Professional Documents
Culture Documents
علم الدلالة
علم الدلالة
1
بسم هللا الرحمن الرحيم والصالة والسالم على رسول هللا محمد وآله
هذه محاضرات في مقياس علم الداللة قدمتها لطلبة التدرج في جامعة قاصدي
مرباح ورقلة على امتداد سنوات ليست طويلة ،ولكنها كافية لنقل تجربتي في
تدريس مقياس علم الداللة أقدمها اليوم للطلبة األعزاء في شكلها الذي تلقاها به
زمالؤهم ممن سبقوهم ؛ أعني أنها في شكل دروس يومية لم أستهدف بها التأصيل
المنهجي والتوثيق العلمي األكاديمي المحض بقدر ما رميت إلى توصيل المعلومة
من أيسر طريق ،وتقديم المقياس بشكل يحببه إلى الطلبة ويجعلهم يقبلون على
صد مظانه رغبة وفضوال علميًّا ؛ ذلك ألن مباحثه برغبة ذاتية تدفعهم إلى تَقَ ُّ
مقياس علم الداللة يختلف عن كثير من المقاييس من جهة جدته على الطلبة ألنه ال
يدرس في الثانويات ،ومن جهة شموله وإلمامه بأغلب علوم اللغة إذا لم تكن كلها
،وإذ أقدمه بهذا الشكل المتواضع وغير المستوفي لظروف آنية عابرة فإني
أعدهم بإعادة تشذيبه و دعمه بالنصوص التطبيقية في القريب العاجل بإذن هللا
تعالى.
2
مدخــل عام:
تستمدُّ الداللة حضورها في الفكر اإلنساني عامة من أهمية اللغة ذاتها ؛ ذلك أن اجتماعية
اإلنسان التي هي في حكم المسلمة إنما تتحقق باللغة في المقام األول ،وأهمية اللغة في
كفاءتها الداللية؛ أي في قدرتها على حمل المعنى ؛ لذلك فإن المباحث الداللية قبل أن تكون
مفاهيم لسانية خالصة هي مفاهيم فكرية باألساس ،لذلك فإن الداللة في مفهومها العام هي
أ ُّم القضايا في الفكر اإلنساني كله ،بل إنها قضية اإلنسان األولى من حيث اتصالها بالفكر
اإلنساني وبحاجة اإلنسان إلى الفكر وإلى التواصل ،ومن ثم فإن أي حديث عن تاريخ الداللة
هو حديث عن تاريخ اإلنسان ووجوده ،لذلك فإن البحث الداللي كان حاضرا في كل ما
وصل إلينا من الحضارات اإلنسانية بدءا بالحضارة اليونانية والهندية ثم الحضارة العربية
اإلسالمية وانتهاء بالحضارة الغربية ،أما حضورها في العلوم عامة والعلوم اإلنسانية
بخاصة فتستمده من حاجة جميع هذه العلوم إلى المصطلح الذي هو مفهوم لساني وداللي قبل
أي نسبة أخرى ،لذلك فإن العلوم جميعها في حاجة إلى تحديد مصطلحاتها أي إلى ضبط
العالقة بين المفاهيم واأللفاظ الدالة عليها.
هذا عن المفهوم العام للداللة أما عن علم الداللة فإنه لم يتبلور علما قائما بذاته إال في
أواخر القرن التاسع عشر مع اللساني الفرنسي ميشال بريال سنة 1883م على أنه قطاع من
الدرس اللساني يتناول موضوع المعنى اللغوي تحت مسمى علم الداللة أو علم الدالالت
الذي هو الترجمة العربية للمطلح الفرنسي sémantiqueذي األصل اليوناني sémantiké
ومعناه :يد ُّل أو يعني ،وجذره كلمة sémaأي اإلشارة .
وموضوع هذا العلم هو المعنى المحمول على الصوت اللغوي في كل المستويات اللسانية
والسياقات المختلفة وأهم المحاور التي يتناولها مقياس علم الداللة هي :
تمهيد
يتحقق التواصل بين الناس بحصول الفهم عند المخاطب وإدراكه المعنى الموجه إليه ؛ أي
حواس اإلنسان هي
ُّ طب المعنى المرسل إليه من قبل المخاطب ،ولما كانت باستيعاب المخا َ
جسوره للتواصل مع العالم الخارجي فإن أي تواصل ال بد أن يمر من خاللها ؛ لذلك فإن
العالمات و الرموز التي يمكن أن تحمل إلينا األفكار الخارجية هي إما عالمات بصرية
كالرايات و األلوان ودالالتها المتعددة ،أو عالمات سمعية كاألصوات الطبيعية أو الصناعية
أو أصوات الموسيقى ،ومنها األصوات اللغوية ،أو عالمات شمية كروائح العطور مثال ،
أو عالمات ذوقية كاألذواق المختلفة ،أو عالمات حسية كاإلحساس بالبرودة أو الحرارة ،
أو النعومة والخشونة ؛ وهذه العالمات على كثرتها واختالفها يمكن تصنيفها من جهة إلى
مؤشرات ،ورموز ،وأدلـة:
-1المؤشر :هو الذي يحيل إلى معنى معين من غير قصد التبليغ كداللة ارتفاع درجة
الحرارة على الحمى أو داللة اصفرار النبات على عطشه أو مرضه.
صدًا وكانت بينه وبين معناه عالقة ما كرمز الصيدلية أو
-2الرمز :هو ما أحال إلى المعنى ق ْ
رمز العدالة أو إشارات قانون المرور.
-3الدليل :هو ما أحال على معنى معين تواضعا من غير وجود عالقة بينه وبين معناه
ومثاله ألفاظ اللغة.
فيتضح من ذلك أن الرمز والدليل يختلفان عن المؤشر بوجود النية في التبليغ فيهما وغيابهما
فيه .
5
ومن جهة أخرى يمكن تقسيم العالمات إلى عالمات لغوية ،وعالمات غير لغوية ،تشكل
األخيرة مجال الدراسة في علم العالمات السيميولوجيا فيما تعدُّ األولى موضوع علم الداللة ؛
ومن هنا تتحدد العالقة بين العلمين بأنها عالقة جزء بكله من منطلق أن العالمات اللغوية
هي جزء من منظومة العالمات كلها .
ولكل نوع من العالمات المذكورة أهميته ووظيفته التي ال تنكر ألن المعنى يمكن أن يحمل
على أنظمة وأنساق عديدة ومختلفة وكلُّها يقيم التواصل بشكل ما ،إال أن المنظومة اللسانية
هي األوسع استعماال واألكثر وظيفية ذلك أن اللسان هو الحامل األول للمعنى واألكثر فاعلية
في إقامة التواصل الذي يعد الوظيفة األولى له ،ويمكن القطع بأن الكالم هو قرين العقل في
<< الر ْح َمن تمييز اإلنسان عن باقي المخلوقات وقد قال هللا تعالى في سورة الرحمن :
عد اختالف األلسن من اآليات على األلوهية فقال عل َمه البَيَانَ >> و َ عل َم الق ْرآنَ َخلَقَ اإل ْن َ
سانَ َ َ
اختالف أ َ ْلسنَتك ْم َوأ َ ْل َوانك ْم >> لذلك فإن
عز القائل الكريم في سورة الروم << َومنَ آ َياته ْ
علم الداللة يبحث في آليات انتقال المعنى المحمول على العالمة اللسانية في مستويات اللسان
المختلفة وفي السياقات المختلفة .
6
العلمي البسيط الذي توفر للفكر اإلنساني في عصر ما لبعض القضايا اللسانية ؛ بل إن العكس
تماما هو الذي َيرد على الذهن كأن يتعذر التواصل بين بعض الناس ؛ وبخاصة عند اختالف
األلسن فتثور عندهم فكرة االرتباط بين اللفظ والمعنى مثال ،ولكن هذا ال يعني أبدا أن علم
الداللة كان موجودا بقضاياه ومباحثه التي تشكل موضوعه في العصر الحديث ،وقد أثبت
كثير من الدارسين أن الهنود مثال كان لهم اهتمام بقضايا اللغة شغلتهم كثيرا عند تناول كتابهم
المقدس "الفيدا" ،كما كان للفالسفة اليونان آراء لغوية وداللية تعرضوا لها لدى تناولهم
قضايا المنطق واالستدالل وأسوار القضية الفلسفية مما يتصل بتحديد مفاهيم االصطالحات
وماصدقاتها وغير ذلك مما هو مبثوث في كتب الفلسفة اليونانية.
أوال /الهنود:
َّ
لم يكن من الصعب على علماء اللغة بعد اكتشاف اللغة السنسكريتية في القرن الثامن
عشر أن يثبتوا أن المباحث اللغوية كانت حاضرة في الفكر الهندي القديم حيث كشف كثير
من الدارسين ومنهم جورج مونان في كتابه " تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن
العشرين" أن الحضارة الهندية القديمة اهتمت باللغة ولها علماء فيها وأن الكتاب المقدس
"الفيدا " كان محورا للدرس اللغوي تماما كما كان القرآن عند المسلمين باعثا للتفكير اللغوي
ومنطلقا لجميع العلوم اللغوية ،وكان بانيني الذي عاش في القرن الخامس والرابع قبل الميالد
وضع كتابا في اللغة السنسكريتية سماه "المث َّمن" قيل إنه يشبه كتاب سيبويه ،ومن القضايا
الداللية التي تناولها الهنود:
نشأة اللغة :معلوم أن نشأة اللغة من القضايا التي شغلت بال الفالسفة وعلماء اللسان -
دهرا مديدا ولم نته أبحاثهم ونظرياتهم -على كثرتها -إلى ما يمكن أن يرقى إلى اليقين
العلمي مما جعل األكاديمية الفرنسية تمنع تدريس فقه اللغة في علوم اللسان ألنها رأت
بأنه موضوع فلسفي ال عالقة له بعلم اللسان الذي يقف عند حدود القضايا القابلة
للوصف والتحديد ،وقد شغل هذا الموضوع العلماء الهنود واختلفوا في أصل اللغة
فقال البعض بأنها تواضعية اصطالحية ،وذهب آخرون إلى أنها هبة من هللا ،وذهب
فريق ثالث إلى أنها نشأت محاكاة ألصوات الطيعة.
العالقة بين اللفظ والمعنى :منهم من رأى أن العالقة بين اللفظ والمعنى عالقة حتمية -
إذا عرض األول عرض الثاني محتجا بأن المتصورات تدرك باأللفاظ ،وأن اإلنسان
ال يمكنه أن يفكر من غير ألفاظ ألن األلفاظ هي التي تحدد المفاهيم واألفكار وتميزها
،ومنهم من جعل العالقة بين اللفظ والمعنى طبيعية ناتجة من المحاكاة.
تقسيم الكالم :قسم الهنود الكالم أربعة أقسام هي : -
عام كـــ :إنسان ،رجل ،امرأة ...
ما دل على مدلول ٍّ -
ما دل على كيفية :وهي ألفاظ الصفات كالطول والقصر والجمال والقبح وغير ذلك. -
ما دل على حدث :وهي األفعال كلها . -
7
-ما دل على ذات :وهي األسماء كلها (.ينظر خليفة بوجادي محاضرات في علم
الداللة ص ،18وأحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ص ) 19:
ثانياًّ :اليونان:
لم يتخلف الفكر اليوناني عن النظر في قضايا اللغة من منطلق أنها أداة الفكر وأن آلة
المنطق إنما تنتج األحكام المنطقية بعناصر اللغة مما جعلها ،أي عناصر اللغة ،موضوعا
للنظر والتأمل الفكري الذي تناول اللغة من حيث أصلها و عالقة اللفظ بالمعنى وما يتصل
بالمباحث الداللية ذات التمظهر الفلسفي؛ حيث كان لفالسفة اليونان جملة من اآلراء المختلفة
في كثير من القضايا اللغوية والداللية لعل أهمها مسألة العالقة بين اللفظ والمعنى التي رأى
؛أي أن لأللفاظ
فيها أفالطون خالل محاورته قراطيلوس وهيرموجين أنها عالقة طبيعية ْ
معنى الزما يرتبط بطبيعتها الذاتية حيث يرتبط اللفظ بمعناه بعالقة الحتمية وال يمكن للفظ أن
يحمل معنى غير المعنى الذي ارتبط به حيث جاء في المحاورة :
<< ...هيرموجين :إن قراطيلوس الحاضر هنا يزعم يا سقراط أن هناك بالنسبة لكل شيئ
اسما منسوبا إليه بصورة طبيعية ،وأن هذا االسم ليس إال اسما أضفاه عليه بعض الناس
بواسطة اتفاق ...ولكن الطبيعة هي التي أضفت على األسماء معنى خاصا ،أما أنا يا سقراط
فال أستطيع أن أقتنع بأن صواب االسم شيئ آخر غير التواضع واالتفاق ،يبدو لي أنه مهما
كان االسم الذي يرمز لشيئ فإنه هو االسم الصحيح ،وأنه إذا ما وضعنا مكانه اسما آخر فقد
ي شيئ أعرضنا عن األول ،وأن الثاني ليس أقل صحة من األول ...وذلك ألنه ليس هناك أ ُّ
يأخذ اسمه من الطبيعة ،بل يأخذه من استعماله عادة أولئك الذين يستعملونه والذين خلقوا
عادة استعماله ،سقراط " :يتعين إذا تسمية األشياء ،كما أن من الطبيعي أ ْن نسمي ،وأن
أن نكون على اتفاق مع تسمى بالوسيلة المالئمة وليس كما يحلوا لنا ،وذلك إذا ما أردنا ْ
الخالصات السابقة ،وبهذه الكيفية ننجح في التسمية وإال فال...ليس في وسع أي إنسا ٍّن ْ
أن
حق في القول بأن أسماء األشياء تشتق من طبيعتها وأنه ينشئ أسماء... ،إن قراطيلوس على ٍّ
ليس كل إنسان صانعا لألسماء ،بل ذلك وحده الذي تبقى عيناه مركزتين على االسم
أن يجسد الصورة في الحروف والمقاطع ...إن االسم إذا ، الطبيعي لكل شيئ هو القادر على ْ
على ما يبدو ،محاكاة صوتية للشيئ المحاكى وذلك الذي يحاكي بواسطة الصوت يسمى
محاكي >>
وقد نقلنا النص على طوله ألهميته حيث يبدو فيه أن النقاش بين الفالسفة كان محتدما في
أصل اللغة الذي يمكن من النص أن يعزى إما إلى المحاكاة أو إلى التواضع ،وأن التواضع -
عند التسليم به -ال يمكن أن يكون إال من نوع معين من الناس ولعل اإلشارة إلى الفالسفة
أنفسهم بوصفهم صفوة العلماء والمفكرين ،كما تستوقفنا في النص عبارة هامة هي قول
سقراط " إذا ما أردنا أن نكون على اتفاق مع الخالصات السابقة " التي تعني أن التواضع ال
8
أن يتجدد التواضع عليه ألن ذلك يكون إال في المستحدث من المعاني أما قديمها فال يمكن ْ
من شأنه ْ
أن يحدث القطيعة بين األجيال ،وهو ما يعبر عنه في علم الداللة الحديث بالتلقي
السلبي للغة ،أما أرسطو فقد رأى بأن عالقة اللفظ بالمعنى عرفية ناتجة عن اصطالح
الناس واتفاقهم ،كما حدد أنواع الكالم على أساس داللي حيث يستقل كل من الفعل واالسم
والحرف بقسم خاص به بنا ًء على داللته المغايرة لقسيميه ( ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم
الداللة ص ، ) 17 :ومما يدرج في اهتمام الفالسفة اليونان بالداللة آراء بروكلوس ( القرن
الخامس للميالد ) في التغير الداللي حيث ربط بينه وبين التغير الحضاري والحظ أن التغير
الداللي يتخذ عدة أشكال منها توسيع الداللة وتخصيصها وأشكال المجاز المختلفة .
10
وقال الجاحظ في البيان والتبيين... << :اعلم – حفظك هللا – أن حكم المعاني خالف حكم
األلفاظ ،ألن المعاني مبسوطة إلى غير نهاية ،وأسماء المعاني مقصورة معدودة ،ومحصلة
محدودة ،وجميع أصناف الدالالت على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء ال تنقص
وال تزيد؛ أولها اللفظ ،ثم اإلشارة ،ثم العقد ،ثم الخط ،ثم الحال التي تسمى نصبة ...
والنصبة هي الحال التي تقوم مقام تلك األصناف..ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة
من صورة صاحبتها وحلية مخالفة لحلية أختها >> ( الجاحظ ؛ البيان والتبيين ،تح عبد
السالم هارون ،دار الجيل بيروت ،لبنان ،د.ت .) 75 /1،
وقال كذلك في اعتضاد اللغة باإلشارة << :و اإلشارة واللفظ شريكان ،ونعم العون هي
له ،ونعم الترجمان هي عنه ،وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط ...ولوال
اإلشارة لم يتفاهم الناس ...وحسن اإلشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان >> ( نفسه
. ) 84/1
وقال ابن سينا في الشفاء << إن اإلنسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور األمور
الخارجية وتتأدى عنها إلى النفس ،فترتسم فيها ارتساما ثانيا ثابتا وإن غابت عن الحس ،
ومعنى داللة األلفاظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى،
الحس على النفس التفتت إلى معناه
ُّ فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم فكلما أورده
>> ( الشفاء ص) 3.4
وفي أنواع الداللة يقول أبو هالل العسكري ... << :الداللة تكون على أربعة أوجه ؛ أحدها
ما يمكن أن يستدل به ،قصد ذلك فاعله أم لم يقصد ،والشاهد أن أفعال البهائم تدل على حدثها
وليس لها قصد إلى ذلك ،واألفعال المحكمة داللة على علم فاعلها ،وإن لم يقصد فاعلها أن
تكون داللة على ذلك ،ومن جعل قصد فاعل الداللة شرطا فيها احتج بأن اللص يستدل بأثره
عليه وال يكون أثره داللة ألنه لم يقصد ذلك ،فلو وصف بأنه داللة لوصف هو بأنه دال
على نفسه ،وليس هذا بشيئ ألنه ليس بمنكر في اللغة أن يسمى أثره داللة عليه ،وال أن
يوصف هو بأنه دال على نفسه ،بل ذلك جائز في اللغة معروف...والثاني العبارة عن
الداللة ،يقال للمسؤول أعد داللتك ،والثالث الشبهة ؛ يقال داللة المخالفة كذا أي شبهته،
والرابع األمارات ؛ يقول الفقهاء :الداللة من القياس كذا ،والدليل فاعل الداللة ولهذا يقال
لمن يتقدم القوم في الطريق دليل >> ( الفروق في اللغة .) 59،60
ويقول حازم القرطاجني (ت 684ه) << ك ُّل شيئ له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك
حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه ،فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية
الحاصلة عن اإلدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين
وأذهانهم فصار للمعنى وجود آخر من جهة داللة األلفاظ ،فإذا احتيج إلى وضع رسوم من
الخط تدل على األلفاظ لمن لم يتهيأ له سماعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في
11
األفهام هيئات األلفاظ فتقوم بها في األذهان صور المعاني فيكون لها أيضا وجود من جهة
داللة الخط على األلفاظ الدالة عليه >> ( منهاج البلغاء وسراج األدباء ،ص ) 19 ،18 :
وإنما أوردنا هذه الشواهد ليعرف الطالب أن المباحث الداللية كانت في صلب اهتمام
الفكر العربي ،وأن هذا الفكر كان يستلهم معطياته من حريته المطلقة التي لم تكن تنطلق من
نظريات سابقة أو خلفية علمية يمكن ْ
أن يبنى عليها بقدر ما كان رائدَها األول طلب الحقيقة
النظر اللساني والداللي العربي وسم
َ العلمية التي ال يمكن أن ينتجها إال الفكر المتحرر ،وأن
بالشمول حيث لم يقتصر على جانب من جوانب الدرس اللغوي أو مستوى من مستويات
اللغة ،بل تناول كبريات القضايا اللغوية كأصل اللغة ،وآليات التواصل اللساني وميزَ بين
التواجدات المختلفة للمعنى وعالقته باللفظ الذي هو وعاؤه ،وحصر المعجم بمناهج علمية
جعلت اللفظ في المتناول تواصال ودراسة ،وبحث مسائل التركيب واالشتقاق واإلعراب ،وغير
ذلك من المباحث التي شغلت الفكر اإلنساني كله ماضيا وحاضرا ،وكثيرا ما استعصت وثار حولها
أن يكون منطلقا لكثيرالنقاش واحتدم الخالف ،كما كان موسوما كذلك بالدقة العلمية التي أهلته ْ
من النظريات الداللية الحديثة التي ذكرت فضل الدرس العربي حينا وتنكرت له أحيانا.
ذكرنا في المحاضرة السابقة أن موضوع علم الداللة هو البحث في الدليل اللغوي وآلية
حمله المعنى وأن ذلك هو صميم البحث الداللي المتخصص ،ومن غير ْ
أن نعيد للواجهة
البحث في جدلية اللفظ والمعنى التي تعدُّ مبحثا فكريا وفلسفيًّا أكثر مما هي مبحث داللي أو
أن نعرف الدليل اللغوي عند علماء اللسان والداللة حيث يرى دي ي يتعين ابتداء ْلسان ٌّ
سوسير أن الداللة ليست عالقة لفظ ومعنى أو كلمة بشيئ ،ولكنها عالقة بين صورة ذهنية
للفظ بصورة ذهنية للمعنى ؛ ذلك أن الدليل اللغوي الذي هو موضوع علم الداللة يتكون من
مكونين اثنين هما الدال والمدلول ؛ وهما بمثابة وجهين لعملة واحدة ال يمكن فصل أحدهما
13
عن اآلخر ،كما أن كال من الدال والمدلول يتكون من صورة حسية وأخرى ذهنية ؛ ففي
الدليل "شجرة" مثال ال تحيل اللفظة شجرة على الكائن المعروف " الشجرة " بهذا التسطيح
والبساطة ،وإنما الدال الذي هو لفظة "الشجرة " يتكون من الكيان الفيزيائي ممثال في
الصوت بوجوده الفيزيائي المحض وما يثيره سماع هذا الصوت في الذهن من وجود يمكن
أن يوصف بأنه كيان نفساني أو تصور ذهني ،وكذلك مدلول " الشجرة " إنما هو مجموع ْ
أن يعبر عنه بالصورة الحسية أو المرجع ،ونسخة ذلك المرجع وجودها العيني الذي يمكن ْ
في الذهن ،أو ما يمكن أن يسمى صورته الذهنية ؛ ذلك أن َملَكة اللسان في اإلنسان تقضي
بأن يحتفظ الذهن بنسخة من كل ما يقع تحت حسه وهي تثور في الذهن بإثارة الصورة
الذهنية للدال بوساطة صورته الحسية التي قد تكون مسموعة أو مرئية .
الدال
الدليل اللغوي
المدلول
صورة حسية
الدال
صورة ذهنية
صورة حسية
المدلول
صورة ذهنية
ومن ثم فإن الداللة عند دي سوسير ليست ربط الصورة الحسية للمدلول بالصورة الحسية
ص ذلكلكل من الدال والمدلول كما لخ َ
للدال وإنما هي الربط بين الصورتين الذهنيتين ٍّ
تالمذته في المربع التالي :
الداللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
فهو يرى بأن الفهم والتواصل إنما يتم حين يجد الذهن مقابال مفهوميا للصورة الذهنية التي
أثارها اللفظ بمكونه الحسي الفيزيائي مقصيًّا بشكل كلي ٍّ المرجع من مجال الدراسة اللسانية
ألنه يعده كائنا غير لساني ٍّ ،وهو يلتقي في ذلك مع ابن سينا الذي حصر الداللة في اللفظ
المسموع والمعنى ،في حين يرى بييرس أن الداللة ثالثية األبعاد وهي تتكون من صورة
الدال وصورة المدلول والمرجع أما الغزالي فرأى بأن للشيئ وجودا في األعيان ووجودا في
14
األذهان ووجود افي اللفظ ثم وجودا في الخط ؛ فوجود الخط يحيل على وجود اللفظ واللفظ
يدل على وجود األذهان وماهو في األذهان مثال لما هو في األعيان .
وفي عام 1923ظهر كتاب th meaning of meaningلصاحبيه ritchards
و ogdinالذي تضمن رؤية جديدة ترى ضرورة أن تؤ خذ العالقة بين األلفاظ واألفكار في
الحسبان عالقة العلمات بمراجعها التي تشكل البعد الثالث في التحليل الداللي ولخصا الفكرة
في المثلث التالي :
المدلول
الدال ....................المرجع
الخط المتصل إلى وجود بين عالقة المدلول بكل من الدال والمرجع ،ويشير ُّ حيث يشير
الخط المتقطع إلى انعدام العالقة بين الدال والمرجع ،وتسمى هذه النظرية بالنظرية اإلحالية.
- 1المواضعة ( االصطالح ) :حيث يعد تخصيص دال بدليل فعال تواضعيا بين الجماعة
أي " جعل شيئ بإزاء شيئ آخر بحيث إذا فهم األول فهم الثاني " ،و " كأن واضع اللغوية ؛ ْ
اللغة قال إذا سمعتم هذا اللفظ فافهموا هذا المعنى" وهو اتفاق خاص بكل جماعة لغوية على
حدة .
- 2االعتباطية ( العشوائية ) :تستند خاصية االعتباطية إلى نظرية التواضع التي ترى
محض تواضع مما يرتب انعدام الحتمية بين الدال والمدلول أي َ تخصيص الدوال بمدلوالتها
أن عالقة الدال بالمدلول عشوائية يمكن تغييرها فلو أن العربي األول قال "برض " مكان
"ضرب" لما كان في ذلك ما يفسد التواصل فهما وإفهاما كما ذكر ابن جني ،إال أن تلقي
اللغة يكون سلبيا ؛ أي ال يجوز لمستعمل اللغة أن يعترض على التواضع القائم ،مخافة
وقوع القطيعة مع النصوص القديمة فقط .
طق المتوالي ي النُّ ْ
-3الخطــية :مفهوم الخطية هو تتابع الوحدات اللسانية في الزمن ؛ أ ْ
لوحدات الدليل اللساني بحيث إذا تغير تتابع النطق تغير الدليل وترتب عنه تغير المدلول (
المعنى ) أو انعدامه إذا كان الدليل فارغا ؛ ففي اللفظ سأل تحتفظ السين بالرتبة األولى
والهمزة بالرتبة الثانية والالم بالرتبة الثالثة ولو تم التلفظ بالهمزة قبل السين لتغير المعنى
المعجمي تماما وكذلك في باقي األصوات .
– 4التقطيع المزدوج :من المعلوم أن اللسان ليس تصويتا متصال يمتد ما امتد النفس ولكنه
ملفوظات متوالية بينها سكتات أو وقفات ،وأن السكتة هي التي تحدد معالم البداية والنهاية
في الجمل وقبل ذلك في األلفاظ وبما أن اللفظ هو الوحدة اللسانية األولى باعتبار قدرته على
حمل المعنى وباعتبار أنه هو موضوع التواضع واالصطالح فإن التقطيع المزدوج
ينحصر فيه ؛ حيث يقسم إلى مستويين:
15
المستوى األول :هو تقسيم الجملة إلى وحداتها الدالة سواء أكانت وحدات معجمية خالصة أم
كانت وحدات صرفية .
المستوى الثاني :هو تقسيم الوحدات الدالة إلى أصواتها األساسية السواكن والمتحركات .
فهم الطالب درسه مثال :
المستوى األول من التقطيع :فهم +الـــ +طالب +درس +ــــه
ف +ــــــــــ َ +ـــــــهــ +ـــــــــــــــــ +م +ــــــــَــــــــــــــ المستوى الثاني :
..........إلخ
الداللة العقلية :هي الداللة التي يجد العقل فيها حتمية في االنتقال من الدال إلى المدلول ؛ أي
أن العالقة بين الدال والمدلول حتمية ال يستطيع العقل أن يربط الدال بغير مدلوله ،وهي
عالقة األثر بالمؤثر ؛ ويمثل لها عادة بداللة الدخان على النار حيث ال يمكن تصور دخان
من غير وجود نار ؛ وفيها << يتحول الفكر من الحقائق الحاضرة إلى حقيقة غائبة عن
طريق المسالك العقلية بمختلف أنواعها>> ( المرجع السابق ص ) 47وهذه المسالك يمكن
إجمالها في :
مسلك البرهان القاطع :هو الذي يتقيد بقيود المنطق العقلي ،كأن تقول :تتلمذ ابن جني على
أبي علي الفارسي ،فتفهم وجوبا أن الرجلين تعاصرا.
مسلك القرائن الراجحة :هو االستدالل الظني ؛ حيث ينطلق العقل من مجموع قرائن تنتهي
به إلى نتائج ليست في وزان البرهان القاطع ؛ كأن ترجح أن الطالب غش في االمتحان من
قرينة حصوله على عالمة جيدة بالرغم من ضعف مستواه وكثرة غيابه .
مسلك االستدالل الرياضي :يعني النتقال من المعلوم فرضا إلى المجهول تقديرا (.ينظر عبد
الجليل منقور ؛ علم الداللة ،اتحاد الكتاب العرب ، 2001 ،ص . ) 66
الداللة الطبيعية :يعرفها التهانوي بأنها << هي داللة يجد العقل بين الدال والمدلول عالقة
طبيعية ينتقل ألجلها منه إليه ،والمراد من العالقة الطبيعية إحداث طبيعة من الطبائع ،سواء
كانت طبيعة اللفظ أو طبيعة المعنى أو طبيعة غيرهما ( عروض الدال عند عروض المدلول)
كداللة ( أح أح ) على السعال ،وأصوات البهائم عند دعاء بعضها بعضا ،وصوت
العصفور عند القبض عليه فإن الطبيعة تنبعث بإحداث تلك الدوال عند عروض تلك المعاني
؛ فالرابطة بين الدال والمدلول هنا هي الطبع >> ( كشاف اصطالحات الفنون ص 487
، 488،نقال عن خليفة بوجادي ؛ محاضرات في علم الداللة ص .) 31
و مما يحسن التنويه إليه هنا هو أن الداللة الطبيعية هذه قد تختلف من مجتمع إلى آخر
وربما من شخص إلى آخر ،إال أن هذا ال يمنع من وجود بعض المشتركات اإلنسانية ؛ قال
اإلمام علي بن أبي طالب << ما أضمر أحد ٌ شيئا إال ظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه
>> لذلك فإن الذي يسلك ضمن هذا النوع من الداللة هو هذا المشترك كاحمرار الوجه أو
االرتعاش دليال على االرتباك ومن ثم الجناية ،أو ما يقترب من هذا المعنى ويشابهه ،علما
أن أرسطو أدرج الداللة الطبيعية ضمن الداللة العقلية ( السابق :ص.) 31
ثانيا /أنواع المعنى :
المعنى هو الحمولة الداللية لأللفاظ ،وهي التي تحيل إليه إال أنها قد ال تكفي وحدها في
تبين مقاصد الناطقين بها لما تحدث فيها السياقات واألوضاع المختلفة من تأثير يرقى إلى
حد إلغاء أصل التواضع ،أو حصر الداللة اللفظية في معنى دون آخر في حال االشتراك
17
اللفظي مما يجعل التعويل على المعاني المعجمية اإلفرادية وحدها ليس كفيال بتأدية الحاجة
التواصلية فضال عن باقي وظائف اللغة ،لذلك فإن علماء اللغة يفرقون بين جملة من المعاني
هي :
-1المعنى األساسي ( المعجمي) :ويسمى كذلك المعنى التصوري أو اإلدراكي ،وهو
أي الداللة اإلفرادية ،من خصائصه أنه مجمع عليه ،وهو الذي يقيد أصل التواضع ْ
في المعاجم ،ويعرفه ك ُّل من يتكلم اللغة ،سواء لغة األم أم لغة ثانية ،كداللة لفظ
اإلنسان على الفرد من الناس أو داللة لفظ األسد على الحيوان المعروف .
-2المعنى اإلضافي ( الثانوي) :هو معنى زائد عن المعنى األساسي يفهم من خالل
السياق ،أو هو داللة إضافية يحملها اللفظ فوق داللته األساسية كأن نعبر عن الرجل
الشجاع بلفظ األسد فنقول :قاد المعركة أسد ٌ ،أو عن الرجل الماكر والمخادع بلفظ
الذئب ؛ فنقول :فالن ذئب ،أو عن الرجل العالم بلفظ البحر إذ في كل هذه األلفاظ
المعنى األساسي األول ،والمعنى الثاني الذي حملها به السياق بعالقة المشابهة أو
غيرها من العالقات ،ومن خصائص هذا المعنى أنه غير مشترك بين مستعملي اللغة
ألنه وليد السياقات االجتماعية التي قد ال تكون مشتركة ،كما أنه مظنة الغموض و
اللبس في الترجمة عند عدم اإللمام بمكونات السياق.
-3المعنى األسلوبي :هو نوع آخر من المعنى يرتبط بالمستوى الثقافي لمستعملي اللغة
و أوضاعهم االجتماعية أو مهنهم ،أو جنسهم أو ما يتصل بذواتهم ومجتمعاتهم
وبيآتهم ويؤثر في فكرهم وبالتالي في لغتهم ،حيث تحدد دالالت األلفاظ من منطلق
معرفة الناطقين بها ؛ حيث يستفاد من كالم المتكلم المقصود األول فيه وهو المعنى
األساسي ،ويستفاد كذلك معنى آخر يتصل بالمتكلم ،كأن نعرف أن المتكلم من طبقة
اجتماعية أو ثقافية معينة من خالل المعجم الذي يوظفه في تواصله ،فمعنى التحية
مثال يؤد بعبارات متعددة منها :السالم عليكم ،صباح الخير ،كيف الحال ،يسعد
صباحك ....، bon jour ،وكل عبارة تصنف قائلها في خانة معينة ،الحديث عن
الزوجة بلفظ :الزوجة ،العائلة ،العقيلة ،القرينة ،األهل ،الدار ،المادام ولكل لفظ
داللة أسلوبية تحدد بيئة قائله ،ولفظ "الجذر" يتلفظ به الفالح فيأخذ عنى ،ويتلفظ به
أستاذ اللغة فيأخذ معنى ثانيا ،ويتلفظ به أستاذ الرياضيات فيأخذ معنى ثالثا ،ولفظ
الصرف له عند أستاذ اللغة معنى وعند المحاسب معنى وعند السمكري معنى آخر
من غير أن تلغى المعاني األساسية في كل هذه األلفاظ .
-4المعنى النفسي :من خصائصه الفردية ألنه يتعلق باألفراد أكثر من تعلقه بالبيئات أو
المجتمعات ،وهو يعكس الحالة النفسية لمستعمل اللغة ،كما أنه قد يد ُّق عن المالحظة
فال يستطيع كشفه إال المتمرسون بتحليل الخطابات ،ويمكن تل ُّمسه في حديث
المتكلمين أو نصوص األدباء والشعراء بشكل إجمالي ؛ فال يمكن مثال أن يخطئ
القارئ المتمرس ما في شعر المتنبي من اعتداد بالذات وتعال أو ما في شعر األخطل
من اعتداد بالقبيلة والنسب ،أو ما في نثر اإلبراهيمي أو المنفلوطي من اعتزاز باللغة
العربية...
-5المعنى اإليحائي :هو المعنى المستفاد ضمنا من الكلمات التي يمكن أن توصف
بالشفافية ( ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ص )36،37واإليحاء في األلفاظ
ثالثة أنواع:
18
-اإليحاء الصوتي :ويكون في الكلمات ذات الجرس الذي يقترب من صوت المعنى
وهو أوضح صورة في أسماء األصوات التي أوحت ألهل اللغة القول بالمحاكاة في
أصل اللغة ،أو بتكرار مقاطع الكلمات الدالة على معان فيها صفة التكرار واألمثلة
على ذلك كثيرة منها أصوات الحيوانات كالعواء والمواء والزئير والنهيق والنعيق ،
أو الحفيف والخرير والصرير ،وقد نقل لنا ابن جني رأي الخليل حين أعمل الفكر
في عالقة ال صوت بالمعنى من خالل صوت البازي ،وصوت الجندب ،أو مفهوم
القضم والخضم ،أو الهز واألز وقد مر بنا كل ذلك في محاضرة عالقة علم الداللة
بالعلوم اللغوية.
-اإليحاء الصرفي :قد يكون اإليحاء مستقى من البنية الصرفية للكلمة ،كما في
األفعال الرباعية الدالة على التكرار مثل صرصر ،جلجل ،قعقع ،مهمه ،بلبل ،حيث
يعكس تكرار المقطع تكرار الفعل ،أو في صيغ األخرى كبعض صيغ المبالغة التي
تشي الشدة فيها بنوع من المبالغة كما في صيغة فَعال ،أو فعيل مثل " قتال" التي
تؤدي داللتها -كثرة القتل – صراحة من التواضع وإيحاء من الصيغة الصرفية .
-اإليحاء الداللي :نوع يكثر في عبارات التأدب والتلطف وما يستقبح التصريح به من
الممنوعات جميعها وهو أقرب إلى تواضع جديد ال ينحصر في اللفظ بل يتعداه أحيانا
إلى العبارة كلها ،كالتعبير عن الجماع بلفظ الحرث ؛ قال هللا تعالى << :نساؤكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم >> ،أو التعبير عن معاني قضاء الحاجة بالخالء
أو بيت الراحة ،أو التعبير عن المفاهيم السياسية أو األمنية التي يؤدي ذكرها إلى
حرج ما ....
المحاضرة السادسة
عالقة علم الداللة بالعلوم اللغوية
19
لما كانت الداللة المقصودة في علم الداللة هي الداللة اللغوية ،وكانت اللغة مستويات
فإن الداللة اللغوية إنما هي محصلة مجموع دالالت المستويات اللغوية في السياقات المختلفة
،والمحاضرة التالية تتناول عالقة علم الداللة بمستويات اللغة أو باألحرى داللة كل مستوى
على حدة .
أوال /عالقة علم الداللة باألصوات اللغوية : َّ
يشكل الصوت المادة األولية للغة ،والحديث عن الصوت اللغوي يكون من جهتين :األولى
هي الطبيعة الفيزيائية للصوت ،والثانية هي القيمة الداللية له في بنية الكلمة ،وهما موضوع
علمين مختلفين األول هو علم التصويت ،والثاني علم وظائف األصوات ،وفي هذه
المحاضرة يعنينا العلم الثاني ألنه هو المرتبط بالداللة اللغوية .
وقد نظر علماء اللغة إلى الصوت اللغوي من هذه الزاوية من خالل مقابلة األصوات
بعضها ببعض أو القيمة الخالفية في الصوت ذلك أن الذي يميز الفعل " أكل" مثال عن الفعل
" أفَل " هو اختالف صوت الكاف عن صوت الفاء ،والذي يميز الفعل " سال " عن الفعل
" زال " هو فقط اختالف صوت السين عن صوت الزاي ،هذا في القيمة الداللية للصوت في
الكلمة ،وذهب بعض العلماء إلى أبعد من ذلك حيث رأوا بأن للصوت المفرد داللة في نفسه
<< فأما مقابلة أي قبل التركيب ؛ ومـن هؤالء ابن جني حيث يقول في الخصائص :
األلفاظ بما يشاكل أصواتها من األحداث فباب عظيم واسع ونهج متلئب عند عارفيه مأموم
ذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت األحداث المعبر بها عنها ،فيعدلونها
بها ويحتذونها عليها ،وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره من ذلك قولهم خضم
وقض م فالخضم ألكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب ،والقضم
للصلب اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ونحوذلك >> ( الخصائص . ) 157/2
علَى ْال َكافرينَ
س ْلنَا الشيَاطينَ َ
ويقول كذلك ... << :من ذلك قوله تعالى " :ألم تر أنا أ َ ْر َ
هزا" والهمزة أخت الهاء فتقارب "تهزهم ًّ
ُّ تَؤ ُّزه ْم أ َ ًّزا " أي تزعجهم وتقلقهم ،فهذا في معنى
صوا هذا المعنى بالهمزة ألنها أقوى من الهاء وهذا اللفظان لتقارب المعنيين ،وكأنهم خ ُّ
تهز ما ال بال له كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك المعنى أعظم في النفوس من الهز ألنك قد ُّ
>> ( الخصائص ).146،147/2 :
ومن المحدثين ألف الدكتور حسن عباس في معاني الحروف العربية ،وكذلك فعل إياد
الحصني في كتاب من جزءين بعنوان "معاني الحروف العربية" عرض فيه بالتفصيل
لمعاني الصوت اللغوي من خالل موقعه في الجذر الثالثي بمنهج إحصائي اعتمد فيه على
مادة القاموس المحيط .ه
ومن الغربيين ( يسبيرسن ) الذي تعرض للموضوع من خالل مقال لهمبلت رأى فيه أن
األلفاظ تعبر عن المعاني بأصوات تشبه المعاني واألشياء وتحاكيها ،وهو الذي يسمى
المناسبة الطبيعية بين اللفظ والمعنى التي بدأت بسيطة ثم انتهت غامضة ال تدرك إال بتأمل
كبير وقد ال تدرك ،وأعطى يسبرسن مثاال على ذلك بطائر في أوربا يسمى " كوكو " وهو
حين يصوت يصدر صوتا هو "كوكو" وكأني به يتمثل حديث سيبويه عن البازي والجندب.
ومن الداللة الصوتية كذلك النبر والتنغيم حيث إن تنغيم الجملة الواحدة بطريقة يعطيها
معنى االستفهام وبطريقة أخرى يعطيها معنى التقرير ،وبطريقة ثالثة يعطيها معنى اإلنكار
فقولك " :جاء محمد" بنغمة صاعدة تفيد االستفهام وبنغمة مستوية تعني اإلخبار ،وقراء تك:
20
" أ إله مع هللا؟" ،أو" أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟ " بتنغيم معين يعطيها داللة
االستفهام وبتنغيم آخر يعطيها داللة التعجب .
ومن الداللة الصوتية كذلك الوقف ؛ حيث إن الوقف عند ملفوظ من الجملة يعطي الكالم
معنى ،وعند ملفوظ آخر يعطيه معنى مغايرا ،من ذلك الوقوف عند لفظ المصلين من اآلية
" ويل للمصلين الذين هم عن صالتهم ساهون " ،أو عند لفظ "هذا" من اآلية " قالوا يا
ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " الذي يعطي اآلية معنى
خاطئا غير مقصود ،ومن أجل ذلك كانت عالمات الترقيم في اللغة المكتوبة ،ومن أجل ذلك
يعتني القراء وعلماء التفسير بأماكن الوقف ويقسمونه أنواعا منها الجائز والممنوع
والواجب..
من المعلوم أن األلفاظ التي هي أوعية المعاني إنما تتكون من إأتالف األصوات المفردة
التي تشكل المادة األولية للغة ،ومعلوم كذلك أن اجتماع األصوات تنشأ عنه صيغ صرفية
مختلفة تختص كل صيغة بالتعبير عن معنى معين ،هو المقصود بالداللة الصرفية ؛ ذلك أن
الطبيعة االشتقاقية في اللغات االشتقاقية تمكن من صب الوحدات الصوتية في القوالب
الصرفية ،فيمكن التعبير بالمادة اللغوية الواحدة عن وضعيات وأزمنة وأفعال مختلفة ؛
فيصاغ مثال من مادة كـ .ت .ب المصدر (كتابة) ،و الفعل الماضي (كتب) ،و الفعل
المضارع (يكتب) ،وفعل األمر(اكتب) ،واسم الفاعل(كاتب) ،واسم المفعول (مكتوب )،
واسم المكان(مكتب) ،ولذلك فإن كل كلمة من الكلمات فيها معنيان ؛ المعنى األول هو
المعنى المعجمي المستفاد من الجذر ،والمعنى الثاني هو المعنى الصرفي أو الوظيفة
الصرفية المستفادة من الصيغة الصرفية المورفيم التي أخرجت وفقها المادة المعجمية ،
وكذلك من السوابق واللواحق التي تتصل بالكلمة كواو الجماعة ،أو ألف اإلثنين أو نون
النسوة أو صيغة الطلب " است " التي تسبق الفعل للداللة على معنى الطلب أو غير ذلك من
السوابق واللواحق ،لذلك فإن البحث في داللة الكلمة البد أن يراعي الداللة الصرفية التي
تشكل محصلة المعنى المعجمي والمعنى الصرفي أو باألحرى هي تخصيص المعنى
المعجمي بداللة محددة ،وهي المساحة التي يتقاطع فيها علم الداللة مع علم الصرف ألن
الصيغ الصرفية ما كان لها أن توجد لوال أن الحاجة الداللية هي التي دعت إليها بغية تأدية
المعاني المتكاثرة .
يقول ابن جني في باب عقده ألنواع الداللة سماه " باب في الداللة اللفظية والصناعية
والمعنوية " << اعلم أن كل واحد من هذه الدالئل معتدٌّ مراعى مؤثرا إال أنها في القوة
والضعف على ثالث مراتب ؛ فأقواهن الداللة اللفظية ،ثم تليها الداللة الصناعية ثم تليها
الداللة المعنوية ؛ ولنذكر من ذلك ما يص ُّح به الغرض ،فمنه جميع األفعال ؛ ففي كل واحد
منها األدلة الثالثة ؛ أال ترى إلى "قام" وداللة لفظه على مصدره وداللة بنائه على زمانه
وداللة معناه على فاعله ،فهذه ثالثة دالئل من لفظه وصيغته ومعناه ،وإنما كانت الداللة
الصناعية أقوى من الداللة المعنوية من قبل أنها وإن لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ
ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم بها ،فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى
21
اللفظ المنطوق به فدخال بذلك في باب المعلوم والمشاهد ،وأما المعنى فإنما داللته الحقة
بعلوم االستدالل وليست في حيز الضروريات >> ( الخصائص ) 98/3 :
ويستفاد من النص أن الداللة الصرفية التي سماها ابن جني الداللة الصناعية مكون من
مكونات الكل الداللي تجمع إلى المكونات األخرى لتحصيل المعنى الكلي ،وأنه يعطيها الرتبة
الثانية بعد الداللة اللفظية التي هي مناط التواضع واالصطالح ،وأن في الفعل ثالث دالالت
أي داللة الجذر ،والداللة الصرفية وهي داللة الصيغة التي أخرج هي :الداللة المعجمية ْ
عليها الجذر ،والداللة المعنوية ( التركيبية) وهي الفاعل المستتر أو المتصل بالفعل .
وإن حملت أن يتأدى بالمفردات وحدها ْ ، إن التواصل الذي هو غاية اللغة ال يمكن ْ
الداللة المعجمية والصرفية معًا ؛ ألنها تعبر فقط عن معنى مفرد ،وهو غير كاف إلقامة
التواصل وإنما يكون تحديد المعنى اإلفرادي من أجل الحديث عنه أو به عـن غيره وهو ما
ال يكون إال بإسناد كلمة إلى أخرى الذي يعطي كالما صالحا ألداء التواصل ،وهو ال يكون
إال بين اسمين أو اسم وفعل إذ بهما فقط تتحقق اإلفادة التي هي شرط الكالم ،وإذا كانت
الكلمات تتكون من تجمع الوحدات الصوتية بغير نظام معين ( ينظر دالئل اإلعجاز ص:
) 353فإن تشكل الجمل من المفردات يحكمه نظام وتضبطه قوانين تختلف باختالفاتها
دالالت التراكيب والجمل ،وهذا هو موضوع علم النحو أو التراكيب ،قال الجرجاني :
<< إن األلفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن ألن
يضم بعضها إلى بعض فيعرف ما بينها من فوائد >> ( دالئل اإلعجاز ص ، ) 353 :ومن
البديهي القول بأن علم الداللة يلتقي مع علم النحو في هذه المساحة الداللية ،إذ إن المعاني
النحوية هي المقصودة في التواصل .
ومن الداللة التركيبية البحث في وظائف الكلمة في التركيب و الفرق بين دالالت التراكيب
المختلفة كالفرق بين التعبير بالجملة االسمية ،والتعبير بالجملة الفعلية واألساليب المختلفة ،
والمعنى الذي هو غاية علم الداللة يستفاد من النظر في إسناد المفردات بعضها إلى بعض؛
قال الجرجاني ... << :ومعلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضه ببعض وجعل بعضها
بسبب من بعض والكلم ثالث اسم وفعل وحرف ،وللتعليق في ما بينها طرق معلومة ،وهو
ال يعدو ثالثة أقسام :تعليق اسم باسم ،وتعليق اسم بفعل ،وتعليق حرف بهما >> ،ومن
النظر في تعليق المعاني اإلفرادية بعضها ببعض و الوظائف النحوية ( األبواب النحوية
) التي تؤديها كل كلمة تتحصل الداللة النحوية .
وهذه بعض النصوص من كتاب دالئل اإلعجاز تبين اإلدراك المبكر للنحاة والبالغيين
العرب ألهمية الداللة التركيبية في الفهم واإلفهام :
يقول الجرجاني << :ليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلم ٍّة من دون ْ
أن
تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى ،ومعنى القصد إلى معاني الكلم ْ
أن تعلم السام َع بها شيئا ال
يعلمه ،...ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد ْ
أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه
أن تكلمهبها ؛ فال تقول خرج زيد لتعَلمه معنى خرج في اللغة ومعنى زيد ،كيف ومحال ْ
بألفاظ ال يعرف هو معانيها كما تعرف ،ولهذا لم يكن الفعل وحده دون االسم ،وال االسم
وحده دون اسم آخر أو فعل كالما ،أو كنت لو قلت :زيد ،ولم تأت بفعل وال باسم وال قدرت
22
فيه ضمير الشأن ،أو قلت زيد ولم تأت بفعل وال اسم آخر ،ولم تضمره في نفسك ،كان ذلك
وصوتا تصوته سواء فاعرفه >> ( دالئل اإلعجاز .)372
وقال كذلك << :اعلم أن واضع الكالم مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيبها
بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة ،وذلك أنك إذا قلت :ضرب زيد عمرا يوم
الجمعة ضربا شد يدا تأديبا له ،فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم واحد هو
معنى واحد ال عدة معاني كما يتوهمه الناس ،وذلك ألنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس
معانيها إنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه أو
األحكام التي هي محصول التعلق >>( دالئل اإلعجاز :ص .) 372
حظا في الدرس اللغوي العربي برمته ؛ ولعل الداللة التركيبية األكثر حضورا واألوفر ًّ
ألهميته من جهة والشتغال اللغويين بالدرس النحوي أكثر من باقي المباحث ،كما أن اللحن
الذي كان الباعث األول لقيام الدراسات اللغوية كلها إنما كان في الحركة اإلعرابية أظهر من
أي مستوى آخر .
المحاضرة السابعة:
عالقة علم الداللة بالعلوم غير اللغوية
23
ال يمكن حصر الكالم عن عالقة علم الداللة بالعلوم غير اللغوية في علوم دون أخرى ألن
علم الداللة تحتاج إليه كل العلوم ،سواء العلوم اإلنسانية أو غير اإلنسانية ،وذلك في تحديد
المفاهيم والمصطلحات وتوصيف الموضوعات وصياغة األحكام والقوانين وغير ذلك مما
يدخل في حاجة العلوم إلى تحديد الماهيات و الحكم عليها وإقامة العالقات بين األجزاء
والعناصر وغير ذلك ،ومن أجل ذلك فإن المحاضرة سوف تحاول إبراز هذه العالئق من
خالل التمثيل ببعض العلوم اإلنسانية.
أوال /عالقة علم الداللة بعلم االجتماع:
َّ
إذا كانت الظاهرة االجتماعية هي الموضوع األول لعلم االجتماع فإن اللغة هي واحدة
من الظواهر االجتماعية التي تعكس حركية المؤسسات االجتماعية في تفاعلها بعضها مع
بعض أو لنقل إن جميع الظواهر االجتماعية تحتاج إلى اللغة كي تكسبها صفة الجماعة ألن
هذه الصفة وليدة تعامل اإلنسان مع اإلنسان وذلك مرهون باستعمال اللغة التي تتعرف بأنها "
أصوات يعبر بها ك ُّل أقوام عن أغراضهم " وواضح أن ابن جني كان يشير بقوله " كل أقوام
" إلى تعدد األلسن الذي هو في حد ذاته ظاهرة اجتماعية.
وإذا أردنا الوقوف على بعض الجوانب التي يلتقي فيها العلمان فيمكن االستدالل بالتنوع
اللغوي من مجتمع لغوي إلى آخر حيث تعكس ك ُّل لغة المستوى الحضاري للناطقين بها
سواء في معجمها وما يحمل من مفردات تعبر عن الحياة العامة للمجتمع ،أو في نصوصها
التي هي أوعية فكرها ودليل على فلسفتها في الحياة كلها ،أو في أمثالها وحكمها وما تحمل
من ثقافة ،أو حتى في أغانيها وأهازيجها وعالقة كل ذلك بحسها الفني والجمالي ،ويمكن
االستدالل على عالقة علم الداللة بعلم االجتماع كذلك بما يطال المعجم من تغير داللي من
مجتمع إلى آخر تماما كسائر الظواهر االجتماعية ،أو من عصر إلى آخر تماما كاإلنسان
نفسه حيث إن هناك مفردات تموت وأخرى تبعث من جديد مواكبة لتغيرات الحياة ومنها
الحياة االجتماعية ،كما أن هناك مفردات ترتفع داللتها وأخرت تنحط داللتها ،وأخرى
أي أن اللغة في حراك دائم إال أن حراك اللغة يتصف بالبطء وهو تضيق وأخرى تتسع ْ ،
حال جميع الظواهر االجتماعية ،وعلى العموم فإن اللغة هي التي تحقق لإلنسان اجتماعيته ،
وكي يفهم علم االجتماع هذه االجتماعية البد أن يستعين بمعطيات الداللة اللغوية ،ومن أجل
ذلك وجد العلم الذي يسمى علم االجتماع اللغوي .
رابعا /علم الداللة وعلم الترجمة :غاية الترجمة نقل المعنى اللغوي من لغة إلى لغة
أخرى إال أن هذه الغاية ليست باألمر البسيط إذ إن التصور النظري و المنطقي يقتضي أن
يوجد لكل دليل لساني في لغة مقابل في اللغة المترجم إليها وبالدقة المطلوبة األمر الذي إذا
تحقق في مستوى لغوي فقد ال يتحقق في مستوى آخر كما أن الحامل اللغوي قد ال يكفي
ألداء المعنى مما يستوجب إعمال السياق بجميع أنواعه ،وبخاصة السياق االجتماعي وهو
مساحة داللية تستدعيها ضرورة الترجمة كما في التعبيرات المجازية التي تقتضي ترجمة
دالالتها إلماما بالجوانب الثقافية التي هي من السياق االجتماعي ،ويمكن االستدالل على
25
التقاطع القائم بين العلمين كذلك بموضوع العالقات الداللية حيث يكون للفظ الواحد دالالت
متعددة أو حين يدل اللفظ الواحد على أكثر من معنى وال تتوفر العالقة في اللغة المترجم
إليها ،وكذا في التعبيرات االصطالحية الدالة على معاني التأدب و التفاؤل وألفاظ الالمساس
التي تؤدي دالالتها باإليحاء مما يعني أن الترجمة في بعض األحيان تتجاوز الداللة إلى
الثقافة ،ويكون في الترجمة خيانة حين يغيب عند المترجم االطالع على ثقافة اللغة المترجم
منها واللغة المترجم إليها.
خامسا /عالقة علم الداللة بالتداولية :ال ينأى الكالم في العالقة بين هذين العلمين كثيرا
عنه بين علم الداللة والترجمة عند الحديث عن دور السياق في توجيه الداللة من منطلق أن
التداولية في أبسط مفاهيمها هي دراسة عالقة العالمات بمؤوليها بينما تعنى الداللة بالعالقة
بين العالمات ومراجعها ،والغاية من التداولية هي استهداف وتحديد مقاصد مستعمل اللغة ال
من تحليل النص فحسب ولكن من تحليله في السياق الذي ورد فيه الذي هو فيصل في توجيه
الداللة اللغوية للمنطوق ،ولنأخذ لذلك أمثلة:
جملة "بارك هللا فيك" تقولها لصديق أساء التصرف معك ،تحملها معنى العتاب أو التوعد
وتقولها على أصل التواضع لمن أحسن إليك.
عبارة " شكرا " تقولها على أصل التواضع قاصدا بها معنى الشكر.
وتقولها لمن أسهب في الكالم وقد قصدت توقيفه بلطف .
سؤالك عن التوقيت موجها مرة إلى زميلك قبل بدء المحاضرة ،ومرة إليه قبيل نهايتها على
مسمع األستاذ ،وقد أسهب في الشرح ،وموجها مرة أخرى إلى أحد أفراد العائلة في وجود
ضيف أطال المكوث ؛ حيث النص واحد والمقاصد متعددة ،والداللة مرهونة بالسياق.
المحاضرة الثامنة
التغير الداللي أسبابه ومظاهره
لما كانت اللغة ترجمان الفكر وكان فكر اإلنسان متغيرا متطورا كان لزاما ْ
أن تساير اللغة
تطور الفكر وتجاريه حتى تؤدي عن اإلنسان المقاصد التي تتحقق بها حياته واجتماعيته،
أن تتناسب اللغة ك ًّما مع الفكر وهي قضية يفترض تحققها في لكن ذلك يقتضي أيضا ْ
العصور األولى للحياة البشرية حيث كان الفكر البشري في مرحلة البدائية والبساطة ال
يحتاج من مفردات اللغة أكثر من حديثه عن صيده ورعيه ،أو طعامه وشرابه ،لكن مع
تطور الفكر والحضارة على مر العصور واألزمان وجدت لإلنسان اهتمامات متعددة
المناحي ،بين الصناعة ،والسياسة ،والزراعة ،والفكر ،واألدب ،والعلوم ،وشتى
مجاالت الحياة ،فضاقت بها ا للغة من منطلق محدودية المعجم مهما كان اتساعه في مقابل
المعاني غير المتناهية ،فكان لزاما على أهل اللغة إما أن يوجدوا ألفاظا جديدة لما جد من
أشياء ومفاهيم ،أو يخصصوا لها من األلفاظ ما يمكن االستغناء عن معناه فينشأ عن ذلك أن
26
تتغير دالالت بعض األلفاظ من معنى إلى معنى ،وهو المقصود بمصطلح التغير الداللي ،
فما هي أسبابه ،وما هي أشكاله؟
قبل الحديث عن أسباب التغير الداللي وأشكاله تجدر اإلشارة إلى أن التغيرات الحضارية
الكبرى تشكل معالم في تاريخ اللغة ،و اللغة العربية شهد تاريخها محطات كبرى ،منها
مجيئ اإلسالم الذي أحدث ثورة في المعجم العربي ،كما يذكر ذلك ابن فارس في الصاحبي
،وكذا الفتوحات اإلسالمية التي فتحت القاموس العربي على لغات األمصار التي دخلها
اإلسالم فأثر فيها وتأثر بها ،ومن المحطات الكبرى في تاريخ اللغة العربية كذلك ما شهده
الوطن العربي في القرن التاسع عشر من االحتالل الغربي الذي سعى جادا لطمس اللغة
العربية وإحالل اللغات الغربية محلها فظهر أثر ذلك جليًّا في اللغة بشكل عام والمعجم بشكل
خاص ،أما في التاريخ المعاصر فإن الثورة التكنولوجية وما تطالعنا به العلوم المختلفة في
كل يوم وساعة من اكتشافات ومخترعات فرضت على اللغة إيقاعا متسارعا من أجل
مسايرة هذا الواقع األمر الذي جعل المعجم في مسيس الحاجة إلى تحديث منهجه وتفعيل
آليات توليد المفردات كالنحت ،واالشتقاق ،واالقتراض ،والتعريب وغير ذلك.
وقد أولى القدامى موضوع التغير الداللي عناية خاصة في مؤلفاتهم ووقفوا عند تغير
دالالت كثير م ن األلفاظ وحاولوا استقصاء أسباب الظاهرة حيث عرض -مثال -أبو حاتم
الرازي في كتابه " الزينة " لتطور دالالت بعض األلفاظ ورأى أن مفردات المعجم أربعة
أصناف :قديمة موروثة ،أو جديدة تضاف داللتها وإن لم تكن حادثة ،أي أنها أشربت داللة
زائدة عن داللتها األولى بإحدى طرق التغير الداللي ،أو جديدة في صيغتها وداللتها ،أو
محولة بالتعريب عن إحدى اللغات األجنبية ،وعد االنتقال من المحسوس إلى المجرد من أهم
أسباب التغير الداللي ،ورأى أبونصر الفارابي أن الحاجة الحضارية المتجددة تستوجب أن
تجاريها حركية في اللغة ،أما عند المحدثين فإن التصنيف األكثر إلماما بالموضوع هو ما
تركه ( أنطوان مييه ) وطوره الدانماركي ( نيروب ) حيث عرض للظاهرة بشكل شمولي
أن يتصل به من قضايا لغوية. تناول فيه أهم األسباب التي تدعو إلى التغير الداللي وما يمكن ْ
أسباب التغير الداللي:
يمكن تقسيم أسباب التغير الداللي إلى أسباب لغوية وأخرى غير لغوية.
أوال األسباب اللغوية:
هي األسباب المتصلة باللغة نفسها ،وفي مقدمة ذلك األسباب الصوتية كتقارب مخارج
األصوات في الكلمة الواحدة ( وهو مما ينتقص من فصاحة الكلمة) الذي يؤدي إلى إحالل
صوت محل آخر كما ينطق بعض العامة " الشمس " "السمش" ،أو " النفاثات في العقد "
" النفاثات في القعد " والخلط بين الالم والنون في كلمات كثيرة كــ " :اللسان" تنطق "
النسال " ،أو " السلسلة " تنطق عند البعض " :السنسلة " أو الخلط بين الغين والقاف
فيتحول " القدر" " غدرا " و" القول " " غوال " ،و" الطاغية" "طاقية" أو استبدال
الكاف بالقاف فتصير " :قاد" إلى " كاد " ،والذي يؤدي إلى التغير الداللي هو فهم هذه
أن تنتشر بالصورة الخاطئة ثم الكلمات وفق ما سمعت ثم نقلها على تلك الهيئة ،فيحدث ْ
يتعايش المعنيان الخاطئ والصحيح فينشأ عن ذلك ترادف بين الكلمتين ،ومن األسباب
ظ ما توظيفا خاطئا وتفرض كثرة اللغوية ما يعرف باالنحراف اللغوي ؛ حيث يوظف لف ٌ
االستعمال التعامل معه كالواقع المفروض إال أن اللغويين يتصدون له بالتصحيح ومن أسباب
االنحراف اللغوي :
27
-سوء الفهم :فيه يلتبس معنى كلمة ما عند السامع فيتأولها بما هو قريب منها أو بما
رأى هو أنه لها من معنى ثم يتعامل بها الناس وفق داللتها الجديدة
-القياس الخاطئ :ينشأ من قياس غير المعلوم على المعلوم وذلك عند غموض معنى
كلمة ما فيحملها السامع على أقرب كلمة إليها معتمدا في ذلك على السياق.
-أخطاء األطفال :إما من قصور الفهم نتيجة االكتفاء بالشكل الخارجي لألشياء كأن
يسمي كل طائر حمامة أو كل عربة سيارة ،أو كل رجل أبًا ...أو من قصور النطق
نتيجة عدم اكتمال نمو جهازه النطقي ثم يجاريه الكبار ُّ
تلطفا .
ومن األسباب اللغوية ما يتصل باالشتقاق الذي يعطي صيغا قد تتداخل في دالالتها ثم
تنتقل داللة كلمة إلى أخرى ؛ تقول العرب " :ضربه فأشواه" تقصد أصاب منه
أطراف جلده وهي جمع شواة وقد يفهم منه شواه بالنار التباسا بين "شوى"
و"أشوى" ،ومن األسباب كذلك األسباب السياقية كتغير داللة " الفشل " من معناها
الصحيح "الضعف" إلى اإلخفاق نتيجة كثرة االستشهاد باآلية الكريمة " وال تنازعوا
فتفشلوا وتذهب ريحكم " ( ينظر :خليفة بوجادي ،محاضرات في علم الداللة
ص.)47:
ثانيا /األسباب غير اللغوية:
األسباب االجتماعية :هي التي تحدثنا عنها في المبحث السابق تحت صفة الحضارية ألن
الحضارة ليست سوى حركية المجتمع وهي حركية متعددة االتجاهات ؛ حيث إن التطور
الحاصل في أي مجال من مجاالت الحياة يستدعي وعاء لغويا جديدا يحمل ما جد من أفكار
وهذا يقتضي تغيرا في دالالت األلفاظ.
األ سباب النفسية :قد تدعو الحاجة التواصلية إلى أكثر من نقل الحمولة الداللية باأللفاظ حيث
تطلب مستوى من التلطف مع المخاطب أو التفاؤل أو التجاوز عن جانب من الواقع مراعاة
لشعور المتلقي على نحو ما نجد في المعجم العربي حيث يخاطب اللديغ بلفظ السليم و تسمى
األدراج سل ًما ،والصحراء مفازة ،والموت وفاة ،وحيث يكنى عن عالقة الرجل بالمرأة بلفظ
القرب أو المالمسة ،وعن موضع قضاء الحاجة بــ :الخالء ،وعن الملح بــ :الربح ،
وأمثال هذا كثير في اللغة العربية وهو دليل على المستوى الحضاري ألهلها ،كما أنه من
أهم أسباب التغير الداللي حيث يفرض أن يكون للكلمة فوق معناها األصلي المعنى
المستجلب للتفاؤل أو التلطف أو نحو ذلك من الحاجات النفسية .
األسباب الثقافية :
قد تكون العوامل الثقافية من األسباب التي تؤدي إلى تغير الدالالت ،وذلك عند
التقاء الثقافات وتجاورها مما يؤدي إلى اقتراض بعض األلفاظ من لغة إلى أخرى كم
حدث بين اللغة العربية واللغة الفارسية في العصر العباسي نتيجة اختالط وتساكن
المسلمين من الناطقين باللغتين ،وبخاصة لما كانت عاصمة الدولة اإلسالمية بغداد
القريبة من بالد فارس ،وكان بعض الفرس يشتغلون في دواويـن اإلنشاء ،ومراكز
السلطة ،وكما الحال كذلك في البالد العربية كلها غداة االحتالل الغربي وبعده إلى
اليوم حيث سرت كثير من المفردات الغربية على ألسنة وأقالم كثير من الكتاب فضال
عن العامة وأدخلت القاموس العربي من مثل :صالون أو صالة عوضا عن بيت
الضيوف ،و طاطا بدال من خالتي و أونكل عوضا عن عمي أو خالي ،أو المارشي و
ليكول بدال من السوق والمدرسة ،وغير ذلك كثير ،والذي يترتب عن هذه
28
الستعماالت هو أن الكلمة المستجلبة قد يكون لها أصل في اللغة المجلوبة إليها فتكون
بعد ذلك من قبيل المشترك اللفظي أو تهجر المفردة الفصيحة تحت تأثير االقتصاد
والميل إلى األخف فتحيى بداللة جديدة .
ويمكن أن نميز في التغير الداللي بين نوعين ؛ فهو إما تغي ٌُّر قسري غير إرادي نتيجة
األسباب التي ذكرنا أو غيرها من األسباب ،أو تغيير إرادي تقوم به المؤسسات المختصة
كالمجامع اللغوية والمعاهد المتخصصة في تطوير اللغة أو يرتجله األدباء والخطباء ومن
ملكوا زمام اللغة من أهلها.
مظاهر التغير الداللي :يتخذ التغير الداللي عدة مظاهر منها :
أوال /انتقال الداللة :هو أن يكون للكلمة معنى ثم تتحول داللتها إلى معنى آخر مسا ٍّو له في
الرتبة والمساحة أي أنه ليس أعلى منه قدرا وال هو دونه ،وال أعم منه وال أخص ،وال هو
أوسع منه وال أضيق ؛ يقول فندريس << يكون االنتقال عندما يتعادل المعنيان أو إذا كانا ال
يختلفان من جهة العموم أو الخصوص ( كما في حال انتقال الكلمة من المحل إلى الحال أو
من المسبب إلى المسبب ،أو من العالمة الدالة إلى الشيئ المدلول عليه ....أو العكس ،
وانتقال المعنى يتضمن طرائق شتى ( االستعارة ،إطالق البعض على الكل ،المجاز
المرسل بوجه عام ( >> )..فندريس ؛ اللغة ،ص 256نقال عن خليفة بوجادي ؛
محاضرات في علم الداللة ص.) 49
ومن األمثلة على االنتقال الداللي لفظ المجد انتقلت داللته من امتالء بطن الدابة بالعلف
إلى الجاه والسمعة الحسنة ؛ وهو ضرب من االمتالء بالمحامد ،لفظ الشتاء حيث انتقلت
داللته في بعض جهات الوطن من الفصل المعروف إلى المطر ،لفظ التمر ينطق في بعض
الجهات طمرا ؛ فتكون داللة " الطمر" قد انتقلت من المعنى األصلي المعروف وهو الردم
واإلخفاء إلى الفاكهة المعروفة ،فعل "قاس" في لهجة أهل العاصمة تحولت من معنى
القياس المعروف إلى داللة االصطدام أو المالمسة ،أو لفظ " شباب" من مرحلة عمرية إلى
داللته على الحسن والجمال .
ثانيا/اتساع الداللة :حيث يكون للكلمة مدلول ضيق ثم تأخذ مدلوال أوسع منه؛ وهو األقل
حضورا في اللغة حسب إبراهيم أنيس( داللة األلفاظ ص ) 150ومن أمثلة اتساع الداللة لفظ
الورد ؛ من داللته على زهرة معينة إلى داللته على جميع األزهار ،لفظ قيصر؛ حيث
اتسعت داللته من داللته على ملك الروم تحديدا إلى داللته على كل ملك أو سلطان ،لفظ
البأس اتسعت داللته من معنى الحرب إلى كل مكروه من مرض أو نحوه ،مكتب اتسعت
داللته من مكان الكتابة إلى مقر الطبيب أو المحامي أو المدير ،وفي الفرنسية chaufeur
معناه من يوقد النار في قاطرة القطار ثم انتقلت داللته إلى معنى السائق ،ولفظ salaire
معناه حصة من الملح تعطى راتبا للجندي ثم صارت تعني كل راتب ( ينظر :خليفة بوجادي
:محاضرات في علم الداللة ص.) 48
ثالثا /تخصيص الداللة :هو أن تكون للكلمة داللة واسعة ثم تضيق ،واألمثلة عليها في
العربية كثيرة ؛ من ذلك ألفاظ الحقل اإلسالمي كــ الصالة التي كانت تعني مطلق الدعاء ثم
خصصت في الشعيرة المعروفة ،اإلسالم كانت تعني كل إسالم وصارت تعني اإلسالم هلل ،
الكافر كانت تعني كل ساتر ،وصارت تعني من يستر نعمة هللا ويجحدها ،الحج كانت تعني
كل قصد وصارت تعني القصد إلى بيت ألداء شعيرة الحج ،لفظ األمن انتقلت من معناها
المعجمي وهو االطمئنان وعدم الخوف إلى داللتها على رجال الشرطة أو من يقوم مقامهم ،
29
لفظ " النعمة" من داللته على كل أمر محمود ملبسا أو مطعما أو مسكنا إلى داللته على نوع
مخصوص من الطعام هو الكسكس ،وكذلك الحال في لفظ " الطعام.
رابعا /انحطاط الداللة :هو أن تكون للكلمة داللة رفيعة ثم تؤول إلى داللة دونها في سلم
القيم أو في نظرة المجتمع كلفظ الحاجب الذي كان يدل على منصب سياسي رفيع ثم صار
يدل على الحارس ،أو لفظ السيدة مقصودا به مدح المرأة إلى إطالقه إشارة إلى أنها
متزوجة ....
خامسا /رقي الداللة :هو انتقال داللة الكلمة من معنى بسيط أو وضيع إلى معنى أرقى منه
كانتقال داللة لفظ السفرة من طعام المسافر وهو الحد األدنى الذي يتبلغ به المسافر إلى داللته
على أجود أنواع األطعمة ،وداللة لفظ السفير على الوظيفة الدبلماسية المعروفة بعد أن كان
يدل على حامل اآلجر.
موضوع علم الداللة ،كما تقدم ،هو النظر في عالقة اللفظ بالمعنى؛ أي عالقة الدوال
بمدلوالتها ،ولكن موضوع العالقات الداللية هو عالقة األلفاظ بعضها ببعض من منظور
واقع اللغة حيث إن العالقة بين األلفاظ والمعاني في عمومها ليست تطبيقا تقابليا –
بالمصطلح الرياضي – يلزم كل لفظ بمعنى واحد ال يجاوزه ،وكل معنى بلفظ واحد ال
يجاوزه ،وإنما الواقع يثبت أن المعاني المتعددة قد تجتمع على اللفظ الواحد إلى درجة أن
اللفظ قد يد ُّل على المعنى وضده ،كما أن األلفاظ قد تتكاثر على المعنى الواحد إلى أن يصير
للشيئ عشرات األسماء ،وذلك وإن كان حال جميع اللغات كما تثبته كتب اللغة فإن العربية متميزة
30
بكثرته ،ولعل من أهم األسباب التي أدت إلى ذلك كونها تجمع بين لهجات متعددة ،وأن جمعها
كان على عصور متباعدة ،كما يمكن أن يعزى إلى عمرها الطويل في مقابل اللغات الحية األخرى
،و تقدم الزمن يفرض حركية اللغة تبعا للحركية الحضارية واالجتماعية لإلنسان كما تقدم معنا في
موضوع التغير الداللي ،ومن أهم العالقات الداللية الترادف ،واالشتراك ،والتضاد.
أوال /الترادف :
ا لردف في اللغة هو الراكب خلف الراكب ،وأردفته معه أركبته ،والمترادف أن تكون أسماء
لشيئ واحد وهي مولدة ( الفيروز أبادي ؛ القاموس المحيط ،مادة ر .د .ف )
وفي االصطالح هو ما اتفق لفظه واختلف معناه ،أ وهو إطالق عدة ألفاظ على مسمى واحد
كاألسد والليث والسبع والهزبر ،أو السيف والحسام والصارم و الصمصام ،أو الدخول و الولوج
،والخروج والمروق....
ويعرفه اإلمام الرازي بأنه << األلفاظ المفردة الدالة على معنى واحد باعتبار واحد >> (
السيوطي ؛ المزهر في علوم اللغة ،تح محمد جاد المولى بك ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي
محمد البجاوي ،المكتبة العصرية ،بيروت 1987 ،م ،ص . ) 402/1
وقد وقف الباحثون قديما وحديثا من ظاهرة الترادف موقفين شديدي التناقض بين اإلقرار
واالعتراض؛ حيث ينطلق المثبتون لوجوده من واقع اللغة فيما يعترض المنكرون بوظيفة اللغة ؛
التي تتنافى مع وجوده.
المنكرون :هم فريق ينكر الترادف من أساسه وال يعترف بوجوده ،وفي مقدمتهم كما رأينا
أبو علي الفارسي شيخ ابن جني ،وابن فارس ،وابن درستويه ،وثعلب ،وأبو هالل
العسكري ؛ يقول أبو هالل العسكري الذي ألف كتابه المشهور في إنكار الترادف " الفروق
في اللغة " << :فأما في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظ والمعنى واحد ،كما ظن كثي من
النحويين واللغويين ...والشاهد على أن اختالف العبارات واألسماء يوجب اختالف المعاني
أن االسم كلمة تدل على المعنى داللة اإلشارة ،وإذا أشير إلى الشيئ مرة واحدة فإن اإلشارة
إليه مرة ثانية ثالثة غير مفيدة >> ( أبو هالل العسكري ؛ الفروق ص )
موقف المحدثن :
31
تكاد تنعقد كلمة المحدثين على االعتراف بظاهرة الترادف من منطلق الواقع اللغوي ولكن في
إطار معتدل من غير إسراف وال تقتير لذلك فهم يشترطون لقبوله جملة من الشروط منها :
-االتفاق التام أو باألحرى اإلجماع حول دالالت األلفاظ التي تبدو مترادفة عند جميع
الناطقين باللغة .
-اتحاد المجتمع اللغوي أو القبيلة إذ إن كثيرا من الترادفات تعود إلى أن اللغة العربية
مكونة من عدة لهجات .
-اتحاد العصر المقصود بالدراسة ألن اللغة كما رأينا تتصف بالحركية والتغير من
منطلق اجتماعيتها ،ومن ثم فإن بعضا من المترادفات قد يعزى إلى التغير الداللي
للكلمات.
ويمكن االنتباه هنا إلى أن هذا الفريق أفاد من منهج اللسانيات البنيوية التي توجب دراسة
اللغة آنيا وتاريخيا ،وال يمكن النظر إليها في حالتها المتحركة .
وهناك من أنكر وجود الترادف من المحدثين كالدكتور محمود فهمي حجازي ولكن
بصورة أقرب إلى االعتدال حيث ال ينفي الترادف إجماال وإنما ينفي التطابق التام في
المعنى وظالل المعنى بين الكلمات ،ونجد كذلك اللساني األمريكي بلوم فيلد الذي ينفي
أن يكون هناك تطابق تام وحقيقي بين الكلمات .
و في األخير فإنه يتبين من استعراض واقع اللغة من جهة ،وآراء الباحثين القدامى
والمحدثين أنه من غير المعقول إنكار وجود الترادف إنكارا تا ًّما كما أنه من غير المعقول
كذلك االعتراف بوجوده من غير شروط وضوابط ،وبخاصة في اللغات الهجينة كالعربية.
أسباب وقوع الترادف في العربية :يمكن إيجاز أهم أسباب الترادف في اآلتي :
-كون العربية تعود إلى لهجات متعددة انصهرت في لهجة قريش.
-التباس المعاني الحقيقية بالمعاني المجازية وتدوينها في المعاجم من غير تمييز بين ما
هو حقيقة وما هو مجاز .
-التغير الداللي وتدوين المعجم في عصور متباعدة.
-التباس األسماء بالصفات على واضعي المعاجم وتدوينها على أنها أسماء .
-وجود المعرب والدخيا وما تسرب إلى العربية من اللغات األخرى وبخاصة الفارسية.
-افتقار الرسم إلى النقط و اإلعجام مما يجعل الكلمات المتقاربة في رسمها تبدو كأنها
مترادفات ثم ينتقل الخطـأ.
-الجوازات الشعرية وحاجة المتكلمين إلى الموسيقى واإليقاع وما ينجم عن ذلك من
تساهل في التصرف .
ثانيا /المشترك اللفظي:
هو العالقة العكسية للترادف أي اجتماع معنيين فأكثر في لفظ واحد ،أو داللة لفظ
واحد على أكثر من معنى ؛ قال سيبويه << :اعلم أن من كالمهم ما اتفق لفظه
واختلف معناه >> ( سيبويه ؛ الكتاب ، ، ) 7/1 ،ويدل وقوعه في أول الكتاب على
اهتمام صاحب الكتاب به وهي مسألة منطقية لما لالشتراك من عظيم األثر على اللغة
اللتزام
ٍّ فهما وإفهاما خاصة عند علماء التفسير حين يكون االختالف في الفهم موجبا
32
عقدي أو فقهي ؛ وقد عرفوه بأنه << اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر
داللة على السواء عند أهل تلك اللغة >> ( السيوطي ؛ المزهر . ) 369/1
ولم يكن المشترك أحسن حاال من الترادف حيث اختلف حوله اللغويون بين منكر
متعسف ومثبت مستميت ؛ فقد أثبته وبالغ في قبوله ك ٌل من ابن فارس وابن خالويه ،
وأنكره ابن درستويه ،ومما يدل على أهميته كثرة ما كتب فيه حيث نجد له في
الدرس العربي :
-ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد للمبرد.
-ماتفق لفظه واختلف معناه البن خليد ( ت240هـ) .
-الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لمقاتل سليمان البلخي ( ت150هــ).
-الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لهارون بن موسى األزدي األعور ( ت 170هـ )
-الوجوه والنظائر للدامغاني .
وغير ذلك مما جاء مفردا في كتاب أو كان جزءا من كتاب ؛ كما في اإلتقان
للسيوطي ،أو المنجد في اللغة لكراع النمل الهنائي ( ...ينظر :خليفة بوجادي ؛
محاضرات في علم الداللة ،ص.) 57
وحجة من أنكر وجوده في اللغة هو أن اللغة وضعت لإلبانة ،واإلشارة إلى
المختلفات بالمشير الواحد ينافي ذلك ،أما حجة من أثبته فهي منطقية كذلك ألنهم
يحتجون بكون األلفاظ محدودة ألنها مكونة من األصوات وهي محدودة ،والمعاني
( ممدودة إلى غير نهاية فلزم أن يقع االشتراك لضرورة التعبير عن كل المعاني
ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ،ص .) 157
أما المحدثون فقد أثار اهتمامهم المشترك كذلك ؛ يقول بالمر ... << :وليست
الكلمات المختلفة فقط هي التي لها معان مختلفة ،لكن القضية هي أن الكلمة نفسها قد
يكون لها مجموعة من المعاني المختلفة ،وهذا هو المشترك اللفظي >>
( بالمر ؛ علم الداللة ،ص 101نقال عن خليفة بوجادي ؛ محاضرات في علم الداللة
ص. ) 56
من أسباب وقوع المشترك:
-كون األلفاظ محدودة والمعاني ليست كذلك.
-تداخل الحقيقة مع المجاز.
-تداخل بعض الكلمات العربية مع الكلمات الدخيلة.
-سوء الفهم ثم االنتشار الخاطئ .
-التغير الداللي.
نماذج من المشترك اللفظي :العين
عن كراع النمل :
العين مطر يدوم خمسة أيام ال يقلع ،وعين كل شيئ خياره ،وعين القوم ربيئتهم
الناظر لهم ،والعين عين الشمس.
عن أبي عبيدة :
العين الذهب ،ووعين الماء ،ونفس الشيئ ،والعين النقد ،والعين الباصرة
وعن أبي العميثل :
33
العين النقد من دنانير ودراهم ،والعين مخرج الماء ،والعين عين الميزان ،والعين
ما عن يمين القبلة ( .ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ،ص . ) 153
ثالثا /المتضاد:
يطلق هذا المصطلح على نوعين من العالقات الداللية:
األول إطالق لفظين مختلفين مبنى على معنيين متناقضين وهذه العالقة لم تلق اهتماما
كبيرا من الباحثين قديما وحديثا لبساطتها ووضوحها.
الثاني وهو المقصود هنا هو نوع من المشترك اللفظي يصل إلى حد التناقض وهو أن
يدل اللفظ الواحد على المعنى ونقيضه ،ذكره المبرد تحت تسمية " ما يقع على شيئين
متضادين " ،وسماه ابن فارس " اختالف األضداد " ،وأورده الثعالبي تحت " تسمية
المتضادين باسم واحد " ،وقد حظي موضوع التضاد بعناية كبيرة عند القدامى خاصة
الستغالله مطية من قبل الشعوبية لالنتقاص من العربية ،إال أن أغلب اللغويين عدوه من
سنن العربية ،وهو عنوان من عناوين بالغتها الكثيرة ،حيث يكون فيه اعتداد ٌ بالمتلقي
وقدرته على االهتداء إلى المعنى المقصود من السياق ،وتعود أهميته زيادة على ذلك
لورود بعض األلفاظ المتضادة في القرآن الكريم وتوقف الفهم في بعض القضايا الفقهية
على دالالتها كلفظ القرء الذي يفيد معنى الحيض ،والطهر معا .
ومن األمثلة على التضاد في العربية لفظ الصريم الذي يدل على الليل والنهار ،
و الجون الذي يدل على البياض والسواد ،والسدفة التي تدل على الضياء والظالم ،
والجلل الذي يدل على العظيم والحقير .
وممن أنكر وجوده بحجة أنه يتنافى مع الوظيفة األساس في اللغة وهي اإلبانة ابن
درستويه حيث يقول <<:إنما اللغة موضوعة لإلبانة عن المعاني ،فلو جاز وضع لفظ
واحد للداللة على معنيين مختلفين أو أحدهما ضدُّ اآلخر لما كان ذلك إبانة بل تعمية
وتغطية >> ،ووقف موقفه تاج الدين األرموي حيث يقول في الحاصل << :إن
النقيضين ال يوضع لهما لفظ واحد ألن المشترك يجب فيه إفادة التردد بين معنييه ،
والتردد في النقيضين حاصل بالذات ال من اللفظ >>
من أسباب وقوعه في العربية:
يعود وجود التضاد في العربية إلى عوامل كثيرة منها :
-تداخل اللهجات المكونة للفصحى.
-التداخل بين الحقيقة والمجاز قبل عصر التدوين وإثبات ذلك في المعجم.
-األسباب النفسية واالجتماعية كالتفاؤل والتلطف وغيرها كما في لفظ السليم والبصير
داللة على اللديغ واألعمى ،والفتح داللة على الغلق ،والربح داللة على الملح ...
-الصيغ الصرفية الدالة على المتضادين مثل مختار اسما للفاعل والمفعول ،ومغتاب
....
-التغير الداللي وانتقال الداللة.
-عوامل التأثر باللغات المجاورة كاالقتراض.
-التغيرات الصوتية في بع"ض األلفاظ .
34
والذي نستفيده من دراسة هذا الموضوع -العالقات الداللية -هو أن اختالف
اللغويين فيه عائد إلى زاوية النظر التي نظر منها ك ُّل فريق إلى الموضوع ؛ فالذين
نظروا إليه من الواقع اللغوي وجدوه حقيقة لغوية ال محيد من االعتراف بها ،والذين
نظروا إليه من الوجهة المنطقية النظرية ،لم يجدوا في المنطق ما يوجب اختالف
الدوال على المدلول الواحد أو اجتماع المدلوالت المتعددة في الدال الواحد.
36
أ /سياق الموقف :هو الوضع العام الذي يؤدى فيه الحدث الكالمي مكانا وزمانا وظروفا ؛
حيث يوجه هذا الوضع داللةَ المنطوق إلى معنى قد ال يكون من داللته المعجمية أو التركيبية
،وإنما هو أقرب إلى تواضع جديد يفرضه السياق ،وهذه أمثلة على ذلك :
-عبارة " شكرا" تقولها ممتنًّا لمن أسدى إليك معروفا على أصل التواضع
واالستعمال.
ث أطنب في الكالم ،وقد قصدت توقيفه بأدب. -وتقولها لمتحد ٍّ
-ويقولها متحدث إعالنا منه على أنه فرغ من كالمه.
فهي تأخذ داللتها من سياقها وهو سياق متغير.
وعبارة " ربي يسهل" تقولها قاصدا الدعاء بالتسهيل ،وتقولها لمتسول ألح في السؤال
وتكون ضمنتها معنى " :دعني" ولكن بلطف.
وعبارة " ربي يهديك" تقولها لمن تحب له الخير قاصدا طلب الهداية .
وتقولها لمن قال هجرا من الكالم وقصدك به ،وقد حملت العبارة معنى أني ال أنزل
بمستواي إلى مستواك ،من باب التوبيخ والتقريع.
ب /السياق العاطفي:
يتحدد معنى السياق العاطفي من حدي العاطفة وهما منتهى الحب ،ومنتهى الكره حيث
يعكس اختيار المتحدث إحدى المرادفات درجة االنفعال العاطفي المصاحبة لألداء الكالمي،
فبين مفردات الحب مثال ؛ حيث المعنى في "أريد" غيره في "أشتهى" ،وهو في " أعشق "
غيره في " أهيم" ،...وكذلك الداللة في "أكره" غيرها في "أبغض" وهي في "أمقت" غيرها
في أختيها السابقتين ،وكل اختيار يعكس مستوى من االنفعال العاطفي ،كما أن داللة الفعل
" أحبُّ " مقصودا به الذات اإللهية غيره مقصودا به الوالدين ،غيره بين الرجل والمرأة ،
وكذا فعل الكره معنيا به األشخاص غيره وهو معني به األشياء و هذه الدالالت كلها تحملها
العبارة الواحدة وتوجهها السياقات العاطفية المختلفة .
ي ،وهو مرتبط بثقافةج /السياق الثقافي :ومما يسهم في توجيه الداللة كذلك السياق الثقاف ُّ
مستعمل اللغة ؛ كالمهنة ،والطبقة االجتماعية ،ودرجة التحضر أو البداوة ،وغير ذلك مما
َيسم المتكلم بخصوصية ذات أثر على االختيارات اللغوية المتاحة و ،ومثال ذلك لفظ "
الجذر" نسمعها من أستاذ الرياضيات أو أستاذ اللغة أو نسمعها من عالم النبات ،وفي كل
مرة تأخذ معنى غير المعنى األول .
أو لفظ " الخط " نسمعها من طالب أو أستاذ ،ونسمعها من مسؤول في مديرية الهاتف ،أو
نسمعها من مسؤول في مديرية النقل؛ وفي كل سياق لها معنى.
38
-حقل خلق اإلنسان :كتب فيه النضر بن شميل ( ت 204هـ) ،قطرب ( 206هــ) ،
أبو عبيدة ( 210هــ) ،األصمعي ( 215هــ ).
-حقل الخيل :كتب فيه أبو عبيدة واألصمعي
-حقل الحشرات :كتب فيه أبو عبيدة كتاب " الحيات والعقارب " ،واألصمعي كتاب
النحل والعسل ،أحمد بن حاتم (231هــ) كتاب الجراد ،أبو حاتم السجستاني :
كتاب :الحشرات والجراد والنحل والعسل ( .ينظر :خليفة بوجادي محاضرات في
علم الداللة ،ص .) 79
ولعل استواء نظرية الحقول الداللية على الصورة النظرية التي انتهت إليها يشي
بمثل هذا السبق إذ البد لكل عمل متقن من أصول وبدايات ،تماما كما الحال في
النظرية السياقية التي نجدها صدى لكتابات الكثير من اللغويين والبالغيين العرب ،
وال يخفى حديث الجرجاني في دالئل اإلعجاز أو الجاحظ في البان والتبيين ،أو
السكاكي في المفتاح ،أو غيرهم من أهل اللغة والبالغة عن أهمية السياق من غير أ ْن
نهمل جهود مفسري القرآن الذين أعملوا السياق في فهم كثير من النصوص ،
وبخاصة حديثهم عن أسباب النزول.
النظرية الوظيفية :هي إحدى تمظهرات الفكر البنيوي الموروث من حلقة براغ التي
بعنوان استغلت أفكار دي سوسير حيث ظهرت تطبيقاتها األولى عند تروبتسكوي
، principe de phonologieثم ظهرتأخيرا عند Andrie Martinetالذي يمكن أن
يوصف بأنه امتداد لتروبتسكوي الشتراكهما في النظر إلى الوحدات اللغوية معزولة عن
التركيب وتوجيه العناية في البحث إلى الجانب الوظيفي الداللي للوحدات والمقاطع الصوتية
؛ وهي << تتخذ المعنى مقياسا ها ًّما في تحليلها للنصوص اللغوية ،وتعتبر أن المعنى
يتغير بتغير اللفظ ،وهذا يقتضي شيئين في الحقيقة ،إذا تغير المعنى فال بد أن يتغير اللفظ ،
وإذا ثبت على حال واحدة فال بد أن يثبت المعنى كذلك >> ( خولة طالب اإلبراهيمي؛ مبادئ
في اللسانيات ،دار القصبة للنشر ،الجزائر 2000 ،م ص .)86:ويمكن القول أن النظرية
الوظيفية تنظر إلى اللغة من خالل وظيفتها األساس ،وهي الوظيفة التواصلية اإلبالغية ،
وبعد ذلك فإن للوظيفية مبدأين :
– 1مبدأ الخطية :ومفهومها هو أن اللغة البشرية تخض لتتالي الزمني ،أي أن المنطوق
اللغوي ليس إال إنتاج الوحدات الصوتية متتابعة في الزمن ؛ حيث ال إمكانية لنطق صوتين أو
أكثر في لحظة زمنية واحدة ،ما يعني ضرورة الترتيب وأن الداللة اإلفرادية وقف على ذلك
الترتيب حيث ال فرق -مثال -بين " ق ْم ٌع " و" عق ٌم " إال ترتيب الوحدات الصوتية.
-2التقطيع المزدوج :وهو إمكانية تقطيع السلسلة الكالمية إلى مستويين ؛ األول هو مستوى
الوحدات الدالة ،والثاني مستوى الوحدات غير الدالة ،فعبارة " :فهم محمد درسه " -مثال
–يمكن تقطيعها كالتالي :
-المستوى األول (الوحدات الدالة ) :فهم +محمد +درس +ــــــه
-المستوى الثاني ( الوحدات غير الدالة ) :ف +ـــــَـ +ه +ــــــــ +م +ـــَـــ +د
+ــــــ َ +ر +ــْــــ +س +ــــــــ َ +ه+ــــــ
39
والتقطيع المزدوج إنما يورد كخاصة من خصائص اللسان البشري من جهة ،وعلى
أنه مظهر لوظيفية الوحدات اللغوية من جهة أخرى ؛ حيث يترتب عن كل تغيير
في إحدى الوحدات الصوتية تغيير في المعنى الذي تدل عليه .
النظرية السلوكية :تعنى النظرية السلوكية التي تنسب إلى اللساني األمريكي
Bloomfieldببواعث إنتاج اللغة التي تردها إلى السلوك جريا وراء قانون العلوم المادية
الذي يرى أن جميع األفعال هي استجابات لمنبهات ما ؛ ولذالك فإن النظرية ترى أن اللغة
هي كذلك مشمولة بهذا القانون ،وال ينتج اإلنسان اللغة إال تحت تأثير منبه ما إذا لم يكن
خارجيا فهو داخلي مغفلة بذلك كل حديث عن الذهن أو العقل ،أو الفعل اإلرادي ،ومن
أسسها كذلك أنها ترى في اللغة سلوكا يتعلم عمليًّا ال نظريا ًّ ،أي أنها تكتسب من خالل
النماذج السلوكية ،وليس التواصل اللغوي عند السلوكيين إال استجابات لمؤثرات ما ،وفي
العموم فإن بلوم فيلد وفي محاولة منه لتجاوز الفهم الذهني للغة والنظر إلى الداللة من خالل
السلوك اللغوي القابل للمالحظة << عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه الموقف الذي ينطقها
المتكلم فيه ،االستجابة التي تستدعيها من السامع ؛ فعن طريق نطق صيغة لغوية يحث
المتكلم سامعه على االستجابة لموقفٍّ ،هذا الموقف وتلك االستجابة هما المعنى اللغوي
للصيغة>> ( فهمي زيدان ،في فلسفة اللغة ص. )61
ولكن النقد الذي وجه إلى هذه النظرية هو أن اللغة ال يمكن أن تكون كلها نفعية بالشكل
الذي مثل به أصحاب النظرية من خالل تجربة جيل الجائعة وإمدادها بالتفاحة ؛ إ ْذ إن كثيرا
من مظاهر اللغة غير نفعي ٍّ ،وال تواصلي ٍّ أصال كحديث اإلنسان إلى نفسه أو تغنيه وإنشاده
أو ما يمكن أن يدخل تحت الوظائف غير اإلبالغية للغة ،وفضال عن ذلك فإن اللغة إنما تفهم
في السياق الذي ترد فيه ما يعني أن نقل الملفوظ من سياق إلى آخر كثيرا ما يعرضه لفقدان
داللته أو تغيرها .
40
فهرس الموضوعات
الموضوع .......................................................الصفحة
مدخل عام02 ......................................................
محاور المقياس 03..................................................
بعض المراجع في المقياس04........................................
تمهيد05............................................................
الداللة عند القدماء ( الهنود واليونان )07............................
الداللة عند القدماء ( العرب والمسلمون ) 11.......................
علم الداللة الحديث المصطلح والمفهوم 15..........................
الدليل اللساني المصطلح والمفهوم 17...............................
أنواع الداللة وأنواع المعنى21.......................................
عالقة علم الداللة بالعلوم اللغوية 26................................
عالقة علم الداللة بالعلوم غير اللغوية 32...........................
التغير الداللي أسبابه مظاهره36....................................
العالقات الداللية 42...............................................
نظريات التحليل الداللي ...................................
49.....
فهرس الموضوعات57.............................................
41