Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 41

‫وزارة التــعــليم العــالي والبحث العـــــلمي‬

‫جامعة قــاصدي مرباح ورقـــلة‬

‫كلــيَّــــــــــــة اآلداب واللُّـــــــــغات‬

‫قسم اللغة واألدب العربي‬

‫مستند تعليمي في مقياس علم الداللة‬

‫طـــلبـة ليسانس اللغة واألدب العربـــي‬

‫السنة الثانية تدرج ‪ :‬تخصص اللغة‬

‫إعداد الدكتور عبد الناصر مشري‬

‫السنة الجامعية ‪2016/2015‬‬

‫‪1‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم والصالة والسالم على رسول هللا محمد وآله‬

‫هذه محاضرات في مقياس علم الداللة قدمتها لطلبة التدرج في جامعة قاصدي‬
‫مرباح ورقلة على امتداد سنوات ليست طويلة ‪ ،‬ولكنها كافية لنقل تجربتي في‬
‫تدريس مقياس علم الداللة أقدمها اليوم للطلبة األعزاء في شكلها الذي تلقاها به‬
‫زمالؤهم ممن سبقوهم ؛ أعني أنها في شكل دروس يومية لم أستهدف بها التأصيل‬
‫المنهجي والتوثيق العلمي األكاديمي المحض بقدر ما رميت إلى توصيل المعلومة‬
‫من أيسر طريق ‪ ،‬وتقديم المقياس بشكل يحببه إلى الطلبة ويجعلهم يقبلون على‬
‫صد مظانه رغبة وفضوال علميًّا ؛ ذلك ألن‬ ‫مباحثه برغبة ذاتية تدفعهم إلى تَقَ ُّ‬
‫مقياس علم الداللة يختلف عن كثير من المقاييس من جهة جدته على الطلبة ألنه ال‬
‫يدرس في الثانويات ‪ ،‬ومن جهة شموله وإلمامه بأغلب علوم اللغة إذا لم تكن كلها‬
‫‪ ،‬وإذ أقدمه بهذا الشكل المتواضع وغير المستوفي لظروف آنية عابرة فإني‬
‫أعدهم بإعادة تشذيبه و دعمه بالنصوص التطبيقية في القريب العاجل بإذن هللا‬
‫تعالى‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫مدخــل عام‪:‬‬

‫تستمدُّ الداللة حضورها في الفكر اإلنساني عامة من أهمية اللغة ذاتها ؛ ذلك أن اجتماعية‬
‫اإلنسان التي هي في حكم المسلمة إنما تتحقق باللغة في المقام األول ‪ ،‬وأهمية اللغة في‬
‫كفاءتها الداللية؛ أي في قدرتها على حمل المعنى ؛ لذلك فإن المباحث الداللية قبل أن تكون‬
‫مفاهيم لسانية خالصة هي مفاهيم فكرية باألساس ‪ ،‬لذلك فإن الداللة في مفهومها العام هي‬
‫أ ُّم القضايا في الفكر اإلنساني كله ‪ ،‬بل إنها قضية اإلنسان األولى من حيث اتصالها بالفكر‬
‫اإلنساني وبحاجة اإلنسان إلى الفكر وإلى التواصل ‪ ،‬ومن ثم فإن أي حديث عن تاريخ الداللة‬
‫هو حديث عن تاريخ اإلنسان ووجوده‪ ،‬لذلك فإن البحث الداللي كان حاضرا في كل ما‬
‫وصل إلينا من الحضارات اإلنسانية بدءا بالحضارة اليونانية والهندية ثم الحضارة العربية‬
‫اإلسالمية وانتهاء بالحضارة الغربية ‪ ،‬أما حضورها في العلوم عامة والعلوم اإلنسانية‬
‫بخاصة فتستمده من حاجة جميع هذه العلوم إلى المصطلح الذي هو مفهوم لساني وداللي قبل‬
‫أي نسبة أخرى ‪ ،‬لذلك فإن العلوم جميعها في حاجة إلى تحديد مصطلحاتها أي إلى ضبط‬
‫العالقة بين المفاهيم واأللفاظ الدالة عليها‪.‬‬

‫هذا عن المفهوم العام للداللة أما عن علم الداللة فإنه لم يتبلور علما قائما بذاته إال في‬
‫أواخر القرن التاسع عشر مع اللساني الفرنسي ميشال بريال سنة ‪1883‬م على أنه قطاع من‬
‫الدرس اللساني يتناول موضوع المعنى اللغوي تحت مسمى علم الداللة أو علم الدالالت‬
‫الذي هو الترجمة العربية للمطلح الفرنسي‪ sémantique‬ذي األصل اليوناني ‪sémantiké‬‬
‫ومعناه ‪ :‬يد ُّل أو يعني ‪ ،‬وجذره كلمة ‪ séma‬أي اإلشارة ‪.‬‬

‫وموضوع هذا العلم هو المعنى المحمول على الصوت اللغوي في كل المستويات اللسانية‬
‫والسياقات المختلفة وأهم المحاور التي يتناولها مقياس علم الداللة هي ‪:‬‬

‫الداللة عند اليونان والهنود‬ ‫‪-‬‬


‫الداللة عند العرب والمسلمين‬ ‫‪-‬‬
‫علم الداللة المصطلح والمفهوم‬ ‫‪-‬‬
‫الدليل اللساني المفهوم والخصائص‬ ‫‪-‬‬
‫‪3‬‬
‫أنواع الداللة وأنواع المعنى‬ ‫‪-‬‬
‫عالقة علم الداللة بالعلوم اللغوية‬ ‫‪-‬‬
‫عالقة علم الداللة بالعلوم غير اللغوية‬ ‫‪-‬‬
‫التطور الداللي ‪ :‬ماهيته ‪ ،‬أسبابه ‪ ،‬مظاهره‬ ‫‪-‬‬
‫العالقات الداللية ‪ :‬الترادف ‪ ،‬المشترك ‪ ،‬التضاد ‪....‬‬ ‫‪-‬‬
‫نظريات التحليل الداللي‪ :‬نظرية الحقول الداللية ‪ ،‬النظرية السياقية ‪ ،‬النظرية‬ ‫‪-‬‬
‫الوظيفية ‪ ،‬النظرية التحليلية ‪ ،‬النظرية التحويلية التوليدية‬
‫علم الداللة وتحليل الخطاب‬ ‫‪-‬‬
‫علم الداللة والترجمة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫بعض المراجع في المقياس‬

‫الخصائص البن جني‬ ‫‪-‬‬


‫المزهر للسيوطي‬ ‫‪-‬‬
‫فقه اللغة للثعالبي‬ ‫‪-‬‬
‫الصاحبي البن فارس‬ ‫‪-‬‬
‫مقاييس اللغة البن فارس‬ ‫‪-‬‬
‫داللة األلفاظ إلبراهيم أنيس‬ ‫‪-‬‬
‫األصوات اللغوية‬ ‫‪-‬‬
‫علم الداللة العربي فايز الداية‬ ‫‪-‬‬
‫علم الداللة أحمد مختار عمر‬ ‫‪-‬‬
‫محاضرات في علم الداللة خليفة بوجادي‬ ‫‪-‬‬
‫‪4‬‬
‫اللغة العربية معناها ومبناها تمام حسان‬ ‫‪-‬‬
‫كتاب الزينة في الكلمات اإلسالمية الرازي‬ ‫‪-‬‬
‫دور الكلمة في اللغة ستيفن أولمان‬ ‫‪-‬‬
‫علم الداللة بالمر‬ ‫‪-‬‬

‫تمهيد‬
‫يتحقق التواصل بين الناس بحصول الفهم عند المخاطب وإدراكه المعنى الموجه إليه ؛ أي‬
‫حواس اإلنسان هي‬
‫ُّ‬ ‫طب المعنى المرسل إليه من قبل المخاطب ‪ ،‬ولما كانت‬ ‫باستيعاب المخا َ‬
‫جسوره للتواصل مع العالم الخارجي فإن أي تواصل ال بد أن يمر من خاللها ؛ لذلك فإن‬
‫العالمات و الرموز التي يمكن أن تحمل إلينا األفكار الخارجية هي إما عالمات بصرية‬
‫كالرايات و األلوان ودالالتها المتعددة ‪ ،‬أو عالمات سمعية كاألصوات الطبيعية أو الصناعية‬
‫أو أصوات الموسيقى ‪ ،‬ومنها األصوات اللغوية ‪ ،‬أو عالمات شمية كروائح العطور مثال ‪،‬‬
‫أو عالمات ذوقية كاألذواق المختلفة‪ ،‬أو عالمات حسية كاإلحساس بالبرودة أو الحرارة ‪،‬‬
‫أو النعومة والخشونة ؛ وهذه العالمات على كثرتها واختالفها يمكن تصنيفها من جهة إلى‬
‫مؤشرات ‪ ،‬ورموز ‪ ،‬وأدلـة‪:‬‬
‫‪-1‬المؤشر ‪ :‬هو الذي يحيل إلى معنى معين من غير قصد التبليغ كداللة ارتفاع درجة‬
‫الحرارة على الحمى أو داللة اصفرار النبات على عطشه أو مرضه‪.‬‬
‫صدًا وكانت بينه وبين معناه عالقة ما كرمز الصيدلية أو‬
‫‪-2‬الرمز‪ :‬هو ما أحال إلى المعنى ق ْ‬
‫رمز العدالة أو إشارات قانون المرور‪.‬‬
‫‪ -3‬الدليل‪ :‬هو ما أحال على معنى معين تواضعا من غير وجود عالقة بينه وبين معناه‬
‫ومثاله ألفاظ اللغة‪.‬‬
‫فيتضح من ذلك أن الرمز والدليل يختلفان عن المؤشر بوجود النية في التبليغ فيهما وغيابهما‬
‫فيه ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ومن جهة أخرى يمكن تقسيم العالمات إلى عالمات لغوية ‪ ،‬وعالمات غير لغوية ‪ ،‬تشكل‬
‫األخيرة مجال الدراسة في علم العالمات السيميولوجيا فيما تعدُّ األولى موضوع علم الداللة ؛‬
‫ومن هنا تتحدد العالقة بين العلمين بأنها عالقة جزء بكله من منطلق أن العالمات اللغوية‬
‫هي جزء من منظومة العالمات كلها ‪.‬‬
‫ولكل نوع من العالمات المذكورة أهميته ووظيفته التي ال تنكر ألن المعنى يمكن أن يحمل‬
‫على أنظمة وأنساق عديدة ومختلفة وكلُّها يقيم التواصل بشكل ما ‪ ،‬إال أن المنظومة اللسانية‬
‫هي األوسع استعماال واألكثر وظيفية ذلك أن اللسان هو الحامل األول للمعنى واألكثر فاعلية‬
‫في إقامة التواصل الذي يعد الوظيفة األولى له ‪ ،‬ويمكن القطع بأن الكالم هو قرين العقل في‬
‫<< الر ْح َمن‬ ‫تمييز اإلنسان عن باقي المخلوقات وقد قال هللا تعالى في سورة الرحمن ‪:‬‬
‫عد اختالف األلسن من اآليات على األلوهية فقال‬ ‫عل َمه البَيَانَ >> و َ‬ ‫عل َم الق ْرآنَ َخلَقَ اإل ْن َ‬
‫سانَ َ‬ ‫َ‬
‫اختالف أ َ ْلسنَتك ْم َوأ َ ْل َوانك ْم >> لذلك فإن‬
‫عز القائل الكريم في سورة الروم << َومنَ آ َياته ْ‬
‫علم الداللة يبحث في آليات انتقال المعنى المحمول على العالمة اللسانية في مستويات اللسان‬
‫المختلفة وفي السياقات المختلفة ‪.‬‬

‫المحاضرة األولى‪ :‬الداللة عند القدماء الهنود واليونان‬


‫لما كانت الداللة مرتبطة بالتواصل اإلنساني فهما وإفهاما لم يكن من المعقول ْ‬
‫أن تغيب‬
‫المباحث الداللية في الموروث اللغوي اإلنساني في اإلجمال ؛ وبخاصة األمم التي وصلنا‬
‫شيئ من حضارتها ‪ ،‬وال يمكن ْ‬
‫أن نتصور أن اإلنسان أيًّا كان لسانه لم يعرض ولو بالمستوى‬

‫‪6‬‬
‫العلمي البسيط الذي توفر للفكر اإلنساني في عصر ما لبعض القضايا اللسانية ؛ بل إن العكس‬
‫تماما هو الذي َيرد على الذهن كأن يتعذر التواصل بين بعض الناس ؛ وبخاصة عند اختالف‬
‫األلسن فتثور عندهم فكرة االرتباط بين اللفظ والمعنى مثال ‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أبدا أن علم‬
‫الداللة كان موجودا بقضاياه ومباحثه التي تشكل موضوعه في العصر الحديث ‪ ،‬وقد أثبت‬
‫كثير من الدارسين أن الهنود مثال كان لهم اهتمام بقضايا اللغة شغلتهم كثيرا عند تناول كتابهم‬
‫المقدس "الفيدا" ‪ ،‬كما كان للفالسفة اليونان آراء لغوية وداللية تعرضوا لها لدى تناولهم‬
‫قضايا المنطق واالستدالل وأسوار القضية الفلسفية مما يتصل بتحديد مفاهيم االصطالحات‬
‫وماصدقاتها وغير ذلك مما هو مبثوث في كتب الفلسفة اليونانية‪.‬‬
‫أوال ‪/‬الهنود‪:‬‬
‫َّ‬
‫لم يكن من الصعب على علماء اللغة بعد اكتشاف اللغة السنسكريتية في القرن الثامن‬
‫عشر أن يثبتوا أن المباحث اللغوية كانت حاضرة في الفكر الهندي القديم حيث كشف كثير‬
‫من الدارسين ومنهم جورج مونان في كتابه " تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن‬
‫العشرين" أن الحضارة الهندية القديمة اهتمت باللغة ولها علماء فيها وأن الكتاب المقدس‬
‫"الفيدا " كان محورا للدرس اللغوي تماما كما كان القرآن عند المسلمين باعثا للتفكير اللغوي‬
‫ومنطلقا لجميع العلوم اللغوية‪ ،‬وكان بانيني الذي عاش في القرن الخامس والرابع قبل الميالد‬
‫وضع كتابا في اللغة السنسكريتية سماه "المث َّمن" قيل إنه يشبه كتاب سيبويه ‪ ،‬ومن القضايا‬
‫الداللية التي تناولها الهنود‪:‬‬
‫نشأة اللغة ‪ :‬معلوم أن نشأة اللغة من القضايا التي شغلت بال الفالسفة وعلماء اللسان‬ ‫‪-‬‬
‫دهرا مديدا ولم نته أبحاثهم ونظرياتهم ‪-‬على كثرتها‪ -‬إلى ما يمكن أن يرقى إلى اليقين‬
‫العلمي مما جعل األكاديمية الفرنسية تمنع تدريس فقه اللغة في علوم اللسان ألنها رأت‬
‫بأنه موضوع فلسفي ال عالقة له بعلم اللسان الذي يقف عند حدود القضايا القابلة‬
‫للوصف والتحديد ‪ ،‬وقد شغل هذا الموضوع العلماء الهنود واختلفوا في أصل اللغة‬
‫فقال البعض بأنها تواضعية اصطالحية ‪ ،‬وذهب آخرون إلى أنها هبة من هللا ‪ ،‬وذهب‬
‫فريق ثالث إلى أنها نشأت محاكاة ألصوات الطيعة‪.‬‬
‫العالقة بين اللفظ والمعنى‪ :‬منهم من رأى أن العالقة بين اللفظ والمعنى عالقة حتمية‬ ‫‪-‬‬
‫إذا عرض األول عرض الثاني محتجا بأن المتصورات تدرك باأللفاظ ‪ ،‬وأن اإلنسان‬
‫ال يمكنه أن يفكر من غير ألفاظ ألن األلفاظ هي التي تحدد المفاهيم واألفكار وتميزها‬
‫‪ ،‬ومنهم من جعل العالقة بين اللفظ والمعنى طبيعية ناتجة من المحاكاة‪.‬‬
‫تقسيم الكالم‪ :‬قسم الهنود الكالم أربعة أقسام هي ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫عام كـــ ‪ :‬إنسان ‪،‬رجل ‪ ،‬امرأة ‪...‬‬
‫ما دل على مدلول ٍّ‬ ‫‪-‬‬
‫ما دل على كيفية ‪ :‬وهي ألفاظ الصفات كالطول والقصر والجمال والقبح وغير ذلك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ما دل على حدث ‪ :‬وهي األفعال كلها ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪7‬‬
‫‪ -‬ما دل على ذات ‪ :‬وهي األسماء كلها ‪ (.‬ينظر خليفة بوجادي محاضرات في علم‬
‫الداللة ص ‪ ،18‬وأحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ص ‪) 19:‬‬

‫ثانياًّ‪ :‬اليونان‪:‬‬
‫لم يتخلف الفكر اليوناني عن النظر في قضايا اللغة من منطلق أنها أداة الفكر وأن آلة‬
‫المنطق إنما تنتج األحكام المنطقية بعناصر اللغة مما جعلها ‪ ،‬أي عناصر اللغة ‪ ،‬موضوعا‬
‫للنظر والتأمل الفكري الذي تناول اللغة من حيث أصلها و عالقة اللفظ بالمعنى وما يتصل‬
‫بالمباحث الداللية ذات التمظهر الفلسفي؛ حيث كان لفالسفة اليونان جملة من اآلراء المختلفة‬
‫في كثير من القضايا اللغوية والداللية لعل أهمها مسألة العالقة بين اللفظ والمعنى التي رأى‬
‫؛أي أن لأللفاظ‬
‫فيها أفالطون خالل محاورته قراطيلوس وهيرموجين أنها عالقة طبيعية ْ‬
‫معنى الزما يرتبط بطبيعتها الذاتية حيث يرتبط اللفظ بمعناه بعالقة الحتمية وال يمكن للفظ أن‬
‫يحمل معنى غير المعنى الذي ارتبط به حيث جاء في المحاورة ‪:‬‬
‫<< ‪ ...‬هيرموجين ‪ :‬إن قراطيلوس الحاضر هنا يزعم يا سقراط أن هناك بالنسبة لكل شيئ‬
‫اسما منسوبا إليه بصورة طبيعية ‪ ،‬وأن هذا االسم ليس إال اسما أضفاه عليه بعض الناس‬
‫بواسطة اتفاق ‪ ...‬ولكن الطبيعة هي التي أضفت على األسماء معنى خاصا ‪ ،‬أما أنا يا سقراط‬
‫فال أستطيع أن أقتنع بأن صواب االسم شيئ آخر غير التواضع واالتفاق ‪ ،‬يبدو لي أنه مهما‬
‫كان االسم الذي يرمز لشيئ فإنه هو االسم الصحيح ‪ ،‬وأنه إذا ما وضعنا مكانه اسما آخر فقد‬
‫ي شيئ‬ ‫أعرضنا عن األول ‪ ،‬وأن الثاني ليس أقل صحة من األول ‪ ...‬وذلك ألنه ليس هناك أ ُّ‬
‫يأخذ اسمه من الطبيعة ‪ ،‬بل يأخذه من استعماله عادة أولئك الذين يستعملونه والذين خلقوا‬
‫عادة استعماله ‪ ،‬سقراط ‪ " :‬يتعين إذا تسمية األشياء ‪ ،‬كما أن من الطبيعي أ ْن نسمي‪ ،‬وأن‬
‫أن نكون على اتفاق مع‬ ‫تسمى بالوسيلة المالئمة وليس كما يحلوا لنا ‪ ،‬وذلك إذا ما أردنا ْ‬
‫الخالصات السابقة ‪ ،‬وبهذه الكيفية ننجح في التسمية وإال فال‪...‬ليس في وسع أي إنسا ٍّن ْ‬
‫أن‬
‫حق في القول بأن أسماء األشياء تشتق من طبيعتها وأنه‬ ‫ينشئ أسماء‪... ،‬إن قراطيلوس على ٍّ‬
‫ليس كل إنسان صانعا لألسماء ‪ ،‬بل ذلك وحده الذي تبقى عيناه مركزتين على االسم‬
‫أن يجسد الصورة في الحروف والمقاطع‪ ...‬إن االسم إذا ‪،‬‬ ‫الطبيعي لكل شيئ هو القادر على ْ‬
‫على ما يبدو ‪ ،‬محاكاة صوتية للشيئ المحاكى وذلك الذي يحاكي بواسطة الصوت يسمى‬
‫محاكي >>‬
‫وقد نقلنا النص على طوله ألهميته حيث يبدو فيه أن النقاش بين الفالسفة كان محتدما في‬
‫أصل اللغة الذي يمكن من النص أن يعزى إما إلى المحاكاة أو إلى التواضع ‪ ،‬وأن التواضع ‪-‬‬
‫عند التسليم به ‪ -‬ال يمكن أن يكون إال من نوع معين من الناس ولعل اإلشارة إلى الفالسفة‬
‫أنفسهم بوصفهم صفوة العلماء والمفكرين ‪ ،‬كما تستوقفنا في النص عبارة هامة هي قول‬
‫سقراط " إذا ما أردنا أن نكون على اتفاق مع الخالصات السابقة " التي تعني أن التواضع ال‬
‫‪8‬‬
‫أن يتجدد التواضع عليه ألن ذلك‬ ‫يكون إال في المستحدث من المعاني أما قديمها فال يمكن ْ‬
‫من شأنه ْ‬
‫أن يحدث القطيعة بين األجيال ‪ ،‬وهو ما يعبر عنه في علم الداللة الحديث بالتلقي‬
‫السلبي للغة ‪ ،‬أما أرسطو فقد رأى بأن عالقة اللفظ بالمعنى عرفية ناتجة عن اصطالح‬
‫الناس واتفاقهم ‪ ،‬كما حدد أنواع الكالم على أساس داللي حيث يستقل كل من الفعل واالسم‬
‫والحرف بقسم خاص به بنا ًء على داللته المغايرة لقسيميه ( ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم‬
‫الداللة ص‪ ، ) 17 :‬ومما يدرج في اهتمام الفالسفة اليونان بالداللة آراء بروكلوس ( القرن‬
‫الخامس للميالد ) في التغير الداللي حيث ربط بينه وبين التغير الحضاري والحظ أن التغير‬
‫الداللي يتخذ عدة أشكال منها توسيع الداللة وتخصيصها وأشكال المجاز المختلفة ‪.‬‬

‫الداللة عند العرب‬ ‫المحاضرة الثالثة ‪:‬‬


‫شك في أن اهتمام العرب بقضايا اللغة والداللة كان مرتبطا شديد االرتباط بالقرآن‬
‫ما من ٍّ‬
‫الكريم ‪ ،‬وأن الدرس اللساني العربي إنما نشأ في حضن الدراسات القرآنية ‪ ،‬تماما كارتباط‬
‫الدرس اللساني الهندي بكتابهم المقدس الفيدا ‪ ،‬حيث كانت الحاجة إلى فهم النص القرآني‬
‫تقضي باالهتمام بجميع الجوانب اللسانية ذات الصلة بالمعنى الذي كان المقصود األول ‪،‬‬
‫فكان الواحد منهم فقيها ولغويا وعالم أصول ومتكلما ؛ إذ لم تكن الحدود بين العلوم قد أخذت‬
‫شكلها النهائي ‪ ،‬وعناية العرب بالمعنى القرآني جعلتهم يطيلون الوقوف عند جميع الجوانب‬
‫المتصلة به ويصنفون كتبا بهذا العنوان كـ " معاني القرآن" للفراء‪ ،‬و" معاني القرآن " ألبي‬
‫عبيدة"‪ ،‬فاهتموا بالصوت اللغوي وأبدعوا فيه اإلبداع الذي ليس بعده وبخاصة علم األصوات‬
‫النطقي الرتباطه بالقراءات واعتمادها على األداء النطقي وألفوا في ذلك المصنفات الكثيرة ‪،‬‬
‫وقادهم البح ث في فهم النص القرآني إلى التأسيس لعلم المعجم العربي وقد كان الفراهيدي‬
‫رائدا في هذا العلم عندما ألف معجم العين في هدي الدرس الصوتي كذلك‪ ،‬وكذا ف َعل أحمد‬
‫‪9‬‬
‫بن فارس في " مقاييس اللغة " و الراغب األصفهاني في " مفردات القرآن" ‪ ،‬و"غريب‬
‫القرآن"‪ ،‬وألفوا معاجم سموها "الرسائل" تقوم على تصنيف األلفاظ حسب مجاالتها الداللية‬
‫كما هو معروف اليوم تحت مسمى نظرية الحقول الداللية ‪ ،‬كرسائل األصمعي وأبي عبيدة ‪،‬‬
‫طا استبيانا للمعاني اإلفرادية َوضبطوا‬ ‫وكراع النمل‪ ،‬كما أعجموا المصحف الشريف نَ ْق ً‬
‫المفردات بالحركة اإلعرابية وعالمات الوقف تمييزا للمعاني التركيبية ‪ ،‬وكان دليلهم في ذلك‬
‫‪ -‬بعد التوقيف النبوي ‪ -‬تمام المعنى المستفاد من المعاني التركيبة في السياقات المختلفة‬
‫ومعلوم أن المعاني التركيبية إنما هي حاصل تعليق المعاني اإلفرادية بعضها ببعض كم ا هو‬
‫معلوم كذلك أن المعنى اإلفرادي هو مضمون الوحدة الداللية التي هي موضوع علم الداللة‬
‫الحديث ‪ ،‬أما عن المجاز والبالغة فحدث عن البحر و ال حرج ‪ ،‬والمصنفات التراثية في‬
‫البالغة أظهر من أن يستشهد عليها ‪ ،‬كما وصلت إلينا كتب تناولت الظاهرة اللغوية بكثير‬
‫من الشمولية والدقة حيث عرضت لكثير من قضاياه بالدرس والتمحيص من مثل كتاب‬
‫الخصائص البن جني ‪ ،‬والمزهر للسيوطي و الصاحبي البن فارس ‪ ،‬والبيان والتبيين‬
‫للجاحظ ‪ ،‬فضال عن تصانيف النحو واإلعراب الذي شكل قطب الرحى في التراث اللغوي‬
‫كله حتى كاد أن يصرف الباحثين عما سواه ‪ ،‬كما كانت الداللة اللغوية في صميم اهتمام‬
‫الفالسفة واألصوليين وعلماء الكالم ؛ فأثاروا قضايا داللية عديدة ‪ ،‬كالحقيقة والمجاز ‪،‬‬
‫والخاص والعام ‪ ،‬وداللة النص وداللة السياق ‪ ،‬وتكلموا كثيرا في العالقات الداللية كالترادف‬
‫واالشتراك والتضاد ألن كل ذلك مرتبط باستنباط الداللة التي هي مناط التكليف الشرعي ‪،‬‬
‫النص القرآني وفهم معناه الموزع بين داللة المنطوق وداللة السياق ‪ ،‬كما‬‫ُّ‬ ‫وك ُّل ذلك مداره‬
‫تحدثوا في أنواع الداللة‪ ،‬وبحثوا أصل اللغة ‪ ،‬وعالقة الدال بمدلوله التي اختلفوا بشأنها‬
‫أربعة آراء ؛ يرى األول أن األلفاظ تد ُّل على المعاني بذواتها وهو رأي عباد بن سليمان‬
‫الصميري ‪ ،‬وهو رأي يبطله تعدُّد اللغات‪،‬ووجود الترادف في التضادُّ في اللغة الواحدة ‪ ،‬و‬
‫يرى الثاني أن األلفاظ تدل على معانيها بوضع هللا إياها وهو رأي جمهور المسلمين وفي‬
‫مقدمتهم فرقة األشاعرة ‪ ،‬و يرى الثالث أن األلفاظ تدل على المعاني باالصطالح بين الناس‬
‫قال ابن سينا << والداللة باأللفاظ إنما هي بحسب المشاركة اصطالحية >> ويقول ابن جني‬
‫<< هذا موضع محوج إلى فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو‬
‫تواضع واصطالح ال وحي وتوقيف >>‪ ،‬وقد صرح ابن جني بأنه رأي جمهور اللغويين ‪،‬‬
‫وكذا تكلموا في آلية اإلدراك والتواصل و غير ذلك من القضايا الداللية كما في النصوص‬
‫التالية ‪:‬‬
‫قال الفيلسوف الكبير أبو حامد الغزالي(‪ )505- 450‬في "معيار العلم" ‪ << :‬اعلم أن‬
‫المراتب في ما نقصده أربع‪ ،‬واللفظ في المرتبة الثالثة ؛ فإن للشيئ وجودا في األعيان ‪ ،‬ثم‬
‫في األذهان ‪ ،‬ثم في األلفاظ ‪ ،‬ثم في الكتابة؛ فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على المعنى‬
‫الذي في النفس والذي في النفس هو مثال الموجود في األعيان >>( معيار العلم ‪) 36، 35‬‬

‫‪10‬‬
‫وقال الجاحظ في البيان والتبيين‪... << :‬اعلم – حفظك هللا – أن حكم المعاني خالف حكم‬
‫األلفاظ ‪ ،‬ألن المعاني مبسوطة إلى غير نهاية ‪ ،‬وأسماء المعاني مقصورة معدودة ‪ ،‬ومحصلة‬
‫محدودة ‪ ،‬وجميع أصناف الدالالت على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء ال تنقص‬
‫وال تزيد؛ أولها اللفظ ‪ ،‬ثم اإلشارة ‪ ،‬ثم العقد ‪ ،‬ثم الخط ‪ ،‬ثم الحال التي تسمى نصبة ‪...‬‬
‫والنصبة هي الحال التي تقوم مقام تلك األصناف‪..‬ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة‬
‫من صورة صاحبتها وحلية مخالفة لحلية أختها >> ( الجاحظ ؛ البيان والتبيين ‪ ،‬تح عبد‬
‫السالم هارون ‪ ،‬دار الجيل بيروت ‪ ،‬لبنان ‪ ،‬د‪.‬ت ‪.) 75 /1،‬‬
‫وقال كذلك في اعتضاد اللغة باإلشارة ‪ << :‬و اإلشارة واللفظ شريكان ‪ ،‬ونعم العون هي‬
‫له ‪ ،‬ونعم الترجمان هي عنه‪ ،‬وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط ‪ ...‬ولوال‬
‫اإلشارة لم يتفاهم الناس ‪...‬وحسن اإلشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان >> ( نفسه‬
‫‪. ) 84/1‬‬
‫وقال ابن سينا في الشفاء << إن اإلنسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور األمور‬
‫الخارجية وتتأدى عنها إلى النفس ‪ ،‬فترتسم فيها ارتساما ثانيا ثابتا وإن غابت عن الحس ‪،‬‬
‫ومعنى داللة األلفاظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى‪،‬‬
‫الحس على النفس التفتت إلى معناه‬
‫ُّ‬ ‫فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم فكلما أورده‬
‫>> ( الشفاء ص‪) 3.4‬‬
‫وفي أنواع الداللة يقول أبو هالل العسكري ‪... << :‬الداللة تكون على أربعة أوجه ؛ أحدها‬
‫ما يمكن أن يستدل به ‪،‬قصد ذلك فاعله أم لم يقصد ‪ ،‬والشاهد أن أفعال البهائم تدل على حدثها‬
‫وليس لها قصد إلى ذلك‪ ،‬واألفعال المحكمة داللة على علم فاعلها ‪ ،‬وإن لم يقصد فاعلها أن‬
‫تكون داللة على ذلك‪ ،‬ومن جعل قصد فاعل الداللة شرطا فيها احتج بأن اللص يستدل بأثره‬
‫عليه وال يكون أثره داللة ألنه لم يقصد ذلك ‪ ،‬فلو وصف بأنه داللة لوصف هو بأنه دال‬
‫على نفسه ‪ ،‬وليس هذا بشيئ ألنه ليس بمنكر في اللغة أن يسمى أثره داللة عليه ‪ ،‬وال أن‬
‫يوصف هو بأنه دال على نفسه ‪ ،‬بل ذلك جائز في اللغة معروف‪...‬والثاني العبارة عن‬
‫الداللة ‪ ،‬يقال للمسؤول أعد داللتك‪ ،‬والثالث الشبهة ؛ يقال داللة المخالفة كذا أي شبهته‪،‬‬
‫والرابع األمارات ؛ يقول الفقهاء ‪ :‬الداللة من القياس كذا‪ ،‬والدليل فاعل الداللة ولهذا يقال‬
‫لمن يتقدم القوم في الطريق دليل >> ( الفروق في اللغة ‪.) 59،60‬‬
‫ويقول حازم القرطاجني (ت ‪684‬ه) << ك ُّل شيئ له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك‬
‫حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه ‪ ،‬فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية‬
‫الحاصلة عن اإلدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين‬
‫وأذهانهم فصار للمعنى وجود آخر من جهة داللة األلفاظ‪ ،‬فإذا احتيج إلى وضع رسوم من‬
‫الخط تدل على األلفاظ لمن لم يتهيأ له سماعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في‬
‫‪11‬‬
‫األفهام هيئات األلفاظ فتقوم بها في األذهان صور المعاني فيكون لها أيضا وجود من جهة‬
‫داللة الخط على األلفاظ الدالة عليه >> ( منهاج البلغاء وسراج األدباء ‪ ،‬ص ‪) 19 ،18 :‬‬
‫وإنما أوردنا هذه الشواهد ليعرف الطالب أن المباحث الداللية كانت في صلب اهتمام‬
‫الفكر العربي ‪ ،‬وأن هذا الفكر كان يستلهم معطياته من حريته المطلقة التي لم تكن تنطلق من‬
‫نظريات سابقة أو خلفية علمية يمكن ْ‬
‫أن يبنى عليها بقدر ما كان رائدَها األول طلب الحقيقة‬
‫النظر اللساني والداللي العربي وسم‬
‫َ‬ ‫العلمية التي ال يمكن أن ينتجها إال الفكر المتحرر‪ ،‬وأن‬
‫بالشمول حيث لم يقتصر على جانب من جوانب الدرس اللغوي أو مستوى من مستويات‬
‫اللغة ‪ ،‬بل تناول كبريات القضايا اللغوية كأصل اللغة ‪ ،‬وآليات التواصل اللساني وميزَ بين‬
‫التواجدات المختلفة للمعنى وعالقته باللفظ الذي هو وعاؤه ‪ ،‬وحصر المعجم بمناهج علمية‬
‫جعلت اللفظ في المتناول تواصال ودراسة ‪ ،‬وبحث مسائل التركيب واالشتقاق واإلعراب ‪ ،‬وغير‬
‫ذلك من المباحث التي شغلت الفكر اإلنساني كله ماضيا وحاضرا‪ ،‬وكثيرا ما استعصت وثار حولها‬
‫أن يكون منطلقا لكثير‬‫النقاش واحتدم الخالف ‪ ،‬كما كان موسوما كذلك بالدقة العلمية التي أهلته ْ‬
‫من النظريات الداللية الحديثة التي ذكرت فضل الدرس العربي حينا وتنكرت له أحيانا‪.‬‬

‫المحاضرة الثالثة ‪:‬‬


‫علم الداللة عند المحدثين المصطلح والمفهوم‪:‬‬
‫الداللة لغة من الفعل دل يد ُّل بمعنى أرشد ووجه ‪ ،‬قال هللا تعالى << هل أدلكم على تجارة‬
‫تنجيكم من عذاب هللا>> سورة الصف اآلية ‪ 10‬و دله عليه داللة ودلولة فاندل أي سدده‬
‫إليه ومنه الدليل الذي يهدي إلى الطريق وكذلك تفعل الكلمات والرموز ألنها تهدي إلى‬
‫المعنى المقصود تبليغه ‪ ،‬وهي بمعنى إبانة الشيئ بأمارة تتعلمها كقولهم ‪ :‬دلَ ْلت فالنا على‬
‫الطريق أو الدليل الذي هو األمارة في الشيئ ‪ ،‬أو بمعنى االضطراب في الشيئ وتدلدل‬
‫الشيئ إذا اضطرب ينظر ‪ :‬ابن فارس ؛ مقاييس اللغة ؛ تح عبد السالم هارون ‪ ،‬دار الجيل ‪،‬‬
‫بيروت ‪ ،‬ط‪ ، 1991 ، 1‬مادة د‪.‬ل‪.‬ل‪.‬‬
‫اصطالحا ‪ :‬قال الشريف الجرجاني في تعريفها ‪ << :‬هي كون الشيئ بحالة يلزم من العلم‬
‫بها العلم بشيئ آخر‪ ،‬والشيء األول هو الدال ‪ ،‬والثاني هو المدلول >> الشريف الجرجاني‬
‫علي بن محمد ‪ ،‬التعريفات ‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ، 1971 ،‬ص‪ ، 56 ، 55‬وهو تعريف‬
‫جامع بين اللغة والسيميولوجيا ‪ ،‬ألن لفظ " الشيء" الذي وظفَه الجرجاني من ألفاظ العموم ؛‬
‫فهو يتضمن العالمة اللغوية وغير اللغوية ‪ ،‬وهذه الداللة هي داللة تواضعية ألن موضوع‬
‫أي‬
‫التواضع هو بالذات تخصيص حالة معينة في الشيء األول بحالة معينة في الشيء الثاني ْ‬
‫وضع يكون عليه الرمز أو يكون عليه الدليل اللغوي ليدل على معنى دون سواه بمحض‬
‫االصطالح واالتفاق من غير إلزام عقلي ؛ وهي إما داللة مطابق ٍّة ‪ ،‬أو داللة تضمن ‪ ،‬أو داللة‬
‫التزام ‪ ،‬وكل ذلك يدخل في الداللة الوضعية ألن اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع‬
‫له بالمطابقة وعلى جزئه بالتضمن وعلى ما يلزمه في الذهن بااللتزام ؛ كاإلنسان فإنه يدل‬
‫على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة ‪ ،‬وعلى جزئه بالتضمن وعلى قابل للعلم بااللتزام (‬
‫‪12‬‬
‫ينظر ‪ :‬السابق ) ‪ ،‬ويجب االنتباه إلى الفرق بين مصطلح الداللة ومصطلح المعنى ألن‬
‫الداللة غير المعنى حيث إن المعنى هو الحمولة التي يشحن بها الدليل أو الرمز وهي‬
‫المقصود تبليغها ‪ ،‬أما الداللة فهي ارتباط المعنى بالدليل الذي يرى علماء اللسان أنه يتكون‬
‫من دال ومدلول ال تعدو العالقة بينهما أن تكون اعتباطية مع وجود بعض االستثناءات‬
‫علم الداللة‪ :‬هو المقابل العربي للمصطلح األنجليزي ‪ semantics‬أو المصطلح الفرنسي‬
‫‪ sémantique‬الذي وظفه ألول مرة اللساني الفرنسي ‪ Michel bréal‬عنوانا لمقال له‬
‫سنة ‪ 1887‬وفي السنة نفسها أصدر كتابه الذي أسس به لعلم الداللة الحديث بعنوان ‪Essai‬‬
‫‪. de sémantique‬‬

‫المحاضرة الرابعة ‪:‬الدليل اللساني المصطلح والمفهوم‬

‫ذكرنا في المحاضرة السابقة أن موضوع علم الداللة هو البحث في الدليل اللغوي وآلية‬
‫حمله المعنى وأن ذلك هو صميم البحث الداللي المتخصص ‪ ،‬ومن غير ْ‬
‫أن نعيد للواجهة‬
‫البحث في جدلية اللفظ والمعنى التي تعدُّ مبحثا فكريا وفلسفيًّا أكثر مما هي مبحث داللي أو‬
‫أن نعرف الدليل اللغوي عند علماء اللسان والداللة حيث يرى دي‬ ‫ي يتعين ابتداء ْ‬‫لسان ٌّ‬
‫سوسير أن الداللة ليست عالقة لفظ ومعنى أو كلمة بشيئ ‪ ،‬ولكنها عالقة بين صورة ذهنية‬
‫للفظ بصورة ذهنية للمعنى ؛ ذلك أن الدليل اللغوي الذي هو موضوع علم الداللة يتكون من‬
‫مكونين اثنين هما الدال والمدلول ؛ وهما بمثابة وجهين لعملة واحدة ال يمكن فصل أحدهما‬
‫‪13‬‬
‫عن اآلخر‪ ،‬كما أن كال من الدال والمدلول يتكون من صورة حسية وأخرى ذهنية ؛ ففي‬
‫الدليل "شجرة" مثال ال تحيل اللفظة شجرة على الكائن المعروف " الشجرة " بهذا التسطيح‬
‫والبساطة ‪ ،‬وإنما الدال الذي هو لفظة "الشجرة " يتكون من الكيان الفيزيائي ممثال في‬
‫الصوت بوجوده الفيزيائي المحض وما يثيره سماع هذا الصوت في الذهن من وجود يمكن‬
‫أن يوصف بأنه كيان نفساني أو تصور ذهني ‪ ،‬وكذلك مدلول " الشجرة " إنما هو مجموع‬ ‫ْ‬
‫أن يعبر عنه بالصورة الحسية أو المرجع ‪ ،‬ونسخة ذلك المرجع‬ ‫وجودها العيني الذي يمكن ْ‬
‫في الذهن ‪ ،‬أو ما يمكن أن يسمى صورته الذهنية ؛ ذلك أن َملَكة اللسان في اإلنسان تقضي‬
‫بأن يحتفظ الذهن بنسخة من كل ما يقع تحت حسه وهي تثور في الذهن بإثارة الصورة‬
‫الذهنية للدال بوساطة صورته الحسية التي قد تكون مسموعة أو مرئية ‪.‬‬
‫الدال‬
‫الدليل اللغوي‬
‫المدلول‬

‫صورة حسية‬
‫الدال‬
‫صورة ذهنية‬

‫صورة حسية‬
‫المدلول‬
‫صورة ذهنية‬

‫ومن ثم فإن الداللة عند دي سوسير ليست ربط الصورة الحسية للمدلول بالصورة الحسية‬
‫ص ذلك‬‫لكل من الدال والمدلول كما لخ َ‬
‫للدال وإنما هي الربط بين الصورتين الذهنيتين ٍّ‬
‫تالمذته في المربع التالي ‪:‬‬

‫الصورة الحسية للمدلول‬ ‫الصورة الحسية للدال‬

‫الصورة الذهنية للمدلول‬ ‫الصورة الذهنية للدال‬

‫الداللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬

‫فهو يرى بأن الفهم والتواصل إنما يتم حين يجد الذهن مقابال مفهوميا للصورة الذهنية التي‬
‫أثارها اللفظ بمكونه الحسي الفيزيائي مقصيًّا بشكل كلي ٍّ المرجع من مجال الدراسة اللسانية‬
‫ألنه يعده كائنا غير لساني ٍّ ‪ ،‬وهو يلتقي في ذلك مع ابن سينا الذي حصر الداللة في اللفظ‬
‫المسموع والمعنى ‪ ،‬في حين يرى بييرس أن الداللة ثالثية األبعاد وهي تتكون من صورة‬
‫الدال وصورة المدلول والمرجع أما الغزالي فرأى بأن للشيئ وجودا في األعيان ووجودا في‬

‫‪14‬‬
‫األذهان ووجود افي اللفظ ثم وجودا في الخط ؛ فوجود الخط يحيل على وجود اللفظ واللفظ‬
‫يدل على وجود األذهان وماهو في األذهان مثال لما هو في األعيان ‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1923‬ظهر كتاب ‪ th meaning of meaning‬لصاحبيه ‪ritchards‬‬
‫و‪ ogdin‬الذي تضمن رؤية جديدة ترى ضرورة أن تؤ خذ العالقة بين األلفاظ واألفكار في‬
‫الحسبان عالقة العلمات بمراجعها التي تشكل البعد الثالث في التحليل الداللي ولخصا الفكرة‬
‫في المثلث التالي ‪:‬‬

‫المدلول‬

‫الدال‪ ....................‬المرجع‬

‫الخط المتصل إلى وجود بين عالقة المدلول بكل من الدال والمرجع ‪ ،‬ويشير‬ ‫ُّ‬ ‫حيث يشير‬
‫الخط المتقطع إلى انعدام العالقة بين الدال والمرجع ‪ ،‬وتسمى هذه النظرية بالنظرية اإلحالية‪.‬‬

‫خصائص الدليل اللساني‪:‬‬

‫‪ - 1‬المواضعة ( االصطالح )‪ :‬حيث يعد تخصيص دال بدليل فعال تواضعيا بين الجماعة‬
‫أي " جعل شيئ بإزاء شيئ آخر بحيث إذا فهم األول فهم الثاني " ‪ ،‬و " كأن واضع‬ ‫اللغوية ؛ ْ‬
‫اللغة قال إذا سمعتم هذا اللفظ فافهموا هذا المعنى" وهو اتفاق خاص بكل جماعة لغوية على‬
‫حدة ‪.‬‬
‫‪ - 2‬االعتباطية ( العشوائية ) ‪ :‬تستند خاصية االعتباطية إلى نظرية التواضع التي ترى‬
‫محض تواضع مما يرتب انعدام الحتمية بين الدال والمدلول أي‬ ‫َ‬ ‫تخصيص الدوال بمدلوالتها‬
‫أن عالقة الدال بالمدلول عشوائية يمكن تغييرها فلو أن العربي األول قال "برض " مكان‬
‫"ضرب" لما كان في ذلك ما يفسد التواصل فهما وإفهاما كما ذكر ابن جني ‪ ،‬إال أن تلقي‬
‫اللغة يكون سلبيا ؛ أي ال يجوز لمستعمل اللغة أن يعترض على التواضع القائم ‪ ،‬مخافة‬
‫وقوع القطيعة مع النصوص القديمة فقط ‪.‬‬
‫طق المتوالي‬ ‫ي النُّ ْ‬
‫‪ -3‬الخطــية‪ :‬مفهوم الخطية هو تتابع الوحدات اللسانية في الزمن ؛ أ ْ‬
‫لوحدات الدليل اللساني بحيث إذا تغير تتابع النطق تغير الدليل وترتب عنه تغير المدلول (‬
‫المعنى ) أو انعدامه إذا كان الدليل فارغا ؛ ففي اللفظ سأل تحتفظ السين بالرتبة األولى‬
‫والهمزة بالرتبة الثانية والالم بالرتبة الثالثة ولو تم التلفظ بالهمزة قبل السين لتغير المعنى‬
‫المعجمي تماما وكذلك في باقي األصوات ‪.‬‬
‫‪ – 4‬التقطيع المزدوج‪ :‬من المعلوم أن اللسان ليس تصويتا متصال يمتد ما امتد النفس ولكنه‬
‫ملفوظات متوالية بينها سكتات أو وقفات ‪ ،‬وأن السكتة هي التي تحدد معالم البداية والنهاية‬
‫في الجمل وقبل ذلك في األلفاظ وبما أن اللفظ هو الوحدة اللسانية األولى باعتبار قدرته على‬
‫حمل المعنى وباعتبار أنه هو موضوع التواضع واالصطالح فإن التقطيع المزدوج‬
‫ينحصر فيه ؛ حيث يقسم إلى مستويين‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫المستوى األول ‪ :‬هو تقسيم الجملة إلى وحداتها الدالة سواء أكانت وحدات معجمية خالصة أم‬
‫كانت وحدات صرفية ‪.‬‬
‫المستوى الثاني ‪ :‬هو تقسيم الوحدات الدالة إلى أصواتها األساسية السواكن والمتحركات ‪.‬‬
‫فهم الطالب درسه‬ ‫مثال ‪:‬‬
‫المستوى األول من التقطيع ‪ :‬فهم ‪ +‬الـــ ‪ +‬طالب ‪ +‬درس ‪ +‬ــــه‬
‫ف ‪ +‬ــــــــــ َ ‪ +‬ـــــــهــ ‪ +‬ـــــــــــــــــ ‪ +‬م ‪ +‬ــــــــَــــــــــــــ‬ ‫المستوى الثاني ‪:‬‬
‫‪..........‬إلخ‬

‫المحاضرة الخامسة ‪:‬‬


‫أنواع الداللة وأنواع المعنى‬

‫عرفنا في المحاضرات السابقة أن الداللة هي انتقال العقل من الدال ‪ -‬في صورته‬


‫المحسوسة المفضية إلى صورته الذهنية‪ -‬إلى المدلول ‪ -‬في صورته الذهنية المفضية إلى‬
‫صورته المحسوسة ‪ ، -‬وباختصار هي انتقال العقل من الدوال إلى مدلوالتها ‪ ،‬وفي هذه‬
‫المحاضرة نحاول أن نقف على آليات هذا االنتقال‪.‬‬
‫أوال ‪ /‬أنواع الداللة ‪ :‬أنواع الداللة من الموضوعات القديمة التي أثارها الفكر اإلنساني‬
‫وتناولها الفالسفة والمفكرون وعلماء الداللة ‪ ،‬وكان البحث قد انتهى بهم من خالل التقسيم‬
‫أن تقسم إلى داللة لفظية وداللة غير‬ ‫المنطقي لعالقة الدوال بمدلوالتها أن أنواع الداللة يمكن ْ‬
‫لفظية ‪ ،‬كما رأينا عند الجاحظ حين قسم الداللة إلى داللة الخط والعقد واإلشارة والنصبة ‪،‬‬
‫إال أن هذا التقسيم يمكن أن يدرج ضمن تقسيم أعم منه هو الداللة الوضعية ‪ ،‬والداللة العقلية‬
‫‪ ،‬الداللة الطبيعية ‪.‬‬
‫الداللة الوضعية‪ :‬هي المظهر اآلخر للنظرية التواضعية التي ترى أن أصل اللغة العرف‬
‫والتواضع وفيها ينتقل الفهم من اللفظ المسموع إلى المعنى المقصود عن طريق االتفاق‬
‫والتواضع ‪ ،‬تقوم على ثالثة مبادئ هي اللفظ المسموع ‪ ،‬والمعنى المقصود ‪ ،‬والعالقة‬
‫العارضة بينهما؛ وكأن واضع اللغة قال إذا سمعتم هذا اللفظ فافهموا هذا المعنى ‪ ،‬ويكون‬
‫أن يعرف ما اتفق عليه َمن‬ ‫اإلدراك األول لهذه العالقة بالتعلم ؛ إذ ليس في مقدور اإلنسان ْ‬
‫‪16‬‬
‫قبله من غير أن يتعلمه ممن سمعه وعلمه ؛ يقول المسدي في هذا المعنى ‪ << :‬ال يتسنى‬
‫للعقل البشري من تلقاء مكوناته الفطرية وال الثقافية أن يهتدي إلى إدراك فعل الداللة إال إذا‬
‫ألم سلفا بمفاتيح الربط بين ما هو دال وما هو مدلول ‪ ،‬وهذا اإللمام ليس بفعل الطبيعة وال هو‬
‫(‬ ‫من مقومات العقل الخالص ولكنه من المواضعات التي يصطنعها المجتمع >>‬
‫المسدي ؛ اللسانيات وأسسها المعرفية ‪ ،‬المطبعة العربية ‪ ،‬تونس ‪ ، 1986‬ص ‪ ، ) 52‬وعلى‬
‫هذا النوع من الداللة تخرج أغلب مفردات اللغة مع بعض االستثناءات عند من يرى ذلك‬
‫وبخاصة في أسماء األصوات التي يرجح أنها محاكاة ‪.‬‬

‫الداللة العقلية ‪ :‬هي الداللة التي يجد العقل فيها حتمية في االنتقال من الدال إلى المدلول ؛ أي‬
‫أن العالقة بين الدال والمدلول حتمية ال يستطيع العقل أن يربط الدال بغير مدلوله ‪ ،‬وهي‬
‫عالقة األثر بالمؤثر ؛ ويمثل لها عادة بداللة الدخان على النار حيث ال يمكن تصور دخان‬
‫من غير وجود نار ؛ وفيها << يتحول الفكر من الحقائق الحاضرة إلى حقيقة غائبة عن‬
‫طريق المسالك العقلية بمختلف أنواعها>> ( المرجع السابق ص‪ ) 47‬وهذه المسالك يمكن‬
‫إجمالها في ‪:‬‬
‫مسلك البرهان القاطع‪ :‬هو الذي يتقيد بقيود المنطق العقلي ‪ ،‬كأن تقول ‪ :‬تتلمذ ابن جني على‬
‫أبي علي الفارسي ‪ ،‬فتفهم وجوبا أن الرجلين تعاصرا‪.‬‬
‫مسلك القرائن الراجحة ‪ :‬هو االستدالل الظني ؛ حيث ينطلق العقل من مجموع قرائن تنتهي‬
‫به إلى نتائج ليست في وزان البرهان القاطع ؛ كأن ترجح أن الطالب غش في االمتحان من‬
‫قرينة حصوله على عالمة جيدة بالرغم من ضعف مستواه وكثرة غيابه ‪.‬‬
‫مسلك االستدالل الرياضي ‪ :‬يعني النتقال من المعلوم فرضا إلى المجهول تقديرا ‪ (.‬ينظر عبد‬
‫الجليل منقور ؛ علم الداللة ‪ ،‬اتحاد الكتاب العرب‪ ، 2001 ،‬ص ‪. ) 66‬‬
‫الداللة الطبيعية‪ :‬يعرفها التهانوي بأنها << هي داللة يجد العقل بين الدال والمدلول عالقة‬
‫طبيعية ينتقل ألجلها منه إليه ‪ ،‬والمراد من العالقة الطبيعية إحداث طبيعة من الطبائع ‪ ،‬سواء‬
‫كانت طبيعة اللفظ أو طبيعة المعنى أو طبيعة غيرهما ( عروض الدال عند عروض المدلول)‬
‫كداللة ( أح أح ) على السعال ‪ ،‬وأصوات البهائم عند دعاء بعضها بعضا ‪ ،‬وصوت‬
‫العصفور عند القبض عليه فإن الطبيعة تنبعث بإحداث تلك الدوال عند عروض تلك المعاني‬
‫؛ فالرابطة بين الدال والمدلول هنا هي الطبع >> ( كشاف اصطالحات الفنون ص ‪487‬‬
‫‪ ، 488،‬نقال عن خليفة بوجادي ؛ محاضرات في علم الداللة ص ‪.) 31‬‬
‫و مما يحسن التنويه إليه هنا هو أن الداللة الطبيعية هذه قد تختلف من مجتمع إلى آخر‬
‫وربما من شخص إلى آخر ‪ ،‬إال أن هذا ال يمنع من وجود بعض المشتركات اإلنسانية ؛ قال‬
‫اإلمام علي بن أبي طالب << ما أضمر أحد ٌ شيئا إال ظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه‬
‫>> لذلك فإن الذي يسلك ضمن هذا النوع من الداللة هو هذا المشترك كاحمرار الوجه أو‬
‫االرتعاش دليال على االرتباك ومن ثم الجناية ‪ ،‬أو ما يقترب من هذا المعنى ويشابهه ‪ ،‬علما‬
‫أن أرسطو أدرج الداللة الطبيعية ضمن الداللة العقلية ( السابق ‪ :‬ص‪.) 31‬‬
‫ثانيا ‪ /‬أنواع المعنى ‪:‬‬
‫المعنى هو الحمولة الداللية لأللفاظ ‪ ،‬وهي التي تحيل إليه إال أنها قد ال تكفي وحدها في‬
‫تبين مقاصد الناطقين بها لما تحدث فيها السياقات واألوضاع المختلفة من تأثير يرقى إلى‬
‫حد إلغاء أصل التواضع ‪ ،‬أو حصر الداللة اللفظية في معنى دون آخر في حال االشتراك‬
‫‪17‬‬
‫اللفظي مما يجعل التعويل على المعاني المعجمية اإلفرادية وحدها ليس كفيال بتأدية الحاجة‬
‫التواصلية فضال عن باقي وظائف اللغة ‪ ،‬لذلك فإن علماء اللغة يفرقون بين جملة من المعاني‬
‫هي ‪:‬‬
‫‪ -1‬المعنى األساسي ( المعجمي)‪ :‬ويسمى كذلك المعنى التصوري أو اإلدراكي ‪ ،‬وهو‬
‫أي الداللة اإلفرادية ‪ ،‬من خصائصه أنه مجمع عليه ‪ ،‬وهو الذي يقيد‬ ‫أصل التواضع ْ‬
‫في المعاجم ‪ ،‬ويعرفه ك ُّل من يتكلم اللغة ‪ ،‬سواء لغة األم أم لغة ثانية ‪ ،‬كداللة لفظ‬
‫اإلنسان على الفرد من الناس أو داللة لفظ األسد على الحيوان المعروف ‪.‬‬
‫‪ -2‬المعنى اإلضافي ( الثانوي) ‪ :‬هو معنى زائد عن المعنى األساسي يفهم من خالل‬
‫السياق ‪ ،‬أو هو داللة إضافية يحملها اللفظ فوق داللته األساسية كأن نعبر عن الرجل‬
‫الشجاع بلفظ األسد فنقول ‪ :‬قاد المعركة أسد ٌ ‪ ،‬أو عن الرجل الماكر والمخادع بلفظ‬
‫الذئب ؛ فنقول‪ :‬فالن ذئب ‪ ،‬أو عن الرجل العالم بلفظ البحر إذ في كل هذه األلفاظ‬
‫المعنى األساسي األول ‪ ،‬والمعنى الثاني الذي حملها به السياق بعالقة المشابهة أو‬
‫غيرها من العالقات ‪ ،‬ومن خصائص هذا المعنى أنه غير مشترك بين مستعملي اللغة‬
‫ألنه وليد السياقات االجتماعية التي قد ال تكون مشتركة ‪ ،‬كما أنه مظنة الغموض و‬
‫اللبس في الترجمة عند عدم اإللمام بمكونات السياق‪.‬‬
‫‪ -3‬المعنى األسلوبي ‪ :‬هو نوع آخر من المعنى يرتبط بالمستوى الثقافي لمستعملي اللغة‬
‫و أوضاعهم االجتماعية أو مهنهم ‪ ،‬أو جنسهم أو ما يتصل بذواتهم ومجتمعاتهم‬
‫وبيآتهم ويؤثر في فكرهم وبالتالي في لغتهم ‪ ،‬حيث تحدد دالالت األلفاظ من منطلق‬
‫معرفة الناطقين بها ؛ حيث يستفاد من كالم المتكلم المقصود األول فيه وهو المعنى‬
‫األساسي ‪ ،‬ويستفاد كذلك معنى آخر يتصل بالمتكلم ‪ ،‬كأن نعرف أن المتكلم من طبقة‬
‫اجتماعية أو ثقافية معينة من خالل المعجم الذي يوظفه في تواصله ‪ ،‬فمعنى التحية‬
‫مثال يؤد بعبارات متعددة منها ‪ :‬السالم عليكم ‪ ،‬صباح الخير ‪ ،‬كيف الحال ‪ ،‬يسعد‬
‫صباحك ‪....، bon jour ،‬وكل عبارة تصنف قائلها في خانة معينة ‪،‬الحديث عن‬
‫الزوجة بلفظ ‪ :‬الزوجة ‪ ،‬العائلة ‪ ،‬العقيلة ‪ ،‬القرينة ‪ ،‬األهل ‪ ،‬الدار ‪ ،‬المادام ولكل لفظ‬
‫داللة أسلوبية تحدد بيئة قائله ‪ ،‬ولفظ "الجذر" يتلفظ به الفالح فيأخذ عنى ‪ ،‬ويتلفظ به‬
‫أستاذ اللغة فيأخذ معنى ثانيا ‪ ،‬ويتلفظ به أستاذ الرياضيات فيأخذ معنى ثالثا ‪ ،‬ولفظ‬
‫الصرف له عند أستاذ اللغة معنى وعند المحاسب معنى وعند السمكري معنى آخر‬
‫من غير أن تلغى المعاني األساسية في كل هذه األلفاظ ‪.‬‬
‫‪ -4‬المعنى النفسي ‪ :‬من خصائصه الفردية ألنه يتعلق باألفراد أكثر من تعلقه بالبيئات أو‬
‫المجتمعات ‪ ،‬وهو يعكس الحالة النفسية لمستعمل اللغة ‪ ،‬كما أنه قد يد ُّق عن المالحظة‬
‫فال يستطيع كشفه إال المتمرسون بتحليل الخطابات ‪ ،‬ويمكن تل ُّمسه في حديث‬
‫المتكلمين أو نصوص األدباء والشعراء بشكل إجمالي ؛ فال يمكن مثال أن يخطئ‬
‫القارئ المتمرس ما في شعر المتنبي من اعتداد بالذات وتعال أو ما في شعر األخطل‬
‫من اعتداد بالقبيلة والنسب ‪ ،‬أو ما في نثر اإلبراهيمي أو المنفلوطي من اعتزاز باللغة‬
‫العربية‪...‬‬
‫‪ -5‬المعنى اإليحائي‪ :‬هو المعنى المستفاد ضمنا من الكلمات التي يمكن أن توصف‬
‫بالشفافية ( ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ص‪ )36،37‬واإليحاء في األلفاظ‬
‫ثالثة أنواع‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫‪ -‬اإليحاء الصوتي ‪ :‬ويكون في الكلمات ذات الجرس الذي يقترب من صوت المعنى‬
‫وهو أوضح صورة في أسماء األصوات التي أوحت ألهل اللغة القول بالمحاكاة في‬
‫أصل اللغة ‪ ،‬أو بتكرار مقاطع الكلمات الدالة على معان فيها صفة التكرار واألمثلة‬
‫على ذلك كثيرة منها أصوات الحيوانات كالعواء والمواء والزئير والنهيق والنعيق ‪،‬‬
‫أو الحفيف والخرير والصرير ‪ ،‬وقد نقل لنا ابن جني رأي الخليل حين أعمل الفكر‬
‫في عالقة ال صوت بالمعنى من خالل صوت البازي ‪ ،‬وصوت الجندب ‪ ،‬أو مفهوم‬
‫القضم والخضم ‪ ،‬أو الهز واألز وقد مر بنا كل ذلك في محاضرة عالقة علم الداللة‬
‫بالعلوم اللغوية‪.‬‬
‫‪ -‬اإليحاء الصرفي ‪ :‬قد يكون اإليحاء مستقى من البنية الصرفية للكلمة ‪ ،‬كما في‬
‫األفعال الرباعية الدالة على التكرار مثل صرصر‪ ،‬جلجل ‪ ،‬قعقع ‪ ،‬مهمه ‪ ،‬بلبل‪ ،‬حيث‬
‫يعكس تكرار المقطع تكرار الفعل ‪ ،‬أو في صيغ األخرى كبعض صيغ المبالغة التي‬
‫تشي الشدة فيها بنوع من المبالغة كما في صيغة فَعال ‪ ،‬أو فعيل مثل " قتال" التي‬
‫تؤدي داللتها ‪ -‬كثرة القتل – صراحة من التواضع وإيحاء من الصيغة الصرفية ‪.‬‬
‫‪ -‬اإليحاء الداللي‪ :‬نوع يكثر في عبارات التأدب والتلطف وما يستقبح التصريح به من‬
‫الممنوعات جميعها وهو أقرب إلى تواضع جديد ال ينحصر في اللفظ بل يتعداه أحيانا‬
‫إلى العبارة كلها ‪ ،‬كالتعبير عن الجماع بلفظ الحرث ؛ قال هللا تعالى ‪ << :‬نساؤكم‬
‫حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم >> ‪ ،‬أو التعبير عن معاني قضاء الحاجة بالخالء‬
‫أو بيت الراحة ‪ ،‬أو التعبير عن المفاهيم السياسية أو األمنية التي يؤدي ذكرها إلى‬
‫حرج ما ‪....‬‬

‫المحاضرة السادسة‬
‫عالقة علم الداللة بالعلوم اللغوية‬

‫‪19‬‬
‫لما كانت الداللة المقصودة في علم الداللة هي الداللة اللغوية‪ ،‬وكانت اللغة مستويات‬
‫فإن الداللة اللغوية إنما هي محصلة مجموع دالالت المستويات اللغوية في السياقات المختلفة‬
‫‪ ،‬والمحاضرة التالية تتناول عالقة علم الداللة بمستويات اللغة أو باألحرى داللة كل مستوى‬
‫على حدة ‪.‬‬
‫أوال ‪ /‬عالقة علم الداللة باألصوات اللغوية ‪:‬‬ ‫َّ‬
‫يشكل الصوت المادة األولية للغة ‪ ،‬والحديث عن الصوت اللغوي يكون من جهتين ‪ :‬األولى‬
‫هي الطبيعة الفيزيائية للصوت ‪ ،‬والثانية هي القيمة الداللية له في بنية الكلمة ‪ ،‬وهما موضوع‬
‫علمين مختلفين األول هو علم التصويت ‪ ،‬والثاني علم وظائف األصوات ‪ ،‬وفي هذه‬
‫المحاضرة يعنينا العلم الثاني ألنه هو المرتبط بالداللة اللغوية ‪.‬‬
‫وقد نظر علماء اللغة إلى الصوت اللغوي من هذه الزاوية من خالل مقابلة األصوات‬
‫بعضها ببعض أو القيمة الخالفية في الصوت ذلك أن الذي يميز الفعل " أكل" مثال عن الفعل‬
‫" أفَل " هو اختالف صوت الكاف عن صوت الفاء ‪ ،‬والذي يميز الفعل " سال " عن الفعل‬
‫" زال " هو فقط اختالف صوت السين عن صوت الزاي‪ ،‬هذا في القيمة الداللية للصوت في‬
‫الكلمة ‪ ،‬وذهب بعض العلماء إلى أبعد من ذلك حيث رأوا بأن للصوت المفرد داللة في نفسه‬
‫<< فأما مقابلة‬ ‫أي قبل التركيب ؛ ومـن هؤالء ابن جني حيث يقول في الخصائص ‪:‬‬
‫األلفاظ بما يشاكل أصواتها من األحداث فباب عظيم واسع ونهج متلئب عند عارفيه مأموم‬
‫ذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت األحداث المعبر بها عنها ‪ ،‬فيعدلونها‬
‫بها ويحتذونها عليها ‪ ،‬وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره من ذلك قولهم خضم‬
‫وقض م فالخضم ألكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب ‪ ،‬والقضم‬
‫للصلب اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ونحوذلك >> ( الخصائص ‪. ) 157/2‬‬
‫علَى ْال َكافرينَ‬
‫س ْلنَا الشيَاطينَ َ‬
‫ويقول كذلك ‪ ... << :‬من ذلك قوله تعالى ‪ " :‬ألم تر أنا أ َ ْر َ‬
‫هزا" والهمزة أخت الهاء فتقارب‬ ‫"تهزهم ًّ‬
‫ُّ‬ ‫تَؤ ُّزه ْم أ َ ًّزا " أي تزعجهم وتقلقهم ‪ ،‬فهذا في معنى‬
‫صوا هذا المعنى بالهمزة ألنها أقوى من الهاء وهذا‬ ‫اللفظان لتقارب المعنيين ‪ ،‬وكأنهم خ ُّ‬
‫تهز ما ال بال له كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك‬ ‫المعنى أعظم في النفوس من الهز ألنك قد ُّ‬
‫>> ( الخصائص ‪).146،147/2 :‬‬
‫ومن المحدثين ألف الدكتور حسن عباس في معاني الحروف العربية ‪ ،‬وكذلك فعل إياد‬
‫الحصني في كتاب من جزءين بعنوان "معاني الحروف العربية" عرض فيه بالتفصيل‬
‫لمعاني الصوت اللغوي من خالل موقعه في الجذر الثالثي بمنهج إحصائي اعتمد فيه على‬
‫مادة القاموس المحيط ‪.‬ه‬
‫ومن الغربيين ( يسبيرسن ) الذي تعرض للموضوع من خالل مقال لهمبلت رأى فيه أن‬
‫األلفاظ تعبر عن المعاني بأصوات تشبه المعاني واألشياء وتحاكيها‪ ،‬وهو الذي يسمى‬
‫المناسبة الطبيعية بين اللفظ والمعنى التي بدأت بسيطة ثم انتهت غامضة ال تدرك إال بتأمل‬
‫كبير وقد ال تدرك ‪ ،‬وأعطى يسبرسن مثاال على ذلك بطائر في أوربا يسمى " كوكو " وهو‬
‫حين يصوت يصدر صوتا هو "كوكو" وكأني به يتمثل حديث سيبويه عن البازي والجندب‪.‬‬

‫ومن الداللة الصوتية كذلك النبر والتنغيم حيث إن تنغيم الجملة الواحدة بطريقة يعطيها‬
‫معنى االستفهام وبطريقة أخرى يعطيها معنى التقرير‪ ،‬وبطريقة ثالثة يعطيها معنى اإلنكار‬
‫فقولك ‪ " :‬جاء محمد" بنغمة صاعدة تفيد االستفهام وبنغمة مستوية تعني اإلخبار‪ ،‬وقراء تك‪:‬‬
‫‪20‬‬
‫" أ إله مع هللا؟" ‪ ،‬أو" أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد القهار؟ " بتنغيم معين يعطيها داللة‬
‫االستفهام وبتنغيم آخر يعطيها داللة التعجب ‪.‬‬
‫ومن الداللة الصوتية كذلك الوقف ؛ حيث إن الوقف عند ملفوظ من الجملة يعطي الكالم‬
‫معنى ‪ ،‬وعند ملفوظ آخر يعطيه معنى مغايرا ‪ ،‬من ذلك الوقوف عند لفظ المصلين من اآلية‬
‫" ويل للمصلين الذين هم عن صالتهم ساهون " ‪ ،‬أو عند لفظ "هذا" من اآلية " قالوا يا‬
‫ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " الذي يعطي اآلية معنى‬
‫خاطئا غير مقصود ‪ ،‬ومن أجل ذلك كانت عالمات الترقيم في اللغة المكتوبة ‪ ،‬ومن أجل ذلك‬
‫يعتني القراء وعلماء التفسير بأماكن الوقف ويقسمونه أنواعا منها الجائز والممنوع‬
‫والواجب‪..‬‬

‫ثانيا‪/‬عالقة علم الداللة بعلم الصرف‪:‬‬

‫من المعلوم أن األلفاظ التي هي أوعية المعاني إنما تتكون من إأتالف األصوات المفردة‬
‫التي تشكل المادة األولية للغة ‪ ،‬ومعلوم كذلك أن اجتماع األصوات تنشأ عنه صيغ صرفية‬
‫مختلفة تختص كل صيغة بالتعبير عن معنى معين ‪ ،‬هو المقصود بالداللة الصرفية ؛ ذلك أن‬
‫الطبيعة االشتقاقية في اللغات االشتقاقية تمكن من صب الوحدات الصوتية في القوالب‬
‫الصرفية ‪ ،‬فيمكن التعبير بالمادة اللغوية الواحدة عن وضعيات وأزمنة وأفعال مختلفة ؛‬
‫فيصاغ مثال من مادة كـ‪ .‬ت‪ .‬ب المصدر (كتابة) ‪ ،‬و الفعل الماضي (كتب) ‪ ،‬و الفعل‬
‫المضارع (يكتب) ‪ ،‬وفعل األمر(اكتب)‪ ،‬واسم الفاعل(كاتب)‪ ،‬واسم المفعول (مكتوب )‪،‬‬
‫واسم المكان(مكتب) ‪ ،‬ولذلك فإن كل كلمة من الكلمات فيها معنيان ؛ المعنى األول هو‬
‫المعنى المعجمي المستفاد من الجذر‪ ،‬والمعنى الثاني هو المعنى الصرفي أو الوظيفة‬
‫الصرفية المستفادة من الصيغة الصرفية المورفيم التي أخرجت وفقها المادة المعجمية ‪،‬‬
‫وكذلك من السوابق واللواحق التي تتصل بالكلمة كواو الجماعة‪ ،‬أو ألف اإلثنين أو نون‬
‫النسوة أو صيغة الطلب " است " التي تسبق الفعل للداللة على معنى الطلب أو غير ذلك من‬
‫السوابق واللواحق ‪ ،‬لذلك فإن البحث في داللة الكلمة البد أن يراعي الداللة الصرفية التي‬
‫تشكل محصلة المعنى المعجمي والمعنى الصرفي أو باألحرى هي تخصيص المعنى‬
‫المعجمي بداللة محددة ‪ ،‬وهي المساحة التي يتقاطع فيها علم الداللة مع علم الصرف ألن‬
‫الصيغ الصرفية ما كان لها أن توجد لوال أن الحاجة الداللية هي التي دعت إليها بغية تأدية‬
‫المعاني المتكاثرة ‪.‬‬
‫يقول ابن جني في باب عقده ألنواع الداللة سماه " باب في الداللة اللفظية والصناعية‬
‫والمعنوية " << اعلم أن كل واحد من هذه الدالئل معتدٌّ مراعى مؤثرا إال أنها في القوة‬
‫والضعف على ثالث مراتب ؛ فأقواهن الداللة اللفظية ‪ ،‬ثم تليها الداللة الصناعية ثم تليها‬
‫الداللة المعنوية ؛ ولنذكر من ذلك ما يص ُّح به الغرض ‪ ،‬فمنه جميع األفعال ؛ ففي كل واحد‬
‫منها األدلة الثالثة ؛ أال ترى إلى "قام" وداللة لفظه على مصدره وداللة بنائه على زمانه‬
‫وداللة معناه على فاعله ‪ ،‬فهذه ثالثة دالئل من لفظه وصيغته ومعناه ‪ ،‬وإنما كانت الداللة‬
‫الصناعية أقوى من الداللة المعنوية من قبل أنها وإن لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ‬
‫ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم بها ‪ ،‬فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى‬
‫‪21‬‬
‫اللفظ المنطوق به فدخال بذلك في باب المعلوم والمشاهد ‪ ،‬وأما المعنى فإنما داللته الحقة‬
‫بعلوم االستدالل وليست في حيز الضروريات >> ( الخصائص ‪) 98/3 :‬‬
‫ويستفاد من النص أن الداللة الصرفية التي سماها ابن جني الداللة الصناعية مكون من‬
‫مكونات الكل الداللي تجمع إلى المكونات األخرى لتحصيل المعنى الكلي‪ ،‬وأنه يعطيها الرتبة‬
‫الثانية بعد الداللة اللفظية التي هي مناط التواضع واالصطالح ‪ ،‬وأن في الفعل ثالث دالالت‬
‫أي داللة الجذر ‪ ،‬والداللة الصرفية وهي داللة الصيغة التي أخرج‬ ‫هي ‪ :‬الداللة المعجمية ْ‬
‫عليها الجذر ‪ ،‬والداللة المعنوية ( التركيبية) وهي الفاعل المستتر أو المتصل بالفعل ‪.‬‬

‫ثالثا‪/‬عالقة علم الداللة بعلم التراكيب‪:‬‬

‫وإن حملت‬ ‫أن يتأدى بالمفردات وحدها ‪ْ ،‬‬ ‫إن التواصل الذي هو غاية اللغة ال يمكن ْ‬
‫الداللة المعجمية والصرفية معًا ؛ ألنها تعبر فقط عن معنى مفرد‪ ،‬وهو غير كاف إلقامة‬
‫التواصل وإنما يكون تحديد المعنى اإلفرادي من أجل الحديث عنه أو به عـن غيره وهو ما‬
‫ال يكون إال بإسناد كلمة إلى أخرى الذي يعطي كالما صالحا ألداء التواصل ‪ ،‬وهو ال يكون‬
‫إال بين اسمين أو اسم وفعل إذ بهما فقط تتحقق اإلفادة التي هي شرط الكالم ‪ ،‬وإذا كانت‬
‫الكلمات تتكون من تجمع الوحدات الصوتية بغير نظام معين ( ينظر دالئل اإلعجاز ص‪:‬‬
‫‪ ) 353‬فإن تشكل الجمل من المفردات يحكمه نظام وتضبطه قوانين تختلف باختالفاتها‬
‫دالالت التراكيب والجمل ‪ ،‬وهذا هو موضوع علم النحو أو التراكيب ‪ ،‬قال الجرجاني ‪:‬‬
‫<< إن األلفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن ألن‬
‫يضم بعضها إلى بعض فيعرف ما بينها من فوائد >> ( دالئل اإلعجاز ص ‪ ، ) 353 :‬ومن‬
‫البديهي القول بأن علم الداللة يلتقي مع علم النحو في هذه المساحة الداللية ‪ ،‬إذ إن المعاني‬
‫النحوية هي المقصودة في التواصل ‪.‬‬
‫ومن الداللة التركيبية البحث في وظائف الكلمة في التركيب و الفرق بين دالالت التراكيب‬
‫المختلفة كالفرق بين التعبير بالجملة االسمية ‪ ،‬والتعبير بالجملة الفعلية واألساليب المختلفة ‪،‬‬
‫والمعنى الذي هو غاية علم الداللة يستفاد من النظر في إسناد المفردات بعضها إلى بعض؛‬
‫قال الجرجاني ‪ ... << :‬ومعلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضه ببعض وجعل بعضها‬
‫بسبب من بعض والكلم ثالث اسم وفعل وحرف ‪ ،‬وللتعليق في ما بينها طرق معلومة ‪ ،‬وهو‬
‫ال يعدو ثالثة أقسام ‪ :‬تعليق اسم باسم ‪ ،‬وتعليق اسم بفعل ‪ ،‬وتعليق حرف بهما >> ‪ ،‬ومن‬
‫النظر في تعليق المعاني اإلفرادية بعضها ببعض و الوظائف النحوية ( األبواب النحوية‬
‫) التي تؤديها كل كلمة تتحصل الداللة النحوية ‪.‬‬
‫وهذه بعض النصوص من كتاب دالئل اإلعجاز تبين اإلدراك المبكر للنحاة والبالغيين‬
‫العرب ألهمية الداللة التركيبية في الفهم واإلفهام ‪:‬‬
‫يقول الجرجاني‪ << :‬ليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلم ٍّة من دون ْ‬
‫أن‬
‫تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى‪ ،‬ومعنى القصد إلى معاني الكلم ْ‬
‫أن تعلم السام َع بها شيئا ال‬
‫يعلمه ‪ ،...‬ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد ْ‬
‫أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه‬
‫أن تكلمه‬‫بها ؛ فال تقول خرج زيد لتعَلمه معنى خرج في اللغة ومعنى زيد ‪ ،‬كيف ومحال ْ‬
‫بألفاظ ال يعرف هو معانيها كما تعرف ‪ ،‬ولهذا لم يكن الفعل وحده دون االسم ‪ ،‬وال االسم‬
‫وحده دون اسم آخر أو فعل كالما ‪ ،‬أو كنت لو قلت ‪ :‬زيد ‪ ،‬ولم تأت بفعل وال باسم وال قدرت‬
‫‪22‬‬
‫فيه ضمير الشأن ‪ ،‬أو قلت زيد ولم تأت بفعل وال اسم آخر ‪ ،‬ولم تضمره في نفسك ‪ ،‬كان ذلك‬
‫وصوتا تصوته سواء فاعرفه >> ( دالئل اإلعجاز ‪.)372‬‬
‫وقال كذلك‪ << :‬اعلم أن واضع الكالم مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيبها‬
‫بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة ‪ ،‬وذلك أنك إذا قلت ‪ :‬ضرب زيد عمرا يوم‬
‫الجمعة ضربا شد يدا تأديبا له ‪ ،‬فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم واحد هو‬
‫معنى واحد ال عدة معاني كما يتوهمه الناس ‪ ،‬وذلك ألنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس‬
‫معانيها إنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه أو‬
‫األحكام التي هي محصول التعلق >>( دالئل اإلعجاز ‪ :‬ص ‪.) 372‬‬
‫حظا في الدرس اللغوي العربي برمته ؛‬ ‫ولعل الداللة التركيبية األكثر حضورا واألوفر ًّ‬
‫ألهميته من جهة والشتغال اللغويين بالدرس النحوي أكثر من باقي المباحث ‪ ،‬كما أن اللحن‬
‫الذي كان الباعث األول لقيام الدراسات اللغوية كلها إنما كان في الحركة اإلعرابية أظهر من‬
‫أي مستوى آخر ‪.‬‬

‫رابعا ‪/‬عالقة علم الداللة بعلم البالغة‪:‬‬


‫بعد المستويات اللغوية تحتاج الداللة لتمام المعنى إلى المكون البالغي الذي قد تتوقف‬
‫محصلة الدالالت السابقة كلها عليه ‪ ،‬و يمكن االستدالل على أهمية الداللة البالغية من‬
‫المعنى المحصل من الكنايات التي هي تعريفا لفظ أطلق وأريد به الزم معناه ؛ فلو أن الفهم‬
‫توقف عند حدود المعنى النحوي لما حصل التبليغ المقصود ؛ ففي قول الخنساء ‪:‬‬
‫رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا‬
‫ليس المقصود من قولها مثال " طويل النجاد" إعالم المخاطب بطول نجاد أخيها وهو ما‬
‫تفيده الداللة النحوية وإنما المقصود هو ما بعدها وما تستلزمه وهو طول قامة الفارس‬
‫صخر‪ ،‬وكذا في الكناية "فالنة بعيدة مهوى القرط " ؛ حيث إن داللة النص ال تتعدى الحديث‬
‫عن القرط بينما المقصود هو طول جيد الفتاة ؛ وهو ما يعبر عنه الجرجاني بمعنى المعنى ‪،‬‬
‫وقد ألف ( ريتشارد و أوغدان) سنة ‪1923‬م كتابا بعنوان ‪" :‬معنى المعنى" ‪the‬‬
‫‪. meaning of meaning‬‬
‫كما يمكن االستدالل على المعنى البالغي من خالل تغير داللة التركيب الواحد بتغييره من‬
‫سياق إلى آخر ‪ ،‬وهو ما أدركه جيدا علماء التفسير حين اشترطوا في تفسير النص معرفة‬
‫سبب النزول ‪ ،‬وال يخفى أن السياق بأنواعه وبخاصة سياق الموقف له األثر البالغ في توجيه‬
‫المعنى ‪.‬‬

‫المحاضرة السابعة‪:‬‬
‫عالقة علم الداللة بالعلوم غير اللغوية‬

‫‪23‬‬
‫ال يمكن حصر الكالم عن عالقة علم الداللة بالعلوم غير اللغوية في علوم دون أخرى ألن‬
‫علم الداللة تحتاج إليه كل العلوم ‪ ،‬سواء العلوم اإلنسانية أو غير اإلنسانية ‪ ،‬وذلك في تحديد‬
‫المفاهيم والمصطلحات وتوصيف الموضوعات وصياغة األحكام والقوانين وغير ذلك مما‬
‫يدخل في حاجة العلوم إلى تحديد الماهيات و الحكم عليها وإقامة العالقات بين األجزاء‬
‫والعناصر وغير ذلك ‪ ،‬ومن أجل ذلك فإن المحاضرة سوف تحاول إبراز هذه العالئق من‬
‫خالل التمثيل ببعض العلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫أوال‪ /‬عالقة علم الداللة بعلم االجتماع‪:‬‬
‫َّ‬
‫إذا كانت الظاهرة االجتماعية هي الموضوع األول لعلم االجتماع فإن اللغة هي واحدة‬
‫من الظواهر االجتماعية التي تعكس حركية المؤسسات االجتماعية في تفاعلها بعضها مع‬
‫بعض أو لنقل إن جميع الظواهر االجتماعية تحتاج إلى اللغة كي تكسبها صفة الجماعة ألن‬
‫هذه الصفة وليدة تعامل اإلنسان مع اإلنسان وذلك مرهون باستعمال اللغة التي تتعرف بأنها "‬
‫أصوات يعبر بها ك ُّل أقوام عن أغراضهم " وواضح أن ابن جني كان يشير بقوله " كل أقوام‬
‫" إلى تعدد األلسن الذي هو في حد ذاته ظاهرة اجتماعية‪.‬‬
‫وإذا أردنا الوقوف على بعض الجوانب التي يلتقي فيها العلمان فيمكن االستدالل بالتنوع‬
‫اللغوي من مجتمع لغوي إلى آخر حيث تعكس ك ُّل لغة المستوى الحضاري للناطقين بها‬
‫سواء في معجمها وما يحمل من مفردات تعبر عن الحياة العامة للمجتمع ‪ ،‬أو في نصوصها‬
‫التي هي أوعية فكرها ودليل على فلسفتها في الحياة كلها ‪ ،‬أو في أمثالها وحكمها وما تحمل‬
‫من ثقافة ‪ ،‬أو حتى في أغانيها وأهازيجها وعالقة كل ذلك بحسها الفني والجمالي ‪ ،‬ويمكن‬
‫االستدالل على عالقة علم الداللة بعلم االجتماع كذلك بما يطال المعجم من تغير داللي من‬
‫مجتمع إلى آخر تماما كسائر الظواهر االجتماعية ‪ ،‬أو من عصر إلى آخر تماما كاإلنسان‬
‫نفسه حيث إن هناك مفردات تموت وأخرى تبعث من جديد مواكبة لتغيرات الحياة ومنها‬
‫الحياة االجتماعية ‪ ،‬كما أن هناك مفردات ترتفع داللتها وأخرت تنحط داللتها ‪ ،‬وأخرى‬
‫أي أن اللغة في حراك دائم إال أن حراك اللغة يتصف بالبطء وهو‬ ‫تضيق وأخرى تتسع ‪ْ ،‬‬
‫حال جميع الظواهر االجتماعية ‪ ،‬وعلى العموم فإن اللغة هي التي تحقق لإلنسان اجتماعيته ‪،‬‬
‫وكي يفهم علم االجتماع هذه االجتماعية البد أن يستعين بمعطيات الداللة اللغوية ‪ ،‬ومن أجل‬
‫ذلك وجد العلم الذي يسمى علم االجتماع اللغوي ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ /‬عالقة علم الداللة بعلم النفس‪:‬‬


‫يهتم علم النفس بالداخل اإلنساني ‪ ،‬ويعنينا من الداخل اإلنساني ذهنه الذي هو المقصود‬
‫بالخطاب إنشا ًء وتحليال ‪ ،‬بمعنى أن علم الداللة يحتاج إلى علم النفس في فهم آليات اإلدراك‬
‫عند اإلنسان وما يتصل بكفاءته في استيعاب المعنى اللغوي ‪ ،‬وال يخفى أن العلمين يتكامالن‬
‫في استعمال علم النفس اللغةَ ‪ ،‬أو باألحرى الكالم ‪ ،‬أداة للعالج النفسي ‪ ،‬واعتماد علم الداللة‬
‫على علم النفس في تحديد المساحة اإلدراكية عند المخاطب ومن ثم بناء الخطاب وفق‬
‫مستوى المتلقي وكفاءاته ‪ ،‬وهو ما تعبـر عنه البالغة بـــ" لكل مقام مقال " وتفيد معطيات‬
‫علم النفس بأن اإلدراك يختلف من شخص آلخر حسب االستعدادات الفطرية وظروف التعلم‬
‫والتجربة في الحياة وغير ذلك ‪ ،‬كما أنه يختلف عند الشخص الواحد من سياق إلى آخر و من‬
‫موقف إلى آخر‪.‬‬
‫ويمدُّ علم النفس كذلك َ‬
‫علم الداللة بآليات اكتساب اللغة ومن ثم فهو ينظر في طبيعة‬
‫‪24‬‬
‫أي أنه أداة ال يمكن االستغناء عنها في تعليمية‬‫المستويات اللغوية و كيفيات تيسير تعلُّمها ْ‬
‫اللغة ‪.‬‬
‫وفضال عن ذلك فإن من مباحث علم النفس تقويم العيوب النطقية الناجمة عن األمراض‬
‫النفسية ووجه التقاطع بين العلمين في هذا هو أن العيوب النطقية تنجم عنها آثار داللية ‪.‬‬
‫وكذلك فإن جانبا من المعنى قد يختفي وراء بعض األوضاع النفسية فيكون علم الداللة‬
‫قاصرا عن فهمه كأوضاع الخوف عند االستجواب أو االرتباك أو شدة الفرح أو غير ذلك ‪،‬‬
‫وقد لخصت الحكمة ذلك في قولهم " ما أضمر أحد ٌ شيئا إال ظهر في صفحات وجهه وفلتات‬
‫لسانه " ‪.‬‬

‫ثالثا‪ /‬عالقة علم الداللة بالفلسفة والمنطق‪:‬‬


‫إذا كان من شروط العلمية في أي علم هو وضوح معالمه وتحديد مجال الدراسة بدقة‬
‫فإن مجال النظر في الفلسفة ال يسري عليه هذا الحكم حيث يعدُّ الفيلسوف جديرا بالتكلم في‬
‫جميع القضايا وبخاصة القضايا الوجودية الكبرى الفالسفة ‪ ،‬والفكر الفلسفي غير محصور‬
‫في مجال بعينه ‪ ،‬ولكن آلة الفكر دائما هي اللغة ‪ ،‬وبذلك تتحدد العالقة بين علم الداللة‬
‫والفلسفة بأنهما يشتركان في استهداف المعنى اللغوي ‪ ،‬لكن هذا من منظور علمي يقف عند‬
‫النتيجة ال يجاوزها ‪ ،‬وتلك تحولها إلى سؤال جديد ال يعنيه بقاؤه في مجال الحقل اللغوي أو‬
‫مجاوزته إلى غيره ‪ ،‬وقد مر بنا في محاضرة سابقة أن الفالسفة على اختالف عصورهم‬
‫كانوا قد اشتغلوا بالقضايا اللغوية ‪ ،‬واختلفوا في بعضها كأصل اللغة وعالقة اللفظ بالمعنى‬
‫وغير ذلك ‪ ،‬والفلسفة إنما تنظر في الكليات تاركة التفصيل والتدقيق للعلم ‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة هنا إلى أن الدرس اللغوي العربي ‪ ،‬ومن قبله اليوناني كان قد تأثر كثيرا‬
‫بالمنطق األرسطي سواء على مستوى الفكر أو المصطلح ‪ ،‬وال أدل على ذلك في النحو‬
‫العربي من نظرية العامل نفسها التي فسرت الحركة اإلعرابية تفسيرا منطقيا ينطلق من بدإ‬
‫السببية ‪ ،‬حيث أوجب هذا التفسير أن تقسم الكلمات إلى كلمات عاملة وأخرى معمول فيها ‪،‬‬
‫فضال عن الخلط بين الزمن النحوي والزمن الفلسفي ‪ ،‬واالصطالحات الكثيرة ذات المنشإ‬
‫المنطقي كـ " الحكم " و " العلة " و " التقدير" و"اإلضافة" وغير ذلك ‪ ،‬لذلك يجب التنويه‬
‫إلى أن هذا تداخال ما كان له أن يكون إنما الذي يجب أن يكون مساحة مشتركة بين‬
‫االختصاصين هو افتقار المنطق إلى الداللة اللغوية إلعمال الفكر أوال ‪ ،‬ثم لتوصيف الفكر‬
‫ثانيا ‪ ،‬وافتقار علم الداللة إلى المنطق في تقسيم قضاياه والنظر فيها نظرا متوازنا ‪.‬‬

‫رابعا‪ /‬علم الداللة وعلم الترجمة‪ :‬غاية الترجمة نقل المعنى اللغوي من لغة إلى لغة‬
‫أخرى إال أن هذه الغاية ليست باألمر البسيط إذ إن التصور النظري و المنطقي يقتضي أن‬
‫يوجد لكل دليل لساني في لغة مقابل في اللغة المترجم إليها وبالدقة المطلوبة األمر الذي إذا‬
‫تحقق في مستوى لغوي فقد ال يتحقق في مستوى آخر كما أن الحامل اللغوي قد ال يكفي‬
‫ألداء المعنى مما يستوجب إعمال السياق بجميع أنواعه ‪ ،‬وبخاصة السياق االجتماعي وهو‬
‫مساحة داللية تستدعيها ضرورة الترجمة كما في التعبيرات المجازية التي تقتضي ترجمة‬
‫دالالتها إلماما بالجوانب الثقافية التي هي من السياق االجتماعي ‪ ،‬ويمكن االستدالل على‬
‫‪25‬‬
‫التقاطع القائم بين العلمين كذلك بموضوع العالقات الداللية حيث يكون للفظ الواحد دالالت‬
‫متعددة أو حين يدل اللفظ الواحد على أكثر من معنى وال تتوفر العالقة في اللغة المترجم‬
‫إليها ‪ ،‬وكذا في التعبيرات االصطالحية الدالة على معاني التأدب و التفاؤل وألفاظ الالمساس‬
‫التي تؤدي دالالتها باإليحاء مما يعني أن الترجمة في بعض األحيان تتجاوز الداللة إلى‬
‫الثقافة ‪،‬ويكون في الترجمة خيانة حين يغيب عند المترجم االطالع على ثقافة اللغة المترجم‬
‫منها واللغة المترجم إليها‪.‬‬

‫خامسا ‪/‬عالقة علم الداللة بالتداولية ‪ :‬ال ينأى الكالم في العالقة بين هذين العلمين كثيرا‬
‫عنه بين علم الداللة والترجمة عند الحديث عن دور السياق في توجيه الداللة من منطلق أن‬
‫التداولية في أبسط مفاهيمها هي دراسة عالقة العالمات بمؤوليها بينما تعنى الداللة بالعالقة‬
‫بين العالمات ومراجعها ‪ ،‬والغاية من التداولية هي استهداف وتحديد مقاصد مستعمل اللغة ال‬
‫من تحليل النص فحسب ولكن من تحليله في السياق الذي ورد فيه الذي هو فيصل في توجيه‬
‫الداللة اللغوية للمنطوق ‪ ،‬ولنأخذ لذلك أمثلة‪:‬‬
‫جملة "بارك هللا فيك" تقولها لصديق أساء التصرف معك ‪ ،‬تحملها معنى العتاب أو التوعد‬
‫وتقولها على أصل التواضع لمن أحسن إليك‪.‬‬
‫عبارة " شكرا " تقولها على أصل التواضع قاصدا بها معنى الشكر‪.‬‬
‫وتقولها لمن أسهب في الكالم وقد قصدت توقيفه بلطف ‪.‬‬
‫سؤالك عن التوقيت موجها مرة إلى زميلك قبل بدء المحاضرة ‪ ،‬ومرة إليه قبيل نهايتها على‬
‫مسمع األستاذ ‪ ،‬وقد أسهب في الشرح ‪ ،‬وموجها مرة أخرى إلى أحد أفراد العائلة في وجود‬
‫ضيف أطال المكوث ؛ حيث النص واحد والمقاصد متعددة ‪ ،‬والداللة مرهونة بالسياق‪.‬‬

‫المحاضرة الثامنة‬
‫التغير الداللي أسبابه ومظاهره‬
‫لما كانت اللغة ترجمان الفكر وكان فكر اإلنسان متغيرا متطورا كان لزاما ْ‬
‫أن تساير اللغة‬
‫تطور الفكر وتجاريه حتى تؤدي عن اإلنسان المقاصد التي تتحقق بها حياته واجتماعيته‪،‬‬
‫أن تتناسب اللغة ك ًّما مع الفكر وهي قضية يفترض تحققها في‬ ‫لكن ذلك يقتضي أيضا ْ‬
‫العصور األولى للحياة البشرية حيث كان الفكر البشري في مرحلة البدائية والبساطة ال‬
‫يحتاج من مفردات اللغة أكثر من حديثه عن صيده ورعيه ‪ ،‬أو طعامه وشرابه ‪ ،‬لكن مع‬
‫تطور الفكر والحضارة على مر العصور واألزمان وجدت لإلنسان اهتمامات متعددة‬
‫المناحي ‪ ،‬بين الصناعة ‪ ،‬والسياسة ‪ ،‬والزراعة ‪ ،‬والفكر ‪ ،‬واألدب ‪ ،‬والعلوم‪ ،‬وشتى‬
‫مجاالت الحياة ‪ ،‬فضاقت بها ا للغة من منطلق محدودية المعجم مهما كان اتساعه في مقابل‬
‫المعاني غير المتناهية ‪ ،‬فكان لزاما على أهل اللغة إما أن يوجدوا ألفاظا جديدة لما جد من‬
‫أشياء ومفاهيم ‪ ،‬أو يخصصوا لها من األلفاظ ما يمكن االستغناء عن معناه فينشأ عن ذلك أن‬
‫‪26‬‬
‫تتغير دالالت بعض األلفاظ من معنى إلى معنى ‪ ،‬وهو المقصود بمصطلح التغير الداللي ‪،‬‬
‫فما هي أسبابه‪ ،‬وما هي أشكاله؟‬
‫قبل الحديث عن أسباب التغير الداللي وأشكاله تجدر اإلشارة إلى أن التغيرات الحضارية‬
‫الكبرى تشكل معالم في تاريخ اللغة ‪ ،‬و اللغة العربية شهد تاريخها محطات كبرى ‪ ،‬منها‬
‫مجيئ اإلسالم الذي أحدث ثورة في المعجم العربي ‪ ،‬كما يذكر ذلك ابن فارس في الصاحبي‬
‫‪ ،‬وكذا الفتوحات اإلسالمية التي فتحت القاموس العربي على لغات األمصار التي دخلها‬
‫اإلسالم فأثر فيها وتأثر بها ‪ ،‬ومن المحطات الكبرى في تاريخ اللغة العربية كذلك ما شهده‬
‫الوطن العربي في القرن التاسع عشر من االحتالل الغربي الذي سعى جادا لطمس اللغة‬
‫العربية وإحالل اللغات الغربية محلها فظهر أثر ذلك جليًّا في اللغة بشكل عام والمعجم بشكل‬
‫خاص ‪ ،‬أما في التاريخ المعاصر فإن الثورة التكنولوجية وما تطالعنا به العلوم المختلفة في‬
‫كل يوم وساعة من اكتشافات ومخترعات فرضت على اللغة إيقاعا متسارعا من أجل‬
‫مسايرة هذا الواقع األمر الذي جعل المعجم في مسيس الحاجة إلى تحديث منهجه وتفعيل‬
‫آليات توليد المفردات كالنحت ‪ ،‬واالشتقاق ‪ ،‬واالقتراض ‪ ،‬والتعريب وغير ذلك‪.‬‬
‫وقد أولى القدامى موضوع التغير الداللي عناية خاصة في مؤلفاتهم ووقفوا عند تغير‬
‫دالالت كثير م ن األلفاظ وحاولوا استقصاء أسباب الظاهرة حيث عرض ‪ -‬مثال ‪ -‬أبو حاتم‬
‫الرازي في كتابه " الزينة " لتطور دالالت بعض األلفاظ ورأى أن مفردات المعجم أربعة‬
‫أصناف ‪ :‬قديمة موروثة ‪ ،‬أو جديدة تضاف داللتها وإن لم تكن حادثة ‪ ،‬أي أنها أشربت داللة‬
‫زائدة عن داللتها األولى بإحدى طرق التغير الداللي ‪ ،‬أو جديدة في صيغتها وداللتها ‪ ،‬أو‬
‫محولة بالتعريب عن إحدى اللغات األجنبية ‪ ،‬وعد االنتقال من المحسوس إلى المجرد من أهم‬
‫أسباب التغير الداللي ‪ ،‬ورأى أبونصر الفارابي أن الحاجة الحضارية المتجددة تستوجب أن‬
‫تجاريها حركية في اللغة ‪ ،‬أما عند المحدثين فإن التصنيف األكثر إلماما بالموضوع هو ما‬
‫تركه ( أنطوان مييه ) وطوره الدانماركي ( نيروب ) حيث عرض للظاهرة بشكل شمولي‬
‫أن يتصل به من قضايا لغوية‪.‬‬ ‫تناول فيه أهم األسباب التي تدعو إلى التغير الداللي وما يمكن ْ‬
‫أسباب التغير الداللي‪:‬‬
‫يمكن تقسيم أسباب التغير الداللي إلى أسباب لغوية وأخرى غير لغوية‪.‬‬
‫أوال األسباب اللغوية‪:‬‬
‫هي األسباب المتصلة باللغة نفسها‪ ،‬وفي مقدمة ذلك األسباب الصوتية كتقارب مخارج‬
‫األصوات في الكلمة الواحدة ( وهو مما ينتقص من فصاحة الكلمة) الذي يؤدي إلى إحالل‬
‫صوت محل آخر كما ينطق بعض العامة " الشمس " "السمش"‪ ،‬أو " النفاثات في العقد "‬
‫" النفاثات في القعد " والخلط بين الالم والنون في كلمات كثيرة كــ ‪ " :‬اللسان" تنطق "‬
‫النسال " ‪ ،‬أو " السلسلة " تنطق عند البعض ‪ " :‬السنسلة " أو الخلط بين الغين والقاف‬
‫فيتحول " القدر" " غدرا " و" القول " " غوال " ‪ ،‬و" الطاغية" "طاقية" أو استبدال‬
‫الكاف بالقاف فتصير ‪" :‬قاد" إلى " كاد "‪ ،‬والذي يؤدي إلى التغير الداللي هو فهم هذه‬
‫أن تنتشر بالصورة الخاطئة ثم‬ ‫الكلمات وفق ما سمعت ثم نقلها على تلك الهيئة ‪ ،‬فيحدث ْ‬
‫يتعايش المعنيان الخاطئ والصحيح فينشأ عن ذلك ترادف بين الكلمتين ‪ ،‬ومن األسباب‬
‫ظ ما توظيفا خاطئا وتفرض كثرة‬ ‫اللغوية ما يعرف باالنحراف اللغوي ؛ حيث يوظف لف ٌ‬
‫االستعمال التعامل معه كالواقع المفروض إال أن اللغويين يتصدون له بالتصحيح ومن أسباب‬
‫االنحراف اللغوي ‪:‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ -‬سوء الفهم ‪ :‬فيه يلتبس معنى كلمة ما عند السامع فيتأولها بما هو قريب منها أو بما‬
‫رأى هو أنه لها من معنى ثم يتعامل بها الناس وفق داللتها الجديدة‬
‫‪ -‬القياس الخاطئ ‪ :‬ينشأ من قياس غير المعلوم على المعلوم وذلك عند غموض معنى‬
‫كلمة ما فيحملها السامع على أقرب كلمة إليها معتمدا في ذلك على السياق‪.‬‬
‫‪ -‬أخطاء األطفال‪ :‬إما من قصور الفهم نتيجة االكتفاء بالشكل الخارجي لألشياء كأن‬
‫يسمي كل طائر حمامة أو كل عربة سيارة ‪ ،‬أو كل رجل أبًا ‪ ...‬أو من قصور النطق‬
‫نتيجة عدم اكتمال نمو جهازه النطقي ثم يجاريه الكبار ُّ‬
‫تلطفا ‪.‬‬
‫ومن األسباب اللغوية ما يتصل باالشتقاق الذي يعطي صيغا قد تتداخل في دالالتها ثم‬
‫تنتقل داللة كلمة إلى أخرى ؛ تقول العرب ‪ " :‬ضربه فأشواه" تقصد أصاب منه‬
‫أطراف جلده وهي جمع شواة وقد يفهم منه شواه بالنار التباسا بين "شوى"‬
‫و"أشوى" ‪ ،‬ومن األسباب كذلك األسباب السياقية كتغير داللة " الفشل " من معناها‬
‫الصحيح "الضعف" إلى اإلخفاق نتيجة كثرة االستشهاد باآلية الكريمة " وال تنازعوا‬
‫فتفشلوا وتذهب ريحكم " ( ينظر‪ :‬خليفة بوجادي ‪ ،‬محاضرات في علم الداللة‬
‫ص‪.)47:‬‬
‫ثانيا ‪ /‬األسباب غير اللغوية‪:‬‬
‫األسباب االجتماعية‪ :‬هي التي تحدثنا عنها في المبحث السابق تحت صفة الحضارية ألن‬
‫الحضارة ليست سوى حركية المجتمع وهي حركية متعددة االتجاهات ؛ حيث إن التطور‬
‫الحاصل في أي مجال من مجاالت الحياة يستدعي وعاء لغويا جديدا يحمل ما جد من أفكار‬
‫وهذا يقتضي تغيرا في دالالت األلفاظ‪.‬‬
‫األ سباب النفسية ‪ :‬قد تدعو الحاجة التواصلية إلى أكثر من نقل الحمولة الداللية باأللفاظ حيث‬
‫تطلب مستوى من التلطف مع المخاطب أو التفاؤل أو التجاوز عن جانب من الواقع مراعاة‬
‫لشعور المتلقي على نحو ما نجد في المعجم العربي حيث يخاطب اللديغ بلفظ السليم و تسمى‬
‫األدراج سل ًما‪ ،‬والصحراء مفازة ‪ ،‬والموت وفاة ‪ ،‬وحيث يكنى عن عالقة الرجل بالمرأة بلفظ‬
‫القرب أو المالمسة ‪ ،‬وعن موضع قضاء الحاجة بــ ‪ :‬الخالء ‪ ،‬وعن الملح بــ ‪ :‬الربح ‪،‬‬
‫وأمثال هذا كثير في اللغة العربية وهو دليل على المستوى الحضاري ألهلها ‪ ،‬كما أنه من‬
‫أهم أسباب التغير الداللي حيث يفرض أن يكون للكلمة فوق معناها األصلي المعنى‬
‫المستجلب للتفاؤل أو التلطف أو نحو ذلك من الحاجات النفسية ‪.‬‬
‫األسباب الثقافية ‪:‬‬
‫قد تكون العوامل الثقافية من األسباب التي تؤدي إلى تغير الدالالت ‪ ،‬وذلك عند‬
‫التقاء الثقافات وتجاورها مما يؤدي إلى اقتراض بعض األلفاظ من لغة إلى أخرى كم‬
‫حدث بين اللغة العربية واللغة الفارسية في العصر العباسي نتيجة اختالط وتساكن‬
‫المسلمين من الناطقين باللغتين ‪ ،‬وبخاصة لما كانت عاصمة الدولة اإلسالمية بغداد‬
‫القريبة من بالد فارس ‪ ،‬وكان بعض الفرس يشتغلون في دواويـن اإلنشاء ‪ ،‬ومراكز‬
‫السلطة ‪ ،‬وكما الحال كذلك في البالد العربية كلها غداة االحتالل الغربي وبعده إلى‬
‫اليوم حيث سرت كثير من المفردات الغربية على ألسنة وأقالم كثير من الكتاب فضال‬
‫عن العامة وأدخلت القاموس العربي من مثل ‪ :‬صالون أو صالة عوضا عن بيت‬
‫الضيوف‪ ،‬و طاطا بدال من خالتي و أونكل عوضا عن عمي أو خالي ‪ ،‬أو المارشي و‬
‫ليكول بدال من السوق والمدرسة ‪ ،‬وغير ذلك كثير‪ ،‬والذي يترتب عن هذه‬
‫‪28‬‬
‫الستعماالت هو أن الكلمة المستجلبة قد يكون لها أصل في اللغة المجلوبة إليها فتكون‬
‫بعد ذلك من قبيل المشترك اللفظي أو تهجر المفردة الفصيحة تحت تأثير االقتصاد‬
‫والميل إلى األخف فتحيى بداللة جديدة ‪.‬‬
‫ويمكن أن نميز في التغير الداللي بين نوعين ؛ فهو إما تغي ٌُّر قسري غير إرادي نتيجة‬
‫األسباب التي ذكرنا أو غيرها من األسباب ‪ ،‬أو تغيير إرادي تقوم به المؤسسات المختصة‬
‫كالمجامع اللغوية والمعاهد المتخصصة في تطوير اللغة أو يرتجله األدباء والخطباء ومن‬
‫ملكوا زمام اللغة من أهلها‪.‬‬
‫مظاهر التغير الداللي‪ :‬يتخذ التغير الداللي عدة مظاهر منها ‪:‬‬
‫أوال‪ /‬انتقال الداللة ‪ :‬هو أن يكون للكلمة معنى ثم تتحول داللتها إلى معنى آخر مسا ٍّو له في‬
‫الرتبة والمساحة أي أنه ليس أعلى منه قدرا وال هو دونه ‪ ،‬وال أعم منه وال أخص‪ ،‬وال هو‬
‫أوسع منه وال أضيق ؛ يقول فندريس << يكون االنتقال عندما يتعادل المعنيان أو إذا كانا ال‬
‫يختلفان من جهة العموم أو الخصوص ( كما في حال انتقال الكلمة من المحل إلى الحال أو‬
‫من المسبب إلى المسبب ‪ ،‬أو من العالمة الدالة إلى الشيئ المدلول عليه ‪....‬أو العكس ‪،‬‬
‫وانتقال المعنى يتضمن طرائق شتى ( االستعارة ‪ ،‬إطالق البعض على الكل ‪ ،‬المجاز‬
‫المرسل بوجه عام ‪ ( >> )..‬فندريس ؛ اللغة ‪ ،‬ص ‪ 256‬نقال عن خليفة بوجادي ؛‬
‫محاضرات في علم الداللة ص‪.) 49‬‬
‫ومن األمثلة على االنتقال الداللي لفظ المجد انتقلت داللته من امتالء بطن الدابة بالعلف‬
‫إلى الجاه والسمعة الحسنة ؛ وهو ضرب من االمتالء بالمحامد ‪ ،‬لفظ الشتاء حيث انتقلت‬
‫داللته في بعض جهات الوطن من الفصل المعروف إلى المطر ‪ ،‬لفظ التمر ينطق في بعض‬
‫الجهات طمرا ؛ فتكون داللة " الطمر" قد انتقلت من المعنى األصلي المعروف وهو الردم‬
‫واإلخفاء إلى الفاكهة المعروفة ‪ ،‬فعل "قاس" في لهجة أهل العاصمة تحولت من معنى‬
‫القياس المعروف إلى داللة االصطدام أو المالمسة ‪ ،‬أو لفظ " شباب" من مرحلة عمرية إلى‬
‫داللته على الحسن والجمال ‪.‬‬
‫ثانيا‪/‬اتساع الداللة ‪ :‬حيث يكون للكلمة مدلول ضيق ثم تأخذ مدلوال أوسع منه؛ وهو األقل‬
‫حضورا في اللغة حسب إبراهيم أنيس( داللة األلفاظ ص‪ ) 150‬ومن أمثلة اتساع الداللة لفظ‬
‫الورد ؛ من داللته على زهرة معينة إلى داللته على جميع األزهار ‪ ،‬لفظ قيصر؛ حيث‬
‫اتسعت داللته من داللته على ملك الروم تحديدا إلى داللته على كل ملك أو سلطان ‪ ،‬لفظ‬
‫البأس اتسعت داللته من معنى الحرب إلى كل مكروه من مرض أو نحوه ‪ ،‬مكتب اتسعت‬
‫داللته من مكان الكتابة إلى مقر الطبيب أو المحامي أو المدير ‪ ،‬وفي الفرنسية ‪chaufeur‬‬
‫معناه من يوقد النار في قاطرة القطار ثم انتقلت داللته إلى معنى السائق ‪ ،‬ولفظ ‪salaire‬‬
‫معناه حصة من الملح تعطى راتبا للجندي ثم صارت تعني كل راتب ( ينظر ‪ :‬خليفة بوجادي‬
‫‪ :‬محاضرات في علم الداللة ص‪.) 48‬‬
‫ثالثا‪ /‬تخصيص الداللة ‪ :‬هو أن تكون للكلمة داللة واسعة ثم تضيق ‪ ،‬واألمثلة عليها في‬
‫العربية كثيرة ؛ من ذلك ألفاظ الحقل اإلسالمي كــ الصالة التي كانت تعني مطلق الدعاء ثم‬
‫خصصت في الشعيرة المعروفة ‪ ،‬اإلسالم كانت تعني كل إسالم وصارت تعني اإلسالم هلل ‪،‬‬
‫الكافر كانت تعني كل ساتر ‪ ،‬وصارت تعني من يستر نعمة هللا ويجحدها ‪ ،‬الحج كانت تعني‬
‫كل قصد وصارت تعني القصد إلى بيت ألداء شعيرة الحج ‪ ،‬لفظ األمن انتقلت من معناها‬
‫المعجمي وهو االطمئنان وعدم الخوف إلى داللتها على رجال الشرطة أو من يقوم مقامهم ‪،‬‬
‫‪29‬‬
‫لفظ " النعمة" من داللته على كل أمر محمود ملبسا أو مطعما أو مسكنا إلى داللته على نوع‬
‫مخصوص من الطعام هو الكسكس ‪ ،‬وكذلك الحال في لفظ " الطعام‪.‬‬
‫رابعا ‪ /‬انحطاط الداللة ‪ :‬هو أن تكون للكلمة داللة رفيعة ثم تؤول إلى داللة دونها في سلم‬
‫القيم أو في نظرة المجتمع كلفظ الحاجب الذي كان يدل على منصب سياسي رفيع ثم صار‬
‫يدل على الحارس ‪ ،‬أو لفظ السيدة مقصودا به مدح المرأة إلى إطالقه إشارة إلى أنها‬
‫متزوجة ‪....‬‬
‫خامسا ‪ /‬رقي الداللة ‪ :‬هو انتقال داللة الكلمة من معنى بسيط أو وضيع إلى معنى أرقى منه‬
‫كانتقال داللة لفظ السفرة من طعام المسافر وهو الحد األدنى الذي يتبلغ به المسافر إلى داللته‬
‫على أجود أنواع األطعمة‪ ،‬وداللة لفظ السفير على الوظيفة الدبلماسية المعروفة بعد أن كان‬
‫يدل على حامل اآلجر‪.‬‬

‫المحاضرة التاسعة ‪:‬العالقات الداللية‬

‫موضوع علم الداللة ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬هو النظر في عالقة اللفظ بالمعنى؛ أي عالقة الدوال‬
‫بمدلوالتها ‪ ،‬ولكن موضوع العالقات الداللية هو عالقة األلفاظ بعضها ببعض من منظور‬
‫واقع اللغة حيث إن العالقة بين األلفاظ والمعاني في عمومها ليست تطبيقا تقابليا –‬
‫بالمصطلح الرياضي – يلزم كل لفظ بمعنى واحد ال يجاوزه ‪ ،‬وكل معنى بلفظ واحد ال‬
‫يجاوزه ‪ ،‬وإنما الواقع يثبت أن المعاني المتعددة قد تجتمع على اللفظ الواحد إلى درجة أن‬
‫اللفظ قد يد ُّل على المعنى وضده ‪ ،‬كما أن األلفاظ قد تتكاثر على المعنى الواحد إلى أن يصير‬
‫للشيئ عشرات األسماء ‪ ،‬وذلك وإن كان حال جميع اللغات كما تثبته كتب اللغة فإن العربية متميزة‬
‫‪30‬‬
‫بكثرته ‪ ،‬ولعل من أهم األسباب التي أدت إلى ذلك كونها تجمع بين لهجات متعددة ‪ ،‬وأن جمعها‬
‫كان على عصور متباعدة ‪ ،‬كما يمكن أن يعزى إلى عمرها الطويل في مقابل اللغات الحية األخرى‬
‫‪ ،‬و تقدم الزمن يفرض حركية اللغة تبعا للحركية الحضارية واالجتماعية لإلنسان كما تقدم معنا في‬
‫موضوع التغير الداللي ‪ ،‬ومن أهم العالقات الداللية الترادف ‪ ،‬واالشتراك ‪ ،‬والتضاد‪.‬‬
‫أوال‪ /‬الترادف ‪:‬‬
‫ا لردف في اللغة هو الراكب خلف الراكب ‪ ،‬وأردفته معه أركبته ‪ ،‬والمترادف أن تكون أسماء‬
‫لشيئ واحد وهي مولدة ( الفيروز أبادي ؛ القاموس المحيط ‪ ،‬مادة ر‪ .‬د‪ .‬ف )‬
‫وفي االصطالح هو ما اتفق لفظه واختلف معناه ‪ ،‬أ وهو إطالق عدة ألفاظ على مسمى واحد‬
‫كاألسد والليث والسبع والهزبر ‪ ،‬أو السيف والحسام والصارم و الصمصام ‪ ،‬أو الدخول و الولوج‬
‫‪ ،‬والخروج والمروق‪....‬‬
‫ويعرفه اإلمام الرازي بأنه << األلفاظ المفردة الدالة على معنى واحد باعتبار واحد >> (‬
‫السيوطي ؛ المزهر في علوم اللغة ‪ ،‬تح محمد جاد المولى بك ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي‬
‫محمد البجاوي ‪ ،‬المكتبة العصرية ‪ ،‬بيروت ‪1987 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. ) 402/1‬‬
‫وقد وقف الباحثون قديما وحديثا من ظاهرة الترادف موقفين شديدي التناقض بين اإلقرار‬
‫واالعتراض؛ حيث ينطلق المثبتون لوجوده من واقع اللغة فيما يعترض المنكرون بوظيفة اللغة ؛‬
‫التي تتنافى مع وجوده‪.‬‬

‫موقف القدامى من الظاهرة‪:‬‬


‫المثبتون ‪ :‬هم الذين انطلقوا من الواقع العملي للغة الذي يعترف بوجود األسماء الكثيرة‬
‫للمسمى الواحد ؛ يقول السيوطي‪ << :‬لو كان لكل لفظة معنى غير معنى األخرى لما أمكن‬
‫أن نعبر عن شيئ بغير عبارته ‪ ،‬وذلك أنا نقول في " ال ريب فيه" " ال شك فيه " ‪ ،‬فلو كان‬
‫الريب غير الشك لكانت العبارة عن معنى الريب بالشك خطأ ‪ ،‬فلما عبر بهذا عن هذا علم‬
‫أن المعنى واحد >> ( المزهر ‪ ، ) 404/1 :‬ومن المثبتين ابن خالويه الذي يغالي في إثباته‬
‫حيث يروى عن أبي علي الفارسي أنه قال‪ << :‬كنت في مجلس سيف الدولة بحلب‬
‫بحضرة جماعة من أهل اللغة فقال ابن خالويه ‪ :‬أحفظ للسيف خمسين اسما ‪ ،‬فتبسم أبو علي‬
‫الفارسي وقال ما أحفظ له إال اسما واحدا هو السيف ‪ ،‬قال ابن خالويه ‪ :‬فأين المهند والصارم‬
‫وكذا وكذا ‪ ،‬فقال أبو علي ‪ :‬هذه صفات >> ‪ ،‬ومن مغاالة ابن خالويه في إثبات الترادف أنه‬
‫ألف فيه كتابين أحدهما ؛ في أسماء األسد‪ ،‬واآلخر في أسماء الحية ‪ ،‬كما ألف فيه الفيروز‬
‫أبادي كتابا أسماه " الروض المسلوف في ما له اسمان إلى ألوف"‪.‬‬

‫المنكرون ‪ :‬هم فريق ينكر الترادف من أساسه وال يعترف بوجوده ‪ ،‬وفي مقدمتهم كما رأينا‬
‫أبو علي الفارسي شيخ ابن جني ‪ ،‬وابن فارس ‪ ،‬وابن درستويه ‪ ،‬وثعلب ‪ ،‬وأبو هالل‬
‫العسكري ؛ يقول أبو هالل العسكري الذي ألف كتابه المشهور في إنكار الترادف " الفروق‬
‫في اللغة " ‪ << :‬فأما في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظ والمعنى واحد ‪ ،‬كما ظن كثي من‬
‫النحويين واللغويين‪ ...‬والشاهد على أن اختالف العبارات واألسماء يوجب اختالف المعاني‬
‫أن االسم كلمة تدل على المعنى داللة اإلشارة ‪ ،‬وإذا أشير إلى الشيئ مرة واحدة فإن اإلشارة‬
‫إليه مرة ثانية ثالثة غير مفيدة >> ( أبو هالل العسكري ؛ الفروق ص )‬
‫موقف المحدثن ‪:‬‬
‫‪31‬‬
‫تكاد تنعقد كلمة المحدثين على االعتراف بظاهرة الترادف من منطلق الواقع اللغوي ولكن في‬
‫إطار معتدل من غير إسراف وال تقتير لذلك فهم يشترطون لقبوله جملة من الشروط منها ‪:‬‬

‫‪ -‬االتفاق التام أو باألحرى اإلجماع حول دالالت األلفاظ التي تبدو مترادفة عند جميع‬
‫الناطقين باللغة ‪.‬‬
‫‪ -‬اتحاد المجتمع اللغوي أو القبيلة إذ إن كثيرا من الترادفات تعود إلى أن اللغة العربية‬
‫مكونة من عدة لهجات ‪.‬‬
‫‪ -‬اتحاد العصر المقصود بالدراسة ألن اللغة كما رأينا تتصف بالحركية والتغير من‬
‫منطلق اجتماعيتها ‪ ،‬ومن ثم فإن بعضا من المترادفات قد يعزى إلى التغير الداللي‬
‫للكلمات‪.‬‬
‫ويمكن االنتباه هنا إلى أن هذا الفريق أفاد من منهج اللسانيات البنيوية التي توجب دراسة‬
‫اللغة آنيا وتاريخيا ‪ ،‬وال يمكن النظر إليها في حالتها المتحركة ‪.‬‬
‫وهناك من أنكر وجود الترادف من المحدثين كالدكتور محمود فهمي حجازي ولكن‬
‫بصورة أقرب إلى االعتدال حيث ال ينفي الترادف إجماال وإنما ينفي التطابق التام في‬
‫المعنى وظالل المعنى بين الكلمات ‪ ،‬ونجد كذلك اللساني األمريكي بلوم فيلد الذي ينفي‬
‫أن يكون هناك تطابق تام وحقيقي بين الكلمات ‪.‬‬
‫و في األخير فإنه يتبين من استعراض واقع اللغة من جهة ‪ ،‬وآراء الباحثين القدامى‬
‫والمحدثين أنه من غير المعقول إنكار وجود الترادف إنكارا تا ًّما كما أنه من غير المعقول‬
‫كذلك االعتراف بوجوده من غير شروط وضوابط ‪ ،‬وبخاصة في اللغات الهجينة كالعربية‪.‬‬
‫أسباب وقوع الترادف في العربية ‪ :‬يمكن إيجاز أهم أسباب الترادف في اآلتي ‪:‬‬
‫‪ -‬كون العربية تعود إلى لهجات متعددة انصهرت في لهجة قريش‪.‬‬
‫‪ -‬التباس المعاني الحقيقية بالمعاني المجازية وتدوينها في المعاجم من غير تمييز بين ما‬
‫هو حقيقة وما هو مجاز ‪.‬‬
‫‪ -‬التغير الداللي وتدوين المعجم في عصور متباعدة‪.‬‬
‫‪ -‬التباس األسماء بالصفات على واضعي المعاجم وتدوينها على أنها أسماء ‪.‬‬
‫‪ -‬وجود المعرب والدخيا وما تسرب إلى العربية من اللغات األخرى وبخاصة الفارسية‪.‬‬
‫‪ -‬افتقار الرسم إلى النقط و اإلعجام مما يجعل الكلمات المتقاربة في رسمها تبدو كأنها‬
‫مترادفات ثم ينتقل الخطـأ‪.‬‬
‫‪ -‬الجوازات الشعرية وحاجة المتكلمين إلى الموسيقى واإليقاع وما ينجم عن ذلك من‬
‫تساهل في التصرف ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ /‬المشترك اللفظي‪:‬‬
‫هو العالقة العكسية للترادف أي اجتماع معنيين فأكثر في لفظ واحد ‪ ،‬أو داللة لفظ‬
‫واحد على أكثر من معنى ؛ قال سيبويه ‪ << :‬اعلم أن من كالمهم ما اتفق لفظه‬
‫واختلف معناه >> ( سيبويه ؛ الكتاب ‪ ، ، ) 7/1 ،‬ويدل وقوعه في أول الكتاب على‬
‫اهتمام صاحب الكتاب به وهي مسألة منطقية لما لالشتراك من عظيم األثر على اللغة‬
‫اللتزام‬
‫ٍّ‬ ‫فهما وإفهاما خاصة عند علماء التفسير حين يكون االختالف في الفهم موجبا‬

‫‪32‬‬
‫عقدي أو فقهي ؛ وقد عرفوه بأنه << اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر‬
‫داللة على السواء عند أهل تلك اللغة >> ( السيوطي ؛ المزهر ‪. ) 369/1‬‬
‫ولم يكن المشترك أحسن حاال من الترادف حيث اختلف حوله اللغويون بين منكر‬
‫متعسف ومثبت مستميت ؛ فقد أثبته وبالغ في قبوله ك ٌل من ابن فارس وابن خالويه ‪،‬‬
‫وأنكره ابن درستويه ‪ ،‬ومما يدل على أهميته كثرة ما كتب فيه حيث نجد له في‬
‫الدرس العربي ‪:‬‬
‫‪ -‬ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد للمبرد‪.‬‬
‫‪ -‬ماتفق لفظه واختلف معناه البن خليد ( ت‪240‬هـ) ‪.‬‬
‫‪ -‬الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لمقاتل سليمان البلخي ( ت‪150‬هــ)‪.‬‬
‫‪ -‬الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لهارون بن موسى األزدي األعور ( ت ‪170‬هـ )‬
‫‪ -‬الوجوه والنظائر للدامغاني ‪.‬‬
‫وغير ذلك مما جاء مفردا في كتاب أو كان جزءا من كتاب ؛ كما في اإلتقان‬
‫للسيوطي ‪ ،‬أو المنجد في اللغة لكراع النمل الهنائي ‪ ( ...‬ينظر ‪ :‬خليفة بوجادي ؛‬
‫محاضرات في علم الداللة ‪ ،‬ص‪.) 57‬‬
‫وحجة من أنكر وجوده في اللغة هو أن اللغة وضعت لإلبانة‪ ،‬واإلشارة إلى‬
‫المختلفات بالمشير الواحد ينافي ذلك ‪ ،‬أما حجة من أثبته فهي منطقية كذلك ألنهم‬
‫يحتجون بكون األلفاظ محدودة ألنها مكونة من األصوات وهي محدودة ‪ ،‬والمعاني‬
‫(‬ ‫ممدودة إلى غير نهاية فلزم أن يقع االشتراك لضرورة التعبير عن كل المعاني‬
‫ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ‪ ،‬ص ‪.) 157‬‬
‫أما المحدثون فقد أثار اهتمامهم المشترك كذلك ؛ يقول بالمر ‪ ... << :‬وليست‬
‫الكلمات المختلفة فقط هي التي لها معان مختلفة ‪ ،‬لكن القضية هي أن الكلمة نفسها قد‬
‫يكون لها مجموعة من المعاني المختلفة ‪ ،‬وهذا هو المشترك اللفظي >>‬
‫( بالمر ؛ علم الداللة ‪ ،‬ص ‪ 101‬نقال عن خليفة بوجادي ؛ محاضرات في علم الداللة‬
‫ص‪. ) 56‬‬
‫من أسباب وقوع المشترك‪:‬‬
‫‪ -‬كون األلفاظ محدودة والمعاني ليست كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬تداخل الحقيقة مع المجاز‪.‬‬
‫‪ -‬تداخل بعض الكلمات العربية مع الكلمات الدخيلة‪.‬‬
‫‪ -‬سوء الفهم ثم االنتشار الخاطئ ‪.‬‬
‫‪ -‬التغير الداللي‪.‬‬
‫نماذج من المشترك اللفظي ‪ :‬العين‬
‫عن كراع النمل ‪:‬‬
‫العين مطر يدوم خمسة أيام ال يقلع ‪ ،‬وعين كل شيئ خياره ‪ ،‬وعين القوم ربيئتهم‬
‫الناظر لهم ‪ ،‬والعين عين الشمس‪.‬‬
‫عن أبي عبيدة ‪:‬‬
‫العين الذهب ‪ ،‬ووعين الماء ‪ ،‬ونفس الشيئ ‪ ،‬والعين النقد ‪ ،‬والعين الباصرة‬
‫وعن أبي العميثل ‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫العين النقد من دنانير ودراهم ‪ ،‬والعين مخرج الماء ‪ ،‬والعين عين الميزان ‪ ،‬والعين‬
‫ما عن يمين القبلة‪ ( .‬ينظر أحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ‪ ،‬ص ‪. ) 153‬‬

‫ثالثا‪ /‬المتضاد‪:‬‬
‫يطلق هذا المصطلح على نوعين من العالقات الداللية‪:‬‬
‫األول إطالق لفظين مختلفين مبنى على معنيين متناقضين وهذه العالقة لم تلق اهتماما‬
‫كبيرا من الباحثين قديما وحديثا لبساطتها ووضوحها‪.‬‬
‫الثاني وهو المقصود هنا هو نوع من المشترك اللفظي يصل إلى حد التناقض وهو أن‬
‫يدل اللفظ الواحد على المعنى ونقيضه ‪،‬ذكره المبرد تحت تسمية " ما يقع على شيئين‬
‫متضادين " ‪ ،‬وسماه ابن فارس " اختالف األضداد " ‪ ،‬وأورده الثعالبي تحت " تسمية‬
‫المتضادين باسم واحد " ‪ ،‬وقد حظي موضوع التضاد بعناية كبيرة عند القدامى خاصة‬
‫الستغالله مطية من قبل الشعوبية لالنتقاص من العربية ‪ ،‬إال أن أغلب اللغويين عدوه من‬
‫سنن العربية ‪ ،‬وهو عنوان من عناوين بالغتها الكثيرة ‪ ،‬حيث يكون فيه اعتداد ٌ بالمتلقي‬
‫وقدرته على االهتداء إلى المعنى المقصود من السياق ‪ ،‬وتعود أهميته زيادة على ذلك‬
‫لورود بعض األلفاظ المتضادة في القرآن الكريم وتوقف الفهم في بعض القضايا الفقهية‬
‫على دالالتها كلفظ القرء الذي يفيد معنى الحيض ‪ ،‬والطهر معا ‪.‬‬
‫ومن األمثلة على التضاد في العربية لفظ الصريم الذي يدل على الليل والنهار ‪،‬‬
‫و الجون الذي يدل على البياض والسواد ‪ ،‬والسدفة التي تدل على الضياء والظالم ‪،‬‬
‫والجلل الذي يدل على العظيم والحقير ‪.‬‬
‫وممن أنكر وجوده بحجة أنه يتنافى مع الوظيفة األساس في اللغة وهي اإلبانة ابن‬
‫درستويه حيث يقول ‪ <<:‬إنما اللغة موضوعة لإلبانة عن المعاني ‪ ،‬فلو جاز وضع لفظ‬
‫واحد للداللة على معنيين مختلفين أو أحدهما ضدُّ اآلخر لما كان ذلك إبانة بل تعمية‬
‫وتغطية >> ‪ ،‬ووقف موقفه تاج الدين األرموي حيث يقول في الحاصل‪ << :‬إن‬
‫النقيضين ال يوضع لهما لفظ واحد ألن المشترك يجب فيه إفادة التردد بين معنييه ‪،‬‬
‫والتردد في النقيضين حاصل بالذات ال من اللفظ >>‬
‫من أسباب وقوعه في العربية‪:‬‬
‫يعود وجود التضاد في العربية إلى عوامل كثيرة منها ‪:‬‬
‫‪ -‬تداخل اللهجات المكونة للفصحى‪.‬‬
‫‪ -‬التداخل بين الحقيقة والمجاز قبل عصر التدوين وإثبات ذلك في المعجم‪.‬‬
‫‪ -‬األسباب النفسية واالجتماعية كالتفاؤل والتلطف وغيرها كما في لفظ السليم والبصير‬
‫داللة على اللديغ واألعمى ‪ ،‬والفتح داللة على الغلق ‪ ،‬والربح داللة على الملح ‪...‬‬
‫‪ -‬الصيغ الصرفية الدالة على المتضادين مثل مختار اسما للفاعل والمفعول ‪ ،‬ومغتاب‬
‫‪....‬‬
‫‪ -‬التغير الداللي وانتقال الداللة‪.‬‬
‫‪ -‬عوامل التأثر باللغات المجاورة كاالقتراض‪.‬‬
‫‪ -‬التغيرات الصوتية في بع"ض األلفاظ ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫والذي نستفيده من دراسة هذا الموضوع ‪ -‬العالقات الداللية ‪ -‬هو أن اختالف‬
‫اللغويين فيه عائد إلى زاوية النظر التي نظر منها ك ُّل فريق إلى الموضوع ؛ فالذين‬
‫نظروا إليه من الواقع اللغوي وجدوه حقيقة لغوية ال محيد من االعتراف بها ‪ ،‬والذين‬
‫نظروا إليه من الوجهة المنطقية النظرية ‪ ،‬لم يجدوا في المنطق ما يوجب اختالف‬
‫الدوال على المدلول الواحد أو اجتماع المدلوالت المتعددة في الدال الواحد‪.‬‬

‫نظريات التحليل الداللي‬ ‫المحاضرة العاشرة‪:‬‬


‫وتسمى كذلك مناهج دراسة المعنى؛ وهي في أبسط تعريفاتها طرائق لتحليل المعنى‬
‫تستهدف ك ُّل طريقة زاوية من زوايا المعنى؛ حيث تتخذ نظرية السياق تحصي َل المعنى من‬
‫السياقات المختلفة موضوعا لها من خالل تحديد مكونات السياق واإلبانة عن دور كل نوع‬
‫في توجيه الداللة ‪ ،‬وتهتم نظرية الحقول الداللية بتنظيم المادة المعجمية وتسهيل مآخذها ‪،‬‬
‫وتبحث النظرية التوليدية التحويلية في آليات إنتاج اللغة وتحويل العبارات ‪ ،‬وتحاول النظرية‬
‫السلوكية اإلجابة عن بواعث إنتاج اللغة ‪ ...‬إلخ ‪ ،‬وفي ما يلي عرض لبعض النظريات‬
‫الداللية‪:‬‬

‫النظرية السياقية ‪:‬‬


‫ينظر هذا المنهج في دور السياقات المختلفة في توجيه الداللة وتحديد المعنى ‪ ،‬وهي وإن‬
‫كانت أصيلة في الدرس اللغوي ؛ وبخاصة العربي فإنها تنسب إلى اللغوي األنجليزي فيرث‬
‫‪ ،‬وذلك في الـتأسيس لها نظريةً حديثة في علم الداللة ‪ ،‬أما إعمال السياق في تفسير النص‬
‫وتحديد المقاصد فال يمكن تصور غيابه عند القدامى ؛ قال ابن جني ‪ << :‬يمكن أن تكون‬
‫أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمانعنا ؛ أال ترى إلىقول سيبويه ‪ :‬أو لعل األول‬
‫‪35‬‬
‫وصل إليه علم لم يصل إلى اآلخر يعني أن يكون األول الحاضر شاهد الحال فعرف السبب‬
‫الذي له ومن أجله وقعت عليه التسمية ‪ ،‬واآلخر لبعده عن الحال لم يعرف سبب التسمية ؛ أال‬
‫ترى إلى قولهم لإلنسان إذا رفع صوته ‪ :‬قد رفع عقيرته ‪ ،‬فلو ذهبت تشتق هذا بأن تجمع بين‬
‫معنى الصوت وبين معنى ع‪.‬ق‪.‬ر لبعد عنك وتعسفت وأصله أن رجال قطعت إحدى رجليه ‪،‬‬
‫فرفعها على األخرى ثم صرخ بأعلى صوته فقال الناس رفع عقيرته >> ( الخصائص‬
‫‪. ) 66/1‬‬
‫ويؤكد فيرث على دور الوظيفة االجتماعية للغة ‪ ،‬يقول في تعريف سياق الحال << هو‬
‫جملة من العناصر المكونة للموقف الكالمي‪ ،‬من ذلك شخصية المتكلم والسامع‪ ،‬وتكوينهما‬
‫الثقافي ‪ ،‬باإلضافة إلى شخصيات من يشهدون الكالم غير طرفي الخطاب‪ -‬إن وجدوا –‬
‫وعالقة ذلك بالسلوك اللغوي ‪ ،‬والعوامل األخرى ومنها العوامل االجتماعية ذات العالقة‬
‫بالسلوك اللغوي للمتكلم مثل حالة الجو والوضع السياسي ومكان الكالم >>‪.‬‬
‫واألساس في هذه النظرية هو أن الكلمة تكتسب معناها من استعمالها ألن الوحدات اللغوية‬
‫المجاورة لها تسهم في تحديد معناها‪ ،‬كما أن األوضاع المحيطة بالحدث الكالمي تسهم كذلك‬
‫في تحديد معناها ؛ يقول هاردر ‪ :‬إننا نكون ضحايا االنخداع إذا اعتقدنا أن للكلمة أكثر من‬
‫معنى في سياق واحد ‪ ،‬وينفي مارتينيه أن يكون للكلمة أصال معنى خارج سياقها ‪ ،‬ومن أهم‬
‫السياقات ‪:‬‬
‫‪ -1‬السياق اللغوي ‪ :‬يمكن تعريفه بأنه المحيط اللغوي الذي تقع فيه الكلمة موضع التحليل‬
‫؛ أي الكلمات التي تكتنف المفردة التي تحتمل داللتها أكثر من معنى ؛ ذلك أننا في‬
‫واقع األمر ال نحتاج إلى االستعانة بالسياق إال في الكلمات التي تحتمل أكثر من داللة‬
‫‪ ،‬أو باألحرى في المشترك اللفظي ‪ ،‬ويمكن التمثيل لذلك بالفعل قص كما في الجمل‬
‫اآلتية ‪:‬‬
‫‪ -‬قص الخياط الثوب ‪.‬‬
‫‪ -‬قص الراعي األثر‪.‬‬
‫‪ -‬قص األديب الرواية‪.‬‬
‫‪ -‬حيث تتحدد إحدى الدالالت المعجمية التي يحتمله الفعل وهي ‪ :‬القطع ‪ ،‬التتبع‬
‫واالقتفاء ‪ ،‬السرد من خالل إحدى الكلمات التي تسبق أو تتلو الكلمة ‪ ،‬وهي هنا‬
‫الفاعل الذي أسند إليه هذا الفعل ‪.‬‬
‫ونمثل لذلك بلفظ العين من خالل الجمل اآلتية‪:‬‬
‫‪ -‬تجب الزكاة في كل عين‪.‬‬
‫‪ -‬نشرب الماء من العين ‪.‬‬
‫‪ -‬أرسل القائد عينه إلى معسكر العدو‪.‬‬
‫‪ -‬أصابت فالنا عين حاسد‪.‬‬
‫‪ -‬أجرى المريض عملية جراحية لعينه‪.‬‬
‫حيث توجه الكلمات المجاورة في كل سياق لفظ العين إلى إحدى دالالته المعجمية‬
‫‪ ،‬وال شيء غير الجوار اللغوي يمكن أن يحدد الداللة في هذه النصوص ومثيالتها ‪.‬‬

‫‪ -2‬السياق غير اللغوي‪ :‬وهو أنواع منها ‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫أ‪ /‬سياق الموقف‪ :‬هو الوضع العام الذي يؤدى فيه الحدث الكالمي مكانا وزمانا وظروفا ؛‬
‫حيث يوجه هذا الوضع داللةَ المنطوق إلى معنى قد ال يكون من داللته المعجمية أو التركيبية‬
‫‪ ،‬وإنما هو أقرب إلى تواضع جديد يفرضه السياق ‪ ،‬وهذه أمثلة على ذلك ‪:‬‬
‫‪ -‬عبارة " شكرا" تقولها ممتنًّا لمن أسدى إليك معروفا على أصل التواضع‬
‫واالستعمال‪.‬‬
‫ث أطنب في الكالم ‪ ،‬وقد قصدت توقيفه بأدب‪.‬‬ ‫‪ -‬وتقولها لمتحد ٍّ‬
‫‪ -‬ويقولها متحدث إعالنا منه على أنه فرغ من كالمه‪.‬‬
‫فهي تأخذ داللتها من سياقها وهو سياق متغير‪.‬‬
‫وعبارة " ربي يسهل" تقولها قاصدا الدعاء بالتسهيل ‪ ،‬وتقولها لمتسول ألح في السؤال‬
‫وتكون ضمنتها معنى ‪ " :‬دعني" ولكن بلطف‪.‬‬
‫وعبارة " ربي يهديك" تقولها لمن تحب له الخير قاصدا طلب الهداية ‪.‬‬
‫وتقولها لمن قال هجرا من الكالم وقصدك به ‪ ،‬وقد حملت العبارة معنى أني ال أنزل‬
‫بمستواي إلى مستواك ‪ ،‬من باب التوبيخ والتقريع‪.‬‬
‫ب‪ /‬السياق العاطفي‪:‬‬
‫يتحدد معنى السياق العاطفي من حدي العاطفة وهما منتهى الحب ‪ ،‬ومنتهى الكره حيث‬
‫يعكس اختيار المتحدث إحدى المرادفات درجة االنفعال العاطفي المصاحبة لألداء الكالمي‪،‬‬
‫فبين مفردات الحب مثال ؛ حيث المعنى في "أريد" غيره في "أشتهى" ‪ ،‬وهو في " أعشق "‬
‫غيره في " أهيم"‪ ،...‬وكذلك الداللة في "أكره" غيرها في "أبغض" وهي في "أمقت" غيرها‬
‫في أختيها السابقتين ‪ ،‬وكل اختيار يعكس مستوى من االنفعال العاطفي ‪ ،‬كما أن داللة الفعل‬
‫" أحبُّ " مقصودا به الذات اإللهية غيره مقصودا به الوالدين ‪ ،‬غيره بين الرجل والمرأة ‪،‬‬
‫وكذا فعل الكره معنيا به األشخاص غيره وهو معني به األشياء و هذه الدالالت كلها تحملها‬
‫العبارة الواحدة وتوجهها السياقات العاطفية المختلفة ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬وهو مرتبط بثقافة‬‫ج‪ /‬السياق الثقافي ‪ :‬ومما يسهم في توجيه الداللة كذلك السياق الثقاف ُّ‬
‫مستعمل اللغة ؛ كالمهنة ‪ ،‬والطبقة االجتماعية ‪ ،‬ودرجة التحضر أو البداوة ‪ ،‬وغير ذلك مما‬
‫َيسم المتكلم بخصوصية ذات أثر على االختيارات اللغوية المتاحة و‪ ،‬ومثال ذلك لفظ "‬
‫الجذر" نسمعها من أستاذ الرياضيات أو أستاذ اللغة أو نسمعها من عالم النبات ‪ ،‬وفي كل‬
‫مرة تأخذ معنى غير المعنى األول ‪.‬‬
‫أو لفظ " الخط " نسمعها من طالب أو أستاذ ‪ ،‬ونسمعها من مسؤول في مديرية الهاتف ‪ ،‬أو‬
‫نسمعها من مسؤول في مديرية النقل؛ وفي كل سياق لها معنى‪.‬‬

‫نظرية الحقول الداللية‪:‬‬


‫البد من اإلشارة في البداية إلى أن موضوع هذه النظرية هو المعجم ؛ أي المعاني‬
‫اإلفرادية للكلمات وأنها تتوخى تنظيم المادة اللغوية بما يسهل مأخذها وبما يبين عما في اللغة‬
‫من الفجوات المعجمية حين تجمع الكلمات إلى بعضها في حقل واحد ؛ لذلك فإنه من‬
‫المنهجية تعريف مفهوم الحقل أوال ؛ فالحقول الداللية هي مجموعة من الكلمات ترتبط‬
‫دالالتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها ( أحمد مختار عمر ؛ علم الداللة ص‪، ).79‬‬
‫ويعرفه جورج مونان بأنه << تلك المساحة الداللية التي تغطيها مفردة أو مجموعة من‬
‫مفردات اللغة >> ( ‪) dictionnaire de la linguistique‬‬
‫‪37‬‬
‫وهي أي نظرية الحقول الداللية التي تنسب إلى العالم األلماني ‪ jost trier‬الذي صاغ‬
‫مبادئها وأسسها في العقد الثالث من القرن العشرين في كتابه " األلفاظ الفكرية في اللغة‬
‫األلمانية تتوخى تنظيم المداخل المعجمية وفق دالالتها في حقول محددة ؛ ذلك أن اللسانيات‬
‫الحديثة كانت قد تحدثت عن وجود نوعين من العالقات بين الكلمات حسب ما يرى ديسوسير‬
‫؛ نوع يقوم على العالقة االشتقاقية ‪ ،‬ونوع ثان يقوم على العالقة الداللية ؛ ومثل لذلك بكلمة‬
‫تعليم التي يمكن جعلها في مجموعة مثل ‪ :‬ع ْلم ‪ ،‬تعلم ‪ ،‬معلم ‪ ،‬إعالم ‪ ،.... ،‬وفي مجموعة‬
‫أخرى مثل ‪ :‬تربية ‪ ،‬تأديب ‪ ،‬ثقافة ‪ ،‬فكر ‪ ،...‬وعلى النوع األخير تنهض نظرية الحقول‬
‫الداللية التي تسعى إلى تطويق المادة المعجمية كلها‪ ،‬وتصنيفها في حقول داللية حيث تقوم‬
‫على أربعة مبادئ هي ‪:‬‬

‫‪ -1‬التصنيف يشمل جميع الوحدات المعجمية وال يمكن استثناء أي وحدة‪.‬‬


‫‪ -2‬ال يمكن تصنيف المدخل المعجمي الواحد في أكثر من حقل ‪.‬‬
‫‪ -3‬ال يمكن إغفال التركيب الذي ترد فيه الوحدة المعجمية ‪.‬‬
‫‪ - 4‬ال يمكن إغفال السياق الذي ترد فيه الوحدة المعجمية ‪.‬‬
‫عل ًما أن العالقة بين الكلمات داخل الحقل الواحد غير مهمة وال يطلب أكثر من وجود‬
‫عالقة بين الكلمات المنضوية تحت حقل واحد ‪ ،‬وعالقة تربط كل كلمة بمفهوم الحقل‬
‫الذي ترد فيه ‪ ،‬وينطلق إنجاز معجم وفق هذه النظرية من ‪:‬‬
‫‪ -‬إعداد قائمة بمفردات اللغة ( وهو ما توفره المعاجم التقليدية ) ‪.‬‬
‫‪ -‬حصر الحقول الداللية و المفاهيمية الموجودة في بيئة ما أو لغة ما ‪.‬‬
‫‪ -‬توزيع المفردات على الحقول بعد تصنيفها إلى مفردات أساسة ومفردات ثانوية‬
‫أهداف النظرية‪:‬‬
‫‪ -‬تنظيم اللغة في تجمعات تنفي عنها التسيب والتراكم‪.‬‬
‫‪ -‬تسهيل تناول اللغة حين تجمع المفردات على أساس التقارب الداللي ‪ ،‬فيجد ك ُّل طال ٍّ‬
‫ب‬
‫حاجته بجهد يسير ‪.‬‬
‫‪ -‬الكشف عن الفجوات المعجمية أي األفكار والمعاني واألشياء التي أغفلتها اللغة ولم‬
‫تخصص لها أسماء بغية تسميتها تيسيرا للتواصل ‪.‬‬
‫‪ -‬تدقيق التسمية من خالل المقارنة بين الوحدات المتقاربة المنضوية تحت حقل واحد‪،‬‬
‫وبينها وبين المصطلح العام الذي يجمعها وبخاصة في حال الترادف‪.‬‬
‫‪ -‬تعطي دراسة الكلمات وفق هذه النظرية تصورا عن الحياة االجتاعية والحضارية‬
‫عن أهل اللغة ‪.‬‬
‫الصعوبات التي اعترضت النظرية‪:‬‬
‫‪ -‬صعوبة حصر الحقول المعرفية لسعتها وتغيرها تبعا لتغير الحياة االجتماعية كلها ‪.‬‬
‫‪ -‬صعوبة التمييز بين الكلمات األساسية والكلمات الفرعية‪.‬‬
‫‪ -‬صعوبة ضبط العالقات بين المداخل المعجمية في الحقل الواحد ‪.‬‬
‫ومن المفيد اإلشارة إلى أن هذه الطريقة في التأليف المعجمي لها وجود في‬
‫الدرس العربي القديم حيث عرف اللغويون العرب منذ القرن الثالث طريقة التأليف‬
‫بحسب الموضوعات ؛ حيث نقرأ في ذلك‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ -‬حقل خلق اإلنسان ‪ :‬كتب فيه النضر بن شميل ( ت ‪204‬هـ) ‪ ،‬قطرب ( ‪206‬هــ) ‪،‬‬
‫أبو عبيدة (‪ 210‬هــ) ‪ ،‬األصمعي ( ‪215‬هــ )‪.‬‬
‫‪ -‬حقل الخيل ‪ :‬كتب فيه أبو عبيدة واألصمعي‬
‫‪ -‬حقل الحشرات‪ :‬كتب فيه أبو عبيدة كتاب " الحيات والعقارب " ‪ ،‬واألصمعي كتاب‬
‫النحل والعسل ‪ ،‬أحمد بن حاتم (‪231‬هــ) كتاب الجراد ‪ ،‬أبو حاتم السجستاني ‪:‬‬
‫كتاب ‪ :‬الحشرات والجراد والنحل والعسل‪ ( .‬ينظر ‪ :‬خليفة بوجادي محاضرات في‬
‫علم الداللة ‪ ،‬ص ‪.) 79‬‬
‫ولعل استواء نظرية الحقول الداللية على الصورة النظرية التي انتهت إليها يشي‬
‫بمثل هذا السبق إذ البد لكل عمل متقن من أصول وبدايات ‪ ،‬تماما كما الحال في‬
‫النظرية السياقية التي نجدها صدى لكتابات الكثير من اللغويين والبالغيين العرب ‪،‬‬
‫وال يخفى حديث الجرجاني في دالئل اإلعجاز أو الجاحظ في البان والتبيين ‪ ،‬أو‬
‫السكاكي في المفتاح ‪ ،‬أو غيرهم من أهل اللغة والبالغة عن أهمية السياق من غير أ ْن‬
‫نهمل جهود مفسري القرآن الذين أعملوا السياق في فهم كثير من النصوص ‪،‬‬
‫وبخاصة حديثهم عن أسباب النزول‪.‬‬

‫النظرية الوظيفية‪ :‬هي إحدى تمظهرات الفكر البنيوي الموروث من حلقة براغ التي‬
‫بعنوان‬ ‫استغلت أفكار دي سوسير حيث ظهرت تطبيقاتها األولى عند تروبتسكوي‬
‫‪ ، principe de phonologie‬ثم ظهرتأخيرا عند ‪ Andrie Martinet‬الذي يمكن أن‬
‫يوصف بأنه امتداد لتروبتسكوي الشتراكهما في النظر إلى الوحدات اللغوية معزولة عن‬
‫التركيب وتوجيه العناية في البحث إلى الجانب الوظيفي الداللي للوحدات والمقاطع الصوتية‬
‫؛ وهي << تتخذ المعنى مقياسا ها ًّما في تحليلها للنصوص اللغوية ‪ ،‬وتعتبر أن المعنى‬
‫يتغير بتغير اللفظ ‪ ،‬وهذا يقتضي شيئين في الحقيقة ‪ ،‬إذا تغير المعنى فال بد أن يتغير اللفظ ‪،‬‬
‫وإذا ثبت على حال واحدة فال بد أن يثبت المعنى كذلك >> ( خولة طالب اإلبراهيمي؛ مبادئ‬
‫في اللسانيات ‪ ،‬دار القصبة للنشر ‪ ،‬الجزائر ‪2000 ،‬م ص‪ .)86:‬ويمكن القول أن النظرية‬
‫الوظيفية تنظر إلى اللغة من خالل وظيفتها األساس ‪ ،‬وهي الوظيفة التواصلية اإلبالغية ‪،‬‬
‫وبعد ذلك فإن للوظيفية مبدأين ‪:‬‬
‫‪ – 1‬مبدأ الخطية ‪ :‬ومفهومها هو أن اللغة البشرية تخض لتتالي الزمني ‪ ،‬أي أن المنطوق‬
‫اللغوي ليس إال إنتاج الوحدات الصوتية متتابعة في الزمن ؛ حيث ال إمكانية لنطق صوتين أو‬
‫أكثر في لحظة زمنية واحدة ‪ ،‬ما يعني ضرورة الترتيب وأن الداللة اإلفرادية وقف على ذلك‬
‫الترتيب حيث ال فرق ‪-‬مثال ‪ -‬بين " ق ْم ٌع " و" عق ٌم " إال ترتيب الوحدات الصوتية‪.‬‬
‫‪ -2‬التقطيع المزدوج‪ :‬وهو إمكانية تقطيع السلسلة الكالمية إلى مستويين ؛ األول هو مستوى‬
‫الوحدات الدالة ‪ ،‬والثاني مستوى الوحدات غير الدالة ‪ ،‬فعبارة ‪ " :‬فهم محمد درسه " ‪ -‬مثال‬
‫–يمكن تقطيعها كالتالي ‪:‬‬
‫‪ -‬المستوى األول (الوحدات الدالة )‪ :‬فهم ‪ +‬محمد ‪ +‬درس ‪+‬ــــــه‬
‫‪ -‬المستوى الثاني ( الوحدات غير الدالة )‪ :‬ف ‪ +‬ـــــَـ ‪ +‬ه ‪+‬ــــــــ ‪ +‬م ‪ +‬ـــَـــ ‪ +‬د‬
‫‪+‬ــــــ َ ‪ +‬ر ‪+‬ــْــــ ‪ +‬س ‪+‬ــــــــ َ ‪ +‬ه‪+‬ــــــ‬

‫‪39‬‬
‫والتقطيع المزدوج إنما يورد كخاصة من خصائص اللسان البشري من جهة‪ ،‬وعلى‬
‫أنه مظهر لوظيفية الوحدات اللغوية من جهة أخرى ؛ حيث يترتب عن كل تغيير‬
‫في إحدى الوحدات الصوتية تغيير في المعنى الذي تدل عليه ‪.‬‬
‫النظرية السلوكية ‪ :‬تعنى النظرية السلوكية التي تنسب إلى اللساني األمريكي‬
‫‪ Bloomfield‬ببواعث إنتاج اللغة التي تردها إلى السلوك جريا وراء قانون العلوم المادية‬
‫الذي يرى أن جميع األفعال هي استجابات لمنبهات ما ؛ ولذالك فإن النظرية ترى أن اللغة‬
‫هي كذلك مشمولة بهذا القانون ‪ ،‬وال ينتج اإلنسان اللغة إال تحت تأثير منبه ما إذا لم يكن‬
‫خارجيا فهو داخلي مغفلة بذلك كل حديث عن الذهن أو العقل ‪ ،‬أو الفعل اإلرادي ‪ ،‬ومن‬
‫أسسها كذلك أنها ترى في اللغة سلوكا يتعلم عمليًّا ال نظريا ًّ ‪ ،‬أي أنها تكتسب من خالل‬
‫النماذج السلوكية‪ ،‬وليس التواصل اللغوي عند السلوكيين إال استجابات لمؤثرات ما ‪ ،‬وفي‬
‫العموم فإن بلوم فيلد وفي محاولة منه لتجاوز الفهم الذهني للغة والنظر إلى الداللة من خالل‬
‫السلوك اللغوي القابل للمالحظة << عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه الموقف الذي ينطقها‬
‫المتكلم فيه ‪ ،‬االستجابة التي تستدعيها من السامع ؛ فعن طريق نطق صيغة لغوية يحث‬
‫المتكلم سامعه على االستجابة لموقفٍّ ‪ ،‬هذا الموقف وتلك االستجابة هما المعنى اللغوي‬
‫للصيغة>> ( فهمي زيدان ‪ ،‬في فلسفة اللغة ص‪. )61‬‬
‫ولكن النقد الذي وجه إلى هذه النظرية هو أن اللغة ال يمكن أن تكون كلها نفعية بالشكل‬
‫الذي مثل به أصحاب النظرية من خالل تجربة جيل الجائعة وإمدادها بالتفاحة ؛ إ ْذ إن كثيرا‬
‫من مظاهر اللغة غير نفعي ٍّ ‪ ،‬وال تواصلي ٍّ أصال كحديث اإلنسان إلى نفسه أو تغنيه وإنشاده‬
‫أو ما يمكن أن يدخل تحت الوظائف غير اإلبالغية للغة ‪ ،‬وفضال عن ذلك فإن اللغة إنما تفهم‬
‫في السياق الذي ترد فيه ما يعني أن نقل الملفوظ من سياق إلى آخر كثيرا ما يعرضه لفقدان‬
‫داللته أو تغيرها ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫فهرس الموضوعات‬

‫الموضوع‪ .......................................................‬الصفحة‬
‫مدخل عام‪02 ......................................................‬‬
‫محاور المقياس ‪03..................................................‬‬
‫بعض المراجع في المقياس‪04........................................‬‬
‫تمهيد‪05............................................................‬‬
‫الداللة عند القدماء ( الهنود واليونان )‪07............................‬‬
‫الداللة عند القدماء ( العرب والمسلمون ) ‪11.......................‬‬
‫علم الداللة الحديث المصطلح والمفهوم ‪15..........................‬‬
‫الدليل اللساني المصطلح والمفهوم ‪17...............................‬‬
‫أنواع الداللة وأنواع المعنى‪21.......................................‬‬
‫عالقة علم الداللة بالعلوم اللغوية ‪26................................‬‬
‫عالقة علم الداللة بالعلوم غير اللغوية ‪32...........................‬‬
‫التغير الداللي أسبابه مظاهره‪36....................................‬‬
‫العالقات الداللية ‪42...............................................‬‬
‫نظريات التحليل الداللي ‪...................................‬‬
‫‪49.....‬‬
‫فهرس الموضوعات‪57.............................................‬‬

‫‪41‬‬

You might also like