Professional Documents
Culture Documents
52w Mqasid Alshatby
52w Mqasid Alshatby
الم
عـنـد
المإـام
-1-
K
-2-
مإـحـمــود عـبـد الهـادي فاعــور
المـقـاص
ـد
عـنـد
المإـام
الشـاطبي
دراســة أصــوليـة فـقـهـيـة
-3-
الطبعـة الوألى
1427هـ 2006 -م
بســيـوني للطبـاعـة
تلفون836014/03 :
صـيـدا -لبنـان
-4-
بسم الله الرحمن الرحيم
مإة
د َالمـقَـ ّ
-5-
، (1) ] وأمر بمعاداته ومحار ب ته
فقال ، (2) ] [ :وأمر
تعالى بأن ييعبد هو وحده ول يعبد سواه ،فما حسيينه ف هــو ح ســن،
وما قبحه فهو قبيح ،ول معقيقبِّ لحكمه [ .
)3
[ ، ]
(
-6-
مضمونه وتحشوه شيئاا آخر ،جديداا ،وتتذرييع بالتجديد،
وتيؤيويقل وتيغيييقر لتوفيقق بين أحكاما السلما وأحكاما الكفر،
وتتذرع بالتطوير ،أو بحجة اللحاق بالركبِّ أو المحافظة على ما
بقي.
-7-
المقاصد ،مقاصد الشريعة! نعم ،فليكن ،ولكن هذا الذي أتيتم
به ليس مقاصد الشريعة ،إنها مقاصدكم ،أو مقاصد مرضى
القلوب .فأين في مقاصد الشريعة أن يصبح حفظ الدين هو حرية
العقيدةا ،وحق تبديل الدين .وأين في مقاصد الشريعة إلغاء
الشريعة ،فتصبح الردةا حقاا من حقوق النسان ،ويصبح قتل
المرتد جريمة .وهل في مقاصد الشريعة أن يكون النص [ :
(1)] ويكون المقصد :الربا حلل ،والزمان والمكان
بذلك كفيلن!
-8-
عليهم وعلى منهجهم .ومن هنا نشأت دوافع بحث هذا الموضوع،
وهي باختصار:
-9-
الخصوص .فهذا الكتاب دراسة تحليلية لنصوص الموافقات .
وقد اعتمدت في هذه الدراسة على الطبعة التي هي بتحقيق
الشيخين محمد الخضر حسين التونسي ومحمد حسنين مخلوفَّ،
وهي أربعة أجزاء في مجلدين ،حيث حقق الول الجزأين الول
والثاني ،وحقق الثاني الجزأين الثالث والرابع ،فحيثما أيحلتي أو
رجعت إلى الموافقات فقد رجعت إلى هذه الطبعة ،وإذا أحلتي إلى
غيرها نوهت إلى ذلك.
- 10 -
ثم محتويات الكتاب.
الفصل الوأل :التمهيد لنشوء فكرةا مقاصد الشريعة .وهو
يحتوي على مقدمة في نشأةا علم أصول الفقه وتطوره ،وعلى
ثلثة مباحث :الول في القياس ،والثاني في مسالك العلة
وشروطها ،والثالث في مسلك الخالة والمناسبة ،وهي مما يلزما
للدخول إلى مباحث أصول الفقه والقياس والتعليل .وعلى وجه
الخصوص مسلك الخالة والمناسبة كتمهيد لفكرةا مقاصد
الشريعة.
- 11 -
أحكاما الشريعة.
الفصل السادس :مقاصد المكلف .ويحتوي على تمهيد
وثلثة مباحث في بيان أثر النية أو المقصد في فعل المكلف،
وأثر الموافقة أو المخالفة بين قصد الشارع وقصد المكلف في
الفعل ،وفي بيان الحيل وموقف الشاطبي منها.
- 12 -
الشـاطبي
وأعصـره
التعريف بالشاطبي
عصـره
الحالة السياسية
الحالة القتصادية
الحالة العلمية
مإناخ المجتمع الثقافي
شيوخ الشاطبي
تلمإيذه
مإكانته العلمية
مإؤلفاته
- 13 -
تعريف بالشـاطبي وأعصـره
التعريف بالشاطبي:
هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي،
المعروفَّ بالشاطبي) ، (1من علماء المالكية في الندلس.
اشتهر بالشاطبي نسبةا إلى شاطبة موطن آبائه ،وقد لجأت
أسرته إلى غرناطة بعد سقوط شاطبة بيد النصارى.
عاش الشاطبي حياته كلها في غرناطة في القرن الثامن
الهجري .وقد اختلف في مولده وفي وفاته ،والمعتمد في وفاته
أنها كانت سنة 790هـ 1388 -ما .وذلك أن أحد تلميذه ،أبا
يحيى بن محمد بن عاصم ،نظم كتاب الموافقات في ستة آلفَّ
بيت ذكر فيها تاريخ وفاته فقال )الرجز(:
للشاطبي ،ص ، 32 :ط 1406 ، 2هـ 1986 ،ما ،مؤسسة الرسالة ،بيروت.
) ( التنبكتي ،ن يل البتهاج ،ص. 46 : 3
14
سنة . (1)756
أما الستاذ محمد أبو الجفان فقد رجح في مقدمته لكتاب
فتاوى الشاطبي) ، (2أن تكون ولدةا الشاطبي قبل سنة 720هـ بناء
على أن وفاةا أسبق شيوخه أبي جعفر أحمد بن الزيات كانت سنة
728هـ .فل بد على أقل تقدير أن يكون الشاطبي في هذا التاريخ
يافعاا ،وقد أشار إلى هذا المر في مقدمته على كتاب الفادات
والنشادات ). (3
والرجح ما ذهبِّ إليه الستاذ محمد أبو الجفان ،وحجته في
ذلك وجيهة .أما قول الدكتور العبيدي فل حجة فيه .فصداقة ابن
زمرك والشاطبي ل تمنع أن يكبر أحدهما الخر بعشرين سنة أو
أكثر .وكذلك فإنه ل يوجد دليل على أن الشاطبي كان صغير
السن سنة 756هـ .وهذا القول هو خلط بين إفادتيه رقم 66ورقم
، 67حيث ذكر في إحداهما تاريخ وفاةا أسبق شيوخه ،وفي الخرى
أنه كان صغير السن ،ولكن الفادتين مختلفتان ول علقة لحداهما
بالخرى ). (4
عصـره:
)(5
في عهد ملوك بني الحمر، عاش الشاطبي في مدينة غرناطة
) ( حمادي العبيدي ،الشاطبي ومقاصد الشريعة ،ص ،12 :ط 1412 ، 1هـ 1
ص 143 :وهو المصدر المذكور سابقاا بتحقيق الستاذ محمد أبو
الجفان .
) ( قال الفيروز أبادي في القاموس المحيط :غرناطة » :والصواب: 5
15
في دولة بني نصر ،التي لم تكن تتمتع آنذاك بالستقرار ،ويرجع
السببِّ الرئيس في ذلك إلى محاولت النصارى القضاء على السلما
في الندلس .ولبيان أحوال العصر الذي عاش فيه الشاطبي ،وللقاء
الضوء على ملمح هذا العصر ،من المفيد الشارةا إلى محطات
تاريخية في حياةا المسلمين في الندلس.
فقد أسس الدولة السلمية في الندلس عبد الرحمن بن
معاوية بن هشاما بن عبد الملك بن مروان الملقبِّ صقر قريش.
وقد عرفَّ باسم عبد الرحمن الداخل لنه أول من دخل الندلس من
أمراء المويين بعد أن فر ونجا من العباسيين) . (1دخل قرطبة سنة
139هـ ،دخول الفاتحين ،ثم قاما بتوطيد دعائم الدولة ،مستقلة عن
دولة الخلفة ،ولكنه لم يسم نفسه خليفة.
حاول العباسيون استرداد الندلس سنة 149هـ فعجزوا.
حاول شارلمان ملك الفرنجة بالتعاون مع حكاما المدن
السبانية القضاء على إمارةا عبد الرحمن ولكنه فشل.
قاما عبد الرحمن بإعمار إمارته وتطويرها ،وبتشجيع العلوما
والفنون ،والزراعة والصناعة ،فأصبحت قرطبة عاصمة الندلس.
وتجلت فيها المظاهر المدنية والعمرانية من خلل مساجدها
ومعاهدها وقصورها وحدائقها .واستمر التطور بعده ،فتجلت
حضارةا الندلس من خلل الحركة الفكرية والثقافية الناشطة.
وحظيت قرطبة بعناية خاصة على صعيد العمران ،والجمال ،وبناء
المستشفيات ودور العلم ودور العبادةا ،وانتشرت العلوما والمعارفَّ،
وعقدت الندوات والمناقشات الفكرية والفلسفية ،ونشطت الترجمة،
وازدهرت الندلس ،وسادها المن والستقرار ،ودخل كثير من
)(2
السبان السلما ،ونبغ منهم أدباء ساهموا في نشر اللغة العربية .
نوفل - ) ( إبراهيم الشريفي ،التاريخ السلمي ،ص ، 149 :ط ،2مؤسسة 1
16
ثم تعاقبِّ على الحكم أمراء ضعفاء ،ودب الضعف في جسم
الدولة لمدةا اثنين وستين سنة ،حتى تولى الحكم عبد الرحمن
الناصر سنة 300هـ .و في عهده بلغت الندلس عصرها الذهبي،
وعمها الرخاء وتحققت فيها مشاريع عمرانية وزراعية وصناعية،
بالضافة إلى ما أنشيء فيها من مساجد ومدارس ومستشفيات،
وأنشئت القصور ،وأضيئت الشوارع بالقناديل ،وانتشرت الحدائق
الغنياء ،وأمايي الطلب من سائر النحاء الندلس للدراسة في معاهدها
وجامعاتها ،وازدادت ثروةا البلد ،وتضاعفت موارد الدولة .وأينفققي
الكثير وادييخر الكثير .وداما حكم عبد الرحمن الناصر خمسين سنة
350 - 300هـ وسمى نفسه خليفة ). (3
وخلف عبد الرحمن الناصر ابنه الحكم ،الذي حكم لمدةا 16
عاماا قضاها في عمران البلد .ثم خلفه حكاما ضعافَّ أسلموا الحكم
لغيرهم فأضاعوه ،وانقض الطامعون عليهم وسقطت الخلفة سنة
417هـ .وقامت دويلت صغيرةا في المدن عرفَّ حكامها باسم
ملوك الطوائف.
هذه الوضاع من انقساما وضعف وتناحر وأطماع شجعت
المارات النصرانية في الشمال على النقضاض على المسلمين.
وعندما اشتد الخطر على الندلس وعجز ملوك الطوائف عن
صد هجوما الممالك النصرانية التي توحدت في شمال أسبانيا،
استنجد المعتمد بن عباد ملك إشبيلية بالمرابطين حكاما المغرب.
فعبرت قواتهم الندلس وهزمت جيوش الممالك النصرانية هزيمة
نكراء في موقعة الزلقة سنة 479هـ 1086 -ما .وكان لمساعدةا
المرابطين وانتصارهم الساحق الفضل في إنقاذ الندلس وإبقاء
الوجود السلمي فيها .
ولما زال الخطر عاد أمراء المسلمين إلى التناحر والتنازع
على السلطة ،وانتقلت العدوى إلى حكاما المغرب ،فدب الشقاق بينهم
) ( أنظر :المرجع نفسه :ص . 155 - 154 3
17
وضعف سلطانهم فاغتنم الفرصة السانحة حكاما المارات النصرانية
في شمال أسبانيا وجهزوا الجيوش لغزو دويلت الجنوب فسقطت
جميعها باستثناء غرناطة التي ظلت صامدةا كالطود الشامخ .وكان
سقوط قرطبة سنة 634هـ 1236 -ما ،وإشبيلية سنة 646هـ -
1248ما). (1
في هذه الثناء ظهر أحد ملوك الطوائف وهو أبو عبد ال
محمد بن هود الذي لقبِّ أمير المسلمين سيف الدولة ،المتوكل
على ال ،وسيطر على مجموعة من المدن الندلسية الهامة ومنها
قرطبة وغرناطة .وفي سنة 635هـ 1238 -ما توفي ابن هود
وظهر أبو عبد ال محمد بن يوسف بن نصر المعروفَّ بابن
الحمر ) ، (2مؤسس دولة بني الحمر ،وأعلن نفسه أميراا على جنوب
الندلس ،وجعل غرناطة عاصمة لدولته .وكان هذا عاما 635هـ -
1238ما). (3
وتميز عهد محمد بن الحمر بتقوية دولته وتنمية ثروتها.
وقد وقف بنو نصر بوجه جيوش الشمال النصرانية ،وصدوها بعزما
وإيمان .وأصبحت غرناطة حاضرةا المسلمين وقاعدتهم الكبرى في
الندلس بعد أن سقطت الممالك والدويلت أماما هجمات ملوك
النصارى الذين توحدوا للقضاء على السلما .فأيجلي المسلمون عن
بلدهم ودفعوا الجزية للكفار ،إل أن الوجود السلمي في الندلس
استمر لما يزيد على قرنين ونصف بعد أن تمكن محمد بن يوسف
بن نصر )محمد بن الحمر( الملقبِّ بالشيخ الغالبِّ بال من تأسيس
) ( ويرجع نسبِّ ابن الحمر إلى سعد بن عبادةا النصاري الخزرجي أحد 2
الصحابة .أنظر :تاريخ المغرب والندلس ،مذكور سابقاا بإحالته على صبح
العشى في صناعة النشا للقلقشندي. 5/260 ،
) ( أنظر :تاريخ المغرب والندلس من القرن السادس الهجري حتى القرن 3
العاشر الهجري ،تأليف :د .أحمد عودات ،د .شحادةا الناطور ،د .جميل
بيضون ،أ .محمد محاسنة .دار المل للنشر والتوزيع إربد ،ط ، 1
1410هـ 1990 -ما.
18
وتقوية دولته في جنوب الندلس). (1
إل أن هذه الدولة لم تستطع حماية المسلمين في الندلس،
فسقطت المدن والحصون ،مما أثار أطماع النصارى الذين حاولوا
القضاء على غرناطة ،فلم يستطيعوا وازدادت غرناطة
قوةا). (2وصارت مدينة غرناطة ملجأا للمسلمين الفارين من زحف
النصارى منذ تأسست بها دولة بني الحمر .يقول المقري» :ولما
استولى الفرنج على معظم بلد الندلس انتقل أهلها إليها فصارت
المصر المقصود«هل). (3
وخلل عهد غرناطة كانت هناك ثلثا ممالك نصرانية قوية
هي البرتغال وأرغون وقشتالة والخيرةا هي أقوى هذه الممالك.
وكانت كل واحدةا من هذه الممالك لوحدها أقوى من غرناطة.
فاتحدت هذه القوى واستعانت بغيرها ،وقامت بحملت صليبية على
غرناطة ،واستطاعت أن تحقق بعض النتصارات إل أنها لم تحقق
أهدافها.
ثم تجمعت القوى الصليبية وهاجمت غرناطة ،وطلبِّ
المسلمون الغوثا من المغرب ،وجرت أحداثا وحروب حقق
المسلمون فيها نصراا هائلا سنة 674هـ .
واستمر الصراع ،وفي سنة 718هـ هاجم القشتاليون غرناطة
وزحفوا عليها بمساعدةا النجليز ،واستنجد المسلمون ب بن ي مرين
في المغرب فأجابوهم ،وتمكن المسلمون من تحقيق النصر وهزيمة
الفرنج في معركة قرب غرناطة). (4
واستمرت المواجهات بين المسلمين والسبان ,وهزما
) ( أنظر :إبراهيم الشريفي ،التاريخ السلمي ،ص . 157 :وتاريخ 1
) ( أبو العباس أحمد المقري ،نفح الطيبِّ في غصن الندلس الرطيبِّ، 3
19
المسلمون في معركة بحرية سنة 740هـ 1339 -ما اشتركت
فيها قوات من أرغون وقشتالة والبرتغال ،ووقعت معركة سنة
741هـ ،هي معركة طريف ،استعمل فيها المسلمون المدافع التي
تقـذفَّ النيـران لول مـرةا إل أنهم خسروا المعركة ،وكان
الصليبيون إذا انتصروا في معركة ارتكبوا أبشع المنكرات في
المسلمين ). (1
وأخذ السبان يعيثون فساداا وتخريباا في أراضي الندلس.
ورغم كل ذلك فقد ظلت غرناطة قوية ،وعقدت معاهدات صلح بين
المسلمين والسبان منها معاهدةا صلح مع بيدرو الرابع سنة - 736
789هـ 1387 - 1336 ،ما ،فساد المن والسلما ربوع مملكة
غرناطة وازدهرت ،ورغم محاولت السبان اقتساما أملك غرناطة فقد
فشلوا). ( 2
وفي سنة 867هـ سقطت جبل طارق بيد القشتاليين ،فكان
ذلك ضربةا قوية للمسلمين ،وتوقف وصول المدادات من المغرب
إلى الندلس ). (3
وتولى حكم غرناطة سنة 887هـ 1482 -ما محمد بن
علي الملقبِّ بأبي عبد ال الصغير ،الذي وافق على تسليم غرناطة
سنة 897هـ 1492 -ما لملكي قشتالة وأرغون ،ورحل إلى
المغرب .وهكذا قضي على الدولة السلمية في الندلس ،ولبي
عبد ال الصغير هذا قيل )الخفيف(:
الحـالة السـياسـية:
20
كانت هذه إشارةا إلى محطات تاريخية وأحداثا مرت بمسلمي
الندلس .وتفسر هذه الحداثا هجرةا أسرةا الشاطبي إلى غرناطة.
وتفسر أيضاا الحالة السياسية لعصر الشاطبي ،إل أن ثمة أحداثاا
تلقي ضوءاا أكبر على الحالة السياسية لعصر الشاطبي أي للقرن
الثامن الهجري.
قال لسان الدين ابن الخطيبِّ)» : (1ويلقيي بعد الغالبِّ بأمر ال،
مؤسس الدولة ،ولده وسميه السلطان أبو عبد ال ،وطالت مدته إلى
أن توفي عاما 701هـ .وولي بعده ولده وسميه أبو عبد ال محمد،
وخلع يوما الفطر من عاما 708هـ ،وتوفي في شوال عاما . 711
وولي بعده خالعه أخوه نصر أبو الجيوش ،وارتبك أمره ،وطلبِّ
المر من ابن عم أبيه السلطان أبو الوليد إسماعيل فتغلبِّ على دار
المارةا في ثاني ذي القعدةا من عاما 713هـ ،وانتقل نصر مخلوعاا
إلى مدينة وادي آش ،وتوفي عاما 722هـ ،وتمادى ملك السلطان
أبي الوليد إلى 23من رجبِّ عاما ، 725ووثبِّ على ابن عمه في
طائفة من قرابته فقتلوه ببابه وخاب فيما أملوه سعيهم فقتلوا
كلهم يومئذم ،وتولى أمره ولده محمد واستمر إلى ذي الحجة من
عاما ، 734وقتل بظاهر جبل الفتح بأيدي جنده من المغاربة ،وتولى
المر بعده أخوه أبو الحجاج يوسف وداما ملكه إلى يوما عيد الفطر
من عاما « 755هل) ، (2وقد قتل أثناء صلته). (3
»ثم تقلد المارةا السلطان محمد الخامس الملقبِّ بالغني بال
فاستمر من 755هـ إلى 793هـ .تعرض حكمه خللها لحداثا
دامية .فقد تعرض لنقلب سنة 760فريي على إثره إلى المغرب
ثم عاد سنة . 763وقد تعرضت غرناطة خلل هذه السنوات الثلثا
)( حمادي العبيدي ،مقاصد الشريعة السلمية ،ص . 31 :بإحالته على: 2
لسان الدين بن الخطيبِّ ،اللمحة البدرية ،ص ،34 ،33 :تحقيق محي
الدين الخطيبِّ ،ط ، 1المطبعة السلفية ،القاهرةا 1374 ،هـ .
) ( الموضع نفسه . 3
21
لثلثة انقلبات متوالية :الول في شهر رمضان سنة ، 760وانتهى
بفرار السلطان الغني بال إلى المغرب وتولي أخيه إسماعيل الثاني
مكانه .والنقلب الثاني في شعبان سنة 761قتل فيه إسماعيل
الثاني وتولى الملك قاتله وزوج شقيقته أبو سعيد البرميخو،
والنقلب الثالث في جمادى الثانية سنة 763أفضى المر فيه إلى
عودةا الغني بال إلى عرشه ،وقتل البرميخو على يد ملك
قشتالة«هل). (1
ومما تشير إليه بعض المصادر أن البرميخو كان مدمناا على
الحشيش ،فانتشرت هذه الفة بين الناس جهاراا وقيلت فيها
الشعار). (2
ويتحدثا لسان الدين ابن الخطيبِّ عن البرميخو وطغيانه،
وأكله أموال الناس فيقول» :وكان حرفوشاا) ، (3فالتهم الخل
والكل ،وأعدما بإعداما الغلة أسباب الرخا ،وفتح أبواب البلء ،وسمح
ببعض المكوس) (4فأعطى قليلا ثم أكدى) ، (5ولم تمر الياما إل وقد
عاد في قينه) (6وأضاق الرعايا بشؤمه ،وكلفهم ارتباط الفراس
بعد إغراقهم أرزاق جنده«هل). (7
الحالة القتصـادية:
) ( المرجع نفسه ،ص. 31 : 1
) ( كلمة عامية مصرية تطلق على الرعاع الذين يعيشون على النهبِّ، 3
. 1582
) ( حمادي العبيدي ،مقاصد الشريعة السلمية ،ص . 32 :بإحالته على: 7
22
يتبين مما سبق تقدما ثم هبوط وانحدار في دولة الندلس،
ويظهر هذا في نشأةا ونمو الدولة ثم انحدارها وسقوطها .وكذلك
يظهر في نمو الثروةا وكثرةا النفاق والدخار ثم في تفاقم
الحاجة ،وهذا ما شهده عصر الشاطبي.
يقول الستاذ محمد أبو الجفان» :ونستفيد من نص موجه
إلى الشاطبي أن المسلمين احتاجوا إلى بعض الموارد الضرورية
ومنهم من تساءل :هل تبيح لهم هذه الحاجة أن يبيعوا للكفار ما
كان منعوا بيعه لهم لنه يقويهم .ونص السؤال :هل يباح لهل
الندلس بيع الشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب
كالسلح وغيره ،لكونهم محتاجين إلى الضرورةا في أشياء أخرى
من المأكول والملبوس وغير ذلك ،أما ل فرق بين أهل الندلس
وغيرهم من أرض السلما؟«هل). (1
ويشير إلى نقص الغذاء فيقول» :كما يفيد نص استفتاء آخر
أن نقص الغذاء دفعهم إلى استغلل المورد البحري ،ولكن عقد
إجارةا السفن كان يتم دون أن يكون الجر معلوماا عند التعاقد.
فتساءلوا :كيف والقطر الندلسي ل يخفى حاله أو الحاجة فيه إلى
الطعاما ،وجل طعامه الن من البحر ،وكثير من أهل القطر يروما
التسببِّ في إنشاء سفينة أو شرائها ،ويمنعه من ذلك كراؤها على
الوجه المذكور ،والحال في الوطن ل يخفى والضرورةا فيها
ظاهرةا«هل). (2
ومما يشير إلى الضعف القتصادي عدما قدرةا الدولة على
القياما بحاجات الناس ،واحتياجها إلى فرض ضرائبِّ .ويظهر هذا في
اختلفَّ العلماء في فتاواهم ،فبسببِّ الوضاع السياسية والحروب
الخارجية حلت ضائقة مالية بالدولة .فاستفتت حكومة غرناطة
الفقهاء في جواز فرض ضرائبِّ زائدةا على أهل المملكة لمواجهة
) ( محمد أبو الجفان ،تحقيق وتعل ي ق على الفادات والنشادات للشاطبي، 1
ص. 13 :
) ( المرجع نفسه ،ص. 14 : 2
23
التعبئة للقتال ،فامتنعوا من ذلك ولكن الشاطبي خرج من إجماعهم
وأفتى بالجواز قائلا» :إنا إذا قررنا إماماا مطاعاا ،مفتقراا إلى
تكثير الجنود لسد الثغور ،وحماية الملك المتسع القطار ،وخل
بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما ل يكفيهم فللماما إذا كان
عدلا أن يوظف على الغنياء ما يراه كافياا لهم في المال إلى أن
يظهر مال بيت المال ،ثم له النظر في توظيف ذلك على الغلت
والثمار وغير ذلك كيل يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش
القلوب وذلك يقع قليلا في كثير بحيث ل يجحف بأحد ويحصل
المقصود«هل). (1
إن الخبار التي تشير إلى فقدان الثروةا والمدخرات في
الندلس كثيرةا ،وهذا الحال الذي آل إليه الوضع القتصادي يدل
على تراجع وانحدار ول يدل على مجاعة ،ولذلك فل تمنع هذه
الوضاع من وجود الثراء والترفَّ في المجتمع .يقول الستاذ أبو
الجفان» :ومع هذا الوضع المضطرب فإن لوناا من البذخ ينتشر،
وإقبالا على المجوهرات عند الغنياء المترفين ،وتفنناا في الزينة
والتماجن في أشكال الحلي عند النسوةا ،وولوعاا بالغناء يفشو حتى
بالدكاكين التي تجمع الشباب«هل). (2
الحالة العلمية:
المستوى العلمي والمناخ الثقافي السائد في غرناطة في حياةا
الشاطبي كان جيداا ومزدهراا ولم يهبط بشكل كبير ومفاجئ إل
بانهيار غرناطة وخضوعها لعدوها .إل أن الملحظ أن هذا المستوى
كان يهبط تدريجياا تبعاا للحالة السياسية .فكلما كانت نظرةا
الحكاما وسياستهم نظرةا توسع ونشر للسلما كان يتبع هذا انتشار
وتوسع للعلوما السلمية وما يتبع ذلك من حركةم ثقافية.
) ( الشاطبي ،العتصاما . 2/380 ،تحقيق :عبد الرزاق المهدي ،دار الكتاب 1
24
وحيثما كان الحكاما يبذلون الجهد للمحافظة على الستقرار أو
على الوضع القائم ضمن حدودهم ،والمحافظة على مستوى ثابت من
التأثير والتأثر ،كانت تتبع هذه الحالة حالة جمود .أي أن حركة
النتاج العلمي والحركة الثقافية في المجتمع تكون مسـتـقـرةاا
على حال .وهذا كان حال غرناطة لول أنها صارت مقصداا ومجمعاا
للعلماء الوافدين من سائر أنحاء الندلس ،المر الذي أدى إلى
تفاعل أثر على النشاط العلمي والفكري والثقافي والصناعي
والفني.
قال الستاذ محمد أبو الجفان» :أما المناخ الثقافي الذي
تعرفه غرناطة في حياةا الشاطبي فهو مزدهر نسبياا ،إذ تتواصل فيه
سنة الهتماما العلمي ويقبل فيه العلماء على إثراء رصيد المعرفة
بمؤلفاتهم وأبحاثهم ،ويستمر سند الحديث ورواية كتبِّ العلم
وتدوين برامج) (1الشيوخ«هل). (2
وقد كان التعليم والتأليف ناشطين ،وقامت في غرناطة
مؤسستان علميتان ضخمتان ،هما الجامع العظم والمدرسة
النصرية ،وتناول التأليف شتى فروع العلم التجريبية والشرعية
والفلسفية .يقول الستاذ أبو الجفان» :وهكذا كانت الحركة
العلمية إلى أواخر القرن الثامن مزدهرةاا دالة على قوةام استطاعت
أن تقاوما فترةا ما داء النحطاط الذي كان يتسرب إلى الندلس
ويدفعه إلى المصير المحتوما .ولقد كان لمفكري الندلس
وعلمائه في هذا العهد المضطرب محاولت للصلح ورأب الصدع،
) ( البرامج» :نوع من المدونات تضم شيوخ مؤلفيها وما أخذوه عنهم من 1
الروايات ،وما قرأوه عليهم من الكتبِّ ،أو تضم شيوخ عالم معين تعهد غيره
بجمعهم ،وذكر ما أخذ عنهم«هل ،أنظر :محمد أبو الجفان ،تحقيقه لكتاب
برنامج المجاري ،ص ، 59 :والكتاب لبي عبد ال محمد المجاري الندلسي
المتوفى سنة 862هـ ،ط 1984 ، 1ما ،دار الغرب السلمي ،بيروت -
لبنان.
) ( أنظر :محمد أبو الجفان ،تحقيقه على الفادات والنشادات للشاطبي، 2
ص. 15 :
25
ودعوةا إلى الجهاد وبث لروح العزما في النفوس ،وتبصير بالخطر
المحدق«هل ). (1
وقال أيضاا» :وقد ازدهرت في هذه المملكة صناعات كان
السكان يحذقونها ويرثونها عن أجدادهم الذين شيدوا أروع حضارةام
في الجزيرةا الندلسية ،فمن ذلك أنهم كانوا يصنعون السلحة
والقمشة الحريرية والصوفية والواني الخزفية وأنواع الورق
والجلود ،وكان تصدير الصناعات يوفر دخلا وينشط الحركة
التجارية ،وكان للجنوبيين وغيرهم من المم ذات الصلت
القتصادية الوثيقة بالندلس منشآت تجارية في غرناطة ،وعقدت
غرناطة مع جمهورية جنوةا ومع مملكة أراغون معاهدات
تجارية«هل). (2
ولقد شهد هذا الجو إقبالا على طلبِّ العلم وعلى الحوار
والنقاش العلمي والفقهي ،وظهرت نتائجه في القبال على التأليف
والبحث ،ولمعت أسماء العلماء واشتهرت المؤلفات .وكان على
رأس كل علم أعلما كبار كأمثال ابن الفخار البيري في علوما
اللغة ،وابن الصائغ وأبي حيان في علم النحو خاصة ،وأبي إسحاق
الشاطبي في علم الصول ،وابن جزي وابن عاصم في الفقه وابن
الخطيبِّ وابن زمرك في الدب والسياسة ،وابن هذيل الحكيم في
الفلسفة ،وغير هؤلء كثير). (3
إل أن ثمة أمراا تنبغي الشارةا إليه ،وهو أن هذا الزدهار من
الناحية العلمية والثقافية ل يدل ضرورةاا على عافية وعلى
استمرار التقدما ،إذ إن الندلس قد مرت في فترات ازدهار علمي
) ( محمد أبو الجفان ،في تحقيقه لبرنامج المجاري ،ص ،15 :بإحالته 2
على نهاية الندلس ،محمد عبد ال عنان ،ط ، 1مصر 1949 ،ما .
) ( حمادي العبيدي ،الشاطبي ومقاصد الشريعة ،ص ،50 - 47 :بإحالته 3
على :محمد الطاهر بن عاشور ،أليس الصبح بقريبِّ ،ص ،79 :ط ،1
الشركة التونسية للتوزيع .
26
وثقافي ،مدني وحضاري ،وهذا الحال في القرن الثامن هو من بقايا
ذلك الزدهار ،فهو عيشي على التقدما القديم ،بدليل أن غرناطة
سقطت قبل نهاية القرن التاسع ،وأن المسلمين في الندلس كانوا
يفقدون سلطانهم وقوتهم تدريجياا ،ولذلك يلحظ أن هذه الحالة
العلمية والثقافية المتقدمة مقتصرةا على بيان وحفظ ما هو
موجود من العلوما ،وبدليل الجمود وعدما التفاعل مع ما هو خارج
الحدود ،فالمؤلفات الجديدةا لم تكن سوى شروح واختصارات،
والمستوى العلمي الرفيع هو مستوى نسبي ،وهو نتيجة للمقارنة
بمستوى البلد المحيطة سواء في أوروبا أو في المغرب العربي،
ولكنه بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في القرنين الرابع
والخامس الهجريين يدل على ثباتم وجمود في الناحية التشريعية.
ومما يؤكد هذه الوضاع عدما وجود أي مذهبِّ في غرناطة سوى
المذهبِّ المالكي .قال الشاطبي» :إذ كتبِّ الحنفية كالمعدومة في
بلد المغرب ،وكذلك كتبِّ الشافعية وغيرهم من أهل
المذاهبِّ«هل ). (1
مإناخ المجتمع الثقافـي:
إذاا ،كان يشهد مجتمع غرناطة انتشاراا للعلوما والمعارفَّ،
وكثرةاا في العلماء ،وهذه حالة متقدمة نسبياا ،إل أن الفارق المهم
هو اتجاه المجتمع في حركته الثقافية والعلمية ،وليس المستوى
الذي يقف عليه ،وقد كان اتجاه تخلفم وانحدار .هذا الوضع هو
الذي أدى إلى ما بينه الشاطبي من انتشار البدع والنغلق ،بحيث ل
يقبل الرأي المخالف أو غير السائد ولو نهضت له الدلة الشرعية،
ومن إصدار الفتاوى بناءا على تقليد أعمى ،وتطبيق لقوال الفقهاء
أو للقواعد المقررةا في المذهبِّ من غير غوص إلى أصولها.
ولذلك يصور الشاطبي ما آلت إليه المور من خلل الحديث
الشريف» :بدأ السلم غريبا ا وأسيعود غريبا ا كما بدأ
27
فطوبى للغرباء «هل) ، (1ويتحدثا عن شيوخ الجهل والتعصبِّ
المذهبي والغلو في تعظيم غير ال .ويحمل تبعة هذا الجهل
للعلماء الذين يفتون للحاكم بما يريد ،أو لقربائهم أو مقلديهم،
والذين يغيرون الحكاما بحجة التيسير أو الضرورات .وفيما يلي
جملة من القوال تصويقر شيئاا من هذه الوضاع:
يقول الشاطبي» :فلما أردت الستقامة على الطريق وجدت
نفسي غريباا مع جمهور أهل الوقت«هل) . (2ويقول» :فتردد النظر
بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس ...فرأيت أن
الهلك في اتباع السنة هو النجاةا ،وأن الناس لن يغنوا عني من ال
)(3
شيئاا ...فقامت علييي القيامة ،وتواترت علييي الملمة ،وفوييق
إلييي العتاب سهامه ونسبت إلى البدعة والضللة ،وأنزلت منزلة
أهل الغباوةا والجهالة ...وتارةاا نسبت إلى معاداةا أولياء ال...
وتارةاا نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة«هل). (4
ويقول» :ولقد زليي بسببِّ العراض عن الدليل ،والعتماد
على الرجال أقواما خرجوا بسببِّ ذلك عن جادةا الصحابة والتابعين،
واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل«هل ) . (5وذكر لهذا
أمثلة منها» :رأي المقلدةا لمذهبِّ إماما يزعمون أن إمامهم هو
الشريعة بحيث يأنفون أن تنسبِّ إلى أحد من العلماء فضيلة دون
إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الجتهاد وتكلم في المسائل
ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوقوا إليه سهاما النقد
) ( أخرجه مسلم في كتاب اليمان .رقم ، ( 370 ) :أنظر :شرح مسلم 1
للنووي ، 2/354 ،تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا ،ط 1414 ، 1هـ -
1994ما ،دار المعرفة -بيروت ،وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن) :
، ( 3986والترمذي. ( 2630 ) :
) ( الشاطبي ،العتصاما. 1/18 ، 2
) ( فوييق :رشق .قال الفيروز أبادي» :رمينا فيوقاا :رقشقاا«هل القاموس 3
28
وعدوه من الخارجين على الجادةا) ، (1والمفارقين للجماعة من غير
استدلل منهم بدليل ،بل بمجرد العتياد العامي .وقد لقي الماما
بقييي بن مخلد حين دخل الندلس آتياا من المشرق من هذا الصنف
المرين حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانبِّ ...ومنها رأي
نابتةم في هذه الزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا
الكلما فيه والعمل بحسبه ،ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين
أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدما التثبت من الخذ أو
التغافل من المأخوذ منه ،ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات
الكمال ونسبوا إليهم ما نسبوا به من الخطأ ،أو فهموا عنهم على
غير تثبت ول سؤال على تحقيق المسألة المروية ،وردوا جميع ما
نقل من الولين مما هو الحق والصواب ...فتأملوا يا أولي اللباب
كيف حال العتقاد في الفتوى على الرجل من غير تحريم للدليل
الشرعي ،بل لمجرد الغرض العاجل عافانا ال من ذلك بفضله«هل). (2
وقال في الموافقات» :صار كثير من مقلدةا الفقهاء يفتي
قريبه أو صديقه بما ل يفتي به غيره من القوال اتباعاا لغرضه
وشهوته أو لغرض ذلك القريبِّ وذلك الصديق«هل) . ( 3وقال:
»وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدييعي فيها الضرورةا وإلجاء
الحاجة بناءا على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك
بما يوافق الغرض«هل). ( 4
وقد أسس موقف الشاطبي هذا من هذه الوضاع لخصومة بينه
وبين علماء عصره حتى رمي بالتهم المذكورةا آنفاا وغيرها ،وقد
عبر عن ذلك كما تبين ،ومن ذلك أيضاا قوله )البسيط(:
29
بمين أيداريهق حتيــى كــادي بيليتي يا قــوماي والبيلنــوى
ييرندينــــــــــــــــي مينويي عــــــــــــــــةي
فحسبقيي الي فــي عيقلقــي ديفنعي المضــريةاق ل جلبــاا
)(1
وفــــــي دقينــــــي لمصنـــــــــــــــلحةم
أنظر :الشاطبي ،الفادات والنشادات ،ص ،152 :إفادةا رقم. 75 : )( 5
30
مذهبـه في اليمـان اللزمة وغيرها من أحكاما الدماء والنكحة
والطلق«هل). (1
لقد كان لهذا المناخ أثر كبير على فكر الشاطبي وعلى
دعوته ،فكان كتابه العتصاما بياناا لهذه الفكار وأمثالها ،ورداا
عليها .وكان الموافقات ويضنعي أصول لضبط منهجية التفكير
والستنباط.
وإن هذه الصورةا لعصر الشاطبي :اضطرابات سياسية
وانقلبات في الداخل ،وهجمات عسكرية وتهديد صليبي من الخارج،
وحروب مستمرةا وتساقط المدن السلمية ،ولجوء المسلمين إلى
غرناطة بعد فرارهم من بلدهم وإجلئهم عنها ،والستعانة الدائمة
بالمسلمين في المغرب مع المحافظة على التجزئة والتقسيم على
شكل دويلت ،تنبئ بالمصير السود للمسلمين في تلك البلد،
ويؤكد هذا المصير انعداما أو ضعف التفكير السياسي ،وعدما اهتماما
العلماء بالسياسة ،وعلى سبيل المثال ،ل يوجد في كتبِّ الشاطبي
على سعتها وأهميتها وكثرةا موضوعاتها ما يدل على اهتمامه
بالوضاع السياسية إل من باب الفتاوى للناس بأن ل يبيعوا للكافر
ما يتقوى به .أو من جواز فرض الضرائبِّ على الناس للضرورةا،
ولذلك فعندما عجز النصارى عن السيطرةا على غرناطة بسببِّ
استعانة هذه الخيرةا بالدولة المرينية في المغرب ،فإنهم خططوا
للمر وسيطروا على جبل طارق المنفذ الوحيد لمداد المسلمين،
وكان ذلك سنة 867هـ 1462 -ما) ، (2فسهل عليهم حينئذم القضاء
31
على المسلمين في غرناطة ،ومن ثم القضاء على المسلمين كلياا في
الندلس سنة 897هـ 1492 -ما .وهذا يدل على الفتقار إلى
التفكير السياسي ،وهو دليل انحطاط وانحدار مهما كان المستوى
العلمي والقتصادي للدولة .فالفتقار إلى التفكير السياسي نذير
بنهاية أي دولة والقضاء على أي أمة مهما كانت قوتها) . (1وغني
عن البيان أنه ل يمكن أن يوجد التفكير السياسي ما لم يوجد الفكر
السياسي والنظاما والتشريع الذي يقوما على أساسه هذا الفكر وهذا
التفكير ،ولكن ،وإن وجدت الحكاما والنظمة والتشريعات -كما هو
الحال -فما لم يوجد التفكير بالمسؤولية عن المة وقضاياها
ورعاية شؤونها على أساس هذه الحكاما والتشريعات -وهذا هو
التفكير السياسي -فسيان وجودها وعدمه.
شـيوخ الشـاطبي:
استفاد أبو إسحاق الشاطبي من أعلما كانوا من خيرةا المراكز
العلمية ببلد المغرب العربي في عصره ،وكان من هؤلء العلما
المستقرون بغرناطة باعتبارهم من أهلها ،ومنهم من وفد عليها من
عدوةا المغرب ليستوطنها أو ليؤدي بها بعض المهمات). (2
ومن شيوخه الغرناطيين:
لم يدخلوها إل عبر جبل طارق .ولكن لي حكاما تقول؟ وما أشبه اليوما
بالبارحة! .
) ( وليس أدل على ذلك من انهيار الخلفة السلمية ،وهي دولة مترامية 1
32
1ـ أبو عبد ال محمد بن الفخار البيري ،المتوفى سنة 754
هـ .يقول عنه تلمـيـذه ابن الخـطـيبِّ» :الماما المجمع على
إمامته في فن العربية ،المفتوح عليه من ال تعـالى فيـها حفـظاا
واطلعـاا واضـطـلعـاا ونـقـلا وتوجيهاا بما ل مطمع فيه لسواه،
وكان من أحسن قراء الندلس تلوةاا وأداءا .وكان الشاطبي يحلي
شيخه هذا بـ )شيخنا الستاذ الكبير العلم الخطير( )« (1هل ). (2
2ـ أبو جعفر أحمد الشـقوري ،الفقيه النحوي الفرضي الذي
كان يدرس بغرناطة كتاب سيبويه وقوانين ابن أبي الربيع
وتلخيص ابن البناء وألفية ابن مالك وفرائض التلقين والمدونة
الكبرى ). (3
3ـ أبو سـعيد فرج بن قاسـم بن أحمد بن ليبِّ التغلبي
المتوفى سنة 782هـ .ومفتي غرناطة وخطيـبِّ جامعهـا،
والمدرس بمدرسـتها النصرية) . (4عرض عليه الشاطبي مختصر
أبي عمرو بن الحاجبِّ في مجلس واحد وأجاز له أن يرويه عنه). (5
وقد تقدما ذكر شيء من خصومته مع الشاطبي.
4ـ أبو عبد ال محمد بن علي البلنسي الوسي المتوفى سنة
782هـ .وهو مؤلف تفسيرم وكتابم في مبهمات القرآن). (6
5ـ أبو عبد ال محمد بن أبي الحجاج يوسف بن عبد ال بن
محمد اليحصبي المعروفَّ باللوشي وقد أجاز الشاطبي إجازةا عامة
) ( أنظر :محمد أبو الجفان ،في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات 1
) ( الموضع نفسه ،وأنظر :المجاري ،برنامج المجاري ،ص. 118 : 5
33
بشرطها ). (1
ومن شيوخه الوافدين:
1ـ أبو عبد ال محمد بن محمد بن أحمد الميقريقي )الجدي(
المعروفَّ بالمقري الكبير المتوفى سنة 759هـ .وكان الشاطبي
يحضر دروسه بالجامع العظم والتي كان يلقيها بمحضر وجوه طلبة
غرناطة وعلمائها سنة 757هـ .وهو تاريخ قدومه الندلس
سفيراا). ( 2
2ـ أبو القاسـم محمد بن أحمد الشـريفي الحسـيني
الســبتي ،قاضي الجماعـة المتوفى بغرناطة ســنة 760هـ .
)(3
رئيـس العلـوما اللسـانيـة وشـارح مقصـورةا حازما القرطاجني .
3ـ أبو عبد ال محمد بن أحمد الشريفي التلمساني أعلم أهل
وقته). (4
4ـ أبو علي منصور بن علي بن عبد ال الزواوي ،وهو فقيه
نظييار ،قرأ عليه الشاطبي مختصر منتهى السول والمل في علمي
الصول والجدل للماما أبي عمرو ابن الحاجبِّ ،وكل ذلك قراءةا
تفقه ونظر ،وأجازه إجازةاا عامةا بشرطها ). (5
5ـ شمس الئمة أبو عبد ال محمد بن أحمد بن مرزوق
الخطيبِّ التلمساني المتوفى بالقاهرةا سنة 781هـ .سمع عليه
الشاطبي في مجالس بالمدرسة النصرية والجامع العظم كتابي
الجامع الصحيح للماما البخاري ،وموطأ الماما مالك بن أنس
برواية يحيى بن يحيى ،وأجازه بهذين الكتابين وبجميع ما يحمل
) ( الموضع نفسه ،وأنظر :المجاري ،برنامج المجاري ،ص. 119 : 1
) ( محمد أبو الجفان ،في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات للشاطبي، 2
ص. 23 :
) ( أنظر الهامش رقم . 1 4
34
إجازةاا عامةا بشرطها ). (1
6ـ أبو جعـفر بن الزيـات وهـو من شـيوخ الصـوفية،
وغيرهم من الذين اجتمـع بهم واستفاد منهم). (2
تلمإيذه:
من أهم تلميذه ثلثة أعلما هم :أبو يحيى محمد بن عاصم،
وأخوه أبو بكر القاضي ،وأبو عبد ال محمد البياني ،والخوان
المذكوران من أسرةا علمية شهيرةا بغرناطة .وقد كان أبو يحيى
عالماا خطيباا ،كاتباا أديباا ،وارثاا لخطة شيخه الشاطبي ،وكان
من أبطال الجهاد وفي ساحاته الشريفة استشهد سنة 813هـ .
وكان القاضي أبو بكر فقيهاا أصولياا محدثاا يرجع إليه في
الفتوى ،ومن تآليفه تحفة الحكاما التي وقع القبال عليها شرحاا
وتعليقاا ودراسةا .وله أراجيز في أصول الفقه والنحو والفرائض
والقراءات .وقد اختصر كتاب الموافقات لشيخه الشاطبي ،وسمى
مختصره بـ »نيل المنى في اختصار الموافقات«هل ) . ( 3توفي سنة
829هـ ). ( 4
ومن تلميذه أيضاا أبو جعفر أحمد القصار الندلسي
الغرناطي .وقد كان الشاطبي يطالع تلميذه هذا ببعض المسائل
عند تصنيفه لكتاب الموافقات ،ويباحثه فيها ثم يدونها). (5
ومن تلميذه أبو عبد ال محمد بن محمد بن علي بن عبد
الواحد المجاري الندلسي المتوفى سنة 862هـ ،صاحبِّ البرنامج.
) ( محمد أبو الجفان ،في تحقيقه لكتاب الفادات والنشادات للشاطبي ، 3
ص. 26 :
) ( أنظر :حمادي العبيدي ،الشاطبي ومقاصد الشريعة ،ص،108 : 4
. 26
35
وقد ذكر في برنامجه الشـاطبي من شيوخه ،وقال» :عرضت عليه
ألفية ابن مالك عن ظهر قلبِّ وحدثني بها عن شيخه الماما العلمة
أبي عبد ال البيري«هل ،وذكر أنه أخذ عنه كتاب سيبويه ومختصر
ابن الحاجبِّ ،وموطأ الماما مالك مع سرد أسانيده إلى مؤلفيها )، (1
وسمع عليه بعض الموافقات). (2
مإكانته العلمية:
كان الشاطبي أحد العلماء المبرزين في عصره ،ويتميز
برفضه للتعصبِّ والجمود والتقليد ،كما أنه متمسك برأيه ،ذكي،
ورع ،واسع العلم ،وهذا مما يدل على استقللية شخصيته ،وعلى
عمقه الفكري ،وهذا ما جلبِّ له عداء الجامدين وأثار عليه الحفظة
المقلدين في عصره.
ولقد ذاع صيت الشاطبي في حياته وتجاوز حدود الندلس،
وتشير كتبه إلى سعة علمه في كل فرع من فروع العلوما ،سواء في
الفلسفة وأصول الدين ،أو في المنطق وأصول الفقه ،أو في علوما
اللغة وعلوما الشريعة وشتى فروعها .وقد أشار هو إلى هذا فقال:
»لم أزل منذ أن فتق للفهم عقلي ،ووجه شطر العلم طلبي ،أنظر في
عقلياته وشرعياته ،وأصوله وفروعه ،لم أقتصر منه على علم دون
علم ،ول أفردت عن أنواعه نوعاا دون آخر ...بل خضت في لججه
خوض المحسن للسباحة ،وأقدمت في ميادينه إقداما الجريء...
غائباا عن مقال القائل وعذل العاذل ،ومعرضاا عن صد الصاد ولوما
اللئم إلى أن من علييي الرب الكريم ،الرؤوفَّ الرحيم ،فشرح لي من
معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي ...فمن هناك قويت نفسي على
المشي في طريقه بمقدار ما يسر ال فيه ،فابتدأت بأصول الدين
عملا واعتقاداا ،ثم بفروعه المبنية على تلك الصول«هل ). (3
36
قال عنه تلميذه المجاري» :الشيخ الماما العلمة الشهير،
نسيج وحده وفريد عصره«هل) . (1وقال عنه الماما ابن مرزوق
الحفيد» :الشيخ الستاذ الفقيه الماما المحقق العلمة الصالح«هل). (2
وترجم له أحمد بابا التنبكتي في نيل البتهاج فحله بـ» :الماما
العلمة المحقق القدوةا الحافظ الجليل المجتهد«هل) . (3وقال» :كان
أصولياا ،مفسراا ،فقيهاا ،محدثاا ،لغوياا ،بيانياا ،نظاراا ثبتاا ،ورعاا،
صالحاا ،زاهداا ،سنياا .إماماا مطلقاا ،بحاثاا مدققاا ،جدلياا بارعاا
في العلوما ،من أفراد العلماء المحققين الثبات ،وأكابر الئمة
المتفننين الثقات ،له القدما الراسخ والمامة العظمى في الفنون
فقهاا وأصولا وتفسيراا وحديثاا وعربيةا وغيرها مع التحري
والتحقيق ...على قدمام راسخم من الصلح والفقه والتحري
والورع«هل). (4
مإؤلفاته:
للشاطبي مؤلفات جليلة أهمها اثنان :الموافقات والعتصاما،
وهما مطبوعان ،وبعض مؤلفاته لم تصلنا ،وتدل مؤلفاته على سعة
علم وإحاطة ،وعلى دقة ونباهة ،وعلى ثقةم بالنفس واستقللية،
وعلى قدرةام على الستقصاء والتحري ،وعلى تعقييبِّ النوادر
والشوارد ،وعلى ونزاهةم في التماس الحق والصواب ،وفي النأي عن
التعصبِّ والجمود ،وعلى محاولة تجديد وإحياء للفكر السلمي،
وإطراح ما علق فيه من شوائبِّ ،وتقويم ما طرأ عليه من انحرافَّ.
ومؤلفات الشاطبي هي:
1ـ الموافقات .وهو أشهر كتبه وأكثرها عمقاا .وقد
سماه» :عنوان التعريف بأسرار التكليف«هل ،ثم درج على الشارةا إليه
باسم »الموافقات«هل .حاول من خلله وضع منهج لتقرير الصول
37
واستنباط الفروع .لذلك فهو كتاب في الصول .وإذا اعتيمد
مقصود الشاطبي بلفظ الصل أو الصول ،فالصح أن يقال إن الكتاب
هو في أصول الصول ،وهذا ما سيتبييين -إن شاء ال تعالى -في
شرح فكرته في المقاصد ،وهو موضوع هذه الكتاب.
ولقد قيل في الموافقات الكثير ،ول يصح فيه من هذا الكثير
إل القليل ،وفيه من الغموض ما ل يحل أو ل يوقف على حقيقة
المراد منه إل بكثرةا المراجعة والربط بين النصوص في مواضع
مختلفة.
والكتاب متوفر بعدةا طبعات وتوفر عليه عدةا محققين أبرزهم
الدكتور عبد ال دراز .وهو مطبوع في أربعة أجزاء .وقد جعله
الشاطبي خمسة أقساما :الول في المقدمات العلمية المحتاج إليها
تمهيداا لسائر القساما ،والثاني في الحكاما وما يتعلق بها سواء
كانت من خطاب التكليف أو خطاب الوضع ،والثالث في المقاصد؛
مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ،والرابع في الدلة الشرعية وهي
القرآن والسنة والجماع والقياس ،والخامس في أحكاما الجتهاد
والتقليد والفتوى وفي أحوال المفتي والمستفتي.
لم تظهر عناية بالكتاب أو بمضمونه بما يفي ببعض ما يقال
فيه من إشادةا وتقريظ منذ عصر الشاطبي إلى الن .أما في عصر
الشاطبي وتلميذه ،فجل المر أن بعض تلميذه سمع بعضه منه أو
عنده .وأن أحد تلميذه وهو القاضي أبو بكر ابن عاصم قد لخص
الكتاب وسمى ملخصه» :نيل المنى في اختصار الموافقات«هل) . (1وأن
أخاه أبا يحيى بن عاصم قد نظمه في ستة آلفَّ بيت وسمى نظمه:
»نيل المنى من الموافقات«هل) . (2أما التلخيص فلم أقع على ذكر
لوجوده اليوما .وأما النظم فتوجد منه نسخة خطية بدير
) ( أنظر :حمادي العبيدي ،الشاطبي ومقاصد الشريعة ،ص. 108 : 1
) ( أنظر :الموضع نفسه ،وأنظر :محمد أبو الجفان ،في تحقيقه للفادات 2
38
السكوريال تحت رقم . 1164وقد صدر نظمه بقوله )الريجيزن(:
أينن بيثيي في المشنــروعق الحيمندي لق الييذي مقــنن
سقـــــريي حقكنميتقـــــهق نقعنميتقــــــــــــــهق
بميقنتيضيــى الخقطــابق ويهييييــــأي العيقــــولي
ويالتييكنلق يـــــــــــفق للتييصنـــــــــــرقيفق
ثم قال:
ويكيتبيهي هقيي الجيلقيــسي فيـــالعقلنمي أيونلـــى مـــا
المــــــــــــــؤنتيميني اقنتيضيــى بــهق الزييميــني
ويمقـــــنن أيجيليقهيـــــا ويالمونرقدي المسنــتيعنذيبي
)الميوافيقيـــــــــــاتي( الفيــــــــــــــــرياتي
ذاكي أيبيو إقسنحاقي نيجنــلق لقشيـــينخقنيا العيلييميـــةق
الشييـــــــــــــــاطقبي الميراققـــــــــــــــبِّق
ميا بيعنــديهي مقــنن غياييــةم فيهنــوي كقتيــابي حيسيــني
لققاصقــــــــــــــــدق المقياصقــــــــــــــدق
وياخنتاري ،مقنن ريؤنيــا ،ذا كي وي كـــاني قيـــدن سيـــمياهي
السنــــــمي الثييــــــانقي بــــــــــــــالعيننويانق
ويمقننــهي فــي تيــريدييدقي ويقيدن سيــمقعنتي بيعنضيــهي
عيليينــــــــــــــــــهق ليـــــــــــــــــديينهق
إقليي ييسيري القيدنرق غيينري ليكقــنن ليــمن ييكيــنن ليــهي
كيــــــــــــــــــافي اخنتقلفـــــــــــــــي
إلى أن قال:
)نيينـــلي المينيـــى مقـــني ويجيـــاعقلا ليـــهي مقـــني
الموافيقيــــــــــــاتق( السيقـــــــــــــــمياتق
سقــــتييةي آلفَّم مقــــني فيعيــدييه لــم ييعنــدي فــي
المشنــــــــــــــطيورق المسنــــــــــــــطورق
39
ميقيـــــديقماا حيكنـــــمي ويها أينيــا بميــا قيصيــدنتي
الميقيــــــــــــديقماتق آتقــــــــــــــــــــي
في شيــأننقهق مقــنن ريبيقنيــا ويأيسنـــأيلي التييونفقيـــقي
سيــــــــــــــبنحيانيهن ويالقعــــــــــــــانيهن
) ( أبو عبيدةا ،تعليقه على الموافقات ،36 ، 1/35 ،بإحالته على العلما 4
40
وهناك وجه آخر للعناية بالكتاب وهو طباعته والتعليق عليه.
وقد أشار أبو عبيدةا المذكور آنفاا إلى خمس طبعات ) . (1الولى
سنة 1302هـ 1884 -ما بمطبعة الدولة التونسية .والثانية سنة
1327هـ 1909 -ما حيث طبع الجزء الول منه بمدينة قازان في
عاصمة جمهورية التتار بروسيا .والثالثة سنة 1341هـ 192 -
2ما في مصر ،وهي بتعليق الشيخين محمد الخضر حسين ،ومحمد
حس ن ين مخلوفَّ ،حيث علق الول على الجزأين الول والثاني ،وعلق
الثاني على الجزأين الثالث والرابع .والرابعة في مصر بتعليق
وتحقيق الشيخ عبد ال دراز .والخامسة في مصر بتحقيق محمد
محيي الدين عبد الحميد .وبهذا تكون الطبعة التي بتحقيق أبي
عبيدةا نفسه هي الطبعة السادسة.
هذا بالضافة إلى ظهور كتبِّ ومقالت تتحدثا عن كتاب
الموافقات وعن المقاصد وعن الشاطبي) . ( 2وأكثرها يظهر في هذا
الكتاب من خلل الحالة عليها أو مناقشتها.
2ـ العتصام .ألفه الشاطبي بعد الموافقات ،ولم ينهه ،يقع
في جزأين ،موضوعه البدع ،ولم يكتبِّ مثله فيها -وال أعلم -
والناس في هذا الموضوع عيال عليه حتى يومنا هذا .تأتي أهمية
هذا الكتاب من عدةا جهات ،منها شموليته لنواع البدع ،ومنها القدرةا
الهائلة عند الشاطبي على النفاذ إلى أعماق النفس وفهم دوافعها،
ومنها العمق والتدقيق الذي يمكن من التمييز بين الشياء
المتشابهة أو المتداخلة ،كالتمييز بين المصالح المرسلة
والستحسان ،وكتمييز كل منها عن البدع .
وتظهر جدية الشاطبي في الكتابين المذكورين في دقته وفي
توضيحه للمعنى المراد بأي لفظ يستعمله ،وفي استقصائه وتفصيله
على تعليق أو بحث في حقيقة فكرةا الشاطبي في المقاصد ،أو على جديــده
وابتكاره في الموضوع .
41
لهذا المعنى ،ومن ذلك المراد بالبدعة وتتبعه للفقرق .والمراد
بالمباح ،ووضعه الضوابط والحدود لما هو ضروري أو حاجي أو
تحسيني أو من المكملت ،وتوسعه في بيان ما هو رخصة وما هو ليس
كذلك.
ويظهر في كتـاب العتصـاما ،في كثيـر من المواضـع،
تطبيقه لما سبق وقرره من قواعد في الموافقات.
3ـ كتاب المجالس .وهو شرح لكتاب البيوع من صحيح
البخاري .يقول عنه التنبكتي إن فيه من الفوائد والتحقيقات ما ل
يعلمه إل ال سبحانه ). (1
4ـ شرح الخلصة .وهو كتاب في النحو ،شرح فيه ألفية
ابن مالك في أربعة أجزاء كبيرةا الحجم .قال فيه التنبكتي» :لم
يؤلف عليها مثله بحثاا وتحقيقاا فيما أعلم «هل). (2
5ـ عنوان التفاق في علم الشتقاق .قال الدكتور
حمادي العبيدي» :هو كتاب كما يدل عنوانه في علم الصرفَّ وفقه
اللغة ،ولعله شبيه بكتاب الخصائص لبن جني ،وقد اتخذه من
مراجعه في شرحه للفية ابن مالك ،وتذكر بعض المراجع أن هذا
الكتاب ضاع والمؤلف ما يزال على قيد الحياةا«هل). (3
6ـ أصول النحو .قال الدكتور العبيدي» :هو كتاب في
قواعد اللغة من نحو وصرفَّ اقتصر فيه على القواعد الصلية التي
ل غنى عنها ،وجعله لطلب هذا العلم ،ويقال إنه ضاع أيضاا«هل ). (4
7ـ الفادات وأالنشادات .وهو كتاب يذكر فيه مؤلفه
بعض الخبار والحداثا التي حصلت معه أو عرفها مما قد يكون في
ذكره فائدةا .ويذكر فيه أيضاا بعض الحداثا التي يحصل فيها
إنشاد الشعر .هذا الكتاب مطبوع بتحقيق الستاذ محمد أبو
42
الجفان.
وقد ظهـر أيضـاا كتاب اسـمه) :فتاوى الشـاطبي( وهو ليس
من مؤلفـاته ،وإنما هـو من إعـداد بعض المحققيـن جمعـوا فيـه
جملة من فتـاوى وآراء الشـاطبي المبثوثة في كتابييق الموافقـات
والعتصاما ). (1
43
الفصل الوأل
التمهيد لنشـوء فكرة
مإقاصـد الشـريعة
44
الفصل الوأل
التمهيد لنشـوء فكـرة مإقاصـد
الشـريعة
مإقدمإة فـي نشـأة علم أصول الفقه وأتطوره:
ييعد الماما الشافعي -رحمه ال -أول من حيديي أصول
الستنباط وضبطها في قواعد عامة وكلية .قال الزركشي:
»الشافعي رضي ال عنه أول من صنف في أصول الفقه .صنيف فيه
كتاب الرسالة ،وكتاب أحكاما القرآن ،واختلفَّ الحديث ،وإبطال
الستحسان ،وكتاب جماع العلم ،وكتاب القياس«هل). (1
وقال الشيخ محمد أبو زهرةا» :ولقد كان الشافعي جديراا
بأن يكون أول من يدون ضوابط الستنباط«هل). (2
وقد كان الفقهاء قبل الشافعي يجتهدون من غير أن يكون بين
أيديهم حدود مرسومة للستنباط ،بل كانوا يعتمدون على فهمهم
لمعاني النصوص الشرعية وعللها وما تومىء إليه نصوصها
ومقاصدها.
ثم توالت بعد الماما الشافعي التآليف في هذا العلم ،فاختلف
معه البعض في الصول ،واختلف معه البعض في تفريعات ومتعلقات
بهذه الصول دون خلفَّ في الصول ،واتفق معه البعض وتابعوه في
أصوله وتفريعاته وما يتعلق بها .والمراد بالصول هنا مصادر
التشريع أو أدلته الجمالية وهي القرآن والسنة والجماع والقياس.
يقول الشيخ محمد أبو زهرةا» :وفي الحق إن فقهاء المذاهبِّ
الربعة لم يخالفوا الشافعي في الدلة التي قررها وهي الكتاب
والسنة والجماع والقياس ،وهذه الصول مجمع عليها ،والزيادةا
) ( أنظر :الزركشي ،البحر المحيط في أصول الفقه . 1/7 .وانظر :تقي 1
45
عليها موضع خلفَّ بينه وبين أكثرهم«هل). (1
أما الذين خالفوه فهم الظاهرية والشيعة ،فالظاهرية يرفضون
القياس كله) ، (2ول يعتمدون إل على ظاهر النصوص ،والشيعة
خالفوا مخالفةا كبيرةا فجعلوا أقوال الئمة دليلا شرعياا كالكتاب
والسنة .وكلما الئمة عندهم مخصص للنصوص الشرعية). (3
أما الحنافَّ والمالكية والحنابلة فإن أصولهم تتفق مع أصول
الشافعي مع اختلفَّ في التفصيلت) ، (4وأما الذين ساروا على نهج
الشافعي في أصوله وتفصيلته ،واحتضنوا آراءه فهم أتباعه الذين
نشطوا في علم أصول الفقه وأكثروا من التأليف فيه.
وقد ألفت على طريقة الشافعي قي أصول الفقه كتبِّ كانت
ول زالت عماد هذا العلم ودعامته .وأعظم ما عرفَّ للقدمين ثلثة
كتبِّ هي )المعتمد( لبي الحسين محمد بن علي بن الطيبِّ البصري
المعتزلي المتوفى سنة 436هـ .وثانيها كتاب )البرهان( لعبد
الملك بن عبدال الجويني المتوفى سنة 478هـ .وثالثها كتاب
)المسـتصفى( لبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ .ثم جاء
بعدهم أبو الحسين علي المعروفَّ بالمدي المتوفى سنة 631هـ .
فجمع هذه الكتبِّ وزاد عليها قي كتابه )الحكاما في أصول الحكاما(،
ومثله فعل الماما فخر الدين الرازي المتوفى سنه 606هـ .فجمع
هذه الكتبِّ وزاد عليها في كتابه )المحصول( .وجاء بعد هؤلء
الزركشي المتوفى سنة 784هـ .وقد اجتمعت لديه هذه الكتبِّ
المذكورةا أعله وغيرها من مصـنفات القدمين ما يربو على
) ( أنظر :ابن حزما ،الحكاما في أصول الحكاما ، 8/515 ،تأليف أبي محمد 2
علي بن أحمد ابن علي بن حزما الظاهري 384 .هـ 456 -هـ .دار الكتبِّ
العلمية .بيروت .ط . 1
) ( أنظر :تقي الدين النبهاني ،الشخصية السلمية. 370 - 1/369 . 3
) ( المرجع نفسه ،ص ، 368 - 367 :ومحمد أبو زهرةا ،أصول الفقه .ص: 4
. 16
46
المائتين) (1فجمع هذه الكتبِّ وزاد عليها في كتابه )البحر
المحيـط في أصول الفقه(.
ومن أعظم كتبِّ الصول عند الحنفية )أصول البزدوي(
لفخر السلما علي ابن محمد البزودي المتوفى سنة 482هـ
و)أصول السرخسي( للماما أبي بكر محمد ابن أحمد بن أبي سهل
السرخسي المتوفى سنة 490هـ .
وبتطور علم الصول من الشافعي إلى هؤلء العلماء فإنه
يلحظ أمران:
الوأل :نمو هذا العلم وتشعبه ،وظهور التفريعات والتفصيلت
والتقييدات والستثناءات للصول والقواعد.
الثاني :تأثير علم الكلما والمنطق في هذه التفريعات ،وبروز
السير المنطقي في إقامة الحجج والمثلة والستدلل .فظهر فيها
التجاه النظري الذي يسعى إلى تقرير القواعد ،وإلى تفصيل
وتفسير أصول المذهبِّ لنصرته ولو لم يكن لذلك اثر على
الجتهاد والستنباط). (2
وقد تميز علماء الصول من الحنافَّ بأنهم لم يقوموا لنصرةا
مذهبِّ في الصول وانما قاموا ينصرون مذهباا في الفروع .ومن هنا
قيل بتشعبِّ طرق الصول إلى طريقتين:
الوألى :طريقة الفقهاء ويقصد بها طريقة الحنفية.
الثانية :طريقة المتكلمين ويقصد بها طريقة الشافعية
والمالكية والحنبلية.
ثم نشأ بعد ذلك ما سمي بطريقة المتأخإرين والمقصود
بها منهج العلماء الذين جمعوا في كتبهم بين الطريقتين .يقول
) ( أنظر :مقدمة الدكتور محمد حسن هيتو على تحقيقه لكتاب) :المنخول 2
47
الدكتور محمد حسن هيتو » :وكانت هذه » الرسالة «هل هي أول
كتاب صنيقف في أصول الفقه ،ومن ثم توالى الئمة والعلماء على
شرحها والستضاءةا بنورها «هل) . (1ثم يقول » :فألفت فيه المؤلفات،
وحررت المصنفات ،وتشعبت طرق الباحثين فيه إلى طريقتين:
الطريقة الولى وهي التي تعرفَّ بطريقة المتكلمين وهم
الشافعية والجمهور.
والطريقة الثانية وهي التي تعرفَّ بطريقة الفقهاء وهم
الحنفية «هل). (2
ثم قال » :طريقة المتكلمين :وهذه كانت تهتم بتحرير
المسائل ،وتقرير القواعد وتميل إلى الستدلل العقلي ما أمكن
مجريقدةا للمسائل الصولية عن الفروع الفقهية ،شأنها في ذلك
شأن علماء الكلما «هل) . (3ثم قال :طريقة الفقهاء :وهي أيميسيي
بالفقه وأليق بالفروع الفقهية ،تقرر القواعد الصولية على
مقتضى ما نيقل من الفروع عن أئمتهم ،زاعمةا أنها هي القواعد
التي لحظها أولئك الئمة عندما فرعوا تلك الفـروع« ..هل). (4
وبعد ذلك يذكر الدكتور هيتو بعض أهم الكتبِّ التي جمعت بين
الطريقتين ،وذلك كي)جمع الجوامع( للماما تاج الدين السبكي،
و)ميسيلييم الثبوت( للعلمة محبِّ الدين بن عبد الشكور). (5
ولم تكن طريقة المتأخرين -فيما أرى -إل تأثراا من أتباع
طريقة الفقهاء بطريقة المتكلمين ،من خلل اعتماد قواعد المنطق
وعلم الكلما في المباحث الصولية .فلم تكن طريقة ثالثة بقدر ما
كانت انجراراا إلى الوسائل المنطقية والكلمية في المجادلت
والردود ،وبقدر ما كانت محاولت للحاطة بمختلف القوال
48
المتفقة والمتقاربة والمتعارضة في كتبِّ جامعة ،في عصور لم
يعرفَّ علم أصول الفقه فيها إبداعاا إل في الجمع والشرح والختصار
والتحشية والترتيبِّ والتبويبِّ ،وظل الحال فيها جامداا إلى أن جاء
الشاطبي ونظر في هذا الرثا الكبير وقاما بمحاولته الصلحية
التوفيقية بين الطريقتين ،طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين.
وأكثر ما يظهر فيه هذا الختلفَّ بين الطريقتين في مباحثق
أصول الفقه ،هو مباحثي القياس والتعليل ومسالك العلة.
وسيتجلى هذا الختلفَّ بوضوح في الفصلين الول والثاني من
هذا الكتاب .كما سيظهر كيف انبثقت -نتيجة هذا الختلفَّ -فكرةا
مقاصد الشريعة على يد الماما الجويني -رحمه ال -ثم صارت بعد
ذلك جزءاا من مباحث علم أصول الفقه.
و تقوما فكرةا مقاصد الشريعة على أن الشريعة إنما وضعت
لجل م ص ا لح العباد في الدارين ،الدنيا والخرةا .و مصالح الخرةا
هي نوال رضا الرحمن والفوز بالنعيم والجنان والنجاةا من العذاب
والنيران.
أما مصالح الدنيا فهي ما يسعى النسان ل تحصيله أو
المحافظة عليه أو لدرئه واتقائه لجل عيشه وذلك بحسبِّ ما
خلق ال فيه وقدر من خصائص وحاجات.
وقد ذهبِّ أكثر العلماء إلى أن مصالح الدنيا ترجع إلى
خمسة أمور هي بمثابة الصول أو الضرورييات التي ترجع إليها
كل المصالح وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال،
وأحكاما الشريعة تؤدي إلى حفظ هذه المصالح.
ولما كانت هذه المصالح نتائج للشريعة أو مقصودةا بها،
فقد ذهبِّ بعض العلماء إلى أن هذه المصالح هي علل للشريعة.
وذهبِّ غيرهم إلى أنها مقاصد وليست عللا .وكان لهذا الختلفَّ
أثر ه في البحاثا الصولية عند أئمة أصول الفقه ،كما كان له
49
أثره في فكرةا مقاصد الشريعة عند الماما أبي أسحق الشاطبي.
لقد ذهبِّ الشاطبي -رحمه ال -إلى أن مقاصد الشريعة هي
عللها ،إل أن ثبوت كون المقصد مقصداا شرعياا يحتاج إلى دليل
شرعي .وقد كان للشاطبي منهج في هذا المر تميز به عن
سابقيه ،سعى من خلله إلى التوفيق بين المختلفين ،ومن هنا جاء
اسم كتابه :الموافقات.
ولجل الوقوفَّ على حقيقة هذا الختلفَّ في مسألة التعليل
بالمصلحة ،وعلى الختلفَّ في كيف تيعديي المصلحة مصلحةا
شرعية ،أو المقصد مقصداا شرعياا وبالتالي كيف ييعيديي الوصف
أو المعنى علة ،لجل ذلك لزما بيان معنى العلة في الشرع وكيف
تثبت ،وشروطها ومسالكها.
وتعليل الحكم الشرعي بمصلحة يرى المجتهد أنها مقصودةا
بالحكم هو تعليل بمعنىا أو وصف يراه مناسباا أو صالحاا ليكون
مقصوداا للشارع .ومن هنا برز الختلفَّ بين الئمة في مسألة
التعليل بالوصف المناسبِّ .فهل كون الوصف مناسباا دليل على
كونه علة ،أي هل المناسبة مسلك من مسالك العلة؟ والجواب
على هذا السؤال هو أصل اختلفَّ الراء بين الئمة.
لذلك لزما أيضاا معرفة معنى المناسبة ،وهل هي دليل على
العلة ؟ أو هي شرط لها ؟ أو ل هذا ول ذاك ؟ وما الفرق بين
المرين؟
وكون الوصف مناسباا ليكون علة للحكم أو مقصداا قصده
الشارع به يختلف باختلفَّ النظار والمجتهدين .فما يدعيه
مجتهدي أنه مناسبِّ قد يعارضه آخر فيقول إنه ليس مناسباا .وهذا
بناءا على اختلفَّ أفهاما الناس و مداركهم وعقول هم .لذلك كان
ل بد من ضابط شرعي للدللة على كون الوصف مناسباا أو غير
مناسبِّ .
وادعاء مناسبة الوصف بدون دليل شرعي على مناسبته هو
50
مج ر د تيخييييل .لذلك أيطلق على المناسبة اسم الخالة .وقال
عنه البعض إنه خيال باطن ،أي إنه شعور داخلي خاص بالشخص
وهذا ليس دليلا شرعياا .وسيتبين هذا في موضعه لحقاا.
وإذا ثبت ب ي ع ن د ي النظر الشرعي أن الوصف المناسبِّ عقلا أو
خيالا وصفي مردود شرعاا فحينئذم يسقط وييسميى ميلغىا .وإذا
ثبت أنه مقبول شرعاا ،حينئذم ييسميى معتبراا ،أي يثبت أنه معتبر
شرعاا.
إل أن كيفية ثبوت العتبار للوصف أو المعنى ليكون
مناسباا معتبراا ولكي يصلح للتعليل ،وبتعبير آخر ليكون مصلحةا
معتبرةا شرعاا لتعليل الحكم بها ،هذه الكيفية ظلت موضع تنازع
بين العلماء .والختلفَّ في المناسبة كمسلك للتعليل هو في
حقيقته اختلفَّ في كيفية اعتبار الوصف .فإن كان معنى
العتبار هو أن يدل الدليل الشرعي على أمر ما فيكون شرعياا
بناء على ذلك فهذا ل خلفَّ فيه .أما العتبار المختلف فيه
والذي هو لبِّ الختلفَّ فهو بمعنى أن يأتي الحكم موافقاا
لمصلحة ما أو لوصفم مناسبِّ فيييدييعيى علة .لذلك لزما لجل
فهم فكرةا التعليل بالمصلحة وفكرةا المقاصد عند الشاطبي بيان
معنى العتبار أو معنى موافقة الحكم للوصف المناسبِّ في
المصطلح الصولي .خاصة وأن الشاطبي جاء ليقف بين الفريقين،
فيؤكد فكرةا التعليل بالمناسبِّ المعتبر بعد أن يضع له شروطاا
قد تجعله مقبولا لدى الرادين للتعلي ل به .وهذا ما سي تبيين
بالتفصيل عند الحديث عن منهجه.
إن الرادين للتعليل بالوصف المناسبِّ يعتمدون على أن
التعليل يحتاج إلى دليل ،فالوصف ل يثبت علة إل إذا جاء في أحد
المسالك الشرعية للعلة ،وهذا ليس موضع خلفَّ .ولكنهم يرون
أن المناسبة ليست مسلكاا للعلة ،أي ليست دليلا عليها وإنما هي
شرط لها .والوصف المناسبِّ إن لم يدل دليل شرعي على اعتباره
أو إلغائه فهو مرسل ول حجة فيه.
51
أما المعللون بالوصف المناسبِّ فيعتمدون على أن المناسبة
بحد ذاتها مسلك للع ل ة .فكون الوصف مناسباا دليل ي على عليته
بشرط أن ل يدل دليل على أنه ملغى .ولن هذا القول بحاجة إلى
دليل ،فقد عمد أصحابه إلى إثبات أن الصل في الحكاما التعليل ،
وإلى جعل هذا القول قاعدةاا أصولية .فإذا دل دليل شرعي على
عقليقييية وصف ما فهو العلة .وإذا لم نجد دليلا على ذلك،
فحينئذم يلزما التعليل بوصف ما وإن لم يأتق في مسلك ،وذلك
بناءا على تلك القاعدةا .فعدما التعليل مخالف ي للصل .ومن هنا
تأتي شرعية التعليل بالوصف المناسبِّ وتصبح إلخالة والمناسبة
مسلكاا للعلة.
وهنا انتقل الخلفَّ إلى خلفَّ في هذه القاعدةا ،حيث أخذ بها
وبنى عليها المعللون بالمناسبِّ المع ت بر .وردها الرادون للتعليل
بالمناسبِّ وردوا العتبار الذي قال به المعللون.
ومن هنا جاء الش ـ اطبي ليثبت أص ـ ل التعلي ـ ل إثباتاا قطعي ـ اا،
وليض ـ ع م ن هجاا جديداا لكيفية اعتبار الوصف ،وبالتالي لكيفية
عديق الوصف مقصداا وعلة .وذلك هو منهج الس ـ تقراء المفيد
للقطع -عنده -وسيتبين موثقاا ومفصييلا في موضعه.
أضف إلى ذلك مسألةا أخرى ،وهي أن عيديي وصفم ما
مصلحة وبالتالي مقصداا شرعياا وعلةا للتشريع إنما هو لجل
بناء التشريع على ذلك ،والعلة هي أحد أركان القياس ،والقياس
له أركان أخرى منها الصل ،أي الحكم الشرعي المعلل .فوجود
الحكم ووجود علته يؤدي إلى إعطاء الحكم نفس ه لواقعة أخرى
ليس فيها نص وذلك بناء على تلك العلة أو المصلحة .ولكن في
مسألة التعليل بالمصلحة ،قد يرى القائلون بالمصلحة مصالح أو
مفاسد في وقائع معينة تحتاج إلى حكم ،ولكن من غير أن يجدوا
أصلا أو حكماا يقاس عليه .فإعطاء الحكم هنا بناء على المصلحة
أو المفسدةا الموجودةا في الواقعة من غير وجدان أصل يقاس
عليه ،هل هو من قبيل القياس أو هو شيء آخر؟ إن وج و د الصل
52
ركن من أركان القياس وعدما وجوده مبطل لعملية القياس.
وهذه مسألة أخرى وقفت عائقاا أماما الذين يقولون بالتعليل
بالمصالح .وهنا نشأ اختلفَّ بين المعللين بالمصالح فمنهم من
سمى هذا المر قياساا بناء على أن المصلحة المعينة إن لم يكن
لها أصل يقاس عليه فهناك أصول لجنس المصلحة .ومنهم من لم
يعديي هذا المر قياساا وإنما سمييوه :الستدلل .وسيتبين هذا
المر أيضاا بالتفصيل في موضعه.
والغالبِّ عند الصوليين أن هذا ليس قياساا وإنما هو
استدلل ،وبوجه أخص هو استصلح أو مصلحة مرسلة .ولفظ
الستدلل أعم من المصالح المرسلة إذ يطلق أيضاا على
الستحسان والستصحاب وغي ر ه م ا مما ليس فيه دليل خاص أو
مباشر على المسألة ،وإنما ي ي عتمد على قاعدةا ليست خاصة
بالمسألة مثلما يعتمد المعللون بالمناسبِّ على قاعدةا الصل في
الحكاما التعليل ،ومثلما ي ي عتمد أيضاا في بعض المسائل الفقهية
على قاعدةا الستصحاب.
وليس من موضوع هذه المقدمة شرح وبيان هذه
المصطلحات الصولية ،التي س ي أتي بيانها في تماما هذا الفصل
والذي يليه .وإنما المراد من ها بيان أنه لجل استيفاء إدراك فكرةا
المقاصد عند الشاطبي ل بد من إدراك نشأةا فكرةا المقاصد عند
الصوليين الذين سبقوه ول ب ديي من الوقوفَّ على معاني بعض
اللفاظ والمصطلحات الصولية المتعلقة بالقياس ومباحثه .وإ ذا
كان من هذه المصطلحات ما يكفي فيه بعض اللماما ،فإن منها ما
يلزما الغوص فيه والتعمق.
لجل ذلك كان هذا الفصل ليكون مدخلا إلى فكرةا
المقاصد عموماا ،وبعد ذلك إلى فكرةا المقاصد عن د الشاطبي
خصوصاا .ولذلك كانت أبحاثا هذا الفصل للتعريف بالقياس
وبالعلة وأركانها وشروطها ومسالكها .وللتفصيل في مسلك
المناسبة .وفي معنى موافقة الحكم للمصلحة أو للوصف ،وهو
53
العتبار وأقسامه .ولبيان معنى الستدلل ومعنى المصلحة
المرسلة .وأثناء ذلك وبعده بيان اختلفَّ الصوليين في هذه
المسائل مما يوثق ما ذكر آنفاا ويبين كيف نشأت فكرةا
المقاصد ،وكيف جاءت فكرةا الشاطبي في المقاصد وبأي شيء
كانت جديدةا ومختلفة عما سبقها.
54
المبحث الوأل
القياس
55
وهذه التعريفات وغيرها لم يسلم أييي منها من العتر ا ض
وسهاما النقد .وقد ذكر بعض أئمة الصول من الشافعية أن
)(1
أسدي ي ها هو تعريف القاضي المذكور أعله .قال الزركشي :
»واختاره المحققون منا«هل). (2
غير أن المدي ذكر تعريفاا للقياس بأنه» :عبارةا عن
الست و اء بين الفرع والصل في العلة المستنبطة من حكم
الصل«هل) ، (3وعقييبِّ قائلا» :وهذه العبارةا جامعة مانعة وافية
بالغرض لغيرها«هل). (4
وتتشعبِّ مباحث القياس في أمهات كتبِّ الصول إلى إثباته
كأصل ومصدر من مصادر التشريع ،ثم الرد على منكريه ودحض
حججهم وشبههم ،ثم تعريفه وتقاسيمه وبيان أركانه ،وتفصيل
البحث في كل ركن من هذه الركان من حيث شروطه وصح ة
اعتباره .ومن أهم مباحثه العلة وشروطها ومسالكها وإثباتها
والعتراضات الواردةا عليها .يقول الجويني)» : (5القياس مناط
الجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعبِّ الفقه وأساليبِّ الشريعة...
ومن عرفَّ مآخذه وتقاسيمه وصحيحه وفاسده وما يصح من
56
العتراضات عليها وما يفسد منها ،وأحاط بمراتبها جلءا وخفاءا
وعرفَّ مجاريها ومواقعها فقد احتوى على مجامع الفقه«هل ). (1
والقياس أنواع بحسبِّ جلئه أو خفائه ،أو بحسبِّ نوع علته
من حيث دليلها أو مسلكها إن كان نصاا ،أو تنبيهاا وإيماءا ،أو
استنباطاا.
حجييته:
يعد القياس من مصادر التشريع المتفق عليها وإن أنكره
البعض .قال الزركشي» :قال صاحبِّ ) القواطع ( :ذهبِّ كافة
الئمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن
القياس الشرعي أصل من أصول الشرع يستدل به على الحكاما
التي لم يرد بها السمع«هل). (2
والمنكرون له قالوا ببعض أنواعه ،ولكن لم يعدوها قياساا.
قال الزركشي» :وقال أبو بكر الصيرفي في أصوله :والمنكرون
للقياس كأنهم أنكروا التسمية وإل فهم يعترفون به«هل). (3
وقال الشوكاني» :ثم اعلم أن نفاةا القياس لم يقولوا بإهدار
كل ما يسمى قياساا وإن كان منصوصاا على عل يته أو مقطوعاا
فيه بنفي الفارق ،بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه
بدليل الصل مشمولا به مندرجاا تحته«هل ). (4
وقال المدي» :وبه قال السلف من الصحابة والتابعين
والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء
المتكلمين ،وقالت الشيعة والنظاما وجماعة من معتزلة بغداد
تحقيق الحق من علم الصول ،ص ، 204 :دار الفكر ـ بيروت .
57
كيحيى السكافي وجعفر بن مبشيقر وجعفر بن حرب بإحالة
ورود التعبد به عقلا«هل) . (1كما أنكره الظاهرية وعبر عن هذا
التجاه بوضوح ابن حزما في كتابه ) :الحكاما في أصول الحكاما (
في الجزء الثامن منه). (2
وقد احتج مثبتو القياس بأدلة من القرآن والسنة وبإجماع
الصحابة على حجية القياس وعلى كونه مصدراا من مصادر
التشريع ،وهي مبثوثة في أمهات كتبِّ الصول وليس من
موضوعنا التعرض لها). (3
أركان القياس:
وله أركان ل يصح إل بها ،هي الصل المقيس عليه ،وحكم
الصل الذي دل عليه الشرع والفرع الذي يقاس على الصل ،وعلة
حكم الصل التي هي وصف موجود في الصل وبوجودها في الفرع
يمكن تعدية الحكم من الصل إلى الفرع.
قال المدي» :وإذا عيرقفَّي معنى القياس فهو يشتمل على
) ( ومما قاله الشيخ تقي الدين النبهاني في هذا الشأن » :أما الظاهرية 2
58
أربعة أركان :الصل والفرع وحكم الصل والوصف الجامع«هل). (1
فل بد من توفر الركان الربعة حتى يصح القياس .و قال
الزركشي» :الصل والفرع والعلة وحكم الصل ول بد من ذكر
هذه الربعة في القياس«هل). (2
شـروأطه:
و له شروط ل يصح إل بها ،وشروطه هي شروط أركانه.
وليس ال غرض ه ن ا تفصيل مباحث القياس ،وإنما ذكر بعض هذه
الشروط كأمثلة على هذه المباحث ،وزيادةا التفصيل في العلة
وشروطها التي تمس الحاجة إليها في ال بحث.
فمن شروط الصل -مثلا -أن ل يكون م قيساا على غيره ،أي
أن ل يكون فرعاا في قياسم آخر .فإذا كان فرعاا فهو ليس أولى
من أصله بالقياس عليه). (3
ومن شروط الفرع أن تكون العلة الموجودةا فيه مشاركة
لعلة الصل ،وإل فل يمكن تعدية حكم الصل إلى الفرع ). (4
ومن شروطه أن ل يكون حكمه منصوصاا عليه ،إذ ل قياس
في حكم مع ورود النص فيه). (5
ومن شروط حكم الصل أن يكون حكماا شرعياا لن الغرض
من القياس على الصل هو معرفة الحكم الشرعي) ، (6ولن
الموضوع هو القياس الشرعي وليس القياس المنطقي أو العقلي،
لن هذا الخير هو أحد وسائل المعرفة في العقليات ،وهو ليس
طريقاا لمعرفة حكم الشرع ل علماا ول ظناا .والمبحوثا عنه هو
) ( المدي ،الحكاما 3/174وقد ذكر المدي هذا الشرط ضمن شروط 3
حكم الصل.
) ( المصدر نفسه ،ص . 219 4
59
حكم ال تعالى ،وهذا ل طريق إليه إل الدلة النقلية.
ومن شروطه أن يكون دليل ثبوت حكم الصل دليلا
شرعياا). (1
ومن شروط ه أيضاا أن ل يكون معدولا به عن سنن القياس
وذلك كأعداد الركعات وتقدير نصبِّ الزكوات ومقادير الحدود
والكفارات فإنها غير معقولة المعنى ،ومثل قبول شهادةا خزيمة
وحده فإنه مستثنى من القاعدةا) ، (2وكذلك مثل ر خص السفر
والمسح على الخفين). (3
ومن شروط ه أيضاا ثبوت العلة فيه بأحد الدلة الدالة عليها،
وهي ما يسمى مسالك العلة). (4
أما شروط العلة فسنتعرض لها في المبحث الثاني من هذا
الفصل.
العلة:
العلة ركن من أركان القياس فل يصح إل بها .وهي الوصف
الجامع بين الصل والفرع والذي يمكن من تعدية الحكم من
الصل إلى الفرع .قال الزركشي» :العلة :وهي شرط في صحة
) ( قال الماما جلل ا لــدين ال ســيوطي فــي ك تــاب ) الت قــان فــي علــوما 2
القرآن( » :أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال :أول مــن
جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكــان
ل يكتبِّ آية إل ب شاهدي عدل وإن آخر ســورةا بــراءةا لــم تو جــد أل مــع
خزيمة بن أبي ثابت فقال :اكتبوها فإن رسول ال جعل شهادته بشهادةا
رجلين ،فكتبِّ« ، 1/60دار الفكر ـ بيروت.
) ( أنظر المدي ،الحكاما ، 176 - 3/175ولمزيد من التفصيل في هذه 3
60
القياس للجمع بها بين الصل والفرع«هل) ، (1وقال» :وذهبِّ جمهور
القياسين من الفقهاء والمتكلمين إلى أن العلة ل بد منها في
القياس وهي ركن في القياس ل يقوما القياس إل بها«هل) . (2وهذه
هي العلة الشرعية .و لفظ العلة لفظ مشترك بين العلة العقلية
والعلة الشرعية ،ولها دللت لغوية واصطلحية.
أما في اللغة فقد جاء في لسان العرب» :العليي والعيليل:
الشربة الثانية ،وقيل :الشرب بعد الشرب تباعاا ،يقال :علل بعد
نهل«هل ) ، (3وجاء أيضاا» :عليي الرجل ييعقليي من المرض ،وعليي
يعليي من علل الشراب«هل). (4
وقال الزركشي» :والعلة في اللغة قيل :هي اسم لما يتغير
حكم الشيء بحصوله مأخوذ من العلة التي هي المرض لن
تأثيرها في الحكم كأثر العلة في ذات المريض«هل ) ، (5وقال:
»وقيل :لنها ناقلة بحكم الصل إلى الفرع كالنتقال بالعلة من
الصحة إلى المرض«هل ) . (6وقال» :وقيل :إنها مأخوذةا من العلل
بعد النهل ،وهو معاودةا الماء للشرب مرةا بعد مرةا لن المجتهد
في استخراجها يعاود النظر بعد النظر ،ولن الحكم يتكرر بتكرار
وجودها«هل). (7
و أما في الصطلح الشرعي ،أي علة القياس الشرعي ففيها
خمسة أقوال:
»أحدها :أنها المعريقفَّ للحكم ،أي جعلت علماا على الحكم
61
إن وجد المعنى وجد الحكم«هل). (1
»الثاني :أنها الموجبِّ للحكم على معنى أن الشارع جعلها
موجبةا لذاتها«هل). (2
»الثالث :أنه ـ ا الموجب ـ ة للحكم بذاتها ل بجع ـ ل ال ،وهو
ق ـ ول المعت ـ زلة بن ـ اءا على قاعدتهم في التحسين والتقبيح
العقلي«هل). (3
»الرابع :أنها الموجبة بالعادةا واختاره الماما فخر الدين
الرازي«هل ). (4
والقول الخامس إنها» :الباعث على التشريع بمعنى أنه ل بد
أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحةم أن تكون مقصودةا
للشارع من شرع الحكم «هل). (5
أمإا القول الوأل :وهو أنها المعرفَّ أي علمة على الحكم
فل شك أن العلة معرفَّ للحكم وعلمة عليه ،إذ هي وصف موجود
في الصل ولكن هذا ليس كافياا للتعريف أو للعمال ،وسيتبين
عند ذكر شروط العلة أن العلة التي هي ركن في القياس ل
يكفي فيها أن تكون علمة أو أ مارةا مجردةا ،فل بد من أن يكون في
هذه العلمة أو المارةا أو الوصف ما يجعلها صالحة للتعليل أو
مشعرةا به .فعلى سبيل المثال :رائحة الخمر علمة عليه ولكنها ل
تصلح للتعليل بها ،بخلفَّ السكار إذ فيه شيء إضافي يجعله
صالحاا للتعليل به ،إذا توفرت له سائر شروط العلة.
فالمدي -على سبيل المثال -يستعمل لفظ المارةا في العلة،
الموضع نفسه ،ومعنى المصلحة ال صــالحة هــو أن ي كــون الو صــف )( 5
62
ولكنه ل يقصد المارةا المجردةا .يقول» :العلة العقلية مقتضية
للحكم بذاتها ل بوضع ،بخلفَّ العلة الشرعية فإنها بمعنى المارةا
والعلمة أو بمعنى الباعث«هل ) . (1ويقول» :اختلفوا في جواز كون
العلة في الصل بمعنى المارةا المجردةا والمختار أنه ل بد وأن
تكون العلة في الصل بمعنى الباعث أي مشتملةا على حكمةم
صالحةم أن تكون مقصودةاا للشارع من شرع الحكم ،وإل فلو
كانت وصفاا طردياا ل حكمة فيه بل أمارةا مجردةا فالتعليل بها
في الصل ممتنع«هل). (2
وأأمإا القول الثاني :وهو أنها الموجبِّ لذاتها على معنى
أن الشارع جعلها موجبة لذاتها ،فل أراه يختلف عن معنى الباعث.
فالقول إ ن الشارع جعلها موجبة يعني أنها جاءت في مسلك
شرعي أو دل عليها دليل شرعي ،والقول إ نها الموجبِّ لذاتها،
يعني :أنها تشتمل على ما يجعلها صالحة للتعليل .وهومعنى
الباعث نفسه كما عيريقفَّ .وحيثما ورد في كلما الئمة أنها بهذا
المعنى تكون أمارةا ،فالمقصود أنها أمارةا باستعمال الكلمي ي ن
وليس الفقهاء ،إذ المعلوما أن الدلة الشرعية من نصوص القرآن
والسنة هي عند الكلميين والصوليين أمارات على الحكاما ،بينما
هي عند الفقهاء أدلة عليها .وبهذا المعنى قول المدي» :العلة
العقلية مقتضية للحكم بذاتها ل بوضع ،بخلفَّ الشرعية فإنها
بمعنى المارةا والعلمة أو بمعنى الباعث«هل) . (3وقال الزركشي:
»وهي تنقسم إلى عقلية :وهي ل تصير علة بجعل جاعل بل
بنفسها وهي موجبة ل تتغير بالزمان كحركة المتحرك،
وشرعية :وهي التي صارت علة بجعل جاعل«هل) . (4ثم قال» :وإنما
تسمى العلل الشرعية علةا مجازاا أو اتساعاا ،وإل ففي الحقيقة
63
العلة ما أوجبِّ الحكم بنفسه ،وهي العلة العقلية ،وأما التي توجبه
بغيرها فليست بعلة في وضع المتكلمين وإنما هي أمارةا على
الحكم«هل). (1
وأأمإا القول الثالث :وهو أنها الموجب ـ ة للحكم بذاتها ل
ب جعل ال ،فهو قول المعت ـ زلة وهو جارم على مذهبهم في
التحسين والتقبيح العقلي ،وفي أن ال يجبِّ عليه فعل الص ل ح
وتش ـ ريع الصلح .قال الزركشي» :وتحجر المعتزلة ومن
وافقهم من الفقهاء واس ـ عاا فزعموا أن تصرفه تعالى مقيد
بالحكمة مضيييق بوجه المصلحة«هل). (2
وأأمإا القول الرابع :وهو أنها الموجبة بالعادةا فهو قول
الماما فخر الدين الرازي في ) ال م حصول ( و مفاده أن أفعال ال
تعالى وأحكامه ل تعلل وذلك بناء على مقدمات كلمية وبناء
على أن التعليل يعني أن ال م ي س ن ت ي ك ن م ي ل ي با ل غرض ،وهذا مردود
قطعاا ،وعلى ذلك فالعلة عنده ل تصح بمعنى الموجبة لذاتها ول
بمعنى الباعث .ومعنى الموج ب ة بالعادةا هو أن ال أجرى الشياء
هكذا كلما حصل كذا حصل كذا ،كأن نقول كلما حصل الكل
حصل الشبع ،أو كلما حصل القصاص حصل الحفظ ،فوجبِّ الظن
بحصول الشبع عند الكل أو بحصول الحفظ عند القصاص .وهذا
الظن ليس من باب التعليل وإنما من باب جريان العادةا بذلك.
وسيأتي موثقاا في المبحث الثالث من الفصل الثالث.
ويرد هذا الكلما لن التعليل في القياس ليس بمعنى تعليل
أفعال ال بما يتع ـ ل ـ ق بذات ـ ه وإنما هو تعليل للحكم الشرعي بما
جعله الشارع علة ،قال الزركشي» :واعلم أن مذهبِّ أهل السنة أن
أحكامه تعالى غير معللةم ،بمعنى أنه ل يفعل شيئاا لغرض ،ول
يبعثه شيء على فعل شيء ،بل هو ال تعالى قادر على إيجاد
64
المصلحة بدون أسبابها وإعداما المضار بدون دوافعها«هل). (1
وقال أيضاا» :وقال بعض المتأخرين :اشتهر عند المتكلمين
أن أحكاما ال تعالى ل تعلل ،واشتهر عند الفقهاء التعليل وأن العلة
بمعنى الباعث ،ويتوهم كثير من الناس أنها الباعث للشرع
فيتناقض كلما الفقهاء وكلما المتكلمين وليس كذلك ول
تناقض بل المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف .مثاله حفظ
النفوس فإنه باعث على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوما
به من جهة الشر ع ،فحكم الشرع ل علة له ول باعث عليه«هل) ، (2ثم
قال» :وأجرى ال العادةا أن القصاص سببِّ للحفظ«هل ). (3
وأأمإا القول الخامإس :وهو أنها الباعث على التشريع،
فمعناه أن الوصف المعلل به ،إضافة إلى كونه أمارةا أو علمة
على الحكم ،فهو ليس علمة مجردةا عن أي معنى ،فهو يشتمل على
مصلحة تصلح أن يكون الشارع قد شرع الحكم لجلها ،والقول
بأنها مصلحة تصلح للتعليل ل يعني أنها صارت علة منفردةا
بذاتها ،ولكن يعني أنها صالحة لتكون علة إذا توفرت لها شروط ها
الخرى ،وأول هذه الشروط أن تأتي في أحد مسالك العلة). (4
هذا هو مفهوما العلة في الصطلح الشرعي .ويطلق لفظ
العلة في اصطلح النحويين على ما يسمى علة في اللغة وهو ليس
علة في القياس .ومثاله لما التعليل في اللغة فإن العلة التي تليها
ليست علة في أصل القياس.
[ قال ال رازي » :إن ه تع الى ق ال:
، (5)] وبالتفاق ل يجـوز أن يك ون
ذلك غرضاا ...كقول ال شــاعر :لقــ دوا لل مــوت وابنــوا لل خــراب،
65
وليست اللما هنا للغرض ...قلت :أ هــل الل غــة صــرحوا بــأن اللما
للتعليل وقولهم حجة ،وإذا ثبت ذلك وجبِّ القول بأنها مجاز فــي
هذه الصور«هل). (1
ويطلق لفظ العلة -أحياناا -على بعض المعاني من قبيل
المجاز ،وهي ليست عللا في القياس كالسببِّ والمناط وغيرها.
قال الشوكاني» :وللعلة أسماء تختلف باختلفَّ الصطلحات
فيقال لها السببِّ والمارةا والداعي والمستدعي والباعث والحامل
والمناط والدليل والمقتضي والموجبِّ والمؤثر وقد ذهبِّ
المحققون إلى أنه ل بد من دليل على العلة«هل). (2
لذلك لزما لجل تحرير معنى العلة التي هي ركن في
القياس التعريف باللفاظ التي يكثر استعمالها في كتبِّ الصول
بمعنى العلة أو بلفظ العلة مجازاا ،وهي ليست كذلك أصلا
فيتوهم أنها علة القياس خطأ وذلك مثل لفظ السببِّ ولفظ
المناط .
السـبب:
قال في لسان العرب» :السببِّ كل شيء يتوصل به إلى غيره،
وفي نسخةم ،كل شيء يتوسييل به إلى غيره ،وقد تسببِّ إليه،
والجمع أسباب ،وكل شي ء يتوصل به إلى الشئ فهو سببِّ ،وجعلت
فلناا لي سبباا إلى فلن في حاجتي وويديجاا أي وصلةا
وذريعة«هل ) . (3هذا هو المعنى اللغوي.
أما في الصطلح الشرعي ،فهو علمة أو أمارةا معري ق فة على
وجود الحكم الشرعي ،قال الزركشي» :وفي الشرع ،قال
الكثرون :هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل دليل السمع
66
على كونه معرفاا للحكم الشرعي«هل) ، (1وعقبِّ قائلا» :كجعل
دلوك الشمس معرييفاا لوجوب الصلةا ...كالدلوك للصلةا ورؤية
الهلل في رمضان لوجوب الصوما وكالنصاب للزكاةا«هل ). (2
وكون السببِّ معرفاا للحكم الشرعي ،يعني أن الحكم يوجد
عند وجوده وليس بوجوده ،فوجود الشمس في قبة السماء عل م ة
تعريقفَّ على دخول وقت الظهر وعلى وجود حكم صلةا الظهر وهو
الوجوب ،ومثل ذلك هلل رمضان ،فهو علمة تعرفَّ على دخول
شهر رمضان وعلى وجو د الحكم الشرعي وهو وجوب الصياما،
وكذلك هلل شوال يعريقفَّ على وجود العيد ووجوب الفطار،
وكذلك وجود النصاب للزكاةا فهو علمة على وجود الحكم وهو
وجوب الزكاةا.
وهذه كلها علمات أو أمارات مجردةا ول تحتوي على معنى
معقول أي يصلح للتعليل به ،فالشمس في السماء تصلح للتعريف
على وجود الحكم ول تصلح لتعليل حكم الصلةا ،وكذلك يقال
في سائر المثلة.
وكون الوصف معرفاا على وجود الحكم ،أي كون السببِّ
سبباا ،هو أمر شرعي يحتاج إلى دليل من الشرع .لذلك جاء في
التعريف» :دل دليل السمع على كونه معرفاا للحكم الشرعي«هل.
والعلة يتوفر لها ما يتوفر للسببِّ ،فهي أيضاا علمة أو أمارةا
تعريقفَّ على وجود الحكم ،إل أنها أكثر من ذلك فهي تشتمل على
معنى معقول .لذلك تكون العلة سبباا ،وليس كل سببِّ علة .مثال
ذلك السرقة ،فه ي علمة معريقفة على وجود الحكم وهو وجوب
القطع ،والزنا علمة معريقفة على وجود الحكم وهو الجلد أو
الرجم .فكانت السرقة سبباا ،وكان الزنا سبباا ،إل أن ترتيبِّ
العقوبة على الفعل يشتمل على حكمة تصلح للتعليل بها ،فلم يكن
الوصف علمةا مجردةاا عن معنى معقولم ،فلم يكن مجرد سببِّ
( ) 1الزركشي ،البحر المحيط . 1/264
( ) 2الموضع نفسه.
67
وإنما كان علة). (1
لذلك ،فالسببِّ يكون أحياناا علة ،إل أنه يجبِّ التنبيه إلى
الفرق بينهما في المصطلح الصولي ،فالسببِّ يوجد الحكم عنده ل
به ،أما العلة فيوجد الحكم عنده ـ ا وبه ـ ا .وكلهما يك ـ ون
ك ـ ذلك )أي س ـ ب ـ باا أو علة( بج ـ ع ـ ل الشارع له كذلك .وإذا
أطلق لفظ العلة على السببِّ من غير أن يكون علة ،أي ركن
القياس ،فهذا من قبيل المجاز اللغوي وليس من قبيل أنها علة
تعلل بها الحكاما ،قال المدي» :والمختار أنه ل بد أن تكون العلة
في الصل بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمةم صالحةم أن تكون
مقصودةا للشارع من شرع الحكم ،وإل فلو كانت وصفاا ل حكمة
فيه ،بل أمارةاا مجردةا ،فالتعليل بها في الصل ممتنع«هل) . (2وقال:
»وما ذكروه من امتناع التعليل بالوصف الطردي إنما يصح لو
قيل إن التعليل بالوصف الطردي بمعنى الباعث«هل) . (3والربط بين
قولي المدي أعله يشير إلى أنه يستج يز إطلق لفظ العلة على
المارةا المجردةا وإن لم تكن ركن قياس.
ومما ينبغي التنبيه إليه بعد التفريق بين العلة والسببِّ في
المصطلح الشرعي ،هو أن العلة في المصطلح الشرعي هي سببِّ
بالمعنى اللغوي .إذ كون العلة هي الباعث على الحكم أو الموجبِّ
للحكم ،يعني أنها يتوصل بها إلى الحكم وهو معنى اشتمال الحكم
( ) 1تجدر الشارةا هنا إلى أن السرقة والزنا وسائر الحدود ،وإن كانت
عللا فإنها ل يحصل القياس بها لن العلة هنا ليست و صــفاا فــي الم حــل
الذي جاء الحكم له ،أي ليست جزءاا من المحل ،وإنما هي الم حــل ك لــه.
فإذا أردنا تعدية حكم السرقة أو الزنا إلى محل آخر )أي إلى فرع( ف هــو
ل يتعدى إل إلى سرقة أو زنا .والحكم يؤخذ حينئذم بعموما النص وليس
قياساا .والواقعة التي تعطى الحكم نفسه تكون أصلا ل فرعــاا .وتســمى
هذه العلل عللا قاصرةا لنها ل تتعدى إلى فرع .وإنما سميت عللا لنهــا
وجد فيها معنى العلة.
( ) 2المدي ،الحكاما في أصول الحكاما . 3/80
( ) 3المدي ،الحكاما في أصول الحكاما . 3/80
68
على معنى معقول ،أو على معنى صالحم لن يكون مقصوداا للشارع
بشرع الحكم). ( 1
المناط:
المناط في اللغة اسم مكان الناطة ،والناطة :التعليق ،قال
في لسان العرب» :ناط الشيء ينوطه نوطاا :علييقه .والنوط :ما
عيليقق«هل ) . (2وقال» :ويقال :ن ي ط عليه الشيء عليقق عليه .قال
رقاع بن قيس السدي )الطويل( :
و ي أ ي و يي ل ي أ ي ر ن ضم م ي سيي بلدي به ي ا ن قي ط ي ت ن ع ي ل ي ييي ت ي مائ ق م ق ي
)(3
ج ق ل ن د ق ي ت ي ر ي اب ي ه ي ا«هل
وقد استعمل لفظ المناط في مباحث أصول الفقه بالمعنى
اللغوي نفسه .
قال الشيخ جمال الدين السنوي)» : (4والمناط اسم مكان
الناطة ،والناطة :التعليق واللصاق .قال حبيبِّ الطائي:
و ي أ ي و يي ل ي أ ي ر ن ضم م ي سيي بلدي به ي ا ن قي ط ي ت ن ع ي ل ي ييي ت ي مائ ق م ق ي
ج ق ل ن د ق ي ت ي ر ي اب ي ه ي ا
أي علقت علييي الح ر وز ب ها .فلما ريبط الحكم بالعلة وعلق
) ( الموضع نفسه .وقد نسبِّ البيت المذكور إلى رقاع بن قيس السدي، 3
بينما نسبه الشيخ جمال الدين السنوي إلى حبيبِّ الطائي كما هو مــبين
أدناه.
) ( هو :جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمــر 4
69
عليها سميت مناطاا«هل). ( 1
والعلة التي هي ركن القياس ليست هي المناط ،ول المناط
هو العلة ،ولكن لما ربط الحكم المعلل بعلته وعلق عليها سميت
مناطاا ،وهي تسمية مجازية ،قال الزركشي» :والمناط هو العلة،
قال ابن دقيق العيد :وتعبيرهم بالمناط عن العلة من باب المجا ز
اللغوي ،لن الحكم لما علق بها كان كالشيء المحسوس الذي
تعلق بغيره فهو مجاز من ب اب تشبيه المعقول بالمحسوس ،وصار
ذلك في اصطلح الفقهاء بحيث ل يفهم عند الطلق غيره«هل). (2
فمناط الحكم بناء على ما سبق هو ميتعلييق الحكم أي المحل
أو الواقع الذي جاء له الحكم .مثلا :البيع مباح والربا حراما.
فكون الفعل بيعاا هو محل الباحة أو مناط الباحة في هذا الفعل،
وكون الفعل رباا هو محل التحريم أو مناطه .وكذلك الغنم
حلل والخنزير حراما ،فكون الشيء غنماا هو مناط الباحة
وكونه خنزيراا هو مناط التحريم.
والمناط في المثلة المذكورةا أعله ليس هو العلة،
والحكاما المذكورةا غير معللة أصلا.
وفي الحكاما المعللة ،لم يي ا كان الحكم مرتبطاا بعلته ،أطلق
لفظ المناط على العلة مجازاا مما قد يوهم بأن العلة هي المناط
حقيقة ،لذلك لزما هذا التنبيه .وقد اختلف الصوليون في تعليل
الحكاما ،فذهبِّ البعض إلى أن الصل في الحكاما التعليل ،وإلى أن
التعليل جار في كل الحكاما ،إل أن بعض الحكاما يتوقف فيها عن
التعليل بسببِّ العجز عند المجتهد عن إدراك العلة مثل أعداد
الركعات وتقدير النصبة والفرائض والكفارات وغيرها .وذهبِّ
غيرهم إلى رد هذا التعليل ،وقالوا إنه ل يعلل حكم إل بأن تثبت
علته بالدلة الشرعية). (3
70
والذين ذهبوا إلى أصل التعليل في الحكاما هم الذين
استعملوا لفظ المناط بمعنى العلة ،م ثال ذلك النص ال م ذك و ر
عن الزركشي آنفاا .وبما أن كل الحكاما لها علل عند هذا الفريق
صار مناط الحكم هو علة الحكم عندهم .أي أنه ل بد أن يبحث في
مناط الحكم عن وصفم فيه مناسبِّ م للتعليل ،ليربط الحكم به.
ويكون هذا الوصف هو علة الحكم ومناطاا له ،ومن هنا نشأت عند
هذا الفريق تع ا بير مثل تنقيح المناط وتخريج المناط إ ضافة إلى
تعبير تحقيق المناط.
تحقيق المناط:
قال المدي » :و لما كانت العلة متعلق الحكم ومناطه
فالنظر والجتهاد فيه إما في تحقيق المناط أو تنقيحه أو
تخريجه .أما تحقيق العلة فهو النظر في معرفة وجود العلة في
آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها ...كما في جهة القبلة فإنها
مناط وجوب استقبالها ...وكون هذه الجهة هي جهة القبلة في
حال الشتباه فمظنون بالجتهاد والنظر في المارات«هل) ، (1وقال:
»كالعدالة فإنها مناط وجود قبول الشهادةا ...أما كون هذا
الشاهد عدلا فمظنون بالجتهاد«هل) . (2وقال» :كالشدييةا المطربة
فإنها مناط تحريم الشرب في الخمر ،فالنظر في معرفتها في
الن بيذ هو تحقيق المناط«هل). (3
وعلى ذلك فتحقيق المناط هو عملية التحقق من الواقع هل
هو الواقع الذي جاء له الحكم أول .فالحكم وجوب استقبال
القبلة ،ومتعلييق الوجوب هو استقبال القبلة .والتحقق من جهة
القبلة هو تحقيق المناط ،ومعلوما أن جهة القبلة ليس ت علة للحكم
أي للوجوب .وكذلك وصف العدالة في الشاهد ،فالشارع اشترط
في الشاهد أن يكون عدلا ،والتحقق من عدالته لجل قبول شهادته
71
أو ردها هو تحقيق المناط ،وكذلك الشدةا المطربة إن كانت هي
السكار ،فالسكار هو مناط التحريم والتحقق من كون الشيء
مسكراا أو غير مسكر هو تحقيق المناط.
تنقيح المناط:
قال المدي» :وأما تنقي ـ ح المناط فهو النظر والجتهاد في
تعيي ـ ن ما دليي النص على كونه عل ـ ة من غير تعيي ـ ن ،بح ـ ذفَّ ما
ل مدخ ـ ل له في العتب ـ ار مما اقت ـ رن به من الوصافَّ«هل). (1
فبما أن مناط الحكم هو الواقع أو المحل الذي جاء له
الحكم ،وبما أن الحكاما معللة -عند من يقول بأنه الصل في
الحكاما -فل بد من وصف في المحل يصلح للتعليل به ولجله
جاء الحكم ،وتكون سائر الوصافَّ الخرى في المحل ل تأثير لها
في الحكم .مثال ذلك :تحريم الخمر .فكون الشيء خمراا هو
مناط التحريم .وعلى اعتبار أن الصل في الحكاما التعليل ،فل بد
من علة للحكم هي أحد أوصافَّ الخمر ،أي هي وصف في المناط،
فإذا نظرنا إلى أوصافَّ مثل الميوعة أو اللون أو الرائحة نجد أنها
غير مناسبة للتحريم ،وإذا نظرنا إلى وصف السكار نجده مناسباا
للتحريم فيصلح علة -عندهم . -
وع م لية إثبات أن الوصافَّ الخرى ل أثر لها في الحكم
تسمى تنقيح المناط .وهو معنى نص المدي أعله .وقال
السنوي» :تنقيح المناط أي تخليص ما أناط الشارع الحكم به أي
ربطه به وعلييقه عليه وهو العلة«هل ). (2
تخـريج المناط:
قال المدي» :وأما تخريج المناط فهو النظر والجتهاد في
إثبات علة الحكم الذي دل عليه النص أو الجماع دون عليته،
وذلك كالجتهاد في إثبات كون الشدةا المطربة هي علة لتحريم
. 4/227
72
شراب الخمر«هل). (1
وقال الزركشي» :وأما تخريج المناط فهو الجتهاد في
استخراج علة الحكم الذي دل النص أو الجماع عليه من غير
تعرض لبيان علته أصلا«هل) . (2فهو ع م لية إثبات أو تعيين للوصف
الموجود في مناط الحكم والذي هو علة للحكم .وهذا بخلفَّ
التنقيح الذي هو إثبات عدما صلحية الوصافَّ للتعليل ليبقى
وصف واحد ،فيكون علة من غير إثبات له ،ولكن بناء على أن
الصل التعليل بوصف ،ول يوجد سواه فيكون هو العلة.
73
المبحث الثاني
مإسـالك العلة وأشـروأطها
تمهيـد:
العلة وصف جامع بين الصل والفرع .والوصافَّ الجامعة
كثيرةا .وليس كل وصفم جامعم صالحاا للتعليل .فل بد من دليل
شرعي لعتبار الوصف في التعليل .وكذلك فإن المراد بالعلة هو
العلة الشرعية .ول يكون شيء شرعياا إل إذا جاء في طريق شرعي،
أي دليي عليه الشرع .وعلى ذلك فالمراد بمسالك العلة هو أدلتها،
أي الدلة الشرعية الدالة على كون الوصف علة .قال الزركشي:
»مسالك العلة :أي الطرق الدالة على العلة«هل) . (1وقال» :إعلم أنه
ل ييكتفى في القياس بمجرد وجود الجامع في الصل والفرع .بل ل
بد من دليل يشهد له في العتبار .والدلة ثلثة أنواع :إجماع ونص
واستنباط«هل) . (2وقال الشوكاني» :وقد ذهبِّ المحققون إلى أنه ل
بدي من دليل على العلة«هل) (3وقال أبو الحسين البصري» :طريق
العلة الشرعية الشرعي فقط ،إنما قلنا ذلك لن طريق العلة
الشرعية هو كيفية ثبوت حكمها وتأثيرها فيه .نحو أن يثبت
حكمها معها في الصل وينتفي بانتفائها ومعلوما أن ذلك موقوفَّ
على الشرع لن حكمها وكيفية ثبوتها بحسبِّ العلة حاصلن
بالشرع فقط «هل). (4
وكذلك قد يأتي الوصف في أحد مسالك التعل يــل ،إل أ نــه ل
يصلح لتعدية الحكم به ،لنه ل بد للوصف من شروط ليصــلح عــده
أبو الحسن البصري ،المعتمد في أصول الفقه. 3/249 . )( 4
74
)(1
علة ،أو لتعدية الحكم به .فمثلا :قوله تعالى [ :
)(2
،وقوله تعالى [ : ]
] ) ، (3اللما في النصين للتعليل ،ومسلك التعليل هنا هــو ال نــص .إل
أن الوصافَّ التي جاءت ب عــد اللما ل ت صــلح علــة للقيــاس ،فــدلوك
الشمس في الية الولى هو أمارةا م جــردةا ،ف هــو ســببِّ وليــس علــة
لوجوب الصلةا .وشهادةا المنافع في الحج نتيجة قد تح صــل و قــد ل
تحصل ،ول تصلح علة لوجوب الحج .فالوصفان فــي ال يــتين لي ســا
بمعنى الباعث .فكون الوصف باعثاا ،أي يشتمل على حك مــة صــالحة
لتكون مقصودةا للشارع من تشريع الحكم هو أحــد شــروط العلــة.
لذلك فإن العلة وإن جاءت في أحد مسالك التعل يــل ،فإن هــا ل ت عــد
كذلك حتى تتوفر لها شـروط .ق ال الشـوكاني» :ولهـا أربعـة
وعشرون شرطاا«هل ) . (4وذكر المدي تحت عنوان »في شروط علــة
ال صــل«هل ع شــرين م ســألة ) . (5وك تــبِّ ال صــول حاف لــة بــذكرها
ومناقشتها.
وفيما يلي ذكر بعض مسالك العلة وشروطها بالقدر الذي
يلزما لدراك فكرةا مقاصد الشريعة عند الشاطبي بناءا على ما تبين
في مقدمة هذا الفصل من أن مقاصد الشريعة عنده هي عللها.
مإسـالك العلة:
المسـلك الوأل :الجماع .وذلك كإجماع الصحابة على
كون الصغر علة لثبوت الولية على الصغير في ثبوت ولية النكاح
)(6
قياسا ا على ولية المال.
هذه الشروط الربعة والعشرين في كتابه الب حــر المح يــط- 4/119 ،
. 140
) ( أنظر :المدي ،الحكاما. 3/179 ، 5
75
المسـلك الثاني :النص الصريح) . ( 1وهو أن يذكر دليل من
الكتاب والسنة على التعليل بلفظ موضوع له في اللغة من غير
احتياج فيه إلى نظرم واستدلل .وهو قسمان:
القســـم الوأيل :ما صيـريقح في ـــه ب كــون الوص ـــف علــةا
للحكم ،وذلك كأن يذكر صراحةا أن علة الحكم كذا ،أو أن ســببِّ
تشريعه كذا) ، (2أو أن يذكر صراحةا ما يفيد ذلــك بح ســبِّ و ضــع
اللغة كقوله » : كنت نهيتكم عن ادّخإــار لحــوم الضأــاحي
فة« (3).وكقوله » : إنما جأعــل الســتئذان مإــن لجأل الدا ي
أجأل البصــر«) . (4وكقوله تعـالى:
[
. (5) ] فاللفظ )لجل كــذا( أو ) مــن أ جــل
كذا( صريح في ذكر العلة.
القسـم الثاني :ما ورد فيــه حــرفَّ مــن حــروفَّ التعليــل
كاللما وكي وإن والباء .فـاللما ،كقـوله تعـالى [ :
. (6)] وذلك يدل على التعليل
بالوصف الذي دخلت عليه اللما لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليــل.
وأمــا )كــي( فكقــوله تعــالى [ :
. (7) ] وأم ا )إن( فك قــوله فــي قتلــى أ حــد:
»زمإّلــوهم بكلــومإهم فــإنهم يحشــروأن يــوم القيامإــة
وأأوأداجأهم تشــخب دمإــاا ،اللــون لــون الــدم وأالريــح ريــح
76
المسك« .وأما )الباء( فكقوله تعالى[ :
)(1
. (2)]
قال المدي» :فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند
ورودها يجبِّ اعتقاد التعليل إل أن يدل الدليل على أنه لم يقصد بها
التعليل فتكون مجازاا فيما قصد بها وذلك في اللما كما لو قيل:
»لقمي فعلتي كذا؟«هل فقال» :لني قصدت أن أفعل«هل .وكما في قول
القائل» :أصلي ل«هل وقول الشاعر» :لقدوا للموتق وابنوا
للخراب«هل فقصد الفعل ل يصلح أن يكون علةا للفعل وغرضاا له.
وكذلك ذات ال تعالى ل تصلح أن تكون علة للصلةا ول الموت
علةا للولدةا ول الخراب علة البناء .بل علة الفعل ما يكون باعثاا
على الفعل وهي الشياء التي تصلح أن تكون بواعث«هل) . (3أي أن
التعليل بما دخل عليه حرفَّ التعليل يشترط فيه أن يكون وصفاا
مناسباا.
»المسـلك الثالث :ما يدل على العلييية بالتنبيه
واليماء«هل ) . (4وهو ما دل عليه الدليل دللةا وليس صراحةا .أي أن
النص يدل على العلة بمفهومه وليس بمنطوقه .وهو قسمان:
الوأل :أن يكون المفهوما دالا على التعليل سواء كان مف هــوما
موافقــة أو مفهــوما مخالفــة .وذلــك كقــوله تعــالى [ :
)(5
] الية .فالمفهوما أن من لـم يك ن مـن
ج
هؤلء المذكورين ل حقيي لــه بالز كــاةا ،و هــذه الو صــافَّ ت صــلح
) ( المدي ،الحكاما في أصول الح كــاما . 3/224 ،أ مــا قــوله فــي النــص: 3
» يجبِّ اعتقاد التعليل« فل أراه دقيقاا ،والصح حذفَّ كلمة اعتقاد ،ليصبح
النص يجبِّ التعليل أو يجبِّ تعليل الحكم ،فالمسألة مسألة أحكــاما شــرعية
ظنية وترجيح اجتهادي.
) ( الموضع نفسه. 4
77
للتعليل فهي مناسقبية ،لــذلك ت كــون عللا .ف تــأليف القلــوب علــة
لعطاء الز كــاةا ،وإذا ارتف عــت هــذه ال صــفة زال ال حــق بالز كــاةا.
وكذلك يقال في كونهم فقراء أو مساكين أو عاملين عليها.
) ( رواه البخاري ،باب من أحيا أرضاا مواتاا فهي له ،وأخرجه أبو داود ) 3
عند أحمد ومسلم وأبي داود والترم ذي وغيره م .أنظ ر :الش وكاني ،ني ل
الوطار ، 6/153 ،دار القلم ـ بيروت .
) ( أخرجه الترمذي ) ،( 361وقال :هذا حديث حسن غريبِّ ،والنسائي ) 5
78
الحكم بالفاء يكون علةا للحكم لكون ال فــاء فــي الل غــة ظــاهرةا فــي
التعقيبِّ«هل) . (1فالفاء ل تفيد التعليل لغةا .ول كــن وجود هــا أ فــاد أن
الحكم يوجد عقبِّ الوصف ،وترتيبِّ الحكم عقبِّ الوصف فيــه تنــبيه
على أن الوصف كان سبباا للحكم ،أي سبباا لتشريعه فيكــون علــة.
فالتعليل لزما لهذا الوضع ،أي لترتيبِّ الحكم على الوصــف بالفــاء،
وهو ما أفاد مفهوماا مناسباا للتعليل.
ومنها :أن يفريقق الشارع بين أمرين في الحكم بــذكر صــفة،
فإن ذلك يفيد أن تلك الصفة هي علة التفرقة ،لنها لو لم تيــذكر
لما وجدت التفرقة ،وليشيــمقلي الح كــم المر يــن .وذ لــك ك قــوله
تعالى ، (2)] [ :فتفريق الشارع بين
المرين ،الطهر والحيض في جواز إتيانهن دل على علــة الن هــي
وهي الحيض .وقد ترتبِّ هذا التفريق على لفــظ الغايــة )حــتى(.
وكقوله » :الذهب بالذهب وأالفضة بالفضة وأالــبر بــالبر
وأالشــعير بالشــعير وأالتمــر بــالتمر وأالملــح بالملــح مإثل ا
بمثل ،سواء بسواء ،يدا ا بيد ،فإذا اخإتلفت هذه الصـناف
فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا ا بيد«) . (3فتفريق الشـارع بيـن
أمرين هما اتحاد الجنسين واختلفهما في جواز أو تحريم بيع هــذه
الصنافَّ دل على علة التحريم وهي اتحاد الجنسين.
ومن أمثـلة هذا المسـلك »أن يذكر الشـارع مع الحكم
وصفاا مناسـباا كقوله عليه السـلما» :ل يقضي القاضأي وأهو
) ( رواه مسلم عن عبادةا بن الصامت ،كتاب المساقاةا ،باب الصرفَّ ) ،( 2969 3
79
غضبان«) . (1فإنه يشـعر بكون الغضـبِّ علـة مانعة من القضاء لما
فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال«هل) . (2فالقاضي عمله القضاء،
وإنما كان جلوسه لجل القضاء ،فإذا منع من القضاء في حالة ما،
دل ذلك على أن تلك الحالة هي علة المنع.
وهذا القسم يقابل القسم الثاني من ققسنميي دللة النص
الصريح على التعليل ،ولكن ذلك من المنطوق وهذا من المفهوما.
وهذه المسالك الثلثة :الجماع ،والنص ،والتنبيه واليماء
متفق عليها بين القائسين .أما ما سيلي من مسالك ،فمختلف فيها،
يأخذ بها ويدافع عنها أصحاب طريقة المتكلمين من الصوليين ،أي
أئمة الشافعية على وجه الخصوص .ويردها أصحاب طريقة الفقهاء
من الصوليين أي الحنافَّ.
ويشير أئمة الشافعية إلى العلل التي تأتي بهذه المسالك
الثلثة باسم العلل المنصوصة ،أما العلل التي تأتي بسائر المسالك
التي ستلي فيشيرون إليها باسم العلل المستنبطة .أما الئمة
الحنافَّ فيقصدون بالعلل المستنبطة العلل التي تأتي بمسلك
التنبيه واليماء على وجه الخصوص ،والمنصوصة عندهم هي التي
تأتي بمسلكي الجماع والنص.
المسلك الرابع :السبر والتقسيم .قال به بعض الصوليين.
وهو مبني على أن الصل في الحكاما التعليل .ومعناه أن يستقصي
الناظر كل الوصافَّ التي يحتمل أن تكون علة للحكم ـ بناء على
أنه ل بد للحكم من علة ـ وهذا هو السبر ،ثم ينظر في هذه
الوصافَّ المحتملة واحداا واحداا ويثبت أنها ليست علة للحكم إل
واحداا منها وهذا هو التقسيم .فيكون الوصف الذي بقي هو العلة.
) ( أخرجه البخاري ،باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان ) ،( 6625 1
80
فهذا المسلك يثبت العلة عن طريق نفي ما سواها وليس
بالنظر فيها.
قال الزركشـي» :وهو لغة الختبار ومنه الميـل الذي يختبر
به الجرح الذي يقال له المسـبار ،وسـمي هذا به لن الناظر في
العلة يقسـم الصـفات ويختبر كل واحد منها في أنه هل يصلح
للعلية أما ل؟«هل ). (1
وقد اختلف الذين يقولون بأن الصل في الحكاما التعليل في
صحة هذا المسلك .أما الذين يردون هذا القول فل يأخذون بهذا
المسلك .قال السرخسي» :الدليل على أن بقياما دليل الفساد في
سائر الوصافَّ ل تثبت صحة الوصف الذي ادعاه المعلل قي
الشرعيات أن من أحكاما الشرع ما هو غير معلول أصلا .فبقياما
الدليل على فساد سائر الوصافَّ ل ينعدما احتمال قياما الدليل على
فساد هذا الوصف«هل ). ( 2
وقال الزركشـي» :ونقـل ابن الحاجبِّ في الكـلما على
)(3
السـبر والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه ل بد للحكم من علة«هل .
المســلك الخـامإـس :المناســـــبـة والخـالــة .وهـو
أيضــاا مبـنـي على أن الصــل في الحكاما التعليـل .ولهذا
المسـلك وتفصيلته وبخاصة معنى العتبار وأنواعه علقة
جوهرية بفكرةا المقاصد عند الشاطبي ،لذلك سيكون له -إن شاء
ال -بحث منفصل.
المسلك السادس :مسلك الشيبيه .وقد اختلفت تعريفاته،
وكثر الكلما فيه .قال الشوكاني» :الشبه ويسميه بعض الفقهاء
) ( الزركشي ،البحر المحيط . 4/200 .وانظر أيضاا :الحكاما للمدي. 1
81
الستدلل ...وقال ابن النباري :لست أرى في مسائل الصول
مسألة ا أغمض منه .وقد اختلفوا في تعريفه ،فقال الجويني :ل
يمكن تحديده .وقال غيره :يمكن تحديده«هل) . (1وقال الغزالي:
»ومعنى التشبيه :الجمع بين الصل والفرع بوصف ،مع العترافَّ
بأن ذلك الوصف ليس علةا للحكم ،بخلفَّ قياس العلة فإنه جمع
بما هو علة الحكم ،فإن لم يرد الصوليون بقياس الشبه هذا الجنس،
فلست أدري ما الذي أرادوه ،وبقمي فصلوه عن الطرد) (2المحض وعن
المناسبة«هل ) . (3وقال الجويني» :الشبه ل يناسبِّ الحكم مناسبة
الخالة ،وهو متميز عن الطرد فإن الطرد تحكم محض ول يعضده
معنى ول شبه«هل) . (4ثم فصيل وقال ما خلصته »إن قياس الشبه هو
مشابهة الفرع للصل مشابهة ا تغليقبِّي على الظن إلحاق الفرع
بالصل دون ظهور علة توجبِّ اللحاق .مثال ذلك :إلحاق الوضوء
بالتيمم في اشتراط النية ،فليس في الوضوء أو التيمم معنى مناسبِّ
يوجبِّ إلحاق أحدهما بالخر ،ومع ذلك فالناظر يجد في نفسه
شعوراا قوياا بصحة اللحاق ،وميلا إليه وإن لم تسعفه العبارةا عن
علة القياس ،وعليه فقياس الشبه ليس تحكيماا وإنما هو اتباع ظن.
وأورد الجويني تعبير الشافعي لمسألة إلحاق الوضوء بالتيمم
قاصداا بذلك أن الشافعي اعتمد على الشبه دون أن يسعفه بيان
العلة فقال» :طهارتان فكيف تفترقان«هل) . (5وعد قول القائل» :من
نفذ طلقه نفذ ظهاره«هل قياس شبه.
وأورد المدي رأياا للقاضي أبي بكر الباقليني فقال» :وقد
ذهبِّ القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدللة وهو الجمع بين
.5
) ( الطرد :أي كلما ويجد الوصف ويجد الحكم. 2
82
الصل والفرع بما ل يناسبِّ الحكم ولكن يستلزما ما يناسبِّ
الحكم«هل) (1ثم اختار معنى آخر وهو ما كان دون المناسبِّ وفوق
الطردي وقال» :ولعليي المستند في تسميته شبهاا هو هذا
المعنى«هل ) . (2وقال» :ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة
النجاسة:طهارةا تراد لجل الصلةا فل تجوز بغير الماء ،فإن الجامع
هو الطهارةا ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث غير
ظاهرةا«هل) . (3وقال إن هذا ما ذهبِّ إليه اكثر المحققين .
)(4
أنظر :الشوكاني ،إرشاد الف حــول .ص . 220 :وان ظــر المح صــول )( 5
للرازي ج . 5
المصدر نفسه ،ص . 219 :وللتفصيل في هذا المسلك .أنظر :إرشــاد )( 6
) ( أنظر :الجويني ،البرهان ، 2/548 .فقرةا 800 :وما بعدها . 8
83
المسلك الثامإن :الطرد وقد ذهبِّ بعض الصوليين إلى أن
الطرد من غير اشتراط العكس علة .وبذلك يكون الطرد مسلكاا
عندهم .قال به الرازي في المحصول .قال» :المراد منه )أي
الطرد() (1الوصف الذي لم يعلم كونه مناسباا ول مستلزماا
للمناسبِّ إذا كان حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرةا
لمحل النزاع ،وهذا هو المراد من الطراد والجريان«هل) . (2وقد ردييه
الجويني.
والذين ردوا مسلك الطرد والعكس ردوا مسلك الطرد إذ هو
أولى بذلك .قال المدي» :وإذا عرفَّ أن الطرد والعكس ل يصلح
دليلا على العلية ،فالطيقراد بانفراده أولى أن ل يكون دليلا«هل). (3
وقال الزركشي» :الطرد:وليس المراد به كون العلة ل تنتقض
فذاك مقال العكس ،بل المراد أن ل تكون علته مناسبة ا ول
مؤثرةاا) ... (4والقائلون بأن الطرد والعكس ليس بحجه ،ففي كون
الطرد ليس بحجة من طريق الولى ...والمعتبرون من النظييار على
أن التمسييك به باطل لنه من باب الهذيان قال إماما الحرمين:
)( 5
وتناهى القاضي في تغليظ من يعتقد ربط حكم ال عز وجل به«هل .
وقال» :قال ابن السمعاني :وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد
حجةا ،والطراد دليلا على صحة العلية "حشوية أهل القياس" قال:
ول يعد هؤلء من جملة الفقهاء«هل). ( 6
وقال الغزالي» :الطرد ويجبِّ أن يرده كل قائس«هل ) ، (7هذا
قوله في المستصفى أما في شفاء الغليل فقوله مختلف). (8
( ) 1ما بين القوسين من الباحث.
( ) 2الرازي ،المحصول. 5/221 .
( ) 3المدي ،الحكاما. 3/263 .
( ) 4سيأتي لحقاا بيان معنى التأثير.
( ) 5الزركشي ،البحر المحيط . 222 - 4/221 .وأنظر :إرشاد الفحول.
ص. 221 :
( ) 6الموضع نفسه.
( ) 7أنظر :الغزالي ،المستصفى. 2/318 .
( ) 8أنظر :أبو حامد محمد الغزالي ،شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل
ومسالك التعلي ل ص ، 310 - 306تحقيق :حمد الكبيسي ،مطبعة الرشاد -
84
فـي شـروأط العلة:
- 1اتفقوا على أن العلة يجبِّ أن يدل عليها الشرع .وذلك بأن
تأتي في أحد مسالك التعليل .وقد تبين هذا المر فيما تقدما.
- 2أن تكون العلة بمعنى الباعث وليس أمارةا مجردةا .قال
المدي» :اختلفوا في جواز كون العلة في الصل بمعنى المارةا
المجردةا والمختار أنه ل بد وأن تكون العلة في الصل بمعنى الباعث
أي مشتملة على حكمةم صالحةم أن تكون مقصودةا للشارع من شرع
الحكم ،وإل فلو كانت وصفاا طردياا ل حكمة فيه بل أمارةا مجردةا
فالتعليل بها في الصل ممتنع«هل) . (1وقد تبين هذا المر سابقاا في
بيان معاني العلة.
- 3أن تكون العلة مؤثرةا في الحكم .قال الزركشي» :في
ذكر شروط العلة :الول :أن يكون مؤثراا في الحكم ،فإن لم يؤثر
فيه لم يجز أن يكون علة ...هكذا ذكره الماوردي والروياني
ومرادهما بالتأثير :المناسبة .وأحسن من عبارتهم قول الستاذ أبي
منصور :أن يكون وصفها مما يصح تعليق الحكم بها«هل). (2
وقال أيضاا» :وأجاز بعضهم التعليل بمجرد المارةا الطردية.
والحق خلفه وأنه ل بد أن يشتمل على حكم يبعث المكلف على
المتثال ويصح شاهداا لناطة الحكم بها«هل). (3
وقال» :وقال القاضي في )التقريبِّ( :معنى كون العلة
مؤثرةا في الحكم هو الحكم بأن يغلبِّ على ظن المجتهد أن الحكم
حاصل عند ثبوتها لجلها دون شيء سواها«هل) . (4وفي شرط التأثير
ومعناه خلفَّ هاما بين الشافعية والحنفية أذكره في موضعه إن شاء
85
ال.
- 4أن تكون وصفاا ظاهراا منضبطاا .والظهور والنضباط
نقيضا البهاما والخفاء .والخفي المضطرب ل يمكن التعليل به.
مثال ذلك :مشقة السفر فهي غير منضبطة ،ولذلك لم تعتبر بها
مشقة الحمال والفران في الحضر فكان السفر وصفاا منضبطاا
مشتملا على الحكمة المضطربة وهي المشقة .ولذلك لم يصح
التعليل بالمشقة وصح عديي السفر سبباا مشتملا على العلة .قال
المدي» :ذهبِّ الكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة
المجردةا عن الضابط وجوزه القليون«هل) . (1وقال» :إنا نعلم أن
الشارع إنما قضى بالترخص في السفر الطويل دفعاا للمشقة
المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين ولم يعليققها بنفس
المشقة لما كانت مما يضطرب ويختلف .ولهذا فإنه لم يرخص
للحميال المشقوق عليه في الحضر ،وإن ظينيي أن مشقته تزيد على
مشقة المسافر في كل يوما فرسخ ،وإن كان في غاية الرفاهية
والدعة لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب«هل). (2
- 5أن تكون سالمة .ومعنى ذلك أن ل يردها دليل شرعي .قال
الزركشي» :أن تكون سالمة بشرطها أي بحيث ل يردها نص ول
إجماع ،لن القياس فرع لها ل يستعمل إل عند عدمها فلم يجز أن
يكون رافعا ا لها ،فإذا رده أحدهما بطل«هل ). (3
- 6أن تكون العلة مطردةا .قال الزركشي» :أن تكون مطردةاا
أي كلما وجدت وجد الحكم«هل) (4فإذا وجدت ولم يوجد الحكم
فمعناه أنها ليست علة.
- 7أن تكون العلة متعدية .أي أن الحكم يتعدى بها من الصل
86
إلى الفرع .وقد اتفق الكل على صحة هذا الشرط لجل صحة
القياس .ولكن اختلفوا في صحة العلة إذا لم تكن متعدية .فمن
الصوليين من يعد الوصف علة للصل وإن كان ل يمكن تعديه
الحكم إلى فرعم قياساا .ومنهم من منع من جعلها علة على أساس أن
ل فائدةا من التعليل بها .إذ فائدةا العلة تعدية الحكم بها من الصل
إلى الفرع .قال المدي» :اتفق الكل على أن تعدية العلة شرط في
صحة القياس ،وعلى صحة العلة القاصرةا) ، (1كانت منصوصة أو
مجمعاا عليها ،وإنما اختفلوا في صحة العلة القاصرةا إذا لم تكن
منصوصة ول مجمعاا عليها ،وذلك كتعليل أصحاب الشافعي حرمة
الربا في النقدين بجوهرية الثمنية)« (2هل). (3
وقال شمس الئمة السرخسي» :الختلفَّ في شرط التعدية،
والمذهبِّ عندنا أن تعليل النص بما ل يتعدى ل يجوز أصلا .وعند
الشافعي هذا التعليل جائز ولكنه ل يكون مقايسةا ،وعلى هذا جوييز
هو تعليل نص الربا في الذهبِّ والفضة بالثمنية وإن كانت ل
تتعدى ،فنحن ل نجويقز ذلك ،والمذهبِّ عندنا أن حكم التعليل هو
تعدية حكم الصل إلى الفروع«هل). (4
- 8أن ل يكون للحكم الواحد في صورةا واحدةا علتان معاا .قال
المدي» :واختـلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورةا
واحدةا بعلتين معاا ،فمنهم من منع من ذلك مطلقاا ...ومنهم من
) ( المراد بالعلة القاصرةا الوصف الذي ثبت كونه علةا لحكم الصل ،ول 1
يمكن تعديته إلى فرع ،وذلك كالسرقة علة للقطع ،فالنص دل على تعليل
حكم الصل بها .ولكن ل يوجد فرع يتعدى إليه الحكم قياساا بجامع العلة.
وتطبيق حكم القطع في محل آخر هو بدللة النص أي بعموما النص وليس
قياساا .ومما يتعلق بخلفَّ القائسين هنا خلفَّ آخر ،وهو أن الحكم المعلل
هل دليله العلة أو دليله الخطاب الذي دل عليه وعلى العلة ؟ ذهبِّ الشافعية
والمتكلمون إلى الول .وذهبِّ الحنافَّ إلى الثاني.
) ( أنظر :هامش رقم 4ص 61من هذا الكتاب. 2
87
جوييز ذلك مطلقاا ...ومنهم من فصييل بين العلل المنصوصة
والمستنبطة فجوييزه في المنصوصة ،ومنع منه في المستنبطة...
والمختار إنما هو المذهبِّ الول«هل ). (1
وقال الزركشي» :يجوز تعليل الحكم الواحد بالنوع
المختلف بالجنس لشخص واحد بعلل مختلفة بالتفاق ،كتعليل
إباحة قتل زيد بردته ،وعمرو بالقصاص ،وخالد بالزنى«هل) . (2وقال:
»وقد صرح النبي بعلل مختلفة كل منها مستقل في إباحة الدما
كقوله » :ل يحل دم امإرئ مإسلم إل بإحدى ثالثا ،كفر
بعد إيمان ،أوأ زنى بعد إحصان أوأ قتل مإؤمإن بغير
حق«)«(3هل).(4
والظاهر من نصوص الئمة المنع من تعليل الحكم بعلتين
والتفاق المنقول كما ذكر الزركشي ليس على العلة التي يحصل
القياس بها .فالعلل المذكورةا في الحديث كلها علل قاصرةا ،فل
يقاس فرع على أصل بواسطتها ،وتطبيق الحكم في أي محل إنما هو
بدللة النص وليس قياساا .أو أن يكون التعليل بمعنى المارةا
وليس بمعنى الباعث .قال الزركشي عند إيراده القوال المختلفة
حول التعليل بأكثر من علة» :الجواز مطلقاا وهو الصحيح وقول
الجمهور كما قال القاضي في التقريبِّ ،ثم قال :وبهذا نقول بناء
على أن العلل علمات وأمارات على الحكاما ل موجبة لها«هل). ( 5
أما التفريق بين العلة المنصوصة والعلة المستنبطة فبناء
اعلى أن المنصوصة ،كما في الحديث أعله تسمى علة وإن كانت
علة لحكم الصل فقط أي أنها علة قاصرةا ،والمنع في المستنبطة،
) ( المدي ،الحكاما. 3/208 . 1
88
فذلك لن المستنبطة مبنية على أصل التعليل ،وليس بدللة
النصوص أو الجماع ،وعلى ذلك فثبوت علة ثانية يعد نقضا ا للعلة
الولى.
- 9ومما اختلفوا فيه جواز تخصيص العلة .قال المدي:
»اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة فجوييزه أكثر
أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل ،ومنع من ذلك أكثر
أصحاب الشافعي .وقد قيل إنه منقول عن الشافعي ،ثم القائلون
بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة،
واختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة إذا لم يوجد في محل
التخلف مانع ول فوات شرط ،فمنع منه الكثرون وجوييزه
القليون ،والقائلون بالمنع في تخصيص العلة المستنبطة اختلفوا
في جواز تخصيص العلة المنصوصة«هل ). (1
والعامل الهم في هذا الختلفَّ عموماا ،هو اختلفَّ
الصطلحات ،في معنى المنصوصة ومعنى المستنبطة .فالذين
يعدييون المنصوصة هي التية بأحد مسلكي النص أو الجماع
يجيزون تخصيص العلة المنصوصة ويعدون ذلك من قبيل
تخصيص سائر النصوص .وهؤلء يعدون العلة المستنبطة هي
التية بمسلك التنبيه واليماء ويختلفون في جواز تخصيصها،
وهؤلء يردون سائر المسالك الخرى .
أما الذين يلحقون العلة التية بمسلك التنبيه واليماء بالعلل
المنصوصة كتلك التية بمسلك النص أو الجماع ،فهم يقولون
بالختلفَّ في جواز تخصيص المنصوصة وذلك بسببِّ الختلفَّ في
تخصيص التية بمسلك التنبيه واليماء .والعلة المستنبطة عند
هذا الفريق هي العلة التية بسائر المسالك الخرى كالطرد
والعكس ،والسبر والتقسيم ،والمناسبة والشبه ،وهذه ل يجيزون
89
تخصيصها ،فيقولون بعدما جواز تخصيص المستنبطة ،وذلك لن
تخلف اعتبار الوصف المعلل به بهذه المسالك هو بمثابة إبطال
للوصف أو من قبيل عدما ثبوته أصلا .وذلك بسببِّ ضعف الثقة
بهذه المسالك أصلا .فتشعبِّ الختلفَّ في هذه المسألة
والضطراب في النقل عن الئمة يرجع إلى اختلفَّ المقصود
بالصطلحات ،وهذا مما ينبغي التنبييه إليه عند دراسة كتبِّ أئمة
الصول فيما يتعلق بالقياس والعلة.
قال الزركشي» :واعلم أن العلة إما عقلية أو سمعية.
فالعقلية يمتنع تخصيصها بإجماع أهل النظر ...وانما اختلفوا في
الشرعية ،وهي إما أن تكون مستنبطة أو منصوصة ،فان كانت
مستنبطة فجزما الماوردي والروياني بامتناع تخصـيـصها على
معـنـى أن العلـة ل تبقى حجـة فيما وراء الحكم المخصـوص
لبطـلن الوثوق بها«هل ). (1
- 10ومن شروط العلة المستنبطة أن ل تعود على أصلها
بالبطال ،وهذا شرط في المستنبطة فقط دون المنصوصة .قال
المدي» :يجبِّ أن ل تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها
مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالبطال .وذلك
كتعليل وجوب الشاةا في باب الزكاةا بدفع حاجة الفقراء ،لما فيه
من رفع وجوب الشاةا ،وأن ارتفاع الصل المستنبط منه يوجبِّ
إبطال العلة المستنبطة منه ضرورةا توقف عليتها على اعتبارها
به«هل). (2
وكون هذا الشرط شرطاا في المستنبطة فقط ،يعني أنه يجوز
للعلة المنصوصة أن ترجع على الصل بالبطال ،بل إن هذا هو معنى
التعليل أصلا .فالعلة هي ما جاء الحكم لجله وارتفاعها يعني
ارتفاع الحكم وهذا معنى البطال هنا .لذلك فان التفاق على هذا
90
الشرط في المستنبطة يشير إلى ضعف الثقة بالتعليل بها ،وما ذلك
إل لن كل مسالك المستنبطة مبنية على أن الصل في الحكاما
التعليل ،وهذا بدوره يؤدي بالفقيه إلى البحث عن علة قوية بنظره،
فإذا وجد أن التعليل بهذه العلة النظرية يؤدي إلى زوال الحكم
بزوال العلة ،رجع عن التعليل بها .ومثال المدي أعله بييقن في
هذا ،فتعليل وجوب الزكاةا بدفع حجة الفقراء ،مؤداه الغاء وجوب
الزكاةا إذا لم يكن ثم فقراء ،وهذا رفع لصل وجوب الزكاةا ،لذلك
يسقط التعليل بهذا الوصف.
وقال الزركشي» :إن كانت مستنبطة فالشرط أن ل يرجع
على الصل بإبطاله أو إبطال بعضه ،لئل يفضي إلى ترك الراجح إلى
المرجوح ،إذ الظن المستفاد من النص أقوى من المستفاد من
الستنباط ،لنه فرع لهذا الحكم ،والفرع ل يرجع على إبطال أصله،
وإل لزما أن يرجع إلى نفسه بالبطال«هل ). (1
- 11ومن شروط العلة أن ل تكون هي محل حكم الصل ،فلو
كانت كذلك ل يكون تطبيق الحكم في المحال الخرى قياساا ول
تكون هذه المحال فروعاا .وإنما يكون تطبيقاا للنص ،وتكون هذه
المحال هي مناط الحكم .وتكون علة الصل قاصرةا.
قال المدي» :ذهبِّ الكثرون إلى أن شرط علة الصل أن ل
يكون محل حكم الصل ول جزءاا من محله .وذهبِّ آخرون إلى
جوازه ،والمختار إنما هو التفصيل ،وهو امتناع ذلك في الصل دون
الجزء«هل ) . (2وقال» :فلو كانت العلة فيه هي محل حكم الصل
بخصوصه لكانت العلة قاصرةا ...نعم إنما يمكن ذلك فيما إذا لم
تكن علة حكم الصل متعدية«هل) . (3وقال» :وأما الجزء فل يمتنع
91
التعليل به لحتمال عموما الصل والفرع«هل ). (1
وقال الزركشي» :إن كانت متعدية أي توجد في غير الصل
فيشترط فيها أن ل يكون التعليل في المحل إل جزءاا منه .ول
يتصور تعديتها بخلفَّ القاصرةا فإنه يجوز فيها ذلك«هل). (2
92
المبحث الثالث
مإسـلك الخإالة وأالمناسـبة
تمهيـد:
ورد -فيما سبق -ذكر المناسبة كشرط من شروط العلة
التي هي ركن في القياس .ومن الصوليين من جعلها مسلكاا من
مسالك العلة قائماا بذاته وجعل لها شروطها .وفيما يلي موضوع
المناسبة وشروطها وأقسامها.
إن التعليل بالوصف المناسـبِّ يقوما على أسـاس أن الصل في
الحكاما التعليل ،فإذا دليي الشرع على العلة بالنص الصريح أو غير
الصريح أو بالجماع أو استنباطاا بدللة التنبيه واليماء فبها ،وإذا
لم يدل يجبِّ البحث عن أصلح وصف للتعليل .وأصلحه هو أكثره
مناسبة بشرط أن ل يدل الشرع على رديقه أو إلغائه .والوصف
المناسـبِّ هو الذي يترتبِّ عليه مصلحة أو مفسدةا بحسبِّ كون
الحكم طلباا للفعل أو نهياا عنه.
إل أن تعيين الوصف المصلحي المناسبِّ في الحكم يتأثر
بنظرةا المجتهد إلى ما هو مصلحة وما هو مفسدةا ،وبنظرته إلى
مسألة الحسن أو القبح في الفعال ،فقد يتخيل مصلحة ثم يظهر
بعد السبر والبحث أنها مفسدةا والعكس صحيح ،أو أن الشرع قد
ألغاها أو أهدرها ،أو أن هناك ما هو أصلح منها وأكثر مناسبة
للتعليل.
وهذا ما أدى إلى تفصيلت وقيود في تعريف المناسبِّ
وشروطه عند الصوليين فظهرت تعابير مثل المصلحة المعتبرةا
والمصلحة الملغاةا والمصلحة المرسلة ،والمصلحة المرتضاةا
شرعاا ،ومقاصد الخلق ومقاصد الشارع .وكذلك حصل تقسيم
المناسبِّ إلى حقيقي عقلي وخيالي اقناعي» ،الول :هو الذي كلما
ازداد البحث والسبر فيه تثبت مناسبته ،والثاني :هو الذي ييتخيل
93
في البتداء مناسبته وإذا سيليط عليه البحث والنظر تسقط مناسبة
وينكشف عن غير طائل«هل) . (1وكذلك حصل تقسيمه إلى ضروري
وحاجي وتحسيني .قال الزركشي» :أقساما المناسبِّ من حيث
الحقيقة والقناع :أنه ينقسم إلى حقيقي وإقناعي .والحقيقي
ينقسم إلى ما هو واقع في محل الضرورةا ،ومحل الحاجة ومحل
التحسين«هل) . (2ثم قال» :أما القناعي فهو الذي يظهر فيه في بادئ
المر انه مناسبِّ ،لكن إذا بحث عنه حق البحث ظهر بخلفه«هل). (3
تحقيق مإعنى الخإالة وأالمناسـبة:
يلحظ في سياق نصوص الئمة الصوليين أن منهم من
يستعمل لفظي الخالة والمناسبة بمعنى واحد ومنهم من يفرق
بينهما .يقول المدي» :المسلك الخامس في إثبات العلة :الخالة
و المناسبة «هل) ، (4ويقول الشوكاني » :المناسبة :ويعبر عنها
ب الخالة وبالمصلحة وبالستدلل وبرعاية المقاصد ويسمى
استخراجها تخريج المناط وهي عمدةا كتاب القياس ومحل غموضه
ووضوحه .ومعنى المناسبة هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة
مع السلمة عن القوادح ل بنص ول غيره والمناسبة في اللغة
الملءمة والمناسبِّ الملئم«هل). (5
أما إماما الحرمين الجويني فيفرق بينهما .ف الخالة عنده هي
وصف مصلحي يمكن أن يتخيله الناظر سبباا لمجيء الحكم.
و المناسبة هي ثبوت كون الوصف يؤدي إلى المصلحة أو إلى ما
يقصده الشارع .ف الخالة هي إدعاء الوصف الذي يؤدي مجيء الحكم
على وفقه إلى المصلحة ،و المناسبة هي ظهور وثبوت العلقة
الشوكاني ،إرشاد الفحول .ص . 214 :وانظر :الزرك شــي ،الب حــر )( 5
94
السببية بين الوصف والمصلحة المترتبة عليه ،إذ الوصافَّ هي
علمات وأمارات على الحكم ،والحكاما جاءت لجل المصالح ،فثبوت
العلقة بين الوصف والحكم يجعل الوصف باعثاا.
يقول» :إذا ثبت حكم في أصل متفقم عليه وادعى المستنبط
أنه معلل بوصفم أبداه فهو مطالبِّ بتصحيح دعواه في الصل ...فإذا
ادعى مديعم أن المعنى الذي أبداه علة للحكم فهذه دعوى عرية عن
البرهان من جهة أن التحكم بنصبِّ العلل غير سائغ كما سبق في
الرد على الطاردين ،فل بد من ظهور وجهم في ظن المستنبط يوجبِّ
)(1
تخيل معنى مخصوص في انتصابه علما ا وهو مطالبِّ بإبدائه«هل
ثم قال» :فما اعتمده المحققون وارتضاه الستاذ أبو إسحق إثبات
علة الصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلمته عن العوارض
والمبطلت ومطابقته الصول«هل ) . (2وقال» :فإن قيل :إذا أبدى
المعليقل وجهاا مرتضىا في الخالة قيبل ،وقيل له :ليس كل ميخيل
علماا وليس كل استصلح وجهاا مرتضىا في الحكاما ،فمن أين
زعمت أن ما أبديته من قبيل ما يعتمد عليه؟ إذ الخالت منقسمة
ووجوه الستصلح منتفية والشرع ل يرى تعلق الحكم بجميعها ولم
تضبط الرواةا مسالك الظنون للصحابة وأنحائهم ،فإذا بطل دعوى
التعلق بكل مصلحة ولم يتبين لنا ما اعتمده الولون فكيف تدل
نفس الخالة «هل) ، (3ثم قال» :فإذا ظهرت الخالة وسلم المعنى عن
المبطلت وغلبِّ الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الولون
قطعاا«هل) . (4ثم قال» :فإن قيل :ف الخالة مع السلمة هي الدالة إذاا.
قلنا :ل ،ولكن إذا ثبتت الخالة ولحت المناسبة واندفعت المبطلت
التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي ال عنهم«هل). (5
95
والناظر في هذه القوال يتبين له المراد ب الخالة وب المناسبة .
ف الخالة تعني إدعاء وصف ما علة .ولكن هذا -كما قال -دعوى ل
بد من إثباتها ،وطريق إثباتها ظهور مناسبة الوصف واندفاع
المبطلت .فقوله» :الخالت منقسمة«هل يعني أن الوصافَّ التي
يمكن أن تدييعى كثيرةا ومتعددةا منها ما هو معتبر ومنها ما هو
ملغى ،فل يصلح هذا وحده .وإن قيل إن هذا الوصف فيه مصلحة
فهذا أيضاا ل يكفي .فقوله» :ووجوه الستصلح منتفية«هل وقوله:
»ليس كل استصلحم وجها مرتضى«هل يعني أن مجرد كون الوصف
مصلحة أو مشتملا على مصلحة ل يكفي لثبات صلحيته للتعليل.
ومن هنا يفهم مراده ب المناسبة وهو أنيي الوصف المخيل ـ و هو
وصف مصلحي ـ تكون المصلحة التي فيه مرتضاةا شرعاا .أو أن
ترتبِّ الحكم على ذلك الوصف يلزما فيه عقلا تحقق تلك
المصلحة .أما الول وهو أن تكون المصلحة مرتضاةا شرعاا فهو
مراده بلفظ »اندفاع المبطلت«هل .فلم يبق أن يكون المراد
ب المناسبة إل لزوما أو ثبوت تحقق المصلحة من ترتيبِّ الحكم على
الوصف .وهذا الثبوت يحصل بغلبة الظن ول يحتاج إلى القطع.
ويؤكد هذا المعنى قوله» :فإذا ظهرت الخالة وسلم المعنى عن
المبطلت وغلبِّ الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الولون
قطعاا«هل). (1
وقال الرازي» :الناس ذكروا في تعريف المناسبِّ شيئين:
الول :أنه الذي يفضي إلى ما يوافق النسان تحصيلا وإبقاءا وقد
يعبر عن التحصيل بجلبِّ المنفعة وعن البقاء بدفع المضرةا...
الثاني :أنه الملئم لفعال العقلء في العادات .فإنه يقال :هذه
اللؤلؤةا تناسبِّ هذه اللؤلؤةا ،أي الجمع بينهما في سلك واحد
متلئم ،وهذه الجبة تناسبِّ هذه العمامة ،أي الجمع بينهما
متلئم«هل) . (2ثم قال» :والتعريف الول قول من يعلل أحكاما ال
96
تعالى بالحكم والمصالح والتعريف الثاني قول من يأباه«هل). ( 1
ولو دققنا في التعريفين لوجدناهما متلزمين عملياا .فالثاني
يعني ترتبِّ المصلحة على الحكم في العادةا ،فتكون المصلحة مترتبة
على الحكم بحسبِّ العلقة بين السببِّ والمسببِّ ويكون هذا الترتبِّ
سببا ا لتعليل الحكم بالوصف) . (2وهذا ليس تعليلا لفعال ال بينما
التعريف الول يعني -بنظره -تعليل أفعال ال فهو يأباه). (3
وقال الغزالي » :إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم والكتفاء
بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه وينشأ منه أن المراد
بالمناسبِّ ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف إليه انتظم.
مثاله :قولنا :حرمت الخمر لنها تزيل العقل الذي هو مناط
التكليف وهو مناسبِّ .ل كقولنا :لنها تقذفَّ بالزبد أو لنها
تحفظ في الديني فإن ذلك ل يناسبِّ«هل ). (4
وقال» :أما المصلحة فهي عبارةا في الصل عن جلبِّ منفعة أو
دفع مضرةا ولسنا نعني به ذلك ،فإن جلبِّ المنفعة ودفع المضرةا
مقاصد الخلق وصلح الخلق في تحصيل مقاصدهم .لكنا نعني
بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق
خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم
ومالهم .فكل ما يتضمن حفظ هذه الصول الخمسة فهو مصلحة.
وكل ما يفوت هذه الصول فهو مفسدةا ودفعه مصلحة .وإذا أطلقنا
المعنى المخيل والمناسبِّ في كتاب القياس أردنا به هذا
) ( ولكن تنبغي الشارةا أن الرازي يرفض القول بالسببِّ والمسببِّ لن هذا 2
بنظره تعليل لفعال ال .ولكنه يقول ما مفاده أن ال اجــرى الشــيء عنــد
الشيء .وكذلك جعل المصالح مقارنــة للف عــال ،وليــس أ حــدهما ســبباا
للخر .أو أن المصالح مقارنة للحكاما .وسيأتي قوله مفصلا في المب حــث
الثالث من الفصل الثاني.
) ( الرازي ،المحصول. 158 - 5/157 . 3
97
الجنس«هل) . (1وهذا يبين مراده بالمصلحة وهو ما ثبت اعتباره
شرعاا .وهو يوافق ما عند الجويني .ويوافق ما عند المدي في
تعريف المناسبِّ كما سيأتي.
يقول المدي» :قال أبو زيد» :المناسبِّ عبارةا عما لو عرض
على العقول تلقته بالقبول«هل) (2لكنه رأى أن هذا التعريف وان كان
موافقاا من حيث الوضع اللغوي فهو غير كافَّم في مجال إثبات
العلة .قال» :فل طريـق للمناظر إلى إثباته على خصمه في مقاما
النظر لمكان أن يقول الخصم :هذا مما لم يتلقه عقلي بالقبول فل
يكون مناسباا بالنسبة إلييي وإن تلقاه عقل غيري بالقبول«هل). (3
وهذا إشارةا إلى اختلفَّ مفاهيم الناس فيما هو مناسبِّ وما هو غير
مناسبِّ .ولذلك جاء تعريف المدي مشتملا على ما فصله الجويني
من لزوما إثبات ترتبِّ المصلحة على ربط الحكم بالوصف ،وأن تكون
المصلحة مرتضاةا شرعاا أو مما يصلح أن يكون مقصوداا للشارع
وهذا قيد يمنع الختلفَّ في النظر إلى ما هو مصلحة وما هو
مفسدةا .قال» :والحق من ذلك أن يقال المناسبِّ عبارةا عن وصف
ظاهر منضبط يلزما من ترتيبِّ الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن
يكون مقصوداا من شرع ذلك الحكم وسواء كان ذلك الحكم نفياا
أو إثباتا وسواء كان ذلك المقصود جلبِّ مصلحة أو درء
مفسدةا«هل). (4
ونقل الزركشـي عـن ابن الحاجـبِّ المالكي» :المناسـبِّ
وصـف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيبِّ الحكم عليه ما يصلح
أن يكون مقصوداا من حصول مصلحة ودفع مفسدةا .فإن كان
الوصف خفياا أو غير منضبـط اعتبـر ملزمه وهو المظـنة لن
98
الغيـبِّ ل يعـريقفَّ الغيبِّ كالسفر للمشقة«هل). (1
وقال ابن قدامة المقدسي» :ومعناه أن يكون إثبات الحكم
عقيبه مصلحة«هل ). (2
وقال القرافي» :المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة ودرء
مفسدةا«هل). (3
والتعريفات الخرى في سائر كتبِّ الصول ل تخرج ع ن
المذكور أعله .
ويلحظ على هذه التعريفات أن الركن الساس فيها هو أن
يلزما عقلا من ربط الحكم بالوصـف حصـول مصلحـة أو درء
مفسدةا .وقد أضافَّ بعضهم ،وخاصة علماء الصول من الشافعية أن
يكون جلبِّ المصلحة أو درء مفسدةا مما يصلح أن يكون مقصوداا
للشارع .وهذا ييبعدي أن يكون المناسبِّ مصلحة عقلية محضة ،أي
مصـلحة ل يشهد لها حكم شـرعي ،إضـافة إلى إشـتراط الكـل أن
تكون سالمة ا عن المبطلت.
أما التعريفات التي قيدت الوصف المناسبِّ بكونه ظاهراا
ومنضبطاا .فهذا لجل صلحيته للتعليل إذ من شروط العلة ان
تكون وصفاا ظاهراا منضبطاا بأي مسلك أتت.
أقسـام المناسـب:
وللوصف المناسبِّ تقسيمات بحسبِّ قوةا المناسبة وضعفها
وبحسبِّ العتبار وعدمه .أما بحسبِّ قوةا المناسبة وضعفها فهو
قسمان :خيالي إقناعي وحقيقي عقلي .الول هو الوصف الذي كلما
ابن قدامة المقدسي ،رو ضــة النــاظر وجنــة المنــاظر .ص،268 : )( 2
تحقيق :سيف الدين الكاتبِّ ،دار الكتاب العربي ـ بيروت ،ط 1401 ، 1هـ -
1981ما .
) ( شهاب الدين القرافي ،شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول .ص: 3
99
ازداد النظر فيه ازداد ضعفا ا فتسقط مناسبته .والثاني هو الوصف
الذي كلما ازداد البحث فيه ازداد قوةاا وجلءا وله ثلثا مراتبِّ:
الضروريات والحاجيات والتحسينيات .ويلحق بكل واحدةا من هذه
المراتبِّ مكملتها). (1
ومن جهة العتبار وعدمه ينقسم المناسبِّ إلى معتبر ومرسل
وملغى .قال الشوكاني » :أعلم أن المناسبِّ ينقسم باعتبار شهادةا
الشرع له بالملءمة والتأثير وعدمها إلى ثلثة أقساما لنه إما أن يعلم
أن الشرع اعتبره أو يعلم أنه ألغاه أول يعلم واحد منهما«هل). (2
-1المعتبـر:
يطلق لفظ المعتبر إزاء معنيين :الول :هو الوصف أو المعنى
الذي دل عليه دليل شرعي فهذا الوصف أو المعنى شهد له نص أو
دليل شرعي فيكون معتبراا .وهذا متفق على التعليل به بين
القائسين.
الثاني :المعتبر هو الوصف الذي شهد له حكم ولم يشهد له
نص أو دليل .وبتعبير آخر :المعتبر هو ما جاء على وفقه حكم أو
أحكاما .وبتعبير ثالث هو الوصف الذي يمكن تخيله في حكم من
الحكاما الثابتة بدليل شرعي .وهذا المعنى هو المقصود هنا.
قال المدي» :الوصف أما أن يكون معتبراا في نظر الشارع أو
ل يكون معتبراا ،فإن كان معتبراا فاعتباره إما أن يكون بنص أو
)(3
إجماع أو بترتيبِّ الحكم على وفقه في صورةا بنص أو إجماع«هل
وقال الشوكاني » :المراد بالعتبار إيراد الحكم على وفقه ل
التنصيص عليه ول اليماء إليه وإل لم تكن العلة مستفادةاا من
100
المناسبة وهو المراد بقولهم شهد له أصل معين .قال الغزالي في
شفاء الغليل :المعني بشهادةا أصل معين للوصف أنه مستنبط منه
من حيث إن الحكم أثبت شرعاا على وفقه«هل) . (1فمثلا :في حكم عدما
توريث القاتل ،يلحظ معنى المعاملة بنقيض المقصود ،فبناءا على
أن القاتل بقتله لموريقثه يقصد الحصول على الميراثا أو استعجاله،
ومعاملته بنقيض قصده معنى موجود في الحكم ،يكون هذا المعنى
)المعاملة بنقيض المقصود( معناى معتبراا .ويكون الحكم الشرعي
هو الشاهد على هذا المعنى ،أو يقال إن هذا المعنى الذي لم يدل
عليه نص أو إجماع قد جاء حكم على وفقه .هذا هو معنى العتبار،
وهو مختلف عن العتبار الذي هو أن يدل نص أو إجماع على
الوصف أو المعنى .وهذا الخير ل خلفَّ فيه ،بخلفَّ شهادةا الحكم
للوصف أو مجيء حكم وفق الوصف ،ففي قبول هذا العتبار خلفَّ
كبير.
أنواع العتبار:
إذا كان العتبار هو لعين الوصف الموجود في الحكم أو في
مناطه فهو اعتبار لعين الوصف أو لخصوصه في الحكم .وإذا كان
العتبار هو لوصف أعم من الوصف الموجود في الحكم أو في مناطه
فهو اعتبار لعموما الوصف أو لجنسه في الحكم .
مثال ذلك تحريم الخمر .فالحكم يشهد لوصف السكار فإذا
اتجه العتبار إلى وصف السكار فهو اعتبار لعين الوصف في
التحريم ،فل يقاس عليه إذهاب العقل بالمخدرات لنه ليس إسكاراا،
ويقاس عليه بالنبيذ لنه إسكار.
وإذا اتجه العتبار إلى وصـف أو معنـى إذهاب العقل ،فهو أعم
من السـكار ويشـمل إذهاب العقل بالخمر وبالمخدرات وبغير
ذلك .فهو اعتبار لعموما الوصف أو لجنسه ،ويقاس عليه تناول
101
المخدرات .وهذا هو اعتبار جنس الوصف في الحكم .قال المدي:
»وذلك كمعنى السكار فإنه يناسبِّ تحريم النبيذ وقد ثبت اعتبار
عينه في عين التحريم في الخمر ،ولم يظهر تأثير جنسه في
)(1
عينه«هل
ومثاله أيضاا ،وصف المشقة في رخصة السفر ،فهو وصف
مناسبِّ تشهد له أحكاما القصر والجمع والفطار في السفر .فان
كان العتبار في هذه الرخص هو لمشقة السفر فهو اعتبار لعين
الوصف أو لخصوصه في الحكم .وإن كان العتبار هو لعموما
المشقة أو الجهاد أو الحرج فهو اعتبار لعموما الوصف أو لجنسه
لن المشقة أنواع كمشقة السفر ومشقة العمل ومشقة الجهاد
ومشقة الحيض وغيرها.
أما إن كان العتبار هو لحكم أعم من الحكم الذي شهد
للوصف فهو اعتبار للوصف في عموما الحكم أو في جنسه .مثاله:
اعتبار وصف الخوةا لب وأما في التقديم في الميراثا على الخوييةا
لب .فالحكم هنا هو ولية الميراثا .والوصف هو تقديم ال أ خوةا لب
وأما على ال أ خوةا لب .فاعتبار هذا الوصف في ولية الميراثا هو
اعتبار للوصف في عين الحكم .واعتبار الوصف في عموما الولية
يفضي إلى قياس ولية النكاح على ولية الميراثا .فيقدما ال أ خوةا
لب وأما في ولية النكاح .وعموما الولية جنس يعميي ولية الميراثا
وولية النكاح .فهذا اعتبار للوصف في عموما الحكم.
وإن كان العتبار هو لوصف أعم من الوصف الذي شهد له
الحكم ،ولحكم أعم من الحكم الذي شهد للوصف فهو اعتبار جنس
الوصف في جنس الحكم .ومن أمثلة هذا النوع ما ذكره المدي:
»اعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس
التخفيف فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من
جنسها ،وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين ليس عين
102
التخفيف عن الحائض بإسقاط الصلةا بل من جنسها«هل ). (1
وعلى ذلك فالعتبار في شهادةا الحكم للوصف أربعة أنواع ): (2
- 1اعتبار عين الوصف في عين الحكم.
- 2اعتبار جنس الوصف في عين الحكم.
- 3اعتبار عين الوصف في جنس الحكم.
- 4اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم.
أقسـام المعتبـر:
إذا كان العتبار هو لعين الوصف في عين الحكم فهو المؤثر
وله تفصيل .أما القساما الثلثة وهي اعتبار العين في الجنس
والجنس في العين والجنس في الجنس فإن كان بوجود نظائر تشهد
للوصف ،أي أحكاما أخرى يظهر فيها اعتبار الوصف فيسمى الوصف
ملئماا .وإن كان ل يوجد نظائر ،أي ل يشهد للوصف إل حكم
واحد فيسمى الغريبِّ .قال الغزالي» :المناسبِّ ينقسم إلى ما يلئم
معاني الشرع ويجانس تصرفاته في ملحظة المعاني ،وإلى ما يكون
غريباا ل يلفى له جنس«هل) . (3وقال» :أما الملئم فنعني أنه عهد
جنسه مؤثراا في ذلك الحكم وإن لم يعهد عينه في عين ذلك
الحكم في محل آخر«هل). (4
أن ظــر :الح كــاما لل مــدي . 249 - 3/246 .والب حــر المح يــط )( 2
) ( المصدر نفسه :ص . 149 :وقال في المستصفى" :والظن على مراتبِّ 4
واقواه المؤثر ...ودونه الملئم ودونه المناسبِّ الذي ل يلئم .وهو أيضاا
درجات وان كان على ضعف ،ولكنه يختلف بحسبِّ قوةا المناسبة ،وربما يورثا
الظن المجتهدين في بعض المواضع ،فل يقطع ببطلنه ،ول يمكن ضبط
درجات المناسبة اصلا .بل لكل مسألة ذوقي آخر ينبغي ان ينظر فيه
المجتهد" . 2/305 .وقوةا المناسبة أو ضعفها ادت إلى تقسيم المناسبِّ إلى
حقيقي وعقلي ،وإلى جعل الوصف في مراتبِّ أقواه الضروري يليه الحاجي ثم
التحسيني.
103
وعلى ذلك فالمناسبِّ المعتبر ثلثة أقساما :مؤثر وملئم
وغريبِّ.
أ -المؤثاـر:
قال الغزالي» :المناسبِّ ينقسم إلى مؤثر وملئم وغريبِّ...
ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالجماع أو النص
فل يحتاج إلى المناسبة«هل ) (1وقال المدي» :فإن كان معتبراا بنص
أو إجماع فهو المؤثر«هل) ، (2وهذا معناه عدما اشتراط المناسبة -عند
الغزالي -للوصف الذي يثبت تأثيره أو عليته بالنص أو الجماع.
ويعد التعليل بالمؤثر من أقوى أنواع القياس .قال الغزالي:
»القياس أربعة أنواع :المؤثر ثم المناسبِّ ثم الشبه ثم الطرد.
أدناها الطرد ويجبِّ أن ينكره كل قائل بالقياس .أعلها المؤثر
ويجبِّ أن يقول به كل منكر للقياس«هل). (3
وقال الشوكاني» :المؤثر :وهو أن يدل النص أو الجماع
على كونه علة تدل على تأثير عين الوصف في عين الحكم أو نوعه
في نوعه«هل). (4
فالمؤثر هو الوصف الذي ثبت بالدليل تأثيره في الحكم
فاعتباره هو ليس من قبيل مجيء الحكم على وفقه فحسبِّ ،أو شهادةا
الحكم له فحسبِّ وإنما اعتباره هو من قبيل شهادةا النص أو
الجماع.
والمؤثر عند الصوليين من الشافعية وفي أصول المتكلمين
عموماا هو قسيم للملئم والغريبِّ بخلفَّ الصوليين من الحنفية.
ويقول الشوكاني » :إن المناسبِّ إما مؤثر أو غير مؤثر .وغير المؤثر إما
ملئم أو غير ملئم .إما غريبِّ أو مرسل أو ملغى« ارشــاد الفحــول .ص:
. 218
) ( أبو حامد محمد الغزالي ،المستصفى في علم أصول الفقه،2/297 ، 1
104
فهؤلء جعلوا التأثير شرطاا من شروط العلة ،ولذلك فل يأخذون
بمسلك المناسبة أصلا ،وإنما المناسبة عندهم شرط للتعليل
بالوصف .ولذلك ل يقبلون الكتفاء بكون الوصف معتبراا بمعنى
شهادةا الحكم له وإنما يشترطون شهادةا النص ،وهو ما يسمونه
العدالة ،أي عدالة الوصف وصلحيته للتعليل .ولفظ الملئم في
نصوصهم ل يعنون به ما يقصده غيرهم من المتكلمين ،وإنما
يقصدون به عين ما يقصده غيرهم بلفظ المناسبِّ .قال الغزالي :
»أعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس ،وقصر أبو زيد
الدبوسي القياس عليه قال :ل يقبل إل مؤثر ،ولكنه أورد للمؤثر
أمثلةا عرفَّ بها أنه قبل الملئم ولكنه سماه أيضا مؤثراا«هل). (1
والمراد بهذا النص أن الحنافَّ ل يقبلون إل المؤثر.
قال البزدوي» :العدالة عندنا هي الثر .ونعني بالثر ما جعل
له أثر في الشرع«هل ) . (2وقال شارح أصول البزدوي في كشف
السرار» :وفسر الشيخ في بعض مصنفاته بهذه العبارةا :ونعني
بالتأثير أن يكون لجنس ذلك الوصف تأثير في إثبات جنس ذلك
الحكم في مورد الحكم إما مدلولا عليه بالكتاب أو بالسنة أو
بالجماع .أي يثبت أثر هذا الوصف بهذه الحجج .وذكر بعض
الصوليين أن أعلى أنواع القياس المؤثر«هل) . (3فهو يورد قول إن
المؤثر أعلى أنواع القياس منسوباا إلى بعض الصوليون وليس إلى
نفسه .ويقول إن المؤثر أربعة أقساما وهي العين في العين والعين
يقبل الملئم ويسميه مؤثراا يراد به أن الحنفية يعللون بالملئم ،وهو مــا
يرده أئمة الصول الحنافَّ بشدةا.
فخر السلما الـبزدوي ،أصـول فخـر السـلما الـبزدوي،3/512 . )( 2
تحقيق :عبد ال محمود محمد عمر ،دار الكتبِّ العلميــة ـــ بيــروت ،ط ،1
1418هـ 1997 -ما ،مطبوع مع شــرحه :كشــف الســرار ،لعلء الــدين
البخاري .
) ( علء الدين البخاري ،كشف السرار عن أصول فخر السلما البزدوي، 3
105
في الجنس والجنس في العين والجنس في الجنس ) . (1في حين يقول
الغزالي للتمييز بين المؤثر والملئم» :الفرق بينهما أن المؤثر
هو الذي ظهر تأثير عينه في عين الحكم المتنازع فيه بالجماع أو
النص في محل النزاع أو غير محل النزاع ...وأما الملئم فنعني به
أنه عهد جنسه مؤثرا في جنس ذلك الحكم«هل) . (2فعلى هذا ،المؤثر
عند البزدوي ينقسم إلى هذه القساما الربعة ،بينما عند الغزالي
المؤثر هو أحد القساما الربعة .وهذا الخلفَّ ينطبق على أئمة
الصول من الشافعية والحنفية.
ب -الملئام:
وهو وصف مناسبِّ شهدت له أحكاما كثيره ،أو على القل
حكمان ،حكم يظهر فيه اعتبار الوصف المعين في الحكم المعين،
وحكم أو أحكاما أخرى يستفاد منها أن الوصف قد عهد اعتبار جنسه
في الحكم أو اعتباره في جنس الحكم أو اعتبار جنسه في جنس
الحكم.
إل أنه تنبغي الشاره هنا إلى الفرق بين أئمة الحنافَّ
وغيرهم ،وجميعهم ذكروا هذه النواع .وهو أن الحنافَّ لم
يجيزوا تعميم الوصف أو الحكم من مجرد وجود شواهد له في
أحكاما أخرى ،وإنما اشترطوا لثبوت أثر الوصف أو جنسه أن يكون
الثبوت بالدليل الشرعي وليس من مجيء الحكم على وفقه .فكما
اشترطوا لثبوت العين في العين أن يكون مؤثراا ،فقد اشترطوا
التأثير في سائر أنواع العتبار .وكما لم يـروا في مجيء الحكم
وفـق الوصـف دللـة على التعليـل ،فإنـهـم لم يـروا -أيضاا -أي
دللة على التعميم أو التجنيس في كثرةا الشواهد .قال البزدوي:
»العدالة عندنا هي الثر«هل) ، (3وقال الشارح في كشف السرار:
) ( علء الدين البخاري ،كشف السرار عن أصول فخر السلما البزدوي، 1
106
»وأما العرض على الصول فل يقع به التعديل وأقصى ما في الباب
أن تكون النصوص موافقة للوصف فيحصل به كثرةا النظائر وبكثرةا
النظائر ل تحصل قوةا في الوصف«هل) ( 1وقال» :لن كون الوصف
علة وضع شرعي كما أن الحكم كذلك فلم يمكن إثباته إل بالدليل
الشرعي«هل ). ( 2
وعليه فالملئم هو ما ثبت فيه اعتبار جنس الوصف في عين
الحكم أو في جنسه ،أو عين الوصف في جنسه .والخلفَّ فيه هو في
ثبوت العتبار .فإن كان الثبوت بالدليل فهو متفق عليه بين
القائسين ،وإن كان بطريق شهادةا الحكم للوصف ووجود نظائر له،
فمختلف فيه كثيراا.
ومن أمثلته جواز الجمع بين المكتوبتين بوصف الحرج.
فحكم جواز الجمع في السفر يشهد لوصف الحرج وجواز الجمع
بينهما في الحضر مع المطر يشهد لوصف الحرج .فحرج المطر
وحرج السفر نوعان من الحرج يشملهما جنس الحرج واعتبار
الحرج هنا هو اعتبار لجنس الوصف بغير دليل وانما فقط باستقراء
الحكاما .وقد قيل إن هذا المثل فيه ما فيه). (3
ويميثلي له أيضاا بإسقاط الركعتين الساقطتين عن المسافر
بوصف المشقة .وإسقاط القضاء عن الحائض بوصف المشقة.
فاعتبار عموما المشقة هنا هو اعتبار لجنس الوصف .وهذا المثل
أيضاا فيه ما فيه). (4
) ( علء الدين البخاري ،كشف السرار ، 3/513 ،والمراد بالعرض على 1
الصول عرض الوصف المشهود له في حكم على أحكاما أخرى تشهد له ،فيقال
بناء على ذلك انه قد عهد اعتباره أو اعتبار جنسه في الشرع.
) ( المصدر ،نفسه .ص. 510 - 509 : 2
) ( أنظر :النصاري ،عبد العلي محمد بن نظاما الدين ،فواتح الرحموت شرح 3
107
جأـ -الغريب:
وهو وصف مناسبِّ ،ظهر اعتباره في حكم واحد .قال علماء
الصول من الشافعية بصلحيته للتعليل ،ورده الحنافَّ .قال
المدي» :أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص
الحكم من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في اصل
آخر متفق عليه ول جنسه في عين ذلك الحكم ول جنسه في جنسه
ول دليي على كونه علة نص ول إجماع ل بصريحه ول بإيمائه،
وذلك كمعنى السكار«هل ) . (1ثم قال» :فلو قدييرنا انتفاء النصوص
الدالة على كون السكار علة فل يكون معتبراا بنص أيضاا ،وهذا هو
المناسبِّ الغريبِّ وهو مختلف فيه بين القياسيين وقد أنكره بعضهم
وإنكاره غير متجه لنه يفيد الظن بالتعليل«هل). (2
وقال الغزالي» :وأ مــا الغريــبِّ الــذي لــم يظ هــر تــأثيره ول
ملءمته لجنس تصرفات الشــارع فمثــاله :قولنــا :إن الخمــر إنمــا
حرمت لكونها مسكرةا ففي معناه كل مسكر ،ولم يظهر أثــر الســكر
في موضع آخر لكنه مناسبِّ .وهذا م ثــال الغر يــبِّ لــو لــم يي قــديير
التنبيه ب قــوله [ :
. (3) ] ومثاله أيضاا قولنا :أن
المطلقة ثلثاا في مرض الموت ترثا لن الزوج قصــد الفــرار مــن
ميراثها فيعارض بنقيض قصده قياساا على القاتل فإنه ل يرثا لنــه
يستعجل الميراثا فعورض بنقيض قصده .فإن تعليل حرمان القاتــل
تعليل بمناسبِّ ل يلئم جنس تصرفات الشرع لنا ل نرى الشرع فــي
موضع م آخر التفت إلى جنسه فتبقى مناسبته مجردةا غريبــة .ولــو
علل الحرمان بكونه متعدياا بالقتل وجعل هذا جزاءا علــى ال عــدوان
كان تعليلا بمناسبِّ ملئم ليس بمؤثر لن الجناية بعينها وإن ظهر
108
تأثير هــا فــي العقوبــات فلــم يظ هــر تأثير هــا فــي الحر مــان مــن
الميراثا«هل). (1
والجدير بالذكر هنا أن واقع المناسبِّ الغريبِّ وأمثلته عند
الذين يقولون به كالمدي والغزالي كما تبين ،هو نفس واقع
وأمثلة المناسبِّ المرسل عند الذين يقولون به كما سيتبين .وقد
ذكر المدي كمثال على المناسبِّ الغريبِّ» :اعتبار جنس المشقة
المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف ،فإن عين
مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها ،وعين
التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين ليس عين التخفيف عن
الحائض بإسقاط الصلةا بل من جنسها «هل). (2
وذكر الشوكاني مثلا للغريبِّ قال» :اعتبار جنس الوصف
في جنس الحكم وذلك كتعليل كون حد الشرب ثمانين بأنه مظنة
القذفَّ لكونه مظنة الفتراء فوجبِّ أن يقاما مقامه قياساا على الخلوةا
فانها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه«هل ). ( 3
وقد قال علماء الصول من الشافعية بصلحية المناسبِّ الغريبِّ
للتعليل .قال المدي» :وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لنه
يفيد الظن بالتعليل«هل) . (4وقال الغزالي» :وأما المناسبِّ الغريبِّ
فهذا في محل الجتهاد ول يبعد عندي أن يغلبِّ ذلك على ظن بعض
المجتهدين ول يدل دليل قاطع على بطلن اجتهاده«هل). (5
أما الحنافَّ فقد ردوه وردوا كل مسلك المناسبة أصلا.
وهذا جنس أقوال أئمتهم» :وأما الخيال ...فأمر باطل لنه عبارةا
) ( الغزالي ،المستصفى . 2/298 .وهذا النص مفيد -إذا دقيققي فيه - 1
) ( الشوكاني ،إرشاد الفحول .ص . 218 :وهذا المثال نفسه ذكره الرازي 3
109
عن مجرد الظن لن الخيال والظن واحد ،والظن ل يغني من الحق
شيئاا ،ول يقال :الظن معتبر في الشرع في وجوب العمل به كخبر
الواحد والقياس ،لنا نقول :المعتبر هو الذي قاما دليل قطعي على
اعتباره في وجوب العمل ل مطلق الظن ،ولم يقم ههنا دليل على
اعتباره شرعاا فوجبِّ إهداره«هل). (1
-2الملغى:
وهو وصف لم يشهد له حكم بالعتبار ،وظهر العتبار لعكسه.
قال السنوي» :الوصف المناسبِّ على ثلثة أقساما :أحدها أن يلغيه
الشارع أي يورد الفروع على عكسه فل إشكال في أنه ل يجوز
التعليل به«هل) . (2ثم قال» :وذلك كإيجاب صوما شهرين في كفارةا
الجماع في نهار رمضان على الملك وإن كان أبلغ في ردعه من
العتق لكن الشارع ألغاه بإيجابه العتاق ابتداءا فل يجوز
اعتباره«هل). (3
وقال المدي» :المناسبِّ الذي لم يشهد له أصل بالعتبار
بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في
صورةا ،فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به«هل) . (4ثم أورد
المثال نفسه المذكور أعله عن السنوي.
وقال الشاطبي» :ما شهد الشرع برديقه فل سبيل إلى قبوله إذ
المناسبة ل تقتضي الحكم لذاتها وإنما ذلك مذهبِّ أهل التحسين
العقلي«هل) . (5ثم أورد المثال نفسه المذكورأعله منسوباا إلى
) ( علء الدين البخاري ،كشف السرار. 3/518 ، 1
) ( الموضع نفسه ،وإيجاب العتاق مأخوذ من قوله للرجل الذي قال له: 3
واقعت أهلي في رمضان ،قال له » :أعتق رقبة ،قال :ل أجأــدها .قــال:
ص م ش هرين مإتت ابعين .ق ال :ل أطي ق .ق ال :أطع م س تين
مإســكينا ا« البخاري ) ، ( 2410 ) ، ( 1801مسلم ) ، ( 1871 ) ، ( 1870
الترمذي ) ( 656وقال :حسن صحيح ،وأحمد ) . ( 10270
) ( المدي ،الحكاما . 3/249 4
110
الغزالي ،وقال» :فهذا مناسبِّ لن الكفارةا مقصود الشرع منها
الزجر والملك ل يزجره العتاق ويزجره الصياما وهذه الفتيا
باطلة«هل ). (1
-3المرسـل):(2
هو وصف مناسبِّ ل يعلم اعتباره ول إلغاؤه .وقد أطلق عليه
اسم المصلحة المرسلة ،والستدلل المرسل والستصلح .وجعله
بعض الصوليين من مباحث الستدلل .قال الزركشي» :قد مر
الكلما في القياس ،في المناسبِّ الذي اعتبره الشارع أو ألغاه.
والكلما فيما جهل ،أي سكت الشارع عن اعتباره واهداره ،وهو
المعبر عنه بالمصالح المرسلة ويلقبِّ بالستدلل المرسل .ولهذا
سميت مرسلة ،أي لم تعتبر ولم تلغ ،وأطلق إماما الحرمين وابن
السمعاني عليه اسم الستدلل ،وعب يي ر عنه الخوارزمي في الكافي
بالستصلح .قال والمراد بالمصلحة :المحافظة على مقصود
الشرع بدفع المفاسد عن الخلق .وفسره الماما والغزالي بأن يوجد
معنى يشعر بالحكم مناسبِّ له عقلا ،ول يوجد أصل متفق عليه
والتعليل المصور جار فيه .وفسره ابن برهان في الوسط بان ل
يستند إلى أصل كلي ول جزئي ،وفيه مذاهبِّ«هل) . (3وقد اختلف
المراد بالمناسبِّ المرسل عند الصوليين ،وتعارضت الراء في أخذه
ورده .والكثرون على أنه ل يصلح الستدلل به .قال الدكتور
مصطفى البغا» :تكاد كلمة الصوليين تلتقي على أن القول
بالستصلح أمر مختلف فيه وأن الراجح من الراء أنه ل يصلح
الستدلل به إذ ل دليل على اعتباره وأنه لم يذهبِّ إلى القول به إل
) ( المعنى اللغوي القرب للفظ المرسل هنا هو ما جاء في لسان العرب: 2
أرسل الشيء أطلقه وأهمله . 11/285 .ولكن المقصود هنا هو ليس المعنى
اللغوي وإنما المعنى الصطلحي في أصول الفقه.
) ( الزركشي ،البحر المحيط . 4/377 ،وانظــر :ارشــاد الفحــول ،ص: 3
111
الماما مالك رحمه ال تعالى «هل). (1
ولقد أدى نقل أقوال العلماء فيه من غير تحقيق للمعنى
للمراد عند كل منهم إلى تضارب النقول .قال الدكتور محمد
حسن هيتو» :إعلم أن مسألة الستدلل المرسل قد وقع فيها خبط
كثير فتضاربت فيها النقول وتشعبت الراء«هل) . (2واشتهرت نسبة
القول به ا إلى الماما مالك رضي ال عنه ون ي سبِّ إليه في ذلك
استرسال غير منضبط .ونسبها البعض إلى الشافعية والحنفية
وغيرهم إلى الشافعية دون الحنفية ،وذهبِّ البعض إلى وجودها في
كل المذاهبِّ ،وذهبِّ آخرون إلى التفاق على ردها وأنكر نسبتها
إلى مالك رحمه ال .وفيما يلي بعض تلك النقول:
قال الجويني» :ذهبِّ الشافعي ومعظم أصحاب أبى حنيفة إلى
اعتماد الستدلل وإن لم يستند إلى حكم متفقم عليه في أصل «هل)، (3
في حين ذهبِّ المدي إلى نقيض ذلك فقال» :المناسبِّ المرسل...
وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع
التمسك به وهو الحق «هل) . (4وقال القرافي» :والذي جهل أمره هو
المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها ،وعند التحقيق هي عامة في
المذاهبِّ «هل) . (5وقد أشكلت المنقولت عن الغزالي حيث قال» :من
استصلح فقد شرييع كما أن من استحسن فقد شرع«هل) . (6وقال:
»كل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي عيلقم كونه مقصوداا
بالكتاب والسنة والجماع فليس خارجاا عن هذه الصول لكنه ل
يسمى قياساا بل مصلحةا مرسلة ...وإذا فسرنا المصلحة
) ( مصطفى ديبِّ البغا ،أثر الدلة المختلف فيها في الفقه السلمي ،ص: 1
حامد الغزالي.
) ( الجويني ،البرهان . 2/721فقرةا. 1130 : 3
112
بالمحافظة على مقصود الشرع فل وجة للخلفَّ منها ،بل يجبِّ
القطع بكونها حجة «هل). (1
وتعارضت المنقولت فيها عن الماما مالك رضي ال عنه.
فقال الشاطبي» :فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم
المعاني المصلحية نعم مع مراعاةا مقصود الشارع أن ل يخرج عنه
ول يناقض أصلا من أصوله ،حتى لقد استشنع العلماء كثيراا من
وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة ،وفتح باب التشريع،
وهيهات ما أبعده من ذلك! رحمه ال«هل) . (2وقال عنه الجويني:
»فريئيي يثبت مصالح بعيدةا عن المصالح المألوفة والمعاني
المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداثا القتل واخذ المال
بمصالح تقتضيها في غالبِّ الظن وان لم يجد لتلك المصالح
مستنداا إلى أصول ،ثم ل وقوفَّ عنده بل الرأي رأيه ما استديي نظره
فيه وانتقض عن أوضار التهم والغراض«هل ) . (3وقال ابن قدامة
المقدسي» :كما حيكيي أن مالكاا قال :يجوز قتل الثلث من الخلق
لستصلح الثلثين«هل ) . (4وفي مقابل هذه القوال هناك من ينكر
ذلك عن الماما مالك .قال الشوكاني» :وقد أنكر جماعة من
المالكية ما نسبِّ إلى مالك من القول بها ومنهم القرطبي وقال:
ذهبِّ الشافعي ومعظم أصحاب أبى حنيفة إلى عدما العتماد عليها
وهو مذهبِّ مالك ،قال :وقد اجترأ إماما الحرمين فيما نسبِّ إلى
مالك من الفراط في هذا الصل ،وهذا ل يوجد في كتبِّ مالك ول
في شيء من كتبِّ أصحابه «هل) . (5وقال المدي» :المناسبِّ
المرسل ...وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على
امتناع التمسك به ،وهو الحق ،إل ما نقل عن مالك أنه يقول به مع
ابن قدامة المقدسي ،روضة الناظر وجنة المناظر ،ص. 150 : )( 4
113
إنكار أصحابه لذلك عنه .ولعل النقل ان صح عنه فالشبه أنه لم
يقل بذلك في كل مصلحة ،بل فيما كان من المصالح الضرورية
الكلية الحاصلة قطعاا«هل) ، (1ويقول الدكتور هيتو» :وأما نسبة
القول إلى مالك بهذا النوع من الستدلل المرسل فهي نسبة غير
متفقم عليها«هل) . (2وقد اثبت الدكتور هيتو خطأ نسبة كثير من
القوال إلى الماما مالك رحمه ال ). (3
إن هذا المقدار من التضارب يرجع إلى اختلفَّ معنى المرسل
عند المتعارضين وعند الناقلين .فقد استعمل لفظ المرسل بمعنى
ما لم ييعلم إلغاؤه أو اعتباره إطلقاا .أي لم يشهد أي حكم له.
واستعمل أيضاا بمعنى الملئم أو الغريبِّ.
أمإا المعنى الوأل :فقد اتفق الكل على رده .وهو المراد
بنفي نسبته إلى الشافعية والحنفية وبإنكاره عن مالك.
وأأمإا المعنى الثاني :فرده الجمهور ،واشترط القائلون به
أن يكون ملئماا ،ونقل التفاق على رده إن كان غريباا ،وقال البعض
بإمكانية قبوله وفيما يلي التفصيل:
أما أن كان مرسلا بإطلق فهذه بعض القوال فيه:
قال المدي» :إن المصالح تنقسم باعتبار شهادةا الشرع إلى
معتبرةا وإلى ملغاةا وإلى ما لم يشهد لها باعتبار ول إلغاء وهذا
الخير هو المعبر عنه بالمناسبِّ المرسل ...وهذا القسم مترددي بين
ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما بأولى من الخر .فامتنع
الحتجاج به دون شاهد بالعتبار يعرفَّ انه من قبيل المعتبر دون
الملغى«هل ). (4
) ( هيتو ،مقدمته على المنخول من تعليقات الصول ،الهامش .ص354 : 2
114
وقال عز الدين بن عبد السلما» :وكذلك ل حكم إل له )أي
ل( فأحكامه مستفادةا من الكتاب والسنة والجماع والقيسة
الصحيحة والستدللت المعتبرةا ،فليس لحد أن يستحسن ول أن
يستعمل مصلحة مرسلة ،ول أن يقلد أحداا لم يؤمر بتقليده«هل ). (1
وقال الغزالي» :الستصلح ليس أصلا خامساا برأسه ،بل من
استصلح فقد شرييع كما ان من استحسن فقد شرييع«هل) . (2وقال:
»هذا من الصول الموهومة إذ من ظن انه اصل خامس فقد اخطأ
لنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ،ومقاصد الشرع تعرفَّ
بالكتاب والسنة والجماع فكل مصلحة ل ترجع إلى حفظ مقصود
فهم من الكتاب والسنة والجماع وكانت من المصالح الغريبة التي
ل تلئم تصرفات الشـرع فهي باطلة مطروحة ومن صار إليها فقد
شرع كما ان من استحسن فقد شرع«هل). (3
وكذلك اشتهر عن الحنافَّ رده ورد كل مسلك المناسبة
أصل .فيردون المناسبِّ ولو كان معتبراا إذ يشترطون التأثير.
قال ابن هماما الدين السكندري الحنفي» :هذا القسم المسمى
بالمصالح المرسلة ،والمختار رده ،إذ ل دليل على العتبار ،وهو
دليل شرعي ،فوجبِّ رده«هل ). (4
وقد اشتهر عن أئمتهم قول :ل دليل فل اعتبار .وقال
النصاري» :المصالح المرسلة حجة عند مالك رحمة ال تعالى،
والمختار عند الجمهور من أهل الصول والفقهاء رده .لنا :ل دليل
بدون العتبار من الشارع وان كان على سنن العقل وهذا ل يتأتى
ممن يقول بالخالة«هل ). (5
) ( عز الدين بن عبد السلما ،قواعد الحكاما في مصالح الناما ،ص،304 : 1
مؤسسة الريان ـ بيروت 1410 ،هـ ـ 1990ما ،طبعة جديدةا منقحة .
) ( الغزالي ،المستصفى. 1/315 ، 2
) ( ابن هماما السكندري ،مطبوع مع شرحه تيسير التحرير لمير بادشاه، 4
115
وقال ابن قدامة المقدسي» :يسمى ذلك مصلحة مرسلة ول
نسميه قياساا لن القياس يرجع إلى اصل معين والصحيح ان ذلك
ليس بحجة لنه ما عرفَّ من الشارع المحافظة على الدماء بكل
طريق ،ولذلك لم يشرع المثلة وان كانت ابلغ الردع والزجر ،ولم
يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر ،فإذا أثبت حكماا لمصلحة من
هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات
)(1
ذلك الحكم كان وضعاا للشرع بالرأي وحكماا بالعقل المجرد«هل .
وقال مجد الدين بن تيمية» :المصالح المرسلة ل يجوز بناء
الحكاما عليها .قاله الباقلني وجماعة المتكلمين«هل). (2
وقال ابن الحاجبِّ المالكي» :المصالح المرسلة مصالح ل
يشهد لها اصل بالعتبار في الشرع وإن كانت على سنن المصالح
وتلقتها العقول بالقبول«هل) . (3ثم قال» :لنا ان ل دليل فوجبِّ الرد
كما في الستحسان«هل). (4
وكذلك ردها الفخر الرازي إن كانت بهذا المعنى ،وقال إنها
مردودةا بالجماع مع انه من الخذين بالمصالح المرسلة ،مما يدل
على انه ل يعني بالمرسل ما كان مرسلا بإطلق .قال» :مناسبِّ ل
يلئم ول يشهد له اصل معين فهذا مردود بالجماع ومثاله حرمان
القاتل من الميراثا معارضة له بنقيض قصده لو قدييرنا انه لم يرد
فيه نص«هل). (5
ونجد المر نفسه عند الشاطبي إذا كان بمعنى المرسل
بإطلق ،فهو يبين أن ما كان كذلك فهو باطل وتشريع بالعقل
وينقل أن هذا المرسل مردود بالتفاق .يقول» :المناسبة ل تقتضي
) ( ابن قدامة المقدسي ،روضة الناظر وجنة المناظر .ص. 150 : 1
) ( آل تيمية ،المسوييدةا ،ص . 450 :تحقيق :محمد محيي الدين عبد 2
116
الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهبِّ أهل التحسين العقلي ،بل إذا ظهر
المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الحكاما فحينئذ نقبله
فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من
المصالح ودرء المفاسد على وجه ل يستقل العقل بدركه ،فإن لم
يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى ،بل برده كان مردوداا باتفاق
المسلمين«هل). (1
وقال» :كتعليل منع القتل للميراثا .فالمعاملة بنقيض
المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة ل عهد بها
في تصرفات الشرع بالفرض ول بملئمها بحيث يوجد لها جنس
معتبر ،فل يصح التعليل بها ول بناء الحكم عليها باتفاق ،ومثل هذا
تشريع من القائل به فل يمكن قبوله«هل). (2
بناء على هذه النصوص وخاصة من الخذين بالمصالح المرسلة
يتبين أن الستدلل بالمرسل ل يعني الستدلل بالمصلحة فهذا يعني
جعل العقل مشرعاا ،وهذا مردود اتفاقاا .فلم يبق ان يكون معنى
المرسل عند الخذين به إل بمعنى الملئم أو الغريبِّ .
ويؤكد هذا المر ما نجده عند بعض أئمة الصول من تقسيم
المرسل نفسه إلى ملغى وغريبِّ وملئم ،وهذا يعني ان المرسل
الممكن قبوله أو وقوع الخلفَّ فيه هو ما كان غريباا أو ملئماا.
قال النصاري» :المرسل وينقسم إلى ما علم إلغاؤه بنص أو
إجماع ...وإلى ما لم يعلم ،فإن لم يعلم فيه أحد اعتبارات الملئم
من اعتبار نوعه أو جنسه في جنس الحكم أو جـنـسـه في عين
الحكم ،لكن لم يعلم إلغاؤه أيضا فهو الغريبِّ من المرسل ،وهو
المسمى المصالح المرسلة ،وإن علم فيه أحد اعتبارات الملئم فهو
المرسل الملئم«هل ). (3
وقال الغزالي» :وإنما اختلفَّ القائسين في المناسبِّ الغريبِّ:
117
الذي ل يلئم ،والمناسبِّ الملئم :الذي لم يشهد له أصل معين وهو
الذي يلقبِّ -في لسان الفقهاء -بالستدلل المرسل ،يعنى به
العتماد على المعنى المناسبِّ المصلحي الذي يظهر في الفرع بغير
استشهاد بأصل معين«هل) . (1وقال» :فأما المناسبِّ الغريبِّ -الذي ل
يلئم ول يشهد له أصل معين -فهذا مردود :ل يعرفَّ فيه
خلفَّ«هل ). (2
وقال الشوكاني» :قال ابن الحاجبِّ في مختصر المنتهى:
وغير المعتبر هو المرسل فإن كان غريباا أو ثبت إلغاؤه فمردود
اتف اقاا .وإن كان ملئماا فقد صرح الماما الغزالي بقبوله وذكر
عن مالك والشافعي ،والمختار رده ،وشرط الغزالي فيه أن تكون
المصلحة ضرورية قطعياا كلية«هل) . (3وقال أيضاا» :الغريبِّ غير
الملئم وهو مردود بالتفاق«هل) . (4ونيقنلي التفاق على رد الغريبِّ
يتعارض مع المنقول سابقاا عن الغزالي والمدي حيث قال الغزالي:
»المناسبِّ الغريبِّ فهذا في محل الجتهاد«هل) . (5وقال المدي» :وقد
أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لنه يفيد الظن بالتعليل«هل). (6
وتعارض القوال في الغريبِّ يرجع إلى اختلفَّ معناه .بل إن
الغزالي نفسه الذي قال بإمكانية قبوله هو الذي نقل رده بل خلفَّ.
ولكنه بين مقصوده في كل مرةا ،فقد رده إذا كان بمعنى المرسل،
وقال بإمكانية قبوله إذا كان بمعنى أنه شهد له حكم.
قال الرازي» :مناسبِّ ملئم ل يشهد له أصل معين بالعتبار،
يعني أنه اعتبر جنسه في جنسه ،لكنه لم يوجد له أصل يدل على
) ( وقد تبييين هذا سابقاا تحت عنوان :الغريبِّ ص 87 – 85 :من هذا 5
الكتاب.
) ( الموضع نفسه من هذا الكتاب. 6
118
اعتبار عينه في عينه ،وهذا هو المصالح المرسلة«هل ) . (1ثم قال:
»مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الحكاما بالحكم التي ل تشهد
لها أصول معينة مثل أن علياا رضي ال عنه أقاما الشرب مقاما القذفَّ
إقامة لمظنة الشيء مقامه قياساا على إقامة الخلوةا بالمرأةا مقاما
وطئها في الحرمة) . (2وهذا المثال عينه ذكره الشوكاني كمثال
على المناسبِّ الغريبِّ). (3
إذن ،المرسل عند الذين يأخذون به هو الغريبِّ أو الملئم ،فهو
لم يشهد له أصل معين ،وليس لم يشهد له أصل أبداا .أما ما كان
مرسلا بإطلق فمردود بل خلفَّ .
والمناسبِّ الغريبِّ مردود عند الشاطبي .فهو ل يكتفي بشهادةا
أصل واحد أو بضعة أصول ليقول باعتبار الجنس ،وإنما يشترط أن
تشهد له أصول كثيرةاي كثرةاا تصل حد القطع بنظره ،يقول» :أن
يلئم تصرفات الشرع ،وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره
الشارع بالجملة بغير دليل معين وهو الستدلل المرسل المسمى
بالمصالح المرسلة«هل ) . (4ويقول» :كل أصل شرعي لم يشهد له
نص معين وكان ملئما ا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه من
أدلته فهو صحيح ييبنى عليه وييرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد
صار بمجموع أدلته مقطوعاا به ...ويدخل تحت هذا الستدلل
المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي«هل). (5
أما ما نيقل سابقاا عن القرافي» :عند التحقيق هي عامة في
) ( أنظر ص 86 :من هذا الكتاب .وهذا المثال أيضاا يتعارض مع ما نقل 3
من التفاق على رد المناسبِّ الغريبِّ .وتف ســيره بـأن الــرازي ل ي عــد هـذا
المثال من قبيل الغريبِّ وإنما هو عنده من الملئم .وله فــي ذ لــك ح جــة
ليست محل بحثنا.
) ( الشاطبي ،العتصاما. 2/375 . 4
119
المذاهبِّ«هل .فإن كان مراده بالمصلحة المرسلة أو المناسبِّ
المرسل المعنى الذي نبحثه فالقوال المذكورةا أعله تنقض قوله
بكشل قاطع.
وتنبغي الشارةا هنا -وإن كان هذا ليس من موضوعنا -إلى
أن المصلحة المرسلة التي هي عامة في المذاهبِّ ومقبولة بالتفاق
هي ليست التي لم يشهد لها حكم بعينها ،وإنما هي التي لم يشهد لها
نص بعينها ،وشهد لها الدليل العاما أو الكلي باندراجها تحت أفراده
أو أجزائه من غير نص عليها .وهي بهذا المعنى يندرج تحتها مثلا
جمع القرآن الذي فعله أبو بكر الصديق رضي ال عنه ونسخه الذي
فعله عثمان بن عفان رضي ال عنه ،وتدوين الدواوين الذي فعله
عمر بن الخطاب رضي ال عنه) . (1فهذه المور وأمثالها تندرج
تحت أدلة كلية أو عامة مثل :ما ل يتم الواجبِّ إل به فهو واجبِّ،
ومثل :ل ضرر ول ضرار ،ومثل :الصل في الشياء الباحة ما لم
يرد دليل التحريم وغيرها .فهذه العمال كلها مرسلة من الدليل
الخاص أو الجزئي الذي ينص على الواقعة بعينها ،ولكنها مشمولة
بالدليل العاما أو الكلي .وهذا المعنى هو مراد الشاطبي كما بييينه
في العتصاما وفي الموافقات). (2
شـروأط الوصـف المناسـب:
لقد وضع القائلون بمسلك المناسبة شرطين للتعليل
بالوصف المناسبِّ:
الوأل :أن يكون الوصف معتبراا .أي أن الحكم الذي يجري
تعليله يجبِّ أن يكون ذلك الوصف موجوداا فيه .أي جرى الحكم
على وفقه.
الثاني :أن يكون سالماا عن المعارضة والبطلن .أي أن ل
وسنفرد لحقاا -إن شــاء الـ -بحثـا ا لمـراد ال شــاطبي بالم صــالح )( 2
المرسلة.
120
يكون الوصف ملغىا .والبطلن هو النص على إلغاء الوصف كما
في فتوى صياما شهرين متتابعين للسلطان الذي واقع في شهر
رمضان .أما المعارضة فهي أن يكون هناك حكم أو أحكاما أخرى جرت
وفق نقيض الوصف أو خلفه .وذلك مثل رخصة الفطار والجمع
بين المكتوبتين في السفر للملك المترفيقه .فقد عارضت هذه
الحكاما وصف المشقة.
ولذلك اشترط المعللون بالمناسبِّ عرض الوصف على
الصول ،أي على الحكاما ليتبييين عدما معارضته .قال البزدوي:
»العدالة عندنا هي الثر ...وقال بعض أصحاب الشافعي :عدالته
بكونه مخيلا ثم العرض على الصول احتياطاا سلمته عن
المناقضة والمعارضة .وقال بعض أصحابه بل عدالته بالعرض على
الصول فإذا لم يرده أصل مناقضاا ول معارضاا صار معدلا .وإنما
يعرض على أصلين فصاعداا .فعلى الول يصح العمل به قبل العرض
وعلى الثاني ل يصح لنه به يصير حجة .وعلى القول الول صار
حجةا بكونه مخيلا«هل) . (1ثم قال» :وأما العرض على الصول فل
يحصل به التعديل«هل) (2أي عنده.
وقال الشارح في كشف السرار » :إن مناقضة الوصف :إبطال
نفسه بأثر أو نص أو إجماع يرد على خلفه أو إيراد صورةا تخليقف
الحكم فيها عن الوصف .ومعارضة الوصف :إيراد وصف آخر
يوجبِّ خلفَّ ما أوجبه ذلك له من غير تعرض لنفس الوصف .ثم
معنى عرض الوصف على الصول أن يقابل بقوانين الشرع فإن
طابقها وسلم عن المبطلت والعوارض فقد شهدت الصول لصحته
وصار حجة«هل). (3
121
الفصـل الثاني
نشـأة فكـرة مإقاصـد
الشـريعة
122
الفصـل الثاني
نشـأة فكـرة مإقاصـد الشـريعة
عـرض مإوجأـز لنشـأة الفكـرة:
وسأقدما فيما يلي عرضاا موجزاا لنشأةا الفكرةا ،يعقبه البيان
بالتفصيل والتوثيق من أقوال الئمة ومحاججاتهم ،مبتدئاا من حيث
انتهيت ف ـ ي الفصل السابق ،أي من الخلفَّ ف ـ ي المناسبة ،هل هي
مسلك للتعليل أو ل.
وقد تبين -فيما سـبق -معنى المناسـبة وأن من الئمة من
اتخذها مسلكاا من مسالك العلة -قائماا بذاته -وجعل لها شروطاا،
وبذلك كانت المناسبة أقساماا ،ومنهم من رديي كونها مسلكا
ا،وجعلها شرطاا لصلحية التعليل بالوصف بأي مسـلك أتى.
ومنهم من جعلها شرطاا في بعض المسالك دون غيرها.
فعلماء الشافعية يقولون إن الوصف المناسبِّ في الحكم هو مما
يتعلق الظن بكونه علة ،والظن معمول به في الشرعيات ،وعليه
فيجبِّ العمل بمسلك المناسبة ،وأئمة الحنافَّ يردون هذا بأن ليس
كل ظن شرعياا ،ويشترطون لقبول التعليل ان يكون الوصف
مؤثراا.
فلو أخذنا أحكاماا مثل تحريم الربا أو وجوب الزكاةا في
أموال دون غيرها ،أو تحريم لبس الذهبِّ والحرير على الرجال دون
النساء ،أو تحريم استعمال آنية الذهبِّ والفضة في الطعاما .فإن
العقل يبحث عن الوصافَّ المناسبة في هذه الحكاما أو عن الحقكيم
فيها .فالقائلون بمسلك المناسبة يذهبون إلى التعليل بهذه الحكم.
والرادون له يعدييون هذا التعليل تحكييماا بغير دليل ،ومن قبيل
الرأي .ويشترطون لقبول هذا التعليل أن يكون الوصف مؤثراا ،أي
أن يثبت أثره بدليل.
وقد ذهبِّ الخذون بهذا المسلك إلى التعمق في أبحاثهم،
123
والتطويل فيها دفاعاا عنه وعن غيره أيضا ،كمسلك الشبه.
واحتدما الجدل ،وكان أكثر احتداماا في موضوع المناسبِّ المرسل
أو الستدلل.
بنتيجة هذا الجدال خرج الجويني بفكرةا مقاصد الشريعة التي
تشكل ضوابط الوصف المناسبِّ ،فالقول بمقصد أو مقاصد للشريعة
والحاق الوصف أو المعنى المناسبِّ بهذا المقصد يقويقي التعليل
بالوصف ،إذ يحصل بذلك جريان الوصف المناسبِّ بحسبِّ مقاصد
الشريعة ،أو كما عبيير عنها -فيما بعد -تلميذه الغزالي ان تكون
المصلحة على منهاج المصالح المعتبرةا وهي الكليات الخمس.
إل أن هذه الفكرةا لم تؤثر -سلباا ول إيجاباا -على أصول من
يرديي هذا المسلك ويهيمي السادةا الحنافَّ ،ولذلك نجدهم
يذكرونها بقولهم :وقالوا.
وقد استدعت فكرةا مقاصد الشريعة والتعليل بالمناسبِّ بحثاا
آخر .وهو أن الصل في الحكاما الشرعية التعليل .ولذلك فما ل
تثبت علته بالمسالك المتفق عليها عند أكثر القائسين كالنص
والجماع واليماء والتنبيه ،فل بد من إثبات علةم له إن أمكن ،فإذا
احتمل الحكم التعليل وجبِّ تعليله.
وقد أسهبِّ في بيان هذا الصل ،والخلفَّ فيه ،وفي بيان أدلة
كل فريق ،المدي في الحكاما ،والرازي في المحصول ،حيث أثبت
المدي أصل التعليل ،وقطع الرازي ببطلنه مع أنه يقول بالقياس
وبالعلة ويقول بمسلك المناسبة .وتحقيق المر -كما سيتبين -
هو أن المقطوع ببطلنه عند الرازي هو التعليل فيما يتعلق بذات
ال وقد أشرت إلى معنى العلة عنده في الفصل السابق). (1
ثم جاء الشاطبي بموافقاته ،فأشار في كتاب المقاصد -من
كتابه الموافقات -إلى موقف الرازي ورده ،وأثبت التعليل لفعال
ال وأحكامه -سبحانه وتعالى -وأنيي ذلك على سبيل القطع ،فقال:
124
»أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءا ل
ينازع فيه الرازي ول غيره ...وإذا دل الستقراء على هذا وكان في
مثل هذه القضية مفيداا للعلم فنحن نقطع بأن المر مستمر في
جميع تفاصيل الشريعة«هل). ( 1
وهذا المقدار من الخلفَّ ،كالذي بين الرازي والشاطبي ،حيث
يقطع الول ببطلن أصل التعليل ،ويقطع الثاني بصحته وبوجوده
في جميع تفاصيل الشريعة ويقطع بخطأ الرازي بقوله» :استقراءا
ل ينازع فيه الرازي ول غيره«هل يؤكد على أهمية أصل التعليل
وأهميته لمسلك المناسبة وللستدلل المرسل .لذلك يلزما
التعرض لهذا الصل بما يكفي من التفصيل.
وتنبغي الشارةا إلى أن ثمة فرقاا كبيراا بين منهجي المدي
والشاطبي في التعليل .وبين مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد
ومفهوما من سبقه ممن قال بالتعليل بالمصالح والمفاسد .وفيما
يلي بيان وتوثيق ما قديمناه.
125
المبحث الوأل
المحاجأجات التي أدت إلى فكـرة
المقاصـد
تطور الجدل مإن مإسـلك المناسـبة إلى
السـتدلل:
عرضنا فيما سبق للمناسبة كمسلك من مسالك العلة.
ولقساما الوصف المناسبِّ وشروطه وللخلفَّ في ذلك .والوصف
المناسبِّ عند القائلين به يجبِّ أن يكون معتبراا شرعاا واعتباره هو
بمجيء حكم على وفقه .وبذلك يكون الحكم الذي شهد للوصف
بمثابة أصل والوصف هو العلة ويكون التعليل بالمناسبِّ من قبيل
القياس .
ولما كان هذا الوصف المناسبِّ وصفاا متخيلا ول دليل من
الشرع على كونه علة ،رديي الذين ل يأخذون بمسلك المناسبة
التعليلي بالمناسبِّ جملة ،ورد المعللون بالمناسبِّ أو أكثرهم
التعليل بالمرسل وبالغريبِّ ،وقالوا بالملئم :وهو الذي شهدت له
أحكاما كثيرةا ،وعلى القل حكمان .ومن وجود شواهد للوصف
وكثرتها قالوا إن قوةا الوصف المناسبِّ آتية من جهة أن أحكاما
الشريعة جرت على وفقه ،أو شهدت له ،أو أن هذا الوصف أو المعنى
يجري على منهاج المصالح الشرعية .وبهذا نشأت مسألة جديدةا،
وهي أن اعتبار هذا الوصف في التعليل ل يرجع إلى أصل معين،
وبالتالي فهو ليس من القياس لن وجود الصل ركن في القياس،
والصل مفقود ههنا ،ومن هنا تأتي تعابير المصلحة المرسلة
والستدلل المرسل ،وهو المعنى الذي لم يشهد له أصل معين ولكن
معناه جارم في أصول الشريعة). (1
) ( من ذلك مثلا قول الشاطبي » :كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين 1
وكان ملئماا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه من أدلته فهو صحيح يبنـى
126
ومما يشير إلى هذا المر ما ذكره الجويني في أنواع القياس
حيث قال» :النظر الشرعي ،ومجامعه ): (1
1ـ إلحاق الشيء المسكوت عنه بالمنصوص عليه والمختلف
بالمتفق لكونه في معناه ). ( 2
2ـ أو تعليق حكم بمعنى مخيل به ،مناسبِّ له في وضع الشرع مع
رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر.
3ـ وربط حكم كما ذكرناه) ، (3من غير أن يجد الناظر أصلا
متفق الحكم يشهد عليه وهذا هو المسمى :الستدلل.
4ـ وتشبيه الشيء لشباه خاصة تشتمل عليها من غير التزاما
كونها مخيلة مناسبة ،وهو المسمى قياس الشبه ) ، (4فهذه
وجوه النظر في الشرع«هل ). (5
عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد صار بمج مــوع أدل تــه مقطو عــاا
به« ثم قوله » :ويدخل تحت هذا ضرب ال ســتدلل المر ســل الــذي اعت مــ ده
مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين ف قــد شـهد لـه أصـل
كلي« الموافقات . 1/16أما قوله بأن الشاهد هو أصل كلــي مقطــوع بــه
فهو إشارةا بأنه ل يكتفي بمجــرد كــثرةا الشــواهد وإنمــا يشــترط الكــثرةا
المفيدةا للقطع .
) ( الرقاما ، 4 ، 3 ، 2 ، 1 :من الباحث ،ويشير ذلك إلى أن القياس بهذا 1
أصل ،وإنما يأخذ ال م سكوت عنه حكم المنطوق بدللة اللفظ وليس قياساا.
وذلك من قبيل المفهوما :وهو ما فهـم من اللفظ في غير محل النطق .
أنظر :المدي ،الحكاما . 3/63وذلك كقوله تعالى] [ :
]السراء [ 23فيحرما الضرب لنه أولى بالتحريم من التأفيف لهما ،فهذا من
المفهوما لنه فهم من الخطاب وهو ليس من منطوق الخطاب .وهذا ليس
قياساا للضرب على التأفيف وإنما هو أولى بالحكم من التأفيف ،وهو من
دللت اللغة .أنظر :المدي ،الحكاما . 3/64
) ( كما ذكرناه :أي كما ذكرناه في البند السابق ،أي :بمعنى مخيل به 3
127
والشاهد هنا القسمان الثاني والثالث ،حيث يشير الثاني إلى
مسلك المناسبة ،فقال فيه» :مع رديقه إلى أصل ثبت الحكم فيه
على وفق نظر«هل ،أما الثالث فقال فيه» :من غير أن يجد الناظر
أصلا متفق الحكم يشهد عليه«هل وأطلق عليه اسم الستدلل.
والستدلل وإن كان ليس قياساا إذ ل تتوفر له كل أركانه إل أن
ثمة قرباا بينهما من حيث أن الستدلل هو ربط حكم بمعنى حسبِّ
قول الجويني أعله ،لذلك ألحقه بأقساما القياس ،وذلك مثلما عد
القسم الول من أقساما القياس لكونه إلحاق المسكوت عنه
بالمنصوص عليه.
)(1
مإعنى السـتدلل:
وكما تبين فليس المراد بالستدلل هنا مدلوله اللغوي ،وإنما
هو مصطلح يقابل الستنباط نشأ موضوعه وأثر في علم أصول
الفقه وأدرج في أبحاثه بتأثير المنطق وعلم الكلما ،والمستدقل -
بهذا المعنى -ل يستنبط الحكم اعتماداا على دللة النصوص ،وإنما
يتخيل معانيي معينة يراها مناسبة ويقترحها معتمداا على إمكانية
قبول الشرع لها بنظره وعلى عدما وجود دليل ينفيها ،ولذلك نجد
الجويني فرق بين القسمين الثاني والثالث المذكورين آنفاا فقال
في الول منهما» :مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر«هل
وقال في الثاني» :من غير أن يجد الناظر أصلا متفق الحكم يشهد
عليه وهذا هو المسمى :الستدلل«هل.
وقال الشوكاني في التعريف بالستدلل» :وهو في
اصطلحهم ما ليس بنص ول إجماع ول قياس«هل ) ، (2ثم قال:
»واختلفوا في أنواعه فقيل هي ثلثة :التلزما بين الحكمين من
) ( جاء في لسان العرب لبن منظور » :والدليل :ما يستدل به .والدليل: 1
الدال -وقد دلييه على الطريق يدله ديللةا ودقللةا وديلولةا ،والفتح
أعلى« . 11/248
) ( الشوكاني ،إرشاد الفحول ،ص. 236 : 2
128
غير تعيين علة وإل كان قياساا .الثاني :استصحاب الحال .الثالث:
شرع من قبلنا .قالت الحنفية .ومن أنواعه نوع رابع هو
الستحسان .وقالت المالكية :ومن أنواعه نوع خامس وهو المصالح
المرسلة«هل ) . (1وقال» :المصالح المرسلة ...ذكرها جماعة من أهل
الصول في مباحث الستدلل ،ولهذا سماها بعضهم بالستدلل
المرسل وأطلق إماما الحرمين وابن السمعاني عليها اسم
الستدلل«هل) . (2وقال المدي» :أما معناه في اللغة فهو استفعال من
طلبِّ الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب ،وأما في اصطلح
الفقهاء فإنه يطلق تارةا بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل نصاا
أو إجماعاا أو قياساا أو غيره ،ويطلق تارةا على نوع خاص من أنواع
الدلة ...وهو عبارةا عن دليل ل يكون نصاا ول إجماعاا ول
قياساا ...وهو على أنواع«هل) . (3ثم ذكر فيه أنواعاا كلها من قبيل
المنطق وكيفية ترتيبِّ المقدمات والخروج بالنتائج). (4
وعلى ذلك فالستدلل نوع من الدلة وهو ليس نصاا ول
إجماعاا ول قياساا .والمقصود به هنا هو المصالح المرسلة وهو
يشبه القياس ومسلك المناسبة من جهة أنه ربط حكم بمعنى
مناسبِّ ،وهو ليس قياساا ويفارق المناسبة من جهة عدما وجود أصل
يشهد للمعنى ،ولكن المعنى موجود في فروع شرعية كثيرةا.
ولقد تبين فيما سبق أن المناسبِّ المرسل في مسلك المناسبة
ليس مرسلا بإطلق وإنما هو يرجع إلى المعتبر ،فلماذا التفريق
بينهما وعدما عد الستدلل من قبيل القياس؟ بتعبير آخر ،كيف
يقال عن المعنى المناسبِّ المعتبر في الستدلل والذي يربط الحكم
به ،إنه ل يشهد له أصل ،بينما يقال إنه أي المعنى جارم في أحكاما
129
كثيرةا ،أل يمكن أن يعد واحدي من هذه الحكاما أصلا ،ويعد الوصف
أو المعنى المناسبِّ فيه علة ،ويكون ال أ مر من قبيل القياس؟
والجواب :نعم إن الستدلل يقوما على التعليل بوصف مناسبِّ،
ولكنه يختلف عن مسلك المناسبة في أن هذا المعنى ليس مأخوذاا
من حكم محدد بعينه .فلو ارجعناه إلى حكم معين لكان قياساا.
ولكن عند ادعائه وصفاا مناسباا في حكم معين ل يثبت ،فقد يكون
هناك في الحكم أوصافَّ أكثر مناسبة منه ،فل يصح تعليل الحكم
بهذا المعنى وترك ما هو أكثر منه مناسبةا ،وهكذا في سائر
الحكاما .ولهذا قيل :لم يشهد له أصل بعينه .بينما المعنى المعتبر
في الستدلل ،وإن كان وجوده أو قوةا مناسبته أضعف من غيره في
كل حكم على حد ةا ،فإن كثر ةا وجوده في الحكاما تؤدي الى قوةا في
اعتباره ،وقد تجعله أصلا أو قاعدةا في التشريع ،وليس مجرد علة
في الحكم .فعند النظر في أحكاما عديدةا ،يلحظ أنه غير موجود
بعينه في واحدم معينم منها ،ولكن يشعر الناظر بكونه أصلا أو
متحققاا في هذه المعاني بتضافرها .لهذا لم يرجع الستدلل إلى
القياس أو إلى مسلك المناسبة ،وإن كان يقوما على التعليل لنه
فقد أحد أركان القياس وهو الصل.
وقد يرجع المعنى المناسبِّ في الستدلل إلى حكم معين في
أصل ،فيكون قياساا ،ولكن وجود أحكاما أخرى تخدما ذلك المعنى،
يجعله أصلا في التشريع ،وهذا -بنظر الخذين به -أقوى من
القياس .ولهذا قال الشاطبي» :إن كل أصل شرعي لم يشهد له نص
معين وكان ملئماا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه من أدلته فهو
صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد صار
بمجموع أدلته مقطوعاا به .لن الدلة ل يلزما أن تدل على القطع
بالحكم بانفرادها دون انضماما غيرها إليها كما تقدما .لن ذلك
كالمتعذر .ويدخل تحت هذا الستدلل المرسل الذي اعتمده مالك
والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل
كلي والصل الكلي إذا كان قطعياا قد يساوي الصل المعين وقد
130
يرب ى عليه بحسبِّ قوةا الصل المعين وضعفه«هل ) . (1وقال الجويني:
» أ تخذ تلك العلل معتصمي و أ جعل الستدللت قريبةا منها ،وإن لم
تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول .والستدلل معتبر بها.
واعتبار المعنى بالمعنى تقريباا أولى من اعتبار صورةام بصورةام
بمعنى جامع«هل). (2
ولذلك قال الخذون به ردا ا على الذين ردوه وقالوا إنه يؤدي
إلى الحتكاما إلى العقل وإلى حكمة الحكماء ،قالوا :إنه وإن لم
يشهد له أصل ،فإنه يؤدي إلى الحتكاما إلى العقل وإلى حكمة
الحكماء إذا استرسلنا فيه استرسالا غير منضبط .فإذا كان
منضبطاا بضوابط شرعية فهو شرعي .فهذه المعاني المصلحية وإن
لم تشهد لها المعاني المعتبرةا فهي قريبة منها أو شبيهة بها .وإن
لم تشهد لها أصول معينة فإنها تستند إلى أحكاما ثابتة الصول ،وإن
لم تكن تلك المعاني ثابتة فأصولها ثابتة.
قال الجويني» :ذهبِّ الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة
رضي ال عنهما إلى اعتماد الستدلل وإن لم يستند إلى حكم متفق
عليه في اصل ولكنه ل يستجيز النأي والبعد والفراط وإنما يسويغِّ
تعليق الحكاما بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرةا وفاقاا
وبالمصالح المستندةا إلى أحكاما ثابتة الصول قارةا في
الشريعة «هل). (3
وقال الغزالي» :كل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي
عيلم كونه مقصوداا بالكتاب والسنة والجماع فليس خارجاا عن
هذه الصول لكنه ل يسمى قياساا بل مصلحة مرسلة .إذ القياس
أصل معين وكون هذه المعاني مقصودةا عرفت ل بدليل واحد بل
بأدلة كثيرةا ل حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الحوال
131
وتفاريق المارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة ،وإذا فسرنا
المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فل وجه للخلفَّ فيها ،بل
يجبِّ القطع بكونها حجة «هل). (1
وكمثـال على ذلـك فإن معنـى حـفـظ المـال وإن لم
يـشــهـد لعينه حكم معين -عند بعض الناظرين -فهناك أحكاما
كثيرةا ترجع معانيها إلى عموما هذا المعنى .فالنهي عن السرقة،
والقطع فيها ،والنهي عن النهبِّ والختلس والغش ،وعن الخيانة في
عمل الشركاء ،وعن السرافَّ والتبذير والحجر على السفيه،
والنهي عن الغلول وعن أكل المال بالباطل ،والحث على أداء
المانات وعلى تعريف اللقطة وغير ذلك ،كله يمكن أن يدل على
هذا المعنى العاما وعلى كونه معتبراا في هذه الحكاما .وهذا أقوى
من الستناد على حكم تحريم السرقة -مثلا -للقول بحفظ المال
علة من قبيل الخالة والمناسبة في مسلك المناسبة .ولذلك
جعلوا حفظ المال أصلا يلحظ ويسـتند إليه في التشريع .وفيما
يلي بيان حجج كل من الفريقين على القول بالمناسبِّ وبالستدلل،
وعلى ردهما.
أدلة القائالين بالمناسـبة وأبالسـتدلل:
إن احتداما الجدال بين الخذين والرادين لمسلك المناسبة
وللستدلل قد أدى إلى بروز فكرةا مقاصد الشريعة وإلى بلورتها.
وألخص فيما يلي أدلة القائلين بهما ثم أوثقها من نصوص الئمة
وأبين بعد ذلك ردود الرادين ليتبين كيف خرجت فكرةا المقاصد.
وفيما يلي أدلتهم بإجمال:
1ـ قالوا بعدما كفاية النصوص ومعانيها للمسائل والوقائع.
وأنه ل تخلو واقعة عن حكمم ل تعالى معزويم إلى شريعة محمد .
ولذلك يجبِّ تعليل الحكاما ،ولذلك فالصل في الحكاما التعليل،
132
وهذا يلزما بالتعليل بالمناسبِّ ،ويلزما بالسترسال المنضبط في
تتبع المعاني .فما ل تثبت علته بمسالك النص والجماع والتنبيه
واليماء ،فإذا لح فيه المعنى المناسبِّ وجبِّ التعليل به ما لم ييلغي
أو ييعيارض.
2ـ قالوا بأن الصحابة رضي ال عنهم كانوا يسترسلون في
فهم المعاني المصلحية ،وتبعهم في ذلك مين بعدهم ،من غير وضع
ضوابط لما ييتييبيع ولما ل ييتييبيع من المعاني .فدل هذا على حجية
هذا السترسال ،شريطة أن تكون هذه المعاني والمصالح متلقاةاا من
موارد الشريعة .فالدللة قائمة في فعل الصحابة.
3ـ وقالوا بأن الوصافَّ والمعاني المناسبة ،وما في معناها،
أو القريبة منها ،هي مما يتعلق الظن بعليتها .والحكاما الشرعية
إنما تؤخذ بالظن ،فيكون التعليل بالمناسبِّ شرعياا ،وكذلك
الستدلل .وفيما يلي النصوص الدالة على ذلك:
قال الجويني» :وأما الشافعي فقال :إنا نعلم قطعاا أنه ل
تخلو واقعة عن حكم ال تعالى«هل) . (1وقال» :إن الئمة السابقين لم
ييخنلوا واقعةا على كثرةا المسائل وازدحاما القضية والفتاوى عن
حكم ال تعالى ...وعلى هذا علمنا بأنهم -رضي ال عنهم -
استرسلوا في بناء الحكاما استرسالي واثقم بانبساطها على الوقائع
متصديم لثباتها فيما يعني ويسنح متشويقفَّم إلى ما سيقع«هل). (2
وقال» :لو انحصرت مآخذ الدلة في المنصوصات والمعاني
المستثارةا منها ،لما اتييسع باب الجتهاد ،فإن المنصوصات ومعانيها
المعزوييةا اليها ل تقع من متييسع الشريعة غرفة ا من بحر ،ولو لم
يتمسييك الماضون بمعانم في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان
وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم ،وهذا إذا صادفَّ تقريراا لم
133
ييبق لمنكري الستدلل مضطرباا«هل ) . (1وقال» :ثم عضد الشافعي
هذا بأن قال :من سبر أحوال الصحابة رضي ال عنهم وهم القدوةا
والسوةا في النظر لم ييري لواحدم منهم في مجالس الشتوار تمهيدي
أصل واستثارةا معنى ثم بناء الواقعة عليها ،ولكنهم يخوضون في
وجوه الرأي من غير التفاتم إلى الصول كانت أما لم تكن ،فإذا ثبت
اتساع الجتهاد ،واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات ،وانضم
إليه عدما احتفال علماء الصحابة بتطلبِّ الصول أرشد مجموع ذلك
إلى القول بالستدلل«هل). (2
وقال» :قد تبين لنا أنهم -رضي ال عنهم -في الزمان
المتطاولة والماد المتمادية ما كانوا ينتهون إلى وجوه مضبوطة،
بل كانوا يسترسلون في العتبار استرسال من ل يرى لوجوه الرأي
انتهاءا ،ويرون طرق النظر غير محصورةا ،ثم كان اللحقون
يتبعون السابقين ول يعتنون بذكر وجوه في الحصر ل تيتيعيدى،
فعلمنا بضرورةا العقل أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد
الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي ل نصوص فيها ،فإذا ظنوها ولم
ييناقيض رأيهم فيها بأصل من أصول الشريعة أجريونها واستبان
أنهم كانوا ل يبغون العلم اليقين وإنما كانوا يكتفون بأن يظنوا
شيئاا عيليماا«هل) . (3وقال الغزالي» :ول سبيل إلى القتصار على
المؤثر لن المطلوب غيليبيهي الظن ومن استقرأ أقيسة الصحابة -
رضي ال عنهم -واجتهاداتهم عيلقمي أنهم لم يشترطوا في كل
قياس كون العلة معلومةا بالنص والجماع«هل) . (4وقال» :لم يظهر
لنا من إجماع الصحابة رضي ال عنهم إل اتباع الرأي الغلبِّ ،وإل
فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ولم يميزوا جنساا عن جنس«هل). (5
134
وقال المدي» :وإذا ثبت أن الحكاما إنما شرعت لمصالح
العباد ،فإذا رأينا حكماا مشروعاا مستلزماا لمر مصلحي فل يخلو
إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم ،أو ما لم يظهر لنا .ل
يمكن أن يكون ما لم يظهر لنا وإل كان شرع الحكم تعبداا وهو
خلفَّ الصل ) ( 1لما سبق تقريره .فلم يبقي إل أن يكون مشروعاا لما
ظهر .وإذا كان ذلك مظنوناا فيجبِّ العمل به لن الظن واجبِّ
التباع في الشرع«هل ). (2
وقال الرازي» :نقول :المناسبة تفيد ظن العيقلييية ،والظنيي
واجبِّي العمل به«هل). (3
ردوأد مإبطلي مإسـلك المناسـبة وأالسـتدلل:
رديي الحنافَّ مسلك المناسبة فضل ا عن الستدلل ،وعدوه باطلا
ل يورثا أثراا من الظن المقبول شرعاا .وفيما يلي بعض النصوص
التي يردون بها الدل ـ ة المذكورةا آنفاا:
أما أن النصوص ومعانيها ل تفي بالمسائل والوقائع إذ
النصوص متناهية والوقائع ل متناهية ،والولى ل تقع من الثانية
غرفة من بحر ،فقال الشيخ محبِّ ال ابن عبد الشكور» :وهو
المسمى بالمصالح المرسلة حجة عند مالك ،والمختار عند
الجمهور رده .لنا :ل دليل بدون العتبار وإن كان على سنن
العقل .قالوا:
أوأل ا :لو لم تعتبر لخلت الوقائع .قلنا :نمنع الملزمة لن
العمومات والقيسة عامة .وأيضاا عدما المدرك مدرك للباحة). (4
ثاانيا ا :الصحابة كانوا يقنعون برعاية المصالح قلنا :بل إنما
أي الصل في الشياء الباحة ما لم يرد دليل التحريم . )( 4
135
اعتبروا ما اطلعوا على اعتبار نوعه أو جنسه«هل ). (1
وقال شارح )التحرير( لبن هماما السكندري الحنفي» :وهذا
القسم المسمى بالمصالح المرسلة .والمختار رده .اذ ل دليل على
العتبار فوجبِّ رده .قالوا :فتخلو وقائع كثيرةا .قلنا :نمنع
الملزمة ،أي ل نسليقم انه يلزما من عدما اعتبار ما ذكر ان تخلو
الوقائع من الحكم لن العمومات والقيسة شاملة ،وبتقدير عدمه
فنفي كل مدرك خاصيم حكميهي الباحة الصلية ،أي إذا انتفى في
حادثةم وجود مأخذ من الدلة الربعة فيييعمل بموجبِّ اصل كلي
مقرر في الشرع اتفاقاا وهو الباحة الصلية فإنه الصل في
الشياء«هل ). (2
وأما ما قالوه من ان الصل في الحكاما التعليل ،فإذا لم تثبت
علة بالنص أو الجماع أو اليماء والتنبيه ،ولحت المناسبة فيجبِّ
التعليل .فقد رده الحنافَّ أيضاا .قال الماما علء الدين البخاري:
»ودليل التمييز شرط عندنا كما هو شرط عندهم .إل ان عندهم
دليل التمييز الخالة ،وعندنا التأثير ...ولكنا نحتاج قبل ذلك أي
قبل بيان التمييز والشروع في التعليل إلى إقامة الدليل على كون
الصل الذي يريد تعليله شاهداا ،أي معللا في الحال وليس بمقتصر
على مورده ،بل يعدى حكمه إلى غيره كالحكم الثابت بالخارج من
السبيلين تعدى إلى مثقوب السرةا بالجماع فيجوز تعليله بعد
بوصف قاما الدليل على كونه علة ،لن الصل في النصوص وإن كان
هو التعليل إل أنه ثابت من طريق الظاهر وقد وجدنا من النصوص
ما هو غير معلول بالتفاق ،واحتمل ان يكون هذا النص المعين من
تلك الجملة ،فل يجوز التمسك بذلك الصل واللزاما على الغير
مع هذا الحتمال«هل) . (3وقال البزدوي» :فل ييسمع منا الستدلل
) ( النصاري ،فواتح الرحموت. 2/266 . 1
أمير بادشاه ،تيسير التحرير علــى التحريــر ،3/315 ،دار الكتــبِّ )( 2
العلمية -بيروت.
) ( علء الدين البخاري ،كشف السرار. 3/436 . 3
136
بالصل وهو أن التعليل أصل في النصوص بل ل بد من إقامة الدليل
على أن هذا النص بعينه معلول«هل). (1
وأما قولهم بأن الصحابة -رضي ال عنهم -قد عللوا
بالوصافَّ المناسبة والمعاني المصلحية وأنهم بنوا الحكاما على
المعاني القريبة من المعاني المصلحية .فقد ردوه .قال النصاري:
»وقالوا ثانياا :الصحابة كانوا يقنعون برعاية المصالح ولم ينكر
عليهم فصار إجماعاا .قلنا :كونهم قانعين عليها ممنوع .بل إنما
اعتبروا من العلل ما اطلعوا على اعتبار نوعه أو جنسه في نوع
الحكم أو جنسه .هذا وعليك بالستقراء حتى يظهر لك جلية
الحال«هل ). (2
وأما قولهم إن الوصف المناسبِّ أو الستدلل يورثا ظناا
والظن معمول به في الشرعيات .فردوه أيضاا .قال البزدوي:
»وأما الخيال فأمر باطل لنه ظن ل حقيقة له ،ولنه باطن ل يصلح
دليلا على الخصم ول دليلا شرعياا«هل). (3
وقال في كشف السرار» :وأما الخيال ..فأمر باطل لنه
عبارةا عن مجرد الظن لن الخيال والظن واحد ،والظن ل يغني من
الحق شيئاا ،ول يقال :الظن معتبر في الشرع في وجوب العمل به
كخبر الواحد والقياس ،لنا نقول :المعتبر هو الذي قاما دليل
قطعي على اعتباره في وجوب العمل ل مطلق الظن ،ولم يقم ههنا
دليل على اعتباره شرعاا فوجبِّ إهداره«هل). (4
قال النصـاري» :خلفاا للحنفية فإنهم ل يقبلون الخالة
أصـلا ،لنها وإن كانت مفـيدةاا للظن لكنها ليست ملزومةا لوضع
الشارع علية ما قامت به ...وإذا لم يورثا ظن اعتبار الشـارع لم
137
يكن حجة شرعية وإنما هي من هوسـات العقل فل تعتبر .ولعل هذا
هو مراد النسفي أنه مجرد ظن ،يعني أنه ليس ظن اعتبار الشارع
فهو ل يغني من الحق شيئاا .فإن قلت :الخالة تفيد الظن البتة
والجماع انعقد على اعتبار الظن قال :والجماع على العمل بالظن
انما هو على تقدير كونه -أي الظن -شرعياا حاصلا من جهة
الشـرع ،وظناا لعتبار الشارع هذا«هل ) . (1وقال أيضاا نقلا عن الماما
النسفي» :كون الوصـف مخيلا أي موقعاا في القلبِّ خيال الصحة:
وهو ل يغني من الحـق شـيئاا وغايته أن يجعل مثل اللهاما .وهو ل
يصلح حجة«هل). (2
138
المبحث الثاني
انبثاق فكـرة مإقاصـد الشـريعة
احتدام الجدل:
هذ ا الجدال بين الفريقين ،هذا يأتي بالدلة وذاك يبطلها،
أضعف موقف الخذين بمسلك المناسبة وبالستدلل .ويختصر
ضعف موقفهم بنقطة واحدةا ،وهي أن العتبار لوصف معين في حكم
معين وادعاءه علة هو تحكم بغير دليل .وعليه فهو احتكاما إلى الظن
العقلي ،وهو ليس ظناا شرعياا .وينبني عليه ضعف موقفهم في
الستدلل إذ هو مبني على اعتبار أوصافَّ مناسبة في أحكاما عديدةا.
فقال الرادون» :وأقصى ما في الباب أن تكون النصوص موافقة
للوصف فيحصل به كثرةا النظائر وبكثرةا النظائر ل تحصل قوةا
في الوصف«هل). (1
فأدى هـذا الجــدال إلى مـزيـــد مــن البــحــث والنـظـر
والتـعـمـق ،وقـاما الجـويني -رحمه ال -بالدفاع عن مسلك
المناسبة وعن الستدلل فاتيهم من ردهما بالتقصير في فهم هذه
الصول .ورد القول إنها تحكم بغير دليل وتحكيم للعقل ،وقال بأن
هذا إنما يلزما من لم يسلك مسلك الشافعي في ذلك .فقال في ابي
حنيفة وأصحابه » :وبالجملة ليس معهم من علم الصول قليل ول
كثير ،وإن أقاما واحد منهم لقبِّ مسألةم فسننقضها في تفصيل
الفروع ،فإن صاحبهم ما بنى مسائله على أصول ،وإنما أرسلها على
ما تأتييى له ،فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه
القول في تفصيل الفروع«هل ) . (2وقال أيضاا» :وأما أبو حنيفة فل
ننكر اتقاد فظنته وجودةا قريحته في درك عرفَّ المعاملت ومراتبِّ
الحكومات ،فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه
139
على النهاية ،ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه
منقسمة إلى أصل جهله أو أغفله وذهل عنه ،وإلى آخر تمسك به
وما رعاه وما عقله ،وانتهض لتبويبِّ البواب انتهاض من لم يستمد
من القواعد ،ومن عجيبِّ أمره أنه لم يعتن بجمع الخبار والثار
ليبني عليها مسائله ،ولكنه يوصل الفروع بناءا على ما يراه ثم
يستأنس بما يبلغه وفاقاا«هل). (1
ويناقش الجويني القول بأن الستدلل تحكيم للرأي في الشرع
فيقول» :وأما ما ذكره القاضي) (2من خروج المر عن الضبط
والمصير إلى انحلل ورد المر إلى آراء ذوي الحلما فهذا انما يلزما
) ( ال جويني -البرهان .ص . 2/748 :فقرةا . 1180 :ول يعد هذا القول 1
من الجويني -رحمه ال -إل تجنياا على أبي حنيفـة -رحم ه ال -وعل ى
أصحابه ،وليس غايتي هنا بحث هذا التهاما إل أنني أشير بسرعة إلى تهافته.
فهو منقوض بالنص نفسه الذي يؤكد على اتيقاد فطنة الماما العظم وجودةا
قريحته .كما أنا لم نجد ما زعم الجويني من أن أصحاب أبي حنيفــة ليــس
معهم من علم الصول قليل ول كــثير ،بــل وجــدناهم مثــل غيرهــم أئمــة
وأعلماا وهم الذين سيمييوا الفقهاء في مقابل الكلميين ،وأما القــول إن أبــا
حنيفة غير خبير بالصول ...إلخ .فيرده ثبات المذهبِّ وتلقي المة له عبر
مئات السنين ولول أن المذهبِّ يستند إلى قواعد وأصــول وتفكيــر اجتهــادي
منهجي لندرس ولما ثبت جيلا واحداا .أما كون علم أصول الفقه لم يوجد
بقواعده وحدوده وشروطه إل مع الماما الشافعي وبعده ،فليــس ذلــك ممــا
يضير أبا حنيفة -رحمه ال -ولو كــان ذلــك ضــائراا لــه لكــان ضــائراا
للصحابة والتابعين وسائر الئمة قبله ،وليس المر كذلك .ول نظن ســبباا
لهذا التجني من الجويني إل احتداما الجدل وقوةا حجج المعارضين لما يذهبِّ
إليه الجويني ،مما ضيق صدره وسد سبل حججه ،وما حدا بــه إلــى الهجــوما
على خصومه في الرأي ،لذلك رأيناه يقول ما يقول في أبي حنيفة وأصحابه
-رضي ال عنهم -وسنرى منه شيئاا من ذلك في مالك وأص حابه -رض ي
ال عنهم -وسنرى منه مديحاا كبيراا في الشافعي رضي ال عنه.
وربما كانت الحجج القوية لصحاب مذهبِّ أبي حنيفة -رضي ال عنهــم -
هي التي أدت بالجويني إلى مزيد من البحث والتع مــق حــتى أ خــرج ف كــرةا
مقاصد الشريعة بالشكل الذي سنبينه ،ولذلك كان الظن بأنه أول من قال
بها بهذا الشكل.
) ( القاضي :أبو بكر الباقلني. 2
140
مالكاا -رضي ال عنه -ورهطه إن صح ما روي عنه«هل). ( 1
وقال عن مالك -رحمه ال » : -فرئي يثبت مصالح بعيدةا عن
المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى
استحداثا القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالبِّ الظن ،وإن
لم يجد لتلك المصالح مستنداا إلى أصول ،ثم ل وقوفَّ عنده،بل
الرأي رأيه ما استديي نظره فيه وانتقض عن أوضار التهم
والغراض«هل ). (2
ثم قال» :فنقول لمالك رحمه ال :أتجوز التعلق بكل رأي؟
فإن أبيى لم نجد مرجعاا نقر عنده إل التقريبِّ الذي ارتضاه
الشافعي -رضي ال عنه ، -وإن لم يذكر ضبطاا وصرح بأن ما ل
نص فيه ول أصل له فهذا مردود إلى الرأي المرسل واستصواب ذوي
العقول فهذا الن اقتحاما عظيم وخروج عن الضبط«هل) . (3ثم قال:
»وهذا مركبِّ صعبِّ ل يجترئ عليه متدين ومساقه رد المر إلى
عقول العقلء وأحكاما الحكماء ،ونحن على قطع نعلم أن المر
بخلفَّ ذلك ..ولو ساغِّ ما قاله مالك رضي ال عنه -إن صح عنه -
)(4
لتخذ العقلء أياما كسرى أنو شروان في العدل واليالة
معتبرهم وهذا يجر خبالا ل استقلل به ،وإن أخذ مالك -رحمة
ال -واتباعه يقربون وجه الرأي من القواعد الثابتة في الشريعة
فالذي جاءوا به مذهبِّ الشافعي رحمه ال«هل). (5
وعليه فإن الجويني يحمل على من يرد الستدلل ،ويحمل على
السترسال فيه ويشترط التقريبِّ من القواعد الثابتة في الشريعة،
قال» :وأما الشافعي فإنه أعرفَّ خلق ال بأصول الشريعة وأضبطهم
) ( اليالة :آل الملقك رعيته إيالا :ساسهم .وآل على القوما أولا وإيالا 4
وإيالةا :ويلقيي .وآل المال :أصلحه وسا ســه .الفيــروز أبــادي ،ال قــاموس
المحيط ص. 1244 :
) ( الجويني ،البرهان . 726 - 2/725 ،فقرةا. 1141 - 1139 : 5
141
لها ،وأشدهم كيساا واتقاداا في مآخذها وتنزيلها منازلها وترتيبها
على مراتبها ...ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته ...واخترما
وقد نيييف على الخمسين ،وكان ذلك المد ل يتسع لكثر من
ضبط الصول فيها ،فهان على أصحابه البناء عليها«هل) . ( 1وقال» :فإن
قيل :فما معنى التقريبِّ الذي نسبتموه إلى الشافعي؟ قلنا :هذا
ميحزيي الكلما ونحن نقول :قد ثبتت أصول معللة اتفق القايسون
على عللها فقال الشافعي :أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل
الستدللت قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول
والستدلل معتبر بها ،واعتبار المعنى بالمعنى تقريباا أولى من
اعتبار صورةا بصورةا بمعنى جامع«هل) . (2وقال» :ذهبِّ الشافعي
ومعظم أصحاب أبى حنيفة -رضي ال عنهما -إلى اعتماد الستدلل
وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل ولكنه ل يستجيز النأي
والبعد والفراط وإنما يسوغِّ تعليق الحكاما بمصالح يراها شبيهة
بالمصالح المعتبرةا وفاقاا وبالمصالح المستندةا إلى أحكاما ثابتة
الصول قارةا في الشريعة«هل ). (3
وقال أيضاا» :ليس كل استصلح وجهاا مرتضى«هل ). (4
ومن هذا القبيل قول تلميذه الغزالي» :أما المصلحة فهي
عبارةا في الصل عن جلبِّ المنفعة ودفع المضرةا ولسنا نعني به
ذلك .فإن جلبِّ المنفعة ودفع المضرةا مقاصد الخلق وصلح الخلق
في تحصيل مقاصدهم .لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود
الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي أن يحفظ عليهم
دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم .فكل ما يتضمن حفظ هذه
الصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت حفظ هذه الصول
الخمسة فهو مفسدةا ودفعه مصلحة وإذا أطلقنا معنى المخيل
142
والمناسبِّ في كتاب القياس اردنا به هذا الجنس«هل) . (1وقال:
»وكون هذه المعاني مقصودةا عرفت ل بدليل واحد بل بأدلة
كثيرةا ل حصر لها ...واذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود
الشرع فل وجه للخلفَّ فيها بل يجبِّ القطع بكونها حجة«هل). (2
هذا النتصار لمسلك المناسبة ولفكرةا الستدلل هو الذي ادى
إلى ظهور فكرةا مقاصد الشريعة على يد الجويني .وإلى بلورتها -
فيما بعد -على يد تلميذه الغزالي استناداا إلى نصوص مثل:
»اعتبار المعنى بالمعنى تقريباا«هل» ،مصالح شبيهة بالمصالح
المعتبرةا وفاقاا«هل» ،مصالح مستندةا إلى أحكاما ثابتة الصول قارةا
في الشريعة«هل» ،معاني مقصودةا عرفت ل بدليل واحد بل بأدلة
كثيرةا ل حصر لها من الكتاب والسنة«هل). (3
تقسـيم الحكــام بحســـب مإآلتهــا أوأ مإقاصـــدها
المصـلحية:
ويقوما القول بهذه المقاصد على عرض الشريعة ،أي أحكامها،
بالشكل الذي يبرز رعايتها للمصالح ،وبتعبير آخر يقوما على تكييف
الشريعة بالشكل الذي يخدما القول بصلحية اعتبار المناسبِّ سواء
كان مخيلا معيناا في حكم أو مرسلا.
ومن نافلة القول بعدما تبين أن نذكر أن إماما الحرمين
الجويني -رحمه ال -هو أول من حاول إثبات صحة التعليل
بالوصف المناسبِّ بطريق تكييف الشريعة لجل النظر فيها من
خلل مقاصدها المصلحية -وال أعلم -حيث قسييم الحكاما من
حيث غاياتها أو مقاصدها أو معانيها إلى خمسة أقساما .وقد آل
المر فيها فيما بعد على يد أنصار هذا المنهج إلى أن تكون ثلثة
أقساما مع مكملتها وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات مع
مكملت كل منها .فقال تحت عنوان) :في تقاسيم العلل والصول(:
143
»وهذا الذي ذكره هؤلء أصول الشريعة) . (1ونحن نقسمه خمسة
أقساما:
»أحدها :ما ييعنقيلي وهو أصل .ويؤول المعنى المعقول منه
إلي أمر ضروري ل بد منه وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب
القصاص في أوانه فهو معلل بتحقيق العصمة في الدماء المحقونة
والزجر عن التهجم عليها .فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في
أصل القصاص تصرفَّ فيه وعدياه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى
فيه ،وهو الذي يسهل تعليل أصله ...ثم قد تمهد في الشريعة أن
الصول إذا ثبتت قواعدها فل نظر إلى طلبِّ تحقيق معناها في آحاد
النوع«هل). (2
وقال في هذا القسم» :وهو ما يستند إلى الضرورةا«هل). (3
وهذا القسم هو الذي سمي فيما بعد بالضروريات ويراد بها
الكليات الضرورية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل
والمال.
»وأالضرب الثاني :ما يتعلق بالحاجة العامة ول ينتهي إلى
حد الضرورةا ،وهذا مثل تصحيح الجارةا فإنها مبنية على مسيس
الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضقنييةق ملكها بها
على سبيل العارية ،فهذه حاجة ظاهرةا غير بالغة مبلغ الضرورةا
المفروضة في البيع وغيره«هل) . (4وقد أرجع الجويني البيع إلى
الضرب الول.
وهذا القسم هو الذي سيمييق بمرتبة الحاجيات.
»وأالضرب الثالث :ما ل يتعلق بضرورةا حاقة ول حاجةم
) ( المراد بلفظ أصول الشريعة هنا :الحكاما الشرعية اذ الحكم الشرعي 1
اذا كان معللا فهو أصل يقاس عليه ،وهوأحد أركان القياس .وكذلك إذا
كان موضع بحث ونظر لمعرفة المقصد منه أو علته.
) ( الجويني ،البرهان ، 2/602 .فقرةا. 901 : 2
144
عامة ،ولكنه يلوح فيه غرض في جلبِّ مكرمة أو في نفي نقيض لها،
ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارةا الحدثا وإزالة الخبث«). (5
وهذا القسم هو الذي سيمييق بالتحسينيات.
»وأالضرب الرابع :ما ل يستند إلى حاجة وضرورةا
وتحصيل المقصود فيه مندوب اليه تصريحاا ابتداءا«) . (1وهذا
القسم يشبه الثالث من حيث عدما استناده إلى ضرورةام أو حاجة
عامة ،ومن حيث كونه مندوباا .ويختلف عنه في ان الثالث معضود
بالدواعي الجبلية كالتنظف ،وليس في تحصيله خروج عن
الضربين الول والثاني وذلك مثل مكاتبة الكاتبِّ عبده ،ومقابلته
ملكه بملكه ،وهذا خارج عن اصل أن العبد مملوك للسيد). (2
»وأالضرب الخامإس :ما ل يلوح فيه للمستنبط معنى
أصلا ،ول مقتضى من ضرورةا أو حاجة أو استحثاثا على مكرمة.
وهذا يندر تصويره جداا .فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فل
يمتنع تخيله كلياا .ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة.
فإنه ل يتعلق بها أغراض دفعية ول نفعية .ولكن ل يبعد أن يقال:
تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم النقياد ،وتجديد العهد
بذكر ال تعالى نهيي عن الفحشاء والمنكر .وهذا يقع على
الجملة،ثم إذا انتهى الكلما في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد
الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى
يقتضي التقدير فيما ل ينقاس أصله«) . (3وقد أشار الرازي في
المحصول إلى هذا التقسيم عند الجويني وتابعه فيه). (4
ثم درج العلماء بعد الجويني على تقسيم مقاصد الشريعة إلى
ثلثة أقساما :ضرورية وحاجية وتحسينية .ويتعلق بكل قسم تتمات
المصدر نفسه ،فقرةا ، 904 :وانظر ص ،616 :فقرةا. 931 : )( 2
145
له أو مكملت .ول يعني هذا إلغاء بعض القساما الخمسة التي
ذكرها الجويني وإنما يعني اندراجها في الثلثة.
قال المدي» :المقصود من شرع الحكم ...ل يخلو أن يكون
من قبيل المقاصد الضرورية أو ل من قبيل المقاصد الضرورية،
فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية ،فإما ان يكون أصلا أو ل
يكون أصلا ،فإن كان أصل ا فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي
لم تخلي من رعايتها ملة من الملل ول شريعة من الشرائع ،وهي:
حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال .فإن حفظ هذه
المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتبِّ المناسبات.
والحصر في هذه الخمسة النواع إنما كان نظراا إلى الواقع والعلم
بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادةا ...وأما إن لم يكن
أصلا فهو التابع المكمل للمقصود الضروري وذلك كالمبالغة في
حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير...
وأما إن لم يكن المقصود من المقاصد الضرورية فإما أن يكون من
قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه ،أو ل تدعو إليه الحاجة ،فان كان
من قبيل ما تدعو إليه الحاجة ،فإما أن يكون أصلا أو ل يكون أصل ا
فان كان أصل ا فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدةا
وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرةا ل لضرورةا الجأت بل
لحاجة ...وإن لم يكن أصلا فهو التابع الجاري مجرى التتمة
والتكملة للقسم الثاني ،وذلك كرعاية الكفاءةا ومهر المثل في
تزويج الصغيرةا فانه أفضى إلى دواما النكاح وتكميل مقاصده...
وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدةا فهو القسم
الثالث وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج
من العادات والمعاملت وذلك كسلبِّ العبيد أهلية الشهادةا من حيث
أن العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخراا للمالك مشغولا
بخدمته فل يليق به منصبِّ الشهادةا لشرفها وعظم خطرها جرياا
146
للناس على ما ألقفوه وعدييوه من محاسن العادات«هل ). (1
ومثل هذا التقسيم لمقاصد الحكاما ينبنى على أمرين:
الوأل :واقع الناس كأفراد وكجماعة .فإن النسان محتاج،
وحاجاته يمكن تقسيمها إلى هذه القساما .فمنها ما ل بد من تأمينه
أو سديقه واشباعه ،وإذا لم ييشبع أدى إلى الموت أو إلى فساد الحياةا
والعلقات فساداا كبيراا .ومنها ما إذا لم يشبع عانى النسان من
الحرج والمشقات والضنك .ومنها ما إذا لم ييشبع لم يؤد إلى هذا
ول إلى ذاك إل أنه مما تميل إليه النفس أو يتطلبه البدن .وبناء
على هذا الواقع يندفع النسان إلى إشباع هذه الحاجات وسدها.
ويزداد هذا الندفاع ويقوى بحسبِّ شدةا الحاجة .وبما أن النسان
كائن اجتماعي ،والكل يندفع إلى تحقيق الشباع ويحرص عليه،
فهو بحاجة إلى نظاما أو قانون ينظم العلقات بين الناس وكيفيات
الشباع ،ويبين لكل منهم حقوقه وصلحياته وقيوده وواجباته.
والنسان بطبعه ينظر إلى ما يسد حاجاته أو يشبع غرائزه ،أو
ما يؤدي إلى ذلك على انه منفعة أو مصلحة ،وينظر إلى ما يفسد
عليه سد حاجاته وإشباع غرائزه أو يمنعه من ذلك ،وإلى ما يؤلمه
أو ما يؤدي إلى ذلك على أنه مفسدةا ومضرييةا.
الثاني :استقراء أحكاما السلما وأحوال المجتمعات التي طبق
فيها السلما ييري أن السلما جاء بأوامر ونواه تؤدي إلى إشباع هذه
الحاجات باختلفَّ مراتبها مما يؤدي إلى أمن الفرد وطمأنينته وإلى
أمن المجتمع وازدهاره ورقييقه.
إل أن هذا العرض للشريعة يفيد في الشارةا إلى ما يؤول اليه
تطبيق الشريعة على الفرد والمجتمع ،ويفيد أن جلبِّ المصالح ودرء
المفاسد هي نتائج أو من نتائج تطبيق الشريعة ،لذلك فإن
العتراض والرد على الخذين ب مسلك المناسبة و ب الستدلل و ب هذا
147
المنهج في اعتبار الوصف أو المعنى المصلحي ظل هو هو ،بل ربما
وفر لهم هذا الحتجاج مزيداا من حجج الرد .إذ ينبغي عند الحنافَّ
إثبات أن هذه النتائج أو المصالح مقصودةا للشارع ،ول يثبت ذلك
إل بدليل شرعي .أضف إلى ذلك أن مقصد الشارع من الحكم هو
نتيجة لتطبيقه ،فهل نتيجة الحكم أو مسببه علة له؟ لذلك ظل
المر موضع تجاذب وجدل كبير .قال ابن قدامة المقدسي:
»والصحيح ان ذلك ليس بحجة لنه ما عرفَّ من الشارع المحافظة
على الدماء بكل طريق ،ولذلك لم يشرع المثلة وان كانت ابلغ
الردع والزجر ،ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر ،فإذا
اثبت حكماا لمصلحةم من هذه المصالح لم يعلم ان الشرع حافظ
على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم ،كان وضعاا للشرع بالرأي
وحكماا بالعقل المجرد«هل). ( 1
فمثلا قطع السارق يؤول إلى رفع السرقة أو التقليل منها،
ويؤول إلى حفظ المال وهو من المقاصد الضرورية .ولكن هذا
المقصد وهو حفظ المال ل يصلح علة ا لقطع السارق ،لن الغاصبِّ
والمختلس والغاش لم يقطعهم الشرع ،مع ان هذا المقصد موجود
في تحريم الختلس والغصبِّ والغش.
ولذلك فإن هذه الفكرةا -فكرةا المقاصد -لم تؤثر سلباا أو
إيجابا اعلى أصول الحنفية ،قال النصاري» :الحنفية ل يقبلون
الخالة أصلا لنها وإن كانت مفيدةا للظن ولكنها ليست ملزومةا
للشارع علية ما دلت عليه ،ول يظن أيضاا بوضعه للتخلف كثيراا
كما في المناسبِّ معلوما اللغاء كالصنائع الشاقة فإنها مناسبة
للتخفيف أشد مناسبة من مشقة السفر لكن الشارع اعتبر الولى
وأهدر الثانية ،والمصالح المرسلة فإنها أيضاا مناسبة ،ولكنها لم
تعتبر شرعاا ،وإذا لم تورثا ظن اعتبار الشارع لم تكن حجة شرعية
وإنما هي من هوسات العقل فل تعتبر ،ولعل هذا هو مراد النسفي
) ( ابن قدامة المقدسي ،روضة الناظر وجنة المناظر .ص. 150 : 1
148
أنه ليس ظن اعتبار الشارع فهو ل يغني من الحق شيئاا .فإن قلت:
الخالة تفيد الظن البتة والجماع انعقد على اعتبار الظن قال:
الجماع على العمل بالظن إنما هو على تقدير كونه -أي الظن -
شرعياا حاصلا من جهة الشرع وظناا باعتبار الشارع هذا«هل). (1
أما ما قاله المحتجون بالستدلل وما بني عليه وهو فكرةا
المقاصد أن المعنى جرت على وفقه أحكاما كثيرةا فهو يكون أقوى
من القياس ويكون بمثابة أصل التشريع ،وقد أطلقوا على شهادةا
الحكاما له لفظ العرض على الصول أو موافقة الصول فقد رده
الحنافَّ أيضاا ،قال شارح أصول البزدوي» :أما أن تكون النصـوص
موافقة للوصـف فيحصـل به كثـرةا النظائر وبكثرةا النظائر ل
تحصل قوةا في الوصف«هل ). (2
وهكذا ظل الخلفَّ على حاله ،يرجع إلى الخلفَّ في كيفية
اعتبار الحكمة أو المصلحة أو المقصد .فالرادون للتعليل بالوصف
المناسبِّ يرون أن هذا العتبار خيالي قلبي أو هوس عقلي وظن ل
يشهد له الشرع فل اعتبار له .ومن هنا ظهر في حجج المعللين
بالمقاصد قولهم بلزوما التعليل شرعاا وأنه الصل في الحكاما،
وعليه فالتعليل بالمعاني المصلحية ليس تحكماا وإنما هو ظن
شرعي لنه الصل وإل كان الحكم تعبداا وهذا خلفَّ الصل .وهذا
هو موضوع المبحث التالي.
تأثير الوصف.
149
المبحث الثالث
المدخإل إلى فكـرة المقاصـد عند
الشـاطبي
عـرض مإوجأـز لهذا المبحث:
الموضوع الرئيس لهذا المبحث هو أصل التعليل ،أي القول بأن
الصل في الحكاما التعليل .فقد اعتمد بعض الصوليين على أن
الشريعة معللة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد لجل إثبات بعض
المسالك في التعليل وعلى وجه الخصوص مسلك المناسبة.
واقتضى إثبات هذا التعليل إثبات عدةا قضايا:
الولى :إثبات أن ال سبحانه وتعالى ل يفعل إل لغرض أو حكمة،
وشرعه من فعله ،وبذلك يثبت أن الحكاما الشرعية معللة ،وبما
أن من الحكاما الشرعية ما ل ييطمع بالوقوفَّ على عللها،
كالعداد والمقادير والنصبة مثلا ،لذلك ل يقال :الحكاما
تعلل ،وإنما يقال :الصل في الحكاما التعليل.
الثانية :إن الحكمة ل بد أن تكون مصلحة ل مفسدةا ،والمصلحة
إما أن ترجع إلى ال -سبحانه وتعالى -أو إلى العبد .وال -
سبحانه وتعالى -منزه عن المصالح والمفاسد ،فل بد أن تكون
المصلحة راجعة إلى العبد.
الثالثة :إذا وجدنا حكماا شرعياا مستلزماا لمصلحة ما ،فالقول
بأن ال -سبحانه وتعالى -شرع هذا الحكم لهذه المصلحة ،هو
ظن ،وال قد تعبييدنا بالظن ،فيكون هذا الظن شرعياا ،والتعليل
بهذه المصلحة تعليل شرعي.
وقد أدت المجادلت في القضيتين الولى والثانية إلى أبحاثا
كلمية متعلقة بخلق الفعال وبالصفات .فذهبِّ البعض كالمدي
مثلا إلى أن الحكاما معللة بمصالح العباد وأن هذا بطريق الوقوع
150
والتفاق .وذهبِّ المعتزلة إلى ذلك وأنه بطريق الوجوب .ورد
الرازي بشكل قاطع القول بتعليل أفعال ال وأحكامه ،وأثبت عليقييية
المصالح للحكاما من غير احتياج لصل التعليل .ثم جاء الشاطبي،
ورد قول الرازي وأثبت تعليل الفعال والحكاما بشكل قاطع في كل
تفاصيل الشريعة ،ولكن بطريقة مختلفة عما اعتمده سابقوه لجل
إثبات هذا الصل.
وعلى ذلك فنحن أماما ثلثا طرق مختلفة في إثبات تعليل
الحكاما بالحقكيم والمصالح :الولى للمدي والثانية للرازي
والثالثة للشاطبي .أما طريقة المعتزلة فليس موضوعها القياس
ول المقاصد ،وإنما هو وجوب فعل الصلح في حق ال تعالى ،وهو
قول مردود لن ال تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ،وفعله
وحكمه هو المقياس ول يقاس بشيء.
أما القضية الثالثة ،وهي أن ال -سبحانه وتعالى -تعبدنا
بالظن ،وكون هذا الحكم شرع لهذه المصلحة هو ظن شرعي أو
غير شرعي فقد تبيين ت القوال فيها في المبحث السابق ،وسييشار
إليها فيما يلي بمقدار ما يقتضي البحث.
أدلة القائالين بأصـل التعليل:
ذهبِّ فريق من أئمة الصول بعد تقسيم مقاصد الشريعة إلى
ضروريات وحاجيات وتحسينيات إلى إقامة الدللة على هذا التعليل.
فقال المدي تحت عنوان )إقامة الدللة على أن المناسبة والعتبار
دليل كون الوصف علة(» :الحكاما إنما شرعت لمصالح العباد ،أما
أنها شرعت لمقاصد وحكم فيدل عليه الجماع والمعقول ،أما
الجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكاما ال تعالى ل تخلو
عن حكمة ومقصود وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب
كما قالت المعتزلة ،أو بحكم التفاق والوقوع من غير وجوب
كقول أصحابنا .وأما المعقول فهو أن ال تعالى حكيم في صنعه،
فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجباا ،أو ل يكون واجباا:
151
فإن كان واجباا فلم يخل عن المقصود ،وإن لم يكن واجباا ففعله
للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود،
فكان المقصود لزماا من فعله ظناا ،وإذا كان المقصود لزماا في
صنعه فالحكاما من صنعه ،فكانت لغرض ومقصود .والغرض إما أن
يكون عائداا إلى ال تعالى ،أو إلى العباد ،ول سبيل إلى الول لتعاليه
عن الضرر والنتفاع ،ولنه على خلفَّ الجماع ،فلم يبق ي سوى
الثاني«هل ). ( 1
ثم قال» :وأيضاا فإن الحكاما مما جــاء ب هــا الر ســول ،ف كــانت
رحمة لل عــالمين ل قــوله ت عــالى [ :
، ( 2) ]فلو خلت الحكاما عن حكمة عائدةا إلى العالمين ،ما
كان رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض ت عــبِّ ون صــبِّ وأي ضــاا
قوله تعالى . (3)] [ :فلو كـان شــرع
الحكاما في حق العباد ل لحكمة .لكانت نق مــة ،ل رحمـة لمـا ســبق،
وأيضاا قوله عليه السلما» :ل ضأرر وأل ضأرار في السلم«)، (4
فلو كان التكليف بالحكاما ل لحكمة عائدةا إلى العباد ،لكــان شــرعها
ضرراا محضاا ،وكان ذلك بسببِّ السلما وهو خلفَّ النص«هل). ( 5
ثم خلص المدي إلى النتيجة فقال» :وإذا ثبت أن الحكاما إنما
شرعت لمصالح العباد ،فإذا رأينا حكماا مشروعاا مستلزماا لمر
مصلحي ،فل يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم ،أو
أصل التعليل ،قد مال ببحث العلة من معنى ما جعله الشارع علة للحكم إلى
أبحاثا متعلقة بذات ال.
) ( الن ب ياء. 107 ، 2
) ( الحديث» :ل ضأرر وأل ضأرار« رواه ابن ماجه ) ( 2331و) ،( 2332 4
152
ما لم يظهر لنا ،ل يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا ،وإل كان
شرع الحكم تعبداا ،وهو خلفَّ الصل ،لما سبق تقريره ،فلم يبق إل
أن يكون مشروعاا لما ظهر وإذا كان ذلك مظنوناا فيجبِّ العمل به،
لن الظن واجبِّ التباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة
على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الحكاما الشرعية«هل). (1
وبعد ذلك شرع المدي في الرد على العتراضات التي ترد
على هذا النهج في التعليل وعلى القضايا التي أوردها ضمن ذلك،
وعلى وجه الخصوص قوله إن ال ل يشرع إل لغرض ومقصود ،ثم
بعد ذلك ،وعلى فرض التسليم بأن ال ل يشرع إل لغرض ومقصود،
فكيف يثبت أن هذه الحكمة المظنونة للمجتهد هي عينها مقصود
الشارع بالحكم ،.قال» :فإن قيل :ل نسلم استلزاما شرع الحكاما
للحكم والمصالح ،وذلك لن شرع الحكاما من صنع ال تعالى،
وصنعه إما أن يستلزما الحكمة والمقصود ،أو ل يستلزما ،والول
ممتنع لسبعة عشر وجهاا«هل) ، (2ثم أورد وجوه العتراض على
استلزاما الحكاما للحكم والمقاصد وردها واحداا واحداا) . (3والجدال
في هذه القضايا كله خارج عن إطار أصول الفقه ،وداخل في مجال
المنطق والكلما ،وفيما يلي أمثلة من هذه العتراضات والردود
عليها:
العتراض الول كما أورده المدي» :إن القائل قائلن :قائل
يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة ل تعالى ،وقائل إنها مخلوقة
للعبيد .فمن قال إنها مخلوقة ل تعالى فيلزمه من ذلك أن يكون
خالقاا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور ،مع أنه ل حكمة ول مقصود
في خلق هذه الشياء ،ومن قال إنها مخلوقة للعبيد فإنما كانت
مخلوقة لهم بواسطة خلق ال تعالى القدرةا لهم على ذلك ،فخلقه
153
للقدرةا الموجبة لهذه المور ل يكون أيضاا لحكمة«هل). (1
والعتراض الثاني» :إنه لو استلزما فعله للحكمة ما أمات
النبياء وأنظر إبليس وما أوجبِّ تخليد أهل النار في النار ،لعدما
الحكمة في ذلك«هل). (2
وجواب المدي على هذين العتراضين» :من ثلثة أوجه:
الول :إن القدرةا إنما تتعلق بالحدوثا والوجود ل غير والكفر
وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس
ذلك من متعلق القدرةا في شيء .الثاني :وإن سلمنا أن جميع ذلك
مخلوق ل تعالى ،فنحن ل ندعي ملزمة الحكمة لفعاله مطلقاا،
حتى يطرد ذلك في كل مخلوق ،بل إنما ندييعي ذلك فيما يمكن
مراعاةا الحكمة فيه ،وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور
والمعاصي ،ول ندعي ذلك قطعاا بل ظاهراا ،الثالث :وإن سلمنا
لزوما الحكمة لفعاله مطلقاا ،ولكن ل نسلم امتناع ذلك فيما
ذكروه من الصور قطعاا ،لجواز أن يكون لزمها حكم ل يعلمها
سوى الرب تعالى«هل). (3
ومن أمثلة هذه العتراضات» :السادس عشر :أن الحكمة إنما
تطلبِّ في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلبِّ نفع أو دفع ضر،
والرب تعالى منزه عن ذلك.
السـابع عشر :أن الحكمة إنما تطلبِّ في فعل من لو خل فعلـه
عن الحكمـة لحقه الذما وكان عابثـاا .والــرب يتعـالى عـن ذلـك،
لكونه متصرفاا في ملكه بحسبِّ ما يشاء ويختار من غير سـؤال عما
يفعل .على ما قال تعالى [ :
154
] ) ، (1وإن لم يكن فعله مستلزماا للحكمة فهو المطلوب«هل). (2
وأجاب المدي على هذين العتراضين الخيرين» :عن
السادسة عشرةا بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة ،بل الحكمة إنما
تطلبِّ في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعاا ،بل
واقعاا في الغالبِّ.
وعن السابعة عشرةا أن ما ذكروه ،إنما يلزما في حق من تجبِّ
مراعاةا الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك على ما مقتضاه
في كتبنا الكلمية«هل ). ( 3
أدلة الرادين:
وهكذا ،فإن إثبات أصل التعليل عند هذا الفريق لم يكن إل
بأبحاثا كلمية في ذات ال ،ولذلك رأينا فريقاا آخر يرد هذا
الصل بشكل قاطع مع أنه يقول بالقياس وبالعلة وبالستدلل
وبمسلك المناسبة .ومن أشهر هؤلء فخر الدين الرازي .ومما
قاله» :المناسبة تفيد ظن العلية والظن واجبِّ العمل به«هل) . (4وقال:
»فثبت أن المناسبة تفيد العلية مع القطع بأن أفعال ال تعالى ل
تعلل«هل). (5
وقد حاول الرازي إثبات التعليل بمسلك المناسبة ،فذكر في
ذلك طريقتين ،أما الولى فهي الطريقة أو الدلة التي أوردها
المدي .فقد ذكرها ثم عاد عليها وأبطلها .أما الثانية فقد أثبتها
وقال بها.
قال» :المناسبة تفيد ظن العلية ،والظن واجبِّ العمل به ،بيان
155
الول) (1من وجهين :الول) : (2أن ال -تعالى -شرع الحكاما
لمصلحة العباد ،وهذه مصلحة ،فيحصل ظن أن ال -تعالى -إنما
شرعه لهذه المصلحة ،فهذه مقدمات ثلثا ل بد من إثباتها بالدليل،
أما المقدمة الولى .فالدليل عليها وجوه«هل) . (3والمراد بقوله) :أما
المقدمة الولى( هو قوله :إن ال -تعالى -شرع الحكاما لمصلحة
العباد وهي المراد بها أصل التعليل .ثم أورد ستة وجوه في إثبات
هذه المقدمة ،وهي ل تخرج عما قدمه المدي ،ولكن بشكل أكثر
تفصيلا). (4
قال» :فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الحكاما
إل لمصلحة العباد ،ثم اختلف الناس بعد ذلك :أما المعتزلة ،فقد
صرحوا بحقيقة هذا المقاما وكشفوا الغطاء عنه وقالوا :إنه يقبح
من ال تعالى فعل القبيح ،وفعل العبث بل يجبِّ أن يكون فعله
مشتملا على جهة مصلحة وغرض .وأما الفقهاء ،فإنهم يصرحون
بأنه تعالى إنما شرع الحكم لهذا المعنى ،ولجل هذه الحكمة ،ولو
سمعوا لفظ »الغرض«هل ،لكفيروا قائله مع أنه ل معنى لتلك
»اللما«هل إل الغرض ،وأيضاا فإنهم يقولون» :إنه وإن كان ل يجبِّ
على ال -تعالى -رعاية المصالح إل أنه تعالى ل يفعل إل ما يكون
مصلحة لعباده تفضلا منه وإحساناا ل وجوباا«هل فهذا هو الكلما في
تقرير هذه المقدمة«هل). (5
أما نقض الرازي لصل التعليل بالحكم والمصالح ،فيأتي في
كلما طويل نذكر بعضه .قال» :قوله :تخصيص الصورةا المعينة
بالحكم المعين ل بد وأن يكون لمرجيقح ،وذلك المرجيقح يمتنع أن
س ي ذكر الطريق الول وتجدر الملحظة أنه يذكر هذا الطريق ثم
ينقضه.
) ( الرازي ،المحصول . 5/172 3
156
يكون عائداا إلى ال -تعالى -فل بد أن يكون عائداا إلى العبد ،قلنا:
إما أن تدييعي أن التخصيص ل بد له من مخصص أو ل تدعي ذلك،
وعلى التقديرين ل يمكنك القول بتعليل أحكاما ال -تعالى -
بالمصالح«هل ) . (1ثم أورد كلماا طويلا لنقض القول بتعليل أحكاما
ال ،وكل ذلك بحث متعلق بذات ال سبحانه وتعالى.
وخلص إلى قول» :فثبت أن تعليل أحكاما ال -تعالى -
بالمصالح باطل .وهذا الكلما كما أنه اعتراض على ما قالوه ،فهو
دللة قاطعة ابتداءا من المسألة .وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي
عولوا عليها ،لنها أدلة ظنية ،وما ذكرناه برهان قاطع ،ثم نقول:
إن دل ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال ال تعالى بالمصالح واقع،
فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه وهي من وجوه«:هل ) ، (2ثم ذكر هذه
الوجوه وكلها متعلقة بذات ال ،ول دخل لها بعلم أصول الفقه.
ومن هذه الوجوه التي ذكرها:
»الول :أنه خالق أفعال العباد ،وذلك منع من القول بأنه -تعالى
-يراعي المصالح«هل). ( 3
»الدليل الثاني :على أنه ل يجوز تعليل أفعال ال -تعالى -
وأحكامه بالمصالح ،أن القادر على الكفر ،إن لم يقدر على اليمان
لزما الجبر ،وذلك يقدح في رعاية المصالح«هل). (4
»الدليل الثالث :أنه قد وقع التكليف بما ل يطاق وذلك يمنع
من القول برعاية المصالح«هل). (5
وهكذا كل الوجوه أو الدلة التي أوردها إلى آخرها وهو
الثامن حيث قال» :أما الله -سبحانه وتعالى -لما كان منزهاا عن
المصالح والمفاسد بالكلية .ثم رأينا أن الغالبِّ في أفعاله ما ل يكون
المصدرنفسه ،ص . 180 : )( 1
157
مصلحة للخلق ،كيف يغلبِّ على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة
بالمصالح؟!«هل ). (6
ومع أن الرازي قد رد أصل التعليل ،فهو أثبت مسلك المناسبة
بطريقة مختلفة ،فقال بعد أن ذكر الوجه الول في بيان أن
المناسبة تفيد ظن العلية ،وهو الذي ذكره ونقضه ،قال» :الوجه
الثاني في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية :أن نسليقم أن أفعال ال،
وأحكامه ،يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والغراض ،ومع هذا
فندعي أن المناسبة تفيد ظن العلية ،وبيانه :أن مذهبِّ المسلمين ،أن
دوران الفلك وطلوع الكواكبِّ وغروبها وبقاءها على أشكالها
وأنوارها غير واجبِّ ،ولكن ال -تعالى -لما أجرى عادته بإبقائها
على حالة واحدةا ،ل جرما يحصل أنها تبقى غداا ،وبعد غد على هذه
الصفات ،وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطبِّ ،وحصول الشبع
عقيبِّ الكل ،والري عقيبِّ الشرب ،والحتراق عند مماسة النار،
غير واجبِّ ،لكن العادةا لما اطردت بذلك ،ل جرما حصل ظن يقارب
اليقين باستمرارها على مناهجها ،والحاصل ،أن تكرير الشيء مراراا
كثيرةا ،يقتضي ظن أنه متى حصل ل يحصل إل على ذلك الوجه.
إذا ثبت هذا فنقول :إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الحكاما والمصالح
متقارنين ،ل ينفك أحدهما عن الخر وذلك معلوما بعد استقرار
أوضاع الشرائع ،وإذا كان كذلك ،كان العلم بحصول هذا
مقتضياا ظن حصول الخر وبالعكس ،من غير أن يكون أحدهما
مؤثراا في الخر وداعياا إليه) . (1فثبت أن المناسبة دليل العلية ،مع
القطع بأن أحكاما ال -تعالى -ل تعلل بالغراض«هل). (2
من المدي والرازي بيان أن مثل هذا البحث هو بحث منطقي كلمي خارج
عن إطار أصول الفقه وغايتقهق ،وأن حشره في أ صــول الف قــه ل مــبرر لــه،
وإنما يلجأ إليه من ضعفت حجته.
) ( وهذا ما يؤكد ما ذكر سابقاا عن معنى العلة ع نــده ،أن ظــر :ص51 : 1
وص. 99 :
) ( الرازي ،المحصول . 5/179 2
158
وهكذا فإنه رغم اختلفَّ هذين الفريقين في أصل التعليل،
فهما متفقان على التعليل بالوصف المناسبِّ ،وهذا في مقابل من يرد
مسلك المناسبة.
زم أصـل التعليل بمسـلك المناسـبة؟
هل ُيلـ ِ
إن الفريق الذي ل يأخذ بمسلك المناسبة ل يجعل هذا
المسلك لزماا لصل التعليل وذلك من خلل حجج تبينت سابقاا
عند بيان ردهم لمسلك المناسبة ،ومن ذلك أنه إن ثبت أن هذه
مصلحة ،فثبوت أن الحكم قد شرعه ال لجل هذه المصلحة يحتاج
إلى دليل ،وبغير ذلك فالظن المدعى ههنا ليس هو الظن الشرعي
المعمول به في الشرعيات ،وهو ما أطلقوا عليه أنه من خيالت
القلوب وهوسات العقول .ومن ذلك أيضاا ،أن أصل التعليل وإن
ثبت ،فقد ثبت أيضاا أن من الحكاما ما هو غير معلل ،وقد يكون
الحكم ،موضع النظر ،من هذا القسم ،أي غير المعلل ،فل يقال
بتعليله إل بشاهد عليه ،قال علء الدين البخاري» :لن الصل في
النصوص وإن كان هو التعليل إل أنه ثابت من طريق الظاهر ،وقد
وجدنا من النصوص ما هو غير معلول بالتفاق ،واحتمل أن يكون
هذا النص المعين من تلك الجملة ،فل يجوز التمسك بذلك الصل
واللزاما على الغير مع هذا الحتمال«هل) . (1وقال البزدوي» :فل
يسمع منا الستدلل بالصل وهو أن التعليل أصل في النصوص بل ل
بد من إقامة الدليل على أن هذا النص بعينه معلول«هل ). (2
وقد أورد الغزالي شيئاا من هذه المحاجات حول هذا المر
فقال» :وأما المناسبِّ الغريبِّ فهذا في محل الجتهاد ول يبعد
عندي أن يغلبِّ على ظن بعض المجتهدين ،ول يدل دليل قاطع على
بطلن اجتهاده ،فإن قيل :يدل على بطلنه أنه متحكم بالتعليل من
غير دليل يشهد لضافة الحكم إلى علته ،قلنا :إثبات الحكم على
159
وفقه يشهد لملحظة الشرع له ويغلبِّ على الظن ،فإن قيل :قولكم
إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة
وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه ،وهذا
تحكم لنه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبداا أو
تحكماا كتحريم الخنزير والميتة والدما والحمر الهلية وكل ذي
ناب من السباع وكل ذي مخلبِّ من الطير مع تحليل الضبع والثعلبِّ
على بعض المذاهبِّ وهي تحكمات ،ولكن اتفق معنى السكار في
الخمر فظن أنه لجل السكار ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير
فقيل إنه تحكم وهذا على تقدير عدما التنبيه في القرآن بذكر
العداوةا والبغضاء ،ويحتمل أن يكون بمعنى آخر مناسبِّ لم يظهر
لنا ،ويحتمل أن يكون للسكار ،فهذه ثلثة احتمالت ،فالحكم بواحد
من هذه الثلثة تحكم بغير دليل ،وإل فبم يترجح هذا الحتمال،
وهذا ل ينقلبِّ في المؤثر ،فإنه عيرفَّ كونه علة بإضافة الحكم إليه
نصاا أو إجماعاا كالصغر وتقديم الخ للب والما .والجواب :إنا
نرجح هذا الحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهبِّ منكري
القياس«هل) . (1ثم قال» :وأما قولهم لعل فيه معنى آخر مناسباا هو
الباعث ولم يظهر لنا ،وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر
لعدما ظهور الخر ل لدليل دل عليه فهو وهم محض ،فنقول :غلبة
الظنون في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء
الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن ،ولو فتح هذا
الباب لم يستقم قياس«هل). (2
مإوقف الشـاطبي بإيجاز:
هذا التطويل والقطع من الرازي بعدما تعليل الفعال والحكاما
اعترض عليه الشاطبي ،ولكنه لم يدخل معه في سجال كلمي ،وإنما
قال بتعليل الحكاما والفعال بطريق غير ذلك الذي اعتمده المدي
160
ورده الرازي ،فاعتمد في ذلك منهجاا جديداا ،وهو الستقراء
المفيد للقطع بنظره ،ولذلك خرج بنتيجة قاطعة هي أن أفعال ال
-سبحانه وتعالى -وأحكامه معللة بمصالح العباد .قال» :وزعم
الرازي أن أحكاما ال تعالى ليست معللة بعلة البتة ،كما أن أفعاله
كذلك«هل ) . (1ثم قال» :والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة
أنها وضعت لمصالح العباد استقراءا ل ينازع فيه الرازي ول
غيره«هل ). (2
ثم ذكر الشاطبي نصوصاا كثيرةا من القرآن ،وأشار إلى
غيرها من السنة ،وكلها مذكور فيها غ ا يات للفعل أو الحكم.
وبكثرةا هذه النصوص يثبت الستقراء -لديه -أن أفعال ال
وأحكامه معللة بغاياتها.
وهكذا ظهرت فكرةا المقاصد عند الشاطبي ،بمنهجه الجديد في
إثبات العلل والصول وهو الستقراء المفيد للقطع.
وأما الختلفَّ في الظن بالمصلحة وأنها علة للحكم ،هل هو
ظن شرعي أو هو مجرد وهم ،فلم يأخذ الشاطبي بأي من القولين
كما أنه لم يرد أياا منهما ،وإنما عمد إلى التوفيق بينهما ،فلم يكتف
بمثل هذا الظن على اعتبار أنه لم يدل عليه دليل وإنما هو مما
يسرح به العقل أن هذا الحكم كان لجل هذه المصلحة ،وكذلك
لم يرد هذا الظن على اعتبار أن الحكاما إنما شرعت لجل مصالح
العباد ،وقد تكون هذه المصلحة مقصودةا للشارع بهذا الحكم ،ولكنه
اشترط أن تكثر الحكاما التي يحصل الظن بأنها شرعت لجل تلك
المصلحة ،وبذلك يحصل الستقراء المفيد للقطع ،فيحصل القطع
بعلية هذه المصلحة في التشريع وبهذا -أيضاا -يظهر كيف نشأت
هذه الفكرةا عند الشاطبي في كيفية اعتبار المصالح والمفاسد.
ومما ينبغي التنبيه إليه أن اتخاذ الوصف المناسبِّ أو المصلحة
علة للحكم هو من قبيل التعليل بالمارات التي لم يثبت فيها كونها
) ( الشاطبي ،الموافقات. 2/2 ، 1
161
باعثاا ،ولذلك ينتفي التعليل بها إذا وجد وصف أكثر مناسبة ،أو
إذا لم تطرد ،قال الشاطبي» :إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح
العباد في العاجل والجل معاا ،وهذه دعوى ل بد من إقامة البرهان
عليها صحةا أو فساداا ،وليس هذا موضع ذلك وقد وقع الخلفَّ
فيها في علم الكلما«هل) . (1ثم قال» :ولما اضطر في علم أصول الفقه
إلى إثبات العلل للحكاما خاصة أثبتت على أنها المارات ،ول حاجة
إلى تحقيق المر في هذه المسألة«هل) . (2لذلك فكون هذه المصالح
أو العلل بمعنى العلمات المعرفة ،وليس الباعث فهي ل تصلح
للقياس وتعليل الحكم بها ،لذلك عمد المعللون بها إلى إثبات أصل
التعليل ،إذ بذلك تصبح بمعنى الباعث وتفيد في القياس .أما
الشاطبي فإنه لم يكتف بثبوت أصل التعليل ،وهو الثابت لديه
بالستقراء ،وإنما اشترط أيضاا حصول الستقراء للعلة نفسها أو
العلمة نفسها ،وبذلك تصبح هذه العلة مشهوداا لها بعينها وهو
شرط الحنافَّ فتكون باعثاا للتشريع وأصلا له ،وهذا ما سيتبين
خلل بيان وتفصيل فكرةا المقاصد عنده.
مإعنى المقاصـد عند الشـاطبي:
المقاصد لغةا :جمع مقصد ،وهو الشيء الذي ييقصد .قال في
لسان العرب» :قال ابن جني :أصل )ق ص د( ومواقعها في كلما
العرب :العتزاما والتوجه ،والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان
ذلك أما جور ،هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض
المواضع بقصد الستقامة دون الميل ،أل ترى أنك تقصد الجور
تارةاا كما تقصد العدل أخرى ،فالعتزاما والتوجه شامل لها«هل). (3
وقال في القاموس المحيط» :القصـد :اسـتقامة الطريـق،
والعتماد ،واليماي ،قصـده ،وله ،وإليه ،يقصده«هل). (4
162
أما اصطلحاا فل يوجد تعريف متفق عليه أو معتمد.
والمعتمد في الصطلح هو المقدار اللغوي الموجود في اللفظة.
ول يمكن وضع تعريف اصطلحي للمقاصد إل بعد معرفة المراد
بها ،إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ولم يقدما الشاطبي تعريفاا اصطلحياا للمقاصد ،ولكن ما جاء
في كتابه )الموافقات( ،وخصوصاا الجزء الثاني منه هو التعريف
بمراده بالمقاصد .ول ضير في هذا ،بل وليس هناك كبير فائدةا من
تقديم نص ل يفيد قارئه في معرفة الواقع المعرييفَّ .إذ ل يدرك أو
يفقه مثل هذه التعريفات إل من سبق له أن أدرك واقعها .لذلك
فالتعريف بمعنى الحد ل يفيده بشيء ،بل هو يحاكم التعريف
بحسبِّ مفهومه للمعرييفَّ .وقد حاول بعض المتأخرين وضع
تعريف للمقاصد ،فقصروها على مقاصد الشريعة ،وربما أشار
بعضهم إلى مقاصد للشريعة ومقاصد للناس .ولكنهم لم ينبهوا إلى
التفريق بين مقاصد الشريعة ومقاصد الشارع .فالشيخ محمد
الطاهر ابن عاشور -رحمه ال -قال بمقاصد عامة ومقاصد خاصة،
وعرفَّ كلاي منهما .قال» :مقاصد التشريع العامة هي المعاني
والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع ،فيدخل في
هذا أوصافَّ الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي ل يخلو التشريع
عن ملحظتها ،ويدخل في هذا أيضاا معانم من الحكم ليست ملحوظة
في سائر أنواع الحكاما ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرةا منها«هل). (1
وقال في المقاصد الخاصة» :الكيفيات المقصودةا للشارع لتحقيق
مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم
الخاصة كي ل يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس
لهم من تحصيل مصالحهم العامة«هل ). (2
أما الستاذ علل الفاسي فقال» :المراد بمقاصد الشريعة:
محمد الطاهر بن عا شــور ،مقا صــد ال شــريعة ال ســلمية ،ص: 50 : )( 1
163
الغاية منها والسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من
أحكامها«هل ). (1
وقد أشار الدكتور أحمد الريسوني إلى هذه التعريفات
وغيرها ،وقال» :وبناءا على مختلف الستعمالت والبيانات الواردةا
عند العلماء الذين تحدثوا في موضوع المقاصد يمكن القول :إن
مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لجل تحقيقها
لمصلحة العباد«هل). (2
وقد أشار إلى هذه التعريفات الكاتبِّ السعودي خالد بن صالح
السيف في مقال له ابتدأه بسؤال :ما المقاصد؟ ). (3
ويشير الدكتور حمادي العبيدي إلى تعريف الشيخ محمد
الطاهر بن عاشور قائلا» :إن هذا في الواقع ليس تعريفاا للمقاصد
لن التعريفات ل تكون بهذا السلوب ،وإنما هو بيان وتفصيل
للمواطن التي تلتمس فيها المقاصد من الشريعة ،والقرب أن
نقتصر في التعريف على القول» :إن المقاصد هي الحكم المقصودةا
للشارع في جميع أحوال التشريع«هل). (4
والواقع أن هذه التعريفات كلها قاصرةا عن إفادةا المطلوب.
وذلك أن معنى المقاصد عند الشاطبي مختلف عن معناها عند غيره
من الذين سبقوه ،أو من المعاصرين الذين يتحدثون في المقاصد.
وهذه التعريفات كلها ،إذا صحت ،فإنما تصح على المعنى الذي في
أذهان المعريقفين .وهي كلها بعيدةا عن التدقيق في مراد الشاطبي.
ول بد من الشارةا هنا أن البحث ليس عن كلمة قصد أو
) ( علل الفاسي ،مقاصد الشريعة السلمية ومكارمها ،ص ،3 :مكتبة الوحدةا 1
1416 ، 4هـ 1995 -ما ،المعه د العالمي للفكر السلمي ،الدار العالميــة
للكتاب السلمي .
) ( جريدةا الحياةا ،العدد 13 ، 12615 :أيلول ،1997ص. 21 : 3
164
مشتقاتها ،أين وردت ومتى وردت ،فهي كلمة عربية مستعملة ترد
في كلما العرب قديماا وحديثاا ،وإنما البحث هو عن المقاصد
بمعنى معين ،وهو المعنى أو المعاني التي أرادها علماء الصول .إن
أول من تحدثا عن المقاصد هو الماما الجويني -وال أعلم -وهو
والعلماء الذين أتوا بعده -عدا الشاطبي -يشيرون إلى معنى واحد
للمقاصد ،وهو مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية،
وهذه يمكن تعريفها عندهم ،بأنها الغايات أو المصالح التي وضعت
الشريعة لجلها.
أما عند الشاطبي ،فالمر يستغرق هذا التعريف ويتجاوزه ،إذ
المقاصد عنده ،هي مقاصد الشارع ومقاصد المكلف .ومقاصد
المكلف يمكن تعريفها بأنها الغايات أو المصالح التي يريد المكلف
تحقيقها سواء كانت دنيوية أو أخروية.
أما مقاصد الشارع فهي أشمل من مقاصد الشــريعة ،ومقاصــد
الشريعة ليست إل مقاصد للشارع قصدها بالتشريع ولكنهــا ليســت
كل مقاصد الشارع .فال سبحانه وتعالى خلق الشياء و لــه بــذلك
مقصد ،بحسبِّ الشاطبي ،وهذا المقصد هو مقصده من الخلق وليــس
من التشريع ،إذ الخلق ليس تشريعاا .يقول تعــالى [ :
، (1) ]
وي قــول، (2)] [ :
فالبتلء والعبادةا هنا مقاصد للشارع وليسا مقاصد للشريعة.
وإذا اقتصرت هذه المقاصد عند غير الشاطبي على مقاصد
الشريعة ،فإن مقاصد الشارع ،بحسبِّ الشاطبي ،أربعة أنواع ،أحدها
مقاصد الشريعة .يقول» :والمقاصد التي ينظر فيها قسمان:
أحدها يرجع إلى قصد الشارع ،والخر يرجع إلى قصد المكلف.
فالول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءا و من
165
جهة قصده في وضعها للفهاما ،ومن جهة قصده في وضعها للتكليف
بمقتضاها ،ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها ،فهذه
أربعة أنواع«هل). (1
والذي تدور حوله التعريفات المذكورةا هو مقاصد الشـريعة
الضرورية والحاجية والتحسينية ،وهي النوع الول فقط ،أي قصد
الشـارع في وضع الشريعة ابتداءا .هذا أحد أوجه القصور في
محاولت تعريف المقاصد ،وثمة أمر آخـر في هذه التعريفات
مناقض لمراد الشـاطبي بهذا النوع من المقاصد.
وذلك أن كل هذه التعريفات تذهبِّ إلى أن المقاصد هي
المصالح والحكم ،أي أنها المعاني المناسبة التي يتلقاها العقل
بالقبول .وهذا الفهم ،مرةاا أخرى ،إذا صح على ما عند غير
الشاطبي ،فل يصح على ما عند الشاطبي .فمثلا الشـيخ ابن عاشور
جعلها مقاصد لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم
العامة .وتعريف الدكتور الريسوني :هي الغايات التي وضعت
الشريعة لجل تحقيقها لمصلحة العباد .وتعريف الدكتور
العبيدي :هي الحكم .أما الستاذ علل الفاسي فقصرها على غايات
الحكاما.
بينما المقاصد عند الشاطبي هي ما يثبت كونه مقصوداا
للشارع بصرفَّ النظر عن كونه مصلحة في العتياد ،أو عن كونه
مما تتلقاه العقول بالقبول ،أو عن كونه مناسباا أو غير مناسبِّ.
والمقاصد ،عنده ل تقتصر على غايات الحكاما ،بل إن الحكاما
نفسها هي من المقاصد ،إذ إن الحكاما مقصودةا للشارع بالنصوص .
والتعريفات كلها تدور حول مقاصد الحكاما ،وهو النوع الول عند
الشاطبي ،بينما من أكثر ما ركز عليه الشاطبي مقاصد الشارع في
كيفية فهم الوامر والنواهي إضافة إلى قصد التعبد والمتثال.
فما تذكره هذه التعريفات هو الغايات من التشريع ،وهي نتائج أو
166
مسببات له ،والشريعة أو الحكاما هي وسائل لتحقيق الغايات أو
أسباب لها.
وعليه ،فإن هذه التعريفات ،إلى جانبِّ قصورها فإنها ل تصح
للتعريف بمراد الشاطبي ،ول بالنوع الول من مقاصد الشارع عنده.
وعلى سبيل المثال ل يصح تعريف الدكتور الريسوني» :هي
الغايات التي وضعت الشريعة لجل تحقيقها لمصلحة العباد«هل بسببِّ
التقييد بمصلحة العباد .فإذا حذفَّ هذا القيد يصبح التعريف» :هي
الغايات التي وضعت الشريعة لجل تحقيقها«هل صحيحاا لمراد
الشاطبي بمقاصد الشريعة وليس بمقاصد الشارع.
أضـف إلى ذلك أن ما أشـار إليه البعض من تقسـيم للمقاصد
إلى خاصة وعامة وجزئية ل وجود له عند الشاطبي ،ولم يؤت له بما
يدل عليه من نصوصه .بل إن نصوصه تنقض هذا القول .وسـيتبين
هذا عند التفصيل ،وهو من صلبِّ فكرةا المقاصد عند الشاطبي.
فالمقاصد عند الشاطبي هي أصول كلية ،وهي عامة في كل
الحوال ،وفي كل الزمان ،وفي كل المكلفين ،أما الجزئيات فهي
ليست مقاصد لن المقاصد أصول كلية ،وإنما الجزئيات قد تكون
فروعاا خادمةا للمقاصد ،أو راجعةا إليها.
وكذلك فإن المقاصد ،عند الشاطبي ،هي أصول قطعية
وليست حكماا مظنونة .وهذا من أهم أركان فكرةا المقاصد عند
الشاطبي ،وهو ما لم تلحظه أي من التعريفات المذكورةا أو
البحاثا المنشورةا حول المقاصد عند الشاطبي.
وستتبين هذه المور بالتحليل والتحقيق والتوثيق في
الفصول القادمة في هذه الرسالة .ولكنني أشير هنا إلى ما يلزما من
ذلك ،وذلك لتماما هذا الموضوع.
يقول الشاطبي» :تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها
في الخلق ،وهذه المقاصد ل تعدو ثلثة أقساما :أحدها أن تكون
167
ضرورية ،والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية«هل). (1
وأي مقصد في أي قسم من هذه القساما ل يثبت إل إذا كان عاماا
وقطعياا ،أي كلياا ،وليس جزئياا ول ظنياا ،يقول» :إن أصول
الفقه في الدين قطعية ل ظنية ،والدليل على ذلك أنها راجعة إلى
كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي«هل ) . (2ويقول في
الموضع نفسه» :وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات
والتحسينيات«هل.
وبيانه لمراده بالكليات ،واشتراطه القطع لها ،يؤكد اشتراط
القطع بالمقاصد عنده .وهو يصرفَّ النظر عن توهم أن الصول
التي يشترط لها القطع هي الدلة الجمالية :القرآن والسنة
والجماع والقياس ،بل هو يقول إن هذه الصول القطعية راجعة إلى
المقاصد الكلية التي هي ضروريات أو حاجيات أو تحسينيات.
وعليه فإن هذه التعريفات للمقاصد قاصرةا ،ومجانبة للصواب.
والدق -وال أعلم -أن يقال» :إن المقاصد هي الغايات،
وأمإقاصد الشارع عند الشاطبي هي الغايات التي تدل
الفعال وأالنصوص وأالحكام على كونها مإطلوبة
الوقوع« .فيكون للفعال وللوامر التكوينية غايات معينة ،ويكون
للنصوص الشرعية أو للخطاب بها غايات هي الفهاما والتكليف.
ويكون للحكاما غايات هي التقيد بها وعدما التقيد بغيرها ،وبعض -
وليس كل -ما يؤول إليه هذا التقيد.
168
فمثلا :نكاح المطلقة ثلثاا يؤول إلى تحليلها للول إذا طلقها
الثاني ،وليس التحليل غاية أو مقصداا للشارع ،بحسبِّ الشاطبي ،إذ
إن النكاح بهذا القصد منهيي عنه .فالغاية نتيجة ومسببِّ ،وليس كل
نتيجة أو مسببِّ غايةا أو مقصداا .وهذا من صلبِّ أفكار الشاطبي،
وسيتبين في موضعه إن شاء ال تعالى.
169
الفصـل الثالث
ضأـوابط المقاصـد عند
الشـاطبي
وأيحتوي على تعريف مإوجأز بموضأــوع
هذا الفصل وأعلى ثالثاة مإباحث:
170
الفصل الثالث
ضأـوابط المقاصـد عند الشـاطبي
مإوضأـوع هذا الفصـل:
لقد خصص الشاطبي الجزء الثاني من كتابه الموافقات
لموضوع المقاصد ،وجعل المقاصد قسمين :مقاصد الشارع
ومقاصد المكلف .أما الجزء الول من الموافقات فقد سماه كتاب
الحكاما ،وبحث فيه الحكاما الشرعية ،أحكاما التكليف وأحكاما
الوضع.
والموضوعات التي أبرزها في كتاب الحكاما ،بحثها أئمة
الصول قبله ،ومنها ما هو جديد ،والجديد فيها هو النظر إلى هذه
الحكاما ،سواء الواجبِّ و المندوب والمباح والمكروه والحراما ،أو
السببِّ والشرط والمانع والعزيمة والرخصة والصحة والفساد
والبطلن ،النظر إليها بالشكل الذي يخدما فكرةا مقاصد الشارع،
وبالشكل الذي يدفع عنها أي اعتراض أو نقض ،وبذلك فهو يضع
قواعد في النظر إلى هذه الحكاما وإلى معانيها أو مقاصدها .أضف
إلى ذلك أنه قبل أن يبدأ كتاب الحكاما ،فإنه يضع ثلثا عشرةا
مقدمة ،يعدها لزمةا لفهم كتابه.
وفي الحقيقة فإنه ما من أصل بحثه في كتابه الموافقات إل
وفيه نصيبِّ من تلك المقدمات.
لجل هذه المقدمات والقواعد كان هذا الفصل ،وقد جعلته في
ثلثة مباحث .الول في المقدمات اللزمة لفكرةا المقاصد والثاني
في المستندات أو القواعد التي أبرزها في بحثه للحكاما ،والثالث
فيما ينبني على هذه القواعد والمقدمات من نتائج ومعانم ويأتي
ضمنه بحث لمعنى المصلحة والمفسدةا عند الشاطبي .وهو ضروري
لفهم منهج الشاطبي.
171
المبحث الوأل
فـي المقدمإات
مإوضأـوع هذا المبحث:
قسم الشاطبي كتابه )الموافقات( إلى خمسة أقساما .وبدأه
بذكر المقدمات التي يعدها لزمةا للنظر في كتابه .قال» :فصار
كتاباا منحصراا في خمسة أقساما ،الول في المقدمات العلمية
المحتاج إليها في تمهيد المقصود«هل) . ( 1ثم مهد بثلثا عشرةا مقدمة.
ولجل إبراز ما يلزما من هذه المقدمات لبيان منهجه أو فكرته كان
هذا المبحث .
أصـول الفقه قطعية:
قال الشاطبي في مقدمته الولى» :إن أصول الفقه في الدين
قطعيه ل ظنية ،والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة
وما كان كذلك فهو قطعي«هل ) . (2ثم أقاما برهانه على هذه المقدمة
ومما قاله» :لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل
الشريعة) (3لنه الكلي الول .وذلك غير جائز عادةاا ،وأعني
بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات ،وأيضاا لو جاز
تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها وهي ل شك بها،
ولجاز تغييرها وتبديلها وذلك خلفَّ ما ضمن ال عز وجل من
حفظها«هل ) (4وقال» :لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه لجاز
جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق«هل ). (5
وقال» :إن الصل على كل تقدير ل بد أن يكون مقطوعاا به
172
لنه إن كان مظنوناا تطرييق إليه احتمال الختلفَّ ومثل هذا ل يجعل
أصلا في الدين عملا بالستقراء«هل). ( 1
وختم هذه المقدمة بقوله» :المظنونات ل تجعل أصولا وهذا
كافَّ في ا ط ي راح الظنيات من الصول بإطلق ،فما جرى فيها مما
ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعاا عليه«هل). (2
وقوله في النص أعله» :وأعني بالكليات هنا الضروريات
والحاجيات والتحسينيات«هل يشير إلى أنه ل يقصر شرط القطع
بأصول الفقه على مصادر التشريع كالقرآن والسنة والجماع
والقياس.
ويقول في المقدمة الثانية» :إن المقدمات المستعملة في هذا
العلم ) ، (3والدلة المعتمدةا فيه ل تكون إل قطعيةا ،لنها لو كانت
ظنية لم تفد القطع في المطالبِّ المختصة به ،وهذا بيييقن«هل). (4
وهذا لن المقدمات هي السس أو الضوابط التي بالربط فيما بينها،
أو بالبناء عليها يتوصل إلى الصول .وبما أن الصول يجبِّ أن تكون
قطعية وجبِّ أن تكون مقدماتها قطعية.
السـتقراء فقط هو طريق القطع:
ومن أهم المقدمات لمنهج الشاطبي مقدمته الثالثة حيث
يقول» :المعتمد بالقصد الول) (5الدلة الشرعية ،ووجود القطع
فيها على الستعمال المشهور معدوما ،أو في غاية الندور ،أعني في
آحاد الدلة ،فإنها إن كانت من أخبار الحاد فعدما إفادتها القطع
ظاهر ،وإن كانت متواترةا فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات
) ( القصد الول :أي إذا جاء الطلبِّ أو النهي من الشارع .فايقاع الفعل هو 5
173
جميعها أو غالبها ظني .والموقوفَّ على الظني ل بد أن يكون ظنياا.
فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدما الشتراك ،وعدما
المجاز والنقل الشرعي أو العادي ،والضمار والتخصيص للعموما
والتقييد للمطلق ،وعدما الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض
العقلي .وإفادةا القطع مع اعتبار هذه المور متعذر«هل) . (1وعلى
ذلك فالشاطبي ينفي وجود الدللة القطعية لحاد النصوص ولو
كانت من نصوص القرآن الكريم أو الحاديث المتواترةا .وإذا علمنا
إشتراطه القطع بأصول الفقه ،ينشأ السؤال :كيف سيحصل هذا
القطع عنده؟ .يقول» :إفادةا القطع مع اعتبار هذه المور متعذر،
وقد اعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية في أنفسها لكن إذا اقترنت
بها قرائن مشاهدةا أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا كله نادر أو
متعذر .وإنما الدلة المعتبرةا هنا المستقرأةا من جملة أدلة ظنية
تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع ،فإن للجتماع من
القوةا ما ليس للفتراق ولجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه،
فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم ) (2فهو
الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي بل هو كالعلم
بشجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم المستفاد من كثرةا الوقائع
المنقولة عنهما«هل). (3
وعليه ،فالشـاطبي ل يعتمد في إثبـات القطع في الشـرعيات
إل على السـتقراء ،وهـذا من جديده ،اعتمده في كتابه وعدييه
السبيل الوحيد للقطع وصرح بأنه خاصية لكتابه ،قال مشيراا إلى
مقدمتـه الثالثـة هذه» :ومريي أيضاا بيان كيفية اقتناص القطع
من الظنيـات وهي خاصـية هذا الكتـاب والحمد ل«هل ). (4
والستقراء هو أن تكثر الدلة الدالة على معنى معين ،أو
يفيد العلم :أي يفيد العلم القطعي .والعلم يقابله الظن . )( 2
174
الحكاما التي ييظينيي لها حكمة أو نتيجة معينة .فدللة الدليل
ظنية ،وكون الشارع قاصداا لمعنىا معين أو لحكمة معينة أمر
ظني ،ول يصح اتخاذ الظني أصلا في الفقه أو التشريع ول البناء
عليه ،فإذا كثرت وتضافرت الدلة أو الحكاما على معنىا معين،
يحصل الستقراء المفيد للقطع ،وتصبح هذه المعاني أصولا .قال:
»إذا تكاثرت على الناظر الدلة عضد بعضها بعضاا ،فصارت
بمجموعها مفيدةا للقطع ،فكذلك المر في مآخذ الدلة في هذا
الكتاب وهي مآخذ الصـول«هل) . (1وأضـافَّ» :إل أن المتقدمين من
الصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل
إغفاله من بعض المتأخرين«هل) . (2ونيبييه إلى انه بهذا الغفال ل
يحصل لنا القطـع بحكم شـرعي البتة ،وأن دللة الجماع على
الحكاما الشرعية ل تثبت). (3
وقد أورد الشاطبي في كتابه أمثلة كثيرةا تدل على منهجه
الستقرائي في القطع ،فيما يلي أحدها :يقول» :فقد اتفقت المة
بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات
الخمس وهي :الدين والنفس والنسل والمال والعقل ،وعلمها عند
المة كالضروري ،ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ،ول شهد لنا
أصل معين يمتاز برجوعها إليه ،بل علمت ملءمتها للشريعة
بمجموع أدلة ل تنحصر في باب واحد ،ولو اسـتندت إلى شـيء
معيـن لوجبِّ عادةا تعييـنه ،وأن يرجع أهل الجماع إليه ،وليس
كذلك .لن كل واحد منها بانفراده ظني ،ولنه ل يتعين في
التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون
سـائر الخبار ،كذلك ل يتعين هنا لسـتواء جميـع الدلة في
إفادةا الظن على فرض النفراد«هل). (4
175
فإثبات حفظ الدين مثلا ،كأصل ضروري ،يتطلبِّ ـ عنــده ـــ
اثبات القواعد الخمس كالصلةا والزكاةا وغيرهما إثباتــاا قطعيــاا
بالستقراء .يقول» :ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس
كالصلةا والزكاةا وغيرهما قطعاا .وإل فلو ا ســتدل م ســتدل علــى
وجوب الصلةا بقوله تعالى (1) ] [ :أو ما شــابه
ذلك لكان في الستدلل بمجرده نظر من أوجه ،لكن حف بذلك من
الدلة الخارجية والح كــاما المترتبــة مــا صــار بــه فــرض ال صــلةا
ضرورياا في الدين ل يشك ف يــه إل شــاكيي فــي أ صــل ا لــدين«هل). (2
وقال» :فنحن إذا نظرنا في الصلةا فجاء فيها [
] .على وجوه ،وجاء مدح المت صــفين بإقامت هــا وذما ال تــاركين ل هــا
وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياماا وقعوداا وعلى جنــوبهم
وقتال من تركها أو عاند في تركها إلى غير ذلــك م مــا فــي هــذا
المعنى .وكذلك النفـس نهـى عـن قتلهـا ،وجعـل قتلهـا موجبـاا
للقصاص متوعداا عليه ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك كما
كانت الصلةا مقرونةا باليمان ،ووجبِّ سد رمق المضطر ،ووجبــت
الزكاةا والمواساةا والقياما علــى مــن ل ي قــدر علــى إ صــلح نف ســه
وأقيمت الحكاما والقضاةا والملوك لذلك ،ورتبت الجناد لقتال مــن
راما قتل النفس ،ووجبِّ على الخائف من الموت سد رمقه ب كــل حللم
وحراما من الميتة والدما ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضــافَّ لهــذا
المعنى ،علمنا يقيناا وجوب الصلةا وتحريــم القتــل وهكــذا ســائر
الدلة في قواعد الشريعة .وبهذا امتــازت ال صــول عــن ال فــروع إذ
كانت الفروع مستندةا إلى آحاد الدلة وإلى مآخذ معينه فبقيت على
أصلها من الستناد إلى ال ظــن بخلفَّ ال صــول فإن هــا مــأخوذةا مــن
استقراء مقتضيات الدلة بإطلق ل من آحادها على الخصوص«هل). (3
هذه النصوص أعله تبين مراده بالستقراء ،وأن الستقراء هو
176
الطريق الوحيد للقطع في الشرعيات ،وأن الستقراء هو ليس للدلة
التي هي النصوص ،وإنما لمعانيها ،ومعانيها هي دللتها اللغوية
وحكمها ونتائجها ،وهذه كلها ظنية إذا اعتمد فيها على آحاد
النصوص ،فل تعتمد في التشريع إل إذا تواترت ،فالتواتر المقصود
هو تواتر المعاني ،ولذلك رأيناه يقول» :وهو شبيه بالتواتر
المعنوي«هل) ، (1وانظر إلى قوله في النص السابق» :بخلفَّ الصول
فإنها مأخوذةا من استقراء مقتضيات الدلة بإطلق«هل فهو لم يقل:
»من استقراء الدلة«هل .وإنما» :من استقراء مقتضياتها«هل،
ومقتضياتها هي دللتها أو معانيها .ثم قوله» :بإطلق«هل ،فهو ل
يقصر المعاني على الدللت اللغوية وإنما تشمل أيضاا حكمها أو
مقاصدها أو مسبباتها.
وينبني على هذه المقدمة أحد أهم الصول عند الشاطبي ،أصل
بمثابة الروح لكل منهجه .يقول» :وينبني على هذه المقدمة معنى
آخر وهو :إن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملئماا
لتصرفات الشرع) ، (2ومأخوذاا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى
عليه ،وييرجع إليه إذا كان ذلك الصل قد صار بمجموع أدلته
مقطوعاا به ،لن الدلة ل يلزما أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها
دون انضماما غيرها إليها كما تقدما ،لن ذلك كالمتعذر ،ويدخل
)(3
تحت هذا ضرب الستدلل المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي ،
قوله بالمناسبِّ المرسل ،أو بالستدلل ،وكذلك تعارض آراء أئمة الشافعية
في القول بالمرسل أو بالستدلل ،وكذلك اختلفهم فيما ينسبِّ إلى المــاما
الشافعي رحمه ال .وبيييينييا بعــد ذلــك اختلفَّ المقصــود بالمرســل عنــد
الئمة ،واختلفَّ المواقف بناء على ذلك .والنص أعله ينسبِّ إلــى المــامين
177
فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي ،والصل
الكلي إذا كان قطعياا قد يساوي الصل المعين وقد يربى عليه
)(1
بحسبِّ قوةا الصل المعين وضعفه ...كذلك أصل الستحسان
على رأي مالك ينبني على هذا الصل«هل) . (2ونلحظ في هذا النص
أن الصل الكلي )المعنوي( أقوى من النص في دللته وذلك لن
الصل الكلي قطعي في معناه ،أما النص فالقطع بمعناه متعذر أو
نادر إن وجد.
المقاصـد الوأل وأالمقاصـد التابعة:
يقول الشـاطبي في مقدمته السـابعـة» :كل علمم شـرعـي
فطـلـبِّ الشـارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به ل
تعالى ل من جهةم أخرى .فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع
والقصد الثاني ل بالقصد الول«هل) . (3وذلك أن المر أو النهي إذا
جاء من الشـارع فقصـد الشـارع إيقـاع المأمـور بـه وعــدما
إيقـاع المنـهـي عـنـه ،وهذا هو القصـد الول .بتعبيــر آخـر
القصــد الول هـو الطاعــة من غير التفات إلى النتائج أو
المصـالح ولذلك فالعلـم الشـرعي هو ما يفيــد في معرفـة أمـر
رحمهما ال القول بالستدلل المرسل ،إل أنه يقيد ذلك بما هو ثــابت علــى
وجه القطع ،وبما هو متفق مع منهجه .وهذا يوقع في النفس أن هذا المنهــج
الستقرائي في القطع والعتماد على نتائجه معمول به عنــد الئمــة ،وربمــا
كان هذا هو بعض مراده بقوله » :إل أن المتقــدمين مــن الصــوليين ربمــا
تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل إغفاله من بعض المتــأخرين«
. 1/15وكذلك ما جاء في خطبة كتابه رداا لنكار من قد ينكر ما جاء في
منهجه » :فإنه بحمد ال أمر قررته اليات والخبــار وشــد معاقــده الســلف
الخيار ورسم معالمه العلماء الحبار ،وشيد أركانه انظار النظار ،وإذا وضح
السبيل لم يجبِّ النكار ووجبِّ قبول ما حواه «هل خطبة الكتاب .ص. 9 :
1
) ( ينسبِّ إلى الماما مالك رحمه ال قــوله » :الستح ســان ت ســعة أع شــار
العلم« .ومراد الشاطبي بالستحسان ت قــديم مع نــى أو أ صــل قط عــي علــى
القياس ،أو تخصيص القياس بمعنى كلي .وسنفرد له بحثاا إن شاء ال.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/16 . 2
178
ال -سـبحانه وتعالى -ونهيه ،لجل معرفة كيف يطاع وكيف
يعبد ،وذلك معنى قوله» :وسيلة إلى التعبد«هل.
فإذا ظهر أن في إيقاع ذاك الفعل أو في منعه م صــلحة دنيو يــة
للمكلف ،فإذا كانت هذه المصلحة قـد ثبــت كونهـا معنــىا كليــاا
قطعياا قصده الشارع بتشريع ذلــك الح كــم ،ت كــون حينئــذم أ صــلا
قطعياا ،وهي مثل النص وتحصيلها بنية الطاعة هو بمثابــة القصــد
الول .وإذا كانت تلك المصلحة المتوقعة ـ قطعاا أو ظنــاا ـــ لــم
يثبت قطعاا كونها مق صــداا لل شــارع بت شــريع ذلــك الح كــم ،فهـو
المقصد الثاني أو المقصد التابع .أي التابع للمقصد الول ،والمعنى
بناءا على ما يقرر الشاطبي في مقدماته ،أن هذا المعنى الثاني ظني،
فل ييعيديي أصلا ،ول اعتبار له في التشريع .ولكــن ل يمكــن نفيــه
البتة ،إذ قد يتيسر له استقراء يجعله قطعياا .ولذلك ينظر فيه فإن
كان مما يقويقي التمسك بالقصد الول فإنه ييعتبر ،وإن كان م مــا
يضعف أو يضاد القصد الول ييريدي .والقصد الول هو التعبد فيكون
القصد الثاني معتبراا إذا كان وسيلة للقصد الول .ولذلك سيميقيي
تبعياا أو إضافياا .فمثلا :القصد الول من طلبِّ العلم والتعلم هــو
العمل .قال» :كل علم ل يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل علــى
استحسانه«هل) . (1وقال» :إن الشرع إنما جاء بالتعبد و هــو المق صــود
من بعثة النبياء عليهم السلما«هل) . (2وقال» :بل أدلة التوحيد هكــذا
جاء مساق القرآن فيها ، (3) :إل كذا ،وهو واضح في
أن التعبد ل هو المقصود من العلــم ،وال يــات فــي هــذا المع نــى ل
تحصى«هل ) . (4وقال» :روح العلم هو العمل وإل فالعلم عارية وغيــر
منتفع به«هل) . (5ثم قال» :ول ينكقــر ف ضــلي العلــم فــي الجملــة إل
179
جاهل ،لكن له قصد أصلي وقصد تــابع ،فالق صــد ال صــلي مــا ت قــدما
ذكريه ،وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور مــن كــون صــاحبه
شريفاا وإن لم يكن في الصل كذلك .وأن الجاهل دنيء وإن كــان
في أ صــله شــريفاا ...وأن العلــم ج مــال و مــال ورتبــة ل توازي هــا
رتبة«هل ). (1
ثم قال» :فقد يطلبِّ العلم للتفكه به والتلذذ بمحادثته ول
سيما العلوما التي للعقول فيها مجال وللنظر في أطرافها متسع
ولستنباط المعلوما من المجهول فيها طريق متييسع ،ولكن كل تابع
من هذه التوابع إما أن يكون خادماا للقصد الصلي أو ل ،فإن كان
خادماا له فالقصد إليه ابتداء صحيح ،...وإن كان غير خادما له
فالقصد إليه ابتداء غير صحيح كتعلمه رياءا أو ليماري به السفهاء
أو يباهي به العلماء ،أو يستميل به قلوب العباد ،أو لينال من
دنياهم«هل ) . (2وقال أيضاا» :المقاصد الشـرعية ضربان :مقاصـد
أصـلية ومقاصد تابعية ،فأما المقاصد الصلية فهي التي ل حظ
فيها للمكلف«هل) . (3وقال» :وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي
فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جيبلي عليه من
نيل الشـهوات والستمتاع بالمباحات وسد الخلت«هل). (4
فالشاطبي يطلق المقاصد التابعية على ما تؤول إليه الحكاما
مما يميل إليه العبد بطبعه وفطرته ،وهذه يعتمد اعتبارها أو ردها
على كونها وسيلة إلى المقصد الول أو ليست كذلك .فإن كانت
وسيلة إلى المقصد الول أو خادماا له فهي مقصد شرعي تابع ،وإن
لم تكن كذلك فهي ليست مقصداا للشارع ،وربما تكون مقصداا
للمكلف ،فإن كانت مضادةا للقصد الول فهي حراما.
180
خإواص الكليات:
يقول الشاطبي في مقدمته التاسعة إن العلوما الشرعية تجاري
العلوما العقلية من حيث إمكانية القطع بها أو استفادةا القطع منها.
وكما أن الحقائق الشرعية هي وضعية أي بجعل الشارع لها
كذلك فحقائق الوجود والشياء هي أيضاا وضعية بجعل الخالق
لها كذلك يقول» :فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادةا العلم
القطعي .وعلم الشريعة من جملتها ،إذ العلم بها مستفاد من
الستقراء العاما الناظم لشتات أفرادها حتى تصير في العقل
مجموعةا في كليات :مطردةا عامة ،ثابتة غير زائلة ول متبدلة ول
محكوما عليها ،وهذه خواص الكليات العقليات ،وأيضاا فإن الكليات
العقلية مقتبسة من الوجود ،وهو أمر وضعي ل عقلي فاستوت مع
الكليات الشرعية بهذا العتبار وارتفع الفرق بينهما«هل) . (1وعلى
ذلك فللكليات الشرعية ثلثا خواص :إحداها العموما والطراد...،
والثانية الثبوت من غير زوال ...،والثالثة كون العلم حاكماا ل
محكوماا عليه). (2
معنى الخاصية الولى أن الحكاما الشرعية تجري في أفعال
المكلفين على الطلق ،فما من فعل إل محكوما عليه بكلية شرعية،
وإن فيرض فعلي ليس محكوماا عليه بكلية ما ،فهو محكوما عليه
بكليةم غيرها). (3
ومعنى الخاصية الثانية أن الكليات ل تنسخ ول تخصص ول
تقيد ،ول تتغير بحسبِّ زمان أو مكان ،بل إن ما نستفيده من مقارنة
الشاطبي للكليات الشرعية بالكليات العقلية أن الكليات الشرعية
ليست مجرد حقائق قطعية وإنما هي حقائق قطعية مطلقة ،فل
تختص بزمان دون زمان ول بمكان دون مكان ول بمكلف دون
181
مكلف .يقول» :فل تجد فيها بعد كمالها نسخاا ،ول تخصيصاا
لعمومها ،ول تقييداا لطلقها ول رفعاا لحكم من احكامها ،ل بحسبِّ
عموما المكلفين ول بحسبِّ خصوص بعضهم ول بحسبِّ زمان دون
زمان ول حال دون حال ،بل ما أثبت سبباا فهو سببِّ أبداا ل يرتفع،
وما كان شرطاا فهو أبداا شرط ،وما كان واجباا فهو واجبِّ أبداا أو
مندوباا فمندوب وهكذا جميع الحكاما فل زوال لها ول تبدل ،ولو
فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك«هل)، (1
ومعنى الخاصية الثالثة أنه ل يوجد في العلوما الشرعية شيء تنقضه
الحقائق سواء الشرعية أو العقلية ،أو تعارضه بحيث يضطر إلى
تأويله تأويلا ل يحتمله النص ،لنه يصير إذ ذاك محكوماا وليس
حاكماا). (2
ويبين الشاطبي أن هذه الكليات هي الصل في علوما الشريعة
وهي مآخذ الحكاما .والمعتمد في التشريع هو ما كان كلياا أو
راجعاا إلى كلي فما كان كذلك فهو من صـلبِّ العلم ،وما لم
يكـن كـذلك فل اعتبار له على منهجه .يقول» :من العلم ما هو
من صلبِّ العلم ومنه ما هو من ملح العلم ل من صلبه ومنه ما ليس
من صلبه ول من ملحه فهذه ثلثة أقساما .القسم الول هو الصل
والمعتمد والذي عليه مدار الطلبِّ وإليه تنتهي مقاصد الراسخين ،
وذلك ما كان قطعياا أو راجعاا إلى أصل قطعي«هل ) . (3وقال:
»والقسم الثاني وهو المعدود في ملح العلم ل في صلبه :ما لم يكن
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/45 ، 1
) ( وعلى ذلك فالكليات سواء كانت عقلية أو شرعية هي حقائق مطلقة، 2
والحقائق الشرعية هي حقائق عقلية أيضاا ،لنها مبنية على الثبوت العقلي
القطعي لنبوةا سيدنا محمد ، وعلى القطع بصدق رسالته وخبره .فالقطع
بكون القرآن من عند ال طريق ه العقل أساساا .وعلى ذلك فالخبار
الشرعية وكل ما جاء به النبي مما ل مجال للعقل في بحثه مبني على
العقل من حيث أن صدق الخبر مقطوع به عقلا .
الموافقات . 1/43 .وسنبين بعد قليل مراد الشاطبي بالرجوع إلــى )( 3
أصل قطعي.
182
قطعياا ول راجعاا إلى أصل قطعي ،بل إلى ظني أو كان راجعاا إلى
أصل قطعي ،إل أنه تخلييف عنه خاصة من تلك الخواص ،أو أكثر
من خاصة واحدةا ،فهو ميخيل) ، (1ومما يستفز العقل ببادئ الرأي
والنظر الول من غير أن يكون فيه إخلل بأصله ول بمعنى
غيره«هل ) . (2وهذا القسم مطرح عند الشاطبي). (3
والقسم الثالث وهو ما ليس من الصيليبِّ ول من المقليح ،وهو
ما لم يرجع إلى أصل قطعي ول ظني ،وإنما شأنه أن يكريي على أصله
أو على غيره بالبطال مما صح كونه من العلوما المعتبرةا والقواعد
المرجوع إليها في العمال والعتقادات أو ما كان منهضاا إلى
إبطال الحق وإحقاق الباطل فهذا ليس بعلم لنه يرجع على أصله
بالبطال ،فهو غير ثابت ول حاكم ول مطرد أيضاا ،ول هو من
ملحه ،لن الملح هي التي تستحسنها العقول وتستملحها
النفوس«هل ) . (4وقال عن هذا القسم» :وإن مال بقوما فاستحسنوه
وطلبوه فلشبه عارضه واشتباه بينه وبين ما قبله فربما عده
الغبياء مبنياا على أصل ،فمالوا إليه من ذلك الوجه ،وحقيقة أصله
وهم وتخييل ل حقيقة له مع ما ينضافَّ إلى ذلك من الغراض
والهواء«هل). (5
) ( أي :يوقع في القلبِّ خيال الصحة ،فهو م م ا تتلقاه العقول بالقبول أو 1
تستملحه النفوس .وفــي هــذا الق ســم تقــع -عنــد الشــاطبي -المعــاني أو
الوصافَّ التي تأتي في مسلكي المناسبة والشبه ،أو بطريق الستدلل ما لــم
تكن قطعية .
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/45 . 2
) ( موقف الشاطبي من المعاني الواقعة في هذا القسم يشبه موقف السادةا 3
الحنافَّ من مسلك المناسبة ،إذ هو ظني ول يرجع إلى أصل قطعي ،والظن
فيه هو ليس من قبيل الظن المعمول به في الشرعيات وإنما هو ظن عقلــي
محض .ولذلك فهذا القسم غير معتبر ،وقد تتوفر للمعاني أدلة تســتكمل
بها خوا ص ها الثلثا فتعد من المعتبر ،وقد يتوفر لها ما تعد به مــن الق ســم
الثالث لجنايته على الشريعة .أنظر. 50 - 1/46 :
) ( الشاطبي ،الموافقات . 1/51 . 4
183
وهذه النصـوص عن الشاطبي تشير أو تؤسس لموقفه من
مسلك الخالة والمناسبة ،أو كيفية اعتبار المصلحـة ،والبحث
التالي يبين بشـكل أوضح موقفه هذا في كيفية اعتبار المصالح أو
الحقكيم في التشـريع.
مإعنى الرجأوع إلى أصـل قطعي:
قال الشاطبي إن الصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلبِّ ما
كان قطعياا أو راجعاا إلى أصل قطعي ). (1جاء في مقدمته الولى
قوله» :واعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات
والتحسينيات«هل ) . (2وجاء في مقدمته التاسعة» :الضروريات
والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل لها ومتمم لطرافها وهي
أصول الشريعة وقد قاما البرهان القطعي على اعتبارها وسائر
الفروع مستندةا إليها«هل). (3
واشتراط القطع بأصول الفقه معروفَّ ومشهور عند
الصوليين ،وقد أشار إلى ذلك الشاطبي في مقدمته الولى .ومراد
الصوليين بالصول التي يجبِّ أن تكون قطعية الدلةي الجماليةي أو
المصادري الكلية للتشريع وهي القرآن والسنة والجماع والقياس.
أما غير ذلك من مباحث الصول مثل مسالك العلة وشروطها،
ومثل مباحث العموما والخصوص والمطلق والمقيد وشروط
الرواية والرواةا فهذه ل يشترط فيها القطع وييكتفى فيها بغلبة
الظن.
قال الجويني» :فإن قيل :فما الفقه؟ قلنا :هو في اصطلح
علماء الشريعة العلم بأحكاما التكليف .فإن قيل :معظم متضميين
مسائل الشريعة ظنون .قلنا :ليست الظنون فقهاا ،وإنما الفقه
العلم ) ( 4بوجوب العمل عند قياما الظنون ،ولذلك قال المحققون:
) ( أي العلم القطعي بوجوب العمل بموجبِّ الخبار الظنية في ثبوتها أو 4
184
أخبار الحاد وأقيسة الفقه ل توجبِّ عملا لذواتها ،وإنما يجبِّ
العمل بما يجبِّ به العلم بالعمل وهي الدلة القاطعة على وجوب
العمل عند رواية أخبار الحاد وإجراء القيسة .فإن قيل :فما أصول
الفقه؟ قلنا :هي أدلته ،وأدلة الفقه هي الدلة السمعية وأقسامها
نص الكتاب ،ونص السنة المتواترةا ،والجماع ومستند جميعها قول
ال تعالى .ومن هذه الجهة تستمد أصول الفقه من الكلما .فإن قيل:
تفصيل أخبار الحاد والقيسة ل ييلفى إل في الصول وليست
قواطع .قلنا :حظ الصولي إبانة القاطع في العمل بها ولكن ل بد
من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به«هل). (1
وقال الماما جمال الدين عبد الرحيم السنوي» :وأما بالحاد
فهو باطل لن رواية الحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن ،والشارع إنما
أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد
أصول الدين وكذلك قواعد أصول الفقه كما نقله النباري شارح
البرهان عن العلماء قاطبةا«هل). (2
وقال البيضاوي» :أصـول الفقـه معرفـة دلئـل الفقـه
إجمالا وكيفيـة السـتفادةا منها وحال المستفيد«هل ). (3
وقال السنوي في شرحه للنص أعله» :والمراد بمعرفة
الدلة أن يعرفَّ أن الكتاب والسنة والجماع ،والقياس أدلة يحتج
بها ...واعلم أن التعبير بالدلة مخرج لكثير من أصول الفقه
كالعمومات وأخبار الحاد والقياس والستصحاب وغير ذلك فإن
الصوليين وإن سلموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل
185
أمارات له فإن الدليل عندهم ل يطلق إل على المقطوع به«هل). (1
وعلى ذلك فمراد الصوليين ،قبل الشاطبي ،بأصول الفقه التي
يجبِّ أن تكون قطعية هو القرآن والسنة وما يرشدان إليه من
مصادر إجمالية وهي الجماع والقياس .أما الشاطبي فهو ل يقصر
اشتراط القطع على هذه المصادر ،إذ الكليات عنده هي الضروريات
والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها .فإذا علمنا أن
الضروريات عنده هي حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال،
فهذا يدل أن هذه المقاصد يجبِّ أن تكون قطعية كي تعتبر ،فل
يكتفي فيها بالظن وبكونها مستندةا إلى أصول قطعية كالقرآن
والسنة .وكذلك إذا علمنا أن مشروعية النكاح ،ورفع الضرر،
وعدما التكليف بالمشقات المعنتة هي من المقاصد الحاجييية عنده
فهذا يعني انها يجبِّ أن تثبت على سبيل القطع كي تعتبر .وكذلك
يقال في مرتبة التحسينيات وفي المكميقلت .فإذا ثبتت هذه المعاني
تصبح أصولا أي مصادر للتشريع عنده ،يستدل بها كما يستدل
بالنصوص الشرعية.
وإذا لم تثبت المعاني ثبوتاا قطعياا بطريق الستقراء فإما أن
ترجع إلى أصل قطعي وإما أن ل ترجع .فإن رجعت إلى أصل قطعي
فل إشكال في إعمالها في التشريع .وإن لم ترجع ففي المر تفصيل
يذكر في موضعه إن شاء ال .قال» :كل دليل شرعي إما أن يكون
قطعياا أو ظنياا .فإن كان قطعياا فل إشكال في اعتباره ...وإن
كان ظنياا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو ل ،فإن رجع إلى قطعي
فهو معتبر أيضاا ،وإن لم يرجع وجبِّ التثبت فيه ولم يصح اطلق
القول بقبوله«هل). (2
أما معنى الرجوع إلى أصل قطعي ،فمثاله :قــول النــبي » :ل
186
ضأرر وأل ضأرار«) ، (1فهو خبر آحاد غير قطعي ،ولذلك فهو ـ على
منهج الشاطبي ـ جزئية ،وليس أصلا قطعياا كلياا ،فل يصح إعماله
حتى يثبت رجوعه إلى أصل قطعي ،ول يقال هنا إنه من السنة وهــي
مصدر قطعي أو أصل كلي ،إذ ليس هذا معنــى الر جــوع إ لــى أ صــل
قطعي عند الشاطبي ،وإن مــا المعنــى هــو أن ي كــون معنــى ال حــديث
موافقاا لمعنى شرعي قطعي أي لمعنــى كلــي ،ثبــت كــونه كليــاا
باستقراء أدلة كثيرةا )جزئيات( تضافرت على هذا المعنــى .يقــول
الشاطبي» :قوله عليه الصلةا والسلما» :ل ضأرر وأل ضأرار« فإنه
داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مبثــوثا
منعه في الشريعة في وقائع جزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى:
2
[ [( )، ]
(4) ] [(3)، ] الية،
ومنه النهي عن التعدي على النفــوس والمــوال والعــراض ،وعــن
الغصبِّ والظلم ،وكل ما هو في المعنى إ ضــرار أو ضــرار ،و يــدخل
تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال ،فهو معنى في
غاية العموما في الشريعة ل مراء فيه ول شك«هل). (5
والكثار من النصوص والشواهد التي يستدل بها إنما هو ليتم
الستقراء ومن ثم القطع .وبهذا يصير معنى رفع الضرر أصلا
كلياا ،والمعنى الذي يتضمنه الحديث ،وافق الصل الكلي ،وهو
جزئية ،وبذلك يقال إنه راجع إلى أصل كلي فيكون معتبراا.
وبهذا يتأكد مقصود الشاطبي بلفظ الصول ،وبمنهج
تقريرها وهو الستقراء وبمعنى الرجوع إلى أصل قطعي ،وهو من
بعض جديده الذي يقفنا على بعض ضوابط أو قواعد منهجه .وقد
تقدما تخريجه. )( 1
187
أشار هو -رحمه ال -إلى هذا الختلفَّ بينه وبين الصوليين قبله.
قال» :واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الصل القطعي ليس بإقامة
الدليل على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو
بالقياس واجبِّ مثلا .بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدما في
حديث »ل ضرر ول ضرار«هل والمسائل المذكورةا معه وهي معنى
مخالف للمعنى الذي قصده الصوليون وال أعلم«هل). ( 1
الجـزئاي وأالفـرع وأالفـرق بينهما:
تبيين فيما سبق أن أصول الفقه هي كليات مأخذها الجزئيات.
وأن هذه الجزئيات هي دللت ومعاني النصوص الشرعية .وإن هذه
الجزئيات ظنية فل تعتبر إل إذا كانت راجعةا إلى الكليات .ومعاني
النصوص الشرعية هي دللتها اللغوية ،والوصافَّ المخيلة أو
المناسبة للحكاما ،ومآلت ونتائج ومسببات الحكاما ،فهذه وإن
كانت ظنية تدل عليها النصوص ،أو ل تدل عليها وإنما هي مظنة أن
تكون مقصودةا للشارع ،فهذه جزئيات.
فإذا رجع أحد هذه المعاني -وهو جزئي -إلى أصل كلي،
ييسمييى حينئذم فرعاا .وعلى هذا فكل فرعم جزئيي وليس كل
جزئي فرعاا .وعدما رجوع الجزئي إلى كلي فرقي يمييقز الجزئي
عن الفرع.
يتبين هذا الفرق من التتبع التحليلي لنصوص الشاطبي حيث
يستعمل هذين اللفظين وفيما يلي توثيق ما ذكرناه:
قال الشاطبي في مقدمته الولى» :الحفظ المضمون في قوله
)(2
تعالى] [ :
إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة وهـو المـراد بقـوله
تعالى (3) ] [ :أيضاا .ل أن المراد
188
المسائل الجزئية إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الح فــظ جز ئــي
من جزئيات الشريعة ،وليس كذلك لنا نقطــع بــالجواز ويؤيــده
الوقوع لتفاوت الظنون وتطرق الحتمالت في النصــوص الجزئيــة
ووقوع الخطأ فيها قطعاا .فقد وجد الخطأ في أخبار ال حــاد ،و فــي
معاني اليات ،فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ مــا كــان منــه
كلياا«هل ). (1
وقال في مقدمته التاسعة» :ما كــان قطعيــاا أو راجعـاا إلــى
أصل قطعي ،والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الــوجه،
ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال تعالى [ :
، ] لنها ترجع إلى
حفظ المقاصد التي بها ي كــون صــلح الــدارين ،و هــي ال ضــروريات
والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل لها ومتمم لطراف هــا ،و هــي
أصول الشريعة ،وقد قاما البر هــان القط عــي علــى اعتبار هــا و ســائر
الفروع مستندةا إليها ،فل إشكال في أنها علمي ،أصلي ،راسخ الساس،
ثابت الركان«هل ). (2
فالنص الول أعله يقول بأن الجزئيات ل تدخل في معنى
الحفظ المقصود بالية الكريمة ،والنص الثاني يقول بأن الفروع
محفوظة بدليل الية نفسها .وبمعرفة أن الجزئيات هي مأخذ
الكليات ،ومعنى الرجوع إلى القطعي ،يتأكد الفرق المذكور
آنفاا). (3
) ( وبناء على هذا يمكن القول إن ما ذهبِّ إليه محققو كتاب الموافقات 3
189
وبهذا يتبيين أن الشاطبي ل يأخذ بمسلك الخالة والمناسبة
بالشكل الذي يقوله علماء الشافعية ،وهو أيضا ،ل يطرحه كما فعل
علماء الحنفية ،وإنما هو يشترط للمعنى أو الوصف المقترح
للتعليل أن يكون راجعاا إلى قطعي ،وبغير ذلك فهو ل يأخذه.
وكذلك ل يرده إذ قد تتوفر له جزئيات تتضافر معه لتشكل معنى
قطعياا .وهذا مما يجبِّ التنبه إليه لدراك منهج الشاطبي.
190
المبحث الثاني
فـي المسـتندات
تمهيد:
خصييص الشاطبي القسم الثاني من كتاب الموافقات لبحث
الحكاما الشرعية والحكاما الشرعية ترجع إما إلى خطاب التكليف
وإما إلى خطاب الوضع .وخطاب التكليف خمسة أنواع :الواجبِّ أو
الفرض ،والمندوب ،والمباح ،والمكروه ،والحراما .وخطاب الوضع
خمسة وهي :السببِّ،والشرط ،والمانع ،والصحة والفساد والبطلن،
والرخصة والعزيمة.
وقد تح ـ دثا الشـاطبي في كتـاب الحكاما) (1عن هـذه
النـواع ،وأكثـر ما فصيـل فيه فيما يتعلق بخطاب التكليف بحثه
في المباح ،وفيما يتعلق بخطاب الوضع بحثه في السـببِّ وفي
الرخصة والعزيمة.
ويعود ذلك الى ما لهذه الحكاما من تأثير في فكرةا المقاصد
عنده .فإذا علمنا أن فكرته تقوما على أن كل الحكاما الشرعية
ترجع إلى أصول كلية مصلحية ،فإن المباح وهو حكم شرعي من
أحكاما التكليف ،ومعناه ما خييير الشارع فيه بين الفعل والترك،
يتناقض مع هذا الصل وينقض فكرته التي هي -بنظره -أصل
قطعي كلي .فالذن بالفعل يعني أن هناك مصلحةا يقصد الشارع
وجودها ،والذن بالترك يعني ان الشارع ل يقصد وجود تلك
المصلحة ،وهذا تناقض وينقض فكرةا أن الحكاما كلها لها غايات أو
مقاصد.
ولهذا فإن الشـاطـبـي يـوجيقـه النـظـر إلى المباح بطريقة
مختلفة .فيقول إن التخيير في المباح هو من حيث كونه جزئياا،
وهذا ل ينقض الفكرةا لن الغايات المصـلـحـيـة تنطبق على
191
الصول الكلية وليس على الجزئيات ،وفي الكليات ل يوجد تخيير.
إذ المباح هو مباح بالجزء ولكنه مطلوب الفعل أو مطلوب الترك
بالكل .وينطبق القول نفسه على الرخصة والعزيمة ،إذ حكم الخذ
بالرخصة أو تركها الباحة ،فإذا كان إتيان الرخصـة وإتيـان
العزيمـة مباحيينن فأين المصلحة ،أهي في الخذ بالرخصة أما في
الخذ بالعزيمة؟ لهذا يطول بحث الشاطبي في المباح وفي الرخصة،
وذلك كي يحافظ على صحة فكرته.
أما بحث السـببِّ فهو أسـاس مهم لفكرته ،إذ هي تقوما على أن
الحكاما الشرعية لها مقاصد ،وإنما كانت الشريعة لجل تحقيق
هذه المقاصد ،فهذه المقاصد هي مسببات أو نتائج ،أسبابها هي
الحكاما الشرعية .فالحكم الشرعي سببِّي لمسبييبِّ ،والفعل المطلوب
له غاية تنتج عنه ،ومثلما قصد الشـارع إيقاع الفعل المطلوب ،فهو
قصـد أيضاا حصول الغايـة منه ،والفعل المنهي عنه له غاية أو
نتيجة قصد الشارع عدما وقوعها ،ومثلما قصد الشارع عدما وقوع
الفعل ،فهو قصد أيضاا عدما وقوع نتيجته ،لذلك فإن بحث السباب
والمسببات هو الساس الذي تستند إليه فكرةا المقاصد عند
الشاطبي.
المباح:
ربما يستغرب قارئ بحث المباح عند الشاطبي تطويله
وتفصيله في هذا البحث ،واختلفَّ تقريراته عن غيره من
الصوليين ،بحيث يكاد يكون بحثه في الحكاما التكليفية بحثاا في
المباح فقط ،وبحثه في سائر الحكاما الخرى وهي الواجبِّ
والمندوب والمكروه والحراما تقتصر على جمل أو فقرات قليلة.
إل أن دراسة هذه البحاثا ،بعد الوقوفَّ على فكرته في
المقاصد ،تلقي أضواءا تبريقر هذا المنهج ،وذلك أن الشاطبي يجعل
ما تأصل لديه من قواعد كلية ،ومن علقة هذه القواعد فيما بينها
أساساا لرائه وتقريراته في المباح .وهذا يقتضي عرض بعض
192
أصول أو قواعد فكرةا المقاصد عنده.
يقطع الشـاطبي -اسـتقراءا -أن الشـريعة إنما جاءت لمصالح
العباد ،وهذه المصالح هي مقاصد التشريع ،وهي ل تعدو أن تكون
ثلثة أقسـاما :ضـرورية وحاجيـة وتحسـينية ،ولكل يق من هذه
القساما مكملته.
وكل مقصد يجبِّ أن يكون كلياا قطعياا ،ويجبِّ أن يعود
بالخدمة والتأكيد على المقاصد الضرورية وهي :حفظ الدين
والنفس والعقل والنسل والمال .والتحسينيات خادمة للحاجيات،
وكلتاهما تخدمان الضروريات.
والحكاما الشـرعية يجبِّ أن ترجع إلى أحد الصـول
التحسـينية أو الحاجية أو الضرورية ،بمعنى أنه يجبِّ أن يكون
مقصد كل حكم مؤيداا أو خادماا لمصلحةم ثبتت بالستقراء كليةا
قطعية في إحدى المراتبِّ الثلثا .وإن لم يظهر رجوع الحكم إلى
أصلم ما فإما أن يكون مردوداا وإما أن ييتيويقييف فيه.
ومعنى أن الشريعة جاءت لمصالح العباد ،أنه ل يوجد حكم ل
يعود بالمصلحة على العباد ،حتى ولو لم يكن عائداا بالضرر،
وتصور وجود هكذا حكم يعني أنه عبث ،والشريعة ليس فيها عبث.
والفعل المطلوب شرعاا ،سواء كان واجباا أو مندوباا ،هو
خادماي لصل كلي أو أكثر من الصول التي هي مقاصد الشريعة.
والفعل المنهي عنه شرعاا ،سواء كان حراماا أو مكروهاا،
يهدما أو يخدما هدما أصلي كلي أو أكثر من الصول التي هي
المقاصد أو المصالح.
بهذه الصول أو القواعد لفكرةا المقاصد يتوجه بحث المباح
عند الشاطبي.
فإذا قيل إن المباح هو ما خييير الشارع فيه بين الفعل والترك،
أو هو ما ل ييذيماي ول ييمديحي فاعله ول ييذما ول ييمدح تاركيه ،أو
193
هو ما يستوي طرفا الفعل والترك فيه عند الشارع ،أو ما دل الدليل
السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك ،أو ما
شابه هذه القوال ،فإن هذا مشكلي على تلك القواعد ،إذ إن الفعل له
حكمة وتركه يفويقت الحكمة ،وإذا كانت الحكمة المقصودةا هي
بترك الفعل فالقياما به يفويقتها .وإذا كانت الحكاما لم تشرع إل
لمصلحة العباد ،فل بد من ترجيح أحد الطرفين على الخر ،أو أن
ييدييعى وجود مرتبةم رابعة دون التحسينيات تتصف بأنها ل تخدما
أياا من المراتبِّ الثلثا ول تهدما أياا منها .ولكن هذه الدعوى
تتناقض مع فكرةا الشاطبي وهي عدما خلو أي حكم شرعي عن مقصد
أما بجلبِّ مصلحة أو درء مفسدةا .فكيف يحل الشاطبي هذا
الشكال؟.
تصـويـر الجـزئاية وأالكلية فـي الحكام:
يعالج الشـاطبي هذا الشكال بقوله إن للحكاما نظرين ،نظراا
من حيث هي جزئية ونظراا من حيث هي كلية.
ويرد على الذين قالوا :إن المباح مطلوب الترك لن من فعل
مباحاا فقد تلهى به عما هو مطلوب الفعل ،ويرد على من قال :إنه
مطلوب الفعل لن من فعل مباحاا فقد ترك حراماا ،فيقول» :إن
المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح م
ول ذمام ل على الفعل ول على الترك«هل) . (1ويقول» :المباح من حيث
هو مباح ل يكون مطلوب الفعل ول مطلوب الجتناب«هل) (2وهو هنا،
أي من حيث هو مباح ،يينظر إليه على أنه جزئية ،أما إن نيظقر إليه
على أنه مطلوب الفعل أو مطلوب الترك ،فذلك من جهة يكون فيها
خادماا أو هادماا لكلي.
فالمباح ينظر إليه من حيث هو جزئي ومن حيث هو كليقي،
194
أما من حيث هو كليقي فليس هناك ما هو مخيري فيه لنه يكون
عبثاا .وأما من حيث هو جزئي ،أي حكم شرعي معين لفعل معين،
فإذا كان مخيراا فيه فهذا يعني تعريته عن الحكمة أو المقصد،
وهذا ل ينقض فكرةا المقاصد عند الشاطبي لنه يطبقها على الكليات
دون الجزئيات .يقول» :إن المصالح المعتبرةا هي الكليات دون
الجزئيات«هل). (1
أما النظر إلى المباح من حيث الكلية ،فهو يجعل المباح مباحاا
بالجزء مطلوباا بالكل ،قد يكون مندوباا بالكل وقد يكون واجباا
بالكل ،أو مباحاا بالجزء منهياا عنه بالكل ،قد يكون مكروهاا بالكل
وقد يكون حراماا بالكل .يقول» :إن الباحة بحسبِّ الجزئية
والكلية يتجاذبها الحكاما البواقي .فالمباح يكون مباحاا بالجزء
مطلوباا بالكل على جهة الندب أو الوجوب ،ومباحاا بالجزء منهياا
عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع .فهذه أربعة أقساما :فالول:
كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والمركبِّ والملبس...
فلو تيرقكي بعض الوقات مع القدرةا عليه لكان جائزاا كما لو
فيعقل .فلو ترك جملةا لكان على خلفَّ ما ندب الشرع إليه...
وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروهاا .والثاني :كالكل
والشرب ووطء الزوجات والبيع والشراء ووجوب الكتسابات
الجائزةا ...كل هذه الشياء مباحة بالجزء ،أي إذا اختار أحد هذه
الشياء على ما سواها فذلك جائز .وإن تركها الرجل في بعض
الحوال أو الزمان ،أو تركها بعض الناس لم يقدح ذلك ،فلو
فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركهم لما هو من الضروريات
المأمور بها .فكان الدخول فيها واجباا بالكل .والثالث :كالتنزه
في البساتين وسماع تغريد الحماما ،والغناء المباح واللعبِّ المباح
بالحماما أو غيرها ،فمثل هذا مباح بالجزء ،فإذا فيعقلي يوماا أو في
حالة ما فل حرجي فيه .فإذا فعل ي دائماا كان مكروهاا ،ونيسقبِّي
195
صاحبه إلى قلة العقل وإلى خلفَّ محاسن العادات وإلى السرافَّ في
فعل ذلك المباح .والرابع :كالمباحات التي تقدح في العدالة
المداومة عليها وإن كانت مباحة«هل) . (1وهكذا تم إضفاء صفة الكلية
على المباح لجل المحافظة على أساس فكرةا المقاصد ،فتكون
المصالح مقصودةاا بالمباح وإن كان مستوي الطرفين.
وبعد تصوير الكلية والجزئية في المباح ،يثبت الشاطبي -
أيضاا -أن ما كان مندوباا بالجزء كان واجباا بالكل ،وما كان
مكروهاا بالجزء كان ممنوعاا بالكل ،وما كان واجباا بالجزء كان
واجباا بالكل .وكذلك يقال في الممنوعات .ثم يقول» :إذا تقرر
تصوير الكلية والجزئية في الحكاما الخمسة ،فقد يطلبِّ الدليل على
صحتها والمر فيها واضح مع تأمل ما تقدما في أثناء التقرير ،بل
هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في
مواردها«هل) . (2ثم قال» :وتقرر في هذه المسائل ان المصالح
المعتبرةا هي الكليات دون الجزئيات«هل). (3
إل أن الناظر في هذا التصوير للكلية والجزئية في الحكاما قد
يعترض على ما ورد في المباح في القسمين الثالث والرابع ). (4
المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل ،إذ إن الفعل المطلوب الترك
بالكل يخدما هدما الكليات؛ فكيف يكون مخيراا فيه ،أو متساوي
الطرفين؟ فهذا إشكال آخر يستقصيه الشاطبي ،فكيف يعالجه ؟
المباح قسـمان:
) ( الشاطبي ،الموافقات . 1/85 ،ول بد أ ن أ شير هنا إلى أ نني أقوما بعرض 1
196
يقسم الشاطبي المباح إلى قسمين :الول بمعنى التخيير،
والثاني بمعنى رفع الحرج ،وما كان بمعنى التخيير فهو الذي
يكون مباحاا بالجزء مطلوب الفعل بالكل .وما كان بمعنى رفع
الحرج يكون مباحاا بالجزء مطلوب الترك بالكل .ولذلك يلحظ
في النص المذكور في الصفحة السابقة ذكره لفظ "جائز" إزاء
ما كان مندوباا بالكل ،وكذلك إزاء ما كان واجباا بالكل .وأما
القسم الثالث وهو ما كان مباحاا بالجزء مكروهاا بالكل ،فلم
يذكر لفظ "جائز" وإنما قال» :ل حرج فيه«هل ) . (1ويقول:
»المباح يطلق باطلقين :أحدهما من حيث هو مخير فيه بين الفعل
والترك ،والخر من حيث يقال :ل حرج فيه«هل ). (2
ويقول» :إذا قيل في المباح انه ل حرج فيه فليس بداخل تحت
التخيير بين الفعل والترك«هل) . (3ثــم قــال» :فالقس ـــم المطل ـــوب
الفعـل بالكل هـو الــذي جــاء التخييــر فيــه بيــن الف عــل والــترك
كقوله [ :
] ) ، (4وقوله ... (5) ] [ :فهذا تخيير
حقيقةا ...وأما القسم المطلوب الترك بالكل فل نعلم في الشــريعة
ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصاا ،بل هو مسكوت عنــه أو م شــار
إلى بعضه بعبارةام تخرجه عن حكم التخيير الصريح كتسمية الدنيا
لعباا ولهواا في معرض الذما لمن ركن إليها فإنها مشعرةا بأن اللهو
غير مخير فيه«هل) . (6وقال» :وعلى الجملة فهو )أي المبــاح( علــى
للمباح وهذا التمييز بين القسمين إن كان ثمة ارتباك عند الشــاطبي .وقــد
أوردنا نصه في تعريف المبــاح كمــا ورد فــي الجــزء الول ص » 68 :إ ن
المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك« وها هو يذكر أ ن من
197
أربعة أقساما :أحدها :أن يكون خادماا لمر مطلوب الفعل ،والثــاني:
ان يكون خادماا لمر مطلــوب ا لــترك ،وال ثــالث :أن ي كــون خاد مــاا
لمخييقر فيه .والرابع :أن ل يكون فيه شيء من ذلك«هل). (1
أما القسم الول فقد مريي معنا وهو المباح المخير فيه .وأما
الثاني فقد مريي معنا أيضاا وهو المباح بمعنى رفع الحرج .وأما
الرابع فلما كان غير خادما لشيء ،فهو بمعنى أنه ل يخدما ول يهدما
أي أصل ضروري أو حاجي أو تحسيني ،إذ هو ل يعود بالمصلحة
على العباد ،ول يدرأ عنهم مفسدةاا ،فصار من حيث الكلية متناقضاا
مع وجوب كونه لمصلحة العباد ،ولذلك أرجعه الشاطبي إلى ما هو
مطلوب الترك فقال» :وأما الرابع فلما كان غير خادمام لشيء
ييعنتيديي به كان عبثاا أو كالعبث عند العقلء فصار مطلوب الترك
أيضاا لنه صار خادماا لقطع الزمان في غير مصلحة دين ول دنيا
فهو اذن خادما لمطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل«هل). (2
أما القسم الثالث ،وهو المباح بالجزء الخادما لمخييييرم فيه.
فل بد من التنبه هنا أن هذا المخييير فيه مخدوما ،وبالتالي فهو
أصل كلي ،والصل الكلي ل يمكن ان يكون مخيراا فيه حسبِّ فكرةا
الشاطبي ،وإل فهو يهدمها .وأصلا ،تصوير الكلية والجزئية في
المباح إنما كان لمنع وجود المباح أو المخير فيه في الكليات،
ولذلك فبعدما تحدثا الشاطبي عن القسم الرابع عاد إلى هذا القسم
الثالث ليقول» :والقسم الثالث مثله أيضاا لنه خادما له فصار
مطلوب الترك أيضاا«هل ). (3
وهكذا ،فإن المباح قسمان ،مباح بمعنى التخيير بين الفعل
كالتالي :الول فالثاني فالرابع فالثالث .فهو جعل رأيه في الرابع تمهيداا
لرأيه في الثالث.
198
والترك وهو مطلوب الفعل بالكل ومباح بمعنى رفع الحرج وهو
مطلوب الترك بالكل .إل أن كونه مباحاا يظل يتردد على أصل
فكرةا المقاصد أو غائية الحكاما بالتشكيك ،ويستقصي الشاطبي ما
يمكن ان يشكك بفكرته ،فيقول إن المباح بمعنى التخيير هو من
جهة كونه جزئياا ،وهذا وجوده نظري ،وأما عملياا فهو مطلوب
الفعل .وأما المباح بمعنى رفع الحرج ،فالمصلحة في تركه لنه
مطلوب الترك بالكل ،فكيف يكون مأذوناا فيه ،وفعله يفويقت
المصلحة .وهنا يعمد الشاطبي إلى القول بإمكانية وجود مرتبة
سادسة للحكاما هي مرتبة العفو ،وهذه المرتبة كأنها تحل إشكالية
الجزئيات التي ل تخدما فكرةا المقاصد.
أما المباح الذي هو بمعنى التخيير ،فيرى الشاطبي أن الفعل
من حيث هو فعل له معقولية في الذهن ،وله واقع مختلف عن
معقوليته ،فهو عندما يقع ،ل يقع مجرداا عن ملبسات أو عوارض.
فمثلا:المشي مباح والنظر مباح والكل مباح والضطجاع مباح،
ولكن هذا الحكم هو للفعل من حيث هو فعل ،أي من حيث هو مشي
أو نظر أو أكل أو اضطجاع .أما في الواقع فالمشي قد يكون إلى
عبادةا أو إلى معصية ،والنظر كذلك ،والكل قد يكون لمباح أو
لحراما ،وقد يكون في ضرورةا أو في غير ضرورةا .والضطجاع
يختلف واقعه بحسبِّ العوارض .والفعال في الواقع ل تحصل بغير
العوارض ،فهل ينظر إلى الفعل من جهة معقوليته أما من جهة
العوارض .يختار الثاني ،ويقول» :المقصود من وضع الدلة تنزيل
أفعال المكلفين على حسبها ،وهذا ل نزاع فيه ،إل ان أفعال المكلفين
لها اعتباران اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في
الخارج«هل ) (1ثم يقول» :وإذا كان كذلك فالعتبار فيها بما وقع
في الخارج وليس إل أفعالا موصوفة بأمور خاصة لزمة وأمور
على خلفَّ ذلك .وكل مكلف مخاطبِّ في خاصة نفسه بها فهو إذاا
199
مخاطبِّ بما يصح له ان يحصل في الخارج ،فل يمكن ذلك إل
باللوازما الخارجية فهو إذاا مخاطبِّ بها ل بغيرها«هل ). (1
ويصبح المباح المخير فيه كأنه بمعنى الواجبِّ المخييير
كخصال الكفيارةا .يقول» :وتلخييص أن كل مباح ليس بمباح م
بإطلق ،وإنما هو مباح بالجزء خاصة ،وأما بالكل فهو إما مطلوب
الفعل أو مطلوب الترك ،فإن قيل أفل يكون هذا التقرير نقضاا لما
تقدما من أن المباح هو المتساوي الطرفين ،فالجواب أن ل ،لن ذلك
الذي تقدما هو من حيث النظر إليه في نفسه ،من غير اعتبار أمر م
خارج ،وهذا النظر من حيث اعتباره بالمور الخارجة عنه .فإذا
نظرت إليه في نفسه فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء .وإذا نظرت
إليه بحسبِّ المور الخارجة فهو المسمى المطلوب بالكل .فأنت
ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس ،قد استوى في نظر
الشرع فعله وتركه ،فل قصد له في أحد المرين ،وهذا معقول
واقع بهذا العتبار الميقنتيصر به على ذات المباح من حيث هو
كذلك .وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد وموارم للسوأةا
وجمال في النظر مطلوب الفعل .وهذا النظر غير مختص بهذا
)(2
الثوب المعين ول بهذا الوقت المعين فهو نظر بالكل ل بالجزء«هل .
أما المباح بمعنى رفع الحرج فهو مطلوب الترك بالكل ،والذن
فيه يخرما الكليات أو ينقضها ولذلك يقول الشاطبي» :وأما قسم
ما ل حرج فيه فيكاد يكون شبيهاا باتباع الهوى المذموما ،أل ترى أنه
كالمضاد لقصد الشارع في طلبِّ النهي الكلي على الجملة ،لكنه
لقلته وعدما دوامه ومشاركته للخادما المطلوب الفعل بالعرض
حسبما هو مذكور في موضعه لم ييحفل به«هل) . (3ثم يذكر
الشاطبي أن الجزئيات وإن عارضت الكليات ،فإنها ل تؤثر عليها لن
200
الكليات ثبتت قطعية ،والجزئيات المعارضة للمقاصد المصلحية ل
تبلغ أن تكون كليات ،ولذلك فهي ل تنقض أصل فكرةا المقاصد.
يقول» :الجزئي منه) (1ل يخرما أصلامطلوباا) ، (2وإن كان فتحاا
لبابه في الجملة فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي ،حتى يجتمع مع
غيره من جنسه ،والجتماع ميقيويم) ، (3ومن هنالك يلتئم الكلي
المنهي عنه وهو المضاد للمطلوب فعله«هل) . (4فإذا التأمت هذه
الجزئيات في كلي ينتظمها وترجع إليه ،فلن تظل حينئذم مأذوناا
فيها من قبيل المباح ،ولكن ستكون من قبيل المطلوب الترك جزئياا
وكلياا ،ولكن واقعها -حسبِّ رأي الشاطبي -أنها جزئية ول ترجع
إلى كلي ،وفي الوقت نفسه تخدما هدما فكرةا المقاصد.
وبناءا على هذا الفهم لمراد الشـاطبي من بحثـه للمبـاح
وتف صـ يلته فيـه ،يمكن الحكم بأن معظـم شروح وحواشـي
المعلقيـن على كتـاب الموافقـات في هـذا الموضـوع ،بعيـدةا عن
الصـواب ،بل ول صلة لها بمقصود الشاطبي ،فضلا عن أن بعضها ل
يخلو من الضطراب والكلما الذي ل طائل تحته). (5
مإـرتبـة العفـو:
هذا ما يدفع الشاطبي إلى الظن بنوع سادسم للحكاما ،ينطبق
على هذه الحكاما الجزئية وعلى غيرها مما يشبهها من حيث كونها
) ( أي :من المباح الداخل تحت قسم رفع الحرج . 1
) ( سيأتي في بحثنا للمقاصد أن الجزئي ل يخرما الكلي وإن عارضه ،لن 2
يصبح كلياا ويجبِّ اعتباره في تخصيص الكليات ،أما قبل ذلك فل يعتــبر
وإن كان يفتح الباب للعتبار .
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/96 . 4
) ( أنظر مثلا :الموافقات . 1/226 .هامش رقم . 1تحقيق :أبو عبيدةا 5
مشهور بن حسن آل سلمان .الطبعة الو لــى 1421 .ه ـــ .دار ا بــن ع فــان،
جمهورية مصر العربية 6 .مجلدات .و قــد ج مــع فــي الحا شــية تعلي قــات
العديد من الشراح المعلقين على كتاب الموافقات.
201
جزئيات ل تخدما الكليات ،يقول» :يصح أن يقع بين الحلل والحراما
مرتبة العفو فل يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة«هل). (1
ويدخل في هذه المرتبة قسم ما ل حرج فيه ،والرخص،
والفعال العرية عن القصد وغيرها .يقول» :وسواء علينا أفرضنا
تلك الفعال مأموراا بها أو منهياا عنها أما ل ،لنها إن لم تكن منهياا
عنها ،ول مأموراا بها ول مخيراا فيها فقد رجعت إلى قسم ما ل حكم
له في الشرع ،وهو معنى العفو ،وإن تعلق بها المر والنهي ،فمن
شرط المؤاخذةا به ذكر المر والنهي والقدرةا على المتثال ،وذلك
في المخطئ والغافل والناسي محال ،ومثل ذلك النائم
والمجنون ...ومنها الخطأ في الجتهاد ...فإن حاصل ذلك أن
تركه لما ترك وفعله لما فعل ل حرج عليه فيه ،ومنها الرخص على
اختلفها ،فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح
ورفع الحرج وحصول المغفرةا«هل ). (2
إل أن الشاطبي ل يقرر إذا كانت مرتبة العفو حكماا أو ل.
يقول» :إل أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أما ل ،وإذا قيل
حكم فهل يرجع إلى خطاب التكليف أما إلى خطاب الوضع ،هذا كله
محتمل ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي لم يتأكد
البيان فيه فكان الولى تركه وال الموفق للصواب«هل). ( 3
الرخإصـة وأالعـزيمة:
ينطبق على الرخصة ،على منهج الشاطبي ،ما ينطبق على
المباح .يقول» :حكم الرخصة الباحة مطلقا من حيث هي
) ( المصدر نفسه . 1/119 ،وللمتابع هنا ان يتساءل ،إن لم يكن هذا مما 3
ينبني عليه حكم ،أفل ينبني عليه خــرما ف كــرةا المقا صــد ،وإن قل نــا ب عــدما
النخراما ،أل يضطرنا ذلك إ لــى ال قــول بــأن هــذا الق ســم مــن المبا حــات
والرخص مطلوب الجتناب ول ينطبق عليه تعريف المباح؟
202
رخصة«هل ) . (1ويقول» :الباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من
قبيل الباحة بمعنى رفع الحرج أما من قبيل الباحة بمعنى التخيير
بين الفعل والترك ،فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى
رفع الحرج ل بالمعنى الخر«هل ). (2
ولذلك فالشكال الموجود في المباح بالنسبة لفكرةا المقاصد
موجود نفسه في الرخصة .ولذلك فالرخص عنده ل ترجع إلى
أصول كلية ول تخدما الكليات ،فهي جزئية فقط بعكس العزيمة.
يقول» :العزيمة :ما شرع من الحكاما الكلية ابتداء ،ومعنى كونها
كلية أنها ل تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون
بعض ،ول ببعض الحوال دون بعض كالصلةا مثل فإنها مشروعة
على الطلق والعموما في كل شخص وفي كل حال وكذلك
الصوما والزكاةا والحج والجهاد وسائر شعائر السلما«هل) . (3ويقول:
»وأما الرخصة :فما شرع لعذر شاق ،استثناءا من أصل كلي
يقتضي المنع ،مع القتصار على مواضع الحاجة فيه .فكونه
مشروعا لعذر هو الخاصة التي ذكرها علماء الصول .وكونه شاقا
فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودةا فل يسمى
ذلك رخصة كشرعية القراض مثلا«هل) . (4وقال» :إن العزيمة
راجعة إلى أصل كلي ابتدائي ،والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى
من ذلك الصل الكلي«هل ) (5وهذه التعريفات والقوال تشير إلى
الشكال المذكور ،الذي يظهر هنا مرةا أخرى حيث قال إن العزيمة
كلية ل تختص ببعض المكلفين أو الحوال ،ثم قال إن الرخصة
استثناء من ذلك الكلي ،وهذا معناه إن العزيمة قد اختصت.
ول يقال هنا إن هذا الستثناء هو من قبيل تخصيص العاما،
المصدر نفسه . 1/214 . )( 1
203
المعروفَّ في علم الصول ،فإن هذا التخصيص ينقض فكرةا الكليات
وخواصها التي ذكرها الشاطبي ،ومنها قوله» :فل تجد فيها بعد
كمالها نسخاا ول تخصيصا لعمومها ،ول تقييدا لطلقها ول رفعا
لحكم من أحكامها ،ل بحسبِّ عموما المكلفين ول بحسبِّ خصوص
بعضهم ،ول بحسبِّ زمان دون زمان ،ول حال دون حال«هل) (1وسيتبين
في بحث العموما والخصوص ،أن التخصيص بمعنى استثناء أو رفع
بعض ما يتناوله النص مردود عند الشاطبي وإنما التخصيص عنده
بيان لمعنى النص أي لما يتناوله اللفظ العاما .وعلى ذلك فالرخص
ل تنتمي إلى أصول كلية .قال» :وكون هذا المشروع لعذر
مستثنى من أصل كلي يبين لك ان الرخص ليست بمشروعة ابتداء
فلذلك لم تكن كليات وإن عرض لها ذلك فبالعرض«هل). (2
ورب قائل يقول :إن الرخص تعود على النسـان بالمصـلحة،
إذ هي معللة بالمشـقة ،وهي إعمال لصل كلي وهو أصـل رفع
الحرج ،كالمشـقة للمسـافر،أو لصل حفظ النفس ،كأكل الميتة
للمضطر ،أو لصـل تكميـلي كصـلةا المأمومين جلوساا إذا صلى
الماما جالساا ،أو غير ذلك من الصول الكلية ). (3
والجواب :إن الشاطبي يتجنبِّ هذا الجواب ويرده ،لنه إن ظهر
بادئ الرأي أنه يرتق فتقا في المنهج فإنه في الحقيقة يهدما أكــثر
مما يبني .لنا إذا وجدنا مصلحة في الرخصة وزعم نــا أن هــا ت خــدما
أصل كليا ،فقد نص ال شــرع علــى أن العزي مــة خ يــر من هــا [ :
. (4)] والشاطبي يرى أن الخذ بالعزائم أفضل
) ( المصدر نفسه . 1/46 ،وأنظر ص 144 :من هذا الكتاب . 1
وتنتمي إلى مرتبة الحاجيات .وحفظ النفس أصل كلي ينتمي إلى مرت ب ة
الضروريات .وصلةا المأمومين جلوساا بسببِّ صلةا الماما جالساا يرجع
إلى أصل كلي من مكملت الضروريات .الموافقات. 211 - 1/209 ،
) ( سورةا البقرةا . 184 ، 4
204
من الخذ بالرخص .قال في معرض استدلله على أن الرخــص هــي
من قبيل الباحة بمعنى رفع الحرج ل بمعنى التخييــر» :والــدليل
على أن التخيير غير مراد في هذه المور أن الجمهــور أو الجميــع
يقولون :من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الكراه مأجور وفــي أعلــى
الدرجات«هل ). (1
أضف إلى ذلك على سبيل المثال :أل صــلةا وال صــياما يرج عــان
إلى أصل حفظ الدين من الضروريات فكيف يباح الفطــار والجمــع
والقصر في سفر مشقته ل تكاد تذكر ،أو لملك مــترفيقه؟ أمــا إذا
كان في السفر حرج ومشقة معن تــة ،ف هــذا علــى من هــج ال شــاطبي،
ييخرقج الرخصة عن كونها مجرد رخصة وتصبح من قبيل المطلوب
الفعل ،المندوب أو الواجبِّ ،ويخدما أصولا كلية ،مثــل أصــل رفــع
الحرج أو عدما التكليف بما فيه مشقة معنته ،أو أصل ح فــظ الن فــس
فمثلا :أكل الميتة للمضطر يخدما أصل ال ضــروريات و هــو ح فــظ
النفس وهذا عزي مــة وليــس رخ صــة و هــو وا جــبِّ وليــس مبا حــاا.
وكذلك صلةا المأمومين جلوساا خلف الماما الجالس ،ليس رخصة
وإنما هي واجبِّ وعزيمة من قبيل المكمل للضروريات ،بعكس صلةا
الماما جالساا فهي رخصة إذا كانت مع القدرةا على القيــاما بمشــقة،
هذا من جهة ،ومن جهةم أخرى فلو سلمنا بإرجاع الرخص إلى أصول
كلية ،فهذا ينقض فكرةا أن الصول الكليــة ي خــدما ويع ضــد بع ضــها
بعضاا ،وأن الحكاما والصول كل هــا ت خــدما وت عــود بــالحفظ علــى
الضـروريات وهي حفـظ الديـن والنفس والعقل والن ســل وال مــال.
ففي قوله تعالى [ :
)(2
. ] وفي قوله تعالى [ :
(3) ] الرخص لم تخدما ال صــول ،بــل خرمتهــا .إذ ح فــظ
205
الدين مقدما على حفظ النفس ومع ذلك التلفظ بكل مــة الك فــر فــي
هذه الحالة مشروع ،وكذلك الق صــر فــي ســفر ل حــرج فيــه ول
مشقة ل يخدما أصل حفظ الدين ،أي ل يخدما كــونه كل يــاا .و هــذا
يؤدي إلى ان الصول ل يخدما بعضها بعضاا.
وإذا كان الشاطبي أرجع المباح المخير فيه إلى أصل كلي
حيث وجييه النظر فيه إلى كونه مطلوباا بالكل ،فإن الرخصة
والمباح بمعنى رفع الحرج لم يرجعا عنده الى أصول كلية،
ولذلك فقد اقترح لهما كما بينا في البحث السابق مرتبة العفو،
وقال إن الحكاما الجزئية ل تخرما الصول الكلية .فكذلك قال
بشأن الرخص بعد أن أكد انها ل تنتمي إلى أصول كلية .قال:
»والحاجيات ل تسمى عند العلماء باسم الرخصة«هل) . (1وقال» :إن
شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلي
إذا انقطع سفره وجبِّ عليه الرجوع إلى الصل من إتماما الصلةا
وإلزاما الصوما .والمريض إذا قدر على القياما في الصلةا لم يصل
قاعداا وإذا قدر على مس الماء لم يتيمييم وكذلك سائر الرخص
بخلفَّ القرض والقراض والمسا ق ا ةا ونحو ذلك مما هو يشبه
الرخصة فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الصطلح«هل). (2
والحاصل أن الرخص جزئيات ل ترجع إلى كليات ،وهي وإن
كانت كذلك ولم تتماش مع منهجه أو فكرةا المقاصد عنده فلن
يخرب العالم ،يقول» :إن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف
كلي لنه مطلق عاما على الصالة في جميع المكلفين ،والرخصة
راجعة إلى جزئي بحسبِّ بعض المكلفين ممن له عذر ،وبحسبِّ بعض
الحوال ،وبعض الوقات في أهل العذار ،ل في كل حالة ول في
كل وقت ول لكل أحد ،فهو كالعارض الطارئ على الكلي .والقاعدةا
المقررةا في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي ،فالكلي
206
مقدما لن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية والكلي يقتضي مصلحة
)(1
كلية ،ول ينخرما نظاما في العالم بانخراما المصلحة الجزئية«هل
ثم قال » :و الرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية«هل). (2
ومن نافلة القول بعد بيـان آرائه في الرخصـة والعزيمة أن
نشـير إلى رأيـه أن الوقـوفَّ مع العزيمة أفضـل شـرعاا من الخذ
بالرخصة .وكذلك أن الرخص ليس لها قانون كلي وبالتالي فإن
مواضعها منحصرةا بالمواضع التي ذكرتها النصوص ،فل يقاس
عليها .أما ما يخضع لقواعد كلية مثل عدما التكليف بما ل يطاق،
والمشقات المعنته ،ورفع الحرج ،فإنه يكون من قبيل العزائم وليس
الرخص ). (3
السـباب وأالمسـببات:
السببِّ من أحكاما الوضع .وهو في اصطلح الصوليين :وصف
ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفاا لوجود
الحكم ) . (4وذلك كهلل رمضان سببِّ في وجود حكم الصياما،
والبيع سببِّ في الملك وحلية النتفاع بالعين .والعلقة بين السببِّ
والحكم في الحكاما الشرعية هي غيرها بين السببِّ والمسببِّ في
العقليات .فمثلا شرب الخمر سببِّ السكر ،فشرب الخمر يوجد به
السكر .بينما في الشرع هلل رمضان ل يوجد به حكم الصياما ،وإنما
يوجد عنده ،أي عند وجوده ،ليس بسببِّ علقة مادية بين سببِّ
ومسببِّ ،وإنما بخبر من الشارع الذي جعل الوصف أمارةاا أو علمةا
ميعيريقفيةا على وجود الحكم .هذا هو الفهم المعهود عند الصوليين
للعلقة بين السببِّ والحكم في الصطلح الشرعي.
وي ظل السؤال قائماا في الرخص كما في المباح ،أل ت خــرما إباحت هــا )( 3
فكرةا المقاصد .وهل القول بأنها جزئية وليست كلية يلغي التساؤل؟
) ( أنظر ص 53 :من الفصل الول . 4
207
ولكن الشاطبي يؤسس لفهم جديد ،وهو يرى أن الكليات
الشرعية وإن كانت جعلية أو وضعية أي بوضع الشارع لها كذلك،
فهي تستوي مع الكليات العـقـلـيـة ،لن هـذه أيضاا هي من وضع
الشارع .يقول» :الوضعيات قد تجاري العقليات في إفادةا العلم
القطعي ،وعلم الشريعة من جملتها«هل ) . (1ويقول» :وأيضاا فإن
الكليات العقلية مقتبسة من الوجود ،وهو أمر وضعي ل عقلي،
فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا العتبار وارتفع الفرق
بينهما«هل ). (2
وبما أن للسباب مسبباتها ،ومن يقصد إيقاع أمر يعمد إلى
إيقاع أسبابه ،وفاعل السببِّ يعد كفاعل المسببِّ ،فإن الحكاما
الشرعية تعد أسباباا لمسبباتم تقصد بها .قال الشاطبي» :إيقاع
السببِّ بمنزلة إيقاع المسبييبِّ قصد ذلك المسبيقبِّ أو ل .لنه لما
جعل مسبباا عنه في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرةاا.
ويشهد لهذا قاعدةا مجاري العادات إذ أيجنرقيي فيها نسبة المسببات
إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعاما ،والرواء إلى الماء والحراق
إلى النار ،والسهال إلى السقمونيا) (3وسائر المسببات إلى أسبابها،
فكذلك الفعال التي تيتيسيبييبِّي عن كسبنا منسوبة الينا وإن لم
تكن من كسبنا ،وإذا كان هذا معهوداا معلوماا جرى عرفَّ الشرع
في السباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان«هل). (4
لذلك فالمر الذي يجبِّ اللتفات إليه في بحث السباب عند
الشاطبي هو أن الحكاما الشرعية هي أسباب لنتائج مقصودةا بها.
هذه النتائج هي مسببات الحكاما أو الحكم أو المصالح المقصودةا
208
بها ،والحكاما هي الطريق الموصلة إليها .ومثلما قصد الشارع
بالوامر والنواهي إيقاع المأمور به ومنع المنهي عنه ،فكذلك
قصد حصول نتائج معينة للفعل المأمور به ،ومنع حصول نتائج
معينة للفعل المنهي عنه .وهذه قاعدةا فكرةا المقاصد عند الشاطبي.
لهذا السببِّ بحث الشاطبي في السباب والمسببات بتفصيل وإسهاب
قبل أن يبدأ كتابه في المقاصد.
إل أن التكليف بالسباب ،وهي الحكاما ،وإن كانت المسببات
مقصودةا للشارع به ،فهو ل يعني التكليف بالمسببات ،فهي ليست
مقدورةا للمكلف ول راجعة إليه ،وإنما المقدور له هو السببِّ الذي
كلفه الشارع به .وحصول المسببِّ يحصل ضمن ذلك .قال:
»والدليل على ذلك ما ثبت في الكلما من أن الذي للمكلف تعاطي
السباب ،وإنما المسببات من فعل ال تعالى وحكمه ,ل كسبِّ فيه
للمكلف«هل) ، (1وقال» :فإذاا ل يتعلق التكليف وخطابه إل بمكتسبِّ
فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لنها ليست في مقدورهم،
ولو تعلق بها لكان تكليفاا بما ل يطاق وهو غير واقع«هل). (2
وكذلك فكون المسببِّ مقصوداا للشارع بشرع السببِّ ،فهو ل
يعني جواز القصد إلى إيقاع المسببِّ بغير طريقه المشروع وهو
السببِّ ،إذ كما أن المسببِّ مقصود ،فالمقصود الول هو السببِّ لن
الخطاب دل عليه والتكليف وقع عليه ،ولم يفهم المسببِّ إل
بواسطته .قال» :إن كون الشارع لم يشرع هذا السببِّ لهذا المسببِّ
المعين دليل على أن في ذلك التسببِّ مفسدةا ل مصلحة«هل). (3
وسنبين هذا المر ب مزيد من التفصيل والتوثيق في المبحث الثالث
من الفصل الخامس.
209
المبحث الثالث
في النتائاج وأمإفهوم المصـلحة
وأالمفسـدة عند الشـاطبي
تعـريف بموضأـوع البحث:
تبيين في مبحثي المقدمات والمستندات بعض قواعد أو أصول
منهج الشاطبي في تقرير المقاصد .وتعد المقاصد أو الصول التي
يتوصل إليها نتيجةا لعمال هذا المنهج .والمراد بهذا المبحث ما
يبنى على تلك المقدمات والمستندات من أفكار وتعريفات أو
مفاهيم يجبِّ اعتبارها واعتمادها عند تطبيق المنهج لجل الوصول
إلى القواعد والصول الكلية.
وبناء على ذلك فهذا المبحث هو للتعريف ببعض اللفاظ أو
المصطلحات ال أصول ية التي يستعملها الشاطبي ،وإدراك معانيها
ضروري لدراك منهجه ،وعلى وجه الخصوص لفظا المصلحة
والمفسدةا إضافة إلى ألفاظ السببِّ والمسببِّ والحكمة والعلة
ومعاني الحكاما.
السـبب:
أما السببِّ فقد تبين المراد به في المبحث السابق .وهو ما
جعله الشارع سبباا لمسببِّ سواء في الشرعيات أو في العقليات.
والمراد للتطبيق في المقاصد الشرعية ما كان سبباا شرعياا .قال
عند تقريره لحد ال أصول » :ما تقدما في هذا الصل نظر في
مسببات السباب من حيث كانت السباب مشروعة أو غير مشروعة
أي من جهة ما هي داخلة تحت نظر الشرع ل من جهة ما هي أسباب
عادية لمسببات عادية«هل). (1
وكما تبين فإن السباب هي الحكاما الشرعية التي بييينيها
) ( الموافقات. 1/171 . 1
210
الشارع أمراا كانت أو نهياا ،وهي دللت النصوص .وبما أن الشارع
له في التشريع مقاصد ،فقد شرع الحكاما لتكون هذه المقاصد
مسبباتم لللتزاما بها ،فتكون الحكاما الشرعية أسباباا .والنتائج
المقصودةا بها حكماا أو مسببات أو مصالح أو عللا ،ولكن وفق نهج
معين سيتبين فيما يلي.
الحكمة:
وهي مظنة أن يكون قد شرع الحكم لجلها أو لجل تحصيلها
فهي مسببِّ .ولكن قبل أن يثبت -قطعاا -كونها مقصودةاا لل شارع ،
يمكن أن تكون وصفاا مخيلا أو وصفاا مناسباا ،فتكون مقصود
الشارع ظناا ل قطعاا ،وهذه ل اعتبار لها شرعاا .فالحقكيمي قد تكون
عند الناظر معلومةا وقد تكون مظنونة وقد تكون محتملة
متوهمةا.
أضف إلى ذلك أن من الحقكيم ما قد ل يدركه أو ل يتوقعه
النسان مع انه قد يكون المقصود الهم للشارع .ومن النتائج ما قد
يشعر النسان بكونه مصلحة دنيوية له ويميل إليه بطبعه ،وهذا ما
يطلق عليه الشاطبي اسم الغرض أو الحظ .ولذلك فل اعتبار
لمظنة الحكمة التي يسرح فيها العقل حتى يثبت ذلك بطريق
الشرع .يقول» :إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية
فعلى شرط ان يتقدما النقل فيكون متبوعاا ويتأخر العقل فيكون
تابعاا فل يسرح العقل في مجال النظر إل بقدر ما ييسرقحه
النقل«هل). (1
ويقول» :إنا إذا فهمنا بالقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في
شرع الحكم فل يلزما من ذلك أن ل يكون ثيميي حكمة أخرى
ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر ،وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية
تصلح أن تستقل بشرع الحكم فاعتبرناها بحكم الذن الشرعي ولم
نعلم حصر المصلحة والحقكيم بمقتضياتها في ذلك الذي ظهر وإذا
) ( الموافقات. 1/53 . 1
211
لم يحصل لنا بذلك علم ول ظن لم يصح لنا القطع بأن ل مصلحة
إل ما ظهر لنا .إذ هو قطع على غيبِّ بل دليل«هل). (1
والظاهر من هذا النص أنه رد على من يقول بتقرير العلة أو
الحكمة أو المصلحة ،بناءا على كونها محتملة وإن كان يمكن أن
يكون غيرها مما لم يظهر لنا أقوى في الظن ،وكأنه رد مباشر على
المدي حيث قال» :وإذا ثبت أن الحكاما إنما شرعت لمصالح العباد،
فإذا رأينا حكماا مستلزماا لمر مصلحي فل يخلو إما أن يكون ذلك
هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا .ل يمكن ان يكون ما
لم يظهر لنا وإل كان شرع الحكم تعبداا ،وهو خلفَّ الصل لما
سبق تقريره ،فلم يبق إل ان يكون مشروعاا لما ظهر ،وإذا كان
ذلك مظنوناا فيجبِّ العمل به«هل). (2
ورديي الشاطبي على هذا القول يعني أنه ل يكتفي بالحكمة
المظنونة .ولذلك قال» :وذلك غير جائز فقد بقي لنا إمكان
حكمةم أخرى شيرع لها الحكم فصرنا من تلك الجهة واقفين مع
التعبد«هل) ، (3وقال» :إذا ظهر لنا علة تصلح للستقلل بشرعية
الحكم ولم نكلف ان ننفي ما عداها فإن الصوليين مما يجوزون
كون العلة خلفَّ ما ظهر لهم«هل). (4
ومما يؤكد هذا في منهجه اعتباره ان الحكمة مسبييبِّ .قال:
»أما السببِّ فالمراد به ما وضع شرعاا لقحيكمم لحكمةم يقتضيها
ذلك الحكم«هل) . (5وقال» :حقكيمي السباب وهي المسببات«هل). (6
المسـيبب:
هو حكمة قصدها الشارع بتشريع السببِّ .فهو نتيجة للفعل
المصدر نفسه. 2/216 ، )( 1
212
المأمور به يقصد الشارع حصولها بحصول الفعل ،وهو نتيجة
للفعل المنهي عنه يقصد الشارع عدما حصولها بعدما الفعل المتسببِّ
بها.
ولكن ليس كل ما يمكن ان ينتج عن الفعل أو عن ترك الفعل
مسببِّ للسببِّ ،ولذلك فالمسببِّ هو ما يثبت كونه مقصوداا للشارع
عن طريق الستقراء المفيد للقطع .ول يكفي فيه أن يكون مما
يمكن ان ينتج عن الفعل.
العلة:
العلة هي المسببِّ أو النتيجة التي قصدها ال شارع بتشريع
الحكم .وبالتالي فهي المقصد والحكمة.
وقد يقال كيف تكون العلة هي المسببِّ ،والقرب في المعن ى
ان تكون سبباا ل مسبباا ؟ .والجواب :إنه في الصطلح المعهود عند
الصوليين العلة ليست سبباا ول مسبباا ،فالعلة هي الباعث على
التشريع .وقد تبييين هذا في الفصل السابق .أما عند الشاطبي
فالمر مختلف ،والعلة هي المسببِّ على منهجه.
وبيان ذلك أن الشارع إنما شرع الحكاما لتحقيق مقاصد
والمقاصد هي مسببات للحكاما .وإذا أردنا ان نعرفَّ مقصد الشارع
فإنما ننظر في هذه الحكاما ومسبباتها ومآلتها المقصودةا ،وما
يثبت كذلك يعد أصلا من أصول التشريع.
وإذا كانت هذه المقاصد إنما شرعت الحكاما لجلها ،فتكون
الحكاما إنما شرعت بناء عليها ،فتكون عللا للتشريع .والمجتهد ل
سبيل له لمعرفة علل الحكاما إل من خلل تتبع واستقراء مسبباتها.
ولهذا قيل إن مقاصد الشريعة هي جلبِّ المصالح ودرء المفاسد،
وقيل أيضاا إن الشريعة معللة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد .
وبناء على ذلك فإنه ينطبق على العلة ما ينطبق على المسببِّ
وعلى الحكمة مما ذكر آنفاا .قال الشاطبي» :أما العلة فالمراد بها
213
الحقكيمي والمصالح التي تعلقت بها الوامر أو الباحة ،أو المفاسد
التي تعلقت بها النواهي«هل ) . (1و ينبني على ذ ل ك أن العلة يجبِّ ان
تكون قطعية :فتكون المصلحةي نفسيها أو المفسدةا ي نفسيها ل
مظنييتها .قال» :فعلى الجملة العلة هي المصلحةي نفسيها ،أو
المفسدةا ل مظنييتها ،كانت ظاهرةا أو غير ظاهرةا .منضبطة أو غير
منضبطة«هل) . (2وقال» :والعلة إما أن تكون معلومةا أيون ل ،فإن
كانت معلومة ا تبعت فحيث ويجقدت ويجقدي مقتضى المر والنهي
من القصد أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة
النتفاع بالمعقود عليه ،والحدود لمصلحة الزدجار ،وتعرفَّ العلة
هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه ،فإذا تعييينت عيلم أن
مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه ،ومن
التسببِّ أو عدمه ،وإن كانت غير معلومة فل بد من التوقف عن
القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا«هل ) . (3ثم قال» :ويحكم به
علماا أو ظناا بأنه غير مقصود له )للشارع( .إذ لو كان مقصوداا
لنصبِّ عليه دليلا)« (4هل). (5
مإعاني الحكام:
معاني الحكاما هي نفسها المسببات أو الحقكيم المقصودةا
للشارع ،كحفظ الدين وحفظ النفس ،فهي معانم استفيدت من
الحكاما الشرعية التي تؤدي إلى هذه النتائج .قال» :ل بد من
اللتفات إلى المعاني التي شيرقعت لها الحكاما ،والمعاني هي
مسب يي بات الحكاما«هل) . (6وقال» :العمال الشرعية ليست مقصودةاي
) ( أي :دليلا قطعياا ،وليس أمارةا ظنية ،لن أدلة القطعيات يجبِّ ان تكون 4
قطعية.
) ( الشاطبي ،الموافقات . 277 -2/276 : 5
214
لنفسها وإنما قيصقدي بها أموري أيخير هي معانيها وهي المصالح
التي شرعت لجلها«هل ). (1
المصـلحة وأالمفسـدة:
يتبين مما سبق أن جلبِّ المصالح ودرء المفاسد هو غايات
الحكاما ومآلتيها .وهو عللها ومقاصدها ومسبباتها ومعانيها.
إل أن ما يجبِّ ذكره أن ثمة فرقاا جوهرياا بين معنى كل من
المصلحة والمفسدةا عند الشاطبي وبين معانيهما عند من سبقه من
الصوليين الذين يقولون بعلية جلبِّ المصالح ودرء المفاسد.
فعند السابقين المصالح والمفاسد هي ما كان كذلك بحكم
العقلء والحكماء ،أي هي ما يعود على المكلفين بما يتفق مع
فقطرهم وميولهم ويوافق حظوظهم وأغراضهم ،ولذلك فهي معانم
أو أوصافَّ مناسبة .ولذلك فالمصالح المعتبرةا عندهم هي
الوصافَّ المناسبة إذا جاء وفقاا لها حكم أو أحكاما ). (2
أما عند الشاطبي فالمصلحة هي ما يثبت كونه مقصوداا
للشارع ،بغض النظر عن كونه مناسباا أو غير مناسبِّ .ويتم ذلك
باستقراء معنى أو وصف في الحكاما بغض النظر عن كونه مصلحة
أو مفسدةا بحسبِّ المكلفين وعاداتهم ،فإذا استقرئ المعنى استقراءا
يفيد ما يشبه التواتر المعنوي كان معنى كلياا مقصوداا للشارع،
ويعد مصلحة إذا كان مسبباا لما طلبه الشرع ويعد مفسدةاا إذا كان
مسبباا لما نهى عنه الشرع .وهذا المفهوما للمصلحة والمفسدةا
عنده ييعيديي انقلباا على المعنى المعهود عند الصوليين ،ويؤدي
عدما التنبه لهذا المعنى إلى عدما فهم فكرةا المقاصد عنده ،أو إلى
تحميل الشاطبي آراءا وأفكاراا تناقض حقيقة آرائه وأفكاره.
وبما أن المصالح والمفاسد جلباا ودرءاا هي العلل وهي
المقاصد وهي المسببات وهي معاني الحكاما ،وهي كثيرةا التردد
) ( المصدر نفسه. 2/268 ، 1
215
والستعمال عند الشاطبي ،فإن عدما التحقق من حقيقة مراد
الشاطبي بالمصلحة والمفسدةا يوقع الباحث في كتاب الموافقات في
تناقضات ويحرفه عن فهم منهج الشاطبي .لذلك لزما بحث وإثبات
مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد بشكل مفصل ومنفصل.
مإفهوم الشـاطبي لكل مإن المصـلحة
وأالمفسـدة:
يظهر مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد في نصوص كثيرةا
له ,كم ا أنه يظهر من خلل الكيفية التي أثبت بها أن الشريعة
معللة بالمصالح والمفاسد.
فلقد حاول الشاطبي إثبــات هــذا ال مــر فــي م قــدمته لك تــاب
المقاصد ،فرديي على الرازي الذي أنكر تعل يــل الشــريعة بالمصــالح
والمفاسد وقطع بذلك .فأتى بنصوص يظ هــر في هــا أن أح كــاما ا لــ
سبحانه وأفعاله معللة ،وذلك من خلل النص الشرعي علــى ان ا لــ
حكم بذلك لجل كذا ،وفعل كذا لجل كذا ،وذلك كقوله تعالى:
[ ... ] [، ] [، ] وبما أن
منهج الشاطبي في إثبات القواعد والصـول ه و السـتقراء المفيـد
للقطع ،فقد أتى بنصوص كثيرةا فيها النص على ان الحكم أو الفعل
كان لجل غاية .وأشار الى وجود نصوص ل حصر لها تدل علــى أن
الحكاما والفعال لها غايات .وبناء على حصول الستقراء يثبت عنده
أصل كلي ل يتخليــف و هــو أن أف عــال ا لــ وأح كــامه ل هــا مقا صــد
وغايات .وبهذا يرى الشاطبي أنه أثبت على سبيل القطع أن الشريعة
معللة بالمصالح والمفاسد .وبالنظر في هذه النصوص التي اســتدل
بها الشاطبي نجد ان غالبيتها ليس فيها ما يدل على قصد الشارع لما
هو مصلحة أو رفع مفسدةا بمعنى ما يوافق أغراض أو حظوظ الناس
أو ما يحكم به العقلء أو الحكماء أنه مصلحة للناس ،بل إن غالبيتها
ليس فيها معنى معقول أو مناسبِّ يقال ان فيه جلبِّ مصــلحة أو درء
مفسدةا.
216
بل إن قصارى ما تدل عليه هذا النصوص ،وهو ما قصده
الشاطبي بالستدلل بها ،هو أن الحكاما والفعال لها مقاصد أو
غايات .وبما ان هذه الفعال والحكاما هي من الشارع فتكون
مقاصدها شرعية .وبما أنها مقاصد شرعية فإنها تسمى مصالح أو
مفاسد بحسبِّ مشروعية الفعال أو عدما مشروعيتها.
ولثبات ان هذا هو مفهوما الشاطبي للمصالح والمفاسد،
سنناقش الدلة التي أتى بها لثبات ان الشريعة معللة بالمصالح،
واحداا واحداا.
مإناقشـة تحليلية لسـتدللت الشـاطبي:
قال الشاطبي» :إن وضع الشرائع انما هو لمصالح العباد في
العاجل والجل معاا«هل) . (1وقال» :وزعم الرازي أن أحكاما ال ليست
معللةا بعلةم البتة كما ان أفعاله كذلك ،وأن المعتزلة اتفقت على
أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر
الفقهاء المتأخرين ،ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل
للحكاما الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلمات المعرفة
للحكاما خاصة«هل). ( 2
وهذا ال قــول يفيــد انــه ل مــا كــان ال قــول بتعليــل ال شــريعة
بالمصالح قول أكثر الفقهاء المتأخرين فإنه لــزما إقا مــة البر هــان
على ذلك ،وأن البرهان الذي يصح على هذه المسألة هو على العلــل
إذا كانت بمعنى عل مــات معر فــة ،أي م جــردةا عــن حك مــةم ي جــدها
الفقيه .فهذه إشارةا إلى مراده بالمصالح ،وهذا مخالف كلياا لمنهج
التعليل الذي اعتمده الفقهاء قبله الذين يعللون الشريعة بالمصالح.
ثم قال» :والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أن هــا و ضــعت
لمصالح العباد استقراءا ل ينازع فيه الرازي ول غيره«هل) ، (3ثم ذكر
217
.استدللا على ذلك اثني عشر نصاا على ســبيل المثــال ل الحصــر
[ : »فإن ال تعالى يقول في بع ثــة الر ســل و هــو ال صــل:قال
، (2) ] [(1)، ]
[ :وقال في أصل الخلقة
3 4
[( )، ] [( )،
]
وأما التعاليل لتفاصيل الحكاما في الكتاب والسنة ف أكثر. (5) ]
[ كقوله بعد آية الو ضــوء،من ان تحصى
(6)
[ : وقال في ال صــياما، ]
: وفي الصلةا، (7) ]
وقال في، (8)] [
[ :القبلة
(9)
[ : وفــي الجهــاد، ]
( 10 )
[ : وفــي القصــاص، ]
( 11 )
[ : وفي التقرير علــى التوحيــد، ]
، والمقصود التنبيه، (12) ]
. 7 ، سورةا هود () 3
. 56 ، سورةا الذاريات () 4
. 2 ، سورةا الملك () 5
. 6 ، سورةا المائدةا () 6
. 45 ، سورةا العنكبوت () 8
. 39 ، سورةا الحج () 10
218
وإذا دل الستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداا للعلم
فنحن نقطع بأن المر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة«هل). (1
بهذا يرى الشاطبي أنه قد أقاما الدليل القاطع على أن الحكاما
الشرعية معللة بالمصالح وسننظر -فيما يلي -في هذا النص نظرةاا
تحليلية لفهم مراده بالتعليل بالمصالح .فلنأخذ -إذا ا -النصوص
التي استدل بها وكان كل واحد منها مفيداا للتعليل بمصلحة،
والتي شكلت كثرتها استقراءا يفيد ما يشبه التواتر المعنوي.
دليله الول :قوله» :فإن ال تعالى يقول في بعثة الرسل [ :
. (2) ]
هذا النص يعده الشاطبي حكماا أو فعلا ل سبحانه وتعالى
معللا بمصلحة .وبإنعاما النظر فيه نجده دالا على غاية -من
الغايات -من إرسال الرسل ،أو على نتيجة يقصد حصولها .فالفعل
هو إرسال الرسل مبشرين ومنذرين ،والنتيجة هي إقامة الحجة
على الناس بأنهم قد بيشيقروا وأينذروا ،فل يقولون يوما القيامة :لم
يأتنا نذير ،ول يقولون :كيف نحاسبِّ على قيامنا بفعل لم نيـننـه ي
عنه ،وعلى تركنا لفعل لم نؤمر به .فكل ما يريده الشاطبي هنا هو
أن يثبت أن أفعال ال سبحانه وتعالى وأحكامه لها غايات أو مآلت
لجلها فعل أو شرييع .فقطع حجة العباد يوما القيامة هو غاية أو
نتيجة لرسال الرسل يقصد الشارع حصولها .وهي ليست علة
بمعنى العلة التي هي ركن في القياس ،فانقطاع حجة العباد يوما
القيامة ليس علة لحكم شرعي وليس في هذا النص حكمي محلي
للقياس .وكون الشاطبي يسمى الغاية أو النتيجة أو المآل أو
المسبييبِّ علةا يدفعنا لتحديد معاني هذه اللفاظ لديه كي ل
نوقعها غير مواقعها.
219
أما كون هذه العلة مصلحة ،فهذا من باب التجوز وليــس مــن
باب إدراك ان هذا المر مصلحة ثم ملحظة ان الشرع أ مــر أو قــرر
ما يدرك النسان انه مصلحة .نعم ،ليس من هذا البــاب ،والمقصــود
بالتجوز أن كل ما يأمر به ال نسميه م صــلحةا أو ح قــاا أو عــدلا،
وكل ما ينهى عنه ســبحانه وت عــالى ن ســميه مف ســدةاا أو ظل مــاا أو
باطلا .هذا هو مراد الشاطبي ،ولدراك ال مــر فلنن ظــر فــي النــص
أعله ،فهل في هذه الغاية و هــي عــدما امتلك النــاس يــوما القيا مــة
لحجة ينجون بها من الحساب والعقاب مصلحةي أو وجهي من وجــوه
المصلحة؟ لو لم يأتهم بشير ونذير لكانوا من أهل الفترةا ولن جــونا
من العذاب [ ، (1)] فأين
المصلحة هنا أو المعنى المناسبِّ الذي لو عرض على العقول لتلقته
بالقبول؟ إن قطع حجة العباد يــوما القيا مــة ل يــدخل فــي م صــلحة
العباد .وبناء على ذلك فإن ا ســتدلل ال شــاطبي ب هــذا ال نــص ع لــى
التعليل بالمصلحة يدل على أن مراده بالمصلحة هو ما ثبت كــونه
مراداا ل سبحانه وتعالى بغض النظر عن كونه معقول المعنــى أو
ليس كذلك.
[ دليله الثاني:
]). (2
لهذا النص وجهان من الدللة في موضوع تعليل الشريعة
بالمصالح .الول وهو الذي اعتمده العلماء الذين قالوا بتعليل
الشريعة ،فقالوا :بما انها رحمة فإنها يجبِّ أن تعود على العباد
بالمصالح وتدرأ عنهم الضرر والمفاسد ،وبذلك يكون جلبِّ
المصالح ودرء المفاسد علة للحكاما .وليس هذا وجه استدلل
الشاطبي ،فقد علمنا ان الشاطبي ل يكتفي بنص واحد أو بآحاد
النصوص لتقرير المعنى .ومقصود الشاطبي باستدلله بهذا النص
هو الوجه الثاني وهو أن أفعال ال وأحكامه معللة .وهذا النص هو
) ( سورةا السراء . 15 ، 1
220
أحد الجزئيات الخادمة لهذا المعنى .بتعبير آخر إن ال سبحانه
وتعالى فيعيلي فقعنلي الرسال ،والنص دل على أن فعله له مقصد وهو
الرحمة .وبذلك يكون هذا المعنى وهو تعليل الفعال والحكاما
متحققاا في هذه الجزئية .وهذا هو المعنى المقصود في سائر
استدللته الثني عشر ،ولو كان مقصوده بهذا النص الوجه الول
لما كان مقوياا لسائر النصوص الخرى.
ولذلك فإنه بهذا النص يثبت ان إرسال الرسول كان لغاية.
وبما ان الشاطبي جعل هذا النص دليلا على التعليل
بالمصلحة ،فهذا يدل على أنه يطلق لفظ العلة على الغاية .أما
كون هذه العلة مصلحة ،فيمكن أن يقال إن الرحمة مصلحة للعباد
ولذلك قصدها الشارع ،وليس هذا مراد الشاطبي ،وإنما مراده أن
رحمة العالمين هي غاية للشارع ولذلك فهي مصلحة .فهذا النص
ل يفيد أن ما يعده النسان مصلحة جاءت الشريعة لتدل عليه ،لن
مدلول النص ان الرسالة رحمة للعباد ،بغض النظر عما فيها من
أوامر ونواه ،فهي مصلحة للعالمين بما فيها من أوامر ونواه م
كيفما كانت.
دليله الثالث [ :
. (1) ]
هذا النص أتى به الشـاطبي هنـا ل نــه ين ـــص علــى غاي ـــة أو
نتيـجـة للخـلـق وهـي [ ] وهو
يضافَّ إلى أدلته الخرى لتحقيق الســتقراء .والمعنــى الواحــد أو
المشترك الذي تتضافر عليه هذه النصوص هو النص ع لــى غا يــة أو
نتيجة للفعل .والستدلل بهذا النص على التعليل دليل على تســمية
الشاطبي للغاية أو النتيجة المقصودةا علــةا .ولــو نظرنــا إلــى مــا
يسميه الشاطبي علة هنا ل أ دركنا الفرق بينها وب يــن علــة الق يــاس.
221
فالبتلء ليس علة قياس .وليس ثمة حكم في هذا النص يحكــم بــه
على واقعةم ما قياساا بجامع البتلء .وكل ما تفيده هذه الن صــوص
التي يستدل بها الشاطبي هو إثبات وجود غايات للفعال.
أما كون هذه الغاية مصلحة ،فل جدال في أنه من باب إنه ل
يصح في حق ال سبحانه وتعالى أن يقال عن أفعاله وأوامره
ونواهيه سوى إن ها مصلحة وحق وعدل ،وليس من باب ما يشعر به
العبد إنه مصلحة أو وصف مناسبِّ أو حكمة بنظر العقلء والحكماء.
بل يكاد يكون المر على العكس من ذلك ،إذ هذا النص يدل على
التحكم من الخالق بمخلوقاته .إذ أين هي المصلحة التي يشعر بها
النسان أو يدركها العقل في أن يخلق النسان لييبتلى ،فإما إلى
جنةم وإما إلى نار؟ والنسان قبل أن يخلق كيف يعقل أو يدرك
القول بأن خلقه وابتلءه مصلحة له؟ هذا مما ل يدرك فيه وجه
للمصلحة ،ويثبت بهذا ان الشاطبي يطلق لفظ المصلحة على ما ثبت
انه مقصود للشارع ولو لم يكن معقول المعنى.
دليلـــه الرابـــع:
[
. (1)] وهذا أيضاا ينطبق عليه ما ق يــل ســابقاا ف هــو قــد
ساقه لثبات الغاية أو النتيجة المقصودةا للشارع من الخلق [
، ] ويؤكد أيضاا المذكور أعله مــن مف هــوما ال شــاطبي لل فــظ
المصلحة .ولو كان مراده بهذا اللفظ الوصف أو المعنى المناســبِّ
الذي يدركه العقلء والحكماء لكان هذا النص ناقضاا لمبتغاه .فهذا
النص يستدل به من يــرد التعليـل بالم صــالح .وأيـن هـي مصـلحة
المعدوما في خلقه للتكليف؟ ليـس هنــاك م صــلحة معقولـة ،و هــذا
يؤكد الوارد أعله من مراد الشاطبي بلفظ المصلحة.
دليلــه الخــامإس [ :
(2)] وهذا هو دليله الثالث نفسه.
222
وقد سيق لتكثير الدلة .ويقال فيه ما قيل في ما سبقه.
دليله السادس [ :
)(1
]
وهذا أيضاا يلحظ فيه انه استدل به لنه يتضمن ذكر النتيجة التي
يمكن أن تحصل من ه ذا التكلي ف [ ] [، ] [،
. ] حتى لو أدرك النسان المصلحة في النظافـة
أو التطهيــر ،فــإنه ل ي ســتطيع نم طــاا مــن النظا فــة م كــان الن مــط
المشروع .وعديي هذه الغايات مصالح يدل على انها عــدييت كــذلك
لنها مقصودةا للشارع ،ل أن ال ســبحانه وت عــالى شــرع مــا يــدرك
العباد إنه مصلحة.
دليله السابع [ :
. (2)] الشاهد في هذا الدليل
هو في [ . ] والشاطبي يثبت بــه أن التكل يــف هــو
لجل غايات معينة وكونها مقصودةا للشارع يجعلها مصلحة .وليس
في هذا النص معنى مناسبِّ يشار إليه .وإذا قيل إن التقوى مصــلحة،
فهذا ينقض أصل الفكرةا ول يخدما ال قــول بالتعليــل بالم صــالح ،لن
التقوى هي الطاعة .فهذا النص مثل النص [ :
] في دللته على هذا المر.
دليله الثــامإن:
[
(3) ] وهنا أيضاا يســتدل الشــاطبي بــالنص لثبـات
نتيجة أو مآل للحكم ،وان هذا المآل مقصود للشارع ،وبــذلك ف هــو
مصلحة .وهذا الدليل مثل سابقه.
دليله التاسع [ :
)(4
. ] فالتكلـيف هو لجل حصول نتيجة [
، ] فتكون النتيجة مقصداا للتكليف .ول وجه لتسمية هــذا
223
المقصد مصلحة إل لنه مقصود للشارع.
دليله العاشر [ :
. (1)]
يستدل الشاطبي بهذا النص لثبات أن الحكم الذي شرعه ال
و هو الذن بالقتال هو لغاية رفع الظلم الذي وقع عليهم ،فتكون هذه
الغاية مقصودةا للشارع بالحكم ،وبهذا فالذن بالقتال له غاية.ومثل
هذا دليله التالي.
[ دليلــه الحــادي عشــر:
. (2) ]
وهو يثبت بهذا الستدلل أ ن تشريع القصاص هو لجل غاية أو
نتيجة ،وهي رفع القتل العمد العدوان أو الجنايات أو التقليل منها،
فتكون هذه النتيجة مقصودةا للشارع ويثبت ان أفعال أو أحكاما
الشارع معللة بغاياتها ،وكون الغايات مقصودةا للشارع فهي
مصالح.
وهذا النص والذي قبله يمكن أن يقال فيهما إن غايتهما
مصلحة بحكم الحس والطبع أو بحسبِّ العقلء ،وهذا صحيح ،ولكن
ليس هذا وجه استدلل الشاطبي ،لنه ل ينسجم مع سائر أدلته،
وإنما مقصوده الذي تتضافر سائر استدللته عليه هو إثبات وجود
غاية للحكم أو الفعل بغض النظر عن كونها معقولة أو غير
معقولة .ودليله التالي والخير يزيد المر وضوحاا وتأكيداا.
دليله الثاني عشر [ :
. (3) ]
والنص بتمامه [ :
224
(1 ) ] الية .فهذا ما ساقه الشاطبي لثبات
أن للفعال غايات .والغاية هنا أن يقيم الحجة على بني آدما ويق طــع
عليهم طريق العتذار يوما القيامة .ووجود الغاية للفعل أو للح كــم،
وثبوت المر في أفعال وأحكاما كثيرةا ،يثبت عند الشاطبي أن أفعال
ال وأحكامه لها غايات .وإذا ثبت هذا وكان ثمة حكم ل يوجد نــص
على غايته أو على مقصد الشارع منه ،فيجبِّ الب حــث عــن مق صــد أو
غاية يقصدها الشارع منه.
هذا هو قصارى قصد الشاطبي من هذه الستدللت .وفي هذا
النص الخير ل نلمس مصلحة معقولة ،فالشاطبي استدل بهذا النص
الخير وعده دليلا على التعليل بالمصلحة .والمصلحة هي كي ل
يقولوا يوما القيامة إنا كنا عن هذا غافلين .والفعل المعلل هو
إشهاد ال للناس على أنفسهم بعد أخذهم من ظهور بني آدما.
والنسان ل يملك إزاء هذا النص إل أن يقرره ويؤمن به وبما فيه.
وهو وإن كان يستطيع أن يعقل وجوب هذا القرار إل انه ل
يستطيع أن يفهم بما أوتى من قدرةا عقلية كيفية ترتبِّ إقامة هذه
الحجة على هذا الشهاد .وأين هي مصلحة العباد بانقطاع حجتهم؟
وبناء على شهادتهم على أنفسهم شهادةا ل حول لهم فيها ول قوةا؟
وعلى ذلك فهذه الية ل تدل على مصلحة للعباد ل من قريبِّ ول
من بعيد .وليس فيها شاهد في هذا الموضع إل على أن فعل ال
سبحانه وتعالى له غاية أو نتيجة مقصودةا .وهذا الفعل ل غايته
اوالمقصود منه قطع حجة العباد يوما القيامة.
وبما أن الشاطبي سماها علة وسماها مصلحة .فهذا يعني أنه
يسمي مقاصد الشارع عللا ومصالح .وبناءا على ما سبق فإن الذين
يستدلون ببعض نصوص الشاطبي ،ويعتمدون على أقواله قاصدين
بها غير ما قصد ويقررون الحكاما بناء على المصالح والغراض
والحظوظ الدنيوية مستدلين باسم كتابه أو بمنهجه -حسبِّ زعمهم
225
-هؤلء لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر والتفكير اليسير
باستدللته.
ولو كان مراد الشاطبي بالتعليل بالمصالح ،ما كان مصلحة
بحسبِّ الحس والطبع أو العقل والنظر ،لكان منهجه ساقطاا من
أوله ،لن هذه الستدللت التي اتى به ل تحتمل هذه الدللة ،بل
أكثرها ينقضها.
أحد المهتمين بموضوع مقاصد الشريعة السلمية ،والقائلين
بان المقاصد هي المصالح ـ بهذا المعنى المخالف لما عند الشاطبي ـ
وهو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يقول» :واستقراء أدلة كثيرةا
من القر آ ن والسنة الصحيحة يوجبِّ لنا اليقين بان أحكاما الشريعة
السلمية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلح العاما للمجتمع
والفراد«هل ). ( 1
هذا الشيخ -رحمه ال -لم يتنبييه لمراد الشاطبي بالمصــلحة،
ولكنه تنبه لمعاني هذه الدلة ،ولذلك ذهبِّ إلى عدما صلحيتها فــي
هذا الستدلل .قال» :وقد ذكر أبو ا ســحق ال شــاطبي فــي مقد مــة
كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف ) (2أدلــةا الصــالحي منهــا
عقبِّ آية الوضوء [ :
] وقوله تعالى [ :
« ] هل). (3
إذن ،هو اعتبر اثنين فقط من أدلة الشاطبي ورديي عشرةاا رآها
ل تصلح للستدلل ،ولو صح ما قاله الشـيخ لكان إبطالا لما زعمه
الشاطبي من تحصيـل السـتقراء في هذه القضية ولهدما منهجه من
محمد الطاهر بــن عا شــور ،مقا صــد ال شــريعة ال ســلمية .ص،14 : )( 1
226
أوله .والصواب ليس رد اسـتدللت الشــاطبي من هذه الجهـة )، (1
وإنما فهـم مراده بكلمـة مصـلحـة بالمعنـى الذي أوردناه .وال
أعلم.
وفيما يلي بعض النصوص الصريحة في بيان مراده بالمصلحة
والمفسدةا.
بعض النصـوص فـي مإـراد الشـاطبي بالمصـلحة
وأالمفسـدة:
يقول» :إن وضع الشريعة إذا سيليقم أنها لمصالح العباد فهي
عائدةا عليهم بحسبِّ أمر الشارع وعلى الحد الذي حديه ل على
مقتضى أهوائهم وشهواتهم ،لذلك كانت التكاليف الشرعية ثقيلة
على النفوس ،والحس والعادةا والتجربة شاهدةا بذلك .فالوامر
والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى
ياخذها من تحت الحد المشروع ...أما أن مصالح التكليف عائدةا
على المكلف في العاجل والجل فصحيح ول يلزما من ذلك ان يكون
نيله لها خارجاا عن حدود الشرع ول ان يكون متناولا لها بنفسه
دون ان يناولها إياه الشرع وهو ظاهر«هل ) . (2ويقول» :طلبِّ
الحظوظ والغراض ل ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة لن
الشريعة موضوعة أيضاا لمصالح العباد فإذا جعل الحظ تابعاا فل
ضرر على العامل إل أن هنا شرطاا معتبراا وهو أن يكون ذلك
الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما يتبييين أن الشارع شرعه
لتحصيل مثل ذلك وإل فليس السابق فيه أمر الشارع«هل). (3
ويقول» :إن الفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك
متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ ل تحسين للعقل ول
تقبيح ،فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين
قد يصح رد استدللته من جهة أخرى وهي زعم تحصيل الســتقراء )( 1
227
الخر للمفسدةا فقد بين الوجه الذي تحصل منه المصلحة فأمر به
أو أذن فيه ،وبييين الوجه الذي به تحصل المفسدةا فنهى عنه رحمةا
بالعباد .فإذا قصد المكلف عين ما قصد الشارع بالذن فقد قصد وجه
المصلحة على أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له ،وإن قصد غير
ما قصده الشارع وذلك يكون في الغالبِّ لتوهم أن المصلحة فيما
قصد لن العاقل ل يقصد وجه المفسدةا كفاحاا ،فقد جعل ما قصد
الشارع مهمل العتبار ،وما أهمل الشارع مقصوداا معتبراا ،وذلك
مضادةا للشريعة ظاهرةا«هل). (1
ويقول» :إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدةا
مفسدةا كذلك مما يختص بالشارع ل مجال للعقل فيه بناء على
قاعدةا نفي التحسين والتقبيح .فإذا كان الشارع قد شرع الحكم
لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحةا ،وإل فكان يمكن عقلا أن ل
تكون كذلك ،إذ الشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الول متساوية
ل قضاء للعقل فيها بحسن ول قبح ،فإذاا كون المصلحة مصلحة هو
من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس .فالمصالح
من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى
على التعبديات ل يكون إل تعبدياا«هل). (2
وقد يقال :يلحظ في كثير من الحكاما مراعاةا الشريعة
لمصالح العباد بمعنى ما يميلون إليه بحسبِّ الحس والطبع والعادةا،
أو أن لكثير من الحكاما غايات تتفق مع أغراض العباد ومقاصدهم.
وجواب الشاطبي هنا هو أن المصلحة هي ما طلبه الشارع أو ما كان
مقصوداا له ،فإذا اتفق ذلك مع المصالح الدنيوية للعباد فبالعرض
ل بالصل .وذلك منييةي من ال سبحانه وتعالى ليكون أدعى إلى
الطاعة والتعبد .يقول» :ل تخلو أحكاما الشرع من الخمسة ،أمييا
الوجوب والتحريم فظاهري مصادمتهما لمقتضى السترسال الداخل
228
تحت الختيار ،إذ يقال :افعل كذا كان لك فيه غرض أما ل .ول
تفعل كذا كان لك فيه غرض أما ل .فإن اتفق للمكلف فيه غرضي
موافقي وهوىا باعثي على مقتضى المر أو النهي فبالعرض ل
بالصل .وأما سائر القساما وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرةا
المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره ،فهي راجعة
إلى إخراجها عن اختياره«هل). (1
وقال» :ولو شاء ال لكلف بها مع العراض عــن الحظــوظ أو
لكلف بها مع سلبِّ الدواعي المجبول عليها لكنه امتن على عباده ب مــا
جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارةا الدنيا للخرةا ،وجعل الكتساب
لهذه الحظوظ مباحاا ل ممنوعاا لكن على قوانين شرعية هــي أب لــغ
في المصلحة وأجرى على الدواما م مــا ي عــده العبــد م صــلحة [
، (2)] ولو شاء لمنعنا في الكتساب
الخروي القصد إلى الحظوظ فــإنه المالــك ولــه الح جــة البال غــة
ولكنه رغبنا في القياما بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا وع جــل
لنا من ذلك حظوظاا كثيرةا نتمتع بها في طريق ما كلفنا به«هل). ( 3
وعلى ذلك فإن مفهوما الشـاطبي للمصالح والمفاسـد هو أن
الحكاما الشـرعية إنما شرعت لجل غايات معينة ،فالفعل المطلوب
شرعاا له غاية أو غايـات مطلوبة ،والفعل المنهي عنه يكون له
نتائج مطلوب عدما وجودها ،وغايات الحكاما هذه هي مقاصد
للشارع ،وبما أنها مقاصد للشارع ،فالمطلوب منها يسمى مصلحة،
والمقصود عدما وقوعه يسـمى مفسـدةا ،مناسباا كان ذلك أما غير
مناسبِّ.
هذا ،ومن اللفاظ التي ينبغي التنبه إلى معانيها عند الشاطبي،
ألفاظ الجزئي والفرع ،ومعنى الرجوع إلى القطعي ،وذلك
لختلفَّ معانيها عنده عما قد يتبادر إلى ذهن القارئ .وقد تبيينت
) ( المصدر نفسه. 216 / 2 ، 1
229
معاني هذه اللفاظ عنده في المبحث الول من هذا الفصل.
230
الفصل الرابع
قصد الشارع
فـي وأضأع الشريعة ابتداءا
وأفـي وأضأعها للفهام
وأيحتوي على تمهيد وأثالثاة مإباحث:
231
الفصل الرابع
قصد الشارع في وأضأع الشريعة ابتداءا
وأفي وأضأعها للفهام
تمهيـد:
بناءا على ما جاء في الفصل السابق من ضوابط يضعها
الشاطبي للعلل أو المقاصد ،فإنه يقرر أمراا جديداا ويعده توفيقاا
بين المختلفين في مسألة تعليل الحكاما بالوصافَّ المناسبة أو
المع ا ني الحكمية أو غيرها مما عده البعض مسالك للتعليل .
فعلى سبيل المثال :الخلفَّ في مسألة تعليل تحريم الخمر
بال إ سكار ،حيث قال المعللون إن السكار علة وإن لم يكن ذلك
منصوصاا أو مفهوماا من الخطاب ،بناءا على أصل التعليل وعلى
كون الوصف مناسباا ،وحيث قال الرادون ل هذا ا لتعليل بأن ه لم
تدل عليه الشريعة ول يفهم من الخطاب وإنما هو مما يميل إليه
المعلل ويقع في قلبه خيال صحته فهو من هوسات العقل وليس
من دللت الشريعة .جاء الشاطبي بمنهجه أو ضوابطه للعلل
ليقول إن هذا التعليل أو هذا الوصف من حيث هو ،ل يدل عليه
الخطاب الشرعي ،ولذلك فالتعليل به هو من قبيل التحسين
والتقبيح .إل أنه لما ثبت أن التشريع إنما كان لجل غايات أو
علل أو مقاصد أو حكم ،فقد ثبت أنه يصح للمجتهد أن يبحث عن
حكمة تحريم الخمر .وباشتراط الشاطبي للقطع بالعلة أو
المقصد أو بكونها راجعة إلى قطعي ،فإن العلة التي يقررها
المجتهد ل ييكتف ى فيها بأن تكون وصفاا مناسباا ،ول يشترط لها
ذلك أصلا ،وإنما يشترط لها أن تكون مقطوعاا بها عن طريق
الستقراء أو راجعة إلى أصل أو معنى مقطوع به بذلك الطريق.
وعلى ذلك فإن ادعاء عليقييية السكار ،إن لم يكن هذا المعنى
قطعياا فل قيمة له في الشرع ،ولكن لما كان حفظ العقل معنى
232
ثبت قصد الشارع إلى حصوله ثبوتاا قطعياا وقد صار أصلا
راسخاا معتمداا في الدين ،ولما كان التعليل بالسكار يرجع في
معناه إلى هذا الصل القطعي -وهو حفظ العقل -لذلك فإن
التعليل بالسكار يصح.
وبهذا ي تبين أنه يوافق الحنافَّ مثلا في أن مجرد وجود
المعنى في حكم أو في بعض الحكاما ل يفيد في التعليل ،ويوافق
الشافعية في صحة التعليل أو البحث عن المعاني المقصودةا
للشارع ،ويخالف الحنافَّ في ردهم ل هذا التعليل ،ويخالف
الشافعية في الكتفاء بكون المعنى مظنة أن يكون مقصوداا
للشارع والكتفاء ببضعة شواهد باعتبار المعنى كما في الملئم
أو بشاهد واحد كما في الغريبِّ أو بمجرد وجوده في الحكم كما
في المرسل ،وقد بينا هذا المر بالتفصيل في الفصل الول.
بهذه الضوابط يدخل الشاطبي إلى بحث المقاصد ،وقد شرح
هذه الضوابط في الجزء الول من كتابه وجعلها في قسمين:
الول هو المقدمات التي عدها لزمة لفهم كتابه ،والثاني هو
كتاب الحكاما .أما المقاصد فقد جعلها القسم الثالث من كتابه
واستغرقت الجزء الثاني منه .أما الجزءان الثالث والرابع ،وهما
تماما كتابه الموافقات فقد ضمنهما القسمين الرابع والخامس
وهما تطبيق لفكرته في المقاصد ،أو ولمنهجه في تقرير الصول
على علوما القرآن والسنة.
إن فكرةا مقاصد الشريعة وتقسيمها إلى ثلثا مراتبِّ
ضرورية وحاجية وتحسينية ،وإلحاق تتمات لكل مرتبة هو ليس
من جديد الشاطبي ،فقد ظهر هذا أول ما ظهر على يد إماما
الحرمين الجويني وال أعلم ،وتابع في هذا المر علماء كثيرون
بعده ،وإنما جديد الشاطبي في هذا المر هو اشتراطه القطع
ليكون المقصد شرعياا ،واشتراطه الستقراء سبيلا لذلك،
ومفهومه للمصالح وال م فاسد ،ثم إن بحثه في المقاصد يتميز
بتفصيل وترتيبِّ وتقسيم ل وجود له عند سابقيه.
233
فالمقاصد عنده قسمان :مقاصد الشارع ومقاصد المكلييف.
ومقاصد الشارع أربعة أنواع :الول :قصده في وضع الشريعة
ابتداءا ،وهذا النوع هو الذي أشار إليه الصوليون قبله ،وفيه يقع
تقسيم المقاصد إلى ضرورية وحاجية وتحسينية .
الثاني :قصده في وضع الشريعة للفهاما .الثالث :قصده في وضع
الشريعة للتكليف بمقتضاها ،والرابع :قصده في امتثال المكلف
وخضوعه لحكمها .يقول الشاطبي» :المقاصد التي يينظر فيها
قسمان :أحدها :يرجع إلى قصد الشارع ،والخر :يرجع إلى قصد
المكلف .فالول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة
ا بتداءا .ومن جهة قصده في وضعها للفهاما .ومن جهة قصده في
وضعها للتكليف بمقتضاها .ومن جهة قصده في دخول المكلف
تحت حكمها ،فهذه أربعة أنواع«هل). (1
وموضوع هذا الفصل هو النوعان الول والثاني .أما النوعان
الثالث والرابع فهما موضوع الفصل الذي يليه -إن شاء ال . -
234
المبحث الوأل
قصد الشارع في وأضأع الشريعة ابتداءا
235
وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها
مراعاةا في كل ملة«هل) (1وقال» :وأما الحاجيات فمعناها أنها
مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالبِّ إلى
الحرج والمشقة اللحقة بفوت المطلوب ،فإذا لم تيراعي دخل على
المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه ل يبلغ مبلغ الفساد
العادي المتوقع في المصالح العامة«هل .والمصالح العامة أي
الضروريات ،وبناءا على هذا التعريف يكون عدما التكليف بما ل
يطاق ،ورفع الحرج من الصول أو القواعد الحاجية .
وقال» :وأما التحسينات فمعناها الخذ بما يليق من محاسن
العادات وتجنبِّ الحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات،
ويجمع ذلك قسم مكارما الخلق«هل) . (2وقال فيها» :ليس فقدانها
بمخل بأمر ضروري ول حاجي ،وإنما جرت مجرى التحسين
والتزيين«هل ) (3و لزيادةا البيان لحدود كل من هذه المراتبِّ يقول:
»فإن الحاجيات دائرةا على الضروريات وكذلك التحسينات«هل ). (4
ويقول» :ومن تشوفَّ إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على
التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق .ف ب النسبة إلى الدين
يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارةا كالتيمم ،ورفع
حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها ،وفي الصلةا بالقصر ورفع
القضاء بالغماء ،والصلةا قاعداا وعلى جنبِّ ،وفي الصوما بالفطر
في السفر والمرض«هل) . (5ويقول» :وقسم التحسينيات جارم أيضاا
كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارما الخلق وما
يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على
236
رأي من رأى أنها من هذا القسم) ، (1وأخذ الزينة من اللباس
ومحاسن الهيئات والطيبِّ وما أشبه ذلك ،وانتخاب الطيبِّ
والعلى في الزكوات والنفاقات وآداب الرفق في الصياما،
وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والحسان وآداب الكل والشرب
ونحو ذلك وبالنسبة إلى النسل كالمساك بالمعروفَّ والتسريح
بالحسان«هل) . (2وفي كتاب ه مزيد أمثلة لمن أراد الستيضاح
أكثر ). (3
جأريان هذه المقاصد في كل تكاليف الشريعة:
أما بالنسبة للضروريات فيقول» :فأصول العبادات راجعة
إلى حفظ الدين من جانبِّ الوجود كاليمان والنطق بالشهادتين
والصلةا والزكاةا والصياما والحج وما أشبه ذلك .والعادات راجعة
إلى حفظ النفس والعقل من جانبِّ الوجود أيضاا كتناول
المأكولت والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك.
والمعاملت راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانبِّ الوجود...
والجنايات ويجمعها المر بالمعروفَّ والنهي عن المنكر ترجع إلى
حفظ الجميع من جانبِّ العدما«هل). (4
وبالنسبة للحاجيات يقول» :وهي جارية في العبادات
والعادات والمعاملت والجنايات ففي العبادات كالرخص المخففة
بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر ) (5وفي العادات
الطهارةا تتردد بين أن تكون من التحسينيات ،أو من المكملت ل صــل )( 1
حفظ الدين من الضروريات ،وهو الولى على منهجه .إل إذا كانت بمعنى
النظافة ورفع النجاسات وما ينفر منه الطبع ،فطلبِّ الشرع له يجعلــه مــن
التحسينيات على منهجه .
) ( الشاطبي ،الموافقات . 4/17 ، 2
) ( تبيين في الفصل السابق أن الرخص جزئية ول ترجع إلى أصول كلية، 5
وها هو هنا يأتي بها مثالا على الحاجيات وهي مقاصد كلية .وبيان ذلك أن
الرخص الشرعية منها ما ل يلحظ فيه وجود المشقة أو الحرج ،كسفر م ن
237
كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلل مأكلا ومشرباا
وملبساا ومسكناا ومركباا وما أشبه ذلك .وفي المعاملت
كالقراض والمسا ق اةا والسلم ...وفي الجنايات كالحكم باللوثا
والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمي ـ ن الصني ـ ياع
وما أش ـ به ذلك«هل). (1
وبالنسبة للتحسينات يقول» :وهي جارية فيما جرت فيه
الوليان«هل ) (2أي الضروريات والحاجي ـ ات» .ففي العبادات كإزالة
النجاسة ،وبالجملة الطهارات كلها وستر العورةا وأخذ الزينة
والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك،
وفي العادات كآداب الكل والشرب ومجانبة المآكل النجسات
والمش ـ ارب المس ـ ت ـ خ ـ ب ـ ث ـ ات والس ـ رافَّ والق ـ ت ـ ار في
المت ـ ناولت ،وفي المعاملت كالمنع من بيع النج ـ اس ـ ات وفضل
الماء والكل وسلبِّ العبد منصبِّ الشهادةا والمامة ،وس ـ ل ـ بِّ المرأةا
منص ـ بِّ المام ـ ة وإنكاح نفس ـ ها ...وفي الجناي ـ ات كمنع قتل
الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد«هل). (3
ل تلحقه المشقة .ومنها ما تظهر فيه المشقة ،فما تظهر فيه المشقة المعنتة
يلحق بالحاجيات ليس بسببِّ وجود الرخص الشرعية ،وإنما لن عدما التكليف
بالمشقات المعنته سواء كان فيها رخصة أو لم يكن ،هو من الصول الحاجية
عند الشاطبي .ولذلك لم يقل » كالرخص المخففة« وإنما قيــدها بقــوله:
» بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض أو السفر«.
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/5 ، 1
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/5 ،ويتبين من المثلة التي أتى بها الشاطبي 3
على القساما الثلثة أن منها ما قد تميل إليه الطباع والفطر السليمة ،أو على
حد تعبيره عند تعريفه بالتحسينيات » العقول الراجحات« مما قد يوهم
القارئ بأن هذه المقاصد أو المصالح هي كذلك بحسبِّ العقلء والحكماء،
وليس المر كذلك حسبما ت بيين مفهومه للمصالح والمفاسد .ولكن وقوع
المقاصد أحياناا بحسبِّ ما تتطلبه الخصائص النسانية وتتطلع إليه الفطر
والطباع السليمة أو على حد تعبيره » العقول الراجحات« فذلك يقع بالعرض
تفضلا من ال ليكون أدعى إلى الطاعات.
238
مإكملت أوأ تتمات المقاصد:
وكل قسم من هذه القساما الثلثة ينضم إليه ما هو
كالتتمة أو التكملة .ومعنى ذلك أنه لو فيقد لم يخل بالمقصد
أو بالصل ،فالقصاص مثلا في حفظ النفس من الضروريات
والتماثل فيه تكميلي .وحرمة الخمر في حفظ العقل من
الضروريات ،وتحريم الق ل يل منه الذي ل يسكر تكميلي .والبيع
مثلا من الضروريات الراجعة إلى حفظ المال والشهاد والرهن
فيه تكميليان .والطهارةا مثلا من التحسينيات ،ومندوبات الطهارةا
تكميلية .والقصر في السفر الذي فيه مشقة من الحاجيات والجمع
بين الصلتين فيه تكميلي). (1
والتكملة من حيث هي تكملة لصل ضروري أو حاجي أو
تحسيني فلعتبارها شرط وهو أن ل تعود على الصل بالبطال،
ففي إبطال الصل إبطال التكملة ،ويضرب الشاطبي أمثلة على
ذلك منها الجهاد ،وهو من الضروريات في أصل حفظ الدين،
يقول» :فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري ،والعدالة فيه
مكملة للضرورةا .والمكمل إذا عاد للصل بالبطال لم يعتبر،
ولذلك جاء المر بالجهاد مع ولةا الجور عن النبي ، وكذلك
ما جاء من المر بالصلةا خلف الولةا السوء فإن في ترك ذلك
ترك سنة الجماعة ،والجماعة من شعائر الدين المطلوبة ،والعدالة
مكملة لذلك المطلوب ،ول يبطل الصل بالتكملة«هل). (2
وببطلن الصل تبطل التكملة ،بينما ببطلن التكملة ل يبطل
الصل وإن كان قد يختل بوجه ما .ويعد الشاطبي التحسينيات
كالتكملة للحاجيات ،وكلتاهما كالتكملة للضروريات .وعلى
ذلك فالشريعة مبنية على المحافظة على الضروريات .يقول:
»إن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على المور
239
الخمسة ...فلو عدما الدين عدما ترتبِّ الجزاء المرتجى ،ولو عدما
المكلف لعدما من يتدين ،ولو عدما العقل لرتفع التدين ،ولو عدما
)(1
النسل لم يكن في العادةا بقاء ،ولو عدما المال لم يبقي عيش«هل
أي أن انعداما الضروريات يؤدي إلى انعداما الحاجيات
والتحس ـ ينيات .والضروريات مع غيرها كالموصوفَّ مع الصف ـ ة
ل بقاء لها بغي ـ ره ،وه ـ و يبقى بغيرها.
تفاوأت مإراتب المقاصد:
أي كيف يعرفَّ المقصد إن كان من مرتبة الضروريات أو
الحاجيات أو التحسينيات؟ ولقد بينا فيما مضى حدود كل مرتبة
وأمثلة عليها ،ومع ذلك ،فللقارئ أن يتساءل ما الذي جعل الحج
أو الصلةا أو الجهاد من الضروريات فهل هي مما إذا لم ييراعي
تفسد الحياةا ويحصل التهارج وتفوت الحياةا؟ وها هي مجتمعات
كبيرةا في العالم ل تراعي هذه المور ولم يحصل هذا الذي
يخشى منه .وها هي دول ومجتمعات تبيح الزنا والربا وشرب
الخمور مع أن منعها من الضروريات في حفظ النسل والمال
والعقل .وما الذي جعل مثلا تحريم الخنزير والميتة من
التحسينيات ،أو بعض الحيوانات نجساا أو الخمر نجساا ،وتجنبِّ
النجاسات من التحسينيات ،ومع ذلك فمن الناس من يأكل
الخنزير والميتة ،ويعيش في مكان وأحد مع الكلب ،ويعاقر
الخمر ويتطيبِّ بالكحول وهي خمر ،ول يجد أن ذلك مما تأنفه
العقول الراجحة أو تنفر منه النفوس.
وكذلك كيف يكون الصياما من الضروريات ،ورفع التكليف
بالمشقات أو بما ليس في الوسع من الحاجيات ،لماذا ل يكون
المر معكوساا؟
إ ن جواب الشاطبي على هذا المر هو أنه شرعي ل عقلي،
240
فكما أن المقصد ل يكون كذلك إل إذا دل الشرع عليه بالستقراء
المفيد للقطع ،فإن مرتبة المقصد هي أيضاا بدللة الشرع،
وس يت بي ي ن هذا بنصوص من عنده .إل أن ه ثمة رؤية خاطئة في
النظر إلى هذه المقاصد ،وهي رؤية تقوما على تعيين المقاصد أو
المصالح بناءا على المفاهيم السائدةا في المجتمع ،أو بناءا على
المفاهيم التي يحملها أهل النظر ،أو المعرفة والخبرةا ،أو القرار
في المجتمع وقد تكون هذه المفاهيم متأثرةا بالحكاما الشرعية
وقد ل تكون ،وبهذا العتبار تكون هذه المقاصدي مصالح وتعد
شرعية ،فيبنى التشريع عليها ،ويعدي المؤدي إليها والخادما لها
شرعياا ،والهادما لها مفسدةاا وممنوعاا أو حراماا .وقد نقض
الشاطبي هذا الفهم مراراا وتكراراا في موافقاته ،ومع ذلك
فهناك من يقول به وينسبه إلى الشرع وإلى الشاطبي.
ومثل هذا التقسيم للمقاصد يتأتى من جهتين:
الولى :المشاهد المحسوس في النسان أ نه يحتاج ،وتتعدد حاجاته
في الحياةا ،وتتفاوت في درجة الحتياج إليها ،فمنها ما ل غناء
للنسان عنه وفقده يؤدي إلى الموت ،ومنها ما ل غناء له أو
للجماعة عنه وفقده يؤدي إلى التهارج وال ت قاتل ،ومنها ما يؤدي
إلى الضطراب والضنك ،ومنها ما هو دون ذلك ،وهكذا .فكان
طبيعياا لدى النسان عندما يشرع ،أو عندما يحاول أن يفهم
فلسفة التشريع ،أي تشريع ،أن يلحظ ما يدركه من هذه الحاجات
ودرجة الحتياج إليها .وأن يضع تشريعاته حسبِّ ما يراه محققاا
للنتائج الفضل حسبِّ مفاهيمه ،وكان طبيعياا أن يدخل في
حساباته مفاضلته بين المصالح فيما بينها والمفاسد فيما بينها
حسبِّ مفاهيمه وعلى ذلك فقد يعد النسان بعض الحاجات
ضرورية وغيرها كمالية ،وأخرى ما بين ذلك .وذلك كله بناءا
على ما يدركه ويجده في نفسه .ويختلف الناس في ذلك
باختلفَّ مفاهيمهم ،فقد يرى البعض حرية العقيدةا وحرية الرأي
241
والحق بتبديل الدين حقاا من حقوق النس ـ ان وحاجة ض ـ رورية،
وعلى ذلك فحق الردةا ضرورةا ،وقد يرى غيرهم أن هذا من أعظم
المفاس ـ د وأن الضرورةا هي قتل المرتد بعد اس ـ تتابته إن لم
يرجع وهي من ضرورات حفظ الدين .وقد يرى البعض أن الزنا
مفسدةا تنقض أ صل حفظ النسل من الضروريات ،ويراها غيرهم
حرية شخصية ومصلحة .ويرى البعض الربا حاجة للمجتمع
وللمعاملت ،بمرتبة الضروريات ،ويراها غيرهم بمرتبة
الحاجيات ،ويراها غيرهم من أعظم المفاسد.
وتعيين النسان للمصالح والمفاسد والمفاضلة بينها يرجع
إلى أمرين :أ حدهما خصائصه وفطرته كإنسان التي تجعله يقصد
الحصول على الطعاما والشراب والسكن والمال ،والفخر والثناء
والمن والرخا ء ،وتجعله يقصد المحافظة على حياته وإشباع
رغباته ،والمحافظة على أبنائه وأسرته و ،...فيشعر بأن هذه
الشياء مصالح أو خير ،وفقدها مفاسد أو شر ،والثاني :ما يتكون
لدى النسان من مفاهيم سواء نتيجة الفكر والقتناع كمن يقتنع
أن القمار أو الغش حراما في ك ون مفسدةا بنظره مع أن التملك
مصلحة في النفس ،أو أن الزنا حراما فيحكم عليه بأنه مفسدةا ،أو
كمن ل يؤمن بالسلما أو بالبعث والحساب فيرى القمار أو الربا
أو الزنا مصلحة .أو ليس نتي ج ة الفكر والقتناع وإنما نتيجة
التربية والنشأةا كمن يعيش بين المسلمين فينشأ لديه المحافظة
على العرض واستقباح الزنا ،واشمئزاز النفس من الخنزير أو
الميتة ...أو كم ن يعيش بين الكفار فينشأ لديه تقديس الصنم
والشعور بأن هدمه مفسدةا أو ل يشمئز من تقبيل الكلب أو ل
يستقبح الزنا...
بن ـ اءا على هذا تتباين نظرةا الناس إلى المصالح والمفاسد،
ويتناقضون ويختلفون في المفاضلت.
والجهة الثانية التي يتأتى منها تقسيم المقاصد وتعيين
242
مراتبها ما يدركه من اهتدى إلى السلما وأدرك أنه عبد ل ،وأن
السلما شريعة ال للناس كافةا ،وأنه ل حكم إل ل ،وأنه ما كان
لمؤمن ول مؤمنةم إذا قضى ال ورسوله أمراا أن يكون لهم
الخيرةا من أمرهم ،وأن كل تشريع من عند غير ال فهو طاغوت،
فانطلق يفهم عن ال مقاصده في التشريع ،فجعل يحسيقن ما
جعلته الشريعة حسناا ،ويقبيقح ما جعلته قبيحاا ،ويكبيقر ما دلت
الشريعة على أنه كبير ويصغر ما دلت على أنه صغير ،وهكذا.
فيصبح الحكم على ما هو مصلحة وما هو مفسدةا راجعاا إلى
الشرع ،فيتعين ما هو مصلحة وما هو مفسدةا ويتعين ما هو
معروفَّ وما هو منكر وما هو حسن وما هو قبيح وما هو خير وما
هو شر.
وكذلك المر بالنسبة لمراتبِّ المقاصد ،فالضروريات هي
ما طلبه الشارع وكرر طلبه أو شدد في ذلك إلى درجة معينة،
والحاجيات هي ما طلبه الشارع وأكييد عليه إلى درجة معينة دون
الولى ،وكذ لك فيما طلبه الشارع طلباا جعله في مرتبة دون
ذلك سميت التحسينات.
من هذه الجهة ،الثانية ،جاء تقسيم الشاطبي للمقاصد إلى
ثلثة أقساما ضرورية و ح اجية وتحسينية .وهذه بضعة نصوص له
واضحة وقاطعة في بيان منهجه في هذا المر لبيان مرتبة
المقصد في هذه القساما أو مرتبته ضمن القسم الواحد.
يقول» :فلقد كنا قبل شروق هذا النور) ، (1نخبط خبط
العشواء ،وتجري عقولنا في ا قتناص مصالحنا على غير السواء،
لضعفها عن حمل هذه العباء ،ومشاركة عاجلت الهواء ...ف ن ضع
السموما على الدواء موضع الدواء) ... (2ونستنتج القياس العقيم،
ونطلبِّ آثار الصحة من الجسم السقيم ،ونمشي إكباباا على
243
الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم ،حتى ظهر محض
الجبار في عين القدار وارتفعت حقيقة أيدي الضطرار إلى
الواحد القهار«هل ). (1
ويقول» :إن تلك المراتبِّ الثلثا يخدما بعضها بعضاا،
ويخصص بعضها بعضاا ،فإذا كان كذلك فل بد من اعتبار الكل
في مواردها وبحسبِّ أحوالها ،وأيضاا فقد يعتبر الشارع من ذلك
ما ل تدركه العقول إل بالنص عليه وهو أكثر ما دلت عليه
الشريعة في الجزئيات لن العقلء في الفترات قد كانوا
يحافظون على تلك الشياء بمقتضى أنظار عقولهم ،لكن على
وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم ،بل كان
مع ذلك الهرج واقعاا والمصلحة تفوت مصلحةا أخرى وتهدما
قاعدةاا أخرى أو قواعد فجاء الشارع باعتبار المصلحة والنصفة
المطلقة في كل حين ،وبييين من المصالح ما ي ي ط يي ر ق د ،وما
يعارضه وجه آخر من المصلحة«هل). (2
ومعنى هذا النص أنه في زمان الفترةا حيث تندرس أحكاما
الشريعة ول يبقى إل الكليات أو بعضها ،يسعى العقلء للمحافظة
على هذا الباقي بوضع أحكاما أو جزئيات من عندهم يرونها ـ
بأنظار عقولهم ـ محققة للمحافظة على تلك الكليات ،ولكنهم
كانوا إذا حفظوا مصلحة هدموا غيرها ،أي أنهم كانوا يرون
المفاسد مصالح حتى جاء الشرع وبين ما يعد من المصالح وما ل
يعد كذلك.
وقال » :المفهوما من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية
تعظم بحسبِّ عظم المصلحة أو المفسدةا الناشئة عنها وقد عيلم
) ( الشاطبي ،الموافقات . 1/2 ،أي جاء السلما وعين المصالح والمفاسد، 1
وظهرت حقيقة العجز عند البشر وحاجتهم لمن يعين لهم ذلك وأ نــه ا لــ
وحده .
) ( المصدر نفسه. 3/15 ، 2
244
من الشريعة جريان المور الضرورية الخمسة المعتبرةا في كل
ملة ،و إ ن أعظم المفاسد ما يكر بالخلل عليها ،والدليل على ذلك
ما جاء من الوعيد على الخلل بها كما في الكفر وقتل النفس
وما يرجع إليه ،والزنى والسرقة وشرب الخمر ،وما يرجع إلى
ذلك مما وضع له حد أو وعيد ،بخلفَّ ما كان راجعاا إلى حاجي
أو تكميلي فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ول بحد معلوما يخصه،
فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروري والستقراء يبين
ذلك«هل) (1وهكذا فالضروريات هي ما ا ختصته الشريعة بوعيد أو
حد معلوما لحفظه من جانبِّ العدما وقال» :إن كل واحدةا من هذه
المراتبِّ لما كانت مختلفةا في تأكد العتبار فالضروريات
آكدها تليها الحاجيات والتحسينيات«هل). (2
وقال» :إن الوامر في الشريعة ل تجري في التأكيد مجرى
واحداا وإنها ل تدخل تحت قصد واحد ،فإن الوامر المتعلقة
بالمور الضرورية ليست كالوامر المتعلقة بالمور الحاجية ول
التحسينية ،ول المور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها،
بل بينهما تفاوت معلوما ،بل المور الضرورية ليست في الطلبِّ
على وزان واحد ،كالطلبِّ المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد
)(3
كالنفس ول النفس كالعقل إلى س ـ ائر أص ـ نافَّ الضروريات
والحاجي ـ ات كذلك ...وكذلك التحسينيات حرفاا بحرفَّ...
فالضابط في ذلك أن ينظر في كل أمر هل هو مطلوب فيها
بالقصد الول أما بالقصد الثاني ،فإن كان مطلوباا بالقصد الول
فهو في أعلى المراتبِّ في ذلك النوع) ، (4وإن كان من المطلوب
245
بالقصد الثاني ) (1نظر هل يصح إقامة الضروري في الوجود بدونه
حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري أما ل .فإن لم يصح
فذلك المطلوب قائم مقاما الركن والجزء المقاما لصل
الضروري وإن صح أن يطلق عليه السـم بدونه فذلك المطلوب
ليس بركن ولكن ـ ه مكمل ومتمم ،إما من الحاجيات وإما من
التحسينات فينظر في مراتبه على الترتيبِّ المذكور أو نحوه
)(2
بحس ـ بِّ ما يؤدي إليه الستقراء في الشرع في كل جزء منها«هل .
ومما يعنيه هذا النص أن الضروريات الخمسة هي المقاصد
الول .والمقاصد الخرى ينظر فيها .فإن كانت مما ل يقوما
الضروري إل بها فهي من الضروريات في ذلك النوع الذي ل
يقوما إل بها ،فالجهاد ل يحفظ الدين بفقده ،لذلك فهو من
الضروريات في حفظ الدين ،وكذلك الركان الخمسة وكذلك
قتل المرتد ،وكذلك المامة العظمى ،وحرمة القتل والقصاص
ل يقوما الضروري وهو حفظ النفس إل بها فهي من الضرويات في
هذا النوع ،أي حفظ النفس ،وهكذا في سائر النواع أما إن كان
ذلك النوع من الضرويات ل ينتقض أو يفقد بفقد مقصد ما ،فإن
هذا المقصد ل يكون من الضروريات وإنما يكون من مكملتها ،أي
قد يكون من الحاجيات أو التحسينيات .وذلك كالنظافة في
العبادات فإنها ل تخل بأصل حفظ الدين ،وكالقصر أو الفطر في
السفر .وكشرب قطرةا من الخمر فإنها ل تنقض أصل حفظ
العقل ،فل تكون من قسم الضروريات ،وهكذا يطبق المر في
مكملت الضروريات لمعرفة قسمها من الحاجيات أو التحسينيات
أو المكملت لي منهما ،وكل ذلك إنما يكون باستقراء النصوص
الشرعية ومعانيها ،فما يتم له الستقراء يعد مقصداا ،وما ل يتم
) ( سبق بيان معنى المقاصد الصلية والمقاصد التابعة في الفصل السابق. 1
والمقصد الثاني هو مقصد تابع ثبت كونه خادماا للمقصد الصــلى الــذي
هو الول .
) ( الموافقات. 121 - 3/120 : 2
246
له ذلك فإما أن يكون خادماا لمقصد فيكون فرعاا راجعاا إلى
مقصد ،وإما أن ينقض مقصداا فيرد ،وإما أن ل ينقض ول يخدما
فيتوقف فيه ،ول يعد فرعاا وإنما يعد جزئية .وإنعاما النظر في
هذا النص ال سابق يلخص هذا المر من منهجه .ويقول أيضاا
مؤكداا لهذا المعنى ولكون مراتبِّ المقاصد راجعة إلى الشرع:
»الفعل يعتبر شرعاا بما يكون عنه من المصالح والمفاسد ،وقد
بين الشرع ذلك ومييييزي بين ما يعظم من الفعال مصلحته فجعله
ركناا أو مفسدته فجعله كبيرةا ،وبين ما ليس كذلك فسماه في
المصالح إحساناا ،وفي المفاسد صغيرةا ،وبهذه الطريقة يتميز ما
هو من أركان الدين وأصوله ،وما هو من فروعه وفصوله،
ويعرفَّ ما هو من الذنوب كبائر وما منها صغائر ،فما عظمه
الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين وما جعله دون ذلك
فمن فروعه وتكميلته ،وما عظم أمره في المنهيات فهو من
الكبائر وما كان دون ذلك فهو من الصغائر ،وذلك على مقدار
المصلحة والمفسدةا «هل). (1
ومن النصين السابقين نستنتج أن الشاطبي يسمي
الضروريات ،وهي الخمسة أو ما ل تقوما هذه الخمسة إل به
يسميها أركان الدين او أصوله ،وما دونها يسميه التكميلت أو
فروع الدين .ومخالفة الضروريات فهو من الكبائر في المفاسد أو
الذنوب.
ول يعني هذا التفاوت في مراتبِّ المقاصد تفويت مقصدم ما
بذريعة المحافظة على ما هو آكد منه ،ول مخالفة الحكاما أو
تغييرها بحجة المقاص ـ د ،لن ه ـ ذه المقاصد إنما تقرر كونها
مقاصد من استقراء الحكاما ومعانيها .فالحكاما هي بمثابة الصول
للمقاصد ،والمقاصد مبنية عليها .وبإبطال الصل يبطل ما انبنى
عليه .وعلى ذلك فالمقاصد هي مقاصد الشريعة ،والشريعة ثابتة
247
ل تتغير ول تتبدل .ول يصح التذرع بالمقاصد لجل ذلك .وهذا
ما يتضمنه قول الشاطبي إن الشريعة معصومة وهو موضوع
المبحث التالي.
248
المبحث الثاني
عصـمة الشـريعة
مإعنى هذا التعبيـر:
ومعنــى ذلــك أن أح كــاما ال شــريعة محفو ظــة مــن التغييــر
والتبديل أو النسخ والتحريف ،وقد تكفل ال بحفظ هــا ،فلــن ي قــع
فيها شيء من ذلك ،بخلفَّ ما تقدمها من شرائع ،وأدلة ذلك مــن
وجهين :الول :النصوص ال شــرعية ك قــوله ت عــالى [ :
، (1) ] ويشمل هذا الحفظ
السنيية وإن لم تشملها النصوص) . (2والوجه الثاني في الدللة هــو
الواقع من زمن النبي إلى الن حيث أ ن ال سبحانه وتعــالى قــد
قيض لهذه الشريعة من يحفظها على يديه ويــذب عنهــا ويناضــل
دونها في كل علمم توقف فهم الشريعة عليه .قال الشــاطبي» :إن
هذه الشريعة المبار كــة مع صــومة ك مــا أن صــاحبها مع صــوما،
وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصــومة«هل) (3ومــن هــؤلء
الذين قيضهم ال لحفظ دينه العلماء الذين فهموا مقاصد الشريعة
من الكتاب والسنة .يقول» :وبعث ال من هؤلء سادةاا فهمـوا عـن
ال وعن رسول ا لــ ، فا ســتنبطوا أحكا مــاا فه مــوا معاني هــا مــن
أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ،تارةا من نفس ال قــول ،و تــارةاا
من معناه ،وتارةاا من علة الحكم ،حتى نز يي لــوا الو قــائع ا لــتي لــم
تذكر على ما ذيكر وسه يي لوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك ،وهكذا
) ( تبين في الفصل الثالث رأي الشاطبي وهو أن الحفظ المضمون بالية 2
هو للكليات وليس للجزئيات .ويتبــع الكليــات ال فــروع ،و هــي الجزئيــات
الراجعة إلى كليات ،ولذلك قال في السنة» :والسنة وإن لـم تـذكر )أي
في الحفظ المضمون( فإنها مبينة له )أي للكتاب( ودائرةا حوله فهي منــه،
وإليه ترجع في معانيها ،فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضـاا«هل
الموافقات. 2/38 .
) ( الموافقات. 2/38 . 3
249
جرى المر في كل علمم توقف ف هــم ال شــريعة عليــه ،و هــو عيــن
الحفظ الذي تضمنته الدلة المنقولة و بــال التوف يــق«هل) . (1وم مــا
ينبني على ذلك أن الجزئيات من نصوص ظنية الثبــوت أو م عــان م
ظنية ،ستظل هي مآخذ الكليات ،وهي موضع ال ا ســتقراء ،ول ي صــح
أن يزعم المحافظة على الكليات بأي طر يــق ،فالكليــات ليــس ل هــا
طريق إل هذه الجزئيات .وكما أن الخلل بالكليات ل يجوز ،فإن
الخلل بالجزئيات مثــل ذلــك .و مــن ج هــة أ خــرى فــإن الخلل
بالجزئيات إخلل بالكليات .يقول» :إذا ثبت في الشــريعة قاعــدةا
كلية في هذه الثلثة) (2أو في آحادها فل بد من المحافظة علي هــا
بالنسبة إلى ما يقـوما بـه الكلــي ،وذلـك الجزئيـات ،فالجزئيـات
مقصودةا مع تــبرةا فــي إقا مــة الكلــي أن يتخلــف الكلــي فتتخلــف
مصلحته المقصودةا بالتشريع«هل) (3ثم أورد أدلة على ذلك وقــال:
»وحين كان ذلك كذلك دل علـى أن الجزئيـات داخلـة مـدخل
الكليات في الطلبِّ والمحافظة عليها«هل) . (4وقال» :إن الجزئيات لو
لم تكن معتبرةا مقصودةا في إقامة الكلي لم يصح المر بالكلي من
أصله لن الكلي من حيث هو كلي ل ي صــح الق صــد فــي التكل يــف
إليه«هل ). (5
وعلى ذلك فل يجوز إهدار أو إهمال الجزئيات بحجة
الكليات ،ول يصح العتراض هنا بما قرره سابقاا من أن تخلف
آحاد الجزئيات ل يقدح في ثبوت الكليات .يقول» :ل شك في
انحتاما القصد إلى الجزئي«هل) (6ويقول» :إن تخلف الجزئي هنالك
) ( المصدر نفسه . 2/40 ، 1
إنما يقع على السباب ل على المسببات ،لنها إلــى الــ وليســت إلــى العبــد،
والتكليف بها خارج عن قدرةا العبد.
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/42 ، 6
250
إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كل يق ي هق من جهة
أخرى ،كما نقول إن حفظ النفوس مشروع وهذا كلي مقطوع
بقصد الشارع إليه ،ثم شرع القصاص حفظاا للنفوس ،فقتل النفس
في القصاص محافظة عليها بالقصد ،ويلزما من ذلك تخلف جزئي
من جزئيات الكلي المحافظ عليه وهو إتلفَّ هذه النفس لعارض
عرض وهو الجناية على النفس .فإهمال هذا الجزئي في كيليقييقه
من جهة المحافظة على جزئي في كيليقييقه أيضاا وهو النفس
المجني عليها ...فعلى هذا ،تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى
الكلي إن كان لغير عارض فل يصح شرعاا ،وإن كان لعارض
فذلك راجع إلى المحافظة على الكلي من جهةم أخرى أو على
كلي آخر ،فالول يكون تخلفه قادحاا في الكلي ،والثاني ل يكون
تخلفه قادحاا«هل ). (1
ل يجوز مإخالفة الحكام بحجة المقاصـد:
إن القول بمقاصد للشريعة ،وبتفاوت مراتبِّ هذه المقاصد ل
يبرر مخالفة أو تغيير بعض الحكاما بحجة المحافظة على
مقاصدها ،كما ل يبرر تفويت بعض المقاصد لجل تحصيل ما هو
أعلى منها مرتبةا .وذلك أن الكليات ل يحافظ عليها بكل طريق،
وإنما بما شرع ال لها ،فكانت مخالفة الحكاما تفوت المقاصد وإن
لم يظهر ذلك .والجزئيات والمكملت في الشريعة إنما شرعت
لجل المحافظة على الضروريات وهي خادمة لها .فل يتأتى
المحافظة على الضروريات إل بها ،وعلى ذلك فما يأتي به البعض
أحياناا من آراء أو فتاوى تهدر النصوص الشرعية بحجة
المحافظة على المقاصد وتقول بجواز تطوير أو تغيير الحكاما
الشرعية بناء على ذلك هي أقوال مناقضة لفكرةا المقاصد عند
الشاطبي ،وقد مري آنفاا قوله إن الذين كانوا يسعون للمحافظة
على الكليات بمقتضى أنظار عقولهم عجزوا عن ذلك وكانوا
251
يفوتون المصالح ويهدمون قواعدها ،ويقول أيضاا» :إن كل
حاجي وتحسيني إنما هو خادما للصل الضروري ومؤنس ومحسيقن
لصورته الخاصة ...وعلى كل تقدير فهو يدور بالخدمة حواليه
فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالته«هل) (1ويقول
»إن كل واحدةا من هذه المراتبِّ لما كانت مختلفة في تأكد
العتبار فالضروريات آكدها تليها الحاجيات والتحسينيات،
وكانت مرتبطاا بعضها ببعض ،كان في إبطال الخف جرأةاي على
ما هو آكد منه ومدخل للخلل به ،فصار الخف كأنه حمى
للكد ،والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه«هل ) . (2ويقول» :إذا
كان الضروري قد يختل باختلل مكملته كانت المحافظة عليها
لجله مطلوبة«هل) . (3ويقول بشأن تغيير الحكاما بحجة المصالح أو
المقاصد» :فإنها )أي المصالح( لو كانت موض ـ وعة بحيث يمكن
)(4
أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعاا لها .
إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد ،لكن
الش ـ ارع قاص ـ د به ـ ا أن تك ـ ون مص ـ الح على الطلق ،فل بد أن
يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياا وكلياا وعاماا في جميع
أنواع التكليف والمكلفين وجميع الحوال ،وكذلك وجدنا المر
فيها والحمد ل«هل ). (5
تفسير لبعض نصوص الشاطبي:
ذهبِّ كثير من المعاصرين إلى قراءةا نصوص من
)الموافقات( من غير تنبه إلى حقيقة معانيها ،فنسبوا إلى
الشاطبي آراء ل يقول بها ،وإنما يبطلها ويبين فسادها .والواقع
) ( أي لجل تحقيقها لنها غايات ،والحكاما الشرعية هي الطريق إليها ،أو 4
252
أن كثيراا من نصوص الشاطبي إذا لم ينظر إليها على أساس ما
وضعه من مقدمات ،وما قرره من أصول ،وبحيث يبنى اللحق منها
على السابق فإن هذا سيوقع في التباسات وييشعر بتناقضات بين
بعض النصوص.
ولقد خ رج بعض كتاب الصول بتقريرات ل قيمة لها شرعاا
متوهمين أنهم يستندون إلى فكرةا مقاصد الشريعة كمن يطلق
القول بأنه حيثما تكون المصلحة فثم شرع ال ،أ و بأن الطريق
إلى المباح مباح ،أو كمن يقول بان ال حرييما علينا ما تدرك
عقولنا ضرره وأباح لنا ما تدرك عقولنا نفعه أو ما شابه ذلك.
وإذا كان البعض يفعل هذا زاعماا الستناد إلى الشاطبي،
فهناك من تنبييه إلى عدما إنطباق أفكار الشاطبي على هذه المعاني،
فالش ـ يخ مح ـ م ـ د الطاهر ب ن عاشور -مثلا -يشير ،في معرض
تقريره أن الشريعة معلل ة بمصالح العباد ،إلى أن معظم استدللت
الشاطبي على هذا المر غير صالحة ،وهذا مبعثه أن المستيد ي ليي
عليه عند الشاطبي مختلف ع ما عند الشيخ). (1
ولذلك رأى الدكتور عبد ال دراز تناقضاا بين بعض
نصوص الشاطبي .
يقول الشاطبي في المسألة الخامسة من مسائل النوع الول
من مقاصد الشريعة» :المصالح المبثوثة في هذه الدار يينظيري
فيها من جهتين :من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب
الشرعي بها .فأما النظر الول :فإن المصالح الدنيوية من حيث
هي موجودةا هنا ل يتخلص كونها مصالح محضة ،وأعني
بالمصالح ما يرجع إلى قياما حياةا النسان وتماما عيشه ونيله ما
تق ت ضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الطلق حتى يكون
منعماا على الطلق وهذا في مجرد العتياد ل يكون لن تلك
المصالح مشوبةي بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت ،وتقترن بها أو
) ( انظر ص 181 :من هذا الكتاب . 1
253
تسبقها أو تلحقها كالكل والشرب واللبس والسكنى والركوب
والنكاح وغير ذلك ،فإن هذه المور ل تنال إل بكديم وتعبِّ ،كما
أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع
الوجود ،إذ ما من مفسده تفرض في العادةا الجارية إل ويقترن بها
أو يسبقها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير ،فإذا كان
كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على
مقتضى ما غلبِّ ،فإذا كان الغالبِّ جهة مصلحة فهي المصلحة
المفهومة عرفاا ،وإذا غلبِّ الجهة الخرى فهي المفسدةا المفهومة
عرفاا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباا إلى الجهة
الراجحة ...على ما جرت به العادات في مثله ...وأما النظر الثاني
فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعاا ،فالمصلحة إذا كانت هي
الغالبة عند مناظرتها مع المفسدةا في حكم العتياد ،فهي
المقصودةا شرعاا ،ولتحصيلها وقع الطلبِّ على العباد ...فإن تبعها
مفسدةا أو مشقة فليست بمقصودةام في شرعية ذلك الفعل وطلبه.
وكذلك المفسدةا إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في
حكم العتياد ،فرفعها هو المقصود شرعاا ،ولجله وقع النهي...
فإن تبعتها مصلحة أو لذةا فليست هي المقصودةا بالنهي عن ذلك
الفعل ،بل المقصود ما غلبِّ في المحل«هل). (1
ويقول في المسألة الثامنة من مسائل النوع الول من مقاصد
الشريعة» :المصالح المجتلبة شرعاا والمفاسد المستدفعة شرعاا
إنما تعتبر من حيث تقاما الحياةا الدنيا للحياةا الخرى ،ل من حيث
أهواء النفوس في جلبِّ مصالحها العادية أو درء مفاسدها
العادية«هل ). (2
هذان النصان للشاطبي في المسألة الخامسة والمسألة الثامنة
رأى الدكتور دريياز أنه م ا متناقضان ،ولذلك علق على النص
254
الول بقوله» :سيأتي تقييد هذا النظر في المسألة الثامنة«هل). (1
وعلق على النص الثاني بقوله» :يلزما أن تقييد المسألة الخامسة
بهذا حتى ل يتنافى مع ظاهر الكلما هناك ...فقد بنى المصلحة
والمفسدةا على ما غلبِّ منهما باعتبار قياما الحياةا ونيل الشهوات
التي تقتضيها أوصافَّ النسان الشهوانية فجعلها مما ينبني عليها
كونها مصلحةا تطلبِّ أو مفسدةا تدفع وهنا يقول إن مجرد
كونها مصلحة في نظر الشخص ل تعتبر ،والمعتبر أن تكون
بحيث تقوما الحياةا الدنيا للخر ةا وذلك طبعاا ل يكون إل تبعاا
لرسم الشرع الذي يعلم المصل ح ة من هذه الحيثية موفقاا بينها
وبين ما أجراه في سنة الوجود«هل) . (2وقال أيضاا تعليقاا على نص
آخر للشاطبي في الموضوع نفس ه » :مجرد هذا ل يفيد بعدما
اعتبر سابقاا أن ما غلبت فيه جهة المنفعة فهو المصلحة وما
ترجحت فيه المضرةا فهو المفسدةا ...ولذا قلنا إنه يلزما لصحة
الكلما تقييد ما سبق بهذا«هل ). (3
بهذا يكون قد تم عرض الشكال في هذه المسألة ،وقبل بيان
حله وإزالته أشير إلى أن الدكتور دراز لم يقف على حقيقة مراد
الشاطبي بألفاظ المصلحة والمفسدةا ،ويفهمهما عند الشاطبي
بمعنى المنفعة والمضرةا ،ولذلك نسبِّ إلى الشاطبي ال قول بأ ن ما
غلبت فيه جهة المنفعة فهو المصلحة ،وما ترجييحت فيه المضرةا
فهو المفسدةا .وهذا غير صحيح ،ولم يكن هذا قول الشاطبي،
وإنما قال :إن ما غلبت فيه جهة المصلحة فهو المصلحة المفهومة
عرفاا ،وكذلك بالنسبة للمفسدةا .والمران مختلفان .فالمصلحة
عند الشاطبي هي ما ثبت قطعاا كونه مقصوداا للشارع ،والمفسدةا
ما ثبت قطعاا كونه ممنوع الوقوع شرعاا .أما المنافع والمضار
) ( المصدر نفسه 2/26 ،طبعة دار المعرفة -بيروت بتعليق الدكتور 1
255
ف هي راجعة إلى حظوظ العبد وما يحبِّ وما يكره ،ولذلك فبعض
المنافع محرمة وبعض المضار جائزةا ،ولذلك اعترض الشاطبي
على الرازي فقال بعد أن قرر أن المصالح والمفاسد تعتبر من
حيث تقوما الحياةا الدنيا للحياةا الخرى» :إنه ل يستمر إطلق
القول بأن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع كما قرره
الفخر الرازي إذ ل يكاد يوجد انتفاع حقيقي أو ضرر حقيقي
وإنما عامتها أن تكون إضافية«هل) ، (1ويضيف» :والمصالح والمفاسد
إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع ...فكيف يسوغِّ إطلق هذه
العبارةا أن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع«هل) (2ويضافَّ
إلى هذا خطأ آخر ،وهو عدما التمييز بين مراد الشاطبي في
المسألة الخامسة ومراده في المسألة الثامنة .وقد بنى الدكتور
درار اعتراضه على قول الشاطبي في المسألة الخامسة» :واعني
بالمصالح ما يرجع إلى قياما حياةا النسان وتماما عيشه ونيله ما
تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الطلق حتى يكون
منعماا على الطلق«هل.
ولبيان الفرق بين المسألتين أقول :إن الشاطبي لم ييسيق
المسألة الخامسة لتعريف المصالح والمفاسد ،وإنما لبيان أنها ل
تتمحض في الوجود ،وأنها تتمحض في الشرع .أما النص الذي
بنى عليه الدكتور دراز اعتراضه ،والمثير للشكال فمعناه أن ما
جاءت به الشريعة من أوامر ونواهي ،وتقرر بناء عليه ما هو
مصلحة وما هو مفسدةا ،فإنه هو الذي يعود على النسان بما
يحفظ عليه حياته وتماما عيشه من طعاما وسكن وغير ذلك مما
تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية من أمن وعز وتملك وغير
ذلك من ملذات الحياةا ،وهذه ل تحصل إل بما يؤدي إليها وهي
أحكاما الشريعة ،ولذلك فإن نص الشاطبي ل يقول» :وأعني
256
بالمصالح قياما حياةا النسان ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية«هل،
وإنما يقول» :وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قياما حياةا
النسان«...هل وهذا المعنى جلييي في كتاب الشاطبي لمن تأمله،
وس ي ت فصل القول فيه عند الحديث عن النوع الرابع من مقاصد
الشريعة وهو وضعها للمتثال .ونصوصه في هذا المر كثيرةا
أ ذكر منها هنا نصاا يفي بالغرض .يقول» :إن وضع الشريعة إذا
سلم أنها لمصالح العباد فه ي عائدةا عليهم بحسبِّ أمر الشارع
وعلى الحد الذي حده ل على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ...أما أن
مصالح التكليف عائدةا على المكلف في العاجل والجل فصحيح ،ول
يلزما من ذلك أن يكون نيله لها خارجاا عن حدود الشرع ،ول أن
يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهو ظاهر،
وبه يتبييين أن ل تعارض بين هذا وبين ما تقدما لن ما تقدما نظري
من حيث ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع ل من حيث
اقتضا ه الهوى والشهوةا«هل ). (1
إن معنى النص الذي بنى عليه الدكتور دراز اعتراضه هو أن
المصالح التي دلت عليها الشريعة بالستقراء هي التي تؤدي إلى
أن ينال النسان حظوظه وأغراضه وليس أن المصالح تفهم بحسبِّ
ما يعود على الناس بذلك بمقتضى ميولهم وأنظارهم.
أما النصوص الخرى التي رأى الدكتور دراز أنها متعارضة،
فما ورد في المسألة الخامسة ليس المراد فيه التعريف بالمصالح
والمفاسد ،وإنما المراد من المسألة أن المصالح والمفاسد ينظر
إليها من جهتين .الولى :من حيث هي موجودةا في الواقع ،وهي
هنا ل تتمحض ،فالمصالح تشوبها المفاسد ،والعكس صحيح .أي أن
الفعل المأمور به لجل غاية يقصدها الشارع ،فإن هذه الغاية
مصلحة شرعية تنتج عن الفعل ،ولكن ينتج عن الفعل أمور أخرى
قد تكون غير مقصودةا بذلك المر ،أي قد تكون مفاسد ،والعكس
257
صحيح ،وذلك لن المفاسد والمصالح ل تتمحض في الواقع.
فالجهاد مثلا مصلحة ،وينتج عنه مصالح يقصدها الشارع مثل
بسط سلطان السلما وإعزازه ودخول الناس فيه ،وينتج عنه أيضاا
فوات الرواح وإنفاق الموال والمشقات ،فهل هذه الخيرةا هي
قصد الشارع بالجهاد؟ كل .بل هذه مفاسد شرعاا .وعلى هذا
الساس يفهم قول الشاطبي» :فإذا كان كذلك فالمصالح
والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلبِّ«هل .أي
ينظر إلى المصالح ومقدارها ودرجة توقعها .فهل النصر متوقع
أيون ل ،ودرجة الظن بذلك ،وينظر إلى تكاليفه من النفس
والموال ،والنتائج المتوقعة وذلك بحسبِّ أهل النظر والخبرةا،
ولذلك قال» :فإذا كان الغالبِّ جهة المصلحة فهي المصلحة
المفهومة عرفاا«هل.
ومثال ذلك أيضاا» :الكل والشرب والسكنى والركوب
والنكاح فإن هذه المور ل تنال إل بكديم وتعبِّ«هل .وكما قال:
»تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشقات«هل فإن كانت هذه مصالح
مقصودةا الوقوع ،فإن المشقات مفاسد مطلوبة الرفع بحس ـ بِّ
الش ـ اطب ـ ي .قال» :إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف
قصد الشارع من حيث إن الشارع ل يقصد بالتكليف نفس المشقة
وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل فالقصد إلى المشقة باطل
فهو إذاا من قبيل ما ينهى عنه«هل) . (1وق ـ ال» :فقد علم من الش ـ ارع
أن المش ـ ق ـ ة ينه ـ ى عن ـ ه ـ ا فإذا أم ـ ر بم ـ ا تلزما عنه فلم
يقصدها«هل ). (2
فإذا كانت المصالح ل تنال إل بكديم وتعبِّ وهذه مفاسد ،فهذا
معناه أن المصالح والمفاسد الدنيوية من حيث وجودها في الواقع
ل تتمحض ،والحكم على الفعل يكون بحسبِّ ما يغلبِّ في المحل.
258
قال» :فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين
المرين تحت نظر العدل ،فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجبِّ
ويترك الحظوظ ما لم يؤديق الترك إلى م حظ ور ،ويبقى في
المندوب والمكروه على توازن«هل ) . (1وهذا يدل على مراده بقوله:
»وإذا غلبت الجهة الخرى فهي المفسدةا المفهومة عرفاا«هل
وبقوله» :على ما جرت العادات في مثله«هل .وشرح مثل هذه
النصوص سيتبين بشكل آكد وأوضح في مبحث النوع الثالث من
مقاصد الشريعة ،إل أني أورد له هنا نص ـ اا يوض ـ ح م ـ راده
بألفـاظ مث ـ ل »المفسدةا أو المصلحة المفهومة عرفاا«هل ومثل
»ما جرت العادات في مثله«هل ومراده بتغليبِّ إحدى الجهتين على
الخرى اعتماداا على العرفَّ والعادةا.
يقول إن شراء العنبِّ أو السلح أو اليمية -مثلا -قد يكون
لمقصد شرعي وقد يكون لحراما .وهو في الول مصلحة وفي
الثاني مفسدةا .فكيف يحكم بتغليبِّ إحدى الجهتين على الخرى
مع أن مقصد الفاعل خفي على الخرين؟ بهذا المعنى يقول
الشاطبي بتحكيم العرفَّ والعادةا إل إذا عرفَّ مقصد بخلفَّ ذلك
لفاعل معين على الخصوص .يقول» :أن يكون بعض المنافع
حللا وبعضها حراماا فههنا معظم نظر المسألة ...أن يكون أحد
الجانبين هو المقصود بالصالة عرفاا والجانبِّ الخر تابع غير
مقصود بالعادةا إل أن يقصد على الخصوص وعلى خلفَّ العادةا ،فل
إ شكال في أن الحكم لما هو مقصود بالصالة والعرفَّ ،والخر ل
حكم له لنا لو اعتبرنا الجانبِّ التابع لم يصح لنا تملك عين من
العيان ول عقد عليه لن فيه منافع محرمة ...ومثاله في أصالة
المنافع المحللة شراء المة بقصد إسلمها للبغاء كسباا به،
وشراء الغلما للفجور به ،وشراء العنبِّ ليعصر خمراا والسلح
لقطع الطريق ...وفي أصالة المنافع المحرمة شراء الكلبِّ
259
للصيد ...وشراء الخمر للتخليل وشراء شحم الميتة لتطلى به
السفن أو يستصبح به الناس ...فإن صار التابع غالباا في القصد
وسابقاا في عرفَّ بعض الزمنة حتى يعود ما كان بالصالة
كالمعدوما المطرح فحينئذم ينقلبِّ الحكم ،وما أظن هذا يتفق
هكذا بإطلق ،ولكن إن فرض إتفاقه انقلبِّ الحكم«هل) . (1وسيأتي
تفصيل أكثر لهذا المر عند الحديث عن قاعدةا الصل والغالبِّ
ضمن الحديث عن قاعدةا سد الذرائع في الفصل التاسع .
هذه هي الجهة الولى من النظر إلى المصالح والمفاسد،
وهي أنها في الواقع ل تتمحض ،أما الجانبِّ الثاني وهو جهة تعلق
الخطاب الشرعي بها ،فهي هنا مصالح محضه أو مفاسد محضة
على الدواما ،فإذا وقع الطلبِّ الشرعي على فعل فلجل مصلحة
يقصدها الشارع ،فإن كان هذا الفعل مما يسبقه أو يقترن به أو
يلحقه مفاسد ،أي ما هو مفاسد بحكم الشرع ،فهذا راجع إلى كون
المصالح والمفاسد ل تتمحض في الواقع ،لكن هذه المفاسد غير
مقصودةا للشارع بذلك الطلبِّ ،وكونها متعلقة بذلك الطلبِّ ل
يفيد في كونها مقبولة أو مغتفرةا شرعاا ،إذ وجود نتائج معينة
لحكاما معينة ل يكفي للدللة على كونها مصالح أو مفاسد ،فل
بد ل ا عتبار المصلحة أو المفسدةا من الستقراء لعدد كبير من
الحكاما .ولذلك فإن المصلحة الثابتة شرعاا تظل مصلحة،
وكذلك بالنسبة للمفسدةا .وكون المفاسد تتعلق بفعل مطلوب،
والمصالح تتعلق بفعل منهي عنه ل يغييقر شيئاا في كون
المصلحة مصلحة والمفسدةا مفسدةا ،ول يدل على أن المصالح قد
نهى عنها أو أن المفاسد قد تصبح مطلوبة ،ومعنى هذا أنها ،أي
المصالح والمفاسد متمحضة في الشرع وإن لم تكن متمحضة من
حيث الوجود في الواقع .ولذلك يقول الشاطبي» :فالحاصل من
ذلك أن المصالح المعتبرةا شرعاا أو المفاسد المعتبرةا شرعاا هي
260
خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد ل قليلا ول كثيراا ،وإن
تيويهيقمي أنها مشوبة فليست في الحقيقة الشرعية كذلك«هل ). (1
وأمثلة ذلك العمل وطلبِّ قوت العيال فإنه مصلحة وفيه كد
وتعبِّ ،وقد قصد الشارع ما فيه من مصالح ولم يقصد الكد
والتعبِّ .والخروج إلى الصلوات أو إلى طلبِّ العلم أو ما شابه
ذلك ،مع أن في الطريق منكرات تسمع وتشاهد ،فهذا ل يغير
شيئاا في ما هو مصلحة وما هو مفسدةا .ول يغير شيئاا في
الحكاما الشرعية ،ويجبِّ التحرز من المنكرات قدر الستطاعة.
يقول» :المور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا
أكتنفها من خارج أموري ل ترضي شرعاا فإن القداما على جلبِّ
المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسبِّ الستطاعة من غير
حرج ،كالنكاح الذي يلزمه قوت العيال مع ضيق طرق الحلل
واتساع أوجه الحراما والشبهات ...ولو اعتبر مثل هذا في النكاح
في زماننا لدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح ،وكذلك
طلبِّ العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وش ه ود
الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إل
بمشاهدةا ما ل يرتضى ،فل ييخرج هذا العارض تلك المور عن
أصولها لنها أصول الدين وقواعد المصالح«هل). (2
أما استعمال الشاطبي للفظ »الدنيوية«هل عند قوله المصالح
والمفاسد الدنيوية .فذلك في مقابلة لفظ المصالح والمفاسد
الخروية ،التي هي نعيم الجنان وعذاب النيران ،وذلك أن
المصالح والمفاسد الدنيوية إن كانت ل تتمحض من حيث الوجود
في الواقع ،فإن المصالح الخروية مصالح خالصة ،أي متمحضه
غير مشوبة بمفاسد أي بعذاب .والمفاسد ،أي العذاب فهو خالص
غير مشوب بمصلحة للمخلدين في النار ،وهو مم ـ ت ـ زج برح ـ م ـ ة
261
لل ـ م ـ وح ـ دي ـ ن الذي ـ ن يرج ـ ع ـ ون إلى الج ـ ن ـ ة ،ومن هذا ال ا متزاج
أن النار ل تنال منهم مواضع السجود ومحل اليمان). (1
بهذا يظهر أن موضوع المسألة الخامسة متفق ومتساوق مع
ما ورد في المسألة الثامنة بل إ نها تمه ي د لها ،ويؤكد ذلك بيان
الشاطبي لكيفية التغليبِّ والترجيح بين الجهتين اللتين تتعارض
فيه م ا المصالح والمفاسد من حيث الوجود حيث يقول» :وبالجملة
كل ما تعارضت فيه الدلة فل يخلو أن تتساوى الجهتان أو
تترجح إحداهما على الخرى فإن تساوتا فل حكم من جهة المكلف
بأحد الطرفين دون الخر إذا ظهر التساوي بمقتضى الدلة ،ولعل
هذا غير واقع في الشريعة ،وإن فرض وقوعه فل ترجيح إل
)(2
بالتشهي من غير دليل وذلك في الشرعيات باطل باتفاق«هل .
أما المسألة الثامنة فهي منسجمة مع المسألة الخامسة ،إل
أن فهم الدكتور دراز للمصالح والمفاسد بمعنى المنافع
والمضار ،وبأنها تكون كذلك بحسبِّ العادةا والعرفَّ وبمقتضى
أنظار العقلء ،جعله يرى تنافياا ل خروج منه ،فصدرت منه
تعليقات كالتالي» :مجرد هذا ل يفيد بعدما اعتبر سابقاا أن ما
غلبِّ فيه جهة المنفعة فهو المصلحة وما ترجحت فيه المضرةا فهو
المفسدةا«هل ،وقال» :إذا كان محط الستدلل هو أن العقلء اتف ق وا
على أن المعتبر هو المر العظم وهو جهة المصلحة التي هي
عماد الدين والدنيا بقطع النظر عن أهواء النفوس فذلك يصح أن
يكون دليلا ولكن ل حاجة إلى توسيط المقدمات السالفة قبله«هل،
فهذا يدل على انه لم يدرك مراد الشاطبي من المسألة الخامسة.
أما بيان التكامل بين المسألتين فيتأكد من هذا النص -مثلا
-المأخوذ من المسألة الثامنة ،يقول» :المصالح المجتلب ة شــرعاا
والمفاسد المستدفعة إنما تعتــبر مــن حيــث ت قــاما الحيــاةا الــدنيا
262
للحياةا الخرى ل من حيــث أ هــواء النفـوس فــي جلــبِّ مصـالحها
العادية أو درء مفاسدها العادية ،والدليل على ذلك أمور :أحدها:
[
. (1) ] والثاني :ما تقدما معناه من أن المنافع الحاصلة
للمكلف مشوبة بالمضار عادةاا كما أن المضار محفوفة بالمنــافع،
كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الحياء بحيــث
إذا دار المر بين إحيائها وإتلفَّ المال عليها كان إحياؤهــا أولــى،
فإن عارض إحياؤها إماتة الدين ،كان إحياء ا لــدين أو لــى و إ ن أدى
إلى إماتتها كما في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك ،وك مــا
إذا عارض إحياءي نفسم واحدةام إماتة نفوس كثيرةا فــي الم حــارب
مثلا ،كان إحياء النفوس الكثيرةا أولى ،وكذلك إذا قلنا الكــل
والشرب فيه إحياء النفوس وفيه منفعة ظــاهرةا مــع أن ف يــه مــن
المشاق واللما في تح صــيله ابتــداءا و فــي ا ســتعماله حــالا و فــي
لوازمه وتوابعه انتهاءا كثيراا .ومع ذلك فالمعتبر إنما هو المر
العظم وهو جهة المصلحة التي هي ع مــاد الــدين والــدنيا ل مــن
حيث أهواء النفوس«هل ). (2
مإناقشة الشاطبي لبعض القوال في المصالح
وأالمفاسد:
لقد أوضح الشاطبي مفهومه للمصلحة والمفسدةا بشكل جلي،
وهو أنها تابعة للشرع وليست متبوعة ،وليس هذا ما عليه
السابقون من المعتبرين للمصالح والمفاسد ،وإن كان الغزالي قد
نبييه إلى هذا المعنى حيث قال» :أما المصلحة فهي عبارةا في
الصل عن جلبِّ منفعة ودرء مضرةا ،ولسنا نعني به ذلك فإن جلبِّ
المنفعة ودفع المضرةا مقاصد الخلق وصلح الخلق في تحصيل
مقاصدهم .لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع
ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم
) ( سورةا المؤمنون. 71 ، 1
263
ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ،فكل ما يتضمن حفظ هذه
الصول الخمسة فهو مصلحة ،وكل ما يفوت هذه الصول فهو
مفسدةا ودفعه مصلحة«هل) ، (1فهو بأخذه بمسلك المناسبة
وبالمناسبِّ الغريبِّ والمرسل ،يخالف ما يقرره الشاطبي ،وييعد ي
أنه يعلل بالمصلحة بالمعنى الذي قال في هذا النص إنه ل يعنيه.
وذلك بعد إدخال هذا المعنى في جملة مقاصد الشارع.
وينطبق ما ذكرناه عن الغزالي على غيره من الصوليين
المعتبرين للمصالح كالجويني والمدي والرازي والقرافي وعز
الدين بن عبد السلما وغيرهم.
وهذا المعنى يجعل المصلحة -ولو نظرياا -متبوعة للشرع
ل تابعة ،وهذا يؤدي إلى إشكالت في فكرةا التعليل بالمصالح .ومن
هذا الباب ييعيديي الشاطبي ،أنه بعمله في الموافقات ،قصد إلى
غربلة علم أ صول الفقه.
لذلك فهو بعدما قرر ان المصالح والمفاسد تعتبر من حيث
تقوما الحياةا الدنيا للحياةا الخرى ،وأنها راجعة إلى التحسين
والتقبيح ،عمد إلى نقد أو رد بعض القوال في هذا المجال .فقد
رد قول الرازي بأن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع
كما ت بي ي ن في الصفحات السابقة.
ويرد كذلك على القرافي حيث أنه قد أورد إشكالا ييعيديي
ناقضاا لفكرةا التع ـ ليل بالمص ـ الح ،ويع ـ د لزم ـ اا لجميع
المع ـ تبرين للمص ـ الح والمفاس ـ د ،يق ـ ول الشاطبي» :إن القرافي
أورد إ شكالا في المصالح والمفاسد ولم ييجبِّ عنه وهو عنده لزما
لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد«هل) . (2وأثبت القرافي
ورود هذا ال إ شكال على الجميع ،المعتزلة وغيرهم فقال )والقول
للقرافي( » :لن العدول عن أصل المصلحة والمفسدةا تأباه قواعد
) ( الغزالي ،المستصفى. 1/286 . 1
264
العتزال فإنه سفه ول يمكنهم أن يقولوا إن ضابط ذلك أن كل
مصلحةم توعد ال على تركها وكل مفسدةام توعد ال على فعلها
هي المقصودةا ،وما أهمله ال تعالى غير داخلم في مقصودنا«هل ). (1
ومراد القرافي بهذا أن وجود أحكاما ل تتبع قاعدةا المصالح
والمفاسد ينقض الفكرةا ،ويضيف )القرافي( » :لنا نقول الوعيد
عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدةا ،ويجبِّ عندكم بالعقل
أن يتوعد ال على ترك المصالح وفعل المفاسد ،فلو استفدتم
المصالح والمفاسد المعتبرةا من الوعيد ليزقماي الدور ،ولو صحت
الستفادةا في) (2المصالح والمفاسد للزمكم أن تجوزوا أن يرد
التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد وتنعكس الحقائق حينئذم،
فإن المعتبر هو التكليف فأي شيء كلف ال به كان مصحلة وهذا
يبطل أصلكم«هل ) . (3أما غير المعتزلة من الذين يقولون بعلية جلبِّ
المصالح ودرء المفاسد ،فيورد عليهم القرافي الشكال التالي:
»وأما حظ أصحابنا من هذا الشكال فهو أنه يتعذر عليهم أن
يقولوا :إن ال تعالى راعى مطلق المصلحة ومطلق المفسدةا ...بل
سبيلهم استقراء المواقع فقط ،وهذا وإن كان يخل بنمطم من
الطلع على بعض أسرار الفقه غير أنهم يقولون :يفعل ال ما
يشاء ويحكم ما يريد ،ويعتبر ال ما يشاء ويترك ما يشاء ل
غير«هل) (4والواقع أن هذا الشكالت قائمة في وجه المعتبرين
للمصالح والمفاسد إذا كانت بمعنى المنافع والمضار ،أو الحقكيم
وما تقتضيه الوصافَّ النسانية .ولذلك فإن القرافي أورد هذه
الشكالت ولم يجبِّ عنها.
والشاطبي رد هذه الشكالت ،ورده إنما يصح على منهجه هو
في اعتبار المصالح والمفاسد ،ولذلك ييعيديي إثباته لفكرةا التعليل
هكذا النص .وربما كان الصح أن تكون :من . )( 2
265
بالمصلحة تصحيحاا لمفهوما هذه الفكرةا ،ولكل من المصلحة
والمفسدةا .يقول» :أما على مذهبِّ الشاعرةا فإن استقراء الشريعة
دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر«هل ) (1وهكذا فهو يوجه
العتبار إلى الستقراء المفيد للقطع باعتبار المصلحة المعينة،
ويقول» :وأما على مذهبِّ المعتزلة فكذلك ،لنهم إنما يعتبرون
المصالح والمفاسد بحسبِّ ما أداهم إليه العقل في زعمهم وهو
الوجه الذي يتم به صلح العالم على الجملة والتفصيل في
المصالح أو ين خر ما في المفاسد ،وقد جعلوا الشرع كاشفاا
لمقتضى ما أدعاه العقل عندهم بل زيادةا ول نقصان ،فل فرق
بينهم وبين الشاعرةا في محصول المسألة«هل) . (2أي أنهم ل
يحكمون العقل في تقرير المصالح المفاسد ،وإنما يحكمون
الشرع ،وعلى ذلك فل إشكال بحسبِّ منهج الشاطبي لن تقرير
المصلحة أو المفسدةا راجع إلى الشرع .وينقد الشاطبي قول
الماما عز الدين بن عبد السلما حيث قال» :ومعظم مصالح الدنيا
ومفاسدها معروفَّ بالعقل وذلك معظم الشرائع«هل) ، (3وحيث قال:
»وأما مصالح الخرةا ومفاسدها فل تعرفَّ إل بالنقل«هل) ، (4وقال:
»وأما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فل تعرفَّ إل بالشرع،
فإن خفي منها شيء طلبِّ من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة
والجماع والقياس المعتبر والستدلل الصحيح ،وأما مصالح
الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب
والعادات والظنون المعتبرات ،فإن خفي شيء من ذلك طلبِّ من
أدلته ،ومن أراد أن يعرفَّ المتناسبات والمصالح والمفاسد
راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع
لم يرد به ،ثم يبني عليه الحكاما فل يكاد حكم منها يخرج عن
عز الدين بن عبد السلما ,قواعد الحكاما في مصالح الناما. 1/7 . )( 3
266
ذلك إل ما تعبد ال به عباده ولم يقفهم على مصلحته
ومفسدته«هل ). (1
يقول الشاطبي معترضاا على أقوال ابن عبد السلما هذه» :إن
بعض الناس قال إن مصالح الدار الخرةا ل تعرفَّ إل بالشرع ،وأما
الدن ي وية فتعرفَّ بالضرورات والتجارب والعادات والظنون ا لخ«هل)، (2
ثم يقول» :أما أن ما يتعلق بالخرةا ل يعرفَّ إل بالشرع فكما
قال .وأما ما قال في الدينوية فليس كما قال من كل وجه ،ولو
كان المر على ما قال لم ييحنتيجن في الشرع إل إلى بث مصالح
الدار الخرةا خاصة وذلك لم يكن ...فالعادةا تحيل استقلل
العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم
إل أن يريد هذا القائل أ ن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها
بعد وضع الشرع أصولها ،فذلك ل نزاع فيه«هل ). (3
) ( الموضع نفسه .و هذه القوال التي أوردها الشاطبي لبن عبد السلما توحي 3
بأن هذا الخير معتزلي ،خاصة وأن الشاطبي لم يذكر اسم القائل .وقــد علــق
الدكتور دراز على تلك القوال بقوله » :أشبه بمذهبِّ المعتزلة« أنظر تعليــق
الدكتور دراز 2/48من الموافقات طبعة دار المعرفة .ولكن من قول ابن عبد
السلما » :إن ال عز وجل ل يجبِّ عليه جلــبِّ مصــالح الحســن ول درء مفاســد
القبيح ،كما ل يجبِّ عليه خلق ول رزق ول تكليف ول إثابة ول عقوبة .وإنما
يجلبِّ مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طول منه على عباده وتفضــلا ،ولــو
عكس المر لم يكن قبيحاا إذ ل حجر لحد عليه« قواعد الحكاما 1/10 ،ومم ا
قاله ابن عبد السلما » :وقد أمر ال تعالى بإقام ة مصالح متجانسة وأخرج بعض ها
عن المر .وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزجر« قواعد الحكاما.
1/6وهذا يؤكد وجود الشكال الذي ذكره تلم ي ذه القرافي.
267
وإذا كان مصلحةا فكيف حرييمه الخر؟ فهذا مشكل عند
المعتبرين للمصالح والمفاسد.
يقول الشاطبي إنه ل إشكال هنا ،فإذا كان جائزاا عند الول
فهذا يعني أن مصلحته راجحة عنده في ظنه ،وإذا كان حراماا
عند الثاني فهذا يعني أنه مفسدةا عنده في ظنه ،وهكذا فإن اعتبار
المصالح والمفاسد يختلف عند المجتهدين ،ول إشكال .قال:
»وقد زعم بعض المتأخرين -وهو القرافي -أ ن القول بالمصالح
إنما يستمر على القول إن المصيبِّ في مسائل الجتهاد واحد ،لن
القاعدةا العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض،
بل متى كان أحدهما راجحاا كان الخر مرجوحاا ،وهذا يقتضي
أن يكون المصيبِّ واحداا وهو المفتى بالراجح ،وغيره يتعين أن
يكون مخطئاا لنه مفتم بالمرجوح ،فتتناقض قاعدةا المصوبين مع
القائلين بالقياس وإن الشرائع تابعة للمصالح .هذا ما قال ،ونقل
عن شيخه ا بن عبد السلما في الجواب إنه يتعين على هؤلء أن
يقولوا إن هذه القاعدةا ل تكون إل في الحكاما الجماعية «هل) . (1ثم
رد هذا القول فقال» :المصالح أو المفاسد في مسائل الخلفَّ
ثابتة بحسبِّ ما في نفس المر عند المجتهد وفي ظنه ،ول فرق
هنا بين المخطئة والمصوبة ،فإذا غلبِّ على ظن المالكي أن ربا
الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز فجهة المصلحة عنده
هي الراجحة وهي كذلك في نفس المر في ظنه«هل) . (2أي إن
الفعل جائز شرعاا وبالتالي فهو مصلحة عنده» .وإذا غلبِّ على
ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز ،فهي عنده داخله تحت حكم
الربا المحرييما ،وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة ل الراجحة
268
وهي كذلك في نفس المر على ما ظنه«هل ) . (1أي أ ن الفعل حراما
وبالتالي فإن المصلحة الحاصلة به مرجوحة ،فهو مفسدةا عنده.
ثم قال» :وإنما يكون التناقض واقعاا إذا عيديي الراجح مرجوحاا
من ناظرم واحد ،بل هو من ناظ ق ر ي ين ظن كل واحد منهما العلة
التي بنى عليها الحكم موجودةا في المحل بحسبِّ ما في نفس المر
عنده وفي ظنه«هل ). (2
269
المبحث الثالث
قصد الشارع في وأضأع الشريعة
للفهام
270
يراد به ظاهره ،وبالعاما يراد به العاما في وجه والخاص في وجه،
والعاما يراد به الخاص ،وظاهر يراد به غير الظاهر ،وكل ذلك
يعرفَّ من أول الكلما أو وسطه أو آخره ،وتتكلم بالكلما ينبئ أوله
عن آخره أو آخره عن أوله«هل ) . (1ثم قال» :ل يمكن فهم لسان
العرب من جهة فهم لسان العجم لختلفَّ الوضاع والساليبِّ«هل ). (2
وأشار إلى أن الذي نبه إلى هذا المر هو الماما الشافعي في
)(3
الرسالة ،ولكن كثيراي ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ .
وعلى ذلك فإنه يستحيل ترجمة القرآن ،ونقله إلى لسان
غير عربي ،لن اللفاظ ومعاني العبارات إن كان يمكن نقلها إلى
لغة أخرى ،فإن للسلوب أثراا على المعاني ،وهو ما ل يمكن
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/44 ،وقد ذكر الشافعي هذا المر في أكثر 2
من موضع من كتابة )الرسالة( ربما كان أبرزها ما جــاء فــي ال صــفحات
. 53 - 52 - 51ومما قاله» :فإنما خاطبِّ ال بكتابه العرب ب لس ان ها على
ما تعرفَّ من معانيها ،وكان مما تعرفَّ مــن معاني هــا ات ســاع ل ســانها ،وأن
فطرته أن تخاطبِّ بالشيء منـه عامـاا ظـاهراا يـراد بـه العـاما الظـاهر،
وييستغنى بأول هذا عن آخره ،وعاماا ظــاهراا يــراد بــه ال عــاما و يــدخله
الخاص ،فيستدل على هذا ببعض ما خوطبِّ به فيه .وعاماا ظــاهراا يــراد
به الخاص وظاهراا يعرفَّ في سياقه أنه يراد به غير ظــاهره ،ف كــل هــذا
موجود علمه فــي أول الكلما أو و ســطه أو آ خــره .وتبتــدئ ال شــيء مــ ن
كلمها يبين أول لفظها فيه عن آخره ،وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظهــا
فيه عن أوله .وتتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اليضاح بـاللفظ كمـا
تيعيريقفَّي الشارةا ثم يكون هذا عندها مــن أعلــى كلم هــا لن فــراد أ هــل
علمها به دون أهل جهالتها )أنظر :الرسالة ،الف قــرات . 175.174.173
ومما قاله الشافعي » :ولسان ال عــرب أو ســع الل ســنة مــذهباا ،وأكثر هــا
ألفاظاا ،ول نعلمه يحيط بجميع ألفاظه إنسان غير نبي ،ولكنه ل يــذهبِّ
منه شيء على عامتها ،حتى ل يكون موجوداا فيها من يعرفــه« الرســالة،
ص ، 42فقرةا . 139 :وفي )الرسالة( أبو ا ب بالعناوين التالية :بيان ما
نزل من الكتاب عاماا يراد به العاما ويدخله الخصوص ،بيان ما أنزل مــن
الكتاب عاما الظاهر وهو يجمع العاما والخ ا ص ،بيان ما نزل من الكتاب عاما
الظاهر يراد به كله الخاص .أنظر .ص. 62 - 53 :
) ( المصدر نفسه. 2/42 ، 3
271
ترجمته ،ولكن يصح تفسير القرآن للعامة ،ولمن ل يقوى على
فهم معانيه ،ويصح ترجمة اللفاظ والعبارات ،وليس ذلك إل
نقلا لمعانيها من غير المحافظة على أثر السلوب ،وما يعطيه من
معانم خادمة لمعاني اللفاظ والعبارات). ( 1
أمإية الشريعة:
يقول الشاطبي» :المي منسوب إلى الما ،و هــو ال بــاقي علــى
أصل ولدةا الما ،لم يتعلم كتاباا ول غيره فهو على أصــل خلقتــه
التي ولد علي هــا«هل ) . (2وي قــول » :هــذه ال شــريعة أميــة لن أهل هــا
كذلك ،أما أن أهلها كذلك فقطعي لقوله تعــالى [ :
)(3
وقوله [ : ]
)(5 )(4
،وفي الحديث» :بعثت إلى أمة أمية«هل ،وأيضــاا ]
»نحن أمة أمية ل نحسبِّ ول نكتبِّ«هل)« (6هل) (7وغير ذلك من الدلة.
ومراد الشاطبي بذلك أن النصوص الشرعية يجبِّ أن تؤخذ
دللتها على هذا الساس ،فهي قد أنزلت على أناس ليفهموها،
وخاطبتهم بحسبِّ ما هم عليه من معارفَّ وعلوما ،ولو خاطبتهم
بما ل عهد لهم به أو بمثله لما فهموه ولما كان معجزاا لهم.
يقول» :لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزاا،
ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم :هذا على غير ما
272
)(1
وذلك كما لو نزل عهدنا إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلما«هل
القرآن أعجمياا.
وإذا كان عند العرب الذين نزل فيهم القرآن بعض علوما،
فهي تعتبر لجل فهم الخطاب الشرعي لنهم إنما خوطبوا بحسبِّ
ما هم عليه من أوصافَّ أو علوما أو معارفَّ ،وعلى ذلك فإذا جد يي ت
علوما أ و معان م جديدةا ل عهد لهم بها ،فل تعد مقصودةا بعينها
بخطاب الشارع ،وإن كانت مما تحتملها اللفاظ ،وكذلك المر
إذا جد يي ت معان م جديدةا للفاظ كانوا يستعملونها .لذلك
تيفيسيير اللفاظ بالمعاني التي كانت تستعمل يوما نزولها .يقول:
»ل بد في فهم الشريعة من إتباع معهود الميين وهم العرب
الذين نزل القرآن بلسانهم ،فإن كان للعرب في لسانهم عرفَّي
مستمر فل يصح العدول عنه في فهم الشريعة ،وإن لم يكن ثم
عرفَّي فل يصح أن يجري في فهمها على ما ل تعرفه ،وهذا جارم
في المعاني واللفاظ والساليبِّ«هل ). (2
ومما ينبني على هذا أن الدللت التي تفهم من النصوص هي
التي يدركها عموما الناس وليس خاصتهم فقط ،وينبني عليها
أيضاا أن المعاني المعتبرةا للنصوص في التكاليف ال ا عتقادية
والعملية هي ما يفهمه عموما الناس الذين نزل فيهم القرآن ،فل
يصح أن يلزما لفهمها مقدمات فلسفية ومنطقية أو علوما ل تتوفر
إل لدى الخاصة .يقول» :إنما يصح في مسلك الفهاما والفهم ما
يكون عاماا لجميع العرب فل يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه
بحسبِّ اللفاظ والمعاني ،فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه
ليسوا على وزانم واحد ول متقارب إل أنهم يتقاربون في المور
الجمهورية«هل ). (3
273
ويقول» :أن تكون التكاليف ال ا عتقادية والعملية مما يسع
المي تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها«هل ) . (1ويقول» :لو كانت
مما ل يدركه إل الخواص لم تكن الشريعة عامة ،ولم تكن أمية،
وقد ثبت كونها كذلك ،فل بد أن تكون المعاني المطلوب علمها
واعتقادها سهلة المأخذ ،وأيضاا فلو لم تكن كذلك لزما بالنسبة
إلى الجمهور تكليف ما ل يطاق وهو غير واقع كما هو مذكور في
الصول«هل ). ( 2
274
يكون أصلا للباحثين والمتكلفين ،كما لم يأت ذلك عــن صــاحبِّ
ال شــريعة عل يــه ال صــلةا وال ســلما و كــذلك ال تــابعون المق تــدى
بهم«هل) . (1وقال» :فالتعمق في البحث فيها وتطلــبِّ مــا ل ي شــترك
الجهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع ال شــريعة الميــة ،فــإنه
ربما جمحت النفس إلى طلبِّ ما ل يطلبِّ منها ،فوقعت فــي ظل مــةم
ل انفكاك لها منها«هل). (2
وبناءا على ذلك -أي ضــاا -فــإنه يــرد الز عــم بــأن ال قــرآن
يحتوي على كل العلوما ومن ذ لــك الطبيع يــ ات والمن طــق وغ يــر
ذلــك اســتدللا بقــوله تعــالى [ :
)(3
، ] وب قــوله ت عــالى [ :
، (4) ] فإن مثل هذه المعاني ل عهد بها ،ولم
يدييعها أحد ممن تقدما فل تثبت .ول يجوز أن يضافَّ إلى القــرآن
ما ل يقتضيه ،كما ل ي صــح أن ين كــر م نــه مــا يقت ضــيه ،وي جــبِّ
القتصار في الستعانة على فهمه على كل مــا ي ضــافَّ عل مــه إلــى
العرب ،ومن ذلك معاني اللفاظ والتراكيبِّ ،وأساليبها ). (5
275
وإنما أصلحت اللفاظ من أجلها و هــذا ال صــل معلــوما عنــد أ هــل
العربية ،فاللفظ إن م ا هــو و ســيلة إلــى تح صــيل المعنــى ال مــراد،
والمعنى هو المقصود ،ول أيضاا كل المعاني فإن المعنى الفرادي
قد ل ييعبأ به ،إذا كــان المعنــى التركيــبي مفهو مــاا دونــه«هل). (1
والمراد بالمعنى الفرادي كألفاظ يد وعين ويداه وأعيننا ومعكم
وغيرها في اليات التي أثيرت فيها مباحث الصفات ،وكل فــظ أبيــ ا
في قوله تعالى ، (2) ] [ :ي قــول » :مــا فــي جــامع
السماعيلي المخرج على صحيح البخاري عن أنــس بــن مالــك أن
عمر بن الخطاب رضي ال عنه قــرأ [ ] ق ال مــا
الب ي ثم قال ما كيلفنا هذا أو قال ما أمرنا بهذا ،وفيه أيضاا عــن
أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قــوله [
] ما الب فقال عمر نيهينا عن التع مــق والتكلــف ،و مــن الم شــهور
تأديبه لضيبيع حين كان يكثر السؤال عن المر ســلت والعا صــفات
ونحوهما .و ظــاهر هــذا كلــه أنــه إن مــا ن هــى عنــه لن المعنــى
التركيبي معلوما على الجملة ،ول ييبني على فعل هــذه الش ـ ي ـــ اء
حكم تكليفي ...فلو كان فهم اللفظ الفرادي يتو قــف عليــه ف هــم
التركيبي لم يكن تكلفاا بل هو مضطر إليه كما روي عــن عمــر
نفسه في قوله تعالى (3)] [ :فإنه سئل
عنه على المنــبر ف قــال لــه ر جــل مــن هــذيل :ا لت خــو يي فَّ عنــدنا
الت ي ن ي ق يي ص ثم أنشده )البسيط( :
كما تيخيوييفَّي عودي تيخيوييفَّي الر يي ح ن لي م ق نها تام ق كاا ق ي رقداا
)(4
الن يي بع ي ةق الس يي فيني
) ( المصدر نفسه . 2/57 1
. 1046
التامك :السناما ما كان ،والناقة العظيمة السناما« ص. 1207 :
» القيريد :ما تمعييط مــن الــوبر وال صــوفَّ ،أو ن فــايته ...وقيــرقدي ال شــعر
كفيرقحي :تجعيد« .ص . 396
276
فقال عمر :أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن
فيه تفسير كتابكم ...فإن كان المر هكذا فاللزما العتناء بفهم
معنى الخطاب«هل). (1
هذا إذا كانت المعاني هي معاني اللفاظ والنصوص ،أما إذا
كان المراد بالمعاني معاني الحكاما ،أي الحكم أو المصالح
المظنونة لها ،والتي إذا ثبتت عن طريق الستقراء تصبح مصالح
ومقاصد شرعية قطعية ،وإذا لم تثبت كذلك تعامل بحسبِّ
خدمتها أو هدمها لمقاصد ثابتة ،فتعتبر أو تيرد بناءا على ذلك،
فبهذا المعنى للفظ المعاني ،يناقش الشاطبي إن كان هذا من
دللت اللغة أو مما وضع لجله الكلما أو ل ،ويخلص إلى أن ه ليس
من دللت اللغة ،وسيتبين هذا فيما يلي.
المعاني الصلية وأالمعاني التابعة:
يقول الشاطبي» :ل ق ل يي غة العربية من حيث هي ألفاظي دالة
على معانم نظران :أحدهما من جهة كونها ألفاظاا وعباراتم
مطلقة دالة على معانم مطلقة وهي الدللة الصلية ،والثاني :من
جهة كونها ألفاظاا وعباراتم مقيدةا دالةا على معانم خادمة وهي
الدللة التابعة«هل) . (2ويقول» :أما جهة المعنى الصلي فل إشكال
في صحة اعتبارها في الدللة على الحكاما بإطلق ،ول يسع فيه
خلفَّ على حال وذلك مثل صيغ الوامر والنواهي والعمومات
» سفنه يسفنه :قشيره ...والسفين محركة :جلد خشن وح جــر ين حــت بـه
وييلييين ،أو كل ما ينحت به الشيء« .ص » . 1556 :العود :الخشبِّ« ،ص:
.386
» النبع :شجر للقسيي والسهاما« ص. 988 :
) ( الشاطبي ،الموافقات . 58 - 2/57 .وقال القرطبي في تفسير الية: 1
» قال ابن العرابي :أي على تنقص من الموال والنفــس والثمــرات حــتى
أهلكهم كليهم« .وقال » :تيمقكي السناما يتمك تمكاا ،أي طال وارتفع فهو
تامك .والسفن والمسفن ما ينجري به الخ شــبِّ« ال جــامع لح كــاما ال قــرآن
، 10/110دار الكتاب العربي ،بيروت.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 2/44 ، 2
277
والخصوصات ...أما جهة المعنى التبعي فهل يصح اعتبارها في
الدللة على الحكاما من حيث يفهم منها معانم زائدةا على المعنى
الصلي أما ل؟«هل). (1
ولتوضيح مراد الشاطبي بالمعنى التبعي أورد المثال الذي
أورده .قال» :فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد كالقياما ثم
أراد كل صاحبِّ لسان الخبار عن زيد بالقياما تأتى له ما أراد من
غير كلفة«هل) . (2والمعنى المفهوما من الخبر هنا هو المعنى
الصلي .ثم قال» :وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان
العرب في تلك الحكاية وذلك الخبار فإن كل خبر يقتضي في
هذه الجـهـة أموراا خادمةا لذلك الخبار«هل) . (3ثم قال» :وذلك
أنك تقول في ابتداء الخبار قاما زيد إن لم تكن ثم عناية
بالمخبر عنه بل بالخبر ،فإن كانت العنـاية بالمخبر عنه قلت
زيد قاما .وفي جواب السؤال وما هو منزل تلك المنزلة إن زيداا
قاما ،وفي جواب المنكر لقيامه وال إن زيداا قاما«هل) . (4ثم قال:
»وجميع ذلك دائر حول الخبار بالقياما عن زيد فمثل هذه
التصرفات التي يختلف معنى الكلما الواحد بحسبها ليست هي
المقصود الصلي .ولكن من مكملته ومتمماته«هل ) . (5وبناء على هذا
فلو اعتبر هذا الختلفَّ في الخبار من المعاني الصلية ،فإنه ل
يمكن ترجمة أي كلما من الكلما العربي بكلما العجم فضلا عن
أن يترجم القرآن). (6
ويمكن بناءا على توضيحات الشاطبي تعريف المعنــى التب عــي
بأنه معنى خادما للمعنى ال صــلي ولك نــه ل يــس مــن دللت الكلما.
المصدر نفسه . 2/63 ، )( 1
278
ويتبين المعنى بشكل أو ضــح ع نــدما يــرد ال شــاطبي علــى ا لــذين
يصححون القول بأن المعنى التبعي من دللت الكلما .يورد قولهم
فيقول» :استدلوا على أن أكثر مدةا الحيض خم ســة ع شــر يو مــاا
بقــوله عليــه الســلما »تمكــث إحــداكن شــطر دهرهــا ل
تصلي«) ، (1والمقصود الخبار بنقصان الــدين ل الخبــار بأق صــى
المدةا ولكن المبالغة اقت ضــت ذ كــر ذلــك ولــو ذ كــرت الزيــادةا
لتعرض لها .واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة ل
تغيره بقوله عليه السلما» :إذا اســتيقظ أحــدكم مإــن نــومإه
فل يغمس يده في الناء حتى يغســلها«)« (2هل) . (3ثم قــال:
» و كاستدللهم على تقدير أقل مدةا الحمل ستة أشهر أخــذاا مــن
)( 4
قوله تعالى [ ، ] مع قوله[ :
« ( 5) ] هل) . ( 6ثم قال» :وقالوا في قوله تعالى:
)(7
[ ، ] إلى قوله تعالى [ :
(8)، ] الية .أنه يدل على
جواز الصباح جنباا وصحة الصياما لن إباحة المباشرةا إلــى طلــوع
الفجر تقتضي ذلك وإن لم يكن مقصود البيان لنه لزما من الق صــد
279
إلى بيان إباحة المباشرةا والكل والشرب «هل). (1
فيقول الشاطبي في رده على هذا القول عند إيراده لدلة
المانعين لن يكون المعنى التبعي من دللة اللفظ » :فأما مدةا
الحيض فل يسلم أن الحديث دل عليها وفيه النزاع .ولذلك يقول
الحنفية إن أكثرها عشرةا أياما ،وإن سلم فليس ذلك من جهة
دللة اللفظ بالوضع وفيه الكلما ،ومسألة الشافعي في نجاسة
الماء من باب القياس أو غيره .وأقل مدةا الحمل مأخوذةا من
الجهة الولى ل من الجهة الثانية .وكذلك مسألة الصباح
جنباا«هل). (2
وبناءا على ذلك فإن ما ج اء فـي نص وص شـرعية كقـوله
تعالى [ :
)(3
الي ة ،وكقــوله تعــالى [ : ]
)(4
الية .وكقوله تعالى [ : ]
)(5
الي ة ،وك قــوله ت عــالى[ : ]
)(6
الية ،فإن ]
تحريم المذكور من الميتة والدما والخنزير والخمر ...وتحر يــم
السرقة والزنا هي من المعاني ال صــلية و مــن ا لــدللت ال صــلية
للكلما .أما ما قد تعلل به هذه الحكاما أو يتخذ حكمة لها من غير
وجود ل فــظ يــدل علــى ذلــك أو ن صــوص ي ســتنبط من هــا ذلــك
استنباطاا ،كأن يقال إن العلة أو الحكمة هي الضرر ا لــذي ت ســببه
الميتة أو الدما أو الخنزير ،أو السكار الذي ي ســببه الخ مــر ،أو أن
280
حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ النسل هــو معنــى
هذه الحكاما أو هو مقصود ال شــارع ب هــا ،فــإنه ،ل يــس مــن دللت
النصوص ،إذ لو كان منها لكان من المعاني ال صــلية ،بــل كون هــا
مقصودةا للشارع هو ظن ل يعضده دليل شرعي ،وهي زائــدةا علــى
المعاني الصلية .فهل يمكن أن تؤخذ منها أو أن تبنى عليها أحكاما
شرعية؟
ل حكم للدللة التابعة:
يورد الش ـ اطبي نقاش ـ اا لهذه المس ـ ألة ،فيورد أدلة
المجيبي ـ ن باليجاب ،ويورد أدل ـ ة المانعين الذين يخلصون إلى
قول» :فالحاصل أن السـتدلل بالجهة الثاني ـ ة على الحكاما ل
يثب ـ ت فل يصح إعماله البتة«هل ). (1
ثم يقول» :قد تبي ـ ن تعارض الدلة في المس ـ ألة وظهر أن
القوى من الجهتي ـ ن جهة المانعين ،فاقتضى الحال أن الجه ـ ة
الثاني ـ ة وهي الدالة على المعنى التبعي ل دللة لها على حكم
شرعي زائد البتة«هل). (2
وخلصة أدلة المانع ـ ين هي أن هذه المعاني التبعية إما أن
تكون دل عليها النص وإما أن ل تكون كذلك ،فإن كانت كذلك
فهي من المعاني الصلية وتكون مع ت ب ي ر ةا ويستدل بها على الحكاما
لنها من دللت اللغة .وإن لم تكن كذلك فالقائل بها مطالبِّ
بالدليل الشرعي ،فإن لم يكن ثم نص شرعي يدل عليها بأي نوع
من أنواع دللت اللغة ،فهي ظنون وتحكمات ل يصح أن تنسبِّ إلى
الشرع .والواقع أن هذا الخلفَّ الذي يورده الشاطبي ويبين
موقفه فيه ،هو الخلفَّ المذكور في الفصل الثاني بين القائلين
بالتعليل بالحكمة المظ ن ونة ،وبناء الحكاما عليها بحجة أنها ظنون،
281
والظن في الشرعيات مقبول ،وبين الرادين لعتبار هذه المعاني
والحكم بناءا على أنها ل دليل عليها فل اعتبار لها ،وحيث
وصفوها بأنها من خيالت القلبِّ أو هوسات العقل.
ومن هنا كان دخول منهج الشاطبي في هذه المسألة ،بأن
هذه المعاني ل اعتبار لها في التشريع إذ هي حكم مظنونة ليس
ثمة ما يمنع أن تكون الحكمة المقصودةا غيرها .وليس ثمة ما
يمنع أن تكون نقيضاا للحكمة المقصودةا للشارع ،ولكن النسان
قد يحسن القبيح أو يقبح الحسن.
ومن هنا دخل اشتراط الشاطبي للستقراء المفيد للقطع
لعتبار هذه المعاني مقاصد شرعية ،إذ بهذا يثبت عنده كون هذا
المعنى ملئما لتصرفات الشرع). (1
ولكن يبقى لقارئ الشاطبي أن يتساءل هل أن ما يقرره الشاطبي
من أن مثل هذا الستقراء يفيد في اعتبار هذه المعاني على سبيل
القطع هل هو صحيح؟
فإذا كانت المعاني التبعية في آحاد النصوص ل تعتبر ،فمن
أين سينشاا العتبار إذا كثرت النصوص؟ بتعبير آخر إذا كان
اعتبار المعنى يرجع إلى تضافر الدلة على المعنى فمن أين سينشأ
العتبار إذا لم يكن لي من هذه الدلة أي دللة على هذا المعنى؟
وهذا حسبِّ قوله »فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة
على المعنى التبعي ل دللة لها على حكم شرعي زائد البتة«هل.
ومن أقوال الشاطبي في المبالغة في رد اعتبار المعاني الــتي
قد يزعم أنها مقصودةا للشارع من غير أن يدل عليها الــدليل إمــا
بالدللة الصلية وإما بثبوت الستقراء لها قوله» :فما يؤمننا من
سؤال ال تعالى لنا يوما القيامة :من أين فهمتم عني أنــي قصــدت
الن ،يمكن للقارئ أن يرجع إلى قراءةا المقدمة الثالثة من م قــدمات )( 1
282
التجنيس الفلني بما أنزلت من قولي [ :
)(1
أو قــولي [: ]
(2)] ؟ فإن في دعوى مثل هذا على القرآن وأ نــه مق صــود
للمتكلم به خطراا ،بل هو راجع إ لــى مع نــى قــوله ت عــالى :
(3) ] وإلى
أنه قول في كتاب ال بالرأي«هل). (4
الشاطبي الموافقات . 3/248 .أي أن من يجد الجناس فــي ال قــرآن )( 4
الكريم كما في الي ت ين أعله ،فمن اين له أن يزعم أنه مقصود لــ تعــالى
فيهما؟ وقد عديي مثل هذا الزعم مذمو م اا إذ هو قــائم علــى شــك أو ظــن،
وليس على علم؛ أي قطع .وهو من قبيل الفك .
283
الفصل الخامإس
قصد الشارع في وأضأع
الشريعة للتكليف
بمقتضاها
وأفي دخإول المكلف تحت
أحكامإها
وأيحتوي على تمهيد وأثالثاة مإباحث:
المبحث الوأل :قصد التكليف
بمقتضى الشريعة.
المبحث الثاني :قصد الشارع
في دخإول المكلف
تحت أحكام الشريعة.
المبحث الثالث :بين الشريعة
وأمإقاصدها أوأ بين
التعبد وأاتباع المعاني.
284
الفصل الخامإس
قصد الشارع في وأضأع الشريعة
للتكليف بمقتضاها
وأفي دخإول المكلف تحت أحكامإها
تمهيـد:
هذا الفصل هو لبحث النوعين الثالث والرابع من مقاصد
الشارع .ومما يستوقف هنا تعبير الشاطبي في النوع الثالث:
)للتكليف بمقتضاها( خاصة إذا نظرنا إلى عنوان النوع الرابع:
)دخول المكلف تحت أحكاما الشريعة( ،فما هو الفرق بين النوعين
؟
يمكن إدراك الفرق بينهما إذا أطلقنا على النوع الرابع اسم
قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بها ،وهذا يعني قصد
التعبد والمتثال .أما النوع الثالث فهو التكليف بمقتضاها ،أي
مقتضى التعبد والمتثال ،وهو الكلفة والمشقة .وقد علم من
الشارع القصد إلى مصلحة العباد ،وإلى التيسير ،وهذا بخلفَّ
المشقة واللم ،فالشارع يقصد بالشريعة رفع المشقة ،فهل ثمة
تنافَّم هنا؟ وهل يرتفع التكليف بالمشقة ،وهل ثمة مقدار لمشقة
يرتفع بها التكليف ،وكيف التوفيق بين أصل وقصد التعبد
والمتثال وأصل وقصد المصلحة ورفع المشقة.
هذا هو موضوع الفصل ،وقد جعلته في ثلثة مباحث ،الول
لجل بيان مراد الشاطبي ومنهجه في بيان قصد الشارع في وضع
الشريعة للتكليف بمقتضاها والثاني والثالث لجل بيان منهجه في
بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكاما الشريعة.
285
المبحث الأوأل
قصد التكليف بمقتضى الشريعة
مإعنى هذا النوع:
وموضوع هذا النوع هو أن الشارع ل يكلف بما ليس مقدوراا
للمكلف ،ول بما يلزما عنه مشقة معنتة ،لن من مقاصد الشارع
ابتداءا رفع المشقة ورفع الحرج ،إل أن مطلق المشقة ل يمكن
الخروج عنها فهي ملبسة لكل تكليف ،فما هو ضابط المشقة التي
ل يكلف ال بما تلزما له ،والمشقة التي يكلف ال سبحانه وتعالى
بالفعال التي يلزمها مثلها.
وقد ورد عند ال حديث عن مقــدمته الثالثــة قــ و ل ه » :بخلفَّ
الصول فإنها مأخوذةا من استقراء مقتضيات الدلة بــإطلق ل مــن
آحادها على الخصوص«هل) . (1وذلك أن مقتضيات الدلة هي معــاني
النصوص ومعاني الح كــاما .أي هــي الــدللت اللغويــة ،وم ســببات
الحكاما .والمعاني الشرعية هي المعاني المستقرأةا سواء للنصوص
أو للحكاما ،وهي الكل يــات أو ال صــول القطع يــة لل شــريعة .هــذه
الكليات يجبِّ إعمالها عند النظر فــي الن صــوص ،أي ي جــبِّ تــوجيه
معاني النصوص بحيث ل يخل المعنى المأخ ـــ وذ منهــا بالصــول،
والمعنى الذي يخل بأصل ييرد ،و هــو مع نــى إع مــال الكل يــات مــع
الجزئيات .فــإذا جــاء قــوله ت عــالى [ :
، (2)] فإن النص يحتمل أكثر من معنى ،وقــد ثبــت فــي
الصول عدما التكليف بما ليس في الوسع ،فالمعنى ا لــذي يت نــاقض
مع هذا الصل ييريد ،لذلك ينصرفَّ المع نــى عــن التكل يــف ب عــدما
الموت إلى مقتضياته.
والتكليف بما يلزما عنه مشقة ينظر فيه ،فقد ثبت قصد
286
الشارع لرفع المشقة وثبت قصده إلى إيقاع المأمور به ،فهذان
أصلن يظهر منهما التعارض وهما من مقتضيات الشريعة ،أي من
أصولها الكلية ،فما الذي تقتضيه الشريعة في هذه الحالة؟
هذا هو سببِّ اختيار الشاطبي لهذا العنوان .أما لفظ:
)التكليف( في العنوان فهو يحمل معنى الكلفة والمشقة .والمراد
من ذلك أنه ما من عمل إل وفيه كلفة ،والتزاما المكلف بأوامر
الشريعة يقتضي مشقةا ول بد ،بغض النظر عن مقدارها ،فهل
يقصد الشارع رفع كل مشقة؟ يجيبِّ الشاطبي بالنفي .وهذا يفتح
الباب على موضوع شائك ،أو قل يحتاج إلى فقه في الشرع وفي
سياسة الشرع ،وهو تقدير المشقة التي يرتفع بها التكليف.
وفي الشريعة قواعد مشهورةا مثل :الضرورات تبيح
المحظورات ،المشقة تجلبِّ التيسير ،إذا ضاق المر اتسع ،الحاجة
تنزل منزلة الضرورةا ،أو غير ذلك مما قد يصح أو ل يصح.
ويستعمل بعض المعاصرين مثل هذه القواعد في أعذارهم
وتبريراتهم أو فتاويهم .فهل تؤخذ مثل هذه القواعد على
إطلقها؟ فيشرع المحظور بأي ضرورةا أو بمجرد الحاجة ،وتتخذ
المشقة دليلا على الترخص؟ كل ،ول م يقل به ذ ا أحد .فما هي
الضوابط؟ هذا هو جوهر هذا النوع من مقاصد الشارع.
إ ن القواعد والصول التي دأب الشاطبي على تحريها ،وسعى
إلى إثباتها وتقريرها ،إنما هي لحل إشكالت من هذا النوع
بالدرجة الولى ،أي وضع الصول والقواعد التي تحكم على
الجزئيات والمعاني عندما تكون باعثاا على الشك والحيرةا أو
على الخلفَّ وتشعبِّ النظر.
ومن الجدير بالذكر ان الصول التي يقررها الشاطبي في
هذا النوع من المقاصد مثل عدما التكليف بما ل يطاق ،وعدما
التكليف بالمشقات المعنته أو غير العادية ،ورفع الحرج هي أصول
حاجية ،لنها دائرةا على التيسير والتخفيف والرفق بالمكلف
287
وذلك هو تعريف الحاجيات.
التكليف وأالوسع:
لقد ثبت في الصول أن ال سبحانه وتعالى ل يكلف العبد بما
هو فوق طاقته ،ولذلك فإن الشاطبي يمر بها س ـ ري ـ ع ـ اا ،ولك ـــ نه
يناقش ما ينبني عليها ،يقول» :ثبت في الصول أن شرط التكليف
أو سببه القدرةا على المكلف به ،فما ل قدرةا للمكلف عليه ل يصح
التكليف بــه شــرعاا وإن جــاز عقلا) ... (1ون قــول :إذا ظ هــر مــن
الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما ل يدخل تحت قدرةا
العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنــه،
فقول ال تعالى ، (2)] [ :وقوله
في الحديث» :كن عبد اللــه المقتــول وأل تكــن عبــد اللــه
القاتل «هل) ، (3وقوله» :ل تمت وأأنت ظالم «هل) (4وما كان ن حــو
ذلك ليس المطلوب منه إل ما يدخل تحت ال قــدرةا و هــو ال ســلما
وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لمر ال ،وكذلك ســائر
ما كان من هذا القبيل«هل). (5
وعلى ذلك فالنسان ل يكلف بما ل يقع تحت كسبه ،ومن
ذلك الوصافَّ التي جيبل عليها ،كالجوع والعطش وما شابه
ذلك ،فل يطالبِّ برفعها ،ولكن يطلبِّ منه هنا قهر النفس عن
الجنوح إلى ما ل يحل .وما كان من الوصافَّ مشتبهاا أمره
كالحبِّ والبغض والغضبِّ وغيرها فإنه ينظر فيه ،فإما أن يتوجه
الطلبِّ إلى سوابقها أو إلى لواحقها ،يقول» :فإن ما في فطرةا
النسان من الوصافَّ يتبعها بل بد أفعال اكتسابية فالطلبِّ وارد
بخلفَّ المعتزلــة ،وبخلفَّ اللزما للتح ســين والتقبيــح العقلــي ،أو )( 1
لتقرير المصالح والمفاسد بالعقل وهذا على فرض قدرةا العقل على ذلك.
) ( سورةا آل عمران. 102 ، 2
) ( لم أجده. 4
288
على تلك الفعال ل على ما نشأت عنه«هل) (1وذلك كالمحبة،
)(2
فالطلبِّ ينصرفَّ إلى السباب ،كقوله » : تهادوأا تحاببوا «هل
وكشهوةا الوقاع المحرما ،فهو مسببِّ يط ا لبِّ النسان برفع سببه
وهو النظر المثير له) . (3أما الغضبِّ مثلا ،فالنسان يطالبِّ
بلواحقه كعدما النتقاما .يقول» :وإن لم يكن المثير لها داخلا
تحت كسبه فالطلبِّ يرد على اللواحق كالغضبِّ المثير لشهوةا
النتقاما كما يثير النظر شهوةا الوقاع«هل). (4
ويخ ـ لص إلى ال ـ قول» :وإذا كان ـ ت على هذا الترتي ـ بِّ لم
يصح التكلي ـ ف بها أنفس ـ ها وإن جاء في الظاه ـ ر ما يظه ـ ر منه
ذلك فمص ـ روفَّ إلى غير ذلك مما يتقدمها أو يتأخر عنها أو
يقارنها وال أعلم«هل). (5
وصرفَّ مقتضى الطلبِّ إلى اللواحق أو السوابق أو القرائن
إعمالا لهذا الصل ،يقتضي إعمال أصول أخرى لتعيين ما الذي
ينصرفَّ إليه الطلبِّ ،والمعنى المصروفَّ إليه ل يصح اعتبار ه إل
بعد ثبوت معناه بالستقراء .
التكليف وأالمشقة:
تختلف الحكاما أو القواعد الشرعية المتعلقة بالمشقات
بحسبِّ اختلفَّ هذه الخيرةا ،ويقتضي هذا الختلفَّ بيان معانم
للمشقة ،وبحسبِّ واقعها يرى الشاطبي أربعة معانم لها :
الوأل :أن يكون المراد بها عاماا في غير المقدور عليه وفي
المقدور عليه إذا كان ل يطاق كالمقعد إذا تكلف القياما،
والنسان إذا تكلف الطيران من حيث أنه عناء ل يجدي فهذا حكمه
) ( المصدر نفسه. 2/74 ، 1
الموطأ ) ،( 1413وهو قطعة من حــديث :ت صــافحوا يــذهبِّ ال غــل )( 2
289
حكم غير المقدور عليه وقد ت بين.
الثاني :أن يكون المراد بها المشقة المعنتة ،أي الخارجة عن
المعتاد ،وهي التي يؤدي تكلفها ،أو الدواما عليها إلى ديخيلم في
العقل أو النفس ،أو يلجيء إلى ترك الواجبات أو فعل المحرمات.
فهذه المشقة ل يقع الطلبِّ على ما يستلزمها ،وهي محل
الترخص ). ( 1
الثالث :أن يكون المراد بها المشقة العادية ،أي غير المعنتة،
الملزمة للعمال العادية ،وما تس ـ تلزمه هذه العم ـ ال م ـ ن تع ـ بِّ
وكلف ـ ة .فمث ـ ل ه ـ ذه المش ــ ق ـ ات ل أث ـ ر لها على التكليف.
الرابع :أن يكون المراد بالمشقة مخالفة الهوى ،من حيث أن
التكليف يخرج المكلف عن السترسال مع هواه ،ومثل هذه المشقة
ل أثر لها على التكليف) . (2والشارع ليس قاصداا لرفعها.
أصل عدم التكليف بالمشقات المعنتة:
يقول الش ـ اطبي» :فإن الش ـ ارع لــم يقص ـــ د إ لــى التكلي ـــ ف
بالمشاق العنات فيه«هل ) (3وأورد أدلة على سبيل الستقراء المفيــد
للقطع ،منها قوله تعالى [ :
)(4
وقوله [ : ]
)(5
] الية وقوله[ :
)(6
، ] و قــوله [ :
)(7
، ] وقوله [ :
)(8
، ] وقوله [ :
290
1
[( )، ]
، (2)]
وفي الحديث» :بعثت بالحنيفية السمحة«) ، (3و»مإا خإير بين
شيئين أل اخإتار أيســرهما مإــا لــم يكــن إثامــا ا«) ، (4وأدلةا
أخرى) . (5وقال» :ولو كان قا صــداا للم شــقة ل مــا كــان مر يــداا
لليســر ول للتخف يــف ول كــان مر يــداا للحــرج والع ســر وذ لــك
باطل«هل) ، (6وقال» :فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد العنــات
والمشقة وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كــان
الجمع بينهما تناقضاا واختلفاا وهي منزهة عن ذلك«هل). (7
المشقات مإفاسد:
وعلى ذلك فإن الشارع قاصد للرفق والتيسير بالمكلف،
وقاصد لرفع المشقات ،وبحسبِّ منهجه تكون المشقات مفاسد،
يجبِّ رفعها ويحرما على المكلف أن يقصدها لذاتها ،يقول:
»المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراا إلى عظم
أجرها وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته«هل). (8
وقال» :فل يصلح منها )أي من مقاصد المكلف( إل ما وافق قصد
الشارع فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد
الشارع من حيث إن الشارع ل يقصد بالتكليف نفس المشقة ،وكل
قصد يخالف قصد الشارع باطل ،فالقصد إلى المشقة باطل ،فهو
أخرجه أحمد ) ( 23710بلفظ :إني أرسلت ،ب دل بعثـت ،وأخـرج: )( 3
291
إذاا من قبيل ما ينهى عنه ،وما ينهى عنه ل ثواب فيه ،بل فيه الثم
إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ،فطلبِّ الجر بقصد
الدخول في المشقة قصد مناقض«هل) . (1وقال» :ونهيه عن التشديد
شهير في الشريعة بحيث صار أصلا فيها قطعياا ،فإذا لم يكن من
قصد الشارع التشديد على النفس ،كان قصد الملكف إليه مضاداا
لما قصد الشارع من التخفيف المعلوما المقطوع به ،فإذا خالف
)(2
قصده قصد الشارع بطل ولم يصح وهذا واضح وبال التوفيق«هل ،
وقال» :فقد عيلقمي من الشارع أن المشقة ينهى عنها«هل) . (3إل أن
هذا يثير مسألة ،وهي أن المشقات ملزمة لفعال الناس ،وما من
تكليف إل وفيه مشقة ،فكيف ينتظم كون الشارع قاصداا لرفع
المشقة ولللتزاما بالتكاليف معاا؟ الجواب من الشاطبي وبحسبِّ
منهجه ،أن قصد الشارع لرفع المشقات أصل كلي ،فل يتخلف.
ولما ثبت التكليف بما يلزما عنه مشقة ،فالمخرج هو أنه ليس كل
ما يسمى مشقة هو مشقة في الشرع ،أي ليست هذه المشقات هي
المعنى الذي وقع عليه أصل رفع المشقات ،هذا من جهة .ومن
جهة أخرى ،فإذا وقع التكليف على ما يلزما منه مشقة مما قصد
الشارع رفعها ،فهنا يتعارض أصلن ؛ أصل المتثال وأصل رفع
المشقة ،وهنا يتم الترجيح بين المصالح والمفاسد ،ويكون الح ك م
لما يغلبِّ في المحل ،أي يجبِّ الترجيح بين طلبِّ الفعل لما فيه من
مصلحة المتثال ،وطلبِّ الترك لما فيه من مفسدةا المشقة.
المشقة المعتادة ل تسمى مإشقة:
ثبت بالستقراء أن كل تكليف فيه مشقة مهما قلييت ،وهذا
يفيد أصلا كلياا قطعياا بأن الشارع يكلف بما فيه مشقة .وهنا
يتعارض أصلن ؛ أصل رفع المشقات ،وأصل العمل بما يلزما عنه
مشقة .وهنا رأى الشاطبي المخرج بأن ليس كل مشقة تعد مشقة
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/89 ، 1
292
في الشرع .ف ما هو الضابط لما يعد مما ل يعد؟ يقول الشاطبي:
»فإنه ل ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزما فيه كلفة
ومشقة ما ،ولكن ل تسمى في العادةا المستمرةا مشقة كما ل
يسمى في العادةا مشقةا طلبِّ ي المعاش بالتحرفَّ وسائر الصنائع
لنه ممكن معتاد ل يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالبِّ
المعتاد ،بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه
كسلن ويذمونه بذلك .فكذلك المعتاد في التكاليف«هل )، (1
ويضيف في بيان الضابط المطلوب» :وإلى هذا المعنى يرجع
الفرق بين المشقة التي ل تعد مشقة عادةا والتي تعد مشقة ،وهو
أنه إن كان العمل يؤدي الدواما عليه إلى النقطاع عنه أو عن
بعضه ،أو إلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من
أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد ،وإن لم يكن فيها شيء من
ذلك في الغالبِّ فل يعد في العادةا مشقة وإن سميت كلفة«هل). (2
ثم قال» :فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من
المشقة«هل ) . (3ثم ذهبِّ أبعد من ذلك ،فرفض أن تسمى المشقات
المعتادةا مشقة ،وبذلك يرتفع التعارض بين الصلين ،قال» :ل
يسمى ما يلزما عن العمال العاديات مشقة عادةا .وتحصيله أن
التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها ل مشقة فيه كما تقدما ،فما
يلزما عن التكليف ل يسمى مشقة«هل) . (4وقال» :إذا لم تكن خارجةا
عن المعتاد وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها في
العمال العادية ،فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد
لرفعها أيضاا ،والدليل على ذلك أنه لو كان قاصداا لرفعها لم
يكن بقاء التكليف معها لن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزما
293
تعباا وتكليفاا على قدره قل أو جل«هل). ( 1
ويلتحق بهذه المشقات مشقة مخالفة الهوى ،فل اعتبار لها في
التكليف لن من مقاصد الشارع إخراج المكلف عن إتباع الهوى إلى
المتثال .قال» :مخالفة ما تهوى النفس شاق عليها ،وصعبِّ
خروجها عنه«هل) . (2وقال» :ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة
إخرا ج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبداا ل .فإذا ا مخالفة
الهوى ليست من المشقات المعتبرةا في التكليف وأن كانت شاقة
في مجاري العادات ،إذ لو كانت معتبرةا حتى يشرع التخفيف
لجل ذلك لكان ذلك نقضاا لما وضعت الشريعة له ،وذلك
باطل«هل). (3
وي ن درج تحت اتباع الهوى كثير من المواقــف أو الفتــاوى أو
العمال الــتي يتــذرع أ صــحابها بجلــبِّ الم صــالح ودرء المفا ســد،
وبعنوان مقاصد الشريعة ،وتع ي ين المصالح والمفاســد بنــاء علــى
الهوى ،أو المنافع أو الضرار التي قد تلحق بالشخص ،فيباح لجل
ذلك فعل المحرمات أو ترك الواج بــات ،بح جــة المحاف ظــة علــى
المنصبِّ أو الوظيفة أو المال ،أو طلبِّ العلم ،ويسمون التضــحيات
أو المشقات أو الذى الذي قد يتعرضون لـه مفاسـد .مـع أن هـذا
المنهج في التفكير ل أصل له في الــدين ،حيــث يج عــل مــا طلبــه
الشارع مفسدةاا ،وما نهى ع نــه م صــلحة .وتع ظــم الفر يــة ع نــدما
يتمسك أصحاب مثل هذه المزاعم بالشاطبي ومنهجه ،وهــو إنمــا
قاما ي نعي على هذا المنهـج ويسـمى هـذه العتبـارات هـوى ،وقـد
استشهد في معرض حديثه عن مشقة مخالفة الهوى بقوله تعــالى:
[
)(4
[ وبقوله تعالى: ]
المصدر نفسه. 2/105 ، )( 1
294
)(1
] ،وبقوله [ :
، (2) ] ثم قال» :كما
أن المشقة تكون د ن يوية كذلك تكون أخرو يــة ،فــإن الع مــال إذا
كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجبِّ أو فعل محرما فهو أشد
مشقةا باعتبار الشرع من المشقة الدن ي وية التي هــي غيــر مخلــة
بدين .واعتبار الدين مقدماي على اعتبار النفس وغيرها فــي نظــر
الشرع«هل ). (3
المشقات المعتبرة أوأ المقصود رفعها:
تبين معنى المشقات التي قصد الشارع إلى رفعها ،وعلى ذلك
يحرما على العبد أن يقصدها .وهي المشقة الخارجة عن المعتاد،
وهي المشقات التي تؤدي إلى النقطاع عن العمال المطلوبة أو
عن بعضها أو التي تؤدي إلى خلل في النسان .ومثل ذلك الحرج.
فهو مقصود الرفع شرعاا .ومن الحرج أن يحمل المكلف نفسه
أعمالا تحمله بنوعها أو بكثرتها على التقصير بواجباته .يقول:
» إ علم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين :أحدهما :الخوفَّ
من النقطاع من الطريق وبغض العبادةا وكراهة التكليف وينتظم
تحت هذا المعنى الخوفَّ من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله
أو ماله أو حاله .والثاني :خوفَّ التقصير عند مزاحمة الوظائف
المتعلقة بالعبد المختلفة النواع ،مثل قيامه على أهله وولده إلى
تكاليف أخر تأتي في الطريق ،فربما كان التوغل في بعض
العمال شاغلا عنها وقاطعاا بالمكلف دونها ،وربما أراد الحمل
للطرفين على المبالغة في الستقصاء فانقطع عنهما«هل) . (4وهنا
يقع التعارض بين أصل المتثال وأصل رفع المشقة ،وهي مشقة
حقيقية مما يقع عليها شرعاا اسم المشقة ،أي مما قصد الشارع
سورةا النجم. 23 ، )( 1
295
رفعها.
لمثل هذه المشقات يشرع التخفيف في التكليف أو الترخص
فتكون هذه المشقات أسباباا للرخص .ولكن تنبغي ملحظة أن من
المشقات العادية ما قد يكون معنتاا لبعض المكلفين ،ومن المشقات
المعنتة لعموما الناس ما هو عادي لبعضهم .وكذلك فإن في
الشريعة مواضع للرخصة وليس ثمة مشقة مؤثرةا ،أو معنتة .فما
هو معنى الرخصة ،وكيف يكون التخفيف في التكليف أو رفعه إذا
وجد سببه؟
مإعنى الرخإصة:
تطلق الرخصة بأكثر من معنى ،إل أن المعنى المقصود
والغالبِّ هو ما يقابل العزيمة في أحكاما الوضع ،وهو الذي يفريقع
عليه الصوليون ،وهو الذي استعمله الشاطبي في بحثه للرخصة
والعزيمة من أنواع أحكاما الوضع ،وبهذا المعنى فهي» :ما شرع
لعذر شاق استثناءا من اصلم كلي يقتضي المنع مع القتصار على
مواضع الحاجة فيه«هل ). (1
وقد تطلق بمعان أخرى يذكرها الشاطبي) ، (2نذكر منها هنا
ما يعنينا .يقول» :وقد يط ـ لق لف ـ ظ الرخ ـ ص ـ ة على مــا ويض ـــ ع
ع ـ ن هذه المة من التكاليف الغل ـ ي ـ ظ ـ ة والع ـ م ـ ال ال شــاقة ا لــتي
دل عليها قوله تعالى [ :
« (3) ] هل ) . (4وذكر من الدلة
بعض ما دل على أصل ر فــع الم ـ ش ـ ق ـــ ات .وب هــذا المع نــى ي كــون
الترخص راجعاا إلى أصل قطعي كلي من الصول الحاجية ،وليس
بالمعنى الذي درج عليه الصوليون.
296
والتعريف الصطلحي الول يعني الرخص التي نصيي عليها
الشرع ،فيباح استعمالها بمجرد وجود سببها ولو فقدت المشقة،
كرخصة القصر أو الجمع عند السفر ،وهذه الرخص جزئية
ولذلك قال فيها»استثناءا من أصل كلي«هل ،ولذلك ل يقاس
عليها ويقتصر فيها على مواضعها المنصوصة.
أما التعري ـ ف الثاني فهو مقص ـ ود الش ـ اطبي بالترخص أو
التخفي ـ ف عند وج ـ ود الحرج أو المش ـ قات المعنت ـ ة.
وفي الحالتين المشقة المعنتة هي العلة ال م وضوعة شرعاا
للرخصة ،إل أنه لما كانت المشقات إضافية ،أي تختلف باختلفَّ
المكلفين ،ول تنضبط ،فقد جعل الشارع للعلل المنصوصة أسباباا
تعرفَّ بها .فإذا وجد السببِّ يجوز العمل بالرخصة ولو لم توجد
المشقة المعنتة وذلك لن الرخصة منصوصة ،وإذا وجد السببِّ
ووجدت معه المشقة المعنتة ،كأن يكون في السفر مشقة معنتة،
فإنه يجبِّ الخروج عن المشقة وجوباا ،وذلك كالمضطر إذا
شارفَّ على الهلك يجبِّ عليه أكل الميتة مثلا ،وإنما يسمى المر
رخصة لنه وقع عليه حد الرخصة.
يقول» :والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة ،فإذا
لم توجد كان الحكم غير لزما ،إل إذا قامت المظنة ،وهي السببِّ،
مقاما الحكمة ،فحينئذم يكون السببِّ منتهضاا على الجواز ل على
اللزوما«هل ) . (1ويقول» :فليس للمشقة المعتبرةا في التخفيفات
ضابط مخصوص ول حد محدود يطرد في جميع الناس ،ولذلك
أقاما الشرع في جملة منها السببِّ مقاما العلة لنه أقرب مظان
وجود المشقة وترك كل مك ـ لف على ما يج ـ د ...وترك ك ـ ث ـ يراا
منها موكولا إلى الجتهاد «هل) (2ولنتنبه إلى قوله» :في جملة
297
منها«هل ،فالمقصود هو الرخص المنصوصة ،وهذا يعني أن منها ما
لم يقم الشرع له سبباا يقوما مقاما العلة ،وعلى ذلك نعمل العلة
نفسها للتخفيف ،وهي المشقة الحقيقية ،وهنا يدخل الترخص
بالمعنى الثاني ،وهو عند وجود المشقة الحقيقية ،أي المعنتة،
وقوله» :وترك كل مكلف على ما يجد«...هل فذلك أن من العمال
ما يشق على البعض ويسهل على غيرهم ،لذلك فهذه الرخص
إضافية كما أن المشقات إضافية .يقول» :إن الرخصة إضافية ل
أصلية بمعنى أن كل أحد في الخذ بها فقيه نفسه ما لم ييحيديي
فيها حد شرعي يوقف عنده«هل) . (1وقال» :فرب رجل ضرى على
قطع المهامه حتى صار له ذلك عادةاا ل يحرج بها ول يتألم
بسببها ...وربيي رجل بخلفَّ ذلك«هل) . ( 2وقال» :وكثير من الناس
يقوى في مرضه على ما ل يقوى عليه الخر فتكون الرخصة
مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الخر ،وهذا ل مرية
فيه«هل ). ( 3
أسباب الرخإص:
تقديما أن المشقة الحقيقية هي علة الرخصة .إل أن المشقة
لما كانت إضافية ،والناس متفاوتون في التحمل ،فقد نص الشرع
على جملةم من الرخص توجد بوجود أسبابها ،كرخص القصر
والجمع والفطار في الس ـ فر ،وهذه الرخص حكمها الباحة مطلقاا
عند الش ـ اطبي .إل أنه إن وجدت مش ـ قة معنتة ،يصبح الخذ
بالرخصة واجباا ،وإن ظل اسمها رخصة ،قال» :ول كلما أن
الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم ولجل ه قال العلماء بوجوب
)(4
أكل الميتة خوفَّ التلف وإن لم يفعل ذلك فمات دخل النار«هل
والمشقة قسمان :معتادةا وغير معتادةا ،فالولى غير مقصودةا
الشاطبي ،الموافقات . 219 - 2/218 ، )( 1
298
الرفع شرعاا ،والثانية يجبِّ الترخص عندها .قال» :حيث تكون
المشق ـ ة الواقع ـ ة بالمكلف في التكلي ـ ف خارجة عن معتاد
المشقات في العمال العادية حتى يحصل بها فساد ديني أو دن ي وي
فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة«هل) . (1ويكون الفعل الذي
يس ـ ببِّ هذه المشقة من ه ياا عنه ،ف إ ما أن يرتفع من أصله وإما أن
يحصل فيه التخفيف.
واختلفَّ المشقات باختلفَّ الناس يجعل الترخص مختلفاا
بحسبِّ ما يتحملون ،وذلك أن الرخصة معللة بالمشقة المعنتة أو
غير المعتادةا :والحكم يدور مع العلة وجوداا وعدماا .يقول» :إن
النهي لعلة معقولة المعنى مقصودةا للشارع) (2وإذا كان كذلك
فالنهي دائر مع العلة وجوداا وعدماا .فإذا وجد ما علل به الرسول
كان النهي متوجهاا ومتجهاا وإذا لم توجد) (3فالنهي مفقود إذ
الناس في هذا الميدان على ضربين«هل) . (4ثم ذكر صنفين من
الناس ،صنف يتسببِّ لهم العمل بمشقة زائدةا على المعتاد فتؤثر
فيهم أو في غيرهم ،وهؤلء هم غالبِّ المكلفين ،فقال فيهم:
»فمثل هذا ل ينبغي أن يرتكبِّ من العمال ما فيه ذلك بل
يترخص فيه«هل) . ( 5وأشار إلى أن الترخص إنما يكون بحسبِّ الشرع
فقال» :يترخص فيه بحسبِّ ما شرع له في الترخص إن كان مما
ل يجوز تركه أو يتركه إن كان مما له تركه وهو مقتضى
التعليل«هل). (6
والصنف الثاني هم الزهاد أو العباد التقياء أو الصوفيون أو
أرباب الحوال كما يسميهم في مواضع عديدةا من كتابه ،فهولء
يستطيعون ما ل يستطيعه غيرهم لن حبِّ ال زهدهم في
299
حظوظهم ومنافعهم وشهواتهم ولو كانت مشروعة ،فصاروا
قادرين على أن يملوا وقتهم بمزيد من الوظائف الشرعية ،فهولء
ل يجبِّ عليهم الترخص لن العلة منتفية في حقهم). (1
وثمة ص ـ نف آخ ـ ر من الن ـ اس يذكره الشاطبي في مواضع
أخرى من كتابه ،وهم أرب ـ اب الحظ ـ وظ في مقابل ـ ة أرباب
الح ـ وال ،فهؤلء ق ـ د يكون تركهم للمكروه وفعلهم للمندوب
موقعاا في مكروه أشد أو في حراما ،أو مؤدياا إلى ترك مندوب
أعظم أو واجبِّ ،فهؤلء في هذه الحالة ،يكون تركهم للمندوب
أولى ،أو فعلهم للمكروه أولى.
ولكن ل يتغير في حقهم حكم الحلل والحراما ،وهؤلء -أرباب
الحظوظ -يجبِّ عليهم الترخص في مواضع الرخصة ،يقول:
»هؤلء ل بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعاا
لكن بحيث ل يخل بواجبِّ عليهم ول يضر بحظوظهم فقد وجدنا
عدما الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعاا في
مفسدةا أو مفاسد يعظم موقعها شرعاا«هل ). (2
شروأط الترخإص:
إن عدما التكليف بما ل يطاق ،وعدما التكليف بالمشقات المعنتة
هو أمر شرعي ل دور للعقل فيه ،وكذلك فإن مواضع الرخصة
ونوع الرخصة هو أمر شرعي ،ولذلك فللرخصة شروط .وقد
ظهر فيما سبق بعض هذه الشروط ،وذلك أن تكون المشقة معنتة،
وفيما يلي ذكر هذه الشروط من باب تماما البحث.
يقول» :المشقة إذا أدت إلى الخلل بأصل كلي لزما أن ل
يعتبر فيه أصل العزيمة إذ قد صار إكمال العبادةا هنا والتيان بها
على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها ،فالتيان بما قدر عليه
300
منها ،وهو مقتضى الرخصة هو المطلوب«هل) . (1ويلحق بهذه المشقة
الحرج يقول» :إنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده
عن ضروراته وحاجاته«هل) (2وكذلك الضطرار يقول» :حالة
الضطرار قد تبين أنه الذي يخافَّ معه فوت الروح وذلك ل يكون
)(3
إل بعد العجز عن العبادات والعادات ،وهو في نفسه عذر أيضاا«هل
فهذه التعريفات تبين شرطاا من شروط المشقات وهو الخلل
بأصل كلي .وهو يسميها كما ت بي ي ن معنتة أو حقيقيةا.
ومن الشروط أو تكون المشقة واقعةا أو محققة الوقوع ،ول
يكفي أن تكون مبنييية على الظنون والتقديرات غير المحققة ،فإن
هذا توهم ل اعتبار له .يقول» :إن الظنون والتقديرات غير
المحققة راجعة إلى قسم التوهمات وهي مختلفة .وكذلك أهواء
النفوس فإنها تقدر أشياء ل حقيقة لها ،فالصواب الوقوفَّ مع أصل
العزيمة إل في المشقة المقخليية الفادحة ،فإن الصبر أولى ما لم
يؤديق ذلك إلى دخل في عقل النسان أو دينه ،وحقيقة ذلك أن ل
يقدر على الصبر ،لنه لم يؤمر بالصبر إل من يطيقه ،فأنت ترى
بالستقراء أن المشقة الفادحة ل يل ح ق بها توهمها ،بل حكمها
أضعف بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الحوال ،فإذاا
ليست المشقة بحقيقية ...والحرى البقاء مع الصل«هل) . (4أي مع
العزيمة ،أما إن كان وقوع هذه المشقة متردداا بين التحقق
والظن ،والغالبِّ وقوعها بحسبِّ مجاري العادات ،فإن هذا مجال
للمجتهدين.
ومن الشروط أن ل يكون تقرير المشقة مسايرةاا للهوى،
يقول» :إن مراسم الشريعة مضادةا للهوى ...وكثيراا ما تدخل
المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى واتباع الهوى ضد اتباع
301
الشريعة والمتبع للهوى يشق عليه كل شيء سواءي كان في نفسه
شاقاا أو لم يكن «هل). (1
ومن شروطها أن يكون الحكم بكونها معنتةا أو خارجةا عن
المعتاد راجعاا إلى الشرع وقد يقال بأن هذا راجع إلى الشرطين
السابقين .إل أنه يختلف عنهما من جهة أنه قد تكون المشقة
مخلةا بأصل كلي ،ومع ذلك فل رخصة) (2وذلك كمشاق
الجهاد .يقول» :وكونه شاقاا على بعض الناس أو في بعض
الحوال ل يخرجه عن أن يكون مقصوداا له«هل ) (3أي ل تعالى .
ويقول» :إن المشقة قد تبلغ في العمال المعتادةا ما يظن أنه غير
معتاد ،ولكنه في الحقيقة معتاد ،ومشقته في مثلها ما يعتاد ،إذ
المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة ،طرفَّ أعلى...
وطرفَّ أدنى ...وواسطة هي الغالبِّ والكثر«هل) . (4وعلى ذلك
فالمشقة قد تزداد فيظن أنها صارت من غير المعتاد ،بينما هي
للعارفين بمجاري العادات ،أي بما جرت عليه عادةا الشرع في
التكليف ،ما تزال في الوسط .وقد علم من مقاصد الشارع في
التكليف أن المشقات تقع للعباد ابتلءا واختباراا .وإذا كان
كذلك فإنه يلزما للحكم على المشقة بأنها من المعتاد أو غ ـ ي ـ ر
المع ـ تاد أن ي ـ ك ـ ون ذلك راج ـ ع ــ اا إل ـ ى ال ـ ش ــ رع وإل ب ـ ط ــ ل
الخـتـبـار والبـتــلء .قال» :العوارض الطارئة تقع للعباد
ابتلءا واختباراا ليمان المؤمنين وتردد المترددين حتى يظهر
للعيان من آمن بربه على بينة ممن هو في شك ،ولو كانت
التكاليف كلها يخرما كلياتها كل مشقة عرضت ل نخ رمت الكليات
كما تقدما ولم يظهر لنا من ذلك شيء ولم يتميز ال خ بيث من
وذلك أن مقدار المشقة المعتبرةا شرعاا تختلف بــاختلفَّ الع مــال )( 2
وس يتبين هذا بعد قليل عند ال حديث عن وسطية الشريعة .
) ( الشاطبي ،الموافقات . 1/227 ، 3
302
الطيبِّ«هل ). (1
ومن شروط الترخص أن تكون الرخصة بحسبِّ الشرع ،فل
يخرج من المشقة التي جعل له الشرع أن يخرج منها إل بواسطة
الشرع ،فيأخذ ما أعطاه الشرع من تخفيف ول يحكم هواه ،فهذا
المر راجع إلى التحسين والتقبيح ،ول مجال للعقل فيه .قال:
»كل أمر شاق جعل فيه الشارع للمكلف مخرجاا ،فقصد الشارع
بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء ،كما جاء في الرخص
شرعية المخرج من المشاق ،فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك
على الوجه الذي شرع كان ممتثلا لمر الشارع آخذ اا بالحزما في
أمره ،وإن لم يفعل ذلك وقع في محظورين :أحدهما مخالفته
لقصد الشارع ،كانت تلك المخالفة في واجبِّ أو مندوب أو مباح،
والثاني سد أبواب التيسير عليه ،وفقد المخرج عن ذلك المر
الشاق الذي طلبِّ الخروج عنه بما لم يشرع له«هل). (2
وقال» :المكلف في طلبِّ التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه
المشروع ،لن ما يطلبِّ من التخفيف حاصل فيه حالا ومآلا على
القطع في الجملة ،فلو طلبِّ ذلك من غير هذا الطريق لم يكن ما
طلبِّ من التخفيف مقطوعاا به ول مظنوناا ،ل حالا ول مآلا ،ل
على الجملة ول على التفصيل«هل ) . (3وقال» :فالرجوع إلى الوجه
الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المص ـ لحة والتخفيف
على الكمال ،بخلفَّ الرجوع إلى ما خالفه«هل). (4
وأسطية الشريعة:
»الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطر يــق الو ســط
العدل الخذ من الطرفين بقسط ل ميل فيه ،الداخل تحت كســبِّ
303
العبد من غير م شــقةم عل يــه ول ا نحلل«هل) (1ب هــذا المع نــى يخ تــم
الشاطبي هذا النوع من مقاصد الشارع ،وهذا المعنى قد تبين فيما
سبق ،ول حاجة لعادةا التأكيد له ولقصد الشاطبي منه ،لــول مــا
يتردد أحياناا من معانم ل واقع ل هــا حــول الو ســط والو ســطية أو
وسطية الشريعة .فمفهوما الوسط ،هو المر الوا قــع بيــن طرفيــن
بحيث يكون أحدهما ب م ع نــى الت شــدد وال خــر بمع نــى النحلل أو
أحده م ا بمعنى الفراط والخر بمعنى التفريط ،أو ما قــد يتخيــل
من طرفين على جانبي الوسط .وعلى ذلك يطلــق لفــظ الوســط
بمعنى أو بقصد التحسين أو التجميــل أو القبــول ل مــا ي قــع بيــن
طرفين .ومثل ذلك قد يقال عن العدل .ي قــول ا لــدكتور مح مــد
سعيد رمضان البوطي في معرض إيراده أدلة على مراعاةا الشريعة
للمصالح» :قوله تعالى [ :
. (2)] وحقيقة العدل بين
شــيئين أو شخ صــين المعادلــة والموازنــة بينه مــا فــي أ مــر مــا،
فالمقصود به إذاا مراعاةا التوسط بين طرفي ال فــراط والتفر يــط
في كل شيء ،وليس حقيقة انتظاما مصالح النــاس وتناســقها مــع
بعض إليي خطاا مستقيماا يفصل بين طرفي الفراط والتفريط في
شؤونهم ،وهما طرفان ينتهيان بالمفسدةا ل محالة«هل). (3
والواقع أن ألفاظ العدل والوسط لها وقع حسن على النفس،
إل أنها وغيرها كألفاظ الظلم والفراط والتفريط ل يصح أن
يفهم منها شيء إذا لم ترتبط بأساس تفهم بناءا عليه .فالشرائع
الوضعية والمحرفة عندها ما تسميه العدل والظلم أو المنكر،
وعندها ما تسميه الحق والباطل ،ولو نظرنا إلى ما فيها من عدل
ص . 71 :ط ، 5مؤسسة الرسالة ،الدار المتحدةا 141 ،هـ 1990 -ما .
304
وقسناه على شريعتنا لوجدناه عين الظلم ،ولوجدنا الحق فيها
باطلا والحسان منكراا ...فهذه اللفاظ ل تفهم إل من خلل ما
تدل عليه ،أي من خلل ما جاءت الشريعة لتعرفنا أنه عدل أو ظلم
أو إحسان أو غير ذلك .بتعبير آخر ،إن القول :الشريعة عدل أو
الشريعة وسط إذا كان المراد منه أننا نعرفَّ العدل ونعرفَّ
الوسط ،والشريعة تأمرنا بهذا الذي نعرفه فهو خطأ .والمعنى
الذي يصح هو أن الشريعة جاءت بأوامر ونواهي ،وما أمرت به هو
العدل وهو الوسط ،وبمعرفته يعرفَّ ما هو العدل والوسط ،وما
هو بخلفَّ ذلك ،وعلى ذلك فالقول إن العدل هو الخط
المس ـ ت ق يم بين طرفي الفراط والتفريط هو كلما ل مفهوما له.
وحتى يصبح لهذا الكلما واقعي ييدرك يجبِّ معرف ـ ة ما هو الفراط
وما هو التفريط .أليس قد يكون ما يراه النسان إفراطاا هو
الوسط والعدل أو هو التفري ـ ط .وما يراه تفريطاا هو العدل
والوس ـ ط أو هو الفراط .وما يراه عدلا أو وس ـ طاا هو الفراط
أو التفريط .أوليس هذا أيض ـ اا متلزم اا مع القول بأن التحسين
والتقبيح شرعيان ل عقليان .لهذا لزمت الشارةا إلى ما يتردد من
قراءات خاطئة للشاطبي في هذا المر .وإلى أن ترويج مثل هذه
الكلمات :الوسط أو الوس ـ طية أو وس ـ طية الشريعة بدون تعيين
أساس لتجسيد هذه اللفاظ في معانم هو من السطحية في الفكر
والدراك .والشاطبي ل يعرفَّ الوسط بناءا على الش ـ عور بما هو
إفراط أو تفريط ،وإنما هو يعرفَّ الفراط والتفريط بالميل عن
الوسط .يقول» :والتوسط يعرفَّ بالشرع ،وقد يعرفَّ بالعوائد
وما يشهد به معظم العقلء كما في السرافَّ والقتار في
النفقات«هل) . (1فهو عندما يجعل الحق مع التوسط يعرفَّ التوسط
بأنه ما دل عليه الشرع ،أو قيل ما دل عليه الشرع فهو التوسط أو
الوسط .أما قوله» :وما يشهد به معظم العقلء«هل فقد جعل ذلك
في المور التي جعل الشرع الفصل فيها للعرفَّ أو لهل المعرفة
) ( الشاطبي ،الموافقات. 2/114 . 1
305
والخبرةا كمهر المثل وأجر المثل ونفقة المثل .وكتعريف
الغني والفقير والبطر والتقتير فإن هذه المور كلها إضافية.
بهذا المعنى جاء ق ـ ول الش ـ اطبي أن الش ـ ريعة جارية في
التكلي ـ ف بمقتض ـ اها على الطريق الوس ـ ط العدل .ثم يقول بأنه
إذا جاء في تكاليف الشريعة ما فيه ميل إلى جهة أحد الطرفين،
فذلك من س ـ ياس ـ ة الش ـ رع في التشديد أو التخفي ـ ف بحس ـ بِّ
ميل المكلف إلى الطرفَّ الخر .يقول» :فإذا نظرت في كليةم
شرعي ـ ةم فتأملها تجدها حاملةا على التوس ـ ط فإن رأيت ميلا إلى
جهة طرفَّ من الطرافَّ ،فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في
الطرفَّ الخر ...وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في
الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاةاا منه لطرفَّ واقع
أو متوقع في الجهة الخرى«هل). ( 1
اخإتلف مإقدار المشقة المعتادة باخإتلف
العمال:
وهذا مما يزيد البيان لما ذ ي كر أعله ،وهو أن المشقة الــتي
تعد خارجة عن المعتاد في عمل ما ،قد ل تعد كــذلك فــي عمــل
آخر وإن كانت أثقل أو أشد .وبذلك فالوسط ي ة تختلف باختلفَّ
العمال .يقول» :التعبِّ والمشقة في العمــال المعتــادةا مختلفــة
باختلفَّ تلك العمال ...ولكن كل ع مــل فــي نف ســه لــه م شــقة
معتادةا فيه توازي مشقة مثله من العمال العاديــة«هل) . (2ويقــول:
»المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة«هل) . (3فقوله» :فــي
العمل الواحد«هل يدل على هذا المعنى وعلى ذلك فالمشقة المعتادةا
والمشقة غير المعتادةا تعرفان بالشرع ،وفي كل عمل على حــدةا.
فقد يعد الشرع المشقة غير معتــادةا فــي ع مــل و هــي أ خــف علــى
المكلف مما يعده معتاداا في عمل آخر .يقول» :فكثير مما يظ هــر
306
ببادئ الرأي من الم شــقات أن هــا خار جــة عــن المعتــاد ول يك ــ ون
ك ـ ذلك لم ـ ن كان عارفاا بمجاري العادات ،وإذا لــم ت خــرج عــن
المعتاد لم ي كــن للش ـــ ارع قص ـــ د فــي رفع هــا ك ســائر الم شــقات
)(1
المعتادةا«هل .وقال» :فحيث قال الــ تعــالى [ :
)(2
ثم قال [ : ]
] ) (3ك ـ ان ه ـ ذا م ـ وض ـ ع ش ـ دةا لن ـ ه يق ـ ت ـ ضي أن ل رخصة أصلا
في التخلف إل أنه بم ـ ق ـتـ ضى الدلة على رف ـ ع الحــرج محمــول
على أقصى الثقل في العمال المعتادةا بح ـ ي ـ ث يت ـــ أتى الن ـ ف ـ ي ـــ ر
ويمكــن الخــروج«هل) . (4أي إن المشــقة هنــا وإن كــانت ثقيلــة
فالش ــ رع يع ــ دها م ـ ن المع ــ ت ـ اد في مث ــ ل ه ـــ ذا الع ـ م ـــ ل ،ول
تخ ـ ض ــ ع لص ـ ل الت ـ ك ـ ل ـ ي ـ ف ب ـ م ـ ا ل ي ـ ط ـ اق أو مــا ل ي ـ تأت ـــ ى
للن ـ س ـ ان ال ـ ق ــ ي ـ اما ب ـ ه .وق ـ ال» :وأص ــ ل الح ـ ـــ رج الض ـ ي ـــ ق
ف ـ م ـــ ا ك ـــ ان م ـــ ن م ـ ع ـ ت ـــ ادات الم ـ ش ـ ق ـــ ات فــي الع ـ م ـــ ال
الم ـ ع ـ ت ـ اد م ـ ث ـ ل ـ ه ـ ا ف ـ ل ـ ي ـ س بح ـ رج ل ـ غ ـ ةا ول ش ــــ رع ـــــ اا،
ك ــــ ي ــــ ف وه ــــ ذا ال ــ ن ــــ وع م ــــ ن الح ـــــ رج وض ـــــ ع
لح ـــ ك ـــ م ــ ةم ش ـــ رع ـــ ي ــ ة وهي التمحيص والختبار «هل ). (5
307
المبحث الثاني
قصد الشارع في دخإول المكلف تحت
أحكام الشريعة
308
الحقكيم هي المعاني المصلحية أو الوصافَّ المناسبة وهي ما لو
عرض على العقول تلقته بالقبول .أما الشاطبي فقد اختلف عنده
مفهوما المصلحة عمن سبقه .والفرق بين الثنين هو كالفرق بين
قولهم :ما حصل الظن به عقلا أو وقع في القلبِّ كونه مصلحة أو
حكمة مقصودةا بالحكم فهو علة ،وقوله :ما ثبت قطعاا عن طريق
استقراء الحكاما كونه غايةا أو مقصوداا للشارع فهو علة
ومصلحة .بتعبير آخر ،يقولون :المصلحة علة .ويقول :العلة
مصلحة.
وبين المنهجين اختلفَّ يقلبِّ المور رأساا على عقبِّ .وهو
اختلفَّ ل يقتصر على ما ت بين من مفهومه للمصالح والمفاسد ،
وإنما يتجاوزه إلى أمور أخرى). (1
ولقد شاعت في عصرنا فكرةا التعليل بالم صــلحة أو الت شــريع بنــاءا )( 1
عليها ،وصدر بناءا على ذلك آراء وفتاو ى واضحة البطلن .وتذرع البعض
في سبيل ذلك بأفكار ين ســبونها إلــى ال شــرع م ثــل جلــبِّ الم صــالح ودرء
المفاسد والضرورةا والتيسير ومرونة الشريعة وجواز تغير الحكاما بتغير
الزمان .ولم يأخذ هؤلء بالشروط التي قال بهــا الئمــة الــذين يقولــون
بالمصالح .ومن هذه الشروط أن ل يؤدي هذا التعليل إ لــى إب طــال الح كــم
المعلل ،ومنها أن ل يكون الوصف المصلحي الذي يعلل به منقوضاا بنص أو
معارضاا بمعنى مصلحي يعلل به حكم آخر .ولقد ذهبِّ ب عــض المعا صــرين
إلى ضرورةا توسيع دائرةا الحلل عن طريق ما أسموه الستحســان الواســع
والقياس الواسع ،بمعنــى عـدما التقيـد بشـروط صــحة القيـاس أو صــحة
الستحسان بسببِّ أن تلك الشروط دخلت إلى علم أصول الفقه عن طريــق
المنطق الغريقي .ذهبِّ إلى هذا الدكتور حسن الترابي في كتابه تجد يــد
أصول الفقه.
وقد دعا في كتابه إلى منهج يدعو إلى عدما اللتزاما بآحاد النصــوص،
و إ نما إلى العتماد على جملة من النصوص يؤ خــذ من هــا المع نــى ال عــاما أو
جنس المصلحة ،ثم يكون التشريع بناءا علــى المع نــى ال عــاما .ول يحت فــل
حينئذم بمخالفة التشريعات الجديدةا لحاد النصوص .وقد تابعه فــي هــذا
المنهج الشيخ راشد الغنوشي فــي كتــابه )الحر يــات العا مــة فــي الدو لــة
السلمية( .وفي مقابلة صحفية مع مجلة ال شــراع اللبنانيــة قــال ال شــيخ
الغنوشي رداا على أن أفكاره م ســتغربة بمقيــاس ال ســلما قــال » :مــازالت
تحكمنا عقد ةا النص«هل وقال » :الترابي أستاذ جيل أنا واحد منه«هل .وصــارت
الحكاما ت ي عط ى في عصرنا بحسبِّ أهواء المتنفذين ،حتى ن ي سبِّ إلى البعــض
309
لذلك تراه في كثير من المواضع في الموافقات يحمل على
الفتاوى التي تصدر متذرعةا بالمصلحة أو بالحاجة ،ويحمل على
الترخص من غير رخصة ،ويحمل على المفتين الذين يأتون بمثل
هذه الراء مستندين إلى أن شريعة السلما حنيفية سمحة ،فيقول
مثلا» :إن الحن ي فية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيداا بما هو
جار على أصولها ،وليس تتبع الرخص ول اختيار القوال بالتشهي
بثابت من أصولها«هل) ، (1ويقول» :تتبع الرخص ميل مع أهواء
النفوس ،والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى ...وربما استجاز
هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورةا وإلجاء الحاجة بناءا
على أن الضرورات تبيح المحظورات ،فيأخذ عند ذلك بما يوافق
الغرض ...فهذا أيضاا من ذلك الطراز المتقدما فإن حاصله الخذ
بما يوافق الهوى الحاضر ،ومحاليي الضرورةا معلومة من
الشريعة«هل) ، ( 2ثم يقول» :قليي الورع والديانة في كثير ممن
ينتصبِّ لبث العلم والفتوى«هل) ( 3وسنناقش هذا المر بالتفصيل -إ ن
شاء ال -في فصل الجتهاد والتقليد.
لهذا وجدنا الشاطبي في هذا النوع من المقاصد متتبعاا
مستقصياا ،يناقش مسألة كون التشريع لمصالح العباد ،ويردها
إلى أصل المتثال والعبودية ل ،ويناقش مسألة التغير في عادات
الناس باختلفَّ الزمنة والمكنة ويبين أن ل أثر لذلك على
الحكاما الشرعية ،ويناقش مسألة الوقوفَّ على النص أو اتباع
المعاني ،ويبين أن اتباع المعاني يجبِّ أن ل يخرج عن النص بحالة
قوله :عليك الرأي وعلييي الدليل .وإلى غيره قوله قدما لي ما ينفع الناس
أقدما لك الدليل . .أنظر :مقالــة بعنــوان )رد ا فــتراءات علــى ال شــاطبي(،
لمحمود عبد الكريم حسن ،مجلة الوعي ،العدد ، 88 :ربيع الول 1415هـ
1994 -ما .وانظر :الموافقات بتحقيق أبي عبيدةا ،في مقدمته على الكتاب،
ج ، 1الهامش ،ص . 42
) ( الشاطبي ،الموافقات. 4/81 . 1
310
من الحوال.
ولقد بلغ حجم مباحث الشاطبي في هذا النوع من المقاصد
مجموع مباحثه في الثلثة النواع السابقة ،واستغرق -تقريباا -
نصف الجزء الثاني من كتاب الموافقات.
أصل المإتثال أوأ التعبد:
يركز الشاطبي على أن التقيد بالوامر والنواهي أصل في
الشريعة ،وعلى أن العبودية ل يجبِّ أن تكون في كل عمل من
أعمال المكلف ،وكل عمل ليس فيه تعبد ل فهو اتباع للهوى.
ويركز على أن تقرير المصلحة والمفسدةا راجع إلى وضع
الشارع ،وأن اتباع المصلحة إذا كان بحسبِّ نظر العبد من غير
اعتبار لحكم الشرع في تلك المصلحة فهو اتباع للهوى بإطلق،
وما كان كذلك فهو باطل بإطلق.
يقول» :المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن
داعية هواه حتى ي كــون عبــداا لــ اختيــاراا ك مــا هــو عبــد ي لــ
اضطراراا«هل ) . (1ثم يأتي بأدلة على ذلك تفيد استقراءا قاطعاا على
منهجه .يقول» :والدليل على ذلك أموري :أحدها :النص الصريح
الدال على أن العباد خلقوا للتعبد ل والدخول تحت أمــره ونهيــه
كقوله تعالى [ :
. (2)]
وقوله تعالى [ :
)(3
. ] وقوله [ :
ج
311
على الطلق وبتفاصيلها علــى الع مــوما فــذلك كلــه را جــع إلــى
الرجوع إلى ال في جميع الحوال والنقياد إلى أحكامه على كــل
حال وهو معنى التعبد ل ...والثاني :ما دل على ذما مخال فــة هــذا
القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر ا لــ وذما مــن أ عــرض عــن
ال ...وأصل ذلك اتباع ال هــوى والنق يــاد إ لــى طا عــة ال غــراض
العاجلة والشهوات الزائلة ...والثالث :ما علم بالتجارب والعــادات
من أن المصالح الدينية والدنيوية ل تحصل مــع السترســال فــي
اتباع الهوى والمشي مع الغراض«هل ) . (1وبناءا على ذلك فمــا مــن
عمل للعبد إل ويدخله التعبد ل ،فيجبِّ أن تصاحبه ني ة المتثـال ،
ول يكون ذلك إل بإذن من الشارع .وذلك أن التحسين والتقبيــح
أو المصلحة والمفسدةا يعرفان بالشرع ،وإذا لم يكن لل شــرع ث مــة
مدخل للتعريف بذلك فالمتبع هو الهوى ،إذ المر مح صــور ب يــن
الشرع والهوى ول ثالث لهما .يقول» :فقد جعل ال اتباع الهــوى
مضاداا للحق وجعله قسيماا له ...ف قــد ح صــر ال مــر فــي شــيئين
الوحي وهو الشريعة ،والهوى ،فل ثالث لهما ،وإذا كــان كــذلك
فهما متضادان وحين تعين الحق في الوحي توجه لل هــوى ضــده...
فهذا كله واضح في أن قصد الشارع ال خــروج عــن ات بــاع ال هــوى
والدخول تحت التعبد للمولى«هل ). (2
312
عليه وداعم يدعو إليه فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل
فليس إل مق ت ضى الهوى والشهوةا ،وما كان كذلك فهو باطل
بإطلق لنه خلفَّ الحق بإطلق«هل ) (1ومن هذه القواعد» :إن اتباع
الهوى طريق إلى المذموما وإن جاء في ضمن المحمود) (2لنه إذا
تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الش ـ ريعة فحيث ـ ما زاحم مقتض ـ اها
في العمل كان مخوفاا ...فإنه س ـ ببِّ تعطيل الوامر وارتكاب
النواهي«هل ). (3
ومنها» :أن اتباع الهوى في الحكاما الشرعية مظنة لن يحتال
بها على أغراضه فتصير كاللة المعدةا ل قتناص أغراضه
)(4
كالمرائي يتخذ العمال الصالحة سلماا لما في أيدي الناس«هل .
ويؤكد الشاطبي على أصل المتثال وعلى وجوده في كل فعل
من أفعال العباد ،ول ييعارضي هذا الصل بكــون الشــريعة غايتهــا
حفظ مصالح العباد ،وبكون الحكاما تراعي فطرةا النسان وأغراضه
وأوصافه الشهوانية ،وذلك أن هذا المقصد هو غا يــة ونتي جــة ،أي
مسببِّ عن السباب ،والسباب هي المتثال ،فالشريعة موضوعة على
مقت ضـــى التعبـــد والمتثـــال [ ،
ج
تق ت ضيه أنواع الحكم الشرعي ،يقول» :لم يصــح لحــد أن يــدعي
على الشريعة أنها وضعت على مقتض ى تشهي العباد وأ غ راضــهم إذ
وإن جاء في ضمن المحمود أي كأن تكون الغا يــة شــرعية أو النيــة )( 2
سليمة ،وذلك كمن يقصد تنمية مال اليتيم فيقرضــه بالربــا .أو كمــن
يفتي بجواز الربا بحجة المصلحة .أو من كمن ي فــتي وي شــارك بــالحكم
بغير ما أنزل ال قاصدا مصالح الم ســلمين فــي زع مــه ،و فــي ذلــك كلــه
تعطي ـ ل للوامر وارت كــاب لل نــواهي كق ـــ وله ت عــالى [:
] البقرةا 275 ،وقوله تعالى [ :
] المائدةا 45 ،وغيرها .
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/119 3
313
ل تخلو أحكاما الشرع من الخمسة ،أما الوجوب والتحريم فظــاهر
مصادمتهما لمقتضى السترسال الداخل تحت الختيار ،إذ يقال له:
إفعل كذا كان لك فيه غرض أما ل ،ول تفعل كذا كان لك فيه
غرض أما ل ،فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث علــى
مقتضى المر أو النهي فبالعرض ل بالصل .وأ مــا ســائر الق ســاما
وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرةا المكلف ،فإنما دخلت بإدخال
ال شــارع ل هــا ت حــت اخت يــاره ،ف هــي راج عــة إ لــى إخراج هــا عــن
اختياره«هل ) . (1ثم يقول» :فإذاا ،إباحة المباح مثلا ل توجبِّ دخوله
بإطلق تحت اختيار المكلف من حيث كان قضاءا من الشــارع ،وإذ
ذاك يكون اختياره تابعاا لوضع الشارع ،وغرضيه مأخوذاا من تحت
الذن الشرعي ،ل بالستر ســال ال طــبيعي و هــذا هــو ع يــن إ خــراج
المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداا ل«هل ). (3) (2
) ( المصدر نفسه . 2/116 ، 1
) ( وفي هذه القوال ما ينفي عن السلما الفكرةا الغربية القائلة بالحريات 3
العامة .إذ إن هذه الفكرةا منبثقة من فكــرةا فصــل الــدين عــن الحيــاةا .وأن
النسان حر ل يقيد بأي قانون أو نظاما ،إل ما يختاره هو بنفس ه .وم ن هن ا
قالوا بحكم الشعبِّ وهو ما اقتضى فكرةا الديمقراطيـة فـي النظـم الغربيـة.
ومفهوما الحريات العامة هو غير معنى الحرية الذي يقابل الرق ،وهو مفهوما
كفر لنه يعني أن ل حكم ل ،ول تشريع إل للشعبِّ .وكذلك مفهوما المباح
في السلما فهو ليس من قبيل الحرية وإنما هو مبني على فكرةا العبودية لــ
الذي له وحده حق المر والنهي والذن والمنع ،فالباحة هي تخيير من قبــل
الشارع ،والعبد مقيد بقبول هذا التخيير ،وليس حــراا فل يمنــع مباحــاا ول
يوجبه ولذلك فإن القول بفكرةا الحريات العامة في السلما هو قول خاطيء
تنقضه الصول الشرعية ،والخطاء الكبر هي ما يأتي فـي ثنايـا تفصـيلت
هذه الفكرةا .فعلى سبيل المثال ذهــبِّ الشــيخ را شــ د ال غ نوشــي فــي كتــابه
)الحريات العامة في الدولة الســلمية( إلــى أن مقصــد حفــظ العقــل مــن
الضروريات في الشريعة معناه حرية العقيدةا وحريــة الــرأي ،مــع أن هــذه
الحريات تتناقض مع كليات وجزئيات في السلما ل تقتصر على أصل حفظ
الدين أو على وجوب الحكم بما أنزل ال ووجوب قتل المرتد وغيــر ذلــك .
أنظر :الموافقات ،بتحقيق أبي عبيدةا .في مقدمته على الكتاب ،ج ، 1الهامش،
ص . 53 - 42وانظر :أيضاا :مقالت بعنوان )دمج الجاليات السلمية في
المجتمعات الغربية( لمحمود عبد الكريم حسن ،مجلة الوعي ،العداد،115 :
314
المصـالح وأالمفاسـد تعـرف بالشـرع فقط:
هذا المقصد للشارع من وضع الشريعة وهو عبودية النسان ل
قطعي ول خلفَّ فيه ،وإن ظهر فيه أي خلفَّ فمرده إلى اختلفَّ
في معاني اللفاظ والعبارات وليس إلى حقيقة معناه .وإذا اعتبرنا
المصلحة في التعليل بالمصالح بحسبِّ نظر العقلء وأهل النظر،
فهذا من قبيل التحسين والتقبيح العقليين ،وهو يتعارض مع هذا
المقصد وهو المتثال ،وهذا ما يثير إشكالت على القائلين
بالمصالح ،وقد مر ذكر بعضها على لسان القرافي وعز الدين بن
عبد السلما .ومر أيضاا رد الشاطبي عليها وأنها ل وجود له ا على
منهجه لن له مفهوماا مختلفاا للمصالح والمفاسد .ويؤكد
الشاطبي بعد إثباته لصل المتثال أن تقرير المصالح والمفاسد
أمر شرعي يرجع إلى التحسين والتقبيح ،فلذلك يجبِّ أن يرجع
إلى أصل المتثال ،فإذا لح في النظر حكمة تصلح لتعليل الحكم،
فل يصح اعتبارها قبل حصول الستقراء القاطع إذ قد يكون ثيميي
حقكيمي غيرها ،وقد ل تثبت عند الستقراء فيكون اعتبارها تحكماا
بغير دليل وتقصيداا للشارع لما لم يقصد .يقول» :إن كون
المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدةا مفسدةا كذلك مما
يختص بالشارع ل مجال للعقل فيه بناء على قاعدةا نفي التحسين
والتقبيح العقليين ،فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما
فهو الواضع لها مصلحة وإل فكان يمكن عقلا أن ل تكون كذلك
إذ الشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الول متساوية ل قضاء للعقل
فيها بحسن ول قبح ،فإذاا ،كون المصلحة مصلحةا هو من قبل
الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس ،فالمصالح من
حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى
على التعبدي ل يكون إل تعبدياا«هل). (1
وإذا اعتبرنا رأي الشاطبي الذي ورد في النوع الثاني من
. 118 ، 117 ، 116لسنة 1417هـ 1997 ،ما.
315
مقاصد الشارع وهو وضعها للفهاما حيث قال إن النصوص ل دللة
لها على المعاني التبعية ،إضافة إلى أن المص ـ لحة هي ما ثبت
قطعاا بالسـتقراء ،فكأن الش ـ اطبي يرد مس ـ لك التعليل بالوصف
المناسبِّ ،ويرد تعليل الشريعة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد
بالمعنى المعهود عند القائلين به.
وهذا ما جعل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يرى أن معظم
استدللت الشاطبي على تعليل الشريعة غير صالحة ) . (1وهو نفسه
ما أثار الدكتور أحمد الريسوني وجعله يطلق على هذا الرأي
للشاطبي بأنه من الثار السلبية لعلم الكلما ،وأن سببِّ هذا
الموقف الذي اتخذه الشاطبي هو تأثره بالنظرةا الشعرية .يقول
الدكتور الريسوني تحت عنوان ) :إ دراك المصالح بالعقل(:
»المسألة المعروفة في علم الكلما وفي علم أصول الفقه بمسألة
التحسين والتقبيح ... .لن الشاطبي نفسه لم ينجي من بعض الثار
السلبية لها ،وأعني بالذات تأثره بالنظرةا الشعرية إلى الموضوع.
بل أن هذه النظرةا الشعرية ما زالت رائجةا -إن لم تكن سائدةاا -
اليوما«هل ). (2
ولثبات أشعرية الشاطبي ،يذكر الريسوني ما يسميه جوهر
النظرية الشعرية ،وبعض نصوص الشاطبي .يقول» :فليس
عندهم شيء حسن إل بتحسين الشرع له ،أما بدون تحسين الشرع
وتقبيحه فل حسن ول قبح ،وكل المور على حد سواء ،وهذا
بالضبط ما يرديقده الشاطبي«هل) . (3ويقول» :فإن التأثير الشعري
بادم على كلمه ،فهو يتضمن إنكار حسن الفعال وقبحها أي
كونها -ذاتها -مصلحة أو مفسدةا ،إذ الفعال والتروك -في
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/219 ،وأنظر المسألة التاسعة عشرةا من مسائل 1
) ( أحمد الريسوني ،نظرية المقاصد عند الماما الشاطبي ،ص. 263 : 2
) ( أحمد الريسوني ،نظرية المقاصد عند الماما الشاطبي ،ص. 264 : 3
316
العقل » -متساوية مماثلة«هل ،وإذن ،فل تحسين للعقل ول تقبيح،
وهذا هو جوهر النظرية الشعرية«هل ) . (1ثم يدافع عن فكرةا أن
الحسن والقبح في الفعال ذاتيان وأن العقل يستطيع ،وله الحق،
أن يحسن ويقبح ،ويرى أن من العلماء من تورييع عن هذا القول
كي ل ينسبِّ إلى العتزال ،وليس لنهم يرونه خطأ ،ويذكر من
هؤلء أبا المعالي الجويني والغزالي على سبيل المثال .فيقول:
»ويبدو لي أن أبا المعالي ...قد خرج عن طوق النظرية
الشعرية«هل ) . (2ويقول» :ولئن كان أماما الحرمين قد اضطر
اضطراراا إلى هذا القدر من العترافَّ بالتحسين والتقبيح«هل.
ويقول» :ومن غريبِّ ما تصنعه الخصومات والصراعات أن تجد
الماما الغزالي -وهو عملق الفكر السلمي -يخشى ويحذر أن
ينسبِّ إليه ما نسبِّ إلى هؤلء من التأثر بالمعتزلة ،فقد هم أن
يصرح بإدراك العقول للمصالح«هل) . (3ثم يحاول الدكتور
الريسوني إثبات صحة القول بتحسين العقل وتقبيحه). (4
إن ال مر ا د من هذه القوال للدكتور الريسوني هو الشارةا
إلى التعارض بين منهج الشاطبي وغيره في قضية التعليل
بالمصالح والمفاسد ،بل إن القول بعلية جلبِّ المصالح ودرء
المفاسد للحكاما الشرعية يلزما منه القول بالتحسين والتقبيح
بالعقل.
و تنبغي الشارةا هنا إلى أن مسألة أن التحسين والتقبيح
شرعيان ل عقليان مسألة قطعية ،أما الخلفَّ في قدرةا العقل على
التحسين والتقبيح ،فل يعني عند من يقول بقدرته ،أنه يضفي
شرعيةا على المحسن عقلا .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فل
317
الجويني ول الغزالي يميل أي منهما إلى صحة التحسين والتقبيح
العقليين .يقول الجويني» :فليس الحكم المضافَّ إلى متعلقه
صفةا فيه ثابتة ،فإذا قلنا :شرب الخمر محرما ،لم يكن التحريم
صفةا ذاتيةا للشرب .وإذا أوجبنا الشرب عند الضرورةا فهو
كالشرب المحرما عند الختيار .والمعني بكونه محرماا أنه متعلق
النهي ،وبكونه واجباا متعلق المر«هل) . (1ويقول» :ثم من أحكاما
الشرع التحسين والتقبيح وهما راجعان إلى المر والنهي ،فل
يقبح شيء في حكم ال تعالى لعينه ،كما ل يحسن شيء
لعينه«هل ). (2
ويقول الغزالي» :إن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فل
حكم ،فلهذا قلنا :العقل ل يحسن ول يقبح ول يوجبِّ شكر المنعم
ول حكم للفعال قبل ورود الشرع«هل ). ( 3
وتـتـبـع كلما الماميـن ،الجـويـنـي والغـزالي ،ل يـدع
مجالا لما توهمـه الدكتور الريسوني.
والذين يعللون بالمصالح ل يرون أن هذا تشريع بالعقل،
وإنما يرونه بموجبِّ المر الشرعي بخلفَّ معارضيهم ،فإذا أشكل
أمر هذا التعليل واقتضى تحسيناا أو تقبيحاا عقلياا فإنه يرد بل
تردد ،وإذا رأى الدكتور الريسوني أن حل الشكال يكون بالقول
بشرعية التحسين والتقبيح بالعقل فإنه يكون قد شطح بعيداا.
التعارض بين التعليل بالمصالح وأحاكمية
الشـرع:
ليس ثمة تعارض بين هذين الصلين على منهج الشاطبي ،إذ إن
المصالح والمفاسد ل تتقرر عنده إل بالشرع ،أي إن كون الشيء
مصلحة أو مفسدةا هو من قبيل التحسين والتقبيح .ولكن
318
التعارض قائم إذا اعتبرت المصلحة بحسبِّ نظر العقلء وأهل
النظر وتقريرهم للمناسبِّ أو لما هو مصلحة وما هو مفسدةا.
وللقائلين بهذا أدلتهم على التعليل بالمصالح فهل تتعارض أدلتهم
مع أصل التعبد والمتثال ؟
والجواب على منهج الشاطبي :إنها ،نعم ،تتعارض .لذلك فهــو
يحاول نفي هذا التعارض بشكل يقلبِّ المور رأساا على عقبِّ .فهو
بعد أن أنهى إثبات وتقرير أصل المتثال كمقصد قطعي لل شــارع،
عمد إلى ما اعتمده أساساا لتعليل الشريعة بجلــبِّ المصــالح ودرء
المفاسد ،وأعاد تكييفه بطريقةم أخرى .ق ـ ال» :فإن قي ــ ل :وض ـ ع
الش ــ رائ ـ ع إم ـــ ا أن ي كــون عبث ـ ـــ اا أو لحكم ـــ ة ،فــالول باط ـــ ل
باتف ـ اق ،وق ـ د ق ـــ ال تع ـــ الى [ :
)(1
، ] وق ـــ ال [ :
2
[( )، ]
. (3) ] وإن
كان لحكمةم ومصلحةم ،فالمصلحة إما أن تكون راج عــة إ لــى ا لــ
تعالى أو إلى العباد ،ورجوعها إلى ال محال لنه غ نــي وي ســتحيل
عليه عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلما ،فلــم يبــقي إل
رجوعها إلى العباد وذلك مقتضى أغراضهم لن كل عامــلم إنمــا
يطلبِّ مصلحة نفسه وما يوافق دنياه وأخراه ،والشريعة تكفلت لــه
بهذا المط ل بِّ في ضمن التكليف ،فكيف ينفــ ى أن توضــع الشــريعة
على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم ،وأيضاا فقد ت قــدما ب يــان
أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهــم حظــوظهم
تفضلا من ال على ما يقوله المحققون ،أو وجوباا على ما يزعمه
المعتزلة وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقاا كــان مــا ينــافيه
319
باطلا«هل ) . (1هذا النص ي ي ر ق دي اعتراضاا على ال شــاطبي فــي كيف يــة
تقريره للمصالح ،والشاطبي يجيبِّ على هذا النص ليــس بنفيــه أو
رده ،بل بتأكيده ولكن يوجه معناه أو تفسيره توجيهــاا مختلفــاا
عن المعهود أو المتبادر إلى الذهن .ي قــول » :فــالجواب أن و ضــع
الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدةا عليهم بحسبِّ أ مــر
الشارع وعلى الحد الذي حده ل على مقتضى أهوائهم وشــهواتهم،
ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلــة علــى الن فــوس ...فــالوامر
والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترســال أغراضــه حــتى
يأخذها من تحت الحد المشروع وهذا هو عين المراد ،وهــو عيــن
مخالفة الهواء والغراض .أما أن م صــالح التكل يــف عا ئــدةا علــى
المكلف في العاجل والجل فصحيح ،ول يلزما من ذلــك أن يكــون
نيله لها خارجاا عن حدود الشرع ،ول أن يكون متناولا لها بنفسه
دون أن يناولها إياه الشرع ،وهو ظاهر ،وبه يتــبين أن ل تعــارض
بين هذا الكلما وبين ما تقدما لن ما تقدما نظر فــي ث بــوت ال حــظ
والغرض مـن حيـث أثبتـه الشـارع ل مـن حيــث اقتضـاه الهـوى
والشهوةا«هل ). (2
إن ما يلحظ في هذا النص ،وفي سائر كتاب الموافقات ،أن
مراد الشاطبي بلفظ المصلحة المعتبرةا شرعاا هو غير المعنى
المعهود عند غيره .أما المعنى المعهود فهو يستعمل له ألفاظاا
أخرى مثل الحظ والغرض والمنفعة والهوى.
ومراد الشاطبي في رفعه للتعارض أن حظوظ العباد
وأغراضهم وشهواتهم ل تتحقق ول يحصلون عليها باتباعهم لها،
وإنما تتحقق بامتثالهم لحكاما الشريعة ،والعبد قد يرى تحقق
منفعته أو غرضه أو إشباع حاجته بطريق ما ،فإذا اتييبعه ،فإن
ذلك هو إتباع الهوى ،ولو كان يظن أن هذه مصلحة والشرع إنما
320
جاء لجل المصالح .فإن هذا الظن غير شرعي ،وهذه ليست
مصلحة عند الشاطبي .وإذا كان تحقيق المنافع والغراض
وإشباع الحاجات مشروعاا ،فليس كل طريق إلى ذلك مشروعاا،
فقد يكون الغرض مشروعاا كالتملك ،ولكن طريق ه حراما
كالقمار والغش والربا والسرقة ،فإذا كان التملك مباحاا ،فل
يملك إل بالطريق المباح ،وهذا معنى كلمه» :فالوامر
والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى
يأخذها من تحت الحد المشروع«هل ،وقوله» :ول أن يكون متناولا
لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع«هل.
وهكذا فإن الشاطبي يقول بــأن ال شــريعة إن مــا و ضــعت ل جــل
مصالح المكلفين في الدارين ،ولكن المصالح ل تعرفَّ إل بال شــرع،
ول يصح للمكلف أن يتنــاول ح ظــه إل بــالطريق الـذي عينـه لــه
الشرع ،وينتهي المعنـى عن ده إلـى أن ل فـرق بي ن أن يق ول إن
الشريعة وضعت لجل العباد ،وبين أن يقول إن العباد خلقوا ل أ جــل
الشريعة ،وهو مدلول قوله تعالى [ :
. (1) ]
فإذا كانت أغراض العباد ومنافعهم وشهواتهم موجودةا في سد
حاجات الجوع والعطش والبرد والحر ،والملك والمــن والنســاء
والرئاسة وغير ذلك ،فهل جاءت الشريعة على أقوما نظاما لت ضــمن
للناس إشباع حاجاتهم الحقيقية ،وبالتالي كانت الشريعة لجلهم؟
أما أن الشريعة هي أوامر ونواه من ال يجبِّ على ال نــاس المت ثــال
لها ،فخلق ال في الناس ما خلق فيهم من حاجات وشهوات وغرائز،
تدفعهم إلى الطاعات ،فالشريعة تأمر بعبادةا ال والخضوع والتذلل
له ،فخلق ال في الناس فطرةا التدين والتعبد لط فــاا ب هــم وعونــاا
لهم على الطاعة ،وأمرهم بحفظ النفس وبالنكاح ورعاية الســرةا
وبالنفقة ،وخلق في هــم شــهوةا وعاط فــة تعين هــم علــى ذ لــك؟ أي
المرين هو التفسير الصحيح؟ إن الجابة علــى هــذا تح تــاج إ لــى
) ( سورةا الذاريات. 56 ، 1
321
دليل ،عقلياا كان أو نقل يــاا ،وإذا كــانت ح جــج ال قــائلين بعل يــة
المصالح بمعنى الحظوظ والمنافع تقوما على التفسير الول ،فــإن
الشاطبي يأخذ بالتفسير الثاني .يقول» :إن حكمة الحكيم الخبير
حكمت أن قياما الدين وا لــدنيا إن مــا ي صــلح وي ســتمر بــدواع مــن
النسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغ يــره فخلــق لــه
شهوةا الطعاما والشراب إذا مسه الجوع والعطــش ليحركــه ذلــك
الباعث إلى التسببِّ في سد هذه الخلة بما أمكنه ،وكذلك خلق له
الشهوةا إلى النساء لتحركه إلى اكتساب السباب الموصلة إليهــا،
وكذلك خلق له الستضرار بالحر والــبرد وال طــوارق العار ضــة
فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والســكن ،ثــم خلــق الجنــة
والنار وأرسل الرسل مبينةا أن الستقرار ليس ههنـا ،وإنم ا ه ذه
الدنيا مزرعة لدار أخرى وأن السعادةا البديــة وال شــقاوةا البديــة
هنالك ،لكنها تكتسبِّ أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده ال شــارع أو
بالخروج عنه ...ولــو شــاء ا لــ لكلييــف ب هــا مــ ع ال عــراض عــن
الحظوط ،أو لكلف بها مع سلبِّ ا لــدواعلي المجبــول علي هــا لك نــه
أمتن على عبادةا بما جعله وسيلةا إلى ما أراده مــن ع مــارةا الــدنيا
للخرةا وجعل الكتساب لهذه الحظوظ مباحــاا ل ممنوعــاا لكــن
على قواني ـ ن ش ـ رعية هي أبل ـ غ فــي المص ـــ لحة وأج ـ ـــ رى ع لــى
الدواما مم ـ ا يع ـ ده العب ـ د مص ـ لح ـــ ة [
(1)] ولو ش ـ اء لمنعنا في الكتس ـــاب ال خــروي الق صــد
إلى الحظوظ فإنه المالك وله الحجة البالغ ـ ة ،ولكنه رغبن ـ ا فــي
القي ـ اما بحقوقه الواجبة علينا بوع ـ د حظي لن ـ ا وعج ـــ ل لنــا مــن
ذلك حظوظاا كثي ـ رةا نتمتع بها في طري ـ ق ما كلفنا به«هل). (2
فهل أثبت الش ـ اطبي فكرةا التعليل بجلبِّ المصالح ودرء
المفاسد ،أما أنه نقصها؟! يعتمد ذلك على معنى المصلحة ومعنى
المفسدةا ،أي على مفهوما كل منهما ،والواضح أنه قد نقضها إذا
322
كانت بالمعنى المعهود عند الصوليين قبله ،أو بالمعنى الشائع
اليوما.
المقاصد الشرعية ضأربان أصـلية وأتابعية:
تحصل إذاا أن الشريعة تراعي حظوظ العباد وأغراضهم
وأوصافهم ،ولكن هذه المراعاةا ل تعني اتباعها في التشريع ،وإنما
يعني اتباع الحكاما الشرعية لن الحظوظ تحصل بها .فحفظ
الدين والنفس والمال وغيرها من المقاصد الشرعية هي أيضاا
حظوظ ومقاصد للعباد.
وحظوظ الع ب اد ومنافعهم متغيرةا متبدلة ،وأحكاما الشريعة
ثابتة .ولذلك فإن الشاطبي يرد قول الرازي :إن الصل في
المنافع الذن وفي المضار المنع .وكذلك يقول» :كم من
صاحبِّ هوى يود لو كان المباح الفلني ممنوعاا حتى أنه لو
وكل إليه تشريعة لحرمه«هل ) ، (1ويقول» :حتى لو فيرض جعل
ذلك إليه لوجبه ،ثم قد يصير المر في ذلك المباح بعينه على
العكس ،فيحبِّ الن ما يكره غداا وبالعكس ،فل يستتبِّ في قضية
حكم على الطلق«هل ). (2
إل أن حظوظ العباد قد تلتقي مع مقاصد الشريعة ،أي قد
تكون خادمة لها ،كالندفاع إلى العمل للتكسبِّ ،وكالنكاح ،وقضاء
الشهوات والستجابة للفطرةا ،فهل هذه المقاصد مقاصد شرعية.
أي قصد الحظوظ هل هو من مقاصد الشريعة؟ يقول» :المقاصد
الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعية ،فأما الصلية فهي
التي لحظ فيها للمكلف وهي الضروريات المعتبرةا في كل
ملة«هل) ، (3ثم قال» :وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها
حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جيبل عليه من نيل
323
الشهوات والستمتاع بالمباحات وسد الخلت«هل). (1
أما قوله إن الضروريات لحظ فيها للمكلف ،مع أنه يقرر في
مواضع عديدةا أن كل تكاليف الشريعة ترجع على النسان
بحظوظه العاجلة أو الجلة ،فمثلا يقول» :إن الضروريات
ضربان :أحدهما :ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود لقياما
النسان بمصالح نفسه وعياله في القتيات واتخاذ السكن والمسكن
واللباس وما يلحق بها من البيوع والجارات والنكحة وغيرها من
وجوه الكتساب التي تقوما بها الهياكل النسانية ،والثاني :ما
ليس فيه حظ عاجل مقصود كان من فروض العيان كالعبادات
البدنية والمالية من الطهارةا والصلةا والصياما والزكاةا والحج
وما أشبه ذلك ،أو من فروض الكفايات كالوليات العامة من
الخلفة والوزارةا والنقابة والعرافة والقضاء والصلوات والجهاد
والتعليم وغير ذلك من المور التي شرعت عامةا لمصالح
عامة«هل) ، (2ف إن قوله ذلك» :ل حظ فيها للمكلف«هل هو من جهة
كونها أوامر ونواه م يجبِّ اللتزاما بها بناءا على أصل المتثال
بغض النظر عما تؤول إليه من نتائج .نعم ،إنها تؤول إلى حظ
العبد .ولكنها من حيث كونها ضرورية ،أي مصالح ثابتة شرعاا،
يجبِّ اللتزاما بها لنها شرعية ،وليس لنها تؤول إلى الحظوظ،
فالحظوظ غير ثابتة ،ونظر العبد إلى حظوظه متقلبِّ ،أما هذه
الضروريات فهي ثابتة .يقول» :وإنما قلنا إنها لحظ فيها للعبد
من حيث هي ضرورية لنها قياما بمصالح عامة مطلقة ل تختص
)(3
بحال دون حال ول بصورةا دون صورةا .ول بوقت دون وقت«هل
ويقول» :ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلفَّ هذه
المور) (4لحجر عليه وحيل بينه وبين اختياره ،فمن هنا صار فيها
هذه المور هي ،حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال . )( 4
324
مسلوب الحظ محكوماا عليه في نفسه .وإن صار له فيها حظ فمن
جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الصلي«هل ). (1
إن الشاطبي يركز على إثبات أن المقاصد الضرورية هي
التي لحظ فيها للمكلف ،وذلك دفعاا لي اعتراض على رأيه
السالف في قصد المتثال ،ومفهومه للمصلحة والتعليل بها ،لذلك
يرشح في ثنايا أبحاثه فكرةا مهمة لمنهجه ،وتبرر قوله بأنه
لحظ للمكلف في الضروريات .وهي أن مقاصد الشريعة وإن
كانت ترجع على المكلف بإثبات حظوظه ،فإنها في طريق ذلك
ترجع بإثبات حظوظ غيره ،سواء كان له حظ في حظوظ غيره،
كالزوجة والبن أو غيرهم ممن يهوى استيفاءهم لغراضهم ،أو
لم يكن له حظ في حظوظهم كما في الجارات والبيوع وغيرها
من المعاملت ،فهو يستوفي حظه بالسكن وغيره يستوفي حظه
بملك الجرةا ،وإن لم يكن له هوى أو رغبة أصلا باستيفاء الخر
لحظه.
فهو يقول إ ن المقاصد الصلية تنقسم إلى عينية وكفائية،
وأما كونها عينية فعلى كل مكلف في نفسه ،فهو مأمور بحفظ
دينه ونفسه وعقله ونسله وماله ،وأما كونها كفائية» :فمن
حيث كانت منوطة بالغير أن يقو ما بها على العموما في جميع
المكلفين لتستقيم الحوال العامة التي ل تستقيم الخاصة إل
بها«هل) . (2ويقول بشأن العمال التي فيها استيفاء للحظوظ بطرق
مشروعة» :إن هذا الضرب قسمان :قسم يكون القياما بالمصالح
فيه بغير واسطة كقيامه بمصالح نفسه مباشرةا) (3وقسم يكون
القياما بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير كالقياما بوظائف
الزوجات والولد والكتساب بما للغير فيه مصلحة كالجارات
والكراء والتجارةا وسائر وجوه الصنائع والكتسابات ،فالجميع
325
يطلبِّ النسان بها حظه فيقوما بذلك حظ الغير خدمةا دائرةاا بين
الخلق كخدمة بعض أعضاء النسان بعضاا حتى تحصل المصلحة
للجميع«هل ) . (1أي أن الحظوظ التي تستوفى والمنافع التي تحصل
نتيجةا لحكاما الشريعة ،لها نتائج تدور بين الخلق ،أي أنها ذات
علقة بنظاما عاما في المجتمع وبشبكة من العلقات والمصالح
العامة ،وليس كل هذا ميدنريكي للناظر فإن أدركت منافع أو
حكم ،فثم غيرها لم ييدرك ،يقول» :إنا إذا فهمنا بالقتضاء أو
التخيير حكمةا مستقلة في شرع الحكم فل يلزما من ذلك أن ل
يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك،
وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دن ي وية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم
فاعتبرناها بحكم الذن الشرعي ولم نعلم حصر المصلحة والحكم
بمقتضاها في ذلك الذي ظهر ،وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ول
ظن ،لم يصح لنا القطع بأن ل مصلحة للحكم إل ما ظهر لنا ،إذ
هو قطع على غيبِّ بل دليل ،وذلك غير جائز ،فقد يقع لنا إمكان
حكمة أخرى شرع لها الحكم فصرنا من تلك الحقكيم واقفين مع
التعبد«هل) (2لذلك فإن النظر إلى الضروريات على أنها ل حظ فيها
للمكلف ،هو لكي ل يصير الحظ الذي قد تؤول إليه هو المقصود
الشرعي ،لن ذلك يضيع حظوظاا أخرى كثيرةا ،واتخاذ هذه
الحظوظ أو المنافع كمقاصد بحجة أن الشرع قد قصد إلى
استيفائها له آثاره على شبكة العلقات والمصالح العامة في
المجتمع إضافةا إلى ما قد يؤدي إليه ذلك من تضييع للوامر
والنواهي.
وكمثال على هذا حكمي قتل المرتد ،فقد قال النبي » : مإن
دل دينه فاقتلوه«) ، (3وأجمع الصحابة على هذا الحكم بَ ي
ما جاء في المر تــد ) ( 1378و قــال :ح ســن صــحيح والع مــل علــى هــذا.
326
وفعلوه .وهو من الضروريات في أصل حفظ الدين .وقد يذكر
الباحثون حكماا له ،كقولهم أن الردةا تضعف شوكة السلما،
وتشوش على ضعفاء المسلمين ،وتؤثر على غيرهم إذ تمنع أو
تؤخر دخولهم فيه وغير ذلك ،وقتل المرتد يمنع كل ذلك.
لذلك فهذا الحكم له منافع للمجتمع والفراد ،وقد وجد في
عصرنا من يقول بعدما قتل المرتد متذرعاا ب أن المخاطر قد زالت،
وأن السلما والمسلمين اليوما ل يؤثر عليهم مثل هذا العمل
فالفرق شاسع بين واقع المسلمين في المدينة وواقعهم اليوما.
و ب تطبيق معنى المقاصد الصلية عند الشاطبي ،فإنه يجبِّ أن ينظر
إلى حكم المرتد على أنه أصل ضروري معرىا عن الحظ ،فل
يرتفع ولو تبدلت الحوال ،وهذه الحكم المذكورةا ،والتي قد
تذكر ليست هي كل الحكم ،وفوق ذلك فإن عدما تطبيق النص
نقض للتعبد ،حتى ولو ثبتت بعض هذه الحكم ثبوتاا قطعياا
وصارت بذلك مصالح أي أصولا ،فإنها ل تلغي النص ،لن اللتزاما
به أصل أيضاا إذ هو يرجع إلى معنى قطعي وهو حفظ الدين.
ومن جهة أخرى فإن أي حكمة متوهمة تؤول إلى ترك معنى
النص ،تكون مردودةا ،لن معاني الحكاما ل تثبت إل بالستقراء ،
والستقراء هنا يفيد مناقضتها للصول ،فترد قطعاا ،وهذا جرياا
على منهج الشاطبي نفسه.
أما مراعاةا الحظوظ وهو ما سماه المقاصد التابعية ،فذلك أن
الحكاما الشرعية ترجع على المكلف بالحفظ والمن والرعاية
ونيل ما تقتضيه أوصافه الشهوانية ،وقد دل الستقراء على هذا
فصار نيل هذه الحظوظ مقصوداا شرعياا ،فيصح للمكلف أن يقصد
بأعماله إشباع هذه الحاجات ونيل هذه الشهوات ،وأن تكون أعماله
ب قصد نيل الحظوظ .إل أنه مع ذلك سماها مقاصد تابعية في
327
مقابلة المقاصد الصلية ،ومراده بذلك أنه يصح له أن يقصدها،
ولكن فقط من تحت الحد المشروع أي ل يصح أن يقوما في سبيل
ذلك إل بالعمال المأذون بها شرعاا .ففي هذه الحالة يكون قصد
الحظوظ مقوياا لفكرةا التعبد ،وقد تقدما هذا في مقدمته السابعة
حيث قال» :كل علم شرعي فطلبِّ الشارع له إنما يكون من حيث
هو وسيلة إلى التعبد به ل تعالى ل من جهة أخرى ،فإن ظهر فيه
اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني ل بالقصد الول«هل)، (1
وذكر في هذه المقدمة أدلته ومنها» :أن الشرع إنما جاء بالتعبد
وهو المقصود من بعثة ال أ نبياء عليهم السلما«هل) . (2وقال» :كل
تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادماا للقصد الصلي أو ل .فإن
كان خادماا له ،فالقصد إليه ابتداء صحيح ...وإن كان غير خادما
له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح«هل). ( 3
فالمقاصد التابعة هي مقاصد شرعية وهي في الوقت نفس ه
يقصدها المكلف لنها تنسجم مع فطرته وأوصافه ،إل أنه ل يصح
القصد إليها إذا كان ذلك بواسطة انتهاك الحكاما أو النصوص
الشرعية .قال بشأن الذين يأخذون حظوظهم من غير خض ـ وع
للمر والنهي» :تحرزاا ممن يأخذها غير ملحظم للمر والنهي،
وهذا هو الحظ المذموما ،إذ لم يقف دون ما حيديي له بل تجرأ
كالبهيمة ل تعرفَّ غير المشي في شهواتها«هل ). (4
وإذا كان من طبع النسان أن يقصد حظوظه ،فإن من هذه
الحظوظ ما هو شرعي أي من المقاصد التابعة ،ومنها ما هو غير
ذلك .وقد يتخذ المكلف لمقصده طريقاا شرعياا أو غير شرعي.
وكذلك قد يقوما المكلف بالعمل بقصد الحظ وقد يقوما به بقصد
المتثال ،أو بالقصدين معاا.
الشاطبي ،الموافقات. 1/30 . )( 1
328
هذه الحـالت كلها سـيتم بحثهـا بالتفصـيل -إن شـاء ال -
في الفصل التالي ،فصل مقاصد المكلف.
329
المبحث الثالث
بين الشـريعة وأمإقاصـدها
أوأ بين التعبد وأاتباع المعاني
330
الشريعة وثباتها .فهي عامة في جميع المكلفين ل يخرج عنها
مكلف البتة ،وعامة في جميع الفعال ،فما من فعلم إل وتجد
الشريعة حاكمةا عليه .ول يخرج مكلف في فعل ما عن الحكم
العاما إل بنص شرعي خاص ل يتعدى حكمه المكلف ،ول يقدح
ذلك بالصل وهو عموما الشريعة.
ومما يقتضيه عموما الشريعة ثبات أحكامها في كل زمان
ومكان وإل لما كانت عامةا في المكلفين فالتنزيل قد توقف بعد
موت النبي ، فل نسخ إذاا ،ول ينقلبِّ الحسن قبيحاا ول القبيح
حسناا.
وإذا كانت بعض الحكاما تتغير ،فذلك تبعاا لتغير مناطاتها،
كأن يكون الشارع قد ربط الحكم بعلة فيتغير الحكم تبعاا لوجود
العلة أو عدمها .أو يكون قد رتبِّ الحكاما على أوصافَّ معينة،
فيتغير الحكم بحسبِّ الوصف ،كالبلوغِّ مثلا في التكليف ،قد
يختلف من مكان إلى مكان أو بين شخص وشخص .فيقع التكليف
على شخص في الحادية عشرةا مثلا وعلى غيره في الخامسة
عشرةا .فالتغير بهذا المعنى ليس تغيراا في أصل الخطاب ،بل هو
ثبات إذ أ ن شرط البلوغِّ في التكليف ثابت ل يتغير.
وكذلك الحكاما التي تؤثر فيها نية المكلف أو مقصده،
كالسجود ل تعالى أو لصنم أو كالنطق بالشهادتين إيماناا أو
نفاقاا يعتمد ذلك على نية الفاعل ،فالنية أو المقصد هنا هو من
مناط الحكم ،أي هو جزء من الفعل ،والحكم هو حكم لفعل يتغير
بتغيره حسبِّ الخطاب.
ومثل ذلك الحكاما التي جعلت اللفاظ أسباباا لها مثل النكاح
والطلق والعتاق ،فإن هذه الفعال تقع بوقوع اللفاظ الدالة
عليها ،وقد تتغير دللة اللفاظ ،فيتعارفَّ الناس على ألفاظم
لمعانم أو على معانم للفاظم ،ويختلف عرفَّ جماعة عن جماعة،
فيتغير الحكم المبني على تلك اللفاظ تبعاا لذلك .ول يؤثر
331
هذا في كون اللفاظ أسباباا ،فإن اللفاظ إنما وضعت لجل
معانيها ،فإذا تغيرت مدلولت اللفاظ تكون العبرةا بالمدلولت أو
المعاني واللفاظ الدالة عليها.
وكذلك الحكاما التي ربطها الشارع بالعرفَّ ،والمقصود
بالعرفَّ هنا الصطلحات أو المقادير المتعارفَّ عليها ،كقولك:
هذه السلعة بألف .هل هي ألف ليرةا أو دولر أو دينار .أو بدينار،
هل هو دينار عراقي أو أردني أو ذهبي .ومثل معاني اللفاظ
المستعملة في العقود والتصرفات .ومثل تقدير النفقة أو تقدير
الجرةا أو المهر أو الثمن .فهذه الشياء قد تتغير بح س بِّ المكنة
أو الزمنة أو الشخاص أو الحوال ،وت ن بني على هذه الصطلحات
والتقديرات أحكاما .فهذا ،وإن قيل إنه تغير في الحكاما ،فهو ليس
تغيراا بحسبِّ الزمان أو المكان ،وإنما هو تغير في الواقع
والحوال ،فإذا فرض الشرع للمطلقة مثلا نفقة المثل ،فإن الذي
يتغير هو مقدار النفقة ،وهو يعتمد على حال المطلقة ،وهذا ليس
تغيراا في الحكم ،إذ إن الحكم هو أن لها نفقة مثلها وهذا ثابت.
وعلى سبيل المثال أيضاا :حرمة الميتة في الحوال العادية،
وإباحتها في حالة الضطرار ،ليس تغيرا في الحكاما إذ حرمتها
ثابتة في تلك الحالة ،وإباحتها ثابتة في الحالة الخرى.
وكذلك يقال في الخمر :حراما ،فإذا انقلبِّ خلا حل ،فهذا ليس
تغيراا أو انقلباا في الحكاما ،بل حرمة الخمر ثابتة وحل الخل
ثابت ،وعلى ذلك فالحكاما الشرعية ثابتة دائمية.
وبناءا عليه ،ل يصح القول :ل ينكر تغير الحكاما بتغير
الزمان والمكان) . (1و إذا قيد التغير بالمعاني المذكورةا أعله،
أنظر مثلا :نظرية المقاصد عند الماما ال شــاطبي للـدكتور أح مــد )( 1
الريسون ي .ص ، 288 :حيث يقول » :ولكن أيضاي ل يمكن إنكار أن هنــاك
مصالح كثيرةا -ومفاسد -تتأثر بــاختلفَّ ال حــوال وال ظــروفَّ ،فتتغ يــر
أوضاعها وسلم أولوياتها ،ويتغير نفعها وضررها ...مما يســتدعي نظــراا
جديداا وتقديراا مناسباا ،وكل هذا يؤثر على الحكاما تأثيراا ما« .ويقول:
332
يصبح حينئذم راجعاا إلى مناطات الحكاما أي إلى تغير في الوقائع
أو الحوال التي هي جزء من الفعل الذي جاء الحكم له .
إن تركيز الشاطبي على مسألة عموما الشريعة وثباتها وذكره
لهذا المر ضمن مقصد التعبد وال ا متثال يؤكد مفهومه للمصالح
والمفاسد ويرد القول بتطور الشريعة ومرونتها وجواز تغيير
أحكامها ،يقول :إن من خواص الشريعة »العموما والطراد ،فلذلك
جرت الحكاما الشرعية في أفعال المكلفين على الطلق ،وإن
كانت آحادها الخاصة ل تتناهى ،فل عمل يفرض ول حركة ول
سكون يدييعي إل والشريعة عليه حاكمة إفراداا وتركيباا ،وهو
معنى كونها عامة«هل ) . (1ومن خواصها أيضاا »الثبوت من غير
زوال فلذلك ل تجد فيها بعد كمالها نسخاا ول تخصيصاا
لعمومها ،ول تقييداا لطلقها ،ول رفعاا لحكم من أحكامها ،ل
بحسبِّ عموما المكلفين ،ول بحسبِّ خصوص بعضهم .ول بحسبِّ
حال دون حال ،بل ما أثبت سبباا فهو سببِّ أبداا ل يرتفع ،وما
كان شرطاا فهو أبداا شرط ،وما كان واجباا فهو واجبِّ أبداا أو
مندوباا فمندوب وهكذا جميع الحكاما فل زوال لها ول تبدل ،ولو
فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك«هل). (2
ويقول» :إذا ثبت أن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح
الخروية والدنيوية وذلك على وجه ل يختل لها به نظاما ل
بحسبِّ الكل ول بحسبِّ الجزء ،وسواء في ذلك ما كان من قبيل
الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فإنها لو كانت موضوعةا
بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تيخليي أحكامها ،لم يكن التشريع
» وعلى كل حال فلست أريد الن ال خــوض فــي مو ضــوع تغ يــر الم صــالح،
وتغير الحكاما بتغير الزمان وال حــوال ،وإن مــا أردت ف قــط أن أنبــه علــى
مجال واسع من المجالت التي تحتاج إلى نوع من تحسين العقل وتقــبيحه
من خلل تقديره للمصالح والمفاسد المتغيره والمتجددةا وما تتطلبه مــن
أحكاما مناسبة« ص. 288 :
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/44 . 1
333
موضوعاا لها ،إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها
مفاسد ،لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الطلق ،فل بد
أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياا وكلياا وعاماا في جميع
أنواع التكليف والمكلفين وجميع الحوال ،وكذلك وجدنا المر
فيها والحمد ل«هل ). (1
وعلى ذلك فالمصالح والمفاسد على -منهج الشاطبي -ثابتة
ل تتغير ،وهي ما جعله الشارع عللا للشريعة .ومفهوما المصالح
والمفاسد ليس هو المنافع والمضار ،إذ هذه الخيرةا إضافية غير
ثابتة .والحكاما غير معللة بها .يقول» :المنافع والمضار عامتها
أن تكون إضافية ل حقيقية ،ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو
مضار في حال دون حال ،وبالنسبة إلى شخص دون شخص أو وقت
دون وقت«هل). (2
ويقول» :ل يستمر إطلق القول بأن الصل في المنافع الذن
وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي ،إذ ل يكاد يوجد
انتفاع حقيقي ول ضرر حقيقي) ، (3وإنما عامتها أن تكون إضافية،
والمصالح والمفاسد إذا ك ا نت راجعة إلى خطاب الشارع وقد
علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسبِّ الحوال والشخاص والوقات،
حتى يكون النتفاع المعين مأذوناا فيه في وقت أو حال أو بحسبِّ
شخص وغير مأذون فيه إذا كان على غير ذلك فكيف يسوغِّ
إطلق هذه العبارةا إن الصل في المنافع الذن وفي المضار المنع«هل
). (4
أو في وقت آخر أو لشخص غيره .وهذا بخلفَّ المصلحة التي تثبت
بالشرع ،فهي حقيقية ،فتكون مصلحة لكل شخص في كل حالم وفي كل
وقت .وعلى ذلك فل يصح أن يحل محل كلمة انتفاع حقيقي أو ضرر
حقيقي كلمة انتفاع محض أو ضرر محض.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/27 ، 4
334
ومعنى قوله إ ن الشريعة تتوجه بحسبِّ الحوال والشخاص
والوقات هو أ ن أحكاما الشريعة بعمومها وكليتها قد شملت كل
الفعال لكل المكلفين في كل وقت ،فمثلا :بينت الشريعة أحكاما
الميتة والدما ولحم الخنزير في الحوال العادية ،وبينتها أيضاا في
حال الضرورةا .وبينت -مثلا -حكم الجهاد على المكلفين في حال
القدرةا ،وبينته أيضاا في حال العجز أو المرض أو العرج.
العرف وأمإدى اعتباره عند الشاطبي:
العرفَّ ليس أصلا أو مصدراا للتش ـ ري ـ ع ،بل إن الش ـ ريع ـ ة
حاكم ـ ة على العرافَّ ،فبما أن الش ـ ريع ـ ة عام ـ ة وكلي ـ ة فق ـ د
أعط ـ ت لكل فع ـ ل حكماا .وقد ينشأ م ن بين الفعال المباحة أفعال
معينة يعتادها الناس ،أو أفعال يهجرها الناس ،أو أفعال تختص
بمناسبات أو أوقات معينة ،فيصبح ترك الفعل المعتاد أو القياما
بالفعل المهجور أو القياما بالفعال التي اختصت بمناسبات معينة،
لفتاا للنظر ومستدعياا للتفسيرات .أو يصبح هذا الفعل بمثابة
الصطلح أو الكناية عن معنى معين او قصد معين.
مثال ذلك :اللباس البيض الكامل أو اللباس السود الكامل
للمرأةا ،فالول صار في العرفَّ الحالي دالا على الزفافَّ ،والثاني
على الحداد ،وهناك أ لبسة معينة صارت في العرفَّ -العاما أو
الخاص -تدل على مهنة لبسها.
مثال آخر :أشكال معينة من اللباس أو من أغطية الرؤوس أو
الحذية ،هي في الصل مباحة للرجال والنساء .ولكن اختصت -في
العرفَّ -أشكال معينة منها بالرجال ،وأخرى بالنساء .فصار في
عرفَّ الناس ،لبس النساء لما اختص بالرجال تشبهاا منهن بهم أو
قلة حياء ودين .ولبس الرجال لما اختص بالنساء تشبهاا منهم
بهن وقلة حياء ودين.
مثال آخر :عورةا الرجل هي ما بين السرةا والركبة ،والصل أن
335
إظهار ما سوى ذلك أو ستره مباح ،فإذا ا عتاد الناس على ستر ما
هو أكثر من العورةا ،صار خروج الرجل إلى الحياةا العامة ساتراا
ما هو عورةا فقط مخالفاا للعرفَّ ودالا على قلة حياء أو نقصم
في المروءةا أو غير ذلك.
ومثل ذلك :كشف الرجل رأسه جائز وكذلك تغطيته ،وقد
يتكون لدى بعض الناس عرفَّ في ذلك.
هذه أمثلة لما يقصد بالعرفَّ .وقد يستعمل لفظ العرفَّ بمعنى
ما يتعارفَّ عليه الناس في إطلق بعض اللفاظ على بعض المعاني
بحيث تصبح دللة اللفظ على المعنى من قبيل الحقيقة العرفية،
وهذا من قبيل الصطلح .وقد يستعمل بمعنى ما يتعارفَّ عليه
الناس من تقديرات للجور والثمان والمهور وقيم السلع...
والمقصود هنا العرفَّ بالمعنى الذي ورد في المثلة المذكورةا
أعله .وهذا ليس مصدراا للحكاما ،وإنما هو يحتاج إلى حكم
الشريعة ،فإن الشريعة جاءت لتحكم على أفعال العباد وعلى
عاداتهم وأعرافهم ،ولذلك فإذا صار في العرفَّ عدما استقباح أن
تكشف المرأةا عنقها أو شعرها أو ساقيها ،فهذا ل قيمة له شرعاا
وتظل هذه الشياء عورةا وكشفها قبيح.
ولذلك فالعرفَّ الذي يجبِّ اعتباره هو ما دل الشرع على أنه
مأذون فيه ،ثم صار عند الناس أمارةاا أو ذا دللةم على شيء آخر
كما في المثلة أعله .وهذا ل يغير الحكاما .فمثلا إذا صار لفعل
معين دللة على أمر قبيح شرعاا ،يصبح هذا الفعل قبيحاا بدللة
الشرع .فمثلا خروج الرجل ساتراا العورةا فقط كاشفاا ما سوى
ذلك ،إذا صار في عرفَّ الناس قبيحاا ،فإن حرمته في الشرع ل
تعني أن العورةا قد تغيرت ،وإنما الحرمة هي من جهة مناقضة
الحياء .فالشرع قد أمر بالحياء .قال النبي » : وأالحياء شعبة
336
مإن اليمان«) (1ول شك أن مثل هذا الفعل فيه مناقضة للحياء.
أما إذا كان الفعل غير مأذونم فيه فل يصح أن يصبح عرفاا
مقبولا ،ومخالفة مثل هذا العرفَّ أمر مطلوب ش ـ رعاا .هذا هو
الع ـ رفَّ وم ـ دى اعتباره عند الش ـ اطبي .وفيما يلي بعض نصوص ـ ه
توثيقاا لما ذكرناه.
يقول» :العوائد المستمرةا ضربان :أحدهما :العوائد الشرعية
التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ،ومعنى ذلك أن يكون الشرع
أمر بها إيجاباا أو ندباا أو نهى عنها كراهة أو تحريماا أو أذن
فيها فعلا أو تركاا .والضرب الثاني :هي العوائد الجارية بين
الخلق بما ليس في نفي ه ول إثباته دليل شرعي .فأما الول فثابت
أبداا كسائر المور الشرعية ...إما حسنة عند الشارع أو قبيحة،
فإنها من جملة المور الداخلة تحت أحكاما الشرع فل تبديل لها
وإن اختلفت آراء المكلفين فيها ،فل يصح أن ينقلبِّ الحسن فيها
قبيحاا ول القبيح حسناا حتى يقال مثلا ...إن كشف العورةا الن
ليس بعيبِّ ول قبيح فليجزه أو غير ذلك ،إذ لو صح مثل هذا
لكان نسخاا للحكاما المستقرةا المستمرةا ،والنسخ بعد موت النبي
باطل فرفع العوائد الشرعية باطل«هل) (2يتابع الشاطبي» :وأما
الثاني :فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل ،ومع ذلك فهي أسباب
لحكاما تترتبِّ عليها ،فالثابتة كوجود شهوةا الطعاما والشراب
والوقاع ...وإذا كانت أسباباا لمسببات حكم بها الشارع فل إشكال
في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائماا .والمتبدلة:
منها ما يكون متبدلا في العادةا من حسن إلى قبح وبالعكس مثل
كشف الرأس فإنه يختلف بحسبِّ البقاع في الواقع ،فهو لذوي
المروءات قبيح في البلد المشرقية غير قبيح في البلد المغربية،
337
فالحكم الشرعي يختلف باختلفَّ ذلك ،فيكون عند أهل المشرق
قادحاا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح .ومنها :ما يختلف
في التعبير عن المقاصد فتنصرفَّ العبارةا عن معنى إلى عبارةا
آخرى ...كاختلفَّ العبارات بحسبِّ اصطلح أرباب الصنائع ...أو
بالنسبة إلى غلبة الستعمال في بعض المعاني ،حتى صار ذلك
اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما وقد كان يفهم منه قبل
ذلك شيء آخر ،أو كان مشتركاا فاختص ...وهذا يجري كثيراا
في اليمان والعقود والطلق كنايةا وتصريحاا ...ومنها ما
يختلف بحسبِّ أمورم خارجة عن المكلف كالبلوغِّ فإنه يعتبر فيه
عوائد الناس من الحتلما أو الحيض أو بلوغِّ سن من يحتلم أو من
تحيض«هل ). (1
ثم يؤكد الشاطبي على ثبات الحكاما فيقول» :واعلم أن ما
جرى ذكره هنا من اختلفَّ الحكاما عند اختلفَّ العوائد فليس في
الحقيقة باختلفَّ في أصل الخطاب ،لن الشرع موضوع على أنه
دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية ،والتكليف كذلك
لم يحتج في الشرع إلى مزيد ،وإنما معنى الختلفَّ أن العوائد إذا
اختلفت رجعت كل عادةام إلى أصل شرعي ييحكم به عليها ،كما
في البلوغِّ مثلا فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان
قبل البلوغِّ ،فإذا بلغ وقع عليه التكليف ...وهكذا س ـ ائر المثلة
فالحكاما ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلق وال أعلم«هل). (2
التكليف بالحكام ليس تكليفا ا بمقاصدها:
يقول الشاطبي إن الحكم الشرعي متعلق بفعل العبد ،والفعل
سببِّ لمسببِّ ،ولما كانت المسببات ليست من أفعال العبد ،وليست
في مقدوره ،لم يقع التكليف عليها .فإذا جاء المر بفعل فهو ليس
أمراا بنتيجته.
338
ولمـا كـان إيـقـاع السـبـبِّ بمـنزلة إيـقـاع المـسـبـبِّ في
الشـرعـيـات وفي العقليات ،كانت مشروعية السـبـبِّ دالـة على
مشـروعـيـة المـسـببِّ .والنهي عن السببِّ دالا على عدما مشروعية
مسبييبه .وبهذا يكون طلبِّ الفعل دالا على أن مآله مصلحة ،والنهي
عن الفعل دالا على أن مآله مفسدةا ،إل أن التكليف يقع على السببِّ
ول يقع على المسببِّ .والمطلوب شـرعـاا هـو القـيـاما بالفعل أو
ترك الفعل ،وليس قصد تحصيل المصلحة أو درء المفسدةا ،لن
التحصيل أو الدرء هو مسببِّ ،وليس إلى المكلف إيقاعه أو رفعه من
حيث هو مسببِّ ،والتكليف به تكليف بما ليس في الوسع .وبإيجاز:
المر بالسببِّ يدل على مشـروعـيـة مسببه ول يدل على المر
بالمسببِّ .وإن قيل :قد تتعدد مسببات السببِّ ،فينتج عن الفعل
المطلوب أو المأذون به ما هو مقصود الحصول شرعاا ،وينتج عنه
أيضاا ما هو غير مقصود أو ما هو مطلوب الرفع .وكذلك يقال
في حالة النهي عن الفعل ،وهذا بناءا على أن المصالح والمفاسد
الدنيوية ل تيتيميحييض ،يجيبِّ الشاطبي بأن مشروعية الفعل تدل
على مشروعية مسببه ،ولكنها ل تستلزما مشروعية كل ما يتسببِّ أو
ينتج عنه .فقد ينتج عن الفعل المطلوب ما هو مطلوب الرفع،
وينعدما بالكف عن المنهي عنه ما هو مطلوب أو مشروع الوجود.
يقول» :مشروعية السباب ل تستلزما مشروعية المسببات وإن صح
التلزما بينهما عادةاا ،ومعنى ذلك أن السباب إذا تعلق بها حكم
شرعي من إباحة أو منع أو غيرهما من أحكاما التكليف فل يلزما أن
تتعلق الحكاما بمسبباتها فإذا أمر بالسببِّ لم يستلزما المر بالمسببِّ،
وإذا نهى عنه لم يستلزما النهي عن المسببِّ وإذا خييقر فيه لم يلزما
أن يخير في مسببه«هل). (1
ثم قال» :والدليل على ذلك ما ثبت في الكلما من أن الذي
للمكلف تعاطي السباب ،وإنما المسببات من فعل ال تعالى وحكمه،
339
ل كسبِّ فيه للمكلف«هل). (1
ثم قال» :واستقراء هذا المعنى في الشريعة مقطوع به ،وإذا
كان كذلك دخلت السباب المكلف بها في مقتضى هذا العموما
الذي دل عليه العقل والسمع ،فصارت السباب هي التي تعلقت بها
مكاسبِّ العباد دون المسببات .فإذاا ل يتعلق التكليف وخطابه إل
بمكتسبِّ ،فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لنها ليست في
مقدورهم ،ولو تعلق بها لكان تكليفاا بما ل يطاق وهو غير
واقع«هل). (2
وعلى ذلك فالمقصود الول من المر والنهي هو إيقاع
المأمور به وترك المنهي عنه بغض النظر عن المسببات والمآلت،
لنها ليست بيد المكلف وإنما هي بيد الشارع .فعلى المكلف عند
القياما بالعمل أن ينظر في حكمه ويلتزما ذلك الحكم ،ل أن ينظر
في مسببه إن كان مصلحة أو مفسدةا ) . (3يقول» :ل يلزما في تعاطي
السباب من جهة المكلف اللتفات إلى المسببات ول القصد إليها ،بل
المقصود منه الجريان تحت الحكاما الموضوعة ل غير ،أسباباا
كانت أو غير أسباب ،معللةا كانت أو غير معللة ،والدليل على
ذلك ما تقدما من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبيقبِّ ،وأنها
ليست من مقدور المكلف ،فإذا لم تكن كذلك فمراعاته ما هو راجع
لكسبه هو اللزما ،وما سواه غير لزما وهو المطلوب) (4وأيضاا فإن
من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ ،وإلى جهته ميل،
فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلبِّ)« (5هل). (6
) ( النظر في مآلت الفعال ومسبباتها واجبِّ على المجتهد الناظر لمعرفة 3
حكم الفعل ،وليس على من يتعاطى الحكم ،وسيأتي تفصيل لهذا المر عند
عرض قاعدةا مآلت الفعال.
) ( أي :وهو المطلوب إثباته. 4
340
إذاا ،المسببات مقصودةا بأسبابها ،وهي مقصودةا عند من وضع
السباب أسباباا ،فهي مقصودةا للشارع وليس للمكلف ،وتحصيلها
يكون بهذه السباب ،فعلى المكلف اللتزاما بالسباب أي بالحكاما
الشرعية ،وليس عليه النظر أو مراعاةا المسببات وهي المصالح
والمفاسد.
قال» :وضع السباب يستلزما قصد الواضع إلى المسبييبات
أعني الشارع«هل) . (1ثم قال» :لزما من القصد إلى وضعها أسباباا
القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات«هل) . (2ثم قال» :الحكاما
الشرعية إنما شرعت لجلبِّ المصالح أو درء المفاسد وهي مسبباتها
قطعاا«هل) . ( 3ثم قال» :إن المسببات لو لم تقصد بالسباب لم يكن
وضعها على أنها أسباب لكنها فرضت كذلك ،فهي ول بد موضوعة
على أنها أسباب ،ول تكون أسباباا إل لمسببات ،فواضع السباب قاصد
لوقوع المسببات من جهتها) ، ( 4وإذا ثبت هذا وكانت السباب مقصودةا
الوضع للشارع لزما أن تكون المسببات كذلك«هل ). ( 5
إذاا ،مقصود الشارع بالشريعة جلبِّ المصالح ودرء المفاسد،
وهذا يحصل بما شرعه ،وليس على المكلف النظر إلى المصالح
والمفاسد المقصودةا ،وإنما عليه اللتزاما بما شيرقعي له .ولكن ،هل
يصح له أن ينظر إلى النتائج ،وان يسعى في تحصيلها؟ يقول
الشاطبي» :ليس في الشرع دليل ناصيي على طلبِّ القصد إلى
المسبييبِّ«هل ) . (6وقال» :فإن قيل لك :إن الشارع أمر ونهى لجل
المصالح .قلتي نعم ،وذلك إلى ال ل إلييي ،فإن الذي إلييي التسببِّ،
وحصول المسببات ليس إلييي ،فأصرفَّ قصدي إلى ما جيعقلي إلييي
) ( من جهتها ،أي :ل يصح للمكلف أن يقصد ه إل مــن خلل الفعــل الــذي 4
341
وأيكقلي ما ليس إلييي إلى من هو له«هل ). (1
ثم قال» :إذا ثبـت انه ل يلـزما القصـد إلى المسـببِّ فللمكلف
ترك القصـد إليه بإطـلق وله القصد إليه«هل ). (2
أما ترك القصد إلى المسببِّ فقد مر الحديث عنه .وأما جــواز
القصد إليه ،فليس معناه تجويز الفعل أو تحريمه بناءا على نتيجته
المتوخاةا مصلحةا كانت أو مفسدةا ،حيث يصار إلـى تجـويز بعـض
المحرمات ،أو تحريم بعض المباحــات أو المنــدوبات أو الواجبــات
بناءا على ما يتسببِّ عنها من نتائج .وإنما العكس هو المقصود ،وهو
أنه يصح للمكلف أن ينظر في المسببات إذا كان ذ لــك م مــا ي قــوي
التمسك بالسببِّ ويدفع إلى مزيد مــن ال لــتزاما بــه ،أ مــا إذا كــان
يضعف التمسك بالسببِّ أي بالحكم الشرعي فهذا نفسه مفســدةا فل
يصح .ويقدما الشاطبي بضعة أمثلة على ذلك .وذلك كمن يكتسبِّ
ليقوما على نفسه وأهله ،فإن النظر في المسببات قد يدفعه إلى مزيد
من العمل لجل مزيد من الكسبِّ ورعاية أفضل لهله .وكمن يطيع
ال ليرضيه ويدخل جنته ،فإن النظر في هــذه الغايــات يــدفعه إلــى
المزيد من التضحية والبذل والصبر والبر والجهاد واللتزاما ،فهــو
يع ود علـى السـببِّ بالتقوي ة .فههن ا يص ح للمكل ف النظـر إلـى
المسببات .يقول» :فهذا القصد إذا قارن التسببِّ صحيح لنه التفات
إلى العادات الجارية .وقد قال تعالى [ :
« (3) ] هل) . (4ثم قال» :فإنما محصول هذا أن يبتغي مــا يهيــئ
ال له بهذا السببِّ فهو راجع إلى العتماد على ال واللجأ إليــه«هل). (5
ثم قال» :وإذا كان كذلك فاللتفات إلى المسببات والقصد إليهــا
342
معتبر في العاديات ول سيما في المجتهد«هل) (1وقال» :ضــابطه أنــه
إن كان اللتفات إلى المسبييبِّ من شانه التقوية للسببِّ والتكملة له
والتحريض على المبالغة في إكماله فهو الذي يجلبِّ المصلحة وإن
كان مــن شــأنه أن ي كــريي علــى ال ســببِّ بالب طــال أو بال ضــعافَّ أو
بالتهاون فهو الذي يجلبِّ المفسدةا«هل). (2
وخلص إلى أنيي» :تارك النظر في المسببات أعلى مرتبةا
وأزكى عملا إذا كان عاملا في العبادات ،وأوفر أجراا في
العادات«هل ). (3
وبناء على أن المصالح والمفاسد ل تتمحض من حيث الوجود،
فالسببِّ يؤدي إلى مسبباته المقصودةا ،ويرافق ذلك ما ليس
مقصوداا للشارع ،بل ما هو مقصود الرفع .يقول» :مثال ذلك:
المر بالمعروفَّ والنهي المنكر فإنه مشروع لنه سببِّ لقامة
الدين وإظهار شعائر السلما وإخماد الباطل على أي وجه كان،
وليس بسببِّ في الوضع الشرعي لتلفَّ مال أو نفس وإن أدى إلى
ذلك في الطريق ...وإقامة الحدود والقصاص مشروع لمصلحة
الزجر عن الفساد وإن أدى إلى إتلفَّ النفوس وإهراق الدماء وهو
في نفسه مفسدةا ...وأما في السباب المنوعة كالنكحة الفاسدةا
ممنوعة وإن أدت إلى إلحاق الولد وثبوت الميراثا وغير ذلك من
الحكاما وهي مصالح«هل). (4
ثم قال» :ل سببِّ مشروعاا إل وفيه مصلحة لجلها شرع فإن
رأيته وقد انبنى عليه مفسدةا فاعلم أنها ليست بناشئة عن السببِّ
المشروع .وأيضاا فل سببِّ ممنوعاا إل وفيه مفسدةا لجلها منع
فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر فاعلم أنها ليست
343
بناشئة عن السببِّ الممنوع ،وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له
في الشرع«هل). ( 1
وهكذا فليس كل ما ينبني على السببِّ أو يلحظ فيه من
أوصافَّ أو حكم أو معاني مما يرتضيه العقلء يأخذ حكم المسببِّ.
وهذا يؤدي إلى تساؤل حول كيفية التمييز بين هذه النتائج
لمعرفة ما هو مقصود شرعاا فيكون مقصداا وغاية وما هو ليس
كذلك فيطرح ،والجابة تكمن في منهج الستقراء لهذه الوصافَّ
أو المعاني.
فإذا كان ثمة معنى أو نتيجة متخيلة مظنونة في حكم أو
أحكاما قليلة ،فهذا معنى أو مسببِّ غير مقطوع بكونه مقصوداا
للشارع فل يعتبر وإن كان مسبباا عن هذه الحكاما فل تعد هذه
الحكاما سبباا شرعياا له .أما إن وجدت هذه النتيجة في أحكاما
كثيرةا تفوق الحصر ،فحينئذ م يكون قد توفر لهذه النتيجة أو
المعنى التواتري الذي قال عنه الشاطبي إنه يشبه التواتر المعنوي.
وحينئذ م تكون هذه النتيجة مسبباا وتكون الحكاما التي تعاضدت
على هذا المعنى سبباا شرعياا .أي أنها مشروعة لهذا المسببِّ.
وبهذا يحصل التمييز بين النتائج أو المسببات الشرعية وغير
الشرعية أو التي هي مقصودةا للشارع بالحكم والتي ل يثبت كونها
مقصودةا للشارع.
وإذا كان حكم شرع لمصالح معينة ثبتت بالستقراء ،وينتج
عن هذا الحكم مفسدةا فل يعني كون تلك المفسدةا مسبباا للحكم
أنها مقصودةا للشارع بالحكم .وإنما يكون ذلك لن المصالح
والمفاسد ل تتمحض .وتعرفَّ تلك النتيجة بأنها مفسدةا من
استقرائها في أحكاما أخرى كثيرةا ،حيث يتوفر لها الستقراء
المفيد للقطع بأن الشارع قصد رفعها .فيكون قصد الشارع إلى
344
رفعها أصلا قطعياا ،ووجود الوهم أو الظن في نتائج أو مآلت أو
مسببات بأنها مقصودةا للشارع هو احتمال أو ظن ل قيمة له شرعاا.
إذ المقاصد أو المصالح والمفاسد هي كليات أو أصول كلية ل
تثبت كذلك إل بالقطع المستفاد من الستقراء.
فالمسـببات الشـرعية أي المقصـودةا للشـارع هي ما ثبت
كذلك على سـبيل القطـع وقد سبق بيان هذا المر .قال:
»الحكاما الشـرعية إنما شـرعت لجلبِّ المصـالح ودرء المفاسـد
وهي مسبباتها قطعاا«هل). (1
ويقرر الشاطبي أن» :السباب الممنوعة أسباب للمفاسد ل
للمصالح ،كما أن السباب المشروعة أسباب للمصالح ل
للمفاسد«هل ) . (2ثم يقول» :والمقصود أن السباب المشروعة ل
تكون أسباباا للمفاسد ،والسباب الممنوعة ل تكون أسباباا للمصالح
إذ ل يصح ذلك بحال«هل). (3
وما يعنيه هذا القول أن المسببِّ الذي يثبت كونه مقصود
الوقوع بالسببِّ المشروع يكون مصلحةا ول يكون مفسدةاا بغض
النظر عن ملءمته للفطرةا والحس والطبع .وما يثبت كونه
مقصود الرفع بالسببِّ الممنوع يكون مفسدةاا ول يكون مصلحة،
ولو كان مما يميل إليه الطبع بحكم الفطرةا أو العادةا ،أو كان مما
يميل إليه العقلء والحكماء.
التلزم الشرعي بين السبب وأمإسيببه:
ل يصح أن ييقصيد بالحكم الشرعي غير ما قصد الشارع به،
ول يصح تحصيل أو قصد ما قصده الشارع بغير الحكم الذي شيرقع
لجله .يقول الشاطبي» :السباب من حيث هي أسباب شرعية
لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها وهي المصالح المجتلبة أو
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/135 ، 1
345
المفاسد المستدفعة«هل) . (1ويقول» :والمسببات بالنظر إلى أسبابها
ضربان :أحدهما :ما شرعت السباب لجلها إما بالقصد الول وهي
متعلق المقاصد الصلية أو المقاصد اليول أيضاا ،وأما بالقصد
الثاني وهي متعلق المقاصد التابعة ...والثاني :ما سوى ذلك مما
ييعلم أو ييظن أن السباب لم تشرع لها ،أو ل يعلم ول يظن أنها
شرعت لها أو لم تشرع ،فتجيء القساما ثلثةا:
أحدها :ما ييعلمي أو ييظن أن السببِّ شرع لجله فيتيسيبييبِّي
الميتيسيبيقبِّق فيه صحيح لنه أتى المر من بابه وتوسل إليه بما أذن
الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضاا في التوسل إليه .لنا فرضنا
أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا ،ثم يتبعه اتخاذ السكن
ومصاهرةا أهل المرأةا لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك ،أو الخدمة
أو القياما على مصالحه أو التمتع بما أحل ال من النساء ،أو التجمل
بمال المرأةا أو الرغبة في جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما
حرما ال ،أو نحو ذلك حسبما دلييت عليه الشريعة ،فصار إذاا ما
قصده هذا المتسببِّ مقصود الشارع على الجملة«هل). ( 2
»والثاني :ما ييعلم أو ييظن أن السببِّ لم يشرع لجله ابتداءا،
فالدليل يقتضي أن ذلك التسببِّ غير صحيح لن السببِّ لم يشرع
أولا لهذا المسبييبِّ المفروض ،وإذا لم يشرع له فل يتسببِّ عنه
حكمته في جلبِّ مصلحة ول دفع مفسدةا بالنسبة إلى ما قصد
بالسببِّ فهو إذاا باطل .هذا وجه ،ووجه ثانم وهو أن هذا السببِّ
بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع فصار كالسببِّ
الذي لم يشرع أصلا .وإذا كان التسببِّ غير المشروع أصلا ل
يصح ،فكذلك ما شيرقعي إذا أيخقذي لما لم يشرع له .ووجه ثالث:
إن كون الشارع لم يشرع هذا السببِّ لهذا المسببِّ المعين دليل على
أن في ذلك التسببِّ مفسدةا ل مصلحة ،أو أن المصلحة المشروع
346
لها السببِّ منتفية بذلك المسبييقبِّ فيصير السببِّ بالنسبة إليه
عبثاا«هل )» . (1الثالث :وهو أن يقصد بالسببِّ مسبباا ل يعلم ول
ييظيني أنه مقصود للشارع أو غير مقصود له .وهذا موضع نظر
وهو محل إشكالم واشتباه .وذلك أنا لو تسببنا لمكن أن يكون
ذلك السببِّ غير موضوع لهذا المسبييبِّ المفروض ،كما أنه يمكن
أن يكون موضوعاا له ولغيره ،فعلى الول يكون التسببِّ غير
مشروع .وعلى الثاني يكون مشروعاا .وإذا دار العمل بين أن يكون
مشروعاا أو غير مشروع كان القداما على التسببِّ غير
مشروع«هل ). (2
ثم قال :إن السببِّ »إنما فيرض مشروعاا بالنسبة إلى شيءم
معين م مفروض م معلومام ل مطلقاا«هل) . (3وقال» :بل علمنا أن
كثيراا من السباب شرعت لمورم تنشأ عنها ولم تشرع لمورم وإن
كانت تنشأ عنها وتترتبِّ عليها ...فلما علمنا أنه مشروع لمور
مخصوصة ،كان ما جيهقلي كونه مشروعاا له مجهولي الحكم فل
تصح مشروعية القداما حتى يعرفَّ الحكم«هل) (4ثم قال» :فإذا ثبت
هذا وتبين تسبييبِّي ل ندري أهو مما قصده الشارع بالتسببِّ
المشروع أو مما لم يقصده وجبِّ التوقف حتى يعرفَّ الحكم فيه
ولهذا قاعدةا يتبين بها ما هو مقصود الشارع من مسببات السباب
وما ليس بمشروع وهي مذكورةا في كتاب المقاصد«هل) . (5وعلى
ذلك فالشاطبي يرى أن تحقيق الغاية الشرعية ل يصح إل
بالطريقة الشرعية التي وضعها الشارع طريقة لها .والطريقة وإن
كانت شرعية فل يصح أن تتخذ أو يتوسل بها لتحقيق غاية شرعية
إل إذا كان الشارع قد وضع تلك الطريقة لهذه الغاية .فل يصح
347
لمنع السرقة إل قطع اليد ،ول تستبدل العقوبة بغيرها .ول يصح
قطع اليد إل لما شرع له .وكذلك ل يصح تطبيق الجهاد لغير ما
شرع له .ول يصح لجل إقامة الحكم بما أنزل ال وهو غاية
شرعية أن تتخذ أسباب أو طرق لم توضع له شرعاا ،كالمؤسسات
الخيرية مثلا وإن كانت مشروعةا فهي ليست مشروعة لهذه
الغاية .أو كالمشاركة في الحكم بالكفر ،فهذا لم يوضع لجل
هذه الغاية ،فضلا عن انه ممنوع شرعاا.
العادات وأالعبادات بين اتباع المعاني وأالتعبد:
إذا ثبت أن للحكاما غاياتها التي قصدها الشارع ،وهي المصالح
أو العلل ،فإن من الحكاما ما ل يوقف له على علة تصلح لتعدية
الحكم بها ،وإن كان يعرفَّ لها علة تتصف بالعموما الذي ل يمكن
معه إجراء القياس ،وذلك مثل تعليل العبادات بالتعبد والمتثال ،
لذلك فمن الحكاما ما يجبِّ أن ل يبحث لها ع ن علة ومن الحكاما
ما يجبِّ أن يعلل أو أن تتبع المعاني فيها لجل الوقوفَّ على عللها.
مإعنى اتباع المعاني:
إن العلل أو المصالح ل تعتبر إل إذا ثبتت قطعاا عن طريق
الستقراء .وطريق الستقراء هو النظر في الحكاما والخروج
بالمعاني والحكم التي تترتبِّ عليها .وإن ما يسرح فيه العقل،
عادةاا ،عند النظر ،هو المعاني المعقولة أو الوصافَّ المناسبة ،إل
أن وجود معنىا معين في بضعة نصوص ل يكفي لعتباره ،إذ ل بد
من وجود عدد كبير من الحكاما التي يوجد فيها ذلك المعنى
ليصح اعتباره ،وهو ما يشبه التواتر المعنوي في مصطلح علم
الحديث .لذلك فإن تخيل معنىا صالحم في بضعة أحكاما ل يكفي
لعتباره ،ول بد لجل اعتباره من إثباته في أحكاما كثيرةا تفوق
الحصر ،وهذا الثبات أو البحث عن المعنى أو تتبعه في الحكاما هو
اتباع المعاني .وليس مراد الشاطبي باتباع المعاني إعمال المعنى
لمجرد وجود رابطة متخيلة أو مظنونة بينه وبين الحكم.
348
ول يقتصر اتباع المعاني على الوصافَّ المناسبة أو التي
ييدرك العقل وجه الحكمة فيها .فكل معنى يثبت بالستقراء
يحصل القطع باعتباره شرعاا لمجرد وجود رابطة سببية بينه
وبين الحكاما التي استقرئ فيها ،إل ان أكثر ما علل به الشارع
الحكاما هو المناسبِّ الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول،
لذلك فالعبرةا في تتبع المعاني هو اعتبار الحكاما أولا ،ثم النظر
في مسبباتها أو معانيها بغض النظر عن كونها مناسبة أو غير
مناسبة .مع أن الواقع أن أكثر التعليلت في الشرع جاءت
بأوصافَّ مناسبة أو معاني معقولة ،يقول الشاطبي» :إذا تعاضد
النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدما النقل
فيكون متبوعاا ويتأخر العقل فيكون تابعاا ،فل يسرح العقل في
مجال النظر إل بمقدار ما يسرحه النقل«هل) . (1وقال» :إن الشارع
توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات ...وأكثر ما
علل فيها بالمناسبِّ الذي إذا عرض على العقول تلقته
بالقبول«هل). (2
ويقابل اتباع ي المعاني التعبيد ي ،أي عدما البحث عن أي معنى أو
مصلحة مقصودةا بالحكم -أي علة ، -سوى مصلحة الطاعة
والمتثال .
عيلل:
العبادات ل ت ُ َ
يقول الشاطبي» :الصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف
التعبد دون ال ا لتفات إلى المعاني«هل) (3أي أن الصل أن ل يبحث لها
عن علة ،وقوله :الصل ،يعني أن هناك حالت نادرةا أو قليلة يصح
تتبع معنى معين ليرى إن كان يثبت أ ي و ن ل ،ويستدل الشاطبي
على ذلك بأمور» :منها الستقراء فإنا وجدنا الطهارةا تتعدى
349
محل موجبها ،وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على
هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ...وهكذا سائر
العبادات كالصوما والحج وغيرهما ،وإنما فهمنا من حكمة التعبد
العامة النقياد لوامر ال تعالى وأفراده بالخضوع والتعظيم
لجلله والتوجه إليه ،وهذا المقدار ل يعطي علة خاصة يفهم منها
حكم خاص«هل) . (1ول داعي لذكر سائر أدلته على هذا المر ،ومراد
الشاطبي أن العبادات ل تعلل ول يصح أن يبحث لها عن علة ،وإن
ويجد في بعض أحكاما العبادات ما يمكن تحميله معان م معينة قد
تكون مناسبة جداا وتهجم على الفكر ،فيجبِّ إهدارها وعدما
ال ا لتفات إليها ،لن كون العبادات ل تعلل أصل قطعي ثبت
بالستقراء وبأمور أخرى ،فل يصح متابعة هذا المعنى في أحكاما
أخرى لثباته عن طريق الستقراء .يقول» :فيجبِّ أن يؤخذ في
هذا الضرب التعبد دون ال ا لتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه
وركناا يلجأ إليه«هل) (2أما الحالت النادرةا التي يصح فيها -ول
يجبِّ -اتباع المعنى ،فهي إذا دل نص أو إجماع على معنى معين،
فهذا المعنى من معاني الدلة وليس من معاني الحكاما .يقول:
»إل أن يتبين بنص أو إجماع معنىا مرادي في بعض الصور فل
لوما عل ى من اتبعه ،لكن ذلك قليل فليس بأصل وإنما الصل ما عم
في الباب وغلبِّ في الموضع«هل) (3أما كون المعنى المراد بنص أو
إجماع يختلف عن غيره فلنه من دللت النصوص أو معانيها،
وليس من دللت الحكاما .أما كونه يصح اتباع المعنى فيه وليس
بواجبِّ فذلك لن هذا المعنى ظني ول يصح اعتباره إل إذا كان
راجعاا إلى أصل قطعي ،وهذا ل يثبت إل بالستقراء ،و ا تباع
المعنى قد يثبته وقد يلغيه ،فإذا ألغاه ،فقد تأكد الوقوفَّ مع
التعبد ،وإذا أثبته ،فإن أصل التعبد ثابت أيضاا بنفس الطريق ،أي
) ( الشاطبي ،الموافقات. 2/212 ، 1
350
بالستقراء ،ولذلك فل تأثير له على العبادات ل بإنشاء ول
بإلغاء ،يقول» :ما هو حق ل خالصاا كالعبادات وأصله التعبد
راجع إلى عدما معقولية المعنى وبحيث ل يصح فيه إجراء القياس،
و إ ذا لم يعقل معناه دل على أ ن قصد الشارع فيه الوقوفَّ عند ما
حده ل يتعدى«هل) . (1وأما المعنى المعقول وقد ثبت كونه مقصوداا
للشارع ،فإنه يجبِّ إعماله في غير العبادات .أضف إلى ذلك أن
العبادات ،و إ ن جاء في بعضها ما يدل على التعليل أو ييشعر
بالمناسبة ،فان شروط العلة مفقودةا أو غير مكتملة فيها .لذلك
فان مثل هذه الوصافَّ أو المعاني ل تعدى بها ال أ حكاما ،وذلك مثل
السرقة علة للقطع والزنا علة للرجم ،ولكن ل يحصل القياس هنا
و ل يتعدى الحكم محله ،وذلك أقوى في العبادات كما في السهو
علة للسجود .فنحن نقول سرق فقطع ،وزنا فرجم وسها فسجد.
فهذه العلل وان كانت مفهومة الجنس ولكنها غير مفهومة
الخصوص ،فالمفهوما هو عموما الجناية أو المعصية وعموما
العقوبة أو العتذار .ولكن تخصيص هذا بهذا غير مفهوما ،إذ كان
يمكن عقلا أن يقال ،سرق فسجن ،أو سها فأعاد أو غير ذلك.
وكذلك يقال في التعليل بالمشقة في القصر والفطار والجمع.
يقول» :وأيضاا فان المناسبِّ فيها ) أي العبادات( معدود عندهم
فيما ل نظير له كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره والجمع بين
الصلتين وما أشبه ذلك .والى هذا فأكثر العلل المفهومة
الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص كقوله » :سها
فسجد «هل) ، (2وقوله » :ل يقبل الله صلة أحدكم إذا أحدثا
حتى يتوضأأ «هل) ، (3وأنهيه عن الصلة طرفي النهار وأعلل
البخاري ،باب :في الصلةا ) ،( 6440ومسلم :باب وجوب الط هــارةا )( 3
351
ذلك بأن الشمس تطلع وأتغرب بين قرني الشيطان)، (1
وكذلك ما يستعمله الخلفيون في قياس الوضوء على التميم في
جوب النية ...وما أشبه ذلك مما ل يدل على معنى ظاهر منضبط
مناسبِّ يصلح لترتيبِّ الحكم عليه من غير نزاع ،بل هو المسمى
شبها ،بحيث ل يتفق على القول به القائلون ،وإنما يقيس به من
يقيس بعد أن ل يجد سواه ،فإذا لم يتحقق لنا علة ظاهرةا تشهد
لها المسالك الظاهرةا ،فالركن الوثيق الذي ينبغي اللتجاء إليه
الوقوفَّ عند ما حيد دون التعدي إلى غيره ،ل أ ن ا وجدنا الشريعة
حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات ،فكان أصل
فيها«هل ) (2وعلى ذلك فالعبادات ل تعلل ول قياس فيها.
الصل فـي العادات التعليل:
ذكر الشاطبي العادات ،في أول كتــاب المقاصــد وجعلهــا أ حــد
أ ربعة أ قساما :العبادات والعادات والمعاملت والجنايات ،ومثــل لهــا
بتناول المأكولت والمشروبات والملبوسات والمســكونات) . (3أ مــا
فــي هــذا البحــث فهــو يــذكرها كأحــد قســمين :ال ـ ع ـ ب ـــ ادات
وال ـ ع ـ ادات .ولذلك فهي تع ـ ني ه ـ ن ـ ا م ـ ا س ـ وى الع ـ ب ـــ ادات م ـــ ن
الحـكـاما .يقول » :أصل العادات اللتفات إلى المعاني«هل) ، (4ويستدل
على ذلك بأمور أولها الستقراء .ي قــول» :فإنــا و جــدنا ال شــارع
قاصداا لمصالح العباد ،والحكاما العادية تدور معه حيثما دار فترى
الشيء الواحد يمنع في حال ل تكون فيه مصلحة فــإذا كــان ف يــه
مصلحة جاز كالدرهم بالـدرهم إلـى اجـل يمتنــع فـي المبايعـة
ويجوز في القرض ...ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوماا كما
352
تعالى [ : فهمناه في العادات .وقال
وقــال [ : ، (1) ]
، (2) ] وفي الحديث» :ل يقضــي القاضأــي
وأهــو غضــبان«) ، (3و قــال» :ل ضأــرر وأل ضأــرار«) ، (4و قــال:
»القاتل ل يرثا«) (6)«(5ثم قال » :إلى غير ذلك مما ل ييحصى
وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعبــاد وأن الذن دائــر
معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلــة فــدل ذلــك علــى أن
العادات مما اعتمد الشارع فيها اللتفات إلى المعاني«هل). (7
353
أخرى كثيرةا ،وملحظة تخلفه أو عدما تخلفه حيث يمكن تطبيقه،
وبذلك يحصل الستقراء المثبت أو النافي للمعنى .هذا ال ا لتفات
إلى المعاني يجبِّ أن يحصل في العادات بناء على أصل أن الشريعة
جاءت لجل مصالح العباد فهذه المصالح هي الصول التي تنزلت
على أساسها الشريعة وهذ ه المصالح ل بد أن تكون موجودةا في
الحكاما ،إل أن الحكاما لما كان يمكن أن يتخيل فيها معان م أو
حكم كثيرةا ول يمكن الحكم أن هذا المعنى هو الذي قصده
الشارع أو على أساسه شرع الحكم كان ل بد من الستقراء لهذا
المعنى ،لنه بكثرةا الحكاما يزداد المعنى قوةا وبخروجها عن
الحصر يصبح قطعيا ا ومقصوداا للشارع ومصلحة .يقول» :إن
الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما
تقدما تمثيله وأكثر ما علل فيها بالمناسبِّ الذي إذا عرض على
العقول تلقته بالقبول ،ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها
إتباع المعاني ل الوقوفَّ على النصوص بخلفَّ باب العبادات فإن
المعلوما فيه خلفَّ ذلك«هل). (1
إل أن الشاطبى يستثني هنا بعض الحالت النادرةا كما استثنى
في شأن العبادات .و ذلك أن العبادات ل تتبع فيها المعاني إل إذا
دل نص أو إجماع على معنى معين وكذلك في العادات تتبع فيها
المعاني إل إذا وجد فيها التعبد فل بد من الوقوفَّ مع النصوص،
يقول» :فإذا تقرر هذا وأن الغالبِّ في العادات ال ا لتفات إلى
المعاني ،فإذا وجد فيها التعبد فل بد من التسليم والوقوفَّ مع
النصوص كطلبِّ الصداق في النكاح والذبح في المحل المخصوص
في الحيوان المأكول والفروض المقدرةا في المواريث وعدد
الشهر في العقديد الطلقية والوفوية وما أشبه ذلك من المور
التي ل مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية حتى يقاس عليها
354
غيرها«هل ). (1
وهذه العاديات والعبادات ،وإن كان ل يصح ال ا لتفات إلى
المعاني فيها بمعنى أنه ل يجري القياس فيها أو عليها ،فهي لها
معنى مفهوما ،وإن كان ليس من المعاني التي تصلح للقياس،
وذلك إضافةا إلى المعنى العاما وهو التعبد ،يقول» :فإن قيل هل
توجد لهذه المور التعبديات) (2علة يفهم منها قصد الشارع على
الخصوص أما ل؟ فالجواب أن يقال :أما أمور التعبدات فعلتها
المطلوبة مجرد النقياد من غير زيادةا ول نقصان ،ولذلك لما
سئلت عائشة رضي ال عنها عن قضاء الحائض الصوما دون الصلةا
قالت للسائلة » :أحرووية أنت! «هل إ نكاراا عليها أن يسأل عن مثل
هذا إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة .ثم قالت» :كنا
نؤمإر بقضاء الصوم وأل نؤمإر بقضاء الصلة «هل) . (3وهذا
يرجح التعبد على التعليل بالمشقة ،وقول ابن المسيبِّ في مسألة
تسوية الشارع بين الصابع» :هي السنة يا ابن أخإي «هل) (4وهو
كثير ومعنى هذا التعليل أن ل علة .أما العاديات وبعض العبادات
أيضاا فلها معنى مفهوما وهو ضبط وجوه المصالح ...فجعل
الشارع للحدود مقادير معلومة ل تتعدى كالثمانين في القذفَّ
والمائة وتغريبِّ العاما فى الزنا على غير إحصان وخص قطع اليد
بالكوع وفي النصاب المعين«هل ). ( 5
ل بد مإن اعتبار التعبد فـي العادات:
ول يعنى -بحال من الحوال -أن المعاني المعتبرةا في أحكاما
) ( أخرجه مسلم في باب وجوب قضاء الصوما على الحائض دون الصــلةا ) 3
355
العادات ،أي التي ثبتت بالستقراء ،وبتعبير آخر :المصالح ،يمكن
إلغاء الحكاما بناء عليها ،وهذا يعود إلى لزوما إعمال الكليات
والجز ئ يات معا ا وذلك لن هذه الحكاما هي التي جعلها الشارع
طريقا" إلى المصالح فل يجوز إلغاؤها بحجة أن القصد أو
المعنى قد أدرك وبالتالي يمكن تغيير الحكاما مع المحافظة على
المقاصد والمعاني .وذلك لن التعبد موجود في كل الحكاما
سواء كانت من العبادات أو العادات يقول» :كل ما ثبت فيه
اعتبار التعبد فل تف ـ ري ـ ع ف ـ ي ـ ه وك ـ ل م ـ ا ث ـ ب ـ ت ف ـ ي ـ ه اع ـ تبار
المعاني فل بد فيه من اع ـ ت ـ ب ـ ار الت ـ ع ـ ب ـ د«هل) (1ويورد أدلة
كث ـ ي ـ رةا على هذا المر منها أن إدراك مقصد أو مصلحة من
الحكم ل يعنى إدراك كل المصالح المقصودةا به ومنها أن الطريق
المثل لتحقيق المقصود هو الطريق المشروع ومنها مقصد
المتثال وغير ذلك .ويبني على ذلك أمرا ا وهو» :إن كل حكم
شرعي ليس بخالم عن حق ال تعالى وهو جهة التعبد«هل) . ( 2وهو ما
سنتعرض له بتفصيل أكبر في الفصل التالي ،فصل مقاصد
المكلف.
356
الفصـل السـادس
357
الفصـل السـادس
مإقاصـد المكيلف
تمهيـد:
قال الشاطبي» :المقاصد التي يينظري فيها قسمان :أحدهما:
يرجع إلى قصد الشارع والخر يرجع إلى قصد المكلييف«هل) . (1وقد
تبييين فيما سبق القسم الول من المقاصد وهو ما يرجع إلى قصد
الشارع .وسيتبيين -إن شاء ال -في هذا الفصل القسم الثاني ،وهو
مقاصد المكلييف.
كما تبييين أن المقاصد هي نتائج أو مسببات .والسباب هي
العمال التي يقوما بها المكلف وتؤول إلى تلك المسببات ،فهي
بمثابة الوسائل لجل المقاصد .والعمال التي يقوما بها المكلف قد
تكون مأموراا بها شرعاا أو منهياا عنها أو مأذوناا بها.
ومقاصد المكلف من أعماله قد تكون امتثال أمر الشارع ،أي
قد تكون مقاصد أخروية من غير نظر إلى مقصدم دنيوي .وقد
تكون دنيوية أي تحصيل الغراض والحظوظ ،بحسبِّ ما ركبِّ ال
في النسان من خصائص وشهوات) . (2وقد تكون جامعةا بين
القصدين :قصد المتثال وقصد طلبِّ الحظ.
) ( وقد دلت كثير من النصوص على هذه الخصائص ،كما يدل ع لــى ذ لــك 2
أيضاا واقع النسان قال تعالى [ :
] المائدةا. 14 ،
] وقال [ :
الفجر. 20 - 19 ،
وقال:
[
] المعارج.21 -20 -19 ،
358
فما هو أثر قصد المكلف أو نيته على صحة العمل ،سواء من
حيث الثواب أو العقاب عليه في الخرةا ،أو من حيث وقوعه وترتبِّ
آثاره عليه في الدنيا؟ وهل يصح للمكلف أن يقصد حظوظه
وأغراضه ومنافعه مع قصده المتثال؟ وهل يصح له أن يقصد
بالعمال المشروعة نتائج لم يشرع ال تلك العمال لجلها؟ وهل
يصح له أن يقصد مقاصد مشروعة بأعمال غير مشروعة؟ وما حكم
العمال التي تقع من المكلييف عريييةا عن أي قصد له؟
وهل يصح للمكلييف أن يينشئي أعمالا بقصد جعل مقاصده غير
الشرعية شرعية؟ وهو ما عيرفَّ باسم الحقييل .كمن يتصدق ببعض
ماله أو ينفقه فراراا من الزكاةا ،أو كمن ينشئ سفراا للترخص
بالفطار مثلا ،أو كمن ينكح المطلقة ثلثاا لكي يطلقها بقصد
تحليلها لمطلقها الول.
لمثل هذه العمـال ،ولمثـل هذه المقاصد وما ينبني عليها أو
يتفرييع عنها جاء قسم مقاصد المكلف عند الشاطبي .ولبيان موقف
الشاطبي من هذه المسائل كان هذا الفصل.
ولن القصد والنية وأثر ذلك في عمل المكلف من المسائل
المبحوثة باستفاضة عند الئمة ،وقد جاءت أقوال الشاطبي متفقة
مع بعضها ومختلفة مع بعضها ،فسيتم التعرض لقوالهم وآرائهم
في ذلك قبل بيان أقوال الشاطبي فيها.
359
المبحث الوأل
المقاصـد وأالنوايا
النية وأالقصد وأالفرق بينهما:
قال الغزالي» :إعلم أن النيـة والرادةا والقصـد عبـارات
متواردةا على معنى واحد وهو حالة وصفة للقلبِّ يكتنفها أمران:
علم وعمل ،الع لم يقدمه لنه أصله وشرطه ،والعمل يتبعه لنه
ثمرته وفرعه«هل) . (1وقال :إن النية »وهي الرادةا وانبعاثا النفس
بحكم الرغبة والميينل إلى ما هو موافق للغرض إما في الحال وإما
في المآل ،فالمحرك الول هو الغرض المطلوب وهو الباعث،
والغرض الباعث هو المقصد المنوي ،والنبعاثا هو القصد والنييية،
وانتهاض القدرةا لخدمة الرادةا بتحريك العضاء هو العمل«هل). (2
وقال ابن نيجيينم الحنفي» :فهي في اللغة :كما في القاموس:
نوى الشيء ينويه نيةا وتيشدييد وتيخيفييف :قصده .وفي الشرع
كما في التلويح :قصد الطاعة والتقرب إلى ال في إيجاد
الفعل«هل). (3
وقال» :وعرييفهـا القاضي البيضـاوي بأنها شـرعاا الرادةا
المتوجهة نحـو الفعـل ابتغـاءا لوجـه ال تعالى وامتثـالا لحكمه.
ولغةا :انبعـاثا القلبِّ نحو ما يراه موافقـاا لغرضم من جلبِّ نفعم
أو دفع ضرم ،حالا أو مآلا«هل ). (4
وقال السيوطي» :محلها القلبِّ في كل موضع لن حقيقتها
) ( الغزالي ،أبو حامد محمد بن محمد ،إحياء علوما الدين ،4/365 ،دار 1
المعرفة -بيروت.
) ( الموضع نفسه. 2
) ( ابن نجيم الحنفي ،زين الدين بن إبراهيم ،المتوفى سنة 970هـ ، 3
الشباه والنظائر ،ص ، 24 :ط 1442 ، 2هـ 1999 -ما ،تحقيق الدكتور
محمد مطيع الحافظ ،دار الفكر المعاصر -بيروت ،دار الفكر -دمشق.
) ( الموضع نفسه. 4
360
القصد مطلقاا ،وقيل :المقارن للفعل وذلك عبارةا عن فعل القلبِّ.
قال البيضاوي :النية عبارةا عن انبعاثا القلبِّ نحو ما يراه من جلبِّ
نفعم أو دفع ضرم حالا أو مآلا .والشرع خصصه بالرادةا المتوجهة
نحو الفعل لبتغاء رضا ال تعالى وامتثال حكمه«هل ). (1
وقال ابن رجبِّ الحنبلي» :واعلم أن النية في اللغة :نوع من
القصد والرادةا وإن كان قد فيريققي بين هذه اللفاظ«هل ) . (2ثم ذكر
ما مفاده رفض هذا التفريق كما سيتبين .ويتبين من النصوص
السابقة للعلماء في النية والقصد أنهما يتواردان في اللغة على
معنى واحد مع اعتبار أن لفظ القصد أعم من لفظ النية ،وذلك ما
يشير إليه قول السيوطي» :حقيقتها القصد مطلقاا«هل ،وقول ابن
رجبِّ» :النية في اللغة :نوع من القصد والرادةا«هل.
أما التفريق بين القصد والنية ،فكما ظهر أن القصد أعم
والنية أخص ،وكما يظهر بالتدقيق في النصوص الواردةا آنفاا ،وهو
أن النية تطلق عند وجود الفعل ،فل يكفي وجود القصد أو الرادةا
في القلبِّ ،وإنما يجبِّ أن يقارن ذلك التوجهي إلى إحداثا الفعل،
لذلك جاء في تعريف البيضاوي قوله» :بأنها الرادةا المتوجهة نحو
الفعل«هل ،وفي قول السيوطي» :وقيل :المقارن للفعل«هل أما قوله:
»وذلك عبارةا عن فعل القلبِّ«هل فذلك للتأكيد أنها نوع من القصد
فمحلها القلبِّ مثله .وقال ابن رجبِّ الحنبلي» :وإنما فرييق من
فرييق بين النية وبين الرادةا والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية
بالمعنى الول الذي يذكره الفقهاء فمنهم من قال :النية تختص
) ( السيوطي ،جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى سنة 911هـ ، 1
الشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ،ص ، 76 :ط1414 ،2هـ -
1993ما ،تحقيق وتعليق الدكتور محمد المعتصم بال البغدادي ،دار الكتاب
العربي -بيروت .
) ( ابن رجبِّ الحنبلي ،جامع العلوما والحكم في شرح خمسين حديثاا من 2
جوامع الكلم ،ص ، 16 :تحقيق فؤاد ابن علي حافظ ،ط1421 ، 2هـ -
2000ما ،مؤسسة الريان بيروت.
361
بفعل الناوي ،والرادةا ل تختص بذلك ،كما يريد النسان من ال
أن يغفر له ول ينوي ذلك«هل). (1
وعند التدقيق نلحظ تفريقاا في الستعمال اللغوي لجهة أن
لفظ القصد أعم من لفظ النية ،فقد لحظنا قول العلماء مثلا:
مقصد الشارع ومقاصد الشارع ومقاصد الشريعة ،ولم يقولوا نية
الشارع أو نواياه أو نوايا الشريعة ،وكذلك لم يقولوا إرادةا
الشريعة). (2
وأما التفريق الذي أشار إليه ابن رجبِّ في النص السابق بقوله:
»لظنهم اختصاص النية بالمعنى الول الذي يذكره الفقهاء«...هل
فهو إشارةا إلى أن من العلماء من جعل للنية معنى شرعياا ومعنى
لغوياا ،أما المعنى اللغوي فهو القصد مطلقاا وبذلك يكون القصد
أعم من النية ،وأما الشرعي ،فهو تخصيص النية بمعنى قصد امتثال
أمر الشارع أو قصد القيربة ،وهو ما يشير إليه نص ابن نجيم ونص
السيوطي وهو ما نقله عن البيضاوي .وهذا بخلفَّ الغزالي وابن
لفظ الرادةا حيث ورد في نصوص العلماء بمعنى القصد والنية ،جـاء )( 2
في نصوص شرعية كثيرةا ،قال تعالى [ :
] ] آل عمران ، [152 :وقال [ :
] ] النفال ، [67 :وقال [ :
] ] هود ، [15 :وقال ] ] [ :الشورى:
، [20وقال [ :
] ] النعاما ،[52 :و قــال [ :
[ ] ] الكهف ،[28 :و قــال:
] ] الروما ، [39 :وقد ييعبيير عنها في القرآن بلفظ البتغاء كما في قــوله
تعالى ] ] [ :الليل ،[20 :وقوله:
[
] ] البقرةا ،[265 :وقوله ] ] [ :البقرةا:
، [272وانظر جامع العلوما والحكم لبن رجبِّ الحنبلي ،ص. 17 :
362
رجبِّ مثلا ،فلم يشيرا إل إلى المعنى اللغوي.
وينبني على هذا التخصيص لمعنى النية بمعنىا شرعي
استعمال لفظ النية لعمال العبادات .أما في العادات فيكون فقط
عندما يكون قصد المكلف التقرب إلى ال وامتثال المر .ويصح
استعمال لفظة القصد هنا لنها عامة ،أما عندما يكون قصد المكلف
هو أغراضه وحظوظه كقصد التملك أو إشباع الشهوات فما جرى
عليه المر هو استعمال لفظ القصد ولذلك قالوا إن النيات
تيصيـييقري العادات عبادات .وقال ابن نجيم الحنفي» :ل ثواب إل
بالنية«هل) . (1وقال الغزالي» :وما من شيء من المباحات إل ويحتمل
نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي
الدرجات ،فما أعظم خسران من يغفل عنها«هل). (2
363
أثار النيية فـي العمال):(1
ر وى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه عن النبي أنه
ئ مإا نوى ،فمن كانت قال » :العمال بالنية ،وألكل امإر ئ
هجرته إلى الله وأرسوله فهجرته إلى الله وأرسوله ،وأمإن
كانت هجرته لدنيا يصيبها أوأ امإرأة يتزوأجأها فهجرته
إلى مإا هاجأر إليه«) . (2وعند مسلم بلفظ» :إنما العمال
ئ مإا نوى. (3)«...
بالنية ،وأإنما لمإر ئ
ونقل السيوطي التواتر عن الئمة في تعظيم قدر هذا
الحديث) . (4وكذلك الحافظ العسقلني حيث قال» :وقد تواتر
النقل عن الئمة في تعظيم قدر هذا الحديث ،قال أبو عبد ال :ليس
في أخبار النبي شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدةا من هذا
الحديث «هل) . (5ونقل عن كثير من الئمة منهم الشافعي وأحمد بن
حنبل رضي ال عنهما أنه ثلث السلما .وعن الشافعي أنه يدخل في
في الخرةا ،أو من حيث إجزاؤها وترتبِّ آثارها عليها في الدنيا .قــال ابــن
نيجيم الحنفي » :وهو نوعان أ خــروي :و هــو الثـواب وا ســتحقاق الع قــاب،
ودنيوي :وهو الصحة والفساد« وذهبِّ إلى اعتبار العمال بالنيــة بــالنظر
إلى الخرةا ،ونفى اعتبارها بالنظر إلى الصحة والفساد فــي الــدنيا ،قــال:
» وقد أريد الخروي بالجماع للجماع على أنه ل ثواب ول عقاب إل بالنية
فانتفى الخر أن يكون مراداا« الشباه والنظائر ،ص. 14 :
) ( أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي ) ، ( 1واليمان ) ، ( 52والعتق ) 2
شرح صحيح مسلم ابن الحجاج ، 13/55تحقيق الشيخ خليل مأمون شــيحا،
دار المعرفة ـ بيروت ،ط 1414 ، 1هـ 1994ما.
) ( السيوطي ،الشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ،ص. 40 : 4
364
سبعين باباا من أبواب الفقه). ( 1
وفيما يتعلق بمعنى الحديث ،فالعمال قسمان :عبادات وعادات.
والذين قالوا إن النية بمعنى القصد ولم يخصصوا النية بمعنى
شرعي وهو قصد رضا ال وامتثال حكمه ،فقد حملوا المعنى على
تقدير الصحة في العمال سواء كانت عبادات أو عادات بناء على
صحة النية وهو ابتغاء رضا ال .فإذ ا افتقرت العمال إلى هذه النية
تكون النية فاسدةا فتكون العمال فاسدةا لن العمال بالنيات .قال
الحافظ بن حجر العسقلني» :والنية في الحديث محمولة على
المعنى اللغوي«هل ) ، (2وقال» :التقدير :ل عمل إل بالنية ،فليس
المراد نفي ذات العمل لنه قد يوجد بغير نية ،بل المراد نفي
)(3
أحكامها كالصحة والكمال ولكن الحمل على نفي الصحة أولى«هل .
وقال ابن رجبِّ الحنبلي عند شرحه للحديث» :وبه صديير البخاري
كتابه )الصحيح( مقاما الخطبة له ،إشارةا منه إلى أن كل عمل ل
)(4
يراد به وجه ال فهو باطل ل ثمرةا له في الدنيا ول في الخرةا«هل .
فقوله :كل عمل ،أي سواء كان من العبادات أو من العادات وهو ما
ذهبِّ إليه الغزالي كما سيتبين.
أما الذين خصصوا النية بالمعنى الشرعي الخاص ،فقد فر ييق وا
في العمال بين العبادات والعادات ،فأعمال العادات تكون صحيحة،
وإن لم تكن بقصد المتثال للشارع ولكن ل يترتبِّ عليها ثواب .أما
العبادات فالنية شرط في صحتها .قال ابن رجبِّ الحنبلي» :وقد
اختيلقفي في تقدير قوله» :العمال بالنيات« ،فكثير من
) ( العسقلني ،أحمد بن علي بن حجر 852 - 773هـ .فتح الباري بشرح 5
365
المتأخرين يزعم أن تقديره :العمال صحيحة أو معتبرةا أو مقبولة
بالنيات ،وعلى هذا فالعمال إنما أريد بها العمال الشرعية المفتقرةا
إلى النية .أما ما ل يفتقر إلى نية كالعادات من الكل والشرب
واللبس وغيرها ،أو مثل رد المانات والمضمونات ،كالودائع
والغصوب فل يحتاج شيء من ذلك إلى نية فييخص هذا كله من
عموما العمال المذكورةا ههنا .وقال آخرون :بل العمال ههنا على
عمومها ل يختص منها شيء«هل). (1
وحاصل هذا الخلفَّ يرجع إلى وفاق فيما يتعلق بأعمال
العبادات ،إذ ل خلفَّ في أن صحة العبادات تفتقر إلى النية .أما
العادات فهي محل الخلفَّ والتفصيل ،والذين يقصرون معنى
الحديث »العمال بالنية« على أعمال العبادات يؤكدون على أن
أعمال العادات تؤثر فيها مقاصد العامل ،لذلك وضعوا قاعدةا
»شرعية«هل أعميي من حديث النية ،بنوها على الحديث وعلى غيره
من النصوص الشرعية هي قاعدةا :المور بمقاصدها.
المصدر نفسه ،ص ، 15 :والقول الول هو ما يقوله الشاطبي ك مــا )( 1
سيتبين.
366
قاعدة المإور بمقاصدها):(1
قال السيوطي» :الصل في هذه القاعدةا قوله » :إنما
العمال بالنيات« .وهذا حديث صحيح مشهور أخرجه الئمة
الستة وغيرهم عن عمر بن الخطاب«هل). (2
وهي بهذا النص شاملة للعبادات والعادات معاا .قال ابن نجيم
) ( تذكر بعض كتبِّ الشباه والنظائر عن بعض الفقهاء إرجاع بعض 1
المذاهبِّ الفقهية إلى بضع عشرةا قاعدةا .أنظر في ذلك كتاب الشباه
والنظائر للسيوطي ص . 38 - 35 :وكتاب الشباه والنظائر للماما تاج
الدين السبكي ص . 12 - 10 :وقد ذكر السيوطي رد جميع مذهبِّ الشافعي
إلى أربع قواعد :الولى :اليقين ل يزال بالشك ،والثانية :المشقة تجلبِّ
التيسير ،والثالثة :الضرر يزال ،والرابعة :العادةا محكمة .ومما قاله:
»قال بعض المتأخرين :في كون هذه الربع دعائم للفقه نظر ،فإن غالبه
ل يرجع إليها إل بواسطة وتكلف ،وضم بعض الفقهاء إلى هذه قاعدةا
خامسة وهي» :المأور بمأقاصدها« لقوله » :إنما العمال بالنيات« .وقال:
»بني السلم على خإمس« ] الحديث أخرجه البخاري في اليمان رقم
) ( 4153 ) ، ( 7ومسلم في باب بيان أركان السلما ودعائمه العظاما رقم )
، ( 21 ) ،( 20 ) ،( 16وأحمد رقم ) ،( 4567والترمذي ) ( 2534وقال:
حسن صحيح والنسائي ) . [( 4915والفقه على خمس ،قال العلئي :وهو
حسن جداا فقد قال الماما الشافعي :يدخل في هذا الحديث ثلث العلم« ص:
. 37
وقال الماما السبكي » :اعلم أن القاضي حسيناا ذكر أن مبنى الفقه على
أربع قواعد«هل ثم ذكر الربع المذكورةا أعله« .وقال » :وزعم من يدعي
التحقيق أنه أهمل خامسة وهي أن المور بمقاصدها ،وقال :بني السلما على
خمس والفقه على خمس« .وأضافَّ السبكي » :والتحقيق عندي أنه إن أريد
رجوع الفقه إلى الخمس بتعسف وتكلف وقول جيميلي فالخامسة داخلة في
الولى وفي الثانية أيضاا .بل رجييع شيخ السلما عز الدين بن عبد السلما
الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد ،ولو ضايقه مضايق لقال:
أرجع الكل إلى اعتبار المصالح فإن درء المفاسد من جملتها .ويقول على
هذا :واحدةا من هذه الخمس كافية والشبه أنها الثانية ،وإن أريد الرجوع
بوضوح فإنها تربو إلى الخمسين بل على المائتين«هل ص . 12 :أما العلمة
ابن نجيم الحنفي فقد عدها ستاا رتبها كالتالي :ل ثواب إل بالنية ،المور
بمقاصدها ،اليقين ل يزول بالشك ،المشقة تجلبِّ التيسير ،الضرر يزال،
العادةا محكمة .أنظر :الشباه والنظائر ،ص. 3 - 1 :
) ( السيوطي ،الشباه والنظائر ،ص. 38 : 2
367
الحنفي تحت عنوان :المور بمقاصدها» :إن بيع العصير ممن
يتخذه خمراا إن قصد به التجارةا فل يحرما وإن قصد به لجل
التخمير حرما ،وكذا غرس الكرما على هذا .وعلى هذا عصير العنبِّ
بقصد الخليقية أو الخمرية ،والهجر فوق ثلثا دائر مع القصد فإن
قصد هجر المسلم حرما وإل ل«هل) ، (1والمثلة المذكورةا في النص
أعله ليست من العبادات.
ولذلك قالوا إن النية شرعت لتمييز العبادات عن العادات
ولتمييز رتبِّ العبادات بعضها عن بعض ،أما العادات فل تشترط لها
النية وإنما شرطها أن يكون القصد مشروعاا .وهذا فضلا عن أن
يكون العمل نفسه مشروعاا.
قال ابن السبكي» :ويدخل فيها) (2أيضاا قاعدةا :النية لتمييز
العبادات عن العادات ولتمييز مراتبِّ العبادات بعضها عن بعض
فالول :كالجلوس في المسجد يتردد بين الجلوس للعتكافَّ
والجلوس للستراحة ،وكالوضوء والغسل يتردد بين التبرد
والتنظيف والقربة فلول النية لما تميزت العبادةا عن غيرها ول
حصلت«هل) . (3وقال» :وأما الثاني :وهو قولهم :ولتمييز مراتبِّ
العبادات بعضها عن بعض فكتمييز صلةا النفل عن الفرض«هل). (4
ومثله قال السيوطي» :فيم شرعت النية لجله :المقصود
الهم فيها تمييز العبادات من العادات وتمييز رتبِّ العبادات بعضها
عن بعض ...والمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي أو
لعدما الحاجة إليه ...ودفع المال للغير قد يكون هبةا أو وصلةا
لغرض دنيوي وقد يكون قربةا كالزكاةا والصدقة والكفارةا...
وكل من الوضوء والغسل والصلةا والصوما قد يكون فرضاا ونذراا
ونفلا ،والتيمم قد يكون عن الحدثا أو الجنابة وصورته
368
واحدةا«هل ). (1
وكذلك قال ابن نجيم الحنفي» :قالوا :إن المقصود فيها
تمييز العبادات من العادات ،وتمييز بعض العبادات عن بعض«هل ). (2
الخإلص وأالتشريك فـي المقاصـد:
قال الغزالي » :إ علم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره ،فإذا
صفا عن شوبه وخلص عنه سيميقيي خالصاا ،ويسمى الفعل المصفى
المخلص :إخلصاا«هل ) . (3وقال» :فمهما كان الباعث واحداا على
التجرد سمي الفعل الصادر ع ن ه إخلصاا بالنسبة إلى المنوي ،فمن
تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص ،ومن كان غرضه محض
التقرب إلى ال تعالى فهو مخلص ،ولكن العادةا جارية بتخصيص
اسم الخلص بتجريد قصد التقرب إلى ال تعالى عن جميع
الشوائبِّ«هل). (4
أما التشـريك فهو ضـد الخلص ،قال الغزالي» :والخلص
يضاده الشـراك فمن ليـس مخلصاا فهو مشـرك .إل أن الشـرك
)(5
درجات ،فالخلص في التوحيـد يضاده التشـريك في اللهيـة«هل .
وقال» :والخلص وضـده يتواردان على القلبِّ فمحله القلبِّ وإنما
يكون ذلك في القصـود والنيـات«هل ). (6
والتشريك في المقاصد هو التشريك بين قصد المتثال لمر
الشارع أو التقرب إليه وقصد حظوظ النفس .وحظوظ النفس منها
ما هو رياء ومنها من هو ليس رياء فالرياء هو أن يعمل ليراه
الناس ،وذلك كمن يعمل ليراه المير أو غيره ليعظم في نفوسهم
لن هؤلء ييريونن .أما من يعمل بقصد الربح أو الغنيمة أو التنعم
369
بالطيبات فهذا قصد لحظ النفس وليس رياءا .قال القرافي» :أن
يعمل العمل المأمور به والمتقرب به إلى ال تعالى ويقصد به وجه
ال تعالى وأن يعظمه الناس أو يعظم في قلوبهم فيصل إليه نفعهم
أو يندفع عنه ضررهم فهذا هو قاعدةا أحد قسمي الرياء ،والقسم
الخر :أن يعمل العمل ل يريد به وجه ال تعالى البتة ،بل الناس
فقط ،ويسمى هذا القسم :رياء الخلص ،والقسم الول رياء
الشرك ،لن هذا ل تشريك فيه بل خالص للخلق والول للخلق ول
تعالى«هل) . (1وقال أيضاا» :وأما مطلق التشريك كمن جاهد
ليحصل طاعة ال بالجهاد وليحصل المال من الغنيمة فهذا ل يضره،
ول يحرما عليه بالجماع لن ال تعالى جعل له هذا في هذه العبادةا
ففرق بين جهاده ليقول الناس إنه شجاع أو ليعظمه الماما فيكثر
عطاؤه من بيت المال فهذا ونحوه رياء حراما وبين أن يجاهد
ليحصل السبايا والكراع والسلح من جهة أموال العدو فهذا ل يضره
مع أنه قد شرييك ول يقال لهذا رياء بسببِّ أن الرياء ليعمل أن
يراه ) (2غير ال تعالى من خلقه والرؤية ل تصح إل من الخلق فمن
ل يرى ول يبصر ل يقال في العمل بالنسبة إليه رياء ،والمال
المأخوذ من الغنيمة ونحوه ل يقال إنه يرى أو يبصر فل يصدق
على هذه الغراض لفظ الرياء لعدما الرؤية فيها«هل ). (3
بناء على ما سبق يمكن التفصيل في حكم التشريك بين قصد
المتثال وقصد الحظ.
أما قصد المتثال والتقرب المجرد عن أي قصد آخر فهذا أعلى
العمال مرتبة وأزكاها .وأما قصد الحظ فإن كان من الرياء فهو
مذموما) (4سواء في العبادات أو العادات ،وسواء رياء التشريك أو
) ( وللعلماء تفصيل في هذا المر ،إذ قد يقوما العامل بعمله بقصد الطاعة 4
أو غيرها ابتداءا فيحصل للنفس رياء يهجم عليها ويصعبِّ الخروج عنه.
370
الرياء المجرد .قال القرافي» :إعلم أن الرياء في العبادات شرك
وتشريك مع ال تعالى في طاعته وهو موجبِّ للمعصية والثم
والبطلن«هل) . (1وقال» :وأغراض الرياء ثلثة :التعظيم وجلبِّ
المصالح الدنيوية ودرء المضار الدنيوية ،والخيران يتفرعان عن
الول فإنه إذا عظم انجلبت إليه المصالح واندفعت عنه المفاسد فهو
الغرض الكلي في الحقيقة فهذه قاعدةا الرياء المبطلة للعمال
المحرمة بالجماع«هل) . (2وقال الغزالي» :ومن كان باعثه مجرد
الرياء فهو معرض للهلك«هل). (3
أما إن كان قصد حظ النفس من غير الرياء ،فإن كان مجرداا
عن قصد المتثال ،فهو في العبادات غير صحيح لن العبادات -كما
تبين سابقاا -تفتقر إلى النية ،قال الغزالي» :الطاعات :وهي
مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها«هل). (4
وإن كان في العادات ،فبحسبِّ القصد .فإن كان القصد
مشروعاا فالعمل صحيح ،وإن كان القصد غير مشروع فهو غير
صحيح) . (5قال ابن ن يجي ي ن م الحنفي» :بيع العصير ممن يتخذه
خمراا إن قصد به التجارةا فل يحرما ،وإن قصد به لجل التخمير
حرما ،وكذا غرس الكرما على هذا .وعلى هذا عصير العنبِّ بقصد
الخلية أو الخمرية .والهجر فرق ثلثا دائر مع القصد ،فإن قصد
هجر المسلم حرما وإل فل ،والحداد للمرأةا على ميت غير زوجها
فوق ثلثة دائر مع القصد ،فإن قصدت ترك الزينة والتطيبِّ لجل
الميت حرما عليها وإل فل«هل) . (6إل أنه وإن كان قصد الحظ
371
مشـروعاا فالتجـرد عن قصد المتثال والتقرب يجعل العمل بل
ثواب إذ ل ثواب إل بالنية.
أما إن كان قصد حظ النفس ممتزجاا بقصد المتثال
والتقرب ،فههنا موضع الخلفَّ والتفصيل .فالقرافي -كما تبين -
فرق بين الرياء وغيره من حظوظ النفس وجعل الول حراماا
ومبطلا للعمال .أما الغزالي فإنه وإن فرق بينهما في الحرمة
والباحة ،فإنه لم يفرق بينهما من حيث أثرهما على العمل الذي
امتزجت فيه المقاصد .قال» :التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس
بمعصية إل أنه يسأل عنه ومن نوقش الحساب عذب ،ومن أتى شيئاا
من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الخرةا ،ولكن ينقص من نعيم
الخرةا له بقدره وناهيك خسراناا بأن يستعجل ما يفنى ويخسر
زيادةا نعيم ل يفنى«هل ) . (1وقال» :نتكلم الن فيمن انبعث لقصد
التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر ،إما من الرياء أو من
غيره من حظوظ النفس ،ومثال ذلك أن يصوما لينتفع بالحمية
الحاصلة بالصوما مع قصد التقرب ،أو يعتق عبداا ليتخلص من
مؤنته وسوء خلقه ،أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر ،أو
يتخلص من شر يعرض له في بلده«هل ) ، (2ثم قال» :وهذه الحظوظ
إن كانت هي الباعثة وحدها فل يخفى شدةا المر على صاحبه فيها،
وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الصلي هو التقرب وانضافت إليه
هذه المور«هل) . (3وقال» :فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث
الديني أو أقوى منه أو أضعف«هل) . (4ثم قال» :إعلم أن العمل إذا لم
يكن خالصاا لوجه ال تعالى بل اقترن به شوب من الرياء أو حظوظ
النفس ،فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثواباا أما يقتضي
عقاباا أما ل يقتضي شيئاا أصلا فل يكون له ول عليه؟ أما الذي لم
372
يرد به إل الرياء فهو عليه قطعاا وهو سببِّ المقت والعقاب وأما
الخالص ل تعالى فهو سببِّ الثواب وإنما النظر في المشوب ،وظاهر
الخبار تدل على أنه ل ثواب له ،وليس تخلو الخبار عن تعارض
فيه ،والذي ينقدح لما فيه -والعلم عند ال -أن ينظر إلى قدر قوةا
الباعث ،فإن كان الباعث الديني مساوياا للباعث النفسي تقاوما
وتساقطا وصار العمل ل له ول عليه ،وإن كان باعث الرياء أغلبِّ
وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفضم للعقاب .نعم
العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم
يمتزج به شائبة التقرب ،وإن كان قصد التقرب أغلبِّ بالضافة إلى
الباعث الخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوةا الباعث الديني«هل ). (1
وذهبِّ إلى أن طلبِّ الدنيا ليس حراماا ولكن طلبها بأعمال الدين
حراما لما فيه من الرياء وتغيير العبادةا عن موضعها ). (2
وقد عارضه في ذلك القرافي والشاطبي .أما القرافي فقال:
»وكذلك من حج وشرك في حجه غرض المتجر بأن يكون جل
مقصوده أو كله السفر للتجارةا خاصة ويكون الحج إما مقصوداا
مع ذلك أو غير مقصود ،ويقع تابعاا اتفاقاا فهذا أيضاا ل يقدح في
صحة الحج ول يوجبِّ إثماا ول معصيةا ،وكذلك من صاما ليصح
جسده أو ليحصل له زوال مرضم من المراض التي ينافيها الصياما
ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده وأوقع الصوما مع هذه
المقاصد ل تقدح هذه المقاصد في صومه بل أمر بها صاحبِّ الشرع
في قوله » : يا مإعشر الشباب مإن استطاع مإنكم الباءة
)(3
فليتزوأج وأمإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وأجأاء«
أي قاطع فأمر بالصوما لهذا الغرض فلو كان ذلك قادحاا لم يأمر
373
به عليه الصلةا والسلما في العبادات وما معها ومن ذلك أن يجدد
وضوءه وينوي التبرد أو التنظيف وجميع هذه الغراض ل يدخل
فيها تعظيم الخلق«هل) . (1ثم قال» :نعم ،ل يمنع أن هذه الغراض
المخالطة للعبادةا قد تنقص الجر وأن العبادةا إذا تجردت عنه زاد
الجر وعظم الثواب ،أما الثم والبطلن فل سبيل إليه«هل). (2
أما الشاطبي فسيتبيين رأيه بالتفصيل فيما يلي إل أنه ينبغي
التنبه إلى أمرين :الول :أن العمال العيرقييية عن القصد مطلقاا
سواء قصد المتثال أو غيره ،كأعمال المكره والناسي والنائم
والمجنون والصبي وما شاكلها خارجة عن محل البحث هنا.
الثاني :أن العمال التي تتبع النية في صحتها وفي رجاء الثواب
عليها في الخرةا ،أو في صحتها وقبولها في الدنيا إنما هي العمال
المشروعة أصلا ،فإن كان العمل غير مشروع فل يصححه صحة
النية أو صلح القصد .قال الغزالي» :المعاصي :وهي ل تتغير عن
موضعها بالنية ،فل ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموما قوله
عليه السلما »إنما العمال بالنيات« فيظن أن المعصية تنقلبِّ
طاعة بالنية ،كالذي يغتاب إنساناا مراعاةاا لقلبِّ غيره ،أو يطعم
فقيراا من مال غيره ،أو يبني مدرسة أو مسجداا أو رباطاا بمالم
حراما وقصده الخير .فهذا كله جهل ،والنية ل تؤثر في إخراجه عن
كونه ظلماا وعدواناا ومعصيةا ،بل قصده الخير بالشر على خلفَّ
مقتضى الشرع شري آخر ،فإن عرفه فهو معاند للشرع .وإن جهله
فهو عاصم بجهله إذ طلبِّ العلم فريضة على كل مسلم .والخيرات
إنما يعرفَّ كونها خيرات بالشرع ،فكيف يمكن أن يكون الشر
خيراا؟ هيهات«هل). (3
وقال ابن رجبِّ الحنبلي» :فإن الدين كلــه ير جــع إ لــى ف عــل
المأمورات وترك المحظورات والتوقف على الشبهات«هل) ، (4ثم قــال:
القرافي شهاب الدين ،الفروق ،الفرق . 3/23 ، 122 )( 1
ابن رجبِّ الحنبلي ،جامع العلوما والحكم ،ص. 20 : )( 4
374
»وإنما يتم ذلك بأمرين :أحدهما أن يكون العمل في ظــاهره علــى
موافقة السنة وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة» :مإــن أحــدثا
في أمإرنا هذا مإا ليس مإنــه فهــو رد«) ، (1والثاني :أن يكــون
العمل في باطنه يقصد بــه و جــه ا لــ ك مــا ت ضــمنه حــديث ع مــر:
»العمال بالنيات« .وقال الفضيل في قوله تعالى [ :
، (2) ] قال :أخلصه وأصوبه ،وقال :إن العمل إذا
كان خالصاا ولم يكن صواباا لم يقبل ،وإذا كان صـواباا ولــم يكـن
خالصاا لم يقبل حتى يكون خال صــاا و صــواباا ،قــال :وال خــالص إذا
كان ل عز وجل ،والصواب إذا كان على السنة«هل ). (3
العلم في باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلفَّ الرسول من غير
علم فحكمه مردود» :مإن عمل عمل ا ليس عليه أمإرنا فهو رد«،
ومسلم في القضية في باب نقض الحكاما الباطلة ورد محدثات المور )
،( 1718وأبو داود ) ،( 1406وابن ماجه ) . ( 14وأحمد ) ( 24840و)
،( 24995وفي بعض الروايات :فيه بدل منه.
) ( سورةا الملك . 2 ،وهود. 7 ، 2
375
المبحث الثاني
أعمال المكلف وأمإقاصده
أثار مإقاصد المكلف فـي العمال عند
الشاطبي:
العمال نوعان :أعمال مشروعة وأعمال غير مشروعة،
والمقصود بهذا البحث الن العمال المشروعة .أما العمال غير
المشروعة فهي موضوع البحث اللحق.
وقاعدةا» :المور بمقاصدها«هل معتبرةا عند الشاطبي بالمعنى
نفسه المذكور عن د الفقهاء في المبحث السابق ،وإن لم يذكرها
بنصها .قال» :إن العمال بالنيات والمقاصد معتبرةا في التصرفات
من العبادات والعادات والدلة على هذا المعنى ل تنحصر ،ويكفيك
منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادةا وما هو عبادةا ،وفي العبادات
بين ما هو واجبِّ وغير واجبِّ ،وفي العادات بين الواجبِّ والمندوب
والمباح والمكروه والمحرما والصحيح والفاسد وغير ذلك من
الحكاما .والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادةا ،ويقصد به شيء
آخر فل يكون كذلك ،بل يقصد به شيء فيكون إيماناا ،ويقصد به
شيء آخر فيكون كفراا ،كالسجود ل أو للصنم .وأيضاا فالعمل إذا
تعلق به القصد تعلقت به الحكاما التكليفية وإذا عري عن القصد لم
يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون«هل) ، (1وقال:
»فإن العمال كلها الداخلة تحت الختيار ل تصير تعبدية إل مع
القصد إلى ذلك .أما ما وضع على التعبد كالصلةا والحج وغيرها
فل إشكال فيه ،وأما العاديات فل تصير تعبديات إل بالنيات«هل). (2
والعمال المشروعة إما أن يقصد المكلف من قيامه بها
المتثال فقط ،وهي المقاصد الصلية .وإما أن يقصد حظوظه فقط
376
وهي المقاصد التابعة .وإما أن يقصد المرين معاا.
فإذ كان قاصداا للمتثال غير ناظر إلى ما يعود به ذلك عليه
من حظوظ دنيوية فذلك هو أزكى العمال وأعلها مرتبةا .ومع
ذلك فإن حظوظه تحصل ضمن ذلك .وإذا راعى حظوظه وقصدها
بعمله ،ولكنه قصد المتثال فلم يسعي إلى حظوظه إل من طريقها
المشروع فعمله شرعي ول إشكال في صحته .يقول» :العمل إذا
وقع على ويفق المقاصد الشرعية ،فإما على المقاصد الصلية أو
المقاصد التابعة«هل) . (1وقال» :فإذا وقع على مقتضى المقاصد
الصلية بحيث راعاها في العمل فل إشكال في صحته وسلمته
مطلقاا فيما كان بريئاا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ لنه
مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع«هل ). (2
وقال» :المقصد الول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى
كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدةا.
فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع ،إما بعد فهم ما قصد
وإما لمجرد امتثال المر ،وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده
الشارع ،وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأولها ،وأنه
نور صرفَّ ل يشوبه غرض ول حظ كان المتلقي له على هذا الوجه
آخذاا له زكياا وافياا كاملا غير مشوب ول قاصر عن مراد
الشارع ...وأما القصد التابع فل يترتبِّ عليه ذلك كله ،لن آخذ
المر والنهي بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلقه وخص عمومه
فل ينهض نهوض الول«هل) . (3ولذلك يقول» :إن العمل على
المقاصد الصلية يصير الطاعة أعظم ،وإذا خولفت كانت معصيتها
أعظم«هل). (4
377
ويعود هذا إلى منهجه في السباب والمسببات .أما إذا كان
العمل موافقاا لمقاصد الشريعة ،إل أن موافقته كانت بالعرض أو
اضطراراا أي عن غير قصدم للموافقة ،فإن العمل يكون صحيحاا
بمعنىا وباطلا بمعنىا آخر .فهو صحيح بمعنى أنه تترتبِّ عليه
آثاره في الدنيا ،فهو مبرئ للذمة ومحصل للملك واستباحة
البضاع ،ومسقط للقضاء فيما فيه قضاء .وهو باطل بمعنى عدما
ترتيبِّ الثواب عليه .وربما لحق الفاعل ذما وإثم ،حسبِّ القصد
والنية قال » : إنما العمال بالنيات« وتختلف أحكاما العبادات
في هذا المر عن أحكاما العادات .وللشاطبي في هذا استقصاء ونقاش
مطول أشير إليه بإيجاز .يقول» :إن ما تيعيبيقدي العباد به على
ضربين :أحدهما العبادات ...والثاني العادات .أما الول :فل يخلو
أن يكون الحظ المطـلـوب دنـيـوياا أو أخروياا ،فإن كان أخروياا
فهذا حظ قد أثبته الشرع) ... (1وإذا ثبت شرعاا فطـلـبـه من حيث
أثبته صحيح ...وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا
فهو قسـمـان :قـسـم يرجع إلى صلح الهيئة وحسن الظن عند
الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله ،وقسم يرجع إلى نيل حظه في
الدنيا وهذا ضربان أحدهما يرجع إلى ما يخص النسان في نفسه مع
الغفلة عن مراءاةا الناس بالعمل ،والخر يرجع إلى المراءاةا لينال
بذلك مالا أو جاهاا أو غير ذلك فهذه ثلثة أقساما :أحدها يرجـع
إلى تحـسـين الظـن عند الناس واعتقاد الفضيلة ،فإن كان هذا
القصد متبوعاا فل إشكال في أنه ريـاء لنـه إنـمـا يبعثه على
العبادةا قصدي الحمد وأن ييظن به الخير وينجريي مع ذلك كونه
يصـلي فـرضـه أو نـفـلـه وهذا بييقن ،وإن كان تابعاا فهو محل
نظر واجتهاد واختلف العلماء في هذا الصل«هل) ، (2ويميل الشاطبي
إلى تصحيح العبادةا في هذه الحالة وهي فيما لو كان طلبِّ حسن
الظن به تابعاا وليس متبوعاا .يقول» :في الرجل الذي يصلي ل ثم
378
يقع في نفسه أنه يحبِّ أن ييعلم ويحبِّ أن ييلقي في طريق المسجد
ويكره أن يلق ى في طريق غيره ...أي إن الشيطان يأتي للنسان إذا
سره مرأى الناس له على الخير ويقوله له :إنك لمراءم وليس
كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه ل ييملك«هل) ، (1ثم يأتي بحججه
على ذلك ،ثم يتابع ذكر القساما الثلثة ،يقول» :والثاني ما يرجع
إلى ما يخص النسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاةا الغير ،وله
أمثلة أحدها :الصلةا في المسجد للنس بالجيران ،أو الصلةا بالليل
لمراقبة أو مراصدةا أو مطالعة أحوال ،والثاني :الصوما توفيراا
للمال أو استراحة من عمل الطعاما وطبخه أو احتماءا للم يجده أو
مرض يتوقعه أو بطنةم تقدمت له ،الثالث :الصدقة للذةا السخاء
والتفضل على الناس ...السابع :الوضوء تبرداا ،الثامن :العتكافَّ
فراراا من الكـراء ...الحـادي عشـر :الحج ماشـياا ليتوفر له
الكـراء وهـذا المـوضـع أيـضـاا محل اختلفَّ إذا كان القصد
المذكور تابعاا لقصد العبادةا«هل ) ، (2وذهبِّ الشاطبي إلى تصحيح
العبادةا هنا وإن كان الولى إفراد قصد العبادةا عن قصد المور
الدنيوية .أما القسم الثالث فيقول فيه» :والثالث ما يرجع إلى
المراءاةا ...فهو الرياء المذمـوما شـرعاا وأدهى ما فيه فعل
المنافقين الداخلين في السلما ظاهراا بقصد إحراز دمائهم
وأموالهم«هل ). (3
هذا بالنسبة للقسم الول المتعلق بالعبادات ،أما القسم الثاني
المتعلق بالعادات فيقول فيه» :وأما الثاني وهو أن يكون العمل
إصلحاا للعادات الجارية بين العباد كالنكاح والبيع والجارةا...
فهو حظ أيضاا قد أثبته الشارع وراعاه في الوامر والنواهي وعلم
ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له ،وإذا عيلم ذلك بإطلق
فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع فكان حقاا
379
وصحيحاا«...هل ). (1
ويقول» :طالبِّ الحظ إذا لم يقصد المتثال على حال وإنما
طلبِّ حظه مجرداا بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لخذ
به ،لكنه لم يقدر عليه إل بالوجه المشروع فهل يكون القصد الول
في حقه موجوداا...؟ فالجواب إنه موجود ...لنه إذا لم يكن له
سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع فرجوعه إلى الوجه
المشروع قصد إليه ،وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال المر أو
العمل بمقتضى الذن ،وهو القصد الول الصلي وإن لم يشعر به
على التفصيل«هل). (2
ويقول» :أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارااي كالقاصد
لنيل لذته من المرأةا الفلنية ولما لم يمكنه بالزنى لمتناعها أو
لمنع أهلها عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد ،فهذا
أيضاا باطل بالطلق الثاني لنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إل
مضطراا ومن حيث كان موصلا إلى غرضه ل من حيث إباحة
الشرع وإن كان غير باطل بالطلق الول ،ومثل ذلك الزكاةا
المأخوذةا كرهاا فإنها صحيحة على الطلق الول إذا كانت
مسقطة للقضاء ومبرئة للذمة وباطلة على هذا الطلق الثاني«هل)، (3
والمراد بالنصين أعله أن العمل نفسه في النكاح أو الزكاةا ،ل إثم
عليه في الول ومبرئ للذمة في الثاني ،فالعمل ذاته صحيح ،أما
البطلن ،وربما يلحقه فيه الثم فهو لعمل آخر هو نيته وقصده
للمخالفة وهو من أعمال القلوب.
ولبيان موقف الشاطبي هنا بدقة ل بد من الشارةا إلى تفريقه
بين القياما بالفعل الموافق لقصد الشارع بقصد الموافقة اضطراراا
كما في النكاح المذكور أعله ،وبين القياما بالفعل نفسه من غير
380
اكتراثا بالموافقة والمخالفة ،وإنما وقعت الموافقة اتفاقاا أي من
غير قصد إليها من المكلف ،وبين القياما بالفعل نفسه ولكن بقصد
المخالفة ،وإنما حصلت الموافقة خطأا .أما الول فقد تبين .وأما
الثاني فحكمه عدما الصحة في العبادات ،وفي العادات الصحة) . (1وأما
الثالث فحكمه كالثاني ...وفي كل الحالت فإن الثم يلحق من
يقصد المخالفة لقصد الشارع أو من ل يكترثا له .يقول» :إذا قصد
مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف ل اعتبار بما
خالف فيه لنه مخالف القصد بإطلق ،وفي العادات الصل اعتبار ما
وافق دون ما خالف لن ما ل تشترط النية في صحته من العمال ل
اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ول مخالفته كمن عقد عقداا
يقصد أنه فاسد فكان صحيحاا أو شرب جلباا يظنه خمراا إل أن
عليه في قصد المخالفة درك الثم ،وأما إذا لم يقصد موافقةا ول
مخالفةا فهو العمل على مجرد الحظ أو الغفلة ،وحكمه في العبادات
عدما الصحة لعدما نية المتثال ،وفي العادات الصحة إن وافق قصد
الشارع«هل). ( 2
أي أن نية المتثال شرط في صحة العبادات ،أما العادات فل،
ول تبطل أو تفسد أعمال العادات بعدما قصد المتثال ،ول إذا لم
يخطر قصد المتثال بالبال.
قال» :العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة فل يخلو أن
تصاحبه المقاصد الصلية أو ل .أما الول فعمل بالمتثال بل إشكال
وإن كان سعياا في حظ النفس وأما الثاني فعمل بالحظ والهوى
مجرداا«هل ). (3
ثم فسر الشاطبي مراده بالمصاحبة وبالهوى ،فقال:
»والمصاحبة إما بالفعل ومثاله أن يقول مثلا :هذا المأكول أو
381
هذا الملبوس ،أو هذا الملموس أباح لي الشرع الستمتاع به فأنا
أستمتع بالمباح وأعمل باستجلبه لنه مأذون فيه .وإما بالقوةا
ومثاله أن يدخل في التسببِّ إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه،
ولكن نفس الذن لم يخطر بباله ،وإنما خطر له أن هذا ييتيويصييل
إليه من الطريق الفلني ،فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم
كالول إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحاا إل
) (
أن المصاحبة بالفعل أعلى«هل . 1وبذلك فإن الشاطبي يخالف بل
يناقض الغزالي في هذه المسألة بشكل كبير .وخاصة في موضوع
الخلص والتشريك في المقاصد .يقول» :فإن قيل :كيف يتأتى
قصد الشارع للخلص في العمال العادية وعدما التشريك فيها؟
قيل :معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع .ل يقصد
بها عمل جاهلي ،ول اختراع شيطاني ،ول تشبه بغير أهل الملة
كشرب الماء أو العسل في صورةا شرب الخمر ،وأكل ما صنع
لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم ،أو ما ذبح على
مضاهاةا الجاهلية ،وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم
الشرك«هل) ، (2وهذا هو تفصيل ما قاله في كتاب الحكاما حيث قال:
»إن المور العادية إنما يعتبر في صحتها أن ل تكون مناقضة لقصد
الشارع ،ول يشترط ظهور الموافقة«هل ). (3
الموافقة وأالمخالفة لقصد الشارع:
تبين سابقاا أن مقاصد الشارع ضربان :أصلية وتابعة ،أما
الصلية فهي التي ل حظ فيها للمكلف .وهي تعني إيقاع الفعل أو
الكف عنه بناء على المر أو النهي من غير نظر إلى الحظوظ أو
النتائج ،والحظوظ إنما تحصل ضمن التزاما التكليف .أما المقاصد
التابعة ،فهي مقاصد شرعية روعي فيها حظ المكلف كالملك
382
والستمتاع وما إلى ذلك .وهذه مقاصد يصح للمكلف أن يقصدها
بأعماله ،وقد شرع ال -سبحانه وتعالى -أحكاماا لجلها .فكانت
الحكاما أسباباا لها ،وكانت هذه الحظوظ مقاصد شرعية ،فيصح
للمكلف أن يقصدها بهذه السباب ،كما يصح له أن ل يقصدها ،وإنما
يقصد بتلك السباب المتثال فقط.
وحسبِّ القسمة العقلية فإن أعمال المكلف قد تكون موافقة
للمر والنهي ،فتكون صورةا الفعل شرعية ،ولكن مقصد العامل من
عمله قد يكون شرعياا وقد يكون غير شرعي ،أي قد يكون موافقاا
وقد يكون مخالفاا.
وكذلك يمكن أن يكون العمل مخالفاا للمر أو النهي ،فتكون
صورةا الفعل غير شرعية ،ولكن مقصد العامل قد يكون شرعياا وقد
يكون غير شرعي.
فهذه أربعة أقـسـاما فصييـلـهـا الشاطبي .وإن سبقت الشارةا
إلى شيء من ذلك في البحث السـابـق فذلك مـن حـيـث
المـوافـقـة أو عدما الموافقة لقصد الشارع وليس من حيث
المخالفة لقصد الشارع.
وثمة قسم خامس سيشار إليه بعد بيان هذه القساما الربعة
وهو إذا ما كان الفعل شرعياا والقصد شرعياا ولكن الفعل لم يشرع
لهذا القصد وإنما لغيره ،وكذلك الحظ أو القصد عموماا لم يكن
مقصوداا للشارع بهذا الفعل ،وإنما بغيره .وذلك كقطع اليد ،فهو
فعل شرعي ،وقصد الزجر فهو قصد شرعي .ولكن قطع يد المرتد
أو الزاني ليس شرعياا .لن قطع اليد وهو شرعي لم يوضع لزجر
المرتد أو الزاني وإن كان زجرهما شرعياا.
أما القساما الربعة فيقول فيها الشاطبي» :فاعل الفعل أو
تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقاا أو مخالفاا ،وعلى كل
التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته فالجميع
أربعة أقساما .أحدها :أن يكون موافقاا وقصده الموافقة كالصلةا
383
والصياما والصدقة والحج وغيرها يقصد بها امتثال أمر ال تعالى
وأداء ما وجبِّ عليه أو ندب إليه وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر
المنكرات يقصد بذلك المتثال ،فل إشكال في صحة هذا العمل.
والثاني :أن يكون مخالفاا وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل
المحرمات قاصداا لذلك ،فهذا أيضاا ظاهر الحكم .والثالث :أن
يكون الفعل أو الترك موافقاا وقصده المخالفة وهو ضربان:
أحدهما :أن ل يعلم بكون الفعل أو الترك موافقاا .والخر :أن يعلم
بذلك .فالول كواطئ زوجته ظاناا أنها أجنبية وشارب الجلب
ظاناا أنه خمر وتارك الصلةا يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد
أوقعها وبرئ منها في نفس المر فهذا الضرب قد حصل فيه قصد
العصيان بالمخالفة«هل) . (1قال» :وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه
منتهكاا حرمة المر والنهي فهو عاصم بمجرد القصد غير عاصم
بمجرد العمل وتحقيقه أنه آثم من جهة حق ال غير آثم من جهة
حق الدمي ،كالغاصبِّ لما يظنه أنه متاع المغصوب منه فإذا هو
متاع الغاصبِّ نفسه ،فل طلبِّ عليه لمن قصد الغصبِّ منه وعليه
الطلبِّ من جهة حرمة المر والنهي .والقاعدةا أن كل تكليف مشتمل
على حق ال وحق العبد«هل). ( 2
أما الضرب الثاني فقال فيه» :والثاني :أن يكون الفعل أو
الترك موافقاا إل انه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة.
ومثاله أن يصلي رياءا لينال دنيا أو تعظيماا عند الناس أو ليدرأ عن
نفسه القتل وما أشبه ذلك .فهذا القسم أشد من الذي قبله وحاصله
أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد
وسائل لمورم أخر لم يقصد الشارع جعلها لها ،فيدخل تحته النفاق
والرياء والحيل على أحكاما ال تعالى وذلك كله باطـل لن
) ( المصدر نفسه ، 235 / 2 ،وسنتحدثا في بحث منفصل في هذا الفصل عن 2
384
القصـد مخالـف لقصد الشارع عيناا فل يصح جملةا«هل). (1
أما القسم الرابع وهو أن يكون الفعل أو الترك مخالفاا
والقصد موافقاا ،فالشاطبي يستقصي فيه ويتوسع .يقول» :والقسم
الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفاا والقصد موافقاا ،فهو أيضاا
ضربان .أحدهما :أن يكون مع العلم بالمخالفة ،والخر :أن يكون
مع الجهل بذلك .فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو البتداع
كإنشاء العبادات المستأنفة والزيادات على ما شرع ،ولكن الغالبِّ أن
ل يتجرأ عليه إل بنوع تأويل ومع ذلك فهو مذموما حسبما جاء في
القرآن والسنة«هل). (2
وأما إن كان العمل مخالفاا للمر أو النهي مع الجهل
بالمخالفة ،ولكن القصد موافق لقصد الشارع والعامل قاصد
للموافقة ،فهذا موضع نظر واجتهاد وخلفَّ وليس في الحكم فيه
قاعدةا واحدةا .وقد أشار الشاطبي إلى أنها مسألة شـائكة .وذلك
أنها ل يمكن الحكم فيها بالبطلن إذ صحة القصد في العمل مؤثر
في الحكم فيـه ،ول يمكن الحكم بالصحة إذ مخالفة المر والنهي
مؤثر فيه أيضاا.
قال» :وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله
وجهان .أحدهما :كون القصد موافقاا فليس بمخالف من هذا
الوجه .والعمل وإن كان مخالفاا فالعمال بالنيات ونية هذا العامل
على الموافقة ،لكن الجهل أوقعه في المخالفة ،ومن ل يقصد
مخالفة الشارع كفاحاا ل يجري مجرى المخالفة بالقصد والعمل
معاا .فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة ل مطرح على
الطلق .والثاني :كون العمل مخالفاا فإن قصد الشارع بالمر
والنهي المتثال فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده ،ول يعارض
المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل لنه لم يحصل قصد
) ( الشاطبي ،الموافقات . 2/236 ، 1
385
الشارع في ذلك العمل على وجه ،ول طابق القصد العمل فصار
المجموع مخالفاا كما لو خولف فيهما معاا فل يحصل
المتثال«هل ) . (1ثم قال» :وكل الوجهين يعارض الخر في نفسه
ويعارضه في الترجيح لنك إن رجحت أحدها عارضك في الخر
وجه مرجح فيتعارضان أيضاا .ولذلك صار هذا المحل غامضاا في
) (
الشريعة«هل . 2
فعدما حصول المتثال يؤدي إلى الحكم بالبطلن ،إل أن صحة
القصد مع الجهل بالمخالفة يوجبِّ الستدراك بأن الجهل قد يقع في
الشريعة موقع النسيان أو الخطأ الذي ل مؤاخذةا فيه) . (3لذلك فقد
تصحح بعض هذه العمال .ولكنه لم يبين قاعدةا في ذلك .قال:
»فإن قيل :قوله عليه الصلةا والسلما» :إنما العمال بالنيات«
يبين أن هذه العمال وإن خالفت قد تيعتبر فإن المقاصد أرواح
العمال ،فقد صار العمل ذا روحم على الجملة .وإذا كان كذلك
اعتيبقر ،بخلفَّ ما إذا خالف القصد ووافق العمل أو خالفهما معاا
فإنه جسد بل روح فل يصدق عليه مقتضى قوله» :العمال
بالنيات« لعدما النية في العمل ،قيل :إن سيلم فمعارضي بقوله
عليه الصلةا والسلما» :كل عمل ليس عليه أمإرنا فهو
رد«) ، (4وهذا العمل ليس بموافق لمره عليه الصلةا والسلما ،فلم يكن
معتبراا بل كان مردوداا وأيضاا فإذا لم ينتفع بجسدم بل روح
كذلك ل ينتفع بروحم في غير جسد«هل) ، ( 5ثم قال» :فكانت المسألة
مشكلةا جداا«هل). ( 6
وهكذا ،فهل يعتبر جانبِّ القصد الموافق فيصحح العمل أو
) ( المصدر نفسه . 2/238 ، 1
) ( تقدما تخريجه عند حديث» :مإن أحدثا في أمإرنا هــذا مإــا ليــس 4
386
يعتبر جانبِّ العمل المخالف فيبطل العمل ،أو يعتبر الجانبان ؟ ). (1
يذهبِّ الشاطبي إلى وجوب إعمال الجانبين ،فما يمكن
تصحيحه يصحح كالسهو في الصلةا .وما يمكن تلفيه ييتلفى
كما في مسألة المفقود إذا تزوجت زوجته ثم قدما .فيتلفى الخطأ
بأن يكون الول أولى بها .أو أن يكون الول أولى بها إذا قدما قبل
نكاحها .وما ل يمكن تلفيه يهمل .وعبارةا الشاطبي في ذلك:
»وأهمل ما يجبِّ أن يهمل مما ل تلفي فيه«هل ) . (2ومثال ذلك:
الكل ناسياا في رمضان ،وفي مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته
وقدما بعد نكاحها فهي للثاني ). (3
ومن أقوال الشاطبي في إعمال الجانبين قوله» :فأعمل
مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة ،وأعمل مقتضى
المخالفة في عدما البناء على ذلك الفعل وعدما العتماد عليه ،حتى
صحح ما يجبِّ أن يصحح مما فيه تلفَّم ميلا إلى جهة القصد أيضاا،
وأهمل ما يجبِّ أن يهمل مما ل تلفي فيه«هل) . ( 4وقال» :فعدييوا من
خالف في الفعال والقوال جهلا على حكم الناسي«هل) ، ( 5قال» :وهو
بييقن في الطهارات والصلةا والصياما والحج وغير ذلك من العبادات،
وكذلك في كثير من العادات كالنكاح والطلق والطعمة
والشربة ومما استدل به الدلة الدالة على رفع المؤاخذةا في الخطأ
والنسيان.
أما في الخطأ في المور المالية ،فإنه يعتبر فيها جانبِّ القصد
بالنسبة للخرةا ،ويعتبر جانبِّ العمل بالنسبة لحق الغير في الدنيا
ولذلك فإنها تضمن ويكون الجهل فيها كالعلم أو العمد .قال:
) ( نذكر هنا أن المخالفة هي مع الجهل بالمخالفة ،أي مع توهم أنها غير 1
مخالفة.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 2/240 ، 2
387
»في المور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد لنا نقول:
الحكم في التضمين في الموال آخر لن الخطأ فيها مساوم للعمد في
ترتبِّ الغرماق في إتلفها«هل). (1
ومن المتفـق عليه أن الخطأ في العمل إذا لم يكن بقصد
المخالفة ،أو إذا كان مع قصد الموافقة لقصد الشارع ،فإن
المؤاخذةا الخروية عليه مرفوعة ،وكذلك من المتفق عليه أن
هذه المؤاخذةا ليست مرفوعة بإطلق أي في الدنيا والخرةا ،قال
الشاطبي» :وفي الحديث» :رفع عن أمإتي الخطأ وأالنسيان
وأمإا استكرهوا عليه«) ، (2وهو معنى متفق عليه في الجملة ل
مخالف فيه وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذةا هل ذلك
مختص بالمؤاخذةا الخروية خاصة أما ل فلم يختلفوا أيضاا أن رفع
المؤاخذةا بإطلق ل يصح«هل). (4)(3
أما القسم الخامس وهو أن يكون الفعل شرعياا والمقصد
شرعياا ولكن الفعل لم يوضع شرعاا لهذا المقصد ،أو لم يوضع في
الشرع سبباا لهذا المسببِّ فقد تبين ضمن النوع الرابع من مقاصد
الشارع تحت عنوان التلزما الشرعي بين السببِّ والمسببِّ ،وفيما يلي
بيانه كما جاء عند الشاطبي في قسم مقاصد المكلف.
) ( أخرجه ابن ماجة في باب طلق المكره والناسي ) ( 2033و) ( 2034 2
) ( قال السيوطي » :إعلم أن قاعدةا الفقه » :إن النسيان والجهل مسقط 4
للثم مطلقاا« وأما الحكم فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط بل يجبِّ
تداركه ول يحصل الثواب المترتبِّ عليه لعدما الئتمار ،أو فعل منهي ليس
من باب التلفَّ فل شيء فيه ،أو فيه إتلفَّ لم يسقط الضمان فإن كان
يوجبِّ عقوبةا كان شبهةا في إسقاطها«هل الشباه والنظائر ،ص- 239 :
. 240وانظر القول في الجاهل والناسي والمكره ،ص 374 - 337 :من
الكتاب نفسه .
388
موافقاا لقصده في التشريع«هل ) ، (1أي أن المكلف وإن قاما بالفعل
بقصد المتثال موافقاا للمر والنهي ،أي بحسبِّ المقاصد الصلية،
)(2
فيجبِّ أيضاا أن تكون النتائج المقصودةا ،إن وجدت لدى المكلف
موافقة للمقاصد التابعة .فإذا قصد المكلف من العمل مصلحةا أو
حظاا أو نتيجةا ،فيجبِّ أن تكون هذه النتيجة قد قصد الشارع
حصولها بهذا العمل .وإل فقصدها بهذا العمل أو بهذا الطريق يعني
مخالفة قصد الشارع .والمقاصد من التشريع ،وضع لها الشارع
أعمالا فإذا قصد المكلف بهذه العمال مقاصد غيريها ففي هذا
مخالفة من جهة أن المكلف قد جعل هذه المقاصد وسائل لغيرها
وهي ليست كذلك في الشرع ،ومخالفة أيضاا من جهة أن المقاصد
الشرعية التي قصدها المكلف قد جعل لها الشارع أعمالا فاتخاذ
أعمال غير ما جعله الشارع هو إهمال لما شرع ال .قال الشاطبي:
»كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض
الشريعة ،وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل ،فمن ابتغى في
تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل«هل) . (3وقال» :فإذا قصد
المكلف عين ما قصد الشارع بالذن فقد قصد وجه المصلحة على
أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له ،وإن قصد غير ما قصده
الشارع وذلك إنما يكون في الغالبِّ لتوهم أن المصلحة فيما قصد
لن العاقل ل يقصد وجه المفسدةا كفاحاا ،فقد جعل ما قصد الشارع
مهمل العتبار ،وما أهمل الشارع مقصوداا معتبراا ،وذلك مضادةا
للشريعة ظاهرةا«هل). (4
جانبِّ قصده المتثال ويمكن له أن ل يقصدها ،ولهذا قلنا :إن و جــدت لــدى
المكلف .وهو إن لم يقصدها وقصد المتثال فقط ،فهي تح صــل لــه ضــمن
امتثاله ،وهذا العمل أزكى وأعلى مرتبةا.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 2/231 ، 3
389
وقال» :إن المكلف إنما كلف بالعمال من جهة قصد الشارع
بها في المر والنهي ،فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد
وسائل لما قيصيدي ل مقاصد إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون
مقصودةاا ،بل قصد قصداا آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له فصار
ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده ،وما كان شأنه هذا نقض
لبراما الشارع وهدما لما بناه«هل). (1
390
المبحث الثالث
حـَيـل
ال ِ
تعريفها:
قال الشاطبي في تعريف الحيل» :فإن حقيقتها تقديم عمل
ظاهر الجواز لبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم
آخر«هل ) . (1وقال» :كالواهبِّ ماله عند رأس الحول فراراا من
الزكاةا .فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاةا من غير هبةم
لكان ممنوعاا«هل). (2
والحكاما التي يمكن أن تنقلبِّ إنما هي الحكاما التي توجد أو
ترتفع بحسبِّ أسباب أو شروط أو موانع ،بحيث يكون للمكلف يد في
إيجاد أو رفع هذه السباب أو الشروط أو الموانع ،فإن لم يكن له يد
فيها بأن كانت خارجةا عن مقدوره فل تدخلها الحيل ،لن الحيلة
هي عمل من المكلف .قال الشاطبي» :الفعال الواقعة في الوجود
المقتضية لمور تشرع لجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة
ضربان .أحدهما خارج عن مقدور المكلف والخر ما يصح دخوله
تحت مقدوره ،فالول قد يكون سبباا ويكون شرطاا ويكون
مانعاا«هل) . (3فالسببِّ مثل كون الضطرار سبباا في إباحة الميتة،
وخوفَّ العنت سبباا في إباحة نكاح الماء ،والسلس سبباا في إسقاط
وجوب الوضوء لكل صلةا مع وجود الخارج ،وزوال الشمس أو
غروبها أو طلوع الفجر سبباا في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه
الشاطبي ،الموافقات ، 4/114 ،وقال ابن نجيم الحنفي فــي كتــابه )( 1
الشباه والنظائر » :فن الحيل جمع حيلة وهي الحذق فــي تــدبير ال مــور.
وهي تقليبِّ الفكر حتى يهتدي إلى ال مــور« .و قــال » :واختلــف م شــايخنا
رحمهم ال في التعبير عن ذلك ،فاختــار كــثير الت عــبير بكتــاب الحيــل،
واختار كثير كتاب ال م خارج« ،ص. 477 :
) ( الموضع نفسه . 2
391
ذلك .والشروط ككون الحول شرطاا في إيجاب الزكاةا والبلوغِّ
شرطاا في التكليف مطلقاا ،والقدرةا على التسليم شرطاا في صحة
البيع والرشد شرطاا في دفع مال اليتيم ،وإرسال الرسل شرطاا في
الثواب والعقاب وما كان نحو ذلك .والمانع ككون الحيض مانعاا
من الوطء والطلق والطوافَّ بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصياما
والجنون مانعاا من القياما بالعبادات وإطلق التصرفات وما أشبه
ذلك.
أما الضرب الثاني فهو المقدور للمكلف .فيقدر على إيجاد
السببِّ أو الشرط أو المانع أو يقدر على رفعه فيتسببِّ بتغيير
الحكم الشرعي .ومن أمثلته» :أما الس ـ ببِّ فمثل كون النكاح سبباا
في حصول التوارثا بين الزوجين ،وتحريم المصاهرةا وحلية
الستمتاع ،وال ذ كاةا سبباا لحلية الستمتاع بالكل ،والسفر سبباا
في إباحة القصر والفطر ،والقتل والجرح سبباا للقصاص ،والزنى
وشرب الخمر والسرقة والقذفَّ أسباباا لحصول تلك العقوبات وما
أشبه ذلك«هل) . (1ومن أمثلة الشرط كون النكاح شرطاا في وقوع
الطلق أو في حل مراجعة المطلقة ثلثاا والحصان شرطاا في رجم
الزاني ،والطهارةا شرطاا في صحة الصلةا ،والنية شرطاا في
العبادات«هل ) . (2ومن أمثلة المانع »ككون نكاح الخت مانعاا من نكاح
الخرى ،ونكاح المرأةا مانعاا من نكاح عمتها وخالتها ،واليمان
)(3
مانعاا من القصاص للكافر ،والكفر مانعاا من قبول الطاعات«هل .
فهذا ،الضرب الثاني يستطيع المكلف فيه أن يأتي بهذه العمال
التي هي أسباب أو شروط أو موانع لغيرها فيتسببِّ في تغيير الحكم
الشرعي .وهو قد يقوما بهذه العمال بقصد امتثال أمر الشارع فيها
أو تحصيل مقاصدها الشرعية ،أو بقصد تغيير الحكاما .فإن كان
بقصد تغيير الحكاما فهو الحيل .ولذلك كرر الشاطبي ذكر
392
الحيل عند بحثه لهذه الثلثة من أحكاما الوضع :السببِّ والشرط
والمانع ). (1
وقال الشاطبي في زيادةا شرح م ل لحيل لجل النظر في حكم
الشرع فيها» :وقبل النظر في الصحة أو عدمها ل بد من شرح هذا
الحتيال ،وذلك أن ال تعالى أوجبِّ أشياء وحرييما أشياء إما مطلقاا
من غير قيدم ول ترتيبِّ على سببِّ كما أوجبِّ الصلةا والصياما
والحج وأشباه ذلك ،وكما حرما الزنا والربا والقتل ونحوها.
وأوجبِّ أيضاا أشياء مرتبةا على أسباب .وحرييما أيخير كذلك
كإيجاب الزكاةا والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك
وكتحريم المطلقة والنتفاع بالمغصوب أو المسروق وما أشبه
ذلك ،فإذا تسببِّ المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو في
إباحة ذلك المحرما عليه بوجه من وجوه التسببِّ حتى يصير ذلك
الواجبِّ غير واجبِّ في الظاهر أو المحرما حللا في الظاهر أيضاا،
فهذا التسببِّ يسمى حيلةا أو تحيلا كما لو دخل وقت الصلةا عليه
في الحضر فإنها تجبِّ عليه أربعاا فأراد أن يتس ي ببِّ بإسقاطها كلها
بشرب الخمر أو دواء مسبتم حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله
كالمغمى عليه ،أو قصرقها فأنشأ سفراا ليقصر الصلةا ،وكذلك
من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل ،أو كان له مال يقدر على
الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه التلفَّ كي ل يجبِّ عليه
الحج ،وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها وزعم أنها ماتت
فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك ،أو أقاما شهود زورم على تزويج
بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ،أو أراد بيع عشرةا دراهم
بعشرين إلى أجل فجعل العشرةا ثمناا لثوب ثم باع الثوب من البائع
الول بعشرين إلى أجل ،أو أراد قتل فلن فوضع له في طريقه سبباا
مجهزاا كإشراع الرمح وحفر البئر ونحو ذلك ،وكالفرار من
وجوب الزكاةا بهبة المال أو إتلفه أو جمع متفرقه أو تفريق
393
مجتمعه وهكذا سائر المثلة في تحليل الحراما وإسقاط
الواجبِّ«هل ). (1
حكم الشرع فـي الحيل عند الشاطبي:
ذهبِّ الشاطبي إلى أن الحيل في الدين غير مشروعة في
الجملة ،وهذا يعني أ ن هناك حالت قليلةا تشرع فيها الحيل .إذن،
يحتاج المر إلى ضابط يتبين به الحالت التي تشرع فيها الحيل.
والحيل هي أفعال يقوما بها المكلف بقصد تغيير الحكم الشرعي،
وهذا مناقضة لقصد الشارع ،فما هي الحالت التي تصح فيها هذه
المناقضة؟ جواب الشاطبي هو أنه إذا كانت هذه المناقضة هي بقصد
المناقضة أي بقصد هدما مقاصد الشارع فهي محرمة ،أما إذا كانت
هذه المناقضة هي بقصد حفظ مقاصد الشريعة فحينئذم تصح.
قال» :الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعةم في
الجملة«هل) . (2وقد تقدما أن الحيل تكون في السباب وفي الشروط
وفي الموانع .ومن أمثلتها في السباب كما قال» :ففي المذهبِّ أن
من حلف بالطلق أن يقضي فلناا حقه إلى زمان كذا ثم خافَّ
الحنث بعدما القضاء فخالع زوجته حتى انقضى الجل ووقع الحنث
وليست بزوجة أن الحنث ل يقع عليه وإن كان قصده مذموماا
وفعله مذموماا لنه احتال بحيلةم أبطلت حقاا ،فكانت المخالفة
ممنوعةا وإن أث م رت عدما الحنث«هل) . (3ومن أمثلتها أيضاا» :حيل
أهل العي ن ة في جعل السلعة واسطةا في بيع الد ي نار بالدينارين إلى
أجل«هل ). (4
ومن أمثلتها في الشروط ،قال» :إن كان فعله أو تركه من
جهة كونه شرطاا قصداا لسقاط حكم القتضاء في السببِّ أن ل
394
يترتبِّ عليه أثره ،فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل«هل) . (1وقال:
»إن هذا العمل يصييقر ما انعقد سبباا لحكم شرعي جلباا لمصلحةم
أو دفعاا لمفسدةام عبثاا ل حكم له ول منفعة به .وهذا مناقض لما
ثبت في قاعدةا المصالح وأنها معتبرةا في الحكاما وأيضاا فإنه مضاد
لقصد الشارع من جهة أن السببِّ لما انعقد وحصل في الوجود وصار
مقتضياا شرعاا لمسببه لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل
للسببِّ فصار هذا العامل أو التارك بقصد رفع حكم السببِّ قاصداا
لمضادةا الشارع في وضعه سبباا وقد تبين أن مضادةا قصد الشارع
باطلة فهذا العمل باطل«هل). (2
وعلى ذلك فإذا قاما المكلف بالعمل بقصد إبطال الحكم ففعله
مذموما لنه مضاد لقصد الشارع ،أما إذا قاما به لمعنىا من معاني
النتفاع المشروعة ،فإنه جائز وإن كان ينتج عنه إبطال سببِّ أو
تغيير حكم ،وهذا ل يدخل في الحيل أصلا.
وقال رداا على من يقول بجواز التحيل كمن ينفق ماله أو
بعض ماله قبل الحول لدفع وجوب الزكاةا» :إن هذا المعنى إنما
يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السببِّ أما مع القصد إلى ذلك
فهو معنىا غير معتبر لن الشرع شهد له باللغاء على القطع«هل)، (3
ثم قال» :وما ذاك إل لنه أتى بشرط أو رفع شرطاا يرفع عنه ما
اقتضاه السببِّ الول ،فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه
من وجوب الخراج«هل) ، (4ثم قال» :فعلى هذا التيان بالشروط أو
رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه ،وإذا كان منهياا عنه كان
مضاداا لقصد الشارع فيكون ب ا طلا«هل). (5
ومن أمثلته في المانع الرجل عنده نصاب الزكاةا ولكنه
)( المصدر نفسه ، 2/193 ،وانظر :الموافقات ،ج ،1المسائل ،12 ،11 2
395
يستدين فالدين مانع من أداء الزكاةا فإن كان استدان لحاجته إلى
ذلك فهذا ل شيء فيه ،وإن كان استدان لكي ل يترتبِّ عليه وجوب
الزكاةا فهذا عمل غير صحيح .قال» :وإن كان الثاني وهو أن
يفعله مثلا من جهة كونه مانعاا لسقاط حكم السببِّ المقتضي أن
ل يترتبِّ عليه ما اقتضاه فهو عمل غير صحيح«هل). (1
هذا هو موقف الشاطبي من الحيل وهو أنها غير مشروعة بناء
على أنها مضادةا لقصد الشارع .أما قوله» :غير مشروعة في
الجملة«هل فمعناه أن ثمة حالت تكون الحيل فيها مشروعة.
والفيصل في ذلك هو قصد المكلف فإن كان قصده من رفع الحكم
أو تغييره مناقضاا لقصد الشارع فهو حيلة مذمومة ،وإن كان
قصده من الحيلة أي من تغيير الحكم حفظ قصد الشارع فهو حيلة
مشروعة .ومثال الحيلة المشروعة عنده نطق المؤمن بكلمة الكفر
إكراهاا عليها بقصد حفظ النفس .يقول» :فإذا ثبت هذا فالحيل
التي تقدما إبطالها وذمها والنهي عنها هي ما هدما أصلا شرعياا
وناقض مصلحة شرعية ،فإن فرضنا أن الحيلة ل تهدما أصلا شرعياا
ول تناقض مصلحةا شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة م في النهي ول
هي باطلة«هل) ، (2هذا هو الضابط أو الصل عنده في جواز أو بطلن
الحيل .وبناء على ذلك فإن الحيل من حيث حكميها ثلثة أقساما.
قال» :مرجع المر فيها إلى أنها على ثلثة أقساما :أحدها ل خلفَّ
في بطلنه كحيل المنافقين والمرائين ،والثاني ل خلفَّ في جوازه
كالنطق بكلمة الكفر إكراهاا عليها ،فإن نسبة التحيل بها في
إحراز الدما بالقصد الول من غير اعتقادم لمقتضاها كنسبة التحيل
بكلمة السلما في إحراز الدما بالقصد الول كذلك .إل أن هذا
مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية ل مفسدةا فيها بإطلق ل في الدنيا
ول في الخرةا ،بخلفَّ الول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدةا
أخروية بإطلق .والمصالح والمفاسد الخروية مقدمة في العتبار
396
على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق ،إذ ل يصح اعتبار مصلحة
دنيوية تخل بمصالح الخرةا ،فمعلوما أن ما يخل بمصالح الخرةا
غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلا ،ومن هنا جاء في ذما النفاق
وأهله ما جاء .وهكذا سائر ما يجري مجراه .وكل القسمين بالغ
مبلغ القطع .وأما الثالث فهو محل الشكال والغموض وف ي ه
اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح
قطعي لحاقه بالقسم الول أو الثاني ول تبين فيه للشارع مقصد
يتفق على أنه مقصود له ول ظهر على أنه على خلفَّ المصلحة التي
وضعت لها الشريعة بحسبِّ المسألة المفروضة فيه ،فصار هذا
القسم من هذا الوجه متنازعاا فيه شهادةا من المتنازعين بأنه غير
مخالف للمصلحة فالتحيل جائز أو مخالف فالتح ي ل ممنوع .ول
يصح أن يقال إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف
في ذلك قصد الشارع بل إنما أجازه بناء على تحري قصده ،وأن
)(1
مسألته لحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه«هل .
ومعلوما أن القول بجواز الحيل منسوب إلى الحنفية ،لذلك
فإن تقسيم الشاطبي للحيل إلى ثلثة أقساما هو قاعدةا لرجاع
الخلفَّ في حكم الحيل إلى اتفاق ،وهو التفاق على اعتبار القاعدةا
أو الصل بأن حكم الحيلة إنما يرجع إلى كونها تهدما أصلا شرعياا
أو تناقض مصلحة شرعية أو ل .وأن مسائل التحيل التي حصل
الخلفَّ فيها ترجع إلى هذا الصل .وقد ذكر من هذه المسائل
مثالين .أحدهما النكاح الذي يتحيل فيه لتح ل يل المطلقة لمطلقها
ثلثاا .والثاني بيوع الجال التي يتحيل فيها إلى بيع درهم نقداا
بدرهمين إلى أجل وذكر في ذلك حجج المجيزين لهذه الحيل
وحجج المانعين لها .وبي ي ن أثناء بيان القولين أنهما يرجعان إلى
تحري موافقة قصد الشارع وعدما مخالفته ،وموافقة المصالح
الشرعية التي شهد الشرع باعتبارها وعدما مناقضتها .ثم قال:
»ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل
397
ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما«هل). (1
ومما يجدر ذكره هنا هو أن مسائل الحيل تختلط بمسائل
الذرائع إذ إن الحيلة نفسها هي ذريعة .وكما جعل الشاطبي الحيل
ثلثة أقساما فالذرائع أيضاا ثلثة أقساما .قال عند حديثه عن الحيل
المختلف في حكمها» :وقول القائل إن هذا مبني على قاعدةا القول
بالذرائع غير م ف يد هنا فإن الذرائع على ثلثة أقساما :منها :ما يسد
باتفاق… ومنها ما ل يسد باتفاق… ومنها ما هو مختلف فيه«هل). (2
وكذلك فإن القاعدةا في حكم الحيل مبنية على أصل مآلت
الفعال .قال» :ومنها ) (3قاعدةا الحيل فإن حقيقتها المشهورةا
تقديم عمل ظاهر الجواز لبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر
)(4
إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرما قواعد الشريعة في الواقع«هل .
ثم قال» :ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الحكاما الشرعية ومن
أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضاا«هل). (5
ثم قال» :لكن هذا بشرط أن ل يقصد إبطال الحكم فإن هذا
القصد بخصوصه ممنوع لنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء
الزكاةا ،فل يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الحكاما صراحاا
ممنوع .وأما إبطالها ضمناا فل وإل امتنعت الهبة عند رأس الحول
مطلقاا ول يقول بهذا واحد منهم .ولذلك اتفقوا على تحريم
القصد باليمان والصلةا وغيرها إلى مجرد إحراز النفس والمال
كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك .وبهذا يظهر أن التحيل
على الحكاما الشرعية باطل على الجملة نظراا إلى المآل«هل). (6
قال» :وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقاا فإنما
أي :ومن القواعد المبنية على أصل مآلت الفعال. )( 3
398
قال بها بناء على أن للشارع قصداا في استجلب المصالح ودرء
المفاسد ،بل الشريعة لهذا وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل
فإنما صححه على فرض أنه غلبِّ على ظنه من قصد الشارع الذن في
استجلب مصلحة الزوجين فيه وكذلك سائر المسائل بدليل
صحته في النطق بكلمة الكفر خوفَّ القتل أو التعذيبِّ وفي سائر
المصالح العامة والخاصة ،إذ ل يمكن إقامة دليل في الشريعة على
إبطال كل حيلة كما أنه ل يقوما دليل على تصحيح كل حيلة فإنما
يبطل منها ما كان مضاداا لقصد الشارع خاصة وهو الذي يتفق
عليه جميع أهل السلما ويقع الختلفَّ في المسائل التي تتعارض
فيها الدلة«هل). (1
الحكم فيما ينبني على الحيل:
إذا كان ما بيناه هو الحكم في الحيل ،فما هو حكم ما يترتبِّ
على الحيل في الدنيا؟ يذكر الشاطبي أن العمل في الحيلة قسمان،
فهي إما أن تعد موجودةا وتترتبِّ عليها نتائج ،وإما أن تعد غير
موجودةا ،أما إن كان وجودها معتبراا ،ففي المسألة خلفَّ .وأ ما إن
عدت غير موجودةا ،فل يترتبِّ عليها شيء مما يقصده المكلف،
يقول» :فالحكم الذي اقتضاه السببِّ على حاله قبل هذا العمل،
والعمل باطل ضائع ل فائدةا فيه ول حكم له مثل أن يكون وهبِّ
المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو
غيرها .وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ثم ترد إلى
التفرقة ،أو المفرق بين المجتمع كذلك ثم يردها إلى ما كانت
عليه«هل) . (2فالعمل الذي هو حيلة في هذه الحالة هو في حكم غير
الواقع أو غير الحاصل .أما إن كان العمل ييعيديي موجوداا ففي
المسألة ثلثة أقوال :
الوأل :هو أن العمل باطل لنه مناقض لقصد الشارع ،فل
399
تنبني عليه آثاره وهو يلتحق بما يعد غير موجود من حيث آثاره.
والفرق بينهما هو أن هذا لم يحصل فيه التفاق على الرجوع
بالهبة ،أو لم يرجع فيه إلى الجمع بعد التفرقة أو إلى التفريق بعد
الجمع .قال» :إن القصد فيه قد صار غير شرعي فصار العمل فيه
مخالفاا لقصد الشارع فهو في حكم ما لم يعمل فيه واتحد مع القسم
الول) (1في الحكم فل يترتبِّ على هذا العمل حكم ومثال ذلك إذا
أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبةا لم يرجع فيها ،أو
جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع وكل ذلك بقصد الفرار
من الزكاةا لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول«هل) . (2ثم قال:
»فكان كالمعدوما باطلا والتحق بالقسم الول«هل ). (3
الثاني :وهو أن هذا العمل بهذا القصد غير شرعي ويتضمن
العصيان إل أنه تترتبِّ عليه آثاره .فقاصد السفر لجل الفطار
والقصر يحصل له ذلك ،ونكاح المطلقة ثلثاا بقصد تحليلها
لمطلقها يقع به التحليل بطلقها ،قال» :وعلى هذا الصل ينبني
صحة ما يقوله اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه
الزكاةا أو سافر في رمضان قصداا للفطار أو أخر صلةا حضرم عن
وقتها الختياري ليصليها في السفر ركعتين .أو أخرت امرأةا صلةا
بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها .قال :فجميع ذلك
مكروه ول يجبِّ على هذا في السفر صياما ول أن يصلي أربعاا ول
على الحائض قضاؤها«هل). (4
الثالث :التفريق في العمال بين حقوق ال وحقوق الدميين.
وحقوق الدميين أي حق العبد نفسه الذي يقوما بالعمل الذي هو
حيلة .فتنبني على العمل آثاره إن كان من حق العبد .وتبطل آثاره
القسم الول هو المذكور أعله حيث يعد العمل كأنه غير موجود. )( 1
400
إن كان من حق ال .ومثال حق العبد كالسفر ليقصر أو يفطر.
ومثال حق ال الفرق بين المجتمع والجمع بين المفترق في
الزكاةا .قال» :والثالث أن يفرق بين حقوق ال تعالى وحقوق
الدميين«هل) . (1أما إذا اجتمع الحقان في عمل واحد ،حق ال سبحانه
وتعالى ،وحق العبد ،فيكون المر محل نظر واجتهاد لتغليبِّ أحد
الطرفين ،ويكون الحكم للطرفَّ الغالبِّ عند المجتهد .قال:
»ويبـقى بعدي ما إذا اجتمـع الحقان محل نظر واجتهاد فيغلبِّ أحد
الطرفيـن بحسـبِّ ما يظهر للمجتهـد وال أعلـم«هل). (2
حق الله وأحق العبد:
يستعمل هذان التعبيران للشارةا إلى ما ل خيرةا فيه للمكلف
وهو حق ال ،وإلى ما له فيه خيرةا وهو حق العبد.
ومعنى حق العبد أنه مخير شرعاا فله أن يستوفي حقه وله أن
يسقطه .أما حق ال فليس للعبد أن يسقطه .ويدخل في حق ال حق
الغير من العباد ،فليس للعبد أن يسقط حق غيره .قال الشاطبي:
»كل ما كان من حقوق ال فل خيرةا فيه للمكلف على حال ،وأما
ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرةا .أما حقوق ال تعالى
فالدلئل على أنها غير ساقطة ول ترجع لختيار المكلف كثيرةا
وأعلها الستقراء التاما في موارد الشريعة ومصادرها كالطهارةا
على أنواعها والصلةا والزكاةا والصياما والحج والمر بالمعروفَّ
والنهي عن المنكر الذي أعله الجهاد وما يتعلق بذلك من الكفارات
والمعاملت والكل والشرب واللباس وغير ذلك من العبادات
والعادات التي ثبت فيها حق ال تعالى أو حق الغير من العبادات
وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان جميعها ل يصح إسقاط
حق ال فيها البتة«هل). (3
401
وحق العبد ليس حقاا له بالصالة ،وإنما هو بجعل ال -
سبحانه وتعالى -له هذا الحق .وكذلك فإن حق العبد فيه حق ل.
قال الشاطبي» :ومن هنا يقول العلماء إن من التكاليف ما هو حق
ل خاصة وهو راجع إلى التعبد ،وما هو حق للعبد .ويقولون في
هذا الثاني إن فيه حقاا ل كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب
مائةا وسجن عاماا«هل ) . (1ثم قال» :فقد صار إذاا كل تكليف حقاا
ل ،فإن ما هو ل فهو ل وما كان للعبد فراجع إلى ال من جهة حق
ال فيه ومن جهة كون حق العبد من حقوق ال إذ كان ل أن ل
يجعل للعبد حقاا أصلا«هل). (2
وبناءا عليه فإن حق العبد ل يتمحض ،فإن كل تكليف فيه حق
ل.
وحق ال قسمان .الول :ما كان حقاا ل خالصاا فل يسقط
وذلك كالعبادات .والثاني :حق الغير ،فليس للعبد أن يسقط حق
غيره ،ولكن يملك هذا الغير أن يسقط حقه بخلفَّ العبادات من
القسم الول فل تسقط .وحق الغير كالبيوع والمعاوضات
والنفقات فعلى العبد أن يؤدي الحق الذي عليه إلى من هو له .فإذا
أسقط هذا الخير حقه فذلك له.
وحق الغير على العبد ،هو من حقوق عباد آخرين ،لذلك فهو
ل يتمحض ،وفيه حق ل .فإذا أسـقط الغير حقه يسـقط ويبقى حق
ال وذلـك »كما في قاتـل العمد إذا عفي عنه ضـرب مائةا وسجن
عاماا ،وفي القاتل غيـلةا أنه ل عفـو فيه وفي الحـدود إذا بلغت
السلطان فيما سوى القصاص كالقذفَّ والسرقة ل عفو فيه وإن عفا
من له الحق«هل ). (3
وحق العبد يظهر في ناحيتين .الولى :ما اشتمل على حق ال
402
وحق العبد ولكن حق العبد فيه هو المغلييبِّ وهو ما جعل ال فيه
للعبد حق الختيار ،كما في اختياره في أنواع المتناولت من
المأكولت والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلل له ،وفي
أنواع البيوع والمعاملت والمطالبات بالحقوق فله إسقاطها وله
العتياض منها والتصرفَّ فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان
تصرفه على ما ألف من محاسن العادات) . (1ولكنه ل يجوز تفويت
حق ال فل يصح للمكلف أن يتناول ما حرما ال من المأكولت أو
المشروبات أو الملبوسات ،ول أن يقدما على ما حرما ال تعالى من
تصرفات في البيوع والمعاملت أو فيما بيده.
والثانية :ما اشتمل على حق ال وحق العبد وحق ال هو
المغلييبِّ ،ولكن حق ال قد سقط فلم يبق إل الحق الذي جعله ال
للعبد .ومثال ذلك أن حفظ النفس والعقل وغيرها هي من حق ال
تعالى في العباد ل من حقوق العباد والدليل على ذلك أن ال لم
يجعل ذلك إلى اختيارهم ،فإذا أكمل ال تعالى على عبد حياته
وجسمه وعقله فل يصح للعبد إسقاطه .اللهم إل أن ييبتلى المكلف
بشيء من ذلك من غير كسبه ول تسببه وفات بسببِّ ذلك نفسه أو
عقله أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد ،إذ إن حق ال
قد فات حيث إن ما وقع ل يمكن رفعه ،وصار ما بقي من حق العبد
حقاا عند الغير كدينم من الديون إن شاء استوفاه وإن شاء
تركه ) . (2ومثال ذلك القصاص والدية فهي جبر لما فات المجني
عليه من مصالح نفسه أو جسده ،فإن حق ال قد فات ول جبر له،
وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالمراض إذا كان التطببِّ غير
واجبِّ.
403
وبناءا على منهج الشاطبي وهو أن كل التكاليف إنما هي
لمصالح العباد في العاجل أو الجل ،فإن كل التكاليف فيها حق
للعباد عاجلا أو آجلا .قال» :كما أن كل حكم شرعي ففيه حق
للعباد إما عاجلا وإما آجلا بناء على أن الشريعة إنما وضعت
لمصالح العباد«هل) . (1أما ما كان عائداا على العبد من مصالح دنيوية
فهو يدخل في حق العبد .وأما ما كان عائداا عليه في الخرةا فهو
حق ال .قال» :وحق العبد ما كان راجعاا إلى مصالحه في الدنيا،
فإن كان من المصالح الخروية فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق
ال«هل) . (2وحق العبد أو حظوظه التي تعود عليه بسببِّ حق ال هي ما
يسمى بالمقاصد التابعة ،ويجوز للعبد أن يسقط حقه ،كأن يسقط
حقه في الميراثا أو في غنيمة الجهاد أو في الدية أو في القصاص
أو كأن تسقط المرأةا حقها في النفقة وما شاكل ذلك.
أي أنه يعد حقاا ل فإذا طابق الفعل المر صح وإل فل. )( 4
404
الحــقــان وحــق الـعــبــد هـو المـغــلــبِّ«هل). (1
أثار النية في مإا كان حقا ا لله أوأ حقا ا للعبد:
وقد تبين هذا بالتفصيل فيما تقدما من هذا الفصل ،إل أنني
أذكـره هـنـا مـن حـيـث تـقـسـيـم الفـعـال إلى حــقم ل
وحــق للـعــبـد.
405
والـشـــراء والكـل والـشـــرب والنكاح والطلق وغيرها«هل). (1
406
الفصـل السـابع
407
الفصـل السـابع
مإنهج الشـاطبي فـي فهم الشـريعة
تمهيـد:
إن الحديث عن منهج الشاطبي في فهم الشريعة هو حديث عن
جديده في ذلك ،وعميا أثاره وأبرزه مما يتميز به عن سابقيه من
أئمة الصول في قواعد وأصول الفهم والستنباط.
إن مصادر التشريع هي القرآن والسنة والجماع والقياس،
ومنهج فهم الشريعة هو كيفية فهم ما جاءت به هذه المصادر.
والقواعد التي تعتمد لجل ذلك منها ما يتعلق بهذه المصادر
جميعها ،ومنها ما يتعلق بكل منها على حدةا.
وسيتبيييين في هذا الفصل منهج الشاطبي في هذا المر في
ثلثة مباحث .يتناول الول القواعد العامة في ذلك .أي التي
تتعلق بالمصادر جميعها .ويتناول الثاني قواعد فهم القرآن أما
الثالث فيتناول قواعد فهم السنة.
أما الجماع والقياس فهما يرجعان إلى القرآن والسنة،
ولذلك لم يبحثهما الشاطبي بحثاا منفصلا ،وإنما أشار إليهما
إشارات متناثرةا في ثنايا كتابه .قال» :كتاب الدلة الشرعية:
والنظر فيه فيما يتعلق بها على الجملة ،وفيما يتعلق بكل واحد منها
على التفصيل وهي الكتاب والسنة والجماع والقياس«هل) . (1وقال:
»الطرفَّ الثاني :في الدلة على التفصيل وهي الكتاب والسنة
والجماع والرأي .ولما كان الكتاب والسنة هما الصل لما سواهما
اقتصرنا على النظر فيهما«هل). (2
والقواعد التي يبحثها الشاطبي مما يتعلق بمصادر التشريع
على الجملة هي قواعد تتعلق بالمصادر الربعة ،وتلك التي تتعلق
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/2 ، 1
408
بالقرآن وبالسنة مبنية عليها ومفصلة لها .لذلك أطلقت على
المبحث الول اسم منهج الشاطبي في فهم الشريعة ،وهو عنوان
الفصل نفسه .وعلى المبحث الثاني اسم منهج الشاطبي في فهم
القرآن ،وعلى المبحث الثالث اسم منهج الشاطبي في فهم السنة.
409
المبحث الوأل
مإنهج الشـاطبي فـي فهم الشـريعة
مإوضأوع هذا المبحث:
مري في التمهيد لهذا الفصل أن هذا المبحث يتناول القواعد
التي تتعلق بمصادر التشريع عموماا .أي تتعلق بها جميعها ،وهذه
القواعد قسمان :الول يتعلق بكيفية إعمال النصوص الشرعية من
القرآن والسنة أي كيفية تنزيل معاني النصوص على الوقائع
والفعال ،وينطبق المر نفسه على كيفية تطبيق دللت القياس
وما حصل فيه الجماع .والثاني يتعلق بالعوارض اللحقة للنصوص
من حيث الحكاما والتشابه ،والنسخ ،والجمال والبيان ،والوامر
والنواهي ،والعموما والخصوص ،والطلق والتقييد .فالول يرجع
إلى كيفية إنزال المعاني وهي معانم كلية ومعانم جزئية .والثاني
يرجع إلى كيفية تعيين هذه المعاني إذ يدخلها التشابه من إجمال
أو تشابه أو نسخ أو تخصيص أو تقييد.
ول بد من الشارةا إلى أن تناول هذين القسمين هنا هو فقط
من جهة علقته بمنهج الشاطبي خصوصاا ،أي بجديده كنهج
أصولي.
نظرة الشاطبي إلى دللت النصوص الشرعية:
يرى الشاطبي أن دللة آحاد النصوص على المعاني هي دللة
ظنية .فهو ينفي وجود دللة قطعية للنص على المعنى .أما دللة
الحكاما على غاياتها أو حكمها ،فالشاطبي ينفي اعتبارها بالكلية إذا
كان العتماد فيها على آحاد الحكاما.
أمـا نـفـيـه للـدللة القـطـعـيـة فـيـدل علـيـه قـوله:
»فـالمـعـتـمـد بالقصد الول الدلة الشرعية ووجود القطع فيها
على السـتـعـمال المشهور معدوما ،أو في غاية الندور أعني في
410
آحاد الدلة .فـإنـهـا إن كـانـت مـن أخـبـار الحـاد فـعـدما
إفادتها القطع ظاهر .وإن كانت متواترةا ،فإفادتها القطع موقوفة
على مقدمات جميعها أو غالبها ظني .والموقوفَّ على الظني ل بد أن
يكون ظنياا ،فإنها تتوقف على نقل اللـغـات وآراء النـحـو وعدما
الشتراك وعدما المجاز والنقل الشرعي أو العادي والضمار
والتخصيص للعموما والتقييد للمطلق وعدما الناسخ والتقديم
والتأخير والمعارض العقلي ،وإفادةا القطع مع اعتبار هذه المور
متعذر«هل ). (1
وما لم يكن المعنى قطعياا فل يصح إعماله .إذ يشترط
الشاطبي لعمال الدليل أن يكون قطعياا أو راجعاا إلى معنى
قطعي ) . (2يقول» :كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياا أو ظنياا،
فإن كان قطعياا فل إشكال في اعتباره كأدلة وجوب الطهارةا من
الحدثا والصلةا والزكاةا والصياما والحج والمر بالمعروفَّ والنهي
عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل وأشباه ذلك ،وإن كان ظنياا
فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو ل .فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر
أيضاا ،وإن لم يرجع وجبِّ التثبت فيه ولم يصح إطلق القول
بقبوله .ولكنه قسمان :قسم يضاديي أصلا ،وقسم ل يضاده ول
يوافقه .فالجميع أربعة أقساما .فأما الول فل يفتقر إلى بيان ،وأما
الثاني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضاا ظاهر وعليه عامة
أخبار الحاد فإنها بيان للكتاب«هل) . (3ثم قال» :وأما الثالث وهو
المعارض لصل قطعي ول يشهد له أصل قطعي فمردود بل إشكال.
ومن الدليل على ذلك أمران :أحدهما أنه مخالف لصول الشريعة،
ومخالف أصول الشريعة ل يصح لنه ليس منها ،وما ليس منها
كيف يعد منها .والثاني أنه ليس له ما يشهد لصحته وما هو
) ( الشاطبي ،الموافقات . 1/13 ،وله نص آخر مثله .أنظر. 2/32 : 1
) ( وقد تبين هذا سابقاا .أنظر :المبحث الول من الفصل الثالث . 2
411
كذلك ساقط العتبار«هل) . (1ولنتنبه هنا إلى المر الثاني في
الدللة على الرد .فهو أنه ليس له ما يشهد لصحته .فهو يدل على
جديدم عند الشاطبي وهو أن المعنى الشرعي أو الدليل الشرعي
يحتاج إلى معنى يشهد له حتى يقبل .ويتبين في سياق النص
بأكمله أن الشاهد يجبِّ أن يكون معنى قطعياا .ثم يقول» :وأما
الرابع وهو الظني الذي ل يشهد له أصل قطعي ول يعارض أصلا
قطعياا فهو في محل النظر .وبابه باب المناسبِّ الغريبِّ .فقد يقال
ل ييقبل لنه إثبات شرع على غير ما عيهد في مثله .والستقراء يدل
على أنه غير موجود وهذان يوهنان التمسك به على الطلق لنه
في محل الريبة فل يبقى مع ذلك ظن ثبوته .ولنه من حيث لم
يشهد له أصل قطعي معارض لصول الشرع إذ كان عدما الموافقة
مخالفة ،وكل ما خالف أصلا قطعياا مردود فهذا مردود«هل). (2
ولننظر في هذا النص .فالدليل الشرعي يعد مخالفاا ول يمكن
إطلق القول بقبوله ولو لم يكن معارضاا لصل قطعي ،والسببِّ في
ذلك أنه ل يعضده أصل قطعي ،مع أن هذا الدليل نص شرعي من
القرآن أو السنة .ومع ذلك فقد قال إنه في محل النظر.
ثم يتابع» :ولقائل أن يوجه العمال بأن العمل بالظن على
الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة ،وهذا فرد من أفراده وهو وإن لم
يكن موافقاا لصل ،فل مخالفة فيه أيضاا ،فإن عضد الرد عدما
الموافقة عضد القبول عدما المخالفة فيتعارضان .ويسلم أصل
العمل بالظن .وقد ويجقدي منه في الحديث قوله عليه الصلةا
والسلما» :القاتل ل يرثا «هل) . (3وقد أعمل العلماء المناسبِّ
الغريبِّ في أبواب القياس .وإن كان قليلا في بابه فذلك غير
ضائر إذا دل الدليل على صحته«هل ). (4
412
إن هذا النص هاما في بيان نظرةا الشاطبي إلى النصوص
الشرعية وكيفية الستدلل بها على معانيها .فهو ل يأخذ المعنى
إل إذا كان معضوداا بمعنى قطعي أو مندرجاا تحته .أما قوله:
»ولقائل أن يوجه العمال بأن العمل بالظن ثابت على الجملة«هل،
فهو ليس رأياا له ،ولذلك ختم الجملة بقوله» :وإن كان ذلك
قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دلي الدليل على صحته«هل .إضافة
إلى قوله السابق» :والستقراء يدل على أنه غير موجود«هل.
ومما ينبغي الشارةا إليه استشهاده بالحديث» :القاتل ل
يرثا «هل ،فإن خلفَّ علماء الصول هو في اعتبار معنى المعاملة
بنقيض المقصود الذي يوافقه الحديث ،وهذا المعنى ليس من دللت
نص الحديث ،بينما الشاطبي يتحدثا عن إعمال الحديث نفسه،
ومقصوده أن فكرةا المعاملة بنقيض المقصود إذا ثبتت بشكل قطعي
فحينئذم يصح إعمال الحديث لنه يكون حينذاك راجعاا إلى معنى
قطعي .ونلحظ أيضاا أنه يجعل هذا الحديث من المناسبِّ الغريبِّ،
وقد بينا سابقاا ،أن علماء الصول الذين يعللون بالمناسـبِّ يعـدون
الغـريبِّ الوصـف الذي ييلحظ في حكم واحد وليس له شاهد ،أو له
شاهد واحد ،ولفظ شاهد يعني حكماا يوافق المعنى) . (1وهو هنا
جعل الحديث غريباا ،ويحتاج إلى شاهد قطعي ،أي أن يثبت معنى
المعاملة بنقيض المقصود ثبوتاا قطعياا ،لذلك وجدناه في موضع
آخر يذكر قاعدةا المعاملة بنقيض المقصود بشكل تساؤل مع ميل
إلى قبولها ،إذ أنها توفرت لها جزئيات شاهدةا ،ولكنها لم يتوفر لها
الستقراء المفيد للقطع .يقول» :ولكن يبقى النظر هل يعتبر في
ذلك التسببِّي من كونه مناقضاا في القصد لقصد الشارع عيناا حتى
ل يترتبِّ عليه ما قصده المتسببِّ فتنشأ من هنا قاعدةا المعاملة
بنقيض المقصود ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد
المفروض ،وهو مقتضى الحديث في حرمان القاتل الميراثا،
413
ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع
خشية الصدقة .وكذلك ميراثا المبتوتة في المرض ،أو تأبيد
التحريم على من نكح في العدةا إلى كثير من هذا«هل) . (1ولو كانت
المعاملة بنقيض المقصود أصلا كلياا يشهد لمعنى حديث
»القاتل ل يرثا «هل لما صح إيراد الشاطبي للحديث كمثال على
القسم الرابع الذي ل يشهد له أصل كلي.
ومما يؤكد ما ذكرناه قوله» :إن خبر الواحد إذا استند إلى
قاعدةا مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإل فالتوقف .وكونه
مستنداا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني
كلي«هل) . (2وقوله بالتوقف يعني عدما إعمال الحديث وعدما رده ،إذ
قد يتوفير له استقراء يجعل معناه راجعاا إلى معنى قطعي .وقوله:
»راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي«هل .يعني بيان السنة
للكتاب ،وكل معنى ليس له أصل في الكتاب ل يؤخذ) . (3ولكن مراد
الشاطبي أبعد من ذلك ،إذ هو يشترط في أي معنى لي نص أن
يكون راجعاا إلى معنى قطعي ،ولو كان نص قرآن.
لذلك ينبغي ملحظة قوله أعله» :تحت معنى قرآني
كلي«هل .وليس» :تحت معنى قرآني«هل .وإذا جمعنا بين قضايا يقول
بها الشاطبي وهي أن المعنى يجبِّ أن يكون كلياا أي قطعياا ،وأن
آحاد الدلة ل تفيد القطع ومنها نصوص القرآن ،مع العلم بأن
نصوص القرآن كلها إعمالها واجبِّ ،تنشأ مسألة وهي كيف يتم
القطع بمعاني القرآن؟ وهذه المسألة سنعالجها في المبحث التالي -
إن شاء ال -وهو منهج الشاطبي في فهم القرآن .والمراد هنا إثبات
موقف الشاطبي من دللت النصوص على معانيها وهو أنها ل تؤخذ
أو تعتبر إل إذا كانت راجعة إلى معنى قطعي .فهذه المعاني
414
جزئيات وكذلك معاني الحكاما وهي الحقكيم .وهي جزئيات إل أن
عدما اعتبارها ل يعني ردها إل إذا كانت معارضة لصل قطعي أو
كلي .وإن لم تكن معارضة لصل كلي قد يتوفر لها جزئيات
كثيرةا توافقها وتعضدها في المعنى فيصبح المعنى أصلا قطعياا،
وتصبح هذه الجزئيات فروعاا له راجعةا إليه.
وقد مريي سابقاا قوله إن خاصية كتابه ) الموافقات ( هي
كيفية اقتناص الكيات من الجزئيات ). (1
يجب إعمال الجزئايات وأالكليات مإعاا:
يقتضي استنباط الحكاما الشرعية إعمال الجزئيات والكليات
معاا ،وإن كانت الكليات إنما تقررت باستقراء الجزئيات ،فإنه ل
يصح إعمال الكلي وإهمال الجزئي .فمثلا» :إن عيلم أن الحفظ
على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة ،فإن
للحفظ وجوهاا قد يدركها العقل وقد ل يدركها ،وإذا أدركها فقد
يدركها بالنسبة إلى حال دون حال أو زمانم دون زمان«هل) . (2ومثال
ذلك أن العلم بأصل حفظ المال مثلا ل يكفي لبيان حكم السارق
هل يسجن أو يقتل أو يقطع أو غير ذلك ،وكله متفق مع الصل،
ول يكفي للتفريق بين الغاش والغاصبِّ والسارق في الحكم .والعلم
بالجزئيات يحتاج إلى العلم بالكليات لجل صحة الستنباط،
فالجزئيات تحتمل معانم ،والمعنى الصحيح هو الذي يرجع إلى
كلي ،وإذا ناقض كلياا فقد ناقض قطعياا وهذا ل يصح ،ونقض
الكليات هو نقض للجزئيات أيضاا.
)(3
وهي يقول الشاطبي» :وإذا كان كذلك وكانت الجزئيات
) ( أنظر :المبحث الول من الفصل الثالث .وانظر :الموافقات. 4/194 . 1
) ( تسمية الجزئيات بالصول ينطبق على ما كان جزئياا بالضافة ،ولكنه 3
أصل كلي ،وذلك كوجوب الصلةا والزكاةا وسائر القواعد الخم ســة فــي
الدين ،فكلها عند الشاطبي أصول قطعية ،ولكن هــا جزئ يــة بالن ســبة ل صــل
حفظ الدين ،وما تحتها هو الجزئيات التي هي مآخذ لهذه القواعد .
415
أصول الشريعة فما تحتها مستمدةا من تلك الصول الكلية شأن
الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات ،فمن
الواجبِّ اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الدلة
الخاصة من الكتاب والسنة والجماع والقياس ،إذ محال أن تكون
تلك الجزئيات مستغنية عن كلياتها .فمن أخذ بنصم مثلا في
جزئي معرضاا عن كليه فقد أخطأ ،وكما أن من أخذها لجزئيم
معرضاا عن كليه فهو مخطئ ،كذلك من أخذ بالكلي معرضاا عن
جزئيه .وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض
الجزئيات واستقرائها ،فالكلي من حيث هو كلي غير معلومام لنا قبل
العلم بالجزئيات ،ولنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن
في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولت ،فإذاا ،الوقوفَّ مع الكلي
مع العراض عن الجزئي وقوفَّ مع شيءم لم يتقرر العلم به بعد
دون العلم بالجزئي .والجزئي هو مظهر العلم به ،وأيضاا فإن
الجزئي لم يوضع جزئياا إل لكون الكلي فيه على التماما وبه قوامه،
فالعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه
في الحقيقة وذلك تناقض«هل) . (1فلغاية حفظ النفس مثلا وهي
أصل كلي ل بد من إعمال الجزئيات التي تدل على إباحة تناول
الخنزير أو الميتة عند الضطرار أو التلفظ بالكفر في حالة
الكراه الملجئ ،وعلى جواز افتداء النفس بالمال ،وعدما جواز
افتدائها بحياةا مسلم آخر أو بإفشاء أسرار وخطط تعرض المسلمين
للهزيمة والستئصال.
وه كــذا فل ا ســتغناء بالكل يــات عــن الجزئ يــات .و كــذلك ل
استغناء بالجزئيات عن الكليات ،فمثلا :قوله تعالى [ :
، (2) ] الية .النص يحتمل معانم منها التكليف
ومنها التيئيس ،ولكن امتناع التكليف بما ل طاقــة بــه أو بالمحــال
أصل كلي ،وحمل النص على التكليف ينق ض الكلــي ،فــوجبِّ إع مــال
416
الكلي وحمل النص على معنى آخر وهو التيئيس ،وكذلك في قوله
تعالى (1)] [ :الية .يجبِّ المحافظة
على الصل الكلي ،وهو عدما التكليف بما ل يطاق ،فينصرفَّ المعنــى
من التكليف إلى التحدي الذي يراد منه التعجيز ،وكذلك يقال في
قــوله ت عــالى ، (2)] [ :حيــث
ينصرفَّ المعنى من الوجوب أو غيره إلى الهانة ،وفي قوله تعــالى:
[ ، (3)] فإن
النص يحتمل معنى الخبار ومعنى التكليف ،ولكن الصل الكلي وهو
ضرورةا صدق المخبر يصرفَّ المعنى عن الخبار إلى التكليف وهــو
التحريم ،هذا هو معنى قول الشاطبي» :فمن الواجبِّ اعت بــار ت لــك
الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الدلة الخاصة من الكتاب والسنة
والجماع والقياس«هل.
الكلي ل ينخرم بمعارضأة آحاد الجزئايات له:
وهذه مـسـألة هـامـة في منـهـج الش ـ اطبي ،وهي أنه إذا
تقرر المعنى أص ـ لا كلي ـ اا ثم وج ـ د في الجزئيات ما يتناقض معه،
فهل هذا ينقض تماما الس ـ تقراء فينقض الصل الكلي ويلغيه؟
وذلك كالقتل قص ـ اصاا أو في الجهاد ،وإنفاق الموال في ذلك،
وكأحكاما الف ـ يء والغنائم وقد عرفَّ في الضروريات حفظ النفس
وحفظ المال .يقول الش ـ اطبي إن هذا ل يخرما الص ـ ل لنه ثبت
كلياا قطعياا ،يقول» :هذه الكليات الثلثا إذا كانت قد ش ـ رعت
للمصالح الخاصة بها فل يرفعها تخلف آحاد الجزئيات ،ولذلك
أمثلة :أما في الضروريات فإن العقوب ـ ات مش ـ روعة للزدجار مع
أنا نجد من يعاقبِّ فل يزدجر عما عوقبِّ عليه«هل)» . (4وأما في
الحاجيات فالقص ـ ر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة
417
والملك المترفة ل مشقة له والقصر في حقه مشروع ،والقرض
أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضاا مع عدما الحاجة ،وأما في
التحسينيات فإن الطهارةا مشروعة للنظافة على الجملة مع أن
بعضها على خلفَّ النظافة كالتيمم فكل هذا غير قادح في أصل
المشروعية لن الصل الكلي إذا ثبت كلياا فتخلف بعض الجزئيات
عن مقتضى الكلي ل يخرجه عن كونه كلياا .وأيضاا فإن الغالبِّ
الكثري معتبر في الشريعة اعتبار العاما القطعي لن المتخلفات
الجزئية ل ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت«هل ) . (1ثم قال:
»فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى
الكلي فل تكون داخلة تحته أصلا ،أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا
دخولها ،أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى،
فالملك المترفة قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا ل نحكم عليه
بذلك لخفائها أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها إن
المصلحة ليست للزدجار فقط«هل) . (2ثم قال» :فعلى كل تقدير ل
اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح«هل). (3
وإذا كان الكلي ل يلغى ول يخرما فهل يلغى الجزئي؟ لهذا
تفصيل ولكنه في الجملة ل يلغى لنه راجع إلى أصل كلي آخر.
فإلغاؤه إخلل بكلي ،يقول» :القياما في الصلةا مثلا وسائر الرخص
الهادمة لعزائم الوامر والنواهي إعمالا لقاعدةا الحاجيات في
الضروريات ،ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا
والقراض والمساقاةا والسلم وأشباه ذلك ،فلو اعتبرنا الضروريات
كلها لخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات أيضاا .فأما إذا اعتبرنا
في كل رتبةم جزئياتها كان ذلك محافظة على تلك الرتبة وعلى
غيرها من الكليات ،فإن تلك المراتبِّ الثلثا يخدما بعضها بعضاا
418
ويخصص بعضها بعضاا«هل). (1
وعليه فالشاطبي ل يرى إلغاء أييم من الكلي أو الجزئي عند
ظهور التعارض ،لنه تعارض من جهةم دون جهة أو في حالم دون
حال أو محل دون محل ،فهو تعارض ظاهري ،قال» :ويعتبر الكلي
في تخصيص ـ ه للعاما الجزئي أو تقيي ـ ده لمطلقة وما أشبه ذلك
بحيث ل يكون إخللا بالجزئي على الطلق«هل). (2
أما إذا كان التعارض بين الجزئي والكلي من كل جهة ول
مخرج منه فيجبِّ إلغاء الجزئي ،قال» :ول يقال إن هذا تناقض لنه
يؤدي إلى الجزئي وعدما اعتباره معاا ،لنا نقول إن ذلك من جهتين،
ولنه ل يعتبر كل جزئي وفي كل حال«هل). (3
الحكام وأالتشابه:
والمراد من إدراج هذا البحـث هنـا ،هـو بيـان منهـج
الشـاطبـي في كـيفية تعيين معنى النص الشرعي إذا كان
متشابهاا .لذلك سنبين أولا مراد الشاطبي بالمحكم والمتشابه.
يقول» :المحكم يطلق بإطلقين عاما وخاص .فأما الخاص
فالذي يراد به خلفَّ المنسوخ«هل) . (4ثم قال» :وأما العاما فالذي
ييعنى به البيين الواضح الذي ل يفتقر في بيان معناه إلى غيره.
فالمتشابه بالطلق الول هو المنسوخ ،وبالطلق الثاني الذي ل
يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أما
) ( المصدر نفسه. 3/5 ، 1
) ( المصدر نفسه ، 3/6 ،ويمكن للقارئ أن يلحظ أن التناقض الذي حاول 3
الشاطبي أن يرفعه واقع ل محالة ،ف هــو ا ضــطر أن ي قــول بإم كــان إه مــال
الجزئي ،فهذان الصلن -عنــده -ل ي ســتقيمان أو ي ســتمران م عــاا ،وه مــا
إعمال الكليــات والجزئيــات م عــاا و عــدما ان خــراما الكلــي بمعار ضــة آ حــاد
الجزئيات ،إذ في الحالت التي ل يرتفع فيها التعارض بين الكلي والجز ئــي
ل بد من نقض أحد هذين الصلين ،و ســنناقش هــذه الم ســألة فــي الف صــل
العاشر .
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/50 ، 4
419
ل«هل). (1
والمعنى المراد هنا هو الثاني ،أي أن المحكم هو البيين
الواضح ،والمتشابه هو الذي ل يتبين المراد به من لفظه .قال:
»وإذا تؤميقل هذا الطلق ويجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعاما
والمطلق قبل معرفة مبييقناتها داخلة تحت معنى المتشابه ،كما أن
الناسخ وما ثبت حكمه والمبيين والمؤويل والمخصييص والمقييد
داخله تحت معنى المحكم«هل ). ( 2
وييبييقن الشاطبي أن أكثر أحكاما الشريعة محكم .وأن التشابه
قليل يقول» :التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات لكن النظر في
مقدار الواقع منه هل هو قليل أما كثير ،والثابت من ذلك القلة ل
الكثرةا«هل ) . (3وقال» :لول أن الدليل أثبت أن فيه متشابهاا لم يصح
القول به«هل). (4
ويرد الشاطبي القول بأن المتشابه في الشريعة كثير بناء
على أن فيها المنسوخ والمجمل والعاما والمطلق ،وهو كثير الوقوع
في الشريعة ،يرده بناء على أن الناسخ مع المنسوخ والبيان مع
المجمل والمخصص مع العاما والمقيد مع المطلق ،كل ذلك بيان،
يقول» :وعلى ذلك يدل قول ابن عباس» :ل عاما إل مخصص«هل،
فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه ،ومثله سائر النواع .وإنما يكون
متشابهاا عند عدما بيانه«هل) . (5ويقول» :وإذا ثبت هذا فالبيان مقترن
بالمبين ،فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابهاا ،وليس بمتشابه
في نفسه شرعاا«هل). (6
ويقسم الشاطبي التشابه في النصوص إلى قسمين :حقيقي
420
وإضافي .وثم قسم ثالث ل يرجع إلى النصوص وإنما إلى المناط.
يقول» :التشابه الواقع في الشريعة على ضربين :أحدهما حقيقي
والخر إضافي ،وهذا فيما يختص بها في نفسها .وثم ضرب آخر
راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الحكاما ،فالول هو المراد
بالية ) ، (1ومعناه راجع إلى أنه لم ييجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ول
نيصبِّ لنا دليل على المراد منه«هل) . (2ثم قال في الثاني وهو
الضافي» :قد حصل بيانه في نفس المر ولكن الناظر قصر في
الجتهاد أو زاغِّ عن طريق البيان اتباعاا للهوى فل يصح أن ينسبِّ
الشتباه إلى الدلة ،وإنما ينسبِّ إلى الناظرين التقصير أو
الجهل«هل ) . (3أما القسم الثالث فقال فيه» :وأما الثالث فالتشابه ليس
بعائد على الدلة وإنما هو عائد على مناط الدلة فالنهي عن أكل
الميتة واضح ،والذن في أكل الذكية كذلك .فإذا اختلطت الميتة
بالذكية حصل الشتباه في المأكول ل في الدليل على تحليله أو
تحريمه«هل ). (4
والتشابه ل يقع في الكليات لن هذه معان قطعية). (5
ومن أمثلة التشابه الحقيقي» :كمسائل الستواء والنزول
والضحك واليد والقدما وأشباه ذلك«هل). (6
تأوأيل المتشـابه:
إذا كان التشابه حقيقياا فل يصح تأويله .وابتغاء تأويله هو
عمل الزائغين .أما إذا كان إضافياا فينبغي تأويله .يقول» :تسليط
التأويل على التشابه فيه تفصيل فل يخلو أن يكون من المتشابه
[ ) ( الية: 1
421
الحقيقي أو من الضافي .فإن كان من الضافي فل بد منه إذا تعيين
بالدليل كما ييبييين العاما بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري
بالحاجي وما أشبه ذلك لن مجموعهما هو المحكم ،وقد مر بيانه.
وأما إن كان من الحقيقي فغير لزما تأويله«هل). (1
وقال» :وأيضاا فإن السلف الص الح م ن الص حابة والتـابعين
ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه ال شــياء ول تكل مــوا
فيها بما يقتضي تعيين تأويل من غير دليل ،و هــم ال ســوةا وال قــدوةا
وإلى ذلك فالية مشيرةا إلى ذلك بقوله ت عــالى [ :
(2)] الية«هل). (3
وإذا كان المتشابه مما ينبغي تأويله ،أي تعيين معناه ،فــإن المعنــى
المؤول به لـه ثلثـة شـروط .يقـول» :إذا تسـلط التأويـل علـى
المتشابه فيراعي في المؤوييل به أوصافَّ ثلثة :أن يرجع إلى معنى
صحيح في العتبار ،متفقم عليه في الجملة بين المختلفين ،ويكــون
اللفظ المؤوييل قابلا له«هل). (4
أما الشرط الول فيرجع إلى ما سبق ذكره من أن الدليل
الشرعي يجبِّ أن يكون قطعياا أو راجعاا إلى قطعي كي يصح
إعماله .وهو هنا لم يشترط الرجوع إلى قطعي ،وإنما إلى معنى
صحيح في العتبار .فإذا كان راجعاا إلى معنى قطعي فل شك أنه
صحيح في العتبار .إذ قد يكون المعنى المؤول به ممكن القبول أي
ل يعارض أصلا ،فإن كان ل يصح إعماله فل يصح رده ،بل إنه
يخضع للستقراء أي لملحظة هذا المعنى في مواضع أخرى ،فل
يشترط أن يكون قد بلغ القطع حتى ييقبل ،بل ل بد من اعتباره قبل
بلوغِّ القطع ،وينطبق هذا على غيره مما يشترك معه في المعنى،
وذلك لكي تتوفر إمكانية وجود استقراء مفيد للقطع .أما شرطه
422
الثالث وهو أن يكون اللفظ المؤول قابلا للمعنى فواضح .وأما
الشرط الثاني وهو أن يكون المعنى المؤول به متفقاا عليه في
الجملة بين المختلفين ،ولم يقل بالجماع ،إذ الجماع على معنى من
بين معانم محتملة متعذر أو نادر .ولهذا فهذا الشرط المراد به أن
ل يكون المعنى المؤوييل به مطروحاا في الجملة ،إذ إن هذا يدل
على مرجوحيته وأن هناك معارضاا أقوى منه). (1
النسخ:
مر عند تعريف المحكم والمتشابه أن المحكم له إطلقان عاما
وخاص .فهو يقابل المتشابه بالطلق العاما ويقابل المنسوخ
بالطلق الخاص .وقد قال الشاطبي في تعريف النسخ» :قالوا في
حد النسخ :إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر«هل). ( 2
وكما ل يقع التشابه في الكليات ،فل يقع فيها النسخ أيضاا.
قال» :والقواعد الكلية من الضروريات الحاجيات والتحسينيات لم
يقع فيها نسخ ،وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل
الستقراء«هل). (3
والنسخ ل يكون إل في جزئيات راجعة إلى كليات ،أي في
فروع ،لنها إذا لم تكن راجعة إلى كليات فإن إعمالها لم يثبت ،وما
لم يثبت ل يتصور له نسخ .وكذلك فإن المنسوخ بالنسبة إلى
المحكم في الشريعة قليل .قال» :فإن الستقراء يبين أن الجزئيات
الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي
محكماا قليلة«هل) . (4ويلحظ في هذا النص استعماله تعبير
»الجزئيات الفرعية«هل.
ومثلما أن المنسوخ يجبِّ أن يكون تحقق ثبوته في الشرع،
423
فكذلك الناسخ ،وثبوته بأن يكون راجعاا إلى معنى قطعي .قال:
»إن الحكاما إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها ل يكون إل
بأمر محقق لن ثبوتها على المكلف أولا محقق ،فرفعها بعد العلم
بثبوتها ل يكون إل بمعلوما محقق«هل ). (1
وبما أن النازل في الشريعة في مكة هو الكليات ،وما كان من
الفروع فقليل ،لذلك فعند الجتهاد والستنباط يجبِّ أن يكون
الميل إلى استبعاد النسخ فيما نزل بمكة .ثم عمم هذا القول على
سائر الحكاما مكية كانت أو مدنييية .قال» :فاقتضى هذا أن ما
كان من الحكاما المكية يديعى نسخه ل ينبغي قبول تلك الدعوى
فيه إل مع قاطع بالنسخ بحيث ل يمكن الجمع بين الدليلين ول
دعوى الحكاما فيهما«هل) . ( 2ثم قال» :وهكذا يقال في سائر الحكاما
مكية كانت أو مدنية«هل ). ( 3
الوأامإر وأالنواهي:
الوامر والنواهي من مباحث القرآن والسنة .والمراد ببحثها
هنا الشارةا إلى منهج الشاطبي في تعيين معاني النصوص أو الصيغ.
فقد تأتي الصيغة ظاهرها التكليف والمراد بها غير ذلك .وقد يراد
منها التكليف أمراا أو نهياا ،ولكن ينبغي تعيين المراد بالمر هل هو
الوجوب أو الندب أو الباحة ،والمراد بالنهي هل هو التحريم أو
الكراهة .وكذلك يأتي اللفظ ويحتاج الناظر إلى تعيين معناه ،هل
هو على الحقيقة أو مجاز أو فيه إضمار أو غير ذلك .وكذلك
فإن للحكاما مقاصد ،فهل هذه المقاصد معتبرةا في المر والنهي.
ومن هذه الدللت ما أشير إليه سابقاا ،خاصة في مبحث قصد
الشارع في وضع الشريعة للفهاما) . (4ومنها ما سيأتي في مبحث
424
قاعدةا سد الذرائع ) . (1وما سنتحدثا عنه هنا هو منهج الشاطبي
عموماا في تعيين معاني صيغ المر والنهي.
إن المر يقتضي إيقاع الفعل ،والنهي يقتضي الكف عن الفعل،
وهذا بغض النظر عن المقصود بالفعل أو الكف .فالفعل أو الكف
عنه هو أول مقاصد الشارع من المر والنهي ) . (2قال» :إن معنى
المر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك .ومعنى القتضاء
الطلبِّ ،والطلبِّ يستلزما مطلوباا ،والقصد ليقاع ذلك المطلوب ،ول
معنى للطلبِّ إل هذا«هل) . (3إلى أن قال» :والمر في هذا أوضح من أن
يستدل عليه«هل). (4
فإذا جاءت الوامر والنواهي بما ل يقع تحت القــدرةا كقــوله
)( 5
تعالى ، ] [ :أو [
. ( 6) ] أو بما علمنا أن التكليف بــه ل ي قــع فــي
)(7
شــريعتنا كقــوله تعــالى ، ] [ :أو [
، (8)] فهذا ل يعني إلغاء التكليف أو
عدما إعمال النصوص ،أو إهمال ال صــيغ .وإن مــا أن ال مــر لــم ي كــن
تكليفاا في الصل ،والصيغ والنصوص لم يكن من معاني هــا التكليـف،
وإنما كان التهديد أو التيئيس أو التعجيز ،وهذا من معاني الصــيغ
أنفسها ،وهو من قبيل إعمال الجزئيات والكليات معاا لجــل تعييــن
المعنى المراد) . (9قال» :وأما أمر التعج يــز والتهد يــد فل يــس فــي
) ( وقد تبين هذا معنا في المبحث الول من الفصل الخامس .وهــو قصــد 2
التعبد والمتثال.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/73 . 3
) ( وقد تحدثنا عن هذا المر في المبحث الول من الفصل الخامس . 9
425
الحقيقة بأمر وإن قيل إنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدما ،إذ المر وإن
كان مجازياا فيستلزما قصداا ،به يكون أمراا فيتصور وجه المجــاز
وإل فل يكون أمراا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه«هل). (1
والوامر والنواهي تفيد دللتها ،أي مق ت ضياتها وهي الحكاما،
والحكاما لها مقاصدها وهي المصالح .ولكن هذه الخيرةا ل تقع إل
ضمن إيقاع ما طلبِّ إيقاعه والكف عما طلبِّ الكف عنه .إذ إن الحكم
الشرعي بالنسبة للمقصود به كالصل بالنسبة للفرع .ول يصح أن
يعود الفرع على الصل بالبطال.
وإذا ظينيي في الوامر والنواهي ما قصد فيه الشارع المحافظة
على الحكمة أو المصلحة ولو أدى ذلك إلى إهمال صيغة المر أو
النهي ،فليس المر كذلك ،وإنما ذلك يرجع إلى أن الصيغ منها ما
يكون معناه مقصوراا على الحقيقة ومنها ما يكون مجازياا .وإعمال
المجاز بدل الحقيقة ليس إهمالا للنص أو الصيغة وإنما هو عين
إعمالها .ولكن الذي ينبغي الهتماما به هو كيفية تعيين المقصود:
الحقيقة أما المجاز .وهذا يكون بإعمال الجزئيات والكليات معاا،
وبالقرائن الحالية والمقالية.
يقول» :الوامر والنواهي ضربان :صريح وغير صريح .فأما
الصريح فله نظران :أحدهما من حيث مجرده ل يعتبر فيه علة
مصلحية وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد
المحض من غير تعليل فل فرق عند صاحبِّ هذا النظر بين أمر
وأمر ول بين نهي ونهي«هل ). (2
وقال» :ل يخلو أن نعتبر في الوامر والنواهي المصالح أو ل.
فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوفَّ مع مجردها وإن اعتبرناها
فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الوامر
426
والنواهي .فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون
بها على التفصيل .فقد علمنا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر
بكونه في المحصن الرجم دون ضرب العنق أو الجلد إلى الموت أو
إلى عدد معلوما أو السجن أو الصوما أو بذل مال كالكفارات ،وفي
غير المحصن جلد مائةم وتغريبِّ عاما دون الرجم أو القتل أو زيادةا
عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه
الزجر الممكنة في العقل .هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة
فيما حد فيه على الخصوص دون غيره .وإذا لم نعقل ذلك ول
يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حيدي من ذلك مصلحة ل
نعلمها ،وهكذا يجري الحكم في سائر ما يعقل معناه .أما التعبدات
فهي أحرى بذلك .فلم يبق لنا إذاا وزر دون الوقوفَّ مع مجرد
الوامر والنواهي .وكثيراا ما يظهر لنا ببادئ الرأي للمر والنهي
معنى مصلحي ويكون في نفس المر بخلفَّ ذلك يبينه نص آخر
يعارضه فل بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك
المعنى .وأيضاا فقد ميري في كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي ل بد
فيه من معنى تعبدي ،وإذا ثبت هذا لم يكن لهماله سبيل فكل معنى
يؤدي إلى عدما اعتبار مجرد المر والنهي ل سبيل إلى الرجوع إليه.
فإذاا ،المعنى المفهوما للمر والنهي إن كيري عليه بالهمال فل
سبيل إليه ،وإل فالحاصل الرجوع إلى المر والنهي دونه ،فآل المر
في القول باعتبار المصالح إنه ل سبيل إلى اعتبارها مع المر
والنهي وهو المطلوب«هل). (1
ويذنكير الشاطبي حالت قد ييعنتيريضي بها علــى قــوله أعله
حيث ييظين أن المصالح أو المعاني المقصودةا بالحكــاما أولــى مــن
ظاهر النص أو الصيغة .يقول» :ول ييقال إن عــدما اللتفــات إلــى
المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل ل
يجوز الوضوء بالماء الذي بالي فيه النسان ،فإن كان قــد بــال فــي
427
إناء ثم صبه في الماء جاز الوضوء به«هل) ، (1وذلك لن النهي هنا عــن
المر الثاني ليس آتياا من ا تباع المعاني ،أي معاني الحكــاما ،وإنمــا
هو من دللة الصيغة نفسها ،فهذا نوع من أنواع الدللة اللغويــة). (2
قال» :فاتباع أنفس الصيغ التي هي الصل واجبِّ لنها مع المعــاني
كالصل مع الفرع .ول يصح اتباع ال فــرع مــع إل غــاء ال صــل«هل). (3
ولكن معنى الصيغة هو الذي يجبِّ النظر فيه ،فدللتها ليست قطعية،
لذلك يجبِّ أن تفهم بحسبِّ أمور أخرى ييستعان بها ،قال» :والثاني
من النظرين هو من حيث يفهم من الوامر والنواهي قصــد شــرعي
بحسبِّ الستقراء وما يقترن بها من القرا ئــن الحال يــة أو المقال يــة
الدالــة علــى أعيــان المصــالح فــي المــأمورات والمفاســد فــي
المنهيات«هل) . (4وقال» :كما أنه قد يفهم من مغزى المــر والنهــي
الباحة وإن كانت الصيغة ل تقتضي بوضعها الصلي ذلك .كقوله
تعالى [ ، [ :
5 ( )
) ( وذلك كما في قوله تعالى ] [ :السراء ، 23 ،فهو 2
يتضمن نهياا عن الضرب وهذا تنبيه بالدنى علــى العلــى ف هــو مـن دللت
اللغة .وكذلك كما فــي قــوله ت عــالى] [ :
النساء ، 20 ،فهو تنبيه بالعلى على الدنى ،وكذلك قــوله ت عــالى [ :
] الزلزلة ، 7فالدللة على ما لم يذكر
هي من دللت الصيغة.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/87 ، 3
428
أي أن الصيغة »اصطادوا«هل و»انتشروا«هل هي صيغة المر،
ولكن المقصود بالنص ليس المر وإنما الباحة ،وهذا ليس من اتباع
معاني الحكاما أو المصالح وإنما هو معنى النص .أي بناء على
مقصود الشارع بالخطاب وليس بالتشريع.
لذلك ل بد من كيفية لفهم الوامر والنواهي ،ومنهج
الشاطبي في ذلك هو إرجاع الجزئيات إلى معانم قطعية وإعمال
الجزئيات والكليات معاا والستقراء للمعاني ،والستعانة بالقرائن
الحالية والمقالية.
وقال» :بل نقول :كلما العرب على الطلق ل بد فيه من
اعتبار معنى المساق في دللة الصيغ وإل صار ضحكةا وهزأةاا ،أل
ترى إلى قولهم فلن أسد أو حمار أو عظيم الرماد أو جبان الكلبِّ،
وفلنة بعيدةا مهوى القرط وما ل ينحصر من المثلة ،لو اعتبر
اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول ،فما ظنك بكلما ال وكلما
رسوله ، وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء
الدائم وصبه من الناء فيه«هل). (8
العموم وأالخصوص:
يختلف مفهوما العموما والخصوص عند الشاطبي عن المعهود
في علم أصول الفقه بشكل كبير ،وهو وإن استعمل هذين التعبيرين
في كتابه ،فله قصد مختلف عن سائر علماء الصول.
فالعموما عنده هو من خواص الكليات ،والكليات ل تستفاد إل
بالستقراء ،والكليات جاريةي باطراد في الجزئيات ول تتخلف.
لذلك فالكليات ل تخصص .فإذا استعمل الشاطبي هذين اللفظين
كما في قوله مثلا إن الضرورات تخصصها الحاجيات فبمعنىا
سيتبين.
وعلى ذلك فإن مسألة صيغ العموما وهل أن للعموما صيغة أو
429
ل ليست أمراا ذا بالم عند الشاطبي لن العموما هو عموما المعنى
الكلي ،وهذا قطعي ،والصيغ إن أفادت عموماا بحسبِّ الوضع اللغوي،
فإن الدللت القطعية ل تثبت بآحاد النصوص عنده .يقول» :ول بد
من مقدمةم تبين المقصود من العموما والخصوص ههنا ،والمراد
العموما المعنوي كان له صيغة مخصوصة أو ل ،فإذا قلنا في وجوب
الصلةا أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره إنه عاما
فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الطلق والعموما بدليل فيه
صيغة عموما أو ل بناءا على أن الدلة المستعملة هنا إنما هي
الستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم حسبما تبين في
المقدمات ،والخصوص بخلفَّ العموما«هل). (1
وبما أن العاما معناه أنه ثابت على الطلق والعموما اعتماداا
على الستقراء المفيد للقطع ،فهذا يعني هنا أن العاما قطعي ،وأنه
يجري في كل جزئياته ،وأنه ل يحصل نسخ له ،ول لبعضه،
فالكليات ل نسخ فيها كما تبيين سابقاا .والتخصيص بمعنى رفع
الحكم عن بعض الجزئيات أو في بعض الحالت يعد نقضاا
للستقراء ،لذلك فل وجود للتخصيص بهذا المعنى ،يقول» :إذا
ثبتت قاعدةا عامة أو مطلقة فل تؤثر فيها قضايا العيان ول حكايات
الحوال ،والدليل على ذلك أمور :أحدها :أن القاعدةا مقطوع بها
بالفرض لنا نتكلم في الصول القطعية الكلية ،وقضايا العيان
مظنونة أو متوهمة ،والمظنون ل يقف للقطعي ول يعارضه،
والثاني :أن القاعدةا غير محتملة لستنادها إلى الدلة القطعية،
وقضايا العيان محتملة لمكان أن تكون على غير ظاهرها أو على
ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناةا من ذلك الصل فل يمكن والحالة
هذه إبطال كلية القاعدةا بما هذا شأنه .والثالث :أن قضايا العيان
جزئية والقواعد المطردةا كليات ول تنهض الجزئيات أن تنقض
الكليات«هل) . (2ثم قال» :والرابع :أنها لو عارضتها فإما أن يعمل
430
معاا أو يهمل ،أو يعمل بأحدهما دون الخر ،أعني في محل
المعارضة .فإعمالهما مع اا باطل .وكذلك إهمالهما لنه إعمال
للمعارضة فيما بين الظني والقطعي ،وإعمال الجزئي دون الكلي
ترجيح له على الكلي وهو خلفَّ القاعدةا فلم يبق إل الوجه الرابع
وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب«هل). (1
لذلك يطرح الجزئي لنه عارض كلياا ،وقد تبيين سابقاا أن
الجزئي ل يعمل به إل إذا كان راجعاا إلى معنى قطعي ،أي إلى
كلي ،وفي ما نحن فيه من معارضة الجزئي للعاما ،فإذا لم يكن
الجزئي راجعاا إلى قطعي ،فليس ثمة إشكال ،أما إن كان الجزئي
راجعاا إلى قطعي ،فالتعارض هنا هو من قبيل تعارض الكليات أي
القطعيات ،وهذا المر ل يقع .فلم يبق أن يكون رفع التعارض هنا
إل بالتخصيص ،وذلك بأن يستثنى من العاما المواضع أو الحالت
التي جاء لها الجزئي ،أو أن يكون للتخصيص معنىا آخر ،وبما أن
رفع تطبيق العاما عن بعض المواضع أو في بعض الحالت يعد نقضاا
للكلي ،فلم يبق إل المعنى الخر .لذلك نجد الشاطبي يستعمل
التخصيص ،ولكنه ل يقصد به ما قصده الصوليون ،وإنما يقول إن
التخصيص مجازي ل حقيقي .يقول» :عمومات العزائم وإن ظهر
بادئ الرأي أن الرخص تخصصها فليست بمخصصة لها في الحقيقة،
بل العزائم باقية على عمومها وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها
فإطلق مجازي ل حقيقي«هل) . (2والرخص المقصودةا هنا هي الرخص
الراجعة إلى كليات من قسم الحاجيات مثل رفع الحرج أو الضرر
أو ما ل يطاق ،فالترخص هنا هو من قبيل العزيمة ،وليس من قبيل
المسمى الخر للرخصة الذي هو المواضع المنصوصة والتي ل
ترجع إلى كليات) . (3لذلك فالتخصيص المذكور أعله هو
تخصيص العزائم برخص من قبيل ما ل يطاق ،كقياما من ل يستطيع
431
القياما في الصلةا.
فنحن هنا أماما كليين ظاهرهما التعارض ،والتوفيق بينهما
بأن يخصص أحدهما أو كل واحد منهما الخر ممنوع عند
الشاطبي .وجواب الشاطبي هو أن حقيقة هذا التخصيص أنه بيان،
أي أن العاما القطعي لم يكن في الساس متناولا لتلك الجزئية ول
منطبقاا عليها ،والجزئي المعارض في الظاهر ليس بمعارض
حقيقةا ،لنه في الساس ليس مندرجاا تحت ذلك العاما ،لذلك
فمعارضته للعاما ليست استثناءا لبعض ما دل عليه العاما ،وإنما هو
بيان لما دل عليه العاما ،أي أن العموما لم يتناوله أصلا ،ومن هذا
الجزئي يزيد البيان والتوضيح لحدود ذلك العموما .لذلك قال:
»فأحكاما تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص وإن
أطلق عليها أن العذار خصصتها فعلى المجاز ل على الحقيقة«هل ). (1
ويورد الشاطبي أمثلة لتأكيد رأيه ،وفيما يلي واحدي منها
للتوضيح:
[ قال» :ومثل ذلك أنه لما نزلت:
، (2)] قال بعض الكفار :فقد عبدت الملئكة
وعبد المسيح .فنزل :
، (3)الية«هل) . (4يشير الش ـ اطبي بهذا إلى من يعترض عليه ويقول إن
التخصيص بمعنى رفع بعض مــا يت نــاوله الل فــظ ال عــاما وا قــع فــي
الشريعة بدليل أن النص الول دل على تعذيبِّ من ييعبد من دون ال،
وأن النص الثاني جــاء ليس ـــتثني ب عــض المعبــودين مــن الت عــذيبِّ
كالملئكة والمسيح ،فيرد الشاطبي هذا القول ويؤكد رأيه ،يقول:
»وأما قوله ] [ :الية ،فقد أجاب الناس عن
اعتراض ابن الزبعر ى فيها بجهله بموقعها ،وما روي في الموضع أن
432
النبي rقـال لـه» :مإا أجأهلك بلغة قومإك يا غــــلم«) ، (1لنـه
جـاء في اليـة ، ] [ :وما لما ل يعقل فكيف
تشمل الملئكة والمسيح«هل) . (2وهكذا فإن النص أصــلا ل يـدخـــل
في معنـاه الملئكة ول المسـيــح .لذلـك فمجيء النص الثاني :
هو بيـان ومزيــد
توضيح ،وليس رفعاا أو نسخاا لبعض ما تناوله اللفظ.
وعلى ذلك فالشاطبي يرد التخصيص الذي يقول به علماء
الصول ،سواء كان تخصيصاا بالمتصل أو بالمنفصل ،يقول» :وإذا
تقرر ما تقدما فالتخصيص إ ما بالمنفصل أو بالمتصل ،فإن كان
بالمتصل كالستثناء والصفة والغاية وبدل البعض واشباه ذلك
فليس في الحقيقة بإخراجم لشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في
عموما اللفظ أن ل يتوهم السامع منه غير ما قصد وهو ينظر إلى
قول سيبويه زيد الحمر عند من ل يعرفه كزيد وحده عند من
يعرفه«هل ) . (3ثم قال» :وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك
أيضاا راجع إلى بيان المقصود في عموما الصيغ حسبما تقدما في
رأس المسألة ل أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره
الصوليون«هل ). (4
ولجل تأكيد رأيه ،فإنه يعمد إلى بيان أمر ،وهو أن الصيغ
) ( لم أجده ل بنصه ول بمعناه .والمعنى الذي يرد هنا هو عكس ما ذهبِّ 1
إليه الشاطبي ،فعلى سبيل المثال ،يقول القرطبي » :هــذه ال يــة أ صــل فــي
القول بالعموما ،وأن له صيغاا مخصوصة ،خلفاا لمن قال :ليست له صــيغة
موضوعه للدللة عليه ،وهو باطل بما دلت عليه هذه ال يــة وغير هــا ،ف هــذا
عبد ال بن الزبعرى قد فهم » ما« في جاهليته جميع مــن عيبقــدي ،ووافقــه
على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء ،واللسن البلغاء ،ولو لم تكن للعموما
لما صح أن يستثني منها ،وقد وجد ذلك فهي للعموما وهذا واضح« الجامع
لحكاما القرآن . 11/343 ،عند تفسير قوله تعالى [
]الية.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/158 ، 2
433
الموضوعة للعموما في اللغة ،قد يفهم منها البعض عموماا بحسبِّ
الوضع اللغوي ،فإذا وجد نصاا شرعياا معارضاا ،يتوهم أن هذا
تخصيص بمعنى رفع لبعض المدلول اللغوي ،فيبين أن المعتمد في
دللت اللفاظ والتراكيبِّ هو المعنى الستعمالي وليس المعنى
الوضعي ،وقد تبيين هذا في المبحث الثالث من الفصل الرابع.
ويبين الشاطبي أن هذا هــو أ حــد أ ســباب الخلفَّ بي نــه وب يــن
الصوليين في معنى التخصيص ،ي قــول» :ل كلما فــي أن للع مــوما
صيغاا وضعيةا«هل) . (1ثم يقول» :وذلك أن للعموما الذي تــدل عل يــه
الصيغ بحسبِّ الوضع نظرين :أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصــيغة
في أصل وضعها على الطلق وإلى هــذا الن ظــر ق صــد ال صــوليون،
فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس و ســائر المخص صــات
المنفصلة ،والثاني بحسبِّ المقاصد الستعمالية التي تقضي العوا ئــد
بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلفَّ ذلك .وهذا العتبار
استعمالي ،والول قياسي«هل) . (2وعقبِّ قائلا» :والقاعدةا في الصول
العربية أن الصل الستعمالي إذا عارض الصل القياسي كان الحكم
للستعمالي«هل) . (3وفهم المعنى الستعمالي يحتاج إلــى ف هــم أ ســباب
النزول والقرائن الحالية والمقالية ،وأساليبِّ ال عــرب فــي الت عــبير
وفي فهم اللفاظ والتراكيبِّ .وحينــذاك فــإن مــا يــورده الب عــض
اعتراضاا على رده للتخصيص ،يرده هو بناء علــى أن الع مــوما الــذي
فهموه غير موجود أصلا .وفي المثال المذكور سابقاا عنــد قــوله
تعالى ] [ :يضيف
إلى ما قاله من أن ما هي لغير العاقل فل تشمل الملئكة والمســيح،
يضيف» :والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخ طــاب ظــاهره أ نــه
لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملئكة ول المسيح ،وإنما كانوا
يعبدون الصناما ،فقوله ] [ :عاما فــي ال صــناما الــتي
434
كانوا يعبدون فلم يدخل في العموما الستعمالي غ يــر ذ لــك ،ف كــان
ا عــتراض الم عــترض جهلا منــه بالم ســاق وغفلــة ع مــا ق صــد فــي
اليات«هل ). (1
ومن أقوال الشاطبي في هذا المر» :إن العرب تطلق ألفاظ
العموما بحسبِّ ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلما خاصة
دون ما تدل عليه تلك اللفاظ بحسبِّ الوضع الفرادي ،كما أنها
تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع وكل ذلك
مما يدل عليه مقتضى الحال«هل ). (2
ومن أمثلة التخصيص الذي يرده هنا ،التخصيص بالعقــل فــي
قوله تعالى . (3) ] [ :فالعقل يحيل أن تكون ذاته
أو شيء من صفاته سبحانه وتعالى مخلوقاا ،لذلك فالعقل يخصص
عموما لفظ كل .والشاطبي يرد هذا القول ،فيرى أن لفظ كــل فــي
هذا السياق ل يتناول ذات الباري أو شيئاا في صفاته تعالى ،فيقــول:
»فإن المتكلم فد يأتي بلفظ عموما مما يشمل بحسبِّ الوضــع نفســه
وغيــره ،و هــو ل ير يــد نف ســه ول ير يــد أنــه دا خــل فــي مقت ضــى
العموما«هل ) . (4ويقول» :فكذلك ل يدخل شــيء مــن صــفات البــاري
تعالى تحت الخبار في نحو قوله ت عــالى ] [ :لن
العرب ل تقصد ذلك ول تنويه«هل). (5
ويؤكد الشاطبي أنه يعارض الصوليين قبله في قوله
بالتخصص ويعترض عليهم .يقول» :فإن قيل :وهكذا يقول
الصوليون إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورةا فإنه
رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموما الصيغة في فهم السامع
435
وليس بمراد الدخول تحتها وإل كان التخصيص نسخاا«هل) . (1إلى أن
يقول» :فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الصوليون؟«هل
) . (2يجيبِّ الشاطبي» :فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر ،وذلك أن
ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل
الستعمال العربي أو الشرعي .وما ذكره الصوليون يرجع إلى
بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموما إلى الخصوص .فنحن
بينا أنه بيان لوضع اللفظ ،وهم قالوا إنه بيان لخروج اللفظ عن
وضعه ،وبينهما فرق«هل). (3
وقال» :فإن قيل :حاصل ما مر أنه بحث في عبارةا والمعنى
متفق عليه ،ومثله ل ينبني عليه حكم .فالجواب أن ل بل هو بحث
فيما ينبني عليه أحكاما«هل) . (4وقال في منهج الصوليين في
التخصيص إنه شنيع .قال» :ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى
شناعةم أخرى) ، (5وهي أن عمومات القرآن ليس فيها ما هو معتد به
في حقيقته من العموما وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص ،وفيه ما
يقتضي إبطال الكليات القرآنية وإبطال الستدلل به جملة إل بجهة
من التساهل وتحسين الظن ل على تحقيق النظر والقطع بالحكم،
وفي هذا إذا تؤميقل توهين الدلة الشرعية ،وتضعيف الستناد
إليها«هل) . (6ثم خلص إلى القول» :فالحق في صيغ العموما إذا وردت
أنها على عمومها في الصل الستعمالي بحيث يفهم محل عمومها
العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع«هل). ( 7
وعلى هذا ينبني موقف الشاطبي ،هل يصح العمل بالعاما قبل
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/163 ، 1
والشناعة الولى -بنظره -هي اختلفهم في العاما إذا خص هـل يبقـى )( 5
436
البحث عن مخصص أو ل ،إذ قد تكون المسألة الواقعة تحت النظر
مما خص ،فيرى أن العموما إذا وصل حد القطع ،فل حاجة للبحث عن
مخصص ،إذ العموما إذا ثبت ـ على منهجه ـ فهذا يكون بالستقراء
المفيد للقطع فل يعارض ول يرتفع معناه في موضع أو حال .أما
إذا كانت النصوص المفيدةا للعموما لم تتضافر تضافراا يفيد
القطع ،فإن المعنى مما يحتاج إلى مزيد من البحث والستقراء،
وهذا البحث يعني البحث عما يوافق أو يعارض ،ليصل إلى المعنى
القطعي وإلى حدود ما يتناوله هذا المعنى .يقول» :العمومات إذا
اتحد معناها وانتشرت في أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن
بحسبِّ الحاجة من غير تخصيص فهي مجراةا على عمومها على كل
حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل«هل) . (1وقوله هنا» :وإن
قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل«هل ،المقصود به هو قبل أن يتكرر
المعنى ويثبت ،وسيتبين هذا فيما يلي .يقول» :وعلى الجملة فكل
أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلما فهو
مأخوذ على حسبِّ عمومه«هل) . (2ثم قال» :فأما إن لم يكن العموما
مكرراا ول مؤكداا ول منتشراا في أبواب الفقه فالتمسك بمجرده
فيه نظر ،فل بد من البحث عما يعارضه أو يخصصه ،وإنما حصلت
التفرقة بين الصنفين لن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والنتشار
صار ظاهره باحتفافَّ القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي ل
احتمال فيه بخلفَّ ما لم يكن كذلك فإنه معرض لحتمالت فيجبِّ
التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن
وجود معارض فيه«هل). (3
وما ذكر هنا عن العموما والخصوص ينطبق عنده على الطلق
والتقييد ،لن الكليات من خواصها الطلق والعموما.
البيان وأالجأمال:
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/174 ، 1
437
وييغني هنا عن معظم هذا البحث ما ذيكر سابقاا تحت عنوان:
)الحكاما والتشابه( ،إذ المجمل متشابه ،والمحكم هو المعنى
المتعين والثابت والمبييين.
وبنـاءا على ذلك فإن الشـريعـة بعـد كمال الديـن وتمـــاما
النعمة ليس فيها مجمـل مما ينبنـي عليه تكليف .يقول» :الجمال
إما متعلق بما ل ينبني عليه تكليف وإما غير واقع في الشريعة«هل )، (1
وليس مقصوده أنه ليس في الشريعة مجمل مبين ،ولكن ليــس في هــا
بعد كمالها مجمل ،وإن وجد فليس فيه تكليف .قال» :فإن وجد في
الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو مـا ل يف هــم فل يصـح أن يكلــف
بمقتضاه لنه تكليف بالمحال وطلبِّ ما ل ينـال ،وإنمـا يظهـر هـذا
الجمال في المتشابه الذي قال ال تعالى فيه [ :
] ،ولما بين ال تعالى أن في القرآن متشابهاا بين أيضاا أنه ليس فيه
تكليف إل اليمان به على المعنى المراد منه ل على ما يفهم المكلــف
منه«هل). (2
والقرآن يحتوي على الشريعة كلها) ، (3وإنمــا كــانت الســنة
بياناا لما في القرآن ،ليس فيها تشريع زائد على ما ف يــه ،و كــذلك
يحصل البيان بما أجمع عليه الصحابة رضوان ال علي هــم .وإج مــاع
الصحابة ليس من قبيل التفاق العقلي ،أو غيــره في مــا بين هــم علــى
شيء يرونه وليس له أصل في الشرع ،إذ ل شيء مما يحتاج إلى حكم
إل وله أصل في الشرع ،ولكن الجماع هو اتفاقهم على أن ما جاء في
الشرع هو كذا ،أي إن الجماع يك شــف عــن دليــل .قــال ال شــاطبي:
»بيان رسول ال بيان صحيح ل إشكال في صحته لنه لذلك بعث،
قال تعالى [ :
، (4)] ول خلفَّ فيه ،وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا
438
على ما بينوه فل إشكال في صحته أيضاا«هل). (1
وذلك أن فهم الصحابة أتم من فهم غيرهم وأحرى بالتقديم،
وقد شاهدوا من أسباب التنزيل ومن قرائن الحوال ما لم يشاهد
غيرهم ،وهم العرب الفصحاء.
قال» :يترجح العتماد عليهم في البيان من وجهين :أحدهما:
معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم ،ولم
تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم فهم أعرفَّ في فهم الكتاب والسنة
من غيرهم«هل ) . (2ثم قال» :والثاني :مباشرتهم للوقائع والنوازل
وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة ،فهم أقعد في فهم القرائن الحالية،
وأعرفَّ بأسباب التنزيل ويدركون ما ل يدركه غيرهم بسببِّ
ذلك .والشاهد يرى ما ل يرى الغائبِّ ،فمتى جاء عنهم تقييد بعض
المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب ،هذا إن
لم ينقل عن أحد منهم خلفَّ في المسألة ،فإن خالف بعضهم
فالمسألة اجتهادية«هل) . (3ثم قال» :أما إذا علم أن الموضع موضع
اجتهاد ل يفتقر إلى ذينك المرين فهم ومن سواهم فيه شرع
سواء«هل ). (4
439
المبحث الثاني
مإنهج الشاطبي فـي فهم القرآن
مإوضأوع هذا المبحث:
للشاطبي رأي خاص أو جديد في كيفية تقرير المعاني
الشرعية ،ومن ذلك كيفية تعيين معاني نصوص القرآن الكريم،
وهذا بناء على رأيه الذي بيناه سابقاا وهو أن الدليل الشرعي يجبِّ
أن يكون قطعياا أو راجعاا إلى قطعي ،ومعنى ذلك أن المعنى
المرجوع إليه يجبِّ أن يكون قطعياا ،وقد سبق بيان رأيه أيضاا في
عدما أو تعذر وجود دللة قطعية للنص ،وهذا ما ينبني عليه تساؤل
حول كيفية استدلل الشاطبي بنصوص القرآن الكريم .فكون
الدللة ليست قطعية يعني أن المعاني محتملة ،وتعيين معنى دون
آخر من غير مرجح أو شاهد بالعتبار لهذا المعنى دون غيره ل
يصح ،بل إن هذا المعنى المحتمل أو الظاهر بحسبِّ معاني اللفاظ
والتركيبِّ ل يصح اعتباره ما لم يكن راجعاا إلى معنى قطعي ثابت
بالستقراء .وبما أنه ل بد من إعمال النصوص ول بد من الجتهاد
واستنباط الحكاما لجل تحقيق عبودية البشر لخالقهم ،لذلك ل بد
من منهج صحيح لجل تعيين معاني نصوص القرآن الكريم ،ولذلك
ل بد من ضوابط للتفسير ومن وسائل تساعد فيه .لجل بيان هذه
الضوابط وهذه الوسائل وهذا المنهج عند الشاطبي كان هذا
المبحث.
القرآن فيه بيان كل شيء مإن الشريعة:
ذهبِّ الشاطبي إلى أن القرآن جامع لكل أح كــاما ال شــريعة ،ف مــا
من مسألة إل ويسـتفاد حكمها من القـرآن ،وذهـبِّ إلى أن ما عــداه
من مصادر للشريعة إنما هو بيـان وشـرح لما فيـه مما قـد يخـفى
على مـن لم يبلـغ درجـة التحقيــق في العلـم ،أو مما قد يشــتبه
440
على النظار والمجتهديـن ،فل يــس فــي غي ـــره ز يــادةا عليــه ،قــال:
»القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيبِّ المتقدما ) ، (1فالعــالم
به على التحقيــق عــالم بجملــة ال شــريعة ول ي عــوزه من هــا شــيء.
والدليل على ذلك أمور ومنها النصوص القرآنية من قوله [ :
)(2
الية ،وقوله [ : ]
)(3
، ] وقوله [ :
)(4
، ] وقوله [ :
، (5) ] يعني الطريقة المستقيمة ،ولو لم يكمل فيه
جميع معانيها لما صح إطلق هذا المعنى عليه حقيقة .وأشباه ذلك
من اليات الدالة على أنه هدى وشفاء ل مــا فــي ال صــدور ،ول ي كــون
شفاء لما في جميع الصدور إل وفيه تبيــان كــل شــيء«هل) . ( 6و قــال :
»فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة«هل ) . (7وقال» :فل ت جــد فــي
ال ســنة أ مــراا إل وال قــرآن قــد دل علــى معنــاه دللــة إجماليــة أو
تفصيلية«هل ) . (8وقال» :لن ال جعل القرآن تبياناا لكل شيء فيلــزما
من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة«هل) . (9وقــال بعــد أن
ذكر أقوالا في هذا المر لبعض الصحابة والعلماء» :ل أحــد مــن
العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إل وجد لها ف يــه أ صــلا ،وأ قــرب
الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظــواهر الــذين ينكــرون
القياس ولم يثبت عنهم أنهم ع جــزوا عــن الــدليل فــي م ســألة مــن
المسائل ،وقال ابن حزما الظاهري :كل أبواب الفقه ليس منها بــاب
441
إل وله أصل في الكتاب والسنة ) (1نعلمه والحمد ل حــاش القــراض
فما وجدنا له أصلا فيهما البتة إلى آ خــر مـا قــال .وأنــت تعلــم أن
القراض نوع من أنواع الجارةا وأصل الجارةا في القرآن ثابت ،وبين
ذلك إقراره عليه الصلةا والسلما وعمل الصحابة به«هل). ( 2
وإذا كان القرآن فيه بيان كل شيء من الشريعة ،فهــو جــامع
لها مع أن نصوصه متناهية ،لذلك فإن تعريفه بالحكــاما الشــرعية
ليس نصاا على أعيان المسائل والوقائع وإنما هــو تعر يــف بقوا عــد
كلية .قال» :فالقرآن على اختصـاره جـامع ول يكـون جامعـاا إل
والمجموع فيه أمور كليات لن الشريعة تمت بتماما نزو لــه ل قــوله
تعالى ، (3) ] [ :وأنت تعلم أن الصلةا
والزكاةا والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها ف ي القـرآن
وإن مــا بينت هــا ال ســنة ،و كــذلك العاديــات مــن النك حــة والع قــود
والقصاص والحدود وغيرها .وأيضاا فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة
إلى كلياتها المعنوية ،وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهي
الضروريات والحاجيات والتحسينيات ،ومكمل كل واحد منها ،وهذا
كله ظاهر أيضاا«هل). (4
الحاجأة إلى تفسير القرآن بالرأي:
القرآن هو المصدر الول للتشريع.وهو يحتوي على الشريعة
بجملتها ،وفيه بيان كل شيء منها .والناس مكلفون بالخضوع
لحكامه إلى يوما القيامة ،والوقائع والفعال متجددةا ،ولم يأتق بيان
كل الحكاما لكل الوقائع عمن تقدما من المجتهدين ،لذلك ل بد من
استنباط المعاني من القرآن ،ول بد من الجتهاد والقول فيه
بالرأي .قال الشاطبي» :إن الكتاب ل بد من القول فيه ببيان معنى
) ( ومذهبِّ الشاطبي هو أن يقول :إل وله أ صــل فــي الك تــاب ،دون ع طــف 1
السنة.
) ( ا لمصدر نفسه . 3/219 ، 2
442
واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ،ولم يأت جميع ذلك عمن
تقدما ،فإما أن يتوقف ذلك فتتعطل الحكاما كلها أو أكثرها،
وذلك غير ممكن فل بد من القول فيه بما يليق«هل ). (1
وتفسير القرآن بالرأي يعني فهم مراد ال من نص القرآن
حيث لم يتبيين ذلك بتوقيف من النبي ، ول بلغنا عن الصحابة
رضي ال عنهم.
وهذا يحتاج إلى شروط يجبِّ توفرها في صاحبِّ الرأي وفي
الرأي نفسه .وليس الكلما هنا في المجتهد أو المفسر وشروطه،
وسيأتي هذا في فصل لحق ،وإنما الحديث هنا هو في الرأي نفسه.
قال الشاطبي» :إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه وجاء أيضاا
ما يقتضي إعماله«هل ) . (2ثم قال» :إن الرأي ضربان :أحدهما جارم
على موافقة كلما العرب وموافقة الكتاب والسنة فهذا ل يمكن
إهمال مثله لعالم بهما«هل ) . (3ثم قال» :وأما الرأي غير الجاري على
موافقة العربية أو الجاري على الدلة الشرعية فهذا هو الرأي
المذموما من غير إشكال«هل). (4
ولكن تفسير القرآن عمل جليل وخطير ،فينبغي أن ل يقدما
عليه إل من كان أهلا له ،ومن كان كذلك فعليه أن ل يقول إل
عن علمم وبينه ،مع الحذر من الخطأ فإن القول هو في بيان مراد ال
تعالى .قال» :التحفظ من القول في كتاب ال تعالى إل على بينة
فإن الناس في العلم بالدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلثا
طبقات :أحدها من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة
والتابعين ومن يليهم ،وهؤلء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة
والخوفَّ من الهجوما فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا أننا في العلم
443
مثلهم وهيهات«هل). (1
وقال» :القول في القرآن يرجع إلى أن ال أراد كذا أو عنى
كذا بكلمه المنزل وهذا عظيم الخطر«هل) . (2وقال» :أن يكون على
بالم من الناظر والمفسر والمتكليم عليه أن ما يقوله تقصيد منه
للمتكلم والقرآن كلما ال ،فهو يقول بلسان بيانه هذا مراد ال من
هذا الكلما فليتثبيت أن يسأله ال من أين قلت عني هذا؟«هل ). (3
لذلك فإذا لم ي ت ثب ي ت المفسر من صحة قوله فل يصح له القول به،
وإنما يكون ذك بأن يكون التفسير جارياا على موافقة كلما العرب
أي أن يكون مما يحتمله النص ،وأن يكون موافقاا للقرآن والسنة أي
أن يكون راجعاا إلى معنى مقطوع به .فإن كان النص يحتمل أكثر
من معنى ،وكانت المعاني المحتملة يرجع كل منها إلى معنى
مقطوع به ،فل بد حينئذ من شاهدم لترجيح معنى على غيره ،وبغير
ذلك تكون المعاني محتملة ،فل يصح له الجزما بمعنى أو ترجيحه
ويصح له أن يقول :يحتمل أن يكون المعنى كذا أو كذا ،قال:
»فليتثبت أن يسأله ال تعالى من أين قلت عني هذا؟ فل يصح له
ذلك إل ببيان الشواهد ،وإل فمجرد الحتمال يكفي بأن يقول
يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا ،بناء أيضاا على صحة تلك
الحتمالت في صلبِّ العلم ،وإل فالحتمالت التي ل ترجع إلى أصل
غير معتبرةا .فعلى كل تقدير ل بد في كل قول يجزما به أو يحميل
من شاهد يشهد لصله وإل كان باطلا ودخل صاحبه تحت أهل
الرأي المذموما وال أعلم«هل). (4
وعلى ذلك فالرأي المقبول في التفسير له شرطان .الول:
أن يكون جارياا على موافقة كلما العرب .والثاني :أن يكون
موافقاا للكتاب والسنة .والقول المستوفي للشرط الول يسميه
المصدر نفسه . 3/254 ، )( 1
444
الشاطبي الظاهر .أما القول المستوفي للشرطين معاا فيسميه
الباطن ،وهو الذي ينبغي التوصل إليه في التفسير ،كما سيتبين.
للقرآن ظاهر وأباطن:
قال الشاطبي» :من الناس من زعم أن للقرآن ظاهراا
وباطناا«هل ) . (1وذهبِّ إلى أن هذا القول يصح بمعنى معين ول يصح
بغيره ،وهو أن الظاهر هو ظاهر التلوةا أو الكلما نفسه ومعنى
ألفاظه .أما الباطن فهو مراد ال تعالى من الخطاب قال» :والظاهر
هو ظاهر التلوةا ،والباطن هو الفهم عن ال لمراده«هل ) . (2وقال:
»إن المراد بالظاهر هو المفهوما العربي والباطن هو مراد ال تعالى
من كلمه وخطابه .فإن كان مراد من أطلق هذه العبارةا ما فيسيقر
فصحيح ول نزاع فيه ،وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد
على ما كان معلوماا عند الصحابة ومن بعدهم فل بد من دليل
قطعي يثبت هذه الدعوى لنها أصل يحكم به على الكتاب فل يكون
ظنياا«هل). (3
لذلك فإن تفسير القرآن وفهم معاني نصوصه إنما هـو بفهـم
الباطن بالمعنى المذكور ،وليس بالوقوفَّ عند ظــواهر النصــوص،
لن ف هــم ال ظــاهر مي ســور .قــال» :لن ا لــ ت عــالى قــال [ :
، (4)] والمعنى ل
يفهمون عن ال مراده من الخطاب ولم ييرد أنهم ل يفهمــون نفــس
الكلما ،كيف وهو منزل بلسانهم ولكن لم يحظوا بفهم مراد ال من
الكلما«هل) . (5ويبيين الشاطبي مراده بالباطن بأمثلة منها تفسير ابــن
المصدر نفسه . 3/228 ،والظاهر بهذا المعنى هو الذي ين ســبِّ إلــى )( 3
الظاهرية الوقوفَّ عنده .أما ما يتحاشاه من معنى للباطن فهو ما يأتي بــه
من يسميون بالباطنية ،ولهم في التفسير مزا عــم وخ يــالت ل ين هــض ل هــا
دليل .وسنذكر بعضاا من ذلك.
) ( سورةا النساء. 78 ، 4
445
عباس لقوله تعالى ( 1) :بقوله:
إنما هو أجل رسول ال أعلمه إياه .وقول عمر ر ضــي ا لــ عنــه:
وال ما أعلم منها إل مــا تعلــم) . (2قــال ال شــاطبي» :ف ظــاهر هــذه
السورةا أن ال أمر نبيه أن يسبيح بحمد ربه ويستغفره إذ نصــره
ال وفتح عليه وباطنها أن ال نعى إليه نف ســه«هل) . (3و قــال» :ول مــا
نزل قوله تعالى (4) ] [ :الية فرح
الصحابة وبكى عمر وقال :ما بعد الكمــال إل النقصــان مستشــعراا
نعيه عليه الصلةا وال ســلما ،ف مــا عــاش ب عــدها إل أ حــداا وث مــانين
يوماا«هل ). (5
وقال» :فكل ما كان من المعاني العربية التي ل ينبني فهم
القرآن إل عليها فهو داخل تحت الظاهر ،فالمسائل البيانية
والمنازع البلغية ل معدل بها من ظاهر القرآن«هل) . (6وقال:
»وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطبِّ بوصف
العبودية والقرار ل بالربوبية هو الباطن المراد والمقصود والذي
أنزل القرآن لجله«هل) . (7ثم قال» :وعلى الجملة فكل من زاغِّ ومال
عن الصراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهماا
وعلماا .وكل من أصاب الحق وصادفَّ الصواب فعلى مقدار ما حصل
له من فهم باطنه«هل). (8
وفهم المعنى المراد،أي الباطن ل يكون إل بعد فهم الظاهر.
ومراد ال بالخطاب ،وإن كان غير قطعي عند المفسر إل انه ل بد
أن يكون مما يحتمله الظاهر أو يقتضيه .قال» :كون الظاهر هو
446
المفهوما العربي مجرداا ل إشكال فيه لن الموالف والمخالف اتفقوا
على أنه منزل بلسان عربي مبين«هل) . (1وقال» :كل معنى مستنبط
من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوما القرآن في
شيء ل مما يستفاد منه ول مما يستفاد به«هل). (2
وبما أن فهم الباطن ل يتحقق إلى بعد فهم الظاهر ،فلدراك
منهج الشاطبي في تفسير القرآن ل بد من إدراك منهجه في فهم
الظاهر ومنهجه في فهم الباطن .مع التنبه دائماا إلى ما يشترطه
لجل إعمال الدلة وهو أن يكون الدليل إما قطعياا أو راجعاا إلى
معنى قطعي ،والمعنى هنا هو أن يكون الباطن إما قطعياا وإما
راجعاا إلى قطعي .قال» :ل بد في كل مسألة ييراد تحصيل علمها
على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن فإن وجدت
منصوصاا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك ،وإل فمراتبِّ
النظر فيها متعددةا«هل) . (3ثم قال» :وقد تقدما في القسم الول من
كتاب الدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع
إلى مقطوع به ،وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم فهو أول
مرجوع إليه«هل ). (4
كيفية فهم الظاهر:
نصوص القرآن عربية في ألفاظها وتراكيبها وأساليبها ،وفهم
دللتها مقيييد بذلك .وهي وإن كانت غير قطعية الدللة ،فإن
دللتها المحتملة محصورةا بظواهر النصوص ،وهو ما تبين قبل
قليل .وقال» :وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضاا
مما تقدما في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان .أحدهما :أن
يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على
447
المقاصد العربية«هل) . (1وقال إن هذا »ظاهر من قاعدةا كون القرآن
عربياا فإنه لو كان له فهم ل يقتضيه كلما العرب لم يوصف بكونه
عربياا بإطلق ولنه مفهوما يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ول في
معانيه ما يدل عليه .وما كان كذلك فل يصح أن ينسبِّ إليه أصلا
إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ول
مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن
ظاهر ،وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب ال بغير
علم ،والدلة المذكورةا في أن القرآن عربي جارية هنا«هل). (2
ولتحقيق هذا الشرط وهو فهم الظاهر أي مدلول النص من
حيث كونه كلماا عربياا يجبِّ معرفة أسباب التنزيل ،وما تتضمنه
من معرفة قرائن الحوال والقوال ،إذ يختلف المعنى بحسبِّ
المخاطبين ،ويحتمل المر أن يكون للوجوب أو الندب أو الباحة ،أو
أن يكون من قبيل التكليف أو التهديد أو التعجيز أو غير ذلك ،وقد
يأتي المر عاماا يراد به الخاص ،وقد يأتي بلفظ أو عبارةا لها في
الوضع دللة ،ولها في الستعمال دللة أخرى ،وقد يكون اللفظ
مشتركاا أو مجازياا أو له معنى في أصل الوضع ومعنى في الشرع
ومعنى في العرفَّ ،وبالجملة فإن النصوص تنزل بمناسبات ومعها
من قرائن الحوال والقوال ما يؤثر في المعنى .قال» :معرفة
أسباب التنزيل لزمة لمن أراد علم القرآن«هل) . (3وقال» :علم
المعاني والبيان الذي يعرفَّ به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة
مقاصد كلما العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الحوال حال
الخطاب من جهة نفس الخطاب ،أو المخاطقبِّ أو المخاطيبِّ أو
الجميع«هل) . (4وقال» :كالستفهاما لفظ واحد ويدخله معانم أخر
من تقرير وتوبيخ وغير ذلك .وكالمر يدخله معنى الباحة
448
والتهديد والتعجيز وأشباهها ول يدل على معناها المراد إل المور
الخارجة .وعمدتها مقتضيات الحوال وليس كل حالم ينقل ول
كل قرينةم تقترن بنفس الكلما المنقول وإذا فات بعض القرائن
الدالة فات فهم الكلما جملة أو فهم شيء منه ،وفهم السباب رافعة
لكل شكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكلما بل بد،
ومعنى معرفة السببِّ هو معنى معرفة مقتضى الحال«هل). (1
ويضرب الشاطبي أمثلة لذلك منها أن قدامة بن مظعون وهــو
من الصحابة رضي ال عنهم شرب الخمر فسكر ،وقامت عليه البينــة
في ذلك .قال الشاطبي» :فقال عمر :يا قدامة إ نــي جا لــدك قــال:
وال لو شربت كما يقولون ما كان لــك أن تجلــدني ،قــال ع مــر:
لقمي؟ قال :لن ال يقول [ :
(2) ] إلخ فقال عمر :إنك أخ طــأت التأو يــل يــا
قدامة إذا اتقيت ال اجتنبت ما حرما ال«هل) . (3وقال» :فقال عمر :أل
تردون عليه قوله .فقال ابن عباس :إن هؤلء اليــات أنزلــن عــذراا
للماضين وحجة على الباقين ،فعذر الماضين بأنهم لقوا ال قبــل أن
تحرما عليهم الخمر وحجة على الباقين لن ا لــ ي قــول [ :
(4)] ثم قرأ إلى
آخر الية الخرى .فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثــم
اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن ال قد ن هــى أن ي شــرب الخ مــر.
) ( سورةا المائدةا ، 93 ،وال يــة بتمام هــا [ : 2
449
قال عمر :صدقت«هل). (1
وذكر الشاطبي حادثة مماثلة ثم قال» :ففي الحديثين بيان
أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود من
اليات«هل ). (2
كيفية فهم الباطن:
إن الشرط الول لفهم الباطن هو فهم الظاهر ،ودللت
النصوص على معانيها غير قطعية عند الشاطبي ،ولكنها محصورةا
بظواهر النصوص ،وإذا اكتملت شروط فهم الظاهر كما تبين
أعله ،فثم شروط غيرها ليتقرر المعنى المراد بالنص ،أي الباطن،
سواء على سبيل الجزما أو الترجيح .فإذا توفرت هذه الشروط حصل
الفهم المقبول شرعاا.
فالنص يحتمل أكثر من معنى بحسبِّ الظاهر ،والظاهر
المحتمل له شروط حتى يقبل أولها حسبما تبين سابقاا أن يكون
المعنى راجعاا إلى معنى قطعي ثابت بالستقراء وذلك بأن يكون
متضمناا فيه أو خادماا له .فإن كان هذا المعنى الظاهر المحتمل
معارضاا لصل كلي في الشريعة وجبِّ العدول عنه وطرحه.
ومن شروط قبول المعنى الظاهر المحتمل أن يكون له شاهد
يرجحه على غيره من المعاني المحتملة .وذلك أن المعاني
المحتملة لظاهر النص -وهي المعاني التي توفرت فيها شروط
الظاهر -قد يتوفر لكثر من واحد منها أصل كلي بمعناها،
وتعيين واحد منها دون غيره ترجيح من غير مرجح وهذا ل يصح إذ
هو قول في الشرع وفي القرآن بغير بينة ،والشرط الخير أن ل
يكون هناك معارض للمعنى ،إذ المعارض هو قرينة على
مرجوحيته.
قال في بيان شروط المراد من الخطاب وهو الباطن» :ولكن
) ( الشاطبي ،الموافقات. 3/203 ، 1
450
يشترط فيه شرطان أحدهما :أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر
في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية .والثاني :أن يكون
له شاهد نصاا أو ظاهراا في محل آخر يشهد لصحته من غير
معارض«هل ) . (1أما الشرط الول فقد مريي الحديث عنه عند الحديث
عن كيفية فهم الظاهر ،أما الثاني فقال فيه» :وأما الثاني فلنه إن
لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة
الدعاوى التي تدعى على القرآن والدعوى المجردةا غير مقبولة
باتفاق العلماء«هل) . (2أما عدما ذكره هنا لشرط الرجوع إلى قطعي،
فلن هذا الشرط عاما في كل دليل ،وقد حصل تأكيد هذا المر
سابقاا ،وحديثه هنا خاص في شروط تفسير نصوص القرآن ،لذلك
فهذا الشرط معتبر ضمناا.
إشكالت على مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني
القرآن:
هذا هو منهج الشاطبي في تفسير القرآن أو في تقرير
المعاني ،إل أن ثمة تفسيرات لبعض النصوص قال بها الصحابة أو
التابعون أو أئمة معتبرون ل تتفق مع ما ذكره بشكل كامل ،لذلك
فهو يستشكلها ويحاول تبريرها أو إعادتها إلى منهجه إن أمكن.
يقول» :تعريف القرآن بالحكاما الشرعية أكثره كلي ل جزئي،
وحيث جاء جزئياا فمأخذه على الكلية إما بالعتبار أو بمعنى الصل
إل ما خصه الدليل مثل خصائص النبي « هل). (3
أما أن تعريف القرآن بالحكاما كلي ل جزئي ،فقد سبق بيانه
وهو أن القرآن الكريم فيه بيان كل شيء ،فهو مع اختصاره جامع،
ول يكون كذلك إل إذا كان المجموع فيه قواعد كلية تنطبق على
ما يندرج تحتها من جزئيات كثيرةا وإن لم ينص عليها عيناا .ول
451
يعني هذا أن ل ينص على جزئيات) . (1ولذلك قال» :أكثره
كلي«هل .ولكن هذه الجزئيات التي نص عليها القرآن ل بد أن تكون
قطعية أو راجعة إلى أصول قطعية ،ول تكون قطعية إل إذا تضافرت
معها جزئيات كثيرةا في معناها وهذا يؤدي إلى أن تكون كلية،
وهذا بخلفَّ قوله إنها جزئيات ،لذلك فهي جزئيات ويجبِّ أن تكون
راجعة إلى أصول كلية ،لذلك قال» :فمأخذه على الكلية«هل وذلك
كما يرجع تحريم الخمر إلى حفظ العقل ،وكما يرجع النهي عن
عبادةا الصناما أو أصناما بعينها كاللت والعزى إلى عبادةا ال وحده،
وهذا معنى قوله» :فمأخذه على الكلية بمعنى الصل«هل .أما قوله:
»فمأخذه على الكلية بالعتبار«هل فهو بسببِّ ما يستشكله من
تفسيرات أو استدللت كما سيتبين.
ومراده بالعتبار هو أن يكون المعنى المأخوذ أو المفسيير به
موافقاا للمعنى الصحيح الجاري بحسبِّ شروط الظاهر والراجع
إلى أصل ،أي أن يكون موافقاا له وليس هو هو ،وهو معنى العتبار
كما تبين في الفصل الول .لذلك فالشكال يأتي من جهتين.
الولى :ظاهر النص ،إذ قد يأتي التفسير على غير المعهود من
كلما العرب وأساليبهم ،ومع ذلك فالشاطبي يقول بقبوله.
والجهة الثانية للشكال هي جهة الباطن ،كأن ل يكون المعنى
راجعاا إلى أصل قطعي ،وليس له شاهد بالعتبار ،ومع أن منهج
الشاطبي رده أو التوقف فيه ،فإنه قال بإمكانية قبوله في حالت إذا
وجدت فهي قليلة .وفيما يلي أمثلة للتوضيح.
أما ما لم يجر بحسبِّ الظاهر ،فقد أورد الشاطبي أمثلة عليــه،
منها قوله» :وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكــن أن تكــون
من هذا القبيل) (2أو من قبيل الباطن الصحيح وهي من ســوبة لنــاس
) ( من هذا القبيل :أي من قبيل ما أتى به الباطنية مما هو مخالف للباطن 2
والظاهر معاا .كقولهم :الكعبة النبي ،والبــاب علــي ،وال صــفا هــو النــبي
والمروةا علي .وكقولهم :عصا موسى حجته التي تلق فــت شــبه ال ســحرةا،
452
من أهل العلم ،وربما نسبِّ منها إ لــى ال ســلف ال صــالح .ف مــن ذلــك
فواتح السور نحو و و« هل) . (1قال» :فينقلون عن
ابن عباس أن أن ألف ال ولما جبريل وميم محمد ، وهذا إن
صح في النقل فمشكل لن هذا النمط من التصرفَّ لم يثبت في كلما
العرب هكذا مطلقاا ،وإنما أتى مثله إذا دل عليه الــدليل اللفظــي أو
الحالي«هل ) . (2وقال» :كما أنه نقل أن هذه الفواتح أســرار ل يعلــم
)(3
تأويلها إل ال وهي أظهر القوال ف هــي مــن قبيــل المت شــابهات«هل
ومن أمثلته أيضاا ما جاء في تفسير قوله تعالى [ :
(4) ]أي أضداداا ،حيث قيل ،وأكبر النــداد النفــس المــارةا
بالسوء ) . (5وهذا مشكل عند الشاطبي ،لن ال ظــاهر بح ســبِّ شــروطه
من أسباب النزول ومقتضى القرائن أن النداد هي ال صــناما ولي ســت
النفس .قال» :و هــذا م شــكل ال ظــاهر جــداا إذ كــان م ســاق اليــة
ومحصول القرائن فيها يدل على أن الندادي الصناماي أو غيرها ممــا
كــانوا يعبــدون ولــم يكونــوا يعبــدون أنفســهم ول يتخــذونها
أرباباا«هل ) . (6وعقبِّ قائلا» :ولكن له وجه جارم على الصحة وذلــك
أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الية ،ولكن أتى بما هو ند في العتبار
الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين .إحداهما :أن النــاظر قــد
يأخذ من معنى الية معنى من باب العتبار فيجريه فيما لــم تنــزل
فيه لنه يجامعه في القصد أو يقاربه ،لن حقيقة الند أنــه المضــاد
وانفلق الب حــر علــم مو ســى عليــه ال ســلما في هــم ،والب حــر هــو ال عــالم،
وكقولهم :تسبيح الجبال رجال شداد فــي الــدين .والجـن الـذين ملك هــم
سليمان باطنية ذلك الز مــان ،وال شــياطين هــم الظاهريــة الــذين كل فــوا
العمال الشاقة .وغير ذلك .أنظر :الموافقات . 3/236
) ( الشاطبي ،الموافقات . 3/237 ، 1
453
لنده الجاري على مناقضته والنفس المارةا هذا شأنها«هل). (1
إذاا ،معنى العتبار في قوله» :فمأخذه على الكلية بالعتبار«هل
هو إجراء معنى الية في شيء يشترك في القصد مع الشيء الذي
نزلت فيه أو يقاربه ،هذا من جهة الظاهر أما الشكال من جهة
الباطن فليس موجوداا في هذا المثال .وهو أن يكون المعنى الذي
توفرت فيه شروط الظاهر ل يرجع إلى أصل كلي أو ليس له شاهد
بالعتبار ،ول يمكن القول بالتوقف وعدما إعمال النص ،لنه نص
قرآن ومما ينبني عليه تكليف ،فإعماله واجبِّ وإهماله ل يصح.
والذي يقوله الشاطبي في هذه الحالة هو أنها فرضية ل وجود
لها ،وإن وجدت فوجودها نادر ل يضير المنهج ،يقول» :الظني
الذي ل يشهد له أصل قطعي ول يعارض أصلا قطعياا فهو في محل
النظر .وبابه باب المناسبِّ الغريبِّ ،فقد يقال :ل يقبل لنه إثبات
شيء على غير ما عهد في مثله ،والستقراء يدل على أنه غير
موجود ،وهذان يوهنان التمسك به على الطلق لنه في محل
الريبة«هل) . (2وهكذا فمثل هذه الحالة لم تقع والستقراء يؤكد هذا،
فإذا افترض وقوعها فما العمل؟ يقول» :وقد أعمل العلماء المناسبِّ
الغريبِّ في أبواب القياس ،وإن كان قليلا فذلك غير ضائر إذا دل
الدليل على صحته«هل) . (3ويتلخص حل الشكال في هذه الحالة بأن
القرآن جاء بالكليات وكان نزوله بحيث يكون اللحق فيه بياناا
للسابق ،وكذلك السنة جاءت بياناا للقرآن ،وكذلك ما جاء عن
السلف الصالح الذين هم أعرفَّ باللغة ودللتها وبالشريعة
ومقاصدها ،لذلك فإذا جاء شيء من الدلة التي هي جزئية ،فهو في
الصل بيان للكليات فإذا لم نستطع إرجاعه إلى كليات ،يمكن
الستعانة بشواهد من الجزئيات ،إذ قد يتوفر لها معنى يثبت كلياا
فترجع إليه ،وهذا ل يضر ول يقدح في أصل المنهج لنه إن وجد
) ( المصدر نفسه . 239 - 3/238 ، 1
454
فهو قليل ،لذلك فإذا لم يوجد أصل قطعي يرجع المعنى إليه أو أي
شاهد بالعتبار ،فمطلق الفهم العربي للنص يصح إعماله .يقول:
»فعلى هذا ل ينبغي في الستنباط من القرآن القتصار عليه دون
النظر في شرحه وهو السنة ،لنه إذا كان كلياا وفيه أمور كلية
كما في شأن الصلةا والزكاةا والحج والصوما ونحوها فل محيص
عن النظر في بيانه وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح
فإنهم أعرفَّ به من غيرهم ،وإل فمطلق الفهم العربي لمن حصله
يكفي فيما أعوز من ذلك وال أعلم«هل) . (1وقال» :ل بد في كل
مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها
في القرآن ،فإن وجدت منصوصاا على عينها أو نوعها أو جنسها
فذاك ،وإل فمراتبِّ النظر فيها متعددةا«هل ) . (2ثم قال» :وقد تقدما في
القسم الول من كتاب الدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما
مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به ،وأعلى مراجع المقطوع به
القرآن الكريم فهو أول مرجوع إليه .أما إذا لم يرد من المسألة إل
العمل خاصة فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالحاد ،كما
يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد وهو أضعف .وإنما يرجع فيها
إلى أصلها في الكتاب لفتقارها إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع
إليه ،أو ديناا يدان ال به ،فل يكتفى بتلقيها من أخبار الحاد كما
تقدما«هل). ( 3
وبناء على ما ســبق ،فــإن التف ســير الــذي ي شــكل علــى من هــج
الشاطبي ،إنما هو من جهة الظاهر ،و الشـاطبي يـرده ،وإنم ا أجهـد
نفسه في بيان إمكانية اعتباره لنه صادر عمن قــوله معتــبر ،و هــذا
مصدر الشكال أصلا ،لذلك ينبغي التنبه إلى أنــه رد تفســير ابــن
عباس رضي ال عنه لفوات ح السـور ،وكـذلك رد تفسـير النـداد
455
بالنفس في قوله تعالى . (1)] [ :لذلك قال
في فواتح السور» :نيقل أن هذه الفواتح أسرار ل يعلم تأويلهــا إل
ال وهو أظهر القوال فهي من قبيل المتشابهات«هل ) . (2وكــذلك رد
تفسير النداد بالنفس فقال» :ولكن لــه و جــه جــار علــى ال صــحة
وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الية«هل) . (3أ مــا است شــكال هــذه
القوال والتكلف في إيجاد وجه من وجوه العتبار لها فهو لجللــة
من نقلت عنهم ،قال» :وإنما احتيج إلى هذا كله لجللة مــن نقــل
عنهم ذلك من الفضلء«هل ). (4
ولذلك رد بعض التفسيرات وإن كانت صادرةا عن علماء كما
في تفسير الجار ذي القربى بالقلبِّ ،والجار الجنبِّ بالنفس
الطبيعي والصاحبِّ الجنبِّ بالعقل المقتدى به في الشرع وابن
السبيل بالجوارح المطيعة ل عز وجل ،وقال إن هذا» :ل يعرفه
العرب ل من آمن منهم ول من كفر ،والدليل على ذلك أنه لم
ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن
يماثله أو يقاربه ولو كان عندهم معروفاا لنقل .لنهم كانوا
أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الئمة ،ول يأتي آخر هذه
المة بأهدى مما كان عليه أولها ول هم أعرفَّ بالشريعة منهم ول
أيضاا ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير ل من مساق الية فإنه
ينافيه ول من خارج إذ ل دليل عليه كذلك ،بل مثل هذا أقرب إلى
ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلما الباطنية ومن أشبههم«هل). (5
أمإثلة على مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني
القرآن:
أحكاما الشريعة كلها موجودةا في القرآن في كليات يخدما
456
بعضها بعضاا ،لذلك يلزما لمن أراد تحصيل العلم بالشريعة العلم
بكلياتها المجموعة في القرآن ،فهذا يمكنه من تنزيلها على
جزئياتها .والعلم بالكليات يلزما له العلم بالقرآن ،وملزمته
الدائمة لجل التنبه إلى ما فيه من معان م ل تنقض ،وحكم وحقائق ل
تزال تستجد على الناظرين فيه ،ول يحصل ذلك إل بدواما قراءته
وتدبر ما فيه ،قال» :فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها
المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال«هل ) . (1وقال» :إن
الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدةا الملة وينبوع الحكمة
وآية الرسالة«هل) ، (2ثم قال» :وإذا كان كذلك لزما لمن راما
الطلع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق
بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه وأن يجعله جليسه على مر الياما
والليالي نظراا وعملا ل اقتصاراا على أحدهما«هل). (3
فمن ذينك الملزمة واللتزاما يزداد العلم بالقرآن وبأساليبه
ومعانيه وبما فيه فيتحصل من ذلك استفادةا للمعاني ،واستقصاء
لها مما يؤدي إلى إدراك الكليات القرآنية .وقد وضع الشاطبي
قاعدتين أو أصلين ربما أراد منهما وضع أمثلة لما تفيده مجالسة
القرآن واستقصاء معانيه ،الولى تفيد في استنباط المعاني
بالرجوع إلى قاعدةا كلية .والثانية في السلوك والتأدب بأدب
القرآن.
أما الولى فهي» :كل حكاية وقعت في القرآن فل يخلو أن
يقع قبلها ،أو بعدها وهو الكثر ،رد لها أو ل ،فإن وقع رد فل
إشكال في بطلن ذلك المحكي أو كذبه ،وإن لم يقع معها رد
فذلك دليل على صحة ذلك المحكي وصدقه«هل). (4
ودليل الشاطبي على هذه المسألة هو استقراؤه للحكايات التي
457
وردت في القرآن واستقصاؤه لها ولما وقع له رد ولما لـم يقـع لـه
رد) ، (1وعلى ذلك بنى أصله المذكور .ثــم قــال» :ول طــراد هــذا
الصل اعتمده النظار فقد استدل جما عــة مــن ال صــوليين ع لــى أن
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بقوله تعـالى [ :
(2)] الية ،إذ لو
كان قولهم باطلا لرد عند حكايته«هل ) . (3ومن طريف ما ذكره بنــاء
على هذا ال صــل ا ســتدلله علــى أن أ صــحاب الك هــف كــانوا ســبعة
وثامنهم كلبهم .قال» :وا ســتدل علــى أن أ صــحاب الك هــف ســبعة
وثامنهم كلبهم بأن ال تعالى ل مــ ا ح كــى مــن قــولهم إن هــم ثل ثــة
رابعهم كلبهم وإنهم خمسة سادسهم كلبهم أعقبِّ ذلك بقوله [ :
، (4) ] أي ليس لهم دليل ول علم غير ا تبــاع الظــن،
ورجم الظنون ل يغني من الحق شيئاا ،ول مــا ح كــى قــولهم :ســبعة
وثامنهم كلبهم لم يتب عــه بإب طــال بــل قــال [ :
، (5)] دل المساق على صحته دون
القولين الولين .وروي عن ابن عباس أنه كان يقول :أنا من ذلك
القليل الذي يعلمهم«هل). (6
ومن ذلك أيضاا السـتـدلل ع لــى أن طمأني ـــنة الق لــبِّ هــي
زيادةا في اليمان ،وذلك من قول إبراهيم عليه السلما [ :
)(7
، ] وحين سئل [ :
، (8)] فلو علم ال تعالى منه شكاا
لظهره ،فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الز يــادةا فــي الي مــان،
458
بخلفَّ ما حكى ا لــ عــن قــوما مــن ال عــراب فــي قـوله [ :
)(1
، ] فإن ال تعالى رد عليهم [ :
]). (3) (2
أما القاعدةا الثانية فهي» :إذا ورد في القرآن الترغيبِّ قــارنه
الترهيبِّ في لواحقه أو ســوابقه أو قرائ نــه أو بــالعكس ،و كــذلك
الترجية مع التخويف ،وما يرجع إلى هذا المعنى مثله«هل) . (4وذلــك
أن النسان قابل لن يميل إلى طرفَّ النحلل ،وإلى طــرفَّ الت شــدد.
فجاء الترغيبِّ والترهيبِّ مؤدباا ،وحاملا له علــى مــا هــو الو ســط
والعدل ،وليبقيه بين الخوفَّ والرجاء ،فإن مال إلى طــرفَّ النحلل
جاءه بالتخويف وإن مال إلى التشدد جــاءه بالترجيــة .و قــد ذ كــر
الشاطبي أن هذه القاعدةا مطردةا في القـرآن علـى أنهـا مـن أف عــال
الخالق الحكيم الخبير ،وقال» :وبهذا كان عليه الصــلةا والســلما
يؤدب أصحابه ولما غلبِّ على قوما جانبِّ الخوفَّ قيل لهم [ :
] ) (5الية ،وغلبِّ على قوما جانبِّ الهمال في بعض المــور فخوفــوا
وعوتبوا كقوله [ :
(6) ] الية .فإذا ثبت هذا من ترتيــبِّ
ال قــرآن وم عــاني آ يــاته فعلــى المكلــف الع مــل علــى و فــق ذ لــك
التأديبِّ«هل). (7
ولهذا النمط في استفادةا الحكاما في قواعد السلوك وآدابه
أمثلة يشير إليها الشاطبي في أكثر من موضع من كتابه ،وترجع -
459
عنده -إلى أصل يسميه أصل التخلق بصفات ال والقتداء بأفعاله
حيث كل واحدةا من هذه الصفات هي قاعدةا تستفاد بالستقراء.
كما أن الصل نفسه يحتاج إ لــى ا ســتقراء يف يــد الق طــع بــه،
يقول» :ويتبين صحة الصل المذكور في ك تــاب الجت هــاد ،و هــو
أصل التخلق بصفات ال والقتداء بأفعاله ويشتمل علــى أنــواع مــن
القواعد الصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الدبية فلنذكر منها
أمثلة يستعان بها في فهم المراد ،فمـن ذلـك عـدما المؤاخـذةا قبـل
النذار دل على ذلك إخباره تعالى عــن نف ســه ب قــوله [ :
، (1)] فجرت عادته في خلقه أنه ل
يؤاخذ بالمخالفة إل بعد إرسال الرسل ،فإذا قامت الحجة عليهم [
(2) ] ولكل جزاء مثله«هل)، (3
ومن ذلك أيضاا :البلغِّ في إقامة الحجة ،ومنها تــرك ال خــذ مــن
أول مرةا بالــذنبِّ ،ومن هــا تح ســين العبــارةا بالكنايــة ونحو هــا فــي
المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيى من ذكره في عادتنا
)(4
كقوله تعالى ، ] [ :و[
(5) ] وغيرها). (6
مإنهج الشاطبي فـي استقراء المعاني فـي
القرآن:
يرى الشاطبي أن الكليات هي أول القرآن نزولا وقد نزل
أكثرها بمكة ،لذلك كان ما نزل بعد ذلك بياناا وشرحاا وتفصيلا
لتلك الكليات .لذلك فعلى من أراد استقصاء المعاني وإثبات
الكليات أن يتبع في ذلك ترتيبِّ القرآن في النزول .قال » :إ علم أن
460
القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والتي نزل بها القرآن على نبيه
بمكة ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع
أصلها بمكة«هل) . (1وقال» :وإنما كانت الجزئيات المشروعة بمكة
قليلة والصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر «هل). (2
وقال » :القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيبِّ المتقدما «هل)، (3
وقال » :المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على
المكي ،وكذلك المكي بعضه مع بعض ،والمدني بعضه مع بعض
على حسبِّ ترتيبه في التنزيل وإل لم يصح .والدليل على ذلك أن
معنى الخطاب المدني في الغالبِّ مبني على المكي كما أن المتأخر
)(4
من كل واحد منهما مبني على متقدمه دل على ذلك الستقراء«هل .
461
القذةا بالقذةا ،فل يغيبن على الناظـر في الكـتاب هذا المعنى فإنه
من أسرار علوما التفسير وعلى حسبِّ المعرفة به تحصل له المعرفة
بكلما ربه سبحانه«هل). (1
وهكذا ،ففروع الشريعة كلها ترجع إ لــى كل يــات كل هــا فــي
القرآن ،والكليات هي السبق نزولا كما أن هذه الكليات ترجع فــي
معانيها إلى أصول كلية ،وهكذا حتى تر جــع ال شــريعة إ لــى كليــة
واحدةا ،وهذه الكليات إنما تثبت كليات مــن خلل الوجـوه ال كــثيرةا
التي تفيدها كما يظهر النص التالي :يقول» :و غــالبِّ الم كــي أ نــه
مقرر لثلثة معان أصلها معنى واحد وهو الــدعاء إلــى عبــادةا الــ
تعالى .أحدها :تقرير الوحدانية ل الواحد الحق غير أنه يأتي على
وجوه كنفي الشريك بإطلق ،أو نفيه بقيد مــا اد عــاه الك فــار مــن
كونه مقرباا إلى ال زلفى أو كونه اتخذ ولداا أو غير ذلــك مــن
أنواع الدعاوى الفاسدةا ،والثاني :تقرير النبوةا للنبي محمــد وأنــه
رسول ال إليهم جميعاا صادق فيما جاء به من عند ا لــ إل أنــه وارد
على وجوه أيضاا كإثبات كونه رسولا حقاا ونفى ما ادعــوه عليــه
من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر أو ما أشــبه ذلــك
من كفرهم وعنادهم .والثالث إثبات أمر البعث والدار الخرةا وأنه
حق ل ريبِّ فيه بالدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه
يمكن الكافر إنكاره به ،فرد بكل وجه يلزما الح جــة ويب كــت الخ صــم
ويوضح المر ،فهذه المعاني الثلثة هي التي اشتمل علي هــا الم نــزل
من القرآن بمكة في عامة المر ،وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها
)(2
فراجع إليها في محصول المر«هل .ولهميــة هــذا النــص -أعله -
في منهجه فقد ذكرته بتمامه ،كما أن معناه مبثــوثا فــي مواضــع
كثيرةا من كتابه ،وهو ي كــرره نف ســه فــي مو ضــع آ خــر في قــول:
) ( المصدر نفسه . 3/251 ،وهذا النص هاما جداا في بيان منهجه إذ يبيين 2
كيف تتضافر جزئيات كثيرةا على معنى كلــي وا حــد .وكيــف تت ضــافر
كليات وترجع إلى كلية واحدةا.
462
»وذلك أنه) (1محتوم من العلوما على ثلثة أج نــاس هــي المق صــود
الول ،أحدها :معرفة المتوجه إليه ،والثاني :معرفة كيفية التوجه
إليه .والثالث :معرفة مآل العبد ليخافَّ الــ بــه ويرجــوه ،وهــذه
الجناس الثلثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود عبر عنه قوله
تعالى ، (2) ] [ :فالعبادةا
هي المقصود الول«هل ). (3
463
المبحث الثالث
مإنهج الشـاطبي فـي فهم السـنة
مإوضأوع هذا المبحث:
السـنة هي مصدر التشريع الثاني بعد الكتاب ،وهي بيان
للكتاب ،وقد تبين رأي الشاطبي فيما سبق أن السنة ليس فيها تشريع
زائد على الكتاب ،أي تشريع ليس له اصل في الكتاب ،والمراد بهذا
المبحث بيان كيفية بيان السنة للكتاب عند الشاطبي ،وكيف
ييرجع الحكاما الشرعية الثابتة في السنة إلى أصولها في الكتاب
وبخاصة تلك التي قد يعترض بها على رأيه بأن السنة استقلت
بتشريعها ول أصل لها في الكتاب.
والمراد أيضاا بيان موقفه بأن ما يصلنا من السنة مما ل يمكن
إرجاعه إلى أصل في الكتاب فيجبِّ التوقف فيه ول يصح إعماله،
وكذلك مما أريد بهذا المبحث بيان رأي الشاطبي في دللة الفعل
على الحكاما الشرعية ،إذ فعل الرسول هو من السنة ،ودللة الفعل
ليست كدللة القول.
تعريف السنة عند الشاطبي:
يطلق الشاطبي لفظ »السنة«هل كمصدر للتشريع على ما نقل
عن النبي من قول أو فعل أو تقرير وعلى ما جاء عن الصحابة أو
الخلفاء الراشدين.
أما ما جاء عن النبي فواضح ومتفق عليه أنه السنة ،أما ما
جاء عن الصحابة فالمقصود به إجماعهم رضي ال عنهم كمصدر
للتشريع مبني على أدلة شرعية عرفوها ولم تنقل إلينا .أما عمل
الخلفاء الراشدين فراجع أيضاا إلى حقيقة الجماع .قال بعد أن جاء
بمعانم يطلق عليها لفظ السنة» :وإذا جمع ما تقدما تحصل منه في
الطلق أربعة أوجه ،قوله عليه الصلةا والسلما وفعله وإقراره،
وكل ذلك إما متلقى بالوحي أو بالجتهاد بناء على صحة الجتهاد
464
في حقه وهذه ثلثة والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء«هل). (1
وقال» :ويطلق أيضاا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة وجد
ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد لكونه اتباعاا لسنةم ثبتت
عندهم لم تنقل إلينا أو اجتهاداا مجتمعاا عليه منهم أو من
خلفائهم .فإن إجماعهم إجماع ،وعمل خلفائهم راجع أيضاا إلى
حقيقة الجماع حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم ،فيدخل تحت
هذا الطلق المصالح المرسلة والستحسان كما فعلوا في حد الخمر
وتضمين ال صيـني اع وجمع المصحف وحمل الناس على القراءةا
بحرفَّ واحد من الحروفَّ السبعة وتدوين الدواوين وما أشبه
ذلك«هل) . (2وهو يقصد بالجماع إجماع الصحابة دون من بعدهم.
قال» :سنة الصحابة رضي ال عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها
ومن الدليل على ذلك أمور ،أحدها ،ثناء ال عليهم من غير استثناء
ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها«هل) . (3وقال» :فل يقال إن هذا
عاما في المة فل يختص بالص ـ حابة دون من بعدهم لنا نقول:
أولا :ليس كذلك بناء على أنهم هم المخاطبون على الخص ـ وص
ول يدخل معهم من بعدهم إل بقياس وبدليل آخر«هل) . (4ومراده
بأن ـ هم هم المخاطب ـ ون على الخص ـ وص أي بالمدي ـ ح وبالتعدي ـ ل
وبما يرجع إلى ذلك.
بيان صحيح ل إشكال في صحته لنه »بيان رسول ال وقال:
لذلك بيعث .قال تعالى [
(5 ) ] ول خلفَّ فيه ،وأما بيان الصحابة
فإن أجمعوا على ما بيينوه فل إشكال في صحته أيضاا«هل). (6
أما عمل الخلفاء الداخل في السنة فهو عمل الخلفاء الراشدين،
465
إذ إنه راجع إلى الجماع ،والجماع هو إجماع الصحابة .فل يكون
عمل الخلفاء داخلا في إجماع الصحابة إل إذا كانوا الخلفاء
الراشدين .وذلك أن الخليفة له حق الطاعة على المة .فيحمل
الناس على أمر شرعي فيتحقق بذلك الجماع .ويستشهد الشاطبي
على عمل الخلفاء الراشدين وإجماع الصحابة في أكثر من موضع
من كتابه بالحديث» :عليكم بسنتي وأسنة الخلفاء
الراشدين المهديين مإن بعدي تمسكوا بها وأعضوا
عليها بالنواجأذ «هل)« (1هل). (2
وعلى ذلك فالس ـ نة هي :قول النبي وفعله وإقراره وما جاء
عن الص ـ حابة بالجم ـ اع وعن الخلفاء الراشدين .وهذا الخير ليس
المقصود به إجماعهم وإنما ما جاء عن الخليفة الراش ـ د من قول أو
فعل أو تقرير وقبل به الص ـ حابة بالجماع فبذلك يكون راج ـ عاا
إلى إجماع الص ـ حابة رضوان ال عليهم جميعاا.
السنة بيان للكتاب:
يقول الشاطبي» :السنة راجعة في معنا هــا إلــى الكتــاب ف هــي
تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره ،وذلك لنها بيان لــه
وهو الذي دل عليـه قـوله ت عــالى [ :
، (3)] فل تجد في السنة أمراا
إل والقرآن قد دل على معناه دللة إجماليــة أو تفصــيلية ،وأيضــاا
فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليــل
على ذلك«هل). (4
والسنة تأتي ثانياا في الدللة على الحكاما بعد الكتاب ،وذلك
أنها بيان وشرح وتفصيل له فل يمكن أن تتقدما عليه ،وكذلك فإن
466
أخبار السنة ظنية الثبوت والقرآن قطعي كله ،والقطع في السنة
هو في ثبوتها كمصدر للتشريع أي كدليل إجمالي .بل إن
الشاطبي كما نفى وجود الدللة القطعية للنصوص على المعاني،
فقد نفى -أو كاد ينفي -وجود أخبار متواترةا غير القرآن،
وبذلك فدللة السنة ظنية من جهتين :من جهة الثبوت ومن جهة
الدللة.
قال» :رتبة السنة التأخر عن الكتاب في العتبار ،والدليل على
ذلك أمور :أحدها :أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة والقطع
فيها إنما يصح في الجملة ل في التفصيل بخلفَّ الكتاب فإنه
مقطوع به في الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدما على المظنون
فلزما من ذلك تقديم الكتاب على السنة«هل ) . (1وذكر أموراا أخرى .
وبالنسبة لوجود التواتر في الخبار المنقولة عن النبي قال:
»فإن ما ذكر من تواتر الخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ولعلك
ل تجد في الخبار النبوية ما يقضى بتواتره إلى زمان الواقعة،
فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر
الوقوع ول كبير جدوى فيه وال أعلم«هل). (2
وبالرجوع إلى ما ذكر سابقاا من أن الدليل ال شــرعي ل يقبـل
إل إذا كــان قطعيــاا أو راج عــاا إلــى قط عــي ،ي صــبح مــن البــديهي
الستنتاج أن الحديث النبوي ،وإن صح سنده ،فإنه ل يصح إعماله إل
إذا كان معناه راجعاا إلى معنى كلي قطعي ،وبما أن الكليات كلهــا
موجودةا في القرآن كما تبين في المبحث السابق ،فــإن الحــديث ل
يصح إعماله ما لم يكن له أ صــل فــي ال قــرآن ،و كــذلك فــإن مــن
مقتضيات هذا المنهج ،أن السنة ليس فيها تشريع زائد إل إذا كــانت
الزيادةا بمعنى تفصيل مجمل أو تفسـيـر متشـابه وبما أن القــرآن
3
بيـان لكل شـيء [ [ ، ]
( )
467
، (1) ] فإن ما تأتي به السنة مــن
تشريع هو زيادةا بيان وزيـادةا شـرح ،وليسـت شيئاا ل أصل له فــي
القرآن ،فإذا جاء فيها شيء مما يظن أ نــه ل أ صــل لــه فــي ال قــرآن،
فالشاطبي يرجعه إلى أصل قرآني ،وإل فهو يتوقف عن قبوله.
وهذا المر عند الشاطبي يخالف ما عليه الئمة والمجتهدون،
إذ المعهود أن الحديث يوجبِّ العمل وإن كان ظني الثبوت ،ول
يتوقف فيه أو يرد إل إذا كان معارضاا لما هو أقوى منه ثبوتاا
بحيث ل يمكن رفع التعارض بتخصيص أو تقييد .وعلى ذلك
فالشاطبي يختلف مع المنهج المعهود والثابت بأنه ل يكتفي لعمال
النص الشرعي الظني الثبوت أن ل يكون مناقضاا أو معارضاا لما هو
أقوى منه ثبوتاا ،بل يشترط ،إضافةا إلى ذلك ،وجود معنى قطعي
من القرآن يستند إليه الظني.
يقول» :فقد مر في أول كتاب الدلة أن خبر الواحد إذا استند
إلى قاعدةا مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإل فالتوقف ،وكونه
مستنداا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني
كلي«هل) . (2وقال» :لن ال جعل القرآن تبياناا لكل شيء فيلزما من
ذلك أن تكون السنة حاصلةا فيه في الجملة«هل) . (3ثم قال» :فالسنة
إذااي في محصول المر بيان لما فيه ،وذلك معنى كونها راجعة إليه
وأيضاا فالستقراء التاما دل على ذلك«هل) ، (4ثم قال» :وقد تقدما في
أول كتاب الدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإل وجبِّ التوقف عن
قبولها وهو أصل كافَّم في هذا المقاما«هل). (5
ويرد الشاطبي على اعتراضات عليه بأن السنة وإن كانت بياناا
ففيها زيادةا لن فيها ما هو غير موجود في القرآن ،فيقول» :وقوله
468
في السؤال :فل بد أن يكون زائداا عليه مسلم ،ولكن هذا الزائد هل
هو زيادةا الشرح على المشروح إذ كان للشرح بيان ليس في
المشروح وإل لم يكن شرحاا أما هو زيادةا معنىا آخر ل يوجد في
الكتاب هذا محل النزاع«هل) . (1ثم يبين أن هذه الزيادةا هي زيادةا في
الشرح ،وبما أنها شرح ،فهناك مشروح ،فإذاا هناك أصل في الكتاب،
يقول» :فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمالم أو
تفصيل أو على الوجهين معاا ،وجاءت السنة قاضيةا على ذلك كله
بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح«هل). (2
وبناءا على ذلك فكل تشريع أو تكليف تأتي به السنة يجبِّ
عرضه على الكتاب ،فإن وافق الكتاب فهو صحيح ،وإن لم يوافق ل
تثبت صحته ،قال» :نعم يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة
ول موافقة ،بل بما يكون مسكوتاا عنه في القرآن إل إذا قاما البرهان
على خلفَّ هذا الجائز وهو الذي ترجم له في هذه المسألة فحينئذم
ل بد في كل حديث من الموافقة لكتاب ال«هل). (3
إل أنه تجدر الشارةا إلى أن وجوب موافقة السنة للكتاب ،وأن
السنة ل تأتي بزيادةام ليست شرحاا أو تفصيلا لما في الكتاب ،إنما
هو فيما يتعلق بأحكاما التكليف أي المر والنهي والذن .وكما أنه
ليس في القرآن مجمل أو متشابه غير مبين إل فيما ل ينبني عليه
تكليف ،فيجوز أن تأتي السنة بما ليس له أصل في الكتاب مما ل
ينبني عليه تكليف .قال» :حيث قلنا إن الكتاب دال على السنة وإن
السنة إنما جاءت مبينةا له فذلك بالنسبة إلى المر والنهي والذن
أو ما يقتضي ذلك ،وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة
التكليف ،وأما ما خرج عن ذلك من الخبار مما كان أو ما يكون
مما ل يتعلق به أمر ول نهي ول إذن فعلى ضربين :أحدهما :أن يقع
469
في السنة موقع التفسير للقرآن فهذا ل نظر في أنه بيان له«هل) . (1ثم
قال» :والثاني :أن ل يقع موقع التفسير ول فيه معنى تكليف
اعتقادي أو عملي فل يلزما أن يكون له أصل في القرآن لنه أمر
زائد على مواقع التكليف ،وإنما أنزل القرآن لذلك .فالسنة إذا
خرجت عن ذلك فل حرج«هل). (2
السنة فيها بيان كل شيء مإن الحكام الشرعية:
ومثلما ذكر سابقاا أن القرآن فيه بيان كل شيء من الحكاما
الشرعية ،فكذلك السنة إذ فيها ما في القرآن مع زيادةا البيان
والشرح ،مع ملحظة الفرق وهو أن القرآن قطعي الثبوت جملةا
وتفصيلا ،والسنة من حيث التفصيل مظنونة .والقرآن جاء
بالكليات ،والسنة أتت تفريعاا عليه .يقول الشاطبي في معرض
الشرح لكيفية بيان السنة للقرآن» :النظر إلى ما دل عليه الكتاب
في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادةاا إلى ما فيها من
البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح
الدارين جلباا لها ،والتعريف بمفاسدهما دفعاا لها«هل) . (3ثم قال:
»فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعاا على
الكتاب وبياناا لما فيه منها ،فل تجد في السنة إل ما هو راجع إلى
تلك القساما) ، (4فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب
تفصلت في السنة«هل ) . (5وبعد أن بين أن المر نفسه يسري على
الحاجيات والتحسينيات والمكملت قال» :وقد كملت قواعد
الشريعة في القرآن وفي السنة فلم يتخلف عنها شيء والستقراء
يبين ذلك«هل). (6
كيفية بيان السنة للقرآن:
المصدر نفسه. 4/30 ، )( 1
470
إن كون السنة بياناا للقرآن أمر ل جدال فيه ،ولكن تفصيلت
معنى البيان أو كيفية تبيين السنة للقرآن وإن كانت في غالبيتها
متفقاا عليها ،ففيها بعض التغاير أو الختلفَّ في المعنى عند الئمة،
فمن المعروفَّ مثلا أن السنة تخصص القرآن وهذا مما يقصد
بكونها بياناا ،والشاطبي يرد التخصيص كما تبين سابقاا ،ومن
الئمة مثلا من ل يرى تخصيص القطعي بالظني) ، (1وكذلك فإن
السنة تأتي بتشريع مستقل ل أصل له في القرآن ،وهذا ل يخرجها
عن كونها بياناا إذ له أصل وهو الدلة الدالة على وجوب الخذ
بالسنة ،وهذا المعنى ل يأخذ به الشاطبي إذ كون السنة بياناا يعني
عنده لزوما وجود أصل في القرآن لما تأتي به السنة ،ووجوب الخذ
بالسنة هو وجوب الخذ بالشرح والتفصيل الذي أتت به.
أنظر :الماما الشافعي ،الرسالة ،ص ،40 - 26 :فقرةا. 125 - 53 ، )( 2
471
مآخذ«هل ) . (1وذكر ستة مآخذ أو وجوهم:
الوأل :قوله» :منها ما هو عاما جداا وكأنه جارم مجرى أخذ
الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوما التبــاع لهــا«هل). (2
وهذا المعنى مبني على الدلة التي تأمر بأخذ ال ســنة ،ومن هــا قــوله
تعالى [ :
. (3) ] وهو معنى مقبول عند الشاطبي إذ
إن أخذ السنة أصل قطعي ،ولكن الشاطبي يشترط أكثر مــن ذلــك
وهو رجوع المعنى المعين من السنة إلى معنى قرآني ،ولذلك ف هــو
يأتي هنا بمثال ،قال» :وممن أخذ به ) (4عبد ال بن مسعود فروي أن
امرأةاا من بني أسد أتته فقالت له بلغ نــي أ نــك لع نــت ذ يــت وذ يــت
والواشمة والمستوشمة وإنني قد قرأت ما بين ال لــوحين فلــم أجــد
الذي تقول فقال لها عبد ال :أما قرأت [ :
] قالت:
بلى ،قال :فهو ذاك«هل ) . (5فهذا أحد م عــاني البيــان ،و هــو ي غــاير مــا
يقصده الشاطبي كما تبين سابقاا ،وي شــير إلــى ذلــك هنــا قــوله:
»فظاهر قوله لها هو في كتاب ال ثم فســر ذلــك بقــوله [ :
، ] دون قــــوله [ :
)(6
] أن تلك الية تضمنت جميع مــا فــي
الحديث النبوي«هل) . (7ويظهر في هذا القـول أن الشـــاطبي يرجـــع
معنــى النهــي عــن الوشـــم إلــى المعنــى القرآنــي [
. ]
472
الثاني :قال» :ومنها الوجه المشهور عند العلماء
كالحاديث التية في بيان ما أيجمل ذكره من الحكاما إما بحسبِّ
كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه ،أو ما
أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلفها في مواقيتها وركوعها
وسجودها وسائر أحكامها ،وبيانها للزكاةا في مقاديرها وأوقاتها
ونصبِّ الموال المزكاةا وتعيين ما يزكى مما ل يزكى«هل) (1إلخ.
وهذا المعنى يندرج تحت المعنى الذي يقصده الشاطبي إذ هو شرح
وتفصيل المجمل.
الثالث :وهو المعنـى الذي يقصـده الشـاطبي ،وهـو رجوع
السـنة إلى معان كلية قرآنية تندرج كلها تحت الضروريات أو
الحاجيات أو التحسينيات أو مكملت أي منها). (2
الرابع :ما يرجع إلى الجتهاد ومنه القياس ،حيث أن القياس
هو إلحاق الفرع بأصل ،والجتهاد يؤدي إلى إعطاء الحكم لمسألة
بعد أن يرى المجتهد أن المعنى الشرعي المتعلق بالحكم هو كذا،
ومن المسائل ما هو واضح فيعطيه الفقيه الحكم بناء على المعنى
المتعلق به بوضوح ،أو يرجعه إلى أصله الواضح أنه يرجع إليه،
ومن المسائل ما قد يشتبه على الفقيه الصل القرآني الذي يرجع
إليه أهو هذا الصل أو ذاك ،فهنا تأتي السنة لترفع الشتباه ،وإل
تظل المسألة اجتهادية ،وهذا المعنى يندرج تحت البيان بل
خلفَّ) . (3قال الشاطبي» :ومنها النظر إلى مجال الجتهاد الحاصل
) ( الموضع نفسه ،وهذا النوع الثالث من النواع التي ذكرها الشافعي للبيان، 1
) ( وهذا المعنى أشار إليه الشافعي في الرسالة وهو متضــمن فــي النــوع 3
الخامس من أنواع البيان عنده ،أنظر :الر ســالة ،ص ،40 - 34 :ف قــرةا:
. 125 - 104
473
بين الطرفين الواضحين«هل) . (1ثم قال» :ومجال) (2القياس الدائر
بين الصول والفروع«هل) . (3وقال في شرح هذا المعنى» :وذلك أنه
يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما
تقدما في المأخذ الثاني ،وتبقى الواسطة على اجتهاد ،والتباين
لمجاذبة الطرفين إياها فربما كان وجه النظر فيها قريبِّ المأخذ
فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما يتبين في كتاب الجتهاد،
وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد ل يجري على مسلك
المناسبة فيأتي من رسول ال فيه البيان وأنه لحق بأحد الطرفين
أو آخذ من كل واحدم منهما بوجه احتياطي أو غيره ،هذا هو
المقصود هنا«هل). (4
وهذا المعنى للبيان يتضمنه المعنى الذي يقول به الشاطبي،
لن ما تأتي به السنة يبين الصل الذي ترجع إليه المسألة ،فحكم
السنة يرجع إلى أصل ،وضمن هذا المعنى يبين الشاطبي كيفية
إرجاع بعض المعاني التي يقول البعض أن السنة استقلت بتشريعها،
إلى أصولم لها في القرآن وهو ما سيتفصل في البحث التالي.
الخامإس :قال» :ومنها النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن
المتفرقة من معان مجتمعة فإن الدلة قد تأتي فـي م عــانم مختلفـة
ولكن يشملها معنــى وا حــد شــبيه بــالمر فــي الم صــالح المر ســلة
والستحسان ،فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحــد فيعلــم أو
يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلــك الفــراد بنــاء علــى
صحة الدليل الدال على أن السنة إن مــا جــاءت مبي نــةا للك تــاب«هل). (5
والمعنى الذي يتضمنه هذا النص مقبول عنــد أئ مــة أ صــول الفقــه
عموماا ،ولكن ليس فيه شيء يستدعي الذكر عنــدهم ،ولكنــه مهــم
474
عند الشاطبي ،ولو نظرنا فيه لوجدناه يتألف من مقدمتين ونتيجة.
المقدمة الولى هي أن يتألف من مجموع أدلة معنى جديد ييستنبط
من مجموعها ،ول يدل عليه أي واحد من الدلــة بم فــرده ،و هــو مــا
يسمى دللة الشارةا من المفهوما ،ومثاله قــوله تعــالى [ :
)(1
، ] وقوله [ :
] ) . (2فيفهم من النصين أن أقل مدةا الحمل ســتة أ شــهر .والمقد مــة
الثانية :أن تأتي الس ن ة بمقت ضــى هــذا المعنــى الم ســتنبط ،أي ب مــا
يرجع معناه إلى المعنى المستنبط .أ مــا النتي جــة ف هــي أن المع نــى
الذي أتت به السنة هو بيان له أصل في ال قــرآن ،و هــذا هــو مبت غــى
الشاطبي وهذا المعنى الوارد هنا للبيان غير معهود عند الئمة إذ ل
يحتاجون إلى إثبات رجوع المعنى إلى معنى قرآني كي يعد بيانــاا،
أما الشاطبي فهو يستعمل هــذا ال نــوع مــن الدل لــة لي جــاد م عــانم
قرآنية .فيستطيع بذلك إرجاع ما يظن أن السنة استقلت بت شــريعه
إلى أصول قرآنية .وليس المقصود هنا الغض م ما يفعله الشــاطبي،
فدللة الشارةا من الدللت المعتبرةا ،وإنما المقصود الدقة في بيان
قصد الشاطبي .لذلك ينبغي اللتفات إلى ما قاله فــي ال نــص أعله،
فهو لم يقل» :النظر إلى ما يتألف من أدلة متفرقة«هل ،وإن مــا قــال:
»من أدلة القرآن المتفرقة«هل .ولذلك فمثـال الشـاطبي علـى هـذا
النوع من البيان له خصوصية تتفق مع منهجه .قال» :وم ثــال هــذا
الوجه ما تقدما في أول كتاب الدلة الشرعية في طلبِّ معنــى قــوله
عليه الصلةا والسلما» :ل ضــرر ول ضــرار«هل) (3مــن الك تــاب«هل ). (4
والمعنى أن الحديث ل بد أن يرجع إلى أصل قطعي في ال قــرآن ،وإل
فل يقبل .وبالرجوع إلى استقراء أدلة القرآن التي تنهى عن الضرر
ينشأ أصل كلي برفع ال ضــرر ،وبــذلك ي صــح إع مــال ال حــديث ول
475
يخرج عن كونه بياناا ،وهذا المع نــى ي نــدرج ت حــت المع نــى ا لــذي
يقصده بل هو سر منهجه). (1
السادس :وهو أن السنة تبيين ما في القرآن من غير زيادةا
شرح أو تفصيل لما فيه .فالقرآن فيه بيان كل شيء حتى أعداد
الركعات ومواقيت الصلوات ،وتفاصيل الزكوات وما شاكل ذلك.
فكل ذلك موجود في القرآن ،وإنما تحتاج معرفته إلى العالمين
الفاهمين الغائصين إلى أسرار معاني القرآن .وظاهر كلما
الشاطبي رد هذا المعنى .قال» :ومنها النظر إلى تفاصيل الحاديث
في تفاصيل القرآن ،وإن كان في السنة بيان زائد ولكن صاحبِّ هذا
المأخذ يتطلبِّ أن يجد كل معنى في السنة مشاراا إليه من حيث
وضع اللغة ل من جهة أخرى أو منصوصاا عليه في القرآن«هل) . (2ثم
قال» :ولكن القرآن ل يفي بهذا المقصود على النص والشارةا
العربية التي تستعملها العرب أو نحوها«هل ) . (3وقال» :فالملتزما
لهذا ل ي ف ي بما ادعاه إل أن يتكلف في ذلك مآخذ ل يقبلها كلما
العرب ول يوافق على مثلها السلف الصالح ول العلماء الراسخون
في العلم«هل). (4
ردوأد على اعتراضأات:
إن موقف الشاطبي أن السنة ل تأتي بتشريع ليس له أصل في
القرآن تيرقدي عليه اعتراضات بأن في السنة أشياء كثيرةا ل أصل لها
في الكتاب ،لذلك فهو يذكر هذه العتراضات ليبطلها وليثبت
موقفه .قال ميورقداا أمثلة مما ييعترض عليه به» :إن الستقراء
دلي على أن في السنة أشياء ل تحصى كثرةا لم يينص عليها في
القرآن الكريم كتحريم نكاح المرأةا على عمتها أو خالتها وتحريم
الكتاب .
) ( الشاطبي ،الموافقات . 4/26 ، 2
476
الحيمير الهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك السير وأن
ل ييقتل مسلم بكافر«هل). (1
فقـال رداا على مسـألة تحريـم نكاح المــرأةا علــى عمتهــا أو
خالتها» :إن ال تعالى حريما الجمع بين الما وابنتها في النكاح وبين
)(2
الختين وجاء في القرآن] [ :
فجاء نهيه عليه الصلةا والسلما عن الجمع بيــن ال مــرأةا وعمت هــا أو
خالتها من باب القيــاس لن المعنــى الــذي لجلــه ذماي الج مــع بيــن
أولئك موجود هنا .وقد ييـروى فــي هــذا الحدي ـــث » :فــإنكم إذا
فعلتم ذ لــك قطع تــم أر حــامكم«هل) . (3والـتـعـلـيـ ـــل يـشــع ـــري
بـوجـه الـقـيـاس«هل). (4
وقال في مسألة تحريم الحيمير الهلية وكل ذي ناب من
السباع» :إن ال تعالى أحلي الطيبات وحريما الخبائث وبقي بين
هذين الصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما ،فبيين عليه الصلةا
والسلما في ذلك ما اتضح به المر .فنهى عن أكل كلي ذي ناب من
السباع وكل ذي مخلبِّ من الطير ونهى عن أكل لحوما الحمر
الهلية«هل) . (5وقال» :فهذا كله راجع إلى معنى اللحاق بأصل
الخبائث كما ألحق عليه الصلةا والسلما الضبِّ والحبارى والرنبِّ
وأشباهها بأصل الطيبات«هل). (6
) ( الزيلعي ،نصبِّ الراية ،ج ، 3كتاب النكاح ،فصل في بيان المحرمات. 3
ومعجم الطبراني الكبير ،باب الظاء .وجاء في مسند أحمد ) :( 9202
»إياكم وأالظلم فإن الظلم ظلمات عند الله يوم القيامإة
وأإياكم وأالفحش وأالتفحش ،وأإياكم وأالشح فإنه دعا مإن
قبلكم فاستحلوا مإحارمإهم وأسفكوا دمإاءهم وأقطعوا
أرحامإهم«.
) ( الشاطبي ،الموافقات . 4/23 ، 4
477
أما العقل ،وهو دية النفس ،فقد أج ـ اب عنه الش ـــ اطبي وذ كــر
إض ـ افة إليه دي ـ ات الطرافَّ فقال» :إن الدية في النفس ذكرها ال
تعالى في القرآن) (1ولم يذكر ديات الطرافَّ ،و هــي م مــا يي شــكقلي
قياس ـ ها على العقول ،فبين الحديث) (2من دياتها ما وضح به ال ســبيل
وكأنه جارم مجرى القياس الذي ييش ـ ك ـ قلي أمره فل بد من الرجوع
إليه ويحذى حذوه«هل) . (3ويلتحق بالعقل دية الجنيــن .فقــال» :إن
ال تعالى جعل النفس بالنفس وأقصي من الطرافَّ بعضها من ب عــض
في قوله تعالى [ :
)(4
إلى آخر الية ،هذا في العمد ،وأما الخطأ فالدية لقوله [ : ] «هل
)(5
] وبيين
عليه الصلةا والسلما دية الطرافَّ«هل) . (6ثــم قــال» :ف جــاء طر فــان
أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها ،فــإنه يشــبه
) ( قال تعالى[ : 1
كتب إلى أهل اليمن كتابا ا وأكــان فــي كتــابه أن مإــن اعتبــط
ضأــى أوأليــاء المقتــول، ود إل أن ير َ ق َ ة فإنه َ مإؤمإنا ا قتل ا عن بّين ئ
ة مإن البل وأأن في النف إذا أوأعب ة مإائا ا
وأأن في النفس الدي َ
جأدعه الدية وأفي اللسان الديــة وأفــي الشــفتين الديــة وأفــي
البيضتين الدية وأفي الــذكر الديــة وأفــي الصــلب الديــة وأفــي
العينين الدية وأفي الرجأل الواحدة نصف الدية وأفي المأمإومإة
ة خإمسة عشــر ثالث الدية وأفي الجائافة ثالث الدية وأفي المنقل ِ
مإن البل وأفي كل إصبع مإن أصــابع اليــد وأالرجأــل عشــر مإــن
البل وأفي السن خإمس مإن البل وأفي الموضأحة خإمــس مإــن
البل وأأن الرجأل يقتل بالمرأة وأعلى أهل الذهب ألف دينــار«
) .( 4770وقال » :اعتبط :قتل من غير علة«.
) ( الشاطبي ،الموافقات . 4/23 ، 3
) ( وتماما الية [ 4
478
جزء النسان كسائر الطرافَّ ويشبه النسان التاما لخلقتــه فــبينت
السنة فيه أن ديته الغرةا) (1وأن له حكم نف ســه ل عــدما تم حــض أ حــد
الطرفين له«هل) . (2وهكذا فأصل الدية وأصل القصاص مذكوران فــي
القرآن ،فما يسري على سائر الطرافَّ له أصل في الك تــاب ،وينب غــي
أن يفهم قياساا ولكن قياسه مما ي شــكل فــبييينه النــبي . وبع د أن
تبيين رجوع حكم الطرافَّ إلى الكتاب بقي حكم الجنين هــل ير جــع
إلى حكم النفس إذ هو نفس اكتملت أو يرجع إلى الطــرافَّ إذ هــو
جزء من أمه .فهذا مما يش ـ كل على الفقيه فــبينته الســنة وأعطتــه
حكماا خاصاا له بينهما). (3
أما مسألة فكاك السير وأن ل يقتل مسلم بكافر فقال» :وأ مــا
فكاك السير فمأخوذ من قــوله ت عــالى [ :
، (4) ] وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر
على الهجرةا إل بالنتصار بغيره فعلى الغيـر النصـر ،والسير فــي
هذا المعنى أولى بالنصر فهو مما يرجع إلى النظر القياسـي ،وأمــا
أن ل يقـتـل مسـلم بكافر فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقــوله:
[ ، (5)]
وقوله ، (6)] [ :وهذه
الية أبعد«هل). (7
البيان بالقول وأالفعل وأالقرار:
) ( عن أبي هريرةا رضي ال عنه قــال» :قضــى رســول اللــه ف ي 1
) ( هذا وما سبقه من ردود الشاطبي يرجع إلى المعنى الرابع للبيان ،انظر: 3
479
وذلك أن السنة بيان للقرآن ،والسنة قول وفعل وإقرار من
النبي فيحصل البيان بهذه الثلثة مجتمعة ومتفرقة ،قال
الشاطبي» :إن النبي كان مبيناا بقوله وفعله وإقراره« .ولكل
)(1
480
مطلوباا بالكل وقد يكون مباحاا بالجزء منهياا عنه بالكل ،وبهذه
الحالة أي إذا كان منهياا عنه بالكل فهو مباح بمعنى ل حرج فيه،
وقد تبين هذا المعنى في الفصل الثالث من هذا الكتاب ،لذلك فإن
القرار ل يدل على مطلق الجواز وإنما يدل على أن ل حرج في
الفعل ،قال» :والحاصل أن نفس القرار ل يدل على مطلق الجواز
من غير نظر«هل) . (1وقال» :وأما القرار فمحمله على أن ل حرج في
الفعل الذي رآه عليه السلما فأقره أو سمع به فأقره«هل ) . (2وقال:
»إن ما ل حرج فيه جنس لنواع :الواجبِّ والمندوب والمباح بمعنى
المأذون فيه وبمعنى أن ل حرج فيه .وأما المكروه فغير داخلم
تحته على ما هو المقصود ،لن سكوته عليه يؤذن إطلقه بمساواةا
الفعل للترك ،والمكروه ل يصح فيه ذلك لن الفعل المكروه منهي
عنه«هل). (3
وعلى ذلك فالنبي ل يفعل مكروهاا ول يقر على مكروه،
وقد يقر على فعل ويفعله فهذا أعلى مراتبِّ التأسي .قال» :القرار
منه عليه الصلةا والسلما إذا وافق الفعل فهو صحيح في التأسي ل
شوب فيه ول انحطاط عن أعلى مراتبِّ التأسي«هل) . (4وقد يقر على
فعل ول يفعله ،فإقراره يدل على دخول الفعل في النواع الربعة
المذكورةا أعله ،وكونه ل يفعله يسقط كونه واجباا أو مندوباا
أو مباحاا بمعنى المأذون فيه ،ويبقى أنه مباح ل حرج فيه ،فهذا ل
يفعله لنه في أعلى مراتبِّ القتداء والتأسي .قال الشاطبي:
»ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحاا ،وبعده عن التلهي
به وإن لم يحرج في استعماله«هل). (5
481
وللتعارض بين القول والفعل تفصيل لسنا بصدده ،فالمراد هنا
هو بيان دللة القول ودللة الفعل ودللة القرار عند الشاطبي.
الجأماع:
تبين فيما سبق أن الجماع عند الشاطبي من السنة .والجماع
المقصود هو إجماع الصحابة ،وهو يعد بياناا للقرآن وللسنة أيضاا
لنه يكشف عن دليل لم ينقل ،ومما قاله» :سنة الصحابة رضي ال
عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها«هل) . (1وقال» :فإنهم أول من
تلقى ذلك من الرسول عليه الصلةا والسلما وهم المباشرون
للوحي«هل) . (2ولذلك ينطبق على صحة اعتبار الجماع في البيان أن
يكون إجماعي الصحابة ،وأن يكون راجعاا إلى أصل كلي قرآني ،ول
يقال إن الجماع أصل قطعي ،إذ الموضوع هنا ليس الجماع ،وإنما
هو المسألة التي نقل حصول الجماع عليها ،وذلك مثل الس ـ نة فهي
أصل قطعي ،ولكن في التفص ـ يل هي أخبار آحاد وكذلك المنقول
من إجماع الص ـ حابة هو أخبار آحاد.
القياس:
وهو يعتمد على العلة ،فإذا جاءت بمسالك النص أو التنبيه
واليماء فهي راجعة إلى دللت اللفاظ والتراكيبِّ وينطبق عليها
ما قيل سابقاا من وجوب رجوع معناها إلى أصل كلي ثابت
بالستقراء ،وإن كانت بمسلك الجماع فينطبق عليها ما ذكر قبل
قليل من وجوب رجوع المنقول إلينا بالجماع ،إلى أصل قطعي ،أما
إن جاءت العلة بأيم من المسالك الخرى التي تعتمد على أصل
التعليل ،فقد تبين من منهجه أن هذا ظن ل يعضده دليل شرعي فهو
من المصالح الموهومة ،لذلك فهو ل يقبل أياا من هذه العلل إل إذا
ثبتت ثبوتاا قطعياا عن طريق استقراء المعنى المعلل به في جزئيات
482
كثيرةا استقراءا يفيد القطع ،إذ ل يكفي في ذلك مجرد الظن ،قال:
»ول يقال إن الظن أيضاا معتبر شرعاا في الحكاما الشرعية
كالمستفاد من أخبار الحاد والقياس وغيرهما ،وما نحن فيه إن
سلم أنه ل يفيد علماا مع الطراد والمطابقة فإنه يفيد ظناا فيكون
معتبراا ،لنا نقول :ما كان من الظنون معتبراا شرعاا فلستناده
إلى أصل شرعي حسبما تقدما في موضعه من هذا الكتاب ) ، (1وما نحن
فيه لم يستند إلى أصل قطعي ول ظني«هل). (2
) ( المصدر نفسه ، 4/46 ،وهذا النص يفيد عين ما تفيده النصوص التي 2
وردت سابقاا عن بعض أئمة الحنافَّ رداا على التعليل بالو صــافَّ المخيلــة
والمناسبة وغيرها المبنية على أ صــل التعليــل .أن ظــر :الف صــلين الثــاني
والثالث من هذا الكتاب .
483
الفصـل الثامإن
الجأتهاد وأالتقليد
484
الفصـل الثامإن
الجأتهاد وأالتقليد
تمهيـد:
إن مما يزيد فكرةا المقاصد عند الشاطبي بياناا ويكملها بيان
آرائه في الجتهاد وأنواعه وشروطه ،وفي المجتهد أو العالم
ومراتبه وفي التقليد وكيفية أخذ الرأي أو الفتوى .وكذلك في
الفتوى أو الحكم الشرعي الذي يبينه العالم ،وتمييز ما يمكن قبوله
شرعاا عما يجبِّ رده ،ويدخل ضمن هذا بيان موقفه من الفتاوى التي
تتخذ التيسير والترخيص والضرورات والحاجات والسماحة
والتخيير بين القوال منهجاا يتم تعميمه وتطبيقه حيث يصح
وحيث ل يصح.
ومن أهم ما يوض ـ ح منهج الش ـ اطبي ويؤكد ما مريي ذكره
فيه ،ش ـ رط جعله لزماا للمجتهد ل يصح له الحكم بدونه وهو
النظر في مآلت الفعال ،وذلك أن الش ـ ريعة إنما جاءت لجلبِّ
المص ـ الح ودرء المفاس ـ د ،وهي مآلتها ومآلت أحكام ـ ها ،فل يص ـ ح
للمجته ـ د أن يعطي حك ـ م الفعل دون النظر في مآله.
لجل هذا كان هذا الفصل وقد جعلته في ثلثة مباحث ،الول
في ضوابط الجتهاد والثاني في ضوابط الفتوى والثالث في بيان
وشرح أصل مآلت الفعال.
ولهمية أصل مآلت الفعال عند الشاطبي وكونه الساس
الذي يقيم عليه برهانه لتعليل الشريعة ،فقد أتبعت هذا الفصل
بفصل يشرح ثلثة قواعد هي من أهم ما بناه على أصل مآلت
الفعال ،وهي تطبيق لفكرته في المقاصد وهي قاعدةا سد الذرائع
وقاعدةا المصالح المرسلة وقاعدةا الستحسان ،وستكون هذه القواعد
الثلثا -إن شاء ال -موضوع الفصل الثامن.
ومن الجدي ـ ر بالذكر أن ما يجري بحثه هنا هو فقط لجهة
485
تعلقه بمنهج الشاطبي أو ما تمييز به أو ركز عليه ،وليس المقصود
بيان أو تفنيد أقوال الئمة في هذا الشأن ،فالشاطبي نفسه يحيل
إليهم وإلى كتبهم فيما وافقهم فيه.
486
المبحث الوأل
ضأـوابط الجأتهاد
تعريفه عند الشاطبي:
يعرفَّ الشاطبي الجتهاد بقوله» :الجتهاد هو استفراع الوسع
في تحصيل العلم أو الظن بالحكم«هل) . (1ول شك أنه يقصد استفراغِّ
الوسع من المجتهد الذي بلغ المرتبة التي يوثق معها بقوله .ول
يخالف الشاطبي في أن المسائل القطعية ل اجتهاد فيها كما
سيتبين ،ولكن قوله »في تحصيل العلم«هل يرجع إلى شروط
المجتهد ومنها تحصيل العلم بالكليات ،وهو في سبيل ذلك يجتهد،
إل أن اجتهاده هذا ل يخوله أن يجتهد في المسائل التفصيلية
الخلفية ول أن يكون له فيها رأي معتبر يفتي به الناس ،لنه ما زال
يترقى في العلم ويستكمل فهم المقاصد .قال» :الجتهاد الواقع في
الشريعة ضربان :أحدهما الجتهاد المعتبر شرعاا وهو الصادر عن
أهله الذي اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الجتهاد«هل ) . (2ثم قال:
»والثاني غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارفَّ بما يفتقر
الجتهاد إليه«هل ). (3
شـروأطه:
أما ما يفتقر إليه الجتهاد فهو في حقيقته -عند الشاطبي -
أمر واحد جامع لمور ،وهو فهم مقاصد الشريعة بشكل كامل ،أي
الصول الكلية ومقاصد الحكاما الراجعة إليها .وما يذكر من أمور
أخرى كشروط للجتهاد فهي متضمنة في هذا المر :قال» :إنما
تحصل درجة الجتهاد لمن اتصف بوصفين :أحدهما فهم مقاصد
الشريعة على كمالها ،والثاني التمكن من الستنباط بناءا على فهمه
) ( الشاطبي ،الموافقات. 4/59 . 1
487
فيها«هل ) . (1أما الوصف الول فهو يعني كليات الشريعة الواقعة في
المراتبِّ الثلثا ومكملتها ،ويعني أيضاا الحكاما التفصيلية
ومقاصدها وهي الفروع الراجعة إلى تلك الكليات ،ولذلك قال:
»على كمالها«هل .وهي كلها ترجع إلى جلبِّ المصالح ودرء
المفاسد .ومما يقتضيه فهم المقاصد على كمالها فهم مقصود
الشاطبي بالمصالح والمفاسد وهو أنها بحسبِّ وضع الشارع لها
وليس بحسبِّ الغراض والحظوظ وأهواء النفس .وقد تبين هذا
سابقاا وكرره الشاطبي هنا ،وهو بهذا يجمع بين التعليل بالمصالح
وقصد التعبد والمتثال .قال» :فقد مري في كتاب المقاصد
الشرعية أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح وأن المصالح إنما
اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ل من حيث إدراك
المكلف«هل) . (2وقال» :استقر بالستقراء التاما أن المصالح على ثلثا
مراتبِّ فإذا بلغ النسان مبلغاا فهم عن الشارع فيه قصده في كل
مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له
وصف هو السببِّ في تنزله منزلة الخليفة للنبي في التعليم
والفتيا والحكم بما أراه ال«هل) . (3أما الوصف الثاني فل يمكن
حصوله إل بعد حصول الوصف الول ،ولكنه جعله شرطاا ثانياا لنه
ثمرةا للول ،ول يحصل التحقق من الول إل بوجود الثاني .قال:
»وأما الثاني فهو كالخادما للول«هل) . (4ثم قال» :ولكن ل تظهر
ثمرةا الفهم إل في الستنباط فلذلك جيعل شرطاا ثانياا ،وإنما كان
الول هو السببِّ في بلوغِّ هذه المرتبة لنه المقصود والثاني
وسيلة«هل ). (5
ومن شروط المجتهد أن يبلغ درجة الجتهاد في علوما اللغة
المصدر نفسه. 4/56 ، )( 1
488
العربية ،وهذا متضمن في شرط فهم المقاصد إذ هو لزما لجل
الستنباط من النصوص ولجل فهم المقاصد ،ومن لم يبلغ هذه
الدرجة فهو مقلد في اللغة ،ولن يكون قوله في دللت النصوص
حجة ،وسيعتمد على غيره ممين قوله فيها حجة ،وبذلك ينزل عن
درجة فهم المقاصد .يقول» :فإذا فرضنا مبتدئاا في فهم العربية
فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسطاا فهو متوسط في فهم
الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة
الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة فكان فهمه فيها
حجة«هل) . (1وقال» :وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ول كان قوله
فيها مقبولا فل بد أن يبلغ في العربية مبلغ الئمة فيها كالخليل
وسيبويه والخفش والجرمي والمازني ومن سواهم«هل ) . (2ويبين
الشاطبي أنه ل يقصد بذلك أن يكون مثل هؤلء الئمة في جميع
علوما اللغة وأن يتعمق تعمقهم في النحو وفي دقائق العراب
ومشكلت اللغة وغير ذلك .وإنما أن يكون قادراا على فهم
النصوص وما تحتمله من معانم وما ل تحتمله وما فيها من عموما أو
خصوص أو تقديم أو تأخير أو مجاز أو اشتراك أو إضمار أو غيره،
وأن يبلغ مبلغهم في هذا حتى يكون في ذلك حجة .قال» :ول
ييقال إن الصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية«هل) . (3ثم
قال» :وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك
المقدار وليس من شرط العربي أن يعرفَّ جميع اللغة«هل) . (4ثم بين
مقصوده بنص للشافعي فقال» :وقد أشار الشافعي في رسالته إلى
هذا المعنى وأن ال خاطبِّ العرب بكتابه بلسانها على ما تعرفَّ من
معانيها ثم ذكر مما يعرفَّ من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطبِّ
بالعاما مراداا به العاما ويدخله الخصوص ويستدل على ذلك ببعض
المصدر نفسه. 4/60 ، )( 1
489
ما يدخله في الكلما ،وبالعاما ييراد به الخاص ويعرفَّ بالسياق،
وبالكلما ينبئ أوله عن آخره وآخره عن أوله .وأن تتكلم بالشيء
تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرفَّ بالشارةا وتسمى الشيء
الواحد بالسماء الكثيرةا والمعاني الكثيرةا بالسم الواحد ،ثم قال:
فمن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة
فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه ،ومن تكلف ما يجهل
وما لم تثبته معرفته كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث ل
يعرفه غير محمودةا ،وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما ل
يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه .هذا قوله ،وهو الحق
الذي ل محيص عنه«هل) . (1ويدخل ضمن فهم المقاصد فهم أسباب
النزول إذ هي شرط لفهم معاني النصوص وقد تبين هذا في المبحث
الول من الفصل السابق.
وليس من شرط الجتهاد أن يكون المجتهدي مجتهداا في كل
علم يلزمه .فإن بعض ما يلزما للجتهاد يمكن للمجتهد أن يأخذه
من أهله وأن يسلم به .قال» :ونحن نمثيل بالئمة الربعة
فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الجتهاد في
انتقاده ومعرفته ،وأبو حنيفة كذلك ،وإنما عدوا من أهله مالكاا
وحده وتراه في الحكاما يحيل على غيره كأهل التجارب والطبِّ
والحيض وغير ذلك ويبني على ذلك«هل) . (2وقال» :وغالبِّ ما
صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو في المطالبِّ العربية التي
تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها ،وما سواها من المقدمات فقد
يكفي فيه التقليد كالكلما في الحكاما تصوراا وتصديقاا كأحكاما
النسخ وأحكاما الحديث وما أشبه ذلك«هل). (3
) ( الشاطبي ،الموافقات ، 4/75 ،يلحظ أنه قال » :ونحن نم ثــل بالئ مــة 2
الربعة« ولكنه لم يذكر الماما أحمد بن حنبل رحمه ال ،ولــم ي عــده مــن
أهل الجتهاد في الحديث.
) ( المصدر نفسه ، 4/62 ،وانظر :ص. 58 : 3
490
أنواع الجأتهاد وأمإراتبه:
كانت تلك شروط الجتهاد لمن أراد الستنباط من النصوص
بناء على فهمه فيها ،وهناك مرتبة أدنى للمجتهد ل يشترط له فيها
العلم بالعربية ،وقد يكون أعجمي اللسان ،وإنما يشترط فيها العلم
بمقاصد الشريعة جملةا وتفصيلا ،وهناك اجتهاد كما يسميه
الشاطبي ل يشترط فيه العلم بالعربية ول العلم بمقاصد الشريعة،
وهو الجتهاد في تحقيق المناط ،يقول» :الجتهاد إن تعلق
بالستنباط من النصوص فل بد من اشتراط العلم بالعربية ،وإن
تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردةا عن اقتضاء النصوص
لها أو مسلمة من صاحبِّ الجتهاد في النصوص فل يلزما في ذلك
العلم بالعربية وإنما يلزما العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملةا
وتفصيلا«هل ) . (1وقال» :فإذاا من فهم مقاصد الشرع من وضع
الحكاما وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق
الترجمة باللسان العجمي فل فرق بينه وبين من فهمها من طريق
اللسان العربي«هل) . (2وهذه المرتبة دون المرتبة الولى ،وصاحبها ل
يجتهد للتوصل إلى المقاصد ،ول يستنبط بناءا على فهمه فيها،
وإنما هو يتلقى الكليات والصول ويتعلمها ممن استنبطها فهو مقيد
بفهمه وبمذهبه .وكذلك هو ل يستطيع إعمال الكليات والجزئيات
معاا .وإنما هو ييعمل الكليات فقط .وهذا ل يكون إل في إنزال
الحكاما الجاهزةا على وقائعها وفي القياس ،يقول» :ولذلك يوقع
المجتهدون الحكاما الشرعية على الوقائع القولية التي ليست
بعربية ،ويعتبرون اللفاظ في كثير من النوازل ،وأيضاا فإن
الجتهاد القياسي غير محتاج إلى مقتضيات اللفاظ إل فيما يتعلق
بالمقيس عليه وهو الصل وقد يؤخذ مسلماا أو بالعلة المنصوص
عليها أو التي أومئ إليها ،ويؤخذ ذلك مسلماا وما سواه فراجع إلى
491
النظر العقلي وإلى هذا النوع يرجع الجتهاد المنسوب إلى أصحاب
الئمة المجتهدين«هل) . (1فالجتهاد -عنده -ينقسم إلى اجتهاد
لستنباط العلل والصول الكلية واجتهاد لتفريعها وتطبيقها على
وقائعها ،واجتهاد ثالث لتعيين وقائعها ،وهذا الخير هو الذي ل
يحتاج إلى علم بالمقاصد ول إلى علم بالعربية ،يقول» :قد يتعلق
الجتهاد بتحقيق المناط فل يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد
الشارع كما أنه ل يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية«هل) . (2وذلك
كالبحث هل هذا خمر فيحرما أو جلب فيحل ،أو هل هذا الشاهد
عدل فتؤخذ شهادته أو فاسق فل تؤخذ أو هل هذا فقير فيستحق من
الصدقات أو ل فل يعطى منها .وهذا ل يحتاج إلى علم بالشريعة أو
بالعربية وإنما يحتاج إلى علم بموضوع البحث .فيحتاج صاحبه لن
يكون خبيراا في معرفة الخمر وفي معرفة العدالة وفي معرفة
الفقر .وإذا احتاج إلى معلومات شرعية فيمكنه أن يأخذها
بالتسليم.
قال» :إن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه المور من ليس
من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصةا وهو
التقليد في تحقيق المناط«هل). (3
فعملية الجتهاد التي تؤدي إلى معرفة الحكم تتضمن النواع
الثلثة للجتهاد وليس بالضرورةا أن يقوما بها كلها مجتهد واحد،
أو قادر على القياما بها جميعها.
وهذا الذي يتبين سواء من حيث أنواع الجتهاد أو شروط كل
نوع منه ،ل يعني جواز أن يعطي المجتهد الرأي أو أن يفتي ،ول
المذهبِّ ،وه م يتبع ون نه ج إم اما الم ذهبِّ ف ي الخ ذ بأص وله وقواع ده
واجتهاداته وآرائه ،ول يمنع هذا من مخالفتهم له في بعض الراء ،أمــا إمــاما
المذهبِّ الذي يستنبط الصول والقواعد والحكاما فهو المجتهد المطلق.
) ( المصدر نفسه . 4/92 ، 2
492
جواز أخذ قوله أو فتواه ،فإن هذه الشروط تدل على تمكنه من
الفهم ومن إعطاء الرأي ،ول يجوز له أن يفتي إل إذا كان منتصباا
للفتوى بقوله وبسلوكه ،وإل فإن القدرةا على الجتهاد قد يحوزها
الكافر .قال» :وقد أجاز النظار وقوع الجتهاد في الشريعة من
الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة إذا كان الجتهاد
إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها كانت كذلك في نفس
المر أو ل«هل) . (1وقال» :المفتي قائم في المة مقاما النبي . «
)(2
493
أولا ،وهو الذي يكون لجل بيان الحكم الشرعي في المسائل التي ل
قطع فيها ،وخاصةا تلك المسائل التي تقع في الوسط بين أصلين
مختلفين ،ويصعبِّ إلحاقها بهذا الصل أو ذاك ،وهذا في مقابل
المسائل التي هي ظنية ل قطع فيها ولكن ترجح أحد الجانبين فيها
ظاهر ،والجانبِّ المرجوح فيها هو احتمال ضعيف ،وفي كل حال
فإن المقدقما على المسائل القطعية بغير اجتهاد حائم حول الحمى
يوشك أن يقع فيه ،قال» :الجتهاد الواقع في الشريعة ضربان:
أحدهما الجتهاد المعتبر شرعاا وهو الصادر عن أهله الذين
اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الجتهاد وهذا هو الذي تقدما الكلما
فيه ،والثاني غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارفَّ بما يفتقر
إليه الجتهاد لن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والغراض ،وخبط
في عماية واتباع للهوى ،فكل رأي صدر على هذا الوجه فل مرية في
عدما اعتباره لنه ضد الحق الذي أنزل ال«هل) . (1أما ما يفتقر إليه
هذا الجتهاد فقد تبين سابقاا وهو» :فهم مقاصد الشريعة على
كمالها ،والتمكن من الستنباط بناء على فهمه فيها«هل.
أما بالنسبة لما يجتهد فيه فقال» :محال الجتهاد المعتبر هي
ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحدم منهما قصد الشارع في
الثبات في أحدهما والنفي في الخر فلم تنصرفَّ البتة إلى طرفَّ
النفي ول إلى طرفَّ الثبات«هل) . (2وقال إن أفعال المكلف» :إن أتى
فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الثبات
أو ل ،فإن لم يظهر له قصد البتة فهو قسم المتشابهات وإن ظهر
فتارةاا يكون قطعياا وتارةاا يكون غير قطعي ،فأما القطعي فل مجال
للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الثبات وليس محلا
للجتهاد وهو قسم الواضحات لنه واضح الحكم حقيقة والخارج
494
عنه مخطئ قطعاا«هل). (1
ولقد ذيكقري في الفصل السابق عند بيان مختلف القوال في
كيفية بيان السنة للقرآن أن أحدها هو بيان ما اشتبه أمره وتردد
إلحاقه بين أصلين ،فبين النبي الصل الذي يجبِّ اللحاق به .ومن
ذلك مثلا أن ال سبحانه وتعالى أحل الطيبات وحرما الخبائث
فاشتبه أمر بعض الشياء كذي الناب من السباع وذي المخلبِّ من
الطير وغيرها أتلحق بالطيبات أما بالخبائث فبينها النبي في
أحاديث تنهى عن ذي الناب من السباع وذي المخلبِّ من الطير وعن
لحوما الحمر الهلية ) ، (2وهكذا ا لمر هنا ،فالجتهاد المعتبر هو
الذي يبين ما اشتبه على الناس حكمه وتردد بين أصلين تردداا
ظاهره المساواةا بينهما في اللحاق.
ومن أمثلة ذلك بيع الغرر ،فقد نهى الشرع عنه ،ومن
المعاملت ما هو واضح أنه غرر ومنها ما هو واضح أنه ليس غرراا،
وبينهما ما يشتبه هل هو غرر أو ل .فالقول في هذا هو للمجتهد
المعتبر .قال» :فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ورأينا العلماء
أجمعوا على منع بيع الجنة والطير في الهواء والسمك في الماء.
وعلى جواز بيع الجبية التي حشوها مغييبِّ عن البصار ولو بيع
حشوها بانفراده لمتنع وعلى جواز كراء الدار مشاهرةاا مع
احتمال أن يكون الشهر ثلثين أو تسعة وعشرين وعلى دخول
)(3
الحماما مع اختلفَّ عادةا الناس في استعمال الماء وطول اللبث«هل .
ثم قال» :فكل مسألة وقع الخلفَّ فيها في باب الغرر فهي متوسطة
بين الطرفين آخذةا بشبه من كل واحد منهما«هل). (4
495
ومن المثلة أيضاا زكاةا الحلي وشهادةا المجهول الحال
وتملك العبد وغيرها .قال» :وذلك أنهم أجمعوا على عدما
الزكاةا في العروض وعلى الزكاةا في النقدين فصار الحلي المباح
الس ـ تعمال دائراا بين الطرفين فلذلك وقع الخلفَّ فيها .واتفقوا
على قبول رواية العدل وشهادته وعلى عدما قبول ذلك من الفاسق
وصار المجهول الحال دائراا بينهما فوقع الخلفَّ فيه ،واتفقوا على
أن الحر يملك والبهيمة ل تملك ولما أخذ العبد بطرفَّم من كل
جانبِّ اختلفوا فيه هل يملك أما ل بناءا على تغليبِّ حكم أحد
الطرفين«هل) . (1ثم قال» :ولعلك ل تجد خلفاا واقعاا بين العقلء
معتداا به في العقليات أو في النقليات ل مبني ـ اا على الظن ول على
القط ـ ع إل دائ ـ راا بين طرفي ـ ن ل يخت ـ لف فيهم ـ ا أصحاب
الختلفَّ«هل ). (2
ول يعني هذا أنه ل يوجد اجتهاد في غير هذه المحالي .وإنما
هذا هو الجتهاد المعتبر ،أي الذي يؤدي إلى بيان حكم ال في
الفعل .أما الجتهاد في غير هذا فهو أثناء طلبِّ العلم والترقي فيه
وفهم المقاصد ،إذ إن طالبِّ العلم يتعلم ويستقرئ ويجتهد لفهم
المقاصد وعلل الشريعة مع ما يتضمنه هذا من لزوما تحصيل علوما
اللغة والحديث وفهم أسباب النزول وسائر العلوما اللزمة ،وهو في
أثناء ذلك يجتهد لتحصيل العلم بالمقاصد على كمالها ،ولكنه قبل
تحصيل العلم بالمقاصد على كمالها إذا اجتهد في المحالي
المذكورةا أعله فاجتهاده غير معتبر .لذلك وجدناه يقول فيما
مري من نص ـ وص له إن الجته ـ اد هو بذل الوسع في طلبِّ القطع أو
الظن بالحكم .ووجدناه أيضاا ينفي الجتهاد في القطعيات.
اخإتلف المجتهدين:
يبذل المجتهد وسعه لمعرفة حكم ال في الفعل .وما يتوصل
) ( المصدر نفسه. 4/88 ، 1
496
إليه حكم ظني ،إذ لو كان قطعياا لما كان مما يحتاج إلى اجتهاد
ولما ساغِّ فيه تردد الرأي والنظر .قال الشاطبي» :فأما القطعي فل
مجال للنظر فيه«هل ) . (1وقال» :والخارج عنه مخطئ قطعاا«هل). (2
ولذلك قيل :ل اجتهاد مع النص ،أي قطعي الثبوت والدللة.
وإذا كان الحكم ظنياا فذلك مما يختلــف فيــه المجتهــدون،
فتختلف آراؤهم .والحكم في الفعل هو قص ـ د الش ـ ارع من الخ طــاب
المتعلق فيه وهو واحد ل يتعدد وهذا أ مــر قط عــي .إذا ،ل يم كــن أن
يكون كل المجتهدي ـ ن مع اختلف هــم مصيبي ـــ ن ،وإن مــا المصي ـــ بِّ
واحد .وهكذا المر في كل حكم من أحكاما الش ـ ريعة .وتعدد قصــد
الش ـ ارع في قضية واحدةا محال .قال تعالى [ :
. (3)]
والمجتهدون مأجورون ،المخطئ منهم والمصيبِّ .قال النبي
» : إذا اجأتهد الحاكم فأخإطأ فله أجأر وأإن أصاب فله
أجأران«).(4
وما يتوصل إليه المجتهد باجتهاده هو ما غلبِّ على ظنه أنه
حكم ال ،فيكون هو حكم ال في حقه ل يصح له أن يتركه لرأي
مجتهد غيره ول أن يفتى إل به ) . (5قال الشاطبي» :الشريعة كلها
ترجع إلى قولم واحدم في فروعها وإن كثير الخلفَّ كما أنها في
أصولها كذلك ول يصلح فيها غير ذلك«هل) . (6وقال» :إن الصابة
497
هي بموافقة قصد الشارع وإن الخطأ بمخالفته«هل) . (1وقال» :وإن
قيل إن الكل مصيبون فليس على الطلق بل بالنسبة إلى كل مجتهد
أو من قلده لتفاقهم على أن كل مجتهد ل يجوز له الرجوع عما
أداه إليه اجتهاده ول الفتوى إل به«هل) . (2وقال» :تجويز أن يأتي
دليلن متعارضان فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر
وفي أنظار المجتهدين ل في نفس المر فالمر على ما قالوه جائز،
ولكن ل يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة .وإن أرادوا
تجويز ذلك في نفس المر فهذا ل ينتحله من يفهم الشريعة لورود
ما تقدما من الدلة عليه ،ول أظن أن أحداا منهم يقوله«هل) . ( 3وروى
عن مالك رضي ال عنه قوله» :هذا ل يكون قولن مختلفان
صوابين«هل). ( 4
الخطأ في الجأتهاد:
تبين أن المجتهد المخطئ مأجور .ولكن هذا في المجتهد
الذي بلغ الدرجة التي تمكنه من الجتهاد ،فهذا تقليده جائز وإن
كان احتمال خطئه قائماا ،فالصواب غير مقطوع به ول متعين مع
فلن .إل أن هذا ل يعني جواز أخذ قول المجتهد بإطلق .فمن
القوال ما يتعين أنه خطأ وإن صدرت عن المجتهد المعتبر ،وهذا ما
يسميه الشاطبي زلة العالم .ومن القوال ما ييحكم بخطئها وإن
احتملت إصابة الصواب أو قصد الشارع .وهي القوال الصادرةا عمين
اجتهاده غير معتبر وهو الذي لم يضطلع بما يفتقر إليه الجتهاد.
أما الول فاجتهاده في الصل معتبر ولكنه قد يزل فهمه
فيتوهم من النص ما لم يقصده الشارع ،أو أنه ل يطلع على النص
أصلا ،وربما يرجع عن قوله ولكن ييعلم القول ول يعلم الرجوع،
المصدر نفسه ، 4/70 ،وجاءت العبارةا في الن ســخة ا لــتي ب تحق يــ ق )( 4
الدكتور درياز هكذا » :هذا ل يكون قولن مختلف ي ن صوابين« . 4/129 .
498
فل يجوز اتباع العالم في الزلة أو تقليده فيها.
أما الجتهاد الصادر عن غير أهله ،فهو منشأ الزيغ والبدع
والختلفَّ والتفرق في الدين ،وهؤلء الذين لم يفهموا المقاصد
على كمالها تراهم يتمسكون بوجوه من الجزئيات ويهدمون
الكليات .ولقد حذر الشاطبي من مثل هذه الراء والقوال أشد
التحذير ،وكرر تخطئتها والتحذير منها في الموافقات ،وتوسع في
ذلك بشكل كبير في العتصاما.
أما بالنسبة للخطأ الذي يصدر عمن اجتهاده معتبر فقال:
»فيعرض فيه الخطأ في الجتهاد إما بخفاء بعض الدلة حتى يتوهم
فيه ما لم يقصد منه وإما بعدما الطلع عليه جملة «هل) . (1وحذ ي ر منه
مستشهداا بقول النبي » : إني لخإاف على أمإتي مإن بعدي
مإن أعمال ثالثاة قالوا :وأمإا هي يا رسول الله؟ قال:
عليهم مإن زبلة العالم وأمإن حكم جأائار وأمإن هو ا
ى أخإاف
مإتبع«) . (2وقال » :وعن ابن عباس :ويلي للتباع من عثرات العالم.
قيل :كيف ذلك؟ قال :يقول العالم شيئاا برأيه ثم يجد من هو
أعلم برسول ال منه فيترك قوله ثم يمضي التباع«) .(3وبعد أن
بيين وجوب الحذر منها قال» :وأكثر ما تكون عند الغفلة عن
اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه والوقوفَّ
دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها .وهو وإن كان
على غير قصد ول تعميد وصاحبه معذور ومأجور لكن مما ينبني
عليه في التباع لقوله فيه خطر عظيم «هل) . (4وبناء على ذلك قال :
»إ ن زلة العالم ل يصح اعتمادها من جهة ول الخذ بها تقليداا له
) ( الحافظ الهيثمي ،مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،كتاب الخلفة ،باب 2
في أئمة الظلم والجور وأئمة الضللة ،( 9220 ) ،ومعجم الطبراني الكبير
باب الظاء .
) ( الشاطبي ،الموافقات. 4/94 ، 3
499
وذلك لنها موضوعة على المخالفة للشرع«هل). ( 1
ولكن ،كيف يعرفَّ المقلد الزلة؟ قال» :فإن قيل فبماذا
يعرفَّ من القوال ما هو كذلك مما ليس كذلك .فالجواب إنه من
وظائف المجتهدين فهيمي العارفون بما وافق أو خالف وأما غيرهم
فل تمييز لهم في هذا المقاما«هل ) . (2وقال» :فإن قيل فهل لغير
المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط أما ل ،فالجواب إن له
ضابطاا تقريبياا .وهو أن ما كان معدوداا في القوال غلطاا وزللا
قليل جداا في الشريعة«هل ) ، (3ثم قال» :فإذا انفرد صاحبِّ قول عن
عامة المة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد العظم من
المجتهدين ل من المقلدين«هل). (4
أما بالنسبة للجتهاد الصادر عمن هــو ليــس مــن أهلــه حيــث
) ( الموضع نفسه .ومما نقله في ذلك » :وكان معاذ بــن جبــل يقــول فــي 4
خطبته إياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمــة
الضللة وقد يقول المنافق ،فتلقوا الحق عمن جاء به فإن علــى الحــق نــوراا.
قالوا :وكيف زيغة الحكيم؟ قال :هي كلمة تروعكم وتنكرونهــا وتقولــون:
ما هذه فاحذروا زيغته ول تصدنكم عنه فـإنه يوشــك أن يفيــء وأن يراجــع
الحق« . 4/94 ،
) ( الشاطبي ،الموافقات . 4/95 ،وقد ذكر أمثلة على هذه الزلت نسبها إلى 5
بعض الصحابة والتابعين منها شرب النبيذ ومنها بيع الدرهم بالدرهمين يــداا
بيد ،وقال إنها ل يصح اعتمادها خلفاا في المسائل الشرعية .أنظر. 4/96 :
500
يعتقد هو في نفسه أو يعتقد غيره فيه أنه من أهله فقال» :فيعرض
فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الجتهاد
وأن قوله معتد به وتكون مخالفته تارةاا في جزئي وهو أخف وتارةاا
في كلي من كليات الشريعة وأ صــولها العا مــة كــانت مــن أ صــول
العتقادات أو العمال ،فتراه آخذاا ببعض جزئياتها في هدما كلياتها
حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطةم بمعانيها
ول راجع رجوع الفتقار إليها«هل) . (1ثم قال» :ويكون الحامل علــى
ذلك بعض الهواء الكامنة في النفوس«هل ) . (2و قــال» :ويعيــن علــى
هذا الجهلي بمقا صــد ال شــريعة«هل ) . (3و قــال» :وأ صــل هــذا الق ســم
مذكور في قوله تعالى[ :
)(4
]
الية ،وفي الصحيح » :أن النبي قرأ هــذه ال يــة ثــم قــال :فــإذا
مى رأيتم الذين يتبعون مإا تش ابه مإن ه فأوألئـك الـذين س ي
الله فاحذروأهم«). ( 6)«( 5
وبين الشاطبي أن مثل هذا الجتهاد هو منشأ البدع والفقريق.
وهو سببِّ الختلفَّ في الدين والتفرق فيه .وعن مثله صدر
الخوارج ،ومن علماته الفيرقيةي أي مفارقة الجماعة ثم التفرق
فيما يبنهم ،والزيغ أي اتباع الهوى ،واتباع المتشابهات). (7
) ( أخرجه الترمذي ) ( 2920وقال :هذا حديث حسن صحيح .وأبو داود 5
) ( 3682وأحمد ) . ( 32079
) ( الشاطبي ،الموافقات. 4/98 ، 6
501
وهذا بخلفَّ الختلفَّ المشروع والمحمود .قال» :ووجدنا
أصحاب رسول ال من بعده قد اختلفوا في أحكاما الدين ولم
يفترقوا ولم يصيروا شيعاا لنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا
فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي والستنباط من الكتاب والسنة فيما
لم يجدوا فيه نصاا ،واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين
لنهم اجتهدوا فيما أمروا به«هل). (1
علمإة الجأتهاد المعتبر:
تبيين أن صاحبِّ الجتهاد المعتبر هو الذي فهم مقاصد
الشريعة على كمالها وتمكن من الستنباط من النصوص بناء على
فهمه فيها .والسؤال الذي يظهر هو كيف ييعرفَّ أنه قد اضطلع
بهذه المرتبة .يقول الشاطبي» :بقي النظر في المقدار الذي إذا
وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالجتهاد بما أراه ال«هل). (2
والذي يظهر من استقراء منهج الشاطبي أن علمة الجتهاد المعتبر
هي ثلثة أمور:
الول :إعمال الكليات والجزئيات معاا.
الثاني :النظر في مآلت الفعال.
الثالث :النظر في أحوال المكلفين على الخصوص.
وهذه المور الثلثة ناتجة عن فهم المقاصد ،ويجبِّ أن تظهر
عند الستنباط الذي هو ثمرةا الفهم.
أما الول فقد تبين سابقاا ،وفهم المقاصد لزما له فمن ل
يفهمها ل ييعملها ،ومن يفهم الكليات ل يستغني عن الجزئيات،
فيدخل ضمن فهم المقاصد فهم مقاصد الحكاما التفصيلية .فمثلا
إعمال أصل حفظ المال وهو أصل كلي في فعل السرقة أو الغصبِّ
أو الغش من غير اعتبار بالنصوص الخاصة بهذه الفعال خطأ ،إذ
) ( المصدر نفسه. 4/105 ، 1
502
عقوبة القطع وعقوبة القتل وعقوبة السجن أو غيرها كلها ترجع
إلى الصل الكلي .وهذا ظاهر الخطأ ،فل يكفي إعمال الصل الكلي
وحده .وكذلك ل يكفي إعمال الجزئيات دون اعتبار بالكليات،
فهذا كما تبين قبل قليل مدخل الهدما في الشريعة ،ففكرةا المقاصد
تنقضه.
وأما الث ـ اني وهو النظر في مآلت الفعال ،فهو أيضاا راجع
إلى موافقة قصد الشارع من الشريعة .فالش ـ ارع ش ـ رع الحكم
لغاية .وقد تحصل حالت يكون الحكم نفسه ميفويقتاا للغاية التي
شرع الحكم أصلا لجلها كما في الحي ـ ل والذرائع .فعلى المجتهد
حين الستنباط أن ينظر في الفعل نفسه ومآله .وإل فوت قصد
الشارع من تشريعه قال» :النظر في مآلت الفعال معتبر مقصود
شرعاا كانت الفعال موافقةا أو مخالفة وذلك أن المجتهد ل
يحكم على فعل من الفعال الصادرةا عن المكلفين بالقداما أو
بالحجاما إل بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ،فقد يكون
مش ـ روعاا لمصلحة فيه تستجلبِّ أو لمفسدةا تدرأ ولكن له مآل على
خلفَّ ما قصد فيه ،وقد يكون غير مش ـ روع لمفسدةا تنشأ عنه أو
مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلفَّ ذلك«هل). (1
أما الثالث وهو النظر في أحوال المكلفيــن علــى الخصــوص.
فهذا راجع إلى فهم المقاصد ولكن أدق المقاصد .إذ يوقع المجتهــد
الحكاما على المكلفين كلم بحسبِّ حاله معتمداا على ما آتاه ال من
حكمة وما جعل له من نور ،وهذا راجع إلى تحقيق الم نــاط -ح ســبِّ
الشاطبي -ولكنه نوع خاص منه ،قال» :تحقيق المناط على قسمين،
تحقيق عاما وهو ما ذكر) ، (2وتحقيق خاص من ذلك العاما«هل ) . (3أمــا
الول وهو العاما فقد تبين سابقاا ،أما الثاني فقال فيه» :أما الثــاني
) ( وقد تبين معناه في الفصل الول ،وفي هذا المبحث أيضاا. 2
503
وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق وهو في الحقيقة ناشئ عــن
نتيجة التقوى المذكورةا في قوله تعالى [ :
، (1)] وقد يعبر عنه بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى:
[
« (2) ] هل) . (3وقال» :فصاحبِّ هذا التحقيق الخاص هــو
الذي رزق نوراا يعرفَّ به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوةا
تحملها للتكاليف وصبرها على تح مــل أعبائ هــا أو ضــعفها وي عــرفَّ
التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدما التفاتها فهو يحمل على كــل
نفس من أحكاما النصـوص مـا يليـق بهـا بنـاءا علـى أن ذلـك هـو
المقصود الشرعي في تلقي التكاليف ،فكأنه يخص عمــوما المكلفيــن
والتكاليف بهذا التحقيق«هل) . (4ثم قال» :هذا معنى تحق يــق الم نــاط
هنا«هل) . (5وقد استدل الشاطبي لهذا النوع بأمثلة عن النبي . ق ال:
» فمن ذلك أن النبي سئل في أوقات مختلفة عــن أف ضــل الع مــال
وخير العمال وعرفَّ بذلك في بعض الوقات من غير سؤال فأجاب
بأجوبةم مختلفةم كل واحدم منها لو حمل علــى إطل قــه أو ع مــومه
لقتضى مع غيره التضاد فـي التفص يل .ففـي الص حيح أن ه عليـه
الصلةا والسلما »ســئل أي العمــال أفضــل؟ قــال :إيمــان
بالله .قال :ثام مإاذا؟ قال :الجهاد في سبيل الله .قال:
ثام مإاذا؟ قال :حج مإبروأر«) . (6وسئل عليه الصلةا والســلما أي
العمال أفضل :قال :الصلة لوقتها .قال :ثام أي؟ قال :بــر
الوالدين ،قال :ثام أي؟ قال :الجهاد في سبيل اللــه«). (7
وفي النسائي عن أبي أمامة قال :أتيت النبي فقلــت مإرنــي
) ( سورةا النفال. 29 ، 1
504
بأمإر آخإذه عنك .قال :عليك بالصوم فإنه ل مإثل لــه«). (1
وفي الترمذي» :أي العمال أفضــل درجأــة عنــد اللــه يــوم
القيامإة؟ قال :الذاكروأن لله كثيرا ا وأالذاكرات) (3)«(2إلخ.
فهذا مما اختلفت فيه الجوبة بحسبِّ أحوال المكلفين ،وهذا هــو مــا
قصده الشاطبي بتحقيق المناط الخاص.
وهذه العلمات الثلثا يجبِّ أن توجد جميعها في المجتهد ،فل
تكفي اثنتان مثلا وإن كان وجودها محققاا إلى درجة كبيرةا ،وإن
وجدت كلها فبمقدار تمكن المجتهد منها تعلو درجته فيبلغ ذروةا
المجد في الجتهاد.
وللتحقق من بلوغِّ المجتهد درجة العتبار يقول إن طالبِّ
العلم له ثلثة أحوال ،حال يتضح فيها أنه ليس من أهل الجتهاد
المعتبر فاللزما له التقليد بل خلفَّ .وحال يتضح فيها أنه من أهل
الجتهاد المعتبر بل خلفَّ ،وبين الحالين ما يلتبس ويشكل أمره،
فيقع الخلفَّ في شأنه.
أما صاحبِّ الحال الول فهو الذي ما زال ينظر في الجزئيات
وتتعين عنده المعاني الكلية ،ولكنها لم تكتمل بعد ،وما زال ينظر
ويستقرئ لفهم المقاصد ،فيسرح عقله فيها ،فمنها ما يطرد ويثبت،
ومنها ما تأتي النصوص معارضة له فل يثبت أصلا كلياا .فهذا ل
يصح منه الجتهاد .قال» :أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ
والبحث عن أسبابه ،وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل لكنه
مجمل بعد«هل) ، (4وقال» :فهذا الطالبِّ حين بقائه هنا ينازع الموارد
الشرعية وتنازعه ويعارضها وتعارضه طمعاا في إدراك أصولها
النسائي ) .( 2190وأخرجه بلفظ :ل عدل لــه النســائي ) ( 2192 )( 1
وأحمد ) . ( 21128
الترمذي ) ( 3298وقال :حديث غريبِّ .وأحمد ) ( 11295بــدون )( 2
505
والتصال بحكمها ومقاصدها ولم تتخلص له بعد ل يصح منه
الجتهاد فيما هو ناظر فيه لنه لم يتخلص له مسند الجتهاد ول هو
منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه فاللزما له الكف
والتقليد«هل). (1
أما صاحبِّ الحال الواضح في الطرفَّ الخر ،فهو الذي تظهر
عنده العلمات الثلثا ،قال عنه» :يتحقق بالمعاني الشرعية منزلة
على الخصوصيات الفرعية بحيث ل يصده التبحر في الستبصار
بطرفَّ عن التبحر في الستبصار بالطرفَّ الخر ،فل هو يجري على
عموما واحد منها دون أن يعرضه على الخر ،ثم يلتفت مع ذلك إلى
تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين«هل ) . (2وقال:
»وهذه الرتبة ل خلفَّ في صحة الجتهاد من صاحبها«هل) . (3وقال
عنه» :ومن خاصيته أمران :أحدهما أنه يجيبِّ السائل على ما يليق
به في حالته على الخصوص«هل)» . (4والثاني :أنه ناظر في المآلت
قبل الجواب عن السؤالت«هل). (5
أما من التبس حاله فهو واقع بين الطرفين الواضحين ،وقد
اكتمل عنده فهم الكليات الشرعية واستقراء الجزئيات ،لم يقصر
في ذلك بشيء ،ولكنه عند النظر في المسائل يعمل الكليات دون
التفاتم إلى الجزئيات ،يقول فيه» :أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق ما
حصل على حسبِّ ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث يحصل له
اليقين ول يعارضه شك ،بل تصير الشكوك إذا أوردت عليه
كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه«هل) . (6ثم قال» :لكنه
استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكماا وإن كان
506
موجوداا عنده فل يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على
خلفها أما ل«هل) . (1وعقبِّ» :فإذا حصل الطالبِّ على هذه المرتبة فهل
يصح منه الجتهاد في الحكاما الشرعية أما ل؟ هذا محل نظرم والتباس
ومما يقع فيه الخلفَّ«هل). ( 2
ويورد الشاطبي حجج القائلين بأن من هذا حاله متمكن جداا
من الستنباط ،وكلها ترجع إلى عدما لزوما إعمال الجزئيات لنها
متضمنة في الكليات ،فإذا فرضنا اكتمال الكليات عنده ،فإن إعمال
الكليات هو إعمال للجزئيات). (3
أما حجج المانعين لجتهاد من هذا حاله فكلها ترجع إلى أنه
غير متمكن من إعمال الجزئيات أو أنه ل يعملها ،فهو إذاا ل يعتبر
خصوصيات الحوال والفعال والمكلفين فل يستقيم مع هذا أن
يكون من أهل الجتهاد). (4
ويأتي الشاطبي بمثالين على أصحاب هذه المرتبة ،يقول:
»ومن أمثلة هذه المرتبة مذهبِّ من نفى القياس جملةا وأخذ
بالنصوص على الطلق ،ومذهبِّ من أعمل القياس على الطلق ولم
يعتبر ما خالفه من الخبار جملةا«هل) . (5ثم قال» :فأصحاب الرأي
جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات
اللفاظ والظاهرية جردوا مقتضيات اللفاظ فنظروا في الشريعة
بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية«هل ). (6
ل يمكن انقطاع الجأتهاد كلياا:
تبين أن الجته ـ اد ثلث ـ ة أنواع ،ومنه الجتهاد لتحقي ـ ق
507
المناط ،وأن هذا نوعان تحقيق بالمعنى العاما ،وتحقيق بالمعنى
الخاص ،وقد ذهبِّ الش ـ اطبي إلى أن كل أنواع الجتهاد يمكن أن
تنقطع ما عدا الجتهاد في تحقيق المناط بالمعنى العاما .وهذا إذا
ارتفع يؤدي إلى ارتفاع التكليف رأساا بخلفَّ سائر النواع
الخ ـ رى ،وبيان ذلك أن تحقيق المناط هذا يجبِّ حصوله في كل
واقعة ،فإذا فقد استحال تطبيق الحكاما ،أما إذا انقطعت أنواع
الجتهاد الخرى فإن اتساع اجتهادات المتقدمين تفي بأفعال
المكلفين ،والمستجدات التي قد يفتقر إلى أحكاما لها قليلة بالنسبة
إليها ،وهذا ل يضير حسبِّ قوله.
أما أن تحقيق المناط يحتاج إلى اجتهاد فقد تبين سابقاا ،ومما
قاله فيه في هذا الموضع» :إن الشارع إذا قال [ :
(2)] وثبت عندنا معنى العدالة شــرعاا افتقر نــا إ لــى
تعيين من حصلت فيه هذه الصفة ،وليس الناس فــي و صــف العدا لــة
على حد سواء ،بل ذلك يختلــف اختل فــاا متباينــاا ،فإنــا إذا تأملنــا
العدول وجدنا لتصافهم ب هــا طرفيــن ووا ســطة ،طــرفَّ أعلــى فــي
العدالة ل شك فيه كأبي بكر الصديق ،وطرفَّ آخر وهو أول درجة
في الخروج عن مقتضى الوصف«هل) . (3ثم قال» :وبينه مــا مرا تــبِّ ل
تنحصر وهذا الوسط غامض ل بد فيه من بلــوغِّ حــد الوســع وهــو
الجتهاد فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد«هل). (4
الشاطبي ،الموافقات. 4/47 ، )( 1
508
وأما أن تحقيق المناط ل بد منه في كل واقعة وإن كان
حكمها معروفاا فقال» :والفعال ل تقع في الوجود مطلقةا ،وإنما
تقع معينةا مشخصةا فل يكون الحكم واقعاا عليها إل بعد المعرفة
بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العاما«هل) . (1فإذا انقطع
هذا الجتهاد امتنع العلم بالحكاما ،فيرتفع التكليف .قال» :يسقط
عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي إذا لم يكن له به علم
ل من جهة اجتهاد معتبر ول من تقليد«هل) . (2وهذا الجتهاد ل ينقطع
عملياا لنه مستطاع ول يحتاج إل إلى النظر العقلي وما يلزما له من
معلومات يمكن أخذها من اجتهادات المتقدمين ،قال» :فل بد من
هذا الجتهاد في كل زمان إذ ل يمكن حصول التكليف إل به ،فلو
فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الجتهاد لكان تكليفاا بالمحال
وهو غير ممكن شرعاا كما أنه غير ممكن عقلا«هل). (3
أما الجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلثة أنواع ،قال:
»الجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلثة أنواع :أحدها المسمى
بتنقيح المناط«هل ) . (4ثم قال» :والثاني المسمى بتخريج
المناط«هل ) . (5وهذان النوعان يفيدان في ادعاء العلل وفي استقرائها
وإثباتها أو ردها .ثم قال» :والثالث وهو نوع من تحقيق
المناط«هل ) ، (6ومراده تحقيق المناط الخاص وقد تقدما بيانه.
فهذه النواع الثلثة يمكن أن تنقطع بانقطاع المجتهدين،
ولكن ل يرتفع التكليـف بانقطاعهـا ،قـال» :فإن الوقائـع
المتجددةا التي ل عهد بها في الزمان المتقدما قليلة بالنسبة إلى ما
) ( المصدر نفسه ، 4/49 ،تنقيح المناط وتخريج المناط وتحقيق المناط 4
509
تقدما لتساع النظر والجتهاد عند المتقدمين فيمكن تقليدهم فيه
لنه معظم الشريعة فل تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات
كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون
السائر فإنه ل ضرر على الشريعة في ذلك«هل). (1
510
المبحث الثاني
وأالفتوى )(1
ضأوابط التقليد
مإوضأوع هذا المبحث:
قصد الشارع في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه ليكون
عبداا ل اختياراا ،فعليه أن يتحرى حكم ال في أفعاله ،فإن كان
متمكناا من استنباط الحكاما بنفسه فهو مجتهد ،وإن لم يكن
كذلك فهو المقلد وعليه أن يتحرى معرفة حكم ال بواسطة
القادر على ذلك وهو المجتهد .والمجتهدون ليسوا معصومين عن
الخطأ ،ويتفاوتون في العلم والفقه والورع وفيما يكونون به
مجتهدين يجوز تقليدهم ويختلفون في اجتهاداتهم وفتاويهم.
وكما أن على المجتهد أن يتحرى قصد الشارع بفهم الدلة
الشرعية فكذلك على المقلد أن يتحرى موافقة قصد الشارع بتقليد
من يغلبِّ على ظنه أن تقليده يحقق له ذلك .لذلك ينبغي أن يعرفَّ
الوصافَّ والعلمات التي يجبِّ أن يتحقق منها أو يستعين بها المقلد
ليعييقن المجتهد الذي يقلده أو الفتوى التي يلتزما بها.
وكذلك فإن بعض المفتين يعتمدون في فتاواهم على قواعد
أو أصول يسعون بها إلى أغراض لهم ،أو يتوهمونها صحيحة أو
شرعية وهي ليست كذلك .لذلك وجبِّ تحذير هؤلء المفتين من
مناهجهم أو مما يفعلونه في الفتوى ،وكذلك التحذير من هكذا
فتاوى ،وإعلما المستفتي أو المقلد بذلك لتكون من علمات التمييز
بين المجتهدين.
ولجل بيان كيفية تحري حال المفتي أو المجتهد ،وكذلك
بيان مواطن أو بعض مواطن النحرافَّ في الفتوى كان هذا
) ( قال الزركشي » :واختلفوا في حقيقته هل هو قبول قــول القائــل وأنــت 1
تعلم من أين قاله؟ أي من كتاب أو سنة أو قياس ،أو قبول القــول مــن غيــر
حجة تظهر على قوله؟« البحر المحيط. 4/554 ،
511
المبحث.
المجتهدوأن أدلة المقلدين:
بما أن الناس مكلفون بالحكاما ،والحكاما مصادرها النصوص
الشرعية ،والمقلدون ليس من شأنهم الستنباط من النصوص،
فالنصوص بالنسبة إليهم معدومة ،وعليهم أن يفهموا الحكاما
بواسطة من يفهمها من النصوص .وفقد المجتهد بالنسبة إلى
المقلد كفقد الدليل بالنسبة إلى المجتهد ،قال الشاطبي» :فتاوى
المجتهدين بالنسبة إلى العواما كالدلة الشرعية بالنسبة إلى
المجتهدين ،والدليل عليه أن وجود الدلة بالنسبة إلى المقلدين
وعدمها سواء إذ كانوا ل يستفيدون منها شيئاا فليس النظر في
الدلة والستنباط من شأنهم ول يجوز ذلك لهم البتة«هل ) . (1وقال:
»فهم إذاا القائمون له مقاما الشارع وأقوالهم قائمة مقاما
الشارع«هل) . (2وقال» :ل تكليف إل بدليل فإذا لم يوجد دليل على
العمل سقط التكليف به ،فكذلك إذا لم يوجد مفتم في العمل فهو
غير مكلف به فثبت أن قول المجتهد دليل العامي وال أعلم«هل). (3
وعلى ذلك فإذا عرضت للمقلد مسألة عليه أن ل يقدما عليها
)(4
إل بعد معرفة حكم ال فيها وذلك هو مقتضى التكليف والتقوى ،
فعليه أن يسأل عنها أهلها وهم أهل النظر والستنباط ،قال» :إن
المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فل يسعه في الدين إل السؤال
) ( ذهبِّ الشاطبي إلى أن قوله تعالى] [ : 4
سورةا البقرةا . 282 ،ليست على ما يفهمه كثير من الناس بل على ما يقــرره
الئمة في صناعة النحو ،أي إن ال يعلمكم على كل حال فاتقوه .فكان الثــاني
وهو العلم سبباا في الول وهو التقوى .فترتبِّ الم ر ب التقوى عل ى حص ول
العلم ترتباا معنوياا وهو يقتضي تقدما العلم على العمــل .أنظــر :الموافقــات،
. 152 - 4/151
512
عنها«هل) . (1وقال» :السائل ل يصح له أن يسأل من ل يعتبر في
الشريعة جوابه«هل ) . (2وقال» :إذا تعين عليه السؤال فحق عليه أن ل
يسأل إل من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه«هل). (3
وقد يجد المقلد من يبين له الحكم وقد ل يجده ،فإن لم يجده
يسقط عنه التكليف حسبِّ قول الشاطبي ،وإن وجده فقد تتحد
القوال في مسألته وقد تتعدد ،فإن اتحدت فل إشكال وإن تعددت
فعليه أن يرجح بينها ،ول بد له من مرجح شرعي ول يصح له
التخير .قال الشاطبي» :ل فرق بين مصادفة المجتهد الدليل
ومصادفة العامي المفتي ،فتعارض الفتوتين عليه كتعارض
الدليلين على المجتهد ،فكما أن المجتهد ل يجوز في حقه اتباع
الدليلين معاا ول اتباع أحدهما من غير اجتهاد ول ترجيح ،كذلك
ل يجوز للعامي اتباع المفتيين معاا ول اتباع أحدهما من غير
اجتهاد ول ترجيح ،وقول من قال إذا تعارضا عليه تخييير) (4غير
صحيح«هل). (5
الترجأيح بين المجتهدين:
ترجيح المقلد بين المجتهدين يكون عندما تتعارض أقوالهم
في مسألته ،وهو ترجيح بين مجتهدين وليس بين أقوال أو فتاوى،
وترجيحه بين المجتهدين ل بد أن ينبني على أوصافَّ فيهم يستطيع
أن يتبينها وأن يحكم عليها ،فإذاا ،ترجيح المقلد للمجتهد يعتمد
على أفعاله .وهذا يرجع إلى التقوى والورع والفهم .ول شك أن
العلم أو العلمية هي إحدى وسائل الترجيح ،ولكن هذا المر مما
) ( قال الشوكاني :إنه قول أ كــثر أ صــحاب ال شــافعي ،إر شــاد الف حــول: 4
513
يخفى على المقلد ،أو تتعارض فيه القوال ،وقد يتساوى أو يتقارب
العالمان في العلم ،فل ترجيح إل بناءا على الفعال وهي الدالة على
الورع وعلى فهم المجتهد لهمية فعله أماما العامة أو من يقتدي به،
فيدرك أنه عليه أن ينتصبِّ فقيهاا بقوله وفعله وبإقراره وليس
فقط بقوله .وذلك أن »المفتي قائم في المة مقاما النبي ، (1)«
فهو قد ورثا عن النبي العلم ،ويقوما بتبليغه وهو بالنسبة
للمقلدين بمثابة الشارع باجتهاده) ، (2ولذلك يقول» :الفتوى من
المفتي تحصل من جهة القول والفعل والقرار«هل) . (3وعلى ذلك فإن
ترجيح المقلد يعتمد على أوصافَّ في المجتهد هي:
1ـ أن ل تخالف أفعاله الحكاما الشرعية وهو مقتضى العدالة.
2ـ أن ل تخالف أفعاله أقواله ،وإن كانت المخالفة من ضمن
المشروع ،وهو مقتضى النتصاب للفتوى.
3ـ أن يحمل الناس بفتواه على المعهود الوسط فهو معهود
الشريعة وقصد الشارع.
4ـ أن يخافَّ من الفتوى وهو مقتضى التقوى والورع والخوفَّ من
مخالفة قصد الشارع.
أما الوصف الول وهو العدالة فيعرفه المقلد من معرفة
سلوك المفتي في قوله وعمله ،فإذا كان يخالف ما عليه أهل الدين
والعلم فهذا ل يقتدى به ول تؤخذ أقواله ،فهذا يسقط عن درجة أن
يرجح بينه وبين غيره ،لنه فاقد للعدالة ،قال» :فأما فتياه بالقول
فإذا جرت أقواله على غير المشروع ،وهذا من جمله أقواله فممكن
جريانها على غير المشروع فل يوثق بها«هل) . (4ومعنى النص أنه إذا
كان في أقواله التي هي خارج إطار الفتاوى يخالف الشرع ،فإن
514
أقواله في الفتاوى ينطبق عليها المر نفسه فيمكن أن يخالف فيها
الشرع فل يعتد بها ،وقال» :وأما أفعاله فإذا جرت على خلفَّ أفعال
أهل الدين والعلم لم يصح القتداء بها ول جعلها أسوةاا في جملة
أفعال السلف الصالح ،وكذا إقراره لنه من جملة أفعاله«هل ). (1
وقال» :فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله،
والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لن الجميع يستمد من
أمر واحد قلبي ،هذا بيان عدما صحة الفتيا منه على الجملة«هل). (2
وعلى ذلك فالقاعدةا التي يقررها هي» :أن الفتيا ل تصح من
مخالف لمقتضى العلم«هل). (3
أما الوصف الثاني ،فإن المفتي إذا طابقت أفعاله أقواله
مطابقةا كان في أعلى الدرجات في هذا الوصف ،وإذا حصل فيها
التعارض ،فهذا نزول عن الدرجة ،ويرجح بين المجتهدين في مقدار
هذا التعارض أو مواضعه ،ولكن ينبغي هنا ملحظة أن هذه
المعارضة ليست مما يقدح بالعدالة ،لنها إن كانت كذلك ،فل
يوثق بالفتوى أصلا ،قال» :من اجتمعت فيه شروط النتصاب
للفتوى على قسمين :أحدها من كان منهم في أفعاله وأقواله
وأحواله على مقتضى فتواه فهو متصف بأوصافَّ العلم قائم معه
مقاما المتثال التاما حتى إذا أحببت القتداء به من غير سؤال غناك
عن السؤال في كثير من العمال كما كان رسول ال يؤخذ
العلم من قوله وفعله وإقراره ،فهذا القسم إذا وجد فهو أولى ممن
ليس كذلك«هل) . (4وقال» :فمن زهد الناس في الفضول التي ل
تقدح في العدالة وهو زاهد فيها وتارك لطلبها فتزهيده أنفع من
تزهيد من زهد فيها وليس بتاركم لها فإن ذلك مخالفة وإن كانت
جائزةا وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغِّ مرتبة من
515
طابق قوله فعله«هل). (1
أما إذا نزل المجتهدون عن هذه المرتبة فالمرجيح منهم من
كانت مطابقة أقواله لفعاله أغلبِّ .قال» :فإذا اختلفت مراتبِّ
المفتين في هذه المطابقة فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة
قوله لفعله«هل) . (2ومن عوامل الترجيح أن ينظر المقلد في مواضع
المطابقة والمخالفة ،فإن المطابقة في النواهي أرجح من المطابقة
في الوامر .قال» :والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى
الوامر والنواهي ،فإذا طابق فيهما فهو الكمال ،فإن تفاوت المر
فيهما أعنى فيما عدى شروط العدالة فالرجح المطابقة في
النواهي«هل ) . (3وذلك لن اجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد
الشرعي). (4
أما الوصف الثالث وهو حمل الناس على المعهود الوسط ،فهو
أن الناس متفاوتون في مقدار تحملهم للتكاليف والمشاق ،وفي
مقدار إقبالهم على الطاعات وزهدهم في الدنيا وتنازلهم عن
الحظوظ والحقوق ،أو في إقبالهم على الدنيا وتمسكهم بحقوقهم
وسعيهم إلى حظوظهم إل أن الجميع قد جعل الشارع لهم حدوداا
من واجبات عليهم القياما بها ومحرمات عليهم اجتنابها ،فمن زهد
في الدنيا وحظوظه وحقوقه ليس له التنازل عن حفظ نفسه وبدنه
وتحصيل ما يلزما للقياما على نفسه وأهله ومن كليفه الشارع بهم
بالرعاية والنفقة وما إلى ذلك ،فليس له ترك ذلك انقطاعاا إلى
العبادةا مثلا .وكذلك من أقبل على الدنيا وزينتها وما أباح ال له
منها ،فإن عليه واجبات ل بد من قيامه بها ،وحقوقاا ل بد من أدائها،
وما بين ذلك فهم يتفاوتون في إقبالهم على المباحات والمندوبات
وبعدهم عن المكروهات ،أو إحجامهم عنها ،وليست حال الناس في
516
هذا واحدةا .وكذلك هم متفاوتون في قدراتهم البدنية والذهنية
كما هم متفاوتون في دوافعهم الروحية والمادية .وبناءا على
ذلك فليس للمفتي أن يتعدى في فتواه حدود الواجبات أو
المحرمات ،وما بين هذه الحدود يقع الوسط حيث ل يليق بالمكلف
ما يليق بالخر ،والتحقق من حال المكلف يرجع إلى تحقيق المناط
الخاص وقد تبين في المبحث السابق .وقد يأخذ بعض المكلفين
أنفسهم بالعزائم مبتعدين عن الرخص ،ويأخذون أنفسهم
بالمندوبات وكأنها عليهم واجبات ويتركون المكروهات وكأنها
عليهم محرمات ،بينما تكون العزائم والمندوبات شاقة على غيرهم
وترك المكروهات مخلا بهم وربما دفع إلى المعاصي ،فالمفتي
الفقيه الراسخ في العلم يفتي المكلف بما يليق بحاله فيما جعل له
الشرع فيه سعة ،وهو إذا أصدر الفتوى في مصلحة عامة ،أو قضية
من قضايا الجماعة أو الجمهور يحملهم على الوسط ،أي ليس
بحسبِّ حال أدناهم ول بحسبِّ حال أعلهم .فل يفتي بالرخصة
مثلا بحسبِّ أضعفهم بدنااي أو نفساا أو طلباا للخرةا ،ول بحسبِّ
أقواهم في ذلك ،وإنما يذهبِّ فيهم مذهبِّ الوسط المعهود ،والمراد
بالمعهود أي ما عهد من أمر الشريعة في حمل الناس على هذا
الوسط من ضمن المأذون به شرعاا .والمقلد يرجح بين المجتهدين
بحسبِّ ما يلحظه في فتاويه العامة ،وليس الخاصة بأعيان المكلفين
إذ هو ليس من أهل النظر في ذلك .فالمأذون به هو ما قصد
الشارع الذن فيه والوسط في ذلك هو أدق القصد للشارع .قال
الشاطبي» :المفتي البالغ ذروةا الدرجة هو الذي يحمل الناس على
المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فل يذهبِّ بهم مذهبِّ الشدةا ول
يميل بهم إلى طرفَّ النحلل«هل) . (1وقال» :فإذا خرج عن ذلك في
المستفتين خرج عن قصد الشارع ،ولذلك كان ما خرج عن المذهبِّ
الوسط مذموماا عند العلماء الراسخين«هل) . (2وقال» :المستفتي إذا
517
ذهبِّ به مذهبِّ العنت والحرج بغض إليه الديـن وأدى إلى النقطاع
عن سلوك طريق الخرةا وهو مشاهد«هل ). (1
أما المفتي الذي تحمله مرتبته على أن يحمل نفسه ما هو فوق
الوسط ،فقد يظن الناس أن عليهم القتداء به فيحملون أنفسهم ما ل
يصلح لهم ،لذلك عليه أن يخفي عن الناس ما يأخذ نفسه به مما هو
فوق الوسط ،أو ينبه عليه ،قال» :قد يسوغِّ للمجتهد أن يحمل نفسه
من التكليف ما هو فوق الوسط«هل) . (2ثم قال» :ولما كان مفتياا
بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه ،فربما اقتدى
به فيه من ل طاقة له بذلك العمل فينقطع ،وإن اتفق ظهوره للناس
نبه عليه كما كان رسول ال يفعل إذ كان قد فاق الناس عبادةاا
وخلقاا«هل ). (3
وبعد أن بين أن حمل الناس على الوسط هو أعلى الدرجات في
الجتهاد قال» :إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد
الشارع وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي
مذهبِّ كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالتباع وأولى
بالعتبار ،وإن كانت المذاهبِّ كلها طرقاا إلى ال ولكن الترجيح
فيها ل بد منه لنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدما وأقرب إلى
تحري قصد الشارع في مسائل الجتهاد«هل). (4
أما الوصف الرابع وهو أن يخافَّ من الفتاء ،فقد ذكر بعض
أئمة العلم المشهود لهم ،وخص منهم الماما مالك بن أنس -رحمه
ال ، -وذكر خوفهم من الفتوى أو من الخطأ فيها ،ومن هذه
الوصافَّ كثرةا قولهم :ل أدري ،وتغير لون المجتهد عندما يأتيه
السؤال ،وكونه قبل الجواب كأنه واقف بين الجنة والنار ،ومنها أن
يرد السائل ويؤخر الجواب حتى ينظر فيه ،ومنها أن يجمع ذوي
518
العلم لستشارتهم ،ومنها أن يحذر من رأيه إذا ظهر خطؤه أو
معارضته لنص شرعي ،ومنها أن يندما إذا أكثر من الفتاوى وغير
ذلك .ومما قاله في هذا الشأن نقلا عن الماما مالك رحمه ال:
»إني لفكر في مسألة منذ بضع عشرةا سنة فما اتفق لي فيها رأي
إلى الن .وقال :ربما وردت عليي المسألة فأفكر فيها ليالي .وكان
إذا سئل عن مسألة قال للسائل :انصرفَّ حتى أنظر فيها فينصرفَّ
ويردد فيها .فقيل له في ذلك فبكى وقال :إني أخافَّ أن يكون لي
من المسائل يوما وأي يوما .وكان إذا جلس نكس رأسه وحريك
شفتيه بذكر ال لم يلتفت يميناا ول شمالا فإذا سئل عن مسألة
تغيير لونه وكان أحمر فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه ثم
يقول ما شاء ال ل حول ول قوةا إل بال فربما سئل عن خمسين
مسألة فل يجيبِّ منها في واحدةا ،وكان يقول :من أحبِّ أن يجيبِّ
عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيبِّ على الجنة والنار كيف
يكون خلصه في الخرةا ثم يجيبِّ«هل). (1
وبعـد أن بيـن جملـة مـن هـذه الوصـافَّ قـال» :هـذه
جمـلة تدل النسـان على مـن يكون مـن العلمـاء أولى بالفتيـا
والتقليـــــد له ويتبيـن بالتفـاوت في هـذه الوصـافَّ الراجح
من المرجوح«هل). (2
) ( المصدر نفسه . 4/172 ،وقد ورد عن العلماء أقوال كثيرةا في أهميــة 2
الفتوى وفضلها وفي خطرها ووجوب التهيبِّ منها .من ذلك قول النووي:
» اعلم أن الفتاء عظيم الخطر ،كبير الموقع ،كــثير الف ضــل لن الم فــتي
وارثا النبياء صلوات ال و ســلمه علي هــم ،و قــائم ب فــرض الكفايــة ،لكنــه
معرض للخطأ .ولهذا قالوا :المفتي موقع عــن ا لــ« .و قــال » :عــن ا بــن
مسعود وابن عباس رضي ال عن هــم ،مــن أ فــتى فــي كــل مــا يي ســأل ف هــو
مجنون« .وقال » :عن ابن عباس ومح مــد بــن عجلن ،إذا أغفــل العــالم ل
أدري أصيبت مقاتله« .وقال » :وعن الشافعي و قــد ســئل عــن م ســألة فلــم
ييجبِّ ،فقيل له ،فقال :حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب ،وعن
الثرما :سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول :ل أدري ،وذلك فيما عيريفَّي
القاويل فيه .وعن الهيثم بن جميل :شهدتي مالكاا سئل عن ثمانم وأربعين
مسألة فقال في ثنتين وثلثين منها :ل أدري« .وقال » :وقال أبو حنيفــة:
519
قواعد مإردوأدة في الفتوى:
تبين أن الشريعة ترجع إلى قولم واحد في أصولها وفروعها،
أي أن قصد الشارع في كل واقعةم هو واحد ،وعلى المجتهد أن يبذل
وسعه لموافقته في اجتهاده ،وكذلك المكلف عليه أن يتحرى قصد
الشارع بالترجيح بين المجتهدين .وبناءا على ذلك فإن الشاطبي
يرد الفتاوى التي ل تنبني على الترجيح بين الدلة .ويرد أيضاا
القواعد التي يعتمدها بعض العلماء في الفتوى ول تقوما على أساس
بذل الوسع لجل موافقة قصد الشارع .وذلك مثل أن يتخيير
المقلد بين أقوال المجتهدين إذا اختلفت ،أو أن يتخير العالم بين
أقوال الصحابة أو الئمة المعتبرين ،أو أن يختار المفتي للمستفتي
اليسر والخف بناء على أن الدين يسر ول حرج فيه ،وعلى أن
الشريعة سمحة واختلفَّ الئمة رحمة ،وتعميم قاعدةا الضرورات
تبيح المحظورات وتطبيقها في غير مواضعها ،ومن ذلك أيضاا تتبع
رخص المذاهبِّ ،وجعل الختلفَّ في المسألة حجة على الباحة.
وقد تتبع الشاطبي مثل هذه الراء واسترسل في التفصيل فيها وفي
الرد عليها.
ومما ييشار إليه أن مثل هذه الفتاوى موجودةا في زماننا بشكل
واضح ،ولكن اللفت فيها أن بعض أصحابها يزعم استناده فيها إلى
الشاطبي ومنهجه .فيفتي بما وافق الهوى أو غرضي السلطان
متذرعاا بالتجديد تارةا وبالضرورات والحاجات تارةا أخرى،
ومستدلا بالمصالح مرةا وبالمقاصد وشيخ المقاصد مرات ،يهدما
أحكاما الشريعة بحجة مقاصدها غافلا عن أن أول مقاصد الشريعة
تطبيق الشريعة ،وأن من أهم ما ركز عليه الشاطبي أنه ل طريق
لول الفيرق من ال تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ،يكون لهم المهنأ وعلــي
الوزر« .أنظر :آداب الفتوى والمفتي والمستفتي .لبي زكريا يحيى بــن
شرفَّ النووي الدمشقي 676 – 631هـ 1277 - 1233 /ما .بعناية بساما
عبد الوهاب الجابي .دار الب شــائر ال ســلمية ،ط 1411 ،2ه ـــ 1990 -ما،
وهو مختصر ومفيد في موضوعه.
520
إلى مقاصد الشريعة إل عبر الشريعة .ومغفلا أو جاهلا مفهوما
الشاطبي للمصالح والمفاسد ومنهجه في التعليل وتقرير المقاصد
القائم على الستقراء المفيد للقطع ،وكذلك أن المقاصد هي
مقاصد الشارع وليست مقاصد ذوي الحظوظ والغراض.
لذلك فإن هذا البحث ،إضافة إلى بيانه لبعض آراء الشاطبي،
فإنه ينبه الذين يتوهمون ويزعمون الستناد إلى الشاطبي ومنهجه،
أن الشاطبي كان حرباا على هذه الراء والدعاوى.
أما في عدما جواز التخير بين القوال إذا تعارضت سواء عند
المجتهد أو المقلد فيقول» :إن فائدةا وضع الشريعة إخراج المكلف
عند داعية هواه ،وتخييره بين القولين نقض لذلك الصل وهو غير
جائز .فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل
مسألة وعلى مصلحةم كلية في الجملة .أما الجزئية فما يعرب
عنها دليل كل حكم وحكمته ،وأما الكلية فهي أن يكون المكلف
داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته
اعتقاداا وقولا وعملا فل يكون متبعاا لهواه كالبهيمة المسيبة
حتى يرتاض بلجاما الشرع ،ومتى خييرنا المقلدين في مذاهبِّ الئمة
لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إل اتباع الشهوات في
الختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فل يصح القول
بالتخيير على حال«هل). (1
وأما ما يستند إليه البعض مثل القول بأن الختلفَّ رحمة،
ومثل ما يروى عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه قال :ما أحبِّ أن
أصحاب رسول ال لم يختلفوا ،وتفسير ذلك بأنه يدل على جواز
التخير بين أقوال الصحابة وأقوال الئمة ،فيرد الشاطبي هذا
المعنى ويبين أن المعنى هو أن الصحابة رضي ال عنهم لو لم
يختلفوا وكان قولهم واحداا في كل مسألة لدلي ذلك على عدما
521
جواز الختلفَّ وبالتالي على عدما جواز الجتهاد ،ولما فيتح بعدهم
باب للجتهاد ،فالسعة والرحمة في اختلفَّ الصحابة هي في فتح باب
الجتهاد وفي أن يعمل المجتهد بما يترجح في ظنه ،ومن ضمن
عمله فتواه .وبعد أن ذكر أقوال بعض العلماء الدالة على ما ذهبِّ
إليه قال» :فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات
الفرعية ولم يتكلموا فيها وهم القدوةا في فهم الشريعة والجري
على مقاصدها لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب«هل ) . (1ثم قال:
»فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة فلما اجتهدوا ونشأ من
اجتهادهم في تحريي الصواب الختلفَّ سهل على من بعدهم سلوك
الطريق ،فلذلك قال عمر بن عبد العزيز -وال أعلم : -ما يسرييني
أن لي باختلفهم حمر النعم ،وقال :ما أحبِّ أن أصحاب رسول ال
لم يختلفوا«هل) . (2وروى عن الماما مالك رحمه ال قوله» :ليس في
اختلفَّ أصحاب رسول ال سعة وإنما الحق في واحد«هل). (3
ويقول بناءا على أصل عدما جواز التخييير» :وقد أدى إغفال
هذا الصل إلى أن صار كثير من مقلدةا الفقهاء يفتي قريبه أو
صديقه بما ل يفتي به غيره إتباعاا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك
القريبِّ أو الصديق ،ولقد ويجد هذا في الزمنة السالفة فضلا عن
زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهبِّ إتباعاا للغرض
والشهوةا«هل ) . (4وبعد أن ذكر أمثلةا على هذه الفتاوى ونعى عليها
بشدةا قال» :وهذا مما ل خلفَّ فيه بين المسلمين ممن يعتدي به في
الجماع أنه ل يجوز ول يسوغِّ ول يحل لحد أن يفتي في دين ال
إل بالحق الذي يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من
سخطه ،وإنما المفتي مخبر عن ال تعالى في حكمه فكيف يخبر إل
522
بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه«هل). (1
أما القول بأن الخلفَّ في المسألة دليل على الذن فيها فهذا
مما زاد عن الحد ،وهو مما يتبريما به الشاطبي .يقول» :وقد زاد
هذا المر على حد الكفاية حتى صار الخلفَّ في المسائل معدوداا
في حجج الباحة ،ووقع فيما تقدما وتأخر من الزمان العتماد في
جواز الفعل على كونه مختلفاا فيه بين أهل العلم«هل) . (2وقال:
»فربما وقع الفتاء في المسألة بالمنع فيقال :لقمي تمنع والمسألة
مختلف فيها فيجعل الخلفَّ حجة في الجواز لمجرد كونها
مختلفاا فيها ل لدليل«هل ) . (3ومن أمثلة ذلك قول من قال إن الناس
لما اختلفوا في الشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنبِّ واختلفوا
فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه) . (4وبعد
أن نقل عن مثل هذه القوال أنها خطأ فاحش ،وأنها لو صحت للزما
مثلها في الربا والصرفَّ ونكاح المتعة لن المة قد اختلفت فيها،
وأن الختلفَّ ليس حجة) ، (5قال» :والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع
ما يشتهيه ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه ،فهو
قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه ل وسيلة إلى تقواه ،وذلك
أبعد له من أن يكون ممتثلا لمر الرب وأقرب إلى أن يكون ممن
اتخذ إلهه هواه«هل ) . (6ومما يثير الستغراب أن أصحاب هذه القوال
يشنعون على الملتزمين بما يرونه الصواب أو الرجح .قال:
»وربما صرح صاحبِّ هذا القول بالتشنيع على من لزما القول
المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه
أكثر المسلمين ويقول له :لقد حجرت واسعاا وملت بالناس إلى
523
الحرج وما في الدين من حرج وما أشبه ذلك«هل) . (1وعقبِّ قائلا:
»وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة«هل ). (2
ويرد الشاطبي فتاوى المتساهلين المتتبعين لرخص المذاهبِّ
محتجين بأن الشريعة سمحة ،فيورد قولهم ومنه» :قوله عليه
الصلةا والسلما» :بعثت بالحنيفية السمحة«) (3يقتضي جواز
ذلك لنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق
العباد بل بتحصيل المصالح«هل ) . ( 4ويرد قائلا» :وأنت تعلم بما تقدما
في هذا الكلما لن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيداا بما
هو جارم على أصولها وليس تتبع الرخص ول اختيار القوال
بالتشهي بثابتم من أصولها فما قاله عين الدعوى ،ثم نقول :تتبع
الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع
الهوى«هل). (5
أما التساهل بدعوى الضرورةا أو الحاجة حيث ل ضرورةا
فيرده مردداا الحديث عن قلة الدين والورع عند بعض المنتصبين
للفتوى .يقول» :وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن ييدييعي
فيها الضرورةا وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح
المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت
المسألة على حالةم ل ضرورةا فيها ول حاجة إلى الخذ بالقول
المرجوح أو الخارج عن المذهبِّ ،أخذ فيها بالقول المذهبي أو
الراجح في المذهبِّ ،فهذا أيضاا من ذلك الطراز المتقدما فإن
حاصله الخذ بما يوافق الهوى الحاضر ،ومحال الضرورات معلومة
من الشريعة«هل ) . (6ثم قال» :قل الورع والديانة في كثير ممن
ينتصبِّ لبث العلم والفتوى كما تقدما تمثيله فلو فتح لهم هذا الباب
524
لنحلت عرى المذهبِّ بل جميع المذاهبِّ لن ما وجبِّ للشيء وجبِّ
لمثله وظهر أن الضرورةا التي ادعيت في السؤال ليست
بضرورةا«هل ). (1
ومن ضمن ما يبينه الشاطبي من فتاوى باطلة ويحذر منها
الفتاوى التي تميل عن الراجح بحجة التيسير ورفع الحرج ،وهي
من القواعد الشرعية ،ويبنى على ذلك مسألة وهي هل يجبِّ الخذ
بأخف القولين أو بأثقلهما ،فيصبح الخذ ليس بالرجح لموافقة
قصد الشارع وإنما بالخف أو الثقل .ويستدل من يقول بالخف
بأدلة التيسير ورفع الحرج ورفع الضرر وسماحة الشريعة). (2
فيقول رداا على ذلك» :والجواب عن هذا ما تقدما ،وهو أيضاا مؤديم
إلى إيجاب إسقاط التكليف جملةا«هل) . (3ويقول» :فإذا كانت
المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلئل لزما
ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير
ذلك ول يقف عند حد إل إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال
فما أدى إليه مثله«هل). (4
وقد لخص الشاطبي بعض المفاسد التي يؤدي إليها التساهل
في الفتوى والتخير بين القوال وتتبع الرخص فذكر منها:
»النسلخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع 1ـ
الخلفَّ«هل.
»الستهانة بالدين إذ يصير بهذا العتبار سيالا ل 2ـ
ينضبط«هل.
»ترك ما هو معلوما إلى ما ليس بمعلوما«هل. 3ـ
»انخراما قانون السياسة الشرعية بترك النضباط 4ـ
إلى أمر معروفَّ«هل.
525
»إفضائه إلى القول بتلفيق المذاهبِّ على وجه 5ـ
يخرق إجماعهم .وغير ذلك من المفاسد التي يمكن
تعدادها«هل). (1
526
المبحث الثالث
أصل مإآلت الفعال
أهميته في مإنهج الشاطبي:
جعل الشاطبي النظر في مآلت الفعال من علمات المجتهد
المعتبر ،وأوجبِّ ذلك على المجتهد عند النظر والستنباط إذ إنه
من مقاصد الشارع ،قال» :النظر في مآلت الفعال معتبر مقصود
شرعاا«هل). (1
وفكرةا مآلت الفعال من أهم الفكار في منهج الشاطبي،
وتنبني عليها قواعد كثيرةا بل إن النظر في المآلت هو الساس
الول في منهجه ،فإن أساس فكرته هو أن الشريعة جاءت لجل
مصالح العباد ،فالشريعة لها مآلت ،والحكاما لها مآلت ،ولجل هذه
المآلت كانت الشريعة ،فكانت الشريعة والحكاما أسباباا لمسببات.
وكذلك فإن إثبات الشاطبي أن أفعال ال ـ سبحانه وتعالى ـ
وأحكامه معللة ،إنما كان باستقراء النصوص التي يدل منطوقها
على الغاية من الفعل أو الحكم ،فالفعل المشروع مشروع لجل غاية
قصدها الشارع وهي المصلحة المقصودةا من شرع الحكم .والفعل
المنهي عنه له مآل أو نتيجة قصد الشارع رفعها وهي المفسدةا
المقصود رفعها من النهي.
هذه المصالح والمفاسد هي مقاصد الشريعة أي هي مقاصد
الشارع في وضع الشريعة ابتداء.
هذا أساس أو أصل في التشريع في منهج الشاطبي ،فالفعال
طلبِّ فعلها أو تركها لجل مآلتها ،والفعال المأذون بها قد تؤول
إلى نتائج ليست مما قصده الشارع ،وكذلك الفعال المنهي عنها قد
تؤول إلى رفع نتائج ليست مما قصد الشارع رفعه ،لذلك ليس كل
ما ينتج عن الفعل مقصود للشارع .وإنما يفهم المآل المقصود
) ( الشاطبي ،الموافقات . 4/110 ، 1
527
وجوده أو رفعه بالستقراء ،وقد تبين هذا بالتفصيل سابقاا ،والمآل
الذي يثبت بالستقراء المفيد للقطع أنه مقصود للشارع وجوداا أو
رفعاا ،هو أصل للتشريع أو علة للتشريع ،أو مصلحة مقصودةا
للشارع بالطلبِّ ،أو مفسدةا مقصود رفعها شرعاا بالنهي ،هذه
باختصار مقاصد الشريعة أو الحكاما أو مآلت الشريعة أو الحكاما.
إل أن هذه الفعال المأذون بها أو المنهي عنها قد توجد حالت
أو ظروفَّ ،سواء ظروفَّ المكلف أو ظروفَّ الواقع ل تحصل معها
مآلتها المقصودةا شرعاا ،أو أنها تحصل ولكن يحصل معها ما ل
يقصده الشارع ،فهنا يلحظ أن حكم الفعل كان لجل مآلم ما ،ولكن
الفعل صار له مآل أو مآلت أخرى قد تكون مناقضة لما قصده
الشارع بالتشريع ،ويلحظ أيضاا الصل في التشريع وهو أن
الحكاما إنما كانت لجل مصالحها أو مقاصدها ،فالحكاما ومآلتها
مرتبطة ارتباط السببِّ والمسببِّ ،فإذا كان هذا أصلا في التشريع
فالشارع حين أمر أو نهى أمر بالفعل أو نهى عنه قاصداا مآله،
وعلى ذلك فالناظر في الشريعة ليفهمها عليه أن يفهمها على هذا
الساس نفسه ،لن حكم الفعل الذي بينه الشارع مقصود له ،أي
اللتزاما به ،وكذلك مآل الفعل ،مقصود للشارع ،والفعل ومآله
مرتبطان ارتباط السببِّ والمسببِّ ،والشارع يقصد بالسببِّ مسببه،
ويقصد المسببِّ بالسببِّ نفسه .فإذا حصل النفكاك بين الفعل ومآله
في أحوال معينة ،أو حصل ارتباط بين الفعل ومآل غير مقصود به
عند الشارع في أحوال معينة ،فعلى المجتهد أن ينظر في هذا المر
ويعتبره عند النظر والجتهاد ،لنه معتبر عند الشارع ،والمجتهد
عندما يبين الحكاما للمقلدين فكأنه الشارع.
وهذا الصل ،أصل اعتبار مآلت الفعال ،ليس أصلا كسائر
الصول أو القواعد الخرى في منهج الشاطبي بل هو أساس منهجه
ولبه في مقاصد الشريعة .وعليه تنبني معظم الصول والقواعد
الخرى المعتبرةا عنده في الجتهاد والتشريع ،فقواعد سد الذرائع
528
والستحسان والمصالح المرسلة ورفع الضرر ورفع الحرج وعدما
التكليف بما ل يطاق أو بالمشقات المعنتة ،وكذلك قاعدةا الحيل
وغيرها كلها مبنية على هذا الصل ،إذ إن مقاصد الشريعة هي
مآلتها ،وهذا الصل هو مآلت الفعال ،والحكاما إنما هي أحكاما
الفعال.
أدلته:
لذلك رأينا الشاطبي حين ألزما المجتهد بالنظر في مآلت الفعال
واستدل على ذلك ،كانت أدلته الدلة نفسها التي استعملها عند
إثبات أن الشريعة إنما وضعت لجل مصالح العباد .فقد استدل
بثلثة أمور .قال» :والدليل على صحته ثلثة أمور ،أحدها أن
التكاليف كما تقدما مشروعة لمصالح العباد ،ومصالح العباد إما
دنيوية وإما أخروية ،أما الخروية فراجعة إلى مآل المكلف في
الخرةا«هل) ، (1وقال» :وأما الدنيوية فإن العمال إذا تأملتها مقدمات
لنتائج المصالح ،فإنها أسباب لمسببات هي مقصودةا للشارع،
والمسببات هي مآلت السباب فاعتبارها في جريان السباب مطلوب
وهو معنى النظر في المآلت«هل ) . (2أما دليله الثاني فقال فيه إن عدما
اعتبار مآلت العمال يتناقض مع كون التكاليف شرعت لمصالح
العباد ) . (3وأضافَّ» :وأيضاا فإن ذلك يؤدي إلى أن ل نتطلبِّ
مصلحة بفعل مشروع ول نتوقع مفسدةا بفعل ممنوع وهو خلفَّ
وضع الشريعة«هل) . (4فهذان الدليلن واضح أنهما يرجعان إلى أصل
فكرته في أن الشريعة إنما وضعت لجل مصالح العباد.
أما دليله الثالث فهو الستقراء على أن الشريعة إن مــا وي ضــعت
لجل غايات أو نتائج قصدها الشارع بها ،وإذا رجعنــا إ لــى مف هــومه
للمصالح والمفاسد وهو أنها ما ق صــده ال شــارع بالتشــريع .وإ لــى
529
مباحثه في السباب والتي تبينت سابقاا ،يتبين أن هذا الدليل هنا هو
دليله في إثبات أن أحكاما ال سبحانه وتعالى ،معللة بمقاصدها ،وهو
الذي ذكره في أول كتاب المقاصد ،وهو ليس شيئاا قريباا منــه أو
مبنياا عليــه وإن مــا هــو نف ســه ،قــال» :والثــالث الدلــة ال شــرعية
والستقراء التاما أن المآلت معتبرةا في أ صــل الم شــروعية ك قــوله
ت عــالى [ :
)(1
. ] وق وله [ :
)(2
الية .وق وله [ : ]
[ (3)] الية .وقوله:
)(4
الية .وقوله [ ]
)(5
الي ة .و قـــوله [ : ]
)(6
الية .و قــوله [ : ]
. (7)] وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة«هل .
)(8
) ( سورةا البقرةا. 21 ،ــ والمقصود أن المر بالعبادةا هو لجل مآلها وهــو 1
التقوى.
) ( سورةا البقرةا.183 ،ــ والمقـصـود بالسـتـدلل أن ال أمـر بال صــوما 2
. ]والمقصود أن الحكم له مآل هو الخير لكم.
) ( سورةا البقرةا . 179 ،والمقصود أن القصاص له مآل وهو الحياةا. 7
530
فيها هو أنها ظهر فيها الحكم وظهر فيها المآل المقصود به .وهــذا
الدليل هو عينه الدليـل على أن الشـريعة إنما شـرعت لجل مصالح
العباد ) . (1بل إن هذه النصوص المس ـــتدل ب هــا هنــا من هــا مــا ه ـــو
مستدل به هناك.
ويمكن انتقاد استدللت الشاطبي هنا ،بأن دليليه الول والثاني
يرجعان إلى الثالث فهي دليل واحد في حقيقة المر .وهذا الدليل
هو نفسه الدليل على تعليل الشريعة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد،
فهو لم يأت بجديد في إثبات اعتبار مآلت الفعال ،ولم يكن بحاجة
إلى الستدلل ،ومن يأخذ منهجه من أصله فهو ملزما بأصل مآلت
الفعال ،والذي يرد أصل مآلت الفعال يلزمه أن يرد المنهج من
أصله.
مإعناه وأتطبيقه:
وينبغي التذكير بأمور في هذا الموضع ،وهو أن مآلت
الفعال هي مسبباتها أو مصالحها أو حكمها أو معانيها ،والشاطبي ل
يأخذ بها جلباا أو درءاا أي إنها ل تثبت أنها مصالح أو مفاسد إل
على سبيل القطع بالستقراء ،فالمآلت هي أصول كلية قطعية،
وبغير هذا ل تعتبر ،فالمآل الذي يجبِّ اعتباره حين النظر في الفعل
ونتيجته هو الثابت قطعاا ،وبما أن الفعال جزئيات ونتائجها
جزئيات ،فاعتبار المآل هو اعتبار الصل الكلي الذي ترجع إليه هذه
النتائج الجزئية ،وهذا من تفصيلت منهجه كما سبق بيانه ،وفيما
يلي بعض نصوصه للتذكير بهذا المر لنه ضروري لفهم أصل
مآلت الفعال ،كما أنه من الضروري التنبه الدائم عند قراءةا
الشاطبي إلى مقصوده بالمصالح والمفاسد وأنها ما قصده الشارع
بغض النظر عن الوصافَّ النسانية ،فهي من حيث جعلها الشارع
كذلك وليس من حيث أهواء النفوس ،قال» :السباب المشروعة
531
إنما شرعت لمصالح العباد وهي حقكيمي المشروعية«هل) . (1وقال:
»وما نهي عنه فإنما نهي عنه لمفسدةام يقتضيها فعله ،فإذا فعل فقد
دخل على شرط أن يتسببِّ فيما تحت السببِّ من المصالح أو المفاسد
ل يخرجه عن ذلك عدما علمه بالمصلحة أو المفسدةا أو بمقاديرهما
فإن المر قد تضمن أن في إيقاع المنهي عنه مفسدةا علمها ال
ولجلها نهى عنه ،فالفاعل ملتزما لجميع ما ينتجه ذلك السببِّ من
المصالح أو المفاسد وإن جهل تفاصيل ذلك«هل) . (2وقال» :فل بد
من اللتفات إلى المعاني التي شرعت لها الحكاما .والمعاني هي
مسببات الحكاما«هل) . (3وقال» :الحكاما الشرعية إنما شرعت لجلبِّ
المصالح أو درء المفاسد ،وهي مسبباتها قطعاا«هل) . (4وقال» :وتقرر
في هذه المسائل أن المصالح المعتبرةا هي الكليات دون
الجزئيات«هل). (5
وبناءا على ذلك فوجوب النظر في المآلت إنما هو لنه قد
تحصل حالت يكون الفعل المشروع لجل مصلحة غير مؤد إليها
وقد يؤدي إلى مفسدةا ،وقد يؤدي إلى المصلحة والمفسدةا معاا،
والفعل المنهي عنه لجل مفسدةا ،قد يؤدي إلى مصلحة أو قد يؤدي
تركه إلى مفسدةا أكبر من مفسدته ،فعلى المجتهد أن ينظر في
هذه الوقائع والحالت ،وهذا كله يرجع إلى تحقيق المناط إما
بالمعنى العاما وإما بالمعنى الخاص .أما بالمعنى العاما فهو أن يكون
الواقع قد حصلت فيه من الظروفَّ والحوال ما يجعل للفعل مآلت
مختلفة وذلك كالخروج إلى السواق والمدارس وشهود الجنائز
وما شابه ذلك ،فهذا جائز أو مطلوب شرعاا ،ولكن قد تؤول هذه
العمال إلى منكرات كمشاهدةا العورات أو الختلط المحرما ،ما
يجعل هذا الواقع واقعاا جديداا يحتاج إلى النظر ،ومن ذلك أيضاا
532
ارتياد الشطآن والمسابح فهذا في الصل جائز ،فإذا كان من هذه
الماكن ما يرتاده العراةا من الرجال والنساء ،فإن مآل هذا الفعل
مشاهدةا العورات ،ولذلك على المجتهد أن ينظر في مآل الفعل مع
نظره في الفعل ،فإن هذا الفعل المطلوب أو المأذون به مآله مفسدةا،
ول يعني هذا أن الفعل صار حراماا لن له مآل محرما ،وإنما يعني
وجوب النظر في المآل أي إن النظر في المآل مطلوب شرعاا
ومقصود مثلما أن النظر في الفعل مطلوب ومقصود .وهذه
المفسدةا يختلف مقدارها ،فهي في ارتياد الشطآن التي يرتادها
العراةا غيرها في السواق العامة التي تعترض فيها بعض المنكرات
أو ينكشف فيها بعض العورات ،كذلك فإن المصالح التي تقارن بها
هذه المفاسد مختلفة في مقدارها فهي في التنزه وارتياد الماكن
العامة والشطآن غيرها في طلبِّ العلم أو شهود الجنائز ،وغيرها في
شهود الجمعات والجماعات.
وكذلك في الفعل الممنوع ،فقد يكون مآله في بعض الحوال
مصلحة ،أو يكون في المتـناع عنه مفسدةا أكبر من مفسدته،
وأمثلة هذا كثيرةا ،منها المتناع عن أكل الحراما حالة الشرافَّ
على الهلك ،أو قطع العضو الذي في بقائه مظنة إفساد البدن كله.
ومنه أيضاا قتل المسلم بغير ذنبِّ فهو حراما من الكبائر ،ولكن إذا
تترس به الكفار في الحرب وأخذوا يقتلون المسلمين بحيث ل يمكن
ردعهم إل بقتله فالمر يحتاج إلى النظر وقد يؤدي النظر إلى
وجوب قتله أو إلى جوازه أو إلى تحريمه). (1
أما ما يتعلق بتحقيق المناط الخاص فيرجع إلى معرفة حال
المكلف وقصده ،فقد يكون الفعل مندوباا ولكنه يؤدي بالمكلف إلى
النقطاع عن العبادةا ،وقد يكون واجباا ولكن يؤدي إلى تلفم في
بدنه أو ديخيلم في عقله .وأمثلة هذا كثيرةا .قال الشاطبي» :وفي
حديث العرابي الذي بال في المسجد أمر النبي rبتركه حتى يتم
) ( أنظر :عز الدين بن عبد السلما ،قوا عــد الح كــاما فــي م صــالح النــ اما. 1
. 1/1009
533
بوله ،وقال» :ل ت ُـزرمإوه). (2)«(1
وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادةا خوفاا من
النقطاع .وجميع ما مري في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا
المعنى حيث يكون العمل في الصل مشروعاا لكن يينهى عنه لما
يؤول إليه من المفسدةا ،أو ممنوعاا لكن يترك النهي عنه لما في
ذلك من المصلحة ،وكذلك الدلة الدالة على سد الذرائع كلها
فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز .فالصل على
المشروعية لكن مآله غير مشروع .والدلة الدالة على التوسعة
ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الصل
لما يؤول إليه من الرفق المشروع«هل). (3
واعتبار هذا الصل ل يعني تحليل الحراما لن مآله مشروع ول
تحريم الحلل لن مآله ممنوع .وإنما يعني النظر لمعرفة حكم
الشارع عند اختلفَّ الحوال ،لذلك فهذا من عمل المجتهد بوصفه
مجتهداا ينظر في الفعل ومآلقهق مبرءاا من الحظوظ .وإلزاما
المجتهد بالنظر في المآلت هو من قبيل استفراغِّ الوسع وتماما
النظر .قال الشاطبي» :النظر في مآلت الفعال معتبر مقصود
شرعاا كانت الفعال موافقة أو مخالفة .وذلك أن المجتهد ل
يحكم على فعل من الفعال الصادرةا عن المكلفين بالقداما أو
بالحجاما إل بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ،فقد يكون
مشروعاا لمصلحة فيه تستجلبِّ أو لمفسدةام تدرأ ،ولكن له مآل على
خلفَّ ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدةام تنشأ عنه أو
مفسدةا تندفع به ولكن له مآل على خلفَّ ذلك .فإذا أطلق القول
في الول بالمشروعية فربما أدى استجلب المصلحة فيه إلى
مفسدةا تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعاا من إطلق
القول بالمشروعية ،وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدما
534
المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدةا إلى مفسدةا تساوي أو تزيد
فل يصح إطلق القول بعدما المشروعية ،وهو مجال للمجتهد ،صعبِّ
المورد إل أنه عذب المذاق محمود الغبِّ جارم على مقاصد
الشريعة«هل ) . (1هذا هو نص الشاطبي في أصل مآلت الفعال .وهو
موجه إلى المجتهد وليس إلى غيره .فهو يقول» :وذلك أن
المجتهد ل يحكم«هل الخ .ويقول» :وهو مجال للمجتهد صعبِّ
المورد«هل الخ .وكذلك واضح فيه أنه ل يقول إن مآل الفعل يعيين
حكمه .ولكنه يقول إنه ل بد من اعتبار المآل حين النظر ،فل يطلق
القول بناء على النظر في الفعل فقط ،وكذلك ل يطلق القول بناءا
على النظر في المآل ،وإنما ل بد من النظر في المرين ،وذلك بناءا
على القواعد الشرعية من الضروريات والحاجيات ،والتحسينيات.
وبناءا على النظر في المآلت الكلية والجزئية.
ويمكن هنا الرجوع إلى بعض أقواله في كتاب الحكاما في
بحثه للسباب والمسببات والتي قد يتوهم فيها تناقض مع نصه
أعله حيث قال» :ل يلزما في تعاطي السباب من جهة المكلف
اللتفات إلى المسببات ول القصد إليها«هل) . (2وقال» :إذا ثبت أنه ل
يلزما القصد إلى المسببِّ فللمكلف ترك القصد إليه بإطلق وله
القصد إليه«هل ) . (3فمن هذه النصوص وغيرها يفهم أن المسببِّ وإن
كان ناتجاا عن السببِّ فإن المكلف غير معني بالمسببات ول
بالمآلت وإنما هو معنييي بمعرفة الحكم واللتزاما به مهما كانت
مآلته ،يجيبِّ الشاطبي فيقول» :ل يقال إنه قد مر في كتاب
الحكاما أن المسببات ل يلزما اللتفات إليها عند الدخول في السباب
لنا نقول ،وتقدما أيضاا أنه ل بد من اعتبار المسببات في السباب
ومر الكلما في ذلك والجمع بين المطلبين ،ومسألتنا من الثاني ل
من الول لنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على
535
البراءةا من الحظوظ ،فإن المجتهد نائبِّ عن الشارع في الحكم على
أفعال المكلفين ،وقد تقدما أن الشارع قاصد للمسببات في
السباب«هل) . (1ومعنى هذا النص أن الحكم الشرعي في فعل المكلف
إذا جاء من الشارع فليس للمكلف أن ينظر في مآلته أو ما يرجع به
على المكلف من مصالح أو مفاسد ،وذلك لن هذا قد اعتبره الشارع
في الحكم وحكم به على المكلف معتبراا حاله ومآله وكل ما يجبِّ
اعتباره ،أما المجتهد فحين اجتهاده لمعرفة الحكم ل بد له من
اعتبار الفعل ومآل الفعل لنه من هذه الجهة بمقاما الشارع ،وهو،
أي المجتهد ،مكلف حين اجتهاده ،فهو مكلف باعتبار الفعل وباعتبار
مآله ،ولذلك فليس من شأنه أن يقوما مقاما الشارع فيغير الحكم
بناء على مآل الفعل ،وإنما وظيفته أو تكليفه هو أن يعرفَّ حكم
الشارع بحسبِّ هذا الفعل وهذا المآل معاا ،ومثال هذا حكم الميتة،
فإنها حراما وفي بعض الحالت كالمخمصة قد يؤدي تركها إلى
فوت الروح أو إلى الخلل بضروري ،ففي هذه الحالة يتغير الحكم
بناءا على تغير المآل ،فالمجتهد لم يغير الحكم بناء على المصلحة
أو المآل ،وإنما استنبط وفهم حكم الشرع ،وتغير الحكم هنا هو من
باب تغير السببِّ كما يتغير بتغير الفعل أو المناط ،وكذلك صياما
رمضان فإنه فرض ،ولكن في بعض الحالت كالجهاد أو في حالة
المبتلى بمرض معين قد يؤدي الصياما إلى تضييع فرض آكد أو إلى
الخلل بضروري فيتغير الحكم بناء على ما يؤول إليه ،فإعمال هذا
الصل ،أصل مآلت الفعال ،ل يعطي المكلف ول المجتهد حق تغيير
الحكاما بالهوى ،وإنما يتغير الحكم حيث دل الشرع على ذلك ،فإذا
لم يكن ثم دليل على تغير الحكم ،ولو كان يؤول إلى مفسدةا فإن
الحكم ل يتغير ،وكذلك ل تصبح المفسدةا جائزةاا أو مغتفرةا،
وإنما يسعى إلى اجتناب المفسدةا قدر المكان ،وإذا لم يدل الشرع
على تغير الحكم ل يتغير ولو كان له مآل بخلفَّ المقصود منه ،إذ
536
كما أن المآل مقصود فالحكم نفسه مقصود ،يقول» :ومن هذا
الصل أيضاا )أصل مآلت الفعال( تستمد قاعدةا أخرى وهي أن
المور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفها
من خارج أمور ل ترضي شرعاا فإن القداما على جلبِّ المصالح
صحيح على شرط التحفظ بحسبِّ الستطاعة من غير حرج«هل) . (1أي
أن العمال المطلوبة أو المأذون بها الواقعة في هذه المراتبِّ ،وإن
كانت تؤول إلى مفاسد ،فإن أحكامها ل تتغير ويصح القداما عليها
رغم ما فيها من مفاسد ،فل أحكامها تتغير ول المفاسد تصبح
مصالح ،أي ل تصبح المحرمات جائزةا ،وإنما يقدما على المشروع
ويتحرز من الممنوع قدر المكان ،فإذا بلغ به التحرز مبلغ الحرج
أو الضرر أو الخارج عن الستطاعة فحينئذم يمكن أن يتغير الحكم
بناء على القواعد الشرعية كقواعد الضرورات تبيح المحظورات أو
عدما التكليف بما ل يطاق أو بالمشقات المعتتة ،أو رفع الضرر أو ما
شاكل .ويأتي الشاطبي بمثال فيقول» :كالنكاح الذي يلزمه طلبِّ
قوت العيال مع ضيق الطرق الحلل واتساع أوجه الحراما والشبهات،
وكثيراا ما يلجئ إلى الدخول في الكتساب لهم بما ل يجوز،
ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدةا المربية على
توقع مفسدةا التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا
لدى إلى إبطال أصله ،وذلك غير صحيح ،وكذلك طلبِّ العلم إذا
كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة
وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إل بمشاهدةا ما ل يرتضى،
فل يخرج هذا العارض تلك المور عن أصولها لنها أصول الدين
وقواعد المصالح«هل). (2
إن أهمية بيان مراد الشاطبي بأصل مآلت الفعال في بحثنا هو
بسببِّ الخطاء الشنيعة التي تزعم على الشريعة أو تتخذ كمنهج
537
في أصول الفقه ويبنى عليها أحكاما تصطدما مباشرةا مع النصوص،
وييحيمييلي هذا للشاطبي ولمنهجه بحيث تصبح الفكار غير
السلمية أفكاراا اجتهادية شرعية بحجة المقاصد والمآلت
المصلحية ،والمثلة على شطحات بعض المعاصرين كثيرةا وفيما
يلي واحد منها حيث اعتيمقدي فيه على الشاطبي وأفكاره في المصالح
والمفاسد جلباا ودفعاا ،وخاصة على أصل مآلت الفعال ،حيث
استيشنهقدي بأقواله على نقيض معناها.
مإناقشة فهم خإاطئ لصل اعتبار المآلت:
نشرت مجلة »الصراط المستقيم«هل الصادرةا في أميركا في
عددها " " 59في العاما 1417هـ ،مقالة بعنوان» :العمل السياسي
في المجتمع الميركي«هل بقلم الدكتور صلح الصاوي مدير
الجامعة السلمية المفتوحة في ولية فرجينيا ،وقد وصفت المجلة
المقالة المنشورةا بأنها :رؤية فقهية تأصيلية تنشر لول مرةا،
وقالت المجلة بأن هذه الدراسة كانت جواباا على سؤال بعث به
الستاذ نهاد عوض المدير التنفيذي لمجلس العلقات السلمية
الميركية ،وليس المهم هنا السؤال أو السئلة وأجوبتها بقدر ما
يهم منهج الفهم والستنباط ،فقد جاء في هذه الرؤية التأصيلية
أقوال كثيرةا مستغربة مثل» :لما كانت الذرائع تأخذ حكم
المقاصد ،والوسائل تأخذ حكم الغايات«هل إلخ ،وقال أيضاا» :فاعتبار
الذرائع أصل من الصول المعتبرةا في تقرير الحكاما ،والذرائع ما
تكون طريقاا لمحلل أو لمحرما فيأخذ حكمه فالطريق إلى الحراما
حراما ،والطريق إلى المباح مباح«هل إلخ.
وكان من ضمن ما زعمه الكاتبِّ جواز فعل المنكر بحجة قصد
المصلحة ،وأن هذا المنكر مغتفر أماما المصلحة المقصودةا ،ونسبِّ
هذا النهج في الفهم إلى الشاطبي واستشهد بأقواله المذكورةا في
الصفحة السابقة ،ولذلك سأعمد فيما يلي إلى شرح هذا النص
شرحاا تفصيلياا لما في ذلك من مزيد بيان لمراد الشاطبي بالنص.
538
شـرح النص:
قوله» :المور الضرورية أو غيرها من الحاجية اوالتكميلية
إذا اكتنفها من خارج أمور ل ترضي شرعاا فإن القداما على جلبِّ
المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسبِّ الستطاعة من غير
حرج«هل أي إن الفعال التي دل الدليل على مشروعيتها سواء
بالوجوب أو الندب أو الباحة وهي ل تخرج عن أن تكون من
الضرورية أو الحاجية أو التكميلية ،فهي مصالح مندرجة تحت هذه
القساما الثلثة ،هذه الفعال إذا كان لها مآل منهي عنه ،فإن القياما
بها صحيح مع احتمال المآل ،أي أن أصل اعتبار المآلت ل يؤثر في
حكم هذه الفعال .وبما أن هذه الفعال قد تؤول إلى حراما فيجبِّ
الحتراز عن الوقوع في هذه المآلت أو المحرمات على قدر
الستطاعة ،أي يجبِّ الحتراز عن هذه المحرمات كما يجبِّ
الحتراز عن أي محرما ،وال سبحانه وتعالى لم يكلف بالمحال أو
بما ل يطاق ،فهذا النص ليس فيه جواز فعل المنكر .قوله:
»كالنكاح الذي يلزمه طلبِّ قوت العيال مع ضيق طرق الحلل،
واتساع أوجه الحراما والشبهات ،وكثيراا ما يلجئ إلى الكتساب
لهم بما ل يجوز ولكنه غير مانع«هل فالنكاح مثلا مشروع وهو عند
الشاطبي حكم شرعي بحق الفرد من جهة كونه جزئياا ،وهو أصل
كلي قطعي بحق العامة من جهة كونه خادماا للضروري ،فإذا ثبت
أنه يؤول في بعض الحالت إلى منهي عنه ،كأن يؤدي إلى طلبِّ قوت
العيال عن طريق الحراما ،وقد يؤول إلى الكتساب المحرما فإنه
يكون قد تعارض الجزئي مع أصل ،وهو مشروعية هذا النكاح مع
المآلت ،ففي هذه الحالت ،مآلت النكاح ل تبطل الحكم الشرعي في
النكاح ،فيظل هذا الفعل على حكمه ،ول تغير حيكميه مآلتيه ،ويسعى
المكلف متجنباا الوقوع في هذه المآلت بحسبِّ استطاعته ،ول يعني
أن ملبسة هذه المآلت تصبح جائزةا .وقوله» :لما يؤول إليه
التحرز من المفسدةا المربية على مفسدةا التعرض ولو اعتبر مثل
هذا في زماننا لدى إلى إبطال أصله ،وذلك غير صحيح«هل .أي إن
539
هذه المآلت ل تمنع النكاح ولو اعتبرنا الحكم بهذا المآل هنا في
مثل زماننا لدى إلى تحريم النكاح ،وهو غير صحيح لنه مخالف
للحكم الثابت بالدلة ،فقوله» :وذلك غير صحيح«هل يعني أنه ل
يصح إبطال أو تغيير حكم شرعي بحجة المآل .وأيضاا فنحن إذا
حرمنا النكاح وهو حكم شرعي لوقعنا في مفاسد مربية على مفاسد
تلك المآلت ،فالمآلت معتبرةا باعتبار الشرع لها ،ول نغير الحكاما
بناء عليها وإنما نكتشف اعتبار الشرع لها ،فالنكاح بما أنه مشروع،
وكل أمر مشروع فهو مصلحة وإبطاله مفسدةا ،علمنا ذلك أما لم
نعلم ،وهو عند الشاطبي أصل من الصول الضرورية أو الحاجية أو
التكميلية فاعتبار هذه المآلت ،إذا كان معناه تغيير الحكم ،فإنه
يؤدي إلى إبطال أصل وذلك غير صحيح .قوله» :وكذلك طلبِّ
العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها وشهود الجنائز وإقامة
وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إل بمشاهدةا ما ل يرتضى
فل يخرج هذا العارض تلك المور عن أصولها«هل أي أن ما قيل
بشأن النكاح يقال بشأن طلبِّ العلم والشياء المذكورةا معه ،فهذه
كلها جزئيات ثبتت مشروعيتها بالدلة ،فكونها تؤول إلى حراما
كمشاهدةا العورات وسماع ما ل يجوز الستماع إليه وما سواها ،فإن
هذه المآلت ل تبطل شرعية هذه الفعال ،لن الذي يبطل أو ل يبطل
هو الشرع والشرع لم يبطلها مع وجود هذه المآلت ،فالشرع اعتبر
المآلت ومع اعتباره للمآلت ،هكذا كانت أحكامه ،فل يعبث بها
بحجة المآلت ،فيصح القداما عليها مع احتمال مآلتها .فهذا الصل،
أي اعتبار المآلت ،ل يغير حكماا شرعياا فل يحل حراماا ول يحرما
حللا .وإذا أقدما العبد على هذه الفعال فعليه اجتناب المحرمات
التي تؤول إليها هذه الفعال قدر استطاعته ،قوله» :لنها أصول
الدين وقواعد المصالح وهو المفهوما من مقاصد الشارع«هل أي أن
الصول ل تبطلها الجزئيات ،لن الصول كلية .فأصول الدين
كالعقائد قطعية ل ينقضها شيء ،وكذلك القواعد الثلثا وهي
الضروريات والحاجيات والتحسينيات ،وهذا ما فهم من الشريعة،
540
والكلي ل ينخرما بمعارضة بعض الجزئيات له .قوله» :فيجبِّ
فهمها حق الفهم فإنها مدار اختلفَّ وتنازع«هل .أي أن هذه الصول
الثابتة بالستقراء هناك من ينازع فيها ويردها بناء على ما يجده
من جزئيات تعترضها ،فيجبِّ الفهم حق الفهم أن الجزئيات ل تبطل
الصول ومراده أن هناك من ينازع ويخالف في صحة اعتبار أصل
مآلت الفعال ،بناء على ما ذكر في النص من أن هذه المآلت
المنكرةا لم تؤثر في الحكاما كالنكاح وطلبِّ العلم ولم تغير الحكم،
وبذلك يزعمون سقوط هذه الصل ،فإن هذا الزعم ل يصح لن
الصل ثابت كلي وما يزعمونه قضايا جزئية وقضايا أعيان ل تبلغ
مبلغ أن ترد قطعياا .قوله» :وما ينقل عن السلف الصالح مما
يخالف ذلك هو قضايا أعيان ل حجة في مجردها حتى يعقل معناها
فتصير إلى موافقه ما تقرر إن شاء ال«هل أي أن ما يثيره المنازعون
في إبطال هذه الصول ومنها أصل اعتبار المآلت ل حجة فيه ،لنه
جزئيات ،فإذا ما تضافرت هذه الجزئيات على معنى معين وحصل
لهذا المعنى استقراء يفيد القطع فحينذاك سيظهر أن هذا المعنى
القطعي وهذه الجزئيات الراجعة إليه ستكون موافقة لصل اعتبار
المآلت ،وذلك لن الصول كليات قطعية ول تتناقض ،وبما أنها
جزئيات لم تبلغ هذا المبلغ بعد فما زالت ظنية في معارضتها
للصل القطعي وتخضع للتأويل.
وهذا التفسير لهذا النص هو الذي يلحقظي ويعتبري منهجه
وأصوليه التي قررها .أما القول بجواز فعل المنكر استناداا إلى
أصل المآلت فمردود ،ويمكن الحالة في هذا على نصوص الشاطبي
في بحث مقاصد المكلف ،وقد تبينت آراؤه في هذا المر في الفصل
السادس من هذا الكتاب ،حيث تبين رأيه أن هذه القوال ل تكون إل
مع الجهل ،وإذا لم يكن كذلك فهي ابتداع.
541
الفصـل التاسـع
فـي تطبيـق الفكــرة:
ثالثا قـواعد كليـة
وأيحتوي على تعريف مإوجأز بموضأوع هذا
الفصل وأثالثاة مإباحث:
542
الفصـل التاسـع
فـي تطبيـق الفكـرة:
ثالثا قواعد كلية
مإوضأوع هذا الفصل:
بعد أن تبين منهج الشاطبي في فهم الشريعة ،ومنهجه في
تقرير الصول والقواعد الكلية وهو الستقراء المفيد للقطع يأتي
هذا الفصل لبيان ثلثا قواعد كلية هي من أهم القواعد في منهج
الشاطبي وهي المصالح المرسلة والستحسان وسد الذرائع وذلك
في ثلثة مباحث ،ويتم بحث قاعدةا رفع الضرر ضمن مبحث سد
الذرائع والغاية من بحث هذه القواعد هي:
1ـ مزيد من بيان منهج الشـاطبي في فهم الشـريعة
واسـتنباط الحكاما ،حيث أن هذه القواعد هي كليات ثبتت لديه من
خلل تطبيق فكرته في اسـتقراء المعاني واقـتـناص الكليـات على
حد تعبيره ،وحيث أن هذه القواعد هي مقاصد أو علل وعلى أساسها
تتفرع الحكاما ،لذلك فهي قواعد معتبرةا عند المجتهد حين
الستنباط.
2ـ بيان كيفية اختلفَّ اعتبار الشاطبي لهذه القواعد عن
اعتبارها عند غيره من الئمة الذين يقولون بها ،وذلك من خلل
تحديدها ،وإذا صح التعبير تقليص حدود عملها بحيث يتمكن من
زعم القطع بها ،وبعد ذلك زعم أنها معتبرةا ومعمول بها عند
الجميع حتى ولو صرحوا بردها .ومن ذلك تصريحه أكثر من
مرةا بأن قاعدةا سد الذرائع معمول بها عند أبي حنيفة والشافعي
رضي ال عنهما ،أما عدما إعمالها عندهم في كثير من المواضع
فذلك ل يضير لنه ليس راجعاا إلى عدما اعتبارهم للقاعدةا وإنما
لمور أخرى.
3ـ بيان حقيقة هذه القواعد في منهج الشاطبي ،فإن هذه
543
اللفاظ :المصالح المرسلة والستحسان وسد الذرائع هي أسماء
للقواعد وليست هي نصوصها ،ول يتبين من السم حقيقة المعنى
ول موضع إعماله ول شروطه ،فل يصح التذرع بالشاطبي أو
بمنهجه أو بعناوين أصوله أو قواعده من غير معرفة حقيقة ذلك
كله ثم إصدار الراء أو الفتاوى التي تحلل الحراما أو تحرما الحلل
بمجرد استعمال اسم القاعدةا فهذا جهل وليس علماا فل ينتج علماا.
المبحث الوأل
المصـالح المرسـلة
مإعنى المصالح المرسلة:
قاعدةا المصالح المرسلة مبنية على الستدلل المرسل ،الذي
هو بدوره مبني على المناسبِّ المرسل .والمناسبِّ المرسل أحد
أقساما المناسبِّ ،والمناسبِّ هو الوصف الذي يصلح ادعاؤه علة عند
القائلين بمسلك المناسبة في القياس ،وهو يؤدي إلى القياس بعد
أن تتوفر أركانه ،أما الستدلل فليس من القياس لن الوصف الذي
يصلح للتعليل به ،وإن وجد في فرع فل يوجد في أصل معين يقاس
عليه ،وإنما هو معنى يلحظ موافقته لحكاما كثيرةا أو جريان
أحكاما كثيرةا موافقةا له ،فيثبت الوصف ويعد أصلا معتبراا في
التشريع شهدت له أحكاما كثيرةا ول يمكن إرجاعه إلى واحد منها،
إذ هو في كل واحد من الحكاما التي تشهد لعتباره ل يصلح لن
يكون علة إذ قد يكون الحكم مما ل يعلل أو مما له علة أخرى أو
هناك وصف أكثر مناسبة منه). (1
المصالح المرسلة عند الئامة:
والختلفَّ الواقع في المصالح المرسلة يرجع في جانبِّ منه
إلى الختلفَّ في صحة التعليل بالمناسبِّ المرسل أو بالمناسبِّ ،وقد
544
مريي هذا المر مفصلا ،وفي الجانبِّ الخر يرجع إلى اختلفَّم في
الصطلحات ،فإذا بنينا على أن المصالح المرسلة ل ترجع إلى
القياس ،وهو الصواب ،وإنما ترجع إلى الستدلل فإن اختلفَّ الراء
فيها يكاد يكون مجرد خلفَّ في ألفاظ واصطلحات ،هذا مع عدما
الخذ بعين العتبار موقـف الذين يردون القياس ،ويكاد يكـون
تطـبـيـق معنى المصالح المرسلة ـ حينئذم ـ متفقاا عليه). (1
فالمعنى الذي رده الذين ردوا المصالح المرسلة ليس هو الذي أراده
القائلون بها في مبحث الستدلل ،والمعنى الذي قصده القائلون بها
قال به الرادون لها تحت أسماء مختلفة ،فعلى سبيل المثال رد
المدي المصالح المرسلة فقال» :فالمصالح على ما بيينا منقسمة
إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها ،وهذا
القسم )أي المصالح المرسلة() (2متردد بين ذنيك القسمين ،وليس
إلحاقه بأحدهما أولى من الخر فامتنع الحتجاج به دون شاهد
بالعتبار يعرفَّ أنه من قبيل المعتبر دون الملغى«هل) . (3وقد تبين
سابقاا أن المدي وأئمة الشافعية من أكثر المدافعين عن مسلك
المناسبة ،وعن اعتباره في التعليل وعن اعتبار جنس الوصف في
جنس الحكم وهذا هو المصالح المرسلة عند القائلين بها في التعليل
والقياس.
فالذي قصده المدي بالرد في هذا النص هو اعتبار المصلحة
إذا لم يدل عليها دليل ،وهذا متفق على رده ،أما أن الذي قصده
القائلون بالمصلحة المرسلة يقول به الجميع ومنهم الذين ردوها
فيؤكده القرافي بقوله» :وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها
خاصة بنا وإذا افتقدت المذاهبِّ وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا
بين المسألتين ل يطلبون شاهداا بالعتبار لذلك المعنى الذي به
) ( أقول :يكاد يكون ،وليس يكون ،وذلك لنها قد تنطبق عند البعض على 1
545
جمعوا وفرقوا بل يكتفون بمطلق المناسبة وهذا هو المصلحة
المرسلة فهي حينئذم في جميع المذاهبِّ«هل ) . (1وقال» :وقد تقدما أن
المصلحة المرسلة في جميع المذاهبِّ عند التحقيق لنهم يقيسون
ويفرقون بالمناسبات ول يطلبون شاهداا بالعتبار ول نعني
بالمصلحة المرسلة إل ذلك .ومما يؤكد العمل بالمصلحة
المرسلة أن الصحابة رضوان ال عليهم عملوا أموراا لمطلق
المصلحة ل لتقدما شاهد بالعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدما
فيه أمر ول نظير ،وكذلك ترك الخلفة شورى وتدوين الدواوين
وعمل السكة للمسلمين واتخاذ السجن فعل ذلك عمر رضي ال عنه
وهدي الوقافَّ التي بإزاء مسجد رسول ال والتوسعة بها في
المسجد عند ضيقه فعله عثمان رضي ال عنه وتجديد الذان في
الجمعة بالسوق وهو الذان الول«هل ) ، (2ثم قال» :وذلك كثير جداا
لمطلق المصلحة وإماما الحرمين قد عمل في كتابه المسمى
بالغياثي أموراا وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها وجسر
عليها للمصلحة المطلقة ،وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن
الثنين شديدا النكار علينا في المصلحة المرسلة«هل ) . (3فهذا النص
يشير إلى أن الذين يردون المصالح المرسلة يردون شيئاا غير الذي
يقصده القائلون بها ،وإذا كانت المثلة التي ذكرها القرافي أعله
تشير إلى موضوعات المصالح المرسلة ،فهذه المثلة مما هو متفق
عليه وإن كان ثمة خلفَّ فهو في الستدلل الفقهي التفصيلي،
والذي ل يقول بالمصالح المرسلة يرجعها إلى قواعد أخرى مثل
حفظ الضروريات أو قاعدةا ما ل يتم الواجبِّ إل به فهو واجبِّ أو
قاعدةا رفع الحرج أو الضرر أو ما شاكل ذلك .فليس ثمة خلفَّ
حقيقي في قاعدةا المصالح المرسلة ،ومرجع الخلفَّ إلى اختلفَّ
مفهوما القاعدةا عند المختلفين.
546
وإنما الخلفَّ الشديد هو فيما ذكر سابقاا وهو تعليل الحكاما
الشرعية بحكمها أو بمصالحها ،وحيث قد ينشأ من أتباع الئمة ومن
المطالعين لكتبِّ الصول من يخطئ الفهم وييحميقل فهمه للمذهبِّ
أو لمامه ،أو من يستغل الفكرةا ويستعملها بغير قيودها وفي غير
موضعها وربما في غير معناها .ومن هذا أن تفهم المصالح المرسلة
بمعنى أن مجرد كون الشيء مصلحة أو مؤدياا إلى مصلحة فهذا
دليل على مشروعيته ،أو أن يفهم أن في الشريعة منطقة فراغِّ ،وأن
في الوقائع ما ل حكم له ،وأن ذلك متروك إلينا نقرر حكمه بناء
على المصلحة أو المفسدةا ،فمثل هذا القول ل أصل له عند أحد من
الئمة المعتبرين .والمنقول التفاق على رده ،وسيتبين هذا المر
بتماما هذا المبحث إن شاء ال.
المصالح المرسلة عند الشاطبي:
والمصالح المرسلة عند الشاطبي ترجع إلى معنى الستدلل
المرسل ،وفيها من الجديد ما في منهجه من جديد ،فالمصلحة حتى
تعتبر يجبِّ أن يثبت اعتبار الشرع لها ثبوتاا قطعياا بواسطة
الستقراء ،أو أن تكون راجعة إلى معنى قطعي كلي ثبت على ذلك
الوجه ،قال في مقدمته الثالثة بعد أن بييين أن الصول يجبِّ أن
تكون قطعية ول يكفي فيها الظن وأن طريق القطع هو الستقراء:
»وينبني على هذه المقدمة معنىا آخر وهو أن كل أصل شرعي لم
يشهد له نص معين وكان ملئماا لتصرفات الشرع ومأخوذاا معناه
من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الصل
قد صار بمجموع أدلته مقطوعاا به ،لن الدلة ل يلزما أن تدل على
القطع بالحكم بانفرادها دون انضماما غيرها إليها كما تقدما ،لن
ذلك كالمتعذر ،ويدخل تحت هذا ضرب الستدلل المرسل الذي
اعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد
شهد له أصل كلي والصل الكلي إذا كان قطعياا قد يساوي الصل
547
المعين وقد يربى عليه بحسبِّ قوةا الصل المعين وضعفه«هل ). (1
وعلى ذلك فالفعل الذي لم ينص عليه الشرع طلباا أو منعاا فإن
حكمه ينبني على الصل الذي ثبت معناه قطعاا وصار أصلا يبنى
عليه ويرجع إليه إذا كان هذا الفعل يندرج معناه تحت هذا المعنى
أو يخدمه أو يؤول إليه.
وقال» :الدلة الشرعية ضربان :أحدهما ما يرجع إلى النقل
المحض والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض«هل) . (2ثم قال» :فأما
الضرب الول فالكتاب والسنة وأما الثاني فالقياس والستدلل
ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلفَّ ،فيلحق
بالضرب الول الجماع على أي وجه قيل به ،ومذهبِّ الصحابي
وشرع من قبلنا ،لن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر
منقول صرفَّ ،ل نظر فيه لحد ،ويلحق بالضرب الثاني الستحسان
والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري ،وقد ترجع
)(3
إلى الضرب الول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية«هل .
والمقصود هنا أن المصالح المرسلة ترجع إلى النقل المحض
وترجع إلى الستدلل ،أما الول فلجل إثبات أن هذه المصلحة
مصلحة شرعية قطعية وهذا مأخذه استقراء النصوص الشرعية فمن
هنا هي راجعة إلى الضرب الول ،أما الثاني فلجل إثبات أن هذا
الفعل يندرج تحت هذه المصلحة ويؤدي إليها ،أي أن علقته
بالمعنى أو المصلحة التي هي أصل كلي هي علقة السببِّ بمسببه
أو بمآله.
وعلى ذلك فالمصالح المرسلة هي من ضروب الستدلل
المرسل عند الشاطبي ،وهي مرسلة لنه ليس لها شاهد خاص يدل
عليها وترجع إليه ،ولكن المصلحة ثابتة قطعاا بشواهد تفوق
548
الحصر ،فتكون المصلحة المرسلة قاعدةا تنبني عليها أحكاما الفعال
التي هي أسباب أو وسائل للمصلحة ،وفق ضوابط وحدود شرعية
ستتبيين بحول ال تعالى.
مإواضأع إعمال القاعدة:
وتنبني قاعدةا المصالح المرسلة على الجمع بين أصلين :أصل
التعبد والمتثال وأصل رفع الحرج ،فإذا جاء المر الواجبِّ من
الشارع وجبِّ المتثال ،فإن كان ممكناا فل إشكال ،وإن كان غير
ممكن فإما أن يكون لنه ليس بالوسع القياما به والستمرار في ذلك
فهذا مما فيه حرج ،وإما أن يكون لنه ل يمكن القياما به إل بعد
القياما بغيره ،فهاتان الحالتان إن طرأتا على التكليف اقتضى المر
أحكاماا أخرى ،فإن كان المر راجعاا إلى الحرج وجبِّ رفع الحرج
بالتخفيف ،وإن كان راجعاا إلى أنه ل يمكن القياما بالفعل إل بعد
القياما بغيره يصبح هذا الغير واجباا مثل الفعل الول ،والحالة
الثانية داخلة في الولى ،لنه إذا كان القياما بأمر ل يمكن إل
بالقياما بغيره أولا ،فإن التكليف به من غير القياما باللزما له تكليف
بما ل يكون أو بما فيه حرج ،لذلك فالحالتان راجعتان إلى رفع
الحرج ،هذا هو أصل قاعدةا المصالح المرسلة عند الشاطبي.
وهي تطبق في الضروريات والحاجيات ول تطبق في
التحسينيات ،فتطبق في الضروريات على الفعال التي ل يمكن حفظ
الضروري إل بها فيأخذ الفعل حكم حفظ الضروري وهو الوجوب،
وفي الحاجيات على رفع الحرج وما في معناه فيحصل التخفيف بناء
على ذلك حسبِّ دللة الدلة ،ويستثنى من تطبيقها في هذه المواقع
أحكاما العبادات ،فل مدخل للمصالح المرسلة في العبادات ،أما أن ما
ذكر أعله هو أصل قاعدةا المصالح المرسلة فقد ذكر في مقدمته
الثالثة عشرةا مسألةا وهي أن الصول والقواعد ل تتخلييف ول
تنخرما فإذا لزما انخرامها أو تخلفها فليست صحيحة ،ويظهر هذا
549
في مواضع ،منها ما سماه الدخول في العمال ،ومراده بالدخول في
العمال أن العمال المكلف بها يجبِّ أن تكون ضمن مقدور المكلف
من أولها إلى آخرها ،فإذا لم تكن كذلك لم يكن المر بها تكليفاا،
يقول» :وأما الدخول في العمال فهو العمدةا في المسألة وهو
الصل في الستحسان والمصالح المرسلة لن الصل إذا أدى القول
بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما ل يمكن شرعاا أو عقلا
فهو غير جارم على استقامة ول اطراد«هل). (1
ومن أمثلة القاعدةا في الضروريات جمع المصحف ،قال» :إن
جمع المصحف كان مسكوتاا عنه في زمانه عليه الصلةا والسلما ،ثم
لما وقع الختلفَّ في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول
لصاحبه :أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجباا وإل لزما
أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدثا في الزمان المتقدما بدعة
وهو باطل باتفاق .لكن مثل هذا النظر من باب الجتهاد الملئم
لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين وهو الذي يسمى
المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل ل
يختلف عنه بوجه«هل ) . (2والشاهد هنا هو في قوله» :صار جمع
المصحف واجباا«هل إذ إنه كان قبل ذلك مباحاا ،ولكن طرأ ما جعل
حفظ الدين في خطر ما لم يجمع المصحف ،قال» :ولم يرد نص
عن النبي بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسبِّ
تصرفات الشرع قطعاا ،فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والمر
بحفظها معلوما ،وإلى منع الذريعة للختلفَّ في أصلها الذي هو
)(3
القرآن وقد علم النهي عن الختلفَّ في ذلك بما ل مزيد عليه«هل .
ومن أمثـلتـها في الحاجيـات تضمين الصناع ،قال» :إن
الخلفاء الراشتديـن قـضـوا بتضمين الصناع قال علي رضي ال
550
عنه» :ل يصلح الناس إل ذاك«هل ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم
حاجة إلى الصناع وهم يغيبون عن المتعة في غالبِّ الحـوال
والغلـبِّ عليـهم التفريـط وتـرك الحفـظ ،فلـو لـم يثـبـت
تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لفضى ذلك إلى أحد
أمرين إما ترك الستصناع بالكلية وذلك شاق على الخلق ،وإما أن
يعملوا ول يضمنوا ذلك بدعواهم الهلك والضياع ،فتضيع الموال
ويقل الحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين«هل). (1
وهذا المثال على المصالح المرسلة مثار جدل وسببِّ قدح في
القاعدةا إذ إنها أدت إلى شرط باطل وهو تضمين الصانع). (2
والحقيقة أن هذا ل يرجع إلى القاعدةا وإنما إلى الخلفَّ في الدلة
التفصيلية ،فقوله هنا بتضمين الصناع ل يدل على أن هذا المـر
حـراما وأبيـح بالقاعدةا ،وإنما هو في الصل مباح ولجل رفع
الحرج وجبِّ .وانظر قوله في أول المثال إن الخلفاء الراشدين
فعلوا ذلك ،فإن هذا إذا صح دليـل شـرعي ،إذ لم ينكره أحد من
الصحابة ،ولكن هذا لم يصح ،وما نسبه إلى علي رضي ال عنه ل
يثبت). (3
) ( المصدر نفسه . 2/378 ، 1
الحديث ،إل إذا قال مثلا » :المين هو من دفعت إليه راضياا بأمانته ل معطى
أجراا على شيء مما دفعت ،وإعطائي هذا الجر تفريق بينه وبين المين الذي
أخذ ما استؤمن عليه بل جعل« الما. 38 - 4/37 ،
وقد نسبِّ إلى علي بن أبي طالبِّ رضي ال عنه قوله في تضمين الصناع » :ل
يصلح الناس إل ذاك« وإذا ثبت هذا عنه فإنه محمول على ما كان من قبيل
البيع ل الجارةا ،وقال الشافعي في الما » :وقد يروى من وجه ل يثبت أ ه ل
الحديث مثله أن علياا بن أبي طالبِّ رضي ال عنه ضمن الغ س ال والصباغِّ
551
وبناء على ذلك فقاعدةا المصالح المرسلة هي قاعدةا أصولية
من قواعد الشرع عند الشاطبي وليست أصلا خامساا برأسه ،فهي
ليست مصدراا للحكاما وإنما هي منهج شرعي يطبق أو يعمل به عند
الستنباط مثل قاعدةا الستصحاب أو قاعدةا الصل في الشياء
الباحة أو قاعدةا رفع الضرر .أما إذا اتخذت مصدراا للحكاما بحيث
يصير مقتضى التشريع مجرد النظر إلى كون الفعل مصلحة أو
مفسدةا أو أن يكون كذلك عند أدنى مشقة أو كلفة فهذا منهج
البتداع وليس التشريع.
أقسام المصالح:
وقد نـاقـش الشـاطبي في كتـابـه )العتصـاما( الذيـن
تذرعـوا بالمصـالح المرسـلة لمخالفاتهـم وبدعهم فزاد المر
وقال :ل يصلح الناس إل ذاك« وقال » :ويروى عن عمر تضمين الصناع من
وجه أضعف من هذا ،ولم نعلم واحداا منهما يثبت .وقد روي عن علي بن
أبي طالبِّ أنه كان ل يضمن أحداا من الجراء من وجه ل يثبت مثله«
. 7/88
وقال الشاطبي » :وفي الحديث» :ل ضأرر وأل ضأرار« تشهد له الصول
) (2
من حيث الجملة ،فإن النبي » نهى أن يبيع حاضأر لباد«) ،(3وقال:
»دعوا الناس يرزق الله بعضهم مإن بعض«) ، (4وقال» :وأل تلقوا
السلع حتى يهبط بها إلى السوق« ) (5وهذا من باب ترجيح المصلحة
العامة على الخاصة ،فتضمين الصناع من ذلك القبيل« العتصاما ،2/378
وهذا القول من الشاطبي استناداا إلى هذه الدلة مردود ،لن هذه الدلة
عامة في الموضوع ،وهناك أدلة خاصة في التضمين تنهى عنه،وعليه
فتضمين الصناع مخالف للشرع ول يجوز.
) ( 2تقدما تخريجه.
) ( 3طرقه كثيرةا منها :البخاري ) ،( 2014ومسلم ) ،( 2799والترمذي )
( 1144وقال :حسن صحيح ،والنسائي ) ،( 4419وابن ماجه ) ،( 2176
وأحمد ) ،( 13820ومالك في الموطأ ) .( 1189
) ( 4التخريج نفسه ،وهو بهذه الرقاما الحديث نفسه» :ل يبع حاضأر لبائد
دعوا الناس يرزق الله بعضهم مإن بعض« ما عدا حديث مالك» :ل
يبع حاضأر لبائد«.
) ( 5أخرجه البخاري في باب بيع الطعاما قبل أن يقبض وباب بيع ما ليس عندك
) ،( 2020أبو داود ) ،( 2979والدارمي ) .( 2454
552
بياناا وتوضيحاا ،قال» :فلما كان الموضع مزلة قدما لهل البدع
لن يسـتدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين النظر في
مناط الغلط الواقـع لهؤلء حتى يتبين أن المصـالح المرسـلة
ليسـت مـن البـدع في وردم ول صدر بحول ال«هل) ، (1ثم قال:
»المعنى المناسـبِّ الذي يربـط بـه الحكم ل يخـلو من ثلثة
أقساما:
أحدها :أن يشــهـد الشرع بقبوله ،فل إشكال في صحته ول
خلفَّ في إعماله وإل كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص
حفظاا للنفوس والطرافَّ وغيرها«هل) . (2وهذا ليس من المصالح
المرسلة وإنما هذا هو المعتبر إما بشــهادةا الدليل أو بشهادةا
الحكم ،أما عند الشاطبي فالعتبار هو بشهادةا الدليل ،أو الحكاما
الكثـيـرةا كثـرةاا تشـكل دليــلا بنظره ،ول يقبـل العتبـار
بشـهادةا حكم أو أحكاما قليلة.
ثم قال» :والثاني ما شهد الشرع برده فل سبيل إلى قبوله إذ
المناسبة ل تقتضي الحكم لنفسها ،وإنما ذلك مذهبِّ أهل التحسين
العقلي ،بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء
الحكاما فحينئذم نقبله ،فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته
في حق الخلق من جلبِّ المصالح ودرء المفاسد على وجه ل يستقل
العقل بدركه على حال ،فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى،
بل برده كان مردوداا باتفاق المسلمين«هل) . (3وفي هذا النص دللة
على أن المناسبة ليست دليلا على العتبار ول شرطاا له ،وإنما
الدليل على ذلك هو اعتبار الشرع للمعنى وهذا يفهم بالستقراء،
) ( الموضع نفسه ،وقوله» :المناسبة ل تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك 3
مذهبِّ أهل التحسين العقلي«هل معناه عدما جواز الستدلل بالمصلحة ،وإنما
الستدلل بالدليل الذي قرر هذه المصلحة سواء كان الــدليل متعينــاا ،أو
غير متعين .
553
وهذا القسم هنا هو المناسبِّ الملغى ،فل اعتبار له ،ومن منكرات هذا
الزمان بل ومن طغيان الجهل صدور أقوال وآراء يعدها البعض
فتاوى ،تبيح المحرمات بحجة أنها مصالح أو مقصودي بها المصالح
وإسناد ذلك إلى المصالح المرسلة وإلى مقاصد الشريعة وأحياناا
إلى الشاطبي ،فيا للعجبِّ!.
ثم قال» :الثالث :ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد
باعتباره ول بإلغائه فهذا على وجهين :أحدهما أن يرد نص على
وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراثا فالمعاملة بنقيض
المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة ل عهد بها
في تصرفات الشرع بالفرض ول بملئمها بحيث يوجد لها جنس
معتبر فل يصح التعليل بها ،ول بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا
تشريع من القائل به فل يمكن قبوله«هل). (1
والمذكور في هذا الوجه كثيراا ما يقع فيه الغلط فيعد من
المصالح المرسلة بناء على تعريفه بأنه ما سكت عنه الشرع فلم
يشهد له باعتبار ول إلغاء ،وهو هنا يرده وينقل التفاق على ذلك.
ثم يبين ما هي المصالح المرسلة التي سكتت عنها الشواهد الخاصة
فلم تشهد لها باعتبار ول إلغاء فيقول» :والثاني أن يلئم تصرفات
الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة
بغير دليل معين وهو الستدلل المرسل المسمى بالمصالح
المرسلة«هل ). (2
إذن ،ل يصح تعريف المصالح المرسلة بأنها مصالح ترك
الشارع بيانها ولم يذكرها باعتبار ول إلغاء .وهي بهذا التعريف
مردودةا بل خلفَّ ،وعلى ذلك ل يصح جعل المصلحة دليلا لمجرد
كونها مصلحةا ،بل إن هذا مذهبِّ أهل التحسين والتقبيح العقلي،
وهذه المسألة محسومة أصلا ،ومن شواهدها في هذا الموضوع قول
) ( الشاطبي ،العتصاما. 2/375 ، 1
554
الشاطبي» :المناسبة ل تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهبِّ
أهل التحسين العقلي«هل ،ونقله الجماع على عدما جواز الستدلل
بمجرد المصلحة حتى ولو لم تكن ملغاةا وذلك في قوله المذكور
آنفاا فيما لم تشهد له الشواهد الخاصة باعتبار ول إلغاء» :فل
يصح التعليل بها ول بناء الحكم عليها باتفاق ،ومثل هذا تشريع من
القائل به فل يمكن قبوله«هل .وقد نقل الرازي الجماع على هذا
المر حيث قال» :مناسبِّي ،ل يلئم ،ول يشهد له أصل معين فهذا
مردود بالجماع ،مثاله حرمان القاتل من الميراثا معارضةا له
بنقيض قصده لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص«هل). (1
شروأط القاعدة:
أما شروط إعمال قاعدةا المصالح المرسلة ومن ذلك مواضع
تطبيقها ،فقال إنها ثلثة أمور» :أحدها الملءمة لمقاصد الشرع
بحيث ل تنافي أصلا من أصوله ول دليلا من دلئله ،والثاني أن
عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات
المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول ،فل مدخل لها
في التعبدات ول ما جرى مجراها من المور الشرعية«هل). (2
»والثالث أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري
ورفع حرج لزمام في الدين وأيضاا مرجعها إلى حفظ أمرم ضروري
من باب »ما ل يتم الواجبِّ إل به«هل فهي إذن من الوسائل ل من
المقاصد ،ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف ل إلى
التشديد«هل) . (3ففي الضروريات ،الحكم على الفعل بناء على
المصلحة المرسلة يعني أن الفعل وسيلة إلى مسببِّ معلوما الوجوب،
ومن شرطه أن ل يكون الفعل واجباا أصلا ،إذ لو كان كذلك لما
كان ثمة مدخل للمصالح المرسلة ،يقول» :وأما كونها في
555
الضروري من قبيل الوسائل ،وما ل يتم الواجبِّ إل به إن نص على
اشتراطه فهو شرط شرعي فل مدخل له في هذا الباب لن نص
الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر ،وإن لم ينص على اشتراطه فهو
إما عقلي أو عادي فل يلزما أن يكون شرعياا كما أنه ل يلزما أن
يكون على كيفية معلومة فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير
كتبِّ مطرداا لصح ذلك ،وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح
لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة المامة الكبرى بغير
إماما على تقدير عدما النص بها لصح ذلك«هل) . (1ثم قال» :إذا ثبت
هذا لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي
ليست بوسائل«هل ). (2
أما تطبيقها في الحاجيات فقال» :وأما كونها في الحاجي من
باب التخفيف فظاهر أيضاا وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج،
فليس فيه ما يدل على تشديد ول زيادةا تكليف«هل ). (3
وبناءا على ذلك فإن قاعدةا المصالح المرسلة ليست مدعاةا
للقول بأن في الشريعة منطقة فراغِّ أو وقائع سكت عنها الشرع ولم
يبين حكمها ويجري الحكم عليها بناء على المصالح ،فمثل هذا
القول مردود عند الشاطبي لن المصالح أنفسها ل تعرفَّ إل
بالشرع ،هذا من جهة .ومن جهة أخرى فليس هناك شيء سكت عنه
الشرع بمعنى لم يبين حكمه ،وإنما هناك أشياء لم يدل عليها الدليل
عيناا ،وإنما دل عليها بعمومات وأقيسة ،فهي تندرج تحت قواعد
عامة أو كلية ،وليس هناك سكوت من الشرع بمعنى عدما البيان،
وقد تبين سابقاا أن الشريعة فيها بيان كل شيء ،قال الشاطبي» :إن
سكوت الشارع عن الحكم على ضربين :أحدهما أن يسكت عنه لنه ل
داعية له تقتضيه ول موجبِّ لجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول
556
ال فإنها لم تكن موجودةا ثم سكت عنها مع وجودها ،وإنما حدثت
بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما
تقرر في كلياتها ،وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم
كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك
مما لم يجر له ذكر في زمن رسول ال ، ولم تكن من نوازل زمانه
ول عرض للعمل بها موجبِّ يقتضيها ،فهذا القسم جارية فروعه على
أصوله المقررةا شرعاا بل إشكال«هل ) . (1فهذا السكوت ليس سكوتاا
بمعنى عدما البيان وإنما هو مثل السكوت عن بيان حكم الحاسوب أو
استعمال أسلحة الدمار الشامل أو السيارةا أو الستنساخ ،فهذه بيانها
ليس كبيان حكم الميتة أو الجهاد أو النكاح أو الزنا ،فهي لم تكن
في زمن النبوةا ،ولكن بيانها موجود في الشريعة ،بما جاءت به من
نصوص عامة وأوصافَّ وعلل ،هذا هو معنى السكوت المذكور هنا،
أما القسم الثاني من المسكوت عنه فقال فيه» :والثاني أن يسكت
عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة
زائد على ما كان في ذلك الزمان ،فهذا الضرب السكوت فيه
كالنص على أن قصد الشارع أن ل يزاد فيه ول ينقص لنه لما كان
هذا المعنى الموجبِّ لشرع الحكم العملي موجوداا ثم لم يشرع
الحكم دللة عليه كان ذلك صريحاا في أن الزائد على ما كان
هنالك بدعـة زائدةا ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده
)(2
الوقوفَّ عند ما حيديي هنالك ل الزيادةا عليه ول النقصان منه«هل .
ولذلك فالشاطبي يرد بشكل كامل القول بأن المصالح المرسلة
هي استدلل بالمصلحة على حكم الفعل .وكذلك يرد ما يتوقع أن
يقال من أن المصالح المرسلة هي تحكيم للمصالح في المواضع التي
سكت الشارع عن بيانها ،فيورد القول المردود عنده وهو:
»المسكوت من الشارع ل يقتضي مخالفةا ول ييفنهقمي للشارع قصداا
557
معيناا دون ضده وخلفه ،فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في
وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح
المرسلة وما وجدنا فيه مفسدةا تركناه إعمالا للمصالح المرسلة،
وما لم نجد فيه هذا ول هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح
المرسلة أيضاا«هل ) . (1ورد الشاطبي على ذلك هو» :وتقرير الجواب
ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد
المعنى المقتضي للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن ل
زائد على ما كان وهو غاية في هذا المعنى«هل) . (2وقال» :إن وجود
المعنى المقتضي مع عدما التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدما
الزيادةا على ما كان موجوداا قبل ،فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف
لقصد الشارع فبطل«هل ) . (3ودللة هذا الكلما وما سبقه أنه إذا كان
ثمة زيادةا أو تغيير فستكون بحسبِّ أدلة الشرع وقواعده.
وخلصة الكلما في قاعدةا المصالح المرسلة عند الشاطبي أنها
تطلق على الفقه الذي ينبني على قاعدةا »ما ل يتم الواجبِّ إل به
فهو واجبِّ«هل في الضروريات ،وعلى قاعدةا رفع الحرج في الحاجيات،
وهي ل تعمل في العبادات.
558
المبحث الثاني
السـتحسـان
الستحسان وأمإواقف الئامة مإنه:
الستحسان عند الشاطبي قاعدةا أصولية كالمصالح المرسلة،
وهو منهج في إعمال الدلة وفي الستنباط ،تعددت تعريفاته
واختلفت .وقبل التعرض له بالتفصيل تجدر الشارةا إلى أن حقيقته
ل تخرج عن العمل بأقوى الدليلين عند تعارضهما .قال به الماما
أبو حنيفة -رحمه ال -وأتباعه .واشتهر رده عند الشافعي
والشافعية وتشديد النكير عليه باعتباره استحساناا بمحض الرأي،
أو ترك الدليل إلى الرأي .أما في حقيقته كما هو عند الحنافَّ
فهم يقبلونه ويعدونه عملا بالدليل .وقد نسبِّ العمل به إلى
المامين مالك وأحمد رحمهما ال.
أما الماما مالك فقد نسـبِّ إليه الشـاطبي في أكثر من
موضع من الموافقـات أن الستحسان تسعة أعشار العلم ) . (1وقال
الزركشي» :وعن ابن القاسم :قال مالك :تسعة أعشـار العلم
الستحسان .قال أصبغ بن الفرج :الستحسان في العلم يكون أبلغ
من القياس«هل) . (2ومما نقله الزركشي» :الستحسان الذي ذهبِّ إليه
مالك هو القول بأقـوى الدليليـن«هل) . (3وقال» :قال البياري:
الذي يظهر من مذهبِّ مالك القول بالسـتحسـان ل على ما سبق بل
حاصله اسـتعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي فهو يقدما
الستدلل المرسل على القياس«هل). (4
أما الماما أحمد فقد بين موقفه الدكتور عبد ال بن عبد
المحسـن التركي في كتابه )أصول مذهبِّ الماما أحمد( حيث أورد
الشاطبي ،الموافقات. 4/118 ، )( 1
559
أقوال مشاهير الحنابلة وأئمتهم في الصول ثم استخلص أن
جمهورهم قد اختار من تعريفات الستحسان أنه ترك القياس لدليل
أقوى منه ،ومنهم من يقول إنه أقوى القياسين ،وأنهم جميعاا بناءا
على هذا التعريف يقولون بالستحسان ويعتبرونه ،وينصون على
أنه مذهبِّ أحمد وإنه ليس دليلا مستقلا ،ولكنه من باب ترجيح
الدلة بعضها مع بعض ،أما إذا كان تشهياا فيردونه ويعدونه
تشريعاا بما لم يأذن به ال ). (1
أما الشافعي فقد أنكره كما تقدما ،قال» :ول يقول بما
استحسن فإن القول بما استحسن شيء يحدثه ل على مثال سابق «هل). (2
وقال » :إ نما الستحسان تلذذ «هل) . (3وتبعه في ذلك أصحابه .وقد
قيل إن الجمهور أنكره ،قال الزركشي » :و قد أنكره الجمهور حتى
قال الشافعي :من استحسن فقد شرع «هل) . (4ثم قال » :قال أصحابنا :
ومن شرع فقد كفر ،وسكت الشافعي عن المقدمة الثانية
لوضوحها«هل) . (5والصواب أنه لو كان تلذذاا وقولا في الدين بغير
دليل لما أنكره الجمهور وحسبِّ ،وإنما لكان أنكره أبو حنيفة
وأصحابه أيضاا ،وقد اشتد النكير على الستحسان حتى طال الماما
أبا حنيفة وأصحابه ،قال علء الدين البخاري» :واعلم أن بعض
القادحين في المسلمين طعن على أبي حنيفة وأصحابه -رحمهم ال -
في تركهم القياس بالستحسان ،وقال حجج الشرع الكتاب والسنة
والجماع والقياس ،والستحسان قسم خامس لم يعرفَّ أحد من حملة
الشرع سوى أبي حنيفة وأصحابه أنه من دلئل الشرع ولم يقم عليه
دليل بل هو قول بالتشهي ،فكان ترك القياس به تركاا للحجة
عبد ال بن عبد المحسن التركي ،أصول مــذهبِّ ال مــاما أح مــد ،ص: )( 1
، 570دراسة أصولية مقارنة ،ط 1416 ، 4هـ 1996 -ما ،مؤسسة الرسالة،
بيروت .
) ( الشافعي ،الرسالة ،ص ، 25 :فقرةا. 70 : 2
560
لتباع هوىا أو شهوةا نفس فكان باطلا .ثم قال :إن القياس الذي
تركوه بالستحسان إن كان حجةا شرعية فالحجة الشرعية حق،
وماذا بعد الحق إل الضلل«هل) . (1وقال» :ونقل عن الشافعي أيضاا
أنه بالغ في إنكار الستحسان وقال :من استحسن فقد شرع ،وكل
ذلك طعن من غير روية ،وقدحي من غير وقوفَّم على المراد فأبو
حنيفة -رحمه ال -أجل قدراا وأشد ورعاا من أن يقول في الدين
بالتشهي«هل ). (2
وقال الزركشي» :واعلم أنه إذا حرر المراد بالستحسان زال
التشنيع ،وأبو حنيفة بريء إلى ال من إثبات حكم بل حجة«هل). (3
وقال البزدوي تحت عنوان) :باب القياس والستحسان(:
»وكل منهما على وجهين .أما أحد نوعي القياس فما ضعف أثره
والنوع الثاني ما ظهر فساده واستترت صحته وأثره .وأحد نوعي
الستحسان ما قوي أثره وإن كان خفياا .والثاني ما ظهر أثره
وخفي فساده .وإنما الستحسـان عندنا أحد القياسين«هل ). (4
ومن هنا ندرك أن الستحسان الذي ذمه الشافعي وغيره هو
غير الستحسان الذي يقول به أبو حنيفة ،ول يظن بأبي حنيفة ـ
رحمه ال ـ ول بأي إماما معتبر أن يترك دليل الشرع إلى رأيه ،ول
أن يقول في الشرع بمجرد رأيه بغير دليل شرعي ،فما هو
الستحسان الذي يقصده الحنافَّ؟
مإا هو الستحسـان:
لقد تعددت تعريفات الستحسان عندهم وكلها ل تخرج عن أن
الستحسان هو عملية تخصيص ،وأنه يعمل به عند تعارض الدلة،
) ( علء الدين البخاري ،كشف السرار 4/4 ،وانظر :السرخسي ،أصول 1
561
ومما قيل في حقيقته إنه العمل بأقوى القياسين ،وإنه تخصيص
العلة ،وإنه تخصيص القياس بالسنة). (1
وقيل :إنه قطع المسألة عن نظائرها لدليل خاص يقتضي
العدول عن الحكم الول فيه إلى الثاني سواء كان قياساا أو نصاا،
قاله أبو الحسن الكرخي وقد قيل إنه أحسن ما قيل في تفسير
الستحسان). (2
وقيل :هو ترك القياس والخذ بما هو أرفق للناس). (3
والظاهر أن تعريف الكرخي هو أدق التعريفات إذ إنه شامل
لكل أمثلة الستحسان .ومما يؤكد هذا المر ،أنهم يقولون إن
الستحسان أحد القياسين أو أقوى القياسين ولكن عندما يأتون
بالمثلة نراهم يسمون تطبيق العاما على أفراده ،أو جريان العاما في
أفراده قياساا مع أنه ل يوجد قياس ول علة بالمعنى الشرعي ،وهو
ما سيتبين بالمثلة.
أقسام الستحسان:
وكذلك فهم يقسمون الستحسان أقساماا ،منها ما هو
استحسان بالسنة ومنها ما هو استحسان بالجماع ومنها ما هو
استحسان بالضرورةا ،وهذه المثلة ليس فيها قياسان ،بل ول يلزما
أن يكون فيها أي قياس أصلا .قال البزدوي» :وللستحسان أقساما
وهو ما ثبت بالثر مثل السلم والجارةا وبقاء الصوما مع فعل
الناسي ،ومنه ما ثبت بالجماع وهو الستصناع ،ومنه ما ثبت
بالضرورةا وهو تطهير الحياض والبار والواني«هل) . (4وقال الشارح
) ( الجرجاني ،التعريفات ،ص ، 22 :تأليف السيد الشريف أبي الحسن علي 3
بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي 816هـ .تحقيق محمد باسل
عيون السود .ط 1421 . 1هـ 2000 -ما ،دار الكتبِّ العلمية ،بيروت .
) ( البزدوي ،أصول البزدوي. 7 - 4/6 ، 4
562
في كشف السرار عن الستحسان بالثر» :فإن القياس يأبى جواز
السلم لن المعقود عليه الذي هو محل العقد معدوما حقيقةا عند
العقد ،والعقد ل ينعقد في غير محله إل أنا تركناه بالثر الموجبِّ
للترخص وهو قول الراوي» :وأرخإص في السلم«) . (1وقوله
عليه السلما» :مإن أسلم مإنكم فليسلم في كيل
مإعلوم«) . (3)«. (2وقوله في النص» :فإن القياس يأبى السلم«هل ليس
المقصود به القياس الشرعي ،وإنما المقصود بذلك عموما النص:
»ل تبع مإا ليس عندك«) ، (4فهذا يتعارض مع بيع السلم ،وهو هنا
يسمي جريان النص في أفراده قياساا ،حيث أن كل فرد يثبت له ما
يثبت لغيره ،وهو الحكم ،وهذا بسببِّ عموما النص في أفراده ،فكل
فرد يأخذ حكم الفرد الخر نفسه ،وكأن جريان الحكم في كل
الفراد قياس .بينما المسألة في الحقيقة هي نص عاما ينطبق على
أفراده وليست قياساا .والتخصيص ببيع السلم يعني أن النص لم
يجر في بيع السلم وهو أحد أفراد البيع ،فكان تخصيصاا لنص عاما
وليس تخصيصاا لقياس ،وهو قطع لبيع السلم عن نظائره وإعطاؤه
حكماا آخر غير حكم نظائره ،ولذلك يقال إن تعريف أبي الحسن
الكرخي هو أدق التعاريف ،والمر نفسه ينطبق على الجارةا وبقاء
الصوما ،فعقد الجارةا عقد على منفعة غير موجودةا وقت العقد ول
تستوفى إل آجلا ،فهو يرى أن القياس يقتضي عدما جواز عقد
الجارةا .والمقصود بذلك أن الجارةا نوع من البيع ،والجريان في
ذلك على أحكاما البيع يتناقض مع عقد الجارةا .هذا هو الذي
) ( أنظر :الحديث التالي ،هامش رقم ) . ( 3 1
أخرجه البخاري في كتاب السلم ،بــاب ال ســلم فــي كيــل معلــوما ) )( 2
وابن ماجه في التجارات باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح مــا لــم
يضمن ) ، ( 2178والماما أحمد في المسند ) . ( 4772
563
يسميه قياساا ،وبما أن النصوص أباحت الجارةا فتقدما على القياس،
وهذا في حقيقته تخصيص ،والتخصيص في واقعه دائماا يتضمن
تعارضاا بين العاما والخاص ،وههنا يوجد تعارض بين عموما النص
الذي سماه قياساا ،وبين النص المخصص الذي هو بدوره يمكن
تسمية جريانه في أفراده قياساا ،لذلك فهو يسمى عملية
التخصيص هذه ،التي فيها تقديم للخاص على العاما ،عملا بأقوى
القياسين ويسميها استحساناا ،وقد سماها بعضهم عملا بأقوى
الدليلين ،ولذلك قيل -أيضاا -إن أقوى القوال هو قول الكرخي:
هو قطع المسألة عن نظائرها إلخ.
ويظهر هذا بشكل أقوى في تمثيله في بقاء الصوما مع فعل
الناسي ،قال في كشف السرار» :وكذا الكل ناسياا يوجبِّ فساد
الصوما في القياس لن الشيء ل يبقى مع وجود ما ينافيه كالطهارةا
مع الحدثا والعتكافَّ مع الخروج من غير حاجة ،إل أنه متروك
بالثر وهو قوله عليه السلما» :تم على صومإك فإنما أطعمك
الله وأسقاك«) ، (1وإليه إشعار أبي حنيفة -رحمه ال : -لول قول
الناس لقلت :يقضي .يعني به رواية الثر«هل ) . (2وهنا أيضاا ل يوجد
في الحقيقة قياس يوجبِّ فساد الصوما ،مما يعني أنه ل يقصد
بالقياس القياس الشرعي أي في المصطلح الصولي ،وإنما يقصد به
جريان الحكم في كل أفراده ،والحكم هو أن الكل يفسد الصياما،
وأكل الناسي أكل ،فينبغي أن يفسد به الصوما ،فالمقصود بالقياس
عموما النص ،ثم إنه خصص عموما النص بالثر ،فلم يحكم على هذا
الكل حكمه على نظائره من الكل لنه أكل ناسياا والثر أخرج
الناسي ،فكان الستحسان تخصيصاا وقطعاا للمسألة عن نظائرها.
وأما الستحسان بالجماع فمثل له بالستصناع ،والمقصود
بذلك أن القياس الذي يقصده يقتضي عدما جواز الستصناع ،ولكن
) ( أخرجه البخاري ) ( 1797بلفظ» :فليتم صومإه فإنما أطعمه 1
564
الجماع دل على جوازه فكان هذا تخصيصاا بالجماع ،وهنا أيضاا
يقال إنه ل يوجد قياس أقوى من قياس وإنما هناك إجماع خصص
الحكم ،قال في كشف السرار» :ومن الستحسان ما ثبت بالجماع
مثل الستصناع يعني فيما فيه للناس تعامل مثل أن يأمر إنساناا
ليخرز له خفاا مثلا بكذا ويبين صفته ومقداره ول يذكر له أجلا
ويسلم إليه الدراهم أو ل يسلم فإنه يجوز والقياس يقتضي عدما
جوازه لنه بيع معدوما للحال وهو معدوما وصفاا في الذمة ول
يجوز بيع شيء إل بعد تعينه حقيقةا أي ثبوته في الذمة كالسلم
فأما مع العدما من كل وجه فل يتصور عقد لكنهم استحسنوا تركه
بالجماع الثابت بتعامل المة من غير نكير«هل) . (1فهذا أيضاا
تخصيص ،وهو ليس تخصيصاا لقياس وإنما لعموما .والذي يتأكد
من هذا أن الستحسان تخصيص ،وبما أن التخصيص ليس إل
تعارضاا بين عموما وخصوص ،فالعمل يكون بأقوى المتعارضين،
لذلك يكون الستحسان العمل بأقوى الدليلين وهو الخاص ،وبما
أنه عمل بالخاص وترك للعاما فهو قطع للمسألة عن نظائرها،
والحكم عليها بالحكم الخاص ،ويكون تقديم الثر الخاص على العاما
هو الستحسان ،ومن هنا فقد يقال :ترك الدليل ،والمقصود الدليل
العاما ،إلى الستحسان ،فيتوهم من ل يدقق أنه ترك الدليل الشرعي
إلى الرأي الشخصي ،وليس المر كذلك إطلقاا .قال» :فإن قيل:
الجماع وقع معارضاا للنص وهو قوله عليه السلما» :ل تبع مإا
ليس عندك«) ، (2قلنا :قد صار النص في حق هذا الحكم مخصوصاا
بالجماع فبقي القياس النا في للجواز معارضاا للجماع فسقط
اعتباره بمعارضة الجماع«هل ). (3
وأما استحسان الضرورةا فقال فيه» :ومنه ما ثبت بالضرورةا
565
وهو تطهير الحياض والبار والواني ،فإن القياس نافى طهارةا هذه
الشياء بعد تنجسها لنه ل يمكن صبِّ الماء على الحوض أو البئر
ليتطهر ،وكذا الماء الداخل في الحوض أو الذي ينبع من البئر
يتنجس بملقاةا النجس والدلو يتنجس أيضاا بملقاةا الماء فتعود
وهي نجسة وكذا الناء إذا لم يكن في أسفله ثقبِّ يخرج الماء منه
إذا أيجنرقيي من أعله لن الماء النجس يجتمع في أسفله فل يحكم
بطهارته إل أنهم استحسنوا ترك العمل بموجبِّ القياس للضرورةا
المحوجة إلى ذلك لعامة الناس .وللضرورةا أثر في سقوط
الخطاب«هل). (1
وهنا أيضاا ليس في هذا النظر أي قياس بالمعنى الشرعي،
وإنما هو بحث في الواقع أو المناط وهو أن الماء تنجس ولن يطهر
ولكن هذا الحكم بنجاسة الحياض والواني والبار عسير على الناس
فيحكم بالطهارةا للضرورةا ،فتم تخصيص الحكم بنجاستها
بالضرورةا ،والضرورةا لها حكمها وأثرها شرعاا .فهذا نوع من
الستحسان ،وظاهر فيه أنه تخصيص .وظاهر فيه أيضاا أنه ليس
تخصيصاا لقياس ول عملا بأقوى القياسين .وهم وإن أطلقوا على
المتروك اسم القياس وعلى المعمول به اسم الستحسان فهي تسمية
أطلقوها وهم يعلمون أنه ليس ثمة قياس أو علة ،ولكن ربما كان
ثمة مشابهة بين جريان الحكم في مختلف أفراده بالدليل العاما،
وبين تعدية الحكم إلى مواضع مختلفة بواسطة العلة ،وكذلك فإن
العلة إنما أهميتها بتأثيرها في الحكم ،فإذا ظهر أثر الشيء شابه
العلة في ذلك .قال البزدوي» :وإنما غرضنا هنا تقسيم وجوه
العلل في حق الحكاما ،ولما صارت العلة عندنا علة بأثرها سمينا
الذي ضعف أثرها قياساا وسمينا الذي قوي أثرها استحساناا أي
قياساا مستحسناا وقدمنا الثاني وإن كان خفياا على الول وإن كان
566
جلياا لن العبرةا لقوةا الثر دون الظهور والجلء«هل). (1
وإذا كان هذا هو الستحسان عند أبي حنيفة ـ رحمه ال ـ
فليس ثمة خلفَّ بينه وبين المشنعين على الستحسان .ولكن
السؤال هو :لماذا هذه التسمية ،فهل هناك علقة بين هذه اللفظة
وبين ترك العاما إلى الخاص أو الخذ بأقوى الدليلين؟ وقد أورد
الزركشي أقوالا تشير إلى هذا التساؤل منها» :على أن الخلفَّ
بيننا وبينهم لفظي ،فإن تفسير الستحسان بما يشنع عليهم ل
يقولون به ،والذي يقولون به إنه العدول في الحكم من دليل إلى
دليل هو أقوى منه .فهذا مما لم ينكره .لكن هذا السم ل نعرفه
اسماا لما يقال به بمثل هذا الدليل«هل). (2
وما أراه في هـذا الشأن هو أن هذه التسـمـيـة ربمـا كـانـت
ترجع إلى خصوصية في المذهبِّ ،وذلك أن المنقول عن أبي حنيفة
وجمهور المذهبِّ أنهم ل يرون تخصيص العاما بالخاص إل إذا كان
الخاص متأخراا عن العاما ،فإذا كان العاما هو المتأخر فإنه ناسخ
للخاص ،إل انه قد يجهل أيهما المتأخر ،أو قد يغلبِّ على الظن أن
العاما هو المتأخر ولكن الخاص تحتف به قرائن تجعله أقوى أثراا
وتوجبِّ إعماله عند النظر والجتهاد وذلك كأن ينقل عن الصحابة
العمل به ،ففي هذه الحالة فإن أصول المذهبِّ تقضي بالعمل بالعاما
وإهمال الخاص ،ولكن ما اقترن بالخاص من قرائن تيقيويقيه ،ويؤدي
الجتهاد إلى إعماله وتخصيص العاما به ،ومن هنا -وال أعلم -
تظهر تعابير مثل» :ما قوي أثره وإن كان خفياا«هل ومثل» :ما
ظهر أثره وخفي فساده«هل وربما كان هذا مبرراا وجيهاا لستعمال
لفظ الستحسان.
أما أن ما ذكر أعله هو من أصول المذهبِّ في العاما والخاص
فقد قال البزدوي » :إن أبا حنيفة -رحمه ال -قال :إن الخاص ل
567
يقضي على العاما بل يجوز أن ينسخ الخاص به«هل) ، (1وقـال علء
الديـن البخـاري» :والجـواب لبـي حنيـفـة -رحمه ال : -إن
العاما في إيجـاب الحكم مثل الخاص ،ثم إذا وردا في حادثـةم
ويعرفَّ تاريخهما كان الثاني ناسـخاا إن كان هو العاما ومخصصاا
إن كان هو الخاص«هل). (2
وإذا كان الستحسان ليس إل عملا بالشرع ،وعملا بأقوى
الدليلين عند التعارض وهو المخصص ،فل مجال للتشنيع على
الستحسان أو على من يقول به .ولكن ربما يقال إن المثلة التي
يؤتى بها على الستحسان فيها ما يظهر فيه أنه عدول عن الدليل
إلى ما ل دليل عليه أو ترك القوى إلى الضعف .والجواب إن هذا
ليس راجعاا إلى الستحسان أو معناه ،وإنما هو راجع إلى الختلفَّ
الفقهي في تفاصيل الدلة ،فقد يترك المجتهد ما هو دليل بنظر
غيره وليس دليلا بنظره ،وقد يقول بالرأي يظنه خصمه ل دليل له
عليه فيتوهم أنه تيشيهيم واتباع للهوى ،أضف إلى ذلك أنه ربما
يكون من أتباع المذهبِّ من ل يقف على حقيقة قول إمامه أو على
دليله ،فيبني على ذلك ما ل يصح ،وربما كان ذلك ذريعةا للتشنيع
على المذهبِّ.
الستحسان عند الشاطبي:
والستحسان عند الشاطبي ل يختلف عن هذا المذكور أعله
إل من جهة أنه قاعدةا كلية ،والقواعد الكلية قطعية ،فالستحسان
عنده هو عدول عن إجراء القاعدةا الكلية في أحد أو بعض جزئياتها،
وعلى ذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذه الجزئية المعدول بها عن
الكلي راجعاا إلى معنى كلي آخر ،وإل فل يصح هذا العدول .فهو
إخراج الجزئية من تبعيتها لكلي إلى كلي آخر ،وهذا من قبيل
التعارض بين الكليات أو تخصيص الكليات بعضها لبعض ،والكليات
568
قطعيات ل تتعارض ول يحصل فيها التخصيص كما سبق بيانه.
إذن ،هذا التعارض غير حقيقي وإنما هو من جهة دون جهة أو في
حال غير حال ،وكذلك التخصيص فإن معناه عنده البيان،
فتخصيص الكليات بعضها لبعض هو بيان حدود وأحوال عمل كل
واحدةا.
أما أن الستحسان قاعدةا كلية قطعية وأن المستحسين راجع
إلى معنى ثابتم قطعاا بالستقراء ،فالستدلل به هو من قبيل
الستدلل المرسل فيدل عليه قوله» :فإنه وإن لم يشهد للفرع
أصل معين فقد شهد له أصل كلي ،والصل الكلي إذا كان قطعياا قد
يساوي الصل المعين وقد يربى عليه بحسبِّ قوةا الصل المعين
وضعفه كما أنه قد يكون موجوداا في بعض المسائل حكم سائر
الصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح وكذلك أصل
الستحسان عند مالك ينبني على هذا الصل لن معناه يرجع إلى
تقديم الستدلل المرسل على القياس«هل) . (1وقال» :ومما ينبني
على هذا الصل )أي أصل مآلت الفعال( ) ، (2قاعدةا الستحسان ،وهو
في مذهبِّ مالك الخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي،
ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الستدلل المرسل على القياس فإن من
استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم
من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الشياء المفروضة
كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمراا إل أن ذلك المر يؤدي
إلى فوات مصلحة من جهة أخرى أو جلبِّ مفسدةا كذلك«هل ). (3
فتقديم المصلحة الجزئية على الدليل الكلي ليس استحساناا بمحض
الرأي أو التشهي وإنما بتقديم الستدلل المرسل ،فالمصلحة
الجزئية راجعة إلى معنى كلي ثابت شرعاا .فالذي ورد عن
الحنافَّ أنه تقديم للثر أو الجماع أو الضرورةا ،وهو هنا يقول
569
تقديم الستدلل المرسل وهو يشمل هذه الشياء وغيرها إذ يشمل
كل مصلحة أو معنى يرجع إلى معنى كلي بالستقراء ،والمعاني
الكلية في مآلت الفعال ل تخرج عن الضروريات والحاجيات
والتحسينات ومكملت كل منها ،ولكن في الستحسان كما في
المصالح المرسلة ل أثر للمصالح أو الجزئيات الراجعة إلى
التحسينيات أو مكملتها ،يقول» :وكثيراا ما يتفق هذا )أي
الستحسان أو تقديم الستدلل المرسل على القياس( ،في الصل
الضروري مع الحاجي ،والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس
مطلقاا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده
فيستثنى موضع الحرج ،وكذلك في الحاجي مع التكميلي ،أو
الضروري مع التكميلي وهو ظاهر«هل ) . (1وقد أورد الشاطبي أمثلةا
عديدةا على الستحسان في كتابيه الموافقات والعتصاما ) . (2قال:
»وله في الشرع أمثلة كثيرةا كالقرض مثلا فإنه ربا في الصل
لنه الدرهم بالدرهم إلى أجل لكنه أبيح لما فيه من المرفقة
والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على اصل المنع لكان في
ذلك المنع ضيق على المكلفين«هل ) . (3فالدرهم بالدرهم إلى أجل
حراما في البيع لنه من الصنافَّ الستة الربوية ،وعموما هذا الحكم
يقضي حرمة إقراض الدرهم ،وحرمة الربا راجعة إلى حفظ المال
من الضروريات ،وجواز القرض راجع إلى الحاجيات لن الحاجيات
دورانها على التوسعة والتيسير ،فهذه الجزئية وهي إقراض الدرهم
لم تتبع حرمة الربا في الضروري وتبعت الجواز في الحاجي ،فهذا
استحسان ،وإذا علمنا بأن ثبوت كونه من الضروريات أو من
الحاجيات يرجع إلى الستقراء لنصوص الشرع ومآلتها ،ندرك أن
عملية التخصيص أو التبيين هنا ليست راجعة إلى التشهي وإنما إلى
الشرع ،وهكذا في سائر المثلة .يقول مثلا» :ومثله الجمع بين
570
المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلةا والفطر في
السفر الطويل ،وصلةا الخوفَّ وسائر الترخصات التي على هذا
السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو
درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العاما يقتضي منع
ذلك لنا لو بقينا مع أصل الدليل العاما لدى إلى رفع ما اقتضاه
ذلك الدليل من المصلحة«هل ) . (1وقال» :ومثله الطلع على
العورات في التداوي ،والقراض ،والمساقاةا ،وإن كان الدليل العاما
يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرةا«هل ) . (2فهذه المثلة
كلها وإن قيل إنها استحسان فهي راجعة إلى أدلة الشرع ،ولذلك
فبعد أن أورد الشاطبي أمثلة على الستحسان ذكر تفسير ابن
العربي له فقال» :وقد قال ابن الـعــربــي في تــفــســـيــر
الســـتـــحـــســـان بـأنــه إيـــثــــار تــــرك
مــقـــتـــضــى الــدلـــيـــل عـــن طــــريـــق
الســــتــــثــــنــــاء والــتــــرخــــص
لمــــعــــارضـــــة مــــا يــــعــــــارض بـــــه في
بـعـض مـقــتـضـيـاته«هل). (3
وعلى ذلك فإنه يقال في الستحسان ما قيل في المصلحة
المرسلة وهو أنه ليس ذريعة للقول في دين ال بغير دليل من
الشرع .قال الشاطبي» :فإن الستحسان ل يكون إل بمستحسقن وهو
إما العقل أو الشرع ،أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغِّ
منهما لن الدلة قد اقتضت ذلك فل فائدةا لتسميته استحساناا ،ول
لوضع ترجمةم له زائدةام على الكتاب والسنة والجماع وما ينشأ عنها
من القياس والستدلل ،فلم يبقي إل العقل هو المستحسن ،فإن كان
بدليل فل فائدةا لهذه التسمية لرجوعه إلى الدلة ل إلى غيرها ،وإن
571
كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن«هل) . (1ومراده أنه ل
فائدةا في قول في الشرع بغير دليل ،وإن زعم أن ذلك استحسان،
ومن ظن أنه بذلك يستحسن فإنما هو يبتدع.
الفرق بين المصالح المرسلة وأالستحسان:
والفرق بين المصالح المرسلة والستحسان هو أن المصالح
المـرســـلـة هـي عـــمــل بـقــاعـدةا مـا ل يـتـم الـواجـبِّ
إل بـه فـهـو واجـبِّ لتحصيل شيء في الضروريات ،وبقاعدةا رفع
الحرج في الحاجيات ،أما الستحسان فهو تخصيص الضروري
بالحاجي أو بالتكميلي ،أو تخصيص الحاجي بالتكميلي ،وعلى ذلك
فقد يلتقيان في بعض الحالت .فتلتبس المسألة إن كانت من
المصالح المرسلة أو من الستحسان أو يصح التحاقها بالقاعدتين،
وذلك حيث يلتقي رفع الحرج في الحاجيات من المصالح المرسلة
مع تخصيص الحاجيات من الستحسان.
ومثال ذلك ما ذكره الشاطبي من بين أمثلته على الستحسان
وهو تضمين الجير المشترك .قال» :ترك الدليل لمصلحة كما
في تضمين الجير المشترك وإن لم يكن صانعاا فإن مذهبِّ مالك
في هذه المسألة على قولين ،كتضمين صاحبِّ الحماما الثياب«هل ). (2
ثم قال» :فإن قيل :فهذا من باب المصلحة المرسلة ل من باب
الستحسان ،قلنا :نعم ،إل أنهم صوروا الستحسان بصورةا الستثناء
من القواعد بخلفَّ المصالح المرسلة ،ومثل ذلك يتصور في مسألة
التضمين فإن الجراء مؤتمنون بالدليل ل بالبراءةا الصلية فصار
تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل ،فدخلت تحت معنى
الستحسان بذلك النظر«هل). (3
572
المبحث الثالث
سـد الذرائاع
تعريفـه:
سد الذرائع هو منع الجائز لئل يتوصل به إلى الممنوع ،قال
الشاطبي» :إنه راجع إلى طلبِّ ترك ما ثبت طلبِّ فعله لعارض
يعرض وهو أصل متفق عليه في الجملة«هل) ، (1ونقل الزركشي:
»وهي المسألة التي ظاهرها الباحة ويتوصل بها إلى فعل
المحظور ،مثل أن يبيع السلعة بمائةم إلى أجل ويشتريها بخمسين
نقداا ،فهذا قد توصل إلى خمسين بذكر السلعة«هل) . (2وقال القرافي:
»سد الذرائع ومعناه حسم مادةا وسائل الفساد دفعاا لها ،فمتى كان
الفعل السالم عن المفسدةا وسيلة للمفسدةا منع مالك من ذلك
الفعل في كثير من الصور«هل) . (3والذرائع هي الفعال التي هي
أسباب لغيرها لذلك فهي وسائل ،قال القرافي» :وربما عبر عن
الوسائل بالذرائع وهو اصطلح أصحابنا«هل ). (4
مإوقف المذاهب مإن سد الذرائاع:
قال القرافي» :وليس سد الذرائع من خواص مذهبِّ مالك
كما يتوهمه كثير من المالكية بل الذرائع ثلثة أقساما :قسم
أجمعت المة على سده ومنعه وحسمه كحفر البار في طرق
المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلكهم فيها وكذلك إلقاء السم في
أطعمتهم وسبِّ الصناما عند من يعلم من حاله أنه يسبِّ ال تعالى
عند سبها .وقسم أجمعت المة على عدما منعه وأنه ذريعة ل تسد
ووسيلة ل تحسم كالمنع من زراعة العنبِّ خشية الخمر فإنه لم
573
يقل به أحد .وكالمنع من المجاورةا في البيوت خشية الزنا .وقسم
اختلف فيه العلماء هل يسد أما ل كبيوع الجال عندنا كمن باع
سلعة بعشرةا دراهم إلى شهر اشتراها بخمسة قبل الشهر ،فمالك
يقول إنه أخرج من يده خمسة الن وأخذ عشرةا آخر الشهر فهذه
وسيلة لسلف خمسة بعشرةا إلى أجل توسلا بإظهار صورةا البيع
لذلك .والشافعي يقول يينظر إلى صورةا البيع ويحمل المر على
ظاهره فيجوز ذلك وهذه البيوع يقال إنها تصل إلى ألف مسألة
اختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي«هل ). (1
وكذلك يخالف المالكيةي فيها أبو حنيفة فإن قوله بجواز
الحيل يعني عدما أخذه بسد الذرائع .ومع أن القائلين بها هم
المالكية ويخالفهم غيرهم فيها فإن الشاطبي والقرافي وغيرهم
يقولون إنها معمول بها عند الجميع ،والمقصود :في بعض الحالت.
وهي الحالت الواقعة في القسم الول من أقساما الذرائع الثلثة التي
ذكرها القرافي.
وقاعدةا سد الذرائع مبنية عند الشاطبي على أصل مآلت
الفعال ،وهو أن الفعل إذا كان مآله إلى حراما أو ممنوع ،فالنظر قد
يقتضي تحريم الفعل ،والذرائع التي تيسد هي من الفعال التي
يقتضي النظر تحريمها بناءا على المآل .إل أن هذا الطلق ل يطرد
في الشريعة وجمهور الصوليين يقولون برده .ومع ذلك
فالشاطبي يقول إن الشافعي وأبا حنيفة قد أعمل هذه القاعدةا ،مع
أن المصرح به عندهما ردها .ويقول إن العلماء اتفقوا على إعمالها
في الجملة وهي مطيردةا عندهم .وإنما الخلفَّ هو في بعض
الوقائع .قال رداا على القرافي في أن العلماء نازعوا في اعتبار سد
الذرائع» :فهذه وجوه كثيرةا يستدلون بها وهي ل تفيد فإنها تدل
على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا مجمع عليه ،وإنما
النزاع في ذرائع خاصة وهي بيوع الجال ونحوها«هل ) . (2وقال» :أما
) ( القرافي ،الفروق . 2/32 ،الفرق . 58 1
574
الشافعي فالظن به أنه تم له الستقراء في الذرائع على العموما«هل ). (1
وقال» :وأما أبو حنيفة فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل لم يكن من
أصله في بيوع الجال إل الجواز ول يلزما من ذلك تركه لصل سد
الذرائع وهذا واضح«هل) ، (2وقال »وقد عويل العلماء على هذا المعنى
وجعلوه أصلا يطرد وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء
على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل«هل) . (3وبما أن
استقراء الحكاما الشرعية يمنع من إطلق القول بمنع الجائز لئل
يتوصل به إلى الممنوع ذهبِّ الشاطبي إلى أن الذرائع ثلثة أقساما
وهي القساما نفسها التي ذكرت قبل قليل عن القرافي .وهو أن من
الذرائع ما يسد باتفاق ومنها ما ل يسد باتفاق ومنها ما هو مختلف
فيه.
أدلة القاعدة:
يذهبِّ الشـاطبي إلى أن قاعدةا سد الذرائع قطعيــة بال ســتقراء
ومعمول بها .دلت عليها م عــاني الح كــاما ال مــأخوذةا مــن الن صــوص
كقـوله تعـالى [ :
)(4
. ] وقوله تعالى [ :
في الصحيح» :إن مإــن أكــبر الكبــائار . (5)] وقوله
شتم الرجأل وأالديه .قالوا :يا رســول اللــه وأهــل يشــتم
ب أبا الرجأــل فيســب أبــاه نعم ،يس ُ الرجأل وأالديه؟ قال:
ب أمإه فيسب أمإه« .وكان عليه الصلةا والســلما ي كــف
)(6
وأيس ب
عن قتل المنافقين لنه ذريعة إلى قول المنافقين :إن محمداا يقتــل
575
أصحابه ). (2) (1
والقاعـدةا مبنيــة أيضاا على ما يسـميه أصـل التعـاون ،ومن
أدلتـه قوله تعالى [ :
. (3)] فالفعل الجائز إذا كان
موصلا إلى حراما هو وسيلة إل يــه وي كــون معاو نــاا ع لــى المق صــد
الحراما ،فتأخذ الوسيلة حينئذ حكم المقصد ،وإذا كان مؤديــاا إلــى
مأمورم به فهو وسيلة إلى ا لــبر وم عــاون علــى المق صــد المطلــوب
شرعاا ،فيأخذ أيضاا حكم المقصد .وإذا لم يكن الف عــل ذري عــة إ لــى
شيء فهو المباح المطلق .قال» :المباح من حيث هو مباح متســاوي
الطرفين«هل) . (4ثم قال» :فإنه إذا كــان ذري عــة إ لــى مم نــوع صــار
ممنوعاا من جهة سد الذرائع ل من جهة كونه مباحاا«هل) . (5ثم قــال
إن المباح» :ثلثة أقساما :قسم يكون ذريعة إلى منهي عنــه فيكــون
من تلك الجهة مطلوب الترك .وقسم يكون ذريعة إلــى مــأمور بــه
كالمستعان به على أمر أ خــروي«هل) . ( 6ثــم قــال» :وق ســم ل ي كــون
ذريعة إلى شيء فهو المباح المطلق ،وعلى الجملة فإذا فيرض ذريعة
إلى غيره فحكمه حكم ذلك الغير«هل) . (7ول بد مــن التنــبيه إ لــى أن
الفعل الذي يتحدثا عنه هو الفعـل المبـاح أصـلا .و قــوله» :علـى
الجملة«هل أي أنه ليس على الطلق .إذ كــثيراا مــا ل يأ خــذ الف عــل
حكم المقصد .وعندما يكون المآل أو المقصد ممنوعاا ويأخذ الفعل
حكم المقصد من باب أصل التعاون يكون هذا أيضاا إع مــالا لقا عــدةا
576
سد الذرائع .قال» :تدخل قاعدةا الذرائع بناءا علــى أ صــل الت عــاون
على الطاعة أو المعصية ،فإن هذا الصل مت فــق عليــه فــي العتبــار
ومنه ما فيه خلفَّ كالذرائع في البيوع وأشباهها وإن كــان أصــل
الذرائع أيضاا متفقاا عليه ،ويدخل فيه أيضاا قاعدةا تعــارض الصــل
والغالبِّ«هل) . ( 1وسيأتي الكلما علــى ت عــارض ال صــل وال غــالبِّ ضــمن
الكلما في ضوابط قاعدةا سد الذرائع.
ضأوابط إعمال قاعدة سد الذرائاع:
إن موضع إعمال القاعدةا هو في المباح كما تبين .وهو في
المباح الذي يؤدي إلى حراما .إل أن هذا ليس في أي مباح ،ول في أي
كيفية من كيفيات التوصيل إلى الحراما ،ول في أي حراما .فل بد
من تحديد ضوابط وقيود إعمال هذه القاعدةا.
الضابط الوأل:
أن ل يكون المباح مباحاا للحاجة أو للضرورةا .فما كان
كذلك فإن معارضته بالمآل المحرما أو بما يعترضه من منكرات ل
تصح .لن الفرض أن المكلف مضطر إليه ،والضرورات مغتفرةا
أصلا في الشرع ،بل إن هذا المباح قد صار واجباا كتناول الميتة
في المخمصة ،أو محتاجي إليه بحيث إذا تركه لحقه حرج وقد دل
الشرع على رفع الحرج ،وتحريم الفعل لجل المآل يوقع الحرج
بالمكلف ،فدل هذا على أن الفعل المشروع للضرورةا أو للحاجة
ليس محلا لعمال قاعدةا سد الذرائع.
وهذا ل يقتصر على حالت الضطرار أو الحرج وإنما على ما
يخدما ضرورياا أو حاجياا ،كالنكاح الذي يستلزما قوت العيال وقد
يؤدي إلى تحصيل القوت بما حريما ال وكالمشي إلى المساجد وفي
الطرقات حيث يعترض الماشي سماع المنكرات ومشاهدةا العورات،
ومنع النكاح والمشي في السواق يوقع المكلف في حرج رفعه
الشارع ويؤدي إلى منع المباح من أصله .قال» :ما أصله الباحة
577
للضرورةا أو للحاجة إل أنه يتجاذبه العوارض المضادةا لصل
الباحة وقوعاا أو توقعاا هل يكريي على أصل الباحة بالنقض أو ل؟
هذا محل نظر وإشكال .والقول فيه إنه ل يخلو إما أن يضطر إلى
ذلك المباح أو ل ،وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج
أما ل ،فهذه أقساما ثلثة .أحدها أن يضطر إلى فعل ذلك المباح فل
بد من الرجوع إلى ذلك الصل وعدما اعتبار العارض«هل). (1
»والقسم الثاني أن ل يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج فالنظر
يقتضي الرجوع إلى أصل الباحة وترك اعتبار الطوارئ إذ
الممنوعات قد أبيحت رفعاا للحرج«هل) . (2أما القسم الثالث »وهو أن
ل يضطر إلى أصل المباح ول يلحقه بتركه حرج فهو محل اجتهاد
وفيه تدخل قاعدةا الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو
المعصية«هل). (3
إل أن الشاطبي يفصل في القسم الثاني وهو إذا كان ترك
المباح يوقع المكلف في الحرج ،وذلك أن الحرج في القداما على
الفعال أو تركها ليس بمرتبةم واحدةا ،والشرع لم يأت برفع كل
حرج فقد تكون مفسدةا الحرج الواقع بمنع المباح أقل من مفسدةا
ملبسة المآل الممنوع ،فيتساءل الشاطبي» :هل يوازي الحرج
)(4
اللحق بترك الصل الحرج اللحق بملبسة العوارض أما ل؟«هل .
والجواب -على منهجه -بأن هذا الذي أصله الباحة خادما
لصل ضروري أو حاجي أو تحسيني ،والمآل الممنوع ،رفعه أيضاا
خادما لصل ضروري أو حاجي أو تحسيني ،ووقوعه مضاد لوقوع
الصل المباح .فإن كان الفعل المباح -وهو سببِّ -والمآل الممنوع
راجعين أو خادمين للصل نفسه فهذا ليس محلا لعمال قاعدةا
الذرائع ،لن المنع يرجع إلى مكملت الصل وليس إلى الصل،
الشاطبي ،الموافقات . 1/124 ، )( 1
578
والمباح يرجع إلى الصل .فالولى عدما اعتبار الراجع إلى المكمل
وقد مر معنا في مقاصد الشريعة أن انهداما المكمل ل يهدما الصل
بينما انهداما الصل يهدما معه مكملته ،فهنا أيضاا يظل المباح مباحاا
ول يتأثر بالعوارض .أما إن كان المباح والمآل راجعين إلى أصلين
مختلفين فهذا مما قد يعتبر فيه المآل ولكنه ليس من باب سد
الذرائع وإنما هو من باب التعارض والترجيح.
يقول الشاطبي مجيباا على سؤاله المذكور أعله» :ل يخلو
أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الصل من باب المكمل له في
بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه ،فإن كان هذا الثاني فإما أن
يكون واقعاا أو متوقعاا ،فإن كان متوقعاا فل أثر له مع وجود
الحرج لن الحرج بالترك واقع وهو مفسدةا ،ومفسدةا العارض
متوقعة متوهمة فل تعارض الواقع البتة .وأما إن كان واقعاا فهو
محل الجتهاد في الحقيقة ،وقد تكون مفسدةا العوارض فيه أتم من
مفسدةا ترك المباح ،وقد يكون المر بالعكس والنظر في هذا بابه
التعارض والترجيح ،وإن كان الول فل يصح التعارض ول تساوي
المفسدتين بل مفسدةا فقد الصل أعظم ،والدليل على ذلك أمور:
أحدها أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوفَّ«هل) . (1ثم قال:
»وإذا كان فقد الصفة ل يعود بفقد الموصوفَّ على الطلق بخلفَّ
العكس كان جانبِّ الموصوفَّ أقوى في الوجود والعدما«هل). (2
»والثاني أن الصل مع مكملته كالكلي مع الجزئي وقد علم أن
الكلي إذا عارضه الجزئي فل أثر للجزئي ،فكذلك هنا ل أثر
لمفسدةا فقد المكمل في مقابل وجود مصلحة المكمييل«هل ). (3
إذن ،يتقرر لدينا الضابط الول لعمال القاعدةا وهو »أن ل
يضطر إلى أصل المباح ول يلحق بتركه حرج ،فهو محل اجتهاد
579
وفيه تدخل قاعدةا الذرائع«هل ). (1
أما قوله» :فهو محل اجتهاد«هل فهو إشارةا إلى أنه في هذه
الحالة هناك رأيان ،أحدهما يعتبر أصل الباحة ول يعتبر العارض
المعارض ،والثاني يعتبر العارض المعارض وينفي الباحة سداا
للذريعة.
يقول» :ولمن يقول باعتبار الصل من الباحة أن يحتج بأن
أصل الذن راجع إلى معنى ضروري ،إذ قد تقرر أن حقيقة الباحة
التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات وهو أصول المصالح فهي
في حكم الخادما لها إن لم تكن في الحقيقة إياها ،فاعتبار المعارض
في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة وإن لم يظهر في
التفصيل كونه ضرورياا وإذا كان كذلك صار جانبِّ المباح أرجح
من جانبِّ معارضه«هل). ( 2
أما الرأي الثاني فقال» :ولمرجح جانبِّ العارض أن يحتج بأن
مصـلحـة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدما
تحصـيلها وهو دليـل على أنها ل تبلغ مبـلغ الضروريات ،وهي
)(3
كذلك أبداا لنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيراا فيها«هل .
والذي يريد الشاطبي الشـارةا إليه في إيـراده للرأيين هو الشـارةا
إلى أن الذي لم يعمل قاعدةا سد الذرائع هنا ،ليس مرده إلى أنه ل
يقول بالقاعدةا وإنما إلى أن سد الذريعة كان مرجوحاا.
ولمزيد من التفصيل في هذا الضابط يمكن العودةا إلى ما جاء
به الشاطبي من تفصيلت بشأن حكم الباحة ،وهو أن المباح قد
يكون مباحاا بالجزء مندوباا بالكل أو مباحاا بالجزء واجباا بالكل
أو مباحاا بالجزء مكروهاا بالكل أو مباحاا بالجزء ممنوعاا بالكل.
فما كان مباحاا بالجزء مندوباا أو واجباا بالكل فهو المباح
580
للضرورةا أو للحاجة ،وهذا ل تجري فيه قاعدةا سد الذرائع ،وبقي
أن قاعدةا سد الذرائع إن كان لها إعمال فهي تعمل فيما هو مباح
بالجزء مكروه أو ممنوع بالكل.
الضابط الثاني:
أن يكون التوصل إلى الممنوع مقصوداا للمكلف بالفعل
المشروع ،فإذا كان كذلك يصير الفعل المشروع غير مشروع.
فإذا كان الفعل مباحاا في الصل فهذا يعني أن له مآلا
مطلوباا وهو مقصود الشارع بتشريع الفعل ،فإذا تلزما مع هذا
المقصود مقصود آخر ،فهذا المآل الخر إما أن يكون مأذوناا فيه
وإما أن يكون ممنوعاا ،فإن كان مأذوناا فيه فل إشكال ،وإن كان
ممنوعاا فهذا يعني توارد المر والنهي على متلزمين أي على مآلين
متلزمين ،وهذا هو الموضوع هنا.
يقول الشـاطبي إن أحـد المقصـوديـن تابع والخر متبوع
ويكون الحكم حكم المتبوع ،ويكون ملزمه تابعاا له في الحكم.
وذلك كالعقود على العيان ومنافعها ،فالعقد على ملكية رقبة
الرض تكون منافع رقبة الرض فيه تابعةا للرقبة .والعقد على
منافع الرض تكون الرقبة فيه تابعة للمنافع بوجه ما وليس تبعية
كلية .قال» :المنافع إذا كانت هي المقصودةا فالرقاب تابعة إذ هي
من الوسائل إلى المقصود ،فإن أراد أنها تابعة لها مطلقاا
فممنوع«هل) . (1ثم قال» :وإن أراد تبعية ما فمسلييم ول يلزما من
ذلك محظور ،فإن المور الكلية تتبع جزئياتها بوجه ما ول يلزما
من ذلك تبعيتها لها مطلقاا«هل). (2
هذا المثال هو لظهار مقصود الشاطبي باعتبار حكم المتبوع
وإنزاله على التابع .والمسألة المذكورةا هي على فرض جواز
العقد على الرقبة وجوازه على المنفعة ،بحيث إذا انعقد على
581
أحدهما كان الخر تابعاا للمعقود عليه ،أي أن التابع والمتبوع
المتلزمين جائزان .ومسألتنا هي فيما إذا كان أحد المتلزمين
جائزاا والخر ممنوعاا وفي هذه أيضاا يقول الشاطبي إن الحكم
يكون للمتبوع ويعطى التابع الحكم نفسه ،يقول» :المر والنهي إذا
تواردا على متلزمين فكان أحدهما مأموراا به والخر منهياا عنه
على فرض النفراد وكان أحدهما في حكم التبع للخر وجوداا
وعدماا فإن المعتبر من القتضاءين ما انصرفَّ إلى جهة المتبوع،
)(1
وأما ما انصرفَّ إلى جهة التابع فملغى وساقط العتبار شرعاا«هل .
فمثلا شراء العنبِّ قد يقصد به مباح كأكله وقد يقصد به ما
هو حراما كصناعة المسكر ،وشراء المة قد يقصد به التسري أو
الخدمة وقد يقصد به البغاء ،فأي المقصودين هو المعتبر وأيهما
المتبوع وأيهما التابع .ومقصود المكلف بالفعل ليس مما ييطيلع
عليه فهو نية تختلف من شخص لخر ،وذلك مما ل يعلمه المجتهد،
وإنما المكلف هو فقيه نفسه ويعلم حرمة فعله من مقصوده الحراما،
لذلك فالمجتهد في مثل هذه الحالت ينظر إلى ما كان مقصوداا
بالصالة عرفاا وعادةا ويكون هو المتبوع ،ويلغي اعتبار التابع
ويعطي الحكم بناء على المتبوع ،فشراء العنبِّ مثلا الصل فيه
عرفاا وعادةا أنه لغير الخمر ،وشراء السلح أنه ليس لقطع الطريق،
وشراء المة ليس للبغاء فيظل هذا الشراء مباحاا.
وشراء الخمر الصل فيــه عر فــاا و عــادةاا أنــه لل شــرب في ظــل
حراماا ولو كان المقصود تخليله ،وشراء شحم الميتة كذلك وإن
كان المقصود به طلء السفن أو النارةا .وعلى ذلك فالشــاطبي ل
يرى من معنى القاعدةا تحريم الجائز لمجرد أن المكلف قــد يق صــد
به التوصل إلى الحراما ،ولو كان مقصود المكلف ممنو عــاا شــرعاا.
يقول» :إن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق ب هــا مــن ج هــة الطلــبِّ،
فكذلك هنا الل هــم إل أن ي كــون للعا قــد ق صــد إ لــى الم حــرما علــى
582
الخصوص ،فإن هذا يحتمل وجهيـن :الول اعتب ار القصـد الص يل
وإلغاء التابع وإن كان مقصوداا ،والخر اعتبار الق صــد ال طــارئ إذا
صار بطريانه سابقاا أو كالسابق ،وما سواه كالتابع فيكون الحكــم
له .ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء ال مــة بق صــد إ ســلمها
للبغاء كسباا به ،وشراء الغلما للفجور به ،وشــراء العنــبِّ ليعصــر
خمراا ،والسلح لقطع الطريق وبعض الشياء للتــدليس ب هــا .و فــي
أصالة المنافع المحرمة شراء الكلبِّ للصيد والضرع والــزرع علــى
رأي من منع ذلك .وشراء السرقين لتدمين المزارع ،وشراء الخمر
للتخليل ،وشراء لحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به النــاس
وما أشبه ذلك .والمنضبط هــو الول وال شــواهد عليــه أ كــثر لن
اعتبار ما يقصد بالصالة والعادةا هو الذي جاء في الشريعة القصــد
إليه بالتحليل والتحريم ،فإن شراء المة للنتفاع بها فــي الت ســري
إن كانت من عيلقييق الرقيق أو الخدمة إن كانت من الوخش وشراء
الخمر للشرب والميتة والدما والخنزير للكل هو الغــالبِّ المعتــاد
عند العرب الــذين نــزل ال قــرآن علي هــم .ولــذلك ح ـــذفَّ متعلــق
التحريم والتحليـل في نحو، (1)] [ :
إلى قوله . (3)«. (2)] [ :وقوله أعله:
»والمنضبط هو الول«هل أي أنه لو ظهر على بعض المكلفين القص د
إلى الممنوع فإنه ل يحكم عليهم بذلك ،وإنما يحكم عليهم بما هــو
الصل أو القصد الصيل وهو الغالبِّ عرفاا وعادةا في المجتمع.
ثم قال» :فإن صار التابع غالباا في القصد وسابقاا في عرفَّ
بعض الزمنة حتى يعود ما كان بالصالة كالمعدوما المطرح
فحينئذ ينقلبِّ الحكم ،وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلق ولكن إن
فرض اتفاقه انقلبِّ الحكم ،والقاعدةا مع ذلك ثابتة كما وضعت في
الشرع ،وإن لم يتفق ولكن القصد إلى التابع كثير ،فالصل اعتبار
583
ما يقصد مثله عرفاا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتباراا
بالحتمالين ،وقاعدةا الذرائع أيضاا مبنية على سبق القصد إلى
الممنوع«هل). (1
وهذه النصوص تبين مراد الشاطبي بالمقصود المتبوع فهو
ليس مقصود المكلف على الخصوص وإنما هو المقصود عند العامة
من الفعل ،فإذا تغيرت العادةا في المجتمع وصار الصل فيمن يشتري
العنبِّ أنه يشتريه للخمر وفيمن يشتري السلح أنه يشتريه لقطع
الطريق فحينئذ يتغير الحكم تبعاا لتغير المقصود ويصبح التابع
متبوعاا .فالمقصود المعتبر هو المقصود الصيل والحكم يتبعه،
وقول الشاطبي» :وقاعدةا الذرائع أيضاا مبنية على سبق القصد إلى
المتبوع«هل المراد منه أن هذا النقلب في الحكم تشفع له قاعدةا سد
الذرائع ،وهذا هو معنى الضابط الثاني لعمال القاعدةا ،وهو ظهور
القصد إلى ذلك في المجتمع بحيث يصبح هو الصل وما عداه هو
الستثناء ،ومما يقوى اعتبار هذا الضابط عنده قوله» :فقاعدةا
الذرائع تقوى ههنا إذ قد ثبت القصد إلى الممنوع«هل). (2
الضابط الثالث:
والضابط الثالث لعمال قاعدةا سد الذرائع عند الشاطبي هو أن
يكون الفعل المأذون فيه شرعاا مؤدياا إلى المفسدةا كثيراا ل
نادراا .فإن كان أداؤه إلى المفسدةا نادراا فهذا ل يحرما ،أي ل يفتي
المجتهد بحرمته ،وإن كانت هذه المفسدةا مقصودةا لمكلف
مخصوص فهذا مما ل يطلع عليه المجتهد ول يحكم بناء عليه.
واشتراط أن تكون التأدية إلى المفسدةا كثيراا ل نادراا هو بناءا
على أن الحكم للغالبِّ ل للنادر ،مثلما كان اعتبار القصد بما هو
أصيل غالبِّ في المجتمع.
وإن كان توصيل الفعل إلى الحراما كثيرااي ،فقد يكون غالباا،
) ( الشاطبي ،الموافقات . 110 - 3/109 ، 1
584
وقد يكون كثيراا ل غالباا ول نادراا ،وهذا ملحق عنده بالغالبِّ،
ويمنع من باب سد الذرائع إذا توفر الضابطان الولن). (1
وقد ظهر هذا الشرط للشاطبي في أكثر من موضع في كتابه
أوضحها ما جاء في تفصيله لقاعدةا رفع الضرر .وفيما يلي بيان
كيفية إعمال قاعدةا رفع الضرر عند الشاطبي لما بينها وبين قاعدةا
سد الذرائع من تداخل.
قاعدة رفع الضرر:
ولما في هذه القاعدةا من تفريع واستقصاء ،فسييستعان بشكل
وبأرقاما للشارةا إلى مختلف حالت تطبيقها ولبيان مواضع سد
الذرائع فيها.
يقول الشاطبي في بحث المسألة الخامسة من مقاصد المكلف
في التكليف). (2
»جلبِّ المصلحة أو دفع المفسدةا إذا كان مأذوناا فيه على
ضربين:
أحدهما :أن ل يلزما عنه إضرار الغير. .1
والثاني :أن يلزما عنه ذلك ،وهذا الثاني ضربان:
أحدهما :أن يقصد الجالبِّ أو الدافع ذلك الضرار .2
كالمرخص في سلعته قصداا لطلبِّ معاشه وصيحقبيه قصدي
الضرار بالغير.
والثاني :أن ل يقصد إضراراا بأحد وهو قسمان:
أحدهما :أن يكون الضرار عاماا كتلقي السلع وبيع .3
الحاضر للبادي والمتناع عن بيع داره أو فدانه وقد اضطر
إليه الناس لمسجد جامع أو غيره.
والثاني :أن يكون خاصاا وهو نوعان:
) ( سيتبين هذا الضابط بشرح قاعدةا رفع الضرر . 1
585
أحدهما :أن يلحق الجالبِّ أو الدافع بمنعه من ذلك .4
ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمةا يعلم
أنها تقع بغيره ،أو يسبق إلى شراء طعاما أو ما يحتاج إليه أو
إلى صيد أو حطبِّ أو ماء أو غيره عالماا أنه إذا حازه
استضر غيره بعدمه ،ولو أخذ من يده استضر.
والثاني :أن ل يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلثة أنواع:
أحدها :ما يكون أداؤه إلى المفسدةا قطعياا ،أعني القطع .5
العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلما بحيث يقع
الداخل فيه بل بد وشبه ذلك.
والثاني :ما يكون أداؤه إلى المفسـدةا نادراا كحفر .6
البئر بوضع ل يؤدي غالباا إلى وقوع أحد فيه ،وأكل
الغذيــة التي غالبـهـا أن ل تضـر أحداا وما أشبه ذلك.
والثالث :ما يكون أداؤه إلى المفسدةا كثيراا ل نادراا وهو
على وجهين:
أحدهما :أن يكون غالباا كبيع السلح من أهل الحرب .7
والعنبِّ من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو
ذلك.
والثاني :أن يكون كثيراا ل غالباا كمسألة بيوع .8
الجال.
فهذه ثمانية أقساما«هل). (1
ثم يبين الشاطبي الحكم في كل من هذه القساما الثمانية
ويقرر أن القسمين الخيرين السابع والثامن هما محل إعمال قاعدةا
سد الذرائع ،وفيما يلي بيان رأيه في كل من هذه القساما بالستعانة
بالرقاما الموضوعة إزاء كل قسم وبالشكل المرسوما بعد ثلثا
صفحات:
1ـ القسـم الول :يقـول فيـه الشـاطبي» :فأما الول فباقم
) ( الشاطبي ،الموافقات . 242 - 2/241 ، 1
586
على أصـله مـن الذن ول إشكال فيه«هل). (1
2ـ القسم الثاني :يقول فيه» :وأما الثاني فل إشكال في منع
القصد إلى الضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أنه ل
ضرر ول ضرار في السلما ،ولكن يبقى النظر في هذا العمل الذي
اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير ،هل يمنع منه
فيصير غير مأذون فيه أما يبقى على حكمه الصلي من الذن ويكون
عليه إثم ما قصد؟ يرى الشاطبي أن هذا مما يتصور فيه الخلفَّ
ويحتمل الجتهاد فيه تفصيلا ،فإن كان منع المكلف من العمل ل
يمنعه من تحصيل مراده بعمل آخر فل إشكال في منعه لنه ل معنى
للصرار على العمل الول إل الضرار بغيره ،وإن لم يكن له محيص
عن العمل الول فحقه في الفعل مقدما على حق الغير في رفع
الضرر ،ولكن يبقى ممنوعاا من القصد«هل). (2
3ـ القسم الثالث :وهـو إن كان الضـرار عامـاا غير
مقصود ،ففي هذه الحالة يينظر ،فإن كان منعه من الفعل يؤدي إلى
الضرار به ضرراا ل ينجبـر فحقـه مقدما على الطلق ،ويبقى
الفعل مأذوناا به ،وإن كان ينجبر فاعتبار الضرر العاما أولى ويمنع
من الفعل .قال» :وقد زادوا في مسجد رسول ال من غيره مما
رضي أهله ومما ل .وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموما على
مصلحة الخصوص لكن بحيث ل يلحق الخصوص مضرةا«هل). (3
4ـ القسم الرابع :يقول فيه» :إن حق الجالبِّ أو الدافع
مقدما وإن استضر غيره بذلك لن جلبِّ المنفعة أو دفع المضرةا
مطلوب للشارع مقصود«هل) ، (4وقال» :وبذلك ظهر أن تقديم حق
المسبوق على السابق ليس بمقصود شرعاا إل مع إسقاط السابق
587
لحقه وذلك ل يلزمه«هل). (1
5ـ القسم الخامس :وهو أن يكون الفعل المأذون فيه شرعاا
مؤدياا إلى مفسدةا قطعاا وأن ل يكون ذلك مقصوداا ،فيقول فيه إن
الجالبِّ للمصلحة أو الدارئ للمفسدةا إن فعل ما فعل غير ملتفت إلى
المسببات وغير قاصدم للضرر وملتفتاا فقط إلى كون الفعل
مأذوناا به فهو جائز ل محظور فيه .أما إن كان عالماا بلزوما
مضرةا الغير مع عدما استضراره بتركه فهذا ممنوع من الفعل ،وإن
أقدما على الفعل فهو متعد يضمن ضمان المتعدي بالجملة.
والشاطبي ل يتصور مثل هذا الفعل إل في حالتين :الولى أن يكون
الجالبِّ أو الدافع قد قصر في النظر المأمور به ،والثاني :أن يكون
قاصداا لنفس الضرار ،وكلهما ممنوع شرعاا ). (2
6ـ القسم السادس :يقول» :وأما السادس وهو ما يكون أداؤه
إلى المفسدةا نادراا فهو على أصله من الذن لن المصلحة إذا كانت
غالبةا فل اعتبار بالندور في انخرامها«هل) . (3ثم قال» :فالعمل إذاا
باقم على أصل المشروعية«هل). (4
7ـ القسم السابع :وهو إذا كــان الف عــل أداؤه إلــى المف ســدةا
كثيراا غالباا ل نادراا ،فيقول» :وهو ما يكون أداؤه إلــى المف ســدةا
ظنياا فيحتمل الخلفَّ ،إما أن الصل الباحة والذن كما ت قــدما فــي
السادس ،وإما أن الضرر والمفسدةا تلحق ظناا«هل) . (5ويرى الشــاطبي
هنا إعمال الظن ورفع أصل الذن والباحة .يقول» :ولكــن اعتبــار
الظن هو الرجـح لمـور :أحـدها :أن الظن فــي أ بــواب العمل يــات
جــارم مجــرى العـلـــم فالظـاهـــر جريــانه هنــا .والثــاني :أن
588
المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله ت عــالى:
[
)(1
إلخ وذكر بعض أدلة قاعدةا سد الذرائع. « ] هل
ويذكر الشاطبي في هذا القسم ،أن القاعدةا الجارية هنا هي
قاعدةا سد الذرائع أكثر من قاعدةا رفع الضرر ،وذلك بناء على أن
المكلف ل يقصد الضرر وإنما يقصد حظوظه الجائزةا ،ولذلك فإن
قاعدةا سد الذرائع تعمل بناء على أن قصد الضرر وهو ممنوع صار
هو الصل ،وصار الغالبِّ على هذا العمل أنه تعاون على الثم
والعدوان أو حيلة ). (2
8ـ القسم الثامن :يقول» :وأما الثامن وهو ما يكون أداؤه
إلى المفسدةا كثيراا ل غالباا ول نادراا ،فهذا موضع نظر والتباس
والصل فيه الحمل على الصل من صحة الذن كمذهبِّ الشافعي
وغيره .ولن العلم والظن بوقوع المفسدةا منتفيان إذ ليس هنا إل
احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ول قرينة ترجح أحد الجانبين
على الخر ،واحتمال القصد للمفسدةا والضرار ل يقوما مقاما نفس
القصد ول يقتضيه«هل ) . (3وقال» :وأيضاا فإنه ل يصح أن يعد الجالبِّ
أو الدافع هنا مقصراا أو قاصداا كما في العلم والظن لنه ليس
حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدما القصد لواحد
منهما ،وإذا كان كذلك فالتسببِّ المأذون فيه قوي جداا«هل ) . (4وهذا
الذي قاله يفيد في بقاء العمل على أصله من الباحة ،إل أنه يذهبِّ
إلى إعمال قاعدةا سد الذرائع بناء على أن مالكاا -رضي ال عنه -
أعملها هنا ،ثم ذكر من المثلة ما يفيد تبرير أو جواز إعمال سد
الذرائع وليس وجوب ذلك .قال» :وإذا كان كذلك فالتسببِّ
المأذون فيه قوي جداا إل أن مالكاا اعتبره في سد الذرائع بناء على
سورةا النعاما. 108 ، )( 1
589
كثرةا القصد وقوعاا«هل) . (1ثم قال» :والشريعة مبنية على
الحتياط والخذ بالحزما والتحرز مما عسى أن يكون طريقاا إلى
مفسدةا فإذا كان هذا معلوماا على الجملة والتفصيل فليس العمل
عليه ببدع في الشريعة بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو
مكمل إما لضروري أو حاجي أو تحسيني«هل). (2
590
مإسائال أوأ تفريعات قاعدة رفع الضرر
جلبِّ المصلحة أو درء
المفسدةا
إذا كان مأذوناا فيه
591
وإذا تبينت قاعدةا سد الذرائع وضوابطها ،ومجال عملها وهو
المباحات ،فإنه يلتحق بالمباحات ما كان في مرتبة العفو ،ول تعمل
في المندوبات ،وليس كل تغير يلحق الحكاما هو من قبيل سد
الذرائع ،إل أنه يجدر بالذكر الشارةا إلى أعمال ألحقها الشاطبي
بسد الذرائع ،وهو لزوما ترك المندوب أو النافلة ولزوما فعل
المكروه في بعض الحالت وهذا في حق الفقيه المقتدى به ،وذلك
كي ل يفهم المقتدي من دواما فعل المندوب أو النافلة بغير انقطاع
أنه فرض ،وكذلك كي ل يفهم من دواما ترك المكروه أنه حراما،
وهذا سداا للذريعة ،وقد قرر في ذلك أصولاي .قال» :المندوب من
حقيقة استقراره مندوباا أن ل يسوى بينه وبين الواجبِّ«هل) . (1وقال:
»المباحات من حيث استقرارها مباحات أن ل يسوى بينها وبينت
المندوبات ول المكروهات«هل) . (2وقال» :المكروهات من حيث
استقرارها مكروهات أن ل يسوى بينها وبين المحرمات ول بينها
وبين المباحات«هل) . ( 3ول يقال هنا إن القاعدةا تم إعمالها في المندوب
أو المكروه ،وإنما انصبِّ عمل القاعدةا هنا على المداومة التي قد
تيوهقمي بغير قصد الشارع.
592
الفصـل العاشـر
فكـرة المقاصـد عند
الشـاطبي
عـرض وأمإناقشـة
وأيحتوي على تعريف مإوجأز بموضأوع هذا الفصل
وأثالثاة مإباحث:
593
الفصـل العاشـر
فكـرة المقاصـد عند الشـاطبي
عـرض وأمإناقشـة
مإوضأوع هذا الفصل:
بعد أن تبين معنى المقاصد عند الشاطبي وأقسامها وأنواعها
وكيفية التوصل إليها ،وكيفية فهم الشريعة واستنباط الحكاما
بناءا عليها ،وبعد أن تبين منهج الشاطبي في ذلك منهجاا متكاملا،
حاول أن يصهر فيه ما سبقه من مناهج أو قواعد وأصول على
اختلفها ،من خلل ما قرره من أصولم جديدةا للفهم ،بعد ذلك فقد
بقي النظر في هذه الفكرةا وفي هذه الصول ومناقشتها.
وهو وإن خالف في جديده كل سابقيه من أئمة الصول ،وأتى
بمنهج غير معهود ،فقد حاول أن يرجع الصول المختلفة إلى
أصوله مع أنه صرح أحياناا باختلفه معهم وأصر أنه خلفَّ في
المضمون وليس خلفَّ عبارةا.
ولقد ظهر الشاطبي خلل ذلك عالماا فقيهاا راسخاا ،متبحراا
في علوما الشريعة ،فقيهاا بالنفس البشرية وبأحوال الجماعات،
نبيهاا في لحظ الدللت ،غواصاا إلى ديرير المعاني ،خاضعاا للدلة
ملتزماا بها ،حريصاا على فهم المقاصد الكلية والتفصيلية ،محذراا
من التشدد كتحذيره من النحلل.
وبملحظة هذا كله ينشأ سؤال أثاره الدكتور عبد ال درياز
في مقدمته على شرحه لكتاب الموافقات هو» :إذا كانت منزلة
الكتاب كما ذكرت ،وفضله في الشريعة على ما وصفت فلماذا حجبِّ
عن النظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه في الذاعة بله
العكوفَّ على تقريره؟«هل) . (1وقد يذهبِّ السؤال أبعد من ذلك ،فلماذا
594
لم تظهر أفكار الشاطبي عند غيره من العلماء من تلميذه أو
غيرهم؟ لماذا لم يتابعه عليها أحد؟ هل ماتت أفكاره بعد ولدتها
مباشرةا؟ أما أن أفكاره من العمق ومنهجه من الصعوبة بحيث لم
يتوفر لفكاره من يتابعه عليها ولمنهجه من يطبقه؟
لقد أجاب الدكتور درياز على السـؤال بأن هذا يرجـع إلى
أمريـن :أحـدهـمـا أن مباحث الشاطبي مبتكرةا مستحدثة لم يسبق
إليها ،في حين كانت علوما الصول المعروفة ممهدةا ،وطريقها
معبدةا ،فاستغنى المشتغلون بعلوما الشريعة بالمعروفَّ المشروح
ولم يشعروا بنقص لديهم ولم تتطاول همتهم إلى تناول الكتاب
واجتهـاد الفكر فيـه .والمر الثاني هو صعوبة الكتاب فكأن تحت
كل كلمةم فيه معنىا يشير إليه). (1
ولكن المر -كما أراه -ل يعود إلى أي من السببين
المذكورين .فلقد ألف الشافعي -رحمه ال -الرسالة ،فكان بمثابة
الشرارةا التي أشعلت ثورةا في علم الصول ،ولو قديقر النجاح لفكرةا
الشاطبي ،فلربما كانت شرارةا ثورةام مثل تلك .فلن يخلو المر أن
يوجد من طلب العلم ومن العلماء كثرةا يهتمون به .ول بد أنه
كان للشاطبي تلميذ وطلب علم يجلونه ويأخذون عنه .فلو كان
لمنهجه حظ للنتشار لنتشر ،أما صعوبة الكتاب فلن يقف هذا
حائلا دون فهمه وشرحه والبناء عليه وتطويره ،فل بد أن يكون
السببِّ شيئاا آخر.
إن السببِّ يرجع إلى المنهج نفسه ،أي إلى أفكار الشاطبي،
فرغم أن ما في كتابه مرتفع القيمة ،عالي الجودةا ،رفيع المستوى
وأكثره جار على معهود علم الصول ،إل أن فيه ما هو جديد،
وجديده هذا هو من الصول ،بل أصول الصول التي تبنى عليها
القواعد والصول .وأول ذلك منهج الستقراء ،وعدما قبول القطع
في الشريعة بغير ذلك ،ورفض التخصيص في الشريعة بالمعنى
) ( الموافقات 1/11 ،بتحقيق الدكتور عبد ال دراز . 1
595
المعهود .وفيه الجديد في معنى الرجوع إلى قطعي ،فإذا كانت
أفكاره الجديدةا قليلة في عددها ،فهي أصول تهيمن وتحكم على
الكثير من الفروع ،وبالتالي فإن الصول الجديدةا القليلة مهمة
بحيث شكلت منهجاا مستقلا قائماا بذاته ومختلفاا عن سائر
المناهج المعروفة اختلفاا جذرياا.
وإدراك الشاطبي لذلك جعله يحاول إعادةا أصول المذاهبِّ
المختلفة إلى أصوله ،أي أن يكون منهجه أصلا للجميع ،ومن هنا
جاء اسم كتابه الموافقات وهو ما سيتبين في المبحث التالي.
لقد كان الستحداثا والعمق في أبحاثا الشاطبي ،إضافة إلى
الجدية والنضباط دافعاا للكثيرين في عصرنا للتنويه بالموافقات
وبصاحبِّ الموافقات ،وربما حاول البعض الخذ منه والستناد إليه.
إل أن الحاصل أن أحداا لم يبنق على منهجه أو يعتمده ،وعلى العكس
من ذلك فقد نيسبِّ إليه ما دأب على التحذير منه.
بل إنه قد وقع الذي كان يخشاه حيث قال» :ومن هنا ل يسمح
للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون
رييان من علم الشريعة ،أصولها وفروعها ،منقولها ومعقولها ،غير
مخلد إلى التقليد والتعصبِّ للمذهبِّ ،فإنه إن كان هكذا خيف عليه
أن ينقلبِّ عليه ما أودعي فيه فتنةا بالعرض ،وإن كان حكمةا
بالذات«هل ). (1
إن السببِّ في عدما انتشار المنهج وعدما تطوره يرجع -وال
أعلم -إلى المنهج نفسه وبالتحديد إلى جديد المنهج الذي قد يشعر
طالبِّ العلم بالتعطش إلى فهمه ،فإذا فهمه أعرض عنه .قال في
خاتمة كتابه» :وقد تم والحمد ل الغرض المقصود وحصل بفضل
ال إنجاز ذلك الموعود ،على أنه بقيت أشياء لم يسع إيرادها ،إذ لم
يسهل على كثير من السالكين مرادها ،وقل على كثرةا التعطش
إليها ورادها فخشيت أن ل يردوا موردها وأن ل ينظموا في سلك
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/53 ، 1
596
التحقيق شواردها«هل) . (1فإذا كان المر كما قال الشاطبي في هذا
النص» :قل على كثرةا التعطش إليها ورداها«هل فكأن هذه إشارةا إلى
أن المنهج ولد ميتاا .وهذا ما سيأتي بيانه من خلل مناقشته في هذا
الفصل .وقد يكون من المفيد قبل ذلك عرض فكرةا الشاطبي
باختصار وإبراز ما فيها من جديد بشكل مجموع في مبحث مستقل
وهو المبحث الول من هذا الفصل ،ثم مناقشة ذلك في المبحثين
التاليين ،وعلى ال التكال.
597
المبحث الوأل
عـرض مإوجأـز لفكـرة المقاصـد عند
الشـاطبي
مإعنى الموافقات:
يرجع اختيار اسم الموافقات إلى معنىا يقصده الشاطبي وهو
التوفيق بين المذاهبِّ من خلل بيان أنها وإن اختلفت في الفروع
فهي راجعة إلى أصول وقواعد معتبرةا عند الجميع .وسببِّ الخلفَّ
هو اختلفَّ الئمة في إرجاع المسائل إلى أصولها ،فهذا يرجح
إرجاعها إلى أصل وذاك يرجح إرجاعها إلى أصلم آخر .أما الصول
فكلها معتبرةا ومعتمدةا عند الئمة .ورغم ما في منهجه من جديد
ومثير ،فهو يقول إنه معتبر عند الئمة المعتبرين وإن لم يذكروا
ذلك أو ينبهوا عليه ،فل ينبغي لمن لم يطلع على ذلك أن يطرحه
بحجة أنه لم يسمع بمثله.
أما معنى التوفيق بين المذاهبِّ فقد أشار إلى ذلك بذكر
قصةم لفتة .قال » :و لجل ما أودع فيه من السرار التكليفية
المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية ،سميته بقـ )عنوان التعريف
بأسرار التكليف( ،ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريبِّ يقضي
العجبِّ منه الفطن الريبِّ ،وحاصله أني لقيت يوماا بعض الشيوخ
الذين أحللتهم مني محل الفادةا وجعلت مجالستهم العلمية محطاا
للرحل ومناخاا للوفادةا ،وقد شرعت في ترتيبِّ الكتاب وتصنيفه
ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه ،فقال لي رأيتك البارحة في
النوما وفي يدك كتاب ألفته ،فسألتك عنه فأخبرتني إنه )كتاب
الموافقات( قال :فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة،
فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة .فقلت
له لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيبِّ وأخذتم من
المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيبِّ ،فإني شرعت في تأليف هذه
598
المعاني ،عازماا على تأسيس تلك المباني ،فإنها الصول المعتبرةا
عند العلماء ،والقواعد المبنييي عليها عند القدماء ،فعجبِّ الشيخ من
غرابة هذا التفاق كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازةا وصحبة
هذه الرفاق«هل). (1
أما أن منهجه هذا ،رغم ما فيه من جديدم ،معتبر ومعتمد عند
العلماء ،فإضافة إلى قوله في النص أعله» :فإنها الصول المعتبرةا
عند العلماء ،والقواعد المبني عليها عند القدماء«هل يدل عليه قوله:
»فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض النكار ،وعمي عنك وجه
الختراع فيه والبتكار ،وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله ،ول ألف
في العلوما الشرعية الصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل
بشكله ،وحسبك من شر سماعه ،ومن كل بدعم في الشريعة ابتداعه،
فل تلتفت إلى الشكال دون اختبار ول ترماق بمظنة الفائدةا على غير
اعتبار ،فإنه بحمد ال أمري قررته اليات والخبار ،وشيد أركانه
أنظار النظار ،وإذا وضح السبيل لم يجبِّ النكار ووجبِّ قبول ما
حواه والعتبار بصحة ما أبداه والقرار ،حاشا ما يطرأ على البشر
من الخطأ والزلل«هل ) (2إلخ.
أما محاولته للتوفيق فتظهر في مواضع عديدةا ،منها ما يتعلق
بتعليل الحكاما بالحكم وبالمعاني المصلحية ،فقال بالتعليل بعد
إثبات كون الوصف المعلل به يرجع إلى معنى معتبر شرعاا،
واشترط لعتبار المعنى القطع به ،وبهذا فهو لم يهدر التعليل
بالحقكيم ،وكذلك لم يترك المر راجعاا إلى الرأي المحض،
فاقترب بذلك من الشافعية بقبوله التعليل بالحكمة ،واقترب من
الحنفية برفضه كون الحكمة مظنونة ،ولكنه في واقع المر لم
يتفق مع أييم منهما ،فكان بعيداا عن الشافعية باشتراطه القطع
بالمعنى ورفضه المعنى المخيل في بضعة أحكاما ،وظل بعيداا
599
كذلك عن الحنفية ،فهم ل يقولون بهذا النوع من القطع ،إذ بكثرةا
النظائر ل تحصل قوةاي في الوصف عندهم ). (1
ومن محاولته للتوفيق قوله في العموما والخصوص .فمعلوما
أن الحنفية ل يخصصون القطعي بالظني ،فل يخصصون الكتاب أو
السنة المتواترةا بخبر آحاد أو قياس ،وذلك مبني عندهم على أن
دللة العاما على أفراده قطعية فل يستثنى شيء من هذه الفراد
بالدليل الظني ،وهذا بخلفَّ جمهور الصوليين فهم يخصصون العاما
القطعي بالظني ،فالذي جاء به الشاطبي هنا هو نفي التخصيص من
أصله ،وحيثما قال به فهو بمعنى البيان) ، (2فإذا خص بعض الفراد
من العاما فهذا ليس إخراجاا لهم من عموما النص ،وإنما هو بيان أنهم
لم يكونوا داخلين فيه أصلا ،وهو هنا يقترب من الشافعية في أن
دللة العاما على جميع أفراده ظنية ،وقد كرر نصوص الشافعي بأن
العاما يطلق ويراد به الخصوص .وهي ظنية عنده أصلا من باب أنه
ينفي الدللة القطعية في النصوص ،فل يثبت عنده القطع بالمعنى
إل بالستقراء ،ويقترب من الحنافَّ بقوله إن المعنى إذا ثبت قطعياا
فهو ل يخصص .إذ هو بذلك يكون أصلا كلياا والكليات ل
تخصص ،وبذلك فل يخصص الكلي القطعي بجزئي أو بظني.
ومع اقترابه من الفريقين ،فهو مختلف معهما ،مختلف مع
الشافعية برد التخصيص أصلا ،وبعدما تخصيص الكليات بالجزئيات
أي القطعي بالظني ،ومختلف مع الحنافَّ برد التخصيص أصلا،
وهذا يعني عدما تخصيص الكلي بالكلي أي القطعي بالقطعي.
وحيثما قال بتخصيص الكليات بعضها لبعض فل يقصد الستثناء
وإنما البيان كما تقدما.
ويمكن ملحظة التقريبِّ والتوفيق في المثالين المذكورين،
ولكن واقع الحال أنه كان مختلفاا -في الحالتين -مع الفريقين،
) ( تقدما بيان وتفصيل هذا المر في الفصلين الثاني والثالث . 1
600
لذلك فإن قوله لن يقبل من أي منهما .وربما كان هذا من عوامل
عدما انتشار هذا المنهج وعدما تطوره ،وفي الحالتين فإن طريقة
القطع سواء بالحكمة أو بدللة العاما على أفراده ل تكون إل
بالستقراء وهو غير معهود عند أي من الفريقين.
القطع بالصول عند الشاطبي:
من أهم الصول عند الشاطبي هو أن الصول يجبِّ أن تكون
قطعية ،قال» :إن أصول الفقه في الدين قطعية ل ظنية والدليل
على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو
قطعي .بيان الول ظاهر بالستقراء المفيد للقطع ،وبيان الثاني من
أوجه :أحدها أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية ،وإما إلى
الستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضاا ول ثالث
لهذين إل المجموع منهما والمؤلف من القطعيات قطعي«هل). (1
واشتراط القطع بالصول معروفَّ متفق عليه بين الئمة ،إل
أن ثمة فرقاا كبيراا بين مراد الشاطبي ومرادهم ،فرقاا يجعل
لمنهجه اتجاهاا آخر غير اتجاههم ،فالقطع بالصول الذي قصده
الئمة هو ليس بالقواعد العامة أو الكلية وإنما هو بمصادر التشريع
أي بالدلة الجمالية وهي الربعة :الكتاب والسنة والجماع
والقياس ،فهذه أدلة إجمالية تؤخذ منها الدلة التفصيلية وتفهم
منها قواعد وأصول .فمثلا وجوب الخذ بالسنة ثبت ثبوتاا قطعياا
فهي مصدر للتشريع ،أما ما يأتي في السنة من روايات أو أخبار
آحاد فل يشترط له القطع بثبوته أي بنسبته إلى النبي ،وإنما يؤخذ
ذلك بغلبة الظن ،وكذلك معاني أو دللت النصوص سواء من
القرآن أو من السنة ،فل يشترط لدللة النص أن تكون قطعية
للعمل بها وإنما يشترط ترجيحها على غيرها.
أما ما قصده الشاطبي فهو يشتمل على ما قصدوه وزيادةا ،فكل
قاعدةا فقهية أو أصولية يجبِّ أن تكون قطعية عنده ،وكل معنى أو
601
أصل يعتمد في الشريعة يجبِّ أن يكون قطعياا ومعاني النصوص هي
مقاصد للشارع فيجبِّ أن تكون قطعية أو راجعة إلى معنى قطعي
تكون خادمة له ،أو أن تكون مما يتضمنه المعنى القطعي.
ولذلك فإن الضروريات الخمسة هي أصول قطعية من أصول
الفقه ،وكذلك قواعد رفع الضرر والحرج والمشقة وما شاكلها
هي قواعد قطعية في الحاجيات ،وكذلك أصل مآلت الفعال
وقواعد المصالح المرسلة والستحسان وسد الذرائع ،كل ذلك
قطعي ،في واقعه وفي شرطه ،وليس هذا ما قصده أئمة الصول في
اشتراطهم للقطع بأصول الفقه وإنما قصروا ذلك على ما يعد
أصلا بمعنى مصدر للتشريع ويشير الشاطبي إلى اختلفَّ قصده عن
غيره بذلك ،فمرةاا يوجه كلمه إلى أن مراده هذا هو المعتمد عند
المتقدمين من الصوليين ولكنهم تركوا التنبيه عليه ،ومرةاا
يصرح باختلفَّ قصده عن قصدهم ،قال» :إل أن المتقدمين من
الصوليين ربما تركوا هذا المعنى والتنبيه عليه ،فحصل إغفاله
من بعض المتأخرين فاستشكل الستدلل باليات على حدتها
وبالحاديث على انفرادها ،إذ لم يأخذها مأخذ الجتماع فكريي عليها
بالعتراض نصاا نصاا .واستضعف الستدلل بها على قواعد الصول
المراد منها القطع«هل) . (1وقال في موضع آخر» :كل دليل شرعي
إما أن يكون قطعياا أو ظنياا فإن كان قطعياا فل إشكال في
اعتباره«هل) . (2ثم قال» :وإن كان ظنياا فإما أن يرجع إلى أصل
قطعي أو ل ،فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاا ،وإن لم يرجع
وجبِّ التثبت فيه ولم يصح إطلق القول بقبوله«هل ) ، (3وقال» :واعلم
أن المقصود بالرجوع إلى الصل القطعي ليس بإقامة الدليل
القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو
بالقياس واجبِّ مثلا ،بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدما في
602
حديث» :ل ضأرر وأل ضأرار«) ، (1والمسائل المذكورةا معه ،وهو
معنى مخالف للمعنى الذي قصده الصوليون وال أعلم«هل). (2
وهذا المعنى مبثوثا في مواضع عديدةا من كتابه ،منها ما
ذكر أعله ،ومن أهمها المسألة التاسعة من مسائل النوع الول من
مقاصد الشارع حيث قال» :كون الشارع قاصداا للمحافظة على
القواعد الثلثا الضرورية والحاجية والتحسينية ل بد عليه من
دليل يستند إليه ،والمستند إليه في ذلك إما أن يكون دليلا قطعياا
أو ظنياا .وكونه ظنياا باطل مع أنه أصل من أصول الشريعة بل هو
أصل أصولها .وأصول الشريعة قطعية حسبما تبيين في موضعه،
فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية .ولو جاز إثباتها بالظن لكانت
الشريعة مظنونة أصلا وفرعاا وهذا باطل«هل). (3
خإصائاص الصول:
الصول عند الشاطبي هي قطعيات قصدها الشارع .وهي تثبــت
باستقراء الجزئيات ،والجزئيات هـي م عــان تحتملهـا النصـوص ،أو
حقكيم ومصالح يمكن أن ت كــون مق صــودةا لل شــارع بالح كــاما .فــإذا
استقرئت الجزئيات الكثيرةا وتقرر بناء على الستقراء معنى قطعي
فهذا المعنى أصل كلي .والجزئيات التي يكون معناها راجعــاا إلــى
هذا الصل ،أي متضمناا فيه أو خادماا له تكون فروعاا لل صــل .أمـا
قبل استفادةا القطع بالمعنى ،فإن الجز ئــي ي ظــل جزئ يــاا ول ي عــديي
فرعاا ول يصح اعتباره شرعاا .وعلى ذلك فال صــول هــي كل يــات
قطعية .قال» :من العلم ما هو من صيلنبِّ العلم ،ومنه مــا هــو مــن
ميليحي العلم ل من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ول من ملحه .فهذه
ثلثة أقساما :القسم الول هو الصل والمعتمد وا لــذي عل يــه مــدار
الطلبِّ وإليه تنتهي مقاصد الراسخين وذ لــك مــا كــان قطعيــاا أو
603
راجعاا إلى أصل قطعي .والشريعة المباركة المحمدية منزلة علــى
هذا الوجه .ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها«هل) . (1ثــم
قـال» :وهي الضروريات والحاجيات والتحسـينيات وما هو مكمــل
لها ومتمم لطرافها ،وهي أصول الشريعة وقد قاما البرهان القطعي
على اعتبارها وسائر الفروع مستندةا إليها ،فل إشكال في أنها علــمي
أصلي راسخ الساس ثابت الر كــان«هل ) . (2ثــم قــال» :إذ العلــم ب هــا
مستفاد من الستقراء العاما الناظم لشتات أفرادها حتى تصـيـر في
العقـل مجمـوعـة في كليات مطردةا عامـة ثابتـة ،غير زائلــة ول
متبدلة وحاكمة غير محكوما عليها وهذه خواص الكليات العقل يــات،
وأيضاا فإن الكليات مقتبسة من الوجود وهو أ مــر و ضــعي ل عق لــي
فا ســتوت مــع الكل يــات ال شــرعية ب هــذا العت بــار وارت فــع ال فــرق
)(3
بينهما«هل .وقال» :لن الحفظ المضمون في قــوله تعــالى [ :
، (4) ] إنما المراد به
حفظ أصوله الكلية المنصوصة ،وهو المراد بقوله تعالى [ :
ج
604
الجزئي ما لم يكن راجعاا إلى أصل ليكون فرعاا ،والصل له
خصائص ل بد من التنبه إليها وهي المذكورةا أعله» :كليات
مطردةا عامة ثابتة غير زائلة ول متبدلة وحاكمة غير محكوما
عليها«هل .وشرح مراده بهذه الخصائص فقال» :العموما والطراد
فلذلك جرت الحكاما الشرعية في أفعال المكلفين على الطلق،
وإن كانت آحادها الخاصة ل تتناهى فل عمل يفرض ول سكون
يدعى إل والشريعة حاكمة عليه إفراداا وتركيباا وهو معنى
كونها عامة ،وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما فهو
راجع إلى عموما«هل) . (1أي إذا وجد جزئي يصح اعتباره ويخصص هذا
الكلي فل بد أن يكون راجعاا إلى كلي آخر ،وتخصيص الكليات
بعضها لبعض هو من قبيل البيان ،وهو ما تؤكده الخاصية الثانية
للكليات .قال» :والثانية الثبوت من غير زوال ،فلذلك ل تجد فيها
بعد كمالها نسخاا ول تخصيصاا لعمومها ول تقييداا لطلقها ول
رفعاا لحكم من أحكامها«هل ) . (2وقال» :بل ما أثبت سبباا فهو سببِّ
أبداا ل يرتفع وما كان شرطاا فهو أبداا شرط وما كان واجباا فهو
واجبِّ أبداا ،أو مندوباا فمندوب وهكذا جميع الحكاما فل زوال لها
ول تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها
كذلك«هل ) . (3أما الخاصية الثالثة وهي كون الكليات حاكمة غير
محكوما عليها فمعناها أنه ليس في نصوص الشريعة ما يلزما صرفَّ
معناه إلى معنى ل تحتمله النصوص قال» :ل تجد في العمل أبداا ما
هو حاكم على الشريعة وإل انقلبِّ كونها حاكمة إلى كونها
محكوماا عليها«هل). (4
هذه هي الخواص الثلثا التي تمتاز بها الصول ،وكل معنىا
يقال في علوما الشريعة يفقد واحداا من هذه الخصائص فليس أصلا
الشاطبي ،الموافقات . 1/44 ، )( 1
605
ول يصح الرجوع إليه.
الكليات ل تنخرم بمعارضأة الجزئايات:
وهذا تحصيل حاصل بعد بيان خصائص الكليات ،فإن الكلي ثبت
باستقراء الجزئيات التي تضافرت على معنى ،فصار بذلك أصلا
كلياا ،فإذا وجد بعد ذلك جزئي يتناقض مع هذا الكلي أو يعارضه،
فهذا ل ينقض الكلي ،لن الكلي قد ثبت قطعياا فل جدال في ثبوته،
أما الجزئي فإما أن يكون راجعاا إلى قطعي وإما أن ل يكون كذلك،
فإن كان راجعاا إلى قطعي فهذا من قبيل تعارض القطعيات وهذا ل
يكون ،وإنما يكون لكل منهما موضع لعماله ،وإن لم يكن الجزئي
راجعاا إلى قطعي ،فهذا يمكن تأويله ليرجع إلى قطعي ،ولرفع
التعارض ،ويمكن التوقف فيه ويمكن رده ،وعلى ذلك فالكلي ل
يتأثر بمعارضة الجزئيات ويستمر جريانه كما هو .قال» :هذه
الكليات الثلثة إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة فل يرفعها
تخلف آحاد الجزئيات«هل) . (1وقال» :المر الكلي إذا ثبت كلياا
فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي ل يخرجه عن كونه
كلياا ،وأيضاا فإن الغالبِّ الكثري معتبر في الشريعة اعتبار العاما
القطعي لن المتخلفات الجزئية ل ينتظم منها كلي يعارض هذا
الكلي الثابت ،هذا شأن الكليات الستقرائية«هل) . (2وقال» :إن قضايا
العيان جزئية والقواعد المطردةا كليات ،ول تنهض الجزئيات أن
تنقض الكليات ،ولذلك تبقى أحكاما الكليات جارية في الجزئيات
وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص«هل). (3
الستقراء هو السبيل الوحيد للقطع:
تبين أن الشاطبي ل يقبل الدليل ما لم يكن قطعياا أو راجعاا
إلى قطعي ،والدلة التفصيلية ل تدل على مقصود الشارع بها دللة
606
قطعية ،فكيف يحصل القطع علماا بأن الدلة التفصيلية هي أدلة
الحكاما؟ قال» :فالمعتمد بالقصد الول الدلة الشرعية ووجود
القطع فيها على الستعمال المشهور معدوما أو في غاية الندور،
أعني في آحاد الدلة ،فإنها إن كانت من أخبار الحاد فعدما إفادتها
القطع ظاهر ،وإن كانت متواترةا فإفادتها القطع موقوفة على
مقدمات جميعها أو غالبها ظني ،والموقوفَّ على الظني ل بد أن
يكون ظنياا«هل) . (1ثم قال» :وإنما الدلة المعتبرةا هنا المستقرأةا من
جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع
فإن للجتماع من القوةا ما ليس للفتراق ولجله أفاد التواتر
القطع ،وهذا نوع منه ،فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع
يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي وهو
كالعلم بشجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم المستفاد من كثرةا
الوقائع المنقولة عنهما«هل) . (2وذهبِّ إلى أن هذا هو الطريق الوحيد
لثبات القطعيات في الشريعة .قال» :ومن هذا الطريق ثبت وجوب
القواعد الخمس كالصلةا والزكاةا وغيرهما قطعاا .فلو استدل
)(3
مستدل على وجوب الصلةا بقوله تعالى] [ :
أو ما أشبه ذلك لكان في الستدلل بمجرده نظر من أوجه «هل). (4
وهذا القطع ،وبالتالي هذا الستقراء ،مطلوب لثبات أي شيء من
الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات) ، (5وهذه وما يندرج تحتها
هي مقاصد الشريعة أو أصولها .وهي ل تتخليف ول تنخرما كما
تقدما.
دللت النصوص الشرعية:
تبين أن دللة آحاد النصوص ظنية ،وهذا بمجرده ل يفيد
اعتباراا لها عند الشاطبي ،فنصوص القرآن الكريم ظنية الدللة،
607
ومثلها السنة المتواترةا ،وأخبار الحاد أولى بذلك ،فخبر الحاد
وإن صح ثبوته يجبِّ التوقف فيه ما لم يرجع معناه إلى معنى
قطعي .فهو ل يقول» :ما لم يناقضه ما هو أقوى منه«هل ،وإنما» :ما
لم يكن قطعياا أو راجعاا إلى معنى قطعي«هل.
وكذلك نصوص القرآن فهي تحتمل أكثر من معنى ،ول
يمكن القطع بواحد منها بمجرد اعتبار النص .والسبيل إلى فهم
النص وإعماله هو بفهمه على ضوء ما سبقه في النزول ،إذ نزول
القرآن كان بحيث يأتي اللحق بياناا وشرحاا للسابق .وقد نزلت
الكليات أولا في مكة .لذلك فإن المدني يفهم على ضوء المكي،
والمتأخر من المكي يفهم على ضوء المتقدما منه ،وكذلك بالنسبة
للمدني ) . (1ول بد من استقراء المعاني بكثرةا النصوص التي تدل
عليها.
والسنة ليس فيها تشريع جديد فهي ل تستقل بالتشريع وإنمــا
هي بيان للقرآن ،لذلك فهو يصحح معنــى ال حــديث» :مإــا أتــاكم
عني فاعرضأوه على كتاب اللــه فــإن وأافــق كتــاب اللــه
فأنا قلته ،وأإن خإــالف كتــاب اللــه فلــم أقلــه أنــا وأكيــف
أخإالف كتاب الله وأبه هداني الله«) ، (2ويعتمده .فهو إن كان
ل يصح روايةا فمعناه ثابت وقطعي عنده .قــال» :فمع نــاه صــحيح
صح ســنده أو ل«هل) . (3و مــن أمثلتــه علــى اعتبــار دللت الن صــوص
بالستقراء ما ذكره في ثبوت الضروريات ،و مــن ذ لــك قــوله فــي
الصلةا» :فنحن إذا نظرنا في الصلةا فجاء فيها أقيموا الصلةا علــى
وجوه وجاء مدح المتصفين بإقامت هــا وذما ال تــاركين ل هــا وإج بــار
المكلفين على فعلها وإقامتها قياماا وقعوداا وعلى جنــوبهم وقتــال
من تركهـا أو عانـد فــي تركهـا إلـى غيـر ذلـك ممـا فــي هـذا
608
المعنى«هل ) . (1ثم قال إنه بهذا» :علمنا يقينــاا وجــوب الصــلةا«هل). (2
وقال» :وهكذا سائر الدلــة فــي قوا عــد ال شــريعة ،وب هــذا امتــازت
الصول عن الفروع إذ كانت الفروع مستندةا إلى آحاد الدلة وإلــى
مآخذ معينة فبقيـت عل ى أص لها م ن السـتناد إلـى الظ ن بخلفَّ
الصول فإنها مأخوذةا من استقراء مقتضيات الد لــة بــإطلق ل مــن
آحادها على الخصوص«هل) . (3هــذا م ثــال علــى ال ســتدلل بن صــوص
القرآن .أما السنة فمن أمثلته قوله» :قوله عليه الصلةا والســلما:
»ل ضأرر وأل ضأرار«) ، (4فإنه داخل ت حــت أ صــل قط عــي فــي هــذا
المعنى فإن الضرر والضرار مبثوثا منعه فــي ال شــريعة كل هــا فــي
وقائع جزئيات وقواعد كليات ،ك قــوله ت عــالى [ :
)(5
، ] و[
] ) ، (6و[ (7) ] الية ،ومنه الن هــي عــن
التعدي على النفوس والموال والعراض وعن الغصبِّ والظلم وكل
ما هو في المعنى إضرار أو ضرار ويدخل تحته الجناية على النفس
أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموما في الشــريعة
ل مــراء فيــه ول شــك .وإذا اعتــبرت أخبــار الحــاد وجــدتها
كذلك«هل ) . (8وهكذا فإن ق صــد ال شــارع لر فــع ال ضــرر قط عــي فــي
الشريعة وهذا الحديث يرجع معناه إلى هذا المعنى القطعي ،لــذلك
فإنه يقبل ،وهكذا شأن كل أخبار الحاد حسبِّ قوله أعله.
دللت الحكام:
ومن بين المعاني التي يمكن أن تثبت على سبيل القطع معاني
609
الحكاما وليس فقط معاني النصوص ،ومعاني الحكاما هي ما يمكن
أن يتخيله الناظر مقصوداا بالحكم من حكمة أو مصلحة أو مسببِّ
أو مآل ،فهذه كلها إذا كانت مما يحتملها النص فيجبِّ أن تثبت
بالستقراء كما تبين ،أما إن لم يكن عليها دللة من النص ل
منطوقاا ول مفهوماا ،فهذا مما يمكن أن يتخيل أنه مقصود للشارع
بالحكم وأن يعلل الحكم به وإن لم يأت في أحد مسالك العلة
المنصوصة وهي النص أو الجماع أو التنبيه واليماء ،ولكنه ل
يقبل إل إذا ثبت ثبوتاا قطعياا ،وذلك باستقراء أحكاما أو جزئيات
كثيرةا تحتمل هذا المعنى أو هذه العلة .وبغير استقراء مفيد
للقطع فهذه المعاني وهم وخيال ،ول تعتبر لنها ليست من صلبِّ
العلم ،فهي ل ترجع إلى أصل قطعي ،وقد تكون ناقضةا لصل ،ومن
أقواله في مثل هذه المعاني أو التعليلت» :المعدود في ملح العلم
ل في صلبه ما لم يكن قطعياا ول راجعاا إلى أصل قطعي ،بل إلى
ظني ،أو كان راجعاا إلى قطعي إل أنه تخلف عنه خاصة من تلك
الخواص) (1أو أكثر من خاصة واحدةا ،فهو مخيل ومما يستفز
العقل ببادئ الرأي والنظر الول من غير أن يكون فيه إخلل بأصله
ول بمعنى غيره«هل) . (2وقال» :لنه إن صح في العقول لم يستفد به
فائدةا حاضرةا غير مجرد راحات النفوس«هل ) . (3وربما يكون المعنى
المتخيل ناقضاا لصل قطعي ،قال» :ما ليس من الصلبِّ ول من
الملح :ما لم يرجع إلى أصل قطعي ول ظني وإنما شأنه أن يكر على
أصله أو على غيره بالبطال«هل) . ( 4وقال فيه» :هذا وإن مال بقوما
فاستحسنوه وطلبوه فلشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله فربما
عده الغبياء مبنياا على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه ،وحقيقة
أصله وهم وتخييل ل حقيقة له مع ما ينضافَّ إلى ذلك من الغراض
610
والهواء«هل). ( 1
وعلى ذلك فدللت الحكاما هي المقاصد أو المصالح التي
يتخيل الناظر أنها مقصودةا بها ،فهذه يجبِّ أن تثبت بالستقراء،
وهذا هو المقصود بقوله» :شبيه بالتواتر المعنوي«هل ,إل أنه تنبغي
الشارةا إلى الفرق بين هذا التواتر وبين التواتر المعنوي في
مصطلح علم الحديث .ففي علم الحديث التواتر المعنوي يرجع إلى
كثرةا النصوص الدالة على معنى معين مع اختلفَّ في اللفاظ
والروايات ،فهو دللة نصوص ،والتواتر الذي يقصده الشاطبي هو
دللة أحكاما .لذلك لم يقل عن مراده بأنه التواتر المعنوي ،وإنما
قال» :شبيه بالتواتر المعنوي«هل.
وهذا المعنى الذي يريد الشاطبي إثباته من خلل كثرةا
الحكاما الموافقة له ،ليس له دللة في النص البتة .والبحث عنه
وإثبات كونه مقصوداا للشارع يحتاج إلى دليل .وقد تقدما أن هناك
من يرفض القول بهذه العلل ويردها إلى محض الرأي وخيالت
القـلـوب ،فما هو الدليل على شـرعية التعليل بها وعلى جواز طلبِّ
اسـتـقـرائـهـا في الحكـاما؟ والجـواب هو في تعليل أفعال ال
تعالى وأحكامه ،وأنه -سبحانه وتعالى -ل يشرع إل لمصالح العباد.
تعليل الشريعة بمقاصدها:
لقد أخذت مسألة تعليل الحكاما بالحقكيم والمصالح والوصافَّ
المناسبة قسطاا كبيراا من الجدال بين الكلميين .وأيدخلت
المسألة في علم أصول الفقه بسببِّ تأثيرها في مباحث مسالك
العلة ،وهي المسالك غير المنصوصة) . (2وجاء الشاطبي في هذا
الخضم ليقرر أصلا قطعياا لديه وهو أن أفعال ال تعالى وأحكامه
لها غايات ،وأنه ـ سـبحانه وتعالى ـ ل يفعل إل لجـل غاية
يقصدها .وليرد بذلك على من رفض هذا التعليل وعلى وجه
) ( المصدر نفسه. 1/51 ، 1
611
الخصوص فخر الدين الرازي الذي قطع هو بدوره برد القول بأن
أفعال ال تعالى معللة ،مع المحافظة على القول بتعليل الحكاما
وبالقياس .قال الشاطبي» :إن وضع الشرائع هو لمصالح العباد في
العاجل والجل معاا .وهذه دعوى ل بد من إقامة البرهان عليها
صحةا أو فساداا وليس هذا موضع ذلك .وقد وقع الخلفَّ فيها في
علم الكلما .وزعم الرازي أن أحكاما ال ليست معللة بعلة البتة كما
أن أفعاله كذلك .وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة
برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين«هل) . (1ثم
قال» :والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت
لمصالح العباد استقراءا ل ينازع فيه الرازي ول غيره«هل). (2
وهكذا فتعليل الشريعة بمصالح العباد ل يتم عنده إل
بالستقراء ،وهذا مختلف عن استدلل المتقدمين القائلين بهذا
التعليل ). (3
ومقاصد الشارع أعم من مقاصد الشريعة ،إذ تعليل أفعال ال
يعني أن للشارع مقصداا في كل فعل يفعله ،فله مقاصد من خلق
السموات والرض ومن خلق النسان ،وهذه مقاصد للشارع وليست
مقاصد للشريعة ،ومن مقاصد الشارع أيضاا مقاصده في كيفية فهم
الخطاب ،أي أصول فهم دللت اللفاظ والتراكيبِّ وهذه ليست
مقاصد للشريعة ،لذلك فالمقاصد عنده أنواع وكلها ل تعتبر إل إذا
ثبتت بالستقراء.
المقاصد:
المقاصد قسمان :قصد الشارع وقصد المكلف .وقصد الشارع
أربعة أنواع قال» :المقاصد التي ينظر فيها قسمان :أحدهما يرجع
إلى قصد الشارع والخر يرجع إلى قصد المكلف ،فالول يعتبر من
612
جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءا ،ومن جهة قصده في
وضعها للفهاما ،ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها،
ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها فهذه أربعة
أنواع«هل). (1
أما النوع الول فهو مقاصد الشريعة وهي المصالح الضرورية
والحاجية والتحسينية وما ينضم إليها مما هو كالتتمة
والتكملة) . (2وأما النوع الثاني فهو في الصول والقواعد اللغوية
المعتمدةا لفهم دللة النص الشرعي ،والنوع الثالث لبيان أن الشارع
لم يقصد بالتكليف المشقة وإن كانت من مستلزمات التكليف،
وللتمييز بين المشقات التي قصد الشارع رفعها والمشقات التي لم
يقصد الشارع رفعها ،أما النوع الرابع فهو أن من مقاصد الشارع
عبودية العباد ودخولهم تحت أمر الشارع وإخراجهم عن دواعي
أهوائهم ولو تعارض ذلك مع ما يظنونه مصالح.
إل أن مما يلفت النظر ،وينبغي التنبيه إليه أمران جديدان عند
الشاطبي يختلف فيهما عن غيره من علماء الصول الذين يقولون
بتعليل الحكاما بالمصالح أو بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد ،وهما
مفهومه للمصلحة وللمفسدةا ومعنى تعليل الشريعة بالمصلحة.
مإفهوم الشاطبي للمصلحة وأالمفسدة:
المصلحة عند الشاطبي هي ما ثبت أن حصوله مقصود للشارع
بالحكم .والمفسدةا هي ما ثبت أن عدما حصوله مقصود للشارع
بالحكم ،وهذا يعلم باستقراء النصوص والحكاما ،فإذا ثبت المر
بوقوع الفعل فالفعل مصلحة ،وإذا ثبت المر بالنهي عنه فهو
مفسدةا ،وكذلك المر بالنسبة لنتائج أو مآلت أو مسببات الفعل،
فما يثبت بالستقراء أنه لجل حصوله شرعت الحكاما فهو مصلحة
إذ الفعال أسباب لمسببات وكذلك أحكاما الفعال ،وما يثبت
613
بالستقراء أنه لجل عدما حصوله شرعت الحكاما فهو مفسدةا ،وهذا
يثبت بالنظر في العلقة السببية بين الحكم ونتائجه ومقتضياته.
وليست المصلحة ـ عنده ـ هي ما يعود بالنفع أو ما يشعر المكلف
بموافقته للميول والحاجات النسانية ،وليس من شرط المصلحة أن
تكون وصفاا مناسباا ،وكذلك يقال بالنسبة للمفسدةا ،وإنما ل بد
من وجود علقة سببية بين الحكم وما يربط به ،وهذا المعنى
مبثوثا في مواضع كثيرةا جداا في كتابه أبرزها أبحاثه في
السـباب والمسـببات في كتاب الحكاما ،وكذلك أبحاثه في النوع
الرابع من مقاصد الشارع ،قال» :السباب الممنوعة أسباب للمفاسد
ل للمصالح كما أن السباب المشروعة أسباب للمصالح ل
للمفاسد«هل ) . (1وقال» :إذا كان كذلك لم يصح لحد أن يدعي على
الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم«هل). (2
وقال» :إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدةا
مفسدةاا كذلك مما يختص بالشارع ل مجال للعقل فيه بناءا على
قاعدةا نفي التحسين والتقبيح ،فإذا كان الشارع قد شرع الحكم
لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحةا وإل فكان يمكن عقلا أن ل
تكون كذلك إذ الشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الول متساوية ل
قضاء للعقل فيها بحسن ول قبح .فإذاا ،كون المصلحة مصلحةا هو
من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس ،فالمصالح
من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى
على التعبدي ل يكون إل تعبدياا«هل ) . (3وعلى ذلك فإن تعليل
الشاطبي للشريعة بالمصالح معناه أنه يجبِّ أن يثبت عنده قصد
الشارع فإذا ثبت فهو مصلحة بغض النظر عن الشعور النساني،
وهذا من جديده الذي يخالف فيه المعهود في مفهوما علماء الصول
للمصلحة ،وكذلك يقال في المفسدةا.
) ( الشاطبي ،الموافقات. 1/167 ، 1
614
مإعنى تعليل الشريعة بالمصالح:
الحكاما هي أسباب لمسببات هي مقصود الشارع ،والحكاما تنزل
على أساس هذا المقصود ،ومن هنا كان هذا المقصود علة للتشريع
والمجتهدون يكتشفون هذه العلل من خلل النظر في مآلت
ومسببات الحكاما ،فمقصود الشارع موجود قبل الحكاما ،وعلى
أساسه تنزلت الحكاما ،وعند المجتهد ل يعرفَّ المقصود إل بواسطة
الحكاما .ومن هنا يعد الشاطبي المقصد علة ،مع أنه من حيث
المعنى ،علة الفعل تكون قبله ،والمقصود به يكون بعده.
وهذا المعنى للتعليل مع المعنى المذكور قبله للمصلحة
يؤول إلى عدما اشتراط المناسبة للوصافَّ المعلل بها ،وإذا كانت
العلة أو المقصد وصفاا مناسباا يشعر المكلف بأنه يتفق مع
طبيـعته النسانية ومع أغراضه فهذا أمر عرضي وليس هو الصل
بناءا على قاعدةا نفي التحسين والتقبيح ،وهذا مختلف عن مراد
علماء الصول الذين قالوا بتعليل الشريعة بالمصالح ،بل هذا وإن
تشابه معهم في العبارات فهو نسف لفكرتهم.
لذلك فالشـاطبي يرد كل أقوال سابقيه في هذا الشأن قائلا
إنه إذا لوحظ مراعاةا الشريعة لغراض العباد وميولهم ولما يوافق
ما يسعون إليه فهذا بالعرض وليس هو الصل ،والصل هو أن ال -
سبحانه وتعالى -خلق النسان لعبادته ،ولكنه تفضل عليهم فأعانهم
على عبادته بان خلق فيهم شهوات وميول تدفعهم إلى الطاعات.
قال» :فإن قيل :وضع الشرائع إما أن يكون عبثاا أو لحكمة فالول
باطل باتفاق«هل) ، (1وتابع في إيراد القول» :لن كل عاقل إنما يطلبِّ
مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه ،والشريعة تكفلت
لهم بهذا المطلبِّ في ضمن التكليف فكيف ينفى أن توضع الشريعة
على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم ،وأيضاا فقد تقدما بيان أن
615
الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهم حظوظهم«هل). (1
ثم يجيبِّ على هذا العتراض فيقول» :فالجواب أن وضع
الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدةا عليهم بحسبِّ أمر
الشارع وعلى الحد الذي حده ل على مقتضى أهوائهم وشهواتهم،
ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس«هل ) . (2وقال» :إن
حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قياما الدين والدنيا إنما يصلح
ويستمر بدواعم من قبل النسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه
هو وغيره ،فخلق له شهوةا الطعاما والشراب إذا مسه الجوع والعطش
ليحركه ذلك الباعث إلى التسببِّ في سد هذه الخلة بما أمكنه،
وكذلك خلق له الشهوةا إلى النساء لتحركه إلى اكتساب السباب
الموصلة إليها«هل) (3إلخ .ثم قال» :ولو شاء ال لكلف بها مع
العراض عن الحظوظ أو لكلف بها مع سلبِّ الدواعي المجبول
عليها ،لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى عمارةا الدنيا
للخرةا وجعل الكتساب لهذه الحظوظ مباحاا ل ممنوعاا لكن على
قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدواما مما يعده
العبد مصلحة«هل). (4
فهاتان الفكرتان عند الشـاطبي وهما مفهومه للمصلحة
وللمفسدةا ،ومقصوده بقوله إن الشريعة وضعت لجل مصالح العباد
تعدان انقلباا على المعهـود عند علماء الصول القائلين بتعليل
الشريعة بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد.
الجأتهاد وأالتقليد:
خلق ال الناس لعبادته ،وما من فعل من الفعال إل ول فيه
حكم .فعلى المكلف مجتهداا كان أو مقلداا أن يتحرى حكم ال.
616
وحكم ال هو قصده الذي يفهم وفق ما سبق بيانه .وحكم ال تعالى
يفهمه المجتهد المعتبر الذي فهم مقاصد الشريعة جملةا وتفصيلا
وهو الذي يعمل الكليات والجزئيات معاا عند الجتهاد ،وهو الذي
يتطابق سلوكه مع فتواه ،فيكون ورعاا ملتزماا في أقواله وأعماله
بما يصدر عنه من فتاوى وبما هو معروفَّ من صفات السلف الصالح
وغيرهم من أهل التقوى والصلح في الدين.
أما المقلد فل نظر له في الدلة الشرعية ،وتحريه لقصد
الشارع يكون بالترجيح بين المجتهدين فهم بمثابة الدلة الشرعية
له ،ول يصح له التخير بين القوال فهذا اتباع للهوى.
أما شـرط فهم المقاصد جملةا وتفصيلا فإنه إذا توصل إليه
المجتهد يمكنه أن يفتي ،ويكون قوله معتبراا إذا كان ورعاا ،ولو
لم يكن يعرفَّ اللغة العربيـة ،إذ يمكنه أن يفهم المقاصـد بالتلقي
والترجمة .قال» :الجتهاد إن تعلق بالستنباط من النصوص فل بد
من اشـتراط العلم بالعربية ،وإن تعلق بالمعاني من المصالح
والمفاسـد مجردةاا عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحبِّ
الجتهاد في النصوص فل يلزما في ذلك العلم بالعربيـة وإنما يلزما
العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملةا وتفصيلا«هل) . (1وقال:
»فإذاا من فهم مقاصد الشـرع من وضع الحكاما وبلغ فيها رتبـة
العلـم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسـان العجمي
فل فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسـان العربي«هل). (2
617
المبحث الثاني
مإناقشـة فكـرة الشـاطبي
الكليات وأالسـتقراء
مإوضأوع هذا المبحث:
بعد عرض فكرةا المقاصد عند الشاطبي بالتفصيل ،ثم عرضها
وإبراز أساسها وأركانها مختصرةا في المبحث السابق ،نناقش هذا
الساس وهذه الركان في هذا المبحث والذي يليه .والفكار التي
ستتم مناقشتها في هذا المبحث هي:
1ـ اشتراط الشاطبي أن تكون أصول الفقه قطعية.
2ـ الستقراء وكونه الطريق الوحيد إلى القطع.
3ـ قوله إن الكليات ل تنخرما بمعارضة الجزئيات.
4ـ التواتر المعنوي.
وهذه الفكار هي أركان فكرةا الشاطبي .ويتبين خلل
مناقشتها صحة أو خطأ بعض أفكاره مثل معنى الرجوع إلى قطعي
عنده ،وأن الدليل الشرعي ل يقبل إل إذا كان قطعياا أو راجعاا إلى
قطعي أما المبحث التالي فسيكون -إن شاء ال تعالى -لمناقشة
أساس الفكرةا وهو أصل التعليل لفعال ال -سبحانه وتعالى -
ولمناقشة نتيجةم لزمة لمنهجه وهي إمكانية استغناء المجتهد
المحيط بكليات الشريعة عن النظر في جزئياتها ،ومن ذلك عدما
اشتراط العلم بالعربية للمجتهد العالم بمقاصد الشريعة جملةا
وتفصيلا.
اشتراط القطع بأصول الفقه:
ذهبِّ الشاطبي إلى أن أصول الفقه يجبِّ أن تكون قطعية وأنها
ملحقة في ذلك بالعقائد ،وبين أن مراده بالصول مختلف عن مراد
618
غيره من علماء الصول .ومراده بالصول هو المعاني القطعية التي
يرجع إليها الفقه أو يتفرع على أساسها.
نعم ،هو يختلف بهذا عن الئمة الصوليين والفقهاء ،وهذا من
جديده .وهذا مما أراه خطأا .ويعظم خطر هذا الخطأ لنه في
الصول ،وهو ليس مجرد أصل من الصول وإنما هو أصل يحكم على
الصول ،بل يحكم على المنهج برمته.
ووجه الخطأ فيه ليس في كونه جديداا ول في كونه خالف
المنهج المعتمد لدى الئمة ،وإنما هو في موضوعه أي في معنى هذا
الصل.
إن الشاطبي لم يقم دليلا على قوله هذا ،وإنما قرره تقريــرااي
فألحق الصول بالعقائد ب صــياغة يم كــن أن تقبــل بــادئ الن ظــر ،إذ
ينتقل الذهن عند قراءةا أقواله في هذا المر إلى المعنى المعهود في
كلما الئمة عند اشتراط القطع بالصول ،وهو ال صــول ا لــتي هــي
مصادر التشريع ،أي الدلة الجمالية للف قــه و هــي الدلــة الرب عــة:
القرآن والسنة والجماع والقياس .ولكن الشاطبي ذ هــبِّ أب عــد مــن
ذلك فقصد أ صــول وقوا عــد الف قــه بمعنــى مبـاحث أصـول الف قــه
كدللة المر للوجوب أو لغيره ،أو قاعدةا ما ل يتم ا لــواجبِّ إل بــه
فهو واجبِّ ،أو قاعدةا الصل في الشياء البا حــة مــا لــم يــرد دل يــل
التحر يـــم ،أو قا عـــدةا الم صـــالح المر ســـلة ،أو الستح ســـان ،أو
الستصحاب ،وهذه القواعد يصح اشـتراط القطـع فيهـا ل و كـانت
بمعنى أنها مصادر للتشريع أي أدلة قائمة برأسها ،وليس هذا مــراد
ال شــاطبي .وإل حــاق ال صــول بمع نــى م صــادر الت شــريع بالعقا ئــد
واشتراط القطع بها مبني على ذما ال تعالى لتباع الظن والنعي على
الذين يتبعون الظن ،وهذا فيما يتعلق بالعقا ئــد .قــال ت عــالى [ :
)(1
. ] وقال ت عــالى [ :
619
(1)
[ : وقال تعالى. ]
(2)
[ : وقال تعالى. ]
وقال. (3) ]
[ :تعالى
: وقال تعالى. (4) ]
[
(5)
: وق ال تعــالى. ]
(6)
[ : وقال تعالى.
فهذه اليات وغيرها صريحة. (7)]
، وذما العتقاد واليمان بأشياء بغير ســلطان أو برهــان،في ذما الظن
والسلطان والبرهان هو الدليل القطعي ل نــه إذا كــان ظن يــاا ف هــو
إذ ثبــت، ولكن هذا في العقائد وليس في الحكاما الشــرعية.مذموما
في هذه الخيرةا ـ كما سيتبين ـ جـواز اتبـاع الظـن المبنـي علـى
.القطع
إذ، هي مصادر الفقه الجمالية،والصول التي تلحق بالعقائد
لو زعم زاعم أن التكاليف الشرعية تؤخذ من فلن أو من كتاب
بغير قياما دليل قاطع على ذلك فهذا اتباع،كذا أو من مصدر ما
وهذا يؤدي إلى جواز أخذ التشريعات من الرؤى،للظن وهو مذموما
وقد يؤدي،والمنامات إذا تعلق بها الظن أنها رؤى صالحة لصالحين
. 28 - 27 ،سورةا النجم () 1
. 36 ،سورةا يونس () 2
. 71 ،َّسورةا العراف () 6
620
إلى جواز أخذ تشريعات من التوراةا والنجيل إذ قد يتعلق الظن
ببعض نصوصها أنها غير محرفة وهذه كلها مصادر إجمالية ،ولكن
هذه ظنون ولم يدل دليل قاطع على اعتبار هذه الظنون ولذلك
تطرح.
فأصـول الفـقه التي تلحـق بالعـقـائـد هي ما يشـبـه
العـقـائد لجهة أنه ينبني عليه غيره ،وهو ل ينبني على غيره ،فإن
كان ينبني على غيره فهو فرع ،واعتباره وعدما اعتباره يعتـمـد
على ذلك الغير .وعلى ذلك فإن علماء الصول عدوا أصول الفقه
الدلة الجمالية الربعة .وغير ذلك من القواعد والصول التي
تعتمد عند الجتهاد والستنباط ،فل يشترط لها القطع ،لنها مبنية
على غيرها مما ثبت بالقطع .وربما أخرج بعضهم القياس من
اشتراط القطع له ،على اعتبار أن القياس إنما يعتمد على العلة
وتعديتها ومصدر العلة هو الدلة الثلثة القرآن والسنة
والجـمـاع ،فاعتمـاد العلـة وتعديتها راجع إلى هذه الثلثة،
والقياس بعد ذلك ليس إل فعل القائس وهذا ظني ،فهذا يشبه
الستدلل بخبر الحاد فهو ظني ولكن أصله وهو السنة قطعي
ووجوب إعمال خبر الحاد قطعي.
ولذلك فإن علماء الصول لم يطلقوا على الدلة الظنية اسم
أدلة وإنما عدوها أمارات ،فهي علمات تدل على معانيها ،ولكن
وجوب إعمالها أو اتباعها ليس راجعاا إليها وإنما إلى شيء آخر وهو
الدليل القاطع على العمل بها ،والدلة القاطعة هي الدلة القاطعة
على وجوب اللتزاما بالقرآن وبالسنة وبالجماع وبالقياس ،وليس
الدليل القاطع هو الدليل التفصيلي نفسه ،وهذا بخلفَّ الفقهاء ،فإن
هذه المارات عند الصوليين والمتكلمين أدلة عندهم ،قال السنوي:
»واعلم أن التعبير بالدلة مخرج لكثير من أصول الفقه
كالعمومات وأخبار الحاد والقياس والستصحاب وغير ذلك ،فإن
الصوليين وإن سلموا بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له
621
فإن الدليل عندهم ل يطلق إل على المقطوع به«هل) . (1وقال» :أقول:
أدلة الفقه تنقسم إلى متفق عليها بين الئمة ومختلف فيها،
فالمتفق عليها أربعة :الكتاب والسنة والجماع والقياس وما عدا
ذلك كالستصحاب والمصالح المرسلة والستحسان وقياس العكس
والخذ بأقل ما قيل وغيرها مما سيأتي فمختلف فيه بينهم«هل). (2
وقال» :الدلة السمعية إن كانت مختلفاا فيها فهي ل تفيد إل الظن
عند القائل بها والمتفق عليها بين الئمة هو الكتاب والسنة
والجماع والقياس ،فأما القياس فواضح أنه ل يفيد إل الظن وأما
الجماع فإن وصل إلينا بالحاد فكذلك ووصوله بالتواتر قليل
جداا ،وبتقديره فقد صحح الماما في المحصول والمدي في الحكاما
ومنتهى السول أنه ظني وأما السنة فالحاد منها ل تفيد إل الظن
وأما المتواتر فهو كالقرآن متنه قطعي ودللته ظنية لتوقفه على
نفي الحتمالت العشرةا«هل) . (3وعلى ذلك فالقطع الذي يشترطونه
للدليل هو بمعنى الدليل الذي هو مصدر إجمالي للتشريع ،أما غير
ذلك من قواعد وأصول وأحكاما فهي ظنية معتمدةا ومتبعة في
الشرع ولم يشترط لها قطع ل في ثبوتها ول في معناها ،وإنما
الشرط هو أن تكون مستندةا إلى الدليل القطعي أي إلى الدليل الذي
هو مأخذ لها ،وهو الدلة الربعة المتفق عليها ،وإن كانت مختلفاا
فيها فيجبِّ أن يكون الدليل )الذي هو مصدر( قطعياا عند من يقول
به من المجتهدين.
وقال الزركشي» :ثم المراد بالدلة الكتاب والسنة والجماع
والقياس والستدلل ،وقال إماما الحرمين والغزالي :هي ثلثة:
الكتاب والسنة والجماع ،ومنعا أن تكون القوانين الكلية الظنية من
أصول الفقه ،وقال في التلخيص :الذي ارتضاه المحققون أن ما ل
622
ينبغي فيه العلم كالخبار والمقاييس ل يعد من أصول الفقه«هل). (1
ثم قال» :فإن قيل :فإن أخبار الحاد والمقاييس ل تفضي إلى
العلوما وهي من أدلة أحكاما الشرع ،قيل له :إنما يتعلق بالصول
تثبيتها أدلة على وجوب العمال وذلك ما يدرك بالدلة القاطعة،
وأما العمل فمتلقى منها ،فيتعلق بالفقه دون أصوله .وقال في
البرهان :فإن قيل :معظم المسائل الشرعية ظنون قلنا :ليست
الظنون فقهاا ،وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قياما الظنون.
ولذلك قال المحققون :أخبار الحاد والقيسة ل توجبِّ العمل
لذاتها ،وإنما يجبِّ العمل بما يجبِّ به العلم بالعمل وهو الدلة
القطعية على وجوب العمل عند رواية الحاد وقياما القيسة .قال:
وهما وإن لم يوجدا إل في أصول الفقه لكن حظ الصولي إبانة
القاطع في العمل بهما«هل ). (2
وفي هذه النصوص السابقة أمران :أحدهما :أن الدلة
التفصيلية تفيد الظن وقد قاما الدليل القاطع على وجوب العمل بهذا
الظن ،والثاني :أن الظن يعمل به في الشرعيات لنه مستند إلى دليل
قطعي ثبت بالقطع وجوب اعتماده كمصدر أو مأخذ ،وليس كل
ظن شرعياا وإنما المستند إلى الدلة الشرعية القطعية .وهذان
المران مع نصوص الئمة المذكورةا أعله ،يدلن على مخالفة
الشاطبي للمنهج المعهود ،وعلى خطأ ما ذهبِّ إليه الشاطبي إذ هذه
النصوص تحتوي على الدلة على وجوب إعمال الظني من غير
اشتراط رجوع المعنى الظني إلى معنى قطعي ،وإنما الشرط هو
الرجوع إلى مصدر قطعي ،فإذا أضفنا إلى ذلك أن الشاطبي لم يأت
بدليل على ما قاله ،ولم يبين خطأا في أقوال الئمة ،فإن هذا الشرط
الذي وضعه يسقط فضلا عن أن يزعم أن هذا ما قررته اليات
والخبار وعمل عليه السلف الخيار .فإلحاق الصول بالعقائد يصح
إذا كانت الصول مما ل ينبني على غيره ،فإذا كانت مما ينبني على
) ( الزركشي ،البحر المحيط. 19 - 1/18 ، 1
.
623
غيره فهي فروع لغيرها ولو كانت أصولا لما يتفرع عنها ،وفي
هذه الحالة فإن كانت ظنية فل ضير في ذلك إذا كان قد قاما
الدليل القطعي على وجوب العمل بها.
وأجأوب العمل بالظني:
ومما يؤكد خطأ ما ذهبِّ إليه الشـاطبي في الصول التي
اشـترط لها القطع ،وخطأ ما بنـاه على ذلك من أن الدليـل
الشـرعي إما أن يكون قطعيـاا وإما أن يكون راجعـاا إلى قطعي،
الدلة القاطعة على وجوب العمل بالظني إذا كان مصدره قطعياا،
فل يشترط حينئذم رجوع معناه إلى معنى قطعي.
وقد كثرت في ذلك أقوال الئمة وتواترت الخبار في هذا
المعنى ،وفي الرد على منكري العمل بخبر الواحد ،مع أن خبر
الحاد يدخله الظن من جهتين ،من جهة الثبوت ومن جهة الدللة،
بخلفَّ نصوص القرآن فإن الظن إذا تعلق بها فمن جهة الدللة
فقط .أما الجماع ،فمن حيث نقله هو مثل خبر الحاد ،ومن حيث
دللته فقد يكون مثله أو أقوى ،والقياس راجع إلى الثلثة ،وقد
قامت الدلة القاطعة والكثيرةا على وجوب العمل بخبر الحاد الذي
رجحت نسبته إلى النبي من غير تقييد بشرط سوى أن ل يعارض
الخبري دليلي أقوى منه وليس هذا موضوع البحث.
قال الزركشي» :إن الشافعي صنف كتاباا في إثبات العمل
بخبر الواحد ،وذكر في أوله الحديث المشهور» :رحم الله
امإرءا ا سمع مإقالتي«) . (1فاعترض أبو داود وقال :أثبت فيه
خبر الواحد بخبر الواحد ،والشيء ل يثبت بنفسه كمن ادعى شيئاا
فقيل له :من يشهد لك؟ فقال :أنا أشهد لنفسي ،قال الصحاب :هذا
) ( أخرجه الترمذي في كتاب العلم عن رسول ال ،باب ما جاء في الحث 1
624
الذي ذكره باطل فإن الشافعي لم يستدل بحديث واحد وإنما ذكر
نحواا من ثلثمائة حديث وذكر وجوه الستدلل فيها فالمجموع
هو الدال عليه«هل). (1
وقد لخص الجويني الدلة الكثيرةا فقال» :وقد أكثر
الصوليون وطولوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين ،والمختار
عندنا مسلكان :أحدهما يستند إلى أمر متواتر ل يتمارى فيه إل
جاحد ول يدرؤه إل معاند ،وذلك أنا نعلم باضطرار من عقولنا أن
الرسول عليه السلما كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الحكاما
وتفاصيل الحلل والحراما ،وربما كان يصحبهم الكتبِّ وكان نقلهم
أوامر رسول ال عليه السلما على سبيل الحاد ولم تكن العصمة
لزمةا لهم فكان خبرهم في مظنة الظنون وجرى هذا مقطوعاا به،
متواتراا ل اندفاع له ،بدافع التواتر ،ول يدفع المتواتر إل مباهت
فهذا أحد المسلكين ،والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة،
وإجماعهم على العمل بأخبار الحاد منقول متواتراا ،فإنا ل نستريبِّ
أنهم في الوقائع كانوا يبغون الحكاما من كتاب ال تعالى ،فإن لم
يجدوا للمطلوب ذكراا مالوا إلى البحث عن أخبار رسول ال
)(2
وكانوا يبتدرون التعويل على نقل الثبات والثقات بل اختلفَّ«هل .
وقد ذكر الزركشي مثل هذا القول أيضاا). (3
استقلل السنة بالتشريع:
ذهبِّ الشاطبي إلى أن السنة ل تستقل بالتشريع بناء على أن
القرآن فيه بيان كل شيء ،وأن السنة بيان له ،وعلى ذلك فالسنة ل
تأتي بشيء ل أصل له في القرآن ،ل من حيث الموضوع أي النوع أو
الجنس ،ول من حيث المعنى.
والتعليق على هذا القول هو أن كون القرآن فيه بيان كل
625
شيء ،وكون السنة بيان للقرآن ل يعني أن ل تستقل السنة بتشريع،
ول أن ل تأتي السنة بتكليف ل أصل له في القرآن ،فإن دللة القرآن
على السنة وعلى وجوب أخذ الحكاما منها هو من البيان ومن تماما
البيان ،ودللة السنة على أشياء ليست في القرآن ل يتنافى مع كون
القرآن بياناا.
ول يتـأتى أن يقال إن الـقــرآن فيه بيـان كـل شـيء بهـذا
المعـنى ،وهـو أن كل معـنى دلـت عليـه الـســنة موجـود في
القرآن وإنما قد يقال ذلك بمعنـى أنه ما من شـيء أتت به
الـسـنـة إل وله أصل في القرآن وهذا موضع خلفَّ .أما أن يظن أن
الـسـنـة ل تأتي بما ليس في الـقـرآن فكـيـف يـتـأتى هـذا؟!
فـهـل أمـر الـقــرآن بالصـلةا والصـياما والزكـاةا وغـيـر ذلك
ممـا جـاء مجـملا وبينته السنة ،هل هذا مبـين بالـقـرآن؟ وهـذا
الـذي أتـت به السنة أليس استقللا بالتشريع وإن كان له أصل في
القرآن؟
إن موضوع استقلل السنة بالتشريع أو عدما ذلك إنما
المقصود به أن تأتي السنة بما ل أصل له في القرآن أو ل ،وليس أن
يكون فيها بيان زائد أو ل .فالسنة فيها زيادةا قطعاا ،وإل فكيف
نهتدي إلى صلتنا هذه لول السنة؟! ..وكل ما جاءت به السنة من
تخصيص وتقييد وبيان لمجمل في القرآن غير مبين فيه فهو
تشريع زائد استقلت به السنة.
أما ما استدل به الشاطبي من قوله تعالى [ :
)(1
. ] وقوله تعالى [ :
. (2) ] فل
يدل على ما ذهبِّ إليه .أما الية الولى ،فإن الكتاب بين كــل شــيء،
ومن وسائل بيانه السنة ،إذ الكتاب دل على السنة ،ودللة الكتاب على
626
السنة يجعل بيان السنة للشياء من بيان الكتاب لها .فإذا قال شخص
لخر :افعل كذا وكذا وكل ما يقوله لــك فلن ،أو ويكيــلييي مــا
سآمرك به في كتاب مستقل ،فهل قوله :وكل ما يقـوله لــك فلن
أو ويكيليي ما سآمرك به من أوامر في كتاب مستقل ،هل ي عــد هــذا
نقصاا في بيان ما أمره به ،أما أن الوا مــر الــتي تصـدر عـن فلن أو
التي تأتي في كتاب مستقل تعد جزءاا من البيان لما يريده الشخص
الول؟ لذلك فإن كون الكتاب تبياناا لكل شيء ل يتعــارض مــع أن
تأتي السنة بما ليس في القرآن أو ل أصل له في ال قــرآن .وال قــرآن
قد قرن بين المر بطاعة ال ـ سبحانه وتعالى ـ وطا عــة ر ســوله .
قال تعالى [ :
)(1
. ] وقال تعالى [ :
] ) . (2وقال النبي » : أوأتيت القرآن وأمإثله مإعه«). (3
وأما قوله تعالى [ :
] فليس فيه دللة على عدما اسـتقلل
السنة بالتشـريع ،وإنما هو يدل على أن النبي يبلغ ويبين ويفصل
ويشرح ما جاء في القرآن ،وليس في منطوق النص أو مفهــومه مــا
يدل على أن النبي ل يبيـن غير ما جاء في القرآن ،فال -سـبحانه
وتعالى -أوحى إلى نبيه بشريعة السلما ،وكان هذا بما أوحاه إليه
من القرآن ومن السـنة ،فهو يبين القرآن ويبين السنة ،وكله مــا
وحي .قال تعالى [ :
. (4)] ويؤكد هذا النصـوص التي تــوجبِّ طاعــة الرس ـــول
) ( سورةا النساء ، 59 ،وسورةا محمد. 33 ، 1
) ( الشوكاني ،نيل الوطار من أحاديث سيد الخيار شرح منتقى الخبار، 3
627
وتبين أن ال تعالى قد آتاه القرآن ومثله معه). (1
وعلى ذلك فالبحث هل تستقل السنة بالتشريع أو ل هو بمعنى
هل تأتي السنة بتكـليف ل أصل له في القرآن أو ل ،أي ليس له
جنس أو نوع يرجع إليه في موضوعه أي في معنى ،والقول بأن
السنة ل تأتي بذلك يحتاج إلى دليل ،ول دليل ،بل الدلة تسمح
بذلك.
لذلك فالدلة التي تعتمد هنا على هذا المر هي استقراء
تكاليف القرآن وتكاليف السنة ،أي الوقوع أو عدمه ،وقد ثبت
الوقوع ،وذلك كتحريم لحوما الحمر الهلية وكل ذي ناب من
السباع وكل ذي مخلبِّ من الطير) ، (2فهل لو أباح النبي هذه
الشياء لكانت الباحة تتعارض مع أصل في القرآن؟ أليس لو لم
يحرمها النبي لكان حكمها الباحة بناء على قاعدةا :الصل في
الشياء الباحة ما لم يرد دليل التحريم؟
أما قول الشاطبي -رحمه ال -بأن ال -سبحانه وتعالى -أحل
الطيبات وحرما الخبائث وبقيت أشياء مما ل يتبين حكمها للمجتهد
ويشكل عليه الصل الذي تلتحق به أهو الطيبات أما الخبائث ،فهذه
محاولة تكييف للمسألة لتنسجم مع منهجه وليس لها وجه من
الصحة .إذ لول تحريم النبي لما شك أحد بأنها مباحة بناء على
أصل الباحة ،وحينئذم تكون من الطيبات ،وتحريم النبي لها هو
الذي جعلها من الخبائث بمعنى المحرمات وال أعلم .وفوق هذا فإن
الشاطبي لم يعرفنا على أصل الخبائث وأصل الطيبات.
قال الشـافعي» :وقد سـنيي رســول ال مع كتـاب ال وسـن
فيما ليس فيه بعينه نص كتاب«هل ). (3
وقال الزركشـي تحت عنوان )السـنة المسـتقلة بتشـريع
) ( أنظر :الماما الشافعي ،الرسالة ،ص ، 104 - 79فقرةا. 308 - 258 : 1
628
الحكاما(» :ولهذا لم يفرد إماما الحرميـن السـنة عن الكتاب ،وقال:
كل ما يقوله النبي عن قول ال تعالى ،فلم يكن لذكر فصل بين
الكتاب والسـنة معنى ،ونص الشـافعي في الرسـالة على أن السنة
مينيزييلةي كالقرآن«هل) . ( 1ومما نقله في استقلل السـنة بالتشـريع:
»كتحريم لحم الحمار الهلي وكل ذي ناب من السباع وليسا
بمنصوصين في الكتاب«هل). (2
وأما الحديث الذي يأمر بعرض الحاديث على الكتاب والذي
صحح الشاطبي معناه وإن لم يصح سنده ،فقد قال فيه الشافعي» :ما
روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ول كبر«هل). (3
وجاء للستاذ أحمد محمد شاكر محقق كتاب الرسالة تعليقاا
على الحديث »مإا جأاءكم عني فاعرضأوه على كتاب الله،
فما وأافقه فأنا قلته ،وأمإا خإالفه فلم أقله« قوله» :هذا
المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ول حسن ،بل وردت فيه ألفاظ
كثيرةا كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى ل يصلح شيء
منها للحتجاج أو الستشهاد«هل) . (4ثم ذكر أن فيه من هو منكر
الحديث ،وذكر أقوال أئمة الحديث في أنه حديث باطل ل أصل له
وأنه وضعته الزنادقة وأنه موضوع). (5
) ( الموضع نفسه .ومما قاله » :وأقرب رواية لما رواه الشافعي هنا 5
629
وقال الزركشي» :وقال ابن عبد البر في كتاب )جامع بيان
العلم( :قال عبد الرحمن بن مهدي :الزنادقة والخوارج وضعوا
حديث ما أتاكم عني فاعرضوه إلخ«هل) . (1وقال» :وقد عارضه قوما
وقالوا :نحن نعرضه على كتاب ال فوجدناه مخالفاا للكتاب ،لنا
لم نجد فيه :ل يقبل من الحديث إل ما وافق الكتاب ،بل وجدنا فيه
المر بطاعته وتحريم المخالفة عن أمره حكم على كل حال«هل). (2
فهذا هو المعنى الذي صححه الشاطبي غير مكترثا بسنده
باعتباره معنى قطعياا بنظره ،وجعله من أركان منهجه ،وهو معنى
ينكره أئمة الحديث وأئمة الفقه فكيف يزعم الشاطبي أن هذا
المنهج قد شد معاقده السلف الخيار واعتمده العلماء الحبار.
إن هذه الفكرةا في معنى القطع بالصول وفي معنى الرجوع
إلى القطعي ،وفي التوقف في اعتبار خبر الحاد حتى يثبت الرجوع
إلى معنى قطعي ،هي من أهم أركان منهج الشاطبي ،فحريي بهذا
المنهج بعد ذلك أن يوأد في مهده.
السـتقراء:
الستقراء هو الركن الهم في منهج الشاطبي ،فهو الطريقة
الوحيدةا للقطع بالمعاني ولفهم أصول الشريعة عنده .والقطع
بمعاني النصوص يعتمد على انتفاء مقدماتم عشر وهذا متعذر.
ومعاني الحكاما هي مصالح مخيلة ل دللة عليها في النصوص ،فل
بد أن تتضافر عليها أحكاما كثيرةا ليحصل الستقراء المفيد للقطع
فتكتسبِّ حينئذم قيمة شرعية وتعد عللا للشريعة.
أما زعم أن النصوص ل تدل دللة قطعية على مدلولتها فهو
630
زعم يعتمد على تصورات أو فروض منطقية غير واقعية .فالنصوص
تدل على معانم قد تكون قطعية ،وقد تكون ظاهرةاا غالبةا في معنى
معين وقد تحتمل أكثر من معنىا على سبيل التساوي ،وإن لم تكن
قطعية الدللة بذاتها فقد يستفاد القطع بقرائن أحوال أو أقوال.
وليس القطع مشروطاا في غير العقائد أو الصول الملحقة بها وهي
مصادر التشريع.
أما الحتمالت العشرةا التي قيل بها فهي لي ســت مو جــودةا فــي
كل مثال ،وانتفاء ما يوجد منها ليس متعذراا ،فقوله تعالى [ :
(1) ] ل يلزما له الســتقراء لدراك الق طــع بو جــوب
الصلةا .وإدراك انتقال معنى ال صــلةا مــن الحقي قــة اللغو يــة إ لــى
الحقيقة الشرعية وغير ذلك مما قد ي عــترض بــه ل يــس مت عــذراا.
وكذلك الحكاما القطعيــة كو جــوب الي مــان وال صــياما والز كــاةا
والحج والصدق والعدل والحسان وأداء المانات وكــذلك حرمــة
السرقة والزنا والربا وقتل النفس التي حــرما ا لــ وحر مــة الميتــة
والدما والخنزير ،فإنها قطعية ولم يك ن ذلـك بالسـتقراء .وإنمـا
كان بالسـتنباط مـن الن صــوص يسـاعد علـى ذلــك بيــان ال ســنة
والصحابة رضي ال عنهم والجمــاع والنقــل المتــواتر للنصــوص
والفعال ،والنص الواحد يم كــن أن ي كــون قط عــي الدل لــة ك قــوله
تعالى [ :
)(2
الية ،وقوله تعالى [ : ]
)(3
] ،وإذا لزما لجل القطع ،القطع بمعاني أل فــاظ أو ال ســتفادةا مــن
قرائن معينة ،فإن هذا ممكن وواقع وليس متعذراا.
فليس صحيحاا أن النصوص يتعذر أن تدل دللةا قطعية على
المعاني وليس صحيحاا أن القطع ل يحصل إل بالستقراء.
631
أما استقراء معاني الحكاما فسيأتي بحثه منفصلا تحت عنوان:
التواتر المعنوي.
وتطبيق الستقراء بقصد التوصل إلى حقائق شرعية يحتاج
إلى التعريف بمعناه وبكيفية تطبيقه من خلل أمثلة متفق عليها أو
معروفة الحكم كي يمكن تطبيقه في البحث عن معرفة ما هو
مجهول الحكم .وهذا ما لم يفعله الشاطبي ،وإنما فرض منهج
الستقراء فرضاا من غير إثبات لصحته ومن غير تعريف به.
وإذا عرقفَّ معنى الستقراء يتبين أن ل موقع له حيث وضعه
الشاطبي .والئمة إنما اعتمدوا الستنباط كمنهج عقلي للفهم
والتوصل إلى الحكاما ،وليس الستقراء .فما هو الستقراء؟
قال السنوي» :الستقراء هو الستدلل بثبوت الحكم في
الجزئيات على ثبوته للقاعدةا الكلية«هل) . (1وقال » :و هو ينقسم إلى
تاما وناقص ،فالتاما هو إثبات حكم كلي في ماهية لجل ثبوته في
جميع جزئياتها«هل) . (2أما الناقص فـ» :هو إثبات حكم كلي في
ماهية لثبوته في بعض أفرادها وهذا ل يفيد القطع لجواز أن يكون
حكم ما لم يستقرأ من الجزئيات على خلفَّ ما استقرئ منها«هل). (3
ومثاله كأن يقال :في هذا الصندوق مجموعة قطع ،فإذا
استعرضت واحدةاا واحدةا ،ووجدت كلها قطع حديد ،أمكن القول:
إن كل القطع التي في الصندوق حديد ،فهذا الستقراء تاما ،وهذا
الحكم كلي ،فإذا أخذ من الصندوق قطعة بشكل عشوائي فهي حديد
قطعاا بناء على الحكم الكلي ،أما إذا استعرضت أكثر القطع أو
كلها إل واحدةا ،ووجدت حديداا ،فهذا استقراء ناقص ،وإذا أخذت
قطعة عشوائياا ل يمكن الحكم بأنها من جنس المستقرأ ،ول يصح
إصدار الحكم الكلي أصلا.
632
فالستقراء هو إثبات الحكم للكل أو للمجموع من خلل إثباته
للجزاء واحداا واحداا ،وإذا كان المطلوب استقراؤه معروفاا
محصوراا أمكن أن يحصل الستقراء التاما باستقراء الكل واحداا
واحداا ،وإذا لم يكن محصوراا فالستقراء التاما غير ممكن.
والستقراء بخلفَّ الستنباط فالستقراء يوصل إلى الحكم الكلي
بناءا على الحكم على الجزئيات ،أما الستنباط فهو يوصل إلى
الحكم على الجزء بناء على الحكم الكلي أو العاما .والحكم الكلي
الناتج عن الستقراء التاما يعد استنباطاا أيضاا ،لن الحكم الكلي
مأخوذ من الحكم على الكل.
وكل من الستقراء والستنباط منهج عقلي من مناهج
المعرفة ،أي طريقة في التفكير لجل الوصول إلى النتائج ،قال
محمد باقر الصدر» :يقسم الستدلل الذي يمارسه الفكر البشري
عادةا إلى قسمين رئيسيين :أحدهما الستنباط ،والخر الستقراء.
ولكل من الدليل الستنباطي والدليل الستقرائي منهجه الخاص
وطريقه المتميز ،ونريد بالستنباط :كل استدلل ل تكبر نتيجته
المقدمات التي تكون منها ذلك الستدلل«هل) . (1وقال» :ونريد
بالستقراء :كل استدلل تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات
التي ساهمت في ذلك الستدلل ،فيقال مثلا :هذه القطعة من
الحديد تتمدد بالحرارةا ،وتلك تتمدد بالحرارةا ،وهذه القطعة
)(2
الثالثة تتمدد بالحرارةا أيضاا ،إذن كل حديد يتمدد بالحرارةا«هل .
وقال» :في حالت الستقراء فإن الدليل الستقرائي يقفز من
الخاص إلى العاما«هل). (3
وما عليه المسلمون قاطبةا هو أن السلما جاء بنصوص شرعية
محمد باقر الصدر ،السس المنطقي ة للس تقراء ،ص ، 5دار التع ارفَّ )( 1
633
تستنبط منها المعاني الشرعية استنباطاا ،ومن ذلك الحكاما،
والحكاما عامة في المكلفين وفي الفعال ،وكلية بواسطة العلل
التي تعديها من نوع من الفعال إلى غيره ،والعلل تستنبط استنباطاا
من الدلة الشرعية .فإذا جاء النص فإن المعنى يؤخذ منه ،ول يعد
النص أو دللته جزءاا من المعنى ،أو ظاهرةاا يجبِّ أن تتكرر في
نصوص ودللت كثيرةا لكي يثبت المعنى الكلي .فهذا التكرر هو
الطراد الذي يفيد الستقراء الذي قاله الشاطبي ،وليس هكذا
تستفاد الحكاما ،وإنما تستفاد من دللت النصوص أي من الدلة
التفصيلية ،ولذلك عرفَّ الفقه بأنه العلم بالحكاما الشرعية
العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
ول يوجد عملية اسـتقراء تتبـع لجل التوصل إلى كليات
تسـتنبط منها أحكاما الجزئيـات ،لن النصوص موجودةا وجاهزةا
لتسـتنبط منها الحكاما ،والقواعـد هي بدورها تسـتنبط اسـتنباطاا
من النصوص وقد تكون ظنية وقد تكون قطعية ،وتتفرع على
أساسـها الحكاما لنها هي أصلا قواعـد شرعية مستمدةا من
النصوص الشرعية.
فهذا الستقراء وإن كان منهجاا عقلياا صحيحاا ،فليس له
موقع في دللت النصوص ،والشاطبي باعتماده الستقراء تعامل مع
النصوص الشرعية كما يتعامل مع الظواهر الطبيعية والمادية،
فكأن النصوص ظواهر لها صفات وخصائص هي معانيها ولهذه
الخصائص علل أو نتائج هي الحكم والمصالح .ومثلما يبحث
الباحث عن خصائص الشياء ليكتشفها وعن أسباب وعلل الظواهر
ليكتشفها ويستفيد من ذلك ويبني عليه ،بالملحظة والختبار
والتتبع والستقراء ،مثل ذلك فعل الشاطبي لفهم معاني النصوص
وعلل الشريعة وأصولها .والشاطبي نفسه يقرر هذا المر ،لذلك
فبعد أن بين خواص الكليات في منهجه قال» :وهذه خواص الكليات
العقليات ،وأيضاا فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود ،وهو أمر
634
وضعي ،ل عقلي ،فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا العتبار وارتفع
الفرق بينهما«هل ) . (1وكذلك عندما تحدثا عن السباب والمسببات
في الشرع استدل على ما يذهبِّ إليه ،بالسباب والمسببات في
العقليات أو في الوقائع المادية ،قال» :إيقاع السببِّ بمنزلة إيقاع
المسببِّ قصد ذلك المسببِّ أو ل .لنه لما جعل مسبباا عنه في
مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرةا ،ويشهد لهذا قاعدةا مجاري
العادات إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى
الطعاما ،والرواء إلى الماء والحراق إلى النار والسهال إلى
السقمونيا وسائر المسببات إلى أسبابها فكذلك الفعال التي تتسببِّ
عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا .وإذا كان هذا
معهوداا معلوماا جرى عرفَّ الشرع في السباب الشرعية مع
مسبباتها على ذلك الوزان«هل). (2
بناءا على هذا فإن منهج الستقراء هذا ليس هنا موضعه ،إضافة
إلى أن النصوص الشرعية ليست ظواهر مادية تستقرأ ،والنصوص
الشرعية لها دللت يجبِّ العمل بها سواء كانت ظنية أو قطعية،
وهذا المنهج مخالف لما عليه الئمة المعتبرون ،لذلك فإنه خطأ
ول سبيل إلى العمل به.
أضف إلى ذلك أن هذا الستقراء ناقص ،ول يمكن أن يكون
تاماا ،فل يتأتى فيه القطع أصلا بحسبِّ واقع الستقراء ،وهو ليس
استقراءا لكثر الجزئيات ،بل هو كما يقول الشاطبي استقراء
لجزئيات كثيرةا ،وهذه الكثيرةا ليست هي الكثر ،فل يصح بحسبِّ
منهج الستقراء إثبات الكلي بهذا الستقراء الناقص وإعطاء حكم ما
استقرئ لما لم يستقرأ .نعم ،إن النصوص الكثيرةا المتضافرةا على
معنى واحد قد تؤكد على أهمية هذا المعنى أو تزيد درجة الظن به
ويمكن أن يحصل القطع به ،وهذا ليس من الستقراء وإنما من
635
الستنباط ،فالنصوص تستنبط منها معانم وتحتمل غيرها ،فإذا كان
هناك معنى مشترك في نصوص كثيرةا ،فكثرةا النصوص تغلبِّ الظن
بأنه المقصود ،فيثبت المعنى ،ولكن هذا ليس استقراءا ،ولو كان
الستقراء مطلوباا لما ثبت المعنى .وليس بالضرورةا أن يكون هذا
المعنى كلياا ،فإن هذا يعتمد على المعنى نفسه .فلو كثرت
النصوص الدالة على حرمة الزنا أو على وجوب الصلةا ،فلن تصبح
هذه الحكاما كلية لنها في موضوعها جزئية ولو كانت قطعية.
ولو دل نص واحد على قاعدةا عامة أو كلية فلن يتوقف في اعتبار
القاعدةا بحجة أن الدال نص واحد أو ظني ،وذلك كقوله » : ل
ضأرر وأل ضأرار«) . (1فهو خبر آحاد وهو أيضاا قاعدةا كلية ،ول
يلزمه ليكون كذلك أن يكون قطعياا ،ول ما حشده الشاطبي من
أدلة في المعنى ،وإن كانت كثرةا الدلة تؤكد المعنى وقد تجعله
قطعياا.
ورب قائل يقول إن الستقراء الناقص يورثا القطع بالحكم
الكلي ويؤدي إلى تطبيقه على ما لم يستقرأ ،وبشكل قاطع ،فإنا نجد
أن الحديد يتمدد بالحرارةا وتتكرر الملحظة بل تخلف فيحكم
بالحكم نفسه على كل الحديد .والخشبِّ يطفو على الماء فيحكم
بهذا على كل الخشبِّ ،والناس يموتون فيحكم بذلك على الحياء
وعلى من سيولد ،والشمس تطلع كل يومام وتغيبِّ فيحكم بان هذا
يحصل غداا وبعد غدم ،وبأنه كان يحصل قبل وجودنا ،ولدينا شعور
قوي بأن هذه الحكاما قطعية مع أن المستقرأ أقل بكثير مما لم
يستقرأ .وعليه فل يصح العتراض على صحة الستقراء الناقص
وإفادته القطع.
والجواب إن الستقراء في مثل هذه الحالت ل يكون إل ناقصاا،
وإن أمكن أن يكون كثيراا فلن يكون أكثرياا ،ومع ذلك فهو يفيد
الحكم فيما لم يستقرأ .نعم ،ولكن هذا ليس راجعاا إلى الستقراء،
636
بل إلى شيء آخر إضافة إلى هذا الستقراء ،وهذا الشيء هو بمثابة
العلة التي تؤدي إلى تعدية الحكم مما استقرئ إلى ما لم يستقرأ
وإلى كل ما توجد فيه هذه العلة العقلية أو المنطقية )وليس
الشرعية( ،فهذه العلة مع الستقراء تؤدي إلى إطلق الحكم الكلي
ويحكم على ما لم يستقرأ بالقياس .ففي مثال الحديد الذي يتمدد
بالحرارةا العلة هي المماثلة أو انتفاء الفرق بين ما استقرئ وما لم
يستقرأ .وهذا ما يؤدي إلى إثبات الكلي وتطبيقه ،ولو لم يدرقك
ذلك مين يعمل هذه العلة هنا .فالناس يحملون مفهوما أن ما ثبت
للشيء ثبت لمثله ،وهذا يعمل لديهم ولو بغير قصد منهم كما
تجري الدورةا الدموية في الجسد ،فهو يوجد لدى النسان مع تشكل
عقله ونموه .وعدما التنبه لثر هذه المماثلة أو غيرها مما قد يكون
علة خفية للحكم هو الذي يوقع في الخطأ فيتوهم أن الستقراء
الناقص يفيد ،ومثل هذا يقال في سائر المثلة المذكورةا.
فطلوع الشمس والقمر وغيابهما وتكرر ذلك بشكل منتظم
يؤدي إلى الشعور بأن هناك نظاماا يحكم هذه الحركة ،وهو الذي
جعلها تتكرر بانتظاما وبغير تخلف ،فكان هذا النظاما بمثابة العلة
لحدوثا هذه الحركة المنتظمة .وهذه العلة أو النظاما هي التي
تدفع إلى الحكم غداا أو بعد غدم بما يقتضيه النظاما المدرك .فبما
أن العلة الموجودةا اليوما موجودةا غداا فسيتكرر المر .ولو علم أن
واضع هذا النظاما سـيغيره غداا ولن تطلع الشـمس أو سـتطلع من
مغربها ،لتغير الحكم ،مما يؤكد أن إطلق الكلي وتطبيقه على ما
لم يسـتقرأ ليس راجعاا إلى السـتقراء وإنما إلى العلة .ومما
يؤكد هذا التفسير أمران:
الول :أن الجزئيات المستقرأةا قليلة جداا ول تكاد تذكر في
مقابل ما لم يستقرأ ،بل يكفي أن يكون المستقرأ فرداا واحداا أو
جزئية واحدةا وذلك ليعرفَّ منه الوصف أو الحكم المطلوب ثم
تكون العلة )القياسية المنطقية( بعد ذلك سبباا لطلق الحكم
637
بالكلي على الباقي .لذلك فالعلة هي سببِّ الكلية وليس الستقراء.
الثاني :أن الحكم الكلي الذي يتعدى من المستقرأ إلى ما لم
يستقرأ ل يتعدى إلى ما ل توجد فيه العلة .فالحكم على الحديد ل
يتعدى إلى غير ما هو مثله .وكذلك في الخشبِّ وفي النسان
وكذلك في الشمس والقمر والفلك ،فل يحكم على القمر غداا
بما يحكم به على الشمس غداا ول العكس ،لن العلة في الحالتين
وإن كانت هي النظاما ولكن نظاما الشمس غير نظاما القمر ،فسببِّ
الكلية هو العلة وليس الستقراء .هذا هو الستقراء الناقص في
الظواهر المادية ،فهو ل يفيد إل إذا علم بوجود علة .فكيف يطبق
على نصوص الشارع التي تتعدد دللتها ،وإذا كان الستقراء يحتاج
إلى علة ليكون مفيداا ،والشاطبي يستعمل الستقراء لجل فهم
العلل ،فكل واحد من الثنين يحتاج للخر ول يوجد إل بعده ،وعلى
ذلك فمنهج الستقراء الناقص ساقط ومردود ول وجود له أصلا
في النصوص الشرعية ،وهذه العلل لن توجد بهذا المنهج ،وإن
وجدت فستوجد بالستنباط بوصفها عللا شرعية وليس عللا مادية
أو منطقية.
مإعارضأة الجزئاي للكلي:
ذهبِّ الشاطبي إلى أن الكلي ل ينخرما بمعارضة الجزئيات له،
وذلك بناء على أن الكلي قد ثبت كلياا بالستقراء فهو قطعي
والجزئي ظني ،فإما أن ييؤيوييل الجزئي ليتفق مع الكلي وإما أن
يرد.
وذهبِّ أيضاا إلى أنه ل بد من إعمال الكليات والجزئيات معاا،
فل ييستغنى بالكليات عن الجزئيات ول بالجزئيات عن الكليات.
وهذان المران صحيحان من حيث نتائجهما ،ولكنهما ل
يستقيمان بناءا على منهجه ،أي ل يستقيمان بناءا على أن الكليات
هي كليات استقرائية مأخذها الجزئيات ،ففي المر تناقض حاول
الشاطبي أن يرفعه.
638
قال بشأن إعمال الكليات والجزئيات معاا» :محالي أن تكون
الجزئيات مستغنية عن كلياتها فمن أخذ بنص مثلا في جزئي
معرضاا عن كليه فهو مخطئ ،كذلك من أخذ بالكلي معرضاا عن
جزئيه ،وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض
الجزئيات واستقرائها ،فالكلي من حيث هو كلي غير معلوما لنا قبل
العلم بالجزئيات ولنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن
في الجزئيات كما تقرر في المعقولت ،فإذاا ،الوقوفَّ مع الكلي مع
العراض عن الجزئي وقوفَّ مع شيء لم يتقرر العلم به دون العلم
بالجزئي ،والجزئي هو مظهر العلم به ،وأيضاا فإن الجزئي لم
يوضع جزئياا إل لكون الكلي فيه على التماما وبه قوامه ،فالعراض
عن الجزئي من حيث هو جزئي ،إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة
وذلك تناقض .ولن العراض عن الجزئي جملةا يؤدي إلى الشك
في الكلي من جهة أن العراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو
توهم المخالفة له .وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من
الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لمكان أن يتضمن
ذلك الجزئي جزءاا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءاا منه ،وإذا
أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ودل
ذلك على أن الكلي ل يعتبر بإطلق دون اعتبار الجزئي«هل) . (1ثم
قال» :فإذا ثبت بالستقراء قاعدةا كلية ثم أتى النص على جزئي
يخالف القاعدةا بوجه من وجوه المخالفة فل بد من الجمع في
النظر بينهما«هل) . (2ثم قال» :فل يمكن والحالة هذه أن تخرما
القواعد وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي«هل). (3
هذا النص مهم في منهج الشاطبي .وفيه أمور ،منها أن
الجزئيات هي مصدر الكليات ولول الجزئيات لم تعرفَّ الكليات،
639
والكليات ليس فيها أي معنى غير موجود في الجزئيات ،وإذا تعارض
الكلي مع الجزئي فهذا يعني أن الكلي لم يتحقق كونه كلياا بعد،
فل بد من الرجوع إلى الجزئي للتحقق من حقيقة المعنى الكلي
وضبطه لرفع التعارض ،وإذا ثبت الكلي كلياا وخالفه الجزئي فل
بد من رفع المخالفة ،ول يمكن إلغاء أحدهما ،فالكلي ثبت كلياا
قطعياا فل تصح مخالفته ،والجزئي ل يمكن أن يلغى لجل اعتبار
الكلي ،فالكلي ـ كما قال ـ مصدره الجزئيات ،والشك بالجزئي
شك بالكلي.
ولكن هذا اختلف في موضع آخر .قال» :القواعـد المطردةا
كليات ول تنهض الجزئيـات أن تنقض الكليـات ،ولذلك تبقى
أحكاما الكليات جارية في الجزئيـات وإن لم يظهر فيها معنى
الكليات على الخصوص«هل). (1
وهذا تناقض مع ما سبق ،إذ كيف يجري معنى الكليات في
الجزئيات دون أن يظهر ذلك ،والكليات أصلا ل تعرفَّ إل من
الجزئيات ،والجزئي هو مظهر العلم بالكلي؟! وقال» :فإنها لو
عارضتها فإما أن يعمل معاا ،أو يهمل أو يعمل بأحدهما دون الخر
أعني في محل المعارضة ،فإعمالهما معاا باطل ،وكذلك إهمالهما
لنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي ،وإعمال الجزئي
دون الكلي ترجيح له على الكلي ،وهو خلفَّ القاعدةا ،فلم يبق إل
الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب«هل). (2
وهذا تناقض أوضح مع ما سبق ،فهو هنا يقول» :فإعمالهما معاا
باطل«هل وهناك قال» :ل يمكن إعمال أحدهما وإلغاء الخر«هل ،وهو
هنا يقول» :إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب«هل وهناك قال
إن الشك بالجزئي شك بالكلي ،وإنه ل بد من النظر للجمع بينهما،
فهذا تناقض سببه المنهج وهو الستقراء.
640
قد يقال :ولكن هذا الذي ذهبِّ إليه الشاطبي هو المعتمد
المعهود عند الئمة وهو إجراء القواعد والصول الشرعية عند
إجراء النصوص التفصيلية ،وكذلك عند التعارض بين قطعي
وظني يرد الظني إذا لم يمكن الجمع بينهما.
والجواب إن هذا صحيح ولكن ل يحصل تناقض في منهج
الستنباط لن الشك بالظني ورده ل يعني تشكيكاا بالقطعي ،لن
القطعي هناك ليس مأخذه استقراء الظنيات أو الجزئيات ،أضف إلى
ذلك أنه إذا تعارض الكلي مع الجزئي أو العاما مع الخاص فيمكن
تخصيص أحدهما بالخر ،ول يعد هذا تناقضاا أو نقضاا لشيء ،لن
الكلي لم يؤخذ من استقراء الجزئيات ،لذلك قيل في بداية بحث
هذه المسألة إن هذين المرين عند الشاطبي صحيحان من حيث
نتائجهما ،ولكنهما ل يستقيمان بناءا على منهجه .إضافةا إلى هذا
التناقض في المنهج فإن النقض له يأتي أيضاا من جهتين:
الولى :إن الجزئي الذي قال بإهماله إذا تعارض مع الكلي ولم
يمكن الجمع بينهما قد يكون نص حديث صحيح أو معنى نص
قرآني .والكلي الذي يقول به ليس كلياا ول قطعياا كما تبين ،إذ
الستقراء الذي يقول به ناقص وليس تاماا ،لذلك فإن تأويل معنى
النص أو رد الحديث بسببِّ معارضته لهذا الكلي ل يصح على إطلقه.
الثانية :إن هذا المنهج يلزما منه الستغناء بالكليات عن
الجزئيات ،وهذا ما حاول الشاطبي التفلت منه .وسيأتي -إن شاء ال
-بحث هذا المر في المبحث الثالث من هذا الفصل.
التواتر المعنوي:
ذهبِّ الشاـطبي إلى أن السـتقراء يفيد تواتـراا يشـبه
التواتـر المعنوي ،وشـبه القطـع المستفاد من السـتقراء بالقطع
بشـجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم ،وهو قطع سببه التواتر
لكثرةا النقول التي تفيد ذلك.
641
إن القطع الذي يفيده التواتر ل يرجع إلى الستقراء وإنما إلى
الكثرةا مع شروط) . (1قال الزركشي» :المتواتر ،وهو لغةا :ترادفَّ
الشياء المتعاقبة واحدم بعد واحدم بمهلة ،واصطلحاا :خبر جمعم
يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم ،عن محسوس«هل). (2
وقال» :التواتر قد يكون لفظياا وقد يكون معنوياا وهو أن يجتمع
من سبق ذكرهم على أخبار ترجع إلى خبر واحد كشجاعة علي
رضي ال عنه وجود حاتم«هل) . (3ثم ذكر أن البعض قد نازع بشجاعة
علي لن شجاعته متواترةا لفظاا ومعنىا). (4
فالكثرةا في التواتر هي كثرةا مجتمعة على خبر ،فإذا كان
الخبر نقلا عن النبي يكون حديثاا قطعي الثبوت ،وقد يكون قطعي
الدللة وقد ل يكون كذلك ،وإذا كانت الكثرةا مجتمعة على عدةا
أخبار ،بعضهم يروي خبراا وغيرهم يروي غيره وهكذا ،وكل واحد
من هذه الخبار ل يبلغ حد التواتر ،ولكنها تشترك كلها في معنىا
معين .فهذا المعنى يكون متواتراا ،وهذا هو التواتر المعنوي،
ويكون المعنى قطعياا.
والجزئيات المستقرأةا عند الشاطبي نوعان :نصوص شرعية
وأحكاما شرعية ،فإذا كان الستقراء هو لنصوص شرعية فل إشكال
في ذلك من حيث النتيجة ،وقد يكون هو التواتر المعنوي نفسه
وليس شبيهاا به ،كما لو كان استقراءا لدللت أخبار آحاد ،سوى
أن هذا ليس استقراءا وإنما استنباط من النصوص ،وقد سبق
الحديث عن استقراء الجزئيات إذا كانت نصوصاا شرعية تحت
عنوان) :الستقراء( في هذا المبحث .والحديث الن عن استقراء
الحكاما الشرعية ومعانيها .
642
إن الحكاما الشرعية هي من معاني النصوص الشرعية
ومدلولتها ،وكذلك القواعد الشرعية .واللفاظ والنصوص هي
التي يبحث لها عن معنى ،فإذا عرفَّ المعنى فقد عرفَّ قصد الشارع
بها ،والمعاني الشرعية هي معانم قصدها الشارع ول علم للعبد بها
إل من جهة خبر منه تعالى .وأخبار ال -سبحانه وتعالى -
مصادرها القرآن والسنة والجماع والقياس ،ومع اعتبار الخلفَّ
فهي القرآن والسنة وما أرشدا إليه .وهذه هي مصادر النصوص
الشرعية ،ول يكون معنىا شرعياا إل إذا كان مصدره النصوص
الشرعية.
وعليه ،فإن كانت معاني الحكاما التي يقصدها الشاطبي من
مدلولت النصوص الشرعية فهي شرعية ،وإن لم تكن كذلك فهي
ليست شرعية ،وإذا كانت من مدلولت النصوص فهي معانم
للنصوص ،فتكون معتبرةا.
ومقصود الشاطبي بمعاني الحكاما هو حقكيميها أو مسبييباتها
أو مصالحها أو مقاصدها أو عللها ،ول يقصد كونها معانم
للنصوص.
ومعاني الحكاما ل وجود لها ،وإنما هناك معانم لللفاظ
وللجمل تدل عليها هذه اللفاظ والجمل بأي نوع من أنواع
الدللة ) . (1فإذا عرفت المعاني فل معنى لن يبحث لها عن معانم ،ول
يصح أن يقال إن هذه المعاني مقصودةا للشارع ،إذ لو كانت
مقصودةا له لنصبِّ لها دليلا أو وضع لجلها أمارةا .وحينذاك فهي
من دللت النصوص ،ول ضير في أن يسرح الفكر أو الخيال في
أسباب الحكاما أو عللها أو مقاصدها وحكمها ،خاصة وأن في النفس
الدللة اللغوية تنحصر في ثلثة :المطاب قــة والت ضــمن واللــتزاما، )( 1
الول :دللة اللفظ على تماما ما و ضــع لــه .والثــاني :دللتــه علــى جــزء
المسمى .والثالث :دللته على ما هو خارج عــن الم ســمى ولكنــه لزما لــه.
أنظر :الزركشي ،البحر المحيط 417 / 1 ،و . 1/420
643
ما يدفع إلى هذا ،فيصادفَّ الظن معاني أو حكم يقع عليها ،فيطمئن
إليها أو يتفرييج بها .ولكن ل يصح بحال أن يضفى على هذه الظنون
أي قيمة شرعية ،أو أن تنسبِّ إلى ال -سبحانه وتعالى -فيقال إنها
مقصودةا له ،أو إنها علة لحكمه ،فمثل هذه الظنون هي خيالت
وليست مستندةا إلى أي مصدر شرعي ،وبما أنه ل دليل عليها فل
اعتبار لها.
والشاطبي ل يخالف في هذا ،بل إنه يؤكده ،وهو ل يقبل الظن
الشرعي أصلا إل إذا كان راجعاا إلى معنى قطعي .ومثل هذه
التعليلت للحكاما ظنون ل اعتبار لها ،ولكن إذا تضافرت الحكاما
على معنى وحصل الستقراء يكون المعنى قطعياا ويكون مصلحة
وعلةا وأصلا ومقصداا ،وكل ذلك على سبيل القطع.
والعتراض هو كيف سيحصل هذا التواتر المعنوي ،أو
التضافر من آحاد الحكاما على هذا المعنى ،إذ لم يكن هناك أي قيمة
شرعية لهذا المعنى في أي حكم ،إذ الحكاما ل تدل على معان ،وهذه
المعاني ليست من مدلولت النصوص.
فإذا كان في كل حكم من هذه الحكاما التي تستقرأ ل قيمة
شرعية لهذا المعنى ،فكيف سيكتسبِّ المعنى القيمة الشرعية
باجتماعها ،فإذا امتحن شخص مثلا بعشرين سؤالا وحصل في كل
سؤال على صفر ،فكيف سيكون مجموعه مائة من مائة؟ أي كيف
سيحصل القطع بالمعنى من استقراء الجزئيات التي يتخيل فيها هذا
المعنى إذا كان ل اعتبار له شرعاا في أي جزئيةم منها؟ وهذا يذكر
بقول الحنافَّ الذي ورد سابقاا وهو :وبكثرةا النظائر ل تحصل قوةا
في الوصف.
أما تمثيل الشاطبي بشجاعة علي رضي ال عنه وجود حاتم
فليس من قبيله استقراء معاني الحكاما ،إذ شجاعة علي وجود حاتم
هي من دللت النصوص الواردةا عنهما وليس من دللت معاني
النصوص ،فهي من المتواتر المعنوي حقيقة إن صحت النصوص ،بل
644
نازع البعض بأن شجاعة علي من التواتر اللفظي.
وخطأ الشاطبي هنا يأتي من جهتين:
الولى :خطأ في المنهج ،وهو القول بمقاصد معينة للشارع
من غير أي دليل .وفوق ذلك زعم القطع بها ،ناهيك عن الستقراء
الناقص وما فيه.
الثانية :إن الشاطبي نفسه قد قرر أن هذه المعاني ليس عليهــا
أي دللة شرعية ،وإنما هي خادمـة للمقاصـد الــتي هـي مـن دللت
النصوص) . (1ولو كان عليها دللة من النصوص لكانت من مقاصدها
الصلية .ومع ذلك فقد جعلها باستقرائه لها من المقاصــد الكليــة
القطعية وهذا ل يستقيم ،إقرأ قوله مثلا» :فما يؤمننا مــن ســؤال
ال تعالى لنا يوما القيامة من أين فهمتم عني أني ق صــدت التجن يــس
الفلني بما أنزلت من قولي [ :
، (2)] أو قولي ، (3) ] [ :فإن
في دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطراا ،بــل
هــو را جــع إ لــى قــوله ت عــالى [ :
، ( 4)] وإلى أنه قول في كتاب ا لــ
بالرأي«هل). ( 5
رب قائل يقول :إن القول بهذه المقاصد أو العلل -بنظره -
مبني على القول بأن الصل تعليل الحكاما ،لذلك فهو يتتبع الحكاما
للتحقق من عللها الشرعية.
والجواب :إن هذا الصل على فرض التسليم به يجيز التعليل،
645
ولكن العلل كثيرةا والخيالت أكثر ,وتعيين هذه العلة أو تلك
من غير أي إرشاد أو إشارةا أو علمة من الشرع تدل على نوع العلة
أو جنسها هو قول بغير دليل .فل بد مع هذا الصل من مسلك
للعلة أو دليل عليها .ولذلك تجد علماء الصول المتكلمين الذين
ثبتوا أصل التعليل يثبتون معه مسالك للعلة مثل الخالة
والمناسبة ،والشبه ،والسبر والتقسيم ،والطرد والعكس وغيرها.
646
المبحث الثالث
مإناقشـة فكـرة الشـاطبي
المقاصـد وأالعلل
مإوضأوع هذا المبحث:
نتابع هنا ما بدأناه في المبحث السابق وهو مناقشة فكرةا
المقاصد عند الشاطبي ،وما نناقشه في هذا المبحث هو أساس الفكرةا
وهو أن أفعاله -سبحانه وتعالى -معللة ،وأنها معللة بغاياتها أو
مقاصدها ،ومما سيتناوله هذا المبحث أيضاا إحدى النتائج المهمة
لهذا المنهج وهي استغناء المجتهد عن الجزئيات في الجتهاد إذا تم
له فهم المقاصد جملةا وتفصيلا.
ولم يكن الشاطبي -رحمه ال -وحده الذي قال بأصل التعليل
ول بالمقصد أو الغرض من الفعل ،لذلك سنتعرض بإيجاز لمناقشة
تلك القوال .ويجدر التذكير هنا أن هذا الموضوع قد عرض
بشيء من التفصيل في الفصل الول.
أصل التعليل:
وللبحث اتجاهان قد يختلطان عند البعض ،لذلك وجبِّ
التفريق بينهما .أحدهما :إن أفعال ال -سبحانه وتعالى -معللة
بالغرض ،فهو ل يفعل إل لغرض وهذا ما تقتضيه الحكمه ،ونقيض
ذلك هو العبث ،وتعالى ال عن ذلك ،وإذا ثبت أنه ل يفعل إل
لحكمةم أو غرض ،فينطبق هذا على أحكامه فل بد أن يكون لكل حكم
قصد ،وهو علة الحكم ،فوجبِّ تعليل الحكاما.
والثاني :إن الحكاما الشرعية معللة ،بناء على الدلة الدالة
على أن الشريعة رحمة للناس وشفاء ،وأيضاا بناء على الوقوع ،فإن
الناظر في أحكاما الشريعة يجد أنها مقارنة للمصالح أو أسباب لها،
وكذلك يجد من الحكاما ما هو معلل بعلل تدل على مراعاةا
647
المصالح مما يدل على أن الصل تعليل الحكاما بالمصالح.
أما التجاه الول فهو بحث كلمي ل علقة له بأصول الفقه
وإن أدخل في أبحاثه ،ول صلة له بالقياس وإن ربطه البعض به.
وقد تبين فيما سبق أن الرازي رد تعليل أفعال ال ورد لفظ الغرض
في أفعال ال رداا قاطعاا مع أنه يقول بالقياس وبأصل التعليل
للحكاما.
أما التجاه الثاني فهو مبحث أصولي بشرط أن يفصل عن
تعليل أفعال ال ،وبغض النظر عن النتيجة أي أن الصل التعليل أو
عدما التعليل.
قال الزركشي» :ونقل ابن الحاجبِّ في الكلما على السبر
والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه ل بد للحكم من علة واستشكل
ذلك بالصل المشهور أن أفعال ال ل تعلل بالغرض«هل ) . (1وقال:
»واعلم أن مذهبِّ أهل السنة أن أحكامه غير معللة بمعنى أنه ل
يفعل شيئاا لغرض ،ول يبعثه شيء على فعل شيء ،بل هو ال تعالى
قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها وإعداما المضار بدون
دوافعها .وقال الفقهاء :الحكاما معللة ولم يخالفوا أهل السنة بل
عنوا بالتعليل :الحكمة .وتحجر المعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء
واسعاا ،فزعموا أن تصرفه تعالى مقيد بالحكمة مضيق بوجه
المصلحة«هل ) . (2فالغالبِّ عند المسلمين الفصل بين المرين ،وأن ال
تعالى ل يفعل لغرض ،وفي مناقشات الكلميين من علماء الصول ما
يرجح قول الرادين لتعليل أفعال ال ،بل أدلتهم قاطعة كما قال
الرازي.
رد تعليل أفعال الله تعالى:
اختلف القائلون بهذا في طرق الثبـات ،فأسـاس الفكرةا عند
648
بعضـهم هو أن ال -سـبحانه وتعالى -حكيم في صنعه ،فرعاية
الغرض في صنعه إما أن يكون واجباا أو ل يكون واجباا ،فإن كان
واجباا فلم يخلي عن المقصود ،وإن لم يكن واجباا ففعله للمقصـود
أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود). (1
وبعض ما يقال رداا على هذا المنطق هو أن ال حكيم في فعلــه
وفي عدما فعله ،فهو حكيم مطلقاا ،ولكن الذي يوجبِّ على ال تعــالى
أن تكون أفعاله أقرب إلى المعقول يجبِّ أن يكون عنــده مــن العلــم
والعقل ،ومما ل يعلمه إل ال ما يرتقي بحكمته إلى حكمة ال ،إلــى
اللمحدود .أما من كانت حكمته ل شيء أماما حك مــة ا لــ ،ف عــن أي
معقول يتحدثا؟ ! فمثل هذا الكلما ينطوي على غفلةم في قياس الــ
على النسـان ،وهو يمكن أن يقـال عــن أفع ـــال العقلء والحك مــاء.
فال -سبحانه وتعالى -حكيم ،والن ســان ل يــدرك حكم تــه ل نــه ل
يدرك من الحكم والمعقولت إل بعض ما يتعلق بمحسوساته ،وعالم
الغيبِّ محجوب عن الناس ،فما الذي يوجبِّ أن تكون آثار حك مــة ا لــ
أو مظاهرها متعلقة بمدركات ومحسوسات البشر ،وا لــ -ســبحانه
وتعالى -يقول. (2) ] [ :
إن قصور العقل النساني ومحدوديته وعجزه عن إدراك ذات
ال وعن البحث في المغيبات تمنعه من إدراك حكمة ال في صنعه
وأحكامه بغير خبرم منه تعالى ،فهو قد يرى المصلحة مفسدةاا
والمفسدةا مصلحة وقد يرى ما هو نقيض الحكمة ،وإذا قاس
المغيبات على المحسوسات فقد يخرج بنتائج مناقضة للحقائق
القطعية ،وذلك مثل الذين ذهبوا إلى أن ال ل يفعل إل لغرض ،فقد
وقعوا في قياس ال على النسان ،فوصلوا إلى نتيجةم مقتضاها أن
ال -تعالى -مستكمل بالغرض ،ومثل هذا الكلما ينطبق على النسان
649
وليس على ال .ولو استعمل منطق هؤلء نفسه لمكن أن يؤدي إلى
نتائج مناقضة لنتائجهم وفاسدةا .فمن أفعال ال مثلا الخلق وقد
يقال :كان ال وليس معه غيره ثم خلق خلقاا ،فإما أن يكون خلقهم
لحكمة أو ل لحكمة ،فإن كان لحكمة فالحكمة موجودةا منذ الزل
وهو لم يخلقهم من الزل ،فلم يبق إل أن يكون ل لحكمة ،وهذا
فاسد .ومصدر فساده أنه إعمال للعقل فيما ل علم له فيه ،مثل
الذين أثبتوا الغرض .وكذلك فإن الخطأ نفسه يدخل نتائجهم
التي بنوا عليها ،فقد قالوا :إن ال ل يفعل إل لمصلحة والمصلحة
إما أن ترجع إلى ال تعالى وإما أن ترجع إلى العبد ،وال منزه عن
الضرر والنتفاع ،فلم يبق إل أن ترجع إلى العبد ،وهذا أيضاا خوض
في المجهول ،فباستعمال المنطق نفسه يمكن القول :إن ال ل يفعل
إل لمصلحة ،والمصلحة إما أن ترجع إلى ال أو إلى العبد ،ومن
فعله -تعالى -خلق العبد ،فإما أن ترجع مصلحة هذا الخلق إلى ال
تعالى أو إلى العبد ،ل يمكن أن ترجع إلى العبد لنه قبل الخلق
معدوما ول يتصور للمعدوما مصلحة .فلم يبق إل أن تكون المصلحة
راجعة إلى ال تعالى ،وهذا فاسد ،لنه إعمال للعقل فيما ل يعمل
فيه ،واتخاذي لعدما العلم دليلا على العلم ،وإذا كان ل بد من قولم
في المصلحة وفي رجوعها إلى جهةم ما ،فالصح أن يقال :المصلحة
إما أن ترجع إلى ال تعالى أو إلى العبد أو إلى ما ل نعلم ،وبهذا
يسقط هذا الدليل.
وذهبِّ البعض إلى أن أفعاله -تعالى -ل تعلل ،ومع ذلك
فالصـل في الفعـال التعليـل بالمصلحة) ، (1وذلك بناء على
ملحظة مقارنة الحكاما للمصالح ،وهذا السـتدلل هو من
السـتقراء الناقص لذلك ل يصح ،إذ تبين فيما سبق أن الستقراء
الناقص ل يكون دليلا ،وإنما الدليل هو العلة المصاحبة له.
ومن الدلة على أن أفعاله -تعالى -معل لــة ،وأ نــه ل يف عــل إل
) ( أنظر أقوال الرازي في المبحث الثالث من الفصل الثاني . 1
650
لغايةم أو قصد ما ذهبِّ إليه الشاطبي وهو السـتقراء ،ولكنه مختلف
عن الســتقراء المذكور أعله -وهو استقراء الــرازي -فـالرازي
استقرأ الحكاما ليثبت أصل التعليل بالمصالح ،ونفى تعليـل الفعال.
أما الشـاطبي فقد اســتقرأ النصوص ،وكان ذلـك بالك ثــار مــن
النصوص التي جـاء فيـها ذكر القصـد كما في قوله تعالى [ :
[، ] [، ] [، [ ، ]
ج
) ( أنظر الموافقات ، 3/2 ،وانظر تفصيلت هذا الدليل في المبحث الثالث 1
651
)(1
الي ة ،وقــوله تعــالى [ : ]
)(2
الية ،وقوله تعالى [ : ]
(3) ] الي ة ،وليــس حمـــل هـــذه
النصـوص على تلـك في إثبـات الغـرض بأولى م ـــن ح مــل تلــك
على هذه في نفيه.
الثالث :إن كثيراا من استدللت الشاطبي على القصد
والغرض ترجع إلى التحكم ول تصلح ليبنى عليها تعليل الفعال
والحكاما ،وهذه الستدللت نوعان:
أحدهما :كقوله تعالى [ :
. (4)] فهذا النص دل
على قصد حصول التقوى ،والتقوى نفسها هــي خــوفَّ ا لــ و طــاعته
وعدما مخالفة أمره وتحري رضاه ،ف هــذا الق صــد ل ير جــع إل إ لــى
التحكم ،وليس فيه ما يفيد أن الحكاما معللة ،وهو ليــس م مــا يبنــى
عليه ذلك ،ومن ذلك أيضاا قــوله ت عــالى [ :
، (5)] فمثل هذا أيضاا ل يرجع إلى إثبــات
قصد أو غرض مما يبنى عليه تعليل الحكاما ،ل بما لـو عـرض علـى
العقول تلقته بالقبول ،ول بمسببات أو مآلت.
[، ]
ثانيهما :كقوله تعالى[، ] [ :
، ] فهذه الستدللت ليس فيها ما يصلح لن ينبني عليه
أصل تعليل الحكاما .فهي إخبار من الشارع يفيد التكليــف بالعبــادةا
والتقوى وبأن يجتهدوا في ذلك ،وتحذير لهم بأنهم ليس لهم حجة
يوما القيامة بما بلغهم من الرسالة .فكيف الربط واســتنتاج تعليــل
الحكاما بمثل هذه النصوص؟!
652
ولقد عد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كل استدللت
الشاطبي على هذا المر غير صالحة سوى اثنين ،فأي استقراء يبقى
بعد ذلك؟!
الرابع :إن ما استدل به الشاطبي على الغرض ينعكس فيســتدل
به على نفيه ،ففي قوله تعالى [ :
. ]إذا سأل سائل :لماذا خلق ال الناس و جــاءه ال جــواب:
لكي يعبدوه .فإن هذا ل يشفي مــا فــي الن فــس إذا كــان المطلــوب
معرفة علةم أو غرض ،فيتحول السؤال إلى سؤال آخر :ل مــاذا يريــد
ال من الناس أن يعبدوه؟ ما الغرض مــن ذلــك؟ والنــص ل يــذكر
الغرض ،وإنما يأمر بعبادته ول يذكر قصداا أو غرضاا .وهكذا فــي
كل دليل من أدلة الشاطبي يم كــن أن ي ســتدل علــى ع كــس مــا أراد،
فيقال وما الغرض من ابتلء الناس أيهم أحسن عملا ،و كــذلك مــا
الغرض من قطع حجة الناس يوما القيامة،وهكذا فكل نــص أتــى بــه
الشاطبي وفيه ذكر القصد أو الغاية أو الغرض ،فإن فيه أيضاا عـدما
ذكر ذلك ،مما يدل على عدما صحة هكذا استدلل.
ول جواب في الحقيقة على مثل هذه الســئلة إل أن يقــال [ :
1 )2
[ [ ، ]
( ) (
]،
)( 4 3
. ] [ ، ]
) (
لذلك فإن الذين جادلوا في حرمة الربا محتج يــن بــأنه م ثــل
البيع لم يأتهم الجواب ببيان وجوه الفرق بين البيع والربا ،أو ببيان
الحكمة من تحريم الربا .بل جاء الجواب تحكماا ،قال تعالى [ :
653
. (1) ] لذلك فما استدل به الشاطبي ل يصــلح لثبــات
مطلوبه.
المقاصد وأالعلل:
عمد الشاطبي إلى إثبات أصل التعليل بإثبات مقاصد للشارع
من الحكاما ،هي مسببات ومآلت اللتزاما بالحكاما الشرعية ،وعد
هذه المقاصد عللا من غير أن يتعرض لبيان أو إثبات أن المقصود
بالحكم هو علته.
وحسبِّ ما جاء به الشاطبي فإن المقصد علة ،والمقصد هو عينه
مسببِّ ونتيجة ومآل ،والحكم هو السببِّ الذي يؤدي إلى المقصد،
وبناء اعلى هذا المنطق فإن الحكم الشرعي هو سببِّ علته .وكمثال
على ذلك ،حكم القطع في السرقة .فإن مقصود الشارع بالحكم هو
الزجر فالزجر علة للحكم ،والحكم هو القطع فيكون الزجر علة
القطع .وهو أي الزجر مسببِّ عن القطع الذي هو الحكم ،فيكون
الحكم سبباا له ويكون الحكم سببِّ علته .فهل هذا صحيح؟ وهل علة
الحكم نتيجة له ؟ وعليه فهل علة الحكم توجد بعده؟ وبتعبير آخر
هل المقصد علة ؟
وكمثال آخر من أدلته في إثبات تعليل ال شــريعة و هــو قــوله
تعالى . (2)] [ :فالعبادةا
مقصد للشارع وهي تحصل بعد الخلق ،فهل هي علة للخلـق ،وتكـون
العلة بعد معلولها؟ هل تصوير المر هكذا في هذين المثــالين ،مثــال
السرقة ومثال الخلــق للعبــادةا ،هــل هــو صــحيح أما أن فــي ال مــر
اختلطاا وتشويشاا؟
كل ،إن المر ليس بهذه الصورةا ،وإن ظهرت مستقيمةا بادئ
الرأي ،فالمقصد ليس علةا ،والعلة ليسـت مقصـداا ،والحكم ليس
سـبباا لعلته ،وعلة الحكم ل تكون بعده ،كيف وهو وإنما يوجد
654
عندها وبها وينعدما بانعدامها! وهي الباعث له أو عليه.
نعـم ،إن في المـر اختلطاا وتشويشاا ،وكون العلة ل تتأخر
عن الحكم ،أمر متفق عليه ،وهي إما أن تسبقه وإ مــا أن ت قــارنه فــي
الزمان ،بل خلفَّ ،ل في العلل الشرعية ول في العلل العقليــة ،قــال
الزركشي» :واعلم أنه ل خلفَّ أن العلة تتقدما على المعلــول فــي
الرتبة واختلفوا في هل تسـبقه في الزمان أو تقارنه على مذاهـبِّ:
أحدها :وعليه الكثر من المعتزلة والفقهاء ،أنها تقارنه واســتدل
عليه بـقـول ـــه تـع ـــالى [ :
] )« (1هل) . (2ثـم قـال» :والـثـاني :أنهــا معــه«هل) . (3أي تقــارنه فــي
الزمان ،ثم قال» :أن العقلية تقارن معلولها لكونها مؤثرةا بــذاتها،
والوضـعـية تسـبق المعـلـول ،والشـرعـية من الوضـعـية«هل). (4
وبناءا على التفاق الذي نقله الزركشي فإن المنهج الذي
يقوما في أساسه وأركانه ونتائجه على هذا الخلط بين علة الحكم
ومقصوده يرد من أصله ،ولزالة هذا الخلط والتشويش فإنه يلزما
بيان موضع الخطأ وسببه.
أما موضع الخطأ ،ففي مثال السرقة علة القطع هي السرقة
وليست الزجر ،والزجر نتيجة أو مقصود ،والسرقة ،وهي العلة،
تحصل قبل الحكم أو معه وهو وجوب القطع .والعلقة بين العلة
والمعلول ل تتخلف فحيثما وجدت السرقة وجد الحكم أي وجوب
القطـع ،أما الزجـر فهـو نتيـجـة قـد توجـد وقد تتخلف وهكذا
في كل العقوبات.
أما في مثال الخلق لجل العبادةا ،فالعبادةا مقصد أو نتيجة قد
توجد وقد ل توجد كما في الكافر أو العاصي ،ول يوجد علة هنا،
لن الخلق من أفعال ال ـ سبحانه وتعالى .ومما يجدر ذكره أن
سورةا الزمر. 42 ، )( 1
655
العلة هي علة الحكم وليست علة الفعل ،فالسرقة علة وجوب القطع
وليست علة القطع نفسه ،لن الفعل نفسه قد يحصل وقد ل يحصل
لنه راجع إلى اختيار المكلف الذي قد يطيع وقد يعصي كما في أي
حكم.
أما سببِّ هذا الخطأ فهو أن الذين يخلطون بين العلة والمقصد
تنصرفَّ أذهانهم عن النظر في الحكم وفي علته إلى النظر في
طريقة الشارع في التشريع .فيتصورون أن عند الشارع قوانين أو
طريقة للتشريع ينزل الحكاما بناء عليها ،ويحاولون اكتشافَّ هذه
القوانين ،وسواء صح هذا أما لم يصح فإن انصرافَّ الذهن إلى هذه
الجهة ومحاولة اكتشافَّ أصول يشرع بناء عليها الشارع هو تجاوز
من النسان لحدوده ينطوي على قياس خفي للخالق على المخلوق.
فمثل هذا المر يصح على النسان وفي العقليات ول يصح في حق
ال تعالى .وكمثال واقعي لمزيد من البيان والتمييز:
إذا رأى المسؤول عن تنظيم حركة السير وضع علمات في
الطرقات لجل تنظيم الحركة وإزالة مشاكلها ،ثم فعل ذلك
وانتظمت الحركة .فقد يسأل :ما علة وضع العلمات؟ والجواب:
تنظيم الحركة .وقد يسأل :ما علة انتظاما الحركة؟ والجواب:
العلمات .فهذان الجوابان أحدهما جعل تنظيم الحركة علة
للعلمات ،والخر جعل العلمات علة لتنظيم الحركة ،ففي المر
تشويش .والصواب هو أنه إذا كان النظر في الحكم وعلته فهذا
يقابله هنا النظر في انتظاما الحركة وفي العلمات .والعلمات هي
التي أدت إلى النظاما وإذا زالت تحصل المشاكل ،وهي تسبق التنظيم
في الوجود ،فهي العلة ،ول يمكن أن يكون النظاما هو العلة.
أما الذي يجيبِّ بأن تنظيم الحركة هو علة العلمات فهذا
خطأ .فتنظيم الحركة إنما هو المقصود بوضع العلمات ونتيجة
لها ،وإنما يظن أنها علة إذا نظر إلى ما في نفس أو عقل الذي قرر
وضعها ،فهذا نظر إلى الحركة ووجد أنها بحاجة إلى تنظيم فقرر
656
وضع قوانين لجل ذلك فيويضيعي علمات تؤدي إلى الغرض
المطلوب ،فغرض تنظيم الحركة إذا عيديي علة فهو ليس علة
للعلمات ول لوضع العلمات وإنما هو علة لتخاذ القرار بوضعها
عند المسؤول عن ذلك ،وتنظيم الحركة في الواقع نتيجة وليس
علة .وإذا عدت هذه النتيجة علة فهي علة لما في نفس صاحبِّ
القرار ،وعندما تختلف الجابات كما هو وارد أعله فسببِّ ذلك هو
أن كل جواب هو على شيء مختلف عن الخر .فإذا لم يحصل
التمييز وقع الخلط.
وعلى ذلك فالمقصد ليس علةا والعلة ليست مقصداا ،ومقاصد
الشارع ليست عللا للحكاما ،وإذا انتقلنا من هذا المثال ،أي من
دوافع الناس ومقاصدهم في أحكامهم وأفعالهم إلى علل الحكاما
الشرعية ومقاصدها ينبغي اعتبار مسألتين:
الوألى :إن القصد الذي يراد تحقيقه بهذا القرار قد يمكن
الوصول إليه بأساليبِّ غير هذا القرار ،وهذا ل ينطبق على الحكاما
الشرعية ،فإذا علمنا قصد الشارع من الحكم فل يمكن تغيير الحكم
بحجة تحقيق المقصود ،فإذا علمنا أن القطع في السرقة ل يزجر -
مثلا -فهذا ل يبرر تبديل الحكم .وهذا ل يخالف فيه الشاطبي بل
يؤكده). (1
الثانية :إن قصد صاحبِّ القرار يمكن أن يفهم من تتبع أقواله
وأفعاله ومن خلل فهم عقليته وتحليل نفسيته لن هذا يقع ضمن
حدود الدراك النساني ،وهذا ل يمكن تطبيقه على الخالق ،فل يقال
بمقصد له أو بعلة بغير خبر منه .ومحاولة إدراك طريقة له في
التشريع أو قوانين ،فيها خطأ بقياس الخالق على المخلوق .وهذا ما
فعله الشاطبي من خلل ما سماه القوانين الكلية والصول الكلية
والمصالح الحقيقية .وبنى ذلك كله على مقاصد الشارع التي
) ( أنظر :المبحث الثاني من الفصل الثالث ،بحث السباب والمسببات . 1
657
سعى إلى إدراكها بالستقراء وجعلها عللا قطعية.
ومنهجه هذا يرد من هذه الجهة أيضاا ،وهي اعتبار المقصد
علة وما انبنى على ذلك من قياس للخالق على المخلوق.
وهذا المنهج هو الذي أدى إلى نتيجة خطرةا ،بل تعد علمةا على
خطأ المنهج دافعةا إلى إعادةا النظر فيه ،وهي الستغناء بالكليات عن
الجزئيات وهو الموضوع التالي.
الستغناء بالكليات عن الجزئايات:
تبين من منهج الشاطبي أن للتشريع مقاصد هي علله أو أصوله
الكلية التي تتنزل بناء عليها أو لجلها الجزئيات ،وهي النصوص
والحكاما ،والحكاما من مقاصد النصوص ،وكلهما مقاصده هي
تلك الصول الكلية.
والكليات ل تفهم إل باستقراء الجزئيات فهي مأخذها ودليلها،
ولول الجزئيات لم تعرفَّ الكليات ،وتبين أيضاا أنه ل بد من إعمال
الجزئيات والكليات معاا فإعمال الكلي بغير الجزئي خطأ كإعمال
الجزئي بغير الكلي). (1
وقد يعترض على الشاطبي بأنه ما الحاجة إلى إعمال الجزئي
إذا كان الكلي قد فهم منه ،فمعنى الجزئي موجود فيه ،والنظر في
الجزئي بعد ذلك عناء ،وإذا فرض مخالفة بين الجزئي والكلي ،أو
خصوصية للجزئي غير معتبرةا في الكلي فهذا يعني أن الكلي ليس
كلياا بعد وهذا بخلفَّ الفرض ،فل حاجة لعمال الجزئي ). (2
ولكن الشاطبي يصرح برد هذا العتراض ويصرح بلزوما إعمال
الجزئي والكلي معاا فيقول» :فالحاصل أنه ل بد من اعتبار خصوص
الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس وهو منتهى نظر المجتهدين
658
بإطلق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الجتهاد«هل ). ( 1
إل أن ما اعترض به على الشاطبي هنا صحيح فالستغناء عن
الجزئيات لزما للمنهج وإن صرح الشاطبي برده ،بل إن بعض ما قال
به يدل على هذا الستغناء ،والظاهر أن الشاطبي لحظ هذا المر
كنتيجة منطقية لمنهجه فاضطرب واستشكل المر ،وتوقف عن رد
أقوال بإهمال الجزئيات وهو ما سيتبين .ومما يشير إلى هذا المر
قوله بصحة الجتهاد ممن فهم المقاصد جملة وتفصيلا ،ولو لم
يكن عنده علم بالعربية ،قال» :فإذاا من فهم مقاصد الشرع من
وضع الحكاما وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق
الترجمة باللسان العجمي فل فرق بينه وبين من فهمها من طريق
اللسان العربي«هل) . (2وقال» :الجتهاد إن تعلق بالستنباط من
النصوص فل بد من اشـتراط العلم بالعربيـة وإن تعلق بالمعاني
من المصالح والمفاسـد المجردةا عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة
من صاحبِّ الجتهاد في النصوص فل يلزما في ذلك العلم بالعربية،
وإنما يلزما العلم بمقاصد الشـرع من الشـريعة جملة
وتفصيلا«هل ) . (3فهذا المجتهد ل يعرفَّ العربية فل يمكنه النظر في
الجزئيات فل ينظر في النصوص ول يسـتنبط منها وإنما هو فقط
يعمل الكليات بشرط أن يكون علم بها جملة وتفصيلا ،والعلم
بالعربية هو شرط في المجتهد الذي يستنبط من الجزئيات لكي
يتوصل إلى فهم الكليات ،وما لم يحصل له العلم بالكليات جملة
وتفصيلا فل يمكنه الجتهاد سواء كان عالماا بالعربية أما ل.
فالعلم بالعربية هو لجل التوصل إلى الكليات من الجزئيات ،فإذا تم
هذا فل حاجة للعربية ،ول فرق بعد ذلك بين من تسلمها بالترجمة
وهو ل يعرفَّ العربيـة وبين من فهمها بالعربيـة .وهذا القول
إشـارةا إلى إمكان السـتغناء عن النظر في النصوص لجل الجتهاد.
) ( المصدر نفسه 3/6 ،وانظر :المبحث الول من هذا الفصل . 1
659
ومما يشـير إلى هذا أيضاا قوله في شروط المجتهد المعتبر:
»إنما تحصل درجة الجتهاد لمن اتصف بوصـفين ،أحدهما فهم
مقاصد الشريعة على كمالها ،والثاني التمكن من الستنباط بناء
على فهمه فيها«هل) . (1وقد يذهبِّ الذهن إلى أن الوصف الثاني يتضمن
شـرط إعمال الجزئيـات وليس المر كذلك ،لن الثاني -بنظر
الشـاطبي -وسـيلة إلى الول ،فإنه هـو الذي يظهر حصول فهم
المقاصد ،وهو الذي يظهر إمكانية السـتنباط بناء على هذا الفهم،
قال» :ل تظهر ثمرةا الفهم إل في السـتنباط فلذلك جعل شـرطاا
ثانياا ،وإنما كان الول هو السـببِّ في بلوغِّ هذه المرتبـة لنه
المقصود والثاني وسـيلة«هل). (2
فهذه النصوص تبعث على التدقيق في حقيقة مقصود الشاطبي
بهذا المر ،والذي يترجح أنه يعني الستغناء عن الجزئيات ،خاصة
وأنه يؤكد على تماما فهم المقاصد» :العلم بمقاصد الشرع من
الشريعة جملةا وتفصيلا«هل» ،فهم مقاصد الشريعة على كمالها«هل
وكذلك قوله» :فإذا بلغ النسان مبلغاا فهم عن الشارع فيه قصده
في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد
حصل له وصف هو السببِّ في تنزله منزلة الخليفة للنبي في
التعليم والفتيا والحكم بما أراه ال«هل). (3
ومما يشير إلى هذا أيضاا ما قاله عند حديثه عن مراتبِّ
العلماء ) ، (4حيث جعلها ثلثا مراتبِّ :الولى هي التي لم يتخلص
لصاحبها بعد فهم مقاصد الشريعة فل يصح منه الجتهاد واللزما له
الكف والتقليد ،والثالثة هي مرتبة الراسخين في العلم ،ول خلفَّ
في صحة الجتهاد من صاحبها ،والثانية هي الشاهد هنا وفيها
الدللة على الستغناء عن الجزئيات.
660
وقد أورد صفة صاحبِّ هذه المرتبة )الثانية( في العلم،
وخلصتها أنه فهم كليات الشريعة بشكل تاما وكامل ،ولكنه إذا
اجتهد يعمل الكليات ول يعمل الجزئيات .ثم تساءل الشاطبي إن
كان صاحبِّ هذه المرتبة يصح منه الجتهاد أو ل ،وقال إن هذا محل
نظر والتباس ،ومما يقع فيه الخلفَّ .ثم ذكر حجج المجيزين
لجتهاده وحجج المانعين ،وانتهى إلى أن المسألة باقية الشكال.
والدليل على أن هذا المنهج يقتضي صحة إهمال الجزئيات
أمران:
الوأل :قوله إن المسألة باقية الشكال ،وكان الواجبِّ بحسبِّ
أقواله بوجوب إعمال الجزئيات والكليات معاا أن يقف مع المانعين
بل تردد .ولكنه لم يفعل ،مما يشير إلى أن المنهج ينسجم مع
إهمال الجزئيات لمن استكملت عنده الكليات .وكذلك هو لم يقف
مع المجيزين إذ هذا يتناقض مع أقواله بضرورةا إعمال الجزئيات
والكليات معاا ،وهذا ما دعا إلى القول باضطرابه في هذه المسألة.
الثاني :أن حجج المانعين كلها مردود عليها عنده بحسبِّ
منهجه وبنصوصه وذلك أثناء إثباته أن الكليات هي قطعيات
استقرائية ،فل تيعيارض ول تنخرما ول تيخصص .ومع ذلك فهو لم
يرد حجج المانعين هنا ،ولو ردها لناقض ما سبق أن قرره بضرورةا
إعمال الجزئيات ،إذ هي كلها ترجع إلى إهمال صاحبِّ هذه المرتبة
للجزئيات ،وفيما يلي ما يوثق المذكور أعله:
أما في صفة صاحبِّ هذه المرتبة فقال» :أن ينتهي بالنظر إلى
تحقيق معنى ما حصل حسبِّ ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث
يحصل له اليقين ول يعارضه شك بل تصير الشكوك إذا وردت عليه
كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه«هل) . (1ثم قال» :لكنه
استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكماا وإن كان
موجوداا عنده فل يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على
) ( الشاطبي ،الموافقات . 4/127 ، 1
661
خلفها أما ل«هل) . (1ثم تساءل» :فإذا حصل الطالبِّ على هذه المرتبة
فهل يصح منه الجتهاد في الحكاما الشرعية أما ل؟ هذا محل نظر
والتباس ومما يقع فيه الخلفَّ«هل) . (2ثم بين ما يراه حججاا
للمجيزين فقال» :وللمحتج للجواز أن يقول :إن المقصود
الشرعي إذا كان هذا الطالبِّ قد صار له أوضح من الشمس وتبينت
له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار بعضها عاضداا
للبعض ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلبِّ فالذي حصل عنده
هو كلية الشريعة وعمدةا النحلة ومنبع التكليف فل عليه أنظر في
خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أما ل .إذ ل يزيده
النظر في ذلك زيادةا ،إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى
هذه المرتبة وقد فرضناه واصلا ،هذا خلف .ووجه ثانم وهو أن
النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك
المطلوب الكلي الشرعي حتى يبني عليه فتياه ويرد إليه حكم
اجتهاده ،فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلبِّ لتحصيل
الحاصل وهو محال ووجه ثالث وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما
انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصات ،وبمعانيها ترقيى،
إلى ما ترقيى ،إليه ،فإن تكن الحال غير حاكمة عنده لستيلء
المعنى الكلي فهي حاكمة في الحقيقة لن المعنى الكلي منها
انتظم ،ولجل ذلك ل تجد صاحبِّ هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر
إل وقامت له الدلة عاضدةا وناصرةا ،ولو لم يكن كذلك لم تعضده
ول نصرته ،فلما كان كذلك ثبت أن صاحبِّ هذه المرتبة متمكن
جداا من الستنباط والجتهاد وهو المطلوب«هل). (3
وحجج المجيزين هذه كلها تدور حول عدما الحاجة إلى
النظر في الجزئيات ،لن فائدةا النظر فيها حاصلة من النظر في
) ( الموضع نفسه ،ويمكن للقارئ أن يلحظ قوةا وتمكن هذا المجتهد . 3
662
الكليات.
أما بيانه لما يمكن أن يحتج به المانعون لجتهاد صاحبِّ هذه
المرتبة فقال» :وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه«هل) . (1وذكر
ثلثة أوجه:
الوأل :إن هذا يتضمن إهمال الجزئي وهو خطأ ،ومن ل يعمل
الجزئي ل يترقى إلى درجة الجتهاد» ،إذ قد تبين في كتاب الدلة
أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس«هل ). (2
الثاني » :أن للخصوصـيات خواص يليـق بكل محل منها ما ل
يليـق بمحل آخـر ،كما في النكاح مثلا فإنه ل يسوغِّ أن يجري
مجرى المعاوضات من كل وجه كما أنه ل يسوغِّ أن يجري مجـرى
الهبات والنحل من كل وجه«هل) . (3وقال» :ولكل خاص خاصيـة
تليـق به ل تليـق بغيره ،وكما في الترخصات في العبادات والعادات
وسـائر الحـكاما ،وإذا كـان كذلك وقد علمنا أن الجميع يرجع
مثلا إلى حفـظ الضروريات والحاجيات والتكميليـات ،فتنزيـل
حفظها في كل محل على وجه واحد ل يمكن ،بل ل بد من اعتبار
خصوصيـات الحوال والبواب وغير ذلك من الخصوصيات
الجزئية«). (4
الثالث » :أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات
أل يعتبر محالها وهي أفعـال المكلفين ،بل كما يجـري الكليـات
في كل جزئيـة على الطلق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على
الطـلق من غيـر اعتبار بخصوصياتهم ،وهذا ل يصح«).(5
ثم قال على لسان المانعين» :فصاحبِّ هذه المرتبة ل يمكنه
التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد فل يستقيم مع هذا أن يكون
663
من أهل الجتهاد«هل ). (1
وبالنظر إلى حجج المانعين يتبين أنها كلها ترجع إلى عدما
إعمال الجزئيات ،وأن الجزئيات لها خصوصياتها الخاصة سواء في
الفعال أو في المكلفين.
وبعد عرض حجج الفريقين قال» :وإذا تقرر أن لكل احتمالم
مأخذاا كانت المسألة بحسبِّ النظر الحقيقي باقية الشكال «هل). (2
وهذا الموقف مستغرب ومضطرب ،إذ إنه بناء على ما تقرر لديه من
وجوب إعمال الكليات والجزئيات معاا ينبغي أن يرد حجج المجيزين
بل تردد ،ل أن يستشكل المر ،وبناء على ما تقرر لديه في كيفية
تحصيل الكليات ينبغي أن يرد أدلة المانعين التي تتحدثا عن
خصوصية الجزئيات وخصوصية المكلفين ،إذ إن هذه الدلة ل تمنع
اجتهاد صاحبِّ هذه المرتبة وحسبِّ ،وإنما هي تسقط المنهج من
أصله إذ تمنع تحصيل الكليات من الجزئيات ،ولقد سبق له أن ردها
عندما كان المر يتعلق بصحة أو خطأ منهجه .قال» :فإن قيل:
اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين من أوجه:
أحدها :أن ذلك إنما يمكن في العقليات ل في الشرعيات«هل). (3
»وأالثاني :أن الخصوصيات تستلزما من حيث الخصوص معنىا
زائداا على ذلك المعنى العاما أو معاني كثيرةا ،وهذا واضح في
المعقول لن ما به الشتراك غير ما به المتياز«هل )» . (4والثالث :
أن التخصيصات في الشريعة كثيرةا فيخص محل بحكم ويخص
)(5
مثله بحكم آخر ،وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد«هل .
والوجهان الثاني والثالث هنا هما الوجهان الثاني والثالث في
حجج المانعين لجتهاد من ل يعمل الجزئيات ،وقد أجاب على هذه
664
الوجوه الثلثة فقال» :فالجواب عن الول أنه يمكن في الشرعيات
إمكانه في العقليات«هل)» . (1وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العاما
من القضايا الخاصة حتى علموا أن الخصوصيات وما به المتياز
غير معتبرةا«هل)» . (2وعن الثالث أنه الشكال المورد على القول
بالقياس فالذي قال به الصوليون هو الجواب هنا«هل). (3
فلماذا لم يستعمل هذه الجوبة أو ييحقلن إليها لرد حجج
المانعين .خاصة وأنها تسقط منهجه وليس فقط صحة اجتهاد
صاحبِّ هذه المرتبة .وكذلك لماذا لم يسقط حجج المجيزين،
خاصة وأنهم يصرحون بصحة بل بلزوما الستغناء عن الجزئيات
بالكليات؟ وبدلا من ذلك اضطرب واستشكل المر وتوقف عن قبول
أي من القولين أو رده ،وآثر إبقاء المر محل التباس ونظر.
وصرح بأن المسألة بحسبِّ النظر الحقيقي باقية الشكال .إن أقل ما
يمكن تأكيده هو أن اعتبار المر محل نظر وفيه إشكال هو تشكيك
بما تقرر لديه وهو ضرورةا إعمال الجزئيات والكليات معاا ،وهو
قبول منه لصحة إعمال الكليات وإهمال الجزئيات .وهي نتيجة
شنيعة للمنهج وتعود عليه بالبطال.
مإلحظات أخإرى:
وثمة ملحظات واعتراضات أخرى على منهج الشاطبي ،مثل
رفضه لتخصيص الكليات وتقييدها ورفضه للستثناء منها ،ومثل
قوله في المباح وفي الرخصة.
فالمباح مثلا هو ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك ،وهذا
ينقض أصل أن الشريعة وضعت لجل مصالح العباد ،ينقضه حسبِّ
منهجه وذلك أن هذا الصل عنده كلي قطعي ل يتخلف ول ينخرما،
وإل فإنه ل يكون كلياا ول يكون أصلا .والباحة هي مساواةا بين
665
طلبِّ الفعل وطلبِّ الترك ،وبحسبِّ الصل فإن طلبِّ الفعل يعني أن
هناك مقصوداا للشارع من الفعل ،وطلبِّ الترك يعني أن هناك
مفسدةا يؤول إليها الفعل ،والشارع يقصد رفعها فيتناقض مفهوما
الباحة مع هذا الصل ،وهذا ينقض المنهج كله ،لذلك ذهبِّ
الشاطبي إلى أن الباحة بهذا المعنى هي إباحة بالجزء .والمباح
بالجزء إما أن يكون مطلوباا بالكل أو منهياا عنه بالكل .فهو بهذا
ينفي وجود الباحة بالكل .وهذه ليست إل محاولة لتصحيح فكرته
أو ترقيع فتوقها .وعلى كل حال فهذه المشكلة باقية إذ المباح
بالجزء حكم شرعي موجود ،وهذا ينقض الفكرةا باعتبارها كلية ل
تتخلف ول تخضع للستثناء.
والرخصة كذلك تتناقض مع أصل وضع الشريعة للمصالح
إذا كانت ل ترجع إلى مشقة معنتة ،كسفر الملك المترفيقه،
وذلك أنه بينها وبين العزيمة تنافَّم ،فإذا كان مقصود الشارع
موجود في العزيمة ،فالرخصة تنقض الصل إذا كانت جائزةا من
غير ضرورةا أو حاجة ،لذلك ذهبِّ إلى إلحاق الرخص بقسم المباح
بالجزء المطلوب الترك بالكل .ولكن الرخصة حكم شرعي موجود
وهذا ل يستقيم مع الصل الكلي بحسبِّ معنى الكلية عنده ،لذلك
اضطر الشاطبي لن يعارض أصوله ،قال» :ما شرع من الرخص فإن
شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلي
إذا انقطع سفره وجبِّ عليه الرجوع إلى الصل من إتماما الصلةا
وإلزاما الصوما«هل) . (1وقال» :فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل
كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنىا من ذلك الصل
الكلي«هل ) . (2والشاهد أن الشاطبي اضطر إلى قبول الستثناء من
الكليات ،وهذا يتناقض مع خواص الكليات عنده ،وبالتالي فإنه
يتناقض مع المنهج.
666
الخاتمـة
667
ويجعل من حمل هم الشـاطبي أول من يقـدما إليـه هـذا البحث مع
ما انتهى إليه من نقض.
إن ما قاما به الشاطبي هو محاولة إصلح في علم أصول الفقه
لتصحيح ما يراه أخطاءا عمت ،ولتركيز ما يراه أصولا أغفلت،
ولطراح ما فيه مما ليس منه ،وللتنبيه إلى مواضع يظن فيها
الخلفَّ ول خلفَّ .وللتصحيح والضبط في مباحث في أصول الفقه،
نمت وتطورت وتشعبت وانفكت عن أصولها وضوابطها.
من ذلك مثلا رفضه للمفهوما السائد للمصلحة والمفسدةا،
فهو وإن قال بالتعليل بجلبِّ المصالح ودرء المفاسد ،وظهر بادئ
الرأي ،كما ظن كثير من غير المدققين بأنه يجعل المصلحة
أساساا للتشريع ،فهو في الحقيقة قد نسف هذا الفهم ،ورفع فكرةا
التعليل هذه من طريق ،ووضعها في طريق آخر ومعاكس .وهذا
مما يشهد له به .وهو من أهم مقصوداته في كتابه .لذلك أشار
إليه في مبتدأ خطبة كتابه ،فقال» :فلقد كنا قبل شروق هذا
النور نخبط خبط العشواء وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا
على غير السواء ،لضعفها عن حمل هذه العباء ومشاركة عاجلت
الهواء ،على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار السواء،
فنضع السموما على الدواء مواضع الدواء ،طالبين للشفاء كالقابض
على الماء ،ول زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم ،ونسرح من
جهلنا بالدليل في ليل بهيم ،ونسـتنتج القياس العقيـم ،ونطلبِّ آثار
الصحة من الجسم السقيم ،ونمشي إكباباا على الوجوه ،ونظن أنا
نمشي على الصراط المسـتقيـم ،حتى ظهر محض الجبـار في عين
القـدار ،وارتفعت حقيـقـة أيدي الضطرار إلى الواحد القهار«هل ). (1
وهو بقوله بمقاصد الشـريعة جاء ليصحح خطأ من زل به
فهمه فرأى مقاصد الشريعة وكأنها مقاصد أو مصالح الناس كما
يراها الناس ،فجاء ليفصل بين النوعين ،وليقول إن مقاصـد
الشريعة هي مقاصد للشـارع ،وهي تؤخذ من الشـريعة ،وغير ذلك
) ( الشاطبي ،الموافقات . 1/2 ، 1
668
وهم وتخييـل .وأول مقاصد الشريعة إذا جاء المر أو النهي هو
الخضوع والتقيد ،فالمقصد الول من قوله تعالى افعل هو إيقاع
الفعل ،والمقصد الول من قوله تعالى ل تفعل هو الكف عن الفعل.
وبهذا يكون العبد ،وهو عبدي اضطراراا ،عبداا اختياراا .وهذا مما
يشهد له به.
وهو بقوله إن الشـريعة إنما وضعت لجـل مصالح العبـاد في
الداريـن ،وإن وافـق قوله هذا قول كثيرين غيره ،فإنه بمفهومه
الجديد للمصلحة والمفسدةا ،وبمنهجه في كيف تعد المصـلحة
مصلحة والمفسدةا مفسدةا ،قلبِّ معنى هذا القول ليصبح متفقاا مع
قول إن العباد خلقوا لجل الشريعـة [ .
، (1) ] وبذلك فقد قصد إلى منع تجاوز حدود
الشريعة بحجة المصالح والمقاصد ،وهذا مما يشهد له به.
وهو بقوله إن الحكاما الشرعية التي جعلها الشارع طريقاا إلى
غايات شرعية ل يصح أن تتخذ طريقاا إلى غير غاياتها التي جعلها
الشارع غاياتم لها ،والغاية الشرعية ل يصح أن يتخذ إليها طريق
غير ما جعله الشارع طريقاا إليها ،قد حاول منع التلعبِّ بالدين
بحجة مقاصده ،وحمى فكرته من أن يتوسل بها إلى غير ما أراده
منها ،وهذا مما يشهد له به.
وهو رغم الخطأ في منهجه ،في أساسه وأركانه ،فإنه لم يبنق
عليه فروعاا شاذةا .فكان إذا اقتضت أصوله نتائج غير مستساغة
كان يتوقف ول يمضي غير آبه ،فكان يرده ورعه عن السترسال.
فهو عندما أوصله منهجه إلى الستغناء بالكليات عن الجزئيات
توقف ولم يدفعه كونه بذل أقصى جهده في سبيل وضع فكرته التي
هي جنى عمره ،لم يدفعه ذلك إلى القول الشنيع ،بل توقف
مستشكلا ،وكأنه يتوقع لمنهجه من يتابعه فيه فيتوفر لهذا
الشكال من يحله.
669
وكذلك عندما قرر أن خبر الحاد إن لم يرجع إلى معنى
قطعي فإنه يتوقف فيه ،فكأنه كان في قرارةا نفسه ل يستسيغ
التوقف في إعمال حديث ليس له معارض شرعي ،بل لمجرد أنه ل
يرجع إلى معنى قطعي ،لذلك قال بندور هذه الحالة ،وليس ما
يضير حينئذم في إعمال هكذا حديث محتجاا بأن العلماء قد أعملوا
المناسـبِّ الغريـبِّ ،وألحق هذا به .لذلك ،فمع ظهور فساد المنهج
لم يظهر عند الشاطبي فروع شاذةا ،فكأنه رغم إيمانه بمنهجه
وأصوله ،كان يشعر بأن السـلمة هي في موافقة السـابقين من
السـلف الصـالح والعلماء الصـالحين فيما صدر عنهم في الفقه،
فكان يجتهد في عدما مخالفتهم ،رغم ما قد يجره عليه هذا من اتهاما
بالتناقض.
ورغم نقض فكرةا الشاطبي ومنهجه ،فإن كتاب الموافقات
كتاب متكامل تقريباا في أصول الفقه ،فهو وإن لم يفصل فيه
لبحاثا ومسائل الجماع والقياس ،فإن ما جاء فيه أصول لها،
والتنقيبِّ في كتابه يشير إلى آرائه في ذلك ،وهو مليء بالفوائد
الصولية والفقهية ،منضبط في عبارته وصياغته وترتيبه .انطلق
فيه مؤلفه جاداا وبقهقميية ،وهو يحمل قصداا علمياا وموضوعياا.
أفكاره مترابطة ،اللحق فيها مبني على السابق ،عميق الفكر إلى
أبعد حد ،فيه استقصاء ل يستطيعه إل الجاد الصبور ذو الفق
الواسع .ول يتناقض هذا مع القول بخطأ المنهج وتناقضه .فإن
الخطأ هذا والتناقض مرجعهما إلى الستقراء الناقص وتوهم أنه
تاما ،وإلى الورع الذي يجعله ينثني أحياناا عن حكم المنهج إما
مستشكلا وإما معتمداا على أن النادر ل حكم له .فخطأ الجتهاد
والستنتاج ل يغض من المكانة العلمية والقدرةا الفكرية .وجل من
ل يخطئ ،ولكن خطر خطئه يرجع إلى أنه في الصول وليس في
الفروع.
إن دراسة الموافقات دراسة تحليلية ومتابعة أفكاره في شتى
مواضعها مع العتبار بأن كلماته وجمله ومسائله وترتيبها كل
670
ذلك مختار مقصود ،تؤكد أن الشاطبي يحمل هماا ويقصد أمراا
جليلا -بنظره -وأنه قد أمضى سنين عديدةا تراوده الفكار ،اتخذ
أثناءها القرآن سميراا وأنيساا وجليساا ،يتفكر ويتدبر ول يجد
لفكاره أصلا تقوما عليه ول رابطاا يجعل منها كياناا أو منهجاا،
هائم الفكر في البحث عن أدلة تعتضد بها أفكاره فيبعث فيها الحياةا.
ولما لم يجد ،حطيي رحال الفكر على الستقراء.
وقد كان حقيقاا بالشفاق ،فإن الشعور بعظمة الختراع ،في
عزلةم ،لفقدان المصدقين والتباع ،مع فقدان الدليل ومر السنين،
وقلة المذاكرين وعدما الناصحين ،يبعث على تصديق الخيال ،وفك
العقل من عقال ،كالمتعطش الظمآن يبذل حياته دون السراب .فلعل
الشاطبي -رحمه ال وجزاه عن مجهوده خير الجزاء -وقع على
الستقراء أو وقع الستقراء عليه ،فقفز عن حقيقة أن هذا إن صح
في العقليات فل يصح في الشرعيات ،فكان كمن قفز إلى البحر
هرباا من الموت حرقاا إلى الموت غرقاا ،ثم بدأ ينسج من خياله
حبالا يتعلق بها .وبعثور الشاطبي على الستقراء كان كمن بعث
الروح في جسد أفكاره .لذلك سمى الستقراء روحاا في أكثر من
موضع في كتابه ،ومما يشير إلى هذا وصفه لمعاناته في وضع
كتابه» :فلقد قطع في طقلب هذا المقصود مهامه فقيحيا ،وكابد
من طوارق طريقه حسناا وقبيحاا ،ولقى من وجوهه المعترضة
جهماا وصبيحاا ،وعانى من راكبته المختلفة مانعاا ومبيحاا ،فإن
شئت ألفيته لتعبِّ السير طليحاا ،أو لما حالف من العناء طريحاا ،أو
لمحاربة العوارض الصادةا جريحاا ،فل عيش هنيئاا ول موت
مريحاا ،وجملة المر في التحقيق ،أن أدهى ما يلقاه السالك
للطريق ،فيقندي الدليل ،مع ذهنم لعدما نور الفرقان كليل ،وقلبِّ
بصدمات الضغاثا عليل ،فيمشي على غير سبيل ،وينتمي إلى غير
قبيل ،إلى أن من الرب الكريم ،البر الرحيم ،الهادي من يشاء إلى
صراط مستقيم ،فبعثت له أرواح تلك الجسوما ،وظهرت حقائق
671
تلك الرسوما وبدت مسميات تلك الوسوما«هل). (1
وقد كان الشاطبي يرى أن هناك حائرين مثله ،ويتوقع أن
يقبلوا على ما جاء به ويتابعوه فيه ،وكان معتزاا بذلك اعتزازاا
كبيراا يوافي معاناته في ذلك واجتهاده ،فزين فكرته ودعا إلى
التكميل فيها ،لم يدرق أنه خنقها أثناء ولدتها .قال» :أما بعد أيها
الباحث عن حقائق أعلى العلوما ،الطالبِّ لسنى نتائج الحلوما،
المتعطش لحلى موارد الفهوما ،الحائم حول حمى ظاهر المرسوما،
طمعاا في إدراك باطنه المرقوما ،معاني مرتوقةا في فتق تلك
الرسـوما ،فإنه قد آن لك أن تصغي إلى من وافق هواك هواه ،وأن
تطارح الشجى من ملكه مثلك شـجاه ،وتعود إذ شـاركته في جواه
محل نجواه ،حتى يبث إليك شكواه ،لتجري معه في هذا الطريق من
حيث جرى ،وتجـري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى،
وعند الصباح تحمد إن شاء ال عاقبة السرى«هل) . (2وقال واصفاا
كتابه للمقبـل عليه» :ليكون أيها الخل الصفي والصديـق الوفي،
هذا الكتاب عوناا لك في سلوك الطريق ،وشارحاا لمعاني الوفاق
والتوفيـق«هل) . (3وقال» :ل جرما أنه قرب عليـك في المسير،
وأعلمك كيف ترقى في علوما الشريعة وإلى أين تسير ،ووقف بك
من الطريق السـابلة على الظهر ،وخطبِّ لك عرائس الحكمة ثم
وهبِّ لك المهر ،فقـديقما قيديما عزمك ،فإذا أنت بحول ال قد
وصلت«هل ) . (4ثم قال» :وعند ذلك فحق على الناظـر المتأمل ،إذا
وجـد فيـه نقصـاا أن يكمل ،وليحسن الظن بمن حالف الليالي
والياما واسـتبدل التعبِّ بالراحة والسـهر بالمناما ،حتى أهدى إليه
نتيجة عمره ووهبِّ إليه يتيمة دهره«هل). (5
672
وبغض النظر عن منهج الشاطبي أو فكرته ،فإن ما قصده
حرييي بأن يقصد ،وهو الرجوع إلى الصول وتنقيحها والتوفيق
فيها ،بإزالة الخلفَّ المبني على اختلفَّ الصطلحات وسوء الفهم،
وبإزالة الفكار الدخيلة التي ل ثمرةا لها أو التي ل دخل لها في
أصول الفقه وإنما حشرت في مباحثه بسببِّ علم الكلما.
ول يكون هذا الصلح إل بعلماء حقيقيين ،يرجعون إلى
الجذور ،إلى القرآن والسنة وما يرشدان إليه ،يتعلمون منها
ويعملون بها ،ويتحررون من عقد الفكر الغربي وموافقته ،ل
يقيمون وزناا ول اعتباراا لعرفَّ ل يقره السلما وإن عميي ،ول لفكر
أو حكم ل ينبثق عن عقيدته وإن ساد .ل يخجلون ول يضطربون
أماما مناقضة أحكاما السلما التي صارت غريبة لفكار ومفاهيم
الحضارةا الغربية المتخلفة والمنحطة وإن كانت سائدةا أو جديدةا،
يسعون إلى سيادةا السلما عقيدةاا ونظاماا ل إلى التوفيق بينه وبين
غيره بذرائع مرونة دعية وتطويرم زنيم.
هذا الصلح يقوما به علماء حقيقيون يتحررون من الفهاما
اللقيطة للفاظ مثل الوسطية والمقاصد والتجديد والعتدال
والحوار والحرية وما شابه ذلك ،التي تؤخذ ويدعى إليها بمعانم
مبتورةام عما جاء به السلما ،وفهمه الصحابة الكراما والعلماء
الصالحون.
هذا الصلح يقوما به علماء حقيقيون علمــوا أنهــم ينبغــي أن
يكونوا ورثة النبياء ،فقاموا بهمة ،وجدييوا بعزما ،فانطلقوا واثقين،
ونطقوا صادقين ،ليشهدوا علــى البشــرية [ ،
. (6)]
نعم ،إن للشريعة مقاصد ،ولكنها مقاصد الشريعة ومقاصد
الشارع ،وليست أهواء النفوس ،وليس من معنى مقاصد الشريعة
673
مرونة السلما أو أحكامه فتطوى أو تلوى أو تتمدد أو تتقلص
لتتفق مع أي واقع أو لتتشكل بما يرضي هذه الجهة أو تلك ،ثم
يقال :هذا ل ينكر فالسلما متطور!
والشريعة جاءت بالقياس وبالتعليل ،والصل في المعاملت أو
العادات هو التعليل ،وفي العبادات التعبد وعدما التعليل .ولكن العلة
هي ما جاء في مسلك شرعي أو دل عليه الدليل الشرعي ،وتوفرت
له شروط العلة ،وليست العلة خيالت الذهان ومقترحات العقول،
فضلا عن أن تكون مزاعم المحرفين.
وفي ختاما هذه الخاتمة أسأل ال تعالى للشاطبي الرحمة
وجزيل الجر والثواب ،وأسأله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصاا
لوجهه الكريم وأن ينفع به .كما وأسأله تعالى العفو والمغفرةا عما
شطح به القلم أو زل به اللسان أو تجاوز فيه الفكر والخيال ،كما
وأسأله تعالى جزيل الجر والثواب لكل من علمني ونصحني
وأفادني في هذا العلم وفي هذا الكتاب ،وأن يغفر لي ولوالديييي
وللمؤمنين.
***
674
المصـادر وأالمـراجأع
القرآن الكريم.
آداب الفتوى والمفتي والمستفتي ،أبو زكريا يحيى بن شرفَّ
النووي ،تحقيق :بساما عبد الوهاب الجابي ،دار البشائر السلمية
ـ بيروت ،ط 1411 ، 2هـ 1990 -ما.
التقان في علوما القرآن ،جلل الدين السيوطي الشافعي ،دار
الفكر -بيروت ،بهامشه كتاب إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر
الباقلني.
أثر الدلة المختلف فيها في الفقه السلمي ،مصطفى ديبِّ البغا،
دار الماما البخاري ،دمشق.
الحكاما في أصول الحكاما ،أبو محمد بن حزما الظاهري ،دار
الكتبِّ العلمية -بيروت ،ط 1405 ، 1هـ 1985 -ما.
الحكاما في أصول الحكاما ،علي بن أبي علي بن محمد المدي،
تحقيق :الشيخ إبراهيم العجوز ،دار الكتبِّ العلمية -بيروت.
إحياء علوما الدين ،الماما أبو حامد محمد الغزالي ،دار المعرفة -
بيروت.
إدرار الشروق على أنواء الفروق ،أبو القاسم النصاري
المعروفَّ بابن الشاط ،عالم الكتبِّ -بيروت ،مطبوع بهامش
كتاب الفروق للقرافي.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الصول ،محمد بن علي
بن محمد الشوكاني ،دار الفكر -بيروت.
السس المنطقية للستقراء ،محمد باقر الصدر ،دار التعارفَّ
للمطبوعات -بيروت ،ط 1406 ، 5هـ 1986 -ما.
الشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ،جلل الدين
675
بن عبد الرحمن السيوطي ،تحقيق :محمد المعتصم بال
البغدادي ،دار الكتاب العربي -بيروت ،ط 1412 ، 2هـ -
1993ما.
الشباه والنظائر ،تاج الدين عبد الوهاب السبكي ،تحقيق :عادل
أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ،دار الكتبِّ العلمية -
بيروت 1422 ،هـ 2001 -ما.
الشباه والنظائر ،زين الدين بن إبراهيم ،ابن نجيم الحنفي،
تحقيق :محمد مطيع الحافظ ،دار الفكر المعاصر -بيروت ودار
الفكر -دمشق ،ط 1420 ، 2هـ 1999 -ما.
أصول السرخسي ،الماما أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل
السرخسي ،تحقيق :أبو الوفا الفغاني ،بيروت -لبنان.
أصول فخر السلما البزدوي ،فخر السلما البزدوي ،دار الكتبِّ
العلمية ـ بيروت ،ط 1418 ، 1هـ 1997 -ما ،مطبوع مع شرحه:
كشف السرار ،لعلء الدين البخاري.
أصول الفقه ،الشيخ محمد أبو زهرةا ،ل ذكر للدار أو التاريخ.
أصول مذهبِّ الماما أحمد ،عبد ال بن عبد المحسن التركي،
مؤسسة الرسالة ـ بيروت ،ط 1416 ، 4هـ 1996 -ما.
العتصاما ،أبو إسحاق الشاطبي ،تحقيق :عبد الرزاق المهدي ،دار
الكتاب العربي -بيروت ،ط 1418 ، 2هـ 1998 -ما.
إعلما الموقعين عن رب العالمين ،محمد بن أبي بكر المعروفَّ
بابن قيم الجوزية ،تحقيق :طه عبد الرؤوفَّ سعد ،دار الجيل -
بيروت.
العلما ،خير الدين الزركلي ،دار العلم للمليين ـ بيروت ،ط ، 1
1412هـ 1992 -ما .
الفادات والنشادات ،أبو إسحاق الشاطبي ،تحقيق :محمد أبو
الجفان ،مؤسسة الرسالة ـ بيروت ،ط 1406 ، 2هـ 1986 -ما.
676
الما ،الماما محمد بن إدريس الشافعي ،دار المعرفة ـ بيروت.
البحر المحيط في أصول الفقه ،محمد بن عبد ال بدر الدين
الزركشي ،تحقيق :محمد محمد تامر ،دار الكتبِّ العلمية ـ
بيروت ،ط 1421 ، 1هـ 2000 -ما .
برنامج الميجاري ،أبو عبد ال محمد الميجاري ،تحقيق :محمد
أبو الجفان ،دار الغرب السلمي -بيروت ،ط 1982 ، 1ما.
البرهان في أصول الفقه ،إماما الحرمين أبو المعالي عبد الملك
الجويني ،تحقيق :عبد العظيم محمود الديبِّ ،دار الوفاء -
المنصورةا ،ط 1412 ، 3هـ 1992 -ما.
التاريـخ الســلمي ،إبراهيـم الشــريفي ،مؤسـسـة نوفـل -
بيروت ،ط 1391 ، 2هـ 1971 -ما.
تاريخ المغرب والندلس ،من القرن السادس الهجري حتى
القرن العاشر الهجري ،تأليـف -1 :د .أحمد عودات -2 ،د.
شحادةا الناطور - 3 ،د .أحمد محاسنة - 4 ،د .جميل بيضون ،دار
المل -إربد ،الردن ،ط 1410 ، 1هـ 1990 -ما .
تجديد أصول الفقه ،حسن الترابي.
التعريفات ،أبو الحسن علي الحسيني الجرجاني الحنفي،
تحقيق :محمد باسل عيون السود ،دار الكتبِّ العلمية ـ بيروت،
ط 1421 ، 1هـ 2000 -ما.
تيسير التحرير على التحرير ،محمد أمين المعروفَّ بأمير
بادشاه ،وهو شرح لكتاب التحرير لبن هماما السكندري الحنفي،
دار الكتبِّ العلمية ـ بيروت.
جامع العلوما والحكم في شرح خمسين حديثاا من جوامع الكلم ،ابن
رجبِّ الحنبلي ،تحقيـق :فؤاد بن علي حافظ ،مؤسسة الريان ـ
بيروت ،ط 1421 ، 2هـ 2000 -ما .
الجامع لحكاما القرآن ،أبو عبد ال محمد بن أحمد النصاري
677
القرطبي ،دار الكتاب العربي -بيروت.
حاشيتا التفتازاني والجرجاني على مختصر المنتهى الصولي
لبن الحاجبِّ المالكي ،دار الكتبِّ العلمية -بيروت.
الحريات العامة في الدولة السلمية ،راشد الغنوشي ،مركز
دراسات الوحدةا العربية ـ بيروت ،ط ، 1أغسطس 1993 ،ما.
الرسالة ،الماما محمد بن إدريس الشافعي ،تحقيق :أحمد محمد
شاكر ،دار الكتبِّ العلمية -بيروت.
روضة الناظر وجنة المناظر ،ابن قدامة المقدسي ،تحقيق:
سيف الدين الكاتبِّ ،دار الكتاب العربي -بيروت ،ط 1401 ، 1هـ
1981 -ما.
سليم الوصول لشرح نهاية السول ،الشيخ محمد بخيت المطيعي،
مطبوع مع نهاية السول للسنوي ،عالم الكتبِّ.
الشاطبي ومقاصد الشريعة ،حمادي العبيدي ،دار قتيبة -بيروت،
ط 1412 ، 1هـ 1992 -ما.
الشخصية السلمية ،الجزء الثالث ،الشيخ تقي الدين النبهاني،
1372هـ 1953 -ما .
شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الصول ،شهاب
الدين القرافي المالكي ،دار الفكر -القاهرةا ،ط ، 1ذو الحجة،
- 1393ديسمبر . 1973
شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ،أبو
حامد محمد الغزالي ،تحقيق :حمد الكبيسي ،مطبعة الرشاد ـ
بغداد ،ط 1390 ، 1هـ 1971 -ما.
ضوابط المصلحة في الشريعة السلمية ،محمد سعيد رمضان
البوطي ،مؤسسة الرسالة ،الدار المتحدةا ،ط 1410 ، 5هـ -
1990ما.
678
فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،أحمد بن علي بن حجر
العسقلني ،تحقيق :عبد العزيز بن عبد ال بن باز ،دار المعرفة
-بيروت.
الفروق :أنوار البروق في أنواء الفروق ،شهاب الدين أحمد بن
إدريس القرافي المالكي ،عالم الكتبِّ -بيروت ،ومعه إدرار
الشروق على أنواء الفروق لبن الشاط ،وتهذيبِّ الفروق
والقواعد السنية في السرار الفقهية لمحمد بن علي بن حسين
المكي.
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت ،عبد العلي محمد بن نظاما
الدين النصاري ،مطبوع مع المستصفى للغزالي ،المطبعة
الميرية ببولق مصر المحمية ،سنة 1322هـ.
القاموس المحيط ،مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي،
مؤسسة الرسالة ،إشرافَّ :محمد نعيم العرقسوسي ،ط ، 4
1415هـ 1994 -ما.
قواعد الحكاما في مصالح الناما ،عز الدين بن عبد السلما،
مؤسسة الريان -بيروت ،طبعة جديدةا منقحة 1410 ،هـ -
1990ما .
كشف السرار عن أصول فخر السلما البزدوي ،علء الدين عبد
العزيز البخاري ،تحقيق :عبد ال محمود محمد عمر ،دار الكتبِّ
العلمية -بيروت ،ط 1418 ، 1هـ 1997 -ما.
لسان العرب ،جمال الدين بن منظور ،دار صادر -بيروت.
اللمحة البدرية ،لسان الدين ابن الخطيبِّ ،تحقيق :محي الدين
الخطيبِّ ،المطبعة السلفية ـ القاهرةا ،ط 1374 ، 1هـ.
المبسوط ،شمس الدين بن أبي سهل السرخسي ،دار المعرفة -
بيروت ،ط ، 3أعيد طبعه بالوفست 1398 ،ه ـ 1978ما.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،علي بن أبي بكر الهيثمي ،دار
679
الكتاب العربي ـ بيروت ،ط 1402 ، 3هـ 1982 -ما.
المحصول في علم أصول الفقه ،فخر الدين الرازي ،تحقيق :طه
جابر العلواني ،مؤسسة الرسالة ،ط 1412 ، 2هـ 1992 -ما.
المستصفى في علم أصول الفقه ،أبو حامد محمد الغزالي،
المطبعة الميرية ببولق مصر المحمية 1322 ،هـ .
المسوييدةا في أصول الفقه ،تصنيف ثلثة من آل تيمية :مجد
الدين ،وشهاب الدين وتقي الدين بن تيمية ،جمعها شهاب الدين
الحراني الدمشقي ،تحقيق :محمد محيي الدين عبد الحميد ،دار
الكتاب العربي -بيروت.
مشكاةا النوار ،مجموعة رسائل الماما الغزالي ،دار الكتبِّ العلمية -
بيروت ،ط 1414 ، 1هـ 1994 -ما.
المعتمد في أصول الفقه ،أبو الحسين البصري المعتزلي،
تقديم :الشيخ خليل الميس ،دار الكتبِّ العلمية -بيروت ،ط ، 1
1403هـ 1983 -ما.
مقاصد الشريعة السلمية ومكارمها ،علل الفاسي ،مكتبة
الوحدةا السلمية -الدار البيضاء 1382 ،هـ 1963 -ما.
مقاصد الشريعة السلمية ،محمد الطاهر بن عاشور ،الشركة
التونسية للتوزيع -تونس ،ط ، 3ديسمبر 1988ما.
المنخول من تعليقات الصول ،أبو حامد محمد الغزالي ،تحقيق
وتعليق :محمد حسن هيتو ،دار الفكر ،دمشق ،ط 1400 ، 2هـ -
1980ما.
منهاج الوصول إلى علم الصول ،القاضي ناصر الدين بن عمر
بن علي البيضاوي ،ومعه نهاية السول للسنوي ،وسلم الوصول
لمحمد بخيت المطيعي ،عالم الكتبِّ.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ،الماما محيي الدين
680
النووي ،تحقيق :خليل مأمون شيحا ،دار المعرفة -بيروت ،ط
1414 ، 1هـ 1994 -ما.
الموافقات ،أبو إسحاق الشاطبي ،المجلد الول ويحتوي
الجزأين الول والثاني بتحقيق :محمد حسين الخضر التونسي،
والمجلد الثاني ويحتوي الجزأين الثالث والرابع بتحقيق:
محمد حسنين مخلوفَّ ،دار الرشاد الحديثة -الدار البيضاء .
الموافقات ،أبو إسحاق الشاطبي ،تحقيق :أبو عبيدةا مشهور بن
حسن آل سلمان ،دار ابن عفان -جمهورية مصر العربية ،ط ، 1
1421هـ .
الموافقات ،أبو إسحاق الشاطبي ،تحقيق :الشيخ عبد ال دراز ،دار
المعرفة -بيروت .
نصبِّ الراية لحاديث الهداية ،عبد ال بن يوسف بن محمد
الحنفي الزيلعي ،دار إحياء التراثا العربي -بيروت ،ط ، 3
1407هـ 1987 -ما.
نظرية المقاصد عند الماما الشاطبي ،أحمد الريسوني ،الدار
العالمية للكتاب السلمي والمعهد العالمي للفكر السلمي ،ط
1416 ، 4هـ 1995 -ما.
نفح الطيبِّ في غصن الندلس الرطيبِّ ،أبو العباس أحمد
المقريقي ،تحقيق :إحسان عباس ،دار صادر -بيروت.
نهاية السول في شرح منهاج الصول ،جمال الدين عبد الرحيم
السنوي ،عالم الكتبِّ ،بهامشه شرح نهاية السول للشيخ محمد
بخيت المطيعي.
نيل البتهاج بتطريز الديباج ،أحمد بابا التنبكتي) ،بهامش
الديباج لبن فرحون( ،مكتبة السعادةا -مصر 1329 ،هـ.
نيل الوطار من أحاديث سيد الخيار شرح منتقى الخبار،
محمد بن علي الشوكاني ،دار القلم -بيروت.
681
القرص المضغوط ) ( C.Dبرنامج موسوعة الحديث الشريف،
شركة صخر ،الصدار الثاني ،بترقيم العالمية ،ويحتوي على
الكتبِّ التسعة التالية:
-صحيح البخاري ،أبو عبد ال محمد بن إسماعيل البخاري.
-صحيح مسلم ،أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم
القشيري النيسابوري.
-الجامع الصحيح ،سنن الترمذي،أبو عيسى محمد بن عيسى
الترمذي.
-سنن النسائي ،أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيبِّ النسائي.
-سنن أبي داود ،أبو داود سليمان بن الشعث السجستاني الزدي.
-سنن ابن ماجة ،أبو عبد ال محمد بن يزيد القزويني.
-مسند الماما أحمد ،أبو عبد ال أحمد بن محمد بن حنبل بن
هلل بن أسد.
-موطأ الماما مالك ،أبو عبد ال مالك بن أنس بن مالك بن
أبي عامر.
-سنن الدارمي ،أبو محمد عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي.
مجلة )الصراط المستقيم( ،أمريكا -ولية فرجينيا ،العدد:
، 59سنة 1417هـ .
مجلة )الوعي( ،لبنان ،العدد ، 88 :سنة 1415هـ 1994 -ما.
مجلة )الوعي( ،لبنان ،العداد ، 118 ، 117 ، 116 ، 115 :سنة
1417هـ 1997 -ما .
جريدةا الحياةا ،العدد 13 ، 12615 :أيلول 1997 ،ما.
682
فهـرس اليات
683
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
[
522 البقرةا 275
]
223 النور 2 [
]
[
180 ، 175 َّ العراف172
]
[
273 الجاثية 12
]
347 الزمر 62 ] [
523 الزمر 42 ] [
،352 ، 150
،356 ، 353 المائدةا 3 ] [
482
،19 [
286 المعارج ،20
21 ]
6 يوسف 40 [
]
345 النبياء101 ] [
[
،27
495 النجم 28
]
367 الحزاب 57 [
]
684
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
685
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
]
235 النجم 23 [
]
367 النساء 43 ] [
220 النحل 47 ] [
289 النفال 67 [
]
السجدةا 17
61 َّالحقاف 14 ] [
الواقعة 24
686
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
]
217 َّ العراف158 [
]
332 البقرةا 23 ] [
442 الجمعة 10 [
]
222 البقرةا 187 ] [
آل [
337 عمران 7
]
382 النساء 92 [
]
البروج 16
522 هود 17 ] [
364 ، 361 البقرةا 22 ] [
341 ، 101 السراء 23 ] [
355 النساء 78 [
]
367 الكهف 29 [
]
341 الزلزلة 7 ] [
179 ، 175 البقرةا 150 [
]
421 النعاما 108 ] [
516 ، 225 الشعراء168 ] [
366 البقرةا 260 [
]
687
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
366 الحجرات14 ] [
،43 [
365 المدثر 44 ]
339 السراء107 ] [
366 الكهف 22 [
]
339 ، 332 السراء 50 ] [
366 الحجرات14 [
]
البقرةا 111
496 ] [
النمل 64
688
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
232 البقرةا 233 ] [
522 ، 122 النبياء 23 ] [
382 الحشر 20 [
]
421 البقرةا 188
] [
520 ، 179 البقرةا182 ] [
521 البقرةا226 [
]
الملك 2
521 ، 520 ] [
هود 7
الملك 2
299 ، 177 ] [
هود 7
179 المائدةا 6 ] [
358 المائدةا 93 [
]
[
358 المائدةا 93
]
218 الشورى 11 ] [
59 الحج 28 ] [
179 المائدةا 6 ] [
520 ، 178 الذاريات 56 ] [
248 الذاريات 57 [
]
255 الدخان 39 ] [
352 ، 219 النعاما 38 ] [
689
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
،178 ، 175 [
232 ، 181 المائدةا 6
]
61 المائدةا 32 [
]
289 هود 15 [
]
290 الشورى 20 ] [
164 النحل 106 [
]
501 النساء 80
آل
289 عمران 152 [
]
157 البقرةا 223 [
]
آل
373 عمران 138 ] [
آل [
399 ، 336 عمران 7
]
276 الجمعة 2 [
]
341 النساء 20 ] [
408 البقرةا 282 ] [
521 ، 505 البقرةا 275 ] [
465 ، 380 النساء 24 ] [
آل
349 عمران 7 ] [
690
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
[
174 َّ العراف172
]
342 المائدةا 2 ] [
164 النساء 101 [
]
286 المعارج 21 ] [
521 البقرةا 67 [
]
520 البقرةا 34 ] [
405 الطلق 2 ] [
[
290 الكهف 28
]
223 ،62 المائدةا 38 [
]
519 ، 257 البقرةا 216 ] [
521 البقرةا 228 [
]
[
248 طه 132
]
382 النفال 72 [
]
[
495 النساء 157
]
163 البقرةا 184 ] [
691
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
[
496 النعاما 116
]
،371 ، 350 [
501 ، 372 النحل 44
]
،19 [
286 الفجر 20 ]
286 الفجر 20 ] [
459 المائدةا 2 [
]
250 ،7 البقرةا 275 ] [
379 ، 222 َّالحقاف 15 ] [
121 َّ العراف156 ] [
[
422 البقرةا 216
]
220 عبس 31 ] [
379 ، 222 لقمان 14 ] [
381 المائدةا 45 [
]
[
381 المائدةا 45
]
539 ،6 البقرةا
[
143
]
157 البقرةا 35 ] [
377 النساء 119 ] [
692
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
693
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
]
377 الحشر 7 ] [
377 ، 376 الحشر 7 [
]
[
290 الروما 39
694
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
695
رق السـ الصـفح
ة مها ورة الية أوأ الجزء مإن الية
696
فهـرس الحاديث
الصفحة طرف الحديث
ـ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وأإن أصاب فله أجران 396 . . .
ـ إذا استيقظ أحدكم مإن نومإه فل يغمس 222 ............................
ـ إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله 503 ....................
ـ أعتق رقبة) ...للرجل الذي قال :وأاقعت أهلي في رمإضان( ....
87
ـ العمال بالنيات 308 ،299 ،292 ...............................................
ـ العمال بالنية 292 ،291 ...........................................................
ـ إن رسول الله جعل شهادته بشهادتين 48 ..............................
ـ إنما العمال بالنيات 308 ،301 ،299 ،293 ............................
ـ إنما جعل الستئذان لجل النظر 60 ...........................................
ـ إن مإن أكبر الكبائر شتم الرجل وأالديه 459 ..............................
ل381 ............................................... ...ـ أن مإن اعتبط مإؤمإنا ا قت ا
ـ إني أرسلت إلى أمإة أمإية 217 ....................................................
ـ إني لم أبعث باليهودية وأل بالنصرانية 232 .................................
ـ إني لخاف على أمإتي مإن أعمال ثالثاة398 ........................ ...
ـ أوأتيت القرآن وأمإثله مإعه 501 ...................................................
ـ إياكم وأالظلم فإن الظلم ظلمات380 .................................. ...
ـ بدأ السلم غريبا ا وأسيعود غريبا ا 24 ............................................
ـ بعثت إلى أمإة أمإية 217 .............................................................
ـ بعثت بالحنيفية السمحة 417 ،232 ...........................................
ـ بني السلم على خمس 293 ......................................................
ـ تم على صومإك فإنما أطعمك الله وأسقاك 449 .......................
ـ تصافحوا يذهب الغل وأتهادوأا تحاببوا 230 ...................................
ـ تمكث إحداكن شطر دهرها ل تصلي 222 .................................
الصفحة طرف الحديث
ـ تهادوأا تحابوا 230.........................................................................
ـ الحياء شعبة مإن اليمان 268......................................................
ـ دعوا الناس يرزق الله بعضهم مإن بعض 439...........................
ـ الذهب بالذهب وأالفضة بالفضة 63 ...........................................
697
ـ رحم الله امإرءا ا سمع مإقالتي 499.............................................
سللم 448................................................................. ـ رخص في ال س
ـ رفع عن أمإتي الخطأ وأالنسيان وأمإا استكرهوا عليه 309.........
ـ زمإلوهم بكلومإهم فإنهم يحشروأن61.................................... ...
ـ سئل أي العمال أفضل...؟ قال :الذاكروأن لله402 .......... ...
ـ سئل أي العمال أفضل؟ قال :إيمان بالله402.................. ...
ـ سئل عليه الصلةا وأالسلم أي العمال أفضل؟ قال :الصلةا
لوقتها402.................................................................................. ...
ـ سها فسجد 280 ،63...................................................................
ـ عليك بالصوم فإنه ل مإثل له 402...............................................
ـ عليكم بسنتي وأسنة الخلفاء الراشدين المهديين 371.............
ـ فإذا رأيتم الذين يتبعون مإا تشابه مإنه399............................. ...
ـ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامإكم 380..............................
ـ القاتل ل يرث 330 ،329 ،281...................................................
ـ قضى رسول الله في جنين امإرأةا بني لحيان382.............. ..
ـ كان عليه الصلةا وأالسلم يكف عن قتل المنافقين 459...........
ـ كتب إلى أهل اليمن كتاباا ..أن مإن اعتبط مإؤمإناا381........... ...
ـ كل عمل ليس عليه أمإرنا فهو رد 308.......................................
ـ كنا نؤمإر بقضاء الصوم وأل نؤمإر بقضاء الصلةا 283.................
ـ كنت نهيتكم عن ادخار لحكوم الضاحي لجل الدافة 60.........
ـ كن عبد الله المقتول وأل تكن عبد الله القاتل 230....................
ـ ل تبع مإا ليس عندك 450 ،448...................................................
الصفحة طرف الحديث
ـ ل تزرمإوه) .للعرابي الذي بال في المسجد( 424..................
ـ ل تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق 339..........................
ـ ل تمت وأأنت ظالم 230..............................................................
ـ ل ضرر وأل ضرار ،486 ،481 ،439 ،281 ،150 ،121 ،149.
508
ـ ل ضرر وأل ضرار في السلم 121.............................................
ـ ل يحل دم امإرئ مإسلم إل بإحدى ثالث70............................ ...
ـ ل يقبل الله صلةا أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ 280.................
ـ ل يقضي القاضي وأهو غضبان 281 ،63....................................
ـ مإا أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله485....................... ...
ـ مإا أجهلك بلغة قومإك يا غلم 345..............................................
698
ـ مإا جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله503..................... ...
خيير بين شيئين إل اختار أيسرهما232.............................. ... ـ مإا خ
ـ مإلكت نفسك فاختاري 62............................................................
ـ مإن أحدث في أمإرنا هذا مإا ليس مإنه فهو رد 308 ،299..........
ة فهي له 62.................................................... ـ مإن أحيا أرضا ا مإيت ا
ـ مإن أسلم مإنكم فليسلم في كيل مإعلوم 448...........................
ـ مإن أوأدع وأديعة فهلكت فل ضمان عليه 438.............................
ـ مإن بدل دينه فاقتلوه 260...........................................................
ـ نحن أمإة أمإية ل نحسب وأل نكتب 217........................................
ـ نهى النبي أن يبيع حاضر لباد 439...........................................
ـ نهى عليه الصلةا وأالسلم عن الصلةا طرفي النهار280.... ...
ـ نهى عن أكل كل ذي ناب مإن السباع394............................ ...
ـ نهى عن أكل لحوم الحمر الهلية 394.......................................
ـ نهى عن كل ذي مإخلب مإن الطير 394.....................................
ـ هي السنة يا ابن أخي) ...في مإسألة التسوية بين الصابع في
الدية( 283......................................................................................
ـ يا مإعشر الشباب مإن استطاع مإنكم الباءةا298.........................
699
المحتويات
الموضأوع
الصفحة
المقدمإة 5 .......................................................................................
الشاطبي وأعصره 12 .................................................................
تعريف بالشاطبي وأعصره 13 ................................................
التعريف بالشاطبي 13 .......................................................
عصره 14 .............................................................................
الحالة السياسية 18 ............................................................
الحالة القتصادية 20 ..........................................................
الحالة العلمية 21 ................................................................
مإناخ المجتمع الثقافي 23 ...................................................
شيوخ الشاطبي 27 .............................................................
تلمإيذه 29 ............................................................................
مإكانته العلمية 30 ................................................................
مإؤلفاته 31 ...........................................................................
الفصل الوأل :التمهيد لنشوء فكرة مإقاصد الشريعة
36
مإقدمإة في نشأةا علم أصول الفقه وأتطوره37 ...............
المبحث الوأل :القياس 44 .......................................................
مإفهوم القياس وأمإباحثه 44 ................................................
حجيته 45 ..............................................................................
أركان القياس 47 ................................................................
شروأطه 47 ..........................................................................
العلة 48 ................................................................................
السبب 53 ............................................................................
المناط 55 ............................................................................
700
تحقيق المناط 57 ................................................................
تنقيح المناط 57 ..................................................................
تخريج المناط 58 .................................................................
الصفحة الموضأوع
المبحث الثاني :مإسالك العلة وأشروأطها59 ...........................
تمهيد 59 ...............................................................................
مإسالك العلة 60 ..................................................................
في شروأط العلة 67 ...........................................................
المبحث الثالث :مإسلك الخالة وأالمناسبة74 ........................
تمهيد 74 ...............................................................................
تحقيق مإعنى الخالة وأالمناسبة 75 ....................................
أقسام المناسب 79 ............................................................
المعتبر 79 ............................................................................
أنواع العتبار 80 ..................................................................
أقسام المعتبر 82 ................................................................
المؤثار 82 .............................................................................
الملئم 84 ............................................................................
الغريب 85 ............................................................................
الملغى 87 ............................................................................
المرسل 88 ..........................................................................
شروأط الوصف المناسب 95 .............................................
الفصل الثاني :نشأة فكرة مإقاصد الشريعة97 ..............
عرض مإوجز لنشأةا الفكرةا 98 ...........................................
المبحث الوأل :المحاججات التي أدت إلى فكرةا المقاصد
100
تطور الجدل مإن مإسلك المناسبة إلى الستدلل.......
100
مإعنى الستدلل .............................................................
101
701
وأبالستدلل ............................ أدلة القائلين بالمناسبة
105
وأالستدلل .................. ردوأد مإبطلي مإسلك المناسبة
107
المبحث الثاني :انبثاق فكرةا مإقاصد الشريعة..................
110
احتدام الجدل .................................................................
110
تقسيم الحكام بحسب مإآلتها أوأ مإقاصدها المصلحية
113
المبحث الثالث :المدخل إلى فكرةا المقاصد عند الشاطبي
.....................................................................................................
119
الصفحة الموضأوع
المبحث ............................................ عرض مإوجز لهذا
119
التعليل ........................................... أدلة القائلين بأصل
120
.................................................................. أدلة الرادين
123
.................... هل خيلزم أصل التعليل بمسلك المناسبة
126
............................................... مإوقف الشاطبي بإيجاز
127
الشاطبي ...................................... مإعنى المقاصد عند
129
الفصل الثالث :ضأوابط المقاصد عند الشاطبي ......
135
702
...................................................... مإوضوع هذا الفصل
136
المبحث الوأل :في المقدمإات ...........................................
137
مإوضوع هذا المبحث ....................................................
137
أصول الفقه قطعية ......................................................
137
الستقراء فقط هو طريق القطع ................................
138
المقاصد الوأل وأالمقاصد التابعة ................................
خ
142
خواص الكليات .............................................................
144
مإعنى الرجوع إلى أصل قطعي ...................................
146
الجزئي وأالفرع وأالفرق بينهما .....................................
150
المبحث الثاني :في المستندات ........................................
152
تمهيد ...............................................................................
152
المباح ............................................................................
153
تصوير الجزئية وأالكلية في الحكام .............................
154
المباح قسمان ..............................................................
156
703
................................................................... مإرتبة العفو
160
......................................................... الرخصة وأالعزيمة
161
..................................................... السباب وأالمسببات
165
المبحث الثالث :في النتائج وأمإفهوم المصلحة وأالمفسدةا عند
الشاطبي ....................................................................................
168
تعريف بموضوع البحث ................................................
168
السبب ...........................................................................
168
الحكمة ..........................................................................
169
الصفحة الموضأوع
........................................................................ المسببب
170
............................................................................... العلة
170
.............................................................. مإعاني الحكام
172
..................................................... المصلحة وأالمفسدةا
172
........ مإفهوم الشاطبي لكل مإن المصلحة وأالمفسدةا
173
....................... مإناقشة تحليلية لستدللت الشاطبي
174
بعض النصوص في مإراد الشاطبي بالمصلحة وأالمفسدةا
704
.....................................................................................................
182
الفصل الرابع :قصد الشارع في وأضأع الشريعة ابتداءا
وأفي وأضأعها للفهام ............................................................
185
تمهيد ..............................................................................
186
ء ...المبحث الوأل :قصد الشارع في وأضع الشريعة ابتدا ا
188
مإعنى هذا النوع .............................................................
188
المقاصد ثالثاة أقسام ....................................................
188
التعريف بهذه القسام الثلثاة ......................................
188
جريان هذه المقاصد في كل تكاليف الشريعة ..........
190
مإكملت أوأ تتمات المقاصد .........................................
191
تفاوأت مإراتب المقاصد ................................................
192
المبحث الثاني :عصمة الشريعة .......................................
199
مإعنى هذا التعبير ...........................................................
199
ل يجوز مإخالفة الحكام بحجة المقاصد .....................
201
تفسير لبعض نصوص الشاطبي ..................................
202
مإناقشة الشاطبي لبعض القوال في المصالح وأالمفاسد
705
.....................................................................................................
210
المبحث الثالث :قصد الشارع في وأضع الشريعة للفهام
215
مإعنى هذا النوع .............................................................
215
الشريعة عربية اللسان وأالسلوب ..............................
215
أمإية الشريعة ................................................................
216
المعاني هي المقصود العظم للنصوص ....................
219
المعاني الصلية وأالمعاني التابعة ...............................
221
ل حكم للدللة التابعة ...................................................
224
الصفحة الموضأوع
الفصل الخامإس :قصد الشارع في وأضأع الشريعة
للتكليف
بمقتضاها وأفي دخإول المكلف تحت
أحكامإها .....................................................................................
226
تمهيد ..............................................................................
227
المبحث الوأل :قصد التكليف بمقتضى الشريعة .............
228
مإعنى هذا النوع .............................................................
228
706
........................................................... التكليف وأالوسع
229
......................................................... التكليف وأالمشقة
231
....................... أصل عدم التكليف بالمشقات المعنتة
231
......................................................... المشقات مإفاسد
232
.............................. المشقة المعتادةا ل تسمى مإشقة
233
....................... المشقات المعتبرةا أوأ المقصود رفعها
235
............................................................... مإعنى الرخصة
236
............................................................. أسباب الرخص
238
........................................................... شروأط الترخص
239
.......................................................... وأسطية الشريعة
242
.... اختلف مإقدار المشقة المعتادةا باختلف العمال
244
المبحث الثاني :قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام
الشريعة ......................................................................................
246
تمهيد لهذا النوع ............................................................
246
أصل المإتثال أوأ التعبد .................................................
248
707
.................... المصالح وأالمفاسد تعرف بالشرع فقط
251
....... التعارض بين التعليل بالمصالح وأحاكمية الشرع
254
................. المقاصد الشرعية ضربان :أصلية وأتابعية
257
المبحث الثالث :بين الشريعة وأمإقاصدها أوأ بين التعبد وأاتباع
المعاني .......................................................................................
263
مإوضوع هذا المبحث ....................................................
263
عموم الشريعة وأثاباتها ..................................................
263
العرف وأمإدى اعتباره عند الشاطبي ..........................
267
التكليف بالحكام ليس تكليفا ا بمقاصدها ...................
270
به .........................التلزم الشرعي بين السبب وأمإسب س
275
الصفحة الموضأوع
............. العادات وأالعبادات بين اتباع المعاني وأالتعبد
277
...................................................... مإعنى اتباع المعاني
277
............................................................ العبادات ل تعلل
278
.......................................... الصل في العادات التعليل
281
708
.............................. ل بد مإن اعتبار التعبد في العادات
283
الفصل السادس :مإقاصد المكلف .................................
285
تمهيد ..............................................................................
286
المبحث الوأل :المقاصد وأالنوايا .......................................
288
النية وأالقصد وأالفرق بينهما .........................................
288
أثار النية في العمال ....................................................
291
قاعدةا :المإور بمقاصدها .............................................
293
الخلص وأالتشريك في المقاصد ................................
294
المبحث الثاني :أعمال المكلف وأمإقاصده .......................
300
أثار مإقاصد المكلف في العمال عند الشاطبي .........
300
الموافقة وأالمخالفة لقصد الشارع .............................
305
يل ....................................................... ح ل
المبحث الثالث :ال ح
312
تعريفها ..........................................................................
312
حكم الشرع في الحيل عند الشاطبي ........................
314
709
...................................... الحكم فيما ينبني على الحيل
318
...................................................... حق الله وأحق العبد
320
أثار النية فيما كان حقا ا لله أوأ حقا ا للعبد ......................
323
الفصل السابع :مإنهج الشاطبي في فهم الشريعة
.....................................................................................................
325
.............................................................................. تمهيد
326
المبحث الوأل :مإنهج الشاطبي في فهم الشريعة ...........
327
مإوضوع هذا المبحث ....................................................
327
نظرةا الشاطبي إلى دللت النصوص الشرعية ........
327
ا
يجب إعمال الجزئيات وأالكليات مإعا ..........................
331
الكلي ل ينخرم بمعارضة آحاد الجزئيات ....................
333
الصفحة الموضأوع
.......................................................... الحكام وأالتشابه
334
.............................................................. تأوأيل المتشابه
336
............................................................................ النسخ
337
710
........................................................... الوأامإر وأالنواهي
338
....................................................... العموم وأالخصوص
342
............................................................. البيان وأالجمال
349
المبحث الثاني :مإنهج الشاطبي في فهم القرآن .............
351
مإوضوع هذا المبحث ....................................................
351
القرآن فيه بيان كل شيء مإن الشريعة .....................
351
الحاجة إلى تفسير القرآن بالرأي ...............................
353
للقرآن ظاهر وأباطن ....................................................
355
كيفية فهم الظاهر ........................................................
357
كيفية فهم الباطن .........................................................
359
إشكالت عل مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني القرآن
360
أمإثلة على مإنهج الشاطبي في فهم مإعاني القرآن . . .
364
مإنهج الشاطبي في استقراء المعاني في القرآن .....
368
المبحث الثالث :مإنهج الشاطبي في فهم السنة .............
370
711
....................................................... مإوضوع هذا البحث
370
........................................ تعريف السنة عند الشاطبي
370
........................................................ السنة بيان للكتاب
372
....... السنة فيها بيان كل شيء مإن الحكام الشرعية
375
............................................. كيفية بيان السنة للقرآن
375
................................................... ردوأد على اعتراضات
380
.................................... البيان بالقول وأالفعل وأالقرار
383
.......................................................................... الجماع
384
.......................................................................... القياس
385
الفصل الثامإن :الجأتهاد وأالتقليد .............................
386
تمهيد ..............................................................................
387
الصفحة الموضأوع
........................................ المبحث الوأل :ضوابط الجتهاد
388
تعريفه عند الشاطبي ...................................................
388
شروأطه .........................................................................
388
712
.................................................. أنواع الجتهاد وأمإراتبه
391
................................................. الجتهاد المعتبر شرعا ا
393
....................................................... اختلف المجتهدين
396
........................................................ الخطأ في الجتهاد
397
.................................................. علمإة الجتهاد المعتبر
400
....................................... ل يمكن انقطاع الجتهاد كليا ا
404
المبحث الثاني :ضوابط التقليد وأالفتوى ..........................
407
مإوضوع هذا المبحث ....................................................
407
المجتهدوأن أدلة المقلدين ............................................
407
الترجيح بين المجتهدين ................................................
409
قواعد مإردوأدةا في الفتوى ...........................................
414
المبحث الثالث :أصل مإآلت الفعال ................................
419
أهميته في مإنهج الشاطبي ..........................................
419
أدلته ...............................................................................
420
713
.............................................................. مإعناه وأتطبيقه
422
.................. مإناقشة فهم خاطئ لصل اعتبار المآلت
428
............................ شرح نص في اعتبار مإآلت الفعال
428
الفصل التاسع :في تطبيق الفكرة :ثالثا قواعد كلية
.....................................................................................................
431
...................................................... مإوضوع هذا الفصل
432
المبحث الوأل :المصالح المرسلة .....................................
433
مإعنى المصالح المرسلة ..............................................
433
المصالح المرسلة عند الئمة ......................................
433
المصالح المرسلة عند الشاطبي ................................
435
مإواضع إعمال القاعدةا .................................................
436
أقسام المصالح ............................................................
439
الصفحة الموضأوع
............................................................ شروأط القاعدةا
441
المبحث الثاني :الستحسان ..............................................
445
714
................................. الستحسان وأمإواقف الئمة مإنه
445
......................................................... مإا هو الستحسان
447
....................................................... أقسام الستحسان
448
.......................................... الستحسان عند الشاطبي
452
............... الفرق بين المصالح المرسلة وأالستحسان
455
المبحث الثالث :سد الذرائع ...............................................
457
تعريفه ...........................................................................
457
مإوقف المذاهب مإن سد الذرائع .................................
457
أدلة القاعدةا ..................................................................
459
ضوابط إعمال قاعدةا سد الذرائع ...............................
460
قاعدةا رفع الضرر .........................................................
467
مإسائل أوأ تفريعات قاعدةا رفع الضرر .......................
471
الفصل العاشر :فكرة المقاصد عند الشاطبي:
عرض وأمإناقشة .....................................................................
473
مإوضوع هذا الفصل ......................................................
474
715
المبحث الوأل :عرض مإوجز لفكرةا المقاصد عند الشاطبي
.....................................................................................................
477
.......................................................... مإعنى الموافقات
477
.................................... القطع بالصول عند الشاطبي
479
........................................................... خصائص الصول
481
......................... الكليات ل تنخرم بمعارضة الجزئيات
483
........................... الستقراء هو السبيل الوحيد للقطع
484
........................................... دللت النصوص الشرعية
485
.............................................................. دللت الحكام
486
............................................ تعليل الشريعة بمقاصدها
488
........................................................................ المقاصد
489
...................... مإفهوم الشاطبي للمصلحة وأالمفسدةا
489
................................... مإعنى تعليل الشريعة بالمصالح
491
الصفحة الموضأوع
............................................................ الجتهاد وأالتقليد
492
716
المبحث الثاني :مإناقشة فكرةا الشاطبي :الكليات
وأالستقراء ..................................................................................
494
مإوضوع هذا المبحث ....................................................
494
اشتراط القطع بأصول الفقه ......................................
494
وأجوب العمل بالظني ...................................................
499
استقلل السنة بالتشريع .............................................
500
الستقراء ......................................................................
504
مإعارضة الجزئي للكلي ................................................
510
التواتر المعنوي .............................................................
513
المبحث الثالث :مإناقشة فكرةا الشاطبي :المقاصد وأالعلل
.....................................................................................................
517
.................................................... مإوضوع هذا المبحث
517
.................................................................. أصل التعليل
517
........................................... رد تعليل أفعال الله تعالى
518
............................................................ المقاصد وأالعلل
522
................................ الستغناء بالكليات عن الجزئيات
526
717
........................................................... مإلحظات أخرى
532
الخاتمة .......................................................................................
534
فهرس المصادر وأالمراجع ........................................................
540
فهرس اليات .............................................................................
547
فهرس الحاديث ........................................................................
564
فهرس المحتويات .....................................................................
567
718