Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 718

‫صــقدـا‬

‫الم‬
‫عـنـد‬
‫المإـام‬
‫‪-1-‬‬
K
-2-
‫مإـحـمــود عـبـد الهـادي فاعــور‬

‫المـقـاص‬
‫ـد‬
‫عـنـد‬
‫المإـام‬
‫الشـاطبي‬
‫دراســة أصــوليـة فـقـهـيـة‬
‫‪-3-‬‬
‫الطبعـة الوألى‬
‫‪1427‬هـ ‪2006 -‬م‬

‫بســيـوني للطبـاعـة‬
‫تلفون‪836014/03 :‬‬
‫صـيـدا ‪ -‬لبنـان‬

‫‪-4-‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫مإة‬
‫د َ‬‫المـقَـ ّ‬

‫الحمد ل رب العالمين‪ ،‬والصلةا والسلما على سيدنا محمد‪،‬‬


‫وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ،‬وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوما‬
‫الدين‪.‬‬

‫وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأن محمداا عبده‬


‫ورسوله‪ ،‬بلغ الرسالة وأدى المانة‪ ،‬وشهد على المة وأشـهد ال‬
‫على ذلك‪ .‬فقال‪» :‬أل هل بلغت؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اللهم فاشهد«‪ ،‬ثلثا مرات يقولون‪ :‬نعم‪ ،‬يشهدون على‬
‫أنفسهم‪ ،‬ويشهد ‪ ‬عليهم‪ ،‬ثم يشهد ال تعالى على ذلك‪ ،‬ثم التحق‬
‫‪ ‬بالرفيـق العلى‪ ،‬فحمل الصـحابة من بعده المانـة‪ ،‬وقاموا‬
‫بحقها خير القياما‪ ،‬وأدوها إلى من بعدهم‪ ،‬وظهر الحق وزهق‬
‫الباطل‪ ،‬فساد السـلما وانقشـع الظلما‪.‬‬

‫ثم خلف من بعدهم خلف ضيييعوا المانة فضاعوا‪ ،‬استبدلوا‬


‫النار بالنور‪ ،‬فاحترقوا ولم يستضيئوا‪ ،‬نسوا ال فنسيهم‪ ،‬وأنساهم‬
‫أنفسهم‪ ،‬فصاروا صماا وهم السماعون‪ ،‬أبصارهم ترى ولكنهم‬
‫عميي ل يبصرون‪ ،‬لهم قلوب يهوون بها ولكنهم ل يفقهون‪ ،‬وتضيق‬
‫بها الصدور‪ ،‬قل إن هدى ال هو الهدى‪ ،‬ومن يهد ال فهو المهتد‬
‫ومن يضلل فلن تجد له ولييياا مرشداا‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فإن ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬نزيل أحسن الحديث كتاباا‪ ،‬يهدي للتي هي‬


‫أقوما‪ ،‬يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلما‪ ،‬فبييين وعــرييفَّ ســبيل‬
‫الحق واليمان وسبل الضلل والشيطان وأمر باتباع صفيه وخليلــه‬
‫فقال‪         [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ ، ]   ‬ونهى عن اتباع الشيطان وحذيير فقال‪[ :‬‬
‫ج‬

‫) ( سورةا يوسف‪. 108 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪-5-‬‬
‫‪ ، (1) ]    ‬وأمر بمعاداته ومحار ب ته‬
‫فقال‪ ، (2) ]        [ :‬وأمر‬
‫تعالى بأن ييعبد هو وحده ول يعبد سواه‪ ،‬فما حسيينه ف هــو ح ســن‪،‬‬
‫وما قبحه فهو قبيح‪ ،‬ول معقيقبِّ لحكمه‪     [ .‬‬
‫)‪3‬‬
‫‪     [ ، ]    ‬‬
‫(‬

‫‪        ‬‬


‫‪ . (4) ]   ‬فالمانة التي شهد ال ورسوله علينا‬
‫بحملها هي أن نعبد ال وحده‪ ،‬وأن نيعبيقد ال نــاس لــه ت عــالى‪ ،‬وأن‬
‫نشهد بذلك على الناس‪ ،‬فنبلغهم إياها ونخضعهم لهــا‪ [ ،‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪. (5) ]  ‬‬

‫ولكن‪ ،‬شاء ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن يكون الحال هو الحال‪،‬‬


‫وهو أبلغ من كل مقال‪ ،‬عند من عرفَّ معنى الرسالة ومعنى‬
‫المانة ومعنى الشهادةا‪ ،‬ومعنى أن ال أمر‪ ،‬وأن ال نهى‪ ،‬وأن ال‬
‫قال‪ .‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫وإنه لمما يزيد النحطاط غوراا‪ ،‬والتيه ضللا‪ ،‬والضلل‬


‫بعداا‪ ،‬أن تنبهر العيون بضوءق ا لنار‪ ،‬وأن تعمى القلوب التي في‬
‫الصدور‪ ،‬فيتوهييمي الداء دواءا‪ ،‬والسم ترياقاا‪ ،‬وأن يصدق الكاذب‪،‬‬
‫ويكذييب الصادق‪ ،‬ويخويين المين‪ ،‬ويؤتمن الخائن‪ ،‬وأن يستمع إلى‬
‫الرويبضة‪ ،‬وأن يعمى العالمون عن الضياء‪ ،‬ويغذوا السير خلف من‬
‫قال‪ :‬هذي النار نور وذاك النور نار‪.‬‬

‫وذلك أنه بعد أن أيقصقيي الحكم بالسلما عن الحياةا‪،‬‬


‫واستبدل حكم الطاغوت به‪ ،‬نبتت نابتة تبدل وتحرفَّ‪ ،‬وتضفي على‬
‫أحكاما الكفر صفة الشرعية‪ ،‬شرعية السلما‪ ،‬تفريقغِّ السلما من‬

‫سورةا البقرةا‪. 168 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا فاطر‪. 6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا يوسف‪. 40 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا الحزاب‪. 36 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 143 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪-6-‬‬
‫مضمونه وتحشوه شيئاا آخر‪ ،‬جديداا‪ ،‬وتتذرييع بالتجديد‪،‬‬
‫وتيؤيويقل وتيغيييقر لتوفيقق بين أحكاما السلما وأحكاما الكفر‪،‬‬
‫وتتذرع بالتطوير‪ ،‬أو بحجة اللحاق بالركبِّ أو المحافظة على ما‬
‫بقي‪.‬‬

‫ويقول قائلهم‪ :‬ل ييرقفيينيي لكم جفن أيها المسلمون !‬


‫فالسلما مرن‪ ،‬وصالح لكل زمان ومكان‪ ،‬وبهذين وغيرهما يخلو‬
‫السلما باسم السلما من حقيقته وجوهره‪ ،‬ويصبح شيئاا آخر‪.‬‬

‫وقد وجد المحرفون باسم التجديد والتطوير فكرةا المصالح‬


‫والمقاصد‪ ،‬فاتكأوا عليها‪ ،‬فالشريعة إنما جاءت لمصالح العباد‪،‬‬
‫فقلبوا الحقيقة‪ ،‬وبدل أن تكون‪ :‬المصلحة حيث الشرع‪ ،‬زعموا أن‬
‫الشرع حيث المصلحة‪ .‬وصارت مقاصد الشريعة بديلا عن‬
‫الشريعة‪ .‬وإذا قيل‪ :‬يا قوما‪ ،‬الشريعةي الشريعةي! قال الذين ضل‬
‫سعيهم في الحياةا الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاا ‪ -‬في‬
‫أحسن الحالت ‪ : -‬دعوكم من هؤلء‪ ،‬فإنهم جامدون‪ ،‬ل يتطورون‪،‬‬
‫ول يجددون‪ ،‬ول يفقهون الواقع‪ ،‬وإن في الشريعة أسراراا وفي‬
‫الدين أولويات وموازنات‪ ،‬وإذا واجهت هؤلء نصوص القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬حاروا وداروا‪ ،‬وبحثوا ونقييبوا‪ ،‬ثم اجتزأوا وقالوا‪ .‬فكان‬
‫مما قالوا‪ :‬المصالح والمقاصد‪ ،‬الشاطبي وموافقات الشاطبي‪،‬‬
‫الموافقات‪ :‬رائعة الشاطبي‪ ،‬شيخ المقاصد‪ .‬اجتزأوا ثم اجترأوا‬
‫فقالوا‪ :‬هؤلء الذين يواجهوننا بالنصوص ما زالت تحكمهم عقدةا‬
‫النص‪ ،‬وأوهموا أنهم أهل فقه وأن غيرهم ظاهرية‪ .‬أي جرأةا هذه!‬
‫وأي فقه هذا! وفيمن يسارعون!‬

‫نظر الباحث في هذه القوال والراء‪.‬‬


‫المصالح‪ ،‬والمصالح المرسلة! ل بأس‪ ،‬فليكن‪ ،‬ولكن هذا الذي‬
‫أتيتم به ليس مصالح‪ ،‬ول مصالح مرسلة‪ ،‬إنها ‪ -‬في المصطلح‬
‫الصولي ‪ -‬مصالح ملغاةا‪ ،‬منقوضة بالنصوص‪ ،‬فهي إذاا مفاسد‪.‬‬

‫‪-7-‬‬
‫المقاصد‪ ،‬مقاصد الشريعة! نعم‪ ،‬فليكن‪ ،‬ولكن هذا الذي أتيتم‬
‫به ليس مقاصد الشريعة‪ ،‬إنها مقاصدكم‪ ،‬أو مقاصد مرضى‬
‫القلوب‪ .‬فأين في مقاصد الشريعة أن يصبح حفظ الدين هو حرية‬
‫العقيدةا‪ ،‬وحق تبديل الدين‪ .‬وأين في مقاصد الشريعة إلغاء‬
‫الشريعة‪ ،‬فتصبح الردةا حقاا من حقوق النسان‪ ،‬ويصبح قتل‬
‫المرتد جريمة‪ .‬وهل في مقاصد الشريعة أن يكون النص‪ [ :‬‬
‫‪ (1)] ‬ويكون المقصد ‪ :‬الربا حلل‪ ،‬والزمان والمكان‬
‫بذلك كفيلن!‬

‫وأين في مقاصد الشريعة أن يصبح حفظ المال معناه حرية‬


‫الملكية‪ ،‬وحفظ العقل معناه حرية الرأي‪ ،‬وهل هذا في ديننا‪ ،‬نحن‬
‫المسلمين؟‬

‫قالوا‪ :‬الشاطبي وجديد الشاطبي‪ ،‬الموافقات وما أحوجنا إلى‬


‫ما فيها!‬

‫وهل الش ـ اطبي ينح ـ ر الدي ـ ن على مش ـ ارفَّ مقاصده‪ ،‬ويبقر‬


‫بطن الشريعة على أعتاب المصلحة؟‬

‫نظر الباحث في )الموافقات(‪ ،‬ودرسه‪ ،‬من أوله إلى آخره‪،‬‬


‫ومن آخره إلى أوله‪ .‬فيه عمق‪ ،‬وصاحبه صاحبِّ قصد‪ ،‬ويحتاج إلى‬
‫نظر وإعادةا نظر‪ ،‬فليكن‪ ،‬انكبِّ عليه الباحث وأنعم فيه النظر‪.‬‬
‫فكانت النتيجة أن الشاطبي مفترىا عليه من فريق وغير مفهوما‬
‫من فريق آخر‪.‬‬

‫والحاصل أن الشاطبي بريء مما ينسبِّ إليه في المصالح‬


‫والمقاصد‪ .‬وتابع الباحث دراسة الشاطبي عبر )العتصاما(‪ ،‬فوجد‬
‫أن هؤلء الذين يتخذونه ستارةا يختبئون خلفها هم مبتدعة‬
‫بنظره‪.‬‬

‫إن الموافقات ل توافق هؤلء‪ ،‬والشاطبي يحذر منهم ويحمل‬


‫) ( سورةا البقرةا‪. 275 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪-8-‬‬
‫عليهم وعلى منهجهم‪ .‬ومن هنا نشأت دوافع بحث هذا الموضوع‪،‬‬
‫وهي باختصار‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ إن الدين تكليف‪ ،‬وأمانة في عنق كل من وعاها‪ .‬وقد‬


‫رأى الباحث أن مقن واجبه بيان أن مقاصد الشريعة ل تنقض‬
‫الشريعة‪ ،‬ول تبطل أحكامها‪ ،‬فإذا كانت المقاصد مقاصد الشريعة‪،‬‬
‫فهي فرع لها‪ ،‬والشريعة هي الصل‪ ،‬ول يصح أن يرجع الفرع على‬
‫الصل بالبطال‪ .‬ول بد من مواجهة كل فكر أو طرح يدعو إلى‬
‫إهدار الشريعة أو تعدي حدودها‪ ،‬وخاصة إذا كان ذلك باسم‬
‫السلما‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ لما تمسييك البعض بالشاطبي وموافقاته‪ ،‬ونسبوا إليه‬


‫ما ل يقوله‪ ،‬بل ما دأب على التحذير منه‪ ،‬كان ل بد من بيان‬
‫حقيقة هذا المر‪ ،‬وأنه ل مستمسك بالشاطبي أو بالموافقات لمن‬
‫أراد أن يبديقل أو يغير في أحكاما الشريعة بحجة مقاصدها‪ ،‬سواء‬
‫بحسن نية وقصد أو بسوئهما‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ لما كثر الحديث عن الشاطبي وفكرته في المقاصد أو‬


‫نظريته فيها‪ ،‬وعن جديده في كيفية فهم الشريعة‪ ،‬وطرحت‬
‫أبحاثا في ذلك وحوله‪ ،‬في كتبِّ‪ ،‬وعلى صفحات المجلت‬
‫والجرائد‪ ،‬وعلى شاشات الفضائيات‪ ،‬ووجد الباحث أنها كلها بعيدةا‬
‫عن الشاطبي وعن فكرته أو منهجه أو جديده‪ ،‬شعر بأنه عليه أن‬
‫يبييقن ما يراه الصواب في هذا الشأن‪.‬‬

‫وإن الباحث ليرى أن هذا العمل هو من أعمال حمل الدعوةا‪،‬‬


‫ومن أعمال الحوار أو الصراع الفكري‪ ،‬وهو يسأل ال تعالى أن‬
‫يكتبِّ لهذا العمل القبول عنده‪ ،‬وأن يجزل له فيه الجر والثواب‪.‬‬

‫ولقد أردت من هذا الكتاب أن يكون بحثاا عن حقيقة فكرةا‬


‫المقاصد عند الشاطبي‪ ،‬لذلك فقد جاء موضوعه دراسة تحليلية‬
‫لفكار الشاطبي‪ ،‬ولما سطييره في كتاب الموافقات على وجه‬

‫‪-9-‬‬
‫الخصوص‪ .‬فهذا الكتاب دراسة تحليلية لنصوص الموافقات ‪.‬‬
‫وقد اعتمدت في هذه الدراسة على الطبعة التي هي بتحقيق‬
‫الشيخين محمد الخضر حسين التونسي ومحمد حسنين مخلوفَّ‪،‬‬
‫وهي أربعة أجزاء في مجلدين‪ ،‬حيث حقق الول الجزأين الول‬
‫والثاني‪ ،‬وحقق الثاني الجزأين الثالث والرابع‪ ،‬فحيثما أيحلتي أو‬
‫رجعت إلى الموافقات فقد رجعت إلى هذه الطبعة‪ ،‬وإذا أحلتي إلى‬
‫غيرها نوهت إلى ذلك‪.‬‬

‫ولم أترجم للعلما في هذا الكتاب إل باختصار وحيث وجدت‬


‫لزوماا لذلك‪ ،‬كالعلما الذين كثر الستشهاد بهم‪.‬‬

‫وقد قمت بتخريج جميع اليات التي وردت في الكتاب‪.‬‬


‫وكذلك خرجت جميع الحاديث الواردةا فيه تخريجاا مختصراا‬
‫معتمداا على القرص المضغوط )‪ ( CD‬لبرنامج موسوعة الحاديث‬
‫الشريفة‪ ،‬إنتاج شركة صخر‪ ،‬الصدار الثاني‪ ،‬وهو يحتوي على‬
‫كتبِّ الحاديث التسعة )مذكورةا في قائمة المصادر والمراجع(‪،‬‬
‫ويعتمد على ترقيم العالمية‪ .‬وحيثما لم أكتف بما وجدته في هذا‬
‫البرنامج‪ ،‬فقد أشرت إلى الكتاب أو الكتبِّ التي أخذته منها‪ ،‬بذكر‬
‫اسم الكتاب وطبعته ورقم الحديث فيه والجزء والصفحة‪.‬‬

‫ولم أورد قولا أو رأياا للشاطبي إل ووثقته بنص أو نصوص‬


‫من عنده‪ ،‬ولو كان هذا الرأي قد تبين في فصل سابق‪ ،‬وذلك‬
‫نزوعاا إلى اكتمال وحدةا الفصل واستقلليته ما أمكن‪ .‬وغالباا ما‬
‫أتيت بأكثر من نص للدللة على موقف الشاطبي أو رأيه‪ ،‬وذلك‬
‫منعاا لتفسير أقواله بما ل يقصده‪.‬‬

‫وقد جعلت هذا الكتاب أو هذه الدراسة في مقدمة ثم تعريف‬


‫بالشاطبي وعصره ثم عشرةا فصول وخاتمة مختصرةا‪ ،‬يلي ذلك‬
‫فهارس لليات الكريمة والحاديث الشريفة‪ ،‬والمصادر والمراجع‪،‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫ثم محتويات الكتاب‪.‬‬
‫الفصل الوأل ‪ :‬التمهيد لنشوء فكرةا مقاصد الشريعة‪ .‬وهو‬
‫يحتوي على مقدمة في نشأةا علم أصول الفقه وتطوره‪ ،‬وعلى‬
‫ثلثة مباحث‪ :‬الول في القياس‪ ،‬والثاني في مسالك العلة‬
‫وشروطها‪ ،‬والثالث في مسلك الخالة والمناسبة‪ ،‬وهي مما يلزما‬
‫للدخول إلى مباحث أصول الفقه والقياس والتعليل‪ .‬وعلى وجه‬
‫الخصوص مسلك الخالة والمناسبة كتمهيد لفكرةا مقاصد‬
‫الشريعة‪.‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬نشأةا فكرةا مقاصد الشريعة‪ .‬وهو يحتوي‬


‫على عرض موجز لنشأةا الفكرةا‪ ،‬ثم ثلثة مباحث في كيفية‬
‫نشأتها وتطورها عند أئمة الصول ما قبل الشاطبي‪ ،‬مما يشكل‬
‫تمهيداا لفكرةا المقاصد عند الشاطبي‪.‬‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬ضوابط المقاصد عند الشاطبي‪ .‬وهو‬


‫يحتوي على ثلثة مباحث‪ ،‬الول والثاني في المقدمات والضوابط‪،‬‬
‫ثم المستندات والصول التي جعلها الشاطبي لزمةا لفهم كتابه‬
‫)الموافقات(‪ ،‬والمبحث الثالث في النتائج ومفهوما المصلحة‬
‫والمفسدةا عند الشاطبي‪.‬‬

‫الفصل الرابع ‪ :‬قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءا‬


‫وفي وضعها للفهاما‪ .‬وهو في بيان أنواع مقاصد الشارع وهي‬
‫أربعة‪ ،‬وأقوال الشاطبي ومنهجه في فهم النوعين‪ :‬الول وهو‬
‫وضع الشريعة ابتداءا‪ ،‬والثاني‪ :‬وهو وضعها للفهاما‪.‬‬

‫الفصل الخامإس ‪ :‬قصد الشارع في وضع الشريعة‬


‫للتكليف بمقتضاها وفي دخول المكلف تحت أحكامها‪ .‬وهو في‬
‫بيان أقوال الشاطبي ومنهجه في فهم النوعين‪ :‬الثالث‪ :‬وهو وضع‬
‫الشريعة للتكليف بمقتضاها‪ ،‬والرابع‪ :‬وهو دخول المكلف تحت‬

‫‪- 11 -‬‬
‫أحكاما الشريعة‪.‬‬
‫الفصل السادس ‪ :‬مقاصد المكلف‪ .‬ويحتوي على تمهيد‬
‫وثلثة مباحث في بيان أثر النية أو المقصد في فعل المكلف‪،‬‬
‫وأثر الموافقة أو المخالفة بين قصد الشارع وقصد المكلف في‬
‫الفعل‪ ،‬وفي بيان الحيل وموقف الشاطبي منها‪.‬‬

‫الفصل السابع ‪ :‬منهج الشاطبي في فهم الشريعة‪.‬‬


‫ويحتوي على ثلثة مباحث في بيان منهج الشاطبي في تقرير‬
‫القواعد والصول عبر الستقراء فقط‪ .‬ومنهجه في فهم الشريعة‬
‫واستنباط الحكاما عموماا‪ ،‬ومنهجه وآرائه في فهم القرآن وفي‬
‫فهم السنة‪ .‬وهو من أهم تطبيقات أفكاره في المقاصد‪.‬‬

‫الفصل الثامإن ‪ :‬الجتهاد والتقليد‪ .‬وهو في بيان آراء‬


‫الشاطبي في الجتهاد والتقليد والفتوى وضوابط كل منها‪،‬‬
‫والمجتهد المعتبر وشروطه‪ .‬وهو مثل الفصل السابق من حيث‬
‫أهميته لجهة كونه من نتائج فكرته في المقاصد‪ ،‬وفيه مبحث‬
‫لصل مآلت الفعال عنده‪.‬‬

‫الفصل التاسع ‪ :‬في تطبيق الفكرةا‪ :‬ثلثا قواعد كلييية‪.‬‬


‫وهو في بيان تطبيق فكرته في الستقراء وتقرير الصول من‬
‫خلل بحث ثلثا قواعد كلية في ثلثة مباحث‪ .‬الول‪ :‬في قاعدةا‬
‫المصالح المرسلة‪ ،‬والثاني في قاعدةا الستحسان‪ ،‬والثالث في‬
‫قاعدةا سيديق الذرائع‪ ،‬وضمن ذلك بحث لقاعدةا الضرر‪.‬‬

‫الفصل العاشر ‪ :‬فكرةا المقاصد عند الشاطبي‪ :‬عرض‬


‫ومناقشة‪ .‬ويحتوي على ثلثة مباحث‪ ،‬الول في عرض فكرته‬
‫وإبراز أساسها وأركانها باختصار‪ .‬والمبحثان الثاني والثالث في‬
‫مناقشة فكرةا الشاطبي ومنهجه من خلل مناقشة أساسها وأركانها ‪.‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫الشـاطبي‬
‫وأعصـره‬
‫التعريف بالشاطبي‬
‫عصـره‬
‫الحالة السياسية‬
‫الحالة القتصادية‬
‫الحالة العلمية‬
‫مإناخ المجتمع الثقافي‬
‫شيوخ الشاطبي‬
‫تلمإيذه‬
‫مإكانته العلمية‬
‫مإؤلفاته‬

‫‪- 13 -‬‬
‫تعريف بالشـاطبي وأعصـره‬
‫التعريف بالشاطبي‪:‬‬
‫هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي‪،‬‬
‫المعروفَّ بالشاطبي)‪ ، (1‬من علماء المالكية في الندلس‪.‬‬
‫اشتهر بالشاطبي نسبةا إلى شاطبة موطن آبائه‪ ،‬وقد لجأت‬
‫أسرته إلى غرناطة بعد سقوط شاطبة بيد النصارى‪.‬‬
‫عاش الشاطبي حياته كلها في غرناطة في القرن الثامن‬
‫الهجري‪ .‬وقد اختلف في مولده وفي وفاته‪ ،‬والمعتمد في وفاته‬
‫أنها كانت سنة ‪ 790‬هـ ‪ 1388 -‬ما‪ .‬وذلك أن أحد تلميذه‪ ،‬أبا‬
‫يحيى بن محمد بن عاصم‪ ،‬نظم كتاب الموافقات في ستة آلفَّ‬
‫بيت ذكر فيها تاريخ وفاته فقال )الرجز(‪:‬‬

‫في عاماق تقسنــعيني إلــى‬ ‫حتيى غيــديت ح يــاتيهي‬


‫)‪(2‬‬
‫سيــــــــــبنعقمائة‬ ‫ميننقيضقـــــــــــيية‬

‫وقال أحمد بابا التنبكتي‪» :‬توفي يوما الثلثاء من شعبان سنة‬


‫تسعين وسبعمائة‪ ،‬ولم أقف على مولده رحمه ال«هل)‪. (3‬‬
‫أما مولده فليس فيه قول موثق‪ .‬فالتنبكتي الذي يعد كتابه‬
‫أحد أدق المراجع في ترجمته يصرح بأنه لم يقف على تاريخ‬
‫مولده‪.‬‬
‫وقد رجح الدكتور حمادي العبيدي أن يكون مولده قريباا من‬
‫‪ 730‬هـ بناءا على أنه كان صديقاا نداا للوزير ابن زمرك الذي‬
‫ولد سنة ‪ 733‬هـ وبناء على فهمم له بأن الشاطبي كان صغير السن‬
‫) ( أحمد بابا التنبكتي‪ ،‬نيل البتهاج بتطريز الديباج‪ ،‬ص‪ ، 46 :‬بهامش‬ ‫‪1‬‬

‫الديباج لبن فرحون‪ ،‬ط ‪ ، 1‬مكتبة السعادةا‪ ،‬مصر‪ 1329 ،‬هـ‪.‬‬


‫) ( محمد أبو الجفان‪ ،‬تحقيق وتعليق على كتاب الفادات والنشادات‬ ‫‪2‬‬

‫للشاطبي‪ ،‬ص‪ ، 32 :‬ط ‪ 1406 ، 2‬هـ ‪ 1986 ،‬ما‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫) ( التنبكتي‪ ،‬ن يل البتهاج‪ ،‬ص‪. 46 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪14‬‬
‫سنة ‪. (1)756‬‬
‫أما الستاذ محمد أبو الجفان فقد رجح في مقدمته لكتاب‬
‫فتاوى الشاطبي)‪ ، (2‬أن تكون ولدةا الشاطبي قبل سنة ‪ 720‬هـ بناء‬
‫على أن وفاةا أسبق شيوخه أبي جعفر أحمد بن الزيات كانت سنة‬
‫‪ 728‬هـ ‪ .‬فل بد على أقل تقدير أن يكون الشاطبي في هذا التاريخ‬
‫يافعاا‪ ،‬وقد أشار إلى هذا المر في مقدمته على كتاب الفادات‬
‫والنشادات )‪. (3‬‬
‫والرجح ما ذهبِّ إليه الستاذ محمد أبو الجفان‪ ،‬وحجته في‬
‫ذلك وجيهة‪ .‬أما قول الدكتور العبيدي فل حجة فيه‪ .‬فصداقة ابن‬
‫زمرك والشاطبي ل تمنع أن يكبر أحدهما الخر بعشرين سنة أو‬
‫أكثر‪ .‬وكذلك فإنه ل يوجد دليل على أن الشاطبي كان صغير‬
‫السن سنة ‪ 756‬هـ ‪ .‬وهذا القول هو خلط بين إفادتيه رقم ‪ 66‬ورقم‬
‫‪ ، 67‬حيث ذكر في إحداهما تاريخ وفاةا أسبق شيوخه‪ ،‬وفي الخرى‬
‫أنه كان صغير السن‪ ،‬ولكن الفادتين مختلفتان ول علقة لحداهما‬
‫بالخرى )‪. (4‬‬
‫عصـره‪:‬‬
‫)‪(5‬‬
‫في عهد ملوك بني الحمر‪،‬‬ ‫عاش الشاطبي في مدينة غرناطة‬

‫) ( حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص ‪ ،12 :‬ط ‪ 1412 ، 1‬هـ‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 1992 -‬ما‪ ،‬دار قتيبة‪ ،‬بيروت ودمشق ‪.‬‬


‫) ( هذا الكتاب ليس للشاطبي‪ ،‬وإنما أصدره الستاذ محمد أبو الجفان وقد‬ ‫‪2‬‬

‫جمعت فيه فتاوى الشاطبي من كتابيه‪ :‬الموافقات والعتصاما ‪.‬‬


‫) ( أنظر‪ :‬محمد أبو الجفان‪ ،‬تعليقه على الفادات والنشادات للشاطبي‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص‪ ، 17 :‬هامش رقم ‪. 2‬‬


‫) ( أنظر‪ :‬الشاطبي‪ ،‬الفادات والنشادات‪ ،‬إفادةا رقم ‪ ، 66‬وإفادةا رقم ‪، 67‬‬ ‫‪4‬‬

‫ص‪ 143 :‬وهو المصدر المذكور سابقاا بتحقيق الستاذ محمد أبو‬
‫الجفان ‪.‬‬
‫) ( قال الفيروز أبادي في القاموس المحيط‪ :‬غرناطة‪ » :‬والصواب‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫أغرناطة ‪ .‬ومعناها‪ :‬الرمانة‪ ،‬بالندلسية«هل‪ ،‬ص‪ ،877 :‬مؤسسة الرسالة‬


‫ودار المؤيد‪ ،‬إشرافَّ‪ :‬محمد نعيم العرقسوسي‪ 1415 ،‬هـ ‪ 1994 -‬ما ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫في دولة بني نصر‪ ،‬التي لم تكن تتمتع آنذاك بالستقرار‪ ،‬ويرجع‬
‫السببِّ الرئيس في ذلك إلى محاولت النصارى القضاء على السلما‬
‫في الندلس‪ .‬ولبيان أحوال العصر الذي عاش فيه الشاطبي‪ ،‬وللقاء‬
‫الضوء على ملمح هذا العصر‪ ،‬من المفيد الشارةا إلى محطات‬
‫تاريخية في حياةا المسلمين في الندلس‪.‬‬
‫فقد أسس الدولة السلمية في الندلس عبد الرحمن بن‬
‫معاوية بن هشاما بن عبد الملك بن مروان الملقبِّ صقر قريش‪.‬‬
‫وقد عرفَّ باسم عبد الرحمن الداخل لنه أول من دخل الندلس من‬
‫أمراء المويين بعد أن فر ونجا من العباسيين)‪ . (1‬دخل قرطبة سنة‬
‫‪ 139‬هـ ‪ ،‬دخول الفاتحين‪ ،‬ثم قاما بتوطيد دعائم الدولة‪ ،‬مستقلة عن‬
‫دولة الخلفة‪ ،‬ولكنه لم يسم نفسه خليفة‪.‬‬
‫حاول العباسيون استرداد الندلس سنة ‪ 149‬هـ فعجزوا‪.‬‬
‫حاول شارلمان ملك الفرنجة بالتعاون مع حكاما المدن‬
‫السبانية القضاء على إمارةا عبد الرحمن ولكنه فشل‪.‬‬
‫قاما عبد الرحمن بإعمار إمارته وتطويرها‪ ،‬وبتشجيع العلوما‬
‫والفنون‪ ،‬والزراعة والصناعة‪ ،‬فأصبحت قرطبة عاصمة الندلس‪.‬‬
‫وتجلت فيها المظاهر المدنية والعمرانية من خلل مساجدها‬
‫ومعاهدها وقصورها وحدائقها‪ .‬واستمر التطور بعده‪ ،‬فتجلت‬
‫حضارةا الندلس من خلل الحركة الفكرية والثقافية الناشطة‪.‬‬
‫وحظيت قرطبة بعناية خاصة على صعيد العمران‪ ،‬والجمال‪ ،‬وبناء‬
‫المستشفيات ودور العلم ودور العبادةا‪ ،‬وانتشرت العلوما والمعارفَّ‪،‬‬
‫وعقدت الندوات والمناقشات الفكرية والفلسفية‪ ،‬ونشطت الترجمة‪،‬‬
‫وازدهرت الندلس‪ ،‬وسادها المن والستقرار‪ ،‬ودخل كثير من‬
‫)‪(2‬‬
‫السبان السلما‪ ،‬ونبغ منهم أدباء ساهموا في نشر اللغة العربية ‪.‬‬

‫نوفل ‪-‬‬ ‫) ( إبراهيم الشريفي‪ ،‬التاريخ السلمي‪ ،‬ص‪ ، 149 :‬ط ‪ ،2‬مؤسسة‬ ‫‪1‬‬

‫بيروت‪ 1391 ،‬هـ ‪ 1971 -‬ما ‪.‬‬


‫) ( إبراهيم الشريفي ‪ ،‬التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪. 153‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪16‬‬
‫ثم تعاقبِّ على الحكم أمراء ضعفاء‪ ،‬ودب الضعف في جسم‬
‫الدولة لمدةا اثنين وستين سنة‪ ،‬حتى تولى الحكم عبد الرحمن‬
‫الناصر سنة ‪ 300‬هـ ‪ .‬و في عهده بلغت الندلس عصرها الذهبي‪،‬‬
‫وعمها الرخاء وتحققت فيها مشاريع عمرانية وزراعية وصناعية‪،‬‬
‫بالضافة إلى ما أنشيء فيها من مساجد ومدارس ومستشفيات‪،‬‬
‫وأنشئت القصور‪ ،‬وأضيئت الشوارع بالقناديل‪ ،‬وانتشرت الحدائق‬
‫الغنياء‪ ،‬وأمايي الطلب من سائر النحاء الندلس للدراسة في معاهدها‬
‫وجامعاتها‪ ،‬وازدادت ثروةا البلد‪ ،‬وتضاعفت موارد الدولة‪ .‬وأينفققي‬
‫الكثير وادييخر الكثير‪ .‬وداما حكم عبد الرحمن الناصر خمسين سنة‬
‫‪ 350 - 300‬هـ وسمى نفسه خليفة )‪. (3‬‬
‫وخلف عبد الرحمن الناصر ابنه الحكم‪ ،‬الذي حكم لمدةا ‪16‬‬
‫عاماا قضاها في عمران البلد‪ .‬ثم خلفه حكاما ضعافَّ أسلموا الحكم‬
‫لغيرهم فأضاعوه‪ ،‬وانقض الطامعون عليهم وسقطت الخلفة سنة‬
‫‪ 417‬هـ ‪ .‬وقامت دويلت صغيرةا في المدن عرفَّ حكامها باسم‬
‫ملوك الطوائف‪.‬‬
‫هذه الوضاع من انقساما وضعف وتناحر وأطماع شجعت‬
‫المارات النصرانية في الشمال على النقضاض على المسلمين‪.‬‬
‫وعندما اشتد الخطر على الندلس وعجز ملوك الطوائف عن‬
‫صد هجوما الممالك النصرانية التي توحدت في شمال أسبانيا‪،‬‬
‫استنجد المعتمد بن عباد ملك إشبيلية بالمرابطين حكاما المغرب‪.‬‬
‫فعبرت قواتهم الندلس وهزمت جيوش الممالك النصرانية هزيمة‬
‫نكراء في موقعة الزلقة سنة ‪ 479‬هـ ‪ 1086 -‬ما‪ .‬وكان لمساعدةا‬
‫المرابطين وانتصارهم الساحق الفضل في إنقاذ الندلس وإبقاء‬
‫الوجود السلمي فيها ‪.‬‬
‫ولما زال الخطر عاد أمراء المسلمين إلى التناحر والتنازع‬
‫على السلطة‪ ،‬وانتقلت العدوى إلى حكاما المغرب‪ ،‬فدب الشقاق بينهم‬
‫) ( أنظر‪ :‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪. 155 - 154‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪17‬‬
‫وضعف سلطانهم فاغتنم الفرصة السانحة حكاما المارات النصرانية‬
‫في شمال أسبانيا وجهزوا الجيوش لغزو دويلت الجنوب فسقطت‬
‫جميعها باستثناء غرناطة التي ظلت صامدةا كالطود الشامخ‪ .‬وكان‬
‫سقوط قرطبة سنة ‪ 634‬هـ ‪ 1236 -‬ما‪ ،‬وإشبيلية سنة ‪ 646‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1248‬ما)‪. (1‬‬
‫في هذه الثناء ظهر أحد ملوك الطوائف وهو أبو عبد ال‬
‫محمد بن هود الذي لقبِّ أمير المسلمين سيف الدولة‪ ،‬المتوكل‬
‫على ال‪ ،‬وسيطر على مجموعة من المدن الندلسية الهامة ومنها‬
‫قرطبة وغرناطة‪ .‬وفي سنة ‪ 635‬هـ ‪ 1238 -‬ما توفي ابن هود‬
‫وظهر أبو عبد ال محمد بن يوسف بن نصر المعروفَّ بابن‬
‫الحمر )‪ ، (2‬مؤسس دولة بني الحمر‪ ،‬وأعلن نفسه أميراا على جنوب‬
‫الندلس‪ ،‬وجعل غرناطة عاصمة لدولته‪ .‬وكان هذا عاما ‪ 635‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1238‬ما)‪. (3‬‬
‫وتميز عهد محمد بن الحمر بتقوية دولته وتنمية ثروتها‪.‬‬
‫وقد وقف بنو نصر بوجه جيوش الشمال النصرانية‪ ،‬وصدوها بعزما‬
‫وإيمان‪ .‬وأصبحت غرناطة حاضرةا المسلمين وقاعدتهم الكبرى في‬
‫الندلس بعد أن سقطت الممالك والدويلت أماما هجمات ملوك‬
‫النصارى الذين توحدوا للقضاء على السلما‪ .‬فأيجلي المسلمون عن‬
‫بلدهم ودفعوا الجزية للكفار‪ ،‬إل أن الوجود السلمي في الندلس‬
‫استمر لما يزيد على قرنين ونصف بعد أن تمكن محمد بن يوسف‬
‫بن نصر )محمد بن الحمر( الملقبِّ بالشيخ الغالبِّ بال من تأسيس‬

‫) ( أنظر‪ ،‬إبراهيم الشريفي ‪ ،‬ص‪. 157 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( ويرجع نسبِّ ابن الحمر إلى سعد بن عبادةا النصاري الخزرجي أحد‬ ‫‪2‬‬

‫الصحابة‪ .‬أنظر‪ :‬تاريخ المغرب والندلس‪ ،‬مذكور سابقاا بإحالته على صبح‬
‫العشى في صناعة النشا للقلقشندي‪. 5/260 ،‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬تاريخ المغرب والندلس من القرن السادس الهجري حتى القرن‬ ‫‪3‬‬

‫العاشر الهجري‪ ،‬تأليف‪ :‬د‪ .‬أحمد عودات‪ ،‬د‪ .‬شحادةا الناطور‪ ،‬د‪ .‬جميل‬
‫بيضون‪ ،‬أ‪ .‬محمد محاسنة‪ .‬دار المل للنشر والتوزيع إربد‪ ،‬ط ‪، 1‬‬
‫‪ 1410‬هـ ‪ 1990 -‬ما‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫وتقوية دولته في جنوب الندلس)‪. (1‬‬
‫إل أن هذه الدولة لم تستطع حماية المسلمين في الندلس‪،‬‬
‫فسقطت المدن والحصون‪ ،‬مما أثار أطماع النصارى الذين حاولوا‬
‫القضاء على غرناطة‪ ،‬فلم يستطيعوا وازدادت غرناطة‬
‫قوةا)‪. (2‬وصارت مدينة غرناطة ملجأا للمسلمين الفارين من زحف‬
‫النصارى منذ تأسست بها دولة بني الحمر‪ .‬يقول المقري‪» :‬ولما‬
‫استولى الفرنج على معظم بلد الندلس انتقل أهلها إليها فصارت‬
‫المصر المقصود«هل)‪. (3‬‬
‫وخلل عهد غرناطة كانت هناك ثلثا ممالك نصرانية قوية‬
‫هي البرتغال وأرغون وقشتالة والخيرةا هي أقوى هذه الممالك‪.‬‬
‫وكانت كل واحدةا من هذه الممالك لوحدها أقوى من غرناطة‪.‬‬
‫فاتحدت هذه القوى واستعانت بغيرها‪ ،‬وقامت بحملت صليبية على‬
‫غرناطة‪ ،‬واستطاعت أن تحقق بعض النتصارات إل أنها لم تحقق‬
‫أهدافها‪.‬‬
‫ثم تجمعت القوى الصليبية وهاجمت غرناطة‪ ،‬وطلبِّ‬
‫المسلمون الغوثا من المغرب‪ ،‬وجرت أحداثا وحروب حقق‬
‫المسلمون فيها نصراا هائلا سنة ‪ 674‬هـ ‪.‬‬
‫واستمر الصراع‪ ،‬وفي سنة ‪ 718‬هـ هاجم القشتاليون غرناطة‬
‫وزحفوا عليها بمساعدةا النجليز‪ ،‬واستنجد المسلمون ب بن ي مرين‬
‫في المغرب فأجابوهم‪ ،‬وتمكن المسلمون من تحقيق النصر وهزيمة‬
‫الفرنج في معركة قرب غرناطة)‪. (4‬‬
‫واستمرت المواجهات بين المسلمين والسبان‪ ,‬وهزما‬
‫) ( أنظر‪ :‬إبراهيم الشريفي‪ ،‬التاريخ السلمي‪ ،‬ص‪ . 157 :‬وتاريخ‬ ‫‪1‬‬

‫المغرب والندلس‪ ،‬ص‪. 2 :‬‬


‫) ( أنظر‪ :‬تاريخ المغرب والندلس‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪. 162 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أبو العباس أحمد المقري‪ ،‬نفح الطيبِّ في غصن الندلس الرطيبِّ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 7 ، 1/148‬أجزاء‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار صادر ‪ -‬بيروت ‪.‬‬


‫) ( أنظر‪ :‬تاريخ المغرب والندلس‪ ،‬ص‪. 165 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪19‬‬
‫المسلمون في معركة بحرية سنة ‪ 740‬هـ ‪ 1339 -‬ما اشتركت‬
‫فيها قوات من أرغون وقشتالة والبرتغال‪ ،‬ووقعت معركة سنة‬
‫‪ 741‬هـ‪ ،‬هي معركة طريف‪ ،‬استعمل فيها المسلمون المدافع التي‬
‫تقـذفَّ النيـران لول مـرةا إل أنهم خسروا المعركة‪ ،‬وكان‬
‫الصليبيون إذا انتصروا في معركة ارتكبوا أبشع المنكرات في‬
‫المسلمين )‪. (1‬‬
‫وأخذ السبان يعيثون فساداا وتخريباا في أراضي الندلس‪.‬‬
‫ورغم كل ذلك فقد ظلت غرناطة قوية‪ ،‬وعقدت معاهدات صلح بين‬
‫المسلمين والسبان منها معاهدةا صلح مع بيدرو الرابع سنة ‪- 736‬‬
‫‪ 789‬هـ ‪ 1387 - 1336 ،‬ما‪ ،‬فساد المن والسلما ربوع مملكة‬
‫غرناطة وازدهرت‪ ،‬ورغم محاولت السبان اقتساما أملك غرناطة فقد‬
‫فشلوا)‪. ( 2‬‬
‫وفي سنة ‪ 867‬هـ سقطت جبل طارق بيد القشتاليين‪ ،‬فكان‬
‫ذلك ضربةا قوية للمسلمين‪ ،‬وتوقف وصول المدادات من المغرب‬
‫إلى الندلس )‪. (3‬‬
‫وتولى حكم غرناطة سنة ‪ 887‬هـ ‪ 1482 -‬ما محمد بن‬
‫علي الملقبِّ بأبي عبد ال الصغير‪ ،‬الذي وافق على تسليم غرناطة‬
‫سنة ‪ 897‬هـ ‪ 1492 -‬ما لملكي قشتالة وأرغون‪ ،‬ورحل إلى‬
‫المغرب‪ .‬وهكذا قضي على الدولة السلمية في الندلس‪ ،‬ولبي‬
‫عبد ال الصغير هذا قيل )الخفيف(‪:‬‬

‫ليم تيحافظن عليهق مقثلي‬ ‫إقبنكق مقثــلي النيقســاءق‬


‫الريق جــــــــــــــالق‬ ‫ميلكـــــاا ميضـــــاعاا‬

‫الحـالة السـياسـية‪:‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬تاريخ المغرب والندلس‪ ،‬ص‪. 169 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪. 172 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪. 174 - 172 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪20‬‬
‫كانت هذه إشارةا إلى محطات تاريخية وأحداثا مرت بمسلمي‬
‫الندلس‪ .‬وتفسر هذه الحداثا هجرةا أسرةا الشاطبي إلى غرناطة‪.‬‬
‫وتفسر أيضاا الحالة السياسية لعصر الشاطبي‪ ،‬إل أن ثمة أحداثاا‬
‫تلقي ضوءاا أكبر على الحالة السياسية لعصر الشاطبي أي للقرن‬
‫الثامن الهجري‪.‬‬
‫قال لسان الدين ابن الخطيبِّ)‪» : (1‬ويلقيي بعد الغالبِّ بأمر ال‪،‬‬
‫مؤسس الدولة‪ ،‬ولده وسميه السلطان أبو عبد ال‪ ،‬وطالت مدته إلى‬
‫أن توفي عاما ‪ 701‬هـ ‪ .‬وولي بعده ولده وسميه أبو عبد ال محمد‪،‬‬
‫وخلع يوما الفطر من عاما ‪ 708‬هـ ‪ ،‬وتوفي في شوال عاما ‪. 711‬‬
‫وولي بعده خالعه أخوه نصر أبو الجيوش‪ ،‬وارتبك أمره‪ ،‬وطلبِّ‬
‫المر من ابن عم أبيه السلطان أبو الوليد إسماعيل فتغلبِّ على دار‬
‫المارةا في ثاني ذي القعدةا من عاما ‪ 713‬هـ ‪ ،‬وانتقل نصر مخلوعاا‬
‫إلى مدينة وادي آش‪ ،‬وتوفي عاما ‪ 722‬هـ ‪ ،‬وتمادى ملك السلطان‬
‫أبي الوليد إلى ‪ 23‬من رجبِّ عاما ‪ ، 725‬ووثبِّ على ابن عمه في‬
‫طائفة من قرابته فقتلوه ببابه وخاب فيما أملوه سعيهم فقتلوا‬
‫كلهم يومئذم‪ ،‬وتولى أمره ولده محمد واستمر إلى ذي الحجة من‬
‫عاما ‪ ، 734‬وقتل بظاهر جبل الفتح بأيدي جنده من المغاربة‪ ،‬وتولى‬
‫المر بعده أخوه أبو الحجاج يوسف وداما ملكه إلى يوما عيد الفطر‬
‫من عاما ‪« 755‬هل)‪ ، (2‬وقد قتل أثناء صلته)‪. (3‬‬
‫»ثم تقلد المارةا السلطان محمد الخامس الملقبِّ بالغني بال‬
‫فاستمر من ‪ 755‬هـ إلى ‪ 793‬هـ ‪ .‬تعرض حكمه خللها لحداثا‬
‫دامية‪ .‬فقد تعرض لنقلب سنة ‪ 760‬فريي على إثره إلى المغرب‬
‫ثم عاد سنة ‪ . 763‬وقد تعرضت غرناطة خلل هذه السنوات الثلثا‬

‫) ( كان وزيرا ا في دولة بني الحمر ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( حمادي العبيدي‪ ،‬مقاصد الشريعة السلمية‪ ،‬ص‪ . 31 :‬بإحالته على‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫لسان الدين بن الخطيبِّ‪ ،‬اللمحة البدرية‪ ،‬ص‪ ،34 ،33 :‬تحقيق محي‬
‫الدين الخطيبِّ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬المطبعة السلفية‪ ،‬القاهرةا‪ 1374 ،‬هـ ‪.‬‬
‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪21‬‬
‫لثلثة انقلبات متوالية‪ :‬الول في شهر رمضان سنة ‪ ، 760‬وانتهى‬
‫بفرار السلطان الغني بال إلى المغرب وتولي أخيه إسماعيل الثاني‬
‫مكانه‪ .‬والنقلب الثاني في شعبان سنة ‪ 761‬قتل فيه إسماعيل‬
‫الثاني وتولى الملك قاتله وزوج شقيقته أبو سعيد البرميخو‪،‬‬
‫والنقلب الثالث في جمادى الثانية سنة ‪ 763‬أفضى المر فيه إلى‬
‫عودةا الغني بال إلى عرشه‪ ،‬وقتل البرميخو على يد ملك‬
‫قشتالة«هل)‪. (1‬‬
‫ومما تشير إليه بعض المصادر أن البرميخو كان مدمناا على‬
‫الحشيش‪ ،‬فانتشرت هذه الفة بين الناس جهاراا وقيلت فيها‬
‫الشعار)‪. (2‬‬
‫ويتحدثا لسان الدين ابن الخطيبِّ عن البرميخو وطغيانه‪،‬‬
‫وأكله أموال الناس فيقول‪» :‬وكان حرفوشاا)‪ ، (3‬فالتهم الخل‬
‫والكل‪ ،‬وأعدما بإعداما الغلة أسباب الرخا‪ ،‬وفتح أبواب البلء‪ ،‬وسمح‬
‫ببعض المكوس)‪ (4‬فأعطى قليلا ثم أكدى)‪ ، (5‬ولم تمر الياما إل وقد‬
‫عاد في قينه)‪ (6‬وأضاق الرعايا بشؤمه‪ ،‬وكلفهم ارتباط الفراس‬
‫بعد إغراقهم أرزاق جنده«هل)‪. (7‬‬
‫الحالة القتصـادية‪:‬‬
‫) ( المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪. 31 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪. 32 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( كلمة عامية مصرية تطلق على الرعاع الذين يعيشون على النهبِّ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫أنظر‪ :‬حمادي العبيدي‪ ،‬مقاصد الشريعة السلمية‪ .‬هامش‪ ،‬ص‪. 32 :‬‬


‫) ( ميكيسي في البيع يمكس‪ :‬إذا جبى مالا‪ ،‬والمكس‪ :‬النقص‪ ،‬والظلم‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في السواق في الجاهلية‪ ،‬الفيروز‬


‫آبادي‪ ،‬القاموس المحيط‪ ،‬ص‪. 742 :‬‬
‫) ( أيكيديي واكتيديي‪ :‬أمسك‪ .‬وبئر كدود‪ :‬لم ينل ماؤها إل بجهد‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 402 :‬‬


‫) ( القين‪ :‬العبد‪ ،‬والقينة‪ :‬المة‪ .‬والتقين‪ :‬التزين‪ .‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪. 1582‬‬
‫) ( حمادي العبيدي‪ ،‬مقاصد الشريعة السلمية‪ ،‬ص‪ . 32 :‬بإحالته على‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫نفاضة الجراب في عللة ال غ تراب‪. 2/183 ،‬‬

‫‪22‬‬
‫يتبين مما سبق تقدما ثم هبوط وانحدار في دولة الندلس‪،‬‬
‫ويظهر هذا في نشأةا ونمو الدولة ثم انحدارها وسقوطها‪ .‬وكذلك‬
‫يظهر في نمو الثروةا وكثرةا النفاق والدخار ثم في تفاقم‬
‫الحاجة‪ ،‬وهذا ما شهده عصر الشاطبي‪.‬‬
‫يقول الستاذ محمد أبو الجفان‪» :‬ونستفيد من نص موجه‬
‫إلى الشاطبي أن المسلمين احتاجوا إلى بعض الموارد الضرورية‬
‫ومنهم من تساءل‪ :‬هل تبيح لهم هذه الحاجة أن يبيعوا للكفار ما‬
‫كان منعوا بيعه لهم لنه يقويهم‪ .‬ونص السؤال‪ :‬هل يباح لهل‬
‫الندلس بيع الشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب‬
‫كالسلح وغيره‪ ،‬لكونهم محتاجين إلى الضرورةا في أشياء أخرى‬
‫من المأكول والملبوس وغير ذلك‪ ،‬أما ل فرق بين أهل الندلس‬
‫وغيرهم من أرض السلما؟«هل)‪. (1‬‬
‫ويشير إلى نقص الغذاء فيقول‪» :‬كما يفيد نص استفتاء آخر‬
‫أن نقص الغذاء دفعهم إلى استغلل المورد البحري‪ ،‬ولكن عقد‬
‫إجارةا السفن كان يتم دون أن يكون الجر معلوماا عند التعاقد‪.‬‬
‫فتساءلوا‪ :‬كيف والقطر الندلسي ل يخفى حاله أو الحاجة فيه إلى‬
‫الطعاما‪ ،‬وجل طعامه الن من البحر‪ ،‬وكثير من أهل القطر يروما‬
‫التسببِّ في إنشاء سفينة أو شرائها‪ ،‬ويمنعه من ذلك كراؤها على‬
‫الوجه المذكور‪ ،‬والحال في الوطن ل يخفى والضرورةا فيها‬
‫ظاهرةا«هل)‪. (2‬‬
‫ومما يشير إلى الضعف القتصادي عدما قدرةا الدولة على‬
‫القياما بحاجات الناس‪ ،‬واحتياجها إلى فرض ضرائبِّ‪ .‬ويظهر هذا في‬
‫اختلفَّ العلماء في فتاواهم‪ ،‬فبسببِّ الوضاع السياسية والحروب‬
‫الخارجية حلت ضائقة مالية بالدولة‪ .‬فاستفتت حكومة غرناطة‬
‫الفقهاء في جواز فرض ضرائبِّ زائدةا على أهل المملكة لمواجهة‬
‫) ( محمد أبو الجفان‪ ،‬تحقيق وتعل ي ق على الفادات والنشادات للشاطبي‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪. 13 :‬‬
‫) ( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪. 14 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪23‬‬
‫التعبئة للقتال‪ ،‬فامتنعوا من ذلك ولكن الشاطبي خرج من إجماعهم‬
‫وأفتى بالجواز قائلا‪» :‬إنا إذا قررنا إماماا مطاعاا‪ ،‬مفتقراا إلى‬
‫تكثير الجنود لسد الثغور‪ ،‬وحماية الملك المتسع القطار‪ ،‬وخل‬
‫بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما ل يكفيهم فللماما إذا كان‬
‫عدلا أن يوظف على الغنياء ما يراه كافياا لهم في المال إلى أن‬
‫يظهر مال بيت المال‪ ،‬ثم له النظر في توظيف ذلك على الغلت‬
‫والثمار وغير ذلك كيل يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش‬
‫القلوب وذلك يقع قليلا في كثير بحيث ل يجحف بأحد ويحصل‬
‫المقصود«هل)‪. (1‬‬
‫إن الخبار التي تشير إلى فقدان الثروةا والمدخرات في‬
‫الندلس كثيرةا‪ ،‬وهذا الحال الذي آل إليه الوضع القتصادي يدل‬
‫على تراجع وانحدار ول يدل على مجاعة‪ ،‬ولذلك فل تمنع هذه‬
‫الوضاع من وجود الثراء والترفَّ في المجتمع‪ .‬يقول الستاذ أبو‬
‫الجفان‪» :‬ومع هذا الوضع المضطرب فإن لوناا من البذخ ينتشر‪،‬‬
‫وإقبالا على المجوهرات عند الغنياء المترفين‪ ،‬وتفنناا في الزينة‬
‫والتماجن في أشكال الحلي عند النسوةا‪ ،‬وولوعاا بالغناء يفشو حتى‬
‫بالدكاكين التي تجمع الشباب«هل)‪. (2‬‬
‫الحالة العلمية‪:‬‬
‫المستوى العلمي والمناخ الثقافي السائد في غرناطة في حياةا‬
‫الشاطبي كان جيداا ومزدهراا ولم يهبط بشكل كبير ومفاجئ إل‬
‫بانهيار غرناطة وخضوعها لعدوها‪ .‬إل أن الملحظ أن هذا المستوى‬
‫كان يهبط تدريجياا تبعاا للحالة السياسية‪ .‬فكلما كانت نظرةا‬
‫الحكاما وسياستهم نظرةا توسع ونشر للسلما كان يتبع هذا انتشار‬
‫وتوسع للعلوما السلمية وما يتبع ذلك من حركةم ثقافية‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪ . 2/380 ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرزاق المهدي‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫‪1‬‬

‫العربي‪ ،‬ط ‪ 1418 ، 2‬هـ ‪ 1998 -‬ما‪.‬‬


‫) ( محمد أبو الجفان‪ ،‬تحقيق وتعليق على الفادات والنشادات للشاطبي‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ص‪ . 15 ، 14 :‬بإحالته على اللمحة البدرية لبن الخطيبِّ‪ ،‬ص‪. 29 ، 28 :‬‬

‫‪24‬‬
‫وحيثما كان الحكاما يبذلون الجهد للمحافظة على الستقرار أو‬
‫على الوضع القائم ضمن حدودهم‪ ،‬والمحافظة على مستوى ثابت من‬
‫التأثير والتأثر‪ ،‬كانت تتبع هذه الحالة حالة جمود‪ .‬أي أن حركة‬
‫النتاج العلمي والحركة الثقافية في المجتمع تكون مسـتـقـرةاا‬
‫على حال‪ .‬وهذا كان حال غرناطة لول أنها صارت مقصداا ومجمعاا‬
‫للعلماء الوافدين من سائر أنحاء الندلس‪ ،‬المر الذي أدى إلى‬
‫تفاعل أثر على النشاط العلمي والفكري والثقافي والصناعي‬
‫والفني‪.‬‬
‫قال الستاذ محمد أبو الجفان‪» :‬أما المناخ الثقافي الذي‬
‫تعرفه غرناطة في حياةا الشاطبي فهو مزدهر نسبياا‪ ،‬إذ تتواصل فيه‬
‫سنة الهتماما العلمي ويقبل فيه العلماء على إثراء رصيد المعرفة‬
‫بمؤلفاتهم وأبحاثهم‪ ،‬ويستمر سند الحديث ورواية كتبِّ العلم‬
‫وتدوين برامج)‪ (1‬الشيوخ«هل)‪. (2‬‬
‫وقد كان التعليم والتأليف ناشطين‪ ،‬وقامت في غرناطة‬
‫مؤسستان علميتان ضخمتان‪ ،‬هما الجامع العظم والمدرسة‬
‫النصرية‪ ،‬وتناول التأليف شتى فروع العلم التجريبية والشرعية‬
‫والفلسفية‪ .‬يقول الستاذ أبو الجفان‪» :‬وهكذا كانت الحركة‬
‫العلمية إلى أواخر القرن الثامن مزدهرةاا دالة على قوةام استطاعت‬
‫أن تقاوما فترةا ما داء النحطاط الذي كان يتسرب إلى الندلس‬
‫ويدفعه إلى المصير المحتوما‪ .‬ولقد كان لمفكري الندلس‬
‫وعلمائه في هذا العهد المضطرب محاولت للصلح ورأب الصدع‪،‬‬

‫) ( البرامج‪» :‬نوع من المدونات تضم شيوخ مؤلفيها وما أخذوه عنهم من‬ ‫‪1‬‬

‫الروايات‪ ،‬وما قرأوه عليهم من الكتبِّ ‪ ،‬أو تضم شيوخ عالم معين تعهد غيره‬
‫بجمعهم‪ ،‬وذكر ما أخذ عنهم«هل‪ ،‬أنظر‪ :‬محمد أبو الجفان‪ ،‬تحقيقه لكتاب‬
‫برنامج المجاري‪ ،‬ص‪ ، 59 :‬والكتاب لبي عبد ال محمد المجاري الندلسي‬
‫المتوفى سنة ‪ 862‬هـ ‪ ،‬ط ‪ 1984 ، 1‬ما‪ ،‬دار الغرب السلمي‪ ،‬بيروت ‪-‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬محمد أبو الجفان‪ ،‬تحقيقه على الفادات والنشادات للشاطبي‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ص‪. 15 :‬‬

‫‪25‬‬
‫ودعوةا إلى الجهاد وبث لروح العزما في النفوس‪ ،‬وتبصير بالخطر‬
‫المحدق«هل )‪. (1‬‬
‫وقال أيضاا‪» :‬وقد ازدهرت في هذه المملكة صناعات كان‬
‫السكان يحذقونها ويرثونها عن أجدادهم الذين شيدوا أروع حضارةام‬
‫في الجزيرةا الندلسية‪ ،‬فمن ذلك أنهم كانوا يصنعون السلحة‬
‫والقمشة الحريرية والصوفية والواني الخزفية وأنواع الورق‬
‫والجلود‪ ،‬وكان تصدير الصناعات يوفر دخلا وينشط الحركة‬
‫التجارية‪ ،‬وكان للجنوبيين وغيرهم من المم ذات الصلت‬
‫القتصادية الوثيقة بالندلس منشآت تجارية في غرناطة‪ ،‬وعقدت‬
‫غرناطة مع جمهورية جنوةا ومع مملكة أراغون معاهدات‬
‫تجارية«هل)‪. (2‬‬
‫ولقد شهد هذا الجو إقبالا على طلبِّ العلم وعلى الحوار‬
‫والنقاش العلمي والفقهي‪ ،‬وظهرت نتائجه في القبال على التأليف‬
‫والبحث‪ ،‬ولمعت أسماء العلماء واشتهرت المؤلفات‪ .‬وكان على‬
‫رأس كل علم أعلما كبار كأمثال ابن الفخار البيري في علوما‬
‫اللغة‪ ،‬وابن الصائغ وأبي حيان في علم النحو خاصة‪ ،‬وأبي إسحاق‬
‫الشاطبي في علم الصول‪ ،‬وابن جزي وابن عاصم في الفقه وابن‬
‫الخطيبِّ وابن زمرك في الدب والسياسة‪ ،‬وابن هذيل الحكيم في‬
‫الفلسفة‪ ،‬وغير هؤلء كثير)‪. (3‬‬
‫إل أن ثمة أمراا تنبغي الشارةا إليه‪ ،‬وهو أن هذا الزدهار من‬
‫الناحية العلمية والثقافية ل يدل ضرورةاا على عافية وعلى‬
‫استمرار التقدما‪ ،‬إذ إن الندلس قد مرت في فترات ازدهار علمي‬

‫) ( المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪. 17 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( محمد أبو الجفان‪ ،‬في تحقيقه لبرنامج المجاري‪ ،‬ص‪ ،15 :‬بإحالته‬ ‫‪2‬‬

‫على نهاية الندلس‪ ،‬محمد عبد ال عنان‪ ،‬ط ‪ ، 1‬مصر‪ 1949 ،‬ما ‪.‬‬
‫) ( حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪ ،50 - 47 :‬بإحالته‬ ‫‪3‬‬

‫على‪ :‬محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬أليس الصبح بقريبِّ‪ ،‬ص‪ ،79 :‬ط ‪،1‬‬
‫الشركة التونسية للتوزيع ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وثقافي‪ ،‬مدني وحضاري‪ ،‬وهذا الحال في القرن الثامن هو من بقايا‬
‫ذلك الزدهار‪ ،‬فهو عيشي على التقدما القديم‪ ،‬بدليل أن غرناطة‬
‫سقطت قبل نهاية القرن التاسع‪ ،‬وأن المسلمين في الندلس كانوا‬
‫يفقدون سلطانهم وقوتهم تدريجياا‪ ،‬ولذلك يلحظ أن هذه الحالة‬
‫العلمية والثقافية المتقدمة مقتصرةا على بيان وحفظ ما هو‬
‫موجود من العلوما‪ ،‬وبدليل الجمود وعدما التفاعل مع ما هو خارج‬
‫الحدود‪ ،‬فالمؤلفات الجديدةا لم تكن سوى شروح واختصارات‪،‬‬
‫والمستوى العلمي الرفيع هو مستوى نسبي‪ ،‬وهو نتيجة للمقارنة‬
‫بمستوى البلد المحيطة سواء في أوروبا أو في المغرب العربي‪،‬‬
‫ولكنه بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في القرنين الرابع‬
‫والخامس الهجريين يدل على ثباتم وجمود في الناحية التشريعية‪.‬‬
‫ومما يؤكد هذه الوضاع عدما وجود أي مذهبِّ في غرناطة سوى‬
‫المذهبِّ المالكي‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬إذ كتبِّ الحنفية كالمعدومة في‬
‫بلد المغرب‪ ،‬وكذلك كتبِّ الشافعية وغيرهم من أهل‬
‫المذاهبِّ«هل )‪. (1‬‬
‫مإناخ المجتمع الثقافـي‪:‬‬
‫إذاا‪ ،‬كان يشهد مجتمع غرناطة انتشاراا للعلوما والمعارفَّ‪،‬‬
‫وكثرةاا في العلماء‪ ،‬وهذه حالة متقدمة نسبياا‪ ،‬إل أن الفارق المهم‬
‫هو اتجاه المجتمع في حركته الثقافية والعلمية‪ ،‬وليس المستوى‬
‫الذي يقف عليه‪ ،‬وقد كان اتجاه تخلفم وانحدار‪ .‬هذا الوضع هو‬
‫الذي أدى إلى ما بينه الشاطبي من انتشار البدع والنغلق‪ ،‬بحيث ل‬
‫يقبل الرأي المخالف أو غير السائد ولو نهضت له الدلة الشرعية‪،‬‬
‫ومن إصدار الفتاوى بناءا على تقليد أعمى‪ ،‬وتطبيق لقوال الفقهاء‬
‫أو للقواعد المقررةا في المذهبِّ من غير غوص إلى أصولها‪.‬‬
‫ولذلك يصور الشاطبي ما آلت إليه المور من خلل الحديث‬
‫الشريف‪» :‬بدأ السلم غريبا ا وأسيعود غريبا ا كما بدأ‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/273 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪27‬‬
‫فطوبى للغرباء «هل)‪ ، (1‬ويتحدثا عن شيوخ الجهل والتعصبِّ‬
‫المذهبي والغلو في تعظيم غير ال‪ .‬ويحمل تبعة هذا الجهل‬
‫للعلماء الذين يفتون للحاكم بما يريد‪ ،‬أو لقربائهم أو مقلديهم‪،‬‬
‫والذين يغيرون الحكاما بحجة التيسير أو الضرورات‪ .‬وفيما يلي‬
‫جملة من القوال تصويقر شيئاا من هذه الوضاع‪:‬‬
‫يقول الشاطبي‪» :‬فلما أردت الستقامة على الطريق وجدت‬
‫نفسي غريباا مع جمهور أهل الوقت«هل)‪ . (2‬ويقول‪» :‬فتردد النظر‬
‫بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس‪ ...‬فرأيت أن‬
‫الهلك في اتباع السنة هو النجاةا‪ ،‬وأن الناس لن يغنوا عني من ال‬
‫)‪(3‬‬
‫شيئاا‪ ...‬فقامت علييي القيامة‪ ،‬وتواترت علييي الملمة‪ ،‬وفوييق‬
‫إلييي العتاب سهامه ونسبت إلى البدعة والضللة‪ ،‬وأنزلت منزلة‬
‫أهل الغباوةا والجهالة‪ ...‬وتارةاا نسبت إلى معاداةا أولياء ال‪...‬‬
‫وتارةاا نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة«هل)‪. (4‬‬
‫ويقول‪» :‬ولقد زليي بسببِّ العراض عن الدليل‪ ،‬والعتماد‬
‫على الرجال أقواما خرجوا بسببِّ ذلك عن جادةا الصحابة والتابعين‪،‬‬
‫واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل«هل )‪ . (5‬وذكر لهذا‬
‫أمثلة منها‪» :‬رأي المقلدةا لمذهبِّ إماما يزعمون أن إمامهم هو‬
‫الشريعة بحيث يأنفون أن تنسبِّ إلى أحد من العلماء فضيلة دون‬
‫إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الجتهاد وتكلم في المسائل‬
‫ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوقوا إليه سهاما النقد‬

‫) ( أخرجه مسلم في كتاب اليمان‪ .‬رقم‪ ، ( 370 ) :‬أنظر‪ :‬شرح مسلم‬ ‫‪1‬‬

‫للنووي‪ ، 2/354 ،‬تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا‪ ،‬ط ‪ 1414 ، 1‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1994‬ما‪ ،‬دار المعرفة ‪ -‬بيروت‪ ،‬وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن‪) :‬‬
‫‪ ، ( 3986‬والترمذي‪. ( 2630 ) :‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 1/18 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( فوييق‪ :‬رشق‪ .‬قال الفيروز أبادي‪» :‬رمينا فيوقاا‪ :‬رقشقاا«هل القاموس‬ ‫‪3‬‬

‫المحيط‪ ،‬ص‪. 1187 :‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪ 18 / 1 ،‬ـ ‪. 21‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/537 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪28‬‬
‫وعدوه من الخارجين على الجادةا)‪ ، (1‬والمفارقين للجماعة من غير‬
‫استدلل منهم بدليل‪ ،‬بل بمجرد العتياد العامي‪ .‬وقد لقي الماما‬
‫بقييي بن مخلد حين دخل الندلس آتياا من المشرق من هذا الصنف‬
‫المرين حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانبِّ‪ ...‬ومنها رأي‬
‫نابتةم في هذه الزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا‬
‫الكلما فيه والعمل بحسبه‪ ،‬ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين‬
‫أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدما التثبت من الخذ أو‬
‫التغافل من المأخوذ منه‪ ،‬ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات‬
‫الكمال ونسبوا إليهم ما نسبوا به من الخطأ‪ ،‬أو فهموا عنهم على‬
‫غير تثبت ول سؤال على تحقيق المسألة المروية‪ ،‬وردوا جميع ما‬
‫نقل من الولين مما هو الحق والصواب‪ ...‬فتأملوا يا أولي اللباب‬
‫كيف حال العتقاد في الفتوى على الرجل من غير تحريم للدليل‬
‫الشرعي‪ ،‬بل لمجرد الغرض العاجل عافانا ال من ذلك بفضله«هل)‪. (2‬‬
‫وقال في الموافقات‪» :‬صار كثير من مقلدةا الفقهاء يفتي‬
‫قريبه أو صديقه بما ل يفتي به غيره من القوال اتباعاا لغرضه‬
‫وشهوته أو لغرض ذلك القريبِّ وذلك الصديق«هل)‪ . ( 3‬وقال‪:‬‬
‫»وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدييعي فيها الضرورةا وإلجاء‬
‫الحاجة بناءا على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك‬
‫بما يوافق الغرض«هل)‪. ( 4‬‬
‫وقد أسس موقف الشاطبي هذا من هذه الوضاع لخصومة بينه‬
‫وبين علماء عصره حتى رمي بالتهم المذكورةا آنفاا وغيرها‪ ،‬وقد‬
‫عبر عن ذلك كما تبين‪ ،‬ومن ذلك أيضاا قوله )البسيط(‪:‬‬

‫) ( الجادييةا‪ :‬معظم الطريق‪ .‬أنظر‪ :‬الفيروز آبادي‪ ،‬القاموس المحيط‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪. 347 :‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪ 2/538 ،‬ـ ‪. 542‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/73 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/81 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪29‬‬
‫بمين أيداريهق حتيــى كــادي‬ ‫بيليتي يا قــوماي والبيلنــوى‬
‫ييرندينــــــــــــــــي‬ ‫مينويي عــــــــــــــــةي‬
‫فحسبقيي الي فــي عيقلقــي‬ ‫ديفنعي المضــريةاق ل جلبــاا‬
‫)‪(1‬‬
‫وفــــــي دقينــــــي‬ ‫لمصنـــــــــــــــلحةم‬

‫يقول الدكتور حمادي العبيدي‪» :‬كانت بين الشاطبي وبين‬


‫هؤلء الفقهاء الذين يتوجه إليهم بالنقد ويحذر الناس منهم‬
‫مصادمات عنيفة‪ ،‬فكان إذا أفتى بالجواز في مسألة أفتوا هم بالمنع‪،‬‬
‫وإذا أفتى بالمنع أفتوا هم بالجواز«هل)‪. (2‬‬
‫ولقد تزعم خصومة الشاطبي أحد شيوخه وهو أبو سعيد بن‬
‫لبِّ )‪ ، (3‬الذي عرفَّ عنه تساهله في الفتوى‪ ،‬ولقد أشار الشاطبي إلى‬
‫هذا في إحدى إفاداته‪ ،‬وقد عديي التساهل حينذاك مما يتعلمه الطالبِّ‬
‫من شيخه‪ .‬قال‪» :‬وقال )‪ : (4‬أردت أن أنبهكم على قاعدةام في الفتوى‬
‫وهي نافعة جداا ومعلومة من سنن العلماء وهي أنهم ما كانوا‬
‫يشددون على السائل في الواقع إذا جاء مستفتياا«هل )‪ . (5‬ثم قال‪:‬‬
‫»وكنت قبل هذا المجلس تترادفَّ علييي وجوه الشكالت في أقوال‬
‫مالك وأصحابه‪ ،‬فلما كان بعد ذلك المجلس شرح ال بنور ذلك‬
‫الكلما صدري‪ ،‬فارتفعت ظلمات تلك الشكالت دفعة واحدةا‪ ،‬ل‬
‫الحمد على ذلك«هل)‪ . (6‬إل أنه عاد وغير موقفه من التساهل ومن‬
‫فتاوى شيخه‪ ،‬فكانت الخصومة‪ ،‬وكانت الهجمة العنيفة عليه‪،‬‬
‫والتهامات الكثيرةا التي وجهت إليه‪ .‬وعلى سبيل المثال هذا القول‬
‫للميواق )‪» : (7‬أنظر تسفيه هذا الشاطبي وإنكاره على شيخ الشيوخ‬
‫ابن لبِّ الذي نحن على فتاويه في العتقاد‪ ،‬والحلل والحراما‪ ،‬وعلى‬

‫أنظر‪ :‬التنبكتي‪ ،‬نيل البتهاج‪ ،‬ص‪. 49 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪. 38 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سيأتي ذكره عند الحديث عن شيوخ الشاطبي ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أي‪ :‬الشيخ أبو سعيد بن لبِّ ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫أنظر‪ :‬الشاطبي‪ ،‬الفادات والنشادات‪ ،‬ص‪ ،152 :‬إفادةا رقم‪. 75 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪30‬‬
‫مذهبـه في اليمـان اللزمة وغيرها من أحكاما الدماء والنكحة‬
‫والطلق«هل)‪. (1‬‬
‫لقد كان لهذا المناخ أثر كبير على فكر الشاطبي وعلى‬
‫دعوته‪ ،‬فكان كتابه العتصاما بياناا لهذه الفكار وأمثالها‪ ،‬ورداا‬
‫عليها‪ .‬وكان الموافقات ويضنعي أصول لضبط منهجية التفكير‬
‫والستنباط‪.‬‬
‫وإن هذه الصورةا لعصر الشاطبي‪ :‬اضطرابات سياسية‬
‫وانقلبات في الداخل‪ ،‬وهجمات عسكرية وتهديد صليبي من الخارج‪،‬‬
‫وحروب مستمرةا وتساقط المدن السلمية‪ ،‬ولجوء المسلمين إلى‬
‫غرناطة بعد فرارهم من بلدهم وإجلئهم عنها‪ ،‬والستعانة الدائمة‬
‫بالمسلمين في المغرب مع المحافظة على التجزئة والتقسيم على‬
‫شكل دويلت‪ ،‬تنبئ بالمصير السود للمسلمين في تلك البلد‪،‬‬
‫ويؤكد هذا المصير انعداما أو ضعف التفكير السياسي‪ ،‬وعدما اهتماما‬
‫العلماء بالسياسة‪ ،‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬ل يوجد في كتبِّ الشاطبي‬
‫على سعتها وأهميتها وكثرةا موضوعاتها ما يدل على اهتمامه‬
‫بالوضاع السياسية إل من باب الفتاوى للناس بأن ل يبيعوا للكافر‬
‫ما يتقوى به‪ .‬أو من جواز فرض الضرائبِّ على الناس للضرورةا‪،‬‬
‫ولذلك فعندما عجز النصارى عن السيطرةا على غرناطة بسببِّ‬
‫استعانة هذه الخيرةا بالدولة المرينية في المغرب‪ ،‬فإنهم خططوا‬
‫للمر وسيطروا على جبل طارق المنفذ الوحيد لمداد المسلمين‪،‬‬
‫وكان ذلك سنة ‪ 867‬هـ ‪ 1462 -‬ما)‪ ، (2‬فسهل عليهم حينئذم القضاء‬

‫) ( هو محمد بن يوسف بن أبي القاسم الشهير بالمواق الندلسي‬ ‫‪7‬‬

‫الغرناطي‪ ،‬توفي سنة ‪ 897‬هـ عن سن عالية‪ .‬أنظر ترجمته في نيل‬


‫البتهاج للتنبكتي‪ ،‬ص‪. 324 :‬‬
‫) ( حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪ ،21 :‬بإحالته على‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫)سنن المهتدين( للميواق مخطوط رقم ‪ ، 7785‬دار الكتبِّ الوطنية‪،‬‬


‫تونس ‪.‬‬
‫) ( كان ينبغي أن يبذل المسلمون كل ما يستطيعون لستعادةا جبل طارق‪ ،‬إذ‬ ‫‪2‬‬

‫خروجه من أيديهم هو مقدمة خروجهم من الندلس كلها‪ .‬وهم في الصل‬

‫‪31‬‬
‫على المسلمين في غرناطة‪ ،‬ومن ثم القضاء على المسلمين كلياا في‬
‫الندلس سنة ‪ 897‬هـ ‪ 1492 -‬ما‪ .‬وهذا يدل على الفتقار إلى‬
‫التفكير السياسي‪ ،‬وهو دليل انحطاط وانحدار مهما كان المستوى‬
‫العلمي والقتصادي للدولة‪ .‬فالفتقار إلى التفكير السياسي نذير‬
‫بنهاية أي دولة والقضاء على أي أمة مهما كانت قوتها)‪ . (1‬وغني‬
‫عن البيان أنه ل يمكن أن يوجد التفكير السياسي ما لم يوجد الفكر‬
‫السياسي والنظاما والتشريع الذي يقوما على أساسه هذا الفكر وهذا‬
‫التفكير‪ ،‬ولكن‪ ،‬وإن وجدت الحكاما والنظمة والتشريعات ‪ -‬كما هو‬
‫الحال ‪ -‬فما لم يوجد التفكير بالمسؤولية عن المة وقضاياها‬
‫ورعاية شؤونها على أساس هذه الحكاما والتشريعات ‪ -‬وهذا هو‬
‫التفكير السياسي ‪ -‬فسيان وجودها وعدمه‪.‬‬
‫شـيوخ الشـاطبي‪:‬‬
‫استفاد أبو إسحاق الشاطبي من أعلما كانوا من خيرةا المراكز‬
‫العلمية ببلد المغرب العربي في عصره‪ ،‬وكان من هؤلء العلما‬
‫المستقرون بغرناطة باعتبارهم من أهلها‪ ،‬ومنهم من وفد عليها من‬
‫عدوةا المغرب ليستوطنها أو ليؤدي بها بعض المهمات)‪. (2‬‬
‫ومن شيوخه الغرناطيين‪:‬‬

‫لم يدخلوها إل عبر جبل طارق‪ .‬ولكن لي حكاما تقول؟ وما أشبه اليوما‬
‫بالبارحة! ‪.‬‬
‫) ( وليس أدل على ذلك من انهيار الخلفة السلمية‪ ،‬وهي دولة مترامية‬ ‫‪1‬‬

‫الطرافَّ‪ ،‬ودولة إسلمية تمتلك العقيدةا الصحيحة‪ ،‬وأعظم فكر في العالم‪،‬‬


‫والمسلمون أكثر الناس استعداداا للتضحية‪ ،‬وأرضهم أرض الخصبِّ والمال‬
‫والجمال‪ ،‬وكذلك ها هي الدول الغنية في الخليج‪ ،‬سرعان ما فقدت ثروتها‬
‫لصالح عدوها‪ ،‬وصارت دويلت هزيلة ل تستطيع أن تحرك ساكناا بغير إذن‬
‫من عدوها‪ .‬وها هي المة السلمية بكل شعوبها في حال ييرثى لها من‬
‫التخلف رغم الثروات الهائلة في بطن الرض و على ظهرها‪ ،‬ورغم العداد‬
‫الهائلة من حملة الشهادات في شتى ميادين العلم والمعرفة‪ ،‬ورغم عددها‬
‫الكبير‪ ،‬والتضحيات الضخمة التي تقدمها ‪.‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬محمد أبو الجفان‪ ،‬في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات‬ ‫‪2‬‬

‫للشاطبي‪ ،‬ص‪. 20 :‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ 1‬ـ أبو عبد ال محمد بن الفخار البيري‪ ،‬المتوفى سنة ‪754‬‬
‫هـ ‪ .‬يقول عنه تلمـيـذه ابن الخـطـيبِّ‪» :‬الماما المجمع على‬
‫إمامته في فن العربية‪ ،‬المفتوح عليه من ال تعـالى فيـها حفـظاا‬
‫واطلعـاا واضـطـلعـاا ونـقـلا وتوجيهاا بما ل مطمع فيه لسواه‪،‬‬
‫وكان من أحسن قراء الندلس تلوةاا وأداءا‪ .‬وكان الشاطبي يحلي‬
‫شيخه هذا بـ )شيخنا الستاذ الكبير العلم الخطير( )‪« (1‬هل )‪. (2‬‬
‫‪ 2‬ـ أبو جعفر أحمد الشـقوري‪ ،‬الفقيه النحوي الفرضي الذي‬
‫كان يدرس بغرناطة كتاب سيبويه وقوانين ابن أبي الربيع‬
‫وتلخيص ابن البناء وألفية ابن مالك وفرائض التلقين والمدونة‬
‫الكبرى )‪. (3‬‬
‫‪ 3‬ـ أبو سـعيد فرج بن قاسـم بن أحمد بن ليبِّ التغلبي‬
‫المتوفى سنة ‪ 782‬هـ ‪ .‬ومفتي غرناطة وخطيـبِّ جامعهـا‪،‬‬
‫والمدرس بمدرسـتها النصرية)‪ . (4‬عرض عليه الشاطبي مختصر‬
‫أبي عمرو بن الحاجبِّ في مجلس واحد وأجاز له أن يرويه عنه)‪. (5‬‬
‫وقد تقدما ذكر شيء من خصومته مع الشاطبي‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أبو عبد ال محمد بن علي البلنسي الوسي المتوفى سنة‬
‫‪ 782‬هـ ‪ .‬وهو مؤلف تفسيرم وكتابم في مبهمات القرآن)‪. (6‬‬
‫‪ 5‬ـ أبو عبد ال محمد بن أبي الحجاج يوسف بن عبد ال بن‬
‫محمد اليحصبي المعروفَّ باللوشي وقد أجاز الشاطبي إجازةا عامة‬

‫) ( أنظر‪ :‬محمد أبو الجفان‪ ،‬في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات‬ ‫‪1‬‬

‫للشاطبي‪ ،‬ص‪ 20 :‬وانظر‪ :‬التنبكتي‪ ،‬نيل البتهاج‪ ،‬ص‪. 46 :‬‬


‫) ( أنظر‪ :‬محمد أبو الجفان‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،21 :‬وانظر الشاطبي‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫الفادات والنشادات‪ ،‬ص‪ ، 98 :‬إفادةا رقم‪. 17 :‬‬


‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬وأنظر‪ :‬المجاري‪ ،‬برنامج المجاري‪ ،‬ص‪. 118 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪33‬‬
‫بشرطها )‪. (1‬‬
‫ومن شيوخه الوافدين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أبو عبد ال محمد بن محمد بن أحمد الميقريقي )الجدي(‬
‫المعروفَّ بالمقري الكبير المتوفى سنة ‪ 759‬هـ ‪ .‬وكان الشاطبي‬
‫يحضر دروسه بالجامع العظم والتي كان يلقيها بمحضر وجوه طلبة‬
‫غرناطة وعلمائها سنة ‪ 757‬هـ ‪ .‬وهو تاريخ قدومه الندلس‬
‫سفيراا)‪. ( 2‬‬
‫‪ 2‬ـ أبو القاسـم محمد بن أحمد الشـريفي الحسـيني‬
‫الســبتي‪ ،‬قاضي الجماعـة المتوفى بغرناطة ســنة ‪ 760‬هـ ‪.‬‬
‫)‪(3‬‬
‫رئيـس العلـوما اللسـانيـة وشـارح مقصـورةا حازما القرطاجني ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أبو عبد ال محمد بن أحمد الشريفي التلمساني أعلم أهل‬
‫وقته)‪. (4‬‬
‫‪ 4‬ـ أبو علي منصور بن علي بن عبد ال الزواوي‪ ،‬وهو فقيه‬
‫نظييار‪ ،‬قرأ عليه الشاطبي مختصر منتهى السول والمل في علمي‬
‫الصول والجدل للماما أبي عمرو ابن الحاجبِّ‪ ،‬وكل ذلك قراءةا‬
‫تفقه ونظر‪ ،‬وأجازه إجازةاا عامةا بشرطها )‪. (5‬‬
‫‪ 5‬ـ شمس الئمة أبو عبد ال محمد بن أحمد بن مرزوق‬
‫الخطيبِّ التلمساني المتوفى بالقاهرةا سنة ‪ 781‬هـ ‪ .‬سمع عليه‬
‫الشاطبي في مجالس بالمدرسة النصرية والجامع العظم كتابي‬
‫الجامع الصحيح للماما البخاري‪ ،‬وموطأ الماما مالك بن أنس‬
‫برواية يحيى بن يحيى‪ ،‬وأجازه بهذين الكتابين وبجميع ما يحمل‬
‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬وأنظر‪ :‬المجاري‪ ،‬برنامج المجاري‪ ،‬ص‪. 119 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( محمد أبو الجفان‪ ،‬في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات للشاطبي‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ص‪ ، 22 :‬وانظر‪ :‬المجاري‪ ،‬برنامج المجاري‪ ،‬ص‪. 122 - 119 :‬‬


‫) ( محمد أبو الجفان‪ ،‬في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات للشاطبي‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص‪. 23 :‬‬
‫) ( أنظر الهامش رقم ‪. 1‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( أنظر الهامش رقم ‪. 2‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪34‬‬
‫إجازةاا عامةا بشرطها )‪. (1‬‬
‫‪ 6‬ـ أبو جعـفر بن الزيـات وهـو من شـيوخ الصـوفية‪،‬‬
‫وغيرهم من الذين اجتمـع بهم واستفاد منهم)‪. (2‬‬
‫تلمإيذه‪:‬‬
‫من أهم تلميذه ثلثة أعلما هم‪ :‬أبو يحيى محمد بن عاصم‪،‬‬
‫وأخوه أبو بكر القاضي‪ ،‬وأبو عبد ال محمد البياني‪ ،‬والخوان‬
‫المذكوران من أسرةا علمية شهيرةا بغرناطة‪ .‬وقد كان أبو يحيى‬
‫عالماا خطيباا‪ ،‬كاتباا أديباا‪ ،‬وارثاا لخطة شيخه الشاطبي‪ ،‬وكان‬
‫من أبطال الجهاد وفي ساحاته الشريفة استشهد سنة ‪ 813‬هـ ‪.‬‬
‫وكان القاضي أبو بكر فقيهاا أصولياا محدثاا يرجع إليه في‬
‫الفتوى‪ ،‬ومن تآليفه تحفة الحكاما التي وقع القبال عليها شرحاا‬
‫وتعليقاا ودراسةا‪ .‬وله أراجيز في أصول الفقه والنحو والفرائض‬
‫والقراءات‪ .‬وقد اختصر كتاب الموافقات لشيخه الشاطبي‪ ،‬وسمى‬
‫مختصره بـ »نيل المنى في اختصار الموافقات«هل )‪ . ( 3‬توفي سنة‬
‫‪ 829‬هـ )‪. ( 4‬‬
‫ومن تلميذه أيضاا أبو جعفر أحمد القصار الندلسي‬
‫الغرناطي‪ .‬وقد كان الشاطبي يطالع تلميذه هذا ببعض المسائل‬
‫عند تصنيفه لكتاب الموافقات‪ ،‬ويباحثه فيها ثم يدونها)‪. (5‬‬
‫ومن تلميذه أبو عبد ال محمد بن محمد بن علي بن عبد‬
‫الواحد المجاري الندلسي المتوفى سنة ‪ 862‬هـ ‪ ،‬صاحبِّ البرنامج‪.‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪. 26 - 24 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( محمد أبو الجفان‪ ،‬في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات للشاطبي ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص‪. 26 :‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪،108 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫بإحالته على‪ :‬نفح الطيبِّ للمقري‪. 5/21 ،‬‬


‫) ( محمد أبو الجفان ‪ ،‬في تحقيقه للفادات والنشادات للشاطبي‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪. 26‬‬

‫‪35‬‬
‫وقد ذكر في برنامجه الشـاطبي من شيوخه‪ ،‬وقال‪» :‬عرضت عليه‬
‫ألفية ابن مالك عن ظهر قلبِّ وحدثني بها عن شيخه الماما العلمة‬
‫أبي عبد ال البيري«هل‪ ،‬وذكر أنه أخذ عنه كتاب سيبويه ومختصر‬
‫ابن الحاجبِّ‪ ،‬وموطأ الماما مالك مع سرد أسانيده إلى مؤلفيها )‪، (1‬‬
‫وسمع عليه بعض الموافقات)‪. (2‬‬
‫مإكانته العلمية‪:‬‬
‫كان الشاطبي أحد العلماء المبرزين في عصره‪ ،‬ويتميز‬
‫برفضه للتعصبِّ والجمود والتقليد‪ ،‬كما أنه متمسك برأيه‪ ،‬ذكي‪،‬‬
‫ورع‪ ،‬واسع العلم‪ ،‬وهذا مما يدل على استقللية شخصيته‪ ،‬وعلى‬
‫عمقه الفكري‪ ،‬وهذا ما جلبِّ له عداء الجامدين وأثار عليه الحفظة‬
‫المقلدين في عصره‪.‬‬
‫ولقد ذاع صيت الشاطبي في حياته وتجاوز حدود الندلس‪،‬‬
‫وتشير كتبه إلى سعة علمه في كل فرع من فروع العلوما‪ ،‬سواء في‬
‫الفلسفة وأصول الدين‪ ،‬أو في المنطق وأصول الفقه‪ ،‬أو في علوما‬
‫اللغة وعلوما الشريعة وشتى فروعها‪ .‬وقد أشار هو إلى هذا فقال‪:‬‬
‫»لم أزل منذ أن فتق للفهم عقلي‪ ،‬ووجه شطر العلم طلبي‪ ،‬أنظر في‬
‫عقلياته وشرعياته‪ ،‬وأصوله وفروعه‪ ،‬لم أقتصر منه على علم دون‬
‫علم‪ ،‬ول أفردت عن أنواعه نوعاا دون آخر‪ ...‬بل خضت في لججه‬
‫خوض المحسن للسباحة‪ ،‬وأقدمت في ميادينه إقداما الجريء‪...‬‬
‫غائباا عن مقال القائل وعذل العاذل‪ ،‬ومعرضاا عن صد الصاد ولوما‬
‫اللئم إلى أن من علييي الرب الكريم‪ ،‬الرؤوفَّ الرحيم‪ ،‬فشرح لي من‬
‫معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي‪ ...‬فمن هناك قويت نفسي على‬
‫المشي في طريقه بمقدار ما يسر ال فيه‪ ،‬فابتدأت بأصول الدين‬
‫عملا واعتقاداا‪ ،‬ثم بفروعه المبنية على تلك الصول«هل )‪. (3‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المجاري‪ ،‬برنامج المجاري‪ ،‬ص‪. 122 - 116 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 1/17 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪36‬‬
‫قال عنه تلميذه المجاري‪» :‬الشيخ الماما العلمة الشهير‪،‬‬
‫نسيج وحده وفريد عصره«هل)‪ . (1‬وقال عنه الماما ابن مرزوق‬
‫الحفيد‪» :‬الشيخ الستاذ الفقيه الماما المحقق العلمة الصالح«هل)‪. (2‬‬
‫وترجم له أحمد بابا التنبكتي في نيل البتهاج فحله بـ‪» :‬الماما‬
‫العلمة المحقق القدوةا الحافظ الجليل المجتهد«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬كان‬
‫أصولياا‪ ،‬مفسراا‪ ،‬فقيهاا‪ ،‬محدثاا‪ ،‬لغوياا‪ ،‬بيانياا‪ ،‬نظاراا ثبتاا‪ ،‬ورعاا‪،‬‬
‫صالحاا‪ ،‬زاهداا‪ ،‬سنياا ‪ .‬إماماا مطلقاا‪ ،‬بحاثاا مدققاا‪ ،‬جدلياا بارعاا‬
‫في العلوما‪ ،‬من أفراد العلماء المحققين الثبات‪ ،‬وأكابر الئمة‬
‫المتفننين الثقات‪ ،‬له القدما الراسخ والمامة العظمى في الفنون‬
‫فقهاا وأصولا وتفسيراا وحديثاا وعربيةا وغيرها مع التحري‬
‫والتحقيق‪ ...‬على قدمام راسخم من الصلح والفقه والتحري‬
‫والورع«هل)‪. (4‬‬
‫مإؤلفاته‪:‬‬
‫للشاطبي مؤلفات جليلة أهمها اثنان‪ :‬الموافقات والعتصاما‪،‬‬
‫وهما مطبوعان‪ ،‬وبعض مؤلفاته لم تصلنا‪ ،‬وتدل مؤلفاته على سعة‬
‫علم وإحاطة‪ ،‬وعلى دقة ونباهة‪ ،‬وعلى ثقةم بالنفس واستقللية‪،‬‬
‫وعلى قدرةام على الستقصاء والتحري‪ ،‬وعلى تعقييبِّ النوادر‬
‫والشوارد‪ ،‬وعلى ونزاهةم في التماس الحق والصواب‪ ،‬وفي النأي عن‬
‫التعصبِّ والجمود‪ ،‬وعلى محاولة تجديد وإحياء للفكر السلمي‪،‬‬
‫وإطراح ما علق فيه من شوائبِّ‪ ،‬وتقويم ما طرأ عليه من انحرافَّ‪.‬‬
‫ومؤلفات الشاطبي هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الموافقات ‪ .‬وهو أشهر كتبه وأكثرها عمقاا‪ .‬وقد‬
‫سماه‪» :‬عنوان التعريف بأسرار التكليف«هل‪ ،‬ثم درج على الشارةا إليه‬
‫باسم »الموافقات«هل‪ .‬حاول من خلله وضع منهج لتقرير الصول‬

‫المجاري‪ ،‬برنامج المجاري‪ ،‬ص‪. 116 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫التنبكتي‪ ،‬نيل البتهاج‪ ،‬ص‪. 47 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪. 47 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪37‬‬
‫واستنباط الفروع‪ .‬لذلك فهو كتاب في الصول‪ .‬وإذا اعتيمد‬
‫مقصود الشاطبي بلفظ الصل أو الصول‪ ،‬فالصح أن يقال إن الكتاب‬
‫هو في أصول الصول‪ ،‬وهذا ما سيتبييين ‪ -‬إن شاء ال تعالى ‪ -‬في‬
‫شرح فكرته في المقاصد‪ ،‬وهو موضوع هذه الكتاب‪.‬‬
‫ولقد قيل في الموافقات الكثير‪ ،‬ول يصح فيه من هذا الكثير‬
‫إل القليل‪ ،‬وفيه من الغموض ما ل يحل أو ل يوقف على حقيقة‬
‫المراد منه إل بكثرةا المراجعة والربط بين النصوص في مواضع‬
‫مختلفة‪.‬‬
‫والكتاب متوفر بعدةا طبعات وتوفر عليه عدةا محققين أبرزهم‬
‫الدكتور عبد ال دراز‪ .‬وهو مطبوع في أربعة أجزاء‪ .‬وقد جعله‬
‫الشاطبي خمسة أقساما‪ :‬الول في المقدمات العلمية المحتاج إليها‬
‫تمهيداا لسائر القساما‪ ،‬والثاني في الحكاما وما يتعلق بها سواء‬
‫كانت من خطاب التكليف أو خطاب الوضع‪ ،‬والثالث في المقاصد؛‬
‫مقاصد الشارع ومقاصد المكلف‪ ،‬والرابع في الدلة الشرعية وهي‬
‫القرآن والسنة والجماع والقياس‪ ،‬والخامس في أحكاما الجتهاد‬
‫والتقليد والفتوى وفي أحوال المفتي والمستفتي‪.‬‬
‫لم تظهر عناية بالكتاب أو بمضمونه بما يفي ببعض ما يقال‬
‫فيه من إشادةا وتقريظ منذ عصر الشاطبي إلى الن‪ .‬أما في عصر‬
‫الشاطبي وتلميذه‪ ،‬فجل المر أن بعض تلميذه سمع بعضه منه أو‬
‫عنده‪ .‬وأن أحد تلميذه وهو القاضي أبو بكر ابن عاصم قد لخص‬
‫الكتاب وسمى ملخصه‪» :‬نيل المنى في اختصار الموافقات«هل)‪ . (1‬وأن‬
‫أخاه أبا يحيى بن عاصم قد نظمه في ستة آلفَّ بيت وسمى نظمه‪:‬‬
‫»نيل المنى من الموافقات«هل)‪ . (2‬أما التلخيص فلم أقع على ذكر‬
‫لوجوده اليوما‪ .‬وأما النظم فتوجد منه نسخة خطية بدير‬

‫) ( أنظر‪ :‬حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪. 108 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬الموضع نفسه‪ ،‬وأنظر‪ :‬محمد أبو الجفان‪ ،‬في تحقيقه للفادات‬ ‫‪2‬‬

‫والنشادات للشاطبي‪ ،‬ص‪. 32 ، 31 :‬‬

‫‪38‬‬
‫السكوريال تحت رقم ‪ . 1164‬وقد صدر نظمه بقوله )الريجيزن(‪:‬‬
‫أينن بيثيي في المشنــروعق‬ ‫الحيمندي لق الييذي مقــنن‬
‫سقـــــريي حقكنميتقـــــهق‬ ‫نقعنميتقــــــــــــــهق‬
‫بميقنتيضيــى الخقطــابق‬ ‫ويهييييــــأي العيقــــولي‬
‫ويالتييكنلق يـــــــــــفق‬ ‫للتييصنـــــــــــرقيفق‬

‫ثم قال‪:‬‬
‫ويكيتبيهي هقيي الجيلقيــسي‬ ‫فيـــالعقلنمي أيونلـــى مـــا‬
‫المــــــــــــــؤنتيميني‬ ‫اقنتيضيــى بــهق الزييميــني‬
‫ويمقـــــنن أيجيليقهيـــــا‬ ‫ويالمونرقدي المسنــتيعنذيبي‬
‫)الميوافيقيـــــــــــاتي(‬ ‫الفيــــــــــــــــرياتي‬
‫ذاكي أيبيو إقسنحاقي نيجنــلق‬ ‫لقشيـــينخقنيا العيلييميـــةق‬
‫الشييـــــــــــــــاطقبي‬ ‫الميراققـــــــــــــــبِّق‬
‫ميا بيعنــديهي مقــنن غياييــةم‬ ‫فيهنــوي كقتيــابي حيسيــني‬
‫لققاصقــــــــــــــــدق‬ ‫المقياصقــــــــــــــدق‬
‫وياخنتاري‪ ،‬مقنن ريؤنيــا‪ ،‬ذا كي‬ ‫وي كـــاني قيـــدن سيـــمياهي‬
‫السنــــــمي الثييــــــانقي‬ ‫بــــــــــــــالعيننويانق‬
‫ويمقننــهي فــي تيــريدييدقي‬ ‫ويقيدن سيــمقعنتي بيعنضيــهي‬
‫عيليينــــــــــــــــــهق‬ ‫ليـــــــــــــــــديينهق‬
‫إقليي ييسيري القيدنرق غيينري‬ ‫ليكقــنن ليــمن ييكيــنن ليــهي‬
‫كيــــــــــــــــــافي‬ ‫اخنتقلفـــــــــــــــي‬

‫إلى أن قال‪:‬‬
‫)نيينـــلي المينيـــى مقـــني‬ ‫ويجيـــاعقلا ليـــهي مقـــني‬
‫الموافيقيــــــــــــاتق(‬ ‫السيقـــــــــــــــمياتق‬
‫سقــــتييةي آلفَّم مقــــني‬ ‫فيعيــدييه لــم ييعنــدي فــي‬
‫المشنــــــــــــــطيورق‬ ‫المسنــــــــــــــطورق‬

‫‪39‬‬
‫ميقيـــــديقماا حيكنـــــمي‬ ‫ويها أينيــا بميــا قيصيــدنتي‬
‫الميقيــــــــــــديقماتق‬ ‫آتقــــــــــــــــــــي‬
‫في شيــأننقهق مقــنن ريبيقنيــا‬ ‫ويأيسنـــأيلي التييونفقيـــقي‬
‫سيــــــــــــــبنحيانيهن‬ ‫ويالقعــــــــــــــانيهن‬

‫وقد كان هذا النظم سنة ‪ 820‬هـ)‪ . (1‬ولم يذكر الناظم‬


‫اسمه‪ ،‬ولذلك فنسبته إلى أبي يحيى غير أكيدةا)‪. (2‬‬
‫ومما يلفت النظر إلى قلة العناية‪ ،‬أن هذا النظم ما زال‬
‫مخطوطاا لم يطبع بشكل كامل‪.‬‬
‫أما عناية المعاصرين بكتاب )الموافقات(‪ ،‬فقد ذكر أبو عبيدةا‬
‫مشهور بن حسن آل سلمان في مقدمته على تعل ي قه على‬
‫)الموافقات(‪ ،‬أنه وقف على ثلثة اختصارات للكتاب‪:‬‬
‫الول هو‪) :‬المرافق على الموافق( لمصطفى بن محمد فاضل‬
‫بن مامين المتوفى سنة ‪ 1328‬هـ ‪ 1910 -‬ما‪ .‬وهو نظم مع شرح‬
‫باختصار شديد‪ ،‬وقد طبع هذا النظم مع شرحه سنة ‪ 1324‬هـ في‬
‫تونس )‪. (3‬‬
‫الثاني هو‪) :‬اختصار الموافقات( لبراهيم بن طاهر بن أسعد‬
‫العظم )المتوفى سنة ‪ 1377‬هـ ‪ 1957 -‬ما ( ‪ .‬وهو مخطوط في‬
‫جزأين عند أسرةا المؤلف )‪. (4‬‬
‫الثالث هو‪» :‬توضيح المشكلت في اختصار الموافقات«هل‬
‫لمحمد يحيى بن عمر المختار بن الطالبِّ عبد ال الولتي‬
‫الشنقيطي‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 1330‬هـ ‪ 1912 -‬ما)‪. (5‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة ‪ ،‬ص‪. 32 ، 31 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أبو عبيدةا‪ ،‬تعليقه على الموافقات‪. 1/31 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/33 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( أبو عبيدةا‪ ،‬تعليقه على الموافقات‪ ،36 ، 1/35 ،‬بإحالته على العلما‬ ‫‪4‬‬

‫للزركلي‪. 1/44 ،‬‬


‫) ( المرجع نفسه‪. 1/36 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪40‬‬
‫وهناك وجه آخر للعناية بالكتاب وهو طباعته والتعليق عليه‪.‬‬
‫وقد أشار أبو عبيدةا المذكور آنفاا إلى خمس طبعات )‪ . (1‬الولى‬
‫سنة ‪ 1302‬هـ ‪ 1884 -‬ما بمطبعة الدولة التونسية‪ .‬والثانية سنة‬
‫‪ 1327‬هـ ‪ 1909 -‬ما حيث طبع الجزء الول منه بمدينة قازان في‬
‫عاصمة جمهورية التتار بروسيا‪ .‬والثالثة سنة ‪ 1341‬هـ ‪192 -‬‬
‫‪ 2‬ما في مصر‪ ،‬وهي بتعليق الشيخين محمد الخضر حسين‪ ،‬ومحمد‬
‫حس ن ين مخلوفَّ‪ ،‬حيث علق الول على الجزأين الول والثاني‪ ،‬وعلق‬
‫الثاني على الجزأين الثالث والرابع‪ .‬والرابعة في مصر بتعليق‬
‫وتحقيق الشيخ عبد ال دراز‪ .‬والخامسة في مصر بتحقيق محمد‬
‫محيي الدين عبد الحميد‪ .‬وبهذا تكون الطبعة التي بتحقيق أبي‬
‫عبيدةا نفسه هي الطبعة السادسة‪.‬‬
‫هذا بالضافة إلى ظهور كتبِّ ومقالت تتحدثا عن كتاب‬
‫الموافقات وعن المقاصد وعن الشاطبي)‪ . ( 2‬وأكثرها يظهر في هذا‬
‫الكتاب من خلل الحالة عليها أو مناقشتها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ العتصام ‪ .‬ألفه الشاطبي بعد الموافقات‪ ،‬ولم ينهه‪ ،‬يقع‬
‫في جزأين‪ ،‬موضوعه البدع‪ ،‬ولم يكتبِّ مثله فيها ‪ -‬وال أعلم ‪-‬‬
‫والناس في هذا الموضوع عيال عليه حتى يومنا هذا‪ .‬تأتي أهمية‬
‫هذا الكتاب من عدةا جهات‪ ،‬منها شموليته لنواع البدع‪ ،‬ومنها القدرةا‬
‫الهائلة عند الشاطبي على النفاذ إلى أعماق النفس وفهم دوافعها‪،‬‬
‫ومنها العمق والتدقيق الذي يمكن من التمييز بين الشياء‬
‫المتشابهة أو المتداخلة‪ ،‬كالتمييز بين المصالح المرسلة‬
‫والستحسان‪ ،‬وكتمييز كل منها عن البدع ‪.‬‬
‫وتظهر جدية الشاطبي في الكتابين المذكورين في دقته وفي‬
‫توضيحه للمعنى المراد بأي لفظ يستعمله‪ ،‬وفي استقصائه وتفصيله‬

‫) ( المرجع نفسه‪. 58 ، 1/57 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( رغم كل هذه الطبعات والتعليقات‪ ،‬والكتبِّ والمقالت لم يعثر الباحث‬ ‫‪2‬‬

‫على تعليق أو بحث في حقيقة فكرةا الشاطبي في المقاصد‪ ،‬أو على جديــده‬
‫وابتكاره في الموضوع ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫لهذا المعنى‪ ،‬ومن ذلك المراد بالبدعة وتتبعه للفقرق‪ .‬والمراد‬
‫بالمباح‪ ،‬ووضعه الضوابط والحدود لما هو ضروري أو حاجي أو‬
‫تحسيني أو من المكملت‪ ،‬وتوسعه في بيان ما هو رخصة وما هو ليس‬
‫كذلك‪.‬‬
‫ويظهر في كتـاب العتصـاما‪ ،‬في كثيـر من المواضـع‪،‬‬
‫تطبيقه لما سبق وقرره من قواعد في الموافقات‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ كتاب المجالس ‪ .‬وهو شرح لكتاب البيوع من صحيح‬
‫البخاري‪ .‬يقول عنه التنبكتي إن فيه من الفوائد والتحقيقات ما ل‬
‫يعلمه إل ال سبحانه )‪. (1‬‬
‫‪ 4‬ـ شرح الخلصة ‪ .‬وهو كتاب في النحو‪ ،‬شرح فيه ألفية‬
‫ابن مالك في أربعة أجزاء كبيرةا الحجم‪ .‬قال فيه التنبكتي‪» :‬لم‬
‫يؤلف عليها مثله بحثاا وتحقيقاا فيما أعلم «هل)‪. (2‬‬
‫‪ 5‬ـ عنوان التفاق في علم الشتقاق ‪ .‬قال الدكتور‬
‫حمادي العبيدي‪» :‬هو كتاب كما يدل عنوانه في علم الصرفَّ وفقه‬
‫اللغة‪ ،‬ولعله شبيه بكتاب الخصائص لبن جني‪ ،‬وقد اتخذه من‬
‫مراجعه في شرحه للفية ابن مالك‪ ،‬وتذكر بعض المراجع أن هذا‬
‫الكتاب ضاع والمؤلف ما يزال على قيد الحياةا«هل)‪. (3‬‬
‫‪ 6‬ـ أصول النحو ‪ .‬قال الدكتور العبيدي‪» :‬هو كتاب في‬
‫قواعد اللغة من نحو وصرفَّ اقتصر فيه على القواعد الصلية التي‬
‫ل غنى عنها‪ ،‬وجعله لطلب هذا العلم‪ ،‬ويقال إنه ضاع أيضاا«هل )‪. (4‬‬
‫‪ 7‬ـ الفادات وأالنشادات ‪ .‬وهو كتاب يذكر فيه مؤلفه‬
‫بعض الخبار والحداثا التي حصلت معه أو عرفها مما قد يكون في‬
‫ذكره فائدةا‪ .‬ويذكر فيه أيضاا بعض الحداثا التي يحصل فيها‬
‫إنشاد الشعر‪ .‬هذا الكتاب مطبوع بتحقيق الستاذ محمد أبو‬

‫التنبكتي‪ ،‬نيل البتهاج‪ ،‬ص‪. 48 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪. 98 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪. 99 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪42‬‬
‫الجفان‪.‬‬
‫وقد ظهـر أيضـاا كتاب اسـمه‪) :‬فتاوى الشـاطبي( وهو ليس‬
‫من مؤلفـاته‪ ،‬وإنما هـو من إعـداد بعض المحققيـن جمعـوا فيـه‬
‫جملة من فتـاوى وآراء الشـاطبي المبثوثة في كتابييق الموافقـات‬
‫والعتصاما )‪. (1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ 99 :‬ـ ‪. 100‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪43‬‬
‫الفصل الوأل‬
‫التمهيد لنشـوء فكرة‬
‫مإقاصـد الشـريعة‬

‫وأيحتوي على مإقدمإة وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬القياس‪.‬‬


‫المبحـــث الثـــاني‪ :‬مإســـالك العلـــة‬
‫وأشروأطها‪.‬‬
‫المبحـــث الثـــالث‪ :‬مإســـلك الخإالـــة‬
‫وأالمناسبة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫الفصل الوأل‬
‫التمهيد لنشـوء فكـرة مإقاصـد‬
‫الشـريعة‬
‫مإقدمإة فـي نشـأة علم أصول الفقه وأتطوره‪:‬‬
‫ييعد الماما الشافعي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬أول من حيديي أصول‬
‫الستنباط وضبطها في قواعد عامة وكلية‪ .‬قال الزركشي‪:‬‬
‫»الشافعي رضي ال عنه أول من صنف في أصول الفقه‪ .‬صنيف فيه‬
‫كتاب الرسالة‪ ،‬وكتاب أحكاما القرآن‪ ،‬واختلفَّ الحديث‪ ،‬وإبطال‬
‫الستحسان‪ ،‬وكتاب جماع العلم‪ ،‬وكتاب القياس«هل)‪. (1‬‬
‫وقال الشيخ محمد أبو زهرةا‪» :‬ولقد كان الشافعي جديراا‬
‫بأن يكون أول من يدون ضوابط الستنباط«هل)‪. (2‬‬
‫وقد كان الفقهاء قبل الشافعي يجتهدون من غير أن يكون بين‬
‫أيديهم حدود مرسومة للستنباط‪ ،‬بل كانوا يعتمدون على فهمهم‬
‫لمعاني النصوص الشرعية وعللها وما تومىء إليه نصوصها‬
‫ومقاصدها‪.‬‬
‫ثم توالت بعد الماما الشافعي التآليف في هذا العلم‪ ،‬فاختلف‬
‫معه البعض في الصول‪ ،‬واختلف معه البعض في تفريعات ومتعلقات‬
‫بهذه الصول دون خلفَّ في الصول‪ ،‬واتفق معه البعض وتابعوه في‬
‫أصوله وتفريعاته وما يتعلق بها‪ .‬والمراد بالصول هنا مصادر‬
‫التشريع أو أدلته الجمالية وهي القرآن والسنة والجماع والقياس‪.‬‬
‫يقول الشيخ محمد أبو زهرةا‪» :‬وفي الحق إن فقهاء المذاهبِّ‬
‫الربعة لم يخالفوا الشافعي في الدلة التي قررها وهي الكتاب‬
‫والسنة والجماع والقياس‪ ،‬وهذه الصول مجمع عليها‪ ،‬والزيادةا‬

‫) ( أنظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ . 1/7 .‬وانظر‪ :‬تقي‬ ‫‪1‬‬

‫الدين النبهاني‪ ،‬الشخصية السلمية ‪ ، 371 - 1/364‬ط ‪ 1418 ، 5‬هـ ‪-‬‬


‫‪ 1997‬ما ‪ -‬دار المة للطباعة والنشر والتوزيع ‪.‬‬
‫) ( محمد أبو زهرةا‪ ،‬أصول الفقه‪ ،‬ص‪. 16 - 13 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪45‬‬
‫عليها موضع خلفَّ بينه وبين أكثرهم«هل)‪. (1‬‬
‫أما الذين خالفوه فهم الظاهرية والشيعة‪ ،‬فالظاهرية يرفضون‬
‫القياس كله)‪ ، (2‬ول يعتمدون إل على ظاهر النصوص‪ ،‬والشيعة‬
‫خالفوا مخالفةا كبيرةا فجعلوا أقوال الئمة دليلا شرعياا كالكتاب‬
‫والسنة‪ .‬وكلما الئمة عندهم مخصص للنصوص الشرعية)‪. (3‬‬
‫أما الحنافَّ والمالكية والحنابلة فإن أصولهم تتفق مع أصول‬
‫الشافعي مع اختلفَّ في التفصيلت)‪ ، (4‬وأما الذين ساروا على نهج‬
‫الشافعي في أصوله وتفصيلته‪ ،‬واحتضنوا آراءه فهم أتباعه الذين‬
‫نشطوا في علم أصول الفقه وأكثروا من التأليف فيه‪.‬‬
‫وقد ألفت على طريقة الشافعي قي أصول الفقه كتبِّ كانت‬
‫ول زالت عماد هذا العلم ودعامته‪ .‬وأعظم ما عرفَّ للقدمين ثلثة‬
‫كتبِّ هي )المعتمد( لبي الحسين محمد بن علي بن الطيبِّ البصري‬
‫المعتزلي المتوفى سنة ‪ 436‬هـ ‪ .‬وثانيها كتاب )البرهان( لعبد‬
‫الملك بن عبدال الجويني المتوفى سنة ‪ 478‬هـ ‪ .‬وثالثها كتاب‬
‫)المسـتصفى( لبي حامد الغزالي المتوفى سنة ‪ 505‬هـ ‪ .‬ثم جاء‬
‫بعدهم أبو الحسين علي المعروفَّ بالمدي المتوفى سنة ‪ 631‬هـ ‪.‬‬
‫فجمع هذه الكتبِّ وزاد عليها قي كتابه )الحكاما في أصول الحكاما(‪،‬‬
‫ومثله فعل الماما فخر الدين الرازي المتوفى سنه ‪ 606‬هـ ‪ .‬فجمع‬
‫هذه الكتبِّ وزاد عليها في كتابه )المحصول(‪ .‬وجاء بعد هؤلء‬
‫الزركشي المتوفى سنة ‪ 784‬هـ ‪ .‬وقد اجتمعت لديه هذه الكتبِّ‬
‫المذكورةا أعله وغيرها من مصـنفات القدمين ما يربو على‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 17 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬ابن حزما‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما‪ ، 8/515 ،‬تأليف أبي محمد‬ ‫‪2‬‬

‫علي بن أحمد ابن علي بن حزما الظاهري‪ 384 .‬هـ ‪ 456 -‬هـ‪ .‬دار الكتبِّ‬
‫العلمية‪ .‬بيروت‪ .‬ط ‪. 1‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬تقي الدين النبهاني‪ ،‬الشخصية السلمية‪. 370 - 1/369 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ، 368 - 367 :‬ومحمد أبو زهرةا‪ ،‬أصول الفقه‪ .‬ص‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪. 16‬‬

‫‪46‬‬
‫المائتين)‪ (1‬فجمع هذه الكتبِّ وزاد عليها في كتابه )البحر‬
‫المحيـط في أصول الفقه(‪.‬‬
‫ومن أعظم كتبِّ الصول عند الحنفية )أصول البزدوي(‬
‫لفخر السلما علي ابن محمد البزودي المتوفى سنة ‪ 482‬هـ‬
‫و)أصول السرخسي( للماما أبي بكر محمد ابن أحمد بن أبي سهل‬
‫السرخسي المتوفى سنة ‪ 490‬هـ ‪.‬‬
‫وبتطور علم الصول من الشافعي إلى هؤلء العلماء فإنه‬
‫يلحظ أمران‪:‬‬
‫الوأل ‪ :‬نمو هذا العلم وتشعبه‪ ،‬وظهور التفريعات والتفصيلت‬
‫والتقييدات والستثناءات للصول والقواعد‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬تأثير علم الكلما والمنطق في هذه التفريعات‪ ،‬وبروز‬
‫السير المنطقي في إقامة الحجج والمثلة والستدلل‪ .‬فظهر فيها‬
‫التجاه النظري الذي يسعى إلى تقرير القواعد‪ ،‬وإلى تفصيل‬
‫وتفسير أصول المذهبِّ لنصرته ولو لم يكن لذلك اثر على‬
‫الجتهاد والستنباط)‪. (2‬‬
‫وقد تميز علماء الصول من الحنافَّ بأنهم لم يقوموا لنصرةا‬
‫مذهبِّ في الصول وانما قاموا ينصرون مذهباا في الفروع‪ .‬ومن هنا‬
‫قيل بتشعبِّ طرق الصول إلى طريقتين‪:‬‬
‫الوألى ‪ :‬طريقة الفقهاء ويقصد بها طريقة الحنفية‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬طريقة المتكلمين ويقصد بها طريقة الشافعية‬
‫والمالكية والحنبلية‪.‬‬
‫ثم نشأ بعد ذلك ما سمي بطريقة المتأخإرين والمقصود‬
‫بها منهج العلماء الذين جمعوا في كتبهم بين الطريقتين‪ .‬يقول‬

‫) ( أنظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط في أصول الفقه‪. 1/40 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬مقدمة الدكتور محمد حسن هيتو على تحقيقه لكتاب‪) :‬المنخول‬ ‫‪2‬‬

‫من تعليقات الصول( لحجة السلما الغزالي ص‪ . 12 - 1 :‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪،‬‬


‫ط ‪ 1400 ، 2‬هـ ‪ 1980 -‬ما‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫الدكتور محمد حسن هيتو‪ » :‬وكانت هذه » الرسالة «هل هي أول‬
‫كتاب صنيقف في أصول الفقه‪ ،‬ومن ثم توالى الئمة والعلماء على‬
‫شرحها والستضاءةا بنورها «هل)‪ . (1‬ثم يقول‪ » :‬فألفت فيه المؤلفات‪،‬‬
‫وحررت المصنفات‪ ،‬وتشعبت طرق الباحثين فيه إلى طريقتين‪:‬‬
‫الطريقة الولى وهي التي تعرفَّ بطريقة المتكلمين وهم‬
‫الشافعية والجمهور‪.‬‬
‫والطريقة الثانية وهي التي تعرفَّ بطريقة الفقهاء وهم‬
‫الحنفية «هل)‪. (2‬‬
‫ثم قال‪ » :‬طريقة المتكلمين‪ :‬وهذه كانت تهتم بتحرير‬
‫المسائل‪ ،‬وتقرير القواعد وتميل إلى الستدلل العقلي ما أمكن‬
‫مجريقدةا للمسائل الصولية عن الفروع الفقهية‪ ،‬شأنها في ذلك‬
‫شأن علماء الكلما «هل)‪ . (3‬ثم قال‪ :‬طريقة الفقهاء‪ :‬وهي أيميسيي‬
‫بالفقه وأليق بالفروع الفقهية‪ ،‬تقرر القواعد الصولية على‬
‫مقتضى ما نيقل من الفروع عن أئمتهم‪ ،‬زاعمةا أنها هي القواعد‬
‫التي لحظها أولئك الئمة عندما فرعوا تلك الفـروع‪« ..‬هل)‪. (4‬‬
‫وبعد ذلك يذكر الدكتور هيتو بعض أهم الكتبِّ التي جمعت بين‬
‫الطريقتين‪ ،‬وذلك كي)جمع الجوامع( للماما تاج الدين السبكي‪،‬‬
‫و)ميسيلييم الثبوت( للعلمة محبِّ الدين بن عبد الشكور)‪. (5‬‬
‫ولم تكن طريقة المتأخرين ‪ -‬فيما أرى ‪ -‬إل تأثراا من أتباع‬
‫طريقة الفقهاء بطريقة المتكلمين‪ ،‬من خلل اعتماد قواعد المنطق‬
‫وعلم الكلما في المباحث الصولية ‪ .‬فلم تكن طريقة ثالثة بقدر ما‬
‫كانت انجراراا إلى الوسائل المنطقية والكلمية في المجادلت‬
‫والردود‪ ،‬وبقدر ما كانت محاولت للحاطة بمختلف القوال‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 6‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المرجع نفسه ص ‪. 7‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫أنظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 12‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪48‬‬
‫المتفقة والمتقاربة والمتعارضة في كتبِّ جامعة‪ ،‬في عصور لم‬
‫يعرفَّ علم أصول الفقه فيها إبداعاا إل في الجمع والشرح والختصار‬
‫والتحشية والترتيبِّ والتبويبِّ ‪ ،‬وظل الحال فيها جامداا إلى أن جاء‬
‫الشاطبي ونظر في هذا الرثا الكبير وقاما بمحاولته الصلحية‬
‫التوفيقية بين الطريقتين‪ ،‬طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين‪.‬‬
‫وأكثر ما يظهر فيه هذا الختلفَّ بين الطريقتين في مباحثق‬
‫أصول الفقه‪ ،‬هو مباحثي القياس والتعليل ومسالك العلة‪.‬‬
‫وسيتجلى هذا الختلفَّ بوضوح في الفصلين الول والثاني من‬
‫هذا الكتاب‪ .‬كما سيظهر كيف انبثقت ‪ -‬نتيجة هذا الختلفَّ ‪ -‬فكرةا‬
‫مقاصد الشريعة على يد الماما الجويني ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬ثم صارت بعد‬
‫ذلك جزءاا من مباحث علم أصول الفقه‪.‬‬
‫و تقوما فكرةا مقاصد الشريعة على أن الشريعة إنما وضعت‬
‫لجل م ص ا لح العباد في الدارين ‪ ،‬الدنيا والخرةا ‪ .‬و مصالح الخرةا‬
‫هي نوال رضا الرحمن والفوز بالنعيم والجنان والنجاةا من العذاب‬
‫والنيران‪.‬‬
‫أما مصالح الدنيا فهي ما يسعى النسان ل تحصيله أو‬
‫المحافظة عليه أو لدرئه واتقائه لجل عيشه وذلك بحسبِّ ما‬
‫خلق ال فيه وقدر من خصائص وحاجات‪.‬‬
‫وقد ذهبِّ أكثر العلماء إلى أن مصالح الدنيا ترجع إلى‬
‫خمسة أمور هي بمثابة الصول أو الضرورييات التي ترجع إليها‬
‫كل المصالح وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‪،‬‬
‫وأحكاما الشريعة تؤدي إلى حفظ هذه المصالح‪.‬‬
‫ولما كانت هذه المصالح نتائج للشريعة أو مقصودةا بها‪،‬‬
‫فقد ذهبِّ بعض العلماء إلى أن هذه المصالح هي علل للشريعة‪.‬‬
‫وذهبِّ غيرهم إلى أنها مقاصد وليست عللا‪ .‬وكان لهذا الختلفَّ‬
‫أثر ه في البحاثا الصولية عند أئمة أصول الفقه‪ ،‬كما كان له‬

‫‪49‬‬
‫أثره في فكرةا مقاصد الشريعة عند الماما أبي أسحق الشاطبي‪.‬‬
‫لقد ذهبِّ الشاطبي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬إلى أن مقاصد الشريعة هي‬
‫عللها‪ ،‬إل أن ثبوت كون المقصد مقصداا شرعياا يحتاج إلى دليل‬
‫شرعي‪ .‬وقد كان للشاطبي منهج في هذا المر تميز به عن‬
‫سابقيه‪ ،‬سعى من خلله إلى التوفيق بين المختلفين‪ ،‬ومن هنا جاء‬
‫اسم كتابه‪ :‬الموافقات‪.‬‬
‫ولجل الوقوفَّ على حقيقة هذا الختلفَّ في مسألة التعليل‬
‫بالمصلحة‪ ،‬وعلى الختلفَّ في كيف تيعديي المصلحة مصلحةا‬
‫شرعية‪ ،‬أو المقصد مقصداا شرعياا وبالتالي كيف ييعيديي الوصف‬
‫أو المعنى علة‪ ،‬لجل ذلك لزما بيان معنى العلة في الشرع وكيف‬
‫تثبت ‪ ،‬وشروطها ومسالكها‪.‬‬
‫وتعليل الحكم الشرعي بمصلحة يرى المجتهد أنها مقصودةا‬
‫بالحكم هو تعليل بمعنىا أو وصف يراه مناسباا أو صالحاا ليكون‬
‫مقصوداا للشارع‪ .‬ومن هنا برز الختلفَّ بين الئمة في مسألة‬
‫التعليل بالوصف المناسبِّ‪ .‬فهل كون الوصف مناسباا دليل على‬
‫كونه علة‪ ،‬أي هل المناسبة مسلك من مسالك العلة؟ والجواب‬
‫على هذا السؤال هو أصل اختلفَّ الراء بين الئمة‪.‬‬
‫لذلك لزما أيضاا معرفة معنى المناسبة‪ ،‬وهل هي دليل على‬
‫العلة ؟ أو هي شرط لها ؟ أو ل هذا ول ذاك ؟ وما الفرق بين‬
‫المرين؟‬
‫وكون الوصف مناسباا ليكون علة للحكم أو مقصداا قصده‬
‫الشارع به يختلف باختلفَّ النظار والمجتهدين‪ .‬فما يدعيه‬
‫مجتهدي أنه مناسبِّ قد يعارضه آخر فيقول إنه ليس مناسباا ‪ .‬وهذا‬
‫بناءا على اختلفَّ أفهاما الناس و مداركهم وعقول هم ‪ .‬لذلك كان‬
‫ل بد من ضابط شرعي للدللة على كون الوصف مناسباا أو غير‬
‫مناسبِّ ‪.‬‬
‫وادعاء مناسبة الوصف بدون دليل شرعي على مناسبته هو‬

‫‪50‬‬
‫مج ر د تيخييييل‪ .‬لذلك أيطلق على المناسبة اسم الخالة‪ .‬وقال‬
‫عنه البعض إنه خيال باطن‪ ،‬أي إنه شعور داخلي خاص بالشخص‬
‫وهذا ليس دليلا شرعياا‪ .‬وسيتبين هذا في موضعه لحقاا‪.‬‬
‫وإذا ثبت ب ي ع ن د ي النظر الشرعي أن الوصف المناسبِّ عقلا أو‬
‫خيالا وصفي مردود شرعاا فحينئذم يسقط وييسميى ميلغىا‪ .‬وإذا‬
‫ثبت أنه مقبول شرعاا ‪ ،‬حينئذم ييسميى معتبراا ‪ ،‬أي يثبت أنه معتبر‬
‫شرعاا‪.‬‬
‫إل أن كيفية ثبوت العتبار للوصف أو المعنى ليكون‬
‫مناسباا معتبراا ولكي يصلح للتعليل‪ ،‬وبتعبير آخر ليكون مصلحةا‬
‫معتبرةا شرعاا لتعليل الحكم بها‪ ،‬هذه الكيفية ظلت موضع تنازع‬
‫بين العلماء‪ .‬والختلفَّ في المناسبة كمسلك للتعليل هو في‬
‫حقيقته اختلفَّ في كيفية اعتبار الوصف‪ .‬فإن كان معنى‬
‫العتبار هو أن يدل الدليل الشرعي على أمر ما فيكون شرعياا‬
‫بناء على ذلك فهذا ل خلفَّ فيه‪ .‬أما العتبار المختلف فيه‬
‫والذي هو لبِّ الختلفَّ فهو بمعنى أن يأتي الحكم موافقاا‬
‫لمصلحة ما أو لوصفم مناسبِّ فيييدييعيى علة‪ .‬لذلك لزما لجل‬
‫فهم فكرةا التعليل بالمصلحة وفكرةا المقاصد عند الشاطبي بيان‬
‫معنى العتبار أو معنى موافقة الحكم للوصف المناسبِّ في‬
‫المصطلح الصولي‪ .‬خاصة وأن الشاطبي جاء ليقف بين الفريقين‪،‬‬
‫فيؤكد فكرةا التعليل بالمناسبِّ المعتبر بعد أن يضع له شروطاا‬
‫قد تجعله مقبولا لدى الرادين للتعلي ل به‪ .‬وهذا ما سي تبيين‬
‫بالتفصيل عند الحديث عن منهجه‪.‬‬
‫إن الرادين للتعليل بالوصف المناسبِّ يعتمدون على أن‬
‫التعليل يحتاج إلى دليل‪ ،‬فالوصف ل يثبت علة إل إذا جاء في أحد‬
‫المسالك الشرعية للعلة‪ ،‬وهذا ليس موضع خلفَّ‪ .‬ولكنهم يرون‬
‫أن المناسبة ليست مسلكاا للعلة‪ ،‬أي ليست دليلا عليها وإنما هي‬
‫شرط لها‪ .‬والوصف المناسبِّ إن لم يدل دليل شرعي على اعتباره‬
‫أو إلغائه فهو مرسل ول حجة فيه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫أما المعللون بالوصف المناسبِّ فيعتمدون على أن المناسبة‬
‫بحد ذاتها مسلك للع ل ة‪ .‬فكون الوصف مناسباا دليل ي على عليته‬
‫بشرط أن ل يدل دليل على أنه ملغى‪ .‬ولن هذا القول بحاجة إلى‬
‫دليل ‪ ،‬فقد عمد أصحابه إلى إثبات أن الصل في الحكاما التعليل ‪،‬‬
‫وإلى جعل هذا القول قاعدةاا أصولية‪ .‬فإذا دل دليل شرعي على‬
‫عقليقييية وصف ما فهو العلة‪ .‬وإذا لم نجد دليلا على ذلك‪،‬‬
‫فحينئذم يلزما التعليل بوصف ما وإن لم يأتق في مسلك‪ ،‬وذلك‬
‫بناءا على تلك القاعدةا‪ .‬فعدما التعليل مخالف ي للصل‪ .‬ومن هنا‬
‫تأتي شرعية التعليل بالوصف المناسبِّ وتصبح إلخالة والمناسبة‬
‫مسلكاا للعلة‪.‬‬
‫وهنا انتقل الخلفَّ إلى خلفَّ في هذه القاعدةا ‪ ،‬حيث أخذ بها‬
‫وبنى عليها المعللون بالمناسبِّ المع ت بر‪ .‬وردها الرادون للتعليل‬
‫بالمناسبِّ وردوا العتبار الذي قال به المعللون‪.‬‬
‫ومن هنا جاء الش ـ اطبي ليثبت أص ـ ل التعلي ـ ل إثباتاا قطعي ـ اا‪،‬‬
‫وليض ـ ع م ن هجاا جديداا لكيفية اعتبار الوصف‪ ،‬وبالتالي لكيفية‬
‫عديق الوصف مقصداا وعلة‪ .‬وذلك هو منهج الس ـ تقراء المفيد‬
‫للقطع ‪ -‬عنده ‪ -‬وسيتبين موثقاا ومفصييلا في موضعه‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك مسألةا أخرى‪ ،‬وهي أن عيديي وصفم ما‬
‫مصلحة وبالتالي مقصداا شرعياا وعلةا للتشريع إنما هو لجل‬
‫بناء التشريع على ذلك‪ ،‬والعلة هي أحد أركان القياس ‪ ،‬والقياس‬
‫له أركان أخرى منها الصل‪ ،‬أي الحكم الشرعي المعلل‪ .‬فوجود‬
‫الحكم ووجود علته يؤدي إلى إعطاء الحكم نفس ه لواقعة أخرى‬
‫ليس فيها نص وذلك بناء على تلك العلة أو المصلحة‪ .‬ولكن في‬
‫مسألة التعليل بالمصلحة ‪ ،‬قد يرى القائلون بالمصلحة مصالح أو‬
‫مفاسد في وقائع معينة تحتاج إلى حكم‪ ،‬ولكن من غير أن يجدوا‬
‫أصلا أو حكماا يقاس عليه‪ .‬فإعطاء الحكم هنا بناء على المصلحة‬
‫أو المفسدةا الموجودةا في الواقعة من غير وجدان أصل يقاس‬
‫عليه ‪ ،‬هل هو من قبيل القياس أو هو شيء آخر؟ إن وج و د الصل‬

‫‪52‬‬
‫ركن من أركان القياس وعدما وجوده مبطل لعملية القياس‪.‬‬
‫وهذه مسألة أخرى وقفت عائقاا أماما الذين يقولون بالتعليل‬
‫بالمصالح‪ .‬وهنا نشأ اختلفَّ بين المعللين بالمصالح فمنهم من‬
‫سمى هذا المر قياساا بناء على أن المصلحة المعينة إن لم يكن‬
‫لها أصل يقاس عليه فهناك أصول لجنس المصلحة‪ .‬ومنهم من لم‬
‫يعديي هذا المر قياساا وإنما سمييوه‪ :‬الستدلل‪ .‬وسيتبين هذا‬
‫المر أيضاا بالتفصيل في موضعه‪.‬‬
‫والغالبِّ عند الصوليين أن هذا ليس قياساا وإنما هو‬
‫استدلل‪ ،‬وبوجه أخص هو استصلح أو مصلحة مرسلة‪ .‬ولفظ‬
‫الستدلل أعم من المصالح المرسلة إذ يطلق أيضاا على‬
‫الستحسان والستصحاب وغي ر ه م ا مما ليس فيه دليل خاص أو‬
‫مباشر على المسألة ‪ ،‬وإنما ي ي عتمد على قاعدةا ليست خاصة‬
‫بالمسألة مثلما يعتمد المعللون بالمناسبِّ على قاعدةا الصل في‬
‫الحكاما التعليل‪ ،‬ومثلما ي ي عتمد أيضاا في بعض المسائل الفقهية‬
‫على قاعدةا الستصحاب‪.‬‬
‫وليس من موضوع هذه المقدمة شرح وبيان هذه‬
‫المصطلحات الصولية‪ ،‬التي س ي أتي بيانها في تماما هذا الفصل‬
‫والذي يليه‪ .‬وإنما المراد من ها بيان أنه لجل استيفاء إدراك فكرةا‬
‫المقاصد عند الشاطبي ل بد من إدراك نشأةا فكرةا المقاصد عند‬
‫الصوليين الذين سبقوه ول ب ديي من الوقوفَّ على معاني بعض‬
‫اللفاظ والمصطلحات الصولية المتعلقة بالقياس ومباحثه ‪ .‬وإ ذا‬
‫كان من هذه المصطلحات ما يكفي فيه بعض اللماما‪ ،‬فإن منها ما‬
‫يلزما الغوص فيه والتعمق‪.‬‬
‫لجل ذلك كان هذا الفصل ليكون مدخلا إلى فكرةا‬
‫المقاصد عموماا‪ ،‬وبعد ذلك إلى فكرةا المقاصد عن د الشاطبي‬
‫خصوصاا‪ .‬ولذلك كانت أبحاثا هذا الفصل للتعريف بالقياس‬
‫وبالعلة وأركانها وشروطها ومسالكها‪ .‬وللتفصيل في مسلك‬
‫المناسبة‪ .‬وفي معنى موافقة الحكم للمصلحة أو للوصف ‪ ،‬وهو‬

‫‪53‬‬
‫العتبار وأقسامه‪ .‬ولبيان معنى الستدلل ومعنى المصلحة‬
‫المرسلة‪ .‬وأثناء ذلك وبعده بيان اختلفَّ الصوليين في هذه‬
‫المسائل مما يوثق ما ذكر آنفاا ويبين كيف نشأت فكرةا‬
‫المقاصد‪ ،‬وكيف جاءت فكرةا الشاطبي في المقاصد وبأي شيء‬
‫كانت جديدةا ومختلفة عما سبقها‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫القياس‬

‫مإفهوم القياس وأمإباحثه‪:‬‬


‫القياس في اللغة التقدير‪ .‬فيقال قاس الشيء بالشيء إذا‬
‫قدييره به‪ ،‬كتقدير المسافة بالمتار إذا قاسها بها‪ ،‬أو الوزن‬
‫بالرطل إذا قاسه به‪ .‬قال في لسان العرب‪» :‬قاس الشيء بالشيء‬
‫يقيسه قيساا وقياساا واقتاسه وقيييسه إذا قدييره على مثاله«هل )‪، (1‬‬
‫وقال‪» :‬وقاس الشيء يقوسه قوساا لغة في قاسه يقيسه‪ .‬ويقال‬
‫ققسته وقيسته أقوسه قوساا وقياساا«هل )‪ ، (2‬وقال‪» :‬ويقال‪ :‬قايست‬
‫بين شيئيين إذا قادرت بينهما«هل)‪. (3‬‬
‫أما في الصطلح الشرعي فقد ذكر في تعريف القياس‬
‫عبارات كثيرةا من أشهرها قول أبي الحسين البصري‪» :‬القياس‬
‫تحصيل حكم الصل في الفرع لشتباههما في علة الحكم عند‬
‫المجتهد«هل)‪. (4‬‬
‫وقد ذكر المدي تعريف القاضي أبي بكر الباقلني‪:‬‬
‫»القياس حمل معلوما على معلوما في إثبات حكم لهما أو نفيه‬
‫عنهما بأمر جامع بينهما«هل )‪. (5‬‬

‫‪ ( ) 1‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب ‪ ، 6/187‬دار صادر‪ ،‬بيروت‬


‫‪ ( ) 2‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ ( ) 3‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ ( ) 4‬أبو الحسين البصري‪ ،‬المعتزلي‪ ،‬المعتمد في أصول الفقه‪،2/195 ،‬‬
‫‪-‬‬ ‫تقديم الشيخ خليل الميس‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1403 ، 1‬هـ‬
‫‪ 1983‬ما‪.‬‬
‫المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الح كــاما ‪ . 3/167‬دار الك تــبِّ العلم يــة‪،‬‬ ‫‪() 5‬‬
‫بيروت‪ ،‬تحقيق الشيخ إبراهيم العجوز‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫وهذه التعريفات وغيرها لم يسلم أييي منها من العتر ا ض‬
‫وسهاما النقد‪ .‬وقد ذكر بعض أئمة الصول من الشافعية أن‬
‫)‪(1‬‬
‫أسدي ي ها هو تعريف القاضي المذكور أعله‪ .‬قال الزركشي ‪:‬‬
‫»واختاره المحققون منا«هل)‪. (2‬‬
‫غير أن المدي ذكر تعريفاا للقياس بأنه‪» :‬عبارةا عن‬
‫الست و اء بين الفرع والصل في العلة المستنبطة من حكم‬
‫الصل«هل)‪ ، (3‬وعقييبِّ قائلا‪» :‬وهذه العبارةا جامعة مانعة وافية‬
‫بالغرض لغيرها«هل)‪. (4‬‬
‫وتتشعبِّ مباحث القياس في أمهات كتبِّ الصول إلى إثباته‬
‫كأصل ومصدر من مصادر التشريع‪ ،‬ثم الرد على منكريه ودحض‬
‫حججهم وشبههم‪ ،‬ثم تعريفه وتقاسيمه وبيان أركانه‪ ،‬وتفصيل‬
‫البحث في كل ركن من هذه الركان من حيث شروطه وصح ة‬
‫اعتباره‪ .‬ومن أهم مباحثه العلة وشروطها ومسالكها وإثباتها‬
‫والعتراضات الواردةا عليها‪ .‬يقول الجويني)‪» : (5‬القياس مناط‬
‫الجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعبِّ الفقه وأساليبِّ الشريعة‪...‬‬
‫ومن عرفَّ مآخذه وتقاسيمه وصحيحه وفاسده وما يصح من‬

‫‪ ( ) 1‬الزركشي‪ :‬هو محمد بن عبد ال بدر الدين الزركشي‪ ،‬مصري المولد‬


‫والوفاةا ‪ 794 - 745‬هـ ‪ .‬دفن بالقرافة الصغرى‪ .‬أصله من التراك‪ ،‬ينتسبِّ‬
‫إلى مذهبِّ الشافعي‪ ،‬لقبِّ بالزركشي لنه تعلم الزركش في صغره‪ ،‬ولقبِّ‬
‫أيضاا بالمنهاجي لنه حفظ منهاج الطالبين للماما النووي‪ .‬أنظر في‬
‫ترجمته‪ :‬مقدمة التحقيق لكتابه المذكور‪ ،‬ج ‪. 1‬‬
‫‪ ( ) 2‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط في أصول الفقه ‪ ، 4/6‬دار الكتبِّ العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪ 1421 ، 1‬هـ ‪ 2000 -‬ما‪ ،‬تحقيق الدكتور محمد محمد‬
‫تامر‪.‬‬
‫‪ ( ) 3‬المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/171‬‬
‫‪ ( ) 4‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ ( ) 5‬الجويني‪ :‬هو الماما عبد الملك بن عبد ال بن يوسف بن محمد بن‬
‫عبد ال بن حيويه الجويني النيسابوري أبو المعالي‪ ،‬وقد لقبِّ بإماما‬
‫الحرمين‪ ،‬شافعي المذهبِّ‪ 478 - 417 .‬هـ‪ ،‬وردت ترجمته في مصادر‬
‫عديدةا‪ .‬أنظر‪ :‬توطئة المحقق لكتاب البرهان‪ ،‬ص‪ 35 - 23 :‬بإحالته‬
‫على‪ :‬وفيات العيان ‪ ، 2/341‬وطبقات الشافعية ‪. 5/165‬‬

‫‪56‬‬
‫العتراضات عليها وما يفسد منها‪ ،‬وأحاط بمراتبها جلءا وخفاءا‬
‫وعرفَّ مجاريها ومواقعها فقد احتوى على مجامع الفقه«هل )‪. (1‬‬
‫والقياس أنواع بحسبِّ جلئه أو خفائه‪ ،‬أو بحسبِّ نوع علته‬
‫من حيث دليلها أو مسلكها إن كان نصاا‪ ،‬أو تنبيهاا وإيماءا‪ ،‬أو‬
‫استنباطاا‪.‬‬
‫حجييته‪:‬‬
‫يعد القياس من مصادر التشريع المتفق عليها وإن أنكره‬
‫البعض‪ .‬قال الزركشي‪» :‬قال صاحبِّ ) القواطع ( ‪ :‬ذهبِّ كافة‬
‫الئمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن‬
‫القياس الشرعي أصل من أصول الشرع يستدل به على الحكاما‬
‫التي لم يرد بها السمع«هل)‪. (2‬‬
‫والمنكرون له قالوا ببعض أنواعه‪ ،‬ولكن لم يعدوها قياساا‪.‬‬
‫قال الزركشي‪» :‬وقال أبو بكر الصيرفي في أصوله‪ :‬والمنكرون‬
‫للقياس كأنهم أنكروا التسمية وإل فهم يعترفون به«هل)‪. (3‬‬
‫وقال الشوكاني‪» :‬ثم اعلم أن نفاةا القياس لم يقولوا بإهدار‬
‫كل ما يسمى قياساا وإن كان منصوصاا على عل يته أو مقطوعاا‬
‫فيه بنفي الفارق‪ ،‬بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه‬
‫بدليل الصل مشمولا به مندرجاا تحته«هل )‪. (4‬‬
‫وقال المدي‪» :‬وبه قال السلف من الصحابة والتابعين‬
‫والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء‬
‫المتكلمين‪ ،‬وقالت الشيعة والنظاما وجماعة من معتزلة بغداد‬

‫‪- 676‬‬ ‫) ( أ نظر‪ :‬الجويني‪ ،‬البرهان في أصول الفقه ‪ ،2/485‬فقرةا‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ، 677‬تحقيق‪ :‬عبد العظيم محمود الديبِّ‪ ،‬دار الوفاء للطباعة والنشر‬


‫والتوزيع‪ ،‬المنصورةا‪ ،‬ط ‪ 1412 ، 3‬هـ ‪ 1992 -‬ما‪.‬‬
‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط في أصول الفقه ‪. 4/14‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 17‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( أ نظر‪ :‬الشوكاني محمد بن علي بن محمد ‪ ،‬إرشاد الفحول إلى‬ ‫‪4‬‬

‫تحقيق الحق من علم الصول ‪ ،‬ص‪ ، 204 :‬دار الفكر ـ بيروت ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫كيحيى السكافي وجعفر بن مبشيقر وجعفر بن حرب بإحالة‬
‫ورود التعبد به عقلا«هل)‪ . (1‬كما أنكره الظاهرية وعبر عن هذا‬
‫التجاه بوضوح ابن حزما في كتابه‪ ) :‬الحكاما في أصول الحكاما (‬
‫في الجزء الثامن منه)‪. (2‬‬
‫وقد احتج مثبتو القياس بأدلة من القرآن والسنة وبإجماع‬
‫الصحابة على حجية القياس وعلى كونه مصدراا من مصادر‬
‫التشريع‪ ،‬وهي مبثوثة في أمهات كتبِّ الصول وليس من‬
‫موضوعنا التعرض لها)‪. (3‬‬
‫أركان القياس‪:‬‬
‫وله أركان ل يصح إل بها‪ ،‬هي الصل المقيس عليه‪ ،‬وحكم‬
‫الصل الذي دل عليه الشرع والفرع الذي يقاس على الصل‪ ،‬وعلة‬
‫حكم الصل التي هي وصف موجود في الصل وبوجودها في الفرع‬
‫يمكن تعدية الحكم من الصل إلى الفرع‪.‬‬
‫قال المدي‪» :‬وإذا عيرقفَّي معنى القياس فهو يشتمل على‬

‫) ( أنظر‪ :‬المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما ‪. 3/272 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( ومما قاله الشيخ تقي الدين النبهاني في هذا الشأن‪ » :‬أما الظاهرية‬ ‫‪2‬‬

‫فإنهم يرفضون القياس كله ول يعتمدون إل على ظاهر النصوص‪ .‬حتى‬


‫إن ما ييسمييى بالقياس الجلي ل يعتبرونه من القياس‪ ،‬وإنما يعتبرونه‬
‫نصاا‪ .‬واعتبارهم للنص اعتبار لظاهر النص ليس غير‪ .‬وإماما هذا‬
‫المذهبِّ هو أبو سليمان داود بن خلف الصفهاني المتوفى سنة ‪270‬‬
‫هجرية‪ ،‬وكان من الشافعية وتلقى علومه على أصحاب الشافعي‪ ،‬ثم ترك‬
‫مذهبِّ الشافعي‪ ،‬واختار لنفسه مذهباا خاصاا ل يعتمد فيه إل على النص‪،‬‬
‫وسمي بالمذهبِّ الظاهري‪ .‬ومنهم الماما ابن حزما وقد روييج له بعض‬
‫الناس وأعطوا صورةا مشرقة عنه حتى صار إقبال على كتبه‪ ،‬مع أنها‬
‫دون كتبِّ الفقه والصول الخرى من حيث البحث الفقهي ووجه‬
‫الستدلل«هل أنظر‪ :‬الشخصية السلمية‪. 1/369 ،‬‬

‫) ( أ نظر مثلا ‪ :‬البرهان للجويني‪ ،‬ج ‪ ، 2‬الحكاما للمدي ج ‪ ، 3‬البحر‬ ‫‪3‬‬

‫المحيط للزركشي‪ ،‬ج ‪ ، 4‬المحصول للرازي ج ‪ ، 5‬وغيرها‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫أربعة أركان‪ :‬الصل والفرع وحكم الصل والوصف الجامع«هل)‪. (1‬‬
‫فل بد من توفر الركان الربعة حتى يصح القياس‪ .‬و قال‬
‫الزركشي‪» :‬الصل والفرع والعلة وحكم الصل ول بد من ذكر‬
‫هذه الربعة في القياس«هل)‪. (2‬‬
‫شـروأطه‪:‬‬
‫و له شروط ل يصح إل بها‪ ،‬وشروطه هي شروط أركانه‪.‬‬
‫وليس ال غرض ه ن ا تفصيل مباحث القياس‪ ،‬وإنما ذكر بعض هذه‬
‫الشروط كأمثلة على هذه المباحث‪ ،‬وزيادةا التفصيل في العلة‬
‫وشروطها التي تمس الحاجة إليها في ال بحث‪.‬‬
‫فمن شروط الصل ‪ -‬مثلا ‪ -‬أن ل يكون م قيساا على غيره‪ ،‬أي‬
‫أن ل يكون فرعاا في قياسم آخر‪ .‬فإذا كان فرعاا فهو ليس أولى‬
‫من أصله بالقياس عليه)‪. (3‬‬
‫ومن شروط الفرع أن تكون العلة الموجودةا فيه مشاركة‬
‫لعلة الصل‪ ،‬وإل فل يمكن تعدية حكم الصل إلى الفرع )‪. (4‬‬
‫ومن شروطه أن ل يكون حكمه منصوصاا عليه‪ ،‬إذ ل قياس‬
‫في حكم مع ورود النص فيه)‪. (5‬‬
‫ومن شروط حكم الصل أن يكون حكماا شرعياا لن الغرض‬
‫من القياس على الصل هو معرفة الحكم الشرعي)‪ ، (6‬ولن‬
‫الموضوع هو القياس الشرعي وليس القياس المنطقي أو العقلي‪،‬‬
‫لن هذا الخير هو أحد وسائل المعرفة في العقليات‪ ،‬وهو ليس‬
‫طريقاا لمعرفة حكم الشرع ل علماا ول ظناا‪ .‬والمبحوثا عنه هو‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/171‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/67‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما ‪ 3/174‬وقد ذكر المدي هذا الشرط ضمن شروط‬ ‫‪3‬‬

‫حكم الصل‪.‬‬
‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 219‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 221‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪ ،‬ص ‪. 173‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪59‬‬
‫حكم ال تعالى‪ ،‬وهذا ل طريق إليه إل الدلة النقلية‪.‬‬
‫ومن شروطه أن يكون دليل ثبوت حكم الصل دليلا‬
‫شرعياا)‪. (1‬‬
‫ومن شروط ه أيضاا أن ل يكون معدولا به عن سنن القياس‬
‫وذلك كأعداد الركعات وتقدير نصبِّ الزكوات ومقادير الحدود‬
‫والكفارات فإنها غير معقولة المعنى‪ ،‬ومثل قبول شهادةا خزيمة‬
‫وحده فإنه مستثنى من القاعدةا)‪ ، (2‬وكذلك مثل ر خص السفر‬
‫والمسح على الخفين)‪. (3‬‬
‫ومن شروط ه أيضاا ثبوت العلة فيه بأحد الدلة الدالة عليها‪،‬‬
‫وهي ما يسمى مسالك العلة)‪. (4‬‬
‫أما شروط العلة فسنتعرض لها في المبحث الثاني من هذا‬
‫الفصل‪.‬‬
‫العلة‪:‬‬
‫العلة ركن من أركان القياس فل يصح إل بها‪ .‬وهي الوصف‬
‫الجامع بين الصل والفرع والذي يمكن من تعدية الحكم من‬
‫الصل إلى الفرع‪ .‬قال الزركشي‪» :‬العلة‪ :‬وهي شرط في صحة‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 174‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( قال الماما جلل ا لــدين ال ســيوطي فــي ك تــاب ) الت قــان فــي علــوما‬ ‫‪2‬‬

‫القرآن(‪ » :‬أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال‪ :‬أول مــن‬
‫جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكــان‬
‫ل يكتبِّ آية إل ب شاهدي عدل وإن آخر ســورةا بــراءةا لــم تو جــد أل مــع‬
‫خزيمة بن أبي ثابت فقال‪ :‬اكتبوها فإن رسول ال ‪ ‬جعل شهادته بشهادةا‬
‫رجلين ‪ ،‬فكتبِّ« ‪ ، 1/60‬دار الفكر ـ بيروت‪.‬‬
‫) ( أنظر المدي‪ ،‬الحكاما ‪ ، 176 - 3/175‬ولمزيد من التفصيل في هذه‬ ‫‪3‬‬

‫الشــروط أنظــر‪ :‬الحكــاما للمــدي‪ ،‬ج ‪ ، 3‬والمحصــول للــرازي‪ ،‬ج ‪،5‬‬


‫والمستصفى للغزالي‪ ،‬ج ‪ ، 2‬وإرشاد الفحول للشوكاني‪ ،‬والبحر المحيط‬
‫للزركشي‪ ،‬ج ‪. 4‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬ال هامش السابق ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪60‬‬
‫القياس للجمع بها بين الصل والفرع«هل)‪ ، (1‬وقال‪» :‬وذهبِّ جمهور‬
‫القياسين من الفقهاء والمتكلمين إلى أن العلة ل بد منها في‬
‫القياس وهي ركن في القياس ل يقوما القياس إل بها«هل)‪ . (2‬وهذه‬
‫هي العلة الشرعية‪ .‬و لفظ العلة لفظ مشترك بين العلة العقلية‬
‫والعلة الشرعية‪ ،‬ولها دللت لغوية واصطلحية‪.‬‬
‫أما في اللغة فقد جاء في لسان العرب‪» :‬العليي والعيليل‪:‬‬
‫الشربة الثانية‪ ،‬وقيل‪ :‬الشرب بعد الشرب تباعاا‪ ،‬يقال‪ :‬علل بعد‬
‫نهل«هل )‪ ، (3‬وجاء أيضاا‪» :‬عليي الرجل ييعقليي من المرض‪ ،‬وعليي‬
‫يعليي من علل الشراب«هل)‪. (4‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬والعلة في اللغة قيل‪ :‬هي اسم لما يتغير‬
‫حكم الشيء بحصوله مأخوذ من العلة التي هي المرض لن‬
‫تأثيرها في الحكم كأثر العلة في ذات المريض«هل )‪ ، (5‬وقال‪:‬‬
‫»وقيل‪ :‬لنها ناقلة بحكم الصل إلى الفرع كالنتقال بالعلة من‬
‫الصحة إلى المرض«هل )‪ . (6‬وقال‪» :‬وقيل‪ :‬إنها مأخوذةا من العلل‬
‫بعد النهل‪ ،‬وهو معاودةا الماء للشرب مرةا بعد مرةا لن المجتهد‬
‫في استخراجها يعاود النظر بعد النظر‪ ،‬ولن الحكم يتكرر بتكرار‬
‫وجودها«هل)‪. (7‬‬
‫و أما في الصطلح الشرعي‪ ،‬أي علة القياس الشرعي ففيها‬
‫خمسة أقوال‪:‬‬
‫»أحدها‪ :‬أنها المعريقفَّ للحكم‪ ،‬أي جعلت علماا على الحكم‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/101‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/101‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ابن منظور‪ ،‬لسان العرب ‪. 11/467‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/101‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪61‬‬
‫إن وجد المعنى وجد الحكم«هل)‪. (1‬‬
‫»الثاني‪ :‬أنها الموجبِّ للحكم على معنى أن الشارع جعلها‬
‫موجبةا لذاتها«هل)‪. (2‬‬
‫»الثالث‪ :‬أنه ـ ا الموجب ـ ة للحكم بذاتها ل بجع ـ ل ال‪ ،‬وهو‬
‫ق ـ ول المعت ـ زلة بن ـ اءا على قاعدتهم في التحسين والتقبيح‬
‫العقلي«هل)‪. (3‬‬
‫»الرابع‪ :‬أنها الموجبة بالعادةا واختاره الماما فخر الدين‬
‫الرازي«هل )‪. (4‬‬
‫والقول الخامس إنها‪» :‬الباعث على التشريع بمعنى أنه ل بد‬
‫أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحةم أن تكون مقصودةا‬
‫للشارع من شرع الحكم «هل)‪. (5‬‬
‫أمإا القول الوأل‪ :‬وهو أنها المعرفَّ أي علمة على الحكم‬
‫فل شك أن العلة معرفَّ للحكم وعلمة عليه‪ ،‬إذ هي وصف موجود‬
‫في الصل ولكن هذا ليس كافياا للتعريف أو للعمال‪ ،‬وسيتبين‬
‫عند ذكر شروط العلة أن العلة التي هي ركن في القياس ل‬
‫يكفي فيها أن تكون علمة أو أ مارةا مجردةا‪ ،‬فل بد من أن يكون في‬
‫هذه العلمة أو المارةا أو الوصف ما يجعلها صالحة للتعليل أو‬
‫مشعرةا به‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ :‬رائحة الخمر علمة عليه ولكنها ل‬
‫تصلح للتعليل بها‪ ،‬بخلفَّ السكار إذ فيه شيء إضافي يجعله‬
‫صالحاا للتعليل به‪ ،‬إذا توفرت له سائر شروط العلة‪.‬‬
‫فالمدي ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬يستعمل لفظ المارةا في العلة‪،‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪4/102 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/102 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه ‪ ،‬ومعنى المصلحة ال صــالحة هــو أن ي كــون الو صــف‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫مناسباا مشعراا بالتعليل‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ولكنه ل يقصد المارةا المجردةا‪ .‬يقول‪» :‬العلة العقلية مقتضية‬
‫للحكم بذاتها ل بوضع‪ ،‬بخلفَّ العلة الشرعية فإنها بمعنى المارةا‬
‫والعلمة أو بمعنى الباعث«هل )‪ . (1‬ويقول‪» :‬اختلفوا في جواز كون‬
‫العلة في الصل بمعنى المارةا المجردةا والمختار أنه ل بد وأن‬
‫تكون العلة في الصل بمعنى الباعث أي مشتملةا على حكمةم‬
‫صالحةم أن تكون مقصودةاا للشارع من شرع الحكم‪ ،‬وإل فلو‬
‫كانت وصفاا طردياا ل حكمة فيه بل أمارةا مجردةا فالتعليل بها‬
‫في الصل ممتنع«هل)‪. (2‬‬
‫وأأمإا القول الثاني‪ :‬وهو أنها الموجبِّ لذاتها على معنى‬
‫أن الشارع جعلها موجبة لذاتها‪ ،‬فل أراه يختلف عن معنى الباعث‪.‬‬
‫فالقول إ ن الشارع جعلها موجبة يعني أنها جاءت في مسلك‬
‫شرعي أو دل عليها دليل شرعي‪ ،‬والقول إ نها الموجبِّ لذاتها‪،‬‬
‫يعني‪ :‬أنها تشتمل على ما يجعلها صالحة للتعليل‪ .‬وهومعنى‬
‫الباعث نفسه كما عيريقفَّ‪ .‬وحيثما ورد في كلما الئمة أنها بهذا‬
‫المعنى تكون أمارةا‪ ،‬فالمقصود أنها أمارةا باستعمال الكلمي ي ن‬
‫وليس الفقهاء‪ ،‬إذ المعلوما أن الدلة الشرعية من نصوص القرآن‬
‫والسنة هي عند الكلميين والصوليين أمارات على الحكاما‪ ،‬بينما‬
‫هي عند الفقهاء أدلة عليها‪ .‬وبهذا المعنى قول المدي‪» :‬العلة‬
‫العقلية مقتضية للحكم بذاتها ل بوضع‪ ،‬بخلفَّ الشرعية فإنها‬
‫بمعنى المارةا والعلمة أو بمعنى الباعث«هل)‪ . (3‬وقال الزركشي‪:‬‬
‫»وهي تنقسم إلى عقلية‪ :‬وهي ل تصير علة بجعل جاعل بل‬
‫بنفسها وهي موجبة ل تتغير بالزمان كحركة المتحرك‪،‬‬
‫وشرعية‪ :‬وهي التي صارت علة بجعل جاعل«هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬وإنما‬
‫تسمى العلل الشرعية علةا مجازاا أو اتساعاا‪ ،‬وإل ففي الحقيقة‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 284 - 4/283‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪. 3/180 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المدي‪،‬الحكاما‪. 284 - 4/283 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/103‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪63‬‬
‫العلة ما أوجبِّ الحكم بنفسه‪ ،‬وهي العلة العقلية‪ ،‬وأما التي توجبه‬
‫بغيرها فليست بعلة في وضع المتكلمين وإنما هي أمارةا على‬
‫الحكم«هل)‪. (1‬‬
‫وأأمإا القول الثالث‪ :‬وهو أنها الموجب ـ ة للحكم بذاتها ل‬
‫ب جعل ال‪ ،‬فهو قول المعت ـ زلة وهو جارم على مذهبهم في‬
‫التحسين والتقبيح العقلي‪ ،‬وفي أن ال يجبِّ عليه فعل الص ل ح‬
‫وتش ـ ريع الصلح‪ .‬قال الزركشي‪» :‬وتحجر المعتزلة ومن‬
‫وافقهم من الفقهاء واس ـ عاا فزعموا أن تصرفه تعالى مقيد‬
‫بالحكمة مضيييق بوجه المصلحة«هل)‪. (2‬‬
‫وأأمإا القول الرابع‪ :‬وهو أنها الموجبة بالعادةا فهو قول‬
‫الماما فخر الدين الرازي في ) ال م حصول ( و مفاده أن أفعال ال‬
‫تعالى وأحكامه ل تعلل وذلك بناء على مقدمات كلمية وبناء‬
‫على أن التعليل يعني أن ال م ي س ن ت ي ك ن م ي ل ي با ل غرض ‪ ،‬وهذا مردود‬
‫قطعاا ‪ ،‬وعلى ذلك فالعلة عنده ل تصح بمعنى الموجبة لذاتها ول‬
‫بمعنى الباعث‪ .‬ومعنى الموج ب ة بالعادةا هو أن ال أجرى الشياء‬
‫هكذا كلما حصل كذا حصل كذا‪ ،‬كأن نقول كلما حصل الكل‬
‫حصل الشبع‪ ،‬أو كلما حصل القصاص حصل الحفظ‪ ،‬فوجبِّ الظن‬
‫بحصول الشبع عند الكل أو بحصول الحفظ عند القصاص‪ .‬وهذا‬
‫الظن ليس من باب التعليل وإنما من باب جريان العادةا بذلك‪.‬‬
‫وسيأتي موثقاا في المبحث الثالث من الفصل الثالث‪.‬‬
‫ويرد هذا الكلما لن التعليل في القياس ليس بمعنى تعليل‬
‫أفعال ال بما يتع ـ ل ـ ق بذات ـ ه وإنما هو تعليل للحكم الشرعي بما‬
‫جعله الشارع علة‪ ،‬قال الزركشي‪» :‬واعلم أن مذهبِّ أهل السنة أن‬
‫أحكامه تعالى غير معللةم ‪ ،‬بمعنى أنه ل يفعل شيئاا لغرض‪ ،‬ول‬
‫يبعثه شيء على فعل شيء‪ ،‬بل هو ال تعالى قادر على إيجاد‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/112 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪64‬‬
‫المصلحة بدون أسبابها وإعداما المضار بدون دوافعها«هل)‪. (1‬‬
‫وقال أيضاا‪» :‬وقال بعض المتأخرين‪ :‬اشتهر عند المتكلمين‬
‫أن أحكاما ال تعالى ل تعلل‪ ،‬واشتهر عند الفقهاء التعليل وأن العلة‬
‫بمعنى الباعث‪ ،‬ويتوهم كثير من الناس أنها الباعث للشرع‬
‫فيتناقض كلما الفقهاء وكلما المتكلمين وليس كذلك ول‬
‫تناقض بل المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف ‪ .‬مثاله حفظ‬
‫النفوس فإنه باعث على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوما‬
‫به من جهة الشر ع ‪ ،‬فحكم الشرع ل علة له ول باعث عليه«هل)‪ ، (2‬ثم‬
‫قال‪» :‬وأجرى ال العادةا أن القصاص سببِّ للحفظ«هل )‪. (3‬‬
‫وأأمإا القول الخامإس‪ :‬وهو أنها الباعث على التشريع‪،‬‬
‫فمعناه أن الوصف المعلل به‪ ،‬إضافة إلى كونه أمارةا أو علمة‬
‫على الحكم‪ ،‬فهو ليس علمة مجردةا عن أي معنى‪ ،‬فهو يشتمل على‬
‫مصلحة تصلح أن يكون الشارع قد شرع الحكم لجلها‪ ،‬والقول‬
‫بأنها مصلحة تصلح للتعليل ل يعني أنها صارت علة منفردةا‬
‫بذاتها‪ ،‬ولكن يعني أنها صالحة لتكون علة إذا توفرت لها شروط ها‬
‫الخرى‪ ،‬وأول هذه الشروط أن تأتي في أحد مسالك العلة)‪. (4‬‬
‫هذا هو مفهوما العلة في الصطلح الشرعي‪ .‬ويطلق لفظ‬
‫العلة في اصطلح النحويين على ما يسمى علة في اللغة وهو ليس‬
‫علة في القياس‪ .‬ومثاله لما التعليل في اللغة فإن العلة التي تليها‬
‫ليست علة في أصل القياس‪.‬‬
‫[ ‪  ‬‬‫قال ال رازي‪ » :‬إن ه تع الى ق ال‪:‬‬
‫‪ ، (5)]   ‬وبالتفاق ل يجـوز أن يك ون‬
‫ذلك غرضاا‪ ...‬كقول ال شــاعر‪ :‬لقــ دوا لل مــوت وابنــوا لل خــراب‪،‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/112‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/113 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مسالك التعليل‪ :‬سيأتي بحثها في المبحث التالي ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا العرافَّ‪. 179 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪65‬‬
‫وليست اللما هنا للغرض‪ ...‬قلت‪ :‬أ هــل الل غــة صــرحوا بــأن اللما‬
‫للتعليل وقولهم حجة‪ ،‬وإذا ثبت ذلك وجبِّ القول بأنها مجاز فــي‬
‫هذه الصور«هل)‪. (1‬‬
‫ويطلق لفظ العلة ‪ -‬أحياناا ‪ -‬على بعض المعاني من قبيل‬
‫المجاز‪ ،‬وهي ليست عللا في القياس كالسببِّ والمناط وغيرها‪.‬‬
‫قال الشوكاني‪» :‬وللعلة أسماء تختلف باختلفَّ الصطلحات‬
‫فيقال لها السببِّ والمارةا والداعي والمستدعي والباعث والحامل‬
‫والمناط والدليل والمقتضي والموجبِّ والمؤثر وقد ذهبِّ‬
‫المحققون إلى أنه ل بد من دليل على العلة«هل)‪. (2‬‬
‫لذلك لزما لجل تحرير معنى العلة التي هي ركن في‬
‫القياس التعريف باللفاظ التي يكثر استعمالها في كتبِّ الصول‬
‫بمعنى العلة أو بلفظ العلة مجازاا‪ ،‬وهي ليست كذلك أصلا‬
‫فيتوهم أنها علة القياس خطأ وذلك مثل لفظ السببِّ ولفظ‬
‫المناط ‪.‬‬
‫السـبب‪:‬‬
‫قال في لسان العرب‪» :‬السببِّ كل شيء يتوصل به إلى غيره‪،‬‬
‫وفي نسخةم‪ ،‬كل شيء يتوسييل به إلى غيره‪ ،‬وقد تسببِّ إليه‪،‬‬
‫والجمع أسباب‪ ،‬وكل شي ء يتوصل به إلى الشئ فهو سببِّ‪ ،‬وجعلت‬
‫فلناا لي سبباا إلى فلن في حاجتي وويديجاا أي وصلةا‬
‫وذريعة«هل )‪ . (3‬هذا هو المعنى اللغوي‪.‬‬
‫أما في الصطلح الشرعي‪ ،‬فهو علمة أو أمارةا معري ق فة على‬
‫وجود الحكم الشرعي‪ ،‬قال الزركشي‪» :‬وفي الشرع‪ ،‬قال‬
‫الكثرون‪ :‬هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل دليل السمع‬

‫) ( فخر الدين الرازي‪ ،‬المحصول في أصول الفقه ‪ ، 5/140‬تحقيق‪ :‬طه‬ ‫‪1‬‬

‫جابر العلواني‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط ‪ 1412 ، 2‬هـ ‪ 1992 -‬ما‪.‬‬


‫) ( الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ ،‬ص ‪. 207‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( ابن منظور‪ ،‬لسان العرب ‪. 1/458‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪66‬‬
‫على كونه معرفاا للحكم الشرعي«هل)‪ ، (1‬وعقبِّ قائلا‪» :‬كجعل‬
‫دلوك الشمس معرييفاا لوجوب الصلةا‪ ...‬كالدلوك للصلةا ورؤية‬
‫الهلل في رمضان لوجوب الصوما وكالنصاب للزكاةا«هل )‪. (2‬‬
‫وكون السببِّ معرفاا للحكم الشرعي‪ ،‬يعني أن الحكم يوجد‬
‫عند وجوده وليس بوجوده‪ ،‬فوجود الشمس في قبة السماء عل م ة‬
‫تعريقفَّ على دخول وقت الظهر وعلى وجود حكم صلةا الظهر وهو‬
‫الوجوب‪ ،‬ومثل ذلك هلل رمضان‪ ،‬فهو علمة تعرفَّ على دخول‬
‫شهر رمضان وعلى وجو د الحكم الشرعي وهو وجوب الصياما‪،‬‬
‫وكذلك هلل شوال يعريقفَّ على وجود العيد ووجوب الفطار‪،‬‬
‫وكذلك وجود النصاب للزكاةا فهو علمة على وجود الحكم وهو‬
‫وجوب الزكاةا‪.‬‬
‫وهذه كلها علمات أو أمارات مجردةا ول تحتوي على معنى‬
‫معقول أي يصلح للتعليل به‪ ،‬فالشمس في السماء تصلح للتعريف‬
‫على وجود الحكم ول تصلح لتعليل حكم الصلةا‪ ،‬وكذلك يقال‬
‫في سائر المثلة‪.‬‬
‫وكون الوصف معرفاا على وجود الحكم‪ ،‬أي كون السببِّ‬
‫سبباا‪ ،‬هو أمر شرعي يحتاج إلى دليل من الشرع‪ .‬لذلك جاء في‬
‫التعريف‪» :‬دل دليل السمع على كونه معرفاا للحكم الشرعي«هل‪.‬‬
‫والعلة يتوفر لها ما يتوفر للسببِّ‪ ،‬فهي أيضاا علمة أو أمارةا‬
‫تعريقفَّ على وجود الحكم‪ ،‬إل أنها أكثر من ذلك فهي تشتمل على‬
‫معنى معقول‪ .‬لذلك تكون العلة سبباا‪ ،‬وليس كل سببِّ علة‪ .‬مثال‬
‫ذلك السرقة‪ ،‬فه ي علمة معريقفة على وجود الحكم وهو وجوب‬
‫القطع‪ ،‬والزنا علمة معريقفة على وجود الحكم وهو الجلد أو‬
‫الرجم‪ .‬فكانت السرقة سبباا‪ ،‬وكان الزنا سبباا‪ ،‬إل أن ترتيبِّ‬
‫العقوبة على الفعل يشتمل على حكمة تصلح للتعليل بها‪ ،‬فلم يكن‬
‫الوصف علمةا مجردةاا عن معنى معقولم‪ ،‬فلم يكن مجرد سببِّ‬
‫‪ ( ) 1‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 1/264‬‬
‫‪ ( ) 2‬الموضع نفسه‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫وإنما كان علة)‪. (1‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالسببِّ يكون أحياناا علة‪ ،‬إل أنه يجبِّ التنبيه إلى‬
‫الفرق بينهما في المصطلح الصولي‪ ،‬فالسببِّ يوجد الحكم عنده ل‬
‫به‪ ،‬أما العلة فيوجد الحكم عنده ـ ا وبه ـ ا‪ .‬وكلهما يك ـ ون‬
‫ك ـ ذلك )أي س ـ ب ـ باا أو علة( بج ـ ع ـ ل الشارع له كذلك‪ .‬وإذا‬
‫أطلق لفظ العلة على السببِّ من غير أن يكون علة‪ ،‬أي ركن‬
‫القياس‪ ،‬فهذا من قبيل المجاز اللغوي وليس من قبيل أنها علة‬
‫تعلل بها الحكاما‪ ،‬قال المدي‪» :‬والمختار أنه ل بد أن تكون العلة‬
‫في الصل بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمةم صالحةم أن تكون‬
‫مقصودةا للشارع من شرع الحكم‪ ،‬وإل فلو كانت وصفاا ل حكمة‬
‫فيه‪ ،‬بل أمارةاا مجردةا‪ ،‬فالتعليل بها في الصل ممتنع«هل)‪ . (2‬وقال‪:‬‬
‫»وما ذكروه من امتناع التعليل بالوصف الطردي إنما يصح لو‬
‫قيل إن التعليل بالوصف الطردي بمعنى الباعث«هل)‪ . (3‬والربط بين‬
‫قولي المدي أعله يشير إلى أنه يستج يز إطلق لفظ العلة على‬
‫المارةا المجردةا وإن لم تكن ركن قياس‪.‬‬
‫ومما ينبغي التنبيه إليه بعد التفريق بين العلة والسببِّ في‬
‫المصطلح الشرعي‪ ،‬هو أن العلة في المصطلح الشرعي هي سببِّ‬
‫بالمعنى اللغوي‪ .‬إذ كون العلة هي الباعث على الحكم أو الموجبِّ‬
‫للحكم‪ ،‬يعني أنها يتوصل بها إلى الحكم وهو معنى اشتمال الحكم‬

‫‪ ( ) 1‬تجدر الشارةا هنا إلى أن السرقة والزنا وسائر الحدود‪ ،‬وإن كانت‬
‫عللا فإنها ل يحصل القياس بها لن العلة هنا ليست و صــفاا فــي الم حــل‬
‫الذي جاء الحكم له‪ ،‬أي ليست جزءاا من المحل‪ ،‬وإنما هي الم حــل ك لــه‪.‬‬
‫فإذا أردنا تعدية حكم السرقة أو الزنا إلى محل آخر )أي إلى فرع( ف هــو‬
‫ل يتعدى إل إلى سرقة أو زنا‪ .‬والحكم يؤخذ حينئذم بعموما النص وليس‬
‫قياساا‪ .‬والواقعة التي تعطى الحكم نفسه تكون أصلا ل فرعــاا‪ .‬وتســمى‬
‫هذه العلل عللا قاصرةا لنها ل تتعدى إلى فرع‪ .‬وإنما سميت عللا لنهــا‬
‫وجد فيها معنى العلة‪.‬‬
‫‪ ( ) 2‬المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما ‪. 3/80‬‬
‫‪ ( ) 3‬المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما ‪. 3/80‬‬

‫‪68‬‬
‫على معنى معقول‪ ،‬أو على معنى صالحم لن يكون مقصوداا للشارع‬
‫بشرع الحكم)‪. ( 1‬‬
‫المناط‪:‬‬
‫المناط في اللغة اسم مكان الناطة‪ ،‬والناطة‪ :‬التعليق‪ ،‬قال‬
‫في لسان العرب‪» :‬ناط الشيء ينوطه نوطاا‪ :‬علييقه‪ .‬والنوط‪ :‬ما‬
‫عيليقق«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬ويقال‪ :‬ن ي ط عليه الشيء عليقق عليه‪ .‬قال‬
‫رقاع بن قيس السدي )الطويل( ‪:‬‬
‫و ي أ ي و يي ل ي أ ي ر ن ضم م ي سيي‬ ‫بلدي به ي ا ن قي ط ي ت ن ع ي ل ي ييي ت ي مائ ق م ق ي‬
‫)‪(3‬‬
‫ج ق ل ن د ق ي ت ي ر ي اب ي ه ي ا«هل‬
‫وقد استعمل لفظ المناط في مباحث أصول الفقه بالمعنى‬
‫اللغوي نفسه ‪.‬‬
‫قال الشيخ جمال الدين السنوي)‪» : (4‬والمناط اسم مكان‬
‫الناطة‪ ،‬والناطة‪ :‬التعليق واللصاق‪ .‬قال حبيبِّ الطائي‪:‬‬
‫و ي أ ي و يي ل ي أ ي ر ن ضم م ي سيي‬ ‫بلدي به ي ا ن قي ط ي ت ن ع ي ل ي ييي ت ي مائ ق م ق ي‬
‫ج ق ل ن د ق ي ت ي ر ي اب ي ه ي ا‬
‫أي علقت علييي الح ر وز ب ها ‪ .‬فلما ريبط الحكم بالعلة وعلق‬

‫) ( وانظر في التفريق بين العلة والسببِّ ما ذكره الزركشي في البحر‬ ‫‪1‬‬

‫المحيط ‪. 105 - 4/104‬‬


‫) ( ابن منظور‪ ،‬لسان العرب ‪. 7/418‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ .‬وقد نسبِّ البيت المذكور إلى رقاع بن قيس السدي‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫بينما نسبه الشيخ جمال الدين السنوي إلى حبيبِّ الطائي كما هو مــبين‬
‫أدناه‪.‬‬
‫) ( هو‪ :‬جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمــر‬ ‫‪4‬‬

‫بن علي بن إبراهيم القرشي ال مــوي ال شــافعي ال ســنوي‪ .‬شــيخ ال ســلما‬


‫وأستاذ الئمة العلما رئيس الشافعية بالديار المصــرية‪ .‬فقيــه أصــولي‬
‫عروضي نحوي‪ .‬ولد بأسنا بلدةا بصعيد مصر العلى سنة ‪704‬هـ وتوفي‬
‫بالقاهرةا سنة ‪772‬هـ ‪ .‬وصلي عليه ثلثا مرات لكثرةا المشيعين‪ .‬أنظــر‪:‬‬
‫ترجمته في بداية الجزء الول من نهاية السول في شرح منهاج الصــول‪،‬‬
‫بهامشه شرح نهاية السول للشيخ محمد بخيت المطيعي‪ ،‬عالم الكتبِّ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫عليها سميت مناطاا«هل)‪. ( 1‬‬
‫والعلة التي هي ركن القياس ليست هي المناط‪ ،‬ول المناط‬
‫هو العلة‪ ،‬ولكن لما ربط الحكم المعلل بعلته وعلق عليها سميت‬
‫مناطاا‪ ،‬وهي تسمية مجازية‪ ،‬قال الزركشي‪» :‬والمناط هو العلة‪،‬‬
‫قال ابن دقيق العيد‪ :‬وتعبيرهم بالمناط عن العلة من باب المجا ز‬
‫اللغوي‪ ،‬لن الحكم لما علق بها كان كالشيء المحسوس الذي‬
‫تعلق بغيره فهو مجاز من ب اب تشبيه المعقول بالمحسوس‪ ،‬وصار‬
‫ذلك في اصطلح الفقهاء بحيث ل يفهم عند الطلق غيره«هل)‪. (2‬‬
‫فمناط الحكم بناء على ما سبق هو ميتعلييق الحكم أي المحل‬
‫أو الواقع الذي جاء له الحكم‪ .‬مثلا‪ :‬البيع مباح والربا حراما‪.‬‬
‫فكون الفعل بيعاا هو محل الباحة أو مناط الباحة في هذا الفعل‪،‬‬
‫وكون الفعل رباا هو محل التحريم أو مناطه‪ .‬وكذلك الغنم‬
‫حلل والخنزير حراما‪ ،‬فكون الشيء غنماا هو مناط الباحة‬
‫وكونه خنزيراا هو مناط التحريم‪.‬‬
‫والمناط في المثلة المذكورةا أعله ليس هو العلة‪،‬‬
‫والحكاما المذكورةا غير معللة أصلا‪.‬‬
‫وفي الحكاما المعللة‪ ،‬لم يي ا كان الحكم مرتبطاا بعلته‪ ،‬أطلق‬
‫لفظ المناط على العلة مجازاا مما قد يوهم بأن العلة هي المناط‬
‫حقيقة‪ ،‬لذلك لزما هذا التنبيه‪ .‬وقد اختلف الصوليون في تعليل‬
‫الحكاما‪ ،‬فذهبِّ البعض إلى أن الصل في الحكاما التعليل‪ ،‬وإلى أن‬
‫التعليل جار في كل الحكاما‪ ،‬إل أن بعض الحكاما يتوقف فيها عن‬
‫التعليل بسببِّ العجز عند المجتهد عن إدراك العلة مثل أعداد‬
‫الركعات وتقدير النصبة والفرائض والكفارات وغيرها‪ .‬وذهبِّ‬
‫غيرهم إلى رد هذا التعليل ‪ ،‬وقالوا إنه ل يعلل حكم إل بأن تثبت‬
‫علته بالدلة الشرعية)‪. (3‬‬

‫) ( السنوي‪ :‬نهاية السول ‪. 4/138‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/227‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( هذا الخلفَّ والجدل فيه سنتعرض له لحقاا بالتفصيل والتوثيق‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪70‬‬
‫والذين ذهبوا إلى أصل التعليل في الحكاما هم الذين‬
‫استعملوا لفظ المناط بمعنى العلة ‪ ،‬م ثال ذلك النص ال م ذك و ر‬
‫عن الزركشي آنفاا‪ .‬وبما أن كل الحكاما لها علل عند هذا الفريق‬
‫صار مناط الحكم هو علة الحكم عندهم‪ .‬أي أنه ل بد أن يبحث في‬
‫مناط الحكم عن وصفم فيه مناسبِّ م للتعليل‪ ،‬ليربط الحكم به‪.‬‬
‫ويكون هذا الوصف هو علة الحكم ومناطاا له‪ ،‬ومن هنا نشأت عند‬
‫هذا الفريق تع ا بير مثل تنقيح المناط وتخريج المناط إ ضافة إلى‬
‫تعبير تحقيق المناط‪.‬‬
‫تحقيق المناط‪:‬‬
‫قال المدي‪ » :‬و لما كانت العلة متعلق الحكم ومناطه‬
‫فالنظر والجتهاد فيه إما في تحقيق المناط أو تنقيحه أو‬
‫تخريجه‪ .‬أما تحقيق العلة فهو النظر في معرفة وجود العلة في‬
‫آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها‪ ...‬كما في جهة القبلة فإنها‬
‫مناط وجوب استقبالها‪ ...‬وكون هذه الجهة هي جهة القبلة في‬
‫حال الشتباه فمظنون بالجتهاد والنظر في المارات«هل)‪ ، (1‬وقال‪:‬‬
‫»كالعدالة فإنها مناط وجود قبول الشهادةا‪ ...‬أما كون هذا‬
‫الشاهد عدلا فمظنون بالجتهاد«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬كالشدييةا المطربة‬
‫فإنها مناط تحريم الشرب في الخمر‪ ،‬فالنظر في معرفتها في‬
‫الن بيذ هو تحقيق المناط«هل)‪. (3‬‬
‫وعلى ذلك فتحقيق المناط هو عملية التحقق من الواقع هل‬
‫هو الواقع الذي جاء له الحكم أول‪ .‬فالحكم وجوب استقبال‬
‫القبلة‪ ،‬ومتعلييق الوجوب هو استقبال القبلة‪ .‬والتحقق من جهة‬
‫القبلة هو تحقيق المناط‪ ،‬ومعلوما أن جهة القبلة ليس ت علة للحكم‬
‫أي للوجوب‪ .‬وكذلك وصف العدالة في الشاهد‪ ،‬فالشارع اشترط‬
‫في الشاهد أن يكون عدلا‪ ،‬والتحقق من عدالته لجل قبول شهادته‬

‫‪ ( ) 1‬المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما ‪. 265 - 3/264‬‬


‫‪ ( ) 2‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ ( ) 3‬الموضع نفسه‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫أو ردها هو تحقيق المناط‪ ،‬وكذلك الشدةا المطربة إن كانت هي‬
‫السكار‪ ،‬فالسكار هو مناط التحريم والتحقق من كون الشيء‬
‫مسكراا أو غير مسكر هو تحقيق المناط‪.‬‬
‫تنقيح المناط‪:‬‬
‫قال المدي‪» :‬وأما تنقي ـ ح المناط فهو النظر والجتهاد في‬
‫تعيي ـ ن ما دليي النص على كونه عل ـ ة من غير تعيي ـ ن‪ ،‬بح ـ ذفَّ ما‬
‫ل مدخ ـ ل له في العتب ـ ار مما اقت ـ رن به من الوصافَّ«هل)‪. (1‬‬
‫فبما أن مناط الحكم هو الواقع أو المحل الذي جاء له‬
‫الحكم‪ ،‬وبما أن الحكاما معللة ‪ -‬عند من يقول بأنه الصل في‬
‫الحكاما ‪ -‬فل بد من وصف في المحل يصلح للتعليل به ولجله‬
‫جاء الحكم‪ ،‬وتكون سائر الوصافَّ الخرى في المحل ل تأثير لها‬
‫في الحكم‪ .‬مثال ذلك‪ :‬تحريم الخمر‪ .‬فكون الشيء خمراا هو‬
‫مناط التحريم‪ .‬وعلى اعتبار أن الصل في الحكاما التعليل‪ ،‬فل بد‬
‫من علة للحكم هي أحد أوصافَّ الخمر‪ ،‬أي هي وصف في المناط‪،‬‬
‫فإذا نظرنا إلى أوصافَّ مثل الميوعة أو اللون أو الرائحة نجد أنها‬
‫غير مناسبة للتحريم‪ ،‬وإذا نظرنا إلى وصف السكار نجده مناسباا‬
‫للتحريم فيصلح علة ‪ -‬عندهم ‪. -‬‬
‫وع م لية إثبات أن الوصافَّ الخرى ل أثر لها في الحكم‬
‫تسمى تنقيح المناط‪ .‬وهو معنى نص المدي أعله‪ .‬وقال‬
‫السنوي‪» :‬تنقيح المناط أي تخليص ما أناط الشارع الحكم به أي‬
‫ربطه به وعلييقه عليه وهو العلة«هل )‪. (2‬‬
‫تخـريج المناط‪:‬‬
‫قال المدي‪» :‬وأما تخريج المناط فهو النظر والجتهاد في‬
‫إثبات علة الحكم الذي دل عليه النص أو الجماع دون عليته‪،‬‬
‫وذلك كالجتهاد في إثبات كون الشدةا المطربة هي علة لتحريم‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( السنوي‪ ،‬نهاية السول ‪ . 4/138‬وانظر‪ :‬الزركشي‪ :‬البحر المحيــط‬ ‫‪2‬‬

‫‪. 4/227‬‬

‫‪72‬‬
‫شراب الخمر«هل)‪. (1‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬وأما تخريج المناط فهو الجتهاد في‬
‫استخراج علة الحكم الذي دل النص أو الجماع عليه من غير‬
‫تعرض لبيان علته أصلا«هل)‪ . (2‬فهو ع م لية إثبات أو تعيين للوصف‬
‫الموجود في مناط الحكم والذي هو علة للحكم‪ .‬وهذا بخلفَّ‬
‫التنقيح الذي هو إثبات عدما صلحية الوصافَّ للتعليل ليبقى‬
‫وصف واحد‪ ،‬فيكون علة من غير إثبات له‪ ،‬ولكن بناء على أن‬
‫الصل التعليل بوصف‪ ،‬ول يوجد سواه فيكون هو العلة‪.‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/265‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/227‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪73‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫مإسـالك العلة وأشـروأطها‬
‫تمهيـد‪:‬‬
‫العلة وصف جامع بين الصل والفرع‪ .‬والوصافَّ الجامعة‬
‫كثيرةا‪ .‬وليس كل وصفم جامعم صالحاا للتعليل‪ .‬فل بد من دليل‬
‫شرعي لعتبار الوصف في التعليل‪ .‬وكذلك فإن المراد بالعلة هو‬
‫العلة الشرعية‪ .‬ول يكون شيء شرعياا إل إذا جاء في طريق شرعي‪،‬‬
‫أي دليي عليه الشرع‪ .‬وعلى ذلك فالمراد بمسالك العلة هو أدلتها‪،‬‬
‫أي الدلة الشرعية الدالة على كون الوصف علة‪ .‬قال الزركشي‪:‬‬
‫»مسالك العلة‪ :‬أي الطرق الدالة على العلة«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬إعلم أنه‬
‫ل ييكتفى في القياس بمجرد وجود الجامع في الصل والفرع‪ .‬بل ل‬
‫بد من دليل يشهد له في العتبار‪ .‬والدلة ثلثة أنواع‪ :‬إجماع ونص‬
‫واستنباط«هل)‪ . (2‬وقال الشوكاني‪» :‬وقد ذهبِّ المحققون إلى أنه ل‬
‫بدي من دليل على العلة«هل)‪ (3‬وقال أبو الحسين البصري‪» :‬طريق‬
‫العلة الشرعية الشرعي فقط‪ ،‬إنما قلنا ذلك لن طريق العلة‬
‫الشرعية هو كيفية ثبوت حكمها وتأثيرها فيه‪ .‬نحو أن يثبت‬
‫حكمها معها في الصل وينتفي بانتفائها ومعلوما أن ذلك موقوفَّ‬
‫على الشرع لن حكمها وكيفية ثبوتها بحسبِّ العلة حاصلن‬
‫بالشرع فقط «هل)‪. (4‬‬
‫وكذلك قد يأتي الوصف في أحد مسالك التعل يــل‪ ،‬إل أ نــه ل‬
‫يصلح لتعدية الحكم به‪ ،‬لنه ل بد للوصف من شروط ليصــلح عــده‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 4/165 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ .‬ص‪. 207 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أبو الحسن البصري‪ ،‬المعتمد في أصول الفقه‪. 3/249 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪74‬‬
‫)‪(1‬‬
‫علة‪ ،‬أو لتعدية الحكم به ‪ .‬فمثلا‪ :‬قوله تعالى‪  [ :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫‪ ،‬وقوله تعالى‪   [ :‬‬ ‫‪]  ‬‬
‫] )‪ ، (3‬اللما في النصين للتعليل‪ ،‬ومسلك التعليل هنا هــو ال نــص‪ .‬إل‬
‫أن الوصافَّ التي جاءت ب عــد اللما ل ت صــلح علــة للقيــاس‪ ،‬فــدلوك‬
‫الشمس في الية الولى هو أمارةا م جــردةا‪ ،‬ف هــو ســببِّ وليــس علــة‬
‫لوجوب الصلةا‪ .‬وشهادةا المنافع في الحج نتيجة قد تح صــل و قــد ل‬
‫تحصل‪ ،‬ول تصلح علة لوجوب الحج‪ .‬فالوصفان فــي ال يــتين لي ســا‬
‫بمعنى الباعث‪ .‬فكون الوصف باعثاا‪ ،‬أي يشتمل على حك مــة صــالحة‬
‫لتكون مقصودةا للشارع من تشريع الحكم هو أحــد شــروط العلــة‪.‬‬
‫لذلك فإن العلة وإن جاءت في أحد مسالك التعل يــل‪ ،‬فإن هــا ل ت عــد‬
‫كذلك حتى تتوفر لها شـروط‪ .‬ق ال الشـوكاني‪» :‬ولهـا أربعـة‬
‫وعشرون شرطاا«هل )‪ . (4‬وذكر المدي تحت عنوان »في شروط علــة‬
‫ال صــل«هل ع شــرين م ســألة )‪ . (5‬وك تــبِّ ال صــول حاف لــة بــذكرها‬
‫ومناقشتها‪.‬‬
‫وفيما يلي ذكر بعض مسالك العلة وشروطها بالقدر الذي‬
‫يلزما لدراك فكرةا مقاصد الشريعة عند الشاطبي بناءا على ما تبين‬
‫في مقدمة هذا الفصل من أن مقاصد الشريعة عنده هي عللها‪.‬‬
‫مإسـالك العلة‪:‬‬
‫المسـلك الوأل‪ :‬الجماع‪ .‬وذلك كإجماع الصحابة على‬
‫كون الصغر علة لثبوت الولية على الصغير في ثبوت ولية النكاح‬
‫)‪(6‬‬
‫قياسا ا على ولية المال‪.‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما‪. 3/179 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا السراء‪. 78 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا الحج‪. 28 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشوكاني إرشاد الفحول‪ ،‬ص ‪ . 207‬وقد توسع الزركشي في ذكر‬ ‫‪4‬‬

‫هذه الشروط الربعة والعشرين في كتابه الب حــر المح يــط‪- 4/119 ،‬‬
‫‪. 140‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/179 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المرجع نفسه‪. 3/222 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪75‬‬
‫المسـلك الثاني‪ :‬النص الصريح)‪ . ( 1‬وهو أن يذكر دليل من‬
‫الكتاب والسنة على التعليل بلفظ موضوع له في اللغة من غير‬
‫احتياج فيه إلى نظرم واستدلل‪ .‬وهو قسمان‪:‬‬
‫القســـم الوأيل‪ :‬ما صيـريقح في ـــه ب كــون الوص ـــف علــةا‬
‫للحكم ‪ ،‬وذلك كأن يذكر صراحةا أن علة الحكم كذا‪ ،‬أو أن ســببِّ‬
‫تشريعه كذا)‪ ، (2‬أو أن يذكر صراحةا ما يفيد ذلــك بح ســبِّ و ضــع‬
‫اللغة كقوله ‪» : ‬كنت نهيتكم عن ادّخإــار لحــوم الضأــاحي‬
‫فة« ‪ (3).‬وكقوله ‪» : ‬إنما جأعــل الســتئذان مإــن‬ ‫لجأل الدا ي‬
‫أجأل البصــر«)‪ . (4‬وكقوله تعـالى‪:‬‬
‫[ ‪   ‬‬
‫‪ . (5) ]   ‬فاللفظ )لجل كــذا( أو ) مــن أ جــل‬
‫كذا( صريح في ذكر العلة‪.‬‬
‫القسـم الثاني‪ :‬ما ورد فيــه حــرفَّ مــن حــروفَّ التعليــل‬
‫كاللما وكي وإن والباء‪ .‬فـاللما‪ ،‬كقـوله تعـالى‪  [ :‬‬
‫‪ . (6)]      ‬وذلك يدل على التعليل‬
‫بالوصف الذي دخلت عليه اللما لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليــل‪.‬‬
‫وأمــا )كــي( فكقــوله تعــالى‪     [ :‬‬
‫‪ . (7) ]  ‬وأم ا )إن( فك قــوله ‪ ‬فــي قتلــى أ حــد‪:‬‬
‫»زمإّلــوهم بكلــومإهم فــإنهم يحشــروأن يــوم القيامإــة‬
‫وأأوأداجأهم تشــخب دمإــاا‪ ،‬اللــون لــون الــدم وأالريــح ريــح‬

‫‪ ( ) 1‬أنظر‪ :‬الموضع نفسه‪.‬‬


‫‪ ( ) 2‬أنظر‪ :‬المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/222 ،‬‬
‫رواه مسلم عن عائشة رضي ال عنها في كتاب الضاحي‪ ،‬بــاب مــا‬ ‫‪() 3‬‬
‫كان من النهي عن أكل لحوما الضاحي‪ ،( 3643 ) ،‬وأبو داود ) ‪،( 2429‬‬
‫والنسائي ) ‪ ،( 4355‬ومالك في الموطأ ) ‪ ،( 918‬وأحمد في الم ســند )‬
‫‪.( 23115‬‬
‫‪ ( ) 4‬رواه البخاري ) ‪ ،( 5772‬والترمذي ) ‪ ،( 2633‬وأحمد ) ‪.( 21737‬‬
‫‪ ( ) 5‬سورةا المائدةا‪. 32 ،‬‬
‫‪ ( ) 6‬سورةا النساء‪. 165 ،‬‬
‫‪ ( ) 7‬سورةا الحشر ‪. 7 ،‬‬

‫‪76‬‬
‫المسك« ‪ .‬وأما )الباء( فكقوله تعالى‪[ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪. (2)] ‬‬
‫قال المدي‪» :‬فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند‬
‫ورودها يجبِّ اعتقاد التعليل إل أن يدل الدليل على أنه لم يقصد بها‬
‫التعليل فتكون مجازاا فيما قصد بها وذلك في اللما كما لو قيل‪:‬‬
‫»لقمي فعلتي كذا؟«هل فقال‪» :‬لني قصدت أن أفعل«هل‪ .‬وكما في قول‬
‫القائل‪» :‬أصلي ل«هل وقول الشاعر‪» :‬لقدوا للموتق وابنوا‬
‫للخراب«هل فقصد الفعل ل يصلح أن يكون علةا للفعل وغرضاا له‪.‬‬
‫وكذلك ذات ال تعالى ل تصلح أن تكون علة للصلةا ول الموت‬
‫علةا للولدةا ول الخراب علة البناء‪ .‬بل علة الفعل ما يكون باعثاا‬
‫على الفعل وهي الشياء التي تصلح أن تكون بواعث«هل)‪ . (3‬أي أن‬
‫التعليل بما دخل عليه حرفَّ التعليل يشترط فيه أن يكون وصفاا‬
‫مناسباا‪.‬‬
‫»المسـلك الثالث‪ :‬ما يدل على العلييية بالتنبيه‬
‫واليماء«هل )‪ . (4‬وهو ما دل عليه الدليل دللةا وليس صراحةا‪ .‬أي أن‬
‫النص يدل على العلة بمفهومه وليس بمنطوقه‪ .‬وهو قسمان‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬أن يكون المفهوما دالا على التعليل سواء كان مف هــوما‬
‫موافقــة أو مفهــوما مخالفــة‪ .‬وذلــك كقــوله تعــالى‪ [ :‬‬
‫‪    ‬‬
‫)‪(5‬‬
‫‪ ]  ‬الية ‪ .‬فالمفهوما أن من لـم يك ن مـن‬
‫ج‬

‫هؤلء المذكورين ل حقيي لــه بالز كــاةا‪ ،‬و هــذه الو صــافَّ ت صــلح‬

‫) ( أخرجه النسائي ) ‪. ( 1975‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا السجدةا ‪ . 17 ،‬وسورةا الح ق افَّ ‪ . 14 ،‬وسورةا الواقعة ‪. 24 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الح كــاما‪ . 3/224 ،‬أ مــا قــوله فــي النــص‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫» يجبِّ اعتقاد التعليل« فل أراه دقيقاا‪ ،‬والصح حذفَّ كلمة اعتقاد‪ ،‬ليصبح‬
‫النص يجبِّ التعليل أو يجبِّ تعليل الحكم‪ ،‬فالمسألة مسألة أحكــاما شــرعية‬
‫ظنية وترجيح اجتهادي‪.‬‬
‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( سورةا التوبة‪. 60 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪77‬‬
‫للتعليل فهي مناسقبية‪ ،‬لــذلك ت كــون عللا‪ .‬ف تــأليف القلــوب علــة‬
‫لعطاء الز كــاةا‪ ،‬وإذا ارتف عــت هــذه ال صــفة زال ال حــق بالز كــاةا‪.‬‬
‫وكذلك يقال في كونهم فقراء أو مساكين أو عاملين عليها‪.‬‬

‫وهذا القسم يقابل القسم الوييل من قسمي دللة النص‬


‫الصريح على التعليل‪ ،‬ولكن ذلك من المنطوق وهذا من المفهوما‪.‬‬

‫الثاني‪ » :‬أن يكون التعليل لزماا من مدلول اللفظ وضعاا ل‬


‫أن يكون اللفظ دالا بوضعه على التعليل« ‪.‬‬
‫)‪(1‬‬

‫فالنص في هذه الحالة قد ل يكون له مفهوما موافقة أو‬


‫مخالفة‪ ،‬وقد يكون له مفهوما ولكنه ل يدل على التعليل‪.‬‬
‫ولكنيي وجود لفظم ما أو حالم ما‪ ،‬يجعل التعليل لزماا من هذا‬
‫الوضع‪ ،‬أي من القتران بهذا اللفظ أو الحال‪ ،‬وله عدةا حالت‪:‬‬
‫منـه ـــا‪ :‬ترتي ـــبِّ الح كــم علــى الوص ـــف ب فــاء التعقيـ ـــبِّ‬
‫والتسـبيـبِّ في كلما ال أو رسـوله أو الراوي عن الرسـول ‪ : ‬أما‬
‫في كلما ال تعالى فكما في قـوله تعالى‪  [ :‬‬
‫‪ . (2)] ‬وأما في كلما رسوله فكقــوله عليــه‬
‫الصلةا والسلما‪» :‬مإن أحيا أرضأا ا مإيتة ا فهــي لــه«)‪ . (3‬وقوله‪:‬‬
‫»مإلكت نفسك فاخإتاري«)‪ . (4‬وأما في كلما الراوي فكمــا فــي‬
‫قوله‪» :‬ســها رســول اللــه ‪ ‬فــي الصــلة فســجد«)‪ . (5‬قال‬
‫المدي‪» :‬وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن مــا رتــبِّ عليــه‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/224 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا المائدةا ‪. 38 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( رواه البخاري‪ ،‬باب من أحيا أرضاا مواتاا فهي له‪ ،‬وأخرجه أبو داود )‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ،( 2671‬ومالك ) ‪ ،( 1230‬وأحمد ) ‪. ( 13753‬‬


‫) ( وهو عن عائشة رضي ال عنها في قصة بريرةا‪ .‬وفي هذا المعنى روايات‬ ‫‪4‬‬

‫عند أحمد ومسلم وأبي داود والترم ذي وغيره م‪ .‬أنظ ر‪ :‬الش وكاني‪ ،‬ني ل‬
‫الوطار‪ ، 6/153 ،‬دار القلم ـ بيروت ‪.‬‬
‫) ( أخرجه الترمذي ) ‪ ،( 361‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن غريبِّ‪ ،‬والنسائي )‬ ‫‪5‬‬

‫‪ ،( 1219‬وأبو داود ) ‪ ،( 875‬وأحمد ) ‪. ( 4128‬‬

‫‪78‬‬
‫الحكم بالفاء يكون علةا للحكم لكون ال فــاء فــي الل غــة ظــاهرةا فــي‬
‫التعقيبِّ«هل)‪ . (1‬فالفاء ل تفيد التعليل لغةا‪ .‬ول كــن وجود هــا أ فــاد أن‬
‫الحكم يوجد عقبِّ الوصف‪ ،‬وترتيبِّ الحكم عقبِّ الوصف فيــه تنــبيه‬
‫على أن الوصف كان سبباا للحكم‪ ،‬أي سبباا لتشريعه فيكــون علــة‪.‬‬
‫فالتعليل لزما لهذا الوضع‪ ،‬أي لترتيبِّ الحكم على الوصــف بالفــاء‪،‬‬
‫وهو ما أفاد مفهوماا مناسباا للتعليل‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يفريقق الشارع بين أمرين في الحكم بــذكر صــفة‪،‬‬
‫فإن ذلك يفيد أن تلك الصفة هي علة التفرقة‪ ،‬لنها لو لم تيــذكر‬
‫لما وجدت التفرقة‪ ،‬وليشيــمقلي الح كــم المر يــن‪ .‬وذ لــك ك قــوله‬
‫تعالى‪ ، (2)]     [ :‬فتفريق الشارع بين‬
‫المرين‪ ،‬الطهر والحيض في جواز إتيانهن دل على علــة الن هــي‬
‫وهي الحيض‪ .‬وقد ترتبِّ هذا التفريق على لفــظ الغايــة )حــتى(‪.‬‬
‫وكقوله ‪» :‬الذهب بالذهب وأالفضة بالفضة وأالــبر بــالبر‬
‫وأالشــعير بالشــعير وأالتمــر بــالتمر وأالملــح بالملــح مإثل ا‬
‫بمثل‪ ،‬سواء بسواء‪ ،‬يدا ا بيد‪ ،‬فإذا اخإتلفت هذه الصـناف‬
‫فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا ا بيد«)‪ . (3‬فتفريق الشـارع بيـن‬
‫أمرين هما اتحاد الجنسين واختلفهما في جواز أو تحريم بيع هــذه‬
‫الصنافَّ دل على علة التحريم وهي اتحاد الجنسين‪.‬‬
‫ومن أمثـلة هذا المسـلك »أن يذكر الشـارع مع الحكم‬
‫وصفاا مناسـباا كقوله عليه السـلما‪» :‬ل يقضي القاضأي وأهو‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/224 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 222 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( رواه مسلم عن عبادةا بن الصامت‪ ،‬كتاب المساقاةا‪ ،‬باب الصرفَّ ) ‪،( 2969‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ‪ ،( 2970‬والترمذي في كتاب البيوع‪ ،‬باب ما جاء في أن الحنطة بالحنطــة‬


‫مثلا بمثل ) ‪ ،( 1161‬والنسائي في كتاب البيوع‪ ،‬باب بيع البر بالبر ) ‪4484‬‬
‫(‪ ،‬وأبو داود في كتاب البيوع‪ ،‬باب الصرفَّ ) ‪ ،( 2907‬وأحمد في كتاب سند‬
‫المكثرين‪ ،‬باب مسند أبي سعيد الخدري ) ‪ .( 11040‬أما البخاري فقــد ذكــر‬
‫أربعة أصنافَّ‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬باب ما يذكر في بيع الطعاما والحكرةا‪ ،‬وباب بيــع‬
‫الشعير بالشعير‪ ،‬ولم يذكر الفضة ول الملــح‪ ( 1190 ) ،‬و) ‪ .( 2028‬وجــاء‬
‫عند مسلم رواية عن أبي سعيد الخدري‪ ...» :‬فمن زاد أو استزاد فقــد أربــى‪،‬‬
‫الخذ والمعطي فيه سواء«هل ) ‪.( 2971‬‬

‫‪79‬‬
‫غضبان«)‪ . (1‬فإنه يشـعر بكون الغضـبِّ علـة مانعة من القضاء لما‬
‫فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال«هل)‪ . (2‬فالقاضي عمله القضاء‪،‬‬
‫وإنما كان جلوسه لجل القضاء‪ ،‬فإذا منع من القضاء في حالة ما‪،‬‬
‫دل ذلك على أن تلك الحالة هي علة المنع‪.‬‬
‫وهذا القسم يقابل القسم الثاني من ققسنميي دللة النص‬
‫الصريح على التعليل‪ ،‬ولكن ذلك من المنطوق وهذا من المفهوما‪.‬‬
‫وهذه المسالك الثلثة‪ :‬الجماع‪ ،‬والنص‪ ،‬والتنبيه واليماء‬
‫متفق عليها بين القائسين‪ .‬أما ما سيلي من مسالك‪ ،‬فمختلف فيها‪،‬‬
‫يأخذ بها ويدافع عنها أصحاب طريقة المتكلمين من الصوليين‪ ،‬أي‬
‫أئمة الشافعية على وجه الخصوص‪ .‬ويردها أصحاب طريقة الفقهاء‬
‫من الصوليين أي الحنافَّ‪.‬‬
‫ويشير أئمة الشافعية إلى العلل التي تأتي بهذه المسالك‬
‫الثلثة باسم العلل المنصوصة‪ ،‬أما العلل التي تأتي بسائر المسالك‬
‫التي ستلي فيشيرون إليها باسم العلل المستنبطة‪ .‬أما الئمة‬
‫الحنافَّ فيقصدون بالعلل المستنبطة العلل التي تأتي بمسلك‬
‫التنبيه واليماء على وجه الخصوص ‪ ،‬والمنصوصة عندهم هي التي‬
‫تأتي بمسلكي الجماع والنص‪.‬‬
‫المسلك الرابع‪ :‬السبر والتقسيم‪ .‬قال به بعض الصوليين‪.‬‬
‫وهو مبني على أن الصل في الحكاما التعليل‪ .‬ومعناه أن يستقصي‬
‫الناظر كل الوصافَّ التي يحتمل أن تكون علة للحكم ـ بناء على‬
‫أنه ل بد للحكم من علة ـ وهذا هو السبر‪ ،‬ثم ينظر في هذه‬
‫الوصافَّ المحتملة واحداا واحداا ويثبت أنها ليست علة للحكم إل‬
‫واحداا منها وهذا هو التقسيم‪ .‬فيكون الوصف الذي بقي هو العلة‪.‬‬

‫) ( أخرجه البخاري‪ ،‬باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان ) ‪،( 6625‬‬ ‫‪1‬‬

‫ومسلم في باب كراهة قضاء القاضي وه و غض بان ) ‪ ،( 3241‬والترم ذي )‬


‫‪ ( 1254‬وقال حسن صحيح‪ ،‬والنسائي ) ‪. ( 5326‬‬
‫) ( أنظر ‪ :‬المدي‪ ،‬ا ل إحكاما‪. 3/230 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪80‬‬
‫فهذا المسلك يثبت العلة عن طريق نفي ما سواها وليس‬
‫بالنظر فيها‪.‬‬
‫قال الزركشـي‪» :‬وهو لغة الختبار ومنه الميـل الذي يختبر‬
‫به الجرح الذي يقال له المسـبار‪ ،‬وسـمي هذا به لن الناظر في‬
‫العلة يقسـم الصـفات ويختبر كل واحد منها في أنه هل يصلح‬
‫للعلية أما ل؟«هل )‪. (1‬‬
‫وقد اختلف الذين يقولون بأن الصل في الحكاما التعليل في‬
‫صحة هذا المسلك‪ .‬أما الذين يردون هذا القول فل يأخذون بهذا‬
‫المسلك‪ .‬قال السرخسي‪» :‬الدليل على أن بقياما دليل الفساد في‬
‫سائر الوصافَّ ل تثبت صحة الوصف الذي ادعاه المعلل قي‬
‫الشرعيات أن من أحكاما الشرع ما هو غير معلول أصلا‪ .‬فبقياما‬
‫الدليل على فساد سائر الوصافَّ ل ينعدما احتمال قياما الدليل على‬
‫فساد هذا الوصف«هل )‪. ( 2‬‬
‫وقال الزركشـي‪» :‬ونقـل ابن الحاجبِّ في الكـلما على‬
‫)‪(3‬‬
‫السـبر والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه ل بد للحكم من علة«هل ‪.‬‬
‫المســلك الخـامإـس‪ :‬المناســـــبـة والخـالــة‪ .‬وهـو‬
‫أيضــاا مبـنـي على أن الصــل في الحكاما التعليـل‪ .‬ولهذا‬
‫المسـلك وتفصيلته وبخاصة معنى العتبار وأنواعه علقة‬
‫جوهرية بفكرةا المقاصد عند الشاطبي‪ ،‬لذلك سيكون له ‪ -‬إن شاء‬
‫ال ‪ -‬بحث منفصل‪.‬‬
‫المسلك السادس‪ :‬مسلك الشيبيه‪ .‬وقد اختلفت تعريفاته‪،‬‬
‫وكثر الكلما فيه‪ .‬قال الشوكاني‪» :‬الشبه ويسميه بعض الفقهاء‬
‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪ . 4/200 .‬وانظر أيضاا‪ :‬الحكاما للمدي‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ . 3/233‬وال م حصول للرازي‪ . 5/217 .‬وإرشــاد الفحــول للشــوكاني‪،‬‬


‫ص‪. 213 :‬‬
‫) ( السرخسي‪ ،‬محمد بن أحمد بن أبي سهل‪ ،‬أصول السرخسي‪،2/232 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫دار المعرفة ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ب تحقيق أب ي الوفا الفغاني ‪.‬‬


‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/111 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪81‬‬
‫الستدلل‪ ...‬وقال ابن النباري‪ :‬لست أرى في مسائل الصول‬
‫مسألة ا أغمض منه‪ .‬وقد اختلفوا في تعريفه‪ ،‬فقال الجويني‪ :‬ل‬
‫يمكن تحديده‪ .‬وقال غيره‪ :‬يمكن تحديده«هل)‪ . (1‬وقال الغزالي‪:‬‬
‫»ومعنى التشبيه‪ :‬الجمع بين الصل والفرع بوصف‪ ،‬مع العترافَّ‬
‫بأن ذلك الوصف ليس علةا للحكم‪ ،‬بخلفَّ قياس العلة فإنه جمع‬
‫بما هو علة الحكم‪ ،‬فإن لم يرد الصوليون بقياس الشبه هذا الجنس‪،‬‬
‫فلست أدري ما الذي أرادوه‪ ،‬وبقمي فصلوه عن الطرد)‪ (2‬المحض وعن‬
‫المناسبة«هل )‪ . (3‬وقال الجويني‪» :‬الشبه ل يناسبِّ الحكم مناسبة‬
‫الخالة‪ ،‬وهو متميز عن الطرد فإن الطرد تحكم محض ول يعضده‬
‫معنى ول شبه«هل)‪ . (4‬ثم فصيل وقال ما خلصته »إن قياس الشبه هو‬
‫مشابهة الفرع للصل مشابهة ا تغليقبِّي على الظن إلحاق الفرع‬
‫بالصل دون ظهور علة توجبِّ اللحاق‪ .‬مثال ذلك‪ :‬إلحاق الوضوء‬
‫بالتيمم في اشتراط النية‪ ،‬فليس في الوضوء أو التيمم معنى مناسبِّ‬
‫يوجبِّ إلحاق أحدهما بالخر‪ ،‬ومع ذلك فالناظر يجد في نفسه‬
‫شعوراا قوياا بصحة اللحاق‪ ،‬وميلا إليه وإن لم تسعفه العبارةا عن‬
‫علة القياس‪ ،‬وعليه فقياس الشبه ليس تحكيماا وإنما هو اتباع ظن‪.‬‬
‫وأورد الجويني تعبير الشافعي لمسألة إلحاق الوضوء بالتيمم‬
‫قاصداا بذلك أن الشافعي اعتمد على الشبه دون أن يسعفه بيان‬
‫العلة فقال‪» :‬طهارتان فكيف تفترقان«هل)‪ . (5‬وعد قول القائل‪» :‬من‬
‫نفذ طلقه نفذ ظهاره«هل قياس شبه‪.‬‬
‫وأورد المدي رأياا للقاضي أبي بكر الباقليني فقال‪» :‬وقد‬
‫ذهبِّ القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدللة وهو الجمع بين‬

‫) ( الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ .‬ص‪ . 220 :‬وأنظر‪ :‬المحصول للرازي ج‬ ‫‪1‬‬

‫‪.5‬‬
‫) ( الطرد‪ :‬أي كلما ويجد الوصف ويجد الحكم‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 2/311 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الجويني البرهان‪ . 2/527 .‬فقرةا‪. 725 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الجويني البرهان‪ . 2/527 .‬فقرةا‪. 725 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪82‬‬
‫الصل والفرع بما ل يناسبِّ الحكم ولكن يستلزما ما يناسبِّ‬
‫الحكم«هل)‪ (1‬ثم اختار معنى آخر وهو ما كان دون المناسبِّ وفوق‬
‫الطردي وقال‪» :‬ولعليي المستند في تسميته شبهاا هو هذا‬
‫المعنى«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة‬
‫النجاسة‪:‬طهارةا تراد لجل الصلةا فل تجوز بغير الماء‪ ،‬فإن الجامع‬
‫هو الطهارةا ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث غير‬
‫ظاهرةا«هل)‪ . (3‬وقال إن هذا ما ذهبِّ إليه اكثر المحققين ‪.‬‬
‫)‪(4‬‬

‫المسلك السابع‪ :‬الطرد والعكس‪ .‬وهو مبنيي على أصل‬


‫التعليل‪ .‬والطرد هو وجود الحكم في جميع الصور التي يوجد فيها‬
‫الوصف بشرط أن ل يكون الوصف مناسباا ول شبهياا )‪ . (5‬لنه إذا‬
‫كان مناسباا يرجع إلى مسلك الخالة والمناسبة‪ .‬وإذا كان شبهياا‬
‫يرجع إلى مسلك الشبه‪.‬‬
‫والعكس هو انتفاء الحكم بانتفاء الوصف‪ ،‬ويقال للطرد‬
‫والعكس معاا الدوران‪ ،‬أي أن يدور الحكم مع الوصف وجوداا‬
‫وعدماا)‪ . (6‬قال المدي‪» :‬وقد اختلف فيه فذهبِّ جماعة من‬
‫الصوليين إلى أنه يدل على كون الوصف علة‪ ...‬والذي عليه‬
‫المحققون من أصحابنا وغيرهم أنه ل يفيد العلية ل قطعاا ول ظناا‬
‫وهو المختار«هل )‪ (7‬وقد عده الجويني مسلكاا وعديي العكس شرطاا في‬
‫الوصف الطردي )‪. (8‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/258 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫أنظر‪ :‬الشوكاني‪ ،‬إرشاد الف حــول‪ .‬ص‪ . 220 :‬وان ظــر المح صــول‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫للرازي ج ‪. 5‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ . 219 :‬وللتفصيل في هذا المسلك‪ .‬أنظر‪ :‬إرشــاد‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الفحول‪ .‬والبرهان للجويني ج ‪. 2‬‬


‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/260 .‬‬ ‫‪7‬‬

‫) ( أنظر ‪ :‬الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 2/548 .‬فقرةا‪ 800 :‬وما بعدها ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪83‬‬
‫المسلك الثامإن‪ :‬الطرد وقد ذهبِّ بعض الصوليين إلى أن‬
‫الطرد من غير اشتراط العكس علة‪ .‬وبذلك يكون الطرد مسلكاا‬
‫عندهم‪ .‬قال به الرازي في المحصول‪ .‬قال‪» :‬المراد منه )أي‬
‫الطرد()‪ (1‬الوصف الذي لم يعلم كونه مناسباا ول مستلزماا‬
‫للمناسبِّ إذا كان حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرةا‬
‫لمحل النزاع‪ ،‬وهذا هو المراد من الطراد والجريان«هل)‪ . (2‬وقد ردييه‬
‫الجويني‪.‬‬
‫والذين ردوا مسلك الطرد والعكس ردوا مسلك الطرد إذ هو‬
‫أولى بذلك‪ .‬قال المدي‪» :‬وإذا عرفَّ أن الطرد والعكس ل يصلح‬
‫دليلا على العلية‪ ،‬فالطيقراد بانفراده أولى أن ل يكون دليلا«هل)‪. (3‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬الطرد‪:‬وليس المراد به كون العلة ل تنتقض‬
‫فذاك مقال العكس‪ ،‬بل المراد أن ل تكون علته مناسبة ا ول‬
‫مؤثرةاا)‪ ... (4‬والقائلون بأن الطرد والعكس ليس بحجه‪ ،‬ففي كون‬
‫الطرد ليس بحجة من طريق الولى‪ ...‬والمعتبرون من النظييار على‬
‫أن التمسييك به باطل لنه من باب الهذيان قال إماما الحرمين‪:‬‬
‫)‪( 5‬‬
‫وتناهى القاضي في تغليظ من يعتقد ربط حكم ال عز وجل به«هل ‪.‬‬
‫وقال‪» :‬قال ابن السمعاني‪ :‬وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد‬
‫حجةا‪ ،‬والطراد دليلا على صحة العلية "حشوية أهل القياس" قال‪:‬‬
‫ول يعد هؤلء من جملة الفقهاء«هل)‪. ( 6‬‬
‫وقال الغزالي‪» :‬الطرد ويجبِّ أن يرده كل قائس«هل )‪ ، (7‬هذا‬
‫قوله في المستصفى أما في شفاء الغليل فقوله مختلف)‪. (8‬‬
‫‪ ( ) 1‬ما بين القوسين من الباحث‪.‬‬
‫‪ ( ) 2‬الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/221 .‬‬
‫‪ ( ) 3‬المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/263 .‬‬
‫‪ ( ) 4‬سيأتي لحقاا بيان معنى التأثير‪.‬‬
‫‪ ( ) 5‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪ . 222 - 4/221 .‬وأنظر‪ :‬إرشاد الفحول‪.‬‬
‫ص‪. 221 :‬‬
‫‪ ( ) 6‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ ( ) 7‬أنظر‪ :‬الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 2/318 .‬‬
‫‪ ( ) 8‬أنظر‪ :‬أبو حامد محمد الغزالي‪ ،‬شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل‬
‫ومسالك التعلي ل ص ‪ ، 310 - 306‬تحقيق‪ :‬حمد الكبيسي‪ ،‬مطبعة الرشاد ‪-‬‬

‫‪84‬‬
‫فـي شـروأط العلة‪:‬‬
‫‪- 1‬اتفقوا على أن العلة يجبِّ أن يدل عليها الشرع‪ .‬وذلك بأن‬
‫تأتي في أحد مسالك التعليل‪ .‬وقد تبين هذا المر فيما تقدما‪.‬‬
‫‪- 2‬أن تكون العلة بمعنى الباعث وليس أمارةا مجردةا‪ .‬قال‬
‫المدي‪» :‬اختلفوا في جواز كون العلة في الصل بمعنى المارةا‬
‫المجردةا والمختار أنه ل بد وأن تكون العلة في الصل بمعنى الباعث‬
‫أي مشتملة على حكمةم صالحةم أن تكون مقصودةا للشارع من شرع‬
‫الحكم‪ ،‬وإل فلو كانت وصفاا طردياا ل حكمة فيه بل أمارةا مجردةا‬
‫فالتعليل بها في الصل ممتنع«هل)‪ . (1‬وقد تبين هذا المر سابقاا في‬
‫بيان معاني العلة‪.‬‬
‫‪- 3‬أن تكون العلة مؤثرةا في الحكم‪ .‬قال الزركشي‪» :‬في‬
‫ذكر شروط العلة‪ :‬الول‪ :‬أن يكون مؤثراا في الحكم‪ ،‬فإن لم يؤثر‬
‫فيه لم يجز أن يكون علة‪ ...‬هكذا ذكره الماوردي والروياني‬
‫ومرادهما بالتأثير‪ :‬المناسبة‪ .‬وأحسن من عبارتهم قول الستاذ أبي‬
‫منصور‪ :‬أن يكون وصفها مما يصح تعليق الحكم بها«هل)‪. (2‬‬
‫وقال أيضاا‪» :‬وأجاز بعضهم التعليل بمجرد المارةا الطردية‪.‬‬
‫والحق خلفه وأنه ل بد أن يشتمل على حكم يبعث المكلف على‬
‫المتثال ويصح شاهداا لناطة الحكم بها«هل)‪. (3‬‬
‫وقال‪» :‬وقال القاضي في )التقريبِّ(‪ :‬معنى كون العلة‬
‫مؤثرةا في الحكم هو الحكم بأن يغلبِّ على ظن المجتهد أن الحكم‬
‫حاصل عند ثبوتها لجلها دون شيء سواها«هل)‪ . (4‬وفي شرط التأثير‬
‫ومعناه خلفَّ هاما بين الشافعية والحنفية أذكره في موضعه إن شاء‬

‫بغداد‪ ،‬ط ‪ 1390 ، 1‬هـ ‪ 1971 -‬ما ‪.‬‬


‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/180 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/119 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪85‬‬
‫ال‪.‬‬
‫‪- 4‬أن تكون وصفاا ظاهراا منضبطاا‪ .‬والظهور والنضباط‬
‫نقيضا البهاما والخفاء‪ .‬والخفي المضطرب ل يمكن التعليل به‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬مشقة السفر فهي غير منضبطة‪ ،‬ولذلك لم تعتبر بها‬
‫مشقة الحمال والفران في الحضر فكان السفر وصفاا منضبطاا‬
‫مشتملا على الحكمة المضطربة وهي المشقة‪ .‬ولذلك لم يصح‬
‫التعليل بالمشقة وصح عديي السفر سبباا مشتملا على العلة‪ .‬قال‬
‫المدي‪» :‬ذهبِّ الكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة‬
‫المجردةا عن الضابط وجوزه القليون«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬إنا نعلم أن‬
‫الشارع إنما قضى بالترخص في السفر الطويل دفعاا للمشقة‬
‫المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين ولم يعليققها بنفس‬
‫المشقة لما كانت مما يضطرب ويختلف‪ .‬ولهذا فإنه لم يرخص‬
‫للحميال المشقوق عليه في الحضر‪ ،‬وإن ظينيي أن مشقته تزيد على‬
‫مشقة المسافر في كل يوما فرسخ‪ ،‬وإن كان في غاية الرفاهية‬
‫والدعة لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب«هل)‪. (2‬‬
‫‪- 5‬أن تكون سالمة‪ .‬ومعنى ذلك أن ل يردها دليل شرعي‪ .‬قال‬
‫الزركشي‪» :‬أن تكون سالمة بشرطها أي بحيث ل يردها نص ول‬
‫إجماع‪ ،‬لن القياس فرع لها ل يستعمل إل عند عدمها فلم يجز أن‬
‫يكون رافعا ا لها‪ ،‬فإذا رده أحدهما بطل«هل )‪. (3‬‬
‫‪- 6‬أن تكون العلة مطردةا‪ .‬قال الزركشي‪» :‬أن تكون مطردةاا‬
‫أي كلما وجدت وجد الحكم«هل)‪ (4‬فإذا وجدت ولم يوجد الحكم‬
‫فمعناه أنها ليست علة‪.‬‬
‫‪- 7‬أن تكون العلة متعدية‪ .‬أي أن الحكم يتعدى بها من الصل‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/180 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما ‪ ،‬ص‪. 181 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/122 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪86‬‬
‫إلى الفرع‪ .‬وقد اتفق الكل على صحة هذا الشرط لجل صحة‬
‫القياس‪ .‬ولكن اختلفوا في صحة العلة إذا لم تكن متعدية‪ .‬فمن‬
‫الصوليين من يعد الوصف علة للصل وإن كان ل يمكن تعديه‬
‫الحكم إلى فرعم قياساا‪ .‬ومنهم من منع من جعلها علة على أساس أن‬
‫ل فائدةا من التعليل بها‪ .‬إذ فائدةا العلة تعدية الحكم بها من الصل‬
‫إلى الفرع‪ .‬قال المدي‪» :‬اتفق الكل على أن تعدية العلة شرط في‬
‫صحة القياس‪ ،‬وعلى صحة العلة القاصرةا)‪ ، (1‬كانت منصوصة أو‬
‫مجمعاا عليها‪ ،‬وإنما اختفلوا في صحة العلة القاصرةا إذا لم تكن‬
‫منصوصة ول مجمعاا عليها‪ ،‬وذلك كتعليل أصحاب الشافعي حرمة‬
‫الربا في النقدين بجوهرية الثمنية)‪« (2‬هل)‪. (3‬‬
‫وقال شمس الئمة السرخسي‪» :‬الختلفَّ في شرط التعدية‪،‬‬
‫والمذهبِّ عندنا أن تعليل النص بما ل يتعدى ل يجوز أصلا‪ .‬وعند‬
‫الشافعي هذا التعليل جائز ولكنه ل يكون مقايسةا‪ ،‬وعلى هذا جوييز‬
‫هو تعليل نص الربا في الذهبِّ والفضة بالثمنية وإن كانت ل‬
‫تتعدى‪ ،‬فنحن ل نجويقز ذلك‪ ،‬والمذهبِّ عندنا أن حكم التعليل هو‬
‫تعدية حكم الصل إلى الفروع«هل)‪. (4‬‬
‫‪- 8‬أن ل يكون للحكم الواحد في صورةا واحدةا علتان معاا‪ .‬قال‬
‫المدي‪» :‬واختـلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورةا‬
‫واحدةا بعلتين معاا‪ ،‬فمنهم من منع من ذلك مطلقاا‪ ...‬ومنهم من‬

‫) ( المراد بالعلة القاصرةا الوصف الذي ثبت كونه علةا لحكم الصل‪ ،‬ول‬ ‫‪1‬‬

‫يمكن تعديته إلى فرع‪ ،‬وذلك كالسرقة علة للقطع‪ ،‬فالنص دل على تعليل‬
‫حكم الصل بها‪ .‬ولكن ل يوجد فرع يتعدى إليه الحكم قياساا بجامع العلة‪.‬‬
‫وتطبيق حكم القطع في محل آخر هو بدللة النص أي بعموما النص وليس‬
‫قياساا‪ .‬ومما يتعلق بخلفَّ القائسين هنا خلفَّ آخر‪ ،‬وهو أن الحكم المعلل‬
‫هل دليله العلة أو دليله الخطاب الذي دل عليه وعلى العلة ؟ ذهبِّ الشافعية‬
‫والمتكلمون إلى الول‪ .‬وذهبِّ الحنافَّ إلى الثاني‪.‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬هامش رقم ‪ 4‬ص ‪ 61‬من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/192 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( السرخسي‪ ،‬أصول السرخسي‪. 159 - 2/158 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪87‬‬
‫جوييز ذلك مطلقاا‪ ...‬ومنهم من فصييل بين العلل المنصوصة‬
‫والمستنبطة فجوييزه في المنصوصة‪ ،‬ومنع منه في المستنبطة‪...‬‬
‫والمختار إنما هو المذهبِّ الول«هل )‪. (1‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬يجوز تعليل الحكم الواحد بالنوع‬
‫المختلف بالجنس لشخص واحد بعلل مختلفة بالتفاق‪ ،‬كتعليل‬
‫إباحة قتل زيد بردته‪ ،‬وعمرو بالقصاص‪ ،‬وخالد بالزنى«هل)‪ . (2‬وقال‪:‬‬
‫»وقد صرح النبي بعلل مختلفة كل منها مستقل في إباحة الدما‬
‫كقوله ‪» :‬ل يحل دم امإرئ مإسلم إل بإحدى ثالثا‪ ،‬كفر‬
‫بعد إيمان‪ ،‬أوأ زنى بعد إحصان أوأ قتل مإؤمإن بغير‬
‫حق«)‪«(3‬هل)‪.(4‬‬
‫والظاهر من نصوص الئمة المنع من تعليل الحكم بعلتين‬
‫والتفاق المنقول كما ذكر الزركشي ليس على العلة التي يحصل‬
‫القياس بها‪ .‬فالعلل المذكورةا في الحديث كلها علل قاصرةا‪ ،‬فل‬
‫يقاس فرع على أصل بواسطتها‪ ،‬وتطبيق الحكم في أي محل إنما هو‬
‫بدللة النص وليس قياساا‪ .‬أو أن يكون التعليل بمعنى المارةا‬
‫وليس بمعنى الباعث‪ .‬قال الزركشي عند إيراده القوال المختلفة‬
‫حول التعليل بأكثر من علة‪» :‬الجواز مطلقاا وهو الصحيح وقول‬
‫الجمهور كما قال القاضي في التقريبِّ ‪ ،‬ثم قال‪ :‬وبهذا نقول بناء‬
‫على أن العلل علمات وأمارات على الحكاما ل موجبة لها«هل)‪. ( 5‬‬
‫أما التفريق بين العلة المنصوصة والعلة المستنبطة فبناء‬
‫اعلى أن المنصوصة‪ ،‬كما في الحديث أعله تسمى علة وإن كانت‬
‫علة لحكم الصل فقط أي أنها علة قاصرةا‪ ،‬والمنع في المستنبطة‪،‬‬
‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/208 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/156 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أخرجه مسلم ) ‪ ،( 3175‬والبخاري ) ‪ ،( 6370‬وأخرجه أبو داود في‬ ‫‪3‬‬

‫كتاب الديات ) ‪ ،( 3903‬والترمذي في كتاب الفتن ) ‪ ،( 2084‬والنسائي‬


‫) ‪ ،( 3953‬وأحمد ) ‪. ( 1328‬‬
‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/156 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/157 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪88‬‬
‫فذلك لن المستنبطة مبنية على أصل التعليل‪ ،‬وليس بدللة‬
‫النصوص أو الجماع‪ ،‬وعلى ذلك فثبوت علة ثانية يعد نقضا ا للعلة‬
‫الولى‪.‬‬
‫‪- 9‬ومما اختلفوا فيه جواز تخصيص العلة‪ .‬قال المدي‪:‬‬
‫»اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة فجوييزه أكثر‬
‫أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل‪ ،‬ومنع من ذلك أكثر‬
‫أصحاب الشافعي‪ .‬وقد قيل إنه منقول عن الشافعي‪ ،‬ثم القائلون‬
‫بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة‪،‬‬
‫واختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة إذا لم يوجد في محل‬
‫التخلف مانع ول فوات شرط‪ ،‬فمنع منه الكثرون وجوييزه‬
‫القليون‪ ،‬والقائلون بالمنع في تخصيص العلة المستنبطة اختلفوا‬
‫في جواز تخصيص العلة المنصوصة«هل )‪. (1‬‬
‫والعامل الهم في هذا الختلفَّ عموماا‪ ،‬هو اختلفَّ‬
‫الصطلحات‪ ،‬في معنى المنصوصة ومعنى المستنبطة‪ .‬فالذين‬
‫يعدييون المنصوصة هي التية بأحد مسلكي النص أو الجماع‬
‫يجيزون تخصيص العلة المنصوصة ويعدون ذلك من قبيل‬
‫تخصيص سائر النصوص‪ .‬وهؤلء يعدون العلة المستنبطة هي‬
‫التية بمسلك التنبيه واليماء ويختلفون في جواز تخصيصها‪،‬‬
‫وهؤلء يردون سائر المسالك الخرى ‪.‬‬
‫أما الذين يلحقون العلة التية بمسلك التنبيه واليماء بالعلل‬
‫المنصوصة كتلك التية بمسلك النص أو الجماع‪ ،‬فهم يقولون‬
‫بالختلفَّ في جواز تخصيص المنصوصة وذلك بسببِّ الختلفَّ في‬
‫تخصيص التية بمسلك التنبيه واليماء‪ .‬والعلة المستنبطة عند‬
‫هذا الفريق هي العلة التية بسائر المسالك الخرى كالطرد‬
‫والعكس‪ ،‬والسبر والتقسيم‪ ،‬والمناسبة والشبه‪ ،‬وهذه ل يجيزون‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/194 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪89‬‬
‫تخصيصها‪ ،‬فيقولون بعدما جواز تخصيص المستنبطة‪ ،‬وذلك لن‬
‫تخلف اعتبار الوصف المعلل به بهذه المسالك هو بمثابة إبطال‬
‫للوصف أو من قبيل عدما ثبوته أصلا‪ .‬وذلك بسببِّ ضعف الثقة‬
‫بهذه المسالك أصلا‪ .‬فتشعبِّ الختلفَّ في هذه المسألة‬
‫والضطراب في النقل عن الئمة يرجع إلى اختلفَّ المقصود‬
‫بالصطلحات‪ ،‬وهذا مما ينبغي التنبييه إليه عند دراسة كتبِّ أئمة‬
‫الصول فيما يتعلق بالقياس والعلة‪.‬‬
‫قال الزركشي‪» :‬واعلم أن العلة إما عقلية أو سمعية‪.‬‬
‫فالعقلية يمتنع تخصيصها بإجماع أهل النظر‪ ...‬وانما اختلفوا في‬
‫الشرعية‪ ،‬وهي إما أن تكون مستنبطة أو منصوصة‪ ،‬فان كانت‬
‫مستنبطة فجزما الماوردي والروياني بامتناع تخصـيـصها على‬
‫معـنـى أن العلـة ل تبقى حجـة فيما وراء الحكم المخصـوص‬
‫لبطـلن الوثوق بها«هل )‪. (1‬‬
‫‪- 10‬ومن شروط العلة المستنبطة أن ل تعود على أصلها‬
‫بالبطال‪ ،‬وهذا شرط في المستنبطة فقط دون المنصوصة‪ .‬قال‬
‫المدي‪» :‬يجبِّ أن ل تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها‬
‫مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالبطال‪ .‬وذلك‬
‫كتعليل وجوب الشاةا في باب الزكاةا بدفع حاجة الفقراء‪ ،‬لما فيه‬
‫من رفع وجوب الشاةا‪ ،‬وأن ارتفاع الصل المستنبط منه يوجبِّ‬
‫إبطال العلة المستنبطة منه ضرورةا توقف عليتها على اعتبارها‬
‫به«هل)‪. (2‬‬
‫وكون هذا الشرط شرطاا في المستنبطة فقط‪ ،‬يعني أنه يجوز‬
‫للعلة المنصوصة أن ترجع على الصل بالبطال‪ ،‬بل إن هذا هو معنى‬
‫التعليل أصلا‪ .‬فالعلة هي ما جاء الحكم لجله وارتفاعها يعني‬
‫ارتفاع الحكم وهذا معنى البطال هنا‪ .‬لذلك فان التفاق على هذا‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/122 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/215 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪90‬‬
‫الشرط في المستنبطة يشير إلى ضعف الثقة بالتعليل بها‪ ،‬وما ذلك‬
‫إل لن كل مسالك المستنبطة مبنية على أن الصل في الحكاما‬
‫التعليل‪ ،‬وهذا بدوره يؤدي بالفقيه إلى البحث عن علة قوية بنظره‪،‬‬
‫فإذا وجد أن التعليل بهذه العلة النظرية يؤدي إلى زوال الحكم‬
‫بزوال العلة‪ ،‬رجع عن التعليل بها‪ .‬ومثال المدي أعله بييقن في‬
‫هذا‪ ،‬فتعليل وجوب الزكاةا بدفع حجة الفقراء‪ ،‬مؤداه الغاء وجوب‬
‫الزكاةا إذا لم يكن ثم فقراء‪ ،‬وهذا رفع لصل وجوب الزكاةا‪ ،‬لذلك‬
‫يسقط التعليل بهذا الوصف‪.‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬إن كانت مستنبطة فالشرط أن ل يرجع‬
‫على الصل بإبطاله أو إبطال بعضه‪ ،‬لئل يفضي إلى ترك الراجح إلى‬
‫المرجوح‪ ،‬إذ الظن المستفاد من النص أقوى من المستفاد من‬
‫الستنباط‪ ،‬لنه فرع لهذا الحكم‪ ،‬والفرع ل يرجع على إبطال أصله‪،‬‬
‫وإل لزما أن يرجع إلى نفسه بالبطال«هل )‪. (1‬‬
‫‪- 11‬ومن شروط العلة أن ل تكون هي محل حكم الصل‪ ،‬فلو‬
‫كانت كذلك ل يكون تطبيق الحكم في المحال الخرى قياساا ول‬
‫تكون هذه المحال فروعاا‪ .‬وإنما يكون تطبيقاا للنص‪ ،‬وتكون هذه‬
‫المحال هي مناط الحكم‪ .‬وتكون علة الصل قاصرةا‪.‬‬
‫قال المدي‪» :‬ذهبِّ الكثرون إلى أن شرط علة الصل أن ل‬
‫يكون محل حكم الصل ول جزءاا من محله‪ .‬وذهبِّ آخرون إلى‬
‫جوازه‪ ،‬والمختار إنما هو التفصيل‪ ،‬وهو امتناع ذلك في الصل دون‬
‫الجزء«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬فلو كانت العلة فيه هي محل حكم الصل‬
‫بخصوصه لكانت العلة قاصرةا‪ ...‬نعم إنما يمكن ذلك فيما إذا لم‬
‫تكن علة حكم الصل متعدية«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬وأما الجزء فل يمتنع‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪ . 4/137 .‬والشوكاني‪ ،‬ارشاد الفحـول‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪. 208 :‬‬


‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/179 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪91‬‬
‫التعليل به لحتمال عموما الصل والفرع«هل )‪. (1‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬إن كانت متعدية أي توجد في غير الصل‬
‫فيشترط فيها أن ل يكون التعليل في المحل إل جزءاا منه‪ .‬ول‬
‫يتصور تعديتها بخلفَّ القاصرةا فإنه يجوز فيها ذلك«هل)‪. (2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/140 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪92‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫مإسـلك الخإالة وأالمناسـبة‬
‫تمهيـد‪:‬‬
‫ورد ‪ -‬فيما سبق ‪ -‬ذكر المناسبة كشرط من شروط العلة‬
‫التي هي ركن في القياس‪ .‬ومن الصوليين من جعلها مسلكاا من‬
‫مسالك العلة قائماا بذاته وجعل لها شروطها‪ .‬وفيما يلي موضوع‬
‫المناسبة وشروطها وأقسامها‪.‬‬
‫إن التعليل بالوصف المناسـبِّ يقوما على أسـاس أن الصل في‬
‫الحكاما التعليل‪ ،‬فإذا دليي الشرع على العلة بالنص الصريح أو غير‬
‫الصريح أو بالجماع أو استنباطاا بدللة التنبيه واليماء فبها‪ ،‬وإذا‬
‫لم يدل يجبِّ البحث عن أصلح وصف للتعليل‪ .‬وأصلحه هو أكثره‬
‫مناسبة بشرط أن ل يدل الشرع على رديقه أو إلغائه‪ .‬والوصف‬
‫المناسـبِّ هو الذي يترتبِّ عليه مصلحة أو مفسدةا بحسبِّ كون‬
‫الحكم طلباا للفعل أو نهياا عنه‪.‬‬
‫إل أن تعيين الوصف المصلحي المناسبِّ في الحكم يتأثر‬
‫بنظرةا المجتهد إلى ما هو مصلحة وما هو مفسدةا‪ ،‬وبنظرته إلى‬
‫مسألة الحسن أو القبح في الفعال‪ ،‬فقد يتخيل مصلحة ثم يظهر‬
‫بعد السبر والبحث أنها مفسدةا والعكس صحيح‪ ،‬أو أن الشرع قد‬
‫ألغاها أو أهدرها‪ ،‬أو أن هناك ما هو أصلح منها وأكثر مناسبة‬
‫للتعليل‪.‬‬
‫وهذا ما أدى إلى تفصيلت وقيود في تعريف المناسبِّ‬
‫وشروطه عند الصوليين فظهرت تعابير مثل المصلحة المعتبرةا‬
‫والمصلحة الملغاةا والمصلحة المرسلة‪ ،‬والمصلحة المرتضاةا‬
‫شرعاا‪ ،‬ومقاصد الخلق ومقاصد الشارع‪ .‬وكذلك حصل تقسيم‬
‫المناسبِّ إلى حقيقي عقلي وخيالي اقناعي‪» ،‬الول ‪ :‬هو الذي كلما‬
‫ازداد البحث والسبر فيه تثبت مناسبته‪ ،‬والثاني ‪ :‬هو الذي ييتخيل‬

‫‪93‬‬
‫في البتداء مناسبته وإذا سيليط عليه البحث والنظر تسقط مناسبة‬
‫وينكشف عن غير طائل«هل)‪ . (1‬وكذلك حصل تقسيمه إلى ضروري‬
‫وحاجي وتحسيني‪ .‬قال الزركشي‪» :‬أقساما المناسبِّ من حيث‬
‫الحقيقة والقناع‪ :‬أنه ينقسم إلى حقيقي وإقناعي‪ .‬والحقيقي‬
‫ينقسم إلى ما هو واقع في محل الضرورةا‪ ،‬ومحل الحاجة ومحل‬
‫التحسين«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬أما القناعي فهو الذي يظهر فيه في بادئ‬
‫المر انه مناسبِّ‪ ،‬لكن إذا بحث عنه حق البحث ظهر بخلفه«هل)‪. (3‬‬
‫تحقيق مإعنى الخإالة وأالمناسـبة‪:‬‬
‫يلحظ في سياق نصوص الئمة الصوليين أن منهم من‬
‫يستعمل لفظي الخالة والمناسبة بمعنى واحد ومنهم من يفرق‬
‫بينهما‪ .‬يقول المدي‪» :‬المسلك الخامس في إثبات العلة‪ :‬الخالة‬
‫و المناسبة «هل)‪ ، (4‬ويقول الشوكاني‪ » :‬المناسبة ‪ :‬ويعبر عنها‬
‫ب الخالة وبالمصلحة وبالستدلل وبرعاية المقاصد ويسمى‬
‫استخراجها تخريج المناط وهي عمدةا كتاب القياس ومحل غموضه‬
‫ووضوحه‪ .‬ومعنى المناسبة هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة‬
‫مع السلمة عن القوادح ل بنص ول غيره والمناسبة في اللغة‬
‫الملءمة والمناسبِّ الملئم«هل)‪. (5‬‬
‫أما إماما الحرمين الجويني فيفرق بينهما‪ .‬ف الخالة عنده هي‬
‫وصف مصلحي يمكن أن يتخيله الناظر سبباا لمجيء الحكم‪.‬‬
‫و المناسبة هي ثبوت كون الوصف يؤدي إلى المصلحة أو إلى ما‬
‫يقصده الشارع‪ .‬ف الخالة هي إدعاء الوصف الذي يؤدي مجيء الحكم‬
‫على وفقه إلى المصلحة‪ ،‬و المناسبة هي ظهور وثبوت العلقة‬

‫) ( أنظر‪ :‬الغزالي‪ ،‬شفاء الغليل‪ ،‬ص‪. 132 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/188 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/192 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/236 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ .‬ص‪ . 214 :‬وانظر‪ :‬الزرك شــي‪ ،‬الب حــر‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المحيط‪. 4/186 .‬‬

‫‪94‬‬
‫السببية بين الوصف والمصلحة المترتبة عليه‪ ،‬إذ الوصافَّ هي‬
‫علمات وأمارات على الحكم‪ ،‬والحكاما جاءت لجل المصالح‪ ،‬فثبوت‬
‫العلقة بين الوصف والحكم يجعل الوصف باعثاا‪.‬‬
‫يقول‪» :‬إذا ثبت حكم في أصل متفقم عليه وادعى المستنبط‬
‫أنه معلل بوصفم أبداه فهو مطالبِّ بتصحيح دعواه في الصل‪ ...‬فإذا‬
‫ادعى مديعم أن المعنى الذي أبداه علة للحكم فهذه دعوى عرية عن‬
‫البرهان من جهة أن التحكم بنصبِّ العلل غير سائغ كما سبق في‬
‫الرد على الطاردين‪ ،‬فل بد من ظهور وجهم في ظن المستنبط يوجبِّ‬
‫)‪(1‬‬
‫تخيل معنى مخصوص في انتصابه علما ا وهو مطالبِّ بإبدائه«هل‬
‫ثم قال‪» :‬فما اعتمده المحققون وارتضاه الستاذ أبو إسحق إثبات‬
‫علة الصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلمته عن العوارض‬
‫والمبطلت ومطابقته الصول«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬فإن قيل‪ :‬إذا أبدى‬
‫المعليقل وجهاا مرتضىا في الخالة قيبل‪ ،‬وقيل له‪ :‬ليس كل ميخيل‬
‫علماا وليس كل استصلح وجهاا مرتضىا في الحكاما‪ ،‬فمن أين‬
‫زعمت أن ما أبديته من قبيل ما يعتمد عليه؟ إذ الخالت منقسمة‬
‫ووجوه الستصلح منتفية والشرع ل يرى تعلق الحكم بجميعها ولم‬
‫تضبط الرواةا مسالك الظنون للصحابة وأنحائهم‪ ،‬فإذا بطل دعوى‬
‫التعلق بكل مصلحة ولم يتبين لنا ما اعتمده الولون فكيف تدل‬
‫نفس الخالة «هل)‪ ، (3‬ثم قال‪» :‬فإذا ظهرت الخالة وسلم المعنى عن‬
‫المبطلت وغلبِّ الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الولون‬
‫قطعاا«هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬فإن قيل‪ :‬ف الخالة مع السلمة هي الدالة إذاا‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬ل‪ ،‬ولكن إذا ثبتت الخالة ولحت المناسبة واندفعت المبطلت‬
‫التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي ال عنهم«هل)‪. (5‬‬

‫الجويني‪ ،‬البرهان‪ . 2/524 .‬فقرةا‪. 756 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الجويني‪ ،‬البرهان ‪ ،‬ص‪ . 526 :‬فقرةا‪. 759 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ . 2/527 ،‬فقرةا‪. 759 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ . 528 :‬فقرةا‪. 762 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪95‬‬
‫والناظر في هذه القوال يتبين له المراد ب الخالة وب المناسبة ‪.‬‬
‫ف الخالة تعني إدعاء وصف ما علة‪ .‬ولكن هذا ‪ -‬كما قال ‪ -‬دعوى ل‬
‫بد من إثباتها‪ ،‬وطريق إثباتها ظهور مناسبة الوصف واندفاع‬
‫المبطلت‪ .‬فقوله‪» :‬الخالت منقسمة«هل يعني أن الوصافَّ التي‬
‫يمكن أن تدييعى كثيرةا ومتعددةا منها ما هو معتبر ومنها ما هو‬
‫ملغى‪ ،‬فل يصلح هذا وحده‪ .‬وإن قيل إن هذا الوصف فيه مصلحة‬
‫فهذا أيضاا ل يكفي‪ .‬فقوله‪» :‬ووجوه الستصلح منتفية«هل وقوله‪:‬‬
‫»ليس كل استصلحم وجها مرتضى«هل يعني أن مجرد كون الوصف‬
‫مصلحة أو مشتملا على مصلحة ل يكفي لثبات صلحيته للتعليل‪.‬‬
‫ومن هنا يفهم مراده ب المناسبة وهو أنيي الوصف المخيل ـ و هو‬
‫وصف مصلحي ـ تكون المصلحة التي فيه مرتضاةا شرعاا‪ .‬أو أن‬
‫ترتبِّ الحكم على ذلك الوصف يلزما فيه عقلا تحقق تلك‬
‫المصلحة‪ .‬أما الول وهو أن تكون المصلحة مرتضاةا شرعاا فهو‬
‫مراده بلفظ »اندفاع المبطلت«هل‪ .‬فلم يبق أن يكون المراد‬
‫ب المناسبة إل لزوما أو ثبوت تحقق المصلحة من ترتيبِّ الحكم على‬
‫الوصف‪ .‬وهذا الثبوت يحصل بغلبة الظن ول يحتاج إلى القطع‪.‬‬
‫ويؤكد هذا المعنى قوله‪» :‬فإذا ظهرت الخالة وسلم المعنى عن‬
‫المبطلت وغلبِّ الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الولون‬
‫قطعاا«هل)‪. (1‬‬
‫وقال الرازي‪» :‬الناس ذكروا في تعريف المناسبِّ شيئين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أنه الذي يفضي إلى ما يوافق النسان تحصيلا وإبقاءا وقد‬
‫يعبر عن التحصيل بجلبِّ المنفعة وعن البقاء بدفع المضرةا‪...‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه الملئم لفعال العقلء في العادات‪ .‬فإنه يقال‪ :‬هذه‬
‫اللؤلؤةا تناسبِّ هذه اللؤلؤةا‪ ،‬أي الجمع بينهما في سلك واحد‬
‫متلئم‪ ،‬وهذه الجبة تناسبِّ هذه العمامة‪ ،‬أي الجمع بينهما‬
‫متلئم«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬والتعريف الول قول من يعلل أحكاما ال‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ . 527 :‬فقرةا‪. 759 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول‪. 158 - 5/157 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪96‬‬
‫تعالى بالحكم والمصالح والتعريف الثاني قول من يأباه«هل)‪. ( 1‬‬
‫ولو دققنا في التعريفين لوجدناهما متلزمين عملياا‪ .‬فالثاني‬
‫يعني ترتبِّ المصلحة على الحكم في العادةا‪ ،‬فتكون المصلحة مترتبة‬
‫على الحكم بحسبِّ العلقة بين السببِّ والمسببِّ ويكون هذا الترتبِّ‬
‫سببا ا لتعليل الحكم بالوصف)‪ . (2‬وهذا ليس تعليلا لفعال ال بينما‬
‫التعريف الول يعني ‪ -‬بنظره ‪ -‬تعليل أفعال ال فهو يأباه)‪. (3‬‬
‫وقال الغزالي‪ » :‬إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم والكتفاء‬
‫بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه وينشأ منه أن المراد‬
‫بالمناسبِّ ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف إليه انتظم‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬قولنا‪ :‬حرمت الخمر لنها تزيل العقل الذي هو مناط‬
‫التكليف وهو مناسبِّ‪ .‬ل كقولنا‪ :‬لنها تقذفَّ بالزبد أو لنها‬
‫تحفظ في الديني فإن ذلك ل يناسبِّ«هل )‪. (4‬‬
‫وقال‪» :‬أما المصلحة فهي عبارةا في الصل عن جلبِّ منفعة أو‬
‫دفع مضرةا ولسنا نعني به ذلك‪ ،‬فإن جلبِّ المنفعة ودفع المضرةا‬
‫مقاصد الخلق وصلح الخلق في تحصيل مقاصدهم‪ .‬لكنا نعني‬
‫بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق‬
‫خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم‬
‫ومالهم‪ .‬فكل ما يتضمن حفظ هذه الصول الخمسة فهو مصلحة‪.‬‬
‫وكل ما يفوت هذه الصول فهو مفسدةا ودفعه مصلحة‪ .‬وإذا أطلقنا‬
‫المعنى المخيل والمناسبِّ في كتاب القياس أردنا به هذا‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( ولكن تنبغي الشارةا أن الرازي يرفض القول بالسببِّ والمسببِّ لن هذا‬ ‫‪2‬‬

‫بنظره تعليل لفعال ال‪ .‬ولكنه يقول ما مفاده أن ال اجــرى الشــيء عنــد‬
‫الشيء‪ .‬وكذلك جعل المصالح مقارنــة للف عــال‪ ،‬وليــس أ حــدهما ســبباا‬
‫للخر‪ .‬أو أن المصالح مقارنة للحكاما‪ .‬وسيأتي قوله مفصلا في المب حــث‬
‫الثالث من الفصل الثاني‪.‬‬
‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول‪. 158 - 5/157 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 2/297 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪97‬‬
‫الجنس«هل)‪ . (1‬وهذا يبين مراده بالمصلحة وهو ما ثبت اعتباره‬
‫شرعاا‪ .‬وهو يوافق ما عند الجويني‪ .‬ويوافق ما عند المدي في‬
‫تعريف المناسبِّ كما سيأتي‪.‬‬
‫يقول المدي‪» :‬قال أبو زيد‪» :‬المناسبِّ عبارةا عما لو عرض‬
‫على العقول تلقته بالقبول«هل)‪ (2‬لكنه رأى أن هذا التعريف وان كان‬
‫موافقاا من حيث الوضع اللغوي فهو غير كافَّم في مجال إثبات‬
‫العلة‪ .‬قال‪» :‬فل طريـق للمناظر إلى إثباته على خصمه في مقاما‬
‫النظر لمكان أن يقول الخصم‪ :‬هذا مما لم يتلقه عقلي بالقبول فل‬
‫يكون مناسباا بالنسبة إلييي وإن تلقاه عقل غيري بالقبول«هل)‪. (3‬‬
‫وهذا إشارةا إلى اختلفَّ مفاهيم الناس فيما هو مناسبِّ وما هو غير‬
‫مناسبِّ‪ .‬ولذلك جاء تعريف المدي مشتملا على ما فصله الجويني‬
‫من لزوما إثبات ترتبِّ المصلحة على ربط الحكم بالوصف‪ ،‬وأن تكون‬
‫المصلحة مرتضاةا شرعاا أو مما يصلح أن يكون مقصوداا للشارع‬
‫وهذا قيد يمنع الختلفَّ في النظر إلى ما هو مصلحة وما هو‬
‫مفسدةا‪ .‬قال‪» :‬والحق من ذلك أن يقال المناسبِّ عبارةا عن وصف‬
‫ظاهر منضبط يلزما من ترتيبِّ الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن‬
‫يكون مقصوداا من شرع ذلك الحكم وسواء كان ذلك الحكم نفياا‬
‫أو إثباتا وسواء كان ذلك المقصود جلبِّ مصلحة أو درء‬
‫مفسدةا«هل)‪. (4‬‬
‫ونقل الزركشـي عـن ابن الحاجـبِّ المالكي‪» :‬المناسـبِّ‬
‫وصـف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيبِّ الحكم عليه ما يصلح‬
‫أن يكون مقصوداا من حصول مصلحة ودفع مفسدةا‪ .‬فإن كان‬
‫الوصف خفياا أو غير منضبـط اعتبـر ملزمه وهو المظـنة لن‬

‫الغزالي‪ ،‬المستصفى ‪. 1/286 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/237 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪98‬‬
‫الغيـبِّ ل يعـريقفَّ الغيبِّ كالسفر للمشقة«هل)‪. (1‬‬
‫وقال ابن قدامة المقدسي‪» :‬ومعناه أن يكون إثبات الحكم‬
‫عقيبه مصلحة«هل )‪. (2‬‬
‫وقال القرافي‪» :‬المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة ودرء‬
‫مفسدةا«هل)‪. (3‬‬
‫والتعريفات الخرى في سائر كتبِّ الصول ل تخرج ع ن‬
‫المذكور أعله ‪.‬‬
‫ويلحظ على هذه التعريفات أن الركن الساس فيها هو أن‬
‫يلزما عقلا من ربط الحكم بالوصـف حصـول مصلحـة أو درء‬
‫مفسدةا‪ .‬وقد أضافَّ بعضهم‪ ،‬وخاصة علماء الصول من الشافعية أن‬
‫يكون جلبِّ المصلحة أو درء مفسدةا مما يصلح أن يكون مقصوداا‬
‫للشارع‪ .‬وهذا ييبعدي أن يكون المناسبِّ مصلحة عقلية محضة‪ ،‬أي‬
‫مصـلحة ل يشهد لها حكم شـرعي‪ ،‬إضـافة إلى إشـتراط الكـل أن‬
‫تكون سالمة ا عن المبطلت‪.‬‬
‫أما التعريفات التي قيدت الوصف المناسبِّ بكونه ظاهراا‬
‫ومنضبطاا‪ .‬فهذا لجل صلحيته للتعليل إذ من شروط العلة ان‬
‫تكون وصفاا ظاهراا منضبطاا بأي مسلك أتت‪.‬‬
‫أقسـام المناسـب‪:‬‬
‫وللوصف المناسبِّ تقسيمات بحسبِّ قوةا المناسبة وضعفها‬
‫وبحسبِّ العتبار وعدمه ‪ .‬أما بحسبِّ قوةا المناسبة وضعفها فهو‬
‫قسمان‪ :‬خيالي إقناعي وحقيقي عقلي‪ .‬الول هو الوصف الذي كلما‬

‫) ( أنظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/187 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫ابن قدامة المقدسي‪ ،‬رو ضــة النــاظر وجنــة المنــاظر‪ .‬ص‪،268 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تحقيق‪ :‬سيف الدين الكاتبِّ‪ ،‬دار الكتاب العربي ـ بيروت‪ ،‬ط ‪ 1401 ، 1‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1981‬ما ‪.‬‬
‫) ( شهاب الدين القرافي‪ ،‬شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول‪ .‬ص‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ . 391‬دار الفكر‪ ،‬القاهرةا‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ازداد النظر فيه ازداد ضعفا ا فتسقط مناسبته‪ .‬والثاني هو الوصف‬
‫الذي كلما ازداد البحث فيه ازداد قوةاا وجلءا وله ثلثا مراتبِّ‪:‬‬
‫الضروريات والحاجيات والتحسينيات‪ .‬ويلحق بكل واحدةا من هذه‬
‫المراتبِّ مكملتها)‪. (1‬‬
‫ومن جهة العتبار وعدمه ينقسم المناسبِّ إلى معتبر ومرسل‬
‫وملغى‪ .‬قال الشوكاني ‪» :‬أعلم أن المناسبِّ ينقسم باعتبار شهادةا‬
‫الشرع له بالملءمة والتأثير وعدمها إلى ثلثة أقساما لنه إما أن يعلم‬
‫أن الشرع اعتبره أو يعلم أنه ألغاه أول يعلم واحد منهما«هل)‪. (2‬‬
‫‪ -1‬المعتبـر‪:‬‬
‫يطلق لفظ المعتبر إزاء معنيين‪ :‬الول‪ :‬هو الوصف أو المعنى‬
‫الذي دل عليه دليل شرعي فهذا الوصف أو المعنى شهد له نص أو‬
‫دليل شرعي فيكون معتبراا‪ .‬وهذا متفق على التعليل به بين‬
‫القائسين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المعتبر هو الوصف الذي شهد له حكم ولم يشهد له‬
‫نص أو دليل‪ .‬وبتعبير آخر‪ :‬المعتبر هو ما جاء على وفقه حكم أو‬
‫أحكاما‪ .‬وبتعبير ثالث هو الوصف الذي يمكن تخيله في حكم من‬
‫الحكاما الثابتة بدليل شرعي‪ .‬وهذا المعنى هو المقصود هنا‪.‬‬
‫قال المدي‪» :‬الوصف أما أن يكون معتبراا في نظر الشارع أو‬
‫ل يكون معتبراا‪ ،‬فإن كان معتبراا فاعتباره إما أن يكون بنص أو‬
‫)‪(3‬‬
‫إجماع أو بترتيبِّ الحكم على وفقه في صورةا بنص أو إجماع«هل‬
‫وقال الشوكاني ‪» :‬المراد بالعتبار إيراد الحكم على وفقه ل‬
‫التنصيص عليه ول اليماء إليه وإل لم تكن العلة مستفادةاا من‬

‫) ( أنظر‪ :‬المحصول للرازي‪ ، 5/159 ،‬وما بعدها‪ ،‬وارشاد الفحول‬ ‫‪1‬‬

‫للشوكاني‪ ،‬ص‪ ، 215 :‬وشفاء الغليل للغزالي‪ ،‬ص‪ ، 132 :‬والبحر‬


‫المحيط للزركشي‪. 4/192 ،‬‬
‫) ( الشوكاني‪ ،‬ارشاد الفحول‪ ،‬ص‪. 217 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/246 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪100‬‬
‫المناسبة وهو المراد بقولهم شهد له أصل معين‪ .‬قال الغزالي في‬
‫شفاء الغليل‪ :‬المعني بشهادةا أصل معين للوصف أنه مستنبط منه‬
‫من حيث إن الحكم أثبت شرعاا على وفقه«هل)‪ . (1‬فمثلا‪ :‬في حكم عدما‬
‫توريث القاتل‪ ،‬يلحظ معنى المعاملة بنقيض المقصود‪ ،‬فبناءا على‬
‫أن القاتل بقتله لموريقثه يقصد الحصول على الميراثا أو استعجاله‪،‬‬
‫ومعاملته بنقيض قصده معنى موجود في الحكم‪ ،‬يكون هذا المعنى‬
‫)المعاملة بنقيض المقصود( معناى معتبراا‪ .‬ويكون الحكم الشرعي‬
‫هو الشاهد على هذا المعنى‪ ،‬أو يقال إن هذا المعنى الذي لم يدل‬
‫عليه نص أو إجماع قد جاء حكم على وفقه‪ .‬هذا هو معنى العتبار‪،‬‬
‫وهو مختلف عن العتبار الذي هو أن يدل نص أو إجماع على‬
‫الوصف أو المعنى‪ .‬وهذا الخير ل خلفَّ فيه‪ ،‬بخلفَّ شهادةا الحكم‬
‫للوصف أو مجيء حكم وفق الوصف‪ ،‬ففي قبول هذا العتبار خلفَّ‬
‫كبير‪.‬‬
‫أنواع العتبار‪:‬‬
‫إذا كان العتبار هو لعين الوصف الموجود في الحكم أو في‬
‫مناطه فهو اعتبار لعين الوصف أو لخصوصه في الحكم‪ .‬وإذا كان‬
‫العتبار هو لوصف أعم من الوصف الموجود في الحكم أو في مناطه‬
‫فهو اعتبار لعموما الوصف أو لجنسه في الحكم ‪.‬‬
‫مثال ذلك تحريم الخمر‪ .‬فالحكم يشهد لوصف السكار فإذا‬
‫اتجه العتبار إلى وصف السكار فهو اعتبار لعين الوصف في‬
‫التحريم‪ ،‬فل يقاس عليه إذهاب العقل بالمخدرات لنه ليس إسكاراا‪،‬‬
‫ويقاس عليه بالنبيذ لنه إسكار‪.‬‬
‫وإذا اتجه العتبار إلى وصـف أو معنـى إذهاب العقل‪ ،‬فهو أعم‬
‫من السـكار ويشـمل إذهاب العقل بالخمر وبالمخدرات وبغير‬
‫ذلك‪ .‬فهو اعتبار لعموما الوصف أو لجنسه‪ ،‬ويقاس عليه تناول‬

‫) ( الشوكاني‪ ،‬ارشاد الفحول‪ .‬ص‪. 217 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪101‬‬
‫المخدرات‪ .‬وهذا هو اعتبار جنس الوصف في الحكم‪ .‬قال المدي‪:‬‬
‫»وذلك كمعنى السكار فإنه يناسبِّ تحريم النبيذ وقد ثبت اعتبار‬
‫عينه في عين التحريم في الخمر‪ ،‬ولم يظهر تأثير جنسه في‬
‫)‪(1‬‬
‫عينه«هل‬
‫ومثاله أيضاا‪ ،‬وصف المشقة في رخصة السفر‪ ،‬فهو وصف‬
‫مناسبِّ تشهد له أحكاما القصر والجمع والفطار في السفر‪ .‬فان‬
‫كان العتبار في هذه الرخص هو لمشقة السفر فهو اعتبار لعين‬
‫الوصف أو لخصوصه في الحكم‪ .‬وإن كان العتبار هو لعموما‬
‫المشقة أو الجهاد أو الحرج فهو اعتبار لعموما الوصف أو لجنسه‬
‫لن المشقة أنواع كمشقة السفر ومشقة العمل ومشقة الجهاد‬
‫ومشقة الحيض وغيرها‪.‬‬
‫أما إن كان العتبار هو لحكم أعم من الحكم الذي شهد‬
‫للوصف فهو اعتبار للوصف في عموما الحكم أو في جنسه‪ .‬مثاله‪:‬‬
‫اعتبار وصف الخوةا لب وأما في التقديم في الميراثا على الخوييةا‬
‫لب‪ .‬فالحكم هنا هو ولية الميراثا‪ .‬والوصف هو تقديم ال أ خوةا لب‬
‫وأما على ال أ خوةا لب‪ .‬فاعتبار هذا الوصف في ولية الميراثا هو‬
‫اعتبار للوصف في عين الحكم‪ .‬واعتبار الوصف في عموما الولية‬
‫يفضي إلى قياس ولية النكاح على ولية الميراثا‪ .‬فيقدما ال أ خوةا‬
‫لب وأما في ولية النكاح‪ .‬وعموما الولية جنس يعميي ولية الميراثا‬
‫وولية النكاح‪ .‬فهذا اعتبار للوصف في عموما الحكم‪.‬‬
‫وإن كان العتبار هو لوصف أعم من الوصف الذي شهد له‬
‫الحكم‪ ،‬ولحكم أعم من الحكم الذي شهد للوصف فهو اعتبار جنس‬
‫الوصف في جنس الحكم‪ .‬ومن أمثلة هذا النوع ما ذكره المدي‪:‬‬
‫»اعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس‬
‫التخفيف فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من‬
‫جنسها‪ ،‬وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين ليس عين‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/246 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪102‬‬
‫التخفيف عن الحائض بإسقاط الصلةا بل من جنسها«هل )‪. (1‬‬
‫وعلى ذلك فالعتبار في شهادةا الحكم للوصف أربعة أنواع )‪: (2‬‬
‫‪ - 1‬اعتبار عين الوصف في عين الحكم‪.‬‬
‫‪ - 2‬اعتبار جنس الوصف في عين الحكم‪.‬‬
‫‪ - 3‬اعتبار عين الوصف في جنس الحكم‪.‬‬
‫‪ - 4‬اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم‪.‬‬
‫أقسـام المعتبـر‪:‬‬
‫إذا كان العتبار هو لعين الوصف في عين الحكم فهو المؤثر‬
‫وله تفصيل‪ .‬أما القساما الثلثة وهي اعتبار العين في الجنس‬
‫والجنس في العين والجنس في الجنس فإن كان بوجود نظائر تشهد‬
‫للوصف‪ ،‬أي أحكاما أخرى يظهر فيها اعتبار الوصف فيسمى الوصف‬
‫ملئماا‪ .‬وإن كان ل يوجد نظائر‪ ،‬أي ل يشهد للوصف إل حكم‬
‫واحد فيسمى الغريبِّ‪ .‬قال الغزالي‪» :‬المناسبِّ ينقسم إلى ما يلئم‬
‫معاني الشرع ويجانس تصرفاته في ملحظة المعاني‪ ،‬وإلى ما يكون‬
‫غريباا ل يلفى له جنس«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬أما الملئم فنعني أنه عهد‬
‫جنسه مؤثراا في ذلك الحكم وإن لم يعهد عينه في عين ذلك‬
‫الحكم في محل آخر«هل)‪. (4‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 248 - 3/247 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫أن ظــر‪ :‬الح كــاما لل مــدي‪ . 249 - 3/246 .‬والب حــر المح يــط‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫للزركشي‪ 194 - 4/193 .‬وغيرها من أمهات كتبِّ الصول ‪.‬‬


‫) ( الغزالي‪ ،‬شفاء الغليل‪ .‬ص‪. 148 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ :‬ص‪ . 149 :‬وقال في المستصفى‪" :‬والظن على مراتبِّ‬ ‫‪4‬‬

‫واقواه المؤثر‪ ...‬ودونه الملئم ودونه المناسبِّ الذي ل يلئم‪ .‬وهو أيضاا‬
‫درجات وان كان على ضعف‪ ،‬ولكنه يختلف بحسبِّ قوةا المناسبة‪ ،‬وربما يورثا‬
‫الظن المجتهدين في بعض المواضع‪ ،‬فل يقطع ببطلنه‪ ،‬ول يمكن ضبط‬
‫درجات المناسبة اصلا‪ .‬بل لكل مسألة ذوقي آخر ينبغي ان ينظر فيه‬
‫المجتهد"‪ . 2/305 .‬وقوةا المناسبة أو ضعفها ادت إلى تقسيم المناسبِّ إلى‬
‫حقيقي وعقلي‪ ،‬وإلى جعل الوصف في مراتبِّ أقواه الضروري يليه الحاجي ثم‬
‫التحسيني‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫وعلى ذلك فالمناسبِّ المعتبر ثلثة أقساما‪ :‬مؤثر وملئم‬
‫وغريبِّ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬المؤثاـر‪:‬‬
‫قال الغزالي‪» :‬المناسبِّ ينقسم إلى مؤثر وملئم وغريبِّ‪...‬‬
‫ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالجماع أو النص‬
‫فل يحتاج إلى المناسبة«هل )‪ (1‬وقال المدي‪» :‬فإن كان معتبراا بنص‬
‫أو إجماع فهو المؤثر«هل)‪ ، (2‬وهذا معناه عدما اشتراط المناسبة ‪ -‬عند‬
‫الغزالي ‪ -‬للوصف الذي يثبت تأثيره أو عليته بالنص أو الجماع‪.‬‬
‫ويعد التعليل بالمؤثر من أقوى أنواع القياس‪ .‬قال الغزالي‪:‬‬
‫»القياس أربعة أنواع‪ :‬المؤثر ثم المناسبِّ ثم الشبه ثم الطرد‪.‬‬
‫أدناها الطرد ويجبِّ أن ينكره كل قائل بالقياس‪ .‬أعلها المؤثر‬
‫ويجبِّ أن يقول به كل منكر للقياس«هل)‪. (3‬‬
‫وقال الشوكاني‪» :‬المؤثر‪ :‬وهو أن يدل النص أو الجماع‬
‫على كونه علة تدل على تأثير عين الوصف في عين الحكم أو نوعه‬
‫في نوعه«هل)‪. (4‬‬
‫فالمؤثر هو الوصف الذي ثبت بالدليل تأثيره في الحكم‬
‫فاعتباره هو ليس من قبيل مجيء الحكم على وفقه فحسبِّ‪ ،‬أو شهادةا‬
‫الحكم له فحسبِّ وإنما اعتباره هو من قبيل شهادةا النص أو‬
‫الجماع‪.‬‬
‫والمؤثر عند الصوليين من الشافعية وفي أصول المتكلمين‬
‫عموماا هو قسيم للملئم والغريبِّ بخلفَّ الصوليين من الحنفية‪.‬‬

‫ويقول الشوكاني‪ » :‬إن المناسبِّ إما مؤثر أو غير مؤثر‪ .‬وغير المؤثر إما‬
‫ملئم أو غير ملئم‪ .‬إما غريبِّ أو مرسل أو ملغى« ارشــاد الفحــول‪ .‬ص‪:‬‬
‫‪. 218‬‬
‫) ( أبو حامد محمد الغزالي‪ ،‬المستصفى في علم أصول الفقه‪،2/297 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫المطبعة الميرية ببولق مصر المحمية‪ 1322 ،‬هـ‪.‬‬


‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/247 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 2/318 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشوكاني‪ ،‬ارشاد الفحول‪ .‬ص‪. 218 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪104‬‬
‫فهؤلء جعلوا التأثير شرطاا من شروط العلة‪ ،‬ولذلك فل يأخذون‬
‫بمسلك المناسبة أصلا‪ ،‬وإنما المناسبة عندهم شرط للتعليل‬
‫بالوصف‪ .‬ولذلك ل يقبلون الكتفاء بكون الوصف معتبراا بمعنى‬
‫شهادةا الحكم له وإنما يشترطون شهادةا النص‪ ،‬وهو ما يسمونه‬
‫العدالة‪ ،‬أي عدالة الوصف وصلحيته للتعليل‪ .‬ولفظ الملئم في‬
‫نصوصهم ل يعنون به ما يقصده غيرهم من المتكلمين‪ ،‬وإنما‬
‫يقصدون به عين ما يقصده غيرهم بلفظ المناسبِّ‪ .‬قال الغزالي ‪:‬‬
‫»أعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس‪ ،‬وقصر أبو زيد‬
‫الدبوسي القياس عليه قال‪ :‬ل يقبل إل مؤثر‪ ،‬ولكنه أورد للمؤثر‬
‫أمثلةا عرفَّ بها أنه قبل الملئم ولكنه سماه أيضا مؤثراا«هل)‪. (1‬‬
‫والمراد بهذا النص أن الحنافَّ ل يقبلون إل المؤثر‪.‬‬
‫قال البزدوي‪» :‬العدالة عندنا هي الثر‪ .‬ونعني بالثر ما جعل‬
‫له أثر في الشرع«هل )‪ . (2‬وقال شارح أصول البزدوي في كشف‬
‫السرار‪» :‬وفسر الشيخ في بعض مصنفاته بهذه العبارةا‪ :‬ونعني‬
‫بالتأثير أن يكون لجنس ذلك الوصف تأثير في إثبات جنس ذلك‬
‫الحكم في مورد الحكم إما مدلولا عليه بالكتاب أو بالسنة أو‬
‫بالجماع‪ .‬أي يثبت أثر هذا الوصف بهذه الحجج‪ .‬وذكر بعض‬
‫الصوليين أن أعلى أنواع القياس المؤثر«هل)‪ . (3‬فهو يورد قول إن‬
‫المؤثر أعلى أنواع القياس منسوباا إلى بعض الصوليون وليس إلى‬
‫نفسه‪ .‬ويقول إن المؤثر أربعة أقساما وهي العين في العين والعين‬

‫) ( الغزالي المستصفى‪ . 2/299 .‬وهذا القول للغزالي وهو أن الدبوسي‬ ‫‪1‬‬

‫يقبل الملئم ويسميه مؤثراا يراد به أن الحنفية يعللون بالملئم‪ ،‬وهو مــا‬
‫يرده أئمة الصول الحنافَّ بشدةا‪.‬‬
‫فخر السلما الـبزدوي‪ ،‬أصـول فخـر السـلما الـبزدوي‪،3/512 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تحقيق‪ :‬عبد ال محمود محمد عمر‪ ،‬دار الكتبِّ العلميــة ـــ بيــروت‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫‪ 1418‬هـ ‪ 1997 -‬ما‪ ،‬مطبوع مع شــرحه‪ :‬كشــف الســرار‪ ،‬لعلء الــدين‬
‫البخاري ‪.‬‬
‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار عن أصول فخر السلما البزدوي‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ، 3/512‬أنظر‪ :‬الهامش السابق‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫في الجنس والجنس في العين والجنس في الجنس )‪ . (1‬في حين يقول‬
‫الغزالي للتمييز بين المؤثر والملئم‪» :‬الفرق بينهما أن المؤثر‬
‫هو الذي ظهر تأثير عينه في عين الحكم المتنازع فيه بالجماع أو‬
‫النص في محل النزاع أو غير محل النزاع‪ ...‬وأما الملئم فنعني به‬
‫أنه عهد جنسه مؤثرا في جنس ذلك الحكم«هل)‪ . (2‬فعلى هذا‪ ،‬المؤثر‬
‫عند البزدوي ينقسم إلى هذه القساما الربعة‪ ،‬بينما عند الغزالي‬
‫المؤثر هو أحد القساما الربعة‪ .‬وهذا الخلفَّ ينطبق على أئمة‬
‫الصول من الشافعية والحنفية‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الملئام‪:‬‬
‫وهو وصف مناسبِّ شهدت له أحكاما كثيره‪ ،‬أو على القل‬
‫حكمان‪ ،‬حكم يظهر فيه اعتبار الوصف المعين في الحكم المعين‪،‬‬
‫وحكم أو أحكاما أخرى يستفاد منها أن الوصف قد عهد اعتبار جنسه‬
‫في الحكم أو اعتباره في جنس الحكم أو اعتبار جنسه في جنس‬
‫الحكم‪.‬‬
‫إل أنه تنبغي الشاره هنا إلى الفرق بين أئمة الحنافَّ‬
‫وغيرهم‪ ،‬وجميعهم ذكروا هذه النواع‪ .‬وهو أن الحنافَّ لم‬
‫يجيزوا تعميم الوصف أو الحكم من مجرد وجود شواهد له في‬
‫أحكاما أخرى‪ ،‬وإنما اشترطوا لثبوت أثر الوصف أو جنسه أن يكون‬
‫الثبوت بالدليل الشرعي وليس من مجيء الحكم على وفقه‪ .‬فكما‬
‫اشترطوا لثبوت العين في العين أن يكون مؤثراا‪ ،‬فقد اشترطوا‬
‫التأثير في سائر أنواع العتبار‪ .‬وكما لم يـروا في مجيء الحكم‬
‫وفـق الوصـف دللـة على التعليـل‪ ،‬فإنـهـم لم يـروا ‪ -‬أيضاا ‪ -‬أي‬
‫دللة على التعميم أو التجنيس في كثرةا الشواهد‪ .‬قال البزدوي‪:‬‬
‫»العدالة عندنا هي الثر«هل)‪ ، (3‬وقال الشارح في كشف السرار‪:‬‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار عن أصول فخر السلما البزدوي‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪. 513 :‬‬


‫) ( الغزالي‪ ،‬شفاء الغليل‪ ،‬ص‪. 149 - 148 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( البزدوي‪ ،‬أصول البزدوي‪. 3/512 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪106‬‬
‫»وأما العرض على الصول فل يقع به التعديل وأقصى ما في الباب‬
‫أن تكون النصوص موافقة للوصف فيحصل به كثرةا النظائر وبكثرةا‬
‫النظائر ل تحصل قوةا في الوصف«هل)‪ ( 1‬وقال‪» :‬لن كون الوصف‬
‫علة وضع شرعي كما أن الحكم كذلك فلم يمكن إثباته إل بالدليل‬
‫الشرعي«هل )‪. ( 2‬‬
‫وعليه فالملئم هو ما ثبت فيه اعتبار جنس الوصف في عين‬
‫الحكم أو في جنسه‪ ،‬أو عين الوصف في جنسه‪ .‬والخلفَّ فيه هو في‬
‫ثبوت العتبار‪ .‬فإن كان الثبوت بالدليل فهو متفق عليه بين‬
‫القائسين‪ ،‬وإن كان بطريق شهادةا الحكم للوصف ووجود نظائر له‪،‬‬
‫فمختلف فيه كثيراا‪.‬‬
‫ومن أمثلته جواز الجمع بين المكتوبتين بوصف الحرج‪.‬‬
‫فحكم جواز الجمع في السفر يشهد لوصف الحرج وجواز الجمع‬
‫بينهما في الحضر مع المطر يشهد لوصف الحرج‪ .‬فحرج المطر‬
‫وحرج السفر نوعان من الحرج يشملهما جنس الحرج واعتبار‬
‫الحرج هنا هو اعتبار لجنس الوصف بغير دليل وانما فقط باستقراء‬
‫الحكاما‪ .‬وقد قيل إن هذا المثل فيه ما فيه)‪. (3‬‬
‫ويميثلي له أيضاا بإسقاط الركعتين الساقطتين عن المسافر‬
‫بوصف المشقة‪ .‬وإسقاط القضاء عن الحائض بوصف المشقة‪.‬‬
‫فاعتبار عموما المشقة هنا هو اعتبار لجنس الوصف‪ .‬وهذا المثل‬
‫أيضاا فيه ما فيه)‪. (4‬‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪ ، 3/513 ،‬والمراد بالعرض على‬ ‫‪1‬‬

‫الصول عرض الوصف المشهود له في حكم على أحكاما أخرى تشهد له‪ ،‬فيقال‬
‫بناء على ذلك انه قد عهد اعتباره أو اعتبار جنسه في الشرع‪.‬‬
‫) ( المصدر‪ ،‬نفسه‪ .‬ص‪. 510 - 509 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬النصاري‪ ،‬عبد العلي محمد بن نظاما الدين‪ ،‬فواتح الرحموت شرح‬ ‫‪3‬‬

‫مسلم الثبوت‪ ، 2/265 ،‬مطبوع مع المستصفى للغزالي‪ ،‬المطبعة الميرية‬


‫ببولق‪ ،‬مصر المحمية‪ ،‬سنة ‪ 1322‬هـ ‪.‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬الشوكاني‪ ،‬ارشاد الفحول‪ ،‬ص‪ . 217 :‬وانظر‪ :‬الغزالي‪ ،‬شفاء‬ ‫‪4‬‬

‫الغليل‪ ،‬ص‪. 149 :‬‬

‫‪107‬‬
‫جأـ ‪ -‬الغريب‪:‬‬
‫وهو وصف مناسبِّ‪ ،‬ظهر اعتباره في حكم واحد‪ .‬قال علماء‬
‫الصول من الشافعية بصلحيته للتعليل‪ ،‬ورده الحنافَّ‪ .‬قال‬
‫المدي‪» :‬أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص‬
‫الحكم من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في اصل‬
‫آخر متفق عليه ول جنسه في عين ذلك الحكم ول جنسه في جنسه‬
‫ول دليي على كونه علة نص ول إجماع ل بصريحه ول بإيمائه‪،‬‬
‫وذلك كمعنى السكار«هل )‪ . (1‬ثم قال‪» :‬فلو قدييرنا انتفاء النصوص‬
‫الدالة على كون السكار علة فل يكون معتبراا بنص أيضاا‪ ،‬وهذا هو‬
‫المناسبِّ الغريبِّ وهو مختلف فيه بين القياسيين وقد أنكره بعضهم‬
‫وإنكاره غير متجه لنه يفيد الظن بالتعليل«هل)‪. (2‬‬
‫وقال الغزالي‪» :‬وأ مــا الغريــبِّ الــذي لــم يظ هــر تــأثيره ول‬
‫ملءمته لجنس تصرفات الشــارع فمثــاله‪ :‬قولنــا‪ :‬إن الخمــر إنمــا‬
‫حرمت لكونها مسكرةا ففي معناه كل مسكر‪ ،‬ولم يظهر أثــر الســكر‬
‫في موضع آخر لكنه مناسبِّ‪ .‬وهذا م ثــال الغر يــبِّ لــو لــم يي قــديير‬
‫التنبيه ب قــوله‪      [ :‬‬
‫‪ . (3) ]   ‬ومثاله أيضاا قولنا‪ :‬أن‬
‫المطلقة ثلثاا في مرض الموت ترثا لن الزوج قصــد الفــرار مــن‬
‫ميراثها فيعارض بنقيض قصده قياساا على القاتل فإنه ل يرثا لنــه‬
‫يستعجل الميراثا فعورض بنقيض قصده‪ .‬فإن تعليل حرمان القاتــل‬
‫تعليل بمناسبِّ ل يلئم جنس تصرفات الشرع لنا ل نرى الشرع فــي‬
‫موضع م آخر التفت إلى جنسه فتبقى مناسبته مجردةا غريبــة‪ .‬ولــو‬
‫علل الحرمان بكونه متعدياا بالقتل وجعل هذا جزاءا علــى ال عــدوان‬
‫كان تعليلا بمناسبِّ ملئم ليس بمؤثر لن الجناية بعينها وإن ظهر‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/247 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا المائدةا‪. 91 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪108‬‬
‫تأثير هــا فــي العقوبــات فلــم يظ هــر تأثير هــا فــي الحر مــان مــن‬
‫الميراثا«هل)‪. (1‬‬
‫والجدير بالذكر هنا أن واقع المناسبِّ الغريبِّ وأمثلته عند‬
‫الذين يقولون به كالمدي والغزالي كما تبين‪ ،‬هو نفس واقع‬
‫وأمثلة المناسبِّ المرسل عند الذين يقولون به كما سيتبين‪ .‬وقد‬
‫ذكر المدي كمثال على المناسبِّ الغريبِّ‪» :‬اعتبار جنس المشقة‬
‫المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف‪ ،‬فإن عين‬
‫مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها‪ ،‬وعين‬
‫التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين ليس عين التخفيف عن‬
‫الحائض بإسقاط الصلةا بل من جنسها «هل)‪. (2‬‬
‫وذكر الشوكاني مثلا للغريبِّ قال‪» :‬اعتبار جنس الوصف‬
‫في جنس الحكم وذلك كتعليل كون حد الشرب ثمانين بأنه مظنة‬
‫القذفَّ لكونه مظنة الفتراء فوجبِّ أن يقاما مقامه قياساا على الخلوةا‬
‫فانها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه«هل )‪. ( 3‬‬
‫وقد قال علماء الصول من الشافعية بصلحية المناسبِّ الغريبِّ‬
‫للتعليل‪ .‬قال المدي‪» :‬وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لنه‬
‫يفيد الظن بالتعليل«هل)‪ . (4‬وقال الغزالي‪» :‬وأما المناسبِّ الغريبِّ‬
‫فهذا في محل الجتهاد ول يبعد عندي أن يغلبِّ ذلك على ظن بعض‬
‫المجتهدين ول يدل دليل قاطع على بطلن اجتهاده«هل)‪. (5‬‬
‫أما الحنافَّ فقد ردوه وردوا كل مسلك المناسبة أصلا‪.‬‬
‫وهذا جنس أقوال أئمتهم‪» :‬وأما الخيال‪ ...‬فأمر باطل لنه عبارةا‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪ . 2/298 .‬وهذا النص مفيد ‪ -‬إذا دقيققي فيه ‪-‬‬ ‫‪1‬‬

‫للتفريق بين كل من المؤثر والملئم والغريبِّ‪.‬‬


‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 248 - 3/247 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ .‬ص‪ . 218 :‬وهذا المثال نفسه ذكره الرازي‬ ‫‪3‬‬

‫كمثال على المناسبِّ المرسل ‪.‬‬


‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 3/247 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 3/247 .‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪109‬‬
‫عن مجرد الظن لن الخيال والظن واحد‪ ،‬والظن ل يغني من الحق‬
‫شيئاا‪ ،‬ول يقال‪ :‬الظن معتبر في الشرع في وجوب العمل به كخبر‬
‫الواحد والقياس‪ ،‬لنا نقول‪ :‬المعتبر هو الذي قاما دليل قطعي على‬
‫اعتباره في وجوب العمل ل مطلق الظن‪ ،‬ولم يقم ههنا دليل على‬
‫اعتباره شرعاا فوجبِّ إهداره«هل)‪. (1‬‬
‫‪ -2‬الملغى‪:‬‬
‫وهو وصف لم يشهد له حكم بالعتبار‪ ،‬وظهر العتبار لعكسه‪.‬‬
‫قال السنوي‪» :‬الوصف المناسبِّ على ثلثة أقساما‪ :‬أحدها أن يلغيه‬
‫الشارع أي يورد الفروع على عكسه فل إشكال في أنه ل يجوز‬
‫التعليل به«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬وذلك كإيجاب صوما شهرين في كفارةا‬
‫الجماع في نهار رمضان على الملك وإن كان أبلغ في ردعه من‬
‫العتق لكن الشارع ألغاه بإيجابه العتاق ابتداءا فل يجوز‬
‫اعتباره«هل)‪. (3‬‬
‫وقال المدي‪» :‬المناسبِّ الذي لم يشهد له أصل بالعتبار‬
‫بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في‬
‫صورةا‪ ،‬فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به«هل)‪ . (4‬ثم أورد‬
‫المثال نفسه المذكور أعله عن السنوي‪.‬‬
‫وقال الشاطبي‪» :‬ما شهد الشرع برديقه فل سبيل إلى قبوله إذ‬
‫المناسبة ل تقتضي الحكم لذاتها وإنما ذلك مذهبِّ أهل التحسين‬
‫العقلي«هل)‪ . (5‬ثم أورد المثال نفسه المذكورأعله منسوباا إلى‬
‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 3/518 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( السنوي‪ ،‬نهاية السول ‪. 4/91‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪ ،‬وإيجاب العتاق مأخوذ من قوله ‪ ‬للرجل الذي قال له‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫واقعت أهلي في رمضان‪ ،‬قال له ‪» :‬أعتق رقبة‪ ،‬قال‪ :‬ل أجأــدها‪ .‬قــال‪:‬‬
‫ص م ش هرين مإتت ابعين‪ .‬ق ال‪ :‬ل أطي ق‪ .‬ق ال‪ :‬أطع م س تين‬
‫مإســكينا ا« البخاري ) ‪ ، ( 2410 ) ، ( 1801‬مسلم ) ‪، ( 1871 ) ، ( 1870‬‬
‫الترمذي ) ‪ ( 656‬وقال ‪ :‬حسن صحيح ‪ ،‬وأحمد ) ‪. ( 10270‬‬
‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/249‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما ‪. 2/374‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪110‬‬
‫الغزالي‪ ،‬وقال‪» :‬فهذا مناسبِّ لن الكفارةا مقصود الشرع منها‬
‫الزجر والملك ل يزجره العتاق ويزجره الصياما وهذه الفتيا‬
‫باطلة«هل )‪. (1‬‬
‫‪ -3‬المرسـل)‪:(2‬‬
‫هو وصف مناسبِّ ل يعلم اعتباره ول إلغاؤه‪ .‬وقد أطلق عليه‬
‫اسم المصلحة المرسلة‪ ،‬والستدلل المرسل والستصلح‪ .‬وجعله‬
‫بعض الصوليين من مباحث الستدلل‪ .‬قال الزركشي‪» :‬قد مر‬
‫الكلما في القياس‪ ،‬في المناسبِّ الذي اعتبره الشارع أو ألغاه‪.‬‬
‫والكلما فيما جهل‪ ،‬أي سكت الشارع عن اعتباره واهداره‪ ،‬وهو‬
‫المعبر عنه بالمصالح المرسلة ويلقبِّ بالستدلل المرسل‪ .‬ولهذا‬
‫سميت مرسلة‪ ،‬أي لم تعتبر ولم تلغ‪ ،‬وأطلق إماما الحرمين وابن‬
‫السمعاني عليه اسم الستدلل‪ ،‬وعب يي ر عنه الخوارزمي في الكافي‬
‫بالستصلح‪ .‬قال والمراد بالمصلحة‪ :‬المحافظة على مقصود‬
‫الشرع بدفع المفاسد عن الخلق‪ .‬وفسره الماما والغزالي بأن يوجد‬
‫معنى يشعر بالحكم مناسبِّ له عقلا‪ ،‬ول يوجد أصل متفق عليه‬
‫والتعليل المصور جار فيه‪ .‬وفسره ابن برهان في الوسط بان ل‬
‫يستند إلى أصل كلي ول جزئي‪ ،‬وفيه مذاهبِّ«هل)‪ . (3‬وقد اختلف‬
‫المراد بالمناسبِّ المرسل عند الصوليين‪ ،‬وتعارضت الراء في أخذه‬
‫ورده‪ .‬والكثرون على أنه ل يصلح الستدلل به‪ .‬قال الدكتور‬
‫مصطفى البغا‪» :‬تكاد كلمة الصوليين تلتقي على أن القول‬
‫بالستصلح أمر مختلف فيه وأن الراجح من الراء أنه ل يصلح‬
‫الستدلل به إذ ل دليل على اعتباره وأنه لم يذهبِّ إلى القول به إل‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المعنى اللغوي القرب للفظ المرسل هنا هو ما جاء في لسان العرب‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫أرسل الشيء أطلقه وأهمله‪ . 11/285 .‬ولكن المقصود هنا هو ليس المعنى‬
‫اللغوي وإنما المعنى الصطلحي في أصول الفقه‪.‬‬
‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪ . 4/377 ،‬وانظــر‪ :‬ارشــاد الفحــول‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ، 241‬والمستصفى‪ ، 1/284 ،‬والحكاما‪. 4/361 ،‬‬

‫‪111‬‬
‫الماما مالك رحمه ال تعالى «هل)‪. (1‬‬
‫ولقد أدى نقل أقوال العلماء فيه من غير تحقيق للمعنى‬
‫للمراد عند كل منهم إلى تضارب النقول‪ .‬قال الدكتور محمد‬
‫حسن هيتو‪» :‬إعلم أن مسألة الستدلل المرسل قد وقع فيها خبط‬
‫كثير فتضاربت فيها النقول وتشعبت الراء«هل)‪ . (2‬واشتهرت نسبة‬
‫القول به ا إلى الماما مالك رضي ال عنه ون ي سبِّ إليه في ذلك‬
‫استرسال غير منضبط‪ .‬ونسبها البعض إلى الشافعية والحنفية‬
‫وغيرهم إلى الشافعية دون الحنفية‪ ،‬وذهبِّ البعض إلى وجودها في‬
‫كل المذاهبِّ‪ ،‬وذهبِّ آخرون إلى التفاق على ردها وأنكر نسبتها‬
‫إلى مالك رحمه ال‪ .‬وفيما يلي بعض تلك النقول‪:‬‬
‫قال الجويني‪» :‬ذهبِّ الشافعي ومعظم أصحاب أبى حنيفة إلى‬
‫اعتماد الستدلل وإن لم يستند إلى حكم متفقم عليه في أصل «هل)‪، (3‬‬
‫في حين ذهبِّ المدي إلى نقيض ذلك فقال‪» :‬المناسبِّ المرسل‪...‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع‬
‫التمسك به وهو الحق «هل)‪ . (4‬وقال القرافي‪» :‬والذي جهل أمره هو‬
‫المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها‪ ،‬وعند التحقيق هي عامة في‬
‫المذاهبِّ «هل)‪ . (5‬وقد أشكلت المنقولت عن الغزالي حيث قال‪» :‬من‬
‫استصلح فقد شرييع كما أن من استحسن فقد شرع«هل)‪ . (6‬وقال‪:‬‬
‫»كل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي عيلقم كونه مقصوداا‬
‫بالكتاب والسنة والجماع فليس خارجاا عن هذه الصول لكنه ل‬
‫يسمى قياساا بل مصلحةا مرسلة‪ ...‬وإذا فسرنا المصلحة‬
‫) ( مصطفى ديبِّ البغا‪ ،‬أثر الدلة المختلف فيها في الفقه السلمي‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ، 43‬دار الماما البخاري ـ دمشق‪.‬‬


‫محمد حسن هيتو‪ ،‬تعليقه على المنخول من تعليقات ال صــول ل بــي‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫حامد الغزالي‪.‬‬
‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان ‪ . 2/721‬فقرةا‪. 1130 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 4/394 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( القرافي‪ ،‬شرح تنقيح الوصول‪ .‬ص‪. 394 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 1/286 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪112‬‬
‫بالمحافظة على مقصود الشرع فل وجة للخلفَّ منها‪ ،‬بل يجبِّ‬
‫القطع بكونها حجة «هل)‪. (1‬‬
‫وتعارضت المنقولت فيها عن الماما مالك رضي ال عنه‪.‬‬
‫فقال الشاطبي‪» :‬فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم‬
‫المعاني المصلحية نعم مع مراعاةا مقصود الشارع أن ل يخرج عنه‬
‫ول يناقض أصلا من أصوله‪ ،‬حتى لقد استشنع العلماء كثيراا من‬
‫وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة‪ ،‬وفتح باب التشريع‪،‬‬
‫وهيهات ما أبعده من ذلك! رحمه ال«هل)‪ . (2‬وقال عنه الجويني‪:‬‬
‫»فريئيي يثبت مصالح بعيدةا عن المصالح المألوفة والمعاني‬
‫المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداثا القتل واخذ المال‬
‫بمصالح تقتضيها في غالبِّ الظن وان لم يجد لتلك المصالح‬
‫مستنداا إلى أصول‪ ،‬ثم ل وقوفَّ عنده بل الرأي رأيه ما استديي نظره‬
‫فيه وانتقض عن أوضار التهم والغراض«هل )‪ . (3‬وقال ابن قدامة‬
‫المقدسي‪» :‬كما حيكيي أن مالكاا قال‪ :‬يجوز قتل الثلث من الخلق‬
‫لستصلح الثلثين«هل )‪ . (4‬وفي مقابل هذه القوال هناك من ينكر‬
‫ذلك عن الماما مالك‪ .‬قال الشوكاني‪» :‬وقد أنكر جماعة من‬
‫المالكية ما نسبِّ إلى مالك من القول بها ومنهم القرطبي وقال‪:‬‬
‫ذهبِّ الشافعي ومعظم أصحاب أبى حنيفة إلى عدما العتماد عليها‬
‫وهو مذهبِّ مالك‪ ،‬قال‪ :‬وقد اجترأ إماما الحرمين فيما نسبِّ إلى‬
‫مالك من الفراط في هذا الصل‪ ،‬وهذا ل يوجد في كتبِّ مالك ول‬
‫في شيء من كتبِّ أصحابه «هل)‪ . (5‬وقال المدي‪» :‬المناسبِّ‬
‫المرسل‪ ...‬وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على‬
‫امتناع التمسك به‪ ،‬وهو الحق‪ ،‬إل ما نقل عن مالك أنه يقول به مع‬

‫المصدر نفسه‪. 1/315 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/388 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الجويني‪ ،‬البرهان‪ . 2/721 ،‬فقرةا‪. 1128 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫ابن قدامة المقدسي‪ ،‬روضة الناظر وجنة المناظر‪ ،‬ص‪. 150 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ ،‬ص‪. 242 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪113‬‬
‫إنكار أصحابه لذلك عنه‪ .‬ولعل النقل ان صح عنه فالشبه أنه لم‬
‫يقل بذلك في كل مصلحة‪ ،‬بل فيما كان من المصالح الضرورية‬
‫الكلية الحاصلة قطعاا«هل)‪ ، (1‬ويقول الدكتور هيتو‪» :‬وأما نسبة‬
‫القول إلى مالك بهذا النوع من الستدلل المرسل فهي نسبة غير‬
‫متفقم عليها«هل)‪ . (2‬وقد اثبت الدكتور هيتو خطأ نسبة كثير من‬
‫القوال إلى الماما مالك رحمه ال )‪. (3‬‬
‫إن هذا المقدار من التضارب يرجع إلى اختلفَّ معنى المرسل‬
‫عند المتعارضين وعند الناقلين‪ .‬فقد استعمل لفظ المرسل بمعنى‬
‫ما لم ييعلم إلغاؤه أو اعتباره إطلقاا‪ .‬أي لم يشهد أي حكم له‪.‬‬
‫واستعمل أيضاا بمعنى الملئم أو الغريبِّ‪.‬‬
‫أمإا المعنى الوأل‪ :‬فقد اتفق الكل على رده‪ .‬وهو المراد‬
‫بنفي نسبته إلى الشافعية والحنفية وبإنكاره عن مالك‪.‬‬
‫وأأمإا المعنى الثاني‪ :‬فرده الجمهور‪ ،‬واشترط القائلون به‬
‫أن يكون ملئماا‪ ،‬ونقل التفاق على رده إن كان غريباا‪ ،‬وقال البعض‬
‫بإمكانية قبوله وفيما يلي التفصيل‪:‬‬
‫أما أن كان مرسلا بإطلق فهذه بعض القوال فيه‪:‬‬
‫قال المدي‪» :‬إن المصالح تنقسم باعتبار شهادةا الشرع إلى‬
‫معتبرةا وإلى ملغاةا وإلى ما لم يشهد لها باعتبار ول إلغاء وهذا‬
‫الخير هو المعبر عنه بالمناسبِّ المرسل‪ ...‬وهذا القسم مترددي بين‬
‫ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما بأولى من الخر‪ .‬فامتنع‬
‫الحتجاج به دون شاهد بالعتبار يعرفَّ انه من قبيل المعتبر دون‬
‫الملغى«هل )‪. (4‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 4/394 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( هيتو‪ ،‬مقدمته على المنخول من تعليقات الصول‪ ،‬الهامش‪ .‬ص‪354 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪. 365 -‬‬


‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 4/160 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪114‬‬
‫وقال عز الدين بن عبد السلما‪» :‬وكذلك ل حكم إل له )أي‬
‫ل( فأحكامه مستفادةا من الكتاب والسنة والجماع والقيسة‬
‫الصحيحة والستدللت المعتبرةا‪ ،‬فليس لحد أن يستحسن ول أن‬
‫يستعمل مصلحة مرسلة‪ ،‬ول أن يقلد أحداا لم يؤمر بتقليده«هل )‪. (1‬‬
‫وقال الغزالي‪» :‬الستصلح ليس أصلا خامساا برأسه‪ ،‬بل من‬
‫استصلح فقد شرييع كما ان من استحسن فقد شرييع«هل)‪ . (2‬وقال‪:‬‬
‫»هذا من الصول الموهومة إذ من ظن انه اصل خامس فقد اخطأ‬
‫لنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع‪ ،‬ومقاصد الشرع تعرفَّ‬
‫بالكتاب والسنة والجماع فكل مصلحة ل ترجع إلى حفظ مقصود‬
‫فهم من الكتاب والسنة والجماع وكانت من المصالح الغريبة التي‬
‫ل تلئم تصرفات الشـرع فهي باطلة مطروحة ومن صار إليها فقد‬
‫شرع كما ان من استحسن فقد شرع«هل)‪. (3‬‬
‫وكذلك اشتهر عن الحنافَّ رده ورد كل مسلك المناسبة‬
‫أصل‪ .‬فيردون المناسبِّ ولو كان معتبراا إذ يشترطون التأثير‪.‬‬
‫قال ابن هماما الدين السكندري الحنفي‪» :‬هذا القسم المسمى‬
‫بالمصالح المرسلة‪ ،‬والمختار رده‪ ،‬إذ ل دليل على العتبار‪ ،‬وهو‬
‫دليل شرعي‪ ،‬فوجبِّ رده«هل )‪. (4‬‬
‫وقد اشتهر عن أئمتهم قول‪ :‬ل دليل فل اعتبار‪ .‬وقال‬
‫النصاري‪» :‬المصالح المرسلة حجة عند مالك رحمة ال تعالى‪،‬‬
‫والمختار عند الجمهور من أهل الصول والفقهاء رده‪ .‬لنا‪ :‬ل دليل‬
‫بدون العتبار من الشارع وان كان على سنن العقل وهذا ل يتأتى‬
‫ممن يقول بالخالة«هل )‪. (5‬‬
‫) ( عز الدين بن عبد السلما‪ ،‬قواعد الحكاما في مصالح الناما‪ ،‬ص‪،304 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫مؤسسة الريان ـ بيروت‪ 1410 ،‬هـ ـ ‪ 1990‬ما‪ ،‬طبعة جديدةا منقحة ‪.‬‬
‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 1/315 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/310 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( ابن هماما السكندري‪ ،‬مطبوع مع شرحه تيسير التحرير لمير بادشاه‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫دار الكتبِّ العلمية ‪ -‬بيروت‪. 3/315 ،‬‬


‫) ( النصاري‪ ،‬فواتح الرحموت‪. 2/266 .‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪115‬‬
‫وقال ابن قدامة المقدسي‪» :‬يسمى ذلك مصلحة مرسلة ول‬
‫نسميه قياساا لن القياس يرجع إلى اصل معين والصحيح ان ذلك‬
‫ليس بحجة لنه ما عرفَّ من الشارع المحافظة على الدماء بكل‬
‫طريق‪ ،‬ولذلك لم يشرع المثلة وان كانت ابلغ الردع والزجر‪ ،‬ولم‬
‫يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر‪ ،‬فإذا أثبت حكماا لمصلحة من‬
‫هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات‬
‫)‪(1‬‬
‫ذلك الحكم كان وضعاا للشرع بالرأي وحكماا بالعقل المجرد«هل ‪.‬‬
‫وقال مجد الدين بن تيمية‪» :‬المصالح المرسلة ل يجوز بناء‬
‫الحكاما عليها‪ .‬قاله الباقلني وجماعة المتكلمين«هل)‪. (2‬‬
‫وقال ابن الحاجبِّ المالكي‪» :‬المصالح المرسلة مصالح ل‬
‫يشهد لها اصل بالعتبار في الشرع وإن كانت على سنن المصالح‬
‫وتلقتها العقول بالقبول«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬لنا ان ل دليل فوجبِّ الرد‬
‫كما في الستحسان«هل)‪. (4‬‬
‫وكذلك ردها الفخر الرازي إن كانت بهذا المعنى‪ ،‬وقال إنها‬
‫مردودةا بالجماع مع انه من الخذين بالمصالح المرسلة‪ ،‬مما يدل‬
‫على انه ل يعني بالمرسل ما كان مرسلا بإطلق‪ .‬قال‪» :‬مناسبِّ ل‬
‫يلئم ول يشهد له اصل معين فهذا مردود بالجماع ومثاله حرمان‬
‫القاتل من الميراثا معارضة له بنقيض قصده لو قدييرنا انه لم يرد‬
‫فيه نص«هل)‪. (5‬‬
‫ونجد المر نفسه عند الشاطبي إذا كان بمعنى المرسل‬
‫بإطلق‪ ،‬فهو يبين أن ما كان كذلك فهو باطل وتشريع بالعقل‬
‫وينقل أن هذا المرسل مردود بالتفاق‪ .‬يقول‪» :‬المناسبة ل تقتضي‬

‫) ( ابن قدامة المقدسي‪ ،‬روضة الناظر وجنة المناظر‪ .‬ص‪. 150 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( آل تيمية‪ ،‬المسوييدةا‪ ،‬ص‪ . 450 :‬تحقيق‪ :‬محمد محيي الدين عبد‬ ‫‪2‬‬

‫الحميد‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت‪.‬‬


‫) ( ابن الحاجبِّ‪ ،‬حاشيتا التفتازاني والجر جــاني علــى مخت صــر المنت هــى‬ ‫‪3‬‬

‫الصولي‪ . 2/389 .‬دار الكتبِّ العلمية ‪ -‬بيروت‬


‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/167 .‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪116‬‬
‫الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهبِّ أهل التحسين العقلي‪ ،‬بل إذا ظهر‬
‫المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الحكاما فحينئذ نقبله‬
‫فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من‬
‫المصالح ودرء المفاسد على وجه ل يستقل العقل بدركه‪ ،‬فإن لم‬
‫يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى‪ ،‬بل برده كان مردوداا باتفاق‬
‫المسلمين«هل)‪. (1‬‬
‫وقال‪» :‬كتعليل منع القتل للميراثا‪ .‬فالمعاملة بنقيض‬
‫المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة ل عهد بها‬
‫في تصرفات الشرع بالفرض ول بملئمها بحيث يوجد لها جنس‬
‫معتبر‪ ،‬فل يصح التعليل بها ول بناء الحكم عليها باتفاق‪ ،‬ومثل هذا‬
‫تشريع من القائل به فل يمكن قبوله«هل)‪. (2‬‬
‫بناء على هذه النصوص وخاصة من الخذين بالمصالح المرسلة‬
‫يتبين أن الستدلل بالمرسل ل يعني الستدلل بالمصلحة فهذا يعني‬
‫جعل العقل مشرعاا‪ ،‬وهذا مردود اتفاقاا‪ .‬فلم يبق ان يكون معنى‬
‫المرسل عند الخذين به إل بمعنى الملئم أو الغريبِّ ‪.‬‬
‫ويؤكد هذا المر ما نجده عند بعض أئمة الصول من تقسيم‬
‫المرسل نفسه إلى ملغى وغريبِّ وملئم‪ ،‬وهذا يعني ان المرسل‬
‫الممكن قبوله أو وقوع الخلفَّ فيه هو ما كان غريباا أو ملئماا‪.‬‬
‫قال النصاري‪» :‬المرسل وينقسم إلى ما علم إلغاؤه بنص أو‬
‫إجماع‪ ...‬وإلى ما لم يعلم‪ ،‬فإن لم يعلم فيه أحد اعتبارات الملئم‬
‫من اعتبار نوعه أو جنسه في جنس الحكم أو جـنـسـه في عين‬
‫الحكم‪ ،‬لكن لم يعلم إلغاؤه أيضا فهو الغريبِّ من المرسل‪ ،‬وهو‬
‫المسمى المصالح المرسلة‪ ،‬وإن علم فيه أحد اعتبارات الملئم فهو‬
‫المرسل الملئم«هل )‪. (3‬‬
‫وقال الغزالي‪» :‬وإنما اختلفَّ القائسين في المناسبِّ الغريبِّ‪:‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/374 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬ص‪. 375 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( النصاري‪ ،‬فواتح الرحموت‪. 2/301 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪117‬‬
‫الذي ل يلئم‪ ،‬والمناسبِّ الملئم‪ :‬الذي لم يشهد له أصل معين وهو‬
‫الذي يلقبِّ ‪ -‬في لسان الفقهاء ‪ -‬بالستدلل المرسل‪ ،‬يعنى به‬
‫العتماد على المعنى المناسبِّ المصلحي الذي يظهر في الفرع بغير‬
‫استشهاد بأصل معين«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬فأما المناسبِّ الغريبِّ ‪ -‬الذي ل‬
‫يلئم ول يشهد له أصل معين ‪ -‬فهذا مردود‪ :‬ل يعرفَّ فيه‬
‫خلفَّ«هل )‪. (2‬‬
‫وقال الشوكاني‪» :‬قال ابن الحاجبِّ في مختصر المنتهى‪:‬‬
‫وغير المعتبر هو المرسل فإن كان غريباا أو ثبت إلغاؤه فمردود‬
‫اتف اقاا‪ .‬وإن كان ملئماا فقد صرح الماما الغزالي بقبوله وذكر‬
‫عن مالك والشافعي‪ ،‬والمختار رده‪ ،‬وشرط الغزالي فيه أن تكون‬
‫المصلحة ضرورية قطعياا كلية«هل)‪ . (3‬وقال أيضاا‪» :‬الغريبِّ غير‬
‫الملئم وهو مردود بالتفاق«هل)‪ . (4‬ونيقنلي التفاق على رد الغريبِّ‬
‫يتعارض مع المنقول سابقاا عن الغزالي والمدي حيث قال الغزالي‪:‬‬
‫»المناسبِّ الغريبِّ فهذا في محل الجتهاد«هل)‪ . (5‬وقال المدي‪» :‬وقد‬
‫أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لنه يفيد الظن بالتعليل«هل)‪. (6‬‬
‫وتعارض القوال في الغريبِّ يرجع إلى اختلفَّ معناه‪ .‬بل إن‬
‫الغزالي نفسه الذي قال بإمكانية قبوله هو الذي نقل رده بل خلفَّ‪.‬‬
‫ولكنه بين مقصوده في كل مرةا‪ ،‬فقد رده إذا كان بمعنى المرسل‪،‬‬
‫وقال بإمكانية قبوله إذا كان بمعنى أنه شهد له حكم‪.‬‬
‫قال الرازي‪» :‬مناسبِّ ملئم ل يشهد له أصل معين بالعتبار‪،‬‬
‫يعني أنه اعتبر جنسه في جنسه‪ ،‬لكنه لم يوجد له أصل يدل على‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬شفاء الغليل‪ :‬ص ‪. 188‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ ،‬ص‪. 218 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( وقد تبييين هذا سابقاا تحت عنوان‪ :‬الغريبِّ ص‪ 87 – 85 :‬من هذا‬ ‫‪5‬‬

‫الكتاب‪.‬‬
‫) ( الموضع نفسه من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪118‬‬
‫اعتبار عينه في عينه‪ ،‬وهذا هو المصالح المرسلة«هل )‪ . (1‬ثم قال‪:‬‬
‫»مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الحكاما بالحكم التي ل تشهد‬
‫لها أصول معينة مثل أن علياا رضي ال عنه أقاما الشرب مقاما القذفَّ‬
‫إقامة لمظنة الشيء مقامه قياساا على إقامة الخلوةا بالمرأةا مقاما‬
‫وطئها في الحرمة)‪ . (2‬وهذا المثال عينه ذكره الشوكاني كمثال‬
‫على المناسبِّ الغريبِّ)‪. (3‬‬
‫إذن‪ ،‬المرسل عند الذين يأخذون به هو الغريبِّ أو الملئم‪ ،‬فهو‬
‫لم يشهد له أصل معين‪ ،‬وليس لم يشهد له أصل أبداا‪ .‬أما ما كان‬
‫مرسلا بإطلق فمردود بل خلفَّ ‪.‬‬
‫والمناسبِّ الغريبِّ مردود عند الشاطبي‪ .‬فهو ل يكتفي بشهادةا‬
‫أصل واحد أو بضعة أصول ليقول باعتبار الجنس‪ ،‬وإنما يشترط أن‬
‫تشهد له أصول كثيرةاي كثرةاا تصل حد القطع بنظره‪ ،‬يقول‪» :‬أن‬
‫يلئم تصرفات الشرع‪ ،‬وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره‬
‫الشارع بالجملة بغير دليل معين وهو الستدلل المرسل المسمى‬
‫بالمصالح المرسلة«هل )‪ . (4‬ويقول‪» :‬كل أصل شرعي لم يشهد له‬
‫نص معين وكان ملئما ا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه من‬
‫أدلته فهو صحيح ييبنى عليه وييرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد‬
‫صار بمجموع أدلته مقطوعاا به‪ ...‬ويدخل تحت هذا الستدلل‬
‫المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي«هل)‪. (5‬‬
‫أما ما نيقل سابقاا عن القرافي‪» :‬عند التحقيق هي عامة في‬

‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/167 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر ص‪ 86 :‬من هذا الكتاب‪ .‬وهذا المثال أيضاا يتعارض مع ما نقل‬ ‫‪3‬‬

‫من التفاق على رد المناسبِّ الغريبِّ‪ .‬وتف ســيره بـأن الــرازي ل ي عــد هـذا‬
‫المثال من قبيل الغريبِّ وإنما هو عنده من الملئم‪ .‬وله فــي ذ لــك ح جــة‬
‫ليست محل بحثنا‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/375 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/16 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪119‬‬
‫المذاهبِّ«هل‪ .‬فإن كان مراده بالمصلحة المرسلة أو المناسبِّ‬
‫المرسل المعنى الذي نبحثه فالقوال المذكورةا أعله تنقض قوله‬
‫بكشل قاطع‪.‬‬
‫وتنبغي الشارةا هنا ‪ -‬وإن كان هذا ليس من موضوعنا ‪ -‬إلى‬
‫أن المصلحة المرسلة التي هي عامة في المذاهبِّ ومقبولة بالتفاق‬
‫هي ليست التي لم يشهد لها حكم بعينها‪ ،‬وإنما هي التي لم يشهد لها‬
‫نص بعينها‪ ،‬وشهد لها الدليل العاما أو الكلي باندراجها تحت أفراده‬
‫أو أجزائه من غير نص عليها‪ .‬وهي بهذا المعنى يندرج تحتها مثلا‬
‫جمع القرآن الذي فعله أبو بكر الصديق رضي ال عنه ونسخه الذي‬
‫فعله عثمان بن عفان رضي ال عنه‪ ،‬وتدوين الدواوين الذي فعله‬
‫عمر بن الخطاب رضي ال عنه)‪ . (1‬فهذه المور وأمثالها تندرج‬
‫تحت أدلة كلية أو عامة مثل‪ :‬ما ل يتم الواجبِّ إل به فهو واجبِّ‪،‬‬
‫ومثل‪ :‬ل ضرر ول ضرار‪ ،‬ومثل‪ :‬الصل في الشياء الباحة ما لم‬
‫يرد دليل التحريم وغيرها‪ .‬فهذه العمال كلها مرسلة من الدليل‬
‫الخاص أو الجزئي الذي ينص على الواقعة بعينها‪ ،‬ولكنها مشمولة‬
‫بالدليل العاما أو الكلي‪ .‬وهذا المعنى هو مراد الشاطبي كما بييينه‬
‫في العتصاما وفي الموافقات)‪. (2‬‬
‫شـروأط الوصـف المناسـب‪:‬‬
‫لقد وضع القائلون بمسلك المناسبة شرطين للتعليل‬
‫بالوصف المناسبِّ‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬أن يكون الوصف معتبراا‪ .‬أي أن الحكم الذي يجري‬
‫تعليله يجبِّ أن يكون ذلك الوصف موجوداا فيه‪ .‬أي جرى الحكم‬
‫على وفقه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يكون سالماا عن المعارضة والبطلن‪ .‬أي أن ل‬

‫) ( أنظر‪ :‬النصاري‪ ،‬فواتح الرحموت‪. 2/301 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫وسنفرد لحقاا‪ -‬إن شــاء الـ ‪ -‬بحثـا ا لمـراد ال شــاطبي بالم صــالح‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المرسلة‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫يكون الوصف ملغىا‪ .‬والبطلن هو النص على إلغاء الوصف كما‬
‫في فتوى صياما شهرين متتابعين للسلطان الذي واقع في شهر‬
‫رمضان‪ .‬أما المعارضة فهي أن يكون هناك حكم أو أحكاما أخرى جرت‬
‫وفق نقيض الوصف أو خلفه‪ .‬وذلك مثل رخصة الفطار والجمع‬
‫بين المكتوبتين في السفر للملك المترفيقه‪ .‬فقد عارضت هذه‬
‫الحكاما وصف المشقة‪.‬‬
‫ولذلك اشترط المعللون بالمناسبِّ عرض الوصف على‬
‫الصول‪ ،‬أي على الحكاما ليتبييين عدما معارضته‪ .‬قال البزدوي‪:‬‬
‫»العدالة عندنا هي الثر‪ ...‬وقال بعض أصحاب الشافعي‪ :‬عدالته‬
‫بكونه مخيلا ثم العرض على الصول احتياطاا سلمته عن‬
‫المناقضة والمعارضة‪ .‬وقال بعض أصحابه بل عدالته بالعرض على‬
‫الصول فإذا لم يرده أصل مناقضاا ول معارضاا صار معدلا‪ .‬وإنما‬
‫يعرض على أصلين فصاعداا‪ .‬فعلى الول يصح العمل به قبل العرض‬
‫وعلى الثاني ل يصح لنه به يصير حجة‪ .‬وعلى القول الول صار‬
‫حجةا بكونه مخيلا«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬وأما العرض على الصول فل‬
‫يحصل به التعديل«هل)‪ (2‬أي عنده‪.‬‬
‫وقال الشارح في كشف السرار ‪» :‬إن مناقضة الوصف‪ :‬إبطال‬
‫نفسه بأثر أو نص أو إجماع يرد على خلفه أو إيراد صورةا تخليقف‬
‫الحكم فيها عن الوصف‪ .‬ومعارضة الوصف‪ :‬إيراد وصف آخر‬
‫يوجبِّ خلفَّ ما أوجبه ذلك له من غير تعرض لنفس الوصف‪ .‬ثم‬
‫معنى عرض الوصف على الصول أن يقابل بقوانين الشرع فإن‬
‫طابقها وسلم عن المبطلت والعوارض فقد شهدت الصول لصحته‬
‫وصار حجة«هل)‪. (3‬‬

‫) ( البزدوي‪ ،‬أصول البزدوي‪. 4/513 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬ص‪. 519 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 3/514 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪121‬‬
‫الفصـل الثاني‬
‫نشـأة فكـرة مإقاصـد‬
‫الشـريعة‬

‫وأيحتـــوي علـــى عـــرض مإـــوجأز‬


‫لنشأة الفكرة‪ ،‬وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬المحاجأجات التي‬


‫أدت إلى فكرة المقاصد‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬انبثاق فكرة مإقاصد‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬المدخإل إلى فكرة‬
‫المقاصد عند المإام‬
‫الشاطبي‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫الفصـل الثاني‬
‫نشـأة فكـرة مإقاصـد الشـريعة‬
‫عـرض مإوجأـز لنشـأة الفكـرة‪:‬‬
‫وسأقدما فيما يلي عرضاا موجزاا لنشأةا الفكرةا‪ ،‬يعقبه البيان‬
‫بالتفصيل والتوثيق من أقوال الئمة ومحاججاتهم‪ ،‬مبتدئاا من حيث‬
‫انتهيت ف ـ ي الفصل السابق‪ ،‬أي من الخلفَّ ف ـ ي المناسبة‪ ،‬هل هي‬
‫مسلك للتعليل أو ل‪.‬‬
‫وقد تبين ‪ -‬فيما سـبق ‪ -‬معنى المناسـبة وأن من الئمة من‬
‫اتخذها مسلكاا من مسالك العلة ‪ -‬قائماا بذاته ‪ -‬وجعل لها شروطاا‪،‬‬
‫وبذلك كانت المناسبة أقساماا‪ ،‬ومنهم من رديي كونها مسلكا‬
‫ا‪،‬وجعلها شرطاا لصلحية التعليل بالوصف بأي مسـلك أتى‪.‬‬
‫ومنهم من جعلها شرطاا في بعض المسالك دون غيرها‪.‬‬
‫فعلماء الشافعية يقولون إن الوصف المناسبِّ في الحكم هو مما‬
‫يتعلق الظن بكونه علة‪ ،‬والظن معمول به في الشرعيات‪ ،‬وعليه‬
‫فيجبِّ العمل بمسلك المناسبة‪ ،‬وأئمة الحنافَّ يردون هذا بأن ليس‬
‫كل ظن شرعياا‪ ،‬ويشترطون لقبول التعليل ان يكون الوصف‬
‫مؤثراا‪.‬‬
‫فلو أخذنا أحكاماا مثل تحريم الربا أو وجوب الزكاةا في‬
‫أموال دون غيرها‪ ،‬أو تحريم لبس الذهبِّ والحرير على الرجال دون‬
‫النساء‪ ،‬أو تحريم استعمال آنية الذهبِّ والفضة في الطعاما‪ .‬فإن‬
‫العقل يبحث عن الوصافَّ المناسبة في هذه الحكاما أو عن الحقكيم‬
‫فيها‪ .‬فالقائلون بمسلك المناسبة يذهبون إلى التعليل بهذه الحكم‪.‬‬
‫والرادون له يعدييون هذا التعليل تحكييماا بغير دليل‪ ،‬ومن قبيل‬
‫الرأي‪ .‬ويشترطون لقبول هذا التعليل أن يكون الوصف مؤثراا‪ ،‬أي‬
‫أن يثبت أثره بدليل‪.‬‬
‫وقد ذهبِّ الخذون بهذا المسلك إلى التعمق في أبحاثهم‪،‬‬

‫‪123‬‬
‫والتطويل فيها دفاعاا عنه وعن غيره أيضا‪ ،‬كمسلك الشبه‪.‬‬
‫واحتدما الجدل‪ ،‬وكان أكثر احتداماا في موضوع المناسبِّ المرسل‬
‫أو الستدلل‪.‬‬
‫بنتيجة هذا الجدال خرج الجويني بفكرةا مقاصد الشريعة التي‬
‫تشكل ضوابط الوصف المناسبِّ‪ ،‬فالقول بمقصد أو مقاصد للشريعة‬
‫والحاق الوصف أو المعنى المناسبِّ بهذا المقصد يقويقي التعليل‬
‫بالوصف‪ ،‬إذ يحصل بذلك جريان الوصف المناسبِّ بحسبِّ مقاصد‬
‫الشريعة‪ ،‬أو كما عبيير عنها ‪ -‬فيما بعد ‪ -‬تلميذه الغزالي ان تكون‬
‫المصلحة على منهاج المصالح المعتبرةا وهي الكليات الخمس‪.‬‬
‫إل أن هذه الفكرةا لم تؤثر ‪ -‬سلباا ول إيجاباا ‪ -‬على أصول من‬
‫يرديي هذا المسلك ويهيمي السادةا الحنافَّ‪ ،‬ولذلك نجدهم‬
‫يذكرونها بقولهم‪ :‬وقالوا‪.‬‬
‫وقد استدعت فكرةا مقاصد الشريعة والتعليل بالمناسبِّ بحثاا‬
‫آخر‪ .‬وهو أن الصل في الحكاما الشرعية التعليل‪ .‬ولذلك فما ل‬
‫تثبت علته بالمسالك المتفق عليها عند أكثر القائسين كالنص‬
‫والجماع واليماء والتنبيه‪ ،‬فل بد من إثبات علةم له إن أمكن‪ ،‬فإذا‬
‫احتمل الحكم التعليل وجبِّ تعليله‪.‬‬
‫وقد أسهبِّ في بيان هذا الصل‪ ،‬والخلفَّ فيه‪ ،‬وفي بيان أدلة‬
‫كل فريق‪ ،‬المدي في الحكاما‪ ،‬والرازي في المحصول‪ ،‬حيث أثبت‬
‫المدي أصل التعليل‪ ،‬وقطع الرازي ببطلنه مع أنه يقول بالقياس‬
‫وبالعلة ويقول بمسلك المناسبة‪ .‬وتحقيق المر ‪ -‬كما سيتبين ‪-‬‬
‫هو أن المقطوع ببطلنه عند الرازي هو التعليل فيما يتعلق بذات‬
‫ال وقد أشرت إلى معنى العلة عنده في الفصل السابق)‪. (1‬‬
‫ثم جاء الشاطبي بموافقاته‪ ،‬فأشار في كتاب المقاصد ‪ -‬من‬
‫كتابه الموافقات ‪ -‬إلى موقف الرازي ورده‪ ،‬وأثبت التعليل لفعال‬
‫ال وأحكامه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وأنيي ذلك على سبيل القطع‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫) ( أنظر ص‪. 51 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪124‬‬
‫»أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءا ل‬
‫ينازع فيه الرازي ول غيره‪ ...‬وإذا دل الستقراء على هذا وكان في‬
‫مثل هذه القضية مفيداا للعلم فنحن نقطع بأن المر مستمر في‬
‫جميع تفاصيل الشريعة«هل)‪. ( 1‬‬
‫وهذا المقدار من الخلفَّ‪ ،‬كالذي بين الرازي والشاطبي‪ ،‬حيث‬
‫يقطع الول ببطلن أصل التعليل‪ ،‬ويقطع الثاني بصحته وبوجوده‬
‫في جميع تفاصيل الشريعة ويقطع بخطأ الرازي بقوله‪» :‬استقراءا‬
‫ل ينازع فيه الرازي ول غيره«هل يؤكد على أهمية أصل التعليل‬
‫وأهميته لمسلك المناسبة وللستدلل المرسل‪ .‬لذلك يلزما‬
‫التعرض لهذا الصل بما يكفي من التفصيل‪.‬‬
‫وتنبغي الشارةا إلى أن ثمة فرقاا كبيراا بين منهجي المدي‬
‫والشاطبي في التعليل‪ .‬وبين مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد‬
‫ومفهوما من سبقه ممن قال بالتعليل بالمصالح والمفاسد‪ .‬وفيما‬
‫يلي بيان وتوثيق ما قديمناه‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3 - 2/2 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪125‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫المحاجأجات التي أدت إلى فكـرة‬
‫المقاصـد‬
‫تطور الجدل مإن مإسـلك المناسـبة إلى‬
‫السـتدلل‪:‬‬
‫عرضنا فيما سبق للمناسبة كمسلك من مسالك العلة‪.‬‬
‫ولقساما الوصف المناسبِّ وشروطه وللخلفَّ في ذلك‪ .‬والوصف‬
‫المناسبِّ عند القائلين به يجبِّ أن يكون معتبراا شرعاا واعتباره هو‬
‫بمجيء حكم على وفقه‪ .‬وبذلك يكون الحكم الذي شهد للوصف‬
‫بمثابة أصل والوصف هو العلة ويكون التعليل بالمناسبِّ من قبيل‬
‫القياس ‪.‬‬
‫ولما كان هذا الوصف المناسبِّ وصفاا متخيلا ول دليل من‬
‫الشرع على كونه علة‪ ،‬رديي الذين ل يأخذون بمسلك المناسبة‬
‫التعليلي بالمناسبِّ جملة‪ ،‬ورد المعللون بالمناسبِّ أو أكثرهم‬
‫التعليل بالمرسل وبالغريبِّ‪ ،‬وقالوا بالملئم‪ :‬وهو الذي شهدت له‬
‫أحكاما كثيرةا‪ ،‬وعلى القل حكمان‪ .‬ومن وجود شواهد للوصف‬
‫وكثرتها قالوا إن قوةا الوصف المناسبِّ آتية من جهة أن أحكاما‬
‫الشريعة جرت على وفقه‪ ،‬أو شهدت له‪ ،‬أو أن هذا الوصف أو المعنى‬
‫يجري على منهاج المصالح الشرعية‪ .‬وبهذا نشأت مسألة جديدةا‪،‬‬
‫وهي أن اعتبار هذا الوصف في التعليل ل يرجع إلى أصل معين‪،‬‬
‫وبالتالي فهو ليس من القياس لن وجود الصل ركن في القياس‪،‬‬
‫والصل مفقود ههنا‪ ،‬ومن هنا تأتي تعابير المصلحة المرسلة‬
‫والستدلل المرسل‪ ،‬وهو المعنى الذي لم يشهد له أصل معين ولكن‬
‫معناه جارم في أصول الشريعة)‪. (1‬‬

‫) ( من ذلك مثلا قول الشاطبي‪ » :‬كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين‬ ‫‪1‬‬

‫وكان ملئماا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه من أدلته فهو صحيح يبنـى‬

‫‪126‬‬
‫ومما يشير إلى هذا المر ما ذكره الجويني في أنواع القياس‬
‫حيث قال‪» :‬النظر الشرعي‪ ،‬ومجامعه )‪: (1‬‬
‫‪ 1‬ـ إلحاق الشيء المسكوت عنه بالمنصوص عليه والمختلف‬
‫بالمتفق لكونه في معناه )‪. ( 2‬‬
‫‪ 2‬ـ أو تعليق حكم بمعنى مخيل به‪ ،‬مناسبِّ له في وضع الشرع مع‬
‫رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وربط حكم كما ذكرناه)‪ ، (3‬من غير أن يجد الناظر أصلا‬
‫متفق الحكم يشهد عليه وهذا هو المسمى‪ :‬الستدلل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وتشبيه الشيء لشباه خاصة تشتمل عليها من غير التزاما‬
‫كونها مخيلة مناسبة‪ ،‬وهو المسمى قياس الشبه )‪ ، (4‬فهذه‬
‫وجوه النظر في الشرع«هل )‪. (5‬‬

‫عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد صار بمج مــوع أدل تــه مقطو عــاا‬
‫به« ثم قوله‪ » :‬ويدخل تحت هذا ضرب ال ســتدلل المر ســل الــذي اعت مــ ده‬
‫مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين ف قــد شـهد لـه أصـل‬
‫كلي« الموافقات ‪ . 1/16‬أما قوله بأن الشاهد هو أصل كلــي مقطــوع بــه‬
‫فهو إشارةا بأنه ل يكتفي بمجــرد كــثرةا الشــواهد وإنمــا يشــترط الكــثرةا‬
‫المفيدةا للقطع ‪.‬‬
‫) ( الرقاما‪ ، 4 ، 3 ، 2 ، 1 :‬من الباحث‪ ،‬ويشير ذلك إلى أن القياس بهذا‬ ‫‪1‬‬

‫التقسيم أربعة أقساما ‪.‬‬


‫) ( هذا القسـم ل يسـلم بتسـمـيته قياساا‪ ،‬إذ ل يحصل فيه قياس لفرع على‬ ‫‪2‬‬

‫أصل‪ ،‬وإنما يأخذ ال م سكوت عنه حكم المنطوق بدللة اللفظ وليس قياساا‪.‬‬
‫وذلك من قبيل المفهوما‪ :‬وهو ما فهـم من اللفظ في غير محل النطق ‪.‬‬
‫أنظر‪ :‬المدي‪ ،‬الحكاما ‪ . 3/63‬وذلك كقوله تعالى‪]     [ :‬‬
‫]السراء ‪ [ 23‬فيحرما الضرب لنه أولى بالتحريم من التأفيف لهما‪ ،‬فهذا من‬
‫المفهوما لنه فهم من الخطاب وهو ليس من منطوق الخطاب‪ .‬وهذا ليس‬
‫قياساا للضرب على التأفيف وإنما هو أولى بالحكم من التأفيف‪ ،‬وهو من‬
‫دللت اللغة‪ .‬أنظر‪ :‬المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/64‬‬
‫) ( كما ذكرناه‪ :‬أي كما ذكرناه في البند السابق‪ ،‬أي‪ :‬بمعنى مخيل به‬ ‫‪3‬‬

‫مناسبِّ له في وضع الشرع ولكنه يفتقد الصل ‪.‬‬


‫) ( ذكرنا هذا القسم في بحث مسالك العلة ‪ .‬ص‪. 66 - 65 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ . 2/514 .‬فقرةا ‪. 730 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪127‬‬
‫والشاهد هنا القسمان الثاني والثالث‪ ،‬حيث يشير الثاني إلى‬
‫مسلك المناسبة‪ ،‬فقال فيه‪» :‬مع رديقه إلى أصل ثبت الحكم فيه‬
‫على وفق نظر«هل‪ ،‬أما الثالث فقال فيه‪» :‬من غير أن يجد الناظر‬
‫أصلا متفق الحكم يشهد عليه«هل وأطلق عليه اسم الستدلل‪.‬‬
‫والستدلل وإن كان ليس قياساا إذ ل تتوفر له كل أركانه إل أن‬
‫ثمة قرباا بينهما من حيث أن الستدلل هو ربط حكم بمعنى حسبِّ‬
‫قول الجويني أعله‪ ،‬لذلك ألحقه بأقساما القياس‪ ،‬وذلك مثلما عد‬
‫القسم الول من أقساما القياس لكونه إلحاق المسكوت عنه‬
‫بالمنصوص عليه‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫مإعنى السـتدلل‪:‬‬
‫وكما تبين فليس المراد بالستدلل هنا مدلوله اللغوي‪ ،‬وإنما‬
‫هو مصطلح يقابل الستنباط نشأ موضوعه وأثر في علم أصول‬
‫الفقه وأدرج في أبحاثه بتأثير المنطق وعلم الكلما‪ ،‬والمستدقل ‪-‬‬
‫بهذا المعنى ‪ -‬ل يستنبط الحكم اعتماداا على دللة النصوص‪ ،‬وإنما‬
‫يتخيل معانيي معينة يراها مناسبة ويقترحها معتمداا على إمكانية‬
‫قبول الشرع لها بنظره وعلى عدما وجود دليل ينفيها‪ ،‬ولذلك نجد‬
‫الجويني فرق بين القسمين الثاني والثالث المذكورين آنفاا فقال‬
‫في الول منهما‪» :‬مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر«هل‬
‫وقال في الثاني‪» :‬من غير أن يجد الناظر أصلا متفق الحكم يشهد‬
‫عليه وهذا هو المسمى‪ :‬الستدلل«هل‪.‬‬
‫وقال الشوكاني في التعريف بالستدلل‪» :‬وهو في‬
‫اصطلحهم ما ليس بنص ول إجماع ول قياس«هل )‪ ، (2‬ثم قال‪:‬‬
‫»واختلفوا في أنواعه فقيل هي ثلثة‪ :‬التلزما بين الحكمين من‬

‫) ( جاء في لسان العرب لبن منظور‪ » :‬والدليل‪ :‬ما يستدل به‪ .‬والدليل‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫الدال ‪ -‬وقد دلييه على الطريق يدله ديللةا ودقللةا وديلولةا‪ ،‬والفتح‬
‫أعلى« ‪. 11/248‬‬
‫) ( الشوكاني‪ ،‬إرشاد الفحول‪ ،‬ص‪. 236 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪128‬‬
‫غير تعيين علة وإل كان قياساا‪ .‬الثاني‪ :‬استصحاب الحال‪ .‬الثالث‪:‬‬
‫شرع من قبلنا‪ .‬قالت الحنفية‪ .‬ومن أنواعه نوع رابع هو‬
‫الستحسان‪ .‬وقالت المالكية‪ :‬ومن أنواعه نوع خامس وهو المصالح‬
‫المرسلة«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬المصالح المرسلة‪ ...‬ذكرها جماعة من أهل‬
‫الصول في مباحث الستدلل‪ ،‬ولهذا سماها بعضهم بالستدلل‬
‫المرسل وأطلق إماما الحرمين وابن السمعاني عليها اسم‬
‫الستدلل«هل)‪ . (2‬وقال المدي‪» :‬أما معناه في اللغة فهو استفعال من‬
‫طلبِّ الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب‪ ،‬وأما في اصطلح‬
‫الفقهاء فإنه يطلق تارةا بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل نصاا‬
‫أو إجماعاا أو قياساا أو غيره‪ ،‬ويطلق تارةا على نوع خاص من أنواع‬
‫الدلة‪ ...‬وهو عبارةا عن دليل ل يكون نصاا ول إجماعاا ول‬
‫قياساا‪ ...‬وهو على أنواع«هل)‪ . (3‬ثم ذكر فيه أنواعاا كلها من قبيل‬
‫المنطق وكيفية ترتيبِّ المقدمات والخروج بالنتائج)‪. (4‬‬
‫وعلى ذلك فالستدلل نوع من الدلة وهو ليس نصاا ول‬
‫إجماعاا ول قياساا‪ .‬والمقصود به هنا هو المصالح المرسلة وهو‬
‫يشبه القياس ومسلك المناسبة من جهة أنه ربط حكم بمعنى‬
‫مناسبِّ‪ ،‬وهو ليس قياساا ويفارق المناسبة من جهة عدما وجود أصل‬
‫يشهد للمعنى‪ ،‬ولكن المعنى موجود في فروع شرعية كثيرةا‪.‬‬
‫ولقد تبين فيما سبق أن المناسبِّ المرسل في مسلك المناسبة‬
‫ليس مرسلا بإطلق وإنما هو يرجع إلى المعتبر‪ ،‬فلماذا التفريق‬
‫بينهما وعدما عد الستدلل من قبيل القياس؟ بتعبير آخر‪ ،‬كيف‬
‫يقال عن المعنى المناسبِّ المعتبر في الستدلل والذي يربط الحكم‬
‫به‪ ،‬إنه ل يشهد له أصل‪ ،‬بينما يقال إنه أي المعنى جارم في أحكاما‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 241 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما‪. 4/361 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 366 - 4/361 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪129‬‬
‫كثيرةا‪ ،‬أل يمكن أن يعد واحدي من هذه الحكاما أصلا‪ ،‬ويعد الوصف‬
‫أو المعنى المناسبِّ فيه علة‪ ،‬ويكون ال أ مر من قبيل القياس؟‬
‫والجواب‪ :‬نعم إن الستدلل يقوما على التعليل بوصف مناسبِّ‪،‬‬
‫ولكنه يختلف عن مسلك المناسبة في أن هذا المعنى ليس مأخوذاا‬
‫من حكم محدد بعينه‪ .‬فلو ارجعناه إلى حكم معين لكان قياساا‪.‬‬
‫ولكن عند ادعائه وصفاا مناسباا في حكم معين ل يثبت‪ ،‬فقد يكون‬
‫هناك في الحكم أوصافَّ أكثر مناسبة منه‪ ،‬فل يصح تعليل الحكم‬
‫بهذا المعنى وترك ما هو أكثر منه مناسبةا‪ ،‬وهكذا في سائر‬
‫الحكاما‪ .‬ولهذا قيل‪ :‬لم يشهد له أصل بعينه‪ .‬بينما المعنى المعتبر‬
‫في الستدلل‪ ،‬وإن كان وجوده أو قوةا مناسبته أضعف من غيره في‬
‫كل حكم على حد ةا ‪ ،‬فإن كثر ةا وجوده في الحكاما تؤدي الى قوةا في‬
‫اعتباره‪ ،‬وقد تجعله أصلا أو قاعدةا في التشريع‪ ،‬وليس مجرد علة‬
‫في الحكم‪ .‬فعند النظر في أحكاما عديدةا‪ ،‬يلحظ أنه غير موجود‬
‫بعينه في واحدم معينم منها‪ ،‬ولكن يشعر الناظر بكونه أصلا أو‬
‫متحققاا في هذه المعاني بتضافرها‪ .‬لهذا لم يرجع الستدلل إلى‬
‫القياس أو إلى مسلك المناسبة‪ ،‬وإن كان يقوما على التعليل لنه‬
‫فقد أحد أركان القياس وهو الصل‪.‬‬
‫وقد يرجع المعنى المناسبِّ في الستدلل إلى حكم معين في‬
‫أصل‪ ،‬فيكون قياساا‪ ،‬ولكن وجود أحكاما أخرى تخدما ذلك المعنى‪،‬‬
‫يجعله أصلا في التشريع‪ ،‬وهذا ‪ -‬بنظر الخذين به ‪ -‬أقوى من‬
‫القياس‪ .‬ولهذا قال الشاطبي‪» :‬إن كل أصل شرعي لم يشهد له نص‬
‫معين وكان ملئماا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه من أدلته فهو‬
‫صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد صار‬
‫بمجموع أدلته مقطوعاا به‪ .‬لن الدلة ل يلزما أن تدل على القطع‬
‫بالحكم بانفرادها دون انضماما غيرها إليها كما تقدما‪ .‬لن ذلك‬
‫كالمتعذر‪ .‬ويدخل تحت هذا الستدلل المرسل الذي اعتمده مالك‬
‫والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل‬
‫كلي والصل الكلي إذا كان قطعياا قد يساوي الصل المعين وقد‬

‫‪130‬‬
‫يرب ى عليه بحسبِّ قوةا الصل المعين وضعفه«هل )‪ . (1‬وقال الجويني‪:‬‬
‫» أ تخذ تلك العلل معتصمي و أ جعل الستدللت قريبةا منها‪ ،‬وإن لم‬
‫تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول‪ .‬والستدلل معتبر بها‪.‬‬
‫واعتبار المعنى بالمعنى تقريباا أولى من اعتبار صورةام بصورةام‬
‫بمعنى جامع«هل)‪. (2‬‬
‫ولذلك قال الخذون به ردا ا على الذين ردوه وقالوا إنه يؤدي‬
‫إلى الحتكاما إلى العقل وإلى حكمة الحكماء‪ ،‬قالوا‪ :‬إنه وإن لم‬
‫يشهد له أصل‪ ،‬فإنه يؤدي إلى الحتكاما إلى العقل وإلى حكمة‬
‫الحكماء إذا استرسلنا فيه استرسالا غير منضبط‪ .‬فإذا كان‬
‫منضبطاا بضوابط شرعية فهو شرعي‪ .‬فهذه المعاني المصلحية وإن‬
‫لم تشهد لها المعاني المعتبرةا فهي قريبة منها أو شبيهة بها‪ .‬وإن‬
‫لم تشهد لها أصول معينة فإنها تستند إلى أحكاما ثابتة الصول‪ ،‬وإن‬
‫لم تكن تلك المعاني ثابتة فأصولها ثابتة‪.‬‬
‫قال الجويني‪» :‬ذهبِّ الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة‬
‫رضي ال عنهما إلى اعتماد الستدلل وإن لم يستند إلى حكم متفق‬
‫عليه في اصل ولكنه ل يستجيز النأي والبعد والفراط وإنما يسويغِّ‬
‫تعليق الحكاما بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرةا وفاقاا‬
‫وبالمصالح المستندةا إلى أحكاما ثابتة الصول قارةا في‬
‫الشريعة «هل)‪. (3‬‬
‫وقال الغزالي‪» :‬كل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي‬
‫عيلم كونه مقصوداا بالكتاب والسنة والجماع فليس خارجاا عن‬
‫هذه الصول لكنه ل يسمى قياساا بل مصلحة مرسلة‪ .‬إذ القياس‬
‫أصل معين وكون هذه المعاني مقصودةا عرفت ل بدليل واحد بل‬
‫بأدلة كثيرةا ل حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الحوال‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ، 1/16 ،‬واشتراط الشاطبي القطع لجل اعتبار‬ ‫‪1‬‬

‫المعنى‪ ،‬ولكي يعد أصلا‪ ،‬خاص به وبمنهجه ‪.‬‬


‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 2/726 .‬فقرةا‪. 1142 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ . 2/721 ،‬فقرةا‪. 1130 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪131‬‬
‫وتفاريق المارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة‪ ،‬وإذا فسرنا‬
‫المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فل وجه للخلفَّ فيها‪ ،‬بل‬
‫يجبِّ القطع بكونها حجة «هل)‪. (1‬‬
‫وكمثـال على ذلـك فإن معنـى حـفـظ المـال وإن لم‬
‫يـشــهـد لعينه حكم معين ‪ -‬عند بعض الناظرين ‪ -‬فهناك أحكاما‬
‫كثيرةا ترجع معانيها إلى عموما هذا المعنى‪ .‬فالنهي عن السرقة‪،‬‬
‫والقطع فيها‪ ،‬والنهي عن النهبِّ والختلس والغش‪ ،‬وعن الخيانة في‬
‫عمل الشركاء‪ ،‬وعن السرافَّ والتبذير والحجر على السفيه‪،‬‬
‫والنهي عن الغلول وعن أكل المال بالباطل‪ ،‬والحث على أداء‬
‫المانات وعلى تعريف اللقطة وغير ذلك‪ ،‬كله يمكن أن يدل على‬
‫هذا المعنى العاما وعلى كونه معتبراا في هذه الحكاما‪ .‬وهذا أقوى‬
‫من الستناد على حكم تحريم السرقة ‪ -‬مثلا ‪ -‬للقول بحفظ المال‬
‫علة من قبيل الخالة والمناسبة في مسلك المناسبة‪ .‬ولذلك‬
‫جعلوا حفظ المال أصلا يلحظ ويسـتند إليه في التشريع‪ .‬وفيما‬
‫يلي بيان حجج كل من الفريقين على القول بالمناسبِّ وبالستدلل‪،‬‬
‫وعلى ردهما‪.‬‬
‫أدلة القائالين بالمناسـبة وأبالسـتدلل‪:‬‬
‫إن احتداما الجدال بين الخذين والرادين لمسلك المناسبة‬
‫وللستدلل قد أدى إلى بروز فكرةا مقاصد الشريعة وإلى بلورتها‪.‬‬
‫وألخص فيما يلي أدلة القائلين بهما ثم أوثقها من نصوص الئمة‬
‫وأبين بعد ذلك ردود الرادين ليتبين كيف خرجت فكرةا المقاصد‪.‬‬
‫وفيما يلي أدلتهم بإجمال‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قالوا بعدما كفاية النصوص ومعانيها للمسائل والوقائع‪.‬‬
‫وأنه ل تخلو واقعة عن حكمم ل تعالى معزويم إلى شريعة محمد ‪. ‬‬
‫ولذلك يجبِّ تعليل الحكاما‪ ،‬ولذلك فالصل في الحكاما التعليل‪،‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 1/311 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪132‬‬
‫وهذا يلزما بالتعليل بالمناسبِّ‪ ،‬ويلزما بالسترسال المنضبط في‬
‫تتبع المعاني‪ .‬فما ل تثبت علته بمسالك النص والجماع والتنبيه‬
‫واليماء‪ ،‬فإذا لح فيه المعنى المناسبِّ وجبِّ التعليل به ما لم ييلغي‬
‫أو ييعيارض‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قالوا بأن الصحابة رضي ال عنهم كانوا يسترسلون في‬
‫فهم المعاني المصلحية‪ ،‬وتبعهم في ذلك مين بعدهم‪ ،‬من غير وضع‬
‫ضوابط لما ييتييبيع ولما ل ييتييبيع من المعاني‪ .‬فدل هذا على حجية‬
‫هذا السترسال‪ ،‬شريطة أن تكون هذه المعاني والمصالح متلقاةاا من‬
‫موارد الشريعة‪ .‬فالدللة قائمة في فعل الصحابة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وقالوا بأن الوصافَّ والمعاني المناسبة‪ ،‬وما في معناها‪،‬‬
‫أو القريبة منها‪ ،‬هي مما يتعلق الظن بعليتها‪ .‬والحكاما الشرعية‬
‫إنما تؤخذ بالظن‪ ،‬فيكون التعليل بالمناسبِّ شرعياا‪ ،‬وكذلك‬
‫الستدلل‪ .‬وفيما يلي النصوص الدالة على ذلك‪:‬‬
‫قال الجويني‪» :‬وأما الشافعي فقال‪ :‬إنا نعلم قطعاا أنه ل‬
‫تخلو واقعة عن حكم ال تعالى«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬إن الئمة السابقين لم‬
‫ييخنلوا واقعةا على كثرةا المسائل وازدحاما القضية والفتاوى عن‬
‫حكم ال تعالى‪ ...‬وعلى هذا علمنا بأنهم ‪ -‬رضي ال عنهم ‪-‬‬
‫استرسلوا في بناء الحكاما استرسالي واثقم بانبساطها على الوقائع‬
‫متصديم لثباتها فيما يعني ويسنح متشويقفَّم إلى ما سيقع«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬لو انحصرت مآخذ الدلة في المنصوصات والمعاني‬
‫المستثارةا منها‪ ،‬لما اتييسع باب الجتهاد‪ ،‬فإن المنصوصات ومعانيها‬
‫المعزوييةا اليها ل تقع من متييسع الشريعة غرفة ا من بحر‪ ،‬ولو لم‬
‫يتمسييك الماضون بمعانم في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان‬
‫وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم‪ ،‬وهذا إذا صادفَّ تقريراا لم‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 2/723 .‬فقرةا‪. 1133 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 2/723 .‬فقرةا‪. 1133 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪133‬‬
‫ييبق لمنكري الستدلل مضطرباا«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬ثم عضد الشافعي‬
‫هذا بأن قال‪ :‬من سبر أحوال الصحابة رضي ال عنهم وهم القدوةا‬
‫والسوةا في النظر لم ييري لواحدم منهم في مجالس الشتوار تمهيدي‬
‫أصل واستثارةا معنى ثم بناء الواقعة عليها‪ ،‬ولكنهم يخوضون في‬
‫وجوه الرأي من غير التفاتم إلى الصول كانت أما لم تكن‪ ،‬فإذا ثبت‬
‫اتساع الجتهاد‪ ،‬واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات‪ ،‬وانضم‬
‫إليه عدما احتفال علماء الصحابة بتطلبِّ الصول أرشد مجموع ذلك‬
‫إلى القول بالستدلل«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬قد تبين لنا أنهم ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬في الزمان‬
‫المتطاولة والماد المتمادية ما كانوا ينتهون إلى وجوه مضبوطة‪،‬‬
‫بل كانوا يسترسلون في العتبار استرسال من ل يرى لوجوه الرأي‬
‫انتهاءا‪ ،‬ويرون طرق النظر غير محصورةا‪ ،‬ثم كان اللحقون‬
‫يتبعون السابقين ول يعتنون بذكر وجوه في الحصر ل تيتيعيدى‪،‬‬
‫فعلمنا بضرورةا العقل أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد‬
‫الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي ل نصوص فيها‪ ،‬فإذا ظنوها ولم‬
‫ييناقيض رأيهم فيها بأصل من أصول الشريعة أجريونها واستبان‬
‫أنهم كانوا ل يبغون العلم اليقين وإنما كانوا يكتفون بأن يظنوا‬
‫شيئاا عيليماا«هل)‪ . (3‬وقال الغزالي‪» :‬ول سبيل إلى القتصار على‬
‫المؤثر لن المطلوب غيليبيهي الظن ومن استقرأ أقيسة الصحابة ‪-‬‬
‫رضي ال عنهم ‪ -‬واجتهاداتهم عيلقمي أنهم لم يشترطوا في كل‬
‫قياس كون العلة معلومةا بالنص والجماع«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬لم يظهر‬
‫لنا من إجماع الصحابة رضي ال عنهم إل اتباع الرأي الغلبِّ‪ ،‬وإل‬
‫فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ولم يميزوا جنساا عن جنس«هل)‪. (5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ . 724 - 2/723 ،‬فقرةا‪. 1134 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ، 2/527 ،‬فقرةا‪. 760 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 2/299 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الغزالي‪ ،‬المستصفى ‪ ،‬ص‪. 301 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪134‬‬
‫وقال المدي‪» :‬وإذا ثبت أن الحكاما إنما شرعت لمصالح‬
‫العباد‪ ،‬فإذا رأينا حكماا مشروعاا مستلزماا لمر مصلحي فل يخلو‬
‫إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم‪ ،‬أو ما لم يظهر لنا‪ .‬ل‬
‫يمكن أن يكون ما لم يظهر لنا وإل كان شرع الحكم تعبداا وهو‬
‫خلفَّ الصل )‪ ( 1‬لما سبق تقريره‪ .‬فلم يبقي إل أن يكون مشروعاا لما‬
‫ظهر‪ .‬وإذا كان ذلك مظنوناا فيجبِّ العمل به لن الظن واجبِّ‬
‫التباع في الشرع«هل )‪. (2‬‬
‫وقال الرازي‪» :‬نقول‪ :‬المناسبة تفيد ظن العيقلييية‪ ،‬والظنيي‬
‫واجبِّي العمل به«هل)‪. (3‬‬
‫ردوأد مإبطلي مإسـلك المناسـبة وأالسـتدلل‪:‬‬
‫رديي الحنافَّ مسلك المناسبة فضل ا عن الستدلل‪ ،‬وعدوه باطلا‬
‫ل يورثا أثراا من الظن المقبول شرعاا‪ .‬وفيما يلي بعض النصوص‬
‫التي يردون بها الدل ـ ة المذكورةا آنفاا‪:‬‬
‫أما أن النصوص ومعانيها ل تفي بالمسائل والوقائع إذ‬
‫النصوص متناهية والوقائع ل متناهية‪ ،‬والولى ل تقع من الثانية‬
‫غرفة من بحر‪ ،‬فقال الشيخ محبِّ ال ابن عبد الشكور‪» :‬وهو‬
‫المسمى بالمصالح المرسلة حجة عند مالك‪ ،‬والمختار عند‬
‫الجمهور رده‪ .‬لنا‪ :‬ل دليل بدون العتبار وإن كان على سنن‬
‫العقل‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫أوأل ا‪ :‬لو لم تعتبر لخلت الوقائع‪ .‬قلنا‪ :‬نمنع الملزمة لن‬
‫العمومات والقيسة عامة‪ .‬وأيضاا عدما المدرك مدرك للباحة)‪. (4‬‬
‫ثاانيا ا‪ :‬الصحابة كانوا يقنعون برعاية المصالح قلنا‪ :‬بل إنما‬

‫وهو أن الصل في الحكاما والتعليل ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما ‪. 3/250‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/172 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أي الصل في الشياء الباحة ما لم يرد دليل التحريم ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪135‬‬
‫اعتبروا ما اطلعوا على اعتبار نوعه أو جنسه«هل )‪. (1‬‬
‫وقال شارح )التحرير( لبن هماما السكندري الحنفي‪» :‬وهذا‬
‫القسم المسمى بالمصالح المرسلة‪ .‬والمختار رده‪ .‬اذ ل دليل على‬
‫العتبار فوجبِّ رده‪ .‬قالوا‪ :‬فتخلو وقائع كثيرةا‪ .‬قلنا‪ :‬نمنع‬
‫الملزمة‪ ،‬أي ل نسليقم انه يلزما من عدما اعتبار ما ذكر ان تخلو‬
‫الوقائع من الحكم لن العمومات والقيسة شاملة‪ ،‬وبتقدير عدمه‬
‫فنفي كل مدرك خاصيم حكميهي الباحة الصلية‪ ،‬أي إذا انتفى في‬
‫حادثةم وجود مأخذ من الدلة الربعة فيييعمل بموجبِّ اصل كلي‬
‫مقرر في الشرع اتفاقاا وهو الباحة الصلية فإنه الصل في‬
‫الشياء«هل )‪. (2‬‬
‫وأما ما قالوه من ان الصل في الحكاما التعليل‪ ،‬فإذا لم تثبت‬
‫علة بالنص أو الجماع أو اليماء والتنبيه‪ ،‬ولحت المناسبة فيجبِّ‬
‫التعليل‪ .‬فقد رده الحنافَّ أيضاا‪ .‬قال الماما علء الدين البخاري‪:‬‬
‫»ودليل التمييز شرط عندنا كما هو شرط عندهم‪ .‬إل ان عندهم‬
‫دليل التمييز الخالة‪ ،‬وعندنا التأثير‪ ...‬ولكنا نحتاج قبل ذلك أي‬
‫قبل بيان التمييز والشروع في التعليل إلى إقامة الدليل على كون‬
‫الصل الذي يريد تعليله شاهداا‪ ،‬أي معللا في الحال وليس بمقتصر‬
‫على مورده‪ ،‬بل يعدى حكمه إلى غيره كالحكم الثابت بالخارج من‬
‫السبيلين تعدى إلى مثقوب السرةا بالجماع فيجوز تعليله بعد‬
‫بوصف قاما الدليل على كونه علة‪ ،‬لن الصل في النصوص وإن كان‬
‫هو التعليل إل أنه ثابت من طريق الظاهر وقد وجدنا من النصوص‬
‫ما هو غير معلول بالتفاق‪ ،‬واحتمل ان يكون هذا النص المعين من‬
‫تلك الجملة‪ ،‬فل يجوز التمسك بذلك الصل واللزاما على الغير‬
‫مع هذا الحتمال«هل)‪ . (3‬وقال البزدوي‪» :‬فل ييسمع منا الستدلل‬
‫) ( النصاري‪ ،‬فواتح الرحموت‪. 2/266 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫أمير بادشاه‪ ،‬تيسير التحرير علــى التحريــر‪ ،3/315 ،‬دار الكتــبِّ‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫العلمية ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 3/436 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪136‬‬
‫بالصل وهو أن التعليل أصل في النصوص بل ل بد من إقامة الدليل‬
‫على أن هذا النص بعينه معلول«هل)‪. (1‬‬
‫وأما قولهم بأن الصحابة ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬قد عللوا‬
‫بالوصافَّ المناسبة والمعاني المصلحية وأنهم بنوا الحكاما على‬
‫المعاني القريبة من المعاني المصلحية‪ .‬فقد ردوه‪ .‬قال النصاري‪:‬‬
‫»وقالوا ثانياا‪ :‬الصحابة كانوا يقنعون برعاية المصالح ولم ينكر‬
‫عليهم فصار إجماعاا‪ .‬قلنا‪ :‬كونهم قانعين عليها ممنوع‪ .‬بل إنما‬
‫اعتبروا من العلل ما اطلعوا على اعتبار نوعه أو جنسه في نوع‬
‫الحكم أو جنسه‪ .‬هذا وعليك بالستقراء حتى يظهر لك جلية‬
‫الحال«هل )‪. (2‬‬
‫وأما قولهم إن الوصف المناسبِّ أو الستدلل يورثا ظناا‬
‫والظن معمول به في الشرعيات‪ .‬فردوه أيضاا‪ .‬قال البزدوي‪:‬‬
‫»وأما الخيال فأمر باطل لنه ظن ل حقيقة له‪ ،‬ولنه باطن ل يصلح‬
‫دليلا على الخصم ول دليلا شرعياا«هل)‪. (3‬‬
‫وقال في كشف السرار‪» :‬وأما الخيال‪ ..‬فأمر باطل لنه‬
‫عبارةا عن مجرد الظن لن الخيال والظن واحد‪ ،‬والظن ل يغني من‬
‫الحق شيئاا‪ ،‬ول يقال‪ :‬الظن معتبر في الشرع في وجوب العمل به‬
‫كخبر الواحد والقياس‪ ،‬لنا نقول‪ :‬المعتبر هو الذي قاما دليل‬
‫قطعي على اعتباره في وجوب العمل ل مطلق الظن‪ ،‬ولم يقم ههنا‬
‫دليل على اعتباره شرعاا فوجبِّ إهداره«هل)‪. (4‬‬
‫قال النصـاري‪» :‬خلفاا للحنفية فإنهم ل يقبلون الخالة‬
‫أصـلا‪ ،‬لنها وإن كانت مفـيدةاا للظن لكنها ليست ملزومةا لوضع‬
‫الشارع علية ما قامت به‪ ...‬وإذا لم يورثا ظن اعتبار الشـارع لم‬

‫البزدوي‪ ،‬أصول البزدوري‪. 3/438 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫النصاري‪ ،‬فواتح الرحموت‪. 2/266 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البزدوي‪ ،‬أصول البزدوي‪. 3/518 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار ‪. 3/518‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪137‬‬
‫يكن حجة شرعية وإنما هي من هوسـات العقل فل تعتبر‪ .‬ولعل هذا‬
‫هو مراد النسفي أنه مجرد ظن‪ ،‬يعني أنه ليس ظن اعتبار الشارع‬
‫فهو ل يغني من الحق شيئاا‪ .‬فإن قلت‪ :‬الخالة تفيد الظن البتة‬
‫والجماع انعقد على اعتبار الظن قال‪ :‬والجماع على العمل بالظن‬
‫انما هو على تقدير كونه ‪ -‬أي الظن ‪ -‬شرعياا حاصلا من جهة‬
‫الشـرع‪ ،‬وظناا لعتبار الشارع هذا«هل )‪ . (1‬وقال أيضاا نقلا عن الماما‬
‫النسفي‪» :‬كون الوصـف مخيلا أي موقعاا في القلبِّ خيال الصحة‪:‬‬
‫وهو ل يغني من الحـق شـيئاا وغايته أن يجعل مثل اللهاما‪ .‬وهو ل‬
‫يصلح حجة«هل)‪. (2‬‬

‫) ( النصاري‪ ،‬فواتح الرحموت‪. 2/301 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪138‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫انبثاق فكـرة مإقاصـد الشـريعة‬
‫احتدام الجدل‪:‬‬
‫هذ ا الجدال بين الفريقين‪ ،‬هذا يأتي بالدلة وذاك يبطلها‪،‬‬
‫أضعف موقف الخذين بمسلك المناسبة وبالستدلل‪ .‬ويختصر‬
‫ضعف موقفهم بنقطة واحدةا‪ ،‬وهي أن العتبار لوصف معين في حكم‬
‫معين وادعاءه علة هو تحكم بغير دليل‪ .‬وعليه فهو احتكاما إلى الظن‬
‫العقلي‪ ،‬وهو ليس ظناا شرعياا‪ .‬وينبني عليه ضعف موقفهم في‬
‫الستدلل إذ هو مبني على اعتبار أوصافَّ مناسبة في أحكاما عديدةا‪.‬‬
‫فقال الرادون‪» :‬وأقصى ما في الباب أن تكون النصوص موافقة‬
‫للوصف فيحصل به كثرةا النظائر وبكثرةا النظائر ل تحصل قوةا‬
‫في الوصف«هل)‪. (1‬‬
‫فأدى هـذا الجــدال إلى مـزيـــد مــن البــحــث والنـظـر‬
‫والتـعـمـق‪ ،‬وقـاما الجـويني ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬بالدفاع عن مسلك‬
‫المناسبة وعن الستدلل فاتيهم من ردهما بالتقصير في فهم هذه‬
‫الصول‪ .‬ورد القول إنها تحكم بغير دليل وتحكيم للعقل‪ ،‬وقال بأن‬
‫هذا إنما يلزما من لم يسلك مسلك الشافعي في ذلك ‪ .‬فقال في ابي‬
‫حنيفة وأصحابه ‪» :‬وبالجملة ليس معهم من علم الصول قليل ول‬
‫كثير‪ ،‬وإن أقاما واحد منهم لقبِّ مسألةم فسننقضها في تفصيل‬
‫الفروع‪ ،‬فإن صاحبهم ما بنى مسائله على أصول‪ ،‬وإنما أرسلها على‬
‫ما تأتييى له‪ ،‬فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه‬
‫القول في تفصيل الفروع«هل )‪ . (2‬وقال أيضاا‪» :‬وأما أبو حنيفة فل‬
‫ننكر اتقاد فظنته وجودةا قريحته في درك عرفَّ المعاملت ومراتبِّ‬
‫الحكومات‪ ،‬فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 3/513 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ . 2/587 .‬فقرةا‪. 784 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪139‬‬
‫على النهاية‪ ،‬ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه‬
‫منقسمة إلى أصل جهله أو أغفله وذهل عنه‪ ،‬وإلى آخر تمسك به‬
‫وما رعاه وما عقله‪ ،‬وانتهض لتبويبِّ البواب انتهاض من لم يستمد‬
‫من القواعد‪ ،‬ومن عجيبِّ أمره أنه لم يعتن بجمع الخبار والثار‬
‫ليبني عليها مسائله‪ ،‬ولكنه يوصل الفروع بناءا على ما يراه ثم‬
‫يستأنس بما يبلغه وفاقاا«هل)‪. (1‬‬
‫ويناقش الجويني القول بأن الستدلل تحكيم للرأي في الشرع‬
‫فيقول‪» :‬وأما ما ذكره القاضي)‪ (2‬من خروج المر عن الضبط‬
‫والمصير إلى انحلل ورد المر إلى آراء ذوي الحلما فهذا انما يلزما‬

‫) ( ال جويني ‪ -‬البرهان ‪ .‬ص‪ . 2/748 :‬فقرةا‪ . 1180 :‬ول يعد هذا القول‬ ‫‪1‬‬

‫من الجويني ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬إل تجنياا على أبي حنيفـة ‪ -‬رحم ه ال ‪ -‬وعل ى‬
‫أصحابه‪ ،‬وليس غايتي هنا بحث هذا التهاما إل أنني أشير بسرعة إلى تهافته‪.‬‬
‫فهو منقوض بالنص نفسه الذي يؤكد على اتيقاد فطنة الماما العظم وجودةا‬
‫قريحته‪ .‬كما أنا لم نجد ما زعم الجويني من أن أصحاب أبي حنيفــة ليــس‬
‫معهم من علم الصول قليل ول كــثير‪ ،‬بــل وجــدناهم مثــل غيرهــم أئمــة‬
‫وأعلماا وهم الذين سيمييوا الفقهاء في مقابل الكلميين‪ ،‬وأما القــول إن أبــا‬
‫حنيفة غير خبير بالصول ‪ ...‬إلخ‪ .‬فيرده ثبات المذهبِّ وتلقي المة له عبر‬
‫مئات السنين ولول أن المذهبِّ يستند إلى قواعد وأصــول وتفكيــر اجتهــادي‬
‫منهجي لندرس ولما ثبت جيلا واحداا‪ .‬أما كون علم أصول الفقه لم يوجد‬
‫بقواعده وحدوده وشروطه إل مع الماما الشافعي وبعده‪ ،‬فليــس ذلــك ممــا‬
‫يضير أبا حنيفة ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬ولو كــان ذلــك ضــائراا لــه لكــان ضــائراا‬
‫للصحابة والتابعين وسائر الئمة قبله‪ ،‬وليس المر كذلك‪ .‬ول نظن ســبباا‬
‫لهذا التجني من الجويني إل احتداما الجدل وقوةا حجج المعارضين لما يذهبِّ‬
‫إليه الجويني‪ ،‬مما ضيق صدره وسد سبل حججه‪ ،‬وما حدا بــه إلــى الهجــوما‬
‫على خصومه في الرأي‪ ،‬لذلك رأيناه يقول ما يقول في أبي حنيفة وأصحابه‬
‫‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬وسنرى منه شيئاا من ذلك في مالك وأص حابه ‪ -‬رض ي‬
‫ال عنهم ‪ -‬وسنرى منه مديحاا كبيراا في الشافعي رضي ال عنه‪.‬‬
‫وربما كانت الحجج القوية لصحاب مذهبِّ أبي حنيفة ‪ -‬رضي ال عنهــم ‪-‬‬
‫هي التي أدت بالجويني إلى مزيد من البحث والتع مــق حــتى أ خــرج ف كــرةا‬
‫مقاصد الشريعة بالشكل الذي سنبينه‪ ،‬ولذلك كان الظن بأنه أول من قال‬
‫بها بهذا الشكل‪.‬‬
‫) ( القاضي‪ :‬أبو بكر الباقلني‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪140‬‬
‫مالكاا ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬ورهطه إن صح ما روي عنه«هل)‪. ( 1‬‬
‫وقال عن مالك ‪ -‬رحمه ال ‪» : -‬فرئي يثبت مصالح بعيدةا عن‬
‫المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى‬
‫استحداثا القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالبِّ الظن‪ ،‬وإن‬
‫لم يجد لتلك المصالح مستنداا إلى أصول‪ ،‬ثم ل وقوفَّ عنده‪،‬بل‬
‫الرأي رأيه ما استديي نظره فيه وانتقض عن أوضار التهم‬
‫والغراض«هل )‪. (2‬‬
‫ثم قال‪» :‬فنقول لمالك رحمه ال‪ :‬أتجوز التعلق بكل رأي؟‬
‫فإن أبيى لم نجد مرجعاا نقر عنده إل التقريبِّ الذي ارتضاه‬
‫الشافعي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ ، -‬وإن لم يذكر ضبطاا وصرح بأن ما ل‬
‫نص فيه ول أصل له فهذا مردود إلى الرأي المرسل واستصواب ذوي‬
‫العقول فهذا الن اقتحاما عظيم وخروج عن الضبط«هل)‪ . (3‬ثم قال‪:‬‬
‫»وهذا مركبِّ صعبِّ ل يجترئ عليه متدين ومساقه رد المر إلى‬
‫عقول العقلء وأحكاما الحكماء‪ ،‬ونحن على قطع نعلم أن المر‬
‫بخلفَّ ذلك‪ ..‬ولو ساغِّ ما قاله مالك رضي ال عنه ‪ -‬إن صح عنه ‪-‬‬
‫)‪(4‬‬
‫لتخذ العقلء أياما كسرى أنو شروان في العدل واليالة‬
‫معتبرهم وهذا يجر خبالا ل استقلل به‪ ،‬وإن أخذ مالك ‪ -‬رحمة‬
‫ال ‪ -‬واتباعه يقربون وجه الرأي من القواعد الثابتة في الشريعة‬
‫فالذي جاءوا به مذهبِّ الشافعي رحمه ال«هل)‪. (5‬‬
‫وعليه فإن الجويني يحمل على من يرد الستدلل‪ ،‬ويحمل على‬
‫السترسال فيه ويشترط التقريبِّ من القواعد الثابتة في الشريعة‪،‬‬
‫قال‪» :‬وأما الشافعي فإنه أعرفَّ خلق ال بأصول الشريعة وأضبطهم‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 2/725 .‬فقرةا‪. 1138 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬ص‪ ، 721 :‬فقرةا‪. 1128 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الجويني البرهان‪ ، 726 - 2/725 ،‬فقرةا‪. 1141 - 1139 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( اليالة‪ :‬آل الملقك رعيته إيالا‪ :‬ساسهم‪ .‬وآل على القوما أولا وإيالا‬ ‫‪4‬‬

‫وإيالةا‪ :‬ويلقيي‪ .‬وآل المال‪ :‬أصلحه وسا ســه‪ .‬الفيــروز أبــادي‪ ،‬ال قــاموس‬
‫المحيط ص‪. 1244 :‬‬
‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ . 726 - 2/725 ،‬فقرةا‪. 1141 - 1139 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪141‬‬
‫لها‪ ،‬وأشدهم كيساا واتقاداا في مآخذها وتنزيلها منازلها وترتيبها‬
‫على مراتبها‪ ...‬ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته‪ ...‬واخترما‬
‫وقد نيييف على الخمسين‪ ،‬وكان ذلك المد ل يتسع لكثر من‬
‫ضبط الصول فيها‪ ،‬فهان على أصحابه البناء عليها«هل)‪ . ( 1‬وقال‪» :‬فإن‬
‫قيل‪ :‬فما معنى التقريبِّ الذي نسبتموه إلى الشافعي؟ قلنا‪ :‬هذا‬
‫ميحزيي الكلما ونحن نقول‪ :‬قد ثبتت أصول معللة اتفق القايسون‬
‫على عللها فقال الشافعي‪ :‬أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل‬
‫الستدللت قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول‬
‫والستدلل معتبر بها‪ ،‬واعتبار المعنى بالمعنى تقريباا أولى من‬
‫اعتبار صورةا بصورةا بمعنى جامع«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬ذهبِّ الشافعي‬
‫ومعظم أصحاب أبى حنيفة ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬إلى اعتماد الستدلل‬
‫وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل ولكنه ل يستجيز النأي‬
‫والبعد والفراط وإنما يسوغِّ تعليق الحكاما بمصالح يراها شبيهة‬
‫بالمصالح المعتبرةا وفاقاا وبالمصالح المستندةا إلى أحكاما ثابتة‬
‫الصول قارةا في الشريعة«هل )‪. (3‬‬
‫وقال أيضاا‪» :‬ليس كل استصلح وجهاا مرتضى«هل )‪. (4‬‬
‫ومن هذا القبيل قول تلميذه الغزالي‪» :‬أما المصلحة فهي‬
‫عبارةا في الصل عن جلبِّ المنفعة ودفع المضرةا ولسنا نعني به‬
‫ذلك‪ .‬فإن جلبِّ المنفعة ودفع المضرةا مقاصد الخلق وصلح الخلق‬
‫في تحصيل مقاصدهم‪ .‬لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود‬
‫الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي أن يحفظ عليهم‬
‫دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ‪ .‬فكل ما يتضمن حفظ هذه‬
‫الصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت حفظ هذه الصول‬
‫الخمسة فهو مفسدةا ودفعه مصلحة وإذا أطلقنا معنى المخيل‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪ ، 749 :‬فقرةا‪. 1182 :‬‬ ‫المصدر‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪ ، 726 :‬فقرةا‪. 1142 :‬‬ ‫المصدر‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫نفسه ‪ ، 2/721 ،‬فقرةا‪. 1130 :‬‬ ‫المصدر‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نفسه ‪ ،‬ص‪ ، 527 :‬فقرةا‪. 760 :‬‬ ‫المصدر‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪142‬‬
‫والمناسبِّ في كتاب القياس اردنا به هذا الجنس«هل)‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»وكون هذه المعاني مقصودةا عرفت ل بدليل واحد بل بأدلة‬
‫كثيرةا ل حصر لها‪ ...‬واذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود‬
‫الشرع فل وجه للخلفَّ فيها بل يجبِّ القطع بكونها حجة«هل)‪. (2‬‬
‫هذا النتصار لمسلك المناسبة ولفكرةا الستدلل هو الذي ادى‬
‫إلى ظهور فكرةا مقاصد الشريعة على يد الجويني‪ .‬وإلى بلورتها ‪-‬‬
‫فيما بعد ‪ -‬على يد تلميذه الغزالي استناداا إلى نصوص مثل‪:‬‬
‫»اعتبار المعنى بالمعنى تقريباا«هل‪» ،‬مصالح شبيهة بالمصالح‬
‫المعتبرةا وفاقاا«هل‪» ،‬مصالح مستندةا إلى أحكاما ثابتة الصول قارةا‬
‫في الشريعة«هل‪» ،‬معاني مقصودةا عرفت ل بدليل واحد بل بأدلة‬
‫كثيرةا ل حصر لها من الكتاب والسنة«هل)‪. (3‬‬
‫تقسـيم الحكــام بحســـب مإآلتهــا أوأ مإقاصـــدها‬
‫المصـلحية‪:‬‬
‫ويقوما القول بهذه المقاصد على عرض الشريعة‪ ،‬أي أحكامها‪،‬‬
‫بالشكل الذي يبرز رعايتها للمصالح‪ ،‬وبتعبير آخر يقوما على تكييف‬
‫الشريعة بالشكل الذي يخدما القول بصلحية اعتبار المناسبِّ سواء‬
‫كان مخيلا معيناا في حكم أو مرسلا‪.‬‬
‫ومن نافلة القول بعدما تبين أن نذكر أن إماما الحرمين‬
‫الجويني ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬هو أول من حاول إثبات صحة التعليل‬
‫بالوصف المناسبِّ بطريق تكييف الشريعة لجل النظر فيها من‬
‫خلل مقاصدها المصلحية ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬حيث قسييم الحكاما من‬
‫حيث غاياتها أو مقاصدها أو معانيها إلى خمسة أقساما‪ .‬وقد آل‬
‫المر فيها فيما بعد على يد أنصار هذا المنهج إلى أن تكون ثلثة‬
‫أقساما مع مكملتها وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات مع‬
‫مكملت كل منها‪ .‬فقال تحت عنوان‪) :‬في تقاسيم العلل والصول(‪:‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 1/286 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/311 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر النصوص التي وردت أعله للجويني والغزالي‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪143‬‬
‫»وهذا الذي ذكره هؤلء أصول الشريعة)‪ . (1‬ونحن نقسمه خمسة‬
‫أقساما‪:‬‬
‫»أحدها‪ :‬ما ييعنقيلي وهو أصل‪ .‬ويؤول المعنى المعقول منه‬
‫إلي أمر ضروري ل بد منه وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب‬
‫القصاص في أوانه فهو معلل بتحقيق العصمة في الدماء المحقونة‬
‫والزجر عن التهجم عليها‪ .‬فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في‬
‫أصل القصاص تصرفَّ فيه وعدياه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى‬
‫فيه‪ ،‬وهو الذي يسهل تعليل أصله‪ ...‬ثم قد تمهد في الشريعة أن‬
‫الصول إذا ثبتت قواعدها فل نظر إلى طلبِّ تحقيق معناها في آحاد‬
‫النوع«هل)‪. (2‬‬
‫وقال في هذا القسم‪» :‬وهو ما يستند إلى الضرورةا«هل)‪. (3‬‬
‫وهذا القسم هو الذي سمي فيما بعد بالضروريات ويراد بها‬
‫الكليات الضرورية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل‬
‫والمال‪.‬‬
‫»وأالضرب الثاني‪ :‬ما يتعلق بالحاجة العامة ول ينتهي إلى‬
‫حد الضرورةا‪ ،‬وهذا مثل تصحيح الجارةا فإنها مبنية على مسيس‬
‫الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضقنييةق ملكها بها‬
‫على سبيل العارية‪ ،‬فهذه حاجة ظاهرةا غير بالغة مبلغ الضرورةا‬
‫المفروضة في البيع وغيره«هل)‪ . (4‬وقد أرجع الجويني البيع إلى‬
‫الضرب الول‪.‬‬
‫وهذا القسم هو الذي سيمييق بمرتبة الحاجيات‪.‬‬
‫»وأالضرب الثالث‪ :‬ما ل يتعلق بضرورةا حاقة ول حاجةم‬
‫) ( المراد بلفظ أصول الشريعة هنا‪ :‬الحكاما الشرعية اذ الحكم الشرعي‬ ‫‪1‬‬

‫اذا كان معللا فهو أصل يقاس عليه‪ ،‬وهوأحد أركان القياس‪ .‬وكذلك إذا‬
‫كان موضع بحث ونظر لمعرفة المقصد منه أو علته‪.‬‬
‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 2/602 .‬فقرةا‪. 901 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ، 604 :‬فقرةا‪. 906 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ ، 602 / 2 ،‬فقرةا‪. 902 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪144‬‬
‫عامة‪ ،‬ولكنه يلوح فيه غرض في جلبِّ مكرمة أو في نفي نقيض لها‪،‬‬
‫ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارةا الحدثا وإزالة الخبث«)‪. (5‬‬
‫وهذا القسم هو الذي سيمييق بالتحسينيات‪.‬‬
‫»وأالضرب الرابع‪ :‬ما ل يستند إلى حاجة وضرورةا‬
‫وتحصيل المقصود فيه مندوب اليه تصريحاا ابتداءا«)‪ . (1‬وهذا‬
‫القسم يشبه الثالث من حيث عدما استناده إلى ضرورةام أو حاجة‬
‫عامة‪ ،‬ومن حيث كونه مندوباا‪ .‬ويختلف عنه في ان الثالث معضود‬
‫بالدواعي الجبلية كالتنظف‪ ،‬وليس في تحصيله خروج عن‬
‫الضربين الول والثاني وذلك مثل مكاتبة الكاتبِّ عبده‪ ،‬ومقابلته‬
‫ملكه بملكه‪ ،‬وهذا خارج عن اصل أن العبد مملوك للسيد)‪. (2‬‬
‫»وأالضرب الخامإس‪ :‬ما ل يلوح فيه للمستنبط معنى‬
‫أصلا‪ ،‬ول مقتضى من ضرورةا أو حاجة أو استحثاثا على مكرمة‪.‬‬
‫وهذا يندر تصويره جداا‪ .‬فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فل‬
‫يمتنع تخيله كلياا‪ .‬ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة‪.‬‬
‫فإنه ل يتعلق بها أغراض دفعية ول نفعية‪ .‬ولكن ل يبعد أن يقال‪:‬‬
‫تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم النقياد‪ ،‬وتجديد العهد‬
‫بذكر ال تعالى نهيي عن الفحشاء والمنكر‪ .‬وهذا يقع على‬
‫الجملة‪،‬ثم إذا انتهى الكلما في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد‬
‫الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى‬
‫يقتضي التقدير فيما ل ينقاس أصله«)‪ . (3‬وقد أشار الرازي في‬
‫المحصول إلى هذا التقسيم عند الجويني وتابعه فيه)‪. (4‬‬
‫ثم درج العلماء بعد الجويني على تقسيم مقاصد الشريعة إلى‬
‫ثلثة أقساما‪ :‬ضرورية وحاجية وتحسينية‪ .‬ويتعلق بكل قسم تتمات‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ، 602 :‬فقرةا‪. 901 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الجويني‪ ،‬البرهان ‪ ،‬ص‪ ، 603 :‬فقرةا‪. 904 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬فقرةا‪ ، 904 :‬وانظر ص‪ ،616 :‬فقرةا‪. 931 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ، 604 :‬فقرةا‪. 905 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الرازي‪ ،‬المحصول ‪. 162 - 159 / 5‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪145‬‬
‫له أو مكملت‪ .‬ول يعني هذا إلغاء بعض القساما الخمسة التي‬
‫ذكرها الجويني وإنما يعني اندراجها في الثلثة‪.‬‬
‫قال المدي‪» :‬المقصود من شرع الحكم‪ ...‬ل يخلو أن يكون‬
‫من قبيل المقاصد الضرورية أو ل من قبيل المقاصد الضرورية‪،‬‬
‫فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية‪ ،‬فإما ان يكون أصلا أو ل‬
‫يكون أصلا‪ ،‬فإن كان أصل ا فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي‬
‫لم تخلي من رعايتها ملة من الملل ول شريعة من الشرائع‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‪ .‬فإن حفظ هذه‬
‫المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتبِّ المناسبات‪.‬‬
‫والحصر في هذه الخمسة النواع إنما كان نظراا إلى الواقع والعلم‬
‫بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادةا‪ ...‬وأما إن لم يكن‬
‫أصلا فهو التابع المكمل للمقصود الضروري وذلك كالمبالغة في‬
‫حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير‪...‬‬
‫وأما إن لم يكن المقصود من المقاصد الضرورية فإما أن يكون من‬
‫قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه‪ ،‬أو ل تدعو إليه الحاجة‪ ،‬فان كان‬
‫من قبيل ما تدعو إليه الحاجة‪ ،‬فإما أن يكون أصلا أو ل يكون أصل ا‬
‫فان كان أصل ا فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدةا‬
‫وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرةا ل لضرورةا الجأت بل‬
‫لحاجة‪ ...‬وإن لم يكن أصلا فهو التابع الجاري مجرى التتمة‬
‫والتكملة للقسم الثاني‪ ،‬وذلك كرعاية الكفاءةا ومهر المثل في‬
‫تزويج الصغيرةا فانه أفضى إلى دواما النكاح وتكميل مقاصده‪...‬‬
‫وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدةا فهو القسم‬
‫الثالث وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج‬
‫من العادات والمعاملت وذلك كسلبِّ العبيد أهلية الشهادةا من حيث‬
‫أن العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخراا للمالك مشغولا‬
‫بخدمته فل يليق به منصبِّ الشهادةا لشرفها وعظم خطرها جرياا‬

‫‪146‬‬
‫للناس على ما ألقفوه وعدييوه من محاسن العادات«هل )‪. (1‬‬
‫ومثل هذا التقسيم لمقاصد الحكاما ينبنى على أمرين‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬واقع الناس كأفراد وكجماعة‪ .‬فإن النسان محتاج‪،‬‬
‫وحاجاته يمكن تقسيمها إلى هذه القساما‪ .‬فمنها ما ل بد من تأمينه‬
‫أو سديقه واشباعه‪ ،‬وإذا لم ييشبع أدى إلى الموت أو إلى فساد الحياةا‬
‫والعلقات فساداا كبيراا‪ .‬ومنها ما إذا لم يشبع عانى النسان من‬
‫الحرج والمشقات والضنك‪ .‬ومنها ما إذا لم ييشبع لم يؤد إلى هذا‬
‫ول إلى ذاك إل أنه مما تميل إليه النفس أو يتطلبه البدن‪ .‬وبناء‬
‫على هذا الواقع يندفع النسان إلى إشباع هذه الحاجات وسدها‪.‬‬
‫ويزداد هذا الندفاع ويقوى بحسبِّ شدةا الحاجة‪ .‬وبما أن النسان‬
‫كائن اجتماعي‪ ،‬والكل يندفع إلى تحقيق الشباع ويحرص عليه‪،‬‬
‫فهو بحاجة إلى نظاما أو قانون ينظم العلقات بين الناس وكيفيات‬
‫الشباع‪ ،‬ويبين لكل منهم حقوقه وصلحياته وقيوده وواجباته‪.‬‬
‫والنسان بطبعه ينظر إلى ما يسد حاجاته أو يشبع غرائزه‪ ،‬أو‬
‫ما يؤدي إلى ذلك على انه منفعة أو مصلحة‪ ،‬وينظر إلى ما يفسد‬
‫عليه سد حاجاته وإشباع غرائزه أو يمنعه من ذلك‪ ،‬وإلى ما يؤلمه‬
‫أو ما يؤدي إلى ذلك على أنه مفسدةا ومضرييةا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬استقراء أحكاما السلما وأحوال المجتمعات التي طبق‬
‫فيها السلما ييري أن السلما جاء بأوامر ونواه تؤدي إلى إشباع هذه‬
‫الحاجات باختلفَّ مراتبها مما يؤدي إلى أمن الفرد وطمأنينته وإلى‬
‫أمن المجتمع وازدهاره ورقييقه‪.‬‬
‫إل أن هذا العرض للشريعة يفيد في الشارةا إلى ما يؤول اليه‬
‫تطبيق الشريعة على الفرد والمجتمع‪ ،‬ويفيد أن جلبِّ المصالح ودرء‬
‫المفاسد هي نتائج أو من نتائج تطبيق الشريعة‪ ،‬لذلك فإن‬
‫العتراض والرد على الخذين ب مسلك المناسبة و ب الستدلل و ب هذا‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 241 - 3/240 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪147‬‬
‫المنهج في اعتبار الوصف أو المعنى المصلحي ظل هو هو‪ ،‬بل ربما‬
‫وفر لهم هذا الحتجاج مزيداا من حجج الرد‪ .‬إذ ينبغي عند الحنافَّ‬
‫إثبات أن هذه النتائج أو المصالح مقصودةا للشارع‪ ،‬ول يثبت ذلك‬
‫إل بدليل شرعي‪ .‬أضف إلى ذلك أن مقصد الشارع من الحكم هو‬
‫نتيجة لتطبيقه‪ ،‬فهل نتيجة الحكم أو مسببه علة له؟ لذلك ظل‬
‫المر موضع تجاذب وجدل كبير‪ .‬قال ابن قدامة المقدسي‪:‬‬
‫»والصحيح ان ذلك ليس بحجة لنه ما عرفَّ من الشارع المحافظة‬
‫على الدماء بكل طريق‪ ،‬ولذلك لم يشرع المثلة وان كانت ابلغ‬
‫الردع والزجر‪ ،‬ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر‪ ،‬فإذا‬
‫اثبت حكماا لمصلحةم من هذه المصالح لم يعلم ان الشرع حافظ‬
‫على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم‪ ،‬كان وضعاا للشرع بالرأي‬
‫وحكماا بالعقل المجرد«هل)‪. ( 1‬‬
‫فمثلا قطع السارق يؤول إلى رفع السرقة أو التقليل منها‪،‬‬
‫ويؤول إلى حفظ المال وهو من المقاصد الضرورية‪ .‬ولكن هذا‬
‫المقصد وهو حفظ المال ل يصلح علة ا لقطع السارق‪ ،‬لن الغاصبِّ‬
‫والمختلس والغاش لم يقطعهم الشرع‪ ،‬مع ان هذا المقصد موجود‬
‫في تحريم الختلس والغصبِّ والغش‪.‬‬
‫ولذلك فإن هذه الفكرةا ‪ -‬فكرةا المقاصد ‪ -‬لم تؤثر سلباا أو‬
‫إيجابا اعلى أصول الحنفية‪ ،‬قال النصاري‪» :‬الحنفية ل يقبلون‬
‫الخالة أصلا لنها وإن كانت مفيدةا للظن ولكنها ليست ملزومةا‬
‫للشارع علية ما دلت عليه‪ ،‬ول يظن أيضاا بوضعه للتخلف كثيراا‬
‫كما في المناسبِّ معلوما اللغاء كالصنائع الشاقة فإنها مناسبة‬
‫للتخفيف أشد مناسبة من مشقة السفر لكن الشارع اعتبر الولى‬
‫وأهدر الثانية‪ ،‬والمصالح المرسلة فإنها أيضاا مناسبة‪ ،‬ولكنها لم‬
‫تعتبر شرعاا‪ ،‬وإذا لم تورثا ظن اعتبار الشارع لم تكن حجة شرعية‬
‫وإنما هي من هوسات العقل فل تعتبر‪ ،‬ولعل هذا هو مراد النسفي‬
‫) ( ابن قدامة المقدسي‪ ،‬روضة الناظر وجنة المناظر‪ .‬ص‪. 150 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪148‬‬
‫أنه ليس ظن اعتبار الشارع فهو ل يغني من الحق شيئاا‪ .‬فإن قلت‪:‬‬
‫الخالة تفيد الظن البتة والجماع انعقد على اعتبار الظن قال‪:‬‬
‫الجماع على العمل بالظن إنما هو على تقدير كونه ‪ -‬أي الظن ‪-‬‬
‫شرعياا حاصلا من جهة الشرع وظناا باعتبار الشارع هذا«هل)‪. (1‬‬
‫أما ما قاله المحتجون بالستدلل وما بني عليه وهو فكرةا‬
‫المقاصد أن المعنى جرت على وفقه أحكاما كثيرةا فهو يكون أقوى‬
‫من القياس ويكون بمثابة أصل التشريع‪ ،‬وقد أطلقوا على شهادةا‬
‫الحكاما له لفظ العرض على الصول أو موافقة الصول فقد رده‬
‫الحنافَّ أيضاا‪ ،‬قال شارح أصول البزدوي‪» :‬أما أن تكون النصـوص‬
‫موافقة للوصـف فيحصـل به كثـرةا النظائر وبكثرةا النظائر ل‬
‫تحصل قوةا في الوصف«هل )‪. (2‬‬
‫وهكذا ظل الخلفَّ على حاله‪ ،‬يرجع إلى الخلفَّ في كيفية‬
‫اعتبار الحكمة أو المصلحة أو المقصد‪ .‬فالرادون للتعليل بالوصف‬
‫المناسبِّ يرون أن هذا العتبار خيالي قلبي أو هوس عقلي وظن ل‬
‫يشهد له الشرع فل اعتبار له‪ .‬ومن هنا ظهر في حجج المعللين‬
‫بالمقاصد قولهم بلزوما التعليل شرعاا وأنه الصل في الحكاما‪،‬‬
‫وعليه فالتعليل بالمعاني المصلحية ليس تحكماا وإنما هو ظن‬
‫شرعي لنه الصل وإل كان الحكم تعبداا وهذا خلفَّ الصل‪ .‬وهذا‬
‫هو موضوع المبحث التالي‪.‬‬

‫) ( النصاري‪ ،‬فواتح الرحموت ‪. 2/301‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار ‪ ،3/512‬والمراد بالتعديل‪ :‬ثبوت‬ ‫‪2‬‬

‫تأثير الوصف‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫المدخإل إلى فكـرة المقاصـد عند‬
‫الشـاطبي‬
‫عـرض مإوجأـز لهذا المبحث‪:‬‬
‫الموضوع الرئيس لهذا المبحث هو أصل التعليل‪ ،‬أي القول بأن‬
‫الصل في الحكاما التعليل‪ .‬فقد اعتمد بعض الصوليين على أن‬
‫الشريعة معللة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد لجل إثبات بعض‬
‫المسالك في التعليل وعلى وجه الخصوص مسلك المناسبة‪.‬‬
‫واقتضى إثبات هذا التعليل إثبات عدةا قضايا‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إثبات أن ال سبحانه وتعالى ل يفعل إل لغرض أو حكمة‪،‬‬
‫وشرعه من فعله‪ ،‬وبذلك يثبت أن الحكاما الشرعية معللة‪ ،‬وبما‬
‫أن من الحكاما الشرعية ما ل ييطمع بالوقوفَّ على عللها‪،‬‬
‫كالعداد والمقادير والنصبة مثلا‪ ،‬لذلك ل يقال‪ :‬الحكاما‬
‫تعلل‪ ،‬وإنما يقال‪ :‬الصل في الحكاما التعليل‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إن الحكمة ل بد أن تكون مصلحة ل مفسدةا‪ ،‬والمصلحة‬
‫إما أن ترجع إلى ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أو إلى العبد‪ .‬وال ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬منزه عن المصالح والمفاسد‪ ،‬فل بد أن تكون‬
‫المصلحة راجعة إلى العبد‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬إذا وجدنا حكماا شرعياا مستلزماا لمصلحة ما‪ ،‬فالقول‬
‫بأن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬شرع هذا الحكم لهذه المصلحة‪ ،‬هو‬
‫ظن‪ ،‬وال قد تعبييدنا بالظن‪ ،‬فيكون هذا الظن شرعياا ‪ ،‬والتعليل‬
‫بهذه المصلحة تعليل شرعي‪.‬‬
‫وقد أدت المجادلت في القضيتين الولى والثانية إلى أبحاثا‬
‫كلمية متعلقة بخلق الفعال وبالصفات‪ .‬فذهبِّ البعض كالمدي‬
‫مثلا إلى أن الحكاما معللة بمصالح العباد وأن هذا بطريق الوقوع‬

‫‪150‬‬
‫والتفاق‪ .‬وذهبِّ المعتزلة إلى ذلك وأنه بطريق الوجوب‪ .‬ورد‬
‫الرازي بشكل قاطع القول بتعليل أفعال ال وأحكامه‪ ،‬وأثبت عليقييية‬
‫المصالح للحكاما من غير احتياج لصل التعليل‪ .‬ثم جاء الشاطبي‪،‬‬
‫ورد قول الرازي وأثبت تعليل الفعال والحكاما بشكل قاطع في كل‬
‫تفاصيل الشريعة‪ ،‬ولكن بطريقة مختلفة عما اعتمده سابقوه لجل‬
‫إثبات هذا الصل‪.‬‬
‫وعلى ذلك فنحن أماما ثلثا طرق مختلفة في إثبات تعليل‬
‫الحكاما بالحقكيم والمصالح‪ :‬الولى للمدي والثانية للرازي‬
‫والثالثة للشاطبي‪ .‬أما طريقة المعتزلة فليس موضوعها القياس‬
‫ول المقاصد‪ ،‬وإنما هو وجوب فعل الصلح في حق ال تعالى‪ ،‬وهو‬
‫قول مردود لن ال تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‪ ،‬وفعله‬
‫وحكمه هو المقياس ول يقاس بشيء‪.‬‬
‫أما القضية الثالثة‪ ،‬وهي أن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬تعبدنا‬
‫بالظن‪ ،‬وكون هذا الحكم شرع لهذه المصلحة هو ظن شرعي أو‬
‫غير شرعي فقد تبيين ت القوال فيها في المبحث السابق‪ ،‬وسييشار‬
‫إليها فيما يلي بمقدار ما يقتضي البحث‪.‬‬
‫أدلة القائالين بأصـل التعليل‪:‬‬
‫ذهبِّ فريق من أئمة الصول بعد تقسيم مقاصد الشريعة إلى‬
‫ضروريات وحاجيات وتحسينيات إلى إقامة الدللة على هذا التعليل‪.‬‬
‫فقال المدي تحت عنوان )إقامة الدللة على أن المناسبة والعتبار‬
‫دليل كون الوصف علة(‪» :‬الحكاما إنما شرعت لمصالح العباد‪ ،‬أما‬
‫أنها شرعت لمقاصد وحكم فيدل عليه الجماع والمعقول ‪ ،‬أما‬
‫الجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكاما ال تعالى ل تخلو‬
‫عن حكمة ومقصود وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب‬
‫كما قالت المعتزلة‪ ،‬أو بحكم التفاق والوقوع من غير وجوب‬
‫كقول أصحابنا‪ .‬وأما المعقول فهو أن ال تعالى حكيم في صنعه‪،‬‬
‫فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجباا‪ ،‬أو ل يكون واجباا‪:‬‬

‫‪151‬‬
‫فإن كان واجباا فلم يخل عن المقصود‪ ،‬وإن لم يكن واجباا ففعله‬
‫للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود‪،‬‬
‫فكان المقصود لزماا من فعله ظناا‪ ،‬وإذا كان المقصود لزماا في‬
‫صنعه فالحكاما من صنعه‪ ،‬فكانت لغرض ومقصود‪ .‬والغرض إما أن‬
‫يكون عائداا إلى ال تعالى‪ ،‬أو إلى العباد‪ ،‬ول سبيل إلى الول لتعاليه‬
‫عن الضرر والنتفاع‪ ،‬ولنه على خلفَّ الجماع‪ ،‬فلم يبق ي سوى‬
‫الثاني«هل )‪. ( 1‬‬
‫ثم قال‪» :‬وأيضاا فإن الحكاما مما جــاء ب هــا الر ســول‪ ،‬ف كــانت‬
‫رحمة لل عــالمين ل قــوله ت عــالى‪    [ :‬‬
‫‪ ، ( 2) ]‬فلو خلت الحكاما عن حكمة عائدةا إلى العالمين‪ ،‬ما‬
‫كان رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض ت عــبِّ ون صــبِّ وأي ضــاا‬
‫قوله تعالى‪ . (3)]     [ :‬فلو كـان شــرع‬
‫الحكاما في حق العباد ل لحكمة‪ .‬لكانت نق مــة‪ ،‬ل رحمـة لمـا ســبق‪،‬‬
‫وأيضاا قوله عليه السلما‪» :‬ل ضأرر وأل ضأرار في السلم«)‪، (4‬‬
‫فلو كان التكليف بالحكاما ل لحكمة عائدةا إلى العباد‪ ،‬لكــان شــرعها‬
‫ضرراا محضاا‪ ،‬وكان ذلك بسببِّ السلما وهو خلفَّ النص«هل)‪. ( 5‬‬
‫ثم خلص المدي إلى النتيجة فقال‪» :‬وإذا ثبت أن الحكاما إنما‬
‫شرعت لمصالح العباد‪ ،‬فإذا رأينا حكماا مشروعاا مستلزماا لمر‬
‫مصلحي‪ ،‬فل يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم‪ ،‬أو‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما ‪ ، 3/250‬ومما يلحظ في هذا النص وأمثاله أن إثبات‬ ‫‪1‬‬

‫أصل التعليل‪ ،‬قد مال ببحث العلة من معنى ما جعله الشارع علة للحكم إلى‬
‫أبحاثا متعلقة بذات ال‪.‬‬
‫) ( الن ب ياء‪. 107 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( العرافَّ‪. 156 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الحديث‪» :‬ل ضأرر وأل ضأرار« رواه ابن ماجه ) ‪ ( 2331‬و) ‪،( 2332‬‬ ‫‪4‬‬

‫وأحمد في المسند ) ‪ ،( 2719‬ومالك في الموطأ ) ‪ ،( 1234‬وهو صحيح‬


‫بكثرةا شواهده‪ ،‬وزيادةا في »السلما«هل هي من رواية الطبراني في الوسط‪،‬‬
‫أنظر‪ :‬نصبِّ الراية للزيلعي‪. 4/386 ،‬‬
‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/250‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪152‬‬
‫ما لم يظهر لنا‪ ،‬ل يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا‪ ،‬وإل كان‬
‫شرع الحكم تعبداا‪ ،‬وهو خلفَّ الصل‪ ،‬لما سبق تقريره‪ ،‬فلم يبق إل‬
‫أن يكون مشروعاا لما ظهر وإذا كان ذلك مظنوناا فيجبِّ العمل به‪،‬‬
‫لن الظن واجبِّ التباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة‬
‫على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الحكاما الشرعية«هل)‪. (1‬‬
‫وبعد ذلك شرع المدي في الرد على العتراضات التي ترد‬
‫على هذا النهج في التعليل وعلى القضايا التي أوردها ضمن ذلك‪،‬‬
‫وعلى وجه الخصوص قوله إن ال ل يشرع إل لغرض ومقصود‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وعلى فرض التسليم بأن ال ل يشرع إل لغرض ومقصود‪،‬‬
‫فكيف يثبت أن هذه الحكمة المظنونة للمجتهد هي عينها مقصود‬
‫الشارع بالحكم‪ ،.‬قال‪» :‬فإن قيل‪ :‬ل نسلم استلزاما شرع الحكاما‬
‫للحكم والمصالح‪ ،‬وذلك لن شرع الحكاما من صنع ال تعالى‪،‬‬
‫وصنعه إما أن يستلزما الحكمة والمقصود‪ ،‬أو ل يستلزما‪ ،‬والول‬
‫ممتنع لسبعة عشر وجهاا«هل)‪ ، (2‬ثم أورد وجوه العتراض على‬
‫استلزاما الحكاما للحكم والمقاصد وردها واحداا واحداا)‪ . (3‬والجدال‬
‫في هذه القضايا كله خارج عن إطار أصول الفقه‪ ،‬وداخل في مجال‬
‫المنطق والكلما‪ ،‬وفيما يلي أمثلة من هذه العتراضات والردود‬
‫عليها‪:‬‬
‫العتراض الول كما أورده المدي‪» :‬إن القائل قائلن‪ :‬قائل‬
‫يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة ل تعالى‪ ،‬وقائل إنها مخلوقة‬
‫للعبيد‪ .‬فمن قال إنها مخلوقة ل تعالى فيلزمه من ذلك أن يكون‬
‫خالقاا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور‪ ،‬مع أنه ل حكمة ول مقصود‬
‫في خلق هذه الشياء‪ ،‬ومن قال إنها مخلوقة للعبيد فإنما كانت‬
‫مخلوقة لهم بواسطة خلق ال تعالى القدرةا لهم على ذلك‪ ،‬فخلقه‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/251 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 256 - 3/251 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪153‬‬
‫للقدرةا الموجبة لهذه المور ل يكون أيضاا لحكمة«هل)‪. (1‬‬
‫والعتراض الثاني‪» :‬إنه لو استلزما فعله للحكمة ما أمات‬
‫النبياء وأنظر إبليس وما أوجبِّ تخليد أهل النار في النار‪ ،‬لعدما‬
‫الحكمة في ذلك«هل)‪. (2‬‬
‫وجواب المدي على هذين العتراضين‪» :‬من ثلثة أوجه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إن القدرةا إنما تتعلق بالحدوثا والوجود ل غير والكفر‬
‫وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس‬
‫ذلك من متعلق القدرةا في شيء‪ .‬الثاني‪ :‬وإن سلمنا أن جميع ذلك‬
‫مخلوق ل تعالى‪ ،‬فنحن ل ندعي ملزمة الحكمة لفعاله مطلقاا‪،‬‬
‫حتى يطرد ذلك في كل مخلوق‪ ،‬بل إنما ندييعي ذلك فيما يمكن‬
‫مراعاةا الحكمة فيه‪ ،‬وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور‬
‫والمعاصي‪ ،‬ول ندعي ذلك قطعاا بل ظاهراا‪ ،‬الثالث‪ :‬وإن سلمنا‬
‫لزوما الحكمة لفعاله مطلقاا‪ ،‬ولكن ل نسلم امتناع ذلك فيما‬
‫ذكروه من الصور قطعاا‪ ،‬لجواز أن يكون لزمها حكم ل يعلمها‬
‫سوى الرب تعالى«هل)‪. (3‬‬
‫ومن أمثلة هذه العتراضات‪» :‬السادس عشر‪ :‬أن الحكمة إنما‬
‫تطلبِّ في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلبِّ نفع أو دفع ضر‪،‬‬
‫والرب تعالى منزه عن ذلك‪.‬‬
‫السـابع عشر‪ :‬أن الحكمة إنما تطلبِّ في فعل من لو خل فعلـه‬
‫عن الحكمـة لحقه الذما وكان عابثـاا‪ .‬والــرب يتعـالى عـن ذلـك‪،‬‬
‫لكونه متصرفاا في ملكه بحسبِّ ما يشاء ويختار من غير سـؤال عما‬
‫يفعل‪ .‬على ما قال تعالى‪      [ :‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما‪. 256 - 3/251 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/254 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪154‬‬
‫] )‪ ، (1‬وإن لم يكن فعله مستلزماا للحكمة فهو المطلوب«هل)‪. (2‬‬
‫وأجاب المدي على هذين العتراضين الخيرين‪» :‬عن‬
‫السادسة عشرةا بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة‪ ،‬بل الحكمة إنما‬
‫تطلبِّ في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعاا‪ ،‬بل‬
‫واقعاا في الغالبِّ‪.‬‬
‫وعن السابعة عشرةا أن ما ذكروه‪ ،‬إنما يلزما في حق من تجبِّ‬
‫مراعاةا الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك على ما مقتضاه‬
‫في كتبنا الكلمية«هل )‪. ( 3‬‬
‫أدلة الرادين‪:‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن إثبات أصل التعليل عند هذا الفريق لم يكن إل‬
‫بأبحاثا كلمية في ذات ال‪ ،‬ولذلك رأينا فريقاا آخر يرد هذا‬
‫الصل بشكل قاطع مع أنه يقول بالقياس وبالعلة وبالستدلل‬
‫وبمسلك المناسبة‪ .‬ومن أشهر هؤلء فخر الدين الرازي‪ .‬ومما‬
‫قاله‪» :‬المناسبة تفيد ظن العلية والظن واجبِّ العمل به«هل)‪ . (4‬وقال‪:‬‬
‫»فثبت أن المناسبة تفيد العلية مع القطع بأن أفعال ال تعالى ل‬
‫تعلل«هل)‪. (5‬‬
‫وقد حاول الرازي إثبات التعليل بمسلك المناسبة‪ ،‬فذكر في‬
‫ذلك طريقتين‪ ،‬أما الولى فهي الطريقة أو الدلة التي أوردها‬
‫المدي‪ .‬فقد ذكرها ثم عاد عليها وأبطلها‪ .‬أما الثانية فقد أثبتها‬
‫وقال بها‪.‬‬
‫قال‪» :‬المناسبة تفيد ظن العلية‪ ،‬والظن واجبِّ العمل به‪ ،‬بيان‬

‫النبياء‪. 23 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/254‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المدي‪ ،‬الحكاما ‪. 3/256 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/172 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 5/178 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪155‬‬
‫الول)‪ (1‬من وجهين‪ :‬الول)‪ : (2‬أن ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬شرع الحكاما‬
‫لمصلحة العباد‪ ،‬وهذه مصلحة‪ ،‬فيحصل ظن أن ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬إنما‬
‫شرعه لهذه المصلحة‪ ،‬فهذه مقدمات ثلثا ل بد من إثباتها بالدليل‪،‬‬
‫أما المقدمة الولى‪ .‬فالدليل عليها وجوه«هل)‪ . (3‬والمراد بقوله‪) :‬أما‬
‫المقدمة الولى( هو قوله‪ :‬إن ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬شرع الحكاما لمصلحة‬
‫العباد وهي المراد بها أصل التعليل‪ .‬ثم أورد ستة وجوه في إثبات‬
‫هذه المقدمة‪ ،‬وهي ل تخرج عما قدمه المدي‪ ،‬ولكن بشكل أكثر‬
‫تفصيلا)‪. (4‬‬
‫قال‪» :‬فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الحكاما‬
‫إل لمصلحة العباد‪ ،‬ثم اختلف الناس بعد ذلك‪ :‬أما المعتزلة‪ ،‬فقد‬
‫صرحوا بحقيقة هذا المقاما وكشفوا الغطاء عنه وقالوا‪ :‬إنه يقبح‬
‫من ال تعالى فعل القبيح‪ ،‬وفعل العبث بل يجبِّ أن يكون فعله‬
‫مشتملا على جهة مصلحة وغرض‪ .‬وأما الفقهاء‪ ،‬فإنهم يصرحون‬
‫بأنه تعالى إنما شرع الحكم لهذا المعنى‪ ،‬ولجل هذه الحكمة‪ ،‬ولو‬
‫سمعوا لفظ »الغرض«هل‪ ،‬لكفيروا قائله مع أنه ل معنى لتلك‬
‫»اللما«هل إل الغرض‪ ،‬وأيضاا فإنهم يقولون‪» :‬إنه وإن كان ل يجبِّ‬
‫على ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬رعاية المصالح إل أنه تعالى ل يفعل إل ما يكون‬
‫مصلحة لعباده تفضلا منه وإحساناا ل وجوباا«هل فهذا هو الكلما في‬
‫تقرير هذه المقدمة«هل)‪. (5‬‬
‫أما نقض الرازي لصل التعليل بالحكم والمصالح‪ ،‬فيأتي في‬
‫كلما طويل نذكر بعضه‪ .‬قال‪» :‬قوله‪ :‬تخصيص الصورةا المعينة‬
‫بالحكم المعين ل بد وأن يكون لمرجيقح‪ ،‬وذلك المرجيقح يمتنع أن‬

‫) ( الول‪ :‬أي المقدمة الولى وهي أن المناسبة تفيد ظن العلية‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أي ‪ :‬هناك طريقان لثبات أن المناسبة تفيد ظن العلية‪ ،‬وفيما يلي‬ ‫‪2‬‬

‫س ي ذكر الطريق الول وتجدر الملحظة أنه يذكر هذا الطريق ثم‬
‫ينقضه‪.‬‬
‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول ‪. 5/172‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 175 - 5/172 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/176 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪156‬‬
‫يكون عائداا إلى ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬فل بد أن يكون عائداا إلى العبد‪ ،‬قلنا‪:‬‬
‫إما أن تدييعي أن التخصيص ل بد له من مخصص أو ل تدعي ذلك‪،‬‬
‫وعلى التقديرين ل يمكنك القول بتعليل أحكاما ال ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫بالمصالح«هل )‪ . (1‬ثم أورد كلماا طويلا لنقض القول بتعليل أحكاما‬
‫ال‪ ،‬وكل ذلك بحث متعلق بذات ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وخلص إلى قول‪» :‬فثبت أن تعليل أحكاما ال ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫بالمصالح باطل‪ .‬وهذا الكلما كما أنه اعتراض على ما قالوه‪ ،‬فهو‬
‫دللة قاطعة ابتداءا من المسألة‪ .‬وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي‬
‫عولوا عليها‪ ،‬لنها أدلة ظنية‪ ،‬وما ذكرناه برهان قاطع‪ ،‬ثم نقول‪:‬‬
‫إن دل ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال ال تعالى بالمصالح واقع‪،‬‬
‫فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه وهي من وجوه‪«:‬هل )‪ ، (2‬ثم ذكر هذه‬
‫الوجوه وكلها متعلقة بذات ال‪ ،‬ول دخل لها بعلم أصول الفقه‪.‬‬
‫ومن هذه الوجوه التي ذكرها‪:‬‬
‫»الول‪ :‬أنه خالق أفعال العباد‪ ،‬وذلك منع من القول بأنه ‪ -‬تعالى‬
‫‪ -‬يراعي المصالح«هل)‪. ( 3‬‬
‫»الدليل الثاني‪ :‬على أنه ل يجوز تعليل أفعال ال ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫وأحكامه بالمصالح‪ ،‬أن القادر على الكفر‪ ،‬إن لم يقدر على اليمان‬
‫لزما الجبر‪ ،‬وذلك يقدح في رعاية المصالح«هل)‪. (4‬‬
‫»الدليل الثالث‪ :‬أنه قد وقع التكليف بما ل يطاق وذلك يمنع‬
‫من القول برعاية المصالح«هل)‪. (5‬‬
‫وهكذا كل الوجوه أو الدلة التي أوردها إلى آخرها وهو‬
‫الثامن حيث قال‪» :‬أما الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬لما كان منزهاا عن‬
‫المصالح والمفاسد بالكلية‪ .‬ثم رأينا أن الغالبِّ في أفعاله ما ل يكون‬
‫المصدرنفسه‪ ،‬ص ‪. 180 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 5/182 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/186 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪157‬‬
‫مصلحة للخلق‪ ،‬كيف يغلبِّ على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة‬
‫بالمصالح؟!«هل )‪. (6‬‬
‫ومع أن الرازي قد رد أصل التعليل‪ ،‬فهو أثبت مسلك المناسبة‬
‫بطريقة مختلفة‪ ،‬فقال بعد أن ذكر الوجه الول في بيان أن‬
‫المناسبة تفيد ظن العلية‪ ،‬وهو الذي ذكره ونقضه‪ ،‬قال‪» :‬الوجه‬
‫الثاني في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية‪ :‬أن نسليقم أن أفعال ال‪،‬‬
‫وأحكامه‪ ،‬يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والغراض‪ ،‬ومع هذا‬
‫فندعي أن المناسبة تفيد ظن العلية‪ ،‬وبيانه‪ :‬أن مذهبِّ المسلمين‪ ،‬أن‬
‫دوران الفلك وطلوع الكواكبِّ وغروبها وبقاءها على أشكالها‬
‫وأنوارها غير واجبِّ‪ ،‬ولكن ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬لما أجرى عادته بإبقائها‬
‫على حالة واحدةا‪ ،‬ل جرما يحصل أنها تبقى غداا‪ ،‬وبعد غد على هذه‬
‫الصفات‪ ،‬وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطبِّ‪ ،‬وحصول الشبع‬
‫عقيبِّ الكل‪ ،‬والري عقيبِّ الشرب‪ ،‬والحتراق عند مماسة النار‪،‬‬
‫غير واجبِّ‪ ،‬لكن العادةا لما اطردت بذلك‪ ،‬ل جرما حصل ظن يقارب‬
‫اليقين باستمرارها على مناهجها‪ ،‬والحاصل‪ ،‬أن تكرير الشيء مراراا‬
‫كثيرةا‪ ،‬يقتضي ظن أنه متى حصل ل يحصل إل على ذلك الوجه‪.‬‬
‫إذا ثبت هذا فنقول‪ :‬إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الحكاما والمصالح‬
‫متقارنين‪ ،‬ل ينفك أحدهما عن الخر وذلك معلوما بعد استقرار‬
‫أوضاع الشرائع‪ ،‬وإذا كان كذلك‪ ،‬كان العلم بحصول هذا‬
‫مقتضياا ظن حصول الخر وبالعكس‪ ،‬من غير أن يكون أحدهما‬
‫مؤثراا في الخر وداعياا إليه)‪ . (1‬فثبت أن المناسبة دليل العلية‪ ،‬مع‬
‫القطع بأن أحكاما ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬ل تعلل بالغراض«هل)‪. (2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ . 5/193‬وقد أردت من إيراد الحجج والعتراضات لكل‬ ‫‪6‬‬

‫من المدي والرازي بيان أن مثل هذا البحث هو بحث منطقي كلمي خارج‬
‫عن إطار أصول الفقه وغايتقهق‪ ،‬وأن حشره في أ صــول الف قــه ل مــبرر لــه‪،‬‬
‫وإنما يلجأ إليه من ضعفت حجته‪.‬‬
‫) ( وهذا ما يؤكد ما ذكر سابقاا عن معنى العلة ع نــده‪ ،‬أن ظــر‪ :‬ص‪51 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫وص‪. 99 :‬‬
‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول ‪. 5/179‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪158‬‬
‫وهكذا فإنه رغم اختلفَّ هذين الفريقين في أصل التعليل‪،‬‬
‫فهما متفقان على التعليل بالوصف المناسبِّ‪ ،‬وهذا في مقابل من يرد‬
‫مسلك المناسبة‪.‬‬
‫زم أصـل التعليل بمسـلك المناسـبة؟‬
‫هل ُيلـ ِ‬
‫إن الفريق الذي ل يأخذ بمسلك المناسبة ل يجعل هذا‬
‫المسلك لزماا لصل التعليل وذلك من خلل حجج تبينت سابقاا‬
‫عند بيان ردهم لمسلك المناسبة‪ ،‬ومن ذلك أنه إن ثبت أن هذه‬
‫مصلحة‪ ،‬فثبوت أن الحكم قد شرعه ال لجل هذه المصلحة يحتاج‬
‫إلى دليل‪ ،‬وبغير ذلك فالظن المدعى ههنا ليس هو الظن الشرعي‬
‫المعمول به في الشرعيات‪ ،‬وهو ما أطلقوا عليه أنه من خيالت‬
‫القلوب وهوسات العقول‪ .‬ومن ذلك أيضاا‪ ،‬أن أصل التعليل وإن‬
‫ثبت‪ ،‬فقد ثبت أيضاا أن من الحكاما ما هو غير معلل‪ ،‬وقد يكون‬
‫الحكم‪ ،‬موضع النظر‪ ،‬من هذا القسم‪ ،‬أي غير المعلل‪ ،‬فل يقال‬
‫بتعليله إل بشاهد عليه‪ ،‬قال علء الدين البخاري‪» :‬لن الصل في‬
‫النصوص وإن كان هو التعليل إل أنه ثابت من طريق الظاهر‪ ،‬وقد‬
‫وجدنا من النصوص ما هو غير معلول بالتفاق‪ ،‬واحتمل أن يكون‬
‫هذا النص المعين من تلك الجملة‪ ،‬فل يجوز التمسك بذلك الصل‬
‫واللزاما على الغير مع هذا الحتمال«هل)‪ . (1‬وقال البزدوي‪» :‬فل‬
‫يسمع منا الستدلل بالصل وهو أن التعليل أصل في النصوص بل ل‬
‫بد من إقامة الدليل على أن هذا النص بعينه معلول«هل )‪. (2‬‬
‫وقد أورد الغزالي شيئاا من هذه المحاجات حول هذا المر‬
‫فقال‪» :‬وأما المناسبِّ الغريبِّ فهذا في محل الجتهاد ول يبعد‬
‫عندي أن يغلبِّ على ظن بعض المجتهدين‪ ،‬ول يدل دليل قاطع على‬
‫بطلن اجتهاده‪ ،‬فإن قيل‪ :‬يدل على بطلنه أنه متحكم بالتعليل من‬
‫غير دليل يشهد لضافة الحكم إلى علته‪ ،‬قلنا‪ :‬إثبات الحكم على‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 3/436 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( البز د وي‪ ،‬أ صول البز د وي ‪. 3/438‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪159‬‬
‫وفقه يشهد لملحظة الشرع له ويغلبِّ على الظن‪ ،‬فإن قيل‪ :‬قولكم‬
‫إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة‬
‫وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه‪ ،‬وهذا‬
‫تحكم لنه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبداا أو‬
‫تحكماا كتحريم الخنزير والميتة والدما والحمر الهلية وكل ذي‬
‫ناب من السباع وكل ذي مخلبِّ من الطير مع تحليل الضبع والثعلبِّ‬
‫على بعض المذاهبِّ وهي تحكمات‪ ،‬ولكن اتفق معنى السكار في‬
‫الخمر فظن أنه لجل السكار ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير‬
‫فقيل إنه تحكم وهذا على تقدير عدما التنبيه في القرآن بذكر‬
‫العداوةا والبغضاء‪ ،‬ويحتمل أن يكون بمعنى آخر مناسبِّ لم يظهر‬
‫لنا‪ ،‬ويحتمل أن يكون للسكار‪ ،‬فهذه ثلثة احتمالت‪ ،‬فالحكم بواحد‬
‫من هذه الثلثة تحكم بغير دليل‪ ،‬وإل فبم يترجح هذا الحتمال‪،‬‬
‫وهذا ل ينقلبِّ في المؤثر‪ ،‬فإنه عيرفَّ كونه علة بإضافة الحكم إليه‬
‫نصاا أو إجماعاا كالصغر وتقديم الخ للب والما‪ .‬والجواب‪ :‬إنا‬
‫نرجح هذا الحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهبِّ منكري‬
‫القياس«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬وأما قولهم لعل فيه معنى آخر مناسباا هو‬
‫الباعث ولم يظهر لنا‪ ،‬وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر‬
‫لعدما ظهور الخر ل لدليل دل عليه فهو وهم محض‪ ،‬فنقول‪ :‬غلبة‬
‫الظنون في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء‬
‫الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن‪ ،‬ولو فتح هذا‬
‫الباب لم يستقم قياس«هل)‪. (2‬‬
‫مإوقف الشـاطبي بإيجاز‪:‬‬
‫هذا التطويل والقطع من الرازي بعدما تعليل الفعال والحكاما‬
‫اعترض عليه الشاطبي‪ ،‬ولكنه لم يدخل معه في سجال كلمي‪ ،‬وإنما‬
‫قال بتعليل الحكاما والفعال بطريق غير ذلك الذي اعتمده المدي‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪ 2/300 ،‬ـ ‪. 301‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪160‬‬
‫ورده الرازي‪ ،‬فاعتمد في ذلك منهجاا جديداا‪ ،‬وهو الستقراء‬
‫المفيد للقطع بنظره‪ ،‬ولذلك خرج بنتيجة قاطعة هي أن أفعال ال‬
‫‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وأحكامه معللة بمصالح العباد‪ .‬قال‪» :‬وزعم‬
‫الرازي أن أحكاما ال تعالى ليست معللة بعلة البتة‪ ،‬كما أن أفعاله‬
‫كذلك«هل )‪ . (1‬ثم قال‪» :‬والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة‬
‫أنها وضعت لمصالح العباد استقراءا ل ينازع فيه الرازي ول‬
‫غيره«هل )‪. (2‬‬
‫ثم ذكر الشاطبي نصوصاا كثيرةا من القرآن‪ ،‬وأشار إلى‬
‫غيرها من السنة‪ ،‬وكلها مذكور فيها غ ا يات للفعل أو الحكم‪.‬‬
‫وبكثرةا هذه النصوص يثبت الستقراء ‪ -‬لديه ‪ -‬أن أفعال ال‬
‫وأحكامه معللة بغاياتها‪.‬‬
‫وهكذا ظهرت فكرةا المقاصد عند الشاطبي‪ ،‬بمنهجه الجديد في‬
‫إثبات العلل والصول وهو الستقراء المفيد للقطع‪.‬‬
‫وأما الختلفَّ في الظن بالمصلحة وأنها علة للحكم‪ ،‬هل هو‬
‫ظن شرعي أو هو مجرد وهم‪ ،‬فلم يأخذ الشاطبي بأي من القولين‬
‫كما أنه لم يرد أياا منهما‪ ،‬وإنما عمد إلى التوفيق بينهما‪ ،‬فلم يكتف‬
‫بمثل هذا الظن على اعتبار أنه لم يدل عليه دليل وإنما هو مما‬
‫يسرح به العقل أن هذا الحكم كان لجل هذه المصلحة‪ ،‬وكذلك‬
‫لم يرد هذا الظن على اعتبار أن الحكاما إنما شرعت لجل مصالح‬
‫العباد ‪ ،‬وقد تكون هذه المصلحة مقصودةا للشارع بهذا الحكم‪ ،‬ولكنه‬
‫اشترط أن تكثر الحكاما التي يحصل الظن بأنها شرعت لجل تلك‬
‫المصلحة‪ ،‬وبذلك يحصل الستقراء المفيد للقطع‪ ،‬فيحصل القطع‬
‫بعلية هذه المصلحة في التشريع وبهذا ‪ -‬أيضاا ‪ -‬يظهر كيف نشأت‬
‫هذه الفكرةا عند الشاطبي في كيفية اعتبار المصالح والمفاسد‪.‬‬
‫ومما ينبغي التنبيه إليه أن اتخاذ الوصف المناسبِّ أو المصلحة‬
‫علة للحكم هو من قبيل التعليل بالمارات التي لم يثبت فيها كونها‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪161‬‬
‫باعثاا‪ ،‬ولذلك ينتفي التعليل بها إذا وجد وصف أكثر مناسبة‪ ،‬أو‬
‫إذا لم تطرد‪ ،‬قال الشاطبي‪» :‬إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح‬
‫العباد في العاجل والجل معاا‪ ،‬وهذه دعوى ل بد من إقامة البرهان‬
‫عليها صحةا أو فساداا‪ ،‬وليس هذا موضع ذلك وقد وقع الخلفَّ‬
‫فيها في علم الكلما«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬ولما اضطر في علم أصول الفقه‬
‫إلى إثبات العلل للحكاما خاصة أثبتت على أنها المارات‪ ،‬ول حاجة‬
‫إلى تحقيق المر في هذه المسألة«هل)‪ . (2‬لذلك فكون هذه المصالح‬
‫أو العلل بمعنى العلمات المعرفة‪ ،‬وليس الباعث فهي ل تصلح‬
‫للقياس وتعليل الحكم بها‪ ،‬لذلك عمد المعللون بها إلى إثبات أصل‬
‫التعليل‪ ،‬إذ بذلك تصبح بمعنى الباعث وتفيد في القياس‪ .‬أما‬
‫الشاطبي فإنه لم يكتف بثبوت أصل التعليل‪ ،‬وهو الثابت لديه‬
‫بالستقراء‪ ،‬وإنما اشترط أيضاا حصول الستقراء للعلة نفسها أو‬
‫العلمة نفسها‪ ،‬وبذلك تصبح هذه العلة مشهوداا لها بعينها وهو‬
‫شرط الحنافَّ فتكون باعثاا للتشريع وأصلا له‪ ،‬وهذا ما سيتبين‬
‫خلل بيان وتفصيل فكرةا المقاصد عنده‪.‬‬
‫مإعنى المقاصـد عند الشـاطبي‪:‬‬
‫المقاصد لغةا‪ :‬جمع مقصد‪ ،‬وهو الشيء الذي ييقصد‪ .‬قال في‬
‫لسان العرب‪» :‬قال ابن جني‪ :‬أصل )ق ص د( ومواقعها في كلما‬
‫العرب‪ :‬العتزاما والتوجه‪ ،‬والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان‬
‫ذلك أما جور‪ ،‬هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض‬
‫المواضع بقصد الستقامة دون الميل‪ ،‬أل ترى أنك تقصد الجور‬
‫تارةاا كما تقصد العدل أخرى‪ ،‬فالعتزاما والتوجه شامل لها«هل)‪. (3‬‬
‫وقال في القاموس المحيط‪» :‬القصـد‪ :‬اسـتقامة الطريـق‪،‬‬
‫والعتماد‪ ،‬واليماي‪ ،‬قصـده‪ ،‬وله‪ ،‬وإليه‪ ،‬يقصده«هل)‪. (4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/2‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الفيروز آبادي‪ ،‬القاموس المحيط‪ ،‬ص‪. 396 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪162‬‬
‫أما اصطلحاا فل يوجد تعريف متفق عليه أو معتمد‪.‬‬
‫والمعتمد في الصطلح هو المقدار اللغوي الموجود في اللفظة‪.‬‬
‫ول يمكن وضع تعريف اصطلحي للمقاصد إل بعد معرفة المراد‬
‫بها‪ ،‬إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره‪.‬‬
‫ولم يقدما الشاطبي تعريفاا اصطلحياا للمقاصد‪ ،‬ولكن ما جاء‬
‫في كتابه )الموافقات(‪ ،‬وخصوصاا الجزء الثاني منه هو التعريف‬
‫بمراده بالمقاصد‪ .‬ول ضير في هذا‪ ،‬بل وليس هناك كبير فائدةا من‬
‫تقديم نص ل يفيد قارئه في معرفة الواقع المعرييفَّ‪ .‬إذ ل يدرك أو‬
‫يفقه مثل هذه التعريفات إل من سبق له أن أدرك واقعها‪ .‬لذلك‬
‫فالتعريف بمعنى الحد ل يفيده بشيء‪ ،‬بل هو يحاكم التعريف‬
‫بحسبِّ مفهومه للمعرييفَّ‪ .‬وقد حاول بعض المتأخرين وضع‬
‫تعريف للمقاصد‪ ،‬فقصروها على مقاصد الشريعة‪ ،‬وربما أشار‬
‫بعضهم إلى مقاصد للشريعة ومقاصد للناس‪ .‬ولكنهم لم ينبهوا إلى‬
‫التفريق بين مقاصد الشريعة ومقاصد الشارع‪ .‬فالشيخ محمد‬
‫الطاهر ابن عاشور ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬قال بمقاصد عامة ومقاصد خاصة‪،‬‬
‫وعرفَّ كلاي منهما‪ .‬قال‪» :‬مقاصد التشريع العامة هي المعاني‬
‫والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع‪ ،‬فيدخل في‬
‫هذا أوصافَّ الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي ل يخلو التشريع‬
‫عن ملحظتها‪ ،‬ويدخل في هذا أيضاا معانم من الحكم ليست ملحوظة‬
‫في سائر أنواع الحكاما ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرةا منها«هل)‪. (1‬‬
‫وقال في المقاصد الخاصة‪» :‬الكيفيات المقصودةا للشارع لتحقيق‬
‫مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم‬
‫الخاصة كي ل يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس‬
‫لهم من تحصيل مصالحهم العامة«هل )‪. (2‬‬
‫أما الستاذ علل الفاسي فقال‪» :‬المراد بمقاصد الشريعة‪:‬‬
‫محمد الطاهر بن عا شــور‪ ،‬مقا صــد ال شــريعة ال ســلمية‪ ،‬ص‪: 50 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشركة التونسية للتوزيع‪ ،‬تونس‪ ،‬ط ‪ ، 3‬ديسمبر ‪ 1988‬ما‪.‬‬


‫) ( محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة السلمية‪ ،‬ص‪. 146 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪163‬‬
‫الغاية منها والسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من‬
‫أحكامها«هل )‪. (1‬‬
‫وقد أشار الدكتور أحمد الريسوني إلى هذه التعريفات‬
‫وغيرها‪ ،‬وقال‪» :‬وبناءا على مختلف الستعمالت والبيانات الواردةا‬
‫عند العلماء الذين تحدثوا في موضوع المقاصد يمكن القول‪ :‬إن‬
‫مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لجل تحقيقها‬
‫لمصلحة العباد«هل)‪. (2‬‬
‫وقد أشار إلى هذه التعريفات الكاتبِّ السعودي خالد بن صالح‬
‫السيف في مقال له ابتدأه بسؤال‪ :‬ما المقاصد؟ )‪. (3‬‬
‫ويشير الدكتور حمادي العبيدي إلى تعريف الشيخ محمد‬
‫الطاهر بن عاشور قائلا‪» :‬إن هذا في الواقع ليس تعريفاا للمقاصد‬
‫لن التعريفات ل تكون بهذا السلوب‪ ،‬وإنما هو بيان وتفصيل‬
‫للمواطن التي تلتمس فيها المقاصد من الشريعة‪ ،‬والقرب أن‬
‫نقتصر في التعريف على القول‪» :‬إن المقاصد هي الحكم المقصودةا‬
‫للشارع في جميع أحوال التشريع«هل)‪. (4‬‬
‫والواقع أن هذه التعريفات كلها قاصرةا عن إفادةا المطلوب‪.‬‬
‫وذلك أن معنى المقاصد عند الشاطبي مختلف عن معناها عند غيره‬
‫من الذين سبقوه‪ ،‬أو من المعاصرين الذين يتحدثون في المقاصد‪.‬‬
‫وهذه التعريفات كلها‪ ،‬إذا صحت‪ ،‬فإنما تصح على المعنى الذي في‬
‫أذهان المعريقفين‪ .‬وهي كلها بعيدةا عن التدقيق في مراد الشاطبي‪.‬‬
‫ول بد من الشارةا هنا أن البحث ليس عن كلمة قصد أو‬
‫) ( علل الفاسي‪ ،‬مقاصد الشريعة السلمية ومكارمها‪ ،‬ص‪ ،3 :‬مكتبة الوحدةا‬ ‫‪1‬‬

‫العربية‪ ،‬الدار البيضاء ‪.‬‬


‫) ( أحمد الريسوني‪ ،‬نظرية المقاصد عند الماما الشاطبي‪ ،‬ص‪ ،119 :‬ط‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 1416 ، 4‬هـ ‪ 1995 -‬ما‪ ،‬المعه د العالمي للفكر السلمي‪ ،‬الدار العالميــة‬
‫للكتاب السلمي ‪.‬‬
‫) ( جريدةا الحياةا‪ ،‬العدد‪ 13 ، 12615 :‬أيلول ‪ ،1997‬ص‪. 21 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( حمادي العبيدي‪ ،‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪. 119 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪164‬‬
‫مشتقاتها‪ ،‬أين وردت ومتى وردت‪ ،‬فهي كلمة عربية مستعملة ترد‬
‫في كلما العرب قديماا وحديثاا‪ ،‬وإنما البحث هو عن المقاصد‬
‫بمعنى معين‪ ،‬وهو المعنى أو المعاني التي أرادها علماء الصول‪ .‬إن‬
‫أول من تحدثا عن المقاصد هو الماما الجويني ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬وهو‬
‫والعلماء الذين أتوا بعده ‪ -‬عدا الشاطبي ‪ -‬يشيرون إلى معنى واحد‬
‫للمقاصد‪ ،‬وهو مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية‪،‬‬
‫وهذه يمكن تعريفها عندهم‪ ،‬بأنها الغايات أو المصالح التي وضعت‬
‫الشريعة لجلها‪.‬‬
‫أما عند الشاطبي‪ ،‬فالمر يستغرق هذا التعريف ويتجاوزه‪ ،‬إذ‬
‫المقاصد عنده‪ ،‬هي مقاصد الشارع ومقاصد المكلف‪ .‬ومقاصد‬
‫المكلف يمكن تعريفها بأنها الغايات أو المصالح التي يريد المكلف‬
‫تحقيقها سواء كانت دنيوية أو أخروية‪.‬‬
‫أما مقاصد الشارع فهي أشمل من مقاصد الشــريعة‪ ،‬ومقاصــد‬
‫الشريعة ليست إل مقاصد للشارع قصدها بالتشريع ولكنهــا ليســت‬
‫كل مقاصد الشارع‪ .‬فال سبحانه وتعالى خلق الشياء و لــه بــذلك‬
‫مقصد‪ ،‬بحسبِّ الشاطبي‪ ،‬وهذا المقصد هو مقصده من الخلق وليــس‬
‫من التشريع‪ ،‬إذ الخلق ليس تشريعاا‪ .‬يقول تعــالى‪  [ :‬‬
‫‪، (1) ]      ‬‬
‫وي قــول‪، (2)]      [ :‬‬
‫فالبتلء والعبادةا هنا مقاصد للشارع وليسا مقاصد للشريعة‪.‬‬
‫وإذا اقتصرت هذه المقاصد عند غير الشاطبي على مقاصد‬
‫الشريعة‪ ،‬فإن مقاصد الشارع‪ ،‬بحسبِّ الشاطبي‪ ،‬أربعة أنواع‪ ،‬أحدها‬
‫مقاصد الشريعة‪ .‬يقول‪» :‬والمقاصد التي ينظر فيها قسمان‪:‬‬
‫أحدها يرجع إلى قصد الشارع‪ ،‬والخر يرجع إلى قصد المكلف‪.‬‬
‫فالول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءا و من‬

‫) ( سورةا الملك‪. 2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا الذاريات‪. 56 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪165‬‬
‫جهة قصده في وضعها للفهاما‪ ،‬ومن جهة قصده في وضعها للتكليف‬
‫بمقتضاها‪ ،‬ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها‪ ،‬فهذه‬
‫أربعة أنواع«هل)‪. (1‬‬
‫والذي تدور حوله التعريفات المذكورةا هو مقاصد الشـريعة‬
‫الضرورية والحاجية والتحسينية‪ ،‬وهي النوع الول فقط‪ ،‬أي قصد‬
‫الشـارع في وضع الشريعة ابتداءا‪ .‬هذا أحد أوجه القصور في‬
‫محاولت تعريف المقاصد‪ ،‬وثمة أمر آخـر في هذه التعريفات‬
‫مناقض لمراد الشـاطبي بهذا النوع من المقاصد‪.‬‬
‫وذلك أن كل هذه التعريفات تذهبِّ إلى أن المقاصد هي‬
‫المصالح والحكم‪ ،‬أي أنها المعاني المناسبة التي يتلقاها العقل‬
‫بالقبول‪ .‬وهذا الفهم‪ ،‬مرةاا أخرى‪ ،‬إذا صح على ما عند غير‬
‫الشاطبي‪ ،‬فل يصح على ما عند الشاطبي‪ .‬فمثلا الشـيخ ابن عاشور‬
‫جعلها مقاصد لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم‬
‫العامة‪ .‬وتعريف الدكتور الريسوني‪ :‬هي الغايات التي وضعت‬
‫الشريعة لجل تحقيقها لمصلحة العباد‪ .‬وتعريف الدكتور‬
‫العبيدي‪ :‬هي الحكم‪ .‬أما الستاذ علل الفاسي فقصرها على غايات‬
‫الحكاما‪.‬‬
‫بينما المقاصد عند الشاطبي هي ما يثبت كونه مقصوداا‬
‫للشارع بصرفَّ النظر عن كونه مصلحة في العتياد‪ ،‬أو عن كونه‬
‫مما تتلقاه العقول بالقبول‪ ،‬أو عن كونه مناسباا أو غير مناسبِّ‪.‬‬
‫والمقاصد‪ ،‬عنده ل تقتصر على غايات الحكاما‪ ،‬بل إن الحكاما‬
‫نفسها هي من المقاصد‪ ،‬إذ إن الحكاما مقصودةا للشارع بالنصوص ‪.‬‬
‫والتعريفات كلها تدور حول مقاصد الحكاما‪ ،‬وهو النوع الول عند‬
‫الشاطبي‪ ،‬بينما من أكثر ما ركز عليه الشاطبي مقاصد الشارع في‬
‫كيفية فهم الوامر والنواهي إضافة إلى قصد التعبد والمتثال‪.‬‬
‫فما تذكره هذه التعريفات هو الغايات من التشريع‪ ،‬وهي نتائج أو‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪166‬‬
‫مسببات له‪ ،‬والشريعة أو الحكاما هي وسائل لتحقيق الغايات أو‬
‫أسباب لها‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فإن هذه التعريفات‪ ،‬إلى جانبِّ قصورها فإنها ل تصح‬
‫للتعريف بمراد الشاطبي‪ ،‬ول بالنوع الول من مقاصد الشارع عنده‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال ل يصح تعريف الدكتور الريسوني‪» :‬هي‬
‫الغايات التي وضعت الشريعة لجل تحقيقها لمصلحة العباد«هل بسببِّ‬
‫التقييد بمصلحة العباد‪ .‬فإذا حذفَّ هذا القيد يصبح التعريف‪» :‬هي‬
‫الغايات التي وضعت الشريعة لجل تحقيقها«هل صحيحاا لمراد‬
‫الشاطبي بمقاصد الشريعة وليس بمقاصد الشارع‪.‬‬
‫أضـف إلى ذلك أن ما أشـار إليه البعض من تقسـيم للمقاصد‬
‫إلى خاصة وعامة وجزئية ل وجود له عند الشاطبي‪ ،‬ولم يؤت له بما‬
‫يدل عليه من نصوصه‪ .‬بل إن نصوصه تنقض هذا القول‪ .‬وسـيتبين‬
‫هذا عند التفصيل‪ ،‬وهو من صلبِّ فكرةا المقاصد عند الشاطبي‪.‬‬
‫فالمقاصد عند الشاطبي هي أصول كلية‪ ،‬وهي عامة في كل‬
‫الحوال‪ ،‬وفي كل الزمان‪ ،‬وفي كل المكلفين‪ ،‬أما الجزئيات فهي‬
‫ليست مقاصد لن المقاصد أصول كلية‪ ،‬وإنما الجزئيات قد تكون‬
‫فروعاا خادمةا للمقاصد‪ ،‬أو راجعةا إليها‪.‬‬
‫وكذلك فإن المقاصد‪ ،‬عند الشاطبي‪ ،‬هي أصول قطعية‬
‫وليست حكماا مظنونة‪ .‬وهذا من أهم أركان فكرةا المقاصد عند‬
‫الشاطبي‪ ،‬وهو ما لم تلحظه أي من التعريفات المذكورةا أو‬
‫البحاثا المنشورةا حول المقاصد عند الشاطبي‪.‬‬
‫وستتبين هذه المور بالتحليل والتحقيق والتوثيق في‬
‫الفصول القادمة في هذه الرسالة‪ .‬ولكنني أشير هنا إلى ما يلزما من‬
‫ذلك‪ ،‬وذلك لتماما هذا الموضوع‪.‬‬
‫يقول الشاطبي‪» :‬تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها‬
‫في الخلق‪ ،‬وهذه المقاصد ل تعدو ثلثة أقساما‪ :‬أحدها أن تكون‬

‫‪167‬‬
‫ضرورية‪ ،‬والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية«هل)‪. (1‬‬
‫وأي مقصد في أي قسم من هذه القساما ل يثبت إل إذا كان عاماا‬
‫وقطعياا‪ ،‬أي كلياا‪ ،‬وليس جزئياا ول ظنياا‪ ،‬يقول‪» :‬إن أصول‬
‫الفقه في الدين قطعية ل ظنية‪ ،‬والدليل على ذلك أنها راجعة إلى‬
‫كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي«هل )‪ . (2‬ويقول في‬
‫الموضع نفسه‪» :‬وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات‬
‫والتحسينيات«هل‪.‬‬
‫وبيانه لمراده بالكليات‪ ،‬واشتراطه القطع لها‪ ،‬يؤكد اشتراط‬
‫القطع بالمقاصد عنده‪ .‬وهو يصرفَّ النظر عن توهم أن الصول‬
‫التي يشترط لها القطع هي الدلة الجمالية‪ :‬القرآن والسنة‬
‫والجماع والقياس‪ ،‬بل هو يقول إن هذه الصول القطعية راجعة إلى‬
‫المقاصد الكلية التي هي ضروريات أو حاجيات أو تحسينيات‪.‬‬
‫وعليه فإن هذه التعريفات للمقاصد قاصرةا‪ ،‬ومجانبة للصواب‪.‬‬
‫والدق ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬أن يقال‪» :‬إن المقاصد هي الغايات‪،‬‬
‫وأمإقاصد الشارع عند الشاطبي هي الغايات التي تدل‬
‫الفعال وأالنصوص وأالحكام على كونها مإطلوبة‬
‫الوقوع« ‪ .‬فيكون للفعال وللوامر التكوينية غايات معينة‪ ،‬ويكون‬
‫للنصوص الشرعية أو للخطاب بها غايات هي الفهاما والتكليف‪.‬‬
‫ويكون للحكاما غايات هي التقيد بها وعدما التقيد بغيرها‪ ،‬وبعض ‪-‬‬
‫وليس كل ‪ -‬ما يؤول إليه هذا التقيد‪.‬‬

‫وتكون هذه الفعال والنصوص والحكاما بمثابة الوسائل في‬


‫مقابلة المقاصد‪ ،‬أو السباب في مقابلة المآلت أو المسببات‪ .‬ول بد‬
‫من الشارةا هنا إلى أنه ليس كل مسببِّ عن السببِّ مقصوداا للشارع‪.‬‬
‫فليس كون الشيء نتيجةا دليلا على كونه غايةا أو مقصداا‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4 ، 2/3 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/10 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪168‬‬
‫فمثلا‪ :‬نكاح المطلقة ثلثاا يؤول إلى تحليلها للول إذا طلقها‬
‫الثاني‪ ،‬وليس التحليل غاية أو مقصداا للشارع‪ ،‬بحسبِّ الشاطبي‪ ،‬إذ‬
‫إن النكاح بهذا القصد منهيي عنه‪ .‬فالغاية نتيجة ومسببِّ‪ ،‬وليس كل‬
‫نتيجة أو مسببِّ غايةا أو مقصداا‪ .‬وهذا من صلبِّ أفكار الشاطبي‪،‬‬
‫وسيتبين في موضعه إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫الفصـل الثالث‬
‫ضأـوابط المقاصـد عند‬
‫الشـاطبي‬
‫وأيحتوي على تعريف مإوجأز بموضأــوع‬
‫هذا الفصل وأعلى ثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬فـي المقدمإات‪.‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬فـي المستندات‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬فـي النتائاج وأمإفهوم‬
‫المصلحة‬
‫وأالمفسدة عند الشاطبي‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫ضأـوابط المقاصـد عند الشـاطبي‬
‫مإوضأـوع هذا الفصـل‪:‬‬
‫لقد خصص الشاطبي الجزء الثاني من كتابه الموافقات‬
‫لموضوع المقاصد‪ ،‬وجعل المقاصد قسمين‪ :‬مقاصد الشارع‬
‫ومقاصد المكلف‪ .‬أما الجزء الول من الموافقات فقد سماه كتاب‬
‫الحكاما‪ ،‬وبحث فيه الحكاما الشرعية‪ ،‬أحكاما التكليف وأحكاما‬
‫الوضع‪.‬‬
‫والموضوعات التي أبرزها في كتاب الحكاما‪ ،‬بحثها أئمة‬
‫الصول قبله ‪ ،‬ومنها ما هو جديد ‪ ،‬والجديد فيها هو النظر إلى هذه‬
‫الحكاما‪ ،‬سواء الواجبِّ و المندوب والمباح والمكروه والحراما ‪ ،‬أو‬
‫السببِّ والشرط والمانع والعزيمة والرخصة والصحة والفساد‬
‫والبطلن‪ ،‬النظر إليها بالشكل الذي يخدما فكرةا مقاصد الشارع‪،‬‬
‫وبالشكل الذي يدفع عنها أي اعتراض أو نقض‪ ،‬وبذلك فهو يضع‬
‫قواعد في النظر إلى هذه الحكاما وإلى معانيها أو مقاصدها‪ .‬أضف‬
‫إلى ذلك أنه قبل أن يبدأ كتاب الحكاما‪ ،‬فإنه يضع ثلثا عشرةا‬
‫مقدمة‪ ،‬يعدها لزمةا لفهم كتابه‪.‬‬
‫وفي الحقيقة فإنه ما من أصل بحثه في كتابه الموافقات إل‬
‫وفيه نصيبِّ من تلك المقدمات‪.‬‬
‫لجل هذه المقدمات والقواعد كان هذا الفصل‪ ،‬وقد جعلته في‬
‫ثلثة مباحث‪ .‬الول في المقدمات اللزمة لفكرةا المقاصد والثاني‬
‫في المستندات أو القواعد التي أبرزها في بحثه للحكاما‪ ،‬والثالث‬
‫فيما ينبني على هذه القواعد والمقدمات من نتائج ومعانم ويأتي‬
‫ضمنه بحث لمعنى المصلحة والمفسدةا عند الشاطبي‪ .‬وهو ضروري‬
‫لفهم منهج الشاطبي‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫فـي المقدمإات‬
‫مإوضأـوع هذا المبحث‪:‬‬
‫قسم الشاطبي كتابه )الموافقات( إلى خمسة أقساما‪ .‬وبدأه‬
‫بذكر المقدمات التي يعدها لزمةا للنظر في كتابه‪ .‬قال‪» :‬فصار‬
‫كتاباا منحصراا في خمسة أقساما‪ ،‬الول في المقدمات العلمية‬
‫المحتاج إليها في تمهيد المقصود«هل)‪ . ( 1‬ثم مهد بثلثا عشرةا مقدمة‪.‬‬
‫ولجل إبراز ما يلزما من هذه المقدمات لبيان منهجه أو فكرته كان‬
‫هذا المبحث ‪.‬‬
‫أصـول الفقه قطعية‪:‬‬
‫قال الشاطبي في مقدمته الولى‪» :‬إن أصول الفقه في الدين‬
‫قطعيه ل ظنية‪ ،‬والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة‬
‫وما كان كذلك فهو قطعي«هل )‪ . (2‬ثم أقاما برهانه على هذه المقدمة‬
‫ومما قاله‪» :‬لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل‬
‫الشريعة)‪ (3‬لنه الكلي الول‪ .‬وذلك غير جائز عادةاا‪ ،‬وأعني‬
‫بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات‪ ،‬وأيضاا لو جاز‬
‫تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها وهي ل شك بها‪،‬‬
‫ولجاز تغييرها وتبديلها وذلك خلفَّ ما ضمن ال عز وجل من‬
‫حفظها«هل )‪ (4‬وقال‪» :‬لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه لجاز‬
‫جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق«هل )‪. (5‬‬
‫وقال‪» :‬إن الصل على كل تقدير ل بد أن يكون مقطوعاا به‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ . 1/7 .‬من خطبة الكتاب ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪ 1/10 ،‬من المقدمة الول ى‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مراده بأصل الشريعة‪ :‬القرآن الكريم‪ .‬وال أعلم‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/10 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الم وضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪172‬‬
‫لنه إن كان مظنوناا تطرييق إليه احتمال الختلفَّ ومثل هذا ل يجعل‬
‫أصلا في الدين عملا بالستقراء«هل)‪. ( 1‬‬
‫وختم هذه المقدمة بقوله‪» :‬المظنونات ل تجعل أصولا وهذا‬
‫كافَّ في ا ط ي راح الظنيات من الصول بإطلق‪ ،‬فما جرى فيها مما‬
‫ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعاا عليه«هل)‪. (2‬‬
‫وقوله في النص أعله‪» :‬وأعني بالكليات هنا الضروريات‬
‫والحاجيات والتحسينيات«هل يشير إلى أنه ل يقصر شرط القطع‬
‫بأصول الفقه على مصادر التشريع كالقرآن والسنة والجماع‬
‫والقياس‪.‬‬
‫ويقول في المقدمة الثانية‪» :‬إن المقدمات المستعملة في هذا‬
‫العلم )‪ ، (3‬والدلة المعتمدةا فيه ل تكون إل قطعيةا‪ ،‬لنها لو كانت‬
‫ظنية لم تفد القطع في المطالبِّ المختصة به‪ ،‬وهذا بيييقن«هل)‪. (4‬‬
‫وهذا لن المقدمات هي السس أو الضوابط التي بالربط فيما بينها‪،‬‬
‫أو بالبناء عليها يتوصل إلى الصول‪ .‬وبما أن الصول يجبِّ أن تكون‬
‫قطعية وجبِّ أن تكون مقدماتها قطعية‪.‬‬
‫السـتقراء فقط هو طريق القطع‪:‬‬
‫ومن أهم المقدمات لمنهج الشاطبي مقدمته الثالثة حيث‬
‫يقول‪» :‬المعتمد بالقصد الول)‪ (5‬الدلة الشرعية‪ ،‬ووجود القطع‬
‫فيها على الستعمال المشهور معدوما‪ ،‬أو في غاية الندور‪ ،‬أعني في‬
‫آحاد الدلة‪ ،‬فإنها إن كانت من أخبار الحاد فعدما إفادتها القطع‬
‫ظاهر‪ ،‬وإن كانت متواترةا فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/12 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/12 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أي‪ :‬علم الصول الفقه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/12 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( القصد الول‪ :‬أي إذا جاء الطلبِّ أو النهي من الشارع‪ .‬فايقاع الفعل هو‬ ‫‪5‬‬

‫القصد الول من المر والمتناع عنه هو القصد الول من النهي ‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫جميعها أو غالبها ظني‪ .‬والموقوفَّ على الظني ل بد أن يكون ظنياا‪.‬‬
‫فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدما الشتراك‪ ،‬وعدما‬
‫المجاز والنقل الشرعي أو العادي‪ ،‬والضمار والتخصيص للعموما‬
‫والتقييد للمطلق‪ ،‬وعدما الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض‬
‫العقلي‪ .‬وإفادةا القطع مع اعتبار هذه المور متعذر«هل)‪ . (1‬وعلى‬
‫ذلك فالشاطبي ينفي وجود الدللة القطعية لحاد النصوص ولو‬
‫كانت من نصوص القرآن الكريم أو الحاديث المتواترةا‪ .‬وإذا علمنا‬
‫إشتراطه القطع بأصول الفقه‪ ،‬ينشأ السؤال‪ :‬كيف سيحصل هذا‬
‫القطع عنده؟‪ .‬يقول‪» :‬إفادةا القطع مع اعتبار هذه المور متعذر‪،‬‬
‫وقد اعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية في أنفسها لكن إذا اقترنت‬
‫بها قرائن مشاهدةا أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا كله نادر أو‬
‫متعذر‪ .‬وإنما الدلة المعتبرةا هنا المستقرأةا من جملة أدلة ظنية‬
‫تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع‪ ،‬فإن للجتماع من‬
‫القوةا ما ليس للفتراق ولجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه‪،‬‬
‫فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم )‪ (2‬فهو‬
‫الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي بل هو كالعلم‬
‫بشجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم المستفاد من كثرةا الوقائع‬
‫المنقولة عنهما«هل)‪. (3‬‬
‫وعليه‪ ،‬فالشـاطبي ل يعتمد في إثبـات القطع في الشـرعيات‬
‫إل على السـتقراء‪ ،‬وهـذا من جديده‪ ،‬اعتمده في كتابه وعدييه‬
‫السبيل الوحيد للقطع وصرح بأنه خاصية لكتابه‪ ،‬قال مشيراا إلى‬
‫مقدمتـه الثالثـة هذه‪» :‬ومريي أيضاا بيان كيفية اقتناص القطع‬
‫من الظنيـات وهي خاصـية هذا الكتـاب والحمد ل«هل )‪. (4‬‬
‫والستقراء هو أن تكثر الدلة الدالة على معنى معين‪ ،‬أو‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/14 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫يفيد العلم‪ :‬أي يفيد العلم القطعي‪ .‬والعلم يقابله الظن ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/14‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/194 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪174‬‬
‫الحكاما التي ييظينيي لها حكمة أو نتيجة معينة‪ .‬فدللة الدليل‬
‫ظنية‪ ،‬وكون الشارع قاصداا لمعنىا معين أو لحكمة معينة أمر‬
‫ظني‪ ،‬ول يصح اتخاذ الظني أصلا في الفقه أو التشريع ول البناء‬
‫عليه‪ ،‬فإذا كثرت وتضافرت الدلة أو الحكاما على معنىا معين‪،‬‬
‫يحصل الستقراء المفيد للقطع‪ ،‬وتصبح هذه المعاني أصولا‪ .‬قال‪:‬‬
‫»إذا تكاثرت على الناظر الدلة عضد بعضها بعضاا‪ ،‬فصارت‬
‫بمجموعها مفيدةا للقطع‪ ،‬فكذلك المر في مآخذ الدلة في هذا‬
‫الكتاب وهي مآخذ الصـول«هل)‪ . (1‬وأضـافَّ‪» :‬إل أن المتقدمين من‬
‫الصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل‬
‫إغفاله من بعض المتأخرين«هل)‪ . (2‬ونيبييه إلى انه بهذا الغفال ل‬
‫يحصل لنا القطـع بحكم شـرعي البتة‪ ،‬وأن دللة الجماع على‬
‫الحكاما الشرعية ل تثبت)‪. (3‬‬
‫وقد أورد الشاطبي في كتابه أمثلة كثيرةا تدل على منهجه‬
‫الستقرائي في القطع‪ ،‬فيما يلي أحدها‪ :‬يقول‪» :‬فقد اتفقت المة‬
‫بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات‬
‫الخمس وهي‪ :‬الدين والنفس والنسل والمال والعقل‪ ،‬وعلمها عند‬
‫المة كالضروري‪ ،‬ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين‪ ،‬ول شهد لنا‬
‫أصل معين يمتاز برجوعها إليه‪ ،‬بل علمت ملءمتها للشريعة‬
‫بمجموع أدلة ل تنحصر في باب واحد‪ ،‬ولو اسـتندت إلى شـيء‬
‫معيـن لوجبِّ عادةا تعييـنه‪ ،‬وأن يرجع أهل الجماع إليه‪ ،‬وليس‬
‫كذلك‪ .‬لن كل واحد منها بانفراده ظني‪ ،‬ولنه ل يتعين في‬
‫التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون‬
‫سـائر الخبار‪ ،‬كذلك ل يتعين هنا لسـتواء جميـع الدلة في‬
‫إفادةا الظن على فرض النفراد«هل)‪. (4‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/15 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/15 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪175‬‬
‫فإثبات حفظ الدين مثلا‪ ،‬كأصل ضروري‪ ،‬يتطلبِّ ـ عنــده ـــ‬
‫اثبات القواعد الخمس كالصلةا والزكاةا وغيرهما إثباتــاا قطعيــاا‬
‫بالستقراء‪ .‬يقول‪» :‬ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس‬
‫كالصلةا والزكاةا وغيرهما قطعاا‪ .‬وإل فلو ا ســتدل م ســتدل علــى‬
‫وجوب الصلةا بقوله تعالى‪ (1) ]   [ :‬أو ما شــابه‬
‫ذلك لكان في الستدلل بمجرده نظر من أوجه‪ ،‬لكن حف بذلك من‬
‫الدلة الخارجية والح كــاما المترتبــة مــا صــار بــه فــرض ال صــلةا‬
‫ضرورياا في الدين ل يشك ف يــه إل شــاكيي فــي أ صــل ا لــدين«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬فنحن إذا نظرنا في الصلةا فجاء فيها [ ‪ ‬‬
‫] ‪ .‬على وجوه‪ ،‬وجاء مدح المت صــفين بإقامت هــا وذما ال تــاركين ل هــا‬
‫وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياماا وقعوداا وعلى جنــوبهم‬
‫وقتال من تركها أو عاند في تركها إلى غير ذلــك م مــا فــي هــذا‬
‫المعنى‪ .‬وكذلك النفـس نهـى عـن قتلهـا‪ ،‬وجعـل قتلهـا موجبـاا‬
‫للقصاص متوعداا عليه ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك كما‬
‫كانت الصلةا مقرونةا باليمان‪ ،‬ووجبِّ سد رمق المضطر‪ ،‬ووجبــت‬
‫الزكاةا والمواساةا والقياما علــى مــن ل ي قــدر علــى إ صــلح نف ســه‬
‫وأقيمت الحكاما والقضاةا والملوك لذلك‪ ،‬ورتبت الجناد لقتال مــن‬
‫راما قتل النفس‪ ،‬ووجبِّ على الخائف من الموت سد رمقه ب كــل حللم‬
‫وحراما من الميتة والدما ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضــافَّ لهــذا‬
‫المعنى‪ ،‬علمنا يقيناا وجوب الصلةا وتحريــم القتــل وهكــذا ســائر‬
‫الدلة في قواعد الشريعة‪ .‬وبهذا امتــازت ال صــول عــن ال فــروع إذ‬
‫كانت الفروع مستندةا إلى آحاد الدلة وإلى مآخذ معينه فبقيت على‬
‫أصلها من الستناد إلى ال ظــن بخلفَّ ال صــول فإن هــا مــأخوذةا مــن‬
‫استقراء مقتضيات الدلة بإطلق ل من آحادها على الخصوص«هل)‪. (3‬‬
‫هذه النصوص أعله تبين مراده بالستقراء‪ ،‬وأن الستقراء هو‬

‫) ( سورةا البقرةا ‪. 43 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/14 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 16 - 1/15 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪176‬‬
‫الطريق الوحيد للقطع في الشرعيات‪ ،‬وأن الستقراء هو ليس للدلة‬
‫التي هي النصوص‪ ،‬وإنما لمعانيها‪ ،‬ومعانيها هي دللتها اللغوية‬
‫وحكمها ونتائجها‪ ،‬وهذه كلها ظنية إذا اعتمد فيها على آحاد‬
‫النصوص‪ ،‬فل تعتمد في التشريع إل إذا تواترت‪ ،‬فالتواتر المقصود‬
‫هو تواتر المعاني‪ ،‬ولذلك رأيناه يقول‪» :‬وهو شبيه بالتواتر‬
‫المعنوي«هل)‪ ، (1‬وانظر إلى قوله في النص السابق‪» :‬بخلفَّ الصول‬
‫فإنها مأخوذةا من استقراء مقتضيات الدلة بإطلق«هل فهو لم يقل‪:‬‬
‫»من استقراء الدلة«هل‪ .‬وإنما‪» :‬من استقراء مقتضياتها«هل‪،‬‬
‫ومقتضياتها هي دللتها أو معانيها‪ .‬ثم قوله‪» :‬بإطلق«هل‪ ،‬فهو ل‬
‫يقصر المعاني على الدللت اللغوية وإنما تشمل أيضاا حكمها أو‬
‫مقاصدها أو مسبباتها‪.‬‬
‫وينبني على هذه المقدمة أحد أهم الصول عند الشاطبي‪ ،‬أصل‬
‫بمثابة الروح لكل منهجه‪ .‬يقول‪» :‬وينبني على هذه المقدمة معنى‬
‫آخر وهو‪ :‬إن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملئماا‬
‫لتصرفات الشرع)‪ ، (2‬ومأخوذاا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى‬
‫عليه‪ ،‬وييرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد صار بمجموع أدلته‬
‫مقطوعاا به‪ ،‬لن الدلة ل يلزما أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها‬
‫دون انضماما غيرها إليها كما تقدما‪ ،‬لن ذلك كالمتعذر‪ ،‬ويدخل‬
‫)‪(3‬‬
‫تحت هذا ضرب الستدلل المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي ‪،‬‬

‫) ( انظر ‪ :‬ص‪ 139 :‬من هذا البحث ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( ت بي ي ن في الفصل الول معنى الملءمة لتصرفات الشرع وهو أن يشهد‬ ‫‪2‬‬

‫للوصف المناسبِّ أكثر من حكم‪ .‬وكما يلحظ في نصوص الشاطبي فهو ل‬


‫يكتفي بإطلق ل فــظ "أ كــثر" وإن مــا يشــترط أن ت كــون ال كــثرةا مح صــلة‬
‫لستقراء مفيد للقطع‪ ،‬وليس بالضرورةا ‪ -‬عنده ‪ -‬أن يكون الملئم مناســباا‪،‬‬
‫وسيتبين هذا في موضعه إن شاء ال‪.‬‬
‫) ( ذكر في الفصل الول تضارب المنقولت عن الماما مالك رحمه ال في‬ ‫‪3‬‬

‫قوله بالمناسبِّ المرسل‪ ،‬أو بالستدلل‪ ،‬وكذلك تعارض آراء أئمة الشافعية‬
‫في القول بالمرسل أو بالستدلل‪ ،‬وكذلك اختلفهم فيما ينسبِّ إلى المــاما‬
‫الشافعي رحمه ال‪ .‬وبيييينييا بعــد ذلــك اختلفَّ المقصــود بالمرســل عنــد‬
‫الئمة‪ ،‬واختلفَّ المواقف بناء على ذلك‪ .‬والنص أعله ينسبِّ إلــى المــامين‬

‫‪177‬‬
‫فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي‪ ،‬والصل‬
‫الكلي إذا كان قطعياا قد يساوي الصل المعين وقد يربى عليه‬
‫)‪(1‬‬
‫بحسبِّ قوةا الصل المعين وضعفه‪ ...‬كذلك أصل الستحسان‬
‫على رأي مالك ينبني على هذا الصل«هل)‪ . (2‬ونلحظ في هذا النص‬
‫أن الصل الكلي )المعنوي( أقوى من النص في دللته وذلك لن‬
‫الصل الكلي قطعي في معناه‪ ،‬أما النص فالقطع بمعناه متعذر أو‬
‫نادر إن وجد‪.‬‬
‫المقاصـد الوأل وأالمقاصـد التابعة‪:‬‬
‫يقول الشـاطبي في مقدمته السـابعـة‪» :‬كل علمم شـرعـي‬
‫فطـلـبِّ الشـارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به ل‬
‫تعالى ل من جهةم أخرى‪ .‬فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع‬
‫والقصد الثاني ل بالقصد الول«هل)‪ . (3‬وذلك أن المر أو النهي إذا‬
‫جاء من الشـارع فقصـد الشـارع إيقـاع المأمـور بـه وعــدما‬
‫إيقـاع المنـهـي عـنـه‪ ،‬وهذا هو القصـد الول‪ .‬بتعبيــر آخـر‬
‫القصــد الول هـو الطاعــة من غير التفات إلى النتائج أو‬
‫المصـالح ولذلك فالعلـم الشـرعي هو ما يفيــد في معرفـة أمـر‬

‫رحمهما ال القول بالستدلل المرسل‪ ،‬إل أنه يقيد ذلك بما هو ثــابت علــى‬
‫وجه القطع‪ ،‬وبما هو متفق مع منهجه‪ .‬وهذا يوقع في النفس أن هذا المنهــج‬
‫الستقرائي في القطع والعتماد على نتائجه معمول به عنــد الئمــة‪ ،‬وربمــا‬
‫كان هذا هو بعض مراده بقوله ‪ » :‬إل أن المتقــدمين مــن الصــوليين ربمــا‬
‫تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل إغفاله من بعض المتــأخرين«‬
‫‪ . 1/15‬وكذلك ما جاء في خطبة كتابه رداا لنكار من قد ينكر ما جاء في‬
‫منهجه‪ » :‬فإنه بحمد ال أمر قررته اليات والخبــار وشــد معاقــده الســلف‬
‫الخيار ورسم معالمه العلماء الحبار‪ ،‬وشيد أركانه انظار النظار‪ ،‬وإذا وضح‬
‫السبيل لم يجبِّ النكار ووجبِّ قبول ما حواه «هل خطبة الكتاب‪ .‬ص‪. 9 :‬‬
‫‪1‬‬
‫) ( ينسبِّ إلى الماما مالك رحمه ال قــوله‪ » :‬الستح ســان ت ســعة أع شــار‬
‫العلم«‪ .‬ومراد الشاطبي بالستحسان ت قــديم مع نــى أو أ صــل قط عــي علــى‬
‫القياس‪ ،‬أو تخصيص القياس بمعنى كلي‪ .‬وسنفرد له بحثاا إن شاء ال‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/16 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/30 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪178‬‬
‫ال ‪ -‬سـبحانه وتعالى ‪ -‬ونهيه‪ ،‬لجل معرفة كيف يطاع وكيف‬
‫يعبد‪ ،‬وذلك معنى قوله‪» :‬وسيلة إلى التعبد«هل‪.‬‬
‫فإذا ظهر أن في إيقاع ذاك الفعل أو في منعه م صــلحة دنيو يــة‬
‫للمكلف‪ ،‬فإذا كانت هذه المصلحة قـد ثبــت كونهـا معنــىا كليــاا‬
‫قطعياا قصده الشارع بتشريع ذلــك الح كــم‪ ،‬ت كــون حينئــذم أ صــلا‬
‫قطعياا‪ ،‬وهي مثل النص وتحصيلها بنية الطاعة هو بمثابــة القصــد‬
‫الول‪ .‬وإذا كانت تلك المصلحة المتوقعة ـ قطعاا أو ظنــاا ـــ لــم‬
‫يثبت قطعاا كونها مق صــداا لل شــارع بت شــريع ذلــك الح كــم‪ ،‬فهـو‬
‫المقصد الثاني أو المقصد التابع‪ .‬أي التابع للمقصد الول‪ ،‬والمعنى‬
‫بناءا على ما يقرر الشاطبي في مقدماته‪ ،‬أن هذا المعنى الثاني ظني‪،‬‬
‫فل ييعيديي أصلا‪ ،‬ول اعتبار له في التشريع‪ .‬ولكــن ل يمكــن نفيــه‬
‫البتة‪ ،‬إذ قد يتيسر له استقراء يجعله قطعياا‪ .‬ولذلك ينظر فيه فإن‬
‫كان مما يقويقي التمسك بالقصد الول فإنه ييعتبر‪ ،‬وإن كان م مــا‬
‫يضعف أو يضاد القصد الول ييريدي‪ .‬والقصد الول هو التعبد فيكون‬
‫القصد الثاني معتبراا إذا كان وسيلة للقصد الول‪ .‬ولذلك سيميقيي‬
‫تبعياا أو إضافياا‪ .‬فمثلا‪ :‬القصد الول من طلبِّ العلم والتعلم هــو‬
‫العمل‪ .‬قال‪» :‬كل علم ل يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل علــى‬
‫استحسانه«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬إن الشرع إنما جاء بالتعبد و هــو المق صــود‬
‫من بعثة النبياء عليهم السلما«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬بل أدلة التوحيد هكــذا‬
‫جاء مساق القرآن فيها‪ ، (3)    :‬إل كذا‪ ،‬وهو واضح في‬
‫أن التعبد ل هو المقصود من العلــم‪ ،‬وال يــات فــي هــذا المع نــى ل‬
‫تحصى«هل )‪ . (4‬وقال‪» :‬روح العلم هو العمل وإل فالعلم عارية وغيــر‬
‫منتفع به«هل)‪ . (5‬ثم قال‪» :‬ول ينكقــر ف ضــلي العلــم فــي الجملــة إل‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/30 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/31 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫من الية ‪ 3‬من سورةا طه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/31 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪179‬‬
‫جاهل‪ ،‬لكن له قصد أصلي وقصد تــابع‪ ،‬فالق صــد ال صــلي مــا ت قــدما‬
‫ذكريه‪ ،‬وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور مــن كــون صــاحبه‬
‫شريفاا وإن لم يكن في الصل كذلك‪ .‬وأن الجاهل دنيء وإن كــان‬
‫في أ صــله شــريفاا‪ ...‬وأن العلــم ج مــال و مــال ورتبــة ل توازي هــا‬
‫رتبة«هل )‪. (1‬‬
‫ثم قال‪» :‬فقد يطلبِّ العلم للتفكه به والتلذذ بمحادثته ول‬
‫سيما العلوما التي للعقول فيها مجال وللنظر في أطرافها متسع‬
‫ولستنباط المعلوما من المجهول فيها طريق متييسع‪ ،‬ولكن كل تابع‬
‫من هذه التوابع إما أن يكون خادماا للقصد الصلي أو ل‪ ،‬فإن كان‬
‫خادماا له فالقصد إليه ابتداء صحيح‪ ،...‬وإن كان غير خادما له‬
‫فالقصد إليه ابتداء غير صحيح كتعلمه رياءا أو ليماري به السفهاء‬
‫أو يباهي به العلماء‪ ،‬أو يستميل به قلوب العباد‪ ،‬أو لينال من‬
‫دنياهم«هل )‪ . (2‬وقال أيضاا‪» :‬المقاصد الشـرعية ضربان‪ :‬مقاصـد‬
‫أصـلية ومقاصد تابعية‪ ،‬فأما المقاصد الصلية فهي التي ل حظ‬
‫فيها للمكلف«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي‬
‫فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جيبلي عليه من‬
‫نيل الشـهوات والستمتاع بالمباحات وسد الخلت«هل)‪. (4‬‬
‫فالشاطبي يطلق المقاصد التابعية على ما تؤول إليه الحكاما‬
‫مما يميل إليه العبد بطبعه وفطرته‪ ،‬وهذه يعتمد اعتبارها أو ردها‬
‫على كونها وسيلة إلى المقصد الول أو ليست كذلك‪ .‬فإن كانت‬
‫وسيلة إلى المقصد الول أو خادماا له فهي مقصد شرعي تابع‪ ،‬وإن‬
‫لم تكن كذلك فهي ليست مقصداا للشارع‪ ،‬وربما تكون مقصداا‬
‫للمكلف‪ ،‬فإن كانت مضادةا للقصد الول فهي حراما‪.‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/35 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/36 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/120 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/124 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪180‬‬
‫خإواص الكليات‪:‬‬
‫يقول الشاطبي في مقدمته التاسعة إن العلوما الشرعية تجاري‬
‫العلوما العقلية من حيث إمكانية القطع بها أو استفادةا القطع منها‪.‬‬
‫وكما أن الحقائق الشرعية هي وضعية أي بجعل الشارع لها‬
‫كذلك فحقائق الوجود والشياء هي أيضاا وضعية بجعل الخالق‬
‫لها كذلك يقول‪» :‬فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادةا العلم‬
‫القطعي‪ .‬وعلم الشريعة من جملتها‪ ،‬إذ العلم بها مستفاد من‬
‫الستقراء العاما الناظم لشتات أفرادها حتى تصير في العقل‬
‫مجموعةا في كليات‪ :‬مطردةا عامة‪ ،‬ثابتة غير زائلة ول متبدلة ول‬
‫محكوما عليها‪ ،‬وهذه خواص الكليات العقليات‪ ،‬وأيضاا فإن الكليات‬
‫العقلية مقتبسة من الوجود‪ ،‬وهو أمر وضعي ل عقلي فاستوت مع‬
‫الكليات الشرعية بهذا العتبار وارتفع الفرق بينهما«هل)‪ . (1‬وعلى‬
‫ذلك فللكليات الشرعية ثلثا خواص‪ :‬إحداها العموما والطراد‪...،‬‬
‫والثانية الثبوت من غير زوال‪ ...،‬والثالثة كون العلم حاكماا ل‬
‫محكوماا عليه)‪. (2‬‬
‫معنى الخاصية الولى أن الحكاما الشرعية تجري في أفعال‬
‫المكلفين على الطلق‪ ،‬فما من فعل إل محكوما عليه بكلية شرعية‪،‬‬
‫وإن فيرض فعلي ليس محكوماا عليه بكلية ما‪ ،‬فهو محكوما عليه‬
‫بكليةم غيرها)‪. (3‬‬
‫ومعنى الخاصية الثانية أن الكليات ل تنسخ ول تخصص ول‬
‫تقيد‪ ،‬ول تتغير بحسبِّ زمان أو مكان‪ ،‬بل إن ما نستفيده من مقارنة‬
‫الشاطبي للكليات الشرعية بالكليات العقلية أن الكليات الشرعية‬
‫ليست مجرد حقائق قطعية وإنما هي حقائق قطعية مطلقة‪ ،‬فل‬
‫تختص بزمان دون زمان ول بمكان دون مكان ول بمكلف دون‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪. 44 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 45 - 44 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المقدمة التاسعة‪. 44 - 1/43 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪181‬‬
‫مكلف‪ .‬يقول‪» :‬فل تجد فيها بعد كمالها نسخاا‪ ،‬ول تخصيصاا‬
‫لعمومها‪ ،‬ول تقييداا لطلقها ول رفعاا لحكم من احكامها‪ ،‬ل بحسبِّ‬
‫عموما المكلفين ول بحسبِّ خصوص بعضهم ول بحسبِّ زمان دون‬
‫زمان ول حال دون حال‪ ،‬بل ما أثبت سبباا فهو سببِّ أبداا ل يرتفع‪،‬‬
‫وما كان شرطاا فهو أبداا شرط‪ ،‬وما كان واجباا فهو واجبِّ أبداا أو‬
‫مندوباا فمندوب وهكذا جميع الحكاما فل زوال لها ول تبدل‪ ،‬ولو‬
‫فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك«هل)‪، (1‬‬
‫ومعنى الخاصية الثالثة أنه ل يوجد في العلوما الشرعية شيء تنقضه‬
‫الحقائق سواء الشرعية أو العقلية‪ ،‬أو تعارضه بحيث يضطر إلى‬
‫تأويله تأويلا ل يحتمله النص‪ ،‬لنه يصير إذ ذاك محكوماا وليس‬
‫حاكماا)‪. (2‬‬
‫ويبين الشاطبي أن هذه الكليات هي الصل في علوما الشريعة‬
‫وهي مآخذ الحكاما‪ .‬والمعتمد في التشريع هو ما كان كلياا أو‬
‫راجعاا إلى كلي فما كان كذلك فهو من صـلبِّ العلم‪ ،‬وما لم‬
‫يكـن كـذلك فل اعتبار له على منهجه‪ .‬يقول‪» :‬من العلم ما هو‬
‫من صلبِّ العلم ومنه ما هو من ملح العلم ل من صلبه ومنه ما ليس‬
‫من صلبه ول من ملحه فهذه ثلثة أقساما‪ .‬القسم الول هو الصل‬
‫والمعتمد والذي عليه مدار الطلبِّ وإليه تنتهي مقاصد الراسخين ‪،‬‬
‫وذلك ما كان قطعياا أو راجعاا إلى أصل قطعي«هل )‪ . (3‬وقال‪:‬‬
‫»والقسم الثاني وهو المعدود في ملح العلم ل في صلبه‪ :‬ما لم يكن‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/45 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( وعلى ذلك فالكليات سواء كانت عقلية أو شرعية هي حقائق مطلقة‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫والحقائق الشرعية هي حقائق عقلية أيضاا‪ ،‬لنها مبنية على الثبوت العقلي‬
‫القطعي لنبوةا سيدنا محمد ‪ ، ‬وعلى القطع بصدق رسالته وخبره‪ .‬فالقطع‬
‫بكون القرآن من عند ال طريق ه العقل أساساا ‪ .‬وعلى ذلك فالخبار‬
‫الشرعية وكل ما جاء به النبي ‪ ‬مما ل مجال للعقل في بحثه مبني على‬
‫العقل من حيث أن صدق الخبر مقطوع به عقلا ‪.‬‬
‫الموافقات‪ . 1/43 .‬وسنبين بعد قليل مراد الشاطبي بالرجوع إلــى‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أصل قطعي‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫قطعياا ول راجعاا إلى أصل قطعي‪ ،‬بل إلى ظني أو كان راجعاا إلى‬
‫أصل قطعي‪ ،‬إل أنه تخلييف عنه خاصة من تلك الخواص‪ ،‬أو أكثر‬
‫من خاصة واحدةا‪ ،‬فهو ميخيل)‪ ، (1‬ومما يستفز العقل ببادئ الرأي‬
‫والنظر الول من غير أن يكون فيه إخلل بأصله ول بمعنى‬
‫غيره«هل )‪ . (2‬وهذا القسم مطرح عند الشاطبي)‪. (3‬‬
‫والقسم الثالث وهو ما ليس من الصيليبِّ ول من المقليح‪ ،‬وهو‬
‫ما لم يرجع إلى أصل قطعي ول ظني‪ ،‬وإنما شأنه أن يكريي على أصله‬
‫أو على غيره بالبطال مما صح كونه من العلوما المعتبرةا والقواعد‬
‫المرجوع إليها في العمال والعتقادات أو ما كان منهضاا إلى‬
‫إبطال الحق وإحقاق الباطل فهذا ليس بعلم لنه يرجع على أصله‬
‫بالبطال‪ ،‬فهو غير ثابت ول حاكم ول مطرد أيضاا‪ ،‬ول هو من‬
‫ملحه‪ ،‬لن الملح هي التي تستحسنها العقول وتستملحها‬
‫النفوس«هل )‪ . (4‬وقال عن هذا القسم‪» :‬وإن مال بقوما فاستحسنوه‬
‫وطلبوه فلشبه عارضه واشتباه بينه وبين ما قبله فربما عده‬
‫الغبياء مبنياا على أصل‪ ،‬فمالوا إليه من ذلك الوجه‪ ،‬وحقيقة أصله‬
‫وهم وتخييل ل حقيقة له مع ما ينضافَّ إلى ذلك من الغراض‬
‫والهواء«هل)‪. (5‬‬

‫) ( أي‪ :‬يوقع في القلبِّ خيال الصحة‪ ،‬فهو م م ا تتلقاه العقول بالقبول أو‬ ‫‪1‬‬

‫تستملحه النفوس‪ .‬وفــي هــذا الق ســم تقــع ‪ -‬عنــد الشــاطبي ‪ -‬المعــاني أو‬
‫الوصافَّ التي تأتي في مسلكي المناسبة والشبه‪ ،‬أو بطريق الستدلل ما لــم‬
‫تكن قطعية ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/45 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( موقف الشاطبي من المعاني الواقعة في هذا القسم يشبه موقف السادةا‬ ‫‪3‬‬

‫الحنافَّ من مسلك المناسبة‪ ،‬إذ هو ظني ول يرجع إلى أصل قطعي‪ ،‬والظن‬
‫فيه هو ليس من قبيل الظن المعمول به في الشرعيات وإنما هو ظن عقلــي‬
‫محض‪ .‬ولذلك فهذا القسم غير معتبر‪ ،‬وقد تتوفر للمعاني أدلة تســتكمل‬
‫بها خوا ص ها الثلثا فتعد من المعتبر‪ ،‬وقد يتوفر لها ما تعد به مــن الق ســم‬
‫الثالث لجنايته على الشريعة‪ .‬أنظر‪. 50 - 1/46 :‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/51 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪183‬‬
‫وهذه النصـوص عن الشاطبي تشير أو تؤسس لموقفه من‬
‫مسلك الخالة والمناسبة‪ ،‬أو كيفية اعتبار المصلحـة‪ ،‬والبحث‬
‫التالي يبين بشـكل أوضح موقفه هذا في كيفية اعتبار المصالح أو‬
‫الحقكيم في التشـريع‪.‬‬
‫مإعنى الرجأوع إلى أصـل قطعي‪:‬‬
‫قال الشاطبي إن الصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلبِّ ما‬
‫كان قطعياا أو راجعاا إلى أصل قطعي )‪. (1‬جاء في مقدمته الولى‬
‫قوله‪» :‬واعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات‬
‫والتحسينيات«هل )‪ . (2‬وجاء في مقدمته التاسعة‪» :‬الضروريات‬
‫والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل لها ومتمم لطرافها وهي‬
‫أصول الشريعة وقد قاما البرهان القطعي على اعتبارها وسائر‬
‫الفروع مستندةا إليها«هل)‪. (3‬‬
‫واشتراط القطع بأصول الفقه معروفَّ ومشهور عند‬
‫الصوليين‪ ،‬وقد أشار إلى ذلك الشاطبي في مقدمته الولى‪ .‬ومراد‬
‫الصوليين بالصول التي يجبِّ أن تكون قطعية الدلةي الجماليةي أو‬
‫المصادري الكلية للتشريع وهي القرآن والسنة والجماع والقياس‪.‬‬
‫أما غير ذلك من مباحث الصول مثل مسالك العلة وشروطها‪،‬‬
‫ومثل مباحث العموما والخصوص والمطلق والمقيد وشروط‬
‫الرواية والرواةا فهذه ل يشترط فيها القطع وييكتفى فيها بغلبة‬
‫الظن‪.‬‬
‫قال الجويني‪» :‬فإن قيل‪ :‬فما الفقه؟ قلنا‪ :‬هو في اصطلح‬
‫علماء الشريعة العلم بأحكاما التكليف‪ .‬فإن قيل‪ :‬معظم متضميين‬
‫مسائل الشريعة ظنون‪ .‬قلنا‪ :‬ليست الظنون فقهاا‪ ،‬وإنما الفقه‬
‫العلم )‪ ( 4‬بوجوب العمل عند قياما الظنون‪ ،‬ولذلك قال المحققون‪:‬‬

‫) ( أنظر الصفحة السابقة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر ص‪ 137 :‬من هذا البحث ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/44 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( أي العلم القطعي بوجوب العمل بموجبِّ الخبار الظنية في ثبوتها أو‬ ‫‪4‬‬

‫دللتها أو كليهما ‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫أخبار الحاد وأقيسة الفقه ل توجبِّ عملا لذواتها‪ ،‬وإنما يجبِّ‬
‫العمل بما يجبِّ به العلم بالعمل وهي الدلة القاطعة على وجوب‬
‫العمل عند رواية أخبار الحاد وإجراء القيسة‪ .‬فإن قيل‪ :‬فما أصول‬
‫الفقه؟ قلنا‪ :‬هي أدلته‪ ،‬وأدلة الفقه هي الدلة السمعية وأقسامها‬
‫نص الكتاب‪ ،‬ونص السنة المتواترةا‪ ،‬والجماع ومستند جميعها قول‬
‫ال تعالى‪ .‬ومن هذه الجهة تستمد أصول الفقه من الكلما‪ .‬فإن قيل‪:‬‬
‫تفصيل أخبار الحاد والقيسة ل ييلفى إل في الصول وليست‬
‫قواطع‪ .‬قلنا‪ :‬حظ الصولي إبانة القاطع في العمل بها ولكن ل بد‬
‫من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به«هل)‪. (1‬‬
‫وقال الماما جمال الدين عبد الرحيم السنوي‪» :‬وأما بالحاد‬
‫فهو باطل لن رواية الحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن‪ ،‬والشارع إنما‬
‫أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد‬
‫أصول الدين وكذلك قواعد أصول الفقه كما نقله النباري شارح‬
‫البرهان عن العلماء قاطبةا«هل)‪. (2‬‬
‫وقال البيضاوي‪» :‬أصـول الفقـه معرفـة دلئـل الفقـه‬
‫إجمالا وكيفيـة السـتفادةا منها وحال المستفيد«هل )‪. (3‬‬
‫وقال السنوي في شرحه للنص أعله‪» :‬والمراد بمعرفة‬
‫الدلة أن يعرفَّ أن الكتاب والسنة والجماع‪ ،‬والقياس أدلة يحتج‬
‫بها‪ ...‬واعلم أن التعبير بالدلة مخرج لكثير من أصول الفقه‬
‫كالعمومات وأخبار الحاد والقياس والستصحاب وغير ذلك فإن‬
‫الصوليين وإن سلموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان في أصول الفقه‪ . 79 - 1/78 .‬فقرةا‪. 6 - 5 - 4 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬
‫جمال الدين عبد الرحيم السنوي‪ ،‬نهايــة ال ســول فــي شــرح من هــاج‬ ‫)(‬
‫الصول‪ . 2/270 ،‬وعلى ذلك فالظن ييعمل به إذا كان مبنياا علــى أصــل‬
‫ثابت قطعاا أنه من مصادر التشريع‪ .‬فالحديث المنسوب للنبي ‪ ‬العمل بــه‬
‫واجبِّ وإن لم يكن قطعي الثبوت‪ ،‬لنه ثابت قط عــاا أن ال ســنة مــن م صــادر‬
‫التشريع أي أنها وحي‪.‬‬
‫القاضي ناصر الدين بن عمر البيضاوي‪ ،‬من هــاج الو صــول إلــى علــم‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الصول‪ . 1/5 ،‬ومعه نهاية السول للسنوي‪ ،‬عالم الكتبِّ ‪ -‬بيروت‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫أمارات له فإن الدليل عندهم ل يطلق إل على المقطوع به«هل)‪. (1‬‬
‫وعلى ذلك فمراد الصوليين‪ ،‬قبل الشاطبي‪ ،‬بأصول الفقه التي‬
‫يجبِّ أن تكون قطعية هو القرآن والسنة وما يرشدان إليه من‬
‫مصادر إجمالية وهي الجماع والقياس‪ .‬أما الشاطبي فهو ل يقصر‬
‫اشتراط القطع على هذه المصادر‪ ،‬إذ الكليات عنده هي الضروريات‬
‫والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها‪ .‬فإذا علمنا أن‬
‫الضروريات عنده هي حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال‪،‬‬
‫فهذا يدل أن هذه المقاصد يجبِّ أن تكون قطعية كي تعتبر‪ ،‬فل‬
‫يكتفي فيها بالظن وبكونها مستندةا إلى أصول قطعية كالقرآن‬
‫والسنة‪ .‬وكذلك إذا علمنا أن مشروعية النكاح‪ ،‬ورفع الضرر‪،‬‬
‫وعدما التكليف بالمشقات المعنتة هي من المقاصد الحاجييية عنده‬
‫فهذا يعني انها يجبِّ أن تثبت على سبيل القطع كي تعتبر‪ .‬وكذلك‬
‫يقال في مرتبة التحسينيات وفي المكميقلت‪ .‬فإذا ثبتت هذه المعاني‬
‫تصبح أصولا أي مصادر للتشريع عنده‪ ،‬يستدل بها كما يستدل‬
‫بالنصوص الشرعية‪.‬‬
‫وإذا لم تثبت المعاني ثبوتاا قطعياا بطريق الستقراء فإما أن‬
‫ترجع إلى أصل قطعي وإما أن ل ترجع‪ .‬فإن رجعت إلى أصل قطعي‬
‫فل إشكال في إعمالها في التشريع‪ .‬وإن لم ترجع ففي المر تفصيل‬
‫يذكر في موضعه إن شاء ال‪ .‬قال‪» :‬كل دليل شرعي إما أن يكون‬
‫قطعياا أو ظنياا‪ .‬فإن كان قطعياا فل إشكال في اعتباره‪ ...‬وإن‬
‫كان ظنياا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو ل‪ ،‬فإن رجع إلى قطعي‬
‫فهو معتبر أيضاا‪ ،‬وإن لم يرجع وجبِّ التثبت فيه ولم يصح اطلق‬
‫القول بقبوله«هل)‪. (2‬‬
‫أما معنى الرجوع إلى أصل قطعي ‪ ،‬فمثاله‪ :‬قــول النــبي ‪» :‬ل‬

‫) ( السنوي‪ ،‬نهاية السول في شرح منه ا ج الصول‪. 11 - 1/9 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/7 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪186‬‬
‫ضأرر وأل ضأرار«)‪ ، (1‬فهو خبر آحاد غير قطعي‪ ،‬ولذلك فهو ـ على‬
‫منهج الشاطبي ـ جزئية‪ ،‬وليس أصلا قطعياا كلياا‪ ،‬فل يصح إعماله‬
‫حتى يثبت رجوعه إلى أصل قطعي‪ ،‬ول يقال هنا إنه من السنة وهــي‬
‫مصدر قطعي أو أصل كلي‪ ،‬إذ ليس هذا معنــى الر جــوع إ لــى أ صــل‬
‫قطعي عند الشاطبي‪ ،‬وإن مــا المعنــى هــو أن ي كــون معنــى ال حــديث‬
‫موافقاا لمعنى شرعي قطعي أي لمعنــى كلــي‪ ،‬ثبــت كــونه كليــاا‬
‫باستقراء أدلة كثيرةا )جزئيات( تضافرت على هذا المعنــى‪ .‬يقــول‬
‫الشاطبي‪» :‬قوله عليه الصلةا والسلما‪» :‬ل ضأرر وأل ضأرار« فإنه‬
‫داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مبثــوثا‬
‫منعه في الشريعة في وقائع جزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫[ ‪    [( )، ]  ‬‬
‫‪ (4) ]   [(3)، ]    ‬الية‪،‬‬
‫ومنه النهي عن التعدي على النفــوس والمــوال والعــراض‪ ،‬وعــن‬
‫الغصبِّ والظلم‪ ،‬وكل ما هو في المعنى إ ضــرار أو ضــرار‪ ،‬و يــدخل‬
‫تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال‪ ،‬فهو معنى في‬
‫غاية العموما في الشريعة ل مراء فيه ول شك«هل)‪. (5‬‬
‫والكثار من النصوص والشواهد التي يستدل بها إنما هو ليتم‬
‫الستقراء ومن ثم القطع‪ .‬وبهذا يصير معنى رفع الضرر أصلا‬
‫كلياا‪ ،‬والمعنى الذي يتضمنه الحديث‪ ،‬وافق الصل الكلي‪ ،‬وهو‬
‫جزئية‪ ،‬وبذلك يقال إنه راجع إلى أصل كلي فيكون معتبراا‪.‬‬
‫وبهذا يتأكد مقصود الشاطبي بلفظ الصول‪ ،‬وبمنهج‬
‫تقريرها وهو الستقراء وبمعنى الرجوع إلى أصل قطعي‪ ،‬وهو من‬
‫بعض جديده الذي يقفنا على بعض ضوابط أو قواعد منهجه‪ .‬وقد‬
‫تقدما تخريجه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا البقرةا ‪. 231 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا الطلق ‪. 6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 233 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/8 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪187‬‬
‫أشار هو ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬إلى هذا الختلفَّ بينه وبين الصوليين قبله‪.‬‬
‫قال‪» :‬واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الصل القطعي ليس بإقامة‬
‫الدليل على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو‬
‫بالقياس واجبِّ مثلا‪ .‬بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدما في‬
‫حديث »ل ضرر ول ضرار«هل والمسائل المذكورةا معه وهي معنى‬
‫مخالف للمعنى الذي قصده الصوليون وال أعلم«هل)‪. ( 1‬‬
‫الجـزئاي وأالفـرع وأالفـرق بينهما‪:‬‬
‫تبيين فيما سبق أن أصول الفقه هي كليات مأخذها الجزئيات‪.‬‬
‫وأن هذه الجزئيات هي دللت ومعاني النصوص الشرعية‪ .‬وإن هذه‬
‫الجزئيات ظنية فل تعتبر إل إذا كانت راجعةا إلى الكليات‪ .‬ومعاني‬
‫النصوص الشرعية هي دللتها اللغوية‪ ،‬والوصافَّ المخيلة أو‬
‫المناسبة للحكاما‪ ،‬ومآلت ونتائج ومسببات الحكاما‪ ،‬فهذه وإن‬
‫كانت ظنية تدل عليها النصوص‪ ،‬أو ل تدل عليها وإنما هي مظنة أن‬
‫تكون مقصودةا للشارع‪ ،‬فهذه جزئيات‪.‬‬
‫فإذا رجع أحد هذه المعاني ‪ -‬وهو جزئي ‪ -‬إلى أصل كلي‪،‬‬
‫ييسمييى حينئذم فرعاا‪ .‬وعلى هذا فكل فرعم جزئيي وليس كل‬
‫جزئي فرعاا‪ .‬وعدما رجوع الجزئي إلى كلي فرقي يمييقز الجزئي‬
‫عن الفرع‪.‬‬
‫يتبين هذا الفرق من التتبع التحليلي لنصوص الشاطبي حيث‬
‫يستعمل هذين اللفظين وفيما يلي توثيق ما ذكرناه‪:‬‬
‫قال الشاطبي في مقدمته الولى‪» :‬الحفظ المضمون في قوله‬
‫)‪(2‬‬
‫تعالى‪]        [ :‬‬
‫إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة وهـو المـراد بقـوله‬
‫تعالى‪ (3) ]     [ :‬أيضاا‪ .‬ل أن المراد‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/12 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا الحجر ‪. 9 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا المائدةا ‪. 3 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪188‬‬
‫المسائل الجزئية إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الح فــظ جز ئــي‬
‫من جزئيات الشريعة‪ ،‬وليس كذلك لنا نقطــع بــالجواز ويؤيــده‬
‫الوقوع لتفاوت الظنون وتطرق الحتمالت في النصــوص الجزئيــة‬
‫ووقوع الخطأ فيها قطعاا‪ .‬فقد وجد الخطأ في أخبار ال حــاد‪ ،‬و فــي‬
‫معاني اليات‪ ،‬فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ مــا كــان منــه‬
‫كلياا«هل )‪. (1‬‬
‫وقال في مقدمته التاسعة‪» :‬ما كــان قطعيــاا أو راجعـاا إلــى‬
‫أصل قطعي‪ ،‬والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الــوجه‪،‬‬
‫ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال تعالى‪ [ :‬‬
‫‪ ، ]       ‬لنها ترجع إلى‬
‫حفظ المقاصد التي بها ي كــون صــلح الــدارين‪ ،‬و هــي ال ضــروريات‬
‫والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل لها ومتمم لطراف هــا‪ ،‬و هــي‬
‫أصول الشريعة‪ ،‬وقد قاما البر هــان القط عــي علــى اعتبار هــا و ســائر‬
‫الفروع مستندةا إليها‪ ،‬فل إشكال في أنها علمي‪ ،‬أصلي‪ ،‬راسخ الساس‪،‬‬
‫ثابت الركان«هل )‪. (2‬‬
‫فالنص الول أعله يقول بأن الجزئيات ل تدخل في معنى‬
‫الحفظ المقصود بالية الكريمة‪ ،‬والنص الثاني يقول بأن الفروع‬
‫محفوظة بدليل الية نفسها‪ .‬وبمعرفة أن الجزئيات هي مأخذ‬
‫الكليات‪ ،‬ومعنى الرجوع إلى القطعي‪ ،‬يتأكد الفرق المذكور‬
‫آنفاا)‪. (3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/13 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 44 - 1/43 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( وبناء على هذا يمكن القول إن ما ذهبِّ إليه محققو كتاب الموافقات‬ ‫‪3‬‬

‫كالشيخ محمد الخضر حسين التونسي والدكتور عبد ال دراز وأبو‬


‫عبيده مشهور بن حسن آل سلمان في تعليقاتهم على مقدمات الكتاب‬
‫وخاصة الولى والثانية والثالثة والتاسعة‪ ،‬بعيد عن حقيقة مبتغى‬
‫الشاطبي من هذه المقدمات‪ .‬وكذلك غيرهم من المعلقين الذين أوردهم‬
‫الخير‪ .‬أنظر‪ :‬الموافقات‪ . 18 - 1/17 ،‬وما بعدها‪ .‬المجلد الول‬
‫بتحقيق‪ :‬أبو عبيدةا مشهور بن حسن آل سلمان‪ ،‬ط ‪ 1421 . 1‬هـ ‪ .‬دار ابن‬

‫‪189‬‬
‫وبهذا يتبيين أن الشاطبي ل يأخذ بمسلك الخالة والمناسبة‬
‫بالشكل الذي يقوله علماء الشافعية‪ ،‬وهو أيضا‪ ،‬ل يطرحه كما فعل‬
‫علماء الحنفية‪ ،‬وإنما هو يشترط للمعنى أو الوصف المقترح‬
‫للتعليل أن يكون راجعاا إلى قطعي‪ ،‬وبغير ذلك فهو ل يأخذه‪.‬‬
‫وكذلك ل يرده إذ قد تتوفر له جزئيات تتضافر معه لتشكل معنى‬
‫قطعياا‪ .‬وهذا مما يجبِّ التنبه إليه لدراك منهج الشاطبي‪.‬‬

‫عفان جمهورية حمصر العربية‪ .‬وهو في ‪ 6‬مجلدات ‪.‬‬


‫وقد نسبوا التناقض إلى الشاطبي حيث قال إن الجزئيات غير م شــمولة‬
‫بالحفظ والفروع محفوظة‪ .‬و هــذا خ طــأ آ خــر عنــدهم يــدل علــى عــدما‬
‫تفريقهم بين الجزئي والفرع فــي من هــج ال شــاطبي‪ .‬أن ظــر‪ :‬المواف قــات‪،‬‬
‫‪ 1/12‬و ‪ 1/44‬من تحقيق الشيخ التونسي‪ .‬و ‪ 1/32‬من تحقيق الــدكتور‬
‫دراز‪ .‬و ‪ 1/22‬و ‪ 1/107‬من تحقيق أبي عبيدةا‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫فـي المسـتندات‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫خصييص الشاطبي القسم الثاني من كتاب الموافقات لبحث‬
‫الحكاما الشرعية والحكاما الشرعية ترجع إما إلى خطاب التكليف‬
‫وإما إلى خطاب الوضع‪ .‬وخطاب التكليف خمسة أنواع‪ :‬الواجبِّ أو‬
‫الفرض‪ ،‬والمندوب‪ ،‬والمباح‪ ،‬والمكروه‪ ،‬والحراما‪ .‬وخطاب الوضع‬
‫خمسة وهي‪ :‬السببِّ‪،‬والشرط‪ ،‬والمانع‪ ،‬والصحة والفساد والبطلن‪،‬‬
‫والرخصة والعزيمة‪.‬‬
‫وقد تح ـ دثا الشـاطبي في كتـاب الحكاما)‪ (1‬عن هـذه‬
‫النـواع‪ ،‬وأكثـر ما فصيـل فيه فيما يتعلق بخطاب التكليف بحثه‬
‫في المباح‪ ،‬وفيما يتعلق بخطاب الوضع بحثه في السـببِّ وفي‬
‫الرخصة والعزيمة‪.‬‬
‫ويعود ذلك الى ما لهذه الحكاما من تأثير في فكرةا المقاصد‬
‫عنده‪ .‬فإذا علمنا أن فكرته تقوما على أن كل الحكاما الشرعية‬
‫ترجع إلى أصول كلية مصلحية‪ ،‬فإن المباح وهو حكم شرعي من‬
‫أحكاما التكليف‪ ،‬ومعناه ما خييير الشارع فيه بين الفعل والترك‪،‬‬
‫يتناقض مع هذا الصل وينقض فكرته التي هي ‪ -‬بنظره ‪ -‬أصل‬
‫قطعي كلي‪ .‬فالذن بالفعل يعني أن هناك مصلحةا يقصد الشارع‬
‫وجودها‪ ،‬والذن بالترك يعني ان الشارع ل يقصد وجود تلك‬
‫المصلحة‪ ،‬وهذا تناقض وينقض فكرةا أن الحكاما كلها لها غايات أو‬
‫مقاصد‪.‬‬
‫ولهذا فإن الشـاطـبـي يـوجيقـه النـظـر إلى المباح بطريقة‬
‫مختلفة‪ .‬فيقول إن التخيير في المباح هو من حيث كونه جزئياا‪،‬‬
‫وهذا ل ينقض الفكرةا لن الغايات المصـلـحـيـة تنطبق على‬

‫) ( الموافقات‪ 1/68 .‬وما بعدها ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪191‬‬
‫الصول الكلية وليس على الجزئيات‪ ،‬وفي الكليات ل يوجد تخيير‪.‬‬
‫إذ المباح هو مباح بالجزء ولكنه مطلوب الفعل أو مطلوب الترك‬
‫بالكل‪ .‬وينطبق القول نفسه على الرخصة والعزيمة‪ ،‬إذ حكم الخذ‬
‫بالرخصة أو تركها الباحة‪ ،‬فإذا كان إتيان الرخصـة وإتيـان‬
‫العزيمـة مباحيينن فأين المصلحة‪ ،‬أهي في الخذ بالرخصة أما في‬
‫الخذ بالعزيمة؟ لهذا يطول بحث الشاطبي في المباح وفي الرخصة‪،‬‬
‫وذلك كي يحافظ على صحة فكرته‪.‬‬
‫أما بحث السـببِّ فهو أسـاس مهم لفكرته‪ ،‬إذ هي تقوما على أن‬
‫الحكاما الشرعية لها مقاصد‪ ،‬وإنما كانت الشريعة لجل تحقيق‬
‫هذه المقاصد‪ ،‬فهذه المقاصد هي مسببات أو نتائج‪ ،‬أسبابها هي‬
‫الحكاما الشرعية‪ .‬فالحكم الشرعي سببِّي لمسبييبِّ‪ ،‬والفعل المطلوب‬
‫له غاية تنتج عنه‪ ،‬ومثلما قصد الشـارع إيقاع الفعل المطلوب‪ ،‬فهو‬
‫قصـد أيضاا حصول الغايـة منه‪ ،‬والفعل المنهي عنه له غاية أو‬
‫نتيجة قصد الشارع عدما وقوعها‪ ،‬ومثلما قصد الشارع عدما وقوع‬
‫الفعل‪ ،‬فهو قصد أيضاا عدما وقوع نتيجته‪ ،‬لذلك فإن بحث السباب‬
‫والمسببات هو الساس الذي تستند إليه فكرةا المقاصد عند‬
‫الشاطبي‪.‬‬
‫المباح‪:‬‬
‫ربما يستغرب قارئ بحث المباح عند الشاطبي تطويله‬
‫وتفصيله في هذا البحث‪ ،‬واختلفَّ تقريراته عن غيره من‬
‫الصوليين‪ ،‬بحيث يكاد يكون بحثه في الحكاما التكليفية بحثاا في‬
‫المباح فقط‪ ،‬وبحثه في سائر الحكاما الخرى وهي الواجبِّ‬
‫والمندوب والمكروه والحراما تقتصر على جمل أو فقرات قليلة‪.‬‬
‫إل أن دراسة هذه البحاثا‪ ،‬بعد الوقوفَّ على فكرته في‬
‫المقاصد‪ ،‬تلقي أضواءا تبريقر هذا المنهج‪ ،‬وذلك أن الشاطبي يجعل‬
‫ما تأصل لديه من قواعد كلية‪ ،‬ومن علقة هذه القواعد فيما بينها‬
‫أساساا لرائه وتقريراته في المباح‪ .‬وهذا يقتضي عرض بعض‬

‫‪192‬‬
‫أصول أو قواعد فكرةا المقاصد عنده‪.‬‬
‫يقطع الشـاطبي ‪ -‬اسـتقراءا ‪ -‬أن الشـريعة إنما جاءت لمصالح‬
‫العباد‪ ،‬وهذه المصالح هي مقاصد التشريع‪ ،‬وهي ل تعدو أن تكون‬
‫ثلثة أقسـاما‪ :‬ضـرورية وحاجيـة وتحسـينية‪ ،‬ولكل يق من هذه‬
‫القساما مكملته‪.‬‬
‫وكل مقصد يجبِّ أن يكون كلياا قطعياا‪ ،‬ويجبِّ أن يعود‬
‫بالخدمة والتأكيد على المقاصد الضرورية وهي‪ :‬حفظ الدين‬
‫والنفس والعقل والنسل والمال‪ .‬والتحسينيات خادمة للحاجيات‪،‬‬
‫وكلتاهما تخدمان الضروريات‪.‬‬
‫والحكاما الشـرعية يجبِّ أن ترجع إلى أحد الصـول‬
‫التحسـينية أو الحاجية أو الضرورية‪ ،‬بمعنى أنه يجبِّ أن يكون‬
‫مقصد كل حكم مؤيداا أو خادماا لمصلحةم ثبتت بالستقراء كليةا‬
‫قطعية في إحدى المراتبِّ الثلثا‪ .‬وإن لم يظهر رجوع الحكم إلى‬
‫أصلم ما فإما أن يكون مردوداا وإما أن ييتيويقييف فيه‪.‬‬
‫ومعنى أن الشريعة جاءت لمصالح العباد‪ ،‬أنه ل يوجد حكم ل‬
‫يعود بالمصلحة على العباد‪ ،‬حتى ولو لم يكن عائداا بالضرر‪،‬‬
‫وتصور وجود هكذا حكم يعني أنه عبث‪ ،‬والشريعة ليس فيها عبث‪.‬‬
‫والفعل المطلوب شرعاا‪ ،‬سواء كان واجباا أو مندوباا‪ ،‬هو‬
‫خادماي لصل كلي أو أكثر من الصول التي هي مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫والفعل المنهي عنه شرعاا‪ ،‬سواء كان حراماا أو مكروهاا‪،‬‬
‫يهدما أو يخدما هدما أصلي كلي أو أكثر من الصول التي هي‬
‫المقاصد أو المصالح‪.‬‬
‫بهذه الصول أو القواعد لفكرةا المقاصد يتوجه بحث المباح‬
‫عند الشاطبي‪.‬‬
‫فإذا قيل إن المباح هو ما خييير الشارع فيه بين الفعل والترك‪،‬‬
‫أو هو ما ل ييذيماي ول ييمديحي فاعله ول ييذما ول ييمدح تاركيه‪ ،‬أو‬

‫‪193‬‬
‫هو ما يستوي طرفا الفعل والترك فيه عند الشارع‪ ،‬أو ما دل الدليل‬
‫السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك‪ ،‬أو ما‬
‫شابه هذه القوال‪ ،‬فإن هذا مشكلي على تلك القواعد‪ ،‬إذ إن الفعل له‬
‫حكمة وتركه يفويقت الحكمة‪ ،‬وإذا كانت الحكمة المقصودةا هي‬
‫بترك الفعل فالقياما به يفويقتها‪ .‬وإذا كانت الحكاما لم تشرع إل‬
‫لمصلحة العباد‪ ،‬فل بد من ترجيح أحد الطرفين على الخر‪ ،‬أو أن‬
‫ييدييعى وجود مرتبةم رابعة دون التحسينيات تتصف بأنها ل تخدما‬
‫أياا من المراتبِّ الثلثا ول تهدما أياا منها‪ .‬ولكن هذه الدعوى‬
‫تتناقض مع فكرةا الشاطبي وهي عدما خلو أي حكم شرعي عن مقصد‬
‫أما بجلبِّ مصلحة أو درء مفسدةا‪ .‬فكيف يحل الشاطبي هذا‬
‫الشكال؟‪.‬‬
‫تصـويـر الجـزئاية وأالكلية فـي الحكام‪:‬‬
‫يعالج الشـاطبي هذا الشكال بقوله إن للحكاما نظرين‪ ،‬نظراا‬
‫من حيث هي جزئية ونظراا من حيث هي كلية‪.‬‬
‫ويرد على الذين قالوا‪ :‬إن المباح مطلوب الترك لن من فعل‬
‫مباحاا فقد تلهى به عما هو مطلوب الفعل‪ ،‬ويرد على من قال‪ :‬إنه‬
‫مطلوب الفعل لن من فعل مباحاا فقد ترك حراماا‪ ،‬فيقول‪» :‬إن‬
‫المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح م‬
‫ول ذمام ل على الفعل ول على الترك«هل)‪ . (1‬ويقول‪» :‬المباح من حيث‬
‫هو مباح ل يكون مطلوب الفعل ول مطلوب الجتناب«هل)‪ (2‬وهو هنا‪،‬‬
‫أي من حيث هو مباح‪ ،‬يينظر إليه على أنه جزئية‪ ،‬أما إن نيظقر إليه‬
‫على أنه مطلوب الفعل أو مطلوب الترك‪ ،‬فذلك من جهة يكون فيها‬
‫خادماا أو هادماا لكلي‪.‬‬
‫فالمباح ينظر إليه من حيث هو جزئي ومن حيث هو كليقي‪،‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/68 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪194‬‬
‫أما من حيث هو كليقي فليس هناك ما هو مخيري فيه لنه يكون‬
‫عبثاا‪ .‬وأما من حيث هو جزئي‪ ،‬أي حكم شرعي معين لفعل معين‪،‬‬
‫فإذا كان مخيراا فيه فهذا يعني تعريته عن الحكمة أو المقصد‪،‬‬
‫وهذا ل ينقض فكرةا المقاصد عند الشاطبي لنه يطبقها على الكليات‬
‫دون الجزئيات‪ .‬يقول‪» :‬إن المصالح المعتبرةا هي الكليات دون‬
‫الجزئيات«هل)‪. (1‬‬
‫أما النظر إلى المباح من حيث الكلية‪ ،‬فهو يجعل المباح مباحاا‬
‫بالجزء مطلوباا بالكل‪ ،‬قد يكون مندوباا بالكل وقد يكون واجباا‬
‫بالكل‪ ،‬أو مباحاا بالجزء منهياا عنه بالكل‪ ،‬قد يكون مكروهاا بالكل‬
‫وقد يكون حراماا بالكل‪ .‬يقول‪» :‬إن الباحة بحسبِّ الجزئية‬
‫والكلية يتجاذبها الحكاما البواقي‪ .‬فالمباح يكون مباحاا بالجزء‬
‫مطلوباا بالكل على جهة الندب أو الوجوب‪ ،‬ومباحاا بالجزء منهياا‬
‫عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع‪ .‬فهذه أربعة أقساما‪ :‬فالول‪:‬‬
‫كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والمركبِّ والملبس‪...‬‬
‫فلو تيرقكي بعض الوقات مع القدرةا عليه لكان جائزاا كما لو‬
‫فيعقل‪ .‬فلو ترك جملةا لكان على خلفَّ ما ندب الشرع إليه‪...‬‬
‫وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروهاا‪ .‬والثاني‪ :‬كالكل‬
‫والشرب ووطء الزوجات والبيع والشراء ووجوب الكتسابات‬
‫الجائزةا‪ ...‬كل هذه الشياء مباحة بالجزء‪ ،‬أي إذا اختار أحد هذه‬
‫الشياء على ما سواها فذلك جائز‪ .‬وإن تركها الرجل في بعض‬
‫الحوال أو الزمان‪ ،‬أو تركها بعض الناس لم يقدح ذلك‪ ،‬فلو‬
‫فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركهم لما هو من الضروريات‬
‫المأمور بها‪ .‬فكان الدخول فيها واجباا بالكل‪ .‬والثالث‪ :‬كالتنزه‬
‫في البساتين وسماع تغريد الحماما‪ ،‬والغناء المباح واللعبِّ المباح‬
‫بالحماما أو غيرها‪ ،‬فمثل هذا مباح بالجزء‪ ،‬فإذا فيعقلي يوماا أو في‬
‫حالة ما فل حرجي فيه‪ .‬فإذا فعل ي دائماا كان مكروهاا‪ ،‬ونيسقبِّي‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/91 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪195‬‬
‫صاحبه إلى قلة العقل وإلى خلفَّ محاسن العادات وإلى السرافَّ في‬
‫فعل ذلك المباح‪ .‬والرابع‪ :‬كالمباحات التي تقدح في العدالة‬
‫المداومة عليها وإن كانت مباحة«هل)‪ . (1‬وهكذا تم إضفاء صفة الكلية‬
‫على المباح لجل المحافظة على أساس فكرةا المقاصد‪ ،‬فتكون‬
‫المصالح مقصودةاا بالمباح وإن كان مستوي الطرفين‪.‬‬
‫وبعد تصوير الكلية والجزئية في المباح‪ ،‬يثبت الشاطبي ‪-‬‬
‫أيضاا ‪ -‬أن ما كان مندوباا بالجزء كان واجباا بالكل‪ ،‬وما كان‬
‫مكروهاا بالجزء كان ممنوعاا بالكل‪ ،‬وما كان واجباا بالجزء كان‬
‫واجباا بالكل‪ .‬وكذلك يقال في الممنوعات‪ .‬ثم يقول‪» :‬إذا تقرر‬
‫تصوير الكلية والجزئية في الحكاما الخمسة‪ ،‬فقد يطلبِّ الدليل على‬
‫صحتها والمر فيها واضح مع تأمل ما تقدما في أثناء التقرير‪ ،‬بل‬
‫هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في‬
‫مواردها«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬وتقرر في هذه المسائل ان المصالح‬
‫المعتبرةا هي الكليات دون الجزئيات«هل)‪. (3‬‬
‫إل أن الناظر في هذا التصوير للكلية والجزئية في الحكاما قد‬
‫يعترض على ما ورد في المباح في القسمين الثالث والرابع )‪. (4‬‬
‫المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل‪ ،‬إذ إن الفعل المطلوب الترك‬
‫بالكل يخدما هدما الكليات؛ فكيف يكون مخيراا فيه‪ ،‬أو متساوي‬
‫الطرفين؟ فهذا إشكال آخر يستقصيه الشاطبي‪ ،‬فكيف يعالجه ؟‬
‫المباح قسـمان‪:‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ . 1/85 ،‬ول بد أ ن أ شير هنا إلى أ نني أقوما بعرض‬ ‫‪1‬‬

‫أفكار الشاطبي واستقصاءاته لكمال أي نقص أو لرتق أي فتق في فكرته‪،‬‬


‫ولست في معرض مناقشتها‪ .‬وإل فإن السؤال يظل قائماا‪ :‬أليس المباح‬
‫بالجزء حكماا شرعياا‪ ،‬وهو مخير فيه‪ ،‬أيويل يظل هذا ناقضاا لتماما صحة‬
‫فكرته‪ ،‬فيظل ال إ شكال قائماا؟‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/90 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/91 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( أنظر الصفحة السابقة ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪196‬‬
‫يقسم الشاطبي المباح إلى قسمين‪ :‬الول بمعنى التخيير‪،‬‬
‫والثاني بمعنى رفع الحرج‪ ،‬وما كان بمعنى التخيير فهو الذي‬
‫يكون مباحاا بالجزء مطلوب الفعل بالكل‪ .‬وما كان بمعنى رفع‬
‫الحرج يكون مباحاا بالجزء مطلوب الترك بالكل‪ .‬ولذلك يلحظ‬
‫في النص المذكور في الصفحة السابقة ذكره لفظ "جائز" إزاء‬
‫ما كان مندوباا بالكل‪ ،‬وكذلك إزاء ما كان واجباا بالكل‪ .‬وأما‬
‫القسم الثالث وهو ما كان مباحاا بالجزء مكروهاا بالكل‪ ،‬فلم‬
‫يذكر لفظ "جائز" وإنما قال‪» :‬ل حرج فيه«هل )‪ . (1‬ويقول‪:‬‬
‫»المباح يطلق باطلقين‪ :‬أحدهما من حيث هو مخير فيه بين الفعل‬
‫والترك‪ ،‬والخر من حيث يقال‪ :‬ل حرج فيه«هل )‪. (2‬‬
‫ويقول‪» :‬إذا قيل في المباح انه ل حرج فيه فليس بداخل تحت‬
‫التخيير بين الفعل والترك«هل)‪ . (3‬ثــم قــال‪» :‬فالقس ـــم المطل ـــوب‬
‫الفعـل بالكل هـو الــذي جــاء التخييــر فيــه بيــن الف عــل والــترك‬
‫كقوله‪       [ :‬‬
‫] )‪ ، (4‬وقوله‪ ... (5) ]      [ :‬فهذا تخيير‬
‫حقيقةا‪ ...‬وأما القسم المطلوب الترك بالكل فل نعلم في الشــريعة‬
‫ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصاا‪ ،‬بل هو مسكوت عنــه أو م شــار‬
‫إلى بعضه بعبارةام تخرجه عن حكم التخيير الصريح كتسمية الدنيا‬
‫لعباا ولهواا في معرض الذما لمن ركن إليها فإنها مشعرةا بأن اللهو‬
‫غير مخير فيه«هل)‪ . (6‬وقال‪» :‬وعلى الجملة فهو )أي المبــاح( علــى‬

‫) ( أنظر ص‪ . 155 :‬وأنظر‪ :‬الموافقات‪. 1/85 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/92 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/94 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( سورةا البقرةا ‪. 223 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( سورةا البقرةا ‪. 35 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ . 94 - 1/93 .‬ولنا أ ن نتساءل عند هذا التقسيم‬ ‫‪6‬‬

‫للمباح وهذا التمييز بين القسمين إن كان ثمة ارتباك عند الشــاطبي‪ .‬وقــد‬
‫أوردنا نصه في تعريف المبــاح كمــا ورد فــي الجــزء الول ص‪ » 68 :‬إ ن‬
‫المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك« وها هو يذكر أ ن من‬

‫‪197‬‬
‫أربعة أقساما‪ :‬أحدها‪ :‬أن يكون خادماا لمر مطلوب الفعل‪ ،‬والثــاني‪:‬‬
‫ان يكون خادماا لمر مطلــوب ا لــترك‪ ،‬وال ثــالث‪ :‬أن ي كــون خاد مــاا‬
‫لمخييقر فيه‪ .‬والرابع‪ :‬أن ل يكون فيه شيء من ذلك«هل)‪. (1‬‬
‫أما القسم الول فقد مريي معنا وهو المباح المخير فيه‪ .‬وأما‬
‫الثاني فقد مريي معنا أيضاا وهو المباح بمعنى رفع الحرج‪ .‬وأما‬
‫الرابع فلما كان غير خادما لشيء‪ ،‬فهو بمعنى أنه ل يخدما ول يهدما‬
‫أي أصل ضروري أو حاجي أو تحسيني‪ ،‬إذ هو ل يعود بالمصلحة‬
‫على العباد‪ ،‬ول يدرأ عنهم مفسدةاا‪ ،‬فصار من حيث الكلية متناقضاا‬
‫مع وجوب كونه لمصلحة العباد‪ ،‬ولذلك أرجعه الشاطبي إلى ما هو‬
‫مطلوب الترك فقال‪» :‬وأما الرابع فلما كان غير خادمام لشيء‬
‫ييعنتيديي به كان عبثاا أو كالعبث عند العقلء فصار مطلوب الترك‬
‫أيضاا لنه صار خادماا لقطع الزمان في غير مصلحة دين ول دنيا‬
‫فهو اذن خادما لمطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل«هل)‪. (2‬‬
‫أما القسم الثالث‪ ،‬وهو المباح بالجزء الخادما لمخييييرم فيه‪.‬‬
‫فل بد من التنبه هنا أن هذا المخييير فيه مخدوما‪ ،‬وبالتالي فهو‬
‫أصل كلي‪ ،‬والصل الكلي ل يمكن ان يكون مخيراا فيه حسبِّ فكرةا‬
‫الشاطبي‪ ،‬وإل فهو يهدمها‪ .‬وأصلا‪ ،‬تصوير الكلية والجزئية في‬
‫المباح إنما كان لمنع وجود المباح أو المخير فيه في الكليات‪،‬‬
‫ولذلك فبعدما تحدثا الشاطبي عن القسم الرابع عاد إلى هذا القسم‬
‫الثالث ليقول‪» :‬والقسم الثالث مثله أيضاا لنه خادما له فصار‬
‫مطلوب الترك أيضاا«هل )‪. (3‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن المباح قسمان‪ ،‬مباح بمعنى التخيير بين الفعل‬

‫المباح ما هو ليس مخيراا فيه !! ‪.‬‬


‫) ( المصدر نفسه‪. 93 - 1/92 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 94 - 1/93 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموافقات‪ . 1/93 ،‬ويلحظ هنا أنه تحدثا عن القساما الربعة‬ ‫‪3‬‬

‫كالتالي‪ :‬الول فالثاني فالرابع فالثالث‪ .‬فهو جعل رأيه في الرابع تمهيداا‬
‫لرأيه في الثالث‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫والترك وهو مطلوب الفعل بالكل ومباح بمعنى رفع الحرج وهو‬
‫مطلوب الترك بالكل‪ .‬إل أن كونه مباحاا يظل يتردد على أصل‬
‫فكرةا المقاصد أو غائية الحكاما بالتشكيك‪ ،‬ويستقصي الشاطبي ما‬
‫يمكن ان يشكك بفكرته‪ ،‬فيقول إن المباح بمعنى التخيير هو من‬
‫جهة كونه جزئياا‪ ،‬وهذا وجوده نظري‪ ،‬وأما عملياا فهو مطلوب‬
‫الفعل‪ .‬وأما المباح بمعنى رفع الحرج‪ ،‬فالمصلحة في تركه لنه‬
‫مطلوب الترك بالكل‪ ،‬فكيف يكون مأذوناا فيه‪ ،‬وفعله يفويقت‬
‫المصلحة‪ .‬وهنا يعمد الشاطبي إلى القول بإمكانية وجود مرتبة‬
‫سادسة للحكاما هي مرتبة العفو‪ ،‬وهذه المرتبة كأنها تحل إشكالية‬
‫الجزئيات التي ل تخدما فكرةا المقاصد‪.‬‬
‫أما المباح الذي هو بمعنى التخيير‪ ،‬فيرى الشاطبي أن الفعل‬
‫من حيث هو فعل له معقولية في الذهن‪ ،‬وله واقع مختلف عن‬
‫معقوليته‪ ،‬فهو عندما يقع‪ ،‬ل يقع مجرداا عن ملبسات أو عوارض‪.‬‬
‫فمثلا‪:‬المشي مباح والنظر مباح والكل مباح والضطجاع مباح‪،‬‬
‫ولكن هذا الحكم هو للفعل من حيث هو فعل‪ ،‬أي من حيث هو مشي‬
‫أو نظر أو أكل أو اضطجاع‪ .‬أما في الواقع فالمشي قد يكون إلى‬
‫عبادةا أو إلى معصية‪ ،‬والنظر كذلك‪ ،‬والكل قد يكون لمباح أو‬
‫لحراما‪ ،‬وقد يكون في ضرورةا أو في غير ضرورةا‪ .‬والضطجاع‬
‫يختلف واقعه بحسبِّ العوارض‪ .‬والفعال في الواقع ل تحصل بغير‬
‫العوارض‪ ،‬فهل ينظر إلى الفعل من جهة معقوليته أما من جهة‬
‫العوارض‪ .‬يختار الثاني‪ ،‬ويقول‪» :‬المقصود من وضع الدلة تنزيل‬
‫أفعال المكلفين على حسبها‪ ،‬وهذا ل نزاع فيه‪ ،‬إل ان أفعال المكلفين‬
‫لها اعتباران اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في‬
‫الخارج«هل )‪ (1‬ثم يقول‪» :‬وإذا كان كذلك فالعتبار فيها بما وقع‬
‫في الخارج وليس إل أفعالا موصوفة بأمور خاصة لزمة وأمور‬
‫على خلفَّ ذلك‪ .‬وكل مكلف مخاطبِّ في خاصة نفسه بها فهو إذاا‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/17 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪199‬‬
‫مخاطبِّ بما يصح له ان يحصل في الخارج‪ ،‬فل يمكن ذلك إل‬
‫باللوازما الخارجية فهو إذاا مخاطبِّ بها ل بغيرها«هل )‪. (1‬‬
‫ويصبح المباح المخير فيه كأنه بمعنى الواجبِّ المخييير‬
‫كخصال الكفيارةا‪ .‬يقول‪» :‬وتلخييص أن كل مباح ليس بمباح م‬
‫بإطلق‪ ،‬وإنما هو مباح بالجزء خاصة‪ ،‬وأما بالكل فهو إما مطلوب‬
‫الفعل أو مطلوب الترك‪ ،‬فإن قيل أفل يكون هذا التقرير نقضاا لما‬
‫تقدما من أن المباح هو المتساوي الطرفين‪ ،‬فالجواب أن ل‪ ،‬لن ذلك‬
‫الذي تقدما هو من حيث النظر إليه في نفسه‪ ،‬من غير اعتبار أمر م‬
‫خارج‪ ،‬وهذا النظر من حيث اعتباره بالمور الخارجة عنه‪ .‬فإذا‬
‫نظرت إليه في نفسه فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء‪ .‬وإذا نظرت‬
‫إليه بحسبِّ المور الخارجة فهو المسمى المطلوب بالكل‪ .‬فأنت‬
‫ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس‪ ،‬قد استوى في نظر‬
‫الشرع فعله وتركه‪ ،‬فل قصد له في أحد المرين‪ ،‬وهذا معقول‬
‫واقع بهذا العتبار الميقنتيصر به على ذات المباح من حيث هو‬
‫كذلك‪ .‬وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد وموارم للسوأةا‬
‫وجمال في النظر مطلوب الفعل‪ .‬وهذا النظر غير مختص بهذا‬
‫)‪(2‬‬
‫الثوب المعين ول بهذا الوقت المعين فهو نظر بالكل ل بالجزء«هل ‪.‬‬
‫أما المباح بمعنى رفع الحرج فهو مطلوب الترك بالكل‪ ،‬والذن‬
‫فيه يخرما الكليات أو ينقضها ولذلك يقول الشاطبي‪» :‬وأما قسم‬
‫ما ل حرج فيه فيكاد يكون شبيهاا باتباع الهوى المذموما‪ ،‬أل ترى أنه‬
‫كالمضاد لقصد الشارع في طلبِّ النهي الكلي على الجملة‪ ،‬لكنه‬
‫لقلته وعدما دوامه ومشاركته للخادما المطلوب الفعل بالعرض‬
‫حسبما هو مذكور في موضعه لم ييحفل به«هل)‪ . (3‬ثم يذكر‬
‫الشاطبي أن الجزئيات وإن عارضت الكليات‪ ،‬فإنها ل تؤثر عليها لن‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/19 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/93 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/96 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪200‬‬
‫الكليات ثبتت قطعية‪ ،‬والجزئيات المعارضة للمقاصد المصلحية ل‬
‫تبلغ أن تكون كليات‪ ،‬ولذلك فهي ل تنقض أصل فكرةا المقاصد‪.‬‬
‫يقول‪» :‬الجزئي منه)‪ (1‬ل يخرما أصلامطلوباا)‪ ، (2‬وإن كان فتحاا‬
‫لبابه في الجملة فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي‪ ،‬حتى يجتمع مع‬
‫غيره من جنسه‪ ،‬والجتماع ميقيويم)‪ ، (3‬ومن هنالك يلتئم الكلي‬
‫المنهي عنه وهو المضاد للمطلوب فعله«هل)‪ . (4‬فإذا التأمت هذه‬
‫الجزئيات في كلي ينتظمها وترجع إليه‪ ،‬فلن تظل حينئذم مأذوناا‬
‫فيها من قبيل المباح‪ ،‬ولكن ستكون من قبيل المطلوب الترك جزئياا‬
‫وكلياا‪ ،‬ولكن واقعها ‪ -‬حسبِّ رأي الشاطبي ‪ -‬أنها جزئية ول ترجع‬
‫إلى كلي‪ ،‬وفي الوقت نفسه تخدما هدما فكرةا المقاصد‪.‬‬
‫وبناءا على هذا الفهم لمراد الشـاطبي من بحثـه للمبـاح‬
‫وتف صـ يلته فيـه‪ ،‬يمكن الحكم بأن معظـم شروح وحواشـي‬
‫المعلقيـن على كتـاب الموافقـات في هـذا الموضـوع‪ ،‬بعيـدةا عن‬
‫الصـواب‪ ،‬بل ول صلة لها بمقصود الشاطبي‪ ،‬فضلا عن أن بعضها ل‬
‫يخلو من الضطراب والكلما الذي ل طائل تحته)‪. (5‬‬
‫مإـرتبـة العفـو‪:‬‬
‫هذا ما يدفع الشاطبي إلى الظن بنوع سادسم للحكاما‪ ،‬ينطبق‬
‫على هذه الحكاما الجزئية وعلى غيرها مما يشبهها من حيث كونها‬

‫) ( أي‪ :‬من المباح الداخل تحت قسم رفع الحرج ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سيأتي في بحثنا للمقاصد أن الجزئي ل يخرما الكلي وإن عارضه‪ ،‬لن‬ ‫‪2‬‬

‫الجزئي إن لم يرجع إلى كلي يمكن تأويله أو رده ‪.‬‬


‫) ( أي أنه ل يؤثر حتى يتضافر مع غيره ويفيد تواتراا معنوياا حينئذ م‬ ‫‪3‬‬

‫يصبح كلياا ويجبِّ اعتباره في تخصيص الكليات‪ ،‬أما قبل ذلك فل يعتــبر‬
‫وإن كان يفتح الباب للعتبار ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/96 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( أنظر مثلا‪ :‬الموافقات‪ . 1/226 .‬هامش رقم ‪ . 1‬تحقيق‪ :‬أبو عبيدةا‬ ‫‪5‬‬

‫مشهور بن حسن آل سلمان‪ .‬الطبعة الو لــى‪ 1421 .‬ه ـــ ‪ .‬دار ا بــن ع فــان‪،‬‬
‫جمهورية مصر العربية‪ 6 .‬مجلدات‪ .‬و قــد ج مــع فــي الحا شــية تعلي قــات‬
‫العديد من الشراح المعلقين على كتاب الموافقات‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫جزئيات ل تخدما الكليات‪ ،‬يقول‪» :‬يصح أن يقع بين الحلل والحراما‬
‫مرتبة العفو فل يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة«هل)‪. (1‬‬
‫ويدخل في هذه المرتبة قسم ما ل حرج فيه‪ ،‬والرخص‪،‬‬
‫والفعال العرية عن القصد وغيرها‪ .‬يقول‪» :‬وسواء علينا أفرضنا‬
‫تلك الفعال مأموراا بها أو منهياا عنها أما ل‪ ،‬لنها إن لم تكن منهياا‬
‫عنها‪ ،‬ول مأموراا بها ول مخيراا فيها فقد رجعت إلى قسم ما ل حكم‬
‫له في الشرع‪ ،‬وهو معنى العفو‪ ،‬وإن تعلق بها المر والنهي‪ ،‬فمن‬
‫شرط المؤاخذةا به ذكر المر والنهي والقدرةا على المتثال‪ ،‬وذلك‬
‫في المخطئ والغافل والناسي محال‪ ،‬ومثل ذلك النائم‬
‫والمجنون‪ ...‬ومنها الخطأ في الجتهاد‪ ...‬فإن حاصل ذلك أن‬
‫تركه لما ترك وفعله لما فعل ل حرج عليه فيه‪ ،‬ومنها الرخص على‬
‫اختلفها‪ ،‬فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح‬
‫ورفع الحرج وحصول المغفرةا«هل )‪. (2‬‬
‫إل أن الشاطبي ل يقرر إذا كانت مرتبة العفو حكماا أو ل‪.‬‬
‫يقول‪» :‬إل أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أما ل‪ ،‬وإذا قيل‬
‫حكم فهل يرجع إلى خطاب التكليف أما إلى خطاب الوضع‪ ،‬هذا كله‬
‫محتمل ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي لم يتأكد‬
‫البيان فيه فكان الولى تركه وال الموفق للصواب«هل)‪. ( 3‬‬
‫الرخإصـة وأالعـزيمة‪:‬‬
‫ينطبق على الرخصة‪ ،‬على منهج الشاطبي‪ ،‬ما ينطبق على‬
‫المباح‪ .‬يقول‪» :‬حكم الرخصة الباحة مطلقا من حيث هي‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/107 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 110 - 1/109 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ . 1/119 ،‬وللمتابع هنا ان يتساءل‪ ،‬إن لم يكن هذا مما‬ ‫‪3‬‬

‫ينبني عليه حكم‪ ،‬أفل ينبني عليه خــرما ف كــرةا المقا صــد‪ ،‬وإن قل نــا ب عــدما‬
‫النخراما‪ ،‬أل يضطرنا ذلك إ لــى ال قــول بــأن هــذا الق ســم مــن المبا حــات‬
‫والرخص مطلوب الجتناب ول ينطبق عليه تعريف المباح؟‬

‫‪202‬‬
‫رخصة«هل )‪ . (1‬ويقول‪» :‬الباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من‬
‫قبيل الباحة بمعنى رفع الحرج أما من قبيل الباحة بمعنى التخيير‬
‫بين الفعل والترك‪ ،‬فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى‬
‫رفع الحرج ل بالمعنى الخر«هل )‪. (2‬‬
‫ولذلك فالشكال الموجود في المباح بالنسبة لفكرةا المقاصد‬
‫موجود نفسه في الرخصة‪ .‬ولذلك فالرخص عنده ل ترجع إلى‬
‫أصول كلية ول تخدما الكليات‪ ،‬فهي جزئية فقط بعكس العزيمة‪.‬‬
‫يقول‪» :‬العزيمة‪ :‬ما شرع من الحكاما الكلية ابتداء‪ ،‬ومعنى كونها‬
‫كلية أنها ل تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون‬
‫بعض‪ ،‬ول ببعض الحوال دون بعض كالصلةا مثل فإنها مشروعة‬
‫على الطلق والعموما في كل شخص وفي كل حال وكذلك‬
‫الصوما والزكاةا والحج والجهاد وسائر شعائر السلما«هل)‪ . (3‬ويقول‪:‬‬
‫»وأما الرخصة‪ :‬فما شرع لعذر شاق‪ ،‬استثناءا من أصل كلي‬
‫يقتضي المنع‪ ،‬مع القتصار على مواضع الحاجة فيه‪ .‬فكونه‬
‫مشروعا لعذر هو الخاصة التي ذكرها علماء الصول‪ .‬وكونه شاقا‬
‫فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودةا فل يسمى‬
‫ذلك رخصة كشرعية القراض مثلا«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬إن العزيمة‬
‫راجعة إلى أصل كلي ابتدائي‪ ،‬والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى‬
‫من ذلك الصل الكلي«هل )‪ (5‬وهذه التعريفات والقوال تشير إلى‬
‫الشكال المذكور‪ ،‬الذي يظهر هنا مرةا أخرى حيث قال إن العزيمة‬
‫كلية ل تختص ببعض المكلفين أو الحوال‪ ،‬ثم قال إن الرخصة‬
‫استثناء من ذلك الكلي‪ ،‬وهذا معناه إن العزيمة قد اختصت‪.‬‬
‫ول يقال هنا إن هذا الستثناء هو من قبيل تخصيص العاما‪،‬‬
‫المصدر نفسه ‪. 1/214 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/221 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/209 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/210 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/11 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪203‬‬
‫المعروفَّ في علم الصول‪ ،‬فإن هذا التخصيص ينقض فكرةا الكليات‬
‫وخواصها التي ذكرها الشاطبي‪ ،‬ومنها قوله‪» :‬فل تجد فيها بعد‬
‫كمالها نسخاا ول تخصيصا لعمومها‪ ،‬ول تقييدا لطلقها ول رفعا‬
‫لحكم من أحكامها‪ ،‬ل بحسبِّ عموما المكلفين ول بحسبِّ خصوص‬
‫بعضهم‪ ،‬ول بحسبِّ زمان دون زمان‪ ،‬ول حال دون حال«هل)‪ (1‬وسيتبين‬
‫في بحث العموما والخصوص‪ ،‬أن التخصيص بمعنى استثناء أو رفع‬
‫بعض ما يتناوله النص مردود عند الشاطبي وإنما التخصيص عنده‬
‫بيان لمعنى النص أي لما يتناوله اللفظ العاما‪ .‬وعلى ذلك فالرخص‬
‫ل تنتمي إلى أصول كلية‪ .‬قال‪» :‬وكون هذا المشروع لعذر‬
‫مستثنى من أصل كلي يبين لك ان الرخص ليست بمشروعة ابتداء‬
‫فلذلك لم تكن كليات وإن عرض لها ذلك فبالعرض«هل)‪. (2‬‬
‫ورب قائل يقول‪ :‬إن الرخص تعود على النسـان بالمصـلحة‪،‬‬
‫إذ هي معللة بالمشـقة‪ ،‬وهي إعمال لصل كلي وهو أصـل رفع‬
‫الحرج‪ ،‬كالمشـقة للمسـافر‪،‬أو لصل حفظ النفس‪ ،‬كأكل الميتة‬
‫للمضطر‪ ،‬أو لصـل تكميـلي كصـلةا المأمومين جلوساا إذا صلى‬
‫الماما جالساا‪ ،‬أو غير ذلك من الصول الكلية )‪. (3‬‬
‫والجواب‪ :‬إن الشاطبي يتجنبِّ هذا الجواب ويرده‪ ،‬لنه إن ظهر‬
‫بادئ الرأي أنه يرتق فتقا في المنهج فإنه في الحقيقة يهدما أكــثر‬
‫مما يبني‪ .‬لنا إذا وجدنا مصلحة في الرخصة وزعم نــا أن هــا ت خــدما‬
‫أصل كليا‪ ،‬فقد نص ال شــرع علــى أن العزي مــة خ يــر من هــا‪ [ :‬‬
‫‪ . (4)]   ‬والشاطبي يرى أن الخذ بالعزائم أفضل‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ . 1/46 ،‬وأنظر ص‪ 144 :‬من هذا الكتاب ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/211 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( رفع الحرج‪ ،‬وعدما التكليف بالمشقات المعنته من الصول الكلية‬ ‫‪3‬‬

‫وتنتمي إلى مرتبة الحاجيات‪ .‬وحفظ النفس أصل كلي ينتمي إلى مرت ب ة‬
‫الضروريات‪ .‬وصلةا المأمومين جلوساا بسببِّ صلةا الماما جالساا يرجع‬
‫إلى أصل كلي من مكملت الضروريات‪ .‬الموافقات‪. 211 - 1/209 ،‬‬
‫) ( سورةا البقرةا ‪. 184 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪204‬‬
‫من الخذ بالرخص‪ .‬قال في معرض استدلله على أن الرخــص هــي‬
‫من قبيل الباحة بمعنى رفع الحرج ل بمعنى التخييــر‪» :‬والــدليل‬
‫على أن التخيير غير مراد في هذه المور أن الجمهــور أو الجميــع‬
‫يقولون‪ :‬من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الكراه مأجور وفــي أعلــى‬
‫الدرجات«هل )‪. (1‬‬
‫أضف إلى ذلك على سبيل المثال‪ :‬أل صــلةا وال صــياما يرج عــان‬
‫إلى أصل حفظ الدين من الضروريات فكيف يباح الفطــار والجمــع‬
‫والقصر في سفر مشقته ل تكاد تذكر‪ ،‬أو لملك مــترفيقه؟ أمــا إذا‬
‫كان في السفر حرج ومشقة معن تــة‪ ،‬ف هــذا علــى من هــج ال شــاطبي‪،‬‬
‫ييخرقج الرخصة عن كونها مجرد رخصة وتصبح من قبيل المطلوب‬
‫الفعل‪ ،‬المندوب أو الواجبِّ‪ ،‬ويخدما أصولا كلية‪ ،‬مثــل أصــل رفــع‬
‫الحرج أو عدما التكليف بما فيه مشقة معنته‪ ،‬أو أصل ح فــظ الن فــس‬
‫فمثلا‪ :‬أكل الميتة للمضطر يخدما أصل ال ضــروريات و هــو ح فــظ‬
‫النفس وهذا عزي مــة وليــس رخ صــة و هــو وا جــبِّ وليــس مبا حــاا‪.‬‬
‫وكذلك صلةا المأمومين جلوساا خلف الماما الجالس‪ ،‬ليس رخصة‬
‫وإنما هي واجبِّ وعزيمة من قبيل المكمل للضروريات‪ ،‬بعكس صلةا‬
‫الماما جالساا فهي رخصة إذا كانت مع القدرةا على القيــاما بمشــقة‪،‬‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهةم أخرى فلو سلمنا بإرجاع الرخص إلى أصول‬
‫كلية‪ ،‬فهذا ينقض فكرةا أن الصول الكليــة ي خــدما ويع ضــد بع ضــها‬
‫بعضاا‪ ،‬وأن الحكاما والصول كل هــا ت خــدما وت عــود بــالحفظ علــى‬
‫الضـروريات وهي حفـظ الديـن والنفس والعقل والن ســل وال مــال‪.‬‬
‫ففي قوله تعالى‪        [ :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫‪ . ]    ‬وفي قوله تعالى‪ [ :‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪ (3) ] ‬الرخص لم تخدما ال صــول‪ ،‬بــل خرمتهــا‪ .‬إذ ح فــظ‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/222 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النحل ‪. 106 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا النساء ‪. 101 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪205‬‬
‫الدين مقدما على حفظ النفس ومع ذلك التلفظ بكل مــة الك فــر فــي‬
‫هذه الحالة مشروع‪ ،‬وكذلك الق صــر فــي ســفر ل حــرج فيــه ول‬
‫مشقة ل يخدما أصل حفظ الدين‪ ،‬أي ل يخدما كــونه كل يــاا‪ .‬و هــذا‬
‫يؤدي إلى ان الصول ل يخدما بعضها بعضاا‪.‬‬
‫وإذا كان الشاطبي أرجع المباح المخير فيه إلى أصل كلي‬
‫حيث وجييه النظر فيه إلى كونه مطلوباا بالكل‪ ،‬فإن الرخصة‬
‫والمباح بمعنى رفع الحرج لم يرجعا عنده الى أصول كلية‪،‬‬
‫ولذلك فقد اقترح لهما كما بينا في البحث السابق مرتبة العفو‪،‬‬
‫وقال إن الحكاما الجزئية ل تخرما الصول الكلية‪ .‬فكذلك قال‬
‫بشأن الرخص بعد أن أكد انها ل تنتمي إلى أصول كلية‪ .‬قال‪:‬‬
‫»والحاجيات ل تسمى عند العلماء باسم الرخصة«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬إن‬
‫شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلي‬
‫إذا انقطع سفره وجبِّ عليه الرجوع إلى الصل من إتماما الصلةا‬
‫وإلزاما الصوما‪ .‬والمريض إذا قدر على القياما في الصلةا لم يصل‬
‫قاعداا وإذا قدر على مس الماء لم يتيمييم وكذلك سائر الرخص‬
‫بخلفَّ القرض والقراض والمسا ق ا ةا ونحو ذلك مما هو يشبه‬
‫الرخصة فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الصطلح«هل)‪. (2‬‬
‫والحاصل أن الرخص جزئيات ل ترجع إلى كليات‪ ،‬وهي وإن‬
‫كانت كذلك ولم تتماش مع منهجه أو فكرةا المقاصد عنده فلن‬
‫يخرب العالم‪ ،‬يقول‪» :‬إن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف‬
‫كلي لنه مطلق عاما على الصالة في جميع المكلفين‪ ،‬والرخصة‬
‫راجعة إلى جزئي بحسبِّ بعض المكلفين ممن له عذر‪ ،‬وبحسبِّ بعض‬
‫الحوال‪ ،‬وبعض الوقات في أهل العذار‪ ،‬ل في كل حالة ول في‬
‫كل وقت ول لكل أحد‪ ،‬فهو كالعارض الطارئ على الكلي‪ .‬والقاعدةا‬
‫المقررةا في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي‪ ،‬فالكلي‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/21 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/28 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪206‬‬
‫مقدما لن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية والكلي يقتضي مصلحة‬
‫)‪(1‬‬
‫كلية‪ ،‬ول ينخرما نظاما في العالم بانخراما المصلحة الجزئية«هل‬
‫ثم قال‪ » :‬و الرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية«هل)‪. (2‬‬
‫ومن نافلة القول بعد بيـان آرائه في الرخصـة والعزيمة أن‬
‫نشـير إلى رأيـه أن الوقـوفَّ مع العزيمة أفضـل شـرعاا من الخذ‬
‫بالرخصة‪ .‬وكذلك أن الرخص ليس لها قانون كلي وبالتالي فإن‬
‫مواضعها منحصرةا بالمواضع التي ذكرتها النصوص‪ ،‬فل يقاس‬
‫عليها‪ .‬أما ما يخضع لقواعد كلية مثل عدما التكليف بما ل يطاق‪،‬‬
‫والمشقات المعنته‪ ،‬ورفع الحرج‪ ،‬فإنه يكون من قبيل العزائم وليس‬
‫الرخص )‪. (3‬‬
‫السـباب وأالمسـببات‪:‬‬
‫السببِّ من أحكاما الوضع‪ .‬وهو في اصطلح الصوليين‪ :‬وصف‬
‫ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفاا لوجود‬
‫الحكم )‪ . (4‬وذلك كهلل رمضان سببِّ في وجود حكم الصياما‪،‬‬
‫والبيع سببِّ في الملك وحلية النتفاع بالعين‪ .‬والعلقة بين السببِّ‬
‫والحكم في الحكاما الشرعية هي غيرها بين السببِّ والمسببِّ في‬
‫العقليات‪ .‬فمثلا شرب الخمر سببِّ السكر‪ ،‬فشرب الخمر يوجد به‬
‫السكر‪ .‬بينما في الشرع هلل رمضان ل يوجد به حكم الصياما‪ ،‬وإنما‬
‫يوجد عنده‪ ،‬أي عند وجوده‪ ،‬ليس بسببِّ علقة مادية بين سببِّ‬
‫ومسببِّ‪ ،‬وإنما بخبر من الشارع الذي جعل الوصف أمارةاا أو علمةا‬
‫ميعيريقفيةا على وجود الحكم‪ .‬هذا هو الفهم المعهود عند الصوليين‬
‫للعلقة بين السببِّ والحكم في الصطلح الشرعي‪.‬‬

‫) ( الشاطبي الموافقات ‪. 1/224 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وي ظل السؤال قائماا في الرخص كما في المباح‪ ،‬أل ت خــرما إباحت هــا‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫فكرةا المقاصد‪ .‬وهل القول بأنها جزئية وليست كلية يلغي التساؤل؟‬
‫) ( أنظر ص‪ 53 :‬من الفصل الول ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪207‬‬
‫ولكن الشاطبي يؤسس لفهم جديد‪ ،‬وهو يرى أن الكليات‬
‫الشرعية وإن كانت جعلية أو وضعية أي بوضع الشارع لها كذلك‪،‬‬
‫فهي تستوي مع الكليات العـقـلـيـة‪ ،‬لن هـذه أيضاا هي من وضع‬
‫الشارع‪ .‬يقول‪» :‬الوضعيات قد تجاري العقليات في إفادةا العلم‬
‫القطعي‪ ،‬وعلم الشريعة من جملتها«هل )‪ . (1‬ويقول‪» :‬وأيضاا فإن‬
‫الكليات العقلية مقتبسة من الوجود‪ ،‬وهو أمر وضعي ل عقلي‪،‬‬
‫فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا العتبار وارتفع الفرق‬
‫بينهما«هل )‪. (2‬‬
‫وبما أن للسباب مسبباتها‪ ،‬ومن يقصد إيقاع أمر يعمد إلى‬
‫إيقاع أسبابه‪ ،‬وفاعل السببِّ يعد كفاعل المسببِّ‪ ،‬فإن الحكاما‬
‫الشرعية تعد أسباباا لمسبباتم تقصد بها‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬إيقاع‬
‫السببِّ بمنزلة إيقاع المسبييبِّ قصد ذلك المسبيقبِّ أو ل‪ .‬لنه لما‬
‫جعل مسبباا عنه في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرةاا‪.‬‬
‫ويشهد لهذا قاعدةا مجاري العادات إذ أيجنرقيي فيها نسبة المسببات‬
‫إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعاما‪ ،‬والرواء إلى الماء والحراق‬
‫إلى النار‪ ،‬والسهال إلى السقمونيا)‪ (3‬وسائر المسببات إلى أسبابها‪،‬‬
‫فكذلك الفعال التي تيتيسيبييبِّي عن كسبنا منسوبة الينا وإن لم‬
‫تكن من كسبنا‪ ،‬وإذا كان هذا معهوداا معلوماا جرى عرفَّ الشرع‬
‫في السباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان«هل)‪. (4‬‬
‫لذلك فالمر الذي يجبِّ اللتفات إليه في بحث السباب عند‬
‫الشاطبي هو أن الحكاما الشرعية هي أسباب لنتائج مقصودةا بها‪.‬‬
‫هذه النتائج هي مسببات الحكاما أو الحكم أو المصالح المقصودةا‬

‫) ( الشاطبي الموافقات ‪ . 1/44‬وانظر ص‪ 144 :‬من هذا الكتاب ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي الموافقات‪. 1/44 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( السقمونيا‪ :‬نبات يستخرج من تجاويفه رطوبة ديبققية وتجفف وتدعى‬ ‫‪3‬‬

‫باسم نباتها أيضاا‪ ،‬مضادتها للمعدةا والحشاء أكثر من جميــع المســهلت‪.‬‬


‫الفيروز آبادي‪ ،‬القاموس المحيط‪ .‬ص‪. 1447 :‬‬
‫) ( الشاطبي الموافقات‪. 1/148 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪208‬‬
‫بها‪ ،‬والحكاما هي الطريق الموصلة إليها‪ .‬ومثلما قصد الشارع‬
‫بالوامر والنواهي إيقاع المأمور به ومنع المنهي عنه‪ ،‬فكذلك‬
‫قصد حصول نتائج معينة للفعل المأمور به‪ ،‬ومنع حصول نتائج‬
‫معينة للفعل المنهي عنه‪ .‬وهذه قاعدةا فكرةا المقاصد عند الشاطبي‪.‬‬
‫لهذا السببِّ بحث الشاطبي في السباب والمسببات بتفصيل وإسهاب‬
‫قبل أن يبدأ كتابه في المقاصد‪.‬‬
‫إل أن التكليف بالسباب‪ ،‬وهي الحكاما‪ ،‬وإن كانت المسببات‬
‫مقصودةا للشارع به‪ ،‬فهو ل يعني التكليف بالمسببات‪ ،‬فهي ليست‬
‫مقدورةا للمكلف ول راجعة إليه‪ ،‬وإنما المقدور له هو السببِّ الذي‬
‫كلفه الشارع به‪ .‬وحصول المسببِّ يحصل ضمن ذلك‪ .‬قال‪:‬‬
‫»والدليل على ذلك ما ثبت في الكلما من أن الذي للمكلف تعاطي‬
‫السباب‪ ،‬وإنما المسببات من فعل ال تعالى وحكمه‪ ,‬ل كسبِّ فيه‬
‫للمكلف«هل)‪ ، (1‬وقال‪» :‬فإذاا ل يتعلق التكليف وخطابه إل بمكتسبِّ‬
‫فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لنها ليست في مقدورهم‪،‬‬
‫ولو تعلق بها لكان تكليفاا بما ل يطاق وهو غير واقع«هل)‪. (2‬‬
‫وكذلك فكون المسببِّ مقصوداا للشارع بشرع السببِّ‪ ،‬فهو ل‬
‫يعني جواز القصد إلى إيقاع المسببِّ بغير طريقه المشروع وهو‬
‫السببِّ‪ ،‬إذ كما أن المسببِّ مقصود‪ ،‬فالمقصود الول هو السببِّ لن‬
‫الخطاب دل عليه والتكليف وقع عليه‪ ،‬ولم يفهم المسببِّ إل‬
‫بواسطته‪ .‬قال‪» :‬إن كون الشارع لم يشرع هذا السببِّ لهذا المسببِّ‬
‫المعين دليل على أن في ذلك التسببِّ مفسدةا ل مصلحة«هل)‪. (3‬‬
‫وسنبين هذا المر ب مزيد من التفصيل والتوثيق في المبحث الثالث‬
‫من الفصل الخامس‪.‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/131 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي الموافقات‪. 1/148 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 173 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪209‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫في النتائاج وأمإفهوم المصـلحة‬
‫وأالمفسـدة عند الشـاطبي‬
‫تعـريف بموضأـوع البحث‪:‬‬
‫تبيين في مبحثي المقدمات والمستندات بعض قواعد أو أصول‬
‫منهج الشاطبي في تقرير المقاصد‪ .‬وتعد المقاصد أو الصول التي‬
‫يتوصل إليها نتيجةا لعمال هذا المنهج‪ .‬والمراد بهذا المبحث ما‬
‫يبنى على تلك المقدمات والمستندات من أفكار وتعريفات أو‬
‫مفاهيم يجبِّ اعتبارها واعتمادها عند تطبيق المنهج لجل الوصول‬
‫إلى القواعد والصول الكلية‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فهذا المبحث هو للتعريف ببعض اللفاظ أو‬
‫المصطلحات ال أصول ية التي يستعملها الشاطبي‪ ،‬وإدراك معانيها‬
‫ضروري لدراك منهجه‪ ،‬وعلى وجه الخصوص لفظا المصلحة‬
‫والمفسدةا إضافة إلى ألفاظ السببِّ والمسببِّ والحكمة والعلة‬
‫ومعاني الحكاما‪.‬‬
‫السـبب‪:‬‬
‫أما السببِّ فقد تبين المراد به في المبحث السابق‪ .‬وهو ما‬
‫جعله الشارع سبباا لمسببِّ سواء في الشرعيات أو في العقليات‪.‬‬
‫والمراد للتطبيق في المقاصد الشرعية ما كان سبباا شرعياا‪ .‬قال‬
‫عند تقريره لحد ال أصول ‪» :‬ما تقدما في هذا الصل نظر في‬
‫مسببات السباب من حيث كانت السباب مشروعة أو غير مشروعة‬
‫أي من جهة ما هي داخلة تحت نظر الشرع ل من جهة ما هي أسباب‬
‫عادية لمسببات عادية«هل)‪. (1‬‬
‫وكما تبين فإن السباب هي الحكاما الشرعية التي بييينيها‬
‫) ( الموافقات‪. 1/171 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪210‬‬
‫الشارع أمراا كانت أو نهياا‪ ،‬وهي دللت النصوص‪ .‬وبما أن الشارع‬
‫له في التشريع مقاصد‪ ،‬فقد شرع الحكاما لتكون هذه المقاصد‬
‫مسبباتم لللتزاما بها‪ ،‬فتكون الحكاما الشرعية أسباباا‪ .‬والنتائج‬
‫المقصودةا بها حكماا أو مسببات أو مصالح أو عللا‪ ،‬ولكن وفق نهج‬
‫معين سيتبين فيما يلي‪.‬‬
‫الحكمة‪:‬‬
‫وهي مظنة أن يكون قد شرع الحكم لجلها أو لجل تحصيلها‬
‫فهي مسببِّ‪ .‬ولكن قبل أن يثبت ‪ -‬قطعاا ‪ -‬كونها مقصودةاا لل شارع ‪،‬‬
‫يمكن أن تكون وصفاا مخيلا أو وصفاا مناسباا‪ ،‬فتكون مقصود‬
‫الشارع ظناا ل قطعاا‪ ،‬وهذه ل اعتبار لها شرعاا‪ .‬فالحقكيمي قد تكون‬
‫عند الناظر معلومةا وقد تكون مظنونة وقد تكون محتملة‬
‫متوهمةا‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك أن من الحقكيم ما قد ل يدركه أو ل يتوقعه‬
‫النسان مع انه قد يكون المقصود الهم للشارع‪ .‬ومن النتائج ما قد‬
‫يشعر النسان بكونه مصلحة دنيوية له ويميل إليه بطبعه‪ ،‬وهذا ما‬
‫يطلق عليه الشاطبي اسم الغرض أو الحظ‪ .‬ولذلك فل اعتبار‬
‫لمظنة الحكمة التي يسرح فيها العقل حتى يثبت ذلك بطريق‬
‫الشرع‪ .‬يقول‪» :‬إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية‬
‫فعلى شرط ان يتقدما النقل فيكون متبوعاا ويتأخر العقل فيكون‬
‫تابعاا فل يسرح العقل في مجال النظر إل بقدر ما ييسرقحه‬
‫النقل«هل)‪. (1‬‬
‫ويقول‪» :‬إنا إذا فهمنا بالقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في‬
‫شرع الحكم فل يلزما من ذلك أن ل يكون ثيميي حكمة أخرى‬
‫ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر‪ ،‬وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية‬
‫تصلح أن تستقل بشرع الحكم فاعتبرناها بحكم الذن الشرعي ولم‬
‫نعلم حصر المصلحة والحقكيم بمقتضياتها في ذلك الذي ظهر وإذا‬
‫) ( الموافقات‪. 1/53 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪211‬‬
‫لم يحصل لنا بذلك علم ول ظن لم يصح لنا القطع بأن ل مصلحة‬
‫إل ما ظهر لنا‪ .‬إذ هو قطع على غيبِّ بل دليل«هل)‪. (1‬‬
‫والظاهر من هذا النص أنه رد على من يقول بتقرير العلة أو‬
‫الحكمة أو المصلحة‪ ،‬بناءا على كونها محتملة وإن كان يمكن أن‬
‫يكون غيرها مما لم يظهر لنا أقوى في الظن‪ ،‬وكأنه رد مباشر على‬
‫المدي حيث قال‪» :‬وإذا ثبت أن الحكاما إنما شرعت لمصالح العباد‪،‬‬
‫فإذا رأينا حكماا مستلزماا لمر مصلحي فل يخلو إما أن يكون ذلك‬
‫هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا‪ .‬ل يمكن ان يكون ما‬
‫لم يظهر لنا وإل كان شرع الحكم تعبداا‪ ،‬وهو خلفَّ الصل لما‬
‫سبق تقريره‪ ،‬فلم يبق إل ان يكون مشروعاا لما ظهر‪ ،‬وإذا كان‬
‫ذلك مظنوناا فيجبِّ العمل به«هل)‪. (2‬‬
‫ورديي الشاطبي على هذا القول يعني أنه ل يكتفي بالحكمة‬
‫المظنونة‪ .‬ولذلك قال‪» :‬وذلك غير جائز فقد بقي لنا إمكان‬
‫حكمةم أخرى شيرع لها الحكم فصرنا من تلك الجهة واقفين مع‬
‫التعبد«هل)‪ ، (3‬وقال‪» :‬إذا ظهر لنا علة تصلح للستقلل بشرعية‬
‫الحكم ولم نكلف ان ننفي ما عداها فإن الصوليين مما يجوزون‬
‫كون العلة خلفَّ ما ظهر لهم«هل)‪. (4‬‬
‫ومما يؤكد هذا في منهجه اعتباره ان الحكمة مسبييبِّ‪ .‬قال‪:‬‬
‫»أما السببِّ فالمراد به ما وضع شرعاا لقحيكمم لحكمةم يقتضيها‬
‫ذلك الحكم«هل)‪ . (5‬وقال‪» :‬حقكيمي السباب وهي المسببات«هل)‪. (6‬‬
‫المسـيبب‪:‬‬
‫هو حكمة قصدها الشارع بتشريع السببِّ‪ .‬فهو نتيجة للفعل‬
‫المصدر نفسه‪. 2/216 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المدي‪ ،‬ال أ حكاما في أصول الحكاما‪. 3/250 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/217 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/185 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/175 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪212‬‬
‫المأمور به يقصد الشارع حصولها بحصول الفعل‪ ،‬وهو نتيجة‬
‫للفعل المنهي عنه يقصد الشارع عدما حصولها بعدما الفعل المتسببِّ‬
‫بها‪.‬‬
‫ولكن ليس كل ما يمكن ان ينتج عن الفعل أو عن ترك الفعل‬
‫مسببِّ للسببِّ‪ ،‬ولذلك فالمسببِّ هو ما يثبت كونه مقصوداا للشارع‬
‫عن طريق الستقراء المفيد للقطع‪ .‬ول يكفي فيه أن يكون مما‬
‫يمكن ان ينتج عن الفعل‪.‬‬
‫العلة‪:‬‬
‫العلة هي المسببِّ أو النتيجة التي قصدها ال شارع بتشريع‬
‫الحكم‪ .‬وبالتالي فهي المقصد والحكمة‪.‬‬
‫وقد يقال كيف تكون العلة هي المسببِّ‪ ،‬والقرب في المعن ى‬
‫ان تكون سبباا ل مسبباا ؟ ‪ .‬والجواب‪ :‬إنه في الصطلح المعهود عند‬
‫الصوليين العلة ليست سبباا ول مسبباا‪ ،‬فالعلة هي الباعث على‬
‫التشريع‪ .‬وقد تبييين هذا في الفصل السابق‪ .‬أما عند الشاطبي‬
‫فالمر مختلف‪ ،‬والعلة هي المسببِّ على منهجه‪.‬‬
‫وبيان ذلك أن الشارع إنما شرع الحكاما لتحقيق مقاصد‬
‫والمقاصد هي مسببات للحكاما‪ .‬وإذا أردنا ان نعرفَّ مقصد الشارع‬
‫فإنما ننظر في هذه الحكاما ومسبباتها ومآلتها المقصودةا‪ ،‬وما‬
‫يثبت كذلك يعد أصلا من أصول التشريع‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه المقاصد إنما شرعت الحكاما لجلها‪ ،‬فتكون‬
‫الحكاما إنما شرعت بناء عليها‪ ،‬فتكون عللا للتشريع‪ .‬والمجتهد ل‬
‫سبيل له لمعرفة علل الحكاما إل من خلل تتبع واستقراء مسبباتها‪.‬‬
‫ولهذا قيل إن مقاصد الشريعة هي جلبِّ المصالح ودرء المفاسد‪،‬‬
‫وقيل أيضاا إن الشريعة معللة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد ‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فإنه ينطبق على العلة ما ينطبق على المسببِّ‬
‫وعلى الحكمة مما ذكر آنفاا‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬أما العلة فالمراد بها‬

‫‪213‬‬
‫الحقكيمي والمصالح التي تعلقت بها الوامر أو الباحة‪ ،‬أو المفاسد‬
‫التي تعلقت بها النواهي«هل )‪ . (1‬و ينبني على ذ ل ك أن العلة يجبِّ ان‬
‫تكون قطعية‪ :‬فتكون المصلحةي نفسيها أو المفسدةا ي نفسيها ل‬
‫مظنييتها‪ .‬قال‪» :‬فعلى الجملة العلة هي المصلحةي نفسيها‪ ،‬أو‬
‫المفسدةا ل مظنييتها‪ ،‬كانت ظاهرةا أو غير ظاهرةا‪ .‬منضبطة أو غير‬
‫منضبطة«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬والعلة إما أن تكون معلومةا أيون ل‪ ،‬فإن‬
‫كانت معلومة ا تبعت فحيث ويجقدت ويجقدي مقتضى المر والنهي‬
‫من القصد أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة‬
‫النتفاع بالمعقود عليه‪ ،‬والحدود لمصلحة الزدجار‪ ،‬وتعرفَّ العلة‬
‫هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه‪ ،‬فإذا تعييينت عيلم أن‬
‫مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه‪ ،‬ومن‬
‫التسببِّ أو عدمه‪ ،‬وإن كانت غير معلومة فل بد من التوقف عن‬
‫القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا«هل )‪ . (3‬ثم قال‪» :‬ويحكم به‬
‫علماا أو ظناا بأنه غير مقصود له )للشارع(‪ .‬إذ لو كان مقصوداا‬
‫لنصبِّ عليه دليلا)‪« (4‬هل)‪. (5‬‬
‫مإعاني الحكام‪:‬‬
‫معاني الحكاما هي نفسها المسببات أو الحقكيم المقصودةا‬
‫للشارع‪ ،‬كحفظ الدين وحفظ النفس‪ ،‬فهي معانم استفيدت من‬
‫الحكاما الشرعية التي تؤدي إلى هذه النتائج‪ .‬قال‪» :‬ل بد من‬
‫اللتفات إلى المعاني التي شيرقعت لها الحكاما‪ ،‬والمعاني هي‬
‫مسب يي بات الحكاما«هل)‪ . (6‬وقال‪» :‬العمال الشرعية ليست مقصودةاي‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/185 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 277 -2/276 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( أي‪ :‬دليلا قطعياا‪ ،‬وليس أمارةا ظنية‪ ،‬لن أدلة القطعيات يجبِّ ان تكون‬ ‫‪4‬‬

‫قطعية‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 277 -2/276 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/138 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪214‬‬
‫لنفسها وإنما قيصقدي بها أموري أيخير هي معانيها وهي المصالح‬
‫التي شرعت لجلها«هل )‪. (1‬‬
‫المصـلحة وأالمفسـدة‪:‬‬
‫يتبين مما سبق أن جلبِّ المصالح ودرء المفاسد هو غايات‬
‫الحكاما ومآلتيها‪ .‬وهو عللها ومقاصدها ومسبباتها ومعانيها‪.‬‬
‫إل أن ما يجبِّ ذكره أن ثمة فرقاا جوهرياا بين معنى كل من‬
‫المصلحة والمفسدةا عند الشاطبي وبين معانيهما عند من سبقه من‬
‫الصوليين الذين يقولون بعلية جلبِّ المصالح ودرء المفاسد‪.‬‬
‫فعند السابقين المصالح والمفاسد هي ما كان كذلك بحكم‬
‫العقلء والحكماء‪ ،‬أي هي ما يعود على المكلفين بما يتفق مع‬
‫فقطرهم وميولهم ويوافق حظوظهم وأغراضهم‪ ،‬ولذلك فهي معانم‬
‫أو أوصافَّ مناسبة‪ .‬ولذلك فالمصالح المعتبرةا عندهم هي‬
‫الوصافَّ المناسبة إذا جاء وفقاا لها حكم أو أحكاما )‪. (2‬‬
‫أما عند الشاطبي فالمصلحة هي ما يثبت كونه مقصوداا‬
‫للشارع‪ ،‬بغض النظر عن كونه مناسباا أو غير مناسبِّ‪ .‬ويتم ذلك‬
‫باستقراء معنى أو وصف في الحكاما بغض النظر عن كونه مصلحة‬
‫أو مفسدةا بحسبِّ المكلفين وعاداتهم‪ ،‬فإذا استقرئ المعنى استقراءا‬
‫يفيد ما يشبه التواتر المعنوي كان معنى كلياا مقصوداا للشارع‪،‬‬
‫ويعد مصلحة إذا كان مسبباا لما طلبه الشرع ويعد مفسدةاا إذا كان‬
‫مسبباا لما نهى عنه الشرع‪ .‬وهذا المفهوما للمصلحة والمفسدةا‬
‫عنده ييعيديي انقلباا على المعنى المعهود عند الصوليين‪ ،‬ويؤدي‬
‫عدما التنبه لهذا المعنى إلى عدما فهم فكرةا المقاصد عنده‪ ،‬أو إلى‬
‫تحميل الشاطبي آراءا وأفكاراا تناقض حقيقة آرائه وأفكاره‪.‬‬
‫وبما أن المصالح والمفاسد جلباا ودرءاا هي العلل وهي‬
‫المقاصد وهي المسببات وهي معاني الحكاما‪ ،‬وهي كثيرةا التردد‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 2/268 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( وقد تبين هذا في الفصل الول ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪215‬‬
‫والستعمال عند الشاطبي‪ ،‬فإن عدما التحقق من حقيقة مراد‬
‫الشاطبي بالمصلحة والمفسدةا يوقع الباحث في كتاب الموافقات في‬
‫تناقضات ويحرفه عن فهم منهج الشاطبي‪ .‬لذلك لزما بحث وإثبات‬
‫مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد بشكل مفصل ومنفصل‪.‬‬
‫مإفهوم الشـاطبي لكل مإن المصـلحة‬
‫وأالمفسـدة‪:‬‬
‫يظهر مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد في نصوص كثيرةا‬
‫له‪ ,‬كم ا أنه يظهر من خلل الكيفية التي أثبت بها أن الشريعة‬
‫معللة بالمصالح والمفاسد‪.‬‬
‫فلقد حاول الشاطبي إثبــات هــذا ال مــر فــي م قــدمته لك تــاب‬
‫المقاصد‪ ،‬فرديي على الرازي الذي أنكر تعل يــل الشــريعة بالمصــالح‬
‫والمفاسد وقطع بذلك‪ .‬فأتى بنصوص يظ هــر في هــا أن أح كــاما ا لــ‬
‫سبحانه وأفعاله معللة‪ ،‬وذلك من خلل النص الشرعي علــى ان ا لــ‬
‫حكم بذلك لجل كذا‪ ،‬وفعل كذا لجل كذا‪ ،‬وذلك كقوله تعالى‪:‬‬
‫[ ‪ ... ]   [، ]  [، ] ‬وبما أن‬
‫منهج الشاطبي في إثبات القواعد والصـول ه و السـتقراء المفيـد‬
‫للقطع‪ ،‬فقد أتى بنصوص كثيرةا فيها النص على ان الحكم أو الفعل‬
‫كان لجل غاية‪ .‬وأشار الى وجود نصوص ل حصر لها تدل علــى أن‬
‫الحكاما والفعال لها غايات‪ .‬وبناء على حصول الستقراء يثبت عنده‬
‫أصل كلي ل يتخليــف و هــو أن أف عــال ا لــ وأح كــامه ل هــا مقا صــد‬
‫وغايات‪ .‬وبهذا يرى الشاطبي أنه أثبت على سبيل القطع أن الشريعة‬
‫معللة بالمصالح والمفاسد‪ .‬وبالنظر في هذه النصوص التي اســتدل‬
‫بها الشاطبي نجد ان غالبيتها ليس فيها ما يدل على قصد الشارع لما‬
‫هو مصلحة أو رفع مفسدةا بمعنى ما يوافق أغراض أو حظوظ الناس‬
‫أو ما يحكم به العقلء أو الحكماء أنه مصلحة للناس‪ ،‬بل إن غالبيتها‬
‫ليس فيها معنى معقول أو مناسبِّ يقال ان فيه جلبِّ مصــلحة أو درء‬
‫مفسدةا‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫بل إن قصارى ما تدل عليه هذا النصوص‪ ،‬وهو ما قصده‬
‫الشاطبي بالستدلل بها‪ ،‬هو أن الحكاما والفعال لها مقاصد أو‬
‫غايات‪ .‬وبما ان هذه الفعال والحكاما هي من الشارع فتكون‬
‫مقاصدها شرعية‪ .‬وبما أنها مقاصد شرعية فإنها تسمى مصالح أو‬
‫مفاسد بحسبِّ مشروعية الفعال أو عدما مشروعيتها‪.‬‬
‫ولثبات ان هذا هو مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد‪،‬‬
‫سنناقش الدلة التي أتى بها لثبات ان الشريعة معللة بالمصالح‪،‬‬
‫واحداا واحداا‪.‬‬
‫مإناقشـة تحليلية لسـتدللت الشـاطبي‪:‬‬
‫قال الشاطبي‪» :‬إن وضع الشرائع انما هو لمصالح العباد في‬
‫العاجل والجل معاا«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬وزعم الرازي أن أحكاما ال ليست‬
‫معللةا بعلةم البتة كما ان أفعاله كذلك‪ ،‬وأن المعتزلة اتفقت على‬
‫أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر‬
‫الفقهاء المتأخرين‪ ،‬ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل‬
‫للحكاما الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلمات المعرفة‬
‫للحكاما خاصة«هل)‪. ( 2‬‬
‫وهذا ال قــول يفيــد انــه ل مــا كــان ال قــول بتعليــل ال شــريعة‬
‫بالمصالح قول أكثر الفقهاء المتأخرين فإنه لــزما إقا مــة البر هــان‬
‫على ذلك‪ ،‬وأن البرهان الذي يصح على هذه المسألة هو على العلــل‬
‫إذا كانت بمعنى عل مــات معر فــة‪ ،‬أي م جــردةا عــن حك مــةم ي جــدها‬
‫الفقيه‪ .‬فهذه إشارةا إلى مراده بالمصالح‪ ،‬وهذا مخالف كلياا لمنهج‬
‫التعليل الذي اعتمده الفقهاء قبله الذين يعللون الشريعة بالمصالح‪.‬‬
‫ثم قال‪» :‬والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أن هــا و ضــعت‬
‫لمصالح العباد استقراءا ل ينازع فيه الرازي ول غيره«هل)‪ ، (3‬ثم ذكر‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/2 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3 - 2/2 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪217‬‬
.‫استدللا على ذلك اثني عشر نصاا على ســبيل المثــال ل الحصــر‬
 [ :‫ »فإن ال تعالى يقول في بع ثــة الر ســل و هــو ال صــل‬:‫قال‬
        
، (2) ]   [(1)، ]     
      [ :‫وقال في أصل الخلقة‬
       
3 4
  [( )، ]       [( )،
]       
‫ وأما التعاليل لتفاصيل الحكاما في الكتاب والسنة ف أكثر‬. (5) ]
    [ ‫ كقوله بعد آية الو ضــوء‬،‫من ان تحصى‬
       
(6)
    [ :‫ وقال في ال صــياما‬، ] 
:‫ وفي الصلةا‬، (7) ]       
‫ وقال في‬، (8)]        [
       [ :‫القبلة‬
(9)
    [ :‫ وفــي الجهــاد‬، ] 
( 10 )
    [ :‫ وفــي القصــاص‬، ] 
( 11 )
 [ :‫ وفي التقرير علــى التوحيــد‬، ]  
         
،‫ والمقصود التنبيه‬، (12) ]      

. 165 ، ‫سورةا النساء‬ () 1

. 107 ، ‫سورةا النبياء‬ () 2

. 7 ، ‫سورةا هود‬ () 3

. 56 ، ‫سورةا الذاريات‬ () 4

. 2 ، ‫سورةا الملك‬ () 5

. 6 ، ‫سورةا المائدةا‬ () 6

. 183 ، ‫سورةا البقرةا‬ () 7

. 45 ، ‫سورةا العنكبوت‬ () 8

. 150 ، ‫سورةا البقرةا‬ () 9

. 39 ، ‫سورةا الحج‬ () 10

. 179 ، ‫سورةا البفرةا‬ () 11

. 172 ، َّ‫سورةا العراف‬ () 12

218
‫وإذا دل الستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداا للعلم‬
‫فنحن نقطع بأن المر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة«هل)‪. (1‬‬
‫بهذا يرى الشاطبي أنه قد أقاما الدليل القاطع على أن الحكاما‬
‫الشرعية معللة بالمصالح وسننظر ‪ -‬فيما يلي ‪ -‬في هذا النص نظرةاا‬
‫تحليلية لفهم مراده بالتعليل بالمصالح‪ .‬فلنأخذ ‪ -‬إذا ا ‪ -‬النصوص‬
‫التي استدل بها وكان كل واحد منها مفيداا للتعليل بمصلحة‪،‬‬
‫والتي شكلت كثرتها استقراءا يفيد ما يشبه التواتر المعنوي‪.‬‬
‫دليله الول‪ :‬قوله‪» :‬فإن ال تعالى يقول في بعثة الرسل‪ [ :‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪. (2) ]  ‬‬
‫هذا النص يعده الشاطبي حكماا أو فعلا ل سبحانه وتعالى‬
‫معللا بمصلحة‪ .‬وبإنعاما النظر فيه نجده دالا على غاية ‪ -‬من‬
‫الغايات ‪ -‬من إرسال الرسل‪ ،‬أو على نتيجة يقصد حصولها‪ .‬فالفعل‬
‫هو إرسال الرسل مبشرين ومنذرين‪ ،‬والنتيجة هي إقامة الحجة‬
‫على الناس بأنهم قد بيشيقروا وأينذروا‪ ،‬فل يقولون يوما القيامة‪ :‬لم‬
‫يأتنا نذير‪ ،‬ول يقولون‪ :‬كيف نحاسبِّ على قيامنا بفعل لم نيـننـه ي‬
‫عنه‪ ،‬وعلى تركنا لفعل لم نؤمر به‪ .‬فكل ما يريده الشاطبي هنا هو‬
‫أن يثبت أن أفعال ال سبحانه وتعالى وأحكامه لها غايات أو مآلت‬
‫لجلها فعل أو شرييع‪ .‬فقطع حجة العباد يوما القيامة هو غاية أو‬
‫نتيجة لرسال الرسل يقصد الشارع حصولها‪ .‬وهي ليست علة‬
‫بمعنى العلة التي هي ركن في القياس‪ ،‬فانقطاع حجة العباد يوما‬
‫القيامة ليس علة لحكم شرعي وليس في هذا النص حكمي محلي‬
‫للقياس‪ .‬وكون الشاطبي يسمى الغاية أو النتيجة أو المآل أو‬
‫المسبييبِّ علةا يدفعنا لتحديد معاني هذه اللفاظ لديه كي ل‬
‫نوقعها غير مواقعها‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/3 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النساء ‪. 165 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪219‬‬
‫أما كون هذه العلة مصلحة‪ ،‬فهذا من باب التجوز وليــس مــن‬
‫باب إدراك ان هذا المر مصلحة ثم ملحظة ان الشرع أ مــر أو قــرر‬
‫ما يدرك النسان انه مصلحة‪ .‬نعم‪ ،‬ليس من هذا البــاب‪ ،‬والمقصــود‬
‫بالتجوز أن كل ما يأمر به ال نسميه م صــلحةا أو ح قــاا أو عــدلا‪،‬‬
‫وكل ما ينهى عنه ســبحانه وت عــالى ن ســميه مف ســدةاا أو ظل مــاا أو‬
‫باطلا‪ .‬هذا هو مراد الشاطبي‪ ،‬ولدراك ال مــر فلنن ظــر فــي النــص‬
‫أعله‪ ،‬فهل في هذه الغاية و هــي عــدما امتلك النــاس يــوما القيا مــة‬
‫لحجة ينجون بها من الحساب والعقاب مصلحةي أو وجهي من وجــوه‬
‫المصلحة؟ لو لم يأتهم بشير ونذير لكانوا من أهل الفترةا ولن جــونا‬
‫من العذاب [ ‪ ، (1)]      ‬فأين‬
‫المصلحة هنا أو المعنى المناسبِّ الذي لو عرض على العقول لتلقته‬
‫بالقبول؟ إن قطع حجة العباد يــوما القيا مــة ل يــدخل فــي م صــلحة‬
‫العباد‪ .‬وبناء على ذلك فإن ا ســتدلل ال شــاطبي ب هــذا ال نــص ع لــى‬
‫التعليل بالمصلحة يدل على أن مراده بالمصلحة هو ما ثبت كــونه‬
‫مراداا ل سبحانه وتعالى بغض النظر عن كونه معقول المعنــى أو‬
‫ليس كذلك‪.‬‬
‫[ ‪    ‬‬ ‫دليله الثاني‪:‬‬
‫])‪. (2‬‬
‫لهذا النص وجهان من الدللة في موضوع تعليل الشريعة‬
‫بالمصالح‪ .‬الول وهو الذي اعتمده العلماء الذين قالوا بتعليل‬
‫الشريعة‪ ،‬فقالوا‪ :‬بما انها رحمة فإنها يجبِّ أن تعود على العباد‬
‫بالمصالح وتدرأ عنهم الضرر والمفاسد‪ ،‬وبذلك يكون جلبِّ‬
‫المصالح ودرء المفاسد علة للحكاما‪ .‬وليس هذا وجه استدلل‬
‫الشاطبي‪ ،‬فقد علمنا ان الشاطبي ل يكتفي بنص واحد أو بآحاد‬
‫النصوص لتقرير المعنى‪ .‬ومقصود الشاطبي باستدلله بهذا النص‬
‫هو الوجه الثاني وهو أن أفعال ال وأحكامه معللة‪ .‬وهذا النص هو‬
‫) ( سورةا السراء ‪. 15 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النبياء ‪. 107 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪220‬‬
‫أحد الجزئيات الخادمة لهذا المعنى‪ .‬بتعبير آخر إن ال سبحانه‬
‫وتعالى فيعيلي فقعنلي الرسال‪ ،‬والنص دل على أن فعله له مقصد وهو‬
‫الرحمة‪ .‬وبذلك يكون هذا المعنى وهو تعليل الفعال والحكاما‬
‫متحققاا في هذه الجزئية‪ .‬وهذا هو المعنى المقصود في سائر‬
‫استدللته الثني عشر‪ ،‬ولو كان مقصوده بهذا النص الوجه الول‬
‫لما كان مقوياا لسائر النصوص الخرى‪.‬‬
‫ولذلك فإنه بهذا النص يثبت ان إرسال الرسول ‪ ‬كان لغاية‪.‬‬
‫وبما ان الشاطبي جعل هذا النص دليلا على التعليل‬
‫بالمصلحة‪ ،‬فهذا يدل على أنه يطلق لفظ العلة على الغاية‪ .‬أما‬
‫كون هذه العلة مصلحة‪ ،‬فيمكن أن يقال إن الرحمة مصلحة للعباد‬
‫ولذلك قصدها الشارع‪ ،‬وليس هذا مراد الشاطبي‪ ،‬وإنما مراده أن‬
‫رحمة العالمين هي غاية للشارع ولذلك فهي مصلحة‪ .‬فهذا النص‬
‫ل يفيد أن ما يعده النسان مصلحة جاءت الشريعة لتدل عليه‪ ،‬لن‬
‫مدلول النص ان الرسالة رحمة للعباد‪ ،‬بغض النظر عما فيها من‬
‫أوامر ونواه‪ ،‬فهي مصلحة للعالمين بما فيها من أوامر ونواه م‬
‫كيفما كانت‪.‬‬
‫دليله الثالث‪      [ :‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪. (1) ]  ‬‬
‫هذا النص أتى به الشـاطبي هنـا ل نــه ين ـــص علــى غاي ـــة أو‬
‫نتيـجـة للخـلـق وهـي [ ‪ ]    ‬وهو‬
‫يضافَّ إلى أدلته الخرى لتحقيق الســتقراء‪ .‬والمعنــى الواحــد أو‬
‫المشترك الذي تتضافر عليه هذه النصوص هو النص ع لــى غا يــة أو‬
‫نتيجة للفعل‪ .‬والستدلل بهذا النص على التعليل دليل على تســمية‬
‫الشاطبي للغاية أو النتيجة المقصودةا علــةا‪ .‬ولــو نظرنــا إلــى مــا‬
‫يسميه الشاطبي علة هنا ل أ دركنا الفرق بينها وب يــن علــة الق يــاس‪.‬‬

‫) ( سورةا هود ‪. 7 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪221‬‬
‫فالبتلء ليس علة قياس‪ .‬وليس ثمة حكم في هذا النص يحكــم بــه‬
‫على واقعةم ما قياساا بجامع البتلء‪ .‬وكل ما تفيده هذه الن صــوص‬
‫التي يستدل بها الشاطبي هو إثبات وجود غايات للفعال‪.‬‬
‫أما كون هذه الغاية مصلحة‪ ،‬فل جدال في أنه من باب إنه ل‬
‫يصح في حق ال سبحانه وتعالى أن يقال عن أفعاله وأوامره‬
‫ونواهيه سوى إن ها مصلحة وحق وعدل‪ ،‬وليس من باب ما يشعر به‬
‫العبد إنه مصلحة أو وصف مناسبِّ أو حكمة بنظر العقلء والحكماء‪.‬‬
‫بل يكاد يكون المر على العكس من ذلك‪ ،‬إذ هذا النص يدل على‬
‫التحكم من الخالق بمخلوقاته‪ .‬إذ أين هي المصلحة التي يشعر بها‬
‫النسان أو يدركها العقل في أن يخلق النسان لييبتلى‪ ،‬فإما إلى‬
‫جنةم وإما إلى نار؟ والنسان قبل أن يخلق كيف يعقل أو يدرك‬
‫القول بأن خلقه وابتلءه مصلحة له؟ هذا مما ل يدرك فيه وجه‬
‫للمصلحة‪ ،‬ويثبت بهذا ان الشاطبي يطلق لفظ المصلحة على ما ثبت‬
‫انه مقصود للشارع ولو لم يكن معقول المعنى‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫دليلـــه الرابـــع‪:‬‬
‫[ ‪‬‬
‫‪ . (1)] ‬وهذا أيضاا ينطبق عليه ما ق يــل ســابقاا ف هــو قــد‬
‫ساقه لثبات الغاية أو النتيجة المقصودةا للشارع من الخلق [ ‪‬‬
‫‪ ، ] ‬ويؤكد أيضاا المذكور أعله مــن مف هــوما ال شــاطبي لل فــظ‬
‫المصلحة‪ .‬ولو كان مراده بهذا اللفظ الوصف أو المعنى المناســبِّ‬
‫الذي يدركه العقلء والحكماء لكان هذا النص ناقضاا لمبتغاه‪ .‬فهذا‬
‫النص يستدل به من يــرد التعليـل بالم صــالح‪ .‬وأيـن هـي مصـلحة‬
‫المعدوما في خلقه للتكليف؟ ليـس هنــاك م صــلحة معقولـة‪ ،‬و هــذا‬
‫يؤكد الوارد أعله من مراد الشاطبي بلفظ المصلحة‪.‬‬
‫دليلــه الخــامإس‪    [ :‬‬
‫‪ (2)]    ‬وهذا هو دليله الثالث نفسه‪.‬‬

‫) ( سورةا الذ ا ريات ‪. 56 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا الملك ‪. 2 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪222‬‬
‫وقد سيق لتكثير الدلة‪ .‬ويقال فيه ما قيل في ما سبقه‪.‬‬
‫دليله السادس‪      [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪]       ‬‬
‫وهذا أيضاا يلحظ فيه انه استدل به لنه يتضمن ذكر النتيجة التي‬
‫يمكن أن تحصل من ه ذا التكلي ف [ ] ‪ [، ]  [،‬‬
‫‪ . ]  ‬حتى لو أدرك النسان المصلحة في النظافـة‬
‫أو التطهيــر‪ ،‬فــإنه ل ي ســتطيع نم طــاا مــن النظا فــة م كــان الن مــط‬
‫المشروع‪ .‬وعديي هذه الغايات مصالح يدل على انها عــدييت كــذلك‬
‫لنها مقصودةا للشارع‪ ،‬ل أن ال ســبحانه وت عــالى شــرع مــا يــدرك‬
‫العباد إنه مصلحة‪.‬‬
‫دليله السابع‪      [ :‬‬
‫‪ . (2)]     ‬الشاهد في هذا الدليل‬
‫هو في [ ‪ . ]  ‬والشاطبي يثبت بــه أن التكل يــف هــو‬
‫لجل غايات معينة وكونها مقصودةا للشارع يجعلها مصلحة‪ .‬وليس‬
‫في هذا النص معنى مناسبِّ يشار إليه‪ .‬وإذا قيل إن التقوى مصــلحة‪،‬‬
‫فهذا ينقض أصل الفكرةا ول يخدما ال قــول بالتعليــل بالم صــالح‪ ،‬لن‬
‫التقوى هي الطاعة‪ .‬فهذا النص مثل النص‪   [ :‬‬
‫‪ ]   ‬في دللته على هذا المر‪.‬‬
‫دليله الثــامإن‪:‬‬
‫[ ‪    ‬‬
‫‪ (3) ]  ‬وهنا أيضاا يســتدل الشــاطبي بــالنص لثبـات‬
‫نتيجة أو مآل للحكم‪ ،‬وان هذا المآل مقصود للشارع‪ ،‬وبــذلك ف هــو‬
‫مصلحة‪ .‬وهذا الدليل مثل سابقه‪.‬‬
‫دليله التاسع‪     [ :‬‬
‫)‪(4‬‬
‫‪ . ]   ‬فالتكلـيف هو لجل حصول نتيجة [ ‪‬‬
‫‪ ، ] ‬فتكون النتيجة مقصداا للتكليف‪ .‬ول وجه لتسمية هــذا‬

‫سورةا المائدةا ‪. 6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا البقرةا ‪. 183 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا العنكبوت ‪. 45 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا البقرةا ‪. 150 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪223‬‬
‫المقصد مصلحة إل لنه مقصود للشارع‪.‬‬
‫دليله العاشر‪     [ :‬‬
‫‪. (1)] ‬‬
‫يستدل الشاطبي بهذا النص لثبات أن الحكم الذي شرعه ال‬
‫و هو الذن بالقتال هو لغاية رفع الظلم الذي وقع عليهم‪ ،‬فتكون هذه‬
‫الغاية مقصودةا للشارع بالحكم‪ ،‬وبهذا فالذن بالقتال له غاية‪.‬ومثل‬
‫هذا دليله التالي‪.‬‬
‫[ ‪   ‬‬ ‫دليلــه الحــادي عشــر‪:‬‬
‫‪. (2) ]  ‬‬
‫وهو يثبت بهذا الستدلل أ ن تشريع القصاص هو لجل غاية أو‬
‫نتيجة‪ ،‬وهي رفع القتل العمد العدوان أو الجنايات أو التقليل منها‪،‬‬
‫فتكون هذه النتيجة مقصودةا للشارع ويثبت ان أفعال أو أحكاما‬
‫الشارع معللة بغاياتها‪ ،‬وكون الغايات مقصودةا للشارع فهي‬
‫مصالح‪.‬‬
‫وهذا النص والذي قبله يمكن أن يقال فيهما إن غايتهما‬
‫مصلحة بحكم الحس والطبع أو بحسبِّ العقلء‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬ولكن‬
‫ليس هذا وجه استدلل الشاطبي‪ ،‬لنه ل ينسجم مع سائر أدلته‪،‬‬
‫وإنما مقصوده الذي تتضافر سائر استدللته عليه هو إثبات وجود‬
‫غاية للحكم أو الفعل بغض النظر عن كونها معقولة أو غير‬
‫معقولة‪ .‬ودليله التالي والخير يزيد المر وضوحاا وتأكيداا‪.‬‬
‫دليله الثاني عشر‪      [ :‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪. (3) ] ‬‬
‫والنص بتمامه‪       [ :‬‬
‫‪     ‬‬

‫) ( سورةا الحج‪. 39 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا البقرةا ‪. 179 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا العرافَّ ‪. 172 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪224‬‬
‫‪ (1 ) ]    ‬الية‪ .‬فهذا ما ساقه الشاطبي لثبات‬
‫أن للفعال غايات‪ .‬والغاية هنا أن يقيم الحجة على بني آدما ويق طــع‬
‫عليهم طريق العتذار يوما القيامة‪ .‬ووجود الغاية للفعل أو للح كــم‪،‬‬
‫وثبوت المر في أفعال وأحكاما كثيرةا‪ ،‬يثبت عند الشاطبي أن أفعال‬
‫ال وأحكامه لها غايات‪ .‬وإذا ثبت هذا وكان ثمة حكم ل يوجد نــص‬
‫على غايته أو على مقصد الشارع منه‪ ،‬فيجبِّ الب حــث عــن مق صــد أو‬
‫غاية يقصدها الشارع منه‪.‬‬
‫هذا هو قصارى قصد الشاطبي من هذه الستدللت‪ .‬وفي هذا‬
‫النص الخير ل نلمس مصلحة معقولة‪ ،‬فالشاطبي استدل بهذا النص‬
‫الخير وعده دليلا على التعليل بالمصلحة‪ .‬والمصلحة هي كي ل‬
‫يقولوا يوما القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‪ .‬والفعل المعلل هو‬
‫إشهاد ال للناس على أنفسهم بعد أخذهم من ظهور بني آدما‪.‬‬
‫والنسان ل يملك إزاء هذا النص إل أن يقرره ويؤمن به وبما فيه‪.‬‬
‫وهو وإن كان يستطيع أن يعقل وجوب هذا القرار إل انه ل‬
‫يستطيع أن يفهم بما أوتى من قدرةا عقلية كيفية ترتبِّ إقامة هذه‬
‫الحجة على هذا الشهاد‪ .‬وأين هي مصلحة العباد بانقطاع حجتهم؟‬
‫وبناء على شهادتهم على أنفسهم شهادةا ل حول لهم فيها ول قوةا؟‬
‫وعلى ذلك فهذه الية ل تدل على مصلحة للعباد ل من قريبِّ ول‬
‫من بعيد‪ .‬وليس فيها شاهد في هذا الموضع إل على أن فعل ال‬
‫سبحانه وتعالى له غاية أو نتيجة مقصودةا‪ .‬وهذا الفعل ل غايته‬
‫اوالمقصود منه قطع حجة العباد يوما القيامة‪.‬‬
‫وبما أن الشاطبي سماها علة وسماها مصلحة‪ .‬فهذا يعني أنه‬
‫يسمي مقاصد الشارع عللا ومصالح‪ .‬وبناءا على ما سبق فإن الذين‬
‫يستدلون ببعض نصوص الشاطبي‪ ،‬ويعتمدون على أقواله قاصدين‬
‫بها غير ما قصد ويقررون الحكاما بناء على المصالح والغراض‬
‫والحظوظ الدنيوية مستدلين باسم كتابه أو بمنهجه ‪ -‬حسبِّ زعمهم‬

‫) ( سورةا العرافَّ ‪. 172 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪225‬‬
‫‪ -‬هؤلء لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر والتفكير اليسير‬
‫باستدللته‪.‬‬
‫ولو كان مراد الشاطبي بالتعليل بالمصالح‪ ،‬ما كان مصلحة‬
‫بحسبِّ الحس والطبع أو العقل والنظر‪ ،‬لكان منهجه ساقطاا من‬
‫أوله‪ ،‬لن هذه الستدللت التي اتى به ل تحتمل هذه الدللة‪ ،‬بل‬
‫أكثرها ينقضها‪.‬‬
‫أحد المهتمين بموضوع مقاصد الشريعة السلمية‪ ،‬والقائلين‬
‫بان المقاصد هي المصالح ـ بهذا المعنى المخالف لما عند الشاطبي ـ‬
‫وهو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يقول‪» :‬واستقراء أدلة كثيرةا‬
‫من القر آ ن والسنة الصحيحة يوجبِّ لنا اليقين بان أحكاما الشريعة‬
‫السلمية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلح العاما للمجتمع‬
‫والفراد«هل )‪. ( 1‬‬
‫هذا الشيخ ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬لم يتنبييه لمراد الشاطبي بالمصــلحة‪،‬‬
‫ولكنه تنبه لمعاني هذه الدلة‪ ،‬ولذلك ذهبِّ إلى عدما صلحيتها فــي‬
‫هذا الستدلل‪ .‬قال‪» :‬وقد ذكر أبو ا ســحق ال شــاطبي فــي مقد مــة‬
‫كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف )‪ (2‬أدلــةا الصــالحي منهــا‬
‫عقبِّ آية الوضوء‪       [ :‬‬
‫‪ ]   ‬وقوله تعالى‪   [ :‬‬
‫‪« ] ‬هل)‪. (3‬‬
‫إذن‪ ،‬هو اعتبر اثنين فقط من أدلة الشاطبي ورديي عشرةاا رآها‬
‫ل تصلح للستدلل‪ ،‬ولو صح ما قاله الشـيخ لكان إبطالا لما زعمه‬
‫الشاطبي من تحصيـل السـتقراء في هذه القضية ولهدما منهجه من‬

‫محمد الطاهر بــن عا شــور‪ ،‬مقا صــد ال شــريعة ال ســلمية‪ .‬ص‪،14 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشركة التونسية للتوزيع‪ ،‬تونس‪ ،‬ط ‪ ، 3‬ديسمبر ‪. 1988‬‬


‫وهو كتاب الموافقات‪ ،‬وقد أشار الشاطبي فــي خطبــة الك تــاب إ لــى‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تسميته بـ)عنوان التعريف بأسرار التكليف( ‪.‬‬


‫) ( محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة السلمية‪ .‬ص‪. 16 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪226‬‬
‫أوله‪ .‬والصواب ليس رد اسـتدللت الشــاطبي من هذه الجهـة )‪، (1‬‬
‫وإنما فهـم مراده بكلمـة مصـلحـة بالمعنـى الذي أوردناه‪ .‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وفيما يلي بعض النصوص الصريحة في بيان مراده بالمصلحة‬
‫والمفسدةا‪.‬‬
‫بعض النصـوص فـي مإـراد الشـاطبي بالمصـلحة‬
‫وأالمفسـدة‪:‬‬
‫يقول‪» :‬إن وضع الشريعة إذا سيليقم أنها لمصالح العباد فهي‬
‫عائدةا عليهم بحسبِّ أمر الشارع وعلى الحد الذي حديه ل على‬
‫مقتضى أهوائهم وشهواتهم‪ ،‬لذلك كانت التكاليف الشرعية ثقيلة‬
‫على النفوس‪ ،‬والحس والعادةا والتجربة شاهدةا بذلك‪ .‬فالوامر‬
‫والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى‬
‫ياخذها من تحت الحد المشروع‪ ...‬أما أن مصالح التكليف عائدةا‬
‫على المكلف في العاجل والجل فصحيح ول يلزما من ذلك ان يكون‬
‫نيله لها خارجاا عن حدود الشرع ول ان يكون متناولا لها بنفسه‬
‫دون ان يناولها إياه الشرع وهو ظاهر«هل )‪ . (2‬ويقول‪» :‬طلبِّ‬
‫الحظوظ والغراض ل ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة لن‬
‫الشريعة موضوعة أيضاا لمصالح العباد فإذا جعل الحظ تابعاا فل‬
‫ضرر على العامل إل أن هنا شرطاا معتبراا وهو أن يكون ذلك‬
‫الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما يتبييين أن الشارع شرعه‬
‫لتحصيل مثل ذلك وإل فليس السابق فيه أمر الشارع«هل)‪. (3‬‬
‫ويقول‪» :‬إن الفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك‬
‫متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ ل تحسين للعقل ول‬
‫تقبيح‪ ،‬فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين‬
‫قد يصح رد استدللته من جهة أخرى وهي زعم تحصيل الســتقراء‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المفيد للقطع‪ ،‬وزعم أن المر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/117 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/119 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪227‬‬
‫الخر للمفسدةا فقد بين الوجه الذي تحصل منه المصلحة فأمر به‬
‫أو أذن فيه‪ ،‬وبييين الوجه الذي به تحصل المفسدةا فنهى عنه رحمةا‬
‫بالعباد‪ .‬فإذا قصد المكلف عين ما قصد الشارع بالذن فقد قصد وجه‬
‫المصلحة على أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له‪ ،‬وإن قصد غير‬
‫ما قصده الشارع وذلك يكون في الغالبِّ لتوهم أن المصلحة فيما‬
‫قصد لن العاقل ل يقصد وجه المفسدةا كفاحاا‪ ،‬فقد جعل ما قصد‬
‫الشارع مهمل العتبار‪ ،‬وما أهمل الشارع مقصوداا معتبراا‪ ،‬وذلك‬
‫مضادةا للشريعة ظاهرةا«هل)‪. (1‬‬
‫ويقول‪» :‬إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدةا‬
‫مفسدةا كذلك مما يختص بالشارع ل مجال للعقل فيه بناء على‬
‫قاعدةا نفي التحسين والتقبيح‪ .‬فإذا كان الشارع قد شرع الحكم‬
‫لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحةا‪ ،‬وإل فكان يمكن عقلا أن ل‬
‫تكون كذلك‪ ،‬إذ الشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الول متساوية‬
‫ل قضاء للعقل فيها بحسن ول قبح‪ ،‬فإذاا كون المصلحة مصلحة هو‬
‫من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس‪ .‬فالمصالح‬
‫من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى‬
‫على التعبديات ل يكون إل تعبدياا«هل)‪. (2‬‬
‫وقد يقال‪ :‬يلحظ في كثير من الحكاما مراعاةا الشريعة‬
‫لمصالح العباد بمعنى ما يميلون إليه بحسبِّ الحس والطبع والعادةا‪،‬‬
‫أو أن لكثير من الحكاما غايات تتفق مع أغراض العباد ومقاصدهم‪.‬‬
‫وجواب الشاطبي هنا هو أن المصلحة هي ما طلبه الشارع أو ما كان‬
‫مقصوداا له‪ ،‬فإذا اتفق ذلك مع المصالح الدنيوية للعباد فبالعرض‬
‫ل بالصل‪ .‬وذلك منييةي من ال سبحانه وتعالى ليكون أدعى إلى‬
‫الطاعة والتعبد‪ .‬يقول‪» :‬ل تخلو أحكاما الشرع من الخمسة‪ ،‬أمييا‬
‫الوجوب والتحريم فظاهري مصادمتهما لمقتضى السترسال الداخل‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/231 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 219 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪228‬‬
‫تحت الختيار‪ ،‬إذ يقال‪ :‬افعل كذا كان لك فيه غرض أما ل‪ .‬ول‬
‫تفعل كذا كان لك فيه غرض أما ل‪ .‬فإن اتفق للمكلف فيه غرضي‬
‫موافقي وهوىا باعثي على مقتضى المر أو النهي فبالعرض ل‬
‫بالصل‪ .‬وأما سائر القساما وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرةا‬
‫المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره‪ ،‬فهي راجعة‬
‫إلى إخراجها عن اختياره«هل)‪. (1‬‬
‫وقال‪» :‬ولو شاء ال لكلف بها مع العراض عــن الحظــوظ أو‬
‫لكلف بها مع سلبِّ الدواعي المجبول عليها لكنه امتن على عباده ب مــا‬
‫جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارةا الدنيا للخرةا‪ ،‬وجعل الكتساب‬
‫لهذه الحظوظ مباحاا ل ممنوعاا لكن على قوانين شرعية هــي أب لــغ‬
‫في المصلحة وأجرى على الدواما م مــا ي عــده العبــد م صــلحة [ ‪‬‬
‫‪ ، (2)]    ‬ولو شاء لمنعنا في الكتساب‬
‫الخروي القصد إلى الحظوظ فــإنه المالــك ولــه الح جــة البال غــة‬
‫ولكنه رغبنا في القياما بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا وع جــل‬
‫لنا من ذلك حظوظاا كثيرةا نتمتع بها في طريق ما كلفنا به«هل)‪. ( 3‬‬
‫وعلى ذلك فإن مفهوما الشـاطبي للمصالح والمفاسـد هو أن‬
‫الحكاما الشـرعية إنما شرعت لجل غايات معينة‪ ،‬فالفعل المطلوب‬
‫شرعاا له غاية أو غايـات مطلوبة‪ ،‬والفعل المنهي عنه يكون له‬
‫نتائج مطلوب عدما وجودها‪ ،‬وغايات الحكاما هذه هي مقاصد‬
‫للشارع‪ ،‬وبما أنها مقاصد للشارع‪ ،‬فالمطلوب منها يسمى مصلحة‪،‬‬
‫والمقصود عدما وقوعه يسـمى مفسـدةا‪ ،‬مناسباا كان ذلك أما غير‬
‫مناسبِّ‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ومن اللفاظ التي ينبغي التنبه إلى معانيها عند الشاطبي‪،‬‬
‫ألفاظ الجزئي والفرع‪ ،‬ومعنى الرجوع إلى القطعي‪ ،‬وذلك‬
‫لختلفَّ معانيها عنده عما قد يتبادر إلى ذهن القارئ‪ .‬وقد تبيينت‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 216 / 2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا البقرةا ‪. 216 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/123 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪229‬‬
‫معاني هذه اللفاظ عنده في المبحث الول من هذا الفصل‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫قصد الشارع‬
‫فـي وأضأع الشريعة ابتداءا‬
‫وأفـي وأضأعها للفهام‬
‫وأيحتوي على تمهيد وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬قصد الشارع في‬


‫ء‪.‬‬
‫وأضأع الشريعة ابتدا ا‬
‫المبحث الثاني‪ :‬عصمة الشريعة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪:‬قصد الشارع في‬
‫وأضأع الشريعة للفهام‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫قصد الشارع في وأضأع الشريعة ابتداءا‬
‫وأفي وأضأعها للفهام‬
‫تمهيـد‪:‬‬
‫بناءا على ما جاء في الفصل السابق من ضوابط يضعها‬
‫الشاطبي للعلل أو المقاصد‪ ،‬فإنه يقرر أمراا جديداا ويعده توفيقاا‬
‫بين المختلفين في مسألة تعليل الحكاما بالوصافَّ المناسبة أو‬
‫المع ا ني الحكمية أو غيرها مما عده البعض مسالك للتعليل ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪ :‬الخلفَّ في مسألة تعليل تحريم الخمر‬
‫بال إ سكار‪ ،‬حيث قال المعللون إن السكار علة وإن لم يكن ذلك‬
‫منصوصاا أو مفهوماا من الخطاب‪ ،‬بناءا على أصل التعليل وعلى‬
‫كون الوصف مناسباا‪ ،‬وحيث قال الرادون ل هذا ا لتعليل بأن ه لم‬
‫تدل عليه الشريعة ول يفهم من الخطاب وإنما هو مما يميل إليه‬
‫المعلل ويقع في قلبه خيال صحته فهو من هوسات العقل وليس‬
‫من دللت الشريعة‪ .‬جاء الشاطبي بمنهجه أو ضوابطه للعلل‬
‫ليقول إن هذا التعليل أو هذا الوصف من حيث هو‪ ،‬ل يدل عليه‬
‫الخطاب الشرعي‪ ،‬ولذلك فالتعليل به هو من قبيل التحسين‬
‫والتقبيح‪ .‬إل أنه لما ثبت أن التشريع إنما كان لجل غايات أو‬
‫علل أو مقاصد أو حكم‪ ،‬فقد ثبت أنه يصح للمجتهد أن يبحث عن‬
‫حكمة تحريم الخمر‪ .‬وباشتراط الشاطبي للقطع بالعلة أو‬
‫المقصد أو بكونها راجعة إلى قطعي‪ ،‬فإن العلة التي يقررها‬
‫المجتهد ل ييكتف ى فيها بأن تكون وصفاا مناسباا‪ ،‬ول يشترط لها‬
‫ذلك أصلا‪ ،‬وإنما يشترط لها أن تكون مقطوعاا بها عن طريق‬
‫الستقراء أو راجعة إلى أصل أو معنى مقطوع به بذلك الطريق‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإن ادعاء عليقييية السكار‪ ،‬إن لم يكن هذا المعنى‬
‫قطعياا فل قيمة له في الشرع‪ ،‬ولكن لما كان حفظ العقل معنى‬

‫‪232‬‬
‫ثبت قصد الشارع إلى حصوله ثبوتاا قطعياا وقد صار أصلا‬
‫راسخاا معتمداا في الدين‪ ،‬ولما كان التعليل بالسكار يرجع في‬
‫معناه إلى هذا الصل القطعي ‪ -‬وهو حفظ العقل ‪ -‬لذلك فإن‬
‫التعليل بالسكار يصح‪.‬‬
‫وبهذا ي تبين أنه يوافق الحنافَّ مثلا في أن مجرد وجود‬
‫المعنى في حكم أو في بعض الحكاما ل يفيد في التعليل‪ ،‬ويوافق‬
‫الشافعية في صحة التعليل أو البحث عن المعاني المقصودةا‬
‫للشارع‪ ،‬ويخالف الحنافَّ في ردهم ل هذا التعليل‪ ،‬ويخالف‬
‫الشافعية في الكتفاء بكون المعنى مظنة أن يكون مقصوداا‬
‫للشارع والكتفاء ببضعة شواهد باعتبار المعنى كما في الملئم‬
‫أو بشاهد واحد كما في الغريبِّ أو بمجرد وجوده في الحكم كما‬
‫في المرسل‪ ،‬وقد بينا هذا المر بالتفصيل في الفصل الول‪.‬‬
‫بهذه الضوابط يدخل الشاطبي إلى بحث المقاصد‪ ،‬وقد شرح‬
‫هذه الضوابط في الجزء الول من كتابه وجعلها في قسمين‪:‬‬
‫الول هو المقدمات التي عدها لزمة لفهم كتابه‪ ،‬والثاني هو‬
‫كتاب الحكاما‪ .‬أما المقاصد فقد جعلها القسم الثالث من كتابه‬
‫واستغرقت الجزء الثاني منه‪ .‬أما الجزءان الثالث والرابع‪ ،‬وهما‬
‫تماما كتابه الموافقات فقد ضمنهما القسمين الرابع والخامس‬
‫وهما تطبيق لفكرته في المقاصد ‪ ،‬أو ولمنهجه في تقرير الصول‬
‫على علوما القرآن والسنة‪.‬‬
‫إن فكرةا مقاصد الشريعة وتقسيمها إلى ثلثا مراتبِّ‬
‫ضرورية وحاجية وتحسينية‪ ،‬وإلحاق تتمات لكل مرتبة هو ليس‬
‫من جديد الشاطبي‪ ،‬فقد ظهر هذا أول ما ظهر على يد إماما‬
‫الحرمين الجويني وال أعلم‪ ،‬وتابع في هذا المر علماء كثيرون‬
‫بعده‪ ،‬وإنما جديد الشاطبي في هذا المر هو اشتراطه القطع‬
‫ليكون المقصد شرعياا‪ ،‬واشتراطه الستقراء سبيلا لذلك‪،‬‬
‫ومفهومه للمصالح وال م فاسد‪ ،‬ثم إن بحثه في المقاصد يتميز‬
‫بتفصيل وترتيبِّ وتقسيم ل وجود له عند سابقيه‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫فالمقاصد عنده قسمان‪ :‬مقاصد الشارع ومقاصد المكلييف‪.‬‬
‫ومقاصد الشارع أربعة أنواع‪ :‬الول‪ :‬قصده في وضع الشريعة‬
‫ابتداءا‪ ،‬وهذا النوع هو الذي أشار إليه الصوليون قبله‪ ،‬وفيه يقع‬
‫تقسيم المقاصد إلى ضرورية وحاجية وتحسينية ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قصده في وضع الشريعة للفهاما‪ .‬الثالث‪ :‬قصده في وضع‬
‫الشريعة للتكليف بمقتضاها‪ ،‬والرابع‪ :‬قصده في امتثال المكلف‬
‫وخضوعه لحكمها‪ .‬يقول الشاطبي‪» :‬المقاصد التي يينظر فيها‬
‫قسمان‪ :‬أحدها‪ :‬يرجع إلى قصد الشارع‪ ،‬والخر‪ :‬يرجع إلى قصد‬
‫المكلف‪ .‬فالول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة‬
‫ا بتداءا‪ .‬ومن جهة قصده في وضعها للفهاما‪ .‬ومن جهة قصده في‬
‫وضعها للتكليف بمقتضاها‪ .‬ومن جهة قصده في دخول المكلف‬
‫تحت حكمها‪ ،‬فهذه أربعة أنواع«هل)‪. (1‬‬
‫وموضوع هذا الفصل هو النوعان الول والثاني‪ .‬أما النوعان‬
‫الثالث والرابع فهما موضوع الفصل الذي يليه ‪ -‬إن شاء ال ‪. -‬‬

‫) ( الموافقات‪. 2/2 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪234‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫قصد الشارع في وأضأع الشريعة ابتداءا‬

‫مإعنى هذا النوع‪:‬‬


‫وضع الشريعة ابتد اءا هو التكليف بها‪ ،‬أي الوامر والنواهي‬
‫وهذا النوع هو مقاصد الشارع من التكاليف‪ ،‬بحيث تكون التكاليف‬
‫هي السباب لمسبباتها التي هي مقاصد الشارع بها‪ ،‬فيصح أن يطلق‬
‫على هذا النوع اسم مقاصد الشريعة ‪.‬‬
‫المقاصد ثالثاة أقسام‪:‬‬
‫وهذه المقاصد تفهم من الخطاب الشرعي‪ ،‬ومن التكاليف‬
‫الشرعية‪ .‬يقول الشاطبي‪» :‬تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ‬
‫مقاصدها في الخلق‪ ،‬وهذه المقاصد ل تعدو أن تكون ثلثة أقساما‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن تكون ضرورية‪ ،‬والثاني‪ :‬أن تكون حاجية‪ ،‬والثالث أن‬
‫تكون تحسينية«هل)‪ (1‬ثم يعريقفَّ حدود كلم من هذه القساما الثلثة‪،‬‬
‫ويبين أن قصد الشارع إلى حفظها ظاهر في كل تكاليف الشريعة‬
‫فتكاليف الشريعة هي أحكاما العبادات والعادات والمعاملت‬
‫والجنايات‪ .‬وهذه الربعة يظهر فيها قصد الشارع إلى حفظ‬
‫الضرو ر يات الحاجيات والتحسينات‪.‬‬
‫التعريف بهذه القسام الثلثاة‪:‬‬
‫قال‪» :‬فأما الضرورية فمعناها أنها ل بد منها في قياما‬
‫مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجرق مصالح الدنيا على‬
‫استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياةا‪ ،‬وفي الخرةا فوت‬
‫النجاةا والنعيم والرجوع بالخسران المبين«هل)‪ (2‬وبهذا الوصف‬
‫تتحدد الضروريات بأعيانها‪ .‬يقول‪» :‬ومجموع الضروريات خمسة‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4 - 2/3 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪235‬‬
‫وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها‬
‫مراعاةا في كل ملة«هل)‪ (1‬وقال‪» :‬وأما الحاجيات فمعناها أنها‬
‫مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالبِّ إلى‬
‫الحرج والمشقة اللحقة بفوت المطلوب‪ ،‬فإذا لم تيراعي دخل على‬
‫المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه ل يبلغ مبلغ الفساد‬
‫العادي المتوقع في المصالح العامة«هل‪ .‬والمصالح العامة أي‬
‫الضروريات‪ ،‬وبناءا على هذا التعريف يكون عدما التكليف بما ل‬
‫يطاق‪ ،‬ورفع الحرج من الصول أو القواعد الحاجية ‪.‬‬
‫وقال‪» :‬وأما التحسينات فمعناها الخذ بما يليق من محاسن‬
‫العادات وتجنبِّ الحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات‪،‬‬
‫ويجمع ذلك قسم مكارما الخلق«هل)‪ . (2‬وقال فيها‪» :‬ليس فقدانها‬
‫بمخل بأمر ضروري ول حاجي‪ ،‬وإنما جرت مجرى التحسين‬
‫والتزيين«هل )‪ (3‬و لزيادةا البيان لحدود كل من هذه المراتبِّ يقول‪:‬‬
‫»فإن الحاجيات دائرةا على الضروريات وكذلك التحسينات«هل )‪. (4‬‬
‫ويقول‪» :‬ومن تشوفَّ إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على‬
‫التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق‪ .‬ف ب النسبة إلى الدين‬
‫يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارةا كالتيمم‪ ،‬ورفع‬
‫حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها‪ ،‬وفي الصلةا بالقصر ورفع‬
‫القضاء بالغماء‪ ،‬والصلةا قاعداا وعلى جنبِّ‪ ،‬وفي الصوما بالفطر‬
‫في السفر والمرض«هل)‪ . (5‬ويقول‪» :‬وقسم التحسينيات جارم أيضاا‬
‫كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارما الخلق وما‬
‫يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على‬

‫المصدر نفسه ‪. 2/4 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/5 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/16 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/17 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪236‬‬
‫رأي من رأى أنها من هذا القسم)‪ ، (1‬وأخذ الزينة من اللباس‬
‫ومحاسن الهيئات والطيبِّ وما أشبه ذلك‪ ،‬وانتخاب الطيبِّ‬
‫والعلى في الزكوات والنفاقات وآداب الرفق في الصياما‪،‬‬
‫وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والحسان وآداب الكل والشرب‬
‫ونحو ذلك وبالنسبة إلى النسل كالمساك بالمعروفَّ والتسريح‬
‫بالحسان«هل)‪ . (2‬وفي كتاب ه مزيد أمثلة لمن أراد الستيضاح‬
‫أكثر )‪. (3‬‬
‫جأريان هذه المقاصد في كل تكاليف الشريعة‪:‬‬
‫أما بالنسبة للضروريات فيقول‪» :‬فأصول العبادات راجعة‬
‫إلى حفظ الدين من جانبِّ الوجود كاليمان والنطق بالشهادتين‬
‫والصلةا والزكاةا والصياما والحج وما أشبه ذلك‪ .‬والعادات راجعة‬
‫إلى حفظ النفس والعقل من جانبِّ الوجود أيضاا كتناول‬
‫المأكولت والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك‪.‬‬
‫والمعاملت راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانبِّ الوجود‪...‬‬
‫والجنايات ويجمعها المر بالمعروفَّ والنهي عن المنكر ترجع إلى‬
‫حفظ الجميع من جانبِّ العدما«هل)‪. (4‬‬
‫وبالنسبة للحاجيات يقول‪» :‬وهي جارية في العبادات‬
‫والعادات والمعاملت والجنايات ففي العبادات كالرخص المخففة‬
‫بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر )‪ (5‬وفي العادات‬

‫الطهارةا تتردد بين أن تكون من التحسينيات‪ ،‬أو من المكملت ل صــل‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫حفظ الدين من الضروريات‪ ،‬وهو الولى على منهجه‪ .‬إل إذا كانت بمعنى‬
‫النظافة ورفع النجاسات وما ينفر منه الطبع‪ ،‬فطلبِّ الشرع له يجعلــه مــن‬
‫التحسينيات على منهجه ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/17 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/5 ، 4/18 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/4 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( تبيين في الفصل السابق أن الرخص جزئية ول ترجع إلى أصول كلية‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫وها هو هنا يأتي بها مثالا على الحاجيات وهي مقاصد كلية‪ .‬وبيان ذلك أن‬
‫الرخص الشرعية منها ما ل يلحظ فيه وجود المشقة أو الحرج‪ ،‬كسفر م ن‬

‫‪237‬‬
‫كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلل مأكلا ومشرباا‬
‫وملبساا ومسكناا ومركباا وما أشبه ذلك‪ .‬وفي المعاملت‬
‫كالقراض والمسا ق اةا والسلم‪ ...‬وفي الجنايات كالحكم باللوثا‬
‫والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمي ـ ن الصني ـ ياع‬
‫وما أش ـ به ذلك«هل)‪. (1‬‬
‫وبالنسبة للتحسينات يقول‪» :‬وهي جارية فيما جرت فيه‬
‫الوليان«هل )‪ (2‬أي الضروريات والحاجي ـ ات‪» .‬ففي العبادات كإزالة‬
‫النجاسة‪ ،‬وبالجملة الطهارات كلها وستر العورةا وأخذ الزينة‬
‫والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك‪،‬‬
‫وفي العادات كآداب الكل والشرب ومجانبة المآكل النجسات‬
‫والمش ـ ارب المس ـ ت ـ خ ـ ب ـ ث ـ ات والس ـ رافَّ والق ـ ت ـ ار في‬
‫المت ـ ناولت‪ ،‬وفي المعاملت كالمنع من بيع النج ـ اس ـ ات وفضل‬
‫الماء والكل وسلبِّ العبد منصبِّ الشهادةا والمامة‪ ،‬وس ـ ل ـ بِّ المرأةا‬
‫منص ـ بِّ المام ـ ة وإنكاح نفس ـ ها‪ ...‬وفي الجناي ـ ات كمنع قتل‬
‫الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد«هل)‪. (3‬‬

‫ل تلحقه المشقة‪ .‬ومنها ما تظهر فيه المشقة‪ ،‬فما تظهر فيه المشقة المعنتة‬
‫يلحق بالحاجيات ليس بسببِّ وجود الرخص الشرعية‪ ،‬وإنما لن عدما التكليف‬
‫بالمشقات المعنته سواء كان فيها رخصة أو لم يكن‪ ،‬هو من الصول الحاجية‬
‫عند الشاطبي‪ .‬ولذلك لم يقل » كالرخص المخففة« وإنما قيــدها بقــوله‪:‬‬
‫» بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض أو السفر«‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/5 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪ . 2/5 ،‬ويتبين من المثلة التي أتى بها الشاطبي‬ ‫‪3‬‬

‫على القساما الثلثة أن منها ما قد تميل إليه الطباع والفطر السليمة‪ ،‬أو على‬
‫حد تعبيره عند تعريفه بالتحسينيات » العقول الراجحات« مما قد يوهم‬
‫القارئ بأن هذه المقاصد أو المصالح هي كذلك بحسبِّ العقلء والحكماء‪،‬‬
‫وليس المر كذلك حسبما ت بيين مفهومه للمصالح والمفاسد‪ .‬ولكن وقوع‬
‫المقاصد أحياناا بحسبِّ ما تتطلبه الخصائص النسانية وتتطلع إليه الفطر‬
‫والطباع السليمة أو على حد تعبيره » العقول الراجحات« فذلك يقع بالعرض‬
‫تفضلا من ال ليكون أدعى إلى الطاعات‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫مإكملت أوأ تتمات المقاصد‪:‬‬
‫وكل قسم من هذه القساما الثلثة ينضم إليه ما هو‬
‫كالتتمة أو التكملة‪ .‬ومعنى ذلك أنه لو فيقد لم يخل بالمقصد‬
‫أو بالصل‪ ،‬فالقصاص مثلا في حفظ النفس من الضروريات‬
‫والتماثل فيه تكميلي‪ .‬وحرمة الخمر في حفظ العقل من‬
‫الضروريات‪ ،‬وتحريم الق ل يل منه الذي ل يسكر تكميلي‪ .‬والبيع‬
‫مثلا من الضروريات الراجعة إلى حفظ المال والشهاد والرهن‬
‫فيه تكميليان‪ .‬والطهارةا مثلا من التحسينيات‪ ،‬ومندوبات الطهارةا‬
‫تكميلية‪ .‬والقصر في السفر الذي فيه مشقة من الحاجيات والجمع‬
‫بين الصلتين فيه تكميلي)‪. (1‬‬
‫والتكملة من حيث هي تكملة لصل ضروري أو حاجي أو‬
‫تحسيني فلعتبارها شرط وهو أن ل تعود على الصل بالبطال‪،‬‬
‫ففي إبطال الصل إبطال التكملة‪ ،‬ويضرب الشاطبي أمثلة على‬
‫ذلك منها الجهاد‪ ،‬وهو من الضروريات في أصل حفظ الدين‪،‬‬
‫يقول‪» :‬فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري‪ ،‬والعدالة فيه‬
‫مكملة للضرورةا‪ .‬والمكمل إذا عاد للصل بالبطال لم يعتبر‪،‬‬
‫ولذلك جاء المر بالجهاد مع ولةا الجور عن النبي ‪ ، ‬وكذلك‬
‫ما جاء من المر بالصلةا خلف الولةا السوء فإن في ترك ذلك‬
‫ترك سنة الجماعة‪ ،‬والجماعة من شعائر الدين المطلوبة‪ ،‬والعدالة‬
‫مكملة لذلك المطلوب‪ ،‬ول يبطل الصل بالتكملة«هل)‪. (2‬‬
‫وببطلن الصل تبطل التكملة‪ ،‬بينما ببطلن التكملة ل يبطل‬
‫الصل وإن كان قد يختل بوجه ما‪ .‬ويعد الشاطبي التحسينيات‬
‫كالتكملة للحاجيات‪ ،‬وكلتاهما كالتكملة للضروريات‪ .‬وعلى‬
‫ذلك فالشريعة مبنية على المحافظة على الضروريات‪ .‬يقول‪:‬‬
‫»إن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على المور‬

‫) ( أنظر ‪ :‬المصدر نفسه‪. 6 - 2/5 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/7 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪239‬‬
‫الخمسة‪ ...‬فلو عدما الدين عدما ترتبِّ الجزاء المرتجى‪ ،‬ولو عدما‬
‫المكلف لعدما من يتدين‪ ،‬ولو عدما العقل لرتفع التدين‪ ،‬ولو عدما‬
‫)‪(1‬‬
‫النسل لم يكن في العادةا بقاء‪ ،‬ولو عدما المال لم يبقي عيش«هل‬
‫أي أن انعداما الضروريات يؤدي إلى انعداما الحاجيات‬
‫والتحس ـ ينيات‪ .‬والضروريات مع غيرها كالموصوفَّ مع الصف ـ ة‬
‫ل بقاء لها بغي ـ ره‪ ،‬وه ـ و يبقى بغيرها‪.‬‬
‫تفاوأت مإراتب المقاصد‪:‬‬
‫أي كيف يعرفَّ المقصد إن كان من مرتبة الضروريات أو‬
‫الحاجيات أو التحسينيات؟ ولقد بينا فيما مضى حدود كل مرتبة‬
‫وأمثلة عليها‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فللقارئ أن يتساءل ما الذي جعل الحج‬
‫أو الصلةا أو الجهاد من الضروريات فهل هي مما إذا لم ييراعي‬
‫تفسد الحياةا ويحصل التهارج وتفوت الحياةا؟ وها هي مجتمعات‬
‫كبيرةا في العالم ل تراعي هذه المور ولم يحصل هذا الذي‬
‫يخشى منه‪ .‬وها هي دول ومجتمعات تبيح الزنا والربا وشرب‬
‫الخمور مع أن منعها من الضروريات في حفظ النسل والمال‬
‫والعقل‪ .‬وما الذي جعل مثلا تحريم الخنزير والميتة من‬
‫التحسينيات‪ ،‬أو بعض الحيوانات نجساا أو الخمر نجساا‪ ،‬وتجنبِّ‬
‫النجاسات من التحسينيات‪ ،‬ومع ذلك فمن الناس من يأكل‬
‫الخنزير والميتة‪ ،‬ويعيش في مكان وأحد مع الكلب‪ ،‬ويعاقر‬
‫الخمر ويتطيبِّ بالكحول وهي خمر‪ ،‬ول يجد أن ذلك مما تأنفه‬
‫العقول الراجحة أو تنفر منه النفوس‪.‬‬
‫وكذلك كيف يكون الصياما من الضروريات‪ ،‬ورفع التكليف‬
‫بالمشقات أو بما ليس في الوسع من الحاجيات‪ ،‬لماذا ل يكون‬
‫المر معكوساا؟‬
‫إ ن جواب الشاطبي على هذا المر هو أنه شرعي ل عقلي‪،‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 8 - 2/7 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪240‬‬
‫فكما أن المقصد ل يكون كذلك إل إذا دل الشرع عليه بالستقراء‬
‫المفيد للقطع‪ ،‬فإن مرتبة المقصد هي أيضاا بدللة الشرع‪،‬‬
‫وس يت بي ي ن هذا بنصوص من عنده‪ .‬إل أن ه ثمة رؤية خاطئة في‬
‫النظر إلى هذه المقاصد‪ ،‬وهي رؤية تقوما على تعيين المقاصد أو‬
‫المصالح بناءا على المفاهيم السائدةا في المجتمع‪ ،‬أو بناءا على‬
‫المفاهيم التي يحملها أهل النظر‪ ،‬أو المعرفة والخبرةا‪ ،‬أو القرار‬
‫في المجتمع وقد تكون هذه المفاهيم متأثرةا بالحكاما الشرعية‬
‫وقد ل تكون‪ ،‬وبهذا العتبار تكون هذه المقاصدي مصالح وتعد‬
‫شرعية‪ ،‬فيبنى التشريع عليها‪ ،‬ويعدي المؤدي إليها والخادما لها‬
‫شرعياا‪ ،‬والهادما لها مفسدةاا وممنوعاا أو حراماا‪ .‬وقد نقض‬
‫الشاطبي هذا الفهم مراراا وتكراراا في موافقاته‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فهناك من يقول به وينسبه إلى الشرع وإلى الشاطبي‪.‬‬
‫ومثل هذا التقسيم للمقاصد يتأتى من جهتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬المشاهد المحسوس في النسان أ نه يحتاج‪ ،‬وتتعدد حاجاته‬
‫في الحياةا‪ ،‬وتتفاوت في درجة الحتياج إليها‪ ،‬فمنها ما ل غناء‬
‫للنسان عنه وفقده يؤدي إلى الموت‪ ،‬ومنها ما ل غناء له أو‬
‫للجماعة عنه وفقده يؤدي إلى التهارج وال ت قاتل‪ ،‬ومنها ما يؤدي‬
‫إلى الضطراب والضنك‪ ،‬ومنها ما هو دون ذلك‪ ،‬وهكذا‪ .‬فكان‬
‫طبيعياا لدى النسان عندما يشرع‪ ،‬أو عندما يحاول أن يفهم‬
‫فلسفة التشريع‪ ،‬أي تشريع‪ ،‬أن يلحظ ما يدركه من هذه الحاجات‬
‫ودرجة الحتياج إليها‪ .‬وأن يضع تشريعاته حسبِّ ما يراه محققاا‬
‫للنتائج الفضل حسبِّ مفاهيمه‪ ،‬وكان طبيعياا أن يدخل في‬
‫حساباته مفاضلته بين المصالح فيما بينها والمفاسد فيما بينها‬
‫حسبِّ مفاهيمه وعلى ذلك فقد يعد النسان بعض الحاجات‬
‫ضرورية وغيرها كمالية‪ ،‬وأخرى ما بين ذلك‪ .‬وذلك كله بناءا‬
‫على ما يدركه ويجده في نفسه‪ .‬ويختلف الناس في ذلك‬
‫باختلفَّ مفاهيمهم‪ ،‬فقد يرى البعض حرية العقيدةا وحرية الرأي‬

‫‪241‬‬
‫والحق بتبديل الدين حقاا من حقوق النس ـ ان وحاجة ض ـ رورية‪،‬‬
‫وعلى ذلك فحق الردةا ضرورةا‪ ،‬وقد يرى غيرهم أن هذا من أعظم‬
‫المفاس ـ د وأن الضرورةا هي قتل المرتد بعد اس ـ تتابته إن لم‬
‫يرجع وهي من ضرورات حفظ الدين‪ .‬وقد يرى البعض أن الزنا‬
‫مفسدةا تنقض أ صل حفظ النسل من الضروريات‪ ،‬ويراها غيرهم‬
‫حرية شخصية ومصلحة‪ .‬ويرى البعض الربا حاجة للمجتمع‬
‫وللمعاملت‪ ،‬بمرتبة الضروريات‪ ،‬ويراها غيرهم بمرتبة‬
‫الحاجيات‪ ،‬ويراها غيرهم من أعظم المفاسد‪.‬‬
‫وتعيين النسان للمصالح والمفاسد والمفاضلة بينها يرجع‬
‫إلى أمرين‪ :‬أ حدهما خصائصه وفطرته كإنسان التي تجعله يقصد‬
‫الحصول على الطعاما والشراب والسكن والمال‪ ،‬والفخر والثناء‬
‫والمن والرخا ء ‪ ،‬وتجعله يقصد المحافظة على حياته وإشباع‬
‫رغباته‪ ،‬والمحافظة على أبنائه وأسرته و‪ ،...‬فيشعر بأن هذه‬
‫الشياء مصالح أو خير‪ ،‬وفقدها مفاسد أو شر‪ ،‬والثاني‪ :‬ما يتكون‬
‫لدى النسان من مفاهيم سواء نتيجة الفكر والقتناع كمن يقتنع‬
‫أن القمار أو الغش حراما في ك ون مفسدةا بنظره مع أن التملك‬
‫مصلحة في النفس‪ ،‬أو أن الزنا حراما فيحكم عليه بأنه مفسدةا‪ ،‬أو‬
‫كمن ل يؤمن بالسلما أو بالبعث والحساب فيرى القمار أو الربا‬
‫أو الزنا مصلحة ‪ .‬أو ليس نتي ج ة الفكر والقتناع وإنما نتيجة‬
‫التربية والنشأةا كمن يعيش بين المسلمين فينشأ لديه المحافظة‬
‫على العرض واستقباح الزنا‪ ،‬واشمئزاز النفس من الخنزير أو‬
‫الميتة‪ ...‬أو كم ن يعيش بين الكفار فينشأ لديه تقديس الصنم‬
‫والشعور بأن هدمه مفسدةا أو ل يشمئز من تقبيل الكلب أو ل‬
‫يستقبح الزنا‪...‬‬
‫بن ـ اءا على هذا تتباين نظرةا الناس إلى المصالح والمفاسد‪،‬‬
‫ويتناقضون ويختلفون في المفاضلت‪.‬‬
‫والجهة الثانية التي يتأتى منها تقسيم المقاصد وتعيين‬

‫‪242‬‬
‫مراتبها ما يدركه من اهتدى إلى السلما وأدرك أنه عبد ل‪ ،‬وأن‬
‫السلما شريعة ال للناس كافةا‪ ،‬وأنه ل حكم إل ل‪ ،‬وأنه ما كان‬
‫لمؤمن ول مؤمنةم إذا قضى ال ورسوله أمراا أن يكون لهم‬
‫الخيرةا من أمرهم‪ ،‬وأن كل تشريع من عند غير ال فهو طاغوت‪،‬‬
‫فانطلق يفهم عن ال مقاصده في التشريع‪ ،‬فجعل يحسيقن ما‬
‫جعلته الشريعة حسناا‪ ،‬ويقبيقح ما جعلته قبيحاا‪ ،‬ويكبيقر ما دلت‬
‫الشريعة على أنه كبير ويصغر ما دلت على أنه صغير‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫فيصبح الحكم على ما هو مصلحة وما هو مفسدةا راجعاا إلى‬
‫الشرع‪ ،‬فيتعين ما هو مصلحة وما هو مفسدةا ويتعين ما هو‬
‫معروفَّ وما هو منكر وما هو حسن وما هو قبيح وما هو خير وما‬
‫هو شر‪.‬‬
‫وكذلك المر بالنسبة لمراتبِّ المقاصد‪ ،‬فالضروريات هي‬
‫ما طلبه الشارع وكرر طلبه أو شدد في ذلك إلى درجة معينة‪،‬‬
‫والحاجيات هي ما طلبه الشارع وأكييد عليه إلى درجة معينة دون‬
‫الولى‪ ،‬وكذ لك فيما طلبه الشارع طلباا جعله في مرتبة دون‬
‫ذلك سميت التحسينات‪.‬‬
‫من هذه الجهة‪ ،‬الثانية‪ ،‬جاء تقسيم الشاطبي للمقاصد إلى‬
‫ثلثة أقساما ضرورية و ح اجية وتحسينية‪ .‬وهذه بضعة نصوص له‬
‫واضحة وقاطعة في بيان منهجه في هذا المر لبيان مرتبة‬
‫المقصد في هذه القساما أو مرتبته ضمن القسم الواحد‪.‬‬
‫يقول‪» :‬فلقد كنا قبل شروق هذا النور)‪ ، (1‬نخبط خبط‬
‫العشواء‪ ،‬وتجري عقولنا في ا قتناص مصالحنا على غير السواء‪،‬‬
‫لضعفها عن حمل هذه العباء‪ ،‬ومشاركة عاجلت الهواء‪ ...‬ف ن ضع‬
‫السموما على الدواء موضع الدواء)‪ ... (2‬ونستنتج القياس العقيم‪،‬‬
‫ونطلبِّ آثار الصحة من الجسم السقيم‪ ،‬ونمشي إكباباا على‬

‫) ( هذا النور أي السلما ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أي نعد المصلحة مفسدةا والمفسدةا مصلحةا ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪243‬‬
‫الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم‪ ،‬حتى ظهر محض‬
‫الجبار في عين القدار وارتفعت حقيقة أيدي الضطرار إلى‬
‫الواحد القهار«هل )‪. (1‬‬
‫ويقول‪» :‬إن تلك المراتبِّ الثلثا يخدما بعضها بعضاا‪،‬‬
‫ويخصص بعضها بعضاا‪ ،‬فإذا كان كذلك فل بد من اعتبار الكل‬
‫في مواردها وبحسبِّ أحوالها‪ ،‬وأيضاا فقد يعتبر الشارع من ذلك‬
‫ما ل تدركه العقول إل بالنص عليه وهو أكثر ما دلت عليه‬
‫الشريعة في الجزئيات لن العقلء في الفترات قد كانوا‬
‫يحافظون على تلك الشياء بمقتضى أنظار عقولهم‪ ،‬لكن على‬
‫وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم‪ ،‬بل كان‬
‫مع ذلك الهرج واقعاا والمصلحة تفوت مصلحةا أخرى وتهدما‬
‫قاعدةاا أخرى أو قواعد فجاء الشارع باعتبار المصلحة والنصفة‬
‫المطلقة في كل حين‪ ،‬وبييين من المصالح ما ي ي ط يي ر ق د‪ ،‬وما‬
‫يعارضه وجه آخر من المصلحة«هل)‪. (2‬‬
‫ومعنى هذا النص أنه في زمان الفترةا حيث تندرس أحكاما‬
‫الشريعة ول يبقى إل الكليات أو بعضها‪ ،‬يسعى العقلء للمحافظة‬
‫على هذا الباقي بوضع أحكاما أو جزئيات من عندهم يرونها ـ‬
‫بأنظار عقولهم ـ محققة للمحافظة على تلك الكليات‪ ،‬ولكنهم‬
‫كانوا إذا حفظوا مصلحة هدموا غيرها‪ ،‬أي أنهم كانوا يرون‬
‫المفاسد مصالح حتى جاء الشرع وبين ما يعد من المصالح وما ل‬
‫يعد كذلك‪.‬‬
‫وقال ‪» :‬المفهوما من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية‬
‫تعظم بحسبِّ عظم المصلحة أو المفسدةا الناشئة عنها وقد عيلم‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪ . 1/2 ،‬أي جاء السلما وعين المصالح والمفاسد‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وظهرت حقيقة العجز عند البشر وحاجتهم لمن يعين لهم ذلك وأ نــه ا لــ‬
‫وحده ‪.‬‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 3/15 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪244‬‬
‫من الشريعة جريان المور الضرورية الخمسة المعتبرةا في كل‬
‫ملة‪ ،‬و إ ن أعظم المفاسد ما يكر بالخلل عليها‪ ،‬والدليل على ذلك‬
‫ما جاء من الوعيد على الخلل بها كما في الكفر وقتل النفس‬
‫وما يرجع إليه‪ ،‬والزنى والسرقة وشرب الخمر‪ ،‬وما يرجع إلى‬
‫ذلك مما وضع له حد أو وعيد‪ ،‬بخلفَّ ما كان راجعاا إلى حاجي‬
‫أو تكميلي فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ول بحد معلوما يخصه‪،‬‬
‫فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروري والستقراء يبين‬
‫ذلك«هل)‪ (1‬وهكذا فالضروريات هي ما ا ختصته الشريعة بوعيد أو‬
‫حد معلوما لحفظه من جانبِّ العدما وقال‪» :‬إن كل واحدةا من هذه‬
‫المراتبِّ لما كانت مختلفةا في تأكد العتبار فالضروريات‬
‫آكدها تليها الحاجيات والتحسينيات«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬إن الوامر في الشريعة ل تجري في التأكيد مجرى‬
‫واحداا وإنها ل تدخل تحت قصد واحد‪ ،‬فإن الوامر المتعلقة‬
‫بالمور الضرورية ليست كالوامر المتعلقة بالمور الحاجية ول‬
‫التحسينية‪ ،‬ول المور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها‪،‬‬
‫بل بينهما تفاوت معلوما‪ ،‬بل المور الضرورية ليست في الطلبِّ‬
‫على وزان واحد‪ ،‬كالطلبِّ المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد‬
‫)‪(3‬‬
‫كالنفس ول النفس كالعقل إلى س ـ ائر أص ـ نافَّ الضروريات‬
‫والحاجي ـ ات كذلك‪ ...‬وكذلك التحسينيات حرفاا بحرفَّ‪...‬‬
‫فالضابط في ذلك أن ينظر في كل أمر هل هو مطلوب فيها‬
‫بالقصد الول أما بالقصد الثاني‪ ،‬فإن كان مطلوباا بالقصد الول‬
‫فهو في أعلى المراتبِّ في ذلك النوع)‪ ، (4‬وإن كان من المطلوب‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/9 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 13 - 2/12 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( وهذا يعني أن ترتيبِّ الضروريات هو كالتالي من العلى إلى الدنى‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫الدين فالنفس فالعقل فالنسل فالمال ‪.‬‬


‫) ( أي من النواع الضرورية الخمسة ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪245‬‬
‫بالقصد الثاني )‪ (1‬نظر هل يصح إقامة الضروري في الوجود بدونه‬
‫حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري أما ل‪ .‬فإن لم يصح‬
‫فذلك المطلوب قائم مقاما الركن والجزء المقاما لصل‬
‫الضروري وإن صح أن يطلق عليه السـم بدونه فذلك المطلوب‬
‫ليس بركن ولكن ـ ه مكمل ومتمم‪ ،‬إما من الحاجيات وإما من‬
‫التحسينات فينظر في مراتبه على الترتيبِّ المذكور أو نحوه‬
‫)‪(2‬‬
‫بحس ـ بِّ ما يؤدي إليه الستقراء في الشرع في كل جزء منها«هل ‪.‬‬
‫ومما يعنيه هذا النص أن الضروريات الخمسة هي المقاصد‬
‫الول‪ .‬والمقاصد الخرى ينظر فيها‪ .‬فإن كانت مما ل يقوما‬
‫الضروري إل بها فهي من الضروريات في ذلك النوع الذي ل‬
‫يقوما إل بها‪ ،‬فالجهاد ل يحفظ الدين بفقده‪ ،‬لذلك فهو من‬
‫الضروريات في حفظ الدين‪ ،‬وكذلك الركان الخمسة وكذلك‬
‫قتل المرتد‪ ،‬وكذلك المامة العظمى‪ ،‬وحرمة القتل والقصاص‬
‫ل يقوما الضروري وهو حفظ النفس إل بها فهي من الضرويات في‬
‫هذا النوع‪ ،‬أي حفظ النفس‪ ،‬وهكذا في سائر النواع أما إن كان‬
‫ذلك النوع من الضرويات ل ينتقض أو يفقد بفقد مقصد ما‪ ،‬فإن‬
‫هذا المقصد ل يكون من الضروريات وإنما يكون من مكملتها‪ ،‬أي‬
‫قد يكون من الحاجيات أو التحسينيات‪ .‬وذلك كالنظافة في‬
‫العبادات فإنها ل تخل بأصل حفظ الدين‪ ،‬وكالقصر أو الفطر في‬
‫السفر‪ .‬وكشرب قطرةا من الخمر فإنها ل تنقض أصل حفظ‬
‫العقل‪ ،‬فل تكون من قسم الضروريات‪ ،‬وهكذا يطبق المر في‬
‫مكملت الضروريات لمعرفة قسمها من الحاجيات أو التحسينيات‬
‫أو المكملت لي منهما‪ ،‬وكل ذلك إنما يكون باستقراء النصوص‬
‫الشرعية ومعانيها‪ ،‬فما يتم له الستقراء يعد مقصداا‪ ،‬وما ل يتم‬

‫) ( سبق بيان معنى المقاصد الصلية والمقاصد التابعة في الفصل السابق‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والمقصد الثاني هو مقصد تابع ثبت كونه خادماا للمقصد الصــلى الــذي‬
‫هو الول ‪.‬‬
‫) ( الموافقات‪. 121 - 3/120 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪246‬‬
‫له ذلك فإما أن يكون خادماا لمقصد فيكون فرعاا راجعاا إلى‬
‫مقصد‪ ،‬وإما أن ينقض مقصداا فيرد‪ ،‬وإما أن ل ينقض ول يخدما‬
‫فيتوقف فيه‪ ،‬ول يعد فرعاا وإنما يعد جزئية‪ .‬وإنعاما النظر في‬
‫هذا النص ال سابق يلخص هذا المر من منهجه‪ .‬ويقول أيضاا‬
‫مؤكداا لهذا المعنى ولكون مراتبِّ المقاصد راجعة إلى الشرع‪:‬‬
‫»الفعل يعتبر شرعاا بما يكون عنه من المصالح والمفاسد‪ ،‬وقد‬
‫بين الشرع ذلك ومييييزي بين ما يعظم من الفعال مصلحته فجعله‬
‫ركناا أو مفسدته فجعله كبيرةا‪ ،‬وبين ما ليس كذلك فسماه في‬
‫المصالح إحساناا‪ ،‬وفي المفاسد صغيرةا‪ ،‬وبهذه الطريقة يتميز ما‬
‫هو من أركان الدين وأصوله‪ ،‬وما هو من فروعه وفصوله‪،‬‬
‫ويعرفَّ ما هو من الذنوب كبائر وما منها صغائر‪ ،‬فما عظمه‬
‫الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين وما جعله دون ذلك‬
‫فمن فروعه وتكميلته‪ ،‬وما عظم أمره في المنهيات فهو من‬
‫الكبائر وما كان دون ذلك فهو من الصغائر‪ ،‬وذلك على مقدار‬
‫المصلحة والمفسدةا «هل)‪. (1‬‬
‫ومن النصين السابقين نستنتج أن الشاطبي يسمي‬
‫الضروريات‪ ،‬وهي الخمسة أو ما ل تقوما هذه الخمسة إل به‬
‫يسميها أركان الدين او أصوله‪ ،‬وما دونها يسميه التكميلت أو‬
‫فروع الدين‪ .‬ومخالفة الضروريات فهو من الكبائر في المفاسد أو‬
‫الذنوب‪.‬‬
‫ول يعني هذا التفاوت في مراتبِّ المقاصد تفويت مقصدم ما‬
‫بذريعة المحافظة على ما هو آكد منه‪ ،‬ول مخالفة الحكاما أو‬
‫تغييرها بحجة المقاص ـ د‪ ،‬لن ه ـ ذه المقاصد إنما تقرر كونها‬
‫مقاصد من استقراء الحكاما ومعانيها‪ .‬فالحكاما هي بمثابة الصول‬
‫للمقاصد‪ ،‬والمقاصد مبنية عليها‪ .‬وبإبطال الصل يبطل ما انبنى‬
‫عليه‪ .‬وعلى ذلك فالمقاصد هي مقاصد الشريعة‪ ،‬والشريعة ثابتة‬

‫) ( الموافقات ‪. 150 - 1/149 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪247‬‬
‫ل تتغير ول تتبدل‪ .‬ول يصح التذرع بالمقاصد لجل ذلك‪ .‬وهذا‬
‫ما يتضمنه قول الشاطبي إن الشريعة معصومة وهو موضوع‬
‫المبحث التالي‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫عصـمة الشـريعة‬
‫مإعنى هذا التعبيـر‪:‬‬
‫ومعنــى ذلــك أن أح كــاما ال شــريعة محفو ظــة مــن التغييــر‬
‫والتبديل أو النسخ والتحريف‪ ،‬وقد تكفل ال بحفظ هــا‪ ،‬فلــن ي قــع‬
‫فيها شيء من ذلك‪ ،‬بخلفَّ ما تقدمها من شرائع‪ ،‬وأدلة ذلك مــن‬
‫وجهين‪ :‬الول‪ :‬النصوص ال شــرعية ك قــوله ت عــالى‪  [ :‬‬
‫‪ ، (1) ]     ‬ويشمل هذا الحفظ‬
‫السنيية وإن لم تشملها النصوص)‪ . (2‬والوجه الثاني في الدللة هــو‬
‫الواقع من زمن النبي ‪ ‬إلى الن حيث أ ن ال سبحانه وتعــالى قــد‬
‫قيض لهذه الشريعة من يحفظها على يديه ويــذب عنهــا ويناضــل‬
‫دونها في كل علمم توقف فهم الشريعة عليه‪ .‬قال الشــاطبي‪» :‬إن‬
‫هذه الشريعة المبار كــة مع صــومة ك مــا أن صــاحبها ‪ ‬مع صــوما‪،‬‬
‫وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصــومة«هل)‪ (3‬ومــن هــؤلء‬
‫الذين قيضهم ال لحفظ دينه العلماء الذين فهموا مقاصد الشريعة‬
‫من الكتاب والسنة‪ .‬يقول‪» :‬وبعث ال من هؤلء سادةاا فهمـوا عـن‬
‫ال وعن رسول ا لــ ‪ ، ‬فا ســتنبطوا أحكا مــاا فه مــوا معاني هــا مــن‬
‫أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ‪ ،‬تارةا من نفس ال قــول‪ ،‬و تــارةاا‬
‫من معناه ‪ ،‬وتارةاا من علة الحكم‪ ،‬حتى نز يي لــوا الو قــائع ا لــتي لــم‬
‫تذكر على ما ذيكر وسه يي لوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك‪ ،‬وهكذا‬

‫) ( سورةا الحجر‪. 9 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( تبين في الفصل الثالث رأي الشاطبي وهو أن الحفظ المضمون بالية‬ ‫‪2‬‬

‫هو للكليات وليس للجزئيات‪ .‬ويتبــع الكليــات ال فــروع‪ ،‬و هــي الجزئيــات‬
‫الراجعة إلى كليات‪ ،‬ولذلك قال في السنة‪» :‬والسنة وإن لـم تـذكر )أي‬
‫في الحفظ المضمون( فإنها مبينة له )أي للكتاب( ودائرةا حوله فهي منــه‪،‬‬
‫وإليه ترجع في معانيها‪ ،‬فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضـاا«هل‬
‫الموافقات‪. 2/38 .‬‬
‫) ( الموافقات‪. 2/38 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪249‬‬
‫جرى المر في كل علمم توقف ف هــم ال شــريعة عليــه‪ ،‬و هــو عيــن‬
‫الحفظ الذي تضمنته الدلة المنقولة و بــال التوف يــق«هل)‪ . (1‬وم مــا‬
‫ينبني على ذلك أن الجزئيات من نصوص ظنية الثبــوت أو م عــان م‬
‫ظنية‪ ،‬ستظل هي مآخذ الكليات‪ ،‬وهي موضع ال ا ســتقراء‪ ،‬ول ي صــح‬
‫أن يزعم المحافظة على الكليات بأي طر يــق‪ ،‬فالكليــات ليــس ل هــا‬
‫طريق إل هذه الجزئيات‪ .‬وكما أن الخلل بالكليات ل يجوز‪ ،‬فإن‬
‫الخلل بالجزئيات مثــل ذلــك‪ .‬و مــن ج هــة أ خــرى فــإن الخلل‬
‫بالجزئيات إخلل بالكليات‪ .‬يقول‪» :‬إذا ثبت في الشــريعة قاعــدةا‬
‫كلية في هذه الثلثة)‪ (2‬أو في آحادها فل بد من المحافظة علي هــا‬
‫بالنسبة إلى ما يقـوما بـه الكلــي‪ ،‬وذلـك الجزئيـات‪ ،‬فالجزئيـات‬
‫مقصودةا مع تــبرةا فــي إقا مــة الكلــي أن يتخلــف الكلــي فتتخلــف‬
‫مصلحته المقصودةا بالتشريع«هل)‪ (3‬ثم أورد أدلة على ذلك وقــال‪:‬‬
‫»وحين كان ذلك كذلك دل علـى أن الجزئيـات داخلـة مـدخل‬
‫الكليات في الطلبِّ والمحافظة عليها«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬إن الجزئيات لو‬
‫لم تكن معتبرةا مقصودةا في إقامة الكلي لم يصح المر بالكلي من‬
‫أصله لن الكلي من حيث هو كلي ل ي صــح الق صــد فــي التكل يــف‬
‫إليه«هل )‪. (5‬‬
‫وعلى ذلك فل يجوز إهدار أو إهمال الجزئيات بحجة‬
‫الكليات‪ ،‬ول يصح العتراض هنا بما قرره سابقاا من أن تخلف‬
‫آحاد الجزئيات ل يقدح في ثبوت الكليات‪ .‬يقول‪» :‬ل شك في‬
‫انحتاما القصد إلى الجزئي«هل)‪ (6‬ويقول‪» :‬إن تخلف الجزئي هنالك‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/40 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الثلثة‪ :‬أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/41 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( وذلك لن هذه الكليات هي مقاصد بمعنى نتائج أو مسببات‪ ،‬والتكليف‬ ‫‪5‬‬

‫إنما يقع على السباب ل على المسببات‪ ،‬لنها إلــى الــ وليســت إلــى العبــد‪،‬‬
‫والتكليف بها خارج عن قدرةا العبد‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/42 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪250‬‬
‫إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كل يق ي هق من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬كما نقول إن حفظ النفوس مشروع وهذا كلي مقطوع‬
‫بقصد الشارع إليه‪ ،‬ثم شرع القصاص حفظاا للنفوس‪ ،‬فقتل النفس‬
‫في القصاص محافظة عليها بالقصد‪ ،‬ويلزما من ذلك تخلف جزئي‬
‫من جزئيات الكلي المحافظ عليه وهو إتلفَّ هذه النفس لعارض‬
‫عرض وهو الجناية على النفس‪ .‬فإهمال هذا الجزئي في كيليقييقه‬
‫من جهة المحافظة على جزئي في كيليقييقه أيضاا وهو النفس‬
‫المجني عليها‪ ...‬فعلى هذا‪ ،‬تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى‬
‫الكلي إن كان لغير عارض فل يصح شرعاا‪ ،‬وإن كان لعارض‬
‫فذلك راجع إلى المحافظة على الكلي من جهةم أخرى أو على‬
‫كلي آخر‪ ،‬فالول يكون تخلفه قادحاا في الكلي‪ ،‬والثاني ل يكون‬
‫تخلفه قادحاا«هل )‪. (1‬‬
‫ل يجوز مإخالفة الحكام بحجة المقاصـد‪:‬‬
‫إن القول بمقاصد للشريعة‪ ،‬وبتفاوت مراتبِّ هذه المقاصد ل‬
‫يبرر مخالفة أو تغيير بعض الحكاما بحجة المحافظة على‬
‫مقاصدها‪ ،‬كما ل يبرر تفويت بعض المقاصد لجل تحصيل ما هو‬
‫أعلى منها مرتبةا‪ .‬وذلك أن الكليات ل يحافظ عليها بكل طريق‪،‬‬
‫وإنما بما شرع ال لها‪ ،‬فكانت مخالفة الحكاما تفوت المقاصد وإن‬
‫لم يظهر ذلك‪ .‬والجزئيات والمكملت في الشريعة إنما شرعت‬
‫لجل المحافظة على الضروريات وهي خادمة لها‪ .‬فل يتأتى‬
‫المحافظة على الضروريات إل بها‪ ،‬وعلى ذلك فما يأتي به البعض‬
‫أحياناا من آراء أو فتاوى تهدر النصوص الشرعية بحجة‬
‫المحافظة على المقاصد وتقول بجواز تطوير أو تغيير الحكاما‬
‫الشرعية بناء على ذلك هي أقوال مناقضة لفكرةا المقاصد عند‬
‫الشاطبي‪ ،‬وقد مري آنفاا قوله إن الذين كانوا يسعون للمحافظة‬
‫على الكليات بمقتضى أنظار عقولهم عجزوا عن ذلك وكانوا‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪251‬‬
‫يفوتون المصالح ويهدمون قواعدها‪ ،‬ويقول أيضاا‪» :‬إن كل‬
‫حاجي وتحسيني إنما هو خادما للصل الضروري ومؤنس ومحسيقن‬
‫لصورته الخاصة‪ ...‬وعلى كل تقدير فهو يدور بالخدمة حواليه‬
‫فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالته«هل)‪ (1‬ويقول‬
‫»إن كل واحدةا من هذه المراتبِّ لما كانت مختلفة في تأكد‬
‫العتبار فالضروريات آكدها تليها الحاجيات والتحسينيات‪،‬‬
‫وكانت مرتبطاا بعضها ببعض‪ ،‬كان في إبطال الخف جرأةاي على‬
‫ما هو آكد منه ومدخل للخلل به‪ ،‬فصار الخف كأنه حمى‬
‫للكد‪ ،‬والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه«هل )‪ . (2‬ويقول‪» :‬إذا‬
‫كان الضروري قد يختل باختلل مكملته كانت المحافظة عليها‬
‫لجله مطلوبة«هل)‪ . (3‬ويقول بشأن تغيير الحكاما بحجة المصالح أو‬
‫المقاصد‪» :‬فإنها )أي المصالح( لو كانت موض ـ وعة بحيث يمكن‬
‫)‪(4‬‬
‫أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعاا لها ‪.‬‬
‫إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد‪ ،‬لكن‬
‫الش ـ ارع قاص ـ د به ـ ا أن تك ـ ون مص ـ الح على الطلق‪ ،‬فل بد أن‬
‫يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياا وكلياا وعاماا في جميع‬
‫أنواع التكليف والمكلفين وجميع الحوال‪ ،‬وكذلك وجدنا المر‬
‫فيها والحمد ل«هل )‪. (5‬‬
‫تفسير لبعض نصوص الشاطبي‪:‬‬
‫ذهبِّ كثير من المعاصرين إلى قراءةا نصوص من‬
‫)الموافقات( من غير تنبه إلى حقيقة معانيها‪ ،‬فنسبوا إلى‬
‫الشاطبي آراء ل يقول بها‪ ،‬وإنما يبطلها ويبين فسادها‪ .‬والواقع‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/42 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 13 - 2/12 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/15 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( أي لجل تحقيقها لنها غايات‪ ،‬والحكاما الشرعية هي الطريق إليها‪ ،‬أو‬ ‫‪4‬‬

‫الحكاما أسباب والمصالح مسببات ‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/25 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪252‬‬
‫أن كثيراا من نصوص الشاطبي إذا لم ينظر إليها على أساس ما‬
‫وضعه من مقدمات‪ ،‬وما قرره من أصول‪ ،‬وبحيث يبنى اللحق منها‬
‫على السابق فإن هذا سيوقع في التباسات وييشعر بتناقضات بين‬
‫بعض النصوص‪.‬‬
‫ولقد خ رج بعض كتاب الصول بتقريرات ل قيمة لها شرعاا‬
‫متوهمين أنهم يستندون إلى فكرةا مقاصد الشريعة كمن يطلق‬
‫القول بأنه حيثما تكون المصلحة فثم شرع ال‪ ،‬أ و بأن الطريق‬
‫إلى المباح مباح‪ ،‬أو كمن يقول بان ال حرييما علينا ما تدرك‬
‫عقولنا ضرره وأباح لنا ما تدرك عقولنا نفعه أو ما شابه ذلك‪.‬‬
‫وإذا كان البعض يفعل هذا زاعماا الستناد إلى الشاطبي‪،‬‬
‫فهناك من تنبييه إلى عدما إنطباق أفكار الشاطبي على هذه المعاني‪،‬‬
‫فالش ـ يخ مح ـ م ـ د الطاهر ب ن عاشور ‪ -‬مثلا ‪ -‬يشير‪ ،‬في معرض‬
‫تقريره أن الشريعة معلل ة بمصالح العباد‪ ،‬إلى أن معظم استدللت‬
‫الشاطبي على هذا المر غير صالحة‪ ،‬وهذا مبعثه أن المستيد ي ليي‬
‫عليه عند الشاطبي مختلف ع ما عند الشيخ)‪. (1‬‬
‫ولذلك رأى الدكتور عبد ال دراز تناقضاا بين بعض‬
‫نصوص الشاطبي ‪.‬‬
‫يقول الشاطبي في المسألة الخامسة من مسائل النوع الول‬
‫من مقاصد الشريعة‪» :‬المصالح المبثوثة في هذه الدار يينظيري‬
‫فيها من جهتين‪ :‬من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب‬
‫الشرعي بها‪ .‬فأما النظر الول‪ :‬فإن المصالح الدنيوية من حيث‬
‫هي موجودةا هنا ل يتخلص كونها مصالح محضة‪ ،‬وأعني‬
‫بالمصالح ما يرجع إلى قياما حياةا النسان وتماما عيشه ونيله ما‬
‫تق ت ضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الطلق حتى يكون‬
‫منعماا على الطلق وهذا في مجرد العتياد ل يكون لن تلك‬
‫المصالح مشوبةي بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت‪ ،‬وتقترن بها أو‬
‫) ( انظر ص ‪ 181 :‬من هذا الكتاب ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪253‬‬
‫تسبقها أو تلحقها كالكل والشرب واللبس والسكنى والركوب‬
‫والنكاح وغير ذلك‪ ،‬فإن هذه المور ل تنال إل بكديم وتعبِّ‪ ،‬كما‬
‫أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع‬
‫الوجود‪ ،‬إذ ما من مفسده تفرض في العادةا الجارية إل ويقترن بها‬
‫أو يسبقها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير‪ ،‬فإذا كان‬
‫كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على‬
‫مقتضى ما غلبِّ‪ ،‬فإذا كان الغالبِّ جهة مصلحة فهي المصلحة‬
‫المفهومة عرفاا‪ ،‬وإذا غلبِّ الجهة الخرى فهي المفسدةا المفهومة‬
‫عرفاا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباا إلى الجهة‬
‫الراجحة‪ ...‬على ما جرت به العادات في مثله‪ ...‬وأما النظر الثاني‬
‫فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعاا‪ ،‬فالمصلحة إذا كانت هي‬
‫الغالبة عند مناظرتها مع المفسدةا في حكم العتياد‪ ،‬فهي‬
‫المقصودةا شرعاا‪ ،‬ولتحصيلها وقع الطلبِّ على العباد‪ ...‬فإن تبعها‬
‫مفسدةا أو مشقة فليست بمقصودةام في شرعية ذلك الفعل وطلبه‪.‬‬
‫وكذلك المفسدةا إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في‬
‫حكم العتياد ‪ ،‬فرفعها هو المقصود شرعاا‪ ،‬ولجله وقع النهي‪...‬‬
‫فإن تبعتها مصلحة أو لذةا فليست هي المقصودةا بالنهي عن ذلك‬
‫الفعل‪ ،‬بل المقصود ما غلبِّ في المحل«هل)‪. (1‬‬
‫ويقول في المسألة الثامنة من مسائل النوع الول من مقاصد‬
‫الشريعة‪» :‬المصالح المجتلبة شرعاا والمفاسد المستدفعة شرعاا‬
‫إنما تعتبر من حيث تقاما الحياةا الدنيا للحياةا الخرى‪ ،‬ل من حيث‬
‫أهواء النفوس في جلبِّ مصالحها العادية أو درء مفاسدها‬
‫العادية«هل )‪. (2‬‬
‫هذان النصان للشاطبي في المسألة الخامسة والمسألة الثامنة‬
‫رأى الدكتور دريياز أنه م ا متناقضان‪ ،‬ولذلك علق على النص‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 17 - 16 - 2/15 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 25 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪254‬‬
‫الول بقوله‪» :‬سيأتي تقييد هذا النظر في المسألة الثامنة«هل)‪. (1‬‬
‫وعلق على النص الثاني بقوله‪» :‬يلزما أن تقييد المسألة الخامسة‬
‫بهذا حتى ل يتنافى مع ظاهر الكلما هناك‪ ...‬فقد بنى المصلحة‬
‫والمفسدةا على ما غلبِّ منهما باعتبار قياما الحياةا ونيل الشهوات‬
‫التي تقتضيها أوصافَّ النسان الشهوانية فجعلها مما ينبني عليها‬
‫كونها مصلحةا تطلبِّ أو مفسدةا تدفع وهنا يقول إن مجرد‬
‫كونها مصلحة في نظر الشخص ل تعتبر‪ ،‬والمعتبر أن تكون‬
‫بحيث تقوما الحياةا الدنيا للخر ةا وذلك طبعاا ل يكون إل تبعاا‬
‫لرسم الشرع الذي يعلم المصل ح ة من هذه الحيثية موفقاا بينها‬
‫وبين ما أجراه في سنة الوجود«هل)‪ . (2‬وقال أيضاا تعليقاا على نص‬
‫آخر للشاطبي في الموضوع نفس ه ‪» :‬مجرد هذا ل يفيد بعدما‬
‫اعتبر سابقاا أن ما غلبت فيه جهة المنفعة فهو المصلحة وما‬
‫ترجحت فيه المضرةا فهو المفسدةا‪ ...‬ولذا قلنا إنه يلزما لصحة‬
‫الكلما تقييد ما سبق بهذا«هل )‪. (3‬‬
‫بهذا يكون قد تم عرض الشكال في هذه المسألة‪ ،‬وقبل بيان‬
‫حله وإزالته أشير إلى أن الدكتور دراز لم يقف على حقيقة مراد‬
‫الشاطبي بألفاظ المصلحة والمفسدةا‪ ،‬ويفهمهما عند الشاطبي‬
‫بمعنى المنفعة والمضرةا‪ ،‬ولذلك نسبِّ إلى الشاطبي ال قول بأ ن ما‬
‫غلبت فيه جهة المنفعة فهو المصلحة‪ ،‬وما ترجييحت فيه المضرةا‬
‫فهو المفسدةا ‪ .‬وهذا غير صحيح‪ ،‬ولم يكن هذا قول الشاطبي‪،‬‬
‫وإنما قال‪ :‬إن ما غلبت فيه جهة المصلحة فهو المصلحة المفهومة‬
‫عرفاا‪ ،‬وكذلك بالنسبة للمفسدةا‪ .‬والمران مختلفان‪ .‬فالمصلحة‬
‫عند الشاطبي هي ما ثبت قطعاا كونه مقصوداا للشارع‪ ،‬والمفسدةا‬
‫ما ثبت قطعاا كونه ممنوع الوقوع شرعاا‪ .‬أما المنافع والمضار‬
‫) ( المصدر نفسه‪ 2/26 ،‬طبعة دار المعرفة ‪ -‬بيروت بتعليق الدكتور‬ ‫‪1‬‬

‫عبد ال دراز ‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪ ،‬ص‪. 38 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪255‬‬
‫ف هي راجعة إلى حظوظ العبد وما يحبِّ وما يكره‪ ،‬ولذلك فبعض‬
‫المنافع محرمة وبعض المضار جائزةا‪ ،‬ولذلك اعترض الشاطبي‬
‫على الرازي فقال بعد أن قرر أن المصالح والمفاسد تعتبر من‬
‫حيث تقوما الحياةا الدنيا للحياةا الخرى‪» :‬إنه ل يستمر إطلق‬
‫القول بأن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع كما قرره‬
‫الفخر الرازي إذ ل يكاد يوجد انتفاع حقيقي أو ضرر حقيقي‬
‫وإنما عامتها أن تكون إضافية«هل)‪ ، (1‬ويضيف‪» :‬والمصالح والمفاسد‬
‫إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع‪ ...‬فكيف يسوغِّ إطلق هذه‬
‫العبارةا أن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع«هل)‪ (2‬ويضافَّ‬
‫إلى هذا خطأ آخر‪ ،‬وهو عدما التمييز بين مراد الشاطبي في‬
‫المسألة الخامسة ومراده في المسألة الثامنة‪ .‬وقد بنى الدكتور‬
‫درار اعتراضه على قول الشاطبي في المسألة الخامسة‪» :‬واعني‬
‫بالمصالح ما يرجع إلى قياما حياةا النسان وتماما عيشه ونيله ما‬
‫تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الطلق حتى يكون‬
‫منعماا على الطلق«هل‪.‬‬
‫ولبيان الفرق بين المسألتين أقول‪ :‬إن الشاطبي لم ييسيق‬
‫المسألة الخامسة لتعريف المصالح والمفاسد‪ ،‬وإنما لبيان أنها ل‬
‫تتمحض في الوجود‪ ،‬وأنها تتمحض في الشرع‪ .‬أما النص الذي‬
‫بنى عليه الدكتور دراز اعتراضه‪ ،‬والمثير للشكال فمعناه أن ما‬
‫جاءت به الشريعة من أوامر ونواهي‪ ،‬وتقرر بناء عليه ما هو‬
‫مصلحة وما هو مفسدةا‪ ،‬فإنه هو الذي يعود على النسان بما‬
‫يحفظ عليه حياته وتماما عيشه من طعاما وسكن وغير ذلك مما‬
‫تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية من أمن وعز وتملك وغير‬
‫ذلك من ملذات الحياةا‪ ،‬وهذه ل تحصل إل بما يؤدي إليها وهي‬
‫أحكاما الشريعة‪ ،‬ولذلك فإن نص الشاطبي ل يقول‪» :‬وأعني‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/27 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪256‬‬
‫بالمصالح قياما حياةا النسان ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية«هل‪،‬‬
‫وإنما يقول‪» :‬وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قياما حياةا‬
‫النسان‪«...‬هل وهذا المعنى جلييي في كتاب الشاطبي لمن تأمله‪،‬‬
‫وس ي ت فصل القول فيه عند الحديث عن النوع الرابع من مقاصد‬
‫الشريعة وهو وضعها للمتثال ‪ .‬ونصوصه في هذا المر كثيرةا‬
‫أ ذكر منها هنا نصاا يفي بالغرض‪ .‬يقول‪» :‬إن وضع الشريعة إذا‬
‫سلم أنها لمصالح العباد فه ي عائدةا عليهم بحسبِّ أمر الشارع‬
‫وعلى الحد الذي حده ل على مقتضى أهوائهم وشهواتهم‪ ...‬أما أن‬
‫مصالح التكليف عائدةا على المكلف في العاجل والجل فصحيح‪ ،‬ول‬
‫يلزما من ذلك أن يكون نيله لها خارجاا عن حدود الشرع‪ ،‬ول أن‬
‫يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهو ظاهر‪،‬‬
‫وبه يتبييين أن ل تعارض بين هذا وبين ما تقدما لن ما تقدما نظري‬
‫من حيث ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع ل من حيث‬
‫اقتضا ه الهوى والشهوةا«هل )‪. (1‬‬
‫إن معنى النص الذي بنى عليه الدكتور دراز اعتراضه هو أن‬
‫المصالح التي دلت عليها الشريعة بالستقراء هي التي تؤدي إلى‬
‫أن ينال النسان حظوظه وأغراضه وليس أن المصالح تفهم بحسبِّ‬
‫ما يعود على الناس بذلك بمقتضى ميولهم وأنظارهم‪.‬‬
‫أما النصوص الخرى التي رأى الدكتور دراز أنها متعارضة‪،‬‬
‫فما ورد في المسألة الخامسة ليس المراد فيه التعريف بالمصالح‬
‫والمفاسد‪ ،‬وإنما المراد من المسألة أن المصالح والمفاسد ينظر‬
‫إليها من جهتين‪ .‬الولى‪ :‬من حيث هي موجودةا في الواقع‪ ،‬وهي‬
‫هنا ل تتمحض‪ ،‬فالمصالح تشوبها المفاسد‪ ،‬والعكس صحيح‪ .‬أي أن‬
‫الفعل المأمور به لجل غاية يقصدها الشارع‪ ،‬فإن هذه الغاية‬
‫مصلحة شرعية تنتج عن الفعل‪ ،‬ولكن ينتج عن الفعل أمور أخرى‬
‫قد تكون غير مقصودةا بذلك المر‪ ،‬أي قد تكون مفاسد‪ ،‬والعكس‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 118 - 2/172 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪257‬‬
‫صحيح‪ ،‬وذلك لن المفاسد والمصالح ل تتمحض في الواقع‪.‬‬
‫فالجهاد مثلا مصلحة‪ ،‬وينتج عنه مصالح يقصدها الشارع مثل‬
‫بسط سلطان السلما وإعزازه ودخول الناس فيه‪ ،‬وينتج عنه أيضاا‬
‫فوات الرواح وإنفاق الموال والمشقات‪ ،‬فهل هذه الخيرةا هي‬
‫قصد الشارع بالجهاد؟ كل‪ .‬بل هذه مفاسد شرعاا‪ .‬وعلى هذا‬
‫الساس يفهم قول الشاطبي‪» :‬فإذا كان كذلك فالمصالح‬
‫والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلبِّ«هل‪ .‬أي‬
‫ينظر إلى المصالح ومقدارها ودرجة توقعها‪ .‬فهل النصر متوقع‬
‫أيون ل‪ ،‬ودرجة الظن بذلك‪ ،‬وينظر إلى تكاليفه من النفس‬
‫والموال‪ ،‬والنتائج المتوقعة وذلك بحسبِّ أهل النظر والخبرةا‪،‬‬
‫ولذلك قال‪» :‬فإذا كان الغالبِّ جهة المصلحة فهي المصلحة‬
‫المفهومة عرفاا«هل‪.‬‬
‫ومثال ذلك أيضاا‪» :‬الكل والشرب والسكنى والركوب‬
‫والنكاح فإن هذه المور ل تنال إل بكديم وتعبِّ«هل‪ .‬وكما قال‪:‬‬
‫»تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشقات«هل فإن كانت هذه مصالح‬
‫مقصودةا الوقوع‪ ،‬فإن المشقات مفاسد مطلوبة الرفع بحس ـ بِّ‬
‫الش ـ اطب ـ ي‪ .‬قال‪» :‬إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف‬
‫قصد الشارع من حيث إن الشارع ل يقصد بالتكليف نفس المشقة‬
‫وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل فالقصد إلى المشقة باطل‬
‫فهو إذاا من قبيل ما ينهى عنه«هل)‪ . (1‬وق ـ ال‪» :‬فقد علم من الش ـ ارع‬
‫أن المش ـ ق ـ ة ينه ـ ى عن ـ ه ـ ا فإذا أم ـ ر بم ـ ا تلزما عنه فلم‬
‫يقصدها«هل )‪. (2‬‬
‫فإذا كانت المصالح ل تنال إل بكديم وتعبِّ وهذه مفاسد‪ ،‬فهذا‬
‫معناه أن المصالح والمفاسد الدنيوية من حيث وجودها في الواقع‬
‫ل تتمحض‪ ،‬والحكم على الفعل يكون بحسبِّ ما يغلبِّ في المحل‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/86 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/58 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪258‬‬
‫قال‪» :‬فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين‬
‫المرين تحت نظر العدل‪ ،‬فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجبِّ‬
‫ويترك الحظوظ ما لم يؤديق الترك إلى م حظ ور‪ ،‬ويبقى في‬
‫المندوب والمكروه على توازن«هل )‪ . (1‬وهذا يدل على مراده بقوله‪:‬‬
‫»وإذا غلبت الجهة الخرى فهي المفسدةا المفهومة عرفاا«هل‬
‫وبقوله‪» :‬على ما جرت العادات في مثله«هل‪ .‬وشرح مثل هذه‬
‫النصوص سيتبين بشكل آكد وأوضح في مبحث النوع الثالث من‬
‫مقاصد الشريعة‪ ،‬إل أني أورد له هنا نص ـ اا يوض ـ ح م ـ راده‬
‫بألفـاظ مث ـ ل »المفسدةا أو المصلحة المفهومة عرفاا«هل ومثل‬
‫»ما جرت العادات في مثله«هل ومراده بتغليبِّ إحدى الجهتين على‬
‫الخرى اعتماداا على العرفَّ والعادةا‪.‬‬
‫يقول إن شراء العنبِّ أو السلح أو اليمية ‪ -‬مثلا ‪ -‬قد يكون‬
‫لمقصد شرعي وقد يكون لحراما‪ .‬وهو في الول مصلحة وفي‬
‫الثاني مفسدةا‪ .‬فكيف يحكم بتغليبِّ إحدى الجهتين على الخرى‬
‫مع أن مقصد الفاعل خفي على الخرين؟ بهذا المعنى يقول‬
‫الشاطبي بتحكيم العرفَّ والعادةا إل إذا عرفَّ مقصد بخلفَّ ذلك‬
‫لفاعل معين على الخصوص‪ .‬يقول‪» :‬أن يكون بعض المنافع‬
‫حللا وبعضها حراماا فههنا معظم نظر المسألة‪ ...‬أن يكون أحد‬
‫الجانبين هو المقصود بالصالة عرفاا والجانبِّ الخر تابع غير‬
‫مقصود بالعادةا إل أن يقصد على الخصوص وعلى خلفَّ العادةا‪ ،‬فل‬
‫إ شكال في أن الحكم لما هو مقصود بالصالة والعرفَّ‪ ،‬والخر ل‬
‫حكم له لنا لو اعتبرنا الجانبِّ التابع لم يصح لنا تملك عين من‬
‫العيان ول عقد عليه لن فيه منافع محرمة‪ ...‬ومثاله في أصالة‬
‫المنافع المحللة شراء المة بقصد إسلمها للبغاء كسباا به‪،‬‬
‫وشراء الغلما للفجور به‪ ،‬وشراء العنبِّ ليعصر خمراا والسلح‬
‫لقطع الطريق‪ ...‬وفي أصالة المنافع المحرمة شراء الكلبِّ‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/99 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪259‬‬
‫للصيد‪ ...‬وشراء الخمر للتخليل وشراء شحم الميتة لتطلى به‬
‫السفن أو يستصبح به الناس‪ ...‬فإن صار التابع غالباا في القصد‬
‫وسابقاا في عرفَّ بعض الزمنة حتى يعود ما كان بالصالة‬
‫كالمعدوما المطرح فحينئذم ينقلبِّ الحكم‪ ،‬وما أظن هذا يتفق‬
‫هكذا بإطلق‪ ،‬ولكن إن فرض إتفاقه انقلبِّ الحكم«هل)‪ . (1‬وسيأتي‬
‫تفصيل أكثر لهذا المر عند الحديث عن قاعدةا الصل والغالبِّ‬
‫ضمن الحديث عن قاعدةا سد الذرائع في الفصل التاسع ‪.‬‬
‫هذه هي الجهة الولى من النظر إلى المصالح والمفاسد‪،‬‬
‫وهي أنها في الواقع ل تتمحض‪ ،‬أما الجانبِّ الثاني وهو جهة تعلق‬
‫الخطاب الشرعي بها‪ ،‬فهي هنا مصالح محضه أو مفاسد محضة‬
‫على الدواما‪ ،‬فإذا وقع الطلبِّ الشرعي على فعل فلجل مصلحة‬
‫يقصدها الشارع‪ ،‬فإن كان هذا الفعل مما يسبقه أو يقترن به أو‬
‫يلحقه مفاسد‪ ،‬أي ما هو مفاسد بحكم الشرع‪ ،‬فهذا راجع إلى كون‬
‫المصالح والمفاسد ل تتمحض في الواقع‪ ،‬لكن هذه المفاسد غير‬
‫مقصودةا للشارع بذلك الطلبِّ‪ ،‬وكونها متعلقة بذلك الطلبِّ ل‬
‫يفيد في كونها مقبولة أو مغتفرةا شرعاا‪ ،‬إذ وجود نتائج معينة‬
‫لحكاما معينة ل يكفي للدللة على كونها مصالح أو مفاسد‪ ،‬فل‬
‫بد ل ا عتبار المصلحة أو المفسدةا من الستقراء لعدد كبير من‬
‫الحكاما‪ .‬ولذلك فإن المصلحة الثابتة شرعاا تظل مصلحة‪،‬‬
‫وكذلك بالنسبة للمفسدةا‪ .‬وكون المفاسد تتعلق بفعل مطلوب‪،‬‬
‫والمصالح تتعلق بفعل منهي عنه ل يغييقر شيئاا في كون‬
‫المصلحة مصلحة والمفسدةا مفسدةا‪ ،‬ول يدل على أن المصالح قد‬
‫نهى عنها أو أن المفاسد قد تصبح مطلوبة‪ ،‬ومعنى هذا أنها‪ ،‬أي‬
‫المصالح والمفاسد متمحضة في الشرع وإن لم تكن متمحضة من‬
‫حيث الوجود في الواقع‪ .‬ولذلك يقول الشاطبي‪» :‬فالحاصل من‬
‫ذلك أن المصالح المعتبرةا شرعاا أو المفاسد المعتبرةا شرعاا هي‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 109 - 108 - 3/107 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪260‬‬
‫خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد ل قليلا ول كثيراا‪ ،‬وإن‬
‫تيويهيقمي أنها مشوبة فليست في الحقيقة الشرعية كذلك«هل )‪. (1‬‬
‫وأمثلة ذلك العمل وطلبِّ قوت العيال فإنه مصلحة وفيه كد‬
‫وتعبِّ‪ ،‬وقد قصد الشارع ما فيه من مصالح ولم يقصد الكد‬
‫والتعبِّ‪ .‬والخروج إلى الصلوات أو إلى طلبِّ العلم أو ما شابه‬
‫ذلك‪ ،‬مع أن في الطريق منكرات تسمع وتشاهد‪ ،‬فهذا ل يغير‬
‫شيئاا في ما هو مصلحة وما هو مفسدةا‪ .‬ول يغير شيئاا في‬
‫الحكاما الشرعية‪ ،‬ويجبِّ التحرز من المنكرات قدر الستطاعة‪.‬‬
‫يقول‪» :‬المور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا‬
‫أكتنفها من خارج أموري ل ترضي شرعاا فإن القداما على جلبِّ‬
‫المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسبِّ الستطاعة من غير‬
‫حرج‪ ،‬كالنكاح الذي يلزمه قوت العيال مع ضيق طرق الحلل‬
‫واتساع أوجه الحراما والشبهات‪ ...‬ولو اعتبر مثل هذا في النكاح‬
‫في زماننا لدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح‪ ،‬وكذلك‬
‫طلبِّ العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وش ه ود‬
‫الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إل‬
‫بمشاهدةا ما ل يرتضى‪ ،‬فل ييخرج هذا العارض تلك المور عن‬
‫أصولها لنها أصول الدين وقواعد المصالح«هل)‪. (2‬‬
‫أما استعمال الشاطبي للفظ »الدنيوية«هل عند قوله المصالح‬
‫والمفاسد الدنيوية‪ .‬فذلك في مقابلة لفظ المصالح والمفاسد‬
‫الخروية‪ ،‬التي هي نعيم الجنان وعذاب النيران‪ ،‬وذلك أن‬
‫المصالح والمفاسد الدنيوية إن كانت ل تتمحض من حيث الوجود‬
‫في الواقع‪ ،‬فإن المصالح الخروية مصالح خالصة‪ ،‬أي متمحضه‬
‫غير مشوبة بمفاسد أي بعذاب‪ .‬والمفاسد‪ ،‬أي العذاب فهو خالص‬
‫غير مشوب بمصلحة للمخلدين في النار‪ ،‬وهو مم ـ ت ـ زج برح ـ م ـ ة‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/17 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/119 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪261‬‬
‫لل ـ م ـ وح ـ دي ـ ن الذي ـ ن يرج ـ ع ـ ون إلى الج ـ ن ـ ة‪ ،‬ومن هذا ال ا متزاج‬
‫أن النار ل تنال منهم مواضع السجود ومحل اليمان)‪. (1‬‬
‫بهذا يظهر أن موضوع المسألة الخامسة متفق ومتساوق مع‬
‫ما ورد في المسألة الثامنة بل إ نها تمه ي د لها‪ ،‬ويؤكد ذلك بيان‬
‫الشاطبي لكيفية التغليبِّ والترجيح بين الجهتين اللتين تتعارض‬
‫فيه م ا المصالح والمفاسد من حيث الوجود حيث يقول‪» :‬وبالجملة‬
‫كل ما تعارضت فيه الدلة فل يخلو أن تتساوى الجهتان أو‬
‫تترجح إحداهما على الخرى فإن تساوتا فل حكم من جهة المكلف‬
‫بأحد الطرفين دون الخر إذا ظهر التساوي بمقتضى الدلة‪ ،‬ولعل‬
‫هذا غير واقع في الشريعة‪ ،‬وإن فرض وقوعه فل ترجيح إل‬
‫)‪(2‬‬
‫بالتشهي من غير دليل وذلك في الشرعيات باطل باتفاق«هل ‪.‬‬
‫أما المسألة الثامنة فهي منسجمة مع المسألة الخامسة‪ ،‬إل‬
‫أن فهم الدكتور دراز للمصالح والمفاسد بمعنى المنافع‬
‫والمضار‪ ،‬وبأنها تكون كذلك بحسبِّ العادةا والعرفَّ وبمقتضى‬
‫أنظار العقلء‪ ،‬جعله يرى تنافياا ل خروج منه‪ ،‬فصدرت منه‬
‫تعليقات كالتالي‪» :‬مجرد هذا ل يفيد بعدما اعتبر سابقاا أن ما‬
‫غلبِّ فيه جهة المنفعة فهو المصلحة وما ترجحت فيه المضرةا فهو‬
‫المفسدةا«هل‪ ،‬وقال‪» :‬إذا كان محط الستدلل هو أن العقلء اتف ق وا‬
‫على أن المعتبر هو المر العظم وهو جهة المصلحة التي هي‬
‫عماد الدين والدنيا بقطع النظر عن أهواء النفوس فذلك يصح أن‬
‫يكون دليلا ولكن ل حاجة إلى توسيط المقدمات السالفة قبله«هل‪،‬‬
‫فهذا يدل على انه لم يدرك مراد الشاطبي من المسألة الخامسة‪.‬‬
‫أما بيان التكامل بين المسألتين فيتأكد من هذا النص ‪ -‬مثلا‬
‫‪ -‬المأخوذ من المسألة الثامنة‪ ،‬يقول‪» :‬المصالح المجتلب ة شــرعاا‬
‫والمفاسد المستدفعة إنما تعتــبر مــن حيــث ت قــاما الحيــاةا الــدنيا‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 22 - 21 - 2/20 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/20 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪262‬‬
‫للحياةا الخرى ل من حيــث أ هــواء النفـوس فــي جلــبِّ مصـالحها‬
‫العادية أو درء مفاسدها العادية‪ ،‬والدليل على ذلك أمور‪ :‬أحدها‪:‬‬
‫[ ‪      ‬‬
‫‪ . (1) ]  ‬والثاني‪ :‬ما تقدما معناه من أن المنافع الحاصلة‬
‫للمكلف مشوبة بالمضار عادةاا كما أن المضار محفوفة بالمنــافع‪،‬‬
‫كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الحياء بحيــث‬
‫إذا دار المر بين إحيائها وإتلفَّ المال عليها كان إحياؤهــا أولــى‪،‬‬
‫فإن عارض إحياؤها إماتة الدين‪ ،‬كان إحياء ا لــدين أو لــى و إ ن أدى‬
‫إلى إماتتها كما في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك‪ ،‬وك مــا‬
‫إذا عارض إحياءي نفسم واحدةام إماتة نفوس كثيرةا فــي الم حــارب‬
‫مثلا‪ ،‬كان إحياء النفوس الكثيرةا أولى‪ ،‬وكذلك إذا قلنا الكــل‬
‫والشرب فيه إحياء النفوس وفيه منفعة ظــاهرةا مــع أن ف يــه مــن‬
‫المشاق واللما في تح صــيله ابتــداءا و فــي ا ســتعماله حــالا و فــي‬
‫لوازمه وتوابعه انتهاءا كثيراا‪ .‬ومع ذلك فالمعتبر إنما هو المر‬
‫العظم وهو جهة المصلحة التي هي ع مــاد الــدين والــدنيا ل مــن‬
‫حيث أهواء النفوس«هل )‪. (2‬‬
‫مإناقشة الشاطبي لبعض القوال في المصالح‬
‫وأالمفاسد‪:‬‬
‫لقد أوضح الشاطبي مفهومه للمصلحة والمفسدةا بشكل جلي‪،‬‬
‫وهو أنها تابعة للشرع وليست متبوعة‪ ،‬وليس هذا ما عليه‬
‫السابقون من المعتبرين للمصالح والمفاسد‪ ،‬وإن كان الغزالي قد‬
‫نبييه إلى هذا المعنى حيث قال‪» :‬أما المصلحة فهي عبارةا في‬
‫الصل عن جلبِّ منفعة ودرء مضرةا‪ ،‬ولسنا نعني به ذلك فإن جلبِّ‬
‫المنفعة ودفع المضرةا مقاصد الخلق وصلح الخلق في تحصيل‬
‫مقاصدهم‪ .‬لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع‬
‫ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم‬
‫) ( سورةا المؤمنون‪. 71 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 26 - 2/25 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪263‬‬
‫ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم‪ ،‬فكل ما يتضمن حفظ هذه‬
‫الصول الخمسة فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يفوت هذه الصول فهو‬
‫مفسدةا ودفعه مصلحة«هل)‪ ، (1‬فهو بأخذه بمسلك المناسبة‬
‫وبالمناسبِّ الغريبِّ والمرسل‪ ،‬يخالف ما يقرره الشاطبي‪ ،‬وييعد ي‬
‫أنه يعلل بالمصلحة بالمعنى الذي قال في هذا النص إنه ل يعنيه‪.‬‬
‫وذلك بعد إدخال هذا المعنى في جملة مقاصد الشارع‪.‬‬
‫وينطبق ما ذكرناه عن الغزالي على غيره من الصوليين‬
‫المعتبرين للمصالح كالجويني والمدي والرازي والقرافي وعز‬
‫الدين بن عبد السلما وغيرهم‪.‬‬
‫وهذا المعنى يجعل المصلحة ‪ -‬ولو نظرياا ‪ -‬متبوعة للشرع‬
‫ل تابعة‪ ،‬وهذا يؤدي إلى إشكالت في فكرةا التعليل بالمصالح‪ .‬ومن‬
‫هذا الباب ييعيديي الشاطبي‪ ،‬أنه بعمله في الموافقات‪ ،‬قصد إلى‬
‫غربلة علم أ صول الفقه‪.‬‬
‫لذلك فهو بعدما قرر ان المصالح والمفاسد تعتبر من حيث‬
‫تقوما الحياةا الدنيا للحياةا الخرى‪ ،‬وأنها راجعة إلى التحسين‬
‫والتقبيح‪ ،‬عمد إلى نقد أو رد بعض القوال في هذا المجال‪ .‬فقد‬
‫رد قول الرازي بأن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع‬
‫كما ت بي ي ن في الصفحات السابقة‪.‬‬
‫ويرد كذلك على القرافي حيث أنه قد أورد إشكالا ييعيديي‬
‫ناقضاا لفكرةا التع ـ ليل بالمص ـ الح‪ ،‬ويع ـ د لزم ـ اا لجميع‬
‫المع ـ تبرين للمص ـ الح والمفاس ـ د‪ ،‬يق ـ ول الشاطبي‪» :‬إن القرافي‬
‫أورد إ شكالا في المصالح والمفاسد ولم ييجبِّ عنه وهو عنده لزما‬
‫لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد«هل)‪ . (2‬وأثبت القرافي‬
‫ورود هذا ال إ شكال على الجميع‪ ،‬المعتزلة وغيرهم فقال )والقول‬
‫للقرافي( ‪» :‬لن العدول عن أصل المصلحة والمفسدةا تأباه قواعد‬
‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 1/286 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/28 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪264‬‬
‫العتزال فإنه سفه ول يمكنهم أن يقولوا إن ضابط ذلك أن كل‬
‫مصلحةم توعد ال على تركها وكل مفسدةام توعد ال على فعلها‬
‫هي المقصودةا‪ ،‬وما أهمله ال تعالى غير داخلم في مقصودنا«هل )‪. (1‬‬
‫ومراد القرافي بهذا أن وجود أحكاما ل تتبع قاعدةا المصالح‬
‫والمفاسد ينقض الفكرةا‪ ،‬ويضيف )القرافي( ‪» :‬لنا نقول الوعيد‬
‫عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدةا‪ ،‬ويجبِّ عندكم بالعقل‬
‫أن يتوعد ال على ترك المصالح وفعل المفاسد‪ ،‬فلو استفدتم‬
‫المصالح والمفاسد المعتبرةا من الوعيد ليزقماي الدور‪ ،‬ولو صحت‬
‫الستفادةا في)‪ (2‬المصالح والمفاسد للزمكم أن تجوزوا أن يرد‬
‫التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد وتنعكس الحقائق حينئذم‪،‬‬
‫فإن المعتبر هو التكليف فأي شيء كلف ال به كان مصحلة وهذا‬
‫يبطل أصلكم«هل )‪ . (3‬أما غير المعتزلة من الذين يقولون بعلية جلبِّ‬
‫المصالح ودرء المفاسد‪ ،‬فيورد عليهم القرافي الشكال التالي‪:‬‬
‫»وأما حظ أصحابنا من هذا الشكال فهو أنه يتعذر عليهم أن‬
‫يقولوا‪ :‬إن ال تعالى راعى مطلق المصلحة ومطلق المفسدةا‪ ...‬بل‬
‫سبيلهم استقراء المواقع فقط‪ ،‬وهذا وإن كان يخل بنمطم من‬
‫الطلع على بعض أسرار الفقه غير أنهم يقولون‪ :‬يفعل ال ما‬
‫يشاء ويحكم ما يريد‪ ،‬ويعتبر ال ما يشاء ويترك ما يشاء ل‬
‫غير«هل)‪ (4‬والواقع أن هذا الشكالت قائمة في وجه المعتبرين‬
‫للمصالح والمفاسد إذا كانت بمعنى المنافع والمضار‪ ،‬أو الحقكيم‬
‫وما تقتضيه الوصافَّ النسانية‪ .‬ولذلك فإن القرافي أورد هذه‬
‫الشكالت ولم يجبِّ عنها‪.‬‬
‫والشاطبي رد هذه الشكالت‪ ،‬ورده إنما يصح على منهجه هو‬
‫في اعتبار المصالح والمفاسد‪ ،‬ولذلك ييعيديي إثباته لفكرةا التعليل‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫هكذا النص‪ .‬وربما كان الصح أن تكون‪ :‬من ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪ ،‬ص‪. 29 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪265‬‬
‫بالمصلحة تصحيحاا لمفهوما هذه الفكرةا‪ ،‬ولكل من المصلحة‬
‫والمفسدةا‪ .‬يقول‪» :‬أما على مذهبِّ الشاعرةا فإن استقراء الشريعة‬
‫دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر«هل )‪ (1‬وهكذا فهو يوجه‬
‫العتبار إلى الستقراء المفيد للقطع باعتبار المصلحة المعينة‪،‬‬
‫ويقول‪» :‬وأما على مذهبِّ المعتزلة فكذلك ‪ ،‬لنهم إنما يعتبرون‬
‫المصالح والمفاسد بحسبِّ ما أداهم إليه العقل في زعمهم وهو‬
‫الوجه الذي يتم به صلح العالم على الجملة والتفصيل في‬
‫المصالح أو ين خر ما في المفاسد‪ ،‬وقد جعلوا الشرع كاشفاا‬
‫لمقتضى ما أدعاه العقل عندهم بل زيادةا ول نقصان‪ ،‬فل فرق‬
‫بينهم وبين الشاعرةا في محصول المسألة«هل)‪ . (2‬أي أنهم ل‬
‫يحكمون العقل في تقرير المصالح المفاسد‪ ،‬وإنما يحكمون‬
‫الشرع‪ ،‬وعلى ذلك فل إشكال بحسبِّ منهج الشاطبي لن تقرير‬
‫المصلحة أو المفسدةا راجع إلى الشرع‪ .‬وينقد الشاطبي قول‬
‫الماما عز الدين بن عبد السلما حيث قال‪» :‬ومعظم مصالح الدنيا‬
‫ومفاسدها معروفَّ بالعقل وذلك معظم الشرائع«هل)‪ ، (3‬وحيث قال‪:‬‬
‫»وأما مصالح الخرةا ومفاسدها فل تعرفَّ إل بالنقل«هل)‪ ، (4‬وقال‪:‬‬
‫»وأما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فل تعرفَّ إل بالشرع‪،‬‬
‫فإن خفي منها شيء طلبِّ من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة‬
‫والجماع والقياس المعتبر والستدلل الصحيح‪ ،‬وأما مصالح‬
‫الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب‬
‫والعادات والظنون المعتبرات‪ ،‬فإن خفي شيء من ذلك طلبِّ من‬
‫أدلته‪ ،‬ومن أراد أن يعرفَّ المتناسبات والمصالح والمفاسد‬
‫راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع‬
‫لم يرد به‪ ،‬ثم يبني عليه الحكاما فل يكاد حكم منها يخرج عن‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ،‬ص‪. 29 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫عز الدين بن عبد السلما‪ ,‬قواعد الحكاما في مصالح الناما‪. 1/7 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/9 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪266‬‬
‫ذلك إل ما تعبد ال به عباده ولم يقفهم على مصلحته‬
‫ومفسدته«هل )‪. (1‬‬
‫يقول الشاطبي معترضاا على أقوال ابن عبد السلما هذه‪» :‬إن‬
‫بعض الناس قال إن مصالح الدار الخرةا ل تعرفَّ إل بالشرع‪ ،‬وأما‬
‫الدن ي وية فتعرفَّ بالضرورات والتجارب والعادات والظنون ا لخ«هل)‪، (2‬‬
‫ثم يقول‪» :‬أما أن ما يتعلق بالخرةا ل يعرفَّ إل بالشرع فكما‬
‫قال‪ .‬وأما ما قال في الدينوية فليس كما قال من كل وجه‪ ،‬ولو‬
‫كان المر على ما قال لم ييحنتيجن في الشرع إل إلى بث مصالح‬
‫الدار الخرةا خاصة وذلك لم يكن‪ ...‬فالعادةا تحيل استقلل‬
‫العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم‬
‫إل أن يريد هذا القائل أ ن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها‬
‫بعد وضع الشرع أصولها‪ ،‬فذلك ل نزاع فيه«هل )‪. (3‬‬

‫ومما يناقشه الشاطبي اختلفَّ المجتهدين في الحكاما‪ .‬فإذا‬


‫قال أحدهم إن الفعل جائز‪ ،‬وقال آخر إنه حراما‪ ،‬فعلى اعتبار‬
‫المصالح والمفاسد إذا كان الفعل مفسدةا فكيف جاز عند الول‪،‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/10 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 31 - 2/30 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪ .‬و هذه القوال التي أوردها الشاطبي لبن عبد السلما توحي‬ ‫‪3‬‬

‫بأن هذا الخير معتزلي‪ ،‬خاصة وأن الشاطبي لم يذكر اسم القائل‪ .‬وقــد علــق‬
‫الدكتور دراز على تلك القوال بقوله‪ » :‬أشبه بمذهبِّ المعتزلة« أنظر تعليــق‬
‫الدكتور دراز ‪ 2/48‬من الموافقات طبعة دار المعرفة ‪ .‬ولكن من قول ابن عبد‬
‫السلما‪ » :‬إن ال عز وجل ل يجبِّ عليه جلــبِّ مصــالح الحســن ول درء مفاســد‬
‫القبيح ‪ ،‬كما ل يجبِّ عليه خلق ول رزق ول تكليف ول إثابة ول عقوبة‪ .‬وإنما‬
‫يجلبِّ مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طول منه على عباده وتفضــلا‪ ،‬ولــو‬
‫عكس المر لم يكن قبيحاا إذ ل حجر لحد عليه« قواعد الحكاما‪ 1/10 ،‬ومم ا‬
‫قاله ابن عبد السلما‪ » :‬وقد أمر ال تعالى بإقام ة مصالح متجانسة وأخرج بعض ها‬
‫عن المر‪ .‬وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزجر« قواعد الحكاما‪.‬‬
‫‪ 1/6‬وهذا يؤكد وجود الشكال الذي ذكره تلم ي ذه القرافي‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫وإذا كان مصلحةا فكيف حرييمه الخر؟ فهذا مشكل عند‬
‫المعتبرين للمصالح والمفاسد‪.‬‬

‫يقول الشاطبي إنه ل إشكال هنا‪ ،‬فإذا كان جائزاا عند الول‬
‫فهذا يعني أن مصلحته راجحة عنده في ظنه‪ ،‬وإذا كان حراماا‬
‫عند الثاني فهذا يعني أنه مفسدةا عنده في ظنه‪ ،‬وهكذا فإن اعتبار‬
‫المصالح والمفاسد يختلف عند المجتهدين‪ ،‬ول إشكال‪ .‬قال‪:‬‬
‫»وقد زعم بعض المتأخرين ‪ -‬وهو القرافي ‪ -‬أ ن القول بالمصالح‬
‫إنما يستمر على القول إن المصيبِّ في مسائل الجتهاد واحد‪ ،‬لن‬
‫القاعدةا العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض‪،‬‬
‫بل متى كان أحدهما راجحاا كان الخر مرجوحاا‪ ،‬وهذا يقتضي‬
‫أن يكون المصيبِّ واحداا وهو المفتى بالراجح‪ ،‬وغيره يتعين أن‬
‫يكون مخطئاا لنه مفتم بالمرجوح‪ ،‬فتتناقض قاعدةا المصوبين مع‬
‫القائلين بالقياس وإن الشرائع تابعة للمصالح‪ .‬هذا ما قال‪ ،‬ونقل‬
‫عن شيخه ا بن عبد السلما في الجواب إنه يتعين على هؤلء أن‬
‫يقولوا إن هذه القاعدةا ل تكون إل في الحكاما الجماعية «هل)‪ . (1‬ثم‬
‫رد هذا القول فقال‪» :‬المصالح أو المفاسد في مسائل الخلفَّ‬
‫ثابتة بحسبِّ ما في نفس المر عند المجتهد وفي ظنه‪ ،‬ول فرق‬
‫هنا بين المخطئة والمصوبة‪ ،‬فإذا غلبِّ على ظن المالكي أن ربا‬
‫الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز فجهة المصلحة عنده‬
‫هي الراجحة وهي كذلك في نفس المر في ظنه«هل)‪ . (2‬أي إن‬
‫الفعل جائز شرعاا وبالتالي فهو مصلحة عنده‪» .‬وإذا غلبِّ على‬
‫ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز‪ ،‬فهي عنده داخله تحت حكم‬
‫الربا المحرييما‪ ،‬وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة ل الراجحة‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/36 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪268‬‬
‫وهي كذلك في نفس المر على ما ظنه«هل )‪ . (1‬أي أ ن الفعل حراما‬
‫وبالتالي فإن المصلحة الحاصلة به مرجوحة‪ ،‬فهو مفسدةا عنده‪.‬‬
‫ثم قال‪» :‬وإنما يكون التناقض واقعاا إذا عيديي الراجح مرجوحاا‬
‫من ناظرم واحد‪ ،‬بل هو من ناظ ق ر ي ين ظن كل واحد منهما العلة‬
‫التي بنى عليها الحكم موجودةا في المحل بحسبِّ ما في نفس المر‬
‫عنده وفي ظنه«هل )‪. (2‬‬

‫إن هذه النصوص والراء عند الشاطبي تؤكد على اختلفَّ‬


‫مفهومه للمصلحة والمفسدةا مع المفهوما السائد عند غيره كما‬
‫أنه يؤكد أن المعنى المقصود لديه‪ ،‬هو أن المصلحة هي ما ثبت‬
‫كونه مقصوداا للشارع بغض النظر عن كونه مناسباا أو غير‬
‫مناسبِّ‪.‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/37 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪269‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫قصد الشارع في وأضأع الشريعة‬
‫للفهام‬

‫مإعنى هذا النوع‪:‬‬


‫يناقش الشاطبي تحت هذا النوع من مقاصد الش ا رع خمس‬
‫مسائل متعلقة باللغة العربية يقرر فيها الصول التي يجبِّ ا تباعها‬
‫لجل فهم الشريعة من مصادرها‪ ،‬أي من النصوص الشرعية‪ ،‬فيبين‬
‫كيف تؤخذ الدللت من اللفاظ والتراكيبِّ‪ ،‬وما هي الدللت‬
‫التي تعت ب ر‪ ،‬والدللت التي ل تعتبر‪.‬‬
‫كما يناقش هل إن معاني الحكاما هي من دللت النصوص أو‬
‫ل ‪ .‬ومعاني الحكاما هي المعاني التابعة التي تؤخذ منها المقاصد‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫الشريعة عربية اللسان وأالسلوب‪:‬‬
‫لقد وضعت الشريعة لتحقيق مقاصد الشارع في الخلق‪.‬‬
‫فوجبِّ لجل ذلك فهم الشريعة وفهم مقاصد الشارع‪ .‬لذلك‬
‫خاطبِّ الشارع الناس خطاباا يفهمونه‪ ،‬فخاطبهم باللغة العربية‪،‬‬
‫بألفاظ عربية‪ ،‬وتراكيبِّ عربية‪ ،‬وأساليبِّ عربية‪ .‬وألزمهم بفهم‬
‫الخبار والحكاما بحسبِّ دللت النصوص عند العرب‪ .‬يقول‬
‫الشاطبي‪ » :‬إ ن هذه الشريعة المباركة عربية ل مدخل فيها‬
‫لللسن العجمية«هل)‪ . (1‬وليس مراد الشاطبي بهذا بحث أن القرآن‬
‫ليس فيه ألفاظ أعجمية‪ ،‬فهذا قد تكفل به الصوليون وإنما مراده‬
‫هو أنه »نزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة‬
‫وأساليبِّ معانيها‪ ،‬وأنها فيما فيطرت عليه من لسانها تخاطبِّ بالعاما‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/42 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪270‬‬
‫يراد به ظاهره‪ ،‬وبالعاما يراد به العاما في وجه والخاص في وجه‪،‬‬
‫والعاما يراد به الخاص‪ ،‬وظاهر يراد به غير الظاهر‪ ،‬وكل ذلك‬
‫يعرفَّ من أول الكلما أو وسطه أو آخره‪ ،‬وتتكلم بالكلما ينبئ أوله‬
‫عن آخره أو آخره عن أوله«هل )‪ . (1‬ثم قال‪» :‬ل يمكن فهم لسان‬
‫العرب من جهة فهم لسان العجم لختلفَّ الوضاع والساليبِّ«هل )‪. (2‬‬
‫وأشار إلى أن الذي نبه إلى هذا المر هو الماما الشافعي في‬
‫)‪(3‬‬
‫الرسالة‪ ،‬ولكن كثيراي ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإنه يستحيل ترجمة القرآن‪ ،‬ونقله إلى لسان‬
‫غير عربي‪ ،‬لن اللفاظ ومعاني العبارات إن كان يمكن نقلها إلى‬
‫لغة أخرى‪ ،‬فإن للسلوب أثراا على المعاني‪ ،‬وهو ما ل يمكن‬

‫) ( أنظر‪ :‬المصدر نفسه‪. 44 - 2/43 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪ . 2/44 ،‬وقد ذكر الشافعي هذا المر في أكثر‬ ‫‪2‬‬

‫من موضع من كتابة )الرسالة( ربما كان أبرزها ما جــاء فــي ال صــفحات‬
‫‪ . 53 - 52 - 51‬ومما قاله‪» :‬فإنما خاطبِّ ال بكتابه العرب ب لس ان ها على‬
‫ما تعرفَّ من معانيها‪ ،‬وكان مما تعرفَّ مــن معاني هــا ات ســاع ل ســانها‪ ،‬وأن‬
‫فطرته أن تخاطبِّ بالشيء منـه عامـاا ظـاهراا يـراد بـه العـاما الظـاهر‪،‬‬
‫وييستغنى بأول هذا عن آخره‪ ،‬وعاماا ظــاهراا يــراد بــه ال عــاما و يــدخله‬
‫الخاص‪ ،‬فيستدل على هذا ببعض ما خوطبِّ به فيه‪ .‬وعاماا ظــاهراا يــراد‬
‫به الخاص وظاهراا يعرفَّ في سياقه أنه يراد به غير ظــاهره‪ ،‬ف كــل هــذا‬
‫موجود علمه فــي أول الكلما أو و ســطه أو آ خــره‪ .‬وتبتــدئ ال شــيء مــ ن‬
‫كلمها يبين أول لفظها فيه عن آخره‪ ،‬وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظهــا‬
‫فيه عن أوله‪ .‬وتتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اليضاح بـاللفظ كمـا‬
‫تيعيريقفَّي الشارةا ثم يكون هذا عندها مــن أعلــى كلم هــا لن فــراد أ هــل‬
‫علمها به دون أهل جهالتها )أنظر ‪ :‬الرسالة ‪ ،‬الف قــرات ‪. 175.174.173‬‬
‫ومما قاله الشافعي‪ » :‬ولسان ال عــرب أو ســع الل ســنة مــذهباا‪ ،‬وأكثر هــا‬
‫ألفاظاا‪ ،‬ول نعلمه يحيط بجميع ألفاظه إنسان غير نبي‪ ،‬ولكنه ل يــذهبِّ‬
‫منه شيء على عامتها‪ ،‬حتى ل يكون موجوداا فيها من يعرفــه« الرســالة‪،‬‬
‫ص ‪ ، 42‬فقرةا‪ . 139 :‬وفي )الرسالة( أبو ا ب بالعناوين التالية‪ :‬بيان ما‬
‫نزل من الكتاب عاماا يراد به العاما ويدخله الخصوص‪ ،‬بيان ما أنزل مــن‬
‫الكتاب عاما الظاهر وهو يجمع العاما والخ ا ص‪ ،‬بيان ما نزل من الكتاب عاما‬
‫الظاهر يراد به كله الخاص‪ .‬أنظر‪ .‬ص‪. 62 - 53 :‬‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 2/42 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪271‬‬
‫ترجمته‪ ،‬ولكن يصح تفسير القرآن للعامة‪ ،‬ولمن ل يقوى على‬
‫فهم معانيه‪ ،‬ويصح ترجمة اللفاظ والعبارات‪ ،‬وليس ذلك إل‬
‫نقلا لمعانيها من غير المحافظة على أثر السلوب‪ ،‬وما يعطيه من‬
‫معانم خادمة لمعاني اللفاظ والعبارات)‪. ( 1‬‬
‫أمإية الشريعة‪:‬‬
‫يقول الشاطبي‪» :‬المي منسوب إلى الما‪ ،‬و هــو ال بــاقي علــى‬
‫أصل ولدةا الما‪ ،‬لم يتعلم كتاباا ول غيره فهو على أصــل خلقتــه‬
‫التي ولد علي هــا«هل )‪ . (2‬وي قــول‪ » :‬هــذه ال شــريعة أميــة لن أهل هــا‬
‫كذلك ‪ ،‬أما أن أهلها كذلك فقطعي لقوله تعــالى‪  [ :‬‬
‫)‪(3‬‬
‫وقوله‪ [ :‬‬ ‫‪]     ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫)‪(5‬‬ ‫)‪(4‬‬
‫‪ ،‬وفي الحديث‪» :‬بعثت إلى أمة أمية«هل ‪ ،‬وأيضــاا‬ ‫‪] ‬‬
‫»نحن أمة أمية ل نحسبِّ ول نكتبِّ«هل)‪« (6‬هل)‪ (7‬وغير ذلك من الدلة‪.‬‬
‫ومراد الشاطبي بذلك أن النصوص الشرعية يجبِّ أن تؤخذ‬
‫دللتها على هذا الساس‪ ،‬فهي قد أنزلت على أناس ليفهموها‪،‬‬
‫وخاطبتهم بحسبِّ ما هم عليه من معارفَّ وعلوما‪ ،‬ولو خاطبتهم‬
‫بما ل عهد لهم به أو بمثله لما فهموه ولما كان معجزاا لهم‪.‬‬
‫يقول‪» :‬لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزاا‪،‬‬
‫ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم‪ :‬هذا على غير ما‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 46 - 2/44 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا الجمعة‪. 2 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( سورةا العرافَّ‪. 158 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( أخرجه أحمد ) ‪ ( 22308‬بلفظ‪ » :‬إني أرسلت إلى أمةم أمية«‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( أخرجه النسائي ) ‪ ( 2112‬باللفظ نفسه‪ .‬والبخاري ) ‪ ( 1780‬ومسلم‬ ‫‪6‬‬

‫) ‪ ( 1806‬والنســائي ) ‪ ( 2111‬وأبــو داود ) ‪ ( 1975‬وأحمــد ) ‪( 4775‬‬


‫بتقديم نكتبِّ على نحسبِّ ‪.‬‬
‫أنظر‪ :‬الشاطبي‪،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫الموافقات‪. 46 - 2/44 ،‬‬

‫‪272‬‬
‫)‪(1‬‬
‫وذلك كما لو نزل‬ ‫عهدنا إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلما«هل‬
‫القرآن أعجمياا‪.‬‬
‫وإذا كان عند العرب الذين نزل فيهم القرآن بعض علوما‪،‬‬
‫فهي تعتبر لجل فهم الخطاب الشرعي لنهم إنما خوطبوا بحسبِّ‬
‫ما هم عليه من أوصافَّ أو علوما أو معارفَّ‪ ،‬وعلى ذلك فإذا جد يي ت‬
‫علوما أ و معان م جديدةا ل عهد لهم بها‪ ،‬فل تعد مقصودةا بعينها‬
‫بخطاب الشارع‪ ،‬وإن كانت مما تحتملها اللفاظ ‪ ،‬وكذلك المر‬
‫إذا جد يي ت معان م جديدةا للفاظ كانوا يستعملونها‪ .‬لذلك‬
‫تيفيسيير اللفاظ بالمعاني التي كانت تستعمل يوما نزولها‪ .‬يقول‪:‬‬
‫»ل بد في فهم الشريعة من إتباع معهود الميين وهم العرب‬
‫الذين نزل القرآن بلسانهم‪ ،‬فإن كان للعرب في لسانهم عرفَّي‬
‫مستمر فل يصح العدول عنه في فهم الشريعة‪ ،‬وإن لم يكن ثم‬
‫عرفَّي فل يصح أن يجري في فهمها على ما ل تعرفه‪ ،‬وهذا جارم‬
‫في المعاني واللفاظ والساليبِّ«هل )‪. (2‬‬
‫ومما ينبني على هذا أن الدللت التي تفهم من النصوص هي‬
‫التي يدركها عموما الناس وليس خاصتهم فقط‪ ،‬وينبني عليها‬
‫أيضاا أن المعاني المعتبرةا للنصوص في التكاليف ال ا عتقادية‬
‫والعملية هي ما يفهمه عموما الناس الذين نزل فيهم القرآن‪ ،‬فل‬
‫يصح أن يلزما لفهمها مقدمات فلسفية ومنطقية أو علوما ل تتوفر‬
‫إل لدى الخاصة‪ .‬يقول‪» :‬إنما يصح في مسلك الفهاما والفهم ما‬
‫يكون عاماا لجميع العرب فل يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه‬
‫بحسبِّ اللفاظ والمعاني‪ ،‬فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه‬
‫ليسوا على وزانم واحد ول متقارب إل أنهم يتقاربون في المور‬
‫الجمهورية«هل )‪. (3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/47 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪. 53 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي الموافقات ‪. 2/56 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪273‬‬
‫ويقول‪» :‬أن تكون التكاليف ال ا عتقادية والعملية مما يسع‬
‫المي تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها«هل )‪ . (1‬ويقول‪» :‬لو كانت‬
‫مما ل يدركه إل الخواص لم تكن الشريعة عامة‪ ،‬ولم تكن أمية‪،‬‬
‫وقد ثبت كونها كذلك‪ ،‬فل بد أن تكون المعاني المطلوب علمها‬
‫واعتقادها سهلة المأخذ‪ ،‬وأيضاا فلو لم تكن كذلك لزما بالنسبة‬
‫إلى الجمهور تكليف ما ل يطاق وهو غير واقع كما هو مذكور في‬
‫الصول«هل )‪. ( 2‬‬

‫ويشير الشاطبي إلى أنه ل يقصد بذلك أن يسمح للعواما‬


‫باستنباط الحكاما وتقرير الحقائق الشرعية‪ ،‬وإنما قصده أن‬
‫المعانيي المحتملةي للنصوص‪ ،‬المعتبري منها هو ما كان جارياا‬
‫ذلك المجرى‪ ،‬والذي يقوما بالستنباط وتقرير المعاني والحقائق‬
‫الشرعية هو المجتهد المؤهل لذلك‪ .‬وس يتفصل هذا المر في‬
‫بحث الجتهاد ‪.‬‬

‫ولذلك فإن الشاطبي يصرفَّ النظر عن الخوض فــي أبحــاثا‬


‫صفات ال‪ ،‬بما ل يسع العبد تعقله‪ ،‬وي وجه النظـر فـي النص وص‬
‫التي هي مثار اختلفَّ ونزاع في هذا المر إلــى مــا ينبنــي عليــه‬
‫عمل‪ .‬ويعد التعمق في البحث في هــا خرو جــاا عـن مقتضـى وضـع‬
‫الشريعة‪ .‬يقول‪» :‬ولذلك تجد الشريعة لــم ت عــرفَّ مــن ال مــور‬
‫اللهية إل بما يسع فهمه وأر جــت غ يــر ذ لــك فعرف تــه بمقت ضــى‬
‫السماء والصفات وحضت على النظر فــي المخلو قــات إلــى أ شــباه‬
‫ذلك‪ ،‬و أ حال ت فيما يقع فيه الشتباه على قاعدةام عامة وهو قــوله‬
‫تعالى‪« (3) ]    [ :‬هل )‪ . (4‬ويقول‪» :‬إن الصــحابة‬
‫رضي ال عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض فــي هــذه المـور مـا‬

‫المصدر نفسه‪. 2/58 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا الشورى‪. 11 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي الموافقات‪. 2/58 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪274‬‬
‫يكون أصلا للباحثين والمتكلفين‪ ،‬كما لم يأت ذلك عــن صــاحبِّ‬
‫ال شــريعة عل يــه ال صــلةا وال ســلما و كــذلك ال تــابعون المق تــدى‬
‫بهم«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬فالتعمق في البحث فيها وتطلــبِّ مــا ل ي شــترك‬
‫الجهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع ال شــريعة الميــة‪ ،‬فــإنه‬
‫ربما جمحت النفس إلى طلبِّ ما ل يطلبِّ منها‪ ،‬فوقعت فــي ظل مــةم‬
‫ل انفكاك لها منها«هل)‪. (2‬‬

‫وبناءا على ذلك ‪ -‬أي ضــاا ‪ -‬فــإنه يــرد الز عــم بــأن ال قــرآن‬
‫يحتوي على كل العلوما ومن ذ لــك الطبيع يــ ات والمن طــق وغ يــر‬
‫ذلــك اســتدللا بقــوله تعــالى‪   [ :‬‬
‫)‪(3‬‬
‫‪ ، ]   ‬وب قــوله ت عــالى‪   [ :‬‬
‫‪ ، (4) ]    ‬فإن مثل هذه المعاني ل عهد بها‪ ،‬ولم‬
‫يدييعها أحد ممن تقدما فل تثبت‪ .‬ول يجوز أن يضافَّ إلى القــرآن‬
‫ما ل يقتضيه‪ ،‬كما ل ي صــح أن ين كــر م نــه مــا يقت ضــيه‪ ،‬وي جــبِّ‬
‫القتصار في الستعانة على فهمه على كل مــا ي ضــافَّ عل مــه إلــى‬
‫العرب‪ ،‬ومن ذلك معاني اللفاظ والتراكيبِّ‪ ،‬وأساليبها )‪. (5‬‬

‫المعاني هي المقصود العظم للنصوص‪:‬‬


‫وهذا مما ل شك فيه ول خلفَّ‪ .‬فإنما كــان الكلما و كــانت‬
‫النصوص لقصد معين هو معانيها‪ .‬ولذلك كانت العناية بمعــاني‬
‫اللفاظ ودللتها‪ ،‬وبدللت التراكيبِّ‪ ،‬وبمعاني الحروفَّ‪ .‬ولذلك‬
‫كانت عناية الفقهاء والصوليين بعلــوما الل غــة ودللت هــا‪ .‬ي قــول‬
‫الشاطبي‪» :‬أن يكون العتناء بالمعاني المبثوثة في الخطــاب هــو‬
‫المقصود ا لعظم بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعــاني‬

‫الشاطبي الموافقات ‪. 2/59 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا النحل‪. 89 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا النعاما‪. 38 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي الموافقات‪. 2/22 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪275‬‬
‫وإنما أصلحت اللفاظ من أجلها و هــذا ال صــل معلــوما عنــد أ هــل‬
‫العربية‪ ،‬فاللفظ إن م ا هــو و ســيلة إلــى تح صــيل المعنــى ال مــراد‪،‬‬
‫والمعنى هو المقصود‪ ،‬ول أيضاا كل المعاني فإن المعنى الفرادي‬
‫قد ل ييعبأ به‪ ،‬إذا كــان المعنــى التركيــبي مفهو مــاا دونــه«هل)‪. (1‬‬
‫والمراد بالمعنى الفرادي كألفاظ يد وعين ويداه وأعيننا ومعكم‬
‫وغيرها في اليات التي أثيرت فيها مباحث الصفات‪ ،‬وكل فــظ أبيــ ا‬
‫في قوله تعالى‪ ، (2) ]   [ :‬ي قــول‪ » :‬مــا فــي جــامع‬
‫السماعيلي المخرج على صحيح البخاري عن أنــس بــن مالــك أن‬
‫عمر بن الخطاب رضي ال عنه قــرأ [ ‪ ] ‬ق ال مــا‬
‫الب ي ثم قال ما كيلفنا هذا أو قال ما أمرنا بهذا‪ ،‬وفيه أيضاا عــن‬
‫أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قــوله [ ‪ ‬‬
‫] ما الب فقال عمر نيهينا عن التع مــق والتكلــف‪ ،‬و مــن الم شــهور‬
‫تأديبه لضيبيع حين كان يكثر السؤال عن المر ســلت والعا صــفات‬
‫ونحوهما‪ .‬و ظــاهر هــذا كلــه أنــه إن مــا ن هــى عنــه لن المعنــى‬
‫التركيبي معلوما على الجملة‪ ،‬ول ييبني على فعل هــذه الش ـ ي ـــ اء‬
‫حكم تكليفي‪ ...‬فلو كان فهم اللفظ الفرادي يتو قــف عليــه ف هــم‬
‫التركيبي لم يكن تكلفاا بل هو مضطر إليه كما روي عــن عمــر‬
‫نفسه في قوله تعالى ‪ (3)]     [ :‬فإنه سئل‬
‫عنه على المنــبر ف قــال لــه ر جــل مــن هــذيل‪ :‬ا لت خــو يي فَّ عنــدنا‬
‫الت ي ن ي ق يي ص ثم أنشده )البسيط( ‪:‬‬
‫كما تيخيوييفَّي عودي‬ ‫تيخيوييفَّي الر يي ح ن لي م ق نها تام ق كاا ق ي رقداا‬
‫)‪(4‬‬
‫الن يي بع ي ةق الس يي فيني‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/57‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا عبس‪. 31 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا النحل‪. 47 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( قال الفيروزآبادي‪ » :‬تخويفَّ الشيء‪ :‬تنقيصه«‪ .‬القاموس المحيط ص‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪. 1046‬‬
‫التامك‪ :‬السناما ما كان‪ ،‬والناقة العظيمة السناما« ص‪. 1207 :‬‬
‫» القيريد‪ :‬ما تمعييط مــن الــوبر وال صــوفَّ‪ ،‬أو ن فــايته‪ ...‬وقيــرقدي ال شــعر‬
‫كفيرقحي‪ :‬تجعيد«‪ .‬ص ‪. 396‬‬

‫‪276‬‬
‫فقال عمر‪ :‬أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن‬
‫فيه تفسير كتابكم‪ ...‬فإن كان المر هكذا فاللزما العتناء بفهم‬
‫معنى الخطاب«هل)‪. (1‬‬
‫هذا إذا كانت المعاني هي معاني اللفاظ والنصوص‪ ،‬أما إذا‬
‫كان المراد بالمعاني معاني الحكاما‪ ،‬أي الحكم أو المصالح‬
‫المظنونة لها‪ ،‬والتي إذا ثبتت عن طريق الستقراء تصبح مصالح‬
‫ومقاصد شرعية قطعية‪ ،‬وإذا لم تثبت كذلك تعامل بحسبِّ‬
‫خدمتها أو هدمها لمقاصد ثابتة‪ ،‬فتعتبر أو تيرد بناءا على ذلك‪،‬‬
‫فبهذا المعنى للفظ المعاني‪ ،‬يناقش الشاطبي إن كان هذا من‬
‫دللت اللغة أو مما وضع لجله الكلما أو ل‪ ،‬ويخلص إلى أن ه ليس‬
‫من دللت اللغة ‪ ،‬وسيتبين هذا فيما يلي‪.‬‬
‫المعاني الصلية وأالمعاني التابعة‪:‬‬
‫يقول الشاطبي‪» :‬ل ق ل يي غة العربية من حيث هي ألفاظي دالة‬
‫على معانم نظران‪ :‬أحدهما من جهة كونها ألفاظاا وعباراتم‬
‫مطلقة دالة على معانم مطلقة وهي الدللة الصلية‪ ،‬والثاني‪ :‬من‬
‫جهة كونها ألفاظاا وعباراتم مقيدةا دالةا على معانم خادمة وهي‬
‫الدللة التابعة«هل)‪ . (2‬ويقول‪» :‬أما جهة المعنى الصلي فل إشكال‬
‫في صحة اعتبارها في الدللة على الحكاما بإطلق ‪ ،‬ول يسع فيه‬
‫خلفَّ على حال وذلك مثل صيغ الوامر والنواهي والعمومات‬
‫» سفنه يسفنه‪ :‬قشيره‪ ...‬والسفين محركة‪ :‬جلد خشن وح جــر ين حــت بـه‬
‫وييلييين‪ ،‬أو كل ما ينحت به الشيء« ‪ .‬ص‪ » . 1556 :‬العود‪ :‬الخشبِّ«‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.386‬‬
‫» النبع‪ :‬شجر للقسيي والسهاما« ص‪. 988 :‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ . 58 - 2/57 .‬وقال القرطبي في تفسير الية‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫» قال ابن العرابي‪ :‬أي على تنقص من الموال والنفــس والثمــرات حــتى‬
‫أهلكهم كليهم«‪ .‬وقال‪ » :‬تيمقكي السناما يتمك تمكاا‪ ،‬أي طال وارتفع فهو‬
‫تامك‪ .‬والسفن والمسفن ما ينجري به الخ شــبِّ« ال جــامع لح كــاما ال قــرآن‬
‫‪ ، 10/110‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/44 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪277‬‬
‫والخصوصات‪ ...‬أما جهة المعنى التبعي فهل يصح اعتبارها في‬
‫الدللة على الحكاما من حيث يفهم منها معانم زائدةا على المعنى‬
‫الصلي أما ل؟«هل)‪. (1‬‬
‫ولتوضيح مراد الشاطبي بالمعنى التبعي أورد المثال الذي‬
‫أورده‪ .‬قال‪» :‬فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد كالقياما ثم‬
‫أراد كل صاحبِّ لسان الخبار عن زيد بالقياما تأتى له ما أراد من‬
‫غير كلفة«هل)‪ . (2‬والمعنى المفهوما من الخبر هنا هو المعنى‬
‫الصلي‪ .‬ثم قال‪» :‬وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان‬
‫العرب في تلك الحكاية وذلك الخبار فإن كل خبر يقتضي في‬
‫هذه الجـهـة أموراا خادمةا لذلك الخبار«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬وذلك‬
‫أنك تقول في ابتداء الخبار قاما زيد إن لم تكن ثم عناية‬
‫بالمخبر عنه بل بالخبر‪ ،‬فإن كانت العنـاية بالمخبر عنه قلت‬
‫زيد قاما‪ .‬وفي جواب السؤال وما هو منزل تلك المنزلة إن زيداا‬
‫قاما‪ ،‬وفي جواب المنكر لقيامه وال إن زيداا قاما«هل)‪ . (4‬ثم قال‪:‬‬
‫»وجميع ذلك دائر حول الخبار بالقياما عن زيد فمثل هذه‬
‫التصرفات التي يختلف معنى الكلما الواحد بحسبها ليست هي‬
‫المقصود الصلي‪ .‬ولكن من مكملته ومتمماته«هل )‪ . (5‬وبناء على هذا‬
‫فلو اعتبر هذا الختلفَّ في الخبار من المعاني الصلية‪ ،‬فإنه ل‬
‫يمكن ترجمة أي كلما من الكلما العربي بكلما العجم فضلا عن‬
‫أن يترجم القرآن)‪. (6‬‬
‫ويمكن بناءا على توضيحات الشاطبي تعريف المعنــى التب عــي‬
‫بأنه معنى خادما للمعنى ال صــلي ولك نــه ل يــس مــن دللت الكلما‪.‬‬
‫المصدر نفسه ‪. 2/63 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/44 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/44 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 54 - 2/44 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/54 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪278‬‬
‫ويتبين المعنى بشكل أو ضــح ع نــدما يــرد ال شــاطبي علــى ا لــذين‬
‫يصححون القول بأن المعنى التبعي من دللت الكلما‪ .‬يورد قولهم‬
‫فيقول‪» :‬استدلوا على أن أكثر مدةا الحيض خم ســة ع شــر يو مــاا‬
‫بقــوله عليــه الســلما »تمكــث إحــداكن شــطر دهرهــا ل‬
‫تصلي«)‪ ، (1‬والمقصود الخبار بنقصان الــدين ل الخبــار بأق صــى‬
‫المدةا ولكن المبالغة اقت ضــت ذ كــر ذلــك ولــو ذ كــرت الزيــادةا‬
‫لتعرض لها‪ .‬واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة ل‬
‫تغيره بقوله عليه السلما‪» :‬إذا اســتيقظ أحــدكم مإــن نــومإه‬
‫فل يغمس يده في الناء حتى يغســلها«)‪« (2‬هل)‪ . (3‬ثم قــال‪:‬‬
‫» و كاستدللهم على تقدير أقل مدةا الحمل ستة أشهر أخــذاا مــن‬
‫)‪( 4‬‬
‫قوله تعالى [ ‪ ، ]    ‬مع قوله‪[ :‬‬
‫‪« ( 5) ]   ‬هل)‪ . ( 6‬ثم قال‪» :‬وقالوا في قوله تعالى‪:‬‬
‫)‪(7‬‬
‫[ ‪ ، ]  ‬إلى قوله تعالى‪   [ :‬‬
‫‪ (8)، ]     ‬الية‪ .‬أنه يدل على‬
‫جواز الصباح جنباا وصحة الصياما لن إباحة المباشرةا إلــى طلــوع‬
‫الفجر تقتضي ذلك وإن لم يكن مقصود البيان لنه لزما من الق صــد‬

‫) ( البيهقي ) ‪ . 5/400 ،( 9271‬ونصه‪» :‬تمكث إحداكن مإا شاء الله‬ ‫‪1‬‬

‫أن تمكث‪ «..‬وسنن الترمذي ) ‪ 5/10 ،( 2538‬ونصه »تمكث إحداكن‬


‫الثلثا وأالربع‪ «..‬وقال‪ :‬صحيح غريبِّ حسن من هذا الوجه‪ .‬وفي مسند‬
‫أحمد ) ‪ ، 2/373 ،( 8849‬بنحو نص البيهقي‪.‬‬
‫أخرجه مسلم ) ‪ ،( 416‬وزاد ثلثاا فإنه ل يــدري أ يــن بــاتت يــده‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫والترمذي ) ‪ ( 24‬وقال‪ :‬حسن صــحيح‪ .‬والنســائي ) ‪ ( 1‬وأبــو داود ) ‪( 95‬‬


‫وأحمد ) ‪ ( 9491‬وابن ماجة ) ‪.( 388‬‬
‫) ( الشاطبي الموافقات‪. 2/46 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( سورةا الحقافَّ‪. 15 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( سورةا لقمان‪. 14 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الشاطبي الموافقات‪. 2/64 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 187 ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 187 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪279‬‬
‫إلى بيان إباحة المباشرةا والكل والشرب «هل)‪. (1‬‬
‫فيقول الشاطبي في رده على هذا القول عند إيراده لدلة‬
‫المانعين لن يكون المعنى التبعي من دللة اللفظ ‪» :‬فأما مدةا‬
‫الحيض فل يسلم أن الحديث دل عليها وفيه النزاع‪ .‬ولذلك يقول‬
‫الحنفية إن أكثرها عشرةا أياما‪ ،‬وإن سلم فليس ذلك من جهة‬
‫دللة اللفظ بالوضع وفيه الكلما‪ ،‬ومسألة الشافعي في نجاسة‬
‫الماء من باب القياس أو غيره‪ .‬وأقل مدةا الحمل مأخوذةا من‬
‫الجهة الولى ل من الجهة الثانية‪ .‬وكذلك مسألة الصباح‬
‫جنباا«هل)‪. (2‬‬
‫وبناءا على ذلك فإن ما ج اء فـي نص وص شـرعية كقـوله‬
‫تعالى‪      [ :‬‬
‫)‪(3‬‬
‫الي ة‪ ،‬وكقــوله تعــالى‪   [ :‬‬ ‫]‬
‫‪      ‬‬
‫)‪(4‬‬
‫الية‪ .‬وكقوله تعالى‪   [ :‬‬ ‫]‬
‫)‪(5‬‬
‫‪ ‬‬ ‫الي ة‪ ،‬وك قــوله ت عــالى‪[ :‬‬ ‫‪] ‬‬
‫)‪(6‬‬
‫الية‪ ،‬فإن‬ ‫‪]      ‬‬
‫تحريم المذكور من الميتة والدما والخنزير والخمر‪ ...‬وتحر يــم‬
‫السرقة والزنا هي من المعاني ال صــلية و مــن ا لــدللت ال صــلية‬
‫للكلما‪ .‬أما ما قد تعلل به هذه الحكاما أو يتخذ حكمة لها من غير‬
‫وجود ل فــظ يــدل علــى ذلــك أو ن صــوص ي ســتنبط من هــا ذلــك‬
‫استنباطاا‪ ،‬كأن يقال إن العلة أو الحكمة هي الضرر ا لــذي ت ســببه‬
‫الميتة أو الدما أو الخنزير‪ ،‬أو السكار الذي ي ســببه الخ مــر‪ ،‬أو أن‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/65 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/76 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا المائدةا‪. 3 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا المائدةا‪. 90 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا المائدةا‪. 38 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫سورةا النور‪. 2 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪280‬‬
‫حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ النسل هــو معنــى‬
‫هذه الحكاما أو هو مقصود ال شــارع ب هــا‪ ،‬فــإنه ‪ ،‬ل يــس مــن دللت‬
‫النصوص‪ ،‬إذ لو كان منها لكان من المعاني ال صــلية‪ ،‬بــل كون هــا‬
‫مقصودةا للشارع هو ظن ل يعضده دليل شرعي‪ ،‬وهي زائــدةا علــى‬
‫المعاني الصلية‪ .‬فهل يمكن أن تؤخذ منها أو أن تبنى عليها أحكاما‬
‫شرعية؟‬
‫ل حكم للدللة التابعة‪:‬‬
‫يورد الش ـ اطبي نقاش ـ اا لهذه المس ـ ألة‪ ،‬فيورد أدلة‬
‫المجيبي ـ ن باليجاب‪ ،‬ويورد أدل ـ ة المانعين الذين يخلصون إلى‬
‫قول‪» :‬فالحاصل أن السـتدلل بالجهة الثاني ـ ة على الحكاما ل‬
‫يثب ـ ت فل يصح إعماله البتة«هل )‪. (1‬‬
‫ثم يقول‪» :‬قد تبي ـ ن تعارض الدلة في المس ـ ألة وظهر أن‬
‫القوى من الجهتي ـ ن جهة المانعين‪ ،‬فاقتضى الحال أن الجه ـ ة‬
‫الثاني ـ ة وهي الدالة على المعنى التبعي ل دللة لها على حكم‬
‫شرعي زائد البتة«هل)‪. (2‬‬
‫وخلصة أدلة المانع ـ ين هي أن هذه المعاني التبعية إما أن‬
‫تكون دل عليها النص وإما أن ل تكون كذلك‪ ،‬فإن كانت كذلك‬
‫فهي من المعاني الصلية وتكون مع ت ب ي ر ةا ويستدل بها على الحكاما‬
‫لنها من دللت اللغة‪ .‬وإن لم تكن كذلك فالقائل بها مطالبِّ‬
‫بالدليل الشرعي‪ ،‬فإن لم يكن ثم نص شرعي يدل عليها بأي نوع‬
‫من أنواع دللت اللغة‪ ،‬فهي ظنون وتحكمات ل يصح أن تنسبِّ إلى‬
‫الشرع‪ .‬والواقع أن هذا الخلفَّ الذي يورده الشاطبي ويبين‬
‫موقفه فيه‪ ،‬هو الخلفَّ المذكور في الفصل الثاني بين القائلين‬
‫بالتعليل بالحكمة المظ ن ونة‪ ،‬وبناء الحكاما عليها بحجة أنها ظنون‪،‬‬

‫) ( الشاطبي الموافقات‪. 2/68 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪281‬‬
‫والظن في الشرعيات مقبول‪ ،‬وبين الرادين لعتبار هذه المعاني‬
‫والحكم بناءا على أنها ل دليل عليها فل اعتبار لها‪ ،‬وحيث‬
‫وصفوها بأنها من خيالت القلبِّ أو هوسات العقل‪.‬‬
‫ومن هنا كان دخول منهج الشاطبي في هذه المسألة‪ ،‬بأن‬
‫هذه المعاني ل اعتبار لها في التشريع إذ هي حكم مظنونة ليس‬
‫ثمة ما يمنع أن تكون الحكمة المقصودةا غيرها‪ .‬وليس ثمة ما‬
‫يمنع أن تكون نقيضاا للحكمة المقصودةا للشارع‪ ،‬ولكن النسان‬
‫قد يحسن القبيح أو يقبح الحسن‪.‬‬
‫ومن هنا دخل اشتراط الشاطبي للستقراء المفيد للقطع‬
‫لعتبار هذه المعاني مقاصد شرعية‪ ،‬إذ بهذا يثبت عنده كون هذا‬
‫المعنى ملئما لتصرفات الشرع)‪. (1‬‬
‫ولكن يبقى لقارئ الشاطبي أن يتساءل هل أن ما يقرره الشاطبي‬
‫من أن مثل هذا الستقراء يفيد في اعتبار هذه المعاني على سبيل‬
‫القطع هل هو صحيح؟‬
‫فإذا كانت المعاني التبعية في آحاد النصوص ل تعتبر‪ ،‬فمن‬
‫أين سينشاا العتبار إذا كثرت النصوص؟ بتعبير آخر إذا كان‬
‫اعتبار المعنى يرجع إلى تضافر الدلة على المعنى فمن أين سينشأ‬
‫العتبار إذا لم يكن لي من هذه الدلة أي دللة على هذا المعنى؟‬
‫وهذا حسبِّ قوله »فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة‬
‫على المعنى التبعي ل دللة لها على حكم شرعي زائد البتة«هل‪.‬‬
‫ومن أقوال الشاطبي في المبالغة في رد اعتبار المعاني الــتي‬
‫قد يزعم أنها مقصودةا للشارع من غير أن يدل عليها الــدليل إمــا‬
‫بالدللة الصلية وإما بثبوت الستقراء لها قوله‪» :‬فما يؤمننا من‬
‫سؤال ال تعالى لنا يوما القيامة‪ :‬من أين فهمتم عني أنــي قصــدت‬

‫الن‪ ،‬يمكن للقارئ أن يرجع إلى قراءةا المقدمة الثالثة من م قــدمات‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي ‪ ،‬فيزداد وثوقاا بما قدمناه له من م ن هجه‪ ،‬ويزداد إدراكاا لهميــة‬


‫تلك المقدمة وما فيها لمنهجه ‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫التجنيس الفلني بما أنزلت من قولي‪   [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫أو قــولي ‪    [:‬‬ ‫‪]  ‬‬
‫‪ (2)] ‬؟ فإن في دعوى مثل هذا على القرآن وأ نــه مق صــود‬
‫للمتكلم به خطراا‪ ،‬بل هو راجع إ لــى مع نــى قــوله ت عــالى‪  :‬‬
‫‪      ‬‬
‫‪ (3) ]        ‬وإلى‬
‫أنه قول في كتاب ال بالرأي«هل)‪. (4‬‬

‫) ( سورةا الكهف‪. 104 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا الشعراء‪. 168 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا النور ‪. 15 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي الموافقات‪ . 3/248 .‬أي أن من يجد الجناس فــي ال قــرآن‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الكريم كما في الي ت ين أعله‪ ،‬فمن اين له أن يزعم أنه مقصود لــ تعــالى‬
‫فيهما؟ وقد عديي مثل هذا الزعم مذمو م اا إذ هو قــائم علــى شــك أو ظــن‪،‬‬
‫وليس على علم؛ أي قطع‪ .‬وهو من قبيل الفك ‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫الفصل الخامإس‬
‫قصد الشارع في وأضأع‬
‫الشريعة للتكليف‬
‫بمقتضاها‬
‫وأفي دخإول المكلف تحت‬
‫أحكامإها‬
‫وأيحتوي على تمهيد وأثالثاة مإباحث‪:‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬قصد التكليف‬
‫بمقتضى الشريعة‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬قصد الشارع‬
‫في دخإول المكلف‬
‫تحت أحكام الشريعة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬بين الشريعة‬
‫وأمإقاصدها أوأ بين‬
‫التعبد وأاتباع المعاني‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫الفصل الخامإس‬
‫قصد الشارع في وأضأع الشريعة‬
‫للتكليف بمقتضاها‬
‫وأفي دخإول المكلف تحت أحكامإها‬

‫تمهيـد‪:‬‬
‫هذا الفصل هو لبحث النوعين الثالث والرابع من مقاصد‬
‫الشارع ‪ .‬ومما يستوقف هنا تعبير الشاطبي في النوع الثالث‪:‬‬
‫)للتكليف بمقتضاها( خاصة إذا نظرنا إلى عنوان النوع الرابع‪:‬‬
‫)دخول المكلف تحت أحكاما الشريعة(‪ ،‬فما هو الفرق بين النوعين‬
‫؟‬
‫يمكن إدراك الفرق بينهما إذا أطلقنا على النوع الرابع اسم‬
‫قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بها‪ ،‬وهذا يعني قصد‬
‫التعبد والمتثال‪ .‬أما النوع الثالث فهو التكليف بمقتضاها‪ ،‬أي‬
‫مقتضى التعبد والمتثال‪ ،‬وهو الكلفة والمشقة‪ .‬وقد علم من‬
‫الشارع القصد إلى مصلحة العباد‪ ،‬وإلى التيسير‪ ،‬وهذا بخلفَّ‬
‫المشقة واللم‪ ،‬فالشارع يقصد بالشريعة رفع المشقة‪ ،‬فهل ثمة‬
‫تنافَّم هنا؟ وهل يرتفع التكليف بالمشقة‪ ،‬وهل ثمة مقدار لمشقة‬
‫يرتفع بها التكليف‪ ،‬وكيف التوفيق بين أصل وقصد التعبد‬
‫والمتثال وأصل وقصد المصلحة ورفع المشقة‪.‬‬
‫هذا هو موضوع الفصل‪ ،‬وقد جعلته في ثلثة مباحث‪ ،‬الول‬
‫لجل بيان مراد الشاطبي ومنهجه في بيان قصد الشارع في وضع‬
‫الشريعة للتكليف بمقتضاها والثاني والثالث لجل بيان منهجه في‬
‫بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكاما الشريعة‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫المبحث الأوأل‬
‫قصد التكليف بمقتضى الشريعة‬
‫مإعنى هذا النوع‪:‬‬
‫وموضوع هذا النوع هو أن الشارع ل يكلف بما ليس مقدوراا‬
‫للمكلف‪ ،‬ول بما يلزما عنه مشقة معنتة‪ ،‬لن من مقاصد الشارع‬
‫ابتداءا رفع المشقة ورفع الحرج ‪ ،‬إل أن مطلق المشقة ل يمكن‬
‫الخروج عنها فهي ملبسة لكل تكليف‪ ،‬فما هو ضابط المشقة التي‬
‫ل يكلف ال بما تلزما له‪ ،‬والمشقة التي يكلف ال سبحانه وتعالى‬
‫بالفعال التي يلزمها مثلها‪.‬‬
‫وقد ورد عند ال حديث عن مقــدمته الثالثــة قــ و ل ه ‪» :‬بخلفَّ‬
‫الصول فإنها مأخوذةا من استقراء مقتضيات الدلة بــإطلق ل مــن‬
‫آحادها على الخصوص«هل)‪ . (1‬وذلك أن مقتضيات الدلة هي معــاني‬
‫النصوص ومعاني الح كــاما‪ .‬أي هــي الــدللت اللغويــة‪ ،‬وم ســببات‬
‫الحكاما‪ .‬والمعاني الشرعية هي المعاني المستقرأةا سواء للنصوص‬
‫أو للحكاما‪ ،‬وهي الكل يــات أو ال صــول القطع يــة لل شــريعة‪ .‬هــذه‬
‫الكليات يجبِّ إعمالها عند النظر فــي الن صــوص‪ ،‬أي ي جــبِّ تــوجيه‬
‫معاني النصوص بحيث ل يخل المعنى المأخ ـــ وذ منهــا بالصــول‪،‬‬
‫والمعنى الذي يخل بأصل ييرد‪ ،‬و هــو مع نــى إع مــال الكل يــات مــع‬
‫الجزئيات‪ .‬فــإذا جــاء قــوله ت عــالى‪    [ :‬‬
‫‪ ، (2)] ‬فإن النص يحتمل أكثر من معنى‪ ،‬وقــد ثبــت فــي‬
‫الصول عدما التكليف بما ليس في الوسع‪ ،‬فالمعنى ا لــذي يت نــاقض‬
‫مع هذا الصل ييريد‪ ،‬لذلك ينصرفَّ المع نــى عــن التكل يــف ب عــدما‬
‫الموت إلى مقتضياته‪.‬‬
‫والتكليف بما يلزما عنه مشقة ينظر فيه‪ ،‬فقد ثبت قصد‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/16 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا آل عمران‪. 102 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪286‬‬
‫الشارع لرفع المشقة وثبت قصده إلى إيقاع المأمور به‪ ،‬فهذان‬
‫أصلن يظهر منهما التعارض وهما من مقتضيات الشريعة‪ ،‬أي من‬
‫أصولها الكلية‪ ،‬فما الذي تقتضيه الشريعة في هذه الحالة؟‬
‫هذا هو سببِّ اختيار الشاطبي لهذا العنوان‪ .‬أما لفظ‪:‬‬
‫)التكليف( في العنوان فهو يحمل معنى الكلفة والمشقة‪ .‬والمراد‬
‫من ذلك أنه ما من عمل إل وفيه كلفة ‪ ،‬والتزاما المكلف بأوامر‬
‫الشريعة يقتضي مشقةا ول بد‪ ،‬بغض النظر عن مقدارها‪ ،‬فهل‬
‫يقصد الشارع رفع كل مشقة؟ يجيبِّ الشاطبي بالنفي‪ .‬وهذا يفتح‬
‫الباب على موضوع شائك‪ ،‬أو قل يحتاج إلى فقه في الشرع وفي‬
‫سياسة الشرع‪ ،‬وهو تقدير المشقة التي يرتفع بها التكليف‪.‬‬
‫وفي الشريعة قواعد مشهورةا مثل‪ :‬الضرورات تبيح‬
‫المحظورات‪ ،‬المشقة تجلبِّ التيسير‪ ،‬إذا ضاق المر اتسع‪ ،‬الحاجة‬
‫تنزل منزلة الضرورةا‪ ،‬أو غير ذلك مما قد يصح أو ل يصح‪.‬‬
‫ويستعمل بعض المعاصرين مثل هذه القواعد في أعذارهم‬
‫وتبريراتهم أو فتاويهم‪ .‬فهل تؤخذ مثل هذه القواعد على‬
‫إطلقها؟ فيشرع المحظور بأي ضرورةا أو بمجرد الحاجة‪ ،‬وتتخذ‬
‫المشقة دليلا على الترخص؟ كل‪ ،‬ول م يقل به ذ ا أحد‪ .‬فما هي‬
‫الضوابط؟ هذا هو جوهر هذا النوع من مقاصد الشارع‪.‬‬
‫إ ن القواعد والصول التي دأب الشاطبي على تحريها‪ ،‬وسعى‬
‫إلى إثباتها وتقريرها‪ ،‬إنما هي لحل إشكالت من هذا النوع‬
‫بالدرجة الولى‪ ،‬أي وضع الصول والقواعد التي تحكم على‬
‫الجزئيات والمعاني عندما تكون باعثاا على الشك والحيرةا أو‬
‫على الخلفَّ وتشعبِّ النظر‪.‬‬
‫ومن الجدير بالذكر ان الصول التي يقررها الشاطبي في‬
‫هذا النوع من المقاصد مثل عدما التكليف بما ل يطاق‪ ،‬وعدما‬
‫التكليف بالمشقات المعنته أو غير العادية‪ ،‬ورفع الحرج هي أصول‬
‫حاجية‪ ،‬لنها دائرةا على التيسير والتخفيف والرفق بالمكلف‬

‫‪287‬‬
‫وذلك هو تعريف الحاجيات‪.‬‬
‫التكليف وأالوسع‪:‬‬
‫لقد ثبت في الصول أن ال سبحانه وتعالى ل يكلف العبد بما‬
‫هو فوق طاقته‪ ،‬ولذلك فإن الشاطبي يمر بها س ـ ري ـ ع ـ اا‪ ،‬ولك ـــ نه‬
‫يناقش ما ينبني عليها‪ ،‬يقول‪» :‬ثبت في الصول أن شرط التكليف‬
‫أو سببه القدرةا على المكلف به‪ ،‬فما ل قدرةا للمكلف عليه ل يصح‬
‫التكليف بــه شــرعاا وإن جــاز عقلا)‪ ... (1‬ون قــول‪ :‬إذا ظ هــر مــن‬
‫الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما ل يدخل تحت قدرةا‬
‫العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنــه‪،‬‬
‫فقول ال تعالى‪ ، (2)]      [ :‬وقوله‬
‫في الحديث‪» :‬كن عبد اللــه المقتــول وأل تكــن عبــد اللــه‬
‫القاتل «هل)‪ ، (3‬وقوله‪» :‬ل تمت وأأنت ظالم «هل)‪ (4‬وما كان ن حــو‬
‫ذلك ليس المطلوب منه إل ما يدخل تحت ال قــدرةا و هــو ال ســلما‬
‫وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لمر ال‪ ،‬وكذلك ســائر‬
‫ما كان من هذا القبيل«هل)‪. (5‬‬
‫وعلى ذلك فالنسان ل يكلف بما ل يقع تحت كسبه‪ ،‬ومن‬
‫ذلك الوصافَّ التي جيبل عليها‪ ،‬كالجوع والعطش وما شابه‬
‫ذلك‪ ،‬فل يطالبِّ برفعها‪ ،‬ولكن يطلبِّ منه هنا قهر النفس عن‬
‫الجنوح إلى ما ل يحل‪ .‬وما كان من الوصافَّ مشتبهاا أمره‬
‫كالحبِّ والبغض والغضبِّ وغيرها فإنه ينظر فيه‪ ،‬فإما أن يتوجه‬
‫الطلبِّ إلى سوابقها أو إلى لواحقها‪ ،‬يقول‪» :‬فإن ما في فطرةا‬
‫النسان من الوصافَّ يتبعها بل بد أفعال اكتسابية فالطلبِّ وارد‬

‫بخلفَّ المعتزلــة ‪ ،‬وبخلفَّ اللزما للتح ســين والتقبيــح العقلــي‪ ،‬أو‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫لتقرير المصالح والمفاسد بالعقل وهذا على فرض قدرةا العقل على ذلك‪.‬‬
‫) ( سورةا آل عمران‪. 102 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أخرجه أحمد في المسند ) ‪.( 21461‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( لم أجده‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/72 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪288‬‬
‫على تلك الفعال ل على ما نشأت عنه«هل)‪ (1‬وذلك كالمحبة‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫فالطلبِّ ينصرفَّ إلى السباب‪ ،‬كقوله ‪» : ‬تهادوأا تحاببوا «هل‬
‫وكشهوةا الوقاع المحرما‪ ،‬فهو مسببِّ يط ا لبِّ النسان برفع سببه‬
‫وهو النظر المثير له)‪ . (3‬أما الغضبِّ مثلا‪ ،‬فالنسان يطالبِّ‬
‫بلواحقه كعدما النتقاما ‪ .‬يقول‪» :‬وإن لم يكن المثير لها داخلا‬
‫تحت كسبه فالطلبِّ يرد على اللواحق كالغضبِّ المثير لشهوةا‬
‫النتقاما كما يثير النظر شهوةا الوقاع«هل)‪. (4‬‬
‫ويخ ـ لص إلى ال ـ قول‪» :‬وإذا كان ـ ت على هذا الترتي ـ بِّ لم‬
‫يصح التكلي ـ ف بها أنفس ـ ها وإن جاء في الظاه ـ ر ما يظه ـ ر منه‬
‫ذلك فمص ـ روفَّ إلى غير ذلك مما يتقدمها أو يتأخر عنها أو‬
‫يقارنها وال أعلم«هل)‪. (5‬‬
‫وصرفَّ مقتضى الطلبِّ إلى اللواحق أو السوابق أو القرائن‬
‫إعمالا لهذا الصل‪ ،‬يقتضي إعمال أصول أخرى لتعيين ما الذي‬
‫ينصرفَّ إليه الطلبِّ‪ ،‬والمعنى المصروفَّ إليه ل يصح اعتبار ه إل‬
‫بعد ثبوت معناه بالستقراء ‪.‬‬
‫التكليف وأالمشقة‪:‬‬
‫تختلف الحكاما أو القواعد الشرعية المتعلقة بالمشقات‬
‫بحسبِّ اختلفَّ هذه الخيرةا‪ ،‬ويقتضي هذا الختلفَّ بيان معانم‬
‫للمشقة‪ ،‬وبحسبِّ واقعها يرى الشاطبي أربعة معانم لها ‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬أن يكون المراد بها عاماا في غير المقدور عليه وفي‬
‫المقدور عليه إذا كان ل يطاق كالمقعد إذا تكلف القياما‪،‬‬
‫والنسان إذا تكلف الطيران من حيث أنه عناء ل يجدي فهذا حكمه‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 2/74 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫الموطأ ) ‪ ،( 1413‬وهو قطعة من حــديث‪ :‬ت صــافحوا يــذهبِّ ال غــل‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫وتهاديوا تحابوا وتذهبِّ الشحناء‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/74 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/75 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪289‬‬
‫حكم غير المقدور عليه وقد ت بين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يكون المراد بها المشقة المعنتة‪ ،‬أي الخارجة عن‬
‫المعتاد‪ ،‬وهي التي يؤدي تكلفها‪ ،‬أو الدواما عليها إلى ديخيلم في‬
‫العقل أو النفس‪ ،‬أو يلجيء إلى ترك الواجبات أو فعل المحرمات‪.‬‬
‫فهذه المشقة ل يقع الطلبِّ على ما يستلزمها‪ ،‬وهي محل‬
‫الترخص )‪. ( 1‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يكون المراد بها المشقة العادية‪ ،‬أي غير المعنتة‪،‬‬
‫الملزمة للعمال العادية‪ ،‬وما تس ـ تلزمه هذه العم ـ ال م ـ ن تع ـ بِّ‬
‫وكلف ـ ة‪ .‬فمث ـ ل ه ـ ذه المش ــ ق ـ ات ل أث ـ ر لها على التكليف‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن يكون المراد بالمشقة مخالفة الهوى‪ ،‬من حيث أن‬
‫التكليف يخرج المكلف عن السترسال مع هواه‪ ،‬ومثل هذه المشقة‬
‫ل أثر لها على التكليف)‪ . (2‬والشارع ليس قاصداا لرفعها‪.‬‬
‫أصل عدم التكليف بالمشقات المعنتة‪:‬‬
‫يقول الش ـ اطبي‪» :‬فإن الش ـ ارع لــم يقص ـــ د إ لــى التكلي ـــ ف‬
‫بالمشاق العنات فيه«هل )‪ (3‬وأورد أدلة على سبيل الستقراء المفيــد‬
‫للقطع‪ ،‬منها قوله تعالى‪    [ :‬‬
‫)‪(4‬‬
‫وقوله ‪    [ :‬‬ ‫‪]   ‬‬
‫)‪(5‬‬
‫‪ ]       ‬الية وقوله‪[ :‬‬
‫)‪(6‬‬
‫‪ ، ]     ‬و قــوله‪   [ :‬‬
‫)‪(7‬‬
‫‪ ، ]     ‬وقوله‪  [ :‬‬
‫)‪(8‬‬
‫‪ ، ]     ‬وقوله‪   [ :‬‬

‫سيأتي بيان معنى الرخصة المقصودةا هنا ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أنظر‪ :‬الموافقات‪. 2/80 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/81 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا العرافَّ‪. 157 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 286 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 233 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 185 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫سورةا الحج‪. 78 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪290‬‬
‫‪1‬‬
‫‪      [( )، ]   ‬‬
‫‪، (2)]       ‬‬
‫وفي الحديث‪» :‬بعثت بالحنيفية السمحة«)‪ ، (3‬و»مإا خإير بين‬
‫شيئين أل اخإتار أيســرهما مإــا لــم يكــن إثامــا ا«)‪ ، (4‬وأدلةا‬
‫أخرى)‪ . (5‬وقال‪» :‬ولو كان قا صــداا للم شــقة ل مــا كــان مر يــداا‬
‫لليســر ول للتخف يــف ول كــان مر يــداا للحــرج والع ســر وذ لــك‬
‫باطل«هل)‪ ، (6‬وقال‪» :‬فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد العنــات‬
‫والمشقة وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كــان‬
‫الجمع بينهما تناقضاا واختلفاا وهي منزهة عن ذلك«هل)‪. (7‬‬
‫المشقات مإفاسد‪:‬‬
‫وعلى ذلك فإن الشارع قاصد للرفق والتيسير بالمكلف‪،‬‬
‫وقاصد لرفع المشقات‪ ،‬وبحسبِّ منهجه تكون المشقات مفاسد‪،‬‬
‫يجبِّ رفعها ويحرما على المكلف أن يقصدها لذاتها‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫»المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراا إلى عظم‬
‫أجرها وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته«هل)‪. (8‬‬
‫وقال‪» :‬فل يصلح منها )أي من مقاصد المكلف( إل ما وافق قصد‬
‫الشارع فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد‬
‫الشارع من حيث إن الشارع ل يقصد بالتكليف نفس المشقة‪ ،‬وكل‬
‫قصد يخالف قصد الشارع باطل‪ ،‬فالقصد إلى المشقة باطل‪ ،‬فهو‬

‫) ( سورةا النساء‪. 28 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا المائدةا‪. 6 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫أخرجه أحمد ) ‪ ( 23710‬بلفظ‪ :‬إني أرسلت‪ ،‬ب دل بعثـت‪ ،‬وأخـرج‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫»إني لم أبعث باليهودية ول بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة«هل‪،‬‬


‫برقم ) ‪.( 21260‬‬
‫) ( البخاري ) ‪ ،( 3296‬ومسلم ) ‪ ،( 4294‬وأبو داود ) ‪ ،( 4153‬وأحمد )‬ ‫‪4‬‬

‫‪ ( 23702‬وللحديث تكملة‪ :‬فإن كان إثماا كان أبعد الناس عنه‪.‬‬


‫) ( أنظر ‪ :‬الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/80 .‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/91 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/86 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪291‬‬
‫إذاا من قبيل ما ينهى عنه‪ ،‬وما ينهى عنه ل ثواب فيه‪ ،‬بل فيه الثم‬
‫إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم‪ ،‬فطلبِّ الجر بقصد‬
‫الدخول في المشقة قصد مناقض«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬ونهيه عن التشديد‬
‫شهير في الشريعة بحيث صار أصلا فيها قطعياا‪ ،‬فإذا لم يكن من‬
‫قصد الشارع التشديد على النفس‪ ،‬كان قصد الملكف إليه مضاداا‬
‫لما قصد الشارع من التخفيف المعلوما المقطوع به‪ ،‬فإذا خالف‬
‫)‪(2‬‬
‫قصده قصد الشارع بطل ولم يصح وهذا واضح وبال التوفيق«هل ‪،‬‬
‫وقال‪» :‬فقد عيلقمي من الشارع أن المشقة ينهى عنها«هل)‪ . (3‬إل أن‬
‫هذا يثير مسألة‪ ،‬وهي أن المشقات ملزمة لفعال الناس‪ ،‬وما من‬
‫تكليف إل وفيه مشقة‪ ،‬فكيف ينتظم كون الشارع قاصداا لرفع‬
‫المشقة ولللتزاما بالتكاليف معاا؟ الجواب من الشاطبي وبحسبِّ‬
‫منهجه‪ ،‬أن قصد الشارع لرفع المشقات أصل كلي‪ ،‬فل يتخلف‪.‬‬
‫ولما ثبت التكليف بما يلزما عنه مشقة‪ ،‬فالمخرج هو أنه ليس كل‬
‫ما يسمى مشقة هو مشقة في الشرع‪ ،‬أي ليست هذه المشقات هي‬
‫المعنى الذي وقع عليه أصل رفع المشقات‪ ،‬هذا من جهة‪ .‬ومن‬
‫جهة أخرى‪ ،‬فإذا وقع التكليف على ما يلزما منه مشقة مما قصد‬
‫الشارع رفعها‪ ،‬فهنا يتعارض أصلن ؛ أصل المتثال وأصل رفع‬
‫المشقة‪ ،‬وهنا يتم الترجيح بين المصالح والمفاسد‪ ،‬ويكون الح ك م‬
‫لما يغلبِّ في المحل‪ ،‬أي يجبِّ الترجيح بين طلبِّ الفعل لما فيه من‬
‫مصلحة المتثال ‪ ،‬وطلبِّ الترك لما فيه من مفسدةا المشقة‪.‬‬
‫المشقة المعتادة ل تسمى مإشقة‪:‬‬
‫ثبت بالستقراء أن كل تكليف فيه مشقة مهما قلييت‪ ،‬وهذا‬
‫يفيد أصلا كلياا قطعياا بأن الشارع يكلف بما فيه مشقة‪ .‬وهنا‬
‫يتعارض أصلن ؛ أصل رفع المشقات‪ ،‬وأصل العمل بما يلزما عنه‬
‫مشقة‪ .‬وهنا رأى الشاطبي المخرج بأن ليس كل مشقة تعد مشقة‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/89 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/85 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪292‬‬
‫في الشرع‪ .‬ف ما هو الضابط لما يعد مما ل يعد؟ يقول الشاطبي‪:‬‬
‫»فإنه ل ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزما فيه كلفة‬
‫ومشقة ما‪ ،‬ولكن ل تسمى في العادةا المستمرةا مشقة كما ل‬
‫يسمى في العادةا مشقةا طلبِّ ي المعاش بالتحرفَّ وسائر الصنائع‬
‫لنه ممكن معتاد ل يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالبِّ‬
‫المعتاد‪ ،‬بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه‬
‫كسلن ويذمونه بذلك‪ .‬فكذلك المعتاد في التكاليف«هل )‪، (1‬‬
‫ويضيف في بيان الضابط المطلوب‪» :‬وإلى هذا المعنى يرجع‬
‫الفرق بين المشقة التي ل تعد مشقة عادةا والتي تعد مشقة‪ ،‬وهو‬
‫أنه إن كان العمل يؤدي الدواما عليه إلى النقطاع عنه أو عن‬
‫بعضه‪ ،‬أو إلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من‬
‫أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد‪ ،‬وإن لم يكن فيها شيء من‬
‫ذلك في الغالبِّ فل يعد في العادةا مشقة وإن سميت كلفة«هل)‪. (2‬‬
‫ثم قال‪» :‬فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من‬
‫المشقة«هل )‪ . (3‬ثم ذهبِّ أبعد من ذلك‪ ،‬فرفض أن تسمى المشقات‬
‫المعتادةا مشقة‪ ،‬وبذلك يرتفع التعارض بين الصلين‪ ،‬قال‪» :‬ل‬
‫يسمى ما يلزما عن العمال العاديات مشقة عادةا‪ .‬وتحصيله أن‬
‫التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها ل مشقة فيه كما تقدما‪ ،‬فما‬
‫يلزما عن التكليف ل يسمى مشقة«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬إذا لم تكن خارجةا‬
‫عن المعتاد وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها في‬
‫العمال العادية‪ ،‬فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد‬
‫لرفعها أيضاا‪ ،‬والدليل على ذلك أنه لو كان قاصداا لرفعها لم‬
‫يكن بقاء التكليف معها لن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزما‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 83 - 2/82 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/85 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪293‬‬
‫تعباا وتكليفاا على قدره قل أو جل«هل)‪. ( 1‬‬
‫ويلتحق بهذه المشقات مشقة مخالفة الهوى‪ ،‬فل اعتبار لها في‬
‫التكليف لن من مقاصد الشارع إخراج المكلف عن إتباع الهوى إلى‬
‫المتثال ‪ .‬قال‪» :‬مخالفة ما تهوى النفس شاق عليها‪ ،‬وصعبِّ‬
‫خروجها عنه«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة‬
‫إخرا ج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبداا ل‪ .‬فإذا ا مخالفة‬
‫الهوى ليست من المشقات المعتبرةا في التكليف وأن كانت شاقة‬
‫في مجاري العادات‪ ،‬إذ لو كانت معتبرةا حتى يشرع التخفيف‬
‫لجل ذلك لكان ذلك نقضاا لما وضعت الشريعة له‪ ،‬وذلك‬
‫باطل«هل)‪. (3‬‬
‫وي ن درج تحت اتباع الهوى كثير من المواقــف أو الفتــاوى أو‬
‫العمال الــتي يتــذرع أ صــحابها بجلــبِّ الم صــالح ودرء المفا ســد‪،‬‬
‫وبعنوان مقاصد الشريعة‪ ،‬وتع ي ين المصالح والمفاســد بنــاء علــى‬
‫الهوى‪ ،‬أو المنافع أو الضرار التي قد تلحق بالشخص‪ ،‬فيباح لجل‬
‫ذلك فعل المحرمات أو ترك الواج بــات‪ ،‬بح جــة المحاف ظــة علــى‬
‫المنصبِّ أو الوظيفة أو المال‪ ،‬أو طلبِّ العلم‪ ،‬ويسمون التضــحيات‬
‫أو المشقات أو الذى الذي قد يتعرضون لـه مفاسـد‪ .‬مـع أن هـذا‬
‫المنهج في التفكير ل أصل له في الــدين‪ ،‬حيــث يج عــل مــا طلبــه‬
‫الشارع مفسدةاا‪ ،‬وما نهى ع نــه م صــلحة‪ .‬وتع ظــم الفر يــة ع نــدما‬
‫يتمسك أصحاب مثل هذه المزاعم بالشاطبي ومنهجه‪ ،‬وهــو إنمــا‬
‫قاما ي نعي على هذا المنهـج ويسـمى هـذه العتبـارات هـوى‪ ،‬وقـد‬
‫استشهد في معرض حديثه عن مشقة مخالفة الهوى بقوله تعــالى‪:‬‬
‫[ ‪        ‬‬
‫)‪(4‬‬
‫[ ‪      ‬‬ ‫وبقوله تعالى‪:‬‬ ‫]‬
‫المصدر نفسه‪. 2/105 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/103 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا الجاثية‪. 23 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪294‬‬
‫)‪(1‬‬
‫] ‪ ،‬وبقوله‪        [ :‬‬
‫‪ ، (2) ]     ‬ثم قال‪» :‬كما‬
‫أن المشقة تكون د ن يوية كذلك تكون أخرو يــة‪ ،‬فــإن الع مــال إذا‬
‫كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجبِّ أو فعل محرما فهو أشد‬
‫مشقةا باعتبار الشرع من المشقة الدن ي وية التي هــي غيــر مخلــة‬
‫بدين ‪ .‬واعتبار الدين مقدماي على اعتبار النفس وغيرها فــي نظــر‬
‫الشرع«هل )‪. (3‬‬
‫المشقات المعتبرة أوأ المقصود رفعها‪:‬‬
‫تبين معنى المشقات التي قصد الشارع إلى رفعها‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫يحرما على العبد أن يقصدها‪ .‬وهي المشقة الخارجة عن المعتاد‪،‬‬
‫وهي المشقات التي تؤدي إلى النقطاع عن العمال المطلوبة أو‬
‫عن بعضها أو التي تؤدي إلى خلل في النسان‪ .‬ومثل ذلك الحرج‪.‬‬
‫فهو مقصود الرفع شرعاا‪ .‬ومن الحرج أن يحمل المكلف نفسه‬
‫أعمالا تحمله بنوعها أو بكثرتها على التقصير بواجباته‪ .‬يقول‪:‬‬
‫» إ علم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬الخوفَّ‬
‫من النقطاع من الطريق وبغض العبادةا وكراهة التكليف وينتظم‬
‫تحت هذا المعنى الخوفَّ من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله‬
‫أو ماله أو حاله‪ .‬والثاني‪ :‬خوفَّ التقصير عند مزاحمة الوظائف‬
‫المتعلقة بالعبد المختلفة النواع‪ ،‬مثل قيامه على أهله وولده إلى‬
‫تكاليف أخر تأتي في الطريق‪ ،‬فربما كان التوغل في بعض‬
‫العمال شاغلا عنها وقاطعاا بالمكلف دونها‪ ،‬وربما أراد الحمل‬
‫للطرفين على المبالغة في الستقصاء فانقطع عنهما«هل)‪ . (4‬وهنا‬
‫يقع التعارض بين أصل المتثال وأصل رفع المشقة‪ ،‬وهي مشقة‬
‫حقيقية مما يقع عليها شرعاا اسم المشقة‪ ،‬أي مما قصد الشارع‬
‫سورةا النجم‪. 23 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا محمد‪. 14 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/104 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/91 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪295‬‬
‫رفعها‪.‬‬
‫لمثل هذه المشقات يشرع التخفيف في التكليف أو الترخص‬
‫فتكون هذه المشقات أسباباا للرخص‪ .‬ولكن تنبغي ملحظة أن من‬
‫المشقات العادية ما قد يكون معنتاا لبعض المكلفين‪ ،‬ومن المشقات‬
‫المعنتة لعموما الناس ما هو عادي لبعضهم‪ .‬وكذلك فإن في‬
‫الشريعة مواضع للرخصة وليس ثمة مشقة مؤثرةا‪ ،‬أو معنتة‪ .‬فما‬
‫هو معنى الرخصة‪ ،‬وكيف يكون التخفيف في التكليف أو رفعه إذا‬
‫وجد سببه؟‬
‫مإعنى الرخإصة‪:‬‬
‫تطلق الرخصة بأكثر من معنى‪ ،‬إل أن المعنى المقصود‬
‫والغالبِّ هو ما يقابل العزيمة في أحكاما الوضع‪ ،‬وهو الذي يفريقع‬
‫عليه الصوليون‪ ،‬وهو الذي استعمله الشاطبي في بحثه للرخصة‬
‫والعزيمة من أنواع أحكاما الوضع‪ ،‬وبهذا المعنى فهي‪» :‬ما شرع‬
‫لعذر شاق استثناءا من اصلم كلي يقتضي المنع مع القتصار على‬
‫مواضع الحاجة فيه«هل )‪. (1‬‬
‫وقد تطلق بمعان أخرى يذكرها الشاطبي)‪ ، (2‬نذكر منها هنا‬
‫ما يعنينا‪ .‬يقول‪» :‬وقد يط ـ لق لف ـ ظ الرخ ـ ص ـ ة على مــا ويض ـــ ع‬
‫ع ـ ن هذه المة من التكاليف الغل ـ ي ـ ظ ـ ة والع ـ م ـ ال ال شــاقة ا لــتي‬
‫دل عليها قوله تعالى‪      [ :‬‬
‫‪« (3) ]     ‬هل )‪ . (4‬وذكر من الدلة‬
‫بعض ما دل على أصل ر فــع الم ـ ش ـ ق ـــ ات‪ .‬وب هــذا المع نــى ي كــون‬
‫الترخص راجعاا إلى أصل قطعي كلي من الصول الحاجية‪ ،‬وليس‬
‫بالمعنى الذي درج عليه الصوليون‪.‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/290 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا البقرةا ‪. 286 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموفقات‪. 1/212 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪296‬‬
‫والتعريف الصطلحي الول يعني الرخص التي نصيي عليها‬
‫الشرع‪ ،‬فيباح استعمالها بمجرد وجود سببها ولو فقدت المشقة‪،‬‬
‫كرخصة القصر أو الجمع عند السفر‪ ،‬وهذه الرخص جزئية‬
‫ولذلك قال فيها»استثناءا من أصل كلي«هل‪ ،‬ولذلك ل يقاس‬
‫عليها ويقتصر فيها على مواضعها المنصوصة‪.‬‬
‫أما التعري ـ ف الثاني فهو مقص ـ ود الش ـ اطبي بالترخص أو‬
‫التخفي ـ ف عند وج ـ ود الحرج أو المش ـ قات المعنت ـ ة‪.‬‬
‫وفي الحالتين المشقة المعنتة هي العلة ال م وضوعة شرعاا‬
‫للرخصة‪ ،‬إل أنه لما كانت المشقات إضافية‪ ،‬أي تختلف باختلفَّ‬
‫المكلفين‪ ،‬ول تنضبط‪ ،‬فقد جعل الشارع للعلل المنصوصة أسباباا‬
‫تعرفَّ بها‪ .‬فإذا وجد السببِّ يجوز العمل بالرخصة ولو لم توجد‬
‫المشقة المعنتة وذلك لن الرخصة منصوصة‪ ،‬وإذا وجد السببِّ‬
‫ووجدت معه المشقة المعنتة‪ ،‬كأن يكون في السفر مشقة معنتة‪،‬‬
‫فإنه يجبِّ الخروج عن المشقة وجوباا‪ ،‬وذلك كالمضطر إذا‬
‫شارفَّ على الهلك يجبِّ عليه أكل الميتة مثلا‪ ،‬وإنما يسمى المر‬
‫رخصة لنه وقع عليه حد الرخصة‪.‬‬
‫يقول‪» :‬والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة‪ ،‬فإذا‬
‫لم توجد كان الحكم غير لزما‪ ،‬إل إذا قامت المظنة‪ ،‬وهي السببِّ‪،‬‬
‫مقاما الحكمة‪ ،‬فحينئذم يكون السببِّ منتهضاا على الجواز ل على‬
‫اللزوما«هل )‪ . (1‬ويقول‪» :‬فليس للمشقة المعتبرةا في التخفيفات‬
‫ضابط مخصوص ول حد محدود يطرد في جميع الناس‪ ،‬ولذلك‬
‫أقاما الشرع في جملة منها السببِّ مقاما العلة لنه أقرب مظان‬
‫وجود المشقة وترك كل مك ـ لف على ما يج ـ د‪ ...‬وترك ك ـ ث ـ يراا‬
‫منها موكولا إلى الجتهاد «هل)‪ (2‬ولنتنبه إلى قوله‪» :‬في جملة‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/233 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 219 - 2/218 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪297‬‬
‫منها«هل‪ ،‬فالمقصود هو الرخص المنصوصة‪ ،‬وهذا يعني أن منها ما‬
‫لم يقم الشرع له سبباا يقوما مقاما العلة‪ ،‬وعلى ذلك نعمل العلة‬
‫نفسها للتخفيف‪ ،‬وهي المشقة الحقيقية‪ ،‬وهنا يدخل الترخص‬
‫بالمعنى الثاني‪ ،‬وهو عند وجود المشقة الحقيقية‪ ،‬أي المعنتة‪،‬‬
‫وقوله‪» :‬وترك كل مكلف على ما يجد‪«...‬هل فذلك أن من العمال‬
‫ما يشق على البعض ويسهل على غيرهم‪ ،‬لذلك فهذه الرخص‬
‫إضافية كما أن المشقات إضافية‪ .‬يقول‪» :‬إن الرخصة إضافية ل‬
‫أصلية بمعنى أن كل أحد في الخذ بها فقيه نفسه ما لم ييحيديي‬
‫فيها حد شرعي يوقف عنده«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬فرب رجل ضرى على‬
‫قطع المهامه حتى صار له ذلك عادةاا ل يحرج بها ول يتألم‬
‫بسببها‪ ...‬وربيي رجل بخلفَّ ذلك«هل)‪ . ( 2‬وقال‪» :‬وكثير من الناس‬
‫يقوى في مرضه على ما ل يقوى عليه الخر فتكون الرخصة‬
‫مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الخر‪ ،‬وهذا ل مرية‬
‫فيه«هل )‪. ( 3‬‬
‫أسباب الرخإص‪:‬‬
‫تقديما أن المشقة الحقيقية هي علة الرخصة‪ .‬إل أن المشقة‬
‫لما كانت إضافية ‪ ،‬والناس متفاوتون في التحمل‪ ،‬فقد نص الشرع‬
‫على جملةم من الرخص توجد بوجود أسبابها‪ ،‬كرخص القصر‬
‫والجمع والفطار في الس ـ فر‪ ،‬وهذه الرخص حكمها الباحة مطلقاا‬
‫عند الش ـ اطبي‪ .‬إل أنه إن وجدت مش ـ قة معنتة‪ ،‬يصبح الخذ‬
‫بالرخصة واجباا‪ ،‬وإن ظل اسمها رخصة‪ ،‬قال‪» :‬ول كلما أن‬
‫الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم ولجل ه قال العلماء بوجوب‬
‫)‪(4‬‬
‫أكل الميتة خوفَّ التلف وإن لم يفعل ذلك فمات دخل النار«هل‬
‫والمشقة قسمان‪ :‬معتادةا وغير معتادةا‪ ،‬فالولى غير مقصودةا‬
‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 219 - 2/218 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 2/223 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪298‬‬
‫الرفع شرعاا‪ ،‬والثانية يجبِّ الترخص عندها‪ .‬قال‪» :‬حيث تكون‬
‫المشق ـ ة الواقع ـ ة بالمكلف في التكلي ـ ف خارجة عن معتاد‬
‫المشقات في العمال العادية حتى يحصل بها فساد ديني أو دن ي وي‬
‫فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة«هل)‪ . (1‬ويكون الفعل الذي‬
‫يس ـ ببِّ هذه المشقة من ه ياا عنه‪ ،‬ف إ ما أن يرتفع من أصله وإما أن‬
‫يحصل فيه التخفيف‪.‬‬
‫واختلفَّ المشقات باختلفَّ الناس يجعل الترخص مختلفاا‬
‫بحسبِّ ما يتحملون‪ ،‬وذلك أن الرخصة معللة بالمشقة المعنتة أو‬
‫غير المعتادةا‪ :‬والحكم يدور مع العلة وجوداا وعدماا‪ .‬يقول‪» :‬إن‬
‫النهي لعلة معقولة المعنى مقصودةا للشارع)‪ (2‬وإذا كان كذلك‬
‫فالنهي دائر مع العلة وجوداا وعدماا‪ .‬فإذا وجد ما علل به الرسول‬
‫‪ ‬كان النهي متوجهاا ومتجهاا وإذا لم توجد)‪ (3‬فالنهي مفقود إذ‬
‫الناس في هذا الميدان على ضربين«هل)‪ . (4‬ثم ذكر صنفين من‬
‫الناس‪ ،‬صنف يتسببِّ لهم العمل بمشقة زائدةا على المعتاد فتؤثر‬
‫فيهم أو في غيرهم‪ ،‬وهؤلء هم غالبِّ المكلفين‪ ،‬فقال فيهم‪:‬‬
‫»فمثل هذا ل ينبغي أن يرتكبِّ من العمال ما فيه ذلك بل‬
‫يترخص فيه«هل)‪ . ( 5‬وأشار إلى أن الترخص إنما يكون بحسبِّ الشرع‬
‫فقال‪» :‬يترخص فيه بحسبِّ ما شرع له في الترخص إن كان مما‬
‫ل يجوز تركه أو يتركه إن كان مما له تركه وهو مقتضى‬
‫التعليل«هل)‪. (6‬‬
‫والصنف الثاني هم الزهاد أو العباد التقياء أو الصوفيون أو‬
‫أرباب الحوال كما يسميهم في مواضع عديدةا من كتابه‪ ،‬فهولء‬
‫يستطيعون ما ل يستطيعه غيرهم لن حبِّ ال زهدهم في‬

‫المصدر نفسه ‪. 2/105 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫وهي رفع المشقة أو الحرج أو الضطرار‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أي العلة ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/105 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪299‬‬
‫حظوظهم ومنافعهم وشهواتهم ولو كانت مشروعة‪ ،‬فصاروا‬
‫قادرين على أن يملوا وقتهم بمزيد من الوظائف الشرعية‪ ،‬فهولء‬
‫ل يجبِّ عليهم الترخص لن العلة منتفية في حقهم)‪. (1‬‬
‫وثمة ص ـ نف آخ ـ ر من الن ـ اس يذكره الشاطبي في مواضع‬
‫أخرى من كتابه‪ ،‬وهم أرب ـ اب الحظ ـ وظ في مقابل ـ ة أرباب‬
‫الح ـ وال‪ ،‬فهؤلء ق ـ د يكون تركهم للمكروه وفعلهم للمندوب‬
‫موقعاا في مكروه أشد أو في حراما‪ ،‬أو مؤدياا إلى ترك مندوب‬
‫أعظم أو واجبِّ‪ ،‬فهؤلء في هذه الحالة‪ ،‬يكون تركهم للمندوب‬
‫أولى‪ ،‬أو فعلهم للمكروه أولى‪.‬‬
‫ولكن ل يتغير في حقهم حكم الحلل والحراما‪ ،‬وهؤلء ‪ -‬أرباب‬
‫الحظوظ ‪ -‬يجبِّ عليهم الترخص في مواضع الرخصة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫»هؤلء ل بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعاا‬
‫لكن بحيث ل يخل بواجبِّ عليهم ول يضر بحظوظهم فقد وجدنا‬
‫عدما الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعاا في‬
‫مفسدةا أو مفاسد يعظم موقعها شرعاا«هل )‪. (2‬‬
‫شروأط الترخإص‪:‬‬
‫إن عدما التكليف بما ل يطاق‪ ،‬وعدما التكليف بالمشقات المعنتة‬
‫هو أمر شرعي ل دور للعقل فيه‪ ،‬وكذلك فإن مواضع الرخصة‬
‫ونوع الرخصة هو أمر شرعي‪ ،‬ولذلك فللرخصة شروط‪ .‬وقد‬
‫ظهر فيما سبق بعض هذه الشروط‪ ،‬وذلك أن تكون المشقة معنتة‪،‬‬
‫وفيما يلي ذكر هذه الشروط من باب تماما البحث‪.‬‬
‫يقول‪» :‬المشقة إذا أدت إلى الخلل بأصل كلي لزما أن ل‬
‫يعتبر فيه أصل العزيمة إذ قد صار إكمال العبادةا هنا والتيان بها‬
‫على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها‪ ،‬فالتيان بما قدر عليه‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 95 - 94 - 2/93 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 99 - 2/98 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪300‬‬
‫منها‪ ،‬وهو مقتضى الرخصة هو المطلوب«هل)‪ . (1‬ويلحق بهذه المشقة‬
‫الحرج يقول‪» :‬إنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده‬
‫عن ضروراته وحاجاته«هل)‪ (2‬وكذلك الضطرار يقول‪» :‬حالة‬
‫الضطرار قد تبين أنه الذي يخافَّ معه فوت الروح وذلك ل يكون‬
‫)‪(3‬‬
‫إل بعد العجز عن العبادات والعادات‪ ،‬وهو في نفسه عذر أيضاا«هل‬
‫فهذه التعريفات تبين شرطاا من شروط المشقات وهو الخلل‬
‫بأصل كلي‪ .‬وهو يسميها كما ت بي ي ن معنتة أو حقيقيةا‪.‬‬
‫ومن الشروط أو تكون المشقة واقعةا أو محققة الوقوع‪ ،‬ول‬
‫يكفي أن تكون مبنييية على الظنون والتقديرات غير المحققة‪ ،‬فإن‬
‫هذا توهم ل اعتبار له‪ .‬يقول‪» :‬إن الظنون والتقديرات غير‬
‫المحققة راجعة إلى قسم التوهمات وهي مختلفة‪ .‬وكذلك أهواء‬
‫النفوس فإنها تقدر أشياء ل حقيقة لها‪ ،‬فالصواب الوقوفَّ مع أصل‬
‫العزيمة إل في المشقة المقخليية الفادحة‪ ،‬فإن الصبر أولى ما لم‬
‫يؤديق ذلك إلى دخل في عقل النسان أو دينه‪ ،‬وحقيقة ذلك أن ل‬
‫يقدر على الصبر‪ ،‬لنه لم يؤمر بالصبر إل من يطيقه‪ ،‬فأنت ترى‬
‫بالستقراء أن المشقة الفادحة ل يل ح ق بها توهمها‪ ،‬بل حكمها‬
‫أضعف بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الحوال‪ ،‬فإذاا‬
‫ليست المشقة بحقيقية‪ ...‬والحرى البقاء مع الصل«هل)‪ . (4‬أي مع‬
‫العزيمة‪ ،‬أما إن كان وقوع هذه المشقة متردداا بين التحقق‬
‫والظن‪ ،‬والغالبِّ وقوعها بحسبِّ مجاري العادات‪ ،‬فإن هذا مجال‬
‫للمجتهدين‪.‬‬
‫ومن الشروط أن ل يكون تقرير المشقة مسايرةاا للهوى‪،‬‬
‫يقول‪» :‬إن مراسم الشريعة مضادةا للهوى‪ ...‬وكثيراا ما تدخل‬
‫المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى واتباع الهوى ضد اتباع‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/233 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/219 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/218 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/233 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪301‬‬
‫الشريعة والمتبع للهوى يشق عليه كل شيء سواءي كان في نفسه‬
‫شاقاا أو لم يكن «هل)‪. (1‬‬
‫ومن شروطها أن يكون الحكم بكونها معنتةا أو خارجةا عن‬
‫المعتاد راجعاا إلى الشرع وقد يقال بأن هذا راجع إلى الشرطين‬
‫السابقين‪ .‬إل أنه يختلف عنهما من جهة أنه قد تكون المشقة‬
‫مخلةا بأصل كلي‪ ،‬ومع ذلك فل رخصة)‪ (2‬وذلك كمشاق‬
‫الجهاد‪ .‬يقول‪» :‬وكونه شاقاا على بعض الناس أو في بعض‬
‫الحوال ل يخرجه عن أن يكون مقصوداا له«هل )‪ (3‬أي ل تعالى ‪.‬‬
‫ويقول‪» :‬إن المشقة قد تبلغ في العمال المعتادةا ما يظن أنه غير‬
‫معتاد‪ ،‬ولكنه في الحقيقة معتاد‪ ،‬ومشقته في مثلها ما يعتاد‪ ،‬إذ‬
‫المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة‪ ،‬طرفَّ أعلى‪...‬‬
‫وطرفَّ أدنى‪ ...‬وواسطة هي الغالبِّ والكثر«هل)‪ . (4‬وعلى ذلك‬
‫فالمشقة قد تزداد فيظن أنها صارت من غير المعتاد‪ ،‬بينما هي‬
‫للعارفين بمجاري العادات‪ ،‬أي بما جرت عليه عادةا الشرع في‬
‫التكليف‪ ،‬ما تزال في الوسط‪ .‬وقد علم من مقاصد الشارع في‬
‫التكليف أن المشقات تقع للعباد ابتلءا واختباراا‪ .‬وإذا كان‬
‫كذلك فإنه يلزما للحكم على المشقة بأنها من المعتاد أو غ ـ ي ـ ر‬
‫المع ـ تاد أن ي ـ ك ـ ون ذلك راج ـ ع ــ اا إل ـ ى ال ـ ش ــ رع وإل ب ـ ط ــ ل‬
‫الخـتـبـار والبـتــلء ‪ .‬قال‪» :‬العوارض الطارئة تقع للعباد‬
‫ابتلءا واختباراا ليمان المؤمنين وتردد المترددين حتى يظهر‬
‫للعيان من آمن بربه على بينة ممن هو في شك‪ ،‬ولو كانت‬
‫التكاليف كلها يخرما كلياتها كل مشقة عرضت ل نخ رمت الكليات‬
‫كما تقدما ولم يظهر لنا من ذلك شيء ولم يتميز ال خ بيث من‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/230 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وذلك أن مقدار المشقة المعتبرةا شرعاا تختلف بــاختلفَّ الع مــال‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫وس يتبين هذا بعد قليل عند ال حديث عن وسطية الشريعة ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/227 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/106 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪302‬‬
‫الطيبِّ«هل )‪. (1‬‬
‫ومن شروط الترخص أن تكون الرخصة بحسبِّ الشرع‪ ،‬فل‬
‫يخرج من المشقة التي جعل له الشرع أن يخرج منها إل بواسطة‬
‫الشرع‪ ،‬فيأخذ ما أعطاه الشرع من تخفيف ول يحكم هواه‪ ،‬فهذا‬
‫المر راجع إلى التحسين والتقبيح‪ ،‬ول مجال للعقل فيه‪ .‬قال‪:‬‬
‫»كل أمر شاق جعل فيه الشارع للمكلف مخرجاا‪ ،‬فقصد الشارع‬
‫بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء‪ ،‬كما جاء في الرخص‬
‫شرعية المخرج من المشاق‪ ،‬فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك‬
‫على الوجه الذي شرع كان ممتثلا لمر الشارع آخذ اا بالحزما في‬
‫أمره‪ ،‬وإن لم يفعل ذلك وقع في محظورين‪ :‬أحدهما مخالفته‬
‫لقصد الشارع‪ ،‬كانت تلك المخالفة في واجبِّ أو مندوب أو مباح‪،‬‬
‫والثاني سد أبواب التيسير عليه‪ ،‬وفقد المخرج عن ذلك المر‬
‫الشاق الذي طلبِّ الخروج عنه بما لم يشرع له«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬المكلف في طلبِّ التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه‬
‫المشروع‪ ،‬لن ما يطلبِّ من التخفيف حاصل فيه حالا ومآلا على‬
‫القطع في الجملة‪ ،‬فلو طلبِّ ذلك من غير هذا الطريق لم يكن ما‬
‫طلبِّ من التخفيف مقطوعاا به ول مظنوناا‪ ،‬ل حالا ول مآلا‪ ،‬ل‬
‫على الجملة ول على التفصيل«هل )‪ . (3‬وقال‪» :‬فالرجوع إلى الوجه‬
‫الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المص ـ لحة والتخفيف‬
‫على الكمال‪ ،‬بخلفَّ الرجوع إلى ما خالفه«هل)‪. (4‬‬
‫وأسطية الشريعة‪:‬‬
‫»الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطر يــق الو ســط‬
‫العدل الخذ من الطرفين بقسط ل ميل فيه‪ ،‬الداخل تحت كســبِّ‬

‫المصدر نفسه‪. 1/228 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/240 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/243 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪303‬‬
‫العبد من غير م شــقةم عل يــه ول ا نحلل«هل)‪ (1‬ب هــذا المع نــى يخ تــم‬
‫الشاطبي هذا النوع من مقاصد الشارع‪ ،‬وهذا المعنى قد تبين فيما‬
‫سبق‪ ،‬ول حاجة لعادةا التأكيد له ولقصد الشاطبي منه‪ ،‬لــول مــا‬
‫يتردد أحياناا من معانم ل واقع ل هــا حــول الو ســط والو ســطية أو‬
‫وسطية الشريعة‪ .‬فمفهوما الوسط‪ ،‬هو المر الوا قــع بيــن طرفيــن‬
‫بحيث يكون أحدهما ب م ع نــى الت شــدد وال خــر بمع نــى النحلل أو‬
‫أحده م ا بمعنى الفراط والخر بمعنى التفريط‪ ،‬أو ما قــد يتخيــل‬
‫من طرفين على جانبي الوسط‪ .‬وعلى ذلك يطلــق لفــظ الوســط‬
‫بمعنى أو بقصد التحسين أو التجميــل أو القبــول ل مــا ي قــع بيــن‬
‫طرفين‪ .‬ومثل ذلك قد يقال عن العدل‪ .‬ي قــول ا لــدكتور مح مــد‬
‫سعيد رمضان البوطي في معرض إيراده أدلة على مراعاةا الشريعة‬
‫للمصالح‪» :‬قوله تعالى‪      [ :‬‬
‫‪      ‬‬
‫‪ . (2)]     ‬وحقيقة العدل بين‬
‫شــيئين أو شخ صــين المعادلــة والموازنــة بينه مــا فــي أ مــر مــا‪،‬‬
‫فالمقصود به إذاا مراعاةا التوسط بين طرفي ال فــراط والتفر يــط‬
‫في كل شيء‪ ،‬وليس حقيقة انتظاما مصالح النــاس وتناســقها مــع‬
‫بعض إليي خطاا مستقيماا يفصل بين طرفي الفراط والتفريط في‬
‫شؤونهم‪ ،‬وهما طرفان ينتهيان بالمفسدةا ل محالة«هل)‪. (3‬‬
‫والواقع أن ألفاظ العدل والوسط لها وقع حسن على النفس‪،‬‬
‫إل أنها وغيرها كألفاظ الظلم والفراط والتفريط ل يصح أن‬
‫يفهم منها شيء إذا لم ترتبط بأساس تفهم بناءا عليه‪ .‬فالشرائع‬
‫الوضعية والمحرفة عندها ما تسميه العدل والظلم أو المنكر‪،‬‬
‫وعندها ما تسميه الحق والباطل‪ ،‬ولو نظرنا إلى ما فيها من عدل‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/110 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النحل ‪. 90 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( محمد سعيد رمضان البوطي‪ ،‬ضوابط المصلحة في الشريعة السلمية‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص‪ . 71 :‬ط ‪ ، 5‬مؤسسة الرسالة ‪ ،‬الدار المتحدةا‪ 141 ،‬هـ ‪ 1990 -‬ما ‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫وقسناه على شريعتنا لوجدناه عين الظلم‪ ،‬ولوجدنا الحق فيها‬
‫باطلا والحسان منكراا‪ ...‬فهذه اللفاظ ل تفهم إل من خلل ما‬
‫تدل عليه‪ ،‬أي من خلل ما جاءت الشريعة لتعرفنا أنه عدل أو ظلم‬
‫أو إحسان أو غير ذلك‪ .‬بتعبير آخر‪ ،‬إن القول‪ :‬الشريعة عدل أو‬
‫الشريعة وسط إذا كان المراد منه أننا نعرفَّ العدل ونعرفَّ‬
‫الوسط‪ ،‬والشريعة تأمرنا بهذا الذي نعرفه فهو خطأ‪ .‬والمعنى‬
‫الذي يصح هو أن الشريعة جاءت بأوامر ونواهي‪ ،‬وما أمرت به هو‬
‫العدل وهو الوسط‪ ،‬وبمعرفته يعرفَّ ما هو العدل والوسط‪ ،‬وما‬
‫هو بخلفَّ ذلك‪ ،‬وعلى ذلك فالقول إن العدل هو الخط‬
‫المس ـ ت ق يم بين طرفي الفراط والتفريط هو كلما ل مفهوما له‪.‬‬
‫وحتى يصبح لهذا الكلما واقعي ييدرك يجبِّ معرف ـ ة ما هو الفراط‬
‫وما هو التفريط‪ .‬أليس قد يكون ما يراه النسان إفراطاا هو‬
‫الوسط والعدل أو هو التفري ـ ط‪ .‬وما يراه تفريطاا هو العدل‬
‫والوس ـ ط أو هو الفراط‪ .‬وما يراه عدلا أو وس ـ طاا هو الفراط‬
‫أو التفريط‪ .‬أوليس هذا أيض ـ اا متلزم اا مع القول بأن التحسين‬
‫والتقبيح شرعيان ل عقليان‪ .‬لهذا لزمت الشارةا إلى ما يتردد من‬
‫قراءات خاطئة للشاطبي في هذا المر‪ .‬وإلى أن ترويج مثل هذه‬
‫الكلمات‪ :‬الوسط أو الوس ـ طية أو وس ـ طية الشريعة بدون تعيين‬
‫أساس لتجسيد هذه اللفاظ في معانم هو من السطحية في الفكر‬
‫والدراك‪ .‬والشاطبي ل يعرفَّ الوسط بناءا على الش ـ عور بما هو‬
‫إفراط أو تفريط‪ ،‬وإنما هو يعرفَّ الفراط والتفريط بالميل عن‬
‫الوسط‪ .‬يقول‪» :‬والتوسط يعرفَّ بالشرع‪ ،‬وقد يعرفَّ بالعوائد‬
‫وما يشهد به معظم العقلء كما في السرافَّ والقتار في‬
‫النفقات«هل)‪ . (1‬فهو عندما يجعل الحق مع التوسط يعرفَّ التوسط‬
‫بأنه ما دل عليه الشرع‪ ،‬أو قيل ما دل عليه الشرع فهو التوسط أو‬
‫الوسط‪ .‬أما قوله‪» :‬وما يشهد به معظم العقلء«هل فقد جعل ذلك‬
‫في المور التي جعل الشرع الفصل فيها للعرفَّ أو لهل المعرفة‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/114 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪305‬‬
‫والخبرةا كمهر المثل وأجر المثل ونفقة المثل‪ .‬وكتعريف‬
‫الغني والفقير والبطر والتقتير فإن هذه المور كلها إضافية‪.‬‬
‫بهذا المعنى جاء ق ـ ول الش ـ اطبي أن الش ـ ريعة جارية في‬
‫التكلي ـ ف بمقتض ـ اها على الطريق الوس ـ ط العدل‪ .‬ثم يقول بأنه‬
‫إذا جاء في تكاليف الشريعة ما فيه ميل إلى جهة أحد الطرفين‪،‬‬
‫فذلك من س ـ ياس ـ ة الش ـ رع في التشديد أو التخفي ـ ف بحس ـ بِّ‬
‫ميل المكلف إلى الطرفَّ الخر‪ .‬يقول‪» :‬فإذا نظرت في كليةم‬
‫شرعي ـ ةم فتأملها تجدها حاملةا على التوس ـ ط فإن رأيت ميلا إلى‬
‫جهة طرفَّ من الطرافَّ‪ ،‬فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في‬
‫الطرفَّ الخر‪ ...‬وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في‬
‫الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاةاا منه لطرفَّ واقع‬
‫أو متوقع في الجهة الخرى«هل)‪. ( 1‬‬
‫اخإتلف مإقدار المشقة المعتادة باخإتلف‬
‫العمال‪:‬‬
‫وهذا مما يزيد البيان لما ذ ي كر أعله ‪ ،‬وهو أن المشقة الــتي‬
‫تعد خارجة عن المعتاد في عمل ما‪ ،‬قد ل تعد كــذلك فــي عمــل‬
‫آخر وإن كانت أثقل أو أشد‪ .‬وبذلك فالوسط ي ة تختلف باختلفَّ‬
‫العمال‪ .‬يقول‪» :‬التعبِّ والمشقة في العمــال المعتــادةا مختلفــة‬
‫باختلفَّ تلك العمال‪ ...‬ولكن كل ع مــل فــي نف ســه لــه م شــقة‬
‫معتادةا فيه توازي مشقة مثله من العمال العاديــة«هل)‪ . (2‬ويقــول‪:‬‬
‫»المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة«هل)‪ . (3‬فقوله‪» :‬فــي‬
‫العمل الواحد«هل يدل على هذا المعنى وعلى ذلك فالمشقة المعتادةا‬
‫والمشقة غير المعتادةا تعرفان بالشرع‪ ،‬وفي كل عمل على حــدةا‪.‬‬
‫فقد يعد الشرع المشقة غير معتــادةا فــي ع مــل و هــي أ خــف علــى‬
‫المكلف مما يعده معتاداا في عمل آخر‪ .‬يقول‪» :‬فكثير مما يظ هــر‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 114 - 2/113 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/105 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/106 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪306‬‬
‫ببادئ الرأي من الم شــقات أن هــا خار جــة عــن المعتــاد ول يك ــ ون‬
‫ك ـ ذلك لم ـ ن كان عارفاا بمجاري العادات‪ ،‬وإذا لــم ت خــرج عــن‬
‫المعتاد لم ي كــن للش ـــ ارع قص ـــ د فــي رفع هــا ك ســائر الم شــقات‬
‫)‪(1‬‬
‫المعتادةا«هل ‪ .‬وقال‪» :‬فحيث قال الــ تعــالى‪  [ :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫ثم قال ‪     [ :‬‬ ‫‪] ‬‬
‫] )‪ (3‬ك ـ ان ه ـ ذا م ـ وض ـ ع ش ـ دةا لن ـ ه يق ـ ت ـ ضي أن ل رخصة أصلا‬
‫في التخلف إل أنه بم ـ ق ـتـ ضى الدلة على رف ـ ع الحــرج محمــول‬
‫على أقصى الثقل في العمال المعتادةا بح ـ ي ـ ث يت ـــ أتى الن ـ ف ـ ي ـــ ر‬
‫ويمكــن الخــروج«هل)‪ . (4‬أي إن المشــقة هنــا وإن كــانت ثقيلــة‬
‫فالش ــ رع يع ــ دها م ـ ن المع ــ ت ـ اد في مث ــ ل ه ـــ ذا الع ـ م ـــ ل‪ ،‬ول‬
‫تخ ـ ض ــ ع لص ـ ل الت ـ ك ـ ل ـ ي ـ ف ب ـ م ـ ا ل ي ـ ط ـ اق أو مــا ل ي ـ تأت ـــ ى‬
‫للن ـ س ـ ان ال ـ ق ــ ي ـ اما ب ـ ه‪ .‬وق ـ ال‪» :‬وأص ــ ل الح ـ ـــ رج الض ـ ي ـــ ق‬
‫ف ـ م ـــ ا ك ـــ ان م ـــ ن م ـ ع ـ ت ـــ ادات الم ـ ش ـ ق ـــ ات فــي الع ـ م ـــ ال‬
‫الم ـ ع ـ ت ـ اد م ـ ث ـ ل ـ ه ـ ا ف ـ ل ـ ي ـ س بح ـ رج ل ـ غ ـ ةا ول ش ــــ رع ـــــ اا‪،‬‬
‫ك ــــ ي ــــ ف وه ــــ ذا ال ــ ن ــــ وع م ــــ ن الح ـــــ رج وض ـــــ ع‬
‫لح ـــ ك ـــ م ــ ةم ش ـــ رع ـــ ي ــ ة وهي التمحيص والختبار «هل )‪. (5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا التوبة‪. 41 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا التوبة‪. 39 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 107 - 2/106 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/107 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪307‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫قصد الشارع في دخإول المكلف تحت‬
‫أحكام الشريعة‬

‫تمهيـد لهذا النوع‪:‬‬


‫هذا هو النوع الرابع من مقاصد الشارع‪ ،‬وهو أهمها عند‬
‫الشاطبي‪ ،‬والنواع الثلثة السابقة إنما هي خادمة له‪ .‬فالنوع‬
‫الول وهو أن التكاليف ترجع إلى حفظ الضروريات والحاجيات‬
‫والتحسينيات يبين غايات وعلل الشريعة لتكون أصولا تتوجه بها‬
‫وتبنى عليها الجزئيات والفروع‪ ،‬والنوع الثاني وهو وضع‬
‫الشريعة للفهاما يبين أصول فهم معاني اللفاظ والتراكيبِّ‬
‫والنصوص وذلك لمعرفة المعاني والحكاما والنوع الثالث وهو‬
‫وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها فهو يبين كيفية إعمال‬
‫النصوص مع المحافظة على الصول أو الكليات وهو يرجع في‬
‫معناه إلى إ عمال الكليات والجزئيات معاا وعدما إهمال أي منهما‪،‬‬
‫وذلك لجل استنباط الحكاما الفروعية‪ .‬فالنواع الثلثة تخدما‬
‫عملية التوصل إلى الحكم الشرعي‪ .‬وموضوع النوع الرابع‪ ،‬دخول‬
‫المكلف تحت أحكاما الشريعة‪ ،‬هو المتثال ‪ ،‬فإذا جاء المر أو النهي‬
‫من الشارع وجبت الطاعة ول يجوز الفتاء بغير ذلك أو الخروج‬
‫عنه لي سببِّ من السباب‪ .‬وإذا كان ثمة استثناء أو رخصة في‬
‫حالة ما‪ ،‬فإن الطلبِّ الشرعي أصلا ل يتناول تلك الحالة‪.‬‬
‫وإذا كان النوعان الثاني والثالث ل يثيران خلفات فقهية أو‬
‫أصولية ذات تأثير منهجي في التعليل والستنباط ‪ ،‬فإن النوعين‬
‫الول والرابع يثيران جدلا كبيراا ‪.‬‬
‫فالعلماء الذين سبقوا الشاطبي وقالوا بالنوع الول من مقاصد‬
‫الشريعة‪ ،‬قالوا بتعليل الحكاما بالحقكيم‪ ،‬على أساس أن هذه‬

‫‪308‬‬
‫الحقكيم هي المعاني المصلحية أو الوصافَّ المناسبة وهي ما لو‬
‫عرض على العقول تلقته بالقبول‪ .‬أما الشاطبي فقد اختلف عنده‬
‫مفهوما المصلحة عمن سبقه‪ .‬والفرق بين الثنين هو كالفرق بين‬
‫قولهم‪ :‬ما حصل الظن به عقلا أو وقع في القلبِّ كونه مصلحة أو‬
‫حكمة مقصودةا بالحكم فهو علة‪ ،‬وقوله‪ :‬ما ثبت قطعاا عن طريق‬
‫استقراء الحكاما كونه غايةا أو مقصوداا للشارع فهو علة‬
‫ومصلحة‪ .‬بتعبير آخر‪ ،‬يقولون‪ :‬المصلحة علة‪ .‬ويقول‪ :‬العلة‬
‫مصلحة‪.‬‬
‫وبين المنهجين اختلفَّ يقلبِّ المور رأساا على عقبِّ‪ .‬وهو‬
‫اختلفَّ ل يقتصر على ما ت بين من مفهومه للمصالح والمفاسد ‪،‬‬
‫وإنما يتجاوزه إلى أمور أخرى)‪. (1‬‬
‫ولقد شاعت في عصرنا فكرةا التعليل بالم صــلحة أو الت شــريع بنــاءا‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫عليها‪ ،‬وصدر بناءا على ذلك آراء وفتاو ى واضحة البطلن‪ .‬وتذرع البعض‬
‫في سبيل ذلك بأفكار ين ســبونها إلــى ال شــرع م ثــل جلــبِّ الم صــالح ودرء‬
‫المفاسد والضرورةا والتيسير ومرونة الشريعة وجواز تغير الحكاما بتغير‬
‫الزمان‪ .‬ولم يأخذ هؤلء بالشروط التي قال بهــا الئمــة الــذين يقولــون‬
‫بالمصالح‪ .‬ومن هذه الشروط أن ل يؤدي هذا التعليل إ لــى إب طــال الح كــم‬
‫المعلل‪ ،‬ومنها أن ل يكون الوصف المصلحي الذي يعلل به منقوضاا بنص أو‬
‫معارضاا بمعنى مصلحي يعلل به حكم آخر‪ .‬ولقد ذهبِّ ب عــض المعا صــرين‬
‫إلى ضرورةا توسيع دائرةا الحلل عن طريق ما أسموه الستحســان الواســع‬
‫والقياس الواسع‪ ،‬بمعنــى عـدما التقيـد بشـروط صــحة القيـاس أو صــحة‬
‫الستحسان بسببِّ أن تلك الشروط دخلت إلى علم أصول الفقه عن طريــق‬
‫المنطق الغريقي ‪ .‬ذهبِّ إلى هذا الدكتور حسن الترابي في كتابه تجد يــد‬
‫أصول الفقه‪.‬‬
‫وقد دعا في كتابه إلى منهج يدعو إلى عدما اللتزاما بآحاد النصــوص‪،‬‬
‫و إ نما إلى العتماد على جملة من النصوص يؤ خــذ من هــا المع نــى ال عــاما أو‬
‫جنس المصلحة‪ ،‬ثم يكون التشريع بناءا علــى المع نــى ال عــاما‪ .‬ول يحت فــل‬
‫حينئذم بمخالفة التشريعات الجديدةا لحاد النصوص‪ .‬وقد تابعه فــي هــذا‬
‫المنهج الشيخ راشد الغنوشي فــي كتــابه )الحر يــات العا مــة فــي الدو لــة‬
‫السلمية(‪ .‬وفي مقابلة صحفية مع مجلة ال شــراع اللبنانيــة قــال ال شــيخ‬
‫الغنوشي رداا على أن أفكاره م ســتغربة بمقيــاس ال ســلما قــال‪ » :‬مــازالت‬
‫تحكمنا عقد ةا النص«هل وقال‪ » :‬الترابي أستاذ جيل أنا واحد منه«هل‪ .‬وصــارت‬
‫الحكاما ت ي عط ى في عصرنا بحسبِّ أهواء المتنفذين‪ ،‬حتى ن ي سبِّ إلى البعــض‬

‫‪309‬‬
‫لذلك تراه في كثير من المواضع في الموافقات يحمل على‬
‫الفتاوى التي تصدر متذرعةا بالمصلحة أو بالحاجة‪ ،‬ويحمل على‬
‫الترخص من غير رخصة‪ ،‬ويحمل على المفتين الذين يأتون بمثل‬
‫هذه الراء مستندين إلى أن شريعة السلما حنيفية سمحة‪ ،‬فيقول‬
‫مثلا‪» :‬إن الحن ي فية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيداا بما هو‬
‫جار على أصولها‪ ،‬وليس تتبع الرخص ول اختيار القوال بالتشهي‬
‫بثابت من أصولها«هل)‪ ، (1‬ويقول‪» :‬تتبع الرخص ميل مع أهواء‬
‫النفوس‪ ،‬والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى‪ ...‬وربما استجاز‬
‫هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورةا وإلجاء الحاجة بناءا‬
‫على أن الضرورات تبيح المحظورات‪ ،‬فيأخذ عند ذلك بما يوافق‬
‫الغرض‪ ...‬فهذا أيضاا من ذلك الطراز المتقدما فإن حاصله الخذ‬
‫بما يوافق الهوى الحاضر‪ ،‬ومحاليي الضرورةا معلومة من‬
‫الشريعة«هل)‪ ، ( 2‬ثم يقول‪» :‬قليي الورع والديانة في كثير ممن‬
‫ينتصبِّ لبث العلم والفتوى«هل)‪ ( 3‬وسنناقش هذا المر بالتفصيل ‪ -‬إ ن‬
‫شاء ال ‪ -‬في فصل الجتهاد والتقليد‪.‬‬
‫لهذا وجدنا الشاطبي في هذا النوع من المقاصد متتبعاا‬
‫مستقصياا‪ ،‬يناقش مسألة كون التشريع لمصالح العباد‪ ،‬ويردها‬
‫إلى أصل المتثال والعبودية ل‪ ،‬ويناقش مسألة التغير في عادات‬
‫الناس باختلفَّ الزمنة والمكنة ويبين أن ل أثر لذلك على‬
‫الحكاما الشرعية‪ ،‬ويناقش مسألة الوقوفَّ على النص أو اتباع‬
‫المعاني‪ ،‬ويبين أن اتباع المعاني يجبِّ أن ل يخرج عن النص بحالة‬

‫قوله‪ :‬عليك الرأي وعلييي الدليل‪ .‬وإلى غيره قوله قدما لي ما ينفع الناس‬
‫أقدما لك الدليل ‪ . .‬أنظر‪ :‬مقالــة بعنــوان )رد ا فــتراءات علــى ال شــاطبي(‪،‬‬
‫لمحمود عبد الكريم حسن‪ ،‬مجلة الوعي‪ ،‬العدد‪ ، 88 :‬ربيع الول ‪ 1415‬هـ‬
‫‪ 1994 -‬ما‪ .‬وانظر‪ :‬الموافقات بتحقيق أبي عبيدةا‪ ،‬في مقدمته على الكتاب‪،‬‬
‫ج ‪ ، 1‬الهامش‪ ،‬ص ‪. 42‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/81 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/81 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/82 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪310‬‬
‫من الحوال‪.‬‬
‫ولقد بلغ حجم مباحث الشاطبي في هذا النوع من المقاصد‬
‫مجموع مباحثه في الثلثة النواع السابقة‪ ،‬واستغرق ‪ -‬تقريباا ‪-‬‬
‫نصف الجزء الثاني من كتاب الموافقات‪.‬‬
‫أصل المإتثال أوأ التعبد‪:‬‬
‫يركز الشاطبي على أن التقيد بالوامر والنواهي أصل في‬
‫الشريعة‪ ،‬وعلى أن العبودية ل يجبِّ أن تكون في كل عمل من‬
‫أعمال المكلف‪ ،‬وكل عمل ليس فيه تعبد ل فهو اتباع للهوى‪.‬‬
‫ويركز على أن تقرير المصلحة والمفسدةا راجع إلى وضع‬
‫الشارع‪ ،‬وأن اتباع المصلحة إذا كان بحسبِّ نظر العبد من غير‬
‫اعتبار لحكم الشرع في تلك المصلحة فهو اتباع للهوى بإطلق‪،‬‬
‫وما كان كذلك فهو باطل بإطلق‪.‬‬
‫يقول‪» :‬المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن‬
‫داعية هواه حتى ي كــون عبــداا لــ اختيــاراا ك مــا هــو عبــد ي لــ‬
‫اضطراراا«هل )‪ . (1‬ثم يأتي بأدلة على ذلك تفيد استقراءا قاطعاا على‬
‫منهجه‪ .‬يقول‪» :‬والدليل على ذلك أموري‪ :‬أحدها‪ :‬النص الصريح‬
‫الدال على أن العباد خلقوا للتعبد ل والدخول تحت أمــره ونهيــه‬
‫كقوله تعالى‪       [ :‬‬
‫‪. (2)]         ‬‬
‫وقوله تعالى‪       [ :‬‬
‫)‪(3‬‬
‫‪ . ]     ‬وقوله‪  [ :‬‬
‫ج‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪  ‬‬


‫غير ذلك من اليات المرةا بالعبادةا‬ ‫‪ ... (4) ]  ‬إلى‬

‫المصدر نفسه‪. 2/141 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا الذاريات‪. 57 - 56 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا طه‪. 132 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 21 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪311‬‬
‫على الطلق وبتفاصيلها علــى الع مــوما فــذلك كلــه را جــع إلــى‬
‫الرجوع إلى ال في جميع الحوال والنقياد إلى أحكامه على كــل‬
‫حال وهو معنى التعبد ل‪ ...‬والثاني‪ :‬ما دل على ذما مخال فــة هــذا‬
‫القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر ا لــ وذما مــن أ عــرض عــن‬
‫ال‪ ...‬وأصل ذلك اتباع ال هــوى والنق يــاد إ لــى طا عــة ال غــراض‬
‫العاجلة والشهوات الزائلة‪ ...‬والثالث‪ :‬ما علم بالتجارب والعــادات‬
‫من أن المصالح الدينية والدنيوية ل تحصل مــع السترســال فــي‬
‫اتباع الهوى والمشي مع الغراض«هل )‪ . (1‬وبناءا على ذلك فمــا مــن‬
‫عمل للعبد إل ويدخله التعبد ل‪ ،‬فيجبِّ أن تصاحبه ني ة المتثـال ‪،‬‬
‫ول يكون ذلك إل بإذن من الشارع‪ .‬وذلك أن التحسين والتقبيــح‬
‫أو المصلحة والمفسدةا يعرفان بالشرع‪ ،‬وإذا لم يكن لل شــرع ث مــة‬
‫مدخل للتعريف بذلك فالمتبع هو الهوى‪ ،‬إذ المر مح صــور ب يــن‬
‫الشرع والهوى ول ثالث لهما‪ .‬يقول‪» :‬فقد جعل ال اتباع الهــوى‬
‫مضاداا للحق وجعله قسيماا له‪ ...‬ف قــد ح صــر ال مــر فــي شــيئين‬
‫الوحي وهو الشريعة‪ ،‬والهوى‪ ،‬فل ثالث لهما‪ ،‬وإذا كــان كــذلك‬
‫فهما متضادان وحين تعين الحق في الوحي توجه لل هــوى ضــده‪...‬‬
‫فهذا كله واضح في أن قصد الشارع ال خــروج عــن ات بــاع ال هــوى‬
‫والدخول تحت التعبد للمولى«هل )‪. (2‬‬

‫وهو ب جعله الوحي والهوى قسيمين ينفي وجود حكم للعقل‪،‬‬


‫وما يتوهم أنه حكم للعقل مقابل حكم الشرع إنما هو هوى‪ .‬وعلى‬
‫ذلك فإن ما يقال بأنه حكمة أو مصلحة بحسبِّ العقلء والحكماء‪،‬‬
‫إذا لم يكن ذلك بتقرير الوحي فهوهوى‪ .‬وقد بنى على ذلك‬
‫قواعد فقال‪» :‬فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد منها أ ن كل عمل‬
‫كان المتبع فيه الهوى بإطلق من غير التفات إلى المر أو النهي‬
‫أو التخيير فهو باطل بإطلق لنه ل بد للعمل من حامل يحمل‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 115 - 2/114 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/115 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪312‬‬
‫عليه وداعم يدعو إليه فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل‬
‫فليس إل مق ت ضى الهوى والشهوةا‪ ،‬وما كان كذلك فهو باطل‬
‫بإطلق لنه خلفَّ الحق بإطلق«هل )‪ (1‬ومن هذه القواعد‪» :‬إن اتباع‬
‫الهوى طريق إلى المذموما وإن جاء في ضمن المحمود)‪ (2‬لنه إذا‬
‫تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الش ـ ريعة فحيث ـ ما زاحم مقتض ـ اها‬
‫في العمل كان مخوفاا‪ ...‬فإنه س ـ ببِّ تعطيل الوامر وارتكاب‬
‫النواهي«هل )‪. (3‬‬
‫ومنها‪» :‬أن اتباع الهوى في الحكاما الشرعية مظنة لن يحتال‬
‫بها على أغراضه فتصير كاللة المعدةا ل قتناص أغراضه‬
‫)‪(4‬‬
‫كالمرائي يتخذ العمال الصالحة سلماا لما في أيدي الناس«هل ‪.‬‬
‫ويؤكد الشاطبي على أصل المتثال وعلى وجوده في كل فعل‬
‫من أفعال العباد‪ ،‬ول ييعارضي هذا الصل بكــون الشــريعة غايتهــا‬
‫حفظ مصالح العباد‪ ،‬وبكون الحكاما تراعي فطرةا النسان وأغراضه‬
‫وأوصافه الشهوانية‪ ،‬وذلك أن هذا المقصد هو غا يــة ونتي جــة‪ ،‬أي‬
‫مسببِّ عن السباب‪ ،‬والسباب هي المتثال ‪ ،‬فالشريعة موضوعة على‬
‫مقت ضـــى التعبـــد والمتثـــال ‪     [ ،‬‬
‫ج‬

‫‪ ، ] ‬وليس على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم‪ ،‬وهذا ما‬ ‫ج‬

‫تق ت ضيه أنواع الحكم الشرعي‪ ،‬يقول‪» :‬لم يصــح لحــد أن يــدعي‬
‫على الشريعة أنها وضعت على مقتض ى تشهي العباد وأ غ راضــهم إذ‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/118 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وإن جاء في ضمن المحمود أي كأن تكون الغا يــة شــرعية أو النيــة‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سليمة‪ ،‬وذلك كمن يقصد تنمية مال اليتيم فيقرضــه بالربــا‪ .‬أو كمــن‬
‫يفتي بجواز الربا بحجة المصلحة‪ .‬أو من كمن ي فــتي وي شــارك بــالحكم‬
‫بغير ما أنزل ال قاصدا مصالح الم ســلمين فــي زع مــه‪ ،‬و فــي ذلــك كلــه‬
‫تعطي ـ ل للوامر وارت كــاب لل نــواهي كق ـــ وله ت عــالى‪  [:‬‬
‫] البقرةا‪ 275 ،‬وقوله تعالى‪       [ :‬‬
‫‪ ] ‬المائدةا‪ 45 ،‬وغيرها ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/119‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/120 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪313‬‬
‫ل تخلو أحكاما الشرع من الخمسة‪ ،‬أما الوجوب والتحريم فظــاهر‬
‫مصادمتهما لمقتضى السترسال الداخل تحت الختيار ‪ ،‬إذ يقال له‪:‬‬
‫إفعل كذا كان لك فيه غرض أما ل‪ ،‬ول تفعل كذا كان لك فيه‬
‫غرض أما ل‪ ،‬فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث علــى‬
‫مقتضى المر أو النهي فبالعرض ل بالصل‪ .‬وأ مــا ســائر الق ســاما‬
‫وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرةا المكلف‪ ،‬فإنما دخلت بإدخال‬
‫ال شــارع ل هــا ت حــت اخت يــاره‪ ،‬ف هــي راج عــة إ لــى إخراج هــا عــن‬
‫اختياره«هل )‪ . (1‬ثم يقول‪» :‬فإذاا‪ ،‬إباحة المباح مثلا ل توجبِّ دخوله‬
‫بإطلق تحت اختيار المكلف من حيث كان قضاءا من الشــارع‪ ،‬وإذ‬
‫ذاك يكون اختياره تابعاا لوضع الشارع‪ ،‬وغرضيه مأخوذاا من تحت‬
‫الذن الشرعي‪ ،‬ل بالستر ســال ال طــبيعي و هــذا هــو ع يــن إ خــراج‬
‫المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداا ل«هل )‪. (3) (2‬‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/116 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/116 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( وفي هذه القوال ما ينفي عن السلما الفكرةا الغربية القائلة بالحريات‬ ‫‪3‬‬

‫العامة‪ .‬إذ إن هذه الفكرةا منبثقة من فكــرةا فصــل الــدين عــن الحيــاةا‪ .‬وأن‬
‫النسان حر ل يقيد بأي قانون أو نظاما‪ ،‬إل ما يختاره هو بنفس ه‪ .‬وم ن هن ا‬
‫قالوا بحكم الشعبِّ وهو ما اقتضى فكرةا الديمقراطيـة فـي النظـم الغربيـة‪.‬‬
‫ومفهوما الحريات العامة هو غير معنى الحرية الذي يقابل الرق‪ ،‬وهو مفهوما‬
‫كفر لنه يعني أن ل حكم ل‪ ،‬ول تشريع إل للشعبِّ‪ .‬وكذلك مفهوما المباح‬
‫في السلما فهو ليس من قبيل الحرية وإنما هو مبني على فكرةا العبودية لــ‬
‫الذي له وحده حق المر والنهي والذن والمنع‪ ،‬فالباحة هي تخيير من قبــل‬
‫الشارع‪ ،‬والعبد مقيد بقبول هذا التخيير‪ ،‬وليس حــراا فل يمنــع مباحــاا ول‬
‫يوجبه ولذلك فإن القول بفكرةا الحريات العامة في السلما هو قول خاطيء‬
‫تنقضه الصول الشرعية‪ ،‬والخطاء الكبر هي ما يأتي فـي ثنايـا تفصـيلت‬
‫هذه الفكرةا‪ .‬فعلى سبيل المثال ذهــبِّ الشــيخ را شــ د ال غ نوشــي فــي كتــابه‬
‫)الحريات العامة في الدولة الســلمية( إلــى أن مقصــد حفــظ العقــل مــن‬
‫الضروريات في الشريعة معناه حرية العقيدةا وحريــة الــرأي‪ ،‬مــع أن هــذه‬
‫الحريات تتناقض مع كليات وجزئيات في السلما ل تقتصر على أصل حفظ‬
‫الدين أو على وجوب الحكم بما أنزل ال ووجوب قتل المرتد وغيــر ذلــك ‪.‬‬
‫أنظر‪ :‬الموافقات‪ ،‬بتحقيق أبي عبيدةا‪ .‬في مقدمته على الكتاب‪ ،‬ج ‪ ، 1‬الهامش‪،‬‬
‫ص ‪ . 53 - 42‬وانظر‪ :‬أيضاا‪ :‬مقالت بعنوان )دمج الجاليات السلمية في‬
‫المجتمعات الغربية( لمحمود عبد الكريم حسن‪ ،‬مجلة الوعي‪ ،‬العداد‪،115 :‬‬

‫‪314‬‬
‫المصـالح وأالمفاسـد تعـرف بالشـرع فقط‪:‬‬
‫هذا المقصد للشارع من وضع الشريعة وهو عبودية النسان ل‬
‫قطعي ول خلفَّ فيه‪ ،‬وإن ظهر فيه أي خلفَّ فمرده إلى اختلفَّ‬
‫في معاني اللفاظ والعبارات وليس إلى حقيقة معناه‪ .‬وإذا اعتبرنا‬
‫المصلحة في التعليل بالمصالح بحسبِّ نظر العقلء وأهل النظر‪،‬‬
‫فهذا من قبيل التحسين والتقبيح العقليين‪ ،‬وهو يتعارض مع هذا‬
‫المقصد وهو المتثال ‪ ،‬وهذا ما يثير إشكالت على القائلين‬
‫بالمصالح‪ ،‬وقد مر ذكر بعضها على لسان القرافي وعز الدين بن‬
‫عبد السلما‪ .‬ومر أيضاا رد الشاطبي عليها وأنها ل وجود له ا على‬
‫منهجه لن له مفهوماا مختلفاا للمصالح والمفاسد‪ .‬ويؤكد‬
‫الشاطبي بعد إثباته لصل المتثال أن تقرير المصالح والمفاسد‬
‫أمر شرعي يرجع إلى التحسين والتقبيح‪ ،‬فلذلك يجبِّ أن يرجع‬
‫إلى أصل المتثال ‪ ،‬فإذا لح في النظر حكمة تصلح لتعليل الحكم‪،‬‬
‫فل يصح اعتبارها قبل حصول الستقراء القاطع إذ قد يكون ثيميي‬
‫حقكيمي غيرها‪ ،‬وقد ل تثبت عند الستقراء فيكون اعتبارها تحكماا‬
‫بغير دليل وتقصيداا للشارع لما لم يقصد‪ .‬يقول‪» :‬إن كون‬
‫المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدةا مفسدةا كذلك مما‬
‫يختص بالشارع ل مجال للعقل فيه بناء على قاعدةا نفي التحسين‬
‫والتقبيح العقليين‪ ،‬فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما‬
‫فهو الواضع لها مصلحة وإل فكان يمكن عقلا أن ل تكون كذلك‬
‫إذ الشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الول متساوية ل قضاء للعقل‬
‫فيها بحسن ول قبح‪ ،‬فإذاا‪ ،‬كون المصلحة مصلحةا هو من قبل‬
‫الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس‪ ،‬فالمصالح من‬
‫حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى‬
‫على التعبدي ل يكون إل تعبدياا«هل)‪. (1‬‬
‫وإذا اعتبرنا رأي الشاطبي الذي ورد في النوع الثاني من‬
‫‪ . 118 ، 117 ، 116‬لسنة ‪ 1417‬هـ ‪ 1997 ،‬ما‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫مقاصد الشارع وهو وضعها للفهاما حيث قال إن النصوص ل دللة‬
‫لها على المعاني التبعية‪ ،‬إضافة إلى أن المص ـ لحة هي ما ثبت‬
‫قطعاا بالسـتقراء ‪ ،‬فكأن الش ـ اطبي يرد مس ـ لك التعليل بالوصف‬
‫المناسبِّ‪ ،‬ويرد تعليل الشريعة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد‬
‫بالمعنى المعهود عند القائلين به‪.‬‬
‫وهذا ما جعل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يرى أن معظم‬
‫استدللت الشاطبي على تعليل الشريعة غير صالحة )‪ . (1‬وهو نفسه‬
‫ما أثار الدكتور أحمد الريسوني وجعله يطلق على هذا الرأي‬
‫للشاطبي بأنه من الثار السلبية لعلم الكلما‪ ،‬وأن سببِّ هذا‬
‫الموقف الذي اتخذه الشاطبي هو تأثره بالنظرةا الشعرية‪ .‬يقول‬
‫الدكتور الريسوني تحت عنوان‪ ) :‬إ دراك المصالح بالعقل(‪:‬‬
‫»المسألة المعروفة في علم الكلما وفي علم أصول الفقه بمسألة‬
‫التحسين والتقبيح‪ ... .‬لن الشاطبي نفسه لم ينجي من بعض الثار‬
‫السلبية لها‪ ،‬وأعني بالذات تأثره بالنظرةا الشعرية إلى الموضوع‪.‬‬
‫بل أن هذه النظرةا الشعرية ما زالت رائجةا ‪ -‬إن لم تكن سائدةاا ‪-‬‬
‫اليوما«هل )‪. (2‬‬
‫ولثبات أشعرية الشاطبي‪ ،‬يذكر الريسوني ما يسميه جوهر‬
‫النظرية الشعرية‪ ،‬وبعض نصوص الشاطبي‪ .‬يقول‪» :‬فليس‬
‫عندهم شيء حسن إل بتحسين الشرع له‪ ،‬أما بدون تحسين الشرع‬
‫وتقبيحه فل حسن ول قبح‪ ،‬وكل المور على حد سواء‪ ،‬وهذا‬
‫بالضبط ما يرديقده الشاطبي«هل)‪ . (3‬ويقول‪» :‬فإن التأثير الشعري‬
‫بادم على كلمه‪ ،‬فهو يتضمن إنكار حسن الفعال وقبحها أي‬
‫كونها ‪ -‬ذاتها ‪ -‬مصلحة أو مفسدةا‪ ،‬إذ الفعال والتروك ‪ -‬في‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ . 2/219 ،‬وأنظر المسألة التاسعة عشرةا من مسائل‬ ‫‪1‬‬

‫النوع الرابع في قصد الشارع ‪.‬‬


‫) ( أن ظ ر ‪ :‬ص‪ 181 :‬من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أحمد الريسوني‪ ،‬نظرية المقاصد عند الماما الشاطبي‪ ،‬ص‪. 263 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أحمد الريسوني‪ ،‬نظرية المقاصد عند الماما الشاطبي ‪ ،‬ص‪. 264 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪316‬‬
‫العقل ‪» -‬متساوية مماثلة«هل‪ ،‬وإذن‪ ،‬فل تحسين للعقل ول تقبيح‪،‬‬
‫وهذا هو جوهر النظرية الشعرية«هل )‪ . (1‬ثم يدافع عن فكرةا أن‬
‫الحسن والقبح في الفعال ذاتيان وأن العقل يستطيع‪ ،‬وله الحق‪،‬‬
‫أن يحسن ويقبح‪ ،‬ويرى أن من العلماء من تورييع عن هذا القول‬
‫كي ل ينسبِّ إلى العتزال ‪ ،‬وليس لنهم يرونه خطأ‪ ،‬ويذكر من‬
‫هؤلء أبا المعالي الجويني والغزالي على سبيل المثال‪ .‬فيقول‪:‬‬
‫»ويبدو لي أن أبا المعالي‪ ...‬قد خرج عن طوق النظرية‬
‫الشعرية«هل )‪ . (2‬ويقول‪» :‬ولئن كان أماما الحرمين قد اضطر‬
‫اضطراراا إلى هذا القدر من العترافَّ بالتحسين والتقبيح«هل‪.‬‬
‫ويقول‪» :‬ومن غريبِّ ما تصنعه الخصومات والصراعات أن تجد‬
‫الماما الغزالي ‪ -‬وهو عملق الفكر السلمي ‪ -‬يخشى ويحذر أن‬
‫ينسبِّ إليه ما نسبِّ إلى هؤلء من التأثر بالمعتزلة‪ ،‬فقد هم أن‬
‫يصرح بإدراك العقول للمصالح«هل)‪ . (3‬ثم يحاول الدكتور‬
‫الريسوني إثبات صحة القول بتحسين العقل وتقبيحه)‪. (4‬‬
‫إن ال مر ا د من هذه القوال للدكتور الريسوني هو الشارةا‬
‫إلى التعارض بين منهج الشاطبي وغيره في قضية التعليل‬
‫بالمصالح والمفاسد‪ ،‬بل إن القول بعلية جلبِّ المصالح ودرء‬
‫المفاسد للحكاما الشرعية يلزما منه القول بالتحسين والتقبيح‬
‫بالعقل‪.‬‬
‫و تنبغي الشارةا هنا إلى أن مسألة أن التحسين والتقبيح‬
‫شرعيان ل عقليان مسألة قطعية‪ ،‬أما الخلفَّ في قدرةا العقل على‬
‫التحسين والتقبيح‪ ،‬فل يعني عند من يقول بقدرته‪ ،‬أنه يضفي‬
‫شرعيةا على المحسن عقلا‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فل‬

‫‪. 265‬‬ ‫المر جع نفسه‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫‪. 267‬‬ ‫المر جع نفسه‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫‪. 274‬‬ ‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫‪. 293 - 276‬‬ ‫المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪317‬‬
‫الجويني ول الغزالي يميل أي منهما إلى صحة التحسين والتقبيح‬
‫العقليين ‪ .‬يقول الجويني‪» :‬فليس الحكم المضافَّ إلى متعلقه‬
‫صفةا فيه ثابتة‪ ،‬فإذا قلنا‪ :‬شرب الخمر محرما‪ ،‬لم يكن التحريم‬
‫صفةا ذاتيةا للشرب‪ .‬وإذا أوجبنا الشرب عند الضرورةا فهو‬
‫كالشرب المحرما عند الختيار‪ .‬والمعني بكونه محرماا أنه متعلق‬
‫النهي‪ ،‬وبكونه واجباا متعلق المر«هل)‪ . (1‬ويقول‪» :‬ثم من أحكاما‬
‫الشرع التحسين والتقبيح وهما راجعان إلى المر والنهي‪ ،‬فل‬
‫يقبح شيء في حكم ال تعالى لعينه‪ ،‬كما ل يحسن شيء‬
‫لعينه«هل )‪. (2‬‬
‫ويقول الغزالي‪» :‬إن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فل‬
‫حكم‪ ،‬فلهذا قلنا‪ :‬العقل ل يحسن ول يقبح ول يوجبِّ شكر المنعم‬
‫ول حكم للفعال قبل ورود الشرع«هل )‪. ( 3‬‬
‫وتـتـبـع كلما الماميـن‪ ،‬الجـويـنـي والغـزالي‪ ،‬ل يـدع‬
‫مجالا لما توهمـه الدكتور الريسوني‪.‬‬
‫والذين يعللون بالمصالح ل يرون أن هذا تشريع بالعقل‪،‬‬
‫وإنما يرونه بموجبِّ المر الشرعي بخلفَّ معارضيهم‪ ،‬فإذا أشكل‬
‫أمر هذا التعليل واقتضى تحسيناا أو تقبيحاا عقلياا فإنه يرد بل‬
‫تردد‪ ،‬وإذا رأى الدكتور الريسوني أن حل الشكال يكون بالقول‬
‫بشرعية التحسين والتقبيح بالعقل فإنه يكون قد شطح بعيداا‪.‬‬
‫التعارض بين التعليل بالمصالح وأحاكمية‬
‫الشـرع‪:‬‬
‫ليس ثمة تعارض بين هذين الصلين على منهج الشاطبي‪ ،‬إذ إن‬
‫المصالح والمفاسد ل تتقرر عنده إل بالشرع‪ ،‬أي إن كون الشيء‬
‫مصلحة أو مفسدةا هو من قبيل التحسين والتقبيح‪ .‬ولكن‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 1/79 ،‬فقرةا‪. 8 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬فقرةا‪. 9 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬المستصفى‪. 1/55 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪318‬‬
‫التعارض قائم إذا اعتبرت المصلحة بحسبِّ نظر العقلء وأهل‬
‫النظر وتقريرهم للمناسبِّ أو لما هو مصلحة وما هو مفسدةا‪.‬‬
‫وللقائلين بهذا أدلتهم على التعليل بالمصالح فهل تتعارض أدلتهم‬
‫مع أصل التعبد والمتثال ؟‬
‫والجواب على منهج الشاطبي‪ :‬إنها‪ ،‬نعم‪ ،‬تتعارض‪ .‬لذلك فهــو‬
‫يحاول نفي هذا التعارض بشكل يقلبِّ المور رأساا على عقبِّ‪ .‬فهو‬
‫بعد أن أنهى إثبات وتقرير أصل المتثال كمقصد قطعي لل شــارع‪،‬‬
‫عمد إلى ما اعتمده أساساا لتعليل الشريعة بجلــبِّ المصــالح ودرء‬
‫المفاسد‪ ،‬وأعاد تكييفه بطريقةم أخرى‪ .‬ق ـ ال‪» :‬فإن قي ــ ل‪ :‬وض ـ ع‬
‫الش ــ رائ ـ ع إم ـــ ا أن ي كــون عبث ـ ـــ اا أو لحكم ـــ ة‪ ،‬فــالول باط ـــ ل‬
‫باتف ـ اق‪ ،‬وق ـ د ق ـــ ال تع ـــ الى‪   [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ ، ] ‬وق ـــ ال‪     [ :‬‬
‫‪2‬‬
‫‪  [( )، ]     ‬‬
‫‪ . (3) ]       ‬وإن‬
‫كان لحكمةم ومصلحةم‪ ،‬فالمصلحة إما أن تكون راج عــة إ لــى ا لــ‬
‫تعالى أو إلى العباد‪ ،‬ورجوعها إلى ال محال لنه غ نــي وي ســتحيل‬
‫عليه عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلما‪ ،‬فلــم يبــقي إل‬
‫رجوعها إلى العباد وذلك مقتضى أغراضهم لن كل عامــلم إنمــا‬
‫يطلبِّ مصلحة نفسه وما يوافق دنياه وأخراه‪ ،‬والشريعة تكفلت لــه‬
‫بهذا المط ل بِّ في ضمن التكليف‪ ،‬فكيف ينفــ ى أن توضــع الشــريعة‬
‫على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم‪ ،‬وأيضاا فقد ت قــدما ب يــان‬
‫أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهــم حظــوظهم‬
‫تفضلا من ال على ما يقوله المحققون‪ ،‬أو وجوباا على ما يزعمه‬
‫المعتزلة وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقاا كــان مــا ينــافيه‬

‫) ( سورةا المؤمنون‪. 115 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا ص‪. 27 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا الدخان‪. 39 - 38 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪319‬‬
‫باطلا«هل )‪ . (1‬هذا النص ي ي ر ق دي اعتراضاا على ال شــاطبي فــي كيف يــة‬
‫تقريره للمصالح‪ ،‬والشاطبي يجيبِّ على هذا النص ليــس بنفيــه أو‬
‫رده‪ ،‬بل بتأكيده ولكن يوجه معناه أو تفسيره توجيهــاا مختلفــاا‬
‫عن المعهود أو المتبادر إلى الذهن ‪ .‬ي قــول‪ » :‬فــالجواب أن و ضــع‬
‫الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدةا عليهم بحسبِّ أ مــر‬
‫الشارع وعلى الحد الذي حده ل على مقتضى أهوائهم وشــهواتهم‪،‬‬
‫ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلــة علــى الن فــوس‪ ...‬فــالوامر‬
‫والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترســال أغراضــه حــتى‬
‫يأخذها من تحت الحد المشروع وهذا هو عين المراد‪ ،‬وهــو عيــن‬
‫مخالفة الهواء والغراض‪ .‬أما أن م صــالح التكل يــف عا ئــدةا علــى‬
‫المكلف في العاجل والجل فصحيح‪ ،‬ول يلزما من ذلــك أن يكــون‬
‫نيله لها خارجاا عن حدود الشرع‪ ،‬ول أن يكون متناولا لها بنفسه‬
‫دون أن يناولها إياه الشرع‪ ،‬وهو ظاهر‪ ،‬وبه يتــبين أن ل تعــارض‬
‫بين هذا الكلما وبين ما تقدما لن ما تقدما نظر فــي ث بــوت ال حــظ‬
‫والغرض مـن حيـث أثبتـه الشـارع ل مـن حيــث اقتضـاه الهـوى‬
‫والشهوةا«هل )‪. (2‬‬
‫إن ما يلحظ في هذا النص‪ ،‬وفي سائر كتاب الموافقات‪ ،‬أن‬
‫مراد الشاطبي بلفظ المصلحة المعتبرةا شرعاا هو غير المعنى‬
‫المعهود عند غيره‪ .‬أما المعنى المعهود فهو يستعمل له ألفاظاا‬
‫أخرى مثل الحظ والغرض والمنفعة والهوى‪.‬‬
‫ومراد الشاطبي في رفعه للتعارض أن حظوظ العباد‬
‫وأغراضهم وشهواتهم ل تتحقق ول يحصلون عليها باتباعهم لها‪،‬‬
‫وإنما تتحقق بامتثالهم لحكاما الشريعة‪ ،‬والعبد قد يرى تحقق‬
‫منفعته أو غرضه أو إشباع حاجته بطريق ما‪ ،‬فإذا اتييبعه‪ ،‬فإن‬
‫ذلك هو إتباع الهوى‪ ،‬ولو كان يظن أن هذه مصلحة والشرع إنما‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/117 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 118 - 2/117 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪320‬‬
‫جاء لجل المصالح‪ .‬فإن هذا الظن غير شرعي‪ ،‬وهذه ليست‬
‫مصلحة عند الشاطبي‪ .‬وإذا كان تحقيق المنافع والغراض‬
‫وإشباع الحاجات مشروعاا‪ ،‬فليس كل طريق إلى ذلك مشروعاا‪،‬‬
‫فقد يكون الغرض مشروعاا كالتملك‪ ،‬ولكن طريق ه حراما‬
‫كالقمار والغش والربا والسرقة‪ ،‬فإذا كان التملك مباحاا‪ ،‬فل‬
‫يملك إل بالطريق المباح‪ ،‬وهذا معنى كلمه‪» :‬فالوامر‬
‫والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى‬
‫يأخذها من تحت الحد المشروع«هل‪ ،‬وقوله‪» :‬ول أن يكون متناولا‬
‫لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع«هل‪.‬‬
‫وهكذا فإن الشاطبي يقول بــأن ال شــريعة إن مــا و ضــعت ل جــل‬
‫مصالح المكلفين في الدارين‪ ،‬ولكن المصالح ل تعرفَّ إل بال شــرع‪،‬‬
‫ول يصح للمكلف أن يتنــاول ح ظــه إل بــالطريق الـذي عينـه لــه‬
‫الشرع‪ ،‬وينتهي المعنـى عن ده إلـى أن ل فـرق بي ن أن يق ول إن‬
‫الشريعة وضعت لجل العباد‪ ،‬وبين أن يقول إن العباد خلقوا ل أ جــل‬
‫الشريعة‪ ،‬وهو مدلول قوله تعالى‪    [ :‬‬
‫‪. (1) ]  ‬‬
‫فإذا كانت أغراض العباد ومنافعهم وشهواتهم موجودةا في سد‬
‫حاجات الجوع والعطش والبرد والحر‪ ،‬والملك والمــن والنســاء‬
‫والرئاسة وغير ذلك‪ ،‬فهل جاءت الشريعة على أقوما نظاما لت ضــمن‬
‫للناس إشباع حاجاتهم الحقيقية‪ ،‬وبالتالي كانت الشريعة لجلهم؟‬
‫أما أن الشريعة هي أوامر ونواه من ال يجبِّ على ال نــاس المت ثــال‬
‫لها‪ ،‬فخلق ال في الناس ما خلق فيهم من حاجات وشهوات وغرائز‪،‬‬
‫تدفعهم إلى الطاعات‪ ،‬فالشريعة تأمر بعبادةا ال والخضوع والتذلل‬
‫له‪ ،‬فخلق ال في الناس فطرةا التدين والتعبد لط فــاا ب هــم وعونــاا‬
‫لهم على الطاعة‪ ،‬وأمرهم بحفظ النفس وبالنكاح ورعاية الســرةا‬
‫وبالنفقة‪ ،‬وخلق في هــم شــهوةا وعاط فــة تعين هــم علــى ذ لــك؟ أي‬
‫المرين هو التفسير الصحيح؟ إن الجابة علــى هــذا تح تــاج إ لــى‬
‫) ( سورةا الذاريات‪. 56 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪321‬‬
‫دليل‪ ،‬عقلياا كان أو نقل يــاا‪ ،‬وإذا كــانت ح جــج ال قــائلين بعل يــة‬
‫المصالح بمعنى الحظوظ والمنافع تقوما على التفسير الول‪ ،‬فــإن‬
‫الشاطبي يأخذ بالتفسير الثاني‪ .‬يقول‪» :‬إن حكمة الحكيم الخبير‬
‫حكمت أن قياما الدين وا لــدنيا إن مــا ي صــلح وي ســتمر بــدواع مــن‬
‫النسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغ يــره فخلــق لــه‬
‫شهوةا الطعاما والشراب إذا مسه الجوع والعطــش ليحركــه ذلــك‬
‫الباعث إلى التسببِّ في سد هذه الخلة بما أمكنه‪ ،‬وكذلك خلق له‬
‫الشهوةا إلى النساء لتحركه إلى اكتساب السباب الموصلة إليهــا‪،‬‬
‫وكذلك خلق له الستضرار بالحر والــبرد وال طــوارق العار ضــة‬
‫فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والســكن‪ ،‬ثــم خلــق الجنــة‬
‫والنار وأرسل الرسل مبينةا أن الستقرار ليس ههنـا‪ ،‬وإنم ا ه ذه‬
‫الدنيا مزرعة لدار أخرى وأن السعادةا البديــة وال شــقاوةا البديــة‬
‫هنالك‪ ،‬لكنها تكتسبِّ أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده ال شــارع أو‬
‫بالخروج عنه‪ ...‬ولــو شــاء ا لــ لكلييــف ب هــا مــ ع ال عــراض عــن‬
‫الحظوط‪ ،‬أو لكلف بها مع سلبِّ ا لــدواعلي المجبــول علي هــا لك نــه‬
‫أمتن على عبادةا بما جعله وسيلةا إلى ما أراده مــن ع مــارةا الــدنيا‬
‫للخرةا وجعل الكتساب لهذه الحظوظ مباحــاا ل ممنوعــاا لكــن‬
‫على قواني ـ ن ش ـ رعية هي أبل ـ غ فــي المص ـــ لحة وأج ـ ـــ رى ع لــى‬
‫الدواما مم ـ ا يع ـ ده العب ـ د مص ـ لح ـــ ة [ ‪   ‬‬
‫‪ (1)] ‬ولو ش ـ اء لمنعنا في الكتس ـــاب ال خــروي الق صــد‬
‫إلى الحظوظ فإنه المالك وله الحجة البالغ ـ ة‪ ،‬ولكنه رغبن ـ ا فــي‬
‫القي ـ اما بحقوقه الواجبة علينا بوع ـ د حظي لن ـ ا وعج ـــ ل لنــا مــن‬
‫ذلك حظوظاا كثي ـ رةا نتمتع بها في طري ـ ق ما كلفنا به«هل)‪. (2‬‬
‫فهل أثبت الش ـ اطبي فكرةا التعليل بجلبِّ المصالح ودرء‬
‫المفاسد‪ ،‬أما أنه نقصها؟! يعتمد ذلك على معنى المصلحة ومعنى‬
‫المفسدةا‪ ،‬أي على مفهوما كل منهما‪ ،‬والواضح أنه قد نقضها إذا‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 216 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/122 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪322‬‬
‫كانت بالمعنى المعهود عند الصوليين قبله‪ ،‬أو بالمعنى الشائع‬
‫اليوما‪.‬‬
‫المقاصد الشرعية ضأربان أصـلية وأتابعية‪:‬‬
‫تحصل إذاا أن الشريعة تراعي حظوظ العباد وأغراضهم‬
‫وأوصافهم‪ ،‬ولكن هذه المراعاةا ل تعني اتباعها في التشريع‪ ،‬وإنما‬
‫يعني اتباع الحكاما الشرعية لن الحظوظ تحصل بها‪ .‬فحفظ‬
‫الدين والنفس والمال وغيرها من المقاصد الشرعية هي أيضاا‬
‫حظوظ ومقاصد للعباد‪.‬‬
‫وحظوظ الع ب اد ومنافعهم متغيرةا متبدلة‪ ،‬وأحكاما الشريعة‬
‫ثابتة‪ .‬ولذلك فإن الشاطبي يرد قول الرازي‪ :‬إن الصل في‬
‫المنافع الذن وفي المضار المنع‪ .‬وكذلك يقول‪» :‬كم من‬
‫صاحبِّ هوى يود لو كان المباح الفلني ممنوعاا حتى أنه لو‬
‫وكل إليه تشريعة لحرمه«هل )‪ ، (1‬ويقول‪» :‬حتى لو فيرض جعل‬
‫ذلك إليه لوجبه‪ ،‬ثم قد يصير المر في ذلك المباح بعينه على‬
‫العكس‪ ،‬فيحبِّ الن ما يكره غداا وبالعكس‪ ،‬فل يستتبِّ في قضية‬
‫حكم على الطلق«هل )‪. (2‬‬
‫إل أن حظوظ العباد قد تلتقي مع مقاصد الشريعة‪ ،‬أي قد‬
‫تكون خادمة لها‪ ،‬كالندفاع إلى العمل للتكسبِّ‪ ،‬وكالنكاح‪ ،‬وقضاء‬
‫الشهوات والستجابة للفطرةا‪ ،‬فهل هذه المقاصد مقاصد شرعية‪.‬‬
‫أي قصد الحظوظ هل هو من مقاصد الشريعة؟ يقول‪» :‬المقاصد‬
‫الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعية‪ ،‬فأما الصلية فهي‬
‫التي لحظ فيها للمكلف وهي الضروريات المعتبرةا في كل‬
‫ملة«هل)‪ ، (3‬ثم قال‪» :‬وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها‬
‫حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جيبل عليه من نيل‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/116 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/120 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪323‬‬
‫الشهوات والستمتاع بالمباحات وسد الخلت«هل)‪. (1‬‬
‫أما قوله إن الضروريات لحظ فيها للمكلف‪ ،‬مع أنه يقرر في‬
‫مواضع عديدةا أن كل تكاليف الشريعة ترجع على النسان‬
‫بحظوظه العاجلة أو الجلة‪ ،‬فمثلا يقول‪» :‬إن الضروريات‬
‫ضربان‪ :‬أحدهما‪ :‬ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود لقياما‬
‫النسان بمصالح نفسه وعياله في القتيات واتخاذ السكن والمسكن‬
‫واللباس وما يلحق بها من البيوع والجارات والنكحة وغيرها من‬
‫وجوه الكتساب التي تقوما بها الهياكل النسانية‪ ،‬والثاني‪ :‬ما‬
‫ليس فيه حظ عاجل مقصود كان من فروض العيان كالعبادات‬
‫البدنية والمالية من الطهارةا والصلةا والصياما والزكاةا والحج‬
‫وما أشبه ذلك‪ ،‬أو من فروض الكفايات كالوليات العامة من‬
‫الخلفة والوزارةا والنقابة والعرافة والقضاء والصلوات والجهاد‬
‫والتعليم وغير ذلك من المور التي شرعت عامةا لمصالح‬
‫عامة«هل)‪ ، (2‬ف إن قوله ذلك‪» :‬ل حظ فيها للمكلف«هل هو من جهة‬
‫كونها أوامر ونواه م يجبِّ اللتزاما بها بناءا على أصل المتثال‬
‫بغض النظر عما تؤول إليه من نتائج‪ .‬نعم‪ ،‬إنها تؤول إلى حظ‬
‫العبد‪ .‬ولكنها من حيث كونها ضرورية‪ ،‬أي مصالح ثابتة شرعاا‪،‬‬
‫يجبِّ اللتزاما بها لنها شرعية‪ ،‬وليس لنها تؤول إلى الحظوظ‪،‬‬
‫فالحظوظ غير ثابتة‪ ،‬ونظر العبد إلى حظوظه متقلبِّ‪ ،‬أما هذه‬
‫الضروريات فهي ثابتة‪ .‬يقول‪» :‬وإنما قلنا إنها لحظ فيها للعبد‬
‫من حيث هي ضرورية لنها قياما بمصالح عامة مطلقة ل تختص‬
‫)‪(3‬‬
‫بحال دون حال ول بصورةا دون صورةا‪ .‬ول بوقت دون وقت«هل‬
‫ويقول‪» :‬ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلفَّ هذه‬
‫المور)‪ (4‬لحجر عليه وحيل بينه وبين اختياره‪ ،‬فمن هنا صار فيها‬

‫المصدر نفسه‪. 2/122 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 2/123 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/120 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫هذه المور هي‪ ،‬حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪324‬‬
‫مسلوب الحظ محكوماا عليه في نفسه‪ .‬وإن صار له فيها حظ فمن‬
‫جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الصلي«هل )‪. (1‬‬
‫إن الشاطبي يركز على إثبات أن المقاصد الضرورية هي‬
‫التي لحظ فيها للمكلف‪ ،‬وذلك دفعاا لي اعتراض على رأيه‬
‫السالف في قصد المتثال ‪ ،‬ومفهومه للمصلحة والتعليل بها‪ ،‬لذلك‬
‫يرشح في ثنايا أبحاثه فكرةا مهمة لمنهجه‪ ،‬وتبرر قوله بأنه‬
‫لحظ للمكلف في الضروريات ‪ .‬وهي أن مقاصد الشريعة وإن‬
‫كانت ترجع على المكلف بإثبات حظوظه‪ ،‬فإنها في طريق ذلك‬
‫ترجع بإثبات حظوظ غيره‪ ،‬سواء كان له حظ في حظوظ غيره‪،‬‬
‫كالزوجة والبن أو غيرهم ممن يهوى استيفاءهم لغراضهم‪ ،‬أو‬
‫لم يكن له حظ في حظوظهم كما في الجارات والبيوع وغيرها‬
‫من المعاملت‪ ،‬فهو يستوفي حظه بالسكن وغيره يستوفي حظه‬
‫بملك الجرةا‪ ،‬وإن لم يكن له هوى أو رغبة أصلا باستيفاء الخر‬
‫لحظه‪.‬‬
‫فهو يقول إ ن المقاصد الصلية تنقسم إلى عينية وكفائية‪،‬‬
‫وأما كونها عينية فعلى كل مكلف في نفسه‪ ،‬فهو مأمور بحفظ‬
‫دينه ونفسه وعقله ونسله وماله‪ ،‬وأما كونها كفائية‪» :‬فمن‬
‫حيث كانت منوطة بالغير أن يقو ما بها على العموما في جميع‬
‫المكلفين لتستقيم الحوال العامة التي ل تستقيم الخاصة إل‬
‫بها«هل)‪ . (2‬ويقول بشأن العمال التي فيها استيفاء للحظوظ بطرق‬
‫مشروعة‪» :‬إن هذا الضرب قسمان‪ :‬قسم يكون القياما بالمصالح‬
‫فيه بغير واسطة كقيامه بمصالح نفسه مباشرةا)‪ (3‬وقسم يكون‬
‫القياما بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير كالقياما بوظائف‬
‫الزوجات والولد والكتساب بما للغير فيه مصلحة كالجارات‬
‫والكراء والتجارةا وسائر وجوه الصنائع والكتسابات‪ ،‬فالجميع‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/121 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( وذلك كالعبادات لحفظ الدين‪ ،‬وكحفظ نفسه وعقله ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪325‬‬
‫يطلبِّ النسان بها حظه فيقوما بذلك حظ الغير خدمةا دائرةاا بين‬
‫الخلق كخدمة بعض أعضاء النسان بعضاا حتى تحصل المصلحة‬
‫للجميع«هل )‪ . (1‬أي أن الحظوظ التي تستوفى والمنافع التي تحصل‬
‫نتيجةا لحكاما الشريعة‪ ،‬لها نتائج تدور بين الخلق‪ ،‬أي أنها ذات‬
‫علقة بنظاما عاما في المجتمع وبشبكة من العلقات والمصالح‬
‫العامة‪ ،‬وليس كل هذا ميدنريكي للناظر فإن أدركت منافع أو‬
‫حكم‪ ،‬فثم غيرها لم ييدرك‪ ،‬يقول‪» :‬إنا إذا فهمنا بالقتضاء أو‬
‫التخيير حكمةا مستقلة في شرع الحكم فل يلزما من ذلك أن ل‬
‫يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك‪،‬‬
‫وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دن ي وية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم‬
‫فاعتبرناها بحكم الذن الشرعي ولم نعلم حصر المصلحة والحكم‬
‫بمقتضاها في ذلك الذي ظهر‪ ،‬وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ول‬
‫ظن‪ ،‬لم يصح لنا القطع بأن ل مصلحة للحكم إل ما ظهر لنا‪ ،‬إذ‬
‫هو قطع على غيبِّ بل دليل‪ ،‬وذلك غير جائز‪ ،‬فقد يقع لنا إمكان‬
‫حكمة أخرى شرع لها الحكم فصرنا من تلك الحقكيم واقفين مع‬
‫التعبد«هل)‪ (2‬لذلك فإن النظر إلى الضروريات على أنها ل حظ فيها‬
‫للمكلف‪ ،‬هو لكي ل يصير الحظ الذي قد تؤول إليه هو المقصود‬
‫الشرعي‪ ،‬لن ذلك يضيع حظوظاا أخرى كثيرةا‪ ،‬واتخاذ هذه‬
‫الحظوظ أو المنافع كمقاصد بحجة أن الشرع قد قصد إلى‬
‫استيفائها له آثاره على شبكة العلقات والمصالح العامة في‬
‫المجتمع إضافةا إلى ما قد يؤدي إليه ذلك من تضييع للوامر‬
‫والنواهي‪.‬‬
‫وكمثال على هذا حكمي قتل المرتد‪ ،‬فقد قال النبي ‪» : ‬مإن‬
‫دل دينه فاقتلوه«)‪ ، (3‬وأجمع الصحابة على هذا الحكم‬ ‫بَ ي‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/124 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/219 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( البخاري‪ ،‬باب ل يعذب بعذاب ال ) ‪ ،( 6411 ) ،( 2794‬الترمذي‪ ،‬باب‬ ‫‪3‬‬

‫ما جاء في المر تــد ) ‪ ( 1378‬و قــال‪ :‬ح ســن صــحيح والع مــل علــى هــذا‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫وفعلوه‪ .‬وهو من الضروريات في أصل حفظ الدين‪ .‬وقد يذكر‬
‫الباحثون حكماا له‪ ،‬كقولهم أن الردةا تضعف شوكة السلما‪،‬‬
‫وتشوش على ضعفاء المسلمين‪ ،‬وتؤثر على غيرهم إذ تمنع أو‬
‫تؤخر دخولهم فيه وغير ذلك‪ ،‬وقتل المرتد يمنع كل ذلك‪.‬‬
‫لذلك فهذا الحكم له منافع للمجتمع والفراد‪ ،‬وقد وجد في‬
‫عصرنا من يقول بعدما قتل المرتد متذرعاا ب أن المخاطر قد زالت‪،‬‬
‫وأن السلما والمسلمين اليوما ل يؤثر عليهم مثل هذا العمل‬
‫فالفرق شاسع بين واقع المسلمين في المدينة وواقعهم اليوما‪.‬‬
‫و ب تطبيق معنى المقاصد الصلية عند الشاطبي‪ ،‬فإنه يجبِّ أن ينظر‬
‫إلى حكم المرتد على أنه أصل ضروري معرىا عن الحظ‪ ،‬فل‬
‫يرتفع ولو تبدلت الحوال ‪ ،‬وهذه الحكم المذكورةا ‪ ،‬والتي قد‬
‫تذكر ليست هي كل الحكم‪ ،‬وفوق ذلك فإن عدما تطبيق النص‬
‫نقض للتعبد‪ ،‬حتى ولو ثبتت بعض هذه الحكم ثبوتاا قطعياا‬
‫وصارت بذلك مصالح أي أصولا‪ ،‬فإنها ل تلغي النص‪ ،‬لن اللتزاما‬
‫به أصل أيضاا إذ هو يرجع إلى معنى قطعي وهو حفظ الدين‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى فإن أي حكمة متوهمة تؤول إلى ترك معنى‬
‫النص‪ ،‬تكون مردودةا‪ ،‬لن معاني الحكاما ل تثبت إل بالستقراء ‪،‬‬
‫والستقراء هنا يفيد مناقضتها للصول‪ ،‬فترد قطعاا‪ ،‬وهذا جرياا‬
‫على منهج الشاطبي نفسه‪.‬‬
‫أما مراعاةا الحظوظ وهو ما سماه المقاصد التابعية‪ ،‬فذلك أن‬
‫الحكاما الشرعية ترجع على المكلف بالحفظ والمن والرعاية‬
‫ونيل ما تقتضيه أوصافه الشهوانية‪ ،‬وقد دل الستقراء على هذا‬
‫فصار نيل هذه الحظوظ مقصوداا شرعياا‪ ،‬فيصح للمكلف أن يقصد‬
‫بأعماله إشباع هذه الحاجات ونيل هذه الشهوات‪ ،‬وأن تكون أعماله‬
‫ب قصد نيل الحظوظ‪ .‬إل أنه مع ذلك سماها مقاصد تابعية في‬

‫والنسائي ) ‪ .( 3997 ) - ( 3991‬أبو داود ) ‪ ( 3787‬وابن ماجة ) ‪( 2526‬‬


‫وأحمد ) ‪.( 1775‬‬

‫‪327‬‬
‫مقابلة المقاصد الصلية‪ ،‬ومراده بذلك أنه يصح له أن يقصدها‪،‬‬
‫ولكن فقط من تحت الحد المشروع أي ل يصح أن يقوما في سبيل‬
‫ذلك إل بالعمال المأذون بها شرعاا‪ .‬ففي هذه الحالة يكون قصد‬
‫الحظوظ مقوياا لفكرةا التعبد‪ ،‬وقد تقدما هذا في مقدمته السابعة‬
‫حيث قال‪» :‬كل علم شرعي فطلبِّ الشارع له إنما يكون من حيث‬
‫هو وسيلة إلى التعبد به ل تعالى ل من جهة أخرى‪ ،‬فإن ظهر فيه‬
‫اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني ل بالقصد الول«هل)‪، (1‬‬
‫وذكر في هذه المقدمة أدلته ومنها‪» :‬أن الشرع إنما جاء بالتعبد‬
‫وهو المقصود من بعثة ال أ نبياء عليهم السلما«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬كل‬
‫تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادماا للقصد الصلي أو ل‪ .‬فإن‬
‫كان خادماا له‪ ،‬فالقصد إليه ابتداء صحيح‪ ...‬وإن كان غير خادما‬
‫له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح«هل)‪. ( 3‬‬
‫فالمقاصد التابعة هي مقاصد شرعية وهي في الوقت نفس ه‬
‫يقصدها المكلف لنها تنسجم مع فطرته وأوصافه‪ ،‬إل أنه ل يصح‬
‫القصد إليها إذا كان ذلك بواسطة انتهاك الحكاما أو النصوص‬
‫الشرعية‪ .‬قال بشأن الذين يأخذون حظوظهم من غير خض ـ وع‬
‫للمر والنهي‪» :‬تحرزاا ممن يأخذها غير ملحظم للمر والنهي‪،‬‬
‫وهذا هو الحظ المذموما‪ ،‬إذ لم يقف دون ما حيديي له بل تجرأ‬
‫كالبهيمة ل تعرفَّ غير المشي في شهواتها«هل )‪. (4‬‬
‫وإذا كان من طبع النسان أن يقصد حظوظه‪ ،‬فإن من هذه‬
‫الحظوظ ما هو شرعي أي من المقاصد التابعة‪ ،‬ومنها ما هو غير‬
‫ذلك‪ .‬وقد يتخذ المكلف لمقصده طريقاا شرعياا أو غير شرعي‪.‬‬
‫وكذلك قد يقوما المكلف بالعمل بقصد الحظ وقد يقوما به بقصد‬
‫المتثال‪ ،‬أو بالقصدين معاا‪.‬‬
‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/30 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/31 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 36 - 1/35 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/133 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪328‬‬
‫هذه الحـالت كلها سـيتم بحثهـا بالتفصـيل ‪ -‬إن شـاء ال ‪-‬‬
‫في الفصل التالي‪ ،‬فصل مقاصد المكلف‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫بين الشـريعة وأمإقاصـدها‬
‫أوأ بين التعبد وأاتباع المعاني‬

‫مإوضأـوع هذا المبحث‪:‬‬


‫تبين في النوع الول من مقاصد الشارع أن الشريعة وضعت‬
‫لحفظ مصالح العباد‪ .‬فأحكاما الشريعة لها غايات تنتج عن التزاما‬
‫أحكامها‪ ،‬وقد قصدها الشارع بتشريع الحكاما‪ .‬وتبين في النوع‬
‫الرابع أن من مقاصد الشارع التقيد بالوامر والنواهي‪.‬‬
‫وبين هذين النوعين تنشأ تساؤلت‪ .‬فإذا شرعت الحكاما‬
‫لمصالح العباد‪ ،‬فهل الحكاما وسيلة للمصالح‪ ،‬فيمكن تغيير الحكاما‬
‫لجل الحفاظ على غاياتها؟ وإذا ثبتت غايات معينة للحكاما قصدها‬
‫الشارع بها‪ ،‬فهل يكون المكلف مكلفاا بالغايات أي بمسببات الحكاما‬
‫كما هو مكلف بالحكاما ؟ وهل يصح أن يقصد المكلف بالحكاما‬
‫غايات غير ما قصد الشارع بها ؟‬
‫وإذا كان قصد الشارع المتثال والتعبد‪ ،‬فهل يصح للمكلف‬
‫المتثال من غير نظر إلى الغايات المقصودةا للشارع؟ وهل كل ما‬
‫تتسببِّ به الحكاما أو ينشأ عنها يعد مصالح أو مقاصد للشارع؟‬
‫وكيف يعرفَّ ما هو مقصود له ‪ -‬تعالى ‪ -‬مما هو ليس كذلك؟‬
‫وهل تتغير المصالح والمفاسد بتغير العرافَّ تبعاا لتغير الزمنة‬
‫والمكنة؟ وهل لذلك أثر على الحكاما ؟‬
‫لمثل هذه السئلة وما شاكلها كان هذا المبحث‪ ،‬وستأتي‬
‫ضمنه الجابة عليها ‪ -‬إن شاء ال ‪ -‬بحسبِّ منهج الشاطبي‪.‬‬
‫عموم الشريعة وأثاباتها‪:‬‬
‫يؤكد الشاطبي ضمن مقصد التعبد والمتثال على عموما‬

‫‪330‬‬
‫الشريعة وثباتها‪ .‬فهي عامة في جميع المكلفين ل يخرج عنها‬
‫مكلف البتة‪ ،‬وعامة في جميع الفعال‪ ،‬فما من فعلم إل وتجد‬
‫الشريعة حاكمةا عليه‪ .‬ول يخرج مكلف في فعل ما عن الحكم‬
‫العاما إل بنص شرعي خاص ل يتعدى حكمه المكلف‪ ،‬ول يقدح‬
‫ذلك بالصل وهو عموما الشريعة‪.‬‬
‫ومما يقتضيه عموما الشريعة ثبات أحكامها في كل زمان‬
‫ومكان وإل لما كانت عامةا في المكلفين فالتنزيل قد توقف بعد‬
‫موت النبي ‪ ، ‬فل نسخ إذاا‪ ،‬ول ينقلبِّ الحسن قبيحاا ول القبيح‬
‫حسناا‪.‬‬
‫وإذا كانت بعض الحكاما تتغير‪ ،‬فذلك تبعاا لتغير مناطاتها‪،‬‬
‫كأن يكون الشارع قد ربط الحكم بعلة فيتغير الحكم تبعاا لوجود‬
‫العلة أو عدمها‪ .‬أو يكون قد رتبِّ الحكاما على أوصافَّ معينة‪،‬‬
‫فيتغير الحكم بحسبِّ الوصف‪ ،‬كالبلوغِّ مثلا في التكليف‪ ،‬قد‬
‫يختلف من مكان إلى مكان أو بين شخص وشخص‪ .‬فيقع التكليف‬
‫على شخص في الحادية عشرةا مثلا وعلى غيره في الخامسة‬
‫عشرةا‪ .‬فالتغير بهذا المعنى ليس تغيراا في أصل الخطاب‪ ،‬بل هو‬
‫ثبات إذ أ ن شرط البلوغِّ في التكليف ثابت ل يتغير‪.‬‬
‫وكذلك الحكاما التي تؤثر فيها نية المكلف أو مقصده‪،‬‬
‫كالسجود ل تعالى أو لصنم أو كالنطق بالشهادتين إيماناا أو‬
‫نفاقاا يعتمد ذلك على نية الفاعل ‪ ،‬فالنية أو المقصد هنا هو من‬
‫مناط الحكم‪ ،‬أي هو جزء من الفعل‪ ،‬والحكم هو حكم لفعل يتغير‬
‫بتغيره حسبِّ الخطاب‪.‬‬
‫ومثل ذلك الحكاما التي جعلت اللفاظ أسباباا لها مثل النكاح‬
‫والطلق والعتاق‪ ،‬فإن هذه الفعال تقع بوقوع اللفاظ الدالة‬
‫عليها‪ ،‬وقد تتغير دللة اللفاظ‪ ،‬فيتعارفَّ الناس على ألفاظم‬
‫لمعانم أو على معانم للفاظم‪ ،‬ويختلف عرفَّ جماعة عن جماعة‪،‬‬
‫فيتغير الحكم المبني على تلك اللفاظ تبعاا لذلك‪ .‬ول يؤثر‬

‫‪331‬‬
‫هذا في كون اللفاظ أسباباا‪ ،‬فإن اللفاظ إنما وضعت لجل‬
‫معانيها‪ ،‬فإذا تغيرت مدلولت اللفاظ تكون العبرةا بالمدلولت أو‬
‫المعاني واللفاظ الدالة عليها‪.‬‬
‫وكذلك الحكاما التي ربطها الشارع بالعرفَّ‪ ،‬والمقصود‬
‫بالعرفَّ هنا الصطلحات أو المقادير المتعارفَّ عليها‪ ،‬كقولك‪:‬‬
‫هذه السلعة بألف‪ .‬هل هي ألف ليرةا أو دولر أو دينار‪ .‬أو بدينار‪،‬‬
‫هل هو دينار عراقي أو أردني أو ذهبي‪ .‬ومثل معاني اللفاظ‬
‫المستعملة في العقود والتصرفات‪ .‬ومثل تقدير النفقة أو تقدير‬
‫الجرةا أو المهر أو الثمن‪ .‬فهذه الشياء قد تتغير بح س بِّ المكنة‬
‫أو الزمنة أو الشخاص أو الحوال‪ ،‬وت ن بني على هذه الصطلحات‬
‫والتقديرات أحكاما‪ .‬فهذا‪ ،‬وإن قيل إنه تغير في الحكاما‪ ،‬فهو ليس‬
‫تغيراا بحسبِّ الزمان أو المكان‪ ،‬وإنما هو تغير في الواقع‬
‫والحوال‪ ،‬فإذا فرض الشرع للمطلقة مثلا نفقة المثل‪ ،‬فإن الذي‬
‫يتغير هو مقدار النفقة‪ ،‬وهو يعتمد على حال المطلقة‪ ،‬وهذا ليس‬
‫تغيراا في الحكم‪ ،‬إذ إن الحكم هو أن لها نفقة مثلها وهذا ثابت‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال أيضاا‪ :‬حرمة الميتة في الحوال العادية‪،‬‬
‫وإباحتها في حالة الضطرار ‪ ،‬ليس تغيرا في الحكاما إذ حرمتها‬
‫ثابتة في تلك الحالة‪ ،‬وإباحتها ثابتة في الحالة الخرى‪.‬‬
‫وكذلك يقال في الخمر‪ :‬حراما‪ ،‬فإذا انقلبِّ خلا حل‪ ،‬فهذا ليس‬
‫تغيراا أو انقلباا في الحكاما‪ ،‬بل حرمة الخمر ثابتة وحل الخل‬
‫ثابت‪ ،‬وعلى ذلك فالحكاما الشرعية ثابتة دائمية‪.‬‬
‫وبناءا عليه‪ ،‬ل يصح القول‪ :‬ل ينكر تغير الحكاما بتغير‬
‫الزمان والمكان)‪ . (1‬و إذا قيد التغير بالمعاني المذكورةا أعله‪،‬‬
‫أنظر مثلا‪ :‬نظرية المقاصد عند الماما ال شــاطبي للـدكتور أح مــد‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الريسون ي ‪ .‬ص‪ ، 288 :‬حيث يقول‪ » :‬ولكن أيضاي ل يمكن إنكار أن هنــاك‬
‫مصالح كثيرةا ‪ -‬ومفاسد ‪ -‬تتأثر بــاختلفَّ ال حــوال وال ظــروفَّ‪ ،‬فتتغ يــر‬
‫أوضاعها وسلم أولوياتها‪ ،‬ويتغير نفعها وضررها‪ ...‬مما يســتدعي نظــراا‬
‫جديداا وتقديراا مناسباا‪ ،‬وكل هذا يؤثر على الحكاما تأثيراا ما«‪ .‬ويقول‪:‬‬

‫‪332‬‬
‫يصبح حينئذم راجعاا إلى مناطات الحكاما أي إلى تغير في الوقائع‬
‫أو الحوال التي هي جزء من الفعل الذي جاء الحكم له ‪.‬‬
‫إن تركيز الشاطبي على مسألة عموما الشريعة وثباتها وذكره‬
‫لهذا المر ضمن مقصد التعبد وال ا متثال يؤكد مفهومه للمصالح‬
‫والمفاسد ويرد القول بتطور الشريعة ومرونتها وجواز تغيير‬
‫أحكامها ‪ ،‬يقول‪ :‬إن من خواص الشريعة »العموما والطراد ‪ ،‬فلذلك‬
‫جرت الحكاما الشرعية في أفعال المكلفين على الطلق‪ ،‬وإن‬
‫كانت آحادها الخاصة ل تتناهى‪ ،‬فل عمل يفرض ول حركة ول‬
‫سكون يدييعي إل والشريعة عليه حاكمة إفراداا وتركيباا‪ ،‬وهو‬
‫معنى كونها عامة«هل )‪ . (1‬ومن خواصها أيضاا »الثبوت من غير‬
‫زوال فلذلك ل تجد فيها بعد كمالها نسخاا ول تخصيصاا‬
‫لعمومها‪ ،‬ول تقييداا لطلقها‪ ،‬ول رفعاا لحكم من أحكامها‪ ،‬ل‬
‫بحسبِّ عموما المكلفين‪ ،‬ول بحسبِّ خصوص بعضهم‪ .‬ول بحسبِّ‬
‫حال دون حال‪ ،‬بل ما أثبت سبباا فهو سببِّ أبداا ل يرتفع‪ ،‬وما‬
‫كان شرطاا فهو أبداا شرط‪ ،‬وما كان واجباا فهو واجبِّ أبداا أو‬
‫مندوباا فمندوب وهكذا جميع الحكاما فل زوال لها ول تبدل‪ ،‬ولو‬
‫فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك«هل)‪. (2‬‬
‫ويقول‪» :‬إذا ثبت أن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح‬
‫الخروية والدنيوية وذلك على وجه ل يختل لها به نظاما ل‬
‫بحسبِّ الكل ول بحسبِّ الجزء‪ ،‬وسواء في ذلك ما كان من قبيل‬
‫الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فإنها لو كانت موضوعةا‬
‫بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تيخليي أحكامها‪ ،‬لم يكن التشريع‬

‫» وعلى كل حال فلست أريد الن ال خــوض فــي مو ضــوع تغ يــر الم صــالح‪،‬‬
‫وتغير الحكاما بتغير الزمان وال حــوال‪ ،‬وإن مــا أردت ف قــط أن أنبــه علــى‬
‫مجال واسع من المجالت التي تحتاج إلى نوع من تحسين العقل وتقــبيحه‬
‫من خلل تقديره للمصالح والمفاسد المتغيره والمتجددةا وما تتطلبه مــن‬
‫أحكاما مناسبة« ص‪. 288 :‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/44 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/45 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪333‬‬
‫موضوعاا لها‪ ،‬إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها‬
‫مفاسد‪ ،‬لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الطلق‪ ،‬فل بد‬
‫أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياا وكلياا وعاماا في جميع‬
‫أنواع التكليف والمكلفين وجميع الحوال‪ ،‬وكذلك وجدنا المر‬
‫فيها والحمد ل«هل )‪. (1‬‬
‫وعلى ذلك فالمصالح والمفاسد على ‪ -‬منهج الشاطبي ‪ -‬ثابتة‬
‫ل تتغير‪ ،‬وهي ما جعله الشارع عللا للشريعة‪ .‬ومفهوما المصالح‬
‫والمفاسد ليس هو المنافع والمضار‪ ،‬إذ هذه الخيرةا إضافية غير‬
‫ثابتة‪ .‬والحكاما غير معللة بها‪ .‬يقول‪» :‬المنافع والمضار عامتها‬
‫أن تكون إضافية ل حقيقية‪ ،‬ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو‬
‫مضار في حال دون حال‪ ،‬وبالنسبة إلى شخص دون شخص أو وقت‬
‫دون وقت«هل)‪. (2‬‬
‫ويقول‪» :‬ل يستمر إطلق القول بأن الصل في المنافع الذن‬
‫وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي‪ ،‬إذ ل يكاد يوجد‬
‫انتفاع حقيقي ول ضرر حقيقي)‪ ، (3‬وإنما عامتها أن تكون إضافية‪،‬‬
‫والمصالح والمفاسد إذا ك ا نت راجعة إلى خطاب الشارع وقد‬
‫علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسبِّ الحوال والشخاص والوقات‪،‬‬
‫حتى يكون النتفاع المعين مأذوناا فيه في وقت أو حال أو بحسبِّ‬
‫شخص وغير مأذون فيه إذا كان على غير ذلك فكيف يسوغِّ‬
‫إطلق هذه العبارةا إن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع«هل‬
‫)‪. (4‬‬

‫) ( ال مصدر نفسه‪. 2/25 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/26 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أي أن ما يكون منفعة لشخص ما قد يكون مضرةا له في حالة مختلفة‬ ‫‪3‬‬

‫أو في وقت آخر أو لشخص غيره‪ .‬وهذا بخلفَّ المصلحة التي تثبت‬
‫بالشرع‪ ،‬فهي حقيقية‪ ،‬فتكون مصلحة لكل شخص في كل حالم وفي كل‬
‫وقت‪ .‬وعلى ذلك فل يصح أن يحل محل كلمة انتفاع حقيقي أو ضرر‬
‫حقيقي كلمة انتفاع محض أو ضرر محض‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/27 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪334‬‬
‫ومعنى قوله إ ن الشريعة تتوجه بحسبِّ الحوال والشخاص‬
‫والوقات هو أ ن أحكاما الشريعة بعمومها وكليتها قد شملت كل‬
‫الفعال لكل المكلفين في كل وقت‪ ،‬فمثلا‪ :‬بينت الشريعة أحكاما‬
‫الميتة والدما ولحم الخنزير في الحوال العادية‪ ،‬وبينتها أيضاا في‬
‫حال الضرورةا‪ .‬وبينت ‪ -‬مثلا ‪ -‬حكم الجهاد على المكلفين في حال‬
‫القدرةا‪ ،‬وبينته أيضاا في حال العجز أو المرض أو العرج‪.‬‬
‫العرف وأمإدى اعتباره عند الشاطبي‪:‬‬
‫العرفَّ ليس أصلا أو مصدراا للتش ـ ري ـ ع‪ ،‬بل إن الش ـ ريع ـ ة‬
‫حاكم ـ ة على العرافَّ‪ ،‬فبما أن الش ـ ريع ـ ة عام ـ ة وكلي ـ ة فق ـ د‬
‫أعط ـ ت لكل فع ـ ل حكماا‪ .‬وقد ينشأ م ن بين الفعال المباحة أفعال‬
‫معينة يعتادها الناس‪ ،‬أو أفعال يهجرها الناس‪ ،‬أو أفعال تختص‬
‫بمناسبات أو أوقات معينة‪ ،‬فيصبح ترك الفعل المعتاد أو القياما‬
‫بالفعل المهجور أو القياما بالفعال التي اختصت بمناسبات معينة‪،‬‬
‫لفتاا للنظر ومستدعياا للتفسيرات‪ .‬أو يصبح هذا الفعل بمثابة‬
‫الصطلح أو الكناية عن معنى معين او قصد معين‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬اللباس البيض الكامل أو اللباس السود الكامل‬
‫للمرأةا‪ ،‬فالول صار في العرفَّ الحالي دالا على الزفافَّ‪ ،‬والثاني‬
‫على الحداد‪ ،‬وهناك أ لبسة معينة صارت في العرفَّ ‪ -‬العاما أو‬
‫الخاص ‪ -‬تدل على مهنة لبسها‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬أشكال معينة من اللباس أو من أغطية الرؤوس أو‬
‫الحذية‪ ،‬هي في الصل مباحة للرجال والنساء‪ .‬ولكن اختصت ‪ -‬في‬
‫العرفَّ ‪ -‬أشكال معينة منها بالرجال‪ ،‬وأخرى بالنساء‪ .‬فصار في‬
‫عرفَّ الناس‪ ،‬لبس النساء لما اختص بالرجال تشبهاا منهن بهم أو‬
‫قلة حياء ودين‪ .‬ولبس الرجال لما اختص بالنساء تشبهاا منهم‬
‫بهن وقلة حياء ودين‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬عورةا الرجل هي ما بين السرةا والركبة‪ ،‬والصل أن‬

‫‪335‬‬
‫إظهار ما سوى ذلك أو ستره مباح‪ ،‬فإذا ا عتاد الناس على ستر ما‬
‫هو أكثر من العورةا‪ ،‬صار خروج الرجل إلى الحياةا العامة ساتراا‬
‫ما هو عورةا فقط مخالفاا للعرفَّ ودالا على قلة حياء أو نقصم‬
‫في المروءةا أو غير ذلك‪.‬‬
‫ومثل ذلك‪ :‬كشف الرجل رأسه جائز وكذلك تغطيته‪ ،‬وقد‬
‫يتكون لدى بعض الناس عرفَّ في ذلك‪.‬‬
‫هذه أمثلة لما يقصد بالعرفَّ‪ .‬وقد يستعمل لفظ العرفَّ بمعنى‬
‫ما يتعارفَّ عليه الناس في إطلق بعض اللفاظ على بعض المعاني‬
‫بحيث تصبح دللة اللفظ على المعنى من قبيل الحقيقة العرفية‪،‬‬
‫وهذا من قبيل الصطلح ‪ .‬وقد يستعمل بمعنى ما يتعارفَّ عليه‬
‫الناس من تقديرات للجور والثمان والمهور وقيم السلع‪...‬‬
‫والمقصود هنا العرفَّ بالمعنى الذي ورد في المثلة المذكورةا‬
‫أعله‪ .‬وهذا ليس مصدراا للحكاما‪ ،‬وإنما هو يحتاج إلى حكم‬
‫الشريعة‪ ،‬فإن الشريعة جاءت لتحكم على أفعال العباد وعلى‬
‫عاداتهم وأعرافهم‪ ،‬ولذلك فإذا صار في العرفَّ عدما استقباح أن‬
‫تكشف المرأةا عنقها أو شعرها أو ساقيها‪ ،‬فهذا ل قيمة له شرعاا‬
‫وتظل هذه الشياء عورةا وكشفها قبيح‪.‬‬
‫ولذلك فالعرفَّ الذي يجبِّ اعتباره هو ما دل الشرع على أنه‬
‫مأذون فيه‪ ،‬ثم صار عند الناس أمارةاا أو ذا دللةم على شيء آخر‬
‫كما في المثلة أعله‪ .‬وهذا ل يغير الحكاما‪ .‬فمثلا إذا صار لفعل‬
‫معين دللة على أمر قبيح شرعاا‪ ،‬يصبح هذا الفعل قبيحاا بدللة‬
‫الشرع‪ .‬فمثلا خروج الرجل ساتراا العورةا فقط كاشفاا ما سوى‬
‫ذلك‪ ،‬إذا صار في عرفَّ الناس قبيحاا‪ ،‬فإن حرمته في الشرع ل‬
‫تعني أن العورةا قد تغيرت‪ ،‬وإنما الحرمة هي من جهة مناقضة‬
‫الحياء‪ .‬فالشرع قد أمر بالحياء‪ .‬قال النبي ‪» : ‬وأالحياء شعبة‬

‫‪336‬‬
‫مإن اليمان«)‪ (1‬ول شك أن مثل هذا الفعل فيه مناقضة للحياء‪.‬‬
‫أما إذا كان الفعل غير مأذونم فيه فل يصح أن يصبح عرفاا‬
‫مقبولا‪ ،‬ومخالفة مثل هذا العرفَّ أمر مطلوب ش ـ رعاا‪ .‬هذا هو‬
‫الع ـ رفَّ وم ـ دى اعتباره عند الش ـ اطبي‪ .‬وفيما يلي بعض نصوص ـ ه‬
‫توثيقاا لما ذكرناه‪.‬‬
‫يقول‪» :‬العوائد المستمرةا ضربان‪ :‬أحدهما‪ :‬العوائد الشرعية‬
‫التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها‪ ،‬ومعنى ذلك أن يكون الشرع‬
‫أمر بها إيجاباا أو ندباا أو نهى عنها كراهة أو تحريماا أو أذن‬
‫فيها فعلا أو تركاا‪ .‬والضرب الثاني‪ :‬هي العوائد الجارية بين‬
‫الخلق بما ليس في نفي ه ول إثباته دليل شرعي‪ .‬فأما الول فثابت‬
‫أبداا كسائر المور الشرعية‪ ...‬إما حسنة عند الشارع أو قبيحة‪،‬‬
‫فإنها من جملة المور الداخلة تحت أحكاما الشرع فل تبديل لها‬
‫وإن اختلفت آراء المكلفين فيها‪ ،‬فل يصح أن ينقلبِّ الحسن فيها‬
‫قبيحاا ول القبيح حسناا حتى يقال مثلا‪ ...‬إن كشف العورةا الن‬
‫ليس بعيبِّ ول قبيح فليجزه أو غير ذلك‪ ،‬إذ لو صح مثل هذا‬
‫لكان نسخاا للحكاما المستقرةا المستمرةا‪ ،‬والنسخ بعد موت النبي ‪‬‬
‫باطل فرفع العوائد الشرعية باطل«هل)‪ (2‬يتابع الشاطبي‪» :‬وأما‬
‫الثاني‪ :‬فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل‪ ،‬ومع ذلك فهي أسباب‬
‫لحكاما تترتبِّ عليها‪ ،‬فالثابتة كوجود شهوةا الطعاما والشراب‬
‫والوقاع‪ ...‬وإذا كانت أسباباا لمسببات حكم بها الشارع فل إشكال‬
‫في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائماا‪ .‬والمتبدلة‪:‬‬
‫منها ما يكون متبدلا في العادةا من حسن إلى قبح وبالعكس مثل‬
‫كشف الرأس فإنه يختلف بحسبِّ البقاع في الواقع‪ ،‬فهو لذوي‬
‫المروءات قبيح في البلد المشرقية غير قبيح في البلد المغربية‪،‬‬

‫) ( أخرجه البخاري في اليمان‪ ،( 8 ) ،‬ومسلم في اليمان ) ‪ ( 50‬و) ‪،( 51‬‬ ‫‪1‬‬

‫وابن ماجة ) ‪ ( 56‬و) ‪ ( 57‬والنسائي ) ‪ ،( 4918‬وأبو داود ) ‪ ،( 4056‬أحمد‬


‫) ‪.( 9333‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 199 - 198 - 2/197 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪337‬‬
‫فالحكم الشرعي يختلف باختلفَّ ذلك‪ ،‬فيكون عند أهل المشرق‬
‫قادحاا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح‪ .‬ومنها‪ :‬ما يختلف‬
‫في التعبير عن المقاصد فتنصرفَّ العبارةا عن معنى إلى عبارةا‬
‫آخرى‪ ...‬كاختلفَّ العبارات بحسبِّ اصطلح أرباب الصنائع‪ ...‬أو‬
‫بالنسبة إلى غلبة الستعمال في بعض المعاني‪ ،‬حتى صار ذلك‬
‫اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما وقد كان يفهم منه قبل‬
‫ذلك شيء آخر‪ ،‬أو كان مشتركاا فاختص‪ ...‬وهذا يجري كثيراا‬
‫في اليمان والعقود والطلق كنايةا وتصريحاا‪ ...‬ومنها ما‬
‫يختلف بحسبِّ أمورم خارجة عن المكلف كالبلوغِّ فإنه يعتبر فيه‬
‫عوائد الناس من الحتلما أو الحيض أو بلوغِّ سن من يحتلم أو من‬
‫تحيض«هل )‪. (1‬‬
‫ثم يؤكد الشاطبي على ثبات الحكاما فيقول‪» :‬واعلم أن ما‬
‫جرى ذكره هنا من اختلفَّ الحكاما عند اختلفَّ العوائد فليس في‬
‫الحقيقة باختلفَّ في أصل الخطاب‪ ،‬لن الشرع موضوع على أنه‬
‫دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية‪ ،‬والتكليف كذلك‬
‫لم يحتج في الشرع إلى مزيد‪ ،‬وإنما معنى الختلفَّ أن العوائد إذا‬
‫اختلفت رجعت كل عادةام إلى أصل شرعي ييحكم به عليها‪ ،‬كما‬
‫في البلوغِّ مثلا فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان‬
‫قبل البلوغِّ‪ ،‬فإذا بلغ وقع عليه التكليف‪ ...‬وهكذا س ـ ائر المثلة‬
‫فالحكاما ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلق وال أعلم«هل)‪. (2‬‬
‫التكليف بالحكام ليس تكليفا ا بمقاصدها‪:‬‬
‫يقول الشاطبي إن الحكم الشرعي متعلق بفعل العبد‪ ،‬والفعل‬
‫سببِّ لمسببِّ‪ ،‬ولما كانت المسببات ليست من أفعال العبد‪ ،‬وليست‬
‫في مقدوره‪ ،‬لم يقع التكليف عليها‪ .‬فإذا جاء المر بفعل فهو ليس‬
‫أمراا بنتيجته‪.‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 200 - 2/199 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪338‬‬
‫ولمـا كـان إيـقـاع السـبـبِّ بمـنزلة إيـقـاع المـسـبـبِّ في‬
‫الشـرعـيـات وفي العقليات‪ ،‬كانت مشروعية السـبـبِّ دالـة على‬
‫مشـروعـيـة المـسـببِّ‪ .‬والنهي عن السببِّ دالا على عدما مشروعية‬
‫مسبييبه‪ .‬وبهذا يكون طلبِّ الفعل دالا على أن مآله مصلحة‪ ،‬والنهي‬
‫عن الفعل دالا على أن مآله مفسدةا‪ ،‬إل أن التكليف يقع على السببِّ‬
‫ول يقع على المسببِّ‪ .‬والمطلوب شـرعـاا هـو القـيـاما بالفعل أو‬
‫ترك الفعل‪ ،‬وليس قصد تحصيل المصلحة أو درء المفسدةا‪ ،‬لن‬
‫التحصيل أو الدرء هو مسببِّ‪ ،‬وليس إلى المكلف إيقاعه أو رفعه من‬
‫حيث هو مسببِّ‪ ،‬والتكليف به تكليف بما ليس في الوسع‪ .‬وبإيجاز‪:‬‬
‫المر بالسببِّ يدل على مشـروعـيـة مسببه ول يدل على المر‬
‫بالمسببِّ‪ .‬وإن قيل‪ :‬قد تتعدد مسببات السببِّ‪ ،‬فينتج عن الفعل‬
‫المطلوب أو المأذون به ما هو مقصود الحصول شرعاا‪ ،‬وينتج عنه‬
‫أيضاا ما هو غير مقصود أو ما هو مطلوب الرفع‪ .‬وكذلك يقال‬
‫في حالة النهي عن الفعل‪ ،‬وهذا بناءا على أن المصالح والمفاسد‬
‫الدنيوية ل تيتيميحييض‪ ،‬يجيبِّ الشاطبي بأن مشروعية الفعل تدل‬
‫على مشروعية مسببه‪ ،‬ولكنها ل تستلزما مشروعية كل ما يتسببِّ أو‬
‫ينتج عنه‪ .‬فقد ينتج عن الفعل المطلوب ما هو مطلوب الرفع‪،‬‬
‫وينعدما بالكف عن المنهي عنه ما هو مطلوب أو مشروع الوجود‪.‬‬
‫يقول‪» :‬مشروعية السباب ل تستلزما مشروعية المسببات وإن صح‬
‫التلزما بينهما عادةاا‪ ،‬ومعنى ذلك أن السباب إذا تعلق بها حكم‬
‫شرعي من إباحة أو منع أو غيرهما من أحكاما التكليف فل يلزما أن‬
‫تتعلق الحكاما بمسبباتها فإذا أمر بالسببِّ لم يستلزما المر بالمسببِّ‪،‬‬
‫وإذا نهى عنه لم يستلزما النهي عن المسببِّ وإذا خييقر فيه لم يلزما‬
‫أن يخير في مسببه«هل)‪. (1‬‬
‫ثم قال‪» :‬والدليل على ذلك ما ثبت في الكلما من أن الذي‬
‫للمكلف تعاطي السباب‪ ،‬وإنما المسببات من فعل ال تعالى وحكمه‪،‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/130 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪339‬‬
‫ل كسبِّ فيه للمكلف«هل)‪. (1‬‬
‫ثم قال‪» :‬واستقراء هذا المعنى في الشريعة مقطوع به‪ ،‬وإذا‬
‫كان كذلك دخلت السباب المكلف بها في مقتضى هذا العموما‬
‫الذي دل عليه العقل والسمع‪ ،‬فصارت السباب هي التي تعلقت بها‬
‫مكاسبِّ العباد دون المسببات‪ .‬فإذاا ل يتعلق التكليف وخطابه إل‬
‫بمكتسبِّ‪ ،‬فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لنها ليست في‬
‫مقدورهم‪ ،‬ولو تعلق بها لكان تكليفاا بما ل يطاق وهو غير‬
‫واقع«هل)‪. (2‬‬
‫وعلى ذلك فالمقصود الول من المر والنهي هو إيقاع‬
‫المأمور به وترك المنهي عنه بغض النظر عن المسببات والمآلت‪،‬‬
‫لنها ليست بيد المكلف وإنما هي بيد الشارع‪ .‬فعلى المكلف عند‬
‫القياما بالعمل أن ينظر في حكمه ويلتزما ذلك الحكم‪ ،‬ل أن ينظر‬
‫في مسببه إن كان مصلحة أو مفسدةا )‪ . (3‬يقول‪» :‬ل يلزما في تعاطي‬
‫السباب من جهة المكلف اللتفات إلى المسببات ول القصد إليها‪ ،‬بل‬
‫المقصود منه الجريان تحت الحكاما الموضوعة ل غير‪ ،‬أسباباا‬
‫كانت أو غير أسباب‪ ،‬معللةا كانت أو غير معللة‪ ،‬والدليل على‬
‫ذلك ما تقدما من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبيقبِّ‪ ،‬وأنها‬
‫ليست من مقدور المكلف‪ ،‬فإذا لم تكن كذلك فمراعاته ما هو راجع‬
‫لكسبه هو اللزما‪ ،‬وما سواه غير لزما وهو المطلوب)‪ (4‬وأيضاا فإن‬
‫من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ‪ ،‬وإلى جهته ميل‪،‬‬
‫فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلبِّ)‪« (5‬هل)‪. (6‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/131 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( النظر في مآلت الفعال ومسبباتها واجبِّ على المجتهد الناظر لمعرفة‬ ‫‪3‬‬

‫حكم الفعل‪ ،‬وليس على من يتعاطى الحكم‪ ،‬وسيأتي تفصيل لهذا المر عند‬
‫عرض قاعدةا مآلت الفعال‪.‬‬
‫) ( أي‪ :‬وهو المطلوب إثباته‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( أي‪ :‬الط ل بِّ الشرعي‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/133 .‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪340‬‬
‫إذاا‪ ،‬المسببات مقصودةا بأسبابها‪ ،‬وهي مقصودةا عند من وضع‬
‫السباب أسباباا‪ ،‬فهي مقصودةا للشارع وليس للمكلف‪ ،‬وتحصيلها‬
‫يكون بهذه السباب‪ ،‬فعلى المكلف اللتزاما بالسباب أي بالحكاما‬
‫الشرعية‪ ،‬وليس عليه النظر أو مراعاةا المسببات وهي المصالح‬
‫والمفاسد‪.‬‬
‫قال‪» :‬وضع السباب يستلزما قصد الواضع إلى المسبييبات‬
‫أعني الشارع«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬لزما من القصد إلى وضعها أسباباا‬
‫القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬الحكاما‬
‫الشرعية إنما شرعت لجلبِّ المصالح أو درء المفاسد وهي مسبباتها‬
‫قطعاا«هل)‪ . ( 3‬ثم قال‪» :‬إن المسببات لو لم تقصد بالسباب لم يكن‬
‫وضعها على أنها أسباب لكنها فرضت كذلك‪ ،‬فهي ول بد موضوعة‬
‫على أنها أسباب‪ ،‬ول تكون أسباباا إل لمسببات‪ ،‬فواضع السباب قاصد‬
‫لوقوع المسببات من جهتها)‪ ، ( 4‬وإذا ثبت هذا وكانت السباب مقصودةا‬
‫الوضع للشارع لزما أن تكون المسببات كذلك«هل )‪. ( 5‬‬
‫إذاا‪ ،‬مقصود الشارع بالشريعة جلبِّ المصالح ودرء المفاسد‪،‬‬
‫وهذا يحصل بما شرعه‪ ،‬وليس على المكلف النظر إلى المصالح‬
‫والمفاسد المقصودةا‪ ،‬وإنما عليه اللتزاما بما شيرقعي له‪ .‬ولكن‪ ،‬هل‬
‫يصح له أن ينظر إلى النتائج‪ ،‬وان يسعى في تحصيلها؟ يقول‬
‫الشاطبي‪» :‬ليس في الشرع دليل ناصيي على طلبِّ القصد إلى‬
‫المسبييبِّ«هل )‪ . (6‬وقال‪» :‬فإن قيل لك‪ :‬إن الشارع أمر ونهى لجل‬
‫المصالح‪ .‬قلتي نعم‪ ،‬وذلك إلى ال ل إلييي‪ ،‬فإن الذي إلييي التسببِّ‪،‬‬
‫وحصول المسببات ليس إلييي‪ ،‬فأصرفَّ قصدي إلى ما جيعقلي إلييي‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/133 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/134 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/135 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( من جهتها‪ ،‬أي ‪ :‬ل يصح للمكلف أن يقصد ه إل مــن خلل الفعــل الــذي‬ ‫‪4‬‬

‫جعله الشارع سبباا له‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/135 .‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/136 .‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪341‬‬
‫وأيكقلي ما ليس إلييي إلى من هو له«هل )‪. (1‬‬
‫ثم قال‪» :‬إذا ثبـت انه ل يلـزما القصـد إلى المسـببِّ فللمكلف‬
‫ترك القصـد إليه بإطـلق وله القصد إليه«هل )‪. (2‬‬
‫أما ترك القصد إلى المسببِّ فقد مر الحديث عنه‪ .‬وأما جــواز‬
‫القصد إليه‪ ،‬فليس معناه تجويز الفعل أو تحريمه بناءا على نتيجته‬
‫المتوخاةا مصلحةا كانت أو مفسدةا‪ ،‬حيث يصار إلـى تجـويز بعـض‬
‫المحرمات‪ ،‬أو تحريم بعض المباحــات أو المنــدوبات أو الواجبــات‬
‫بناءا على ما يتسببِّ عنها من نتائج‪ .‬وإنما العكس هو المقصود‪ ،‬وهو‬
‫أنه يصح للمكلف أن ينظر في المسببات إذا كان ذ لــك م مــا ي قــوي‬
‫التمسك بالسببِّ ويدفع إلى مزيد مــن ال لــتزاما بــه‪ ،‬أ مــا إذا كــان‬
‫يضعف التمسك بالسببِّ أي بالحكم الشرعي فهذا نفسه مفســدةا فل‬
‫يصح‪ .‬ويقدما الشاطبي بضعة أمثلة على ذلك‪ .‬وذلك كمن يكتسبِّ‬
‫ليقوما على نفسه وأهله‪ ،‬فإن النظر في المسببات قد يدفعه إلى مزيد‬
‫من العمل لجل مزيد من الكسبِّ ورعاية أفضل لهله‪ .‬وكمن يطيع‬
‫ال ليرضيه ويدخل جنته‪ ،‬فإن النظر في هــذه الغايــات يــدفعه إلــى‬
‫المزيد من التضحية والبذل والصبر والبر والجهاد واللتزاما‪ ،‬فهــو‬
‫يع ود علـى السـببِّ بالتقوي ة‪ .‬فههن ا يص ح للمكل ف النظـر إلـى‬
‫المسببات‪ .‬يقول‪» :‬فهذا القصد إذا قارن التسببِّ صحيح لنه التفات‬
‫إلى العادات الجارية‪ .‬وقد قال تعالى‪     [ :‬‬
‫‪      ‬‬
‫‪« (3) ] ‬هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬فإنما محصول هذا أن يبتغي مــا يهيــئ‬
‫ال له بهذا السببِّ فهو راجع إلى العتماد على ال واللجأ إليــه«هل)‪. (5‬‬
‫ثم قال‪» :‬وإذا كان كذلك فاللتفات إلى المسببات والقصد إليهــا‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/135 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا الجاثية ‪. 12 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/137 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 138 - 1/137 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪342‬‬
‫معتبر في العاديات ول سيما في المجتهد«هل)‪ (1‬وقال‪» :‬ضــابطه أنــه‬
‫إن كان اللتفات إلى المسبييبِّ من شانه التقوية للسببِّ والتكملة له‬
‫والتحريض على المبالغة في إكماله فهو الذي يجلبِّ المصلحة وإن‬
‫كان مــن شــأنه أن ي كــريي علــى ال ســببِّ بالب طــال أو بال ضــعافَّ أو‬
‫بالتهاون فهو الذي يجلبِّ المفسدةا«هل)‪. (2‬‬
‫وخلص إلى أنيي‪» :‬تارك النظر في المسببات أعلى مرتبةا‬
‫وأزكى عملا إذا كان عاملا في العبادات‪ ،‬وأوفر أجراا في‬
‫العادات«هل )‪. (3‬‬
‫وبناء على أن المصالح والمفاسد ل تتمحض من حيث الوجود‪،‬‬
‫فالسببِّ يؤدي إلى مسبباته المقصودةا‪ ،‬ويرافق ذلك ما ليس‬
‫مقصوداا للشارع‪ ،‬بل ما هو مقصود الرفع‪ .‬يقول‪» :‬مثال ذلك‪:‬‬
‫المر بالمعروفَّ والنهي المنكر فإنه مشروع لنه سببِّ لقامة‬
‫الدين وإظهار شعائر السلما وإخماد الباطل على أي وجه كان‪،‬‬
‫وليس بسببِّ في الوضع الشرعي لتلفَّ مال أو نفس وإن أدى إلى‬
‫ذلك في الطريق‪ ...‬وإقامة الحدود والقصاص مشروع لمصلحة‬
‫الزجر عن الفساد وإن أدى إلى إتلفَّ النفوس وإهراق الدماء وهو‬
‫في نفسه مفسدةا‪ ...‬وأما في السباب المنوعة كالنكحة الفاسدةا‬
‫ممنوعة وإن أدت إلى إلحاق الولد وثبوت الميراثا وغير ذلك من‬
‫الحكاما وهي مصالح«هل)‪. (4‬‬
‫ثم قال‪» :‬ل سببِّ مشروعاا إل وفيه مصلحة لجلها شرع فإن‬
‫رأيته وقد انبنى عليه مفسدةا فاعلم أنها ليست بناشئة عن السببِّ‬
‫المشروع‪ .‬وأيضاا فل سببِّ ممنوعاا إل وفيه مفسدةا لجلها منع‬
‫فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر فاعلم أنها ليست‬

‫المصدر نفسه‪. 1/138 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/166 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/159 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/167 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪343‬‬
‫بناشئة عن السببِّ الممنوع‪ ،‬وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له‬
‫في الشرع«هل)‪. ( 1‬‬
‫وهكذا فليس كل ما ينبني على السببِّ أو يلحظ فيه من‬
‫أوصافَّ أو حكم أو معاني مما يرتضيه العقلء يأخذ حكم المسببِّ‪.‬‬
‫وهذا يؤدي إلى تساؤل حول كيفية التمييز بين هذه النتائج‬
‫لمعرفة ما هو مقصود شرعاا فيكون مقصداا وغاية وما هو ليس‬
‫كذلك فيطرح‪ ،‬والجابة تكمن في منهج الستقراء لهذه الوصافَّ‬
‫أو المعاني‪.‬‬
‫فإذا كان ثمة معنى أو نتيجة متخيلة مظنونة في حكم أو‬
‫أحكاما قليلة‪ ،‬فهذا معنى أو مسببِّ غير مقطوع بكونه مقصوداا‬
‫للشارع فل يعتبر وإن كان مسبباا عن هذه الحكاما فل تعد هذه‬
‫الحكاما سبباا شرعياا له‪ .‬أما إن وجدت هذه النتيجة في أحكاما‬
‫كثيرةا تفوق الحصر‪ ،‬فحينئذ م يكون قد توفر لهذه النتيجة أو‬
‫المعنى التواتري الذي قال عنه الشاطبي إنه يشبه التواتر المعنوي‪.‬‬
‫وحينئذ م تكون هذه النتيجة مسبباا وتكون الحكاما التي تعاضدت‬
‫على هذا المعنى سبباا شرعياا‪ .‬أي أنها مشروعة لهذا المسببِّ‪.‬‬
‫وبهذا يحصل التمييز بين النتائج أو المسببات الشرعية وغير‬
‫الشرعية أو التي هي مقصودةا للشارع بالحكم والتي ل يثبت كونها‬
‫مقصودةا للشارع‪.‬‬
‫وإذا كان حكم شرع لمصالح معينة ثبتت بالستقراء‪ ،‬وينتج‬
‫عن هذا الحكم مفسدةا فل يعني كون تلك المفسدةا مسبباا للحكم‬
‫أنها مقصودةا للشارع بالحكم‪ .‬وإنما يكون ذلك لن المصالح‬
‫والمفاسد ل تتمحض‪ .‬وتعرفَّ تلك النتيجة بأنها مفسدةا من‬
‫استقرائها في أحكاما أخرى كثيرةا‪ ،‬حيث يتوفر لها الستقراء‬
‫المفيد للقطع بأن الشارع قصد رفعها‪ .‬فيكون قصد الشارع إلى‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪. 168 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪344‬‬
‫رفعها أصلا قطعياا‪ ،‬ووجود الوهم أو الظن في نتائج أو مآلت أو‬
‫مسببات بأنها مقصودةا للشارع هو احتمال أو ظن ل قيمة له شرعاا‪.‬‬
‫إذ المقاصد أو المصالح والمفاسد هي كليات أو أصول كلية ل‬
‫تثبت كذلك إل بالقطع المستفاد من الستقراء‪.‬‬
‫فالمسـببات الشـرعية أي المقصـودةا للشـارع هي ما ثبت‬
‫كذلك على سـبيل القطـع وقد سبق بيان هذا المر‪ .‬قال‪:‬‬
‫»الحكاما الشـرعية إنما شـرعت لجلبِّ المصـالح ودرء المفاسـد‬
‫وهي مسبباتها قطعاا«هل)‪. (1‬‬
‫ويقرر الشاطبي أن‪» :‬السباب الممنوعة أسباب للمفاسد ل‬
‫للمصالح‪ ،‬كما أن السباب المشروعة أسباب للمصالح ل‬
‫للمفاسد«هل )‪ . (2‬ثم يقول‪» :‬والمقصود أن السباب المشروعة ل‬
‫تكون أسباباا للمفاسد‪ ،‬والسباب الممنوعة ل تكون أسباباا للمصالح‬
‫إذ ل يصح ذلك بحال«هل)‪. (3‬‬
‫وما يعنيه هذا القول أن المسببِّ الذي يثبت كونه مقصود‬
‫الوقوع بالسببِّ المشروع يكون مصلحةا ول يكون مفسدةاا بغض‬
‫النظر عن ملءمته للفطرةا والحس والطبع‪ .‬وما يثبت كونه‬
‫مقصود الرفع بالسببِّ الممنوع يكون مفسدةاا ول يكون مصلحة‪،‬‬
‫ولو كان مما يميل إليه الطبع بحكم الفطرةا أو العادةا‪ ،‬أو كان مما‬
‫يميل إليه العقلء والحكماء‪.‬‬
‫التلزم الشرعي بين السبب وأمإسيببه‪:‬‬
‫ل يصح أن ييقصيد بالحكم الشرعي غير ما قصد الشارع به‪،‬‬
‫ول يصح تحصيل أو قصد ما قصده الشارع بغير الحكم الذي شيرقع‬
‫لجله ‪ .‬يقول الشاطبي‪» :‬السباب من حيث هي أسباب شرعية‬
‫لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها وهي المصالح المجتلبة أو‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/135 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/167 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/168 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪345‬‬
‫المفاسد المستدفعة«هل)‪ . (1‬ويقول‪» :‬والمسببات بالنظر إلى أسبابها‬
‫ضربان‪ :‬أحدهما‪ :‬ما شرعت السباب لجلها إما بالقصد الول وهي‬
‫متعلق المقاصد الصلية أو المقاصد اليول أيضاا‪ ،‬وأما بالقصد‬
‫الثاني وهي متعلق المقاصد التابعة‪ ...‬والثاني‪ :‬ما سوى ذلك مما‬
‫ييعلم أو ييظن أن السباب لم تشرع لها‪ ،‬أو ل يعلم ول يظن أنها‬
‫شرعت لها أو لم تشرع‪ ،‬فتجيء القساما ثلثةا‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬ما ييعلمي أو ييظن أن السببِّ شرع لجله فيتيسيبييبِّي‬
‫الميتيسيبيقبِّق فيه صحيح لنه أتى المر من بابه وتوسل إليه بما أذن‬
‫الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضاا في التوسل إليه‪ .‬لنا فرضنا‬
‫أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا‪ ،‬ثم يتبعه اتخاذ السكن‬
‫ومصاهرةا أهل المرأةا لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك‪ ،‬أو الخدمة‬
‫أو القياما على مصالحه أو التمتع بما أحل ال من النساء‪ ،‬أو التجمل‬
‫بمال المرأةا أو الرغبة في جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما‬
‫حرما ال‪ ،‬أو نحو ذلك حسبما دلييت عليه الشريعة‪ ،‬فصار إذاا ما‬
‫قصده هذا المتسببِّ مقصود الشارع على الجملة«هل)‪. ( 2‬‬
‫»والثاني‪ :‬ما ييعلم أو ييظن أن السببِّ لم يشرع لجله ابتداءا‪،‬‬
‫فالدليل يقتضي أن ذلك التسببِّ غير صحيح لن السببِّ لم يشرع‬
‫أولا لهذا المسبييبِّ المفروض‪ ،‬وإذا لم يشرع له فل يتسببِّ عنه‬
‫حكمته في جلبِّ مصلحة ول دفع مفسدةا بالنسبة إلى ما قصد‬
‫بالسببِّ فهو إذاا باطل‪ .‬هذا وجه‪ ،‬ووجه ثانم وهو أن هذا السببِّ‬
‫بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع فصار كالسببِّ‬
‫الذي لم يشرع أصلا‪ .‬وإذا كان التسببِّ غير المشروع أصلا ل‬
‫يصح‪ ،‬فكذلك ما شيرقعي إذا أيخقذي لما لم يشرع له‪ .‬ووجه ثالث‪:‬‬
‫إن كون الشارع لم يشرع هذا السببِّ لهذا المسببِّ المعين دليل على‬
‫أن في ذلك التسببِّ مفسدةا ل مصلحة‪ ،‬أو أن المصلحة المشروع‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/171 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 172 - 1/171 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪346‬‬
‫لها السببِّ منتفية بذلك المسبييقبِّ فيصير السببِّ بالنسبة إليه‬
‫عبثاا«هل )‪» . (1‬الثالث‪ :‬وهو أن يقصد بالسببِّ مسبباا ل يعلم ول‬
‫ييظيني أنه مقصود للشارع أو غير مقصود له‪ .‬وهذا موضع نظر‬
‫وهو محل إشكالم واشتباه‪ .‬وذلك أنا لو تسببنا لمكن أن يكون‬
‫ذلك السببِّ غير موضوع لهذا المسبييبِّ المفروض‪ ،‬كما أنه يمكن‬
‫أن يكون موضوعاا له ولغيره‪ ،‬فعلى الول يكون التسببِّ غير‬
‫مشروع‪ .‬وعلى الثاني يكون مشروعاا‪ .‬وإذا دار العمل بين أن يكون‬
‫مشروعاا أو غير مشروع كان القداما على التسببِّ غير‬
‫مشروع«هل )‪. (2‬‬
‫ثم قال‪ :‬إن السببِّ »إنما فيرض مشروعاا بالنسبة إلى شيءم‬
‫معين م مفروض م معلومام ل مطلقاا«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬بل علمنا أن‬
‫كثيراا من السباب شرعت لمورم تنشأ عنها ولم تشرع لمورم وإن‬
‫كانت تنشأ عنها وتترتبِّ عليها‪ ...‬فلما علمنا أنه مشروع لمور‬
‫مخصوصة‪ ،‬كان ما جيهقلي كونه مشروعاا له مجهولي الحكم فل‬
‫تصح مشروعية القداما حتى يعرفَّ الحكم«هل)‪ (4‬ثم قال‪» :‬فإذا ثبت‬
‫هذا وتبين تسبييبِّي ل ندري أهو مما قصده الشارع بالتسببِّ‬
‫المشروع أو مما لم يقصده وجبِّ التوقف حتى يعرفَّ الحكم فيه‬
‫ولهذا قاعدةا يتبين بها ما هو مقصود الشارع من مسببات السباب‬
‫وما ليس بمشروع وهي مذكورةا في كتاب المقاصد«هل)‪ . (5‬وعلى‬
‫ذلك فالشاطبي يرى أن تحقيق الغاية الشرعية ل يصح إل‬
‫بالطريقة الشرعية التي وضعها الشارع طريقة لها‪ .‬والطريقة وإن‬
‫كانت شرعية فل يصح أن تتخذ أو يتوسل بها لتحقيق غاية شرعية‬
‫إل إذا كان الشارع قد وضع تلك الطريقة لهذه الغاية‪ .‬فل يصح‬

‫المصدر نفسه‪. 1/173 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ . 1/181 ،‬وأنظر‪. 182 - 1/171 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 182 - 1/181 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪ . 1/181 ،‬وانظر‪. 182 - 1/171 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 182 - 1/181 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪347‬‬
‫لمنع السرقة إل قطع اليد‪ ،‬ول تستبدل العقوبة بغيرها‪ .‬ول يصح‬
‫قطع اليد إل لما شرع له‪ .‬وكذلك ل يصح تطبيق الجهاد لغير ما‬
‫شرع له‪ .‬ول يصح لجل إقامة الحكم بما أنزل ال وهو غاية‬
‫شرعية أن تتخذ أسباب أو طرق لم توضع له شرعاا‪ ،‬كالمؤسسات‬
‫الخيرية مثلا وإن كانت مشروعةا فهي ليست مشروعة لهذه‬
‫الغاية‪ .‬أو كالمشاركة في الحكم بالكفر‪ ،‬فهذا لم يوضع لجل‬
‫هذه الغاية‪ ،‬فضلا عن انه ممنوع شرعاا‪.‬‬
‫العادات وأالعبادات بين اتباع المعاني وأالتعبد‪:‬‬
‫إذا ثبت أن للحكاما غاياتها التي قصدها الشارع‪ ،‬وهي المصالح‬
‫أو العلل‪ ،‬فإن من الحكاما ما ل يوقف له على علة تصلح لتعدية‬
‫الحكم بها‪ ،‬وإن كان يعرفَّ لها علة تتصف بالعموما الذي ل يمكن‬
‫معه إجراء القياس‪ ،‬وذلك مثل تعليل العبادات بالتعبد والمتثال ‪،‬‬
‫لذلك فمن الحكاما ما يجبِّ أن ل يبحث لها ع ن علة ومن الحكاما‬
‫ما يجبِّ أن يعلل أو أن تتبع المعاني فيها لجل الوقوفَّ على عللها‪.‬‬
‫مإعنى اتباع المعاني‪:‬‬
‫إن العلل أو المصالح ل تعتبر إل إذا ثبتت قطعاا عن طريق‬
‫الستقراء ‪ .‬وطريق الستقراء هو النظر في الحكاما والخروج‬
‫بالمعاني والحكم التي تترتبِّ عليها ‪ .‬وإن ما يسرح فيه العقل‪،‬‬
‫عادةاا‪ ،‬عند النظر‪ ،‬هو المعاني المعقولة أو الوصافَّ المناسبة‪ ،‬إل‬
‫أن وجود معنىا معين في بضعة نصوص ل يكفي لعتباره‪ ،‬إذ ل بد‬
‫من وجود عدد كبير من الحكاما التي يوجد فيها ذلك المعنى‬
‫ليصح اعتباره‪ ،‬وهو ما يشبه التواتر المعنوي في مصطلح علم‬
‫الحديث‪ .‬لذلك فإن تخيل معنىا صالحم في بضعة أحكاما ل يكفي‬
‫لعتباره‪ ،‬ول بد لجل اعتباره من إثباته في أحكاما كثيرةا تفوق‬
‫الحصر‪ ،‬وهذا الثبات أو البحث عن المعنى أو تتبعه في الحكاما هو‬
‫اتباع المعاني‪ .‬وليس مراد الشاطبي باتباع المعاني إعمال المعنى‬
‫لمجرد وجود رابطة متخيلة أو مظنونة بينه وبين الحكم‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫ول يقتصر اتباع المعاني على الوصافَّ المناسبة أو التي‬
‫ييدرك العقل وجه الحكمة فيها‪ .‬فكل معنى يثبت بالستقراء‬
‫يحصل القطع باعتباره شرعاا لمجرد وجود رابطة سببية بينه‬
‫وبين الحكاما التي استقرئ فيها‪ ،‬إل ان أكثر ما علل به الشارع‬
‫الحكاما هو المناسبِّ الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول‪،‬‬
‫لذلك فالعبرةا في تتبع المعاني هو اعتبار الحكاما أولا‪ ،‬ثم النظر‬
‫في مسبباتها أو معانيها بغض النظر عن كونها مناسبة أو غير‬
‫مناسبة‪ .‬مع أن الواقع أن أكثر التعليلت في الشرع جاءت‬
‫بأوصافَّ مناسبة أو معاني معقولة‪ ،‬يقول الشاطبي‪» :‬إذا تعاضد‬
‫النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدما النقل‬
‫فيكون متبوعاا ويتأخر العقل فيكون تابعاا‪ ،‬فل يسرح العقل في‬
‫مجال النظر إل بمقدار ما يسرحه النقل«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬إن الشارع‬
‫توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات‪ ...‬وأكثر ما‬
‫علل فيها بالمناسبِّ الذي إذا عرض على العقول تلقته‬
‫بالقبول«هل)‪. (2‬‬
‫ويقابل اتباع ي المعاني التعبيد ي ‪ ،‬أي عدما البحث عن أي معنى أو‬
‫مصلحة مقصودةا بالحكم ‪ -‬أي علة ‪ ، -‬سوى مصلحة الطاعة‬
‫والمتثال ‪.‬‬
‫عيلل‪:‬‬
‫العبادات ل ت ُ َ‬
‫يقول الشاطبي‪» :‬الصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف‬
‫التعبد دون ال ا لتفات إلى المعاني«هل)‪ (3‬أي أن الصل أن ل يبحث لها‬
‫عن علة‪ ،‬وقوله‪ :‬الصل ‪ ،‬يعني أن هناك حالت نادرةا أو قليلة يصح‬
‫تتبع معنى معين ليرى إن كان يثبت أ ي و ن ل‪ ،‬ويستدل الشاطبي‬
‫على ذلك بأمور‪» :‬منها الستقراء فإنا وجدنا الطهارةا تتعدى‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/53 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/213 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/211 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪349‬‬
‫محل موجبها‪ ،‬وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على‬
‫هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات‪ ...‬وهكذا سائر‬
‫العبادات كالصوما والحج وغيرهما‪ ،‬وإنما فهمنا من حكمة التعبد‬
‫العامة النقياد لوامر ال تعالى وأفراده بالخضوع والتعظيم‬
‫لجلله والتوجه إليه‪ ،‬وهذا المقدار ل يعطي علة خاصة يفهم منها‬
‫حكم خاص«هل)‪ . (1‬ول داعي لذكر سائر أدلته على هذا المر‪ ،‬ومراد‬
‫الشاطبي أن العبادات ل تعلل ول يصح أن يبحث لها عن علة‪ ،‬وإن‬
‫ويجد في بعض أحكاما العبادات ما يمكن تحميله معان م معينة قد‬
‫تكون مناسبة جداا وتهجم على الفكر‪ ،‬فيجبِّ إهدارها وعدما‬
‫ال ا لتفات إليها‪ ،‬لن كون العبادات ل تعلل أصل قطعي ثبت‬
‫بالستقراء وبأمور أخرى‪ ،‬فل يصح متابعة هذا المعنى في أحكاما‬
‫أخرى لثباته عن طريق الستقراء ‪ .‬يقول‪» :‬فيجبِّ أن يؤخذ في‬
‫هذا الضرب التعبد دون ال ا لتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه‬
‫وركناا يلجأ إليه«هل)‪ (2‬أما الحالت النادرةا التي يصح فيها ‪ -‬ول‬
‫يجبِّ ‪ -‬اتباع المعنى‪ ،‬فهي إذا دل نص أو إجماع على معنى معين‪،‬‬
‫فهذا المعنى من معاني الدلة وليس من معاني الحكاما‪ .‬يقول‪:‬‬
‫»إل أن يتبين بنص أو إجماع معنىا مرادي في بعض الصور فل‬
‫لوما عل ى من اتبعه‪ ،‬لكن ذلك قليل فليس بأصل وإنما الصل ما عم‬
‫في الباب وغلبِّ في الموضع«هل)‪ (3‬أما كون المعنى المراد بنص أو‬
‫إجماع يختلف عن غيره فلنه من دللت النصوص أو معانيها‪،‬‬
‫وليس من دللت الحكاما‪ .‬أما كونه يصح اتباع المعنى فيه وليس‬
‫بواجبِّ فذلك لن هذا المعنى ظني ول يصح اعتباره إل إذا كان‬
‫راجعاا إلى أصل قطعي‪ ،‬وهذا ل يثبت إل بالستقراء ‪ ،‬و ا تباع‬
‫المعنى قد يثبته وقد يلغيه‪ ،‬فإذا ألغاه ‪ ،‬فقد تأكد الوقوفَّ مع‬
‫التعبد‪ ،‬وإذا أثبته ‪ ،‬فإن أصل التعبد ثابت أيضاا بنفس الطريق‪ ،‬أي‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/212 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/213 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/212 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪350‬‬
‫بالستقراء ‪ ،‬ولذلك فل تأثير له على العبادات ل بإنشاء ول‬
‫بإلغاء‪ ،‬يقول‪» :‬ما هو حق ل خالصاا كالعبادات وأصله التعبد‬
‫راجع إلى عدما معقولية المعنى وبحيث ل يصح فيه إجراء القياس‪،‬‬
‫و إ ذا لم يعقل معناه دل على أ ن قصد الشارع فيه الوقوفَّ عند ما‬
‫حده ل يتعدى«هل)‪ . (1‬وأما المعنى المعقول وقد ثبت كونه مقصوداا‬
‫للشارع‪ ،‬فإنه يجبِّ إعماله في غير العبادات‪ .‬أضف إلى ذلك أن‬
‫العبادات‪ ،‬و إ ن جاء في بعضها ما يدل على التعليل أو ييشعر‬
‫بالمناسبة‪ ،‬فان شروط العلة مفقودةا أو غير مكتملة فيها‪ .‬لذلك‬
‫فان مثل هذه الوصافَّ أو المعاني ل تعدى بها ال أ حكاما‪ ،‬وذلك مثل‬
‫السرقة علة للقطع والزنا علة للرجم‪ ،‬ولكن ل يحصل القياس هنا‬
‫و ل يتعدى الحكم محله‪ ،‬وذلك أقوى في العبادات كما في السهو‬
‫علة للسجود‪ .‬فنحن نقول سرق فقطع‪ ،‬وزنا فرجم وسها فسجد‪.‬‬
‫فهذه العلل وان كانت مفهومة الجنس ولكنها غير مفهومة‬
‫الخصوص‪ ،‬فالمفهوما هو عموما الجناية أو المعصية وعموما‬
‫العقوبة أو العتذار‪ .‬ولكن تخصيص هذا بهذا غير مفهوما‪ ،‬إذ كان‬
‫يمكن عقلا أن يقال‪ ،‬سرق فسجن‪ ،‬أو سها فأعاد أو غير ذلك‪.‬‬
‫وكذلك يقال في التعليل بالمشقة في القصر والفطار والجمع‪.‬‬
‫يقول‪» :‬وأيضاا فان المناسبِّ فيها ) أي العبادات( معدود عندهم‬
‫فيما ل نظير له كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره والجمع بين‬
‫الصلتين وما أشبه ذلك‪ .‬والى هذا فأكثر العلل المفهومة‬
‫الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص كقوله ‪» :‬سها‬
‫فسجد «هل)‪ ، (2‬وقوله ‪» :‬ل يقبل الله صلة أحدكم إذا أحدثا‬
‫حتى يتوضأأ «هل)‪ ، (3‬وأنهيه عن الصلة طرفي النهار وأعلل‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/221 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري‪ ،‬باب‪ :‬في الصلةا ) ‪ ،( 6440‬ومسلم‪ :‬باب وجوب الط هــارةا‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫للصلةا ) ‪ ،( 225‬والترمذي ) ‪ ،( 71‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وابو داود ) ‪( 55‬‬


‫وأحمد ) ‪.( 7875‬‬

‫‪351‬‬
‫ذلك بأن الشمس تطلع وأتغرب بين قرني الشيطان)‪، (1‬‬
‫وكذلك ما يستعمله الخلفيون في قياس الوضوء على التميم في‬
‫جوب النية‪ ...‬وما أشبه ذلك مما ل يدل على معنى ظاهر منضبط‬
‫مناسبِّ يصلح لترتيبِّ الحكم عليه من غير نزاع‪ ،‬بل هو المسمى‬
‫شبها‪ ،‬بحيث ل يتفق على القول به القائلون‪ ،‬وإنما يقيس به من‬
‫يقيس بعد أن ل يجد سواه‪ ،‬فإذا لم يتحقق لنا علة ظاهرةا تشهد‬
‫لها المسالك الظاهرةا‪ ،‬فالركن الوثيق الذي ينبغي اللتجاء إليه‬
‫الوقوفَّ عند ما حيد دون التعدي إلى غيره‪ ،‬ل أ ن ا وجدنا الشريعة‬
‫حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات‪ ،‬فكان أصل‬
‫فيها«هل )‪ (2‬وعلى ذلك فالعبادات ل تعلل ول قياس فيها‪.‬‬
‫الصل فـي العادات التعليل‪:‬‬
‫ذكر الشاطبي العادات‪ ،‬في أول كتــاب المقاصــد وجعلهــا أ حــد‬
‫أ ربعة أ قساما‪ :‬العبادات والعادات والمعاملت والجنايات‪ ،‬ومثــل لهــا‬
‫بتناول المأكولت والمشروبات والملبوسات والمســكونات)‪ . (3‬أ مــا‬
‫فــي هــذا البحــث فهــو يــذكرها كأحــد قســمين ‪ :‬ال ـ ع ـ ب ـــ ادات‬
‫وال ـ ع ـ ادات ‪ .‬ولذلك فهي تع ـ ني ه ـ ن ـ ا م ـ ا س ـ وى الع ـ ب ـــ ادات م ـــ ن‬
‫الحـكـاما ‪ .‬يقول ‪ » :‬أصل العادات اللتفات إلى المعاني«هل)‪ ، (4‬ويستدل‬
‫على ذلك بأمور أولها الستقراء‪ .‬ي قــول‪» :‬فإنــا و جــدنا ال شــارع‬
‫قاصداا لمصالح العباد‪ ،‬والحكاما العادية تدور معه حيثما دار فترى‬
‫الشيء الواحد يمنع في حال ل تكون فيه مصلحة فــإذا كــان ف يــه‬
‫مصلحة جاز كالدرهم بالـدرهم إلـى اجـل يمتنــع فـي المبايعـة‬
‫ويجوز في القرض‪ ...‬ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوماا كما‬

‫) ( البخاري ) ‪ ( 3032‬ومسلم ) ‪ ( 966‬و) ‪ ( 987‬والترمذي ) ‪ ( 148‬وقال‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫حسن صحيح والنسائي ) ‪. ( 507‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬المواققات‪. 2/211 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/5 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/211 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪352‬‬
‫تعالى‪    [ :‬‬ ‫فهمناه في العادات‪ .‬وقال‬
‫وقــال‪   [ :‬‬ ‫‪، (1) ]  ‬‬
‫‪ ، (2) ]  ‬وفي الحديث‪» :‬ل يقضــي القاضأــي‬
‫وأهــو غضــبان«)‪ ، (3‬و قــال‪» :‬ل ضأــرر وأل ضأــرار«)‪ ، (4‬و قــال‪:‬‬
‫»القاتل ل يرثا«)‪ (6)«(5‬ثم قال‪ » :‬إلى غير ذلك مما ل ييحصى‬
‫وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعبــاد وأن الذن دائــر‬
‫معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلــة فــدل ذلــك علــى أن‬
‫العادات مما اعتمد الشارع فيها اللتفات إلى المعاني«هل)‪. (7‬‬

‫وهذه المعاني وإن كانت ليست من دللت النصوص‪ ،‬فهي‬


‫بمثابة أصول أو علل قطعية‪ ،‬تنزلت الحكاما بناء عليها‪ .‬أي أ ن هذه‬
‫الحكاما صدرت على أساس تطبيق تلك الصول ‪ .‬فهذه الحكاما‬
‫جزئيات بالنسبة لها‪ ،‬ومعنى الصول متمثل فيها‪ .‬هذا معنى تنزل‬
‫الكليات للجزئيات‪ ،‬ولذلك يجبِّ ا ل لتفات إلى المعاني‪ ،‬أي إلى‬
‫معنى معين أو معان م موجودةا في الحكم‪ ،‬ثم تتبع هذا المعنى‬
‫لتحصيل الستقراء له والذي به يصير أصلا كلياا وعلة‬
‫ومصلحة‪ .‬فمثلا في حديث »القاتل ل يرثا« يمكن تخيل معنى‬
‫المعاملة بنقيض المقصود كعقوبة‪ ،‬أو من استعجل الشيء قبل‬
‫أوانه عوقبِّ بحرمانه ‪ .‬فهل هذه المعاني أصول أو قواعد في‬
‫الشريعة تتنزل الحكاما على أساسها؟ إن هذه المعاني ليست ثابتة‬
‫من أصول الشريعة و إ ن كان يمكن تخيلها في الحكم‪ ،‬ولذلك‬
‫يجبِّ تتبع هذا المعنى وملحظة وجوده أو عدما وجوده في أحكاما‬

‫سورةا البقرةا‪. 179 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 188 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/213 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪353‬‬
‫أخرى كثيرةا‪ ،‬وملحظة تخلفه أو عدما تخلفه حيث يمكن تطبيقه‪،‬‬
‫وبذلك يحصل الستقراء المثبت أو النافي للمعنى‪ .‬هذا ال ا لتفات‬
‫إلى المعاني يجبِّ أن يحصل في العادات بناء على أصل أن الشريعة‬
‫جاءت لجل مصالح العباد فهذه المصالح هي الصول التي تنزلت‬
‫على أساسها الشريعة وهذ ه المصالح ل بد أن تكون موجودةا في‬
‫الحكاما‪ ،‬إل أن الحكاما لما كان يمكن أن يتخيل فيها معان م أو‬
‫حكم كثيرةا ول يمكن الحكم أن هذا المعنى هو الذي قصده‬
‫الشارع أو على أساسه شرع الحكم كان ل بد من الستقراء لهذا‬
‫المعنى‪ ،‬لنه بكثرةا الحكاما يزداد المعنى قوةا وبخروجها عن‬
‫الحصر يصبح قطعيا ا ومقصوداا للشارع ومصلحة‪ .‬يقول‪» :‬إن‬
‫الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما‬
‫تقدما تمثيله وأكثر ما علل فيها بالمناسبِّ الذي إذا عرض على‬
‫العقول تلقته بالقبول‪ ،‬ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها‬
‫إتباع المعاني ل الوقوفَّ على النصوص بخلفَّ باب العبادات فإن‬
‫المعلوما فيه خلفَّ ذلك«هل)‪. (1‬‬
‫إل أن الشاطبى يستثني هنا بعض الحالت النادرةا كما استثنى‬
‫في شأن العبادات ‪ .‬و ذلك أن العبادات ل تتبع فيها المعاني إل إذا‬
‫دل نص أو إجماع على معنى معين وكذلك في العادات تتبع فيها‬
‫المعاني إل إذا وجد فيها التعبد فل بد من الوقوفَّ مع النصوص‪،‬‬
‫يقول‪» :‬فإذا تقرر هذا وأن الغالبِّ في العادات ال ا لتفات إلى‬
‫المعاني‪ ،‬فإذا وجد فيها التعبد فل بد من التسليم والوقوفَّ مع‬
‫النصوص كطلبِّ الصداق في النكاح والذبح في المحل المخصوص‬
‫في الحيوان المأكول والفروض المقدرةا في المواريث وعدد‬
‫الشهر في العقديد الطلقية والوفوية وما أشبه ذلك من المور‬
‫التي ل مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية حتى يقاس عليها‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/213 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪354‬‬
‫غيرها«هل )‪. (1‬‬
‫وهذه العاديات والعبادات‪ ،‬وإن كان ل يصح ال ا لتفات إلى‬
‫المعاني فيها بمعنى أنه ل يجري القياس فيها أو عليها‪ ،‬فهي لها‬
‫معنى مفهوما‪ ،‬وإن كان ليس من المعاني التي تصلح للقياس‪،‬‬
‫وذلك إضافةا إلى المعنى العاما وهو التعبد‪ ،‬يقول‪» :‬فإن قيل هل‬
‫توجد لهذه المور التعبديات)‪ (2‬علة يفهم منها قصد الشارع على‬
‫الخصوص أما ل؟ فالجواب أن يقال‪ :‬أما أمور التعبدات فعلتها‬
‫المطلوبة مجرد النقياد من غير زيادةا ول نقصان‪ ،‬ولذلك لما‬
‫سئلت عائشة رضي ال عنها عن قضاء الحائض الصوما دون الصلةا‬
‫قالت للسائلة‪ » :‬أحرووية أنت! «هل إ نكاراا عليها أن يسأل عن مثل‬
‫هذا إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة‪ .‬ثم قالت‪» :‬كنا‬
‫نؤمإر بقضاء الصوم وأل نؤمإر بقضاء الصلة «هل)‪ . (3‬وهذا‬
‫يرجح التعبد على التعليل بالمشقة‪ ،‬وقول ابن المسيبِّ في مسألة‬
‫تسوية الشارع بين الصابع‪» :‬هي السنة يا ابن أخإي «هل)‪ (4‬وهو‬
‫كثير ومعنى هذا التعليل أن ل علة‪ .‬أما العاديات وبعض العبادات‬
‫أيضاا فلها معنى مفهوما وهو ضبط وجوه المصالح‪ ...‬فجعل‬
‫الشارع للحدود مقادير معلومة ل تتعدى كالثمانين في القذفَّ‬
‫والمائة وتغريبِّ العاما فى الزنا على غير إحصان وخص قطع اليد‬
‫بالكوع وفي النصاب المعين«هل )‪. ( 5‬‬
‫ل بد مإن اعتبار التعبد فـي العادات‪:‬‬
‫ول يعنى ‪ -‬بحال من الحوال ‪ -‬أن المعاني المعتبرةا في أحكاما‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/214 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أي العبادات‪ ،‬والعادات المستثناةا من أ صل اللتفات إلى المعنى ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أخرجه مسلم في باب وجوب قضاء الصوما على الحائض دون الصــلةا )‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ،( 508 ) ،( 506‬والترمذي ) ‪ ( 120‬وقال‪ :‬حسن صــحيح‪ .‬والنســائي )‬


‫‪ ( 379‬وأحمد ) ‪. ( 22908‬‬
‫) ( الموطييأ‪ ،‬باب ما جاء في عقل الصابع ) ‪. ( 1355‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/213 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪355‬‬
‫العادات‪ ،‬أي التي ثبتت بالستقراء‪ ،‬وبتعبير آخر ‪ :‬المصالح‪ ،‬يمكن‬
‫إلغاء الحكاما بناء عليها‪ ،‬وهذا يعود إلى لزوما إعمال الكليات‬
‫والجز ئ يات معا ا وذلك لن هذه الحكاما هي التي جعلها الشارع‬
‫طريقا" إلى المصالح فل يجوز إلغاؤها بحجة أن القصد أو‬
‫المعنى قد أدرك وبالتالي يمكن تغيير الحكاما مع المحافظة على‬
‫المقاصد والمعاني ‪ .‬وذلك لن التعبد موجود في كل الحكاما‬
‫سواء كانت من العبادات أو العادات يقول‪» :‬كل ما ثبت فيه‬
‫اعتبار التعبد فل تف ـ ري ـ ع ف ـ ي ـ ه وك ـ ل م ـ ا ث ـ ب ـ ت ف ـ ي ـ ه اع ـ تبار‬
‫المعاني فل بد فيه من اع ـ ت ـ ب ـ ار الت ـ ع ـ ب ـ د«هل)‪ (1‬ويورد أدلة‬
‫كث ـ ي ـ رةا على هذا المر منها أن إدراك مقصد أو مصلحة من‬
‫الحكم ل يعنى إدراك كل المصالح المقصودةا به ومنها أن الطريق‬
‫المثل لتحقيق المقصود هو الطريق المشروع ومنها مقصد‬
‫المتثال وغير ذلك‪ .‬ويبني على ذلك أمرا ا وهو‪» :‬إن كل حكم‬
‫شرعي ليس بخالم عن حق ال تعالى وهو جهة التعبد«هل)‪ . ( 2‬وهو ما‬
‫سنتعرض له بتفصيل أكبر في الفصل التالي‪ ،‬فصل مقاصد‬
‫المكلف‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/214 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/221 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪356‬‬
‫الفصـل السـادس‬

‫مإقاصـد المكـل يـف‬

‫وأيحتوي على تمهيد وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬المقاصـد وأالنوايا‪.‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬أعمال المكلف‬
‫وأمإقاصـده‪.‬‬
‫حي َـل‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬ال ِ‬

‫‪357‬‬
‫الفصـل السـادس‬
‫مإقاصـد المكيلف‬
‫تمهيـد‪:‬‬
‫قال الشاطبي‪» :‬المقاصد التي يينظري فيها قسمان‪ :‬أحدهما‪:‬‬
‫يرجع إلى قصد الشارع والخر يرجع إلى قصد المكلييف«هل)‪ . (1‬وقد‬
‫تبييين فيما سبق القسم الول من المقاصد وهو ما يرجع إلى قصد‬
‫الشارع‪ .‬وسيتبيين ‪ -‬إن شاء ال ‪ -‬في هذا الفصل القسم الثاني‪ ،‬وهو‬
‫مقاصد المكلييف‪.‬‬
‫كما تبييين أن المقاصد هي نتائج أو مسببات‪ .‬والسباب هي‬
‫العمال التي يقوما بها المكلف وتؤول إلى تلك المسببات‪ ،‬فهي‬
‫بمثابة الوسائل لجل المقاصد‪ .‬والعمال التي يقوما بها المكلف قد‬
‫تكون مأموراا بها شرعاا أو منهياا عنها أو مأذوناا بها‪.‬‬
‫ومقاصد المكلف من أعماله قد تكون امتثال أمر الشارع‪ ،‬أي‬
‫قد تكون مقاصد أخروية من غير نظر إلى مقصدم دنيوي‪ .‬وقد‬
‫تكون دنيوية أي تحصيل الغراض والحظوظ‪ ،‬بحسبِّ ما ركبِّ ال‬
‫في النسان من خصائص وشهوات)‪ . (2‬وقد تكون جامعةا بين‬
‫القصدين‪ :‬قصد المتثال وقصد طلبِّ الحظ‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/1 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( وقد دلت كثير من النصوص على هذه الخصائص‪ ،‬كما يدل ع لــى ذ لــك‬ ‫‪2‬‬

‫أيضاا واقع النسان قال تعالى‪      [ :‬‬
‫‪      ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪ ]   ‬المائدةا‪. 14 ،‬‬
‫]‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقال‪   [ :‬‬
‫الفجر‪. 20 - 19 ،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫[ ‪            ‬‬
‫‪ ]   ‬المعارج‪.21 -20 -19 ،‬‬

‫‪358‬‬
‫فما هو أثر قصد المكلف أو نيته على صحة العمل‪ ،‬سواء من‬
‫حيث الثواب أو العقاب عليه في الخرةا‪ ،‬أو من حيث وقوعه وترتبِّ‬
‫آثاره عليه في الدنيا؟ وهل يصح للمكلف أن يقصد حظوظه‬
‫وأغراضه ومنافعه مع قصده المتثال؟ وهل يصح له أن يقصد‬
‫بالعمال المشروعة نتائج لم يشرع ال تلك العمال لجلها؟ وهل‬
‫يصح له أن يقصد مقاصد مشروعة بأعمال غير مشروعة؟ وما حكم‬
‫العمال التي تقع من المكلييف عريييةا عن أي قصد له؟‬
‫وهل يصح للمكلييف أن يينشئي أعمالا بقصد جعل مقاصده غير‬
‫الشرعية شرعية؟ وهو ما عيرفَّ باسم الحقييل‪ .‬كمن يتصدق ببعض‬
‫ماله أو ينفقه فراراا من الزكاةا‪ ،‬أو كمن ينشئ سفراا للترخص‬
‫بالفطار مثلا‪ ،‬أو كمن ينكح المطلقة ثلثاا لكي يطلقها بقصد‬
‫تحليلها لمطلقها الول‪.‬‬
‫لمثل هذه العمـال‪ ،‬ولمثـل هذه المقاصد وما ينبني عليها أو‬
‫يتفرييع عنها جاء قسم مقاصد المكلف عند الشاطبي‪ .‬ولبيان موقف‬
‫الشاطبي من هذه المسائل كان هذا الفصل‪.‬‬
‫ولن القصد والنية وأثر ذلك في عمل المكلف من المسائل‬
‫المبحوثة باستفاضة عند الئمة‪ ،‬وقد جاءت أقوال الشاطبي متفقة‬
‫مع بعضها ومختلفة مع بعضها‪ ،‬فسيتم التعرض لقوالهم وآرائهم‬
‫في ذلك قبل بيان أقوال الشاطبي فيها‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫المقاصـد وأالنوايا‬
‫النية وأالقصد وأالفرق بينهما‪:‬‬
‫قال الغزالي‪» :‬إعلم أن النيـة والرادةا والقصـد عبـارات‬
‫متواردةا على معنى واحد وهو حالة وصفة للقلبِّ يكتنفها أمران‪:‬‬
‫علم وعمل‪ ،‬الع لم يقدمه لنه أصله وشرطه‪ ،‬والعمل يتبعه لنه‬
‫ثمرته وفرعه«هل)‪ . (1‬وقال‪ :‬إن النية »وهي الرادةا وانبعاثا النفس‬
‫بحكم الرغبة والميينل إلى ما هو موافق للغرض إما في الحال وإما‬
‫في المآل‪ ،‬فالمحرك الول هو الغرض المطلوب وهو الباعث‪،‬‬
‫والغرض الباعث هو المقصد المنوي‪ ،‬والنبعاثا هو القصد والنييية‪،‬‬
‫وانتهاض القدرةا لخدمة الرادةا بتحريك العضاء هو العمل«هل)‪. (2‬‬
‫وقال ابن نيجيينم الحنفي‪» :‬فهي في اللغة‪ :‬كما في القاموس‪:‬‬
‫نوى الشيء ينويه نيةا وتيشدييد وتيخيفييف‪ :‬قصده‪ .‬وفي الشرع‬
‫كما في التلويح‪ :‬قصد الطاعة والتقرب إلى ال في إيجاد‬
‫الفعل«هل)‪. (3‬‬
‫وقال‪» :‬وعرييفهـا القاضي البيضـاوي بأنها شـرعاا الرادةا‬
‫المتوجهة نحـو الفعـل ابتغـاءا لوجـه ال تعالى وامتثـالا لحكمه‪.‬‬
‫ولغةا‪ :‬انبعـاثا القلبِّ نحو ما يراه موافقـاا لغرضم من جلبِّ نفعم‬
‫أو دفع ضرم‪ ،‬حالا أو مآلا«هل )‪. (4‬‬
‫وقال السيوطي‪» :‬محلها القلبِّ في كل موضع لن حقيقتها‬
‫) ( الغزالي‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد‪ ،‬إحياء علوما الدين‪ ،4/365 ،‬دار‬ ‫‪1‬‬

‫المعرفة ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( ابن نجيم الحنفي‪ ،‬زين الدين بن إبراهيم‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 970‬هـ ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪ ، 24 :‬ط‪ 1442 ، 2‬هـ ‪ 1999 -‬ما‪ ،‬تحقيق الدكتور‬
‫محمد مطيع الحافظ ‪ ،‬دار الفكر المعاصر ‪ -‬بيروت‪ ،‬دار الفكر ‪ -‬دمشق‪.‬‬
‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪360‬‬
‫القصد مطلقاا‪ ،‬وقيل‪ :‬المقارن للفعل وذلك عبارةا عن فعل القلبِّ‪.‬‬
‫قال البيضاوي‪ :‬النية عبارةا عن انبعاثا القلبِّ نحو ما يراه من جلبِّ‬
‫نفعم أو دفع ضرم حالا أو مآلا‪ .‬والشرع خصصه بالرادةا المتوجهة‬
‫نحو الفعل لبتغاء رضا ال تعالى وامتثال حكمه«هل )‪. (1‬‬
‫وقال ابن رجبِّ الحنبلي‪» :‬واعلم أن النية في اللغة‪ :‬نوع من‬
‫القصد والرادةا وإن كان قد فيريققي بين هذه اللفاظ«هل )‪ . (2‬ثم ذكر‬
‫ما مفاده رفض هذا التفريق كما سيتبين‪ .‬ويتبين من النصوص‬
‫السابقة للعلماء في النية والقصد أنهما يتواردان في اللغة على‬
‫معنى واحد مع اعتبار أن لفظ القصد أعم من لفظ النية‪ ،‬وذلك ما‬
‫يشير إليه قول السيوطي‪» :‬حقيقتها القصد مطلقاا«هل‪ ،‬وقول ابن‬
‫رجبِّ‪» :‬النية في اللغة‪ :‬نوع من القصد والرادةا«هل‪.‬‬
‫أما التفريق بين القصد والنية‪ ،‬فكما ظهر أن القصد أعم‬
‫والنية أخص‪ ،‬وكما يظهر بالتدقيق في النصوص الواردةا آنفاا‪ ،‬وهو‬
‫أن النية تطلق عند وجود الفعل‪ ،‬فل يكفي وجود القصد أو الرادةا‬
‫في القلبِّ‪ ،‬وإنما يجبِّ أن يقارن ذلك التوجهي إلى إحداثا الفعل‪،‬‬
‫لذلك جاء في تعريف البيضاوي قوله‪» :‬بأنها الرادةا المتوجهة نحو‬
‫الفعل«هل‪ ،‬وفي قول السيوطي‪» :‬وقيل‪ :‬المقارن للفعل«هل أما قوله‪:‬‬
‫»وذلك عبارةا عن فعل القلبِّ«هل فذلك للتأكيد أنها نوع من القصد‬
‫فمحلها القلبِّ مثله‪ .‬وقال ابن رجبِّ الحنبلي‪» :‬وإنما فرييق من‬
‫فرييق بين النية وبين الرادةا والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية‬
‫بالمعنى الول الذي يذكره الفقهاء فمنهم من قال‪ :‬النية تختص‬

‫) ( السيوطي‪ ،‬جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى سنة ‪ 911‬هـ ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫الشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية‪ ،‬ص‪ ، 76 :‬ط‪1414 ،2‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1993‬ما‪ ،‬تحقيق وتعليق الدكتور محمد المعتصم بال البغدادي‪ ،‬دار الكتاب‬
‫العربي ‪ -‬بيروت ‪.‬‬
‫) ( ابن رجبِّ الحنبلي‪ ،‬جامع العلوما والحكم في شرح خمسين حديثاا من‬ ‫‪2‬‬

‫جوامع الكلم‪ ،‬ص‪ ، 16 :‬تحقيق فؤاد ابن علي حافظ‪ ،‬ط‪1421 ، 2‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 2000‬ما‪ ،‬مؤسسة الريان بيروت‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫بفعل الناوي‪ ،‬والرادةا ل تختص بذلك‪ ،‬كما يريد النسان من ال‬
‫أن يغفر له ول ينوي ذلك«هل)‪. (1‬‬
‫وعند التدقيق نلحظ تفريقاا في الستعمال اللغوي لجهة أن‬
‫لفظ القصد أعم من لفظ النية‪ ،‬فقد لحظنا قول العلماء مثلا‪:‬‬
‫مقصد الشارع ومقاصد الشارع ومقاصد الشريعة‪ ،‬ولم يقولوا نية‬
‫الشارع أو نواياه أو نوايا الشريعة‪ ،‬وكذلك لم يقولوا إرادةا‬
‫الشريعة)‪. (2‬‬
‫وأما التفريق الذي أشار إليه ابن رجبِّ في النص السابق بقوله‪:‬‬
‫»لظنهم اختصاص النية بالمعنى الول الذي يذكره الفقهاء‪«...‬هل‬
‫فهو إشارةا إلى أن من العلماء من جعل للنية معنى شرعياا ومعنى‬
‫لغوياا‪ ،‬أما المعنى اللغوي فهو القصد مطلقاا وبذلك يكون القصد‬
‫أعم من النية‪ ،‬وأما الشرعي‪ ،‬فهو تخصيص النية بمعنى قصد امتثال‬
‫أمر الشارع أو قصد القيربة‪ ،‬وهو ما يشير إليه نص ابن نجيم ونص‬
‫السيوطي وهو ما نقله عن البيضاوي‪ .‬وهذا بخلفَّ الغزالي وابن‬

‫) ( ابن رجبِّ الحنبلي ‪ ،‬جامع العلوما والحكم‪ ،‬ص‪. 17 - 16 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫لفظ الرادةا حيث ورد في نصوص العلماء بمعنى القصد والنية‪ ،‬جـاء‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫في نصوص شرعية كثيرةا‪ ،‬قال تعالى‪      [ :‬‬
‫‪ ] ]  ‬آل عمران‪ ، [152 :‬وقال‪    [ :‬‬
‫‪ ] ]  ‬النفال‪ ، [67 :‬وقال‪     [ :‬‬
‫‪ ] ] ‬هود‪ ، [15 :‬وقال‪ ] ]      [ :‬الشورى‪:‬‬
‫‪ ، [20‬وقال‪       [ :‬‬
‫‪ ] ]  ‬النعاما‪ ،[52 :‬و قــال‪    [ :‬‬
‫‪     ‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪‬‬
‫[ ‪‬‬ ‫‪ ] ] ‬الكهف‪ ،[28 :‬و قــال‪:‬‬ ‫‪   ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪‬‬
‫‪         ‬‬
‫] ] الروما‪ ، [39 :‬وقد ييعبيير عنها في القرآن بلفظ البتغاء كما في قــوله‬
‫تعالى‪ ] ]      [ :‬الليل‪ ،[20 :‬وقوله‪:‬‬
‫[ ‪‬‬
‫‪        ‬‬
‫] ] البقرةا‪ ،[265 :‬وقوله‪ ] ]       [ :‬البقرةا‪:‬‬
‫‪ ، [272‬وانظر جامع العلوما والحكم لبن رجبِّ الحنبلي‪ ،‬ص‪. 17 :‬‬

‫‪362‬‬
‫رجبِّ مثلا‪ ،‬فلم يشيرا إل إلى المعنى اللغوي‪.‬‬
‫وينبني على هذا التخصيص لمعنى النية بمعنىا شرعي‬
‫استعمال لفظ النية لعمال العبادات‪ .‬أما في العادات فيكون فقط‬
‫عندما يكون قصد المكلف التقرب إلى ال وامتثال المر‪ .‬ويصح‬
‫استعمال لفظة القصد هنا لنها عامة‪ ،‬أما عندما يكون قصد المكلف‬
‫هو أغراضه وحظوظه كقصد التملك أو إشباع الشهوات فما جرى‬
‫عليه المر هو استعمال لفظ القصد ولذلك قالوا إن النيات‬
‫تيصيـييقري العادات عبادات‪ .‬وقال ابن نجيم الحنفي‪» :‬ل ثواب إل‬
‫بالنية«هل)‪ . (1‬وقال الغزالي‪» :‬وما من شيء من المباحات إل ويحتمل‬
‫نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي‬
‫الدرجات‪ ،‬فما أعظم خسران من يغفل عنها«هل)‪. (2‬‬

‫) ( ابن نجيم الحنفي‪ ،‬الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 14 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬إحياء علوما الدين‪. 4/371 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪363‬‬
‫أثار النيية فـي العمال)‪:(1‬‬
‫ر وى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه عن النبي ‪ ‬أنه‬
‫ئ مإا نوى‪ ،‬فمن كانت‬ ‫قال ‪» :‬العمال بالنية‪ ،‬وألكل امإر ئ‬
‫هجرته إلى الله وأرسوله فهجرته إلى الله وأرسوله‪ ،‬وأمإن‬
‫كانت هجرته لدنيا يصيبها أوأ امإرأة يتزوأجأها فهجرته‬
‫إلى مإا هاجأر إليه«)‪ . (2‬وعند مسلم بلفظ‪» :‬إنما العمال‬
‫ئ مإا نوى‪. (3)«...‬‬
‫بالنية‪ ،‬وأإنما لمإر ئ‬
‫ونقل السيوطي التواتر عن الئمة في تعظيم قدر هذا‬
‫الحديث)‪ . (4‬وكذلك الحافظ العسقلني حيث قال‪» :‬وقد تواتر‬
‫النقل عن الئمة في تعظيم قدر هذا الحديث‪ ،‬قال أبو عبد ال‪ :‬ليس‬
‫في أخبار النبي ‪ ‬شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدةا من هذا‬
‫الحديث «هل)‪ . (5‬ونقل عن كثير من الئمة منهم الشافعي وأحمد بن‬
‫حنبل رضي ال عنهما أنه ثلث السلما‪ .‬وعن الشافعي أنه يدخل في‬

‫) ( أي من حيث صحة العمال أو بطلنها وترتبِّ الثواب أو العقاب عليها‬ ‫‪1‬‬

‫في الخرةا‪ ،‬أو من حيث إجزاؤها وترتبِّ آثارها عليها في الدنيا‪ .‬قــال ابــن‬
‫نيجيم الحنفي‪ » :‬وهو نوعان أ خــروي‪ :‬و هــو الثـواب وا ســتحقاق الع قــاب‪،‬‬
‫ودنيوي‪ :‬وهو الصحة والفساد« وذهبِّ إلى اعتبار العمال بالنيــة بــالنظر‬
‫إلى الخرةا‪ ،‬ونفى اعتبارها بالنظر إلى الصحة والفساد فــي الــدنيا‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫» وقد أريد الخروي بالجماع للجماع على أنه ل ثواب ول عقاب إل بالنية‬
‫فانتفى الخر أن يكون مراداا« الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 14 :‬‬
‫) ( أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي ) ‪ ، ( 1‬واليمان ) ‪ ، ( 52‬والعتق )‬ ‫‪2‬‬

‫‪ . ( 6439‬ومناقبِّ النصار ) ‪ ( 3609‬والنكاح ) ‪ ( 5070‬واليمان والنذور‬


‫) ‪ ( 6195‬والحيل ) ‪ ( 6439‬ومسلم ) ‪ ،( 3530‬وأخر جــه أبــو داود فــي‬
‫كتاب الطلق ) ‪ . ( 2201‬والترمذي في كتاب فضــائل الجهــاد ) ‪، ( 1571‬‬
‫وأخرجه النسائي في كتاب الطهارةا ) ‪ ، ( 74‬والطلق ) ‪ ( 3383‬واليمــان‬
‫والنذور ) ‪ ، ( 3734‬وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ) ‪ ، ( 4217‬ورواه‬
‫أيضاا أحمد في مسنده ) ‪. ( 4567‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬صحيح مسلم بشرح الماما محيي الدين النووي‪ ،‬المسمى المنهاج‬ ‫‪3‬‬

‫شرح صحيح مسلم ابن الحجاج ‪ ، 13/55‬تحقيق الشيخ خليل مأمون شــيحا‪،‬‬
‫دار المعرفة ـ بيروت‪ ،‬ط‪ 1414 ، 1‬هـ ‪ 1994‬ما‪.‬‬
‫) ( السيوطي‪ ،‬الشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية‪ ،‬ص‪. 40 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪364‬‬
‫سبعين باباا من أبواب الفقه)‪. ( 1‬‬
‫وفيما يتعلق بمعنى الحديث‪ ،‬فالعمال قسمان‪ :‬عبادات وعادات‪.‬‬
‫والذين قالوا إن النية بمعنى القصد ولم يخصصوا النية بمعنى‬
‫شرعي وهو قصد رضا ال وامتثال حكمه‪ ،‬فقد حملوا المعنى على‬
‫تقدير الصحة في العمال سواء كانت عبادات أو عادات بناء على‬
‫صحة النية وهو ابتغاء رضا ال‪ .‬فإذ ا افتقرت العمال إلى هذه النية‬
‫تكون النية فاسدةا فتكون العمال فاسدةا لن العمال بالنيات‪ .‬قال‬
‫الحافظ بن حجر العسقلني‪» :‬والنية في الحديث محمولة على‬
‫المعنى اللغوي«هل )‪ ، (2‬وقال‪» :‬التقدير‪ :‬ل عمل إل بالنية‪ ،‬فليس‬
‫المراد نفي ذات العمل لنه قد يوجد بغير نية‪ ،‬بل المراد نفي‬
‫)‪(3‬‬
‫أحكامها كالصحة والكمال ولكن الحمل على نفي الصحة أولى«هل ‪.‬‬
‫وقال ابن رجبِّ الحنبلي عند شرحه للحديث‪» :‬وبه صديير البخاري‬
‫كتابه )الصحيح( مقاما الخطبة له‪ ،‬إشارةا منه إلى أن كل عمل ل‬
‫)‪(4‬‬
‫يراد به وجه ال فهو باطل ل ثمرةا له في الدنيا ول في الخرةا«هل ‪.‬‬
‫فقوله‪ :‬كل عمل‪ ،‬أي سواء كان من العبادات أو من العادات وهو ما‬
‫ذهبِّ إليه الغزالي كما سيتبين‪.‬‬
‫أما الذين خصصوا النية بالمعنى الشرعي الخاص‪ ،‬فقد فر ييق وا‬
‫في العمال بين العبادات والعادات‪ ،‬فأعمال العادات تكون صحيحة‪،‬‬
‫وإن لم تكن بقصد المتثال للشارع ولكن ل يترتبِّ عليها ثواب‪ .‬أما‬
‫العبادات فالنية شرط في صحتها‪ .‬قال ابن رجبِّ الحنبلي‪» :‬وقد‬
‫اختيلقفي في تقدير قوله‪» :‬العمال بالنيات« ‪ ،‬فكثير من‬

‫) ( العسقلني‪ ،‬أحمد بن علي بن حجر ‪ 852 - 773‬هـ‪ .‬فتح الباري بشرح‬ ‫‪5‬‬

‫صحيح البخاري ‪ 1/11‬بتصحيح وتحقيق عبد العزيز بن عبد ال بن بــاز‪،‬‬


‫دار المعرفة ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫) ( أنظر‪ :‬المراجع المذكورةا في الهوامش ‪ 2 :‬و ‪ 3‬و ‪ 4‬أعله‪ ،‬وانظر أيضاا‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫جامع العلوما والحكم ص‪ 13 :‬ـ ‪. 14‬‬


‫) ( العسقلني‪ ،‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪. 1/13 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( ابن رجبِّ الحنبلي‪ ،‬جامع العلوما والحكم‪ ،‬ص‪. 13 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪365‬‬
‫المتأخرين يزعم أن تقديره‪ :‬العمال صحيحة أو معتبرةا أو مقبولة‬
‫بالنيات‪ ،‬وعلى هذا فالعمال إنما أريد بها العمال الشرعية المفتقرةا‬
‫إلى النية‪ .‬أما ما ل يفتقر إلى نية كالعادات من الكل والشرب‬
‫واللبس وغيرها‪ ،‬أو مثل رد المانات والمضمونات‪ ،‬كالودائع‬
‫والغصوب فل يحتاج شيء من ذلك إلى نية فييخص هذا كله من‬
‫عموما العمال المذكورةا ههنا‪ .‬وقال آخرون‪ :‬بل العمال ههنا على‬
‫عمومها ل يختص منها شيء«هل)‪. (1‬‬
‫وحاصل هذا الخلفَّ يرجع إلى وفاق فيما يتعلق بأعمال‬
‫العبادات‪ ،‬إذ ل خلفَّ في أن صحة العبادات تفتقر إلى النية‪ .‬أما‬
‫العادات فهي محل الخلفَّ والتفصيل‪ ،‬والذين يقصرون معنى‬
‫الحديث »العمال بالنية« على أعمال العبادات يؤكدون على أن‬
‫أعمال العادات تؤثر فيها مقاصد العامل ‪ ،‬لذلك وضعوا قاعدةا‬
‫»شرعية«هل أعميي من حديث النية‪ ،‬بنوها على الحديث وعلى غيره‬
‫من النصوص الشرعية هي قاعدةا‪ :‬المور بمقاصدها‪.‬‬

‫المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ ، 15 :‬والقول الول هو ما يقوله الشاطبي ك مــا‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سيتبين‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫قاعدة المإور بمقاصدها)‪:(1‬‬
‫قال السيوطي‪» :‬الصل في هذه القاعدةا قوله ‪» :‬إنما‬
‫العمال بالنيات«‪ .‬وهذا حديث صحيح مشهور أخرجه الئمة‬
‫الستة وغيرهم عن عمر بن الخطاب«هل)‪. (2‬‬
‫وهي بهذا النص شاملة للعبادات والعادات معاا‪ .‬قال ابن نجيم‬
‫) ( تذكر بعض كتبِّ الشباه والنظائر عن بعض الفقهاء إرجاع بعض‬ ‫‪1‬‬

‫المذاهبِّ الفقهية إلى بضع عشرةا قاعدةا‪ .‬أنظر في ذلك كتاب الشباه‬
‫والنظائر للسيوطي ص‪ . 38 - 35 :‬وكتاب الشباه والنظائر للماما تاج‬
‫الدين السبكي ص‪ . 12 - 10 :‬وقد ذكر السيوطي رد جميع مذهبِّ الشافعي‬
‫إلى أربع قواعد‪ :‬الولى‪ :‬اليقين ل يزال بالشك‪ ،‬والثانية‪ :‬المشقة تجلبِّ‬
‫التيسير‪ ،‬والثالثة‪ :‬الضرر يزال‪ ،‬والرابعة‪ :‬العادةا محكمة‪ .‬ومما قاله‪:‬‬
‫»قال بعض المتأخرين‪ :‬في كون هذه الربع دعائم للفقه نظر‪ ،‬فإن غالبه‬
‫ل يرجع إليها إل بواسطة وتكلف‪ ،‬وضم بعض الفقهاء إلى هذه قاعدةا‬
‫خامسة وهي‪» :‬المأور بمأقاصدها« لقوله ‪» :‬إنما العمال بالنيات«‪ .‬وقال‪:‬‬
‫»بني السلم على خإمس« ] الحديث أخرجه البخاري في اليمان رقم‬
‫) ‪ ( 4153 ) ، ( 7‬ومسلم في باب بيان أركان السلما ودعائمه العظاما رقم )‬
‫‪ ، ( 21 ) ،( 20 ) ،( 16‬وأحمد رقم ) ‪ ،( 4567‬والترمذي ) ‪ ( 2534‬وقال‪:‬‬
‫حسن صحيح والنسائي ) ‪ . [( 4915‬والفقه على خمس‪ ،‬قال العلئي‪ :‬وهو‬
‫حسن جداا فقد قال الماما الشافعي‪ :‬يدخل في هذا الحديث ثلث العلم« ص‪:‬‬
‫‪. 37‬‬
‫وقال الماما السبكي‪ » :‬اعلم أن القاضي حسيناا ذكر أن مبنى الفقه على‬
‫أربع قواعد«هل ثم ذكر الربع المذكورةا أعله« ‪ .‬وقال‪ » :‬وزعم من يدعي‬
‫التحقيق أنه أهمل خامسة وهي أن المور بمقاصدها‪ ،‬وقال‪ :‬بني السلما على‬
‫خمس والفقه على خمس«‪ .‬وأضافَّ السبكي‪ » :‬والتحقيق عندي أنه إن أريد‬
‫رجوع الفقه إلى الخمس بتعسف وتكلف وقول جيميلي فالخامسة داخلة في‬
‫الولى وفي الثانية أيضاا‪ .‬بل رجييع شيخ السلما عز الدين بن عبد السلما‬
‫الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد‪ ،‬ولو ضايقه مضايق لقال‪:‬‬
‫أرجع الكل إلى اعتبار المصالح فإن درء المفاسد من جملتها‪ .‬ويقول على‬
‫هذا‪ :‬واحدةا من هذه الخمس كافية والشبه أنها الثانية‪ ،‬وإن أريد الرجوع‬
‫بوضوح فإنها تربو إلى الخمسين بل على المائتين«هل ص‪ . 12 :‬أما العلمة‬
‫ابن نجيم الحنفي فقد عدها ستاا رتبها كالتالي‪ :‬ل ثواب إل بالنية‪ ،‬المور‬
‫بمقاصدها‪ ،‬اليقين ل يزول بالشك‪ ،‬المشقة تجلبِّ التيسير‪ ،‬الضرر يزال‪،‬‬
‫العادةا محكمة‪ .‬أنظر‪ :‬الشباه والنظائر ‪ ،‬ص‪. 3 - 1 :‬‬
‫) ( السيوطي‪ ،‬الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 38 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪367‬‬
‫الحنفي تحت عنوان‪ :‬المور بمقاصدها‪» :‬إن بيع العصير ممن‬
‫يتخذه خمراا إن قصد به التجارةا فل يحرما وإن قصد به لجل‬
‫التخمير حرما‪ ،‬وكذا غرس الكرما على هذا‪ .‬وعلى هذا عصير العنبِّ‬
‫بقصد الخليقية أو الخمرية‪ ،‬والهجر فوق ثلثا دائر مع القصد فإن‬
‫قصد هجر المسلم حرما وإل ل«هل)‪ ، (1‬والمثلة المذكورةا في النص‬
‫أعله ليست من العبادات‪.‬‬
‫ولذلك قالوا إن النية شرعت لتمييز العبادات عن العادات‬
‫ولتمييز رتبِّ العبادات بعضها عن بعض‪ ،‬أما العادات فل تشترط لها‬
‫النية وإنما شرطها أن يكون القصد مشروعاا‪ .‬وهذا فضلا عن أن‬
‫يكون العمل نفسه مشروعاا‪.‬‬
‫قال ابن السبكي‪» :‬ويدخل فيها)‪ (2‬أيضاا قاعدةا‪ :‬النية لتمييز‬
‫العبادات عن العادات ولتمييز مراتبِّ العبادات بعضها عن بعض‬
‫فالول‪ :‬كالجلوس في المسجد يتردد بين الجلوس للعتكافَّ‬
‫والجلوس للستراحة‪ ،‬وكالوضوء والغسل يتردد بين التبرد‬
‫والتنظيف والقربة فلول النية لما تميزت العبادةا عن غيرها ول‬
‫حصلت«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬وأما الثاني‪ :‬وهو قولهم‪ :‬ولتمييز مراتبِّ‬
‫العبادات بعضها عن بعض فكتمييز صلةا النفل عن الفرض«هل)‪. (4‬‬
‫ومثله قال السيوطي‪» :‬فيم شرعت النية لجله‪ :‬المقصود‬
‫الهم فيها تمييز العبادات من العادات وتمييز رتبِّ العبادات بعضها‬
‫عن بعض‪ ...‬والمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي أو‬
‫لعدما الحاجة إليه‪ ...‬ودفع المال للغير قد يكون هبةا أو وصلةا‬
‫لغرض دنيوي وقد يكون قربةا كالزكاةا والصدقة والكفارةا‪...‬‬
‫وكل من الوضوء والغسل والصلةا والصوما قد يكون فرضاا ونذراا‬
‫ونفلا‪ ،‬والتيمم قد يكون عن الحدثا أو الجنابة وصورته‬

‫ابن نجيم الحنفي‪ ،‬الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 22 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫فيها‪ :‬أي في قاعدةا المور بمقاصدها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ابن السبكي‪ ،‬الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 57 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 59 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪368‬‬
‫واحدةا«هل )‪. (1‬‬
‫وكذلك قال ابن نجيم الحنفي‪» :‬قالوا‪ :‬إن المقصود فيها‬
‫تمييز العبادات من العادات‪ ،‬وتمييز بعض العبادات عن بعض«هل )‪. (2‬‬
‫الخإلص وأالتشريك فـي المقاصـد‪:‬‬
‫قال الغزالي‪ » :‬إ علم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره‪ ،‬فإذا‬
‫صفا عن شوبه وخلص عنه سيميقيي خالصاا‪ ،‬ويسمى الفعل المصفى‬
‫المخلص‪ :‬إخلصاا«هل )‪ . (3‬وقال‪» :‬فمهما كان الباعث واحداا على‬
‫التجرد سمي الفعل الصادر ع ن ه إخلصاا بالنسبة إلى المنوي‪ ،‬فمن‬
‫تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص‪ ،‬ومن كان غرضه محض‬
‫التقرب إلى ال تعالى فهو مخلص‪ ،‬ولكن العادةا جارية بتخصيص‬
‫اسم الخلص بتجريد قصد التقرب إلى ال تعالى عن جميع‬
‫الشوائبِّ«هل)‪. (4‬‬
‫أما التشـريك فهو ضـد الخلص‪ ،‬قال الغزالي‪» :‬والخلص‬
‫يضاده الشـراك فمن ليـس مخلصاا فهو مشـرك‪ .‬إل أن الشـرك‬
‫)‪(5‬‬
‫درجات‪ ،‬فالخلص في التوحيـد يضاده التشـريك في اللهيـة«هل ‪.‬‬
‫وقال‪» :‬والخلص وضـده يتواردان على القلبِّ فمحله القلبِّ وإنما‬
‫يكون ذلك في القصـود والنيـات«هل )‪. (6‬‬
‫والتشريك في المقاصد هو التشريك بين قصد المتثال لمر‬
‫الشارع أو التقرب إليه وقصد حظوظ النفس‪ .‬وحظوظ النفس منها‬
‫ما هو رياء ومنها من هو ليس رياء فالرياء هو أن يعمل ليراه‬
‫الناس‪ ،‬وذلك كمن يعمل ليراه المير أو غيره ليعظم في نفوسهم‬
‫لن هؤلء ييريونن‪ .‬أما من يعمل بقصد الربح أو الغنيمة أو التنعم‬

‫) ( السيوطي‪ ،‬الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 47 - 46 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( ابن نجيم الحنفي‪ ،‬الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 24 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬إحياء علوما الدين‪. 4/379 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬إحياء علوما الدين‪. 4/379 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪369‬‬
‫بالطيبات فهذا قصد لحظ النفس وليس رياءا‪ .‬قال القرافي‪» :‬أن‬
‫يعمل العمل المأمور به والمتقرب به إلى ال تعالى ويقصد به وجه‬
‫ال تعالى وأن يعظمه الناس أو يعظم في قلوبهم فيصل إليه نفعهم‬
‫أو يندفع عنه ضررهم فهذا هو قاعدةا أحد قسمي الرياء‪ ،‬والقسم‬
‫الخر‪ :‬أن يعمل العمل ل يريد به وجه ال تعالى البتة‪ ،‬بل الناس‬
‫فقط‪ ،‬ويسمى هذا القسم‪ :‬رياء الخلص‪ ،‬والقسم الول رياء‬
‫الشرك‪ ،‬لن هذا ل تشريك فيه بل خالص للخلق والول للخلق ول‬
‫تعالى«هل)‪ . (1‬وقال أيضاا‪» :‬وأما مطلق التشريك كمن جاهد‬
‫ليحصل طاعة ال بالجهاد وليحصل المال من الغنيمة فهذا ل يضره‪،‬‬
‫ول يحرما عليه بالجماع لن ال تعالى جعل له هذا في هذه العبادةا‬
‫ففرق بين جهاده ليقول الناس إنه شجاع أو ليعظمه الماما فيكثر‬
‫عطاؤه من بيت المال فهذا ونحوه رياء حراما وبين أن يجاهد‬
‫ليحصل السبايا والكراع والسلح من جهة أموال العدو فهذا ل يضره‬
‫مع أنه قد شرييك ول يقال لهذا رياء بسببِّ أن الرياء ليعمل أن‬
‫يراه )‪ (2‬غير ال تعالى من خلقه والرؤية ل تصح إل من الخلق فمن‬
‫ل يرى ول يبصر ل يقال في العمل بالنسبة إليه رياء‪ ،‬والمال‬
‫المأخوذ من الغنيمة ونحوه ل يقال إنه يرى أو يبصر فل يصدق‬
‫على هذه الغراض لفظ الرياء لعدما الرؤية فيها«هل )‪. (3‬‬
‫بناء على ما سبق يمكن التفصيل في حكم التشريك بين قصد‬
‫المتثال وقصد الحظ‪.‬‬
‫أما قصد المتثال والتقرب المجرد عن أي قصد آخر فهذا أعلى‬
‫العمال مرتبة وأزكاها‪ .‬وأما قصد الحظ فإن كان من الرياء فهو‬
‫مذموما)‪ (4‬سواء في العبادات أو العادات‪ ،‬وسواء رياء التشريك أو‬

‫) ( القرافي شهاب الدين‪ ،‬الفروق‪ ، 3/22 :‬الفرق‪. 122 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( هكذا النص‪ .‬وربما أصله‪ :‬أن يعمل ليراه‪...‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( القرافي شهاب الدين‪ ،‬الفروق‪ :‬الفرق ‪. 23 - 3/22 ،122‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( وللعلماء تفصيل في هذا المر‪ ،‬إذ قد يقوما العامل بعمله بقصد الطاعة‬ ‫‪4‬‬

‫أو غيرها ابتداءا فيحصل للنفس رياء يهجم عليها ويصعبِّ الخروج عنه‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫الرياء المجرد‪ .‬قال القرافي‪» :‬إعلم أن الرياء في العبادات شرك‬
‫وتشريك مع ال تعالى في طاعته وهو موجبِّ للمعصية والثم‬
‫والبطلن«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬وأغراض الرياء ثلثة‪ :‬التعظيم وجلبِّ‬
‫المصالح الدنيوية ودرء المضار الدنيوية‪ ،‬والخيران يتفرعان عن‬
‫الول فإنه إذا عظم انجلبت إليه المصالح واندفعت عنه المفاسد فهو‬
‫الغرض الكلي في الحقيقة فهذه قاعدةا الرياء المبطلة للعمال‬
‫المحرمة بالجماع«هل)‪ . (2‬وقال الغزالي‪» :‬ومن كان باعثه مجرد‬
‫الرياء فهو معرض للهلك«هل)‪. (3‬‬
‫أما إن كان قصد حظ النفس من غير الرياء‪ ،‬فإن كان مجرداا‬
‫عن قصد المتثال‪ ،‬فهو في العبادات غير صحيح لن العبادات ‪ -‬كما‬
‫تبين سابقاا ‪ -‬تفتقر إلى النية‪ ،‬قال الغزالي‪» :‬الطاعات‪ :‬وهي‬
‫مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها«هل)‪. (4‬‬
‫وإن كان في العادات‪ ،‬فبحسبِّ القصد‪ .‬فإن كان القصد‬
‫مشروعاا فالعمل صحيح‪ ،‬وإن كان القصد غير مشروع فهو غير‬
‫صحيح)‪ . (5‬قال ابن ن يجي ي ن م الحنفي‪» :‬بيع العصير ممن يتخذه‬
‫خمراا إن قصد به التجارةا فل يحرما‪ ،‬وإن قصد به لجل التخمير‬
‫حرما‪ ،‬وكذا غرس الكرما على هذا‪ .‬وعلى هذا عصير العنبِّ بقصد‬
‫الخلية أو الخمرية‪ .‬والهجر فرق ثلثا دائر مع القصد‪ ،‬فإن قصد‬
‫هجر المسلم حرما وإل فل‪ ،‬والحداد للمرأةا على ميت غير زوجها‬
‫فوق ثلثة دائر مع القصد‪ ،‬فإن قصدت ترك الزينة والتطيبِّ لجل‬
‫الميت حرما عليها وإل فل«هل)‪ . (6‬إل أنه وإن كان قصد الحظ‬

‫وسنذكره عند تفصيل رأي الشاطبي في التشريك بين المقاصد‪.‬‬


‫) ( القرافي شهاب الدين‪ ،‬الفروق‪ . 23 - 4/22 ،‬الفرق‪. 122 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬إحياء علوما الدين‪. 4/379 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/370 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( حديثنا محصور في الصحة والبطلن من حيث ترتبِّ الثــم أو الثــواب‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫وليس قضاءا في الدنيا‪.‬‬


‫) ( ابن نجيم الحنفي‪ ،‬الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪. 22 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪371‬‬
‫مشـروعاا فالتجـرد عن قصد المتثال والتقرب يجعل العمل بل‬
‫ثواب إذ ل ثواب إل بالنية‪.‬‬
‫أما إن كان قصد حظ النفس ممتزجاا بقصد المتثال‬
‫والتقرب‪ ،‬فههنا موضع الخلفَّ والتفصيل‪ .‬فالقرافي ‪ -‬كما تبين ‪-‬‬
‫فرق بين الرياء وغيره من حظوظ النفس وجعل الول حراماا‬
‫ومبطلا للعمال‪ .‬أما الغزالي فإنه وإن فرق بينهما في الحرمة‬
‫والباحة‪ ،‬فإنه لم يفرق بينهما من حيث أثرهما على العمل الذي‬
‫امتزجت فيه المقاصد‪ .‬قال‪» :‬التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس‬
‫بمعصية إل أنه يسأل عنه ومن نوقش الحساب عذب‪ ،‬ومن أتى شيئاا‬
‫من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الخرةا‪ ،‬ولكن ينقص من نعيم‬
‫الخرةا له بقدره وناهيك خسراناا بأن يستعجل ما يفنى ويخسر‬
‫زيادةا نعيم ل يفنى«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬نتكلم الن فيمن انبعث لقصد‬
‫التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر‪ ،‬إما من الرياء أو من‬
‫غيره من حظوظ النفس‪ ،‬ومثال ذلك أن يصوما لينتفع بالحمية‬
‫الحاصلة بالصوما مع قصد التقرب‪ ،‬أو يعتق عبداا ليتخلص من‬
‫مؤنته وسوء خلقه‪ ،‬أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر‪ ،‬أو‬
‫يتخلص من شر يعرض له في بلده«هل )‪ ، (2‬ثم قال‪» :‬وهذه الحظوظ‬
‫إن كانت هي الباعثة وحدها فل يخفى شدةا المر على صاحبه فيها‪،‬‬
‫وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الصلي هو التقرب وانضافت إليه‬
‫هذه المور«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث‬
‫الديني أو أقوى منه أو أضعف«هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬إعلم أن العمل إذا لم‬
‫يكن خالصاا لوجه ال تعالى بل اقترن به شوب من الرياء أو حظوظ‬
‫النفس‪ ،‬فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثواباا أما يقتضي‬
‫عقاباا أما ل يقتضي شيئاا أصلا فل يكون له ول عليه؟ أما الذي لم‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬إحياء علوما الدين‪. 372 - 4/371 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/379 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/380 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪372‬‬
‫يرد به إل الرياء فهو عليه قطعاا وهو سببِّ المقت والعقاب وأما‬
‫الخالص ل تعالى فهو سببِّ الثواب وإنما النظر في المشوب‪ ،‬وظاهر‬
‫الخبار تدل على أنه ل ثواب له‪ ،‬وليس تخلو الخبار عن تعارض‬
‫فيه‪ ،‬والذي ينقدح لما فيه ‪ -‬والعلم عند ال ‪ -‬أن ينظر إلى قدر قوةا‬
‫الباعث‪ ،‬فإن كان الباعث الديني مساوياا للباعث النفسي تقاوما‬
‫وتساقطا وصار العمل ل له ول عليه‪ ،‬وإن كان باعث الرياء أغلبِّ‬
‫وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفضم للعقاب‪ .‬نعم‬
‫العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم‬
‫يمتزج به شائبة التقرب‪ ،‬وإن كان قصد التقرب أغلبِّ بالضافة إلى‬
‫الباعث الخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوةا الباعث الديني«هل )‪. (1‬‬
‫وذهبِّ إلى أن طلبِّ الدنيا ليس حراماا ولكن طلبها بأعمال الدين‬
‫حراما لما فيه من الرياء وتغيير العبادةا عن موضعها )‪. (2‬‬
‫وقد عارضه في ذلك القرافي والشاطبي‪ .‬أما القرافي فقال‪:‬‬
‫»وكذلك من حج وشرك في حجه غرض المتجر بأن يكون جل‬
‫مقصوده أو كله السفر للتجارةا خاصة ويكون الحج إما مقصوداا‬
‫مع ذلك أو غير مقصود‪ ،‬ويقع تابعاا اتفاقاا فهذا أيضاا ل يقدح في‬
‫صحة الحج ول يوجبِّ إثماا ول معصيةا‪ ،‬وكذلك من صاما ليصح‬
‫جسده أو ليحصل له زوال مرضم من المراض التي ينافيها الصياما‬
‫ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده وأوقع الصوما مع هذه‬
‫المقاصد ل تقدح هذه المقاصد في صومه بل أمر بها صاحبِّ الشرع‬
‫في قوله ‪» : ‬يا مإعشر الشباب مإن استطاع مإنكم الباءة‬
‫)‪(3‬‬
‫فليتزوأج وأمإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وأجأاء«‬
‫أي قاطع فأمر بالصوما لهذا الغرض فلو كان ذلك قادحاا لم يأمر‬

‫) ( الغزالي‪ ،‬إحياء علوما الدين‪. 4/384 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/385 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( البخاري ) ‪ . 5/1950 ،( 4637‬ومسلم ) ‪ ،( 2485‬و) ‪ ،( 2486‬وابن‬ ‫‪3‬‬

‫ماجة ) ‪ .( 1835‬وفيه‪ :‬فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج‪ .‬وله روايات‬


‫بدون‪ :‬يا معشر الشباب ‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫به عليه الصلةا والسلما في العبادات وما معها ومن ذلك أن يجدد‬
‫وضوءه وينوي التبرد أو التنظيف وجميع هذه الغراض ل يدخل‬
‫فيها تعظيم الخلق«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬نعم‪ ،‬ل يمنع أن هذه الغراض‬
‫المخالطة للعبادةا قد تنقص الجر وأن العبادةا إذا تجردت عنه زاد‬
‫الجر وعظم الثواب‪ ،‬أما الثم والبطلن فل سبيل إليه«هل)‪. (2‬‬
‫أما الشاطبي فسيتبيين رأيه بالتفصيل فيما يلي إل أنه ينبغي‬
‫التنبه إلى أمرين‪ :‬الول‪ :‬أن العمال العيرقييية عن القصد مطلقاا‬
‫سواء قصد المتثال أو غيره‪ ،‬كأعمال المكره والناسي والنائم‬
‫والمجنون والصبي وما شاكلها خارجة عن محل البحث هنا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن العمال التي تتبع النية في صحتها وفي رجاء الثواب‬
‫عليها في الخرةا‪ ،‬أو في صحتها وقبولها في الدنيا إنما هي العمال‬
‫المشروعة أصلا‪ ،‬فإن كان العمل غير مشروع فل يصححه صحة‬
‫النية أو صلح القصد‪ .‬قال الغزالي‪» :‬المعاصي‪ :‬وهي ل تتغير عن‬
‫موضعها بالنية‪ ،‬فل ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموما قوله‬
‫عليه السلما »إنما العمال بالنيات« فيظن أن المعصية تنقلبِّ‬
‫طاعة بالنية‪ ،‬كالذي يغتاب إنساناا مراعاةاا لقلبِّ غيره‪ ،‬أو يطعم‬
‫فقيراا من مال غيره‪ ،‬أو يبني مدرسة أو مسجداا أو رباطاا بمالم‬
‫حراما وقصده الخير‪ .‬فهذا كله جهل‪ ،‬والنية ل تؤثر في إخراجه عن‬
‫كونه ظلماا وعدواناا ومعصيةا‪ ،‬بل قصده الخير بالشر على خلفَّ‬
‫مقتضى الشرع شري آخر‪ ،‬فإن عرفه فهو معاند للشرع‪ .‬وإن جهله‬
‫فهو عاصم بجهله إذ طلبِّ العلم فريضة على كل مسلم‪ .‬والخيرات‬
‫إنما يعرفَّ كونها خيرات بالشرع‪ ،‬فكيف يمكن أن يكون الشر‬
‫خيراا؟ هيهات«هل)‪. (3‬‬
‫وقال ابن رجبِّ الحنبلي‪» :‬فإن الدين كلــه ير جــع إ لــى ف عــل‬
‫المأمورات وترك المحظورات والتوقف على الشبهات«هل)‪ ، (4‬ثم قــال‪:‬‬
‫القرافي شهاب الدين‪ ،‬الفروق ‪ ،‬الفرق ‪. 3/23 ، 122‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الغزالي‪ ،‬إحياء علوما الدين‪. 369 - 4/368 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫ابن رجبِّ الحنبلي‪ ،‬جامع العلوما والحكم‪ ،‬ص‪. 20 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪374‬‬
‫»وإنما يتم ذلك بأمرين‪ :‬أحدهما أن يكون العمل في ظــاهره علــى‬
‫موافقة السنة وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة‪» :‬مإــن أحــدثا‬
‫في أمإرنا هذا مإا ليس مإنــه فهــو رد«)‪ ، (1‬والثاني‪ :‬أن يكــون‬
‫العمل في باطنه يقصد بــه و جــه ا لــ ك مــا ت ضــمنه حــديث ع مــر‪:‬‬
‫»العمال بالنيات«‪ .‬وقال الفضيل في قوله تعالى‪ [ :‬‬
‫‪ ، (2) ]   ‬قال‪ :‬أخلصه وأصوبه‪ ،‬وقال‪ :‬إن العمل إذا‬
‫كان خالصاا ولم يكن صواباا لم يقبل‪ ،‬وإذا كان صـواباا ولــم يكـن‬
‫خالصاا لم يقبل حتى يكون خال صــاا و صــواباا‪ ،‬قــال‪ :‬وال خــالص إذا‬
‫كان ل عز وجل‪ ،‬والصواب إذا كان على السنة«هل )‪. (3‬‬

‫) ( أخرجه البخاري في الصلح ) ‪ ، ( 2499‬وأخرج البخاري في كتاب‬ ‫‪1‬‬

‫العلم في باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلفَّ الرسول من غير‬
‫علم فحكمه مردود‪» :‬مإن عمل عمل ا ليس عليه أمإرنا فهو رد«‪،‬‬
‫ومسلم في القضية في باب نقض الحكاما الباطلة ورد محدثات المور )‬
‫‪ ،( 1718‬وأبو داود ) ‪ ،( 1406‬وابن ماجه ) ‪ . ( 14‬وأحمد ) ‪ ( 24840‬و)‬
‫‪ ،( 24995‬وفي بعض الروايات‪ :‬فيه بدل منه‪.‬‬
‫) ( سورةا الملك‪ . 2 ،‬وهود‪. 7 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( ابن رجبِّ الحنبلي‪ ،‬جامع العلوما والحكم‪ ،‬ص‪. 20 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪375‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫أعمال المكلف وأمإقاصده‬
‫أثار مإقاصد المكلف فـي العمال عند‬
‫الشاطبي‪:‬‬
‫العمال نوعان‪ :‬أعمال مشروعة وأعمال غير مشروعة‪،‬‬
‫والمقصود بهذا البحث الن العمال المشروعة‪ .‬أما العمال غير‬
‫المشروعة فهي موضوع البحث اللحق‪.‬‬
‫وقاعدةا‪» :‬المور بمقاصدها«هل معتبرةا عند الشاطبي بالمعنى‬
‫نفسه المذكور عن د الفقهاء في المبحث السابق‪ ،‬وإن لم يذكرها‬
‫بنصها‪ .‬قال‪» :‬إن العمال بالنيات والمقاصد معتبرةا في التصرفات‬
‫من العبادات والعادات والدلة على هذا المعنى ل تنحصر‪ ،‬ويكفيك‬
‫منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادةا وما هو عبادةا‪ ،‬وفي العبادات‬
‫بين ما هو واجبِّ وغير واجبِّ‪ ،‬وفي العادات بين الواجبِّ والمندوب‬
‫والمباح والمكروه والمحرما والصحيح والفاسد وغير ذلك من‬
‫الحكاما‪ .‬والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادةا‪ ،‬ويقصد به شيء‬
‫آخر فل يكون كذلك‪ ،‬بل يقصد به شيء فيكون إيماناا‪ ،‬ويقصد به‬
‫شيء آخر فيكون كفراا‪ ،‬كالسجود ل أو للصنم‪ .‬وأيضاا فالعمل إذا‬
‫تعلق به القصد تعلقت به الحكاما التكليفية وإذا عري عن القصد لم‬
‫يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون«هل)‪ ، (1‬وقال‪:‬‬
‫»فإن العمال كلها الداخلة تحت الختيار ل تصير تعبدية إل مع‬
‫القصد إلى ذلك‪ .‬أما ما وضع على التعبد كالصلةا والحج وغيرها‬
‫فل إشكال فيه‪ ،‬وأما العاديات فل تصير تعبديات إل بالنيات«هل)‪. (2‬‬
‫والعمال المشروعة إما أن يقصد المكلف من قيامه بها‬
‫المتثال فقط‪ ،‬وهي المقاصد الصلية‪ .‬وإما أن يقصد حظوظه فقط‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/225 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/228 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪376‬‬
‫وهي المقاصد التابعة‪ .‬وإما أن يقصد المرين معاا‪.‬‬
‫فإذ كان قاصداا للمتثال غير ناظر إلى ما يعود به ذلك عليه‬
‫من حظوظ دنيوية فذلك هو أزكى العمال وأعلها مرتبةا‪ .‬ومع‬
‫ذلك فإن حظوظه تحصل ضمن ذلك‪ .‬وإذا راعى حظوظه وقصدها‬
‫بعمله‪ ،‬ولكنه قصد المتثال فلم يسعي إلى حظوظه إل من طريقها‬
‫المشروع فعمله شرعي ول إشكال في صحته‪ .‬يقول‪» :‬العمل إذا‬
‫وقع على ويفق المقاصد الشرعية‪ ،‬فإما على المقاصد الصلية أو‬
‫المقاصد التابعة«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬فإذا وقع على مقتضى المقاصد‬
‫الصلية بحيث راعاها في العمل فل إشكال في صحته وسلمته‬
‫مطلقاا فيما كان بريئاا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ لنه‬
‫مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع«هل )‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬المقصد الول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى‬
‫كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدةا‪.‬‬
‫فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع‪ ،‬إما بعد فهم ما قصد‬
‫وإما لمجرد امتثال المر‪ ،‬وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده‬
‫الشارع‪ ،‬وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأولها‪ ،‬وأنه‬
‫نور صرفَّ ل يشوبه غرض ول حظ كان المتلقي له على هذا الوجه‬
‫آخذاا له زكياا وافياا كاملا غير مشوب ول قاصر عن مراد‬
‫الشارع‪ ...‬وأما القصد التابع فل يترتبِّ عليه ذلك كله‪ ،‬لن آخذ‬
‫المر والنهي بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلقه وخص عمومه‬
‫فل ينهض نهوض الول«هل)‪ . (3‬ولذلك يقول‪» :‬إن العمل على‬
‫المقاصد الصلية يصير الطاعة أعظم‪ ،‬وإذا خولفت كانت معصيتها‬
‫أعظم«هل)‪. (4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/134 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/225 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/141 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪377‬‬
‫ويعود هذا إلى منهجه في السباب والمسببات‪ .‬أما إذا كان‬
‫العمل موافقاا لمقاصد الشريعة‪ ،‬إل أن موافقته كانت بالعرض أو‬
‫اضطراراا أي عن غير قصدم للموافقة‪ ،‬فإن العمل يكون صحيحاا‬
‫بمعنىا وباطلا بمعنىا آخر‪ .‬فهو صحيح بمعنى أنه تترتبِّ عليه‬
‫آثاره في الدنيا‪ ،‬فهو مبرئ للذمة ومحصل للملك واستباحة‬
‫البضاع‪ ،‬ومسقط للقضاء فيما فيه قضاء‪ .‬وهو باطل بمعنى عدما‬
‫ترتيبِّ الثواب عليه‪ .‬وربما لحق الفاعل ذما وإثم‪ ،‬حسبِّ القصد‬
‫والنية قال ‪» : ‬إنما العمال بالنيات« وتختلف أحكاما العبادات‬
‫في هذا المر عن أحكاما العادات‪ .‬وللشاطبي في هذا استقصاء ونقاش‬
‫مطول أشير إليه بإيجاز‪ .‬يقول‪» :‬إن ما تيعيبيقدي العباد به على‬
‫ضربين‪ :‬أحدهما العبادات‪ ...‬والثاني العادات‪ .‬أما الول‪ :‬فل يخلو‬
‫أن يكون الحظ المطـلـوب دنـيـوياا أو أخروياا‪ ،‬فإن كان أخروياا‬
‫فهذا حظ قد أثبته الشرع)‪ ... (1‬وإذا ثبت شرعاا فطـلـبـه من حيث‬
‫أثبته صحيح‪ ...‬وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا‬
‫فهو قسـمـان‪ :‬قـسـم يرجع إلى صلح الهيئة وحسن الظن عند‬
‫الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله‪ ،‬وقسم يرجع إلى نيل حظه في‬
‫الدنيا وهذا ضربان أحدهما يرجع إلى ما يخص النسان في نفسه مع‬
‫الغفلة عن مراءاةا الناس بالعمل‪ ،‬والخر يرجع إلى المراءاةا لينال‬
‫بذلك مالا أو جاهاا أو غير ذلك فهذه ثلثة أقساما‪ :‬أحدها يرجـع‬
‫إلى تحـسـين الظـن عند الناس واعتقاد الفضيلة‪ ،‬فإن كان هذا‬
‫القصد متبوعاا فل إشكال في أنه ريـاء لنـه إنـمـا يبعثه على‬
‫العبادةا قصدي الحمد وأن ييظن به الخير وينجريي مع ذلك كونه‬
‫يصـلي فـرضـه أو نـفـلـه وهذا بييقن‪ ،‬وإن كان تابعاا فهو محل‬
‫نظر واجتهاد واختلف العلماء في هذا الصل«هل)‪ ، (2‬ويميل الشاطبي‬
‫إلى تصحيح العبادةا في هذه الحالة وهي فيما لو كان طلبِّ حسن‬
‫الظن به تابعاا وليس متبوعاا‪ .‬يقول‪» :‬في الرجل الذي يصلي ل ثم‬

‫) ( وذلك جن ا ن النعيم وما فيها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 150 - 2/147 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪378‬‬
‫يقع في نفسه أنه يحبِّ أن ييعلم ويحبِّ أن ييلقي في طريق المسجد‬
‫ويكره أن يلق ى في طريق غيره‪ ...‬أي إن الشيطان يأتي للنسان إذا‬
‫سره مرأى الناس له على الخير ويقوله له‪ :‬إنك لمراءم وليس‬
‫كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه ل ييملك«هل)‪ ، (1‬ثم يأتي بحججه‬
‫على ذلك‪ ،‬ثم يتابع ذكر القساما الثلثة‪ ،‬يقول‪» :‬والثاني ما يرجع‬
‫إلى ما يخص النسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاةا الغير‪ ،‬وله‬
‫أمثلة أحدها‪ :‬الصلةا في المسجد للنس بالجيران‪ ،‬أو الصلةا بالليل‬
‫لمراقبة أو مراصدةا أو مطالعة أحوال‪ ،‬والثاني‪ :‬الصوما توفيراا‬
‫للمال أو استراحة من عمل الطعاما وطبخه أو احتماءا للم يجده أو‬
‫مرض يتوقعه أو بطنةم تقدمت له‪ ،‬الثالث‪ :‬الصدقة للذةا السخاء‬
‫والتفضل على الناس‪ ...‬السابع‪ :‬الوضوء تبرداا‪ ،‬الثامن‪ :‬العتكافَّ‬
‫فراراا من الكـراء‪ ...‬الحـادي عشـر‪ :‬الحج ماشـياا ليتوفر له‬
‫الكـراء وهـذا المـوضـع أيـضـاا محل اختلفَّ إذا كان القصد‬
‫المذكور تابعاا لقصد العبادةا«هل )‪ ، (2‬وذهبِّ الشاطبي إلى تصحيح‬
‫العبادةا هنا وإن كان الولى إفراد قصد العبادةا عن قصد المور‬
‫الدنيوية‪ .‬أما القسم الثالث فيقول فيه‪» :‬والثالث ما يرجع إلى‬
‫المراءاةا‪ ...‬فهو الرياء المذمـوما شـرعاا وأدهى ما فيه فعل‬
‫المنافقين الداخلين في السلما ظاهراا بقصد إحراز دمائهم‬
‫وأموالهم«هل )‪. (3‬‬
‫هذا بالنسبة للقسم الول المتعلق بالعبادات‪ ،‬أما القسم الثاني‬
‫المتعلق بالعادات فيقول فيه‪» :‬وأما الثاني وهو أن يكون العمل‬
‫إصلحاا للعادات الجارية بين العباد كالنكاح والبيع والجارةا‪...‬‬
‫فهو حظ أيضاا قد أثبته الشارع وراعاه في الوامر والنواهي وعلم‬
‫ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له‪ ،‬وإذا عيلم ذلك بإطلق‬
‫فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع فكان حقاا‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/150 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 153 - 1/151 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/153 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪379‬‬
‫وصحيحاا‪«...‬هل )‪. (1‬‬
‫ويقول‪» :‬طالبِّ الحظ إذا لم يقصد المتثال على حال وإنما‬
‫طلبِّ حظه مجرداا بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لخذ‬
‫به‪ ،‬لكنه لم يقدر عليه إل بالوجه المشروع فهل يكون القصد الول‬
‫في حقه موجوداا‪...‬؟ فالجواب إنه موجود‪ ...‬لنه إذا لم يكن له‬
‫سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع فرجوعه إلى الوجه‬
‫المشروع قصد إليه‪ ،‬وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال المر أو‬
‫العمل بمقتضى الذن‪ ،‬وهو القصد الول الصلي وإن لم يشعر به‬
‫على التفصيل«هل)‪. (2‬‬
‫ويقول‪» :‬أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارااي كالقاصد‬
‫لنيل لذته من المرأةا الفلنية ولما لم يمكنه بالزنى لمتناعها أو‬
‫لمنع أهلها عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد‪ ،‬فهذا‬
‫أيضاا باطل بالطلق الثاني لنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إل‬
‫مضطراا ومن حيث كان موصلا إلى غرضه ل من حيث إباحة‬
‫الشرع وإن كان غير باطل بالطلق الول‪ ،‬ومثل ذلك الزكاةا‬
‫المأخوذةا كرهاا فإنها صحيحة على الطلق الول إذا كانت‬
‫مسقطة للقضاء ومبرئة للذمة وباطلة على هذا الطلق الثاني«هل)‪، (3‬‬
‫والمراد بالنصين أعله أن العمل نفسه في النكاح أو الزكاةا‪ ،‬ل إثم‬
‫عليه في الول ومبرئ للذمة في الثاني‪ ،‬فالعمل ذاته صحيح‪ ،‬أما‬
‫البطلن‪ ،‬وربما يلحقه فيه الثم فهو لعمل آخر هو نيته وقصده‬
‫للمخالفة وهو من أعمال القلوب‪.‬‬
‫ولبيان موقف الشاطبي هنا بدقة ل بد من الشارةا إلى تفريقه‬
‫بين القياما بالفعل الموافق لقصد الشارع بقصد الموافقة اضطراراا‬
‫كما في النكاح المذكور أعله‪ ،‬وبين القياما بالفعل نفسه من غير‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 156 - 2/155 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/207 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪380‬‬
‫اكتراثا بالموافقة والمخالفة‪ ،‬وإنما وقعت الموافقة اتفاقاا أي من‬
‫غير قصد إليها من المكلف‪ ،‬وبين القياما بالفعل نفسه ولكن بقصد‬
‫المخالفة‪ ،‬وإنما حصلت الموافقة خطأا‪ .‬أما الول فقد تبين‪ .‬وأما‬
‫الثاني فحكمه عدما الصحة في العبادات‪ ،‬وفي العادات الصحة)‪ . (1‬وأما‬
‫الثالث فحكمه كالثاني‪ ...‬وفي كل الحالت فإن الثم يلحق من‬
‫يقصد المخالفة لقصد الشارع أو من ل يكترثا له‪ .‬يقول‪» :‬إذا قصد‬
‫مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف ل اعتبار بما‬
‫خالف فيه لنه مخالف القصد بإطلق‪ ،‬وفي العادات الصل اعتبار ما‬
‫وافق دون ما خالف لن ما ل تشترط النية في صحته من العمال ل‬
‫اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ول مخالفته كمن عقد عقداا‬
‫يقصد أنه فاسد فكان صحيحاا أو شرب جلباا يظنه خمراا إل أن‬
‫عليه في قصد المخالفة درك الثم‪ ،‬وأما إذا لم يقصد موافقةا ول‬
‫مخالفةا فهو العمل على مجرد الحظ أو الغفلة‪ ،‬وحكمه في العبادات‬
‫عدما الصحة لعدما نية المتثال‪ ،‬وفي العادات الصحة إن وافق قصد‬
‫الشارع«هل)‪. ( 2‬‬
‫أي أن نية المتثال شرط في صحة العبادات‪ ،‬أما العادات فل‪،‬‬
‫ول تبطل أو تفسد أعمال العادات بعدما قصد المتثال‪ ،‬ول إذا لم‬
‫يخطر قصد المتثال بالبال‪.‬‬
‫قال‪» :‬العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة فل يخلو أن‬
‫تصاحبه المقاصد الصلية أو ل‪ .‬أما الول فعمل بالمتثال بل إشكال‬
‫وإن كان سعياا في حظ النفس وأما الثاني فعمل بالحظ والهوى‬
‫مجرداا«هل )‪. (3‬‬
‫ثم فسر الشاطبي مراده بالمصاحبة وبالهوى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫»والمصاحبة إما بالفعل ومثاله أن يقول مثلا‪ :‬هذا المأكول أو‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 157 - 2/156 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/142 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪381‬‬
‫هذا الملبوس‪ ،‬أو هذا الملموس أباح لي الشرع الستمتاع به فأنا‬
‫أستمتع بالمباح وأعمل باستجلبه لنه مأذون فيه‪ .‬وإما بالقوةا‬
‫ومثاله أن يدخل في التسببِّ إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه‪،‬‬
‫ولكن نفس الذن لم يخطر بباله‪ ،‬وإنما خطر له أن هذا ييتيويصييل‬
‫إليه من الطريق الفلني‪ ،‬فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم‬
‫كالول إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحاا إل‬
‫) (‬
‫أن المصاحبة بالفعل أعلى«هل ‪ . 1‬وبذلك فإن الشاطبي يخالف بل‬
‫يناقض الغزالي في هذه المسألة بشكل كبير‪ .‬وخاصة في موضوع‬
‫الخلص والتشريك في المقاصد‪ .‬يقول‪» :‬فإن قيل‪ :‬كيف يتأتى‬
‫قصد الشارع للخلص في العمال العادية وعدما التشريك فيها؟‬
‫قيل‪ :‬معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع‪ .‬ل يقصد‬
‫بها عمل جاهلي‪ ،‬ول اختراع شيطاني‪ ،‬ول تشبه بغير أهل الملة‬
‫كشرب الماء أو العسل في صورةا شرب الخمر‪ ،‬وأكل ما صنع‬
‫لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم‪ ،‬أو ما ذبح على‬
‫مضاهاةا الجاهلية‪ ،‬وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم‬
‫الشرك«هل)‪ ، (2‬وهذا هو تفصيل ما قاله في كتاب الحكاما حيث قال‪:‬‬
‫»إن المور العادية إنما يعتبر في صحتها أن ل تكون مناقضة لقصد‬
‫الشارع‪ ،‬ول يشترط ظهور الموافقة«هل )‪. (3‬‬
‫الموافقة وأالمخالفة لقصد الشارع‪:‬‬
‫تبين سابقاا أن مقاصد الشارع ضربان‪ :‬أصلية وتابعة‪ ،‬أما‬
‫الصلية فهي التي ل حظ فيها للمكلف‪ .‬وهي تعني إيقاع الفعل أو‬
‫الكف عنه بناء على المر أو النهي من غير نظر إلى الحظوظ أو‬
‫النتائج‪ ،‬والحظوظ إنما تحصل ضمن التزاما التكليف‪ .‬أما المقاصد‬
‫التابعة‪ ،‬فهي مقاصد شرعية روعي فيها حظ المكلف كالملك‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/143 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/181 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪382‬‬
‫والستمتاع وما إلى ذلك‪ .‬وهذه مقاصد يصح للمكلف أن يقصدها‬
‫بأعماله‪ ،‬وقد شرع ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أحكاماا لجلها‪ .‬فكانت‬
‫الحكاما أسباباا لها‪ ،‬وكانت هذه الحظوظ مقاصد شرعية‪ ،‬فيصح‬
‫للمكلف أن يقصدها بهذه السباب‪ ،‬كما يصح له أن ل يقصدها‪ ،‬وإنما‬
‫يقصد بتلك السباب المتثال فقط‪.‬‬
‫وحسبِّ القسمة العقلية فإن أعمال المكلف قد تكون موافقة‬
‫للمر والنهي‪ ،‬فتكون صورةا الفعل شرعية‪ ،‬ولكن مقصد العامل من‬
‫عمله قد يكون شرعياا وقد يكون غير شرعي‪ ،‬أي قد يكون موافقاا‬
‫وقد يكون مخالفاا‪.‬‬
‫وكذلك يمكن أن يكون العمل مخالفاا للمر أو النهي‪ ،‬فتكون‬
‫صورةا الفعل غير شرعية‪ ،‬ولكن مقصد العامل قد يكون شرعياا وقد‬
‫يكون غير شرعي‪.‬‬
‫فهذه أربعة أقـسـاما فصييـلـهـا الشاطبي‪ .‬وإن سبقت الشارةا‬
‫إلى شيء من ذلك في البحث السـابـق فذلك مـن حـيـث‬
‫المـوافـقـة أو عدما الموافقة لقصد الشارع وليس من حيث‬
‫المخالفة لقصد الشارع‪.‬‬
‫وثمة قسم خامس سيشار إليه بعد بيان هذه القساما الربعة‬
‫وهو إذا ما كان الفعل شرعياا والقصد شرعياا ولكن الفعل لم يشرع‬
‫لهذا القصد وإنما لغيره‪ ،‬وكذلك الحظ أو القصد عموماا لم يكن‬
‫مقصوداا للشارع بهذا الفعل‪ ،‬وإنما بغيره‪ .‬وذلك كقطع اليد‪ ،‬فهو‬
‫فعل شرعي‪ ،‬وقصد الزجر فهو قصد شرعي‪ .‬ولكن قطع يد المرتد‬
‫أو الزاني ليس شرعياا‪ .‬لن قطع اليد وهو شرعي لم يوضع لزجر‬
‫المرتد أو الزاني وإن كان زجرهما شرعياا‪.‬‬
‫أما القساما الربعة فيقول فيها الشاطبي‪» :‬فاعل الفعل أو‬
‫تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقاا أو مخالفاا‪ ،‬وعلى كل‬
‫التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته فالجميع‬
‫أربعة أقساما‪ .‬أحدها‪ :‬أن يكون موافقاا وقصده الموافقة كالصلةا‬

‫‪383‬‬
‫والصياما والصدقة والحج وغيرها يقصد بها امتثال أمر ال تعالى‬
‫وأداء ما وجبِّ عليه أو ندب إليه وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر‬
‫المنكرات يقصد بذلك المتثال‪ ،‬فل إشكال في صحة هذا العمل‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يكون مخالفاا وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل‬
‫المحرمات قاصداا لذلك‪ ،‬فهذا أيضاا ظاهر الحكم‪ .‬والثالث‪ :‬أن‬
‫يكون الفعل أو الترك موافقاا وقصده المخالفة وهو ضربان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن ل يعلم بكون الفعل أو الترك موافقاا‪ .‬والخر‪ :‬أن يعلم‬
‫بذلك‪ .‬فالول كواطئ زوجته ظاناا أنها أجنبية وشارب الجلب‬
‫ظاناا أنه خمر وتارك الصلةا يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد‬
‫أوقعها وبرئ منها في نفس المر فهذا الضرب قد حصل فيه قصد‬
‫العصيان بالمخالفة«هل)‪ . (1‬قال‪» :‬وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه‬
‫منتهكاا حرمة المر والنهي فهو عاصم بمجرد القصد غير عاصم‬
‫بمجرد العمل وتحقيقه أنه آثم من جهة حق ال غير آثم من جهة‬
‫حق الدمي‪ ،‬كالغاصبِّ لما يظنه أنه متاع المغصوب منه فإذا هو‬
‫متاع الغاصبِّ نفسه‪ ،‬فل طلبِّ عليه لمن قصد الغصبِّ منه وعليه‬
‫الطلبِّ من جهة حرمة المر والنهي‪ .‬والقاعدةا أن كل تكليف مشتمل‬
‫على حق ال وحق العبد«هل)‪. ( 2‬‬
‫أما الضرب الثاني فقال فيه‪» :‬والثاني‪ :‬أن يكون الفعل أو‬
‫الترك موافقاا إل انه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة‪.‬‬
‫ومثاله أن يصلي رياءا لينال دنيا أو تعظيماا عند الناس أو ليدرأ عن‬
‫نفسه القتل وما أشبه ذلك‪ .‬فهذا القسم أشد من الذي قبله وحاصله‬
‫أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد‬
‫وسائل لمورم أخر لم يقصد الشارع جعلها لها‪ ،‬فيدخل تحته النفاق‬
‫والرياء والحيل على أحكاما ال تعالى وذلك كله باطـل لن‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/234 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ، 235 / 2 ،‬وسنتحدثا في بحث منفصل في هذا الفصل عن‬ ‫‪2‬‬

‫حق ال وحق العبد‪.‬‬

‫‪384‬‬
‫القصـد مخالـف لقصد الشارع عيناا فل يصح جملةا«هل)‪. (1‬‬
‫أما القسم الرابع وهو أن يكون الفعل أو الترك مخالفاا‬
‫والقصد موافقاا‪ ،‬فالشاطبي يستقصي فيه ويتوسع‪ .‬يقول‪» :‬والقسم‬
‫الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفاا والقصد موافقاا‪ ،‬فهو أيضاا‬
‫ضربان‪ .‬أحدهما‪ :‬أن يكون مع العلم بالمخالفة‪ ،‬والخر‪ :‬أن يكون‬
‫مع الجهل بذلك‪ .‬فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو البتداع‬
‫كإنشاء العبادات المستأنفة والزيادات على ما شرع‪ ،‬ولكن الغالبِّ أن‬
‫ل يتجرأ عليه إل بنوع تأويل ومع ذلك فهو مذموما حسبما جاء في‬
‫القرآن والسنة«هل)‪. (2‬‬
‫وأما إن كان العمل مخالفاا للمر أو النهي مع الجهل‬
‫بالمخالفة‪ ،‬ولكن القصد موافق لقصد الشارع والعامل قاصد‬
‫للموافقة‪ ،‬فهذا موضع نظر واجتهاد وخلفَّ وليس في الحكم فيه‬
‫قاعدةا واحدةا‪ .‬وقد أشار الشاطبي إلى أنها مسألة شـائكة‪ .‬وذلك‬
‫أنها ل يمكن الحكم فيها بالبطلن إذ صحة القصد في العمل مؤثر‬
‫في الحكم فيـه‪ ،‬ول يمكن الحكم بالصحة إذ مخالفة المر والنهي‬
‫مؤثر فيه أيضاا‪.‬‬
‫قال‪» :‬وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله‬
‫وجهان‪ .‬أحدهما‪ :‬كون القصد موافقاا فليس بمخالف من هذا‬
‫الوجه‪ .‬والعمل وإن كان مخالفاا فالعمال بالنيات ونية هذا العامل‬
‫على الموافقة‪ ،‬لكن الجهل أوقعه في المخالفة‪ ،‬ومن ل يقصد‬
‫مخالفة الشارع كفاحاا ل يجري مجرى المخالفة بالقصد والعمل‬
‫معاا‪ .‬فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة ل مطرح على‬
‫الطلق‪ .‬والثاني‪ :‬كون العمل مخالفاا فإن قصد الشارع بالمر‬
‫والنهي المتثال فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده‪ ،‬ول يعارض‬
‫المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل لنه لم يحصل قصد‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/236 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪385‬‬
‫الشارع في ذلك العمل على وجه‪ ،‬ول طابق القصد العمل فصار‬
‫المجموع مخالفاا كما لو خولف فيهما معاا فل يحصل‬
‫المتثال«هل )‪ . (1‬ثم قال‪» :‬وكل الوجهين يعارض الخر في نفسه‬
‫ويعارضه في الترجيح لنك إن رجحت أحدها عارضك في الخر‬
‫وجه مرجح فيتعارضان أيضاا‪ .‬ولذلك صار هذا المحل غامضاا في‬
‫) (‬
‫الشريعة«هل ‪. 2‬‬
‫فعدما حصول المتثال يؤدي إلى الحكم بالبطلن‪ ،‬إل أن صحة‬
‫القصد مع الجهل بالمخالفة يوجبِّ الستدراك بأن الجهل قد يقع في‬
‫الشريعة موقع النسيان أو الخطأ الذي ل مؤاخذةا فيه)‪ . (3‬لذلك فقد‬
‫تصحح بعض هذه العمال‪ .‬ولكنه لم يبين قاعدةا في ذلك‪ .‬قال‪:‬‬
‫»فإن قيل‪ :‬قوله عليه الصلةا والسلما‪» :‬إنما العمال بالنيات«‬
‫يبين أن هذه العمال وإن خالفت قد تيعتبر فإن المقاصد أرواح‬
‫العمال‪ ،‬فقد صار العمل ذا روحم على الجملة‪ .‬وإذا كان كذلك‬
‫اعتيبقر‪ ،‬بخلفَّ ما إذا خالف القصد ووافق العمل أو خالفهما معاا‬
‫فإنه جسد بل روح فل يصدق عليه مقتضى قوله‪» :‬العمال‬
‫بالنيات« لعدما النية في العمل‪ ،‬قيل‪ :‬إن سيلم فمعارضي بقوله‬
‫عليه الصلةا والسلما‪» :‬كل عمل ليس عليه أمإرنا فهو‬
‫رد«)‪ ، (4‬وهذا العمل ليس بموافق لمره عليه الصلةا والسلما‪ ،‬فلم يكن‬
‫معتبراا بل كان مردوداا وأيضاا فإذا لم ينتفع بجسدم بل روح‬
‫كذلك ل ينتفع بروحم في غير جسد«هل)‪ ، ( 5‬ثم قال‪» :‬فكانت المسألة‬
‫مشكلةا جداا«هل)‪. ( 6‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فهل يعتبر جانبِّ القصد الموافق فيصحح العمل أو‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/238 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/238 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( وهذا بخلفَّ ما أوردناه عن الغزالي في المبحث السابق من هذا الفصل‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( تقدما تخريجه عند حديث‪» :‬مإن أحدثا في أمإرنا هــذا مإــا ليــس‬ ‫‪4‬‬

‫مإنه فهو رد« ‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/239 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪386‬‬
‫يعتبر جانبِّ العمل المخالف فيبطل العمل‪ ،‬أو يعتبر الجانبان ؟ )‪. (1‬‬
‫يذهبِّ الشاطبي إلى وجوب إعمال الجانبين‪ ،‬فما يمكن‬
‫تصحيحه يصحح كالسهو في الصلةا‪ .‬وما يمكن تلفيه ييتلفى‬
‫كما في مسألة المفقود إذا تزوجت زوجته ثم قدما‪ .‬فيتلفى الخطأ‬
‫بأن يكون الول أولى بها‪ .‬أو أن يكون الول أولى بها إذا قدما قبل‬
‫نكاحها‪ .‬وما ل يمكن تلفيه يهمل‪ .‬وعبارةا الشاطبي في ذلك‪:‬‬
‫»وأهمل ما يجبِّ أن يهمل مما ل تلفي فيه«هل )‪ . (2‬ومثال ذلك‪:‬‬
‫الكل ناسياا في رمضان‪ ،‬وفي مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته‬
‫وقدما بعد نكاحها فهي للثاني )‪. (3‬‬
‫ومن أقوال الشاطبي في إعمال الجانبين قوله‪» :‬فأعمل‬
‫مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة‪ ،‬وأعمل مقتضى‬
‫المخالفة في عدما البناء على ذلك الفعل وعدما العتماد عليه‪ ،‬حتى‬
‫صحح ما يجبِّ أن يصحح مما فيه تلفَّم ميلا إلى جهة القصد أيضاا‪،‬‬
‫وأهمل ما يجبِّ أن يهمل مما ل تلفي فيه«هل)‪ . ( 4‬وقال‪» :‬فعدييوا من‬
‫خالف في الفعال والقوال جهلا على حكم الناسي«هل)‪ ، ( 5‬قال‪» :‬وهو‬
‫بييقن في الطهارات والصلةا والصياما والحج وغير ذلك من العبادات‪،‬‬
‫وكذلك في كثير من العادات كالنكاح والطلق والطعمة‬
‫والشربة ومما استدل به الدلة الدالة على رفع المؤاخذةا في الخطأ‬
‫والنسيان‪.‬‬
‫أما في الخطأ في المور المالية‪ ،‬فإنه يعتبر فيها جانبِّ القصد‬
‫بالنسبة للخرةا‪ ،‬ويعتبر جانبِّ العمل بالنسبة لحق الغير في الدنيا‬
‫ولذلك فإنها تضمن ويكون الجهل فيها كالعلم أو العمد‪ .‬قال‪:‬‬

‫) ( نذكر هنا أن المخالفة هي مع الجهل بالمخالفة‪ ،‬أي مع توهم أنها غير‬ ‫‪1‬‬

‫مخالفة‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/240 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه وفي المسألة تفصيل لسنا بصدده‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/240 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪387‬‬
‫»في المور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد لنا نقول‪:‬‬
‫الحكم في التضمين في الموال آخر لن الخطأ فيها مساوم للعمد في‬
‫ترتبِّ الغرماق في إتلفها«هل)‪. (1‬‬
‫ومن المتفـق عليه أن الخطأ في العمل إذا لم يكن بقصد‬
‫المخالفة‪ ،‬أو إذا كان مع قصد الموافقة لقصد الشارع‪ ،‬فإن‬
‫المؤاخذةا الخروية عليه مرفوعة‪ ،‬وكذلك من المتفق عليه أن‬
‫هذه المؤاخذةا ليست مرفوعة بإطلق أي في الدنيا والخرةا‪ ،‬قال‬
‫الشاطبي‪» :‬وفي الحديث‪» :‬رفع عن أمإتي الخطأ وأالنسيان‬
‫وأمإا استكرهوا عليه«)‪ ، (2‬وهو معنى متفق عليه في الجملة ل‬
‫مخالف فيه وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذةا هل ذلك‬
‫مختص بالمؤاخذةا الخروية خاصة أما ل فلم يختلفوا أيضاا أن رفع‬
‫المؤاخذةا بإطلق ل يصح«هل)‪. (4)(3‬‬
‫أما القسم الخامس وهو أن يكون الفعل شرعياا والمقصد‬
‫شرعياا ولكن الفعل لم يوضع شرعاا لهذا المقصد‪ ،‬أو لم يوضع في‬
‫الشرع سبباا لهذا المسببِّ فقد تبين ضمن النوع الرابع من مقاصد‬
‫الشارع تحت عنوان التلزما الشرعي بين السببِّ والمسببِّ‪ ،‬وفيما يلي‬
‫بيانه كما جاء عند الشاطبي في قسم مقاصد المكلف‪.‬‬

‫قال‪» :‬قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/241 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أخرجه ابن ماجة في باب طلق المكره والناسي ) ‪ ( 2033‬و) ‪( 2034‬‬ ‫‪2‬‬

‫بلفظ‪ :‬إن ال تجاوز بدل رفع‪ .‬و) ‪ ( 2035‬بلفظ وضع ‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/241 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( قال السيوطي‪ » :‬إعلم أن قاعدةا الفقه‪ » :‬إن النسيان والجهل مسقط‬ ‫‪4‬‬

‫للثم مطلقاا« وأما الحكم فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط بل يجبِّ‬
‫تداركه ول يحصل الثواب المترتبِّ عليه لعدما الئتمار‪ ،‬أو فعل منهي ليس‬
‫من باب التلفَّ فل شيء فيه‪ ،‬أو فيه إتلفَّ لم يسقط الضمان فإن كان‬
‫يوجبِّ عقوبةا كان شبهةا في إسقاطها«هل الشباه والنظائر‪ ،‬ص‪- 239 :‬‬
‫‪ . 240‬وانظر القول في الجاهل والناسي والمكره‪ ،‬ص‪ 374 - 337 :‬من‬
‫الكتاب نفسه ‪.‬‬

‫‪388‬‬
‫موافقاا لقصده في التشريع«هل )‪ ، (1‬أي أن المكلف وإن قاما بالفعل‬
‫بقصد المتثال موافقاا للمر والنهي‪ ،‬أي بحسبِّ المقاصد الصلية‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫فيجبِّ أيضاا أن تكون النتائج المقصودةا‪ ،‬إن وجدت لدى المكلف‬
‫موافقة للمقاصد التابعة‪ .‬فإذا قصد المكلف من العمل مصلحةا أو‬
‫حظاا أو نتيجةا‪ ،‬فيجبِّ أن تكون هذه النتيجة قد قصد الشارع‬
‫حصولها بهذا العمل‪ .‬وإل فقصدها بهذا العمل أو بهذا الطريق يعني‬
‫مخالفة قصد الشارع‪ .‬والمقاصد من التشريع‪ ،‬وضع لها الشارع‬
‫أعمالا فإذا قصد المكلف بهذه العمال مقاصد غيريها ففي هذا‬
‫مخالفة من جهة أن المكلف قد جعل هذه المقاصد وسائل لغيرها‬
‫وهي ليست كذلك في الشرع‪ ،‬ومخالفة أيضاا من جهة أن المقاصد‬
‫الشرعية التي قصدها المكلف قد جعل لها الشارع أعمالا فاتخاذ‬
‫أعمال غير ما جعله الشارع هو إهمال لما شرع ال‪ .‬قال الشاطبي‪:‬‬
‫»كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض‬
‫الشريعة‪ ،‬وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل‪ ،‬فمن ابتغى في‬
‫تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬فإذا قصد‬
‫المكلف عين ما قصد الشارع بالذن فقد قصد وجه المصلحة على‬
‫أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له‪ ،‬وإن قصد غير ما قصده‬
‫الشارع وذلك إنما يكون في الغالبِّ لتوهم أن المصلحة فيما قصد‬
‫لن العاقل ل يقصد وجه المفسدةا كفاحاا‪ ،‬فقد جعل ما قصد الشارع‬
‫مهمل العتبار‪ ،‬وما أهمل الشارع مقصوداا معتبراا‪ ،‬وذلك مضادةا‬
‫للشريعة ظاهرةا«هل)‪. (4‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/230 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( مر معنا أن المكلف يمكن له أن يقصد حظوظه بالعمال الشرعية إلــى‬ ‫‪2‬‬

‫جانبِّ قصده المتثال ويمكن له أن ل يقصدها‪ ،‬ولهذا قلنا‪ :‬إن و جــدت لــدى‬
‫المكلف‪ .‬وهو إن لم يقصدها وقصد المتثال فقط‪ ،‬فهي تح صــل لــه ضــمن‬
‫امتثاله‪ ،‬وهذا العمل أزكى وأعلى مرتبةا‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/231 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪389‬‬
‫وقال‪» :‬إن المكلف إنما كلف بالعمال من جهة قصد الشارع‬
‫بها في المر والنهي‪ ،‬فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد‬
‫وسائل لما قيصيدي ل مقاصد إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون‬
‫مقصودةاا‪ ،‬بل قصد قصداا آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له فصار‬
‫ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده‪ ،‬وما كان شأنه هذا نقض‬
‫لبراما الشارع وهدما لما بناه«هل)‪. (1‬‬

‫وقال‪» :‬إن الخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع‬


‫ذلك المقصد آخذ في غير مشروع حقيقة لن الشارع إنما شرعه‬
‫لمر معلوما بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك المر المعلوما‬
‫فلم يأت بذلك المشروع أصلا‪ ،‬وإذا لم يأتق به ناقض الشارع في‬
‫ذلك الخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر‬
‫به«هل)‪. (2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/232 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪390‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫حـَيـل‬
‫ال ِ‬
‫تعريفها‪:‬‬
‫قال الشاطبي في تعريف الحيل‪» :‬فإن حقيقتها تقديم عمل‬
‫ظاهر الجواز لبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم‬
‫آخر«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬كالواهبِّ ماله عند رأس الحول فراراا من‬
‫الزكاةا‪ .‬فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاةا من غير هبةم‬
‫لكان ممنوعاا«هل)‪. (2‬‬
‫والحكاما التي يمكن أن تنقلبِّ إنما هي الحكاما التي توجد أو‬
‫ترتفع بحسبِّ أسباب أو شروط أو موانع‪ ،‬بحيث يكون للمكلف يد في‬
‫إيجاد أو رفع هذه السباب أو الشروط أو الموانع‪ ،‬فإن لم يكن له يد‬
‫فيها بأن كانت خارجةا عن مقدوره فل تدخلها الحيل‪ ،‬لن الحيلة‬
‫هي عمل من المكلف‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬الفعال الواقعة في الوجود‬
‫المقتضية لمور تشرع لجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة‬
‫ضربان‪ .‬أحدهما خارج عن مقدور المكلف والخر ما يصح دخوله‬
‫تحت مقدوره‪ ،‬فالول قد يكون سبباا ويكون شرطاا ويكون‬
‫مانعاا«هل)‪ . (3‬فالسببِّ مثل كون الضطرار سبباا في إباحة الميتة‪،‬‬
‫وخوفَّ العنت سبباا في إباحة نكاح الماء‪ ،‬والسلس سبباا في إسقاط‬
‫وجوب الوضوء لكل صلةا مع وجود الخارج‪ ،‬وزوال الشمس أو‬
‫غروبها أو طلوع الفجر سبباا في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ، 4/114 ،‬وقال ابن نجيم الحنفي فــي كتــابه‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشباه والنظائر‪ » :‬فن الحيل جمع حيلة وهي الحذق فــي تــدبير ال مــور‪.‬‬
‫وهي تقليبِّ الفكر حتى يهتدي إلى ال مــور« ‪ .‬و قــال‪ » :‬واختلــف م شــايخنا‬
‫رحمهم ال في التعبير عن ذلك‪ ،‬فاختــار كــثير الت عــبير بكتــاب الحيــل‪،‬‬
‫واختار كثير كتاب ال م خارج« ‪ ،‬ص‪. 477 :‬‬
‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 129 - 1/128 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪391‬‬
‫ذلك‪ .‬والشروط ككون الحول شرطاا في إيجاب الزكاةا والبلوغِّ‬
‫شرطاا في التكليف مطلقاا‪ ،‬والقدرةا على التسليم شرطاا في صحة‬
‫البيع والرشد شرطاا في دفع مال اليتيم‪ ،‬وإرسال الرسل شرطاا في‬
‫الثواب والعقاب وما كان نحو ذلك‪ .‬والمانع ككون الحيض مانعاا‬
‫من الوطء والطلق والطوافَّ بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصياما‬
‫والجنون مانعاا من القياما بالعبادات وإطلق التصرفات وما أشبه‬
‫ذلك‪.‬‬
‫أما الضرب الثاني فهو المقدور للمكلف‪ .‬فيقدر على إيجاد‬
‫السببِّ أو الشرط أو المانع أو يقدر على رفعه فيتسببِّ بتغيير‬
‫الحكم الشرعي‪ .‬ومن أمثلته‪» :‬أما الس ـ ببِّ فمثل كون النكاح سبباا‬
‫في حصول التوارثا بين الزوجين‪ ،‬وتحريم المصاهرةا وحلية‬
‫الستمتاع‪ ،‬وال ذ كاةا سبباا لحلية الستمتاع بالكل‪ ،‬والسفر سبباا‬
‫في إباحة القصر والفطر‪ ،‬والقتل والجرح سبباا للقصاص‪ ،‬والزنى‬
‫وشرب الخمر والسرقة والقذفَّ أسباباا لحصول تلك العقوبات وما‬
‫أشبه ذلك«هل)‪ . (1‬ومن أمثلة الشرط كون النكاح شرطاا في وقوع‬
‫الطلق أو في حل مراجعة المطلقة ثلثاا والحصان شرطاا في رجم‬
‫الزاني‪ ،‬والطهارةا شرطاا في صحة الصلةا‪ ،‬والنية شرطاا في‬
‫العبادات«هل )‪ . (2‬ومن أمثلة المانع »ككون نكاح الخت مانعاا من نكاح‬
‫الخرى‪ ،‬ونكاح المرأةا مانعاا من نكاح عمتها وخالتها‪ ،‬واليمان‬
‫)‪(3‬‬
‫مانعاا من القصاص للكافر‪ ،‬والكفر مانعاا من قبول الطاعات«هل ‪.‬‬
‫فهذا‪ ،‬الضرب الثاني يستطيع المكلف فيه أن يأتي بهذه العمال‬
‫التي هي أسباب أو شروط أو موانع لغيرها فيتسببِّ في تغيير الحكم‬
‫الشرعي‪ .‬وهو قد يقوما بهذه العمال بقصد امتثال أمر الشارع فيها‬
‫أو تحصيل مقاصدها الشرعية‪ ،‬أو بقصد تغيير الحكاما‪ .‬فإن كان‬
‫بقصد تغيير الحكاما فهو الحيل‪ .‬ولذلك كرر الشاطبي ذكر‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/129 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/130 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/130 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪392‬‬
‫الحيل عند بحثه لهذه الثلثة من أحكاما الوضع ‪ :‬السببِّ والشرط‬
‫والمانع )‪. (1‬‬
‫وقال الشاطبي في زيادةا شرح م ل لحيل لجل النظر في حكم‬
‫الشرع فيها‪» :‬وقبل النظر في الصحة أو عدمها ل بد من شرح هذا‬
‫الحتيال‪ ،‬وذلك أن ال تعالى أوجبِّ أشياء وحرييما أشياء إما مطلقاا‬
‫من غير قيدم ول ترتيبِّ على سببِّ كما أوجبِّ الصلةا والصياما‬
‫والحج وأشباه ذلك‪ ،‬وكما حرما الزنا والربا والقتل ونحوها‪.‬‬
‫وأوجبِّ أيضاا أشياء مرتبةا على أسباب‪ .‬وحرييما أيخير كذلك‬
‫كإيجاب الزكاةا والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك‬
‫وكتحريم المطلقة والنتفاع بالمغصوب أو المسروق وما أشبه‬
‫ذلك‪ ،‬فإذا تسببِّ المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو في‬
‫إباحة ذلك المحرما عليه بوجه من وجوه التسببِّ حتى يصير ذلك‬
‫الواجبِّ غير واجبِّ في الظاهر أو المحرما حللا في الظاهر أيضاا‪،‬‬
‫فهذا التسببِّ يسمى حيلةا أو تحيلا كما لو دخل وقت الصلةا عليه‬
‫في الحضر فإنها تجبِّ عليه أربعاا فأراد أن يتس ي ببِّ بإسقاطها كلها‬
‫بشرب الخمر أو دواء مسبتم حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله‬
‫كالمغمى عليه‪ ،‬أو قصرقها فأنشأ سفراا ليقصر الصلةا‪ ،‬وكذلك‬
‫من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل‪ ،‬أو كان له مال يقدر على‬
‫الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه التلفَّ كي ل يجبِّ عليه‬
‫الحج‪ ،‬وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها وزعم أنها ماتت‬
‫فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك‪ ،‬أو أقاما شهود زورم على تزويج‬
‫بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك‪ ،‬أو أراد بيع عشرةا دراهم‬
‫بعشرين إلى أجل فجعل العشرةا ثمناا لثوب ثم باع الثوب من البائع‬
‫الول بعشرين إلى أجل‪ ،‬أو أراد قتل فلن فوضع له في طريقه سبباا‬
‫مجهزاا كإشراع الرمح وحفر البئر ونحو ذلك‪ ،‬وكالفرار من‬
‫وجوب الزكاةا بهبة المال أو إتلفه أو جمع متفرقه أو تفريق‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ / 1 ،‬كتاب الحكاما ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪393‬‬
‫مجتمعه وهكذا سائر المثلة في تحليل الحراما وإسقاط‬
‫الواجبِّ«هل )‪. (1‬‬
‫حكم الشرع فـي الحيل عند الشاطبي‪:‬‬
‫ذهبِّ الشاطبي إلى أن الحيل في الدين غير مشروعة في‬
‫الجملة‪ ،‬وهذا يعني أ ن هناك حالت قليلةا تشرع فيها الحيل‪ .‬إذن‪،‬‬
‫يحتاج المر إلى ضابط يتبين به الحالت التي تشرع فيها الحيل‪.‬‬
‫والحيل هي أفعال يقوما بها المكلف بقصد تغيير الحكم الشرعي‪،‬‬
‫وهذا مناقضة لقصد الشارع‪ ،‬فما هي الحالت التي تصح فيها هذه‬
‫المناقضة؟ جواب الشاطبي هو أنه إذا كانت هذه المناقضة هي بقصد‬
‫المناقضة أي بقصد هدما مقاصد الشارع فهي محرمة‪ ،‬أما إذا كانت‬
‫هذه المناقضة هي بقصد حفظ مقاصد الشريعة فحينئذم تصح‪.‬‬
‫قال‪» :‬الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعةم في‬
‫الجملة«هل)‪ . (2‬وقد تقدما أن الحيل تكون في السباب وفي الشروط‬
‫وفي الموانع‪ .‬ومن أمثلتها في السباب كما قال‪» :‬ففي المذهبِّ أن‬
‫من حلف بالطلق أن يقضي فلناا حقه إلى زمان كذا ثم خافَّ‬
‫الحنث بعدما القضاء فخالع زوجته حتى انقضى الجل ووقع الحنث‬
‫وليست بزوجة أن الحنث ل يقع عليه وإن كان قصده مذموماا‬
‫وفعله مذموماا لنه احتال بحيلةم أبطلت حقاا‪ ،‬فكانت المخالفة‬
‫ممنوعةا وإن أث م رت عدما الحنث«هل)‪ . (3‬ومن أمثلتها أيضاا‪» :‬حيل‬
‫أهل العي ن ة في جعل السلعة واسطةا في بيع الد ي نار بالدينارين إلى‬
‫أجل«هل )‪. (4‬‬
‫ومن أمثلتها في الشروط‪ ،‬قال‪» :‬إن كان فعله أو تركه من‬
‫جهة كونه شرطاا قصداا لسقاط حكم القتضاء في السببِّ أن ل‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 266 - 2/265 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 2/266 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/170 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪394‬‬
‫يترتبِّ عليه أثره‪ ،‬فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل«هل)‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»إن هذا العمل يصييقر ما انعقد سبباا لحكم شرعي جلباا لمصلحةم‬
‫أو دفعاا لمفسدةام عبثاا ل حكم له ول منفعة به‪ .‬وهذا مناقض لما‬
‫ثبت في قاعدةا المصالح وأنها معتبرةا في الحكاما وأيضاا فإنه مضاد‬
‫لقصد الشارع من جهة أن السببِّ لما انعقد وحصل في الوجود وصار‬
‫مقتضياا شرعاا لمسببه لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل‬
‫للسببِّ فصار هذا العامل أو التارك بقصد رفع حكم السببِّ قاصداا‬
‫لمضادةا الشارع في وضعه سبباا وقد تبين أن مضادةا قصد الشارع‬
‫باطلة فهذا العمل باطل«هل)‪. (2‬‬
‫وعلى ذلك فإذا قاما المكلف بالعمل بقصد إبطال الحكم ففعله‬
‫مذموما لنه مضاد لقصد الشارع‪ ،‬أما إذا قاما به لمعنىا من معاني‬
‫النتفاع المشروعة‪ ،‬فإنه جائز وإن كان ينتج عنه إبطال سببِّ أو‬
‫تغيير حكم‪ ،‬وهذا ل يدخل في الحيل أصلا‪.‬‬
‫وقال رداا على من يقول بجواز التحيل كمن ينفق ماله أو‬
‫بعض ماله قبل الحول لدفع وجوب الزكاةا‪» :‬إن هذا المعنى إنما‬
‫يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السببِّ أما مع القصد إلى ذلك‬
‫فهو معنىا غير معتبر لن الشرع شهد له باللغاء على القطع«هل)‪، (3‬‬
‫ثم قال‪» :‬وما ذاك إل لنه أتى بشرط أو رفع شرطاا يرفع عنه ما‬
‫اقتضاه السببِّ الول‪ ،‬فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه‬
‫من وجوب الخراج«هل)‪ ، (4‬ثم قال‪» :‬فعلى هذا التيان بالشروط أو‬
‫رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه‪ ،‬وإذا كان منهياا عنه كان‬
‫مضاداا لقصد الشارع فيكون ب ا طلا«هل)‪. (5‬‬
‫ومن أمثلته في المانع الرجل عنده نصاب الزكاةا ولكنه‬

‫)( المصدر نفسه‪. 2/192 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ، 2/193 ،‬وانظر‪ :‬الموافقات‪ ،‬ج ‪ ،1‬المسائل ‪،12 ،11‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 14 ، 13‬من بحث السباب في القسم الثاني من قسمي كتاب الحكاما‪.‬‬


‫)( ا لمصدر نفسه ‪. 1/193 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( المصدر نفسه‪. 194 / 1 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪395‬‬
‫يستدين فالدين مانع من أداء الزكاةا فإن كان استدان لحاجته إلى‬
‫ذلك فهذا ل شيء فيه‪ ،‬وإن كان استدان لكي ل يترتبِّ عليه وجوب‬
‫الزكاةا فهذا عمل غير صحيح ‪ .‬قال‪» :‬وإن كان الثاني وهو أن‬
‫يفعله مثلا من جهة كونه مانعاا لسقاط حكم السببِّ المقتضي أن‬
‫ل يترتبِّ عليه ما اقتضاه فهو عمل غير صحيح«هل)‪. (1‬‬
‫هذا هو موقف الشاطبي من الحيل وهو أنها غير مشروعة بناء‬
‫على أنها مضادةا لقصد الشارع‪ .‬أما قوله‪» :‬غير مشروعة في‬
‫الجملة«هل فمعناه أن ثمة حالت تكون الحيل فيها مشروعة‪.‬‬
‫والفيصل في ذلك هو قصد المكلف فإن كان قصده من رفع الحكم‬
‫أو تغييره مناقضاا لقصد الشارع فهو حيلة مذمومة‪ ،‬وإن كان‬
‫قصده من الحيلة أي من تغيير الحكم حفظ قصد الشارع فهو حيلة‬
‫مشروعة‪ .‬ومثال الحيلة المشروعة عنده نطق المؤمن بكلمة الكفر‬
‫إكراهاا عليها بقصد حفظ النفس‪ .‬يقول‪» :‬فإذا ثبت هذا فالحيل‬
‫التي تقدما إبطالها وذمها والنهي عنها هي ما هدما أصلا شرعياا‬
‫وناقض مصلحة شرعية‪ ،‬فإن فرضنا أن الحيلة ل تهدما أصلا شرعياا‬
‫ول تناقض مصلحةا شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة م في النهي ول‬
‫هي باطلة«هل)‪ ، (2‬هذا هو الضابط أو الصل عنده في جواز أو بطلن‬
‫الحيل‪ .‬وبناء على ذلك فإن الحيل من حيث حكميها ثلثة أقساما‪.‬‬
‫قال‪» :‬مرجع المر فيها إلى أنها على ثلثة أقساما‪ :‬أحدها ل خلفَّ‬
‫في بطلنه كحيل المنافقين والمرائين‪ ،‬والثاني ل خلفَّ في جوازه‬
‫كالنطق بكلمة الكفر إكراهاا عليها‪ ،‬فإن نسبة التحيل بها في‬
‫إحراز الدما بالقصد الول من غير اعتقادم لمقتضاها كنسبة التحيل‬
‫بكلمة السلما في إحراز الدما بالقصد الول كذلك‪ .‬إل أن هذا‬
‫مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية ل مفسدةا فيها بإطلق ل في الدنيا‬
‫ول في الخرةا‪ ،‬بخلفَّ الول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدةا‬
‫أخروية بإطلق‪ .‬والمصالح والمفاسد الخروية مقدمة في العتبار‬

‫)( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/201 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪. 2/270 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪396‬‬
‫على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق‪ ،‬إذ ل يصح اعتبار مصلحة‬
‫دنيوية تخل بمصالح الخرةا‪ ،‬فمعلوما أن ما يخل بمصالح الخرةا‬
‫غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلا‪ ،‬ومن هنا جاء في ذما النفاق‬
‫وأهله ما جاء‪ .‬وهكذا سائر ما يجري مجراه‪ .‬وكل القسمين بالغ‬
‫مبلغ القطع‪ .‬وأما الثالث فهو محل الشكال والغموض وف ي ه‬
‫اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح‬
‫قطعي لحاقه بالقسم الول أو الثاني ول تبين فيه للشارع مقصد‬
‫يتفق على أنه مقصود له ول ظهر على أنه على خلفَّ المصلحة التي‬
‫وضعت لها الشريعة بحسبِّ المسألة المفروضة فيه‪ ،‬فصار هذا‬
‫القسم من هذا الوجه متنازعاا فيه شهادةا من المتنازعين بأنه غير‬
‫مخالف للمصلحة فالتحيل جائز أو مخالف فالتح ي ل ممنوع‪ .‬ول‬
‫يصح أن يقال إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف‬
‫في ذلك قصد الشارع بل إنما أجازه بناء على تحري قصده‪ ،‬وأن‬
‫)‪(1‬‬
‫مسألته لحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه«هل ‪.‬‬
‫ومعلوما أن القول بجواز الحيل منسوب إلى الحنفية‪ ،‬لذلك‬
‫فإن تقسيم الشاطبي للحيل إلى ثلثة أقساما هو قاعدةا لرجاع‬
‫الخلفَّ في حكم الحيل إلى اتفاق‪ ،‬وهو التفاق على اعتبار القاعدةا‬
‫أو الصل بأن حكم الحيلة إنما يرجع إلى كونها تهدما أصلا شرعياا‬
‫أو تناقض مصلحة شرعية أو ل‪ .‬وأن مسائل التحيل التي حصل‬
‫الخلفَّ فيها ترجع إلى هذا الصل‪ .‬وقد ذكر من هذه المسائل‬
‫مثالين‪ .‬أحدهما النكاح الذي يتحيل فيه لتح ل يل المطلقة لمطلقها‬
‫ثلثاا‪ .‬والثاني بيوع الجال التي يتحيل فيها إلى بيع درهم نقداا‬
‫بدرهمين إلى أجل وذكر في ذلك حجج المجيزين لهذه الحيل‬
‫وحجج المانعين لها‪ .‬وبي ي ن أثناء بيان القولين أنهما يرجعان إلى‬
‫تحري موافقة قصد الشارع وعدما مخالفته‪ ،‬وموافقة المصالح‬
‫الشرعية التي شهد الشرع باعتبارها وعدما مناقضتها‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫»ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل‬

‫)( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 271 - 2/270 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪397‬‬
‫ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما«هل)‪. (1‬‬
‫ومما يجدر ذكره هنا هو أن مسائل الحيل تختلط بمسائل‬
‫الذرائع إذ إن الحيلة نفسها هي ذريعة‪ .‬وكما جعل الشاطبي الحيل‬
‫ثلثة أقساما فالذرائع أيضاا ثلثة أقساما‪ .‬قال عند حديثه عن الحيل‬
‫المختلف في حكمها‪» :‬وقول القائل إن هذا مبني على قاعدةا القول‬
‫بالذرائع غير م ف يد هنا فإن الذرائع على ثلثة أقساما‪ :‬منها‪ :‬ما يسد‬
‫باتفاق… ومنها ما ل يسد باتفاق… ومنها ما هو مختلف فيه«هل)‪. (2‬‬
‫وكذلك فإن القاعدةا في حكم الحيل مبنية على أصل مآلت‬
‫الفعال‪ .‬قال‪» :‬ومنها )‪ (3‬قاعدةا الحيل فإن حقيقتها المشهورةا‬
‫تقديم عمل ظاهر الجواز لبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر‬
‫)‪(4‬‬
‫إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرما قواعد الشريعة في الواقع«هل ‪.‬‬
‫ثم قال‪» :‬ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الحكاما الشرعية ومن‬
‫أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضاا«هل)‪. (5‬‬
‫ثم قال‪» :‬لكن هذا بشرط أن ل يقصد إبطال الحكم فإن هذا‬
‫القصد بخصوصه ممنوع لنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء‬
‫الزكاةا‪ ،‬فل يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الحكاما صراحاا‬
‫ممنوع‪ .‬وأما إبطالها ضمناا فل وإل امتنعت الهبة عند رأس الحول‬
‫مطلقاا ول يقول بهذا واحد منهم‪ .‬ولذلك اتفقوا على تحريم‬
‫القصد باليمان والصلةا وغيرها إلى مجرد إحراز النفس والمال‬
‫كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك‪ .‬وبهذا يظهر أن التحيل‬
‫على الحكاما الشرعية باطل على الجملة نظراا إلى المآل«هل)‪. (6‬‬
‫قال‪» :‬وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقاا فإنما‬

‫المصدر نفسه‪ . 2/273 ،‬وانظر ‪. 273 - 2/270‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/273 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أي‪ :‬ومن القواعد المبنية على أصل مآلت الفعال‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/114 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪398‬‬
‫قال بها بناء على أن للشارع قصداا في استجلب المصالح ودرء‬
‫المفاسد‪ ،‬بل الشريعة لهذا وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل‬
‫فإنما صححه على فرض أنه غلبِّ على ظنه من قصد الشارع الذن في‬
‫استجلب مصلحة الزوجين فيه وكذلك سائر المسائل بدليل‬
‫صحته في النطق بكلمة الكفر خوفَّ القتل أو التعذيبِّ وفي سائر‬
‫المصالح العامة والخاصة‪ ،‬إذ ل يمكن إقامة دليل في الشريعة على‬
‫إبطال كل حيلة كما أنه ل يقوما دليل على تصحيح كل حيلة فإنما‬
‫يبطل منها ما كان مضاداا لقصد الشارع خاصة وهو الذي يتفق‬
‫عليه جميع أهل السلما ويقع الختلفَّ في المسائل التي تتعارض‬
‫فيها الدلة«هل)‪. (1‬‬
‫الحكم فيما ينبني على الحيل‪:‬‬
‫إذا كان ما بيناه هو الحكم في الحيل‪ ،‬فما هو حكم ما يترتبِّ‬
‫على الحيل في الدنيا؟ يذكر الشاطبي أن العمل في الحيلة قسمان‪،‬‬
‫فهي إما أن تعد موجودةا وتترتبِّ عليها نتائج‪ ،‬وإما أن تعد غير‬
‫موجودةا‪ ،‬أما إن كان وجودها معتبراا‪ ،‬ففي المسألة خلفَّ‪ .‬وأ ما إن‬
‫عدت غير موجودةا‪ ،‬فل يترتبِّ عليها شيء مما يقصده المكلف‪،‬‬
‫يقول‪» :‬فالحكم الذي اقتضاه السببِّ على حاله قبل هذا العمل‪،‬‬
‫والعمل باطل ضائع ل فائدةا فيه ول حكم له مثل أن يكون وهبِّ‬
‫المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو‬
‫غيرها‪ .‬وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ثم ترد إلى‬
‫التفرقة‪ ،‬أو المفرق بين المجتمع كذلك ثم يردها إلى ما كانت‬
‫عليه«هل)‪ . (2‬فالعمل الذي هو حيلة في هذه الحالة هو في حكم غير‬
‫الواقع أو غير الحاصل‪ .‬أما إن كان العمل ييعيديي موجوداا ففي‬
‫المسألة ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬هو أن العمل باطل لنه مناقض لقصد الشارع‪ ،‬فل‬

‫)( المصدر نفسه ‪. 2/234 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/194 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪399‬‬
‫تنبني عليه آثاره وهو يلتحق بما يعد غير موجود من حيث آثاره‪.‬‬
‫والفرق بينهما هو أن هذا لم يحصل فيه التفاق على الرجوع‬
‫بالهبة‪ ،‬أو لم يرجع فيه إلى الجمع بعد التفرقة أو إلى التفريق بعد‬
‫الجمع‪ .‬قال‪» :‬إن القصد فيه قد صار غير شرعي فصار العمل فيه‬
‫مخالفاا لقصد الشارع فهو في حكم ما لم يعمل فيه واتحد مع القسم‬
‫الول)‪ (1‬في الحكم فل يترتبِّ على هذا العمل حكم ومثال ذلك إذا‬
‫أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبةا لم يرجع فيها‪ ،‬أو‬
‫جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع وكل ذلك بقصد الفرار‬
‫من الزكاةا لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول«هل)‪ . (2‬ثم قال‪:‬‬
‫»فكان كالمعدوما باطلا والتحق بالقسم الول«هل )‪. (3‬‬
‫الثاني‪ :‬وهو أن هذا العمل بهذا القصد غير شرعي ويتضمن‬
‫العصيان إل أنه تترتبِّ عليه آثاره‪ .‬فقاصد السفر لجل الفطار‬
‫والقصر يحصل له ذلك‪ ،‬ونكاح المطلقة ثلثاا بقصد تحليلها‬
‫لمطلقها يقع به التحليل بطلقها‪ ،‬قال‪» :‬وعلى هذا الصل ينبني‬
‫صحة ما يقوله اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه‬
‫الزكاةا أو سافر في رمضان قصداا للفطار أو أخر صلةا حضرم عن‬
‫وقتها الختياري ليصليها في السفر ركعتين‪ .‬أو أخرت امرأةا صلةا‬
‫بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها‪ .‬قال‪ :‬فجميع ذلك‬
‫مكروه ول يجبِّ على هذا في السفر صياما ول أن يصلي أربعاا ول‬
‫على الحائض قضاؤها«هل)‪. (4‬‬
‫الثالث‪ :‬التفريق في العمال بين حقوق ال وحقوق الدميين‪.‬‬
‫وحقوق الدميين أي حق العبد نفسه الذي يقوما بالعمل الذي هو‬
‫حيلة‪ .‬فتنبني على العمل آثاره إن كان من حق العبد‪ .‬وتبطل آثاره‬

‫القسم الول هو المذكور أعله حيث يعد العمل كأنه غير موجود‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/195 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/196 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪400‬‬
‫إن كان من حق ال‪ .‬ومثال حق العبد كالسفر ليقصر أو يفطر‪.‬‬
‫ومثال حق ال الفرق بين المجتمع والجمع بين المفترق في‬
‫الزكاةا‪ .‬قال‪» :‬والثالث أن يفرق بين حقوق ال تعالى وحقوق‬
‫الدميين«هل)‪ . (1‬أما إذا اجتمع الحقان في عمل واحد‪ ،‬حق ال سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وحق العبد‪ ،‬فيكون المر محل نظر واجتهاد لتغليبِّ أحد‬
‫الطرفين‪ ،‬ويكون الحكم للطرفَّ الغالبِّ عند المجتهد‪ .‬قال‪:‬‬
‫»ويبـقى بعدي ما إذا اجتمـع الحقان محل نظر واجتهاد فيغلبِّ أحد‬
‫الطرفيـن بحسـبِّ ما يظهر للمجتهـد وال أعلـم«هل)‪. (2‬‬
‫حق الله وأحق العبد‪:‬‬
‫يستعمل هذان التعبيران للشارةا إلى ما ل خيرةا فيه للمكلف‬
‫وهو حق ال‪ ،‬وإلى ما له فيه خيرةا وهو حق العبد‪.‬‬
‫ومعنى حق العبد أنه مخير شرعاا فله أن يستوفي حقه وله أن‬
‫يسقطه‪ .‬أما حق ال فليس للعبد أن يسقطه‪ .‬ويدخل في حق ال حق‬
‫الغير من العباد‪ ،‬فليس للعبد أن يسقط حق غيره‪ .‬قال الشاطبي‪:‬‬
‫»كل ما كان من حقوق ال فل خيرةا فيه للمكلف على حال‪ ،‬وأما‬
‫ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرةا‪ .‬أما حقوق ال تعالى‬
‫فالدلئل على أنها غير ساقطة ول ترجع لختيار المكلف كثيرةا‬
‫وأعلها الستقراء التاما في موارد الشريعة ومصادرها كالطهارةا‬
‫على أنواعها والصلةا والزكاةا والصياما والحج والمر بالمعروفَّ‬
‫والنهي عن المنكر الذي أعله الجهاد وما يتعلق بذلك من الكفارات‬
‫والمعاملت والكل والشرب واللباس وغير ذلك من العبادات‬
‫والعادات التي ثبت فيها حق ال تعالى أو حق الغير من العبادات‬
‫وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان جميعها ل يصح إسقاط‬
‫حق ال فيها البتة«هل)‪. (3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/196 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/196 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/262 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪401‬‬
‫وحق العبد ليس حقاا له بالصالة‪ ،‬وإنما هو بجعل ال ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬له هذا الحق‪ .‬وكذلك فإن حق العبد فيه حق ل‪.‬‬
‫قال الشاطبي‪» :‬ومن هنا يقول العلماء إن من التكاليف ما هو حق‬
‫ل خاصة وهو راجع إلى التعبد‪ ،‬وما هو حق للعبد‪ .‬ويقولون في‬
‫هذا الثاني إن فيه حقاا ل كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب‬
‫مائةا وسجن عاماا«هل )‪ . (1‬ثم قال‪» :‬فقد صار إذاا كل تكليف حقاا‬
‫ل‪ ،‬فإن ما هو ل فهو ل وما كان للعبد فراجع إلى ال من جهة حق‬
‫ال فيه ومن جهة كون حق العبد من حقوق ال إذ كان ل أن ل‬
‫يجعل للعبد حقاا أصلا«هل)‪. (2‬‬
‫وبناءا عليه فإن حق العبد ل يتمحض‪ ،‬فإن كل تكليف فيه حق‬
‫ل‪.‬‬
‫وحق ال قسمان‪ .‬الول‪ :‬ما كان حقاا ل خالصاا فل يسقط‬
‫وذلك كالعبادات‪ .‬والثاني‪ :‬حق الغير‪ ،‬فليس للعبد أن يسقط حق‬
‫غيره‪ ،‬ولكن يملك هذا الغير أن يسقط حقه بخلفَّ العبادات من‬
‫القسم الول فل تسقط‪ .‬وحق الغير كالبيوع والمعاوضات‬
‫والنفقات فعلى العبد أن يؤدي الحق الذي عليه إلى من هو له‪ .‬فإذا‬
‫أسقط هذا الخير حقه فذلك له‪.‬‬
‫وحق الغير على العبد‪ ،‬هو من حقوق عباد آخرين‪ ،‬لذلك فهو‬
‫ل يتمحض‪ ،‬وفيه حق ل‪ .‬فإذا أسـقط الغير حقه يسـقط ويبقى حق‬
‫ال وذلـك »كما في قاتـل العمد إذا عفي عنه ضـرب مائةا وسجن‬
‫عاماا‪ ،‬وفي القاتل غيـلةا أنه ل عفـو فيه وفي الحـدود إذا بلغت‬
‫السلطان فيما سوى القصاص كالقذفَّ والسرقة ل عفو فيه وإن عفا‬
‫من له الحق«هل )‪. (3‬‬
‫وحق العبد يظهر في ناحيتين‪ .‬الولى‪ :‬ما اشتمل على حق ال‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/219 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/219 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪402‬‬
‫وحق العبد ولكن حق العبد فيه هو المغلييبِّ وهو ما جعل ال فيه‬
‫للعبد حق الختيار‪ ،‬كما في اختياره في أنواع المتناولت من‬
‫المأكولت والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلل له‪ ،‬وفي‬
‫أنواع البيوع والمعاملت والمطالبات بالحقوق فله إسقاطها وله‬
‫العتياض منها والتصرفَّ فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان‬
‫تصرفه على ما ألف من محاسن العادات)‪ . (1‬ولكنه ل يجوز تفويت‬
‫حق ال فل يصح للمكلف أن يتناول ما حرما ال من المأكولت أو‬
‫المشروبات أو الملبوسات‪ ،‬ول أن يقدما على ما حرما ال تعالى من‬
‫تصرفات في البيوع والمعاملت أو فيما بيده‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬ما اشتمل على حق ال وحق العبد وحق ال هو‬
‫المغلييبِّ‪ ،‬ولكن حق ال قد سقط فلم يبق إل الحق الذي جعله ال‬
‫للعبد‪ .‬ومثال ذلك أن حفظ النفس والعقل وغيرها هي من حق ال‬
‫تعالى في العباد ل من حقوق العباد والدليل على ذلك أن ال لم‬
‫يجعل ذلك إلى اختيارهم‪ ،‬فإذا أكمل ال تعالى على عبد حياته‬
‫وجسمه وعقله فل يصح للعبد إسقاطه‪ .‬اللهم إل أن ييبتلى المكلف‬
‫بشيء من ذلك من غير كسبه ول تسببه وفات بسببِّ ذلك نفسه أو‬
‫عقله أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد‪ ،‬إذ إن حق ال‬
‫قد فات حيث إن ما وقع ل يمكن رفعه‪ ،‬وصار ما بقي من حق العبد‬
‫حقاا عند الغير كدينم من الديون إن شاء استوفاه وإن شاء‬
‫تركه )‪ . (2‬ومثال ذلك القصاص والدية فهي جبر لما فات المجني‬
‫عليه من مصالح نفسه أو جسده‪ ،‬فإن حق ال قد فات ول جبر له‪،‬‬
‫وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالمراض إذا كان التطببِّ غير‬
‫واجبِّ‪.‬‬

‫فهنا قد سقط حق ال تعالى لنه فات ول يمكن استيفاؤه وبقي‬


‫حق العبد الذي جعل له الشرع الحق في أن يستوفيه أو أن يسقطه‪.‬‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 2/264 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/263 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪403‬‬
‫وبناءا على منهج الشاطبي وهو أن كل التكاليف إنما هي‬
‫لمصالح العباد في العاجل أو الجل‪ ،‬فإن كل التكاليف فيها حق‬
‫للعباد عاجلا أو آجلا‪ .‬قال‪» :‬كما أن كل حكم شرعي ففيه حق‬
‫للعباد إما عاجلا وإما آجلا بناء على أن الشريعة إنما وضعت‬
‫لمصالح العباد«هل)‪ . (1‬أما ما كان عائداا على العبد من مصالح دنيوية‬
‫فهو يدخل في حق العبد‪ .‬وأما ما كان عائداا عليه في الخرةا فهو‬
‫حق ال‪ .‬قال‪» :‬وحق العبد ما كان راجعاا إلى مصالحه في الدنيا‪،‬‬
‫فإن كان من المصالح الخروية فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق‬
‫ال«هل)‪ . (2‬وحق العبد أو حظوظه التي تعود عليه بسببِّ حق ال هي ما‬
‫يسمى بالمقاصد التابعة‪ ،‬ويجوز للعبد أن يسقط حقه‪ ،‬كأن يسقط‬
‫حقه في الميراثا أو في غنيمة الجهاد أو في الدية أو في القصاص‬
‫أو كأن تسقط المرأةا حقها في النفقة وما شاكل ذلك‪.‬‬

‫و بناءا على ما سبق فإن الفعال بالنسبة إلى حق ال وحق العبد‬


‫ثلثة أقساما‪ .‬يقول الشاطبي‪» :‬فالفعال بالنسبة إلى حق ال وحق‬
‫الدمي ثلثة أقساما‪ :‬أحدها ما هو حق ل خالصاا كالعبادات وأصله‬
‫التعبد كما تقدما فإذا طابق الفعل المر صح وإل فل«هل)‪ . (3‬ثم يقول‪:‬‬
‫»والثاني ما هو مشتمل على حق ال وحق العبد والمغلبِّ فيه حق ال‬
‫وحكمه ر ا جع إلى الول)‪ ، (4‬لن حق العبد إذا صار مطرحاا شرعاا‬
‫فهو كغير المعتبر إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر والفرض خلفه‬
‫كقتل النفس إذ ليس للعبد خيرةا في إسلما نفسه للقتل لغير‬
‫ضرورةا كالفتن ونحوها«هل )‪ . (5‬ثم يقول‪» :‬والثالث ما اشترك فيه‬

‫المصدر نفسه‪. 2/221 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/221 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أي أنه يعد حقاا ل فإذا طابق الفعل المر صح وإل فل‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/222 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪404‬‬
‫الحــقــان وحــق الـعــبــد هـو المـغــلــبِّ«هل)‪. (1‬‬
‫أثار النية في مإا كان حقا ا لله أوأ حقا ا للعبد‪:‬‬
‫وقد تبين هذا بالتفصيل فيما تقدما من هذا الفصل‪ ،‬إل أنني‬
‫أذكـره هـنـا مـن حـيـث تـقـسـيـم الفـعـال إلى حــقم ل‬
‫وحــق للـعــبـد‪.‬‬

‫فما كان من التكاليف حقاا ل أو حق ال فيه هو المغليييبِّ فل‬


‫يصح إل بنية أي بقصد الطاعة والمتثال‪ .‬وما كان حق العبد فيه‬
‫هو المغلييييبِّ فهو يصح بغير نية‪ ،‬ولكنه إذا فيعقلي بغير نية فل‬
‫ثواب فيه‪ ،‬وإذا فعل بنية ففيه ثواب‪ .‬إذ بذلك يكون المكلف قد قاما‬
‫بالفعل لجل حق ال الذي فيه‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬فقد ثبت أن كل‬
‫تكليف ل يخلو عن التعبد‪ ،‬وإذا لم يخلي فهو مما يفتقر إلى نية‬
‫كالطهارات وسائر العبادات‪ .‬إل أن التكاليف التي فيها حق العبد‬
‫منها ما يصح بدون نية وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليبِّ جانبِّ‬
‫العبد كرديق الودائع والغصوب والنفقات الواجبة‪ .‬ومنها ما ل يصح‬
‫إل بنية وذلك ما فهمنا فيه تغليبِّ حق ال كالزكاةا والذبائح‬
‫والصيد‪ .‬والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية ل يثاب عليها‪ ،‬فإذا‬
‫فعلها بنية المتثال وهي نية التعبد أثيبِّ عليها‪ .‬وكذلك التروك‬
‫إذا تركت بنية‪ .‬وهذا متفق عليه«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬وما غلبِّ فيه جهة‬
‫العبد فحـق العـبـد يحصل بغير نية فيصح العمل هنا من غير نية‬
‫ول يكـون عـبـادةاا ل‪ ،‬فإن راعى جـهـة المـر فـهـو مـن تلك‬
‫الجهة عبادةا فل بد فيه من نية أي ل يصير عبادةا إل بالنية ل أنه‬
‫يلزما فيه النية أو يفتقر إليها بل بمعنى أن النية في المتثال‬
‫صيرته عبادةا كما إذا أقرض امتثالا للمر بالتوسعة على المسلم‬
‫أو إذا أقرض لــقـصـــد دنــيـوي‪ ،‬وكـــذلك الــبـــيـع‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/223 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/220 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪405‬‬
‫والـشـــراء والكـل والـشـــرب والنكاح والطلق وغيرها«هل)‪. (1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪406‬‬
‫الفصـل السـابع‬

‫مإنهج الشـاطبي في فهم‬


‫الشـريعة‬

‫وأيحتوي على تمهيد وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬مإنهج الشـاطبي فـي‬


‫فهم الشـريعة‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مإنهج الشـاطبي فـي‬
‫فهم القرآن‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مإنهج الشـاطبي فـي‬
‫فهم السـنة‪.‬‬

‫‪407‬‬
‫الفصـل السـابع‬
‫مإنهج الشـاطبي فـي فهم الشـريعة‬
‫تمهيـد‪:‬‬
‫إن الحديث عن منهج الشاطبي في فهم الشريعة هو حديث عن‬
‫جديده في ذلك‪ ،‬وعميا أثاره وأبرزه مما يتميز به عن سابقيه من‬
‫أئمة الصول في قواعد وأصول الفهم والستنباط‪.‬‬
‫إن مصادر التشريع هي القرآن والسنة والجماع والقياس‪،‬‬
‫ومنهج فهم الشريعة هو كيفية فهم ما جاءت به هذه المصادر‪.‬‬
‫والقواعد التي تعتمد لجل ذلك منها ما يتعلق بهذه المصادر‬
‫جميعها‪ ،‬ومنها ما يتعلق بكل منها على حدةا‪.‬‬
‫وسيتبيييين في هذا الفصل منهج الشاطبي في هذا المر في‬
‫ثلثة مباحث‪ .‬يتناول الول القواعد العامة في ذلك‪ .‬أي التي‬
‫تتعلق بالمصادر جميعها‪ .‬ويتناول الثاني قواعد فهم القرآن أما‬
‫الثالث فيتناول قواعد فهم السنة‪.‬‬
‫أما الجماع والقياس فهما يرجعان إلى القرآن والسنة‪،‬‬
‫ولذلك لم يبحثهما الشاطبي بحثاا منفصلا‪ ،‬وإنما أشار إليهما‬
‫إشارات متناثرةا في ثنايا كتابه‪ .‬قال‪» :‬كتاب الدلة الشرعية‪:‬‬
‫والنظر فيه فيما يتعلق بها على الجملة‪ ،‬وفيما يتعلق بكل واحد منها‬
‫على التفصيل وهي الكتاب والسنة والجماع والقياس«هل)‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»الطرفَّ الثاني‪ :‬في الدلة على التفصيل وهي الكتاب والسنة‬
‫والجماع والرأي‪ .‬ولما كان الكتاب والسنة هما الصل لما سواهما‬
‫اقتصرنا على النظر فيهما«هل)‪. (2‬‬
‫والقواعد التي يبحثها الشاطبي مما يتعلق بمصادر التشريع‬
‫على الجملة هي قواعد تتعلق بالمصادر الربعة‪ ،‬وتلك التي تتعلق‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/200 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪408‬‬
‫بالقرآن وبالسنة مبنية عليها ومفصلة لها‪ .‬لذلك أطلقت على‬
‫المبحث الول اسم منهج الشاطبي في فهم الشريعة‪ ،‬وهو عنوان‬
‫الفصل نفسه‪ .‬وعلى المبحث الثاني اسم منهج الشاطبي في فهم‬
‫القرآن‪ ،‬وعلى المبحث الثالث اسم منهج الشاطبي في فهم السنة‪.‬‬

‫‪409‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫مإنهج الشـاطبي فـي فهم الشـريعة‬
‫مإوضأوع هذا المبحث‪:‬‬
‫مري في التمهيد لهذا الفصل أن هذا المبحث يتناول القواعد‬
‫التي تتعلق بمصادر التشريع عموماا‪ .‬أي تتعلق بها جميعها‪ ،‬وهذه‬
‫القواعد قسمان‪ :‬الول يتعلق بكيفية إعمال النصوص الشرعية من‬
‫القرآن والسنة أي كيفية تنزيل معاني النصوص على الوقائع‬
‫والفعال‪ ،‬وينطبق المر نفسه على كيفية تطبيق دللت القياس‬
‫وما حصل فيه الجماع‪ .‬والثاني يتعلق بالعوارض اللحقة للنصوص‬
‫من حيث الحكاما والتشابه‪ ،‬والنسخ‪ ،‬والجمال والبيان‪ ،‬والوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬والعموما والخصوص‪ ،‬والطلق والتقييد‪ .‬فالول يرجع‬
‫إلى كيفية إنزال المعاني وهي معانم كلية ومعانم جزئية‪ .‬والثاني‬
‫يرجع إلى كيفية تعيين هذه المعاني إذ يدخلها التشابه من إجمال‬
‫أو تشابه أو نسخ أو تخصيص أو تقييد‪.‬‬
‫ول بد من الشارةا إلى أن تناول هذين القسمين هنا هو فقط‬
‫من جهة علقته بمنهج الشاطبي خصوصاا‪ ،‬أي بجديده كنهج‬
‫أصولي‪.‬‬
‫نظرة الشاطبي إلى دللت النصوص الشرعية‪:‬‬
‫يرى الشاطبي أن دللة آحاد النصوص على المعاني هي دللة‬
‫ظنية‪ .‬فهو ينفي وجود دللة قطعية للنص على المعنى‪ .‬أما دللة‬
‫الحكاما على غاياتها أو حكمها‪ ،‬فالشاطبي ينفي اعتبارها بالكلية إذا‬
‫كان العتماد فيها على آحاد الحكاما‪.‬‬
‫أمـا نـفـيـه للـدللة القـطـعـيـة فـيـدل علـيـه قـوله‪:‬‬
‫»فـالمـعـتـمـد بالقصد الول الدلة الشرعية ووجود القطع فيها‬
‫على السـتـعـمال المشهور معدوما‪ ،‬أو في غاية الندور أعني في‬

‫‪410‬‬
‫آحاد الدلة‪ .‬فـإنـهـا إن كـانـت مـن أخـبـار الحـاد فـعـدما‬
‫إفادتها القطع ظاهر‪ .‬وإن كانت متواترةا‪ ،‬فإفادتها القطع موقوفة‬
‫على مقدمات جميعها أو غالبها ظني‪ .‬والموقوفَّ على الظني ل بد أن‬
‫يكون ظنياا‪ ،‬فإنها تتوقف على نقل اللـغـات وآراء النـحـو وعدما‬
‫الشتراك وعدما المجاز والنقل الشرعي أو العادي والضمار‬
‫والتخصيص للعموما والتقييد للمطلق وعدما الناسخ والتقديم‬
‫والتأخير والمعارض العقلي‪ ،‬وإفادةا القطع مع اعتبار هذه المور‬
‫متعذر«هل )‪. (1‬‬
‫وما لم يكن المعنى قطعياا فل يصح إعماله‪ .‬إذ يشترط‬
‫الشاطبي لعمال الدليل أن يكون قطعياا أو راجعاا إلى معنى‬
‫قطعي )‪ . (2‬يقول‪» :‬كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياا أو ظنياا‪،‬‬
‫فإن كان قطعياا فل إشكال في اعتباره كأدلة وجوب الطهارةا من‬
‫الحدثا والصلةا والزكاةا والصياما والحج والمر بالمعروفَّ والنهي‬
‫عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل وأشباه ذلك‪ ،‬وإن كان ظنياا‬
‫فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو ل‪ .‬فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر‬
‫أيضاا‪ ،‬وإن لم يرجع وجبِّ التثبت فيه ولم يصح إطلق القول‬
‫بقبوله‪ .‬ولكنه قسمان‪ :‬قسم يضاديي أصلا‪ ،‬وقسم ل يضاده ول‬
‫يوافقه‪ .‬فالجميع أربعة أقساما‪ .‬فأما الول فل يفتقر إلى بيان‪ ،‬وأما‬
‫الثاني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضاا ظاهر وعليه عامة‬
‫أخبار الحاد فإنها بيان للكتاب«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬وأما الثالث وهو‬
‫المعارض لصل قطعي ول يشهد له أصل قطعي فمردود بل إشكال‪.‬‬
‫ومن الدليل على ذلك أمران‪ :‬أحدهما أنه مخالف لصول الشريعة‪،‬‬
‫ومخالف أصول الشريعة ل يصح لنه ليس منها‪ ،‬وما ليس منها‬
‫كيف يعد منها‪ .‬والثاني أنه ليس له ما يشهد لصحته وما هو‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪ . 1/13 ،‬وله نص آخر مثله‪ .‬أنظر‪. 2/32 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( وقد تبين هذا سابقاا‪ .‬أنظر‪ :‬المبحث الول من الفصل الثالث ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/7 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪411‬‬
‫كذلك ساقط العتبار«هل)‪ . (1‬ولنتنبه هنا إلى المر الثاني في‬
‫الدللة على الرد‪ .‬فهو أنه ليس له ما يشهد لصحته‪ .‬فهو يدل على‬
‫جديدم عند الشاطبي وهو أن المعنى الشرعي أو الدليل الشرعي‬
‫يحتاج إلى معنى يشهد له حتى يقبل‪ .‬ويتبين في سياق النص‬
‫بأكمله أن الشاهد يجبِّ أن يكون معنى قطعياا‪ .‬ثم يقول‪» :‬وأما‬
‫الرابع وهو الظني الذي ل يشهد له أصل قطعي ول يعارض أصلا‬
‫قطعياا فهو في محل النظر‪ .‬وبابه باب المناسبِّ الغريبِّ‪ .‬فقد يقال‬
‫ل ييقبل لنه إثبات شرع على غير ما عيهد في مثله‪ .‬والستقراء يدل‬
‫على أنه غير موجود وهذان يوهنان التمسك به على الطلق لنه‬
‫في محل الريبة فل يبقى مع ذلك ظن ثبوته‪ .‬ولنه من حيث لم‬
‫يشهد له أصل قطعي معارض لصول الشرع إذ كان عدما الموافقة‬
‫مخالفة‪ ،‬وكل ما خالف أصلا قطعياا مردود فهذا مردود«هل)‪. (2‬‬
‫ولننظر في هذا النص‪ .‬فالدليل الشرعي يعد مخالفاا ول يمكن‬
‫إطلق القول بقبوله ولو لم يكن معارضاا لصل قطعي‪ ،‬والسببِّ في‬
‫ذلك أنه ل يعضده أصل قطعي‪ ،‬مع أن هذا الدليل نص شرعي من‬
‫القرآن أو السنة‪ .‬ومع ذلك فقد قال إنه في محل النظر‪.‬‬
‫ثم يتابع‪» :‬ولقائل أن يوجه العمال بأن العمل بالظن على‬
‫الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة‪ ،‬وهذا فرد من أفراده وهو وإن لم‬
‫يكن موافقاا لصل‪ ،‬فل مخالفة فيه أيضاا‪ ،‬فإن عضد الرد عدما‬
‫الموافقة عضد القبول عدما المخالفة فيتعارضان‪ .‬ويسلم أصل‬
‫العمل بالظن‪ .‬وقد ويجقدي منه في الحديث قوله عليه الصلةا‬
‫والسلما‪» :‬القاتل ل يرثا «هل)‪ . (3‬وقد أعمل العلماء المناسبِّ‬
‫الغريبِّ في أبواب القياس‪ .‬وإن كان قليلا في بابه فذلك غير‬
‫ضائر إذا دل الدليل على صحته«هل )‪. (4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/8 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/12 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/12 .‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪412‬‬
‫إن هذا النص هاما في بيان نظرةا الشاطبي إلى النصوص‬
‫الشرعية وكيفية الستدلل بها على معانيها‪ .‬فهو ل يأخذ المعنى‬
‫إل إذا كان معضوداا بمعنى قطعي أو مندرجاا تحته‪ .‬أما قوله‪:‬‬
‫»ولقائل أن يوجه العمال بأن العمل بالظن ثابت على الجملة«هل‪،‬‬
‫فهو ليس رأياا له‪ ،‬ولذلك ختم الجملة بقوله‪» :‬وإن كان ذلك‬
‫قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دلي الدليل على صحته«هل‪ .‬إضافة‬
‫إلى قوله السابق‪» :‬والستقراء يدل على أنه غير موجود«هل‪.‬‬
‫ومما ينبغي الشارةا إليه استشهاده بالحديث‪» :‬القاتل ل‬
‫يرثا «هل‪ ،‬فإن خلفَّ علماء الصول هو في اعتبار معنى المعاملة‬
‫بنقيض المقصود الذي يوافقه الحديث‪ ،‬وهذا المعنى ليس من دللت‬
‫نص الحديث‪ ،‬بينما الشاطبي يتحدثا عن إعمال الحديث نفسه‪،‬‬
‫ومقصوده أن فكرةا المعاملة بنقيض المقصود إذا ثبتت بشكل قطعي‬
‫فحينئذم يصح إعمال الحديث لنه يكون حينذاك راجعاا إلى معنى‬
‫قطعي‪ .‬ونلحظ أيضاا أنه يجعل هذا الحديث من المناسبِّ الغريبِّ‪،‬‬
‫وقد بينا سابقاا‪ ،‬أن علماء الصول الذين يعللون بالمناسـبِّ يعـدون‬
‫الغـريبِّ الوصـف الذي ييلحظ في حكم واحد وليس له شاهد‪ ،‬أو له‬
‫شاهد واحد‪ ،‬ولفظ شاهد يعني حكماا يوافق المعنى)‪ . (1‬وهو هنا‬
‫جعل الحديث غريباا‪ ،‬ويحتاج إلى شاهد قطعي‪ ،‬أي أن يثبت معنى‬
‫المعاملة بنقيض المقصود ثبوتاا قطعياا‪ ،‬لذلك وجدناه في موضع‬
‫آخر يذكر قاعدةا المعاملة بنقيض المقصود بشكل تساؤل مع ميل‬
‫إلى قبولها‪ ،‬إذ أنها توفرت لها جزئيات شاهدةا‪ ،‬ولكنها لم يتوفر لها‬
‫الستقراء المفيد للقطع‪ .‬يقول‪» :‬ولكن يبقى النظر هل يعتبر في‬
‫ذلك التسببِّي من كونه مناقضاا في القصد لقصد الشارع عيناا حتى‬
‫ل يترتبِّ عليه ما قصده المتسببِّ فتنشأ من هنا قاعدةا المعاملة‬
‫بنقيض المقصود ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد‬
‫المفروض‪ ،‬وهو مقتضى الحديث في حرمان القاتل الميراثا‪،‬‬

‫) ( انظر‪ :‬الفصل الول ‪ ،‬ص ‪. 85‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪413‬‬
‫ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع‬
‫خشية الصدقة‪ .‬وكذلك ميراثا المبتوتة في المرض‪ ،‬أو تأبيد‬
‫التحريم على من نكح في العدةا إلى كثير من هذا«هل)‪ . (1‬ولو كانت‬
‫المعاملة بنقيض المقصود أصلا كلياا يشهد لمعنى حديث‬
‫»القاتل ل يرثا «هل لما صح إيراد الشاطبي للحديث كمثال على‬
‫القسم الرابع الذي ل يشهد له أصل كلي‪.‬‬
‫ومما يؤكد ما ذكرناه قوله‪» :‬إن خبر الواحد إذا استند إلى‬
‫قاعدةا مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإل فالتوقف‪ .‬وكونه‬
‫مستنداا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني‬
‫كلي«هل)‪ . (2‬وقوله بالتوقف يعني عدما إعمال الحديث وعدما رده‪ ،‬إذ‬
‫قد يتوفير له استقراء يجعل معناه راجعاا إلى معنى قطعي‪ .‬وقوله‪:‬‬
‫»راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي«هل‪ .‬يعني بيان السنة‬
‫للكتاب‪ ،‬وكل معنى ليس له أصل في الكتاب ل يؤخذ)‪ . (3‬ولكن مراد‬
‫الشاطبي أبعد من ذلك‪ ،‬إذ هو يشترط في أي معنى لي نص أن‬
‫يكون راجعاا إلى معنى قطعي‪ ،‬ولو كان نص قرآن‪.‬‬
‫لذلك ينبغي ملحظة قوله أعله‪» :‬تحت معنى قرآني‬
‫كلي«هل‪ .‬وليس‪» :‬تحت معنى قرآني«هل‪ .‬وإذا جمعنا بين قضايا يقول‬
‫بها الشاطبي وهي أن المعنى يجبِّ أن يكون كلياا أي قطعياا‪ ،‬وأن‬
‫آحاد الدلة ل تفيد القطع ومنها نصوص القرآن‪ ،‬مع العلم بأن‬
‫نصوص القرآن كلها إعمالها واجبِّ‪ ،‬تنشأ مسألة وهي كيف يتم‬
‫القطع بمعاني القرآن؟ وهذه المسألة سنعالجها في المبحث التالي ‪-‬‬
‫إن شاء ال ‪ -‬وهو منهج الشاطبي في فهم القرآن‪ .‬والمراد هنا إثبات‬
‫موقف الشاطبي من دللت النصوص على معانيها وهو أنها ل تؤخذ‬
‫أو تعتبر إل إذا كانت راجعة إلى معنى قطعي‪ .‬فهذه المعاني‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/184 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/5 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( وسيأتي بيان رأي الشاطبي أن السنة ل تستقل بالتشريع‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪414‬‬
‫جزئيات وكذلك معاني الحكاما وهي الحقكيم‪ .‬وهي جزئيات إل أن‬
‫عدما اعتبارها ل يعني ردها إل إذا كانت معارضة لصل قطعي أو‬
‫كلي‪ .‬وإن لم تكن معارضة لصل كلي قد يتوفر لها جزئيات‬
‫كثيرةا توافقها وتعضدها في المعنى فيصبح المعنى أصلا قطعياا‪،‬‬
‫وتصبح هذه الجزئيات فروعاا له راجعةا إليه‪.‬‬
‫وقد مريي سابقاا قوله إن خاصية كتابه ) الموافقات ( هي‬
‫كيفية اقتناص الكيات من الجزئيات )‪. (1‬‬
‫يجب إعمال الجزئايات وأالكليات مإعاا‪:‬‬
‫يقتضي استنباط الحكاما الشرعية إعمال الجزئيات والكليات‬
‫معاا‪ ،‬وإن كانت الكليات إنما تقررت باستقراء الجزئيات‪ ،‬فإنه ل‬
‫يصح إعمال الكلي وإهمال الجزئي‪ .‬فمثلا‪» :‬إن عيلم أن الحفظ‬
‫على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة‪ ،‬فإن‬
‫للحفظ وجوهاا قد يدركها العقل وقد ل يدركها‪ ،‬وإذا أدركها فقد‬
‫يدركها بالنسبة إلى حال دون حال أو زمانم دون زمان«هل)‪ . (2‬ومثال‬
‫ذلك أن العلم بأصل حفظ المال مثلا ل يكفي لبيان حكم السارق‬
‫هل يسجن أو يقتل أو يقطع أو غير ذلك‪ ،‬وكله متفق مع الصل‪،‬‬
‫ول يكفي للتفريق بين الغاش والغاصبِّ والسارق في الحكم‪ .‬والعلم‬
‫بالجزئيات يحتاج إلى العلم بالكليات لجل صحة الستنباط‪،‬‬
‫فالجزئيات تحتمل معانم‪ ،‬والمعنى الصحيح هو الذي يرجع إلى‬
‫كلي‪ ،‬وإذا ناقض كلياا فقد ناقض قطعياا وهذا ل يصح‪ ،‬ونقض‬
‫الكليات هو نقض للجزئيات أيضاا‪.‬‬
‫)‪(3‬‬
‫وهي‬ ‫يقول الشاطبي‪» :‬وإذا كان كذلك وكانت الجزئيات‬
‫) ( أنظر‪ :‬المبحث الول من الفصل الثالث ‪ .‬وانظر‪ :‬الموافقات‪. 4/194 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/5 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( تسمية الجزئيات بالصول ينطبق على ما كان جزئياا بالضافة‪ ،‬ولكنه‬ ‫‪3‬‬

‫أصل كلي‪ ،‬وذلك كوجوب الصلةا والزكاةا وسائر القواعد الخم ســة فــي‬
‫الدين‪ ،‬فكلها عند الشاطبي أصول قطعية‪ ،‬ولكن هــا جزئ يــة بالن ســبة ل صــل‬
‫حفظ الدين‪ ،‬وما تحتها هو الجزئيات التي هي مآخذ لهذه القواعد ‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫أصول الشريعة فما تحتها مستمدةا من تلك الصول الكلية شأن‬
‫الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات‪ ،‬فمن‬
‫الواجبِّ اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الدلة‬
‫الخاصة من الكتاب والسنة والجماع والقياس‪ ،‬إذ محال أن تكون‬
‫تلك الجزئيات مستغنية عن كلياتها‪ .‬فمن أخذ بنصم مثلا في‬
‫جزئي معرضاا عن كليه فقد أخطأ‪ ،‬وكما أن من أخذها لجزئيم‬
‫معرضاا عن كليه فهو مخطئ‪ ،‬كذلك من أخذ بالكلي معرضاا عن‬
‫جزئيه‪ .‬وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض‬
‫الجزئيات واستقرائها‪ ،‬فالكلي من حيث هو كلي غير معلومام لنا قبل‬
‫العلم بالجزئيات‪ ،‬ولنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن‬
‫في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولت‪ ،‬فإذاا‪ ،‬الوقوفَّ مع الكلي‬
‫مع العراض عن الجزئي وقوفَّ مع شيءم لم يتقرر العلم به بعد‬
‫دون العلم بالجزئي‪ .‬والجزئي هو مظهر العلم به‪ ،‬وأيضاا فإن‬
‫الجزئي لم يوضع جزئياا إل لكون الكلي فيه على التماما وبه قوامه‪،‬‬
‫فالعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه‬
‫في الحقيقة وذلك تناقض«هل)‪ . (1‬فلغاية حفظ النفس مثلا وهي‬
‫أصل كلي ل بد من إعمال الجزئيات التي تدل على إباحة تناول‬
‫الخنزير أو الميتة عند الضطرار أو التلفظ بالكفر في حالة‬
‫الكراه الملجئ‪ ،‬وعلى جواز افتداء النفس بالمال‪ ،‬وعدما جواز‬
‫افتدائها بحياةا مسلم آخر أو بإفشاء أسرار وخطط تعرض المسلمين‬
‫للهزيمة والستئصال‪.‬‬
‫وه كــذا فل ا ســتغناء بالكل يــات عــن الجزئ يــات‪ .‬و كــذلك ل‬
‫استغناء بالجزئيات عن الكليات‪ ،‬فمثلا‪ :‬قوله تعالى‪   [ :‬‬
‫‪ ، (2) ]   ‬الية‪ .‬النص يحتمل معانم منها التكليف‬
‫ومنها التيئيس‪ ،‬ولكن امتناع التكليف بما ل طاقــة بــه أو بالمحــال‬
‫أصل كلي‪ ،‬وحمل النص على التكليف ينق ض الكلــي‪ ،‬فــوجبِّ إع مــال‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/3 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا السراء‪. 50 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪416‬‬
‫الكلي وحمل النص على معنى آخر وهو التيئيس‪ ،‬وكذلك في قوله‬
‫تعالى‪ (1)]     [ :‬الية‪ .‬يجبِّ المحافظة‬
‫على الصل الكلي‪ ،‬وهو عدما التكليف بما ل يطاق‪ ،‬فينصرفَّ المعنــى‬
‫من التكليف إلى التحدي الذي يراد منه التعجيز‪ ،‬وكذلك يقال في‬
‫قــوله ت عــالى‪ ، (2)]      [ :‬حيــث‬
‫ينصرفَّ المعنى من الوجوب أو غيره إلى الهانة‪ ،‬وفي قوله تعــالى‪:‬‬
‫[ ‪ ، (3)]       ‬فإن‬
‫النص يحتمل معنى الخبار ومعنى التكليف‪ ،‬ولكن الصل الكلي وهو‬
‫ضرورةا صدق المخبر يصرفَّ المعنى عن الخبار إلى التكليف وهــو‬
‫التحريم‪ ،‬هذا هو معنى قول الشاطبي‪» :‬فمن الواجبِّ اعت بــار ت لــك‬
‫الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الدلة الخاصة من الكتاب والسنة‬
‫والجماع والقياس«هل‪.‬‬
‫الكلي ل ينخرم بمعارضأة آحاد الجزئايات له‪:‬‬
‫وهذه مـسـألة هـامـة في منـهـج الش ـ اطبي‪ ،‬وهي أنه إذا‬
‫تقرر المعنى أص ـ لا كلي ـ اا ثم وج ـ د في الجزئيات ما يتناقض معه‪،‬‬
‫فهل هذا ينقض تماما الس ـ تقراء فينقض الصل الكلي ويلغيه؟‬
‫وذلك كالقتل قص ـ اصاا أو في الجهاد‪ ،‬وإنفاق الموال في ذلك‪،‬‬
‫وكأحكاما الف ـ يء والغنائم وقد عرفَّ في الضروريات حفظ النفس‬
‫وحفظ المال‪ .‬يقول الش ـ اطبي إن هذا ل يخرما الص ـ ل لنه ثبت‬
‫كلياا قطعياا‪ ،‬يقول‪» :‬هذه الكليات الثلثا إذا كانت قد ش ـ رعت‬
‫للمصالح الخاصة بها فل يرفعها تخلف آحاد الجزئيات‪ ،‬ولذلك‬
‫أمثلة‪ :‬أما في الضروريات فإن العقوب ـ ات مش ـ روعة للزدجار مع‬
‫أنا نجد من يعاقبِّ فل يزدجر عما عوقبِّ عليه«هل)‪» . (4‬وأما في‬
‫الحاجيات فالقص ـ ر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة‬

‫سورةا البقرةا‪. 23 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا الدخان‪. 49 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا النساء‪. 141 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/35 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪417‬‬
‫والملك المترفة ل مشقة له والقصر في حقه مشروع‪ ،‬والقرض‬
‫أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضاا مع عدما الحاجة‪ ،‬وأما في‬
‫التحسينيات فإن الطهارةا مشروعة للنظافة على الجملة مع أن‬
‫بعضها على خلفَّ النظافة كالتيمم فكل هذا غير قادح في أصل‬
‫المشروعية لن الصل الكلي إذا ثبت كلياا فتخلف بعض الجزئيات‬
‫عن مقتضى الكلي ل يخرجه عن كونه كلياا‪ .‬وأيضاا فإن الغالبِّ‬
‫الكثري معتبر في الشريعة اعتبار العاما القطعي لن المتخلفات‬
‫الجزئية ل ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت«هل )‪ . (1‬ثم قال‪:‬‬
‫»فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى‬
‫الكلي فل تكون داخلة تحته أصلا‪ ،‬أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا‬
‫دخولها‪ ،‬أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى‪،‬‬
‫فالملك المترفة قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا ل نحكم عليه‬
‫بذلك لخفائها أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها إن‬
‫المصلحة ليست للزدجار فقط«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬فعلى كل تقدير ل‬
‫اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح«هل)‪. (3‬‬
‫وإذا كان الكلي ل يلغى ول يخرما فهل يلغى الجزئي؟ لهذا‬
‫تفصيل ولكنه في الجملة ل يلغى لنه راجع إلى أصل كلي آخر‪.‬‬
‫فإلغاؤه إخلل بكلي‪ ،‬يقول‪» :‬القياما في الصلةا مثلا وسائر الرخص‬
‫الهادمة لعزائم الوامر والنواهي إعمالا لقاعدةا الحاجيات في‬
‫الضروريات ‪ ،‬ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا‬
‫والقراض والمساقاةا والسلم وأشباه ذلك‪ ،‬فلو اعتبرنا الضروريات‬
‫كلها لخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات أيضاا‪ .‬فأما إذا اعتبرنا‬
‫في كل رتبةم جزئياتها كان ذلك محافظة على تلك الرتبة وعلى‬
‫غيرها من الكليات‪ ،‬فإن تلك المراتبِّ الثلثا يخدما بعضها بعضاا‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/35 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪418‬‬
‫ويخصص بعضها بعضاا«هل)‪. (1‬‬
‫وعليه فالشاطبي ل يرى إلغاء أييم من الكلي أو الجزئي عند‬
‫ظهور التعارض‪ ،‬لنه تعارض من جهةم دون جهة أو في حالم دون‬
‫حال أو محل دون محل‪ ،‬فهو تعارض ظاهري‪ ،‬قال‪» :‬ويعتبر الكلي‬
‫في تخصيص ـ ه للعاما الجزئي أو تقيي ـ ده لمطلقة وما أشبه ذلك‬
‫بحيث ل يكون إخللا بالجزئي على الطلق«هل)‪. (2‬‬
‫أما إذا كان التعارض بين الجزئي والكلي من كل جهة ول‬
‫مخرج منه فيجبِّ إلغاء الجزئي‪ ،‬قال‪» :‬ول يقال إن هذا تناقض لنه‬
‫يؤدي إلى الجزئي وعدما اعتباره معاا‪ ،‬لنا نقول إن ذلك من جهتين‪،‬‬
‫ولنه ل يعتبر كل جزئي وفي كل حال«هل)‪. (3‬‬
‫الحكام وأالتشابه‪:‬‬
‫والمراد من إدراج هذا البحـث هنـا‪ ،‬هـو بيـان منهـج‬
‫الشـاطبـي في كـيفية تعيين معنى النص الشرعي إذا كان‬
‫متشابهاا‪ .‬لذلك سنبين أولا مراد الشاطبي بالمحكم والمتشابه‪.‬‬
‫يقول‪» :‬المحكم يطلق بإطلقين عاما وخاص‪ .‬فأما الخاص‬
‫فالذي يراد به خلفَّ المنسوخ«هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬وأما العاما فالذي‬
‫ييعنى به البيين الواضح الذي ل يفتقر في بيان معناه إلى غيره‪.‬‬
‫فالمتشابه بالطلق الول هو المنسوخ‪ ،‬وبالطلق الثاني الذي ل‬
‫يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أما‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 3/5 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/6 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ، 3/6 ،‬ويمكن للقارئ أن يلحظ أن التناقض الذي حاول‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي أن يرفعه واقع ل محالة‪ ،‬ف هــو ا ضــطر أن ي قــول بإم كــان إه مــال‬
‫الجزئي‪ ،‬فهذان الصلن ‪ -‬عنــده ‪ -‬ل ي ســتقيمان أو ي ســتمران م عــاا‪ ،‬وه مــا‬
‫إعمال الكليــات والجزئيــات م عــاا و عــدما ان خــراما الكلــي بمعار ضــة آ حــاد‬
‫الجزئيات‪ ،‬إذ في الحالت التي ل يرتفع فيها التعارض بين الكلي والجز ئــي‬
‫ل بد من نقض أحد هذين الصلين‪ ،‬و ســنناقش هــذه الم ســألة فــي الف صــل‬
‫العاشر ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/50 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪419‬‬
‫ل«هل)‪. (1‬‬
‫والمعنى المراد هنا هو الثاني‪ ،‬أي أن المحكم هو البيين‬
‫الواضح‪ ،‬والمتشابه هو الذي ل يتبين المراد به من لفظه‪ .‬قال‪:‬‬
‫»وإذا تؤميقل هذا الطلق ويجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعاما‬
‫والمطلق قبل معرفة مبييقناتها داخلة تحت معنى المتشابه‪ ،‬كما أن‬
‫الناسخ وما ثبت حكمه والمبيين والمؤويل والمخصييص والمقييد‬
‫داخله تحت معنى المحكم«هل )‪. ( 2‬‬
‫وييبييقن الشاطبي أن أكثر أحكاما الشريعة محكم‪ .‬وأن التشابه‬
‫قليل يقول‪» :‬التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات لكن النظر في‬
‫مقدار الواقع منه هل هو قليل أما كثير‪ ،‬والثابت من ذلك القلة ل‬
‫الكثرةا«هل )‪ . (3‬وقال‪» :‬لول أن الدليل أثبت أن فيه متشابهاا لم يصح‬
‫القول به«هل)‪. (4‬‬
‫ويرد الشاطبي القول بأن المتشابه في الشريعة كثير بناء‬
‫على أن فيها المنسوخ والمجمل والعاما والمطلق‪ ،‬وهو كثير الوقوع‬
‫في الشريعة‪ ،‬يرده بناء على أن الناسخ مع المنسوخ والبيان مع‬
‫المجمل والمخصص مع العاما والمقيد مع المطلق‪ ،‬كل ذلك بيان‪،‬‬
‫يقول‪» :‬وعلى ذلك يدل قول ابن عباس‪» :‬ل عاما إل مخصص«هل‪،‬‬
‫فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه‪ ،‬ومثله سائر النواع‪ .‬وإنما يكون‬
‫متشابهاا عند عدما بيانه«هل)‪ . (5‬ويقول‪» :‬وإذا ثبت هذا فالبيان مقترن‬
‫بالمبين‪ ،‬فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابهاا‪ ،‬وليس بمتشابه‬
‫في نفسه شرعاا«هل)‪. (6‬‬
‫ويقسم الشاطبي التشابه في النصوص إلى قسمين‪ :‬حقيقي‬

‫المصدر نفسه‪. 3/51 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/52 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/54 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪420‬‬
‫وإضافي‪ .‬وثم قسم ثالث ل يرجع إلى النصوص وإنما إلى المناط‪.‬‬
‫يقول‪» :‬التشابه الواقع في الشريعة على ضربين‪ :‬أحدهما حقيقي‬
‫والخر إضافي‪ ،‬وهذا فيما يختص بها في نفسها‪ .‬وثم ضرب آخر‬
‫راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الحكاما‪ ،‬فالول هو المراد‬
‫بالية )‪ ، (1‬ومعناه راجع إلى أنه لم ييجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ول‬
‫نيصبِّ لنا دليل على المراد منه«هل)‪ . (2‬ثم قال في الثاني وهو‬
‫الضافي‪» :‬قد حصل بيانه في نفس المر ولكن الناظر قصر في‬
‫الجتهاد أو زاغِّ عن طريق البيان اتباعاا للهوى فل يصح أن ينسبِّ‬
‫الشتباه إلى الدلة‪ ،‬وإنما ينسبِّ إلى الناظرين التقصير أو‬
‫الجهل«هل )‪ . (3‬أما القسم الثالث فقال فيه‪» :‬وأما الثالث فالتشابه ليس‬
‫بعائد على الدلة وإنما هو عائد على مناط الدلة فالنهي عن أكل‬
‫الميتة واضح‪ ،‬والذن في أكل الذكية كذلك‪ .‬فإذا اختلطت الميتة‬
‫بالذكية حصل الشتباه في المأكول ل في الدليل على تحليله أو‬
‫تحريمه«هل )‪. (4‬‬
‫والتشابه ل يقع في الكليات لن هذه معان قطعية)‪. (5‬‬
‫ومن أمثلة التشابه الحقيقي‪» :‬كمسائل الستواء والنزول‬
‫والضحك واليد والقدما وأشباه ذلك«هل)‪. (6‬‬
‫تأوأيل المتشـابه‪:‬‬
‫إذا كان التشابه حقيقياا فل يصح تأويله‪ .‬وابتغاء تأويله هو‬
‫عمل الزائغين‪ .‬أما إذا كان إضافياا فينبغي تأويله‪ .‬يقول‪» :‬تسليط‬
‫التأويل على التشابه فيه تفصيل فل يخلو أن يكون من المتشابه‬

‫[ ‪         ‬‬ ‫) ( الية‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ]   ‬سورةا آل عمران‪. 7 ،‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 55 - 3/54 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( ا المصدر نفسه‪. 56 - 3/55 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/56 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( أنظر‪:‬المصدر نفسه‪. 3/58 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/57 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪421‬‬
‫الحقيقي أو من الضافي‪ .‬فإن كان من الضافي فل بد منه إذا تعيين‬
‫بالدليل كما ييبييين العاما بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري‬
‫بالحاجي وما أشبه ذلك لن مجموعهما هو المحكم‪ ،‬وقد مر بيانه‪.‬‬
‫وأما إن كان من الحقيقي فغير لزما تأويله«هل)‪. (1‬‬
‫وقال‪» :‬وأيضاا فإن السلف الص الح م ن الص حابة والتـابعين‬
‫ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه ال شــياء ول تكل مــوا‬
‫فيها بما يقتضي تعيين تأويل من غير دليل‪ ،‬و هــم ال ســوةا وال قــدوةا‬
‫وإلى ذلك فالية مشيرةا إلى ذلك بقوله ت عــالى‪  [ :‬‬
‫‪ (2)]       ‬الية«هل)‪. (3‬‬
‫وإذا كان المتشابه مما ينبغي تأويله‪ ،‬أي تعيين معناه‪ ،‬فــإن المعنــى‬
‫المؤول به لـه ثلثـة شـروط‪ .‬يقـول‪» :‬إذا تسـلط التأويـل علـى‬
‫المتشابه فيراعي في المؤوييل به أوصافَّ ثلثة‪ :‬أن يرجع إلى معنى‬
‫صحيح في العتبار‪ ،‬متفقم عليه في الجملة بين المختلفين‪ ،‬ويكــون‬
‫اللفظ المؤوييل قابلا له«هل)‪. (4‬‬
‫أما الشرط الول فيرجع إلى ما سبق ذكره من أن الدليل‬
‫الشرعي يجبِّ أن يكون قطعياا أو راجعاا إلى قطعي كي يصح‬
‫إعماله‪ .‬وهو هنا لم يشترط الرجوع إلى قطعي‪ ،‬وإنما إلى معنى‬
‫صحيح في العتبار‪ .‬فإذا كان راجعاا إلى معنى قطعي فل شك أنه‬
‫صحيح في العتبار‪ .‬إذ قد يكون المعنى المؤول به ممكن القبول أي‬
‫ل يعارض أصلا‪ ،‬فإن كان ل يصح إعماله فل يصح رده‪ ،‬بل إنه‬
‫يخضع للستقراء أي لملحظة هذا المعنى في مواضع أخرى‪ ،‬فل‬
‫يشترط أن يكون قد بلغ القطع حتى ييقبل‪ ،‬بل ل بد من اعتباره قبل‬
‫بلوغِّ القطع‪ ،‬وينطبق هذا على غيره مما يشترك معه في المعنى‪،‬‬
‫وذلك لكي تتوفر إمكانية وجود استقراء مفيد للقطع‪ .‬أما شرطه‬

‫المصدر نفسه‪. 3/59 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا آل عمران‪. 7 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/59 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 3/60 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪422‬‬
‫الثالث وهو أن يكون اللفظ المؤول قابلا للمعنى فواضح‪ .‬وأما‬
‫الشرط الثاني وهو أن يكون المعنى المؤول به متفقاا عليه في‬
‫الجملة بين المختلفين‪ ،‬ولم يقل بالجماع‪ ،‬إذ الجماع على معنى من‬
‫بين معانم محتملة متعذر أو نادر‪ .‬ولهذا فهذا الشرط المراد به أن‬
‫ل يكون المعنى المؤوييل به مطروحاا في الجملة‪ ،‬إذ إن هذا يدل‬
‫على مرجوحيته وأن هناك معارضاا أقوى منه)‪. (1‬‬
‫النسخ‪:‬‬
‫مر عند تعريف المحكم والمتشابه أن المحكم له إطلقان عاما‬
‫وخاص‪ .‬فهو يقابل المتشابه بالطلق العاما ويقابل المنسوخ‬
‫بالطلق الخاص‪ .‬وقد قال الشاطبي في تعريف النسخ‪» :‬قالوا في‬
‫حد النسخ‪ :‬إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر«هل)‪. ( 2‬‬
‫وكما ل يقع التشابه في الكليات‪ ،‬فل يقع فيها النسخ أيضاا‪.‬‬
‫قال‪» :‬والقواعد الكلية من الضروريات الحاجيات والتحسينيات لم‬
‫يقع فيها نسخ‪ ،‬وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل‬
‫الستقراء«هل)‪. (3‬‬
‫والنسخ ل يكون إل في جزئيات راجعة إلى كليات‪ ،‬أي في‬
‫فروع‪ ،‬لنها إذا لم تكن راجعة إلى كليات فإن إعمالها لم يثبت‪ ،‬وما‬
‫لم يثبت ل يتصور له نسخ‪ .‬وكذلك فإن المنسوخ بالنسبة إلى‬
‫المحكم في الشريعة قليل‪ .‬قال‪» :‬فإن الستقراء يبين أن الجزئيات‬
‫الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي‬
‫محكماا قليلة«هل)‪ . (4‬ويلحظ في هذا النص استعماله تعبير‬
‫»الجزئيات الفرعية«هل‪.‬‬
‫ومثلما أن المنسوخ يجبِّ أن يكون تحقق ثبوته في الشرع‪،‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/61 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/64 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/70 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/63 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪423‬‬
‫فكذلك الناسخ‪ ،‬وثبوته بأن يكون راجعاا إلى معنى قطعي‪ .‬قال‪:‬‬
‫»إن الحكاما إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها ل يكون إل‬
‫بأمر محقق لن ثبوتها على المكلف أولا محقق‪ ،‬فرفعها بعد العلم‬
‫بثبوتها ل يكون إل بمعلوما محقق«هل )‪. (1‬‬
‫وبما أن النازل في الشريعة في مكة هو الكليات‪ ،‬وما كان من‬
‫الفروع فقليل‪ ،‬لذلك فعند الجتهاد والستنباط يجبِّ أن يكون‬
‫الميل إلى استبعاد النسخ فيما نزل بمكة‪ .‬ثم عمم هذا القول على‬
‫سائر الحكاما مكية كانت أو مدنييية‪ .‬قال‪» :‬فاقتضى هذا أن ما‬
‫كان من الحكاما المكية يديعى نسخه ل ينبغي قبول تلك الدعوى‬
‫فيه إل مع قاطع بالنسخ بحيث ل يمكن الجمع بين الدليلين ول‬
‫دعوى الحكاما فيهما«هل)‪ . ( 2‬ثم قال‪» :‬وهكذا يقال في سائر الحكاما‬
‫مكية كانت أو مدنية«هل )‪. ( 3‬‬
‫الوأامإر وأالنواهي‪:‬‬
‫الوامر والنواهي من مباحث القرآن والسنة‪ .‬والمراد ببحثها‬
‫هنا الشارةا إلى منهج الشاطبي في تعيين معاني النصوص أو الصيغ‪.‬‬
‫فقد تأتي الصيغة ظاهرها التكليف والمراد بها غير ذلك‪ .‬وقد يراد‬
‫منها التكليف أمراا أو نهياا‪ ،‬ولكن ينبغي تعيين المراد بالمر هل هو‬
‫الوجوب أو الندب أو الباحة‪ ،‬والمراد بالنهي هل هو التحريم أو‬
‫الكراهة‪ .‬وكذلك يأتي اللفظ ويحتاج الناظر إلى تعيين معناه‪ ،‬هل‬
‫هو على الحقيقة أو مجاز أو فيه إضمار أو غير ذلك‪ .‬وكذلك‬
‫فإن للحكاما مقاصد‪ ،‬فهل هذه المقاصد معتبرةا في المر والنهي‪.‬‬
‫ومن هذه الدللت ما أشير إليه سابقاا‪ ،‬خاصة في مبحث قصد‬
‫الشارع في وضع الشريعة للفهاما)‪ . (4‬ومنها ما سيأتي في مبحث‬

‫المصدر نفسه‪. 3/64 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫ا لموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أنظر‪ :‬المبحث الثالث من الفصل الرابع‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪424‬‬
‫قاعدةا سد الذرائع )‪ . (1‬وما سنتحدثا عنه هنا هو منهج الشاطبي‬
‫عموماا في تعيين معاني صيغ المر والنهي‪.‬‬
‫إن المر يقتضي إيقاع الفعل‪ ،‬والنهي يقتضي الكف عن الفعل‪،‬‬
‫وهذا بغض النظر عن المقصود بالفعل أو الكف‪ .‬فالفعل أو الكف‬
‫عنه هو أول مقاصد الشارع من المر والنهي )‪ . (2‬قال‪» :‬إن معنى‬
‫المر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك‪ .‬ومعنى القتضاء‬
‫الطلبِّ‪ ،‬والطلبِّ يستلزما مطلوباا‪ ،‬والقصد ليقاع ذلك المطلوب‪ ،‬ول‬
‫معنى للطلبِّ إل هذا«هل)‪ . (3‬إلى أن قال‪» :‬والمر في هذا أوضح من أن‬
‫يستدل عليه«هل)‪. (4‬‬
‫فإذا جاءت الوامر والنواهي بما ل يقع تحت القــدرةا كقــوله‬
‫)‪( 5‬‬
‫تعالى ‪ ، ]      [ :‬أو [ ‪  ‬‬
‫‪ . ( 6) ]  ‬أو بما علمنا أن التكليف بــه ل ي قــع فــي‬
‫)‪(7‬‬
‫شــريعتنا كقــوله تعــالى‪ ، ]    [ :‬أو [ ‪‬‬
‫‪ ، (8)]     ‬فهذا ل يعني إلغاء التكليف أو‬
‫عدما إعمال النصوص‪ ،‬أو إهمال ال صــيغ‪ .‬وإن مــا أن ال مــر لــم ي كــن‬
‫تكليفاا في الصل‪ ،‬والصيغ والنصوص لم يكن من معاني هــا التكليـف‪،‬‬
‫وإنما كان التهديد أو التيئيس أو التعجيز‪ ،‬وهذا من معاني الصــيغ‬
‫أنفسها‪ ،‬وهو من قبيل إعمال الجزئيات والكليات معاا لجــل تعييــن‬
‫المعنى المراد)‪ . (9‬قال‪» :‬وأما أمر التعج يــز والتهد يــد فل يــس فــي‬

‫) ( المبحث الثالث من الفصل التاسع ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( وقد تبين هذا معنا في المبحث الول من الفصل الخامس‪ .‬وهــو قصــد‬ ‫‪2‬‬

‫التعبد والمتثال‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/73 .‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( سورةا آل عمران‪. 102 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( سورةا السراء‪. 50 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( سورةا الكهف‪. 29 ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫) ( سورةا السراء‪. 107 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫) ( وقد تحدثنا عن هذا المر في المبحث الول من الفصل الخامس ‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪425‬‬
‫الحقيقة بأمر وإن قيل إنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدما‪ ،‬إذ المر وإن‬
‫كان مجازياا فيستلزما قصداا‪ ،‬به يكون أمراا فيتصور وجه المجــاز‬
‫وإل فل يكون أمراا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه«هل)‪. (1‬‬
‫والوامر والنواهي تفيد دللتها‪ ،‬أي مق ت ضياتها وهي الحكاما‪،‬‬
‫والحكاما لها مقاصدها وهي المصالح‪ .‬ولكن هذه الخيرةا ل تقع إل‬
‫ضمن إيقاع ما طلبِّ إيقاعه والكف عما طلبِّ الكف عنه‪ .‬إذ إن الحكم‬
‫الشرعي بالنسبة للمقصود به كالصل بالنسبة للفرع‪ .‬ول يصح أن‬
‫يعود الفرع على الصل بالبطال‪.‬‬
‫وإذا ظينيي في الوامر والنواهي ما قصد فيه الشارع المحافظة‬
‫على الحكمة أو المصلحة ولو أدى ذلك إلى إهمال صيغة المر أو‬
‫النهي‪ ،‬فليس المر كذلك‪ ،‬وإنما ذلك يرجع إلى أن الصيغ منها ما‬
‫يكون معناه مقصوراا على الحقيقة ومنها ما يكون مجازياا‪ .‬وإعمال‬
‫المجاز بدل الحقيقة ليس إهمالا للنص أو الصيغة وإنما هو عين‬
‫إعمالها‪ .‬ولكن الذي ينبغي الهتماما به هو كيفية تعيين المقصود‪:‬‬
‫الحقيقة أما المجاز‪ .‬وهذا يكون بإعمال الجزئيات والكليات معاا‪،‬‬
‫وبالقرائن الحالية والمقالية‪.‬‬
‫يقول‪» :‬الوامر والنواهي ضربان‪ :‬صريح وغير صريح‪ .‬فأما‬
‫الصريح فله نظران‪ :‬أحدهما من حيث مجرده ل يعتبر فيه علة‬
‫مصلحية وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد‬
‫المحض من غير تعليل فل فرق عند صاحبِّ هذا النظر بين أمر‬
‫وأمر ول بين نهي ونهي«هل )‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬ل يخلو أن نعتبر في الوامر والنواهي المصالح أو ل‪.‬‬
‫فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوفَّ مع مجردها وإن اعتبرناها‬
‫فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الوامر‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/74 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/85 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪426‬‬
‫والنواهي‪ .‬فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون‬
‫بها على التفصيل‪ .‬فقد علمنا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر‬
‫بكونه في المحصن الرجم دون ضرب العنق أو الجلد إلى الموت أو‬
‫إلى عدد معلوما أو السجن أو الصوما أو بذل مال كالكفارات‪ ،‬وفي‬
‫غير المحصن جلد مائةم وتغريبِّ عاما دون الرجم أو القتل أو زيادةا‬
‫عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه‬
‫الزجر الممكنة في العقل‪ .‬هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة‬
‫فيما حد فيه على الخصوص دون غيره‪ .‬وإذا لم نعقل ذلك ول‬
‫يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حيدي من ذلك مصلحة ل‬
‫نعلمها‪ ،‬وهكذا يجري الحكم في سائر ما يعقل معناه‪ .‬أما التعبدات‬
‫فهي أحرى بذلك‪ .‬فلم يبق لنا إذاا وزر دون الوقوفَّ مع مجرد‬
‫الوامر والنواهي‪ .‬وكثيراا ما يظهر لنا ببادئ الرأي للمر والنهي‬
‫معنى مصلحي ويكون في نفس المر بخلفَّ ذلك يبينه نص آخر‬
‫يعارضه فل بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك‬
‫المعنى‪ .‬وأيضاا فقد ميري في كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي ل بد‬
‫فيه من معنى تعبدي‪ ،‬وإذا ثبت هذا لم يكن لهماله سبيل فكل معنى‬
‫يؤدي إلى عدما اعتبار مجرد المر والنهي ل سبيل إلى الرجوع إليه‪.‬‬
‫فإذاا‪ ،‬المعنى المفهوما للمر والنهي إن كيري عليه بالهمال فل‬
‫سبيل إليه‪ ،‬وإل فالحاصل الرجوع إلى المر والنهي دونه‪ ،‬فآل المر‬
‫في القول باعتبار المصالح إنه ل سبيل إلى اعتبارها مع المر‬
‫والنهي وهو المطلوب«هل)‪. (1‬‬
‫ويذنكير الشاطبي حالت قد ييعنتيريضي بها علــى قــوله أعله‬
‫حيث ييظين أن المصالح أو المعاني المقصودةا بالحكــاما أولــى مــن‬
‫ظاهر النص أو الصيغة‪ .‬يقول‪» :‬ول ييقال إن عــدما اللتفــات إلــى‬
‫المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل ل‬
‫يجوز الوضوء بالماء الذي بالي فيه النسان‪ ،‬فإن كان قــد بــال فــي‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 87 - 3/86 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪427‬‬
‫إناء ثم صبه في الماء جاز الوضوء به«هل)‪ ، (1‬وذلك لن النهي هنا عــن‬
‫المر الثاني ليس آتياا من ا تباع المعاني‪ ،‬أي معاني الحكــاما‪ ،‬وإنمــا‬
‫هو من دللة الصيغة نفسها‪ ،‬فهذا نوع من أنواع الدللة اللغويــة)‪. (2‬‬
‫قال‪» :‬فاتباع أنفس الصيغ التي هي الصل واجبِّ لنها مع المعــاني‬
‫كالصل مع الفرع‪ .‬ول يصح اتباع ال فــرع مــع إل غــاء ال صــل«هل)‪. (3‬‬
‫ولكن معنى الصيغة هو الذي يجبِّ النظر فيه‪ ،‬فدللتها ليست قطعية‪،‬‬
‫لذلك يجبِّ أن تفهم بحسبِّ أمور أخرى ييستعان بها‪ ،‬قال‪» :‬والثاني‬
‫من النظرين هو من حيث يفهم من الوامر والنواهي قصــد شــرعي‬
‫بحسبِّ الستقراء وما يقترن بها من القرا ئــن الحال يــة أو المقال يــة‬
‫الدالــة علــى أعيــان المصــالح فــي المــأمورات والمفاســد فــي‬
‫المنهيات«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬كما أنه قد يفهم من مغزى المــر والنهــي‬
‫الباحة وإن كانت الصيغة ل تقتضي بوضعها الصلي ذلك‪ .‬كقوله‬
‫تعالى‪   [ ،    [ :‬‬
‫‪5‬‬ ‫(‬ ‫)‬

‫‪ . (6) ]   ‬إذ عيلقمي قطعاا أن مقصود الشارع ليس‬


‫ملبسة الصطياد عند الحلل ول النت شــار ع نــد انق ضــاء ال صــلةا‪،‬‬
‫وإنما مقصوده أن سببِّ المنع من هذه الشياء قد زال وهــو انقضــاء‬
‫الصــلةا وزوال حكــم الحــراما‪ ،‬فهــذا النظــر يعضــده الســتقراء‬
‫أيضاا«هل )‪. (7‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/87 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( وذلك كما في قوله تعالى‪ ]     [ :‬السراء‪ ، 23 ،‬فهو‬ ‫‪2‬‬

‫يتضمن نهياا عن الضرب وهذا تنبيه بالدنى علــى العلــى ف هــو مـن دللت‬
‫اللغة‪ .‬وكذلك كما فــي قــوله ت عــالى‪]   [ :‬‬
‫النساء‪ ، 20 ،‬فهو تنبيه بالعلى على الدنى‪ ،‬وكذلك قــوله ت عــالى‪ [ :‬‬
‫‪ ]     ‬الزلزلة ‪ ، 7‬فالدللة على ما لم يذكر‬
‫هي من دللت الصيغة‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/87 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/88 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( سورةا المائدةا‪. 2 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( سورةا الجمعة‪. 10 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/88 ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪428‬‬
‫أي أن الصيغة »اصطادوا«هل و»انتشروا«هل هي صيغة المر‪،‬‬
‫ولكن المقصود بالنص ليس المر وإنما الباحة‪ ،‬وهذا ليس من اتباع‬
‫معاني الحكاما أو المصالح وإنما هو معنى النص‪ .‬أي بناء على‬
‫مقصود الشارع بالخطاب وليس بالتشريع‪.‬‬
‫لذلك ل بد من كيفية لفهم الوامر والنواهي‪ ،‬ومنهج‬
‫الشاطبي في ذلك هو إرجاع الجزئيات إلى معانم قطعية وإعمال‬
‫الجزئيات والكليات معاا والستقراء للمعاني‪ ،‬والستعانة بالقرائن‬
‫الحالية والمقالية‪.‬‬
‫وقال‪» :‬بل نقول‪ :‬كلما العرب على الطلق ل بد فيه من‬
‫اعتبار معنى المساق في دللة الصيغ وإل صار ضحكةا وهزأةاا‪ ،‬أل‬
‫ترى إلى قولهم فلن أسد أو حمار أو عظيم الرماد أو جبان الكلبِّ‪،‬‬
‫وفلنة بعيدةا مهوى القرط وما ل ينحصر من المثلة‪ ،‬لو اعتبر‬
‫اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول‪ ،‬فما ظنك بكلما ال وكلما‬
‫رسوله ‪ ، ‬وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء‬
‫الدائم وصبه من الناء فيه«هل)‪. (8‬‬
‫العموم وأالخصوص‪:‬‬
‫يختلف مفهوما العموما والخصوص عند الشاطبي عن المعهود‬
‫في علم أصول الفقه بشكل كبير‪ ،‬وهو وإن استعمل هذين التعبيرين‬
‫في كتابه‪ ،‬فله قصد مختلف عن سائر علماء الصول‪.‬‬
‫فالعموما عنده هو من خواص الكليات‪ ،‬والكليات ل تستفاد إل‬
‫بالستقراء‪ ،‬والكليات جاريةي باطراد في الجزئيات ول تتخلف‪.‬‬
‫لذلك فالكليات ل تخصص‪ .‬فإذا استعمل الشاطبي هذين اللفظين‬
‫كما في قوله مثلا إن الضرورات تخصصها الحاجيات فبمعنىا‬
‫سيتبين‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإن مسألة صيغ العموما وهل أن للعموما صيغة أو‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 91 - 3/90 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪429‬‬
‫ل ليست أمراا ذا بالم عند الشاطبي لن العموما هو عموما المعنى‬
‫الكلي‪ ،‬وهذا قطعي‪ ،‬والصيغ إن أفادت عموماا بحسبِّ الوضع اللغوي‪،‬‬
‫فإن الدللت القطعية ل تثبت بآحاد النصوص عنده‪ .‬يقول‪» :‬ول بد‬
‫من مقدمةم تبين المقصود من العموما والخصوص ههنا‪ ،‬والمراد‬
‫العموما المعنوي كان له صيغة مخصوصة أو ل‪ ،‬فإذا قلنا في وجوب‬
‫الصلةا أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره إنه عاما‬
‫فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الطلق والعموما بدليل فيه‬
‫صيغة عموما أو ل بناءا على أن الدلة المستعملة هنا إنما هي‬
‫الستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم حسبما تبين في‬
‫المقدمات‪ ،‬والخصوص بخلفَّ العموما«هل)‪. (1‬‬
‫وبما أن العاما معناه أنه ثابت على الطلق والعموما اعتماداا‬
‫على الستقراء المفيد للقطع‪ ،‬فهذا يعني هنا أن العاما قطعي‪ ،‬وأنه‬
‫يجري في كل جزئياته‪ ،‬وأنه ل يحصل نسخ له‪ ،‬ول لبعضه‪،‬‬
‫فالكليات ل نسخ فيها كما تبيين سابقاا‪ .‬والتخصيص بمعنى رفع‬
‫الحكم عن بعض الجزئيات أو في بعض الحالت يعد نقضاا‬
‫للستقراء‪ ،‬لذلك فل وجود للتخصيص بهذا المعنى‪ ،‬يقول‪» :‬إذا‬
‫ثبتت قاعدةا عامة أو مطلقة فل تؤثر فيها قضايا العيان ول حكايات‬
‫الحوال‪ ،‬والدليل على ذلك أمور‪ :‬أحدها‪ :‬أن القاعدةا مقطوع بها‬
‫بالفرض لنا نتكلم في الصول القطعية الكلية‪ ،‬وقضايا العيان‬
‫مظنونة أو متوهمة‪ ،‬والمظنون ل يقف للقطعي ول يعارضه‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬أن القاعدةا غير محتملة لستنادها إلى الدلة القطعية‪،‬‬
‫وقضايا العيان محتملة لمكان أن تكون على غير ظاهرها أو على‬
‫ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناةا من ذلك الصل فل يمكن والحالة‬
‫هذه إبطال كلية القاعدةا بما هذا شأنه‪ .‬والثالث‪ :‬أن قضايا العيان‬
‫جزئية والقواعد المطردةا كليات ول تنهض الجزئيات أن تنقض‬
‫الكليات«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬والرابع‪ :‬أنها لو عارضتها فإما أن يعمل‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/149 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/150 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪430‬‬
‫معاا أو يهمل‪ ،‬أو يعمل بأحدهما دون الخر‪ ،‬أعني في محل‬
‫المعارضة‪ .‬فإعمالهما مع اا باطل‪ .‬وكذلك إهمالهما لنه إعمال‬
‫للمعارضة فيما بين الظني والقطعي‪ ،‬وإعمال الجزئي دون الكلي‬
‫ترجيح له على الكلي وهو خلفَّ القاعدةا فلم يبق إل الوجه الرابع‬
‫وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب«هل)‪. (1‬‬
‫لذلك يطرح الجزئي لنه عارض كلياا‪ ،‬وقد تبيين سابقاا أن‬
‫الجزئي ل يعمل به إل إذا كان راجعاا إلى معنى قطعي‪ ،‬أي إلى‬
‫كلي‪ ،‬وفي ما نحن فيه من معارضة الجزئي للعاما‪ ،‬فإذا لم يكن‬
‫الجزئي راجعاا إلى قطعي‪ ،‬فليس ثمة إشكال‪ ،‬أما إن كان الجزئي‬
‫راجعاا إلى قطعي‪ ،‬فالتعارض هنا هو من قبيل تعارض الكليات أي‬
‫القطعيات‪ ،‬وهذا المر ل يقع‪ .‬فلم يبق أن يكون رفع التعارض هنا‬
‫إل بالتخصيص‪ ،‬وذلك بأن يستثنى من العاما المواضع أو الحالت‬
‫التي جاء لها الجزئي‪ ،‬أو أن يكون للتخصيص معنىا آخر‪ ،‬وبما أن‬
‫رفع تطبيق العاما عن بعض المواضع أو في بعض الحالت يعد نقضاا‬
‫للكلي‪ ،‬فلم يبق إل المعنى الخر‪ .‬لذلك نجد الشاطبي يستعمل‬
‫التخصيص‪ ،‬ولكنه ل يقصد به ما قصده الصوليون‪ ،‬وإنما يقول إن‬
‫التخصيص مجازي ل حقيقي‪ .‬يقول‪» :‬عمومات العزائم وإن ظهر‬
‫بادئ الرأي أن الرخص تخصصها فليست بمخصصة لها في الحقيقة‪،‬‬
‫بل العزائم باقية على عمومها وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها‬
‫فإطلق مجازي ل حقيقي«هل)‪ . (2‬والرخص المقصودةا هنا هي الرخص‬
‫الراجعة إلى كليات من قسم الحاجيات مثل رفع الحرج أو الضرر‬
‫أو ما ل يطاق‪ ،‬فالترخص هنا هو من قبيل العزيمة‪ ،‬وليس من قبيل‬
‫المسمى الخر للرخصة الذي هو المواضع المنصوصة والتي ل‬
‫ترجع إلى كليات)‪ . (3‬لذلك فالتخصيص المذكور أعله هو‬
‫تخصيص العزائم برخص من قبيل ما ل يطاق‪ ،‬كقياما من ل يستطيع‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/150 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/165 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬الفصل الخامس‪ ،‬المبحث الول‪ ،‬ص‪. 236 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪431‬‬
‫القياما في الصلةا‪.‬‬
‫فنحن هنا أماما كليين ظاهرهما التعارض‪ ،‬والتوفيق بينهما‬
‫بأن يخصص أحدهما أو كل واحد منهما الخر ممنوع عند‬
‫الشاطبي‪ .‬وجواب الشاطبي هو أن حقيقة هذا التخصيص أنه بيان‪،‬‬
‫أي أن العاما القطعي لم يكن في الساس متناولا لتلك الجزئية ول‬
‫منطبقاا عليها‪ ،‬والجزئي المعارض في الظاهر ليس بمعارض‬
‫حقيقةا‪ ،‬لنه في الساس ليس مندرجاا تحت ذلك العاما‪ ،‬لذلك‬
‫فمعارضته للعاما ليست استثناءا لبعض ما دل عليه العاما‪ ،‬وإنما هو‬
‫بيان لما دل عليه العاما‪ ،‬أي أن العموما لم يتناوله أصلا‪ ،‬ومن هذا‬
‫الجزئي يزيد البيان والتوضيح لحدود ذلك العموما‪ .‬لذلك قال‪:‬‬
‫»فأحكاما تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص وإن‬
‫أطلق عليها أن العذار خصصتها فعلى المجاز ل على الحقيقة«هل )‪. (1‬‬
‫ويورد الشاطبي أمثلة لتأكيد رأيه‪ ،‬وفيما يلي واحدي منها‬
‫للتوضيح‪:‬‬
‫[ ‪   ‬‬ ‫قال‪» :‬ومثل ذلك أنه لما نزلت‪:‬‬
‫‪ ، (2)]    ‬قال بعض الكفار‪ :‬فقد عبدت الملئكة‬
‫وعبد المسيح‪ .‬فنزل‪       :‬‬
‫‪ ، (3)‬الية«هل)‪ . (4‬يشير الش ـ اطبي بهذا إلى من يعترض عليه ويقول إن‬
‫التخصيص بمعنى رفع بعض مــا يت نــاوله الل فــظ ال عــاما وا قــع فــي‬
‫الشريعة بدليل أن النص الول دل على تعذيبِّ من ييعبد من دون ال‪،‬‬
‫وأن النص الثاني جــاء ليس ـــتثني ب عــض المعبــودين مــن الت عــذيبِّ‬
‫كالملئكة والمسيح‪ ،‬فيرد الشاطبي هذا القول ويؤكد رأيه‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫»وأما قوله‪ ]    [ :‬الية‪ ،‬فقد أجاب الناس عن‬
‫اعتراض ابن الزبعر ى فيها بجهله بموقعها‪ ،‬وما روي في الموضع أن‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/167 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا النبياء‪. 98 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا‪ ،‬النبياء‪. 101 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/156 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪432‬‬
‫النبي ‪ r‬قـال لـه‪» :‬مإا أجأهلك بلغة قومإك يا غــــلم«)‪ ، (1‬لنـه‬
‫جـاء في اليـة‪ ، ]    [ :‬وما لما ل يعقل فكيف‬
‫تشمل الملئكة والمسيح«هل)‪ . (2‬وهكذا فإن النص أصــلا ل يـدخـــل‬
‫في معنـاه الملئكة ول المسـيــح‪ .‬لذلـك فمجيء النص الثاني ‪ :‬‬
‫‪       ‬هو بيـان ومزيــد‬
‫توضيح‪ ،‬وليس رفعاا أو نسخاا لبعض ما تناوله اللفظ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالشاطبي يرد التخصيص الذي يقول به علماء‬
‫الصول‪ ،‬سواء كان تخصيصاا بالمتصل أو بالمنفصل‪ ،‬يقول‪» :‬وإذا‬
‫تقرر ما تقدما فالتخصيص إ ما بالمنفصل أو بالمتصل ‪ ،‬فإن كان‬
‫بالمتصل كالستثناء والصفة والغاية وبدل البعض واشباه ذلك‬
‫فليس في الحقيقة بإخراجم لشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في‬
‫عموما اللفظ أن ل يتوهم السامع منه غير ما قصد وهو ينظر إلى‬
‫قول سيبويه زيد الحمر عند من ل يعرفه كزيد وحده عند من‬
‫يعرفه«هل )‪ . (3‬ثم قال‪» :‬وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك‬
‫أيضاا راجع إلى بيان المقصود في عموما الصيغ حسبما تقدما في‬
‫رأس المسألة ل أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره‬
‫الصوليون«هل )‪. (4‬‬
‫ولجل تأكيد رأيه‪ ،‬فإنه يعمد إلى بيان أمر‪ ،‬وهو أن الصيغ‬

‫) ( لم أجده ل بنصه ول بمعناه‪ .‬والمعنى الذي يرد هنا هو عكس ما ذهبِّ‬ ‫‪1‬‬

‫إليه الشاطبي‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬يقول القرطبي‪ » :‬هــذه ال يــة أ صــل فــي‬
‫القول بالعموما‪ ،‬وأن له صيغاا مخصوصة‪ ،‬خلفاا لمن قال‪ :‬ليست له صــيغة‬
‫موضوعه للدللة عليه‪ ،‬وهو باطل بما دلت عليه هذه ال يــة وغير هــا‪ ،‬ف هــذا‬
‫عبد ال بن الزبعرى قد فهم » ما« في جاهليته جميع مــن عيبقــدي‪ ،‬ووافقــه‬
‫على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء‪ ،‬واللسن البلغاء‪ ،‬ولو لم تكن للعموما‬
‫لما صح أن يستثني منها‪ ،‬وقد وجد ذلك فهي للعموما وهذا واضح« الجامع‬
‫لحكاما القرآن‪ . 11/343 ،‬عند تفسير قوله تعالى [ ‪  ‬‬
‫]الية‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/158 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/162 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/163 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪433‬‬
‫الموضوعة للعموما في اللغة‪ ،‬قد يفهم منها البعض عموماا بحسبِّ‬
‫الوضع اللغوي‪ ،‬فإذا وجد نصاا شرعياا معارضاا‪ ،‬يتوهم أن هذا‬
‫تخصيص بمعنى رفع لبعض المدلول اللغوي‪ ،‬فيبين أن المعتمد في‬
‫دللت اللفاظ والتراكيبِّ هو المعنى الستعمالي وليس المعنى‬
‫الوضعي‪ ،‬وقد تبيين هذا في المبحث الثالث من الفصل الرابع‪.‬‬
‫ويبين الشاطبي أن هذا هــو أ حــد أ ســباب الخلفَّ بي نــه وب يــن‬
‫الصوليين في معنى التخصيص‪ ،‬ي قــول‪» :‬ل كلما فــي أن للع مــوما‬
‫صيغاا وضعيةا«هل)‪ . (1‬ثم يقول‪» :‬وذلك أن للعموما الذي تــدل عل يــه‬
‫الصيغ بحسبِّ الوضع نظرين‪ :‬أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصــيغة‬
‫في أصل وضعها على الطلق وإلى هــذا الن ظــر ق صــد ال صــوليون‪،‬‬
‫فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس و ســائر المخص صــات‬
‫المنفصلة‪ ،‬والثاني بحسبِّ المقاصد الستعمالية التي تقضي العوا ئــد‬
‫بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلفَّ ذلك‪ .‬وهذا العتبار‬
‫استعمالي ‪ ،‬والول قياسي«هل)‪ . (2‬وعقبِّ قائلا‪» :‬والقاعدةا في الصول‬
‫العربية أن الصل الستعمالي إذا عارض الصل القياسي كان الحكم‬
‫للستعمالي«هل)‪ . (3‬وفهم المعنى الستعمالي يحتاج إلــى ف هــم أ ســباب‬
‫النزول والقرائن الحالية والمقالية‪ ،‬وأساليبِّ ال عــرب فــي الت عــبير‬
‫وفي فهم اللفاظ والتراكيبِّ‪ .‬وحينــذاك فــإن مــا يــورده الب عــض‬
‫اعتراضاا على رده للتخصيص‪ ،‬يرده هو بناء علــى أن الع مــوما الــذي‬
‫فهموه غير موجود أصلا‪ .‬وفي المثال المذكور سابقاا عنــد قــوله‬
‫تعالى‪ ]         [ :‬يضيف‬
‫إلى ما قاله من أن ما هي لغير العاقل فل تشمل الملئكة والمســيح‪،‬‬
‫يضيف‪» :‬والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخ طــاب ظــاهره أ نــه‬
‫لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملئكة ول المسيح‪ ،‬وإنما كانوا‬
‫يعبدون الصناما‪ ،‬فقوله‪ ]   [ :‬عاما فــي ال صــناما الــتي‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/153 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪434‬‬
‫كانوا يعبدون فلم يدخل في العموما الستعمالي غ يــر ذ لــك‪ ،‬ف كــان‬
‫ا عــتراض الم عــترض جهلا منــه بالم ســاق وغفلــة ع مــا ق صــد فــي‬
‫اليات«هل )‪. (1‬‬
‫ومن أقوال الشاطبي في هذا المر‪» :‬إن العرب تطلق ألفاظ‬
‫العموما بحسبِّ ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلما خاصة‬
‫دون ما تدل عليه تلك اللفاظ بحسبِّ الوضع الفرادي‪ ،‬كما أنها‬
‫تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع وكل ذلك‬
‫مما يدل عليه مقتضى الحال«هل )‪. (2‬‬
‫ومن أمثلة التخصيص الذي يرده هنا‪ ،‬التخصيص بالعقــل فــي‬
‫قوله تعالى‪ . (3) ]     [ :‬فالعقل يحيل أن تكون ذاته‬
‫أو شيء من صفاته سبحانه وتعالى مخلوقاا‪ ،‬لذلك فالعقل يخصص‬
‫عموما لفظ كل‪ .‬والشاطبي يرد هذا القول‪ ،‬فيرى أن لفظ كــل فــي‬
‫هذا السياق ل يتناول ذات الباري أو شيئاا في صفاته تعالى‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫»فإن المتكلم فد يأتي بلفظ عموما مما يشمل بحسبِّ الوضــع نفســه‬
‫وغيــره‪ ،‬و هــو ل ير يــد نف ســه ول ير يــد أنــه دا خــل فــي مقت ضــى‬
‫العموما«هل )‪ . (4‬ويقول‪» :‬فكذلك ل يدخل شــيء مــن صــفات البــاري‬
‫تعالى تحت الخبار في نحو قوله ت عــالى‪ ]   [ :‬لن‬
‫العرب ل تقصد ذلك ول تنويه«هل)‪. (5‬‬
‫ويؤكد الشاطبي أنه يعارض الصوليين قبله في قوله‬
‫بالتخصص ويعترض عليهم‪ .‬يقول‪» :‬فإن قيل‪ :‬وهكذا يقول‬
‫الصوليون إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورةا فإنه‬
‫رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموما الصيغة في فهم السامع‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/158 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 154 - 3/153 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا الزمر‪. 62 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/154 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪435‬‬
‫وليس بمراد الدخول تحتها وإل كان التخصيص نسخاا«هل)‪ . (1‬إلى أن‬
‫يقول‪» :‬فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الصوليون؟«هل‬
‫)‪ . (2‬يجيبِّ الشاطبي‪» :‬فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر‪ ،‬وذلك أن‬
‫ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل‬
‫الستعمال العربي أو الشرعي‪ .‬وما ذكره الصوليون يرجع إلى‬
‫بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموما إلى الخصوص‪ .‬فنحن‬
‫بينا أنه بيان لوضع اللفظ‪ ،‬وهم قالوا إنه بيان لخروج اللفظ عن‬
‫وضعه‪ ،‬وبينهما فرق«هل)‪. (3‬‬
‫وقال‪» :‬فإن قيل‪ :‬حاصل ما مر أنه بحث في عبارةا والمعنى‬
‫متفق عليه‪ ،‬ومثله ل ينبني عليه حكم‪ .‬فالجواب أن ل بل هو بحث‬
‫فيما ينبني عليه أحكاما«هل)‪ . (4‬وقال في منهج الصوليين في‬
‫التخصيص إنه شنيع‪ .‬قال‪» :‬ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى‬
‫شناعةم أخرى)‪ ، (5‬وهي أن عمومات القرآن ليس فيها ما هو معتد به‬
‫في حقيقته من العموما وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص‪ ،‬وفيه ما‬
‫يقتضي إبطال الكليات القرآنية وإبطال الستدلل به جملة إل بجهة‬
‫من التساهل وتحسين الظن ل على تحقيق النظر والقطع بالحكم‪،‬‬
‫وفي هذا إذا تؤميقل توهين الدلة الشرعية‪ ،‬وتضعيف الستناد‬
‫إليها«هل)‪ . (6‬ثم خلص إلى القول‪» :‬فالحق في صيغ العموما إذا وردت‬
‫أنها على عمومها في الصل الستعمالي بحيث يفهم محل عمومها‬
‫العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع«هل)‪. ( 7‬‬
‫وعلى هذا ينبني موقف الشاطبي‪ ،‬هل يصح العمل بالعاما قبل‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/163 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫والشناعة الولى ‪ -‬بنظره ‪ -‬هي اختلفهم في العاما إذا خص هـل يبقـى‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫حجة بعد التخصيص أيون ل‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 165 - 3/164 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/165 ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪436‬‬
‫البحث عن مخصص أو ل ‪ ،‬إذ قد تكون المسألة الواقعة تحت النظر‬
‫مما خص‪ ،‬فيرى أن العموما إذا وصل حد القطع‪ ،‬فل حاجة للبحث عن‬
‫مخصص‪ ،‬إذ العموما إذا ثبت ـ على منهجه ـ فهذا يكون بالستقراء‬
‫المفيد للقطع فل يعارض ول يرتفع معناه في موضع أو حال‪ .‬أما‬
‫إذا كانت النصوص المفيدةا للعموما لم تتضافر تضافراا يفيد‬
‫القطع‪ ،‬فإن المعنى مما يحتاج إلى مزيد من البحث والستقراء‪،‬‬
‫وهذا البحث يعني البحث عما يوافق أو يعارض‪ ،‬ليصل إلى المعنى‬
‫القطعي وإلى حدود ما يتناوله هذا المعنى‪ .‬يقول‪» :‬العمومات إذا‬
‫اتحد معناها وانتشرت في أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن‬
‫بحسبِّ الحاجة من غير تخصيص فهي مجراةا على عمومها على كل‬
‫حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل«هل)‪ . (1‬وقوله هنا‪» :‬وإن‬
‫قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل«هل‪ ،‬المقصود به هو قبل أن يتكرر‬
‫المعنى ويثبت‪ ،‬وسيتبين هذا فيما يلي‪ .‬يقول‪» :‬وعلى الجملة فكل‬
‫أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلما فهو‬
‫مأخوذ على حسبِّ عمومه«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬فأما إن لم يكن العموما‬
‫مكرراا ول مؤكداا ول منتشراا في أبواب الفقه فالتمسك بمجرده‬
‫فيه نظر‪ ،‬فل بد من البحث عما يعارضه أو يخصصه‪ ،‬وإنما حصلت‬
‫التفرقة بين الصنفين لن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والنتشار‬
‫صار ظاهره باحتفافَّ القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي ل‬
‫احتمال فيه بخلفَّ ما لم يكن كذلك فإنه معرض لحتمالت فيجبِّ‬
‫التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن‬
‫وجود معارض فيه«هل)‪. (3‬‬
‫وما ذكر هنا عن العموما والخصوص ينطبق عنده على الطلق‬
‫والتقييد‪ ،‬لن الكليات من خواصها الطلق والعموما‪.‬‬
‫البيان وأالجأمال‪:‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/174 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪437‬‬
‫وييغني هنا عن معظم هذا البحث ما ذيكر سابقاا تحت عنوان‪:‬‬
‫)الحكاما والتشابه(‪ ،‬إذ المجمل متشابه‪ ،‬والمحكم هو المعنى‬
‫المتعين والثابت والمبييين‪.‬‬
‫وبنـاءا على ذلك فإن الشـريعـة بعـد كمال الديـن وتمـــاما‬
‫النعمة ليس فيها مجمـل مما ينبنـي عليه تكليف‪ .‬يقول‪» :‬الجمال‬
‫إما متعلق بما ل ينبني عليه تكليف وإما غير واقع في الشريعة«هل )‪، (1‬‬
‫وليس مقصوده أنه ليس في الشريعة مجمل مبين‪ ،‬ولكن ليــس في هــا‬
‫بعد كمالها مجمل‪ ،‬وإن وجد فليس فيه تكليف‪ .‬قال‪» :‬فإن وجد في‬
‫الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو مـا ل يف هــم فل يصـح أن يكلــف‬
‫بمقتضاه لنه تكليف بالمحال وطلبِّ ما ل ينـال‪ ،‬وإنمـا يظهـر هـذا‬
‫الجمال في المتشابه الذي قال ال تعالى فيه‪  [ :‬‬
‫] ‪ ،‬ولما بين ال تعالى أن في القرآن متشابهاا بين أيضاا أنه ليس فيه‬
‫تكليف إل اليمان به على المعنى المراد منه ل على ما يفهم المكلــف‬
‫منه«هل)‪. (2‬‬
‫والقرآن يحتوي على الشريعة كلها)‪ ، (3‬وإنمــا كــانت الســنة‬
‫بياناا لما في القرآن‪ ،‬ليس فيها تشريع زائد على ما ف يــه‪ ،‬و كــذلك‬
‫يحصل البيان بما أجمع عليه الصحابة رضوان ال علي هــم‪ .‬وإج مــاع‬
‫الصحابة ليس من قبيل التفاق العقلي‪ ،‬أو غيــره في مــا بين هــم علــى‬
‫شيء يرونه وليس له أصل في الشرع‪ ،‬إذ ل شيء مما يحتاج إلى حكم‬
‫إل وله أصل في الشرع‪ ،‬ولكن الجماع هو اتفاقهم على أن ما جاء في‬
‫الشرع هو كذا‪ ،‬أي إن الجماع يك شــف عــن دليــل‪ .‬قــال ال شــاطبي‪:‬‬
‫»بيان رسول ال ‪ ‬بيان صحيح ل إشكال في صحته لنه لذلك بعث‪،‬‬
‫قال تعالى‪      [ :‬‬
‫‪ ، (4)]  ‬ول خلفَّ فيه ‪ ،‬وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا‬

‫المصدر نفسه‪. 3/197 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/198 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫وهذا ما سي تبي ن في المبحث التالي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا النحل‪. 44 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪438‬‬
‫على ما بينوه فل إشكال في صحته أيضاا«هل)‪. (1‬‬
‫وذلك أن فهم الصحابة أتم من فهم غيرهم وأحرى بالتقديم‪،‬‬
‫وقد شاهدوا من أسباب التنزيل ومن قرائن الحوال ما لم يشاهد‬
‫غيرهم‪ ،‬وهم العرب الفصحاء‪.‬‬
‫قال‪» :‬يترجح العتماد عليهم في البيان من وجهين‪ :‬أحدهما‪:‬‬
‫معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم‪ ،‬ولم‬
‫تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم فهم أعرفَّ في فهم الكتاب والسنة‬
‫من غيرهم«هل )‪ . (2‬ثم قال‪» :‬والثاني‪ :‬مباشرتهم للوقائع والنوازل‬
‫وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة‪ ،‬فهم أقعد في فهم القرائن الحالية‪،‬‬
‫وأعرفَّ بأسباب التنزيل ويدركون ما ل يدركه غيرهم بسببِّ‬
‫ذلك‪ .‬والشاهد يرى ما ل يرى الغائبِّ‪ ،‬فمتى جاء عنهم تقييد بعض‬
‫المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب‪ ،‬هذا إن‬
‫لم ينقل عن أحد منهم خلفَّ في المسألة‪ ،‬فإن خالف بعضهم‬
‫فالمسألة اجتهادية«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬أما إذا علم أن الموضع موضع‬
‫اجتهاد ل يفتقر إلى ذينك المرين فهم ومن سواهم فيه شرع‬
‫سواء«هل )‪. (4‬‬

‫الموافقات‪. 3/195 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/197 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪439‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫مإنهج الشاطبي فـي فهم القرآن‬
‫مإوضأوع هذا المبحث‪:‬‬
‫للشاطبي رأي خاص أو جديد في كيفية تقرير المعاني‬
‫الشرعية‪ ،‬ومن ذلك كيفية تعيين معاني نصوص القرآن الكريم‪،‬‬
‫وهذا بناء على رأيه الذي بيناه سابقاا وهو أن الدليل الشرعي يجبِّ‬
‫أن يكون قطعياا أو راجعاا إلى قطعي‪ ،‬ومعنى ذلك أن المعنى‬
‫المرجوع إليه يجبِّ أن يكون قطعياا‪ ،‬وقد سبق بيان رأيه أيضاا في‬
‫عدما أو تعذر وجود دللة قطعية للنص‪ ،‬وهذا ما ينبني عليه تساؤل‬
‫حول كيفية استدلل الشاطبي بنصوص القرآن الكريم‪ .‬فكون‬
‫الدللة ليست قطعية يعني أن المعاني محتملة‪ ،‬وتعيين معنى دون‬
‫آخر من غير مرجح أو شاهد بالعتبار لهذا المعنى دون غيره ل‬
‫يصح‪ ،‬بل إن هذا المعنى المحتمل أو الظاهر بحسبِّ معاني اللفاظ‬
‫والتركيبِّ ل يصح اعتباره ما لم يكن راجعاا إلى معنى قطعي ثابت‬
‫بالستقراء‪ .‬وبما أنه ل بد من إعمال النصوص ول بد من الجتهاد‬
‫واستنباط الحكاما لجل تحقيق عبودية البشر لخالقهم‪ ،‬لذلك ل بد‬
‫من منهج صحيح لجل تعيين معاني نصوص القرآن الكريم‪ ،‬ولذلك‬
‫ل بد من ضوابط للتفسير ومن وسائل تساعد فيه‪ .‬لجل بيان هذه‬
‫الضوابط وهذه الوسائل وهذا المنهج عند الشاطبي كان هذا‬
‫المبحث‪.‬‬
‫القرآن فيه بيان كل شيء مإن الشريعة‪:‬‬
‫ذهبِّ الشاطبي إلى أن القرآن جامع لكل أح كــاما ال شــريعة‪ ،‬ف مــا‬
‫من مسألة إل ويسـتفاد حكمها من القـرآن‪ ،‬وذهـبِّ إلى أن ما عــداه‬
‫من مصادر للشريعة إنما هو بيـان وشـرح لما فيـه مما قـد يخـفى‬
‫على مـن لم يبلـغ درجـة التحقيــق في العلـم‪ ،‬أو مما قد يشــتبه‬

‫‪440‬‬
‫على النظار والمجتهديـن‪ ،‬فل يــس فــي غي ـــره ز يــادةا عليــه‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫»القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيبِّ المتقدما )‪ ، (1‬فالعــالم‬
‫به على التحقيــق عــالم بجملــة ال شــريعة ول ي عــوزه من هــا شــيء‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أمور ومنها النصوص القرآنية من قوله‪ [ :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫الية‪ ،‬وقوله‪  [ :‬‬ ‫‪]    ‬‬
‫)‪(3‬‬
‫‪ ، ]    ‬وقوله‪   [ :‬‬
‫)‪(4‬‬
‫‪ ، ]    ‬وقوله‪    [ :‬‬
‫‪ ، (5) ]   ‬يعني الطريقة المستقيمة‪ ،‬ولو لم يكمل فيه‬
‫جميع معانيها لما صح إطلق هذا المعنى عليه حقيقة‪ .‬وأشباه ذلك‬
‫من اليات الدالة على أنه هدى وشفاء ل مــا فــي ال صــدور‪ ،‬ول ي كــون‬
‫شفاء لما في جميع الصدور إل وفيه تبيــان كــل شــيء«هل)‪ . ( 6‬و قــال ‪:‬‬
‫»فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة«هل )‪ . (7‬وقال‪» :‬فل ت جــد فــي‬
‫ال ســنة أ مــراا إل وال قــرآن قــد دل علــى معنــاه دللــة إجماليــة أو‬
‫تفصيلية«هل )‪ . (8‬وقال‪» :‬لن ال جعل القرآن تبياناا لكل شيء فيلــزما‬
‫من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة«هل)‪ . (9‬وقــال بعــد أن‬
‫ذكر أقوالا في هذا المر لبعض الصحابة والعلماء‪» :‬ل أحــد مــن‬
‫العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إل وجد لها ف يــه أ صــلا‪ ،‬وأ قــرب‬
‫الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظــواهر الــذين ينكــرون‬
‫القياس ولم يثبت عنهم أنهم ع جــزوا عــن الــدليل فــي م ســألة مــن‬
‫المسائل‪ ،‬وقال ابن حزما الظاهري‪ :‬كل أبواب الفقه ليس منها بــاب‬

‫الترتيبِّ المتقدما‪ :‬سيتبين المراد به خلل هذا المبحث‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا المائدةا‪. 3 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا النحل‪. 89 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا النعاما‪. 38 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا السراء‪. 9 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/218 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/219 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫‪441‬‬
‫إل وله أصل في الكتاب والسنة )‪ (1‬نعلمه والحمد ل حــاش القــراض‬
‫فما وجدنا له أصلا فيهما البتة إلى آ خــر مـا قــال‪ .‬وأنــت تعلــم أن‬
‫القراض نوع من أنواع الجارةا وأصل الجارةا في القرآن ثابت‪ ،‬وبين‬
‫ذلك إقراره عليه الصلةا والسلما وعمل الصحابة به«هل)‪. ( 2‬‬
‫وإذا كان القرآن فيه بيان كل شيء من الشريعة‪ ،‬فهــو جــامع‬
‫لها مع أن نصوصه متناهية‪ ،‬لذلك فإن تعريفه بالحكــاما الشــرعية‬
‫ليس نصاا على أعيان المسائل والوقائع وإنما هــو تعر يــف بقوا عــد‬
‫كلية‪ .‬قال‪» :‬فالقرآن على اختصـاره جـامع ول يكـون جامعـاا إل‬
‫والمجموع فيه أمور كليات لن الشريعة تمت بتماما نزو لــه ل قــوله‬
‫تعالى‪ ، (3) ]     [ :‬وأنت تعلم أن الصلةا‬
‫والزكاةا والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها ف ي القـرآن‬
‫وإن مــا بينت هــا ال ســنة‪ ،‬و كــذلك العاديــات مــن النك حــة والع قــود‬
‫والقصاص والحدود وغيرها‪ .‬وأيضاا فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة‬
‫إلى كلياتها المعنوية‪ ،‬وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهي‬
‫الضروريات والحاجيات والتحسينيات‪ ،‬ومكمل كل واحد منها‪ ،‬وهذا‬
‫كله ظاهر أيضاا«هل)‪. (4‬‬
‫الحاجأة إلى تفسير القرآن بالرأي‪:‬‬
‫القرآن هو المصدر الول للتشريع‪.‬وهو يحتوي على الشريعة‬
‫بجملتها‪ ،‬وفيه بيان كل شيء منها‪ .‬والناس مكلفون بالخضوع‬
‫لحكامه إلى يوما القيامة‪ ،‬والوقائع والفعال متجددةا‪ ،‬ولم يأتق بيان‬
‫كل الحكاما لكل الوقائع عمن تقدما من المجتهدين‪ ،‬لذلك ل بد من‬
‫استنباط المعاني من القرآن‪ ،‬ول بد من الجتهاد والقول فيه‬
‫بالرأي‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬إن الكتاب ل بد من القول فيه ببيان معنى‬

‫) ( ومذهبِّ الشاطبي هو أن يقول‪ :‬إل وله أ صــل فــي الك تــاب‪ ،‬دون ع طــف‬ ‫‪1‬‬

‫السنة‪.‬‬
‫) ( ا لمصدر نفسه ‪. 3/219 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا المائدةا‪. 3 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/217 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪442‬‬
‫واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد‪ ،‬ولم يأت جميع ذلك عمن‬
‫تقدما‪ ،‬فإما أن يتوقف ذلك فتتعطل الحكاما كلها أو أكثرها‪،‬‬
‫وذلك غير ممكن فل بد من القول فيه بما يليق«هل )‪. (1‬‬
‫وتفسير القرآن بالرأي يعني فهم مراد ال من نص القرآن‬
‫حيث لم يتبيين ذلك بتوقيف من النبي ‪ ، ‬ول بلغنا عن الصحابة‬
‫رضي ال عنهم‪.‬‬
‫وهذا يحتاج إلى شروط يجبِّ توفرها في صاحبِّ الرأي وفي‬
‫الرأي نفسه‪ .‬وليس الكلما هنا في المجتهد أو المفسر وشروطه‪،‬‬
‫وسيأتي هذا في فصل لحق‪ ،‬وإنما الحديث هنا هو في الرأي نفسه‪.‬‬
‫قال الشاطبي‪» :‬إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه وجاء أيضاا‬
‫ما يقتضي إعماله«هل )‪ . (2‬ثم قال‪» :‬إن الرأي ضربان‪ :‬أحدهما جارم‬
‫على موافقة كلما العرب وموافقة الكتاب والسنة فهذا ل يمكن‬
‫إهمال مثله لعالم بهما«هل )‪ . (3‬ثم قال‪» :‬وأما الرأي غير الجاري على‬
‫موافقة العربية أو الجاري على الدلة الشرعية فهذا هو الرأي‬
‫المذموما من غير إشكال«هل)‪. (4‬‬
‫ولكن تفسير القرآن عمل جليل وخطير‪ ،‬فينبغي أن ل يقدما‬
‫عليه إل من كان أهلا له‪ ،‬ومن كان كذلك فعليه أن ل يقول إل‬
‫عن علمم وبينه‪ ،‬مع الحذر من الخطأ فإن القول هو في بيان مراد ال‬
‫تعالى‪ .‬قال‪» :‬التحفظ من القول في كتاب ال تعالى إل على بينة‬
‫فإن الناس في العلم بالدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلثا‬
‫طبقات‪ :‬أحدها من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة‬
‫والتابعين ومن يليهم‪ ،‬وهؤلء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة‬
‫والخوفَّ من الهجوما فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا أننا في العلم‬

‫المصدر نفسه‪. 3/255 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 3/254 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 255 - 3/254 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/255 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪443‬‬
‫مثلهم وهيهات«هل)‪. (1‬‬
‫وقال‪» :‬القول في القرآن يرجع إلى أن ال أراد كذا أو عنى‬
‫كذا بكلمه المنزل وهذا عظيم الخطر«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬أن يكون على‬
‫بالم من الناظر والمفسر والمتكليم عليه أن ما يقوله تقصيد منه‬
‫للمتكلم والقرآن كلما ال‪ ،‬فهو يقول بلسان بيانه هذا مراد ال من‬
‫هذا الكلما فليتثبيت أن يسأله ال من أين قلت عني هذا؟«هل )‪. (3‬‬
‫لذلك فإذا لم ي ت ثب ي ت المفسر من صحة قوله فل يصح له القول به‪،‬‬
‫وإنما يكون ذك بأن يكون التفسير جارياا على موافقة كلما العرب‬
‫أي أن يكون مما يحتمله النص‪ ،‬وأن يكون موافقاا للقرآن والسنة أي‬
‫أن يكون راجعاا إلى معنى مقطوع به‪ .‬فإن كان النص يحتمل أكثر‬
‫من معنى‪ ،‬وكانت المعاني المحتملة يرجع كل منها إلى معنى‬
‫مقطوع به‪ ،‬فل بد حينئذ من شاهدم لترجيح معنى على غيره‪ ،‬وبغير‬
‫ذلك تكون المعاني محتملة‪ ،‬فل يصح له الجزما بمعنى أو ترجيحه‬
‫ويصح له أن يقول‪ :‬يحتمل أن يكون المعنى كذا أو كذا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫»فليتثبت أن يسأله ال تعالى من أين قلت عني هذا؟ فل يصح له‬
‫ذلك إل ببيان الشواهد‪ ،‬وإل فمجرد الحتمال يكفي بأن يقول‬
‫يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا‪ ،‬بناء أيضاا على صحة تلك‬
‫الحتمالت في صلبِّ العلم‪ ،‬وإل فالحتمالت التي ل ترجع إلى أصل‬
‫غير معتبرةا‪ .‬فعلى كل تقدير ل بد في كل قول يجزما به أو يحميل‬
‫من شاهد يشهد لصله وإل كان باطلا ودخل صاحبه تحت أهل‬
‫الرأي المذموما وال أعلم«هل)‪. (4‬‬
‫وعلى ذلك فالرأي المقبول في التفسير له شرطان‪ .‬الول‪:‬‬
‫أن يكون جارياا على موافقة كلما العرب‪ .‬والثاني‪ :‬أن يكون‬
‫موافقاا للكتاب والسنة‪ .‬والقول المستوفي للشرط الول يسميه‬
‫المصدر نفسه ‪. 3/254 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 3/257 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/257 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪444‬‬
‫الشاطبي الظاهر‪ .‬أما القول المستوفي للشرطين معاا فيسميه‬
‫الباطن‪ ،‬وهو الذي ينبغي التوصل إليه في التفسير‪ ،‬كما سيتبين‪.‬‬
‫للقرآن ظاهر وأباطن‪:‬‬
‫قال الشاطبي‪» :‬من الناس من زعم أن للقرآن ظاهراا‬
‫وباطناا«هل )‪ . (1‬وذهبِّ إلى أن هذا القول يصح بمعنى معين ول يصح‬
‫بغيره‪ ،‬وهو أن الظاهر هو ظاهر التلوةا أو الكلما نفسه ومعنى‬
‫ألفاظه‪ .‬أما الباطن فهو مراد ال تعالى من الخطاب قال‪» :‬والظاهر‬
‫هو ظاهر التلوةا‪ ،‬والباطن هو الفهم عن ال لمراده«هل )‪ . (2‬وقال‪:‬‬
‫»إن المراد بالظاهر هو المفهوما العربي والباطن هو مراد ال تعالى‬
‫من كلمه وخطابه‪ .‬فإن كان مراد من أطلق هذه العبارةا ما فيسيقر‬
‫فصحيح ول نزاع فيه‪ ،‬وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد‬
‫على ما كان معلوماا عند الصحابة ومن بعدهم فل بد من دليل‬
‫قطعي يثبت هذه الدعوى لنها أصل يحكم به على الكتاب فل يكون‬
‫ظنياا«هل)‪. (3‬‬
‫لذلك فإن تفسير القرآن وفهم معاني نصوصه إنما هـو بفهـم‬
‫الباطن بالمعنى المذكور‪ ،‬وليس بالوقوفَّ عند ظــواهر النصــوص‪،‬‬
‫لن ف هــم ال ظــاهر مي ســور‪ .‬قــال‪» :‬لن ا لــ ت عــالى قــال‪ [ :‬‬
‫‪ ، (4)]      ‬والمعنى ل‬
‫يفهمون عن ال مراده من الخطاب ولم ييرد أنهم ل يفهمــون نفــس‬
‫الكلما‪ ،‬كيف وهو منزل بلسانهم ولكن لم يحظوا بفهم مراد ال من‬
‫الكلما«هل)‪ . (5‬ويبيين الشاطبي مراده بالباطن بأمثلة منها تفسير ابــن‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ، 3/227 ،‬وانظر‪ :‬الغزالي‪ ،‬مشكاةا النوار‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/227 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ . 3/228 ،‬والظاهر بهذا المعنى هو الذي ين ســبِّ إلــى‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الظاهرية الوقوفَّ عنده‪ .‬أما ما يتحاشاه من معنى للباطن فهو ما يأتي بــه‬
‫من يسميون بالباطنية‪ ،‬ولهم في التفسير مزا عــم وخ يــالت ل ين هــض ل هــا‬
‫دليل‪ .‬وسنذكر بعضاا من ذلك‪.‬‬
‫) ( سورةا النساء‪. 78 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/227 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪445‬‬
‫عباس لقوله تعالى‪ ( 1)       :‬بقوله‪:‬‬
‫إنما هو أجل رسول ال ‪ ‬أعلمه إياه‪ .‬وقول عمر ر ضــي ا لــ عنــه‪:‬‬
‫وال ما أعلم منها إل مــا تعلــم)‪ . (2‬قــال ال شــاطبي‪» :‬ف ظــاهر هــذه‬
‫السورةا أن ال أمر نبيه ‪ ‬أن يسبيح بحمد ربه ويستغفره إذ نصــره‬
‫ال وفتح عليه وباطنها أن ال نعى إليه نف ســه«هل)‪ . (3‬و قــال‪» :‬ول مــا‬
‫نزل قوله تعالى‪ (4) ]     [ :‬الية فرح‬
‫الصحابة وبكى عمر وقال‪ :‬ما بعد الكمــال إل النقصــان مستشــعراا‬
‫نعيه عليه الصلةا وال ســلما‪ ،‬ف مــا عــاش ب عــدها إل أ حــداا وث مــانين‬
‫يوماا«هل )‪. (5‬‬
‫وقال‪» :‬فكل ما كان من المعاني العربية التي ل ينبني فهم‬
‫القرآن إل عليها فهو داخل تحت الظاهر‪ ،‬فالمسائل البيانية‬
‫والمنازع البلغية ل معدل بها من ظاهر القرآن«هل)‪ . (6‬وقال‪:‬‬
‫»وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطبِّ بوصف‬
‫العبودية والقرار ل بالربوبية هو الباطن المراد والمقصود والذي‬
‫أنزل القرآن لجله«هل)‪ . (7‬ثم قال‪» :‬وعلى الجملة فكل من زاغِّ ومال‬
‫عن الصراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهماا‬
‫وعلماا‪ .‬وكل من أصاب الحق وصادفَّ الصواب فعلى مقدار ما حصل‬
‫له من فهم باطنه«هل)‪. (8‬‬
‫وفهم المعنى المراد‪،‬أي الباطن ل يكون إل بعد فهم الظاهر‪.‬‬
‫ومراد ال بالخطاب‪ ،‬وإن كان غير قطعي عند المفسر إل انه ل بد‬
‫أن يكون مما يحتمله الظاهر أو يقتضيه‪ .‬قال‪» :‬كون الظاهر هو‬

‫سورةا النصر ‪. 1 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/228 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/228 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا ‪ ،‬المائدةا‪. 3 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/228 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/230 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/231 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 3/234 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪446‬‬
‫المفهوما العربي مجرداا ل إشكال فيه لن الموالف والمخالف اتفقوا‬
‫على أنه منزل بلسان عربي مبين«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬كل معنى مستنبط‬
‫من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوما القرآن في‬
‫شيء ل مما يستفاد منه ول مما يستفاد به«هل)‪. (2‬‬
‫وبما أن فهم الباطن ل يتحقق إلى بعد فهم الظاهر‪ ،‬فلدراك‬
‫منهج الشاطبي في تفسير القرآن ل بد من إدراك منهجه في فهم‬
‫الظاهر ومنهجه في فهم الباطن‪ .‬مع التنبه دائماا إلى ما يشترطه‬
‫لجل إعمال الدلة وهو أن يكون الدليل إما قطعياا أو راجعاا إلى‬
‫معنى قطعي‪ ،‬والمعنى هنا هو أن يكون الباطن إما قطعياا وإما‬
‫راجعاا إلى قطعي‪ .‬قال‪» :‬ل بد في كل مسألة ييراد تحصيل علمها‬
‫على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن فإن وجدت‬
‫منصوصاا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك‪ ،‬وإل فمراتبِّ‬
‫النظر فيها متعددةا«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬وقد تقدما في القسم الول من‬
‫كتاب الدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع‬
‫إلى مقطوع به‪ ،‬وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم فهو أول‬
‫مرجوع إليه«هل )‪. (4‬‬
‫كيفية فهم الظاهر‪:‬‬
‫نصوص القرآن عربية في ألفاظها وتراكيبها وأساليبها‪ ،‬وفهم‬
‫دللتها مقيييد بذلك‪ .‬وهي وإن كانت غير قطعية الدللة‪ ،‬فإن‬
‫دللتها المحتملة محصورةا بظواهر النصوص‪ ،‬وهو ما تبين قبل‬
‫قليل‪ .‬وقال‪» :‬وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضاا‬
‫مما تقدما في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان‪ .‬أحدهما‪ :‬أن‬
‫يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على‬

‫المصدر نفسه‪. 3/233 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/221 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪447‬‬
‫المقاصد العربية«هل)‪ . (1‬وقال إن هذا »ظاهر من قاعدةا كون القرآن‬
‫عربياا فإنه لو كان له فهم ل يقتضيه كلما العرب لم يوصف بكونه‬
‫عربياا بإطلق ولنه مفهوما يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ول في‬
‫معانيه ما يدل عليه‪ .‬وما كان كذلك فل يصح أن ينسبِّ إليه أصلا‬
‫إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ول‬
‫مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن‬
‫ظاهر‪ ،‬وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب ال بغير‬
‫علم‪ ،‬والدلة المذكورةا في أن القرآن عربي جارية هنا«هل)‪. (2‬‬
‫ولتحقيق هذا الشرط وهو فهم الظاهر أي مدلول النص من‬
‫حيث كونه كلماا عربياا يجبِّ معرفة أسباب التنزيل‪ ،‬وما تتضمنه‬
‫من معرفة قرائن الحوال والقوال‪ ،‬إذ يختلف المعنى بحسبِّ‬
‫المخاطبين‪ ،‬ويحتمل المر أن يكون للوجوب أو الندب أو الباحة‪ ،‬أو‬
‫أن يكون من قبيل التكليف أو التهديد أو التعجيز أو غير ذلك‪ ،‬وقد‬
‫يأتي المر عاماا يراد به الخاص‪ ،‬وقد يأتي بلفظ أو عبارةا لها في‬
‫الوضع دللة‪ ،‬ولها في الستعمال دللة أخرى‪ ،‬وقد يكون اللفظ‬
‫مشتركاا أو مجازياا أو له معنى في أصل الوضع ومعنى في الشرع‬
‫ومعنى في العرفَّ‪ ،‬وبالجملة فإن النصوص تنزل بمناسبات ومعها‬
‫من قرائن الحوال والقوال ما يؤثر في المعنى‪ .‬قال‪» :‬معرفة‬
‫أسباب التنزيل لزمة لمن أراد علم القرآن«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬علم‬
‫المعاني والبيان الذي يعرفَّ به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة‬
‫مقاصد كلما العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الحوال حال‬
‫الخطاب من جهة نفس الخطاب‪ ،‬أو المخاطقبِّ أو المخاطيبِّ أو‬
‫الجميع«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬كالستفهاما لفظ واحد ويدخله معانم أخر‬
‫من تقرير وتوبيخ وغير ذلك‪ .‬وكالمر يدخله معنى الباحة‬

‫المصدر نفسه ‪. 3/235 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/201 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪448‬‬
‫والتهديد والتعجيز وأشباهها ول يدل على معناها المراد إل المور‬
‫الخارجة‪ .‬وعمدتها مقتضيات الحوال وليس كل حالم ينقل ول‬
‫كل قرينةم تقترن بنفس الكلما المنقول وإذا فات بعض القرائن‬
‫الدالة فات فهم الكلما جملة أو فهم شيء منه‪ ،‬وفهم السباب رافعة‬
‫لكل شكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكلما بل بد‪،‬‬
‫ومعنى معرفة السببِّ هو معنى معرفة مقتضى الحال«هل)‪. (1‬‬
‫ويضرب الشاطبي أمثلة لذلك منها أن قدامة بن مظعون وهــو‬
‫من الصحابة رضي ال عنهم شرب الخمر فسكر‪ ،‬وقامت عليه البينــة‬
‫في ذلك‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬فقال عمر‪ :‬يا قدامة إ نــي جا لــدك قــال‪:‬‬
‫وال لو شربت كما يقولون ما كان لــك أن تجلــدني‪ ،‬قــال ع مــر‪:‬‬
‫لقمي؟ قال‪ :‬لن ال يقول‪     [ :‬‬
‫‪ (2) ]  ‬إلخ فقال عمر‪ :‬إنك أخ طــأت التأو يــل يــا‬
‫قدامة إذا اتقيت ال اجتنبت ما حرما ال«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬فقال عمر‪ :‬أل‬
‫تردون عليه قوله‪ .‬فقال ابن عباس‪ :‬إن هؤلء اليــات أنزلــن عــذراا‬
‫للماضين وحجة على الباقين‪ ،‬فعذر الماضين بأنهم لقوا ال قبــل أن‬
‫تحرما عليهم الخمر وحجة على الباقين لن ا لــ ي قــول‪ [ :‬‬
‫‪ (4)]     ‬ثم قرأ إلى‬
‫آخر الية الخرى‪ .‬فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثــم‬
‫اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن ال قد ن هــى أن ي شــرب الخ مــر‪.‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪  ‬‬ ‫) ( سورةا المائدةا‪ ، 93 ،‬وال يــة بتمام هــا‪ [ :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪        ‬‬


‫‪         ‬‬
‫‪.]  ‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/203 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪  ‬‬ ‫) ( سورةا المائدةا‪ ، 9 ،‬والية بتمامها‪ [ :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪       ‬‬


‫‪.]   ‬‬

‫‪449‬‬
‫قال عمر‪ :‬صدقت«هل)‪. (1‬‬
‫وذكر الشاطبي حادثة مماثلة ثم قال‪» :‬ففي الحديثين بيان‬
‫أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود من‬
‫اليات«هل )‪. (2‬‬
‫كيفية فهم الباطن‪:‬‬
‫إن الشرط الول لفهم الباطن هو فهم الظاهر‪ ،‬ودللت‬
‫النصوص على معانيها غير قطعية عند الشاطبي‪ ،‬ولكنها محصورةا‬
‫بظواهر النصوص‪ ،‬وإذا اكتملت شروط فهم الظاهر كما تبين‬
‫أعله‪ ،‬فثم شروط غيرها ليتقرر المعنى المراد بالنص‪ ،‬أي الباطن‪،‬‬
‫سواء على سبيل الجزما أو الترجيح‪ .‬فإذا توفرت هذه الشروط حصل‬
‫الفهم المقبول شرعاا‪.‬‬
‫فالنص يحتمل أكثر من معنى بحسبِّ الظاهر‪ ،‬والظاهر‬
‫المحتمل له شروط حتى يقبل أولها حسبما تبين سابقاا أن يكون‬
‫المعنى راجعاا إلى معنى قطعي ثابت بالستقراء وذلك بأن يكون‬
‫متضمناا فيه أو خادماا له‪ .‬فإن كان هذا المعنى الظاهر المحتمل‬
‫معارضاا لصل كلي في الشريعة وجبِّ العدول عنه وطرحه‪.‬‬
‫ومن شروط قبول المعنى الظاهر المحتمل أن يكون له شاهد‬
‫يرجحه على غيره من المعاني المحتملة‪ .‬وذلك أن المعاني‬
‫المحتملة لظاهر النص ‪ -‬وهي المعاني التي توفرت فيها شروط‬
‫الظاهر ‪ -‬قد يتوفر لكثر من واحد منها أصل كلي بمعناها‪،‬‬
‫وتعيين واحد منها دون غيره ترجيح من غير مرجح وهذا ل يصح إذ‬
‫هو قول في الشرع وفي القرآن بغير بينة‪ ،‬والشرط الخير أن ل‬
‫يكون هناك معارض للمعنى‪ ،‬إذ المعارض هو قرينة على‬
‫مرجوحيته‪.‬‬
‫قال في بيان شروط المراد من الخطاب وهو الباطن‪» :‬ولكن‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/203 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪450‬‬
‫يشترط فيه شرطان أحدهما‪ :‬أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر‬
‫في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية‪ .‬والثاني‪ :‬أن يكون‬
‫له شاهد نصاا أو ظاهراا في محل آخر يشهد لصحته من غير‬
‫معارض«هل )‪ . (1‬أما الشرط الول فقد مريي الحديث عنه عند الحديث‬
‫عن كيفية فهم الظاهر‪ ،‬أما الثاني فقال فيه‪» :‬وأما الثاني فلنه إن‬
‫لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة‬
‫الدعاوى التي تدعى على القرآن والدعوى المجردةا غير مقبولة‬
‫باتفاق العلماء«هل)‪ . (2‬أما عدما ذكره هنا لشرط الرجوع إلى قطعي‪،‬‬
‫فلن هذا الشرط عاما في كل دليل‪ ،‬وقد حصل تأكيد هذا المر‬
‫سابقاا‪ ،‬وحديثه هنا خاص في شروط تفسير نصوص القرآن‪ ،‬لذلك‬
‫فهذا الشرط معتبر ضمناا‪.‬‬
‫إشكالت على مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني‬
‫القرآن‪:‬‬
‫هذا هو منهج الشاطبي في تفسير القرآن أو في تقرير‬
‫المعاني‪ ،‬إل أن ثمة تفسيرات لبعض النصوص قال بها الصحابة أو‬
‫التابعون أو أئمة معتبرون ل تتفق مع ما ذكره بشكل كامل‪ ،‬لذلك‬
‫فهو يستشكلها ويحاول تبريرها أو إعادتها إلى منهجه إن أمكن‪.‬‬
‫يقول‪» :‬تعريف القرآن بالحكاما الشرعية أكثره كلي ل جزئي‪،‬‬
‫وحيث جاء جزئياا فمأخذه على الكلية إما بالعتبار أو بمعنى الصل‬
‫إل ما خصه الدليل مثل خصائص النبي ‪« ‬هل)‪. (3‬‬
‫أما أن تعريف القرآن بالحكاما كلي ل جزئي‪ ،‬فقد سبق بيانه‬
‫وهو أن القرآن الكريم فيه بيان كل شيء‪ ،‬فهو مع اختصاره جامع‪،‬‬
‫ول يكون كذلك إل إذا كان المجموع فيه قواعد كلية تنطبق على‬
‫ما يندرج تحتها من جزئيات كثيرةا وإن لم ينص عليها عيناا‪ .‬ول‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/235 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/236 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/216 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪451‬‬
‫يعني هذا أن ل ينص على جزئيات)‪ . (1‬ولذلك قال‪» :‬أكثره‬
‫كلي«هل‪ .‬ولكن هذه الجزئيات التي نص عليها القرآن ل بد أن تكون‬
‫قطعية أو راجعة إلى أصول قطعية‪ ،‬ول تكون قطعية إل إذا تضافرت‬
‫معها جزئيات كثيرةا في معناها وهذا يؤدي إلى أن تكون كلية‪،‬‬
‫وهذا بخلفَّ قوله إنها جزئيات‪ ،‬لذلك فهي جزئيات ويجبِّ أن تكون‬
‫راجعة إلى أصول كلية‪ ،‬لذلك قال‪» :‬فمأخذه على الكلية«هل وذلك‬
‫كما يرجع تحريم الخمر إلى حفظ العقل‪ ،‬وكما يرجع النهي عن‬
‫عبادةا الصناما أو أصناما بعينها كاللت والعزى إلى عبادةا ال وحده‪،‬‬
‫وهذا معنى قوله‪» :‬فمأخذه على الكلية بمعنى الصل«هل‪ .‬أما قوله‪:‬‬
‫»فمأخذه على الكلية بالعتبار«هل فهو بسببِّ ما يستشكله من‬
‫تفسيرات أو استدللت كما سيتبين‪.‬‬
‫ومراده بالعتبار هو أن يكون المعنى المأخوذ أو المفسيير به‬
‫موافقاا للمعنى الصحيح الجاري بحسبِّ شروط الظاهر والراجع‬
‫إلى أصل‪ ،‬أي أن يكون موافقاا له وليس هو هو‪ ،‬وهو معنى العتبار‬
‫كما تبين في الفصل الول‪ .‬لذلك فالشكال يأتي من جهتين‪.‬‬
‫الولى‪ :‬ظاهر النص‪ ،‬إذ قد يأتي التفسير على غير المعهود من‬
‫كلما العرب وأساليبهم‪ ،‬ومع ذلك فالشاطبي يقول بقبوله‪.‬‬
‫والجهة الثانية للشكال هي جهة الباطن‪ ،‬كأن ل يكون المعنى‬
‫راجعاا إلى أصل قطعي‪ ،‬وليس له شاهد بالعتبار‪ ،‬ومع أن منهج‬
‫الشاطبي رده أو التوقف فيه‪ ،‬فإنه قال بإمكانية قبوله في حالت إذا‬
‫وجدت فهي قليلة‪ .‬وفيما يلي أمثلة للتوضيح‪.‬‬
‫أما ما لم يجر بحسبِّ الظاهر‪ ،‬فقد أورد الشاطبي أمثلة عليــه‪،‬‬
‫منها قوله‪» :‬وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكــن أن تكــون‬
‫من هذا القبيل)‪ (2‬أو من قبيل الباطن الصحيح وهي من ســوبة لنــاس‬

‫) ( كما نص على الخمر والخنزير والميسر وما شابه ذلك‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( من هذا القبيل‪ :‬أي من قبيل ما أتى به الباطنية مما هو مخالف للباطن‬ ‫‪2‬‬

‫والظاهر معاا‪ .‬كقولهم‪ :‬الكعبة النبي‪ ،‬والبــاب علــي‪ ،‬وال صــفا هــو النــبي‬
‫والمروةا علي‪ .‬وكقولهم‪ :‬عصا موسى حجته التي تلق فــت شــبه ال ســحرةا‪،‬‬

‫‪452‬‬
‫من أهل العلم‪ ،‬وربما نسبِّ منها إ لــى ال ســلف ال صــالح‪ .‬ف مــن ذلــك‬
‫فواتح السور نحو ‪  ‬و‪  ‬و‪«  ‬هل)‪ . (1‬قال‪» :‬فينقلون عن‬
‫ابن عباس أن ‪   ‬أن ألف ال ولما جبريل وميم محمد ‪ ، ‬وهذا إن‬
‫صح في النقل فمشكل لن هذا النمط من التصرفَّ لم يثبت في كلما‬
‫العرب هكذا مطلقاا‪ ،‬وإنما أتى مثله إذا دل عليه الــدليل اللفظــي أو‬
‫الحالي«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬كما أنه نقل أن هذه الفواتح أســرار ل يعلــم‬
‫)‪(3‬‬
‫تأويلها إل ال وهي أظهر القوال ف هــي مــن قبيــل المت شــابهات«هل‬
‫ومن أمثلته أيضاا ما جاء في تفسير قوله تعالى‪   [ :‬‬
‫‪ (4) ]‬أي أضداداا‪ ،‬حيث قيل‪ ،‬وأكبر النــداد النفــس المــارةا‬
‫بالسوء )‪ . (5‬وهذا مشكل عند الشاطبي‪ ،‬لن ال ظــاهر بح ســبِّ شــروطه‬
‫من أسباب النزول ومقتضى القرائن أن النداد هي ال صــناما ولي ســت‬
‫النفس‪ .‬قال‪» :‬و هــذا م شــكل ال ظــاهر جــداا إذ كــان م ســاق اليــة‬
‫ومحصول القرائن فيها يدل على أن الندادي الصناماي أو غيرها ممــا‬
‫كــانوا يعبــدون ولــم يكونــوا يعبــدون أنفســهم ول يتخــذونها‬
‫أرباباا«هل )‪ . (6‬وعقبِّ قائلا‪» :‬ولكن له وجه جارم على الصحة وذلــك‬
‫أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الية‪ ،‬ولكن أتى بما هو ند في العتبار‬
‫الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين‪ .‬إحداهما‪ :‬أن النــاظر قــد‬
‫يأخذ من معنى الية معنى من باب العتبار فيجريه فيما لــم تنــزل‬
‫فيه لنه يجامعه في القصد أو يقاربه‪ ،‬لن حقيقة الند أنــه المضــاد‬

‫وانفلق الب حــر علــم مو ســى عليــه ال ســلما في هــم‪ ،‬والب حــر هــو ال عــالم‪،‬‬
‫وكقولهم‪ :‬تسبيح الجبال رجال شداد فــي الــدين‪ .‬والجـن الـذين ملك هــم‬
‫سليمان باطنية ذلك الز مــان‪ ،‬وال شــياطين هــم الظاهريــة الــذين كل فــوا‬
‫العمال الشاقة‪ .‬وغير ذلك‪ .‬أنظر‪ :‬الموافقات ‪. 3/236‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/237 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( سورةا ‪ ،‬البقرةا‪. 22 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/238 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪453‬‬
‫لنده الجاري على مناقضته والنفس المارةا هذا شأنها«هل)‪. (1‬‬
‫إذاا‪ ،‬معنى العتبار في قوله‪» :‬فمأخذه على الكلية بالعتبار«هل‬
‫هو إجراء معنى الية في شيء يشترك في القصد مع الشيء الذي‬
‫نزلت فيه أو يقاربه‪ ،‬هذا من جهة الظاهر أما الشكال من جهة‬
‫الباطن فليس موجوداا في هذا المثال‪ .‬وهو أن يكون المعنى الذي‬
‫توفرت فيه شروط الظاهر ل يرجع إلى أصل كلي أو ليس له شاهد‬
‫بالعتبار‪ ،‬ول يمكن القول بالتوقف وعدما إعمال النص‪ ،‬لنه نص‬
‫قرآن ومما ينبني عليه تكليف‪ ،‬فإعماله واجبِّ وإهماله ل يصح‪.‬‬
‫والذي يقوله الشاطبي في هذه الحالة هو أنها فرضية ل وجود‬
‫لها‪ ،‬وإن وجدت فوجودها نادر ل يضير المنهج‪ ،‬يقول‪» :‬الظني‬
‫الذي ل يشهد له أصل قطعي ول يعارض أصلا قطعياا فهو في محل‬
‫النظر‪ .‬وبابه باب المناسبِّ الغريبِّ‪ ،‬فقد يقال‪ :‬ل يقبل لنه إثبات‬
‫شيء على غير ما عهد في مثله‪ ،‬والستقراء يدل على أنه غير‬
‫موجود‪ ،‬وهذان يوهنان التمسك به على الطلق لنه في محل‬
‫الريبة«هل)‪ . (2‬وهكذا فمثل هذه الحالة لم تقع والستقراء يؤكد هذا‪،‬‬
‫فإذا افترض وقوعها فما العمل؟ يقول‪» :‬وقد أعمل العلماء المناسبِّ‬
‫الغريبِّ في أبواب القياس‪ ،‬وإن كان قليلا فذلك غير ضائر إذا دل‬
‫الدليل على صحته«هل)‪ . (3‬ويتلخص حل الشكال في هذه الحالة بأن‬
‫القرآن جاء بالكليات وكان نزوله بحيث يكون اللحق فيه بياناا‬
‫للسابق‪ ،‬وكذلك السنة جاءت بياناا للقرآن‪ ،‬وكذلك ما جاء عن‬
‫السلف الصالح الذين هم أعرفَّ باللغة ودللتها وبالشريعة‬
‫ومقاصدها‪ ،‬لذلك فإذا جاء شيء من الدلة التي هي جزئية‪ ،‬فهو في‬
‫الصل بيان للكليات فإذا لم نستطع إرجاعه إلى كليات‪ ،‬يمكن‬
‫الستعانة بشواهد من الجزئيات‪ ،‬إذ قد يتوفر لها معنى يثبت كلياا‬
‫فترجع إليه‪ ،‬وهذا ل يضر ول يقدح في أصل المنهج لنه إن وجد‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 239 - 3/238 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/12 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/12 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪454‬‬
‫فهو قليل‪ ،‬لذلك فإذا لم يوجد أصل قطعي يرجع المعنى إليه أو أي‬
‫شاهد بالعتبار‪ ،‬فمطلق الفهم العربي للنص يصح إعماله‪ .‬يقول‪:‬‬
‫»فعلى هذا ل ينبغي في الستنباط من القرآن القتصار عليه دون‬
‫النظر في شرحه وهو السنة‪ ،‬لنه إذا كان كلياا وفيه أمور كلية‬
‫كما في شأن الصلةا والزكاةا والحج والصوما ونحوها فل محيص‬
‫عن النظر في بيانه وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح‬
‫فإنهم أعرفَّ به من غيرهم‪ ،‬وإل فمطلق الفهم العربي لمن حصله‬
‫يكفي فيما أعوز من ذلك وال أعلم«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬ل بد في كل‬
‫مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها‬
‫في القرآن‪ ،‬فإن وجدت منصوصاا على عينها أو نوعها أو جنسها‬
‫فذاك‪ ،‬وإل فمراتبِّ النظر فيها متعددةا«هل )‪ . (2‬ثم قال‪» :‬وقد تقدما في‬
‫القسم الول من كتاب الدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما‬
‫مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به‪ ،‬وأعلى مراجع المقطوع به‬
‫القرآن الكريم فهو أول مرجوع إليه‪ .‬أما إذا لم يرد من المسألة إل‬
‫العمل خاصة فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالحاد‪ ،‬كما‬
‫يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد وهو أضعف‪ .‬وإنما يرجع فيها‬
‫إلى أصلها في الكتاب لفتقارها إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع‬
‫إليه‪ ،‬أو ديناا يدان ال به‪ ،‬فل يكتفى بتلقيها من أخبار الحاد كما‬
‫تقدما«هل)‪. ( 3‬‬
‫وبناء على ما ســبق‪ ،‬فــإن التف ســير الــذي ي شــكل علــى من هــج‬
‫الشاطبي‪ ،‬إنما هو من جهة الظاهر‪ ،‬و الشـاطبي يـرده‪ ،‬وإنم ا أجهـد‬
‫نفسه في بيان إمكانية اعتباره لنه صادر عمن قــوله معتــبر‪ ،‬و هــذا‬
‫مصدر الشكال أصلا‪ ،‬لذلك ينبغي التنبه إلى أنــه رد تفســير ابــن‬
‫عباس رضي ال عنه لفوات ح السـور‪ ،‬وكـذلك رد تفسـير النـداد‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 218 - 3/217 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/221 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪455‬‬
‫بالنفس في قوله تعالى‪ . (1)]     [ :‬لذلك قال‬
‫في فواتح السور‪» :‬نيقل أن هذه الفواتح أسرار ل يعلم تأويلهــا إل‬
‫ال وهو أظهر القوال فهي من قبيل المتشابهات«هل )‪ . (2‬وكــذلك رد‬
‫تفسير النداد بالنفس فقال‪» :‬ولكن لــه و جــه جــار علــى ال صــحة‬
‫وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الية«هل)‪ . (3‬أ مــا است شــكال هــذه‬
‫القوال والتكلف في إيجاد وجه من وجوه العتبار لها فهو لجللــة‬
‫من نقلت عنهم‪ ،‬قال‪» :‬وإنما احتيج إلى هذا كله لجللة مــن نقــل‬
‫عنهم ذلك من الفضلء«هل )‪. (4‬‬
‫ولذلك رد بعض التفسيرات وإن كانت صادرةا عن علماء كما‬
‫في تفسير الجار ذي القربى بالقلبِّ‪ ،‬والجار الجنبِّ بالنفس‬
‫الطبيعي والصاحبِّ الجنبِّ بالعقل المقتدى به في الشرع وابن‬
‫السبيل بالجوارح المطيعة ل عز وجل‪ ،‬وقال إن هذا‪» :‬ل يعرفه‬
‫العرب ل من آمن منهم ول من كفر‪ ،‬والدليل على ذلك أنه لم‬
‫ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن‬
‫يماثله أو يقاربه ولو كان عندهم معروفاا لنقل‪ .‬لنهم كانوا‬
‫أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الئمة‪ ،‬ول يأتي آخر هذه‬
‫المة بأهدى مما كان عليه أولها ول هم أعرفَّ بالشريعة منهم ول‬
‫أيضاا ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير ل من مساق الية فإنه‬
‫ينافيه ول من خارج إذ ل دليل عليه كذلك‪ ،‬بل مثل هذا أقرب إلى‬
‫ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلما الباطنية ومن أشبههم«هل)‪. (5‬‬
‫أمإثلة على مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني‬
‫القرآن‪:‬‬
‫أحكاما الشريعة كلها موجودةا في القرآن في كليات يخدما‬

‫سور ةا‪ ،‬البقرةا‪. 22 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/237 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 239 - 3/238 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/242 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 3/241 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪456‬‬
‫بعضها بعضاا‪ ،‬لذلك يلزما لمن أراد تحصيل العلم بالشريعة العلم‬
‫بكلياتها المجموعة في القرآن‪ ،‬فهذا يمكنه من تنزيلها على‬
‫جزئياتها‪ .‬والعلم بالكليات يلزما له العلم بالقرآن‪ ،‬وملزمته‬
‫الدائمة لجل التنبه إلى ما فيه من معان م ل تنقض‪ ،‬وحكم وحقائق ل‬
‫تزال تستجد على الناظرين فيه‪ ،‬ول يحصل ذلك إل بدواما قراءته‬
‫وتدبر ما فيه‪ ،‬قال‪» :‬فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها‬
‫المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬إن‬
‫الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدةا الملة وينبوع الحكمة‬
‫وآية الرسالة«هل)‪ ، (2‬ثم قال‪» :‬وإذا كان كذلك لزما لمن راما‬
‫الطلع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق‬
‫بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه وأن يجعله جليسه على مر الياما‬
‫والليالي نظراا وعملا ل اقتصاراا على أحدهما«هل)‪. (3‬‬
‫فمن ذينك الملزمة واللتزاما يزداد العلم بالقرآن وبأساليبه‬
‫ومعانيه وبما فيه فيتحصل من ذلك استفادةا للمعاني‪ ،‬واستقصاء‬
‫لها مما يؤدي إلى إدراك الكليات القرآنية‪ .‬وقد وضع الشاطبي‬
‫قاعدتين أو أصلين ربما أراد منهما وضع أمثلة لما تفيده مجالسة‬
‫القرآن واستقصاء معانيه‪ ،‬الولى تفيد في استنباط المعاني‬
‫بالرجوع إلى قاعدةا كلية‪ .‬والثانية في السلوك والتأدب بأدب‬
‫القرآن‪.‬‬
‫أما الولى فهي‪» :‬كل حكاية وقعت في القرآن فل يخلو أن‬
‫يقع قبلها‪ ،‬أو بعدها وهو الكثر‪ ،‬رد لها أو ل‪ ،‬فإن وقع رد فل‬
‫إشكال في بطلن ذلك المحكي أو كذبه‪ ،‬وإن لم يقع معها رد‬
‫فذلك دليل على صحة ذلك المحكي وصدقه«هل)‪. (4‬‬
‫ودليل الشاطبي على هذه المسألة هو استقراؤه للحكايات التي‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/217 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/200 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 3/206 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪457‬‬
‫وردت في القرآن واستقصاؤه لها ولما وقع له رد ولما لـم يقـع لـه‬
‫رد)‪ ، (1‬وعلى ذلك بنى أصله المذكور‪ .‬ثــم قــال‪» :‬ول طــراد هــذا‬
‫الصل اعتمده النظار فقد استدل جما عــة مــن ال صــوليين ع لــى أن‬
‫الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بقوله تعـالى‪   [ :‬‬
‫‪ (2)]       ‬الية‪ ،‬إذ لو‬
‫كان قولهم باطلا لرد عند حكايته«هل )‪ . (3‬ومن طريف ما ذكره بنــاء‬
‫على هذا ال صــل ا ســتدلله علــى أن أ صــحاب الك هــف كــانوا ســبعة‬
‫وثامنهم كلبهم‪ .‬قال‪» :‬وا ســتدل علــى أن أ صــحاب الك هــف ســبعة‬
‫وثامنهم كلبهم بأن ال تعالى ل مــ ا ح كــى مــن قــولهم إن هــم ثل ثــة‬
‫رابعهم كلبهم وإنهم خمسة سادسهم كلبهم أعقبِّ ذلك بقوله‪ [ :‬‬
‫‪ ، (4) ]  ‬أي ليس لهم دليل ول علم غير ا تبــاع الظــن‪،‬‬
‫ورجم الظنون ل يغني من الحق شيئاا‪ ،‬ول مــا ح كــى قــولهم‪ :‬ســبعة‬
‫وثامنهم كلبهم لم يتب عــه بإب طــال بــل قــال‪   [ :‬‬
‫‪ ، (5)]     ‬دل المساق على صحته دون‬
‫القولين الولين‪ .‬وروي عن ابن عباس أنه كان يقول‪ :‬أنا من ذلك‬
‫القليل الذي يعلمهم«هل)‪. (6‬‬

‫ومن ذلك أيضاا السـتـدلل ع لــى أن طمأني ـــنة الق لــبِّ هــي‬
‫زيادةا في اليمان‪ ،‬وذلك من قول إبراهيم عليه السلما‪  [ :‬‬
‫)‪(7‬‬
‫‪ ، ]   ‬وحين سئل‪     [ :‬‬
‫‪ ، (8)]    ‬فلو علم ال تعالى منه شكاا‬
‫لظهره‪ ،‬فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الز يــادةا فــي الي مــان‪،‬‬

‫المصدر نفسه‪. 208 - 3/206 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا ‪ ،‬المدثر‪. 44 - 43 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/208 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا الكهف‪. 22 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا الكهف‪. 22 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/208 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 260 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 260 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪458‬‬
‫بخلفَّ ما حكى ا لــ عــن قــوما مــن ال عــراب فــي قـوله‪  [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ ، ]  ‬فإن ال تعالى رد عليهم‪   [ :‬‬
‫‪       ‬‬
‫])‪. (3) (2‬‬
‫أما القاعدةا الثانية فهي‪» :‬إذا ورد في القرآن الترغيبِّ قــارنه‬
‫الترهيبِّ في لواحقه أو ســوابقه أو قرائ نــه أو بــالعكس‪ ،‬و كــذلك‬
‫الترجية مع التخويف‪ ،‬وما يرجع إلى هذا المعنى مثله«هل)‪ . (4‬وذلــك‬
‫أن النسان قابل لن يميل إلى طرفَّ النحلل‪ ،‬وإلى طــرفَّ الت شــدد‪.‬‬
‫فجاء الترغيبِّ والترهيبِّ مؤدباا‪ ،‬وحاملا له علــى مــا هــو الو ســط‬
‫والعدل‪ ،‬وليبقيه بين الخوفَّ والرجاء‪ ،‬فإن مال إلى طــرفَّ النحلل‬
‫جاءه بالتخويف وإن مال إلى التشدد جــاءه بالترجيــة‪ .‬و قــد ذ كــر‬
‫الشاطبي أن هذه القاعدةا مطردةا في القـرآن علـى أنهـا مـن أف عــال‬
‫الخالق الحكيم الخبير‪ ،‬وقال‪» :‬وبهذا كان عليه الصــلةا والســلما‬
‫يؤدب أصحابه ولما غلبِّ على قوما جانبِّ الخوفَّ قيل لهم‪ [ :‬‬
‫‪          ‬‬
‫] )‪ (5‬الية‪ ،‬وغلبِّ على قوما جانبِّ الهمال في بعض المــور فخوفــوا‬
‫وعوتبوا كقوله‪      [ :‬‬
‫‪ (6) ]    ‬الية‪ .‬فإذا ثبت هذا من ترتيــبِّ‬
‫ال قــرآن وم عــاني آ يــاته فعلــى المكلــف الع مــل علــى و فــق ذ لــك‬
‫التأديبِّ«هل)‪. (7‬‬
‫ولهذا النمط في استفادةا الحكاما في قواعد السلوك وآدابه‬
‫أمثلة يشير إليها الشاطبي في أكثر من موضع من كتابه‪ ،‬وترجع ‪-‬‬

‫سورةا الحجرات‪. 14 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا الحجرات‪. 14 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/208 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/210 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا الزمر‪. 53 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫سورةا الحزاب‪. 57 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/216 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪459‬‬
‫عنده ‪ -‬إلى أصل يسميه أصل التخلق بصفات ال والقتداء بأفعاله‬
‫حيث كل واحدةا من هذه الصفات هي قاعدةا تستفاد بالستقراء‪.‬‬
‫كما أن الصل نفسه يحتاج إ لــى ا ســتقراء يف يــد الق طــع بــه‪،‬‬
‫يقول‪» :‬ويتبين صحة الصل المذكور في ك تــاب الجت هــاد‪ ،‬و هــو‬
‫أصل التخلق بصفات ال والقتداء بأفعاله ويشتمل علــى أنــواع مــن‬
‫القواعد الصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الدبية فلنذكر منها‬
‫أمثلة يستعان بها في فهم المراد‪ ،‬فمـن ذلـك عـدما المؤاخـذةا قبـل‬
‫النذار دل على ذلك إخباره تعالى عــن نف ســه ب قــوله‪  [ :‬‬
‫‪ ، (1)]    ‬فجرت عادته في خلقه أنه ل‬
‫يؤاخذ بالمخالفة إل بعد إرسال الرسل‪ ،‬فإذا قامت الحجة عليهم [ ‪‬‬
‫‪ (2) ]      ‬ولكل جزاء مثله«هل)‪، (3‬‬
‫ومن ذلك أيضاا‪ :‬البلغِّ في إقامة الحجة‪ ،‬ومنها تــرك ال خــذ مــن‬
‫أول مرةا بالــذنبِّ‪ ،‬ومن هــا تح ســين العبــارةا بالكنايــة ونحو هــا فــي‬
‫المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيى من ذكره في عادتنا‬
‫)‪(4‬‬
‫كقوله تعالى‪ ، ]    [ :‬و[ ‪ ‬‬
‫‪ (5) ]      ‬وغيرها)‪. (6‬‬
‫مإنهج الشاطبي فـي استقراء المعاني فـي‬
‫القرآن‪:‬‬
‫يرى الشاطبي أن الكليات هي أول القرآن نزولا وقد نزل‬
‫أكثرها بمكة‪ ،‬لذلك كان ما نزل بعد ذلك بياناا وشرحاا وتفصيلا‬
‫لتلك الكليات ‪ .‬لذلك فعلى من أراد استقصاء المعاني وإثبات‬
‫الكليات أن يتبع في ذلك ترتيبِّ القرآن في النزول ‪ .‬قال ‪» :‬إ علم أن‬

‫سورةا السراء‪. 15 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا الكهف‪. 29 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/223 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا النساء‪. 43 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا التحريم‪. 12 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/224 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪460‬‬
‫القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والتي نزل بها القرآن على نبيه‬
‫بمكة ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع‬
‫أصلها بمكة«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬وإنما كانت الجزئيات المشروعة بمكة‬
‫قليلة والصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر «هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪ » :‬القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيبِّ المتقدما «هل)‪، (3‬‬
‫وقال ‪» :‬المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على‬
‫المكي‪ ،‬وكذلك المكي بعضه مع بعض‪ ،‬والمدني بعضه مع بعض‬
‫على حسبِّ ترتيبه في التنزيل وإل لم يصح‪ .‬والدليل على ذلك أن‬
‫معنى الخطاب المدني في الغالبِّ مبني على المكي كما أن المتأخر‬
‫)‪(4‬‬
‫من كل واحد منهما مبني على متقدمه دل على ذلك الستقراء«هل ‪.‬‬

‫ويؤكد الشاطبي كلمه بأن من أوائل ما نزل في مكة سورةا‬


‫)‪(5‬‬
‫النعاما ومن أوائل ما نزل بالمدينة سورةا البقرةا‪ ،‬فيقول‪» :‬فإنها‬
‫نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصـول الـديـن‪ ،‬وقـد خـرج‬
‫العـلـمـاء منـهـا قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من‬
‫أول إثبات واجـبِّ الوجود إلى إثبات المامة‪ ،‬هذا ما قالوا«هل)‪ ، (6‬ثم‬
‫قال‪» :‬ولما هاجر رسول ال ‪ ‬إلى المدينة كان من أول ما نزل‬
‫عليه سورةا البقرةا وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على‬
‫قواعد سورةا النعاما«هل )‪ . (7‬وبعد أن ذكر بعض التفاصيل في ذلك‬
‫قال‪» :‬فغيرها من السور المدنية المتأخرةا عنها مبنية عليها كما‬
‫كان غير النعاما من المكي المتأخر عنها مبنياا عليها‪ .‬وإذا تنزلت‬
‫إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيبِّ وجدتها كذلك حذو‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/62 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/218 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 245 - 3/244 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫فإنها‪ :‬أي سورةا النعاما‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/245 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪461‬‬
‫القذةا بالقذةا‪ ،‬فل يغيبن على الناظـر في الكـتاب هذا المعنى فإنه‬
‫من أسرار علوما التفسير وعلى حسبِّ المعرفة به تحصل له المعرفة‬
‫بكلما ربه سبحانه«هل)‪. (1‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ففروع الشريعة كلها ترجع إ لــى كل يــات كل هــا فــي‬
‫القرآن‪ ،‬والكليات هي السبق نزولا كما أن هذه الكليات ترجع فــي‬
‫معانيها إلى أصول كلية‪ ،‬وهكذا حتى تر جــع ال شــريعة إ لــى كليــة‬
‫واحدةا‪ ،‬وهذه الكليات إنما تثبت كليات مــن خلل الوجـوه ال كــثيرةا‬
‫التي تفيدها كما يظهر النص التالي‪ :‬يقول‪» :‬و غــالبِّ الم كــي أ نــه‬
‫مقرر لثلثة معان أصلها معنى واحد وهو الــدعاء إلــى عبــادةا الــ‬
‫تعالى‪ .‬أحدها‪ :‬تقرير الوحدانية ل الواحد الحق غير أنه يأتي على‬
‫وجوه كنفي الشريك بإطلق‪ ،‬أو نفيه بقيد مــا اد عــاه الك فــار مــن‬
‫كونه مقرباا إلى ال زلفى أو كونه اتخذ ولداا أو غير ذلــك مــن‬
‫أنواع الدعاوى الفاسدةا‪ ،‬والثاني‪ :‬تقرير النبوةا للنبي محمــد وأنــه‬
‫رسول ال إليهم جميعاا صادق فيما جاء به من عند ا لــ إل أنــه وارد‬
‫على وجوه أيضاا كإثبات كونه رسولا حقاا ونفى ما ادعــوه عليــه‬
‫من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر أو ما أشــبه ذلــك‬
‫من كفرهم وعنادهم‪ .‬والثالث إثبات أمر البعث والدار الخرةا وأنه‬
‫حق ل ريبِّ فيه بالدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه‬
‫يمكن الكافر إنكاره به‪ ،‬فرد بكل وجه يلزما الح جــة ويب كــت الخ صــم‬
‫ويوضح المر ‪ ،‬فهذه المعاني الثلثة هي التي اشتمل علي هــا الم نــزل‬
‫من القرآن بمكة في عامة المر‪ ،‬وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها‬
‫)‪(2‬‬
‫فراجع إليها في محصول المر«هل ‪ .‬ولهميــة هــذا النــص ‪ -‬أعله ‪-‬‬
‫في منهجه فقد ذكرته بتمامه‪ ،‬كما أن معناه مبثــوثا فــي مواضــع‬
‫كثيرةا من كتابه‪ ،‬وهو ي كــرره نف ســه فــي مو ضــع آ خــر في قــول‪:‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/245 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ . 3/251 ،‬وهذا النص هاما جداا في بيان منهجه إذ يبيين‬ ‫‪2‬‬

‫كيف تتضافر جزئيات كثيرةا على معنى كلــي وا حــد‪ .‬وكيــف تت ضــافر‬
‫كليات وترجع إلى كلية واحدةا‪.‬‬

‫‪462‬‬
‫»وذلك أنه)‪ (1‬محتوم من العلوما على ثلثة أج نــاس هــي المق صــود‬
‫الول‪ ،‬أحدها‪ :‬معرفة المتوجه إليه‪ ،‬والثاني‪ :‬معرفة كيفية التوجه‬
‫إليه‪ .‬والثالث‪ :‬معرفة مآل العبد ليخافَّ الــ بــه ويرجــوه‪ ،‬وهــذه‬
‫الجناس الثلثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود عبر عنه قوله‬
‫تعالى‪ ، (2) ]       [ :‬فالعبادةا‬
‫هي المقصود الول«هل )‪. (3‬‬

‫) ( أنه‪ :‬أي القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا الذاريات‪. 56 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/225 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪463‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫مإنهج الشـاطبي فـي فهم السـنة‬
‫مإوضأوع هذا المبحث‪:‬‬
‫السـنة هي مصدر التشريع الثاني بعد الكتاب‪ ،‬وهي بيان‬
‫للكتاب‪ ،‬وقد تبين رأي الشاطبي فيما سبق أن السنة ليس فيها تشريع‬
‫زائد على الكتاب‪ ،‬أي تشريع ليس له اصل في الكتاب‪ ،‬والمراد بهذا‬
‫المبحث بيان كيفية بيان السنة للكتاب عند الشاطبي‪ ،‬وكيف‬
‫ييرجع الحكاما الشرعية الثابتة في السنة إلى أصولها في الكتاب‬
‫وبخاصة تلك التي قد يعترض بها على رأيه بأن السنة استقلت‬
‫بتشريعها ول أصل لها في الكتاب‪.‬‬
‫والمراد أيضاا بيان موقفه بأن ما يصلنا من السنة مما ل يمكن‬
‫إرجاعه إلى أصل في الكتاب فيجبِّ التوقف فيه ول يصح إعماله‪،‬‬
‫وكذلك مما أريد بهذا المبحث بيان رأي الشاطبي في دللة الفعل‬
‫على الحكاما الشرعية‪ ،‬إذ فعل الرسول ‪ ‬هو من السنة‪ ،‬ودللة الفعل‬
‫ليست كدللة القول‪.‬‬
‫تعريف السنة عند الشاطبي‪:‬‬
‫يطلق الشاطبي لفظ »السنة«هل كمصدر للتشريع على ما نقل‬
‫عن النبي ‪ ‬من قول أو فعل أو تقرير وعلى ما جاء عن الصحابة أو‬
‫الخلفاء الراشدين‪.‬‬
‫أما ما جاء عن النبي ‪ ‬فواضح ومتفق عليه أنه السنة‪ ،‬أما ما‬
‫جاء عن الصحابة فالمقصود به إجماعهم رضي ال عنهم كمصدر‬
‫للتشريع مبني على أدلة شرعية عرفوها ولم تنقل إلينا‪ .‬أما عمل‬
‫الخلفاء الراشدين فراجع أيضاا إلى حقيقة الجماع‪ .‬قال بعد أن جاء‬
‫بمعانم يطلق عليها لفظ السنة‪» :‬وإذا جمع ما تقدما تحصل منه في‬
‫الطلق أربعة أوجه‪ ،‬قوله عليه الصلةا والسلما وفعله وإقراره‪،‬‬
‫وكل ذلك إما متلقى بالوحي أو بالجتهاد بناء على صحة الجتهاد‬

‫‪464‬‬
‫في حقه وهذه ثلثة والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء«هل)‪. (1‬‬
‫وقال‪» :‬ويطلق أيضاا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة وجد‬
‫ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد لكونه اتباعاا لسنةم ثبتت‬
‫عندهم لم تنقل إلينا أو اجتهاداا مجتمعاا عليه منهم أو من‬
‫خلفائهم‪ .‬فإن إجماعهم إجماع‪ ،‬وعمل خلفائهم راجع أيضاا إلى‬
‫حقيقة الجماع حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم‪ ،‬فيدخل تحت‬
‫هذا الطلق المصالح المرسلة والستحسان كما فعلوا في حد الخمر‬
‫وتضمين ال صيـني اع وجمع المصحف وحمل الناس على القراءةا‬
‫بحرفَّ واحد من الحروفَّ السبعة وتدوين الدواوين وما أشبه‬
‫ذلك«هل)‪ . (2‬وهو يقصد بالجماع إجماع الصحابة دون من بعدهم‪.‬‬
‫قال‪» :‬سنة الصحابة رضي ال عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها‬
‫ومن الدليل على ذلك أمور‪ ،‬أحدها‪ ،‬ثناء ال عليهم من غير استثناء‬
‫ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬فل يقال إن هذا‬
‫عاما في المة فل يختص بالص ـ حابة دون من بعدهم لنا نقول‪:‬‬
‫أولا‪ :‬ليس كذلك بناء على أنهم هم المخاطبون على الخص ـ وص‬
‫ول يدخل معهم من بعدهم إل بقياس وبدليل آخر«هل)‪ . (4‬ومراده‬
‫بأن ـ هم هم المخاطب ـ ون على الخص ـ وص أي بالمدي ـ ح وبالتعدي ـ ل‬
‫وبما يرجع إلى ذلك‪.‬‬
‫بيان صحيح ل إشكال في صحته لنه‬ ‫»بيان رسول ال ‪‬‬ ‫وقال‪:‬‬
‫لذلك بيعث‪ .‬قال تعالى [ ‪   ‬‬
‫‪ (5 ) ]    ‬ول خلفَّ فيه‪ ،‬وأما بيان الصحابة‬
‫فإن أجمعوا على ما بيينوه فل إشكال في صحته أيضاا«هل)‪. (6‬‬
‫أما عمل الخلفاء الداخل في السنة فهو عمل الخلفاء الراشدين‪،‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/3 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/2 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/40 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا النحل‪. 44 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 195 / 3 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪465‬‬
‫إذ إنه راجع إلى الجماع‪ ،‬والجماع هو إجماع الصحابة‪ .‬فل يكون‬
‫عمل الخلفاء داخلا في إجماع الصحابة إل إذا كانوا الخلفاء‬
‫الراشدين‪ .‬وذلك أن الخليفة له حق الطاعة على المة‪ .‬فيحمل‬
‫الناس على أمر شرعي فيتحقق بذلك الجماع‪ .‬ويستشهد الشاطبي‬
‫على عمل الخلفاء الراشدين وإجماع الصحابة في أكثر من موضع‬
‫من كتابه بالحديث‪» :‬عليكم بسنتي وأسنة الخلفاء‬
‫الراشدين المهديين مإن بعدي تمسكوا بها وأعضوا‬
‫عليها بالنواجأذ «هل)‪« (1‬هل)‪. (2‬‬
‫وعلى ذلك فالس ـ نة هي‪ :‬قول النبي ‪ ‬وفعله وإقراره وما جاء‬
‫عن الص ـ حابة بالجم ـ اع وعن الخلفاء الراشدين‪ .‬وهذا الخير ليس‬
‫المقصود به إجماعهم وإنما ما جاء عن الخليفة الراش ـ د من قول أو‬
‫فعل أو تقرير وقبل به الص ـ حابة بالجماع فبذلك يكون راج ـ عاا‬
‫إلى إجماع الص ـ حابة رضوان ال عليهم جميعاا‪.‬‬
‫السنة بيان للكتاب‪:‬‬
‫يقول الشاطبي‪» :‬السنة راجعة في معنا هــا إلــى الكتــاب ف هــي‬
‫تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره‪ ،‬وذلك لنها بيان لــه‬
‫وهو الذي دل عليـه قـوله ت عــالى‪   [ :‬‬
‫‪ ، (3)]     ‬فل تجد في السنة أمراا‬
‫إل والقرآن قد دل على معناه دللة إجماليــة أو تفصــيلية‪ ،‬وأيضــاا‬
‫فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليــل‬
‫على ذلك«هل)‪. (4‬‬
‫والسنة تأتي ثانياا في الدللة على الحكاما بعد الكتاب‪ ،‬وذلك‬
‫أنها بيان وشرح وتفصيل له فل يمكن أن تتقدما عليه‪ ،‬وكذلك فإن‬

‫) ( أخرجه الترمذي ) ‪ ( 2600‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وابو داود ) ‪( 3991‬‬ ‫‪1‬‬

‫وابن ماجه ) ‪ ،( 42‬و) ‪ ( 43‬وأحمد ) ‪ ( 16521‬والدارمي ) ‪. ( 95‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ 197 - 3/196 ،‬و ‪. 4/3‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا النحل‪. 44 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/6 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪466‬‬
‫أخبار السنة ظنية الثبوت والقرآن قطعي كله‪ ،‬والقطع في السنة‬
‫هو في ثبوتها كمصدر للتشريع أي كدليل إجمالي‪ .‬بل إن‬
‫الشاطبي كما نفى وجود الدللة القطعية للنصوص على المعاني‪،‬‬
‫فقد نفى ‪ -‬أو كاد ينفي ‪ -‬وجود أخبار متواترةا غير القرآن‪،‬‬
‫وبذلك فدللة السنة ظنية من جهتين‪ :‬من جهة الثبوت ومن جهة‬
‫الدللة‪.‬‬
‫قال‪» :‬رتبة السنة التأخر عن الكتاب في العتبار‪ ،‬والدليل على‬
‫ذلك أمور‪ :‬أحدها‪ :‬أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة والقطع‬
‫فيها إنما يصح في الجملة ل في التفصيل بخلفَّ الكتاب فإنه‬
‫مقطوع به في الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدما على المظنون‬
‫فلزما من ذلك تقديم الكتاب على السنة«هل )‪ . (1‬وذكر أموراا أخرى ‪.‬‬
‫وبالنسبة لوجود التواتر في الخبار المنقولة عن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬
‫»فإن ما ذكر من تواتر الخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ولعلك‬
‫ل تجد في الخبار النبوية ما يقضى بتواتره إلى زمان الواقعة‪،‬‬
‫فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر‬
‫الوقوع ول كبير جدوى فيه وال أعلم«هل)‪. (2‬‬
‫وبالرجوع إلى ما ذكر سابقاا من أن الدليل ال شــرعي ل يقبـل‬
‫إل إذا كــان قطعيــاا أو راج عــاا إلــى قط عــي‪ ،‬ي صــبح مــن البــديهي‬
‫الستنتاج أن الحديث النبوي‪ ،‬وإن صح سنده‪ ،‬فإنه ل يصح إعماله إل‬
‫إذا كان معناه راجعاا إلى معنى كلي قطعي‪ ،‬وبما أن الكليات كلهــا‬
‫موجودةا في القرآن كما تبين في المبحث السابق‪ ،‬فــإن الحــديث ل‬
‫يصح إعماله ما لم يكن له أ صــل فــي ال قــرآن‪ ،‬و كــذلك فــإن مــن‬
‫مقتضيات هذا المنهج‪ ،‬أن السنة ليس فيها تشريع زائد إل إذا كــانت‬
‫الزيادةا بمعنى تفصيل مجمل أو تفسـيـر متشـابه وبما أن القــرآن‬
‫‪3‬‬
‫بيـان لكل شـيء [ ‪   [ ، ]  ‬‬
‫(‬ ‫)‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/3 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 6 - 4/5 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا آل عمران‪. 138 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪467‬‬
‫‪ ، (1) ]    ‬فإن ما تأتي به السنة مــن‬
‫تشريع هو زيادةا بيان وزيـادةا شـرح‪ ،‬وليسـت شيئاا ل أصل له فــي‬
‫القرآن‪ ،‬فإذا جاء فيها شيء مما يظن أ نــه ل أ صــل لــه فــي ال قــرآن‪،‬‬
‫فالشاطبي يرجعه إلى أصل قرآني‪ ،‬وإل فهو يتوقف عن قبوله‪.‬‬
‫وهذا المر عند الشاطبي يخالف ما عليه الئمة والمجتهدون‪،‬‬
‫إذ المعهود أن الحديث يوجبِّ العمل وإن كان ظني الثبوت‪ ،‬ول‬
‫يتوقف فيه أو يرد إل إذا كان معارضاا لما هو أقوى منه ثبوتاا‬
‫بحيث ل يمكن رفع التعارض بتخصيص أو تقييد‪ .‬وعلى ذلك‬
‫فالشاطبي يختلف مع المنهج المعهود والثابت بأنه ل يكتفي لعمال‬
‫النص الشرعي الظني الثبوت أن ل يكون مناقضاا أو معارضاا لما هو‬
‫أقوى منه ثبوتاا‪ ،‬بل يشترط‪ ،‬إضافةا إلى ذلك‪ ،‬وجود معنى قطعي‬
‫من القرآن يستند إليه الظني‪.‬‬
‫يقول‪» :‬فقد مر في أول كتاب الدلة أن خبر الواحد إذا استند‬
‫إلى قاعدةا مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإل فالتوقف‪ ،‬وكونه‬
‫مستنداا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني‬
‫كلي«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬لن ال جعل القرآن تبياناا لكل شيء فيلزما من‬
‫ذلك أن تكون السنة حاصلةا فيه في الجملة«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬فالسنة‬
‫إذااي في محصول المر بيان لما فيه‪ ،‬وذلك معنى كونها راجعة إليه‬
‫وأيضاا فالستقراء التاما دل على ذلك«هل)‪ ، (4‬ثم قال‪» :‬وقد تقدما في‬
‫أول كتاب الدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإل وجبِّ التوقف عن‬
‫قبولها وهو أصل كافَّم في هذا المقاما«هل)‪. (5‬‬
‫ويرد الشاطبي على اعتراضات عليه بأن السنة وإن كانت بياناا‬
‫ففيها زيادةا لن فيها ما هو غير موجود في القرآن‪ ،‬فيقول‪» :‬وقوله‬

‫سورةا النحل‪. 89 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/5 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪468‬‬
‫في السؤال‪ :‬فل بد أن يكون زائداا عليه مسلم‪ ،‬ولكن هذا الزائد هل‬
‫هو زيادةا الشرح على المشروح إذ كان للشرح بيان ليس في‬
‫المشروح وإل لم يكن شرحاا أما هو زيادةا معنىا آخر ل يوجد في‬
‫الكتاب هذا محل النزاع«هل)‪ . (1‬ثم يبين أن هذه الزيادةا هي زيادةا في‬
‫الشرح‪ ،‬وبما أنها شرح‪ ،‬فهناك مشروح‪ ،‬فإذاا هناك أصل في الكتاب‪،‬‬
‫يقول‪» :‬فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمالم أو‬
‫تفصيل أو على الوجهين معاا‪ ،‬وجاءت السنة قاضيةا على ذلك كله‬
‫بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح«هل)‪. (2‬‬
‫وبناءا على ذلك فكل تشريع أو تكليف تأتي به السنة يجبِّ‬
‫عرضه على الكتاب‪ ،‬فإن وافق الكتاب فهو صحيح‪ ،‬وإن لم يوافق ل‬
‫تثبت صحته‪ ،‬قال‪» :‬نعم يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة‬
‫ول موافقة‪ ،‬بل بما يكون مسكوتاا عنه في القرآن إل إذا قاما البرهان‬
‫على خلفَّ هذا الجائز وهو الذي ترجم له في هذه المسألة فحينئذم‬
‫ل بد في كل حديث من الموافقة لكتاب ال«هل)‪. (3‬‬
‫إل أنه تجدر الشارةا إلى أن وجوب موافقة السنة للكتاب‪ ،‬وأن‬
‫السنة ل تأتي بزيادةام ليست شرحاا أو تفصيلا لما في الكتاب‪ ،‬إنما‬
‫هو فيما يتعلق بأحكاما التكليف أي المر والنهي والذن‪ .‬وكما أنه‬
‫ليس في القرآن مجمل أو متشابه غير مبين إل فيما ل ينبني عليه‬
‫تكليف‪ ،‬فيجوز أن تأتي السنة بما ليس له أصل في الكتاب مما ل‬
‫ينبني عليه تكليف‪ .‬قال‪» :‬حيث قلنا إن الكتاب دال على السنة وإن‬
‫السنة إنما جاءت مبينةا له فذلك بالنسبة إلى المر والنهي والذن‬
‫أو ما يقتضي ذلك‪ ،‬وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة‬
‫التكليف‪ ،‬وأما ما خرج عن ذلك من الخبار مما كان أو ما يكون‬
‫مما ل يتعلق به أمر ول نهي ول إذن فعلى ضربين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن يقع‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/10 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/18 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/11 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪469‬‬
‫في السنة موقع التفسير للقرآن فهذا ل نظر في أنه بيان له«هل)‪ . (1‬ثم‬
‫قال‪» :‬والثاني‪ :‬أن ل يقع موقع التفسير ول فيه معنى تكليف‬
‫اعتقادي أو عملي فل يلزما أن يكون له أصل في القرآن لنه أمر‬
‫زائد على مواقع التكليف‪ ،‬وإنما أنزل القرآن لذلك‪ .‬فالسنة إذا‬
‫خرجت عن ذلك فل حرج«هل)‪. (2‬‬
‫السنة فيها بيان كل شيء مإن الحكام الشرعية‪:‬‬
‫ومثلما ذكر سابقاا أن القرآن فيه بيان كل شيء من الحكاما‬
‫الشرعية‪ ،‬فكذلك السنة إذ فيها ما في القرآن مع زيادةا البيان‬
‫والشرح‪ ،‬مع ملحظة الفرق وهو أن القرآن قطعي الثبوت جملةا‬
‫وتفصيلا‪ ،‬والسنة من حيث التفصيل مظنونة‪ .‬والقرآن جاء‬
‫بالكليات‪ ،‬والسنة أتت تفريعاا عليه‪ .‬يقول الشاطبي في معرض‬
‫الشرح لكيفية بيان السنة للقرآن‪» :‬النظر إلى ما دل عليه الكتاب‬
‫في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادةاا إلى ما فيها من‬
‫البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح‬
‫الدارين جلباا لها‪ ،‬والتعريف بمفاسدهما دفعاا لها«هل)‪ . (3‬ثم قال‪:‬‬
‫»فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعاا على‬
‫الكتاب وبياناا لما فيه منها‪ ،‬فل تجد في السنة إل ما هو راجع إلى‬
‫تلك القساما)‪ ، (4‬فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب‬
‫تفصلت في السنة«هل )‪ . (5‬وبعد أن بين أن المر نفسه يسري على‬
‫الحاجيات والتحسينيات والمكملت قال‪» :‬وقد كملت قواعد‬
‫الشريعة في القرآن وفي السنة فلم يتخلف عنها شيء والستقراء‬
‫يبين ذلك«هل)‪. (6‬‬
‫كيفية بيان السنة للقرآن‪:‬‬
‫المصدر نفسه‪. 4/30 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/31 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/15 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكملت كل منها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/15 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/16 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪470‬‬
‫إن كون السنة بياناا للقرآن أمر ل جدال فيه‪ ،‬ولكن تفصيلت‬
‫معنى البيان أو كيفية تبيين السنة للقرآن وإن كانت في غالبيتها‬
‫متفقاا عليها‪ ،‬ففيها بعض التغاير أو الختلفَّ في المعنى عند الئمة‪،‬‬
‫فمن المعروفَّ مثلا أن السنة تخصص القرآن وهذا مما يقصد‬
‫بكونها بياناا‪ ،‬والشاطبي يرد التخصيص كما تبين سابقاا‪ ،‬ومن‬
‫الئمة مثلا من ل يرى تخصيص القطعي بالظني)‪ ، (1‬وكذلك فإن‬
‫السنة تأتي بتشريع مستقل ل أصل له في القرآن‪ ،‬وهذا ل يخرجها‬
‫عن كونها بياناا إذ له أصل وهو الدلة الدالة على وجوب الخذ‬
‫بالسنة‪ ،‬وهذا المعنى ل يأخذ به الشاطبي إذ كون السنة بياناا يعني‬
‫عنده لزوما وجود أصل في القرآن لما تأتي به السنة‪ ،‬ووجوب الخذ‬
‫بالسنة هو وجوب الخذ بالشرح والتفصيل الذي أتت به‪.‬‬

‫ولئمة أصول الفقه أقوال وتفصيلت في بيان السنة للقرآن‪،‬‬


‫وأول هؤلء وعلى رأسهم الماما الشافعي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬حيث جعل‬
‫أول باب في كتابه )الرسالة(‪ :‬باب كيف البيان‪ .‬وذكر تحت هذا‬
‫العنوان خمسة أنواع)‪ ، (2‬ومما ذكره مما ل يوافقه فيه الشاطبي‬
‫النوع الرابع في البيان‪ ،‬وهو يتضمن كل ما سينيي رسول ال ‪ ‬مما‬
‫ليس فيه كتاب)‪ . (3‬وقال في شرحه لنواع البيان‪» :‬ومنها ما بينه‬
‫عن سنة نبيه بل نص كتاب«هل )‪ . (4‬وقد ذكر الشاطبي معانم لما‬
‫يقصد بكون السنة بياناا للقرآن‪ ،‬فقبل أكثرها لكونها متضمنة في‬
‫المعنى الذي يقول به‪ ،‬قال‪» :‬بقي النظر في الوجه الذي دل الكتـاب‬
‫به على السنة حتى صار متضمناا لكليتها في الجملة وإن كانت‬
‫بياناا له في التفصيل«هل)‪ . (5‬وعقبِّ قائلا‪» :‬إن للناس في هذا المعنى‬

‫وهو مذهبِّ السادةا الحنافَّ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أنظر‪ :‬الماما الشافعي‪ ،‬الرسالة‪ ،‬ص‪ ،40 - 26 :‬فقرةا‪. 125 - 53 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أنظر‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ، 32 :‬فقرةا‪. 96 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ، 33 :‬فقرةا‪. 100 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/13 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪471‬‬
‫مآخذ«هل )‪ . (1‬وذكر ستة مآخذ أو وجوهم‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬قوله‪» :‬منها ما هو عاما جداا وكأنه جارم مجرى أخذ‬
‫الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوما التبــاع لهــا«هل)‪. (2‬‬
‫وهذا المعنى مبني على الدلة التي تأمر بأخذ ال ســنة‪ ،‬ومن هــا قــوله‬
‫تعالى‪       [ :‬‬
‫‪ . (3) ]    ‬وهو معنى مقبول عند الشاطبي إذ‬
‫إن أخذ السنة أصل قطعي‪ ،‬ولكن الشاطبي يشترط أكثر مــن ذلــك‬
‫وهو رجوع المعنى المعين من السنة إلى معنى قرآني‪ ،‬ولذلك ف هــو‬
‫يأتي هنا بمثال‪ ،‬قال‪» :‬وممن أخذ به )‪ (4‬عبد ال بن مسعود فروي أن‬
‫امرأةاا من بني أسد أتته فقالت له بلغ نــي أ نــك لع نــت ذ يــت وذ يــت‬
‫والواشمة والمستوشمة وإنني قد قرأت ما بين ال لــوحين فلــم أجــد‬
‫الذي تقول فقال لها عبد ال‪ :‬أما قرأت‪   [ :‬‬
‫‪ ]        ‬قالت‪:‬‬
‫بلى‪ ،‬قال‪ :‬فهو ذاك«هل )‪ . (5‬فهذا أحد م عــاني البيــان‪ ،‬و هــو ي غــاير مــا‬
‫يقصده الشاطبي كما تبين سابقاا‪ ،‬وي شــير إلــى ذلــك هنــا قــوله‪:‬‬
‫»فظاهر قوله لها هو في كتاب ال ثم فســر ذلــك بقــوله‪ [ :‬‬
‫‪ ، ] ‬دون قــــوله‪ [ :‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫)‪(6‬‬
‫‪ ]   ‬أن تلك الية تضمنت جميع مــا فــي‬
‫الحديث النبوي«هل)‪ . (7‬ويظهر في هذا القـول أن الشـــاطبي يرجـــع‬
‫معنــى النهــي عــن الوشـــم إلــى المعنــى القرآنــي [ ‪‬‬
‫‪. ]   ‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا الحشر‪. 7 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أي بهذا المعنى للبيان‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/13 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫سورةا‪ ،‬النساء‪. 119 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/14 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪472‬‬
‫الثاني‪ :‬قال‪» :‬ومنها الوجه المشهور عند العلماء‬
‫كالحاديث التية في بيان ما أيجمل ذكره من الحكاما إما بحسبِّ‬
‫كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه‪ ،‬أو ما‬
‫أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلفها في مواقيتها وركوعها‬
‫وسجودها وسائر أحكامها‪ ،‬وبيانها للزكاةا في مقاديرها وأوقاتها‬
‫ونصبِّ الموال المزكاةا وتعيين ما يزكى مما ل يزكى«هل)‪ (1‬إلخ‪.‬‬
‫وهذا المعنى يندرج تحت المعنى الذي يقصده الشاطبي إذ هو شرح‬
‫وتفصيل المجمل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وهو المعنـى الذي يقصـده الشـاطبي‪ ،‬وهـو رجوع‬
‫السـنة إلى معان كلية قرآنية تندرج كلها تحت الضروريات أو‬
‫الحاجيات أو التحسينيات أو مكملت أي منها)‪. (2‬‬
‫الرابع‪ :‬ما يرجع إلى الجتهاد ومنه القياس‪ ،‬حيث أن القياس‬
‫هو إلحاق الفرع بأصل‪ ،‬والجتهاد يؤدي إلى إعطاء الحكم لمسألة‬
‫بعد أن يرى المجتهد أن المعنى الشرعي المتعلق بالحكم هو كذا‪،‬‬
‫ومن المسائل ما هو واضح فيعطيه الفقيه الحكم بناء على المعنى‬
‫المتعلق به بوضوح‪ ،‬أو يرجعه إلى أصله الواضح أنه يرجع إليه‪،‬‬
‫ومن المسائل ما قد يشتبه على الفقيه الصل القرآني الذي يرجع‬
‫إليه أهو هذا الصل أو ذاك‪ ،‬فهنا تأتي السنة لترفع الشتباه‪ ،‬وإل‬
‫تظل المسألة اجتهادية‪ ،‬وهذا المعنى يندرج تحت البيان بل‬
‫خلفَّ)‪ . (3‬قال الشاطبي‪» :‬ومنها النظر إلى مجال الجتهاد الحاصل‬

‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬وهذا النوع الثالث من النواع التي ذكرها الشافعي للبيان‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫أنظر‪ :‬الرسالة‪ ،‬ص‪ ، 31 :‬فقرةا‪. 95 :‬‬


‫) ( المصدر نفسه ‪. 18 - 4/15 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( وهذا المعنى أشار إليه الشافعي في الرسالة وهو متضــمن فــي النــوع‬ ‫‪3‬‬

‫الخامس من أنواع البيان عنده‪ ،‬أنظر‪ :‬الر ســالة‪ ،‬ص‪ ،40 - 34 :‬ف قــرةا‪:‬‬
‫‪. 125 - 104‬‬

‫‪473‬‬
‫بين الطرفين الواضحين«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬ومجال)‪ (2‬القياس الدائر‬
‫بين الصول والفروع«هل)‪ . (3‬وقال في شرح هذا المعنى‪» :‬وذلك أنه‬
‫يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما‬
‫تقدما في المأخذ الثاني‪ ،‬وتبقى الواسطة على اجتهاد‪ ،‬والتباين‬
‫لمجاذبة الطرفين إياها فربما كان وجه النظر فيها قريبِّ المأخذ‬
‫فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما يتبين في كتاب الجتهاد‪،‬‬
‫وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد ل يجري على مسلك‬
‫المناسبة فيأتي من رسول ال ‪ ‬فيه البيان وأنه لحق بأحد الطرفين‬
‫أو آخذ من كل واحدم منهما بوجه احتياطي أو غيره‪ ،‬هذا هو‬
‫المقصود هنا«هل)‪. (4‬‬
‫وهذا المعنى للبيان يتضمنه المعنى الذي يقول به الشاطبي‪،‬‬
‫لن ما تأتي به السنة يبين الصل الذي ترجع إليه المسألة‪ ،‬فحكم‬
‫السنة يرجع إلى أصل‪ ،‬وضمن هذا المعنى يبين الشاطبي كيفية‬
‫إرجاع بعض المعاني التي يقول البعض أن السنة استقلت بتشريعها‪،‬‬
‫إلى أصولم لها في القرآن وهو ما سيتفصل في البحث التالي‪.‬‬
‫الخامإس‪ :‬قال‪» :‬ومنها النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن‬
‫المتفرقة من معان مجتمعة فإن الدلة قد تأتي فـي م عــانم مختلفـة‬
‫ولكن يشملها معنــى وا حــد شــبيه بــالمر فــي الم صــالح المر ســلة‬
‫والستحسان‪ ،‬فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحــد فيعلــم أو‬
‫يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلــك الفــراد بنــاء علــى‬
‫صحة الدليل الدال على أن السنة إن مــا جــاءت مبي نــةا للك تــاب«هل)‪. (5‬‬
‫والمعنى الذي يتضمنه هذا النص مقبول عنــد أئ مــة أ صــول الفقــه‬
‫عموماا‪ ،‬ولكن ليس فيه شيء يستدعي الذكر عنــدهم‪ ،‬ولكنــه مهــم‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/18 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أي‪ :‬ومنها النظر إلى مجال القياس‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/18 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/26 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪474‬‬
‫عند الشاطبي‪ ،‬ولو نظرنا فيه لوجدناه يتألف من مقدمتين ونتيجة‪.‬‬
‫المقدمة الولى هي أن يتألف من مجموع أدلة معنى جديد ييستنبط‬
‫من مجموعها‪ ،‬ول يدل عليه أي واحد من الدلــة بم فــرده‪ ،‬و هــو مــا‬
‫يسمى دللة الشارةا من المفهوما‪ ،‬ومثاله قــوله تعــالى‪ [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ ، ]   ‬وقوله‪   [ :‬‬
‫] )‪ . (2‬فيفهم من النصين أن أقل مدةا الحمل ســتة أ شــهر‪ .‬والمقد مــة‬
‫الثانية‪ :‬أن تأتي الس ن ة بمقت ضــى هــذا المعنــى الم ســتنبط‪ ،‬أي ب مــا‬
‫يرجع معناه إلى المعنى المستنبط‪ .‬أ مــا النتي جــة ف هــي أن المع نــى‬
‫الذي أتت به السنة هو بيان له أصل في ال قــرآن‪ ،‬و هــذا هــو مبت غــى‬
‫الشاطبي وهذا المعنى الوارد هنا للبيان غير معهود عند الئمة إذ ل‬
‫يحتاجون إلى إثبات رجوع المعنى إلى معنى قرآني كي يعد بيانــاا‪،‬‬
‫أما الشاطبي فهو يستعمل هــذا ال نــوع مــن الدل لــة لي جــاد م عــانم‬
‫قرآنية‪ .‬فيستطيع بذلك إرجاع ما يظن أن السنة استقلت بت شــريعه‬
‫إلى أصول قرآنية‪ .‬وليس المقصود هنا الغض م ما يفعله الشــاطبي‪،‬‬
‫فدللة الشارةا من الدللت المعتبرةا‪ ،‬وإنما المقصود الدقة في بيان‬
‫قصد الشاطبي‪ .‬لذلك ينبغي اللتفات إلى ما قاله فــي ال نــص أعله‪،‬‬
‫فهو لم يقل‪» :‬النظر إلى ما يتألف من أدلة متفرقة«هل‪ ،‬وإن مــا قــال‪:‬‬
‫»من أدلة القرآن المتفرقة«هل‪ .‬ولذلك فمثـال الشـاطبي علـى هـذا‬
‫النوع من البيان له خصوصية تتفق مع منهجه‪ .‬قال‪» :‬وم ثــال هــذا‬
‫الوجه ما تقدما في أول كتاب الدلة الشرعية في طلبِّ معنــى قــوله‬
‫عليه الصلةا والسلما‪» :‬ل ضــرر ول ضــرار«هل)‪ (3‬مــن الك تــاب«هل )‪. (4‬‬
‫والمعنى أن الحديث ل بد أن يرجع إلى أصل قطعي في ال قــرآن‪ ،‬وإل‬
‫فل يقبل‪ .‬وبالرجوع إلى استقراء أدلة القرآن التي تنهى عن الضرر‬
‫ينشأ أصل كلي برفع ال ضــرر‪ ،‬وبــذلك ي صــح إع مــال ال حــديث ول‬

‫سورةا الحقافَّ‪. 15 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا لقمان‪. 14 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/26 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪475‬‬
‫يخرج عن كونه بياناا‪ ،‬وهذا المع نــى ي نــدرج ت حــت المع نــى ا لــذي‬
‫يقصده بل هو سر منهجه)‪. (1‬‬
‫السادس‪ :‬وهو أن السنة تبيين ما في القرآن من غير زيادةا‬
‫شرح أو تفصيل لما فيه‪ .‬فالقرآن فيه بيان كل شيء حتى أعداد‬
‫الركعات ومواقيت الصلوات‪ ،‬وتفاصيل الزكوات وما شاكل ذلك‪.‬‬
‫فكل ذلك موجود في القرآن‪ ،‬وإنما تحتاج معرفته إلى العالمين‬
‫الفاهمين الغائصين إلى أسرار معاني القرآن‪ .‬وظاهر كلما‬
‫الشاطبي رد هذا المعنى‪ .‬قال‪» :‬ومنها النظر إلى تفاصيل الحاديث‬
‫في تفاصيل القرآن‪ ،‬وإن كان في السنة بيان زائد ولكن صاحبِّ هذا‬
‫المأخذ يتطلبِّ أن يجد كل معنى في السنة مشاراا إليه من حيث‬
‫وضع اللغة ل من جهة أخرى أو منصوصاا عليه في القرآن«هل)‪ . (2‬ثم‬
‫قال‪» :‬ولكن القرآن ل يفي بهذا المقصود على النص والشارةا‬
‫العربية التي تستعملها العرب أو نحوها«هل )‪ . (3‬وقال‪» :‬فالملتزما‬
‫لهذا ل ي ف ي بما ادعاه إل أن يتكلف في ذلك مآخذ ل يقبلها كلما‬
‫العرب ول يوافق على مثلها السلف الصالح ول العلماء الراسخون‬
‫في العلم«هل)‪. (4‬‬
‫ردوأد على اعتراضأات‪:‬‬
‫إن موقف الشاطبي أن السنة ل تأتي بتشريع ليس له أصل في‬
‫القرآن تيرقدي عليه اعتراضات بأن في السنة أشياء كثيرةا ل أصل لها‬
‫في الكتاب‪ ،‬لذلك فهو يذكر هذه العتراضات ليبطلها وليثبت‬
‫موقفه‪ .‬قال ميورقداا أمثلة مما ييعترض عليه به‪» :‬إن الستقراء‬
‫دلي على أن في السنة أشياء ل تحصى كثرةا لم يينص عليها في‬
‫القرآن الكريم كتحريم نكاح المرأةا على عمتها أو خالتها وتحريم‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ، 3/8 ،‬وانظر‪ :‬المبحث الول من الفصل الثالث من هذ ا‬ ‫‪1‬‬

‫الكتاب ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/26 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/28 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪476‬‬
‫الحيمير الهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك السير وأن‬
‫ل ييقتل مسلم بكافر«هل)‪. (1‬‬
‫فقـال رداا على مسـألة تحريـم نكاح المــرأةا علــى عمتهــا أو‬
‫خالتها‪» :‬إن ال تعالى حريما الجمع بين الما وابنتها في النكاح وبين‬
‫)‪(2‬‬
‫الختين وجاء في القرآن‪]      [ :‬‬
‫فجاء نهيه عليه الصلةا والسلما عن الجمع بيــن ال مــرأةا وعمت هــا أو‬
‫خالتها من باب القيــاس لن المعنــى الــذي لجلــه ذماي الج مــع بيــن‬
‫أولئك موجود هنا‪ .‬وقد ييـروى فــي هــذا الحدي ـــث‪ » :‬فــإنكم إذا‬
‫فعلتم ذ لــك قطع تــم أر حــامكم«هل)‪ . (3‬والـتـعـلـيـ ـــل يـشــع ـــري‬
‫بـوجـه الـقـيـاس«هل)‪. (4‬‬
‫وقال في مسألة تحريم الحيمير الهلية وكل ذي ناب من‬
‫السباع‪» :‬إن ال تعالى أحلي الطيبات وحريما الخبائث وبقي بين‬
‫هذين الصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما‪ ،‬فبيين عليه الصلةا‬
‫والسلما في ذلك ما اتضح به المر‪ .‬فنهى عن أكل كلي ذي ناب من‬
‫السباع وكل ذي مخلبِّ من الطير ونهى عن أكل لحوما الحمر‬
‫الهلية«هل)‪ . (5‬وقال‪» :‬فهذا كله راجع إلى معنى اللحاق بأصل‬
‫الخبائث كما ألحق عليه الصلةا والسلما الضبِّ والحبارى والرنبِّ‬
‫وأشباهها بأصل الطيبات«هل)‪. (6‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/8 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النساء‪. 24 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الزيلعي‪ ،‬نصبِّ الراية‪ ،‬ج ‪ ، 3‬كتاب النكاح‪ ،‬فصل في بيان المحرمات‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫ومعجم الطبراني الكبير‪ ،‬باب الظاء‪ .‬وجاء في مسند أحمد ) ‪:( 9202‬‬
‫»إياكم وأالظلم فإن الظلم ظلمات عند الله يوم القيامإة‬
‫وأإياكم وأالفحش وأالتفحش‪ ،‬وأإياكم وأالشح فإنه دعا مإن‬
‫قبلكم فاستحلوا مإحارمإهم وأسفكوا دمإاءهم وأقطعوا‬
‫أرحامإهم«‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/23 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 19 - 4/18 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/19 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪477‬‬
‫أما العقل‪ ،‬وهو دية النفس‪ ،‬فقد أج ـ اب عنه الش ـــ اطبي وذ كــر‬
‫إض ـ افة إليه دي ـ ات الطرافَّ فقال‪» :‬إن الدية في النفس ذكرها ال‬
‫تعالى في القرآن)‪ (1‬ولم يذكر ديات الطرافَّ‪ ،‬و هــي م مــا يي شــكقلي‬
‫قياس ـ ها على العقول‪ ،‬فبين الحديث)‪ (2‬من دياتها ما وضح به ال ســبيل‬
‫وكأنه جارم مجرى القياس الذي ييش ـ ك ـ قلي أمره فل بد من الرجوع‬
‫إليه ويحذى حذوه«هل)‪ . (3‬ويلتحق بالعقل دية الجنيــن‪ .‬فقــال‪» :‬إن‬
‫ال تعالى جعل النفس بالنفس وأقصي من الطرافَّ بعضها من ب عــض‬
‫في قوله تعالى‪      [ :‬‬
‫)‪(4‬‬
‫إلى آخر الية‪ ،‬هذا في العمد‪ ،‬وأما الخطأ فالدية لقوله‪ [ :‬‬ ‫] «هل‬
‫)‪(5‬‬
‫‪ ]       ‬وبيين‬
‫عليه الصلةا والسلما دية الطرافَّ«هل)‪ . (6‬ثــم قــال‪» :‬ف جــاء طر فــان‬
‫أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها‪ ،‬فــإنه يشــبه‬

‫‪       ‬‬ ‫) ( قال تعالى‪[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ، ]      ‬سورةا النساء‪. 92 ،‬‬


‫) ( روى النسائي عن عمرو بن حزما عن أبيه عن جده‪» :‬أن رسول اللــه‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ‬كتب إلى أهل اليمن كتابا ا وأكــان فــي كتــابه أن مإــن اعتبــط‬
‫ضأــى أوأليــاء المقتــول‪،‬‬ ‫ود إل أن ير َ‬ ‫ق َ‬ ‫ة فإنه َ‬ ‫مإؤمإنا ا قتل ا عن بّين ئ‬
‫ة مإن البل وأأن في النف إذا أوأعب‬ ‫ة مإائا ا‬
‫وأأن في النفس الدي َ‬
‫جأدعه الدية وأفي اللسان الديــة وأفــي الشــفتين الديــة وأفــي‬
‫البيضتين الدية وأفي الــذكر الديــة وأفــي الصــلب الديــة وأفــي‬
‫العينين الدية وأفي الرجأل الواحدة نصف الدية وأفي المأمإومإة‬
‫ة خإمسة عشــر‬ ‫ثالث الدية وأفي الجائافة ثالث الدية وأفي المنقل ِ‬
‫مإن البل وأفي كل إصبع مإن أصــابع اليــد وأالرجأــل عشــر مإــن‬
‫البل وأفي السن خإمس مإن البل وأفي الموضأحة خإمــس مإــن‬
‫البل وأأن الرجأل يقتل بالمرأة وأعلى أهل الذهب ألف دينــار«‬
‫) ‪ .( 4770‬وقال‪ » :‬اعتبط‪ :‬قتل من غير علة«‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/23 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( وتماما الية [ ‪      ‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪       ‬‬


‫‪ ] ‬سورةا المائدةا ‪. 45‬‬
‫) ( سورةا النساء‪. 92 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/21 .‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪478‬‬
‫جزء النسان كسائر الطرافَّ ويشبه النسان التاما لخلقتــه فــبينت‬
‫السنة فيه أن ديته الغرةا)‪ (1‬وأن له حكم نف ســه ل عــدما تم حــض أ حــد‬
‫الطرفين له«هل)‪ . (2‬وهكذا فأصل الدية وأصل القصاص مذكوران فــي‬
‫القرآن‪ ،‬فما يسري على سائر الطرافَّ له أصل في الك تــاب‪ ،‬وينب غــي‬
‫أن يفهم قياساا ولكن قياسه مما ي شــكل فــبييينه النــبي ‪ . ‬وبع د أن‬
‫تبيين رجوع حكم الطرافَّ إلى الكتاب بقي حكم الجنين هــل ير جــع‬
‫إلى حكم النفس إذ هو نفس اكتملت أو يرجع إلى الطــرافَّ إذ هــو‬
‫جزء من أمه‪ .‬فهذا مما يش ـ كل على الفقيه فــبينته الســنة وأعطتــه‬
‫حكماا خاصاا له بينهما)‪. (3‬‬
‫أما مسألة فكاك السير وأن ل يقتل مسلم بكافر فقال‪» :‬وأ مــا‬
‫فكاك السير فمأخوذ من قــوله ت عــالى‪   [ :‬‬
‫‪ ، (4) ]   ‬وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر‬
‫على الهجرةا إل بالنتصار بغيره فعلى الغيـر النصـر‪ ،‬والسير فــي‬
‫هذا المعنى أولى بالنصر فهو مما يرجع إلى النظر القياسـي‪ ،‬وأمــا‬
‫أن ل يقـتـل مسـلم بكافر فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقــوله‪:‬‬
‫[ ‪، (5)]       ‬‬
‫وقوله‪ ، (6)]       [ :‬وهذه‬
‫الية أبعد«هل)‪. (7‬‬
‫البيان بالقول وأالفعل وأالقرار‪:‬‬
‫) ( عن أبي هريرةا رضي ال عنه قــال‪» :‬قضــى رســول اللــه ‪ ‬ف ي‬ ‫‪1‬‬

‫ة« الب خــاري )‬


‫د أوأ أمإ ئ‬ ‫جأنين امإرأة بني لحيان سقط مإيتا ا بغر ئ‬
‫ة عب ئ‬
‫‪ ( 6395 ) .( 6343‬ومسلم ) ‪ ( 3184 ) ،( 3183‬والترمــذي ) ‪( 1330‬‬
‫وقال‪ :‬حسن صحيح ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/21 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( هذا وما سبقه من ردود الشاطبي يرجع إلى المعنى الرابع للبيان‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫الموافقات‪ ، 29 - 4/18 ،‬وانظر‪ :‬ص‪ 375 :‬من هذا الكتاب ‪.‬‬


‫) ( سورةا النفال‪. 72 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( سورةا النساء‪. 141 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( سورةا الحشر‪. 20 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/29 ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪479‬‬
‫وذلك أن السنة بيان للقرآن‪ ،‬والسنة قول وفعل وإقرار من‬
‫النبي ‪ ‬فيحصل البيان بهذه الثلثة مجتمعة ومتفرقة‪ ،‬قال‬
‫الشاطبي‪» :‬إن النبي ‪ ‬كان مبيناا بقوله وفعله وإقراره« ‪ .‬ولكل‬
‫)‪(1‬‬

‫من هذه الثلثة خاصيةي في الدللة أو البيان ليست لغيرها‪ ،‬وأبلغ‬


‫البيان إذا وافق قول النبي ‪ ‬فعله‪ ،‬وكذلك إذا وافق فعل الرسول‬
‫إقراره فهو دللة على أعلى مراتبِّ التأسي‪.‬‬
‫قال‪» :‬إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول فهو‬
‫الغاية في البيان«هل)‪ . (2‬ففي الطهارةا مثلا والصلةا والصوما والحج‬
‫وغيرها من العبادات والعادات‪ ،‬فإن القول ل يفيد الكيفية كما‬
‫يفيدها الفعل‪ ،‬كما أن الفعل ل يفيد ما يفيده القول من عموما أو‬
‫خصوص أو من ندب أو وجوب أو إباحة)‪ . (3‬قال‪» :‬القول بيان‬
‫للعموما والخصوص في الحوال والزمان والشخاص‪ ،‬فإن القول ذو‬
‫صيغ تقتضي هذه المور وما كان نحوها بخلفَّ الفعل فإنه مقصور‬
‫على فاعله وعلى حالته وليس له تعد يم عن محله البتة«هل)‪. (4‬‬

‫والفعل بخلفَّ القول‪ ،‬يدل على مطلق الذن من وجوب أو ندب‬


‫أو إباحة‪ ،‬ول يشمل الكراهة لن الكراهة داخلة ضمن النهي‪،‬‬
‫والرسول ‪ ‬ل يفعل منهياا عنه‪ ،‬والفعل يتميز عن القول بأنه أبلغ‬
‫في بيان التأسي والمتثال)‪ . (5‬قال‪» :‬فمطلق الذن يشمل الواجبِّ‬
‫والمندوب والمباح ففعله عليه الصلةا والسلما ل يخرج عن ذلك‬
‫فهو إما واجبِّ وإما مندوب أو مباح«هل)‪. (6‬‬
‫أما القرار من الرسول ‪ ‬على فعل فيحتمل أن يكون الفعل‬
‫واجباا أو مندوباا أو مباحاا‪ ،‬والمباح قد يكون مباحاا بالجزء‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/175 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/177 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 178 - 3/177 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/32 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪480‬‬
‫مطلوباا بالكل وقد يكون مباحاا بالجزء منهياا عنه بالكل‪ ،‬وبهذه‬
‫الحالة أي إذا كان منهياا عنه بالكل فهو مباح بمعنى ل حرج فيه‪،‬‬
‫وقد تبين هذا المعنى في الفصل الثالث من هذا الكتاب‪ ،‬لذلك فإن‬
‫القرار ل يدل على مطلق الجواز وإنما يدل على أن ل حرج في‬
‫الفعل‪ ،‬قال‪» :‬والحاصل أن نفس القرار ل يدل على مطلق الجواز‬
‫من غير نظر«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬وأما القرار فمحمله على أن ل حرج في‬
‫الفعل الذي رآه عليه السلما فأقره أو سمع به فأقره«هل )‪ . (2‬وقال‪:‬‬
‫»إن ما ل حرج فيه جنس لنواع‪ :‬الواجبِّ والمندوب والمباح بمعنى‬
‫المأذون فيه وبمعنى أن ل حرج فيه‪ .‬وأما المكروه فغير داخلم‬
‫تحته على ما هو المقصود‪ ،‬لن سكوته عليه يؤذن إطلقه بمساواةا‬
‫الفعل للترك‪ ،‬والمكروه ل يصح فيه ذلك لن الفعل المكروه منهي‬
‫عنه«هل)‪. (3‬‬
‫وعلى ذلك فالنبي ‪ ‬ل يفعل مكروهاا ول يقر على مكروه‪،‬‬
‫وقد يقر على فعل ويفعله فهذا أعلى مراتبِّ التأسي‪ .‬قال‪» :‬القرار‬
‫منه عليه الصلةا والسلما إذا وافق الفعل فهو صحيح في التأسي ل‬
‫شوب فيه ول انحطاط عن أعلى مراتبِّ التأسي«هل)‪ . (4‬وقد يقر على‬
‫فعل ول يفعله‪ ،‬فإقراره يدل على دخول الفعل في النواع الربعة‬
‫المذكورةا أعله‪ ،‬وكونه ل يفعله يسقط كونه واجباا أو مندوباا‬
‫أو مباحاا بمعنى المأذون فيه‪ ،‬ويبقى أنه مباح ل حرج فيه‪ ،‬فهذا ل‬
‫يفعله لنه ‪ ‬في أعلى مراتبِّ القتداء والتأسي‪ .‬قال الشاطبي‪:‬‬
‫»ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحاا‪ ،‬وبعده عن التلهي‬
‫به وإن لم يحرج في استعماله«هل)‪. (5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/39 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/36 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/39 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/39 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪481‬‬
‫وللتعارض بين القول والفعل تفصيل لسنا بصدده‪ ،‬فالمراد هنا‬
‫هو بيان دللة القول ودللة الفعل ودللة القرار عند الشاطبي‪.‬‬
‫الجأماع‪:‬‬
‫تبين فيما سبق أن الجماع عند الشاطبي من السنة‪ .‬والجماع‬
‫المقصود هو إجماع الصحابة‪ ،‬وهو يعد بياناا للقرآن وللسنة أيضاا‬
‫لنه يكشف عن دليل لم ينقل‪ ،‬ومما قاله‪» :‬سنة الصحابة رضي ال‬
‫عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬فإنهم أول من‬
‫تلقى ذلك من الرسول عليه الصلةا والسلما وهم المباشرون‬
‫للوحي«هل)‪ . (2‬ولذلك ينطبق على صحة اعتبار الجماع في البيان أن‬
‫يكون إجماعي الصحابة‪ ،‬وأن يكون راجعاا إلى أصل كلي قرآني‪ ،‬ول‬
‫يقال إن الجماع أصل قطعي‪ ،‬إذ الموضوع هنا ليس الجماع‪ ،‬وإنما‬
‫هو المسألة التي نقل حصول الجماع عليها‪ ،‬وذلك مثل الس ـ نة فهي‬
‫أصل قطعي‪ ،‬ولكن في التفص ـ يل هي أخبار آحاد وكذلك المنقول‬
‫من إجماع الص ـ حابة هو أخبار آحاد‪.‬‬
‫القياس‪:‬‬
‫وهو يعتمد على العلة‪ ،‬فإذا جاءت بمسالك النص أو التنبيه‬
‫واليماء فهي راجعة إلى دللت اللفاظ والتراكيبِّ وينطبق عليها‬
‫ما قيل سابقاا من وجوب رجوع معناها إلى أصل كلي ثابت‬
‫بالستقراء‪ ،‬وإن كانت بمسلك الجماع فينطبق عليها ما ذكر قبل‬
‫قليل من وجوب رجوع المنقول إلينا بالجماع‪ ،‬إلى أصل قطعي‪ ،‬أما‬
‫إن جاءت العلة بأيم من المسالك الخرى التي تعتمد على أصل‬
‫التعليل‪ ،‬فقد تبين من منهجه أن هذا ظن ل يعضده دليل شرعي فهو‬
‫من المصالح الموهومة‪ ،‬لذلك فهو ل يقبل أياا من هذه العلل إل إذا‬
‫ثبتت ثبوتاا قطعياا عن طريق استقراء المعنى المعلل به في جزئيات‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/40 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/40 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪482‬‬
‫كثيرةا استقراءا يفيد القطع‪ ،‬إذ ل يكفي في ذلك مجرد الظن‪ ،‬قال‪:‬‬
‫»ول يقال إن الظن أيضاا معتبر شرعاا في الحكاما الشرعية‬
‫كالمستفاد من أخبار الحاد والقياس وغيرهما‪ ،‬وما نحن فيه إن‬
‫سلم أنه ل يفيد علماا مع الطراد والمطابقة فإنه يفيد ظناا فيكون‬
‫معتبراا‪ ،‬لنا نقول‪ :‬ما كان من الظنون معتبراا شرعاا فلستناده‬
‫إلى أصل شرعي حسبما تقدما في موضعه من هذا الكتاب )‪ ، (1‬وما نحن‬
‫فيه لم يستند إلى أصل قطعي ول ظني«هل)‪. (2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 12 - 3/7 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ، 4/46 ،‬وهذا النص يفيد عين ما تفيده النصوص التي‬ ‫‪2‬‬

‫وردت سابقاا عن بعض أئمة الحنافَّ رداا على التعليل بالو صــافَّ المخيلــة‬
‫والمناسبة وغيرها المبنية على أ صــل التعليــل‪ .‬أن ظــر‪ :‬الف صــلين الثــاني‬
‫والثالث من هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪483‬‬
‫الفصـل الثامإن‬
‫الجأتهاد وأالتقليد‬

‫وأيحتوي على تمهيد وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬ضأوابط الجأتهاد‪.‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬ضأوابط التقليد‬
‫وأالفتوى‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬أصل مإآلت الفعال‪.‬‬

‫‪484‬‬
‫الفصـل الثامإن‬
‫الجأتهاد وأالتقليد‬
‫تمهيـد‪:‬‬
‫إن مما يزيد فكرةا المقاصد عند الشاطبي بياناا ويكملها بيان‬
‫آرائه في الجتهاد وأنواعه وشروطه‪ ،‬وفي المجتهد أو العالم‬
‫ومراتبه وفي التقليد وكيفية أخذ الرأي أو الفتوى‪ .‬وكذلك في‬
‫الفتوى أو الحكم الشرعي الذي يبينه العالم‪ ،‬وتمييز ما يمكن قبوله‬
‫شرعاا عما يجبِّ رده‪ ،‬ويدخل ضمن هذا بيان موقفه من الفتاوى التي‬
‫تتخذ التيسير والترخيص والضرورات والحاجات والسماحة‬
‫والتخيير بين القوال منهجاا يتم تعميمه وتطبيقه حيث يصح‬
‫وحيث ل يصح‪.‬‬
‫ومن أهم ما يوض ـ ح منهج الش ـ اطبي ويؤكد ما مريي ذكره‬
‫فيه‪ ،‬ش ـ رط جعله لزماا للمجتهد ل يصح له الحكم بدونه وهو‬
‫النظر في مآلت الفعال‪ ،‬وذلك أن الش ـ ريعة إنما جاءت لجلبِّ‬
‫المص ـ الح ودرء المفاس ـ د‪ ،‬وهي مآلتها ومآلت أحكام ـ ها‪ ،‬فل يص ـ ح‬
‫للمجته ـ د أن يعطي حك ـ م الفعل دون النظر في مآله‪.‬‬
‫لجل هذا كان هذا الفصل وقد جعلته في ثلثة مباحث‪ ،‬الول‬
‫في ضوابط الجتهاد والثاني في ضوابط الفتوى والثالث في بيان‬
‫وشرح أصل مآلت الفعال‪.‬‬
‫ولهمية أصل مآلت الفعال عند الشاطبي وكونه الساس‬
‫الذي يقيم عليه برهانه لتعليل الشريعة‪ ،‬فقد أتبعت هذا الفصل‬
‫بفصل يشرح ثلثة قواعد هي من أهم ما بناه على أصل مآلت‬
‫الفعال‪ ،‬وهي تطبيق لفكرته في المقاصد وهي قاعدةا سد الذرائع‬
‫وقاعدةا المصالح المرسلة وقاعدةا الستحسان‪ ،‬وستكون هذه القواعد‬
‫الثلثا ‪ -‬إن شاء ال ‪ -‬موضوع الفصل الثامن‪.‬‬
‫ومن الجدي ـ ر بالذكر أن ما يجري بحثه هنا هو فقط لجهة‬

‫‪485‬‬
‫تعلقه بمنهج الشاطبي أو ما تمييز به أو ركز عليه‪ ،‬وليس المقصود‬
‫بيان أو تفنيد أقوال الئمة في هذا الشأن‪ ،‬فالشاطبي نفسه يحيل‬
‫إليهم وإلى كتبهم فيما وافقهم فيه‪.‬‬

‫‪486‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫ضأـوابط الجأتهاد‬
‫تعريفه عند الشاطبي‪:‬‬
‫يعرفَّ الشاطبي الجتهاد بقوله‪» :‬الجتهاد هو استفراع الوسع‬
‫في تحصيل العلم أو الظن بالحكم«هل)‪ . (1‬ول شك أنه يقصد استفراغِّ‬
‫الوسع من المجتهد الذي بلغ المرتبة التي يوثق معها بقوله‪ .‬ول‬
‫يخالف الشاطبي في أن المسائل القطعية ل اجتهاد فيها كما‬
‫سيتبين‪ ،‬ولكن قوله »في تحصيل العلم«هل يرجع إلى شروط‬
‫المجتهد ومنها تحصيل العلم بالكليات‪ ،‬وهو في سبيل ذلك يجتهد‪،‬‬
‫إل أن اجتهاده هذا ل يخوله أن يجتهد في المسائل التفصيلية‬
‫الخلفية ول أن يكون له فيها رأي معتبر يفتي به الناس‪ ،‬لنه ما زال‬
‫يترقى في العلم ويستكمل فهم المقاصد‪ .‬قال‪» :‬الجتهاد الواقع في‬
‫الشريعة ضربان‪ :‬أحدهما الجتهاد المعتبر شرعاا وهو الصادر عن‬
‫أهله الذي اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الجتهاد«هل )‪ . (2‬ثم قال‪:‬‬
‫»والثاني غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارفَّ بما يفتقر‬
‫الجتهاد إليه«هل )‪. (3‬‬
‫شـروأطه‪:‬‬
‫أما ما يفتقر إليه الجتهاد فهو في حقيقته ‪ -‬عند الشاطبي ‪-‬‬
‫أمر واحد جامع لمور‪ ،‬وهو فهم مقاصد الشريعة بشكل كامل‪ ،‬أي‬
‫الصول الكلية ومقاصد الحكاما الراجعة إليها‪ .‬وما يذكر من أمور‬
‫أخرى كشروط للجتهاد فهي متضمنة في هذا المر‪ :‬قال‪» :‬إنما‬
‫تحصل درجة الجتهاد لمن اتصف بوصفين‪ :‬أحدهما فهم مقاصد‬
‫الشريعة على كمالها‪ ،‬والثاني التمكن من الستنباط بناءا على فهمه‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/59 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/93 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪487‬‬
‫فيها«هل )‪ . (1‬أما الوصف الول فهو يعني كليات الشريعة الواقعة في‬
‫المراتبِّ الثلثا ومكملتها‪ ،‬ويعني أيضاا الحكاما التفصيلية‬
‫ومقاصدها وهي الفروع الراجعة إلى تلك الكليات‪ ،‬ولذلك قال‪:‬‬
‫»على كمالها«هل‪ .‬وهي كلها ترجع إلى جلبِّ المصالح ودرء‬
‫المفاسد‪ .‬ومما يقتضيه فهم المقاصد على كمالها فهم مقصود‬
‫الشاطبي بالمصالح والمفاسد وهو أنها بحسبِّ وضع الشارع لها‬
‫وليس بحسبِّ الغراض والحظوظ وأهواء النفس‪ .‬وقد تبين هذا‬
‫سابقاا وكرره الشاطبي هنا‪ ،‬وهو بهذا يجمع بين التعليل بالمصالح‬
‫وقصد التعبد والمتثال‪ .‬قال‪» :‬فقد مري في كتاب المقاصد‬
‫الشرعية أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح وأن المصالح إنما‬
‫اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ل من حيث إدراك‬
‫المكلف«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬استقر بالستقراء التاما أن المصالح على ثلثا‬
‫مراتبِّ فإذا بلغ النسان مبلغاا فهم عن الشارع فيه قصده في كل‬
‫مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له‬
‫وصف هو السببِّ في تنزله منزلة الخليفة للنبي ‪ ‬في التعليم‬
‫والفتيا والحكم بما أراه ال«هل)‪ . (3‬أما الوصف الثاني فل يمكن‬
‫حصوله إل بعد حصول الوصف الول‪ ،‬ولكنه جعله شرطاا ثانياا لنه‬
‫ثمرةا للول‪ ،‬ول يحصل التحقق من الول إل بوجود الثاني‪ .‬قال‪:‬‬
‫»وأما الثاني فهو كالخادما للول«هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬ولكن ل تظهر‬
‫ثمرةا الفهم إل في الستنباط فلذلك جيعل شرطاا ثانياا‪ ،‬وإنما كان‬
‫الول هو السببِّ في بلوغِّ هذه المرتبة لنه المقصود والثاني‬
‫وسيلة«هل )‪. (5‬‬
‫ومن شروط المجتهد أن يبلغ درجة الجتهاد في علوما اللغة‬
‫المصدر نفسه‪. 4/56 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/56 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪488‬‬
‫العربية‪ ،‬وهذا متضمن في شرط فهم المقاصد إذ هو لزما لجل‬
‫الستنباط من النصوص ولجل فهم المقاصد‪ ،‬ومن لم يبلغ هذه‬
‫الدرجة فهو مقلد في اللغة‪ ،‬ولن يكون قوله في دللت النصوص‬
‫حجة‪ ،‬وسيعتمد على غيره ممين قوله فيها حجة‪ ،‬وبذلك ينزل عن‬
‫درجة فهم المقاصد‪ .‬يقول‪» :‬فإذا فرضنا مبتدئاا في فهم العربية‬
‫فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسطاا فهو متوسط في فهم‬
‫الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة‬
‫الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة فكان فهمه فيها‬
‫حجة«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ول كان قوله‬
‫فيها مقبولا فل بد أن يبلغ في العربية مبلغ الئمة فيها كالخليل‬
‫وسيبويه والخفش والجرمي والمازني ومن سواهم«هل )‪ . (2‬ويبين‬
‫الشاطبي أنه ل يقصد بذلك أن يكون مثل هؤلء الئمة في جميع‬
‫علوما اللغة وأن يتعمق تعمقهم في النحو وفي دقائق العراب‬
‫ومشكلت اللغة وغير ذلك‪ .‬وإنما أن يكون قادراا على فهم‬
‫النصوص وما تحتمله من معانم وما ل تحتمله وما فيها من عموما أو‬
‫خصوص أو تقديم أو تأخير أو مجاز أو اشتراك أو إضمار أو غيره‪،‬‬
‫وأن يبلغ مبلغهم في هذا حتى يكون في ذلك حجة‪ .‬قال‪» :‬ول‬
‫ييقال إن الصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية«هل)‪ . (3‬ثم‬
‫قال‪» :‬وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك‬
‫المقدار وليس من شرط العربي أن يعرفَّ جميع اللغة«هل)‪ . (4‬ثم بين‬
‫مقصوده بنص للشافعي فقال‪» :‬وقد أشار الشافعي في رسالته إلى‬
‫هذا المعنى وأن ال خاطبِّ العرب بكتابه بلسانها على ما تعرفَّ من‬
‫معانيها ثم ذكر مما يعرفَّ من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطبِّ‬
‫بالعاما مراداا به العاما ويدخله الخصوص ويستدل على ذلك ببعض‬
‫المصدر نفسه‪. 4/60 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/60 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/61 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪489‬‬
‫ما يدخله في الكلما‪ ،‬وبالعاما ييراد به الخاص ويعرفَّ بالسياق‪،‬‬
‫وبالكلما ينبئ أوله عن آخره وآخره عن أوله‪ .‬وأن تتكلم بالشيء‬
‫تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرفَّ بالشارةا وتسمى الشيء‬
‫الواحد بالسماء الكثيرةا والمعاني الكثيرةا بالسم الواحد‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫فمن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة‬
‫فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه‪ ،‬ومن تكلف ما يجهل‬
‫وما لم تثبته معرفته كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث ل‬
‫يعرفه غير محمودةا‪ ،‬وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما ل‬
‫يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه‪ .‬هذا قوله‪ ،‬وهو الحق‬
‫الذي ل محيص عنه«هل)‪ . (1‬ويدخل ضمن فهم المقاصد فهم أسباب‬
‫النزول إذ هي شرط لفهم معاني النصوص وقد تبين هذا في المبحث‬
‫الول من الفصل السابق‪.‬‬
‫وليس من شرط الجتهاد أن يكون المجتهدي مجتهداا في كل‬
‫علم يلزمه‪ .‬فإن بعض ما يلزما للجتهاد يمكن للمجتهد أن يأخذه‬
‫من أهله وأن يسلم به‪ .‬قال‪» :‬ونحن نمثيل بالئمة الربعة‬
‫فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الجتهاد في‬
‫انتقاده ومعرفته‪ ،‬وأبو حنيفة كذلك‪ ،‬وإنما عدوا من أهله مالكاا‬
‫وحده وتراه في الحكاما يحيل على غيره كأهل التجارب والطبِّ‬
‫والحيض وغير ذلك ويبني على ذلك«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬وغالبِّ ما‬
‫صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو في المطالبِّ العربية التي‬
‫تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها‪ ،‬وما سواها من المقدمات فقد‬
‫يكفي فيه التقليد كالكلما في الحكاما تصوراا وتصديقاا كأحكاما‬
‫النسخ وأحكاما الحديث وما أشبه ذلك«هل)‪. (3‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 62 - 4/61 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ، 4/75 ،‬يلحظ أنه قال‪ » :‬ونحن نم ثــل بالئ مــة‬ ‫‪2‬‬

‫الربعة« ولكنه لم يذكر الماما أحمد بن حنبل رحمه ال‪ ،‬ولــم ي عــده مــن‬
‫أهل الجتهاد في الحديث‪.‬‬
‫) ( المصدر نفسه ‪ ، 4/62 ،‬وانظر‪ :‬ص‪. 58 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪490‬‬
‫أنواع الجأتهاد وأمإراتبه‪:‬‬
‫كانت تلك شروط الجتهاد لمن أراد الستنباط من النصوص‬
‫بناء على فهمه فيها‪ ،‬وهناك مرتبة أدنى للمجتهد ل يشترط له فيها‬
‫العلم بالعربية‪ ،‬وقد يكون أعجمي اللسان‪ ،‬وإنما يشترط فيها العلم‬
‫بمقاصد الشريعة جملةا وتفصيلا‪ ،‬وهناك اجتهاد كما يسميه‬
‫الشاطبي ل يشترط فيه العلم بالعربية ول العلم بمقاصد الشريعة‪،‬‬
‫وهو الجتهاد في تحقيق المناط‪ ،‬يقول‪» :‬الجتهاد إن تعلق‬
‫بالستنباط من النصوص فل بد من اشتراط العلم بالعربية‪ ،‬وإن‬
‫تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردةا عن اقتضاء النصوص‬
‫لها أو مسلمة من صاحبِّ الجتهاد في النصوص فل يلزما في ذلك‬
‫العلم بالعربية وإنما يلزما العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملةا‬
‫وتفصيلا«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬فإذاا من فهم مقاصد الشرع من وضع‬
‫الحكاما وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق‬
‫الترجمة باللسان العجمي فل فرق بينه وبين من فهمها من طريق‬
‫اللسان العربي«هل)‪ . (2‬وهذه المرتبة دون المرتبة الولى‪ ،‬وصاحبها ل‬
‫يجتهد للتوصل إلى المقاصد‪ ،‬ول يستنبط بناءا على فهمه فيها‪،‬‬
‫وإنما هو يتلقى الكليات والصول ويتعلمها ممن استنبطها فهو مقيد‬
‫بفهمه وبمذهبه‪ .‬وكذلك هو ل يستطيع إعمال الكليات والجزئيات‬
‫معاا‪ .‬وإنما هو ييعمل الكليات فقط‪ .‬وهذا ل يكون إل في إنزال‬
‫الحكاما الجاهزةا على وقائعها وفي القياس‪ ،‬يقول‪» :‬ولذلك يوقع‬
‫المجتهدون الحكاما الشرعية على الوقائع القولية التي ليست‬
‫بعربية‪ ،‬ويعتبرون اللفاظ في كثير من النوازل‪ ،‬وأيضاا فإن‬
‫الجتهاد القياسي غير محتاج إلى مقتضيات اللفاظ إل فيما يتعلق‬
‫بالمقيس عليه وهو الصل وقد يؤخذ مسلماا أو بالعلة المنصوص‬
‫عليها أو التي أومئ إليها‪ ،‬ويؤخذ ذلك مسلماا وما سواه فراجع إلى‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/90 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/91 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪491‬‬
‫النظر العقلي وإلى هذا النوع يرجع الجتهاد المنسوب إلى أصحاب‬
‫الئمة المجتهدين«هل)‪ . (1‬فالجتهاد ‪ -‬عنده ‪ -‬ينقسم إلى اجتهاد‬
‫لستنباط العلل والصول الكلية واجتهاد لتفريعها وتطبيقها على‬
‫وقائعها‪ ،‬واجتهاد ثالث لتعيين وقائعها‪ ،‬وهذا الخير هو الذي ل‬
‫يحتاج إلى علم بالمقاصد ول إلى علم بالعربية‪ ،‬يقول‪» :‬قد يتعلق‬
‫الجتهاد بتحقيق المناط فل يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد‬
‫الشارع كما أنه ل يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية«هل)‪ . (2‬وذلك‬
‫كالبحث هل هذا خمر فيحرما أو جلب فيحل‪ ،‬أو هل هذا الشاهد‬
‫عدل فتؤخذ شهادته أو فاسق فل تؤخذ أو هل هذا فقير فيستحق من‬
‫الصدقات أو ل فل يعطى منها‪ .‬وهذا ل يحتاج إلى علم بالشريعة أو‬
‫بالعربية وإنما يحتاج إلى علم بموضوع البحث‪ .‬فيحتاج صاحبه لن‬
‫يكون خبيراا في معرفة الخمر وفي معرفة العدالة وفي معرفة‬
‫الفقر‪ .‬وإذا احتاج إلى معلومات شرعية فيمكنه أن يأخذها‬
‫بالتسليم‪.‬‬
‫قال‪» :‬إن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه المور من ليس‬
‫من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصةا وهو‬
‫التقليد في تحقيق المناط«هل)‪. (3‬‬
‫فعملية الجتهاد التي تؤدي إلى معرفة الحكم تتضمن النواع‬
‫الثلثة للجتهاد وليس بالضرورةا أن يقوما بها كلها مجتهد واحد‪،‬‬
‫أو قادر على القياما بها جميعها‪.‬‬
‫وهذا الذي يتبين سواء من حيث أنواع الجتهاد أو شروط كل‬
‫نوع منه‪ ،‬ل يعني جواز أن يعطي المجتهد الرأي أو أن يفتي‪ ،‬ول‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ، 4/91 ،‬أصحاب الئمة المجتهــدين هــم مجتهــدو‬ ‫‪1‬‬

‫المذهبِّ‪ ،‬وه م يتبع ون نه ج إم اما الم ذهبِّ ف ي الخ ذ بأص وله وقواع ده‬
‫واجتهاداته وآرائه‪ ،‬ول يمنع هذا من مخالفتهم له في بعض الراء‪ ،‬أمــا إمــاما‬
‫المذهبِّ الذي يستنبط الصول والقواعد والحكاما فهو المجتهد المطلق‪.‬‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/92 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/93 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪492‬‬
‫جواز أخذ قوله أو فتواه‪ ،‬فإن هذه الشروط تدل على تمكنه من‬
‫الفهم ومن إعطاء الرأي‪ ،‬ول يجوز له أن يفتي إل إذا كان منتصباا‬
‫للفتوى بقوله وبسلوكه‪ ،‬وإل فإن القدرةا على الجتهاد قد يحوزها‬
‫الكافر‪ .‬قال‪» :‬وقد أجاز النظار وقوع الجتهاد في الشريعة من‬
‫الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة إذا كان الجتهاد‬
‫إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها كانت كذلك في نفس‬
‫المر أو ل«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬المفتي قائم في المة مقاما النبي ‪. «‬‬
‫)‪(2‬‬

‫وقال‪» :‬إن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل‬


‫والقرار«هل)‪ . (3‬وبنى على ذلك قوله‪» :‬إن الفتيا ل تصح من مخالف‬
‫لمقتضى العلم«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬أما أفعاله فإذا جرت على خلفَّ أفعال‬
‫أهل الدين والعلم لم يصح القتداء بها ول جعلها أسوةاا في جملة‬
‫أفعال السلف الصالح‪ ،‬وكذلك إقراره لنه من جملة أفعاله«هل )‪ . (5‬ثم‬
‫قال‪» :‬فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته بقوله‪ ،‬والمخالف‬
‫بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لن الجميع يستمد من أمر واحد‬
‫قلبي‪ ،‬هذا بيان عدما صحة الفتيا منه على الجملة«هل)‪. (6‬‬
‫الجأتهاد المعتبر شرعاا‪:‬‬
‫إذا كانت هذه أنواع الجتهاد فإن الجتهاد الذي عليه التعويل‬
‫وله الغاية المرجوةا هو الجتهاد الذي يبين الحكم عندما يشتبه على‬
‫المكلفين‪ ،‬وهو موضع لختلفَّ الرأي ول يكون في القطعيات التي‬
‫ل مجال فيها للختلفَّ‪ ،‬وهو الجتهاد الذي يحتاج إلى فهم المقاصد‬
‫والتمكن من الستنباط من النصوص بناءا على هذا الفهم‪ ،‬فالجتهاد‬
‫المعتبر شرعاا هو الجتهاد الصادر عن أهله الحائزين لشروطه‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/58 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/140 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/141 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/144 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/145 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪493‬‬
‫أولا‪ ،‬وهو الذي يكون لجل بيان الحكم الشرعي في المسائل التي ل‬
‫قطع فيها‪ ،‬وخاصةا تلك المسائل التي تقع في الوسط بين أصلين‬
‫مختلفين‪ ،‬ويصعبِّ إلحاقها بهذا الصل أو ذاك‪ ،‬وهذا في مقابل‬
‫المسائل التي هي ظنية ل قطع فيها ولكن ترجح أحد الجانبين فيها‬
‫ظاهر‪ ،‬والجانبِّ المرجوح فيها هو احتمال ضعيف‪ ،‬وفي كل حال‬
‫فإن المقدقما على المسائل القطعية بغير اجتهاد حائم حول الحمى‬
‫يوشك أن يقع فيه‪ ،‬قال‪» :‬الجتهاد الواقع في الشريعة ضربان‪:‬‬
‫أحدهما الجتهاد المعتبر شرعاا وهو الصادر عن أهله الذين‬
‫اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الجتهاد وهذا هو الذي تقدما الكلما‬
‫فيه‪ ،‬والثاني غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارفَّ بما يفتقر‬
‫إليه الجتهاد لن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والغراض‪ ،‬وخبط‬
‫في عماية واتباع للهوى‪ ،‬فكل رأي صدر على هذا الوجه فل مرية في‬
‫عدما اعتباره لنه ضد الحق الذي أنزل ال«هل)‪ . (1‬أما ما يفتقر إليه‬
‫هذا الجتهاد فقد تبين سابقاا وهو‪» :‬فهم مقاصد الشريعة على‬
‫كمالها‪ ،‬والتمكن من الستنباط بناء على فهمه فيها«هل‪.‬‬
‫أما بالنسبة لما يجتهد فيه فقال‪» :‬محال الجتهاد المعتبر هي‬
‫ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحدم منهما قصد الشارع في‬
‫الثبات في أحدهما والنفي في الخر فلم تنصرفَّ البتة إلى طرفَّ‬
‫النفي ول إلى طرفَّ الثبات«هل)‪ . (2‬وقال إن أفعال المكلف‪» :‬إن أتى‬
‫فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الثبات‬
‫أو ل‪ ،‬فإن لم يظهر له قصد البتة فهو قسم المتشابهات وإن ظهر‬
‫فتارةاا يكون قطعياا وتارةاا يكون غير قطعي‪ ،‬فأما القطعي فل مجال‬
‫للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الثبات وليس محلا‬
‫للجتهاد وهو قسم الواضحات لنه واضح الحكم حقيقة والخارج‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/93 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/86 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪494‬‬
‫عنه مخطئ قطعاا«هل)‪. (1‬‬
‫ولقد ذيكقري في الفصل السابق عند بيان مختلف القوال في‬
‫كيفية بيان السنة للقرآن أن أحدها هو بيان ما اشتبه أمره وتردد‬
‫إلحاقه بين أصلين‪ ،‬فبين النبي ‪ ‬الصل الذي يجبِّ اللحاق به‪ .‬ومن‬
‫ذلك مثلا أن ال سبحانه وتعالى أحل الطيبات وحرما الخبائث‬
‫فاشتبه أمر بعض الشياء كذي الناب من السباع وذي المخلبِّ من‬
‫الطير وغيرها أتلحق بالطيبات أما بالخبائث فبينها النبي ‪ ‬في‬
‫أحاديث تنهى عن ذي الناب من السباع وذي المخلبِّ من الطير وعن‬
‫لحوما الحمر الهلية )‪ ، (2‬وهكذا ا لمر هنا‪ ،‬فالجتهاد المعتبر هو‬
‫الذي يبين ما اشتبه على الناس حكمه وتردد بين أصلين تردداا‬
‫ظاهره المساواةا بينهما في اللحاق‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك بيع الغرر‪ ،‬فقد نهى الشرع عنه‪ ،‬ومن‬
‫المعاملت ما هو واضح أنه غرر ومنها ما هو واضح أنه ليس غرراا‪،‬‬
‫وبينهما ما يشتبه هل هو غرر أو ل‪ .‬فالقول في هذا هو للمجتهد‬
‫المعتبر‪ .‬قال‪» :‬فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ورأينا العلماء‬
‫أجمعوا على منع بيع الجنة والطير في الهواء والسمك في الماء‪.‬‬
‫وعلى جواز بيع الجبية التي حشوها مغييبِّ عن البصار ولو بيع‬
‫حشوها بانفراده لمتنع وعلى جواز كراء الدار مشاهرةاا مع‬
‫احتمال أن يكون الشهر ثلثين أو تسعة وعشرين وعلى دخول‬
‫)‪(3‬‬
‫الحماما مع اختلفَّ عادةا الناس في استعمال الماء وطول اللبث«هل ‪.‬‬
‫ثم قال‪» :‬فكل مسألة وقع الخلفَّ فيها في باب الغرر فهي متوسطة‬
‫بين الطرفين آخذةا بشبه من كل واحد منهما«هل)‪. (4‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/87 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( البخاري ) ‪ ،( 5104 ) ،( 5101‬ومسلم ) ‪ ،( 3575 ) ،( 3570‬والترمذي )‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ( 1397 ) ،( 1374‬وقال حسن صحيح‪ ،‬والنسائي ) ‪،( 4273 ) ،( 4251‬‬


‫والنسائي ) ‪.( 4267‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/88 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪495‬‬
‫ومن المثلة أيضاا زكاةا الحلي وشهادةا المجهول الحال‬
‫وتملك العبد وغيرها‪ .‬قال‪» :‬وذلك أنهم أجمعوا على عدما‬
‫الزكاةا في العروض وعلى الزكاةا في النقدين فصار الحلي المباح‬
‫الس ـ تعمال دائراا بين الطرفين فلذلك وقع الخلفَّ فيها‪ .‬واتفقوا‬
‫على قبول رواية العدل وشهادته وعلى عدما قبول ذلك من الفاسق‬
‫وصار المجهول الحال دائراا بينهما فوقع الخلفَّ فيه‪ ،‬واتفقوا على‬
‫أن الحر يملك والبهيمة ل تملك ولما أخذ العبد بطرفَّم من كل‬
‫جانبِّ اختلفوا فيه هل يملك أما ل بناءا على تغليبِّ حكم أحد‬
‫الطرفين«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬ولعلك ل تجد خلفاا واقعاا بين العقلء‬
‫معتداا به في العقليات أو في النقليات ل مبني ـ اا على الظن ول على‬
‫القط ـ ع إل دائ ـ راا بين طرفي ـ ن ل يخت ـ لف فيهم ـ ا أصحاب‬
‫الختلفَّ«هل )‪. (2‬‬
‫ول يعني هذا أنه ل يوجد اجتهاد في غير هذه المحالي‪ .‬وإنما‬
‫هذا هو الجتهاد المعتبر‪ ،‬أي الذي يؤدي إلى بيان حكم ال في‬
‫الفعل‪ .‬أما الجتهاد في غير هذا فهو أثناء طلبِّ العلم والترقي فيه‬
‫وفهم المقاصد‪ ،‬إذ إن طالبِّ العلم يتعلم ويستقرئ ويجتهد لفهم‬
‫المقاصد وعلل الشريعة مع ما يتضمنه هذا من لزوما تحصيل علوما‬
‫اللغة والحديث وفهم أسباب النزول وسائر العلوما اللزمة‪ ،‬وهو في‬
‫أثناء ذلك يجتهد لتحصيل العلم بالمقاصد على كمالها‪ ،‬ولكنه قبل‬
‫تحصيل العلم بالمقاصد على كمالها إذا اجتهد في المحالي‬
‫المذكورةا أعله فاجتهاده غير معتبر‪ .‬لذلك وجدناه يقول فيما‬
‫مري من نص ـ وص له إن الجته ـ اد هو بذل الوسع في طلبِّ القطع أو‬
‫الظن بالحكم‪ .‬ووجدناه أيضاا ينفي الجتهاد في القطعيات‪.‬‬
‫اخإتلف المجتهدين‪:‬‬
‫يبذل المجتهد وسعه لمعرفة حكم ال في الفعل‪ .‬وما يتوصل‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 4/88 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/89 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪496‬‬
‫إليه حكم ظني‪ ،‬إذ لو كان قطعياا لما كان مما يحتاج إلى اجتهاد‬
‫ولما ساغِّ فيه تردد الرأي والنظر‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬فأما القطعي فل‬
‫مجال للنظر فيه«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬والخارج عنه مخطئ قطعاا«هل)‪. (2‬‬
‫ولذلك قيل‪ :‬ل اجتهاد مع النص‪ ،‬أي قطعي الثبوت والدللة‪.‬‬
‫وإذا كان الحكم ظنياا فذلك مما يختلــف فيــه المجتهــدون‪،‬‬
‫فتختلف آراؤهم‪ .‬والحكم في الفعل هو قص ـ د الش ـ ارع من الخ طــاب‬
‫المتعلق فيه وهو واحد ل يتعدد وهذا أ مــر قط عــي‪ .‬إذا‪ ،‬ل يم كــن أن‬
‫يكون كل المجتهدي ـ ن مع اختلف هــم مصيبي ـــ ن‪ ،‬وإن مــا المصي ـــ بِّ‬
‫واحد‪ .‬وهكذا المر في كل حكم من أحكاما الش ـ ريعة‪ .‬وتعدد قصــد‬
‫الش ـ ارع في قضية واحدةا محال‪ .‬قال تعالى‪    [ :‬‬
‫‪. (3)]      ‬‬
‫والمجتهدون مأجورون‪ ،‬المخطئ منهم والمصيبِّ‪ .‬قال النبي‬
‫‪» : ‬إذا اجأتهد الحاكم فأخإطأ فله أجأر وأإن أصاب فله‬
‫أجأران«)‪.(4‬‬
‫وما يتوصل إليه المجتهد باجتهاده هو ما غلبِّ على ظنه أنه‬
‫حكم ال‪ ،‬فيكون هو حكم ال في حقه ل يصح له أن يتركه لرأي‬
‫مجتهد غيره ول أن يفتى إل به )‪ . (5‬قال الشاطبي‪» :‬الشريعة كلها‬
‫ترجع إلى قولم واحدم في فروعها وإن كثير الخلفَّ كما أنها في‬
‫أصولها كذلك ول يصلح فيها غير ذلك«هل)‪ . (6‬وقال‪» :‬إن الصابة‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/187 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا النساء‪. 82 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( البخاري ) ‪ ،( 6805‬مسلم ) ‪ ،( 3240‬الترمذي ) ‪ ( 1240‬وقال‪ :‬حسن‬ ‫‪4‬‬

‫غريبِّ‪ ،‬والنسائي ) ‪ ،( 5286‬وأبو داود ) ‪ ،( 3103‬وابن ماجه ) ‪،( 2305‬‬


‫وأحمد ) ‪ ( 17106‬ونص الحديث عندهم‪» :‬إذا حكم الحاكم فاجأتهد‬
‫ثام أصاب فله أجأران‪ ،‬وأإذا حكم فاجأتهد ثام أخإطأ فله أجأر«‪.‬‬
‫) ( هذا هو الصل‪ ،‬ولكنه ليس على الطلق في كل حال‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/63 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪497‬‬
‫هي بموافقة قصد الشارع وإن الخطأ بمخالفته«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬وإن‬
‫قيل إن الكل مصيبون فليس على الطلق بل بالنسبة إلى كل مجتهد‬
‫أو من قلده لتفاقهم على أن كل مجتهد ل يجوز له الرجوع عما‬
‫أداه إليه اجتهاده ول الفتوى إل به«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬تجويز أن يأتي‬
‫دليلن متعارضان فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر‬
‫وفي أنظار المجتهدين ل في نفس المر فالمر على ما قالوه جائز‪،‬‬
‫ولكن ل يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة‪ .‬وإن أرادوا‬
‫تجويز ذلك في نفس المر فهذا ل ينتحله من يفهم الشريعة لورود‬
‫ما تقدما من الدلة عليه‪ ،‬ول أظن أن أحداا منهم يقوله«هل)‪ . ( 3‬وروى‬
‫عن مالك رضي ال عنه قوله‪» :‬هذا ل يكون قولن مختلفان‬
‫صوابين«هل)‪. ( 4‬‬
‫الخطأ في الجأتهاد‪:‬‬
‫تبين أن المجتهد المخطئ مأجور‪ .‬ولكن هذا في المجتهد‬
‫الذي بلغ الدرجة التي تمكنه من الجتهاد‪ ،‬فهذا تقليده جائز وإن‬
‫كان احتمال خطئه قائماا‪ ،‬فالصواب غير مقطوع به ول متعين مع‬
‫فلن‪ .‬إل أن هذا ل يعني جواز أخذ قول المجتهد بإطلق‪ .‬فمن‬
‫القوال ما يتعين أنه خطأ وإن صدرت عن المجتهد المعتبر‪ ،‬وهذا ما‬
‫يسميه الشاطبي زلة العالم‪ .‬ومن القوال ما ييحكم بخطئها وإن‬
‫احتملت إصابة الصواب أو قصد الشارع‪ .‬وهي القوال الصادرةا عمين‬
‫اجتهاده غير معتبر وهو الذي لم يضطلع بما يفتقر إليه الجتهاد‪.‬‬
‫أما الول فاجتهاده في الصل معتبر ولكنه قد يزل فهمه‬
‫فيتوهم من النص ما لم يقصده الشارع‪ ،‬أو أنه ل يطلع على النص‬
‫أصلا‪ ،‬وربما يرجع عن قوله ولكن ييعلم القول ول يعلم الرجوع‪،‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/68 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/69 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ، 4/70 ،‬وجاءت العبارةا في الن ســخة ا لــتي ب تحق يــ ق‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الدكتور درياز هكذا‪ » :‬هذا ل يكون قولن مختلف ي ن صوابين« ‪. 4/129 .‬‬

‫‪498‬‬
‫فل يجوز اتباع العالم في الزلة أو تقليده فيها‪.‬‬
‫أما الجتهاد الصادر عن غير أهله‪ ،‬فهو منشأ الزيغ والبدع‬
‫والختلفَّ والتفرق في الدين‪ ،‬وهؤلء الذين لم يفهموا المقاصد‬
‫على كمالها تراهم يتمسكون بوجوه من الجزئيات ويهدمون‬
‫الكليات‪ .‬ولقد حذر الشاطبي من مثل هذه الراء والقوال أشد‬
‫التحذير‪ ،‬وكرر تخطئتها والتحذير منها في الموافقات‪ ،‬وتوسع في‬
‫ذلك بشكل كبير في العتصاما‪.‬‬
‫أما بالنسبة للخطأ الذي يصدر عمن اجتهاده معتبر فقال‪:‬‬
‫»فيعرض فيه الخطأ في الجتهاد إما بخفاء بعض الدلة حتى يتوهم‬
‫فيه ما لم يقصد منه وإما بعدما الطلع عليه جملة «هل)‪ . (1‬وحذ ي ر منه‬
‫مستشهداا بقول النبي ‪» : ‬إني لخإاف على أمإتي مإن بعدي‬
‫مإن أعمال ثالثاة قالوا‪ :‬وأمإا هي يا رسول الله؟ قال‪:‬‬
‫عليهم مإن زبلة العالم وأمإن حكم جأائار وأمإن هو ا‬
‫ى‬ ‫أخإاف‬
‫مإتبع«)‪ . (2‬وقال‪ » :‬وعن ابن عباس‪ :‬ويلي للتباع من عثرات العالم‪.‬‬
‫قيل‪ :‬كيف ذلك؟ قال‪ :‬يقول العالم شيئاا برأيه ثم يجد من هو‬
‫أعلم برسول ال ‪ ‬منه فيترك قوله ثم يمضي التباع«)‪ .(3‬وبعد أن‬
‫بيين وجوب الحذر منها قال‪» :‬وأكثر ما تكون عند الغفلة عن‬
‫اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه والوقوفَّ‬
‫دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها‪ .‬وهو وإن كان‬
‫على غير قصد ول تعميد وصاحبه معذور ومأجور لكن مما ينبني‬
‫عليه في التباع لقوله فيه خطر عظيم «هل)‪ . (4‬وبناء على ذلك قال ‪:‬‬
‫»إ ن زلة العالم ل يصح اعتمادها من جهة ول الخذ بها تقليداا له‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/93 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الحافظ الهيثمي‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬كتاب الخلفة‪ ،‬باب‬ ‫‪2‬‬

‫في أئمة الظلم والجور وأئمة الضللة‪ ،( 9220 ) ،‬ومعجم الطبراني الكبير‬
‫باب الظاء ‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/94 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/95 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪499‬‬
‫وذلك لنها موضوعة على المخالفة للشرع«هل)‪. ( 1‬‬
‫ولكن‪ ،‬كيف يعرفَّ المقلد الزلة؟ قال‪» :‬فإن قيل فبماذا‬
‫يعرفَّ من القوال ما هو كذلك مما ليس كذلك‪ .‬فالجواب إنه من‬
‫وظائف المجتهدين فهيمي العارفون بما وافق أو خالف وأما غيرهم‬
‫فل تمييز لهم في هذا المقاما«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬فإن قيل فهل لغير‬
‫المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط أما ل‪ ،‬فالجواب إن له‬
‫ضابطاا تقريبياا‪ .‬وهو أن ما كان معدوداا في القوال غلطاا وزللا‬
‫قليل جداا في الشريعة«هل )‪ ، (3‬ثم قال‪» :‬فإذا انفرد صاحبِّ قول عن‬
‫عامة المة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد العظم من‬
‫المجتهدين ل من المقلدين«هل)‪. (4‬‬

‫أما المجتهد ص ـ احبِّ الزلة فل ينبغي أن يش ـ نع عليه‪ ،‬ولقد‬


‫ذكر فيما س ـ بق من نصوص أنه معذور ومأجور‪ ،‬وقال‪» :‬كما أنه‬
‫ل ينبغي أن ينس ـ بِّ صاحبها إلى التقص ـ ير ول أن يشنع علي ـ ه بها ول‬
‫ينتقص من أجلها أو يعتق ـ د فيه الق ـ داما على المخالف ـ ة بحتاا فإن‬
‫هذا كله خلفَّ ما تقتضي رتبته في الدين«هل)‪. (5‬‬

‫أما بالنسبة للجتهاد الصادر عمن هــو ليــس مــن أهلــه حيــث‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/97 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ .‬ومما نقله في ذلك‪ » :‬وكان معاذ بــن جبــل يقــول فــي‬ ‫‪4‬‬

‫خطبته إياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمــة‬
‫الضللة وقد يقول المنافق‪ ،‬فتلقوا الحق عمن جاء به فإن علــى الحــق نــوراا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكيف زيغة الحكيم؟ قال‪ :‬هي كلمة تروعكم وتنكرونهــا وتقولــون‪:‬‬
‫ما هذه فاحذروا زيغته ول تصدنكم عنه فـإنه يوشــك أن يفيــء وأن يراجــع‬
‫الحق« ‪. 4/94 ،‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪ . 4/95 ،‬وقد ذكر أمثلة على هذه الزلت نسبها إلى‬ ‫‪5‬‬

‫بعض الصحابة والتابعين منها شرب النبيذ ومنها بيع الدرهم بالدرهمين يــداا‬
‫بيد‪ ،‬وقال إنها ل يصح اعتمادها خلفاا في المسائل الشرعية‪ .‬أنظر‪. 4/96 :‬‬

‫‪500‬‬
‫يعتقد هو في نفسه أو يعتقد غيره فيه أنه من أهله فقال‪» :‬فيعرض‬
‫فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الجتهاد‬
‫وأن قوله معتد به وتكون مخالفته تارةاا في جزئي وهو أخف وتارةاا‬
‫في كلي من كليات الشريعة وأ صــولها العا مــة كــانت مــن أ صــول‬
‫العتقادات أو العمال‪ ،‬فتراه آخذاا ببعض جزئياتها في هدما كلياتها‬
‫حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطةم بمعانيها‬
‫ول راجع رجوع الفتقار إليها«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬ويكون الحامل علــى‬
‫ذلك بعض الهواء الكامنة في النفوس«هل )‪ . (2‬و قــال‪» :‬ويعيــن علــى‬
‫هذا الجهلي بمقا صــد ال شــريعة«هل )‪ . (3‬و قــال‪» :‬وأ صــل هــذا الق ســم‬
‫‪    ‬‬ ‫مذكور في قوله تعالى‪[ :‬‬
‫)‪(4‬‬
‫‪]        ‬‬
‫الية‪ ،‬وفي الصحيح‪ » :‬أن النبي ‪ ‬قرأ هــذه ال يــة ثــم قــال‪ :‬فــإذا‬
‫مى‬ ‫رأيتم الذين يتبعون مإا تش ابه مإن ه فأوألئـك الـذين س ي‬
‫الله فاحذروأهم«)‪. ( 6)«( 5‬‬
‫وبين الشاطبي أن مثل هذا الجتهاد هو منشأ البدع والفقريق‪.‬‬
‫وهو سببِّ الختلفَّ في الدين والتفرق فيه‪ .‬وعن مثله صدر‬
‫الخوارج‪ ،‬ومن علماته الفيرقيةي أي مفارقة الجماعة ثم التفرق‬
‫فيما يبنهم‪ ،‬والزيغ أي اتباع الهوى‪ ،‬واتباع المتشابهات)‪. (7‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/98 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( سورةا آل عمران‪. 7 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( أخرجه الترمذي ) ‪ ( 2920‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ .‬وأبو داود‬ ‫‪5‬‬

‫) ‪ ( 3682‬وأحمد ) ‪. ( 32079‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/98 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬الموافقات ص‪. 105 - 4/104 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪501‬‬
‫وهذا بخلفَّ الختلفَّ المشروع والمحمود‪ .‬قال‪» :‬ووجدنا‬
‫أصحاب رسول ال ‪ ‬من بعده قد اختلفوا في أحكاما الدين ولم‬
‫يفترقوا ولم يصيروا شيعاا لنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا‬
‫فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي والستنباط من الكتاب والسنة فيما‬
‫لم يجدوا فيه نصاا‪ ،‬واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين‬
‫لنهم اجتهدوا فيما أمروا به«هل)‪. (1‬‬
‫علمإة الجأتهاد المعتبر‪:‬‬
‫تبيين أن صاحبِّ الجتهاد المعتبر هو الذي فهم مقاصد‬
‫الشريعة على كمالها وتمكن من الستنباط من النصوص بناء على‬
‫فهمه فيها‪ .‬والسؤال الذي يظهر هو كيف ييعرفَّ أنه قد اضطلع‬
‫بهذه المرتبة‪ .‬يقول الشاطبي‪» :‬بقي النظر في المقدار الذي إذا‬
‫وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالجتهاد بما أراه ال«هل)‪. (2‬‬
‫والذي يظهر من استقراء منهج الشاطبي أن علمة الجتهاد المعتبر‬
‫هي ثلثة أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬إعمال الكليات والجزئيات معاا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬النظر في مآلت الفعال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬النظر في أحوال المكلفين على الخصوص‪.‬‬
‫وهذه المور الثلثة ناتجة عن فهم المقاصد‪ ،‬ويجبِّ أن تظهر‬
‫عند الستنباط الذي هو ثمرةا الفهم‪.‬‬
‫أما الول فقد تبين سابقاا‪ ،‬وفهم المقاصد لزما له فمن ل‬
‫يفهمها ل ييعملها‪ ،‬ومن يفهم الكليات ل يستغني عن الجزئيات‪،‬‬
‫فيدخل ضمن فهم المقاصد فهم مقاصد الحكاما التفصيلية‪ .‬فمثلا‬
‫إعمال أصل حفظ المال وهو أصل كلي في فعل السرقة أو الغصبِّ‬
‫أو الغش من غير اعتبار بالنصوص الخاصة بهذه الفعال خطأ‪ ،‬إذ‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 4/105 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/127 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪502‬‬
‫عقوبة القطع وعقوبة القتل وعقوبة السجن أو غيرها كلها ترجع‬
‫إلى الصل الكلي‪ .‬وهذا ظاهر الخطأ‪ ،‬فل يكفي إعمال الصل الكلي‬
‫وحده‪ .‬وكذلك ل يكفي إعمال الجزئيات دون اعتبار بالكليات‪،‬‬
‫فهذا كما تبين قبل قليل مدخل الهدما في الشريعة‪ ،‬ففكرةا المقاصد‬
‫تنقضه‪.‬‬
‫وأما الث ـ اني وهو النظر في مآلت الفعال‪ ،‬فهو أيضاا راجع‬
‫إلى موافقة قصد الشارع من الشريعة‪ .‬فالش ـ ارع ش ـ رع الحكم‬
‫لغاية‪ .‬وقد تحصل حالت يكون الحكم نفسه ميفويقتاا للغاية التي‬
‫شرع الحكم أصلا لجلها كما في الحي ـ ل والذرائع‪ .‬فعلى المجتهد‬
‫حين الستنباط أن ينظر في الفعل نفسه ومآله‪ .‬وإل فوت قصد‬
‫الشارع من تشريعه قال‪» :‬النظر في مآلت الفعال معتبر مقصود‬
‫شرعاا كانت الفعال موافقةا أو مخالفة وذلك أن المجتهد ل‬
‫يحكم على فعل من الفعال الصادرةا عن المكلفين بالقداما أو‬
‫بالحجاما إل بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل‪ ،‬فقد يكون‬
‫مش ـ روعاا لمصلحة فيه تستجلبِّ أو لمفسدةا تدرأ ولكن له مآل على‬
‫خلفَّ ما قصد فيه‪ ،‬وقد يكون غير مش ـ روع لمفسدةا تنشأ عنه أو‬
‫مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلفَّ ذلك«هل)‪. (1‬‬
‫أما الثالث وهو النظر في أحوال المكلفيــن علــى الخصــوص‪.‬‬
‫فهذا راجع إلى فهم المقاصد ولكن أدق المقاصد‪ .‬إذ يوقع المجتهــد‬
‫الحكاما على المكلفين كلم بحسبِّ حاله معتمداا على ما آتاه ال من‬
‫حكمة وما جعل له من نور‪ ،‬وهذا راجع إلى تحقيق الم نــاط ‪ -‬ح ســبِّ‬
‫الشاطبي ‪ -‬ولكنه نوع خاص منه‪ ،‬قال‪» :‬تحقيق المناط على قسمين‪،‬‬
‫تحقيق عاما وهو ما ذكر)‪ ، (2‬وتحقيق خاص من ذلك العاما«هل )‪ . (3‬أمــا‬
‫الول وهو العاما فقد تبين سابقاا‪ ،‬أما الثاني فقال فيه‪» :‬أما الثــاني‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/110 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( وقد تبين معناه في الفصل الول ‪ ،‬وفي هذا المبحث أيضاا‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/50 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪503‬‬
‫وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق وهو في الحقيقة ناشئ عــن‬
‫نتيجة التقوى المذكورةا في قوله تعالى‪    [ :‬‬
‫‪ ، (1)] ‬وقد يعبر عنه بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى‪:‬‬
‫[ ‪         ‬‬
‫‪« (2) ] ‬هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬فصاحبِّ هذا التحقيق الخاص هــو‬
‫الذي رزق نوراا يعرفَّ به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوةا‬
‫تحملها للتكاليف وصبرها على تح مــل أعبائ هــا أو ضــعفها وي عــرفَّ‬
‫التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدما التفاتها فهو يحمل على كــل‬
‫نفس من أحكاما النصـوص مـا يليـق بهـا بنـاءا علـى أن ذلـك هـو‬
‫المقصود الشرعي في تلقي التكاليف‪ ،‬فكأنه يخص عمــوما المكلفيــن‬
‫والتكاليف بهذا التحقيق«هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬هذا معنى تحق يــق الم نــاط‬
‫هنا«هل)‪ . (5‬وقد استدل الشاطبي لهذا النوع بأمثلة عن النبي ‪ . ‬ق ال‪:‬‬
‫» فمن ذلك أن النبي ‪ ‬سئل في أوقات مختلفة عــن أف ضــل الع مــال‬
‫وخير العمال وعرفَّ بذلك في بعض الوقات من غير سؤال فأجاب‬
‫بأجوبةم مختلفةم كل واحدم منها لو حمل علــى إطل قــه أو ع مــومه‬
‫لقتضى مع غيره التضاد فـي التفص يل‪ .‬ففـي الص حيح أن ه عليـه‬
‫الصلةا والسلما »ســئل أي العمــال أفضــل؟ قــال‪ :‬إيمــان‬
‫بالله‪ .‬قال‪ :‬ثام مإاذا؟ قال‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪ .‬قال‪:‬‬
‫ثام مإاذا؟ قال‪ :‬حج مإبروأر«)‪ . (6‬وسئل عليه الصلةا والســلما أي‬
‫العمال أفضل‪ :‬قال‪ :‬الصلة لوقتها‪ .‬قال‪ :‬ثام أي؟ قال‪ :‬بــر‬
‫الوالدين‪ ،‬قال‪ :‬ثام أي؟ قال‪ :‬الجهاد في سبيل اللــه«)‪. (7‬‬
‫وفي النسائي عن أبي أمامة قال‪ :‬أتيت النبي ‪ ‬فقلــت مإرنــي‬
‫) ( سورةا النفال‪. 29 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 269 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/51 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 52 - 51 / 4 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( البخاري ) ‪ ( 1422‬ومسلم ) ‪ ( 118‬والترمذي ) ‪ ( 1820‬وقال‪ :‬حسن‬ ‫‪6‬‬

‫صحيح‪ .‬والنسائي ) ‪ ( 2577‬وأحمد ) ‪ ( 7273‬والدارمي ) ‪. ( 2286‬‬


‫) ( الترمذي ) ‪ ( 1820‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وأحد ) ‪. ( 3776‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪504‬‬
‫بأمإر آخإذه عنك‪ .‬قال‪ :‬عليك بالصوم فإنه ل مإثل لــه«)‪. (1‬‬
‫وفي الترمذي‪» :‬أي العمال أفضــل درجأــة عنــد اللــه يــوم‬
‫القيامإة؟ قال‪ :‬الذاكروأن لله كثيرا ا وأالذاكرات)‪ (3)«(2‬إلخ‪.‬‬
‫فهذا مما اختلفت فيه الجوبة بحسبِّ أحوال المكلفين‪ ،‬وهذا هــو مــا‬
‫قصده الشاطبي بتحقيق المناط الخاص‪.‬‬
‫وهذه العلمات الثلثا يجبِّ أن توجد جميعها في المجتهد‪ ،‬فل‬
‫تكفي اثنتان مثلا وإن كان وجودها محققاا إلى درجة كبيرةا‪ ،‬وإن‬
‫وجدت كلها فبمقدار تمكن المجتهد منها تعلو درجته فيبلغ ذروةا‬
‫المجد في الجتهاد‪.‬‬
‫وللتحقق من بلوغِّ المجتهد درجة العتبار يقول إن طالبِّ‬
‫العلم له ثلثة أحوال‪ ،‬حال يتضح فيها أنه ليس من أهل الجتهاد‬
‫المعتبر فاللزما له التقليد بل خلفَّ‪ .‬وحال يتضح فيها أنه من أهل‬
‫الجتهاد المعتبر بل خلفَّ‪ ،‬وبين الحالين ما يلتبس ويشكل أمره‪،‬‬
‫فيقع الخلفَّ في شأنه‪.‬‬
‫أما صاحبِّ الحال الول فهو الذي ما زال ينظر في الجزئيات‬
‫وتتعين عنده المعاني الكلية‪ ،‬ولكنها لم تكتمل بعد‪ ،‬وما زال ينظر‬
‫ويستقرئ لفهم المقاصد‪ ،‬فيسرح عقله فيها‪ ،‬فمنها ما يطرد ويثبت‪،‬‬
‫ومنها ما تأتي النصوص معارضة له فل يثبت أصلا كلياا‪ .‬فهذا ل‬
‫يصح منه الجتهاد‪ .‬قال‪» :‬أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ‬
‫والبحث عن أسبابه‪ ،‬وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل لكنه‬
‫مجمل بعد«هل)‪ ، (4‬وقال‪» :‬فهذا الطالبِّ حين بقائه هنا ينازع الموارد‬
‫الشرعية وتنازعه ويعارضها وتعارضه طمعاا في إدراك أصولها‬

‫النسائي ) ‪ .( 2190‬وأخرجه بلفظ‪ :‬ل عدل لــه النســائي ) ‪( 2192‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫وأحمد ) ‪. ( 21128‬‬
‫الترمذي ) ‪ ( 3298‬وقال‪ :‬حديث غريبِّ‪ .‬وأحمد ) ‪ ( 11295‬بــدون‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫كلمة‪ :‬والذاكرات ‪.‬‬


‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/52 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/127 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪505‬‬
‫والتصال بحكمها ومقاصدها ولم تتخلص له بعد ل يصح منه‬
‫الجتهاد فيما هو ناظر فيه لنه لم يتخلص له مسند الجتهاد ول هو‬
‫منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه فاللزما له الكف‬
‫والتقليد«هل)‪. (1‬‬
‫أما صاحبِّ الحال الواضح في الطرفَّ الخر‪ ،‬فهو الذي تظهر‬
‫عنده العلمات الثلثا‪ ،‬قال عنه‪» :‬يتحقق بالمعاني الشرعية منزلة‬
‫على الخصوصيات الفرعية بحيث ل يصده التبحر في الستبصار‬
‫بطرفَّ عن التبحر في الستبصار بالطرفَّ الخر‪ ،‬فل هو يجري على‬
‫عموما واحد منها دون أن يعرضه على الخر‪ ،‬ثم يلتفت مع ذلك إلى‬
‫تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين«هل )‪ . (2‬وقال‪:‬‬
‫»وهذه الرتبة ل خلفَّ في صحة الجتهاد من صاحبها«هل)‪ . (3‬وقال‬
‫عنه‪» :‬ومن خاصيته أمران‪ :‬أحدهما أنه يجيبِّ السائل على ما يليق‬
‫به في حالته على الخصوص«هل)‪» . (4‬والثاني‪ :‬أنه ناظر في المآلت‬
‫قبل الجواب عن السؤالت«هل)‪. (5‬‬
‫أما من التبس حاله فهو واقع بين الطرفين الواضحين‪ ،‬وقد‬
‫اكتمل عنده فهم الكليات الشرعية واستقراء الجزئيات‪ ،‬لم يقصر‬
‫في ذلك بشيء‪ ،‬ولكنه عند النظر في المسائل يعمل الكليات دون‬
‫التفاتم إلى الجزئيات‪ ،‬يقول فيه‪» :‬أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق ما‬
‫حصل على حسبِّ ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث يحصل له‬
‫اليقين ول يعارضه شك‪ ،‬بل تصير الشكوك إذا أوردت عليه‬
‫كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه«هل)‪ . (6‬ثم قال‪» :‬لكنه‬
‫استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكماا وإن كان‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/131 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/132 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/132 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/127 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪506‬‬
‫موجوداا عنده فل يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على‬
‫خلفها أما ل«هل)‪ . (1‬وعقبِّ‪» :‬فإذا حصل الطالبِّ على هذه المرتبة فهل‬
‫يصح منه الجتهاد في الحكاما الشرعية أما ل؟ هذا محل نظرم والتباس‬
‫ومما يقع فيه الخلفَّ«هل)‪. ( 2‬‬
‫ويورد الشاطبي حجج القائلين بأن من هذا حاله متمكن جداا‬
‫من الستنباط‪ ،‬وكلها ترجع إلى عدما لزوما إعمال الجزئيات لنها‬
‫متضمنة في الكليات‪ ،‬فإذا فرضنا اكتمال الكليات عنده‪ ،‬فإن إعمال‬
‫الكليات هو إعمال للجزئيات)‪. (3‬‬
‫أما حجج المانعين لجتهاد من هذا حاله فكلها ترجع إلى أنه‬
‫غير متمكن من إعمال الجزئيات أو أنه ل يعملها‪ ،‬فهو إذاا ل يعتبر‬
‫خصوصيات الحوال والفعال والمكلفين فل يستقيم مع هذا أن‬
‫يكون من أهل الجتهاد)‪. (4‬‬
‫ويأتي الشاطبي بمثالين على أصحاب هذه المرتبة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫»ومن أمثلة هذه المرتبة مذهبِّ من نفى القياس جملةا وأخذ‬
‫بالنصوص على الطلق‪ ،‬ومذهبِّ من أعمل القياس على الطلق ولم‬
‫يعتبر ما خالفه من الخبار جملةا«هل)‪ . (5‬ثم قال‪» :‬فأصحاب الرأي‬
‫جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات‬
‫اللفاظ والظاهرية جردوا مقتضيات اللفاظ فنظروا في الشريعة‬
‫بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية«هل )‪. (6‬‬
‫ل يمكن انقطاع الجأتهاد كلياا‪:‬‬
‫تبين أن الجته ـ اد ثلث ـ ة أنواع‪ ،‬ومنه الجتهاد لتحقي ـ ق‬

‫المصدر نفسه‪. 4/128 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 129 - 4/128 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/129 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/130 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪507‬‬
‫المناط‪ ،‬وأن هذا نوعان تحقيق بالمعنى العاما‪ ،‬وتحقيق بالمعنى‬
‫الخاص‪ ،‬وقد ذهبِّ الش ـ اطبي إلى أن كل أنواع الجتهاد يمكن أن‬
‫تنقطع ما عدا الجتهاد في تحقيق المناط بالمعنى العاما‪ .‬وهذا إذا‬
‫ارتفع يؤدي إلى ارتفاع التكليف رأساا بخلفَّ سائر النواع‬
‫الخ ـ رى‪ ،‬وبيان ذلك أن تحقيق المناط هذا يجبِّ حصوله في كل‬
‫واقعة‪ ،‬فإذا فقد استحال تطبيق الحكاما‪ ،‬أما إذا انقطعت أنواع‬
‫الجتهاد الخرى فإن اتساع اجتهادات المتقدمين تفي بأفعال‬
‫المكلفين‪ ،‬والمستجدات التي قد يفتقر إلى أحكاما لها قليلة بالنسبة‬
‫إليها‪ ،‬وهذا ل يضير حسبِّ قوله‪.‬‬

‫قال‪» :‬الجته ـ اد على ضربين‪ :‬أحدهما ل يمك ـ ن أن ينقطع‬


‫حتى ينقطع أص ـ ل التكلي ـ ف وذلك عند قي ـ اما الس ـ اعة‪ ،‬والثاني‬
‫يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا‪ ،‬فأما الول فهو الجتهاد المتعلق‬
‫بتحقي ـ ق المناط«هل)‪. (1‬‬

‫أما أن تحقيق المناط يحتاج إلى اجتهاد فقد تبين سابقاا‪ ،‬ومما‬
‫قاله فيه في هذا الموضع‪» :‬إن الشارع إذا قال‪  [ :‬‬
‫‪ (2)]  ‬وثبت عندنا معنى العدالة شــرعاا افتقر نــا إ لــى‬
‫تعيين من حصلت فيه هذه الصفة‪ ،‬وليس الناس فــي و صــف العدا لــة‬
‫على حد سواء‪ ،‬بل ذلك يختلــف اختل فــاا متباينــاا‪ ،‬فإنــا إذا تأملنــا‬
‫العدول وجدنا لتصافهم ب هــا طرفيــن ووا ســطة‪ ،‬طــرفَّ أعلــى فــي‬
‫العدالة ل شك فيه كأبي بكر الصديق‪ ،‬وطرفَّ آخر وهو أول درجة‬
‫في الخروج عن مقتضى الوصف«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬وبينه مــا مرا تــبِّ ل‬
‫تنحصر وهذا الوسط غامض ل بد فيه من بلــوغِّ حــد الوســع وهــو‬
‫الجتهاد فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد«هل)‪. (4‬‬
‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/47 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا الطلق‪. 2 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/47 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪508‬‬
‫وأما أن تحقيق المناط ل بد منه في كل واقعة وإن كان‬
‫حكمها معروفاا فقال‪» :‬والفعال ل تقع في الوجود مطلقةا‪ ،‬وإنما‬
‫تقع معينةا مشخصةا فل يكون الحكم واقعاا عليها إل بعد المعرفة‬
‫بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العاما«هل)‪ . (1‬فإذا انقطع‬
‫هذا الجتهاد امتنع العلم بالحكاما‪ ،‬فيرتفع التكليف‪ .‬قال‪» :‬يسقط‬
‫عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي إذا لم يكن له به علم‬
‫ل من جهة اجتهاد معتبر ول من تقليد«هل)‪ . (2‬وهذا الجتهاد ل ينقطع‬
‫عملياا لنه مستطاع ول يحتاج إل إلى النظر العقلي وما يلزما له من‬
‫معلومات يمكن أخذها من اجتهادات المتقدمين‪ ،‬قال‪» :‬فل بد من‬
‫هذا الجتهاد في كل زمان إذ ل يمكن حصول التكليف إل به‪ ،‬فلو‬
‫فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الجتهاد لكان تكليفاا بالمحال‬
‫وهو غير ممكن شرعاا كما أنه غير ممكن عقلا«هل)‪. (3‬‬
‫أما الجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلثة أنواع‪ ،‬قال‪:‬‬
‫»الجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلثة أنواع‪ :‬أحدها المسمى‬
‫بتنقيح المناط«هل )‪ . (4‬ثم قال‪» :‬والثاني المسمى بتخريج‬
‫المناط«هل )‪ . (5‬وهذان النوعان يفيدان في ادعاء العلل وفي استقرائها‬
‫وإثباتها أو ردها‪ .‬ثم قال‪» :‬والثالث وهو نوع من تحقيق‬
‫المناط«هل )‪ ، (6‬ومراده تحقيق المناط الخاص وقد تقدما بيانه‪.‬‬
‫فهذه النواع الثلثة يمكن أن تنقطع بانقطاع المجتهدين‪،‬‬
‫ولكن ل يرتفع التكليـف بانقطاعهـا‪ ،‬قـال‪» :‬فإن الوقائـع‬
‫المتجددةا التي ل عهد بها في الزمان المتقدما قليلة بالنسبة إلى ما‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/49 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/172 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ ، 4/49 ،‬تنقيح المناط وتخريج المناط وتحقيق المناط‬ ‫‪4‬‬

‫تقدما شرحها في الفصل الول ‪.‬‬


‫) ( المصدر نفسه‪. 4/50 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪509‬‬
‫تقدما لتساع النظر والجتهاد عند المتقدمين فيمكن تقليدهم فيه‬
‫لنه معظم الشريعة فل تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات‬
‫كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون‬
‫السائر فإنه ل ضرر على الشريعة في ذلك«هل)‪. (1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/55 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪510‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫وأالفتوى‬ ‫)‪(1‬‬
‫ضأوابط التقليد‬
‫مإوضأوع هذا المبحث‪:‬‬
‫قصد الشارع في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه ليكون‬
‫عبداا ل اختياراا‪ ،‬فعليه أن يتحرى حكم ال في أفعاله‪ ،‬فإن كان‬
‫متمكناا من استنباط الحكاما بنفسه فهو مجتهد‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫كذلك فهو المقلد وعليه أن يتحرى معرفة حكم ال بواسطة‬
‫القادر على ذلك وهو المجتهد‪ .‬والمجتهدون ليسوا معصومين عن‬
‫الخطأ‪ ،‬ويتفاوتون في العلم والفقه والورع وفيما يكونون به‬
‫مجتهدين يجوز تقليدهم ويختلفون في اجتهاداتهم وفتاويهم‪.‬‬
‫وكما أن على المجتهد أن يتحرى قصد الشارع بفهم الدلة‬
‫الشرعية فكذلك على المقلد أن يتحرى موافقة قصد الشارع بتقليد‬
‫من يغلبِّ على ظنه أن تقليده يحقق له ذلك‪ .‬لذلك ينبغي أن يعرفَّ‬
‫الوصافَّ والعلمات التي يجبِّ أن يتحقق منها أو يستعين بها المقلد‬
‫ليعييقن المجتهد الذي يقلده أو الفتوى التي يلتزما بها‪.‬‬
‫وكذلك فإن بعض المفتين يعتمدون في فتاواهم على قواعد‬
‫أو أصول يسعون بها إلى أغراض لهم‪ ،‬أو يتوهمونها صحيحة أو‬
‫شرعية وهي ليست كذلك‪ .‬لذلك وجبِّ تحذير هؤلء المفتين من‬
‫مناهجهم أو مما يفعلونه في الفتوى‪ ،‬وكذلك التحذير من هكذا‬
‫فتاوى‪ ،‬وإعلما المستفتي أو المقلد بذلك لتكون من علمات التمييز‬
‫بين المجتهدين‪.‬‬
‫ولجل بيان كيفية تحري حال المفتي أو المجتهد‪ ،‬وكذلك‬
‫بيان مواطن أو بعض مواطن النحرافَّ في الفتوى كان هذا‬
‫) ( قال الزركشي‪ » :‬واختلفوا في حقيقته هل هو قبول قــول القائــل وأنــت‬ ‫‪1‬‬

‫تعلم من أين قاله؟ أي من كتاب أو سنة أو قياس‪ ،‬أو قبول القــول مــن غيــر‬
‫حجة تظهر على قوله؟« البحر المحيط‪. 4/554 ،‬‬

‫‪511‬‬
‫المبحث‪.‬‬
‫المجتهدوأن أدلة المقلدين‪:‬‬
‫بما أن الناس مكلفون بالحكاما‪ ،‬والحكاما مصادرها النصوص‬
‫الشرعية‪ ،‬والمقلدون ليس من شأنهم الستنباط من النصوص‪،‬‬
‫فالنصوص بالنسبة إليهم معدومة‪ ،‬وعليهم أن يفهموا الحكاما‬
‫بواسطة من يفهمها من النصوص‪ .‬وفقد المجتهد بالنسبة إلى‬
‫المقلد كفقد الدليل بالنسبة إلى المجتهد‪ ،‬قال الشاطبي‪» :‬فتاوى‬
‫المجتهدين بالنسبة إلى العواما كالدلة الشرعية بالنسبة إلى‬
‫المجتهدين‪ ،‬والدليل عليه أن وجود الدلة بالنسبة إلى المقلدين‬
‫وعدمها سواء إذ كانوا ل يستفيدون منها شيئاا فليس النظر في‬
‫الدلة والستنباط من شأنهم ول يجوز ذلك لهم البتة«هل )‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»فهم إذاا القائمون له مقاما الشارع وأقوالهم قائمة مقاما‬
‫الشارع«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬ل تكليف إل بدليل فإذا لم يوجد دليل على‬
‫العمل سقط التكليف به‪ ،‬فكذلك إذا لم يوجد مفتم في العمل فهو‬
‫غير مكلف به فثبت أن قول المجتهد دليل العامي وال أعلم«هل)‪. (3‬‬
‫وعلى ذلك فإذا عرضت للمقلد مسألة عليه أن ل يقدما عليها‬
‫)‪(4‬‬
‫إل بعد معرفة حكم ال فيها وذلك هو مقتضى التكليف والتقوى ‪،‬‬
‫فعليه أن يسأل عنها أهلها وهم أهل النظر والستنباط‪ ،‬قال‪» :‬إن‬
‫المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فل يسعه في الدين إل السؤال‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/173 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( ذهبِّ الشاطبي إلى أن قوله تعالى‪]      [ :‬‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا البقرةا‪ . 282 ،‬ليست على ما يفهمه كثير من الناس بل على ما يقــرره‬
‫الئمة في صناعة النحو ‪ ،‬أي إن ال يعلمكم على كل حال فاتقوه‪ .‬فكان الثــاني‬
‫وهو العلم سبباا في الول وهو التقوى‪ .‬فترتبِّ الم ر ب التقوى عل ى حص ول‬
‫العلم ترتباا معنوياا وهو يقتضي تقدما العلم على العمــل‪ .‬أنظــر‪ :‬الموافقــات‪،‬‬
‫‪. 152 - 4/151‬‬

‫‪512‬‬
‫عنها«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬السائل ل يصح له أن يسأل من ل يعتبر في‬
‫الشريعة جوابه«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬إذا تعين عليه السؤال فحق عليه أن ل‬
‫يسأل إل من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه«هل)‪. (3‬‬
‫وقد يجد المقلد من يبين له الحكم وقد ل يجده‪ ،‬فإن لم يجده‬
‫يسقط عنه التكليف حسبِّ قول الشاطبي‪ ،‬وإن وجده فقد تتحد‬
‫القوال في مسألته وقد تتعدد‪ ،‬فإن اتحدت فل إشكال وإن تعددت‬
‫فعليه أن يرجح بينها‪ ،‬ول بد له من مرجح شرعي ول يصح له‬
‫التخير‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬ل فرق بين مصادفة المجتهد الدليل‬
‫ومصادفة العامي المفتي‪ ،‬فتعارض الفتوتين عليه كتعارض‬
‫الدليلين على المجتهد‪ ،‬فكما أن المجتهد ل يجوز في حقه اتباع‬
‫الدليلين معاا ول اتباع أحدهما من غير اجتهاد ول ترجيح‪ ،‬كذلك‬
‫ل يجوز للعامي اتباع المفتيين معاا ول اتباع أحدهما من غير‬
‫اجتهاد ول ترجيح‪ ،‬وقول من قال إذا تعارضا عليه تخييير)‪ (4‬غير‬
‫صحيح«هل)‪. (5‬‬
‫الترجأيح بين المجتهدين‪:‬‬
‫ترجيح المقلد بين المجتهدين يكون عندما تتعارض أقوالهم‬
‫في مسألته‪ ،‬وهو ترجيح بين مجتهدين وليس بين أقوال أو فتاوى‪،‬‬
‫وترجيحه بين المجتهدين ل بد أن ينبني على أوصافَّ فيهم يستطيع‬
‫أن يتبينها وأن يحكم عليها‪ ،‬فإذاا‪ ،‬ترجيح المقلد للمجتهد يعتمد‬
‫على أفعاله‪ .‬وهذا يرجع إلى التقوى والورع والفهم‪ .‬ول شك أن‬
‫العلم أو العلمية هي إحدى وسائل الترجيح‪ ،‬ولكن هذا المر مما‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/151 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/152 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( قال الشوكاني‪ :‬إنه قول أ كــثر أ صــحاب ال شــافعي‪ ،‬إر شــاد الف حــول‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ ، 271‬وفي هذه المسألة أقوال كثيرةا‪ ،‬أنظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪،‬‬


‫‪. 4/592‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/71 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪513‬‬
‫يخفى على المقلد‪ ،‬أو تتعارض فيه القوال‪ ،‬وقد يتساوى أو يتقارب‬
‫العالمان في العلم‪ ،‬فل ترجيح إل بناءا على الفعال وهي الدالة على‬
‫الورع وعلى فهم المجتهد لهمية فعله أماما العامة أو من يقتدي به‪،‬‬
‫فيدرك أنه عليه أن ينتصبِّ فقيهاا بقوله وفعله وبإقراره وليس‬
‫فقط بقوله‪ .‬وذلك أن »المفتي قائم في المة مقاما النبي ‪، (1)«‬‬
‫فهو قد ورثا عن النبي ‪ ‬العلم‪ ،‬ويقوما بتبليغه وهو بالنسبة‬
‫للمقلدين بمثابة الشارع باجتهاده)‪ ، (2‬ولذلك يقول‪» :‬الفتوى من‬
‫المفتي تحصل من جهة القول والفعل والقرار«هل)‪ . (3‬وعلى ذلك فإن‬
‫ترجيح المقلد يعتمد على أوصافَّ في المجتهد هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ل تخالف أفعاله الحكاما الشرعية وهو مقتضى العدالة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ل تخالف أفعاله أقواله‪ ،‬وإن كانت المخالفة من ضمن‬
‫المشروع‪ ،‬وهو مقتضى النتصاب للفتوى‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يحمل الناس بفتواه على المعهود الوسط فهو معهود‬
‫الشريعة وقصد الشارع‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن يخافَّ من الفتوى وهو مقتضى التقوى والورع والخوفَّ من‬
‫مخالفة قصد الشارع‪.‬‬
‫أما الوصف الول وهو العدالة فيعرفه المقلد من معرفة‬
‫سلوك المفتي في قوله وعمله‪ ،‬فإذا كان يخالف ما عليه أهل الدين‬
‫والعلم فهذا ل يقتدى به ول تؤخذ أقواله‪ ،‬فهذا يسقط عن درجة أن‬
‫يرجح بينه وبين غيره‪ ،‬لنه فاقد للعدالة‪ ،‬قال‪» :‬فأما فتياه بالقول‬
‫فإذا جرت أقواله على غير المشروع‪ ،‬وهذا من جمله أقواله فممكن‬
‫جريانها على غير المشروع فل يوثق بها«هل)‪ . (4‬ومعنى النص أنه إذا‬
‫كان في أقواله التي هي خارج إطار الفتاوى يخالف الشرع‪ ،‬فإن‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/140 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 141 - 4/140 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/141 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/145 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪514‬‬
‫أقواله في الفتاوى ينطبق عليها المر نفسه فيمكن أن يخالف فيها‬
‫الشرع فل يعتد بها‪ ،‬وقال‪» :‬وأما أفعاله فإذا جرت على خلفَّ أفعال‬
‫أهل الدين والعلم لم يصح القتداء بها ول جعلها أسوةاا في جملة‬
‫أفعال السلف الصالح‪ ،‬وكذا إقراره لنه من جملة أفعاله«هل )‪. (1‬‬
‫وقال‪» :‬فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله‪،‬‬
‫والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لن الجميع يستمد من‬
‫أمر واحد قلبي‪ ،‬هذا بيان عدما صحة الفتيا منه على الجملة«هل)‪. (2‬‬
‫وعلى ذلك فالقاعدةا التي يقررها هي‪» :‬أن الفتيا ل تصح من‬
‫مخالف لمقتضى العلم«هل)‪. (3‬‬
‫أما الوصف الثاني‪ ،‬فإن المفتي إذا طابقت أفعاله أقواله‬
‫مطابقةا كان في أعلى الدرجات في هذا الوصف‪ ،‬وإذا حصل فيها‬
‫التعارض‪ ،‬فهذا نزول عن الدرجة‪ ،‬ويرجح بين المجتهدين في مقدار‬
‫هذا التعارض أو مواضعه‪ ،‬ولكن ينبغي هنا ملحظة أن هذه‬
‫المعارضة ليست مما يقدح بالعدالة‪ ،‬لنها إن كانت كذلك‪ ،‬فل‬
‫يوثق بالفتوى أصلا‪ ،‬قال‪» :‬من اجتمعت فيه شروط النتصاب‬
‫للفتوى على قسمين‪ :‬أحدها من كان منهم في أفعاله وأقواله‬
‫وأحواله على مقتضى فتواه فهو متصف بأوصافَّ العلم قائم معه‬
‫مقاما المتثال التاما حتى إذا أحببت القتداء به من غير سؤال غناك‬
‫عن السؤال في كثير من العمال كما كان رسول ال ‪ ‬يؤخذ‬
‫العلم من قوله وفعله وإقراره‪ ،‬فهذا القسم إذا وجد فهو أولى ممن‬
‫ليس كذلك«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬فمن زهد الناس في الفضول التي ل‬
‫تقدح في العدالة وهو زاهد فيها وتارك لطلبها فتزهيده أنفع من‬
‫تزهيد من زهد فيها وليس بتاركم لها فإن ذلك مخالفة وإن كانت‬
‫جائزةا وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغِّ مرتبة من‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/144 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/158 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪515‬‬
‫طابق قوله فعله«هل)‪. (1‬‬
‫أما إذا نزل المجتهدون عن هذه المرتبة فالمرجيح منهم من‬
‫كانت مطابقة أقواله لفعاله أغلبِّ‪ .‬قال‪» :‬فإذا اختلفت مراتبِّ‬
‫المفتين في هذه المطابقة فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة‬
‫قوله لفعله«هل)‪ . (2‬ومن عوامل الترجيح أن ينظر المقلد في مواضع‬
‫المطابقة والمخالفة‪ ،‬فإن المطابقة في النواهي أرجح من المطابقة‬
‫في الوامر‪ .‬قال‪» :‬والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى‬
‫الوامر والنواهي‪ ،‬فإذا طابق فيهما فهو الكمال‪ ،‬فإن تفاوت المر‬
‫فيهما أعنى فيما عدى شروط العدالة فالرجح المطابقة في‬
‫النواهي«هل )‪ . (3‬وذلك لن اجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد‬
‫الشرعي)‪. (4‬‬
‫أما الوصف الثالث وهو حمل الناس على المعهود الوسط‪ ،‬فهو‬
‫أن الناس متفاوتون في مقدار تحملهم للتكاليف والمشاق‪ ،‬وفي‬
‫مقدار إقبالهم على الطاعات وزهدهم في الدنيا وتنازلهم عن‬
‫الحظوظ والحقوق‪ ،‬أو في إقبالهم على الدنيا وتمسكهم بحقوقهم‬
‫وسعيهم إلى حظوظهم إل أن الجميع قد جعل الشارع لهم حدوداا‬
‫من واجبات عليهم القياما بها ومحرمات عليهم اجتنابها‪ ،‬فمن زهد‬
‫في الدنيا وحظوظه وحقوقه ليس له التنازل عن حفظ نفسه وبدنه‬
‫وتحصيل ما يلزما للقياما على نفسه وأهله ومن كليفه الشارع بهم‬
‫بالرعاية والنفقة وما إلى ذلك‪ ،‬فليس له ترك ذلك انقطاعاا إلى‬
‫العبادةا مثلا‪ .‬وكذلك من أقبل على الدنيا وزينتها وما أباح ال له‬
‫منها‪ ،‬فإن عليه واجبات ل بد من قيامه بها‪ ،‬وحقوقاا ل بد من أدائها‪،‬‬
‫وما بين ذلك فهم يتفاوتون في إقبالهم على المباحات والمندوبات‬
‫وبعدهم عن المكروهات‪ ،‬أو إحجامهم عنها‪ ،‬وليست حال الناس في‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/159 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪516‬‬
‫هذا واحدةا‪ .‬وكذلك هم متفاوتون في قدراتهم البدنية والذهنية‬
‫كما هم متفاوتون في دوافعهم الروحية والمادية‪ .‬وبناءا على‬
‫ذلك فليس للمفتي أن يتعدى في فتواه حدود الواجبات أو‬
‫المحرمات‪ ،‬وما بين هذه الحدود يقع الوسط حيث ل يليق بالمكلف‬
‫ما يليق بالخر‪ ،‬والتحقق من حال المكلف يرجع إلى تحقيق المناط‬
‫الخاص وقد تبين في المبحث السابق‪ .‬وقد يأخذ بعض المكلفين‬
‫أنفسهم بالعزائم مبتعدين عن الرخص‪ ،‬ويأخذون أنفسهم‬
‫بالمندوبات وكأنها عليهم واجبات ويتركون المكروهات وكأنها‬
‫عليهم محرمات‪ ،‬بينما تكون العزائم والمندوبات شاقة على غيرهم‬
‫وترك المكروهات مخلا بهم وربما دفع إلى المعاصي‪ ،‬فالمفتي‬
‫الفقيه الراسخ في العلم يفتي المكلف بما يليق بحاله فيما جعل له‬
‫الشرع فيه سعة‪ ،‬وهو إذا أصدر الفتوى في مصلحة عامة‪ ،‬أو قضية‬
‫من قضايا الجماعة أو الجمهور يحملهم على الوسط‪ ،‬أي ليس‬
‫بحسبِّ حال أدناهم ول بحسبِّ حال أعلهم‪ .‬فل يفتي بالرخصة‬
‫مثلا بحسبِّ أضعفهم بدنااي أو نفساا أو طلباا للخرةا‪ ،‬ول بحسبِّ‬
‫أقواهم في ذلك‪ ،‬وإنما يذهبِّ فيهم مذهبِّ الوسط المعهود‪ ،‬والمراد‬
‫بالمعهود أي ما عهد من أمر الشريعة في حمل الناس على هذا‬
‫الوسط من ضمن المأذون به شرعاا‪ .‬والمقلد يرجح بين المجتهدين‬
‫بحسبِّ ما يلحظه في فتاويه العامة‪ ،‬وليس الخاصة بأعيان المكلفين‬
‫إذ هو ليس من أهل النظر في ذلك‪ .‬فالمأذون به هو ما قصد‬
‫الشارع الذن فيه والوسط في ذلك هو أدق القصد للشارع‪ .‬قال‬
‫الشاطبي‪» :‬المفتي البالغ ذروةا الدرجة هو الذي يحمل الناس على‬
‫المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فل يذهبِّ بهم مذهبِّ الشدةا ول‬
‫يميل بهم إلى طرفَّ النحلل«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬فإذا خرج عن ذلك في‬
‫المستفتين خرج عن قصد الشارع‪ ،‬ولذلك كان ما خرج عن المذهبِّ‬
‫الوسط مذموماا عند العلماء الراسخين«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬المستفتي إذا‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/149 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪517‬‬
‫ذهبِّ به مذهبِّ العنت والحرج بغض إليه الديـن وأدى إلى النقطاع‬
‫عن سلوك طريق الخرةا وهو مشاهد«هل )‪. (1‬‬
‫أما المفتي الذي تحمله مرتبته على أن يحمل نفسه ما هو فوق‬
‫الوسط‪ ،‬فقد يظن الناس أن عليهم القتداء به فيحملون أنفسهم ما ل‬
‫يصلح لهم‪ ،‬لذلك عليه أن يخفي عن الناس ما يأخذ نفسه به مما هو‬
‫فوق الوسط‪ ،‬أو ينبه عليه‪ ،‬قال‪» :‬قد يسوغِّ للمجتهد أن يحمل نفسه‬
‫من التكليف ما هو فوق الوسط«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬ولما كان مفتياا‬
‫بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه‪ ،‬فربما اقتدى‬
‫به فيه من ل طاقة له بذلك العمل فينقطع‪ ،‬وإن اتفق ظهوره للناس‬
‫نبه عليه كما كان رسول ال ‪ ‬يفعل إذ كان قد فاق الناس عبادةاا‬
‫وخلقاا«هل )‪. (3‬‬
‫وبعد أن بين أن حمل الناس على الوسط هو أعلى الدرجات في‬
‫الجتهاد قال‪» :‬إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد‬
‫الشارع وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي‬
‫مذهبِّ كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالتباع وأولى‬
‫بالعتبار‪ ،‬وإن كانت المذاهبِّ كلها طرقاا إلى ال ولكن الترجيح‬
‫فيها ل بد منه لنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدما وأقرب إلى‬
‫تحري قصد الشارع في مسائل الجتهاد«هل)‪. (4‬‬
‫أما الوصف الرابع وهو أن يخافَّ من الفتاء‪ ،‬فقد ذكر بعض‬
‫أئمة العلم المشهود لهم‪ ،‬وخص منهم الماما مالك بن أنس ‪ -‬رحمه‬
‫ال ‪ ، -‬وذكر خوفهم من الفتوى أو من الخطأ فيها‪ ،‬ومن هذه‬
‫الوصافَّ كثرةا قولهم‪ :‬ل أدري‪ ،‬وتغير لون المجتهد عندما يأتيه‬
‫السؤال‪ ،‬وكونه قبل الجواب كأنه واقف بين الجنة والنار‪ ،‬ومنها أن‬
‫يرد السائل ويؤخر الجواب حتى ينظر فيه‪ ،‬ومنها أن يجمع ذوي‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/150 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/155 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪518‬‬
‫العلم لستشارتهم‪ ،‬ومنها أن يحذر من رأيه إذا ظهر خطؤه أو‬
‫معارضته لنص شرعي‪ ،‬ومنها أن يندما إذا أكثر من الفتاوى وغير‬
‫ذلك‪ .‬ومما قاله في هذا الشأن نقلا عن الماما مالك رحمه ال‪:‬‬
‫»إني لفكر في مسألة منذ بضع عشرةا سنة فما اتفق لي فيها رأي‬
‫إلى الن‪ .‬وقال‪ :‬ربما وردت عليي المسألة فأفكر فيها ليالي‪ .‬وكان‬
‫إذا سئل عن مسألة قال للسائل‪ :‬انصرفَّ حتى أنظر فيها فينصرفَّ‬
‫ويردد فيها‪ .‬فقيل له في ذلك فبكى وقال‪ :‬إني أخافَّ أن يكون لي‬
‫من المسائل يوما وأي يوما‪ .‬وكان إذا جلس نكس رأسه وحريك‬
‫شفتيه بذكر ال لم يلتفت يميناا ول شمالا فإذا سئل عن مسألة‬
‫تغيير لونه وكان أحمر فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه ثم‬
‫يقول ما شاء ال ل حول ول قوةا إل بال فربما سئل عن خمسين‬
‫مسألة فل يجيبِّ منها في واحدةا‪ ،‬وكان يقول‪ :‬من أحبِّ أن يجيبِّ‬
‫عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيبِّ على الجنة والنار كيف‬
‫يكون خلصه في الخرةا ثم يجيبِّ«هل)‪. (1‬‬
‫وبعـد أن بيـن جملـة مـن هـذه الوصـافَّ قـال‪» :‬هـذه‬
‫جمـلة تدل النسـان على مـن يكون مـن العلمـاء أولى بالفتيـا‬
‫والتقليـــــد له ويتبيـن بالتفـاوت في هـذه الوصـافَّ الراجح‬
‫من المرجوح«هل)‪. (2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/169 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ . 4/172 ،‬وقد ورد عن العلماء أقوال كثيرةا في أهميــة‬ ‫‪2‬‬

‫الفتوى وفضلها وفي خطرها ووجوب التهيبِّ منها‪ .‬من ذلك قول النووي‪:‬‬
‫» اعلم أن الفتاء عظيم الخطر‪ ،‬كبير الموقع‪ ،‬كــثير الف ضــل لن الم فــتي‬
‫وارثا النبياء صلوات ال و ســلمه علي هــم‪ ،‬و قــائم ب فــرض الكفايــة‪ ،‬لكنــه‬
‫معرض للخطأ‪ .‬ولهذا قالوا‪ :‬المفتي موقع عــن ا لــ« ‪ .‬و قــال‪ » :‬عــن ا بــن‬
‫مسعود وابن عباس رضي ال عن هــم‪ ،‬مــن أ فــتى فــي كــل مــا يي ســأل ف هــو‬
‫مجنون« ‪ .‬وقال‪ » :‬عن ابن عباس ومح مــد بــن عجلن‪ ،‬إذا أغفــل العــالم ل‬
‫أدري أصيبت مقاتله«‪ .‬وقال‪ » :‬وعن الشافعي و قــد ســئل عــن م ســألة فلــم‬
‫ييجبِّ‪ ،‬فقيل له‪ ،‬فقال‪ :‬حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب‪ ،‬وعن‬
‫الثرما‪ :‬سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول‪ :‬ل أدري‪ ،‬وذلك فيما عيريفَّي‬
‫القاويل فيه‪ .‬وعن الهيثم بن جميل‪ :‬شهدتي مالكاا سئل عن ثمانم وأربعين‬
‫مسألة فقال في ثنتين وثلثين منها‪ :‬ل أدري« ‪ .‬وقال‪ » :‬وقال أبو حنيفــة‪:‬‬

‫‪519‬‬
‫قواعد مإردوأدة في الفتوى‪:‬‬
‫تبين أن الشريعة ترجع إلى قولم واحد في أصولها وفروعها‪،‬‬
‫أي أن قصد الشارع في كل واقعةم هو واحد‪ ،‬وعلى المجتهد أن يبذل‬
‫وسعه لموافقته في اجتهاده‪ ،‬وكذلك المكلف عليه أن يتحرى قصد‬
‫الشارع بالترجيح بين المجتهدين‪ .‬وبناءا على ذلك فإن الشاطبي‬
‫يرد الفتاوى التي ل تنبني على الترجيح بين الدلة‪ .‬ويرد أيضاا‬
‫القواعد التي يعتمدها بعض العلماء في الفتوى ول تقوما على أساس‬
‫بذل الوسع لجل موافقة قصد الشارع‪ .‬وذلك مثل أن يتخيير‬
‫المقلد بين أقوال المجتهدين إذا اختلفت‪ ،‬أو أن يتخير العالم بين‬
‫أقوال الصحابة أو الئمة المعتبرين‪ ،‬أو أن يختار المفتي للمستفتي‬
‫اليسر والخف بناء على أن الدين يسر ول حرج فيه‪ ،‬وعلى أن‬
‫الشريعة سمحة واختلفَّ الئمة رحمة‪ ،‬وتعميم قاعدةا الضرورات‬
‫تبيح المحظورات وتطبيقها في غير مواضعها‪ ،‬ومن ذلك أيضاا تتبع‬
‫رخص المذاهبِّ‪ ،‬وجعل الختلفَّ في المسألة حجة على الباحة‪.‬‬
‫وقد تتبع الشاطبي مثل هذه الراء واسترسل في التفصيل فيها وفي‬
‫الرد عليها‪.‬‬
‫ومما ييشار إليه أن مثل هذه الفتاوى موجودةا في زماننا بشكل‬
‫واضح‪ ،‬ولكن اللفت فيها أن بعض أصحابها يزعم استناده فيها إلى‬
‫الشاطبي ومنهجه‪ .‬فيفتي بما وافق الهوى أو غرضي السلطان‬
‫متذرعاا بالتجديد تارةا وبالضرورات والحاجات تارةا أخرى‪،‬‬
‫ومستدلا بالمصالح مرةا وبالمقاصد وشيخ المقاصد مرات‪ ،‬يهدما‬
‫أحكاما الشريعة بحجة مقاصدها غافلا عن أن أول مقاصد الشريعة‬
‫تطبيق الشريعة‪ ،‬وأن من أهم ما ركز عليه الشاطبي أنه ل طريق‬

‫لول الفيرق من ال تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت‪ ،‬يكون لهم المهنأ وعلــي‬
‫الوزر« ‪ .‬أنظر‪ :‬آداب الفتوى والمفتي والمستفتي‪ .‬لبي زكريا يحيى بــن‬
‫شرفَّ النووي الدمشقي ‪ 676 – 631‬هـ‪ 1277 - 1233 /‬ما‪ .‬بعناية بساما‬
‫عبد الوهاب الجابي‪ .‬دار الب شــائر ال ســلمية‪ ،‬ط ‪ 1411 ،2‬ه ـــ ‪ 1990 -‬ما‪،‬‬
‫وهو مختصر ومفيد في موضوعه‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫إلى مقاصد الشريعة إل عبر الشريعة‪ .‬ومغفلا أو جاهلا مفهوما‬
‫الشاطبي للمصالح والمفاسد ومنهجه في التعليل وتقرير المقاصد‬
‫القائم على الستقراء المفيد للقطع‪ ،‬وكذلك أن المقاصد هي‬
‫مقاصد الشارع وليست مقاصد ذوي الحظوظ والغراض‪.‬‬
‫لذلك فإن هذا البحث‪ ،‬إضافة إلى بيانه لبعض آراء الشاطبي‪،‬‬
‫فإنه ينبه الذين يتوهمون ويزعمون الستناد إلى الشاطبي ومنهجه‪،‬‬
‫أن الشاطبي كان حرباا على هذه الراء والدعاوى‪.‬‬
‫أما في عدما جواز التخير بين القوال إذا تعارضت سواء عند‬
‫المجتهد أو المقلد فيقول‪» :‬إن فائدةا وضع الشريعة إخراج المكلف‬
‫عند داعية هواه‪ ،‬وتخييره بين القولين نقض لذلك الصل وهو غير‬
‫جائز‪ .‬فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل‬
‫مسألة وعلى مصلحةم كلية في الجملة‪ .‬أما الجزئية فما يعرب‬
‫عنها دليل كل حكم وحكمته‪ ،‬وأما الكلية فهي أن يكون المكلف‬
‫داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته‬
‫اعتقاداا وقولا وعملا فل يكون متبعاا لهواه كالبهيمة المسيبة‬
‫حتى يرتاض بلجاما الشرع‪ ،‬ومتى خييرنا المقلدين في مذاهبِّ الئمة‬
‫لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إل اتباع الشهوات في‬
‫الختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فل يصح القول‬
‫بالتخيير على حال«هل)‪. (1‬‬
‫وأما ما يستند إليه البعض مثل القول بأن الختلفَّ رحمة‪،‬‬
‫ومثل ما يروى عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه قال‪ :‬ما أحبِّ أن‬
‫أصحاب رسول ال لم يختلفوا‪ ،‬وتفسير ذلك بأنه يدل على جواز‬
‫التخير بين أقوال الصحابة وأقوال الئمة‪ ،‬فيرد الشاطبي هذا‬
‫المعنى ويبين أن المعنى هو أن الصحابة رضي ال عنهم لو لم‬
‫يختلفوا وكان قولهم واحداا في كل مسألة لدلي ذلك على عدما‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/71 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪521‬‬
‫جواز الختلفَّ وبالتالي على عدما جواز الجتهاد‪ ،‬ولما فيتح بعدهم‬
‫باب للجتهاد‪ ،‬فالسعة والرحمة في اختلفَّ الصحابة هي في فتح باب‬
‫الجتهاد وفي أن يعمل المجتهد بما يترجح في ظنه‪ ،‬ومن ضمن‬
‫عمله فتواه‪ .‬وبعد أن ذكر أقوال بعض العلماء الدالة على ما ذهبِّ‬
‫إليه قال‪» :‬فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات‬
‫الفرعية ولم يتكلموا فيها وهم القدوةا في فهم الشريعة والجري‬
‫على مقاصدها لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب«هل )‪ . (1‬ثم قال‪:‬‬
‫»فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة فلما اجتهدوا ونشأ من‬
‫اجتهادهم في تحريي الصواب الختلفَّ سهل على من بعدهم سلوك‬
‫الطريق‪ ،‬فلذلك قال عمر بن عبد العزيز ‪ -‬وال أعلم ‪ : -‬ما يسرييني‬
‫أن لي باختلفهم حمر النعم‪ ،‬وقال‪ :‬ما أحبِّ أن أصحاب رسول ال ‪‬‬
‫لم يختلفوا«هل)‪ . (2‬وروى عن الماما مالك رحمه ال قوله‪» :‬ليس في‬
‫اختلفَّ أصحاب رسول ال ‪ ‬سعة وإنما الحق في واحد«هل)‪. (3‬‬
‫ويقول بناءا على أصل عدما جواز التخييير‪» :‬وقد أدى إغفال‬
‫هذا الصل إلى أن صار كثير من مقلدةا الفقهاء يفتي قريبه أو‬
‫صديقه بما ل يفتي به غيره إتباعاا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك‬
‫القريبِّ أو الصديق‪ ،‬ولقد ويجد هذا في الزمنة السالفة فضلا عن‬
‫زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهبِّ إتباعاا للغرض‬
‫والشهوةا«هل )‪ . (4‬وبعد أن ذكر أمثلةا على هذه الفتاوى ونعى عليها‬
‫بشدةا قال‪» :‬وهذا مما ل خلفَّ فيه بين المسلمين ممن يعتدي به في‬
‫الجماع أنه ل يجوز ول يسوغِّ ول يحل لحد أن يفتي في دين ال‬
‫إل بالحق الذي يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من‬
‫سخطه‪ ،‬وإنما المفتي مخبر عن ال تعالى في حكمه فكيف يخبر إل‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/71 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/69 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/73 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪522‬‬
‫بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه«هل)‪. (1‬‬
‫أما القول بأن الخلفَّ في المسألة دليل على الذن فيها فهذا‬
‫مما زاد عن الحد‪ ،‬وهو مما يتبريما به الشاطبي‪ .‬يقول‪» :‬وقد زاد‬
‫هذا المر على حد الكفاية حتى صار الخلفَّ في المسائل معدوداا‬
‫في حجج الباحة‪ ،‬ووقع فيما تقدما وتأخر من الزمان العتماد في‬
‫جواز الفعل على كونه مختلفاا فيه بين أهل العلم«هل)‪ . (2‬وقال‪:‬‬
‫»فربما وقع الفتاء في المسألة بالمنع فيقال‪ :‬لقمي تمنع والمسألة‬
‫مختلف فيها فيجعل الخلفَّ حجة في الجواز لمجرد كونها‬
‫مختلفاا فيها ل لدليل«هل )‪ . (3‬ومن أمثلة ذلك قول من قال إن الناس‬
‫لما اختلفوا في الشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنبِّ واختلفوا‬
‫فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه)‪ . (4‬وبعد‬
‫أن نقل عن مثل هذه القوال أنها خطأ فاحش‪ ،‬وأنها لو صحت للزما‬
‫مثلها في الربا والصرفَّ ونكاح المتعة لن المة قد اختلفت فيها‪،‬‬
‫وأن الختلفَّ ليس حجة)‪ ، (5‬قال‪» :‬والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع‬
‫ما يشتهيه ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه‪ ،‬فهو‬
‫قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه ل وسيلة إلى تقواه‪ ،‬وذلك‬
‫أبعد له من أن يكون ممتثلا لمر الرب وأقرب إلى أن يكون ممن‬
‫اتخذ إلهه هواه«هل )‪ . (6‬ومما يثير الستغراب أن أصحاب هذه القوال‬
‫يشنعون على الملتزمين بما يرونه الصواب أو الرجح‪ .‬قال‪:‬‬
‫»وربما صرح صاحبِّ هذا القول بالتشنيع على من لزما القول‬
‫المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه‬
‫أكثر المسلمين ويقول له‪ :‬لقد حجرت واسعاا وملت بالناس إلى‬

‫المصدر نفسه‪. 4/77 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/78 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/78 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪523‬‬
‫الحرج وما في الدين من حرج وما أشبه ذلك«هل)‪ . (1‬وعقبِّ قائلا‪:‬‬
‫»وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة«هل )‪. (2‬‬
‫ويرد الشاطبي فتاوى المتساهلين المتتبعين لرخص المذاهبِّ‬
‫محتجين بأن الشريعة سمحة‪ ،‬فيورد قولهم ومنه‪» :‬قوله عليه‬
‫الصلةا والسلما‪» :‬بعثت بالحنيفية السمحة«)‪ (3‬يقتضي جواز‬
‫ذلك لنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق‬
‫العباد بل بتحصيل المصالح«هل )‪ . ( 4‬ويرد قائلا‪» :‬وأنت تعلم بما تقدما‬
‫في هذا الكلما لن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيداا بما‬
‫هو جارم على أصولها وليس تتبع الرخص ول اختيار القوال‬
‫بالتشهي بثابتم من أصولها فما قاله عين الدعوى‪ ،‬ثم نقول‪ :‬تتبع‬
‫الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع‬
‫الهوى«هل)‪. (5‬‬
‫أما التساهل بدعوى الضرورةا أو الحاجة حيث ل ضرورةا‬
‫فيرده مردداا الحديث عن قلة الدين والورع عند بعض المنتصبين‬
‫للفتوى‪ .‬يقول‪» :‬وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن ييدييعي‬
‫فيها الضرورةا وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح‬
‫المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت‬
‫المسألة على حالةم ل ضرورةا فيها ول حاجة إلى الخذ بالقول‬
‫المرجوح أو الخارج عن المذهبِّ‪ ،‬أخذ فيها بالقول المذهبي أو‬
‫الراجح في المذهبِّ‪ ،‬فهذا أيضاا من ذلك الطراز المتقدما فإن‬
‫حاصله الخذ بما يوافق الهوى الحاضر‪ ،‬ومحال الضرورات معلومة‬
‫من الشريعة«هل )‪ . (6‬ثم قال‪» :‬قل الورع والديانة في كثير ممن‬
‫ينتصبِّ لبث العلم والفتوى كما تقدما تمثيله فلو فتح لهم هذا الباب‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/79 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/81 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/81 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪524‬‬
‫لنحلت عرى المذهبِّ بل جميع المذاهبِّ لن ما وجبِّ للشيء وجبِّ‬
‫لمثله وظهر أن الضرورةا التي ادعيت في السؤال ليست‬
‫بضرورةا«هل )‪. (1‬‬
‫ومن ضمن ما يبينه الشاطبي من فتاوى باطلة ويحذر منها‬
‫الفتاوى التي تميل عن الراجح بحجة التيسير ورفع الحرج‪ ،‬وهي‬
‫من القواعد الشرعية‪ ،‬ويبنى على ذلك مسألة وهي هل يجبِّ الخذ‬
‫بأخف القولين أو بأثقلهما‪ ،‬فيصبح الخذ ليس بالرجح لموافقة‬
‫قصد الشارع وإنما بالخف أو الثقل‪ .‬ويستدل من يقول بالخف‬
‫بأدلة التيسير ورفع الحرج ورفع الضرر وسماحة الشريعة)‪. (2‬‬
‫فيقول رداا على ذلك‪» :‬والجواب عن هذا ما تقدما‪ ،‬وهو أيضاا مؤديم‬
‫إلى إيجاب إسقاط التكليف جملةا«هل)‪ . (3‬ويقول‪» :‬فإذا كانت‬
‫المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلئل لزما‬
‫ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير‬
‫ذلك ول يقف عند حد إل إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال‬
‫فما أدى إليه مثله«هل)‪. (4‬‬
‫وقد لخص الشاطبي بعض المفاسد التي يؤدي إليها التساهل‬
‫في الفتوى والتخير بين القوال وتتبع الرخص فذكر منها‪:‬‬
‫»النسلخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع‬ ‫‪1‬ـ‬
‫الخلفَّ«هل‪.‬‬
‫»الستهانة بالدين إذ يصير بهذا العتبار سيالا ل‬ ‫‪2‬ـ‬
‫ينضبط«هل‪.‬‬
‫»ترك ما هو معلوما إلى ما ليس بمعلوما«هل‪.‬‬ ‫‪3‬ـ‬
‫»انخراما قانون السياسة الشرعية بترك النضباط‬ ‫‪4‬ـ‬
‫إلى أمر معروفَّ«هل‪.‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/82 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/83 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪525‬‬
‫»إفضائه إلى القول بتلفيق المذاهبِّ على وجه‬ ‫‪5‬ـ‬
‫يخرق إجماعهم‪ .‬وغير ذلك من المفاسد التي يمكن‬
‫تعدادها«هل)‪. (1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/82 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪526‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫أصل مإآلت الفعال‬
‫أهميته في مإنهج الشاطبي‪:‬‬
‫جعل الشاطبي النظر في مآلت الفعال من علمات المجتهد‬
‫المعتبر‪ ،‬وأوجبِّ ذلك على المجتهد عند النظر والستنباط إذ إنه‬
‫من مقاصد الشارع‪ ،‬قال‪» :‬النظر في مآلت الفعال معتبر مقصود‬
‫شرعاا«هل)‪. (1‬‬
‫وفكرةا مآلت الفعال من أهم الفكار في منهج الشاطبي‪،‬‬
‫وتنبني عليها قواعد كثيرةا بل إن النظر في المآلت هو الساس‬
‫الول في منهجه‪ ،‬فإن أساس فكرته هو أن الشريعة جاءت لجل‬
‫مصالح العباد‪ ،‬فالشريعة لها مآلت‪ ،‬والحكاما لها مآلت‪ ،‬ولجل هذه‬
‫المآلت كانت الشريعة‪ ،‬فكانت الشريعة والحكاما أسباباا لمسببات‪.‬‬
‫وكذلك فإن إثبات الشاطبي أن أفعال ال ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫وأحكامه معللة‪ ،‬إنما كان باستقراء النصوص التي يدل منطوقها‬
‫على الغاية من الفعل أو الحكم‪ ،‬فالفعل المشروع مشروع لجل غاية‬
‫قصدها الشارع وهي المصلحة المقصودةا من شرع الحكم‪ .‬والفعل‬
‫المنهي عنه له مآل أو نتيجة قصد الشارع رفعها وهي المفسدةا‬
‫المقصود رفعها من النهي‪.‬‬
‫هذه المصالح والمفاسد هي مقاصد الشريعة أي هي مقاصد‬
‫الشارع في وضع الشريعة ابتداء‪.‬‬
‫هذا أساس أو أصل في التشريع في منهج الشاطبي‪ ،‬فالفعال‬
‫طلبِّ فعلها أو تركها لجل مآلتها‪ ،‬والفعال المأذون بها قد تؤول‬
‫إلى نتائج ليست مما قصده الشارع‪ ،‬وكذلك الفعال المنهي عنها قد‬
‫تؤول إلى رفع نتائج ليست مما قصد الشارع رفعه‪ ،‬لذلك ليس كل‬
‫ما ينتج عن الفعل مقصود للشارع‪ .‬وإنما يفهم المآل المقصود‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/110 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪527‬‬
‫وجوده أو رفعه بالستقراء‪ ،‬وقد تبين هذا بالتفصيل سابقاا‪ ،‬والمآل‬
‫الذي يثبت بالستقراء المفيد للقطع أنه مقصود للشارع وجوداا أو‬
‫رفعاا‪ ،‬هو أصل للتشريع أو علة للتشريع‪ ،‬أو مصلحة مقصودةا‬
‫للشارع بالطلبِّ‪ ،‬أو مفسدةا مقصود رفعها شرعاا بالنهي‪ ،‬هذه‬
‫باختصار مقاصد الشريعة أو الحكاما أو مآلت الشريعة أو الحكاما‪.‬‬
‫إل أن هذه الفعال المأذون بها أو المنهي عنها قد توجد حالت‬
‫أو ظروفَّ‪ ،‬سواء ظروفَّ المكلف أو ظروفَّ الواقع ل تحصل معها‬
‫مآلتها المقصودةا شرعاا‪ ،‬أو أنها تحصل ولكن يحصل معها ما ل‬
‫يقصده الشارع‪ ،‬فهنا يلحظ أن حكم الفعل كان لجل مآلم ما‪ ،‬ولكن‬
‫الفعل صار له مآل أو مآلت أخرى قد تكون مناقضة لما قصده‬
‫الشارع بالتشريع‪ ،‬ويلحظ أيضاا الصل في التشريع وهو أن‬
‫الحكاما إنما كانت لجل مصالحها أو مقاصدها‪ ،‬فالحكاما ومآلتها‬
‫مرتبطة ارتباط السببِّ والمسببِّ‪ ،‬فإذا كان هذا أصلا في التشريع‬
‫فالشارع حين أمر أو نهى أمر بالفعل أو نهى عنه قاصداا مآله‪،‬‬
‫وعلى ذلك فالناظر في الشريعة ليفهمها عليه أن يفهمها على هذا‬
‫الساس نفسه‪ ،‬لن حكم الفعل الذي بينه الشارع مقصود له‪ ،‬أي‬
‫اللتزاما به‪ ،‬وكذلك مآل الفعل‪ ،‬مقصود للشارع‪ ،‬والفعل ومآله‬
‫مرتبطان ارتباط السببِّ والمسببِّ‪ ،‬والشارع يقصد بالسببِّ مسببه‪،‬‬
‫ويقصد المسببِّ بالسببِّ نفسه‪ .‬فإذا حصل النفكاك بين الفعل ومآله‬
‫في أحوال معينة‪ ،‬أو حصل ارتباط بين الفعل ومآل غير مقصود به‬
‫عند الشارع في أحوال معينة‪ ،‬فعلى المجتهد أن ينظر في هذا المر‬
‫ويعتبره عند النظر والجتهاد‪ ،‬لنه معتبر عند الشارع‪ ،‬والمجتهد‬
‫عندما يبين الحكاما للمقلدين فكأنه الشارع‪.‬‬
‫وهذا الصل‪ ،‬أصل اعتبار مآلت الفعال‪ ،‬ليس أصلا كسائر‬
‫الصول أو القواعد الخرى في منهج الشاطبي بل هو أساس منهجه‬
‫ولبه في مقاصد الشريعة‪ .‬وعليه تنبني معظم الصول والقواعد‬
‫الخرى المعتبرةا عنده في الجتهاد والتشريع‪ ،‬فقواعد سد الذرائع‬

‫‪528‬‬
‫والستحسان والمصالح المرسلة ورفع الضرر ورفع الحرج وعدما‬
‫التكليف بما ل يطاق أو بالمشقات المعنتة‪ ،‬وكذلك قاعدةا الحيل‬
‫وغيرها كلها مبنية على هذا الصل‪ ،‬إذ إن مقاصد الشريعة هي‬
‫مآلتها‪ ،‬وهذا الصل هو مآلت الفعال‪ ،‬والحكاما إنما هي أحكاما‬
‫الفعال‪.‬‬
‫أدلته‪:‬‬
‫لذلك رأينا الشاطبي حين ألزما المجتهد بالنظر في مآلت الفعال‬
‫واستدل على ذلك‪ ،‬كانت أدلته الدلة نفسها التي استعملها عند‬
‫إثبات أن الشريعة إنما وضعت لجل مصالح العباد‪ .‬فقد استدل‬
‫بثلثة أمور‪ .‬قال‪» :‬والدليل على صحته ثلثة أمور‪ ،‬أحدها أن‬
‫التكاليف كما تقدما مشروعة لمصالح العباد‪ ،‬ومصالح العباد إما‬
‫دنيوية وإما أخروية‪ ،‬أما الخروية فراجعة إلى مآل المكلف في‬
‫الخرةا«هل)‪ ، (1‬وقال‪» :‬وأما الدنيوية فإن العمال إذا تأملتها مقدمات‬
‫لنتائج المصالح‪ ،‬فإنها أسباب لمسببات هي مقصودةا للشارع‪،‬‬
‫والمسببات هي مآلت السباب فاعتبارها في جريان السباب مطلوب‬
‫وهو معنى النظر في المآلت«هل )‪ . (2‬أما دليله الثاني فقال فيه إن عدما‬
‫اعتبار مآلت العمال يتناقض مع كون التكاليف شرعت لمصالح‬
‫العباد )‪ . (3‬وأضافَّ‪» :‬وأيضاا فإن ذلك يؤدي إلى أن ل نتطلبِّ‬
‫مصلحة بفعل مشروع ول نتوقع مفسدةا بفعل ممنوع وهو خلفَّ‬
‫وضع الشريعة«هل)‪ . (4‬فهذان الدليلن واضح أنهما يرجعان إلى أصل‬
‫فكرته في أن الشريعة إنما وضعت لجل مصالح العباد‪.‬‬
‫أما دليله الثالث فهو الستقراء على أن الشريعة إن مــا وي ضــعت‬
‫لجل غايات أو نتائج قصدها الشارع بها‪ ،‬وإذا رجعنــا إ لــى مف هــومه‬
‫للمصالح والمفاسد وهو أنها ما ق صــده ال شــارع بالتشــريع‪ .‬وإ لــى‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/111 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪529‬‬
‫مباحثه في السباب والتي تبينت سابقاا‪ ،‬يتبين أن هذا الدليل هنا هو‬
‫دليله في إثبات أن أحكاما ال سبحانه وتعالى‪ ،‬معللة بمقاصدها‪ ،‬وهو‬
‫الذي ذكره في أول كتاب المقاصد‪ ،‬وهو ليس شيئاا قريباا منــه أو‬
‫مبنياا عليــه وإن مــا هــو نف ســه‪ ،‬قــال‪» :‬والثــالث الدلــة ال شــرعية‬
‫والستقراء التاما أن المآلت معتبرةا في أ صــل الم شــروعية ك قــوله‬
‫ت عــالى‪      [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ . ]     ‬وق وله‪ [ :‬‬
‫‪        ‬‬
‫)‪(2‬‬
‫الية‪ .‬وق وله‪    [ :‬‬ ‫‪] ‬‬
‫[ ‪‬‬‫‪ (3)]     ‬الية‪ .‬وقوله‪:‬‬
‫)‪(4‬‬
‫الية‪ .‬وقوله [ ‪‬‬ ‫‪]       ‬‬
‫)‪(5‬‬
‫الي ة‪ .‬و قـــوله‪  [ :‬‬ ‫‪]  ‬‬
‫)‪(6‬‬
‫الية‪ .‬و قــوله‪  [ :‬‬ ‫‪]     ‬‬
‫‪ . (7)]  ‬وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة«هل ‪.‬‬
‫)‪(8‬‬

‫فهذه النصوص إنما يسـتكثر منها لجـل إثبات الستقراء‪ ،‬والشــاهد‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 21 ،‬ــ والمقصود أن المر بالعبادةا هو لجل مآلها وهــو‬ ‫‪1‬‬

‫التقوى‪.‬‬
‫) ( سورةا البقرةا‪.183 ،‬ــ والمقـصـود بالسـتـدلل أن ال أمـر بال صــوما‬ ‫‪2‬‬

‫لجل مآله وهو التقوى‪.‬‬


‫) ( سورةا البقرةا‪ . 188 ،‬وتمامها‪    [ :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ] ‬والمقصود النهي عن الفعل لرفع مآله وهو ظلــم ال نــاس وأ كــل‬


‫حقوقهم‪.‬‬
‫) ( سورةا النعاما‪ . 108 ،‬وتماما الية [ ‪    ‬‬ ‫‪4‬‬

‫] والمقصود رفع المآل برفع سببه والمآل هو أن يسبوا ال تعالى‪.‬‬


‫) ( سورةا النساء‪ . 165 ،‬وتماما الية [ ‪     ‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ ]  ‬والمقصود أن إرسال الرسل له مآل وهو أن ل يكون للناس‬


‫حجة ‪.‬‬
‫) ( سورةا البقرةا‪ . 216 ،‬وتماما الية [ ‪     ‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪             ‬‬
‫‪ . ]‬والمقصود أن الحكم له مآل هو الخير لكم‪.‬‬
‫) ( سورةا البقرةا‪ . 179 ،‬والمقصود أن القصاص له مآل وهو الحياةا‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/112 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪530‬‬
‫فيها هو أنها ظهر فيها الحكم وظهر فيها المآل المقصود به‪ .‬وهــذا‬
‫الدليل هو عينه الدليـل على أن الشـريعة إنما شـرعت لجل مصالح‬
‫العباد )‪ . (1‬بل إن هذه النصوص المس ـــتدل ب هــا هنــا من هــا مــا ه ـــو‬
‫مستدل به هناك‪.‬‬
‫ويمكن انتقاد استدللت الشاطبي هنا‪ ،‬بأن دليليه الول والثاني‬
‫يرجعان إلى الثالث فهي دليل واحد في حقيقة المر‪ .‬وهذا الدليل‬
‫هو نفسه الدليل على تعليل الشريعة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد‪،‬‬
‫فهو لم يأت بجديد في إثبات اعتبار مآلت الفعال‪ ،‬ولم يكن بحاجة‬
‫إلى الستدلل‪ ،‬ومن يأخذ منهجه من أصله فهو ملزما بأصل مآلت‬
‫الفعال‪ ،‬والذي يرد أصل مآلت الفعال يلزمه أن يرد المنهج من‬
‫أصله‪.‬‬
‫مإعناه وأتطبيقه‪:‬‬
‫وينبغي التذكير بأمور في هذا الموضع‪ ،‬وهو أن مآلت‬
‫الفعال هي مسبباتها أو مصالحها أو حكمها أو معانيها‪ ،‬والشاطبي ل‬
‫يأخذ بها جلباا أو درءاا أي إنها ل تثبت أنها مصالح أو مفاسد إل‬
‫على سبيل القطع بالستقراء‪ ،‬فالمآلت هي أصول كلية قطعية‪،‬‬
‫وبغير هذا ل تعتبر‪ ،‬فالمآل الذي يجبِّ اعتباره حين النظر في الفعل‬
‫ونتيجته هو الثابت قطعاا‪ ،‬وبما أن الفعال جزئيات ونتائجها‬
‫جزئيات‪ ،‬فاعتبار المآل هو اعتبار الصل الكلي الذي ترجع إليه هذه‬
‫النتائج الجزئية‪ ،‬وهذا من تفصيلت منهجه كما سبق بيانه‪ ،‬وفيما‬
‫يلي بعض نصوصه للتذكير بهذا المر لنه ضروري لفهم أصل‬
‫مآلت الفعال‪ ،‬كما أنه من الضروري التنبه الدائم عند قراءةا‬
‫الشاطبي إلى مقصوده بالمصالح والمفاسد وأنها ما قصده الشارع‬
‫بغض النظر عن الوصافَّ النسانية‪ ،‬فهي من حيث جعلها الشارع‬
‫كذلك وليس من حيث أهواء النفوس‪ ،‬قال‪» :‬السباب المشروعة‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/3 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪531‬‬
‫إنما شرعت لمصالح العباد وهي حقكيمي المشروعية«هل)‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»وما نهي عنه فإنما نهي عنه لمفسدةام يقتضيها فعله‪ ،‬فإذا فعل فقد‬
‫دخل على شرط أن يتسببِّ فيما تحت السببِّ من المصالح أو المفاسد‬
‫ل يخرجه عن ذلك عدما علمه بالمصلحة أو المفسدةا أو بمقاديرهما‬
‫فإن المر قد تضمن أن في إيقاع المنهي عنه مفسدةا علمها ال‬
‫ولجلها نهى عنه‪ ،‬فالفاعل ملتزما لجميع ما ينتجه ذلك السببِّ من‬
‫المصالح أو المفاسد وإن جهل تفاصيل ذلك«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬فل بد‬
‫من اللتفات إلى المعاني التي شرعت لها الحكاما‪ .‬والمعاني هي‬
‫مسببات الحكاما«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬الحكاما الشرعية إنما شرعت لجلبِّ‬
‫المصالح أو درء المفاسد‪ ،‬وهي مسبباتها قطعاا«هل)‪ . (4‬وقال‪» :‬وتقرر‬
‫في هذه المسائل أن المصالح المعتبرةا هي الكليات دون‬
‫الجزئيات«هل)‪. (5‬‬
‫وبناءا على ذلك فوجوب النظر في المآلت إنما هو لنه قد‬
‫تحصل حالت يكون الفعل المشروع لجل مصلحة غير مؤد إليها‬
‫وقد يؤدي إلى مفسدةا‪ ،‬وقد يؤدي إلى المصلحة والمفسدةا معاا‪،‬‬
‫والفعل المنهي عنه لجل مفسدةا‪ ،‬قد يؤدي إلى مصلحة أو قد يؤدي‬
‫تركه إلى مفسدةا أكبر من مفسدته‪ ،‬فعلى المجتهد أن ينظر في‬
‫هذه الوقائع والحالت‪ ،‬وهذا كله يرجع إلى تحقيق المناط إما‬
‫بالمعنى العاما وإما بالمعنى الخاص‪ .‬أما بالمعنى العاما فهو أن يكون‬
‫الواقع قد حصلت فيه من الظروفَّ والحوال ما يجعل للفعل مآلت‬
‫مختلفة وذلك كالخروج إلى السواق والمدارس وشهود الجنائز‬
‫وما شابه ذلك‪ ،‬فهذا جائز أو مطلوب شرعاا‪ ،‬ولكن قد تؤول هذه‬
‫العمال إلى منكرات كمشاهدةا العورات أو الختلط المحرما‪ ،‬ما‬
‫يجعل هذا الواقع واقعاا جديداا يحتاج إلى النظر‪ ،‬ومن ذلك أيضاا‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/178 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/149 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/138 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/135 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/91 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪532‬‬
‫ارتياد الشطآن والمسابح فهذا في الصل جائز‪ ،‬فإذا كان من هذه‬
‫الماكن ما يرتاده العراةا من الرجال والنساء‪ ،‬فإن مآل هذا الفعل‬
‫مشاهدةا العورات‪ ،‬ولذلك على المجتهد أن ينظر في مآل الفعل مع‬
‫نظره في الفعل‪ ،‬فإن هذا الفعل المطلوب أو المأذون به مآله مفسدةا‪،‬‬
‫ول يعني هذا أن الفعل صار حراماا لن له مآل محرما‪ ،‬وإنما يعني‬
‫وجوب النظر في المآل أي إن النظر في المآل مطلوب شرعاا‬
‫ومقصود مثلما أن النظر في الفعل مطلوب ومقصود‪ .‬وهذه‬
‫المفسدةا يختلف مقدارها‪ ،‬فهي في ارتياد الشطآن التي يرتادها‬
‫العراةا غيرها في السواق العامة التي تعترض فيها بعض المنكرات‬
‫أو ينكشف فيها بعض العورات‪ ،‬كذلك فإن المصالح التي تقارن بها‬
‫هذه المفاسد مختلفة في مقدارها فهي في التنزه وارتياد الماكن‬
‫العامة والشطآن غيرها في طلبِّ العلم أو شهود الجنائز‪ ،‬وغيرها في‬
‫شهود الجمعات والجماعات‪.‬‬
‫وكذلك في الفعل الممنوع‪ ،‬فقد يكون مآله في بعض الحوال‬
‫مصلحة‪ ،‬أو يكون في المتـناع عنه مفسدةا أكبر من مفسدته‪،‬‬
‫وأمثلة هذا كثيرةا‪ ،‬منها المتناع عن أكل الحراما حالة الشرافَّ‬
‫على الهلك‪ ،‬أو قطع العضو الذي في بقائه مظنة إفساد البدن كله‪.‬‬
‫ومنه أيضاا قتل المسلم بغير ذنبِّ فهو حراما من الكبائر‪ ،‬ولكن إذا‬
‫تترس به الكفار في الحرب وأخذوا يقتلون المسلمين بحيث ل يمكن‬
‫ردعهم إل بقتله فالمر يحتاج إلى النظر وقد يؤدي النظر إلى‬
‫وجوب قتله أو إلى جوازه أو إلى تحريمه)‪. (1‬‬
‫أما ما يتعلق بتحقيق المناط الخاص فيرجع إلى معرفة حال‬
‫المكلف وقصده‪ ،‬فقد يكون الفعل مندوباا ولكنه يؤدي بالمكلف إلى‬
‫النقطاع عن العبادةا‪ ،‬وقد يكون واجباا ولكن يؤدي إلى تلفم في‬
‫بدنه أو ديخيلم في عقله‪ .‬وأمثلة هذا كثيرةا‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬وفي‬
‫حديث العرابي الذي بال في المسجد أمر النبي ‪ r‬بتركه حتى يتم‬

‫) ( أنظر‪ :‬عز الدين بن عبد السلما‪ ،‬قوا عــد الح كــاما فــي م صــالح النــ اما‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪. 1/1009‬‬

‫‪533‬‬
‫بوله‪ ،‬وقال‪» :‬ل ت ُـزرمإوه)‪. (2)«(1‬‬
‫وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادةا خوفاا من‬
‫النقطاع‪ .‬وجميع ما مري في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا‬
‫المعنى حيث يكون العمل في الصل مشروعاا لكن يينهى عنه لما‬
‫يؤول إليه من المفسدةا‪ ،‬أو ممنوعاا لكن يترك النهي عنه لما في‬
‫ذلك من المصلحة‪ ،‬وكذلك الدلة الدالة على سد الذرائع كلها‬
‫فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز‪ .‬فالصل على‬
‫المشروعية لكن مآله غير مشروع‪ .‬والدلة الدالة على التوسعة‬
‫ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الصل‬
‫لما يؤول إليه من الرفق المشروع«هل)‪. (3‬‬
‫واعتبار هذا الصل ل يعني تحليل الحراما لن مآله مشروع ول‬
‫تحريم الحلل لن مآله ممنوع‪ .‬وإنما يعني النظر لمعرفة حكم‬
‫الشارع عند اختلفَّ الحوال‪ ،‬لذلك فهذا من عمل المجتهد بوصفه‬
‫مجتهداا ينظر في الفعل ومآلقهق مبرءاا من الحظوظ‪ .‬وإلزاما‬
‫المجتهد بالنظر في المآلت هو من قبيل استفراغِّ الوسع وتماما‬
‫النظر‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬النظر في مآلت الفعال معتبر مقصود‬
‫شرعاا كانت الفعال موافقة أو مخالفة‪ .‬وذلك أن المجتهد ل‬
‫يحكم على فعل من الفعال الصادرةا عن المكلفين بالقداما أو‬
‫بالحجاما إل بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل‪ ،‬فقد يكون‬
‫مشروعاا لمصلحة فيه تستجلبِّ أو لمفسدةام تدرأ‪ ،‬ولكن له مآل على‬
‫خلفَّ ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدةام تنشأ عنه أو‬
‫مفسدةا تندفع به ولكن له مآل على خلفَّ ذلك‪ .‬فإذا أطلق القول‬
‫في الول بالمشروعية فربما أدى استجلب المصلحة فيه إلى‬
‫مفسدةا تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعاا من إطلق‬
‫القول بالمشروعية‪ ،‬وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدما‬

‫) ( ابن ماجه ) ‪ ( 528‬والنسائي في كتاب الطهارةا ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/112 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪534‬‬
‫المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدةا إلى مفسدةا تساوي أو تزيد‬
‫فل يصح إطلق القول بعدما المشروعية‪ ،‬وهو مجال للمجتهد‪ ،‬صعبِّ‬
‫المورد إل أنه عذب المذاق محمود الغبِّ جارم على مقاصد‬
‫الشريعة«هل )‪ . (1‬هذا هو نص الشاطبي في أصل مآلت الفعال‪ .‬وهو‬
‫موجه إلى المجتهد وليس إلى غيره‪ .‬فهو يقول‪» :‬وذلك أن‬
‫المجتهد ل يحكم«هل الخ‪ .‬ويقول‪» :‬وهو مجال للمجتهد صعبِّ‬
‫المورد«هل الخ‪ .‬وكذلك واضح فيه أنه ل يقول إن مآل الفعل يعيين‬
‫حكمه‪ .‬ولكنه يقول إنه ل بد من اعتبار المآل حين النظر‪ ،‬فل يطلق‬
‫القول بناء على النظر في الفعل فقط‪ ،‬وكذلك ل يطلق القول بناءا‬
‫على النظر في المآل‪ ،‬وإنما ل بد من النظر في المرين‪ ،‬وذلك بناءا‬
‫على القواعد الشرعية من الضروريات والحاجيات‪ ،‬والتحسينيات‪.‬‬
‫وبناءا على النظر في المآلت الكلية والجزئية‪.‬‬
‫ويمكن هنا الرجوع إلى بعض أقواله في كتاب الحكاما في‬
‫بحثه للسباب والمسببات والتي قد يتوهم فيها تناقض مع نصه‬
‫أعله حيث قال‪» :‬ل يلزما في تعاطي السباب من جهة المكلف‬
‫اللتفات إلى المسببات ول القصد إليها«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬إذا ثبت أنه ل‬
‫يلزما القصد إلى المسببِّ فللمكلف ترك القصد إليه بإطلق وله‬
‫القصد إليه«هل )‪ . (3‬فمن هذه النصوص وغيرها يفهم أن المسببِّ وإن‬
‫كان ناتجاا عن السببِّ فإن المكلف غير معني بالمسببات ول‬
‫بالمآلت وإنما هو معنييي بمعرفة الحكم واللتزاما به مهما كانت‬
‫مآلته‪ ،‬يجيبِّ الشاطبي فيقول‪» :‬ل يقال إنه قد مر في كتاب‬
‫الحكاما أن المسببات ل يلزما اللتفات إليها عند الدخول في السباب‬
‫لنا نقول‪ ،‬وتقدما أيضاا أنه ل بد من اعتبار المسببات في السباب‬
‫ومر الكلما في ذلك والجمع بين المطلبين‪ ،‬ومسألتنا من الثاني ل‬
‫من الول لنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 111 - 4/110 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/133 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 1/135 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪535‬‬
‫البراءةا من الحظوظ‪ ،‬فإن المجتهد نائبِّ عن الشارع في الحكم على‬
‫أفعال المكلفين‪ ،‬وقد تقدما أن الشارع قاصد للمسببات في‬
‫السباب«هل)‪ . (1‬ومعنى هذا النص أن الحكم الشرعي في فعل المكلف‬
‫إذا جاء من الشارع فليس للمكلف أن ينظر في مآلته أو ما يرجع به‬
‫على المكلف من مصالح أو مفاسد‪ ،‬وذلك لن هذا قد اعتبره الشارع‬
‫في الحكم وحكم به على المكلف معتبراا حاله ومآله وكل ما يجبِّ‬
‫اعتباره‪ ،‬أما المجتهد فحين اجتهاده لمعرفة الحكم ل بد له من‬
‫اعتبار الفعل ومآل الفعل لنه من هذه الجهة بمقاما الشارع‪ ،‬وهو‪،‬‬
‫أي المجتهد‪ ،‬مكلف حين اجتهاده‪ ،‬فهو مكلف باعتبار الفعل وباعتبار‬
‫مآله‪ ،‬ولذلك فليس من شأنه أن يقوما مقاما الشارع فيغير الحكم‬
‫بناء على مآل الفعل‪ ،‬وإنما وظيفته أو تكليفه هو أن يعرفَّ حكم‬
‫الشارع بحسبِّ هذا الفعل وهذا المآل معاا‪ ،‬ومثال هذا حكم الميتة‪،‬‬
‫فإنها حراما وفي بعض الحالت كالمخمصة قد يؤدي تركها إلى‬
‫فوت الروح أو إلى الخلل بضروري‪ ،‬ففي هذه الحالة يتغير الحكم‬
‫بناءا على تغير المآل‪ ،‬فالمجتهد لم يغير الحكم بناء على المصلحة‬
‫أو المآل‪ ،‬وإنما استنبط وفهم حكم الشرع‪ ،‬وتغير الحكم هنا هو من‬
‫باب تغير السببِّ كما يتغير بتغير الفعل أو المناط‪ ،‬وكذلك صياما‬
‫رمضان فإنه فرض‪ ،‬ولكن في بعض الحالت كالجهاد أو في حالة‬
‫المبتلى بمرض معين قد يؤدي الصياما إلى تضييع فرض آكد أو إلى‬
‫الخلل بضروري فيتغير الحكم بناء على ما يؤول إليه‪ ،‬فإعمال هذا‬
‫الصل‪ ،‬أصل مآلت الفعال‪ ،‬ل يعطي المكلف ول المجتهد حق تغيير‬
‫الحكاما بالهوى‪ ،‬وإنما يتغير الحكم حيث دل الشرع على ذلك‪ ،‬فإذا‬
‫لم يكن ثم دليل على تغير الحكم‪ ،‬ولو كان يؤول إلى مفسدةا فإن‬
‫الحكم ل يتغير‪ ،‬وكذلك ل تصبح المفسدةا جائزةاا أو مغتفرةا‪،‬‬
‫وإنما يسعى إلى اجتناب المفسدةا قدر المكان‪ ،‬وإذا لم يدل الشرع‬
‫على تغير الحكم ل يتغير ولو كان له مآل بخلفَّ المقصود منه‪ ،‬إذ‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/111 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪536‬‬
‫كما أن المآل مقصود فالحكم نفسه مقصود‪ ،‬يقول‪» :‬ومن هذا‬
‫الصل أيضاا )أصل مآلت الفعال( تستمد قاعدةا أخرى وهي أن‬
‫المور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفها‬
‫من خارج أمور ل ترضي شرعاا فإن القداما على جلبِّ المصالح‬
‫صحيح على شرط التحفظ بحسبِّ الستطاعة من غير حرج«هل)‪ . (1‬أي‬
‫أن العمال المطلوبة أو المأذون بها الواقعة في هذه المراتبِّ‪ ،‬وإن‬
‫كانت تؤول إلى مفاسد‪ ،‬فإن أحكامها ل تتغير ويصح القداما عليها‬
‫رغم ما فيها من مفاسد‪ ،‬فل أحكامها تتغير ول المفاسد تصبح‬
‫مصالح‪ ،‬أي ل تصبح المحرمات جائزةا‪ ،‬وإنما يقدما على المشروع‬
‫ويتحرز من الممنوع قدر المكان‪ ،‬فإذا بلغ به التحرز مبلغ الحرج‬
‫أو الضرر أو الخارج عن الستطاعة فحينئذم يمكن أن يتغير الحكم‬
‫بناء على القواعد الشرعية كقواعد الضرورات تبيح المحظورات أو‬
‫عدما التكليف بما ل يطاق أو بالمشقات المعتتة‪ ،‬أو رفع الضرر أو ما‬
‫شاكل‪ .‬ويأتي الشاطبي بمثال فيقول‪» :‬كالنكاح الذي يلزمه طلبِّ‬
‫قوت العيال مع ضيق الطرق الحلل واتساع أوجه الحراما والشبهات‪،‬‬
‫وكثيراا ما يلجئ إلى الدخول في الكتساب لهم بما ل يجوز‪،‬‬
‫ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدةا المربية على‬
‫توقع مفسدةا التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا‬
‫لدى إلى إبطال أصله‪ ،‬وذلك غير صحيح‪ ،‬وكذلك طلبِّ العلم إذا‬
‫كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة‬
‫وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إل بمشاهدةا ما ل يرتضى‪،‬‬
‫فل يخرج هذا العارض تلك المور عن أصولها لنها أصول الدين‬
‫وقواعد المصالح«هل)‪. (2‬‬
‫إن أهمية بيان مراد الشاطبي بأصل مآلت الفعال في بحثنا هو‬
‫بسببِّ الخطاء الشنيعة التي تزعم على الشريعة أو تتخذ كمنهج‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/118 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/119 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪537‬‬
‫في أصول الفقه ويبنى عليها أحكاما تصطدما مباشرةا مع النصوص‪،‬‬
‫وييحيمييلي هذا للشاطبي ولمنهجه بحيث تصبح الفكار غير‬
‫السلمية أفكاراا اجتهادية شرعية بحجة المقاصد والمآلت‬
‫المصلحية‪ ،‬والمثلة على شطحات بعض المعاصرين كثيرةا وفيما‬
‫يلي واحد منها حيث اعتيمقدي فيه على الشاطبي وأفكاره في المصالح‬
‫والمفاسد جلباا ودفعاا‪ ،‬وخاصة على أصل مآلت الفعال‪ ،‬حيث‬
‫استيشنهقدي بأقواله على نقيض معناها‪.‬‬
‫مإناقشة فهم خإاطئ لصل اعتبار المآلت‪:‬‬
‫نشرت مجلة »الصراط المستقيم«هل الصادرةا في أميركا في‬
‫عددها " ‪ " 59‬في العاما ‪ 1417‬هـ‪ ،‬مقالة بعنوان‪» :‬العمل السياسي‬
‫في المجتمع الميركي«هل بقلم الدكتور صلح الصاوي مدير‬
‫الجامعة السلمية المفتوحة في ولية فرجينيا‪ ،‬وقد وصفت المجلة‬
‫المقالة المنشورةا بأنها‪ :‬رؤية فقهية تأصيلية تنشر لول مرةا‪،‬‬
‫وقالت المجلة بأن هذه الدراسة كانت جواباا على سؤال بعث به‬
‫الستاذ نهاد عوض المدير التنفيذي لمجلس العلقات السلمية‬
‫الميركية‪ ،‬وليس المهم هنا السؤال أو السئلة وأجوبتها بقدر ما‬
‫يهم منهج الفهم والستنباط‪ ،‬فقد جاء في هذه الرؤية التأصيلية‬
‫أقوال كثيرةا مستغربة مثل‪» :‬لما كانت الذرائع تأخذ حكم‬
‫المقاصد‪ ،‬والوسائل تأخذ حكم الغايات«هل إلخ‪ ،‬وقال أيضاا‪» :‬فاعتبار‬
‫الذرائع أصل من الصول المعتبرةا في تقرير الحكاما‪ ،‬والذرائع ما‬
‫تكون طريقاا لمحلل أو لمحرما فيأخذ حكمه فالطريق إلى الحراما‬
‫حراما‪ ،‬والطريق إلى المباح مباح«هل إلخ‪.‬‬
‫وكان من ضمن ما زعمه الكاتبِّ جواز فعل المنكر بحجة قصد‬
‫المصلحة‪ ،‬وأن هذا المنكر مغتفر أماما المصلحة المقصودةا‪ ،‬ونسبِّ‬
‫هذا النهج في الفهم إلى الشاطبي واستشهد بأقواله المذكورةا في‬
‫الصفحة السابقة‪ ،‬ولذلك سأعمد فيما يلي إلى شرح هذا النص‬
‫شرحاا تفصيلياا لما في ذلك من مزيد بيان لمراد الشاطبي بالنص‪.‬‬

‫‪538‬‬
‫شـرح النص‪:‬‬
‫قوله‪» :‬المور الضرورية أو غيرها من الحاجية اوالتكميلية‬
‫إذا اكتنفها من خارج أمور ل ترضي شرعاا فإن القداما على جلبِّ‬
‫المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسبِّ الستطاعة من غير‬
‫حرج«هل أي إن الفعال التي دل الدليل على مشروعيتها سواء‬
‫بالوجوب أو الندب أو الباحة وهي ل تخرج عن أن تكون من‬
‫الضرورية أو الحاجية أو التكميلية‪ ،‬فهي مصالح مندرجة تحت هذه‬
‫القساما الثلثة‪ ،‬هذه الفعال إذا كان لها مآل منهي عنه‪ ،‬فإن القياما‬
‫بها صحيح مع احتمال المآل‪ ،‬أي أن أصل اعتبار المآلت ل يؤثر في‬
‫حكم هذه الفعال‪ .‬وبما أن هذه الفعال قد تؤول إلى حراما فيجبِّ‬
‫الحتراز عن الوقوع في هذه المآلت أو المحرمات على قدر‬
‫الستطاعة‪ ،‬أي يجبِّ الحتراز عن هذه المحرمات كما يجبِّ‬
‫الحتراز عن أي محرما‪ ،‬وال سبحانه وتعالى لم يكلف بالمحال أو‬
‫بما ل يطاق‪ ،‬فهذا النص ليس فيه جواز فعل المنكر‪ .‬قوله‪:‬‬
‫»كالنكاح الذي يلزمه طلبِّ قوت العيال مع ضيق طرق الحلل‪،‬‬
‫واتساع أوجه الحراما والشبهات‪ ،‬وكثيراا ما يلجئ إلى الكتساب‬
‫لهم بما ل يجوز ولكنه غير مانع«هل فالنكاح مثلا مشروع وهو عند‬
‫الشاطبي حكم شرعي بحق الفرد من جهة كونه جزئياا‪ ،‬وهو أصل‬
‫كلي قطعي بحق العامة من جهة كونه خادماا للضروري‪ ،‬فإذا ثبت‬
‫أنه يؤول في بعض الحالت إلى منهي عنه‪ ،‬كأن يؤدي إلى طلبِّ قوت‬
‫العيال عن طريق الحراما‪ ،‬وقد يؤول إلى الكتساب المحرما فإنه‬
‫يكون قد تعارض الجزئي مع أصل‪ ،‬وهو مشروعية هذا النكاح مع‬
‫المآلت‪ ،‬ففي هذه الحالت‪ ،‬مآلت النكاح ل تبطل الحكم الشرعي في‬
‫النكاح‪ ،‬فيظل هذا الفعل على حكمه‪ ،‬ول تغير حيكميه مآلتيه‪ ،‬ويسعى‬
‫المكلف متجنباا الوقوع في هذه المآلت بحسبِّ استطاعته‪ ،‬ول يعني‬
‫أن ملبسة هذه المآلت تصبح جائزةا‪ .‬وقوله‪» :‬لما يؤول إليه‬
‫التحرز من المفسدةا المربية على مفسدةا التعرض ولو اعتبر مثل‬
‫هذا في زماننا لدى إلى إبطال أصله‪ ،‬وذلك غير صحيح«هل‪ .‬أي إن‬

‫‪539‬‬
‫هذه المآلت ل تمنع النكاح ولو اعتبرنا الحكم بهذا المآل هنا في‬
‫مثل زماننا لدى إلى تحريم النكاح‪ ،‬وهو غير صحيح لنه مخالف‬
‫للحكم الثابت بالدلة‪ ،‬فقوله‪» :‬وذلك غير صحيح«هل يعني أنه ل‬
‫يصح إبطال أو تغيير حكم شرعي بحجة المآل‪ .‬وأيضاا فنحن إذا‬
‫حرمنا النكاح وهو حكم شرعي لوقعنا في مفاسد مربية على مفاسد‬
‫تلك المآلت‪ ،‬فالمآلت معتبرةا باعتبار الشرع لها‪ ،‬ول نغير الحكاما‬
‫بناء عليها وإنما نكتشف اعتبار الشرع لها‪ ،‬فالنكاح بما أنه مشروع‪،‬‬
‫وكل أمر مشروع فهو مصلحة وإبطاله مفسدةا‪ ،‬علمنا ذلك أما لم‬
‫نعلم‪ ،‬وهو عند الشاطبي أصل من الصول الضرورية أو الحاجية أو‬
‫التكميلية فاعتبار هذه المآلت‪ ،‬إذا كان معناه تغيير الحكم‪ ،‬فإنه‬
‫يؤدي إلى إبطال أصل وذلك غير صحيح‪ .‬قوله‪» :‬وكذلك طلبِّ‬
‫العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها وشهود الجنائز وإقامة‬
‫وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إل بمشاهدةا ما ل يرتضى‬
‫فل يخرج هذا العارض تلك المور عن أصولها«هل أي أن ما قيل‬
‫بشأن النكاح يقال بشأن طلبِّ العلم والشياء المذكورةا معه‪ ،‬فهذه‬
‫كلها جزئيات ثبتت مشروعيتها بالدلة‪ ،‬فكونها تؤول إلى حراما‬
‫كمشاهدةا العورات وسماع ما ل يجوز الستماع إليه وما سواها‪ ،‬فإن‬
‫هذه المآلت ل تبطل شرعية هذه الفعال‪ ،‬لن الذي يبطل أو ل يبطل‬
‫هو الشرع والشرع لم يبطلها مع وجود هذه المآلت‪ ،‬فالشرع اعتبر‬
‫المآلت ومع اعتباره للمآلت‪ ،‬هكذا كانت أحكامه‪ ،‬فل يعبث بها‬
‫بحجة المآلت‪ ،‬فيصح القداما عليها مع احتمال مآلتها‪ .‬فهذا الصل‪،‬‬
‫أي اعتبار المآلت‪ ،‬ل يغير حكماا شرعياا فل يحل حراماا ول يحرما‬
‫حللا‪ .‬وإذا أقدما العبد على هذه الفعال فعليه اجتناب المحرمات‬
‫التي تؤول إليها هذه الفعال قدر استطاعته‪ ،‬قوله‪» :‬لنها أصول‬
‫الدين وقواعد المصالح وهو المفهوما من مقاصد الشارع«هل أي أن‬
‫الصول ل تبطلها الجزئيات‪ ،‬لن الصول كلية‪ .‬فأصول الدين‬
‫كالعقائد قطعية ل ينقضها شيء‪ ،‬وكذلك القواعد الثلثا وهي‬
‫الضروريات والحاجيات والتحسينيات‪ ،‬وهذا ما فهم من الشريعة‪،‬‬

‫‪540‬‬
‫والكلي ل ينخرما بمعارضة بعض الجزئيات له‪ .‬قوله‪» :‬فيجبِّ‬
‫فهمها حق الفهم فإنها مدار اختلفَّ وتنازع«هل‪ .‬أي أن هذه الصول‬
‫الثابتة بالستقراء هناك من ينازع فيها ويردها بناء على ما يجده‬
‫من جزئيات تعترضها‪ ،‬فيجبِّ الفهم حق الفهم أن الجزئيات ل تبطل‬
‫الصول ومراده أن هناك من ينازع ويخالف في صحة اعتبار أصل‬
‫مآلت الفعال‪ ،‬بناء على ما ذكر في النص من أن هذه المآلت‬
‫المنكرةا لم تؤثر في الحكاما كالنكاح وطلبِّ العلم ولم تغير الحكم‪،‬‬
‫وبذلك يزعمون سقوط هذه الصل‪ ،‬فإن هذا الزعم ل يصح لن‬
‫الصل ثابت كلي وما يزعمونه قضايا جزئية وقضايا أعيان ل تبلغ‬
‫مبلغ أن ترد قطعياا‪ .‬قوله‪» :‬وما ينقل عن السلف الصالح مما‬
‫يخالف ذلك هو قضايا أعيان ل حجة في مجردها حتى يعقل معناها‬
‫فتصير إلى موافقه ما تقرر إن شاء ال«هل أي أن ما يثيره المنازعون‬
‫في إبطال هذه الصول ومنها أصل اعتبار المآلت ل حجة فيه‪ ،‬لنه‬
‫جزئيات‪ ،‬فإذا ما تضافرت هذه الجزئيات على معنى معين وحصل‬
‫لهذا المعنى استقراء يفيد القطع فحينذاك سيظهر أن هذا المعنى‬
‫القطعي وهذه الجزئيات الراجعة إليه ستكون موافقة لصل اعتبار‬
‫المآلت‪ ،‬وذلك لن الصول كليات قطعية ول تتناقض‪ ،‬وبما أنها‬
‫جزئيات لم تبلغ هذا المبلغ بعد فما زالت ظنية في معارضتها‬
‫للصل القطعي وتخضع للتأويل‪.‬‬
‫وهذا التفسير لهذا النص هو الذي يلحقظي ويعتبري منهجه‬
‫وأصوليه التي قررها‪ .‬أما القول بجواز فعل المنكر استناداا إلى‬
‫أصل المآلت فمردود‪ ،‬ويمكن الحالة في هذا على نصوص الشاطبي‬
‫في بحث مقاصد المكلف‪ ،‬وقد تبينت آراؤه في هذا المر في الفصل‬
‫السادس من هذا الكتاب‪ ،‬حيث تبين رأيه أن هذه القوال ل تكون إل‬
‫مع الجهل‪ ،‬وإذا لم يكن كذلك فهي ابتداع‪.‬‬

‫‪541‬‬
‫الفصـل التاسـع‬
‫فـي تطبيـق الفكــرة‪:‬‬
‫ثالثا قـواعد كليـة‬
‫وأيحتوي على تعريف مإوجأز بموضأوع هذا‬
‫الفصل وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬المصالح المرسلة‪.‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬الستحسان‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬سد الذرائاع‪.‬‬
‫وأيتضمن المبحث الثالث بحثا ا لقاعدة‬
‫رفع الضرر‪.‬‬

‫‪542‬‬
‫الفصـل التاسـع‬
‫فـي تطبيـق الفكـرة‪:‬‬
‫ثالثا قواعد كلية‬
‫مإوضأوع هذا الفصل‪:‬‬
‫بعد أن تبين منهج الشاطبي في فهم الشريعة‪ ،‬ومنهجه في‬
‫تقرير الصول والقواعد الكلية وهو الستقراء المفيد للقطع يأتي‬
‫هذا الفصل لبيان ثلثا قواعد كلية هي من أهم القواعد في منهج‬
‫الشاطبي وهي المصالح المرسلة والستحسان وسد الذرائع وذلك‬
‫في ثلثة مباحث‪ ،‬ويتم بحث قاعدةا رفع الضرر ضمن مبحث سد‬
‫الذرائع والغاية من بحث هذه القواعد هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ مزيد من بيان منهج الشـاطبي في فهم الشـريعة‬
‫واسـتنباط الحكاما‪ ،‬حيث أن هذه القواعد هي كليات ثبتت لديه من‬
‫خلل تطبيق فكرته في اسـتقراء المعاني واقـتـناص الكليـات على‬
‫حد تعبيره‪ ،‬وحيث أن هذه القواعد هي مقاصد أو علل وعلى أساسها‬
‫تتفرع الحكاما‪ ،‬لذلك فهي قواعد معتبرةا عند المجتهد حين‬
‫الستنباط‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ بيان كيفية اختلفَّ اعتبار الشاطبي لهذه القواعد عن‬
‫اعتبارها عند غيره من الئمة الذين يقولون بها‪ ،‬وذلك من خلل‬
‫تحديدها‪ ،‬وإذا صح التعبير تقليص حدود عملها بحيث يتمكن من‬
‫زعم القطع بها‪ ،‬وبعد ذلك زعم أنها معتبرةا ومعمول بها عند‬
‫الجميع حتى ولو صرحوا بردها‪ .‬ومن ذلك تصريحه أكثر من‬
‫مرةا بأن قاعدةا سد الذرائع معمول بها عند أبي حنيفة والشافعي‬
‫رضي ال عنهما‪ ،‬أما عدما إعمالها عندهم في كثير من المواضع‬
‫فذلك ل يضير لنه ليس راجعاا إلى عدما اعتبارهم للقاعدةا وإنما‬
‫لمور أخرى‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ بيان حقيقة هذه القواعد في منهج الشاطبي‪ ،‬فإن هذه‬

‫‪543‬‬
‫اللفاظ‪ :‬المصالح المرسلة والستحسان وسد الذرائع هي أسماء‬
‫للقواعد وليست هي نصوصها‪ ،‬ول يتبين من السم حقيقة المعنى‬
‫ول موضع إعماله ول شروطه‪ ،‬فل يصح التذرع بالشاطبي أو‬
‫بمنهجه أو بعناوين أصوله أو قواعده من غير معرفة حقيقة ذلك‬
‫كله ثم إصدار الراء أو الفتاوى التي تحلل الحراما أو تحرما الحلل‬
‫بمجرد استعمال اسم القاعدةا فهذا جهل وليس علماا فل ينتج علماا‪.‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫المصـالح المرسـلة‬
‫مإعنى المصالح المرسلة‪:‬‬
‫قاعدةا المصالح المرسلة مبنية على الستدلل المرسل‪ ،‬الذي‬
‫هو بدوره مبني على المناسبِّ المرسل‪ .‬والمناسبِّ المرسل أحد‬
‫أقساما المناسبِّ‪ ،‬والمناسبِّ هو الوصف الذي يصلح ادعاؤه علة عند‬
‫القائلين بمسلك المناسبة في القياس‪ ،‬وهو يؤدي إلى القياس بعد‬
‫أن تتوفر أركانه‪ ،‬أما الستدلل فليس من القياس لن الوصف الذي‬
‫يصلح للتعليل به‪ ،‬وإن وجد في فرع فل يوجد في أصل معين يقاس‬
‫عليه‪ ،‬وإنما هو معنى يلحظ موافقته لحكاما كثيرةا أو جريان‬
‫أحكاما كثيرةا موافقةا له‪ ،‬فيثبت الوصف ويعد أصلا معتبراا في‬
‫التشريع شهدت له أحكاما كثيرةا ول يمكن إرجاعه إلى واحد منها‪،‬‬
‫إذ هو في كل واحد من الحكاما التي تشهد لعتباره ل يصلح لن‬
‫يكون علة إذ قد يكون الحكم مما ل يعلل أو مما له علة أخرى أو‬
‫هناك وصف أكثر مناسبة منه)‪. (1‬‬
‫المصالح المرسلة عند الئامة‪:‬‬
‫والختلفَّ الواقع في المصالح المرسلة يرجع في جانبِّ منه‬
‫إلى الختلفَّ في صحة التعليل بالمناسبِّ المرسل أو بالمناسبِّ‪ ،‬وقد‬

‫) ( أنظر‪ :‬الفصل ين الثاني والثالث من هذه الكتاب ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪544‬‬
‫مريي هذا المر مفصلا‪ ،‬وفي الجانبِّ الخر يرجع إلى اختلفَّم في‬
‫الصطلحات‪ ،‬فإذا بنينا على أن المصالح المرسلة ل ترجع إلى‬
‫القياس‪ ،‬وهو الصواب‪ ،‬وإنما ترجع إلى الستدلل فإن اختلفَّ الراء‬
‫فيها يكاد يكون مجرد خلفَّ في ألفاظ واصطلحات‪ ،‬هذا مع عدما‬
‫الخذ بعين العتبار موقـف الذين يردون القياس‪ ،‬ويكاد يكـون‬
‫تطـبـيـق معنى المصالح المرسلة ـ حينئذم ـ متفقاا عليه)‪. (1‬‬
‫فالمعنى الذي رده الذين ردوا المصالح المرسلة ليس هو الذي أراده‬
‫القائلون بها في مبحث الستدلل‪ ،‬والمعنى الذي قصده القائلون بها‬
‫قال به الرادون لها تحت أسماء مختلفة‪ ،‬فعلى سبيل المثال رد‬
‫المدي المصالح المرسلة فقال‪» :‬فالمصالح على ما بيينا منقسمة‬
‫إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها‪ ،‬وهذا‬
‫القسم )أي المصالح المرسلة()‪ (2‬متردد بين ذنيك القسمين‪ ،‬وليس‬
‫إلحاقه بأحدهما أولى من الخر فامتنع الحتجاج به دون شاهد‬
‫بالعتبار يعرفَّ أنه من قبيل المعتبر دون الملغى«هل)‪ . (3‬وقد تبين‬
‫سابقاا أن المدي وأئمة الشافعية من أكثر المدافعين عن مسلك‬
‫المناسبة‪ ،‬وعن اعتباره في التعليل وعن اعتبار جنس الوصف في‬
‫جنس الحكم وهذا هو المصالح المرسلة عند القائلين بها في التعليل‬
‫والقياس‪.‬‬
‫فالذي قصده المدي بالرد في هذا النص هو اعتبار المصلحة‬
‫إذا لم يدل عليها دليل‪ ،‬وهذا متفق على رده‪ ،‬أما أن الذي قصده‬
‫القائلون بالمصلحة المرسلة يقول به الجميع ومنهم الذين ردوها‬
‫فيؤكده القرافي بقوله‪» :‬وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها‬
‫خاصة بنا وإذا افتقدت المذاهبِّ وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا‬
‫بين المسألتين ل يطلبون شاهداا بالعتبار لذلك المعنى الذي به‬

‫) ( أقول‪ :‬يكاد يكون‪ ،‬وليس يكون‪ ،‬وذلك لنها قد تنطبق عند البعض على‬ ‫‪1‬‬

‫ما ل تنطبق عليه عند غيرهم ‪.‬‬


‫) ( ما بين القوسين زيادةا من الباحث ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المدي‪ ،‬الحكاما في أصول الحكاما‪. 4/395 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪545‬‬
‫جمعوا وفرقوا بل يكتفون بمطلق المناسبة وهذا هو المصلحة‬
‫المرسلة فهي حينئذم في جميع المذاهبِّ«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬وقد تقدما أن‬
‫المصلحة المرسلة في جميع المذاهبِّ عند التحقيق لنهم يقيسون‬
‫ويفرقون بالمناسبات ول يطلبون شاهداا بالعتبار ول نعني‬
‫بالمصلحة المرسلة إل ذلك‪ .‬ومما يؤكد العمل بالمصلحة‬
‫المرسلة أن الصحابة رضوان ال عليهم عملوا أموراا لمطلق‬
‫المصلحة ل لتقدما شاهد بالعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدما‬
‫فيه أمر ول نظير‪ ،‬وكذلك ترك الخلفة شورى وتدوين الدواوين‬
‫وعمل السكة للمسلمين واتخاذ السجن فعل ذلك عمر رضي ال عنه‬
‫وهدي الوقافَّ التي بإزاء مسجد رسول ال ‪ ‬والتوسعة بها في‬
‫المسجد عند ضيقه فعله عثمان رضي ال عنه وتجديد الذان في‬
‫الجمعة بالسوق وهو الذان الول«هل )‪ ، (2‬ثم قال‪» :‬وذلك كثير جداا‬
‫لمطلق المصلحة وإماما الحرمين قد عمل في كتابه المسمى‬
‫بالغياثي أموراا وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها وجسر‬
‫عليها للمصلحة المطلقة‪ ،‬وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن‬
‫الثنين شديدا النكار علينا في المصلحة المرسلة«هل )‪ . (3‬فهذا النص‬
‫يشير إلى أن الذين يردون المصالح المرسلة يردون شيئاا غير الذي‬
‫يقصده القائلون بها‪ ،‬وإذا كانت المثلة التي ذكرها القرافي أعله‬
‫تشير إلى موضوعات المصالح المرسلة‪ ،‬فهذه المثلة مما هو متفق‬
‫عليه وإن كان ثمة خلفَّ فهو في الستدلل الفقهي التفصيلي‪،‬‬
‫والذي ل يقول بالمصالح المرسلة يرجعها إلى قواعد أخرى مثل‬
‫حفظ الضروريات أو قاعدةا ما ل يتم الواجبِّ إل به فهو واجبِّ أو‬
‫قاعدةا رفع الحرج أو الضرر أو ما شاكل ذلك‪ .‬فليس ثمة خلفَّ‬
‫حقيقي في قاعدةا المصالح المرسلة‪ ،‬ومرجع الخلفَّ إلى اختلفَّ‬
‫مفهوما القاعدةا عند المختلفين‪.‬‬

‫) ( القرافي‪ ،‬شرح تنقيح الفصول‪ ،‬ص‪. 394 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 446 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 447 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪546‬‬
‫وإنما الخلفَّ الشديد هو فيما ذكر سابقاا وهو تعليل الحكاما‬
‫الشرعية بحكمها أو بمصالحها‪ ،‬وحيث قد ينشأ من أتباع الئمة ومن‬
‫المطالعين لكتبِّ الصول من يخطئ الفهم وييحميقل فهمه للمذهبِّ‬
‫أو لمامه‪ ،‬أو من يستغل الفكرةا ويستعملها بغير قيودها وفي غير‬
‫موضعها وربما في غير معناها‪ .‬ومن هذا أن تفهم المصالح المرسلة‬
‫بمعنى أن مجرد كون الشيء مصلحة أو مؤدياا إلى مصلحة فهذا‬
‫دليل على مشروعيته‪ ،‬أو أن يفهم أن في الشريعة منطقة فراغِّ‪ ،‬وأن‬
‫في الوقائع ما ل حكم له‪ ،‬وأن ذلك متروك إلينا نقرر حكمه بناء‬
‫على المصلحة أو المفسدةا‪ ،‬فمثل هذا القول ل أصل له عند أحد من‬
‫الئمة المعتبرين‪ .‬والمنقول التفاق على رده‪ ،‬وسيتبين هذا المر‬
‫بتماما هذا المبحث إن شاء ال‪.‬‬
‫المصالح المرسلة عند الشاطبي‪:‬‬
‫والمصالح المرسلة عند الشاطبي ترجع إلى معنى الستدلل‬
‫المرسل‪ ،‬وفيها من الجديد ما في منهجه من جديد‪ ،‬فالمصلحة حتى‬
‫تعتبر يجبِّ أن يثبت اعتبار الشرع لها ثبوتاا قطعياا بواسطة‬
‫الستقراء‪ ،‬أو أن تكون راجعة إلى معنى قطعي كلي ثبت على ذلك‬
‫الوجه‪ ،‬قال في مقدمته الثالثة بعد أن بييين أن الصول يجبِّ أن‬
‫تكون قطعية ول يكفي فيها الظن وأن طريق القطع هو الستقراء‪:‬‬
‫»وينبني على هذه المقدمة معنىا آخر وهو أن كل أصل شرعي لم‬
‫يشهد له نص معين وكان ملئماا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه‬
‫من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الصل‬
‫قد صار بمجموع أدلته مقطوعاا به‪ ،‬لن الدلة ل يلزما أن تدل على‬
‫القطع بالحكم بانفرادها دون انضماما غيرها إليها كما تقدما‪ ،‬لن‬
‫ذلك كالمتعذر‪ ،‬ويدخل تحت هذا ضرب الستدلل المرسل الذي‬
‫اعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد‬
‫شهد له أصل كلي والصل الكلي إذا كان قطعياا قد يساوي الصل‬

‫‪547‬‬
‫المعين وقد يربى عليه بحسبِّ قوةا الصل المعين وضعفه«هل )‪. (1‬‬
‫وعلى ذلك فالفعل الذي لم ينص عليه الشرع طلباا أو منعاا فإن‬
‫حكمه ينبني على الصل الذي ثبت معناه قطعاا وصار أصلا يبنى‬
‫عليه ويرجع إليه إذا كان هذا الفعل يندرج معناه تحت هذا المعنى‬
‫أو يخدمه أو يؤول إليه‪.‬‬
‫وقال‪» :‬الدلة الشرعية ضربان‪ :‬أحدهما ما يرجع إلى النقل‬
‫المحض والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬فأما‬
‫الضرب الول فالكتاب والسنة وأما الثاني فالقياس والستدلل‬
‫ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلفَّ ‪ ،‬فيلحق‬
‫بالضرب الول الجماع على أي وجه قيل به‪ ،‬ومذهبِّ الصحابي‬
‫وشرع من قبلنا‪ ،‬لن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر‬
‫منقول صرفَّ‪ ،‬ل نظر فيه لحد‪ ،‬ويلحق بالضرب الثاني الستحسان‬
‫والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري‪ ،‬وقد ترجع‬
‫)‪(3‬‬
‫إلى الضرب الول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية«هل ‪.‬‬
‫والمقصود هنا أن المصالح المرسلة ترجع إلى النقل المحض‬
‫وترجع إلى الستدلل‪ ،‬أما الول فلجل إثبات أن هذه المصلحة‬
‫مصلحة شرعية قطعية وهذا مأخذه استقراء النصوص الشرعية فمن‬
‫هنا هي راجعة إلى الضرب الول‪ ،‬أما الثاني فلجل إثبات أن هذا‬
‫الفعل يندرج تحت هذه المصلحة ويؤدي إليها‪ ،‬أي أن علقته‬
‫بالمعنى أو المصلحة التي هي أصل كلي هي علقة السببِّ بمسببه‬
‫أو بمآله‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالمصالح المرسلة هي من ضروب الستدلل‬
‫المرسل عند الشاطبي‪ ،‬وهي مرسلة لنه ليس لها شاهد خاص يدل‬
‫عليها وترجع إليه‪ ،‬ولكن المصلحة ثابتة قطعاا بشواهد تفوق‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/16 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/21 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪548‬‬
‫الحصر‪ ،‬فتكون المصلحة المرسلة قاعدةا تنبني عليها أحكاما الفعال‬
‫التي هي أسباب أو وسائل للمصلحة‪ ،‬وفق ضوابط وحدود شرعية‬
‫ستتبيين بحول ال تعالى‪.‬‬
‫مإواضأع إعمال القاعدة‪:‬‬
‫وتنبني قاعدةا المصالح المرسلة على الجمع بين أصلين‪ :‬أصل‬
‫التعبد والمتثال وأصل رفع الحرج‪ ،‬فإذا جاء المر الواجبِّ من‬
‫الشارع وجبِّ المتثال‪ ،‬فإن كان ممكناا فل إشكال‪ ،‬وإن كان غير‬
‫ممكن فإما أن يكون لنه ليس بالوسع القياما به والستمرار في ذلك‬
‫فهذا مما فيه حرج‪ ،‬وإما أن يكون لنه ل يمكن القياما به إل بعد‬
‫القياما بغيره‪ ،‬فهاتان الحالتان إن طرأتا على التكليف اقتضى المر‬
‫أحكاماا أخرى‪ ،‬فإن كان المر راجعاا إلى الحرج وجبِّ رفع الحرج‬
‫بالتخفيف‪ ،‬وإن كان راجعاا إلى أنه ل يمكن القياما بالفعل إل بعد‬
‫القياما بغيره يصبح هذا الغير واجباا مثل الفعل الول‪ ،‬والحالة‬
‫الثانية داخلة في الولى‪ ،‬لنه إذا كان القياما بأمر ل يمكن إل‬
‫بالقياما بغيره أولا‪ ،‬فإن التكليف به من غير القياما باللزما له تكليف‬
‫بما ل يكون أو بما فيه حرج‪ ،‬لذلك فالحالتان راجعتان إلى رفع‬
‫الحرج‪ ،‬هذا هو أصل قاعدةا المصالح المرسلة عند الشاطبي‪.‬‬
‫وهي تطبق في الضروريات والحاجيات ول تطبق في‬
‫التحسينيات‪ ،‬فتطبق في الضروريات على الفعال التي ل يمكن حفظ‬
‫الضروري إل بها فيأخذ الفعل حكم حفظ الضروري وهو الوجوب‪،‬‬
‫وفي الحاجيات على رفع الحرج وما في معناه فيحصل التخفيف بناء‬
‫على ذلك حسبِّ دللة الدلة‪ ،‬ويستثنى من تطبيقها في هذه المواقع‬
‫أحكاما العبادات‪ ،‬فل مدخل للمصالح المرسلة في العبادات‪ ،‬أما أن ما‬
‫ذكر أعله هو أصل قاعدةا المصالح المرسلة فقد ذكر في مقدمته‬
‫الثالثة عشرةا مسألةا وهي أن الصول والقواعد ل تتخلييف ول‬
‫تنخرما فإذا لزما انخرامها أو تخلفها فليست صحيحة‪ ،‬ويظهر هذا‬

‫‪549‬‬
‫في مواضع‪ ،‬منها ما سماه الدخول في العمال‪ ،‬ومراده بالدخول في‬
‫العمال أن العمال المكلف بها يجبِّ أن تكون ضمن مقدور المكلف‬
‫من أولها إلى آخرها‪ ،‬فإذا لم تكن كذلك لم يكن المر بها تكليفاا‪،‬‬
‫يقول‪» :‬وأما الدخول في العمال فهو العمدةا في المسألة وهو‬
‫الصل في الستحسان والمصالح المرسلة لن الصل إذا أدى القول‬
‫بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما ل يمكن شرعاا أو عقلا‬
‫فهو غير جارم على استقامة ول اطراد«هل)‪. (1‬‬
‫ومن أمثلة القاعدةا في الضروريات جمع المصحف‪ ،‬قال‪» :‬إن‬
‫جمع المصحف كان مسكوتاا عنه في زمانه عليه الصلةا والسلما‪ ،‬ثم‬
‫لما وقع الختلفَّ في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول‬
‫لصاحبه‪ :‬أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجباا وإل لزما‬
‫أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدثا في الزمان المتقدما بدعة‬
‫وهو باطل باتفاق‪ .‬لكن مثل هذا النظر من باب الجتهاد الملئم‬
‫لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين وهو الذي يسمى‬
‫المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل ل‬
‫يختلف عنه بوجه«هل )‪ . (2‬والشاهد هنا هو في قوله‪» :‬صار جمع‬
‫المصحف واجباا«هل إذ إنه كان قبل ذلك مباحاا‪ ،‬ولكن طرأ ما جعل‬
‫حفظ الدين في خطر ما لم يجمع المصحف‪ ،‬قال‪» :‬ولم يرد نص‬
‫عن النبي ‪ ‬بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسبِّ‬
‫تصرفات الشرع قطعاا‪ ،‬فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والمر‬
‫بحفظها معلوما‪ ،‬وإلى منع الذريعة للختلفَّ في أصلها الذي هو‬
‫)‪(3‬‬
‫القرآن وقد علم النهي عن الختلفَّ في ذلك بما ل مزيد عليه«هل ‪.‬‬
‫ومن أمثـلتـها في الحاجيـات تضمين الصناع‪ ،‬قال‪» :‬إن‬
‫الخلفاء الراشتديـن قـضـوا بتضمين الصناع قال علي رضي ال‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/64 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/237 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/377 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪550‬‬
‫عنه‪» :‬ل يصلح الناس إل ذاك«هل ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم‬
‫حاجة إلى الصناع وهم يغيبون عن المتعة في غالبِّ الحـوال‬
‫والغلـبِّ عليـهم التفريـط وتـرك الحفـظ‪ ،‬فلـو لـم يثـبـت‬
‫تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لفضى ذلك إلى أحد‬
‫أمرين إما ترك الستصناع بالكلية وذلك شاق على الخلق‪ ،‬وإما أن‬
‫يعملوا ول يضمنوا ذلك بدعواهم الهلك والضياع‪ ،‬فتضيع الموال‬
‫ويقل الحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين«هل)‪. (1‬‬
‫وهذا المثال على المصالح المرسلة مثار جدل وسببِّ قدح في‬
‫القاعدةا إذ إنها أدت إلى شرط باطل وهو تضمين الصانع)‪. (2‬‬
‫والحقيقة أن هذا ل يرجع إلى القاعدةا وإنما إلى الخلفَّ في الدلة‬
‫التفصيلية‪ ،‬فقوله هنا بتضمين الصناع ل يدل على أن هذا المـر‬
‫حـراما وأبيـح بالقاعدةا‪ ،‬وإنما هو في الصل مباح ولجل رفع‬
‫الحرج وجبِّ‪ .‬وانظر قوله في أول المثال إن الخلفاء الراشدين‬
‫فعلوا ذلك‪ ،‬فإن هذا إذا صح دليـل شـرعي‪ ،‬إذ لم ينكره أحد من‬
‫الصحابة‪ ،‬ولكن هذا لم يصح‪ ،‬وما نسبه إلى علي رضي ال عنه ل‬
‫يثبت)‪. (3‬‬
‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/378 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( جاء في المبسوط للسرخسي‪ » :‬عن عمرو بن شعيبِّ عن أبيه عن جده‬ ‫‪2‬‬

‫أن رسول ال ‪ ‬قال‪» :‬مإن أوأدع وأديعــة فهلكــت فل ضأــمان عليــه«‬


‫ع وأل علــى‬ ‫وجاء عن علي رضي ا لــ عنــه قــال‪» :‬ل ضأــمان علــى را ئ‬
‫مإؤتمن« ‪ . 11/109‬وقال الشافعي في الما‪ » :‬ول يضمن المستودع إل أن‬
‫يخالف« ‪ ، 3/245‬والحديث أخرجه ابن ماجه في باب الودي عــة مــن غ يــر‬
‫كلمة فهلكت ‪.‬‬
‫) ( ل يجد الشافعي رضي ال عنه عذراا لمن يعد الجير ضامناا لنه يخالف‬ ‫‪3‬‬

‫الحديث‪ ،‬إل إذا قال مثلا‪ » :‬المين هو من دفعت إليه راضياا بأمانته ل معطى‬
‫أجراا على شيء مما دفعت‪ ،‬وإعطائي هذا الجر تفريق بينه وبين المين الذي‬
‫أخذ ما استؤمن عليه بل جعل« الما‪. 38 - 4/37 ،‬‬
‫وقد نسبِّ إلى علي بن أبي طالبِّ رضي ال عنه قوله في تضمين الصناع‪ » :‬ل‬
‫يصلح الناس إل ذاك« وإذا ثبت هذا عنه فإنه محمول على ما كان من قبيل‬
‫البيع ل الجارةا‪ ،‬وقال الشافعي في الما‪ » :‬وقد يروى من وجه ل يثبت أ ه ل‬
‫الحديث مثله أن علياا بن أبي طالبِّ رضي ال عنه ضمن الغ س ال والصباغِّ‬

‫‪551‬‬
‫وبناء على ذلك فقاعدةا المصالح المرسلة هي قاعدةا أصولية‬
‫من قواعد الشرع عند الشاطبي وليست أصلا خامساا برأسه‪ ،‬فهي‬
‫ليست مصدراا للحكاما وإنما هي منهج شرعي يطبق أو يعمل به عند‬
‫الستنباط مثل قاعدةا الستصحاب أو قاعدةا الصل في الشياء‬
‫الباحة أو قاعدةا رفع الضرر‪ .‬أما إذا اتخذت مصدراا للحكاما بحيث‬
‫يصير مقتضى التشريع مجرد النظر إلى كون الفعل مصلحة أو‬
‫مفسدةا أو أن يكون كذلك عند أدنى مشقة أو كلفة فهذا منهج‬
‫البتداع وليس التشريع‪.‬‬
‫أقسام المصالح‪:‬‬
‫وقد نـاقـش الشـاطبي في كتـابـه )العتصـاما( الذيـن‬
‫تذرعـوا بالمصـالح المرسـلة لمخالفاتهـم وبدعهم فزاد المر‬

‫وقال‪ :‬ل يصلح الناس إل ذاك« وقال‪ » :‬ويروى عن عمر تضمين الصناع من‬
‫وجه أضعف من هذا‪ ،‬ولم نعلم واحداا منهما يثبت‪ .‬وقد روي عن علي بن‬
‫أبي طالبِّ أنه كان ل يضمن أحداا من الجراء من وجه ل يثبت مثله«‬
‫‪. 7/88‬‬
‫وقال الشاطبي‪ » :‬وفي الحديث‪» :‬ل ضأرر وأل ضأرار« تشهد له الصول‬
‫) ‪(2‬‬

‫من حيث الجملة‪ ،‬فإن النبي ‪» ‬نهى أن يبيع حاضأر لباد«) ‪ ،(3‬وقال‪:‬‬
‫»دعوا الناس يرزق الله بعضهم مإن بعض«) ‪ ، (4‬وقال‪» :‬وأل تلقوا‬
‫السلع حتى يهبط بها إلى السوق« ) ‪ (5‬وهذا من باب ترجيح المصلحة‬
‫العامة على الخاصة‪ ،‬فتضمين الصناع من ذلك القبيل« العتصاما ‪،2/378‬‬
‫وهذا القول من الشاطبي استناداا إلى هذه الدلة مردود‪ ،‬لن هذه الدلة‬
‫عامة في الموضوع‪ ،‬وهناك أدلة خاصة في التضمين تنهى عنه‪،‬وعليه‬
‫فتضمين الصناع مخالف للشرع ول يجوز‪.‬‬
‫) ‪ ( 2‬تقدما تخريجه‪.‬‬
‫) ‪ ( 3‬طرقه كثيرةا منها‪ :‬البخاري ) ‪ ،( 2014‬ومسلم ) ‪ ،( 2799‬والترمذي )‬
‫‪ ( 1144‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬والنسائي ) ‪ ،( 4419‬وابن ماجه ) ‪،( 2176‬‬
‫وأحمد ) ‪ ،( 13820‬ومالك في الموطأ ) ‪.( 1189‬‬
‫) ‪ ( 4‬التخريج نفسه‪ ،‬وهو بهذه الرقاما الحديث نفسه‪» :‬ل يبع حاضأر لبائد‬
‫دعوا الناس يرزق الله بعضهم مإن بعض« ما عدا حديث مالك‪» :‬ل‬
‫يبع حاضأر لبائد«‪.‬‬
‫) ‪ ( 5‬أخرجه البخاري في باب بيع الطعاما قبل أن يقبض وباب بيع ما ليس عندك‬
‫) ‪ ،( 2020‬أبو داود ) ‪ ،( 2979‬والدارمي ) ‪.( 2454‬‬

‫‪552‬‬
‫بياناا وتوضيحاا‪ ،‬قال‪» :‬فلما كان الموضع مزلة قدما لهل البدع‬
‫لن يسـتدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين النظر في‬
‫مناط الغلط الواقـع لهؤلء حتى يتبين أن المصـالح المرسـلة‬
‫ليسـت مـن البـدع في وردم ول صدر بحول ال«هل)‪ ، (1‬ثم قال‪:‬‬
‫»المعنى المناسـبِّ الذي يربـط بـه الحكم ل يخـلو من ثلثة‬
‫أقساما‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يشــهـد الشرع بقبوله‪ ،‬فل إشكال في صحته ول‬
‫خلفَّ في إعماله وإل كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص‬
‫حفظاا للنفوس والطرافَّ وغيرها«هل)‪ . (2‬وهذا ليس من المصالح‬
‫المرسلة وإنما هذا هو المعتبر إما بشــهادةا الدليل أو بشهادةا‬
‫الحكم‪ ،‬أما عند الشاطبي فالعتبار هو بشهادةا الدليل‪ ،‬أو الحكاما‬
‫الكثـيـرةا كثـرةاا تشـكل دليــلا بنظره‪ ،‬ول يقبـل العتبـار‬
‫بشـهادةا حكم أو أحكاما قليلة‪.‬‬
‫ثم قال‪» :‬والثاني ما شهد الشرع برده فل سبيل إلى قبوله إذ‬
‫المناسبة ل تقتضي الحكم لنفسها‪ ،‬وإنما ذلك مذهبِّ أهل التحسين‬
‫العقلي‪ ،‬بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء‬
‫الحكاما فحينئذم نقبله‪ ،‬فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته‬
‫في حق الخلق من جلبِّ المصالح ودرء المفاسد على وجه ل يستقل‬
‫العقل بدركه على حال‪ ،‬فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى‪،‬‬
‫بل برده كان مردوداا باتفاق المسلمين«هل)‪ . (3‬وفي هذا النص دللة‬
‫على أن المناسبة ليست دليلا على العتبار ول شرطاا له‪ ،‬وإنما‬
‫الدليل على ذلك هو اعتبار الشرع للمعنى وهذا يفهم بالستقراء‪،‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/374 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪ ،‬وقوله‪» :‬المناسبة ل تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك‬ ‫‪3‬‬

‫مذهبِّ أهل التحسين العقلي«هل معناه عدما جواز الستدلل بالمصلحة‪ ،‬وإنما‬
‫الستدلل بالدليل الذي قرر هذه المصلحة سواء كان الــدليل متعينــاا‪ ،‬أو‬
‫غير متعين ‪.‬‬

‫‪553‬‬
‫وهذا القسم هنا هو المناسبِّ الملغى‪ ،‬فل اعتبار له‪ ،‬ومن منكرات هذا‬
‫الزمان بل ومن طغيان الجهل صدور أقوال وآراء يعدها البعض‬
‫فتاوى‪ ،‬تبيح المحرمات بحجة أنها مصالح أو مقصودي بها المصالح‬
‫وإسناد ذلك إلى المصالح المرسلة وإلى مقاصد الشريعة وأحياناا‬
‫إلى الشاطبي‪ ،‬فيا للعجبِّ!‪.‬‬
‫ثم قال‪» :‬الثالث‪ :‬ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد‬
‫باعتباره ول بإلغائه فهذا على وجهين‪ :‬أحدهما أن يرد نص على‬
‫وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراثا فالمعاملة بنقيض‬
‫المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة ل عهد بها‬
‫في تصرفات الشرع بالفرض ول بملئمها بحيث يوجد لها جنس‬
‫معتبر فل يصح التعليل بها‪ ،‬ول بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا‬
‫تشريع من القائل به فل يمكن قبوله«هل)‪. (1‬‬
‫والمذكور في هذا الوجه كثيراا ما يقع فيه الغلط فيعد من‬
‫المصالح المرسلة بناء على تعريفه بأنه ما سكت عنه الشرع فلم‬
‫يشهد له باعتبار ول إلغاء‪ ،‬وهو هنا يرده وينقل التفاق على ذلك‪.‬‬
‫ثم يبين ما هي المصالح المرسلة التي سكتت عنها الشواهد الخاصة‬
‫فلم تشهد لها باعتبار ول إلغاء فيقول‪» :‬والثاني أن يلئم تصرفات‬
‫الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة‬
‫بغير دليل معين وهو الستدلل المرسل المسمى بالمصالح‬
‫المرسلة«هل )‪. (2‬‬
‫إذن‪ ،‬ل يصح تعريف المصالح المرسلة بأنها مصالح ترك‬
‫الشارع بيانها ولم يذكرها باعتبار ول إلغاء‪ .‬وهي بهذا التعريف‬
‫مردودةا بل خلفَّ‪ ،‬وعلى ذلك ل يصح جعل المصلحة دليلا لمجرد‬
‫كونها مصلحةا‪ ،‬بل إن هذا مذهبِّ أهل التحسين والتقبيح العقلي‪،‬‬
‫وهذه المسألة محسومة أصلا‪ ،‬ومن شواهدها في هذا الموضوع قول‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/375 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪554‬‬
‫الشاطبي‪» :‬المناسبة ل تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهبِّ‬
‫أهل التحسين العقلي«هل‪ ،‬ونقله الجماع على عدما جواز الستدلل‬
‫بمجرد المصلحة حتى ولو لم تكن ملغاةا وذلك في قوله المذكور‬
‫آنفاا فيما لم تشهد له الشواهد الخاصة باعتبار ول إلغاء‪» :‬فل‬
‫يصح التعليل بها ول بناء الحكم عليها باتفاق‪ ،‬ومثل هذا تشريع من‬
‫القائل به فل يمكن قبوله«هل‪ .‬وقد نقل الرازي الجماع على هذا‬
‫المر حيث قال‪» :‬مناسبِّي‪ ،‬ل يلئم‪ ،‬ول يشهد له أصل معين فهذا‬
‫مردود بالجماع‪ ،‬مثاله حرمان القاتل من الميراثا معارضةا له‬
‫بنقيض قصده لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص«هل)‪. (1‬‬
‫شروأط القاعدة‪:‬‬
‫أما شروط إعمال قاعدةا المصالح المرسلة ومن ذلك مواضع‬
‫تطبيقها‪ ،‬فقال إنها ثلثة أمور‪» :‬أحدها الملءمة لمقاصد الشرع‬
‫بحيث ل تنافي أصلا من أصوله ول دليلا من دلئله‪ ،‬والثاني أن‬
‫عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات‬
‫المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول‪ ،‬فل مدخل لها‬
‫في التعبدات ول ما جرى مجراها من المور الشرعية«هل)‪. (2‬‬
‫»والثالث أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري‬
‫ورفع حرج لزمام في الدين وأيضاا مرجعها إلى حفظ أمرم ضروري‬
‫من باب »ما ل يتم الواجبِّ إل به«هل فهي إذن من الوسائل ل من‬
‫المقاصد‪ ،‬ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف ل إلى‬
‫التشديد«هل)‪ . (3‬ففي الضروريات‪ ،‬الحكم على الفعل بناء على‬
‫المصلحة المرسلة يعني أن الفعل وسيلة إلى مسببِّ معلوما الوجوب‪،‬‬
‫ومن شرطه أن ل يكون الفعل واجباا أصلا‪ ،‬إذ لو كان كذلك لما‬
‫كان ثمة مدخل للمصالح المرسلة‪ ،‬يقول‪» :‬وأما كونها في‬

‫) ( الرازي‪ ،‬المحصول‪. 5/167 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/386 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/389 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪555‬‬
‫الضروري من قبيل الوسائل‪ ،‬وما ل يتم الواجبِّ إل به إن نص على‬
‫اشتراطه فهو شرط شرعي فل مدخل له في هذا الباب لن نص‬
‫الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر‪ ،‬وإن لم ينص على اشتراطه فهو‬
‫إما عقلي أو عادي فل يلزما أن يكون شرعياا كما أنه ل يلزما أن‬
‫يكون على كيفية معلومة فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير‬
‫كتبِّ مطرداا لصح ذلك‪ ،‬وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح‬
‫لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة المامة الكبرى بغير‬
‫إماما على تقدير عدما النص بها لصح ذلك«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬إذا ثبت‬
‫هذا لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي‬
‫ليست بوسائل«هل )‪. (2‬‬
‫أما تطبيقها في الحاجيات فقال‪» :‬وأما كونها في الحاجي من‬
‫باب التخفيف فظاهر أيضاا وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج‪،‬‬
‫فليس فيه ما يدل على تشديد ول زيادةا تكليف«هل )‪. (3‬‬
‫وبناءا على ذلك فإن قاعدةا المصالح المرسلة ليست مدعاةا‬
‫للقول بأن في الشريعة منطقة فراغِّ أو وقائع سكت عنها الشرع ولم‬
‫يبين حكمها ويجري الحكم عليها بناء على المصالح‪ ،‬فمثل هذا‬
‫القول مردود عند الشاطبي لن المصالح أنفسها ل تعرفَّ إل‬
‫بالشرع‪ ،‬هذا من جهة‪ .‬ومن جهة أخرى فليس هناك شيء سكت عنه‬
‫الشرع بمعنى لم يبين حكمه‪ ،‬وإنما هناك أشياء لم يدل عليها الدليل‬
‫عيناا‪ ،‬وإنما دل عليها بعمومات وأقيسة‪ ،‬فهي تندرج تحت قواعد‬
‫عامة أو كلية‪ ،‬وليس هناك سكوت من الشرع بمعنى عدما البيان‪،‬‬
‫وقد تبين سابقاا أن الشريعة فيها بيان كل شيء‪ ،‬قال الشاطبي‪» :‬إن‬
‫سكوت الشارع عن الحكم على ضربين‪ :‬أحدهما أن يسكت عنه لنه ل‬
‫داعية له تقتضيه ول موجبِّ لجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪556‬‬
‫ال ‪ ‬فإنها لم تكن موجودةا ثم سكت عنها مع وجودها‪ ،‬وإنما حدثت‬
‫بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما‬
‫تقرر في كلياتها‪ ،‬وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم‬
‫كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك‬
‫مما لم يجر له ذكر في زمن رسول ال ‪ ، ‬ولم تكن من نوازل زمانه‬
‫ول عرض للعمل بها موجبِّ يقتضيها‪ ،‬فهذا القسم جارية فروعه على‬
‫أصوله المقررةا شرعاا بل إشكال«هل )‪ . (1‬فهذا السكوت ليس سكوتاا‬
‫بمعنى عدما البيان وإنما هو مثل السكوت عن بيان حكم الحاسوب أو‬
‫استعمال أسلحة الدمار الشامل أو السيارةا أو الستنساخ‪ ،‬فهذه بيانها‬
‫ليس كبيان حكم الميتة أو الجهاد أو النكاح أو الزنا‪ ،‬فهي لم تكن‬
‫في زمن النبوةا‪ ،‬ولكن بيانها موجود في الشريعة‪ ،‬بما جاءت به من‬
‫نصوص عامة وأوصافَّ وعلل‪ ،‬هذا هو معنى السكوت المذكور هنا‪،‬‬
‫أما القسم الثاني من المسكوت عنه فقال فيه‪» :‬والثاني أن يسكت‬
‫عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة‬
‫زائد على ما كان في ذلك الزمان‪ ،‬فهذا الضرب السكوت فيه‬
‫كالنص على أن قصد الشارع أن ل يزاد فيه ول ينقص لنه لما كان‬
‫هذا المعنى الموجبِّ لشرع الحكم العملي موجوداا ثم لم يشرع‬
‫الحكم دللة عليه كان ذلك صريحاا في أن الزائد على ما كان‬
‫هنالك بدعـة زائدةا ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده‬
‫)‪(2‬‬
‫الوقوفَّ عند ما حيديي هنالك ل الزيادةا عليه ول النقصان منه«هل ‪.‬‬
‫ولذلك فالشاطبي يرد بشكل كامل القول بأن المصالح المرسلة‬
‫هي استدلل بالمصلحة على حكم الفعل‪ .‬وكذلك يرد ما يتوقع أن‬
‫يقال من أن المصالح المرسلة هي تحكيم للمصالح في المواضع التي‬
‫سكت الشارع عن بيانها‪ ،‬فيورد القول المردود عنده وهو‪:‬‬
‫»المسكوت من الشارع ل يقتضي مخالفةا ول ييفنهقمي للشارع قصداا‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬ا لموافقات ‪. 2/288 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪557‬‬
‫معيناا دون ضده وخلفه‪ ،‬فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في‬
‫وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح‬
‫المرسلة وما وجدنا فيه مفسدةا تركناه إعمالا للمصالح المرسلة‪،‬‬
‫وما لم نجد فيه هذا ول هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح‬
‫المرسلة أيضاا«هل )‪ . (1‬ورد الشاطبي على ذلك هو‪» :‬وتقرير الجواب‬
‫ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد‬
‫المعنى المقتضي للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن ل‬
‫زائد على ما كان وهو غاية في هذا المعنى«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬إن وجود‬
‫المعنى المقتضي مع عدما التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدما‬
‫الزيادةا على ما كان موجوداا قبل‪ ،‬فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف‬
‫لقصد الشارع فبطل«هل )‪ . (3‬ودللة هذا الكلما وما سبقه أنه إذا كان‬
‫ثمة زيادةا أو تغيير فستكون بحسبِّ أدلة الشرع وقواعده‪.‬‬
‫وخلصة الكلما في قاعدةا المصالح المرسلة عند الشاطبي أنها‬
‫تطلق على الفقه الذي ينبني على قاعدةا »ما ل يتم الواجبِّ إل به‬
‫فهو واجبِّ«هل في الضروريات‪ ،‬وعلى قاعدةا رفع الحرج في الحاجيات‪،‬‬
‫وهي ل تعمل في العبادات‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬ا لموافقات ‪. 2/289 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 290 - 2/289 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/291 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪558‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫السـتحسـان‬
‫الستحسان وأمإواقف الئامة مإنه‪:‬‬
‫الستحسان عند الشاطبي قاعدةا أصولية كالمصالح المرسلة‪،‬‬
‫وهو منهج في إعمال الدلة وفي الستنباط‪ ،‬تعددت تعريفاته‬
‫واختلفت‪ .‬وقبل التعرض له بالتفصيل تجدر الشارةا إلى أن حقيقته‬
‫ل تخرج عن العمل بأقوى الدليلين عند تعارضهما‪ .‬قال به الماما‬
‫أبو حنيفة ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬وأتباعه‪ .‬واشتهر رده عند الشافعي‬
‫والشافعية وتشديد النكير عليه باعتباره استحساناا بمحض الرأي‪،‬‬
‫أو ترك الدليل إلى الرأي‪ .‬أما في حقيقته كما هو عند الحنافَّ‬
‫فهم يقبلونه ويعدونه عملا بالدليل‪ .‬وقد نسبِّ العمل به إلى‬
‫المامين مالك وأحمد رحمهما ال‪.‬‬
‫أما الماما مالك فقد نسـبِّ إليه الشـاطبي في أكثر من‬
‫موضع من الموافقـات أن الستحسان تسعة أعشار العلم )‪ . (1‬وقال‬
‫الزركشي‪» :‬وعن ابن القاسم‪ :‬قال مالك‪ :‬تسعة أعشـار العلم‬
‫الستحسان‪ .‬قال أصبغ بن الفرج‪ :‬الستحسان في العلم يكون أبلغ‬
‫من القياس«هل)‪ . (2‬ومما نقله الزركشي‪» :‬الستحسان الذي ذهبِّ إليه‬
‫مالك هو القول بأقـوى الدليليـن«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬قال البياري‪:‬‬
‫الذي يظهر من مذهبِّ مالك القول بالسـتحسـان ل على ما سبق بل‬
‫حاصله اسـتعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي فهو يقدما‬
‫الستدلل المرسل على القياس«هل)‪. (4‬‬
‫أما الماما أحمد فقد بين موقفه الدكتور عبد ال بن عبد‬
‫المحسـن التركي في كتابه )أصول مذهبِّ الماما أحمد( حيث أورد‬
‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/118 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/387 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/388 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪559‬‬
‫أقوال مشاهير الحنابلة وأئمتهم في الصول ثم استخلص أن‬
‫جمهورهم قد اختار من تعريفات الستحسان أنه ترك القياس لدليل‬
‫أقوى منه‪ ،‬ومنهم من يقول إنه أقوى القياسين‪ ،‬وأنهم جميعاا بناءا‬
‫على هذا التعريف يقولون بالستحسان ويعتبرونه‪ ،‬وينصون على‬
‫أنه مذهبِّ أحمد وإنه ليس دليلا مستقلا‪ ،‬ولكنه من باب ترجيح‬
‫الدلة بعضها مع بعض‪ ،‬أما إذا كان تشهياا فيردونه ويعدونه‬
‫تشريعاا بما لم يأذن به ال )‪. (1‬‬
‫أما الشافعي فقد أنكره كما تقدما‪ ،‬قال‪» :‬ول يقول بما‬
‫استحسن فإن القول بما استحسن شيء يحدثه ل على مثال سابق «هل)‪. (2‬‬
‫وقال ‪» :‬إ نما الستحسان تلذذ «هل)‪ . (3‬وتبعه في ذلك أصحابه ‪ .‬وقد‬
‫قيل إن الجمهور أنكره‪ ،‬قال الزركشي ‪» :‬و قد أنكره الجمهور حتى‬
‫قال الشافعي ‪ :‬من استحسن فقد شرع «هل)‪ . (4‬ثم قال ‪ » :‬قال أصحابنا ‪:‬‬
‫ومن شرع فقد كفر‪ ،‬وسكت الشافعي عن المقدمة الثانية‬
‫لوضوحها«هل)‪ . (5‬والصواب أنه لو كان تلذذاا وقولا في الدين بغير‬
‫دليل لما أنكره الجمهور وحسبِّ‪ ،‬وإنما لكان أنكره أبو حنيفة‬
‫وأصحابه أيضاا‪ ،‬وقد اشتد النكير على الستحسان حتى طال الماما‬
‫أبا حنيفة وأصحابه‪ ،‬قال علء الدين البخاري‪» :‬واعلم أن بعض‬
‫القادحين في المسلمين طعن على أبي حنيفة وأصحابه ‪ -‬رحمهم ال ‪-‬‬
‫في تركهم القياس بالستحسان ‪ ،‬وقال حجج الشرع الكتاب والسنة‬
‫والجماع والقياس ‪ ،‬والستحسان قسم خامس لم يعرفَّ أحد من حملة‬
‫الشرع سوى أبي حنيفة وأصحابه أنه من دلئل الشرع ولم يقم عليه‬
‫دليل بل هو قول بالتشهي‪ ،‬فكان ترك القياس به تركاا للحجة‬

‫عبد ال بن عبد المحسن التركي‪ ،‬أصول مــذهبِّ ال مــاما أح مــد‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ، 570‬دراسة أصولية مقارنة‪ ،‬ط ‪ 1416 ، 4‬هـ ‪ 1996 -‬ما‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬
‫بيروت ‪.‬‬
‫) ( الشافعي‪ ،‬الرسالة‪ ،‬ص‪ ، 25 :‬فقرةا‪. 70 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ، 507 :‬فقرةا‪. 1464 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/386 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪560‬‬
‫لتباع هوىا أو شهوةا نفس فكان باطلا‪ .‬ثم قال‪ :‬إن القياس الذي‬
‫تركوه بالستحسان إن كان حجةا شرعية فالحجة الشرعية حق‪،‬‬
‫وماذا بعد الحق إل الضلل«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬ونقل عن الشافعي أيضاا‬
‫أنه بالغ في إنكار الستحسان وقال‪ :‬من استحسن فقد شرع‪ ،‬وكل‬
‫ذلك طعن من غير روية‪ ،‬وقدحي من غير وقوفَّم على المراد فأبو‬
‫حنيفة ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬أجل قدراا وأشد ورعاا من أن يقول في الدين‬
‫بالتشهي«هل )‪. (2‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬واعلم أنه إذا حرر المراد بالستحسان زال‬
‫التشنيع‪ ،‬وأبو حنيفة بريء إلى ال من إثبات حكم بل حجة«هل)‪. (3‬‬
‫وقال البزدوي تحت عنوان‪) :‬باب القياس والستحسان(‪:‬‬
‫»وكل منهما على وجهين‪ .‬أما أحد نوعي القياس فما ضعف أثره‬
‫والنوع الثاني ما ظهر فساده واستترت صحته وأثره‪ .‬وأحد نوعي‬
‫الستحسان ما قوي أثره وإن كان خفياا‪ .‬والثاني ما ظهر أثره‬
‫وخفي فساده‪ .‬وإنما الستحسـان عندنا أحد القياسين«هل )‪. (4‬‬
‫ومن هنا ندرك أن الستحسان الذي ذمه الشافعي وغيره هو‬
‫غير الستحسان الذي يقول به أبو حنيفة‪ ،‬ول يظن بأبي حنيفة ـ‬
‫رحمه ال ـ ول بأي إماما معتبر أن يترك دليل الشرع إلى رأيه‪ ،‬ول‬
‫أن يقول في الشرع بمجرد رأيه بغير دليل شرعي‪ ،‬فما هو‬
‫الستحسان الذي يقصده الحنافَّ؟‬
‫مإا هو الستحسـان‪:‬‬
‫لقد تعددت تعريفات الستحسان عندهم وكلها ل تخرج عن أن‬
‫الستحسان هو عملية تخصيص‪ ،‬وأنه يعمل به عند تعارض الدلة‪،‬‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪ 4/4 ،‬وانظر‪ :‬السرخسي‪ ،‬أصول‬ ‫‪1‬‬

‫السرخسي‪. 2/200 ،‬‬


‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/387 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( البزدوي‪ ،‬أصول البزدوي‪. 4/4 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪561‬‬
‫ومما قيل في حقيقته إنه العمل بأقوى القياسين‪ ،‬وإنه تخصيص‬
‫العلة‪ ،‬وإنه تخصيص القياس بالسنة)‪. (1‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه قطع المسألة عن نظائرها لدليل خاص يقتضي‬
‫العدول عن الحكم الول فيه إلى الثاني سواء كان قياساا أو نصاا‪،‬‬
‫قاله أبو الحسن الكرخي وقد قيل إنه أحسن ما قيل في تفسير‬
‫الستحسان)‪. (2‬‬
‫وقيل‪ :‬هو ترك القياس والخذ بما هو أرفق للناس)‪. (3‬‬
‫والظاهر أن تعريف الكرخي هو أدق التعريفات إذ إنه شامل‬
‫لكل أمثلة الستحسان‪ .‬ومما يؤكد هذا المر‪ ،‬أنهم يقولون إن‬
‫الستحسان أحد القياسين أو أقوى القياسين ولكن عندما يأتون‬
‫بالمثلة نراهم يسمون تطبيق العاما على أفراده‪ ،‬أو جريان العاما في‬
‫أفراده قياساا مع أنه ل يوجد قياس ول علة بالمعنى الشرعي‪ ،‬وهو‬
‫ما سيتبين بالمثلة‪.‬‬
‫أقسام الستحسان‪:‬‬
‫وكذلك فهم يقسمون الستحسان أقساماا‪ ،‬منها ما هو‬
‫استحسان بالسنة ومنها ما هو استحسان بالجماع ومنها ما هو‬
‫استحسان بالضرورةا‪ ،‬وهذه المثلة ليس فيها قياسان‪ ،‬بل ول يلزما‬
‫أن يكون فيها أي قياس أصلا‪ .‬قال البزدوي‪» :‬وللستحسان أقساما‬
‫وهو ما ثبت بالثر مثل السلم والجارةا وبقاء الصوما مع فعل‬
‫الناسي‪ ،‬ومنه ما ثبت بالجماع وهو الستصناع‪ ،‬ومنه ما ثبت‬
‫بالضرورةا وهو تطهير الحياض والبار والواني«هل)‪ . (4‬وقال الشارح‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/390 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص‪ ، 22 :‬تأليف السيد الشريف أبي الحسن علي‬ ‫‪3‬‬

‫بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي ‪ 816‬هـ‪ .‬تحقيق محمد باسل‬
‫عيون السود ‪ .‬ط ‪ 1421 . 1‬هـ ‪ 2000 -‬ما‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية‪ ،‬بيروت ‪.‬‬
‫) ( البزدوي‪ ،‬أصول البزدوي‪. 7 - 4/6 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪562‬‬
‫في كشف السرار عن الستحسان بالثر‪» :‬فإن القياس يأبى جواز‬
‫السلم لن المعقود عليه الذي هو محل العقد معدوما حقيقةا عند‬
‫العقد‪ ،‬والعقد ل ينعقد في غير محله إل أنا تركناه بالثر الموجبِّ‬
‫للترخص وهو قول الراوي‪» :‬وأرخإص في السلم«)‪ . (1‬وقوله‬
‫عليه السلما‪» :‬مإن أسلم مإنكم فليسلم في كيل‬
‫مإعلوم«)‪ . (3)«. (2‬وقوله في النص‪» :‬فإن القياس يأبى السلم«هل ليس‬
‫المقصود به القياس الشرعي‪ ،‬وإنما المقصود بذلك عموما النص‪:‬‬
‫»ل تبع مإا ليس عندك«)‪ ، (4‬فهذا يتعارض مع بيع السلم‪ ،‬وهو هنا‬
‫يسمي جريان النص في أفراده قياساا‪ ،‬حيث أن كل فرد يثبت له ما‬
‫يثبت لغيره‪ ،‬وهو الحكم‪ ،‬وهذا بسببِّ عموما النص في أفراده‪ ،‬فكل‬
‫فرد يأخذ حكم الفرد الخر نفسه‪ ،‬وكأن جريان الحكم في كل‬
‫الفراد قياس‪ .‬بينما المسألة في الحقيقة هي نص عاما ينطبق على‬
‫أفراده وليست قياساا‪ .‬والتخصيص ببيع السلم يعني أن النص لم‬
‫يجر في بيع السلم وهو أحد أفراد البيع‪ ،‬فكان تخصيصاا لنص عاما‬
‫وليس تخصيصاا لقياس‪ ،‬وهو قطع لبيع السلم عن نظائره وإعطاؤه‬
‫حكماا آخر غير حكم نظائره‪ ،‬ولذلك يقال إن تعريف أبي الحسن‬
‫الكرخي هو أدق التعاريف‪ ،‬والمر نفسه ينطبق على الجارةا وبقاء‬
‫الصوما‪ ،‬فعقد الجارةا عقد على منفعة غير موجودةا وقت العقد ول‬
‫تستوفى إل آجلا‪ ،‬فهو يرى أن القياس يقتضي عدما جواز عقد‬
‫الجارةا‪ .‬والمقصود بذلك أن الجارةا نوع من البيع‪ ،‬والجريان في‬
‫ذلك على أحكاما البيع يتناقض مع عقد الجارةا‪ .‬هذا هو الذي‬
‫) ( أنظر‪ :‬الحديث التالي‪ ،‬هامش رقم ) ‪. ( 3‬‬ ‫‪1‬‬

‫أخرجه البخاري في كتاب السلم‪ ،‬بــاب ال ســلم فــي كيــل معلــوما )‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ،( 2086‬ومسلم في باب السلم ) ‪ ،( 3011‬والترمذي في البيوع ) ‪( 1232‬‬


‫وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وأحمد ) ‪ ( 1836‬وكلهم بلفظ ال ســلف بــدل السـلم‪.‬‬
‫وهي بمعنىا واحد ‪.‬‬
‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 4/7 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( أخرجه الترمذي في البيوع ) ‪ ، ( 1153‬وأبو داود في الجارةا ) ‪، ( 3040‬‬ ‫‪4‬‬

‫وابن ماجه في التجارات باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح مــا لــم‬
‫يضمن ) ‪ ، ( 2178‬والماما أحمد في المسند ) ‪. ( 4772‬‬

‫‪563‬‬
‫يسميه قياساا‪ ،‬وبما أن النصوص أباحت الجارةا فتقدما على القياس‪،‬‬
‫وهذا في حقيقته تخصيص‪ ،‬والتخصيص في واقعه دائماا يتضمن‬
‫تعارضاا بين العاما والخاص‪ ،‬وههنا يوجد تعارض بين عموما النص‬
‫الذي سماه قياساا‪ ،‬وبين النص المخصص الذي هو بدوره يمكن‬
‫تسمية جريانه في أفراده قياساا‪ ،‬لذلك فهو يسمى عملية‬
‫التخصيص هذه‪ ،‬التي فيها تقديم للخاص على العاما‪ ،‬عملا بأقوى‬
‫القياسين ويسميها استحساناا‪ ،‬وقد سماها بعضهم عملا بأقوى‬
‫الدليلين‪ ،‬ولذلك قيل ‪ -‬أيضاا ‪ -‬إن أقوى القوال هو قول الكرخي‪:‬‬
‫هو قطع المسألة عن نظائرها إلخ‪.‬‬
‫ويظهر هذا بشكل أقوى في تمثيله في بقاء الصوما مع فعل‬
‫الناسي‪ ،‬قال في كشف السرار‪» :‬وكذا الكل ناسياا يوجبِّ فساد‬
‫الصوما في القياس لن الشيء ل يبقى مع وجود ما ينافيه كالطهارةا‬
‫مع الحدثا والعتكافَّ مع الخروج من غير حاجة‪ ،‬إل أنه متروك‬
‫بالثر وهو قوله عليه السلما‪» :‬تم على صومإك فإنما أطعمك‬
‫الله وأسقاك«)‪ ، (1‬وإليه إشعار أبي حنيفة ‪ -‬رحمه ال ‪ : -‬لول قول‬
‫الناس لقلت‪ :‬يقضي‪ .‬يعني به رواية الثر«هل )‪ . (2‬وهنا أيضاا ل يوجد‬
‫في الحقيقة قياس يوجبِّ فساد الصوما‪ ،‬مما يعني أنه ل يقصد‬
‫بالقياس القياس الشرعي أي في المصطلح الصولي‪ ،‬وإنما يقصد به‬
‫جريان الحكم في كل أفراده‪ ،‬والحكم هو أن الكل يفسد الصياما‪،‬‬
‫وأكل الناسي أكل‪ ،‬فينبغي أن يفسد به الصوما‪ ،‬فالمقصود بالقياس‬
‫عموما النص‪ ،‬ثم إنه خصص عموما النص بالثر‪ ،‬فلم يحكم على هذا‬
‫الكل حكمه على نظائره من الكل لنه أكل ناسياا والثر أخرج‬
‫الناسي‪ ،‬فكان الستحسان تخصيصاا وقطعاا للمسألة عن نظائرها‪.‬‬
‫وأما الستحسان بالجماع فمثل له بالستصناع‪ ،‬والمقصود‬
‫بذلك أن القياس الذي يقصده يقتضي عدما جواز الستصناع‪ ،‬ولكن‬
‫) ( أخرجه البخاري ) ‪ ( 1797‬بلفظ‪» :‬فليتم صومإه فإنما أطعمه‬ ‫‪1‬‬

‫الله وأسقاه«‪ ،‬ومسلم ) ‪ ،( 1952‬باللفظ نفسه‪ ،‬وأبو داود ) ‪. ( 2046‬‬


‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 4/7 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪564‬‬
‫الجماع دل على جوازه فكان هذا تخصيصاا بالجماع‪ ،‬وهنا أيضاا‬
‫يقال إنه ل يوجد قياس أقوى من قياس وإنما هناك إجماع خصص‬
‫الحكم‪ ،‬قال في كشف السرار‪» :‬ومن الستحسان ما ثبت بالجماع‬
‫مثل الستصناع يعني فيما فيه للناس تعامل مثل أن يأمر إنساناا‬
‫ليخرز له خفاا مثلا بكذا ويبين صفته ومقداره ول يذكر له أجلا‬
‫ويسلم إليه الدراهم أو ل يسلم فإنه يجوز والقياس يقتضي عدما‬
‫جوازه لنه بيع معدوما للحال وهو معدوما وصفاا في الذمة ول‬
‫يجوز بيع شيء إل بعد تعينه حقيقةا أي ثبوته في الذمة كالسلم‬
‫فأما مع العدما من كل وجه فل يتصور عقد لكنهم استحسنوا تركه‬
‫بالجماع الثابت بتعامل المة من غير نكير«هل)‪ . (1‬فهذا أيضاا‬
‫تخصيص‪ ،‬وهو ليس تخصيصاا لقياس وإنما لعموما‪ .‬والذي يتأكد‬
‫من هذا أن الستحسان تخصيص‪ ،‬وبما أن التخصيص ليس إل‬
‫تعارضاا بين عموما وخصوص‪ ،‬فالعمل يكون بأقوى المتعارضين‪،‬‬
‫لذلك يكون الستحسان العمل بأقوى الدليلين وهو الخاص‪ ،‬وبما‬
‫أنه عمل بالخاص وترك للعاما فهو قطع للمسألة عن نظائرها‪،‬‬
‫والحكم عليها بالحكم الخاص‪ ،‬ويكون تقديم الثر الخاص على العاما‬
‫هو الستحسان‪ ،‬ومن هنا فقد يقال‪ :‬ترك الدليل‪ ،‬والمقصود الدليل‬
‫العاما‪ ،‬إلى الستحسان‪ ،‬فيتوهم من ل يدقق أنه ترك الدليل الشرعي‬
‫إلى الرأي الشخصي‪ ،‬وليس المر كذلك إطلقاا‪ .‬قال‪» :‬فإن قيل‪:‬‬
‫الجماع وقع معارضاا للنص وهو قوله عليه السلما‪» :‬ل تبع مإا‬
‫ليس عندك«)‪ ، (2‬قلنا‪ :‬قد صار النص في حق هذا الحكم مخصوصاا‬
‫بالجماع فبقي القياس النا في للجواز معارضاا للجماع فسقط‬
‫اعتباره بمعارضة الجماع«هل )‪. (3‬‬
‫وأما استحسان الضرورةا فقال فيه‪» :‬ومنه ما ثبت بالضرورةا‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 4/7 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 4/8 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪565‬‬
‫وهو تطهير الحياض والبار والواني‪ ،‬فإن القياس نافى طهارةا هذه‬
‫الشياء بعد تنجسها لنه ل يمكن صبِّ الماء على الحوض أو البئر‬
‫ليتطهر‪ ،‬وكذا الماء الداخل في الحوض أو الذي ينبع من البئر‬
‫يتنجس بملقاةا النجس والدلو يتنجس أيضاا بملقاةا الماء فتعود‬
‫وهي نجسة وكذا الناء إذا لم يكن في أسفله ثقبِّ يخرج الماء منه‬
‫إذا أيجنرقيي من أعله لن الماء النجس يجتمع في أسفله فل يحكم‬
‫بطهارته إل أنهم استحسنوا ترك العمل بموجبِّ القياس للضرورةا‬
‫المحوجة إلى ذلك لعامة الناس‪ .‬وللضرورةا أثر في سقوط‬
‫الخطاب«هل)‪. (1‬‬
‫وهنا أيضاا ليس في هذا النظر أي قياس بالمعنى الشرعي‪،‬‬
‫وإنما هو بحث في الواقع أو المناط وهو أن الماء تنجس ولن يطهر‬
‫ولكن هذا الحكم بنجاسة الحياض والواني والبار عسير على الناس‬
‫فيحكم بالطهارةا للضرورةا‪ ،‬فتم تخصيص الحكم بنجاستها‬
‫بالضرورةا‪ ،‬والضرورةا لها حكمها وأثرها شرعاا‪ .‬فهذا نوع من‬
‫الستحسان‪ ،‬وظاهر فيه أنه تخصيص‪ .‬وظاهر فيه أيضاا أنه ليس‬
‫تخصيصاا لقياس ول عملا بأقوى القياسين‪ .‬وهم وإن أطلقوا على‬
‫المتروك اسم القياس وعلى المعمول به اسم الستحسان فهي تسمية‬
‫أطلقوها وهم يعلمون أنه ليس ثمة قياس أو علة‪ ،‬ولكن ربما كان‬
‫ثمة مشابهة بين جريان الحكم في مختلف أفراده بالدليل العاما‪،‬‬
‫وبين تعدية الحكم إلى مواضع مختلفة بواسطة العلة‪ ،‬وكذلك فإن‬
‫العلة إنما أهميتها بتأثيرها في الحكم‪ ،‬فإذا ظهر أثر الشيء شابه‬
‫العلة في ذلك‪ .‬قال البزدوي‪» :‬وإنما غرضنا هنا تقسيم وجوه‬
‫العلل في حق الحكاما‪ ،‬ولما صارت العلة عندنا علة بأثرها سمينا‬
‫الذي ضعف أثرها قياساا وسمينا الذي قوي أثرها استحساناا أي‬
‫قياساا مستحسناا وقدمنا الثاني وإن كان خفياا على الول وإن كان‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪566‬‬
‫جلياا لن العبرةا لقوةا الثر دون الظهور والجلء«هل)‪. (1‬‬
‫وإذا كان هذا هو الستحسان عند أبي حنيفة ـ رحمه ال ـ‬
‫فليس ثمة خلفَّ بينه وبين المشنعين على الستحسان‪ .‬ولكن‬
‫السؤال هو‪ :‬لماذا هذه التسمية‪ ،‬فهل هناك علقة بين هذه اللفظة‬
‫وبين ترك العاما إلى الخاص أو الخذ بأقوى الدليلين؟ وقد أورد‬
‫الزركشي أقوالا تشير إلى هذا التساؤل منها‪» :‬على أن الخلفَّ‬
‫بيننا وبينهم لفظي‪ ،‬فإن تفسير الستحسان بما يشنع عليهم ل‬
‫يقولون به‪ ،‬والذي يقولون به إنه العدول في الحكم من دليل إلى‬
‫دليل هو أقوى منه‪ .‬فهذا مما لم ينكره‪ .‬لكن هذا السم ل نعرفه‬
‫اسماا لما يقال به بمثل هذا الدليل«هل)‪. (2‬‬
‫وما أراه في هـذا الشأن هو أن هذه التسـمـيـة ربمـا كـانـت‬
‫ترجع إلى خصوصية في المذهبِّ‪ ،‬وذلك أن المنقول عن أبي حنيفة‬
‫وجمهور المذهبِّ أنهم ل يرون تخصيص العاما بالخاص إل إذا كان‬
‫الخاص متأخراا عن العاما‪ ،‬فإذا كان العاما هو المتأخر فإنه ناسخ‬
‫للخاص‪ ،‬إل انه قد يجهل أيهما المتأخر‪ ،‬أو قد يغلبِّ على الظن أن‬
‫العاما هو المتأخر ولكن الخاص تحتف به قرائن تجعله أقوى أثراا‬
‫وتوجبِّ إعماله عند النظر والجتهاد وذلك كأن ينقل عن الصحابة‬
‫العمل به‪ ،‬ففي هذه الحالة فإن أصول المذهبِّ تقضي بالعمل بالعاما‬
‫وإهمال الخاص‪ ،‬ولكن ما اقترن بالخاص من قرائن تيقيويقيه‪ ،‬ويؤدي‬
‫الجتهاد إلى إعماله وتخصيص العاما به‪ ،‬ومن هنا ‪ -‬وال أعلم ‪-‬‬
‫تظهر تعابير مثل‪» :‬ما قوي أثره وإن كان خفياا«هل ومثل‪» :‬ما‬
‫ظهر أثره وخفي فساده«هل وربما كان هذا مبرراا وجيهاا لستعمال‬
‫لفظ الستحسان‪.‬‬
‫أما أن ما ذكر أعله هو من أصول المذهبِّ في العاما والخاص‬
‫فقد قال البزدوي ‪» :‬إن أبا حنيفة ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬قال‪ :‬إن الخاص ل‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 4/8 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/388 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪567‬‬
‫يقضي على العاما بل يجوز أن ينسخ الخاص به«هل)‪ ، (1‬وقـال علء‬
‫الديـن البخـاري‪» :‬والجـواب لبـي حنيـفـة ‪ -‬رحمه ال ‪ : -‬إن‬
‫العاما في إيجـاب الحكم مثل الخاص‪ ،‬ثم إذا وردا في حادثـةم‬
‫ويعرفَّ تاريخهما كان الثاني ناسـخاا إن كان هو العاما ومخصصاا‬
‫إن كان هو الخاص«هل)‪. (2‬‬
‫وإذا كان الستحسان ليس إل عملا بالشرع‪ ،‬وعملا بأقوى‬
‫الدليلين عند التعارض وهو المخصص‪ ،‬فل مجال للتشنيع على‬
‫الستحسان أو على من يقول به‪ .‬ولكن ربما يقال إن المثلة التي‬
‫يؤتى بها على الستحسان فيها ما يظهر فيه أنه عدول عن الدليل‬
‫إلى ما ل دليل عليه أو ترك القوى إلى الضعف‪ .‬والجواب إن هذا‬
‫ليس راجعاا إلى الستحسان أو معناه‪ ،‬وإنما هو راجع إلى الختلفَّ‬
‫الفقهي في تفاصيل الدلة‪ ،‬فقد يترك المجتهد ما هو دليل بنظر‬
‫غيره وليس دليلا بنظره‪ ،‬وقد يقول بالرأي يظنه خصمه ل دليل له‬
‫عليه فيتوهم أنه تيشيهيم واتباع للهوى‪ ،‬أضف إلى ذلك أنه ربما‬
‫يكون من أتباع المذهبِّ من ل يقف على حقيقة قول إمامه أو على‬
‫دليله‪ ،‬فيبني على ذلك ما ل يصح‪ ،‬وربما كان ذلك ذريعةا للتشنيع‬
‫على المذهبِّ‪.‬‬
‫الستحسان عند الشاطبي‪:‬‬
‫والستحسان عند الشاطبي ل يختلف عن هذا المذكور أعله‬
‫إل من جهة أنه قاعدةا كلية‪ ،‬والقواعد الكلية قطعية‪ ،‬فالستحسان‬
‫عنده هو عدول عن إجراء القاعدةا الكلية في أحد أو بعض جزئياتها‪،‬‬
‫وعلى ذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذه الجزئية المعدول بها عن‬
‫الكلي راجعاا إلى معنى كلي آخر‪ ،‬وإل فل يصح هذا العدول‪ .‬فهو‬
‫إخراج الجزئية من تبعيتها لكلي إلى كلي آخر‪ ،‬وهذا من قبيل‬
‫التعارض بين الكليات أو تخصيص الكليات بعضها لبعض‪ ،‬والكليات‬

‫) ( البزدوي‪ ،‬أصول البزدوي‪. 1/426 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( علء الدين البخاري‪ ،‬كشف السرار‪. 1/452 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪568‬‬
‫قطعيات ل تتعارض ول يحصل فيها التخصيص كما سبق بيانه‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬هذا التعارض غير حقيقي وإنما هو من جهة دون جهة أو في‬
‫حال غير حال‪ ،‬وكذلك التخصيص فإن معناه عنده البيان‪،‬‬
‫فتخصيص الكليات بعضها لبعض هو بيان حدود وأحوال عمل كل‬
‫واحدةا‪.‬‬
‫أما أن الستحسان قاعدةا كلية قطعية وأن المستحسين راجع‬
‫إلى معنى ثابتم قطعاا بالستقراء‪ ،‬فالستدلل به هو من قبيل‬
‫الستدلل المرسل فيدل عليه قوله‪» :‬فإنه وإن لم يشهد للفرع‬
‫أصل معين فقد شهد له أصل كلي‪ ،‬والصل الكلي إذا كان قطعياا قد‬
‫يساوي الصل المعين وقد يربى عليه بحسبِّ قوةا الصل المعين‬
‫وضعفه كما أنه قد يكون موجوداا في بعض المسائل حكم سائر‬
‫الصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح وكذلك أصل‬
‫الستحسان عند مالك ينبني على هذا الصل لن معناه يرجع إلى‬
‫تقديم الستدلل المرسل على القياس«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬ومما ينبني‬
‫على هذا الصل )أي أصل مآلت الفعال( )‪ ، (2‬قاعدةا الستحسان‪ ،‬وهو‬
‫في مذهبِّ مالك الخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي‪،‬‬
‫ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الستدلل المرسل على القياس فإن من‬
‫استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم‬
‫من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الشياء المفروضة‬
‫كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمراا إل أن ذلك المر يؤدي‬
‫إلى فوات مصلحة من جهة أخرى أو جلبِّ مفسدةا كذلك«هل )‪. (3‬‬
‫فتقديم المصلحة الجزئية على الدليل الكلي ليس استحساناا بمحض‬
‫الرأي أو التشهي وإنما بتقديم الستدلل المرسل‪ ،‬فالمصلحة‬
‫الجزئية راجعة إلى معنى كلي ثابت شرعاا‪ .‬فالذي ورد عن‬
‫الحنافَّ أنه تقديم للثر أو الجماع أو الضرورةا‪ ،‬وهو هنا يقول‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/16 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( ما بين قوسين زيادةا من الباحث ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/116 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪569‬‬
‫تقديم الستدلل المرسل وهو يشمل هذه الشياء وغيرها إذ يشمل‬
‫كل مصلحة أو معنى يرجع إلى معنى كلي بالستقراء‪ ،‬والمعاني‬
‫الكلية في مآلت الفعال ل تخرج عن الضروريات والحاجيات‬
‫والتحسينات ومكملت كل منها‪ ،‬ولكن في الستحسان كما في‬
‫المصالح المرسلة ل أثر للمصالح أو الجزئيات الراجعة إلى‬
‫التحسينيات أو مكملتها‪ ،‬يقول‪» :‬وكثيراا ما يتفق هذا )أي‬
‫الستحسان أو تقديم الستدلل المرسل على القياس(‪ ،‬في الصل‬
‫الضروري مع الحاجي‪ ،‬والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس‬
‫مطلقاا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده‬
‫فيستثنى موضع الحرج‪ ،‬وكذلك في الحاجي مع التكميلي‪ ،‬أو‬
‫الضروري مع التكميلي وهو ظاهر«هل )‪ . (1‬وقد أورد الشاطبي أمثلةا‬
‫عديدةا على الستحسان في كتابيه الموافقات والعتصاما )‪ . (2‬قال‪:‬‬
‫»وله في الشرع أمثلة كثيرةا كالقرض مثلا فإنه ربا في الصل‬
‫لنه الدرهم بالدرهم إلى أجل لكنه أبيح لما فيه من المرفقة‬
‫والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على اصل المنع لكان في‬
‫ذلك المنع ضيق على المكلفين«هل )‪ . (3‬فالدرهم بالدرهم إلى أجل‬
‫حراما في البيع لنه من الصنافَّ الستة الربوية‪ ،‬وعموما هذا الحكم‬
‫يقضي حرمة إقراض الدرهم‪ ،‬وحرمة الربا راجعة إلى حفظ المال‬
‫من الضروريات‪ ،‬وجواز القرض راجع إلى الحاجيات لن الحاجيات‬
‫دورانها على التوسعة والتيسير‪ ،‬فهذه الجزئية وهي إقراض الدرهم‬
‫لم تتبع حرمة الربا في الضروري وتبعت الجواز في الحاجي‪ ،‬فهذا‬
‫استحسان‪ ،‬وإذا علمنا بأن ثبوت كونه من الضروريات أو من‬
‫الحاجيات يرجع إلى الستقراء لنصوص الشرع ومآلتها‪ ،‬ندرك أن‬
‫عملية التخصيص أو التبيين هنا ليست راجعة إلى التشهي وإنما إلى‬
‫الشرع‪ ،‬وهكذا في سائر المثلة‪ .‬يقول مثلا‪» :‬ومثله الجمع بين‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/116 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ ، 118 - 4/117 ،‬والعتصاما‪. 400 - 2/393 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/117 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪570‬‬
‫المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلةا والفطر في‬
‫السفر الطويل‪ ،‬وصلةا الخوفَّ وسائر الترخصات التي على هذا‬
‫السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو‬
‫درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العاما يقتضي منع‬
‫ذلك لنا لو بقينا مع أصل الدليل العاما لدى إلى رفع ما اقتضاه‬
‫ذلك الدليل من المصلحة«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬ومثله الطلع على‬
‫العورات في التداوي‪ ،‬والقراض‪ ،‬والمساقاةا‪ ،‬وإن كان الدليل العاما‬
‫يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرةا«هل )‪ . (2‬فهذه المثلة‬
‫كلها وإن قيل إنها استحسان فهي راجعة إلى أدلة الشرع‪ ،‬ولذلك‬
‫فبعد أن أورد الشاطبي أمثلة على الستحسان ذكر تفسير ابن‬
‫العربي له فقال‪» :‬وقد قال ابن الـعــربــي في تــفــســـيــر‬
‫الســـتـــحـــســـان بـأنــه إيـــثــــار تــــرك‬
‫مــقـــتـــضــى الــدلـــيـــل عـــن طــــريـــق‬
‫الســــتــــثــــنــــاء والــتــــرخــــص‬
‫لمــــعــــارضـــــة مــــا يــــعــــــارض بـــــه في‬
‫بـعـض مـقــتـضـيـاته«هل)‪. (3‬‬
‫وعلى ذلك فإنه يقال في الستحسان ما قيل في المصلحة‬
‫المرسلة وهو أنه ليس ذريعة للقول في دين ال بغير دليل من‬
‫الشرع‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬فإن الستحسان ل يكون إل بمستحسقن وهو‬
‫إما العقل أو الشرع‪ ،‬أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغِّ‬
‫منهما لن الدلة قد اقتضت ذلك فل فائدةا لتسميته استحساناا‪ ،‬ول‬
‫لوضع ترجمةم له زائدةام على الكتاب والسنة والجماع وما ينشأ عنها‬
‫من القياس والستدلل‪ ،‬فلم يبقي إل العقل هو المستحسن‪ ،‬فإن كان‬
‫بدليل فل فائدةا لهذه التسمية لرجوعه إلى الدلة ل إلى غيرها‪ ،‬وإن‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪.. 4/116 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪571‬‬
‫كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن«هل)‪ . (1‬ومراده أنه ل‬
‫فائدةا في قول في الشرع بغير دليل‪ ،‬وإن زعم أن ذلك استحسان‪،‬‬
‫ومن ظن أنه بذلك يستحسن فإنما هو يبتدع‪.‬‬
‫الفرق بين المصالح المرسلة وأالستحسان‪:‬‬
‫والفرق بين المصالح المرسلة والستحسان هو أن المصالح‬
‫المـرســـلـة هـي عـــمــل بـقــاعـدةا مـا ل يـتـم الـواجـبِّ‬
‫إل بـه فـهـو واجـبِّ لتحصيل شيء في الضروريات‪ ،‬وبقاعدةا رفع‬
‫الحرج في الحاجيات‪ ،‬أما الستحسان فهو تخصيص الضروري‬
‫بالحاجي أو بالتكميلي‪ ،‬أو تخصيص الحاجي بالتكميلي‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫فقد يلتقيان في بعض الحالت‪ .‬فتلتبس المسألة إن كانت من‬
‫المصالح المرسلة أو من الستحسان أو يصح التحاقها بالقاعدتين‪،‬‬
‫وذلك حيث يلتقي رفع الحرج في الحاجيات من المصالح المرسلة‬
‫مع تخصيص الحاجيات من الستحسان‪.‬‬
‫ومثال ذلك ما ذكره الشاطبي من بين أمثلته على الستحسان‬
‫وهو تضمين الجير المشترك‪ .‬قال‪» :‬ترك الدليل لمصلحة كما‬
‫في تضمين الجير المشترك وإن لم يكن صانعاا فإن مذهبِّ مالك‬
‫في هذه المسألة على قولين‪ ،‬كتضمين صاحبِّ الحماما الثياب«هل )‪. (2‬‬
‫ثم قال‪» :‬فإن قيل‪ :‬فهذا من باب المصلحة المرسلة ل من باب‬
‫الستحسان‪ ،‬قلنا‪ :‬نعم‪ ،‬إل أنهم صوروا الستحسان بصورةا الستثناء‬
‫من القواعد بخلفَّ المصالح المرسلة‪ ،‬ومثل ذلك يتصور في مسألة‬
‫التضمين فإن الجراء مؤتمنون بالدليل ل بالبراءةا الصلية فصار‬
‫تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل‪ ،‬فدخلت تحت معنى‬
‫الستحسان بذلك النظر«هل)‪. (3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/390 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬العتصاما‪. 2/394 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪. 2/394 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪572‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫سـد الذرائاع‬
‫تعريفـه‪:‬‬
‫سد الذرائع هو منع الجائز لئل يتوصل به إلى الممنوع‪ ،‬قال‬
‫الشاطبي‪» :‬إنه راجع إلى طلبِّ ترك ما ثبت طلبِّ فعله لعارض‬
‫يعرض وهو أصل متفق عليه في الجملة«هل)‪ ، (1‬ونقل الزركشي‪:‬‬
‫»وهي المسألة التي ظاهرها الباحة ويتوصل بها إلى فعل‬
‫المحظور‪ ،‬مثل أن يبيع السلعة بمائةم إلى أجل ويشتريها بخمسين‬
‫نقداا‪ ،‬فهذا قد توصل إلى خمسين بذكر السلعة«هل)‪ . (2‬وقال القرافي‪:‬‬
‫»سد الذرائع ومعناه حسم مادةا وسائل الفساد دفعاا لها‪ ،‬فمتى كان‬
‫الفعل السالم عن المفسدةا وسيلة للمفسدةا منع مالك من ذلك‬
‫الفعل في كثير من الصور«هل)‪ . (3‬والذرائع هي الفعال التي هي‬
‫أسباب لغيرها لذلك فهي وسائل‪ ،‬قال القرافي‪» :‬وربما عبر عن‬
‫الوسائل بالذرائع وهو اصطلح أصحابنا«هل )‪. (4‬‬
‫مإوقف المذاهب مإن سد الذرائاع‪:‬‬
‫قال القرافي‪» :‬وليس سد الذرائع من خواص مذهبِّ مالك‬
‫كما يتوهمه كثير من المالكية بل الذرائع ثلثة أقساما‪ :‬قسم‬
‫أجمعت المة على سده ومنعه وحسمه كحفر البار في طرق‬
‫المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلكهم فيها وكذلك إلقاء السم في‬
‫أطعمتهم وسبِّ الصناما عند من يعلم من حاله أنه يسبِّ ال تعالى‬
‫عند سبها‪ .‬وقسم أجمعت المة على عدما منعه وأنه ذريعة ل تسد‬
‫ووسيلة ل تحسم كالمنع من زراعة العنبِّ خشية الخمر فإنه لم‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/126 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/382 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫القرافي‪ ،‬الفروق‪ . 2/32 ،‬الفرق ‪. 58‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪573‬‬
‫يقل به أحد‪ .‬وكالمنع من المجاورةا في البيوت خشية الزنا‪ .‬وقسم‬
‫اختلف فيه العلماء هل يسد أما ل كبيوع الجال عندنا كمن باع‬
‫سلعة بعشرةا دراهم إلى شهر اشتراها بخمسة قبل الشهر‪ ،‬فمالك‬
‫يقول إنه أخرج من يده خمسة الن وأخذ عشرةا آخر الشهر فهذه‬
‫وسيلة لسلف خمسة بعشرةا إلى أجل توسلا بإظهار صورةا البيع‬
‫لذلك‪ .‬والشافعي يقول يينظر إلى صورةا البيع ويحمل المر على‬
‫ظاهره فيجوز ذلك وهذه البيوع يقال إنها تصل إلى ألف مسألة‬
‫اختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي«هل )‪. (1‬‬
‫وكذلك يخالف المالكيةي فيها أبو حنيفة فإن قوله بجواز‬
‫الحيل يعني عدما أخذه بسد الذرائع‪ .‬ومع أن القائلين بها هم‬
‫المالكية ويخالفهم غيرهم فيها فإن الشاطبي والقرافي وغيرهم‬
‫يقولون إنها معمول بها عند الجميع‪ ،‬والمقصود‪ :‬في بعض الحالت‪.‬‬
‫وهي الحالت الواقعة في القسم الول من أقساما الذرائع الثلثة التي‬
‫ذكرها القرافي‪.‬‬
‫وقاعدةا سد الذرائع مبنية عند الشاطبي على أصل مآلت‬
‫الفعال‪ ،‬وهو أن الفعل إذا كان مآله إلى حراما أو ممنوع‪ ،‬فالنظر قد‬
‫يقتضي تحريم الفعل‪ ،‬والذرائع التي تيسد هي من الفعال التي‬
‫يقتضي النظر تحريمها بناءا على المآل‪ .‬إل أن هذا الطلق ل يطرد‬
‫في الشريعة وجمهور الصوليين يقولون برده‪ .‬ومع ذلك‬
‫فالشاطبي يقول إن الشافعي وأبا حنيفة قد أعمل هذه القاعدةا‪ ،‬مع‬
‫أن المصرح به عندهما ردها‪ .‬ويقول إن العلماء اتفقوا على إعمالها‬
‫في الجملة وهي مطيردةا عندهم‪ .‬وإنما الخلفَّ هو في بعض‬
‫الوقائع‪ .‬قال رداا على القرافي في أن العلماء نازعوا في اعتبار سد‬
‫الذرائع‪» :‬فهذه وجوه كثيرةا يستدلون بها وهي ل تفيد فإنها تدل‬
‫على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا مجمع عليه‪ ،‬وإنما‬
‫النزاع في ذرائع خاصة وهي بيوع الجال ونحوها«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬أما‬
‫) ( القرافي‪ ،‬الفروق‪ . 2/32 ،‬الفرق ‪. 58‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/173 .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪574‬‬
‫الشافعي فالظن به أنه تم له الستقراء في الذرائع على العموما«هل )‪. (1‬‬
‫وقال‪» :‬وأما أبو حنيفة فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل لم يكن من‬
‫أصله في بيوع الجال إل الجواز ول يلزما من ذلك تركه لصل سد‬
‫الذرائع وهذا واضح«هل)‪ ، (2‬وقال »وقد عويل العلماء على هذا المعنى‬
‫وجعلوه أصلا يطرد وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء‬
‫على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل«هل)‪ . (3‬وبما أن‬
‫استقراء الحكاما الشرعية يمنع من إطلق القول بمنع الجائز لئل‬
‫يتوصل به إلى الممنوع ذهبِّ الشاطبي إلى أن الذرائع ثلثة أقساما‬
‫وهي القساما نفسها التي ذكرت قبل قليل عن القرافي‪ .‬وهو أن من‬
‫الذرائع ما يسد باتفاق ومنها ما ل يسد باتفاق ومنها ما هو مختلف‬
‫فيه‪.‬‬
‫أدلة القاعدة‪:‬‬
‫يذهبِّ الشـاطبي إلى أن قاعدةا سد الذرائع قطعيــة بال ســتقراء‬
‫ومعمول بها‪ .‬دلت عليها م عــاني الح كــاما ال مــأخوذةا مــن الن صــوص‬
‫كقـوله تعـالى‪       [ :‬‬
‫)‪(4‬‬
‫‪ . ]     ‬وقوله تعالى‪ [ :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬في الصحيح‪» :‬إن مإــن أكــبر الكبــائار‬ ‫‪ . (5)] ‬وقوله‬
‫شتم الرجأل وأالديه‪ .‬قالوا‪ :‬يا رســول اللــه وأهــل يشــتم‬
‫ب أبا الرجأــل فيســب أبــاه‬ ‫نعم‪ ،‬يس ُ‬ ‫الرجأل وأالديه؟ قال‪:‬‬
‫ب أمإه فيسب أمإه« ‪ .‬وكان عليه الصلةا والســلما ي كــف‬
‫)‪(6‬‬
‫وأيس ب‬
‫عن قتل المنافقين لنه ذريعة إلى قول المنافقين‪ :‬إن محمداا يقتــل‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/188 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( سورةا النعاما‪. 108 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 104 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( البخاري ) ‪ ( 5516‬بلفظ يلعن بدل يشتم‪ ،‬ومسلم ) ‪ ( 130‬باللفظ‬ ‫‪6‬‬

‫نفسه‪ ،‬والترمذي ) ‪ ،( 1824‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وأحمد ) ‪. ( 6243‬‬

‫‪575‬‬
‫أصحابه )‪. (2) (1‬‬
‫والقاعـدةا مبنيــة أيضاا على ما يسـميه أصـل التعـاون‪ ،‬ومن‬
‫أدلتـه قوله تعالى‪      [ :‬‬
‫‪ . (3)]    ‬فالفعل الجائز إذا كان‬
‫موصلا إلى حراما هو وسيلة إل يــه وي كــون معاو نــاا ع لــى المق صــد‬
‫الحراما‪ ،‬فتأخذ الوسيلة حينئذ حكم المقصد‪ ،‬وإذا كان مؤديــاا إلــى‬
‫مأمورم به فهو وسيلة إلى ا لــبر وم عــاون علــى المق صــد المطلــوب‬
‫شرعاا‪ ،‬فيأخذ أيضاا حكم المقصد‪ .‬وإذا لم يكن الف عــل ذري عــة إ لــى‬
‫شيء فهو المباح المطلق‪ .‬قال‪» :‬المباح من حيث هو مباح متســاوي‬
‫الطرفين«هل)‪ . (4‬ثم قال‪» :‬فإنه إذا كــان ذري عــة إ لــى مم نــوع صــار‬
‫ممنوعاا من جهة سد الذرائع ل من جهة كونه مباحاا«هل)‪ . (5‬ثم قــال‬
‫إن المباح‪» :‬ثلثة أقساما‪ :‬قسم يكون ذريعة إلى منهي عنــه فيكــون‬
‫من تلك الجهة مطلوب الترك‪ .‬وقسم يكون ذريعة إلــى مــأمور بــه‬
‫كالمستعان به على أمر أ خــروي«هل)‪ . ( 6‬ثــم قــال‪» :‬وق ســم ل ي كــون‬
‫ذريعة إلى شيء فهو المباح المطلق‪ ،‬وعلى الجملة فإذا فيرض ذريعة‬
‫إلى غيره فحكمه حكم ذلك الغير«هل)‪ . (7‬ول بد مــن التنــبيه إ لــى أن‬
‫الفعل الذي يتحدثا عنه هو الفعـل المبـاح أصـلا‪ .‬و قــوله‪» :‬علـى‬
‫الجملة«هل أي أنه ليس على الطلق‪ .‬إذ كــثيراا مــا ل يأ خــذ الف عــل‬
‫حكم المقصد‪ .‬وعندما يكون المآل أو المقصد ممنوعاا ويأخذ الفعل‬
‫حكم المقصد من باب أصل التعاون يكون هذا أيضاا إع مــالا لقا عــدةا‬

‫) ( البخاري ) ‪ ( 3527‬و) ‪ ،( 4525‬ومسلم ) ‪ ( 4682‬و) ‪ ( 1761‬وفيها‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫عن المنافقين والخوارج‪ ،‬والترمذي ) ‪ ( 3237‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وأحمد‬


‫) ‪. ( 14292‬‬
‫للنظر في أدلة القاعدةا ع نــد ال شــاطبي‪ ،‬أن ظــر المواف قــات ‪،1/72 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫‪. 127 ، 3/126 ، 2/250‬‬


‫) ( سورةا المائدةا‪. 2 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/71 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/71 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/72 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪576‬‬
‫سد الذرائع‪ .‬قال‪» :‬تدخل قاعدةا الذرائع بناءا علــى أ صــل الت عــاون‬
‫على الطاعة أو المعصية‪ ،‬فإن هذا الصل مت فــق عليــه فــي العتبــار‬
‫ومنه ما فيه خلفَّ كالذرائع في البيوع وأشباهها وإن كــان أصــل‬
‫الذرائع أيضاا متفقاا عليه‪ ،‬ويدخل فيه أيضاا قاعدةا تعــارض الصــل‬
‫والغالبِّ«هل)‪ . ( 1‬وسيأتي الكلما علــى ت عــارض ال صــل وال غــالبِّ ضــمن‬
‫الكلما في ضوابط قاعدةا سد الذرائع‪.‬‬
‫ضأوابط إعمال قاعدة سد الذرائاع‪:‬‬
‫إن موضع إعمال القاعدةا هو في المباح كما تبين‪ .‬وهو في‬
‫المباح الذي يؤدي إلى حراما‪ .‬إل أن هذا ليس في أي مباح‪ ،‬ول في أي‬
‫كيفية من كيفيات التوصيل إلى الحراما‪ ،‬ول في أي حراما‪ .‬فل بد‬
‫من تحديد ضوابط وقيود إعمال هذه القاعدةا‪.‬‬
‫الضابط الوأل‪:‬‬
‫أن ل يكون المباح مباحاا للحاجة أو للضرورةا‪ .‬فما كان‬
‫كذلك فإن معارضته بالمآل المحرما أو بما يعترضه من منكرات ل‬
‫تصح‪ .‬لن الفرض أن المكلف مضطر إليه‪ ،‬والضرورات مغتفرةا‬
‫أصلا في الشرع‪ ،‬بل إن هذا المباح قد صار واجباا كتناول الميتة‬
‫في المخمصة‪ ،‬أو محتاجي إليه بحيث إذا تركه لحقه حرج وقد دل‬
‫الشرع على رفع الحرج‪ ،‬وتحريم الفعل لجل المآل يوقع الحرج‬
‫بالمكلف‪ ،‬فدل هذا على أن الفعل المشروع للضرورةا أو للحاجة‬
‫ليس محلا لعمال قاعدةا سد الذرائع‪.‬‬
‫وهذا ل يقتصر على حالت الضطرار أو الحرج وإنما على ما‬
‫يخدما ضرورياا أو حاجياا‪ ،‬كالنكاح الذي يستلزما قوت العيال وقد‬
‫يؤدي إلى تحصيل القوت بما حريما ال وكالمشي إلى المساجد وفي‬
‫الطرقات حيث يعترض الماشي سماع المنكرات ومشاهدةا العورات‪،‬‬
‫ومنع النكاح والمشي في السواق يوقع المكلف في حرج رفعه‬
‫الشارع ويؤدي إلى منع المباح من أصله‪ .‬قال‪» :‬ما أصله الباحة‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 127 ، 3/126 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪577‬‬
‫للضرورةا أو للحاجة إل أنه يتجاذبه العوارض المضادةا لصل‬
‫الباحة وقوعاا أو توقعاا هل يكريي على أصل الباحة بالنقض أو ل؟‬
‫هذا محل نظر وإشكال‪ .‬والقول فيه إنه ل يخلو إما أن يضطر إلى‬
‫ذلك المباح أو ل‪ ،‬وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج‬
‫أما ل‪ ،‬فهذه أقساما ثلثة‪ .‬أحدها أن يضطر إلى فعل ذلك المباح فل‬
‫بد من الرجوع إلى ذلك الصل وعدما اعتبار العارض«هل)‪. (1‬‬
‫»والقسم الثاني أن ل يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج فالنظر‬
‫يقتضي الرجوع إلى أصل الباحة وترك اعتبار الطوارئ إذ‬
‫الممنوعات قد أبيحت رفعاا للحرج«هل)‪ . (2‬أما القسم الثالث »وهو أن‬
‫ل يضطر إلى أصل المباح ول يلحقه بتركه حرج فهو محل اجتهاد‬
‫وفيه تدخل قاعدةا الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو‬
‫المعصية«هل)‪. (3‬‬
‫إل أن الشاطبي يفصل في القسم الثاني وهو إذا كان ترك‬
‫المباح يوقع المكلف في الحرج‪ ،‬وذلك أن الحرج في القداما على‬
‫الفعال أو تركها ليس بمرتبةم واحدةا‪ ،‬والشرع لم يأت برفع كل‬
‫حرج فقد تكون مفسدةا الحرج الواقع بمنع المباح أقل من مفسدةا‬
‫ملبسة المآل الممنوع‪ ،‬فيتساءل الشاطبي‪» :‬هل يوازي الحرج‬
‫)‪(4‬‬
‫اللحق بترك الصل الحرج اللحق بملبسة العوارض أما ل؟«هل ‪.‬‬
‫والجواب ‪ -‬على منهجه ‪ -‬بأن هذا الذي أصله الباحة خادما‬
‫لصل ضروري أو حاجي أو تحسيني‪ ،‬والمآل الممنوع‪ ،‬رفعه أيضاا‬
‫خادما لصل ضروري أو حاجي أو تحسيني‪ ،‬ووقوعه مضاد لوقوع‬
‫الصل المباح‪ .‬فإن كان الفعل المباح ‪ -‬وهو سببِّ ‪ -‬والمآل الممنوع‬
‫راجعين أو خادمين للصل نفسه فهذا ليس محلا لعمال قاعدةا‬
‫الذرائع‪ ،‬لن المنع يرجع إلى مكملت الصل وليس إلى الصل‪،‬‬
‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/124 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/125 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/126 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/125 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪578‬‬
‫والمباح يرجع إلى الصل‪ .‬فالولى عدما اعتبار الراجع إلى المكمل‬
‫وقد مر معنا في مقاصد الشريعة أن انهداما المكمل ل يهدما الصل‬
‫بينما انهداما الصل يهدما معه مكملته‪ ،‬فهنا أيضاا يظل المباح مباحاا‬
‫ول يتأثر بالعوارض‪ .‬أما إن كان المباح والمآل راجعين إلى أصلين‬
‫مختلفين فهذا مما قد يعتبر فيه المآل ولكنه ليس من باب سد‬
‫الذرائع وإنما هو من باب التعارض والترجيح‪.‬‬
‫يقول الشاطبي مجيباا على سؤاله المذكور أعله‪» :‬ل يخلو‬
‫أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الصل من باب المكمل له في‬
‫بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه‪ ،‬فإن كان هذا الثاني فإما أن‬
‫يكون واقعاا أو متوقعاا‪ ،‬فإن كان متوقعاا فل أثر له مع وجود‬
‫الحرج لن الحرج بالترك واقع وهو مفسدةا‪ ،‬ومفسدةا العارض‬
‫متوقعة متوهمة فل تعارض الواقع البتة‪ .‬وأما إن كان واقعاا فهو‬
‫محل الجتهاد في الحقيقة‪ ،‬وقد تكون مفسدةا العوارض فيه أتم من‬
‫مفسدةا ترك المباح‪ ،‬وقد يكون المر بالعكس والنظر في هذا بابه‬
‫التعارض والترجيح‪ ،‬وإن كان الول فل يصح التعارض ول تساوي‬
‫المفسدتين بل مفسدةا فقد الصل أعظم‪ ،‬والدليل على ذلك أمور‪:‬‬
‫أحدها أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوفَّ«هل)‪ . (1‬ثم قال‪:‬‬
‫»وإذا كان فقد الصفة ل يعود بفقد الموصوفَّ على الطلق بخلفَّ‬
‫العكس كان جانبِّ الموصوفَّ أقوى في الوجود والعدما«هل)‪. (2‬‬
‫»والثاني أن الصل مع مكملته كالكلي مع الجزئي وقد علم أن‬
‫الكلي إذا عارضه الجزئي فل أثر للجزئي‪ ،‬فكذلك هنا ل أثر‬
‫لمفسدةا فقد المكمل في مقابل وجود مصلحة المكمييل«هل )‪. (3‬‬
‫إذن‪ ،‬يتقرر لدينا الضابط الول لعمال القاعدةا وهو »أن ل‬
‫يضطر إلى أصل المباح ول يلحق بتركه حرج‪ ،‬فهو محل اجتهاد‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/126 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪579‬‬
‫وفيه تدخل قاعدةا الذرائع«هل )‪. (1‬‬
‫أما قوله‪» :‬فهو محل اجتهاد«هل فهو إشارةا إلى أنه في هذه‬
‫الحالة هناك رأيان‪ ،‬أحدهما يعتبر أصل الباحة ول يعتبر العارض‬
‫المعارض‪ ،‬والثاني يعتبر العارض المعارض وينفي الباحة سداا‬
‫للذريعة‪.‬‬
‫يقول‪» :‬ولمن يقول باعتبار الصل من الباحة أن يحتج بأن‬
‫أصل الذن راجع إلى معنى ضروري‪ ،‬إذ قد تقرر أن حقيقة الباحة‬
‫التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات وهو أصول المصالح فهي‬
‫في حكم الخادما لها إن لم تكن في الحقيقة إياها‪ ،‬فاعتبار المعارض‬
‫في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة وإن لم يظهر في‬
‫التفصيل كونه ضرورياا وإذا كان كذلك صار جانبِّ المباح أرجح‬
‫من جانبِّ معارضه«هل)‪. ( 2‬‬
‫أما الرأي الثاني فقال‪» :‬ولمرجح جانبِّ العارض أن يحتج بأن‬
‫مصـلحـة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدما‬
‫تحصـيلها وهو دليـل على أنها ل تبلغ مبـلغ الضروريات‪ ،‬وهي‬
‫)‪(3‬‬
‫كذلك أبداا لنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيراا فيها«هل ‪.‬‬
‫والذي يريد الشاطبي الشـارةا إليه في إيـراده للرأيين هو الشـارةا‬
‫إلى أن الذي لم يعمل قاعدةا سد الذرائع هنا‪ ،‬ليس مرده إلى أنه ل‬
‫يقول بالقاعدةا وإنما إلى أن سد الذريعة كان مرجوحاا‪.‬‬
‫ولمزيد من التفصيل في هذا الضابط يمكن العودةا إلى ما جاء‬
‫به الشاطبي من تفصيلت بشأن حكم الباحة‪ ،‬وهو أن المباح قد‬
‫يكون مباحاا بالجزء مندوباا بالكل أو مباحاا بالجزء واجباا بالكل‬
‫أو مباحاا بالجزء مكروهاا بالكل أو مباحاا بالجزء ممنوعاا بالكل‪.‬‬
‫فما كان مباحاا بالجزء مندوباا أو واجباا بالكل فهو المباح‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/127 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪580‬‬
‫للضرورةا أو للحاجة‪ ،‬وهذا ل تجري فيه قاعدةا سد الذرائع‪ ،‬وبقي‬
‫أن قاعدةا سد الذرائع إن كان لها إعمال فهي تعمل فيما هو مباح‬
‫بالجزء مكروه أو ممنوع بالكل‪.‬‬
‫الضابط الثاني‪:‬‬
‫أن يكون التوصل إلى الممنوع مقصوداا للمكلف بالفعل‬
‫المشروع‪ ،‬فإذا كان كذلك يصير الفعل المشروع غير مشروع‪.‬‬
‫فإذا كان الفعل مباحاا في الصل فهذا يعني أن له مآلا‬
‫مطلوباا وهو مقصود الشارع بتشريع الفعل‪ ،‬فإذا تلزما مع هذا‬
‫المقصود مقصود آخر‪ ،‬فهذا المآل الخر إما أن يكون مأذوناا فيه‬
‫وإما أن يكون ممنوعاا‪ ،‬فإن كان مأذوناا فيه فل إشكال‪ ،‬وإن كان‬
‫ممنوعاا فهذا يعني توارد المر والنهي على متلزمين أي على مآلين‬
‫متلزمين‪ ،‬وهذا هو الموضوع هنا‪.‬‬
‫يقول الشـاطبي إن أحـد المقصـوديـن تابع والخر متبوع‬
‫ويكون الحكم حكم المتبوع‪ ،‬ويكون ملزمه تابعاا له في الحكم‪.‬‬
‫وذلك كالعقود على العيان ومنافعها‪ ،‬فالعقد على ملكية رقبة‬
‫الرض تكون منافع رقبة الرض فيه تابعةا للرقبة‪ .‬والعقد على‬
‫منافع الرض تكون الرقبة فيه تابعة للمنافع بوجه ما وليس تبعية‬
‫كلية‪ .‬قال‪» :‬المنافع إذا كانت هي المقصودةا فالرقاب تابعة إذ هي‬
‫من الوسائل إلى المقصود‪ ،‬فإن أراد أنها تابعة لها مطلقاا‬
‫فممنوع«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬وإن أراد تبعية ما فمسلييم ول يلزما من‬
‫ذلك محظور‪ ،‬فإن المور الكلية تتبع جزئياتها بوجه ما ول يلزما‬
‫من ذلك تبعيتها لها مطلقاا«هل)‪. (2‬‬
‫هذا المثال هو لظهار مقصود الشاطبي باعتبار حكم المتبوع‬
‫وإنزاله على التابع‪ .‬والمسألة المذكورةا هي على فرض جواز‬
‫العقد على الرقبة وجوازه على المنفعة‪ ،‬بحيث إذا انعقد على‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/101 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/102 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪581‬‬
‫أحدهما كان الخر تابعاا للمعقود عليه‪ ،‬أي أن التابع والمتبوع‬
‫المتلزمين جائزان‪ .‬ومسألتنا هي فيما إذا كان أحد المتلزمين‬
‫جائزاا والخر ممنوعاا وفي هذه أيضاا يقول الشاطبي إن الحكم‬
‫يكون للمتبوع ويعطى التابع الحكم نفسه‪ ،‬يقول‪» :‬المر والنهي إذا‬
‫تواردا على متلزمين فكان أحدهما مأموراا به والخر منهياا عنه‬
‫على فرض النفراد وكان أحدهما في حكم التبع للخر وجوداا‬
‫وعدماا فإن المعتبر من القتضاءين ما انصرفَّ إلى جهة المتبوع‪،‬‬
‫)‪(1‬‬
‫وأما ما انصرفَّ إلى جهة التابع فملغى وساقط العتبار شرعاا«هل ‪.‬‬
‫فمثلا شراء العنبِّ قد يقصد به مباح كأكله وقد يقصد به ما‬
‫هو حراما كصناعة المسكر‪ ،‬وشراء المة قد يقصد به التسري أو‬
‫الخدمة وقد يقصد به البغاء‪ ،‬فأي المقصودين هو المعتبر وأيهما‬
‫المتبوع وأيهما التابع‪ .‬ومقصود المكلف بالفعل ليس مما ييطيلع‬
‫عليه فهو نية تختلف من شخص لخر‪ ،‬وذلك مما ل يعلمه المجتهد‪،‬‬
‫وإنما المكلف هو فقيه نفسه ويعلم حرمة فعله من مقصوده الحراما‪،‬‬
‫لذلك فالمجتهد في مثل هذه الحالت ينظر إلى ما كان مقصوداا‬
‫بالصالة عرفاا وعادةا ويكون هو المتبوع‪ ،‬ويلغي اعتبار التابع‬
‫ويعطي الحكم بناء على المتبوع‪ ،‬فشراء العنبِّ مثلا الصل فيه‬
‫عرفاا وعادةا أنه لغير الخمر‪ ،‬وشراء السلح أنه ليس لقطع الطريق‪،‬‬
‫وشراء المة ليس للبغاء فيظل هذا الشراء مباحاا‪.‬‬
‫وشراء الخمر الصل فيــه عر فــاا و عــادةاا أنــه لل شــرب في ظــل‬
‫حراماا ولو كان المقصود تخليله‪ ،‬وشراء شحم الميتة كذلك وإن‬
‫كان المقصود به طلء السفن أو النارةا‪ .‬وعلى ذلك فالشــاطبي ل‬
‫يرى من معنى القاعدةا تحريم الجائز لمجرد أن المكلف قــد يق صــد‬
‫به التوصل إلى الحراما‪ ،‬ولو كان مقصود المكلف ممنو عــاا شــرعاا‪.‬‬
‫يقول‪» :‬إن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق ب هــا مــن ج هــة الطلــبِّ‪،‬‬
‫فكذلك هنا الل هــم إل أن ي كــون للعا قــد ق صــد إ لــى الم حــرما علــى‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/96 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪582‬‬
‫الخصوص‪ ،‬فإن هذا يحتمل وجهيـن‪ :‬الول اعتب ار القصـد الص يل‬
‫وإلغاء التابع وإن كان مقصوداا‪ ،‬والخر اعتبار الق صــد ال طــارئ إذا‬
‫صار بطريانه سابقاا أو كالسابق‪ ،‬وما سواه كالتابع فيكون الحكــم‬
‫له‪ .‬ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء ال مــة بق صــد إ ســلمها‬
‫للبغاء كسباا به‪ ،‬وشراء الغلما للفجور به‪ ،‬وشــراء العنــبِّ ليعصــر‬
‫خمراا‪ ،‬والسلح لقطع الطريق وبعض الشياء للتــدليس ب هــا‪ .‬و فــي‬
‫أصالة المنافع المحرمة شراء الكلبِّ للصيد والضرع والــزرع علــى‬
‫رأي من منع ذلك‪ .‬وشراء السرقين لتدمين المزارع‪ ،‬وشراء الخمر‬
‫للتخليل‪ ،‬وشراء لحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به النــاس‬
‫وما أشبه ذلك‪ .‬والمنضبط هــو الول وال شــواهد عليــه أ كــثر لن‬
‫اعتبار ما يقصد بالصالة والعادةا هو الذي جاء في الشريعة القصــد‬
‫إليه بالتحليل والتحريم‪ ،‬فإن شراء المة للنتفاع بها فــي الت ســري‬
‫إن كانت من عيلقييق الرقيق أو الخدمة إن كانت من الوخش وشراء‬
‫الخمر للشرب والميتة والدما والخنزير للكل هو الغــالبِّ المعتــاد‬
‫عند العرب الــذين نــزل ال قــرآن علي هــم‪ .‬ولــذلك ح ـــذفَّ متعلــق‬
‫التحريم والتحليـل في نحو‪، (1)]    [ :‬‬
‫إلى قوله‪ . (3)«. (2)]      [ :‬وقوله أعله‪:‬‬
‫»والمنضبط هو الول«هل أي أنه لو ظهر على بعض المكلفين القص د‬
‫إلى الممنوع فإنه ل يحكم عليهم بذلك‪ ،‬وإنما يحكم عليهم بما هــو‬
‫الصل أو القصد الصيل وهو الغالبِّ عرفاا وعادةا في المجتمع‪.‬‬
‫ثم قال‪» :‬فإن صار التابع غالباا في القصد وسابقاا في عرفَّ‬
‫بعض الزمنة حتى يعود ما كان بالصالة كالمعدوما المطرح‬
‫فحينئذ ينقلبِّ الحكم‪ ،‬وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلق ولكن إن‬
‫فرض اتفاقه انقلبِّ الحكم‪ ،‬والقاعدةا مع ذلك ثابتة كما وضعت في‬
‫الشرع‪ ،‬وإن لم يتفق ولكن القصد إلى التابع كثير‪ ،‬فالصل اعتبار‬

‫) ( سورةا النساء‪. 23 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النساء‪. 24 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/108 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪583‬‬
‫ما يقصد مثله عرفاا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتباراا‬
‫بالحتمالين‪ ،‬وقاعدةا الذرائع أيضاا مبنية على سبق القصد إلى‬
‫الممنوع«هل)‪. (1‬‬
‫وهذه النصوص تبين مراد الشاطبي بالمقصود المتبوع فهو‬
‫ليس مقصود المكلف على الخصوص وإنما هو المقصود عند العامة‬
‫من الفعل‪ ،‬فإذا تغيرت العادةا في المجتمع وصار الصل فيمن يشتري‬
‫العنبِّ أنه يشتريه للخمر وفيمن يشتري السلح أنه يشتريه لقطع‬
‫الطريق فحينئذ يتغير الحكم تبعاا لتغير المقصود ويصبح التابع‬
‫متبوعاا‪ .‬فالمقصود المعتبر هو المقصود الصيل والحكم يتبعه‪،‬‬
‫وقول الشاطبي‪» :‬وقاعدةا الذرائع أيضاا مبنية على سبق القصد إلى‬
‫المتبوع«هل المراد منه أن هذا النقلب في الحكم تشفع له قاعدةا سد‬
‫الذرائع‪ ،‬وهذا هو معنى الضابط الثاني لعمال القاعدةا‪ ،‬وهو ظهور‬
‫القصد إلى ذلك في المجتمع بحيث يصبح هو الصل وما عداه هو‬
‫الستثناء‪ ،‬ومما يقوى اعتبار هذا الضابط عنده قوله‪» :‬فقاعدةا‬
‫الذرائع تقوى ههنا إذ قد ثبت القصد إلى الممنوع«هل)‪. (2‬‬
‫الضابط الثالث‪:‬‬
‫والضابط الثالث لعمال قاعدةا سد الذرائع عند الشاطبي هو أن‬
‫يكون الفعل المأذون فيه شرعاا مؤدياا إلى المفسدةا كثيراا ل‬
‫نادراا‪ .‬فإن كان أداؤه إلى المفسدةا نادراا فهذا ل يحرما‪ ،‬أي ل يفتي‬
‫المجتهد بحرمته‪ ،‬وإن كانت هذه المفسدةا مقصودةا لمكلف‬
‫مخصوص فهذا مما ل يطلع عليه المجتهد ول يحكم بناء عليه‪.‬‬
‫واشتراط أن تكون التأدية إلى المفسدةا كثيراا ل نادراا هو بناءا‬
‫على أن الحكم للغالبِّ ل للنادر‪ ،‬مثلما كان اعتبار القصد بما هو‬
‫أصيل غالبِّ في المجتمع‪.‬‬
‫وإن كان توصيل الفعل إلى الحراما كثيرااي‪ ،‬فقد يكون غالباا‪،‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 110 - 3/109 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/110 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪584‬‬
‫وقد يكون كثيراا ل غالباا ول نادراا‪ ،‬وهذا ملحق عنده بالغالبِّ‪،‬‬
‫ويمنع من باب سد الذرائع إذا توفر الضابطان الولن)‪. (1‬‬
‫وقد ظهر هذا الشرط للشاطبي في أكثر من موضع في كتابه‬
‫أوضحها ما جاء في تفصيله لقاعدةا رفع الضرر‪ .‬وفيما يلي بيان‬
‫كيفية إعمال قاعدةا رفع الضرر عند الشاطبي لما بينها وبين قاعدةا‬
‫سد الذرائع من تداخل‪.‬‬
‫قاعدة رفع الضرر‪:‬‬
‫ولما في هذه القاعدةا من تفريع واستقصاء‪ ،‬فسييستعان بشكل‬
‫وبأرقاما للشارةا إلى مختلف حالت تطبيقها ولبيان مواضع سد‬
‫الذرائع فيها‪.‬‬
‫يقول الشاطبي في بحث المسألة الخامسة من مقاصد المكلف‬
‫في التكليف)‪. (2‬‬
‫»جلبِّ المصلحة أو دفع المفسدةا إذا كان مأذوناا فيه على‬
‫ضربين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن ل يلزما عنه إضرار الغير‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يلزما عنه ذلك‪ ،‬وهذا الثاني ضربان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يقصد الجالبِّ أو الدافع ذلك الضرار‬ ‫‪.2‬‬
‫كالمرخص في سلعته قصداا لطلبِّ معاشه وصيحقبيه قصدي‬
‫الضرار بالغير‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن ل يقصد إضراراا بأحد وهو قسمان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون الضرار عاماا كتلقي السلع وبيع‬ ‫‪.3‬‬
‫الحاضر للبادي والمتناع عن بيع داره أو فدانه وقد اضطر‬
‫إليه الناس لمسجد جامع أو غيره‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يكون خاصاا وهو نوعان‪:‬‬
‫) ( سيتبين هذا الضابط بشرح قاعدةا رفع الضرر ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/241 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪585‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يلحق الجالبِّ أو الدافع بمنعه من ذلك‬ ‫‪.4‬‬
‫ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمةا يعلم‬
‫أنها تقع بغيره‪ ،‬أو يسبق إلى شراء طعاما أو ما يحتاج إليه أو‬
‫إلى صيد أو حطبِّ أو ماء أو غيره عالماا أنه إذا حازه‬
‫استضر غيره بعدمه‪ ،‬ولو أخذ من يده استضر‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن ل يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلثة أنواع‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬ما يكون أداؤه إلى المفسدةا قطعياا‪ ،‬أعني القطع‬ ‫‪.5‬‬
‫العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلما بحيث يقع‬
‫الداخل فيه بل بد وشبه ذلك‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ما يكون أداؤه إلى المفسـدةا نادراا كحفر‬ ‫‪.6‬‬
‫البئر بوضع ل يؤدي غالباا إلى وقوع أحد فيه‪ ،‬وأكل‬
‫الغذيــة التي غالبـهـا أن ل تضـر أحداا وما أشبه ذلك‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬ما يكون أداؤه إلى المفسدةا كثيراا ل نادراا وهو‬
‫على وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون غالباا كبيع السلح من أهل الحرب‬ ‫‪.7‬‬
‫والعنبِّ من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يكون كثيراا ل غالباا كمسألة بيوع‬ ‫‪.8‬‬
‫الجال‪.‬‬
‫فهذه ثمانية أقساما«هل)‪. (1‬‬
‫ثم يبين الشاطبي الحكم في كل من هذه القساما الثمانية‬
‫ويقرر أن القسمين الخيرين السابع والثامن هما محل إعمال قاعدةا‬
‫سد الذرائع‪ ،‬وفيما يلي بيان رأيه في كل من هذه القساما بالستعانة‬
‫بالرقاما الموضوعة إزاء كل قسم وبالشكل المرسوما بعد ثلثا‬
‫صفحات‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ القسـم الول‪ :‬يقـول فيـه الشـاطبي‪» :‬فأما الول فباقم‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 242 - 2/241 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪586‬‬
‫على أصـله مـن الذن ول إشكال فيه«هل)‪. (1‬‬
‫‪ 2‬ـ القسم الثاني‪ :‬يقول فيه‪» :‬وأما الثاني فل إشكال في منع‬
‫القصد إلى الضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أنه ل‬
‫ضرر ول ضرار في السلما‪ ،‬ولكن يبقى النظر في هذا العمل الذي‬
‫اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير‪ ،‬هل يمنع منه‬
‫فيصير غير مأذون فيه أما يبقى على حكمه الصلي من الذن ويكون‬
‫عليه إثم ما قصد؟ يرى الشاطبي أن هذا مما يتصور فيه الخلفَّ‬
‫ويحتمل الجتهاد فيه تفصيلا‪ ،‬فإن كان منع المكلف من العمل ل‬
‫يمنعه من تحصيل مراده بعمل آخر فل إشكال في منعه لنه ل معنى‬
‫للصرار على العمل الول إل الضرار بغيره‪ ،‬وإن لم يكن له محيص‬
‫عن العمل الول فحقه في الفعل مقدما على حق الغير في رفع‬
‫الضرر‪ ،‬ولكن يبقى ممنوعاا من القصد«هل)‪. (2‬‬
‫‪ 3‬ـ القسم الثالث‪ :‬وهـو إن كان الضـرار عامـاا غير‬
‫مقصود‪ ،‬ففي هذه الحالة يينظر‪ ،‬فإن كان منعه من الفعل يؤدي إلى‬
‫الضرار به ضرراا ل ينجبـر فحقـه مقدما على الطلق‪ ،‬ويبقى‬
‫الفعل مأذوناا به‪ ،‬وإن كان ينجبر فاعتبار الضرر العاما أولى ويمنع‬
‫من الفعل‪ .‬قال‪» :‬وقد زادوا في مسجد رسول ال ‪ ‬من غيره مما‬
‫رضي أهله ومما ل‪ .‬وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموما على‬
‫مصلحة الخصوص لكن بحيث ل يلحق الخصوص مضرةا«هل)‪. (3‬‬
‫‪ 4‬ـ القسم الرابع‪ :‬يقول فيه‪» :‬إن حق الجالبِّ أو الدافع‬
‫مقدما وإن استضر غيره بذلك لن جلبِّ المنفعة أو دفع المضرةا‬
‫مطلوب للشارع مقصود«هل)‪ ، (4‬وقال‪» :‬وبذلك ظهر أن تقديم حق‬
‫المسبوق على السابق ليس بمقصود شرعاا إل مع إسقاط السابق‬

‫المصدر نفسه‪. 2/242 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/243 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/243 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪587‬‬
‫لحقه وذلك ل يلزمه«هل)‪. (1‬‬
‫‪ 5‬ـ القسم الخامس‪ :‬وهو أن يكون الفعل المأذون فيه شرعاا‬
‫مؤدياا إلى مفسدةا قطعاا وأن ل يكون ذلك مقصوداا‪ ،‬فيقول فيه إن‬
‫الجالبِّ للمصلحة أو الدارئ للمفسدةا إن فعل ما فعل غير ملتفت إلى‬
‫المسببات وغير قاصدم للضرر وملتفتاا فقط إلى كون الفعل‬
‫مأذوناا به فهو جائز ل محظور فيه‪ .‬أما إن كان عالماا بلزوما‬
‫مضرةا الغير مع عدما استضراره بتركه فهذا ممنوع من الفعل‪ ،‬وإن‬
‫أقدما على الفعل فهو متعد يضمن ضمان المتعدي بالجملة‪.‬‬
‫والشاطبي ل يتصور مثل هذا الفعل إل في حالتين‪ :‬الولى أن يكون‬
‫الجالبِّ أو الدافع قد قصر في النظر المأمور به‪ ،‬والثاني‪ :‬أن يكون‬
‫قاصداا لنفس الضرار‪ ،‬وكلهما ممنوع شرعاا )‪. (2‬‬
‫‪ 6‬ـ القسم السادس‪ :‬يقول‪» :‬وأما السادس وهو ما يكون أداؤه‬
‫إلى المفسدةا نادراا فهو على أصله من الذن لن المصلحة إذا كانت‬
‫غالبةا فل اعتبار بالندور في انخرامها«هل)‪ . (3‬ثم قال‪» :‬فالعمل إذاا‬
‫باقم على أصل المشروعية«هل)‪. (4‬‬
‫‪ 7‬ـ القسم السابع‪ :‬وهو إذا كــان الف عــل أداؤه إلــى المف ســدةا‬
‫كثيراا غالباا ل نادراا‪ ،‬فيقول‪» :‬وهو ما يكون أداؤه إلــى المف ســدةا‬
‫ظنياا فيحتمل الخلفَّ‪ ،‬إما أن الصل الباحة والذن كما ت قــدما فــي‬
‫السادس‪ ،‬وإما أن الضرر والمفسدةا تلحق ظناا«هل)‪ . (5‬ويرى الشــاطبي‬
‫هنا إعمال الظن ورفع أصل الذن والباحة‪ .‬يقول‪» :‬ولكــن اعتبــار‬
‫الظن هو الرجـح لمـور‪ :‬أحـدها‪ :‬أن الظن فــي أ بــواب العمل يــات‬
‫جــارم مجــرى العـلـــم فالظـاهـــر جريــانه هنــا‪ .‬والثــاني‪ :‬أن‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/249 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/250 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪588‬‬
‫المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله ت عــالى‪:‬‬
‫[ ‪         ‬‬
‫)‪(1‬‬
‫إلخ وذكر بعض أدلة قاعدةا سد الذرائع‪.‬‬ ‫‪« ]  ‬هل‬
‫ويذكر الشاطبي في هذا القسم‪ ،‬أن القاعدةا الجارية هنا هي‬
‫قاعدةا سد الذرائع أكثر من قاعدةا رفع الضرر‪ ،‬وذلك بناء على أن‬
‫المكلف ل يقصد الضرر وإنما يقصد حظوظه الجائزةا‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫قاعدةا سد الذرائع تعمل بناء على أن قصد الضرر وهو ممنوع صار‬
‫هو الصل‪ ،‬وصار الغالبِّ على هذا العمل أنه تعاون على الثم‬
‫والعدوان أو حيلة )‪. (2‬‬
‫‪ 8‬ـ القسم الثامن‪ :‬يقول‪» :‬وأما الثامن وهو ما يكون أداؤه‬
‫إلى المفسدةا كثيراا ل غالباا ول نادراا‪ ،‬فهذا موضع نظر والتباس‬
‫والصل فيه الحمل على الصل من صحة الذن كمذهبِّ الشافعي‬
‫وغيره‪ .‬ولن العلم والظن بوقوع المفسدةا منتفيان إذ ليس هنا إل‬
‫احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ول قرينة ترجح أحد الجانبين‬
‫على الخر‪ ،‬واحتمال القصد للمفسدةا والضرار ل يقوما مقاما نفس‬
‫القصد ول يقتضيه«هل )‪ . (3‬وقال‪» :‬وأيضاا فإنه ل يصح أن يعد الجالبِّ‬
‫أو الدافع هنا مقصراا أو قاصداا كما في العلم والظن لنه ليس‬
‫حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدما القصد لواحد‬
‫منهما‪ ،‬وإذا كان كذلك فالتسببِّ المأذون فيه قوي جداا«هل )‪ . (4‬وهذا‬
‫الذي قاله يفيد في بقاء العمل على أصله من الباحة‪ ،‬إل أنه يذهبِّ‬
‫إلى إعمال قاعدةا سد الذرائع بناء على أن مالكاا ‪ -‬رضي ال عنه ‪-‬‬
‫أعملها هنا‪ ،‬ثم ذكر من المثلة ما يفيد تبرير أو جواز إعمال سد‬
‫الذرائع وليس وجوب ذلك‪ .‬قال‪» :‬وإذا كان كذلك فالتسببِّ‬
‫المأذون فيه قوي جداا إل أن مالكاا اعتبره في سد الذرائع بناء على‬
‫سورةا النعاما‪. 108 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 251 - 2/250 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ال مصدر نفسه ‪. 2/251 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪589‬‬
‫كثرةا القصد وقوعاا«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬والشريعة مبنية على‬
‫الحتياط والخذ بالحزما والتحرز مما عسى أن يكون طريقاا إلى‬
‫مفسدةا فإذا كان هذا معلوماا على الجملة والتفصيل فليس العمل‬
‫عليه ببدع في الشريعة بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو‬
‫مكمل إما لضروري أو حاجي أو تحسيني«هل)‪. (2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/253 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪590‬‬
‫مإسائال أوأ تفريعات قاعدة رفع الضرر‬
‫جلبِّ المصلحة أو درء‬
‫المفسدةا‬
‫إذا كان مأذوناا فيه‬

‫يلزما عنه إضرار الغير‬ ‫‪ 1‬ـ ل يلزما عنه إضرار‬


‫الغير‬

‫أن ل يقصد إضراراا‬ ‫‪ 2‬ـ أن يقصد ذلك الضرار‬


‫بأحد‬ ‫كالمرخيص في سلعته لطلبِّ‬
‫معاشه وصحبه قصد الضرار‬
‫بالغير‪.‬‬
‫أن يكون الضرار‬ ‫‪ 3‬ـ أن يكون الضرار عاماا كتلقي‬
‫خاصاا‬ ‫السلع وبيع الحاضر للبادي‬
‫والمتناع من بيع داره أو فدانه وقد‬
‫اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو‬
‫غيره‪.‬‬
‫أن ل يلحقه بمنعه من‬ ‫‪ 4‬ـ أن يلحق الجالبِّ للمصلحة أو‬
‫ذلك ضرر‬ ‫الدافع للمفسدةا بمنعه من ذلك‬
‫ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع‬
‫عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع‬
‫بغيره أو يسبق إلى شراء طعاما أو‬
‫صيد أو حطبِّ أو ماء أو غيره ولو‬
‫‪ 6‬ـ ما يكون أداؤه إلى‬ ‫إلى المفسدةا‬‫استضر‪.‬‬ ‫من يده‬
‫يكون أداؤه‬ ‫أخذـ ما‬
‫‪5‬‬
‫المفسدةا نادراا كحفر البئر‬ ‫قطعياا‪ ،‬القطع العادي كحفر‬
‫بموضع ل يؤدي غالباا إلى‬ ‫البئر خلف باب الدار في الظلما‬
‫وقوع أحد فيه وأكل الغذية‬ ‫بحيث يقع الداخل فيه وشبه‬
‫التي غالبها أن ل تضر أحداا‪.‬‬ ‫ذلك‪.‬‬
‫ما يكون أداؤه إلى المفسدةا‬
‫كثيراا ل نادراا‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ أن يكون كثيراا ل‬ ‫‪ 7‬ـ أن يكون غالباا كبيع‬


‫غالباا كمسائل بيوع‬ ‫السلح من أهل الحرب والعنبِّ‬
‫الجال‪.‬‬ ‫من الخمار وما يغش به ممن‬
‫شأنه الغش ونحو ذلك‪.‬‬
‫وأالقسمان السابع وأالثامإن هما مإحل‬
‫إعمال قاعدة سد الذرائاع‪.‬‬

‫‪591‬‬
‫وإذا تبينت قاعدةا سد الذرائع وضوابطها‪ ،‬ومجال عملها وهو‬
‫المباحات‪ ،‬فإنه يلتحق بالمباحات ما كان في مرتبة العفو‪ ،‬ول تعمل‬
‫في المندوبات‪ ،‬وليس كل تغير يلحق الحكاما هو من قبيل سد‬
‫الذرائع‪ ،‬إل أنه يجدر بالذكر الشارةا إلى أعمال ألحقها الشاطبي‬
‫بسد الذرائع‪ ،‬وهو لزوما ترك المندوب أو النافلة ولزوما فعل‬
‫المكروه في بعض الحالت وهذا في حق الفقيه المقتدى به‪ ،‬وذلك‬
‫كي ل يفهم المقتدي من دواما فعل المندوب أو النافلة بغير انقطاع‬
‫أنه فرض‪ ،‬وكذلك كي ل يفهم من دواما ترك المكروه أنه حراما‪،‬‬
‫وهذا سداا للذريعة‪ ،‬وقد قرر في ذلك أصولاي‪ .‬قال‪» :‬المندوب من‬
‫حقيقة استقراره مندوباا أن ل يسوى بينه وبين الواجبِّ«هل)‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»المباحات من حيث استقرارها مباحات أن ل يسوى بينها وبينت‬
‫المندوبات ول المكروهات«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬المكروهات من حيث‬
‫استقرارها مكروهات أن ل يسوى بينها وبين المحرمات ول بينها‬
‫وبين المباحات«هل)‪ . ( 3‬ول يقال هنا إن القاعدةا تم إعمالها في المندوب‬
‫أو المكروه ‪ ،‬وإنما انصبِّ عمل القاعدةا هنا على المداومة التي قد‬
‫تيوهقمي بغير قصد الشارع‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/183 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/189 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/190 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪592‬‬
‫الفصـل العاشـر‬
‫فكـرة المقاصـد عند‬
‫الشـاطبي‬
‫عـرض وأمإناقشـة‬
‫وأيحتوي على تعريف مإوجأز بموضأوع هذا الفصل‬
‫وأثالثاة مإباحث‪:‬‬

‫المبحث الوأل‪ :‬عرض مإوجأز لفكرة‬


‫المقاصد عند الشاطبي‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مإناقشة فكرة الشاطبي‪:‬‬
‫الكليات وأالستقراء‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مإناقشة فكرة الشاطبي‪:‬‬
‫المقاصد وأالعلل‪.‬‬

‫‪593‬‬
‫الفصـل العاشـر‬
‫فكـرة المقاصـد عند الشـاطبي‬
‫عـرض وأمإناقشـة‬
‫مإوضأوع هذا الفصل‪:‬‬
‫بعد أن تبين معنى المقاصد عند الشاطبي وأقسامها وأنواعها‬
‫وكيفية التوصل إليها‪ ،‬وكيفية فهم الشريعة واستنباط الحكاما‬
‫بناءا عليها‪ ،‬وبعد أن تبين منهج الشاطبي في ذلك منهجاا متكاملا‪،‬‬
‫حاول أن يصهر فيه ما سبقه من مناهج أو قواعد وأصول على‬
‫اختلفها‪ ،‬من خلل ما قرره من أصولم جديدةا للفهم‪ ،‬بعد ذلك فقد‬
‫بقي النظر في هذه الفكرةا وفي هذه الصول ومناقشتها‪.‬‬
‫وهو وإن خالف في جديده كل سابقيه من أئمة الصول‪ ،‬وأتى‬
‫بمنهج غير معهود‪ ،‬فقد حاول أن يرجع الصول المختلفة إلى‬
‫أصوله مع أنه صرح أحياناا باختلفه معهم وأصر أنه خلفَّ في‬
‫المضمون وليس خلفَّ عبارةا‪.‬‬
‫ولقد ظهر الشاطبي خلل ذلك عالماا فقيهاا راسخاا‪ ،‬متبحراا‬
‫في علوما الشريعة‪ ،‬فقيهاا بالنفس البشرية وبأحوال الجماعات‪،‬‬
‫نبيهاا في لحظ الدللت‪ ،‬غواصاا إلى ديرير المعاني‪ ،‬خاضعاا للدلة‬
‫ملتزماا بها‪ ،‬حريصاا على فهم المقاصد الكلية والتفصيلية‪ ،‬محذراا‬
‫من التشدد كتحذيره من النحلل‪.‬‬
‫وبملحظة هذا كله ينشأ سؤال أثاره الدكتور عبد ال درياز‬
‫في مقدمته على شرحه لكتاب الموافقات هو‪» :‬إذا كانت منزلة‬
‫الكتاب كما ذكرت‪ ،‬وفضله في الشريعة على ما وصفت فلماذا حجبِّ‬
‫عن النظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه في الذاعة بله‬
‫العكوفَّ على تقريره؟«هل)‪ . (1‬وقد يذهبِّ السؤال أبعد من ذلك‪ ،‬فلماذا‬

‫) ( الموافقات‪ 1/11 ،‬بتحقيق الدكتور عبد ال دراز ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪594‬‬
‫لم تظهر أفكار الشاطبي عند غيره من العلماء من تلميذه أو‬
‫غيرهم؟ لماذا لم يتابعه عليها أحد؟ هل ماتت أفكاره بعد ولدتها‬
‫مباشرةا؟ أما أن أفكاره من العمق ومنهجه من الصعوبة بحيث لم‬
‫يتوفر لفكاره من يتابعه عليها ولمنهجه من يطبقه؟‬
‫لقد أجاب الدكتور درياز على السـؤال بأن هذا يرجـع إلى‬
‫أمريـن‪ :‬أحـدهـمـا أن مباحث الشاطبي مبتكرةا مستحدثة لم يسبق‬
‫إليها‪ ،‬في حين كانت علوما الصول المعروفة ممهدةا‪ ،‬وطريقها‬
‫معبدةا‪ ،‬فاستغنى المشتغلون بعلوما الشريعة بالمعروفَّ المشروح‬
‫ولم يشعروا بنقص لديهم ولم تتطاول همتهم إلى تناول الكتاب‬
‫واجتهـاد الفكر فيـه‪ .‬والمر الثاني هو صعوبة الكتاب فكأن تحت‬
‫كل كلمةم فيه معنىا يشير إليه)‪. (1‬‬
‫ولكن المر ‪ -‬كما أراه ‪ -‬ل يعود إلى أي من السببين‬
‫المذكورين‪ .‬فلقد ألف الشافعي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬الرسالة‪ ،‬فكان بمثابة‬
‫الشرارةا التي أشعلت ثورةا في علم الصول‪ ،‬ولو قديقر النجاح لفكرةا‬
‫الشاطبي‪ ،‬فلربما كانت شرارةا ثورةام مثل تلك‪ .‬فلن يخلو المر أن‬
‫يوجد من طلب العلم ومن العلماء كثرةا يهتمون به‪ .‬ول بد أنه‬
‫كان للشاطبي تلميذ وطلب علم يجلونه ويأخذون عنه‪ .‬فلو كان‬
‫لمنهجه حظ للنتشار لنتشر‪ ،‬أما صعوبة الكتاب فلن يقف هذا‬
‫حائلا دون فهمه وشرحه والبناء عليه وتطويره‪ ،‬فل بد أن يكون‬
‫السببِّ شيئاا آخر‪.‬‬
‫إن السببِّ يرجع إلى المنهج نفسه‪ ،‬أي إلى أفكار الشاطبي‪،‬‬
‫فرغم أن ما في كتابه مرتفع القيمة‪ ،‬عالي الجودةا‪ ،‬رفيع المستوى‬
‫وأكثره جار على معهود علم الصول‪ ،‬إل أن فيه ما هو جديد‪،‬‬
‫وجديده هذا هو من الصول‪ ،‬بل أصول الصول التي تبنى عليها‬
‫القواعد والصول‪ .‬وأول ذلك منهج الستقراء‪ ،‬وعدما قبول القطع‬
‫في الشريعة بغير ذلك‪ ،‬ورفض التخصيص في الشريعة بالمعنى‬
‫) ( الموافقات‪ 1/11 ،‬بتحقيق الدكتور عبد ال دراز ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪595‬‬
‫المعهود‪ .‬وفيه الجديد في معنى الرجوع إلى قطعي‪ ،‬فإذا كانت‬
‫أفكاره الجديدةا قليلة في عددها‪ ،‬فهي أصول تهيمن وتحكم على‬
‫الكثير من الفروع‪ ،‬وبالتالي فإن الصول الجديدةا القليلة مهمة‬
‫بحيث شكلت منهجاا مستقلا قائماا بذاته ومختلفاا عن سائر‬
‫المناهج المعروفة اختلفاا جذرياا‪.‬‬
‫وإدراك الشاطبي لذلك جعله يحاول إعادةا أصول المذاهبِّ‬
‫المختلفة إلى أصوله‪ ،‬أي أن يكون منهجه أصلا للجميع‪ ،‬ومن هنا‬
‫جاء اسم كتابه الموافقات وهو ما سيتبين في المبحث التالي‪.‬‬
‫لقد كان الستحداثا والعمق في أبحاثا الشاطبي‪ ،‬إضافة إلى‬
‫الجدية والنضباط دافعاا للكثيرين في عصرنا للتنويه بالموافقات‬
‫وبصاحبِّ الموافقات‪ ،‬وربما حاول البعض الخذ منه والستناد إليه‪.‬‬
‫إل أن الحاصل أن أحداا لم يبنق على منهجه أو يعتمده‪ ،‬وعلى العكس‬
‫من ذلك فقد نيسبِّ إليه ما دأب على التحذير منه‪.‬‬
‫بل إنه قد وقع الذي كان يخشاه حيث قال‪» :‬ومن هنا ل يسمح‬
‫للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون‬
‫رييان من علم الشريعة‪ ،‬أصولها وفروعها‪ ،‬منقولها ومعقولها‪ ،‬غير‬
‫مخلد إلى التقليد والتعصبِّ للمذهبِّ‪ ،‬فإنه إن كان هكذا خيف عليه‬
‫أن ينقلبِّ عليه ما أودعي فيه فتنةا بالعرض‪ ،‬وإن كان حكمةا‬
‫بالذات«هل )‪. (1‬‬
‫إن السببِّ في عدما انتشار المنهج وعدما تطوره يرجع ‪ -‬وال‬
‫أعلم ‪ -‬إلى المنهج نفسه وبالتحديد إلى جديد المنهج الذي قد يشعر‬
‫طالبِّ العلم بالتعطش إلى فهمه‪ ،‬فإذا فهمه أعرض عنه‪ .‬قال في‬
‫خاتمة كتابه‪» :‬وقد تم والحمد ل الغرض المقصود وحصل بفضل‬
‫ال إنجاز ذلك الموعود‪ ،‬على أنه بقيت أشياء لم يسع إيرادها‪ ،‬إذ لم‬
‫يسهل على كثير من السالكين مرادها‪ ،‬وقل على كثرةا التعطش‬
‫إليها ورادها فخشيت أن ل يردوا موردها وأن ل ينظموا في سلك‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/53 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪596‬‬
‫التحقيق شواردها«هل)‪ . (1‬فإذا كان المر كما قال الشاطبي في هذا‬
‫النص‪» :‬قل على كثرةا التعطش إليها ورداها«هل فكأن هذه إشارةا إلى‬
‫أن المنهج ولد ميتاا‪ .‬وهذا ما سيأتي بيانه من خلل مناقشته في هذا‬
‫الفصل‪ .‬وقد يكون من المفيد قبل ذلك عرض فكرةا الشاطبي‬
‫باختصار وإبراز ما فيها من جديد بشكل مجموع في مبحث مستقل‬
‫وهو المبحث الول من هذا الفصل‪ ،‬ثم مناقشة ذلك في المبحثين‬
‫التاليين‪ ،‬وعلى ال التكال‪.‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/202 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪597‬‬
‫المبحث الوأل‬
‫عـرض مإوجأـز لفكـرة المقاصـد عند‬
‫الشـاطبي‬
‫مإعنى الموافقات‪:‬‬
‫يرجع اختيار اسم الموافقات إلى معنىا يقصده الشاطبي وهو‬
‫التوفيق بين المذاهبِّ من خلل بيان أنها وإن اختلفت في الفروع‬
‫فهي راجعة إلى أصول وقواعد معتبرةا عند الجميع‪ .‬وسببِّ الخلفَّ‬
‫هو اختلفَّ الئمة في إرجاع المسائل إلى أصولها‪ ،‬فهذا يرجح‬
‫إرجاعها إلى أصل وذاك يرجح إرجاعها إلى أصلم آخر‪ .‬أما الصول‬
‫فكلها معتبرةا ومعتمدةا عند الئمة‪ .‬ورغم ما في منهجه من جديد‬
‫ومثير‪ ،‬فهو يقول إنه معتبر عند الئمة المعتبرين وإن لم يذكروا‬
‫ذلك أو ينبهوا عليه‪ ،‬فل ينبغي لمن لم يطلع على ذلك أن يطرحه‬
‫بحجة أنه لم يسمع بمثله‪.‬‬
‫أما معنى التوفيق بين المذاهبِّ فقد أشار إلى ذلك بذكر‬
‫قصةم لفتة‪ .‬قال‪ » :‬و لجل ما أودع فيه من السرار التكليفية‬
‫المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية‪ ،‬سميته بقـ )عنوان التعريف‬
‫بأسرار التكليف(‪ ،‬ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريبِّ يقضي‬
‫العجبِّ منه الفطن الريبِّ‪ ،‬وحاصله أني لقيت يوماا بعض الشيوخ‬
‫الذين أحللتهم مني محل الفادةا وجعلت مجالستهم العلمية محطاا‬
‫للرحل ومناخاا للوفادةا‪ ،‬وقد شرعت في ترتيبِّ الكتاب وتصنيفه‬
‫ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه‪ ،‬فقال لي رأيتك البارحة في‬
‫النوما وفي يدك كتاب ألفته‪ ،‬فسألتك عنه فأخبرتني إنه )كتاب‬
‫الموافقات( قال‪ :‬فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة‪،‬‬
‫فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة‪ .‬فقلت‬
‫له لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيبِّ وأخذتم من‬
‫المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيبِّ‪ ،‬فإني شرعت في تأليف هذه‬

‫‪598‬‬
‫المعاني‪ ،‬عازماا على تأسيس تلك المباني‪ ،‬فإنها الصول المعتبرةا‬
‫عند العلماء‪ ،‬والقواعد المبنييي عليها عند القدماء‪ ،‬فعجبِّ الشيخ من‬
‫غرابة هذا التفاق كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازةا وصحبة‬
‫هذه الرفاق«هل)‪. (1‬‬
‫أما أن منهجه هذا‪ ،‬رغم ما فيه من جديدم‪ ،‬معتبر ومعتمد عند‬
‫العلماء‪ ،‬فإضافة إلى قوله في النص أعله‪» :‬فإنها الصول المعتبرةا‬
‫عند العلماء‪ ،‬والقواعد المبني عليها عند القدماء«هل يدل عليه قوله‪:‬‬
‫»فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض النكار‪ ،‬وعمي عنك وجه‬
‫الختراع فيه والبتكار‪ ،‬وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله‪ ،‬ول ألف‬
‫في العلوما الشرعية الصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل‬
‫بشكله‪ ،‬وحسبك من شر سماعه‪ ،‬ومن كل بدعم في الشريعة ابتداعه‪،‬‬
‫فل تلتفت إلى الشكال دون اختبار ول ترماق بمظنة الفائدةا على غير‬
‫اعتبار‪ ،‬فإنه بحمد ال أمري قررته اليات والخبار‪ ،‬وشيد أركانه‬
‫أنظار النظار‪ ،‬وإذا وضح السبيل لم يجبِّ النكار ووجبِّ قبول ما‬
‫حواه والعتبار بصحة ما أبداه والقرار‪ ،‬حاشا ما يطرأ على البشر‬
‫من الخطأ والزلل«هل )‪ (2‬إلخ‪.‬‬
‫أما محاولته للتوفيق فتظهر في مواضع عديدةا‪ ،‬منها ما يتعلق‬
‫بتعليل الحكاما بالحكم وبالمعاني المصلحية‪ ،‬فقال بالتعليل بعد‬
‫إثبات كون الوصف المعلل به يرجع إلى معنى معتبر شرعاا‪،‬‬
‫واشترط لعتبار المعنى القطع به‪ ،‬وبهذا فهو لم يهدر التعليل‬
‫بالحقكيم‪ ،‬وكذلك لم يترك المر راجعاا إلى الرأي المحض‪،‬‬
‫فاقترب بذلك من الشافعية بقبوله التعليل بالحكمة‪ ،‬واقترب من‬
‫الحنفية برفضه كون الحكمة مظنونة‪ ،‬ولكنه في واقع المر لم‬
‫يتفق مع أييم منهما‪ ،‬فكان بعيداا عن الشافعية باشتراطه القطع‬
‫بالمعنى ورفضه المعنى المخيل في بضعة أحكاما‪ ،‬وظل بعيداا‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 8 - 1/7 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/9 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪599‬‬
‫كذلك عن الحنفية‪ ،‬فهم ل يقولون بهذا النوع من القطع‪ ،‬إذ بكثرةا‬
‫النظائر ل تحصل قوةاي في الوصف عندهم )‪. (1‬‬
‫ومن محاولته للتوفيق قوله في العموما والخصوص‪ .‬فمعلوما‬
‫أن الحنفية ل يخصصون القطعي بالظني‪ ،‬فل يخصصون الكتاب أو‬
‫السنة المتواترةا بخبر آحاد أو قياس‪ ،‬وذلك مبني عندهم على أن‬
‫دللة العاما على أفراده قطعية فل يستثنى شيء من هذه الفراد‬
‫بالدليل الظني‪ ،‬وهذا بخلفَّ جمهور الصوليين فهم يخصصون العاما‬
‫القطعي بالظني‪ ،‬فالذي جاء به الشاطبي هنا هو نفي التخصيص من‬
‫أصله‪ ،‬وحيثما قال به فهو بمعنى البيان)‪ ، (2‬فإذا خص بعض الفراد‬
‫من العاما فهذا ليس إخراجاا لهم من عموما النص‪ ،‬وإنما هو بيان أنهم‬
‫لم يكونوا داخلين فيه أصلا‪ ،‬وهو هنا يقترب من الشافعية في أن‬
‫دللة العاما على جميع أفراده ظنية‪ ،‬وقد كرر نصوص الشافعي بأن‬
‫العاما يطلق ويراد به الخصوص‪ .‬وهي ظنية عنده أصلا من باب أنه‬
‫ينفي الدللة القطعية في النصوص‪ ،‬فل يثبت عنده القطع بالمعنى‬
‫إل بالستقراء‪ ،‬ويقترب من الحنافَّ بقوله إن المعنى إذا ثبت قطعياا‬
‫فهو ل يخصص‪ .‬إذ هو بذلك يكون أصلا كلياا والكليات ل‬
‫تخصص‪ ،‬وبذلك فل يخصص الكلي القطعي بجزئي أو بظني‪.‬‬
‫ومع اقترابه من الفريقين‪ ،‬فهو مختلف معهما‪ ،‬مختلف مع‬
‫الشافعية برد التخصيص أصلا‪ ،‬وبعدما تخصيص الكليات بالجزئيات‬
‫أي القطعي بالظني‪ ،‬ومختلف مع الحنافَّ برد التخصيص أصلا‪،‬‬
‫وهذا يعني عدما تخصيص الكلي بالكلي أي القطعي بالقطعي‪.‬‬
‫وحيثما قال بتخصيص الكليات بعضها لبعض فل يقصد الستثناء‬
‫وإنما البيان كما تقدما‪.‬‬
‫ويمكن ملحظة التقريبِّ والتوفيق في المثالين المذكورين‪،‬‬
‫ولكن واقع الحال أنه كان مختلفاا ‪ -‬في الحالتين ‪ -‬مع الفريقين‪،‬‬

‫) ( تقدما بيان وتفصيل هذا المر في الفصلين الثاني والثالث ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المبحث الول من الفصل السا بع ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪600‬‬
‫لذلك فإن قوله لن يقبل من أي منهما‪ .‬وربما كان هذا من عوامل‬
‫عدما انتشار هذا المنهج وعدما تطوره‪ ،‬وفي الحالتين فإن طريقة‬
‫القطع سواء بالحكمة أو بدللة العاما على أفراده ل تكون إل‬
‫بالستقراء وهو غير معهود عند أي من الفريقين‪.‬‬
‫القطع بالصول عند الشاطبي‪:‬‬
‫من أهم الصول عند الشاطبي هو أن الصول يجبِّ أن تكون‬
‫قطعية‪ ،‬قال‪» :‬إن أصول الفقه في الدين قطعية ل ظنية والدليل‬
‫على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو‬
‫قطعي‪ .‬بيان الول ظاهر بالستقراء المفيد للقطع‪ ،‬وبيان الثاني من‬
‫أوجه‪ :‬أحدها أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية‪ ،‬وإما إلى‬
‫الستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضاا ول ثالث‬
‫لهذين إل المجموع منهما والمؤلف من القطعيات قطعي«هل)‪. (1‬‬
‫واشتراط القطع بالصول معروفَّ متفق عليه بين الئمة‪ ،‬إل‬
‫أن ثمة فرقاا كبيراا بين مراد الشاطبي ومرادهم‪ ،‬فرقاا يجعل‬
‫لمنهجه اتجاهاا آخر غير اتجاههم‪ ،‬فالقطع بالصول الذي قصده‬
‫الئمة هو ليس بالقواعد العامة أو الكلية وإنما هو بمصادر التشريع‬
‫أي بالدلة الجمالية وهي الربعة‪ :‬الكتاب والسنة والجماع‬
‫والقياس‪ ،‬فهذه أدلة إجمالية تؤخذ منها الدلة التفصيلية وتفهم‬
‫منها قواعد وأصول‪ .‬فمثلا وجوب الخذ بالسنة ثبت ثبوتاا قطعياا‬
‫فهي مصدر للتشريع‪ ،‬أما ما يأتي في السنة من روايات أو أخبار‬
‫آحاد فل يشترط له القطع بثبوته أي بنسبته إلى النبي‪ ،‬وإنما يؤخذ‬
‫ذلك بغلبة الظن‪ ،‬وكذلك معاني أو دللت النصوص سواء من‬
‫القرآن أو من السنة‪ ،‬فل يشترط لدللة النص أن تكون قطعية‬
‫للعمل بها وإنما يشترط ترجيحها على غيرها‪.‬‬
‫أما ما قصده الشاطبي فهو يشتمل على ما قصدوه وزيادةا‪ ،‬فكل‬
‫قاعدةا فقهية أو أصولية يجبِّ أن تكون قطعية عنده‪ ،‬وكل معنى أو‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/10 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪601‬‬
‫أصل يعتمد في الشريعة يجبِّ أن يكون قطعياا ومعاني النصوص هي‬
‫مقاصد للشارع فيجبِّ أن تكون قطعية أو راجعة إلى معنى قطعي‬
‫تكون خادمة له‪ ،‬أو أن تكون مما يتضمنه المعنى القطعي‪.‬‬
‫ولذلك فإن الضروريات الخمسة هي أصول قطعية من أصول‬
‫الفقه‪ ،‬وكذلك قواعد رفع الضرر والحرج والمشقة وما شاكلها‬
‫هي قواعد قطعية في الحاجيات‪ ،‬وكذلك أصل مآلت الفعال‬
‫وقواعد المصالح المرسلة والستحسان وسد الذرائع‪ ،‬كل ذلك‬
‫قطعي‪ ،‬في واقعه وفي شرطه‪ ،‬وليس هذا ما قصده أئمة الصول في‬
‫اشتراطهم للقطع بأصول الفقه وإنما قصروا ذلك على ما يعد‬
‫أصلا بمعنى مصدر للتشريع ويشير الشاطبي إلى اختلفَّ قصده عن‬
‫غيره بذلك‪ ،‬فمرةاا يوجه كلمه إلى أن مراده هذا هو المعتمد عند‬
‫المتقدمين من الصوليين ولكنهم تركوا التنبيه عليه‪ ،‬ومرةاا‬
‫يصرح باختلفَّ قصده عن قصدهم‪ ،‬قال‪» :‬إل أن المتقدمين من‬
‫الصوليين ربما تركوا هذا المعنى والتنبيه عليه‪ ،‬فحصل إغفاله‬
‫من بعض المتأخرين فاستشكل الستدلل باليات على حدتها‬
‫وبالحاديث على انفرادها‪ ،‬إذ لم يأخذها مأخذ الجتماع فكريي عليها‬
‫بالعتراض نصاا نصاا‪ .‬واستضعف الستدلل بها على قواعد الصول‬
‫المراد منها القطع«هل)‪ . (1‬وقال في موضع آخر‪» :‬كل دليل شرعي‬
‫إما أن يكون قطعياا أو ظنياا فإن كان قطعياا فل إشكال في‬
‫اعتباره«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬وإن كان ظنياا فإما أن يرجع إلى أصل‬
‫قطعي أو ل‪ ،‬فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاا‪ ،‬وإن لم يرجع‬
‫وجبِّ التثبت فيه ولم يصح إطلق القول بقبوله«هل )‪ ، (3‬وقال‪» :‬واعلم‬
‫أن المقصود بالرجوع إلى الصل القطعي ليس بإقامة الدليل‬
‫القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو‬
‫بالقياس واجبِّ مثلا‪ ،‬بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدما في‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/15 .‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/7 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/7 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪602‬‬
‫حديث‪» :‬ل ضأرر وأل ضأرار«)‪ ، (1‬والمسائل المذكورةا معه‪ ،‬وهو‬
‫معنى مخالف للمعنى الذي قصده الصوليون وال أعلم«هل)‪. (2‬‬
‫وهذا المعنى مبثوثا في مواضع عديدةا من كتابه‪ ،‬منها ما‬
‫ذكر أعله‪ ،‬ومن أهمها المسألة التاسعة من مسائل النوع الول من‬
‫مقاصد الشارع حيث قال‪» :‬كون الشارع قاصداا للمحافظة على‬
‫القواعد الثلثا الضرورية والحاجية والتحسينية ل بد عليه من‬
‫دليل يستند إليه‪ ،‬والمستند إليه في ذلك إما أن يكون دليلا قطعياا‬
‫أو ظنياا‪ .‬وكونه ظنياا باطل مع أنه أصل من أصول الشريعة بل هو‬
‫أصل أصولها‪ .‬وأصول الشريعة قطعية حسبما تبيين في موضعه‪،‬‬
‫فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية‪ .‬ولو جاز إثباتها بالظن لكانت‬
‫الشريعة مظنونة أصلا وفرعاا وهذا باطل«هل)‪. (3‬‬
‫خإصائاص الصول‪:‬‬
‫الصول عند الشاطبي هي قطعيات قصدها الشارع‪ .‬وهي تثبــت‬
‫باستقراء الجزئيات‪ ،‬والجزئيات هـي م عــان تحتملهـا النصـوص‪ ،‬أو‬
‫حقكيم ومصالح يمكن أن ت كــون مق صــودةا لل شــارع بالح كــاما‪ .‬فــإذا‬
‫استقرئت الجزئيات الكثيرةا وتقرر بناء على الستقراء معنى قطعي‬
‫فهذا المعنى أصل كلي‪ .‬والجزئيات التي يكون معناها راجعــاا إلــى‬
‫هذا الصل‪ ،‬أي متضمناا فيه أو خادماا له تكون فروعاا لل صــل‪ .‬أمـا‬
‫قبل استفادةا القطع بالمعنى‪ ،‬فإن الجز ئــي ي ظــل جزئ يــاا ول ي عــديي‬
‫فرعاا ول يصح اعتباره شرعاا‪ .‬وعلى ذلك فال صــول هــي كل يــات‬
‫قطعية‪ .‬قال‪» :‬من العلم ما هو من صيلنبِّ العلم‪ ،‬ومنه مــا هــو مــن‬
‫ميليحي العلم ل من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ول من ملحه‪ .‬فهذه‬
‫ثلثة أقساما‪ :‬القسم الول هو الصل والمعتمد وا لــذي عل يــه مــدار‬
‫الطلبِّ وإليه تنتهي مقاصد الراسخين وذ لــك مــا كــان قطعيــاا أو‬

‫) ( تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/12 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/32 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪603‬‬
‫راجعاا إلى أصل قطعي‪ .‬والشريعة المباركة المحمدية منزلة علــى‬
‫هذا الوجه‪ .‬ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها«هل)‪ . (1‬ثــم‬
‫قـال‪» :‬وهي الضروريات والحاجيات والتحسـينيات وما هو مكمــل‬
‫لها ومتمم لطرافها‪ ،‬وهي أصول الشريعة وقد قاما البرهان القطعي‬
‫على اعتبارها وسائر الفروع مستندةا إليها‪ ،‬فل إشكال في أنها علــمي‬
‫أصلي راسخ الساس ثابت الر كــان«هل )‪ . (2‬ثــم قــال‪» :‬إذ العلــم ب هــا‬
‫مستفاد من الستقراء العاما الناظم لشتات أفرادها حتى تصـيـر في‬
‫العقـل مجمـوعـة في كليات مطردةا عامـة ثابتـة‪ ،‬غير زائلــة ول‬
‫متبدلة وحاكمة غير محكوما عليها وهذه خواص الكليات العقل يــات‪،‬‬
‫وأيضاا فإن الكليات مقتبسة من الوجود وهو أ مــر و ضــعي ل عق لــي‬
‫فا ســتوت مــع الكل يــات ال شــرعية ب هــذا العت بــار وارت فــع ال فــرق‬
‫)‪(3‬‬
‫بينهما«هل ‪ .‬وقال‪» :‬لن الحفظ المضمون في قــوله تعــالى‪ [ :‬‬
‫‪ ، (4) ]      ‬إنما المراد به‬
‫حفظ أصوله الكلية المنصوصة‪ ،‬وهو المراد بقوله تعالى‪ [ :‬‬
‫ج‬

‫‪ (5) ]    ‬أيضاا ‪ ،‬ل أن المراد المسـائل الجزئية‪،‬‬


‫إذ لو كان كذلك لم يتخلــف عــن الح فــظ جز ئــي مــن جزئ يــات‬
‫الشـريعة‪ ،‬وليس كــذلك ل نــا نق طــع بــالجواز ويؤ يــده الو قــوع‬
‫لتفاوت الظنون وتطرق الحتمـالت في النصـوص الجزئية ووقوع‬
‫الخطأ فيها قطعاا‪ ،‬فقد وجد الخطأ في أخبـار الحـاد وفــي معــاني‬
‫اليـات‪ ،‬فدل على أن المراد بالذكر المحفـوظ مـــا كــان منــــه‬
‫كلياا«هل )‪ . (6‬والمقارنـة بين النصـوص المذكورةا أعـله تـدل على‬
‫الفـرق المذكور بين الجزئي والفرع‪.‬‬
‫إذاا‪ ،‬المعتمد في الشريعة هو الصول وفروعها‪ ،‬ول يعتمد‬
‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 44 ، 1/43 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/44 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا الحجر‪. 9 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا المائدةا‪. 3 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/12 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪604‬‬
‫الجزئي ما لم يكن راجعاا إلى أصل ليكون فرعاا‪ ،‬والصل له‬
‫خصائص ل بد من التنبه إليها وهي المذكورةا أعله‪» :‬كليات‬
‫مطردةا عامة ثابتة غير زائلة ول متبدلة وحاكمة غير محكوما‬
‫عليها«هل‪ .‬وشرح مراده بهذه الخصائص فقال‪» :‬العموما والطراد‬
‫فلذلك جرت الحكاما الشرعية في أفعال المكلفين على الطلق‪،‬‬
‫وإن كانت آحادها الخاصة ل تتناهى فل عمل يفرض ول سكون‬
‫يدعى إل والشريعة حاكمة عليه إفراداا وتركيباا وهو معنى‬
‫كونها عامة‪ ،‬وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما فهو‬
‫راجع إلى عموما«هل)‪ . (1‬أي إذا وجد جزئي يصح اعتباره ويخصص هذا‬
‫الكلي فل بد أن يكون راجعاا إلى كلي آخر‪ ،‬وتخصيص الكليات‬
‫بعضها لبعض هو من قبيل البيان‪ ،‬وهو ما تؤكده الخاصية الثانية‬
‫للكليات‪ .‬قال‪» :‬والثانية الثبوت من غير زوال‪ ،‬فلذلك ل تجد فيها‬
‫بعد كمالها نسخاا ول تخصيصاا لعمومها ول تقييداا لطلقها ول‬
‫رفعاا لحكم من أحكامها«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬بل ما أثبت سبباا فهو سببِّ‬
‫أبداا ل يرتفع وما كان شرطاا فهو أبداا شرط وما كان واجباا فهو‬
‫واجبِّ أبداا‪ ،‬أو مندوباا فمندوب وهكذا جميع الحكاما فل زوال لها‬
‫ول تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها‬
‫كذلك«هل )‪ . (3‬أما الخاصية الثالثة وهي كون الكليات حاكمة غير‬
‫محكوما عليها فمعناها أنه ليس في نصوص الشريعة ما يلزما صرفَّ‬
‫معناه إلى معنى ل تحتمله النصوص قال‪» :‬ل تجد في العمل أبداا ما‬
‫هو حاكم على الشريعة وإل انقلبِّ كونها حاكمة إلى كونها‬
‫محكوماا عليها«هل)‪. (4‬‬
‫هذه هي الخواص الثلثا التي تمتاز بها الصول‪ ،‬وكل معنىا‬
‫يقال في علوما الشريعة يفقد واحداا من هذه الخصائص فليس أصلا‬
‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/44 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/45 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪605‬‬
‫ول يصح الرجوع إليه‪.‬‬
‫الكليات ل تنخرم بمعارضأة الجزئايات‪:‬‬
‫وهذا تحصيل حاصل بعد بيان خصائص الكليات‪ ،‬فإن الكلي ثبت‬
‫باستقراء الجزئيات التي تضافرت على معنى‪ ،‬فصار بذلك أصلا‬
‫كلياا‪ ،‬فإذا وجد بعد ذلك جزئي يتناقض مع هذا الكلي أو يعارضه‪،‬‬
‫فهذا ل ينقض الكلي‪ ،‬لن الكلي قد ثبت قطعياا فل جدال في ثبوته‪،‬‬
‫أما الجزئي فإما أن يكون راجعاا إلى قطعي وإما أن ل يكون كذلك‪،‬‬
‫فإن كان راجعاا إلى قطعي فهذا من قبيل تعارض القطعيات وهذا ل‬
‫يكون‪ ،‬وإنما يكون لكل منهما موضع لعماله‪ ،‬وإن لم يكن الجزئي‬
‫راجعاا إلى قطعي‪ ،‬فهذا يمكن تأويله ليرجع إلى قطعي‪ ،‬ولرفع‬
‫التعارض‪ ،‬ويمكن التوقف فيه ويمكن رده‪ ،‬وعلى ذلك فالكلي ل‬
‫يتأثر بمعارضة الجزئيات ويستمر جريانه كما هو‪ .‬قال‪» :‬هذه‬
‫الكليات الثلثة إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة فل يرفعها‬
‫تخلف آحاد الجزئيات«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬المر الكلي إذا ثبت كلياا‬
‫فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي ل يخرجه عن كونه‬
‫كلياا‪ ،‬وأيضاا فإن الغالبِّ الكثري معتبر في الشريعة اعتبار العاما‬
‫القطعي لن المتخلفات الجزئية ل ينتظم منها كلي يعارض هذا‬
‫الكلي الثابت‪ ،‬هذا شأن الكليات الستقرائية«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬إن قضايا‬
‫العيان جزئية والقواعد المطردةا كليات‪ ،‬ول تنهض الجزئيات أن‬
‫تنقض الكليات‪ ،‬ولذلك تبقى أحكاما الكليات جارية في الجزئيات‬
‫وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص«هل)‪. (3‬‬
‫الستقراء هو السبيل الوحيد للقطع‪:‬‬
‫تبين أن الشاطبي ل يقبل الدليل ما لم يكن قطعياا أو راجعاا‬
‫إلى قطعي‪ ،‬والدلة التفصيلية ل تدل على مقصود الشارع بها دللة‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/34 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 35 / 2 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 150 - 3/149 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪606‬‬
‫قطعية‪ ،‬فكيف يحصل القطع علماا بأن الدلة التفصيلية هي أدلة‬
‫الحكاما؟ قال‪» :‬فالمعتمد بالقصد الول الدلة الشرعية ووجود‬
‫القطع فيها على الستعمال المشهور معدوما أو في غاية الندور‪،‬‬
‫أعني في آحاد الدلة‪ ،‬فإنها إن كانت من أخبار الحاد فعدما إفادتها‬
‫القطع ظاهر‪ ،‬وإن كانت متواترةا فإفادتها القطع موقوفة على‬
‫مقدمات جميعها أو غالبها ظني‪ ،‬والموقوفَّ على الظني ل بد أن‬
‫يكون ظنياا«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬وإنما الدلة المعتبرةا هنا المستقرأةا من‬
‫جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع‬
‫فإن للجتماع من القوةا ما ليس للفتراق ولجله أفاد التواتر‬
‫القطع‪ ،‬وهذا نوع منه‪ ،‬فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع‬
‫يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي وهو‬
‫كالعلم بشجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم المستفاد من كثرةا‬
‫الوقائع المنقولة عنهما«هل)‪ . (2‬وذهبِّ إلى أن هذا هو الطريق الوحيد‬
‫لثبات القطعيات في الشريعة‪ .‬قال‪» :‬ومن هذا الطريق ثبت وجوب‬
‫القواعد الخمس كالصلةا والزكاةا وغيرهما قطعاا‪ .‬فلو استدل‬
‫)‪(3‬‬
‫مستدل على وجوب الصلةا بقوله تعالى‪]   [ :‬‬
‫أو ما أشبه ذلك لكان في الستدلل بمجرده نظر من أوجه «هل)‪. (4‬‬
‫وهذا القطع‪ ،‬وبالتالي هذا الستقراء‪ ،‬مطلوب لثبات أي شيء من‬
‫الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات)‪ ، (5‬وهذه وما يندرج تحتها‬
‫هي مقاصد الشريعة أو أصولها‪ .‬وهي ل تتخليف ول تنخرما كما‬
‫تقدما‪.‬‬
‫دللت النصوص الشرعية‪:‬‬
‫تبين أن دللة آحاد النصوص ظنية‪ ،‬وهذا بمجرده ل يفيد‬
‫اعتباراا لها عند الشاطبي‪ ،‬فنصوص القرآن الكريم ظنية الدللة‪،‬‬

‫المصدر نفسه ‪ ، 1/31 ،‬وانظر‪. 2/32 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫ا لمصدر نفسه ‪. 1/14 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البقرةا‪ ، 83 ، 43 ، 11 ،‬وغيرها ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/14 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/32 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪607‬‬
‫ومثلها السنة المتواترةا‪ ،‬وأخبار الحاد أولى بذلك‪ ،‬فخبر الحاد‬
‫وإن صح ثبوته يجبِّ التوقف فيه ما لم يرجع معناه إلى معنى‬
‫قطعي‪ .‬فهو ل يقول‪» :‬ما لم يناقضه ما هو أقوى منه«هل‪ ،‬وإنما‪» :‬ما‬
‫لم يكن قطعياا أو راجعاا إلى معنى قطعي«هل‪.‬‬
‫وكذلك نصوص القرآن فهي تحتمل أكثر من معنى‪ ،‬ول‬
‫يمكن القطع بواحد منها بمجرد اعتبار النص‪ .‬والسبيل إلى فهم‬
‫النص وإعماله هو بفهمه على ضوء ما سبقه في النزول‪ ،‬إذ نزول‬
‫القرآن كان بحيث يأتي اللحق بياناا وشرحاا للسابق‪ .‬وقد نزلت‬
‫الكليات أولا في مكة‪ .‬لذلك فإن المدني يفهم على ضوء المكي‪،‬‬
‫والمتأخر من المكي يفهم على ضوء المتقدما منه‪ ،‬وكذلك بالنسبة‬
‫للمدني )‪ . (1‬ول بد من استقراء المعاني بكثرةا النصوص التي تدل‬
‫عليها‪.‬‬
‫والسنة ليس فيها تشريع جديد فهي ل تستقل بالتشريع وإنمــا‬
‫هي بيان للقرآن‪ ،‬لذلك فهو يصحح معنــى ال حــديث‪» :‬مإــا أتــاكم‬
‫عني فاعرضأوه على كتاب اللــه فــإن وأافــق كتــاب اللــه‬
‫فأنا قلته‪ ،‬وأإن خإــالف كتــاب اللــه فلــم أقلــه أنــا وأكيــف‬
‫أخإالف كتاب الله وأبه هداني الله«)‪ ، (2‬ويعتمده‪ .‬فهو إن كان‬
‫ل يصح روايةا فمعناه ثابت وقطعي عنده‪ .‬قــال‪» :‬فمع نــاه صــحيح‬
‫صح ســنده أو ل«هل)‪ . (3‬و مــن أمثلتــه علــى اعتبــار دللت الن صــوص‬
‫بالستقراء ما ذكره في ثبوت الضروريات‪ ،‬و مــن ذ لــك قــوله فــي‬
‫الصلةا‪» :‬فنحن إذا نظرنا في الصلةا فجاء فيها أقيموا الصلةا علــى‬
‫وجوه وجاء مدح المتصفين بإقامت هــا وذما ال تــاركين ل هــا وإج بــار‬
‫المكلفين على فعلها وإقامتها قياماا وقعوداا وعلى جنــوبهم وقتــال‬
‫من تركهـا أو عانـد فــي تركهـا إلـى غيـر ذلـك ممـا فــي هـذا‬

‫) ( أنظر‪ :‬المبحث الثاني من الفصل الس ابع ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سيأتي بيان القوال فيه في المبحث التالي ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/11 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪608‬‬
‫المعنى«هل )‪ . (1‬ثم قال إنه بهذا‪» :‬علمنا يقينــاا وجــوب الصــلةا«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬وهكذا سائر الدلــة فــي قوا عــد ال شــريعة‪ ،‬وب هــذا امتــازت‬
‫الصول عن الفروع إذ كانت الفروع مستندةا إلى آحاد الدلة وإلــى‬
‫مآخذ معينة فبقيـت عل ى أص لها م ن السـتناد إلـى الظ ن بخلفَّ‬
‫الصول فإنها مأخوذةا من استقراء مقتضيات الد لــة بــإطلق ل مــن‬
‫آحادها على الخصوص«هل)‪ . (3‬هــذا م ثــال علــى ال ســتدلل بن صــوص‬
‫القرآن‪ .‬أما السنة فمن أمثلته قوله‪» :‬قوله عليه الصلةا والســلما‪:‬‬
‫»ل ضأرر وأل ضأرار«)‪ ، (4‬فإنه داخل ت حــت أ صــل قط عــي فــي هــذا‬
‫المعنى فإن الضرر والضرار مبثوثا منعه فــي ال شــريعة كل هــا فــي‬
‫وقائع جزئيات وقواعد كليات‪ ،‬ك قــوله ت عــالى‪  [ :‬‬
‫)‪(5‬‬
‫‪ ، ]  ‬و[ ‪   ‬‬
‫] )‪ ، (6‬و[ ‪ (7) ]    ‬الية ‪ ،‬ومنه الن هــي عــن‬
‫التعدي على النفوس والموال والعراض وعن الغصبِّ والظلم وكل‬
‫ما هو في المعنى إضرار أو ضرار ويدخل تحته الجناية على النفس‬
‫أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموما في الشــريعة‬
‫ل مــراء فيــه ول شــك‪ .‬وإذا اعتــبرت أخبــار الحــاد وجــدتها‬
‫كذلك«هل )‪ . (8‬وهكذا فإن ق صــد ال شــارع لر فــع ال ضــرر قط عــي فــي‬
‫الشريعة وهذا الحديث يرجع معناه إلى هذا المعنى القطعي‪ ،‬لــذلك‬
‫فإنه يقبل‪ ،‬وهكذا شأن كل أخبار الحاد حسبِّ قوله أعله‪.‬‬
‫دللت الحكام‪:‬‬
‫ومن بين المعاني التي يمكن أن تثبت على سبيل القطع معاني‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/15 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/16 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 231 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫سورةا الطلق‪. 6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 233 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/8 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪609‬‬
‫الحكاما وليس فقط معاني النصوص‪ ،‬ومعاني الحكاما هي ما يمكن‬
‫أن يتخيله الناظر مقصوداا بالحكم من حكمة أو مصلحة أو مسببِّ‬
‫أو مآل‪ ،‬فهذه كلها إذا كانت مما يحتملها النص فيجبِّ أن تثبت‬
‫بالستقراء كما تبين‪ ،‬أما إن لم يكن عليها دللة من النص ل‬
‫منطوقاا ول مفهوماا‪ ،‬فهذا مما يمكن أن يتخيل أنه مقصود للشارع‬
‫بالحكم وأن يعلل الحكم به وإن لم يأت في أحد مسالك العلة‬
‫المنصوصة وهي النص أو الجماع أو التنبيه واليماء‪ ،‬ولكنه ل‬
‫يقبل إل إذا ثبت ثبوتاا قطعياا‪ ،‬وذلك باستقراء أحكاما أو جزئيات‬
‫كثيرةا تحتمل هذا المعنى أو هذه العلة‪ .‬وبغير استقراء مفيد‬
‫للقطع فهذه المعاني وهم وخيال‪ ،‬ول تعتبر لنها ليست من صلبِّ‬
‫العلم‪ ،‬فهي ل ترجع إلى أصل قطعي‪ ،‬وقد تكون ناقضةا لصل‪ ،‬ومن‬
‫أقواله في مثل هذه المعاني أو التعليلت‪» :‬المعدود في ملح العلم‬
‫ل في صلبه ما لم يكن قطعياا ول راجعاا إلى أصل قطعي‪ ،‬بل إلى‬
‫ظني‪ ،‬أو كان راجعاا إلى قطعي إل أنه تخلف عنه خاصة من تلك‬
‫الخواص)‪ (1‬أو أكثر من خاصة واحدةا‪ ،‬فهو مخيل ومما يستفز‬
‫العقل ببادئ الرأي والنظر الول من غير أن يكون فيه إخلل بأصله‬
‫ول بمعنى غيره«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬لنه إن صح في العقول لم يستفد به‬
‫فائدةا حاضرةا غير مجرد راحات النفوس«هل )‪ . (3‬وربما يكون المعنى‬
‫المتخيل ناقضاا لصل قطعي‪ ،‬قال‪» :‬ما ليس من الصلبِّ ول من‬
‫الملح‪ :‬ما لم يرجع إلى أصل قطعي ول ظني وإنما شأنه أن يكر على‬
‫أصله أو على غيره بالبطال«هل)‪ . ( 4‬وقال فيه‪» :‬هذا وإن مال بقوما‬
‫فاستحسنوه وطلبوه فلشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله فربما‬
‫عده الغبياء مبنياا على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه‪ ،‬وحقيقة‬
‫أصله وهم وتخييل ل حقيقة له مع ما ينضافَّ إلى ذلك من الغراض‬

‫أي الخواص الثلثا للصول ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/45 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/46 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 1/50 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪610‬‬
‫والهواء«هل)‪. ( 1‬‬
‫وعلى ذلك فدللت الحكاما هي المقاصد أو المصالح التي‬
‫يتخيل الناظر أنها مقصودةا بها‪ ،‬فهذه يجبِّ أن تثبت بالستقراء‪،‬‬
‫وهذا هو المقصود بقوله‪» :‬شبيه بالتواتر المعنوي«هل‪ ,‬إل أنه تنبغي‬
‫الشارةا إلى الفرق بين هذا التواتر وبين التواتر المعنوي في‬
‫مصطلح علم الحديث‪ .‬ففي علم الحديث التواتر المعنوي يرجع إلى‬
‫كثرةا النصوص الدالة على معنى معين مع اختلفَّ في اللفاظ‬
‫والروايات‪ ،‬فهو دللة نصوص‪ ،‬والتواتر الذي يقصده الشاطبي هو‬
‫دللة أحكاما‪ .‬لذلك لم يقل عن مراده بأنه التواتر المعنوي‪ ،‬وإنما‬
‫قال‪» :‬شبيه بالتواتر المعنوي«هل‪.‬‬
‫وهذا المعنى الذي يريد الشاطبي إثباته من خلل كثرةا‬
‫الحكاما الموافقة له‪ ،‬ليس له دللة في النص البتة‪ .‬والبحث عنه‬
‫وإثبات كونه مقصوداا للشارع يحتاج إلى دليل‪ .‬وقد تقدما أن هناك‬
‫من يرفض القول بهذه العلل ويردها إلى محض الرأي وخيالت‬
‫القـلـوب‪ ،‬فما هو الدليل على شـرعية التعليل بها وعلى جواز طلبِّ‬
‫اسـتـقـرائـهـا في الحكـاما؟ والجـواب هو في تعليل أفعال ال‬
‫تعالى وأحكامه‪ ،‬وأنه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يشرع إل لمصالح العباد‪.‬‬
‫تعليل الشريعة بمقاصدها‪:‬‬
‫لقد أخذت مسألة تعليل الحكاما بالحقكيم والمصالح والوصافَّ‬
‫المناسبة قسطاا كبيراا من الجدال بين الكلميين‪ .‬وأيدخلت‬
‫المسألة في علم أصول الفقه بسببِّ تأثيرها في مباحث مسالك‬
‫العلة‪ ،‬وهي المسالك غير المنصوصة)‪ . (2‬وجاء الشاطبي في هذا‬
‫الخضم ليقرر أصلا قطعياا لديه وهو أن أفعال ال تعالى وأحكامه‬
‫لها غايات‪ ،‬وأنه ـ سـبحانه وتعالى ـ ل يفعل إل لجـل غاية‬
‫يقصدها‪ .‬وليرد بذلك على من رفض هذا التعليل وعلى وجه‬
‫) ( المصدر نفسه‪. 1/51 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬الفصل الول من هذا الكتاب ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪611‬‬
‫الخصوص فخر الدين الرازي الذي قطع هو بدوره برد القول بأن‬
‫أفعال ال تعالى معللة‪ ،‬مع المحافظة على القول بتعليل الحكاما‬
‫وبالقياس‪ .‬قال الشاطبي‪» :‬إن وضع الشرائع هو لمصالح العباد في‬
‫العاجل والجل معاا‪ .‬وهذه دعوى ل بد من إقامة البرهان عليها‬
‫صحةا أو فساداا وليس هذا موضع ذلك‪ .‬وقد وقع الخلفَّ فيها في‬
‫علم الكلما‪ .‬وزعم الرازي أن أحكاما ال ليست معللة بعلة البتة كما‬
‫أن أفعاله كذلك‪ .‬وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة‬
‫برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين«هل)‪ . (1‬ثم‬
‫قال‪» :‬والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت‬
‫لمصالح العباد استقراءا ل ينازع فيه الرازي ول غيره«هل)‪. (2‬‬
‫وهكذا فتعليل الشريعة بمصالح العباد ل يتم عنده إل‬
‫بالستقراء‪ ،‬وهذا مختلف عن استدلل المتقدمين القائلين بهذا‬
‫التعليل )‪. (3‬‬
‫ومقاصد الشارع أعم من مقاصد الشريعة‪ ،‬إذ تعليل أفعال ال‬
‫يعني أن للشارع مقصداا في كل فعل يفعله‪ ،‬فله مقاصد من خلق‬
‫السموات والرض ومن خلق النسان ‪ ،‬وهذه مقاصد للشارع وليست‬
‫مقاصد للشريعة‪ ،‬ومن مقاصد الشارع أيضاا مقاصده في كيفية فهم‬
‫الخطاب‪ ،‬أي أصول فهم دللت اللفاظ والتراكيبِّ وهذه ليست‬
‫مقاصد للشريعة‪ ،‬لذلك فالمقاصد عنده أنواع وكلها ل تعتبر إل إذا‬
‫ثبتت بالستقراء‪.‬‬
‫المقاصد‪:‬‬
‫المقاصد قسمان‪ :‬قصد الشارع وقصد المكلف‪ .‬وقصد الشارع‬
‫أربعة أنواع قال‪» :‬المقاصد التي ينظر فيها قسمان‪ :‬أحدهما يرجع‬
‫إلى قصد الشارع والخر يرجع إلى قصد المكلف‪ ،‬فالول يعتبر من‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/3 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬المبحث الثالث من الفصل الثالث من هذا الكتاب ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪612‬‬
‫جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءا‪ ،‬ومن جهة قصده في‬
‫وضعها للفهاما‪ ،‬ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها‪،‬‬
‫ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها فهذه أربعة‬
‫أنواع«هل)‪. (1‬‬
‫أما النوع الول فهو مقاصد الشريعة وهي المصالح الضرورية‬
‫والحاجية والتحسينية وما ينضم إليها مما هو كالتتمة‬
‫والتكملة)‪ . (2‬وأما النوع الثاني فهو في الصول والقواعد اللغوية‬
‫المعتمدةا لفهم دللة النص الشرعي‪ ،‬والنوع الثالث لبيان أن الشارع‬
‫لم يقصد بالتكليف المشقة وإن كانت من مستلزمات التكليف‪،‬‬
‫وللتمييز بين المشقات التي قصد الشارع رفعها والمشقات التي لم‬
‫يقصد الشارع رفعها‪ ،‬أما النوع الرابع فهو أن من مقاصد الشارع‬
‫عبودية العباد ودخولهم تحت أمر الشارع وإخراجهم عن دواعي‬
‫أهوائهم ولو تعارض ذلك مع ما يظنونه مصالح‪.‬‬
‫إل أن مما يلفت النظر‪ ،‬وينبغي التنبيه إليه أمران جديدان عند‬
‫الشاطبي يختلف فيهما عن غيره من علماء الصول الذين يقولون‬
‫بتعليل الحكاما بالمصالح أو بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد‪ ،‬وهما‬
‫مفهومه للمصلحة وللمفسدةا ومعنى تعليل الشريعة بالمصلحة‪.‬‬
‫مإفهوم الشاطبي للمصلحة وأالمفسدة‪:‬‬
‫المصلحة عند الشاطبي هي ما ثبت أن حصوله مقصود للشارع‬
‫بالحكم‪ .‬والمفسدةا هي ما ثبت أن عدما حصوله مقصود للشارع‬
‫بالحكم‪ ،‬وهذا يعلم باستقراء النصوص والحكاما‪ ،‬فإذا ثبت المر‬
‫بوقوع الفعل فالفعل مصلحة‪ ،‬وإذا ثبت المر بالنهي عنه فهو‬
‫مفسدةا‪ ،‬وكذلك المر بالنسبة لنتائج أو مآلت أو مسببات الفعل‪،‬‬
‫فما يثبت بالستقراء أنه لجل حصوله شرعت الحكاما فهو مصلحة‬
‫إذ الفعال أسباب لمسببات وكذلك أحكاما الفعال‪ ،‬وما يثبت‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 2/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 5 - 4 - 2/3 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪613‬‬
‫بالستقراء أنه لجل عدما حصوله شرعت الحكاما فهو مفسدةا‪ ،‬وهذا‬
‫يثبت بالنظر في العلقة السببية بين الحكم ونتائجه ومقتضياته‪.‬‬
‫وليست المصلحة ـ عنده ـ هي ما يعود بالنفع أو ما يشعر المكلف‬
‫بموافقته للميول والحاجات النسانية‪ ،‬وليس من شرط المصلحة أن‬
‫تكون وصفاا مناسباا‪ ،‬وكذلك يقال بالنسبة للمفسدةا‪ ،‬وإنما ل بد‬
‫من وجود علقة سببية بين الحكم وما يربط به‪ ،‬وهذا المعنى‬
‫مبثوثا في مواضع كثيرةا جداا في كتابه أبرزها أبحاثه في‬
‫السـباب والمسـببات في كتاب الحكاما‪ ،‬وكذلك أبحاثه في النوع‬
‫الرابع من مقاصد الشارع‪ ،‬قال‪» :‬السباب الممنوعة أسباب للمفاسد‬
‫ل للمصالح كما أن السباب المشروعة أسباب للمصالح ل‬
‫للمفاسد«هل )‪ . (1‬وقال‪» :‬إذا كان كذلك لم يصح لحد أن يدعي على‬
‫الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدةا‬
‫مفسدةاا كذلك مما يختص بالشارع ل مجال للعقل فيه بناءا على‬
‫قاعدةا نفي التحسين والتقبيح‪ ،‬فإذا كان الشارع قد شرع الحكم‬
‫لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحةا وإل فكان يمكن عقلا أن ل‬
‫تكون كذلك إذ الشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الول متساوية ل‬
‫قضاء للعقل فيها بحسن ول قبح‪ .‬فإذاا‪ ،‬كون المصلحة مصلحةا هو‬
‫من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس‪ ،‬فالمصالح‬
‫من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى‬
‫على التعبدي ل يكون إل تعبدياا«هل )‪ . (3‬وعلى ذلك فإن تعليل‬
‫الشاطبي للشريعة بالمصالح معناه أنه يجبِّ أن يثبت عنده قصد‬
‫الشارع فإذا ثبت فهو مصلحة بغض النظر عن الشعور النساني‪،‬‬
‫وهذا من جديده الذي يخالف فيه المعهود في مفهوما علماء الصول‬
‫للمصلحة‪ ،‬وكذلك يقال في المفسدةا‪.‬‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/167 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 2/116 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 2/219 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪614‬‬
‫مإعنى تعليل الشريعة بالمصالح‪:‬‬
‫الحكاما هي أسباب لمسببات هي مقصود الشارع‪ ،‬والحكاما تنزل‬
‫على أساس هذا المقصود‪ ،‬ومن هنا كان هذا المقصود علة للتشريع‬
‫والمجتهدون يكتشفون هذه العلل من خلل النظر في مآلت‬
‫ومسببات الحكاما‪ ،‬فمقصود الشارع موجود قبل الحكاما‪ ،‬وعلى‬
‫أساسه تنزلت الحكاما‪ ،‬وعند المجتهد ل يعرفَّ المقصود إل بواسطة‬
‫الحكاما‪ .‬ومن هنا يعد الشاطبي المقصد علة‪ ،‬مع أنه من حيث‬
‫المعنى‪ ،‬علة الفعل تكون قبله‪ ،‬والمقصود به يكون بعده‪.‬‬
‫وهذا المعنى للتعليل مع المعنى المذكور قبله للمصلحة‬
‫يؤول إلى عدما اشتراط المناسبة للوصافَّ المعلل بها‪ ،‬وإذا كانت‬
‫العلة أو المقصد وصفاا مناسباا يشعر المكلف بأنه يتفق مع‬
‫طبيـعته النسانية ومع أغراضه فهذا أمر عرضي وليس هو الصل‬
‫بناءا على قاعدةا نفي التحسين والتقبيح‪ ،‬وهذا مختلف عن مراد‬
‫علماء الصول الذين قالوا بتعليل الشريعة بالمصالح‪ ،‬بل هذا وإن‬
‫تشابه معهم في العبارات فهو نسف لفكرتهم‪.‬‬
‫لذلك فالشـاطبي يرد كل أقوال سابقيه في هذا الشأن قائلا‬
‫إنه إذا لوحظ مراعاةا الشريعة لغراض العباد وميولهم ولما يوافق‬
‫ما يسعون إليه فهذا بالعرض وليس هو الصل‪ ،‬والصل هو أن ال ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬خلق النسان لعبادته‪ ،‬ولكنه تفضل عليهم فأعانهم‬
‫على عبادته بان خلق فيهم شهوات وميول تدفعهم إلى الطاعات‪.‬‬
‫قال‪» :‬فإن قيل‪ :‬وضع الشرائع إما أن يكون عبثاا أو لحكمة فالول‬
‫باطل باتفاق«هل)‪ ، (1‬وتابع في إيراد القول‪» :‬لن كل عاقل إنما يطلبِّ‬
‫مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه‪ ،‬والشريعة تكفلت‬
‫لهم بهذا المطلبِّ في ضمن التكليف فكيف ينفى أن توضع الشريعة‬
‫على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم‪ ،‬وأيضاا فقد تقدما بيان أن‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/117 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪615‬‬
‫الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهم حظوظهم«هل)‪. (1‬‬
‫ثم يجيبِّ على هذا العتراض فيقول‪» :‬فالجواب أن وضع‬
‫الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدةا عليهم بحسبِّ أمر‬
‫الشارع وعلى الحد الذي حده ل على مقتضى أهوائهم وشهواتهم‪،‬‬
‫ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس«هل )‪ . (2‬وقال‪» :‬إن‬
‫حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قياما الدين والدنيا إنما يصلح‬
‫ويستمر بدواعم من قبل النسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه‬
‫هو وغيره‪ ،‬فخلق له شهوةا الطعاما والشراب إذا مسه الجوع والعطش‬
‫ليحركه ذلك الباعث إلى التسببِّ في سد هذه الخلة بما أمكنه‪،‬‬
‫وكذلك خلق له الشهوةا إلى النساء لتحركه إلى اكتساب السباب‬
‫الموصلة إليها«هل)‪ (3‬إلخ‪ .‬ثم قال‪» :‬ولو شاء ال لكلف بها مع‬
‫العراض عن الحظوظ أو لكلف بها مع سلبِّ الدواعي المجبول‬
‫عليها‪ ،‬لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى عمارةا الدنيا‬
‫للخرةا وجعل الكتساب لهذه الحظوظ مباحاا ل ممنوعاا لكن على‬
‫قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدواما مما يعده‬
‫العبد مصلحة«هل)‪. (4‬‬
‫فهاتان الفكرتان عند الشـاطبي وهما مفهومه للمصلحة‬
‫وللمفسدةا‪ ،‬ومقصوده بقوله إن الشريعة وضعت لجل مصالح العباد‬
‫تعدان انقلباا على المعهـود عند علماء الصول القائلين بتعليل‬
‫الشريعة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد‪.‬‬
‫الجأتهاد وأالتقليد‪:‬‬
‫خلق ال الناس لعبادته‪ ،‬وما من فعل من الفعال إل ول فيه‬
‫حكم‪ .‬فعلى المكلف مجتهداا كان أو مقلداا أن يتحرى حكم ال‪.‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 2/117 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 2/122 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 2/123 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪616‬‬
‫وحكم ال هو قصده الذي يفهم وفق ما سبق بيانه‪ .‬وحكم ال تعالى‬
‫يفهمه المجتهد المعتبر الذي فهم مقاصد الشريعة جملةا وتفصيلا‬
‫وهو الذي يعمل الكليات والجزئيات معاا عند الجتهاد‪ ،‬وهو الذي‬
‫يتطابق سلوكه مع فتواه‪ ،‬فيكون ورعاا ملتزماا في أقواله وأعماله‬
‫بما يصدر عنه من فتاوى وبما هو معروفَّ من صفات السلف الصالح‬
‫وغيرهم من أهل التقوى والصلح في الدين‪.‬‬
‫أما المقلد فل نظر له في الدلة الشرعية‪ ،‬وتحريه لقصد‬
‫الشارع يكون بالترجيح بين المجتهدين فهم بمثابة الدلة الشرعية‬
‫له‪ ،‬ول يصح له التخير بين القوال فهذا اتباع للهوى‪.‬‬
‫أما شـرط فهم المقاصد جملةا وتفصيلا فإنه إذا توصل إليه‬
‫المجتهد يمكنه أن يفتي‪ ،‬ويكون قوله معتبراا إذا كان ورعاا‪ ،‬ولو‬
‫لم يكن يعرفَّ اللغة العربيـة‪ ،‬إذ يمكنه أن يفهم المقاصـد بالتلقي‬
‫والترجمة‪ .‬قال‪» :‬الجتهاد إن تعلق بالستنباط من النصوص فل بد‬
‫من اشـتراط العلم بالعربية‪ ،‬وإن تعلق بالمعاني من المصالح‬
‫والمفاسـد مجردةاا عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحبِّ‬
‫الجتهاد في النصوص فل يلزما في ذلك العلم بالعربيـة وإنما يلزما‬
‫العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملةا وتفصيلا«هل)‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»فإذاا من فهم مقاصد الشـرع من وضع الحكاما وبلغ فيها رتبـة‬
‫العلـم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسـان العجمي‬
‫فل فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسـان العربي«هل)‪. (2‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/90 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/91 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪617‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫مإناقشـة فكـرة الشـاطبي‬
‫الكليات وأالسـتقراء‬
‫مإوضأوع هذا المبحث‪:‬‬
‫بعد عرض فكرةا المقاصد عند الشاطبي بالتفصيل‪ ،‬ثم عرضها‬
‫وإبراز أساسها وأركانها مختصرةا في المبحث السابق‪ ،‬نناقش هذا‬
‫الساس وهذه الركان في هذا المبحث والذي يليه‪ .‬والفكار التي‬
‫ستتم مناقشتها في هذا المبحث هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اشتراط الشاطبي أن تكون أصول الفقه قطعية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الستقراء وكونه الطريق الوحيد إلى القطع‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله إن الكليات ل تنخرما بمعارضة الجزئيات‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التواتر المعنوي‪.‬‬
‫وهذه الفكار هي أركان فكرةا الشاطبي‪ .‬ويتبين خلل‬
‫مناقشتها صحة أو خطأ بعض أفكاره مثل معنى الرجوع إلى قطعي‬
‫عنده‪ ،‬وأن الدليل الشرعي ل يقبل إل إذا كان قطعياا أو راجعاا إلى‬
‫قطعي أما المبحث التالي فسيكون ‪ -‬إن شاء ال تعالى ‪ -‬لمناقشة‬
‫أساس الفكرةا وهو أصل التعليل لفعال ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫ولمناقشة نتيجةم لزمة لمنهجه وهي إمكانية استغناء المجتهد‬
‫المحيط بكليات الشريعة عن النظر في جزئياتها‪ ،‬ومن ذلك عدما‬
‫اشتراط العلم بالعربية للمجتهد العالم بمقاصد الشريعة جملةا‬
‫وتفصيلا‪.‬‬
‫اشتراط القطع بأصول الفقه‪:‬‬
‫ذهبِّ الشاطبي إلى أن أصول الفقه يجبِّ أن تكون قطعية وأنها‬
‫ملحقة في ذلك بالعقائد‪ ،‬وبين أن مراده بالصول مختلف عن مراد‬

‫‪618‬‬
‫غيره من علماء الصول‪ .‬ومراده بالصول هو المعاني القطعية التي‬
‫يرجع إليها الفقه أو يتفرع على أساسها‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هو يختلف بهذا عن الئمة الصوليين والفقهاء‪ ،‬وهذا من‬
‫جديده‪ .‬وهذا مما أراه خطأا‪ .‬ويعظم خطر هذا الخطأ لنه في‬
‫الصول‪ ،‬وهو ليس مجرد أصل من الصول وإنما هو أصل يحكم على‬
‫الصول‪ ،‬بل يحكم على المنهج برمته‪.‬‬
‫ووجه الخطأ فيه ليس في كونه جديداا ول في كونه خالف‬
‫المنهج المعتمد لدى الئمة‪ ،‬وإنما هو في موضوعه أي في معنى هذا‬
‫الصل‪.‬‬
‫إن الشاطبي لم يقم دليلا على قوله هذا‪ ،‬وإنما قرره تقريــرااي‬
‫فألحق الصول بالعقائد ب صــياغة يم كــن أن تقبــل بــادئ الن ظــر‪ ،‬إذ‬
‫ينتقل الذهن عند قراءةا أقواله في هذا المر إلى المعنى المعهود في‬
‫كلما الئمة عند اشتراط القطع بالصول‪ ،‬وهو ال صــول ا لــتي هــي‬
‫مصادر التشريع‪ ،‬أي الدلة الجمالية للف قــه و هــي الدلــة الرب عــة‪:‬‬
‫القرآن والسنة والجماع والقياس‪ .‬ولكن الشاطبي ذ هــبِّ أب عــد مــن‬
‫ذلك فقصد أ صــول وقوا عــد الف قــه بمعنــى مبـاحث أصـول الف قــه‬
‫كدللة المر للوجوب أو لغيره‪ ،‬أو قاعدةا ما ل يتم ا لــواجبِّ إل بــه‬
‫فهو واجبِّ‪ ،‬أو قاعدةا الصل في الشياء البا حــة مــا لــم يــرد دل يــل‬
‫التحر يـــم‪ ،‬أو قا عـــدةا الم صـــالح المر ســـلة‪ ،‬أو الستح ســـان‪ ،‬أو‬
‫الستصحاب‪ ،‬وهذه القواعد يصح اشـتراط القطـع فيهـا ل و كـانت‬
‫بمعنى أنها مصادر للتشريع أي أدلة قائمة برأسها‪ ،‬وليس هذا مــراد‬
‫ال شــاطبي‪ .‬وإل حــاق ال صــول بمع نــى م صــادر الت شــريع بالعقا ئــد‬
‫واشتراط القطع بها مبني على ذما ال تعالى لتباع الظن والنعي على‬
‫الذين يتبعون الظن‪ ،‬وهذا فيما يتعلق بالعقا ئــد‪ .‬قــال ت عــالى‪ [ :‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪           ‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ . ]    ‬وقال ت عــالى‪ [ :‬‬

‫) ( سورةا النجم‪. 23 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪619‬‬
      
            
(1)
 [ :‫ وقال تعالى‬. ]       
          
(2)
      [ :‫ وقال تعالى‬. ] 
‫ وقال‬. (3) ]          
           [ :‫تعالى‬
:‫ وقال تعالى‬. (4) ]        
           [
(5)
 :‫ وق ال تعــالى‬. ]     
      
(6)
  [ :‫ وقال تعالى‬.       
‫ فهذه اليات وغيرها صريحة‬. (7)]    
،‫ وذما العتقاد واليمان بأشياء بغير ســلطان أو برهــان‬،‫في ذما الظن‬
‫والسلطان والبرهان هو الدليل القطعي ل نــه إذا كــان ظن يــاا ف هــو‬
‫ إذ ثبــت‬،‫ ولكن هذا في العقائد وليس في الحكاما الشــرعية‬.‫مذموما‬
‫في هذه الخيرةا ـ كما سيتبين ـ جـواز اتبـاع الظـن المبنـي علـى‬
.‫القطع‬
‫ إذ‬،‫ هي مصادر الفقه الجمالية‬،‫والصول التي تلحق بالعقائد‬
‫لو زعم زاعم أن التكاليف الشرعية تؤخذ من فلن أو من كتاب‬
‫ بغير قياما دليل قاطع على ذلك فهذا اتباع‬،‫كذا أو من مصدر ما‬
‫ وهذا يؤدي إلى جواز أخذ التشريعات من الرؤى‬،‫للظن وهو مذموما‬
‫ وقد يؤدي‬،‫والمنامات إذا تعلق بها الظن أنها رؤى صالحة لصالحين‬

. 28 - 27 ،‫سورةا النجم‬ () 1

. 36 ،‫سورةا يونس‬ () 2

. 157 ،‫سورةا النساء‬ () 3

. 116 ،‫سورةا النعاما‬ () 4

. 148 ،‫سورةا النعاما‬ () 5

. 71 ،َّ‫سورةا العراف‬ () 6

. 64 ،‫ والنمل‬، 111 ،‫سورةا البقرةا‬ () 7

620
‫إلى جواز أخذ تشريعات من التوراةا والنجيل إذ قد يتعلق الظن‬
‫ببعض نصوصها أنها غير محرفة وهذه كلها مصادر إجمالية‪ ،‬ولكن‬
‫هذه ظنون ولم يدل دليل قاطع على اعتبار هذه الظنون ولذلك‬
‫تطرح‪.‬‬
‫فأصـول الفـقه التي تلحـق بالعـقـائـد هي ما يشـبـه‬
‫العـقـائد لجهة أنه ينبني عليه غيره‪ ،‬وهو ل ينبني على غيره‪ ،‬فإن‬
‫كان ينبني على غيره فهو فرع‪ ،‬واعتباره وعدما اعتباره يعتـمـد‬
‫على ذلك الغير‪ .‬وعلى ذلك فإن علماء الصول عدوا أصول الفقه‬
‫الدلة الجمالية الربعة‪ .‬وغير ذلك من القواعد والصول التي‬
‫تعتمد عند الجتهاد والستنباط‪ ،‬فل يشترط لها القطع‪ ،‬لنها مبنية‬
‫على غيرها مما ثبت بالقطع‪ .‬وربما أخرج بعضهم القياس من‬
‫اشتراط القطع له‪ ،‬على اعتبار أن القياس إنما يعتمد على العلة‬
‫وتعديتها ومصدر العلة هو الدلة الثلثة القرآن والسنة‬
‫والجـمـاع‪ ،‬فاعتمـاد العلـة وتعديتها راجع إلى هذه الثلثة‪،‬‬
‫والقياس بعد ذلك ليس إل فعل القائس وهذا ظني‪ ،‬فهذا يشبه‬
‫الستدلل بخبر الحاد فهو ظني ولكن أصله وهو السنة قطعي‬
‫ووجوب إعمال خبر الحاد قطعي‪.‬‬
‫ولذلك فإن علماء الصول لم يطلقوا على الدلة الظنية اسم‬
‫أدلة وإنما عدوها أمارات‪ ،‬فهي علمات تدل على معانيها‪ ،‬ولكن‬
‫وجوب إعمالها أو اتباعها ليس راجعاا إليها وإنما إلى شيء آخر وهو‬
‫الدليل القاطع على العمل بها‪ ،‬والدلة القاطعة هي الدلة القاطعة‬
‫على وجوب اللتزاما بالقرآن وبالسنة وبالجماع وبالقياس‪ ،‬وليس‬
‫الدليل القاطع هو الدليل التفصيلي نفسه‪ ،‬وهذا بخلفَّ الفقهاء‪ ،‬فإن‬
‫هذه المارات عند الصوليين والمتكلمين أدلة عندهم‪ ،‬قال السنوي‪:‬‬
‫»واعلم أن التعبير بالدلة مخرج لكثير من أصول الفقه‬
‫كالعمومات وأخبار الحاد والقياس والستصحاب وغير ذلك‪ ،‬فإن‬
‫الصوليين وإن سلموا بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له‬

‫‪621‬‬
‫فإن الدليل عندهم ل يطلق إل على المقطوع به«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬أقول‪:‬‬
‫أدلة الفقه تنقسم إلى متفق عليها بين الئمة ومختلف فيها‪،‬‬
‫فالمتفق عليها أربعة‪ :‬الكتاب والسنة والجماع والقياس وما عدا‬
‫ذلك كالستصحاب والمصالح المرسلة والستحسان وقياس العكس‬
‫والخذ بأقل ما قيل وغيرها مما سيأتي فمختلف فيه بينهم«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬الدلة السمعية إن كانت مختلفاا فيها فهي ل تفيد إل الظن‬
‫عند القائل بها والمتفق عليها بين الئمة هو الكتاب والسنة‬
‫والجماع والقياس‪ ،‬فأما القياس فواضح أنه ل يفيد إل الظن وأما‬
‫الجماع فإن وصل إلينا بالحاد فكذلك ووصوله بالتواتر قليل‬
‫جداا‪ ،‬وبتقديره فقد صحح الماما في المحصول والمدي في الحكاما‬
‫ومنتهى السول أنه ظني وأما السنة فالحاد منها ل تفيد إل الظن‬
‫وأما المتواتر فهو كالقرآن متنه قطعي ودللته ظنية لتوقفه على‬
‫نفي الحتمالت العشرةا«هل)‪ . (3‬وعلى ذلك فالقطع الذي يشترطونه‬
‫للدليل هو بمعنى الدليل الذي هو مصدر إجمالي للتشريع‪ ،‬أما غير‬
‫ذلك من قواعد وأصول وأحكاما فهي ظنية معتمدةا ومتبعة في‬
‫الشرع ولم يشترط لها قطع ل في ثبوتها ول في معناها‪ ،‬وإنما‬
‫الشرط هو أن تكون مستندةا إلى الدليل القطعي أي إلى الدليل الذي‬
‫هو مأخذ لها‪ ،‬وهو الدلة الربعة المتفق عليها‪ ،‬وإن كانت مختلفاا‬
‫فيها فيجبِّ أن يكون الدليل )الذي هو مصدر( قطعياا عند من يقول‬
‫به من المجتهدين‪.‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬ثم المراد بالدلة الكتاب والسنة والجماع‬
‫والقياس والستدلل‪ ،‬وقال إماما الحرمين والغزالي‪ :‬هي ثلثة‪:‬‬
‫الكتاب والسنة والجماع‪ ،‬ومنعا أن تكون القوانين الكلية الظنية من‬
‫أصول الفقه‪ ،‬وقال في التلخيص‪ :‬الذي ارتضاه المحققون أن ما ل‬

‫) ( السنوي‪ ،‬نهاية السول‪. 1/10 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 45 - 1/44 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 1/41 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪622‬‬
‫ينبغي فيه العلم كالخبار والمقاييس ل يعد من أصول الفقه«هل)‪. (1‬‬
‫ثم قال‪» :‬فإن قيل‪ :‬فإن أخبار الحاد والمقاييس ل تفضي إلى‬
‫العلوما وهي من أدلة أحكاما الشرع‪ ،‬قيل له‪ :‬إنما يتعلق بالصول‬
‫تثبيتها أدلة على وجوب العمال وذلك ما يدرك بالدلة القاطعة‪،‬‬
‫وأما العمل فمتلقى منها‪ ،‬فيتعلق بالفقه دون أصوله‪ .‬وقال في‬
‫البرهان‪ :‬فإن قيل‪ :‬معظم المسائل الشرعية ظنون قلنا‪ :‬ليست‬
‫الظنون فقهاا‪ ،‬وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قياما الظنون‪.‬‬
‫ولذلك قال المحققون‪ :‬أخبار الحاد والقيسة ل توجبِّ العمل‬
‫لذاتها‪ ،‬وإنما يجبِّ العمل بما يجبِّ به العلم بالعمل وهو الدلة‬
‫القطعية على وجوب العمل عند رواية الحاد وقياما القيسة‪ .‬قال‪:‬‬
‫وهما وإن لم يوجدا إل في أصول الفقه لكن حظ الصولي إبانة‬
‫القاطع في العمل بهما«هل )‪. (2‬‬
‫وفي هذه النصوص السابقة أمران‪ :‬أحدهما‪ :‬أن الدلة‬
‫التفصيلية تفيد الظن وقد قاما الدليل القاطع على وجوب العمل بهذا‬
‫الظن‪ ،‬والثاني‪ :‬أن الظن يعمل به في الشرعيات لنه مستند إلى دليل‬
‫قطعي ثبت بالقطع وجوب اعتماده كمصدر أو مأخذ‪ ،‬وليس كل‬
‫ظن شرعياا وإنما المستند إلى الدلة الشرعية القطعية‪ .‬وهذان‬
‫المران مع نصوص الئمة المذكورةا أعله‪ ،‬يدلن على مخالفة‬
‫الشاطبي للمنهج المعهود‪ ،‬وعلى خطأ ما ذهبِّ إليه الشاطبي إذ هذه‬
‫النصوص تحتوي على الدلة على وجوب إعمال الظني من غير‬
‫اشتراط رجوع المعنى الظني إلى معنى قطعي‪ ،‬وإنما الشرط هو‬
‫الرجوع إلى مصدر قطعي‪ ،‬فإذا أضفنا إلى ذلك أن الشاطبي لم يأت‬
‫بدليل على ما قاله‪ ،‬ولم يبين خطأا في أقوال الئمة‪ ،‬فإن هذا الشرط‬
‫الذي وضعه يسقط فضلا عن أن يزعم أن هذا ما قررته اليات‬
‫والخبار وعمل عليه السلف الخيار‪ .‬فإلحاق الصول بالعقائد يصح‬
‫إذا كانت الصول مما ل ينبني على غيره‪ ،‬فإذا كانت مما ينبني على‬
‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 19 - 1/18 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه‪ ،‬وانظر‪ :‬الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 79 - 1/78 ،‬فقرةا‪6 - 5 - 4 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.‬‬

‫‪623‬‬
‫غيره فهي فروع لغيرها ولو كانت أصولا لما يتفرع عنها‪ ،‬وفي‬
‫هذه الحالة فإن كانت ظنية فل ضير في ذلك إذا كان قد قاما‬
‫الدليل القطعي على وجوب العمل بها‪.‬‬
‫وأجأوب العمل بالظني‪:‬‬
‫ومما يؤكد خطأ ما ذهبِّ إليه الشـاطبي في الصول التي‬
‫اشـترط لها القطع‪ ،‬وخطأ ما بنـاه على ذلك من أن الدليـل‬
‫الشـرعي إما أن يكون قطعيـاا وإما أن يكون راجعـاا إلى قطعي‪،‬‬
‫الدلة القاطعة على وجوب العمل بالظني إذا كان مصدره قطعياا‪،‬‬
‫فل يشترط حينئذم رجوع معناه إلى معنى قطعي‪.‬‬
‫وقد كثرت في ذلك أقوال الئمة وتواترت الخبار في هذا‬
‫المعنى‪ ،‬وفي الرد على منكري العمل بخبر الواحد‪ ،‬مع أن خبر‬
‫الحاد يدخله الظن من جهتين‪ ،‬من جهة الثبوت ومن جهة الدللة‪،‬‬
‫بخلفَّ نصوص القرآن فإن الظن إذا تعلق بها فمن جهة الدللة‬
‫فقط‪ .‬أما الجماع‪ ،‬فمن حيث نقله هو مثل خبر الحاد‪ ،‬ومن حيث‬
‫دللته فقد يكون مثله أو أقوى‪ ،‬والقياس راجع إلى الثلثة‪ ،‬وقد‬
‫قامت الدلة القاطعة والكثيرةا على وجوب العمل بخبر الحاد الذي‬
‫رجحت نسبته إلى النبي ‪ ‬من غير تقييد بشرط سوى أن ل يعارض‬
‫الخبري دليلي أقوى منه وليس هذا موضوع البحث‪.‬‬
‫قال الزركشي‪» :‬إن الشافعي صنف كتاباا في إثبات العمل‬
‫بخبر الواحد‪ ،‬وذكر في أوله الحديث المشهور‪» :‬رحم الله‬
‫امإرءا ا سمع مإقالتي«)‪ . (1‬فاعترض أبو داود وقال‪ :‬أثبت فيه‬
‫خبر الواحد بخبر الواحد‪ ،‬والشيء ل يثبت بنفسه كمن ادعى شيئاا‬
‫فقيل له‪ :‬من يشهد لك؟ فقال‪ :‬أنا أشهد لنفسي‪ ،‬قال الصحاب‪ :‬هذا‬

‫) ( أخرجه الترمذي في كتاب العلم عن رسول ال‪ ،‬باب ما جاء في الحث‬ ‫‪1‬‬

‫على تبليغ السماع بلفظ‪» :‬نضر الله عبداا‪ «...‬برقم ) ‪ ،( 2582‬وأحمد )‬


‫‪ ،( 16153‬والدارمي ) ‪ ،( 230‬وموجود باللفظ نفسه في معجم الطبراني‬
‫الكبير‪ ،‬باب الزاي‪.‬‬

‫‪624‬‬
‫الذي ذكره باطل فإن الشافعي لم يستدل بحديث واحد وإنما ذكر‬
‫نحواا من ثلثمائة حديث وذكر وجوه الستدلل فيها فالمجموع‬
‫هو الدال عليه«هل)‪. (1‬‬
‫وقد لخص الجويني الدلة الكثيرةا فقال‪» :‬وقد أكثر‬
‫الصوليون وطولوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين‪ ،‬والمختار‬
‫عندنا مسلكان‪ :‬أحدهما يستند إلى أمر متواتر ل يتمارى فيه إل‬
‫جاحد ول يدرؤه إل معاند‪ ،‬وذلك أنا نعلم باضطرار من عقولنا أن‬
‫الرسول عليه السلما كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الحكاما‬
‫وتفاصيل الحلل والحراما‪ ،‬وربما كان يصحبهم الكتبِّ وكان نقلهم‬
‫أوامر رسول ال عليه السلما على سبيل الحاد ولم تكن العصمة‬
‫لزمةا لهم فكان خبرهم في مظنة الظنون وجرى هذا مقطوعاا به‪،‬‬
‫متواتراا ل اندفاع له‪ ،‬بدافع التواتر‪ ،‬ول يدفع المتواتر إل مباهت‬
‫فهذا أحد المسلكين‪ ،‬والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة‪،‬‬
‫وإجماعهم على العمل بأخبار الحاد منقول متواتراا‪ ،‬فإنا ل نستريبِّ‬
‫أنهم في الوقائع كانوا يبغون الحكاما من كتاب ال تعالى‪ ،‬فإن لم‬
‫يجدوا للمطلوب ذكراا مالوا إلى البحث عن أخبار رسول ال ‪‬‬
‫)‪(2‬‬
‫وكانوا يبتدرون التعويل على نقل الثبات والثقات بل اختلفَّ«هل ‪.‬‬
‫وقد ذكر الزركشي مثل هذا القول أيضاا)‪. (3‬‬
‫استقلل السنة بالتشريع‪:‬‬
‫ذهبِّ الشاطبي إلى أن السنة ل تستقل بالتشريع بناء على أن‬
‫القرآن فيه بيان كل شيء‪ ،‬وأن السنة بيان له‪ ،‬وعلى ذلك فالسنة ل‬
‫تأتي بشيء ل أصل له في القرآن‪ ،‬ل من حيث الموضوع أي النوع أو‬
‫الجنس‪ ،‬ول من حيث المعنى‪.‬‬
‫والتعليق على هذا القول هو أن كون القرآن فيه بيان كل‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط ‪. 3/321 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الجويني‪ ،‬البرهان‪ ، 1/388 ،‬فقرةا‪. 540 - 539 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 3/320 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪625‬‬
‫شيء‪ ،‬وكون السنة بيان للقرآن ل يعني أن ل تستقل السنة بتشريع‪،‬‬
‫ول أن ل تأتي السنة بتكليف ل أصل له في القرآن‪ ،‬فإن دللة القرآن‬
‫على السنة وعلى وجوب أخذ الحكاما منها هو من البيان ومن تماما‬
‫البيان‪ ،‬ودللة السنة على أشياء ليست في القرآن ل يتنافى مع كون‬
‫القرآن بياناا‪.‬‬
‫ول يتـأتى أن يقال إن الـقــرآن فيه بيـان كـل شـيء بهـذا‬
‫المعـنى‪ ،‬وهـو أن كل معـنى دلـت عليـه الـســنة موجـود في‬
‫القرآن وإنما قد يقال ذلك بمعنـى أنه ما من شـيء أتت به‬
‫الـسـنـة إل وله أصل في القرآن وهذا موضع خلفَّ‪ .‬أما أن يظن أن‬
‫الـسـنـة ل تأتي بما ليس في الـقـرآن فكـيـف يـتـأتى هـذا؟!‬
‫فـهـل أمـر الـقــرآن بالصـلةا والصـياما والزكـاةا وغـيـر ذلك‬
‫ممـا جـاء مجـملا وبينته السنة‪ ،‬هل هذا مبـين بالـقـرآن؟ وهـذا‬
‫الـذي أتـت به السنة أليس استقللا بالتشريع وإن كان له أصل في‬
‫القرآن؟‬
‫إن موضوع استقلل السنة بالتشريع أو عدما ذلك إنما‬
‫المقصود به أن تأتي السنة بما ل أصل له في القرآن أو ل‪ ،‬وليس أن‬
‫يكون فيها بيان زائد أو ل‪ .‬فالسنة فيها زيادةا قطعاا‪ ،‬وإل فكيف‬
‫نهتدي إلى صلتنا هذه لول السنة؟!‪ ..‬وكل ما جاءت به السنة من‬
‫تخصيص وتقييد وبيان لمجمل في القرآن غير مبين فيه فهو‬
‫تشريع زائد استقلت به السنة‪.‬‬
‫أما ما استدل به الشاطبي من قوله تعالى‪  [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ . ]    ‬وقوله تعالى‪ [ :‬‬
‫‪ . (2) ]       ‬فل‬
‫يدل على ما ذهبِّ إليه‪ .‬أما الية الولى‪ ،‬فإن الكتاب بين كــل شــيء‪،‬‬
‫ومن وسائل بيانه السنة‪ ،‬إذ الكتاب دل على السنة‪ ،‬ودللة الكتاب على‬

‫) ( سورةا النحل‪. 89 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النحل‪. 44 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪626‬‬
‫السنة يجعل بيان السنة للشياء من بيان الكتاب لها‪ .‬فإذا قال شخص‬
‫لخر‪ :‬افعل كذا وكذا وكل ما يقوله لــك فلن‪ ،‬أو ويكيــلييي مــا‬
‫سآمرك به في كتاب مستقل‪ ،‬فهل قوله‪ :‬وكل ما يقـوله لــك فلن‬
‫أو ويكيليي ما سآمرك به من أوامر في كتاب مستقل‪ ،‬هل ي عــد هــذا‬
‫نقصاا في بيان ما أمره به‪ ،‬أما أن الوا مــر الــتي تصـدر عـن فلن أو‬
‫التي تأتي في كتاب مستقل تعد جزءاا من البيان لما يريده الشخص‬
‫الول؟ لذلك فإن كون الكتاب تبياناا لكل شيء ل يتعــارض مــع أن‬
‫تأتي السنة بما ليس في القرآن أو ل أصل له في ال قــرآن‪ .‬وال قــرآن‬
‫قد قرن بين المر بطاعة ال ـ سبحانه وتعالى ـ وطا عــة ر ســوله ‪. ‬‬
‫قال تعالى‪      [ :‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ . ] ‬وقال تعالى‪      [ :‬‬
‫] )‪ . (2‬وقال النبي ‪» : ‬أوأتيت القرآن وأمإثله مإعه«)‪. (3‬‬
‫وأما قوله تعالى‪    [ :‬‬
‫‪ ]    ‬فليس فيه دللة على عدما اسـتقلل‬
‫السنة بالتشـريع‪ ،‬وإنما هو يدل على أن النبي ‪ ‬يبلغ ويبين ويفصل‬
‫ويشرح ما جاء في القرآن‪ ،‬وليس في منطوق النص أو مفهــومه مــا‬
‫يدل على أن النبي ‪ ‬ل يبيـن غير ما جاء في القرآن‪ ،‬فال ‪ -‬سـبحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬أوحى إلى نبيه بشريعة السلما‪ ،‬وكان هذا بما أوحاه إليه‬
‫من القرآن ومن السـنة‪ ،‬فهو ‪ ‬يبين القرآن ويبين السنة‪ ،‬وكله مــا‬
‫وحي‪ .‬قال تعالى‪         [ :‬‬
‫‪ . (4)] ‬ويؤكد هذا النصـوص التي تــوجبِّ طاعــة الرس ـــول ‪‬‬
‫) ( سورةا النساء‪ ، 59 ،‬وسورةا محمد‪. 33 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا النساء‪. 80 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الشوكاني‪ ،‬نيل الوطار من أحاديث سيد الخيار شرح منتقى الخبار‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫كتاب الطعمة والصيد‪ ،‬باب في أن الصل في العيان والشياء الباحة إلى‬


‫أن يرد منع‪ .‬ذكر الحديث بلفظ‪» :‬إني أوأتيت القرآن وأمإثله مإعه«‬
‫وقال‪ :‬وهو حديث صحيح‪ . 8/111 ،‬دار العلم ‪ -‬بيروت‪ ،‬وأخرجه أحمد )‬
‫‪ ،( 16546‬وله روايات بلفظ‪» :‬أوأتيت الكتاب‪.«...‬‬
‫) ( سورةا النجم‪. 4 - 3 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪627‬‬
‫وتبين أن ال تعالى قد آتاه القرآن ومثله معه)‪. (1‬‬
‫وعلى ذلك فالبحث هل تستقل السنة بالتشريع أو ل هو بمعنى‬
‫هل تأتي السنة بتكـليف ل أصل له في القرآن أو ل‪ ،‬أي ليس له‬
‫جنس أو نوع يرجع إليه في موضوعه أي في معنى‪ ،‬والقول بأن‬
‫السنة ل تأتي بذلك يحتاج إلى دليل‪ ،‬ول دليل‪ ،‬بل الدلة تسمح‬
‫بذلك‪.‬‬
‫لذلك فالدلة التي تعتمد هنا على هذا المر هي استقراء‬
‫تكاليف القرآن وتكاليف السنة‪ ،‬أي الوقوع أو عدمه‪ ،‬وقد ثبت‬
‫الوقوع‪ ،‬وذلك كتحريم لحوما الحمر الهلية وكل ذي ناب من‬
‫السباع وكل ذي مخلبِّ من الطير)‪ ، (2‬فهل لو أباح النبي ‪ ‬هذه‬
‫الشياء لكانت الباحة تتعارض مع أصل في القرآن؟ أليس لو لم‬
‫يحرمها النبي ‪ ‬لكان حكمها الباحة بناء على قاعدةا‪ :‬الصل في‬
‫الشياء الباحة ما لم يرد دليل التحريم؟‬
‫أما قول الشاطبي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬بأن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أحل‬
‫الطيبات وحرما الخبائث وبقيت أشياء مما ل يتبين حكمها للمجتهد‬
‫ويشكل عليه الصل الذي تلتحق به أهو الطيبات أما الخبائث‪ ،‬فهذه‬
‫محاولة تكييف للمسألة لتنسجم مع منهجه وليس لها وجه من‬
‫الصحة‪ .‬إذ لول تحريم النبي ‪ ‬لما شك أحد بأنها مباحة بناء على‬
‫أصل الباحة‪ ،‬وحينئذم تكون من الطيبات‪ ،‬وتحريم النبي ‪ ‬لها هو‬
‫الذي جعلها من الخبائث بمعنى المحرمات وال أعلم‪ .‬وفوق هذا فإن‬
‫الشاطبي لم يعرفنا على أصل الخبائث وأصل الطيبات‪.‬‬
‫قال الشـافعي‪» :‬وقد سـنيي رســول ال مع كتـاب ال وسـن‬
‫فيما ليس فيه بعينه نص كتاب«هل )‪. (3‬‬
‫وقال الزركشـي تحت عنوان )السـنة المسـتقلة بتشـريع‬

‫) ( أنظر‪ :‬الماما الشافعي‪ ،‬الرسالة‪ ،‬ص ‪ ، 104 - 79‬فقرةا‪. 308 - 258 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( تقدما ذكر الحاديث فيها ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الماما الشافعي‪ ،‬الرسالة‪ ،‬ص ‪ ، 88 :‬فقرةا‪. 293 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪628‬‬
‫الحكاما(‪» :‬ولهذا لم يفرد إماما الحرميـن السـنة عن الكتاب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫كل ما يقوله النبي ‪ ‬عن قول ال تعالى‪ ،‬فلم يكن لذكر فصل بين‬
‫الكتاب والسـنة معنى‪ ،‬ونص الشـافعي في الرسـالة على أن السنة‬
‫مينيزييلةي كالقرآن«هل)‪ . ( 1‬ومما نقله في استقلل السـنة بالتشـريع‪:‬‬
‫»كتحريم لحم الحمار الهلي وكل ذي ناب من السباع وليسا‬
‫بمنصوصين في الكتاب«هل)‪. (2‬‬
‫وأما الحديث الذي يأمر بعرض الحاديث على الكتاب والذي‬
‫صحح الشاطبي معناه وإن لم يصح سنده‪ ،‬فقد قال فيه الشافعي‪» :‬ما‬
‫روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ول كبر«هل)‪. (3‬‬
‫وجاء للستاذ أحمد محمد شاكر محقق كتاب الرسالة تعليقاا‬
‫على الحديث »مإا جأاءكم عني فاعرضأوه على كتاب الله‪،‬‬
‫فما وأافقه فأنا قلته‪ ،‬وأمإا خإالفه فلم أقله« قوله‪» :‬هذا‬
‫المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ول حسن‪ ،‬بل وردت فيه ألفاظ‬
‫كثيرةا كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى ل يصلح شيء‬
‫منها للحتجاج أو الستشهاد«هل)‪ . (4‬ثم ذكر أن فيه من هو منكر‬
‫الحديث‪ ،‬وذكر أقوال أئمة الحديث في أنه حديث باطل ل أصل له‬
‫وأنه وضعته الزنادقة وأنه موضوع)‪. (5‬‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 3/236 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 237 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الماما الشافعي‪ ،‬الرسالة‪ ،‬ص ‪ ، 225 :‬فقرةا‪. 618 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪ ،‬الهامش‪ ،‬رقم ‪ ، 4‬ص ‪. 224 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪ .‬ومما قاله‪ » :‬وأقرب رواية لما رواه الشافعي هنا‬ ‫‪5‬‬

‫فوهياه وضعييفه رواية الطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن عمر‪،‬‬


‫نقلها الهيثمي في مجمع الزوائد ) ‪ ،( 1/170‬وقال‪ » :‬فيه أبو حاضر عبد‬
‫الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث« ‪ .‬وقال في عون المعبود ‪: 4/329‬‬
‫» فأما ما رواه بعضهم أنه قال‪» :‬إذا جأاءكم الحديث فاعرضأوه على‬
‫كتاب الله فإن وأافقه فخذوأه« فإنه حديث باطل ل أصل له‪ ،‬وقد‬
‫حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال‪ :‬هذا حديث وضعته‬
‫الزنادقة« ‪ ،‬ونقل الفتني في تذكرةا الموضوعات ص‪ 28 :‬عن الخطابي أنه‬

‫‪629‬‬
‫وقال الزركشي‪» :‬وقال ابن عبد البر في كتاب )جامع بيان‬
‫العلم(‪ :‬قال عبد الرحمن بن مهدي‪ :‬الزنادقة والخوارج وضعوا‬
‫حديث ما أتاكم عني فاعرضوه إلخ«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬وقد عارضه قوما‬
‫وقالوا‪ :‬نحن نعرضه على كتاب ال فوجدناه مخالفاا للكتاب‪ ،‬لنا‬
‫لم نجد فيه‪ :‬ل يقبل من الحديث إل ما وافق الكتاب‪ ،‬بل وجدنا فيه‬
‫المر بطاعته وتحريم المخالفة عن أمره حكم على كل حال«هل)‪. (2‬‬
‫فهذا هو المعنى الذي صححه الشاطبي غير مكترثا بسنده‬
‫باعتباره معنى قطعياا بنظره‪ ،‬وجعله من أركان منهجه‪ ،‬وهو معنى‬
‫ينكره أئمة الحديث وأئمة الفقه فكيف يزعم الشاطبي أن هذا‬
‫المنهج قد شد معاقده السلف الخيار واعتمده العلماء الحبار‪.‬‬
‫إن هذه الفكرةا في معنى القطع بالصول وفي معنى الرجوع‬
‫إلى القطعي‪ ،‬وفي التوقف في اعتبار خبر الحاد حتى يثبت الرجوع‬
‫إلى معنى قطعي‪ ،‬هي من أهم أركان منهج الشاطبي‪ ،‬فحريي بهذا‬
‫المنهج بعد ذلك أن يوأد في مهده‪.‬‬
‫السـتقراء‪:‬‬
‫الستقراء هو الركن الهم في منهج الشاطبي‪ ،‬فهو الطريقة‬
‫الوحيدةا للقطع بالمعاني ولفهم أصول الشريعة عنده‪ .‬والقطع‬
‫بمعاني النصوص يعتمد على انتفاء مقدماتم عشر وهذا متعذر‪.‬‬
‫ومعاني الحكاما هي مصالح مخيلة ل دللة عليها في النصوص‪ ،‬فل‬
‫بد أن تتضافر عليها أحكاما كثيرةا ليحصل الستقراء المفيد للقطع‬
‫فتكتسبِّ حينئذم قيمة شرعية وتعد عللا للشريعة‪.‬‬
‫أما زعم أن النصوص ل تدل دللة قطعية على مدلولتها فهو‬

‫قال أيضاا‪ » :‬وضعته الزنادقة«‪ ،‬ونقل هو والعجلوني في كشف الخفاء‬


‫‪ 1/86‬عن الصنعاني أنه قال‪ » :‬هو موضوع««‪.‬‬
‫ولبن حزما تعليق شافَّم على هذا الحديث في الحكاما ‪ 2/86‬في بيان عللــه‬
‫وبطلنه‪.‬‬
‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 3/237 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪630‬‬
‫زعم يعتمد على تصورات أو فروض منطقية غير واقعية‪ .‬فالنصوص‬
‫تدل على معانم قد تكون قطعية‪ ،‬وقد تكون ظاهرةاا غالبةا في معنى‬
‫معين وقد تحتمل أكثر من معنىا على سبيل التساوي‪ ،‬وإن لم تكن‬
‫قطعية الدللة بذاتها فقد يستفاد القطع بقرائن أحوال أو أقوال‪.‬‬
‫وليس القطع مشروطاا في غير العقائد أو الصول الملحقة بها وهي‬
‫مصادر التشريع‪.‬‬
‫أما الحتمالت العشرةا التي قيل بها فهي لي ســت مو جــودةا فــي‬
‫كل مثال‪ ،‬وانتفاء ما يوجد منها ليس متعذراا‪ ،‬فقوله تعالى‪ [ :‬‬
‫‪ (1) ]  ‬ل يلزما له الســتقراء لدراك الق طــع بو جــوب‬
‫الصلةا‪ .‬وإدراك انتقال معنى ال صــلةا مــن الحقي قــة اللغو يــة إ لــى‬
‫الحقيقة الشرعية وغير ذلك مما قد ي عــترض بــه ل يــس مت عــذراا‪.‬‬
‫وكذلك الحكاما القطعيــة كو جــوب الي مــان وال صــياما والز كــاةا‬
‫والحج والصدق والعدل والحسان وأداء المانات وكــذلك حرمــة‬
‫السرقة والزنا والربا وقتل النفس التي حــرما ا لــ وحر مــة الميتــة‬
‫والدما والخنزير‪ ،‬فإنها قطعية ولم يك ن ذلـك بالسـتقراء‪ .‬وإنمـا‬
‫كان بالسـتنباط مـن الن صــوص يسـاعد علـى ذلــك بيــان ال ســنة‬
‫والصحابة رضي ال عنهم والجمــاع والنقــل المتــواتر للنصــوص‬
‫والفعال‪ ،‬والنص الواحد يم كــن أن ي كــون قط عــي الدل لــة ك قــوله‬
‫تعالى‪      [ :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫الية‪ ،‬وقوله تعالى‪     [ :‬‬ ‫]‬
‫)‪(3‬‬
‫] ‪ ،‬وإذا لزما لجل القطع‪ ،‬القطع بمعاني أل فــاظ أو ال ســتفادةا مــن‬
‫قرائن معينة‪ ،‬فإن هذا ممكن وواقع وليس متعذراا‪.‬‬
‫فليس صحيحاا أن النصوص يتعذر أن تدل دللةا قطعية على‬
‫المعاني وليس صحيحاا أن القطع ل يحصل إل بالستقراء‪.‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪ 11 ،‬و ‪ 43‬و ‪ 83‬وغيرها من السور ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا المائدةا‪. 3 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 275 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪631‬‬
‫أما استقراء معاني الحكاما فسيأتي بحثه منفصلا تحت عنوان‪:‬‬
‫التواتر المعنوي‪.‬‬
‫وتطبيق الستقراء بقصد التوصل إلى حقائق شرعية يحتاج‬
‫إلى التعريف بمعناه وبكيفية تطبيقه من خلل أمثلة متفق عليها أو‬
‫معروفة الحكم كي يمكن تطبيقه في البحث عن معرفة ما هو‬
‫مجهول الحكم‪ .‬وهذا ما لم يفعله الشاطبي‪ ،‬وإنما فرض منهج‬
‫الستقراء فرضاا من غير إثبات لصحته ومن غير تعريف به‪.‬‬
‫وإذا عرقفَّ معنى الستقراء يتبين أن ل موقع له حيث وضعه‬
‫الشاطبي‪ .‬والئمة إنما اعتمدوا الستنباط كمنهج عقلي للفهم‬
‫والتوصل إلى الحكاما‪ ،‬وليس الستقراء‪ .‬فما هو الستقراء؟‬
‫قال السنوي‪» :‬الستقراء هو الستدلل بثبوت الحكم في‬
‫الجزئيات على ثبوته للقاعدةا الكلية«هل)‪ . (1‬وقال‪ » :‬و هو ينقسم إلى‬
‫تاما وناقص‪ ،‬فالتاما هو إثبات حكم كلي في ماهية لجل ثبوته في‬
‫جميع جزئياتها«هل)‪ . (2‬أما الناقص فـ‪» :‬هو إثبات حكم كلي في‬
‫ماهية لثبوته في بعض أفرادها وهذا ل يفيد القطع لجواز أن يكون‬
‫حكم ما لم يستقرأ من الجزئيات على خلفَّ ما استقرئ منها«هل)‪. (3‬‬
‫ومثاله كأن يقال‪ :‬في هذا الصندوق مجموعة قطع‪ ،‬فإذا‬
‫استعرضت واحدةاا واحدةا‪ ،‬ووجدت كلها قطع حديد‪ ،‬أمكن القول‪:‬‬
‫إن كل القطع التي في الصندوق حديد‪ ،‬فهذا الستقراء تاما‪ ،‬وهذا‬
‫الحكم كلي‪ ،‬فإذا أخذ من الصندوق قطعة بشكل عشوائي فهي حديد‬
‫قطعاا بناء على الحكم الكلي‪ ،‬أما إذا استعرضت أكثر القطع أو‬
‫كلها إل واحدةا‪ ،‬ووجدت حديداا‪ ،‬فهذا استقراء ناقص‪ ،‬وإذا أخذت‬
‫قطعة عشوائياا ل يمكن الحكم بأنها من جنس المستقرأ‪ ،‬ول يصح‬
‫إصدار الحكم الكلي أصلا‪.‬‬

‫) ( السنوي‪ ،‬نهاية السول‪. 1/361 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/377 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( السنوي‪ ،‬نهاية السول‪. 4/377 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪632‬‬
‫فالستقراء هو إثبات الحكم للكل أو للمجموع من خلل إثباته‬
‫للجزاء واحداا واحداا‪ ،‬وإذا كان المطلوب استقراؤه معروفاا‬
‫محصوراا أمكن أن يحصل الستقراء التاما باستقراء الكل واحداا‬
‫واحداا‪ ،‬وإذا لم يكن محصوراا فالستقراء التاما غير ممكن‪.‬‬
‫والستقراء بخلفَّ الستنباط فالستقراء يوصل إلى الحكم الكلي‬
‫بناءا على الحكم على الجزئيات‪ ،‬أما الستنباط فهو يوصل إلى‬
‫الحكم على الجزء بناء على الحكم الكلي أو العاما‪ .‬والحكم الكلي‬
‫الناتج عن الستقراء التاما يعد استنباطاا أيضاا‪ ،‬لن الحكم الكلي‬
‫مأخوذ من الحكم على الكل‪.‬‬
‫وكل من الستقراء والستنباط منهج عقلي من مناهج‬
‫المعرفة‪ ،‬أي طريقة في التفكير لجل الوصول إلى النتائج‪ ،‬قال‬
‫محمد باقر الصدر‪» :‬يقسم الستدلل الذي يمارسه الفكر البشري‬
‫عادةا إلى قسمين رئيسيين‪ :‬أحدهما الستنباط‪ ،‬والخر الستقراء‪.‬‬
‫ولكل من الدليل الستنباطي والدليل الستقرائي منهجه الخاص‬
‫وطريقه المتميز‪ ،‬ونريد بالستنباط‪ :‬كل استدلل ل تكبر نتيجته‬
‫المقدمات التي تكون منها ذلك الستدلل«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬ونريد‬
‫بالستقراء‪ :‬كل استدلل تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات‬
‫التي ساهمت في ذلك الستدلل‪ ،‬فيقال مثلا‪ :‬هذه القطعة من‬
‫الحديد تتمدد بالحرارةا‪ ،‬وتلك تتمدد بالحرارةا‪ ،‬وهذه القطعة‬
‫)‪(2‬‬
‫الثالثة تتمدد بالحرارةا أيضاا‪ ،‬إذن كل حديد يتمدد بالحرارةا«هل ‪.‬‬
‫وقال‪» :‬في حالت الستقراء فإن الدليل الستقرائي يقفز من‬
‫الخاص إلى العاما«هل)‪. (3‬‬
‫وما عليه المسلمون قاطبةا هو أن السلما جاء بنصوص شرعية‬

‫محمد باقر الصدر‪ ،‬السس المنطقي ة للس تقراء‪ ،‬ص ‪ ، 5‬دار التع ارفَّ‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫للمطبوعات‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 1406 ، 5‬هـ ‪ 1986 -‬ما ‪.‬‬


‫) ( المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪. 6‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( محمد باقر الصدر‪ ،‬السس المنطقية للستقراء ‪ ،‬ص ‪. 7‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪633‬‬
‫تستنبط منها المعاني الشرعية استنباطاا‪ ،‬ومن ذلك الحكاما‪،‬‬
‫والحكاما عامة في المكلفين وفي الفعال‪ ،‬وكلية بواسطة العلل‬
‫التي تعديها من نوع من الفعال إلى غيره‪ ،‬والعلل تستنبط استنباطاا‬
‫من الدلة الشرعية‪ .‬فإذا جاء النص فإن المعنى يؤخذ منه‪ ،‬ول يعد‬
‫النص أو دللته جزءاا من المعنى‪ ،‬أو ظاهرةاا يجبِّ أن تتكرر في‬
‫نصوص ودللت كثيرةا لكي يثبت المعنى الكلي‪ .‬فهذا التكرر هو‬
‫الطراد الذي يفيد الستقراء الذي قاله الشاطبي‪ ،‬وليس هكذا‬
‫تستفاد الحكاما‪ ،‬وإنما تستفاد من دللت النصوص أي من الدلة‬
‫التفصيلية‪ ،‬ولذلك عرفَّ الفقه بأنه العلم بالحكاما الشرعية‬
‫العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية‪.‬‬
‫ول يوجد عملية اسـتقراء تتبـع لجل التوصل إلى كليات‬
‫تسـتنبط منها أحكاما الجزئيـات‪ ،‬لن النصوص موجودةا وجاهزةا‬
‫لتسـتنبط منها الحكاما‪ ،‬والقواعـد هي بدورها تسـتنبط اسـتنباطاا‬
‫من النصوص وقد تكون ظنية وقد تكون قطعية‪ ،‬وتتفرع على‬
‫أساسـها الحكاما لنها هي أصلا قواعـد شرعية مستمدةا من‬
‫النصوص الشرعية‪.‬‬
‫فهذا الستقراء وإن كان منهجاا عقلياا صحيحاا‪ ،‬فليس له‬
‫موقع في دللت النصوص‪ ،‬والشاطبي باعتماده الستقراء تعامل مع‬
‫النصوص الشرعية كما يتعامل مع الظواهر الطبيعية والمادية‪،‬‬
‫فكأن النصوص ظواهر لها صفات وخصائص هي معانيها ولهذه‬
‫الخصائص علل أو نتائج هي الحكم والمصالح‪ .‬ومثلما يبحث‬
‫الباحث عن خصائص الشياء ليكتشفها وعن أسباب وعلل الظواهر‬
‫ليكتشفها ويستفيد من ذلك ويبني عليه‪ ،‬بالملحظة والختبار‬
‫والتتبع والستقراء‪ ،‬مثل ذلك فعل الشاطبي لفهم معاني النصوص‬
‫وعلل الشريعة وأصولها‪ .‬والشاطبي نفسه يقرر هذا المر‪ ،‬لذلك‬
‫فبعد أن بين خواص الكليات في منهجه قال‪» :‬وهذه خواص الكليات‬
‫العقليات‪ ،‬وأيضاا فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود‪ ،‬وهو أمر‬

‫‪634‬‬
‫وضعي‪ ،‬ل عقلي‪ ،‬فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا العتبار وارتفع‬
‫الفرق بينهما«هل )‪ . (1‬وكذلك عندما تحدثا عن السباب والمسببات‬
‫في الشرع استدل على ما يذهبِّ إليه‪ ،‬بالسباب والمسببات في‬
‫العقليات أو في الوقائع المادية‪ ،‬قال‪» :‬إيقاع السببِّ بمنزلة إيقاع‬
‫المسببِّ قصد ذلك المسببِّ أو ل‪ .‬لنه لما جعل مسبباا عنه في‬
‫مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرةا‪ ،‬ويشهد لهذا قاعدةا مجاري‬
‫العادات إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى‬
‫الطعاما‪ ،‬والرواء إلى الماء والحراق إلى النار والسهال إلى‬
‫السقمونيا وسائر المسببات إلى أسبابها فكذلك الفعال التي تتسببِّ‬
‫عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا‪ .‬وإذا كان هذا‬
‫معهوداا معلوماا جرى عرفَّ الشرع في السباب الشرعية مع‬
‫مسبباتها على ذلك الوزان«هل)‪. (2‬‬
‫بناءا على هذا فإن منهج الستقراء هذا ليس هنا موضعه‪ ،‬إضافة‬
‫إلى أن النصوص الشرعية ليست ظواهر مادية تستقرأ‪ ،‬والنصوص‬
‫الشرعية لها دللت يجبِّ العمل بها سواء كانت ظنية أو قطعية‪،‬‬
‫وهذا المنهج مخالف لما عليه الئمة المعتبرون‪ ،‬لذلك فإنه خطأ‬
‫ول سبيل إلى العمل به‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك أن هذا الستقراء ناقص‪ ،‬ول يمكن أن يكون‬
‫تاماا‪ ،‬فل يتأتى فيه القطع أصلا بحسبِّ واقع الستقراء‪ ،‬وهو ليس‬
‫استقراءا لكثر الجزئيات‪ ،‬بل هو كما يقول الشاطبي استقراء‬
‫لجزئيات كثيرةا‪ ،‬وهذه الكثيرةا ليست هي الكثر‪ ،‬فل يصح بحسبِّ‬
‫منهج الستقراء إثبات الكلي بهذا الستقراء الناقص وإعطاء حكم ما‬
‫استقرئ لما لم يستقرأ‪ .‬نعم‪ ،‬إن النصوص الكثيرةا المتضافرةا على‬
‫معنى واحد قد تؤكد على أهمية هذا المعنى أو تزيد درجة الظن به‬
‫ويمكن أن يحصل القطع به‪ ،‬وهذا ليس من الستقراء وإنما من‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/44 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 1/148 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪635‬‬
‫الستنباط‪ ،‬فالنصوص تستنبط منها معانم وتحتمل غيرها‪ ،‬فإذا كان‬
‫هناك معنى مشترك في نصوص كثيرةا‪ ،‬فكثرةا النصوص تغلبِّ الظن‬
‫بأنه المقصود‪ ،‬فيثبت المعنى‪ ،‬ولكن هذا ليس استقراءا‪ ،‬ولو كان‬
‫الستقراء مطلوباا لما ثبت المعنى‪ .‬وليس بالضرورةا أن يكون هذا‬
‫المعنى كلياا‪ ،‬فإن هذا يعتمد على المعنى نفسه‪ .‬فلو كثرت‬
‫النصوص الدالة على حرمة الزنا أو على وجوب الصلةا‪ ،‬فلن تصبح‬
‫هذه الحكاما كلية لنها في موضوعها جزئية ولو كانت قطعية‪.‬‬
‫ولو دل نص واحد على قاعدةا عامة أو كلية فلن يتوقف في اعتبار‬
‫القاعدةا بحجة أن الدال نص واحد أو ظني‪ ،‬وذلك كقوله ‪» : ‬ل‬
‫ضأرر وأل ضأرار«)‪ . (1‬فهو خبر آحاد وهو أيضاا قاعدةا كلية‪ ،‬ول‬
‫يلزمه ليكون كذلك أن يكون قطعياا‪ ،‬ول ما حشده الشاطبي من‬
‫أدلة في المعنى‪ ،‬وإن كانت كثرةا الدلة تؤكد المعنى وقد تجعله‬
‫قطعياا‪.‬‬
‫ورب قائل يقول إن الستقراء الناقص يورثا القطع بالحكم‬
‫الكلي ويؤدي إلى تطبيقه على ما لم يستقرأ‪ ،‬وبشكل قاطع‪ ،‬فإنا نجد‬
‫أن الحديد يتمدد بالحرارةا وتتكرر الملحظة بل تخلف فيحكم‬
‫بالحكم نفسه على كل الحديد‪ .‬والخشبِّ يطفو على الماء فيحكم‬
‫بهذا على كل الخشبِّ‪ ،‬والناس يموتون فيحكم بذلك على الحياء‬
‫وعلى من سيولد‪ ،‬والشمس تطلع كل يومام وتغيبِّ فيحكم بان هذا‬
‫يحصل غداا وبعد غدم‪ ،‬وبأنه كان يحصل قبل وجودنا‪ ،‬ولدينا شعور‬
‫قوي بأن هذه الحكاما قطعية مع أن المستقرأ أقل بكثير مما لم‬
‫يستقرأ‪ .‬وعليه فل يصح العتراض على صحة الستقراء الناقص‬
‫وإفادته القطع‪.‬‬
‫والجواب إن الستقراء في مثل هذه الحالت ل يكون إل ناقصاا‪،‬‬
‫وإن أمكن أن يكون كثيراا فلن يكون أكثرياا‪ ،‬ومع ذلك فهو يفيد‬
‫الحكم فيما لم يستقرأ‪ .‬نعم‪ ،‬ولكن هذا ليس راجعاا إلى الستقراء‪،‬‬

‫) ( تقدما تخريجه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪636‬‬
‫بل إلى شيء آخر إضافة إلى هذا الستقراء‪ ،‬وهذا الشيء هو بمثابة‬
‫العلة التي تؤدي إلى تعدية الحكم مما استقرئ إلى ما لم يستقرأ‬
‫وإلى كل ما توجد فيه هذه العلة العقلية أو المنطقية )وليس‬
‫الشرعية(‪ ،‬فهذه العلة مع الستقراء تؤدي إلى إطلق الحكم الكلي‬
‫ويحكم على ما لم يستقرأ بالقياس‪ .‬ففي مثال الحديد الذي يتمدد‬
‫بالحرارةا العلة هي المماثلة أو انتفاء الفرق بين ما استقرئ وما لم‬
‫يستقرأ‪ .‬وهذا ما يؤدي إلى إثبات الكلي وتطبيقه‪ ،‬ولو لم يدرقك‬
‫ذلك مين يعمل هذه العلة هنا‪ .‬فالناس يحملون مفهوما أن ما ثبت‬
‫للشيء ثبت لمثله‪ ،‬وهذا يعمل لديهم ولو بغير قصد منهم كما‬
‫تجري الدورةا الدموية في الجسد‪ ،‬فهو يوجد لدى النسان مع تشكل‬
‫عقله ونموه‪ .‬وعدما التنبه لثر هذه المماثلة أو غيرها مما قد يكون‬
‫علة خفية للحكم هو الذي يوقع في الخطأ فيتوهم أن الستقراء‬
‫الناقص يفيد‪ ،‬ومثل هذا يقال في سائر المثلة المذكورةا‪.‬‬
‫فطلوع الشمس والقمر وغيابهما وتكرر ذلك بشكل منتظم‬
‫يؤدي إلى الشعور بأن هناك نظاماا يحكم هذه الحركة‪ ،‬وهو الذي‬
‫جعلها تتكرر بانتظاما وبغير تخلف‪ ،‬فكان هذا النظاما بمثابة العلة‬
‫لحدوثا هذه الحركة المنتظمة‪ .‬وهذه العلة أو النظاما هي التي‬
‫تدفع إلى الحكم غداا أو بعد غدم بما يقتضيه النظاما المدرك‪ .‬فبما‬
‫أن العلة الموجودةا اليوما موجودةا غداا فسيتكرر المر‪ .‬ولو علم أن‬
‫واضع هذا النظاما سـيغيره غداا ولن تطلع الشـمس أو سـتطلع من‬
‫مغربها‪ ،‬لتغير الحكم‪ ،‬مما يؤكد أن إطلق الكلي وتطبيقه على ما‬
‫لم يسـتقرأ ليس راجعاا إلى السـتقراء وإنما إلى العلة‪ .‬ومما‬
‫يؤكد هذا التفسير أمران‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن الجزئيات المستقرأةا قليلة جداا ول تكاد تذكر في‬
‫مقابل ما لم يستقرأ‪ ،‬بل يكفي أن يكون المستقرأ فرداا واحداا أو‬
‫جزئية واحدةا وذلك ليعرفَّ منه الوصف أو الحكم المطلوب ثم‬
‫تكون العلة )القياسية المنطقية( بعد ذلك سبباا لطلق الحكم‬

‫‪637‬‬
‫بالكلي على الباقي‪ .‬لذلك فالعلة هي سببِّ الكلية وليس الستقراء‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن الحكم الكلي الذي يتعدى من المستقرأ إلى ما لم‬
‫يستقرأ ل يتعدى إلى ما ل توجد فيه العلة‪ .‬فالحكم على الحديد ل‬
‫يتعدى إلى غير ما هو مثله‪ .‬وكذلك في الخشبِّ وفي النسان‬
‫وكذلك في الشمس والقمر والفلك‪ ،‬فل يحكم على القمر غداا‬
‫بما يحكم به على الشمس غداا ول العكس‪ ،‬لن العلة في الحالتين‬
‫وإن كانت هي النظاما ولكن نظاما الشمس غير نظاما القمر‪ ،‬فسببِّ‬
‫الكلية هو العلة وليس الستقراء‪ .‬هذا هو الستقراء الناقص في‬
‫الظواهر المادية‪ ،‬فهو ل يفيد إل إذا علم بوجود علة‪ .‬فكيف يطبق‬
‫على نصوص الشارع التي تتعدد دللتها‪ ،‬وإذا كان الستقراء يحتاج‬
‫إلى علة ليكون مفيداا‪ ،‬والشاطبي يستعمل الستقراء لجل فهم‬
‫العلل‪ ،‬فكل واحد من الثنين يحتاج للخر ول يوجد إل بعده‪ ،‬وعلى‬
‫ذلك فمنهج الستقراء الناقص ساقط ومردود ول وجود له أصلا‬
‫في النصوص الشرعية‪ ،‬وهذه العلل لن توجد بهذا المنهج‪ ،‬وإن‬
‫وجدت فستوجد بالستنباط بوصفها عللا شرعية وليس عللا مادية‬
‫أو منطقية‪.‬‬
‫مإعارضأة الجزئاي للكلي‪:‬‬
‫ذهبِّ الشاطبي إلى أن الكلي ل ينخرما بمعارضة الجزئيات له‪،‬‬
‫وذلك بناء على أن الكلي قد ثبت كلياا بالستقراء فهو قطعي‬
‫والجزئي ظني‪ ،‬فإما أن ييؤيوييل الجزئي ليتفق مع الكلي وإما أن‬
‫يرد‪.‬‬
‫وذهبِّ أيضاا إلى أنه ل بد من إعمال الكليات والجزئيات معاا‪،‬‬
‫فل ييستغنى بالكليات عن الجزئيات ول بالجزئيات عن الكليات‪.‬‬
‫وهذان المران صحيحان من حيث نتائجهما‪ ،‬ولكنهما ل‬
‫يستقيمان بناءا على منهجه‪ ،‬أي ل يستقيمان بناءا على أن الكليات‬
‫هي كليات استقرائية مأخذها الجزئيات‪ ،‬ففي المر تناقض حاول‬
‫الشاطبي أن يرفعه‪.‬‬

‫‪638‬‬
‫قال بشأن إعمال الكليات والجزئيات معاا‪» :‬محالي أن تكون‬
‫الجزئيات مستغنية عن كلياتها فمن أخذ بنص مثلا في جزئي‬
‫معرضاا عن كليه فهو مخطئ‪ ،‬كذلك من أخذ بالكلي معرضاا عن‬
‫جزئيه‪ ،‬وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض‬
‫الجزئيات واستقرائها‪ ،‬فالكلي من حيث هو كلي غير معلوما لنا قبل‬
‫العلم بالجزئيات ولنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن‬
‫في الجزئيات كما تقرر في المعقولت‪ ،‬فإذاا‪ ،‬الوقوفَّ مع الكلي مع‬
‫العراض عن الجزئي وقوفَّ مع شيء لم يتقرر العلم به دون العلم‬
‫بالجزئي‪ ،‬والجزئي هو مظهر العلم به‪ ،‬وأيضاا فإن الجزئي لم‬
‫يوضع جزئياا إل لكون الكلي فيه على التماما وبه قوامه‪ ،‬فالعراض‬
‫عن الجزئي من حيث هو جزئي‪ ،‬إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة‬
‫وذلك تناقض‪ .‬ولن العراض عن الجزئي جملةا يؤدي إلى الشك‬
‫في الكلي من جهة أن العراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو‬
‫توهم المخالفة له‪ .‬وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من‬
‫الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لمكان أن يتضمن‬
‫ذلك الجزئي جزءاا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءاا منه‪ ،‬وإذا‬
‫أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ودل‬
‫ذلك على أن الكلي ل يعتبر بإطلق دون اعتبار الجزئي«هل)‪ . (1‬ثم‬
‫قال‪» :‬فإذا ثبت بالستقراء قاعدةا كلية ثم أتى النص على جزئي‬
‫يخالف القاعدةا بوجه من وجوه المخالفة فل بد من الجمع في‬
‫النظر بينهما«هل)‪ . (2‬ثم قال‪» :‬فل يمكن والحالة هذه أن تخرما‬
‫القواعد وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي«هل)‪. (3‬‬
‫هذا النص مهم في منهج الشاطبي‪ .‬وفيه أمور‪ ،‬منها أن‬
‫الجزئيات هي مصدر الكليات ولول الجزئيات لم تعرفَّ الكليات‪،‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 3/3 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 3/4 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪639‬‬
‫والكليات ليس فيها أي معنى غير موجود في الجزئيات‪ ،‬وإذا تعارض‬
‫الكلي مع الجزئي فهذا يعني أن الكلي لم يتحقق كونه كلياا بعد‪،‬‬
‫فل بد من الرجوع إلى الجزئي للتحقق من حقيقة المعنى الكلي‬
‫وضبطه لرفع التعارض‪ ،‬وإذا ثبت الكلي كلياا وخالفه الجزئي فل‬
‫بد من رفع المخالفة‪ ،‬ول يمكن إلغاء أحدهما‪ ،‬فالكلي ثبت كلياا‬
‫قطعياا فل تصح مخالفته‪ ،‬والجزئي ل يمكن أن يلغى لجل اعتبار‬
‫الكلي‪ ،‬فالكلي ـ كما قال ـ مصدره الجزئيات‪ ،‬والشك بالجزئي‬
‫شك بالكلي‪.‬‬
‫ولكن هذا اختلف في موضع آخر‪ .‬قال‪» :‬القواعـد المطردةا‬
‫كليات ول تنهض الجزئيـات أن تنقض الكليـات‪ ،‬ولذلك تبقى‬
‫أحكاما الكليات جارية في الجزئيـات وإن لم يظهر فيها معنى‬
‫الكليات على الخصوص«هل)‪. (1‬‬
‫وهذا تناقض مع ما سبق‪ ،‬إذ كيف يجري معنى الكليات في‬
‫الجزئيات دون أن يظهر ذلك‪ ،‬والكليات أصلا ل تعرفَّ إل من‬
‫الجزئيات‪ ،‬والجزئي هو مظهر العلم بالكلي؟! وقال‪» :‬فإنها لو‬
‫عارضتها فإما أن يعمل معاا‪ ،‬أو يهمل أو يعمل بأحدهما دون الخر‬
‫أعني في محل المعارضة‪ ،‬فإعمالهما معاا باطل‪ ،‬وكذلك إهمالهما‬
‫لنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي‪ ،‬وإعمال الجزئي‬
‫دون الكلي ترجيح له على الكلي‪ ،‬وهو خلفَّ القاعدةا‪ ،‬فلم يبق إل‬
‫الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب«هل)‪. (2‬‬
‫وهذا تناقض أوضح مع ما سبق‪ ،‬فهو هنا يقول‪» :‬فإعمالهما معاا‬
‫باطل«هل وهناك قال‪» :‬ل يمكن إعمال أحدهما وإلغاء الخر«هل‪ ،‬وهو‬
‫هنا يقول‪» :‬إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب«هل وهناك قال‬
‫إن الشك بالجزئي شك بالكلي‪ ،‬وإنه ل بد من النظر للجمع بينهما‪،‬‬
‫فهذا تناقض سببه المنهج وهو الستقراء‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 3/149 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 3/150 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪640‬‬
‫قد يقال‪ :‬ولكن هذا الذي ذهبِّ إليه الشاطبي هو المعتمد‬
‫المعهود عند الئمة وهو إجراء القواعد والصول الشرعية عند‬
‫إجراء النصوص التفصيلية‪ ،‬وكذلك عند التعارض بين قطعي‬
‫وظني يرد الظني إذا لم يمكن الجمع بينهما‪.‬‬
‫والجواب إن هذا صحيح ولكن ل يحصل تناقض في منهج‬
‫الستنباط لن الشك بالظني ورده ل يعني تشكيكاا بالقطعي‪ ،‬لن‬
‫القطعي هناك ليس مأخذه استقراء الظنيات أو الجزئيات‪ ،‬أضف إلى‬
‫ذلك أنه إذا تعارض الكلي مع الجزئي أو العاما مع الخاص فيمكن‬
‫تخصيص أحدهما بالخر‪ ،‬ول يعد هذا تناقضاا أو نقضاا لشيء‪ ،‬لن‬
‫الكلي لم يؤخذ من استقراء الجزئيات‪ ،‬لذلك قيل في بداية بحث‬
‫هذه المسألة إن هذين المرين عند الشاطبي صحيحان من حيث‬
‫نتائجهما‪ ،‬ولكنهما ل يستقيمان بناءا على منهجه‪ .‬إضافةا إلى هذا‬
‫التناقض في المنهج فإن النقض له يأتي أيضاا من جهتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إن الجزئي الذي قال بإهماله إذا تعارض مع الكلي ولم‬
‫يمكن الجمع بينهما قد يكون نص حديث صحيح أو معنى نص‬
‫قرآني‪ .‬والكلي الذي يقول به ليس كلياا ول قطعياا كما تبين‪ ،‬إذ‬
‫الستقراء الذي يقول به ناقص وليس تاماا‪ ،‬لذلك فإن تأويل معنى‬
‫النص أو رد الحديث بسببِّ معارضته لهذا الكلي ل يصح على إطلقه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إن هذا المنهج يلزما منه الستغناء بالكليات عن‬
‫الجزئيات‪ ،‬وهذا ما حاول الشاطبي التفلت منه‪ .‬وسيأتي ‪ -‬إن شاء ال‬
‫‪ -‬بحث هذا المر في المبحث الثالث من هذا الفصل‪.‬‬
‫التواتر المعنوي‪:‬‬
‫ذهبِّ الشاـطبي إلى أن السـتقراء يفيد تواتـراا يشـبه‬
‫التواتـر المعنوي‪ ،‬وشـبه القطـع المستفاد من السـتقراء بالقطع‬
‫بشـجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم‪ ،‬وهو قطع سببه التواتر‬
‫لكثرةا النقول التي تفيد ذلك‪.‬‬

‫‪641‬‬
‫إن القطع الذي يفيده التواتر ل يرجع إلى الستقراء وإنما إلى‬
‫الكثرةا مع شروط)‪ . (1‬قال الزركشي‪» :‬المتواتر‪ ،‬وهو لغةا‪ :‬ترادفَّ‬
‫الشياء المتعاقبة واحدم بعد واحدم بمهلة‪ ،‬واصطلحاا‪ :‬خبر جمعم‬
‫يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم‪ ،‬عن محسوس«هل)‪. (2‬‬
‫وقال‪» :‬التواتر قد يكون لفظياا وقد يكون معنوياا وهو أن يجتمع‬
‫من سبق ذكرهم على أخبار ترجع إلى خبر واحد كشجاعة علي‬
‫رضي ال عنه وجود حاتم«هل)‪ . (3‬ثم ذكر أن البعض قد نازع بشجاعة‬
‫علي لن شجاعته متواترةا لفظاا ومعنىا)‪. (4‬‬
‫فالكثرةا في التواتر هي كثرةا مجتمعة على خبر‪ ،‬فإذا كان‬
‫الخبر نقلا عن النبي ‪ ‬يكون حديثاا قطعي الثبوت‪ ،‬وقد يكون قطعي‬
‫الدللة وقد ل يكون كذلك‪ ،‬وإذا كانت الكثرةا مجتمعة على عدةا‬
‫أخبار‪ ،‬بعضهم يروي خبراا وغيرهم يروي غيره وهكذا‪ ،‬وكل واحد‬
‫من هذه الخبار ل يبلغ حد التواتر‪ ،‬ولكنها تشترك كلها في معنىا‬
‫معين‪ .‬فهذا المعنى يكون متواتراا‪ ،‬وهذا هو التواتر المعنوي‪،‬‬
‫ويكون المعنى قطعياا‪.‬‬
‫والجزئيات المستقرأةا عند الشاطبي نوعان‪ :‬نصوص شرعية‬
‫وأحكاما شرعية‪ ،‬فإذا كان الستقراء هو لنصوص شرعية فل إشكال‬
‫في ذلك من حيث النتيجة‪ ،‬وقد يكون هو التواتر المعنوي نفسه‬
‫وليس شبيهاا به‪ ،‬كما لو كان استقراءا لدللت أخبار آحاد‪ ،‬سوى‬
‫أن هذا ليس استقراءا وإنما استنباط من النصوص‪ ،‬وقد سبق‬
‫الحديث عن استقراء الجزئيات إذا كانت نصوصاا شرعية تحت‬
‫عنوان‪) :‬الستقراء( في هذا المبحث‪ .‬والحديث الن عن استقراء‬
‫الحكاما الشرعية ومعانيها ‪.‬‬

‫أنظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 301 - 3/296 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/296 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/311 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪642‬‬
‫إن الحكاما الشرعية هي من معاني النصوص الشرعية‬
‫ومدلولتها‪ ،‬وكذلك القواعد الشرعية‪ .‬واللفاظ والنصوص هي‬
‫التي يبحث لها عن معنى‪ ،‬فإذا عرفَّ المعنى فقد عرفَّ قصد الشارع‬
‫بها‪ ،‬والمعاني الشرعية هي معانم قصدها الشارع ول علم للعبد بها‬
‫إل من جهة خبر منه تعالى‪ .‬وأخبار ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫مصادرها القرآن والسنة والجماع والقياس‪ ،‬ومع اعتبار الخلفَّ‬
‫فهي القرآن والسنة وما أرشدا إليه‪ .‬وهذه هي مصادر النصوص‬
‫الشرعية‪ ،‬ول يكون معنىا شرعياا إل إذا كان مصدره النصوص‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فإن كانت معاني الحكاما التي يقصدها الشاطبي من‬
‫مدلولت النصوص الشرعية فهي شرعية‪ ،‬وإن لم تكن كذلك فهي‬
‫ليست شرعية‪ ،‬وإذا كانت من مدلولت النصوص فهي معانم‬
‫للنصوص‪ ،‬فتكون معتبرةا‪.‬‬
‫ومقصود الشاطبي بمعاني الحكاما هو حقكيميها أو مسبييباتها‬
‫أو مصالحها أو مقاصدها أو عللها‪ ،‬ول يقصد كونها معانم‬
‫للنصوص‪.‬‬
‫ومعاني الحكاما ل وجود لها‪ ،‬وإنما هناك معانم لللفاظ‬
‫وللجمل تدل عليها هذه اللفاظ والجمل بأي نوع من أنواع‬
‫الدللة )‪ . (1‬فإذا عرفت المعاني فل معنى لن يبحث لها عن معانم‪ ،‬ول‬
‫يصح أن يقال إن هذه المعاني مقصودةا للشارع‪ ،‬إذ لو كانت‬
‫مقصودةا له لنصبِّ لها دليلا أو وضع لجلها أمارةا‪ .‬وحينذاك فهي‬
‫من دللت النصوص‪ ،‬ول ضير في أن يسرح الفكر أو الخيال في‬
‫أسباب الحكاما أو عللها أو مقاصدها وحكمها‪ ،‬خاصة وأن في النفس‬

‫الدللة اللغوية تنحصر في ثلثة‪ :‬المطاب قــة والت ضــمن واللــتزاما‪،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الول‪ :‬دللة اللفظ على تماما ما و ضــع لــه‪ .‬والثــاني‪ :‬دللتــه علــى جــزء‬
‫المسمى‪ .‬والثالث‪ :‬دللته على ما هو خارج عــن الم ســمى ولكنــه لزما لــه‪.‬‬
‫أنظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪ 417 / 1 ،‬و ‪. 1/420‬‬

‫‪643‬‬
‫ما يدفع إلى هذا‪ ،‬فيصادفَّ الظن معاني أو حكم يقع عليها‪ ،‬فيطمئن‬
‫إليها أو يتفرييج بها‪ .‬ولكن ل يصح بحال أن يضفى على هذه الظنون‬
‫أي قيمة شرعية‪ ،‬أو أن تنسبِّ إلى ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فيقال إنها‬
‫مقصودةا له‪ ،‬أو إنها علة لحكمه‪ ،‬فمثل هذه الظنون هي خيالت‬
‫وليست مستندةا إلى أي مصدر شرعي‪ ،‬وبما أنه ل دليل عليها فل‬
‫اعتبار لها‪.‬‬
‫والشاطبي ل يخالف في هذا‪ ،‬بل إنه يؤكده‪ ،‬وهو ل يقبل الظن‬
‫الشرعي أصلا إل إذا كان راجعاا إلى معنى قطعي‪ .‬ومثل هذه‬
‫التعليلت للحكاما ظنون ل اعتبار لها‪ ،‬ولكن إذا تضافرت الحكاما‬
‫على معنى وحصل الستقراء يكون المعنى قطعياا ويكون مصلحة‬
‫وعلةا وأصلا ومقصداا‪ ،‬وكل ذلك على سبيل القطع‪.‬‬
‫والعتراض هو كيف سيحصل هذا التواتر المعنوي‪ ،‬أو‬
‫التضافر من آحاد الحكاما على هذا المعنى‪ ،‬إذ لم يكن هناك أي قيمة‬
‫شرعية لهذا المعنى في أي حكم‪ ،‬إذ الحكاما ل تدل على معان‪ ،‬وهذه‬
‫المعاني ليست من مدلولت النصوص‪.‬‬
‫فإذا كان في كل حكم من هذه الحكاما التي تستقرأ ل قيمة‬
‫شرعية لهذا المعنى‪ ،‬فكيف سيكتسبِّ المعنى القيمة الشرعية‬
‫باجتماعها‪ ،‬فإذا امتحن شخص مثلا بعشرين سؤالا وحصل في كل‬
‫سؤال على صفر‪ ،‬فكيف سيكون مجموعه مائة من مائة؟ أي كيف‬
‫سيحصل القطع بالمعنى من استقراء الجزئيات التي يتخيل فيها هذا‬
‫المعنى إذا كان ل اعتبار له شرعاا في أي جزئيةم منها؟ وهذا يذكر‬
‫بقول الحنافَّ الذي ورد سابقاا وهو‪ :‬وبكثرةا النظائر ل تحصل قوةا‬
‫في الوصف‪.‬‬
‫أما تمثيل الشاطبي بشجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم‬
‫فليس من قبيله استقراء معاني الحكاما‪ ،‬إذ شجاعة علي وجود حاتم‬
‫هي من دللت النصوص الواردةا عنهما وليس من دللت معاني‬
‫النصوص‪ ،‬فهي من المتواتر المعنوي حقيقة إن صحت النصوص‪ ،‬بل‬

‫‪644‬‬
‫نازع البعض بأن شجاعة علي من التواتر اللفظي‪.‬‬
‫وخطأ الشاطبي هنا يأتي من جهتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬خطأ في المنهج‪ ،‬وهو القول بمقاصد معينة للشارع‬
‫من غير أي دليل‪ .‬وفوق ذلك زعم القطع بها‪ ،‬ناهيك عن الستقراء‬
‫الناقص وما فيه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إن الشاطبي نفسه قد قرر أن هذه المعاني ليس عليهــا‬
‫أي دللة شرعية‪ ،‬وإنما هي خادمـة للمقاصـد الــتي هـي مـن دللت‬
‫النصوص)‪ . (1‬ولو كان عليها دللة من النصوص لكانت من مقاصدها‬
‫الصلية‪ .‬ومع ذلك فقد جعلها باستقرائه لها من المقاصــد الكليــة‬
‫القطعية وهذا ل يستقيم‪ ،‬إقرأ قوله مثلا‪» :‬فما يؤمننا مــن ســؤال‬
‫ال تعالى لنا يوما القيامة من أين فهمتم عني أني ق صــدت التجن يــس‬
‫الفلني بما أنزلت من قولي‪    [ :‬‬
‫‪ ، (2)] ‬أو قولي‪ ، (3) ]      [ :‬فإن‬
‫في دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطراا‪ ،‬بــل‬
‫هــو را جــع إ لــى قــوله ت عــالى‪   [ :‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪ ، ( 4)]     ‬وإلى أنه قول في كتاب ا لــ‬
‫بالرأي«هل)‪. ( 5‬‬
‫رب قائل يقول‪ :‬إن القول بهذه المقاصد أو العلل ‪ -‬بنظره ‪-‬‬
‫مبني على القول بأن الصل تعليل الحكاما‪ ،‬لذلك فهو يتتبع الحكاما‬
‫للتحقق من عللها الشرعية‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬إن هذا الصل على فرض التسليم به يجيز التعليل‪،‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬الموافقات‪ ، 68 - 2/63 ،‬المسألة الخامسة‪ ،‬وانظر‪ :‬المبحث‬ ‫‪1‬‬

‫الثالث من الفصل الرابع من هذا الكتاب ‪.‬‬


‫) ( سورةا الكهف‪. 104 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا الشعراء‪. 168 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ( سورةا النور‪. 15 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ( الموافقات‪. 3/248 ،‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪645‬‬
‫ولكن العلل كثيرةا والخيالت أكثر‪ ,‬وتعيين هذه العلة أو تلك‬
‫من غير أي إرشاد أو إشارةا أو علمة من الشرع تدل على نوع العلة‬
‫أو جنسها هو قول بغير دليل‪ .‬فل بد مع هذا الصل من مسلك‬
‫للعلة أو دليل عليها‪ .‬ولذلك تجد علماء الصول المتكلمين الذين‬
‫ثبتوا أصل التعليل يثبتون معه مسالك للعلة مثل الخالة‬
‫والمناسبة‪ ،‬والشبه‪ ،‬والسبر والتقسيم‪ ،‬والطرد والعكس وغيرها‪.‬‬

‫‪646‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫مإناقشـة فكـرة الشـاطبي‬
‫المقاصـد وأالعلل‬
‫مإوضأوع هذا المبحث‪:‬‬
‫نتابع هنا ما بدأناه في المبحث السابق وهو مناقشة فكرةا‬
‫المقاصد عند الشاطبي‪ ،‬وما نناقشه في هذا المبحث هو أساس الفكرةا‬
‫وهو أن أفعاله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬معللة‪ ،‬وأنها معللة بغاياتها أو‬
‫مقاصدها‪ ،‬ومما سيتناوله هذا المبحث أيضاا إحدى النتائج المهمة‬
‫لهذا المنهج وهي استغناء المجتهد عن الجزئيات في الجتهاد إذا تم‬
‫له فهم المقاصد جملةا وتفصيلا‪.‬‬
‫ولم يكن الشاطبي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬وحده الذي قال بأصل التعليل‬
‫ول بالمقصد أو الغرض من الفعل‪ ،‬لذلك سنتعرض بإيجاز لمناقشة‬
‫تلك القوال‪ .‬ويجدر التذكير هنا أن هذا الموضوع قد عرض‬
‫بشيء من التفصيل في الفصل الول‪.‬‬
‫أصل التعليل‪:‬‬
‫وللبحث اتجاهان قد يختلطان عند البعض‪ ،‬لذلك وجبِّ‬
‫التفريق بينهما‪ .‬أحدهما‪ :‬إن أفعال ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬معللة‬
‫بالغرض‪ ،‬فهو ل يفعل إل لغرض وهذا ما تقتضيه الحكمه‪ ،‬ونقيض‬
‫ذلك هو العبث‪ ،‬وتعالى ال عن ذلك‪ ،‬وإذا ثبت أنه ل يفعل إل‬
‫لحكمةم أو غرض‪ ،‬فينطبق هذا على أحكامه فل بد أن يكون لكل حكم‬
‫قصد‪ ،‬وهو علة الحكم‪ ،‬فوجبِّ تعليل الحكاما‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬إن الحكاما الشرعية معللة‪ ،‬بناء على الدلة الدالة‬
‫على أن الشريعة رحمة للناس وشفاء‪ ،‬وأيضاا بناء على الوقوع‪ ،‬فإن‬
‫الناظر في أحكاما الشريعة يجد أنها مقارنة للمصالح أو أسباب لها‪،‬‬
‫وكذلك يجد من الحكاما ما هو معلل بعلل تدل على مراعاةا‬

‫‪647‬‬
‫المصالح مما يدل على أن الصل تعليل الحكاما بالمصالح‪.‬‬
‫أما التجاه الول فهو بحث كلمي ل علقة له بأصول الفقه‬
‫وإن أدخل في أبحاثه‪ ،‬ول صلة له بالقياس وإن ربطه البعض به‪.‬‬
‫وقد تبين فيما سبق أن الرازي رد تعليل أفعال ال ورد لفظ الغرض‬
‫في أفعال ال رداا قاطعاا مع أنه يقول بالقياس وبأصل التعليل‬
‫للحكاما‪.‬‬
‫أما التجاه الثاني فهو مبحث أصولي بشرط أن يفصل عن‬
‫تعليل أفعال ال‪ ،‬وبغض النظر عن النتيجة أي أن الصل التعليل أو‬
‫عدما التعليل‪.‬‬
‫قال الزركشي‪» :‬ونقل ابن الحاجبِّ في الكلما على السبر‬
‫والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه ل بد للحكم من علة واستشكل‬
‫ذلك بالصل المشهور أن أفعال ال ل تعلل بالغرض«هل )‪ . (1‬وقال‪:‬‬
‫»واعلم أن مذهبِّ أهل السنة أن أحكامه غير معللة بمعنى أنه ل‬
‫يفعل شيئاا لغرض‪ ،‬ول يبعثه شيء على فعل شيء‪ ،‬بل هو ال تعالى‬
‫قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها وإعداما المضار بدون‬
‫دوافعها‪ .‬وقال الفقهاء‪ :‬الحكاما معللة ولم يخالفوا أهل السنة بل‬
‫عنوا بالتعليل‪ :‬الحكمة‪ .‬وتحجر المعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء‬
‫واسعاا‪ ،‬فزعموا أن تصرفه تعالى مقيد بالحكمة مضيق بوجه‬
‫المصلحة«هل )‪ . (2‬فالغالبِّ عند المسلمين الفصل بين المرين‪ ،‬وأن ال‬
‫تعالى ل يفعل لغرض‪ ،‬وفي مناقشات الكلميين من علماء الصول ما‬
‫يرجح قول الرادين لتعليل أفعال ال‪ ،‬بل أدلتهم قاطعة كما قال‬
‫الرازي‪.‬‬
‫رد تعليل أفعال الله تعالى‪:‬‬
‫اختلف القائلون بهذا في طرق الثبـات‪ ،‬فأسـاس الفكرةا عند‬

‫) ( الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/111 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/112 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪648‬‬
‫بعضـهم هو أن ال ‪ -‬سـبحانه وتعالى ‪ -‬حكيم في صنعه‪ ،‬فرعاية‬
‫الغرض في صنعه إما أن يكون واجباا أو ل يكون واجباا‪ ،‬فإن كان‬
‫واجباا فلم يخلي عن المقصود‪ ،‬وإن لم يكن واجباا ففعله للمقصـود‬
‫أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود)‪. (1‬‬
‫وبعض ما يقال رداا على هذا المنطق هو أن ال حكيم في فعلــه‬
‫وفي عدما فعله‪ ،‬فهو حكيم مطلقاا‪ ،‬ولكن الذي يوجبِّ على ال تعــالى‬
‫أن تكون أفعاله أقرب إلى المعقول يجبِّ أن يكون عنــده مــن العلــم‬
‫والعقل‪ ،‬ومما ل يعلمه إل ال ما يرتقي بحكمته إلى حكمة ال‪ ،‬إلــى‬
‫اللمحدود‪ .‬أما من كانت حكمته ل شيء أماما حك مــة ا لــ‪ ،‬ف عــن أي‬
‫معقول يتحدثا؟ ! فمثل هذا الكلما ينطوي على غفلةم في قياس الــ‬
‫على النسـان‪ ،‬وهو يمكن أن يقـال عــن أفع ـــال العقلء والحك مــاء‪.‬‬
‫فال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حكيم‪ ،‬والن ســان ل يــدرك حكم تــه ل نــه ل‬
‫يدرك من الحكم والمعقولت إل بعض ما يتعلق بمحسوساته‪ ،‬وعالم‬
‫الغيبِّ محجوب عن الناس‪ ،‬فما الذي يوجبِّ أن تكون آثار حك مــة ا لــ‬
‫أو مظاهرها متعلقة بمدركات ومحسوسات البشر‪ ،‬وا لــ ‪ -‬ســبحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬يقول‪. (2) ]     [ :‬‬
‫إن قصور العقل النساني ومحدوديته وعجزه عن إدراك ذات‬
‫ال وعن البحث في المغيبات تمنعه من إدراك حكمة ال في صنعه‬
‫وأحكامه بغير خبرم منه تعالى‪ ،‬فهو قد يرى المصلحة مفسدةاا‬
‫والمفسدةا مصلحة وقد يرى ما هو نقيض الحكمة‪ ،‬وإذا قاس‬
‫المغيبات على المحسوسات فقد يخرج بنتائج مناقضة للحقائق‬
‫القطعية‪ ،‬وذلك مثل الذين ذهبوا إلى أن ال ل يفعل إل لغرض‪ ،‬فقد‬
‫وقعوا في قياس ال على النسان‪ ،‬فوصلوا إلى نتيجةم مقتضاها أن‬
‫ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬مستكمل بالغرض‪ ،‬ومثل هذا الكلما ينطبق على النسان‬

‫) ( أنظر‪ :‬المدي‪ ،‬الحكاما‪ ، 3/250 ،‬وانظر‪ :‬المبحث الثالث من الفصل‬ ‫‪1‬‬

‫الثاني من هذا الكتاب ‪.‬‬


‫) ( سورةا البقرةا‪. 216 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪649‬‬
‫وليس على ال‪ .‬ولو استعمل منطق هؤلء نفسه لمكن أن يؤدي إلى‬
‫نتائج مناقضة لنتائجهم وفاسدةا‪ .‬فمن أفعال ال مثلا الخلق وقد‬
‫يقال‪ :‬كان ال وليس معه غيره ثم خلق خلقاا‪ ،‬فإما أن يكون خلقهم‬
‫لحكمة أو ل لحكمة‪ ،‬فإن كان لحكمة فالحكمة موجودةا منذ الزل‬
‫وهو لم يخلقهم من الزل‪ ،‬فلم يبق إل أن يكون ل لحكمة‪ ،‬وهذا‬
‫فاسد‪ .‬ومصدر فساده أنه إعمال للعقل فيما ل علم له فيه‪ ،‬مثل‬
‫الذين أثبتوا الغرض‪ .‬وكذلك فإن الخطأ نفسه يدخل نتائجهم‬
‫التي بنوا عليها‪ ،‬فقد قالوا‪ :‬إن ال ل يفعل إل لمصلحة والمصلحة‬
‫إما أن ترجع إلى ال تعالى وإما أن ترجع إلى العبد‪ ،‬وال منزه عن‬
‫الضرر والنتفاع‪ ،‬فلم يبق إل أن ترجع إلى العبد‪ ،‬وهذا أيضاا خوض‬
‫في المجهول‪ ،‬فباستعمال المنطق نفسه يمكن القول‪ :‬إن ال ل يفعل‬
‫إل لمصلحة‪ ،‬والمصلحة إما أن ترجع إلى ال أو إلى العبد‪ ،‬ومن‬
‫فعله ‪ -‬تعالى ‪ -‬خلق العبد‪ ،‬فإما أن ترجع مصلحة هذا الخلق إلى ال‬
‫تعالى أو إلى العبد‪ ،‬ل يمكن أن ترجع إلى العبد لنه قبل الخلق‬
‫معدوما ول يتصور للمعدوما مصلحة‪ .‬فلم يبق إل أن تكون المصلحة‬
‫راجعة إلى ال تعالى‪ ،‬وهذا فاسد‪ ،‬لنه إعمال للعقل فيما ل يعمل‬
‫فيه‪ ،‬واتخاذي لعدما العلم دليلا على العلم‪ ،‬وإذا كان ل بد من قولم‬
‫في المصلحة وفي رجوعها إلى جهةم ما‪ ،‬فالصح أن يقال‪ :‬المصلحة‬
‫إما أن ترجع إلى ال تعالى أو إلى العبد أو إلى ما ل نعلم‪ ،‬وبهذا‬
‫يسقط هذا الدليل‪.‬‬
‫وذهبِّ البعض إلى أن أفعاله ‪ -‬تعالى ‪ -‬ل تعلل‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فالصـل في الفعـال التعليـل بالمصلحة)‪ ، (1‬وذلك بناء على‬
‫ملحظة مقارنة الحكاما للمصالح‪ ،‬وهذا السـتدلل هو من‬
‫السـتقراء الناقص لذلك ل يصح‪ ،‬إذ تبين فيما سبق أن الستقراء‬
‫الناقص ل يكون دليلا‪ ،‬وإنما الدليل هو العلة المصاحبة له‪.‬‬
‫ومن الدلة على أن أفعاله ‪ -‬تعالى ‪ -‬معل لــة‪ ،‬وأ نــه ل يف عــل إل‬
‫) ( أنظر أقوال الرازي في المبحث الثالث من الفصل الثاني ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪650‬‬
‫لغايةم أو قصد ما ذهبِّ إليه الشاطبي وهو السـتقراء‪ ،‬ولكنه مختلف‬
‫عن الســتقراء المذكور أعله ‪ -‬وهو استقراء الــرازي ‪ -‬فـالرازي‬
‫استقرأ الحكاما ليثبت أصل التعليل بالمصالح‪ ،‬ونفى تعليـل الفعال‪.‬‬
‫أما الشـاطبي فقد اســتقرأ النصوص‪ ،‬وكان ذلـك بالك ثــار مــن‬
‫النصوص التي جـاء فيـها ذكر القصـد كما في قوله تعالى‪ [ :‬‬
‫‪  [، ]  [، ]   [، [ ، ]‬‬
‫ج‬

‫‪ . ] ]       ‬وهكذا)‪. (1‬‬


‫وهذا الستدلل ل يصح ولو كثرت مثل هذه النصوص‪ ،‬لنه‬
‫استقراء ناقص ل يستغرق كل فعل أو حكم‪ ،‬وكما جاءت نصوص‬
‫كثيرةا دلت على القصد‪ ،‬فقد جاءت نصوص كثيرةا لم يظهر فيها‬
‫القصد‪ .‬كما أن مثل هذه النصوص التي أتى بها الشاطبي ل تدل‬
‫على علل‪ ،‬ول يستقيم في العقل الربط بينها وبين تعليل الحكاما‬
‫بمقاصدها‪ .‬أضف إلى ذلك أن كثيراا مما استدل به الشاطبي يمكن‬
‫الستدلل به على عكس ما أراده‪.‬‬
‫وعلى ذلك فدليل الشاطبي على أصل التعليل مردود من عدةا‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬إن هذا الستقراء ناقص‪ ،‬فل يفيد‪،‬ول يحصل منه‬
‫المطلوب ما لم يدل على ذلك دليل نقلي‪ .‬وإذا وجد هذا الدليل فل‬
‫حاجة إلى الستقراء الناقص‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وجود نصوص كثيرةا لم يذكر الشارع فيها قصداا له‪،‬‬
‫وهــذا ينقــض زعــم الســتقراء‪ ،‬كقــوله تعــالى‪  [ :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫الية‪ ،‬وقوله تعالى‪  [ :‬‬ ‫‪]   ‬‬
‫)‪(3‬‬
‫‪. ]         ‬‬
‫وقولـه تعالى‪      [ :‬‬

‫) ( أنظر الموافقات‪ ، 3/2 ،‬وانظر تفصيلت هذا الدليل في المبحث الثالث‬ ‫‪1‬‬

‫من الفصل الثالث ‪.‬‬


‫) ( سورةا البقرةا‪. 34 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 67 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪651‬‬
‫)‪(1‬‬
‫الي ة ‪ ،‬وقــوله تعــالى‪  [ :‬‬ ‫‪] ‬‬
‫)‪(2‬‬
‫الية‪ ،‬وقوله تعالى‪  [ :‬‬ ‫‪]   ‬‬
‫‪ (3) ]   ‬الي ة‪ ،‬وليــس حمـــل هـــذه‬
‫النصـوص على تلـك في إثبـات الغـرض بأولى م ـــن ح مــل تلــك‬
‫على هذه في نفيه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إن كثيراا من استدللت الشاطبي على القصد‬
‫والغرض ترجع إلى التحكم ول تصلح ليبنى عليها تعليل الفعال‬
‫والحكاما‪ ،‬وهذه الستدللت نوعان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬كقوله تعالى‪     [ :‬‬
‫‪ . (4)]      ‬فهذا النص دل‬
‫على قصد حصول التقوى‪ ،‬والتقوى نفسها هــي خــوفَّ ا لــ و طــاعته‬
‫وعدما مخالفة أمره وتحري رضاه‪ ،‬ف هــذا الق صــد ل ير جــع إل إ لــى‬
‫التحكم‪ ،‬وليس فيه ما يفيد أن الحكاما معللة‪ ،‬وهو ليــس م مــا يبنــى‬
‫عليه ذلك‪ ،‬ومن ذلك أيضاا قــوله ت عــالى‪   [ :‬‬
‫‪ ، (5)]   ‬فمثل هذا أيضاا ل يرجع إلى إثبــات‬
‫قصد أو غرض مما يبنى عليه تعليل الحكاما‪ ،‬ل بما لـو عـرض علـى‬
‫العقول تلقته بالقبول‪ ،‬ول بمسببات أو مآلت‪.‬‬
‫‪ [، ] ‬‬
‫ثانيهما‪ :‬كقوله تعالى‪[، ] [ :‬‬
‫‪ ، ] ‬فهذه الستدللت ليس فيها ما يصلح لن ينبني عليه‬
‫أصل تعليل الحكاما‪ .‬فهي إخبار من الشارع يفيد التكليــف بالعبــادةا‬
‫والتقوى وبأن يجتهدوا في ذلك‪ ،‬وتحذير لهم بأنهم ليس لهم حجة‬
‫يوما القيامة بما بلغهم من الرسالة‪ .‬فكيف الربط واســتنتاج تعليــل‬
‫الحكاما بمثل هذه النصوص؟!‬

‫سورةا البقرةا‪. 226 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 228 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 275 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا البقرةا‪. 183 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سورةا الذاريات‪. 56 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪652‬‬
‫ولقد عد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كل استدللت‬
‫الشاطبي على هذا المر غير صالحة سوى اثنين‪ ،‬فأي استقراء يبقى‬
‫بعد ذلك؟!‬
‫الرابع‪ :‬إن ما استدل به الشاطبي على الغرض ينعكس فيســتدل‬
‫به على نفيه‪ ،‬ففي قوله تعالى‪     [ :‬‬
‫‪ . ]‬إذا سأل سائل‪ :‬لماذا خلق ال الناس و جــاءه ال جــواب‪:‬‬
‫لكي يعبدوه‪ .‬فإن هذا ل يشفي مــا فــي الن فــس إذا كــان المطلــوب‬
‫معرفة علةم أو غرض‪ ،‬فيتحول السؤال إلى سؤال آخر‪ :‬ل مــاذا يريــد‬
‫ال من الناس أن يعبدوه؟ ما الغرض مــن ذلــك؟ والنــص ل يــذكر‬
‫الغرض‪ ،‬وإنما يأمر بعبادته ول يذكر قصداا أو غرضاا‪ .‬وهكذا فــي‬
‫كل دليل من أدلة الشاطبي يم كــن أن ي ســتدل علــى ع كــس مــا أراد‪،‬‬
‫فيقال وما الغرض من ابتلء الناس أيهم أحسن عملا‪ ،‬و كــذلك مــا‬
‫الغرض من قطع حجة الناس يوما القيامة‪،‬وهكذا فكل نــص أتــى بــه‬
‫الشاطبي وفيه ذكر القصد أو الغاية أو الغرض‪ ،‬فإن فيه أيضاا عـدما‬
‫ذكر ذلك‪ ،‬مما يدل على عدما صحة هكذا استدلل‪.‬‬
‫ول جواب في الحقيقة على مثل هذه الســئلة إل أن يقــال‪ [ :‬‬
‫‪1‬‬ ‫)‪2‬‬
‫[ ‪     [ ، ]   ‬‬
‫(‬ ‫)‬ ‫(‬
‫]‪،‬‬
‫)‪( 4‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪]   [ ، ]    ‬‬
‫) (‬

‫لذلك فإن الذين جادلوا في حرمة الربا محتج يــن بــأنه م ثــل‬
‫البيع لم يأتهم الجواب ببيان وجوه الفرق بين البيع والربا‪ ،‬أو ببيان‬
‫الحكمة من تحريم الربا‪ .‬بل جاء الجواب تحكماا‪ ،‬قال تعالى‪ [ :‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪        ‬‬

‫سورةا النبياء‪. 23 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورةا آل عمران‪ ، 40 ،‬والحج‪. 18 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سورةا البروج‪ ، 16 ،‬وهود‪. 107 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سورةا المائدةا‪. 1 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪653‬‬
‫‪ . (1) ]  ‬لذلك فما استدل به الشاطبي ل يصــلح لثبــات‬
‫مطلوبه‪.‬‬
‫المقاصد وأالعلل‪:‬‬
‫عمد الشاطبي إلى إثبات أصل التعليل بإثبات مقاصد للشارع‬
‫من الحكاما‪ ،‬هي مسببات ومآلت اللتزاما بالحكاما الشرعية‪ ،‬وعد‬
‫هذه المقاصد عللا من غير أن يتعرض لبيان أو إثبات أن المقصود‬
‫بالحكم هو علته‪.‬‬
‫وحسبِّ ما جاء به الشاطبي فإن المقصد علة‪ ،‬والمقصد هو عينه‬
‫مسببِّ ونتيجة ومآل‪ ،‬والحكم هو السببِّ الذي يؤدي إلى المقصد‪،‬‬
‫وبناء اعلى هذا المنطق فإن الحكم الشرعي هو سببِّ علته‪ .‬وكمثال‬
‫على ذلك‪ ،‬حكم القطع في السرقة‪ .‬فإن مقصود الشارع بالحكم هو‬
‫الزجر فالزجر علة للحكم‪ ،‬والحكم هو القطع فيكون الزجر علة‬
‫القطع‪ .‬وهو أي الزجر مسببِّ عن القطع الذي هو الحكم‪ ،‬فيكون‬
‫الحكم سبباا له ويكون الحكم سببِّ علته‪ .‬فهل هذا صحيح؟ وهل علة‬
‫الحكم نتيجة له ؟ وعليه فهل علة الحكم توجد بعده؟ وبتعبير آخر‬
‫هل المقصد علة ؟‬
‫وكمثال آخر من أدلته في إثبات تعليل ال شــريعة و هــو قــوله‬
‫تعالى‪ . (2)]       [ :‬فالعبادةا‬
‫مقصد للشارع وهي تحصل بعد الخلق‪ ،‬فهل هي علة للخلـق‪ ،‬وتكـون‬
‫العلة بعد معلولها؟ هل تصوير المر هكذا في هذين المثــالين‪ ،‬مثــال‬
‫السرقة ومثال الخلــق للعبــادةا‪ ،‬هــل هــو صــحيح أما أن فــي ال مــر‬
‫اختلطاا وتشويشاا؟‬
‫كل‪ ،‬إن المر ليس بهذه الصورةا‪ ،‬وإن ظهرت مستقيمةا بادئ‬
‫الرأي‪ ،‬فالمقصد ليس علةا‪ ،‬والعلة ليسـت مقصـداا‪ ،‬والحكم ليس‬
‫سـبباا لعلته‪ ،‬وعلة الحكم ل تكون بعده‪ ،‬كيف وهو وإنما يوجد‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 275 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( سورةا الذاريات‪. 56 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪654‬‬
‫عندها وبها وينعدما بانعدامها! وهي الباعث له أو عليه‪.‬‬
‫نعـم‪ ،‬إن في المـر اختلطاا وتشويشاا‪ ،‬وكون العلة ل تتأخر‬
‫عن الحكم‪ ،‬أمر متفق عليه‪ ،‬وهي إما أن تسبقه وإ مــا أن ت قــارنه فــي‬
‫الزمان‪ ،‬بل خلفَّ‪ ،‬ل في العلل الشرعية ول في العلل العقليــة‪ ،‬قــال‬
‫الزركشي‪» :‬واعلم أنه ل خلفَّ أن العلة تتقدما على المعلــول فــي‬
‫الرتبة واختلفوا في هل تسـبقه في الزمان أو تقارنه على مذاهـبِّ‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬وعليه الكثر من المعتزلة والفقهاء‪ ،‬أنها تقارنه واســتدل‬
‫عليه بـقـول ـــه تـع ـــالى‪     [ :‬‬
‫] )‪« (1‬هل)‪ . (2‬ثـم قـال‪» :‬والـثـاني‪ :‬أنهــا معــه«هل)‪ . (3‬أي تقــارنه فــي‬
‫الزمان‪ ،‬ثم قال‪» :‬أن العقلية تقارن معلولها لكونها مؤثرةا بــذاتها‪،‬‬
‫والوضـعـية تسـبق المعـلـول‪ ،‬والشـرعـية من الوضـعـية«هل)‪. (4‬‬
‫وبناءا على التفاق الذي نقله الزركشي فإن المنهج الذي‬
‫يقوما في أساسه وأركانه ونتائجه على هذا الخلط بين علة الحكم‬
‫ومقصوده يرد من أصله‪ ،‬ولزالة هذا الخلط والتشويش فإنه يلزما‬
‫بيان موضع الخطأ وسببه‪.‬‬
‫أما موضع الخطأ‪ ،‬ففي مثال السرقة علة القطع هي السرقة‬
‫وليست الزجر‪ ،‬والزجر نتيجة أو مقصود‪ ،‬والسرقة‪ ،‬وهي العلة‪،‬‬
‫تحصل قبل الحكم أو معه وهو وجوب القطع‪ .‬والعلقة بين العلة‬
‫والمعلول ل تتخلف فحيثما وجدت السرقة وجد الحكم أي وجوب‬
‫القطـع‪ ،‬أما الزجـر فهـو نتيـجـة قـد توجـد وقد تتخلف وهكذا‬
‫في كل العقوبات‪.‬‬
‫أما في مثال الخلق لجل العبادةا‪ ،‬فالعبادةا مقصد أو نتيجة قد‬
‫توجد وقد ل توجد كما في الكافر أو العاصي‪ ،‬ول يوجد علة هنا‪،‬‬
‫لن الخلق من أفعال ال ـ سبحانه وتعالى‪ .‬ومما يجدر ذكره أن‬
‫سورةا الزمر‪. 42 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/110 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/111 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الزركشي‪ ،‬البحر المحيط‪. 4/111 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪655‬‬
‫العلة هي علة الحكم وليست علة الفعل‪ ،‬فالسرقة علة وجوب القطع‬
‫وليست علة القطع نفسه‪ ،‬لن الفعل نفسه قد يحصل وقد ل يحصل‬
‫لنه راجع إلى اختيار المكلف الذي قد يطيع وقد يعصي كما في أي‬
‫حكم‪.‬‬
‫أما سببِّ هذا الخطأ فهو أن الذين يخلطون بين العلة والمقصد‬
‫تنصرفَّ أذهانهم عن النظر في الحكم وفي علته إلى النظر في‬
‫طريقة الشارع في التشريع‪ .‬فيتصورون أن عند الشارع قوانين أو‬
‫طريقة للتشريع ينزل الحكاما بناء عليها‪ ،‬ويحاولون اكتشافَّ هذه‬
‫القوانين‪ ،‬وسواء صح هذا أما لم يصح فإن انصرافَّ الذهن إلى هذه‬
‫الجهة ومحاولة اكتشافَّ أصول يشرع بناء عليها الشارع هو تجاوز‬
‫من النسان لحدوده ينطوي على قياس خفي للخالق على المخلوق‪.‬‬
‫فمثل هذا المر يصح على النسان وفي العقليات ول يصح في حق‬
‫ال تعالى‪ .‬وكمثال واقعي لمزيد من البيان والتمييز‪:‬‬
‫إذا رأى المسؤول عن تنظيم حركة السير وضع علمات في‬
‫الطرقات لجل تنظيم الحركة وإزالة مشاكلها‪ ،‬ثم فعل ذلك‬
‫وانتظمت الحركة‪ .‬فقد يسأل‪ :‬ما علة وضع العلمات؟ والجواب‪:‬‬
‫تنظيم الحركة‪ .‬وقد يسأل‪ :‬ما علة انتظاما الحركة؟ والجواب‪:‬‬
‫العلمات‪ .‬فهذان الجوابان أحدهما جعل تنظيم الحركة علة‬
‫للعلمات‪ ،‬والخر جعل العلمات علة لتنظيم الحركة‪ ،‬ففي المر‬
‫تشويش‪ .‬والصواب هو أنه إذا كان النظر في الحكم وعلته فهذا‬
‫يقابله هنا النظر في انتظاما الحركة وفي العلمات‪ .‬والعلمات هي‬
‫التي أدت إلى النظاما وإذا زالت تحصل المشاكل‪ ،‬وهي تسبق التنظيم‬
‫في الوجود‪ ،‬فهي العلة‪ ،‬ول يمكن أن يكون النظاما هو العلة‪.‬‬
‫أما الذي يجيبِّ بأن تنظيم الحركة هو علة العلمات فهذا‬
‫خطأ‪ .‬فتنظيم الحركة إنما هو المقصود بوضع العلمات ونتيجة‬
‫لها‪ ،‬وإنما يظن أنها علة إذا نظر إلى ما في نفس أو عقل الذي قرر‬
‫وضعها‪ ،‬فهذا نظر إلى الحركة ووجد أنها بحاجة إلى تنظيم فقرر‬

‫‪656‬‬
‫وضع قوانين لجل ذلك فيويضيعي علمات تؤدي إلى الغرض‬
‫المطلوب‪ ،‬فغرض تنظيم الحركة إذا عيديي علة فهو ليس علة‬
‫للعلمات ول لوضع العلمات وإنما هو علة لتخاذ القرار بوضعها‬
‫عند المسؤول عن ذلك‪ ،‬وتنظيم الحركة في الواقع نتيجة وليس‬
‫علة‪ .‬وإذا عدت هذه النتيجة علة فهي علة لما في نفس صاحبِّ‬
‫القرار‪ ،‬وعندما تختلف الجابات كما هو وارد أعله فسببِّ ذلك هو‬
‫أن كل جواب هو على شيء مختلف عن الخر‪ .‬فإذا لم يحصل‬
‫التمييز وقع الخلط‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالمقصد ليس علةا والعلة ليست مقصداا‪ ،‬ومقاصد‬
‫الشارع ليست عللا للحكاما‪ ،‬وإذا انتقلنا من هذا المثال‪ ،‬أي من‬
‫دوافع الناس ومقاصدهم في أحكامهم وأفعالهم إلى علل الحكاما‬
‫الشرعية ومقاصدها ينبغي اعتبار مسألتين‪:‬‬
‫الوألى‪ :‬إن القصد الذي يراد تحقيقه بهذا القرار قد يمكن‬
‫الوصول إليه بأساليبِّ غير هذا القرار‪ ،‬وهذا ل ينطبق على الحكاما‬
‫الشرعية‪ ،‬فإذا علمنا قصد الشارع من الحكم فل يمكن تغيير الحكم‬
‫بحجة تحقيق المقصود‪ ،‬فإذا علمنا أن القطع في السرقة ل يزجر ‪-‬‬
‫مثلا ‪ -‬فهذا ل يبرر تبديل الحكم‪ .‬وهذا ل يخالف فيه الشاطبي بل‬
‫يؤكده)‪. (1‬‬
‫الثانية‪ :‬إن قصد صاحبِّ القرار يمكن أن يفهم من تتبع أقواله‬
‫وأفعاله ومن خلل فهم عقليته وتحليل نفسيته لن هذا يقع ضمن‬
‫حدود الدراك النساني‪ ،‬وهذا ل يمكن تطبيقه على الخالق‪ ،‬فل يقال‬
‫بمقصد له أو بعلة بغير خبر منه‪ .‬ومحاولة إدراك طريقة له في‬
‫التشريع أو قوانين‪ ،‬فيها خطأ بقياس الخالق على المخلوق‪ .‬وهذا ما‬
‫فعله الشاطبي من خلل ما سماه القوانين الكلية والصول الكلية‬
‫والمصالح الحقيقية‪ .‬وبنى ذلك كله على مقاصد الشارع التي‬

‫) ( أنظر‪ :‬المبحث الثاني من الفصل الثالث ‪ ،‬بحث السباب والمسببات ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪657‬‬
‫سعى إلى إدراكها بالستقراء وجعلها عللا قطعية‪.‬‬
‫ومنهجه هذا يرد من هذه الجهة أيضاا‪ ،‬وهي اعتبار المقصد‬
‫علة وما انبنى على ذلك من قياس للخالق على المخلوق‪.‬‬
‫وهذا المنهج هو الذي أدى إلى نتيجة خطرةا‪ ،‬بل تعد علمةا على‬
‫خطأ المنهج دافعةا إلى إعادةا النظر فيه‪ ،‬وهي الستغناء بالكليات عن‬
‫الجزئيات وهو الموضوع التالي‪.‬‬
‫الستغناء بالكليات عن الجزئايات‪:‬‬
‫تبين من منهج الشاطبي أن للتشريع مقاصد هي علله أو أصوله‬
‫الكلية التي تتنزل بناء عليها أو لجلها الجزئيات‪ ،‬وهي النصوص‬
‫والحكاما‪ ،‬والحكاما من مقاصد النصوص‪ ،‬وكلهما مقاصده هي‬
‫تلك الصول الكلية‪.‬‬
‫والكليات ل تفهم إل باستقراء الجزئيات فهي مأخذها ودليلها‪،‬‬
‫ولول الجزئيات لم تعرفَّ الكليات‪ ،‬وتبين أيضاا أنه ل بد من إعمال‬
‫الجزئيات والكليات معاا فإعمال الكلي بغير الجزئي خطأ كإعمال‬
‫الجزئي بغير الكلي)‪. (1‬‬
‫وقد يعترض على الشاطبي بأنه ما الحاجة إلى إعمال الجزئي‬
‫إذا كان الكلي قد فهم منه‪ ،‬فمعنى الجزئي موجود فيه‪ ،‬والنظر في‬
‫الجزئي بعد ذلك عناء‪ ،‬وإذا فرض مخالفة بين الجزئي والكلي‪ ،‬أو‬
‫خصوصية للجزئي غير معتبرةا في الكلي فهذا يعني أن الكلي ليس‬
‫كلياا بعد وهذا بخلفَّ الفرض‪ ،‬فل حاجة لعمال الجزئي )‪. (2‬‬
‫ولكن الشاطبي يصرح برد هذا العتراض ويصرح بلزوما إعمال‬
‫الجزئي والكلي معاا فيقول‪» :‬فالحاصل أنه ل بد من اعتبار خصوص‬
‫الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس وهو منتهى نظر المجتهدين‬

‫) ( أنظر‪ :‬المبحث الول من هذا الفصل ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( أنظر‪ :‬الموافقات‪. 7 - 3/2 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪658‬‬
‫بإطلق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الجتهاد«هل )‪. ( 1‬‬
‫إل أن ما اعترض به على الشاطبي هنا صحيح فالستغناء عن‬
‫الجزئيات لزما للمنهج وإن صرح الشاطبي برده‪ ،‬بل إن بعض ما قال‬
‫به يدل على هذا الستغناء‪ ،‬والظاهر أن الشاطبي لحظ هذا المر‬
‫كنتيجة منطقية لمنهجه فاضطرب واستشكل المر‪ ،‬وتوقف عن رد‬
‫أقوال بإهمال الجزئيات وهو ما سيتبين‪ .‬ومما يشير إلى هذا المر‬
‫قوله بصحة الجتهاد ممن فهم المقاصد جملة وتفصيلا‪ ،‬ولو لم‬
‫يكن عنده علم بالعربية‪ ،‬قال‪» :‬فإذاا من فهم مقاصد الشرع من‬
‫وضع الحكاما وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق‬
‫الترجمة باللسان العجمي فل فرق بينه وبين من فهمها من طريق‬
‫اللسان العربي«هل)‪ . (2‬وقال‪» :‬الجتهاد إن تعلق بالستنباط من‬
‫النصوص فل بد من اشـتراط العلم بالعربيـة وإن تعلق بالمعاني‬
‫من المصالح والمفاسـد المجردةا عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة‬
‫من صاحبِّ الجتهاد في النصوص فل يلزما في ذلك العلم بالعربية‪،‬‬
‫وإنما يلزما العلم بمقاصد الشـرع من الشـريعة جملة‬
‫وتفصيلا«هل )‪ . (3‬فهذا المجتهد ل يعرفَّ العربية فل يمكنه النظر في‬
‫الجزئيات فل ينظر في النصوص ول يسـتنبط منها وإنما هو فقط‬
‫يعمل الكليات بشرط أن يكون علم بها جملة وتفصيلا‪ ،‬والعلم‬
‫بالعربية هو شرط في المجتهد الذي يستنبط من الجزئيات لكي‬
‫يتوصل إلى فهم الكليات‪ ،‬وما لم يحصل له العلم بالكليات جملة‬
‫وتفصيلا فل يمكنه الجتهاد سواء كان عالماا بالعربية أما ل‪.‬‬
‫فالعلم بالعربية هو لجل التوصل إلى الكليات من الجزئيات‪ ،‬فإذا تم‬
‫هذا فل حاجة للعربية‪ ،‬ول فرق بعد ذلك بين من تسلمها بالترجمة‬
‫وهو ل يعرفَّ العربيـة وبين من فهمها بالعربيـة‪ .‬وهذا القول‬
‫إشـارةا إلى إمكان السـتغناء عن النظر في النصوص لجل الجتهاد‪.‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪ 3/6 ،‬وانظر‪ :‬المبحث الول من هذا الفصل ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/91 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/90 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪659‬‬
‫ومما يشـير إلى هذا أيضاا قوله في شروط المجتهد المعتبر‪:‬‬
‫»إنما تحصل درجة الجتهاد لمن اتصف بوصـفين‪ ،‬أحدهما فهم‬
‫مقاصد الشريعة على كمالها‪ ،‬والثاني التمكن من الستنباط بناء‬
‫على فهمه فيها«هل)‪ . (1‬وقد يذهبِّ الذهن إلى أن الوصف الثاني يتضمن‬
‫شـرط إعمال الجزئيـات وليس المر كذلك‪ ،‬لن الثاني ‪ -‬بنظر‬
‫الشـاطبي ‪ -‬وسـيلة إلى الول‪ ،‬فإنه هـو الذي يظهر حصول فهم‬
‫المقاصد‪ ،‬وهو الذي يظهر إمكانية السـتنباط بناء على هذا الفهم‪،‬‬
‫قال‪» :‬ل تظهر ثمرةا الفهم إل في السـتنباط فلذلك جعل شـرطاا‬
‫ثانياا‪ ،‬وإنما كان الول هو السـببِّ في بلوغِّ هذه المرتبـة لنه‬
‫المقصود والثاني وسـيلة«هل)‪. (2‬‬
‫فهذه النصوص تبعث على التدقيق في حقيقة مقصود الشاطبي‬
‫بهذا المر‪ ،‬والذي يترجح أنه يعني الستغناء عن الجزئيات‪ ،‬خاصة‬
‫وأنه يؤكد على تماما فهم المقاصد‪» :‬العلم بمقاصد الشرع من‬
‫الشريعة جملةا وتفصيلا«هل‪» ،‬فهم مقاصد الشريعة على كمالها«هل‬
‫وكذلك قوله‪» :‬فإذا بلغ النسان مبلغاا فهم عن الشارع فيه قصده‬
‫في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد‬
‫حصل له وصف هو السببِّ في تنزله منزلة الخليفة للنبي ‪ ‬في‬
‫التعليم والفتيا والحكم بما أراه ال«هل)‪. (3‬‬
‫ومما يشير إلى هذا أيضاا ما قاله عند حديثه عن مراتبِّ‬
‫العلماء )‪ ، (4‬حيث جعلها ثلثا مراتبِّ‪ :‬الولى هي التي لم يتخلص‬
‫لصاحبها بعد فهم مقاصد الشريعة فل يصح منه الجتهاد واللزما له‬
‫الكف والتقليد‪ ،‬والثالثة هي مرتبة الراسخين في العلم‪ ،‬ول خلفَّ‬
‫في صحة الجتهاد من صاحبها‪ ،‬والثانية هي الشاهد هنا وفيها‬
‫الدللة على الستغناء عن الجزئيات‪.‬‬

‫المصدر نفسه ‪. 4/56 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/56 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أنظر‪ :‬المصدر نفسه ‪. 132 - 4/127 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪660‬‬
‫وقد أورد صفة صاحبِّ هذه المرتبة )الثانية( في العلم‪،‬‬
‫وخلصتها أنه فهم كليات الشريعة بشكل تاما وكامل‪ ،‬ولكنه إذا‬
‫اجتهد يعمل الكليات ول يعمل الجزئيات‪ .‬ثم تساءل الشاطبي إن‬
‫كان صاحبِّ هذه المرتبة يصح منه الجتهاد أو ل‪ ،‬وقال إن هذا محل‬
‫نظر والتباس‪ ،‬ومما يقع فيه الخلفَّ‪ .‬ثم ذكر حجج المجيزين‬
‫لجتهاده وحجج المانعين‪ ،‬وانتهى إلى أن المسألة باقية الشكال‪.‬‬
‫والدليل على أن هذا المنهج يقتضي صحة إهمال الجزئيات‬
‫أمران‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬قوله إن المسألة باقية الشكال‪ ،‬وكان الواجبِّ بحسبِّ‬
‫أقواله بوجوب إعمال الجزئيات والكليات معاا أن يقف مع المانعين‬
‫بل تردد‪ .‬ولكنه لم يفعل‪ ،‬مما يشير إلى أن المنهج ينسجم مع‬
‫إهمال الجزئيات لمن استكملت عنده الكليات‪ .‬وكذلك هو لم يقف‬
‫مع المجيزين إذ هذا يتناقض مع أقواله بضرورةا إعمال الجزئيات‬
‫والكليات معاا‪ ،‬وهذا ما دعا إلى القول باضطرابه في هذه المسألة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن حجج المانعين كلها مردود عليها عنده بحسبِّ‬
‫منهجه وبنصوصه وذلك أثناء إثباته أن الكليات هي قطعيات‬
‫استقرائية‪ ،‬فل تيعيارض ول تنخرما ول تيخصص‪ .‬ومع ذلك فهو لم‬
‫يرد حجج المانعين هنا‪ ،‬ولو ردها لناقض ما سبق أن قرره بضرورةا‬
‫إعمال الجزئيات‪ ،‬إذ هي كلها ترجع إلى إهمال صاحبِّ هذه المرتبة‬
‫للجزئيات‪ ،‬وفيما يلي ما يوثق المذكور أعله‪:‬‬
‫أما في صفة صاحبِّ هذه المرتبة فقال‪» :‬أن ينتهي بالنظر إلى‬
‫تحقيق معنى ما حصل حسبِّ ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث‬
‫يحصل له اليقين ول يعارضه شك بل تصير الشكوك إذا وردت عليه‬
‫كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه«هل)‪ . (1‬ثم قال‪» :‬لكنه‬
‫استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكماا وإن كان‬
‫موجوداا عنده فل يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/127 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪661‬‬
‫خلفها أما ل«هل)‪ . (1‬ثم تساءل‪» :‬فإذا حصل الطالبِّ على هذه المرتبة‬
‫فهل يصح منه الجتهاد في الحكاما الشرعية أما ل؟ هذا محل نظر‬
‫والتباس ومما يقع فيه الخلفَّ«هل)‪ . (2‬ثم بين ما يراه حججاا‬
‫للمجيزين فقال‪» :‬وللمحتج للجواز أن يقول‪ :‬إن المقصود‬
‫الشرعي إذا كان هذا الطالبِّ قد صار له أوضح من الشمس وتبينت‬
‫له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار بعضها عاضداا‬
‫للبعض ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلبِّ فالذي حصل عنده‬
‫هو كلية الشريعة وعمدةا النحلة ومنبع التكليف فل عليه أنظر في‬
‫خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أما ل‪ .‬إذ ل يزيده‬
‫النظر في ذلك زيادةا‪ ،‬إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى‬
‫هذه المرتبة وقد فرضناه واصلا‪ ،‬هذا خلف‪ .‬ووجه ثانم وهو أن‬
‫النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك‬
‫المطلوب الكلي الشرعي حتى يبني عليه فتياه ويرد إليه حكم‬
‫اجتهاده‪ ،‬فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلبِّ لتحصيل‬
‫الحاصل وهو محال ووجه ثالث وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما‬
‫انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصات‪ ،‬وبمعانيها ترقيى‪،‬‬
‫إلى ما ترقيى‪ ،‬إليه‪ ،‬فإن تكن الحال غير حاكمة عنده لستيلء‬
‫المعنى الكلي فهي حاكمة في الحقيقة لن المعنى الكلي منها‬
‫انتظم‪ ،‬ولجل ذلك ل تجد صاحبِّ هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر‬
‫إل وقامت له الدلة عاضدةا وناصرةا‪ ،‬ولو لم يكن كذلك لم تعضده‬
‫ول نصرته‪ ،‬فلما كان كذلك ثبت أن صاحبِّ هذه المرتبة متمكن‬
‫جداا من الستنباط والجتهاد وهو المطلوب«هل)‪. (3‬‬
‫وحجج المجيزين هذه كلها تدور حول عدما الحاجة إلى‬
‫النظر في الجزئيات‪ ،‬لن فائدةا النظر فيها حاصلة من النظر في‬

‫) ( المصدر نفسه‪. 4/128 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪ ،‬ويمكن للقارئ أن يلحظ قوةا وتمكن هذا المجتهد ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪662‬‬
‫الكليات‪.‬‬
‫أما بيانه لما يمكن أن يحتج به المانعون لجتهاد صاحبِّ هذه‬
‫المرتبة فقال‪» :‬وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه«هل)‪ . (1‬وذكر‬
‫ثلثة أوجه‪:‬‬
‫الوأل‪ :‬إن هذا يتضمن إهمال الجزئي وهو خطأ‪ ،‬ومن ل يعمل‬
‫الجزئي ل يترقى إلى درجة الجتهاد‪» ،‬إذ قد تبين في كتاب الدلة‬
‫أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس«هل )‪. (2‬‬
‫الثاني‪ » :‬أن للخصوصـيات خواص يليـق بكل محل منها ما ل‬
‫يليـق بمحل آخـر‪ ،‬كما في النكاح مثلا فإنه ل يسوغِّ أن يجري‬
‫مجرى المعاوضات من كل وجه كما أنه ل يسوغِّ أن يجري مجـرى‬
‫الهبات والنحل من كل وجه«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬ولكل خاص خاصيـة‬
‫تليـق به ل تليـق بغيره‪ ،‬وكما في الترخصات في العبادات والعادات‬
‫وسـائر الحـكاما‪ ،‬وإذا كـان كذلك وقد علمنا أن الجميع يرجع‬
‫مثلا إلى حفـظ الضروريات والحاجيات والتكميليـات‪ ،‬فتنزيـل‬
‫حفظها في كل محل على وجه واحد ل يمكن‪ ،‬بل ل بد من اعتبار‬
‫خصوصيـات الحوال والبواب وغير ذلك من الخصوصيات‬
‫الجزئية«)‪. (4‬‬
‫الثالث‪ » :‬أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات‬
‫أل يعتبر محالها وهي أفعـال المكلفين‪ ،‬بل كما يجـري الكليـات‬
‫في كل جزئيـة على الطلق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على‬
‫الطـلق من غيـر اعتبار بخصوصياتهم‪ ،‬وهذا ل يصح«)‪.(5‬‬
‫ثم قال على لسان المانعين‪» :‬فصاحبِّ هذه المرتبة ل يمكنه‬
‫التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد فل يستقيم مع هذا أن يكون‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 4/128 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/129 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪663‬‬
‫من أهل الجتهاد«هل )‪. (1‬‬
‫وبالنظر إلى حجج المانعين يتبين أنها كلها ترجع إلى عدما‬
‫إعمال الجزئيات‪ ،‬وأن الجزئيات لها خصوصياتها الخاصة سواء في‬
‫الفعال أو في المكلفين‪.‬‬
‫وبعد عرض حجج الفريقين قال‪» :‬وإذا تقرر أن لكل احتمالم‬
‫مأخذاا كانت المسألة بحسبِّ النظر الحقيقي باقية الشكال «هل)‪. (2‬‬
‫وهذا الموقف مستغرب ومضطرب ‪ ،‬إذ إنه بناء على ما تقرر لديه من‬
‫وجوب إعمال الكليات والجزئيات معاا ينبغي أن يرد حجج المجيزين‬
‫بل تردد‪ ،‬ل أن يستشكل المر‪ ،‬وبناء على ما تقرر لديه في كيفية‬
‫تحصيل الكليات ينبغي أن يرد أدلة المانعين التي تتحدثا عن‬
‫خصوصية الجزئيات وخصوصية المكلفين‪ ،‬إذ إن هذه الدلة ل تمنع‬
‫اجتهاد صاحبِّ هذه المرتبة وحسبِّ‪ ،‬وإنما هي تسقط المنهج من‬
‫أصله إذ تمنع تحصيل الكليات من الجزئيات‪ ،‬ولقد سبق له أن ردها‬
‫عندما كان المر يتعلق بصحة أو خطأ منهجه‪ .‬قال‪» :‬فإن قيل‪:‬‬
‫اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين من أوجه‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ذلك إنما يمكن في العقليات ل في الشرعيات«هل)‪. (3‬‬
‫»وأالثاني‪ :‬أن الخصوصيات تستلزما من حيث الخصوص معنىا‬
‫زائداا على ذلك المعنى العاما أو معاني كثيرةا‪ ،‬وهذا واضح في‬
‫المعقول لن ما به الشتراك غير ما به المتياز«هل )‪» . (4‬والثالث ‪:‬‬
‫أن التخصيصات في الشريعة كثيرةا فيخص محل بحكم ويخص‬
‫)‪(5‬‬
‫مثله بحكم آخر‪ ،‬وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد«هل ‪.‬‬
‫والوجهان الثاني والثالث هنا هما الوجهان الثاني والثالث في‬
‫حجج المانعين لجتهاد من ل يعمل الجزئيات‪ ،‬وقد أجاب على هذه‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪. 4/129 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 3/170 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 4/171 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪664‬‬
‫الوجوه الثلثة فقال‪» :‬فالجواب عن الول أنه يمكن في الشرعيات‬
‫إمكانه في العقليات«هل)‪» . (1‬وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العاما‬
‫من القضايا الخاصة حتى علموا أن الخصوصيات وما به المتياز‬
‫غير معتبرةا«هل)‪» . (2‬وعن الثالث أنه الشكال المورد على القول‬
‫بالقياس فالذي قال به الصوليون هو الجواب هنا«هل)‪. (3‬‬
‫فلماذا لم يستعمل هذه الجوبة أو ييحقلن إليها لرد حجج‬
‫المانعين‪ .‬خاصة وأنها تسقط منهجه وليس فقط صحة اجتهاد‬
‫صاحبِّ هذه المرتبة‪ .‬وكذلك لماذا لم يسقط حجج المجيزين‪،‬‬
‫خاصة وأنهم يصرحون بصحة بل بلزوما الستغناء عن الجزئيات‬
‫بالكليات؟ وبدلا من ذلك اضطرب واستشكل المر وتوقف عن قبول‬
‫أي من القولين أو رده‪ ،‬وآثر إبقاء المر محل التباس ونظر‪.‬‬
‫وصرح بأن المسألة بحسبِّ النظر الحقيقي باقية الشكال‪ .‬إن أقل ما‬
‫يمكن تأكيده هو أن اعتبار المر محل نظر وفيه إشكال هو تشكيك‬
‫بما تقرر لديه وهو ضرورةا إعمال الجزئيات والكليات معاا‪ ،‬وهو‬
‫قبول منه لصحة إعمال الكليات وإهمال الجزئيات‪ .‬وهي نتيجة‬
‫شنيعة للمنهج وتعود عليه بالبطال‪.‬‬
‫مإلحظات أخإرى‪:‬‬
‫وثمة ملحظات واعتراضات أخرى على منهج الشاطبي‪ ،‬مثل‬
‫رفضه لتخصيص الكليات وتقييدها ورفضه للستثناء منها‪ ،‬ومثل‬
‫قوله في المباح وفي الرخصة‪.‬‬
‫فالمباح مثلا هو ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك‪ ،‬وهذا‬
‫ينقض أصل أن الشريعة وضعت لجل مصالح العباد‪ ،‬ينقضه حسبِّ‬
‫منهجه وذلك أن هذا الصل عنده كلي قطعي ل يتخلف ول ينخرما‪،‬‬
‫وإل فإنه ل يكون كلياا ول يكون أصلا‪ .‬والباحة هي مساواةا بين‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( المصدر نفسه ‪. 4/172 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪665‬‬
‫طلبِّ الفعل وطلبِّ الترك‪ ،‬وبحسبِّ الصل فإن طلبِّ الفعل يعني أن‬
‫هناك مقصوداا للشارع من الفعل‪ ،‬وطلبِّ الترك يعني أن هناك‬
‫مفسدةا يؤول إليها الفعل‪ ،‬والشارع يقصد رفعها فيتناقض مفهوما‬
‫الباحة مع هذا الصل‪ ،‬وهذا ينقض المنهج كله‪ ،‬لذلك ذهبِّ‬
‫الشاطبي إلى أن الباحة بهذا المعنى هي إباحة بالجزء‪ .‬والمباح‬
‫بالجزء إما أن يكون مطلوباا بالكل أو منهياا عنه بالكل‪ .‬فهو بهذا‬
‫ينفي وجود الباحة بالكل‪ .‬وهذه ليست إل محاولة لتصحيح فكرته‬
‫أو ترقيع فتوقها‪ .‬وعلى كل حال فهذه المشكلة باقية إذ المباح‬
‫بالجزء حكم شرعي موجود‪ ،‬وهذا ينقض الفكرةا باعتبارها كلية ل‬
‫تتخلف ول تخضع للستثناء‪.‬‬
‫والرخصة كذلك تتناقض مع أصل وضع الشريعة للمصالح‬
‫إذا كانت ل ترجع إلى مشقة معنتة‪ ،‬كسفر الملك المترفيقه‪،‬‬
‫وذلك أنه بينها وبين العزيمة تنافَّم‪ ،‬فإذا كان مقصود الشارع‬
‫موجود في العزيمة‪ ،‬فالرخصة تنقض الصل إذا كانت جائزةا من‬
‫غير ضرورةا أو حاجة‪ ،‬لذلك ذهبِّ إلى إلحاق الرخص بقسم المباح‬
‫بالجزء المطلوب الترك بالكل‪ .‬ولكن الرخصة حكم شرعي موجود‬
‫وهذا ل يستقيم مع الصل الكلي بحسبِّ معنى الكلية عنده‪ ،‬لذلك‬
‫اضطر الشاطبي لن يعارض أصوله‪ ،‬قال‪» :‬ما شرع من الرخص فإن‬
‫شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلي‬
‫إذا انقطع سفره وجبِّ عليه الرجوع إلى الصل من إتماما الصلةا‬
‫وإلزاما الصوما«هل)‪ . (1‬وقال‪» :‬فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل‬
‫كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنىا من ذلك الصل‬
‫الكلي«هل )‪ . (2‬والشاهد أن الشاطبي اضطر إلى قبول الستثناء من‬
‫الكليات‪ ،‬وهذا يتناقض مع خواص الكليات عنده‪ ،‬وبالتالي فإنه‬
‫يتناقض مع المنهج‪.‬‬

‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/211 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ( الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪666‬‬
‫الخاتمـة‬

‫إن الموقف من منهج الشاطبي ليس هو الموقف من الشاطبي‬


‫نفسه‪ ،‬ول يصح هذا أن يكون‪ ،‬بل إن الباحث ليشعر وهو يقدما فكرةا‬
‫المقاصد عند الشاطبي ‪ -‬كما فهمها ‪ -‬إلى الباحثين‪ ،‬والمهتمين بها‬
‫وبأصول الفقه عموماا‪ ،‬إنه ليشعر أن أكثر شخص يقدما إليه نقضها‬
‫هو الشاطبي نفسه‪ ،‬وذلك لما تولد لدى الباحث من حبِّ تجاه رجل‬
‫جمع بين العبقرية واليمان وبين العلم والخلق وبين الهمة‬
‫والورع‪ ،‬ارتقت به عقليته فحملته نفسية ملؤها الخوفَّ والرجاء‬
‫على أن يرتقي بها فطمع طمع العابدين العاملين‪ .‬وسمت به نفسيته‬
‫فحملته عقلية ملؤها الفكر والحكمة على أن يسمو بها فزهد زهد‬
‫العابدين الشاكرين‪ ،‬واقترنت العقلية الراقية بالنفسية السامية في‬
‫شخص مؤمن‪ ،‬فولد اللقاء حبِّ ال‪ ،‬وأثمر اليمان حلوته‪ ،‬واستقاما‬
‫السالك على طريقته‪ ،‬ولما رأى الباحث إعثار السالك‪ ،‬ووعورةا‬
‫المسالك‪ ،‬انضافَّ إلى الحبِّ والود رحمةي وإشفاق‪ ،‬وهو يرى العالم‬
‫الجليل والمبصر المستنير‪ ،‬تصده غاية الطريق عن الطريق وتعميه‬
‫عن الدقائق نتائج الحقائق‪ .‬فتمنى أن لو كان تلميذاا له‪ ،‬ورفيقاا‪،‬‬
‫يهديه مع العينين عينين‪ ،‬ويكفيه ما يلفته عن البصار‪ ،‬أو يصده عن‬
‫الدراك‪ .‬فإن العظماء الكبراء المتقين نادرون‪ ،‬ويمرون متباعدين‪،‬‬
‫‪‬‬
‫ول عصمة بعد النبي لحد‪ ،‬فلن يعانوا في طاعة ال‪ ،‬ويخدموا في‬
‫خدمة أمر ال‪ ،‬ليهيوي من البر والطاعة‪ ،‬ولن يسعى إلى تصويبهم‬
‫بأدب‪ ،‬وتبصيرهم بحكمة‪ ،‬وإلى طاعتهم والتقرب إليهم بإخلص ل‬
‫وتقوى‪ ،‬لهو عمل عظيم كعظمة أعمالهم‪ ،‬ومفيد كفائدةا إنتاجهم‪،‬‬
‫وهو فرصة أندر منهم‪ .‬وإن الخطأ والزلة منهم لخسارةا لمن معهم‪،‬‬
‫ولمن حولهم‪ ،‬وإن كانوا مأجورين‪.‬‬
‫إن ما عند الباحـث تجاه الشـاطبي من مـودةا وتقديـر‬
‫واحتـراما يجعل الشـاطبي أول من يقـدما إليه نقـض فكرته‪.‬‬

‫‪667‬‬
‫ويجعل من حمل هم الشـاطبي أول من يقـدما إليـه هـذا البحث مع‬
‫ما انتهى إليه من نقض‪.‬‬
‫إن ما قاما به الشاطبي هو محاولة إصلح في علم أصول الفقه‬
‫لتصحيح ما يراه أخطاءا عمت‪ ،‬ولتركيز ما يراه أصولا أغفلت‪،‬‬
‫ولطراح ما فيه مما ليس منه‪ ،‬وللتنبيه إلى مواضع يظن فيها‬
‫الخلفَّ ول خلفَّ‪ .‬وللتصحيح والضبط في مباحث في أصول الفقه‪،‬‬
‫نمت وتطورت وتشعبت وانفكت عن أصولها وضوابطها‪.‬‬
‫من ذلك مثلا رفضه للمفهوما السائد للمصلحة والمفسدةا‪،‬‬
‫فهو وإن قال بالتعليل بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد‪ ،‬وظهر بادئ‬
‫الرأي‪ ،‬كما ظن كثير من غير المدققين بأنه يجعل المصلحة‬
‫أساساا للتشريع‪ ،‬فهو في الحقيقة قد نسف هذا الفهم‪ ،‬ورفع فكرةا‬
‫التعليل هذه من طريق‪ ،‬ووضعها في طريق آخر ومعاكس‪ .‬وهذا‬
‫مما يشهد له به‪ .‬وهو من أهم مقصوداته في كتابه‪ .‬لذلك أشار‬
‫إليه في مبتدأ خطبة كتابه‪ ،‬فقال‪» :‬فلقد كنا قبل شروق هذا‬
‫النور نخبط خبط العشواء وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا‬
‫على غير السواء‪ ،‬لضعفها عن حمل هذه العباء ومشاركة عاجلت‬
‫الهواء‪ ،‬على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار السواء‪،‬‬
‫فنضع السموما على الدواء مواضع الدواء‪ ،‬طالبين للشفاء كالقابض‬
‫على الماء‪ ،‬ول زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم‪ ،‬ونسرح من‬
‫جهلنا بالدليل في ليل بهيم‪ ،‬ونسـتنتج القياس العقيـم‪ ،‬ونطلبِّ آثار‬
‫الصحة من الجسم السقيم‪ ،‬ونمشي إكباباا على الوجوه‪ ،‬ونظن أنا‬
‫نمشي على الصراط المسـتقيـم‪ ،‬حتى ظهر محض الجبـار في عين‬
‫القـدار‪ ،‬وارتفعت حقيـقـة أيدي الضطرار إلى الواحد القهار«هل )‪. (1‬‬
‫وهو بقوله بمقاصد الشـريعة جاء ليصحح خطأ من زل به‬
‫فهمه فرأى مقاصد الشريعة وكأنها مقاصد أو مصالح الناس كما‬
‫يراها الناس‪ ،‬فجاء ليفصل بين النوعين‪ ،‬وليقول إن مقاصـد‬
‫الشريعة هي مقاصد للشـارع‪ ،‬وهي تؤخذ من الشـريعة‪ ،‬وغير ذلك‬
‫) ( الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪668‬‬
‫وهم وتخييـل‪ .‬وأول مقاصد الشريعة إذا جاء المر أو النهي هو‬
‫الخضوع والتقيد‪ ،‬فالمقصد الول من قوله تعالى افعل هو إيقاع‬
‫الفعل‪ ،‬والمقصد الول من قوله تعالى ل تفعل هو الكف عن الفعل‪.‬‬
‫وبهذا يكون العبد‪ ،‬وهو عبدي اضطراراا‪ ،‬عبداا اختياراا‪ .‬وهذا مما‬
‫يشهد له به‪.‬‬
‫وهو بقوله إن الشـريعة إنما وضعت لجـل مصالح العبـاد في‬
‫الداريـن‪ ،‬وإن وافـق قوله هذا قول كثيرين غيره‪ ،‬فإنه بمفهومه‬
‫الجديد للمصلحة والمفسدةا‪ ،‬وبمنهجه في كيف تعد المصـلحة‬
‫مصلحة والمفسدةا مفسدةا‪ ،‬قلبِّ معنى هذا القول ليصبح متفقاا مع‬
‫قول إن العباد خلقوا لجل الشريعـة‪    [ .‬‬
‫‪ ، (1) ] ‬وبذلك فقد قصد إلى منع تجاوز حدود‬
‫الشريعة بحجة المصالح والمقاصد‪ ،‬وهذا مما يشهد له به‪.‬‬
‫وهو بقوله إن الحكاما الشرعية التي جعلها الشارع طريقاا إلى‬
‫غايات شرعية ل يصح أن تتخذ طريقاا إلى غير غاياتها التي جعلها‬
‫الشارع غاياتم لها‪ ،‬والغاية الشرعية ل يصح أن يتخذ إليها طريق‬
‫غير ما جعله الشارع طريقاا إليها‪ ،‬قد حاول منع التلعبِّ بالدين‬
‫بحجة مقاصده‪ ،‬وحمى فكرته من أن يتوسل بها إلى غير ما أراده‬
‫منها‪ ،‬وهذا مما يشهد له به‪.‬‬
‫وهو رغم الخطأ في منهجه‪ ،‬في أساسه وأركانه‪ ،‬فإنه لم يبنق‬
‫عليه فروعاا شاذةا‪ .‬فكان إذا اقتضت أصوله نتائج غير مستساغة‬
‫كان يتوقف ول يمضي غير آبه‪ ،‬فكان يرده ورعه عن السترسال‪.‬‬
‫فهو عندما أوصله منهجه إلى الستغناء بالكليات عن الجزئيات‬
‫توقف ولم يدفعه كونه بذل أقصى جهده في سبيل وضع فكرته التي‬
‫هي جنى عمره‪ ،‬لم يدفعه ذلك إلى القول الشنيع‪ ،‬بل توقف‬
‫مستشكلا‪ ،‬وكأنه يتوقع لمنهجه من يتابعه فيه فيتوفر لهذا‬
‫الشكال من يحله‪.‬‬

‫) ( الذاريات‪. 56 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪669‬‬
‫وكذلك عندما قرر أن خبر الحاد إن لم يرجع إلى معنى‬
‫قطعي فإنه يتوقف فيه‪ ،‬فكأنه كان في قرارةا نفسه ل يستسيغ‬
‫التوقف في إعمال حديث ليس له معارض شرعي‪ ،‬بل لمجرد أنه ل‬
‫يرجع إلى معنى قطعي‪ ،‬لذلك قال بندور هذه الحالة‪ ،‬وليس ما‬
‫يضير حينئذم في إعمال هكذا حديث محتجاا بأن العلماء قد أعملوا‬
‫المناسـبِّ الغريـبِّ‪ ،‬وألحق هذا به‪ .‬لذلك‪ ،‬فمع ظهور فساد المنهج‬
‫لم يظهر عند الشاطبي فروع شاذةا‪ ،‬فكأنه رغم إيمانه بمنهجه‬
‫وأصوله‪ ،‬كان يشعر بأن السـلمة هي في موافقة السـابقين من‬
‫السـلف الصـالح والعلماء الصـالحين فيما صدر عنهم في الفقه‪،‬‬
‫فكان يجتهد في عدما مخالفتهم‪ ،‬رغم ما قد يجره عليه هذا من اتهاما‬
‫بالتناقض‪.‬‬
‫ورغم نقض فكرةا الشاطبي ومنهجه‪ ،‬فإن كتاب الموافقات‬
‫كتاب متكامل تقريباا في أصول الفقه‪ ،‬فهو وإن لم يفصل فيه‬
‫لبحاثا ومسائل الجماع والقياس‪ ،‬فإن ما جاء فيه أصول لها‪،‬‬
‫والتنقيبِّ في كتابه يشير إلى آرائه في ذلك‪ ،‬وهو مليء بالفوائد‬
‫الصولية والفقهية‪ ،‬منضبط في عبارته وصياغته وترتيبه‪ .‬انطلق‬
‫فيه مؤلفه جاداا وبقهقميية‪ ،‬وهو يحمل قصداا علمياا وموضوعياا‪.‬‬
‫أفكاره مترابطة‪ ،‬اللحق فيها مبني على السابق‪ ،‬عميق الفكر إلى‬
‫أبعد حد‪ ،‬فيه استقصاء ل يستطيعه إل الجاد الصبور ذو الفق‬
‫الواسع‪ .‬ول يتناقض هذا مع القول بخطأ المنهج وتناقضه‪ .‬فإن‬
‫الخطأ هذا والتناقض مرجعهما إلى الستقراء الناقص وتوهم أنه‬
‫تاما‪ ،‬وإلى الورع الذي يجعله ينثني أحياناا عن حكم المنهج إما‬
‫مستشكلا وإما معتمداا على أن النادر ل حكم له‪ .‬فخطأ الجتهاد‬
‫والستنتاج ل يغض من المكانة العلمية والقدرةا الفكرية‪ .‬وجل من‬
‫ل يخطئ‪ ،‬ولكن خطر خطئه يرجع إلى أنه في الصول وليس في‬
‫الفروع‪.‬‬
‫إن دراسة الموافقات دراسة تحليلية ومتابعة أفكاره في شتى‬
‫مواضعها مع العتبار بأن كلماته وجمله ومسائله وترتيبها كل‬

‫‪670‬‬
‫ذلك مختار مقصود‪ ،‬تؤكد أن الشاطبي يحمل هماا ويقصد أمراا‬
‫جليلا ‪ -‬بنظره ‪ -‬وأنه قد أمضى سنين عديدةا تراوده الفكار‪ ،‬اتخذ‬
‫أثناءها القرآن سميراا وأنيساا وجليساا‪ ،‬يتفكر ويتدبر ول يجد‬
‫لفكاره أصلا تقوما عليه ول رابطاا يجعل منها كياناا أو منهجاا‪،‬‬
‫هائم الفكر في البحث عن أدلة تعتضد بها أفكاره فيبعث فيها الحياةا‪.‬‬
‫ولما لم يجد‪ ،‬حطيي رحال الفكر على الستقراء‪.‬‬
‫وقد كان حقيقاا بالشفاق‪ ،‬فإن الشعور بعظمة الختراع‪ ،‬في‬
‫عزلةم‪ ،‬لفقدان المصدقين والتباع‪ ،‬مع فقدان الدليل ومر السنين‪،‬‬
‫وقلة المذاكرين وعدما الناصحين‪ ،‬يبعث على تصديق الخيال‪ ،‬وفك‬
‫العقل من عقال‪ ،‬كالمتعطش الظمآن يبذل حياته دون السراب‪ .‬فلعل‬
‫الشاطبي ‪ -‬رحمه ال وجزاه عن مجهوده خير الجزاء ‪ -‬وقع على‬
‫الستقراء أو وقع الستقراء عليه‪ ،‬فقفز عن حقيقة أن هذا إن صح‬
‫في العقليات فل يصح في الشرعيات‪ ،‬فكان كمن قفز إلى البحر‬
‫هرباا من الموت حرقاا إلى الموت غرقاا‪ ،‬ثم بدأ ينسج من خياله‬
‫حبالا يتعلق بها‪ .‬وبعثور الشاطبي على الستقراء كان كمن بعث‬
‫الروح في جسد أفكاره‪ .‬لذلك سمى الستقراء روحاا في أكثر من‬
‫موضع في كتابه‪ ،‬ومما يشير إلى هذا وصفه لمعاناته في وضع‬
‫كتابه‪» :‬فلقد قطع في طقلب هذا المقصود مهامه فقيحيا‪ ،‬وكابد‬
‫من طوارق طريقه حسناا وقبيحاا‪ ،‬ولقى من وجوهه المعترضة‬
‫جهماا وصبيحاا‪ ،‬وعانى من راكبته المختلفة مانعاا ومبيحاا‪ ،‬فإن‬
‫شئت ألفيته لتعبِّ السير طليحاا‪ ،‬أو لما حالف من العناء طريحاا‪ ،‬أو‬
‫لمحاربة العوارض الصادةا جريحاا‪ ،‬فل عيش هنيئاا ول موت‬
‫مريحاا‪ ،‬وجملة المر في التحقيق‪ ،‬أن أدهى ما يلقاه السالك‬
‫للطريق‪ ،‬فيقندي الدليل‪ ،‬مع ذهنم لعدما نور الفرقان كليل‪ ،‬وقلبِّ‬
‫بصدمات الضغاثا عليل‪ ،‬فيمشي على غير سبيل‪ ،‬وينتمي إلى غير‬
‫قبيل‪ ،‬إلى أن من الرب الكريم‪ ،‬البر الرحيم‪ ،‬الهادي من يشاء إلى‬
‫صراط مستقيم‪ ،‬فبعثت له أرواح تلك الجسوما‪ ،‬وظهرت حقائق‬

‫‪671‬‬
‫تلك الرسوما وبدت مسميات تلك الوسوما«هل)‪. (1‬‬
‫وقد كان الشاطبي يرى أن هناك حائرين مثله‪ ،‬ويتوقع أن‬
‫يقبلوا على ما جاء به ويتابعوه فيه‪ ،‬وكان معتزاا بذلك اعتزازاا‬
‫كبيراا يوافي معاناته في ذلك واجتهاده‪ ،‬فزين فكرته ودعا إلى‬
‫التكميل فيها‪ ،‬لم يدرق أنه خنقها أثناء ولدتها‪ .‬قال‪» :‬أما بعد أيها‬
‫الباحث عن حقائق أعلى العلوما‪ ،‬الطالبِّ لسنى نتائج الحلوما‪،‬‬
‫المتعطش لحلى موارد الفهوما‪ ،‬الحائم حول حمى ظاهر المرسوما‪،‬‬
‫طمعاا في إدراك باطنه المرقوما‪ ،‬معاني مرتوقةا في فتق تلك‬
‫الرسـوما‪ ،‬فإنه قد آن لك أن تصغي إلى من وافق هواك هواه‪ ،‬وأن‬
‫تطارح الشجى من ملكه مثلك شـجاه‪ ،‬وتعود إذ شـاركته في جواه‬
‫محل نجواه‪ ،‬حتى يبث إليك شكواه‪ ،‬لتجري معه في هذا الطريق من‬
‫حيث جرى‪ ،‬وتجـري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى‪،‬‬
‫وعند الصباح تحمد إن شاء ال عاقبة السرى«هل)‪ . (2‬وقال واصفاا‬
‫كتابه للمقبـل عليه‪» :‬ليكون أيها الخل الصفي والصديـق الوفي‪،‬‬
‫هذا الكتاب عوناا لك في سلوك الطريق‪ ،‬وشارحاا لمعاني الوفاق‬
‫والتوفيـق«هل)‪ . (3‬وقال‪» :‬ل جرما أنه قرب عليـك في المسير‪،‬‬
‫وأعلمك كيف ترقى في علوما الشريعة وإلى أين تسير‪ ،‬ووقف بك‬
‫من الطريق السـابلة على الظهر‪ ،‬وخطبِّ لك عرائس الحكمة ثم‬
‫وهبِّ لك المهر‪ ،‬فقـديقما قيديما عزمك‪ ،‬فإذا أنت بحول ال قد‬
‫وصلت«هل )‪ . (4‬ثم قال‪» :‬وعند ذلك فحق على الناظـر المتأمل‪ ،‬إذا‬
‫وجـد فيـه نقصـاا أن يكمل‪ ،‬وليحسن الظن بمن حالف الليالي‬
‫والياما واسـتبدل التعبِّ بالراحة والسـهر بالمناما‪ ،‬حتى أهدى إليه‬
‫نتيجة عمره ووهبِّ إليه يتيمة دهره«هل)‪. (5‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/6 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات ‪. 1/5 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/8 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموضع نفسه ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪. 1/9 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪672‬‬
‫وبغض النظر عن منهج الشاطبي أو فكرته‪ ،‬فإن ما قصده‬
‫حرييي بأن يقصد‪ ،‬وهو الرجوع إلى الصول وتنقيحها والتوفيق‬
‫فيها‪ ،‬بإزالة الخلفَّ المبني على اختلفَّ الصطلحات وسوء الفهم‪،‬‬
‫وبإزالة الفكار الدخيلة التي ل ثمرةا لها أو التي ل دخل لها في‬
‫أصول الفقه وإنما حشرت في مباحثه بسببِّ علم الكلما‪.‬‬
‫ول يكون هذا الصلح إل بعلماء حقيقيين‪ ،‬يرجعون إلى‬
‫الجذور‪ ،‬إلى القرآن والسنة وما يرشدان إليه‪ ،‬يتعلمون منها‬
‫ويعملون بها‪ ،‬ويتحررون من عقد الفكر الغربي وموافقته‪ ،‬ل‬
‫يقيمون وزناا ول اعتباراا لعرفَّ ل يقره السلما وإن عميي‪ ،‬ول لفكر‬
‫أو حكم ل ينبثق عن عقيدته وإن ساد‪ .‬ل يخجلون ول يضطربون‬
‫أماما مناقضة أحكاما السلما التي صارت غريبة لفكار ومفاهيم‬
‫الحضارةا الغربية المتخلفة والمنحطة وإن كانت سائدةا أو جديدةا‪،‬‬
‫يسعون إلى سيادةا السلما عقيدةاا ونظاماا ل إلى التوفيق بينه وبين‬
‫غيره بذرائع مرونة دعية وتطويرم زنيم‪.‬‬
‫هذا الصلح يقوما به علماء حقيقيون يتحررون من الفهاما‬
‫اللقيطة للفاظ مثل الوسطية والمقاصد والتجديد والعتدال‬
‫والحوار والحرية وما شابه ذلك‪ ،‬التي تؤخذ ويدعى إليها بمعانم‬
‫مبتورةام عما جاء به السلما‪ ،‬وفهمه الصحابة الكراما والعلماء‬
‫الصالحون‪.‬‬
‫هذا الصلح يقوما به علماء حقيقيون علمــوا أنهــم ينبغــي أن‬
‫يكونوا ورثة النبياء‪ ،‬فقاموا بهمة‪ ،‬وجدييوا بعزما‪ ،‬فانطلقوا واثقين‪،‬‬
‫ونطقوا صادقين‪ ،‬ليشهدوا علــى البشــرية‪  [ ،‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪. (6)] ‬‬
‫نعم‪ ،‬إن للشريعة مقاصد‪ ،‬ولكنها مقاصد الشريعة ومقاصد‬
‫الشارع‪ ،‬وليست أهواء النفوس‪ ،‬وليس من معنى مقاصد الشريعة‬

‫) ( سورةا البقرةا‪. 143 ،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪673‬‬
‫مرونة السلما أو أحكامه فتطوى أو تلوى أو تتمدد أو تتقلص‬
‫لتتفق مع أي واقع أو لتتشكل بما يرضي هذه الجهة أو تلك‪ ،‬ثم‬
‫يقال‪ :‬هذا ل ينكر فالسلما متطور!‬
‫والشريعة جاءت بالقياس وبالتعليل‪ ،‬والصل في المعاملت أو‬
‫العادات هو التعليل‪ ،‬وفي العبادات التعبد وعدما التعليل‪ .‬ولكن العلة‬
‫هي ما جاء في مسلك شرعي أو دل عليه الدليل الشرعي‪ ،‬وتوفرت‬
‫له شروط العلة‪ ،‬وليست العلة خيالت الذهان ومقترحات العقول‪،‬‬
‫فضلا عن أن تكون مزاعم المحرفين‪.‬‬
‫وفي ختاما هذه الخاتمة أسأل ال تعالى للشاطبي الرحمة‬
‫وجزيل الجر والثواب‪ ،‬وأسأله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصاا‬
‫لوجهه الكريم وأن ينفع به‪ .‬كما وأسأله تعالى العفو والمغفرةا عما‬
‫شطح به القلم أو زل به اللسان أو تجاوز فيه الفكر والخيال‪ ،‬كما‬
‫وأسأله تعالى جزيل الجر والثواب لكل من علمني ونصحني‬
‫وأفادني في هذا العلم وفي هذا الكتاب‪ ،‬وأن يغفر لي ولوالديييي‬
‫وللمؤمنين‪.‬‬
‫***‬

‫‪674‬‬
‫المصـادر وأالمـراجأع‬
‫‪ ‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ ‬آداب الفتوى والمفتي والمستفتي‪ ،‬أبو زكريا يحيى بن شرفَّ‬
‫النووي‪ ،‬تحقيق‪ :‬بساما عبد الوهاب الجابي‪ ،‬دار البشائر السلمية‬
‫ـ بيروت‪ ،‬ط ‪ 1411 ، 2‬هـ ‪ 1990 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬التقان في علوما القرآن‪ ،‬جلل الدين السيوطي الشافعي‪ ،‬دار‬
‫الفكر ‪ -‬بيروت‪ ،‬بهامشه كتاب إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر‬
‫الباقلني‪.‬‬
‫‪ ‬أثر الدلة المختلف فيها في الفقه السلمي‪ ،‬مصطفى ديبِّ البغا‪،‬‬
‫دار الماما البخاري‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪ ‬الحكاما في أصول الحكاما‪ ،‬أبو محمد بن حزما الظاهري‪ ،‬دار‬
‫الكتبِّ العلمية ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1405 ، 1‬هـ ‪ 1985 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬الحكاما في أصول الحكاما‪ ،‬علي بن أبي علي بن محمد المدي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬الشيخ إبراهيم العجوز‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬إحياء علوما الدين‪ ،‬الماما أبو حامد محمد الغزالي‪ ،‬دار المعرفة ‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬إدرار الشروق على أنواء الفروق‪ ،‬أبو القاسم النصاري‬
‫المعروفَّ بابن الشاط‪ ،‬عالم الكتبِّ ‪ -‬بيروت‪ ،‬مطبوع بهامش‬
‫كتاب الفروق للقرافي‪.‬‬
‫‪ ‬إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الصول‪ ،‬محمد بن علي‬
‫بن محمد الشوكاني‪ ،‬دار الفكر ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬السس المنطقية للستقراء‪ ،‬محمد باقر الصدر‪ ،‬دار التعارفَّ‬
‫للمطبوعات ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1406 ، 5‬هـ ‪ 1986 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬الشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية‪ ،‬جلل الدين‬

‫‪675‬‬
‫بن عبد الرحمن السيوطي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد المعتصم بال‬
‫البغدادي‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1412 ، 2‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1993‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬الشباه والنظائر‪ ،‬تاج الدين عبد الوهاب السبكي‪ ،‬تحقيق‪ :‬عادل‬
‫أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ‪-‬‬
‫بيروت‪ 1422 ،‬هـ ‪ 2001 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬الشباه والنظائر‪ ،‬زين الدين بن إبراهيم‪ ،‬ابن نجيم الحنفي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد مطيع الحافظ‪ ،‬دار الفكر المعاصر ‪ -‬بيروت ودار‬
‫الفكر ‪ -‬دمشق‪ ،‬ط ‪ 1420 ، 2‬هـ ‪ 1999 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬أصول السرخسي‪ ،‬الماما أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل‬
‫السرخسي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أبو الوفا الفغاني‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ ‬أصول فخر السلما البزدوي‪ ،‬فخر السلما البزدوي‪ ،‬دار الكتبِّ‬
‫العلمية ـ بيروت‪ ،‬ط ‪ 1418 ، 1‬هـ ‪ 1997 -‬ما‪ ،‬مطبوع مع شرحه‪:‬‬
‫كشف السرار‪ ،‬لعلء الدين البخاري‪.‬‬
‫‪ ‬أصول الفقه‪ ،‬الشيخ محمد أبو زهرةا‪ ،‬ل ذكر للدار أو التاريخ‪.‬‬
‫‪ ‬أصول مذهبِّ الماما أحمد‪ ،‬عبد ال بن عبد المحسن التركي‪،‬‬
‫مؤسسة الرسالة ـ بيروت‪ ،‬ط ‪ 1416 ، 4‬هـ ‪ 1996 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬العتصاما‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرزاق المهدي‪ ،‬دار‬
‫الكتاب العربي ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1418 ، 2‬هـ ‪ 1998 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬إعلما الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬محمد بن أبي بكر المعروفَّ‬
‫بابن قيم الجوزية‪ ،‬تحقيق‪ :‬طه عبد الرؤوفَّ سعد‪ ،‬دار الجيل ‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬العلما‪ ،‬خير الدين الزركلي‪ ،‬دار العلم للمليين ـ بيروت‪ ،‬ط ‪، 1‬‬
‫‪ 1412‬هـ ‪ 1992 -‬ما ‪.‬‬
‫‪ ‬الفادات والنشادات‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو‬
‫الجفان‪ ،‬مؤسسة الرسالة ـ بيروت‪ ،‬ط ‪ 1406 ، 2‬هـ ‪ 1986 -‬ما‪.‬‬

‫‪676‬‬
‫‪ ‬الما‪ ،‬الماما محمد بن إدريس الشافعي‪ ،‬دار المعرفة ـ بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬البحر المحيط في أصول الفقه‪ ،‬محمد بن عبد ال بدر الدين‬
‫الزركشي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محمد تامر‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ـ‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1421 ، 1‬هـ ‪ 2000 -‬ما ‪.‬‬
‫‪ ‬برنامج الميجاري‪ ،‬أبو عبد ال محمد الميجاري‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد‬
‫أبو الجفان‪ ،‬دار الغرب السلمي ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1982 ، 1‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬البرهان في أصول الفقه‪ ،‬إماما الحرمين أبو المعالي عبد الملك‬
‫الجويني‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد العظيم محمود الديبِّ‪ ،‬دار الوفاء ‪-‬‬
‫المنصورةا‪ ،‬ط ‪ 1412 ، 3‬هـ ‪ 1992 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬التاريـخ الســلمي‪ ،‬إبراهيـم الشــريفي‪ ،‬مؤسـسـة نوفـل ‪-‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1391 ، 2‬هـ ‪ 1971 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬تاريخ المغرب والندلس‪ ،‬من القرن السادس الهجري حتى‬
‫القرن العاشر الهجري‪ ،‬تأليـف‪ -1 :‬د‪ .‬أحمد عودات‪ -2 ،‬د‪.‬‬
‫شحادةا الناطور‪ - 3 ،‬د‪ .‬أحمد محاسنة‪ - 4 ،‬د‪ .‬جميل بيضون‪ ،‬دار‬
‫المل ‪ -‬إربد‪ ،‬الردن‪ ،‬ط ‪ 1410 ، 1‬هـ ‪ 1990 -‬ما ‪.‬‬
‫‪ ‬تجديد أصول الفقه‪ ،‬حسن الترابي‪.‬‬
‫‪ ‬التعريفات‪ ،‬أبو الحسن علي الحسيني الجرجاني الحنفي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد باسل عيون السود‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ـ بيروت‪،‬‬
‫ط ‪ 1421 ، 1‬هـ ‪ 2000 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬تيسير التحرير على التحرير‪ ،‬محمد أمين المعروفَّ بأمير‬
‫بادشاه‪ ،‬وهو شرح لكتاب التحرير لبن هماما السكندري الحنفي‪،‬‬
‫دار الكتبِّ العلمية ـ بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬جامع العلوما والحكم في شرح خمسين حديثاا من جوامع الكلم‪ ،‬ابن‬
‫رجبِّ الحنبلي‪ ،‬تحقيـق‪ :‬فؤاد بن علي حافظ‪ ،‬مؤسسة الريان ـ‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1421 ، 2‬هـ ‪ 2000 -‬ما ‪.‬‬
‫‪ ‬الجامع لحكاما القرآن‪ ،‬أبو عبد ال محمد بن أحمد النصاري‬

‫‪677‬‬
‫القرطبي‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬حاشيتا التفتازاني والجرجاني على مختصر المنتهى الصولي‬
‫لبن الحاجبِّ المالكي‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬الحريات العامة في الدولة السلمية‪ ،‬راشد الغنوشي‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدةا العربية ـ بيروت‪ ،‬ط ‪ ، 1‬أغسطس‪ 1993 ،‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬الرسالة‪ ،‬الماما محمد بن إدريس الشافعي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد‬
‫شاكر‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬روضة الناظر وجنة المناظر‪ ،‬ابن قدامة المقدسي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫سيف الدين الكاتبِّ‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1401 ، 1‬هـ‬
‫‪ 1981 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬سليم الوصول لشرح نهاية السول‪ ،‬الشيخ محمد بخيت المطيعي‪،‬‬
‫مطبوع مع نهاية السول للسنوي‪ ،‬عالم الكتبِّ‪.‬‬
‫‪ ‬الشاطبي ومقاصد الشريعة‪ ،‬حمادي العبيدي‪ ،‬دار قتيبة ‪ -‬بيروت‪،‬‬
‫ط ‪ 1412 ، 1‬هـ ‪ 1992 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬الشخصية السلمية‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬الشيخ تقي الدين النبهاني‪،‬‬
‫‪ 1372‬هـ ‪ 1953 -‬ما ‪.‬‬
‫‪ ‬شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الصول‪ ،‬شهاب‬
‫الدين القرافي المالكي‪ ،‬دار الفكر ‪ -‬القاهرةا‪ ،‬ط ‪ ، 1‬ذو الحجة‪،‬‬
‫‪ - 1393‬ديسمبر ‪. 1973‬‬
‫‪ ‬شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل‪ ،‬أبو‬
‫حامد محمد الغزالي‪ ،‬تحقيق‪ :‬حمد الكبيسي‪ ،‬مطبعة الرشاد ـ‬
‫بغداد‪ ،‬ط ‪ 1390 ، 1‬هـ ‪ 1971 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬ضوابط المصلحة في الشريعة السلمية‪ ،‬محمد سعيد رمضان‬
‫البوطي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الدار المتحدةا‪ ،‬ط ‪ 1410 ، 5‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1990‬ما‪.‬‬

‫‪678‬‬
‫‪ ‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪ ،‬أحمد بن علي بن حجر‬
‫العسقلني‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد العزيز بن عبد ال بن باز‪ ،‬دار المعرفة‬
‫‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬الفروق‪ :‬أنوار البروق في أنواء الفروق‪ ،‬شهاب الدين أحمد بن‬
‫إدريس القرافي المالكي‪ ،‬عالم الكتبِّ ‪ -‬بيروت‪ ،‬ومعه إدرار‬
‫الشروق على أنواء الفروق لبن الشاط‪ ،‬وتهذيبِّ الفروق‬
‫والقواعد السنية في السرار الفقهية لمحمد بن علي بن حسين‬
‫المكي‪.‬‬
‫‪ ‬فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت‪ ،‬عبد العلي محمد بن نظاما‬
‫الدين النصاري‪ ،‬مطبوع مع المستصفى للغزالي‪ ،‬المطبعة‬
‫الميرية ببولق مصر المحمية‪ ،‬سنة ‪ 1322‬هـ‪.‬‬
‫‪ ‬القاموس المحيط‪ ،‬مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي‪،‬‬
‫مؤسسة الرسالة‪ ،‬إشرافَّ‪ :‬محمد نعيم العرقسوسي‪ ،‬ط ‪، 4‬‬
‫‪ 1415‬هـ ‪ 1994 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬قواعد الحكاما في مصالح الناما‪ ،‬عز الدين بن عبد السلما‪،‬‬
‫مؤسسة الريان ‪ -‬بيروت‪ ،‬طبعة جديدةا منقحة‪ 1410 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1990‬ما ‪.‬‬
‫‪ ‬كشف السرار عن أصول فخر السلما البزدوي‪ ،‬علء الدين عبد‬
‫العزيز البخاري‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد ال محمود محمد عمر‪ ،‬دار الكتبِّ‬
‫العلمية ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪ 1418 ، 1‬هـ ‪ 1997 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬لسان العرب‪ ،‬جمال الدين بن منظور‪ ،‬دار صادر ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬اللمحة البدرية‪ ،‬لسان الدين ابن الخطيبِّ‪ ،‬تحقيق‪ :‬محي الدين‬
‫الخطيبِّ‪ ،‬المطبعة السلفية ـ القاهرةا‪ ،‬ط ‪ 1374 ، 1‬هـ‪.‬‬
‫‪ ‬المبسوط‪ ،‬شمس الدين بن أبي سهل السرخسي‪ ،‬دار المعرفة ‪-‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ ، 3‬أعيد طبعه بالوفست‪ 1398 ،‬ه ـ ‪ 1978‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬علي بن أبي بكر الهيثمي‪ ،‬دار‬

‫‪679‬‬
‫الكتاب العربي ـ بيروت‪ ،‬ط ‪ 1402 ، 3‬هـ ‪ 1982 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬المحصول في علم أصول الفقه‪ ،‬فخر الدين الرازي‪ ،‬تحقيق‪ :‬طه‬
‫جابر العلواني‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط ‪ 1412 ، 2‬هـ ‪ 1992 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬المستصفى في علم أصول الفقه‪ ،‬أبو حامد محمد الغزالي‪،‬‬
‫المطبعة الميرية ببولق مصر المحمية‪ 1322 ،‬هـ ‪.‬‬
‫‪ ‬المسوييدةا في أصول الفقه‪ ،‬تصنيف ثلثة من آل تيمية‪ :‬مجد‬
‫الدين‪ ،‬وشهاب الدين وتقي الدين بن تيمية‪ ،‬جمعها شهاب الدين‬
‫الحراني الدمشقي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محيي الدين عبد الحميد‪ ،‬دار‬
‫الكتاب العربي ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬مشكاةا النوار‪ ،‬مجموعة رسائل الماما الغزالي‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ‪-‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪ 1414 ، 1‬هـ ‪ 1994 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬المعتمد في أصول الفقه‪ ،‬أبو الحسين البصري المعتزلي‪،‬‬
‫تقديم‪ :‬الشيخ خليل الميس‪ ،‬دار الكتبِّ العلمية ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪، 1‬‬
‫‪ 1403‬هـ ‪ 1983 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬مقاصد الشريعة السلمية ومكارمها‪ ،‬علل الفاسي‪ ،‬مكتبة‬
‫الوحدةا السلمية ‪ -‬الدار البيضاء‪ 1382 ،‬هـ ‪ 1963 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬مقاصد الشريعة السلمية‪ ،‬محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬الشركة‬
‫التونسية للتوزيع ‪ -‬تونس‪ ،‬ط ‪ ، 3‬ديسمبر ‪ 1988‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬المنخول من تعليقات الصول‪ ،‬أبو حامد محمد الغزالي‪ ،‬تحقيق‬
‫وتعليق‪ :‬محمد حسن هيتو‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط ‪ 1400 ، 2‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1980‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬منهاج الوصول إلى علم الصول‪ ،‬القاضي ناصر الدين بن عمر‬
‫بن علي البيضاوي‪ ،‬ومعه نهاية السول للسنوي‪ ،‬وسلم الوصول‬
‫لمحمد بخيت المطيعي‪ ،‬عالم الكتبِّ‪.‬‬
‫‪ ‬المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج‪ ،‬الماما محيي الدين‬

‫‪680‬‬
‫النووي‪ ،‬تحقيق‪ :‬خليل مأمون شيحا‪ ،‬دار المعرفة ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط‬
‫‪ 1414 ، 1‬هـ ‪ 1994 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬الموافقات‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪ ،‬المجلد الول ويحتوي‬
‫الجزأين الول والثاني بتحقيق‪ :‬محمد حسين الخضر التونسي‪،‬‬
‫والمجلد الثاني ويحتوي الجزأين الثالث والرابع بتحقيق‪:‬‬
‫محمد حسنين مخلوفَّ‪ ،‬دار الرشاد الحديثة ‪ -‬الدار البيضاء ‪.‬‬
‫‪ ‬الموافقات‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أبو عبيدةا مشهور بن‬
‫حسن آل سلمان‪ ،‬دار ابن عفان ‪ -‬جمهورية مصر العربية‪ ،‬ط ‪، 1‬‬
‫‪ 1421‬هـ ‪.‬‬
‫‪ ‬الموافقات‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬الشيخ عبد ال دراز‪ ،‬دار‬
‫المعرفة ‪ -‬بيروت ‪.‬‬
‫‪ ‬نصبِّ الراية لحاديث الهداية‪ ،‬عبد ال بن يوسف بن محمد‬
‫الحنفي الزيلعي‪ ،‬دار إحياء التراثا العربي ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ‪، 3‬‬
‫‪ 1407‬هـ ‪ 1987 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬نظرية المقاصد عند الماما الشاطبي‪ ،‬أحمد الريسوني‪ ،‬الدار‬
‫العالمية للكتاب السلمي والمعهد العالمي للفكر السلمي‪ ،‬ط‬
‫‪ 1416 ، 4‬هـ ‪ 1995 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬نفح الطيبِّ في غصن الندلس الرطيبِّ‪ ،‬أبو العباس أحمد‬
‫المقريقي‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬دار صادر ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ ‬نهاية السول في شرح منهاج الصول‪ ،‬جمال الدين عبد الرحيم‬
‫السنوي‪ ،‬عالم الكتبِّ‪ ،‬بهامشه شرح نهاية السول للشيخ محمد‬
‫بخيت المطيعي‪.‬‬
‫‪ ‬نيل البتهاج بتطريز الديباج‪ ،‬أحمد بابا التنبكتي‪) ،‬بهامش‬
‫الديباج لبن فرحون(‪ ،‬مكتبة السعادةا ‪ -‬مصر‪ 1329 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ ‬نيل الوطار من أحاديث سيد الخيار شرح منتقى الخبار‪،‬‬
‫محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬دار القلم ‪ -‬بيروت‪.‬‬

‫‪681‬‬
‫‪ ‬القرص المضغوط )‪ ( C.D‬برنامج موسوعة الحديث الشريف‪،‬‬
‫شركة صخر‪ ،‬الصدار الثاني‪ ،‬بترقيم العالمية‪ ،‬ويحتوي على‬
‫الكتبِّ التسعة التالية‪:‬‬
‫‪ -‬صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد ال محمد بن إسماعيل البخاري‪.‬‬
‫‪ -‬صحيح مسلم‪ ،‬أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم‬
‫القشيري النيسابوري‪.‬‬
‫‪ -‬الجامع الصحيح‪ ،‬سنن الترمذي‪،‬أبو عيسى محمد بن عيسى‬
‫الترمذي‪.‬‬
‫‪ -‬سنن النسائي‪ ،‬أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيبِّ النسائي‪.‬‬
‫‪ -‬سنن أبي داود‪ ،‬أبو داود سليمان بن الشعث السجستاني الزدي‪.‬‬
‫‪ -‬سنن ابن ماجة‪ ،‬أبو عبد ال محمد بن يزيد القزويني‪.‬‬
‫‪ -‬مسند الماما أحمد‪ ،‬أبو عبد ال أحمد بن محمد بن حنبل بن‬
‫هلل بن أسد‪.‬‬
‫‪ -‬موطأ الماما مالك‪ ،‬أبو عبد ال مالك بن أنس بن مالك بن‬
‫أبي عامر‪.‬‬
‫‪ -‬سنن الدارمي‪ ،‬أبو محمد عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي‪.‬‬
‫‪ ‬مجلة )الصراط المستقيم(‪ ،‬أمريكا ‪ -‬ولية فرجينيا‪ ،‬العدد‪:‬‬
‫‪ ، 59‬سنة ‪ 1417‬هـ ‪.‬‬
‫‪ ‬مجلة )الوعي(‪ ،‬لبنان‪ ،‬العدد‪ ، 88 :‬سنة ‪ 1415‬هـ ‪ 1994 -‬ما‪.‬‬
‫‪ ‬مجلة )الوعي(‪ ،‬لبنان‪ ،‬العداد‪ ، 118 ، 117 ، 116 ، 115 :‬سنة‬
‫‪ 1417‬هـ ‪ 1997 -‬ما ‪.‬‬
‫‪ ‬جريدةا الحياةا‪ ،‬العدد‪ 13 ، 12615 :‬أيلول‪ 1997 ،‬ما‪.‬‬

‫‪682‬‬
‫فهـرس اليات‬

‫رق السـ الصـفح‬


‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
    
496 َّ‫العراف‬ 71       
  

355 ‫النصر‬ 1       [


    [
516 ، 225 ‫النور‬ 15      
]      
286 ‫المعارج‬ 20 ]     [
179 ، 175 ‫الحج‬ 39      [
]
‫المؤمنو‬
254 ‫ن‬ 115 ]     [

235 ‫الجاثية‬ 23      [


]    
       [
235 ‫محمد‬ 14     
] 
59 ‫السراء‬ 78 ]     [
،11
،484 ، 140 ‫البقرةا‬ ،43
504 ‫وغيرها‬ ]   [
83
290 ‫الليل‬ 20 ]      [
143 ‫طه‬ 3 ]   [
244 ‫التوبة‬ 39 ]      [
،174 ، 131     [
178 ‫الملك‬ 2
]    

683
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
     [
     
522 ‫البقرةا‬ 275       
     
]    
223 ‫النور‬ 2      [
]   
        [
180 ، 175 َّ‫ العراف‬172       
]  
       [
273 ‫الجاثية‬ 12     
] 
347 ‫الزمر‬ 62 ]      [
523 ‫الزمر‬ 42 ]      [
،352 ، 150
،356 ، 353 ‫المائدةا‬ 3 ]     [
482
،19         [
286 ‫المعارج‬ ،20      
21 ]  
6 ‫يوسف‬ 40         [
]   
345 ‫ النبياء‬101 ]       [
     [
   
،27        
495 ‫النجم‬ 28 
       
]  
367 ‫الحزاب‬ 57       [
]   

684
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬

5 ‫فاطر‬ 6      [


]  
173 ، 175 ‫ العنكبوت‬45      [
]  
      [
242 ‫النحل‬ 90     
   
]   

522 ‫المائدةا‬ 1 ]      [


،151 ، 150       [
482 ، 199 ‫الحجر‬ 9
] 
401 ‫النفال‬ 29 ]       [
244 ‫التوبة‬ 41 ]    [
345 ‫النبياء‬ 98 ]    [
347 ، 345 ‫النبياء‬ 98        [
] 
    [
223 ‫المائدةا‬ 90     
] 
    [
62 ‫التوبة‬ 60
‫ج‬

  


]  
86 ‫المائدةا‬ 91       [
]    
352 ‫السراء‬ 9       [
] 
502 ‫النجم‬ 4 ]      [
495 ‫النجم‬ 23       [
       

685
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
       
]     
235 ‫النجم‬ 23        [
]
367 ‫النساء‬ 43 ]    [
220 ‫النحل‬ 47 ]     [
289 ‫النفال‬ 67      [
]  
‫السجدةا‬ 17
61 َّ‫الحقاف‬ 14 ]     [
‫الواقعة‬ 24

222 ‫البقرةا‬ 187       [


]  
505 ، 223 ‫المائدةا‬ 3     [
]  
465 ‫النساء‬ 23 ]    [
347 ‫الزمر‬ 62 ]    [
332 ‫الدخان‬ 49 ]      [
366 ‫البقرةا‬ 260 ]       [
236 ، 231 ‫البقرةا‬ 286       [
]      
365 ‫الكهف‬ 22 ]    [
422 ‫النساء‬ 165 ]    [
175 ، 174 ‫النساء‬ 165      [
]       
286 ‫آل‬ 14       [
‫عمران‬    
   
     

686
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
]      
217 َّ‫ العراف‬158     [
]     
332 ‫البقرةا‬ 23 ]     [
442 ‫الجمعة‬ 10      [
] 
222 ‫البقرةا‬ 187 ]   [
‫آل‬      [
337 ‫عمران‬ 7
]    
382 ‫النساء‬ 92      [
]  
‫البروج‬ 16
522 ‫هود‬ 17 ]    [
364 ، 361 ‫البقرةا‬ 22 ]     [
341 ، 101 ‫السراء‬ 23 ]     [
355 ‫النساء‬ 78      [
]  
367 ‫الكهف‬ 29        [
]
341 ‫الزلزلة‬ 7 ]      [
179 ، 175 ‫البقرةا‬ 150      [
]  
421 ‫النعاما‬ 108 ]       [
516 ، 225 ‫ الشعراء‬168 ]      [
366 ‫البقرةا‬ 260        [
]   

687
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
366 ‫ الحجرات‬14 ]      [
،43        [
365 ‫المدثر‬ 44 ]   
339 ‫ السراء‬107 ]        [
366 ‫الكهف‬ 22       [
]   
339 ، 332 ‫السراء‬ 50 ]       [
366 ‫ الحجرات‬14       [
]     
‫البقرةا‬ 111
496 ]      [
‫النمل‬ 64

5 ‫يوسف‬ 108        [


]      
       [
496 ‫النعاما‬ 148        
] 
،179 ، 175
521 ، 421 ‫البقرةا‬ 183       [
]     
422 ‫البقرةا‬ 216        [
]
61 ‫الحشر‬ 7       [
]  
521 ، 179 ‫البقرةا‬ 150 ]   [
521 ‫النساء‬ 165 ]    [
،422 ، 61     [
520 ‫النساء‬ 165   
]  
486 ، 149 ‫البقرةا‬ 233 ]     [

688
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
232 ‫البقرةا‬ 233 ]       [
522 ، 122 ‫النبياء‬ 23 ]      [
382 ‫الحشر‬ 20      [
]  
421 ‫البقرةا‬ 188
]      [
520 ، 179 ‫ البقرةا‬182 ]   [
521 ‫ البقرةا‬226      [
]   
‫الملك‬ 2
521 ، 520 ]  [
‫هود‬ 7
‫الملك‬ 2
299 ، 177 ]     [
‫هود‬ 7
179 ‫المائدةا‬ 6 ]  [
358 ‫المائدةا‬ 93      [
]  
     [
     
358 ‫المائدةا‬ 93     
     
]   
218 ‫الشورى‬ 11 ]     [
59 ‫الحج‬ 28 ]    [
179 ‫المائدةا‬ 6 ]  [
520 ، 178 ‫الذاريات‬ 56 ]  [
248 ‫الذاريات‬ 57         [
] 
255 ‫الدخان‬ 39 ]     [
352 ، 219 ‫النعاما‬ 38 ]        [

689
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
،178 ، 175        [
232 ، 181 ‫المائدةا‬ 6    
]  
61 ‫المائدةا‬ 32       [
] 
289 ‫هود‬ 15      [
] 
290 ‫الشورى‬ 20 ]      [
164 ‫النحل‬ 106         [
]    
501 ‫النساء‬ 80         
‫آل‬
289 ‫عمران‬ 152        [
]  
157 ‫البقرةا‬ 223      [
]   
‫آل‬
373 ‫عمران‬ 138 ]    [
‫آل‬       [
399 ، 336 ‫عمران‬ 7      
]  
276 ‫الجمعة‬ 2       [
] 
341 ‫النساء‬ 20 ]    [
408 ‫البقرةا‬ 282 ]       [
521 ، 505 ‫البقرةا‬ 275 ]       [
465 ، 380 ‫النساء‬ 24 ]      [
‫آل‬
349 ‫عمران‬ 7 ]   [

690
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
       [
174 َّ‫ العراف‬172    
]      
342 ‫المائدةا‬ 2 ]     [
164 ‫النساء‬ 101       [
]     
286 ‫المعارج‬ 21 ]     [
521 ‫البقرةا‬ 67       [
]     
520 ‫البقرةا‬ 34 ]      [
405 ‫الطلق‬ 2 ]     [
      [
290 ‫الكهف‬ 28     
     
] 
223 ،62 ‫المائدةا‬ 38    [
] 
519 ، 257 ‫البقرةا‬ 216 ]      [
521 ‫البقرةا‬ 228    [
]   
    [
248 ‫طه‬ 132         
]
382 ‫النفال‬ 72      [
] 
      [
495 ‫النساء‬ 157         
]  
163 ‫البقرةا‬ 184 ]     [

691
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
        [
496 ‫النعاما‬ 116         
]  
،371 ، 350     [
501 ، 372 ‫النحل‬ 44
]    
،19      [
286 ‫الفجر‬ 20 ]   
286 ‫الفجر‬ 20 ]     [
459 ‫المائدةا‬ 2       [
]     
250 ،7 ‫البقرةا‬ 275 ]    [
379 ، 222 َّ‫الحقاف‬ 15 ]      [
121 َّ‫ العراف‬156 ]      [
      [
422 ‫البقرةا‬ 216        
]       
220 ‫عبس‬ 31 ]   [
379 ، 222 ‫لقمان‬ 14 ]    [
381 ‫المائدةا‬ 45      [
] 
     [
381 ‫المائدةا‬ 45    
   
]    

539 ،6 ‫البقرةا‬
   [

143     
]   
157 ‫البقرةا‬ 35 ]      [
377 ‫النساء‬ 119 ]      [

692
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬

281 ‫البقرةا‬ 188     [


] 
421 ‫البقرةا‬ 188     [
]    
5 ‫البقرةا‬ 168 ]      [
421 ‫النعاما‬ 108 ]        [
4 ، 459 ‫النعاما‬ 108        [
]      
177 ‫المائدةا‬ 6 ]   [
486 ، 149 ‫الطلق‬ 6 ]      [
290 ‫النعاما‬ 52      [
]    
63 ‫البقرةا‬ 222 ]    [
486 ، 149 ‫البقرةا‬ 231 ]      [
،230 ، 228 ‫آل‬
339 ‫عمران‬ 102 ]      [

52 َّ‫ العراف‬179      [


]   
،179 ، 175
،281 ، 181 ‫البقرةا‬ 179      [
422 ] 
365 ‫المدثر‬ 44 ]     [
382 ، 323 ‫النساء‬ 141      [
]  
‫المؤمنو‬      [
209 ‫ن‬ 71
]     
396 ‫النساء‬ 82         [

693
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
]  
377 ‫الحشر‬ 7 ]     [
377 ، 376 ‫الحشر‬ 7      [
]       
      [
       
290 ‫الروما‬ 39
     

]   


،174 ، 120
176 ‫ النبياء‬107 ]      [

347 ‫النبياء‬ 98 ]   [


290 ‫البقرةا‬ 272 ]        [
232 ‫الحج‬ 78 ]         [
،174 ، 131
،179 ، 178
،250 ، 248
،369 ، 256 ‫الذاريات‬ 56       [
،522 ، 521 ]
535 ، 523

254 ‫ص‬ 27      [


]   
،38      [
255 ‫الدخان‬ 39      
] 
       [
6 ‫الحزاب‬ 36      
]    
367 ، 176 ‫السراء‬ 15 ]       [
495 ‫النجم‬ 28          [

694
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬
       
 

495 ‫يونس‬ 36         [


]      
502 ‫النجم‬ 4 ،3         [
]  
    [
290 ‫البقرةا‬ 265     
] 
367 ‫التحريم‬ 12      [
]   
339 ‫الكهف‬ 29 ]     [
      [
381 ‫النساء‬ 92      
]  
250 ‫المائدةا‬ 45       [
]   
،373 ، 219     [
501 ‫النحل‬ 89
]  
516 ، 325 ‫الكهف‬ 104 ]      [
      [
177 ، 174 ‫هود‬ 7      
]     
231 َّ‫ العراف‬157      [
]   
401 ‫البقرةا‬       [
269  
]     

‫النساء‬ 59      [


501
‫محمد‬ 33 ]  

695
‫رق السـ الصـفح‬
‫ة‬ ‫مها ورة‬ ‫الية أوأ الجزء مإن الية‬

359 ‫المائدةا‬ 9     [


]  
    [
359 ‫المائدةا‬ 9    
    
]  
459 ‫البقرةا‬ 104      [
]     
     [
421 ، 449 ‫البقرةا‬ 21     
] 
366 ‫الزمر‬ 53     [
]      
232 ‫النساء‬ 28        [
]  
232 ‫البقرةا‬ 185        [
] 
‫آل‬ 40
522 ‫عمران‬
‫الحج‬ 18 ]    [

696
‫فهـرس الحاديث‬
‫الصفحة‬ ‫طرف الحديث‬
‫ـ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وأإن أصاب فله أجران ‪396 . . .‬‬
‫ـ إذا استيقظ أحدكم مإن نومإه فل يغمس ‪222 ............................‬‬
‫ـ إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله ‪503 ....................‬‬
‫ـ أعتق رقبة‪) ...‬للرجل الذي قال‪ :‬وأاقعت أهلي في رمإضان( ‪....‬‬
‫‪87‬‬
‫ـ العمال بالنيات ‪308 ،299 ،292 ...............................................‬‬
‫ـ العمال بالنية ‪292 ،291 ...........................................................‬‬
‫ـ إن رسول الله ‪ ‬جعل شهادته بشهادتين ‪48 ..............................‬‬
‫ـ إنما العمال بالنيات ‪308 ،301 ،299 ،293 ............................‬‬
‫ـ إنما جعل الستئذان لجل النظر ‪60 ...........................................‬‬
‫ـ إن مإن أكبر الكبائر شتم الرجل وأالديه ‪459 ..............................‬‬
‫ل‪381 ............................................... ...‬‬‫ـ أن مإن اعتبط مإؤمإنا ا قت ا‬
‫ـ إني أرسلت إلى أمإة أمإية ‪217 ....................................................‬‬
‫ـ إني لم أبعث باليهودية وأل بالنصرانية ‪232 .................................‬‬
‫ـ إني لخاف على أمإتي مإن أعمال ثالثاة‪398 ........................ ...‬‬
‫ـ أوأتيت القرآن وأمإثله مإعه ‪501 ...................................................‬‬
‫ـ إياكم وأالظلم فإن الظلم ظلمات‪380 .................................. ...‬‬
‫ـ بدأ السلم غريبا ا وأسيعود غريبا ا ‪24 ............................................‬‬
‫ـ بعثت إلى أمإة أمإية ‪217 .............................................................‬‬
‫ـ بعثت بالحنيفية السمحة ‪417 ،232 ...........................................‬‬
‫ـ بني السلم على خمس ‪293 ......................................................‬‬
‫ـ تم على صومإك فإنما أطعمك الله وأسقاك ‪449 .......................‬‬
‫ـ تصافحوا يذهب الغل وأتهادوأا تحاببوا ‪230 ...................................‬‬
‫ـ تمكث إحداكن شطر دهرها ل تصلي ‪222 .................................‬‬
‫الصفحة‬ ‫طرف الحديث‬
‫ـ تهادوأا تحابوا ‪230.........................................................................‬‬
‫ـ الحياء شعبة مإن اليمان ‪268......................................................‬‬
‫ـ دعوا الناس يرزق الله بعضهم مإن بعض ‪439...........................‬‬
‫ـ الذهب بالذهب وأالفضة بالفضة ‪63 ...........................................‬‬

‫‪697‬‬
‫ـ رحم الله امإرءا ا سمع مإقالتي ‪499.............................................‬‬
‫سللم ‪448.................................................................‬‬ ‫ـ رخص في ال س‬
‫ـ رفع عن أمإتي الخطأ وأالنسيان وأمإا استكرهوا عليه ‪309.........‬‬
‫ـ زمإلوهم بكلومإهم فإنهم يحشروأن‪61.................................... ...‬‬
‫ـ سئل أي العمال أفضل‪...‬؟ قال‪ :‬الذاكروأن لله‪402 .......... ...‬‬
‫ـ سئل أي العمال أفضل؟ قال‪ :‬إيمان بالله‪402.................. ...‬‬
‫ـ سئل عليه الصلةا وأالسلم أي العمال أفضل؟ قال‪ :‬الصلةا‬
‫لوقتها‪402.................................................................................. ...‬‬
‫ـ سها فسجد ‪280 ،63...................................................................‬‬
‫ـ عليك بالصوم فإنه ل مإثل له ‪402...............................................‬‬
‫ـ عليكم بسنتي وأسنة الخلفاء الراشدين المهديين ‪371.............‬‬
‫ـ فإذا رأيتم الذين يتبعون مإا تشابه مإنه‪399............................. ...‬‬
‫ـ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامإكم ‪380..............................‬‬
‫ـ القاتل ل يرث ‪330 ،329 ،281...................................................‬‬
‫ـ قضى رسول الله ‪ ‬في جنين امإرأةا بني لحيان‪382.............. ..‬‬
‫ـ كان عليه الصلةا وأالسلم يكف عن قتل المنافقين ‪459...........‬‬
‫ـ كتب إلى أهل اليمن كتاباا‪ ..‬أن مإن اعتبط مإؤمإناا‪381........... ...‬‬
‫ـ كل عمل ليس عليه أمإرنا فهو رد ‪308.......................................‬‬
‫ـ كنا نؤمإر بقضاء الصوم وأل نؤمإر بقضاء الصلةا ‪283.................‬‬
‫ـ كنت نهيتكم عن ادخار لحكوم الضاحي لجل الدافة ‪60.........‬‬
‫ـ كن عبد الله المقتول وأل تكن عبد الله القاتل ‪230....................‬‬
‫ـ ل تبع مإا ليس عندك ‪450 ،448...................................................‬‬
‫الصفحة‬ ‫طرف الحديث‬
‫ـ ل تزرمإوه‪) .‬للعرابي الذي بال في المسجد( ‪424..................‬‬
‫ـ ل تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق ‪339..........................‬‬
‫ـ ل تمت وأأنت ظالم ‪230..............................................................‬‬
‫ـ ل ضرر وأل ضرار ‪،486 ،481 ،439 ،281 ،150 ،121 ،149.‬‬
‫‪508‬‬
‫ـ ل ضرر وأل ضرار في السلم ‪121.............................................‬‬
‫ـ ل يحل دم امإرئ مإسلم إل بإحدى ثالث‪70............................ ...‬‬
‫ـ ل يقبل الله صلةا أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ‪280.................‬‬
‫ـ ل يقضي القاضي وأهو غضبان ‪281 ،63....................................‬‬
‫ـ مإا أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله‪485....................... ...‬‬
‫ـ مإا أجهلك بلغة قومإك يا غلم ‪345..............................................‬‬

‫‪698‬‬
‫ـ مإا جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله‪503..................... ...‬‬
‫خيير بين شيئين إل اختار أيسرهما‪232.............................. ...‬‬ ‫ـ مإا خ‬
‫ـ مإلكت نفسك فاختاري ‪62............................................................‬‬
‫ـ مإن أحدث في أمإرنا هذا مإا ليس مإنه فهو رد ‪308 ،299..........‬‬
‫ة فهي له ‪62....................................................‬‬ ‫ـ مإن أحيا أرضا ا مإيت ا‬
‫ـ مإن أسلم مإنكم فليسلم في كيل مإعلوم ‪448...........................‬‬
‫ـ مإن أوأدع وأديعة فهلكت فل ضمان عليه ‪438.............................‬‬
‫ـ مإن بدل دينه فاقتلوه ‪260...........................................................‬‬
‫ـ نحن أمإة أمإية ل نحسب وأل نكتب ‪217........................................‬‬
‫ـ نهى النبي ‪ ‬أن يبيع حاضر لباد ‪439...........................................‬‬
‫ـ نهى عليه الصلةا وأالسلم عن الصلةا طرفي النهار‪280.... ...‬‬
‫ـ نهى عن أكل كل ذي ناب مإن السباع‪394............................ ...‬‬
‫ـ نهى عن أكل لحوم الحمر الهلية ‪394.......................................‬‬
‫ـ نهى عن كل ذي مإخلب مإن الطير ‪394.....................................‬‬
‫ـ هي السنة يا ابن أخي‪) ...‬في مإسألة التسوية بين الصابع في‬
‫الدية( ‪283......................................................................................‬‬
‫ـ يا مإعشر الشباب مإن استطاع مإنكم الباءةا‪298.........................‬‬

‫‪699‬‬
‫المحتويات‬
‫الموضأوع‬

‫الصفحة‬
‫المقدمإة ‪5 .......................................................................................‬‬
‫الشاطبي وأعصره ‪12 .................................................................‬‬
‫تعريف بالشاطبي وأعصره ‪13 ................................................‬‬
‫التعريف بالشاطبي ‪13 .......................................................‬‬
‫عصره ‪14 .............................................................................‬‬
‫الحالة السياسية ‪18 ............................................................‬‬
‫الحالة القتصادية ‪20 ..........................................................‬‬
‫الحالة العلمية ‪21 ................................................................‬‬
‫مإناخ المجتمع الثقافي ‪23 ...................................................‬‬
‫شيوخ الشاطبي ‪27 .............................................................‬‬
‫تلمإيذه ‪29 ............................................................................‬‬
‫مإكانته العلمية ‪30 ................................................................‬‬
‫مإؤلفاته ‪31 ...........................................................................‬‬
‫الفصل الوأل‪ :‬التمهيد لنشوء فكرة مإقاصد الشريعة‬
‫‪36‬‬
‫مإقدمإة في نشأةا علم أصول الفقه وأتطوره‪37 ...............‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬القياس ‪44 .......................................................‬‬
‫مإفهوم القياس وأمإباحثه ‪44 ................................................‬‬
‫حجيته ‪45 ..............................................................................‬‬
‫أركان القياس ‪47 ................................................................‬‬
‫شروأطه ‪47 ..........................................................................‬‬
‫العلة ‪48 ................................................................................‬‬
‫السبب ‪53 ............................................................................‬‬
‫المناط ‪55 ............................................................................‬‬

‫‪700‬‬
‫تحقيق المناط ‪57 ................................................................‬‬
‫تنقيح المناط ‪57 ..................................................................‬‬
‫تخريج المناط ‪58 .................................................................‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مإسالك العلة وأشروأطها‪59 ...........................‬‬
‫تمهيد ‪59 ...............................................................................‬‬
‫مإسالك العلة ‪60 ..................................................................‬‬
‫في شروأط العلة ‪67 ...........................................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مإسلك الخالة وأالمناسبة‪74 ........................‬‬
‫تمهيد ‪74 ...............................................................................‬‬
‫تحقيق مإعنى الخالة وأالمناسبة ‪75 ....................................‬‬
‫أقسام المناسب ‪79 ............................................................‬‬
‫المعتبر ‪79 ............................................................................‬‬
‫أنواع العتبار ‪80 ..................................................................‬‬
‫أقسام المعتبر ‪82 ................................................................‬‬
‫المؤثار ‪82 .............................................................................‬‬
‫الملئم ‪84 ............................................................................‬‬
‫الغريب ‪85 ............................................................................‬‬
‫الملغى ‪87 ............................................................................‬‬
‫المرسل ‪88 ..........................................................................‬‬
‫شروأط الوصف المناسب ‪95 .............................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬نشأة فكرة مإقاصد الشريعة‪97 ..............‬‬
‫عرض مإوجز لنشأةا الفكرةا ‪98 ...........................................‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬المحاججات التي أدت إلى فكرةا المقاصد‬
‫‪100‬‬
‫تطور الجدل مإن مإسلك المناسبة إلى الستدلل‪.......‬‬
‫‪100‬‬
‫مإعنى الستدلل ‪.............................................................‬‬
‫‪101‬‬

‫‪701‬‬
‫وأبالستدلل ‪............................‬‬ ‫أدلة القائلين بالمناسبة‬
‫‪105‬‬
‫وأالستدلل ‪..................‬‬ ‫ردوأد مإبطلي مإسلك المناسبة‬
‫‪107‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬انبثاق فكرةا مإقاصد الشريعة‪..................‬‬
‫‪110‬‬
‫احتدام الجدل ‪.................................................................‬‬
‫‪110‬‬
‫تقسيم الحكام بحسب مإآلتها أوأ مإقاصدها المصلحية‬
‫‪113‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬المدخل إلى فكرةا المقاصد عند الشاطبي‬
‫‪.....................................................................................................‬‬
‫‪119‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫المبحث ‪............................................‬‬ ‫عرض مإوجز لهذا‬
‫‪119‬‬
‫التعليل ‪...........................................‬‬ ‫أدلة القائلين بأصل‬
‫‪120‬‬
‫‪..................................................................‬‬ ‫أدلة الرادين‬
‫‪123‬‬
‫‪....................‬‬ ‫هل خيلزم أصل التعليل بمسلك المناسبة‬
‫‪126‬‬
‫‪...............................................‬‬ ‫مإوقف الشاطبي بإيجاز‬
‫‪127‬‬
‫الشاطبي ‪......................................‬‬ ‫مإعنى المقاصد عند‬
‫‪129‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬ضأوابط المقاصد عند الشاطبي ‪......‬‬
‫‪135‬‬

‫‪702‬‬
‫‪......................................................‬‬ ‫مإوضوع هذا الفصل‬
‫‪136‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬في المقدمإات ‪...........................................‬‬
‫‪137‬‬
‫مإوضوع هذا المبحث ‪....................................................‬‬
‫‪137‬‬
‫أصول الفقه قطعية ‪......................................................‬‬
‫‪137‬‬
‫الستقراء فقط هو طريق القطع ‪................................‬‬
‫‪138‬‬
‫المقاصد الوأل وأالمقاصد التابعة ‪................................‬‬
‫خ‬
‫‪142‬‬
‫خواص الكليات ‪.............................................................‬‬
‫‪144‬‬
‫مإعنى الرجوع إلى أصل قطعي ‪...................................‬‬
‫‪146‬‬
‫الجزئي وأالفرع وأالفرق بينهما ‪.....................................‬‬
‫‪150‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬في المستندات ‪........................................‬‬
‫‪152‬‬
‫تمهيد ‪...............................................................................‬‬
‫‪152‬‬
‫المباح ‪............................................................................‬‬
‫‪153‬‬
‫تصوير الجزئية وأالكلية في الحكام ‪.............................‬‬
‫‪154‬‬
‫المباح قسمان ‪..............................................................‬‬
‫‪156‬‬

‫‪703‬‬
‫‪...................................................................‬‬ ‫مإرتبة العفو‬
‫‪160‬‬
‫‪.........................................................‬‬ ‫الرخصة وأالعزيمة‬
‫‪161‬‬
‫‪.....................................................‬‬ ‫السباب وأالمسببات‬
‫‪165‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬في النتائج وأمإفهوم المصلحة وأالمفسدةا عند‬
‫الشاطبي ‪....................................................................................‬‬
‫‪168‬‬
‫تعريف بموضوع البحث ‪................................................‬‬
‫‪168‬‬
‫السبب ‪...........................................................................‬‬
‫‪168‬‬
‫الحكمة ‪..........................................................................‬‬
‫‪169‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫‪........................................................................‬‬ ‫المسببب‬
‫‪170‬‬
‫‪...............................................................................‬‬ ‫العلة‬
‫‪170‬‬
‫‪..............................................................‬‬ ‫مإعاني الحكام‬
‫‪172‬‬
‫‪.....................................................‬‬ ‫المصلحة وأالمفسدةا‬
‫‪172‬‬
‫‪........‬‬ ‫مإفهوم الشاطبي لكل مإن المصلحة وأالمفسدةا‬
‫‪173‬‬
‫‪.......................‬‬ ‫مإناقشة تحليلية لستدللت الشاطبي‬
‫‪174‬‬
‫بعض النصوص في مإراد الشاطبي بالمصلحة وأالمفسدةا‬

‫‪704‬‬
‫‪.....................................................................................................‬‬
‫‪182‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬قصد الشارع في وأضأع الشريعة ابتداءا‬
‫وأفي وأضأعها للفهام ‪............................................................‬‬
‫‪185‬‬
‫تمهيد ‪..............................................................................‬‬
‫‪186‬‬
‫ء ‪...‬‬‫المبحث الوأل‪ :‬قصد الشارع في وأضع الشريعة ابتدا ا‬
‫‪188‬‬
‫مإعنى هذا النوع ‪.............................................................‬‬
‫‪188‬‬
‫المقاصد ثالثاة أقسام ‪....................................................‬‬
‫‪188‬‬
‫التعريف بهذه القسام الثلثاة ‪......................................‬‬
‫‪188‬‬
‫جريان هذه المقاصد في كل تكاليف الشريعة ‪..........‬‬
‫‪190‬‬
‫مإكملت أوأ تتمات المقاصد ‪.........................................‬‬
‫‪191‬‬
‫تفاوأت مإراتب المقاصد ‪................................................‬‬
‫‪192‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬عصمة الشريعة ‪.......................................‬‬
‫‪199‬‬
‫مإعنى هذا التعبير ‪...........................................................‬‬
‫‪199‬‬
‫ل يجوز مإخالفة الحكام بحجة المقاصد ‪.....................‬‬
‫‪201‬‬
‫تفسير لبعض نصوص الشاطبي ‪..................................‬‬
‫‪202‬‬
‫مإناقشة الشاطبي لبعض القوال في المصالح وأالمفاسد‬

‫‪705‬‬
‫‪.....................................................................................................‬‬
‫‪210‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬قصد الشارع في وأضع الشريعة للفهام‬
‫‪215‬‬
‫مإعنى هذا النوع ‪.............................................................‬‬
‫‪215‬‬
‫الشريعة عربية اللسان وأالسلوب ‪..............................‬‬
‫‪215‬‬
‫أمإية الشريعة ‪................................................................‬‬
‫‪216‬‬
‫المعاني هي المقصود العظم للنصوص ‪....................‬‬
‫‪219‬‬
‫المعاني الصلية وأالمعاني التابعة ‪...............................‬‬
‫‪221‬‬
‫ل حكم للدللة التابعة ‪...................................................‬‬
‫‪224‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫الفصل الخامإس‪ :‬قصد الشارع في وأضأع الشريعة‬
‫للتكليف‬
‫بمقتضاها وأفي دخإول المكلف تحت‬
‫أحكامإها ‪.....................................................................................‬‬
‫‪226‬‬
‫تمهيد ‪..............................................................................‬‬
‫‪227‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬قصد التكليف بمقتضى الشريعة ‪.............‬‬
‫‪228‬‬
‫مإعنى هذا النوع ‪.............................................................‬‬
‫‪228‬‬

‫‪706‬‬
‫‪...........................................................‬‬ ‫التكليف وأالوسع‬
‫‪229‬‬
‫‪.........................................................‬‬ ‫التكليف وأالمشقة‬
‫‪231‬‬
‫‪.......................‬‬ ‫أصل عدم التكليف بالمشقات المعنتة‬
‫‪231‬‬
‫‪.........................................................‬‬ ‫المشقات مإفاسد‬
‫‪232‬‬
‫‪..............................‬‬ ‫المشقة المعتادةا ل تسمى مإشقة‬
‫‪233‬‬
‫‪.......................‬‬ ‫المشقات المعتبرةا أوأ المقصود رفعها‬
‫‪235‬‬
‫‪...............................................................‬‬ ‫مإعنى الرخصة‬
‫‪236‬‬
‫‪.............................................................‬‬ ‫أسباب الرخص‬
‫‪238‬‬
‫‪...........................................................‬‬ ‫شروأط الترخص‬
‫‪239‬‬
‫‪..........................................................‬‬ ‫وأسطية الشريعة‬
‫‪242‬‬
‫‪....‬‬ ‫اختلف مإقدار المشقة المعتادةا باختلف العمال‬
‫‪244‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام‬
‫الشريعة ‪......................................................................................‬‬
‫‪246‬‬
‫تمهيد لهذا النوع ‪............................................................‬‬
‫‪246‬‬
‫أصل المإتثال أوأ التعبد ‪.................................................‬‬
‫‪248‬‬

‫‪707‬‬
‫‪....................‬‬ ‫المصالح وأالمفاسد تعرف بالشرع فقط‬
‫‪251‬‬
‫‪.......‬‬ ‫التعارض بين التعليل بالمصالح وأحاكمية الشرع‬
‫‪254‬‬
‫‪.................‬‬ ‫المقاصد الشرعية ضربان‪ :‬أصلية وأتابعية‬
‫‪257‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬بين الشريعة وأمإقاصدها أوأ بين التعبد وأاتباع‬
‫المعاني ‪.......................................................................................‬‬
‫‪263‬‬
‫مإوضوع هذا المبحث ‪....................................................‬‬
‫‪263‬‬
‫عموم الشريعة وأثاباتها ‪..................................................‬‬
‫‪263‬‬
‫العرف وأمإدى اعتباره عند الشاطبي ‪..........................‬‬
‫‪267‬‬
‫التكليف بالحكام ليس تكليفا ا بمقاصدها ‪...................‬‬
‫‪270‬‬
‫به ‪.........................‬‬‫التلزم الشرعي بين السبب وأمإسب س‬
‫‪275‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫‪.............‬‬ ‫العادات وأالعبادات بين اتباع المعاني وأالتعبد‬
‫‪277‬‬
‫‪......................................................‬‬ ‫مإعنى اتباع المعاني‬
‫‪277‬‬
‫‪............................................................‬‬ ‫العبادات ل تعلل‬
‫‪278‬‬
‫‪..........................................‬‬ ‫الصل في العادات التعليل‬
‫‪281‬‬

‫‪708‬‬
‫‪..............................‬‬ ‫ل بد مإن اعتبار التعبد في العادات‬
‫‪283‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬مإقاصد المكلف ‪.................................‬‬
‫‪285‬‬
‫تمهيد ‪..............................................................................‬‬
‫‪286‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬المقاصد وأالنوايا ‪.......................................‬‬
‫‪288‬‬
‫النية وأالقصد وأالفرق بينهما ‪.........................................‬‬
‫‪288‬‬
‫أثار النية في العمال ‪....................................................‬‬
‫‪291‬‬
‫قاعدةا‪ :‬المإور بمقاصدها ‪.............................................‬‬
‫‪293‬‬
‫الخلص وأالتشريك في المقاصد ‪................................‬‬
‫‪294‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أعمال المكلف وأمإقاصده ‪.......................‬‬
‫‪300‬‬
‫أثار مإقاصد المكلف في العمال عند الشاطبي ‪.........‬‬
‫‪300‬‬
‫الموافقة وأالمخالفة لقصد الشارع ‪.............................‬‬
‫‪305‬‬
‫يل ‪.......................................................‬‬ ‫ح ل‬
‫المبحث الثالث‪ :‬ال ح‬
‫‪312‬‬
‫تعريفها ‪..........................................................................‬‬
‫‪312‬‬
‫حكم الشرع في الحيل عند الشاطبي ‪........................‬‬
‫‪314‬‬

‫‪709‬‬
‫‪......................................‬‬ ‫الحكم فيما ينبني على الحيل‬
‫‪318‬‬
‫‪......................................................‬‬ ‫حق الله وأحق العبد‬
‫‪320‬‬
‫أثار النية فيما كان حقا ا لله أوأ حقا ا للعبد ‪......................‬‬
‫‪323‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬مإنهج الشاطبي في فهم الشريعة‬
‫‪.....................................................................................................‬‬
‫‪325‬‬
‫‪..............................................................................‬‬ ‫تمهيد‬
‫‪326‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬مإنهج الشاطبي في فهم الشريعة ‪...........‬‬
‫‪327‬‬
‫مإوضوع هذا المبحث ‪....................................................‬‬
‫‪327‬‬
‫نظرةا الشاطبي إلى دللت النصوص الشرعية ‪........‬‬
‫‪327‬‬
‫ا‬
‫يجب إعمال الجزئيات وأالكليات مإعا ‪..........................‬‬
‫‪331‬‬
‫الكلي ل ينخرم بمعارضة آحاد الجزئيات ‪....................‬‬
‫‪333‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫‪..........................................................‬‬ ‫الحكام وأالتشابه‬
‫‪334‬‬
‫‪..............................................................‬‬ ‫تأوأيل المتشابه‬
‫‪336‬‬
‫‪............................................................................‬‬ ‫النسخ‬
‫‪337‬‬

‫‪710‬‬
‫‪...........................................................‬‬ ‫الوأامإر وأالنواهي‬
‫‪338‬‬
‫‪.......................................................‬‬ ‫العموم وأالخصوص‬
‫‪342‬‬
‫‪.............................................................‬‬ ‫البيان وأالجمال‬
‫‪349‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مإنهج الشاطبي في فهم القرآن ‪.............‬‬
‫‪351‬‬
‫مإوضوع هذا المبحث ‪....................................................‬‬
‫‪351‬‬
‫القرآن فيه بيان كل شيء مإن الشريعة ‪.....................‬‬
‫‪351‬‬
‫الحاجة إلى تفسير القرآن بالرأي ‪...............................‬‬
‫‪353‬‬
‫للقرآن ظاهر وأباطن ‪....................................................‬‬
‫‪355‬‬
‫كيفية فهم الظاهر ‪........................................................‬‬
‫‪357‬‬
‫كيفية فهم الباطن ‪.........................................................‬‬
‫‪359‬‬
‫إشكالت عل مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني القرآن‬
‫‪360‬‬
‫أمإثلة على مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني القرآن ‪. . .‬‬
‫‪364‬‬
‫مإنهج الشاطبي في استقراء المعاني في القرآن ‪.....‬‬
‫‪368‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مإنهج الشاطبي في فهم السنة ‪.............‬‬
‫‪370‬‬

‫‪711‬‬
‫‪.......................................................‬‬ ‫مإوضوع هذا البحث‬
‫‪370‬‬
‫‪........................................‬‬ ‫تعريف السنة عند الشاطبي‬
‫‪370‬‬
‫‪........................................................‬‬ ‫السنة بيان للكتاب‬
‫‪372‬‬
‫‪.......‬‬ ‫السنة فيها بيان كل شيء مإن الحكام الشرعية‬
‫‪375‬‬
‫‪.............................................‬‬ ‫كيفية بيان السنة للقرآن‬
‫‪375‬‬
‫‪...................................................‬‬ ‫ردوأد على اعتراضات‬
‫‪380‬‬
‫‪....................................‬‬ ‫البيان بالقول وأالفعل وأالقرار‬
‫‪383‬‬
‫‪..........................................................................‬‬ ‫الجماع‬
‫‪384‬‬
‫‪..........................................................................‬‬ ‫القياس‬
‫‪385‬‬
‫الفصل الثامإن‪ :‬الجأتهاد وأالتقليد ‪.............................‬‬
‫‪386‬‬
‫تمهيد ‪..............................................................................‬‬
‫‪387‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫‪........................................‬‬ ‫المبحث الوأل‪ :‬ضوابط الجتهاد‬
‫‪388‬‬
‫تعريفه عند الشاطبي ‪...................................................‬‬
‫‪388‬‬
‫شروأطه ‪.........................................................................‬‬
‫‪388‬‬

‫‪712‬‬
‫‪..................................................‬‬ ‫أنواع الجتهاد وأمإراتبه‬
‫‪391‬‬
‫‪.................................................‬‬ ‫الجتهاد المعتبر شرعا ا‬
‫‪393‬‬
‫‪.......................................................‬‬ ‫اختلف المجتهدين‬
‫‪396‬‬
‫‪........................................................‬‬ ‫الخطأ في الجتهاد‬
‫‪397‬‬
‫‪..................................................‬‬ ‫علمإة الجتهاد المعتبر‬
‫‪400‬‬
‫‪.......................................‬‬ ‫ل يمكن انقطاع الجتهاد كليا ا‬
‫‪404‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬ضوابط التقليد وأالفتوى ‪..........................‬‬
‫‪407‬‬
‫مإوضوع هذا المبحث ‪....................................................‬‬
‫‪407‬‬
‫المجتهدوأن أدلة المقلدين ‪............................................‬‬
‫‪407‬‬
‫الترجيح بين المجتهدين ‪................................................‬‬
‫‪409‬‬
‫قواعد مإردوأدةا في الفتوى ‪...........................................‬‬
‫‪414‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬أصل مإآلت الفعال ‪................................‬‬
‫‪419‬‬
‫أهميته في مإنهج الشاطبي ‪..........................................‬‬
‫‪419‬‬
‫أدلته ‪...............................................................................‬‬
‫‪420‬‬

‫‪713‬‬
‫‪..............................................................‬‬ ‫مإعناه وأتطبيقه‬
‫‪422‬‬
‫‪..................‬‬ ‫مإناقشة فهم خاطئ لصل اعتبار المآلت‬
‫‪428‬‬
‫‪............................‬‬ ‫شرح نص في اعتبار مإآلت الفعال‬
‫‪428‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬في تطبيق الفكرة‪ :‬ثالثا قواعد كلية‬
‫‪.....................................................................................................‬‬
‫‪431‬‬
‫‪......................................................‬‬ ‫مإوضوع هذا الفصل‬
‫‪432‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬المصالح المرسلة ‪.....................................‬‬
‫‪433‬‬
‫مإعنى المصالح المرسلة ‪..............................................‬‬
‫‪433‬‬
‫المصالح المرسلة عند الئمة ‪......................................‬‬
‫‪433‬‬
‫المصالح المرسلة عند الشاطبي ‪................................‬‬
‫‪435‬‬
‫مإواضع إعمال القاعدةا ‪.................................................‬‬
‫‪436‬‬
‫أقسام المصالح ‪............................................................‬‬
‫‪439‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫‪............................................................‬‬ ‫شروأط القاعدةا‬
‫‪441‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الستحسان ‪..............................................‬‬
‫‪445‬‬

‫‪714‬‬
‫‪.................................‬‬ ‫الستحسان وأمإواقف الئمة مإنه‬
‫‪445‬‬
‫‪.........................................................‬‬ ‫مإا هو الستحسان‬
‫‪447‬‬
‫‪.......................................................‬‬ ‫أقسام الستحسان‬
‫‪448‬‬
‫‪..........................................‬‬ ‫الستحسان عند الشاطبي‬
‫‪452‬‬
‫‪...............‬‬ ‫الفرق بين المصالح المرسلة وأالستحسان‬
‫‪455‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬سد الذرائع ‪...............................................‬‬
‫‪457‬‬
‫تعريفه ‪...........................................................................‬‬
‫‪457‬‬
‫مإوقف المذاهب مإن سد الذرائع ‪.................................‬‬
‫‪457‬‬
‫أدلة القاعدةا ‪..................................................................‬‬
‫‪459‬‬
‫ضوابط إعمال قاعدةا سد الذرائع ‪...............................‬‬
‫‪460‬‬
‫قاعدةا رفع الضرر ‪.........................................................‬‬
‫‪467‬‬
‫مإسائل أوأ تفريعات قاعدةا رفع الضرر ‪.......................‬‬
‫‪471‬‬
‫الفصل العاشر‪ :‬فكرة المقاصد عند الشاطبي‪:‬‬
‫عرض وأمإناقشة ‪.....................................................................‬‬
‫‪473‬‬
‫مإوضوع هذا الفصل ‪......................................................‬‬
‫‪474‬‬

‫‪715‬‬
‫المبحث الوأل‪ :‬عرض مإوجز لفكرةا المقاصد عند الشاطبي‬
‫‪.....................................................................................................‬‬
‫‪477‬‬
‫‪..........................................................‬‬ ‫مإعنى الموافقات‬
‫‪477‬‬
‫‪....................................‬‬ ‫القطع بالصول عند الشاطبي‬
‫‪479‬‬
‫‪...........................................................‬‬ ‫خصائص الصول‬
‫‪481‬‬
‫‪.........................‬‬ ‫الكليات ل تنخرم بمعارضة الجزئيات‬
‫‪483‬‬
‫‪...........................‬‬ ‫الستقراء هو السبيل الوحيد للقطع‬
‫‪484‬‬
‫‪...........................................‬‬ ‫دللت النصوص الشرعية‬
‫‪485‬‬
‫‪..............................................................‬‬ ‫دللت الحكام‬
‫‪486‬‬
‫‪............................................‬‬ ‫تعليل الشريعة بمقاصدها‬
‫‪488‬‬
‫‪........................................................................‬‬ ‫المقاصد‬
‫‪489‬‬
‫‪......................‬‬ ‫مإفهوم الشاطبي للمصلحة وأالمفسدةا‬
‫‪489‬‬
‫‪...................................‬‬ ‫مإعنى تعليل الشريعة بالمصالح‬
‫‪491‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضأوع‬
‫‪............................................................‬‬ ‫الجتهاد وأالتقليد‬
‫‪492‬‬

‫‪716‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مإناقشة فكرةا الشاطبي‪ :‬الكليات‬
‫وأالستقراء ‪..................................................................................‬‬
‫‪494‬‬
‫مإوضوع هذا المبحث ‪....................................................‬‬
‫‪494‬‬
‫اشتراط القطع بأصول الفقه ‪......................................‬‬
‫‪494‬‬
‫وأجوب العمل بالظني ‪...................................................‬‬
‫‪499‬‬
‫استقلل السنة بالتشريع ‪.............................................‬‬
‫‪500‬‬
‫الستقراء ‪......................................................................‬‬
‫‪504‬‬
‫مإعارضة الجزئي للكلي ‪................................................‬‬
‫‪510‬‬
‫التواتر المعنوي ‪.............................................................‬‬
‫‪513‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مإناقشة فكرةا الشاطبي‪ :‬المقاصد وأالعلل‬
‫‪.....................................................................................................‬‬
‫‪517‬‬
‫‪....................................................‬‬ ‫مإوضوع هذا المبحث‬
‫‪517‬‬
‫‪..................................................................‬‬ ‫أصل التعليل‬
‫‪517‬‬
‫‪...........................................‬‬ ‫رد تعليل أفعال الله تعالى‬
‫‪518‬‬
‫‪............................................................‬‬ ‫المقاصد وأالعلل‬
‫‪522‬‬
‫‪................................‬‬ ‫الستغناء بالكليات عن الجزئيات‬
‫‪526‬‬

‫‪717‬‬
‫‪...........................................................‬‬ ‫مإلحظات أخرى‬
‫‪532‬‬
‫الخاتمة ‪.......................................................................................‬‬
‫‪534‬‬
‫فهرس المصادر وأالمراجع ‪........................................................‬‬
‫‪540‬‬
‫فهرس اليات ‪.............................................................................‬‬
‫‪547‬‬
‫فهرس الحاديث ‪........................................................................‬‬
‫‪564‬‬
‫فهرس المحتويات ‪.....................................................................‬‬
‫‪567‬‬

‫‪718‬‬

You might also like