وحسابُهم على هللا تعالى )) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫هو هللا؛ ألنَّه ال آمر له‬ ‫اآلمر لرسول هللا‬
‫ُ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪ (( :‬أُمرت ))‬

‫غيره‪ ،‬وإذا قال الصحابي‪ :‬أُمرنا بكذا‪ ،‬أو نُهينا عن كذا‪ ،‬فاآلمر والناهي‬
‫‪.‬‬ ‫لهم رسول هللا‬
‫‪ ،‬وارت َّد َمن‬ ‫‪ 2‬ـ َل َّما توفي رسول هللا ‪ ،‬واستُخلف أبو بكر‬
‫ارت َّد من العرب‪ ،‬وامتنع َمن امتنع من دفع الزكاة‪ ،‬عزم أبو بكر‬
‫حق الشهادتين أداء الزكاة‪ ،‬ولم يكن عنده‬ ‫أن من ِّ‬ ‫على قتالهم؛ بنا ًء على َّ‬
‫الحديث بإضافة الصالة والزكاة إلى الشهادتين‪ ،‬كما في هذا الحديث‪،‬‬
‫فناظره عمر في ذلك‪ ،‬وجاءت المناظرة بينهما في حديث أبي هريرة‬
‫في صحيح مسلم (‪ ،)20‬قال‪ (( :‬لَ َّما توفي رسول هللا ‪ ،‬واستُخلف‬
‫أبو بكر بعده‪ ،‬وكفر من كفر من العرب‪ ،‬قال عمر بن الخطاب ألبي‬
‫الناس وقد قال رسول هللا ‪( :‬أُمرت أن أقاتل الناس‬ ‫َ‬ ‫بكر‪ :‬كيف تقاتل‬
‫حتى يقولوا ال إله إالَّ هللا‪ ،‬فمن قال ال إله إالَّ هللا فقد عصم منِّي مالَه‬
‫َّ‬
‫ألقاتلن‬ ‫بحقه‪ ،‬وحسابهم على هللا تعالى)‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬وهللا!‬ ‫ونفسه إالَّ ِّ‬
‫حق المال‪ ،‬وهللا! لو َمنَعوني‬ ‫فإن الزكاة ُّ‬
‫فرق بين الصالة والزكاة؛ َّ‬ ‫َمن َّ‬
‫لقاتلتهم على منعه‪ ،‬فقال عمر‬ ‫عقاالً كانوا يؤدُّونه إلى رسول هللا‬
‫عز وج َّل قد شرح صدر‬ ‫بن الخطاب‪ :‬فوهللا! ما هو إالَّ أن رأيت هللا َّ‬
‫ُّ‬
‫الحق ))‪.‬‬ ‫أبي بكر للقتال‪ ،‬فعرفت أنَّه‬
‫َ‬
‫الحديث‬ ‫قال الحافظ في الفتح (‪ (( :)76/1‬وقد استبعد قو ٌم صحته َّ‬
‫بأن‬
‫لو كان عند ابن عمر لَ َما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة‪،‬‬
‫ولو كانوا يعرفونه لَما كان أبو بكر ي ُّ‬
‫ُقر عمر على االستدالل بقوله عليه‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪56‬‬

‫الصالة والسالم‪( :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ال إله إالَّ هللا)‬
‫فرق‬ ‫َّ‬
‫ألقاتلن َمن َّ‬ ‫وينتقل عن االستدالل بهذا النص إلى القياس؛ إذ قال‪:‬‬
‫بين الصالة والزكاة؛ ألنَّها قرينت ُها في كتاب هللا‪ ،‬والجواب‪ :‬أنَّه ال يلزم‬
‫من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك‬
‫الحالة‪ ،‬ولو كان مستحضرا ً له فقد يحتمل أن ال يكون َح َ‬
‫ضر المناظرة َ‬
‫ذكره لهما بعد‪ ،‬ولَم يستد َّل أبو بكر في‬
‫المذكورة‪ ،‬وال يمتنع أن يكون َ‬
‫قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط‪ ،‬بل أخذه أيضا ً من قوله عليه الصالة‬
‫بحق اإلسالم)‪ ،‬قال أبو بكر‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫والسالم في الحديث الذي رواه‪( :‬إالَّ‬
‫حق اإلسالم‪ ،‬ولَم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور‪ ،‬بل رواه‬ ‫والزكاة ُّ‬
‫أبو هريرة أيضا ً بزيادة الصالة والزكاة فيه‪ ،‬كما سيأتي الكالم عليه إن‬
‫أن السنَّةَ قد‬
‫صة دلي ٌل على َّ‬‫شاء هللا تعالى في كتاب الزكاة‪ ،‬وفي الق َّ‬
‫َّ‬
‫ويطلع عليها آحا ُدهم‪ ،‬ولهذا ال يُلتفت‬ ‫تخفي على بعض أكابر الصحابة‬
‫إلى اآلراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها‪ ،‬وال يقال كيف َخفي ذا‬
‫على فالن‪ ،‬وهللا الموفق ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ يُستثنى من عموم مقاتلة الناس حتى اإلتيان بما ذ ِّكر في‬
‫الحديث‪ :‬أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية لداللة القرآن‪ ،‬وغيرهم إذا دفعها‬
‫لداللة السنَّة على ذلك‪ ،‬كما في حديث بريدة بن ال ُحصيب الطويل في‬
‫إذا أ َّمر أميرا ً‬ ‫كان رسول هللا‬ ‫((‬ ‫صحيح مسلم (‪ ،)1731‬وأوله‪:‬‬
‫على جيش أو سريَّة أوصاه في خاصته بتقوى هللا‪ ،‬و َمن معه من‬
‫المسلمين خيرا ً ‪ )) ..‬الحديث‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ يكفي للدخول في اإلسالم الشهادتان‪ ،‬وهما َّأول واجب على‬
‫‪57‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫المتكلمين في االعتماد على أمور أخرى‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫المكلَّف‪ ،‬وال التفات ألقوال‬
‫كالنَّظر أو القصد إلى النظر‪ ،‬قال ابن دقيق العيد في شرح هذا الحديث‪:‬‬
‫(( وفيه داللة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف‬
‫أن اإلنسانَ إذا اعتقد دين اإلسالم اعتقادا ً جازماً‪ ،‬ال تردُّد فيه كفاه ذلك‪،‬‬
‫َّ‬
‫المتكلمين ومعرفة هللا بها ))‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وال يجب عليه تعلُّم أدلَّة‬
‫‪ 5‬ـ المقاتلة على منع الزكاة تكون ِّل َمن امتنع منها وقاتل عليها‪ ،‬أ َّما‬
‫إذا لم يقاتل فإنَّها تؤخذ منه قهراً‪.‬‬
‫اإلسالم وأتى‬
‫َ‬ ‫أن َمن أظهر‬‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬وحسابهم على هللا ))‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫بالشهادتين فإنَّه يُعصم ماله ودمه‪ ،‬فإن كان صادقا ً ظاهرا ً وباطنا ً نفعه‬
‫ذلك عند هللا‪ ،‬وإن كان الباطن خالف الظاهر وكان أظهر ذلك نفاقاً‪،‬‬
‫فهو من أهل ال َّدرك األسفل من النار‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ األمر بالمقاتلة إلى حصول الشهادتين والصالة والزكاة‪.‬‬
‫وم َّما ذ ِّكر‬
‫‪ 2‬ـ إطالق الفعل على القول؛ لقوله‪ (( :‬فإذا فعلوا ذلك ))‪ِّ ،‬‬
‫قبله الشهادتان وهما قول‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إثبات الحساب على األعمال يوم القيامة‪.‬‬
‫أن َمن امتنع عن دفع الزكاة قوتل على منعها حت َّى يؤدِّيها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫اإلسالم قُبل منه‪ُ ،‬‬
‫ووكل أمر باطنه إلى هللا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن َمن أظهر‬
‫‪ 6‬ـ التالزم بين الشهادتين وأنَّه ال ب َّد منهما معاً‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪58‬‬

‫‪ 7‬ـ بيان عظم شأن الصالة والزكاة‪ ،‬والصالة حق البدن‪ ،‬والزكاة‬


‫ُّ‬
‫حق المال‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث التاسع‬

‫عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي هللا تعالى عنه قال‪:‬‬
‫سمعتُ رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪ (( :‬ما نهيتُكم عنه‬
‫فاجتنبوه‪ ،‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنَّما أهلك َمن كان‬
‫قبلكم كثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم )) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ اتَّفق الشيخان على إخراج هذا الحديث‪ ،‬وهو بهذا اللفظ عند‬
‫مسلم في كتاب الفضائل (‪ ،)1737‬وقد جاء بيان سبب الحديث عنده‬
‫في كتاب الحج (‪ )1337‬عن أبي هريرة قال‪ (( :‬خطبنا رسول هللا‬
‫فقال‪ :‬أيُّها الناس! قد فرض هللا عليكم الح َّج ف ُح ُّجوا‪ ،‬فقال رجل‪ :‬أك َّل‬
‫عام يا رسول هللا؟ فسكت‪ ،‬حتى قالها ثالثاً‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ :‬لو‬
‫قلت نعم لوجبت‪ ،‬ولَ َما استطعتم‪ ،‬ثم قال‪ :‬ذروني ما تركتُكم؛ فإنَّما هلك‬
‫َمن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم‪ ،‬فإذا أمرتكم بشيء‬
‫فأتوا منه ما استطعتم‪ ،‬وإذا نهيتُكم عن شيء فدعوه ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه‪ ،‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما‬
‫استطعتم )) فيه تقييد امتثال األمر باالستطاعة دون النهي؛ وذلك َّ‬
‫أن‬
‫فاإلنسان مستطي ٌع أالَّ يفعل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫النهي من باب التروك‪ ،‬وهي مستطاعة‪،‬‬‫َ‬
‫‪59‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫وأ َّما األمر فقد قُ ِّيد باالستطاعة؛ ألنَّه تكليف بفعل‪ ،‬فقد يستطاع ذلك‬
‫الفعل‪ ،‬وقد ال يُستطاع‪ ،‬فالمأمور يأتي بالمأمور به حسب استطاعته‪،‬‬
‫فمثالً َل َّما نهي عن شرب الخمر‪ ،‬والمنهي مستطيع عدم شربها‪،‬‬
‫والصالة مأمور بها‪ ،‬وهو يصليها على حسب استطاعته من قيام وإالَّ‬
‫فعن جلوس‪ ،‬وإالَّ فهو مضطجع‪ِّ ،‬‬
‫وم َّما يوضحه في الحسيَّات ما لو قيل‬
‫إلنسان‪ :‬ال تدخل من هذا الباب‪ ،‬فإنَّه مستطيع أالَّ يدخل؛ ألنَّه ترك‪ ،‬ولو‬
‫قيل له‪ :‬احمل هذه الصخرة‪ ،‬فقد يستطيع حملها وقد ال يستطيع؛ ألنَّه‬
‫فعل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ترك المنهيات باق على عمومه‪ ،‬وال يُستثنى منه إالَّ ما تدعو‬
‫صة بشرب قليل من‬
‫الضرورة إليه‪ ،‬كأكل الميتة لحفظ النفس‪ ،‬ودفع الغ َّ‬
‫الخمر‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ النهي الذي يجب اجتنابه ما كان للتحريم‪ ،‬وما كان للكراهة‬
‫يجوز فعله‪ ،‬وتركه أولى من فعله‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ المأمور به يأتي به المكلَّف على قدر طاقته‪ ،‬ال ِّ‬
‫يكلف هللا نفسا ً‬
‫إالَّ وسعها‪ ،‬فإذا كان ال يستطيع اإلتيان بالفعل على الهيئة الكاملة‪ ،‬أتى‬
‫به على ما دونها‪ ،‬فإذا لم يستطع أن يصلي قائما ً صلَّى جالساً‪ ،‬وإذا لم‬
‫يستطع اإلتيان بالواجب كامالً أتى بما يقدر عليه منه‪ ،‬فإذا لَم يكن عنده‬
‫من الماء ما يكفي للوضوء توضَّأ بما عنده وت َي َّمم للباقي‪ ،‬وإذا لم يستطع‬
‫إخراج صاع لزكاة الفطر‪ ،‬وقدر على إخراج بعضه أخرجه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬فإنَّما أهلك َمن كان قبلكم كثرة سؤالهم واختالفهم على‬
‫ي عنه في الحديث ما كان من المسائل قي زمنه يترتَّب‬ ‫أنبيائهم )) المنه ُّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪60‬‬

‫عليه تحريم شيء على الناس بسبب مسألته‪ ،‬وما يترتَّب عليه إيجاب‬
‫شيء فيه مشقَّة كبيرة وقد ال يُستطاع‪ ،‬كالحجِّ ك َّل عام‪ ،‬والمنه ُّ‬
‫ي عنه‬
‫ُّ‬
‫وتنطع واشتغال به ع َّما هو أهم منه‪.‬‬ ‫بعد زمنه ما كان فيه تكلُّف‬
‫‪ 7‬ـ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ 248/1‬ـ ‪:)249‬‬
‫فمن أتباع أهل الحديث َمن‬ ‫(( وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساما ً‪ِّ :‬‬
‫باب المسائل حتى ق َّل فق ُهه وعل ُمه بحدود ما أنزل هللا على رسوله‪،‬‬ ‫س َّد َ‬ ‫َ‬
‫س َع في توليد‬ ‫ومن فقهاء أهل الرأي َمن تو َّ‬ ‫غير فقيه‪ِّ ،‬‬
‫وصار حام َل فقه َ‬
‫المسائل قبل وقوعها‪ ،‬ما يقع في العادة منها وما ال يقع‪ ،‬واشتغلوا بتكلُّف‬
‫الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجدال عليه‪ ،‬حتى يتولَّد من‬
‫ويستقر فيها بسببه األهوا ُء والشحناء والعداوة‬ ‫َّ‬ ‫افتراق القلوب‬‫ُ‬ ‫ذلك‬
‫العلو والمباهاة‬
‫ِّ‬ ‫والبغضاء‪ ،‬ويقترن ذلك كثيرا ً بنيَّة المغالبة وطلب‬
‫وصرف وجوه الناس‪ ،‬وهذا ِّم َّما ذ َّمه العلما ُء الربَّانيُّون‪ ،‬ودلَّت السنَّةُ‬
‫معظم‬
‫َ‬ ‫على قُبحه وت َحريمه‪ ،‬وأما فقها ُء أهل الحديث العاملون به‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫يفسره من السنن‬ ‫عز وج َّل وما ِّ‬ ‫همهم البحث عن معاني كتاب هللا َّ‬ ‫ِّ‬
‫الصحيحة وكالم الصحابة والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬وعن سنَّة رسول هللا‬
‫ومعرفة صحيحها وسقيمها‪ ،‬ثم التفقه فيها وتف ُّهمها والوقوف على‬
‫معانيها‪ ،‬ثم معرفة كالم الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم‬
‫من التفسير والحديث ومسائل الحالل والحرام‪ ،‬وأصول السنة والزهد‬
‫والرقائق وغير ذلك‪ ،‬وهذا هو طريقة اإلمام أحمد و َمن وافقه ِّمن علماء‬
‫الحديث الربانيِّين‪ ،‬وفي معرفة هذا شغ ٌل شاغ ٌل عن الت َّشاغل بما أحدث‬
‫يورث الت َّجاد ُل فيه الخصومات‬ ‫ُ‬ ‫من الرأي ِّم َّما ال ينتفع به وال يقع‪ ،‬وإنَّما‬
‫سئل عن‬ ‫والجدال‪ ،‬وكثرة القيل والقال‪ ،‬وكان اإلمام أحمد كثيرا ً إذا ُ‬
‫‪61‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫شيء من المسائل المولَّدات التي ال تقع يقول‪ :‬دعونا من هذه المسائل‬
‫المحدثة ))‪.‬‬
‫إلى أن قال‪ (( :‬و َمن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه ت َم َّكن‬
‫ألن أصو َلها توجد في تلك‬ ‫من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا ً؛ َّ‬
‫األصول المشار إليها‪ ،‬وال ب َّد أن يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة‬
‫أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم‪ ،‬كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي‬
‫فإن َمن ا َّدعى سلوك هذا الطريق على غير‬‫عبيد و َمن سلك مسلكهم‪َّ ،‬‬
‫طريقهم وقع في مفاوز ومهالك‪ ،‬وأخذ بما ال يجوز األخ ُذ به‪ ،‬وترك ما‬
‫ب‬
‫والتقر َ‬
‫ُّ‬ ‫كله أن يقصد بذلك وجهَ هللا‬ ‫يجب العم ُل به‪ ،‬ومالك األمر ِّ‬‫ُ‬
‫إليه‪ ،‬بمعرفة ما أنزل على رسوله‪ ،‬وسلوك طريقه والعمل بذلك ودعاء‬
‫الخلق إليه‪ ،‬و َمن كان كذلك وفَّقه هللا وس َّدده ْ‬
‫وأل َه َمه رش َده وعلَّمه ما لَم‬
‫‪‬‬ ‫يكن يعلم‪ ،‬وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬ومن‬
‫الراسخين في العلم ))‪.‬‬
‫في هذا‬ ‫إلى أن قال‪ (( :‬وفي الجملة ف َمن امتثل ما أمر به النبي‬
‫الحديث‪ ،‬وانتهى ع َّما نهى عنه‪ ،‬وكان مشتغالً بذلك عن غيره‪ ،‬حصل‬
‫له النجاة ُ في الدنيا واآلخرة‪ ،‬و َمن خالف ذلك‪ ،‬واشتغل بخواطره وما‬
‫من حال أهل الكتاب الذين‬ ‫يستحسنه‪ ،‬وقع فيما حذَّر منه النبي‬
‫هلكوا بكثرة مسائلهم واختالفهم على أنبيائهم‪ ،‬وعدم انقيادهم وطاعتهم‬
‫لرسلهم ))‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪62‬‬

‫‪ 8‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬


‫‪.‬‬ ‫حرمه هللا ورسول هللا‬
‫كل ما َّ‬
‫‪ 1‬ـ وجوب ترك ِّ‬
‫‪.‬‬ ‫بكل ما أوجبه هللا ورسوله‬
‫‪ 2‬ـ وجوب اإلتيان ِّ‬
‫‪ 3‬ـ التحذير من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب ِّم َّما كان سببا ً في‬
‫هالكهم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنَّه ال يجب على اإلنسان أكثر ِّم َّما يستطيع‪.‬‬
‫أن َمن عجز عن بعض المأمور كفاه أن يأتي بما قدر عليه‬‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫منه‪.‬‬
‫ُّ‬
‫التنطع‬ ‫‪ 6‬ـ االقتصار في المسائل على ما يُحتاج إليه‪ ،‬وترك‬
‫والتكلُّف في المسائل‪.‬‬
‫الحديث العاشر‬

‫عن أبي هريرة رضي هللا تعالى عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫وإن هللا أمر‬ ‫طيب ال يقبل إالَّ ِّ‬
‫طيبا‪َّ ،‬‬ ‫عليه وآله وسلم‪ (( :‬إ َّن هللا تعالى ِّ‬
‫‪ ‬‬ ‫سلين‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫المؤمنين بما أمر به المر َ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ‬‬ ‫‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫‪ ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪،‬‬ ‫‪   ‬‬


‫الرجل يطيل السفر‪ ،‬أشعث أغبر‪ ،‬يَم ُّد يديه إلى السماء‪ :‬يا‬
‫ثم ذكر َّ‬
‫‪63‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫سه حرام‪ ،‬و ُ‬
‫غذي‬ ‫رب! ومطع ُمه حرام‪ ،‬ومشربُه حرام‪ ،‬وملب ُ‬‫رب! يا ِّ‬
‫ِّ‬
‫بالحرام‪ ،‬فأنَّى يُستجاب له )) رواه مسلم‪.‬‬
‫أن من‬ ‫طيب ال يقبل إالَّ ِّ‬
‫طيبا ً )) يد ُّل على َّ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا تعالى ِّ‬
‫أسماء هللا الطيِّب‪ ،‬ويقبل من األعمال ما كان موصوفا ً ِّ‬
‫بالطيب‪ ،‬وهو‬
‫عام في جميع األعمال‪ ،‬ومنها الكسب‪ ،‬فال يعمل المرء إالَّ صالحاً‪ ،‬وال‬
‫يكتسب إالَّ طيِّباً‪ ،‬وال ينفق إالَّ من الطيِّب‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫سلين‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫‪ 2‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫وإن هللا أمر المؤمنين بما أمر به المر َ‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،   ‬وقال تعالى‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ))    ‬في‬
‫سل إليهم باألكل من الطيِّبات‪ ،‬وكما َّ‬
‫أن‬ ‫سلين والمر َ‬ ‫اآليتين أمر المر َ‬
‫فإن على أتباعهم أالَّ يأكلوا إالَّ طيِّباً‪.‬‬
‫سلين ال يأكلون إالَّ الطيِّب‪َّ ،‬‬
‫المر َ‬
‫الرجل يطيل السفر‪ ،‬أشعث أغبر‪ ،‬يَم ُّد يديه إلى‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬ثم ذكر َّ‬
‫سه حرام‪،‬‬ ‫رب! ومطع ُمه حرام‪ ،‬ومشربُه حرام‪ ،‬وملب ُ‬ ‫رب! يا ِّ‬‫السماء‪ :‬يا ِّ‬
‫َّ‬
‫أن هللا ال يقبل‬ ‫غذي بالحرام‪ ،‬فأنَّى يُستجاب له ))‪ ،‬لَ َّما بيَّن النَّب ُّ‬
‫ي‬ ‫و ُ‬
‫وأن المرسلين والمؤمنين أُمروا باألكل من الطيِّبات‪ ،‬بيَّن َّ‬
‫أن‬ ‫إالَّ طيِّباً‪َّ ،‬‬
‫طيباً‪ ،‬بل يعمد إلى‬
‫من الناس َمن يخالف هذا المسلك‪ ،‬فال يكون أكله ِّ‬
‫اكتساب الحرام واستعماله في جميع شؤونه من مأكل وملبس وغذاء‪،‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪64‬‬

‫َّ‬
‫وأن ذلك من أسباب عدم قبول دعائه‪ ،‬مع كونه أتى بأسباب قبول‬
‫الدعاء‪ ،‬وهي في هذا الحديث أربعة‪ :‬السفر مع إطالته‪ ،‬وكونه أشعث‬
‫أغبر‪ ،‬وكونه َيم ُّد يديه بالدعاء‪ ،‬وكونه ينادي هللا بربوبيَّته‪ ،‬مع إلحاحه‬
‫ربه بتكرار ذلك‪ ،‬ومعنى قوله‪ (( :‬فأنَّى يُستجاب لذلك )) استبعاد‬ ‫على ِّ‬
‫حصول اإلجابة لوجود األسباب المانعة من قبول الدعاء‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫وأن من‬‫أن من أسماء هللا الطيِّب‪ ،‬ومعناه المن ََّزه عن النقائص‪َّ ،‬‬
‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫ألن أسماء هللا كلَّها مشتقَّة‪ ،‬وتد ُّل على صفات مشتقَّة‬‫صفاته الطيب؛ َّ‬
‫منها‪.‬‬
‫أن على المسلم أن يأتي بالطيب من األعمال والمكاسب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫أن الصدقة ال تُقبل إالَّ من مال حالل‪ ،‬وقد ثبت عن النَّبي ِّ‬
‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أنَّه قال‪ (( :‬ال يقبل هللا صالة بغير طهور‪ ،‬وال صدقة من غلول )) رواه‬
‫مسلم (‪.)224‬‬
‫‪ 4‬ـ تفضُّل هللا على عباده بالنِّعم‪ ،‬وأ ْمرهم بأن يأكلوا من الطيبات‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن أكل الحرام من أسباب عدم قبول الدعاء‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫أن من أسباب قبول الدعاء السفر‪ ،‬وكون الداعي أشعث أغبر‪.‬‬
‫أن من أسباب قبوله أيضا ً رفع اليدين بالدعاء‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫أن من أسبابه أيضا ً التوسل باألسماء‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫أن من أسبابه اإللحاح على هللا فيه‪.‬‬
‫الحديث الحادي عشر‬
‫‪65‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول هللا‬
‫‪ (( :‬دَع ما‬ ‫وريحانته رضي هللا عنهما قال‪ :‬حفظت من رسول هللا‬
‫رواه الترمذي والنسائي‪ ،‬وقال الترمذي‪:‬‬ ‫))‬ ‫يريبُك إلى ما ال يريبك‬
‫(( حديث حسن صحيح ))‪.‬‬
‫األمر بترك ما يرتاب المر ُء فيه وال تطمئن‬
‫ُ‬ ‫‪ 1‬ـ هذا الحديث فيه‬
‫إليه نفسه‪ ،‬ويحدث قلقا ً واضطرابا ً في النفس‪ ،‬وأن يصير إلى ما يرتاح‬
‫إليه قلبُه وتطمئن إليه نفسه‪.‬‬
‫وهذا الحديث شبيه بما تقدَّم في حديث النعمان بن بشير‪ (( :‬فمن‬
‫اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات فقد‬
‫أن المتَّقي ينبغي له أالَّ يأكل المال‬
‫وقع في الحرام ))‪ ،‬وهما يدالَّن على َّ‬
‫الذي فيه شبهة‪ ،‬كما يحرم عليه أكل الحرام‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ (( :)280/1‬ومعنى‬
‫واتقائها؛ َّ‬
‫فإن الحال َل‬ ‫هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات ِّ‬
‫المحض ال يحص ُل للمؤمن في قلبه منه ريب‪ ،‬والريب بمعنى القلق‬ ‫َ‬
‫واالضطراب‪ ،‬بل تسكن إليه النفس‪ ،‬ويطمئن به القلب‪ ،‬وأ َّما المشتبهات‬
‫للشك ))‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫فيحصل بها للقلوب القلق واالضطراب الموجب‬
‫أن‬ ‫ُّ‬
‫التفطن له‪ ،‬وهو َّ‬ ‫وقال أيضا ً (‪ (( :)283/1‬وها هنا ٌ‬
‫أمر ينبغي‬
‫التدقيق في التوقف عن الشبهات إنَّما يصلح ِّل َمن استقامت أحواله كلُّها‪،‬‬
‫المحرمات‬
‫َّ‬ ‫وتشابهت أعماله في التقوى والورع‪ ،‬فأ َّما َمن يقع في انتهاك‬
‫شبَه‪ ،‬فإنَّه ال يحتمل‬
‫يتورع عن شيء من دقائق ال ُّ‬
‫َّ‬ ‫الظاهرة‪ ،‬ثم يريد أن‬
‫له ذلك‪ ،‬بل يُنكر عليه‪ ،‬كما قال ابن عمر ِّل َمن سأله عن دم البعوض‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪66‬‬

‫من أهل العراق‪( :‬يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين‪ ،‬وسمعت‬


‫يقول‪ :‬هما ريحانتاي من الدنيا) ))‪.‬‬ ‫النَّب َّ‬
‫ي‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ترك ما يكون فيه ريبة‪ ،‬واألخذ بما ال ريبة فيه‪.‬‬
‫ترك ما يُرتاب فيه فيه راحة للنفس وسالمتها من القلق‪.‬‬
‫أن َ‬‫‪ 2‬ـ َّ‬

‫***‬
‫الحديث الثاني عشر‬

‫عن أبي هريرة رضي هللا تعالى عنه قال‪ :‬قال رسول هللا ‪:‬‬
‫((‬

‫ِّمن ُحسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه )) حديث حسن‪ ،‬رواه الترمذي‬
‫وغيره هكذا‪.‬‬
‫المسلم يترك ما ال يه ُّمه من أمر الدِّين‬
‫َ‬ ‫‪ 1‬ـ معنى هذا الحديث َّ‬
‫أن‬
‫والدنيا في األقوال واألفعال‪ ،‬ومفهومه أنَّه يجتهد فيما يعنيه في ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ 288/1‬ـ ‪:)289‬‬
‫سنَ إسال ُمه ترك ما ال يعنيه من قول‬ ‫(( ومعنى هذا الحديث َّ‬
‫أن َمن َح ُ‬
‫وفعل‪ ،‬واقتصر على ما يعنيه من األقوال واألفعال‪ ،‬ومعنى (يعنيه) أنَّه‬
‫تتعلق عنايته به‪ ،‬ويكون من مقصده ومطلوبه‪ ،‬والعناية ش َّدة االهتمام‬
‫بالشيء‪ ،‬يُقال عناه يعنيه إذا اهت َّم به وطلبه‪ ،‬وليس المراد أنَّه يترك ما‬
‫ال عناية له وال إرادة بحكم الهوى وطلب النفس‪ ،‬بل بحكم الشرع‬
‫سن إسال ُم المرء ترك‬ ‫واإلسالم‪ ،‬ولهذا جعله ِّمن حسن اإلسالم‪ ،‬فإذا َح ُ‬
‫اإلسالم يقتضي فع َل‬
‫َ‬ ‫ما ال يعنيه في اإلسالم من األقوال واألفعال‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫‪67‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السالم‪َّ ،‬‬
‫وإن‬
‫‪:‬‬ ‫حرمات‪ ،‬كما قال‬ ‫اإلسالم الكامل الممدوح يدخل فيه ترك الم َّ‬ ‫َ‬
‫(المسلم َمن سلم المسلمون من لسانه ويده)‪ ،‬وإذا حسن اإلسالم اقتضى‬
‫ترك ما ال يعني كلَّه من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول‬
‫فإن هذا كلَّه ال يعني المسلم إذا ك ُمل‬
‫المباحات التي ال يحتاج إليها‪َّ ،‬‬
‫إسال ُمه وبلغ إلى درجة اإلحسان‪ ،‬وهو أن يعبد هللا تعالى كأنَّه يراه‪،‬‬
‫فإن لم يكن يراه فإن هللا يراه‪ ،‬ف َمن عبَ َد هللا على استحضار قربه‬
‫ومشاهدته بقلبه‪ ،‬أو على استحضار قرب هللا منه واطالعه عليه‪ ،‬فقد‬
‫حسن إسالمه‪ ،‬ولزم من ذلك أن يترك ك َّل ما ال يعنيه في اإلسالم‪،‬‬
‫ويشتغل بما يعنيه فيه‪ ،‬فإنَّه يتولَّد من هذين المقامين االستحياء من هللا‪،‬‬
‫كل ما يُستحيى منه ))‪.‬‬ ‫وترك ِّ‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ترك اإلنسان ما ال يعنيه في أمور الدِّين والدنيا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اشتغال اإلنسان بما يعنيه من أمور دينه ودنياه‪.‬‬
‫أن في ترك ما ال يعنيه راحةً لنفسه وحفظا ً لوقته وسالمة‬
‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫لعرضه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تفاوت الناس في اإلسالم‪.‬‬

‫***‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪68‬‬

‫الحديث الثالث عشر‬

‫عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي هللا تعالى عنه خادم رسول‬
‫يحب ألخيه ما‬
‫َّ‬ ‫قال‪ (( :‬ال يُؤم ُن أحدُكم حتى‬ ‫هللا ‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬
‫يحب لنفسه )) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫ُّ‬
‫نفي كمال اإليمان الواجب عن المسلم حتى‬ ‫‪ 1‬ـ في هذا الحديث ُ‬
‫يحبَّ ألخيه المسلم ما يُحبُّ لنفسه‪ ،‬وذلك في أمور الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫الناس بمثل ما يحبُّ أن يُعاملوه به‪ ،‬فقد جاء‬
‫َ‬ ‫ويدخل في ذلك أن يُعام َل‬
‫في صحيح مسلم (‪ )1844‬عن عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي‬
‫هللا عنهما في حديث طويل‪ (( :‬ف َمن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل‬
‫الجنَّة‪ ،‬فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬وليأت إلى الناس الذي‬
‫ل‪  :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫يحبُّ أن يُؤتَى إليه ))‪ ،‬وقال هللا‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪.   ‬‬
‫‪ 2‬ـ قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪:)306/1‬‬
‫يسر أخاه المؤمن‪ ،‬ويريد‬ ‫سره ما ُّ‬ ‫(( وحديث أنس يد ُّل على َّ‬
‫أن المؤمنَ َي ُّ‬
‫ألخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير‪ ،‬وهذا كلُّه إنَّما يأتي من كمال‬
‫فإن الحس َد يقتضي أن يكره‬ ‫الغل وال ِّغ ِّش والحسد‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫سالمة الصدر من‬
‫الحاس ُد أن يفوقَه أح ٌد في خير‪ ،‬أو يساويه فيه؛ ألنَّه يُحبُّ أن يَمتاز على‬
‫‪69‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫خالف ذلك‪ ،‬وهو‬


‫َ‬ ‫الناس بفضائله‪ ،‬وينفرد بها عنهم‪ ،‬واإليمان يقتضي‬
‫أن يشركه المؤمنون كلُّهم فيما أعطاه هللا من الخير‪ ،‬من غير أن ينقص‬
‫وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن‬ ‫((‬ ‫عليه منه شيء ))‪ ،‬وقال (‪:)308/1‬‬
‫يُحبَّ للمؤمنين ما يُحبُّ لنفسه‪ ،‬ويكره لهم ما يكره لنفسه‪ ،‬فإن رأى في‬
‫أخيه المسلم نقصا ً في دينه اجتهد في إصالحه ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يحبَّ المسل ُم ألخيه المسلم ما يحبُّ لنفسه‪ ،‬ويكره له ما يكره‬
‫لها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الترغيب في ذلك؛ لنفي كمال اإليمان الواجب عنه حتى يكون‬
‫كذلك‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن المؤمنين يتفاوتون في اإليمان‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التعبير بـ (( أخيه )) فيه استعطاف للمسلم ْ‬
‫ألن يحصل منه ألخيه‬
‫ذلك‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الرابع عشر‬

‫((‬ ‫‪:‬‬‫عن ابن مسعود رضي هللا تعالى عنه قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫والنفس‬
‫ُ‬ ‫ال يح ُّل د ُم امرئ مسلم إالَّ بإحدى ثالث‪ :‬الثيِّب الزاني‪،‬‬
‫بالنفس‪ ،‬والتاركُ لدينه المفارق للجماعة )) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫الرجم كما‬
‫صن‪ ،‬وحكمه َّ‬ ‫الثيب هو المح َ‬
‫الثيب الزاني )) ِّ‬
‫‪ 1‬ـ قوله‪ِّ (( :‬‬
‫ثبتت به السنَّة عن رسول هللا ‪ ،‬وكما دلَّت عليه آيةُ الرجم التي‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪70‬‬

‫نُسخت تالوتها وبقي حكمها‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬والنفس بالنفس ))‪ ،‬أي‪ :‬القتل قصاصاً‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وج َّل‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬‬

‫‪   ‬‬ ‫اآلية‪ ،‬وقال‪:‬‬


‫‪. ‬‬
‫ُ‬
‫المفارق للجماعة )) والمراد به المرت ُّد عن‬ ‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬التاركُ لدينه‬
‫اإلسالم؛ لقوله ‪َ (( :‬من بدَّل دينه فاقتلوه )) رواه البخاري (‪.)3017‬‬
‫‪ 4‬ـ ذكر الحافظ ابن رجب قتل جماعة غير َمن ذ ِّكر في الحديث‪،‬‬
‫وهم القتل في اللواط‪ ،‬و َمن أتى ذات محرم‪ ،‬والساحر‪ ،‬و َمن وقع على‬
‫بهيمة‪ ،‬و َمن ترك الصالة‪ ،‬وشارب الخمر في المرة الرابعة‪ ،‬والسارق‬
‫ش َهر‬
‫اآلخر من الخليفتين المبا َيع لهما‪ ،‬و َمن َ‬
‫في المرة الخامسة‪ ،‬وقتل ِّ‬
‫سس للكفار على المسلمين‪.‬‬ ‫السالح‪ ،‬والجاسوس المسلم إذا تج َّ‬
‫ِّ‬
‫وم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 5‬ـ ِّ‬
‫‪ 1‬ـ عصمةُ دم المسلم إالَّ إذا أتى بواحدة من هذه الثالث‪.‬‬
‫حكم الزاني المحصن القتل رجما ً بالحجارة‪.‬‬
‫أن َ‬‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫‪ 3‬ـ قتل القاتل عمدا ً قصاصا ً إذا توفَّرت شروط القصاص‪.‬‬
‫المرتد عن دين اإلسالم‪ ،‬سواء كان ذكرا ً أو أنثى‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ 4‬ـ قتل‬

‫***‬
‫‪71‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫الحديث الخامس عشر‬

‫قال‪َ (( :‬من كان يؤمن باهلل‬ ‫عن أبي هريرة ‪َّ :‬‬
‫أن رسول هللا‬
‫واليوم اآلخر فليَقُل خيرا أو ليصمت‪ ،‬و َمن كان يؤمن باهلل واليوم‬
‫كرم ضيفَه‬‫جاره‪ ،‬و َمن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليُ ِّ‬
‫كرم َ‬
‫اآلخر فليُ ِّ‬
‫)) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫بين ذكر اإليمان باهلل واإليمان باليوم اآلخر‬ ‫‪ 1‬ـ جمع رسول هللا‬
‫كل شيء يجب‬ ‫األساس في ِّ‬
‫ُ‬ ‫في هذه األمور الثالثة؛ َّ‬
‫ألن اإليمانَ باهلل هو‬
‫ي شيء يجب اإليمان به تاب ٌع لإليمان باهلل‪ ،‬وأ َّما‬ ‫اإليمان به‪َّ ،‬‬
‫فإن أ َّ‬ ‫ُ‬
‫اإليمان باليوم اآلخر ففيه التذكير بالم َعاد والجزاء على األعمال‪ ،‬إن‬ ‫ُ‬
‫فشر‪.‬‬
‫شرا ٌّ‬ ‫وإن ًّ‬ ‫فخير‪ْ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫خيرا ً‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪َ (( :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فل َيقُل خيرا ً أو ليصمت‬
‫))‪ ،‬هذه كلمةٌ جامعةٌ من جوامع َك ِّلمه ‪ ،‬مقتضاها وجوب حفظ اللسان‬
‫من الكالم إالَّ في خير‪ ،‬قال النووي في شرح هذا الحديث‪ (( :‬قال‬
‫الشافعي رحمه هللا تعالى‪ :‬معنى الحديث إذا أراد أن يتكلَّم فلي ِّ‬
‫ُفكر‪ ،‬فإن‬
‫شك فيه أمسك‪،‬‬ ‫أن فيه ضررا ً و َّ‬ ‫ظهر أنَّه ال ضرر عليه تكلَّم‪ ،‬وإن ظهر َّ‬
‫وقال اإلمام الجليل أبو محمد بن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في‬
‫تتفرع من أربعة أحاديث‪ :‬قول النَّبي ِّ ‪( :‬من‬ ‫زمنه‪ :‬جمي ُع آداب الخير َّ‬
‫كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرا ً أو ليصمت)‪ ،‬وقوله ‪( :‬من‬
‫للذي اختصر له‬ ‫حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه)‪ ،‬وقوله‬
‫الوصيَّة‪( :‬ال تغضب)‪ ،‬وقوله‪( :‬ال يؤمن أحدُكم حتَّى يُحبَّ ألخيه ما‬
‫يُحبُّ لنفسه) ))‪ ،‬ونقل النووي عن بعضهم أنَّه قال‪ (( :‬لو كنتم تشترون‬
‫الكاغَد للحفظة لسكتُّم عن كثير من الكالم ))‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪72‬‬

‫‪ 3‬ـ الخير اس ٌم يُقابله الشر‪ ،‬ويأتي أيضا ً (( خير )) أفعل تفضيل‬


‫حذفت منه الهمزة‪ ،‬وقد جاء الجمع بينهما في قول هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫ل‪ :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪.    ‬‬


‫جاره ))‪ُّ ،‬‬
‫حق‬ ‫ُكرم َ‬
‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬و َمن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فلي ِّ‬
‫الجار من الحقوق المؤ َّكدة على جاره‪ ،‬وقد جاءت أحاديث كثيرة في‬
‫الترغيب في إكرام الجار والترهيب من إيذائه وإلحاق الضرر به‪،‬‬
‫ومنها حديث عائشة رضي هللا عنها‪ (( :‬ما زال جبريل يوصيني بالجار‬
‫ُورثه )) رواه البخاري (‪ ،)6014‬ومسلم (‪،)2624‬‬ ‫حتى ظننتُ أنَّه سي ِّ‬
‫وحديث‪ (( :‬وهللا ال يؤمن! وهللا ال يؤمن! قالوا‪َ :‬من يا رسول هللا؟ قال‪:‬‬
‫جاره بوائ َقه )) رواه البخاري (‪ ،)6016‬ومسلم (‪.)73‬‬ ‫الذي ال يأمن ُ‬
‫بره‪ ،‬وأن تحصل له السالمةُ من ِّ‬
‫شره‪،‬‬ ‫وإكرا ُمه يكون بأن يصل إليه ُّ‬
‫والجيران ثالثة‪:‬‬
‫جار مسلم ذو قربى‪ ،‬له ثالثة حقوق‪ :‬حق الجوار‪ ،‬وحق القرابة‪،‬‬
‫ـ ٌ‬
‫وحق اإلسالم‪.‬‬
‫وجار مسلم ليس بذي قُربى‪ ،‬له حق اإلسالم والجوار‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ـ‬
‫ـ وجار ليس بمسلم وال ذي قُربى‪ ،‬له ُّ‬
‫حق الجوار فقط‪.‬‬
‫وأولى الجيران باإلحسان َمن يكون أقربَهم باباً؛ لمشاهدته ما يدخل‬
‫‪73‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫في بيت جاره‪ ،‬فيتطلَّع إلى إحسانه إليه‪.‬‬


‫ُكرم ضيفَه ))‪،‬‬ ‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬و َمن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فلي ِّ‬
‫إكرا ُم الضيف من الحقوق التي للمسلمين على المسلمين‪ ،‬وهو من‬
‫شريح‬ ‫مكارم األخالق‪ ،‬وفي صحيح البخاري (‪ )6019‬من حديث أبي ُ‬
‫ي ‪ ،‬فقال‪َ (( :‬من‬ ‫وأبصرت عيناي حين تكلَّم النَّب ُّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫سمعت أذناي‬ ‫قال‪:‬‬
‫جاره‪ ،‬و َمن كان يؤمن باهلل واليوم‬ ‫ُكرم َ‬
‫كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فلي ِّ‬
‫ُكرم ضيفَه جائزته‪ ،‬قيل‪ :‬وما جائزته يا رسول هللا؟ قال‪ :‬يو ٌم‬ ‫اآلخر فلي ِّ‬
‫وليلة‪ ،‬والضيافة ثالثة أيام‪ ،‬وما وراء ذلك فهو صدقة عليه ))‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الترغيب في الكالم فيما هو خير‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الترغيب في الصمت إذا لم يكن التكلُّم بخير‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التذكير عند الترغيب والترهيب باليوم اآلخر؛ َّ‬
‫ألن فيه الحساب‬
‫على األعمال‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الترغيب في إكرام الجار‪ ،‬والتحذير من إيذائه‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الحث على إكرام الضيف واإلحسان إليه‪.‬‬ ‫‪5‬ـ‬

‫***‬
‫الحديث السادس عشر‬

‫أوصني‪ ،‬قال‪ (( :‬ال‬


‫‪ِّ :‬‬ ‫أن رجال قال للنَّبي ِّ‬
‫‪َّ :‬‬ ‫عن أبي هريرة‬
‫تغضب‪ ،‬فردَّد مرارا قال‪ :‬ال تغضب )) رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ قال الحافظ في الفتح (‪ (( :)520/10‬قال الخطابي‪ :‬معنى قوله‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪74‬‬

‫تتعرض ِّل َما يجلبُه‪ ،‬وأ َّما نفس‬


‫َّ‬ ‫أسباب الغضب وال‬
‫َ‬ ‫اجتنب‬ ‫(ال تغضب) ْ‬
‫الجبلَّة ))‪،‬‬
‫أمر طبيعي ال يزول من ِّ‬ ‫الغضب فال يتأتَّى النهي عنه؛ ألنَّه ٌ‬
‫خير‬
‫في قوله‪( :‬ال تغضب) َ‬ ‫وقال أيضاً‪ (( :‬وقال ابن التين‪ :‬جمع‬
‫الرفق‪ ،‬وربَّما آل‬ ‫الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع ِّ‬
‫َ‬ ‫الدنيا واآلخرة؛ َّ‬
‫ألن‬
‫إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدِّين ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ مدح هللا الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس‪ ،‬وأخبر النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫سه عند الغضب‬ ‫صرعة‪ ،‬إنَّما الشديد الذي يَملك نف َ‬
‫أنَّه‪ (( :‬ليس الشديد بال ُّ‬
‫)) رواه البخاري (‪ ،)6114‬وعلى المرء إذا غضب أن يكظم غيظه‪،‬‬
‫وأن يستعيذ باهلل من الشيطان الرجيم‪ ،‬كما في البخاري (‪ ،)6115‬وأن‬
‫يجلس أو يضطجع‪ ،‬كما في سنن أبي داود (‪ )4782‬عن أبي ذر َّ‬
‫أن‬
‫قال‪ (( :‬إذا غضب أحدُكم وهو قائم فليجلس‪ ،‬فإن ذهب‬ ‫رسول هللا‬
‫عنه الغضب وإالَّ فليضطجع ))‪ ،‬وهو حديث صحيح‪ ،‬رجاله رجال‬
‫مسلم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫حرص الصحابة على الخير؛ لطلب هذا الصحابي الوصيَّة من‬
‫ُ‬ ‫‪1‬ـ‬
‫رسول هللا ‪.‬‬
‫المترتبة عليه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ 2‬ـ التحذير من أسباب الغضب واآلثار‬
‫‪ 3‬ـ تكرار الوصية بالنهي عن الغضب دا ٌّل على أهميَّة تلك‬
‫الوصية‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث السابع عشر‬
‫‪75‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫قال‪َّ (( :‬‬
‫إن‬ ‫‪ ،‬عن رسول هللا‬ ‫عن أبي يعلى شدَّاد بن أوس‬
‫كل شيء‪ ،‬فإذا قتلتُم فأحسنوا ال ِّقت َلة‪ ،‬وإذا‬ ‫َ‬
‫اإلحسان على ِّ‬ ‫هللا كتب‬
‫شفرتَه‪ ،‬وليُرح ذبيحتَه )) رواه‬ ‫َ‬ ‫ذبحتُم فأحسنوا ِّ‬
‫الذبحة‪ ،‬وليح َّد أحدُكم‬
‫مسلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلحسان ض ُّد‬ ‫كل شيء ))‪،‬‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا كتب اإلحسانَ على ِّ‬
‫اإلساءة‪ ،‬وكتب بمعنى شرع وأوجب‪ ،‬فالكتابة دينية شرعيَّة‪ ،‬واإلحسان‬
‫فيها يكون عا ًّما لإلنسان والحيوان‪.‬‬
‫والذبحة‪ ،‬وإحداد الشفرة‬
‫بإحسان ال ِّقتلة ِّ‬ ‫‪ 2‬ـ ث َّم أمر الرسول‬
‫وإراحة الذبيحة‪ ،‬وهذا مثال من أمثلة إيقاع اإلحسان عند قتل اإلنسان‬
‫المستحق للقتل وذبح الحيوان‪ ،‬وذلك بسلوك أسهل الطرق التي يكون‬‫ِّ‬
‫بها إزهاق النفس من غير تعذيب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قال ابن رجب في جامع العلوم الحكم (‪ 381/1‬ـ ‪:)382‬‬
‫كل شيء من األعمال‪،‬‬‫(( وهذا الحديث يد ُّل على وجوب اإلحسان في ِّ‬
‫ُ‬
‫فاإلحسان في اإلتيان بالواجبات الظاهرة‬ ‫كل شيء بحسبه‪،‬‬‫لكن إحسان ِّ‬
‫ُ‬
‫اإلتيان بها على وجه كمال واجباتها‪ ،‬فهذا القدر من اإلحسان‬ ‫والباطنة‬
‫فيها واجب‪ ،‬وأ َّما اإلحسان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب‪،‬‬
‫حرمات‪ ،‬االنتها ُء عنها وتركُ ظاهرها وباطنها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واإلحسان في ترك الم َّ‬
‫‪  ‬‬ ‫كما قال تعالى‪:‬‬
‫القدر‬
‫ُ‬ ‫‪ ،   ‬فهذا‬
‫اإلحسان في الصبر على المقدورات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫واجب‪ ،‬وأ َّما‬
‫ٌ‬ ‫من اإلحسان فيها‬
‫س ُّخط وال َجزَ عٍّ‪،‬‬
‫فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه‪ ،‬من غير ت َ َ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪76‬‬

‫ُ‬
‫واإلحسان الواجب في معاملة ال َخلق ومعاشرتهم‪ ،‬القيا ُم بما أوجب هللا‬
‫كله‪ ،‬واإلحسان الواجب في والية ال َخلق وسياستهم‪،‬‬ ‫من حقوق ذلك ِّ‬
‫كله‬
‫والقدر الزائد على الواجب في ذلك ِّ‬
‫ُ‬ ‫كلها‪،‬‬
‫القيا ُم بواجبات الوالية ِّ‬
‫إحسان ليس بواجب‪ ،‬واإلحسان في قتل ما يَجوز قتله من الناس‬ ‫ٌ‬
‫إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسه ِّلها وأوحاها ـ يعني‬ ‫ُ‬ ‫وال َّدواب‪،‬‬
‫أسرعها ـ من غير زيادة في التعذيب‪ ،‬فإنَّه إيال ٌم ال حاجة إليه‪ ،‬وهذا‬
‫في هذا الحديث‪ ،‬ولعلَّه ذ َكره على سبيل‬ ‫ع هو الذي ذكره النَّب ُّ‬
‫ي‬ ‫النو ُ‬
‫المثال‪ ،‬أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال‪ ،‬فقال‪( :‬إذا قتلتم فأحسنوا‬
‫الذبحة)‪ ،‬وال ِّقتلةُ والذِّبحة بالكسر‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ال ِّقتْلة‪ ،‬وإذا ذ َبحتم فأحسنوا ِّ‬
‫الهيئة‪ ،‬والمعنى‪ :‬أحسنوا َهيئة الذَّبح وهيئةَ القتل‪ ،‬وهذا يد ُّل على وجوب‬
‫اإلسراعِّ في إزهاق النفوس التي يُباح إزهاقُها على أسهل الوجوه ))‪.‬‬
‫اإلحسان في القتل مطلوب بدون تعذيب أو تمثيل‪ ،‬سواء كان‬ ‫ُ‬ ‫‪4‬ـ‬
‫في قتال الكفار أو القتل قصاصا ً أو حدًّا‪ ،‬إالَّ أنَّه عند القتل قصاصا ً‬
‫يُفعل بالقاتل كما فَعَ َل بالمقتول‪ ،‬كما جاء عن النَّبي ِّ في قتل اليهودي ِّ‬
‫رض رأس جارية بين َحجرين‪ ،‬رواه البخاري (‪ ،)2413‬ومسلم‬ ‫َّ‬ ‫الذي‬
‫رنيين‪ ،‬رواه البخاري (‪،)6802‬‬ ‫(‪ ،)1672‬وكما جاء في قصة العُ ِّ‬
‫الرجم‪،‬‬
‫صن‪ ،‬وهو َّ‬‫حد الزاني ال ُمح َ‬ ‫ومسلم (‪ ،)1671‬وأ َّما ما جاء في ِّ‬
‫فهو إ َّما مستثنَى من عموم هذا الحديث‪ ،‬أو محمول على َّ‬
‫أن اإلحسانَ‬
‫صن منه‪.‬‬ ‫يكون في موافقة الشرع‪ ،‬ورجم المح َ‬
‫‪ 5‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ وجوب اإلحسان في ِّ‬
‫‪77‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪ 2‬ـ وجوب اإلحسان عند القتل بسلوك أيسر سبيل إلزهاق النفس‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وجوب اإلحسان عند ذبح الحيوان كذلك‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تفقد آلة ال َّذبح قبل مباشرته؛ لقوله ‪ (( :‬ولي ِّ‬
‫ُحد أحدُكم شفرته‪،‬‬
‫وليُرح ذبي َحتَه ))‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الثامن عشر‬

‫عن أبي ذر ُجندب بن ُجنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي‬
‫قال‪ (( :‬اتَّق هللا حيثما كنت‪ ،‬وأتبع‬ ‫هللا تعالى عنهما‪ ،‬عن رسول هللا‬
‫الناس ب ُخلُق حسن )) رواه الترمذي‪،‬‬‫َ‬ ‫السيِّئةَ الحسنةَ ت َم ُحها‪ ،‬وخا ِّلق‬
‫وقال‪ (( :‬حديث حسن ))‪ ،‬وفي بعض النسخ‪ (( :‬حسن صحيح ))‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ هذا الحديث اشتمل ب ُجم ِّله الثالث على ما هو مطلوب من المسلم‬
‫لربه ولنفسه ولغيره‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬اتَّق هللا حيثما كنت ))‪ ،‬أص ُل التقوى في اللغة‪ :‬أن يجعل‬
‫بينه وبين الذي يخافه وقاية تقيه منه‪ ،‬مثل اتِّخاذ النِّعال والخفاف للوقاية‬
‫التقاء حرارة‬
‫وكاتخاذ البيوت والخيام ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّم َّما يكون في األرض من ضرر‪،‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان بينه وبين‬ ‫الشمس‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬والتقوى في الشرع‪ :‬أن يجع َل‬
‫غضب هللا وقاية تقيه منه‪ ،‬وذلك بفعل المأمورات وترك المنهيات‪،‬‬
‫وتصديق األخبار‪ ،‬وعبادة هللا وفقا ً للشرع‪ ،‬ال بالبدع والمحدثات‪،‬‬
‫وتقوى هللا مطلوبةٌ في جميع األحوال واألماكن واألزمنة‪ ،‬فيتَّقي هللا في‬
‫السر والعلن‪ ،‬وبروزه للناس واستتاره عنهم‪ ،‬كما جاء في هذا الحديث‪:‬‬
‫ِّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪78‬‬

‫(( اتَّق هللا حيثما كنت ))‪.‬‬


‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬وأتْبع السيِّئة الحسنةَ تَم ُحها ))‪ ،‬عندما يفعل المر ُء سيِّئةً‬
‫فإنَّه يتوب منها‪ ،‬والتوبةُ حسنة‪ ،‬وهي تجبُّ ما قبلها من الكبائر‬
‫والصغائر‪ ،‬ويكون أيضا ً بفعل الحسنات‪ ،‬فإنَّها تمحو الصغائر‪ ،‬وأ َّما‬
‫الكبائر فال يمحوها إالَّ التوبة منها‪.‬‬
‫الناس ب ُخلُق حسن ))‪ ،‬فإنَّه مطلوب من اإلنسان‬‫َ‬ ‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬وخا ِّلق‬
‫الناس جميعا ً معاملة حسنة‪ ،‬فيُعاملهم بمثل ما يحبُّ أن يُعاملوه‬ ‫َ‬ ‫أن يُعامل‬
‫به؛ لقوله ‪ (( :‬ال يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ ألخيه ما يُحبُّ لنفسه ))‪،‬‬
‫وقوله ‪ (( :‬ف َمن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنَّة‪ ،‬فلتأته منيَّتُه‬
‫وهو يؤمن باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه ))‪،‬‬
‫بأنَّه على ُخلُق عظيم‪ ،‬وجاء عن عائشة رضي‬ ‫فقد وصف هللا نبيَّه‬
‫القرآن‪ ،‬رواه مسلم (‪ ،)746‬أي‪ :‬أنَّه يقوم بتطبيق‬ ‫أن خلقَه‬‫هللا عنها َّ‬
‫ما فيه‪ ،‬وجاء في السنة أحاديث كثيرة تد ُّل على فضل حسن ال ُخلُق‪،‬‬
‫وتحث على التخلُّق باألخالق الحسنة‪ ،‬وتحذِّر من األخالق ِّ‬
‫السيئة‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫‪ 5‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫أل َّمته‪ ،‬ومن ذلك ما اشتمل عليه هذا‬ ‫‪ 1‬ـ كمال نصح الرسول‬
‫الحديث من هذه الوصايا الثالث العظيمة الجامعة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ األمر بتقوى هللا في جميع األحوال واألمكنة واألزمان‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الحث على إتباع السيِّئات بالحسنات‪.‬‬ ‫‪3‬ـ‬
‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن الحسنات تمحو السيِّئات‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الحث على مخالقة الناس باألخالق الحسنة‪.‬‬ ‫‪5‬ـ‬
‫‪79‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫***‬
‫الحديث التاسع عشر‬

‫عن أبي العباس عبد هللا بن عباس رضي هللا تعالى عنهما قال‬
‫أعلمك كلمات‪:‬‬ ‫يوما فقال لي‪ (( :‬يا غالم! ِّإني ِّ‬ ‫كنت‪ :‬خلف النَّبي ِّ‬
‫هللا تَجده تجاهك‪ ،‬إذا سألتَ فاسأل َ‬
‫هللا‪ ،‬وإذا‬ ‫هللا يَحفظك‪ ،‬احفظ َ‬ ‫احفظ َ‬
‫أن األ َّمة لو اجتمعت على أن ينفعوك‬ ‫استعنتَ فاست ِّعن باهلل‪ ،‬واعلم َّ‬
‫بشيء لَم ينفعوك إالَّ بشيء قد كتبه هللا لك‪ ،‬وإن اجتمعوا على أن‬
‫يضروك بشيء لَم يضروك إالَّ بشيء قد كتبه هللا عليك‪ُ ،‬رفعت األقال ُم‬ ‫ُّ‬
‫صحف )) رواه الترمذي وقال‪ (( :‬حديث حسن صحيح ))‪ ،‬وفي‬ ‫و َجفَّت ال ُّ‬
‫تعرف إلى هللا في‬ ‫رواية غير الترمذي‪ (( :‬احفظ هللا تَجده أما َمك‪َّ ،‬‬
‫أن ما أخطأك لَم يكن ليصيبَك‪ ،‬وما‬ ‫الشدَّة‪ ،‬واعلم َّ‬‫الرخاء يعرفك في ِّ‬ ‫َّ‬
‫وأن الفَ َر َج مع‬
‫صر مع الصبر‪َّ ،‬‬ ‫أن النَّ َ‬
‫أصابَك لَم يكن ِّليُخطئك‪ ،‬واعلم َّ‬
‫وأن مع العُسر يُسرا ))‪.‬‬ ‫ب‪َّ ،‬‬ ‫الكَر ِّ‬
‫‪ 1‬ـ قوله‪ (( :‬احفظ هللا يحفظك ))‪ ،‬أي‪ :‬احفظ حدود هللا بامتثال أوامره‬
‫واجتناب نواهيه‪ ،‬وتصديق األخبار‪ ،‬وعبادته وفقا ً ِّل َما شرع‪ ،‬ال‬
‫باألهواء والبدع‪ ،‬يحفظك هللا في أمور دينك ودُنياك جزا ًء وفاقاً‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ٌ‬
‫حفظ‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫حفظ والجزا ُء‬ ‫َّ‬
‫أن الجزا َء من جنس العمل‪ ،‬فالعم ُل‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬احفظ هللا تجده تجاهك )) تُجاهك بمعنى أمامك‪ ،‬كما في‬
‫الرواية األخرى‪ (( :‬احفظ هللا تجده أمامك ))‪ ،‬والمعنى‪ :‬تجده يحو ُ‬
‫طك‬
‫ويرعاك في أمور دينك ودنياك‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬إذا سألت فاسأل هللا‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن باهلل ))‪ ،‬هذا‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪80‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫ٌ‬


‫مطابق لقوله تعالى‪:‬‬
‫‪   ‬؛ َّ‬
‫فإن سؤال هللا‬
‫المسلم يعبد هللا وحده‪ ،‬ويسأله‬
‫َ‬ ‫دعاء‪ ،‬والدعا ُء هو العبادة‪ ،‬والمعنى َّ‬
‫أن‬
‫قضاء حاجاته‪ ،‬ويستعين به في جميع أموره الدنيوية واألُخروية‪ ،‬ويأخذ‬
‫‪:‬‬ ‫باألسباب المشروعة‪ ،‬ويسأل هللا أن ينفع باألسباب‪ ،‬كما قال‬
‫(( احرص على ما ينفعك واستعن باهلل وال تعجز )) رواه مسلم (‪.)2664‬‬
‫أن األ َّمة لو اجتمعت على أن ينفعوك )) إلى‬ ‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬واعلم َّ‬
‫أن السؤال هلل‬ ‫صحف ))‪ ،‬بعد أن ذكر َّ‬ ‫قوله‪ُ (( :‬رفعت األقالم وجفَّت ال ُّ‬
‫أن ك َّل شيء بيده‪ ،‬وأنَّه ال مانع ِّل َما‬ ‫أخبر َّ‬ ‫َ‬ ‫وحده واالستعانة باهلل وحده‪،‬‬
‫وأن ك َّل شيء ال يخرج عن إرادته‬ ‫َّ‬ ‫أعطى‪ ،‬وال ُمعطي ِّل َما منع‪،‬‬
‫قدره هللا‪ ،‬وال أن‬ ‫وأن العبا َد ال يُمكنهم أن ينفعوه بشيء لم يُ ِّ‬ ‫ومشيئته‪َّ ،‬‬
‫وأن ك َّل شيء يقع أو ال يقع سبق به القضاء‬ ‫قدره هللا‪َّ ،‬‬ ‫يضروه بشيء لم يُ ِّ‬‫ُّ‬
‫أن ك َّل‬ ‫والقدر‪ ،‬ولهذا قال‪ُ (( :‬رفعت األقالم وجفَّت الصحف ))‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫كائن قد فُرغ منه و ُكتب‪ ،‬وال ب َّد من وقوعه‪ ،‬والمراد برفع األقالم‬
‫كل شيء مقدَّر بكتابته في اللوح‬ ‫ص ُحف االنتهاء من ِّ‬ ‫وجفاف ال ُّ‬
‫المحفوظ‪ ،‬فال ب َّد أن يقع وفقا ً ِّل َما قُ ِّدر‪ ،‬وهذه ال ُج َمل فيها إثبات اإليمان‬
‫يًً نة في حديث جبريل‬ ‫بالقدر‪ ،‬وهو أحد أصول اإليمان الستة المب َّ‬
‫المشهور‪.‬‬
‫الرخاء يعرفك في الشدَّة ))‪ ،‬المعنى‪:‬‬ ‫تعرف إلى هللا في َّ‬‫‪ 5‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫الخير من هللا‪ ،‬و َد ْف َع‬
‫َ‬ ‫أخلص عملَه هلل في حال رخائه وسعته يج ُد‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫أن َمن‬
‫ل‪  :‬‬ ‫عز وج َّ‬‫الضر عنه في حال ش َّدته وكربه‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫ِّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪81‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ،    ‬وقال‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫صة الثالثة الذين‬‫‪ ،  ‬وكما في ق َّ‬
‫سلوا‬ ‫آواهم المبيت إلى غار‪ ،‬فانحدرت صخرة ٌ وسدَّت باب الغار‪ ،‬وتو َّ‬
‫سل‬‫عز وج َّل بأعمال لهم صالحة عملوها في حال رخائهم‪ ،‬فتو َّ‬ ‫إلى هللا َّ‬
‫سل الثاني بحفظه لألمانة وتنميتها وردِّها‬ ‫ببره والديه‪ ،‬وتو َّ‬‫أحدُهم ِّ‬
‫سل الثالث بتركه الفاحشة من أجل هللا بعد قُدرته عليها‪،‬‬‫لصاحبها‪ ،‬وتو َّ‬
‫فكشف هللا ما بهم من كرب‪ ،‬وأزال ما ح َّل بهم من ضرر‪ ،‬فتزحزحت‬
‫الصخرة ُ حت َّى تم َّكنوا من الخروج من ذلك الغار‪ ،‬رواه البخاري‬
‫(‪ ،)5974‬ومسلم (‪.)2743‬‬
‫أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك‪ ،‬وما أصابك لم‬ ‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬واعلم َّ‬
‫أن ما قدَّر هللا سالمتك منه فإنَّه ال يحصل لك‪،‬‬
‫يكن ليُخطئك ))‪ ،‬المعنى‪َّ :‬‬
‫وما قدَّر حصوله لك فال ب َّد من وقوعه؛ ألنَّه ما شاء هللا كان‪ ،‬وما لم‬
‫يشأ لم يكن‪ ،‬وك ُّل شيء ق َّدر هللا حصولَه ال ب َّد أن يوجد وال يتخلَّف‪،‬‬
‫وك ُّل شيء لم يُقدَّر لك‪ ،‬ال سبيل إلى حصولك عليه ووصولك إليه‪.‬‬
‫الفرج مع الكرب‪،‬‬
‫وأن َ‬ ‫أن النَّ َ‬
‫صر مع الصبر‪َّ ،‬‬ ‫‪ 7‬ـ قوله‪ (( :‬واعلم َّ‬
‫وأن مع العُسر يسرا ً ))‪ ،‬في هذه ال ُجمل الثالث بيان حصول النصر مع‬
‫َّ‬
‫الصبر ينت ُج عنه‬
‫َ‬ ‫والفرج مع الكرب‪ ،‬واليُسر مع العُسر‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫َ‬ ‫الصبر‪،‬‬
‫بالفرج الذي يعقبها‪،‬‬
‫َ‬ ‫ب والشدَّة يكشفها هللا‬ ‫النَّصر بإذن هللا‪َّ ،‬‬
‫وأن الكر َ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪82‬‬

‫وأن العُسر يعقبه اليسر من هللا َّ‬


‫عز وج َّل‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ 8‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫أن َمن حفظ حدو َد هللا حفظه في دينه ودنياه‪.‬‬‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫أن َمن أضاع حدو َد هللا ال يحصل له الحف ُ‬
‫ظ من هللا‪ ،‬كما قال‪:‬‬ ‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫‪.     ‬‬
‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن الجزا َء من جنس العمل‪ ،‬فالعمل حفظ‪ ،‬والجزاء حفظ‪.‬‬
‫يخص ربَّه بالعبادة واالستعانة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن العب َد‬
‫‪ 5‬ـ اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫يضرون إالَّ إذا كان النف ُع والضَّرر‬
‫ُّ‬ ‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫أن العبا َد ال ينفعون وال‬
‫مقد ََّرين من هللا‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أنَّه ال يحصل ألحد نف ٌع إالَّ إذا كان مقدَّراً‪ ،‬وال يندفع عنه ضرر‬
‫إالَّ إذا كان مقدَّراً‪ ،‬ما شاء هللا كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫أن الصبر يعقبه النصر‪.‬‬
‫الفرج‪.‬‬ ‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫أن الكرب يعقبه َ‬
‫سر يعقبه اليُسر‪.‬‬ ‫‪ 10‬ـ َّ‬
‫أن العُ َ‬
‫ومالطفته الصغار‪.‬‬ ‫‪ 11‬ـ تواضعه‬
‫المهم بما يحفز النفوس إليه؛ لقوله‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ 12‬ـ التقديم بين يدي ذكر األمر‬
‫أعلمك كلمات ))‪.‬‬ ‫(( أالَ ِّ‬
‫***‬
‫الحديث العشرون‬
‫‪83‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫قال‪ :‬قال‬ ‫عن أبي مسعود عُقبة بن عمرو األنصاري البدري‬


‫إن ِّم َّما أدرك الناس من كالم النُّبوة األولى‪ :‬إذا َلم‬
‫رسول هللا ‪َّ (( :‬‬
‫تستح فاصنع ما شئتَ )) رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الحديث يد ُّل على َّ‬
‫أن الحيا َء ممدو ٌح‪ ،‬وكما هو في هذه الشريعة‬
‫فهو في الشرائع السابقة‪ ،‬وأنَّه من األخالق الكريمة التي توارثتها‬
‫النبوات حتى انتهت إلى هذه األ َّمة‪ ،‬واألمر فيه لإلباحة والطلب إذا لم‬
‫يكن المستحيا منه ممنوعا ً شرعاً‪ ،‬وإن كان ممنوعا ً فهو للتهديد‪ ،‬أو َّ‬
‫أن‬
‫مثل ذلك ال يحصل إالَّ ِّم َّمن ذهب حياؤه أو ق َّل‪ ،‬قال ابن رجب في‬
‫جامع العلوم والحكم (‪ (( :)497/1‬فقوله ‪َّ ( :‬‬
‫إن ِّم َّما أدرك الناس من‬
‫المتقدمين‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ِّ‬ ‫مأثور عن األنبياء‬
‫ٌ‬ ‫كالم النبوة األولى) يشير إلى َّ‬
‫أن هذا‬
‫أن‬‫الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرنا ً بعد قرن‪ ،‬وهذا يد ُّل على َّ‬
‫المتقدمة جاءت بهذا الكالم‪ ،‬وأنَّه اشتهر بين الناس حتى وصل‬
‫ِّ‬ ‫النبوة َ‬
‫إلى َّأول هذه األ َّمة ))‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬إذا لم تستح فاصنع ما شئت) في معناه‬ ‫((‬ ‫إلى أن قال‪:‬‬
‫قوالن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنَّه ليس بمعنى األمر أن يصن َع ما شاء‪ ،‬ولكنَّه على معنى‬
‫أمر بمعنى‬ ‫الذم والنهي عنه‪ ،‬وأه ُل هذه المقالة لهم طريقان‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنَّه ٌ‬
‫ِّ‬
‫شئت‪ ،‬ف َّ‬
‫إن هللا‬ ‫َ‬ ‫التهديد والوعيد‪ ،‬والمعنى‪ :‬إذا لم يكن لك حيا ٌء فاعمل ما‬
‫يجازيك عليه‪ ،‬كقوله‪   :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫‪  ‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪84‬‬

‫‪   ‬‬


‫اختيار جماعة منهم أبو العباس ثعلب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ ...   ‬هذا‬
‫والطريق الثاني‪ :‬أنَّه ٌ‬
‫أمر ومعناه الخبر‪ ،‬والمعنى‪َّ :‬‬
‫أن َمن لم يستح‬
‫صن َع ما شاء‪َّ ،‬‬
‫فإن المان َع ِّمن فعل القبائح هو الحياء‪ ،‬ف َمن لم يكن له‬ ‫َ‬
‫كل فحشاء ومنكر‪ ،‬وما يَمتنع من مثله َمن له حياء على‬
‫حيا ٌء انهمك في ِّ‬
‫ظه لف ُ‬
‫ظ‬ ‫فإن لف َ‬
‫ي فليتبوأ مقعده من النار)‪َّ ،‬‬
‫حد قوله ‪( :‬من كذب عل َّ‬ ‫ِّ‬
‫األمر‪ ،‬ومعناه الخبر‪ ،‬وأ َّن َمن كذب عليه تبوأ مقعده من النار‪ ،‬وهذا‬
‫عبيد القاسم بن سالم ـ رحمه هللا ـ وابن قتيبة ومحمد بن‬
‫اختيار أبي ُ‬
‫نصر المروزي وغيرهم‪ ،‬وروى أبو داود عن اإلمام أحمد ما يد ُّل على‬
‫مثل هذا القول ‪...‬‬
‫والقول الثاني في معنى قوله‪( :‬إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أنَّه‬
‫أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه‪ ،‬والمعنى إذا كان الذي تريد فعله‬
‫ٌ‬
‫ِّم َّما ال يستحيا ِّمن فعله الَ من هللا وال من الناس؛ لكونه من أفعال‬
‫الطاعات أو ِّمن جميل األخالق واآلداب المستحسنة‪ ،‬فاصنع منه حينئذ‬
‫شئت‪ ،‬وهذا قول جماعة من األئمة منهم أبو إسحاق المروزي‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫الشافعي وحكي مثله عن اإلمام أحمد ))‪.‬‬
‫واعلم َّ‬
‫أن الحياء نوعان ‪ :‬أحدهما ما‬ ‫وقال (‪ 501/1‬ـ ‪:)502‬‬
‫((‬

‫وجبلَّةً غير مكتسب‪ ،‬وهو ِّمن أجل األخالق التي َيمنحها هللا‬ ‫كان ُخلُقا ً ِّ‬
‫العبد ويجبله عليها‪ ،‬ولهذا قال ‪( :‬الحيا ُء ال يأتي إالَّ بخير)؛ فإنَّه‬
‫حث على استعمال مكارم‬ ‫ف عن ارتكاب القبائح ودناءة األخالق‪ ،‬ويَ ُّ‬ ‫يَ ُك ُّ‬
‫األخالق ومعاليها‪ ،‬فهو ِّمن خصال اإليمان بهذا االعتبار ‪...‬‬
‫‪85‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫سبا ً ِّمن معرفة هللا ومعرفة َعظمته وقربه من‬


‫والثاني‪ :‬ما كان مكت َ‬
‫واطالعه عليهم وعلمه بخائنة األعين وما تخفي الصدور‪ ،‬فهذا‬
‫عباده‪ِّ ،‬‬
‫ِّمن أعلى خصال اإليمان بل هو ِّمن أعلى درجات اإلحسان ‪...‬‬
‫وقد يتولَّد الحيا ُء من هللا ِّمن مطالعة نعمه ورؤية التقصير في‬
‫سلب العب ُد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه‬ ‫شكرها‪ ،‬فإذا ُ‬
‫من ارتكاب القبيح واألخالق الدنيئة‪ ،‬فصار كأنَّه ال إيمان له ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫أن خلق الحياء من األخالق الكريمة المأثورة عن النبوات السابقة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الحث على الحياء والتنويه بفضله‪.‬‬ ‫‪2‬ـ‬
‫كل شر‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن فق َد الحياء يوقع صاحبَه في ِّ‬
‫***‬
‫الحديث الواحد والعشرون‬

‫قال‪ :‬قلت‪:‬‬ ‫عن أبي عَمرو وقيل أبي عَمرة سفيان بن عبد هللا‬
‫يا رسول هللا! قُل لي في اإلسالم قوال ال أسأل عنه أحدا غيرك؟ قال‪:‬‬
‫(( قل آمنتُ باهلل‪ ،‬ثم استقم )) رواه مسلم‪.‬‬
‫أش ُّد الناس حرصا ً على معرفة الدِّين‪،‬‬ ‫أصحاب رسول هللا‬
‫ُ‬ ‫‪1‬ـ‬
‫واض ٌح‬ ‫كل خير‪ ،‬وهذا السؤال من سفيان بن عبد هللا‬ ‫ُ‬
‫أسبق إلى ِّ‬ ‫وهم‬
‫هذا السؤال العظيم‪ ،‬الذي يريد جوابه جامعا ً‬ ‫في ذلك؛ إذ سأل النَّب َّ‬
‫ي‬
‫‪.‬‬ ‫واضحا ً ال يحتاج فيه إلى أحد بعد رسول هللا‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪86‬‬

‫ي بجواب قليل اللفظ واسع المعنى‪،‬‬


‫هذا الصحاب َّ‬ ‫‪ 2‬ـ أجاب النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫قل آمنتُ باهلل‪ ،‬ثم استقم ))‪ ،‬فأمره‬ ‫((‬ ‫‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫وهو من جوامع كلمه‬
‫أن ينطق بلسانه بإيمانه باهلل الشامل لإليمان به سبحانه وتعالى‪ ،‬وبما‬
‫‪ ،‬فيدخل في ذلك األمور الباطنة‬ ‫جاء عنه في كتابه وسنة رسوله‬
‫واإلسالم من األلفاظ التي إذا ُجمع بينها‬
‫َ‬ ‫واألمور الظاهرة؛ َّ‬
‫ألن اإليمانَ‬
‫األمور الباطنة‪ ،‬ولإلسالم‬
‫ُ‬ ‫في الذِّكر قُ ِّسم المعنى بينهما‪ ،‬وصار لإليمان‬
‫األمور‬
‫َ‬ ‫األمور الظاهرة‪ ،‬وإذا أُفرد أحدُهما عن اآلخر ـ كما هنا ـ شمل‬
‫ُ‬
‫الباطنة والظاهرة‪ ،‬وبعد إيمانه ويقينه وثباته أ ُمر باالستقامة على هذا‬
‫ل‪ :‬‬ ‫الحق وال ُهدى واالستمرار على ذلك‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫ِّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬


‫‪    ‬‬

‫‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫‪  ‬‬

‫دوموا على طاعة هللا وطاعة رسوله‪ ،‬حتى إذا وافاكم األجل يوافيكم‬
‫وأنتم على حال حسنة‪ ،‬وقد بيَّن هللا َّ‬
‫عز وج َّل في كتابه ثواب َمن آمن‬
‫‪   ‬‬ ‫واستقام‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪  ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪87‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪.  ‬‬


‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حرص الصحابة على السؤال عن أمور دينهم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ُحسن السؤال من سفيان بن عبد هللا ال َّدال على كمال عقله‬
‫ورغبته في الوصية الجامعة‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫اإليمان باهلل وبما جاء في كتابه وسنَّة رسوله‬
‫ُ‬ ‫‪3‬ـ‬
‫الحق والهدى حتى بلوغ األجل‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ 4‬ـ مالزمة االستقامة على‬
‫الحديث الثاني والعشرون‬

‫عن أبي عبد هللا جابر بن عبد هللا األنصاري ِّ رضي هللا عنهما‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫‪ ،‬فقال‪ (( :‬أرأيتَ إذا صلَّيتُ المكتوبات‪،‬‬ ‫رجال سأل رسول هللا‬
‫وحرمتُ الحرا َم‪ ،‬ولَم أزد على ذلك‬
‫َّ‬ ‫صمتُ رمضان‪ ،‬وأحللتُ الحالل‪،‬‬
‫و ُ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪88‬‬

‫شيئا‪ ،‬أدخل الجنَّة؟ قال‪ :‬نعم )) رواه مسلم‪ ،‬ومعنى َّ‬


‫حرمت الحرام‪:‬‬
‫اجتنبته‪ ،‬ومعنى أحللت الحالل‪ :‬فعلته معتقدا حلَّه‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ جاء في بعض طرق الحديث في صحيح مسلم (‪ )15‬تسمية‬
‫الرجل السائل النعمان بن قَوقَل‪.‬‬
‫َّ‬
‫معناه‪ :‬أخبرني إذا فعلت هذه األمور‬ ‫))‬ ‫أرأيت‬ ‫((‬ ‫‪ 2‬ـ قول السائل‪:‬‬
‫أدخل الجنَّة؟‬
‫‪ 3‬ـ األمور التي سأل عن دخوله الجنَّة إذا فعلها‪ :‬الصالة‪ ،‬والصيام‪،‬‬
‫وإحالل الحالل‪ ،‬وتحريم الحرام‪ ،‬وليس فيها ذكر الزكاة والحج‪،‬‬
‫أن الح َّج لم يُذكر ألنَّه لم يكن قد فُرض‪ ،‬ولم تُذكر الزكاة‬
‫فيُحتمل َّ‬
‫الحتمال أن يكون فقيرا ً ليس عنده مال يُز َّكي‪ ،‬ويحتمل أن تكون الزكاة‬
‫والح ُّج داخلين تحت إحالل الحالل وتحريم الحرام‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ في الحديث ذكر القيام بالواجبات‪ ،‬وليس فيه ذكر المستحبَّات‪،‬‬
‫‪ ‬‬ ‫و َمن كان كذلك فهو المقتصد في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫المحرمات سبب في دخول‬


‫َّ‬ ‫‪ ،  ‬وفعل الواجبات وترك‬
‫‪89‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫الجنَّة‪ ،‬لكن اإلتيان بالنوافل مع الفرائض يك َّمل بها الفرائض إذا لم يكن‬
‫أت َ َّمها‪ ،‬وجاء بذلك حديث صحيح عن رسول هللا ‪ ،‬رواه أبو داود‬
‫(‪ ،)864‬والترمذي (‪ ،)413‬وابن ماجه (‪ ،)1425‬وأيضا ً فالنوافل‬
‫هي كالسياج للفرائض‪ ،‬و َمن كان محافظا ً عليها كان أش َّد محافظة على‬
‫يجره ذلك إلى اإلخالل بالفرائض‪.‬‬
‫الفرائض‪ ،‬و َمن تساهل بها قد ُّ‬
‫‪ 5‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حرص الصحابة على معرفة األعمال التي ت ُ ِّ‬
‫دخل الجنَّة‪.‬‬
‫أن األعمال سبب في دخول الجنَّة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫‪ 3‬ـ بيان أهميَّة الصلوات الخمس‪ ،‬وقد جاء في الحديث أنَّها عمود‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ بيان أهميَّة صيام رمضان‪.‬‬
‫المسلم يُح ُّل الحال َل معتقدا ً حلَّه‪ ،‬ويجتنب الحرام معتقدا ً‬
‫َ‬ ‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن‬
‫حرمته‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ بيان بطالن قول من زعم من الصوفية َّ‬
‫أن اإلنسانَ ال يعبد هللا‬
‫رغبة في الجنَّة وخوفا ً من النار‪ ،‬وقد قال عن خليله‪ :‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪.   ‬‬

‫***‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪90‬‬

‫الحديث الثالث والعشرون‬

‫قال‪ :‬قال رسول‬ ‫عن أبي مالك الحارث بن عاصم األشعري‬


‫شط ُر اإليمان‪ ،‬والحم ُد هلل ت َمأل الميزان‪ ،‬وسبحان‬
‫هور َ‬
‫ط ُ‬ ‫هللا ‪ (( :‬ال ُّ‬
‫هللا والحمد هلل ت َمآلن أو تَمأل ُ ما بين السماء واألرض‪ ،‬والصالةُ نور‪،‬‬
‫والصبر ضياء‪ ،‬والقرآ ُن ح َّجة لك أو عليك‪ ،‬ك ُّل‬
‫ُ‬ ‫والصدقةُ برهان‪،‬‬
‫الناس يغدو‪ ،‬فبائع نفسه ف ُمعتقها أو موبقها )) رواه مسلم‪.‬‬
‫والتخلي عنها‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الشرك والذنوب والمعاصي‬ ‫‪ 1‬ـ ُّ‬
‫الطهور فُ ِّسر بترك ِّ‬
‫اإليمان بالصالة‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وفُ ِّسر بالوضوء للصالة‪ِّ ،‬‬
‫وفسر‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫ويرج ُح‬
‫ِّ‬ ‫‪   ‬أي‪ :‬صالتكم إلى بيت المقدس‪،‬‬
‫تفسير (( ُّ‬
‫الطهور )) بالوضوء روايةُ الترمذي للحديث (‪ ،)3517‬وفيه‬ ‫َ‬
‫((‬‫بدل (( الطهور )) (( الوضوء ))‪ ،‬ورواية ابن ماجه (‪ )280‬بلفظ‪:‬‬
‫إسباغ الوضوء ))‪ ،‬والشطر فُ ِّسر بالنصف‪ِّ ،‬‬
‫وفسر بالجزء‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫نصفاً‪ ،‬وشرط الصالة الوضوء كما جاء في الحديث‪ (( :‬ال تُقبل صالة‬
‫ُّ‬
‫والطهور‬ ‫بغير طهور‪ ،‬وال صدقة من غلول )) رواه مسلم (‪،)224‬‬
‫بالضم اس ٌم للفعل وهو التط ُّهر‪ ،‬وبالفتح اس ٌم للماء الذي ي َّ‬
‫ُتطهر به‪ ،‬ومثل‬ ‫ِّ‬
‫ذلك لفظ الوضوء والسحور والوجور والسعوط‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬والحمد هلل تمأل الميزان‪ ،‬وسبحان هللا والحمد هلل ت َمآلن‬
‫أو تَمأل ما بين السماء واألرض ))‪ ،‬الميزان‪ :‬هو ميزان األعمال‪ ،‬وهو‬
‫يد ُّل على فضل التحميد والتسبيح‪ ،‬والتسبيح هو تنزيه هللا عن ِّ‬
‫كل نقص‪،‬‬
‫‪91‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫والتحميد وصفُه ِّ‬


‫بكل كمال‪.‬‬
‫وقوله‪ (( :‬تمآلن أو تمأل )) يحتمل أن يكون َمأل ُ ما بين السموات‬
‫أن َمأل َ ما بين‬
‫واألرض للتسبيح والتحميد معا ً أو ألحدهما‪ ،‬ويُحتمل َّ‬
‫الشك من الراوي‪ ،‬هل‬
‫ِّ‬ ‫السماء واألرض لهما معاً‪ ،‬والخبر جاء على‬
‫هو بالتثنية أو بدونها‪.‬‬
‫يشمل النور في القلب‪ ،‬والنور في‬ ‫))‬ ‫والصالة نور‬ ‫((‬ ‫‪ 3‬ـ قوله‪:‬‬
‫الوجه‪ ،‬ونور الهداية‪ ،‬والنور يوم القيامة‪.‬‬
‫أي‪ :‬دليل على إيمان صاحبها‬ ‫))‬ ‫والصدقة برهان‬ ‫((‬ ‫‪ 4‬ـ قوله‪:‬‬
‫وس تش ُّح بالمال‪ ،‬ف َمن ُوقي ش َّح نفسه وتصدَّق‬ ‫وصدقه؛ وذلك َّ‬
‫أن النف َ‬ ‫ِّ‬
‫وألن المنافق قد يُصلي رياء‪ ،‬وال تسمح نفسه‬ ‫َّ‬ ‫كان عالمةً على إيمانه‪،‬‬
‫بإخراج الصدقة لبخله وحرصه على المال‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬والصبر ضياء )) أي‪ :‬الصبر على الطاعات ولو شقَّت‬
‫على النفوس‪ ،‬وعن المعاصي ولو مالت إليها النفوس‪ ،‬وعلى أقدار هللا‬
‫المؤلمة فال يجزع وال يتس َّخط‪ ،‬وحصول ذلك من المسلم يد ُّل على قوة‬
‫إيمانه ونور بصيرته‪ ،‬ولهذا ُوصف الصبر بأنَّه ضياء‪.‬‬
‫والقرآن ح َّجةٌ لك أو عليك ))‪ ،‬أي َّ‬
‫أن القرآنَ إ َّما ُح َّجة‬ ‫ُ‬ ‫‪ 6‬ـ قوله‪(( :‬‬

‫لإلنسان إذا قام بما يجب عليه وما هو مطلوب منه في القرآن‪ ،‬من‬
‫تصديق األخبار‪ ،‬وامتثال األوامر‪ ،‬واجتناب النواهي‪ ،‬وتالوته َّ‬
‫حق‬
‫تالوته‪ ،‬وإ َّما ُح َّجة عليه إذا أعرض عنه ولم يقُم بما هو مطلوب منه‪،‬‬
‫في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه‬ ‫ومثل هذا الحديث قوله‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪92‬‬

‫(‪:)817‬‬
‫إن هللا يرفع بهذا الكتاب أقواما ً وي َ‬
‫ضع به آخرين ))‪.‬‬ ‫(( َّ‬
‫‪ 7‬ـ قوله‪ (( :‬ك ُّل الناس يغدو‪ ،‬فبائ ٌع نفسه ف ُمعتقها أو موبقها ))‪ ،‬معناه‪:‬‬
‫سه على‬ ‫الناس يغدون ويسعون‪ ،‬فينقسمون إلى قسمين؛ قسم يبيع نف َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫أن‬
‫هللا‪ ،‬بفعل الطاعات واجتناب المعاصي‪ ،‬فيُعتقُها بذلك من النار‪ ،‬ويُبعدها‬
‫عن إضالل الشيطان وإغوائه‪ ،‬وقس ٌم يُوبقها بارتكاب الذنوب‬
‫المحرمة التي توصله إلى‬
‫َّ‬ ‫والمعاصي؛ وذلك بوقوعه في الشهوات‬
‫النار‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان فضل ُّ‬
‫الطهور‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ بيان فضل التحميد والتسبيح‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إثبات الميزان ووزن األعمال‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ فضل الصالة‪ ،‬وأنَّها ٌ‬
‫نور في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ فضل الصدقة‪ ،‬وأنَّها عالمةٌ على إيمان صاحبها‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ فضل الصبر‪ ،‬وأنَّه ضيا ٌء للصابرين‪.‬‬
‫الحث على العناية بالقرآن تعلُّما ً وتدبُّرا ً وعمالً؛ ليكون ُح َّجة‬
‫ُّ‬ ‫‪7‬ـ‬
‫لإلنسان‪.‬‬
‫التحذير من اإلخالل بما يجب نحو القرآن؛ لئالَّ يكون ح َّجة‬
‫ُ‬ ‫‪8‬ـ‬
‫عليه‪.‬‬
‫كل عمل صالح يُعتق اإلنسا ُن نف َ‬
‫سه به من خزي‬ ‫ُّ‬
‫الحث على ِّ‬ ‫‪9‬ـ‬
‫‪93‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫الدنيا وعذاب اآلخرة‪.‬‬


‫كل عمل سيِّء يجعل صاحبَه من أولياء الشيطان‪،‬‬
‫‪ 10‬ـ التحذير من ِّ‬
‫ويُفضي بصاحبه إلى النار‪.‬‬
‫الحديث الرابع والعشرون‬
‫فيما يرويه عن ربه َّ‬
‫عز‬ ‫عن أبي ذر الغفاري ِّ ‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬
‫حرمتُ الظل َم على نفسي‪ ،‬وجعلته‬ ‫وج َّل أنَّه قال‪ (( :‬يا عبادي! إنِّي َّ‬
‫حرما‪ ،‬فال تظا َلموا‪ ،‬يا عبادي! كلُّكم ضا ٌّل إالَّ َمن َهديته‪،‬‬ ‫بينكم ُم َّ‬
‫فاستهدوني أه ِّدكم‪ ،‬يا عبادي! كلُّكم جائع إالَّ َمن أطعمته‪ ،‬فاستطعموني‬
‫عار إالَّ َمن َكسوته‪ ،‬فاستكسوني أ َك ُ‬
‫س ُكم‪ ،‬يا‬ ‫أ ُطعمكم‪ ،‬يا عبادي! كلُّكم ِّ‬
‫الذنوب جميعا‪،‬‬
‫َ‬ ‫أغفر‬
‫ُ‬ ‫عبادي! إنَّكم ت ُخطئون بالليل والنهار‪ ،‬وأنا‬
‫ض ِّري فتضروني‪،‬‬‫فاستغفروني أغفر لكم‪ ،‬يا عبادي! إنَّكم لن ت َبلُغوا ُ‬
‫سكم‬‫وآخركم وإن َ‬
‫َ‬ ‫أولَكم‬
‫ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‪ ،‬يا عبادي! لو أ َّن َّ‬
‫ب رجل واحد منكم‪ ،‬ما زاد ذلك في ُملكي‬ ‫وجنَّكم كانوا على أتقى قل ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وجنَّكم كانوا على أف َجر‬
‫سكم ِّ‬
‫وآخركم وإن َ‬
‫َ‬ ‫أولَكم‬
‫شيئا‪ ،‬يا عبادي! لو أ َّن َّ‬
‫قلب رجل واحد منكم‪ ،‬ما نقص ذلك من ُملكي شيئا‪ ،‬يا عبادي! لو أ َّن‬
‫وجنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني‪،‬‬ ‫سكم ِّ‬‫وآخركم وإن َ‬
‫َ‬ ‫أو َلكم‬
‫َّ‬
‫فأعطيتُ ك َّل واحد مسألت َه‪ ،‬ما نقص ذلك ِّم َّما عندي إالَّ كما ينقص‬
‫المخيَط إذا أ ُدخل البحر‪ ،‬ياعبادي! إنَّما هي أعمالُكم أ ُحصيها لكم‪ ،‬ث َّم‬
‫ِّ‬
‫غير ذلك فال‬
‫َ‬ ‫أو ِّفيكم إيَّاها‪ ،‬ف َمن َو َج َد خيرا فليح َمد هللا‪ ،‬و َمن َو َج َد‬
‫َ‬
‫ومن إالَّ نفسه )) رواه مسلم‪.‬‬ ‫يَلُ َّ‬
‫ربه )) هذا من األحاديث‬
‫فيما يرويه عن ِّ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪ (( :‬عن النَّبي ِّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪94‬‬

‫القدسية‪ ،‬وهذه العبارة من العبارات التي يُعبَّر بها عن الحديث القدسي‪،‬‬


‫))‪،‬‬ ‫عز وج َّل فيما يرويه عنه رسوله‬ ‫ومثلها عبارة‪ (( :‬قال هللا َّ‬
‫ربه تعالى ويضيفه‬
‫إلى ِّ‬ ‫والحديث القدسي هو ما يسنده رسول هللا‬
‫إليه‪ ،‬ويشتمل على ضمائر التكلُّم التي تعود إليه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫الظلم على نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم‬
‫َ‬ ‫حرمتُ‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬يا عبادي! إنِّي َّ‬
‫حرماً‪ ،‬فال تظالَموا ))‪ ،‬الظلم وض ُع الشيء في غير موضعه‪ ،‬وقد‬ ‫ُم َّ‬
‫كل شيء‪ ،‬فال‬ ‫حرمه هللا على نفسه ومنَعها منه‪ ،‬مع قدرته عليه وعلى ِّ‬ ‫َّ‬
‫ل‪ :‬‬ ‫يقع منه الظلم أبداً؛ لكمال عدله سبحانه وتعالى‪ ،‬قال هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫وقال‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‪   ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪ ، ‬أي‪ :‬ال يخاف نقصا ً من حسناته وال زيادة في سيئاته‪،‬‬
‫ونفي الظلم عن هللا َّ‬
‫عز وج َّل في هذه اآليات‬ ‫ُ‬ ‫أو تحميله سيِّئات غيره‪،‬‬
‫متضم ٌن إثبات كمال عدله سبحانه‪ ،‬قال ابن رجب في جامع العلوم‬ ‫ِّ‬
‫والحكم (‪ (( :)36/2‬وكونُه َخلَقَ أفعا َل العباد وفيها الظلم ال يقتضي‬
‫‪95‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫وصفه بالظلم سبحانه وتعالى‪ ،‬كما أنَّه ال يُوصف بسائر القبائح التي‬
‫صف إالَّ بأفعاله‪ ،‬ال يوصف‬ ‫يفعلها العباد‪ ،‬وهي خ َْلقُهُ وتقد ُ‬
‫ِّيره‪ ،‬فإنَّه ال يُو َ‬
‫فإن أفعا َل عباده مخلوقاته ومفعوالته‪ ،‬وهو ال يوصف‬ ‫بأفعال عباده‪َّ ،‬‬
‫بشيء منها‪ ،‬إنَّما يوصف بما قام به ِّمن صفاته وأفعاله‪ ،‬وهللا أعلم ))‪.‬‬
‫سه وال يظلم‬
‫حرم هللا تعالى على عباده الظلم‪ ،‬فال يظل ُم أحد نف َ‬
‫وقد َّ‬
‫غيره‪.‬‬
‫َ‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬يا عبادي! كلُّكم ضا ٌّل إالَّ َمن هَديته‪ ،‬فاستهدوني أ ْهدِّكم‬
‫))‪ ،‬قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ 39/2‬ـ ‪ (( :)40‬قد َّ‬
‫ظن‬
‫ضهم أنَّه معارض لحديث عياض بن حمار عن النَّبي ِّ ‪( :‬يقول هللا‬ ‫بع ُ‬
‫عز وجل‪ :‬خلقت عبادي ُحنفاء ـ وفي رواية‪ :‬مسلمين ـ فاجتالتهم‬
‫ط َرهم على قبول‬‫فإن هللا خلق بني آدم وف َ‬
‫الشياطين)‪ ،‬وليس كذلك‪َّ ،‬‬
‫اإلسالم والميل إليه دون غيره‪ ،‬والتهيؤ لذلك واالستعداد له بالق َّوة‪ ،‬لكن‬
‫ال ب َّد للعبد من تعليم اإلسالم بالفعل‪ ،‬فإنَّه قبل التعليم جاه ٌل ال يعلم شيئا ً‪،‬‬
‫‪  ‬‬ ‫كما قال َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪:‬‬ ‫‪ ،‬وقال لنبيِّه‬ ‫‪ ‬‬


‫‪،‬‬ ‫‪   ‬‬

‫غير عا ِّلم بما علَّمك من الكتاب والحكمة‪ ،‬كما قال‬


‫َ‬ ‫والمراد َو َج َدك‬
‫تعالى‪   :‬‬
‫‪    ‬‬

‫‪    ‬‬


‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪96‬‬

‫فاإلنسان يُولَد مفطورا ً على قبول‬


‫ُ‬ ‫‪،  ‬‬
‫يعلمه الهدى‪ ،‬فصار مهتديا ً بالفعل‪،‬‬‫الحق‪ ،‬فإن هداه هللا سبَّب له َمن ِّ‬
‫ِّ‬
‫يغير‬
‫يعلمه ما ِّ‬ ‫بعد أن كان مهتديا ً بالقوة‪ ،‬وإن خذله هللا قيَّض له َمن ِّ‬
‫فطرت َه‪ ،‬كما قال ‪( :‬ك ُّل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يُ َه ِّودانه‬
‫ويُنَ ِّ‬
‫صرانه ويُ َم ِّجسانه) ))‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث األمر بسؤال هللا الهداية‪ ،‬وهي تشمل هداية الداللة‬
‫واإلرشاد وهداية التوفيق والتسديد‪ ،‬وحاجة العباد إلى الهداية أش ُّد من‬
‫‪‬‬ ‫حاجتهم إلى الطعام والشراب‪ ،‬وقد جاء في سورة الفاتحة‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،‬فهم يسألون هللا َّ‬
‫عز‬ ‫‪ ‬‬

‫وج َّل أن يُث ِّبتَهم على الهداية الحاصلة‪ ،‬وأن يزيدهم هدى على هدى‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬يا عبادي! كلُّكم جائ ٌع إالَّ َمن أطعمته‪ ،‬فاستطعموني‬
‫أُ ْ‬
‫طعمكم‪ ،‬يا عبادي! كلُّكم عار إالَّ َمن َكسوته‪ ،‬فا ْستكسوني أ َ ْك ُ‬
‫س ُكم ))‪،‬‬
‫في هاتَين الجملتين بيان ش َّدة افتقار العباد إلى ربِّهم‪ ،‬وحاجتهم إليه في‬
‫وأن عليهم أن يسألوه سبحانه وتعالى‬ ‫َّ‬ ‫تحصيل أرزاقهم وكسوتهم‪،‬‬
‫طعامهم وكسوتهم‪.‬‬
‫أغفر‬
‫ُ‬ ‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬يا عبادي! إنَّكم تُخطئون بالليل والنهار‪ ،‬وأنا‬
‫عز وج َّل على‬‫أغفر لكم ))‪ ،‬أوجب هللا َّ‬
‫ْ‬ ‫الذنوب جميعاً‪ ،‬فاستغفروني‬
‫َ‬
‫العباد امتثال األوامر واجتناب المنهيات‪ ،‬والعباد يحصل منهم التقصير‬
‫في أداء ما وجب عليهم‪ ،‬والوقوع في شيء ِّم َّما نُهوا عنه‪ ،‬وطريق‬
‫السالمة من ذلك رجوعهم إلى هللا‪ ،‬وتوبتهم من ذنوبهم‪ ،‬وسؤال هللا َّ‬
‫عز‬
‫‪97‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫َّ‬
‫خطاء‪ ،‬وخير‬ ‫ك ُّل بني آدم‬ ‫وج َّل أن يغفرها لهم‪ ،‬وفي الحديث‪:‬‬
‫((‬

‫وغيره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫التوابون )) حديث حسن‪ ،‬أخرجه ابن ماجه (‪)4251‬‬ ‫َّ‬
‫الخطائين َّ‬
‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬يا عبادي! إنَّكم لن تَبلُغوا ُ‬
‫ض ِّري فتضروني‪ ،‬ولن تبلغوا‬
‫نفعي فتنفعوني ))‪ ،‬قال ابن رجب (‪ (( :)43/2‬يعني َّ‬
‫أن العبا َد ال يقدرون‬
‫ي حميد‪ ،‬ال حاجة‬ ‫فإن هللا تعالى في نفسه غن ٌّ‬ ‫أن يوصلوا نفعا ً وال ًّ‬
‫ضرا؛ َّ‬
‫له بطاعات العباد‪ ،‬وال يعود نفعها إليه‪ ،‬وإنَّما هم ينتفعون بها‪ ،‬وال‬
‫يتضررون بها‪ ،‬قال هللا تعالى‪  :‬‬ ‫َّ‬ ‫يتضرر بمعاصيهم‪ ،‬وإنَّما هم‬
‫َّ‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪.))      ‬‬
‫وجنَّكم كانوا‬
‫سكم ِّ‬ ‫وآخركم وإن َ‬
‫َ‬ ‫أن َّأو َلكم‬
‫‪ 7‬ـ قوله‪ (( :‬يا عبادي! لو َّ‬
‫ب رجل واحد منكم‪ ،‬ما زاد ذلك في ُملكي شيئا ً‪ ،‬يا عبادي!‬ ‫على أتقى قل ِّ‬
‫وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد‬ ‫سكم ِّ‬
‫وآخركم وإن َ‬
‫َ‬ ‫أن َّأولَكم‬
‫لو َّ‬
‫منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ً ))‪ ،‬في هاتين الجملتين بيان كمال‬
‫وأن العبا َد لو كانوا كلُّهم‬
‫عز وج َّل‪ ،‬وكمال غناه عن خلقه‪َّ ،‬‬ ‫ملك هللا َّ‬
‫على أتقى ما يكون أو أفجر ما يكون‪ ،‬لَم يزد ذلك في ملكه شيئاً‪ ،‬ولم‬
‫وفجور‬
‫َ‬ ‫وأن تقوى كل إنسان إنَّما تكون نافعةً لذلك المتَّقي‪،‬‬‫ينقص شيئاً‪َّ ،‬‬
‫ضرره عليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كل فاجر إنَّما يكون‬
‫وجنَّكم قاموا‬‫سكم ِّ‬
‫وآخركم وإن َ‬
‫َ‬ ‫أن َّأو َلكم‬
‫‪ 8‬ـ قوله‪ (( :‬يا عبادي! لو َّ‬
‫في صعيد واحد فسألوني‪ ،‬فأعطيتُ ك َّل واحد مسألتَه‪ ،‬ما نقص ذلك ِّم َّما‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪98‬‬

‫الم ْخ َيط إذا أُدخل البحر ))‪ ،‬هذا يد ُّل على كمال‬ ‫عندي إالَّ كما ينقص ِّ‬
‫واإلنس لو‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫الجن‬ ‫غنى هللا سبحانه وتعالى وافتقار عباده إليه‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫وآخرهم‪ ،‬وسأل ك ٌّل ما يريد‪ ،‬وحقَّق هللا لهم ذلك‪ ،‬لم‬ ‫ُ‬ ‫اجتمعوا َّأولُهم‬
‫المخيَط إذا أُدخل البحر‪ ،‬والمعنى‬ ‫ينقص ذلك ِّم َّما عند هللا إالَّ كما ينقص ِّ‬
‫ألن ما يعلق بالمخ َيط ـ وهو اإلبرة ـ من‬ ‫نقص أصالً؛ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫أنَّه ال يحصل‬
‫الماء ال يُعتبَر شيئاً‪ ،‬ال في الوزن وال في رأي العين‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ قوله‪ (( :‬ياعبادي! إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم‪ ،‬ث َّم َأوفِّيكم‬
‫غير ذلك فال يَلُ َّ‬
‫ومن إالَّ‬ ‫إيَّاها‪ ،‬ف َمن َو َج َد خيرا ً فليح َمد هللا‪ ،‬و َمن َو َج َد َ‬
‫الناس في هذه الحياة مكلَّفون بامتثال األوامر واجتناب‬ ‫ُ‬ ‫نفسه ))‪،‬‬
‫صى‬ ‫شرا فهو ُمح ً‬ ‫النواهي‪ ،‬وك ُّل ما يحصل منهم من عمل خيرا ً أو ًّ‬
‫عليهم‪ ،‬وسيج ُد ك ٌّل أمامه ما قدَّم‪ ،‬إن خيرا ً فخير‪ ،‬وإن ًّ‬
‫شرا فشر‪ ،‬قال هللا‬
‫ل‪    :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪    ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،  ‬ف َمن قدَّم خيرا ً وجد ثوابه أمامه‪ ،‬والثواب‬
‫من فضل هللا على العبد‪ ،‬وفعل الخير في الدنيا هو من توفيق هللا َّ‬
‫عز‬
‫وج َّل للعبد‪ ،‬فله الفضل أ َّوالً وآخراً‪ ،‬و َمن َو َج َد أمامه غير الخير فإنَّما‬
‫لربه وجنايته على نفسه‪ ،‬فإذا وجد‬ ‫أُتي العبد من قبل نفسه ومعصيته ِّ‬
‫يلومن إالَّ نفسه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أمامه العذاب فال‬
‫‪ 10‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫ربه يشتمل على‬
‫عن ِّ‬ ‫أن من األحاديث ما يرويه الرسول‬ ‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫ضمائر التكلُّم ترجع إلى هللا‪ ،‬ويُقال له الحديث القدسي‪.‬‬
‫‪99‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪ 2‬ـ تحريم هللا الظلم على نفسه وتنزيهه عنه‪ ،‬مع إثبات كمال ضدِّه‬
‫وهو العدل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تحريم هللا الظلم على العباد ألنفسهم ولغيرهم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ شدَّة حاجة العباد إلى سؤال ربِّهم ال ُهدى والطعام والكسوة وغير‬
‫ذلك من أمور دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن هللا يحبُّ من عباده أن يسألوه ك َّل ما يحتاجون إليه من أمور‬
‫الدنيا والدِّين‪.‬‬
‫وضره‪ ،‬بل‬
‫َّ‬ ‫وأن العبا َد ال يبلغون نفعه‬ ‫‪ 6‬ـ كمال ملك هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪َّ ،‬‬
‫وضرهم إلى أنفسهم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫يعود نفعُهم‬
‫أن العباد ال يسلمون من الخطأ‪َّ ،‬‬
‫وأن عليهم التوبة من ذلك‬ ‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫واالستغفار‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫أن التقوى والفجور يكونان في القلوب؛ لقوله‪ (( :‬على أتقى قلب‬
‫رجل ))‪ ،‬و(( على أفجر قلب رجل ))‪.‬‬
‫ملك هللا ال تزيده طاعة المطيعين‪ ،‬وال تنقصه معاصي العاصين‪.‬‬
‫أن َ‬‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫‪ 10‬ـ كمال غنى هللا وكمال ملكه‪ ،‬وأنَّه لو أعطى عبا َده أ َّولَهم‬
‫عز وج َّل وخزائنه شيئاً‪.‬‬
‫وآخرهم ك َّل ما سألوه لم ينقص من ملك هللا َّ‬
‫َ‬
‫حث العباد على الطاعة‪ ،‬وتحذيرهم من المعصية‪َّ ،‬‬
‫وأن ك َّل‬ ‫‪ 11‬ـ ُّ‬
‫ذلك محصى عليهم‪.‬‬
‫أن من وفَّقه هللا لطريق الخير ظفر بسعادة الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫‪ 12‬ـ َّ‬
‫والفضل هلل للتوفيق لسلوك سبيل ال ُهدى‪ ،‬ولحصول الثواب على ذلك‪.‬‬
‫فرط وأساء العمل ظفر بالخسران‪ ،‬وندم حيث ال ينفع‬ ‫‪ 13‬ـ َّ‬
‫أن َمن َّ‬
‫النَّدم‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪100‬‬

‫الحديث الخامس والعشرون‬

‫قالوا‬ ‫أن أناسا من أصحاب رسول هللا‬ ‫أيضا‪َّ :‬‬ ‫عن أبي ذر‬
‫نصلي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ (( :‬ذهب أه ُل ال ُّدثور باألجور‪ ،‬يُصلُّون كما‬ ‫للنَّبي ِّ‬
‫ويصومون كما نصوم‪ ،‬ويتصدَّقون بفضول أموالهم‪ ،‬قال‪ :‬أوليس قد‬
‫وكل تكبيرة صدقة‪،‬‬
‫بكل تسبيحة صدقة‪ِّ ،‬‬
‫إن ِّ‬ ‫جعل هللا لكم ما تص َّدقون؟ َّ‬
‫وكل تهليلة صدقة‪ ،‬وأمر بمعروف صدقة‪ ،‬ونهي‬
‫وكل تحميدة صدقة‪ِّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫عن المنكر صدقة‪ ،‬وفي بُضع أحدكم صدقة‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا!‬
‫أيأتي أح ُدنا شهوت َه ويكون له فيها أجر؟ قال‪ :‬أرأيتم لو وضعها في‬
‫))‬ ‫حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحالل كان له أجر‬
‫رواه مسلم‪.‬‬
‫كل خير‪ ،‬وأسبقهم‬ ‫أحرص الناس على ِّ‬ ‫ُ‬ ‫أصحاب رسول هللا‬
‫ُ‬ ‫‪1‬ـ‬
‫ضهم أن يلحق‬ ‫كل خير‪ ،‬يتنافسون في األعمال الصالحة‪ ،‬ويحبُّ بع ُ‬ ‫إلى ِّ‬
‫في األجر بمن سبقه منهم‪ ،‬ولهذا ذكر جماعة من فقراء أصحاب رسول‬
‫مشاركتهم لألغنياء بالصالة والصيام‪ ،‬وكون األغنياء تميَّزوا‬ ‫هللا‬
‫أن هناك‬ ‫إلى َّ‬ ‫ي‬‫عليهم بالصدقة بفضول أموالهم‪ ،‬وقد أرشدهم النَّب ُّ‬
‫أنواعا ً من الصدقات يقدر الفقراء على اإلتيان بها‪ ،‬كاألذكار واألمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫الفقراء إلى اإلتيان بها تنقسم‬ ‫‪ 2‬ـ الصدقات التي أرشد النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫إلى قسمين‪:‬‬
‫قسم يقتصر نفعه عليهم‪ ،‬وهو التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل‪،‬‬
‫وقسم يتعدَّاهم إلى غيرهم‪ ،‬يكون نفعه لهم ولغيرهم‪ ،‬وهو األمر‬
‫‪101‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫بالمعروف والنهي عن المنكر والجماع‪.‬‬


‫أن ما يأتيه اإلنسان من المباحات التي فيها ُّ‬
‫حظ للنفس تكون‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫قربةً بالنيَّة الصالحة‪ ،‬مثل قضاء اإلنسان شهوته إذا قصد بذلك إعفاف‬
‫نفسه وإعفاف أهله وتحصيل األوالد‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حرص الصحابة على فعل األعمال الصالحة والتنافس في‬
‫الخيرات‪.‬‬
‫أن الصدقة ال تقتصر على الصدقة بالمال‪ ،‬وإن كانت أصالً في‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وأن ذلك صدقة‬ ‫ُّ‬
‫الحث على التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل‪َّ ،‬‬ ‫‪3‬ـ‬
‫من المسلم على نفسه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن َمن عجز عن فعل شيء من الطاعات لعدم قدرته عليه‪،‬‬
‫فإنَّه يُكثر من الطاعات التي يقدر عليها‪.‬‬
‫الحث على األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وأنَّه صدقةٌ‬
‫ُّ‬ ‫‪5‬ـ‬
‫من المسلم على نفسه وعلى غيره‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫أن قضا َء اإلنسان شهوته بنيَّة صالحة يكون صدقة منه على‬
‫نفسه وعلى غيره‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ مراجعة العا ِّلم فيما قاله للتثبُّت فيه‪.‬‬
‫شبَّه ثبوت األجر ِّل ًِّ َمن قضى‬ ‫ي‬‫ألن النَّب َّ‬
‫‪ 8‬ـ إثبات القياس؛ َّ‬
‫شهوته في الحالل بحصول اإلثم ِّل َمن قضاها في الحرام‪ ،‬والذي في‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪102‬‬

‫هذا الحديث من قبيل قياس العكس‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث السادس والعشرون‬

‫سالمى من‬
‫ك ُّل ُ‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‪ :‬قال رسول هللا‬ ‫عن أبي هريرة‬
‫الناس عليه صدقة ك َّل يوم تطلع فيه الشمس‪ ،‬ت َعد ُل بين اثنين صدقة‪،‬‬
‫عه صدقة‪،‬‬ ‫الرجل في دابَّته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متا َ‬
‫وتعين َّ‬
‫وبكل خطوة ت َمشيها إلى الصالة صدقة‪ ،‬وتُميط‬
‫ِّ‬ ‫والكلمةُ الطيِّبة صدقة‪،‬‬
‫األذى عن الطريق صدقة )) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫سالمى من الناس عليه صدقة ك َّل يوم تطلع فيه‬
‫ك ُّل ُ‬ ‫((‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪:‬‬
‫الشمس )) السالمى المفاصل‪ ،‬وهي ستون وثالثمائة‪ ،‬جاء تفسيرها بذلك‬
‫في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي هللا عنها (‪ ،)1007‬والمعنى‬
‫َّ‬
‫أن ك َّل يوم تطلع فيه الشمس فعلى جميع تلك السالمى صدقة في ذلك‬
‫اليوم‪ ،‬ثم ذكر بعد ذلك أمثلة ِّم َّما تحصل به الصدقة‪ ،‬وهي فعلية وقولية‪،‬‬
‫ومتعدية‪ ،‬وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر (‪:)720‬‬
‫ِّ‬ ‫وقاصرة‬
‫ويُجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ))؛ وذلك َّ‬
‫أن صالة َ‬ ‫((‬

‫هاتين الركعيتن يحصل بهما تحرك المفاصل في هذه العبادة وهي‬


‫الصالة‪ ،‬فتكون مجزئة عن الصدقات في هذا اليوم‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان سواء كانت قولية أو فعلية فهي‬ ‫‪ 2‬ـ ك ُّل قُربة يأتي بها‬
‫في هذا الحديث هو من قبيل التمثيل ال‬ ‫صدقة‪ ،‬وما ذكره النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫الحصر‪ ،‬فالعدل بين االثنين يكون في الحكم أو الصلح بين متنازعين‬
‫‪103‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫الرجل في حمله على دابَّته أو حمل‬ ‫ي متعدٍّ‪ ،‬وإعانة َّ‬ ‫بالعدل‪ ،‬وهو قول ٌّ‬
‫الطيبة يدخل تحته ك ُّل كالم‬
‫ِّ‬ ‫ي متعدٍّ‪ ،‬وقول الكلمة‬
‫متاعه عليها هو فعل ٌّ‬
‫طيب من الذِّكر والدعاء والقراءة والتعليم واألمر والمعروف والنهي‬
‫ِّ‬
‫قاصر ومتعدٍّ‪ ،‬وك ُّل خطوة يمشيها‬
‫ٌ‬ ‫ي‬
‫عن المنكر وغير ذلك‪ ،‬وهو قول ٌّ‬
‫ي قاصر‪،‬‬‫المسلم إلى الصالة صدقة من المسلم على نفسه‪ ،‬وهو فعل ٌّ‬
‫وإماطة األذى عن الطريق من شوك أو حجر أو زجاج وغير ذلك‪،‬‬
‫ي متعدٍّ‪.‬‬
‫وهو فعل ٌّ‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫كل سالمى من اإلنسان ك َّل يوم صدقة‪ ،‬سواء كانت‬
‫أن على ِّ‬ ‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫متعدية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫قاصرة أو‬
‫ُّ‬
‫الحث على اإلصالح بين متنازعين بالعدل‪.‬‬ ‫‪2‬ـ‬
‫‪ 3‬ـ ُّ‬
‫حث المسلم على إعانة غيره بما يحتاج إليه‪ ،‬كحمله على دابَّته‬
‫أو حمل متاع عليها‪.‬‬
‫طيب من ذكر وقراءة وتعليم ودعوة‬
‫كل كالم ِّ‬
‫‪ 4‬ـ الترغيب في ِّ‬
‫وغير ذلك‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ فضل المشي إلى المساجد‪ ،‬وقد جاء في حديث آخر أنَّه يُكتب‬
‫له َممشاه في ذهابه وإيابه‪ ،‬رواه مسلم (‪.)663‬‬
‫‪ 6‬ـ فضل إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬وقد جاء في حديث آخر أنَّه‬
‫من شعب اإليمان‪ ،‬رواه مسلم (‪.)58‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪104‬‬

‫***‬
‫‪105‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫الحديث السابع والعشرون‬

‫البر ُحسن‬
‫قال‪ُّ (( :‬‬ ‫‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬ ‫عن النواس بن سمعان‬
‫ال ُخلق‪ ،‬واإلث ُم ما حاك في النفس وكرهتَ أن ي َّ‬
‫طلع عليه الناس )) رواه‬
‫مسلم‪.‬‬
‫((‬ ‫‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫قال‪ :‬أتيت رسول هللا‬ ‫وعن وابصة بن معبَد‬
‫البر ما‬
‫البر واإلثم؟ قلت‪ :‬نعم! قال‪ :‬استفت قل َبك‪ُّ ،‬‬
‫جئتَ تسأل عن ِّ‬
‫َّ‬
‫واطمان إليه القلب‪ ،‬واإلث ُم ما حاك في النفس‬ ‫اطمأنت إليه النفس‬
‫حديث حسن‪ ،‬رويناه‬ ‫))‬ ‫وتردَّد في الصدر‪ ،‬وإن أفتاك الناس وأفتوك‬
‫في مسندي اإلما َمين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ حديث النواس رواه مسلم‪ ،‬وحديث وابصة رواه أحمد والدارمي‬
‫جيدة‪ ،‬ذكرها الحافظ ابن رجب‬
‫وفي إسناده مقال‪ ،‬لكن له شواهد بأسانيد ِّ‬
‫في جامع العلوم والحكم‪ ،‬وهو في الجملة ُمماثل لحديث النواس بن‬
‫سمعان‪.‬‬
‫البر كلمةٌ جامعة تشمل األمور الباطنة التي في القلب واألمور‬
‫‪ 2‬ـ ُّ‬
‫‪ ‬‬ ‫الظاهرة التي تكون على اللسان والجوارح‪ ،‬وآية‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫فإن َّأولَها مشتمل‬
‫‪  ‬واضحة الداللة على ذلك؛ َّ‬
‫وآخرها مشتمل على األمور الظاهرة‪ ،‬ويُطلق‬ ‫َ‬ ‫على األمور الباطنة‪،‬‬
‫بر الوالدين‪ ،‬ال سيما إذا قُرن بالصلة‪ ،‬فإنَّه يُراد‬
‫البر على خصوص ِّ‬ ‫ُّ‬
‫البر مقرونا ً بالتقوى‪ ،‬كما في‬
‫بهما بر الوالدين وصلة األرحام‪ ،‬ويأتي ُّ‬
‫‪  ‬‬ ‫قول هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪106‬‬

‫‪ ،‬فعند‬ ‫‪  ‬‬

‫البر بفعل الطاعات‪ ،‬والتقوى بترك‬‫سر ُّ‬‫اجتماعهما كما في هذه اآلية يُف َّ‬
‫المنهيات‪ ،‬فإذا أُفرد أحدهما عن اآلخر بالذِّكر شمل المعنيين جميعاً‪،‬‬
‫وهذا نظير اإلسالم واإليمان‪ ،‬والفقير والمسكين‪.‬‬
‫سن ال ُخلُق‬
‫البر حسن الخلق )) و ُح ُ‬
‫‪ 3‬ـ جاء في حديث النواس (( ُّ‬
‫يحتمل أن يكون المراد به خصوص الخلق الكريم المعروف بهذا االسم‪،‬‬
‫البر به ألهميَّته وعظيم شأنه‪ ،‬وهو نظير (( الدِّين النصيحة‬
‫ويكون تفسير ِّ‬
‫لكل ما هو‬ ‫))‪ ،‬و(( الح ُّج عرفة ))‪ ،‬ويُمكن أن يُراد به العموم والشمول ِّ‬
‫خير‪ ،‬ويد ُّل عليه وصف أ ِّم المؤمنين عائشة رضي هللا عنها ِّل ُخلق‬
‫بأنَّه القرآن‪ ،‬والمعنى أنَّه يتأدَّب بآدابه‪ ،‬ويمتثل أوامره‪،‬‬ ‫الرسول‬
‫ويجتنب نواهيه‪.‬‬
‫يطلع عليه الناس ))‪،‬‬ ‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬واإلث ُم ما حاك في نفسك وكرهت أن َّ‬
‫ُّ‬
‫تطمئن‬ ‫من اإلثم ما يكون واضحا ً جليًّا‪ ،‬ومنه ما يحوك في الصدر وال‬
‫اإلنسان أن َّ‬
‫يطلع عليه الناس؛ ألنَّه ِّم َّما يُستحيا من‬ ‫ُ‬ ‫إليه النفس‪ ،‬ويكره‬
‫فعله‪ ،‬فيخشى صاحبُه ألسنةَ الناس في نيلهم منه‪ ،‬وهو شبيه بما جاء‬
‫في األحاديث الثالثة الماضية‪ (( :‬ف َمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه‬
‫وعرضه ))‪ ،‬و(( دع ما يريبُك إلى ما ال يريبك ))‪ ،‬و(( َّ‬
‫إن ِّم َّما أدرك‬
‫الناس من كالم النبوة األولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ))‪.‬‬
‫واإلث ُم يُراد به عموم المعاصي الواضحة والمشتبهة‪ ،‬ويأتي مقترنا ً‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وج َّل‪:‬‬ ‫َّ‬
‫عز‬ ‫هللا‬ ‫قول‬ ‫في‬ ‫كما‬ ‫بالعدوان‪،‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪107‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫سر العدوان باالعتداء‬


‫‪ ،  ‬فيُف َّ‬
‫والظلم‪ ،‬فيدخل فيه االعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم‬
‫وأعراضهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫واطمأن‬ ‫البر في حديث وابصة بما اطمأنَّت إليه النفس‬ ‫‪ 5‬ـ فُ ِّسر ُّ‬
‫مؤكدة ً‬
‫فرق بينهما‪ ،‬فقد تكون الجملة الثانية ِّ‬‫ٌ‬ ‫إليه القلب‪ ،‬وال يظهر لي‬
‫للجملة األولى؛ التِّفاقهما في المعنى‪ ،‬وفُ ِّسر فيه اإلثم بما يُقابل ذلك‪،‬‬
‫وهو بمعنى ما فُ ِّسر به اإلثم في حديث النواس‪.‬‬
‫((‬ ‫وفي آخره‪:‬‬ ‫))‬ ‫استفت قلبك‬ ‫((‬ ‫‪ 6‬ـ قوله في أول حديث وابصة‪:‬‬
‫أن ما كان فيه شبهة وريبة وال‬ ‫وإن أفتاك الناس وأفتوك )) يد ُّل على َّ‬
‫أن السالمةَ في تركه ولو حصل إفتاء الناس به‪،‬‬ ‫يطمئن إليه القلب‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫أن من كان من أهل اإليمان يخاف هللا ويتَّقيه فإنَّه ال يُقدِّم‬ ‫والمقصود َّ‬
‫على الشيء الذي ال يطم ُّ‬
‫ئن إليه قلبه‪ ،‬وقد يكون اإلفتاء ِّم َّمن ال علم‬
‫ُعول‬
‫عنده‪ ،‬وقد يكون ِّم َّمن عنده علم‪ ،‬ولكن ليس في المسألة دليل ِّبين ي َّ‬
‫عليه في الفعل‪ ،‬أ َّما إذا كان في المسألة دليل من الكتاب والسنَّة فالمتعين‬
‫المصير إليه‪ ،‬واستفتاء القلب ال يكون من أهل الفجور والمعاصي؛ َّ‬
‫فإن‬
‫من أولئك َمن قد يُجاهر بالمعاصي وال يستحيي من هللا وال من خلقه‪،‬‬
‫البين‪ ،‬ومن باب أولى المشتبه‪.‬‬
‫فمثل أولئك يقعون في الحرام ِّ‬
‫له بالذي جاء‬ ‫‪ 7‬ـ ما جاء في حديث وابصة من إخبار النَّبي ِّ‬
‫يسأل عنه قبل أن يُبدي سؤاله محمول ـ وهللا أعلم ـ على علم سابق‬
‫البر واإلثم‪ ،‬فلعلَّه حصل له‬ ‫باهتمام هذا الصحابي ِّ بمعرفة ِّ‬ ‫للنَّبي ِّ‬
‫من قبل في شيء من ذلك‪.‬‬ ‫مراجعة النَّبي ِّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪108‬‬

‫‪ 8‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ بيان عظم شأن حسن الخلق‪.‬‬
‫واإلثم من الكلمات الجامعة‪.‬‬
‫َ‬ ‫بر‬ ‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫أن ال َّ‬
‫الحل‬
‫ِّ‬ ‫المسلم يُ ْقدِّم في أمور دينه على فعل ما هو واضح‬
‫َ‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن‬
‫دون ما هو مشتبه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن المؤمن الذي يخاف هللا ال يفعل ما ال يطمئن إليه قلبه‪ ،‬ولو‬
‫أُفتي به‪ ،‬ما لم يكن أمرا ً واضحا ً في الشرع كالرخص‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ حرص الصحابة رضي هللا عنهم على معرفة الحالل والحرام‬
‫والبر واإلثم‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الثامن والعشرون‬

‫قال‪ :‬وعظنا رسول هللا‬ ‫عن أبي نجيح العرباض بن سارية‬


‫وذرفت منها العيون‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا‬
‫موعظة بليغة وجلت منها القلوب‪َ ،‬‬
‫فأوصنا‪ ،‬قال‪ (( :‬أُوصيكم بتقوى هللا‬
‫ِّ‬ ‫رسول هللا! كأنَّها موعظةُ مودِّع‬
‫عز وج َّل‪ ،‬والسمع والطاعة وإن تأ َّمر عليكم عبد‪ ،‬فإنَّه َمن يَعش منكم‬
‫َّ‬
‫فسيرى اختالفا كثيرا‪ ،‬فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين‬
‫ضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وإيَّاكم ومحدثات األمور؛ َّ‬
‫فإن ك َّل‬ ‫المهديِّين‪ ،‬ع ُّ‬
‫بدعة ضاللة )) رواه أبو داود والترمذي‪ ،‬وقال‪ (( :‬حديث حسن صحيح‬
‫))‪.‬‬
‫موعظةً بليغة وجلت‬ ‫‪ 1‬ـ قول العرباض‪ (( :‬وعظنا رسول هللا‬
‫‪109‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫وذرفت منها العيون ))‪ ،‬الموعظة ما كان من الكالم فيه‬


‫منها القلوب‪َ ،‬‬
‫يؤثر على النفوس ويبلغ القلوب‪ ،‬فتوجل من مخافة‬
‫ترغيب وترهيب‪َ ،‬‬
‫هذه الموعظة بهذه الصفات الثالث‪،‬‬ ‫هللا‪ ،‬وقد وصف العرباض‬
‫التي هي البالغة ووجل القلب وذرف العيون‪ ،‬قال ابن رجب في جامع‬
‫العلوم والحكم (‪ (( :)111/2‬والبالغة في الموعظة مستحسنة؛ ألنَّها‬
‫صل إلى إفهام‬
‫أقرب إلى قبول القلوب واستجالبها‪ ،‬والبالغة هي التو ُّ‬
‫ُ‬
‫المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من‬
‫األلفاظ الدَّالة عليها‪ ،‬وأفصحها وأحالها لألسماع وأوقعها في القلوب‬
‫))‪.‬‬
‫وقد وصف هللا المؤمنين بوجل قلوبهم وذرف عيونهم عند ذكر هللا‪،‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وج َّل‪:‬‬ ‫َّ‬
‫عز‬ ‫هللا‬ ‫قال‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪،‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال‪:‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪. ‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬قلنا‪ :‬يا رسول هللا! كأنَّها موعظة مودِّع فأوصنا )) أي‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪110‬‬

‫المودع‪ ،‬لذا فقد طلب الصحابة الكرام‬


‫ِّ‬ ‫أن هذه الوصية تشبه موعظة‬ ‫َّ‬
‫كل خير ـ وصيَّة جامعة يعهد بها إليهم رسول‬‫ـ وهم الحريصون على ِّ‬
‫ُعولون عليها؛ َّ‬
‫ألن الوصيَّة عند الوداع لها‬ ‫سكون بها وي ِّ‬ ‫هللا ‪ ،‬يتم َّ‬
‫وقع في النفوس‪ ،‬ولع َّل هذه الموعظة كان فيها ما يشعر بالتوديع‪ ،‬لذا‬
‫طلبوا هذه الوصيَّة‪.‬‬
‫عز وج َّل أن يجعل‬‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬أوصيكم بتقوى هللا ))‪ ،‬تقوى هللا َّ‬
‫المرء بينه وبين غضب هللا وقاية تقيه منه‪ ،‬وذلك بفعل الطاعات‬
‫واجتناب المعاصي‪ ،‬وتصديق األخبار‪ ،‬وهي وصيَّة هللا لألولين‬
‫ل‪  :‬‬ ‫عز وج َّ‬‫َّ‬ ‫واآلخرين‪ ،‬كما قال هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫كل خير وفالح في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ويأتي‬
‫‪ ،  ‬وهي سبب ِّ‬
‫األمر بتقوى هللا في كثير من اآليات‪ ،‬ال سيما اآليات المبدوءة بـ‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،‬وكذلك في وصايا رسول هللا‬ ‫‪‬‬
‫ألصحابه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬والسمع والطاعة وإن تأ َّمر عليكم عبد )) وهي وصيَّة‬
‫بالسمع والطاعة لوالة األمور في غير معصية هللا‪ ،‬ولو كان األمير‬
‫أن العب َد ليس أهالً للخالفة‪ ،‬ويُحمل ما‬
‫عبداً‪ ،‬وقد أجمع العلماء على َّ‬
‫جاء في هذا الحديث وغيره من األحاديث في معناه على المبالغة في‬
‫لزوم السمع والطاعة للعبد إذا كان خليفة‪ ،‬وإن كان ذلك ال يقع‪ ،‬أو َّ‬
‫أن‬
‫‪111‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫ذلك يحمل على تولية الخليفة عبدا ً على قرية أو جماعة‪ ،‬أو أنَّه كان‬
‫حرا‪ ،‬وأُطلق عليه عبد باعتبار ما كان‪ ،‬أو على َّ‬
‫أن العب َد‬ ‫عند التولية ًّ‬
‫تغلَّب على الناس بشوكته واس َّ‬
‫تقرت األمور واستتبَّ األمن؛ ِّل َما في‬
‫منازعته من حصول ما هو أنكر من واليته‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬فإنَّه َمن ي ِّعش منكم فسيرى اختالفا ً كثيرا ً ))‪ ،‬هذا من‬
‫نبوته ‪ ،‬حيث أخبر عن أمر مستقبَل وقع طبقا ً ِّل َما أخبر به‬ ‫دالئل َّ‬
‫أدركوا اختالفا ً‬ ‫أعمارهم من أصحاب النَّبي ِّ‬
‫ُ‬ ‫فإن الذين طالت‬ ‫؛ َّ‬
‫وأصحابه‪ ،‬وذلك بظهور‬ ‫كثيرا ً ومخالفة ِّل َما كان عليه رسول هللا‬
‫بعض فرق الضالل‪ ،‬كالقدرية والخوارج وغيرهم‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين‪ ،‬ع ُّ‬
‫ضوا‬
‫التفرق وكثرته‪ ،‬أرشد إلى‬ ‫ُّ‬ ‫بحصول‬ ‫عليها بالنَّواجذ ))‪ ،‬لَ َّما أخبر‬
‫سك بسنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين‪،‬‬ ‫طريق السالمة والنجاة‪ ،‬وذلك بالتم ُّ‬
‫وخلفاؤه الراشدون هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي هللا عنهم‪،‬‬
‫نبوة‪ ،‬كما جاء في‬ ‫خالفتَهم بأنَّها خالفةُ َّ‬ ‫وقد وصف رسول هللا‬
‫الملك أو‬
‫َ‬ ‫‪ (( :‬خالفة النبوة ثالثون سنة‪ ،‬ثم يؤتي هللاُ‬ ‫حديث سفينة‬
‫وغيره‪ ،‬وهو حديث صحيح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مل َكه من يشاء )) رواه أبو داود (‪)4646‬‬
‫أورده األلباني في السلسلة الصحيحة (‪ ،)460‬ونقل تصحيحه عن‬
‫تسعة من العلماء‪ ،‬قال ابن رجب (‪ (( :)120/2‬والسنَّة هي الطريقة‬
‫سك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من‬ ‫المسلوكة‪ ،‬فيشمل ذلك التم ُّ‬
‫االعتقادات واألعمال واألقوال‪ ،‬وهذه هي السنَّة الكاملة‪ ،‬ولهذا كان‬
‫السلف قديما ً ال يطلقون اسم السنَّة إالَّ على ما يشمل ذلك كلَّه‪ ،‬وروي‬
‫معنى ذلك عن الحسن واألوزاعي والفضيل بن عياض‪ ،‬وكثير من‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪112‬‬

‫اسم السنَّة بما يتعلَّق باالعتقادات؛ ألنَّها أص ُل‬


‫يخص َ‬
‫ُّ‬ ‫العلماء المتأخرين‬
‫الدِّين‪ ،‬والمخالف فيها على خطر عظيم ))‪.‬‬
‫سك بسنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين‬ ‫على التم ُّ‬ ‫وقد َّ‬
‫حث رسول هللا‬
‫بقوله‪ (( :‬فعليكم ))‪ ،‬وهي اسم فعل أمر‪ ،‬ثم أرشد إلى ش َّدة التم ُّ‬
‫سك بها‬
‫بقوله‪ (( :‬عضُّوا عليها بالنَّواجذ ))‪ ،‬والنواجذ هي األضراس‪ ،‬وذلك‬
‫مبالغة في ش َّدة التم ُّ‬
‫سك بها‪.‬‬
‫فإن ك َّل بدعة ضاللة ))‪،‬‬‫‪ 7‬ـ قوله‪ (( :‬وإيَّاكم ومحدثات األمور؛ َّ‬
‫فإن ك َّل‬ ‫في رواية أبي داود (‪ (( :)4607‬وإيَّاكم ومحدثات األمور؛ َّ‬
‫محدثة بدعة‪ ،‬وك َّل بدعة ضاللة ))‪ ،‬محدثات األمور ما أُحدِّث وابتُدع‬
‫والتفرق‬
‫ُّ‬ ‫في الدِّين ِّم َّما لم يكن له أصل فيه‪ ،‬وهو يرجع إلى االختالف‬
‫بقوله‪ (( :‬فإنَّه َمن يَعش منكم فسيرى‬ ‫المذموم الذي ذكره النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫ك َّل البدع بأنَّها ضالل‪ ،‬فال يكون‬ ‫ي‬‫اختالفا ً كثيرا ً ))‪ ،‬وقد وصف النَّب ُّ‬
‫شي ٌء من البدع حسناً؛ لعموم قوله‪ (( :‬وكل بدعة ضاللة ))‪ ،‬وقد روى‬
‫محمد بن نصر في كتابه السنة بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي هللا‬
‫عنهما قال‪ (( :‬ك ُّل بدعة ضاللة‪ ،‬وإن رآها الناس حسنة ))‪ ،‬وذكر‬
‫الشاطبي في االعتصام عن ابن الماجشون قال‪ :‬سمعت مالكا ً يقول‪(( :‬‬

‫أن محمدا ً خان‬ ‫َمن ابتدع في اإلسالم بدعة يراها حسنة فقد زعم َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫ألن هللا يقول‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫الرسالة؛‬
‫‪ ،   ‬فما لم يكن‬
‫يومئذ دينا ً فال يكون اليوم دينا ً ))‪ ،‬وقال أبو عثمان النيسابوري‪َ (( :‬من‬
‫أ َّمر السنَّة على نفسه قوالً وفعالً نطق بالحكمة‪ ،‬و َمن أ َّمر الهوى على‬
‫نفسه قوالً وفعالً نطق بالبدعة ))‪ ،‬انظر‪ :‬حلية األولياء (‪،)244/10‬‬
‫سن في‬ ‫وأ َّما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (‪َ (( :)1017‬من َّ‬
‫‪113‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫اإلسالم سنَّة حسنة فله أجرها وأجر َمن عمل بها )) فهو محمو ٌل على‬
‫القدوة الحسنة في الخير‪ ،‬كما هو واضح من سبب الحديث‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن‬
‫ص َّرة‬ ‫َّ‬
‫حث على الصدقة‪ ،‬فأتى رج ٌل من األنصار ب ُ‬ ‫رسول هللا‬
‫ما قال‪،‬‬ ‫الناس على الصدقة‪ ،‬فعند ذلك قال رسول هللا‬
‫ُ‬ ‫كبيرة‪ ،‬فتابعه‬
‫وأحياها‪ ،‬كما‬ ‫وهو محمو ٌل أيضا ً على َمن أظهر سنَّة الرسول‬
‫في جمع الناس على صالة التراويح في رمضان‪،‬‬ ‫حصل من عمر‬
‫صلَّى بالناس قيام رمضان في بعض‬ ‫إظهار لسنَّته ؛ ألنَّه‬
‫ٌ‬ ‫فإنَّه‬
‫الليالي‪ ،‬وتركه خشية أن يُفرض عليهم‪ ،‬كما في صحيح البخاري‬
‫ذهب ما كان يُخشى من الفرض‬ ‫(‪ ،)2012‬فل َّما توفي رسول هللا‬
‫‪،‬‬ ‫النقطاع التشريع بوفاته ‪ ،‬فبقي االستحباب‪ ،‬فأظهره عمر‬
‫من قوله‪(( :‬‬ ‫وهو أيضا ً من سنَّة الخلفاء الراشدين‪ ،‬وما جاء عنه‬
‫نعم البدعة ))‪ ،‬كما في صحيح البخاري (‪ )2010‬يريد إظهار صالة‬
‫األذان‬ ‫التراويح‪ ،‬يُراد به البدعة اللغوية‪ ،‬ومثل ذلك زيادة عثمان‬
‫يوم الجمعة‪ ،‬وقد وافقه عليه الصحابةُ رضي هللا عنهم‪ ،‬فهو من سنَّة‬
‫الخلفاء الراشدين‪ ،‬وما جاء عن ابن عمر رضي هللا عنهما أنَّه بدعة‪،‬‬
‫فهو محمو ٌل ـ إن ص َّح ـ على البدعة اللغوية‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ استحباب الموعظة والتذكير في بعض األحيان؛ ِّل َما في ذلك‬
‫من التأثير على القلوب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حرص الصحابة رضي هللا عنهم على الخير؛ لطلبهم الوصيَّة‬
‫‪.‬‬ ‫منه‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪114‬‬

‫أن أه َّم ما يوصى به تقوى هللا َّ‬


‫عز وج َّل‪ ،‬وهي طاعته بامتثال‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أمره واجتناب نهيه‪.‬‬
‫أهم ما يوصى به السمع والطاعة لوالة األمور؛ ِّل َما في‬ ‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن من ِّ‬
‫ذلك من المنافع الدنيوية واألخروية للمسلمين‪.‬‬
‫الحث على لزوم السمع والطاعة‪ ،‬ولو كان األمير‬
‫ِّ‬ ‫‪ 5‬ـ المبالغة في‬
‫عبداً‪.‬‬
‫عن وجود االختالف الكثير في أ َّمته‪ ،‬ثم‬ ‫‪ 6‬ـ إخبار النَّبي ِّ‬
‫‪.‬‬ ‫حصوله كما أخبر من دالئل نبوته‬
‫أن طريق السالمة عند االختالف في الدِّين لزوم سنَّته‬‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫وسنَّة الخلفاء الراشدين‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ بيان فضل الخلفاء الراشدين‪ ،‬وهم أبو بكر وعمر وعثمان‬
‫وعلي رضي هللا عنهم‪ ،‬وأنَّهم راشدون مهديُّون‪.‬‬
‫كل ما أُحدث في الدِّين ِّم َّما لم يكن له أصل فيه‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ التحذير من ِّ‬
‫أن البدع كلَّها ضالل‪ ،‬فال يكون شيء منها حسناً‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ َّ‬
‫‪ 11‬ـ الجمع بين الترغيب والترهيب؛ لقوله في الترغيب‪ (( :‬فعليكم ))‪،‬‬
‫وفي الترهيب‪ (( :‬وإيَّاكم ))‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ بيان أهميَّة الوصية بتقوى هللا والسمع والطاعة لوالة األمور‪،‬‬
‫أوصى أصحا َبه بها بعد‬ ‫واتباع السنن وترك البدع؛ لكون النَّبي ِّ‬
‫ِّ‬
‫قوله عن موعظته‪ (( :‬كأنَّها موعظة مودِّع فأوصنا ))‪.‬‬

‫***‬
‫‪115‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫الحديث التاسع والعشرون‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا! أخبرني بعمل‬ ‫عن معاذ بن جبل‬
‫يُدخلني الجنَّة ويُباعدني عن النار‪ ،‬قال‪ (( :‬لقد سألتَ عن عظيم ‪ ،‬وإنَّه‬
‫هللا ال تشرك به شيئا‪،‬‬
‫يسره هللا تعالى عليه؛ تعبد َ‬‫َّ‬ ‫ليسير على َمن‬
‫وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫أالَ أدلُّك على أبواب الخير؟ الصو ُم ُجنَّة‪ ،‬والصدقةُ تطفئ الخطيئة كما‬
‫جوف الليل‪ ،‬ثم تال‪ :‬‬ ‫يطفئ الما ُء النار‪ ،‬وصالةُ الرجل في َ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫بلغ‬ ‫حتى‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،‬ثم قال‪ :‬أالَ أخبرك برأس‬ ‫‪ ‬‬

‫رأس‬
‫ُ‬ ‫س َنامه؟ قلت‪ :‬بلى يا رسول هللا! قال‪:‬‬ ‫األمر وعمو ِّده وذروة َ‬
‫سنَامه الجهاد‪ ،‬ثم قال‪ :‬أالَ‬
‫األمر اإلسال ُم‪ ،‬وعمو ُده الصالة‪ ،‬وذروة َ‬
‫كله؟ قلت‪ :‬بلى يا رسول هللا! فأخذ بلسانه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫الك ذلك ِّ‬
‫بم ِّ‬
‫أخبرك ِّ‬
‫ي هللا! وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال‪:‬‬
‫ف عليك هذا‪ ،‬قلت‪ :‬يا نب َّ‬‫ُك َّ‬
‫الناس في النَّار على وجوههم أو قال‪ :‬على‬
‫َ‬ ‫كب‬
‫ث ِّكلتك أ ُّمك! وهل يَ ُّ‬
‫مناخرهم إالَّ حصائ ُد ألسنتهم؟ )) رواه الترمذي وقال‪ (( :‬حديث حسن‬
‫صحيح ))‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله‪ (( :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا! أخبرني بعمل يُدخلني الجنَّة‬
‫ويُباعدني عن النار )) يد ُّل على حرص الصحابة على الخير ومعرفة‬
‫األعمال التي بها حصول الجنَّة والسالمة من النار‪ ،‬ويد ُّل على وجود‬
‫وأن أولياء هللا يعملون الصالحات ليظفروا بالجنَّة ويسلموا‬
‫الجنَّة والنار‪َّ ،‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪116‬‬

‫بعض الصوفية أنَّهم ال يعبدون هللا‬


‫ُ‬ ‫من النار‪ ،‬وهذا بخالف ما يقوله‬
‫رغبة في جنَّته وال خوفا ً من ناره‪ ،‬وهو باطل؛ لحرص الصحابة على‬
‫معرفة األعمال الموصلة إلى الجنَّة والمباعدة من النار‪ ،‬وقد قال هللا‬
‫خليله‪:‬‬ ‫عن‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،   ‬ويد ُّل أيضا ً‬
‫سبب في دخول الجنَّة‪ ،‬وقد جاء في ذلك‬
‫ٌ‬ ‫على َّ‬
‫أن األعما َل الصالحة‬
‫ل‪  :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫آيات كثيرة‪ ،‬منها قول هللا‬ ‫ٌ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،  ‬وذلك ال يُنافي ما جاء في‬
‫الحديث‪ (( :‬لن يدخل أحدكم بعمله الجنَّة‪ ،‬قالوا‪ :‬وال أنت يا رسول هللا!‬
‫قال‪ :‬وال أنا‪ ،‬إالَّ أن يتغ َّمدني هللا برحمة منه )) رواه البخاري (‪،)6463‬‬
‫فإن البا َء في الحديث للمعاوضة‪ ،‬وفي اآليات‬ ‫ومسلم (‪َّ ،)2816‬‬
‫‪117‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫للسببية‪ ،‬ودخول الجنَّات ليس عوضا ً عن األعمال‪ ،‬وإنَّما األعمال‬
‫الصالحة أسباب لها‪ ،‬وهللا َّ‬
‫عز وج َّل تفضَّل بالتوفيق للسبب‪ ،‬وهو العمل‬
‫الصالح‪ ،‬وتفضَّل بالجزاء الذي هو دخول الجنَّة‪ ،‬فرجع الفضل في‬
‫السبب والمسبب إلى هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬لقد سألت عن عظيم‪ ،‬وإنَّه ليسير على َمن ي َّ‬
‫سره هللا‬
‫تعالى عليه ))‪ ،‬فيه بيان عظيم منزلة هذا السؤال وأهميَّته والتشجيع على‬
‫المسئول عنه فيه بأنَّه عظيم‪ ،‬ومع‬ ‫مثله؛ حيث وصف الرسول‬
‫ُسره‬
‫بما يُبيِّن سهولته وي َ‬ ‫عظمه ومشقَّة اإلتيان به فقد أتبعه النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫المسلم يصبر على الطاعات‬ ‫َ‬ ‫سره هللا عليه‪ ،‬وهو يد ُّل على َّ‬
‫أن‬ ‫على َمن ي َّ‬
‫ألن عاقبة الصبر حميدة‪ ،‬وقد قال هللا َّ‬
‫عز‬ ‫ولو شقَّت على النفوس؛ َّ‬
‫ل‪     :‬‬ ‫وج َّ‬
‫‪    ‬‬
‫‪ ،‬وقال ‪ُ (( :‬حفَّت الجنَّة بالمكاره‪ ،‬و ُحفَّت النَّار بالشهوات )) رواه‬
‫البخاري (‪ ،)6487‬ومسلم (‪.)2822‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬تعبد هللا وال تشرك به شيئاً‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤتي‬
‫أن أه َّم شيء‬ ‫َّ‬ ‫الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت ))‪ ،‬بيَّن النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫ُتقرب به إلى هللا ويحصل به الظفر بالجنَّة والسالمة من النار أداء‬ ‫ي َّ‬
‫الفرائض‪ ،‬وهي في هذا الحديث أركان اإلسالم الخمسة التي جاءت في‬
‫حديث جبريل وحديث ابن عمر‪ (( :‬بُني اإلسالم على خمس ))‪ ،‬وقد جاء‬
‫ي ِّم َّما‬
‫ي عبدي بشيء أحبُّ إل َّ‬ ‫تقرب إل َّ‬
‫في الحديث القدسي‪ (( :‬وما َّ‬
‫افترضته عليه ))‪ ،‬وقوله‪ (( :‬تعبد هللا وال تشرك به شيئا ً )) مشتم ٌل على‬
‫أن محمدا ً‬ ‫حق هللا‪ ،‬وهو إخالص العبادة هلل‪ ،‬ويدخل في ذلك شهادة َّ‬ ‫بيان ِّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪118‬‬

‫ألن عبادة َ هللا ال تُعرف إالَّ بتصديقه ‪ ،‬والعمل بما جاء‬ ‫رسول هللا؛ َّ‬
‫ُتقرب به إلى هللا ال ينفع صاحبَه إالَّ إذا كان خالصا ً هلل‬‫به‪ ،‬وك ُّل عمل ي َّ‬
‫ومبنيًّا على اتِّباع سنَّة رسول هللا ‪ ،‬والشهادتان متالزمتان‪ ،‬ال ب َّد مع‬
‫أن محمدا ً رسول هللا ‪ ،‬وقد ذ ِّكرت‬ ‫شهادة أن ال إله إالَّ هللا من شهادة َّ‬
‫في الحديث هذه األركان مرت َّبة حسب أهميَّتها‪ ،‬وقُدِّمت الصالة لكونها‬
‫مرات‪،‬‬ ‫كر ِّرها في اليوم والليلة خمس َّ‬‫صلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه؛ لت ُّ‬
‫مرة واحدة‪ ،‬ونفعها‬ ‫وذكر بعدها الزكاة؛ ألنَّها ال تأتي في العام إالَّ َّ‬
‫يحصل لدافع الزكاة والمدفوعة إليه‪ ،‬ثم بعد ذلك الصيام؛ لتك ُّرره في‬
‫مرة واحدة‪.‬‬‫كل عام‪ ،‬وبعده الحج؛ ألنَّه ال يجب في العمر إالَّ َّ‬ ‫ِّ‬
‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬أالَ أدلُّك على أبواب الخير؟ الصو ُم ُجنَّة‪ ،‬والصدقةُ‬
‫تطفئ الخطيئة كما يطفئ الما ُء النار‪ ،‬وصالة ُ الرجل في َجوف الليل‪،‬‬
‫ثم تال‪    :‬‬

‫‪‬‬ ‫بلغ‬ ‫حتى‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫الفرائض التي‬
‫َ‬ ‫‪ ،))   ‬لَ َّما بيَّن‬
‫إلى جملة من‬ ‫هي سبب في دخول الجنَّة والسالمة من النار‪ ،‬أرشد‬
‫النوافل التي يحصل للمسلم بها زيادة اإليمان وزيادة الثواب وتكفير‬
‫الذنوب‪ ،‬وهي الصدقة والصيام وقيام الليل‪ ،‬وقال عن الصوم‪ (( :‬الصو ُم‬
‫ُجنَّة ))‪ ،‬وال ُجنَّة هي الوقاية‪ ،‬والصوم وقاية في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فهو‬
‫وقاية في الدنيا من الوقوع في المعاصي‪ ،‬فعن عبد هللا ابن مسعود‬
‫قال‪ (( :‬يا معشر الشباب! َمن استطاع منكم الباءة‬ ‫أن رسول هللا‬ ‫َّ‬
‫تزوج‪ ،‬فإنَّه أحصن للفرج وأغض للبصر‪ ،‬و َمن لم يستطع فعليه‬ ‫فلي َّ‬
‫بالصوم؛ فإنَّه له ِّوجاء )) رواه البخاري (‪ ،)1905‬ومسلم (‪،)1400‬‬
‫‪119‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫َمن‬ ‫وهو وقاية في اآلخرة من دخول النار‪ ،‬وقد جاء في الحديث‪.:‬‬


‫((‬

‫صام يوما ً في سبيل هللا بعَّد هللا وجهه عن النار سبعين خريفا ً )) رواه‬
‫البخاري (‪.)2840‬‬
‫وقوله‪ (( :‬والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار ))‪ ،‬فيه بيان‬
‫ُّ‬
‫يحط بها الخطايا ويُطفئها بها‬ ‫عظم شأن الصدقة النافلة‪َّ ،‬‬
‫وأن هللا تعالى‬
‫النار‪ ،‬والخطايا هي الصغائر‪ ،‬وكذلك الكبائر مع التوبة‬ ‫كما يُطفئ الما ُء َ‬
‫إطفاء الصدقة للخطايا بإطفاء الماء النار يد ُّل‬ ‫منها‪ ،‬وتشبيه النَّبي ِّ‬
‫فإن المشاهد في الماء إذا وقع على النار أنَّه‬ ‫على زوال الخطايا كلها؛ َّ‬
‫يزيلها حتى ال يبقى لها وجود‪.‬‬
‫الرجل في جوف الليل )) هذا هو األمر الثالث من‬ ‫وقوله‪ (( :‬وصالة َّ‬
‫ُتقرب إلى هللا َّ‬
‫عز وج َّل بها‪ ،‬وقد تال رسول هللا‬ ‫أبواب الخير‪ ،‬التي ي َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫ذلك‬ ‫عند‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،   ‬وقد‬
‫أن أفض َل الصالة بعد المكتوبة صالة الليل‪ ،‬رواه مسلم‬ ‫َّ‬ ‫أخبر النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫لبيان أبواب الخير هذه باالستفهام‪ ،‬وذلك‬ ‫(‪ ،)1163‬وقد م َّهد النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫في قوله لمعاذ‪ (( :‬أالَ أدلُّك على أبواب الخير؟ ))؛ ِّل َما في ذلك من لفت‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪120‬‬

‫نظر معاذ إلى أهميَّة ما يُلقَى عليه‪ ،‬ليتهيَّأ لذلك ويستع َّد لوعي ِّ‬
‫كل ما‬
‫يُلقَى عليه‪.‬‬
‫سنامه؟ قلت‪:‬‬ ‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬أالَ أخبرك برأس األمر وعموده وذروة َ‬
‫بلى يا رسول هللا! قال‪ :‬رأس األمر اإلسالم‪ ،‬وعموده الصالة‪ ،‬وذروة‬
‫سنامه الجهاد ))‪ ،‬المراد باألمر الشأن الذي هو أعظم الشؤون‪ ،‬وهو‬
‫الدِّين الذي بُعث به رسول هللا ‪ ،‬رأسه اإلسالم وهو عام‪ ،‬يشمل‬
‫الصالة والجهاد وغيرهما‪ ،‬وقد ذكر الصالة ووصفها بأنَّها عمود‬
‫اإلسالم‪ ،‬شبَّه ذلك بالبناء الذي يقوم على أعمدته‪ ،‬وهي أه ُّم العبادات‬
‫البدنية القاصر نفعها على صاحبها‪ ،‬ثم ذكر الجهاد الذي يشمل جهاد‬
‫النفس وجهاد األعداء من كفَّار ومنافقين‪ ،‬ووصفه بأنَّه ذروة سنام‬
‫وعلوه على‬
‫َّ‬ ‫وظهور دينهم‬
‫َ‬ ‫اإلسالم؛ وذلك َّ‬
‫أن في الجهاد قوة َ المسلمين‬
‫غيره من األديان‪.‬‬
‫كله؟ قلت‪ :‬بلى يا رسول هللا!‬ ‫الك ذلك ِّ‬ ‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬أالَ أخبرك ِّ‬
‫بم ِّ‬
‫ي هللا! وإنَّا لمؤاخذون‬
‫ف عليك هذا‪ ،‬قلت‪ :‬يا نب َّ‬ ‫فأخذ بلسانه‪ ،‬ثم قال‪ُ :‬ك َّ‬
‫الناس في النَّار على وجوههم‬‫َ‬ ‫بما نتكلَّم به؟ فقال‪ :‬ث ِّكلتك أ ُّمك! وهل يَكبُّ‬
‫أو قال‪ :‬على مناخرهم إالَّ حصائ ُد ألسنتهم؟! ))‪ ،‬في هذا بيان خطر‬
‫الك الخير في حفظه‪ ،‬حتى‬ ‫اللسان‪ ،‬وأنَّه الذي يوقع في المهالك‪َّ ،‬‬
‫وأن ِّم َ‬
‫ال يصدر منه إالَّ ما هو خير‪ ،‬كما قال ‪َ (( :‬من يضمن لي ما بين‬
‫‪:‬‬ ‫ورجليه أضمن له الجنَّة )) رواه البخاري (‪ ،)6474‬وقال‬ ‫لحيَيْه ِّ‬
‫ْ‬
‫(( من كان يؤمن باهلل اليوم اآلخر فليقل خيرا ً أو ليصمت ))‪ ،‬قال ابن‬
‫رجب في شرح هذا الحديث في جامع العلوم والحكم (‪ 146/2‬ـ‬
‫سه هو أص ُل الخير‬ ‫ف اللسان وضب َ‬
‫طه و َحب َ‬ ‫‪ (( :)147‬هذا يد ُّل على َّ‬
‫أن َك َّ‬
‫‪121‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫طه ))‪ ،‬وقال‪:‬‬‫أمره وأحك َمه وضب َ‬


‫وأن َمن َملَ َك لسانَه فقد ملَ َك َ‬
‫كله‪َّ ،‬‬‫ِّ‬
‫المحرم وعقوباته‪َّ ،‬‬
‫فإن اإلنسان‬ ‫َّ‬ ‫(( والمرا ُد بحصائد األلسنة جزا ُء الكالم‬
‫والسيئات‪ ،‬ثم يحصد يوم القيامة ما زرع‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يزرع بقوله وعمله الحسنات‬
‫زرع خيرا ً ِّمن قول أو عمل حصد الكرامةَ‪ ،‬و َمن زرع ًّ‬
‫شرا من‬ ‫ف َمن َ‬
‫أكثر‬
‫أن َ‬ ‫وظاهر حديث معاذ يد ُّل على َّ‬
‫ُ‬ ‫قول أو عمل حصد غدا ً النَّدامةَ‪،‬‬
‫فإن معصيةَ النطق يدخل فيها‬ ‫النطق بألسنتهم‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫النار‬
‫الناس َ‬
‫ُ‬ ‫ما يدخل به‬
‫الشركُ ‪ ،‬وهو أعظم الذنوب عند هللا عز وجل‪ ،‬ويدخل فيها القو ُل على‬
‫هللا بغير علم‪ ،‬وهو قرين الشرك‪ ،‬ويدخل فيها شهادة ُ الزور التي ع َدلت‬
‫السحر والقذف وغير ذلك من‬ ‫اإلشراك باهلل عز وجل‪ ،‬ويدخل فيها ِّ‬
‫وسائر المعاصي الفعلية‬
‫ُ‬ ‫الكبائر والصغائر‪ ،‬كالكذب والغيبة والنَّميمة‪،‬‬
‫ال يخلو غالبا ً من قول يقترن بها يكون معينا ً عليها ))‪.‬‬
‫وقوله‪ (( :‬ثكلتك أ ُّمك )) قال الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث‪:‬‬
‫(( أي‪ :‬فقدتك حتى كانت ثكلى من فقدك‪ ،‬وهذه الجملة ال يُراد بها‬
‫الحث واإلغراء على فهم ما يُقال ))‪،‬‬‫ُّ‬ ‫معناها‪ ،‬وإنَّما يُراد بها‬
‫بل َّ‬
‫إن ما جاء من ذلك في هذا الحديث وما يُماثله يكون من قبيل‬
‫الدعاء ِّل َمن أضيف إليه‪ ،‬ويد ُّل له الحديث في صحيح مسلم (‪)2603‬‬
‫سليم! أ َما تعلمين َّ‬
‫أن شرطي‬ ‫عن أنس‪ ،‬وفيه قول الرسول ‪ (( :‬يا أ َّم ُ‬
‫اشترطت على ربِّي‪ ،‬فقلت‪ :‬إنَّما أنا بشر‪ ،‬أرضى كما‬
‫ُّ‬ ‫على ربِّي ِّأني‬
‫يرضى البشر‪ ،‬وأغضب كما يغضب البشر‪ ،‬فأيُّما أحد دعوت عليه‬
‫من أ َّمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا ً وزكاة وقربة يقربه‬
‫بها منه يوم القيامة ))‪ ،‬ومن دقَّة اإلمام مسلم ـ رحمه هللا ـ وحسن ترتيبه‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪122‬‬

‫َ‬
‫حديث ابن عباس رضي هللا عنهما‬ ‫صحيحه أنَّه أورد عقب هذا الحديث‬
‫ال أشبع هللاُ بطنَه ))‪ ،‬فيكون دعا ًء له ‪ ،‬وليس‬ ‫((‬ ‫في قوله في معاوية‪:‬‬
‫دعاء عليه‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حرص الصحابة رضي هللا عنهم على الخير ومعرفة ما يوصل‬
‫إلى الجنَّة ويُباعد من النار‪.‬‬
‫أن الجنَّة والنار موجودتان‪ ،‬وهما باقيتان ال تفنيان‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫أن عبادة هللا يُرجى فيها دخول الجنَّة والسالمة من النار‪ ،‬وليس‬
‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫كما يقول بعض الصوفية إ َّن هللا ال يُعبد رغبة في جنَّته وال خوفا ً من‬
‫ناره‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ بيان أهميَّة العمل المسئول عنه‪ ،‬وأنَّه عظيم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن الطريقَ الموصل إلى النجاة شاق‪ ،‬وسلوكه يحصل بتيسير‬
‫هللا‪.‬‬
‫عز وج َّل‪ ،‬وقد أُنزلت‬
‫أن أه َّم شيء ُك ِّلف به الثقالن عبادة هللا َّ‬
‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫الكتب وأُرسلت الرسل لذلك‪.‬‬
‫أن عبادة َ هللا ال تُعتبر إالَّ إذا بُنيت على الشهادتين‪ ،‬وهما‬ ‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫متالزمتان‪ ،‬وال يُقبل العمل إالَّ إذا كان خالصا ً هلل‪ ،‬ومطابقا ً ِّلما جاء به‬
‫‪.‬‬ ‫رسول هللا‬
‫معاذا ً عليها‬ ‫‪ 8‬ـ بيان عظم شأن أركان اإلسالم؛ حيث د َّل النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫من بين الفرائض التي فرضها هللا‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫أن هذه الفرائض مرتَّبة في أهميَّتها حسب ترتيبها في هذا الحديث‪.‬‬


‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫ُّ‬
‫الحث على اإلتيان بالنوافل مع اإلتيان بالفرائض‪.‬‬ ‫‪ 10‬ـ‬
‫ُتقرب به إلى هللا بعد أداء الفرائض الصدقة‬
‫أهم ما ي َّ‬
‫أن ِّمن ِّ‬ ‫‪ 11‬ـ َّ‬
‫والصوم وقيام الليل‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ بيان عظم شأن الصالة وأنَّها عمود اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ بيان فضل الجهاد‪ ،‬وأنَّه ذروة سنام اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ بيان خطورة اللسان‪ ،‬وأنَّه يُفضي إلى المهالك ويُوقع في‬
‫النار‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الثالثون‬

‫‪ ،‬عن رسول هللا‬ ‫عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر‬


‫قال‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا تعالى فرض فرائض فال تضيِّعوها‪ ،‬وح َّد حدودا فال‬
‫وحرم أشياء فال تنتهكوها‪ ،‬وسكت عن أشياء رحمة لكم‬
‫َّ‬ ‫تعتدوها‪،‬‬
‫وغيره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫غير نسيان فال تبحثوا عنها )) حديث حسن‪ ،‬رواه الدارقطني‬
‫ومن قبله أبو بكر بن السمعاني كما قال‬ ‫سنه النووي ِّ‬
‫‪ 1‬ـ الحديث ح َّ‬
‫ابن رجب‪ ،‬وفي سنده انقطاع‪ ،‬لكن ذكر ابن رجب ما يشهد لمعناه‪،‬‬
‫فقال (‪ 150/2‬ـ ‪ (( :)151‬وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا ً من‬
‫خرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء‪،‬‬ ‫وجوه أخر‪َّ ،‬‬
‫حرم فهو‬‫عن النَّبي ِّ ‪ ،‬قال‪( :‬ما أح َّل هللا في كتابه فهو حالل‪ ،‬وما َّ‬
‫حرام‪ ،‬وما سكت عنه فهو عفو‪ ،‬فاقبلوا من هللا عافيته‪َّ ،‬‬
‫فإن هللا لم يكن‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪124‬‬

‫‪  ‬‬ ‫لينسى شيئاً‪ ،‬ثم تال هذه اآلية‪:‬‬


‫‪ ،)   ‬وقال الحاكم‪ :‬صحيح‬
‫اإلسناد‪ ،‬وقال البزار‪ :‬إسناده صالح ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ 152/2‬ـ‬
‫ُ‬
‫فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام هللا أربعة أقسام‪ :‬فرائض‪،‬‬ ‫‪(( :)153‬‬

‫ومحارم‪ ،‬وحدود‪ ،‬ومسكوت عنه‪ ،‬وذلك يجمع أحكام الدِّين كلَّها‪ ،‬قال‬
‫أبو بكر ابن السمعاني‪ :‬هذا الحديث أصل كبير من أصول الدِّين‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ٌ‬
‫حديث واحد‬ ‫و ُحكي عن بعضهم أنَّه قال ليس في أحاديث رسول هللا‬
‫أجم َع بانفراده ألصول العلم وفرو ِّعه من حديث أبي ثعلبة‪ ،‬قال‪ :‬و ُحكي‬
‫الدِّين في أربع كلمات‪،‬‬ ‫عن واثلة المزني أنَّه قال‪ :‬جمع رسول هللا‬
‫ثم ذكر حديث أبي ثعلبة‪ ،‬قال ابن السمعاني‪ :‬ف َمن عمل بهذا الحديث فقد‬
‫المحارم‪،‬‬
‫َ‬ ‫الفرائض‪ ،‬واجتنب‬
‫َ‬ ‫حاز الثواب‪ ،‬وأمن العقاب؛ َّ‬
‫ألن َمن أ َّدى‬
‫أقسام‬
‫َ‬ ‫ووقف عند الحدود‪ ،‬وترك البحث عما غاب عنه‪ ،‬فقد استوفى‬
‫الدين؛ َّ‬
‫ألن الشرائ َع ال تخرج عن هذه األنواع‬ ‫الفضل‪ ،‬وأوفى حقوق ِّ‬
‫المذكورة في هذا الحديث‪ ،‬انتهى ))‪.‬‬
‫إن هللا فرض فرائض فال تضيِّعوها ))‪ ،‬أي‪ :‬أوجب‬ ‫‪ 3‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫أشياء وجعل فرضها حتما ً الزماً‪ ،‬كالصالة والزكاة والصيام والحجِّ‪،‬‬
‫كل مسلم اإلتيان بها كما أمر هللا‪ ،‬دون ترك لها أو حصول‬ ‫فيجب على ِّ‬
‫إخالل في فعلها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬وح َّد حدودا ً فال تعتدوها ))‪ ،‬أي‪ :‬شرع أمورا ً هي واجبة‬
‫أو مستحبَّة أو مباحة‪ ،‬فال يتجاوز تلك الحدود إلى غيرها‪ ،‬فيقع في أمر‬
‫‪125‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫عز وج َّل في كتابه‪ ،‬فال يجوز‬‫حرام‪ ،‬وذلك كالمواريث التي بيَّنها هللا َّ‬
‫ألحد أن يتعدَّاها وأن يأتي بقسمة تخالفها‪ ،‬وتأتي الحدود مرادا ً بها ما‬
‫قربها‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز‬ ‫حرم هللا‪ ،‬فيكون الواجب على المسلم أن ال ي َ‬ ‫َّ‬
‫ل‪     :‬‬ ‫وج َّ‬
‫‪.  ‬‬
‫حرمه هللا ال‬ ‫وحرم أشياء فال تنتهكوها ))‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫أن ما َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪ 5‬ـ قوله‪(( :‬‬

‫‪(( :‬‬ ‫يجوز للمسلمين أن يقعوا فيه‪ ،‬بل يتعيَّن عليهم تركه‪ ،‬كما قال‬
‫ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه ))‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قوله (( وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان‪ ،‬فال تبحثوا‬
‫النص عليها في الكتاب والسنَّة‪ ،‬فال‬
‫ُّ‬ ‫عنها ))‪ ،‬أي‪ :‬هناك أمور لم يأت‬
‫يُشتغل في البحث عنها والسؤال عنها‪ ،‬وذلك مثل السؤال عن الحجِّ في‬
‫على السائل‪ ،‬وقال‪ (( :‬ذروني ما‬ ‫كل عام الذي أنكره الرسول‬ ‫ِّ‬
‫تركتكم؛ فإنَّما أهلك َمن كان قبلكم كثرة مسائلهم واختالفهم على أنبيائهم‬
‫))‪ ،‬وكالسؤال عن تحريم شيء لم يحرم‪ ،‬فيترتَّب عليه التحريم بسبب‬
‫السؤال‪ ،‬كما ثبت بيان خطورته في الحديث عن رسول هللا ‪ ،‬وبعد‬
‫تنطع وتكلُّف‪ ،‬والمعنى سكت عن‬ ‫ال يسأل األسئلة التي فيها ُّ‬ ‫زمنه‬
‫أشياء فلم يفرضها ولم يوجبها ولم يحرمها‪ ،‬فال يُسأل عنها‪ ،‬وقد قال‬
‫هللا تعالى‪   :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪126‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪.  ‬‬
‫قال ابن رجب (‪ (( :)163/2‬وأ َّما المسكوتُ عنه‪ ،‬فهو ما لم يُذكر‬
‫معفوا عنه ال حرج على‬‫ًّ‬ ‫حك ُمه بتحليل وال إيجاب وال تحريم‪ ،‬فيكون‬
‫فاعله‪ ،‬وعلى هذا دلَّت هذه األحاديث المذكورة ههنا‪ ،‬كحديث أبي ثعلبة‬
‫وغيره ))‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫أن من شريعة هللا ما هو فرض الزم‪ ،‬يجب فعله وعدم إضاعته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنَّه يجب الوقوف عند الواجبات والمستحبَّات والمباحات‪ ،‬فال‬
‫المحرمات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تتجاوز إلى‬
‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن ك َّل ما َّ‬
‫حرمه هللا يتعيَّن على المسلم تركه واالبتعاد عنه‪.‬‬
‫عفو ال يُسأل عنه‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن ما لم يأت فيه تحريم وال تحليل فهو ٌ‬
‫الحديث الواحد والثالثون‬

‫جاء رجل‬ ‫((‬ ‫قال‪:‬‬ ‫سعد الساعدي‬ ‫سهل بن َ‬ ‫عن أبي العباس َ‬
‫إلى النَّبي ِّ ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا! ُدلَّني على عمل إذا عملته أحبَّني‬
‫الناس‪ ،‬فقال‪ (( :‬ازهد في الدنيا يُحبك هللا‪ ،‬وازهد فيما عند‬
‫ُ‬ ‫هللا وأحبَّني‬
‫حديث حسن‪ ،‬رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد‬ ‫))‬ ‫الناس يُحبك الناس‬
‫‪127‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫حسنة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وأسبق‬ ‫كل خير‪،‬‬
‫أحرص الناس على ِّ‬
‫ُ‬ ‫أصحاب رسول هللا‬
‫ُ‬ ‫‪1‬ـ‬
‫يجلب‬
‫ُ‬ ‫ي على معرفة ما‬‫كل خير‪ ،‬وقد حرص هذا الصحاب ُّ‬ ‫الناس إلى ِّ‬
‫هذا السؤال‪.‬‬ ‫له محبَّةَ هللا ومحبَّة الناس‪ ،‬فسأل النَّب َّ‬
‫ي‬
‫عز‬‫أن محبَّة هللا َّ‬
‫َّ‬ ‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬ازهد في الدنيا يُحبك هللا ))‪ ،‬بيَّن‬
‫ص ُل بالزهد في الدنيا‪ ،‬وأحسن ما قيل في بيان المراد بالزهد‬ ‫وج َّل تُح َّ‬
‫في الدنيا ترك اإلنسان ك َّل ما يشغله عن هللا‪ ،‬كما نقله الحافظ ابن رجب‬
‫في شرحه جامع العلوم الحكم (‪ )186/2‬عن أبي سليمان الداراني‪،‬‬
‫فقال‪ (( :‬وقال أبو سليمان الداراني‪ :‬اختلفوا علينا في الزهد بالعراق‪،‬‬
‫فمنهم َمن قال‪ :‬الزهد في ترك لقاء الناس‪ ،‬ومنهم َمن قال‪ :‬في ترك‬
‫ضه من‬ ‫الشبع‪ ،‬وكالمهم قريب بع ُ‬ ‫الشهوات‪ ،‬ومنهم َمن قال‪ :‬في ترك ِّ‬
‫أن الزه َد في ترك ما يشغلك عن هللا َّ‬
‫عز‬ ‫بعض‪ ،‬قال‪ :‬وأنا أذهب إلى َّ‬
‫وج َّل‪ .‬وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن؛ وهو يجمع جميع معاني الزهد‬
‫وأقسامه وأنواعه ))‪.‬‬
‫الناس حريصون‬
‫ُ‬ ‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس ))‪،‬‬
‫على المال والمتاع في الحياة الدنيا‪ ،‬والغالب عليهم إمساكُ ما في أيديهم‬
‫‪ ‬‬ ‫وعدم الجود به‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬


‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪128‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،  ‬وال يُعجبهم َمن‬


‫يطمع فيما عندهم أو يتطلَّع إليه‪ ،‬فإذا استغنى اإل ُ‬
‫نسان عنهم نال إعجابهم‬
‫شرهم‪.‬‬
‫وظفر بمحبَّتهم‪ ،‬وإذا ظفر بمحبَّتهم سلم من ِّ‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حرص الصحابة على ما يجلب لهم محبَّة هللا ومحبَّة الناس‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إثبات صفة المحبَّة هلل َّ‬
‫عز وج َّل‪.‬‬
‫الخير للعبد في محبَّة هللا إيَّاه‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن‬
‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن ِّم َّما يجلب محبَّة هللا الزه َد في الدنيا‪.‬‬
‫سبب في محبَّتهم إيَّاه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن زه َد المرء فيما في أيدي الناس‬
‫شرهم‪.‬‬
‫خيرهم ويسلم من ِّ‬‫فيحصل َ‬
‫ِّ‬
‫***‬
‫الحديث الثاني والثالثون‬

‫‪َّ :‬‬
‫أن رسول‬ ‫سعد بن مالك بن سنان الخدري‬
‫عن أبي سعيد َ‬
‫حديث حسن‪ ،‬رواه ابن ماجه‬ ‫))‬ ‫ال ضرر وال ِّضرار‬ ‫((‬ ‫قال‪:‬‬ ‫هللا‬
‫والدارقطني وغيرهما مسندا‪ ،‬ورواه مالك في الموطأ مرسال عن‬
‫عمرو بن يحيى‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن النَّبي ِّ ‪ ،‬فأسقط أبا سعيد‪ ،‬وله طرق‬
‫يقوي بعضُها بعضا‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪ 1‬ـ هذا الحديث مشتم ٌل على قاعدة من قواعد الشريعة‪ ،‬وهي رفع‬
‫خبر بمعنى النهي عن الضرر والضرار‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الضرر والضرار‪ ،‬وهو‬
‫‪129‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫رر قد يحصل من اإلنسان بقصد أو بغير قصد‪ ،‬والضرار يكون‬ ‫ض ُ‬ ‫وال َّ‬
‫مع القصد‪ ،‬قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪:)212/2‬‬
‫(( واختلفوا هل بين اللَّفظتين ـ أعني الضر َر والضرار ـ فرق أم ال؟‬
‫أن بينهما‬ ‫فمنهم َمن قال‪ :‬هما بمعنى واحد على وجه التأكيد‪ ،‬والمشهور َّ‬
‫والضرار الفعل‪ ،‬فالمعنى َّ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫إن الضرر هو االسم‪،‬‬ ‫فرقا ً‪ ،‬ثم قيل‪َّ :‬‬
‫حق كذلك‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫الضر َر نفسه منتف في الشرع‪ ،‬وإدخال الضرر بغير ٍّ‬ ‫َ‬
‫الضرر أن يُدخل على غيره ضررا ً بما ينتفع هو به‪ ،‬والضرار أن‬ ‫ُ‬
‫يضره‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يُدخل على غيره ضررا ً بما ال منفعة له به‪ ،‬ك َمن منع ما ال‬
‫ويتضرر به الممنوع‪ ،‬ور َّجح هذا القو َل طائفةٌ منهم ابن عبد البر وابن‬
‫يضر‬
‫َّ‬ ‫يضر ب َمن ال يضره‪ ،‬والضرار أن‬ ‫َّ‬ ‫الضرر أن‬
‫ُ‬ ‫الصالح‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫إنَّما نفي‬ ‫وبكل حال فالنبي‬
‫ِّ‬ ‫أضر به على وجه غير جائز‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بمن قد‬
‫بحق‪ ،‬إ َّما‬‫ٍّ‬ ‫حق‪ ،‬فأ َّما إدخا ُل الضرر على أحد‬‫ار بغير ٍّ‬ ‫والض َر َ‬
‫ِّ‬ ‫الضر َر‬ ‫َ‬
‫وغيره‪،‬‬‫َ‬ ‫سه‬ ‫لكونه تع َّدى حدو َد هللا‪ ،‬فيُعاقَب بقدر جريمته‪ ،‬أو كونه َ‬
‫ظلَم نف َ‬
‫غير مراد قطعا ً‪ ،‬وإنَّما المراد‬ ‫ُ‬ ‫فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل‪ ،‬فهذا‬
‫حق‪ ،‬وهذا على نوعين‪:‬‬‫إلحاق الضرر بغير ٍّ‬
‫رض سوى الضرر بذلك الغير‪،‬‬‫أحدهما‪ :‬أن ال يكون في ذلك َغ ٌ‬
‫النهي عن‬
‫ُ‬ ‫فهذا ال ريب في قُبحه وتحريمه‪ ،‬وقد ورد في القرآن‬
‫‪ ‬‬ ‫المضارة في مواضع‪ ،‬منها في الوصية‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪   ‬‬

‫‪.))      ‬‬


‫إلى أن قال (‪ (( :)217/2‬والنوع الثاني‪ :‬أن يكون له غرض آخر‬
‫يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له‪ ،‬فيتعدَّى ذلك إلى‬
‫َّ‬ ‫صحيح‪ ،‬مثل أن‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪130‬‬

‫فيتضرر‬
‫َّ‬ ‫غيره من االنتفاع بملكه توفيرا ً له‪،‬‬
‫َ‬ ‫ضرر غيره‪ ،‬أو يمنع‬
‫الممنوع بذلك ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان كمال الشريعة وحسنها في رفع الضرر واإلضرار‪.‬‬
‫يضر غيره وال يضاره‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أن على المسلم أالَّ‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬

‫***‬
‫الحديث الثالث والثالثون‬

‫لو‬ ‫((‬ ‫قال‪:‬‬ ‫عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪ ،‬عن رسول هللا‬
‫البينة‬
‫الناس بدعواهم‪ ،‬ال َّدعى رجال أموا َل قوم ودماءهم‪ ،‬لكن ِّ‬
‫ُ‬ ‫يُع َطى‬
‫حديث حسن‪ ،‬رواه البيهقي‬ ‫))‬ ‫على المدَّعي‪ ،‬واليمين على َمن أنكر‬
‫وغيره هكذا‪ ،‬وبعضه في الصحيحين‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ حديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري (‪ ،)4552‬ومسلم‬
‫(‪ ،)1711‬وأكثره في الصحيحين‪ ،‬والذي ليس فيهما ‪ (( :‬البيِّنة على‬
‫المدَّعي ))‪ ،‬لكن ثبتت هذه الجملة فيهما من حديث األشعث بن قيس عند‬
‫عم له‪ ،‬قال له‬‫البخاري (‪ ،)4550‬ومسلم (‪ )138‬في قصة له مع ابن ٍّ‬
‫النَّب ُّ‬
‫ي ‪ِّ (( :‬بينتك أو َيمينه ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال ابن دقيق العيد في شرح األربعين‪ (( :‬وهذا الحديث أصل‬
‫من أصول األحكام‪ ،‬وأعظم مرجع عند التنازع والخصام‪ ،‬ويقتضي أن‬
‫فيه أنَّه لو أجيب ك ُّل مدَّع‬ ‫ي‬‫ال يُحكم ألحد بدعواه ))‪ ،‬وقد بيَّن النَّب ُّ‬
‫على غيره شيئا ً أل َّدى ذلك إلى ادِّعاء أموال الناس ودمائهم‪ ،‬لكن النَّب َّ‬
‫ي‬
‫‪131‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫البينة‬
‫أوضح ما يكون فيه الفصل بين الناس في ذلك‪ ،‬وهو طلب ِّ‬
‫الحق ويد ُّل عليه‪ ،‬من شهود أو قرائن‬ ‫َّ‬ ‫من المدَّعي‪ ،‬وهي ك ُّل ما يبين‬
‫أو غيرها‪ ،‬فإذا أتى بالبيِّنة قُضي بها على الم َّد َعى عليه‪ ،‬وإن لم توجد‬
‫طلب من الم َّد َعى عليه اليمين‪ ،‬فإن حلف برئت ساحتُه‪ ،‬وإن نكل‬ ‫البينة ُ‬
‫ِّ‬
‫عن اليمين قُضي عليه بالنُّكول‪ ،‬وأُلزم بما ا َّدعاه عليه خص ُمه‪ ،‬وقال‬
‫النووي في شرح األربعين‪ (( :‬إنَّما كانت البيِّنة على المدَّعي؛ ألنَّه يدَّعي‬
‫الذ َّمة ))‪ ،‬ثم ذكر أنَّه يُستثنى مسائل‬ ‫خالف الظاهر‪ ،‬واألصل براءة ِّ‬
‫كثيرة يُقبل فيها قول الم َّدعي بال ِّبينة‪ ،‬منها دعوى األب حاجته إلى‬
‫اإلعفاف‪ ،‬ودعوى السفيه الت َّ َوقان إلى النكاح مع القرينة‪ ،‬ودعوى‬
‫خروج المرأة من العدَّة باألقراء ووضع الحمل‪ ،‬ودعوى الطفل البلوغ‬
‫باالحتالم‪ ،‬ودعوى المودع تلف الوديعة أو ضياعها بسرقة ونحوها‪،‬‬
‫والمدَّعي هو الطالب الذي لو سكت تُرك‪ ،‬والم َّد َعى عليه هو المطلوب‬
‫الذي لو سكت لم يُترك‪ ،‬قال ابن المنذر كما في جامع العلوم والحكم‬
‫أن البيِّنة على المدَّعي واليمين على‬ ‫(‪ (( :)230/2‬أجمع أهل العلم على َّ‬
‫ُّ‬
‫يستحق‬ ‫الم َّد َعى عليه‪ ،‬قال‪ :‬ومعنى قوله‪( :‬البيِّنة على المدَّعي) يعني‪:‬‬
‫بها ما ادَّعى؛ ألنَّها واجبة عليه يؤخذ بها‪ ،‬ومعنى قوله‪( :‬اليمين على‬
‫كل حال‬ ‫الم َّد َعى عليه)‪ ،‬أي‪ :‬يبرأ بها؛ ألنَّها واجبة عليه‪ ،‬يؤخذ بها على ِّ‬
‫))‪.‬‬
‫أن المدَّعي عليه البيِّنة فيما يدَّعيه من األمور الدنيوية‪،‬‬‫‪ 3‬ـ وكما َّ‬
‫فإن على المدَّعي البيِّنة في األمور األخرويَّة‪ ،‬ف َمن ادَّعى محبَّةَ هللا‬
‫َّ‬
‫يكون صادقا ً في دعواه إذا اتَّبع الرسول ‪ ،‬كما قال هللا‬ ‫ورسوله‬
‫وج َّل‪:‬‬ ‫عز‬ ‫َّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪132‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬


‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫((‬‫‪ ،  ‬قال ابن كثير في تفسير هذه اآلية‪:‬‬
‫هذه اآلية الكريمة حاكمةٌ على ِّ‬
‫كل َمن ا َّدعى محبَّة هللا وليس هو على‬
‫الطريقة المح َّمدية‪ ،‬فإنَّه كاذب في نفس األمر‪ ،‬حتى يتبع الشرع‬
‫المح َّمدي والدِّين النبوي في جميع أقواله وأفعاله‪ ،‬كما ثبت في الصحيح‬
‫أنَّه قال‪َ ( :‬من عمل عمالً ليس عليه أمرنا فهو رد)‪،‬‬ ‫عن رسول هللا‬
‫ولهذا قال‪    :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ،  ‬أي‪ :‬يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه‪ ،‬وهو‬
‫محبَّته إيَّاكم‪ ،‬وهو أعظم من األول‪ ،‬كما قال بعض العلماء الحكماء‪:‬‬
‫وغيره‬
‫ُ‬ ‫ليس الشأن أن ت ُ ِّحب‪ ،‬إنَّما الشأن أن ت ُ َحبَّ ‪ ،‬وقال الحسن البصري‬
‫من السلف‪ :‬زعم قو ٌم أنَّهم يُحبُّون هللا‪ ،‬فابتالهم هللا بهذه اآلية ))‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اشتمال الشريعة على حفظ أموال الناس ودمائهم‪.‬‬
‫صل فيها بين المتخاصمين‪.‬‬
‫الطرق التي يُف َ‬ ‫‪ 2‬ـ بيان الرسول‬
‫ُقر المدَّعى عليه‪َّ ،‬‬
‫فإن على المدَّعي إقامة البيِّنة على‬ ‫‪ 3‬ـ إذا لم ي َّ‬
‫دعواه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ إذا لم تُقم البيِّنة ُح ِّلف المدَّعى عليه وبرئت ساحتُه‪ ،‬وإن لم‬
‫يحلف قُضي عليه بالنُّكول‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫***‬
‫الحديث الرابع والثالثون‬

‫يقول‪:‬‬ ‫قال‪ :‬سمعتُ رسول هللا‬ ‫عن أبي سعيد الخدري‬


‫غيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم‬‫(( َمن رأى منكم منكرا فليُ ِّ‬
‫أضعف اإليمان )) رواه مسلم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك‬
‫‪ 1‬ـ هذا الحديث مشتم ٌل على درجات إنكار المنكر‪َّ ،‬‬
‫وأن َمن قدر‬
‫على التغيير باليد تعيَّن عليه ذلك‪ ،‬وهذا يكون من السلطان ونوابه في‬
‫الواليات العامة‪ ،‬ويكون أيضا ً من صاحب البيت في أهل بيته في‬
‫الواليات الخاصة‪ ،‬ورؤية المنكر يحتمل أن يكون المراد منها الرؤية‬
‫البصرية‪ ،‬أو ما يشملها ويشمل الرؤية العلمية‪ ،‬فإذا لم يكن من أهل‬
‫التغيير باليد‪ ،‬انتقل إلى التغيير باللسان‪ ،‬حيث يكون قادرا ً عليه‪ ،‬وإالَّ‬
‫أضعف اإليمان‪ ،‬وتغيير المنكر‬
‫ُ‬ ‫فقد بقي عليه التغيير بالقلب‪ ،‬وهو‬
‫بالقلب يكون بكراهة المنكر وحصول األثر على القلب بسبب ذلك‪ ،‬وال‬
‫تنافي بين ما جاء في هذا الحديث من األمر بتغيير المنكر‪ ،‬وقول هللا‬
‫ل‪   :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪  ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬


‫‪َّ ،  ‬‬
‫فإن المعنى‪ :‬إذا قمتم بما هو‬
‫مطلوب منكم من األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فقد أدَّيتم ما‬
‫واليضركم بعد ذلك ضالل َمن ض َّل إذا اهتديتم‪ ،‬ولشيخنا الشيخ‬
‫ُّ‬ ‫عليكم‪،‬‬
‫محمد األمين الشنقيطي ـ رحمه هللا ـ عند الكالم على هذه اآلية في‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪134‬‬

‫كتابه أضواء البيان تحقيقات جيِّدة في مسائل األمر بالمعروف والنهي‬


‫عن المنكر‪ ،‬من المناسب الرجوع إليها لالستفادة منها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪َّ ،‬‬
‫وأن به صالح‬
‫العباد والبالد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تغيير المنكر يكون على درجات‪ ،‬من قدر على شيء منها‬
‫تعيَّن عليه ذلك‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التفاوت في اإليمان‪َّ ،‬‬
‫وأن منه القوي والضعيف واألضعف‪.‬‬
‫الحديث الخامس والثالثون‬

‫‪ (( :‬ال تحاسدوا‪ ،‬وال‬ ‫قال‪ :‬قال رسول هللا‬ ‫عن أبي هريرة‬
‫تناجشوا‪ ،‬وال تباغضوا‪ ،‬وال تدابروا‪ ،‬وال يبع بعضُكم على بيع بعض‪،‬‬
‫وكونوا عباد هللا إخوانا‪ ،‬المسل ُم أخو المسلم‪ ،‬ال يظلمه وال يخذله‪ ،‬وال‬
‫مرات‪،‬‬
‫يكذبه‪ ،‬وال يحقره‪ ،‬التقوى ههنا‪ ،‬ويشير إلى صدره ثالث َّ‬
‫حقر أخاه المسلم‪ ،‬ك ُّل المسلم على المسلم‬
‫الشر أن يَ َ‬
‫ِّ‬ ‫بحسب امرئ من‬
‫حرام‪ :‬دمه وماله وعرضه )) رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله‪ (( :‬ال تحاسدوا‪ ،‬وال تناجشوا‪ ،‬وال تباغضوا‪ ،‬وال تدابروا‪،‬‬
‫ضكم على بيع بعض ))‪ ،‬الحس ُد يكون في األمور الدنيوية‬ ‫وال يبع بع ُ‬
‫واألخروية‪ ،‬ويدخل تحته كراهة الحاسد النعمة التي أنعم هللا بها على‬
‫مني زوال هذه النعمة عنه‪ ،‬وسواء ت َمنَّى انتقالها‬ ‫غيره‪ ،‬ويدخل فيه ت َ ِّ‬
‫إليه أو عدم انتقالها‪ ،‬وأ َّما إذا ت َمنَّى مث َل ما أنعم هللا به على غيره دون‬
‫‪135‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫كراهية حصولها لغيره‪ ،‬ودون ت َمنِّي زوالها عنه‪ ،‬فهذا هو الغبطة‪،‬‬


‫السلعة عند المناداة عليها‪،‬‬
‫ش‪ :‬أن يزيد في ثمن ِّ‬‫وليس بمذموم‪ ،‬والنَّ ْج ُ‬
‫وهو ال يريد شراءها‪ ،‬بل يريد نفع البائع بزيادة الثمن له‪ ،‬أو اإلضرار‬
‫بالمشتري بزيادة الثمن عليه‪ ،‬والتباغض هو تعاطي أسباب البغضاء‬
‫واإلتيان بما يجلبها‪ ،‬والتدابر المقاطعة والتهاجر؛ فال يحبُّ أن يلقى‬
‫ُبره بسبب ما يكون بينهما من تباغض‪،‬‬ ‫يولي ك ُّل واحد منهم د َ‬
‫أخاه‪ ،‬بل ِّ‬
‫والبيع على بيع غيره أن يتبايع اثنان سلعة وهما في م َّدة الخيار‪ ،‬فيأتي‬
‫آخر إلى المشتري فيقول له‪ :‬اترك هذه السلعة وأنا أبيعك سلعة مثلها‬
‫أو أحسن منها بثمن أرخص ِّم َّما اشتريت به‪ ،‬وهذا العمل يسبِّب‬
‫التباغض‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬وكونوا عباد هللا إخواناً‪ ،‬المسلم أخو المسلم‪ ،‬ال يظلمه‬
‫وال يخذله وال يكذبه وال يحقره‪ ،‬التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثالث‬
‫يحقر أخاه المسلم ))‪ ،‬بعد نهيه‬
‫َ‬ ‫الشر أن‬
‫ِّ‬ ‫مرات‪ ،‬بحسب امرئ من‬ ‫َّ‬
‫محرمة‪ ،‬فيها التباغض بين المسلمين وتعاطي أسبابه‪ ،‬أرشد‬ ‫َّ‬ ‫عن أمور‬
‫إلى ما هو مطلوب من المسلمين أن يكونوا عليه‪ ،‬وهو أن يكونوا‬
‫ضهم إلى‬ ‫متحابين متآلفين‪ ،‬يرفق بعضهم ببعض‪ ،‬ويُحسن بع ُ‬ ‫ِّ‬ ‫إخوة ً‬
‫بعض‪ ،‬بإيصال النفع إليه ودفع الضرر عنه‪ ،‬وأ َّكد ذلك بقوله‪ (( :‬المسلم‬
‫أن مقتضى األخوة أن يحبَّ لغيره ما يحبُّ لنفسه‪،‬‬ ‫أخو المسلم ))‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫ي‬
‫ويكره له ما يكره لها‪ ،‬فال يظلم غيره بأن يعتدي عليه‪ ،‬أو يلحق أ َّ‬
‫ضرر به‪ ،‬وال يخذله عند حاجته إلى نصرته وهو قادر على أن ينصره‪،‬‬
‫وال يحدِّثه بحديث هو كاذب فيه‪ ،‬وال يحقره بأن يستهين به ويستصغره‪،‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪136‬‬

‫الشر أن‬
‫قبح احتقار المسلم أخاه بقوله‪ (( :‬بحسب امرئ من ٍّ‬ ‫ثم بيَّن‬
‫الشر احتقار أخيه لو لم يكن عنده‬
‫ِّ‬ ‫يحقر أخاه المسلم ))‪ ،‬أي‪ :‬يكفيه من‬
‫َ‬
‫شره قوله‬
‫عظم ِّ‬
‫َ‬ ‫بين النهي عن االحتقار وبيان‬ ‫سط‬‫شر غيره‪ ،‬وو َّ‬ ‫ٌّ‬
‫‪:‬‬
‫(( التقوى ههنا )) مشيرا ً إلى صدره ثالث َّ‬
‫مرات‪ ،‬أي إلى القلب؛ لبيان‬
‫أن العبرة بما يقوم في القلوب من اإليمان والتقوى‪ ،‬وأنَّه قد يكون ُ‬
‫قلب‬ ‫َّ‬
‫َمن احتُقر معمورا ً بالتقوى‪ ،‬ويكون ُ‬
‫قلب َمن احتقره وتكبَّر عليه بخالف‬
‫بعض َمن يقع في المعاصي الظاهرة إذا ِّنبه على‬‫ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬وأ َّما ما يقوله‬
‫شيء منها أشار إلى صدره‪ ،‬وقال‪ (( :‬التقوى ههنا ))‪ ،‬فيُقال له‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫أثرها على الجوارح باالستقامة‬ ‫التقوى إذا صارت في القلب ظهر ُ‬
‫إن في الجسد ُمضغة إذا صلحت‬ ‫وترك المعصية‪ ،‬وقد قال ‪ (( :‬أال َّ‬
‫صلح الجسد كلُّه وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه‪ ،‬أال وهي القلب ))‪ ،‬وقال‬
‫صوركم وأموالكم‪ ،‬ولكن ينظر إلى قلوبكم‬ ‫‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا ال ينظر إلى َ‬
‫وأعمالكم )) رواه مسلم (‪ ،)2564‬وجاء عن بعض السلف أنَّه قال‪(( :‬‬

‫بالتحلي‪ ،‬ولكن ما وقر في القلوب وصدَّقته‬


‫ِّ‬ ‫ليس اإليمان بالتمنِّي وال‬
‫األعمال ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬ك ُّل المسلم على المسلم حرام‪ :‬دمه وماله وعرضه ))‪،‬‬
‫يحرم االعتداء على النفس بالقتل أو ما دونه‪ ،‬واالعتداء على المال‬
‫بالسب والشتم‬
‫ِّ‬ ‫بالسرقة والغصب وغير ذلك‪ ،‬واالعتداء على ال ِّعرض‬
‫تحريم هذه الثالثة في‬ ‫ي‬‫والغيبة والنميمة وغير ذلك‪ ،‬وقد أ َّكد النَّب ُّ‬
‫‪(( :‬‬ ‫ح َّجة الوداع‪ ،‬قارنا ً حرمتها بحرمة الزمان والمكان‪ ،‬حيث قال‬
‫‪137‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫إن دما َءكم وأموالَكم وأعرا َ‬


‫ضكم عليكم حرام‪ ،‬كحرمة يومكم هذا‪ ،‬في‬ ‫َّ‬
‫شهركم هذا‪ ،‬في بلدكم هذا ))‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تحريم التحاسد والتناجش والبيع على بيع أخيه‪ ،‬وكذا الشراء‬
‫على شرائه‪ ،‬وكذا ك ُّل ما يجلب العداوة والبغضاء بين المسلمين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ النهي عن تعاطي أسباب البغضاء‪ ،‬وكذا ك ُّل ما يترتَّب على‬
‫ذلك من تقاطع وتهاجر بين المسلمين‪.‬‬
‫حث المسلمين جميعا ً على أن يكونوا إخوة ً متحابِّين متآلفين‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ُّ‬
‫األخوة َ بين المسلمين تقتضي إيصا َل الخير إليهم ودفع‬
‫َّ‬ ‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن‬
‫الضرر عنهم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أنَّه يحرم على المسلم ألخيه ظلمه وخذالنه واحتقاره والكذب عليه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ بيان خطورة احتقار المسلم ألخيه‪َّ ،‬‬
‫وأن ذلك كافٍّ للمحت ِّقر من‬
‫شر سواه‪.‬‬
‫الشر‪ ،‬وإن لم يكن عنده ٌّ‬
‫ِّ‬
‫أن الميزانَ في التفاضل بين الناس التقوى‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز‬ ‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫ل‪     :‬‬ ‫وج َّ‬
‫‪.  ‬‬
‫أن التقوى محلُّها القلب‪ ،‬كما في هذا الحديث‪ ،‬وكما في قوله‬‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪.   ‬‬
‫آثارها على الجوارح‪ ،‬وبصالح‬ ‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫أن التقوى في القلوب تظهر ُ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪138‬‬

‫القلوب يصلح بقيَّة الجسد‪.‬‬


‫‪ 10‬ـ تحريم االعتداء على المسلمين في دمائهم وأموالهم‬
‫وأعراضهم‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث السادس والثالثون‬

‫قال‪َ (( :‬من نَفَّس عن مؤمن‬ ‫‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬ ‫عن أبي هريرة‬
‫ب يوم القيامة‪ ،‬و َمن‬ ‫كُربة ِّمن ك َُرب الدنيا نَفَّس هللا عنه كُربة من ك َُر ِّ‬
‫ست َ َر مسلما‬
‫س َر هللاُ عليه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬و َمن َ‬ ‫س ٍر َي َّ‬
‫سر على ُمع ِّ‬
‫َي َّ‬
‫ستره هللاُ في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهللاُ في عَون العبد ما كان العب ُد في‬
‫س َّه َل هللاُ له به طريقا‬ ‫سلَكَ طريقا َيلتمس فيه علما َ‬ ‫عون أخيه‪ ،‬و َمن َ‬
‫كتاب هللا‬
‫َ‬ ‫إلى الجنة‪ ،‬وما اجتمع قوم في بيت من بيوت هللا يتلون‬
‫غشيتهم الرحمةُ‪،‬‬ ‫ويتدارسونه بينهم إال َّ نزلت عليهم السكينةُ‪ ،‬و َ‬
‫طأ َ به عملُه لَم يُسرع‬ ‫وحفَّتهم المالئكةُ‪ ،‬وذك ََرهم هللا في َمن عنده‪ ،‬و َمن بَ َّ‬
‫به نسبُه )) رواه مسلم بهذا اللفظ‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله‪َ (( :‬من نَفَّس عن مؤمن ُكربةً ِّمن ُك َرب الدنيا نَفَّس هللاٌ عنه‬
‫ب يوم القيامة ))‪ ،‬ال ُكربةُ هي الش َّدة والضيق‪ ،‬وتنفيسها‬ ‫ُكربةً من ُك َر ِّ‬
‫إزالتُها‪ ،‬والجزاء على تنفيس كربة في الدنيا أن ينفَّس عنه ُكربة من‬
‫أن الجزا َء فيه‬ ‫ُكرب يوم القيامة‪ ،‬والجزا ُء من جنس العمل‪ ،‬وال َّ‬
‫شك َّ‬
‫أعظم؛ لشدَّة ُك َرب يوم القيامة وعظم الفائدة للمكروب في تنفيسها‪.‬‬
‫س َر هللاُ عليه في الدنيا واآلخرة‬
‫سر على ُم ْع ِّس ٍّر يَ َّ‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬و َمن يَ َّ‬
‫‪139‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫))‪ ،‬وهذا أيضا ً الجزا ُء فيه من جنس العمل‪ ،‬والعمل هو التيسير على‬
‫عسرته‪ ،‬فإن كان َمدينا ً ساعده‬
‫ال ُمعسر‪ ،‬وذلك بإعانته على إزالة ُ‬
‫بإعطائه ما يقضي به دينه‪ ،‬وإن كان الدَّين له أنظره إن لم يُبْرئه منه‪،‬‬
‫ل‪  :‬‬ ‫خير من اإلنظار؛ لقول هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫ٌ‬ ‫واإلبراء‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬‬

‫‪ ،‬وقد بيَّن‬ ‫‪  ‬‬

‫تيسير يحصل في الدنيا واآلخرة‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫أن الجزا َء على التيسير‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬و َمن ستر مسلما ً ستره هللا في الدنيا واآلخرة ))‪ ،‬وهذا‬
‫أيضا ً العمل فيه ستر في الدنيا‪ ،‬والجزاء عليه ٌ‬
‫ستر في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫والستر هو إخفاء العيب وعدم إظهاره‪ ،‬ف َمن كان معروفا ً باالستقامة‬
‫ُ‬
‫ستر عليه‪ ،‬و َمن كان معروفا ً‬
‫نوص َح و ُ‬
‫وحصل منه الوقوع في المعصية ِّ‬
‫يهون عليه إجرامه‪ ،‬فيستمر عليه‬ ‫الستر عليه قد ِّ‬
‫َ‬ ‫بالفساد واإلجرام‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫ويتمادى فيه‪ ،‬فالمصلحةُ في مثل هذا عدم الستر عليه؛ ليحصل له‬
‫العقوبة التي تزجره عن العَ ْود إلى إجرامه وعدوانه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬وهللا في عون العبد ما كان العب ُد في عون أخيه ))‪ ،‬هذا‬
‫الحث على إعانة المسلم أخاه المسلم‪ ،‬وأنَّه كلَّما حصل منه العون‬
‫ُّ‬ ‫فيه‬
‫يحصل بذلك عون هللا وتسديده‪ ،‬وهي كلمة جامعة من‬
‫ِّ‬ ‫إلخوانه فإنَّه‬
‫جوامع كلم الرسول ‪.‬‬
‫يلتمس فيه علما ً س َّهل هللا له به طريقا ً‬
‫ُ‬ ‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬و َمن سلك طريقا ً‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪140‬‬

‫الحث على طلب العلم الشرعي ِّ وسلوك الطرق‬ ‫ُّ‬ ‫إلى الجنَّة ))‪ ،‬فيه‬
‫الموصلة إلى تحصيله‪ ،‬سواء كان ذلك بالسفر لطلبه؛ أو باألخذ بأسباب‬
‫تحصيله‪ ،‬من اقتناء الكتب المفيدة وقراءتها واالستفادة منها‪ ،‬ومالزمة‬
‫العلماء واألخذ عنهم وغير ذلك‪ ،‬والجزاء على ذلك من هللا تسهيل‬
‫الطريق التي يصل بها طالب العلم إلى الجنَّة‪ ،‬وذلك يكون بإعانته على‬
‫محصالً للعلم‪ ،‬ويكون أيضا ً بإعانته على‬
‫ِّ‬ ‫تحصيل ما قصد‪ ،‬فيكون بذلك‬
‫العمل بما علمه من أحكام الشريعة‪ ،‬وذلك يفضي به إلى دخول الجنَّة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قوله‪ (( :‬وما اجتمع قوم في بيت من بيوت هللا يتلون كتاب هللا‬
‫الرحمة‪ ،‬وحفَّتهم‬ ‫ويتدارسونه بينهم إالَّ نزلت عليهم السكينة‪ ،‬وغشيتهم َّ‬
‫المالئكة‪ ،‬وذكرهم هللا في َمن عنده ))‪ ،‬بيوتُ هللا هي المساجد‪ ،‬وإضافتها‬
‫إلى هللا إضافة تشريف‪ ،‬والمساجد هي أحبُّ البالد إلى هللا؛ لقوله ‪:‬‬
‫(( أحبُّ البالد إلى هللا مساجدها‪ ،‬وأبغض البالد إلى هللا أسواقها )) رواه‬
‫الحث على االجتماع في المساجد لتالوة القرآن‬ ‫ُّ‬ ‫مسلم (‪ ،)671‬وفيه‬
‫وتدارسه‪ ،‬ويكون ذلك بقراءة أحد المجتمعين والباقون يسمعون‪،‬‬
‫ضهم بعضا ً في القراءة‪ ،‬ويستفيد ك ُّل واحد‬
‫ليقوم بع ُ‬ ‫وبقراءتهم بالتناوب ِّ‬
‫يحصل به إجادة القراءة وتدارك الخطأ إن ُوجد‪ ،‬وإذا‬ ‫ِّ‬ ‫منهم من غيره ما‬
‫كان فيهم عالم بتفسيره علَّمهم‪ ،‬وإن كانوا من أهل العلم فيه تدارسوا‬
‫معانيه‪ ،‬ورجعوا في ذلك إلى كتب التفسير في الرواية والدراية المبنية‬
‫على ما كان عليه سلف هذه األ َّمة‪ ،‬والجزاء على االجتماع في المساجد‬
‫لتالوة القرآن وتدارسه أربعة أمور‪ ،‬هي‪ :‬نزول السكينة عليهم‬
‫وتغطيهم‪ ،‬وأ َّن المالئكة‬
‫ِّ‬ ‫وأن الرحمةَ تغشاهم‪ ،‬أي تشملهم‬ ‫والطمأنينة‪َّ ،‬‬
‫تحفُّهم أي‪ :‬تحيط بهم‪ ،‬وأ َّن هللا تعالى يذكرهم عند المالئكة‪.‬‬
‫‪141‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ))‪ ،‬المعنى‪َ :‬من‬ ‫‪ 7‬ـ قوله‪ (( :‬و َمن َّ‬
‫أ َّخره عملُه عن دخول الجنَّة لم يسرع به نسبه إلى دخول الجنَّة؛ َّ‬
‫ألن‬
‫ل‪  :‬‬ ‫المعت َبر في ذلك اإليمان والتقوى‪ ،‬كما قال هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،  ‬قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم‬


‫(‪ (( :)308/2‬معناه َّ‬
‫أن العم َل هو الذي يبلغ بالعبد درجات اآلخرة‪ ،‬كما‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،  ‬ف َمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل‬


‫العالية عند هللا تعالى لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات؛ َّ‬
‫فإن هللا‬
‫رت َّب الجزا َء على األعمال ال على األنساب‪ ،‬كما قال تعالى‪ :‬‬
‫‪    ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،))    ‬إلى أن‬


‫قال‪:‬‬
‫(( وفي هذا المعنى يقول بعضهم‪:‬‬
‫فال تترك التقوى اتِّكاالً على النسب‬ ‫لعمرك ما اإلنسان إالَّ بــدينــه‬
‫النسيب أبا لهب ))‪.‬‬
‫َ‬ ‫وقد وضع الشرك‬ ‫فارس‬
‫ٍّ‬ ‫لقد رفع اإلسال ُم سلمانَ‬
‫‪ 8‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫ينفس بها‬ ‫‪ 1‬ـ الترغيب في تنفيس الكرب في الدنيا‪َّ ،‬‬
‫وأن هللا تعالى ِّ‬
‫كرب يوم القيامة‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪142‬‬

‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫أن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬فالعمل تنفيس كربة‪ ،‬والجزاء‬
‫تنفيس كربة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الترغيب في التيسير على المعسرين‪ ،‬و َّ‬
‫أن الجزاء عليه تيسير‬
‫في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الترغيب في ستر العيوب حين تكون المصلحة في سترها‪،‬‬
‫َّ‬
‫وأن الجزاء عليها ستر في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫الحث على إعانة المسلم أخاه المسلم‪ ،‬وأنَّه كلَّما حصل منه‬
‫ُّ‬ ‫‪5‬ـ‬
‫يحصل بذلك عون هللا وتسديده‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العون إلخوانه فإنَّه‬
‫‪ 6‬ـ بيان فضل طلب العلم الشرعي‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ فضل االجتماع في المساجد لتالوة القرآن وتدارسه‪.‬‬
‫أن اإليمانَ والعمل الصالح سبب دخول الجنَّة وبلوغ الدرجات‬
‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫العالية عند هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪.‬‬
‫أن شرف النَّسب بدون عمل صالح ال يفيد صاح َبه عند هللا‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ َّ‬

‫***‬
‫الحديث السابع والثالثون‬

‫فيما يرويه‬ ‫عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪ ،‬عن رسول هللا‬
‫عن ربِّه تبارك وتعالى قال‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا كتب الحسنات والسيِّئات‪ ،‬ثم بيَّن‬
‫ذلك‪ ،‬ف َمن َه َّم بحسنة ف َلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة كاملة‪ ،‬وإن ه َّم‬
‫بها فعملها كتبها هللا عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬إلى‬
‫بسيئة ف َلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة كاملة‪،‬‬
‫أضعاف كثيرة‪ ،‬وإن ه َّم ِّ‬
‫‪143‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫وإن ه َّم بها فعملها كتبها هللا سيِّئة واحدة )) رواه البخاري ومسلم في‬
‫صحيحهما بهذه الحروف‪.‬‬
‫والسيئات‪ ،‬ثم بيَّن ذلك ‪ )) ...‬إلخ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫إن هللا كتب الحسنات‬‫‪ 1‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫عز وج َّل لألعمال والجزاء‬ ‫يُحتمل أن يكون المراد بالكتابة تقدير هللا َّ‬
‫عليها على هذا التفصيل‪ ،‬ويُحتمل أن يُراد به كتابة المالئكة للحسنات‬
‫ل‪ ،‬كما قال‪   :‬‬ ‫والسيِّئات بأمر هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،  ‬ويد ُّل لهذا ما جاء في حديث أبي هريرة‬
‫في كتاب التوحيد من صحيح البخاري‪ (( :‬إذا أراد عبدي أن يعمل سيِّئة‬
‫فال تكتبوها عليه حتى يعملها‪ ،‬فإن عملها فاكتبوها له بمثلها‪ ،‬وإن تركها‬
‫فإن كالًّ منهما‬
‫من أجلي فاكتبوها له حسنة ))‪ ،‬وال تنافي بين الكتابَتين؛ َّ‬
‫حاصل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬ف َمن َه َّم بحسنة فلَم يعملها كتبها هللا عنده حسنةً كاملة‪،‬‬
‫وإن ه َّم بها فعملها كتبها هللا عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف‪،‬‬
‫إلى أضعاف كثيرة ))‪ ،‬أ َّكد كتابة الحسنة إذا ه َّم بها ولم يعملها بأنَّها‬
‫الهم ال في العمل‪ ،‬وبيَّن َّ‬
‫أن‬ ‫كاملة؛ لئالَّ يُتو َّهم نقصانها؛ ألنَّها في ِّ‬
‫المضاعفة في الفعل إلى عشرة أضعاف‪ ،‬وإلى ما هو أكثر من ذلك‪،‬‬
‫وذلك من فضل هللا َّ‬
‫عز وج َّل وإحسانه إلى عباده‪ ،‬وفيه مضاعفة الجزاء‬
‫العمل‪،‬‬ ‫على‬
‫الهم‪ ،‬وهو واضح‪ ،‬وأ َّما حديث‪ (( :‬نيَّةُ المؤمن ٌ‬
‫خير‬ ‫دون الجزاء على ِّ‬
‫من عمله )) فهو ضعيف‪ ،‬ذكر ذلك الحافظ في الفتح (‪ ،)219/4‬وانظر‬
‫السلسلة الضعيفة لأللباني (‪.)2789‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪144‬‬

‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬وإن ه َّم بسيِّئة فلم يعملها كتبها هللا عنده حسنة كاملة‪،‬‬
‫سيئة واحدة ))‪ُ ،‬وصفت الحسنةُ على ترك‬ ‫وإن ه َّم بها فعملها كتبها هللا ِّ‬
‫المعصية المهموم بها بأنَّها كاملة؛ لئالَّ يُتو َّهم نقصانها‪ ،‬و ُوصفت ِّ‬
‫السيئة‬
‫المعمولة بواحدة؛ لئالَّ يُتو َّهم زيادتها‪ ،‬وهذا من فضل هللا وعدله‪،‬‬
‫السيئة التي ه َّم بها يحصل إذا كان تركها من أجل‬
‫والثواب على ترك ِّ‬
‫صمم‬
‫تعلق بها‪ ،‬وهو ُم ِّ‬ ‫هللا‪ ،‬أ َّما إذا كان حريصا ً على فعل ِّ‬
‫السيئة وقلبه م ِّ‬
‫على فعلها لو قدر على ذلك‪ ،‬فهو مؤا َخذٌ على ذلك‪ ،‬قال ابن كثير في‬
‫‪ ‬‬ ‫تفسيره عند تفسير قوله تعالى من سورة األنعام‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬


‫‪    ‬‬

‫‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫السيئة الذي ال يعملها على ثالثة أقسام‪ :‬تارة يتركها‬


‫تارك ِّ‬
‫َ‬ ‫(( واعلم َّ‬
‫أن‬
‫هلل‪ ،‬فهذا تُكتب له حسنة على ِّ‬
‫كفه عنها هلل تعالى‪ ،‬وهذا عمل ونيَّة‪،‬‬
‫ولهذا جاء أنَّه يُكتب له حسنة‪ ،‬كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح‪( :‬فإنَّه‬
‫تركها من جرائي)‪ ،‬أي‪ :‬من أجلي‪ ،‬وتارة يتركها نسيانا ً وذهوالً عنها‪،‬‬
‫شرا‪ ،‬وتارة يتركها‬ ‫فهذا ال له وال عليه؛ ألنَّه لم يَ ْن ِّو خيرا ً وال فَ َع َل ًّ‬
‫َعجزا ً وكسالً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبُّس بما يقرب منها‪ ،‬فهذا‬
‫أنَّه قال‪:‬‬ ‫بمنزلة فاعلها‪ ،‬كما جاء في الحديث الصحيح عن النَّبي ِّ‬
‫(إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول‬
‫‪145‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫هللا! هذا القاتل‪ ،‬فما بال المقتول؟ قال‪ :‬إنَّه كان حريصا ً على قتل صاحبه‬
‫))‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إثبات كتابة الحسنات والسيِّئات‪.‬‬
‫أن من فضل هللا َّ‬
‫عز وج َّل مضاعفة ثواب الحسنات‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫عز وج َّل أالَّ يُزاد في ِّ‬
‫السيئات‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ من عدل هللا َّ‬
‫الهم بالحسنة إذا لم يعملها بكتابتها حسنة كاملة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن هللا يُثيب على ِّ‬
‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫أن َمن ه َّم بسيِّئة وتركها من أجل هللا يكتب له بتركها حسنة كاملة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ الترغيب في فعل الحسنات والترهيب من فعل السيِّئات‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الثامن والثالثون‬

‫‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا تعالى قال‪:‬‬ ‫قال‪ :‬قال رسول هللا‬ ‫عن أبي هريرة‬
‫ي عبدي بشيء‬ ‫َمن عادى لي وليا فقد آذنتُه بالحرب‪ ،‬وما َّ‬
‫تقرب إل َّ‬
‫ي بالنوافل حتى‬ ‫يتقرب إل َّ‬
‫َّ‬ ‫ي ِّم َّما افترضته‪ ،‬وال يزال عبدي‬ ‫أحب إل َّ‬
‫وبصره الذي يُبصر به‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أحبَّه‪ ،‬فإذا أح َببت ُه كنتُ سم َعه الذي َيسمع به‪،‬‬
‫ورج َله التي يَمشي بها‪ ،‬ولئن سألني ألعطينَّه‪،‬‬ ‫بطش بها‪ِّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ويدَه التي يَ‬
‫ولئن استعاذني ألعيذنَّه )) رواه البخاري‪.‬‬
‫من عادى لي وليًّا فقد آذنت ُه بالحرب ))‪ ،‬هذا الحديث‬ ‫((‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪146‬‬

‫عن ربِّه‪ ،‬وقد أفرد‬ ‫من األحاديث القدسية التي يرويها الرسول‬
‫الو ْلي بشرح حديث الولي ))‪،‬‬
‫الشوكاني شرحه في كتاب س َّماه (( قطر َ‬
‫ل هم المؤمنون المتَّقون‪ ،‬كما قال تعالى‪  :‬‬ ‫وأولياء هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪    ‬‬

‫‪    ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،  ‬ومعنى (( آذنت ُه بالحرب )) أعلمته أنَّني‬


‫محارب له‪ ،‬وهو يد ُّل على خطورة معاداة أولياء هللا‪ ،‬وأنَّه من الكبائر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ي ِّم َّما افترضت‬
‫ي عبدي بشيء أحبَّ إل َّ‬ ‫تقرب إل َّ‬
‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬وما َّ‬
‫بالتقرب‬
‫ُّ‬ ‫أن والية هللا إنَّما تحصل‬
‫عليه )) في هذه الجملة وما بعدها بيان َّ‬
‫إليه بأداء الفرائض‪ ،‬واإلتيان مع ذلك بالنوافل‪ ،‬وهو يد ُّل ًٌ على َّ‬
‫أن‬
‫ب بأداء الفرائض أحبُّ إلى هللا من النوافل؛ َّ‬
‫ألن في ذلك فعل ما‬ ‫التقر َ‬
‫ُّ‬
‫للمحرمات هو‬
‫َّ‬ ‫حرم هللا‪ ،‬واآلتي بالواجبات التارك‬
‫أوجب هللا وترك ما َّ‬
‫المقتصد‪ ،‬و َمن أتى بها وأتى بالنوافل معها فهو السابق بالخيرات‪.‬‬
‫ي بالنوافل حتى أحبَّه )) إلخ‪،‬‬
‫يتقرب إل َّ‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬وال يزال عبدي َّ‬
‫النوافل هي اإلتيان باألعمال الصالحة زيادة على الفرائض‪ ،‬وفعلها مع‬
‫االستمرار عليها يجلب محبَّة هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪ ،‬وإذا حصلت له المحبَّة‬
‫ظفر بتسديد هللا في تصرفاته‪ ،‬فال يسمع إالَّ ما هو حق‪ ،‬وال يرى إالَّ‬
‫ما هو حق‪ ،‬وال ينال إالَّ ما هو حق‪ ،‬وال يَمشي إالَّ إلى ما هو حق‪،‬‬
‫وأكرمه هللا بإجابة دعوته إذا دعاه‪ ،‬وإعاذته ِّم َّما استعاذه منه‪.‬‬
‫‪147‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ بيان فضل أولياء هللا‪ ،‬وشدَّة خطر معاداتهم‪.‬‬
‫أن واليةَ هللا َّ‬
‫عز وج َّل تحصل بأداء الفرائض وفعل النوافل‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫ُتقرب إلى هللا َّ‬
‫عز وج َّل به أداء الفرائض‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن أحبَّ ما ي َّ‬
‫‪ 4‬ـ إثبات صفة المحبَّة هلل َّ‬
‫عز وج َّل‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ تفاوت األعمال في محبَّة هللا إيَّاها‪.‬‬
‫أن فعل النوافل بعد أداء الفرائض يجلب محبَّة هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫أن من ظفر بمحبَّة هللا َّ‬
‫عز وج َّل س َّدده في سمعه وبصره وبطشه‬ ‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫ومشيه‪.‬‬
‫أن محبَّة هللا َّ‬
‫عز وج َّل تجلب للعبد إجابة دعائه وإعاذته ِّم َّما يخاف‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ َّ‬
‫ثواب هللا َّ‬
‫عز وج َّل للعبد يكون بإجابة مطلوبه والسالمة من‬ ‫َ‬ ‫‪ 9‬ـ َّ‬
‫أن‬
‫مرهوبه‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث التاسع والثالثون‬

‫قال‪َّ (( :‬‬
‫إن هللا‬ ‫عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪َّ :‬‬
‫أن رسول هللا‬
‫حديث‬ ‫))‬ ‫تجاوز لي عن أ َّمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه‬
‫حسن‪ ،‬رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما‪.‬‬
‫أ َّمتان‪ :‬أ َّمة دعوة وأ َّمة إجابة‪ ،‬فأ َّمة الدعوة‬ ‫‪ 1‬ـ أ َّمةُ ِّ‬
‫نبينا محمد‬
‫هم ك ُّل إنسي ٍّ وجني ٍّ من حين بعثته إلى قيام الساعة‪ ،‬وأ َّمة اإلجابة هم‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪148‬‬

‫الذين وفَّقهم هللا للدخول في دينه الحنيف وصاروا من المسلمين‪،‬‬


‫والمراد من األ َّمة في هذا الحديث أ َّمة اإلجابة‪ ،‬ومن أمثلة أ َّمة الدعوة‬
‫‪:‬‬ ‫قوله‬
‫(( والذي نفس محمد بيده! ال يسمع بي أح ٌد من هذه األمة يهودي وال‬
‫نصراني‪ ،‬ثم يَموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إالَّ كان من أصحاب‬
‫النار )) رواه مسلم (‪.)153‬‬
‫والخطأ‪ :‬فعل الشيء من غير قصد‪ ،‬والنسيان‪ :‬أن يكون ذاكرا ً‬
‫لشيء فينساه عند الفعل‪ ،‬واإلكراه‪ :‬اإللجاء على قول أو فعل‪ ،‬واإلثم‬
‫مرفوع في هذه الثالثة؛ وقد جاءت األدلة من كتاب هللا َّ‬
‫عز وج َّل على‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬ ‫رفع ذلك‪ ،‬قال هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،   ‬قال هللا‪ (( :‬قد فعلت )) أخرجه‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫مسلم (‪ ،)126‬وقال‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‪ ‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ،   ‬وأ َّما‬


‫ما أتلفه لغيره فهو مضمون‪ ،‬كالقتل خطأ تجب فيه الدية مع الكفارة‪،‬‬
‫‪149‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫وإذا أُكره على الزنا أو قَتْل معصوم فال يجوز له ذلك؛ فال يستبقي‬
‫حياته بقتل غيره‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان سعة رحمة هللا وفضله وإحسانه إلى عباده؛ حيث رفع‬
‫عنهم اإلثم في هذه الثالثة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ رفع المؤاخذة على الخطأ‪ ،‬فإن كان الخطأ في ترك واجب‬
‫فَ َعلَه‪ ،‬وإن كان في إتالف ٍّ‬
‫حق لغيره ضمنه‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث األربعون‬

‫بمنكبي‪،‬‬ ‫عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال‪ (( :‬أخذ رسول هللا‬
‫فقال‪ :‬كن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل‪ ،‬وكان ابن عمر رضي‬
‫هللا تعالى عنهما يقول‪ :‬إذا أمسيتَ فال تنتظر الصباح‪ ،‬وإذا أصبحتَ‬
‫))‬ ‫فال تنتظر المساء‪ ،‬وخذ من ص َّحتك لمرضك‪ ،‬ومن حياتك لموتك‬
‫رواه البخاري‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫وحث‬ ‫بمنكب عبد هللا بن عمر تنبيه‬ ‫‪ 1‬ـ في أخذ رسول هللا‬
‫له على وعي ما يُلقى عليه في هذه الحال‪ ،‬وإخبار عبد هللا بن عمر‬
‫رضي هللا عنهما بذلك يد ُّل على ضبطه وإتقانه ما سمعه من رسول هللا‬
‫ألن فيه تذ ُّكر الحالة التي حصلت عند سماعه هذا الحديث من‬ ‫؛ َّ‬
‫رسول هللا ‪.‬‬
‫كن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل ))‪ ،‬الغريب‬ ‫((‬ ‫‪ 2‬ـ قوله‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪150‬‬

‫هو المقيم في غير بلده لقضاء حاجة‪ ،‬يستع ُّد لمغادرة ذلك البلد متى‬
‫مر بالبالد مرورا ً دون‬ ‫ت َم َّكن من ذلك‪ ،‬وعابر السبيل هو المسافر الذي يَ ُّ‬
‫إقامة بها حتى ينتهي من سفره‪ ،‬ودار الغربة وعبور السبيل في هذا‬
‫الحديث هي الدنيا‪ ،‬والسير فيها لآلخرة‪ ،‬وذلك إنَّما يكون بتذ ُّكر الموت‬
‫وقصر األمل واالستعداد فيها لآلخرة باألعمال الصالحة‪ ،‬كما قال هللا‬
‫ل‪    :‬‬ ‫عز وج َّ‬ ‫َّ‬
‫‪ ،   ‬وقد ذكر‬
‫البخاري في صحيحه (‪ 235/11‬ـ مع الفتح) عن علي بن أبي طالب‬
‫ولكل‬
‫ِّ‬ ‫أنَّه قال‪ (( :‬ارتحلت الدنيا مدبرة‪ ،‬وارتحلت اآلخرة مقبلة‪،‬‬
‫واحدة منهما بَنون‪ ،‬فكونوا من أبناء اآلخرة وال تكونوا من أبناء الدنيا؛‬
‫فإن اليوم عمل وال حساب‪ ،‬وغدا ً حساب وال عمل ))‪ ،‬وقد أوضح النَّب ُّ‬
‫ي‬ ‫َّ‬
‫مثل هذه الحياة الدنيا وانتهائها‪ ،‬وأنَّها ليست بدار قرار بقوله ‪:‬‬
‫(( ما لي وللدنيا‪ ،‬ما أنا في الدنيا إالَّ كراكب استظ َّل تحت شجرة ثم راح‬
‫حديث حسن‬ ‫((‬ ‫رواه الترمذي (‪ )2377‬وغيره‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫))‬ ‫وتركها‬
‫صحيح ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬وكان ابن عمر رضي هللا تعالى عنهما يقول‪ :‬إذا‬
‫يت فال تنتظر الصباح‪ ،‬وإذا أصبحت فال تنتظر المساء ))‪ ،‬فيه‬ ‫أمس َ‬
‫إلى تنفيذ وصايا الرسول ‪ ،‬وفيه‬ ‫مبادرة أصحاب رسول هللا‬
‫صاه به رسول هللا‬‫؛ فإنَّه مع تنفيذه ما و َّ‬ ‫فضل عبد هللا بن عمر‬
‫المسلم يكون مترقِّبا ً الموت‪،‬‬
‫َ‬ ‫غيره إلى تنفيذ ذلك‪ ،‬والمعنى َّ‬
‫أن‬ ‫يرشد َ‬
‫فهو يستع ُّد له بالعمل الصالح دون كسل أو تأخير‪ ،‬ويعمل الصالحات‬
‫في نهاره كأنَّه ال يُدرك المساء‪ ،‬وفي ليله كأنَّه ال يدرك الصباح‪ ،‬وفي‬
‫‪151‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫ترجمة منصور بن زاذان في تهذيب الكمال‪ :‬قال ُهشيم بن َبشير‬
‫إن م َلك الموت على الباب ما‬
‫الواسطي‪ (( :‬لو قيل لمنصور بن زاذان‪َّ :‬‬
‫كان عنده زيادة في العمل ))‪.‬‬
‫وخذ من ص َّحتك لمرضك‪ ،‬ومن حياتك لموتك ))‪،‬‬ ‫‪ 4‬ـ قوله‪:‬‬
‫((‬

‫متمكنا منها‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫المسلم يُبادر إلى األعمال الصالحة‪ ،‬حيث يكون‬
‫َ‬ ‫المعنى َّ‬
‫أن‬
‫وذلك في حال ص َّحته قبل أن يأتيه ما يعوقه من ذلك كالمرض والكبر‪،‬‬
‫وأن يع ُمر حياتَه باألعمال الصالحة قبل أن يفجأه الموت‪ ،‬فينتقل من‬
‫دار العمل إلى دار الجزاء‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫ُّ‬
‫الحث على استشعار الغربة في هذه الحياة؛ ليستع َّد فيها‬ ‫‪ 1‬ـ‬
‫باألعمال الصالحة‪.‬‬
‫المتعلم إلى وعي ما يلقى عليه؛ لقول‬
‫ِّ‬ ‫المعلم ما يلفت نظر‬
‫ِّ‬ ‫‪ 2‬ـ فعل‬
‫بمنكبي ))‪.‬‬ ‫عبد هللا بن عمر‪ (( :‬أخذ رسول هللا‬
‫‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ مبادرة الصحابة إلى تنفيذ وصايا رسول هللا‬
‫وحث غيره عليها‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ فضل عبد هللا بن عمر بأخذه بوصية النَّبي ِّ‬
‫ُّ‬
‫الحث على المبادرة إلى األعمال الصالحة دون كسل أو تأخير‪.‬‬ ‫‪5‬ـ‬

‫***‬
‫الحديث الواحد واألربعون‬

‫عن أبي محمد عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما قال‪:‬‬
‫قال رسول هللا ‪ (( :‬ال يُؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تَبَعا ِّل َما جئتُ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪152‬‬

‫به )) حديث صحيح‪ ،‬رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح‪.‬‬


‫‪ 1‬ـ الحديث ص َّححه النووي وعزاه إلى كتاب الحجة‪ ،‬قال ابن رجب‬
‫في جامع العلوم والحكم (‪ (( :)293/2‬يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ‬
‫أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق‪،‬‬
‫وكتابه هذا هو كتاب الحجة على تاركي المحجة‪ ،‬يتض َّمن ذكر أصول‬
‫خرج هذا الحديث الحافظ‬
‫الدين على قواعد أهل الحديث والسنة‪ ،‬وقد َّ‬
‫أبو نعيم في كتاب األربعين وشرط في أولها أن تكون من صحاح‬
‫وخرجته‬
‫َّ‬ ‫األخبار وجياد اآلثار ِّم َّما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه‪،‬‬
‫إن الحافظ ابن رجب ضعَّفه‪ ،‬وبيَّن وجوه‬ ‫األئمة في مسانيدهم ))‪ ،‬ثم َّ‬
‫تضعيفه‪ ،‬وأ َّما الحافظ ابن حجر فقد أشار في الفتح (‪ )289/13‬إلى‬
‫وأخرج البيهقي في‬ ‫((‬ ‫ثبوته‪ ،‬وجعله من حديث أبي هريرة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫المدخل وابن عبد البر في بيان العلم عن جماعة من التابعين‪ ،‬كالحسن‬
‫شريح والشعبي والنخعي بأسانيد جياد ذم القول بالرأي‬ ‫وابن سيرين و ُ‬
‫ُ‬
‫حديث أبي هريرة (ال يؤمن أحدُكم حتى يكون‬ ‫المجرد‪ ،‬ويجمع ذلك كلَّه‬
‫َّ‬
‫وغيره‪ ،‬ورجاله‬
‫ُ‬ ‫هواه ت َ َبعا ً ِّل َما جئتُ به)‪ ،‬أخرجه الحسن بن سفيان‬
‫ثقات‪ ،‬وقد صححه النووي في آخر األربعين ))‪.‬‬
‫ي للكمال الواجب‪ ،‬قال النووي في‬
‫نفي اإليمان في الحديث نف ٌ‬
‫‪2‬ـ ُ‬
‫رض عملَه على‬
‫الشخص يجب عليه أن يع َ‬
‫َ‬ ‫شرح األربعين‪ (( :‬أي‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫‪ ،‬وهذا نظير قوله‬ ‫الكتاب والسنة‪ ،‬ويخالف هواه ويتبع ما جاء به‬
‫‪    ‬‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪153‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪   ‬‬


‫‪ ،  ‬فليس ألحد مع هللا َّ‬
‫عز وج َّل ورسوله‬
‫أمر وال هوى ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ 398/2‬ـ ‪:)399‬‬
‫(( والمعروف في استعمال الهوى عند اإلطالق أنَّه الميل إلى خالف‬
‫ل‪   :‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّ‬ ‫الحق‪ ،‬كما في قوله‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ‬‬ ‫‪ ،   ‬وقال تعالى‪:‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪ ،    ‬وقد يطلق الهوى‬


‫الحق وغيره‪ ،‬وربَّما‬
‫ِّ‬ ‫بمعنى المحبَّة والميل مطلقا ً‪ ،‬فيدخل فيه المي ُل إلى‬
‫سئل صفوان بن‬ ‫الحق خاصة واالنقياد إليه‪ ،‬و ُ‬
‫ِّ‬ ‫استعمل بمعنى َمحبة‬
‫ي عن‬ ‫يذكر الهوى؟ فقال‪ :‬سأله أعراب ٌّ‬ ‫سمعت من النَّبي ِّ‬ ‫َ‬ ‫عسال‪ :‬هل‬
‫القوم ولم يلحق بهم؟ فقال‪( :‬المرء مع من أحبَّ )‪ ،‬و َل َّما‬ ‫َ‬ ‫الرجل يُحب‬
‫ل‪    :‬‬ ‫عز وج َّ‬‫نزل قولُه َّ‬
‫‪   ‬‬
‫‪( :‬ما أرى ربَّك إالَّ‬
‫‪   ‬قالت عائشة للنَّبي ِّ‬
‫يُسارع في هواك) وقال عمر في قصة المشاورة في أسارى بدر‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪154‬‬

‫ما قال أبو بكر‪ ،‬ولَم يهو ما قلتُ ) وهذا الحديث‬ ‫(فهوي رسول هللا‬
‫ِّم َّما جاء استعمال الهوى فيه بمعنى المحبة المحمودة ))‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫فيما جاء به‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ وجوب اتِّباع الرسول‬
‫‪ 2‬ـ تفاوت الناس في اإليمان‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الثاني واألربعون‬

‫يقول‪ (( :‬قال هللا تعالى‪:‬‬ ‫قال‪ :‬سمعتُ رسول هللا‬ ‫عن أنس‬
‫يا ابن آدم! إنَّك ما دعوتَني ورجوتنِّي غفرتُ لك على ما كان منك وال‬
‫أبالي‪ ،‬يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبُك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ‬
‫لك‪ ،‬يا ابن آدم! إنَّك لو أتيتني بقُراب األرض خطايا ثم لقيتني ال تشرك‬
‫بي شيئا ألتيتُك بقُرابها مغفرة )) رواه الترمذي وقال‪ (( :‬حديث صحيح‬
‫))‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ هذا الحديث هو آخر األحاديث التي أوردها النووي ـ رحمه‬
‫هللا ـ في كتابه األربعين‪ ،‬وقد زادت على األربعين حديثين‪ ،‬فيكون‬
‫إطالق األربعين عليها من تغليب اللفظ وحذف الكسر الزائد في العدد‪،‬‬
‫عن ربِّه تبارك‬ ‫وهو من األحاديث القدسية التي يرويها رسول هللا‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫الخطاب في الحديث لبني آدم‪ ،‬وهو مشتم ٌل على َّ‬
‫أن من أسباب‬ ‫ُ‬ ‫‪2‬ـ‬
‫مغفرة الذنوب دعاء هللا ورجاءه مغفرة َ الذنوب واالستغفار منها‬
‫‪155‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫واإلخالص هلل والسالمة من الشرك‪ ،‬ومعنى مغفرة الذنوب سترها عن‬


‫الخلق والتجاوز عنها‪ ،‬فال يُعاقب عليها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬يا ابن آدم! إنَّك ما دعوتَني ورجوتنِّي غفرتُ لك على‬
‫ما كان منك وال أبالي ))‪ ،‬دعاء العبد ربه مغفرة ذنوبه‪ ،‬ورجاؤه ذلك‬
‫منه دون يأس‪ ،‬مع التوبة من الذنوب يحصل به من هللا المغفرة ولو‬
‫وتكررت‪ ،‬ولهذا قال‪ (( :‬على ما كان منك وال‬
‫َّ‬ ‫ظمت الذنوب وكثرت‬‫ع ُ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬ ‫أبالي ))‪ ،‬ونظير هذا قول هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪   ‬‬

‫‪    ‬‬

‫‪   ‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪.   ‬‬


‫‪ 4‬ـ قوله‪ (( :‬يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبُك َعنان السماء ثم استغفرتني‬
‫غفرتُ لك ))‪ ،‬لو كثرت ذنوب العبد حتى بلغت َعنان السماء‪ ،‬أي‪ :‬بلغت‬
‫السماء أو ما دون ذلك كالسحاب أو ما يبلغه بصر الناظر إلى فوق‪ ،‬ثم‬
‫حصل من العبد االستغفار مع التوبة من جميع الذنوب‪َّ ،‬‬
‫فإن هللا تعالى‬
‫يغفر تلك الذنوب ويتجاوز عنها‪ ،‬والتوبة تكون باإلقالع من الذنب‪،‬‬
‫والندم على ما فات‪ ،‬والعزيمة في المستقبل على أالَّ يعود إليه‪ ،‬ومع‬
‫عز وج َّل وفيه كفَّارة‪ ،‬أتى‬‫حق هللا َّ‬
‫هذه الثالثة‪ ،‬فإن كان الذنب في ِّ‬
‫آلدميين‪ ،‬أ َّدى حقوقهم إليهم أو تحلَّلهم منها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫بالكفارة‪ ،‬وإن كان في حق ل‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪156‬‬

‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬يا ابن آدم! إنَّك لو أتيتني بقُراب األرض خطايا ثم‬
‫لقيتني ال تشرك بي شيئا ً ألتيت ُك بقُرابها مغفرة ))‪ ،‬الشركُ باهلل َّ‬
‫عز وج َّل‬
‫هو الذنب الذي ال يغفره هللا‪ ،‬وك ُّل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة‬
‫هللا‪ ،‬إن شاء عفا عن صاحبه ولم يعذبه‪ ،‬وإن شاء عذَّبه وأدخله النار‪،‬‬
‫ولكنه ال يُخلَّد فيها خلود الكفار‪ ،‬بل ال ب َّد أن يخرج منها ويدخل الجنَّة‪،‬‬
‫ل‪     :‬‬ ‫كما قال هللا َّ‬
‫عز وج َّ‬
‫‪   ‬‬

‫‪    ‬‬

‫الذنوب‬
‫َ‬ ‫‪ ، ‬في آيتين من سورة النساء‪ ،‬وفي هذا الحديث بيان َّ‬
‫أن‬
‫ولو بلغت في الكثرة ما بلغت‪َّ ،‬‬
‫فإن هللا يتجاوز عنها‪ ،‬بشرط كون العبد‬
‫مخلصا ً عبادته هلل‪ ،‬سليما ً من اإلشراك به‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ سعة فضل هللا َّ‬
‫عز وج َّل ومغفرة ذنوب عباده‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ من أسباب مغفرة الذنوب دعاء هللا ورجاؤه من غير يأس‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ فضل االستغفار مع التوبة‪َّ ،‬‬
‫وأن هللا يغفر للمستغفر ذنوبه ولو‬
‫بلغت في الكثرة ما بلغت‪.‬‬
‫الشرك باهلل هو الذنب الذي ال يُغفر‪َّ ،‬‬
‫وأن ما سواه تحت‬ ‫َ‬ ‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫أن‬
‫مشيئة هللا‪.‬‬
‫ُكفر به الذنوب‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ فضل اإلخالص‪َّ ،‬‬
‫وأن هللا ي ِّ‬
‫الحديث الثالث واألربعون‬
‫‪157‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪ (( :‬ألحقوا‬ ‫عن ابن عباس رضي هللا عنهما قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫خرجه‬
‫َّ‬ ‫))‬ ‫الفرائض بأهلها‪ ،‬فما أبقت الفرائض فألولى رجل ذكَر‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ هذا الحديث هو أ َّو ُل األحاديث الثمانية التي زادها الحافظ ابن‬
‫رجب رحمه هللا‪ ،‬فأكمل العدة خمسين على ما جمعه اإلمام النووي ـ‬
‫رحمه هللا ـ في األحاديث األربعين‪ ،‬ويُالحظ َّ‬
‫أن الحافظ ابن رجب عند ذكر‬
‫((‬ ‫ُعبر أيضا ً بـ‬
‫خرجه ))‪ ،‬وي ِّ‬
‫الذين رووا األحاديث من األئمة يُعبر بـ (( َّ‬
‫رواه ))‪ ،‬وأ َّما النووي فكان تعبيره بـ (( رواه ))‪ ،‬وال فرق بين التعبيرين؛‬
‫ألن معناهما واحد‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ 2‬ـ هذا الحديث أص ٌل في قسمة المواريث‪ ،‬والمراد بالفرائض‬
‫الفرائض المقدَّرة في كتاب هللا‪ ،‬وهي ستة‪ ،‬وهي‪ :‬الثلثان‪ ،‬والثلث‪،‬‬
‫والسدس‪ ،‬والنصف‪ ،‬والربع‪ ،‬والثمن‪ ،‬ويُقال فيها اختصاراً‪ :‬الثلثان‪،‬‬
‫والنصف‪ ،‬ونصفهما‪ ،‬ونصف نصفهما‪ ،‬أو يُقال‪ :‬الثمن‪ ،‬والسدس‪،‬‬
‫كل‪،‬‬
‫وضعفهما‪ ،‬وضعف ضعفهما‪ ،‬أو يُقال‪ :‬الثلث‪ ،‬والربع‪ ،‬وضعف ٍّ‬
‫ونصفه‪ ،‬والمراد الفروض المقدَّرة وما جاء معها في القرآن من اإلرث‬
‫بغير تقدير‪ ،‬في حال اجتماع األوالد واإلخوة لغير أم‪ ،‬ففي حال اجتماع‬
‫األوالد إذا كانوا ذكورا ً وإناثا ً فللذَّ َكر مثل ِّ‬
‫حظ األنثيين‪ ،‬وإن كانوا إناثا ً‬
‫معهن‪ ،‬فللثنتين فأكثر الثلثان‪ ،‬وللبنت الواحدة النصف‪ ،‬هذا إذا‬ ‫َّ‬ ‫ال ذكور‬
‫كن في درجتين وكان‬ ‫كن في درجة واحدة‪ ،‬كالبنات وبنات األبناء‪ ،‬فإن َّ‬ ‫َّ‬
‫البنات ثنتين فأكثر لم يكن لبنات االبن شيء؛ الستيعاب البنات الثلثين‪،‬‬
‫وإن كانت البنت واحدة فلها النصف‪ ،‬والبنة االبن أو بناته السدس تكملة‬
‫‪ ،‬رواه البخاري‬ ‫الثلثين؛ لثبوت السنة في ذلك عن رسول هللا‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪158‬‬

‫(‪ ،)6736‬أ َّما إذا كان األوالد ذكورا ً ُخلَّصاً‪ ،‬سواء كانوا أبناء أو أبناء‬
‫فإن الواح َد منهم يحوز الميراث كلَّه‪ ،‬والجمع‬ ‫بنين عند فقد األبناء‪َّ ،‬‬
‫يقتسمونه بينهم بالسوية‪ ،‬ويُقال أيضا ً في ميراث اإلخوة األشقاء‬
‫واإلخوة ألب ما قيل في ميراث األوالد من تقديم اإلخوة األشقَّاء على‬
‫اإلخوة ألب‪ ،‬فيقتسم الذكور ال ُخلَّص الميراث بالسوية‪ ،‬فإن كانوا ذكورا ً‬
‫منهن لها النصف‪ ،‬واالثنتان‬ ‫َّ‬ ‫وإناثا ً فللذَّكر مثل ِّ‬
‫حظ األنثيين‪ ،‬والواحدة‬
‫فأكثر لهما الثلثان‪ ،‬ويكون ميراث اإلخوة ألب مثل ميراث اإلخوة‬
‫األشقاء عند فقدهم‪ ،‬وإذا ُوجد أخت شقيقة أخذت النصف‪ ،‬ولألخوات‬
‫ألب معها السدس تكملة الثلثين‪ ،‬سواء َّ‬
‫كن واحدة أو أكثر‪ ،‬وأ َّما األبوان‬
‫فلكل واحد منهما السدس إذا كان للميت ولد‪ ،‬وإن كان الولد إناثا ً َّ‬
‫فإن‬ ‫ِّ‬
‫األب يأخذ الباقي تعصيباً‪ ،‬وإذا لم يكن للميت ولد َّ‬
‫فإن األ َّم تأخذ الثلث‪،‬‬ ‫َ‬
‫والباقي لألب‪ ،‬إالَّ أنَّه في هذه الحالة إذا كان مع األبوين أحد الزوجين‬
‫فإن األ َّم تأخذ ثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين‪ ،‬ويُقال لهاتين‬ ‫َّ‬
‫المسألتين العُمريتان؛ لقضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‬
‫بذلك‪.‬‬
‫فإن ميراث‬ ‫وإذا كان للميت إخوة‪ ،‬سواء كانوا أشقَّاء أو ألب أو ألم‪َّ ،‬‬
‫األم يكون السدس‪ ،‬والجد أبو األب يرث ميراث األب عند فقده‪ ،‬والج َّدة‬
‫عند فقد األم ترث السدس‪ ،‬سواء كانت الجدة من قبل األم أو من قبل‬
‫األب‪ ،‬وعند اجتماع الج َّدات الوارثات يشتركن في ال ُ‬
‫سدُس‪ ،‬وأ َّما اإلخوة‬
‫سدس إذا لم يكن للميت فرع وارث أو أصل‬ ‫ألم فميراث الواحد منهم ال ُ‬
‫من الذكور وارث‪ ،‬وإن كانوا أكثر من واحد‪ ،‬سواء كانوا ذكورا ً خلَّصاً‪،‬‬
‫أو إناثا ً خلَّصا ً‪ ،‬أو ذكورا ً وإناثا ً‪ ،‬اشتركوا في الثلث بالسوية‪ ،‬ال فرق‬
‫‪159‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫في ذلك بين ذكورهم وإناثهم‪ ،‬وأ َّما ميراث الزوجين‪ ،‬فالزوج يرث‬
‫النصف إذا لم يكن للميت فرع وارث‪ ،‬فإن ُوجد كان له الربع‪ ،‬والزوجة‬
‫ترث الربع إذا لم يكن للميت فرع وارث‪ ،‬فإن ُوجد كان لها الثمن‪ ،‬وإن‬
‫كن أكثر من زوجة اشتركن في الربع أو الثمن‪.‬‬‫َّ‬
‫قد ذكر هللا َّ‬
‫عز وج َّل في كتابه العزيز قسمة المواريث في ثالث‬
‫‪  ‬‬ ‫آيات‪ :‬اآلية األولى قوله تعالى‪:‬‬
‫اآلية‪ ،‬وهي في ميراث‬ ‫‪   ‬‬

‫َعمو َدي النسب‪ ،‬أصول الميت وفروعه‪ ،‬واآلية الثانية قوله‪:‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫اآلية‪ ،‬وهي في ميراث الزوجين‬ ‫‪ ‬‬

‫واإلخوة ألم‪ ،‬واآلية الثالثة قوله تعالى في آخر آية من سورة النساء‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪    ‬‬

‫اآلية‪ ،‬وهي في ميراث اإلخوة األشقاء واإلخوة ألب‪.‬‬


‫‪ 3‬ـ ِّم َّما تق َّدم يتبيَّن َّ‬
‫أن األبنا َء وأبنا َء األبناء وإن نزلوا إذا كان معهم‬
‫إناث اشتركوا في الميراث‪ :‬للذَّكر مثل ِّ‬
‫حظ األنثيين‪ ،‬وكذلك اإلخوة‬
‫األشقاء واإلخوة ألب تشترك معهم أخواتهم‪ :‬للذَّكر مثل ِّ‬
‫حظ األنثيين‪،‬‬
‫وأ َّما أبناء اإلخوة ألم فليس لهم نصيب في الميراث‪ ،‬وأ َّما أبناء اإلخوة‬
‫األشقاء واإلخوة ألب وكذلك األعمام وإن علوا أو أبناء األعمام وإن‬
‫ذكورهم يستقلُّون بالميراث عن أخواتهم؛ َّ‬
‫ألن اإلناث منهم‬ ‫َ‬ ‫نزلوا‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫لهن عند االنفراد‪ ،‬فكذلك ال ميراث َّ‬
‫لهن عند االجتماع‪،‬‬ ‫ال يُفرض َّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪160‬‬

‫‪ (( :‬ألحقوا الفرائض بأهلها‪،‬‬ ‫ص الذكور منهم بالميراث؛ لقوله‬


‫ويخت ُّ‬
‫فما أبقت الفرائض فألولى رجل ذكر ))‪.‬‬
‫وإذا كان للميت بنت أو بنات وأخت شقيقة أو شقيقات وله أيضا ً‬
‫إخوة ألب‪َّ ،‬‬
‫فإن اإلخوة ألب ال يرثون؛ وترث الشقيقة أو الشقيقات ما‬
‫زاد على فرض البنات تعصيبا ً مع الغير؛ لثبوت السنَّة بذلك عن رسول‬
‫‪ ،‬رواه البخاري (‪ ،)6741‬و(‪ ،)6742‬فيكون ذلك مستثنى من‬ ‫هللا‬
‫حديث‪ (( :‬ألحقوا الفرائض بأهلها‪ ،‬فما أبقت الفرائض فألولى رجل‬
‫أقرب إلى الميت من اإلخوة ألب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ذكر ))؛ َّ‬
‫ألن الشقيقات‬
‫))‬ ‫فألولى رجل ذكر‬ ‫‪ 4‬ـ فائدة ذِّكر الذَّكر بعد الرجل في قوله‪:‬‬
‫((‬

‫الرجل هو الذي يكون كبيرا ً وفيه نجدة وقوة‪ ،‬فأضيف إليه لفظ ((‬ ‫َّ‬
‫أن َّ‬
‫ٌ‬
‫منوط بالذكورة ال بالرجولة والقوة‪ ،‬فيتساوى‬ ‫ذكر )) لبيان َّ‬
‫أن الميراث‬
‫في ذلك َمن يكون كبيرا ً جدًّا ومن يكون صغيرا ً جدًّا‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ كمال الشريعة واشتمالها على قواعد كليَّة عامة‪ ،‬كما جاء في هذا‬
‫الحديث‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تقديم من يرث بالفرض فيُعطى ميراثه‪ ،‬وما بقي يكون ِّل َمن‬
‫يرث بغير تقدير‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ بناء على هذا الحديث يكون الراجح في مسألة الجد واإلخوة‬
‫الجد بالميراث دون اإلخوة؛ ألنَّه أصل‪ ،‬واإلخوة يرثون‬ ‫ِّ‬ ‫اختصاص‬
‫كاللة‪ ،‬والج ُّد مثل األب‪ ،‬فيستق ُّل بالميراث دونهم‪ ،‬وأيضا ً يكون الراجح‬
‫المشركة؛ َّ‬
‫ألن اإلخوة‬ ‫َّ‬ ‫تقديم اإلخوة ألم على اإلخوة األشقاء في مسألة‬
‫‪161‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫ألم يرثون بالفرض‪ ،‬واألشقاء يرثون بالتعصيب‪ ،‬وصاحب الفرض‬


‫طى فرضه‪ ،‬ويأخذ الذين يرثون بالتعصيب ما بقي إن بقي بعد‬ ‫يُع َ‬
‫الفروض شيء‪ ،‬وإالَّ سقطوا‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الرابع واألربعون‬

‫تحرم‬
‫الرضاعة ِّ‬
‫قال‪َّ (( :‬‬ ‫عن عائشة رضي هللا عنها‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬
‫خرجه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫تحرم الوالدة )) َّ‬
‫ما ِّ‬
‫‪ 1‬ـ جاء في القرآن الكريم تحريم األ َّمهات المرضعات واألخوات‬
‫‪ ‬‬ ‫من الرضاعة في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ ، ‬وجاءت السنَّة بهذا الحديث وما في‬


‫حرم بالنَّسب يحرم‬
‫تحرم الوالدة‪ ،‬فك ُّل ما ُ‬
‫تحرم ما ِّ‬ ‫معناه بأ َّن َّ‬
‫الرضاعة ِّ‬
‫بالوالدة مثلُه‪ ،‬فإذا ارتضع طف ٌل من امرأة صارت أ ًّما له من الرضاعة‬
‫وصار أبوها وأجدادها آباء له من الرضاعة‪ ،‬وأ ُّمها وجداتها أمها ٍّ‬
‫ت له‬
‫من الرضاعة‪ ،‬وإخوانها أخواالً له من الرضاعة‪ ،‬وأخواتها خاالت له‬
‫من الرضاعة‪ ،‬وأوالدها سواء كانوا من زوج واحد أو أزواج إخوة له‬
‫من الرضاعة‪ ،‬وأيضا ً يكون زوج المرأة المرضعة الذي رضع من لبنه‬
‫أبا ً له من الرضاعة‪ ،‬وأبوه وأجداده آباء له من الرضاعة‪ ،‬وأ ُّمه وجداتُه‬
‫أمهات له من الرضاعة‪ ،‬وإخوانه وأخواته أعماما ً وع َّمات له من‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪162‬‬

‫الرضاعة‪ ،‬وأوالده من زوجات متعددات إخوة له من الرضاعة‪،‬‬


‫وزوجاته زوجات أب من الرضاعة‪ ،‬وهكذا ك ُّل ما ُ‬
‫حرم من النسب‬
‫فإنَّه يحرم ما يماثله من الرضاعة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الرضاع الذي يكون به التحريم ما بلغ خمس رضعات فأكثر‪،‬‬
‫وكان في الحولين‪ ،‬فإن نقص عن الخمس فإنَّه ال يحصل به التحريم‪،‬‬
‫كما أ َّن رضاع الكبير ال يحصل به التحريم‪ ،‬وما جاء في قصة سالم‬
‫مولى أبي حذيفة أخرجه مسلم (‪ ،)1453‬فهو مقصور عليه ال يتع َّداه‬
‫أن رضاع الكبير ال يُعتبر؛ ألنَّه ال يحصل به‬ ‫وم َّما يوضح َّ‬
‫إلى غيره‪ِّ ،‬‬
‫كل امرأة تريد أن تتخلَّص من زوجها أن تحلب في‬ ‫التغذية‪َّ ،‬‬
‫أن بإمكان ِّ‬
‫كأس من ثديها ما يبلغ خمس رضعات فأكثر‪ ،‬ثم تسقيه زوجها وهو ال‬
‫يشعر‪ ،‬وتقول له بعد ذلك‪ :‬أنا ال أحل لك؛ ألنَّك ابني من الرضاعة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ كمال الشريعة واشتمالها على قواعد كليَّة عامة‪ ،‬كما جاء في‬
‫هذا الحديث‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ َّ‬
‫أن ك َّل امرأة ُ‬
‫حرمت من النسب يحرم ما يُماثلها من الرضاعة‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الخامس واألربعون‬

‫عام الفتح وهو‬ ‫عن جابر بن عبد هللا أنَّه سمع رسول هللا‬
‫حرم بيع الخمر والميتة والخنزير‬ ‫إن هللا ورسوله َّ‬ ‫بمكة يقول‪َّ (( :‬‬
‫واألصنام‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول هللا أرأيتَ شحوم الميتة‪ ،‬فإنَّه يُطلى بها‬
‫‪163‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫السفن‪ ،‬ويُدهن بها الجلود‪ ،‬ويستصبح بها الناس؟ قال‪ :‬ال! هو حرام‪،‬‬
‫حرم عليهم الشحوم‪،‬‬ ‫ثم قال رسول هللا ‪ :‬قات َل هللا اليهودَ؛ َّ‬
‫إن هللا َّ‬
‫خرجه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫فأجملوه‪ ،‬ثم باعوه‪ ،‬فأكلوا ثمنه )) َّ‬
‫))‬ ‫حرم‬
‫َّ‬ ‫((‬ ‫حرم ))‪ ،‬جاء لفظ الفعل‬‫إن هللا ورسوله َّ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪َّ (( :‬‬
‫حرم ))‪ ،‬وجاءت التثنية في‬ ‫باإلفراد‪ ،‬وجاء بالتثنية‪ ،‬وجاء (( َّ‬
‫إن هللا َّ‬
‫الضمير الذي يعود إلى هللا ورسوله في حديث‪ (( :‬ثالث َمن َّ‬
‫كن فيه‬
‫بهن حالوة اإليمان‪ :‬أن يكون هللا ورسوله أحبَّ إليه ِّم َّما سواهما‬‫وجد َّ‬
‫‪ )) ...‬الحديث أخرجه البخاري (‪ ،)16‬ومسلم (‪ ،)67‬وعلى هذا يُحمل‬
‫حرم )) على أنَّه يعود إلى الرسول‬ ‫ما جاء هنا من إفراد الفعل (( َّ‬
‫حرم‬ ‫‪ ،‬ويكون التحريم المضاف إلى هللا محذوفاً‪ ،‬والتقدير‪َّ :‬‬
‫إن هللا َّ‬
‫‪ ‬‬ ‫حرم‪ ،‬وهو نظير قول هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬ ‫ورسوله َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫أحق أن يُرضوه‪ ،‬ورسوله ُّ‬
‫أحق أن‬ ‫ُّ‬ ‫‪ ، ‬أي‪ :‬وهللا‬
‫يرضوه‪ ،‬ومثله قول الشاعر‪:‬‬
‫مختلف‬
‫ُ‬ ‫دك راض والرأي‬ ‫نحن بما عندنا وأنت بما عنـ‬
‫أي‪ :‬نحن بما عندنا راضون‪ ،‬وأنت بما عندك راض‪.‬‬
‫يحرم هذه األشياء عام‬
‫ِّ‬ ‫أنَّه سمع رسول هللا‬ ‫‪ 2‬ـ بيَّن جابر‬
‫الفتح بمكة‪ ،‬ويكون هذا البيان في هذا الوقت وفي هذا المكان بمناسبة‬
‫المحرمات‪ ،‬فأعلمهم أنَّها‬
‫َّ‬ ‫دخول الكفار في اإلسالم‪ ،‬وهم يتعاطون هذه‬
‫حرام‪ ،‬وهذا ال يمنع أن يكون تحريمها قد حصل من قبل‪.‬‬
‫المحرمات األربع الخمر‪ ،‬وهي أ ُّم الخبائث؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫َّ‬ ‫‪ 3‬ـ األول من هذه‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪164‬‬

‫شاربَها يسعى بشربها إللحاق نفسه بالمجانين‪ ،‬فيحصل نتيجة لذلك أنَّه‬
‫كل حرام‪ ،‬وقد يكون من ذلك االعتداء على المحارم‪ ،‬وهي‬ ‫يقع في ِّ‬
‫كل بالء‪ ،‬ولهذا أُطلق عليها أ ُّم الخبائث‪.‬‬ ‫تجلب ك َّل ٍّ‬
‫شر وتوقع في ِّ‬
‫والثانية الميتة‪ ،‬فيحرم أكلها إالَّ لضرورة إبقاء الحياة حيث ال يجد‬
‫غيرها‪ ،‬ويُستثنى من ذلك جلدها إذا دُبغ؛ لثبوت السنَّة بذلك عن رسول هللا‬
‫َ‬
‫‪ ،‬رواه البخاري (‪ ،)2221‬ومسلم (‪.)366‬‬
‫والثالث‪ :‬الخنزير‪ ،‬فال يجوز أكله وال بيعه‪ ،‬وك ُّل ما يحرم أكله من‬
‫الدواب فالميتة والمذ َّكى منه سواء‪.‬‬
‫صنعت‬‫والرابع‪ :‬األصنام‪ ،‬فال يجوز بيعها وال اقتناؤها؛ ألنَّها ُ‬
‫لعبادتها‪ ،‬بل يجب تحطيمها وكسرها‪ ،‬وال بأس باالنتفاع بها بعد‬
‫التكسير في البناء ونحوه؛ ألنَّها لم تبق أصناماً‪.‬‬
‫(أرأيت شحوم الميتة‪،‬‬‫َ‬ ‫‪ 4‬ـ قال الحافظ في الفتح (‪ (( :)425/4‬قوله‪:‬‬
‫فإنَّه يُطلى بها السفن‪ ،‬ويُدهن بها الجلود‪ ،‬ويستصبح بها الناس؟) أي‪:‬‬
‫فهل يح ُّل بيعُها ِّل َما ذكر من المنافع؛ فإنَّها مقتضية لصحة البيع‪ ،‬قوله‪:‬‬
‫سره بعض العلماء كالشافعي‬ ‫(فقال‪ :‬ال‪ ،‬هو حرام)‪ ،‬أي‪ :‬البيع‪ ،‬هكذا ف َّ‬
‫و َمن اتَّبعه‪ ،‬ومنهم من حمل قوله‪( :‬هو حرام) على االنتفاع‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يحرم االنتفاع بها‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء‪ ،‬فال يُنتفع من الميتة أصالً‬
‫ص بالدليل‪ ،‬وهو الجلد المدبوغ ))‪.‬‬ ‫عندهم إالَّ ما ُخ َّ‬
‫حرم عليهم الشحوم‪ ،‬فأجملوه‪،‬‬ ‫إن هللا َّ‬ ‫‪ 5‬ـ قوله‪ (( :‬قاتل هللا اليهود؛ َّ‬
‫حرم عليهم‬‫فإن هللا لَ َّما َّ‬
‫ثم باعوه‪ ،‬فأكلوا ثمنه ))‪ ،‬هذا من حيل اليهود؛ َّ‬
‫حرم‬
‫الشحوم أجملوها أي‪ :‬أذابوها‪ ،‬وباعوها وأكلوا أثمانها‪ ،‬وهللا إذا َّ‬
‫حرم ثمنه‪ ،‬ولهذا دعا عليهم رسول هللا ‪.‬‬ ‫شيئا ً َّ‬
‫‪165‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪ 6‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫هذه األمور األربعة‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ بيان تحريم النَّبي ِّ‬
‫‪ 2‬ـ بيان النَّبي ِّ هذا التحريم بمكة عام الفتح؛ ليُبادر الذين أسلموا‬
‫إلى االمتناع من هذه األربعة‪ ،‬انتفاعا ً وبيعاً‪.‬‬
‫حرم هللا فبيعُه حرام وثمنه حرام‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ َّ‬
‫أن ما َّ‬
‫حرم هللا‪.‬‬
‫صل بها إلى استحالل ما َّ‬
‫‪ 4‬ـ تحريم الحيل التي يُتو َّ‬
‫‪ 5‬ـ ذ ُّم اليهود وبيان أنَّهم أه ُل حيَل للوصول إلى استباحة الحرام‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ تحذير هذه األ َّمة أن تقع فيما وقعت فيه اليهود من هذه الحيَل‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث السادس واألربعون‬

‫بعثه‬ ‫أن النَّب َّ‬


‫ي‬ ‫عن أبي بُردة عن أبيه أبي موسى األشعري َّ‬
‫إلى اليمن‪ ،‬فسأله عن أشربة تُصنع بها‪ ،‬فقال‪ (( :‬ما هي؟ قال‪ :‬البتع‬
‫والمزر نبيذ‬
‫ِّ‬ ‫لمزر‪ ،‬فقيل ألبي بردة‪ :‬وما البتع؟ قال‪ :‬نبيذ العسل‪،‬‬
‫وا ِّ‬
‫خرجه البخاري‪.‬‬
‫الشعير‪ ،‬فقال‪ :‬ك ُّل مسكر حرام )) َّ‬
‫‪ 1‬ـ من األشربة التي كانت تُستعمل في اليمن عندما بعث رسول‬
‫والمزر‪ :‬وهو‬
‫أبا موسى األشعري إليه‪ :‬البتع‪ ،‬وهو نبيذ العسل‪ِّ ،‬‬ ‫هللا‬
‫عن هذين‬ ‫رسول هللا‬ ‫نبيذ الشعير‪ ،‬وقد سأل أبو موسى‬
‫ك ُّل‬ ‫الشرابين‪ ،‬فأجابه بجواب جامع يشملهما ويشمل غيرهما‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫((‬

‫التحريم باإلسكار‪ ،‬فد َّل على َّ‬


‫أن ما‬ ‫مسكر حرام ))‪ ،‬فأناط النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪166‬‬

‫أسكر من األشربة حرام‪ ،‬وما لم يسكر فإنَّه حالل‪ ،‬وفي صحيح‬


‫البخاري (‪ )5598‬عن أبي الجويرية قال‪ :‬سألت ابن عباس عن الباذق؟‬
‫الباذق‪ ،‬فما أسكر فهو حرام‪ ،‬قال‪ :‬الشراب الحالل‬ ‫فقال‪ :‬سبق محمد‬
‫الطيب‪ ،‬قال‪ :‬ليس بعد الحالل الطيب إالَّ الحرام الخبيث ))‪ ،‬وقد ذكر‬
‫ابن سيده في المحكم َّ‬
‫أن الباذق من أسماء الخمر‪ .‬الفتح (‪.)63/10‬‬
‫حرم االنتباذ في أوعية‬
‫في أول األمر َّ‬ ‫وقد كان رسول هللا‬
‫معيَّنة‪ ،‬كما جاء ذلك في حديث وفد عبد القيس‪ ،‬رواه البخاري (‪،)53‬‬
‫جاء عنه ما ينسخ ذلك في حديث بُريدة بن‬ ‫ومسلم (‪ ،)23‬ثم إنَّه‬
‫نهيتُكم عن زيارة‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬ ‫حيث قال‪ :‬قال رسول هللا‬ ‫ال ُحصيب‬
‫القبور فزروها‪ ،‬ونهيتكم عن لحوم األضاحي فوق ثالث فأمسكوا ما‬
‫بدا لكم‪ ،‬ونهيتُكم عن النبيذ إالَّ في سقاء‪ ،‬فاشربوا في األسقية ِّ‬
‫كلها‪ ،‬وال‬
‫تشربوا مسكرا ً )) رواه مسلم (‪.)977‬‬
‫وك ُّل ما أسكر فهو حرام‪ ،‬سواء كان شرابا ً أو طعاماً‪ ،‬وسواء كان‬
‫سائالً أو جامدا ً أو دقيقا ً أو ورقا ً أو غير ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن ك َّل ذلك داخ ٌل تحت‬
‫‪ (( :‬ك ُّل مسكر حرام ))‪.‬‬ ‫قوله‬
‫َّ‬
‫وغطاه‪ ،‬فك ُّل ما كان كذلك داخ ٌل تحت‬ ‫الخمر ما خامر العقل‬
‫ُ‬ ‫‪2‬ـ‬
‫قوله ‪ (( :‬ك ُّل مسكر حرام ))‪ ،‬وك ُّل شيء أسكر كثي ُره فقليلُه حرام‪،‬‬
‫وذلك سدًّا للذريعة الموصلة إلى المسكر‪ ،‬وسواء كان ذلك من العنب‬
‫أو غيرها‪ ،‬وقد جاء عن بعض علماء الكوفة َّ‬
‫أن القليل الذي ال يسكر‬
‫إذا لم يكن من العنب‪ ،‬فشربُه سائغ‪ ،‬وهذا غير صحيح؛ ألنَّه ثبت عن‬
‫أن النَّب َّ‬
‫ي‬ ‫من حديث جابر وغيره رضي هللا عنهم َّ‬ ‫رسول هللا‬
‫‪167‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫أخرجه أبو داود (‪،)3681‬‬ ‫))‬ ‫كثيره فقليلُه حرام‬


‫ُ‬ ‫ما أسكر‬ ‫((‬ ‫قال‪:‬‬
‫والترمذي (‪ ،)1865‬وابن ماجه (‪ ،)3393‬وهذا لفظ عام يشمل ك َّل‬
‫كل مسكر‬
‫مسكر‪ ،‬سواء كان من العنب أو غيرها‪ ،‬فال يجوز تعاطي ِّ‬
‫إالَّ إذا كان شيئا ً يسيرا ً لدفع غ َّ‬
‫صة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حرص الصحابة رضي هللا عنهم على معرفة األحكام الشرعية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ كمال الشريعة واشتمالها على قواعد كليَّة عامة‪ ،‬كما جاء في‬
‫هذا الحديث‪.‬‬
‫كل مسكر من أي ِّ نوع كان‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تحريم ِّ‬
‫***‬
‫الحديث السابع واألربعون‬

‫يقول‪ (( :‬ما‬ ‫عن المقدام بن معد يكرب قال‪ :‬سمعتُ رسول هللا‬
‫ي وعاء شرا من بطن‪ ،‬بحسب ابن آدم أكالت يُقمن صلبَه‪،‬‬ ‫مأل آدم ٌّ‬
‫فإن كان ال محالة‪ ،‬فثُلث لطعامه‪ ،‬وثلث لشرابه‪ ،‬وثلث لنفَ ِّ‬
‫سه )) رواه‬
‫أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه‪ ،‬وقال الترمذي‪ (( :‬حديث حسن‬
‫))‪.‬‬
‫شرا من بطن ))‪ ،‬الوعاء هو‬ ‫ي وعاء ًّ‬‫‪ 1‬ـ قوله ‪ (( :‬ما مأل آدم ٌّ‬
‫وشر وعاء ُملئ هو البطن؛ ِّل َما في‬
‫ُّ‬ ‫ضع فيه الشيء‪،‬‬ ‫الظرف الذي يُو َ‬
‫ذلك من التُّخمة‪ ،‬والتسبُّب في حصول األمراض‪ ،‬و ِّل َما يورثه من الكسل‬
‫والفتور واإلخالد إلى الراحة‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪168‬‬

‫‪ 2‬ـ قوله‪ (( :‬بحسب ابن آدم أكالت يُقمن صل َبه ))‪ ،‬المعنى‪ :‬يكفي‬
‫د من األكالت التي تحصل بها حياته‪ ،‬وهو معنى قوله‪(( :‬‬ ‫ابن آدم عد ٌ‬
‫حث على التقليل من األكل وعدم‬ ‫يُقمن صلبَه ))‪ ،‬أي‪ :‬ظهره‪ ،‬وفي ذلك ٌّ‬
‫التعرض‬
‫ُّ‬ ‫سع فيه؛ ليحص َل لإلنسان الخفَّة والنشاط والسالمة من‬ ‫التو ُّ‬
‫لألمراض واألسقام التي تنتج عن كثرة األكل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وثلث‬ ‫ٌ‬
‫وثلث لشرابه‪،‬‬ ‫لث لطعامه‪،‬‬‫‪ 3‬ـ قوله‪ (( :‬فإن كان ال محالة‪ ،‬فث ُ ٌ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان بأكالت يُقمن صلبَه‪ ،‬وكان ال‬ ‫لنفَ ِّسه ))‪ ،‬المعنى‪ :‬إذا لم يكتف‬
‫محالة زائدا ً عن هذا المقدار فليكن مقدار ما يُؤكل ويُشرب في حدود‬
‫ثلثي البطن؛ ليبقى ٌ‬
‫ثلث يُمكن معه التنفس بسهولة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان األدب الشرعي الذي ينبغي أن يكون عليه اآلك ُل في مقدار‬
‫أكله‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التحذير من ملء البطن؛ ِّل َما يجلبه من األمراض والكسل والخمول‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أ َّن الكفايةَ تحصل بما يكون به بقاء الحياة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنَّه إن كان ال ب َّد من الزيادة على الكفاية‪ ،‬فليكن في حدود ثلثي‬
‫البطن‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث الثامن واألربعون‬

‫((‬‫قال‪:‬‬ ‫عن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬
‫َّ‬
‫منهن فيه كانت فيه‬ ‫أر َبع َمن َّ‬
‫كن فيه كان منافقا‪ ،‬وإن كانت خصلة‬
‫‪169‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫خصلة من النفاق حتى يدَعها؛ إذا حدَّث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا‬
‫خرجه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫خاص َم فجر‪ ،‬وإذا عاهد غدر )) َّ‬
‫َّ‬
‫منهن‬ ‫كن فيه كان منافقاً‪ ،‬وإن كانت خصلةٌ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله‪ (( :‬أربَ ٌع َمن َّ‬
‫فيه كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى ي َدعها ))‪ ،‬المعنى َّ‬
‫أن َمن ُوجدت‬
‫موصوف بالنفاق العملي‪ ،‬و َمن كان عنده‬
‫ٌ‬ ‫فيه هذه الخصال األربع فهو‬
‫واحدة منها كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى ي َدع هذه الخصلة‪ ،‬وهذا‬
‫من كمال بيانه ؛ حيث يذكر العدد َّأوالً‪ ،‬ثم يأتي بتفصيل المعدود؛‬
‫ِّل َما في ذلك من حفز السامع إلى االستعداد والتهيؤ لوعي ما سيُلقى عليه‬
‫سه بالمعدود‪ ،‬فإن لم يُطابق علم أنَّه فاته‬
‫من هذه الخصال‪ ،‬وليطالب نف َ‬
‫شيء‪.‬‬
‫غيره‬
‫َ‬ ‫‪ 2‬ـ الخصلة األولى الكذب في الحديث‪ ،‬وذلك أن يحدِّث‬
‫بحديث هو كاذب فيه‪ ،‬فيخبر بالشيء على غير حقيقته‪ ،‬وفي ذلك إساءة ُ‬
‫صاحب الحديث إلى نفسه؛ التِّصافه بهذا ال ُخلق الذميم‪ ،‬وإساءة ٌ إلى َمن‬
‫‪ (( :‬عليكم‬ ‫يحدِّثه بإيهامه أنَّه صادق في حديثه معه‪ ،‬وقد قال‬
‫البر يهدي إلى الجنَّة‪ ،‬وما‬ ‫الصدقَ يهدي إلى البر‪َّ ،‬‬
‫وإن َّ‬ ‫بالصدق؛ َّ‬
‫فإن ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الصدقَ حتى يُكتب عند هللا صديقاً‪ ،‬وإيَّاكم‬
‫الرجل يصدق ويتح َّرى ِّ‬
‫يزال َّ‬
‫الفجور يهدي إلى النار‪،‬‬‫َ‬ ‫الكذب يهدي إلى الفجور‪َّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫َ‬ ‫والكذب؛ َّ‬
‫فإن‬
‫رى الكذب حتى يُكتب عند هللا كذَّابا ً ))‬‫الرجل يكذب ويتح َّ‬
‫وما يزال َّ‬
‫رواه مسلم (‪.)2607‬‬
‫الخصلةُ الثانية‪ :‬إخالف الوعد‪ ،‬وذلك بأن َي ِّع َد ِّعدة ً وفي نيَّته أالَّ يفي‬
‫بها‪ ،‬أ َّما إذا وعد وهو عاز ٌم على الوفاء بالوعد‪ ،‬فطرأ له ما يَمنعه من‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪170‬‬

‫الوفاء فهو معذور‪ ،‬وقد روى أبو داود (‪ )4991‬عن عبد هللا بن عامر‬
‫قاعد في بيتنا‪ ،‬فقالت‪ :‬ها‪،‬‬ ‫أنَّه قال‪ (( :‬دعتني ِّأمي يوما ً ورسول هللا‬
‫ت أن تعطيه؟ قالت‪:‬‬ ‫تعال أعطيك‪ ،‬فقال لها رسول هللا ‪ :‬وما أرد ِّ‬
‫أعطيه تمراً‪ ،‬فقال لها رسول هللا ‪ :‬أ َما إنَّك لو لم تعطه شيئا ً ُكتبت‬
‫عليك كذبة ))‪ .‬انظر‪ :‬الصحيحة لأللباني (‪.)748‬‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫الخصلةُ الثالثة‪ :‬الفجور في الخصومة‪ ،‬والمعنى أن يكون‬
‫عند الخصومة مع غيره يغضب فيتجاوز العدل إلى الظلم‪ ،‬وقد قال هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وج َّل‪:‬‬ ‫َّ‬
‫عز‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪،    ‬‬
‫الحق واالحتيال‬
‫ِّ‬ ‫والفجور المي ُل عن‬
‫ُ‬ ‫قال الحافظ في الفتح (‪(( :)90/1‬‬

‫في ردِّه ))‪ ،‬وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (‪ (( :)486/2‬فإذا‬
‫كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة ـ سواء كانت خصومته في الدِّين أو‬
‫ينتصر للباطل‪ ،‬ويخيل للسامع أنَّه حق‪ ،‬ويوهن‬ ‫َ‬ ‫في الدنيا ـ على أن‬
‫المحرمات‪ ،‬ومن‬ ‫َّ‬ ‫الحق ويخرجه في صورة الباطل‪ ،‬كان ذلك من أقبح‬ ‫َّ‬
‫أخبث خصال النفاق ))‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫َّ‬
‫عز وج َّل‪:‬‬ ‫الخصلة الرابعة‪ :‬الغدر في العهد‪ ،‬قال هللا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪171‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬

‫‪   ‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،  ‬قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم‬
‫كل عهد بين المسلم وغيره‪،‬‬ ‫والغدر حرام ٌ في ِّ‬
‫ُ‬ ‫(‪ 487/2‬ـ ‪(( :)488‬‬

‫ولو كان المعاهَد كافراً‪ ،‬ولهذا في حديث عبد هللا بن عمرو عن النَّبي ِّ‬
‫وإن ريحها‬ ‫‪َ ( :‬من قتل نفسا ً معا َهدا ً بغير ِّ‬
‫حقها لم يَ َرح رائحة الجنة‪َّ ،‬‬
‫خرجه البخاري‪ ،‬وقد أمر هللا تعالى في‬ ‫ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) َّ‬
‫كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها‬
‫ضها أعظ ُم‬ ‫شيئاً‪ ،‬وأ َّما عهود المسلمين فيما بينهم فالوفاء بها أشد‪ ،‬ونق ُ‬
‫إثماً‪ ،‬ومن أعظمها نقض عهد اإلمام على َمن بايعه ورضي به‪ ،‬وفي‬
‫الصحيحين عن أبي هريرة عن النَّبي ِّ قال‪( :‬ثالثةٌ ال ِّ‬
‫يكلمهم هللاُ يوم‬
‫يزكيهم ولهم عذاب أليم ‪ )...‬فذكر منهم‪( :‬ورج ٌل بايع إماما ً‬ ‫القيامة وال ِّ‬
‫ف له)‪ ،‬ويدخل‬ ‫ال يُبايعه إالَّ لدنيا‪ ،‬فإن أعطاه ما يريد وفَّى له‪ ،‬وإالَّ َلم َي ِّ‬
‫الغدر فيها جمي ُع عقود المسلمين‬
‫ُ‬ ‫في العهود التي يجب الوفا ُء بها ويحرم‬
‫فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من‬
‫العقود الالزمة التي يجب الوفاء بها‪ ،‬وكذلك ما يجب الوفا ُء به هلل َّ‬
‫عز‬
‫وج َّل ِّم َّما يعاهد العب ُد ربَّه عليه من نذر التبرر ونحوه ))‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪172‬‬

‫المعلم العدد قبل تفسير المعدود؛ ليكون‬


‫ِّ‬ ‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫أن من حسن التعليم ذكر‬
‫المتعلم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أوق َع في ذهن‬
‫‪ 2‬ـ بيان خطورة اجتماع خصال النفاق في الشخص‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التحذير من الكذب في الحديث‪ ،‬وأنَّه من خصال النفاق‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التحذير من إخالف الوعد‪ ،‬وأنَّه من خصال النفاق‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ التحذير من الفجور في الخصومة‪ ،‬وأنَّه من خصال النفاق‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ التحذير من الغدر في العهود‪ ،‬وأنَّه من خصال النفاق‪.‬‬

‫***‬
‫الحديث التاسع واألربعون‬

‫قال‪ (( :‬لو أنَّكم تو َّكلون‬ ‫‪ ،‬عن النَّبي ِّ‬ ‫عن عمر بن الخطاب‬
‫ق توكله لرزقكم كما يرزق الطير‪ ،‬تغدو خماصا‪ ،‬وترو ُح‬ ‫على هللا ح َّ‬
‫بطانا )) رواه اإلمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان‬
‫في صحيحه والحاكم‪ ،‬وقال الترمذي‪ (( :‬حسن صحيح ))‪.‬‬
‫عز وج َّل‪ ،‬مع األخذ‬‫‪ 1‬ـ هذا الحديث أص ٌل في التو ُّكل على هللا َّ‬
‫باألسباب المشروعة‪ ،‬واألخذ بها ال يُنافي التوك َل‪ ،‬ورسول هللا‬
‫المتوكلين قد دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر‪ ،‬وقد أرشد‬ ‫ِّ‬ ‫سي ُد‬
‫ِّ‬
‫إلى الجمع بين األخذ باألسباب واالعتماد على هللا بقوله‬ ‫رسول هللا‬
‫في الحديث في صحيح مسلم (‪ (( :)2664‬احرص على ما ينفعك‬
‫هذا فيه الجمع بين األخذ باألسباب‬ ‫واستعن باهلل ))‪ ،‬وحديث عمر‬
‫والتوكل على هللا‪ ،‬واألخذ باألسباب فيما ذكر عن الطير؛ ألنَّها تغدو‬
‫خماصاً‪ ،‬أي خالية البطون لطلب الرزق‪ ،‬وتروح بطاناً‪ ،‬أي ُممتلئة‬
‫‪173‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫البطون‪ ،‬ومع أخذ المرء باألسباب ال يعتمد عليها‪ ،‬بل يعتمد على هللا‬
‫متوكل‪ ،‬وهللا قدر األسباب‬
‫ِّ‬ ‫وال يُهمل األخذ باألسباب ثم يزعم أنَّه‬
‫والمسبَّبات‪ ،‬قال ابن رجب في جامع العلوم الحكم (‪ 496/2‬ـ ‪:)497‬‬
‫(( وهذا الحديث أص ٌل في التوكل ‪ ،‬وأنَّه من أعظم األسباب التي يستجلب‬
‫بها الرزق‪ ،‬قال هللا عز وجل‪    :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪ )) ...     ‬إلى أن‬
‫عز وج َّل في‬ ‫ب على هللا َّ‬ ‫ُ‬
‫صدق اعتماد القل ِّ‬ ‫قال‪ (( :‬وحقيقةُ التوكل هو‬
‫كلها‪ ،‬و ِّكلَةُ‬
‫استجالب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا واآلخرة ِّ‬
‫كلها إليه‪ ،‬وتحقيق اإليمان بأنَّه ال يعطي وال يَمنع وال يضر وال‬ ‫األمور ِّ‬
‫ينفع سواه ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫كل مطلوب‪،‬‬
‫‪ 1‬ـ وجوب التوكل على هللا واالعتماد عليه في جلب ِّ‬
‫كل مرهوب‪.‬‬
‫ودفع ِّ‬
‫‪ 2‬ـ األخذ باألسباب مع التوكل على هللا‪ ،‬وذلك ال يُنافي التوكل‪.‬‬
‫الحديث الخمسون‬

‫رجل‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول‬ ‫ي‬ ‫عن عبد هللا بن بُسر قال‪ (( :‬أتى النَّب َّ‬
‫سك به جامع؟ قال‪:‬‬ ‫إن شرائ َع اإلسالم قد كثُرت علينا‪ ،‬فباب نتم َّ‬ ‫هللا! َّ‬
‫خرجه اإلمام أحمد بهذا‬‫عز وج َّل )) َّ‬ ‫ال يزال لسانك رطبا من ذكر هللا َّ‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪174‬‬

‫وخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه بمعناه‪،‬‬


‫َّ‬ ‫اللفظ‪،‬‬
‫وقال الترمذي‪ (( :‬حسن غريب ))‪.‬‬
‫مثال من األمثلة الكثيرة في‬ ‫‪ 1‬ـ سؤال هذا الرجل رسول هللا‬
‫عن أمور الدِّين‪ ،‬وك ُّل ذلك دا ٌّل على‬ ‫سؤال أصحاب رسول هللا‬
‫كل خير‪ ،‬والمراد‬
‫كل خير وحرصهم على ِّ‬ ‫فضلهم ونبلهم وسبقهم إلى ِّ‬
‫ي معرفةَ طريق من‬‫بالشرائع التي كثرت النوافل‪ ،‬وقد أراد هذا الصحاب ُّ‬
‫صها بمزيد اعتناء لتحصيل ثواب هللا َّ‬
‫عز وج َّل‪ ،‬وأ َّما‬ ‫طرق الخير يخ ُّ‬
‫سكُ بها جميعاً‪،‬‬ ‫الفرائض فإنَّها مطلوبة كلُّها‪ ،‬ويجب على المسلم التم ُّ‬
‫بالمداومة على ذكر هللا‪ ،‬وأالَّ يزال لسانُه رطبا ً من‬ ‫وقد أجابه النَّب ُّ‬
‫ي‬
‫ِّكر العام يدخل فيه الصلوات‬
‫صا‪ ،‬والذ ُ‬
‫ِّكر يكون عا ًّما وخا ًّ‬
‫ذكره‪ ،‬والذ ُ‬
‫وقراءة القرآن وتعلُّم العلم وتعليمه وحمد هللا والثناء عليه وتنزيهه‬
‫ِّكر الخاص حمد هللا والثناء عليه‬
‫كل ما ال يليق به‪ ،‬والذ ُ‬
‫وتقديسه عن ِّ‬
‫وتسبيحه وتهلي‪0‬له وتكبيره وتحميده‪ ،‬وهو الذي يُقرن بالدعاء‪ ،‬فيُقال‪:‬‬
‫الذِّكر والدعاء‪ ،‬أو األدعية واألذكار‪ ،‬وهذا العمل سه ٌل على اإلنسان‪،‬‬
‫عظيم األجر عند هللا‪ ،‬وثبت في الصحيحين وهو آخر حديث في صحيح‬
‫كلمتان حبيبتان إلى الرحمن‪ ،‬خفيفتان على‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬ ‫البخاري قوله‬
‫اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ :‬سبحان وبحمده‪ ،‬سبحان هللا العظيم ))‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ِّم َّما يُستفاد من الحديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حرص الصحابة رضي هللا عنهم على األسئلة عن أمور دينهم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ فضل ذكر هللا َّ‬
‫عز وج َّل والمدوامة عليه‪.‬‬
‫‪175‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫رب العالمين‪ ،‬وصلى هللا وسلم‬
‫آخر الشرح‪ ،‬والحمد هلل ِّ‬
‫وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه‪.‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪176‬‬
‫‪177‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫فهرس األحاديث‬
‫الصفحة‬ ‫الحديث‬
‫‪ 1‬ـ إنَّما األعمال بالنيات‪8................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ حديث جبريل ‪15.......................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ بني اإلسالم على خمس ‪29............................................‬‬
‫إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ً نطفة ‪34............‬‬ ‫‪ 4‬ـ َّ‬
‫‪ 5‬ـ َمن أح َدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ‪38..........................‬‬
‫إن الحالل ِّبين َّ‬
‫وإن الحرام ِّبين ‪41....................................‬‬ ‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫‪ 7‬ـ الدِّين النصيحة ‪44......................................................‬‬
‫‪ 8‬ـ أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ال إله إال هللا ‪46..............‬‬
‫‪ 9‬ـ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ‪50.............................................‬‬
‫طيبا ‪54.....................................‬‬
‫طيب ال يقبل إال ِّ‬ ‫‪ 10‬ـ َّ‬
‫إن هللا ِّ‬
‫‪ 11‬ـ دع ما يريبك إلى ما ال يريبك‪56....................................‬‬
‫‪ 12‬ـ من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه ‪57.........................‬‬
‫‪ 13‬ـ ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه ‪59................‬‬
‫امرئ مسلم إال بإحدى ثالث ‪60.........................‬‬
‫ٍّ‬ ‫‪ 14‬ـ ال يحل دم‬
‫‪ 15‬ـ من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرا ً أو ليصمت ‪61.......‬‬
‫‪ 16‬ـ ال تغضب ‪64.........................................................‬‬
‫كل شيء ‪65.............................‬‬‫إن هللا كتب اإلحسان على ِّ‬ ‫‪ 17‬ـ َّ‬
‫‪ 18‬ـ ات َّ ِّ‬
‫ق هللا حيثما كنت‪67................................................‬‬
‫‪ 19‬ـ احفظ هللا يحفظك‪69..................................................‬‬
‫‪ 20‬ـ َّ‬
‫إن مما أدرك الناس من كالم النبوة األولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت‬
‫‪73 ...............................................................................‬‬
‫فتح القوي المتين في شرح األربعين وتت َّمة الخمسين‬ ‫‪178‬‬

‫‪ 21‬ـ قل آمنت باهلل ثم استقم ‪75............................................‬‬


‫‪ 22‬ـ أرأيت إذا صليت المكتوبات ‪77.....................................‬‬
‫‪ 23‬ـ الطهور شطر اإليمان ‪79............................................‬‬
‫حرمت الظلم على نفسي‪82..........................‬‬ ‫‪ 24‬ـ يا عبادي إني َّ‬
‫‪ 25‬ـ ذهب أه ُل الدثور باألجور‪88........................................‬‬
‫‪ 26‬ـ ك ُّل سالمى من الناس عليه صدقة ‪90...............................‬‬
‫البر حسن الخلُق ‪92..................................................‬‬
‫‪ 27‬ـ ُّ‬
‫موعظة بليغة ‪95............................‬‬ ‫‪ 28‬ـ وعظنا رسول هللا‬
‫‪ 29‬ـ أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ‪101................‬‬
‫تضيعوها ‪108......................‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ 30‬ـ َّ‬
‫إن هللا تعالى فرض فرائض فال‬
‫‪ 31‬ـ ازهد في الدنيا يحبك هللا‪111..........................................‬‬
‫‪ 32‬ـ ال ضرر وال ضرار‪112..............................................‬‬
‫‪ 33‬ـ لو يُعطى الناس بدعواهم الدعى رجال أموال قوم ودماءهم ‪114...‬‬
‫فليغيره بيده ‪116................................‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ 34‬ـ من رأى منكم منكرا ً‬
‫‪ 35‬ـ ال تحاسدوا وال تناجشوا ‪118..........................................‬‬
‫‪ 36‬ـ من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ‪121.......................‬‬
‫والسيئات ‪125..................................‬‬
‫ِّ‬ ‫إن هللا كتب الحسنات‬‫‪ 37‬ـ َّ‬
‫‪ 38‬ـ من عادى لي وليا ًّ فقد آذنته بالحرب‪128.............................‬‬
‫إن هللا تجاوز لي عن أُمتي الخطأ والنسيان ‪130.....................‬‬ ‫‪ 39‬ـ َّ‬
‫‪ 40‬ـ كن في الدنيا كأنك غريب ‪131........................................‬‬
‫‪ 41‬ـ ال يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئت به‪133...............‬‬
‫‪ 42‬ـ يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ‪135................‬‬
‫‪ 43‬ـ ألحقوا الفرائض بأهلها ‪138...........................................‬‬
‫‪179‬‬ ‫وتتمة‬
‫َّ‬ ‫فتح القوي المتين في شررررررررح األربعين‬
‫الخمسين‬
‫‪ 44‬ـ الرضاعة تحرم ما تحرم الوالدة‪142.................................‬‬
‫‪ 45‬ـ َّ‬
‫إن هللا ورسوله حرم بيع الخمر ‪143..................................‬‬
‫‪ 46‬ـ كل مسكر حرام‪146...................................................‬‬
‫شرا من بطن ‪148................................‬‬ ‫‪ 47‬ـ ما مأل آدمي وعاء ًّ‬
‫‪ 48‬ـ أرب ٌع من كن فيه كان منافقا ً ‪149......................................‬‬
‫‪ 49‬ـ لو أنكم توكلون على هللا حق توكله لرزقكم ‪152.....................‬‬
‫‪ 50‬ـ ال يزال لسانك رطبا ً من ذكر هللا ‪154................................‬‬

‫***‬

You might also like